الكتاب: الثمر الداني
المؤلف: الآبي الأزهري
الجزء:
الوفاة: ١٣٣٠
المجموعة: فقه المذهب المالكي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: المكتبة الثقافية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

الثمر الداني
في تقريب المعاني
شرح رسالة
ابن أبي زيد القيرواني
جمع الأستاذ المحقق
الشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله الذي اصطفى من عباده من وفقه لمعرفة
أحكام وهدى من اختاره التبيين سننه والتحذير من حرامه والصلاة والسلام
على سيدنا محمد خير خلقه وعلى آله وصحبه ومن تحلى بهديه وعلى خلقه.
أما بعد فيقول الفقير إليه تعالى " صالح عبد السميع الآبي الأزوري " عفى
عنه: إني اما رأيت رسالة الإمام ابن أبي زيد القير وانى قد كثر الاقبال عليها
والاشتغال بها وقد أكثر المتقدمون والمتأخرون من العناية في بيانه ولكن
إما بكلام طويل تقصر عنه الهمم أو باختصار يعسر على الفهم فأردت أن
أشرحها شرحا يبين مرادها وستخرج دررها بعبارات واضحة وتقول
معتمدة راجحة لا طويل ممل ولا مختصر مخل راجيا من الله القبول واستعافه بالمأمول
المكتبة الثقافية
بيروت لبنان
1

قال المؤلف (بسم الله الرحمن الرحيم) لا يخفى أن كل شارع في أمر
له حظ من الشرف يضمر ما جعلت التسمية مبدأ له فالشارع في السفر يقدر
أسافر بسم الله والشارع والتأليف يقدر أؤلف بسم الله فيكون مضمون
الجملة حينئذ أولف مستعينا بسم الله وإنما ابتدأ بالبسملة في طالعة كتابه
ليكون مقتديا العزيز وممتثلا لقوله صلى الله عليه وسلم ابدؤا أمور كم ذوات البال
ببسم الله (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) وإنما ثنى بالصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم طلبا لمزيد الكمال للذات الأحمدية التي هي الواسطة العظمى
في كل نعم ء ولما ثبت في الخبر أن من صلى على في كتاب لا تزال الملائكة
تستغفر له ما دام اسمى في ذلك الكتاب (قال أبو محمد الخ) هذا كنيته
وأما اسمه فهو عبد الله بن أبي زيد القير وانى نسبة إلى القير وان بلد
بالمغرب وإنما كنى نفسه مع نهى الشارع عن تزكية النفس قال عز من
قائل فلا تزكوا أنفسكم تحدثا بالنعمة (رضي الله عنه) أي أنعم عليه (وأرضاه)
2

بلغه أمنيته حتى يرضى فهو أخص مما قبله (الحمد لله) ولما كانت النعم
موجبة لشكر موليها وللقيام بحق مسديها وكان التأليف من أعظمها قال
المؤلف لإنشاء الثناء الحمد لله أي الثناء بجميل الصفات مستحق لله (الذي
ابتداء الإنسان بنعمة) أي ابتدأ خلقه بإيجاد تفضلا وإحسانا منه
لا وجوبا عليه (وصوره في الأرحام) الضمير في قوله وصورة يرجع إلى
الإنسان وأفرده وإن كان المصور في الأرحام غير واحد مراعاة للفظ
الإنسان وخص الإنسان وإن كان غيره كذلك يصور في الحريم لشرفه
(وأبرزه وخص رفقه) أي أخرجه من ضيق الرحم إلى رجب الدنيا وأغدق
عليه الأرزاق وكمله بالمعارف فالرفق حاصل له كلا النشأتين نشأته في
الأرحام ونشأته في سعة الدنيا (ونبه بآثار صنعته) أي أيقظ الله الانسان
وجعل له عقلا يستدل به ونصف له الآثار الدالة على باهر الصنعة وكما القدرة
والوجود المطلق وسعة العلم والآثار جمع أثر وهو كل ما يدل على المؤثر كما
تقرر عند ذوي العقول ونطق به القرآن الحكيم قال تعالى إن في ذلك
لآيات لأولي النهى والآيات هي الآثار الدالة على وجود الصانع (وأعذر إليه
على ألسنة المرسلين) أي قطع عذره فلا عذر له بعد إرسال الرسل وإلا
لقال لولا أرسلت إلى رسولا فأتبع آياتك (فهدى من وفقه بفضله) هداه
3

أرشده وبين له سبيل الخير والشر قال تعالى وهدينا النجدين والتوفيق
خلق قدرة الطاعة في العبد بمحض الفضل وضده الخذلان وهو إضلال من
خذله بعدله ولا حجر في ذلك لما له من تمام الملك وسعة التصرف ولذا
نفى عن نفسه الظلم قال تعالى وما ربك بظلام للعبيد والظلم التصرف في
ملك الغير كيف ولله ملك السماوات والأرض (ويسر المؤمنين اليسرى)
أي هيأهم للأعمال الموجبة لسعادة الدارين قال تعالى ولمن خاف مقام ربه
جنتان (وشرح صدور هم للذكرى) أي فتح ووسع قلوب المؤمنين للإيمان
فهم على نور من ربهم أفمن شرح الله وصدره للاسلام فهو على نور من ربه
(فآمنوا الخ) أي نطقوا بألسنتهم وأذعنوا بقلوبهم ووفقوا على ما حد لهم
من الأعمال فامتثلوا المأمورات واجتنبوا المنهيات واستغنوا بما أحل لهم
بالنص عما حرم عليهم بالنص (أما بعد) هي فصل الخطاب فهي للفصل
بين كلامين (أعاننا الله وإياك) فصد بهذه الجملة إنشاء الدعاء له ولمن حمله
على تأليف الرسالة وهو الشيخ محرز بفتح الراء (على رعاية ودائعه) أي
حفظ ما أودعه فينا من الجوارح السبعة السمع والبصر واللسان واليدان
والرجلان والبطن والفرج وجعلت ودائع تشبيها لها بالودائع من المال
4

بجامع الحفظ من التلف الضياع فاستعمال الأعضاء المذكورة في غير ما جعلت
له ضياع لها واستعمالها فيها جعلت له حفظ لها من الضياع (وحفظ ما أودعنا
من شرائعه) الرعاية والحفظ بمعنى فارتكاب التعبير في جانب الأعضاء
بالرعاية وفى جانب الشرائع بالحفظ للتفنن ولدفع الثقل الحاصل بالتكرار
والشرائع جمع شريعة وهي ما شرعة الله من الأحكام وبينه لنا واجبا كان
أو مندوبا وحفظها الجري على مقتضاها (فإنك سألتني الخ) جواب أما
التقدير أما بعد تقديم ما يجب تقديمه من الثناء على الله والصلاة على رسوله
فأقول إنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة
(مما تنطق به الألسنة) كالشهادتين (وتعتقده القلوب) كالإيمان (وتعمله
الجوارح) كالصلاة والصوم (وما يتصل بالواجب من ذلك) الإشارة راجعة
إلى ما تعمله الجوارح (من السنن) بيان لما يتصل (من مؤكدها الخ)
بدل من السنن (وشئ من الآداب) وهي ما سيذكره آخر الكتاب كآداب
الأكل والشرب ونحو ذلك (وجمل من أصول الفقه وفنونه) أراد
بالأصول أمهات المسائل كمسألة بيوع الآجال فهي أصل بالنسبة لما يخرج
منها لأنها البيع المتكرر على الوجه المخصوص إن أدى إلى محرم حرم
5

وإلا فلا وهذه كلية يخرج منها فروع كثيرة وفرع بالنسبة لما أخذت
منه وهو الكتاب والسنة يدل على أن لا مراد الأصول أمهات المسائل قوله
(وفنونه) جمع فن وهو الفرع فتلخص أن هذه الرسالة في فروع الفقه
بالنسبة لأخذها من الكتاب والسنة (على مذهب الامام مالك) وطريقته
متعلق بأكتب وأراد بمذهب الامام قوله أي رأيه أي الحكم الذي رآه
وأعتقده وبطريقته قول أصحابه ويقال في طريقته ما قيل في مذهبه من
أن المراد الحم الذي رأوه واعتقدوه وليس المراد بالقول اللفظ لأنه ليس
حكما ووجه كون رأى أصحابه طريقته إنه لما كان مبنيا على قواعد صح
أن يجعل طريقه له (مع ما سهل) أن سألتني أن تكون هذه الجملة مصاحبة
لما سهل أي بين طريق (ما أشكل من ذلك) المذهب (من تفسير
الراسخين) بيان لما سهل أي هذا البيان مأخوذ من تفسير الراسخين في
العلم (و) من (بيان المتفقهين) من أصحاب الإمام (لما رغبت فيه
الخ) الخطاب المحرز أي لما تعلقت به رغبتك من تعليم ذلك لأولاد
المؤمنين كما تعلمهم حروف القرآن (ليسبق إلى قلوبهم) جواب
من سؤال مقدر فكأنه قال له لأي شئ خصصت الأولاد فقال
لكي يسبق إلى قلوبهم (من فهم دين الله) وهو دين الاسلام
6

(وشرائعه) وهي فروع الشريعة كالصلاة والصوم (فأجبتك إلى ذلك)
أي إلى سؤالك لما رجوت أي طمعت فيه (لنفس ولك من ثواب) أي
جزاء (من علم دين الله أي الأحكام مطلقا اعتقادية أو فرعية (أو دعا إليه)
أي إلى التعليم (وأولى ما عنى به الخ) أي اهتم به الناصحون بعد أداء
ما عليهم من الفرائض إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين (وتنبيههم على
معالم الديانة) وهي القواعد الدينية (وحدود الشريعة) أي الأحكام
العملية (ليراضوا عليها) أي يتمرنوا عليها (فإنه روى الخ) ومعنى الحديث
أن تعليم الصغار لكتاب الله يرد العذاب الواقع بإرادة الله وهل عن آبائهم
7

أو عن معلميهم أو يرد العذاب عموما ذلك فضل الله (وقد جاء الخ) أي
ورد في الحديث (أن يؤمروا) أي الصغار بالصلاة لسبع أي أمر ندب
(ويضربوا عليها لعشر) والضرب لا يكون مبرحا أي لا يهشم لحا ولا
يشين جارحة وهو غير محدود بل يختلف باختلاف الصبيان وحمله ان أفاد
فإن الوسيلة إذا لم يترتب عليها المقصد لا تشرع (ويفرق بينهم الخ)
التفرقة في المضاجع يكفي فيها أن يكون كل في ثوب وان كانوا تحت لحاف
واحد وعدم التفرقة مكروه ولا فرق في هذا بين الإناث والذكر (وقد
فرض الله سبحانه على القلب الخ) كالإيمان وفيه مع قوله (وعلى الجوارح)
8

مجاز الفرض إنما هو على النفس (وإياه نستخير) أي نطلب منه الخيرة
أي كان فيه خير فيسره لي وإلا فلا (وبه نستعين) أي نطلب منه
الإعانة أي الإقدار على فعل الخيرات (ولا حول الخ) أي لا تحول عن
معصية الله إلا بعصمته ولا قدرة على الطاعة إلا باعانته (باب ما تنطق الخ)
أي هذا باب في بيان الذي تنطق به الألسنة (وتعتقده الأفئدة) أي
تجزم به القلوب وقد اشتمل هذا الباب على نحو مائة عقيدة وترجح
في التفصيل إلى ثلاثة أقسام قسم فيها يجب لله تعالى وقد أشار له بقوله العالم
الخبير إلى قوله الباعث بإخراج الغاية وقسم أشار له فيما يستحيل عليه
بقوله لا إليه غيره إلى قوله العالم الخبير بإخراج الغاية وقسم فيما يجوز في حقه
وقد أشار له بقوله الباعث الخ واستظهر بعضهم أن أول الواجبات أن الله
إله واحد لما أن الوجود المفهوم من قوله إليه واحد صفة نفسية يجب اعتقادها
له (الديانات) جمعها اعتبار المكلفين (من ذلك) أي الواجب (الإيمان
بالقلب) أي التصديق بالقلب (والنطق باللسان) أي النطق بالشهادتين
9

وظاهره أن الايمان مركب منهما، وظاهر كلامه الآتي أن الايمان قول
باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، أنه مركب من الثلاثة، ونسب
للمعتزلة، وهذا كله باعتبار جريان الاحكام، وإلا والتصديق وحده ينجي
صاحبه من الخلود في النار (أن الله إله واحد) أتى بالاسم الأعظم في كلمة
التوحيد تنبيها على أنه هو الذي يقع به الاسلام لا غير، فلا يجزي أن تقول
لا إله إلا العزيز، وغير ذلك من الأسماء (لا إله غيره) تأكيد لقوله إله واحد
(ولا شبيه له ولا نظير) هما مترادفان على معنى واحد، وهو نفي المماثل ليس
كمثله شئ (ولا صاحبة) أي لا زوجة لان هذا شأن المحتاج وهو الغني
المطلق (ليس لأوليته ابتداء) أي ليس وجوده مفتتحا بأولية فيكون له
أول، ولا منقضيا بآخرية فيكون له آخر فهو القديم الباقي (لا يبلغ كنه
صفته الخ) أي لا تدرك حقيقة صفته وبالأولى حقيقة ذاته (يعتبر الخ)
أي يتعظ المتأملون بالعلامات التي نصبها على باهر قدرته (في مائية ذاته)
أي لا يتفكرون في حقيقة ذاته لقوله عليه الصلاة والسلام تفكروا في
مخلوقاته ولا تتفكروا في ذاته (وسع كرسيه الخ) أي لم يضق عن السماوات
10

والأرض. (ولا يؤوده الخ) أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما مع حفظ
ما اشتملا عليه (العالم) أي بجميع الأشياء موجودها ومعدومها، قديمها
وحادثها، واجبها ومستحيلها جائزها، ألا وهو بكل شئ عليم (القدير)
صيغة مبالغة في قادر بمعنى أن قدرته كثيرة التعلق بالممكنات كما أن سمعه
وبصره متعلقان بجميع الموجودات (فوق عرشه) أي فوقية سلطنة
وقهر قال تعالى: * (وإنا فوقهم قاهرون) * (الأعراف: 127) (توسوس به الخ) أي الذي تتحدث
به نفسه (وهو أقرب إليه الخ) أي أن الله تعالى أقرب للانسان من حبل
الوريد الذي هو جزء منه. وحبل الوريد عرق بباطن العنق. (وما تسقط
من ورقة الخ) بزيادة من لتأكيد العموم أي ما تسقط ورقة إلا في حال
علمه بها لان سقوطها بإرادته، والإرادة على وفق ما في العلم (في ظلمات الأرض)
أي في بطونها (ولا رطب الخ) معطوف على ورقة والرطب ما ينبت واليابس
ما لا ينبت (على العرش استوى) هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا
الله. ولما سئل عن ذلك الامام مالك أجاب بأن الاستواء معلوم والكيف
مجهول. (وعلى الملك احتوى) أي أن الله تعالى محيط بجميع المخلوقات
11

فلا يخفى عليه منها شئ. (وله الأسماء الحسنى) وصفها بالحسنى لدلالتها على
أشرف المعاني وأفضلها (والصفات الخ) جمع صفة وهي المعنى القائم بالموصوف،
كالقدرة والإرادة. والعلى جمع العليا تأنيث الاعلى أي المرتفعة عن كل نقض
(لم يزل بجميع صفاته الخ) أي لم يزل متصفا بجميع صفاته ومسمى
بجميع أسمائه (تعالى أن تكون الخ) أي ليست صفاته مخلوقة ولا أسماؤه
(كلم الله موسى) أي ناجاه وأسمعه كلامه القديم. (وأن القرآن كلام الله)
أي القائم بذاته وذاته لا يقوم بها إلا القديم (فيبيد) بالنصب في جواب النفي.
وحاصل المعنى أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد أي يفنى، ولا صفة
لمخلوق فينفد، أي يذهب (والايمان بالقدر خيره وشره) أي ومما يجب
اعتقاده أن جميع الأشياء بتقدير الله لا يخرج منها شئ عن إرادته تعالى
أن يقع في ملكه إلا ما أراده من خير وشر (وكل ذلك) الإشارة إلى
الخير، وما ذكر بعده (قد قدره الله ربنا الخ) أي أن تكوين الأشياء
وإيجادها من كتم العدم إلى حيز التجلي على أنحاء شتى وأشكال مختلفة من
طول وقصر، ووقت دون وقت ومكان دون مكان، صادر وواقع عن قضائه
12

على حسب ما جرى به علمه وتعلقت به مشيئته (علم كل شئ قبل كونه)
أي قبل وقوعه فلا يقع إلا على القدر الذي علمه ألا يعلم من خلق (فكل
ميسر بتيسيره الخ) أي كل إنسان مهيأ إلى الذي سبق في علم الله من كونه
سعيدا أو شقيا، وعلى حسب استعداده لان الله ما خلق الانسان إلا على
ما علمه وما علمه إلا على ما هو عليه، فلله الحجة البالغة (تعالى أن يكون الخ)
أي تنزه ربنا وجل مجده عن وقوع شئ في ملكه خارج عن تدبيره
قاص عن سلطان مشيئته، بل الأشياء كلها من عز وذل وغنى وفقر وعمل
بر وغير ذلك بإرادته وقهر سلطانه، ولا غنى لها عن قيوم السماوات والأرض
(باعث الرسل الخ) أول الرسل آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم أي من الجائز
الذي يجب اعتقاده والتصديق به بعثة الرسل إلى من تحققت فيهم شروط
13

التكليف، وهي: البلوغ والعقل وبلوغ الدعوة (لإقامة الحجة الخ) بيان
لحكمة البعثة، وهي قطع العذر، وإلا لقالوا * (لولا أرسلت إلينا رسولا) * (طه: 134). (ثم
ختم الرسالة) الرسالة كون المرسل موحى إليه بشرع ومأمورا بتبليغه.
(والنذارة) هي التحذير من السوء. (والنبوة) مأخوذة من النبأ وهو
الخبر لان النبي مخبر عن الله (بمحمد نبيه الخ) ولما كانت رسالة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ونذارته ونبوته مانعة من ظهور نبوة ورسالة بعدها شبهت بالخاتم
على سبيل المكنية، والجامع المنع، فكما أن رسالته مانعة من ظهور رسالة
بعدها، كذلك الخاتم يمنع من ظهور ما ختم عليه، وذلك باعتبار أثر الآلة
وختم قرينة المكنية. (فجعله آخر المرسلين) أي صير الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم آخر
المرسلين (بشيرا) من البشارة بالكسر للباء وهي إذا أطلقت لا تكون
إلا بالخير، وإذا قيدت جاز أن تكون بالشر، كقوله * (فبشرهم بعذاب أليم) *
(آل عمران: 21، الانشقاق: 24) (وداعيا إلى الله الخ) الدعاء إلى الله تبليغ التوحيد إلى المكلفين، ومكافحة
الكفرة أي ردهم (وسراجا منيرا) أي ذا سراج منير وإنما كان شرعه
سراجا منيرا يهتدي به الحائر، لان من اتبعه وسلك طريقه القويم يخرج
به من ظلمة الكفر إلى نور الايمان (وأنزل عليه كتابا) أي ومما يجب
اعتقاده والتصديق به ويكفر جاحده أن الله أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
14

كتابا محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (وشرح به دينه
الخ) أي أن الله فتح ووسع بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم دين الاسلام (القويم) أي
المستقيم. والمراد لازم ذلك وهو إظهار الاحكام وبيانها على لسان نبيه * (وما
أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) * (النحل: 64) (وهدى به الصراط الخ)
أي هدى بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو شمس المعارف، ومصدر الرشاد، وعين اليقين
وكفانا شرفا * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (الشورى: 52) (وأن الساعة آتية الخ)
أي ومما يجب اعتقاده والتصديق به ويكفر جاحده أن الساعة آتية من
الاتيان، وهو المجئ، ووقت مجيئها موكول إلى علام الغيوب * (لا يجليها لوقتها
إلا هو) * (الأعراف: 187) (وأن الله يبعث من يموت) ومما يجب اعتقاده أن الله يبعث
الأموات، أي ينشئهم بعد موتهم إلى الحشر ولا خلاف في هذا بين المسلمين،
وإنما الخلاف هل إنشاؤهم عن عدم للذوات بالكلية، أو عن تفريق استدل
كل فريق منهم على مدعاه. (وأن الله سبحانه الخ) ومما يجب اعتقاده أن الله
يضاعف الحسنات لعباده المؤمنين بقدر الاخلاص، وعلى حسب درجات
الخشوع، فالتضعيف يرتقي من عشر إلى سبعمائة، بل إلى غاية عظيمة فقد
أخرج الإمام أحمد أن الله يضاعف الحسنة إلى ألف ألف، والمراد مضاعفة
جزائها، والحسنة ما يحمد عليها شرعا عكس السيئة وهي ما يذم عليها شرعا.
(وصفح لهم الخ) مما تفضل به المبدأ الفياض على عباده المؤمنين أن من
15

اقترف منهم شيئا من كبائر السيئات ثم تاب وأصلح أنه يتجاوز عنه، ويعفو
على سبيل الفضل والكرم. وأما الصغائر فتكفر باجتناب الكبائر (وجعل
من لم يتب الخ) أي أن من اقترف شيئا من كبائر السيئات من المؤمنين،
ومات غير تائب فأمره موكول إلى مشيئة الله إن شاء عفا عنه فضلا وإن
شاء عاقبه عدلا * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *
(النساء: 48) (ومن عاقبه الله بناره الخ) أي ومما يجب التصديق به أن عصاة المؤمنين
إن أراد الله تعذيبهم في دار العقاب يكون العقاب بقدر ما جنوا على أنفسهم
من السيئات، ثم تتغمدهم الرحمة فيخرجون من دار العقاب إلى دار السلام،
ولا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فالايمان سبب في
عدم الخلود في النار، وسبب في دخول الجنة، إلا أن مسببية الايمان في دخول
الجنة مع عفو الله ورحمته * (فبذلك فليفرحوا) * (يونس: 58). (ويخرج منها الخ) أي ومما
يجب التصديق به ثبوت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره أيضا، وإنما خصه
بالذكر لكونه أول شافع، فيخرج من النار بشفاعة نبينا من كان من
أهل الكبائر من أمته الموحدين، وأنكرت المعتزلة الشفاعة بناء على عدم
تجويز الصفح والعفو عن الذنوب، ولكنا راعينا الأدلة السمعية، وهم
16

تمسكوا بالأدلة العقلية، والسمع أجلى وأنور (وأن الله سبحانه الخ) أي
أن الله خلق الجنة وأعدها دار خلود واستقرار حياة لعباده المؤمنين لا كد
فيها ولا نصب، بل هم في شغل فاكهون، وبالنظر إلى وجه ربهم متنعمون.
(وخلق النار الخ) يعني أن الله خلق النار وأعدها دار خلود ومقر عقاب
مؤبد لمن كفر به وألحد وزاغ عن الأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدانيته،
وأنكر كتبه المنزلة ورسله المرسلة، فهم في مقت الكفر مقيمون، وعن
رؤية ربهم يومئذ محجوبون. (وأن الله تبارك الخ) قد ثبت في السمع
أن الله يجئ يوم القيامة والملك صفا صفا، ولا يسعنا إلا التصديق بذلك
ونكل علمه إلى صاحب الشرع. وكان مالك وغيره يقول في هذه الآية
وأمثالها: اقرؤوها كما جاءت بلا كيف أي اقرؤوها وأحيلوا ظاهرها فلا
تشبهوه بخلقه. (لعرض الأمم الخ) متعلق بيجئ، يعني أن جميع الأمم
تعرض للنظر في أحوالها والحساب على أعمالها وهو أن يعدد على من أحضر
17

للحساب كل ما فعل من حسنة ومن سيئة، فيحاسب المؤمن بالفضل والمنافق
والكافر بالحجة والعدل. فالمؤمن يخلو بربه فيقول الله سبحانه وتعالى له:
سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك يوم القيامة. والكافرون يحاسبون
على رؤوس الاشهاد، وينادى بهم * (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله
على الظالمين) * (هود: 18) (وتوضع الموازين الخ) أي تنصب الموازين لاظهار العدل فلا تظلم
نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل يأتي بها الله يوم القيامة فمن ثقلت
موازينه فهو المفلح الذي فاز بالسعادة التي لا شقاء بعدها، ومن خفت موازينه فهو
الشقي الذي شقي شقاء لا سعادة بعده. (ويؤتون صحائفهم الخ) يعني أن الأمم
يؤتون صحائفهم، جمع صحيفة، وهي كتب أعمالهم فإذا أعطوها يخلق الله
تعالى فيهم علما ضروريا فيفهمون ما فيها، فمن أوتي كتابه بيمينه كان ذلك
دليلا على أنه من أهل اليمين والسعادة، ومن أوتي كتابه بشماله كان ذلك
دليلا على أنه من أهل الشقاء وأهل الشمال، وكان الأولى للمؤلف أن يقدم
قوله: ويؤتون الصحف، على الوزن، لان الوزن بعد الحساب والحساب بعد
أخذ الصحف (وأن الصراط حق) وفي وصفه كلام طويل قيل إنه أدق
من الشعرة وأحد من السيف، وهو ما يفيده ظاهر الحديث، وذهب إليه
كثير، وخالف في ذلك القرافي قائلا: لم يصح في الصراط أنه أدق من الشعرة
وأحد من السيف، والذي صح أنه عريض، وفيه طريقان يمنى ويسرى،
18

فأهل السعادة يسلك بهم ذات اليمين، وأهل الشقاوة ذات الشمال، وفيه طاقات
كل طاقة تنفذ إلى طبقة من طبقات جهنم، وجهنم بين الخلائق وبين الجنة،
والصراط منصوب على متن جهنم، فلا يدخل أحد الجنة حتى يمر على جهنم.
(يجوزه العباد الخ) أي أن مرور الخلائق على الصراط يتفاوت بحسب
تفاوتهم في الأعمال والاعراض عن حرمات الله، فمنهم من يمر كالبرق ومنهم
ناج مسلم، أي من خدش الكلاليب، ومنهم مخدوش مرسل، أي تخدشه
الكلاليب ثم يطلق منها، ومكدوش في نار جهنم، أي مدفوع إليها.
(والايمان بحوض الخ) ومما يجب اعتقاده وجود حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ويذاد عنه من غير وبدل) أي يطرد ويبعد من غير
وبدل كالمرتدين، وترده أمته، أي أتباعه الذين اتبعوه بإحسان حين
خروجهم من قبورهم عطاشا، فيشربون منه، فمن شرب منه شربة
لا يظمأ بعدها أبدا. (وأن الايمان الخ) فمن نطق بالشهادتين، وأذعن بقلبه
بصدق الرسول بما جاء به وعمل بأحكام الشريعة كالصلاة والصوم كان
مؤمنا، وإن لم يعتقد أن الايمان مجموع هذه الثلاثة، وإن أوهم ذلك كلام
المصنف لعطفه على ما يجب اعتقاده لان الاجماع على أن من آمن بقلبه
ونطق بلسانه وعمل بجوارحه فهو مؤمن، وإن لم يعتقد أن الايمان مجموع
19

هذه الثلاثة، وإنما ذكرها توطئة لقوله (يزيد) أي الايمان من حيث هو
(ب‍) - سبب (زيادة الأعمال وينقص ب‍) سبب (نقص الأعمال فيكون فيها)
أي الأعمال (النقص وبها الزيادة) ما ذكره من زيادة الايمان ونقصانه
باعتبار الثمرات هو مذهب جماعة من سلف الأمة وخلفها، وهو آخر قول
مالك رضي الله عنه، وكان أولا يقول: يزيد ولا ينقص. وإطلاق اسم الايمان
على الأعمال متفق عليه قال الله تعالى * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) أي
صلاتكم جهة بيت المقدس (ولا يكمل قول الخ) فمدار الأقوال والأعمال
على النيات، فالنية هي المحور التي تدور عليه الأعمال وتقفو أثره، فينبغي
للانسان أن لا يدور عمله إلا على السنة المطهرة والشرع القويم الذي أتى
به خير بشير ونذير، ويسلك طريقة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم
أجمعين. (وأنه لا يكفر أحد الخ) ومما يجب التصديق به أن من كان من أهل
القبلة أي الاسلام وارتكب من الذنوب ما لا يخل بالايمان كمن يفعل المعاصي
غير مستحل لها، ويعتقد أن الشرع يمنعه منها وأما من فعل ما يخل بالايمان
كإلقاء مصحف بقذر فهو مرتد، وليس كلامنا فيه، وفي الحديث من استقبل
قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مؤمن حقا وألحد الخوارج حيث قالوا: كل ذنب
كبيرة وكل كبيرة محبطة للعمل، ومرتكبها كافر. وقال المعتزلة: كل كبيرة
محبطة للعمل، ومرتكبها له منزلة بين منزلتين لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، وإنما
20

يقال له فاسق. (وأن الشهداء الخ) ومما يجب التصديق به أن الشهداء جمع
شهيد، وهو من قاتل الكفار وقتل في طريق إعلاء كلمة الله (أحياء)
منعمون فرحين لما أعطوا من المزايا منها الامن من الفزع الأكبر يوم
القيامة، ومنها أنهم يتوجون بتاج الكرامة يوم القيامة. (وأرواح) أهل
(السعادة الخ) أي أن أرواح السعداء باقية منعمة إلى يوم القيامة
برؤيتها لمقعدها في الجنة إذ قد ورد: إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده
بالغداة والعشي (وأرواح أهل الشقاوة) وهم الكفار معذبة برؤيتها
لمقعدها في النار وغير ذلك من أنواع العذاب (إلى يوم الدين) أي يوم
القيامة. (وأن المؤمنين الخ) المراد سؤال الملكين، أي أن الميت إذا وضع
في قبره وانصرف الناس عنه يأتي إليه ملكان ويجلسان ويقولان له من
ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ أما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الاسلام، ونبيي
محمد، فيوسع له في قبره. وأما الكافر إذا أدخل في قبره أجلس وقيل له من ربك؟
ومخ 9 وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيضرب بمطراق من حديد ضربة
فيصيح منها صيحة يسمعها الخلائق إلا الثقلين. وورد أن ضغطة القبر وهي
التقاء حافتيه على جسد الميت لم ينج منها أحد إلا من استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم
ومنهم فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ببركة نزول النبي
21

صلى الله عليه وسلم في قبرها، ومن قرأ * (قل هو الله أحد) * (الصمد: 1) في مرضه الذي مات فيه (وأن
على العباد حفظة) أي على العباد إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم،
أحرارا كانوا أو أرقاء حفظة يحفظون الأعمال ويكتبونها ولا يدعون
حتى المباح والأنين في المرض، وحتى عمل القلب أي جميع الخواطر التي تخطر به،
ويجعل الله لهم علامة على عمل القلب يميزون بها بين الحسنة والسيئة، ومصدر علم
ذلك قوله تعالى * (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) * (الانفطار: 10 - 12) وقوله
صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار وانعقد الاجماع على
ذلك. (ولا يسقط شئ الخ) صرح بذلك دفعا لما عساه أن يتوهم من أن الله
يخفى عليه شئ من أعمال العباد تعالى الله عن ذلك، وإنما ذلك من لطف الله تعالى
بعباده لأنهم إذا علموا أن الله وكل بهم ملائكة تحفظ عليهم أعمالهم انزجروا
عن المعاصي، ولإقامة الحجة عليهم إذا جحدوا وأنكروا، وقالوا ما عملنا (وأن ملك
الموت الخ) أي أن الله وكل ملكا يسمى عزرائيل بقبض أرواح المخلوقات من
إنس وجن وغيرهم من كل ذي روح من الطيور والبهائم وما ورد من قوله تعالى
* (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 42) ومن قوله * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا)
* (الانعام: 61) مما ظاهره يخالف هذا فمؤول بأن إسناد التوفي إلى الله لأنه الفاعل حقيقة وإسناد
قبض الأرواح إلى ملك الموت لأنه المباشر لذلك بإذن الله، وإسناد التوفي إلى الرسل
من الملائكة لأنهم أعوان ملك الموت في قبض الأرواح (وأن خير القرون
الخ) أي أن من كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا
22

النور الذي أنزل معه قد أشرقت عليهم شموس بوته فحازوا فخار الاجتماع
وفضيلة الصحبة، فكان قرنهم أفضل القرون، ومصداق هذا قوله صلى الله عليه وسلم خيركم
قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (وأفضل الصحابة الخ) لما كان قوله
خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله يوهم أنهم بدرجة واحدة في الخيرية
نبه على أنهم متفاوتون في الفضل بقوله وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون، ثم
رتب الخلفاء في الذكر على حسب درجاتهم في الفضل، فقال أبو بكر ثم عمر ثم عثمان
ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. (وأن لا يذكر أحد من الصحابة الخ) الأولى
واللائق الامساك عما وقع بينهم من التشاجر، فإن وقع ذكر التشاجر الذي كان
بينهم فأحق أن يلتمس لهم أحسن المخارج أي التأويلات، وأن يظن بهم أحسن
المذاهب أي الآراء المتبعة في الدين (والطاعة لائمة الخ) أي الانقياد واجب
لائمة المسلمين من ولاة الأمور الذين نصبوا أنفسهم لمصالح المسلمين، فإذا أمروا
بمعروف وجب الامتثال وإذا نهوا عن منكر وجب الانكفاف وتجب الطاعة
والانقياد أيضا للعلماء العاملين بعلمهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
23

والحافظين لحدود الله. ودليل الوجوب قوله تعالى * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم) * (النساء: 59) وأما الجائز من كلا الفريقين فلا يطاع لقوله صلى الله عليه وسلم لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق رواه الإمام أحمد والحاكم. (واتباع السلف الخ) أي
يجب اتباع السلف الصالح وهم الصحابة في أقوالهم وأفعالهم سواء تلقوها منه
صلى الله عليه وسلم أو كانت باستنباط واجتهاد منهم (و) كذلك يطلب (الاستغفار لهم)
أي طلب المغفرة، (وترك المراء الخ) أي يجب ترك المراء والجدال في الدين.
والمراء جحد الحق بعد ظهوره. والجدال مناظرة أهل البدع. وإنما منع ذلك لأنه
يؤدي إلى الطعن في الصحابة وإيقاع الشبهة في القلب وإن كان
المقصود من الجدال إظهار الحق دون التعنت فهو جائز (وترك كل ما أحدثه
الخ) لقوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد أي مردود وهو
محمول على ابتداع أمر لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم ودل الشرع على حرمته وإليه ذهب
بعضهم، وبعضهم ذهب إلى أن البدعة ما لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم سواء دل
الشرع على حرمته أو وجوبه أو ندبه أو كراهته أو إباحته وعليه فالبدعة
تعتريها الاحكام الخمس، وبه قال ابن عبد السلام والقرافي وغيرهما، وهذا آخر
الكلام على ما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب، أما ما تعمله الجوارح فسيأتي
بيانه.
24

باب ما يجب منه الوضوء والغسل (باب ما يجب منه الوضوء والغسل) أي هذا باب في بيان الشئ الذي يجب
لأجله الوضوء والغسل. (الوضوء) بضم الواو اسم للفعل، وبفتحها اسم للماء. وهل
هو اسم لمطلق الماء أو له بعد كونه معدا للوضوء، أو بعد كونه مستعملا في العبادات؟
أقوال. وهو لغة الحسن والنظافة، وشرعا تطهير أعضاء مخصوصة بالماء لتنظف
ويرفع عنها حكم الحدث لتستباح به العبادة الممنوعة. (والغسل) قال ابن العربي:
لا خلاف أعلمه أنه بفتح الغين اسم للفعل، وبضمها اسم للماء. وفي الذخيرة: الغسل
بالضم الفعل وبالفتح اسم للماء على الأشهر والدليل على وجوب الوضوء والغسل
الكتاب والسنة والاجماع، قال تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم) * (المائدة: 6) الآية وقال * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا
جنبا إلا عابري سبيل حتى تغسلوا) * (النساء: 43) وقال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة من أحدث
حتى يتوضأ ولا خلاف بين الأئمة في وجوبهما (الوضوء يجب الخ) ولوجوبه
شروط: الاسلام، والبلوغ، والعقل، وارتفاع دم الحيض والنفاس، ودخول وقت
الصلاة، وكون المكلف غير ساه ولا نائم ولا غافل، ووجود ما يكفيه من الماء
المطلق، إمكان الفعل احترازا عن المطلوب كالمريض والمكره والذي يجب
منه الوضوء شيئان أحداث وأسباب، فالحدث ما ينقض الوضوء بنفسه كالبول،
والسبب ما لا ينقض الوضوء بنفسه، ولكن بما يؤدي إلى الحدث وهو ثلاثة أشياء:
زوال العقل، ولمس من تشتهي، ومس الذكر (لما يخرج من أحد المخرجين الخ)
أي يجب الوضوء وجوب الفرائض لا وجوب السنن. ومعنى الأول التحتم،
ومعنى الثاني التأكد لأجل الشئ الذي يخرج من أحد المخرجين المعتادين، وهما
25

القبل والدبر خروجا معتادا على وفق العادة وقيدنا بمعتادا للاحتراز عما يخرج
غير معتاد كالحصا والدود، فإنه لا ينقض، ولو كان مبتلا بشئ من البول والعذرة.
ولا بد أن يكون الخروج على وفق العادة، فلو خرج لعلة كالسلس في غالب
أحواله، وهو أن يلازمه كل الزمن أو جله أو نصفه فلا نقض ففي الأول لا يجب
الوضوء ولا يستحب، وفي الأخيرين يستحب إلا أن يشق عليه ذلك، وإلا فلا
استحباب. وتقييد المخرجين بالمعتادين للاحتراز عما يخرج من غيرهما كدم
الفصادة والحجامة والقئ المتغير عن حالة الطعام، والحدث الخارج من فتق تحت
المعدة، ولم ينسد المخرجان، أما إذا انسد المخرجان وكان الفتق تحت المعدة فيعتبر
كالخارج المعتاد من المخرج المعتاد (من بول أو غائط أو ريح) بيان لما يخرج
أي يجب الوضوء من أجل خروج البول من القبل، ومن خروج الغائط من الدبر
ومن خروج الريح، والمراد به ما يخرج من الدبر سواء كان بصوت أولا، وأما
الخارج من الذكر أو من فرج المرأة فلا يوجب الوضوء لعدم اعتباره في نواقض
الوضوء (أو لما يخرج الخ) أي يجب الوضوء لأجل الشئ الذي يخرج من القبل
وهو المذي وصفته أنه ماء أبيض رقيق يخرج عند اللذة أي الانتعاش الباطني
الذي ينشأ عنه الانتعاش الظاهري عند ملاعبة من يلتذ به وعند التفكر، وكما
أنه يوجب الوضوء يوجب غسل الذكر كله بنية قبل الوضوء بالماء فالماء
متعين ولا تكفي الأحجار. (وأما الودي فهو ماء أبيض خاثر) أي ثخين
26

(يخرج) غالبا عقب البول وقد يخرج بنفسه أو مع البول (فيجب منه ما يجب من
البول) وهو الوضوء والاستبراء منه، وهو استفراغ ما في المخرج بالسلت والنتر
الخفيفين وغسل محله فقط (وأما المني) خروج المني من موجبات الغسل لا الوضوء،
وإنما ذكره المؤلف في موجبات الوضوء استطرادا لما أنه يوجب الوضوء في بعض
أحواله، وهو ما إذا خرج بلذة غير معتادة، وإن كانت الحالة التي ذكرها المؤلف
من موجبات الغسل، ولذكر ما يخرج من القبل وكان المني من جملته (فهو الماء
الدافق الخ) أي الماء الذي يخرج دفقة بعد دفقة (عند اللذة الكبرى بالجماع)
وله رائحة كرائحة الطلع، أي الطلع النخل، أي رائحة غباره الذي يسقط منه. (وماء
المرأة الخ) وأما ماء المرأة أي منيها فصفته أنه ماء أصفر رقيق إذا خرج على وجه
العادة والصحة لا على وجه المرض. والسلس يجب منه الغسل ولا يشترط بروزه
إلى خارج، بل المدار على إحساسها به فبمجرد الاحساس يجب عليها الطهر كما
يجب عند انقطاع الحيض. (وأما دم الاستحاضة الخ) دم الاستحاضة هو الدم
السائل في غير أيام زمن الحيض والنفاس من عرق فمه في أدنى الرحم يسمى
العاذل بكسر الذال، وحكمه وجوب الوضوء إذا كان انقطاعه أكثر من إتيانه،
وأما إذا كان إتيانه أكثر من انقطاعه أو تساوى الأمران فلا يجب
27

(ولسلس البول الخ) هو بكسر اللام التي بين السينين اسم فاعل صفة للرجل
أي يستحب لصاحب السلس أن يتوضأ لكل صلاة، وأن يكون وضوءه متصلا
بالصلاة، ولا خصوصية لسلس البول بالحكم، بل الحكم عام لكل ذي سلس بولا أو
ريحا أو منيا، فالجميع سواء في عدم النقض بالذي خرج منهم، ولازم، ولو نصف الزمن
حيث عجز عن رفعه بتداو أو تزوج فإن قدر على رفعه فإنه يكون ناقصا وتغتفر
له مدة التداوي في عدم النقض. (ويجب الوضوء من زوال الخ) أي من
الأسباب المؤدية إلى الحدث وموجبة للوضوء بعد زوالها زوال العقل بمعنى
استتاره لا ذهابه بالكلية، إذ لو ذهب بالكلية لم يعد إذ الغرض في إنسان يلحقه
ما ذكر من نحو نوم أو إغماء ثم يعود له عقله فيحكم عليه بوجوب الوضوء. (بنوم
مستثقل) بفتح القاف أي أن النوم الثقيل ينقض الوضوء مطلقا طال أو قصر.
وحقيقة النوم الثقيل أنه الذي يخالط القلب ولا يشعر صاحبه بما فعل مبنيا
للمفعول سواء فعله أو فعل غيره ومفهوم قوله مستثقل أن الخفيف الذي يشعر
صاحبه بأدنى سبب لا ينقض مطلقا قصيرا كان أو طويلا لما في مسلم كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون، لكن يستحب
الوضوء من النوم الخفيف الطويل. (أو إغماء) قال مالك ومن أغمي عليه
فعليه الوضوء، والاغماء مرض في الرأس. (أو سكر) يعني أن من غاب عقله
بسبب سكر فعليه الوضوء، ولا تفصيل بين السكر بحرام أو حلال كأن شرب لبنا
يظنه غير مسكر فسكر منه. (أو تخبط جنون) الأولى حذف تخبط لان زوال
العقل يكون بالجنون، والتخبط مصاحب لزوال العقل لا أنه سبب له، وإنما وجب
الوضوء بسبب الجنون والسكر والاغماء لأنه لما وجب بالنوم مع كونه أخف حالا
28

منها لأنه يزول بيسير الانتباه، ولا كذلك هذه كان وجوبه بها أولى لأنها أدخل
في استتار العقل، ولذلك لم يفرقوا بين طويلها وقصيرها ولا بين ثقيلها وخفيفها
وحكموا بزوال التكليف معها بخلاف النوم، فصاحبه مخاطب، وإن رفع عنه
الاثم والكلام في جنون يتقطع لا إن كان مطبقا فلا يحكم عليه بشئ (ويجب
الوضوء من الملامسة) أي من الأسباب المؤدية إلى الحدث الملامسة وهي ما دون
الجماع على ما فسر به جماعة من الصحابة والتابعين ومالك وأصحابه قول تعالى * (أو
لامستم النساء) * (النساء: 43) وفسرها علي وابن عباس بالجماع، فيكون معنى قوله تعالى * (أو لامستم
النساء) * (المائدة: 6) جامعتموهن (للذة) حاصل فقه المسألة أن اللامس إن كان قاصدا
اللذة وجب عليه الوضوء بمجرد الملامسة وجد لذة أو لا، وأولى إن قصد ووجد وإن
لم يكن قاصدا اللذة بل كان قاصدا بالملامسة الاختبار هل الجسم صلب أو لا، ولكنه وجد لذة فيجب عليه الوضوء لوجود اللذة، وإن لم تكن ناشئة عن قصد
فمدار وجوب الوضوء على القصد، وإن لم يكن معه وجدان لذة وعلى الوجدان
وإن لم يكن معه قصد، ولا بد أن يكون الوجدان حال اللمس، وأما بعده فلا، لأنه صار
كاللذة بالتفكر، ولا شئ فيه. وأما إن لم يقصد ولم يجد فلا شئ عليه. هذا حكم
اللامس، وأما الملموس فإن بلغ والتذ توضأ وإلا فلا شئ عليه ما لم يقصد اللذة، وإلا
صار حكمه حكم اللامس (والقبلة للذة) ظاهر كلامه أن التقبيل مطلقا على الفم
أو غيره يجري على القصد أو الوجدان، وليس كذلك، بل المشهور أن القبلة على
الفم تنقض مطلقا قصد ووجد أم لا، لأنها مظنة اللذة، ما لم تكن قرينة صارفة للذة.
(ومن مس الذكر) أي من الأسباب المؤدية إلى الحدث مس الذكر لما
في الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ
29

وأما حديث: هل هو إلا بضعة منك فمتكلم فيه. ويعتبر المس إذا كان بباطن
الكف أو بباطن الأصابع أو بجنبيهما وأل في الذكر للعهد، والمعهود
ذكر الماس لا ذكر غيره. وأما ذكر الغير فيجري على حكم الملامسة من اعتبار
القصد أو الوجدان، ولا بد أن يكون الذكر متصلا بالبدن، وأما المنفصل عن
البدن فلا نقض بمسه. ويعتبر في الخنثى الاشكال وعدمه، فإن كان مشكلا
نقض مسه، وإن كان غير مشكل اعتبر في حقه ما حكم له به، فإن حكم له
بالذكورة نقض وإلا فلا، ويفصل في المس من فوق الحائل، فإن كان كثيفا
فلا نقض قولا واحدا، وإن كان خفيفا فالمشهور عدم النقض ولا نقض
بمس الدبر والأنثيين على المشهور. (واختلف في مس المرأة الخ) فمذهب
المدونة عدم النقض لما في الحديث إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ ورد
هذا المذهب بأنه مفهوم لقب ومفهوم اللقب لا يعتبر في الحجية. واستند
القائل بالنقض لحديث من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ لان الفرج لغة
العورة، فيقع على الذكر وفرج المرأة، وقال بعضهم: لا نقض إذا مست ظاهره،
والنقض إذا قبضت عليه أو ألطفت. والالطاف أن تدخل يديها بين شفريها،
وهذا آخر الكلام على ما يجب من الوضوء. وأما ما يجب منه الغسل فسيأتي
بيانه. (ويجب الطهر الخ) من موجبات الغسل خروج المني بلذة معتادة
سواء خرج في نوم أو يقظة من رجل أو امرأة، ولا يشترط في وجوب الغسل
من خروجه للذة أن تكون اللذة مقارنة للخروج، فقد يجب الغسل لخروجه
بعد ذهاب اللذة، كأن يلتذ بغير جماع ثم يخرج منه المني بعد ذهابها.
30

(أو انقطاع دم الحيضة) الصواب أن يقول دم الحيض لأنه أعم من الحيضة
إذ هي خاصة بما تقدمها طهر فاصل، وتأخر عنها طهر فاصل، فأول دم خرج
لا يقال له حيضة، وكذلك آخر دم والحيض شرعا هو الدم الخارج بنفسه
من فرج المرأة الممكن حملها عادة غير زائد على خمسة عشر يوما، ويكون
خروجه لغير مرض ولا ولادة، فالدم الخارج لا بنفسه، والخارج من الدبر،
والخارج من الصغيرة كبنت سبع سنين أو سبعين سنة، والزائد على خمسة
عشر يوما، والخارج بسبب مرض، والخارج لأجل الولادة لا يكون حيضا
حتى تترتب عليه أحكامه. (أو الاستحاضة) انظر كيف جعل انقطاع دم
الاستحاضة من موجبات الغسل. والذي رجع إليه مالك آخرا استحباب
الغسل. وكان أولا يقول: إنها لا تغتسل، وليس من أهل المذهب من يقول
بالوجوب إلا الباجي على ما يؤخذ من ظاهر نقله. (أو النفاس) أي من
موجبات الغسل النفاس. والنفاس لغة ولادة المرأة سواء كان معها دم أم لا
لا نفس الدم الخارج من الفرج لأجل الولادة. والنفاس في اصطلاح أهل
الشرع الدم الخارج من الفرج لأجل الولادة على جهة الصحة والعادة.
فالدم الخارج من غير الفرج لا يكون نفاسا والخارج لغير الولادة لا يعد
نفاسا. والخارج لا على جهة الصحة ليس نفاسا. والعادة كأن خرج بعد
مدة النفاس وهي ستون يوما. (أو بمغيب الحشفة) يعني أن من موجبات
الغسل مغيب الحشفة من البالغ في الفرج وإن لم ينزل سواء كان فرج
آدمية أو بهيمة أو في الدبر، وسواء في ذلك دبر الأنثى والذكر، وسواء كان
معه انتشار أو لا، لف عليها خرقة أو لا، لكن بشرط أن يكون الحائل خفيفا
31

يشعر معه باللذة. وأما الحائل الكثيف فلا يجب معه الغسل إلا إن أنزل،
وحينئذ يكون الغسل لأجل الانزال لا لمغيب الحشفة والأصل في ذلك ما في
الموطأ ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد
وجب الغسل وهذا الحديث ناسخ لما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم إذا أعجلت
أو أقحطت فلا غسل ولما روي من قوله إنما الماء من الماء. (ومغيب الحشفة
في الفرج الخ) تقدم أن مغيب الحشفة من موجبات الغسل، وإنما أعاده لجمع
النظائر (يوجب الحد) أي حد الزنى على الزاني. (ويوجب الصداق) أي
كماله لأن العقد موجب لنصفه (و) أنه (يحصن الزوجين) بشرط أن
يكونا حرين مسلمين عاقلين بالغين. (ويحل المطلقة ثلاثا) للذي طلقها وهو
الحر وأما مطلقة العبد فيحلها إذا طلقها ثنتين لكن يشترط في التحليل للمطلقة
ثلاثا أن يكون مع التغييب انتشار، والحاصل أنه لا يشترط الانتشار في الثلاثة
الأول وأما تحصين الزوجين والمطلقة ثلاثا فلا بد من الانتشار وعدم الحائل.
(ويفسد الحج) مطلقا فرضا كان أو تطوعا، عمدا كان أو نسيانا، إذا وقع قبل
الوقوف بعرفة أو بعده قبل طواف الإفاضة ورمي جمرة العقبة في يوم النحر،
ويتمادى على حجه ويقضيه من قابل. (ويفسد الصوم) أي وإن لم يكن معه
انتشار فرضا كان أو نفلا، عمدا كان أو نسيانا، ويلزمه القضاء والكفارة في
الفرض إن تعمد، وإلا فالقضاء فقط كالعمد في النفل (وإذا رأت المرأة الخ)
32

ولما ذكر أن من موجبات الغسل دم الحيض انتقل يبين العلامة الدالة على
انقطاعه وعلى براءة الرحم منه، فذكر له علامتين القصة والجفوف، فإذا رأت
الحائض إحدى العلامتين فقد استبان طهرها، ويحكم لها من ساعتئذ بأنها طاهرة،
فلا تنتظر العلامة الثانية (رأته بعد يوم الخ) أي الطهر المفهوم من قوله تطهرت
يشير إلى أنه لا حد لأقل الحيض باعتبار الزمن، وأما باعتبار المقدار فله أقل وهو
الدفعة، وأما أكثره فلا حد له باعتبار المقدار، وله حد باعتبار الزمن وهو خمسة
عشر يوما (ثم إن عاودها الخ) أي أن من رأت علامة الطهر وحكم بأنها
طهرت من ساعتئذ أي من وقت أن رأت الطهر إن عاودها دم آخر أو صفرة شئ
كالصديد تعلوه صفرة (أو كدرة) شئ كدر ليس على ألوان الدماء، فإنها تترك
الصلاة وتحسب ذلك اليوم يوم حيض، وتجعله كله حيضا واحدا، ومحل كونه حيضا
واحدا إذا أتاها قبل طهر تام، أو كان انقطاعه أولا قبل تمام عادتها أو بعدها، وقبل
الاستظهار أو قبل تمامه، وأما إذا أتاها بعد طهر تام أو كان انقطاعه بعدما تمادى
بها عادتها وأيام الاستظهار لا يكون حيضا بل استحاضة. (ثم إذا انقطع عنها
الخ) أي إذا انقطع عن المرأة ذلك الدم الذي عاودها (اغتسلت وصلت) ولا
تنتظر هل يأتيها دم آخر أو لا، ويعبر عن هذه المسألة بمسألة الملفقة وهي التي تقطع
طهرها أي تخلله دم. (ولكن ذلك الخ) أي أن الدم المتخلل يعتبر كدم واحد
في باب العدة والاستبراء، بمعنى أنها تلفق أيام الدم بعضها إلى بعض حتى تنتهي لما
33

هو حكمها من عادة أو غيرها ثم تكون مستحاضة (حتى يبعد ما بين الدمين)
أي أن محل كون الدم المتخلل يعتبر كدم واحد في باب العدة والاستبراء إن لم
يبعد ما بين الدمين، فإن بعد ما بينهما بعدا بينا بأن يكون أقل زمن الطهر وهو
ثمانية أو عشرة، وإن كان المشهور خمسة عشر يكون الثاني منهما حيضا مؤتنفا
أي مبتدأ تعتد به وحده في العدة والاستبراء (ومن تمادى بها الدم الخ) يعني
أن من استرسل عليها نزول الدم فإنها تتربص خمسة عشر يوما إن كانت مبتدأة
لان أكثر الحيض في حقها خمسة عشر يوما، يحكم لها بأنها مستحاضة، ميزت
بين الدمين أو لا، فتغتسل وتصلي وتصوم، ويأتيها زوجها، وقولنا إن كانت مبتدأة
احتراز عن غير المبتدأة، فإن فيها تفصيلا لأنها إما أن تختلف عادتها أو لا، فإن لم
تختلف، واسترسل عليها الدم أكثر من عادتها استظهرت بثلاثة أيام ما لم تجاوز
خمسة عشر يوما، وإن اختلفت استظهرت على أكثر عادتها (وإذا انقطع دم
النفساء الخ) بأن رأت بقرب الولادة العلامة الدالة على انقطاعه من القصة
والجفوف اغتسلت وصلت. وفهم من قوله بقرب الولادة أنه لا حد لأقل النفاس
باعتبار الزمن، وله أقل باعتبار الخارج وهو لدفعة (وإن تمادى بها الخ) يعني
34

أن النفساء إذا استرسل عليها الدم تمكث ستين يوما أكثر أمده، فإن انقطع بعد
الستين فالامر ظاهر، وإن تمادى عليها الدم بعد الستين كانت مستحاضة تغتسل
وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها. باب طهارة الماء (باب طهارة الماء الخ) أي هذا باب في
بيان اشتراط طهارة الماء وفي بيان اشتراط طهارة الثوب، وفي بيان اشتراط
طهارة البقعة، وفي بيان اشتراط ما يجزئ من اللباس في الصلاة. الطهارة
شرعا صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو له.
(والمصلي يناجي ربه الخ) افتتح الباب بقوله والمصلي يناجي ربه، مع أنه
ليس داخلا في الترجمة ليرتب عليه قوله (فعليه أن يتأهب الخ) وهو
بعض حديث رواه مالك في الموطأ، ونص الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
على أصحابه وهم يصلون وقد علت أصواتهم فقال: إن المصلي يناجي ربه
فلينظر بم يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض (فعليه أن يتأهب الخ) أي على
المصلي أن يستعد لذلك أي للمناجاة بأن يكون حاضر القلب خاشعا مستحضرا
عظمة من هو قائم بين يديه، لائذا بجنابه، فإذا فتر عن ذلك لم يكن مناجيا،
ولا يصدق عليه اسم المناجاة، وإنما يصدق عليه أنه متلاعب. ولا بد أن يتخذ
الوسيلة لذلك بأن يكون طاهرا أي متطهرا من الحدثين الحدث الأصغر
والأكبر (ويكون ذلك الخ) أي أن التطهر من الاحداث يكون بماء
35

طاهر أي لم يخالطه ما يغير أحد أوصافه الثلاثة: اللون أو الطعم أو الريح.
وسواء في ذلك المغير لأوصافه النجس والطاهر حتى لو تغير بماء الورد الذي
هو من الجواهر اللطيفة لا يصح استعماله في الوسائل كالوضوء والغسل
إلا ما غيرت لونه الأرض) أي أنه لما اشترط في الماء المستعمل في الوسائل
كالوضوء والغسل أن لا يكون متغير الأوصاف بما يفارقه غالبا استثني من
ذلك الماء الذي غيرت لونه الأرض التي هو متصل بها وملازم لها، بأن كان
استقراره على أرض سبخة ونحوها من الأراضي التي بها ملح أو كبريت
أو حمأة وهي طين أسود منتن. (وماء السماء الخ) هذه المياه التي ذكرها
من ماء السماء وما عطف عليه كلها طاهرة في نفسها طيبة لكل ما تستعمل
فيه، سواء كان من العادات كالشرب ونحوه، أو من العبادات كالوضوء
والغسل وإزالة النجاسة ما دامت باقية على أصل خلقتها لم تتغير بشئ ينفك
عنها غالبا. (وما غير لونه إلخ) أي أن الماء الذي تغير لونه بشئ طاهر كماء
العجين، فذلك الماء طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، فلا يستعمل لا في وضوء
ولا في غيره كالغسل. (وما غيرته النجاسة الخ) أي أن الماء المتغير بنجس
سواء كان التغير في لونه أو طعمه أو ريحه وسواء كان الماء قليلا أو كثيرا،
36

كانت له مادة أو لا، مسلوب الطهارة والطهورية فلا يستعمل في العادات
ولا في العبادات (وقليل الماء الخ) أي أن الماء القليل كالماء المعد للوضوء
أو الغسل إذا حلت فيه نجاسة ولو قليلة وإن لم تغيره نجس، فلا يجوز
استعماله، والمشهور أنه طاهر لكنه مكروه الاستعمال مع وجود غيره، والفرض
أنه لم يتغير، وإلا فهو مسلوب الطهورية قطعا. (وقلة الماء مع إحكام الخ)
أي أن تقليل الماء حال الاستعمال مع إحكام أي إتقان الغسل وهو صب الماء
مع الدلك مستحب، أي أمر مطلوب على جهة الأحبية للشرع والاكثار
منه، أي من صب الماء في حال الاستعمال غلو أي زيادة في الدين وبدعة
أي أمر محدث مخالف للسنة وطريقة السلف الصالح (وقد توضأ الخ)
استأنس بهذه المسألة على قوله وقلة الماء الخ لأنه ليس من موضوع الباب
أي أنه ثبت في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بمد بمده عليه الصلاة والسلام،
وهو رطل وثلث، وتطهر بصاع، وهو أربعة أمداد، فمجموعها خمسة أرطال
وثلث والغرض الاخبار عن فضيلة الاقتصاد وترك الاسراف، وعن القدر
الذي كان يكفيه عليه الصلاة والسلام (وطهارة البقعة الخ) أي أن طهارة
البقعة التي تماسها أعضاء المصلي واجب لأجل الصلاة، أي الطهارة لأجل الصلاة
37

وأما الطهارة لغيرها كالذكر فمندوبة. (وكذلك طهارة الثوب) أي أن
طهارة ثوب المصلي واجبة وجوب الفرائض لكن مع الذكر والقدرة، فلو
صلى في ثوب نجس متعمدا قادرا على إزالتها أعاد تلك الصلاة أبدا، وإن صلى
ناسيا أو عاجزا أعاد في الوقت. والوقت في الظهرين إلى الاصفرار. وفي
العشاءين الليل كله. وقيل بسنية إزالة النجاسة وشهر كل من القولين وعلى
القول بالسنية يعيد في الوقت مطلقا متعمدا أو قادرا على إزالتها أو ناسيا
أو جاهلا. (وينهى عن الصلاة الخ) يعني أن فعل الصلاة في معاطن الإبل
جمع معطن وهو موضع اجتماعها عند صدورها من الماء مكروه، ولو أمن
من النجاسة ولو بسط شيئا طاهرا وصلى عليه لان النهي ليس معللا بالنجاسة
حتى ينتفي انتفائها. (ومحجة الطريق) أي تكره الصلاة في قارعة الطريق
حيث شك في إصابتها بأرواث الدواب وأبوالها، وحينئذ لو صلى تندب
الإعادة في الوقت. ومحل الكراهة إن لم يصل فيها لضيق المسجد. وأما
إن صلى فيها لضيق المسجد أو فرش شيئا طاهرا وصلى عليه، أو
تيقن طهارتها فلا كراهة. (وظهر بيت الله الحرام) أي ينهى نهي
تحريم عن الصلاة فوق ظهر الكعبة بناء على أن العبرة باستقبال بنائها،
والذي فوق ظهرها لم يستقبل البناء، فلو صلى صلاة مفروضة على ظهرها
38

يعيد أبدا بناء على أن العبرة باستقبال بنائها. (والحمام) أي أن الصلاة في الحمام
أي في داخله مكروهة، وعلة الكراهة غلبة النجاسة حتى أنه لو أيقن بطهارته
انتفت الكراهة وجازت الصلاة. (والمزبلة) بفتح الباء وضمها مكان طرح
الزبل أي تكره الصلاة في مكان طرح الزبل إن لم يؤمن من النجاسة، وإلا فلا
كراهة. (والمجزرة) بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الزاي، المكان المعد للذبح
والنحر، أي تكره فيه الصلاة إن لم تؤمن نجاسته وإلا فلا. (ومقبرة المشركين)
بتثليث الباء موضع دفن موتاهم، وحاصل فقه المسألة أن المقبرة إن كانت من
مقابر المسلمين، فإن كانت غير منبوشة أي لم يكن شئ من أجزاء الموتى في موضع
الصلاة فالصلاة جائزة، وإن كان في موضع الصلاة شئ من أجزاء المقبورين
فيجري حكم الصلاة فيها على الخلاف في الآدمي هل ينجس بالموت أو لا. وعلى أنه
لا ينجس بالموت وهو المعتمد فتكره الصلاة حيث شك أو تحقق وجود الاجزاء
من حيث الإهانة، أو من حيث كونها مشيا على القبر. وأما من حيث ذات الصلاة
فلا كراهة. وأما مقابر الكفار فكره ابن حبيب الصلاة فيها لأنها حفرة من النار،
لكن من صلى فيها وأمن من النجاسة فلا تفسد صلاته، وإن لم يأمن كان مصليا
على نجاسة. (وكنائسهم) جمع كنيسة بفتح الكاف وكسر النون موضع تعبدهم،
فيشمل الكنيسة التي للنصارى، والبيع التي لليهود، وبيت النار التي هي للمجوس.
كره الامام مالك الصلاة فيها لنجاستها من أقدامهم أي الشأن فيها ذلك لا أنها
محققة، وإلا كانت الصلاة فيها حراما مع بطلانها والكراهة حيث صلى فيها اختيارا
لا إن اضطر لذلك، وإلا فلا كراهة لا فرق بين دارسة أو عامرة. (وأقل ما يصلي فيه
الرجل الخ) أي أن أقل ما ينتفي معه الاثم ويكفي في المطلوب من المصلي ثوب ساتر
39

للعورة من درع أو رداء أو سروال. أما الدرع فهو القميص، وهو ما يسلك في
العنق. وأما الرداء فهو ما يلتحف به، ويشترط فيه أن يكون كثيفا لا يصف، ولا
يشف، أي يصف جرم العورة أي يحدده لرقته أو إحاطته فإن كان كذلك كره
ما لم يكن الوصف بسبب ريح، وإلا فلا، وإن كان يشف فتارة تبدو منه العورة بدون
تأمل فالصلاة به باطلة، وتارة لا تبدو إلا بتأمل وحكمه كالواصف في الكراهة
وصحة الصلاة. (ويكره أن يصلي الخ) أي يكره للرجل أن يصلي في ثوب ليس على
كتفيه شئ منه مع وجود غيره فإن صلى ولحم كتفيه بارز مع القدرة على الساتر
لم يعد ما صلى لا في الوقت ولا بعده. (وأقل ما يجزئ
المرأة الخ) أي أقل ما يجزئ المرأة الحرة البالغة من اللباس في الصلاة شيئان أحدهما الدرع الحصيفة بالحاء
المهملة على الرواية الصحيحة، وروي بالخاء المعجمة. ومعنى الأولى الكثيف
الذي لا يصف ولا يشف ومعنى الثانية الساتر السابغ أي الكامل التام الذي
يستر ظهور قدميها، ويراد به أيضا الذي لا يصف ولا يشف لان مراد المؤلف
أقلية لا إعادة معها لا في الوقت ولا في غيره. وثانيهما خمار بكسر الخاء
تتقنع به أي تستر به شعرها وعنقها. ومن شرطه أن يكون كثيفا، وحاصل
الفقه أنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها في الصلاة حتى بطون قدميها
40

لقول مالك: لا يجوز للمرأة أن تبدي في الصلاة إلا وجهها وكفيها (وتباشر
بكفيها الخ) أي أن المرأة تباشر الأرض بكفيها حال السجود وجه ذكره لهذه
المسألة هنا أنه لما كان يتوهم من قوله: تستر ظهور قدميها وبطونهما
أنها تستر الكفين لان كلا منهما من أجزاء المصلي المطلوب بستر جميع
بدنه، فلأجل دفع هذا التوهم ذكرها هنا. باب صفة الوضوء (باب في صفة الوضوء الخ) إي هذا
باب في بيان صفة الوضوء (ومسنونه) أي وفي بيان المسنون منه (وذكر
الاستنجاء) وفي بيان ذكر الاستنجاء حكما وصفة، فيكون كلام المصنف
شاملا للامرين، والأولى حذف ذكر ويقول: والاستنجاء بالعطف على صفة.
والاستنجاء غسل موضع الخبث بالماء، مأخوذ من نجوت بمعنى قطعت، فكأن
المستنجي يقطع الأذى عنه. (والاستجمار) أي وفي بيان الاستجمار حكما وصفة
وحكمه أنه مجز، وصفته أنه استعمال الحجارة الصغار في إزالة ما على المحل من
الأذى. (وليس الاستنجاء الخ) أي لا يجب ولا يسن ولا يستحب أن يوصل
الوضوء بالاستنجاء، بل هو عبادة منفردة يجوز تفرقته عن الوضوء في
الزمان والمكان، ولا يعد في سنن الوضوء، ولا في فرائضه، ولا في مستحباته،
وإنما المقصود منه إنقاء المحل خاصة، ولكن يستحب تقديمه على الوضوء، فإذا
41

أخره فليحذر من مس ذكره ومن خروج حدث. (وهو من باب الخ) أي أن
الاستنجاء من باب إزالة النجاسة، فيجب أن يكون بالماء أو بالاستجمار بالأحجار
لئلا يصلي بالنجاسة وهي على جسده. ومما يدل على أنه من باب إزالة النجاسة أنه
يجزئ فعله بغير نية. (وكذلك غسل الثوب النجس) أي المتنجس لا يحتاج
إلى نية (وصفة الاستنجاء الخ) أي الصفة الكاملة أنه بعد أن يستبرئ
بالسلت والنتر الخفيفين بأن يأخذ ذكره بيساره أي السبابة والابهام، ثم
يجذبه من أسفله إلى الحشفة جذبا رفيقا، ثم يمسح ما على دبره من الأذى
بمدر أو بغيره مما يجوز الاستجمار به، يبدأ بغسل يده اليسرى مخافة أن
يعلق بها شئ من رائحة الأذى، ثم يستنجي بالماء، ولكنه يقدم غسل
مخرج البول على غسل مخرج الغائط لئلا تتنجس يده. وما ذكره المصنف
من الجمع بين الاستجمار والاستنجاء بالماء هو الأفضل لفعله ذلك
عليه الصلاة والسلام. (ويواصل الخ) أي يوالي صب الماء من غير
تراخ لأنه أعون على الإزالة. (ويسترخي قليلا) وإنما طلب منه ذلك
42

لان المخرج فيه طيات، فإذا قابله الماء انكمش، فإذا استرخى تمكن من غسله.
(ويجيد عرك ذلك الخ) أي أن المستنجي يعرك المحل بيده وقت صب الماء
حتى ينظف من الأذى. وتكفي غلبة الظن إن قدر على ذلك، فإن لم يقدر لقطع يده
أو قصرها استناب من يجوز له مباشرة ذلك المحل من زوجة أو سرية وإلا توضأ
وترك ذلك من غير غسل. (وليس عليه الخ) أي لا يجب ولا يستحب للمستنجي
(غسل ما بطن من المخرجين) والصواب من المخرج بلفظ الافراد لان مخرج
البول من الرجل لا يمكن غسل داخله. (ولا يستنجى من ريح) أي ينهى عن
الاستنجاء من الريح. والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم من استنجى من ريح فليس
منا وهل الحكم المنع أو الكراهة؟ لا نص على عين الحكم والحديث يحتملهما.
(ومن استجمر بثلاثة الخ) يعني أن من استجمر بثلاثة أحجار، وخرج
آخرهن نقيا من الأذى كفاه ذلك، ولو كان الماء موجودا. ويؤخذ من
كلامه أن الاستجمار بدون الثلاثة لا يجزئ ولكن المشهور أن المدار على
الانقاء ولو بواحد. ولما أفهم كلامه أن الأحجار تجزئ ولو كان الماء موجودا
خشي أن يتوهم مساواة ذلك لاستعمال الماء، وأنهما سواء في الفضل دفع
ذلك بقوله: (والماء أطهر) لأنه لا يبقى معه عين ولا أثر والحجر إنما يزيل
العين فقط. (وأطيب للنفس) وإنما كان أطيب لأنه يذهب الشك. (وأحب
إلى العلماء) أي كافة إلا ابن المسيب فإنه قال: الاستنجاء من فعل النساء
43

وحمل على أنه من واجبهن، أي متعين في حقهن فلا يجزئهن الاستجمار كما
أنه متعين في حيض ونفاس ومني، أي بالنسبة لمن فرضه التيمم لمرض أو
عدم ماء كاف للغسل، ومعه من الماء ما يزيل به النجاسة. ويتعين الماء أيضا في
المنتشر عن المخرج كثيرا بأن جاوز ما جرت العادة بتلوثه. (ومن لم يخرج
منه بول الخ) أي أن من لم يخرج منه بول ولا غائط ولا غيرهما مما يستنجى
منه كمذي وودي، وأراد أن يتوضأ لأجل خروج ريح أو غيره مما يوجب
الوضوء كالردة والشك في الحدث والرفض وبقية الأسباب من النوم والسكر
والاغماء (فلا بد من غسل يديه قبل إدخالهما في الاناء) أي يلزمه ذلك
على طريق السنية وإن لم يكن بهما ما يقتضي غسلهما بأن كانتا نظيفتين
فغسل اليدين مطلوب مطلقا سواء استنجى أو لا. (ومن سنة الوضوء)
أي من سنن الوضوء (غسل اليدين) إلى الكوعين قبل إدخالهما في الاناء ومحل كون السنة الغسل قبل الادخال في الاناء
إن كان الماء قليلا وأمكن
الافراغ منه، وإلا فلا يسن الغسل قبل الادخال. (والمضمضة) أي من سننه
أيضا المضمضة بضادين وهي خضخضة الماء في الفم ومجه، فلو ابتلعه لم يكن
آتيا بالسنة. وأيضا لو فتح فاه حتى نزل فيه الماء لم يكن آتيا بالسنة، فلابد
من خضخضة الماء ومجه. (والاستنشاق) أي من سنن الوضوء الاستنشاق،
وهو إدخال الماء في الخياشم بالنفس، فلو دخل الماء أنفه بغير إدخال بالنفس
44

لا يكون آتيا بالسنة. (والاستنثار) كيفيته أن يجعل أصبعيه السبابة
والابهام من يده اليسرى على أنفه ويرد الماء من خيشومه بريح الانف
(ومسح الاذنين) أي من سنن الوضوء مسح الاذنين ظاهرهما وباطنهما
الظاهر ما كان من جهة الرأس، والباطن ما كان من جهة الوجه (وباقيه
فريضة) أي باقي الوضوء فريضة. واستشكل بأن من الباقي ما هو سنة
كرد مسح الرأس، وتجديد الماء للأذنين، والترتيب. ومنها ما هو مستحب
كالتسمية في ابتدائه. وأجيب بأنه أراد بقوله: وباقيه فريضة بقية الأعضاء
المغسولة والممسوحة على طريق الاستقلال، إذ الرأس فرضه المسح والرد
تبع له أي متعلق بكسر اللام بقية الأعضاء أي القائم ببقية الأعضاء على
جهة الاستقلال فريضة وإنما احتجنا لتقدير متعلق لأنه ليس نفس بقية
الأعضاء هي الفريضة. وأما التجديد والترتيب فليسا
بعضوين، أي فليسا متعلقين بعضوين بل متعلقهما غير عضوين لان متعلق التجديد الماء،
ومتعلق الترتيب الغسلات. (فمن قام إلى وضوء) ليس المراد بالقيام حقيقته،
وإنما المراد من أراد أن يتوضأ لحصول موجبه من نوم أو غيره مما يوجب
الوضوء، فمن قائل من العلماء إنه يبدأ بسم الله تعالى قيل بأن يقول بسم
الله الرحمن الرحيم، وقيل: بأن يقول بسم الله فقط. ومن العلماء من لم ير
البداءة بالتسمية من الامر المعروف عند السلف، بل رآه من المنكر أي
المكروه. والظاهر من كلام المصنف حيث عزا كل قول منهما لبعض
أنه لم يقف لمالك في التسمية على شئ. والمنقول عن مالك في التسمية
ثلاث روايات إحداها الاستحباب، وبه قال ابن حبيب وشهرت لقوله صلى الله عليه وسلم
45

لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله وظاهر الحديث الوجوب. وبه قال الإمام أحمد
وإسحاق بن راهويه، وهو مجتهد. الثانية الانكار قائلا أهو يذبح
أي حتى يحتاج إلى تسمية. الثالثة التخيير فالحكم إذا الإباحة. (وكون
الاناء على يمينه الخ) أي يستحب للمتوضئ أن يجعل الاناء الذي يتوضأ
منه على يمينه لأنه أسهل وأمكن في تناول الماء إن كان الاناء مفتوحا يمكن
الاغتراف منه. وأما إن كان ضيقا فالأفضل أن يكون عن يساره لأنه
أيسر. (ويبدأ فيغسل الخ) أي وبعد أن يجعل الاناء المفتوح عن يمينه.
والضيق عن يساره، يبدأ على جهة السنية بغسل يديه إلى الكوعين ثلاث
مرات قبل أن يدخلهما في الاناء بنية مفترقتين. (فإن كان قد بال الخ)
أي أن ما تقدم في حق من لم يبل ومن لم يتغوط. وأما من بال أو تغوط
غسل ذلك الشخص البول أو الغائط، أي أزالهما عن نفسه. (ثم توضأ الخ)
ومعناه يفعل الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين. وحاصل المسألة أن قوله
أولا فيغسل يديه قبل أن يدخلهما في الاناء في حق من لم يبل ومن لم
يتغوط. وأما من بال أو تغوط فحكمه أنه يغسل موضع البول أو غيره ثم
يتوضأ، أي يغسل يديه الذي هو سنة أولى من سنن الوضوء. (ثم يدخل
يده في الاناء) إن أمكنه إدخالها فيه وإلا أفرغ عليها (فيأخذ الماء فيمضمض
الخ) أي يأخذ من الماء بقدر حاجته من غير إسراف، فيمضمض فاه ثلاثا
46

من غرفة واحدة إن شاء ذلك لكن الأولى سنة، وكل من الباقيتين مستحب،
وإن شاء تمضمض ثلاث مرات بثلاث غرفات. والصفة الثانية أرجح من الأولى
(وإن استاك الخ) أي إن استاك بأصبعه من يريد الوضوء قبل أن يتوضأ
(فحسن) أي مستحب. (ثم يستنشق) ثم للترتيب فقط لا للتراخي أي
أن المتلبس بأعمال الوضوء بعد فراغه من المضمضة يستنشق بأن يجذب
الماء. وانظر ما فائدة قوله بأنفه فهل يكون الاستنشاق بغير الانف. ولعله
ذكر ذلك تبركا بلفظ الحديث ففي مسلم فليستنشق بمنخريه الماء (ويستنثره
ثلاثا) والمشهور أنه سنة على انفراده وصفة الاستنثار أن يجعل السبابة
والابهام من يده اليسرى على أنفه، ويرد الماء بريح الانف كما يفعل في امتخاطه.
وكره عند مالك امتخاطه كامتخاط الحمار لوقوع النهي عنه في الحديث.
(ويجزئه أقل من ثلاث الخ) أي يكفيه أقل من ثلاث في المضمضة
والاستنشاق. والأقل صادق بالمرة الواحدة والثنتين. ودليل ما ذكر أنه
عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين. (وله جمع ذلك
في غرفة واحدة) أي للمتوضئ أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق في غرفة
واحدة. وله صورتان إحداهما أن لا ينتقل إلى الاستنشاق إلا بعد الفراغ من
المضمضة. والأخرى أن يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم
47

يتمضمض، ثم يستنشق. والأولى أفضل لسلامتها من التنكيس في العبادة (ثم
يأخذ الماء الخ) ثم بعد الفراغ من الاستنشاق والاستنثار يأخذ الماء بيديه
جميعا إن شاء، وإن شاء أخذه بيده اليمنى، ثم يجعله في يديه جميعا، ثم ينقله إلى
وجهه وظاهره أن نقل الماء شرط، وهو كذلك عند ابن حبيب وابن الماجشون
وسحنون، والمشهور أنه لا يشترط النقل وإنما المطلوب إيقاع الماء على سطح
الوجه كيفما أمكن ولو بميزاب. (فيفرغه عليه الخ) أي يفرغ الماء على
وجهه من غير أن يلطم وجهه بالماء كما تفعل النساء وعوام الرجال. (غاسلا له بيديه)
يستفاد منه أشياء: فيستفاد منه أن مقارنة الغسل لنقل الماء إلى العضو المغسول
شرط للاستحباب في الوضوء بدليل الحالية التي تفيد المقارنة. ويستفاد منه
أيضا أنه يباشر ذلك بنفسه، فلو وكل غيره على الوضوء لغير ضرورة ولا يجزئه
لأنه من أفعال المتكبرين. ويستفاد منه أن الدلك واجب، وهو كذلك على
المشهور أن الدلك واجب لنفسه لا لايصال الماء للبشرة. (من أعلى جبهته)
متعلق بغاسلا، أي أن السنة أن يبدأ في غسل الأعضاء من أولها، فإن بدأ
من أسفلها أجزأه وبئس ما صنع أي يكره. (وحده منابت شعر رأسه)
تفسير لا على الجبهة. والمراد بالجبهة هنا ما يشمل ما يصيب الأرض في حال
السجود، والجبينين وهما ما أحاطا بها من يمين وشمال، أي أعلاه حده منابت
شعر الرأس المعتاد، فلا يعتبر الأغم ولا الأصلع، فيدخل موضع الغمم في الغسل
ولا يدخل موضع الصلع. وفهم من قوله: منابت الخ أنه لا بد من غسل جزء
48

من الرأس ليتحقق الواجب. (إلى طرف ذقنه) الوجه له طول وله عرض
فأول طوله من منابت شعر الرأس المعتاد، وآخره طولا إلى طرف ذقنه، وهو
مجمع اللحيين بفتح اللام وهو ما تحت العنفقة. ولا خلاف في دخوله في الغسل.
وحده عرضا من الاذن إلى الاذن. (ودور وجهه كله كان من حد عظمي لحييه إلى
صدغيه) أي ويغسل دور وجهه كله، فهو مفعول لفعل محذوف. واللحيين
بفتح اللام تثنية لحي بفتحها أيضا. والصدغين تثنية صدغ بضم الصاد، وهو
ما بين الاذن والعين، والمشهور دخوله في الغسل فإلى في كلام المصنف بمعنى
مع. (ويمر يديه على ما غار الخ) يعني أنه يجب إمرار اليد على ما خفي من ظاهر
أجفانه. وأما داخل العين فلا يجب غسله، ويجب أيضا إمرار اليد على التكاميش
التي تكون في الجبهة، وهي موضع السجود. (وما تحت مارنه من ظاهر أنفه) أي
يجب أن يمر يده على ما تحت مارنه، وهو ما لان من الانف تفسير لمارن الانف، وما
تحته يقال له وتره. ومفهوم ظاهر أنفه أن باطنه لا يجب غسله. ويجب عليه أن
يغسل ظاهر شفتيه ولا يطبقهما في حال غسل الوجه. (يغسل وجهه هكذا ثلاثا)
يعني أن الصفة المطلوبة من الابتداء بأول العضو والانتهاء إلى آخره، والدلك وتتبع
المغابن تفعل في جميع الغسلات. (ينقل الماء إليه) أي إلى الوجه (ويحرك
لحيته) الكثيفة أي أنه في حال غسل وجهه يحرك بكفيه شعر لحيته الكثيف
لأجل أن يداخلها الماء، إذ لو لم يفعل ذلك لم يعم ظاهر الشعر، لان الشعر يدفع الماء
49

الذي يلاقيه إذا لم يحصل تحريك بالكفين. (وليس عليه تخليلها الخ) يعني أن
المشهور عن مالك أن شعر اللحية الكثيف لا يخلل في الوضوء، بل ظاهر
المدونة الكراهة، وموضوع المصنف شعر اللحية الكثيف في الوضوء. وأما
الشعر الخفيف الذي تظهر البشرة تحته فيجب تخليله اتفاقا في الوضوء.
ويجب تخليل شعر اللحية طلقا، خفيفا كان أو كثيفا في الغسل. (ويجري
عليها يديه إلى آخرها) وإذا سقط وجوب التخليل فلا بد أن يجري
يديه بالماء على اللحية إلى آخرها. (ثم يغسل يده ليمنى) أي أولا، ثم بعد أن
يفرغ من غسل الواجب الأول وهو الوجه ينتقل إلى الواجب الثاني، وهو
اليدان، فيغسل يده اليمنى أولا، لان البداءة بالميامن قبل المياسر مستحبة بلا
خلاف لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم
(ثلاثا أو اثنتين) انظر لم خير في غسل اليدين بقوله ثلاثا أو اثنتين ولم
يخير في غسل الوجه والرجلين. ووجه ذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل
وجهه ثلاثا ويديه مرتين مرتين. (يفيض عليها الماء الخ) صفة ذلك أنه
يصب الماء على يده اليمنى ويدلكها بيده اليسرى. وينبغي أن يكون الدلك
متصلا بصب الماء (ويخلل أصابع يديه بعضها ببعض) يعني يدخل أصابع
إحدى يديه في فروج الأخرى، ويخللهما من ظاهرهما لا من باطنهما لأنه
تشبيك وهو مكروه، وكلامه محتمل للوجوب والندب، والمشهور الأول،
50

والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام إذا توضأت فخلل أصابع يديك
ورجليك ولكن الامر للوجوب بالنسبة لليدين، وللندب بالنسبة للرجلين.
(ثم يغسل يده اليسرى كذلك) ثم بعد الفراغ من غسل اليد اليمنى على الصفة
المتقدمة يغسل يده اليسرى مثل ذلك. (ويبلغ فيهما بالغسل الخ) أي أن
المتوضئ يبلغ في غسل يده اليمنى وغسل يده اليسرى إلى المرفقين أي يبلغ في
غسلهما إلى هذا الموضع (يدخلهما في غسله) لما كان قوله إلى المرفقين
محتملا لادخالهما في الغسل وعدمه. والمشهور وجوب إدخالهما. صرح بذلك
بقوله: يدخلهما في غسله. فإلى في كلامه كالآية الشريفة بمعنى مع. (وقد قيل
إليهما الخ) يعني أن من ذهب إلى عدم دخول الغاية يقول: إن الغسل
ينتهي إلى المرفقين. فإلى في الآية الشريفة على حقيقتها، وليست بمعنى مع،
وحينئذ فالغاية خارجة فلا يجب غسل المرفقين. (وإدخالهما فيه أحوط)
إشارة إلى قول ثالث يقول باستحباب دخولهما في الغسل لزوال مشقة
التحديد، لأنه يلزم من يقول إليهما ينتهي حد الغسل
أن يحدد نهاية الغسل وفيه مشقة. (ثم يأخذ الماء الخ) ثم بعد الفراغ من الواجب الثاني ينتقل
إلى فعل الواجب الثالث فيأخذ الماء بيده اليمنى فيفرغه على باطن يده اليسرى
51

ثم يمسح بيديه رأسه كله. (يبدأ من مقدمه) أي أن البداءة بمقدم
الرأس مستحب. (من أول منابت الخ) أي ومقدمه من أول منابت شعر
رأسه المعتاد فلا يعتبر أغم ولا أصلع. (وقد قرن أطراف الخ) وتكون
البداءة بيديه حالة كونه قد قرن أطراف أصابع يديه ما عدا إبهاميه
بعضها ببعض على رأسه وجعل إبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بيديه ماسحا
رأسه إلى منتهى الجمجمة. والجمجمة عظم الرأس المشتمل على الدماغ، ثم يردهما
إلى المكان الذي بدأ منه، ويأخذ بإبهاميه خلف أذنيه. وعظم الصدغين
من الرأس، فيجب مسحه. ويجب أن يمسح مع ذلك أشياء من الوجه فيحيط
بالشعر، (وكيفما مسح أجزأه الخ) أشار إلى أن الكيفية المذكورة في صفة
مسح الرأس ليست بواجبة، بل مدار الاجزاء على الايعاب، وتعميم المسح
جميع الشعر. (ولو أدخل يديه في الاناء الخ) أشار إلى صفة أخرى في أخذ
الماء لمسح الرأس، وهو أنه لو أخرج يديه مبلولتين بعد إدخالهما في الماء،
سواء كان في إناء أو غيره، ثم مسح بهما رأسه أجزأه ذلك عند مالك من
52

غير كراهة وفاته المستحب عند ابن القاسم. (ثم يفرغ الماء الخ) ثم بعد
مسح الرأس ينتقل إلى مسح الاذنين بأن يأخذ الماء بيمينه، ويفرغه على
سبابة يده اليسرى مع إبهامها، وما اجتمع في كفه اليسرى يفرغه على سبابة
يده اليمنى مع إبهامها، ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما. وإن شاء غمس
السبابتين والابهامين في الماء، ثم يمسح بهما أذنيه. والصفة الأولى لابن القاسم،
وهذه لمالك. (وتمسح المرأة الخ) أي أن المرأة تمسح رأسها وأذنيها مثل
الرجل في المقدار. والصفة لقوله تعالى * (وامسحوا برؤوسكم) * (المائدة: 6) والنساء شقائق
الرجال، وغلب الرجال لشرفهم. (وتمسح على دلاليها) أي أنها تمسح على
ما استرسل من شعرها. والمشهور وجوب مسح ما استرخى من شعر الرجال
على الجانبين بحيث نزل عن محل الفرض، أو على الوجه. وأما القائم بمحل
الفرض فمتفق على وجوب مسحه. (ولا تمسح على الوقاية) الوقاية هي الخرقة
التي تعقد بها المرأة شعر رأسها لتقيه من الغبار وكذلك لا تمسح على ما في
معنى الوقاية من خمار وحناء إذا جعلت مثل اللزقة ووضعت على الرأس،
لان ذلك كله حائل. هذا إذا لم تدع إلى المسح على ما ذكر ضرورة، وإلا
جاز كما قال مالك إن مسحه عليه الصلاة والسلام على عمامته كان لضرورة.
وخالف الإمام أحمد فقال: إن ذلك كان اختيارا، والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم
مسح الناصية التي هي مقدم الرأس أولا وكمل المسح على العمامة. (وتدخل
53

يديها من تحت الخ) يعني أن المرأة بعد أن بدأت في المسح بمقدم رأسها،
وانتهت إلى آخر ما استرخى من شعرها يجب عليها أن تدخل يديها من
تحت عقاص شعرها لتوقف التعميم عليه. ثم يسن لها الرد إن بقي بيديها
بلل. وظاهر كلامه أنه ليس عليها حل عقاصها للمشقة. وقيده بعضهم بما إذا
كان مربوطا بالخيط والخيطين. وأما إن كثرت عليه الخيوط فلا بد من
نقضه. (ثم يغسل رجليه) أي بعد الفراغ من مسح الاذنين يشرع في
الفريضة الرابعة أي أن غسل الرجلين هو الفريضة الرابعة عند الجمهور
وقيل: فرضهما المسح. وسبب الخلاف اختلاف القراءة في قوله تعالى * (وأرجلكم) *
خفضا ونصبا. فعلى قراءة النصب يكون معطوفا على الوجه واليدين، ولا شك
أن فرضهما الغسل، فيعطى هذا الحكم للمعطوف. وعلى قراءة الخفض يكون
معطوفا على الرأس فيعطى حكم المعطوف عليه وهو المسح، فهما يمسحان.
والذي نبغي أن يقال إن قراءة الخفض عطف على الرؤوس فهما يمسحان
إذا كان عليهما خفان. واستفيد هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، إذ لم
يصح عنه أنه مسح على رجليه إلا وعليهما خفان. والمتواتر عنه غسلهما
دائما عند عدم الخفين. (يصب الماء
الخ) أي وصفة غسلهما أنه يصب الماء بيده اليمنى على رجله اليمنى ويعركها أي يدلكها بيده اليسرى فلا يكفي ذلك
إحدى الرجلين بالأخرى. وفي كلام ابن القاسم أنه يكفي ذلك إحدى الرجلين
بالأخرى. (يوعبها بذلك ثلاثا) أي يستكمل غسلها بالماء والدلك ثلاث
54

مرات على جهة الاستحباب ولا يزيد على ذلك، فيكون غسل الرجلين محدودا
بثلاث غسلات، وهو أحد قولين مشهورين. وهل تكره المرة الرابعة أو
تمنع؟ خلاف. والقول الآخر إن غسل الرجلين لا يحد فالمطلوب الانقاء ولو
زاد على الثلاث وشهر أيضا. (وإن شاء خلل أصابعه الخ) أي أنه إن شاء
خلل أصابع رجليه في حال غسلهما. وإن شاء ترك ذلك، ولكن التخليل
أطيب للنفس فلا يبقى معه شك. (ويعرك عقبيه) ذكره بلفظ الخبر
ومعناه الطلب، أي: وليعرك عقبيه، أي: وليدلكهما. والعقبان تثنية عقب،
وهي مؤخر القدم مما يلي الأرض. والطلب يصدق بالوجوب والندب، والمراد
الأول. (وعرقوبيه) تثنية عرقوب بضم أوله وهو العصبة الناتئة من
العقب إلى الساق، أي يدلك عرقوبيه. (وما لا يكاد الخ) أي ويدلك كل
ما لا يداخله الماء بسرعة، فيكاد زائدة. (من جساوة) بيان لما لا يداخله الماء
بسرعة. والجساوة بجيم وسين مهملة مفتوحتين غلظ في الجلد نشأ عن قشف.
(أو شقوق الخ) أي تفاتيح تكون من غلبة السوداء أو البلغم فيتعهدها
بالدلك بيده مع صب الماء. وكذلك التكاميش التي تكون من استرخاء
الجلد في أهل الأجسام الغليظة. (فإنه جاء الأثر الخ) في الصحيحين: ويل
للأعقاب من النار وفي الكلام حذف مضاف تقديره لصاحب الأعقاب
من النار. وهذا لا يختص بالأعقاب خاصة، بل شامل لكل لمعة تبقى في أعضاء
55

الوضوء. وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا حين رأى أعقاب الناس تلوح أي تظهر
بدون ماء عليها ولم يمسها ماء الوضوء. (وعقب الشئ طرفه) أي عقب
الشئ طرفه بفتح الراء وهو آخره (ثم يفعل بالرجل اليسرى الخ) أي
مثل ما فعل في اليمنى سواء بسواء. ولم يبين منتهى الغسل في الرجلين ومنتهاه
الكعبان الناتئان في جانبي الساقين، والمشهور دخولهما في الغسل. (وليس
عليه تحديد الخ) أي ليس على المتوضئ تحديد غسل أعضائه التي حقها
الغسل ثلاثا ثلاثا بأمر لا يجزئ دونه. (ولكنه أكثر ما يفعل) أي، ولكن
التحديد بالثلاث أكثر ما يفعله المتوضئ، ولا فضيلة فيما زاد على الثلاث.
بل حكى ابن بشير الاجماع على منع الرابعة، وإن كان لا يسلم له حكاية الاجماع
على المنع لوجود القول بالكراهة إلا أن يريد بالمنع ما يشمل الكراهة.
والأصل في هذا ما روي أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا. والظاهر أنه توضأ بحضرته ثم قال: هكذا
الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم (ومن كان يوعب)
أي يسبغ أعضاء الوضوء (بأقل من ذلك) أي من ثلاث غسلات
(أجزأه) أي ذلك الأقل (إذا أحكم ذلك) أي أتقن ذلك الفعل.
وقد حدد الأكثر ولم يحدد الأقل، لان الأقل لما كان محصورا في الواحدة
والاثنتين فحاله معلوم، فلا حاجة للتنبيه عليه. (وليس كل الناس الخ) أي
56

ليس كل الناس في إتقان ذلك الغسل سواء، فمن لم يحكم بالواحدة لا تجزئه،
ويتعين في حقه ما يحكم به، فإن كان لا يسبغ، إلا باثنتين نوى بهما الفرض
وبالثالثة الفضيلة. وإن كان لا يسبغ إلا بالثلاث نوى بها الفرض وسقط
ندب ما زاد. ولما بين صفة الوضوء المشتملة على فرائض وسنن وفضائل
شرع يحث على الاتيان بها على هذه الصفة لا يخل بشئ منها فقال: (وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ الخ) أي من أتى بوضوء كامل بأن كان
مستجمعا لفرائضه وسننه وفضائله ولم يخل بشئ منها (ثم رفع طرفه إلى
السماء فقال) قبل أن يتكلم (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من
أيها شاء. وقد استحب بعض العلماء الخ) هو ابن حبيب قال: إنه يستحب
(أن يقول بإثر الوضوء) بكسر الهمزة وسكون المثلثة: (اللهم اجعلني من
التوابين) أي الذين كلما أذنبوا تابوا (واجعلني من المتطهرين) أي من
الذنوب. وظاهر كلامه أن ما نقله عن بعض العلماء ليس من الحديث. وقد
ذكره الترمذي في الحديث. (ويجب عليه الخ) قال العلماء: إن الشيخ لم
57

يتكلم على النية في الوضوء لأنه لم يقل ينوي عمل الوضوء، وهي فرض
اتفاقا عند ابن رشد، لأنه لم يحفظ خلافا في وجوبها في الوضوء. ولذا حكى
الاتفاق على الوجوب، وعلى الأصح عند ابن الحاجب ومقابله رواية عن
مالك بعدم فرضيتها نصا في الوضوء. ويتخرج عليه الغسل. ثم اختلفوا هل
تؤخذ من كلامه أم لا؟ فقال بعضهم: لم يتكلم على النية في الرسالة أصلا. وقال
بعضهم: تؤخذ من قوله: ويجب عليه أي المتوضئ أن يعمل عمل الوضوء
احتسابا أي خالصا لله تعالى لا لرياء ولا لسمعة. (لما أمره به) أي لأجل
ما أمره به من الاخلاص المستفاد من قوله تعالى * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين) * (البينة: 5) والاخلاص أن يقصد إفراد المعبود بالعبادة من غير نطق
باللسان فإن مدار النية القلب، ومن شرطها أن تكون مقارنة لأول واجب،
وهو غسل الوجه في الوضوء. فإن تقدمت عليه بكثير لم تجز اتفاقا. وفي
تقدمها بيسير قولان مشهوران أشهرهما الاجزاء. واتفقوا على أنه إذا
نوى بعد غسل الوجه لا يجزئه، والأصل في النية أن تكون مستصحبة فإن
حصل ذهول عنها اغتفر. (يرجو تقبله وتطهيره من الذنوب به الخ) أي
إذا عمل عمل الوضوء خالصا قاصدا به امتثال ما أمر الله به، واثقا من نفسه
بأن الفعل صادر عن طيب نفس، فينبغي له أن يطمع في تقبله وتطهيره
من الذنوب به لما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ المسلم أو المؤمن فغسل
وجهه يخرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطرة من
الماء الحديث. (ويشعر نفسه) أي يعلم نفسه (أن ذلك) الوضوء (تأهب)
58

أي استعداد (وتنظف) من الذنوب والأدران (لمناجاة ربه والوقوف بين
يديه) الأولى تقديم الوقوف على ا لمناجاة، لان الوقوف مقدم اعتبارا.
وحاصل ما قال إن المكلف إذا أراد الوضوء فليفعله خالصا لله تعالى طامعا
في أن الله يتقبله منه ولا يقطع بذلك، وأنه يثيبه عليه، وأنه يطهره به من
الذنوب. ويستحضر أن فعله لأجل التأهب لمناجاة ربه. ومناجاة الرب إخلاص
القلب، وتفريغ السر لذكره. (لأداء فرائضه) أي لأجل أداء ما فرض الله
عليه (والخضوع) أي ولأجل التذلل له تعالى (بالركوع والسجود)
وإنما خصهما بالذكر مع أن التذلل بغيرهما أيضا لان بهما يقع التذلل أعني
التذلل الكامل، ولأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. (فيعمل
على يقين بذلك الخ) فإذا أشعر نفسه بأن الوضوء تأهب واستعداد لمناجاة
ربه تمكن من قلبه الاجلال والتعظيم، فينتج له أنه يعمل الوضوء على
يقين بالخضوع أي جازما بوجوب الخضوع لمولاه، وخلاصته أن الاجلال
والتعظيم ينتج أنه يعمل عمل الوضوء في حال كونه على تحفظ في الوضوء
عن النقص والوسوسة، وعلى يقين أن عليه أن يخضع لله تعالى بالركوع
والسجود. (فإن تمام كل عمل الخ) أي لا تجري الأعمال إلا على حسب النية
ولا تتكون في دائرة الوجود إلا موافقة لها وغير خارجة عن طورها
وحسبك قول عليه الصلاة والسلام: وإنما لكل امرئ ما نوى.
59

(باب في بيان صفة الغسل) قد تقدم دليله وشرائطه في باب ما يجب منه
الوضوء وصفة الغسل تشتمل على فرائض وسنن وفضائل. ولم يتعرض المصنف
لبيان الفرض من غيره. وسنبين ذلك فنقول: أما فرائضه فخمسة: تعميم الجسد
بالماء، والنية، والموالاة، والدلك، وتخليل الشعر ولو كثيفا، وضغث المضفور.
وسننه خمسة: غسل اليدين للكوعين أولا، والمضمضة، والاستنشاق، والاستنثار،
ومسح الصماخين فقط، وهما الثقبان، فيمسح منهما ما لا يمكن غسله. وصفة
غسلهما أن يحمل الماء في يديه، وإمالة رأسه حتى يصيب الماء باطن أذنيه،
ولا يصب الماء في أذنيه صبا لأنه يورث الضرر. وفضائله سبع: التسمية
والبدء بإزالة الأذى عن جسده، وغسل أعضاء وضوئه كلها قبل الغسل، والبدء
بغسل الأعالي قبل الا سافل والميامن قبل المياسر، وتثليث الرأس، وقلة الماء
مع أحكام الغسل. ومكروهاته خمسة: تنكيس الفعل، والاكثار من صب الماء،
وتكرار الغسل بعد الاسباغ، والغسل في الخلاء وفي موضع الأقذار، وأن يتطهر
بادي العورة. (أما الطهر) أي الغسل وهو تعميم ظاهر الجسد بالماء أي مع
الدلك، لان حقيقة الغسل مركبة من الامرين. (فهو من الجنابة) وهي
شيئان: الانزال، ومغيب الحشفة، أي مسبب الانزال لان الجنابة وصف معنوي
قائم بالشخص يترتب على الانزال ومغيب الحشفة. (ومن الحيضة والنفاس)
أي من انقطاع دم الحيض والنفاس (سواء يريد في الصفة والحكم وقال
بعضهم في الصفة دون الحكم، لأنه قدم الكلام عليه وأنت خبير بأن التشبيه
إذا كان في الصفة لا في الحكم فالصفة لا تختص بالواجب. فلو قال: وأما الطهر
60

فهو من الجنابة وغيرها سواء كان أشمل. (فإن اقتصر المتطهر الخ) يعني
لو اقتصر المتطهر من الجنابة والحيض والنفاس على الغسل دون الوضوء
أجزأه ذلك الغسل عن الوضوء فله أن يصلي بذلك الغسل من غير وضوء
إذا لم يمس ذكره لاندراج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر. هذا إذا كان الغسل
واجبا كغسل الجنابة أما لو كان الغسل سنة أو مستحبا فلا يجزئ عن الوضوء.
(وأفضل له) أي المتطهر من الجنابة ونحوها (أن يتوضأ بعد أن يبدأ الخ) على
المتطهر فعل فضيلتين: إحداهما أن يبدأ بغسل ما بفرجه أو في جسده من الأذى.
فإن غسله بنية الجنابة وزوال الأذى أجزأه على المشهور، وليس عليه أن يعيد
غسله ثانيا، وإن غسله بنية إزالة الأذى، ثم لم يغسله بعد لم يجزه اتفاقا. وثانيتهما
الوضوء قبل أن يغسل جسده تشريفا لأعضاء الوضوء. (ثم يتوضأ وضوء
الصلاة) بحمل قوله السابق. وأفضل له أن يتوضأ على الوضوء اللغوي، وهو غسل
اليدين للكوعين يندفع التكرار الحاصل بقوله: ثم يتوضأ وضوء الصلاة.
ويكون قوله: ثم يتوضأ، أي يكمل الوضوء، لكن هذا الحمل يقتضي أن
غسل ما على بدنه أو فرجه من الأذى مقدم على غسل اليدين وليس كذلك
إذ غسل اليدين مقدم، فالأحسن أن يقال بأنه تكلم أولا على الحكم، وثانيا
على الصفة. بقي أمر آخر وهو أنه هل يعيد غسل اليدين ثانيا بعد أن غسل
ذكره بنية الجنابة أو لا، فحديث ميمونة يقتضي أنه بعد إزالة الأذى لا يعيد
غسل يديه، وبه جزم بعضهم، وغالب شراح خليل قائل بإعادة غسلهما.
61

(فإن شاء غسل رجليه الخ) ظاهر كلامه التخيير في غسل رجليه بين أن يقدمهما
على غسل جسده أو يؤخرهما. وبه قال بعضهم إنه مخير بين أن يقدم غسل
رجليه أو يؤخره. والقول المشهور أنه يقدم غسل رجليه مطلقا سواء كان
الموضع الذي يغتسل فيه نقيا من الأذى أو لا، دليل المشهور ما في الموطأ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم توضأ كما
يتوضأ للصلاة. وظاهره أنه يتوضأ وضوءا كاملا، وهو مذهب مالك والشافعي.
قال الفاكهاني: وهو المشهور. وقيل يؤخرهما مطلقا سواء كان الموضع نقيا أولا.
والقول بالتأخير أظهر من المشهور لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر
غسل رجليه إلى آخر غسله، فيغسلهما إذ ذاك، وهذا صريح وما تقدم ظاهر
وأنى يقاوم الظاهر الصريح، أي بعيد، فيكون هذا القول هو المشهور بناء على
أن المشهور ما قوي دليله لاما كثر قائله. والمقابل يقول المشهور ما كثر
قائله. ثم بعد أن يفرغ من وضوئه (يغمس يديه في الاناء) إن كان مفتوحا
أو يفرغ عليهما الماء إن كان غير مفتوح. (ويرفعهما) حال كونه (غير
قابض) أي غير مغترف (بهما شيئا) من الماء بحيث لا يكون فيهما
إلا ما علق بهما من أثر الماء. (فيخلل بهما أصول شعر رأسه) ويبدأ في
ذلك من مؤخر الدماغ. وفي التخليل فائدتان فقهية فهي سرعة إيصال الماء
للبشرة. وطبية، وهي تأنس الرأس بالماء، فلا يتأذى بصب الماء عليه بعد،
لانقباض المسام. (ثم) بعد أن يفرغ من تخليل شعر رأسه (يغرف بهما الماء
62

على رأسه ثلاث غرفات) حال كونه (غاسلا له بهن) أي دالكا رأسه بهن
ولا بد أن يعم الرأس بكل غرفة من الثلاث ولا ينقص عن الثلاث أي
يكره النقص عن الثلاث، وإن عم بواحدة واجتزأ بها أجزأته. وإن لم يعم
بالثلاث فإنه يزيد حتى يعم. (وتفعل ذلك المرأة) أي كل ما تقدم من
غسل الأذى وتقديم الوضوء وتخليل أصول الشعر (وتضغث) بفتح التاء
والغين وسكون الضاد المعجمة آخره ثاء مثلثة، معناه: تجمع وتضم. (وليس
عليها) لا وجوبا ولا استحبابا في غسل الجنابة والحيض. (حل عقاصها)
العقاص جمع عقيصة، وهي الخصلة من الشعر تضفرها ثم ترسلها. ودليل
ما قال ما في مسلم أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي
فأنقضه لغسل الجنابة فقال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات
ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين وهو حجة لمن لم يشترط الدلك لان
الإفاضة الإسالة. وكما لا يلزم المرأة حل عقاصها لا يلزمها نزع خاتمها ولو ضيقا
وكذلك الأساور. وكذا لا يلزم الرجل نزع خاتمه المأذون فيه ولو ضيقا.
(ثم) بعد أن يغسل رأسه (يفيض الماء على شقه الأيمن) أي أنه يبدأ
في غسل جسده بشقه الأيمن كله ويبدأ بأعلاه (ثم على شقه الأيسر)
ويفعل فيه مثل ما فعل بالأيمن من غسله كله والبدء بأعلاه. (ثم) بعد أن
يفرغ من صب الماء على شقيه (يتدلك) وجوبا فالدلك واجب لنفسه
على المشهور. وظاهر كلامه أنه لا يتدلك بعد صب الماء على شقه الأيمن حتى
63

يصب الماء على شقه الأيسر. فإذا صب الماء على الأيسر دلك الشقين ومثله
في تحقيق المباني. والظاهر أنه يدلك الشق الأيمن قبل الصب على الأيسر.
ولذلك تجد نسخة المؤلف عند غير شارحنا ويتدلك بيديه بالتعبير بالواو
لا بثم لمقتضية تأخر الدلك بعد الصب على الشقين. (بيديه) إن أمكنه
ذلك، وإلا وكل غيره على الدلك. ولا يمكن فيما بين السرة والركبة إلا من
يجوز له مباشرة ذلك من زوجة وأمة. فإن لم يجد من يوكله أجزأه صب
الماء على جسده من غير دلك. وإن كل لغير ضرورة لا يجزئه على المشهور.
(بإثر صب الماء) أي أن الدلك يكون عقب صب الماء واستظهر هذا القول
لما في المقارنة من المشقة عند من يشترطها. (حتى يعم جسده) جميعه ويتحقق
أن الماء قد عم جميع جسده لان الذمة عامرة فلا تبرأ إلا بيقين. (وما
شك أن يكون الماء أخذه) أي أن ما حصل فيه شك من أعضاء المغتسل
في أن الماء أصابه أو لم يصبه. (من جسده عاوده بالماء) أي بماء جديد وجوبا
ولا يجزئه غسله بما تعلق من جسده من الماء. (ودلكه بيده) أو ما يقوم
مقامها عند التعذر، وكذا إذا شك في موضع من جسده هل دلكه أم لا فإنه
يستأنف له الماء ويدلكه حتى يتحقق ذلك. وتكفي غلبة الظن خلافا لمن
قال بعدم كفايتها وعليه أنها إذا كفت في وصول الماء للبشرة الذي هو
مجمع عليه، فأولى الدلك الذي هو مختلف فيه. (حتى يوعب) أي يعم
(جميع جسده) تكرار مع قوله حتى يعم جسده يل في دفعه إن الأول
64

محمول على من لم يحصل له شك، وما هنا على من حصل له شك وكان غير
مستنكح. (ويتابع) يعني بالماء والدلك (عمق سرته) بفتح العين المهملة
وضمها وسكون الميم باطن السرة. (وتحت حلقه) أي يتابع ما يلي حلقه
والصواب أن لو قال تحت ذقنه لان ما تحت ذقنه هو حلقه وهو المقصود
لا ما تحت حلقه وهو الصدر، كما تقتضيه عبارة المصنف، لأنه لا مغابن فيه
(ويخلل وجوبا) شعر (لحيته) وسكت عن تخليل شعر الرأس اكتفاء
بما تقدم أول الباب. وكذا يجب تخليل شعر غيرهما كشعر الحاجبين
والأهداب والشارب والإبط والعانة. (و) يتابع ما (تحت جناحيه) أي
إبطيه لأنه كالسرة في الخفاء واجتماع الأوساخ (و) يتابع ما (بين أليتيه)
بفتح الهمزة وسكون اللام أي مقعدتيه فيوصل الماء إليه مع استرخائه
حتى يتمكن من غسل تكاميش الدبر، فإن لم يفعل كان الغسل باطلا (و)
يتابع (رفغيه) تثنية رفغ بفتح الراء وضمها باطن الفخذ، وقيل: ما بين الدبر
والذكر. (و) يتابع ما (تحت ركبتيه) يعني باطنهما من خلف لا ما تحتهما
من أمام. (و) يتابع (أسافل رجليه) عقبيه وعرقوبيه وتحت قدميه.
(ويخلل أصابع يديه) وجوبا في وضوئه إن كان قدمه وإلا ففي أثناء
غسله. وسكت عن أشياء ينبو عنها الماء كأسارير الجبهة، وما غار من
ظاهر الأجفان، وما تحت مارنه، وغير ذلك، اكتفاء بما تقدم في الوضوء.
(ويغسل رجليه آخر ذلك) الغسل إذا لم يكن غسلهما أولا عند وضوئه.
65

(يجمع ذلك) الغسل المذكور (فيهما) أي في الرجلين أي يحصل ذلك
الغسل المذكور فيهما. وأنت خبير بأن الغسل المذكور غسل الرجلين ولا
معنى لكونه يحصل غسل الرجلين في الرجلين، فالجواب أن يراد بالغسل
المذكور الغسل مجردا عن قيده، وهو إضافته للرجلين. (لتمام غسله) وإنما
فعل ذلك لأجل تمام غسله الواجب، (ولتمام وضوئه) المستحب (إن كان
أخر غسلهما) في الوضوء، وحينئذ يغسلهما بنية الوضوء والغسل. (و) إذا
توضأ الجنب بعد غسل ما بفرجه من الأذى بنية رفع الجنابة (يحذر)
أي يتحفظ بعد ذلك (أن يمس ذكره) إنما نص المصنف على مس الذكر
لأنه الغالب، وإلا فغيره من سائر النواقض كذلك (في) حال (تدلكه
بباطن كفه) ظاهره أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر إلا إن كان المس
بباطن الكف، وهو للامام أشهب، ومذهب ابن القاسم يجب الوضوء من
مس الذكر بباطن الكف أو بباطن الأصابع. وفي المختصر للشيخ خليل
أو بجنبيهما. (فإن) لم يتحفظ و (فعل ذلك) المس بشئ مما ذكر عامدا
أو ناسيا. (و) الحال أنه (قد أوعب) أي أكمل (طهره) بفعل موجباته
من الفرائض والسنن (أعاد الوضوء) إذا أراد الصلاة، وإلا فلا تلزمه
إعادته حتى يريد الصلاة كسائر الاحداث. وحيث قلنا بإعادة الوضوء إن
أراد الصلاة، فلا بد من نيته لان حدثه الأكبر قد ارتفع حتى قال بعضهم:
إن تجديد نية للوضوء أمر متفق عليه. (و) أما (إن مسه في ابتداء غسله
66

وبعد أن غسل مواضع الوضوء) كلا أو بعضا والواو زائدة كما نقل عن
أبي عمران (منه) أي من المغتسل أي من نفسه فأضمر في محل الاظهار
(فليمر بعد ذلك) المس بيديه على مواضع الوضوء) لا فرق بين أن
يكون غسلها كلها سابقا ثم مس، أو غسل بعضها (بالماء) متعلق بيمر،
والباء بمعنى مع يعني أنه يمر بيديه على مواضع الوضوء بماء جديد. (على
ما ينبغي من ذلك) قيل الإشارة عائدة على الترتيب أي يستحب فينبغي
على بابه. وفيه أن الترتيب في الوضوء سنة عندنا. والظاهر أنه أراد به عدم
الوجوب المتحقق في السنة. وقيل: عائدة على فرائض الوضوء وسننه وفضائله.
وقيل على إجراء الماء على الأعضاء والدلك. فعلى هذا والذي قبله يكون
ينبغي بمعنى الوجوب. (a) اختلف في تجديد نية الوضوء فقال المصنف:
(ينويه) أي يلزمه تجديد نية الوضوء فإن نوى رفع الحدث الأكبر
لم تجزه، ويكون بمنزلة ما إذا نوى المتوضئ غير الجنب رفع الحدث الأكبر.
وقال القابسي: لا يلزمه تجديدها. ومبنى الخلاف هل يطهر كل عضو بانفراده
أو لا يطهر إلا بالكمال؟ فإن قلنا بالأول لزم تجديدها لان طهارته قد ذهبت
بالحدث، فوجب تجديد النية لها عند تجديد الغسل وإن قلنا بالثاني لا يلزمه
تجديدها لبقائها ضمنا في نية الطهارة الكبرى. باب التيمم (باب في)
حكم (من لم يجد الماء) وحكمه أنه يجب عليه التيمم. (و) في بيان (صفة
التيمم) المستحبة وفي بيان الاعذار المبيحة له والتيمم لغة القصد قال تعالى:
67

* (ولا تيمموا الخبيث) * (البقرة: 267) الآية. أي لا تقصدوه. وشرعا عبادة حكمية تستباح بها
الصلاة. فقوله: عبادة حكمية، أي حكم الشرع بها. ولا يخفى أن هذا القدر
موجود في الوضوء والغسل. وتستباح بها الصلاة لاخراج الوضوء والغسل
لان التيمم ليس إلا للاستباحة فقط. والوضوء والغسل لرفع الحدث وهو
واجب بالكتاب والسنة والاجماع. قال تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا) * (النساء: 43، المائدة: 6) وفي مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا
كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها طهورا
إذا لم نجد الماء والاجماع على أن التيمم واجب عند عدم الماء أو عدم القدرة
على استعماله. ولوجوبه ثمانية شرائط: الاسلام، والبلوغ، والعقل، وارتفاع دم
الحيض، والنفاس، ودخول الوقت، وعدم الماء أو عدم القدرة على استعماله،
وأن لا يكون على الأعضاء حائل وعدم المنافي. (التيمم يجب لعدم الماء) إما
حقيقة بأن لا يجد الماء أصلا، وإما حكما بأن يجد ماء لا يكفيه لوضوء أو
غسل (في السفر) أو في الحضر. وسواء
كان السفر سفر قصر أم لا، وسواء كان المسافر صحيحا أم لا، وسواء كان السفر مباحا أم لا، لان الرخصة إذا
كانت تفعل في السفر والحضر لا يشترط فيها إباحة السفر. وأما إذا كانت
الرخصة لا تفعل إلا في السفر كفطر الصائم في رمضان الحاضر، فلا بد أن
يكون السفر مباحا، وأن يكون أربعة برد كقصر الرباعية، (إذا يئس أن
يجده) أي لا يكون عدم الماء سببا لوجوب التيمم إلا إذا يئس من وجود
الماء، أو غلب على أنه عدم وجود الماء لا مفهوم له. بل ولو شك أو رجا الماء
أو تيقن وجود الماء في الوقت. وأجاب الأجهوري بأن قوله إذا يئس شرط
في مقدر، والتقدير: ويستحب له قديمه إذا أيس أن يجده. ويدل على أن
68

قوله: إذا أيس، ليس شرطا في الوجوب. قوله بعد ذلك إن الراجي والمتردد
يتيمم والمراد بالوجوب الوجوب الموسع. واليأس إنما يكون بعد أن يطلبه
طلبا لا يشق بمثله، ولا يلزمه الطلب إلا إذا كان يرجو وجوده أو يتوهمه.
أما إن قطع بعدمه فلا يطلبه في الوقت يريد الوقت بالوقت المختار وهو
الذي يستعمل في هذا الباب كله، ويقع فيه التفصيل. وأما بالوقت الضروري
فلا تفصيل فيه بين آيس وغيره، بل يتيمم حين إذ ذكر الصلاة. (وقد
يجب التيمم مع وجوده) أي الماء (إذا لم يقدر على مسه) سواء كان
(في سفر أو) في (حضر ل‍) - أجل (مرض مانع) من استعماله بأن يخاف
باستعماله فوات روحه، أو فوات منفعة، وزيادة مرض، أو تأخر برء أو
حدوث مرض فإن لم يخف شيئا مما ذكر بل كان يتألم في الحال فقط
لزمه الوضوء أو الغسل. (أو مريض يقدر على مسه) معطوف على مقدر
وتقديره وكذلك قد يجب التيمم مع وجود الماء على صحيح لا يقدر على
مسه لتوقع مرض باستعماله أو مريض يقدر على مسه أي الماء. (و) لكن
(لا يجد من يناوله إياه) ولو بأجرة تساوي الثمن الذي يلزمه الشراء به
أو لا يجد آلة أو وجد آلة محرمة أو لا يقدر على أجرة المناول. (وكذلك)
مثل من تقدم في وجوب التيمم عليه (مسافر يقرب منه الماء و) لكن
(يمنعه منه) أي من الوصول إليه (خوف لصوص) جمع لص، وهو
69

السارق، وماله ومال غيره مما يجب عليه حفظه سواء. ولا بد أن يكون المال
أكثر مما يلزمه بذله في شراء الماء، ولا بد أن يتحقق وجودهم أو يغلب
على ظنه وجودهم، وأما الشك فلا عبرة به (أو) خوف (سباع) على نفسه
حيث تيقن ذلك أو غلب على ظنه ولا عبرة بالشك. (وإذا تيقن المسافر)
سواء كان سفره سفرا تقصر فيه الصلاة أم لا (بوجود الماء) الطهور
الكافي لغسله أو وضوئه (في الوقت المختار أخر التيمم إلى آخره) استحبابا.
وحاصل فقه المسألة أن من شروط وجوب التيمم دخول الوقت والحكم
فيه مختلف لاختلاف حال المتيمم، لأنه إما متيقن لوجود الماء في الوقت
أو للحوقة فيه أو يائس من وجوده أو من لحوقه فيه، أو متردد في الوجود
أو في اللحوق في الوقت، أو راج الوجود أو اللحوق في الوقت. وقد بين
المصنف هذه الأحوال فأشار إلى أولها بقوله وإذا تيقن المسافر الخ. ولا
خصوصية للمسافر بل هو عام في حق كل من أبيح له التيمم لفقد الماء
إذا تيقن وجود الماء، أو تيقن لحوقه في الوقت، أو غلب على ظنه الوجود
أو اللحوق في الوقت أخر التيمم إلى آخره استحبابا. (وإن يئس منه)
أي من وجود الماء، أو من إدراكه في الوقت بعد طلبه إن كان هناك
ما يوجب الطلب (تيمم في أوله) أي في أول الوقت استحبابا لتحصل له
فضيلة الوقت لان فضيلة الماء قد يئس منها، وكذلك حكم من غلب على
ظنه عدم وجوده في الوقت أو عدم لحوقه فيه. (وإن لم يكن عنده) أي
المتيمم (منه) أي من الماء (علم) بأن يكون مترددا في وجوده
70

(تيمم في وسطه) بفتح السين استحبابا (وكذلك) يتيمم في وسطه
استحبابا (إن خاف أن لا يدرك الماء في الوقت ورجا أن يدركه فيه)
هكذا قرره الشيخ أحمد زروق، على أن المراد به المتردد في لحوقه قائلا:
لا فرق بينه وبين ما قبله على المذهب وتقريره وإن كان صحيحا من جهة
الحكم لكنه حمل كلام المصنف على خلاف ما يفيده قوله ورجا أن يدركه
فيه وقرره ابن ناجي على أن المراد به الراجي فقال: وفي كلام المؤلف
مخالفة للمذهب، وذلك أن ظاهر قوله في الراجي لا يؤخر، بل يتيمم وسط
الوقت، وليس كما قال، بل حكمه حكم الموقن، والموقن يؤخر لآخر الوقت. وقد
قال ابن هارون: لا أعلم من نقل في الراجي أنه يتيمم وسط الوقت غير ابن
أبي زيد. قال ابن ناجي: ويمكن أن يرد قوله وكذلك إن خاف إلى القسم
الأول، وهو قوله: وإن أيقن الخ، لا إلى ما يليه ومعنى الرد إليه الالحاق به
في الحكم. وعلى كلام ابن ناجي يكون المصنف أراد بقوله خاف أي توهم.
(ومن تيمم من هؤلاء) جواب من محذوف والتقدير ففيه تفصيل والإشارة
عائدة على السبعة المذكورين المريض الذي لا يقدر على مس الماء والمريض
الذي لا يجد من يناوله الماء والمسافر الذي يقرب منه الماء ويمنعه منه خوف
لصوص أو سباع، والمسافر الذي تيقن وجود الماء في الوقت، واليائس منه
في الوقت، والذي ليس عنده منه علم والخائف الراجي. (ثم أصاب الماء في
الوقت بعد أن صلى) لا يصدق على المريض فاقد القدرة على استعمال الماء
71

ولا على المريض الذي عنده قدرة على استعمال الماء، ولكنه لا يجد من
يناوله إياه إلا أن يقال إن قوله ثم أصاب الماء أي أصابه من حيث القدرة
على استعماله أو وجوده أو وجود آلته. (فأما المريض الذي لم يجد من
يناوله إياه) أي الماء (فليعد) الصلاة في الوقت استحبابا. والحاصل أن
المريض الذي لا يجد من يناوله الماء أو لا يجد الآلة التي يستخرج بها الماء
يكون حكمه حينئذ أنه يؤخر التيمم إلى وسط الوقت. فإذا فعل ما طلب
منه من التيمم وسط الوقت وصلى وقبل خروج وقت الصلاة زال المانع
من استعمال الماء كأن وجد ما يناوله إياه فإنه يعيد الصلاة في الوقت
استحبابا إن كان عنده تقصير بأن كان لا يتكرر عليه الداخلون، وأما إن
كان يتكرر عليه الداخلون فلا تقصير عنده حينئذ فلا إعادة عليه.
(وكذلك) المسافر (الخائف من سباع ونحوها) يعني أن المسافر الخائف
على نفسه من السباع أو على ماله من اللصوص مثل المريض الذي لا يجد
من يناوله الماء في أنه إذا أصاب الماء في الوقت فإنه يعيد الصلاة استحبابا
والحاصل أن الخائف من نحو سباع إذا تيمم وسط الوقت فإنه يندب له
الإعادة في الوقت بقيود أربعة، وهي: أن يتيقن وجود الماء، أو لحوقه لولا
خوفه، وكون خوفه جزما أو غلبة ظن، وتبين عدم ما خافه ووجود الماء
بعينه. فإن لم يتيقن وجوده أو لحوقه، أو تبين ما خافه، أو لم يتبين شئ أو
وجد غيره لم يعد. وإن كان خوفه شكا فإنه يعيد أبدا. (وكذلك) أي
مثل المريض والخائف المذكورين (المسافر الذي يخاف أن لا يدرك الماء
72

في الوقت ويرجو أن يدركه فيه) في أنه إذا وجد الماء في الوقت يعيد
استحبابا ما صلى في وقته المقدر له وهو الوسط، ومن باب أولى إذا قدم.
والمراد بالخوف في كلام المصنف التردد في اللحوق، فإنه الذي يعيد في الوقت
استحبابا ما صلى في الوقت المقدر له، وبالأولى إذا قدم. وأما المتردد في الوجود
فإن قدم على وسط الوقت المقدر له أعاد وإن صلى وسط الوقت المقدر له
فلا إعادة. والفرق بينهما أن المتردد في اللحوق عنده نوع تقصير فلذا طلب
بالإعادة. وأما المتردد في الوجود فإنه استند إلى الأصل وهو العدم. (ولا يعيد
غير هؤلاء الثلاثة) ظاهره أن اليائس لا يعيد إذا وجد الماء مطلقا، وليس
كذلك بل فيه تفصيل، وهو أنه إن وجد الماء الذي يئس منه فإنه يعيد،
وإن وجد غيره فلا إعادة. وظاهره أيضا أن من وجد الماء بقربه أو برحله،
أو نسيه فيه ثم تذكره فلا إعادة عليه. والمعتمد أن على الثلاثة الإعادة
خلافا لظاهر المصنف. (ولا يصلي صلاتين) فريضتين حضريتين أو
سفريتين أو منسيتين اشتركتا في الوقت أم لا (بتيمم واحد من هؤلاء)
السبعة المتقدم ذكرهم (إلا مريض لا يقدر على مس الماء لضرر بجسمه
مقيم) أي مرض لازم وبقي إلى وقت الصلاة الثانية. وقد اتفق أنه لم يفعل
الأولى في وقتها إما عمدا أو نسيانا أو جهلا فله أن يصليهما معا بتيمم واحد
وهذا الحكم عام في الحضريات والسفريات. (وقد قيل يتيمم لكل صلاة)
73

مفروضة صحيحا كان أو مريضا مسافرا أو مقيما (وقد روي عن مالك
رحمه الله تعالى فيمن ذكر صلوات) مفروضات تركهن نسيانا أو نام عنهن
أو تعمد تركهن، ثم تاب وأراد قضاءهن فله. (أن يصليها بتيمم واحد)
سواء كان صحيحا أو مريضا مسافرا أو مقيما. والقول الأول لابن شعبان،
والثاني لابن القاسم وهو المشهور. ولذا اعترض على الشيخ في تمريضه بقيل،
وتقديم غيره عليه، وعلى المشهور لو خالف وصلى صلاتين بتيمم واحد سواء
كانتا مشتركتين أم لا أعاد الثانية أبدا، وأخذ من قوله أول الباب في الوقت
أن الفرض يتيمم له مطلقا حتى الجمعة وليس كذلك إذ الجمعة لا يتيمم لها
الحاضر أي الصحيح بناء على بدليتها عن الظهر فيصلي الظهر بالتيمم ولو
في أول الوقت. فإن صلى الجمعة بالتيمم فإنه لا يجزئه. وأما المريض والمسافر
فيتيممان لها، وكذلك صلاة الجنازة لا يتيمم لها الحاضر الصحيح إلا إذا
تعينت بأن لا يوجد مصل غيره، ولا يمكن تأخيرها حتى يحصل الماء، وأما
السنن والنوافل فيتيمم لها المسافر دون الحاضر الصحيح، أي الذي فرضه
التيمم لعدم الماء. وأما الحاضر الصحيح الذي فرضه التيمم لخوف مرض
فحكمه كالمريض فيتيمم للجمعة وللجنازة. وإن لم تتعين وللسنن
والنوافل، ولو نوى بتيممه فرضا جاز له أن يصلي به نفلا بعده بشرط
اتصاله بالفرض. وإن لم ينو صلاة النفل بعد الفرض والتقييد بالبعدية مع أنه لو صلى به نفلا قبله لصح لقوله: بشرط اتصاله بالفرض. فإن
فصله بطول أو خروج من المسجد أعاد تيممه إن أراد صلاة النفل،
ويسير الفصل مغتفر، ويحد بمثل آية الكرسي. ويشترط أيضا أن لا يكثر
74

النفل وتعتبر الكثرة بالعرف. (والتيمم) يكون (بالصعيد الطاهر) هذا
من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين للطيب في قوله تعالى * (فتيمموا صعيدا
طيبا) * (النساء: 43، المائدة: 6) (وهو) أي الصعيد الطيب في كلام العرب وبه قال مالك. (ما ظهر)
أي صعد أي أن مالكا قال: إن الصعيد ما ظهر على وجه الأرض موافقا لما
عند العرب، وذهب غيره إلى أن الصعيد في الآية التراب الطاهر وجد على
وجه الأرض أو أخرج من باطنها. (على وجه الأرض منها من تراب أو
رمل أو حجارة أو سبخة) بفتح الباء واحدة السباخ وهي أرض ذات
ملح ورشح، ولا يتيمم على الخشب والحشيش والزرع على المعتمد، وظاهر
قوله: يتيمم على الحجارة ولو كانت من الصفوان، ولم يكن عليها تراب ما لم
تطبخ، فلا يجوز التيمم على الجير، ولا على الآجر، وهو الطوب الأحمر،
ويتيمم على التراب نقل أو لم ينقل، إلا أن الثاني باتفاق والأول على
المشهور وغير التراب كالملح والشب والكبريت والنحاس والحديد لا يتيمم
عليها إلا في موضعها أو نقلت من موضع لآخر ولكن لم تصر في أيدي
الناس كالعقاقير، وأما لو صارت في أيدي الناس كالعقاقير فلا يصح التيمم
عليها. (يضرب بيديه الأرض) جملة مستأنفة لبيان كيفية الفعل، فكأنه
قيل: كيف يفعل، فقال: يضرب بيديه الأرض، فإن لم يكن له يد يتيمم بغيرها،
فإن عجز استناب، فإن لم تمكنه الاستنابة مرغ وجهه وليس المراد بالضرب
حقيقته، بل المراد أنه يضع يديه على ما يتيمم به ترابا أو غيره، وهذا الضرب
فرض، ولا يشترط علوق شئ بكفيه، فإن تعلق بهما شئ نفضهما نفضا
خفيفا حتى عد بعضهم هذا النفض من فضائل التيمم لئلا يؤذي وجهه.
75

ولا بد قبل الشروع في التيمم أن يقصد الصعيد لا غيره مما لا يصح التيمم
عليه، وأن ينوي استباحة الصلاة، أو ينوي فرض التيمم عند الضربة
الأولى. فإن كان محدثا حدثا أصغر نوى استباحة الصلاة من الحدث الأصغر
وإن كان محدثا حدثا أكبر نوى استباحة الصلاة من الحدث الأكبر.
وإن لم يتعرض للحدث الأكبر أي ترك نية الأكبر عامدا أو ناسيا وصلى
بذلك التيمم أعاد الصلاة أبدا. وإن نوى الأكبر معتقدا أنه عليه فتبين
خلافه أجزأه عن الأصغر، لا إن اعتقد أنه ليس عليه، وإنما قصد بنيته
الأكبر نفس الأصغر فلا يجزئه وأما إن نوى فرض التيمم فيجزئه ولو
لم يتعرض لنية أكبر عليه. ولو نوى المتيمم رفع الحدث لم يجزئه على
المشهور، فإن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح الصلاة فقط. (ثم) بعد
نفض يديه (يمسح بهما وجهه كله مسحا) ولا يترك منه شيئا ويراعي
الوترة وغيرها فإن ترك شيئا من مسح الوجه كله ولو يسيرا لا يجزئه. ويبدأ
من أعلاه كما في الوضوء، ويجري يديه على ما طال من لحيته. ودفع ما يتوهم
من قوله كله أنه يمر على غضون الوجه بقوله مسحا لان المسح مبني على
التخفيف. (ثم) بعد أن يفرغ من مسح وجهه (يضرب بيديه الأرض)
ضربة ثانية لمسح يديه على جهة السنية لا يقال كيف يفعل الواجب بما هو
سنة، لأنا نقول أثر الواجب باق من الضربة الأولى مضافا إليه الضربة
الثانية، حتى أنه لو ترك الضربة الثانية ومسح الوجه واليدين بالأولى
أجزأه. (فيمسح يمناه بيسراه) فإذا شرع في مسحهما فالمستحب في صفة
76

مسحهما أنه يمسح أولا يمناه بيسراه (فيجعل أصابع يده اليسرى)
ما عدا الابهام (على أطراف أصابع يده اليمنى) ما عدا إبهامها (ثم يمر أصابعه
على ظاهر يده) يعني كفه (و) على ظاهر (ذراعه) وهو ما بين المرفق
والكوع (و) يكون في مروره على ظاهر ذراعه (قد حنى) أي يحني
بمعنى يطوي (عليه أصابعه حتى يبلغ المرفقين) صوابه المرفق لأنه ليس
لليد الواحدة إلا مرفق، ويمكن أن يقال إن المصنف قصد بيان غاية المسح
بالنسبة لليدين. وظاهر كلام المصنف أن المرفق لا يمسح لان حتى للغاية أي
والغاية خارجة. قيل: أراد مع المرفقين كما تقدم في الوضوء، إذ التيمم بدل
عنه والمسح إلى المرفقين سنة وإلى لكوعين فريضة على ما في المختصر.
وتعقبه العلامة البساطي بأن مشهور المذهب أن المسح إلى المرفقين واجب
ابتداء، وإنما الخلاف إذا اقتصر على الكوعين وصلى فالمشهور أنه يعيد
في الوقت ومقابله يعيد أبدا وهذا التعقب مردود، فقد رجح في المقدمات
ما مشى عليه المختصر واقتصر عليه القاضي عياض في قواعده وهو الراجح
والمشهور من المذهب تخليل الأصابع، ويكون التخليل بباطنها لا بجنبها لأنه
لم يمسه التراب والمشهور أيضا نزع الخاتم، ويقوم مقام النوع نقله عن
موضعه والفرق بين التيمم والوضوء حيث قيل بنزع الخاتم في التيمم وعدم
النزع في الوضوء قوة سريان الماء في الوضوء ولا كذلك التراب. (ثم)
إذا فرغ من مسح ظاهر يده اليمنى (يجعل يده اليسرى) وفي رواية كفه
77

وهي مفسرة للأولى، فيكون المراد باليد الكف ما عدا الأصابع لان
الأصابع قد مسح بها أولا ظاهر اليد ما عدا الابهام. والجعل المذكور يكون
(على باطن ذراعه) الأيمن ويكون ابتداؤه (من طي مرفقه) حال كونه
(قابضا عليه) أي على باطن ذراعه ويكون في قبضه رافعا إبهامه ونهاية
ذلك (حتى يبلغ الكوع من يده اليمنى) وهو رأس الزند مما يلي الابهام
على وزن فلس. (ثم) بعد أن يفرغ من مسح باطن ذراعه (يجري باطن
بهمه) أي إبهامه من يده اليسرى (على ظاهر بهم يده اليمنى) لأنه لم
يمسحه أولا. وما ذكره من إمرار البهم مثله لابن الطلاع وهو محمد بن
فرح شيخ الفقهاء في عصره. وظاهر الروايات وهو المعول عليه مسح
ظاهر إبهام اليمنى مع ظاهر أصابعها قال الفاكهاني: لا أعلم أحدا من أهل
اللغة نقل في الابهام التي هي الإصبع العظمى بهما، وإنما البهم بفتح الباء
وسكون الهاء جمع بهيمة وهي أولاد الضأن. وأما البهم بضم الباء وفتح
الهاء جمع بهمة فهي الشجعان، ويجاب بأن المصنف أكثر اطلاعا من
الفاكهاني، والاعتراض يتوقف على الإحاطة بسائر اللغة وهو متعذر أو
متعسر. (ثم) إذا فرغ من مسح اليد اليمنى على الصفة المتقدمة (يمسح
اليسرى باليمنى هكذا) أي على الصفة المتقدمة في مسح اليد اليمنى. (فإذا
بلغ الكوع) من يده اليسرى (مسح كفه اليمنى بكفه اليسرى إلى
78

آخر أطرافه) أي أطراف الكف، أراد به باطن الكف والأصابع وانظر
كيف سكت عن كف اليسرى إلا أن يقال إن كل واحدة منهما ماسحة
وممسوحة وهذه الصفة التي ذكرها الشيخ وذكرها الشيخ خالد أيضا. وهي
البداءة بظاهر اليمنى باليسرى، والانتقال إلى اليسرى قبل استكمال اليمنى
رواية ابن حبيب عن مالك. وقال ابن القاسم: لا ينتقل إلى اليسرى إلا بعد
استكمال اليمنى واختاره اللخمي وعبد الحق ورجح قول ابن القاسم وسند
الترجيح أن الانتقال إلى الثانية قبل كمال الأولى مفوت لفضيلة الترتيب بين
الميامن والمياسر. واستحسن بعض الشيوخ رواية ابن حبيب قائلا: لئلا يمسح
ما يكون على الكف من التراب، ولكن صاحب القول المعتمد يقول إن
بقاء التراب غير مراد، فالمرعي حكمه. (ولو) خالف المتيمم هذه الصفة
المستحبة (ومسح اليمنى باليسرى) وفي رواية (أو اليسرى باليمن كيف
شاء وتيسر عليه وأوعب لمسح لأجزأه) وخالف الأفضل فقط ويؤخذ
من قوله: وأوعب أنه إذا لم يمسح على الذراعين لم يجزه لأنه ذكر في المسح
الذراعين، والمشهور أنه إذا اقتصر على الكوعين وصلى أعاد في الوقت.
(وإذا لم يجد الجنب أو الحائض الماء للطهر تيمما وصليا) ولو وجدا ما يكفي
مواضع الأصغر ويكون تيممهما على التفصيل السابق، فالآيس أول المختار
الخ، واعترض عليه بأنه مكرر مع قوله التيمم يجب لعدم الماء، ويقال في
دفعه إنه كرره للرد على من يقول إن الجنب والحائض لا يتيممان. (فإذا
79

وجدا الماء تطهرا ولم يعيدا ما صليا) لان صلاتهما وقعت على الوجه المأمور
به. وظاهر كلامه وجداه في الوقت أو بعده وهو مقيد بغير ما فيه الإعادة في
الوقت على ما تقدم، وظاهره أيضا سواء كان بأجسادهما نجاسة أم لا وهو نص
المدونة، وقيدت بما إذا لم يكن في بدنهما نجاسة. وأما لو كان في بدنهما نجاسة
وصليا بها نسيانا، وتذكرا بعد الفراغ فإنهما يعيدان في الوقت وأشعر قول
المصنف: ولم يعيدا ما صليا، أن وجود الماء بعد صلاتهما بالتيمم، وأما لو وجدا
الماء قبل الصلاة فإن كان الوقت متسعا للغسل والصلاة ولو ركعة في الوقت
الذي هما فيه، فإن التيمم يبطل. وأما إن وجداه بعد الدخول فيها وقبل فراغها
ولو اتسع الوقت أو قبل الدخول فيها ولكن لم يتسع الوقت للغسل وإدراك
ركعة فإنهما يصليان بالتيمم. (ولا يطأ الرجل امرأته) المسلمة أو الكتابية
أو أمته (التي انقطع عنها دم حيض أو) دم (نفاس بالطهر بالتيمم) على
المشهور، أي يحرم عليه الوطئ ولا مفهوم للوطئ بل التمتع بما بين السرة
والركبة ولو من فوق حائل حرام. (حتى يجد) وفي رواية حتى يجدا بالتثنية
فعلى الأولى طلب الماء أو شراؤه عليه وحده وعلى الثانية عليهما معا. (من
الماء ما تتطهر به المرأة) أو الأمة من دم الحيض أو دم النفاس (ثم ما يتطهران
به جميعا) من الجنابة. وما قاله هنا يفسر قوله آخر الكتاب: وأن لا يقرب
النساء في دم حيضهن أو دم نفاسهن لان ظاهره إن انقطع عنهن جاز له
80

الوطئ، فأفاد هنا أنه ولو انقطع الحيض لا يجوز له الوطئ ولو بالتيمم،
وإنما امتنع الوطئ على المشهور لان التيمم لا يرفع الحدث، وإنما هو مبيح
للصلاة فقط. ويؤخذ من كلام المصنف أن التيمم يسمى طهورا وهو كذلك
لقوله عليه الصلاة والسلام وتربتها طهورا ويسمى أيضا وضوءا لقوله عليه
الصلاة والسلام التيمم وضوء المسلم ويؤخذ منه أيضا أن من لم يجد الماء
ليس له إدخال لجنابة على نفسه، وهو قول مالك في المدونة، أي يكره ولو
كان يتيمم للأصغر فليس له إدخال الجنابة على نفسه بحيث يصير يتيمم
للأكبر. ولا نافي هذا ما تقدم من الحرمة في قول المصنف: ولا يطأ الخ.
لان الحرمة إنما جاءت من قدومه على وطئها بطهرها من حيضها بالتيمم
وهذا ما لم يضر به ترك الوطئ في بدنه أو يخشى العنت. وأما إن كان يضر
بجسمه لطول المدة أو خشي العنت فإنه يطأ ويتيمم. باب في المسح على الخفين (باب في المسح على
الخفين) أي هذا باب في حكم المسح على الخفين، وسقوط التوقيت فيه،
وما يبطله، وبعض شروطه، وصفته، وما يمنع منه المسح. وابتدأ بحكمه فقال:
(وله) أي ورخص للماسح المفهوم من السياق، أو من المسح لان المسح
لا بد له من ماسح رجلا كان أو امرأة (أن يمسح على الخف) ويروى
على الخفين أي يجوز المسح على الخفين. فالمسح على الخفين رخصة وتخفيف،
والغسل أفضل منه فيكون الجواز بمعنى خلاف الأولى، ولا مفهوم للخفين
بل مثلهما الجرموقان، وهما خفان غليظان لا ساق لهما ومثلهما الجور بان،
وهما على شكل الخف يصنعان من نحو القطن ويغشيان بجلد، والأصل
في مشروعيته فعله عليه الصلاة والسلام (في الحضر والسفر) وحيث كان
81

المسح على الخفين من باب الرخص، والرخص لا تختص بالسفر فيجوز
فعله حضرا وسفرا وعلى المشهور لا يشترط لجواز المسح إباحة السفر. (ما لم
ينزعهما) أي أن المسح على الخفين غير محدود بمدة معلومة من الزمان.
وروي عن مالك توقيته في الحضر بيوم وليلة، وفي السفر بثلاثة أيام،
وتستمر هذه الرخصة وهي جواز المسح عليهما من غير تحديد بمدة إلى
أن ينزعهما، فإن نزعهما بطل المسح عليهما اتفاقا، وتلزمه المبادرة لغسل
رجليه، فإن أخر غسلهما عامدا بقدر ما تجف فيه أعضاء الوضوء ابتدأ
الوضوء، ومثله العاجز والناسي يبني طال أو لم يطل. وإذا خلع إحدى خفيه
خلع الأخرى، وغسل رجليه، ولم يجز المسح على إحداهما وغسل الأخرى.
وللمسح شروط عشرة: خمسة في الممسوح وخمسة في الماسح. فشروط الممسوح
أن يكون جلدا لا ما صنع على هيئة الخف من نحو القطن، طاهرا لا نجسا
كجلد ميتة ولو دبغ، ولا متنجسا مخروزا، لا ما لصق بنحو رسراس ساترا
لمحل الفرض، لا ما نقص عنه، وأن يمكن تتابع المشي فيه بحيث لا يكون
واسعا ولا ضيقا جدا وإلا فلا يجوز المسح حينئذ. وشروط الماسح أن لا يكون
عاصيا لبسه، فالرجل المحرم لا يمسح على الخفين، ولا مترفها بلبسه فإن كان
مترفها بلبسه كما إذا لبسه ليدفع عنه مشقة غسل الرجلين أو غير ذلك مما
يصدق عليه اسم الترفيه لم يجزه المسح ويعيد أبدا. وأما إن لبسه لاتقاء
حر أو برد أو اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه يمسح حينئذ. وأن يلبسه على طهارة
فلا يمسح لابسه على حدث مائية ولو غسلا فلا يمسح لابسه على طهارة
ترابية كاملة حسا بأن أتم أعضاء وضوئه قبل لبسه احترازا عما إذا غسل
رجليه فلبسهما، ثم كمل أو غسل رجلا فأدخلها قبل غسل الأخرى، فلو
82

خلعهما في الأولى ولبسهما بعد كمال الطهارة أو خلع التي لبسها ولبسها بعد
أن غسل الثانية فإنه يمسح. ومعنى بأن كان يستباح بها الصلاة احترازا من
الوضوء للتبرد (وذلك) أي المسح المرخص فيه (إذا أدخل) الماسح
(فيهما) أي الخفين (رجليه بعد أن غسلهما في وضوء تحل به الصلاة)
تضمن هذا الكلام بعض الشروط التي ترخص المسح، فإن قوله: غسلهما
يتضمن لبسهما على طهارة، وكونها مائية. وقوله: تحل به الصلاة يتضمن أن
تكون كاملة حسا ومعنى. (فهذا الذي) أدخل رجليه في الخف بعد غسلهما
الخ مع بقية الشروط هو الذي يرخص له (إذا أحدث) بعد ذلك الحدث
الأصغر (و) أراد أن (يتوضأ مسح عليهما) وتقييد الحدث بالأصغر
لان الأكبر مبطل للمسح لوجوب الغسل عليه. (وإلا) أي وإن لم يكن
كذلك بأن لبسهما على غير طهارة أو طهارة ترابية أو على طهارة مائية
قبل كمالها. (ف‍) - هذا (لا) يرخص له المسح (وصفة المسح) المستحبة
(أن يجعل) الماسح (يده اليمنى) على رجله اليمنى (من فوق الخف)
يبدأ بذلك (ومن طرف) بتحريك الراء (الأصابع) أي أصابع رجله
اليمنى (و) يجعل (يده اليسرى من تحت ذلك) أي من تحت الأصابع
(ثم) بعد أن يفعل ذلك (يذهب) أي يمر (بيديه إلى حد) أي منتهى
83

(الكعبين) الناتئين بطرفي الساقين ويدخلهما في المسح كالوضوء، لأنه
بدل عنه. ويكره له أن يتتبع الغضون وهي التجعيدات التي فيه لان المسح
مبني على التخفيف، وأن يكرر المسح وأن يغسله، فإن فعل ذلك أجزأه.
ويندب له المسح لما يستقبل من الصلوات إن غسله بنية الوضوء فقط أو
انضم لها نية إزالة الطين أو نجاسته ولو معفوا عنها. فإن غسله بنية إزالة طين
أو نجاسة أو لم ينو شيئا فلا يجزئه. (وكذلك يفعل ب) رجله (اليسرى)
مثل ذلك أي مثل ما فعل في اليمنى. والمرور باليدين إلى حد الكعبين،
ولكن وضعهما على اليسرى عكس وضعهما على اليمنى (فيجعل يده اليسرى
من فوقها و) يده (اليمنى من أسفلها) وقال ابن شبلون: اليسرى كاليمنى
على ظاهر المدونة. وما ذكره من الجمع بين مسح أعلى الخف وأسفله متفق
عليه، وإنما الخلاف في القدر الذي يجب مسحه. فذهب أشهب إلى أن من
اقتصر في مسح خفه على الاعلى أو الأسفل أجزأه، ولا يعيد صلاته. وذهب
ابن نافع إلى عدم الاجزاء فيهما. ولكن المشهور وجوب مسح أعلاه
واستحباب مسح أسفله. فإن اقتصر على مسح الاعلى وصلى فإنه يعيد في
الوقت المختار استحبابا ويستحب أن يعيد الوضوء والصلاة حيث ترك مسح
الأسفل جهلا أو عمدا أو عجزا وطال. فإن لم يطل مسح الأسفل فقط،
وكذلك أي مثل الاقتصار على مسح الأسفل فقط إن كان الترك سهوا
طال أم لا. وإن اقتصر على مسح الأسفل فإنه يعيد أبدا عمدا أو جهلا أو
نسيانا ويبني بنية إن نسي مطلقا. وإن عجز ما لم يطل. واستظهر بعض
الشيوخ أن أجناب الرجلين من الأعلى. (ولا يمسح على طين في أسفل
84

خفه أو روث دابة) بالمد وتشديد الباء في اصطلاح الفقهاء البغل والفرس
والحمار. (حتى يزيله) أي ما أصابه منهما (بمسح) للطين (أو غسل)
للروث النجس، وأولى لو غسل الطين أو الروث الطاهرين. قال عبد الوهاب:
لان المسح إنما يكون على الخف، وهذا حائل دون الخف، فوجب نزعه.
ونظر فيه الفاكهاني بأن ذلك على سبيل الندب دون الوجوب، لأنه لو
ترك مسح أسفل الخف جملة لم يكن عليه إعادة إلا في الوقت على قول
ابن القاسم وعلى قول أشهب لا إعادة عليه لا في الوقت ولا في غيره. (و)
قد (قيل يبدأ في مسح أسفله من الكعبين إلى أطراف الأصابع) هذه
صفة أخرى في المسح على الخف يعني والمسألة بحالها من وضع اليمنى على
اليمنى واليسرى على اليسرى. (لئلا يصل إلى عقب خفه شئ
من رطوبة ما مسح من خفيه من القشب) بفتح القاف وسكون المعجمة العذرة
اليابسة عند أهل اللغة. وإنما كان يبدأ من الكعبين لئلا ينتقل شئ من
القشب إلى أعلى الخف بخصوصه لان نقل النجاسة من موضع إلى آخر
لازم على كل حال بدأ من العقب أو من الأصابع أي ونقل النجاسة إلى أعلى
الخف أشد من نقلها في أسفله أي من حيث إن ترك مسح الاعلى يبطل المسح
دون الأسفل. وفي الكلام بحث قوي لا دافع له، وذلك أنه إذا طلب منه
مسح الطين وغسل الروث النجس قبل المسح أنى يعقل نقل نجاسة من
موضع إلى آخر كان الاعلى أو غيره بدأ المسح من العقب أو من الأصابع
85

(وإن كان في أسفله طين فلا يمسح عليه حتى يزيله) أي تجب إزالته
على القول بأن مسح الأسفل واجب، وتندب على القول بأنه مندوب.
باب في أوقات الصلاة (باب في أوقات الصلاة) في بيان متعلق معرفة أوقات الصلاة وهي
النسب المتعلقة بالأوقات (و) بيان معرفة (أسمائها) أما معرفة الأوقات
فهي فرض عين على كل مكلف أمكنه ذلك. ومن لا يمكنه كالأعمى قلد
غيره. والأوقات جمع وقت وهو الزمن المقدر للعبادة شرعا، وهو إما وقت
أداء أو وقت قضاء. ووقت الأداء إما وقت اختيار بمعنى أن المكلف مخير
في إيقاع الصلاة في أي جزء من أجزائه، وإما وقت ضرورة. والاختيار إما
وقت فضيلة، وإما وقت توسعة. وأما الصلاة فالمراد بها في اصطلاح أهل الشرع
الركعات والسجدات، وهي منقولة من الدعاء لاشتمالها على الفاتحة المشتملة
على الدعاء، وهو: اهدنا إلى آخره. وعلى غير الفاتحة وهي مما علم وجوبه من
الدين بالضرورة، فجاحدها مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكذلك جاحد
باقي أركان الاسلام التي هي الشهادتان والزكاة والصوم والحج. ولوجوبها
شروط خمسة: الاسلام والبلوغ والعقل وارتفاع دم الحيض والنفاس ودخول
وقت الصلاة. وزاد عياض: بلوغ الدعوة. وهي أعظم العبادات لأنها فرضت
في السماء ليلة الاسراء، وذلك بمكة قبل الهجرة بسنة بخلاف سائر الشرائع
فإنها فرضت في الأرض. واختلف في كيفية فرضها، فعن عائشة رضي الله
عنها أنها فرضت ركعتين في الحضر والسفر فأقرت في السفر وزيدت في
الحضر. وقيل: فرضت أربع ركعات إلا المغرب والصبح فالأولى فرضت ثلاثا
والثانية ركعتين ثم قصر منها ركعتان في السفر. وأما معرفة أسمائها فواجبة
86

أيضا لان بها يقع التمييز والتعيين لأنه إن لم يعين الصلاة فصلاته باطلة
(أما صلاة الصبح فهي الصلاة الوسطى عند أهل المدينة وهي صلاة الفجر)
لا يخفى أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، فقد ذكر بإزاء هذه
الصلاة أربعة أسماء: الصبح والوسطى والفجر والغداة. والصبح مشتق من
الصباح وهو البياض لوجوبها عنده. والفجر مشتق من الانفجار لوجوبها
عند انفجار الفجر من ظلمة الليل. (فأول وقتها) يعني الاختياري (انصداع)
أي انشقاق (الفجر المعترض) أي المنتشر (بالضياء في أقصى) أي أبعد
(المشرق) أي أن ضياء الفجر مستمد من ضوء الشمس، وهي تارة
تطلع من أقصى المشرق، وتارة من غيره، فهو تابع لها، فموضع انفجاره هو
موضع طلوع الشمس وخرج بقوله المعترض الفجر الكاذب، وهو البياض
الذي يصعد كذنب السرحان أي الذئب مستدقا فلا ينتشر، فليس له حكم
(ذاهبا من القبلة إلى دبر القبلة حتى يرتفع فيعم) أي يسد (الأفق)
استشكل ابن عمر هذا الكلام قائلا: إن المصنف قال: المعترض بالضياء
في أقصى المشرق، فبين أنه من أقصى المشرق يطلع ثم قال: ذا هبا من القبلة
إلى دبر القبلة، فأفاد أنه من القبلة طلع. وأفاد أيضا أن القبلة لها دبر وليس
كذلك. وأجاب الأجهوري أن القبلة والمشرق واحد وهو ما قابل المغرب.
والدبر الجوف، فمن عميت عليه القبلة جعل المشرق أمامه والمغرب خلفه،
87

وحينئذ يكون مستقبلا لان انحرافه عن القبلة يكون انحرافا يسيرا.
(وآخر الوقت) أي وقت الصبح (الاسفار البين الذي ذا سلم منها) أي
من صلاة الصبح (بدا) أي ظهر (حاجب) أي طرف (قرص الشمس)
مفاد كلامه أن آخر الوقت المختار للصبح طلوع الشمس، وهو مشهور
قول مالك، وقال ابن عبد البر: إنه الذي عليه عمل الناس، بل عزاه عياض
لكافة العلماء أئمة الفتوى. وعليه فلا ضروري للصبح والذي في المدونة وهو
المعتمد، ومشى عليه صاحب المختصر أن وقتها الاختياري من طلوع الفجر
الصادق إلى الاسفار الاعلى، والغاية خارجة، والاسفار الاعلى هو الذي يتراءى
فيه الوجوه في محل لا سقف فيه ولا غطاء. ويراعى في ذلك البصر المتوسط.
وحينئذ يكون الوقت الضروري للصبح من أول الاسفار الاعلى إلى
الجزء الأول من الطلوع. (و) إذا ثبت أن أول وقت صلاة الصبح
انصداع الفجر وآخره الاسفار البين، ف‍ (- ما بين هذين الوقتين وقت واسع)
لايقاع الصلاة متى أوقعها في شئ منه لم يكن مفرطا، لان أول الوقت
المختار وآخره سواء في نفي الحرج إلا أن يظن الموت قبل الفعل لو لم
يشتغل به فإنه يعصي بتركه اتفاقا، لان الوقت الموسع صار في حقه مضيقا
أي أن من ظن أنه يموت أثناء الوقت يجب عليه أن يصلي قبل ذلك
الوقت، فلو لم يصل في ذلك الوقت الذي طلب منه أن يصلي فيه كان
آثما مات أو لا. وينبغي أن يكون مثل الموت ظن باقي الموانع التي طروها
مسقط كالحيض وإن كانت لو أخرت وطرأ المانع لا تقضى لأن عدم
88

القضاء لا ينافي الاثم (و) إذا تقرر أن الوقت المختار كله سواء في نفي الحرج
فاعلم أنه متفاوت في الفضيلة، ف‍ (- أفضل ذلك) أي الوقت المختار (أوله) ظاهره
مطلقا ي الصيف والشتاء للفذ والجماعة، وهو كذلك عند مالك وأكثر
العلماء لتحصيل فضيلة الوقت. والأصل في هذا ما صح أنه عليه الصلاة
السلام كان يصلي الصبح بغلس، وعليه واظب الخلفاء الراشدون (ووقت
الظهر) أي أول وقته المختار (إذا زالت) أي مالت (الشمس عن كبد
السماء) الكبد بفتح الكاف وكسر الباء عبر به عن وسط السماء على
سبيل المجاز المرسل من إطلاق اسم الحال على المحل في الجملة لان موضعه
من الحيوان الوسط. (وأخذ الظل في الزيادة) أي ويلزم من ميل الشمس
عن كبد السماء أخذ الظل في الزيادة فيكون تفسير ميل الشمس عن كبد
السماء بأخذ الظل في الزياد تفسيرا باللازم. ويعرف الزوال بأن يقام عود
مستقيم، فإذا تناهى الظل في النقصان، وأخذ في الزيادة فهو وقت الزوال
ولا اعتداد بالظل الذي زالت عليه لشمس في القامة، بل يعتبر ظله مفردا
عن الزيادة (ويستحب أن يؤخر) أي صلاة الظهر (في الصيف) قال
الفاكهاني نصه اختصاص التأخير بالصيف دون الشتاء جماعة وأفذاذا. وقال
ابن ناجي: لا مفهوم لقوله في الصيف، بل وكذلك الشتاء، يستمر التأخير
المستحب (إلى أن يزيد ظل كل شئ) مما له ظل كالانسان (ربعه بعد
89

الظل الذي زالت عليه الشمس) واحترز بذلك من أن يقدر الظل من
أصله أطلق الظل على ما بعد الزوال، وهي لغة شاذة. واللغة المشهورة أن
الظل لما قبل الزوال والفئ لما بعده. (وقيل إنما يستحب ذلك) أي التأخير
المذكور (في) حق أهل (المساجد) خاصة (ل‍) - أجل أن (يدرك الناس
الصلاة، وأما الرجل في خاصة نفسه) وفي نسخة في خاصته (فأول الوقت
أفضل له) لأنه لا فائدة في تأخيره (وقيل أما في شدة الحر فالأفضل له)
أي لمن يريد صلاة الظهر (أن يبرد بها وإن كان وحده) ومعنى الابراد
أن ينكسر وهج الحر فتحصل من كلامه أن في الابراد بالظهر ثلاثة أقوال
استحباب التأخير مطلقا للفذ والجماعة، وقصر الاستحباب على المساجد
للجماعة خاصة، والثالث التفرقة بين وقت شدة الحر وغيره، فيستحب في وقت
شدة الحر للفذ والجماعة. (لقول النبي صلى الله عليه وسلم أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر
من فيح جهنم) ولفظ الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا اشتد الحر فأبردوا
عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ومعنى الابراد أن تتفيأ الأفياء
90

وينكسر وهج الحر. والفيح لهب النار وسطوعها أي ارتفاعها. وحديث
التعجيل منسوخ بهذا الحديث، وهو: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي الظهر بالهاجرة وقت اشتداد الحر. (وآخر الوقت) لمختار للظهر
(أن يصير ظل كل شئ مثله بعد ظل نصف النهار) اعتبار النهار هنا
من طلوع الشمس إلى الغروب بخلاف النهار في الصوم، فإن أوله من
طلوع الفجر (أول وقت العصر) المختار هو (آخر وقت الظهر)
المختار، فعلى هذا هما مشتركان، وهو المشهور. واختلف التشهير هل الظهر
تشارك العصر في أول وقتها بمقدار أربع ركعات، أو العصر تشارك الظهر
في آخر وقتها بمقدار أربع ركعات. فعلى الأول لو أخر الظهر حتى دخل وقت
العصر وأوقع الظهر أول الوقت لا إثم عليه. ومن صلى العصر على هذا القول
في آخر القامة الأولى كانت باطلة. وعلى الثاني لو صلى العصر عندما بقي مقدار
أربع ركعات من وقت الظهر من القامة الأولى، فإن العصر تقع في أول
وقتها أي: ومن صلى الظهر أول القامة الثانية كان آثما لوقوعها بعد خروج
وقتها. (وآخره) أي آخر وقت العصر المختار (أن يصير ظل كل شئ
مثليه بعد ظل نصف النهار وقيل) أول وقت العصر أنك (إذا استقبلت
الشمس بوجهك) يعني ببصرك (وأنت قائم غير منكس رأسك ولا
91

مطأطئ له) التطأطؤ أخفض من التنكيس لان التنكيس إطراق الجفون
إلى الأرض، والتطأطؤ الانحناء على حسب ما يريد الانسان (فإن نظرت إلى
الشمس ببصرك) يعني إذا جاءت على بصرك (فقد دخل الوقت، وإذا لم
ترها ببصرك فلم يدخل الوقت، وإن نزلت عن بصرك) أي جاءت تحت
بصرك (فقد تمكن دخول الوقت) وقد أنكر على المصنف حكاية هذا
القول بأنه لم يعلم قائله، واعترض عليه أيضا بأنه لا يعلم دخول الوقت بما
ذكر لعدم اطراده في كل الأزمنة، لان الشمس تكون في الصيف مرتفعة
وفي الشتاء منخفضة (والذي وصف عن مالك رحمه الله) في تحديد آخر
الوقت المختار للعصر من رواية ابن القاسم (أن الوقت فيها ما لم تصفر
الشمس) أي في الأرض والجدر، أي لا في عين الشمس إذ لا تزال نقية حتى
تغرب، والمذهب أن تقديم العصر أول وقتها أفضل. (ووقت صلاة المغرب)
الاختياري (وهي) أي صلاة المغرب لها اسمان هذا لأنها تقع عند الغروب،
والآخر (صلاة الشاهد يعني) أي مالك بقوله الشاهد (الحاضر) وكأن
قائلا قال له: ما معنى الحاضر؟ فقال (يعني أن المسافر لا يقصرها ويصليها كصلاة
92

الحاضر) قال الفاكهاني: تعليل تسمية المغرب بالشاهد لكون المسافر
لا يقصرها منقوض بالصبح ورده عبد الوهاب بأنه مسموع لا يقاس، وإلا
لسميت الصبح بذلك. (فوقتها غروب الشمس) والمراعى في ذلك غيبوبة
جرمها وقرصها المستدير دون أثرها وشعاعها، قال ابن بشير: بموضع لا جبال
فيه، وأما ما فيه جبال فينظر لجهة المشرق، فإذا ظهرت الظلمة كان دليلا على
مغيبها. (فإذا توارت) أي استترت وغابت (بالحجاب) أي لم تظهر لنا
بسبب الحجاب الحائل بيننا وبينها (وجبت الصلاة) أي دخل وقتها
لا تؤخر عنه مكرر مع قوله فوقتها غروب الشمس. (وليس لها إلا وقت
واحد) أي اختياري فمتى أخرت عنه فقد وقعت في وقتها الضروري
(لا تؤخر عنه) والمشهور أنه غير ممتد بل بقدر فعلها بعد تحصيل شروطها
فوقتها مضيق ويجوز لمن كان محصلا لشروطها من طهارة وستر واستقبال
وأذان وإقامة تأخير فعلها بمقدار تحصيلها. وقيل: وقتها ممتد إلى مغيب الشفق
الأحمر. واختاره الباجي وكثير من أهل المذهب لما في الموطأ من قوله: إذا
ذهبت الحمرة فقد وجبت العشاء، وخرج وقت المغرب ولما في مسلم من قوله
عليه الصلاة والسلام وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق. (ووقت صلاة
العتمة) المختار (وهي) أي صلاة العتمة (صلاة العشاء) بكسر العين والمد
(وهذا الاسم) أي العشاء (أولى بها) في التسمية من العتمة على جهة
الاستحباب لأنه الذي نطق به الكتاب العزيز. تسميتها بالعتمة مكروه
93

عند جماعة من العلماء منهم الامام مالك. وأما ما ورد في الموطأ ومسند أحمد
والصحيحين من حديث أبي هريرة لو يعلمون ما في العتمة والصبح
لاتوهما ولو حبوا من تسميتها بالعتمة فمؤول بأن ذلك لبيان الجواز أي
أن التسمية ليست بحرام، فلا ينافي أنها مكروهة. (غيبوبة الشفق) خبر
عن قوله: ووقت صلاة العتمة وما بينهما معترض (والشفق) هو (الحمرة
الباقية في المغرب) أي في ناحية غروب الشمس أي لا كل المغرب كما هو
ظاهر المصنف. (من بقايا شعاع الشمس) وهو ما يرى عند ذهابها كالقضبان
أي أن ضوءها يشبه القضبان أي قضبان الذهب. (فإذا لم يبق في المغرب)
أي ناحية غروب الشمس (صفرة ولا حمرة فقد وجب) أي دخل (الوقت)
أي وقت العشاء وانظر كيف قدم الصفرة وهي متأخرة عن الحمرة وأجيب
بأن الواو لا تقتضي ترتيبا. (ولا ينظر إلى البياض الباقي في المغرب) إشارة
إلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إن الشفق هو البياض. دليلنا ما رواه
الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة
(فذلك) أي غيبوبة الشفق الأحمر (لها) أي للعشاء (وقت) يعني
أن أول وقتها المختار مبدؤه من مغيب الشفق الأحمر ونهايته (إلى ثلث
الليل) الأول على المشهور وقال ابن حبيب: إنه ينتهي إلى نصف الليل. (ممن
يريد) وكان الأولى لمن يريد (تأخيرها لشغل) أي لأجل شغل مهم. (أو)
94

لأجل (عذر) أي لا ينبغي أن يؤخرها عن أول وقتها إلا أهل الاعذار
(و) أما غيرهم فإن كان منفردا ف‍ (- المبادرة) أي المسارعة (بها) أي
بصلاة العشاء في أول وقتها (أولى) أي مستحب (و) إن كان غير منفرد
(لا بأس) بمعنى يستحب (أن يؤخرها أهل المساجد قليلا ل‍) - أجل (اجتماع
الناس) وما مشى عليه المصنف ضعيف والراجح التقديم مطلقا (ويكره)
كراهة تنزيه (النوم قبلها) أي قبل صلاة العشاء (والحديث لغير شغل)
مهم (بعدها) أي: وكذا يكره الحديث بعدها. قال ابن عمر: وكراهة الحديث
بعدها أشد من كراهة النوم قبلها، لأنه ربما فوت عليه الفواضل من صلاة
الصبح جماعة، أو فوات وقتها، أو فوات قيام الليل للتهجد، ولذكر الله. ويستثنى
من ذلك الحديث في العلم والقربات. ويستثنى أيضا العروس والضيف
والمسافر أي القادم من سفر أو المتوجه إلى السفر، وما تدعو الحاجة إليه،
كالحديث الذي يتعلق به مصالح الانسان كالبيع والشراء. تكلم الشيخ
رحمه الله على الوقت الاختياري، ولم يتكلم على الضروري. أما الصبح فقد
تقدم الكلام عليه. وأما الظهر فمبدأ ضرورية أول القامة الثانية، ومبدؤه
في العصر الاصفرار وانتهاؤه فيهما غروب الشمس إلا أن العصر تختص
بأربع ركعات قبل الغروب فيكون هذا الوقت ضروريا لها خاصة، بحيث
لو صليت الظهر في ذلك الوقت كانت قضاء ومبدؤه في المغرب فراغه منها
من غير توان أي ما يعقب فراغه وفي العشاء أول ثلث الليل الثاني، وانتهاؤه
95

فيهما طلوع الفجر. وتختص الأخيرة منها بمقدار ربع ركعات كما بين في الظهر
والعصر. وسميت هذه الأوقات أوقات ضرورة لأنه لا يجوز تأخير الصلاة إليها
إلا لأصحاب الضرورة. وأصحاب الضرورات الحائض والنفساء والكافر أصلا
وارتدادا والصبي والمجنون والمغمى عليه والنائم والناسي، فكل من زال عنه المانع
من هؤلاء وصلى في الوقت الضروري لا إثم عليه. ومن صلى في هذا الوقت
من غير أرباب الاعذار يكون عاصيا.
باب في بيان حكم الاذان (باب) في بيان حكم (الاذان و) حكم (الإقامة) وبيان صفتهما.
والاذان لغة الاعلام، أي بأي شئ كان. وشرعا الاعلام بأوقات الصلاة
أي بألفاظ مخصوصة. (والاذان واجب) أي حكم الاذان أنه واجب وجوب
السنن، أي أنه سنة مؤكدة (في المساجد) ظاهر كلامه عدم الفرق بين
المسجد الجامع أي الذي تقام فيه الجمعة وغير الجامع، ولا فرق أيضا بين أن
تتقارب المساجد أو لا أو يكون مسجد فوق مسجد. (و) في أماكن
(الجماعات الراتبة) ظاهره سواء كانت في مساجد أو غيرها حيث يطلبون
غيرهم بل كل جماعة تطلب غيرها ولو لم تكن راتبة، فإنه يسن في حقها
الاذان، واحترز بالراتبة عن الجماعة الغير الراتبة أي الجماعة في الحضر الذين
لا ينتظرون غيرهم في غير المسجد فلا يسن في حقهم الاذان، ولا يستحب،
بل يكره. وأما في السفر فيندب لها الاذان بل المنفرد في السفر يندب
له الاذان. ويحرم الاذان قبل دخول الوقت، ومكروه للسنن كما يكره للفائتة،
وفي الوقت الضروري، ولفرض الكفاية. والدليل على سنية الاذان أمره
صلى الله عليه وسلم به ومواظبة أهل الدين عليه في زمنه وغير زمنه، وهذا ضابط السنة
96

(فأما الرجل في خاصة نفسه) ويروى في خاصته (فإن أذن فحسن)
أي مستحب ظاهره سواء كان في حضر أو سفر. والمشهور اختصاصه بالمسافر
دون المقيم لما صح أن أبا سعيد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كنت في
غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى
صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة قال التوربشتي:
المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو
الدرجة ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: إذا كنت
في غنمك أي إذا كنت في فلاة من الأرض بغنمك وقوله أو باديتك يحتمل أن أو للشك من
الراوي. ويحتمل أنها للتنويع، لان الغنم قد لا تكون في البادية، وقد يكون
في البادية حيث لا غنم. (ولا بد له من الإقامة) أي أن الإقامة تطلب من
المكلف طلبا أكيدا إن كان رجلا. وحمل ابن كنانة كلام المصنف على
الوجوب قائلا: إن من تركها عمدا بطلت صلاته، وحمله عبد الوهاب على
السنة، أي سنة عين لبالغ يصلي ولو فائتة أو منفردا أو إماما بنساء فقط،
وكفاية لصلاة جماعة ذكور فقط أو معهم نساء في حق الامام والذكور،
ومحل سنة الإقامة إن كان الوقت متسعا وإلا تركها. والإقامة آكد من
الاذان لاتصالها بالصلاة. وإذا تراخى ما بينهما بطلت الإقامة واستؤنفت. (وأما
المرأة فإن أقامت فحسن) أي مستحب (وإلا) أي وإن لم تقم (فلا حرج عليها)
أي لا إثم عليها هذا غير متوهم. (ولا يؤذن لصلاة قبل وقتها) أي حيث
97

كان المقصود من مشروعية الاذان الاعلام
بدخول الوقت أي إعلام المكلفين بدخول لوقت لأجل أدائهم الفرض الواجب عليهم فيكون فعله
بعد دخول الوقت. وأما قبل دخول الوقت فلا يجوز أن يؤذن لصلاة من
الصلوات الخمس حتى الجمعة أي يحرم. وقال ابن حبيب: إن الجمعة يؤذن لها
قبل الزوال ولا تصلى إلا بعده. (إلا الصبح) أي صلاة الصبح. (فإنه
لا بأس) بمعنى يستحب (أن يؤذن لها في السدس الأخير) وهو ساعتان
(من) آخر (الليل) قبل طلوع الفجر، ثم يؤذن لها عند دخول الوقت
ثانيا على جهة السنية. فالاذان الأول مستحب والثاني سنة. وقال ابن حبيب:
يؤذن لها نصف الليل. وقال أبو حنيفة: لا يؤذن لها قبل وقتها كسائر
الصلوات لنا ما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن بلالا ينادي بليل فكلوا
واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم قال البساطي: ضبط أهل المذهب النداء
بالليل بالسدس. (والاذان) أي حقيقته (الله أكبر الله أكبر أشهد)
أي أتحقق (أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله لا الله أشهد) أي أتحقق
98

(أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم ترجع بأرفع) أي بأعلى
(من صوتك أول مرة، فتكرر التشهد فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن
لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة
حي على الصلاة) أي هلموا. فحي اسم فعل أمر بمعنى أقبلوا وأسرعوا أي اسراعا
بلا هرولة، لئلا تذهب السكينة والوقار فتكره الهرولة حينئذ ولو خاف
فوات الجماعة. (حي على الفلاح حي على الفلاح) أي هلموا إلى الفلاح وهو
الفوز بالنعيم في الآخرة (فإن كنت في نداء الصبح زدت ههنا: الصلاة
خير من النوم، الصلاة خير من النوم، لا تقل ذلك في غير نداء الصبح) ولو
كان بفلاة من الأرض ولو لم يكن ثم أحد والصلاة مبتدأ وخبر والجملة
في محل نصب بزدت لتأولها بمفرد وهو هذا اللفظ ومعناه التيقظ للصلاة
خير من الراحة الحاصلة بالنوم. واختلف فيمن أمر بهذه الجملة أي بالصلاة
خير الخ فقيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل عمر رضي الله عنه.
(الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله مرة واحدة والإقامة) أي صفتها أنها
(وتر) عني ما عدا التكبير الأول والثاني (وهي: الله أكبر الله أكبر
99

أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على
الفلاح قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله مرة واحدة)
وما ذكره من إفراد الإقامة هو المذهب فإذا شفعها غلطا لا تجزئه على
المشهور، وأراد بالغلط ما يشمل النسيان، فالعمد أولى.
باب في بيان صفة العمل (باب) في بيان (صفة العمل) قولا وفعلا (في الصلوات المفروضة و) في
بيان (ما يتصل بها من النوافل) كالركوع قبل الظهر والركوع بعده
وقبل العصر وبعد المغرب وبعد العشاء (و) ما يتصل بها أيضا من (السنن)
احترز المصنف بقوله: وما يتصل بها من السنن عن السنن التي لا تتصل
بالصلوات المفروضات فإنه لا يذكرها في هذا الباب، بل يفرد لها أبوابا غير
هذا وقد اشتملت الصفة التي ذكرها على فرائض وسنن وفضائل ولم يميزها
وسنبين كلا من ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. ويؤخذ من كلامه أن
من أتى بصلاته على نحو ما رتب ولم يعلم شيئا من فرائض الصلاة ولا من
سننها وفضائلها أن صلاته صحيحة إن كان يعتقد أن فيها فرائض وسننا
ومستحبات. وأما لو اعتقد أن كلها سنن أو مندوبات أو الفرض سنة أو
مندوب فتبطل. وأما إذا اعتقد أنها كلها فرائض فتصح فيما يظهر إذا
100

سلمت مما يفسدها، وكذا لو اعتقد أن السنة أو الفضيلة فرض أو السنة
مستحب أو العكس، بشرط السلامة مما يفسد، وكذا إن كان أخذ وصفها
عن عالم بأن رآه يفعل أو علمه كيفية الفعل. وقيل تبطل إن لم يعرف
المكلف أحكام ما اشتملت عليه. ولذا قال بعضهم: إن حاجتنا إلى معرفة الاحكام آكد من حاجتنا إلى معرفة
الصفة. (الاحرام) وهل هو النية
أو التكبير أو هما مع الاستقبال رجح الأجهوري الأخير، فالإضافة على الأول
في قولهم تكبيرة الاحرام من إضافة المصاحب للمصاحب، وعلى الثاني بيانية،
وعلى الثالث من إضافة الجزء للكل، أي أن أول الصفة الاحرام وهو
الدخول (في الصلاة) فرضا كانت أو نفلا بالتكبير وهو (أن تقول الله
أكبر) بالمد الطبيعي للفظ الجلالة قدر ألف فإن تركه لم يصح إحرامه
كما أن الذاكر لا يكون ذاكرا إلا به. (لا يجزئ غير هذه الكلمة) إن
كان يحسن العربية أما من لا يحسنها فقال عبد الوهاب: يدخل بالنية
دون العجمية وقال أبو الفرج يدخل بلغته وهو ضعيف. وإن كانت الصلاة
لا تبطل قياسا على كراهة الدعاء بالعجمية للقادر على العربية، ولكن المعتمد
القول الأول. وسمى المصنف هذه الجملة كلمة نظرا للغة لا لاصطلاح النحويين.
والتكبير فرض في حق الامام والفذ بالاتفاق، وفي حق المأموم على المشهور.
وروي عن مالك أن الامام يحمل تكبيرة الاحرام عن المأموم، فلو ترك
الامام تكبيرة الاحرام عامدا أو ساهيا بطلت صلاته وصلاة من خلفه،
ودليل وجوبه ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة
الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم والمعنى في الحديث من قوله
101

الطهور بضم الطاء المصدر، أي التطهر الأعم من الوضوء والغسل. ويشترط
في التكبير القيام لغير المسبوق اتفاقا، فإن تركه في الفرض بأن أتى به
جالسا أو منحنيا أو مستندا لعماد بحيث لو أزيل لسقط بطلت صلاته. وأما
المسبوق ففي المدونة إذا كبر للركوع ونوى به العقد أي الاحرام أو نواه
والركوع أو لم ينوهما لأنه ينصرف للاحرام أجزأه ذلك الركوع أي أنه
يصح إحرامه، ويحتسب بهذه الركعة. قال ابن يونس: هذا إذا كبر قائما
أي ابتدأه قائما وكمله كذلك. وأما لو ابتدأه من قيام وأتمه في حال
الانحطاط أو بعده بلا فصل فإن الركعة تبطل. وإن كان فصل بطلت الصلاة
ويشترط في تكبيرة الاحرام مقارنة النية فإن تأخرت عنها فلا تجزئ
اتفاقا. وإن تقدمت بكثير فكذلك. وإن تقدمت بيسير فقولان مشهوران
بالاجزاء وعدمه. ومفاد ميارة أن الراجح منهما الاجزاء إذ لم ينقل عنهم
اشتراط المقارنة المؤدية إلى الوسوسة المذمومة شرعا وطبعا. ومعنى اشتراط
المقارنة على القول الثاني أنه لا يجوز الفصل بين النية والتكبير لا أنه
يشترط أن تكون النية مصاحبة للتكبير (و) إذا أحرمت فإنك (ترفع
يديك) أي ندبا، أي والحال أن ظهورهما إلى السماء وبطونهما إلى الأرض
(حذو) أي إزاء منكبيك) تثنية منكب بوزن مجلس، وهو مجمع
عظم العضد والكتف، وقيل انتهاؤه إلى الصدر، وإليه أشار بقوله: (أو دون
ذلك) أي دون المنكب، فأو في كلامه للتنويع لا للشك. وهذا في حق
الرجل. وأما المرأة فدون ذلك. وقد حكى القرافي الاجماع عليه، واختلف في
حكم هذا الرفع، فمن ذاهب إلى أنه سنة، ومن ذاهب إلى أنه فضيلة، وهو
المعتمد. وظاهر كلام المصنف أن هذا الرفع مختص بتكبيرة الاحرام
102

وهو كذلك على المشهور، ومقابله يرفعهما عند الركوع وعند الرفع
منه وعند القيام من اثنتين (ثم) بعد أن تفرغ من التكبير (تقرأ)
أي تتبع التكبير بالقراءة من غير أن تفصل بينهما بشئ، فقد كره
مالك رحمه الله التسبيح والدعاء بين تكبيرة الاحرام والقراءة. واستحب
بعضهم الفصل بينهما بلفظ: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى
جدك ولا إله غيرك. (فإن كنت في) صلاة الصبح (قرأت جهرا بأم
القرآن) أما قراءة أم القرآن ففرض في الصبح وغيرها من الصلوات
المفروضات على الامام والفذ. وهل في كل ركعة أو في الجل؟ قولان لمالك في المدونة.
والصحيح منهما وجوبها في كل ركعة، قاله ابن الحاجب. والقول بوجوبها في
الأكثر، والعفو عنها في الأقل ضعيف. واختلف في الأقل، فقيل: الأقل على
الاطلاق، وقيل: الأقل بالإضافة. ومعنى الأقل على الاطلاق العفو عنها في ركعة
واحدة، وإن كانت الصلاة صبحا أو جمعة أو ظهرا لمسافر. ومعنى الأقل بالإضافة
أن تكون الركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية لا من ثنائية، وأما المأموم
فمستحبة في حقه فيما أسر فيه الامام وأما كون القراءة فيها جهرا فسنة.
وإذا قرأت في صلاة الصبح أو غيرها من الصلوات المفروضات ف‍ (- لا
تستفتح) القراءة فيها (ببسم الله الرحمن الرحيم) مطلقا لا (في أم القرآن
ولا في السورة التي بعدها) لا سرا ولا جهرا إماما كنت أو غيره. والنهي
في كلامه للكراهة لما صح أن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول
103

بسم الله الرحمن الرحيم فقال: يا بني إياك والحدث، أي: إياك وأن تحدث شيئا
لم يكن عليه المصطفى وأصحابه. قال عبد الله مغفل: ولم أر من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجلا أبغض إليه حدثا في الاسلام منه أي لم أر رجلا موصوفا
بأشدية بغضه للحدث منه أي من أبي، أي بل أبي أشد الصحابة بغضا
للحدث. ومن تمام كلام أبيه أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت، وقل الحمد لله
رب لعالمين الخ. وأما قراءتها في النافلة فذلك واسع إن شاء
قرأ، وإن شاء ترك. ويكره التعوذ في الفريضة دون النافلة (فإذا قلت: ولا الضالين، فقل:)
على جهة الاستحباب (آمين) بالمد مع التخفيف اسم فعل أمر بمعنى
استجب (إن كنت) تصلي (وحدك) سواء كنت في صلاة سرية أو جهرية (أو) كنت تصلي (خلف إمام) صلاة سرية
أو جهرية إن
سمعته يقول ولا الضالين (و) لا تجهر بها بل (تخفيها) في الحالتين
ولو كانت الصلاة جهرية أي فيكره الجهر ويندب الاخفاء (ولا يقولها
الامام يما جهر) أي أعلن (فيه) والظاهر الكراهة (ويقولها فيما أسر)
أي أخفى (فيه) اتفاقا. وقوله (وفي قوله إياها في الجهر اختلاف) قال
بعضهم: إنه تكرار، وفيه أن توهم التكرار بعيد لان صريحه جزمه
أولا بقول، ثم حكايته القولين بعد، وليس في مثل ذلك تكرار. وكأن المتوهم
للتكرار نظر إلى مجرد حكاية القول بعدم التأمين لا لذكر الخلاف من حيث
هو. (ثم) إذا فرغت من قراءة أم القرآن جهرا (تقرأ) بعدها (سورة)
104

كذلك جهرا لا تفصل بينهما بدعاء ولا غيره. وحكم قراءة السورة كاملة بعد
أم القرآن الاستحباب. والسنة مطلق الزيادة على أم القرآن ولو آية أو بعض
آية له بال كآية الدين والدليل على أن السنة مطلق ما زاد على الفاتحة أن
سجود السهو وعدمه دائر مع ما زاد على الفاتحة لا السورة، فإن أتى بالزائد
فلا سجود وإلا سجد ويؤخذ من قوله: سورة أنه لا يقرأ سورتين في الركعة
الواحدة وهو الأفضل للامام والفذ، ولا بأس بذلك للمأموم والسورة التي
تقرأ في الصبح تكون من (طوال المفصل) بكسر الطاء المهملة وأول
المفصل الحجرات على القول المرتضى ومقابله أقوال: قيل: من الشورى، وقيل
من الجاثية، وقيل من الفتح، وقيل من النجم، وطواله إلى عبس. والغاية
خارجة ومتوسطاته من عبس إلى والضحى، ثم من الضحى إلى الختم. وسمي
مفصلا لكثرة الفصل فيه بالبسملة. (وإن كانت) السورة التي تقرأ في
الركعة الأولى من صلاة الصبح (أطول من ذلك) أي من السورة التي
من طوال المفصل بأن كانت تقرب من السورة التي من طوال المفصل لا
لأنه يقرأ البقرة ونحوها وهذا التطويل إنما هو في حق إمام بقوم محصورين
يرضون بذلك، أو منفرد يقوى على ذلك، وإلا فالأفضل عدم التطويل
(ف‍) - ذلك (حسن) أي مستحب ظاهر عبارته أن السنة لا تحصل إلا بقراءة
سورة من طوال المفصل وأن الاستحباب إنما هو فيما زاد وليس كذلك،
بل السنة تحصل ولو بقراءة آية. (بقدر التغليس) وهو اختلاط الظلمة
بالضياء والضياء بالظلمة بحيث لا يبلغ الاسفار. ويفهم من كلامه أنه إذا لم
يكن تغليس لا يطول. (وتجهر بقراءتها) أي يسن أن تجهر بقراءة السورة
105

التي مع أم القرآن فإن حكمهما واحد في الجهر. (فإذا تمت السورة) التي
مع أم القرآن كبرت (في) حال (انحطاطك) أي انحنائك (إلى الركوع)
أخذ منه ثلاثة أشياء أحدها التكبير وهو سنة وهل جميعه ما عدا تكبيرة
الاحرام سنة واحدة، وبه قال أشهب وعليه أكثر العلماء، أو كل تكبيرة
سنة مستقلة وهو قول ابن القاسم؟ وهو الراجح والدليل على رجحانه أنهم
رتبوا سجود السهو على ترك اثنتين منه. ولو كان مجموعه سنة لما
رتبوا لان شأن البعض أن لا يسجد له فحاصل ما في ذلك أنه على القولين
لو ترك تكبيرة واحدة غير تكبيرة العيد سهوا لا يسجد وإن سجد لها
قبل السلام عمدا أو جهلا بطلت صلاته، وإن ترك أكثر من واحدة ولو
جميعه فإنه يسجد. فلو ترك السجود وطال فهنا يفترق القولان، فعلى القول
بأن الجميع سنة واحدة لا تبطل الصلاة بترك ثلاثة أو أكثر، وعلى القول
الآخر تبطل بترك السجود لما ذكر ثانيها مقارنة التكبير للركوع وهو
مستحب. وهكذا عند كل فعل من أفعال الصلاة إلا في القيام من اثنتين،
فإنه يكون بعد الاستقلال ثالثها الركوع، وهو فرض من فروض الصلاة
المجمع عليها، وله ثلاثة أحوال دنيا ووسطى وعليا. فالدنيا أن يضع يديه قرب
الركبتين، والوسطى أن يضعهما على الركبتين من غير تمكين، وعليا وهي
التي أشار لها المصنف بقوله (فتمكن يديك) يعني كفيك (من ركبتيك)
على جهة الاستحباب إن كانتا سالمتين، ولم يمنع من وضعهما عليهم مانع
فإن كان مانع من قطع أو قصر لم يزد في الانحناء على تسوية ظهره وليست
التسوية واجبة، بل هي مستحبة إذ الواجب مطلق الانحناء، وحيث كان
106

الأكمل وضع يديه على ركبتيه فيندب له تفرقة أصابعهما لما أخرجه الحاكم
والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه، وإذا سجد ضمها. (وتسوي
ظهرك مستويا) أي معتدلا إلى جهة الندب. وجمع المصنف بين وضع اليدين
على الركبتين وتسوية الظهر لعدم استلزام أحدهما للآخر، فتسوية
الظهر لا تستلزم وضع اليدين على الركبتين، ولا وضع اليدين على الركبتين
يستلزم تسوية الظهر، وهل مجموعهما مستحب أو أحدهما على انفراده
مستحب؟ (ولا ترفع رأسك ولا تطأطئه) أي ندبا (وتجافي) أي تباعد
أي ندبا فلا تبطل الصلاة بترك شئ من ذلك، بل يكره فقط (بضبعيك)
بفتح الضاد وسكون الباء أي عضديك (عن جنبيك) ظاهره أنه يباعدهما
جدا، ولكن يفسره قوله بعد يجنح بهما تجنيحا وسطا، وظاهره أيضا أن
ذلك في حق الرجال والنساء، ولكن يفسره قوله بعد غير أنها تنضم، وسكت
عن تسوية الركبتين وهي أن لا يبالغ في الانحناء بجعلهما قائمتين، وسكت
أيضا عن تسوية القدمين، وهي أن لا يقرنهما، وهو مكروه أي الاقران
المفهوم من يقرن، فعدم الاقران مندوب. (وتعتقد) بقلبك (الخضوع)
أي التذلل (بذلك) حكم هذا الاعتقاد الندب كما هو مشهور عند الفقهاء،
وقال ابن رشد: هو من فرائضها التي لا تبطل الصلاة بتركها، فهو واجب
في جزء منها وينبغي أن يكون عند الاحرام (بركوعك وسجودك
ولا تدعو في ركوعك) والأقرب أن يكون قوله بركوعك هو
107

مفسر الإشارة في قوله: وتعتقد الخضوع بذلك خلافا لمن جعل تفسير
الإشارة ما ذكر من تسوية الظهر وما ذكر بعده ويكره الدعاء في الركوع
لما صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما
السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم أي حقيق أن
يستجاب لكم. (وقل إن شئت: سبحان ربي العظيم وبحمده) ليس التخيير
بين الفعل والترك بل التخيير بين هذا القول وغيره من ألفاظ التسبيح،
فأي لفظ قاله كان آتيا بالمندوب لما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه
وسجوده سبوح قدوس رب ألم. ملائكة والروح (وليس في ذلك) أي في
عدد ما يقول في الركوع والسجود (توقيت قول) أي تحديد ما يقوله
لقوله عليه الصلاة والسلام: أما الركوع فعظموا فيه الرب ولم يعلق ذلك بحد
واستحب الشافعي أن يسبح ثلاثا لما في أبي داود والترمذي أنه عليه
الصلاة والسلام قال: إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم
ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى
ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه. (ولا حد في اللبث)
أي المكث في الركوع يريد في أكثره أي الزائد على الطمأنينة التي هي
فرض، ومحصله أن عدم التحديد في حق الامام ما لم يضر بالناس. وفي الفذ
ما لم يطول جدا وإلا كره أي في الفريضة، وله في النافلة التطويل ما شاء. وأما
أقله فسيذكره بعد أي بقوله أن تطمئن مفاصلك. (ثم) إذا فرغت من
التسبيح في الركوع (ترفع رأسك وأنت قائل) على جهة السنية (سمع
108

الله لمن حمده) يعني أجاب دعاء من حمده فإن قلت قد قدرت دعاء فأين
هو حتى يستجاب أولا قلت: إن الحامد بحمده يطلب الفضل من ربه، فهو
داع أعني وتقول ذلك إن كنت إماما أو فذا (ثم تقول) مع ذلك (اللهم
ربنا ولك الحمد) أي تقبل ولك الحمد على قبولك أو على توفيقك لي بأداء
تلك العبادة (إن كنت وحدك) أو خلف إمام (ولا يقولها الامام)
بل يقتصر على قول سمع الله لمن حمده (ولا يقول المأموم سمع الله لمن
حمده و) إنما (يقول اللهم ربنا ولك الحمد) والأصل في هذا التفصيل ما في الموطأ
وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا
لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الإمام غفر له ما تقدم من ذنبه أي
الصغائر، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو عفو الله. وفي رواية للترمذي
ولك الحمد. وهذا الحديث يقتضي أن الامام لا يقول: ربنا ولك الحمد، وأن
المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده. (و) إذا رفعت رأسك من الركوع
فإنك (تستوي قائما مطمئنا) أخذ منه شيئان الطمأنينة وهي فرض
وسيأتي الكلام عليها، والاعتدال وهو سنة عند ابن القاسم في سائر أركان
الصلاة، وفرض عند أشهب، وصحح. والفرق بين الطمأنينة والاعتدال أن الاعتدال
نصب القامة، والطمأنينة استقرار الأعضاء زمنا ما. (مترسلا)
مرادف لمطمئنا، وقيل معناه متمهلا أي زيادة على الطمأنينة. (ثم) بعد
109

رفعك من الركوع (تهوي) بفتح التاء المثناة فوق أي تنزل إلى الأرض
(ساجدا) أي ناويا السجود، فيكون سجودك من قيام لفعله عليه الصلاة
والسلام ذلك. والسجود فرض بلا خلاف (ولا تجلس) في هويك (ثم
تسجد) حتى يكون سجودك من جلوس كما يقول بعض أهل العلم، أفاد
في التحقيق أن منهم الشافعي رضي الله عنه حيث يقول إن الجلوس قبل
السجود بوجه خفيف جدا من سنته وحجة بعض أهل العلم فعله صلى الله عليه وسلم
ذلك. وحجة من نفى الجلوس قبل السجود ما روي عن عائشة رضي الله
عنها أنه فعل ذلك في آخر أمره لما بدن أي ثقلت حركة أعضائه الشريفة
لارتفاع سنه أي ففعل ذلك لعذر، فينتفي عند انتفاء لعذر. وهذا
الجلوس إن وقع سهوا ولم يطل لم يضر، وإن طال سجد له، وإن كان عمدا
فاختلف فيه، والمشهور إن لم يطل لم يضر، وإن طال ضر. ويعتبر الطول
بحيث يعد الرائي له أنه معرض عن الصلاة. (وتكبر في) حال (انحطاطك
للسجود) على جهة السنية لتعمر الركن بالتكبير ولم يذكر ما يسبق به
إلى الأرض. والمستحب تقديم اليدين على الركبتين إذا هوى للسجود
وتأخيرهما عن الركبتين عند القيام لامره عليه الصلاة والسلام بذلك،
وبه عمل أهل المدينة. وأما ما رواه أصحاب السنن من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا
سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض يرفع يديه قبل ركبتيه فقال
الدارقطني: تفرد به شريك وشريك فيه مقال. وزعم بعض أنه حديث منسوخ
(و) إذا سجدت فإنك (تمكن جبهتك وأنفك من الأرض) الجبهة هي
مستدير ما بين الحاجبين إلى الناصية. والتمكين أن يضعهما على أبلغ
110

ما يمكنه وهذا على جهة الاستحباب. وأما الواجب من ذلك فيكفي فيه
وضع أيسر ما يمكن من الجبهة. وإذا وضع جبهته على الأرض فلا يشدها بالأرض
جدا حتى يؤثر ذلك فيها أي يكره ذلك لأنه من فعل الجهال الذين لا علم
عندهم وضعفة النساء، أي لان الشأن فيهم ذلك وإن كان عندهم علم
والسجود على الجبهة والأنف واجب، فإن اقتصر على أحدهما ففيه أقوال
مشهورها إن اقتصر على أنفه لم يجزه ويعيد أبدا، وإن اقتصر على
جبهته أجزأه وأعاد في الوقت، وهل الاختياري أو الضروري قيل بكل
منهما، وهذا إن كانت الجبهة سالمة. وأما إن كان بها قروح فقال في المدونة:
أومأ ولم يسجد على أنفه لان السجود على الانف إنما يطلب تبعا للسجود
على الجبهة فحيث سقط فرضها سقط تابعها فإن وقع وسجد على أنفه فقال
أشهب: يجزئه لأنه زاد على الايماء، فإن سجد على كور عمامته بفتح
الكاف ففي المدونة يكره ويصح، أي إذا كان قدر الطاقة والطاقتين
اللطيفتين بأن تكون من الشاش الرفيع. (وتباشر) في سجودك أي من
غير حائل (بكفيك الأرض) على جهة الاستحباب. وإنما استحب المباشرة
بالوجه واليدين لان ذلك من التواضع، ولأجل ذلك كره السجود على ما فيه
ترفه وتنعم من صوف وقطن، واغتفر الحصير لأنه كالأرض، والأحسن تركه
فالسجود عليه خلاف الأولى (باسطا يديك) تكرار مع قوله وتباشر
بكفيك الأرض لان مباشرة الأرض بالكفين لا تكون إلا مع بسطهما،
ويقال إنه كرره لأجل التأكيد (مستويتين للقبلة) أي ندبا وعلل ذلك
القرافي بأنهما يسجدان فيتوجهان لها. وأما السجود نفسه على اليدين
111

كالركبتين وأطراف القدمين فسنة (تجعلهما حذو أذنيك أو دون ذلك)
أشار إلى أنه لا تحديد في موضع وضع اليدين لقول المدونة: لا تحديد في ذلك.
(وكل ذلك واسع) أي جائز يعني أن وضع يديه حذو أذنيه أو دون ذلك
من الأمور الجائزة لا من الواجبة حتى يترتب على تركها فساد بل لو خالف
فقد ارتكب مكروها فقط. (غير أنك لا تفترش ذراعيك في الأرض) لما
صح أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وفي رواية
افتراش الكلب، أي يكره أن يفترش الرجل ذراعيه بالأرض في حال
سجوده كما يكره له افتراشهما على فخذيه (ولا تضم عضديك إلى جنبيك
) أي ينهى على جهة الكراهة أن يضم الرجل في حال سجوده عضديه
إلى جنبيه. (لكن يجنح بهما تجنيحا وسطا) أي يستحب للرجل خاصة
أن يباعد بين عضديه وجنبيه كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم
كان إذا سجد جافى بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه. (وتكون رجلاك
في سجودك قائمتين وبطون إبهاميهما إلى الأرض) وكذلك بطون سائر
الأصابع، ويزاد على هذا الوصف أن يفرق بين ركبتيه، وأن يرفع بطنه
عن فخذيه. ودليل ذلك من السنة ما روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا
سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شئ من فخذيه. (وتقول إن
112

شئت في سجودك: سبحانك ربي ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي أو)
تقول (غير ذلك إن شئت) التخيير الأول بين القول والترك، والثاني بين
هذا القول وغيره من الأذكار. وفي التخيير الأول إشارة للرد على من يقول:
التسبيح واجب. وفي التخيير الثاني إشارة إلى الرد على من يقول: لا بد من
هذا القول. أي وإن كان يقول بأن التسبيح مندوب إلا أنه لا بد من هذا
القول. فلا يتحقق المندوب إلا به. والحاصل أن التسبيح في السجود مندوب
عند المصنف وغيره وعبارة التخيير المفيدة بحسب ظاهرها استواء الطرفين
إنما هي إشارة إلى الرد فقط. (وتدعو في السجود إن شئت) أي يستحب
أن يدعو بدعاء القرآن وغيره، لكن لا بد أن يكون بأمر جائز شرعا،
وعادة لا يمتنع، وإن لم تبطل الصلاة به، وليس هذا تكرارا مع الذي قبله
لان هذا دعاء مجرد عن التسبيح (وليس لطول ذلك) السجود (وقت)
أي حد في الفريضة. أما في حق المنفرد ما لم يطل جدا فإن طال كره وأما في
النافلة فلا بأس به، وفي حق الامام ما لم يضر بمن خلفه. (وأقله) أي أقل
ما يجزئ من اللبث في السجود (أن تطمئن) أي تستقر (مفاصلك) عن
الاضطراب اطمئنانا (متمكنا) والمفاصل جمع مفصل بفتح الميم وكسر الصاد
ملتقى الأعضاء. وأما مفصل بكسر الميم وفتح الصاد فهو اللسان. فالطمأنينة
فرض في السجود وفي سائر أركان الصلاة ولكن لا يؤخذ من الرسالة
وجوب الطمأنينة إلا من هذا الموضع، حيث جعلها أقل ما يجزئ في السجود
113

الذي هو واجب، فتكون فرضا لان ما يتوقف عليه الواجب الذي
هو السجود فهو واجب. واختلف في الزائد على الطمأنينة، فالذي
مشى عليه صاحب المختصر أنه سنة، وانظر ما قدر الزائد في حق الفذ
والإمام والمأموم، وهل هو مستو فيما يطلب فيه التطويل وفي غيره، أم لا،
كالرفع من الركوع ومن السجود، وكلام المختصر يقتضي استواءه في جميع
ما ذكر. (ثم) إذا فرغت من التسبيح والدعاء في السجود (ترفع رأسك
بالتكبير) أي مصاحبا له. وهذا الرفع فرض بلا خلاف إذ لا يتصور تعدد
السجود بغير فصل بينهما وبعد أن ترفع رأسك. (ف‍) - إنك (تجلس) وجوبا
معتدلا (فتثني) أي تعطف (رجلك اليسرى في جلوسك بين السجدتين
وتنصب) أي تقيم رجلك (اليمنى و) تكون (بطون أصابعها إلى الأرض)
لا مفهوم لقوله في جلوسك بين السجدتين إذ جلوسه حال التشهد كذلك.
وأما جلوس من يصلي قاعدا حال القراءة والركوع فهو التربيع استحبابا.
وسكت عن قدم اليسرى أين يضعها. قال عبد الوهاب: يضعها تحت ساقه
الأيمن، وقيل: بين فخذيه، وقيل: خارجا. والرجال والنساء في ذلك سواء. (و)
إذا رفعت رأسك من السجود فإنك أيضا (ترفع يديك عن الأرض)
فتجعلهما (على ركبتيك) أي على قريب من الركبتين. قال في الجوهر:
ويضع يديه قريبا من ركبتيه مستويتي الأصابع. وإذا لم يرفعهما عن
الأرض ففي بطلان صلاته قولان أشهرهما البطلان، والأصح على ما قال القرافي
114

عدم البطلان، وهو المعتمد لان هذا الرفع عن الأرض مستحب فقط،
وليس من مبطلات الصلاة ترك المستحب. (ثم) بعد أن ترفع رأسك من
السجدة الأولى مع رفع يديك (تسجد) السجدة (الثانية كما فعلت أولا)
في السجدة الأولى من تمكين الجبهة والأنف من الأرض وقيام القدمين
ومباشرة الأرض بالكفين وغير ذلك. (ثم) بعد فراغك من السجدة
الثانية (تقوم من الأرض كما أنت معتمدا على يديك) أي حالة كونك
ثابتا على ما أنت عليه من عدم الجلوس. وأشار بقوله كما أنت إلى رد قول
الحنفية لا يقوم معتمدا. قال ابن عمر: إن جلس ثم قام، فإن كان عامدا
استغفر الله ولا شئ عليه، وإن كان ناسيا سجد بعد السلام. والمعتمد لا سجود
عليه. (لا ترجع جالسا لتقوم من جلوس) إشارة إلى مخالفة الشافعية
القائلين إنه يقوم إلى الركعة الثانية والرابعة من جلوس على جهة السنة.
(ولكن) الفضيلة عندنا في الرجوع إلى القيام (كما ذكرت لك
في السجود) لا حاجة له بعد ما تقدم من قوله ثم تقوم من الأرض كما أنت
معتمدا على يديك (وتكبر في حال قيامك) لان التكبير عند الحركة
والشروع في أفعال الصلاة مستحب (ثم) بعد أن تنتصب قائما وتفرغ
من التكبير (تقرأ) الفاتحة ثم تقرأ معها سورة (كما قرأت في الركعة
الأولى) أي بحيث تكون الثانية كالأولى في الطول (أو دون ذلك)
115

أي بحيث تكون الثانية أقصر من الأولى. وكلا المقروأين من طوال المفصل
سواء كانت الثانية مماثلة للأولى في الطول، أو أقصر منها. وتعقب المصنف
الفاكهاني بأن المستحب أن تكون الركعة الأولى أطول من الثانية، ودليله
في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يطول في الأولى ويقصر في الثانية. ويجاب عن
اعتراض الفاكهاني بأن أو بمعنى بل والاضراب إبطالي، والمراد بكون الأولى
أطول من الثانية زمنا وإن كانت القراءة في الثانية أكثر من الأولى
بأن رتل في الأولى. ويستحب أن يقرأ على نظم المصحف، ويكره التنكيس،
فإن نكس فلا شئ عليه إن فعل التنكيس المكروه كتنكيس السور
أو قراءة نصف سورة أخير ثم نصفها الأول كان ذلك في ركعة أو ركعتين.
وأما إذا فعل التنكيس الحرام فتبطل الصلاة كتنكيس آيات سورة
واحدة بركعة واحدة. (وتفعل مثل ذلك سواء) الظاهر أن الإشارة راجعة
لجميع ما تقدم وعليه يكون قوله بعد ثم تفعل في السجود والجلوس كما تقدم
من الوصف تكرارا. (غير أنك تقنت) في الركعة الثانية (بعد) الرفع
من (الركوع وإن شئت قبل الركوع بعد تمام القراءة) اختلف في
زمان القنوت هل هو قبل الركوع أو بعده وفي حكمه هل هو فضيلة
أو سنة؟ فعلى أنه سنة فإن تركه ولم يسجد له بطلت صلاته، وعلى أنه فضيلة
فإن سجد له بطلت صلاته إن كان السجود قبل السلام. وظاهر كلام
المصنف أنه بعد الركوع أفضل، وهو قول ابن حبيب، والمشهور أنه قبل
الركوع أفضل لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم سئل أهو قبل أم بعد؟ فقال: قبل،
ولما فيه من الرفق بالمسبوق، ولأنه الذي استقر عليه عمر رضي الله عنه
116

بحضور الصحابة. والمشهور أنه لا يرفع يديه كما لا يرفع في التأمين ولا في
دعاء التشهد، والاسرار به أفضل لأنه دعاء وإذا نسيه قبل الركوع أتى به
بعده، ولا يرجع له من الركوع إذا تذكر فإن رجع فسدت صلاته لأنه
يرجع من فرض إلى مستحب. واختلف في المسبوق بركعة فقيل: يقنت في قضائها، وقيل: لا يقنت.
وهو المشهور وجه ذلك بأنه يقضي الركعة الأولى
وهي لم يكن فيها قنوت، والذي يقتضيه النظر أنه يقنت في ركعة القضاء
لأنه من باب البناء في الافعال. (والقنوت) أي لفظه المختار عند المالكية
(اللهم) أي يا الله (إنا نستعينك) أي نطلب معونتك على طاعتك
(ونستغفرك) أي نطلب منك المغفرة وهي الستر على الذنوب لا تؤاخذنا
بها (ونؤمن بك) أي نصدق بما يجب لك. (ونتوكل) أي نعتمد (عليك)
في أمورنا. قيل: الصحيح أن قوله ونتوكل عليك، زيد في الرسالة وليس منها
وفي رواية: ونثني عليك الخير بعد قوله ونتوكل عليك. وما يجري على ألسنة
العامة من لفظ كله بعد قوله الخير غير مثبت في الرواية مع أن العبد
لا يطيق كل الثناء عليه فتركه خير. (ونخنع) أي نخضع ونذل (لك
ونخلع) الأديان كلها لوحدانيتك (ونترك من يكفرك) أي يجحدك
ويفتري عليك الكذب (اللهم) أي يا الله (إياك نعبد) أي لا نعبد إلا
إياك واستفيد الحصر من تقديم المعمول (ولك نصلي ونسجد) ذكر الصلاة
بعد دخولها في قوله إياك نعبد لشرفها وذكر السجود مع دخوله في الصلاة
117

لشرفه فإنه أشرف أجزاء الصلاة (وإليك نسعى) أي نعمل الطاعات من
السعي للجمعة والحج والعمرة، والسعي بين الصفا والمروة (ونحفد) بفتح
الفاء وكسرها وبالدال المهملة أي نسرع في العمل (نرجو رحمتك) أي
نطمع في نعمتك وهي الجنة، والطمع فيها إنما يكون بامتثال الامر بالعمل
وأما بالقلب واللسان من غير عمل، فهو رجاء الكذابين (ونخاف عذابك
الجد) بكسر الجيم أي الحق الثابت (إن عذابك بالكافرين ملحق)
بكسر الحاء بمعنى لاحق اسم فاعل من ألحق اللازم بمعنى لحق. ويجوز
أن يكون اسم فاعل من الحق المتعدي أي ملحق بهم الهوان. (ثم) إذا
فرغت من قراءة القنوت فإنك تهوي ساجدا لا تجلس، ثم تسجد، و (تفعل في
السجود والجلوس) بين السجدتين (كما تقدم من الوصف) ففي السجود
تمكن جبهتك وأنفك من الأرض، إلى آخر ما تقدم، وفي الجلوس تثني رجلك،
إلى آخر ما تقدم (فإذا جلست بعد السجدتين) من الركعة الثانية للتشهد
(نصبت رجلك اليمنى) أي قدمها (و) جعلت (بطون أصابعها إلى الأرض
وثنيت) أي عطفت رجلك (اليسرى وأفضيت) أي ألصقت (بأليتيك)
118

أي مقعدتك اليسرى (إلى الأرض) وهي الرواية الصحيحة، ويروى
بأليتيك وهي خطأ، لأنه إذا جلس عليهما كان إقعاء، أي شبيها به، وهو
مكروه، وإنما كان شبيها بالاقعاء، ولم يكن إقعاء لان حقيقة الاقعاء أن يلصق
أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض، كما يقعي الكلب.
(ولا تقعد على رجلك اليسرى) أي قدمك اليسرى، قال تت: أشار بذلك
إلى أبي حنيفة القائل بأنه يجلس على قدمه الأيسر، والصفة التي ذكرها مثلها
في المدونة في جميع جلوس الصلوات (وإن شئت حنيت اليمنى في انتصابها
فجعلت جنب بهمها) فقط (إلى الأرض) وتترك القدم قائما. وما ذكره الشيخ
مخالف للباجي القائل بأن باطن إبهامها يكون مما يلي الأرض لا جنبها، وهو
الراجح (فواسع) أي جائز (ثم) إذا جلست بعد السجدتين من الركعة
الثانية على الصفة المتقدمة (تتشهد والتشهد) أي لفظه المختار عندنا
معاشر المالكية (التحيات) أي الألفاظ الدالة على الملك أي ملك مستحقة
بفتح الحاء (لله) تعالى (الزاكيات) أي الناميات، وهي الأعمال الصالحة وحذف
الواو اختصارا، وهو جائز معروف في اللغة تقديره: والزاكيات، ونسبة الزكاء
إلى الأعمال إما على تقدير أي التي يزكو جزاؤها أو تزكو هي نفسها أي
تزيد، لان تحسين العمل سبب في التوفيق لزيادته (لله) تعالى (الطيبات)
أي الكلمات الطيبات، وهي ذكر الله وما والاه أي المذكور المتعلق بالله
لان الكلمات ليست هي نفس الذكر لأنه الفعل. ولم يقل الطيبات لله كما
119

قال في غيرها لأنه يوهم المستلذات، وهي لا تليق به. (الصلوات) الخمس (لله)
تعالى (السلام) قيل: إنه اسم من أسمائه تعالى وقيل مصدر. والأصل يسلم
الله عليك سلاما ثم نقل من الدعاء إلى الخبر. (عليك) أي الله حفيظ
وراض عليك (أيها النبي ورحمة الله) زاد في بعض روايات الموطأ
(وبركاته) أي خيراته المتزايدة (السلام) أي أمان الله (علينا وعلى عباد
الله الصالحين) أي المؤمنين من الإنس والجن والملائكة (أشهد) أي
أتحقق (أن لا إله إلا الله) زاد في بعض الروايات (وحده لا شريك له)
في أفعاله (وأشهد) أي أتحقق (أن محمدا عبد الله) بصيغة الاسم الظاهر
والذي في المدونة وهو في بعض لنسخ عبده (ورسوله) بالضمير (فإن
سلمت بعد هذا) أي بعد وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله (أجزأك)
أي كفاك ولا مفهوم له، بل وكذلك لو قال بعضه أو تركه جملة. قال ابن
ناجي: أي على أحد القولين، وكذا لو قال غيره، ولا يصح أن تقول أجزأك
أي على جهة الكمال، لأنه لم يذكر الصلاة على النبي فالحق أنه وصف
طردي، أي لا مفهوم له. (ومما تزيده إن شئت وأشهد أن الذي جاء به محمد حق)
أي ثابت (و) أشهد (أن الجنة حق وأن النار حق) أي أتحقق أنهما
120

مخلوقان الآن (و) أشهد (أن الساعة) أي القيامة (آتية لا ريب فيها)
خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه (و) أشهد (أن الله يبعث من في
القبور) أي يبعث الأموات من قبورهم للعرض على الحساب (اللهم) أي يا الله
(صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا وآل محمد، وبارك على محمد وعلى
آل محمد كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين
إنك حميد مجيد اللهم صل على ملائكتك المقربين) وفي نسخة والمقربين
بزيادة واو العطف (و) صل (على أنبيائك المرسلين) وروي أيضا بإثبات
الواو وهو الأكثر في الموضعين (و) صل (على أهل طاعتك أجمعين)
وهم القائمون بما وجب عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده. قال
الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا الاسلام الذي سلمه الخلق في صلاتهم
فليكن عبدا صالحا وإلا حرم هذا الفضل العظيم. (اللهم) أي يا الله
(اغفر لي ولوالدي) المؤمنين (و) اغفر (لأئمتنا) هم العلماء.
121

(و) اغفر (لمن سبقنا بالايمان) وهم الصحابة (مغفرة عزما) أي قطعا أي مقطوعا
بها لان من صفة المغفرة التي تكون منك يا رب أنها مقطوع بها (اللهم
إني أسألك من كل خير سألك منه محمد نبيك) وهذا حديث صحيح أخرجه
الترمذي، والدعاء به مندوب، وهو عام أريد به الخصوص، إذ الشفاعة العظمى
مختصة به صلى الله عليه وسلم لا يشاركه غيره فيها، أي وغيرها من كل ما اختص به
صلى الله عليه وسلم (وأعوذ) أي أتحصن بك (من كل شر استعاذك منه محمد نبيك)
صلى الله عليه وسلم (اللهم) أي يا الله (اغفر لنا ما قدمنا) أي من الذنوب (و) اغفر لنا
(ما أخرنا) من الطاعات عن أوقاتها (و) اغفر لنا (ما أسررنا) أي
أخفينا من المعاصي عن الخلق (و) اغفر لنا (ما أعلنا) أي أظهرنا
للخلق من المعاصي (و) اغفر لنا (ما أنت أعلم به منا) أي ما وقع منا
ونحن جاهلون بحكمه أو وقع منا عمدا ونسيناه فأفعل التفضيل ليس على
بابه. (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) هي خير الدنيا من الاستقامة والعافية
والسير على نهج الشرع القويم (وفي الآخرة حسنة) هي المغفرة بقرينة
الآية التي بعدها (وقنا عذاب النار) أي اجعل بيننا وبينها وقاية وليس
إلا المغفرة (وأعوذ بك من فتنة المحيا) أي أتحصن بك أن أفتتن بأعمال
122

السوء التي ترث والعياذ بالله سوء المنقلب (والممات) وأعوذ بك من فتنة
الممات، وهي والعياذ بالله التبديل عند الاحتضار، وذلك أن الانسان إذا كان
عند الموت قعد معه شيطانان أحدهما عن يمينه والآخرة عن شماله، فالذي عن
يمينه على صفة أبيه يقول يا بني إنك لتعز علي وإني عليك لشفيق، ولكن
مت على دين النصارى فهو خير الأديان، والذي عن شماله على صفة أمه يقول
يا بني مت على دين اليهود فهو خير الأديان، فإن كان ممن يتولى قبض روحه
ملائكة الرحمة فإنهم إذا نزلوا فر الشيطان ومات على الاسلام. قاله ابن عمر
(و) أعوذ بك (من فتنة القبر) وهي عدم الثبات عند سؤال الملكين
أي عدم رد الجواب حين يقول له الملك من ربك وما دينك الخ أي فلا
يجيب بقوله ربي الله. (و) أعوذ بك (من فتنة المسيح) بالحاء المهملة
على الصحيح وبالخاء المعجمة جعله التتائي تصحيفا وهي فتنة عظيمة لأنه
يدعي الربوبية وتتبعه الأرزاق فمن تبعه كفر والعياذ بالله، وهو يسلك
الدنيا كلها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس وجبل الطور، فإن الملائكة
تطرده عن هذه المواضع ويبقى في الدنيا أربعين يوما، فقد روى مسلم
أنه صلى الله عليه وسلم قال: يثبت الدجال في الأرض أربعين يوما يوم كسنة ويوم
كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي
كسنة يكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا أقدروا له قدره وسمي مسيحا لأنه
يمسح الأرض في زمن قصير، وهو الأربعون يوما المذكورة في الحديث.
وصفه بالدجال لأنه يغطي الحق بالباطل، مأخوذ من دجل إذا ستر وغطى،
وللفرق بينه وبين عيسى عليه السلام. وسمي عيسى عليه السلام مسيحا
لسياحته في الأرض لأجل الاعتبار. فعيسى عليه السلام مسيح الهدى
123

والدجال مسيح الضلال (و) أعوذ بك (من عذاب النار وسوء المصير)
أي سوء المرجع أي الرجوع إلى الله (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) ظاهره أن المصلي إذا فرغ
من الدعاء فلا يأتي بتسليمة التحليل حتى يقول على جهة الاستحباب: السلام
عليك أيها النبي الخ، وأن ذلك مطلوب من كل مصل، وهو خلاف المشهور،
بل المشهور ما حكاه القرافي أنه لا يعيد التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا. وعن
مالك يستحب للمأموم إذا سلم إمامه أن يقول: السلام عليك الخ. والحاصل
أن هذه الزيادة ضعيفة، ومع ضعفها هي خاصة بالمأموم، كما قال الامام مالك
رحمه الله. (ثم) بعد ذلك تسلم تسليمة التحليل، ف‍ (تقول السلام عليكم)
وهذا السلام فرض بلا خلاف على كل مصل إمام وفذ ومأموم، لا يخرج
من الصلاة إلا به، ويتعين له اللفظ الذي ذكره الشيخ، أي بالتعريف
والترتيب وصيغة الجمع. فلو قال: عليكم السلام، أو سلامي عليكم، أو سلام الله
عليكم، أو أسقط أل لم يجزه. وهل يفتقر إلى نية الخروج من الصلاة أم لا؟
قولان مشهوران والراجح كما يفيده كلام ابن عرفة عدم الاشتراط، لكن
يندب الاتيان بها نعم من عجز عن تسليمة التحليل جملة خرج من الصلاة
بنيته، وحينئذ تكون نية الخروج واجبة ولا يسقط عنه السلام بالعجز
عن بعضه حيث كان ما يقدر عليه له معنى. (تسليمة واحدة عن يمينك
124

تقصد بها قبالة وجهك وتتيامن برأسك قليلا هكذا يفعل الامام والرجل
وحده) يعني أن صفة السلام تختلف باختلاف المصلي، فإن كان إماما أو فذا
فالمطلوب من كل منهما أن يأتي بتسليمة واحدة جهة وجهه ح، ويتيامن برأسه
قليلا، فهو يبدأ بها إلى القبلة ويختم بها مع التيامن بقدر ما ترى صفحة
وجهه على جهة الندب. ويسن الجهر بتسليمة التحليل لكل مصل. وأما
تسليمة غيره ولا يتصور إلا من المأموم، فالأفضل فيها السر وهذا في حق
الرجل الذي ليس معه من يحصل بجهره التخليط عليه. وأما المرأة فجهرها
أن تسمع نفسها. ويندب الجهر بتكبيرة الاحرام في حق كل مصل كغيرها
للامام بخلاف المأموم كالفذ، ويستحب للامام جزم التسليم كتكبيرة الاحرام
لئلا يسبقه المأموم فيهما. والمراد به الاسراع من غير مد، وإنما طلب من
الامام والفذ الابتداء بها إلى القبلة لأنهما مأموران بالاستقبال في سائر
أركان الصلاة والسلام من جملة أركانها إلا أنه لما كان يخرج به من الصلاة
ندب انحرافه في أثنائه إلى جهة مينه، فلو سلم على يساره قاصدا التحليل
ولم يسلم على يساره لم تبطل صلاته على المشهور، لأنه إنما ترك التيامن وهو
فضيلة، وأما لو سلم المأموم على اليسار قاصدا الفضيلة ونيته العود إلى تسليمة
التحليل، ويعتقد أن تسليمة اليسار فضيلة لا تخرج من الصلاة فإن طال
الامر قبل عوده إلى تسليمة التحليل بطلت صلاته فإن لم يطل فلا بطلان
لان التسليم على اليسار للفضيلة ليس كالكلام الأجنبي قبل تسليمة التحليل،
لأنه لما فعله مع قصد الاتيان بتسليمة التحليل عقبه صار كمن قدم فضيلة
125

على فرض وأما المأموم (ف‍) - صفة سلامه أن يسلم تسليمة واحدة (يتيامن
بها قليلا) أي يوقع جميعها على جهة يمينه فهو مخالف للامام والفذ.
والفرق بينه وبينهما أن سلامهما وردهما معتبر في الصلاة، فاستقبلا في أوله
القبلة كسائر أفعال الصلاة. وأما المأموم فقد سلم إمامه، وهو تبع له فهو في
معنى من انقضت صلاته. (ويرد أخرى على الامام قبالته) أي قبالة الامام
أي يسن للمأموم أن يأتي بتسليمة أخرى غير تسليمة التحليل يوقعها
جهة الامام، ولا يتيامن ولا يتياسر بها. (يشير بها إليه) أي بقلبه، وقيل
برأسه إن كان أمامه. ومحل الخلاف حيث كان أمامه، فإن كان خلفه أو
على يمينه أو على يساره فالإشارة بقلبه اتفاقا. (ويرد على من كان يسلم
عليه على يساره) أي يسن للمأموم أن يرد على يساره إن كان على يساره
أحد، وظاهره أنه لا يسلم على يساره إلا إذا سلم الذي على يساره عليه، وأنه
لو فرض أنه لم يسلم عليه لذهوله عن السلام مثلا أنه لا يسلم عليه، وليس
كذلك (فإن لم يكن سلم عليه أحد لم يرد على يساره شيئا) أي أن محل
طلب رد السلام من المأموم على جهة اليسار إن كان على يساره أحد
أدرك فضل الجماعة. وأما إن لم يكن على يساره من أدرك فضل الجماعة
بأن لم يكن هناك أحد أو كان هناك مسبوق لم يدرك ركعة مع الامام،
فلا يطالب بالرد. قال بهرام: وهل يرد المسبوق الذي أدرك فضل الجماعة
على الامام وعلى من كان سلم على يساره إذا فرغ من الصلاة أم لا لفوات
126

محله روايتان والذي اختاره ابن القاسم وهو المعتمد الرد ولو انصرف من
على يساره (ويجعل يديه في تشهديه) وفي نسخة في تشهده أي ندبا (على
فخذيه) تثنية فخذ وهما قريبتان من ركبتيه، وهذا الجعل مختلف، أما
كيفيته في اليمنى فأشار إليه بقوله: (ويقبض يده اليمنى ويبسط) أي يمد
(السبابة) وهي التي تلي الابهام سميت بذلك لان العرب كانوا يتسابون
بها، وتسمى أيضا الداعية لأنها يشار بها عند الدعاء والمسبحة للإشارة
بها للتوحيد ومذبة للشيطان في مسلم أنه مذبة للشيطان لا يسهو
أحدكم ما دام يشير بأصبعه. ومذبة بالذال المعجمة والباء الموحدة
المشددة آخره تاء أي مطردة. (يشير بها) أي السبابة الإشارة صفة
زائدة على البسط فالبسط المد، والإشارة زائدة على ذلك، وهي تتضمن
البسط والبسط لا يتضمنها. (وقد نصب حرفها) أي جنبها (إلى وجهه)
أي قبالة وجهه، واحترز بذلك من أن يبسطها وباطنها إلى الأرض
وظاهرها إلى وجهه وبالعكس. (واختلف في تحريكها) فقال ابن القاسم:
يحركها، وهو المعتمد. وقال غيره: لا يحركها وعلى القول بأنه يحركها فهل في
جميع التشهد أو عند الشهادتين فقط قولان اقتصر في المختصر على الأول.
وظاهر كلام ابن الحاجب أن الثاني هو المشهور وعلى القولين فهل يمينا
وشمالا أو أعلى وأسفل؟ قولان. (فقيل يعتقد بالإشارة بها) أي بنصبها من
غير تحريك (إن الله إله واحد و) قيل (يتأول) أي يعتقد.
127

(من يحركها أنها مقمعة) أي مطردة (للشيطان) فقد قال ابن العربي: المقمعة
بفتح الميم إذا جعلتها محلا لقمعه، وإن جعلتها آلة لقمعه قلت: مقمعة بكسر
الميم الأولى، وهي خشبة يضرب بها الانسان على رأسه ليذل ويهان.
(و أحسب) أي أظن (تأويل) أي معنى (ذلك) التحريك (أن يذكر
بذلك) التحريك (من أمر) أي شأن (الصلاة ما يمنعه إن شاء الله)
تعالى أي شيئا يمنعه وهذا الشئ كونه في صلاة (عن السهو) أي عن
الذهول (فيها) أي في الصلاة (و) ما يمنعه عن (الشغل عنها) أي عن
الاشتغال عنها بأمر وهو ما يشغل به قلبه خارج الصلاة (ويبسط) أي
يمد (يده اليسرى على فخذه الأيسر ولا يحركها) أي سبابتها ولا يشير
بها، ولو قطعت يمناه. (ويستحب الذكر بإثر الصلوات) المفروضات من غير
فصل بنافلة لما رواه أبو داود أن رجلا صلى الفريضة فقام يتنفل فجذبه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأجلسه وقال له: لا تصل النافلة بإثر الفريضة
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت يا ابن الخطاب أصاب الله بك أي
أوقع الصواب متلبسا بك أي على يديك والذكر يكون بالألفاظ المسموعة
من الشارع منها أنه (يسبح الله ثلاثا وثلاثين) تسبيحة (ويحمد الله
128

ثلاثا وثلاثين) تحميدة (ويكبر الله ثلاثا وثلاثين) تكبيرة (ويختم
المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ
قدير) هذه الرواية هي الصحيحة بترك يحيي ويميت، وقدم التحميد على
التكبير، وعكس في باب السلام والاستئذان، وإنما فعل ذلك لينبه على أنه
وقع في الحديث كذلك. ففي الصحيحين مثل ما هنا، وفي الموطأ مثل ما في
باب السلام والاستئذان. وظاهر كلامه أنه يقول: سبحان الله والحمد لله والله
أكبر ثلاثا وثلاثين مجموعة لأنه أتى بالواو لا بثم، واختاره جماعة منهم ابن
عرفة، ومنهم من اختار أن يقولها مفرقة فيقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين
والحمد لله كذلك، والله أكبر كذلك. (ويستحب بإثر صلاة الصبح التمادي
في الذكر والاستغفار والتسبيح والدعاء) يظهر من كلامه أن الذكر
خلاف الاستغفار والتسبيح والدعاء، قال بعضهم: يعني بالذكر قراءة
القرآن. وقال بعضهم: تفسير الذكر ما بعده، فكأنه يقول: وهو الاستغفار الخ.
(إلى طلوع الشمس أو قرب طلوعها) والأصل في ذلك ما رواه الترمذي
وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: من صلى الفجر في جماعة ثم قعد
يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة تامة
129

وعلى هذا مضى عمل السلف رضي الله عنهم كانوا يثابرون على الاشتغال
بالذكر بعد صلاة الصبح إلى آخر وقتها (وليس بواجب) نبه به على
خلاف أهل الظاهر وإلا فهو مستغنى عنه بقوله أولا ويستحب. (ويركع
ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح بعد) طلوع (الفجر) أخذ منه بيان
وقتها فلا تجزئ إذا ركعها قبل طلوع الفجر ولو بالاحرام لأنها صلاة شرعت
تابعة لفريضة الفجر، فتعلقت بوقت المتبوع، وقد حكي فيها في باب جمل
من الفرائض قولين: الرغيبة والسنية. ومشى على الأول صاحب المختصر
وهو المعتمد. ولا بد أن ينوي بهما ركعتي الفجر ليمتازا عن النوافل، فإن
صلاهما بغير ذلك لم يجزياه. (يقرأ في كل ركعة) منهما على جهة الاستحباب
(بأم القرآن) فقط (يسرها) لما في الموطأ ومسلم أن عائشة رضي الله عنها
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخفف حتى أقول هل قرأ
فيهما بأم القرآن أم لا؟ وروى ابن القاسم عن مالك: يقرأ فيهما بأم القرآن
وسورة من قصار المفصل لما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيهما بعد الفاتحة بقل
يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وصلاتهما في المسجد أفضل، ومن دخل
المسجد ولم يكن ركعهما فأقيمت عليه الفريضة تركهما ودخل مع الامام، ثم
يركعهما بعد الشمس، فإن وقتهما ممتد إلى الزوال. ولا يقضي شئ من النوافل
غيرهما، ومن نام عن الصبح حتى طلعت الشمس صلى الصبح ثم يصليهما بعد،
ومن نسيهما حتى صلى الصبح أو دخل في صلاة الصبح فلا يركعهما حتى تطلع
الشمس. (والقراءة في الظهر بنحو القراءة في الصبح من الطوال أو دون
130

ذلك قليلا) أفاد كلامه أن القراءة في الظهر تساوي المقروء في الصبح يعني
تكون من طوال المفصل، وهو للامام أشهب وابن حبيب. وقال الامام مالك:
إن المستحب أن تكون القراءة في الظهر دون المقروء في الصبح قليلا أي
قريبا منه، وهو الراجح، فإذا قرأ بالفتح مثلا في الصبح يقرأ في الظهر
بنحو الجمعة أو الصف، ولا تفهم أنه يقرأ فيها من أوساط المفصل. وجعل
ابن عمر كلام المصنف قولا ثالثا بالتخيير. (ولا تجهر فيها) أي في صلاة
الظهر (بشئ من القراءة) لا بالفاتحة ولا بشئ مما زاد عليها. (و) إنما
(يقرأ في الأولى والثانية في كل ركعة بأم القرآن وسورة سرا و) يقرأ
(في الأخيرتين بأم القرآن وحدها سرا) أي على جهة السنية، وهو تكرار
مع قوله: ولا يجهر فيها. وأجاب التتائي بما يدفع التكرار فقال: ولما فهم من
قوله: لا يجهر أنه يقرأ سرا، ولكنه لا يعتبر المفهوم صرح به فقال يقرأ في
الأولى والثانية في كل ركعة بأم القرآن وسورة سرا. (ويتشهد في الجلسة
الأولى إلى قوله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) علم من هذا أن الزيادة
التي ذكرها قبل بقوله ومما يزيده الخ محلها التشهد الثاني فيما فيه تشهدان،
وهو كذلك على المشهور ومقابله أنه يجوز الدعاء في التشهد الأول كالثاني
وهو رواية ابن نافع وغيره عن مالك (ثم) بعد أن يفرغ من التشهد إلى
الحد المذكور (يقوم) إلى الثالثة (فلا يكبر) عند شروعه في القيام، بل
131

(حتى يستوي قائما) على المعروف من المذهب للعمل، ولأنه لم ينتقل عن ركن إنما انتقل عن
سنة إلى فرض، فالفرض أولى بأن يكون التكبير فيه،
ولأن القائم إلى الثالثة كالمستفتح لصلاة جديدة هكذا يفعل الامام والرجل
وحده (وأما المأموم ف‍) - لا يقوم إلا بعد أن يكبر الامام ويفرغ منه،
فحينئذ (يقوم المأموم أيضا فإذا) قام و (استوى قائما كبر) لأنه تابع
للامام ومقتد به، فسبيل أفعاله أن تكون بعد أفعاله، وفي الحديث لا تسبقوني
بركوع ولا سجود ففيه تنبيه على متابعة المأموم للامام لان النهي عن
السبق يفيد طلب المتابعة، وهي منتفية في السبق وفي المساواة. (ويفعل في
بقية الصلاة من صفة الركوع والسجود) والرفع منهما والاعتدال
والطمأنينة، (والجلوس) بين السجدتين، والاعتماد على اليدين في القيام
(نحو ما تقدم ذكره في) صلاة (الصبح) دليله فعله عليه الصلاة والسلام
وتعليمه الناس، ولا خلاف فيما ذكر من كونه فعله وعلمه الناس. (ويتنفل
بعدها) أي بعد صلاة الظهر (ويستحب له أن يتنفل بأربع ركعات يسلم
من كل ركعتين) لقوله عليه الصلاة والسلام من حافظ على أربع ركعات
132

قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار أي فتكون المداومة المذكورة
سببا في عدم ارتكاب الكبائر، وحينئذ يحرم جسده على النار. والحديث
رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن أي الترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود،
فإن قلت حيث ورد الحث بالمحافظة على أربع قبل وأربع بعد فلم اقتصر
المصنف على أربع بعد قلت: تنبيها على المخالفة بينها وبين العصر، فإنه إنما
يتنفل قبلها فقط، ذكره التتائي (ويستحب له) أي للمصلي (مثل ذلك)
التنفل بأربع ركعات بعد صلاة الظهر أن يتنفل بأربع ركعات (قبل
صلاة العصر) لما صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: رحم الله امرأ صلى قبل
العصر أربعا جملة خبرية لفظا إنشائية معنى، أي اللهم ارحم الخ، ولا شك
أن دعاءه مستجاب. (ويفعل في) صلاة (العصر) كما وصفنا في صفة الظهر
سواء لا يستثنى منه شئ (لا أنه يقرأ في الركعتين الأولتين مع أم القرآن
بالقصار من السور مثل والضحى وإنا أنزلناه ونحوهما) فلو افتتحها بسورة
من طوال المفصل تركها وقرأ سورة قصيرة. (وأما المغرب فيجهر بالقراءة
في الركعتين الأولتين منها) فقط ويسر في الثالثة (ويقرأ في كل أربعة
133

منهما) أي الأولتين (بأم القرآن وسورة من السور القصار) لان العمل
استمر على ذلك، وما روي بخلافه فمؤول أي، فقد روى النسائي وأبو داود
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بالأعراف، فأول بأنه محمول على أنه عرف
أن من خلفه لا يتضررون بذلك، وإلا فالذي استمر عليه العمل التخفيف.
(و) يقرأ (في الثالثة بأم القرآن فقط) أي قط بمعنى حسب، أي والفاء
لتزيين اللفظ، وقط التي بمعنى حسب مفتوحة الفاء ساكنة الطاء، فإذا كانت
بمعنى الزمن الماضي فهي مضمومة الطاء مع التشديد، تقول: ما فعلته قط
بالفعل الماضي. وقول العامة لا أفعله قط لحن، كما قال ابن هشام. والحاصل أن
قط مضمومة الطاء مع التشديد تختص بالنفي تقول ما فعلته قط مشتقة
من قططته أي قطعته، فمعنى ما فعلته قط ما فعلته فيما انقطع من عمري لان
الماضي منقطع عن الحال والاستقبال، وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى إذ المعنى
مذ أن خلقت إلى الآن، وعلى حركة لئلا يلتقي ساكنان وكانت الضمة
تشبيها بالغايات وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وقد تتبع قافه
طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها، ذكره ابن هشام.
(و) إذا رفع رأسه من سجود الركعة الثالثة (يتشهد) ويصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم ويدعو (و) بعد ذلك (يسلم) على الصفة المتقدمة (ويستحب) له
(أن يتنفل بعدها) أي بعد صلاة المغرب أي بعد فراغه من الذكر عقبها
(بركعتين) أي على جهة الآكدية لقوله وما زاد على الركعتين فهو خير.
134

ودليل الاستحباب فعله عليه الصلاة والسلام. (وما زاد) على الركعتين
(فهو خير) له لقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7) (وإن تنفل)
بعدها (بست ركعات فحسن) أي مستحب لقوله صلى الله عليه وسلم: من صلى بعد المغرب
ست ركعات لم يتكلم بينهن بسوء - أي حرام - عدلن له عبادة ثنتي عشرة
سنة رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي والذي في التتائي عن صحيح
ابن خزيمة عدلن بعبادة الخ قال بعضهم: من عبادة بني إسرائيل. وفي معجمات
الطبراني مرفوعا من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت ذنوبه ولو كانت
مثل زبد البحر أي رغوته. (والتنفل بعد المغرب والعشاء مرغب فيه)
قال الغزالي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى * (تتجافى جنوبهم عن
المضاجع) * فقال: الصلاة بين العشاءين. ومعنى تتجافى أي ترتفع وتتنحى
جنوبهم عن المضاجع، الفرش ومواضع النوم، وعنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال: عليكم بالصلاة بين العشاءين فإنها تذهب بملاغات - بضم الميم - النهار
وتهذب آخره. الملاغات جمع ملغاة من اللغو، أي تطرح ما على العبد من
الباطل، أي تطرح ما اقترفه من مكروه قولا أو فعلا بحيث لا يلام عليه
أو لا يجره إلى فعل محرم أو من ذنب صغير إلى كبيرة أو يكون سببا في
العفو عن كبيرة كما هو مقرر، ومعلوم أن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة أو
عفو الله. وقوله: وتهذب آخره، أي تصفي آخره، أي بذهاب جميع اللهو.
(وأما غير ذلك) أي غير ما ذكر من الجهر بالقراءة في الأوليين بأم
القرآن وسورة قصيرة وبأم القرآن فقط سرا في الثالثة (من شأنها) أي
من صفتها كتكبيرة الاحرام ورفع اليدين حذو المنكبين والتكبير في
135

الانحطاط من الركوع وتمكين اليدين من الركبتين إلى غير ذلك مما تقدم
فحكمها فيه (كما) أي مثل الذي (تقدم ذكره في غيرها) من صلاة
الصبح وما بعدها فلا حاجة إلى إعادته. (وأما العشاء الأخيرة) قال ابن عمر:
هذا من لحن الفقهاء، لأنه يوهم أن ثم عشاء أولى، وليس كذلك، فقد قال
عياض وغيره: لا تسمى المغرب عشاء لا لغة ولا شرعا، وقول مالك: ما بين
العشاءين تغليب، وفيه أن نسبة التثنية لمالك، والجواب عنه بالتغليب قصور
مع كون التثنية في الحديث المتقدم عن الغزالي (وهي العتمة واسم العشاء
أخص بها وأولى) تفسير لقوله أخص (فيجهر في الأوليين بأم القرآن
وسورة في كل ركعة) منهما هذا لا خلاف فيه، وقد جاءت به الأحاديث
الصحيحة. (وقراءتها) أي السورة في صلاة العشاء (أطول قليلا من
القراءة في) صلاة (العصر) فيقرأ فيها من المتوسطات وإنما سكت عن
المغرب مع أن المغرب أقرب لها لأنه لم يعين فيها القراءة، وإنما عين القراءة
في العصر (و) يقرأ (في الأخيرتين) من العشاء (بأم القرآن) فقط
(في كل ركعة سرا ثم يفعل في سائرها كما تقدم من الوصف) في صلاة
الصبح. وهنا انتهى الكلام على صفة العمل في الصلوات المفروضات فمن
صلاها على ما وصف فقد صلاها على أكمل الهيئات. (ويكره النوم قبلها)
136

أي قبل صلاة العشاء (والحديث بعدها لغير ضرورة) أي بعد فعلها. وأما
الحديث بعد دخول وقتها وقبل فعلها فلا يكره، قاله الفاكهاني، وكذا يكره
السهر بلا كلام خوف تفويت الصبح وقيام الليل. (والقراءة التي يسر
بها في الصلاة كلها) بالرفع تأكيد للقراءة (هي بتحريك اللسان) هذا
أدنى السر وأعلاه أن يسمع نفسه فقط واحترز بتحريك اللسان من أن
يقرأ في الصلاة بقلبه فإنها لا تجزئه ومن ذلك لو حلف أنه لا يقرأ القرآن
فأجراه على قلبه لا يحنث أو حلف ليقرأنه لا يبر. (و) احترز (بالتكلم بالقرآن)
أي بالعبارة الدالة على القرآن من أن يقرأ فيها بغيره من التوراة
والإنجيل وغيرهما من الكتب المنزلة، فإنها تبطل. وعلة البطلان إما أن غير
القرآن من الكتب السماوية منسوخ أو مبدل، وإما أن ذلك مخالف
لفعله عليه الصلاة والسلام وقوله صلوا كما رأيتموني أصلي. (وأما الجهر ف‍) - أقله
(أن يسمع نفسه ومن يليه) أي على فرض أن هناك من يسمعه، وأعلاه
لا حد له. (وإن كان وحده) قال الفاكهاني: وانظر ما معنى قوله: إن كان وحده.
والظاهر أنه يحترز عن الامام فإنه يطلب منه أن يسمع نفسه ومن خلفه،
فلو لم يسمع من خلفه فصلاته صحيحة، وحصلت السنة بسماعه من يليه، وقال
الأقفهسي: إن كان وحده احترز به ممن يقرب منه مصل آخر، فحكمه
في جهره حكم المرأة. تنبيه: محل طلب الجهر كما في شرح الشيخ حيث
كان لا يترتب عليه تخليط الغير وإلا نهى عما يحصل به التخليط، ولو أدى
137

إلى إسقاط السنة، لأنه لا يرتكب محرم لتحصيل السنة، وما ذكره من الجهر
إنما هو في حق الرجل. (و) أما (المرأة) فهي (دون الرجل في الجهر)
وهي أن تسمع نفسها خاصة كالتلبية، فيكون أعلى جهرها وأدناه واحدا،
وهو سماع نفسها فقط. وعلى هذا يستوي في حقها السر والجهر، أي أعلى
السر لا أدناه الذي هو حركة اللسان، أي مع سر الرجل، أي مع أعلى سره،
أي حالة كونهما أي السر والجهر مصاحبين لسر الرجل أي مصاحبة مساواة،
أي أن أعلى سرها وجهرها يساويان أعلى سر الرجل. فالمساواة الأولى بين
أعلى سر المرأة وجهرها والمساواة الثانية بينهما وبين أعلى سر الرجل. ووجه
ما ذكر أن صوتها ربما كان فتنة، ولذلك لا تؤذن اتفاقا، وهل حرام أو
مكروه؟ قولان. وجاز بيعها وشراؤها للضرورة. (وهي) أي المرأة (في
هيئة الصلاة مثله) أي مثل الرجل (غير أنها تنضم ولا تفرج) بفتح التاء
وسكون الفاء وضم الراء، وهو تفسير تنضم، فالعطف للتفسير (فخذيها
ولا عضديها) وقوله (وتكون منضمة منزوية) تكرار، أي قوله: وتكون
منضمة منزوية تكرار لا يقال إن المكرر هو قوله وتكون منضمة لأنه
تقدم في قوله غير أنها تنضم. وأما الانزواء فلم يتقدم له ذكر حتى يكون
تكرارا، لأنا نقول: الانزواء هو الانضمام، وإنما تفعل ذلك مخافة ما يخرج منها
أي من الريح لأنها ليست كالرجل في الاستمساك بل عندها رخاوة، فلو
فرجت بين فخذيها لربما خرج منها ريح لأنها مهيأة للحدث، وكأن قائلا
138

قال له: أين تكون بهذه الحالة؟ فقال: (في جلوسها وسجودها وأمرها) أي
شأنها (كله) يدخل فيه الركوع، فلا تجنح كالرجل، وما ذكره المصنف
رواية ابن زياد عن مالك، وهو خلاف قول ابن القاسم في المدونة لأنه
ساوى بين الرجل والمرأة في الهيئة والذي ذكره المصنف من رواية ابن
زياد هو الراجح، وكلام ابن القاسم ضعيف. (ثم) بعد أن (يصلي) العشاء
يصلي بعدها (الشفع) ركعتين، وهل يشترط أن يخصهما بنية أو يكتفي بأي
ركعتين كانتا؟ قولان. الظاهر منهما الثاني لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل
مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم صلاة الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى
(و) بعد أن يصلي ركعتي الشفع يصلي (الوتر) بفتح الواو وكسرها وبتاء
مثناة فوق، وأما بالمثلثة مع كسر الواو فالفراش للوطئ ومع فتحها ماء
الفحل يجتمع في رحم الناقة إذا أكثر الفحل ضرابها ولم تلقح، ذكره
التتائي، وهو سنة آكد السنن على المشهور، أي سنة مؤكدة على المشهور،
وقيل بوجوبه. وأل للجنس أي آكد جنس السنن فإنها آكد من العيد
الآكد من الكسوف والاستسقاء، وليست آكد من العمرة بل العمرة
آكد منها، وكذلك ركعتا الطواف آكد من الوتر كما أنهما آكد
من العمرة، وأما صلاة الجنازة فهي دون الوتر وآكد من العيد. واستظهر
عبد الباقي أن الجنازة آكد من الوتر والأفضل أن تكون ركعة واحدة
عقب شفع. ومحط الأفضلية عقب شفع، وهل الشفع شرط كمال أو شرط صحة؟
قولان شهر الأول صاحب الجوهر وابن الحاجب، وصرح الباجي بمشهورية
الثاني فإن أوتر بغير شفع فقال أشهب: يعيد وتره بإثر شفع ما لم يصل الصبح
أي على طريق السنة إن كان أشهب يقول بأن تقدم الشفع شرط صحة
139

أو على طريق الندب إن كان أشهب يقول إنه شرط كمال لان مذهب أشهب
لم يتعين لنا. وإذا قلنا لا بد من تقدم شفع أي أن تقدمه شرط صحة، فهل يلزم
اتصاله بالوتر وفي حكمه الفصل اليسير، أو يجوز أن يفرق بينهما بالزمن
الطويل قولان، والراجح الثاني، ويستحب أن يقرأ في الشفع والوتر (جهرا
وكذلك يستحب في نوافل الليل الاجهار وفي نوافل النهار الاسرار، وإن جهر
في النهار في تنفله فذلك واسع) أي جائز أي خلاف الأولى لا أنه جائز مستوي
الطرفين. وحكى ابن الحاجب في كراهته قولين: (وأقل الشفع ركعتان)
وأما أكثره فلا حد له. (ويستحب له أن يقرأ في الركعة الأولى) منه
بأم القرآن وسبح اسم ربك الاعلى وفي) الركعة (الثانية بأم القرآن
وقل يا أيها الكافرون و) بعد الفراغ من الركعة الثانية من الشفع، بأن
كمل سجدتيها يجلس و (يتشهد و) بعد الفراغ من التشهد (يسلم ثم)
بعد أن يسلم يقوم ف‍ (- يصلي الوتر ركعة) والفصل بينها وبين الشفع بسلام
مستحب للحديث المتقدم. والمذهب (أنه يقرأ فيها) أي في ركعة الوتر على
جهة الاستحباب (بأم القرآن وقل هو الله أحد والمعوذتين) بكسر الواو
140

المشددة لان معناهما المحصنتين مما يؤذي. وقال ابن العربي: يقرأ فيها المتهجد
من تمام حزبه وغيره بقل هو الله أحد. والمعتمد ما ذكره المصنف لما رواه
أبو داود وغيره أن عائشة رضي الله عنها سئلت بأي شئ، كان يوتر النبي
صلى الله عليه وسلم قالت: كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الاعلى، وفي الثانية بقل
يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد والمعوذتين. ولا يخفاك أن
هذا الجواب غير مطابق لظاهر لفظ السؤال لان ظاهره هل كان يوتر
بثلاث أو غير ذلك، فلعلها فهمت أن مراد السائل بأي شئ كان يقرأ
المصطفى في وتره. (وإن زاد من الأشفاع) جمع شفع وهو الزوج يعني أنه
إذا أراد أن يصلي ابتداء أكثر من ركعتين (جعل آخر ذلك الوتر) على
جهة الاستحباب للحديث المتقدم، أي فالامر فيه للندب (و) لما روي (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل) أي في الليل (اثنتي عشرة ركعة ثم
يوتر بواحدة وقيل) كان يصلي من الليل (عشر ركعات ثم يوتر بواحدة)
الروايات في الصحيح أي من حديث عائشة. ولا تنافي بين رواية اثنتي
عشرة ركعة، وبين رواية عشر ركعات، لأنه عليه الصلاة والسلام كان
يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين بعد الوضوء فتارة اعتبرتهما من الورد
فأخبرت باثنتي عشرة ركعة، وتارة لم تعتبرهما من الورد لأنهما للوضوء ولحل
141

عقد الشيطان، فأخبرت بعشر ركعات. وقيام الليل أي التهجد فيه واجب في
حقه عليه الصلاة والسلام مستحب في حقنا، لقوله: عليكم بقيام الليل فإنه
دأب الصالحين قبلكم أي عادتهم وشأنهم، وهو قربة لكم إلى ربكم ومكفرة
للسيئات ومكفرة بوزن مفعلة بمعنى اسم الفاعل أي مكفرة، ونظيرها مطهرة
ومنهاة عن الاثم (وأفضل الليل آخره في القيام) أي لأجل التهجد عند
مالك وأتباعه لما في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام ينزل ربنا
تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من
يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له وخصه
الشافعي بوسط الليل لخبر أن داود كان ينام نصفه ويقوم ثلثه وينام
سدسه، وإذا ثبت أن آخر الليل أفضل (فمن أخر تنفله ووتره إلى آخره
فذلك أفضل، إلا من الغالب عليه أن لا يتنبه فليقدم وتره مع ما يريد من
النوافل أول الليل) لما في مسلم وغيره من حديث جابر يرفعه من خاف أن لا
يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخر
الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة أي يشهدها ملائكة الرحمة والحاصل أن
تأخير الوتر مندوب في صورتين أن تكون عادته الانتباه آخر الليل أو
تستوي حالتاه وتقديمه في صورة واحدة، وهي أن يكون أغلب أحواله
النوم إلى الصبح (ثم إن شاء) أي الذي الغالب عليه أن لا ينتبه إذا
قدم وتره ونفله كما هو الأفضل له (إذا استيقظ في آخره) أي في آخر
142

الليل (تنفل ما شاء منها) أي من النوافل، لان تقديم الوتر لا يمنع من
استئناف صلاة بعده، ولكن محل ذلك إذا حدثت له نية النفل بعد الوتر
أو فيها لا إن حدثت قبل الشروع في الوتر فلا يكون تنفله بعده جائزا،
بل مكروها، والأفضل في التنفل أن يكون (مثنى مثنى) أي ركعتين
ركعتين، لما في الحديث صلاة الليل مثنى مثنى. (و) بعد أن يفرغ من تنفله
(لا يعيد الوتر) أي حيث وقع بعد عشاء صحيحة وشفق، أي يكره له إعادة
الوتر لقوله عليه الصلاة والسلام لا وتران في ليلة رواه أبو داود والترمذي
وحسنه أي الترمذي. (ومن غلبته عيناه) أي استغرقه النوم (عن حزبه)
وألحق به من حصل له إغماء أو جنون أو حيض، وزال عذره عند طلوع
الفجر لا إن تعمد تأخيره فلا يصليه ولو كان يمكنه فعله مع الفجر والصبح
قبل الاسفار (ف‍) - يباح (له أن يصليه ما بينه وبين طلوع الفجر وأول
الاسفار) فشرط الفعل أن لا يخشى إسفارا، وأن يكون نام عنه غلبة، وأن
لا يخشى فوات الجماعة. فإن اختل شرط تركه وصلى الصبح بغير الشفع والوتر
لأنهما يفعلان بعد الفجر من غير شرط. (ثم) إذا صلى من غلبته عيناه
عن حزبه بعد طلوع الفجر فإنه (يوتر) لان له وقتين: وقت اختياري
وهو من بعد صلاة العشاء الصحيحة إلى طلوع الفجر، ووقت ضروري من
طلوع الفجر إلى أن يصلي الصبح على المشهور خلافا للقائل أنه لا يصلي
الوتر إذا طلع الفجر، حكاه التتائي (و) بعد ذلك (يصلي الصبح) أي
143

ويترك الفجر، فيصليها بعد حل النافلة، وهذا إن اتسع الوقت لثلاث ركعات،
فإن لم يتسع إلا لركعتين ترك الوتر وصلى الصبح على المشهور، ومقابله قول
أصبغ: يصلي الوتر ركعة وركعة من الصبح قبل الشمس. وإن لم يتسع
الوقت إلا لركعة تعين الصبح اتفاقا. وإن اتسع لخمس أو ست صلى الشفع
والوتر والصبح وترك الفجر. وإن اتسع لسبع صلى الجميع. وإذا تأملت في
هذا الكلام لا تجده مناسبا، وذلك أن فر ض الكلام فيمن نام عن
حزبه وأنه يفعله قبل الاسفار فصار الاسفار خاليا من صلاة الحزب فيه فيتأتى
له فعل الجميع قبل طلوع الشمس، فكيف يعقل إيراد هذه التفاصيل هنا؟ فهذه
التفاصيل تفرض في إنسان استيقظ من نومه مثلا قبل طلوع الشمس فيقال: إن
الوقت تارة يسع كذا، وتارة يسع كذا إلى آخر ما تقدم من التفصيل، ولذلك
قال بعض شراح خليل: إن من ترك الوتر ونام عنه ثم استيقظ فإن كان
الباقي إلى طلوع الشمس مقدار ما يدرك فيه الصبح هو ركعتان ترك
الوتر والشفع وصلى الصبح، وأخر الفجر إلى آخر كلامه، فجعل هذا التفصيل
في حق من ترك الوتر ونام. (ولا يقضي الوتر من ذكره بعد أن صلى
الصبح) نحوه في الموطأ عن جماعة من الصحابة. فإن نسي الوتر وتذكره
في صلاة الصبح استحب له القطع على المشهور إن كان فذا، ثم يصلي الوتر،
ثم يستأنف صلاة الصبح أي بعد أن يعيد الفجر بعد الوتر، وأولى إن تذكر
الوتر بعد صلاة الفجر وقبل الشروع في الصبح فيصلي الوتر ثم يعيد
الفجر، وكذا إذا صلى الفجر ثم ذكر صلاة فرض تقدم على الصبح لكونها
يسيرة، فإنه بعد صلاة الفائتة يعيد الفجر، وإن كان مأموما استحب له التمادي
ولو أيقن أنه إن قطع صلاته وصلى الوتر أدرك فضل الجماعة. وفي الامام
144

روايتان القطع وعدمه. وعلى القول بالقطع فهل يستخلف قياسا على الحدث
أو لا يستخلف قياسا على من ذكر صلاة في صلاة، وعلى القول بعدم الاستخلاف
فهل يقطع المأموم أو لا، بل يستخلف ويتمون صلاتهم. وهذا الخلاف في
القطع أو التمادي إن كان الوقت واسعا، أما إن ضاق الوقت فإنه يتمادى من
غير خلاف. (ومن دخل المسجد) ويروى مسجدا (وهو على وضوء فلا
يجلس) أي يكره الجلوس قبل الصلاة، ولا تسقط بالجلوس، فلو كثر دخوله
كفته الأولى إن قرب رجوعه له عرفا وإلا طولب بها ثانيا. (حتى يصلي
ركعتين) تحية المسجد على جهة الفضيلة، وهو المعتمد. واختار ابن عبد
السلام أنهما سنة. والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا
يجلس حتى يصلي ركعتين هكذا رواه مسلم بصيغة النهي، وفي لفظ له وللبخاري
إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس بصيغة الامر، وهذا
الامر على جهة الفضيلة لا الوجوب، والنهي على جهة كراهة لا التحريم.
ولا فرق في الامر بتحية المسجد بين مسجد الجمعة وغيره إلا مسجد مكة،
فإنه يبدأ فيه بالطواف لمن طلب به ولو ندبا أو أراده آفاقيا فيهما أو لا
أو لم يرده وهو آفاقي، فإن كان مكيا ولم يطلب بطواف ولم يرده بل دخله
لصلاة أو لمشاهدة البيت فتحيته ركعتان إن كان الوقت تحل فيه النافلة
وإلا جلس كغيره من المساجد وإلا مسجده عليه الصلاة والسلام على أحد
قولي مالك في أنه يبدأ بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الركوع، وقوله الآخر
يبدأ بالركوع، واستحسنه ابن القاسم، وهو المعتمد، لان التحية حق الله
والسلام حق آدمي، والأول آكد. (وإن كان وقت) بالرفع، ويروى وقتا
145

أي يشترط في فعل التحية أن يكون الوقت وقتا (يجوز فيه الركوع)
فلو دخل في وقت النهي كوقت طلوع الشمس، وغروبها، وخطبة الجمعة،
وبعد صلاة العصر، وبعد الفجر، فإنه لا يركع أي وجوبا في وقت الطلوع
والغروب والخطبة وندبا بعد العصر وبعد الفجر، فلو أحرم وقت المنع قطع
وجوبا وندبا وقت الكراهة، ويندب لمن لا يجوز له التحية للموانع المتقدمة
أن يقول أربع مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وتتأدى التحية بفرض وأولى بسنة أو رغيبة، ويحصل له الثواب إن نوى
التحية مع الفرض. (ومن دخل المسجد و) الحال أنه (لم يركع الفجر
أجزأه) أي كفاه (لذلك) أي عن ركعتي تحية المسجد (ركعتا الفجر)
ولا يركع تحية المسجد قبلهما، وهو المعتمد وقيل يركعهما، وهو ضعيف، فإن
قلت: إن هذا الوقت لا يطلب فيه تحية والاجزاء عن الشئ فرع الطلب،
قلت: إن هذا مبني على القول بطلب التحية في هذا الوقت. (وإن ركع الفجر
في بيته) أو يره (ثم أتى المسجد) ووجد الصلاة لم تقم (فاختلف فيه)
أي في حكم من أتى المسجد بعد أن ركع سنة الفجر خارجه (فقيل يركع)
ركعتين، (وقيل لا يركع) بل لا يجلس من غير ركوع، وهو المعتمد. (ولا
صلاة نافلة بعد الفجر إلا ركعتا الفجر) أي والورد لنائم عنه كما تقدم
والشفع والوتر مطلقا والجنازة التي لم يخش تغيرها وسجود التلاوة يفعلان
146

قبل الاسفار، ففعلهما فيه مكروه، وأما التي يخشى عليها التغير فلا تحرم
الصلاة عليها وقت المنع، ولا تكره وقت الكراهة. وإذا خشي عليها التغير
وصلى عليها وقت منع أو وقت الكراهة لا تعاد الصلاة عليها وقت الجواز
دفنت أم لا. وأما إن لم يخش عليها التغير فلا إعادة إن صلى عليها بوقت
كراهة دفنت أو لا وكذا بوقت منع إن دفنت وإلا أعيدت (إلى طلوع
الشمس) فإذا أخذت في الطلوع حرمت النافلة الشاملة للجنازة وسجود
التلاوة والنفل المنذور رعيا لاصله حتى يتكامل طلوعها، فتعود الكراهة
حتى ترتفع قدر رمح من الرماح التي قدرها اثنا عشر شبرا.
باب في الإمامة (باب في الإمامة) وفي بيان من هو أولى بالإمامة، ومن يصح
الائتمام به، ومن لا تكره إمامته (و) في بيان (حكم الامام) من أنه
إذا صلى وحده يقوم مقام الجماعة، ومن أنه يجمع وحده ليلة المطر (و) في
بيان حكم (المأموم) من أنه يقرأ مع الامام فيما يسر فيه، ومن أنه يقف
على يمين الامام إن كان وحده. (ويؤم الناس أفضلهم) أي أكثرهم فضلا
يعني لو اجتمع جماعة اشتركوا في الفضل وزاد أحدهم فيه كان أولى
بالإمامة هذا إذا كان أفعل التفضيل على بابه، ويحتمل أن أفعل التفضيل ليس
على بابه، وحينئذ يكون المعنى ويؤم الناس فاضلهم فيقدم الفاضل على غيره
ممن ليس فاضلا (وأفقههم) يقال فيه ما قيل في أفضلهم، (ولا تؤم المرأة
في فريضة
147

ولا نافلة لا رجالا ولا نساء) وكما لا تؤم المرأة لا يؤم الخنثى المشكل،
فإن ائتم بهما أحد أعاد أبدا على المذهب سواء كان من جنسهما أولا، وأما
صلاتهما فصحيحة ولو نويا الإمامة، وخالف في ذلك أبو إبراهيم الأندلسي
حيث قال: من أمته المرأة ومثلها الخنثى المشكل من النساء أعدن في الوقت.
وروى ابن أيمن أنها تؤم أمثالها من النساء إذا علمت ذلك. فاعلم أن
الذكورة المحققة شرط في صحة الإمامة، ويزاد على هذا الشرط شروط أخر
وهي: الاسلام، فلا تصح إمامة الكافر، والبلوغ فلا تصح إمامة الصبي للبالغ
في الفرض لان الصبي متنفل، ولا يصح نفل خلف فرض، والعقل فلا تصح
إمامة المجنون، والعلم بما لا تصح الصلاة إلا به من قراءة وفقه وعدالة وقدرة
على الأركان. فالجاهل بالقراءة أو الفقه لا تصح صلاة المقتدي العالم به، وأما
الأمي بمثله فتصح عند فقد القارئ لا عند وجوده، ويراد بالعدالة عدم
الفسق المتعلق بالصلاة، فالفاسق فسقا متعلقا بها كمن يقصد بإمامته الكبر
لا تصح إمامته، وأما فسق الجارحة كالزنى فتكره إمامته وصلاته صحيحة
خلافا لما مشى عليه صاحب المختصر من بطلانها بفسق الجارحة. وكذا
لا تصح إمامة العاجز عن بعض الأركان في الفرض للقادر ولا بد من
الاتفاق في المقتدى فيه أي شخصا ووضعا وزمانا، فلا يصح ظهر خلف
عصر ولا عكسه، ولا أداء خلف قضاء ولا عكسه، ولا ظهر سبت خلف ظهر
أحد ولا عكسه. وموافقة مذهب المأموم مع الامام في الواجبات فلا يصح
الاقتداء بمن يسقط القراءة من الأخيرتين أو يترك الرفع من الركوع أو
السجود مثلا والإقامة والحرية في الجمعة فلا تصح إمامة المسافر إلا إذا كان
الخليفة. والمراد بالمسافر الخارج عن بلد الجمعة بكفرسخ. ولا تصح إمامة
148

العبد في الجمعة، وتعاد جمعة إن أمكن (ويقرأ) أي المأموم مع الامام (فيما
يسر فيه) ويروى به يعني أن حكم المأموم مع الامام فيما يسر فيه الامام
استحباب القراءة وذلك أن عدم القراءة ذريعة إلى التفكر والوسوسة.
(ولا يقرأ معه فيما يجهر فيه) أي يكره له ذلك ظاهره ولو كان لا يسمع
صوته وهو كذلك على المنصوص، فإن قرأ معه فبئس ما صنع ولا تبطل
صلاته. والأصل في هذا قوله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)
* (الأعراف: 204) قال البيهقي عن مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة فسمع قراءة
فتى من الأنصار فنزل قوله تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) *
ورويناه عن مجاهد من وجه آخر أنه قال في الخطبة يوم الجمعة ومن وجه
آخر في الصلاة وفي الخطبة. (ومن أدرك) أي مع الامام من الصلاة المفروضة
وأولى غيرها مما شرعت فيه الجماعة كالعيدين (ركعة فأكثر فقد أدرك
الجماعة) أي حكمها وفضلها ولفظ الموطأ من قوله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة
من الصلاة فقد أدرك الصلاة أي فيلزمه ما يلزم الامام من السجود للسهو
ولا يقتدي به غيره، ولا يعيد صلاته في جماعة أخرى، ويسلم على إمامه وعلى
من على يساره، ويحصل له من الثواب مثل ثواب من حضرها من أولها
وهو سبع وعشرون درجة، وهذا إذا فاتته بقيتها اضطرارا لا اختيارا.
وعن أبي حنيفة أنه يحصل له فضل الجماعة وهو ظاهر كلام المصنف وارتضاه
في شرحه، قال: ويدل لما قلنا أن إدراك ركعة من الوقت الاختياري بمنزلة
إدراك جميع الصلاة في نفي الاثم ولو أخر اختيارا وأيضا لم يقل أحد إن من
فاته بعض الصلاة مع الامام اختيارا يعيد لتحصيل فضل الجماعة. هذا
149

ما ظهر لي انتهى كلامه. وإدراك الركعة مع الامام يكون بوضع اليدين على
الركبتين بمعنى أن ينحني بحيث لو أراد وضع يديه على ركبتيه لأمكنه ذلك
موقنا بأن الامام لم يرفع رأسه من الركوع قبل أن يضع يديه على ركبتيه،
فلو شك هل رفع الامام رأسه من الركوع قبل أن يضع يديه على ركبتيه
قطع واستأنف. وحكم المسبوق الذي أدرك مع الامام ركعة فأكثر أن يأتي
بما فاته مع الامام قاضيا في القول بانيا في الفعل. وإلى الأول أشار بقوله
(فليقض بعد سلام الامام ما) أي الذي (فاته) قبل دخوله مع الامام
من القول (على نحو ما فعل الامام في القراءة) فما قرأ فيه الامام بأم
القرآن وسورة قرأ فيه مثل ما قرأ الامام وما أسر فيه أسر فيه، وما جهر
فيه جهر فيه، فإن جلس في موضع يجوز له فيه الجلوس لو انفرد وحده
بأن يدركه في ركعتين، فإنه يقوم بتكبير، وإن جلس في موضع لا يجوز له
فيه الجلوس لو انفرد بأن يدرك معه ركعة أو ثلاث ركعات، فإنه يقوم
بغير تكبير وهو المشهور خلافا لابن الماجشون، وكأنه رأى أن التكبير
إنما هو للانتقال إلى ركن. وذكر صاحب الطراز عن مالك في العتبية قولا
أنه إذا جلس في ثانيته يقوم بغير تكبير. قال: بناء على أنه قاض للماضيتين،
والذي شرع في أولهما تكبيرة الاحرام (وأما) الثاني وهو البناء (في)
الفعل ك‍ (- القيام والجلوس ففعله) فيه (كفعل الباني المصلي وحده)
وهو الذي يصلي صلاته إلى آخرها ثم يذكر ما يفسد له بعضها وله ثلاث
150

صور لأنه إما أن يذكر ما يفسد له ركعة أو ركعتين أو ثلاث ركعات بترك
سجدة أو ركوع أو قراءة أم القرآن وغير ذلك مما تبطل به الصلاة ووجه
العمل في الباني أن يجعل ما صح عنده هو أول صلاته فيبني عليه ويأتي
بما فسد له على نحو ما يفعل في انتهاء صلاته، فإذا ذكر ما أفسد له الركعة
الأولى في العشاء مثلا أي تذكر في لتشهد الأخير فيأتي بأم القرآن خاصة،
ويسجد قبل السلام لأنه نقص السورة والجلوس الأول لان جلوسه كان
في غير محله لأنه كان عن ركعة واحدة، فلا يعتد به، وزاد الركعة الملغاة،
ويوازي هذا أي يقابله من حال المدرك أن تفوته الركعة الأولى فيأتي
بأم القرآن وسورة جهرا لان الامام فعل كذلك ويخالفه في الجلوس
لان الامام لم ويجلس عليها وجالس هو عليها لأنها رابعة له فهو بذلك
الاعتبار بان لأنه جعلها آخر صلاته، قال في التحقيق: وإن ذكر الباني ما يفسد
له ركعتين فإنه يأتي بأم القرآن
خاصة وتكون صلاته كلها بأم القرآن، ويسجد قبل السلام لأنه نقص السورتين، ونقص أيضا الجلوس الأول
لأنه ظهر الامر أن جلوسه كان على غير شئ. انظر وتأمل قوله، ونقص أيضا
الجلوس الأول فإنه غير ظاهر، ويوازيه من حال المدرك أن تفوته
الركعتان فيأتي فيهما بأم القرآن وسورة جهرا لان الامام كذلك قرأ
فيهما، ووافق الامام أيضا في جلوسه عليهما لان الامام كان يجلس عليهما
ويجلس هو أيضا عليهما في آخر صلاته. وإن ذكر الباني ما يفسد له ثلاث
ركعات فإنه يأتي بركعة بأم القرآن وسورة يجلس عليها لأنها ثانية له،
ويقوم ويأتي بالركعتين الباقيتين بأم القرآن خاصة، ويسجد أيضا قبل
السلام لأنه نقص السورة وزاد الركعة الملغاة، يوازيه حال المدرك إذا
فاته ثلاث ركعات، فإنه يقوم فيأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرا
ويجعلها مع التي أدركها ويجلس عليها فوافق في هذا فعل الباني ثم يقوم
151

فيأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ثم يأتي ركعة بأم القرآن فقط، انتهى.
(ومن صلى وحده) صلاة مفروضة في غير أحد المساجد الثلاثة مسجد
مكة والمدينة والمسجد الأقصى ولم يكن إماما راتبا ولم تقم الصلاة عليه وهو
في المسجد (ف‍) - إنه يستحب (له أن يعيد) ما صلى (في الجماعة) ولو في
وقت الضرورة، فالإعادة لفضل الجماعة مقيدة بعدم خروج وقت الصلاة،
فإن خرج وقتها فلا إعادة، ذكره سند، ونحوه لابن عرفة. والجماعة اثنان
فصاعدا فلا يعيد مع الواحد إلا إن كان راتبا وما قاله صاحب المختصر
ضعيف، ويعيد بنية التفويض إلى الله تعالى في جعل أيهما شاء فرضه، قال
الفاكهاني: ولا بد مع التفويض من نية الفرض، فإن ترك نية التفويض
ونوى الفريضة صحت، وإن ترك نية الفريضة صحت إن لم يتبين عدم
الأولى وفسادها، وإلا لم تصح أيضا. فقول الفاكهاني لا بد من نية الفريضة
مراده لاجزاء هذه إن تبين عدم الأولى أو فسادها وأما المساجد الثلاثة
فإنه إذا صلى فيها منفردا ثم وجد جماعة في غيرها لا يعيد، وإذا وجدهم فيها
أعاد معهم، وكذلك لو صلى منفردا في غيرها ثم أتاها أعاد فيها منفردا لأجل
فضلها. ومن أقيمت عليه الصلاة وهو في المسجد فإنها تلزمه. قال في المدونة:
ومن سمع الإقامة وقد صلى حده فليس بواجب عليه إعادتها إلا أن
يشاء ولو كان في المسجد لدخل مع الامام، والمقصود من إعادة المنفرد في
الجماعة (ل‍) تحصيل (الفضل) الوارد (في ذلك) أي في صلاة
الجماعة وهو ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين
درجة والصلاة التي تعاد لفضل الجماعة عامة في كل فريضة (إلا المغرب
152

وحدها) أي فإن أعادها مع الامام قطع ما لم يركع فإن ركع شفعها وقطع
وعدها نافلة، وإن لم يتذكر حتى صلى معه ثلاثا فإذا سلم الامام أتى برابعة
بعدها نافلة، وإن لم يتذكر حتى سلم مع الامام فلا إعادة، وقيل يعيد، ذكره
التتائي. وإنما لم تطلب الإعادة في المغرب لأجل الجماعة لأنها إذا أعيدت
صارت شفعا، وهي إنما جعلت ثلاثا لتوتر عدد ركعات اليوم والليلة، وظاهر
المصنف أنه يعيد العشاء ولو أوتر، والمشهور لا يعيد إذا أوتر لاجتماع وترين
في ليلة على أحد قولي سحنون في أنه يعيد الوتر إذا أعاد العشاء، وعلى القول
الثاني لا يلزم عليه اجتماع وترين لكن يلزم عليه المخالفة للآخر، وهو
اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترا. (ومن أدرك ركعة فأكثر من صلاة
الجماعة فلا يعيدها في جماعة) أي يحرم عليه ذلك ظاهره ولو كانت الجماعة
الثانية أكثر عددا أو أزيد خيرا وتقوى وهو المشهور، أي لان الفضل
الذي تشرع له الإعادة قد حصل، وإن كانت الصلاة ابتداء مع الفضلاء وفي
الجموع الكثيرة أفضل، إلا أن هذا الفضل لا تشرع لأجله الإعادة. وقال
ابن حبيب: تفضل الجماعة بالكثرة. وفضيلة الامام لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم
صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع
الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى أي
وحيث كان كذلك فلمن صلى مع جماعة أن يعيد مع أفضل منها، أو صلى
مع إمام أن يعيد مع أفضل منه هذا مراده وليس مرادا في الحديث بل إن
هذا الحديث إنما يدل على الحث على إيقاع الصلاة في جماعة
أو في جماعة كثيرة، ثم صرح المصنف بمفهوم قوله: ومن أدرك ركعة الخ زيادة في
153

الايضاح فقال: (ومن لم يدرك إلا التشهد أو السجود فله أن يعيد في جماعة)
أخرى، وهو مخير بين أمرين أن يبني على إحرامه، أو يقطع ويدرك جماعة
أخرى إن رجاها فإن لم يرجها كمل صلاته ولا يقطعها هذا في حق من لم
يصل قبل ذلك. وأما من صلى قبل ذلك ولم يدرك من صلاة الجماعة، إلا هذا
المقدار، فإنه يشفع أي ندبا بعد سلام الامام وإنما يشفع إذا كانت الصلاة
مما يجوز النفل بعدها كما في التتائي. وعند ابن القاسم يقطع مطلقا سواء
أحرم بنية الفرض أو النفل أي بعد تمام الركعتين أي لا يتم صلاته، ومقابله
ما لمالك في المبسوط إن كانت نيته حين دخل مع الامام أن يجعلها ظهرا
أربعا وصلاته في بيته نافلة فعليه أن يتمها، وأمرهما إلى الله تعالى، يجعل
فرضه أيتهما شاء، وإن لم يرد رفض الأولى أجزأته الأولى ولم يكن عليه أن يتم هذه اه‍. ثم إن للمأموم مع الامام ستة مراتب معتبرة من
أحواله من كونه وحده أو مع غيره نساء أو رجالا، أشار إلى أولها بقوله:
(والرجل الواحد) فقط أو الصبي الذي يعقل الصلاة أي يدرك أن الطاعة
يثاب عليها، وأن المعصية يعاقب عليها أي يعاقب فاعلها، إلا إن كان صبيا
(مع الامام) أي موقفه مع إمامه أنه (يقوم عن يمينه) على جهة الندب،
وأنه يتأخر عنه قليلا بقدر ما يتميز به الامام من المأموم، وتكره المحاذاة
وهذه أولى مراتب المأموم مع الامام أنه إن كان المأموم واحدا فقط فموقفه
من الامام على يمينه، لما في الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت
في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقمت عن ساره، فأخذ
بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن.
154

والمرتبة الثانية أشار إليها بقوله (ويقوم الرجلان فأكثر خلفه) لما في
مسلم قال جابر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فجئت حتى قمت عن يسار رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه. ثم جاء جابر بن صخر
فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدينا جميعا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه.
والمرتبة الثالثة أشار إليها بقوله (فإن كانت امرأة معهما) أي مع الرجلين
(قامت خلفهما) لما في مسلم قال أنس: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم سليم خلفنا. والرابعة أشار إليها بقوله (وإن كان معهما)
أي مع الامام والمرأة (رجل صلى) الرجل ومثله الصبي الذي يعقل القربة
(عن يمين الامام و) صلت (المرأة خلفهما) لما في مسلم عن أنس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته، شك الراوي، فأقامني عن يمينه وأقام
المرأة التي هي أمه أو خالته خلفه. وحكم جماعة النسوة مع الامام والرجل حكم
المرأة الواحدة معهما. وقد أشار إلى ذلك في باب الجمعة بقوله: وتكون النساء
خلف صفوف الرجال. والخامسة أشار إليها بقوله: (ومن صلى بزوجته)
قال ابن العربي: الأفصح فيه زوج كالرجل، قال تعالى * (أسكن أنت وزوجك
الجنة) * (البقرة: 35) (قامت خلفه) ولا تقف عن يمينه أي يكره لها ذلك، وينبغي أن
يشير إليها بالتأخير، ولا تبطل صلاة واحد منهما بالمحاذاة إلا أن يحصل ما يبطل
الطهارة. والسادسة أشار إليها بقوله: (والصبي إن صلى مع رجل واحد خلف
155

الامام قاما) أي الصبي والرجل (خلفه) أي خلف الامام دليله حديث
أنس المتقدم، لكن قيد أهل المذهب هذا بقيد أشار إليه بقوله: (إن كان
الصبي يعقل) ثواب من أتم الصلاة وإثم من قطعها (لا يذهب ويدع) أي
يترك (من يقف معه) فإن لم يعقل ما ذكر قام الرجل عن يمين الامام،
ويترك الصبي يقف حيث شاء. وحكم هذه المراتب الاستحباب، فمن خالف
مرتبة وصلى في غيرها لا شئ عليه، إلا أن المرأة إذا تقدمت إلى مرتبة
الرجل أو أمام الامام فكالرجل يتقدم أمام الامام يكره له ذلك من غير
عذر، ولا تفسد صلاة الامام الذي تقدمت المرأة أمامه، ولا صلاة من معه
إلا أن يلتذ برؤيتها أو بمماستها، وضعف القول بالبطلان بالتلذذ بالرؤية
حيث لا مماسة ولا إنزال، فلو تقدم المأموم لعذر كضيق المسجد جاز من غير
كراهة. (والامام الراتب) هو من أقامه السلطان أو نائبه أو الواقف أو
جماعة المسلمين على أي وجه يجوز أو يكره، لان شرط الواقف يجب اتباعه
وإن كره، وكذلك السلطان أو نائبه، وإن أمرا بمكروه على أحد القولين،
وسواء كان المنتصب للإمامة في مسجد حقيقة أو حكما فدخل فيه السفينة
والمكان الذي جرت العادة بالجمع فيه (إن صلى وحده قام مقام الجماعة)
في حصول فضيلة الجماعة المتقدمة، وفي الحكم فلا يعيد في جماعة أخرى، ولا
تجمع الصلاة في ذلك المسجد مرة أخرى. ومن صلى وحده عيد معه لكن
بشرط صلاته في وقته المعتاد وانتظار الناس على العادة ونية الإمامة والاذان
والإقامة، ويجمع وحده ليلة المطر، لان المشقة حاصلة في حقه، ويقول سمع
156

الله لمن حمده، ولا يزيد ربنا ولك الحمد، أي يكره (ويكره) كراهة تنزيه
(في كل مسجد له إمام راتب أن تجمع فيه الصلاة مرتين) قبل الراتب
أو بعده أو معه على قول، والمذهب أنه يحرم أن يصلي أحد صلاة حال صلاة
الامام الراتب لها انفرادا أو جماعة، لان ذلك يؤدي إلى التباغض والتشاجر
بين الأئمة وتفريق الجماعة وقد أمر الشارع بالألفة. (ومن صلى صلاة)
من الصلوات المفروضة وحده أو مع جماعة إماما كان أو مأموما (فلا
يؤم فيها أحدا) لأنه يكون في الثانية متنفلا. والمعروف من المذهب أنه
لا يجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل ويعيد من ائتم به أبدا جماعة إن شاؤوا،
وهو معتمد المذهب أو أفذاذا. وقال ابن حبيب: أفذاذا، وكأنه راعى مذهب
المخالف، لان الصلاة الأولى تجزيهم عند الشافعي وغيره، فإذا أعادوها في
جماعة صاروا كمن صلى في جماعة ثم أعاد في جماعة أخرى. (وإذا سها
الامام) في صلاته (فليتبعه) أي وجوبا (من لم يسه معه ممن خلفه)
ظاهره ولو كان مسبوقا. والمسألة ذات تفصيل، وهو إن كان أدرك معه
الصلاة كلها لزمه اتباعه على كل وجه سواء كان السجود قبليا أو بعديا.
وإن كان مسبوقا فلا يخلو إما أن يعقد معه ركعة
أو لا، فإن عقد معه ركعة وكان السجود قبليا سجد معه، وإن كان بعديا لا يسجد معه، وينتظره
جالسا على ما في المدونة. قالوا: ويكون ساكتا ولا يتشهد معه، فإن خالف وسجد
أفسد صلاته وإن جهل فقال عيسى: يعيد أبدا، قال في البيان: وهو الاقيس
157

على أصل المذهب لأنه أدخل في صلاته ما ليس منها، وعذره ابن القاسم في
الجهل فحكم له بحكم النسيان مراعاة لمن يقول عليه السجود مع الامام اه‍
. وإن لم يعقد معه ركعة لم يترتب عليه سجوده البعدي، وأما القبلي فقال
ابن القاسم: لا يتبعه، وعليه إذا خالف وتبعه بطلت صلاته اه‍. أي عمدا أو
جهلا لا سهوا والأصل فيما قال ما رواه الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: ليس على
من خلف الامام سهو وإن سها الامام فعليه وعلى من خلفه وفي
الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الامام ليؤتم به أي ليقتدى به في أحوال
الصلاة، فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة كما قال فلا تختلفوا عليه، فالرفع
قبله، والخفض قبله من الاختلاف عليه، فيرجع ليرفع بعد رفعه، ويخفض
بعد خفضه، قاله شارح الحديث. (ولا يرفع أحد) من المأمومين (رأسه)
من ركوع أو سجود أي تحريما، فلو خالف فإنه يرجع له إن ظن إدراكه
قبل الرفع، وهل الرجوع سنة أو واجب؟ اقتصر المواق على الثاني. ولو
ترك الرجوع صحت صلاته حيث أخذ فرضه مع الامام قبل رفعه وإلا وجب
عليه الرجوع، فإن تركه عمدا أو جهلا بطلت صلاته لا سهوا، وكان
بمنزلة من زوحم، ويقاس عليه الخفض. (قبل الامام) لما في الصحيحين
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الامام
أن يحول الله وجهه وجه حمار أو يجعل صورته صورة حمار الشك من الراوي،
وقوله في الحديث يحول الله وجهه إما حقيقة بأن يمسخ، إذ لا مانع من
وقوع المسخ في هذه الأمة كما يشهد له حديث أبي مالك الأشعري الذي
في البخاري في باب الأشربة، أو يحول هيئته الحسية يوم القيامة ليحشر
على تلك الصورة أي أو المعنوية كالبلادة الموصوف بها الحمار، فاستعير
158

ذلك للجاهل. ورد هذا المعنى الأخير بأن الوعيد بأمر مستقبل، وهذه الصفة
حاصلة في فاعل ذلك عند فعله ذلك، وفي لفظ لمسلم أنه صلى الله عليه وسلم
قال: أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام
ولا بالانصراف (ولا يفعل) أحد فعلا من أفعال الصلاة (إلا بعد فعله)
أي إلا بعد الشروع في فعله، أي فالأولى أن يفعل بعد الشروع في الفعل
ويدركه فيه، وهذا في غير القيام من اثنتين. وأما فيه فيطلب منه أن
لا يفعل حتى يستقل الامام قائما. والأصل في ذلك أن البراء قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره أي لم يقوس
حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم نقع سجودا بعده، أي بحيث يتأخر
ابتداء فعلهم عن ابتداء فعله عليه الصلاة والسلام، ويتقدم ابتداء فعلهم
على فراغه عليه الصلاة والسلام من السجود، قاله شارح الحديث، فإن
قيل قوله ولا يفعله الخ تكرار مع ما قبله، فالجواب من وجهين أحدهما: أنه
من باب ذكر العام بعد الخاص، الثاني: أن الأول نهي عن السبق، وهذا
نهي عن المصاحبة. وملخصه أن السبق حرام كالتأخر عنه حتى ينتقل
إلى ركن آخر، والمصاحبة مكروهة. (ويفتتح) أي المأموم بالتكبير (بعده)
أي بعد تكبير الامام على جهة الوجوب، أي بعد الفراغ من التكبير، فإن
سبقه به أو ساواه فيه بطلت صلاته ختم قبله أو معه أو بعده، فهذه ست
صور. وإذا ابتدأ بعده إن ختم قبله بطلت، ومعه أو بعده صحت، فالصور
تسع. ومثلها في السلام إلا أنه في الاحرام لا فرق بين العمد والسهو وفي
السلام يقيد بالعمد لا بالسهو فلا يعتد بذلك السلام، ولا تبطل الصلاة به.
تنبيه: إذا علم أنه أحرم قبل إمامه وأراد أن يحرم بعده، فقال مالك:
159

يكبر ولا يسلم، لأنه
كأنه لم يكبر لمخالفته ما أمر به. وقال سحنون: يسلم لأنه اختلف في صحة الاحرام الأول. (ويقوم من اثنتين بعد قيامه) أي
بعد قيام الامام مستقلا على جهة الاستحباب. (ويسلم بعد سلامه) على جهة
الوجوب فإن سبقه به أو ساواه فيه بطلت صلاته إلا أن يكون ناشئا عن
السهو، وإلا فلا، وينتظر الامام حتى يسلم ويسلم بعده. (وما سوى ذلك) أي
الافتتاح والقيام من اثنتين والسلام بعده كالانحناء للركوع والسجود
والقيام إلى الثانية والرابعة (فواسع) أي جائز أي ليس بممتنع فلا ينافي
أنه مكروه بقرينة قوله: وبعده أحسن، فأفعل التفضيل ليس على بابه. (أن
يفعله معه وبعده أحسن) أي أفضل (وكل سهو سهاه المأموم) في حال
قدوته بالامام (فالامام يحمله عنه) أي كالتكبير، ولفظ التشهد أو زيادة
سجدة أو ركوع، ولا مفهوم للسهو، بل يحمل عنه بعض العمد كترك
التكبير أو لفظ التشهد، وذلك إذا كان في حال القدوة. وأما إذا كان
مسبوقا وسها في حال قضاء ما فاته مع الامام فإن الامام لا يحمله عنه، لان
القدوة قد انقطعت، وصار حكمه حكم المنفرد. ثم استثنى من الكلية التي
ذكرها مسائل فقال: (إلا ركعة) أي إلا كركعة أي من كل ما كان فرضا
غير الفاتحة. ولم يرد المصنف الحصر لان إلا لا تكون للحصر إلا إذا سبقها
نفي إذ بقي الجلوس للسلام والرفع وترتيب الأداء وغير ذلك. (أو سجدة أو
تكبيرة
160

الاحرام أو السلام أو اعتقاد نية الفريضة لأن هذه كلها فرائض،
والفرائض لا تسقط بالسهو، ولا يجزئ عنها السجود، (و) من فضائل
الصلاة أنه (إذا سلم الامام) من الفريضة (فلا يثبت) في مكانه (بعد
سلامه) سواء كانت الصلاة مما يتنفل بعدها أم لا (ولينصرف) وهل ينصرف
جملة وهو ظاهر كلام المصنف، أو يتحول ليس إلا. والمراد بانصرافه خروجه
من المحراب، والمراد بتحويله أي يمينا أو شمالا، ورجح القول بالتحويل، قال
الأجهوري ويكفي تغيير هيئته. قال الثعالبي: وهذا هو السنة. واختلف في
علته فقيل لان الموضع لا يستحقه
إلا من أجل الصلاة فإذا فرغ لا يستحقه بعدها، وقيل: إن العلة التلبيس على الداخل، ونقل عن الشافعي رضي الله
عنه أنه يثبت بعد سلامه قليلا لما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد
إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام،
ثم استثنى من انصراف الامام بعد سلامه مسألة فقال (إلا أن يكون في محله)
وهو داره في الحضر ورحله في السفر، أو كان بفلاة من الأرض (فذلك)
يعني الجلوس بعد سلامه (واسع) أي جائز لا كراهة فيه لأنه مأمون مما
يخاف منه. فائدة: كره مالك رضي الله عنه وجماعة من العلماء لائمة
المساجد والجماعات الدعاء عقب الصلوات المكتوبة جهرا للحاضرين، فيجتمع
لهذا الامام التقديم وشرف كونه نصب نفسه واسطة بين الله تعالى وبين
عباده في تحصيل مصالحهم على يديه في الدعاء، فيوشك أن تعظم نفسه ويفسد
161

قلبه ويعصي ربه في هذه الحالة أكثر مما يطيعه. وروي أن بعض الأئمة
استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يدعو لقومه بدعوات بعد
الصلاة فقال: لا، لأني أخاف عليك أن تشمخ نفسك حتى تصل الثريا، أي
ترتفع نفسك. وهذا كناية عن الكبر، ويجري مجرى هذا كل من نصب
نفسه للدعاء لغيره. وهذا آخر الكلام على الربع الأول من الرسالة. ثم شرع
يتكلم على الربع الثاني فقال: باب جامع في الصلاة (باب جامع) بالتنوين ويروى بالإضافة
وهذه الترجمة من تراجم الموطأ، ومعناها: هذا باب أذكر فيه مسائل مختلفة
(في الصلاة) واعترض على الشيخ بأنه ذكر في الباب مسائل ليست منه
كقوله: ومن أيقن بالوضوء وشك في الحدث ابتدأ الوضوء، ومن لم يقدر
على مس الماء لضرر به أو لا يجد من يناوله إياه يتيمم. وأجيب بأن أكثر
ما ذكره في الصلاة أي، فقوله: باب جامع الخ أي بحسب الأغلب، وبأنه وعد
بمسألة التيمم أي فكأنها مستثناة، وبأن مسألة الوضوء لها تعلق بالصلاة،
فكأنه قال: باب جامع فالصلاة حقيقة أو حكما، فما يتعلق بالصلاة صلاة
حقيقة، وما يتعلق بالوضوء صلاة حكما. وهذا الجواب جار أيضا في مسألة
التيمم. وابتدأ الباب بمسألة تقدمت في باب طهارة الماء أي للمناسبة لان
الستر يطلب حين إرادة الدخول في الصلاة. قال التتائي: وكرر هذه المسألة
مع تقدمها في باب طهارة الماء والثوب وأجيب بأنه إنما كررها لزيادة
صفة الخمار أو لان هذا محلها قال المصنف: (وأقل ما يجزئ المرأة من
اللباس في الصلاة) شيئان الشئ الأول: (الدرع) بدال مهملة. (الحصيف)
162

قال في التحقيق: روي بالحاء المهملة، وبالخاء المعجمة، ومعنى الأولى الكثيف
بالثاء المثلثة وهو المتين، ومعنى الثانية الساتر اه‍ فعلى الثانية يكون قوله
السابغ تفسيرا للخصيف بالخاء المعجمة (السابغ) أي الكامل (الذي
يستر ظهور قدميها) تفسير للسابغ وقوله ظهور قدميها بل لا بد أيضا من
ستر بطون قدميها وإن كان لا إعادة عند ترك ستر بطن القدم. (وهو)
أي الدرع (القميص) وهو ما يسلك في العنق (و) الشئ الثاني (الخمار
) بكسر الخاء المعجمة، وهو ثوب تجعله المرأة على رأسها (الحصيف) فشرطه
شرط القميص من كونه كثيفا لا يشف، فإن صلت بالخفيف النسج الذي
يشف فإن كان ممن تبدو منه العورة بدون تأمل فإنها تعيد أبدا، وإن كان
يصف العورة فقط أي يحددها فيكره، وتعيد في الوقت، والرجل كالمرأة
في ذلك فيجب على المرأة أن تستر ظهور قدميها وبطونهما وعنقها ودلاليها.
ويجوز أن تظهر وجهها وكفيها في الصلاة خاصة. والأصل فيما ذكر قوله
صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار يعني بالغ. وفي رواية: سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار قال: إذا كان الدرع
سابغا يغطي ظهور قدميها (ويجزئ الرجل في الصلاة ثوب واحد) من
غير كراهة إن كان كثيفا ساترا لجميع جسده، فإن لم يستر إلا عورته فقط
أجزأته صلاته مع الكراهة، وإنما كرر هذه المسألة ليرتب عليها قوله (ولا
يغطي) المصلي ذكرا كان أو أنثى (أنفه أو وجهه في الصلاة أو يضم ثيابه
163

أو يكفت) أي يضم (شعره) والنهي عن هذه الأمور لها نهي كراهة.
أما تغطية الانف بالنسبة إلى المرأة فلانه من التعمق في الدين أي التشديد
في الدين. وأما بالنسبة للرجل فللكبر إلا من كانت عادتهم ذلك كأهل
مسوقة، بلد بالمغرب، فيباح له في الصلاة بمعنى أنه لا يكره، فلا ينافي أنه
خلاف الأولى ويجوز في غيرها جوازا مستوي الطرفين. والحاصل أن
تغطية الانف مكروهة في الصلاة وغيرها إذا لم تكن عادتهم ذلك، وإلا
فخلاف الأولى في الصلاة، ومستوي الطرفين في غيرها. وأما تغطية الوجه
فمكروهة مطلقا في الصلاة للرجل والمرأة لما فيها من التعمق في الدين.
وأما ضم الثياب فإنما يكره إذا فعل ذلك لأجل الصلاة أو خوفا على ثيابه
أن تتغير بالتراب، لان في ذلك نوعا من ترك الخشوع. أما إذا كان في صنعة
أو عمل فحضرته الصلاة وهو بهذه الحالة فيجوز له أن يصلي على ما هو عليه
من غير كراهة. وأما كفت الشعر فإنما يكره إذا قصد بذلك عزة شعره
من أن يتلوث بنحو تراب أو فعل ذلك لأجل الصلاة أي كفت شعره
لأجل الصلاة. (وكل سهو) سهاه الامام أو الفذ أو المأموم في بعض الصور،
وهو فيما إذا شرع يقضي ما عليه (في الصلاة) المفروضة أو النافلة على ما في
المدونة خلافا لمن قال إنه لا سجود في النافلة دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم لكل سهو
سجدتان والحاصل أن النافلة كالفريضة إلا في خمس مسائل: السر والجهر
والسورة تغتفر في النافلة دون الفريضة. الرابعة إذا عقد ثالثة برفع رأسه
من ركوعها كملها رابعة في النافلة بخلاف الفريضة الخامسة إذا نسي ركنا
من النافلة وطال أو شرع في صلاة مفروضة مطلقا أو نافلة وركع فلا
شئ عليه بخلاف الفريضة فإنه يعيدها. (بزيادة) يسيرة سواء كانت من
غير أقوال الصلاة كالتكلم ساهيا أو كانت من جنس أفعال الصلاة كالركوع
164

والسجود. (فليسجد له) أي للسهو على جهة السنية على ما في المختصر وفي
الطراز وجوب البعدي، قاله التتائي. (سجدتين بعد السلام) ولو تكرر
سهوه ما لم تكثر الزيادة، وإلا بطلت الصلاة سواء كانت من غير أقوال
الصلاة كالكلام نسيانا ويطول، فإن كانت من أقوال الصلاة فلا سجود
في سهوها، كما لا يبطل تعمدها كما لو كرر السورة أو زاد سورة في أخرييه
إلا أن يكون القول فرضا، فإنه يسجد لسهوه كما لو كرر الفاتحة سهوا
ولو في ركعة. وجرى الخلاف في بطلان الصلاة بتعمد تكرارها، والمعتمد
عدم البطلان أو كانت من غير جنس أفعال الصلاة مثل أن ينسى أنه
في الصلاة فيأكل ويشرب. واختلف في ذلك فقيل إن جمعهما مبطل كثر
أم لا. وقيل: إن كثر بطل وإلا فلا. ويجبر بالسجود أو كانت من جنس أفعال
الصلاة والكثير منه في الرباعية مثلها أربع ركعات محققات على ما شهره
ابن الحاجب ومن تبعه. وتعتبر الركعة برفع الرأس من الركوع فإذا رفع
رأسه من ثانية في رباعية أو سابقة في ثلاثية أو رابعة في ثنائية فقد بطلت
الصلاة وفي بطلانها بنصفها قولان فقيل: تبطل، وقيل: لا تبطل وهو المعتمد،
ويسجد للسهو والكثير في الثنائية مثلها ركعتان ولا تبطل بزيادة ركعة
على المشهور، مثال الثنائية الصبح والجمعة بناء على أنها فرض يومها وعلى
مقابله فلا يبطلها، إلا زيادة أربع ركعات وكالرباعية السفرية فلا يبطلها
إلا زيادة أربع ركعات والكثير في المغرب أربع ركعات على المعتمد أن
الثلاثية كالرباعية لا تبطل إلا بزيادة أربع ركعات محققات. وظاهر قوله
(يتشهد لهما) أي لسجدتي السهو البعدي أنه ألا يحرم للسجود البعدي
والمشهور افتقاره إلى الاحرام ويكتفي بتكبيرة الاحرام عن تكبيرة الهوي
165

وعلى القول بافتقاره إلى الاحرام، فهل يحرم من قيام، وهو لبعض المتقدمين
أو من جلوس، وهو قول ابن شبلون. نقله في الجواهر، انتهى. (ويسلم منهما)
أي بعد فراغه من التشهد. (وكل سهو) في الصلاة سهاه الامام أو الفذ
أو المأموم في بعض صوره (بنقص) يعني بنقص سنة مؤكدة ومثلها
السنتان الخفيفتان، وسواء كان النقص محققا أو مشكوكا فيه، والسنن
المؤكدة التي يسجد لها ثمانية: الأولى قراءة ما زاد على أم القرآن في الفريضة
فيسجد لترك ذلك فيها لا في النافلة، الثانية الجهر بالقراءة في الفريضة الجهرية
فيسجد لتركه فيها لا في النافلة، بأن يأتي بالسر بدله فيها، الثالثة الاسرار في
محله فإذا قرأ جهرا في محل السر فإنه يسجد قبل السلام، وهذا وارد
على رأي ابن القاسم، وهو ضعيف، والمعتمد أنه بعد السلام، فعلى المعتمد ليس
من هذا الباب، أي باب السجود قبل السلام، الرابعة التكبير سوى تكبيرة
الاحرام، وهذا بناء على أنه كله سنة واحدة وأما على القول بأن كل تكبيرة
سنة، وهو ما عليه صاحب المختصر ومنصوص عليه في شرح المدونة أيضا،
فإنه يسجد لترك تكبيرتين، الخامسة قول سمع الله لمن حمده يجري فيه
ما جرى في الذي قبله، السادسة والسابعة التشهد الأول والجلوس له فذاته
سنة وكونه باللفظ الخاص سنة أخرى، والجلوس له سنة أخرى أيضا، فهو
مركب من ثلاث سنن، الثامنة التشهد الأخير ولا سجود لغير هذه الثمانية
والسجود الذي قبل السلام إنما يكون (إذا تم تشهده ثم) بعد أن يفرغ
من السجدتين (يتشهد) ثانيا على المشهور (ويسلم) وهو مختار ابن
القاسم، ووجهه أن من سنة السلام أن يعقب تشهدا، وأشعر كلامه أنه لا يعيد
166

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك (وقيل لا يعيد التشهد) وهو مروي
عن مالك أيضا، واختاره عبد الملك لان طريقة الجلوس الواحد لا يتكرر
فيه التشهد مرتين (ومن نقص في) صلاته شيئا من السنن المؤكدة (و)
مع ذلك (زاد) فيها شيئا يسيرا مما تقدم بيانه (سجد) له (قبل السلام)
أيضا مثل أن يترك التشهد والجلوس له ويزيد سجدة وما ذكره الشيخ
من التفصيل من أنه يسجد للنقص فقط أوله مع الزيادة قبل السلام
ويسجد للزيادة فقط بعد السلام هو قول مالك، وعن الشافعي يسجد قبل
السلام مطلقا، وعن أبي حنيفة بعده مطلقا، ودليلنا على الزيادة ما صح أنه
عليه الصلاة والسلام صلى العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين فقال:
أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ إلى أن قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأتم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين بعد السلام وهو جالس ودليل
النقص ما صح أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فقام من الركعتين الأوليين ولم يجلس،
فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو
جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم، قال ابن عبد السلام: ثم غلب
النقصان على الزيادة إذا اجتمعا وفي الحديث دلالة على مشروعية السجود
للسهو وأنه سجدتان وأن التسليم سهوا لا يبطل الصلاة، وأن الفصل اليسير
بعده غير مبطل، وأن الكلام لاصلاحها من الإمام والمأموم لا يبطل الصلاة.
(ومن نسي أن يسجد) سجود السهو البعدي الذي يفعله (بعد السلام)
ثم تذكره (فليسجد متى ما ذكره وإن طال ذلك) أي ما بين تذكره
167

والسلام من الصلاة ولو بعد شهر ولا مفهوم للنسيان، بل مثله الترك عمدا
لان السجود البعدي ترغيم للشيطان، فناسب أن يسجد وإن بعد وأما القبلي
فإنه جابر لنقص الصلاة فلذا طلب وقوعه فيها أو عقبها مع القرب، وظاهر
كلامه في المدونة أنه يأتي به ولو كان في وقت نهي، وهو كذلك في القبلي
لأنه من جملة الصلاة وتابع لها وكذا البعدي إن كان متعلقا بصلاة مفروضة.
وأما لو تذكره من صلاة غير مفروضة في وقت النهي فإنه يؤخره لحل النافلة
وظاهره أيضا أنه إن ترتب من صلاة الجمعة لا يرجع إلى الجامع. والمذهب
على ما قاله التادلي بالدال المهملة المفتوحة نسبة إلى تادلة محلة بالمغرب الرجوع
إلى الجامع، وظاهر المختصر اختصاص الرجوع إلى الجامع بالقبلي دون
البعدي، وهو المعتمد، وإنما كان هذا ظاهر المختصر لأنه قال: وبالجامع في
الجمعة في سياق الكلام في السجود القبلي ثم اعلم أن السجود القبلي لا بد
أن يفعل في الجامع الذي أديت فيه الجمعة، كما لو فاتته الركعة الأولى من
الجمعة وقام لقضائها فنسي السورة وخرج من المسجد ولم يطل الامر، فإنه
يرجع إلى الجامع الذي صلى فيه الجمعة. وأما البعدي، كما لو تكلم ساهيا، أو
زاد ركعة سهوا ونسي السجود حتى خرج من المسجد، فإنه يسجد في أي
جامع كان. تنبيه: ظاهر المتن سواء ذكره في صلاة أم لا، ولا يخلو هذا
من أربعة أوجه، لأنه إما أن يكون من فرض فيذكره في فرض، أو من
فرض فيذكره في نفل، أو من نفل فيذكره في نفل، أو من نفل فيذكره
في فرض. والحكم في ذلك كله أن يتم ما هو فيه، ويسجد بعد فراغه مما
هو فيه. (وإن كان) سجود السهو الذي نسيه قبليا أي يفعل (قبل السلام
سجد) إذا تذكره (إن كان) تذكره له (قريبا) من انصرافه من الصلاة
168

والقرب غير محدود على المذهب، وهو مذهب ابن القاسم، وكذلك الطول،
بل مرجعهما إلى العرف، فما قاله العرف يعمل به فيهما، ويحد بعدم الخروج
من المسجد عند الامام أشهب. (و) أما (إن بعد) تذكره له (ابتدأ)
بمعنى أعاد (الصلاة) وجوبا لبطلانها حيث كان مترتبا عن نقص ثلاث
سنن. قال التتائي: كالتحقيق كنسيان الجلوس الوسط أو ثلاث تكبيرات
أو تحميدات، وهذا إن كان تركه على جهة السهو، وأما لو تركه عمدا لبطلت
الصلاة بمجرد الترك على رأي الأجهوري. وقال السنهوري: لا تبطل إلا بالطول،
ولو كان الترك عمدا، وفي كلام العدوي لعل الأوجه كلام السنهوري لما تقدم
من أن تأخير القبلي لا يبطل الصلاة ولو كان عمدا (إلا أن يكون ذلك)
السجود القبلي ترتب (من نقص شئ خفيف كالسورة) التي تقرأ (مع
أم القرآن) أي فإنها مركبة من سنتين خفيفتين ذاتها وكونها سرا أو
جهرا، أي فيسجد لهما، ولكن إذا ترك وطال لا تبطل صلاته، وهذا إذا أتى
بالقيام لها، وإلا فتبطل في هذه الحالة، لأنه ترك ثلاث سنن، وقيل لا تبطل
ولو لم يأت بالقيام لها، وكلام الجزولي يفيد ترجيح الأول ويتفق على البطلان
حيث ترك السورة في أكثر من ركعة. وقول المصنف كالسورة مع أم القرآن
لو قال بعد أم القرآن لكان أوضح لئلا يتوهم أن أم القرآن متروكة أيضا، وإن
كان ذلك مدفوعا بأن موضوع كلام المصنف في نقصان شئ خفيف (أو
تكبيرتين أو التشهدين وشبه ذلك) كتحميدتين، وهذا مرور منه رحمه
169

الله على غير الراجح بناء على أن خصوص اللفظ مندوب، وأنه ترك
التشهدين وأتى بالجلوس لهما لأنه في تلك الحالة ليس سجوده إلا عن
سنتين خفيفتين، وقد علمت أن المذهب كما يفيده كلام المواق أنه يسجد
لترك تشهد واحد، وحينئذ فمن ترك تشهدا واحدا مع الجلوس له، ولم يسجد
حتى طال الامر بطلت صلاته لتركه السجود المترتب عن ثلاث سنن: الجلوس،
ومطلق التشهد، وخصوص اللفظ، فأولى من ذلك لو ترك تشهدين. واعترض
القرافي على هذه المسألة قائلا لا يتصور أن ينسى التشهدين ويكون
السجود لهما قبل السلام لأنه لا يتحقق سهوه عن التشهد الأخير إلا بالسلام،
لان كل ما قبله ظرف للتشهد والجواب أن هذا يتصور في الراعف المسبوق
بركعة خلف الامام، ويدرك الثانية، وتفوته الركعة الثالثة والرابعة، فإنه يطالب
بتشهدين بعد مفارقته لامامه غير تشهد السلام، فإذا ترك هذين التشهدين
فإنه يسجد قبل السلام (فلا شئ عليه) أي لا إعادة ولا سجود، أي مع
الطول إذ هو موضوع مسألة المصنف، وإلا فمن المعلوم أن السنتين
الخفيفتين يسجد لهما، لكن إذا طال الامر ولم يسجد لا يخاطب بسجود ولا
يعيد صلاته لكونه عن سنتين خفيفتين. وقد علمت مما تقدم أن السجود
شرع لجبر الخلل الواقع في الصلاة كما لو زاد ركوعا أو سجودا سهوا، أو ترك
ركوعا أو سجودا كذلك، أي سهوا، وتلافي ذلك المتروك قبل السلام أو ترك
سنة مؤكدة أو سنتين خفيفتين فإنه يطالب بالسجود على حسب أحواله
من كونه قبل أو بعد لجبر هذا الخلل، وكان من جملة الخلل الواقع في الصلاة
ما لا يجبر بالسجود، أي لا يكون السجود بدلا عنه، أي بحيث يقال إن هذا
السجود متمم لصلاة من ترك منها ركنا، وإنه قائم مقام ذلك الركن، نبه
على ذلك المصنف بقوله: (ولا يجزئ سجود السهو لنقص ركعة) أي
170

كاملة تيقن تركها أو شك فيه حال تشهده وقبل سلامه، ولا بد من الاتيان
بتلك الركعة، وكيفية الاتيان بها أنه يأتي بها بانيا على ما سبق من الركعات،
ولو كانت تلك الركعة إحدى الأوليين، ويسجد بعد ذلك قبل السلام لانقلاب
ركعاته حيث كان إماما أو فذا، فإن لم تكن من إحدى الأوليين، فإنه يسجد
بعد الاتيان بتلك الركعة بعد السلام لتمحض الزيادة. (ولا) لنقص
(سجدة) أي أو ركوع، أو رفع منهما، وذكر ذلك في حال قيامه مثلا أو
تشهده قبل سلامه تحقق نقصها، أو شك فيه، والفرض أنه لم يمكنه تلافيه
في محله، فإنه يأتي ببدل المشكوك فيه ويسجد قبل السلام، لان الفرض في
السجود قبل، والمراد بالشك مطلق التردد فيشمل الظن والشك والوهم.
هذا في الفرائض لأن الشك في النقص فيها كتحققه في وجوب الاتيان
ببدل المشكوك فيه بخلاف السنن فلا يسجد لنقصها إلا عند تيقن النقص
أو التردد فيه على السواء، لا عند توهمه. (ولا لترك القراءة في الصلاة كلها
أو في ركعتين منها وكذلك في ترك القراءة في ركعة من الصبح) لو قال
لنقص فريضة أو ركن لكان أخصر، وما ذكره من عدم الجبر بالسجود
لنقص ركعة أو سجدة مجمع عليه، وما ذكره من عدم الجبر في ترك القراءة
يعني قراءة أم القرآن في الصلاة كلها هو قول الأكثر، وهو الراجح، ومقابله
ما رواه الواقدي عن مالك أنه إذا ترك القراءة في الصلاة كلها أن صلاته
تجزئه، وما ذكره من عدم الجبر في ترك القراءة في الركعتين، قال ابن ناجي:
هو مؤثر في البطلان. ونص عبارته: وأما ترك القراءة في ركعتين منها أو
ثلاث، فإنه مؤثر في البطلان، انتهى. وظاهر عبارته بطلان الصلاة وأنه لا يأتي
171

ببدل ما ترك فيه القراءة وهو لا يتم فليحمل على أن المراد لا يجبر بالسجود، فلا
ينافي أنه يلغي ما ترك فيه القراءة ويأتي ببدله وتصح صلاته. وقال الفاكهاني
في ترك القراءة في نصف الصلاة كركعة من الثنائية أو ركعتين من الرباعية ثلاثة
أقوال: أشهرها أنه يتمادى ويسجد قبل السلام ويعيد صلاته احتياطا على جهة
الندب. ثانيها يسجد قبل السلام وتجزئه، ثالثها يلغي ما ترك فيه القراءة ويأتي
بمثله ويسجد بعد السلام، وهو الجاري على المعتمد من أنها واجبة في كل
ركعة فيكون هو المعتمد، ولما بين ترك حكم قراءة الفاتحة في الصلاة كلها
أو في نصفها انتقل يتكلم على تركها في أقل الصلاة، فقال: (واختلف
في السهو عن القراءة في ركعة من غيرها) أي من غير الصبح كركعة من
الثلاثية أو الرباعية على ثلاثة أقوال كلها في المدونة (فقيل يجزئ فيه)
أي في السهو عن القراءة في ركعة من غير الصبح (سجود السهو قبل السلام)
ولا يلغيها وتجزئه، واختار هذا القول عبد الملك بناء على أنها فرض في الجل،
أو بناء على عدم وجوبها، أو على أنها واجبة في ركعة أو النصف. (وقيل
يلغيها) أي الركعة التي ترك منها قراءة الفاتحة (ويأتي بركعة) بدلها،
واختار هذا القول ابن القاسم، وهذا يقتضي وجوبها في كل ركعة، وهو
المعتمد وصححه ابن الحاجب، وقال ابن شاس: هي الرواية المشهورة. (وقيل
يسجد قبل السلام ولا يأتي بركعة) بدلها (ويعيد الصلاة احتياطا) لبراءة
172

ذمته مراعاة لمن يقول بوجوبها في كل ركعة وبالإعادة افترقت الرواية
الثالثة من الأولى. وظاهر المصنف أن إتمام الأولى واجب وأن إعادة الثانية
مستحب لان الاحتياط لا يكون إلا مستحبا (وهذا) القول الثالث (أحسن
ذلك) أي الأقوال المذكورة لان فيه مراعاة القولين السابقين فسجوده
قبل السلام وعدم بطلانها رعي للقول بأنها فرض في الجل مثلا وإعادة
الصلاة رعي للقول الثاني. (إن شاء الله) تعالى قال ذلك مع كونه أحسن
الروايات عنده إما لعدم جزمه بما قاله من الأحسنية أو للتبرك. تنبيهان
من الفاكهاني: الأول: لم يذكر الشيخ حكم ما إذا ترك القراءة من أكثر
الصلاة كثلاث من الرباعية وركعتين من المغرب، وفي ذلك قولان مشهورهما
أنه يسجد قبل السلام ويعيد احتياطا أي ندبا، فمحصله أن ترك الجل
والنصف لا يبطل، ويسجد قبل السلام ويعيد احتياطا. الثاني محل الخلاف
المتقدم كله في ترك قراءة الفاتحة إذا فات موضع الاتيان بها، أما إذا لم يفت
بأن تذكرها قبل أن يرفع رأسه من الركوع فإنه يرجع لقراءتها، وفي
إعادة السورة قولان، استحسن اللخمي الإعادة وهو المشهور كما في التوضيح،
إما لكونها بعد الفاتحة سنة أو لكون السنة لا تحصل إلا إذا وقعت بعد
الفاتحة والظاهر أن القول الثاني أي القائل بعدم الإعادة وهو لمالك في
المجموعات لا يرى ذلك بل يرى أن السنة تحصل بقراءتها، وقعت قبل
الفاتحة أو بعدها، والله أعلم. وعلى ما استحسنه اللخمي من الإعادة قال
سحنون: يسجد بعد السلام، أي لتلك الزيادة القولية. وقال ابن حبيب:
لا سجود عليه أي فلا يرى ترتب السجود على تلك الزيادة القولية، وهذا
هو الراجح، قال صاحب التوضيح: وقول ابن حبيب أصح لان زيادة القراءة
173

لا يسجد لها بدليل لو قرأ سورتين أو قرأ السورة في الأخيرتين كما أفاده
في التحقيق، ثم انتقل يبين ما لا يسجد له من نقص سنة خفيفة أو نقص
فضيلة فقال: (ومن سها عن تكبيرة) سوى تكبيرة الاحرام (أو عن
سمع الله لمن حمده مرة) واحدة (أو) عن (القنوت فلا سجود عليه)
أما ترك السجود عن التكبيرة الواحدة، فهو المشهور، وعليه فإن سجد قبل
السلام بطلت صلاته إلا أن يكون مقتديا بمن يرى السجود لترك ذلك،
فلا تبطل صلاته كما لا تبطل إن ترك السجود خلفه وعن ابن القاسم: يسجد
لها. وما ذكره من ترك السجود لترك التحميدة الواحدة هو المذهب، ولا
سجود على من ترك القنوت، فإن سجد له قبل السلام بطلت صلاته.
(ومن انصرف) أي خرج (من الصلاة) بسلام سهوا مع اعتقاد الاتمام
المراد سها عن كونها ناقصة فلا ينافي أنه أوقع السلام عمدا. وأما إن سلم
ساهيا عن كونه في الصلاة أو عن كونه متكلما بالسلام فإنه بمنزلة من
لم يسلم فيتدارك ما تركه (ثم) بعد خروجه منها (ذكر) أي تذكر يقينا
أو شك، والمراد مطلق التردد ظنا أو شكا أو وهما (أنه بقي عليه شئ منها)
أي من أركان الصلاة المفروضة فيها كالركوع أو السجود أو الجلوس
بقدر السلام، فإذا سلم ساهيا في حال رفعه من السجود، فإنه يجلس بقدر
السلام ويسلم (فليرجع) أي للصلاة أي ينوي تكميلها (إن كان)
تذكره (بقرب ذلك) الانصراف قال التتائي: ظاهر المذهب يقتضي أنه
174

يصلي بمكانه فورا وإن لم يفعل وصلى بمكان آخر بطلت صلاته (ف‍) - إذا
رجع أي فإذا نوى الرجوع أي نوى تكميل الصلاة (يكبر تكبيرة
يحرم بها) أي معها يعني ينوي الرجوع مصاحبا للتكبير ظاهر كلامه
وإن قرب جدا، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وهذا هو المعتمد، ومقابله
أنه إن قرب جدا لا يحرم، وجعله ابن ناجي ظاهر كلام الشيخ حيث أتى
بثم، والخلاف إنما هو في التكبير، وأما النية فمتفق عليها، وحيث قلنا يرجع
بإحرام، فإن ذكر وهو جالس أحرم على حالته ولا يطالب بقيام هذا حيث
فارق الصلاة من محل الجلوس، وأما إن فارقها في غير محله كأن انصرف
بعد ما صلى ركعة أو صلى ثلاثا من غير المغرب فإنه يرجع للرفع من السجود
ويحرم منه ولا يجلس وإن ذكر وهو قائم ففي إحرامه وهو قائم قولان،
حاصله أن القدماء من أصحاب مالك ذهبوا إلى أنه يحرم من قيام لأجل
الفور وعليه فهل يجلس عقيبه ثم ينهض أو لا؟ قولان. وذهب ابن شبلون
إلى أنه يجلس لأنه الحالة التي فارق الصلاة عليها وهو المعتمد، ولا يكبر
لذلك الجلوس، وإنما يجلس بغير تكبير فإذا جلس كبر للاحرام ثم يقوم
بالتكبير الذي يفعله من فارق الصلاة من اثنتين ومحل كونه يجلس
للاحرام إذا سلم من اثنتين وأما إن سلم من واحدة أو من ثلاث فإنه
يرجع إلى حال رفعه من السجود ويحرم، ولا يجلس إذ لم يكن ذلك موضعا
لجلوسه، ويندب له رفع يديه حين يحرم، وإن ترك الاحرام ورجع بنية
فقط ففي التوضيح عن مصنفنا وهو ابن أبي زيد لا تبطل، وهو المعتمد.
(ثم) بعد أن يكبر التكبيرة التي أحرم بها (يصلي ما بقي عليه) من
صلاته إذا سلم على يقين أن صلاته تامة، أما إن سلم عالما بأن صلاته لم تتم
175

أو شك المراد مطلق التردد سواء ظهر الكمال أو النقصان، أو لم يظهر
شئ، فالصلاة باطلة، وقد عرفت ما إذا تذكر بعد أن سلم. وأما إن كان
تذكره قبل أن يسلم فإن كان من الأخيرة، فلا يخلو إما أن يكون ركوعا أو لا، فإن كان ركوعا
أتى به قائما، وإن كان رفعا من ركوع أتى به
محدودبا أو سجدة أتى بها من جلوس أو اثنتين أتى بهما من قيام،
فإن أتى بهما من جلوس سهوا سجد قبل السلام لنقص الانحطاط
لهما فهو غير واجب وإلا لم يجبر بسجود السهو، ويكره تعمد ذلك، كما قال
زروق، وإن كان المتروك من غير الأخيرة فإنه يأتي به على ما قررنا فيما
إذا كان من الأخيرة من جلوس أو قيام أو احديداب ما لم يعقد الركعة
التي تلي ركعة النقص، فإذا عقدها فقد فاتت وقامت التي عقدها مقامها حيث
كان فذا أو إماما، وما ذكرنا من أنه يأتي بالفرض المتروك إن أمكن
تداركه، وأما إن كان المتروك هو النية وتكبيرة الاحرام فلا يتداركان
لأنهما إذا نسيا لم توجد صلاة، فإذا سها عن واحدة منهما فإنه يبتدئ
الصلاة من أولها. واعلم أن النقص المشكوك كالمحقق، والمراد بالشك مطلق
التردد. وأما في السنن فلا يعتبر إلا تيقن النقص أو التردد فيه على السواء
لا عند التوهم. (وإن تباعد ذلك) التذكر عن الانصراف من الصلاة وهو
محدود بالعرف عند مالك وابن القاسم، أو خرج من المسجد عند أشهب،
(أو خرج من المسجد ابتدأ صلاته) لان من شروط الصلاة أن تكون
كلها في فور واحد وظاهر قوله (وكذلك من نسي السلام) أن فيه
التفصيل المتقدم فيرجع إلى الجلوس إن كان بقرب ذلك، فيكبر تكبيرة
176

يحرم بها وهو جالس ويتشهد ويأتي بالسلام ويسجد بعد السلام.
وإن تباعد ذلك أو خرج من المسجد ابتدأ صلاته ومحل كونه يأتي بتكبيرة
يجزم بها وهو جالس ويتشهد ويأتي بالسلام إذا تذكر السلام بعد أن
فارق مكانه. أما إن تذكر بالقرب وهو جالس مستقبل القبلة سلم مكانه، ولا
يطالب بتكبيرة يحرم بها ولا تشهد، فإن انحرف عنها انحرافا لا تبطل به
الصلاة استقبلها وسلم، ولا شئ عليه من تكبيرة إحرام أو تشهد، وإنما عليه
أن يسجد بعد السلام للسهو. (ومن لم يدر ما صلى أثلاث ركعات أم أربعا
بنى على اليقين) أي الاعتقاد الجازم (وصلى ما شك فيه) أي في تركه
فالثلاثة محققة، والذي وقع فيه الشك هو الرابعة، فلا تحقق الكمال الذي
تبرأ به الذمة إلا برابعة وهو معنى قول المصنف: وصلى ما شك فيه، فقوله
(وأتى برابعة) تفسير لقوله ما شك فيه (وسجد بعد سلامه) على المشهور،
وقال ابن لبابة: يسجد قبل السلام، وهو ظاهر ما في الموطأ ومسلم من قوله
صلى الله عليه وسلم إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح
الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم وسند المشهور
أن السجود بعد السلام بحمل الحديث على ما إذا لم يتقين سلامة الأولتين.
(ومن) كان إماما أو فذا و (تكلم) في صلاته كلاما يسيرا (ساهيا)
أي عن كونه في الصلاة أو عن كونه متكلما به، وأما لو تكلم عامدا فتبطل
صلاته إلا أن يكون لاصلاحها فلا تبطل إلا أن يكثر في نفسه، والكثرة
177

بالعرف (سجد بعد السلام) لأنه زيادة فينجبر سهوه بالسجود، واحترز
بالساهي من العامد والجاهل والمكره ومن وجب عليه الكلام لانقاذ
أعمى مثلا، فإن صلاتهم باطلة. وأما من وجب عليه الكلام لإجابة النبي
صلى الله عليه وسلم فلا تبطل صلاته، وسواء كان ذلك في حياته أو بعد موته إذا تيقن
أو ظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم لا إن شك فلا يجيب، فإن أجاب بطلت صلاته (ومن
لم يدر أسلم أو لم يسلم) ولم يقم من مقامه وكان بقرب تشهده (سلم ولا
سجود) سهو (عليه) لأنه إن كان سلم فصلاته تامة، والسلام الثاني واقع
في غير الصلاة فلا وجه للسجود، وإن كان لم يسلم فقد سلم الآن ولم يقع
منه سهو يسجد له، وأما إذا قرب ولكن تحول عن مقامه، أي ولم ينحرف
عن القبلة فإنه يرجع بتكبيرة ويتشهد ويسلم ويسجد بعد السلام للزيادة،
فلو لم يتحول إلا أنه انحرف عن القبلة فإنه يستقبل ويسلم ولا يتشهد ولا
إحرام عليه، ويسجد بعد السلام (ومن استنكحه) أي داخله (السهو)
في الصلاة (فليله عنه) وجوبا بمعنى أنه يضرب عنه صفحا ولا يعول على
ما يجده في نفسه من ذلك لأنه بلية من الشيطان إذا تمكنت من القلب
لا ينتج معها عمل أبدا، فالدواء النافع من هذا الداء الذي يورث خبل
العقل هو الاعراض وأنفع دواء هو ذكر الله * (إن الذين اتقوا إذا مسهم
طائف من الشيطان تذكروا) * (الأعراف: 201) فإذا قال له مثلا ما صليت إلا ثلاثا فيقول
له: ما صليت إلا أربعا وإن صلاتي صحيحة (ولا إصلاح عليه) فلو أصلح
178

وبنى على اليقين لم تبطل صلاته كما قال الخطابي، ولعل وجهه أن الأصل البناء
على اليقين، وإنما سقط عن المستنكح تخفيفا عليه، فإذا أصلح فقد وافق
الأصل (ولكن عليه أن يسجد بعد السلام) عند ابن القاسم على جهة
الاستحباب لأنه إلى الزيادة أقرب، وجهه أن من هذه صفته على تقدير
أن يكون شك هل صلى ثلاثا أو أربعا يقرب أن يكون صلى خمسا (وهو
الذي يكثر ذلك منه) أي يعتريه الشك في زمن كثير (يشك كثيرا أن
يكون سها ونقص) أي سها فنقص وفي رواية سها زاد أو نقص، وتحته
صورتان: الأولى يشك هل صليت أربعا أو خمسا. والثانية يشك هل صليت
أربعا أو ثلاثا. ولكن مفاد قوله فليله عنه ولا إصلاح عليه لا يعقل إلا
فيما إذا كان سها بنقص لا إن كان سها بزيادة. وغاية الاعتذار عنه أن يقال
الالهاء بحيث إنه لا يطالب بالسجود على جهة السنية فلا ينافي أنه يسجد
ندبا. واعلم أن الكثرة تعتبر إذا كان يأتيه في كل صلاة، أو في كل وضوء،
أو كل يوم مرة أو مرتين، أو يأتيه يوما وينقطع عنه يوما، أو يأتيه
يومين وينقطع عند الثالث، فذا هو المستنكح، وأما لو أتاه يومين وانقطع
عنه ثلاثة فليس بمستنكح كما لو أتاه يوما في الوضوء ويوما في الصلاة،
فليس بمستنكح لأن الشك في الوسائل كالوضوء لا يضم للشك في المقاصد
كالصلاة بل كل عبادة تقرر على حدتها والمراد بزمن إتيانه اليوم الذي
يحصل فيه ولو مرة. وقوله (ولا يوقن) تكرار مع قوله يشك، وكذا قوله:
(فليسجد بعد السلام) تكرار مع قوله، ولكن عليه أن يسجد بعد
179

السلام وقوله: (فقط) إشارة لمن يقول عليه الاصلاح. (وإذا أيقن)
المصلي (بالسهو سجد بعد إصلاح) يعني أن من أيقن بأنه ترك
ما أفسد له ركعة، أي أيقن بأنه سها عن سجدة أو ركوع وفات التدارك،
كأن ذكر وهو في التشهد الأخير مثلا، فإنه يأتي بركعة مكان التي حصل
فيها الفساد، ثم يسجد، فإن كانت الركعة التي سها فيها إحدى الأولتين سجد
قبل السلام لأنه اجتمع عليه الزيادة والنقصان أما الزيادة فهي الركعة التي
ألغاها، والجلوس في غير محله. وأما النقصان فلترك السورة لأنه إنما يأتي
بالركعة متلبسة بالبناء أي بالفاتحة فقط، وإن كانت من الأخيرتين لم يكن
معه إلا الزيادة خاصة فيسجد بعد السلام. (وإن كثر ذلك) السهو (منه
فهو يعتريه) أي صيبه (كثيرا) مثل أن تكون عادته السهو أبدا
عن الجلوس الأول أو تكون عادته نسيان السجود (أصلح صلاته ولم
يسجد لسهوه) اعلم أن إصلاح ذلك يقع على وجهين، أحدهما: أن يفوت
محل التدارك، الثاني: أن لا يفوت مثال الأول من عادته السهو عن السجدة
الثانية من الركعة الثانية مثلا من غير الثنائية، ولم يتذكر إلا بعد السلام
أو بعد أن عقد الثالثة، فإنه يأتي بركعة في الأول ولا يسجد، وتنقلب الثالثة
ثانية في الثاني ولا يسجد. ومثال الثاني ما إذا تذكر في الفرض المذكور
قبل أن يعقد الثالثة، وهذان الوجهان يدخلان في قوله: أصلح ولم يسجد
لسهوه، فلو سجد في هذه الحالة وكان سجوده قبل السلام، فهل تبطل صلاته
إن فعله عمدا أو جهلا أم لا مراعاة لمن يقول إنه يسجد؟ استظهر بعضهم
180

عدم البطلان. (ومن قام) يريد تزحزح للقيام ولم تبقه على ظاهره لئلا
يتناقض مع قوله بعد رجع، لان ظاهره أنه لم يقم من اثنتين من صلاة
الفريضة تاركا للجلوس، ومن لازمه ترك التشهد. وأما لو جلس وقام ناسيا
للتشهد فلا يرجع ولا سجود عليه (رجع) اتفاقا (ما لم يفارق الأرض
بيديه وركبتيه) وأحرى إذا لم يفارق الأرض إلا بيديه فقط أو بركبتيه
خاصة ثم يتشهد ويتم صلاته ولا سجود عليه لخفة الامر في ذلك، فإن تمادى
على القيام عامدا بطلت صلاته على المشهور لأنه ترك ثلاث سنن عامدا، وإن
تمادى ناسيا سجد قبل السلام. (فإذا فارقها) أي الأرض بيديه وركبتيه
(تمادى ولم يرجع وسجد قبل السلام) فإن طال زمن الترك ولم يسجد
بطلت صلاته اه‍. وهذا صادق بصورتين الأولى أن يفارق الأرض بيديه
وركبتيه ولم يعتدل قائما، ثم تذكر بعد أن فارق الأرض. والثانية أن يفارق
الأرض ويعتدل قائما. والحكم فيها واحد، وهو أنه يتمادى ولا يرجع ويسجد
قبل السلام. لكن لو خالف ورجع في الصورة الأولى إلى الجلوس عمدا
أو سهوا أو جهلا لا تبطل صلاته، ويسجد بعد السلام لتحقق الزيادة وفي
الصورة الثانية إن رجع إلى الجلوس عامدا ففي التوضيح المشهور الصحة
وعليه يسجد بعد السلام لتحقق الزيادة، وإن رجع جاهلا ففي النوادر
عن سحنون تفسد صلاته. والمعتمد ما رواه ابن القاسم في المجموعة يتمادى
على صلاته ويسجد، وإذا رجع فلا ينهض حتى يتشهد لان رجوعه معتد
به عند ابن القاسم، وينقلب سجوده القبلي بعديا، فلو ترك التشهد عمدا بعد
رجوعه بطلت صلاته على كلام ابن القاسم لا على كلام أشهب، ولعل كلام
181

ابن القاسم بناء على بطلانها بتعمد ترك سنة خلافا لأشهب، كذا في بعض
شروح خليل. وإن رجع ناسيا فلا تبطل صلاته اتفاقا، ويسجد بعد السلام.
ثم انتقل يتكلم على ما إذا نسي صلاة أو أكثر من الصلوات المفروضات،
ولا يخلو إما أن يتذكرها بعد أن صلى صلاة حاضرة لم يخرج وقتها أو
قبل أن يصليها أو فيها، وقد أشار إلى الحالة الأولى بقوله: (ومن ذكر صلاة)
نسيها، أو نام عنها، أو تعمد تركها على المعروف من المذهب (صلاها) أي
يجب عليه قضاؤها بلا خلاف في المنسية، وعلى المعروف من المذهب في
المتروكة عمدا، فكان الأولى للمصنف أن يذكر العمد، والأصل في ذلك
ما رواه مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام من نسي صلاة أو نام عنها
فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها وإذا امتنع من قضاء المنسيات فإنه
يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. واختلف في المتعمد فقيل: إنه يقتل بعد
الاستتابة، وقيل: لا يقتل مراعاة لمن يقول بعدم وجوب القضاء، إذ هو محل
خلاف، وإذا ثبت وجوب قضاء المنسيات فليصلها (متى ما ذكرها) في ليل
أو نهار عند طلوع الشمس وعند غروبها، أي حيث تحقق تركها أو ظنه.
وأما المشكوك في تركها وعدمه على السواء فيجب عليه القضاء، ولكن
يتوقى أوقات النهي وجوبا في نهي الحرمة وندبا في نهي الكراهة، وأما توهم
الترك أو التجويز العقلي فلا يجب بهما قضاء ولا يندب، وظاهر كلام
المصنف أن قضاء الفوائت يجب على الفور، ولا يجوز التأخير إلا لعذر
وهو كذلك في نقل الأكثر أي أكثر أهل المذهب. وإذا أراد قضاء
المنسية فإنه يفعلها (على نحو ما فاتته) من إعداد الركوع والسجود
وهيئاتها من إسرار وجهر، ويقنت إن كان صبحا، ويقيم لكل صلاة، وإن
182

نسيها سفرية قضاها كذلك سفرية، وإن نسيها حضرية قضاها كذلك
حضرية، وإذا اختلف وقت القضاء ووقت الفوات بالصحة والمرض، فإنه
يعتبر وقت القضاء، فإذا فاتته في الصحة وكان في وقت القضاء مريضا لا يقدر
إلا على النية فقط أو مع الايماء بالطرف، فإنه يقضيها بالنية أو النية والطرف،
ولا يؤخرها لاحتمال موته، وإذا كفى هذا في الأداء فيكفي في القضاء
الأولى. (ثم) بعد قضاء ما فاته من الصلوات المنسية (أعاد ما) أي الصلاة
الحاضرة التي (كان) أوقعها (في وقته) الضمير عائد على ما وذكره
باعتبار اللفظ، وسواء في ذلك الامام والفذ والمأموم، فكل منهم مطالب على
جهة الندب بأنه لو ذكر يسير الفوائت وهي خمس أو أربع بعد أن صلى
الحاضرة وقد بقي وقتها أن يعيد الحاضرة بعد قضاء ما نسيه من يسير الفوائت
مثال ذلك أن ينسى مغرب أمسه مثلا فيذكره بعد أن صلى الصبح من غده
وقبل أن تطلع المشمس، فإنه يصلي المغرب ويعيد الصبح، ولا يعيد العشاء
لفوات وقتها، وإن ذكر المغرب بعد طلوع الشمس فإنه يأتي بها ولا يعيد شيئا
أصلا وأما لو صلى حاضرة ثم ذكر فائتة كثيرة وهي ست أو خمس فلا يتأتى
إعادة الحاضرة بعد قضاء ما فاتته لأنه لو ذكرها قبل الحاضرة لقدمت الحاضرة
عليها فكيف يتأتى إعادة الحاضرة بعد قضائها. وقوله (مما صلى) بيان لما
والضمير في (بعدها) عائد على المنسية. وقوله (ومن عليه صلوات كثيرة)
سواء نسيها أو نام عنها أو تعمد تركها (صلاها) أي قضاها (في كل
وقت من ليل أو نهار وعند طلوع الشمس وعند غروبها) وسوغ
183

التكرار أنه تكلم أولا على الصلوات اليسيرة، وتكلم هنا على الكثيرة، وكرر
قوله عند طلوع الشمس وعند غروبها إشارة إلى أبي حنيفة القائل بأنه
لا يصلي عند طلوع الشمس إلا صبح يومه، وعند الغروب إلا عصر يومه،
دليلنا الحديث المتقدم. وقوله (وكيفما تيسر له) إشارة إلى دفع المشقة في
قضائها من غير تفريط. ثم أشار إلى القسم الثاني بقوله: (وإن كانت) أي
الصلوات التي عليه (يسيرة أقل من صلاة يوم وليلة) وهي أربع صلوات
(بدأ بهن) أي قدمهن على الصلاة الحاضرة وجوبا، ويدخل في الفائتة
اليسيرة ما لو كان عليه الظهر والعصر أو المغرب والعشاء، ولم يبق من الوقت
إلا ما يسع الأخيرة، فيجب تقديم الأولى، فإن خالف وقدم الحاضرة صحت مع
الاثم في العمد دون النسيان، ولا يتأتى هنا إعادة لخروج الوقت. (وإن فات
وقت ما هو في وقته) يعني أن من عليه يسير الفوائت يجب عليه أن
يقدمها على الحاضرة وإن لزم على ذلك أنه يفعل الحاضرة بعد خروج
وقتها وما ذكر من تقديم اليسيرة على الحاضرة إذا ضاق الوقت عن إدراك
الحاضرة هو المشهور. وقال ابن وهب: يبدأ بالحاضرة. وما ذكره من الترتيب
بين اليسيرة والحاضرة هل هو واجب شرط أو واجب غير شرط؟ والثاني
هو المشهور، والأول رواه مطرف وابن الماجشون عن مالك، وهو ظاهر
المدونة عند سند وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا خالف ما أمر به بأن قدم
الحاضرة على الفائتة اليسيرة، فعلى الشرطية يعيد الحاضرة أبدا، وعلى مقابله
يعيدها ما دام الوقت الضروري باقيا، ففي الظهرين إلى الغروب، وفي العشاءين
إلى طلوع الفجر، وفي الصبح إلى طلوع الشمس. ثم شرع يبين حكم ترتيب
184

الفوائت الكثيرة مع الحاضرة فقال: (وإن كثرت) أي الفوائت التي
عليه وهي على ما قال الشيخ خمس فما فوق، وعلى ما شهره المازري ست
فما فوق (بدأ بما يخاف فوات وقته) مفهوم كلامه أنه إذا لم يخف
فوات وقت الحاضرة أنه يبدأ بالمنسيات وهذا القول لابن حبيب والمعتمد
ما رواه ابن القاسم أنه يبدأ بالحاضرة مطلقا ضاق الوقت أو اتسع، لكن
وجوبا عند ضيق الوقت وندبا عند اتساعه. ثم انتقل يتكلم على القسم
الثالث فقال: (ومن ذكر صلاة) أي ذكر يسير الفوائت وهي ما يجب
ترتيبها مع الحاضرة (في) حال تلبسه ب‍ (صلاة) مفروضة (فسدت هذه)
أي الصلاة التي هو فيها بمعنى أنه يقطعها لا أنها فسدت بالفعل، (عليه) قال
ابن ناجي: ظاهر كلام الشيخ أن القطع واجب، وهذا القول ظاهر المذهب
كما قاله في التوضيح، وقيل: مستحب، واستشكله ابن عبد السلام بأن الترتيب
إما أن يكون واجبا فيلزم القطع أو مستحبا فيلزم التمادي، وظاهره أيضا
أن المأموم يقطع كغيره، وهو قول في المذهب، والمشهور ما في المدونة يتمادى
مع الامام ويعيد، وفي وجوب الإعادة خلاف أي بناء على أن الترتيب بين
اليسيرة والحاضرة واجب شرط وشهر في المختصر الإعادة في الوقت، أي فلا
تكون الإعادة واجبة بل مستحبة، وحاصل ما في المسألة أنه إذا ذكر الامام
أو الفذ يسير الفوائت قبل عقد ركعة بسجدتيها فإنه يجب القطع، وقيل
يندب، فلو عقد ركعة بسجدتيها شفع استحبابا وقيل وجوبا، ويتبع المأموم
إمامه في ذلك، ولا فرق بين الرباعية والثنائية كالصبح والجمعة والمقصورة،
وظاهر المدونة أن المغرب كغيرها أي يشفعها إن عقد ركعة، وهو غير معول
185

عليه بل يتمها مغربا وهو ما رجحه ابن عرفة، فلو تذكر بعد أن كمل من
المغرب ركعتين تامتين بسجدتيهما فإنه يكملها بنية الفريضة كما أنه إذا
كمل ثلاثا من غيرها فإنه يكملها بنية الفريضة، وبعد تكميل المغرب أو
غيرها يعيد ندبا في الوقت، أي بعد إتيانه بيسير الفوائت. وإن كان الذاكر
ليسير الفوائت المأموم، فإنه يتمادى مع إمامه، ثم تندب له الإعادة في الوقت.
ولا فرق بين أن تكون المعادة جمعة أو غيرها، ويعيدها جمعة إن أمكن
وإلا ظهرا. (ومن ضحك) أي قهقه وهو الضحك بصوت وهو (في الصلاة
أعادها) وجوبا أبدا لأنها بطلت اتفاقا إن كان عمدا سواء كان إماما أو
مأموما أو فذا. وعلى المشهور إن كان سهوا أو غلبة ومقابله لا يضر قياسا
على الكلام. قال ابن ناجي: وظاهر كلامه وإن كان ضحكه سرورا بما
أعده الله للمؤمنين كما إذا قرأ آية فيها صفة أهل الجنة فيضحك سرورا
وبه أفتى غير واحد ممن لقيته من القرويين والتونسيين وعلى المشهور
في السهو والغلبة يستخلف الامام فيهما ويرجع مأموما، ثم يعيد بعد ذلك
وجوبا في الوقت وبعده، والمراد بالسهو نسيان كونه في الصلاة،
وأما نسيان الحكم، أو نسيان كون ما يفعل ضحكا، فمقتضى كلام
التوضيح أنه كالعمد. (ولم يعد الوضوء) خلافا لأبي حنيفة القائل
بأن القهقهة تنقض الوضوء أيضا كما أبطلت الصلاة إلا أن يكون في صلاة
الجنازة فتبطل الصلاة فقط. ولما كان المأموم يخالف الفذ والامام في حالة
نبه على ذلك بقوله: (وإن كان) الذي ضحك في صلاته (مع إمام تمادى)
معه استحبابا مراعاة لحقه وقيل وجوبا، وتمادي المأموم مقيد بقيود الأول
186

أن لا يقدر على الترك في أثناء الضحك بل غلبة، وكذا فعله نسيانا، فإن
قدر على الترك لم يتماد، الثاني أن لا يكون ضحكه ابتداء عمدا وإلا لم يتماد في
الغلبة والنسيان بعد. الثالث أن لا يخاف بتماديه خروج الوقت وإلا قطع.
الرابع أن لا يلزم على بقائه ضحك المأمومين كلا أو عضا وإلا قطع ولو
بظن ذلك، الخامس أن لا يكون جمعة وإلا فيقطع ولو اتسع الوقت. (ولا
شئ عليه) أي المصلي فذا كان أو إماما أو مأموما (في التبسم) حال
تلبسه بالصلاة، أي ولا سجود في السهو ولا بطلان في العمد أو الجهل، غير
أن العمد مكروه وإن كثر أبطلها ولو سهوا لان التبسم إنما هو تحريك
الشفتين فهو كحركة الأجفان أو القدمين (والنفخ في الصلاة كالكلام)
فتبطل بعمده وجهله ولا تبطل بسهوه اليسير ويسجد بعد السلام فقوله
(والعامد لذلك) أي للنفخ في الصلاة (مفسد لصلاته) حشو إلا أن يحمل
الأول على السهو، ولا يشترط في الابطال بالنفخ أن يظهر منه حرفان بل
ولا حرف واحد، فظهر من ذلك أن المراد النفخ بالفم، وأما بالأنف فلا
يبطل عمده ولا سجود في سهوه، قال الأجهوري: وينبغي أن يقيد بأن
لا يكون عبثا وإلا جرى على الأفعال الكثيرة، ودليل الابطال ما روي عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: النفخ في الصلاة كلام، يعني: فيبطل، ومثل
هذا لا يقال من قبل الرأي بل عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم. والتنحنح لضرورة
لا يبطل الصلاة، ولا سجود فيه اتفاقا ولغير ضرورة قولان لمالك يفرق
بين العمد والسهو، والقول الآخر لا يبطل مطلقا وبه أخد ابن القاسم واختاره
الأبهري واللخمي لخفة الامر، والمذهب أن الأنين لمرض لا يبطل الصلاة
187

وإن كان من الأصوات الملحقة بالكلام لأنه محل ضرورة، قاله بهرام
والتتائي. وكذلك البكاء إذا كان لتخشع أي بشرط أن يكون غلبة وحاصل
ما يتعلق بالبكاء أنه إذا كان بغير صوت لا يبطل اختيارا أو غلبة تخشعا
أو لا إلا أن يكثر الاختياري، وما بصوت يبطل إن كان لتخشع أو مصيبة
إن كان اختيارا فإن كان غلبة لا يبطل إن كان لتخشع، وإن كان لغيره
أبطل. (ومن) كان من أهل الاجتهاد بالأدلة المنصوبة على الكعبة، ومثله
من كان مقلدا غيره عدلا عارفا أو محرابا، وكان بغير مكة والمدينة واجتهد
في جهة غلبت على ظنه لما قام عنده من الامارات فصلى إليها، ثم تبين له بعد
الفراغ منها أنه (أخطأ القبلة) أي جهة الكعبة باستدبارها أو الانحراف
عنها انحرافا شديدا في غير قتال جائز (أعاد) ما صلى ما دام في الوقت
المختار استحبابا. هذا حكم من كان بغير مكة والمدينة، وكان عنده الأدلة
المنصوبة على القبلة، واجتهد وأخطأ، فلو لم يجتهد وصلى بغير اجتهاد أعاد أبدا.
وإن أصاب القبلة كما أن من كان بمكة أو المدينة أو المساجد التي صلى
فيها النبي عليه الصلاة والسلام واجتهد وصلى أعاد أبدا. وإن كشف الغيب
أنه صلى إلى القبلة لأنه خالف الواجب عليه من مسامتة عين الكعبة وعدم
الاجتهاد. (أو) صلى (على كان نجس) أو ثوب كذلك أي نجس، أو كان
على بدنه نجاسة ثم تذكر بعد الفراغ من الصلاة نجاسة ذلك أعاد في الوقت.
والوقت في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين الليل كله. (وكذلك من
توضأ) ناسيا (بماء نجس) أي متنجس، أي محكوم بنجاسته عند
188

المصنف (مختلف في نجاسته) كماء قليل حلته نجاسة ولم تغيره، ولم يتذكر
حتى فرغ من صلاته. وأما فيها فتبطل بمجرد الذكر فالإعادة في الوقت
استحبابا منوطة بالتذكر بعد الفراغ ولا يخفى أن كلام المصنف مبني على
مذهبه، وهو أن الماء القليل الذي حلته نجاسة ولم تغيره متنجس، والمعتمد أنه
ليس بمتنجس، وعليه فلا إعادة أصلا، وعلى مذهب المصنف يعيد الوضوء
أيضا، أي استحبابا، لأنه وسيلة لمستحب فيكون مستحبا، ويغسل ما أصاب
جسده وثوبه من ذلك الماء أي استحبابا. (وأما من توضأ بماء قد تغير لونه
أو طعمه) يعني أو ريحه بشئ طاهر أو نجس (أعاد صلاته أبدا ووضوءه)
سواء توضأ به عامدا أو ناسيا لأنه أوقعها بوضوء لم يجز ويعيد الاستنجاء
أيضا إن كان استنجى من هذا الماء فلا مفهوم لقول المصنف: وأما من
توضأ. ثم انتقل يتكلم على الجمع بين الصلاتين وذكره في خمسة مواضع
أولها أشار إليه بقوله (ورخص في الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر
وكذلك في طين وظلمة) ما ذكر من كون الجمع ليلة المطر رخصة هو الذي
مشى عليه صاحب المختصر ولم يبين حكمها، وهل هو الإباحة وهو ظاهر
كلامهم أو خلاف الأولى إذ الأولى إيقاع الصلاة في وقتها، وهو ما مشى عليه
ابن عبد البر مراعاة لمن يقول لا جمع ليلة المطر أو الأولى لما في السنن من
قول أبي سلمة من السنة إذا كان يوم مطر الجمع بين المغرب والعشاء، وهذا
القول هو المعتمد إلا أنه محتمل للسنية والندب، ولكن جزم الأجهوري
189

بالندب أي فقول أبي سلمة من السنة مراده الطريقة والرخصة لغة التيسير
وشرعا إباحة الشئ الممنوع مع قيام السبب المانع، أي لولا وجود تلك
المشقة والسبب المانع هنا كونها يمكن فعلها في وقتها. وما ذكره المصنف في
سبب الجمع فمنه ما هو على المشهور وهو المطر، فالمطر سبب للجمع بين المغرب
والعشاء على القول المشهور بشرط أن يكون وابلا أي كثيرا، وهو الذي
يحمل أواسط الناس على تغطية الرأس، وسواء كان واقعا أو متوقعا، ويمكن
علم ذلك بالقرينة. ومثل المطر الثلج والبرد ومنه ما هو متفق على أنه سبب
للجمع وهو الطين والظلمة والمراد بالطين الوحل، وبالظلمة ظلمة الليل من غير قمر،
فلو غطى السحاب القمر فليس بظلمة فلا يجمع لذلك، وظاهر كلام المصنف
أنه لا يجمع للظلمة وحدها ولا للطين وحده، وهو كذلك. أما الظلمة فاتفق
أهل المذهب على أنه لا يجمع لها وحدها. وأما الطين فقد صرح القرافي
بمشهورية القول بعدم الجمع، وعليه اقتصر صاحب المختصر وهو المعتمد،
وظاهر قصره الرخصة بين المغرب والعشاء أنه لا يجمع بين غيرهما وهو
كذلك. قال ابن الحاجب: والمنصوص اختصاصه بالمغرب والعشاء ثم بين
صفة الجمع بينهما بقوله (يؤذن للمغرب أول الوقت خارج المسجد) على
المنارة (ثم يؤخر) صلاة المغرب شيئا (قليلا في) مشهور (قول مالك)
الإضافة للبيان أي في مشهور هو قول مالك لان القول لمالك، وقد خالفه
ابن عبد الحكم وابن وهب لا أن القولين لمالك، وهذا هو المشهور وإنما
طلب تأخير المغرب شيئا قليلا ليأتي المسجد من بعدت داره، قال ابن ناجي:
تردد شيخنا هل تأخير المغرب على المشهور أمر واجب لا بد منه، أم ذلك
190

على طريق الندب؟ قولان، والراجح أن ذلك على طريق الندب والتأخير
بقدر ما يدخل وقت الاشتراك لاختصاص الأولى بثلاث بعد الغروب. (ثم)
بعد أن يؤخر المغرب قليلا (يقيم) لها الصلاة أي على طريق السنية.
(داخل المسجد ويصليها) ولا يطول على المشهور لان تقصيرها مطلوب
في غير هذا، فهذا أولى. قال ابن الحاجب: وينوي الجمع عند الأولى، فإن أخره
إلى الثانية فقولان أي بالاجزاء وعدمه، والقولان متفقان على أن النية
عند الأولى والنزاع إنما هو في الاجزاء عند الثانية على فرض أن يكون
إنما نوى عندها والحاصل أن محلها الصلاة الأولى، وتطلب من الإمام والمأموم
، فلو تركت فلا بطلان، فهي واجب غير شرط. وأما نية الإمامة فلا
بد منها، فلو ترك الامام نية الإمامة بطلتا حيث تركها فيهما، وأما لو تركها
في الثانية وأتى بها في الأولى فالظاهر صحتها، وتبطل الثانية ولا يصليها إلا
عند مغيب الشفق. وأما لو تركها عند الأولى ونيته الجمع فإنها تبطل لان
صحتها مشروطة بنية الإمامة، كذا في شرح الشيخ (ثم) بعد الفراغ من
صلاة المغرب أي من غير مهلة ولا تسبيح ولا تحميد ولا تنفل، فيمنع
التنفل بين المغرب والعشاء على المشهور (يؤذن للعشاء) إثر المغرب أذانا
ليس بالعالي، والظاهر أن هذا الاذان مستحب، لأنه ليس جماعة تطلب
غيرها، ولا يسقط طلب الاذان لها في وقتها،
فيؤذن لها عند دخول وقتها (في داخل المسجد) وإنما كان داخل المسجد لئلا يظن الناس أن وقت العشاء
قد دخل (و) إذا فرغ من الاذان (يقيم) الصلاة (ثم يصليها) الامام
بالناس بلا مهلة هذا شرط في كل جمع وليس خاصا بالجمع ليلة المطر (ثم)
191

بعد أن يفرغوا من الصلاة (ينصرفون) إثر الصلاة بلا مهلة، فلو جمعوا
ولم ينصرفوا حتى غاب الشفق أعادوا العشاء وقيل لا إعادة عليهم
(وعليهم إسفار) أي شئ من بقية بياض النهار (قبل مغيب الشفق) فلا يتنفل
أحد في المسجد بعد الجمع ولا يوتر بإثر صلاة العشاء، أي يحرم لأنه دخل
في عبادة باطلة إذ وقتها بعد مغيب الشفق ففعلها قبل مغيب الشفق فعل
لها قبل وقتها وهو باطل، والموضع الثاني أشار إليه بقوله: (والجمع بعرفة)
يوم وقوف الحاج بها (بين الظهر والعصر عند) بمعنى بعد (الزوال سنة
واجبة) أي مؤكدة وقد كرر هذه المسألة في باب الحج وفي باب جمل
وصفة الجمع أن يخطب الخطيب بعد الزوال خطبة يعلم الناس فيها صلاتهم
بعرفة، ووقوفهم بها، ومبيتهم بمزدلفة إلى غير ذلك، ثم يؤذن للظهر بعد الفراغ
من الخطبة، ثم يقيم الصلاة. فإذا صلى الظهر أذن للعصر وأقام لها وصلاها.
وما ذكر في صفة الجمع من أن لكل صلاة من الظهر والعصر أذانا وإقامة
هو المشهور وإليه أشار الشيخ بقوله (بأذان وإقامة لكل صلاة) ومقابله
ما نقل عن ابن الماجشون بأذان واحد لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك،
وانظره مع المشهور فما وجهه أي إذا كان كذلك فما وجه المشهور والموضع
الثالث أشار إليه بقوله (وكذلك في جمع المغرب والعشاء بالمزدلفة) أي
مثل ذلك الحكم في السنية والاذان للمغرب والعشاء بالمزدلفة، وقد عده
صاحب المختصر في المستحبات والمعتمد ما ذكرت لك من أنه سنة (إذا
192

وصل إليها) أي إذا أمكن أن يصل إليها، أما من لا يمكنه ذلك لمرض به
أو بدابته فإنه يجمع حيث غاب عليه الشفق إذا كان وقف مع الامام
وفقه المسألة أن الذاهب إلى المزدلفة إما أن يقف مع الامام أم لا فإن كان
وقف مع الامام، وكان يمكنه السير بسير الناس بأن لم يكن هناك مانع
من مرض به أو بدابته سار معهم، أو تأخر فالسنة في حقه أن لا يجمع إلا
في المزدلفة فإن كان لا يمكنه السير وتأخر لعجز جمع حيث شاء عند مغيب
الشفق، والفرض أنه وقف مع الامام. وأما إن لم يكن وقف مع الامام بأن
وقف وحده أو لم يقف أصلا صلى كل صلاة لوقتها. والموضع الرابع أشار
إليه بقوله: (وإذا جد السير بالمسافر) سفرا واجبا كسفر الحج الواجب
أو مندوبا كسفر حج التطوع، أو مباحا كسفر التجارة سواء كانت تقصر
فيه الصلاة أم لا (فله) أي فيباح له (أن يجمع بين الصلاتين) المشتركتي
الوقت وهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء فإذا أدركه الزوال سائرا ونوى
النزول بعد الغروب فله أن يجمع بين الظهر
والعصر (في آخر وقت الظهر) وهو آخر القامة الأولى (وأول وقت العصر) وهو أول القامة الثانية، وهذا
جمع صوري لا حقيقي، إذ الحقيقي هو الذي تقدم فيه إحدى الصلاتين
عن وقتها المعروف أو تؤخر عنه، وهذا تؤدى فيه كل صلاة في وقتها، ولا
يحتاج لنية الجمع، ولا يشترط فيه أن يجد السير، وإن كان ظاهر المصنف
مع أن ذلك لا يعقل إذ هو جمع صوري، وحكمه أنه خلاف الأولى إذ (وكذلك الأولى
إيقاع الصلاة في أول وقتها، فلا معنى لاشتراط الجد فيه المغرب
193

والعشاء) أي أن صفة الجمع بين المغرب والعشاء مثل صفته بين الظهر والعصر
في أنه إذا أدركه الغروب سائرا. ونوى النزول بعد طلوع الفجر فله أن
يجمع بين المغرب والعشاء جمعا صوريا بأن يصلي المغرب قرب مغيب
الشفق، ويصلي العشاء في أول وقتها، لأنه ينزل طلوع الفجر هنا منزلة الغروب
في الظهرين. (وإذا ارتحل) أي أراد الارتحال لان فرض المسألة أنه نازل
بالمهل وزالت أو غربت الشمس وهو به (في أول وقت الصلاة الأولى)
ونوى النزول بعد الغروب (جمع حينئذ) أي قبل ارتحاله على المشهور
ليوقع أولاهما في أول وقتها المختار، والأخرى في وقتها الضروري، وهذا هو
الجمع الحقيقي. ومن هنا يعلم أن ضروري العصر كائن قبلها وبعدها، وأن
الجمع الحقيقي ما كان على هذا الأسلوب ولا يفعله إلا ذو عذر من سفر أو
غيره. وأما الجمع الصوري فجائز لذي العذر وغيره. وأما إذا نوى النزول قبل
اصفرار الشمس فإنه لا يجمع، بل يصلي الظهر قبل أن يرتحل، ويؤخر العصر
لنزوله أي وجوبا لتمكنه من إيقاع كل صلاة في وقتها المقدر لها شرعا، ويخير
في صلاة العصر إن شاء أخرها إلى نزوله، وإن شاء قدمها إن نوى النزول
عند الاصفرار. والموضع الخامس قسمه قسمين أشار إلى أولهما بقوله
(وللمريض) أي رخص له (أن يجمع) بين الصلاتين المشتركتي الوقت
على المشهور أي أن يجمع على المشهور. وقال ابن نافع: يصلي كل صلاة لوقتها
(إذا خاف أن يغلب على عقله) في وقت الصلاة الثانية، والجمع المذكور
يكون في أول وقت الصلاة الأولى على المشهور، وقيل: الأولى في آخر وقتها،
والثانية في أول وقتها وعلى المشهور فيجمع بين الظهر والعصر (عند الزوال
194

و) بين المغرب والعشاء (عند الغروب) وإنما كان يجمع في أول الوقت لان
الاغماء سبب يبيح الجمع، ومثله الحمى النافضة، أي المرعدة أو الدوخة التي
تحصل له وقت الثانية إذا تقرر هذا فقول المصنف: وللمريض، أي من
سيصير مريضا ففي عبارته مجاز الأول وبقي عليه ما إذا خاف الغلبة على
عقله في أول وقت الثانية وقد نص ابن الجلاب على المسألتين فقال: وكذلك
حكم المريض إذا خاف الغلبة على عقله في أول وقت الصلاة الأولى أخرها
إلى وقت الصلاة الأخيرة، وإن خاف ذلك في وقت الصلاة الأخيرة قدمها إلى
الصلاة الأولى. تنبيه: إذا جمع من خاف الغلبة على عقله وقت الثانية
ثم كشف الغيب بالسلامة من ذلك فقال عيسى: يعيد الثانية، قال سند: يريد
في الوقت، والأرجح أنه الضروري، وقال ابن شعبان: لا يعيد، وهو ضعيف،
والمعتمد الأول ثم أشار إلى القسم الثاني بقوله: (وإن كان الجمع أرفق
به ل‍) - لأجل إسهال (بطن به ونحوه) مما يشق عليه من سائر الأمراض
القيام معه لكل صلاة (جمع) بين الصلاتين المشتركتي الوقت، فالظهر والعصر
يجمع بينهما (وسط وقت الظهر و) المغرب والعشاء يجمع بينهما (عند
غيبوبة الشفق) فيوقع المغرب في آخر وقتها الاختياري بناء على امتداده
للشفق والعشاء في أول اختياريها وللصحيح فعل هذا الجمع لأنه ليس جمعا
حقيقيا. واختلف في المراد بوسط وقت الظهر فقيل أراد به نصف القامة،
لان حقيقة الوسط النصف، وقيل: أراد به آخر القامة، وهو قول سحنون
وغيره، فيجمع جمعا صوريا. واستظهر لأنه لا ضرورة له تدعو إلى قيام
الصلاة الثانية قبل وقتها والضرورة إنما هي من أجل تكرار الحركة.
195

ثم انتقل يتكلم على عذرين من الاعذار المسقطة لقضاء الصلاة أشار إلى
أحدهما بقوله: (والمغمى) أي الذي أغمي (عليه لا يقضي ما خرج وقته)
من الصلوات المفروضة ومثله السكران بحلال كمن شرب خمرا يظنه لبنا
أو عسلا، وأولى المجنون (في) حال (إغمائه) أو في حال سكره الحلال أو
في حال جنونه، وسواء كان الذي فاته في حال إغمائه الخ قليلا أو كثيرا
خلافا لابن عمر في أنه يقضي ما قل كخمس صلوات فدون وإلا فلا. (ويقتضي)
بمعنى ويؤدي (ما أفاق في وقته) من الصلوات المفروضة والمراد بالوقت
هنا الضروري، وهو في الظهرين الغروب أي نهايته في الظهرين الغروب
وفي العشاءين طلوع الفجر، أي نهايته طلوع الفجر، وفي الصبح طلوع
الشمس أي نهايته طلوع الشمس (مما يدرك منه ركعة فأكثر من
الصلوات) بيان للقدر من الوقت الذي يلزمه فيه أداء ما أفاق فيه وسقوط
ما أغمي عليه في وقته، ولا بد أن تكون الركعة كاملة بسجدتيها بعد تحصيل
ما يكون به أداء الصلاة وهو الطهارة من الحدث فقط على المعتمد، فإذا
أغمي عليه ولم يكن صلى الظهر والعصر وقد بقي من النهار ما يدرك فيه
خمس ركعات بعد الطهارة من الحدث لم يقضهما لأنه أغمي عليه في وقتهما.
ولو أفاق وقد بقي من النهار مقدار ما يدرك فيه خمس ركعات بعد الطهارة
أيضا قضاهما لأنه أفاق في وقتهما وإذا أغمي عليه ولم يكن صلى المغرب
والعشاء وقد بقي من وقتهما مقدار خمس ركعات لم يقضهما، ولو أفاق في
هذا المقدار قضاهما وكذلك الحكم في السقوط والأداء إذا بقي للفجر أربع
ركعات لأنه يعتبر فضل ركعة عن الأولى، وإن بقي للفجر مقدار ثلاث ركعات
196

سقطت العشاء وتخلدت المغرب في ذمته. والعذر الآخر أشار إليه بقوله:
(وكذلك الحائض تطهر) بمعنى انقطع حيضها ومثلها النفساء فما خرج
وقته في حال حيضها لا تقضيه وتؤدي ما بقي من وقته مقدار ما يسع ركعة
فأكثر بعد تطهرها، والوقت الذي تطهر فيه إما أن يكون نهارا أو ليلا
(فإذا) تطهرت نهارا و (بقي من النهار بعد طهرها) بالماء حيث لم يكن
فرضها التيمم وإلا فمقدار الطهارة الترابية. والحاصل أنه يقدر لها الطهر
زيادة على ما تدرك فيه ركعة كاملة بسجدتيها. ومثلها سائر أرباب الاعذار
غير عذر الكفر (بغير توان) أي بغير تأخير لطهرها. زاد عبد الوهاب:
ولبس ثيابها، ولكن المعتمد أنه لا يقدر لها إلا الطهر الحدثي، وأما الخبثي
كالاستبراء الواجب على تقدير أن هناك حاجة فلا يقدر لها، وكذلك ستر
العورة والاستقبال فلا تقدير لشئ من هذه على المعتمد، وكما يعتبر الطهر
في جانب الادراك يعتبر أيضا في جانب السقوط، ثم لو شرعت في الظهر لظن
إدراك الصلاتين وغربت الشمس صلت العصر وسقطت الظهر، وتتم ما تشرع
فيه نافلة، فتسلم من ركعتين لأنه غير مدخول عليه. (خمس ركعات صلت
الظهر والعصر) بلا خلاف لأنها تقدر للعصر أربع ركعات وتدرك الظهر
بركعة، فإن ذكرت منسيتين قبل حيضها صلتهما أولا للترتيب، ثم تقضي الظهر
والعصر لأنها طهرت في وقتهما، وهذا الترتيب في حق الحاضرة. وأما المسافرة
فإنها تقدر للظهر والعصر بثلاث ركعات لأنها تجعل للظهر ركعتين وللعصر
ركعة. (وإن) طهرت ليلا و (كان الباقي من الليل) بعد طهرها (أربع
197

ركعات صلت المغرب والعشاء) على قول ابن القاسم بناء على التقدير بالمغرب
فيكون لها ثلاث ركعات وتبقى ركعة للعشاء وهذا التقدير في حق الحاضرة
والمسافرة من غير فرق، إذ لا فرق في الليليتين بين الحاضرة والمسافرة،
وحينئذ يكون قول المصنف: وكان من الليل أربع ركعات، أي ولو في
السفر. (و) أما (إن كان) الباقي (من النهار والليل أقل من ذلك)
أي أقل من خمس ركعات في المثال الأول وأقل من أربع ركعات في
المثال الثاني (صلت الصلاة الأخيرة) فقط وهي العصر في الأول، والعشاء
في الثاني، لأنها لم تدرك وهي طاهرة إلا وقتها. ولما أنهى الكلام على ما إذا
طهرت نهارا أو ليلا انتقل يتكلم على ما إذا حاضت كذلك فقال: (وإن
حاضت لهذا التقدير) يعني تقدير خمس ركعات
للنهار وأربع ركعات لليل (لم تقض ما حاضت في وقته) أخرت ذلك ناسية أو عامدة، وإن كانت
عاصية في العمد، فإن حاضت وقد بقي من النهار ما يسع خمس ركعات، ولم
تكن صلت الظهر والعصر لم تقضهما لنها حاضت في وقتهما (وإن حاضت
لأربع ركعات من النهار فأقل إلى ركعة) ولم تكن صلت الظهر والعصر
(أو) حاضت (لثلاث ركعات من الليل) أي بقي منه مقدار ما يسع
198

أن توقع فيه ثلاث ركعات فأقل (إلى ركعة) ولم تكن صلت المغرب
والعشاء (قضت الأولى فقط) أي الصلاة الأولى وهي الظهر في المثال الأول
والمغرب في المثال الثاني، لأنها أدركتها وهي طاهرة وتسقط الثانية لحيضها
في وقتها، والوقت إذا ضاق يختص بالأخيرة إدراكا وسقوطا (واختلف في
حيضها) يعني إذا حاضت (لأربع ركعات من الليل) يعني والباقي منه
مقدار ما يسع أن توقع فيه أربع ركعات (فقيل) الحكم فيه (مثل ذلك)
أي مثل ما إذا حاضت لثلاث ركعات من الليل تقضي الصلاة الأولى فقط
وهو لابن عبد الحكم وغيره بناء على أن التقدير بالثانية، ووجهه أن الوقت
إذا ضاق حتى لا يسع إلا إحدى الصلاتين، فالواجب إنما هو الأخيرة (وقيل)
الحكم فيه أنها (حاضت في وقتهما فلا تقضيهما) وهو قول مالك وابن
القاسم وغيرهما، وهو المذهب إذ التقدير عندهم في مشتركتي الوقت بالأولى
ووجهه أن أول الصلاتين لما وجب تقديمها على الأخرى فعلا وجب التقدير
بها. ثم انتقل يتكلم على مسألة حقها أن تذكر في موجبات الوضوء فقال:
(ومن أيقن بالوضوء وشك في الحدث) وكان غير مستنكح (ابتدأ
الوضوء) وجوبا على المشهور. وظاهر عبارة المصنف مصاحبة الشك
لليقين في زمن واحد، وهو مستحيل فكان الأولى أن يعبر بثم بدل الواو
، ليعلم منه أن الشك متأخر عن اليقين. والمراد بالحدث مطلق الناقض وسواء
199

كان ذلك الشك في الصلاة أو خارجها إلا أنه إذا كان فيها بعد دخوله
متيقن الطهارة فيجب عليه التمادي فيها وبعد تمامها إن بان له البقاء على
الطهارة لم يعدها وإن ان حدثه أو بقي على شكه أعادها وجوبا، وكما يجب
الوضوء في صورة المصنف يجب في عكسها بالأولى، وهو ما إذا تيقن الحدث
وشك في الوضوء، وكذا إذا تيقنهما وشك في السابق منهما أو شك فيهما
وشك في السابق منهما أو لا، أو تيقن الوضوء وشك في الحدث وشك مع
ذلك هل كان قبله أو بعده، أو تيقن الحدث وشك في الوضوء، وشك مع
ذلك هل كان قبله أو بعده من باب أولى ثم انتقل يتكلم على حكم من
ترك شيئا من فرائض الوضوء، أو من سننه، والأول على أربعة أقسام لأنه
إما أن يتركه عمدا أو نسيانا وكل منهما إما أن يذكر بالقرب أو بعد الطول.
والثاني كذلك فالأقسام ثمانية أشار إلى الأول بقوله: (وإن ذكر من وضوئه
شيئا مما هو فريضة منه) مغسولا كان كالوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين
إلى الكعبين أو ممسوحا وهو الرأس أي كلا أو بعضا. (فإن كان) ذكره
له (بالقرب أعاد ذلك) أي فعل ذلك المتروك بنية إتمام الوضوء وجوبا
لان الفرض لا يسقط بالنسيان، ولا بد أن ينوي إتمام الوضوء على المشهور
وإلا لم يجزه كما صرح به التتائي خلافا لابن عمر من قوله المشهور بغير
نية، لانسحاب النية الأولى عليه، وضعف هذا القول. (و) إذا فرغ من
فعل المتروك أعاد (ما يليه) يعني ما بعده إلى آخر الوضوء استحبابا لأجل
الترتيب، كذا في بعض الشروح، وفي بعضها استنانا. واختلف في حد القرب،
فعن ابن القاسم وهو راجع للعرف في كل ما لم يرد عن الشارع فيه تحديد
200

وقيل حده ما لم تجف الأعضاء في الزمان المعتدل والعضو المعتدل والمكان
المعتدل، وهو المشهور، والظاهر كما قاله بعضهم إن المعتبر جفاف الغسلة الأخيرة
من العضو الأخير. والقسم الثاني أشار إليه بقوله: (وإن تطاول ذلك)
يعني ذكر المنسي بأن لم يتذكره إلا بعد جفاف المغسول آخرا (أعاده فقط)
يعني فعله أي ثلاثا بنية على الفور من زمن التذكر، فلو تأخر عن زمن
التذكر حتى طال فسد وضوءه، ولو كان ناسيا لان لا يعذر بالنسيان الثاني
على المعتمد. وقال ابن حبيب: يعيده وما بعد كالقرب، واختاره ابن عبد السلام،
والمشهور الأول. والقسم الثالث أشار إليه بقوله: (وإن تعمد ذلك) أي
تعمد ترك شئ من فرائض وضوئه (ابتدأ الوضوء) وجوبا (إن طال
ذلك) أي ترك الغسل في العضو المغسول والمسح في العضو الممسوح، وهذا
مبني على أن الفور واجب وهو الاتيان بالوضوء في زمن واحد من غير
تفريق متفاحش مع الذكر والقدرة وهو المشهور. ومفهوم كلامه وهو
القسم الرابع أنه إن تعمد ترك ذلك ولم يطل أعاده وما بعده لأجل
الترتيب، فالعمد والنسيان لا فرق بينهما في القرب، ويفترقان في الطول
فالناسي يبني وإن طال بخلاف العامد فإنه لو طال ابتدأ الوضوء، ومثله
العاجز في بعض صوره وهي أن يعد من الماء ما يظن أنه يكفيه فيغصب
منه أو يراق أو يتبين عدم كفايته، فهو في هذه الحال كالعامد يبني ما لم يطل
لان عنده نوع تقصير بعدم احتياطه بتكثير الماء. وأما إن أعد من الماء
ما يقطع بكفايته فأريق منه مثلا فهو كالناسي، ومثله المكره بمطلق مؤلم
من ضرب أو غيره. (وإن كان) الذي ترك شيئا مما هو فريضة من وضوئه
201

(قد صلى) بهذا الوضوء (في) جميع صور ذلك العمد والنسيان والقرب
والبعد (أعاد صلاته أبدا) لأنه قد صلى بغير وضوء. وفي نسخة (ووضوءه)
لكن إعادة الوضوء إنما هي في قسم واحد وهو ما إذا تركه عمدا وطال،
ولو حذف المصنف قوله ووضوءه لكان أحسن لفهمه من قوله أولا، وإن
تعمد ذلك ابتدأ الوضوء إن طال، بل الأول حسن وغيره أوهم العموم لكنه
اتكل على ما تقدمه قريبا. والقسم الخامس أشار إليه بقوله: (وإن ذكر
مثل المضمضة والاستنشاق ومسح الاذنين) أي مما هو سنة ولم ينب عنه
غيره ولم يكن فعله موقعا في مكروه احترازا من ترك فضيلة كشفع غسله
وتثليثه، فحكمه أنه لا يطالب إعادتها أصلا وقولنا: ولم ينب عنه غيره احترازا
عن رد مسح الرأس وغسل اليدين للكوعين، لأنه ناب عنهما غيرهما،
وقولنا ولم يكن فعله موقعا في مكروه احترازا عن الاستنثار، فإنه يؤدي
لإعادة الاستنشاق، وعن تجديد الماء للأذنين لأنه يؤدي لتكرير المسح
فالحكم في غير هذه (إن كان) التذكر للمنسي (قريبا فعل ذلك) المنسي
فقط (ولم يعد ما بعده) على المذهب لان الترتيب فيما بين المسنون والمفروض
غير واجب. والقسم السادس أشار إليه بقوله: (وإن تطاول) ذكر ما نسيه
من سنن وضوئه (فعل ذلك) المنسي فقط دون ما بعده (لما يستقبل)
من الصلوات مثال التطاول أن يذكره بعد ما صلى الظهر، فإنه يفعله للعصر
إن كان باقيا على وضوئه أي فإن أراد أن يصلي به العصر فإنه يسن
202

في حقه فعل السنة المتروكة، ومثل الصلاة الطواف، والحاصل أنه مع القرب
يفعل المتروك من السنن حيث أراد البقاء على طهارة ولو لم يرد الصلاة ولا
غيرها ومع الطول، فإنما يسن فعله إذا أراد الصلاة أو الطواف ومفاد المصنف
أن الطول هو أن يصلي بذلك الوضوء وعدمه أن لا يصلي به، وهو ما صرح
به ابن الجلاب. (و) إذا صلى بالوضوء الذي نسي منه سنة (لم يعد ما صلى به
قبل أن يفعل ذلك) المتروك نسيانا لأنه على يقين من الطهارة، ولأن الصلاة
لا تبطل بترك شئ من سنن الوضوء. ولو كان الترك لجميعها وكذلك سنن
الغسل والفرق بين الوضوء والغسل وبين الصلاة حيث جرى الخلاف
القوي في سنن الصلاة من أنه إذا ترك سنة عمدا من سننها فقيل بالبطلان،
وقيل بعدمه لعله احتمال وجوب سننها، أي الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
صلوا كما رأيتموني أصلي وضعف ذلك في الوضوء لقوله: توضأ كما أمرك الله
أي ولم يأمر إلا بأربعة. وترك المصنف الكلام على ما إذا نكس بأن
قدم اليدين مثلا على غسل الوجه. وحاصل الكلام عليه أن المنكس يعاد
وحده إن بعد الامر والبعد مقدر بجفاف الأعضاء المعتدلة في الزمان والمكان
المعتدلين إن نكس سهوا وإلا أعاد الوضوء والصلاة أبدا أي ندبا في الوقت
وغيره. وأما مع القرب ولا فرق بين كونه عمدا أو نسيانا فإنه يعيد المنكس
ثلاثا استنانا مع تابعه شرعا لا فعلا مرة مرة ندبا. (ومن صلى على موضع
طاهر من حصير) أو غيره (وبموضع آخر منه) ويروى منها (نجاسة) سواء
كانت رطبة أو يابسة تحركت بحركته أو لا (فلا شئ عليه) أي لا إعادة
عليه لان صلاته لم تبطل حتى تستوجب الإعادة، لأنه إنما خوطب بطهارة
203

بقعته التي تماسها أعضاؤه وهذا بخلاف العمامة يكون بطرفها المسدول على
الأرض نجاسة فإن صلاته باطلة باتفاق إن تحركت النجاسة بحركته وعلى
المشهور إن لم تتحرك لأنه حامل للنجاسة بخلاف الحصير فإنه ليس حاملا
للنجاسة. (والمريض إذا كان) مقيما (على فراش نجس فلا بأس أن يبسط
عليه ثوبا طاهرا كثيفا ويصلي عليه) ويشترط في الثوب الذي يفرش أن
يكون منفصلا عن المصلي وإلا بطلت الصلاة. ويشترط فيه أيضا أن يكون
كثيفا لا إن كان خفيفا يشف بحيث تبدو منه النجاسة بدون تأمل قياسا
على ما قيل في ستر العورة. وظاهر كلامه أن الصحيح لا يغتفر له ذلك وهو
ظاهر المدونة، وقيل: إن ذلك عام للمريض والصحيح. وصوبه ابن يونس وإنما
خص المريض بالذكر للغالب أو ليرتب عليه قوله (وصلاة المريض) الصلاة
المفروضة (إن لم يقدر على القيام) فيها لقراءة جميع الفاتحة لا مستقلا
ولا مستندا لغير جنب أو حائض بأن عجز عنه جملة أو تلحقه مشقة شديدة
إذا كان مريضا وفقه المسألة أن من لا يقدر على القيام جملة أو يخاف به
مرضا أو زيادته، أو تلحقه المشقة الشديدة بشرط كونه مريضا لا إن كان
صحيحا فلا تكون المشقة المذكورة مبيحة له ترك القيام تجوز له الصلاة
جالسا واعلم أن وجوب القيام استقلالا إنما هو في حال فعل الفرض كالركوع
والاحرام وقراءة الفاتحة على غير المأموم. وأما المأموم
فلا فإذا استند المأموم في حال قراءتها لعماد بحيث لو أزيل العماد لسقط فصلاته صحيحة كحال
204

قراءة السورة مطلقا أي فذا أو إماما أو مأموما كما قرره من يدري ولا
تلتفت لمن قال غير ذلك واغتر بظاهر عبارة بعض الشراح والاستناد في نحو
الركوع مبطل حيث كان على وجه العمد لا على وجه السهو فتبطل الركعة
فقط (صلى جالسا) فذا على المشهور أي ولا يصح أن يكون إماما لا
لاصحاء ولا لمرضى ولو لمثله هكذا قرره بعضهم وهو ضعيف والمعتمد صحة
إمامته لمثله والأفضل أن يجلس متربعا في موضع القيام (إن قدر على التربع)
لينبئ جلوسه على هذا الوجه عن البدلية عن القيام. وقيل: يجلس كما يجلس
للتشهد واختاره المتأخرون وعلى الأول يغير جلسته بين السجدتين كما في
التشهد. وكذا الأفضل في حق المتنفل جالسا التربع لفعله عليه الصلاة والسلام
ذلك (وإلا) أي وإن لم يقدر المريض الذي فرضه الجلوس على التربع
(ف‍) - إنه يجلس (بقدر طاقته) من الجلوس والترتيب بينه وبين التربع
مندوب لا واجب (وإن لم يقدر) المريض الذي فرضه الجلوس (على)
الركوع و (السجود) أيضا بأن عجز عنه جملة أو تلحقه المشقة الشديدة
(فليومئ بالركوع والسجود) برأسه وظهره أي لا بد من الايماء بهما فإن
لم يقدر بظهره أومأ برأسه أي إن لم يقدر على الايماء بهما أومأ برأسه فإن
لم يقدر برأسه ويلزم منه عدم القدرة بظهره أومأ بما يستطيع ويضع يديه
على ركبتيه إذا أومأ للركوع، وإذا رفع رفعهما عنهما وإذا أومأ للسجود
وضع يديه على الأرض وإذا رفع منه وضعهما على ركبتيه. (ويكون سجوده
205

أخفض من ركوعه) استحبابا، وقال بعضهم وجوبا وهو المفهوم من كلام
المصنف والمدونة. ومفهوم أيضا من بعض شراح خليل إذا علمت ذلك، فالحكم
بالاستحباب ضعيف ويكره للمومئ أن يرفع شيئا يسجد عليه فإن فعل
ذلك لم يعد صلاته سواء فعل ذلك عمدا أو جهلا. وهذا إذا نوى بإيمائه
الأرض فإن نوى به ما رفع دون الأرض لم يجزه كما قاله اللخمي (وإن لم
يقدر) المريض أن يصلي جالسا استقلالا ولا مستندا ولا متربعا ولا غير
متربع (صلى على جنبه الأيمن إيماء) ويجعل وجهه إلى القبلة كما يوضع
في لحده فإن لم يقدر على جنبه الأيمن فعلى جنبه الأيسر ووجهه للقبلة أيضا
(وإن لم يقدر) أن يصلي (إلا) مستلقيا (على ظهره فعل ذلك) أي
صلى مستلقيا على ظهره إيماء ورجلاه إلى القبلة، فإن عجز عن الصلاة مستلقيا
على ظهره صلى مضطجعا على بطنه ووجهه إلى القبلة ورجلاه إلى دبرها.
وحكم الاستقبال في تلك الحالات الوجوب مع القدرة فلو صلى لغيرها مع
القدرة بطلت والقدرة تكون بوجود من يحوله فلو وجد من يحوله بعد
الصلاة يندب له الإعادة في الوقت. واعلم أن الترتيب بين القيام استقلالا
واستنادا واجب وبين القيام استنادا مع الجلوس استقلالا مندوب وبين
الجلوسين واجب كالترتيب بين الجلوس مستندا والاضطجاع بحالتيه والظهر.
وحكم الترتيب في هذه الأحوال الثلاثة الندب وبينها وبين الاضطجاع على
البطن الوجوب، والمصلي من اضطجاع يومئ أيضا وكيفيته أنه يومئ برأسه
فإن عجز عن الايماء برأسه أومأ بعينه وحاجبه، فإن لم يستطع فبإصبعه
والظاهر كما قال الأجهوري: إن ترتيب الايماء بهذه الثلاثة واجب. (ولا يؤخر)
206

المكلف بمعنى لا يترك (الصلاة إذا كان في عقله وليصلها بقدر ما يطيق)
من قيام وجلوس وإيماء واضطجاع، ويصلي المريض بقدر ما يستطيع أي
ولو بنية أفعالها إن كان لا يقدر على الايماء بطرف أو غيره. وصفة الاتيان
بها أن يقصد أركانها بقلبه بأن ينوي الاحرام والقراءة والركوع والرفع
والسجود وهكذا إلى آخر أفعال الصلاة ثم شرع يبين ما ذكر في باب التيمم
أن في باب جامع الصلاة شيئا من مسائل التيمم وهو قوله (وإن لم يقدر)
المخاطب بأداء الصلاة (على مس الماء لضرر به أو لأنه لا يجد) المريض
(من يناوله إياه) أي الماء (تيمم) أي ففرضه التيمم (فإن لم يجد)
المريض (من يناوله ترابا تيمم بالحائط إلى جانبه إن كان طينا) أي بني
بالطين (أو) بني بغير طين ولكن ركب (عليه طين) وفهم من كلامه
أنه يتيمم بالتراب المنقول أي حيث قال، فإن لم يجد من يناوله ترابا وفهم
منه أيضا أنه لا يتيمم بالحائط إلا مع عدم التراب، وهو خلاف المذهب،
والمذهب جواز التيمم بالحائط مع وجود التراب، لكن يندب له أن
لا يتيمم به إلا مع عدم التراب. قال صاحب المختصر: كتراب وهو الأفضل.
والحاصل أنه يجوز التيمم على الحائط اللبن والحائط الحجر للمريض
والصحيح، ولو مع وجود التراب حيث لم يكن به حائل يمنع من مباشرته
(فإن كان عليه) أي الحائط التي بجنبه (جص أو جير فلا يتيمم به) أي عليه
207

لدخول الصنعة في ذلك. وقوله: جير صوابه جيار. ذكره الزبيدي بفتح الزاي
في لحن العوام. (والمسافر) الراكب (يأخذه) أي يضيق عليه (الوقت)
المختار حالة كونه سائرا. كذا في بعض شراح خليل وشرح التتائي أيضا.
والأحسن الوقت الذي فيه اختياريا أو ضروريا (في طين خضخاض)
وهو الطين الرقيق، وييأس أن يخرج منه في الوقت الذي هو فيه اختياريا
أو ضروريا وهو يستطيع النزول به ولكنه (لا يجد أين يصلي) لأجل
تلطخ ثيابه أو لأجل الغرق بالطريق الأولى (فلينزل عن دابته ويصلي فيه
قائما يومئ) بالركوع والسجود أي للركوع الخ لكن محل إيمائه للركوع
إذا كان الخضخاض آخذا له لصدره بحيث لا يتمكن منه. وأما لو كان
آخذا لركبتيه مثلا بحيث يتمكن من الركوع فإنه يركع بالفعل ويكون
إيماؤه (بالسجود أخفض من الركوع) وإذا أومأ للركوع وضع يديه
على ركبتيه وإذا رفع رفعهما عنهما، وإذا أومأ للسجود أومأ بيديه إلى الأرض
وينوي الجلوس بين السجدتين قائما. وكذلك جلوس التشهد إنما يكون
قائما أي يفرق بين القيام والجلوس بالنية. واحترز بالخضخاض عن اليابس
فإنه ينزل ويصلي فيه بالركوع والسجود والجلوس. وهكذا حكم من أخذه
الوقت في طين خضخاض وغلب على ظنه أنه لا يخرج منه في الوقت الذي
هو فيه ضروريا أو اختياريا. وأما من غلب على ظنه أنه يخرج منه قبل
خروج الوقت فإنه يؤخر إلى آخر الوقت (فإن لم يقدر أن ينزل فيه)
208

أي إن محل كونه ينزل عن دابته ويصلي إيماء إن أمكن أن ينزل في
الخضخاض، فإن لم يمكن أن ينزل فيه لخوف الغرق (صلى على دابته إلى
القبلة) فلا يبيح الصلاة على الدابة إلا خوف الغرق. وأما خشية تلطخ الثياب
لا يوجب صحة الصلاة على الدابة، وإنما يبيح الصلاة إيماء بالأرض. وكذلك
أي ومثل الصلاة على الدابة إلى القبلة إن لم يكن طين وخاف أن ينزل
عن دابته من اللصوص أو السباع فإنه يصلي على دابته يومئ بالركوع
والسجود إلى الأرض، ويرفع عمامته عن جبهته إذا أومأ للسجود ولا
يسجد على سرج الدابة ولا غيره. ويكون جلوسه متربعا إن أمكنه
ذلك. وحكم الحاضر حكم المسافر إذا أخذه الوقت في طين خضخاض، وإنما
اقتصر على المسافر لان الخضخاض غالبا إنما يكون في السفر. (و) يجوز
المراد به خلاف الأولى (للمسافر أن يتنفل على دابته في سفره حيثما توجهت
به) دابته ظاهره كان راكبا على ظهرها أو في شقدف أو غيره، ولكن لا بد
أن يكون الركوب معتادا فيخرج الراكب مقلوبا أو بجنبه. ومفاد المصنف
بحسب الظاهر سواء أحرم إلى القبلة في أول الأمر أم لا خلافا لما نص عليه
ابن حبيب. من أنه يوجه الدابة إلى القبلة أولا ثم يحرم ثم يصلي حيثما
توجهت. ومذهب مالك جواز ذلك ليلا ونهارا خلافا لابن عمر: لا يتنفل
المسافر نهارا ويكون في جلوسه متربعا إن أمكنه، ويرفع العمامة عن وجهه
في السجود وله ضرب الدابة وركضها إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت. واحترز
بالمسافر عن الحاضر فإنه لا يتنفل على الدابة. وكذلك الماشي لا يتنفل في
سفره ماشيا. وقوله: حيثما توجهت به احتراز من راكب السفينة فإنه لا يتنفل
209

فيها إلا إلى القبلة فيدور معها حيثما دارت إن تمكن من ذلك. والأصل
فيما ذكر ما صح عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح على الراحلة
قبل أي جهة توجهت، ويوتر عليها أي يصلي النافلة ولا يصلي المكتوبة.
والراحلة هي الناقة التي تصلح لان ترحل (إن كان سفرا تقصر فيه
الصلاة) أي إن شرط جواز تنفل المسافر على الدابة حيثما توجهت
أن يكون سفره سفرا تقصر فيه الصلاة فلو كان دون مسافة القصر أو
سفر معصية فلا (وليوتر) المسافر (على دابته إن شاء) بالشرط المتقدم
وإن شاء أوتر على الأرض وهو الأفضل (ولا يصلي) أي المسافر (الفريضة
وإن كان مريضا إلا بالأرض) دليله الحديث المتقدم (إلا أن يكون إن
نزل) عن دابته (صلى جالسا إيماء) بالركوع والسجود (ل‍) - أجل
(مرضه فليصل) الفريضة (على الدابة بعد أن توقف له ويستقبل بها
القبلة) ظاهره كالمختصر الجواز من غير كراهة. والذي في المدونة: الكراهة
وقيدت بما إذا صلى حيثما توجهت به راحلته وأما إذا أوقفت له واستقبل
وصلى فلا كراهة. وهذا التقييد نقله الفاكهاني عن الشيخ ثم قال: فالذي
في الرسالة تقييد لما في المدونة. (ومن رعف) قد ذكر في الصحاح فيه
ثلاث لغات وهي فتح العين في الماضي وضمها وفتحها في المستقبل والشاذ
ضمها فيهما. وعبر صاحب المصباح بالقلة فيما عبر فيه الصحاح بالشذوذ والمعنى
210

أن من خرج من أنفه دم حالة كونه في الصلاة (مع الامام خرج فغسل
الدم) أي يخرج لغسل الدم الذي خرج من أنفه ممسكا لأنفه من أعلاه
ولم يظن دوامه لآخر الوقت المختار. وأما إذا ظن دوامه لآخر الوقت المختار
فإنه يتمها ولا يخرج، ولو كان الدم سائلا حيث كان في غير مسجد أو فيه
وفرش شيئا يلاقي به الدم، أو كان محصبا أو متربا لا حصير عليه لان ذلك
ضرورة ويغسل الدم بعد فراغه فإن كان في مسجد مفروش أو مبلط
يخشى تلويثه ولو بأقل من درهم فإنه يقطع وجوبا ومحل كونه يتم صلاته
بالركوع والسجود ما لم يخش ضررا بالركوع والسجود، أو تلطخ ثيابه
التي يفسدها الغسل وإلا أتمها ولو بالايماء لا إن خشي تلطخ جسده أو ثيابه
التي لا يفسدها الغسل فلا يجوز له الايماء (ثم) بعد أن يفرغ من غسل
الدم (بنى) بمعني يبني، لان الفقيه إنما يتكلم على أحكام مستقبلة ولا يقطع
الصلاة على المشهور. وقال ابن القاسم: الأفضل القطع. قال زروق: وهو أولى
بالعامي ومن لا يحسن التصرف في العلم لجهله. وسند المشهور عمل جمهور
الصحابة والتابعين. وقال أبو حنيفة: تبطل الصلاة بناء على أن الخارج
النجس ينقض الوضوء، وحيث قلنا بالبناء فله ستة شروط أشار إلى اثنين
منها بقوله (ما لم يتكلم أو يمش على نجاسة) أما الأول فظاهره البطلان
إن تكلم مطلقا عمدا أو جهلا أو نسيانا ولا فرق بين أن يكون الكلام
في ذهابه أو عوده ما لم يكن لاصلاحها وإنما بطلت بالكلام نسيانا لكثرة
المنافيات، قاله الأجهوري. وأما الثاني فظاهره البطلان إن مشى على نجاسة
مطلقا سواء كانت النجاسة رطبة أو يابسة أما إذا كانت رطبة فمتفق على
211

البطلان. وأما إن كانت يابسة كالقشب فكذلك عند سحنون. قال بهرام:
وهذا كله في العذرة. وأما أرواث الدواب وأبوالها فإنه يبني إذا مشى عليها
اتفاقا لان الطرقات لا تخلو عن ذلك غالبا وظاهر عبارته ولو رطبة ولو عامدا،
وليس كذلك قال الحطاب. قلت: وينبغي أن يقيد بما إذا طئها ناسيا أو
مضطرا لذلك لعمومها وانتشارها في الطريق. وأما إن وطئها عامدا من غير
عذر لسعة الطريق وعدم عمومها وإمكان عدوله فينبغي أن تبطل صلاته
لانتفاء العلة التي هي الضرورة. وفقه المسألة أن المرور على النجاسة مع
العمد والاختيار مبطل مطلقا ولو يابسة ولو أرواث داوب وأما مع الاضطرار
فلا بطلان ولا إعادة أيضا في المرور على أن أرواث الدواب ولو رطبة. وكذا
في المرور على غيرها لا بطلان لكن يستحب الإعادة في الوقت هذا كله
مع العلم، وأما مع النسيان ففي نحو العذرة إن لم يتذكر إلا بعد الصلاة فلا
بطلان وتندب الإعادة في الوقت، وإذا تذكر وهو في الصلاة وقد تعلق به
شئ بطلت صلاته، وإن لم يتعلق به شئ فيتحول وتصح صلاته على
الراجح وأما أرواث الدواب فإن لم يتذكر إلا بعد الفراغ فلا إعادة عليه
لا في الوقت ولا في غيره وإن تذكر فيها فلا بطلان أيضا ولا إعادة
وإنما يدلكها. الشرط الثالث أن لا يتجاوز ماء قريبا إلى آخر
ولا بد أن يكون الماء القريب قريبا في نفسه لا قريبا بالنسبة إلى ما هو
أبعد منه. الرابع أن لا يستدبر القبلة لغير طلب الماء، وأما لطلب الماء فلا
بطلان، الخامس أن يقطر الدم أو يسيل ولا يتلطخ به، أما إن رشح فقط
من غير أن يسيل أو يقطر فلا يخرج لغسله. السادس أن يكون الراعف
في جماعة إماما كان أو مأموما، أما الفذ ففي بنائه قولان مشهوران
منشؤهما هل رخصة البناء لحرمة الصلاة وهي المنع من إبطالها أو لتحصيل
فضل الجماعة؟ فيبني على الأول دون الثاني فإذا استكملت الشروط
212

(و) بنى ف‍ (لا يبني على ركعة) يعني لا يعتد
بركعة (لم تتم بسجدتيها) وإنما يعتد بركعة تمت بسجدتيها، على ما نقل عن ابن القاسم. وقال ابن مسلمة: يبني على
القليل والكثير كان ذلك في الركعة الأولى أو في غيرها. واستظهره ابن
عبد السلام، فعلى رواية ابن القاسم: لو رعف بعد الركوع وقبل السجود أو بعد
أن سجد سجدة واحدة ألغى ذلك وابتدأ القراءة (وليلغها) تكرار زيادة
في البيان وهذا الذي تقدم إذا كان الدم كثيرا يدل عليه قوله (ولا ينصرف
ل‍) - غسل (دم خفيف وليفتله بأصابعه) يعني برؤوس أصابع يده اليسرى وصفة
الفتل أن يلقاه أولا برأس الخنصر ويفتله برأس الابهام ثم بعد الخنصر
البنصر ثم الوسطى ثم السبابة وانظر قول المصنف (إلا أن يسيل أو يقطر)
هل أراد ابتداء فيكون تقدير كلامه وليفتله بأصابعه إلا أن يسيل أو
يقطر فلا يبتدئ فتله ولينصرف إلى الماء وإنما أراد إذا سال أو قطر
بعد أن فتله فيكون تقدير الكلام أنه يفتله بأصبعه إلا أن يغلب عليه
بالسيل أو القطر فلا يفتله، وهذا هو المناسب. وأما الاحتمال الأول فهو عين
قوله ومن رعف الخ وحينئذ فقوله إلا أن يسيل أو يقطر أي فلا يفتله.
وهذا إذا كان القاطر لا يمكن فتله وإلا فتله. وهل أراد بقوله أيضا: إلا أن يسيل
أو يقطر على الأرض أو على ثوبه؟ أما إذا سال أو قطر على الأرض فإنه
ينصرف ويغسله ويبني استحبابا وله القطع وهذا إذا لم تخش تلويث
مسجد ولو بأقل من درهم، وإلا قطع ولو ضاق الوقت وإن سال على ثوبه
أو على أصابعه وتجاوز الأنملة العليا إلى الوسطى بقدر لا يعفى عنه بأن
زاد على درهم فإنه يقطع وأما ما كان في العليا فلا بطلان به ولو زاد على
213

درهم وإن سال على ثوبه فإنه يبني أيضا إن سلمت ثيابه من القذر الذي
لا يعفى عنه ولما كان البناء للرعاف تعبديا لا يقاس عليه وخشي أن يتوهم
القياس عليه رفع ذلك التوهم بقوله (ولا يبني) ويروى ولا يبن فعلى
الأولى لا نافية وعلى الثانية ناهية والفعل مجزوم بحذف الياء (في قئ)
مطلقا عمدا أو سهوا أي قئ متنجس خرج منه حال صلاته ولو قليلا.
ومثله الطاهر الكثير والحاصل أن الصلاة لا تبطل بالطاهر بشرط كونه
يسيرا وخرج غلبة فإذا كان نجسا ولو يسيرا أو طاهرا كثيرا أو تعمد
إخراجه بطلت صلاته. وكذا لو تعمد ابتلاعه والموضوع أنه خرج غلبة،
وأما لو ابتلعه غلبة في ذلك الموضوع ففي بطلان صلاته قولان متساويان
لا أرجحية لأحدهما على الآخر وأما سهوا فلا (ولا) يبني أيضا في (حدث)
ولا غيرهما على المشهور ومقابله ما لا شهب من أنه يبني في الحدث ويبني
أيضا من رأى في ثوبه أو جسده نجاسة أو أصابه ذلك وهو في الصلاة، وسند
القول المشهور أن الأصل عند البناء في الجميع فجاءت الرخصة في الرعاف
وبقي ما سواه على الأصل (ومن رعف بعد سلام الامام سلم وانصرف)
وإنما أبيح له السلام وهو حامل النجاسة لأنه أخف من ذهابه إلى الماء
(وإن رعف قبل سلامه) أي قبل سلام الامام (انصرف) إلى الماء (وغسل
الدم) لأنه إن لم يخرج فقد تعمد حمل النجاسة في صلاته وقد بقي بعضها
(ثم رجع) ليسلم (فجلس) وأعاد التشهد إن كان قد تشهد على المشهور
214

فإن لم يكن تشهد تشهد من غير خلاف (وسلم) وظاهر كلامه أنه يخرج
لغسل الدم ولو كان سلام الامام عقيب رعافه وليس كذلك بل إن كان
سلام الامام قريبا من رعافة فإنه يسلم وينصرف وتجزئه صلاته كالمسألة
التي قبلها لأنه لم يبق عليه شئ من فعل الصلاة يحتاج معه إلى البناء عليه،
ثم انتقل يبين أين يتم الراعف صلاته بعد غسل الدم بالشروط المتقدمة فقال
(وللراعف) إذا كان في جماعة (أن يبني في منزله) أي في مكانه الذي
غسل فيه الدم إن أمكنه أو في أقرب الأماكن التي يمكنه فيها الصلاة
(إذا يئس أن يدرك بقية صلاة الامام) المراد باليأس هنا غلبة الظن قال
ابن ناجي: ظاهر كلامه أنه إذا طمع أن يدرك شيئا من صلاة الامام ولو
السلام فإنه يرجع إليه وهو كذلك على ظاهر المدونة وغيرها. وقال ابن
شعبان: إن لم يرج إدراك ركعة أتم مكانه وإنما لزم الرجوع مع الشك لان
الأصل لزوم متابعته للامام فلا يخرج منها إلا بعلم أو ظن. وما تقدم من
أن للراعف أن يبني في أي مكان يمكنه الصلاة فيه عام في كل صلاة جماعة
(إلا في) صلاة (الجمعة) إذا أدرك مع الامام ركعة بسجدتيها وكذلك
يجب الرجوع على من ظن إدراك ركعة مع الامام بعد رجوعه وإن لم يدرك
معه ركعة قبل الرعاف وأما إذا لم يدرك ركعة قبل الرعاف ولا ظن إدراك
ركعة بعد رجوعه مع الامام فإنه لا يرجع بل يقطع ويبتدئ ظهرا بإحرام
ولو بنى على إحرامه وصلى أربعا فالظاهر الصحة كما قال الحطاب. ومحل
ابتدائها ظهرا حيث لم يتمكن من صلاة الجمعة وإلا فلا بأن كان البلد
مصرا تتعدد فيه الجمعة (ف‍) - إنه (لا يبني) فيها (إلا في الجامع) أي الذي
215

ابتدأها فيه. ولو ظن فراغ إمامه لان الجامع شرط في صحة الجمعة ولا يتمها
برحابه ولو كان ابتدأها به لضيق أو اتصال صفوف كما استظهره الحطاب.
وقال ابن عبد السلام: يصح إتمامها في الرحاب، ومن كلف بالبناء في الجامع
الذي ابتدأها فيه لا يكلف بموضعه الذي صلى فيه مع الامام بل يكفي أي
موضع منه لان ذلك يؤدي إلى كثرة الفعل، وكثرته تبطل. ولو صلى في
جامع غير الذي صلى فيه لبطلت صلاته وإن كان أقرب منه تت وعج.
وظاهر قوله لا يبني إلا في الجامع سواء حال بينه وبين عوده إليه حائل
أم لا، وهو المشهور وعليه فإن حال بينه وبين الجامع الذي ابتدأها فيه
حائل قبل إتمام صلاته بطلت جمعته. ولما تكلم على الرعاف شرع يتكلم
على مسألة تقدمت في باب الطهارة لمناسبة تلك المسألة لذلك المقام من
حيث الحكم على الغسل المذكور بالاستحباب الذي هو المعتمد إذ هو
يؤذن بأن هذا الدم معفو عنه فقال (ويغسل قليل الدم من الثوب)
يعني والجسد والبقعة. قال ابن عمر: يريد المصنف على جهة الاستحباب
فيكون مفاد المصنف: ويغسل قليل الدم الخ أي ندبا لا وجوبا وهذا هو
مذهب المدونة، أي إن غسل الدم القليل لا الكثير مستحب على مذهب
المدونة إذا تقرر هذا تعلم أن مذهب المدونة، واستحباب غسل القليل لا الكثير
وتعلم أيضا أنه مخالف لقول زروق أن مذهب المدونة وجوب غسل
قليل الدم (ولا تعاد الصلاة إلا من كثيره) وفي حده وحد اليسير مشهور
الخلاف فقيل الكثرة معتبرة بالعرف، وقيل لا وهو المشهور. أي إن المشهور
اعتبار الكثير بالدرهم البغلي فيما كانت مساحته قدر مساحة الدرهم البغلي
أي الذي في ذراع البغل فهو كثير وإليه أشار مالك في العتبية، وقال ابن
216

سابق اليسير ما دون الدرهم والكثير ما فوقه اه‍. وفي الدرهم روايتان قيل:
إنه من حيز الكثير، وقيل: من حيز اليسير. وقول المصنف ولا تعاد الخ يعني
في الوقت إذا صلى به ناسيا وإن صلى به عامدا أعاد أبدا على قول ابن القاسم.
فيفيد هذا أن ابن القاسم يقول بأن إزالة النجاسة واجبة والدم من أفرادها،
وهذا يخالف ما نقله صاحب البيان أن المشهور من رواية ابن القاسم عن
مالك: أن رفع النجاسة سنة ولما كان غير الدم من النجاسات مخالفا له في
الحكم من حيث التفرقة بين القليل فيعفى عنه والكثير لا عفو فيه،
وخشي أن يتوهم أن غيره كذلك دفع هذا بقوله (وقليل كل نجاسة)
من (غيره) أي الدم (وكثيره سواء) في وجوب الإزالة على القول بوجوب
إزالة النجاسة وإعادة الصلاة أبدا إذا صلى متلبسا بالنجاسة عامدا وفي الوقت
إذا صلى ناسيا أو عاجزا والفرق بين الدم وغيره من النجاسات أن الدم
لا يكاد يتحفظ منه لان بدن الانسان كالقربة المملوءة بخلاف سائر
النجاسات فإنه يمكن أن يتحرز منها في الغالب (ودم البراغيث ليس عليه
غسله) لان في غسله كبير مشقة وزيادة كلفة إذ لا يكاد يفارق الانسان مع
أن يسير الدم معفو عنه (إلا أن يتفاحش) ويخرج عن العادة فيستحب
غسله وقيل يجب. وحد التفاحش ما بلغ حدا يستحى من ظهوره بين الناس.
باب في سجود القرآن (باب في سجود القرآن) كذا في بعض النسخ وفي بعضها باب سجود
217

القرآن بحذف في وفي بعضها (وسجود القرآن) من غير ذكر باب وزيادة
واو وهو سنة، وقضية ابن عرفة أنه الراجح، وقيل فضيلة. وظاهر كلام ابن
الحاجب وغيره أنه المشهور في حق القارئ وقاصد الاستماع لا السامع.
ويشترط في سجود المستمع ثلاثة شروط: الأول: أن يكون القارئ صالحا
للإمامة أي بالفعل بأن يكون ذكرا بالغا عاقلا متوضئا فلا يسجد لسماع
قراءة آية السجدة من الخنثى ولا من المرأة ولا من الصبي ولا من غير
متوضئ. الثاني: أن يكون المستمع جلس ليتعلم من القارئ ما يحتاج إليه
في القراءة من الادغام ونحوه أو لحفظ ذلك المقروء. والثالث: أن لا يجلس
القارئ ليسمع الناس حسن قراءته بل جلس قاصدا تلاوة كلام الله أو
قاصدا إسماع الناس لأجل أن يتعظوا فينزجروا عن المعاصي وإذا وجدت
هذه الشروط ولم يسجد القارئ سجد قاصد الاستماع على المشهور والمشهور أن
سجدات القرآن (إحدى عشرة سجدة وهي العزائم) أي الأوامر بمعنى
المأمور بالسجود عند قراءاتها فليس المراد بالامر حقيقته بل المراد به اسم
المفعول، وإنما سميت بالعزائم للحث على فعلها خشية تركها الذي هو مكروه
(ليس في المفصل) وهو ما كثر فيه الفصل بالبسملة، وأوله الحجرات على
ما اختاره بعضهم (منها) أي العزائم (شئ) فلا سجود في التي في النجم
والانشقاق والقلم أولها في (المص عند قوله) تعالى (* (ويسبحونه وله يسجدون) *)
وإنما قال (وهو آخرها) وإن كان من المعلوم أنه آخرها ليرتب عليه قوله
218

(فمن كان في صلاة) نافلة أو فريضة وقرأها (يسجدها) أي وإن كان في
وقت حرمة لأنها تبع للصلاة ويكره تعمد قراءة آية السجدة في الصلاة
المفروضة (فإذا سجد قام فقرأ) على جهة الاستحباب (من) سورة
(الأنفال أو من غيرها ما تيسر عليه) مما يليها على نظم المصحف فليس
المراد بالذي يليها ما كان بلصقها وإلا نافى قوله أو من غيرها (ثم ركع
وسجد) وإنما أمر بالقراءة لان الركوع لا يكون إلا عقب القراءة أي الركوع
المعتد به كما لا يكون إلا عقب القراءة (و) ثانيها (في) سورة
(الرعد عند قوله) تعالى (* (وظلالهم بالغدو والآصال) *) (و) ثالثها (في) سورة
(لنحل) عند قوله تعالى (* (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *)
(و) رابعها (في) سورة (بني إسرائيل) عند قوله تعالى (* (ويخرون
للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) *) (و) خامسها (في) سورة (مريم)
عند قوله تعالى (* (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) *) (مريم: 58) (و) سادسها
(في) سورة (الحج) وهو المذكور (أولها) عند قوله تعالى (* (ومن
219

يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) *) (الحج: 18) ونبه بقوله أولها إلى قول
الشافعي أن فيها سجدتين أولها وآخرها (و) سابعها (في) سورة
(الفرقان) عند قوله تعالى (* (أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *) (الفرقان: 60) (و) ثامنها
(في) سورة (الهدهد) عند قوله تعالى (* (الله لا إله إلا هو رب العرش
العظيم) *) (النمل: 26) (و) تاسعها (في) سورة (* (ألم تنزيل) *) عند قوله تعالى (* (وسبحوا
بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) * (السجدة: 15) (و) عاشرها (في) سورة صلى الله عليه وسلم عند
قوله تعالى (* (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * (ص: 24) (وقيل) السجود فيها (عند
قوله) تعالى * (لزلفى وحسن مآب) * (ص: 25) والأول هو المشهور لان قوله تعالى
* (فغفرنا له ذلك) * كالجزاء على السجود فكان بعد السجود فقدم السجود
عليه (و) حادية عشرتها (في) سورة (حم تنزيل عند قوله) تعالى
(* (واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) *) (فصلت: 37) هذا هو المشهور لأنه
موضع الامر. وقيل: السجود فيها عند قوله تعالى * (وهم لا يسأمون) * لأنه تمام
الأول ولمخالفته للكافر المتكبر بالسآمة أي المتكبر عن السجود مع ملله
220

وضجره منه أي إن الذي منعه من السجود أمران تكبره وسامته (ولا يسجد السجدة في التلاوة إلا على وضوء) لأنه يشترط لها ما يشترط لسائر
الصلوات من الطهارتين أي الحدث والخبث واستقبال القبلة (ويكبر لها)
في الخفض والرفع اتفاقا إن كان في صلاة وعلى المشهور إن كان في غير
صلاة. وقيل: يكره. وقيل: هو مخير بين التكبير وعدمه فإذا الأقوال ثلاثة
ولا يرفع يديه أي يكره ذلك في الخفض والرفع، ولا يتشهد على المشهور
وقيل يتشهد (ولا يسلم) منها أي يكره إلا أن يقصد الخروج من الخلاف
قالوا وقول الشيخ (وفي التكبير في الرفع منها سعة) أنه رابع في المسألة
التي حكى ابن الحاجب فيها الأقوال الثلاثة أي من حيث إنه خير في الرفع
ولم يخير في الخفض كما نبه عليه ابن ناجي وانظر قوله (وإن كبر فهو
أحب إلينا) هل هو عائد إلى التكبير في الرفع أي فيكون المعنى أنه
يكبر في الرفع كما أنه يكبر في الخفض فيكون عين القول الأول من الأقوال
الثلاثة، أو عائد إلى التكبير في الرفع والخفض الذي هو الأول أيضا فهو
على كل حال اختيار منه للمشهور (ويسجدها) أي سجدة التلاوة (من
قرأها) وهو (في) صلاة (الفريضة و) صلاة (النافلة) سواء كان إماما
أو فذا وإن كره لهما تعمدها في الفريضة على المشهور، وظاهر المصنف ولو
كان يصلي الفريضة وقت النهي عن النافلة. وقال التتائي: على المختصر ينبغي
أن تقيد بما إذا لم يتعمد قراءة السجدة أي في وقت النهي اه‍ وإنما كره
221

لهما أي الامام، والفذ تعمد قراءة السجدة في الفريضة لأنه إن لم يسجد
دخل في الوعيد، وإن سجد يزيد في سجود الفريضة على أنه ربما يؤدي
إلى التخليط على المأمومين. وأما النافلة فلا يكره تعمد قراءة السجدة فيها
فذا كان أو جماعة جهرا أو سرا في حضر أو سفر ليلا أو نهارا متأكدا
أو غير متأكد، خشي على من خلفه التخليط أولا. تنبيهات: فهم من
قوله فريضة ونافلة أنه لو قرأها في حال الخطبة لا يسجد وهو كذلك لما
فيه من الاخلال بنظام الخطبة وحكم الاقدام على قراءتها الكراهة، وإن
وقع أنه سجد في الخطبة لم تبطل وإن نهى عن السجود (الثاني) لو كان
القارئ للسجدة إماما وتركها فإن المأموم يتركها، فإن سجدها المأموم دون
إمامه بطلت صلاته في العمد دون السهو، كما أنها لا تبطل صلاة المأموم بترك
السجود مع إمامه الساجد ولو كان تركه عمدا ولكنه أساء. وروى ابن
وهب: لا تكره قراءتها في الفريضة ابتداء وصوبه اللخمي وابن يونس
وابن بشير وغيرهم لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يداوم على قراءة السجدة في
الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة. قال ابن بشير: وعلى ذلك كان
يواظب الأخيار من أشياخي وأشياخهم وتفعل في كل وقت من ليل أو نهار،
إلا عند خطبة الجمعة وعند طلوع الشمس واصفرارها وعند الاسفار فإنه
يكره فعلها في هذه الأوقات، واختلف في فعلها قبل الاسفار والاصفرار بعد
أن تصلي الصبح، وبعد أن تصلي العصر. ففي الموطأ: لا تجوز بعدهما مطلقا
اصفرت أو أسفرت أولا. وفي المدونة وهو المعتمد يسجدها بعدهما ما لم تصفر
أو تسفر وعليه مشى الشيخ فقال (ويسجدها من قرأها بعد الصبح ما لم
222

يسفر) بالسين من الاسفار وهو الضياء (وبعد العصر ما لم تصفر الشمس)
بالصاد من الاصفرار وهو التغير لأنها سنة مؤكدة وبذلك شبهت بالجنائز،
ففارقت من فعلها في الوقتين بسبب كونها سنة مؤكدة النوافل المحضة
لأنها أي النوافل المحضة لا تفعل بعد صلاة العصر وبعد صلاة الصبح.
باب في بيان صلاة المسافر (باب) في بيان (صلاة السفر) وحكمها، وهو السنية وسببها هو السفر
ومحلها وهو الرباعية، وبعض شروطها وهو أربعة برد وبعض ما يبطل
القصر ومسائل متعلقة بها. وقد أشار إلى الخمسة الأول أي التي هي صفة
صلاة السفر وحكمها وسببها ومحلها وبعض شروطها بقوله: ومن سافر
إلى قوله حتى يجاوز الخ بإدخال الغاية ومعنى قوله (ومن سافر) أي قصد
سفرا في البر أو في البحر، واجبا كان كسفر الحج الواجب، أو مندوبا كسفر
الحج التطوع، أو مباحا كسفر التجارة (مسافة أربعة برد) جمع بريد
وهو أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ألفا ذراع. وصحح ابن عبد
البر كونه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، والذراع ما بين طرفي المرفق
إلى آخر الإصبع المتوسط وهو ستة وثلاثون أصبعا كل أصبع ست شعيرات
بطن إحداهما إلى ظهر الأخرى كل شعيرة ست شعرات من شعر البرذون.
وهذا بيان لأقل المسافة التي تقصر فيه الصلاة وحدها بالزمان سفر يوم
وليلة بسير الحيوانات المثقلة بالاحمال المعتادة (وهي) أي الأربعة برد
(ثمانية وأربعون
223

ميلا فعليه أن يقصر) بفتح الياء وسكون القاف ضم الصاد فإن
قصر فيما دونها، فإن كان فيما مسافته خمسة وثلاثون ميلا أعاد
أبدا وفيما مسافته أربعون لا إعادة وفيما مسافته بينهما خلاف هل يعيد في
جل الوقت أم لا؟ أي لا إعادة عليه أصلا قاله ابن رشد. وفي التوضيح يعيد
من قصر في ستة وثلاثين ميلا أبدا على المذهب (الصلاة) المفروضة المؤداة
في السفر والمقضية لفواتها فيه (فيصليها ركعتين إلا المغرب فلا يقصرها)
لأنها وتر لا نصف لها قال في التحقيق ليس في الشريعة نصف ركعة. فإن
قيل: لم لم تكمل ركعتين كما فعل في طلاق العبد فيمن طلق طلقة ونصف
طلقة قيل في جوابه لو فعل ذلك لذهب مقصود الشرع من كون عدد
ركعات الفرض في اليوم والليلة وترا، وللشرع قصد في الوتر وانظر لم سكت
عن الصبح مع أنها لا تقصر أيضا لأنه لم يثبت في الشرع قصرها، وإن
كان ذلك ممكنا بأن تجعل ركعة والذي يغني عن تطويل القول فيه وفي
المغرب أن الاجماع انعقد على أنهما لا يقصران ولا تأثير للسفر فيهما. وللقصر
شروط: أحدها: أن تكون المسافة مقصودة دفعة واحدة، فلو لم تكن
مقصودة مثل أن يمشي في طلب حاجة له يظن أنها أمامه بل ولو جزم بأنها
أمامه إلا أنه لم يدر عين موضعها فلا يقصر ولو مشى أربعة برد وكذا
لا يقصر إذا قام فيما بين تلك المسافة إقامة توجب الاتمام كأربعة أيام صحاح
وملخصه أن الشرط الأول اشتمل على أمرين أحدهما مقصودة. والثاني:
دفعة ثانيها: أن يكون السفر مباحا. ثالثها: على ما قال في الذخيرة أن لا يقتدي
بمقيم. قال ابن القاسم في الكتاب: يتم وراءه إن أدرك معه ركعة إلى أن
224

قال: فإن أدرك أقل من ركعة قال مالك لا يتم وفقه المسألة إن المأموم المسافر
خلف المقيم تارة ينوي الاتمام خلفه، ومثله الاحرام بما أحرم به الامام وتارة
ينوي صلاة سفر وفي كل إما أن يدرك ركعة أم لا ففي القسم الأول يتبعه
مطلقا وفي الثاني إن أدرك معه ركعة بطلت صلاته وإلا صحت ويصلي ركعتين.
رابعها: أن لا يعدل عن مسافة قصيرة إلى طويلة بلا عذر خامسها: لا يقصر حتى
يبرز عن بيوت القرية وإليه أشار الشيخ بقوله (ولا يقصر حتى يجاوز
بيوت المصر) قال ابن ناجي: ظاهر كلامه سواء كان الموضع موضع جمعة
أم لا وهو كذلك على المشهور. ومقابله ما رواه مطرف وابن الماجشون
عن الامام رضي الله عنه أن القرية التي ابتدأ السفر منها إن كانت قرية
جمعة لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال من سورها، وإلا فمن آخر بنيانها
ومحل الخلاف في الزائد على البساتين للاتفاق على مجاوزة البساتين ومجاوزة
العمودي حلته بكسر الحاء أي منزل إقامته، ولو تفرقت البيوت فلا بد من
مفارقة الجميع حيث جمعهم اسم الحي
والدار أو اسم الدار فقط أو اسم الحي حيث كان يرتفق بعضهم ببعض وإلا قصر بمجرد انفصاله عن منزله
(وتصير خلفه ليس بين يديه ولا بحذائه منها شئ) هو عين ما قبله
فالداعي لتكريره زيادة البيان فكأنه يقول ليس أمامه ولا عن يمينه
ولا عن شماله منها شئ، ولما بين المبدأ أراد أن يبين المنتهى فقال (ثم لا يتم
حتى يرجع إليها) أي إلى البيوت (أو يقاربها بأقل من الميل) استشكل
225

ابن عمر كلام الشيخ فقال: هذا اللفظ مشكل لان أول الكلام جعله
في أقل من الميل مسافرا وآخر الكلام جعله فيه مقيما وهذا لا يصح. قال
بعضهم لدفع هذا التنافي: إن قوله حتى يرجع إليها يعني على قول، وقوله أو
يقاربها يعني على قول آخر. وقال بعضهم: معنى قوله حتى يرجع إليها أي حتى
يدنو منها وحينئذ يكون قوله أو يقاربها هو بمعنى قوله حتى يرجع إليها
ومحصل هذا التأويل أنه متى كان أقل من الميل يتعين عليه الاتمام سواء
كان بها بساتين أم لا كانت البساتين قليلة بحيث تكون ثلث ميل مثلا
أو أكثر. (وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع أو ما يصلي فيه عشرين
صلاة أتم الصلاة حتى يظعن) بالظاء المعجمة أي يرتحل ويصير إذا ظعن
كالظاعن من بلده فيقصر إذا جاوز البلد وما في حكمها واعتمد ذلك ابن
ناجي. (من مكانه ذلك) تقدم أن المصنف إذا أتى بأو يكون أراد أن
المسألة ذات قولين ومفاد كلامه أن القصر بشرطه يقطعه نية إقامة أربعة
أيام صحاح فأكثر مع إدراك عشرين صلاة، وهو الذي مشى عليه ابن
القاسم. فابن القاسم يراعي في قطع حكم السفر الأربعة الأيام الصحاح
والعشرين صلاة. فالاقامة القاطعة لحكم السفر عنده أن يقيم إلى عشاء
الرابع فمن دخل قبل فجر يوم ونوى الخروج بعد غروب الرابع فإنه
يقصر لأنه لم يقم مدة عشرين صلاة. وقال سحنون وعبد الملك: إن نية
ما يصلي فيه عشرين صلاة قاطع لحكم السفر. وفائدة الخلاف يظهر إذا
دخل وقت الظهر فإن قدر بالصلوات حسب ظهر يومه عصره فيتم الظهر
والعصر وإن قدر بالأيام ألغى اليوم الذي دخل فيه بمعنى أنه لا يحسبه من
226

الأربعة أيام التي يقيمها، فمن نوى إقامة أربعة أيام صحاح فإنه يتم من حين
دخوله في المحل الذي نوى فيه ذلك، فإذا دخل وقت الظهر أتمه وأتم العصر
والعشاء وإن كان يوم دخوله لا يحسب في الأيام التي يقيمها وأخذ من قوله
نوى أن الاتمام يكون بالنية خاصة بخلاف القصر، فإنه لا يكون إلا بالنية
والفعل وهو تعدي البساتين المسكونة. وذلك أن الاتمام هو الأصل فلا ينتفل
عنه إلا بشيئين والقصر فرع ينتفل عنه بشئ واحد وأخذ منه أيضا أنه
إذا أقام من غير نية إقامة أربعة أيام فإنه يقصر ما دام ناويا للسفر
واستثنوا من كون نية إقامة أربعة أيام فأكثر يبطل حكم السفر نية
العسكر الإقامة بدار الحرب والمراد بدار الحرب محل إقامة العسكر ولو في
دار الاسلام حيث لا أمن. ومما يقطع القصر أيضا العلم بالإقامة عادة كعادة
الحاج إذا دخل مكة أن يقيم أربعة أيام (ومن خرج) أي شرع في السفر
(و) الحال أنه (لم يصل الظهر والعصر وقد بقي من النهار قدر ثلاث ركعات
صلاهما سفريتين) اتفاقا إن كان تركهما ناسيا وعلى المنصوص إن كان
تركهما عامدا ويكون آثما وإنما كان كذلك أي يصليهما سفريتين لأنه
سافر في وقتيهما إذ يقدر للظهر ركعتان وتبقى ركعة للعصر واختلف في
هذا التقدير، هل يراعى قبله تقدير الطهارة إن لم يكن على طهارة؟ وبه قال
اللخمي والقرافي وأبو الحسن، أم لا وبه قال آخرون وعليه ابن عرفة
. (فإن بقي) أي من النهار بعد أن خرج والحال أنه لم يصلهما (قدر
ما يصلي فيه
227

ركعتين أو ركعة صلى الظهر حضرية) لفوات وقتها وهو غير مسافر
فترتبت في ذمته حضرية (و) صلى (العصر سفرية) لأنه مسافر
في وقتها ويبدأ بالظهر عند ابن القاسم وهو الراجح، وبالعصر عند ابن وهب
لئلا يفوتها عن وقتها، وقال أشهب: يبدأ بأيتهما شاء لاختلاف أهل العلم في
ذلك فمالك وابن شهاب يقولان يبدأ بالأولى. وسعيد بن المسيب يقول يبدأ
بالأخيرة. (ولو دخل) من سفره (لخمس ركعات) أي وإذا دخل وقد بقي
من النهار مقدار ما يصلي فيه خمس ركعات، والحال أنه لم يصل الظهر والعصر
(ناسيا لهما صلاهما حضريتين) لأنه مدرك لوقتيهما الظهر بأربع والعصر
بركعة وحكم العامد كالناسي، وإنما اقتصر المصنف على الناسي لأنه الغالب
(فإن كان) دخوله (بقدر أربع ركعات فأقل إلى ركعة صلى الظهر
سفرية) لأنها بخروج وقتها ترتبت في ذمته سفرية (و) صلى (العصر
حضرية) لأنه أدركها في الحضر، ولما أنهى الكلام على الصلاتين المشتركتي
الوقت نهارا خروجا ودخولا انتقل يتكلم على المشتركتي الوقت ليلا كذلك
لكنه بدأ بالكلام على الدخول عكس ما تقدم في النهار فقال (وإن قدم
في ليل وقد بقي لطلوع الفجر ركعة فأكثر) أي مما يقدر به (و) الحال أنه (لم
228

يكن صلى المغرب والعشاء) ناسيا أو عامدا (صلى المغرب ثلاثا
والعشاء حضرية) لأنه قد بقي من الوقت ما يدرك به العشاء فوجب أن
يصليها حضرية. وأما المغرب فلم يختلف حكمها في السفر والحضر فلا معنى
لذكرها ثم عقب بالخروج فقال (ولو خرج وقد بقي عليه من الليل ركعة
فأكثر صلى المغرب ثلاثا ثم صلى العشاء سفرية) لأنه مدرك لوقتها في
السفر وقاعدة هذا الباب بالنسبة لليليتين أنه يقدر بركعة دخولا وخروجا
وبالنسبة للنهاريتين أو إحداهما أنه في الخروج إذا بقي ما يسع ثلاثا فإنه
يصليهما سفريتين واثنتين أو واحدة. فالثانية سفرية وبالنسبة للنهاريتين
أنه في الدخول إذا بقي من النهار ما يصلي فيه خمس ركعات صلاهما حضريتين
وبقدر أربع ركعات فأقل إلى ركعة صلى الظهر سفرية والله أعلم. باب في
صلاة الجمعة (باب) في بيان حكم السعي إلى (صلاة الجمعة) أي من أنه واجب وفي بيان وقت
وجوبها والمحل الذي تجب فيه ومن تجب عليه، وغير ذلك مما له تعلق
بها وهي مشتقة من الجمع لاجتماع الناس فيها. وأول من سماها جمعة قصي
فإنه جمع قريشا في يومها وقال: هذا يوم الجمعة وابتدأ بحكم السعي فقال:
(والسعي إلى الجمعة واجب) وإذا وجب السعي وهو وسيلة فأحرى ما سعى
229

إليه وقد صرح بوجوب ما سعى إليه في باب جمل فقال وصلاة الجمعة والسعي
إليها فريضة دل على وجوبه الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله
تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر
الله) * (الجمعة: 9) قال الفاكهاني: قال مالك: السعي في كتاب الله العمل، والفعل
عطف مرادف أي فالمراد بالسعي إلى الذكر مطلق الذهاب سواء كان
بالمشي على الأرجل أم لا. واستدل الفاكهاني على ذلك بقراءة فامضوا إلى
ذكر الله والمراد بالذكر الخطبة أو الصلاة أو هما معا. أفاده شارح الموطأ.
وأما السنة، فما في مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام لقوم يتخلفون
عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون
عن الجمعة بيوتهم. وأما الاجماع فقال الفاكهاني: لا خلاف بين الأئمة
أن الجمعة واجبة على الأعيان والسعي إليها إنما يجب حيث لا مانع فإن كان ثم
أي هناك مانع سقطت، والمانع عدة أشياء منها المرض الذي يشق معه السعي إليها،
ومنها أن يكون قد اشتد بأحد والديه المرض أو احتضر أو خشي عليه الضيعة،
ومثل أحد والديه كل قريب خاص كولد وزوج ومنها أن يخاف على ماله
من سلطان أو سارق أو حريق ومنها المطر الشديد والوحل الكثير إلى
غير ذلك (وذلك) أي وجوب السعي إلى صلاة الجمعة على من قربت داره
يكون (عند جلوس الامام على المنبر) بكسر الميم وفتح الموحدة (وأخذ)
بصيغة الفعل بفتح الخاء والذال المعجمتين بمعنى شرع (المؤذنون في
الاذان) وفي بعض النسخ وأخذ بصيغة الاسم وجر المؤذنين على الإضافة،
وحينئذ تكون جملة وأخذ المؤذنين حالية ووجوب السعي إذ ذاك أي عند
جلوس الامام على المنبر إنما هو في حق من قربت داره من المسجد. وأما
230

السعي في حق من بعدت داره فبمقدار ما يصل فيه عند الزوال أي بمقدار
زمن يصل فيه إلى الموضع الذي تقام فيه الجمعة عند الزوال. وهذا التفصيل
في غير من تنعقد به الجمعة. وأما من تنعقد به الجمعة فيجب عليه السعي
بحيث يسمع الخطبة من أولها كما هو المعول عليه ولا يتقيد حضوره
بالزوال ولا بجلوس الامام على المنبر، ويجب السعي إليها على من في المصر
ومن على ثلاثة أميال منه فأقل ولما تقدم ذكر الاذان وكان للجمعة أذانان
أحدهما لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر في زمنه أراد أن يبين ذا من
ذا فقال (والسنة المتقدمة) أي الطريقة المندوبة (أن يصعدوا) بمعنى
يرتفعوا أي المؤذنون (حينئذ) أي حين جلوس الامام على المنبر (على
المنار فيؤذنون) أراد بالسنة المتقدمة سنة الصحابة إذ لم يكن في زمنه
صلى الله عليه وسلم منار وإنما كانوا يؤذنون عند باب المسجد. قاله زروق، وحاصل كلامه
أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أذان واحد يفعل عند باب المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم
جالس على المنبر ثم أحدث سيدنا عثمان رضي الله عنه أذانا آخر يفعل
قبل هذا على المنار ويكون الامام جالسا على المنبر حينئذ أيضا. وقال الفاكهاني:
قال ابن حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقي المنبر فجلس ثم يؤذن
المؤذنون وكانوا ثلاثة يؤذنون على المنار واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث
قام النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة. وكذا في زمن أبي بكر وعمر. ثم لما كثر الناس أمر
عثمان بإحداث أذان سابق على الذي يفعل على المنار وأمرهم بفعله عند الزوال
عند الزوراء وهو موضع بالسوق ليجتمع الناس ويرتفعوا من السوق فإذا
خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار. ثم إن هشام بن عبد الملك
في زمن إمارته نقل الاذان الذي كان بالزوراء فجعله على المنار عند الزوال
231

فإذا جلس على المنبر أذن بين يديه فإذا فرغ المؤذن خطب فالاذان الذي
أحدثه عثمان أول في الفعل وثان في المشروعية، وهو الواقع الآن على المنار
والواقع بين يدي الخطيب ثان في الفعل، وأول في المشروعية لان الذي
يفعل بين يدي الخطيب الآن هو ما كان يفعل عند باب المسجد زمن
النبي صلى الله عليه وسلم وحوله هشام. والمراد بالمنار في كلام ابن حبيب موضع التأذين
لأنه لم يكن منار في زمنه صلى الله عليه وسلم وموضع التأذين هو باب المسجد. (ويحرم
حينئذ) أي حين الاذان بين يدي الامام (البيع) أي والشراء على كل
من تجب عليه الجمعة إلا من اضطر إليه كمن أحدث وقت نداء الجمعة ولا
يجد ماء يتطهر به إلا بالثمن فيجوز كل من البيع والشراء لان هذا من
باب التعاون على العبادة، فإن وقع ما حظر من البيع بين من تلزمهما الجمعة
فسخ، فإن فات فالقيمة حين قبضه أي فالقيمة معتبرة حين قبضه ويكون
مستثنى من قاعدة
أن المختلف فيه يمضي بالثمن، وهذا قد مضى بالقيمة (و) كذلك يحرم (كل ما يشغل) بفتح الياء والغين (عن السعي إليها)
كالأكل والخياطة والسفر وأدخلت الكاف الشركة والهبة والصدقة والاخذ
بالشفعة (وهذا الاذان الثاني) في الاحداث هو الأول في الفعل (أحدثه
بنو أمية) يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أول أمراء بني أمية.
واعلم أن الجمعة لها شرائط وجوب وشرائط أداء والفرق بينهما أن شرائط
الوجوب ما تعمر بها الذمة ولا يجب على المكلف تحصيلها، وشرائط الأداء
ما تبرأ بها الذمة ويجب على المكلف تحصيلها والأولى عشرة الاعلام بدخول
وقتها والاسلام والبلوغ والعقل والذكورية والحرية والإقامة والصحة والقرب
232

بحيث لا يكون على أكثر من ثلاثة أميال ويلحق بالثلاثة أميال ربع ميل
أو ثلثه والاستيطان، والثانية أربعة الامام والجماعة والجامع والخطبة وقد
ذكر الشيخ بعض هذه الشروط ولم يميز بعضها من بعض فقال: (والجمعة
تجب بالمصر والجماعة) أما الأول فظاهر على مذهب أبي حنيفة أن الجمعة
لا تكون إلا في المصر. وزاد بعض أصحابه وأن يكون بالمصر الامام الذي
يقيم الحدود. ومذهب الامام مالك أنها تكون في المصر وفي القرى المتصلة
البنيان بل ولو لم يكن اتصال إلا أن هناك ارتفاقا بأن كان يعاون بعضهم
بعضا ولو لم يكن بها ما يقيم الحدود فعلى هذا لا بد من التأويل في كلام الشيخ
بأن يقال: إنه أراد بقوله تجب بالمصر وبالقرى المتصلة البنيان أي جنس
القرى فيصدق بالقرية الواحدة. وأما الثاني فشرط صحة أي من شروط إقامة
الجمعة أن يكون هناك جماعة ولا يحصرون بعدد عند الامام مالك، بل
المطلوب وجود من يستقل بحيث يدفع من يقصده ويساعد بعضهم بعضا
في المعاش الحاجي وغيره، ومتى كان يمكنهم الإقامة على التأبيد مع الامن
والقدرة على الدفع عن أنفسهم صحت الجمعة ولو لم يحضر منهم إلا اثنا
عشر رجلا باقين لتمام الصلاة مع الامام لا فرق بين أول جمعة وغيرها.
(والخطبة فيها) أي الجمعة (واجبة) على المشهور وقيل: إنها سنة حكاهما
في المقدمات فهي شرط صحة لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بلا خطبة
فإذا صلوا بغير خطبة أعادوا في الوقت فإن لم يعيدوا حتى خرج الوقت
فإنهم يعيدونها ظهرا ولصحة الخطبة شروط منها ما أشار إليه بقوله (قبل
الصلاة) لقوله تعالى * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * (الجمعة: 10) والفاء للترتيب
233

والتعقيب فمن كونه للتعقيب لا يرد أن يقال إن كون الانتشار بعد الصلاة
لا ينافي أن يكون بعد الخطبة بأن تكون الخطبة بعد الصلاة فإن البعدية
ظرف متسع ولفعله عليه الصلاة والسلام وفعل الخلفاء الراشدين بعده،
فمن جهل وصلى بهم قبل الخطبة أعاد الصلاة فقط، ومنها أن تكون بعد
الزوال، ومنها أن تكون بحضور الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة، ومنها
أن تكون اثنتين فإن خطب واحدة وصلى أعاد الجمعة بعد الاتيان بالخطبة
الثانية. والفصل بين الخطبتين بالصلاة يسير فلا يكون موجبا لبطلان
الخطبة الأولى، وأقل ما يجزئ من الخطبة على المشهور ما يقع عليه اسم
الخطبة عند العرب وهو نوع من الكلام مسجع مخالف النظم والنثر،
ووقوعها بغير اللغة العربية لغو فإن لم يوجد من يعرف اللغة العربية سقطت.
وقيل: إن أقله الحمد لله والصلاة على رسول الله وتحذير وتبشير وهو ضعيف
إذ المعتمد أنهما يستحبان في الخطبتين، ويشترط في الخطبة أن تكون
جهرا وسرها لغو وهل يشترط في صحتهما الطهارة قولان مشهوران المشهور
منهما أنه لا يشترط فيها الطهارة غايته الكراهة (ويتوكأ) أي يعتمد
الامام في قيامه لخطبته (على قوس أو عصا) على جهة الاستحباب ويكون
ما يتوكأ عليه بيده اليمنى. قال ابن العربي: ولا يقال عصاة وهو أول لحن
سمع بالبصرة ولكن المسموع من الفراء أول لحن سمع هذه عصاتي فجعل أول اللحن هذه عصاتي
لا عصاة كما هو عن ابن العربي، ولم يقيد
بالبصرة كما قيده ابن العربي (ويجلس في أولها) أي الخطبة (وفي وسطها)
واختلف في هذا وفي القيام لها. قال المازري: إن القيام لها واجب شرطا،
وقيل: سنة فإن خطب جالسا صحت وأساء وحاصل الكلام أن كلا من
234

الجلوسين الأول والثاني سنة على المشهور ومقدار الجلوس الوسط مقدار
الجلوس بين السجدتين والأصل فيما ذكر استمرار العمل على ذلك في جميع
الأمصار والأعصار منذ زمانه صلى الله عليه وسلم إلى هلم جرا. وأخذ من قوله (وتقام
الصلاة عند فراغها) اشتراط اتصال الصلاة بالخطبة ويسير الفصل عفو
بخلاف كثيره ويجب على سبيل الشرطية أن يكون إمام الصلاة هو الخطيب،
فإن طرأ ما يمنع إمامته كحدث أو رعاف فإن كان الماء قريبا يجب انتظاره،
وإن كان بعيدا فإنه يستخلف اتفاقا. وكذلك عند مالك في القريب وحيث
يستخلف فإنه يندب استخلاف من حضر الخطبة ثم انتقل يتكلم على
صفة صلاة الجمعة فقال (ويصلي الامام ركعتين) اتفاقا فإن زاد عمدا بطلت،
وإن زاد سهوا فتجري على حكم الزيادة في الصلاة، ولا بد أن ينوي الامام
الإمامة وإلا لم تجز ويستحب تعجيلها في أول الوقت. قال بهرام: لم يختلف
أحد أن أوله زوال الشمس والمشهور امتداده إلى الغروب وصفة القراءة
في ركعتي الجمعة أنه (يجهر فيهما بالقراءة) إجماعا (يقرأ في) الركعة (الأولى)
بعد الفاتحة (ب‍) - سورة (الجمعة) واعترض ابن عمر على قوله (ونحوها)
بأن القراءة فيها بسورة الجمعة مستحبة لما تضمنته من أحكام الجمعة ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في أول ركعة ويجاب عن المصنف بأن غرضه الرد
على من قال إنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ في الجمعة إلا بها. ففي مسلم:
أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الاعلى فلا اعتراض على
235

المصنف (و) يقرأ (في) الركعة (الثانية ب‍) - سورة (* (هل أتاك حديث
الغاشية) * ونحوها) أي أن المندوب في الركعة الأولى الجمعة. وفي الثانية إما
بهل أتاك أو سبح أو المنافقون. (و) يجب (السعي إليها على من في
المصر) اتفاقا إذا وجدت فيه شروط الجمعة ولم يمنعه مانع شرعي (و)
كذا يجب على (من) هو خارج عن المصر إذا كان (على ثلاثة أميال
منه) أي من المصر ظاهره أن مبدأ الثلاثة من المصر، وهو قول ابن عبد
الحكم وصدر به ابن الحاجب، وقال عبد الوهاب وغيره: مبدؤها من المسجد
وصدر به صاحب العمدة واستظهره، لان التحديد بالثلاثة أميال للسماع،
والسماع إنما هو من المنار وظاهر قوله (فأقل) أن الثلاثة أميال تحديد
فلا يجب على من زاد عليها ولو قلت الزيادة وهو مذهب أشهب، والمعتمد
رواية ابن القاسم أن الثلاثة تقريب فيجب على من زاد عليها زيادة يسيرة
بنحو الربع أو الثلث. ثم أشار إلى بعض شروط الجمعة فقال (ولا تجب
على مسافر) اتفاقا (ولا على أهل منى) غير ساكنيها وأما ساكنوها
فتجب عليهم إذا كان فيهم عدد تنعقد بهم الجمعة كانوا حجاجا أو لا. (و)
كذلك (لا) تجب الجمعة (على عبد) على المشهور ومقابله أنها واجبة
على العبد إذا أسقط السيد حقه (ولا على امرأة ولا) على (صبي) اتفاقا
فيهما والأصل فيما ذكر ما رواه الطبراني في الكبير من قوله صلى الله عليه وسلم: الجمعة
واجبة إلا على امرأة أو صبي أو مريض أو عبد أو مسافر. ولما كان بعض
236

ما تقدم ممن لا يجب عليه إذا حضرها وصلاها أجزأته عن الظهر نبه عليه
بقوله (وإن حضرها عبد أو امرأة أو مسافر فليصلها) يعني وتجزئه عن
الظهر. أما العبد فباتفاق ويستحب له حضورها إن أذن له سيده ليشهد
الخير، ودعوة المسلمين أي دعاء المسلمين لان الانسان حين يدعو يعمم
الدعاء له وللحاضرين. وأما المرأة فكذلك يجزئها اتفاقا وصلاتها في بيتها
أفضل لها. وأما المسافر فتجزئه عند مالك. وقال ابن الماجشون: لا تجزئه لأنه
غير مخاطب بها والنفل لا يجزئ عن الفرض ورد بالاتفاق في المرأة والعبد
على الاجزاء ولما ذكر أن المرأة إذا حضرتها تصليها بين موقفها بقوله
(وتكون النساء خلف صفوف الرجال) ولما أوهم كلامه أن المرأة
تخرج إلى الجمعة مطلقا شابة أو غيرها رفع ذلك التوهم بقوله (ولا تخرج
إليها) أي إلى صلاة الجمعة (الشابة) وهذا النهي على جهة الكراهة
إلا أن تكون فائقة في الجمال فيحرم خروجها وفهم من كلامه أن المتجالة
تخرج إليها أي جوازا بمعنى خلاف الأولى والأولى لها صلاتها في بيتها
ثم انتقل يتكلم على شيئين واجبين كان المناسب ذكرهما عند الكلام على
الخطبة لأنهما يتعلقان بها أحدهما أشار إليه بقوله (وينصت) بالبناء
للمفعول أي يجب الانصات وهو السكوت على كل من شهد الجمعة
(ل‍) - أجل سماع (الامام) وهو (في) حال (خطبته) الأولى والثانية وفي
الجلوس بينهما سمع الخطبة أو لم يسمعها سب الامام من لا يجوز سبه أو
237

مدح من لا يجوز مدحه. وقال ابن حبيب: يجوز الكلام إذا تكلم الامام
بما لا يجوز وصوبه اللخمي. واقتصر عليه صاحب المختصر ولا شمت
عاطسا وإذا عطس هو حمد الله سرا في نفسه ولا يسلم ولا يرد سلاما ولو
بالإشارة ولا يشرب الماء والحاصل أنه يحرم كل ما ينافي وجوب الانصات
ولو على غير السامع، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين:
إذا قلت لصاحبك أنصت والامام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت. سمي الامر
بالمعروف لغوا فغيره أولى واللغو الكلام الذي لا خير فيه. وظاهر كلام الشيخ
أن الكلام بعد الفراغ من الخطبة جائز وهو كذلك، ويستمر الجواز
إلى أن يشرع في الإقامة فيكره إذا إلى أن يحرم الامام فيحرم. ومن أوقات
الجواز الوقت الذي فيه الترضي على الصحب والدعاء للسلطان. ويجوز
الكلام حال الخطبة في مسائل منها: الذكر القليل عند سببه والتأمين عند
سماع المغفرة أو النجاة من النار والتعوذ عند سماع ذكر النار أو الشيطان
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره كل ذلك سرا ويكره جهرا. (ويستقبله
الناس) يعني أن الناس يستقبلون الامام في حال خطبته أي يستقبلون جهته
وذاته وظاهر كلامه أن الصف الأول وغيره سواء وهو ظاهر المدونة عند
بعضهم وهو الراجح وضعف ما حكاه الباجي أن الصف الأول لا يلزمه ذلك
(والغسل لها) أي لصلاة الجمعة لا لليوم فهو من آداب الصلاة (واجب)
وجوب السنن، يعني أنه سنة مؤكدة ووقته قبل صلاة الجمعة ولا بد
من اتصاله بالرواح إلى الجمعة على المشهور. وقال ابن وهب: إن اغتسل بعد الفجر
أجزأه وإن لم يتصل رواحه بغسله وصفته كصفة غسل الجنابة. (والتهجير)
أي ومن آداب الجمعة التهجير وحكمه أنه (حسن) أي مستحب لان النبي
238

صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفعلون ذلك أي يأتون المسجد
في هذا الوقت وأول أجزائه الساعة السادسة المعنية في قوله عليه الصلاة
والسلام: من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة
الحديث (وليس ذلك في أول النهار) وأما في أول النهار فمكروه لان
النبي عليه الصلاة والسلام لم يفعله ولا فعله أحد من أصحابه (وليتطيب لها)
أي للجمعة استحبابا فمن آداب الجمعة استعمال الطيب لمن يحضرها من
الرجال دون النساء ويكون مما خفي لونه وظهرت رائحته كالمسك ويقصد
به امتثال السنة ولا يقصد به الفخر والرياء (ويلبس أحسن ثيابه) أي
أن من الآداب التزين باللباس الحسن يوم الجمعة، فالتجمل بجميل الثياب
من آداب اليوم ويعتبر في الحسن الحسن الشرعي وهو ما يعده أهل الشرع
حسنا في هذا اليوم أي يوم الجمعة، وهو الأبيض. والأصل فيما ذكر ما رواه
أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه، ومس من الطيب إن كان
عنده ثم يأتي الجمعة ولم يتخط أعناق الناس، ثم يصلي ما كتب الله تعالى
عليه، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته، كانت له كفارة لما
بينها وبين جمعته التي قبلها قال: ويقول أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام. ويقول: إن الحسنة بعشر أمثالها (وأحب إلينا) أي المالكية (أن ينصرف)
مصلي الجمعة (بعد فراغها) أي وبعد الفراغ مما يتصل بها من تسبيح
وغير ذلك (ولا يتنفل في المسجد) ظاهره إماما كان أو مأموما وهو
كذلك اتفاقا في الأول وعلى أحد قولين في الثاني. أي من الآداب أن مصلي
239

الجمعة ينصرف بعد الصلاة ولا يتنفل في المسجد، لما روي أن ابن عمر رضي
الله عنهما كان إذا صلى الجمعة انصرف فصلى ركعتين في بيته. ثم قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. هذا حكم التنفل بعدها، وأما قبلها فيباح للمأموم
دون الامام أي يندب وإلى الأول أشار بقوله (وليتنفل) يعني المأموم في
المسجد (إن شاء قبلها) أي قبل صلاة الجمعة ما لم يجلس الامام على المنبر
فإذا جلس فإنه لا يتنفل بل إذا خرج للخطبة فإنه لا يتنفل، وإذا دخل
عليه وهو في أثناء التنفل خفف (ولا يفعل ذلك الامام) أي التنفل قبل
صلاة الجمعة في المسجد أي يكره ذلك للامام لما صح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي
قبل الجمعة شيئا. قال ابن عمر: وظاهر كلام الشيخ أن ذلك عام اتسع الوقت
أم لا، وليس هو على ظاهره، وإنما يعني به عند دخوله للخطبة دل عليه قوله
(وليرق) أي يصعد (المنبر كما يدخل) أي وقت دخوله فما مصدرية
والكاف زائدة، والتقدير: وليرق المنبر وقت دخوله، ولكن لا بد من حذف
في العبارة أيضا، والمعنى: وليرق المنبر إذا جاء وقت دخوله مريدا الخطبة وهو
بعد الزوال. وأما إذا جاء قبل الزوال أو بعده ولم يرد أن يخطب بأن لم
تحضر الجماعة فقال ابن حبيب: يجوز له أن يتنفل ويسلم على الناس حين
دخوله ولا يسلم إذا صعد على المنبر، أي يكره. ومن الآداب المستحبة قص
الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد إن احتاج والسواك والمشي
لما ورد في ذلك من الاخبار.
240

باب في صلاة الخوف
(باب) في بيان صفة (صلاة الخوف). قال البدر القرافي: يمكن رسمها بأنها
فعل فرض من الخمسة ولو جمعة مقسوما فيه المأمومون قسمين مع الامكان
ومع عدمه لا قسم في قتال مأذون فيه فيدخل قتال المحاربين وكل قتال جائز،
وحكمها الوجوب أي وجوب السنن. وقال ابن المواز: إنها رخصة. واقتصر
عليه صاحب المختصر لصدق الرخصة عليها وهي الحكم المشروع لعذر
مع قيام المحرم كأكل الميتة فهو مشروع لعذر وهو الاضطرار مع قيام
المحرم أي مع وجود المحرم وهو الخبث في الميتة. وعلى قياسه يقال هنا وهي
المشروع لعذر وهو الخوف مع قيام المحرم وهو أنه تغيير عن الصلاة الشرعية،
ولا تنافي بين كونها سنة وبين كونها رخصة، لان الرخصة قد تكون واجبة
كأكل الميتة للمضطر والدليل على ثبوت حكمها وأنها غير منسوخة الكتاب
والسنة والاجماع. وادعى المزني نسخها وهو مردود. أما دليلها من الكتاب
فقوله تعالى * (وإذا كنت فيهم) * (النساء: 102) الآية. وأما من السنة فمنها ما رواه يزيد بن
رومان بسنده: أن طائفة صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو فصلى
بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاء العدو وجاءت
الطائفة الأخرى لي بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم
ثم سلم بهم. وأما الاجماع فقد صلاها بعد موته صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة
منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو موسى ولم ينكر ذلك عليهم أحد
من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وتفعل في السفر والحضر جماعة
وفرادى، وهذا إنما يظهر في صلاة الالتحام وقد بدأ بالكلام على صفتها في
السفر جماعة لان الخوف غالبا إنما يكون في السفر فقال: (وصلاة الخوف)
241

أي وصفتها (في) حال (السفر) أن المسلمين (إذا خافوا العدو) أي
اعتقدوا ضرر العدو أو ضنوا ذلك والمراد بهم الكفار لان قتالهم وهو محل
الرخصة وقاسوا عليه قتال المحاربين (أن يتقدم الامام بطائفة ويدع طائفة
مواجهة للعدو) ظاهره كالمختصر كان العدو في جهة القبلة أو لا وهو كذلك
خلافا للإمام أحمد أنه إذا كان العدو جهة القبلة صلوا مع الامام جميعا
من غير قسم لنظرهم للعدو. ولا يشترط تساوي الطائفتين في القسمة خلافا
لمن شرط ذلك والصحيح أن يكون كل طائفة عندها قدرة على العدو
وتقاومه فإن كان العدو يقاوم بالنصف قسمهم نصفين، وإن كان يقاوم
بالثلث صلى بالثلث الركعة الأولى وبالثلثين الركعة الثانية وعلى الامام أن
يعلم الناس كيفيتها قبل أن يشرعوا في الصلاة خوفا من التخليط لعدم
إلف أكثر الناس لها (ف‍) - بعد ذلك (يصلي الامام بطائفة ركعة ثم
يثبت قائما) أي بالطائفة فهم مؤتمون به إلى أن يستقل ثم يفارقونه فإذا
أحدث عمدا قبل استقلاله بطلت عليهم، أو سهوا أو غلبة استخلف هو
أو هم وهو مخير بعد استقلاله قائما بين القراءة والدعاء والسكوت (و) أما
الطائفة التي صلت معه ركعة فإنهم (يصلون لأنفسهم ركعة ثم يسلمون ف‍)
يذهبون (يقفون مكان أصحابهم) مواجهة العدو (ثم يأتي أصحابهم
242

فيحرمون خلف الامام فيصلي بهم الركعة الثانية ثم يتشهد) الامام (ويسلم)
على المشهور، ومقابله لا يسلم بل يشير للطائفة الثانية فتقوم للركعة الثانية
التي بقيت عليهم فيصلونها ويسلم بها فتدرك معه الثانية السلام كما أدركت
الأولى الاحرام، وعلى المشهور من أن الامام يسلم ولا ينتظر الطائفة الثانية
الذين صلوا معه ركعة أنهم يفارقون الامام (ثم يقضون الركعة) الأولى
(التي فاتتهم) معه (وينصرفون) وقوله (وهكذا يفعل في صلاة الفرائض
كلها) توطئة لقوله (إلا المغرب فإنه) أي الامام (يصلي بالطائفة الأولى ركعتين)
ويتشهد فإذا تم تشهده ثبت قائما على المشهور. ويشير إلى الطائفة الأولى
بالقيام فإذا قاموا أتموا صلاتهم لأنفسهم ثم يتشهدون ويسلمون وينصرفون
فيقفون في مكان أصحابهم ثم تأتي الطائفة الثانية فيحرمون خلفه (و)
يصلي بهم أي (ب‍) - الطائفة (الثانية ركعة) ثم يتشهد ويسلم ثم يقضون
لأنفسهم الركعتين اللتين فاتتهم بالفاتحة وسورة، ثم ينصرفون وهذه الصفة
التي ذكرها الشيخ هي المشهورة من قول مالك وصحح فعلها عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولها شرطان الأول أن يكون القتال جائزا أي مأذونا فيه فيشمل
الواجب كقتال أهل الشرك والبغي والمباح كقتال مريد المال، وأن يكون
الذين صلوا مع الامام يمكنهم الترك فلو كان العدو بحيث لا يقاومه المرصد
له لم يجز الثاني إذا انقطع الخوف في أثناء الصلاة أتموا على صفة الامن وإن
243

حصل الامن بعد الصلاة لا إعادة عليهم. هذه صفة صلاة الخوف في السفر
وأما صفتها في الحضر فأشار إليها بقوله (وإن صلى) الامام (بهم) أي
بمن معه (في الحضر لشدة خوف صلى) بهم (في الظهر العصر والعشاء
بكل طائفة ركعتين) وعبارة الجلاب أكثر فائدة وأوضح من عبارة
الشيخ ونصها إذا نزل الخوف في صلاة الحضر لم يجز قصر الصلاة وجاز
تفريقهم فيها، فيصلي الامام بإحدى الطائفتين ركعتين ويجلس ويتشهد
ثم يشير إليهم بالقيام للاتمام، وقد قيل: إنه يقوم إذا قضى تشهده فينتظر
إتمامهم وانصرافهم ومجئ الآخرين قائما يعني ساكتا أو داعيا لا قارئا، ثم يصلي بالطائفة الثانية الركعتين الباقيتين ثم يسلم وينصرف ويقضون
ما فاتهم بعد سلامه وقد قيل ينتظرهم حتى يقضوا ما فاتهم ثم يسلم ويسلمون
بسلامه اه‍. والأول هو المشهور (ولكل صلاة) مما تقدم في السفر والحضر
جماعة (أذان وإقامة) لان كل صلاة فرض مجتمع لها في السفر مطلقا
وفي الحضر إن طلبت غيرها أذان وإقامة، ثم أشار إلى صفة صلاة
الخوف فرادى فقال (وإذا اشتد الخوف عن ذلك) أي عن صلاة الجماعة على
الصفة المتقدمة (صلوا وحدانا) أي فرادى (بقدر طاقتهم) فإن قدروا
على الركوع والسجود فعلوا ذلك وإن لم يقدروا على شئ من ذلك صلوا
إيماء ويكون إيماؤهم للسجود أخفض من الركوع. (مشاة) أي غير راكبين
244

(أو ركبانا) على الخيل والإبل (ماشين) أي على الهينة (أو ساعين) أي جارين
(مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) ثم لا إعادة عليهم إذا أمنوا لا في الوقت
ولا بعده والأصل فيما ذكر قوله تعالى * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * (البقرة: 239) وقوله تعالى
* (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) * (النساء: 103) فأمر
الله سبحانه وتعالى أن تصلى الصلاة في وقتها على حسب الحال وفي الموطأ قال ابن
عمر رضي الله عنهما: إذا اشتد الخوف صلوا رجالا قياما على أقدامكم أو
ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال نافع: لا أرى عبد الله ذكر ذلك
إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. تنبيه: يجوز في تلك الحالة أعني حالة اشتداد
الخوف مشي كثير وركض وهو تحريك الرجل وطعن برمح ورمي بنبل
وكلام بغير إصلاحها ولو كثر إن احتيج له فيما يتعلق به كتحذير غيره
ممن يريده أو أمره بقتله وكتسبيح وافتخار عند الرمي، ورجز إن ترتب
لي ذلك توهين العدو وإلا لم يكن من المحتاج له. باب في صلاة العيدين (باب في) بيان حكم
(صلاة العيدين) الفطر والأضحى وفي بيان وقت الخروج إليها وكيفيتها
وبيان الطريق التي يرجع منها وبيان ما يفعله وما يقوله عند خروجه إليها
(و) في بيان (التكبير) في (أيام منى) وفي بيان الوقت الذي يوقع
فيه التكبير من أيام منى وبيان ما يستحب فعله في يوم العيد وابتدأ
بحكمها فقال (وصلاة العيدين المراد أن كلا منهما سنة
مؤكدة فقوله واجبة أي وجوب السنن وهو التأكد فهي سنة عين في
245

حق من تلزمه الجمعة من حر مكلف الخ فلا تسن في حق عبد ولا صبي
ولا مجنون ولا امرأة ولا مسافر وهو ما كان خارجا عن بلد الجمعة بأكثر
من ثلاثة أميال، لكن يستحب لمن لم يؤمر بها أن يصليها فيصليها العبد
والمرأة والصبي والخارج عن بلد الجمعة كفرسخ على جهة الندب غير أنه
يستثنى من المسافر الحاج بمنى فإنهم لا يؤمرون بإقامتها لا ندبا ولا سنة لان
وقوفه بالمشعر يقوم مقام صلاته لها، وأما أهل منى فصلاتهم لها جماعة بدعة
مذمومة ولا بأس أن يصليها الرجل منهم في خاصة نفسه ومن فاتته صلاة
العيد مع الامام فيستحب له أن يصليها منفردا، وإذا خرجت المرأة إليها
لا تلبس المشهور من الثياب وهو ما شأنه أن ترقب الناس له ولا تتطيب
خوف الفتنة أي يحرم فعل ذلك إن كان الخوف ظنا، ويكره إن كان شكا
والعجوزة وغيرها في هذا سواء ثم بين وقت الخروج فقال (يخرج لها
الامام والناس ضحوة) يعني أن وقت الخروج لصلاة العيد للامام والناس
بعد طلوع الشمس بحيث إذا وصلوا إلى المصلى حل وقت الصلاة هذا
لمن قربت داره، وأما من بعدت داره فإنه يخرج قبل ذلك بحيث يدرك الصلاة
مع الامام وهذا بيان وقت الخروج لا وقت الصلاة يدل عليه قول المصنف
(قدر ما إذا وصل) وفي رواية بقدر ما إذا وصل (حانت) أي حان وقتها
وجاء وقت حلها أي حلت (الصلاة) وحلها إذا ارتفعت الشمس قدر رمح
أو رمحين من رماح العرب وهو اثنا عشر شبرا بالأشبار المتوسطة وهذا
باعتبار رأي العين وأما باعتبار الحقيقة فقد قطعت الشمس من المسافة
ما لا يعلمه إلا الله وإيقاعها بالمصلى أفضل لفعل ذلك منه عليه الصلاة
246

والسلام مع المداومة واستقر على ذلك عمل أهل المدينة وظاهر قوله في المدونة،
ويستحب الخروج لها إلى المصلى إلا من عذر أن مكة وغيرها في ذلك سواء.
وعن الامام مالك أن أهل مكة يصلون بالمسجد الحرام أي لمعاينة الكعبة،
وهي عبادة مفقودة في غيرها. فقد ورد ينزل على هذا البيت في كل يوم
مائة وعشرون رحمة ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين
إليه. ويستحب المشي في الذهاب إلى صلاة العيدين دون الرجوع لأنه
قد فرغ من القربة، ويستحب الاكل قبل الغدو إلى المصلى في عيد الفطر
دون الأضحى. (وليس فيها أذان ولا إقامة) وليس فيها أيضا على المشهور
نداء الصلاة جامعة لما في مسلم عن عطاء قال: أخبرني جابر أنه لا أذان يوم
الفطر قبل أن يخرج الامام ولا بعد أن يخرج ولا إقامة ولا نداء أي
بالصلاة جامعة ولا شئ أي ليس هناك شئ يفعل يعلم به صلاة العيد كضرب
دف مثلا فإذا حان وقت الصلاة فلا أذان ولا إقامة ولا نداء وإنما يبتدئ
الامام الصلاة (فيصلي بهم) أي بالناس أي بمجرد وصوله المصلى أو المسجد
بعد حل النافلة واجتماع الناس (ركعتين) لما في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم
صلاها ركعتين وكذلك الخلفاء بعده (يقرأ فيهما جهرا) بلا
خلاف (بأم القرآن والشمس وضحاها وسبح اسم ربك الاعلى ونحوهما)
وفي بعض النسخ تقديم سبح على الشمس وضحاها وهي ظاهرة وقضيته
الاقتصار عليهما وقضية ما في الموطأ ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
247

في الأضحى والفطر بق والقرآن المجيد واقتربت الساعة وانشق القمر غير
ذلك فلعله لم يصحب لقراءتهما عمل أهل المدينة. (ويكبر في) الركعة (الا ولى
سبعا قبل القراءة يعد فيها تكبيرة الاحرام و) يكبر (في) الركعة (الثانية)
بعد القيام (خمس تكبيرات لا يعد فيها تكبيرة القيام) ولا يرفع يديه
في شئ من التكبير لا في الأولى ولا في الثانية إلا في تكبيرة الاحرام على
المشهور. وعن مالك استحبابه في كل تكبيرة ويكون التكبير متصلا
بعضه ببعض إلا بقدر تكبيرة المؤتم فيندب له الفصل بقدره. وإذا كبر
الامام في الأولى أكثر من سبع أو في الثانية أكثر من خمس فلا يتبعه
المأموم ولو كان ذلك مذهب الامام ويكبر قبل القراءة، ولو كان مذهب
الامام التأخير كما دل عليه ظواهر أهل المذهب. وإذا سها الامام عن تكبيرة
صلاة العيد رجع ما لم ينحن للركوع فإذا وضع يديه على ركبتيه فإنه لا يرجع،
فلو رجع فبعضهم استظهر عدم البطلان واستظهر غيره البطلان معللا
ذلك بأنه رجوع من تلبس في فرض إلى سنة، وإذا رجع من يسوغ له
الرجوع فإنه يكبر ويعيد القراءة ويسجد بعد السلام على المشهور ومقابله
لا يسجد، حكاه اللخمي والمازري. وإن وضع يديه على ركبتيه تارك التكبير
سهوا تمادى وسجد قبل السلام ومن جاء بعد أن فرغ الامام من التكبير
ووجده يقرأ كبر على المشهور خلافا لابن وهب قال: لأنه يصير قاضيا في حكم
الامام ورأى صاحب القول المشهور أن ذلك ليس بقضاء لخفة الامر
وكذا إذا أدركه في بعض التكبير فإنه يكبر معه ما أدركه فيه، ثم يكمل
248

ما بقي بشروع الامام في القراءة ولا يكبر ما فاته في خلال تكبير الامام، وإن
وجده في الركوع كبر تكبيرة الاحرام ولا شئ عليه، وإذا أدرك القراءة
في الركعة الثانية كبر خمسا إذ تكبيرة القيام ساقطة عنه وإذا قضى الأولى
كبر سبعا يعد فيها تكبيرة القيام لفوات الاحرام (وفي كل ركعة سجدتين)
هكذا رواه بعضهم، وصوابه سجدتان ليكون مبتدأ وخبرا وقال
بعضهم هو منصوب بفعل مضمر تقديره ويسجد في كل ركعة سجدتين،
وما ذكره لا خلاف فيه إذ لا قائل بسجدة واحدة في ركعة (ثم
يتشهد) أي بعد فراغه من السجدتين أي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
ويدعو وأراد بالتشهد ما يشمل الكل (ويسلم) أي بعد
فراغه من التشهد. (ثم يرقى) أي بعد الفراغ من السلام يرقى بفتح
الياء (المنبر ويخطب ويجلس في أول خطبته ووسطها) أخذ من كلامه
أن الخطبة تكون بعد الصلاة فليست خطبة العيد كخطبة الجمعة لا من
حيث الوقت، فإن هذه بعد الصلاة وتلك قبل الصلاة ولا من حيث
الافتتاح فإن هذه تفتتح بالتكبير وتلك بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وإن كانت مثلها من حيث إن كلا منهما باللفظ العربي، ومن حيث
الجهر فإنه يطلب في كل منهم. ا وقد نص في المختصر على استحباب
البعدية يعني أن حكم كون الخطبة بعد الصلاة الاستحباب لما في الصحيح
أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بالصلاة قبل الخطبة وعلى هذا جرى عمل
الخلفاء الراشدين بعده، وأخذ من قوله يجلس أولها ووسطها أنهما خطبتان أولى
وثانية مشتملة أي الخطبة الشاملة للأولى والثانية على أحكام العيد وما يشرع
249

فيه واجبا ومستحبا. (ثم ينصرف) أي من غير جلوس إذا فرغ من الخطبة
إن شاء وله أن يقيم مكانه ويكره له وللمأمومين التنفل قبلها وبعدها إن
أوقعها في الصحراء لما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الا ضحى
فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. وأما إن أوقعها في المسجد فلا يكره
له ولا للمأمومين التنفل قبلها ولا بعدها عند ابن القاسم، لان الحديث إنما
كان في الصحراء. (ويستحب) للامام (أن يرجع من طريق غير) الطريق
(التي أتى منها) لما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك وأشار بقوله (والناس
كذلك) إلى أنهما متساويان في هذا الطلب فكما يطلب من الامام الرجوع
من طريق آخر غير الذي أتى منه فكذلك المأمومون لما أن الحكمة
منوطة بالجميع (وإن كان) خروج الامام لصلاة العيد (في الأضحى) أي
يوم النحر (خرج بأضحيته) بتشديد الياء (إلى المصلى فذبحها) إن كانت
مما يذبح (أو نحرها) إن كانت مما ينحر وإنما كان كذلك (ل‍) - أجل أن
(يعلم الناس ذلك فيذبحون) أو ينحرون (بعده) إذ لا يجوز لهم الذبح
قبله فإن ذبح أحد قبله أعاد اتفاقا فإن لم يخرج الامام أضحيته إلى المصلى
فإنهم يذبحون بعد رجوعه إلى منزله وتجزيهم وإن أخطؤوا في تحريهم بأن
ذهبوا قبله. (وليذكر) أي يكبر الامام (الله) تعالى (في خروجه من بيته)
250

أو غيره يعني أنه يطلب من الامام على جهة الاستحباب عند خروجه من
بيته أو غيره أن يذكر الله تعالى بالتكبير، ويفهم من كلامه أنه لا يكبر قبل
الخروج وهو المشهور. وهناك قول بأنه يدخل زمن التكبير بغروب الشمس
ليلة العيد وذلك (في) عيد (الفطر و) في عيد (الأضحى) وقال أبو حنيفة:
لا يكبر في عيد الفطر دليلنا ما رواه الدارقطني: أنه عليه الصلاة والسلام كان
يكبر يوم الفطر حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى، وعليه عمل أهل
المدينة خلفا عن سلف. وظاهر كلام الشيخ أنه يكبر سواء خرج قبل طلوع
الشمس أو بعدها وهو لمالك في المبسوط، بل نقل بعضهم أن الذي لمالك في
المبسوط التكبير من وقت الانصراف من صلاة الصبح. قال ابن عبد السلام:
وهو الأولى لا سيما في الأضحى تحقيقا للشبه بأهل المشعر والتكبير المذكور
يكون (جهرا) عند عامة العلماء يسمع نفسه ومن يليه وفوق ذلك قليلا.
قال القرافي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته
بالتكبير، واستمر على هذا عمل السلف بعده. وقوله: (حتى يأتي المصلى
الامام) غاية لتكبير الامام وأما قوله (والناس كذلك) فمعناه أنهم مثل
الامام في ابتداء التكبير وصفته، وأما في الانتهاء فيخالفونه فيه يدل عليه
قوله (فإذا دخل الامام للصلاة) أي لمحلها ويروى في الصلاة (قطعوا ذلك)
التكبير (و) السامعون للخطبة (يكبرون) سرا (بتكبير الامام في خطبته)
على المذهب لفعل جماعة من الصحابة ذلك (وينصتون له) أي للامام
251

(فيما سوى ذلك) التكبير عند مالك من رواية ابن القاسم لان عليهم
أن يستمعوا له فأشبهت الجمعة (فإن كانت) الأيام (أيام النحر) ويجوز
رفع أيام على أن كان تامة أي فإن حضرت أيام النحر (فليكبر الناس)
استحبابا (دبر الصلوات) المفروضات الحاضرة قبل التسبيح والتحميد
والتكبير وظاهر كلامه أن الإمام والمأموم والفذ والذكر والأنثى في ذلك
سواء والاحتراز بالمفروضات من النوافل وبالحاضرة من الفائتة وابتداء
التكبير إثر الصلوات المفروضات (من صلاة الظهر من يوم النحر)
وانتهاؤه (إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه) أي من يوم النحر
(وهو) أي اليوم الرابع (آخر أيام منى) ودفع بقوله (يكبر إذا صلى
الصبح) الايهام في قوله إلى صلاة الصبح إذ يحتمل أن تكون إلى
فيه للغاية، أي: والغاية خارجة ويحتمل أن تكون بمعنى بعد. (ثم) إذا
فرغ من التكبير بعد صلاة الصبح من اليوم الرابع من أيام النحر
(يقطع) التكبير (والتكبير) الذي يكبره الناس (دبر الصلوات) له
صفتان إحداهما (الله أكبر الله أكبر الله أكبر) والثانية أشار إليها
بقوله (وإن جمع مع التكبير تهليلا وتحميدا فحسن) أي مستحب ثم
252

بين صفة الجمع بقوله (يقول إن شاء ذلك الله أكبر الله أكبر لا إله إلا
الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وقد روي عن مالك هذا) من رواية
ابن عبد الحكم واستحبها ابن الجلاب (و) روي عنه أيضا (الأول) من
رواية علي وصرح عياض بمشهوريته (والكل واسع) أي جائز
لما أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين شئ من هاتين الصفتين ولما تقدم له
الامر الذكر عند خروجه إلى صلاة العيدين وكان مراده به الذكر المأمور
به في قوله تعالى * (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات) * (الحج: 28) وقوله * (واذكروا الله
في أيام معدودات) * (البقرة: 203) ناسب أن يذكر الأيام المذكورة ويبين هذه من هذه
فقال (والأيام المعلومات) أي للنحر المذكورة في الآية الأولى هي (أيام
النحر الثلاثة) الأول وتالياه (و) أما (الأيام المعدودات) أي للرمي
المذكورة في الآية الأخرى فهي (أيام منى وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر) ثاني يوم النحر وتالياه فأول يوم النحر معلوم غير معدود ورابعه معدود غير
معلوم واليومان الوسطان معلومان معدودان (والغسل للعيدين حسن) أي
مستحب وصفته كصفة غسل الجنابة، ويطلب من كل مميز وإن لم يكن مكلفا
ولا مريدا للصلاة (وليس بلازم) أي لزوم السنن وأفضل أوقاته بعد صلاة
253

الصبح ويجزئه إذا اغتسل قبل طلوع الفجر. (ويستحب فيهما) أي
العيدين (الطيب) للرجال من خرج منهم للصلاة ومن لم يخرج، وأما
النساء إذا خرجن لها فلا يجوز لهن الطيب لا فرق بين العجائز وغيرهن
وأما إذا لم يخرجن فلا. (و) يستحب فيهما أيضا للرجال (الحسن)
أي لبس الحسن (من الثياب) والمراد بالحسن منها الجديد ولو أسود
وأدلة ذلك كله من السنة، ففي حديث ابن عباس: كان عليه الصلاة والسلام
يغتسل يوم الفطر والأضحى ويتطيب ويرغب في ذلك، ويأمرنا إذا غدونا
إلى المصلى أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب.
باب في صلاة الخسوف (باب في) بيان حكم (صلاة الخسوف) وفي بيان صفتها الأكثر على أن
الخسوف والكسوف مترادفان على معنى واحد في الشمس والقمر وهو ذهاب
الضوء منهما. وقيل: بتباينهما فالكسوف التغير والخسوف ذهاب الضوء
بالكلية. ولما كان القمر يذهب جملة ضوئه والشمس ليست كذلك كان أولى
بالخسوف من الكسوف، فيقال: خسف القمر وكسفت الشمس ودليلهما
من السنة قوله عليه الصلاة والسلام: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله
لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله. وفي
رواية فافزعوا إلى الصلاة وحكم صلاة الخسوف السنية كما قال المصنف.
(وصلاة الخسوف سنة واجبة) أي مؤكدة وهو متفق عليه في خسوف
الشمس ومختلف فيه في خسوف القمر والمشهور أن صلاة خسوف القمر
254

مستحبة كما قال الأجهوري. وتفعل صلاة خسوف الشمس جماعة وفرادى
والأول أفضل ولذا بدأ به المصنف فقال (إذا خسفت الشمس) كلها
أو بعضها خرج الامام (إلى المسجد ف‍) - إذا وصل إليه (افتتح الصلاة
بالناس) ولا يشترط فيهم عدد محصور كالجمعة (بغير أذان ولا إقامة) ولا
يقول الصلاة جامعة لما هو مأثور من فعله عليه الصلاة والسلام ويكبر في
افتتاحه كالتكبير في سائر الصلوات فإذا كبر افتتح القراءة بفاتحة الكتاب
(ثم قرأ قراءة طويلة سرا) لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ كذلك وحدها أن تكون
(بنحو سورة البقرة) لفظة نحو مقحمة أي زائدة فإن المذهب استحباب
قراءة البقرة في القيام الأول من الركعة الأولى بعد الفاتحة ومقابل المذهب
يقول إنما قال نحو إشارة إلى أن الندب لا يختص بهذه السورة بل المراد
هي أو قدرها أي يقرب منها في الطول (ثم) بعد الفراغ من قراءتها
(يركع ركوعا طويلا نحو ذلك) أي يقرب منه في الطول (ثم) بعد
ذلك (يرفع رأسه) من الركوع والحال أنه (يقول سمع الله لمن حمده)
والمأموم يقول ربنا ولك الحمد (ثم) بعد ذلك (يقرأ) الفاتحة على المشهور
خلافا لابن مسلمة في أنه لا يقرؤها وعلل ذلك بأنها ركعتان والركعة
الواحدة لا تكرر فيها الفاتحة مرتين (دون قراءته الأولى) أي بعد
قراءة الفاتحة يقرأ في القيام الثاني دون قراءته في القيام الأول ويستحب
255

أن تكون بآل عمران (ثم يركع نحو) طول (قراءته الثانية) ويسبح
في ركوعه ولا يقرأ ولا يدعو (ثم يرفع رأسه) منه هو والمأمومون وهو
(يقول سمع الله لمن حمده) ويقول المأمومون ربنا ولك الحمد (ثم
يسجد) هو والمأمومون (سجدتين تامتين) بطمأنينة وهل يطولهما
كالركوع قولان: مشهورهما الأول والثاني في مختصر ابن عبد الحكم وهو
ظاهر كلام الشيخ. (ثم) بعد أن يفرغ من السجدتين (يقوم فيقرأ)
الفاتحة ويقرأ بعدها قراءة (دون قراءته التي
تلي ذلك) أي قراءته التي في القيام الثاني من الركعة الأولى ويستحب أن تكون بسورة النساء
(ثم) بعد فراغه من القراءة في القيام الثالث (يركع نحو قراءته) في القيام
الثالث ويسبح في ركوعه ولا يقرأ ولا يدعو. (ثم) بعد فراغه من الركوع
(يرفع رأسه) والمأمومون كذلك (كما ذكرنا) أي وهو يقول سمع الله
لمن حمده ويقول المأمومون ربنا ولك الحمد (ثم) بعد رفعه يقرأ الفاتحة
على المشهور ثم (يقرأ) قراءة (دون قراءته هذه) التي في القيام الثالث
ويستحب أن تكون بسورة المائدة (ثم) بعد فراغه من القراءة في القيام
الرابع (يركع نحو ذلك) أي نحو قراءته في القيام الرابع (ثم) بعد ذلك
256

(يرفع رأسه كما ذكرنا) يعني وهو يقول سمع الله لمن حمده
ويقول المأمومون ربنا ولك الحمد (ثم) بعد ذلك (يسجد كما ذكرنا)
سجدتين تامتين بطمأنينة وفيهما القولان المتقدمان في سجدتي الركعة الأولى
(ثم يتشهد و) إذا فرغ من تشهده (يسلم) وهذه الصفة التي ذكرها
الشيخ. قال الفاكهاني: هي مذهبنا ومذهب الجمهور، ودليلها الأحاديث
الصحيحة الصريحة في هذه الكيفية المتقدم التي نعتها مصنفنا. وقال أبو
حنيفة: تصلى ركعتين كسائر النوافل. (ولمن شاء أن يصلي) صلاة خسوف
الشمس (في بيته مثل ذلك) أي مثل الصفة المتقدمة (أن يفعل) إذا
لم يؤد ذلك إلى ترك إقامتها في الجماعة وأما لو أدى ذلك إلى ترك إقامتها في
الجماعة فيكره له أن يصليها في بيته. ثم انتقل يتكلم على خسوف لقمر
فقال: (وليس في صلاة خسوف القمر جماعة) على المشهور ظاهر ما نقله
القرافي أن النهي على جهة المنع فإنه قال: وأما الجمع فمنعه مالك وأبو
حنيفة لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في خسوف القمر، وأجازه أشهب واللخمي.
وقوله: (وليصل الناس عند ذلك) أي عند خسوف القمر (أفذاذا)
بذالين معجمتين أي فرادى في منازلهم على المعروف من المذهب ومقابله
ما للمالك في المجموعة: من أنهم يصلون أفذاذا في المسجد. وقوله (والقراءة
فيها جهرا) تكرار ورفع بقوله: (كسائر ركوع النوافل) ما يتوهم في
257

قوله وليصل الناس الخ لأنه يحتمل أن تكون على هيئة النوافل من غير
نية تخصها ويحتمل أن تكون على صفة خسوف الشمس. قال في التحقيق:
وظاهر قول مالك عدم افتقارها لنية تخصها كسائر النوافل بخلاف خسوف
الشمس فيفتقر إلى نية مخصوصة اه‍. واعلم أن أصل الندب يحصل بركعتين
فقط. وكذا يندب أن يصلي ركعتين ركعتين حتى ينجلي، ووقتها الليل كله.
ويفوت فعلها بطلوع الفجر (وليس في إثر) بكسر الهمزة وسكون المثلثة
وبفتحهما أي بعد الفراغ من (صلاة خسوف الشمس) ولا قبلها (خطبة
مرتبة) أي بحيث يجلس في أولها وفي وسطها لان جماعة من الصحابة
نقلوا صفة صلاة الكسوف ولم يذكر أحد منهم أنه صلى الله عليه وسلم خطب فيها وأما
ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف ثم انصرف
فخطب الناس فحمد الله عز وجل وأثنى عليه، فمعناه أنه أتى بكلام منظوم
مشتمل على حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وموعظة على طريق
ما يؤتى به في الخطبة وظاهر قوله: (ولا بأس أن يعظ الناس) بما يأتي
من المصائب الدنيوية التي تحدث بسبب المعاصي (ويذكرهم) بما مضى
يخالف ما قبله لأنه لا معنى للخطبة إلا هذا وأجيب بعدم المخالفة لان المنفي
هو الخطبة المرتبة بالهيئة المخصوصة التي يجلس في أولها وفي وسطها، والوعظ
والتذكير من غير ترتيب ليس خطبة بالمعنى الذي نفاه، واستعمل لا بأس هنا
فيما فعله أولى من تركه وقد نص في المختصر على استحباب الوعظ.
258

باب في صلاة الاستسقاء (باب في) بيان حكم (صلاة الاستسقاء) وبيان الوقت الذي تفعل فيه وهو
من ضحوة النهار إلى زوال الشمس وفي بيان المحل الذي تفعل فيه وهو
الصحراء، وفي بيان صفتها والاستسقاء لغة طلب السقي، وشرعا طلب السقي من
الله تعالى لقحط نزل بهم أو غيره. القحط احتباس المطر، أفاده المصباح. وغير
القحط كتخلف نهر. (وصلاة الاستسقاء) أي حكمها أنها (سنة تقام)
في تفعل أي تتأكد أن تصلى ولا تترك خلافا لأبي حنيفة رحمه الله: أنها
غير مشروعة والدليل على مشروعيتها ما في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم خرج
إلى المصلى فاستقى أي طلب السقيا من الله تعالى واستقبل القبلة وقلب رداءه
وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، والواو لا تقتضي ترتيبا فلا يخالف ما سيأتي
من أن الدعاء بعد التحويل وبعد الاستقبال. وبعد الصلاة (يخرج لها)
أي لصلاة الاستسقاء (الامام) زاد في رواية (والناس) وظاهرها العموم
وليس كذلك فإنهم قسموا من يخرج لها ومن لا يخرج لها على ثلاثة
أقسام قسم يخرج لها باتفاق وهم المسلمون المكلفون ولو أرقاء، والمتجالات
من النساء والصبيان الذين يعقلون القرب، وقسم لا يخرج لها اتفاقا وهن
الشابات من النساء المفتنات والنفساء والحائض، وقسم اختلف فيه وهم
الصبيان الذين لا يعقلون القرب والشابات غير المفتنات وأهل الذمة.
والمشهور فيها عدا أهل الذمة عدم الخروج، وأما أهل الذمة فالمشهور
أنهم يخرجون مع الناس لا قبلهم ولا بعدهم ويكونون غير مخالطين للناس
بل منفردين في جهة ولا ينفردون بزمن خشية أن يسبق القضاء في ذلك
الوقت فيفتتن بذلك ضعفة الناس، ويستحب أن يأمر الامام الناس بالتوبة
259

ورد المظالم وذلك قبل خروجهم إلى المصلى لان الذنوب سبب المصائب
قال الله تعالى * (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * (الشورى: 30) وسبب منع الإجابة
كما جاء في الحديث قد بينه الفاكهاني بقوله: العبد الأشعث الأغبر يمد يديه
إلى السماء يا رب يا رب مطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى
يستجاب لذلك، ويأمرهم بالصدقة والاحسان ويستحب صيام ثلاثة أيام
قبل الاستسقاء ويخرجون في ثياب البذلة والمهنة وعليهم السكينة والوقار.
والمشهور أن الامام لا يكبر عند خروجه إليها وقوله (كما يخرج للعيدين)
يحتمل أن يكون التشبيه فيه للمصلى أي يخرج لها الامام إلى المصلى كما
يخرج للعيدين أي في غير أهل مكة. وأما هم فيستسقون بالمسجد الحرام
كما أنهم يصلون فيه وحينئذ يكون قوله (ضحوة) بيانا لوقت الخروج
لا تكرارا. فإذا وصل الامام إلى المصلى (ف‍) - إنه (يصلي بالناس ركعتين)
فقط باتفاق من يقول بمشروعيتها. ويجوز التنفل قبلها وبعدها ونقل ابن
حبيب عن ابن وهب كراهة ذلك قياسا على صلاة العيد والقائل بالجواز يفرق
بأن الاستسقاء يقصد فيه التقرب بالحسنات لترفع العقوبات ولا كذلك العيد.
(ويجهر فيهما بالقراءة) اتفاقا لما صح أنه صلى الله عليه وسلم جهر فيهما بالقراءة
(يقرأ) في الركعة الأولى (ب‍) - أم القرآن وب‍ * (سبح اسم ربك الاعلى) *
(سورة الاعلى: 1) ونحوها وفي الركعة الثانية: بأم القرآن * (وبالشمس وضحاها) * (سورة الشمس: 1) ونحوها
وإنما خص هاتين السورتين بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ بهما فيهما، وروي قوله (وفي
260

كل ركعة سجدتين) بالنصب والصواب سجدتان على أنه مبتدأ وخبر
ووجه النصب بإضمار فعل التقدير يسجد سجدتين (و) روي قوله (ركعة
واحدة) بالنصب وهو الصواب لأنه معطوف على منصوب وبالرفع ولا
وجه له لأنه لم يتقدم ما يعطف عليه ويعني بالركعة الركوع، وإنما أكدها
بواحدة احترازا من صلاة الكسوف (و) إذا فرغ من سجود الركعة
الثانية (يتشهد ويسلم ثم) إذا سلم فإنه (يستقبل الناس بوجهه) أي ندبا
وهو جالس على الأرض لا يرقى منبرا لأن هذه الحالة يطلب فيها التواضع
(ف‍) - إذا استقبلهم (يجلس جلسة) بفتح الجيم ليأخذ الناس أمكنتهم
(فإن اطمأن الناس) في أمكنتهم (قام) الامام على جهة الاستحباب حالة
كونه (متوكئا على قوس أو عصا فخطب ثم جلس ثم قام فخطب) أخذ
من كلامه أن الخطبة في الاستسقاء نظير الخطبة في العيدين في كونها بعد
الصلاة وفي كونها يجلس فيها أولا وثانيا، وهو المشهور لفعله عليه الصلاة
والسلام ذلك (فإذا فرغ) الامام من خطبته (استقبل القبلة) وهو في
مكان (فحول رداءه) تفاؤلا بتحويل حالهم من الشدة إلى الرخاء وصفة
التحويل أن (يجعل ما على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر وما على)
261

منكبه (الأيسر على) منكبه (الأيمن) لفعله عليه الصلاة والسلام
(ولا يقلب ذلك) أي رداءه، قال سند: لأنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ذلك ولا
عن أحد بعده وصفة القلب أن يجعل الحاشية السفلى من فوق والعليا من
أسفل لما في ذلك من التشاؤم، نظرا لقوله تعالى * (فجعلنا عاليها سافلها) * (الحجر: 74) وأما
تحويل ما على الأيمن على الأيسر فلا يمكن إلا مع جعل باطن الرداء ظاهرا
وظاهره باطنا (وليفعل الناس) الذكور دون الإناث (مثله) أي مثل
الامام إن كانوا أصحاب أردية فيحولون أرديتهم وهم جلوس وأما الامام
فيحول (وهو قائم وهم قعود ثم يدعو كذلك) وهو قائم مستقبل القبلة
جهرا ويكون الدعاء بين الطول والقصر ومن دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم اسق عبادك
وبهيمتك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت. ويستحب لمن قرب من الامام
أن يؤمن على دعائه ويرفع يديه وبطونهما إلى الأرض وروي إلى السماء.
(ثم ينصرف وينصرفون) على المشهور وقيل يرجع مستقبلا للناس
يذكرهم ويدعو ويؤمنون على دعائه ثم ينصرفون (ولا يكبر فيها) أي
في صلاة الاستسقاء (ولا في) صلاة (الخسوف غير تكبيرة الاحرام و)
تكبيرة (الخفض والرفع) وكذا لا يكبر في الخطبة ويستبدل التكبير
بالاستغفار فيقول استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب
إليه. ويكثر في أثناء الخطبتين من قوله: * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل
262

السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل
لكم أنهارا) *. (و) كذا (لا أذان فيها) أي في صلاة الاستسقاء (ولا
إقامة) وفي غالب النسخ فيهما أي في صلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف
وفيها تكرار بالنسبة لصلاة الخسوف
لأنه قدمه هناك. باب ما يفعل بالمحتضر (باب ما) أي
في بيان الذي (يفعل بالمحتضر) بفتح الضاد سمي بذلك لان أجله حضره
والأجل له إطلاقان مدة الحياة وانتهاء تلك المدة، فإن أريد الثاني فلا تقدير،
وإن أريد الأول فيحتاج إلى تقدير أي آخر أجله (وفي) بيان كيفية
(غسل الميت) ومن يغسله ونحو ذلك أي مما يتعلق بالغسل ككونه يعصر
بطنه برفق (و) في بيان (كفنه) بفتح الفاء وسكونها، وفي بيان عدد
ما يكفن فيه الميت ونحو ذلك أي مما أشار إليه بقوله ولا بأس أن يقمص
أو يعمم (و) في بيان (تحنيطه) أي الميت وتحنيط كفنه (و) في
بيان (حمله) ترجم له ولم يذكره في الباب ولعله سكت عنه لما أن الدفن
يتضمنه (و) بيان كيفية (دفنه) أي وضعه في قبره وما يوضع فيه
أي من اللبن وبدأ بما صدر به في الترجمة فقال (ويستحب استقبال القبلة
بالمحتضر) حين تظهر علامات الموت عليه ويوقن بموته، وذلك إذا أشخص
الرجل بصره أي فتح عينيه لا يطرف، ولا يستقبل به قبل ذلك أي يكره
263

والمطلوب في صفة الاستقبال أن يجعل على جنبه الأيمن وصدره إلى القبلة
(و) يستحب (إغماضه) أي تغليق عينيه (إذا قضى) نحبه النحب النذر.
ولا يخفى أن كل حي لا بد أن يموت فكأنه نذر لازم، فإذا مات قضى نحبه
أي نذره والمراد أنه مات بالفعل ولذلك أتى المصنف بإذا المفيدة للتحقيق
وإنما استحب ذلك لان فتح عينيه بعد موته يقبح به منظره. ويقال عند
ذلك بسم الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلام على المرسلين والحمد لله
رب العالمين لمثل هذا فليعمل العاملون أي الحال وهو الموت أي لهذا ومثله
وعد غير مكذوب أي هذا الموت موعود غير مكذوب فيه. ويستحب أيضا
شد لحييه بعصابة وتليين مفاصله برفق ورفعه عن الأرض وستره بثوب
ووضع شئ ثقيل على بطنه نحو سيف وتلقينه وإليه أشار بقوله (ويلقن)
أي المحتضر الذي لم يمت بالفعل. وأما الأمور التي تقدمت فهي لمن مات
بالفعل والتلقين أن يقول الجالس عنده بحيث يسمعه (لا إله إلا الله) محمد
رسول الله (عند الموت) أي عند ظهور علامات الموت وإنما طلب التلقين
ليتذكرهما بعقله فيموت وهو معترف بهما في ضميره، وإذا قالها المحتضر
لا تعاد عليه إلا أن يتكلم بكلام أجنبي فتعاد عليه لتكون آخر كلامه
فيدخل الجنة لما ورد من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ولا
يقال له عند الاحتضار قل لا إله إلا الله لأنه ربما كان في منازعة الشيطان
عند قوله له مت على دين كذا اليهودية أو النصرانية فيقول لا فيساء به
الظن. (وإن قدر على أن يكون) جسده (طاهرا وما عليه طاهر فهو
أحسن) والمعنى أنه يندب لنا أن نجعل ما فوقه وما تحته وجسده طاهرا
264

إن أمكن ذلك وعلته حضور الملائكة عنده ويستحب أن لا يقربه حائض
ولا جنب لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: أن الملائكة لا تدخل بيتا
فيه حائض أو جنب وكذا يندب أن لا يقربه كلب ولا تمثال وكل شئ
تكرهه الملائكة (وأرخص) بمعنى استحب (بعض العلماء) هو ابن حبيب
(في القراءة عند رأسه) أو رجليه أو غير ذلك (بسورة يس) لما روي
أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما من ميت يقرأ عند رأسه سورة يس إلا هون الله عليه
(ولم يكن ذلك) أي ما ذكر من القراءة عند المحتضر (عند مالك) رحمه
الله وإنما هو مكروه عنده لا خصوصية يس بل يكره عند قراءة يس
أو غيرها عند موته أو بعده أو على قبره (أمرا معمولا به) وكذا يكره
عنده تلقينه بعد وضعه في قبره. (ولا بأس بالبكاء بالدموع حينئذ) أي
حين يحتضر الميت أي وكذا بعد الموت (وحسن التعزي) وهو تقوية
النفس على الصبر على ما نزل بها، والمناسب حذف حسن، ويقول: والتعزي
والتصبر أجمل أي أحسن، لأنه على عبارته يلغو الاخبار بقوله أجمل أي
أحسن (والتصبر) وهو حمل النفس على الصبر فعطفه على حسن التعزي من عطف المغاير لان التعزي
هو تقوية النفس على الصبر بحيث يرسخ
فيها ولا كذلك التصبر وهو حمل النفس على الصبر ولا يلزم منه رسوخ.
(أجمل) أي أحسن من البكاء ولا يخفى أن البكاء لا حسن فيه فأفعل
265

التفضيل ليس على بابه (لمن استطاع) ويستعان على ذلك بالنظر في الأدلة
على أجر المصائب من الآيات والأحاديث الواردة في شأن ذلك فمنها قوله
عز وجل * (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه
راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * (البقرة: 155 - 157) فصلوات الله ورحمته
لا يوازيهما شئ من جميع متعلقات الدنيا وفي الحديث: من قال ذلك وقال
معه اللهم آجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها فعل الله به ذلك (وينهى
عن الصراخ والنياحة) لقوله عليه الصلاة والسلام: ليس منا من ضرب
الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وفي رواية لمسلم: النائحة إذا لم
تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.
(وليس في غسل الميت) غير شهيد المعركة عند مالك (حد ولكن) المقصود
عنده أنه (ينقى) اعترض ما ذكره من عدم التحديد بقوله (ويغسل وترا)
فإنه تحديد أجيب عنه بأن التحديد هو الذي لا يزاد عليه ولا ينقص منه
والوتر يكون ثلاثا أو خمسا أو سبعا، والحاصل أن المنفي التحديد المقيد بعدد
مخصوص والمثبت ليس فيه تقييد بعدد مخصوص لما علمت أن الوتر يشمل
الثلاثة والخمسة الخ وكون الغسل وترا مستحب أي ما عدا الواحد فلا ندب
فيه فالاثنان أفضل وحكم الغسل السنية على ما شهر ولا يحتاج إلى نية وقيل
واجب وصحح أي كفائي وهو الراجح وهو تعبدي لا للنظافة على المشهور.
وقيل للنظافة. وتظهر ثمرة الخلاف إذا مات رجل مسلم وليس معه مسلم ومعه
ذمي فعلى القول بأنه تعبدي لا يغسله الذمي لأنه ليس من أهل العبادة وعلى
القول بأنه للنظافة فيغسله الذمي (بماء وسدر) متعلق بيغسل قال الفاكهاني:
266

معناه عند جميع العلماء أن يذاب السدر المسحوق بالماء ثم يعرك به بدن
الميت ويدلك به وهكذا في كل غسلة ما عدا الغسلة الأولى فلا بد فيها من
الماء القراح حتى يحصل الغسل الواجب (ويجعل في) الغسلة (الأخيرة) على
جهة الاستحباب (كافورا) لامره عليه الصلاة والسلام بذلك فإن لم يوجد
قام غيره من الطيب مقامه ويقوم مقام السدر عند عدمه الأشنان ونحوه
(و) إذا جرد الميت للغسل (تستر عورته) وهي على ما فهم اللخمي من
المدونة السوأتان خاصة، والمعتمد أنها ما بين السرة والركبة كما نقل عن
ابن حبيب ونقل الباجي عن أشهب ستر صدره ووجهه خشية تغيره فيساء
به الظن وبالجملة فالأقوال ثلاثة (وجوبا) ولو كان الغاسل زوجا وسيدا لما
في الحديث لا تبن فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت. ومعنى لا تبن
بضم التاء وكسر الباء أي لا تظهره لغيرك وقوله ولا نظر إلى فخذ حي
ولا ميت عام حتى في الزوجين فيخص بغير الزوجين وهذه الرواية مخالفة
لما قاله في التحقيق من أن الحديث لا تبرز براء وزاي معجمة ونسبه لابن
ماجة قال بعض العلماء راجعت ابن ماجة فوجدته كما قال والذي قال له النبي
صلى الله عليه وسلم ذلك سيدنا علي رضي الله عنه (ولا تقلم أظفاره ولا يحلق شعره)
فإن فعل به هذا كره وضم معه في كفنه. (ويعصر بطنه) استحبابا قبل
الغسل إن احتيج إلى ذلك (عصرا رفيقا) مخافة أن يخرج منه شئ
يلطخ الكفن (وإن وضئ) الميت (وضوء الصلاة ف‍) - هو (حسن) أي
267

مستحب ولا يفتقر لنية لأنه فعل في الغير وقوله (وليس بواجب) إشارة إلى أن في المسألة قولين بالاستحباب والوجوب فأشار للأول بقوله فحسن
ولدفع الثاني بقوله وليس بواجب ولو خرجت منه نجاسة بعد الغسل أزيلت
ولا يعاد غسله ولا وضوءه بل يغسل المحل فقط (ويقلب) الميت (لجنبه
في الغسل أحسن) من جلوسه لأنه أبلغ في الانقاء وأرفق بالميت فيجعل
أولا على شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن تفاؤلا ثم يجعل على شقه الأيمن
فيغسل شقه الأيسر، وهذا على جهة الاستحباب فإن بدأ بأي جهة وأنقى
أجزأ (وإن أجلس) في الغسل فذلك (الجلوس) واسع أي جائز وهو
اختيار عبد الوهاب أي فعنده الاجلاس أحسن لأنه أمكن في تحصيل غسله.
(ولا بأس بغسل أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة) استعمل لا بأس
هنا فيما هو خير من غيره فإن كل واحد من الزوجين مقدم في غسل من
مات منهما على سائر الأولياء، حتى أنه يقضى له به عند منازعة الأولياء له
والأصل فيما ذكر أن عليا رضي الله عنه غسل السيدة فاطمة وأن أبا بكر
غسلته زوجته وفي حكم الزوجين السيد وأمته ومدبرته وأم ولده ولا يقضى
لهؤلاء اتفاقا عند المنازعة فلا يقضى لهن بالتقدم على أولياء سيدهن ولا
يدخل في ذلك السيد فإنه يقضى له عند المنازعة. (والمرأة) المسلمة (تموت
في السفر لا نساء) مسلمات (معها ولا محرم) لها (من الرجال) وإنما معها
268

رجال أجانب (فلييمم رجل) منهم (وجهها وكفيها) إلى الكوعين فقط
لأنهما ليسا بعورة فيباح له النظر إليهما بغير شهوة. قال الزرقاني: وإنما جاز
مسهما للأجنبي دون الحياة لندور اللذة هنا ولا يتيمم المصلي إلا بعد فراغ
تيمم الميت لأنه وقت دخول الصلاة عليه وظاهر كلام الشيخ آخر الكتاب
أنه لا يباح النظر للوجه والكفين (ولو كان الميت رجلا يمم النساء) الأجانب
(وجهه ويديه لمرفقيه إن لم يكن معهن رجل) مسلم (يغسله ولا امرأة
من محارمه فإن كانت) مع الرجل الميت (امرأة من محارمه) نسبا أو صهرا
(غسلته وسترت عورته) فقط على أحد التأويلين على المدونة وصحح لان
جسده عليهن غير ممنوع أي من حيث الرؤية فإنه يجوز لها النظر من
محرمها ما عدا ما بين السرة والركبة وقيس المس على النظر للضرورة، والتأويل
الآخر تستر جميع جسده (وإن كان مع) المرأة (الميتة) في السفر
(ذو محرم) من محارمها ولو صهرا ولم يكن معها امرأة (غسلها) محرمها
على ما في المدونة، وقال أشهب: لا يغسلها بل ييممها (من فوق ثوب
يستر جميع جسدها) وصورة غسلها أن يصب عليها الماء صبا ولا يباشر
جسدها بيده من فوق الثوب ولا من تحته. ولما أنهى الكلام
269

على الغسل انتقل يتكلم على التكفين فقال: (ويستحب أن
يكفن الميت) غير شهيد المعركة (في وتر ثلاثة أثواب أو خمسة أو
سبعة) تكلم على المستحب وسكت عن الواجب وهو ثوب ساتر لجميع
جسده وظاهر كلامه أن استحباب السبعة عام للرجال والنساء والذي في
المختصر وهو المعتمد: اختصاص استحباب التسبيع بالمرأة وكراهة ما زاد
على الخمسة للرجال. ولما خشي أن يتوهم أن ذلك مقصور على ما يلف فيه
دفع ذلك بقوله (وما جعل له) أي للميت (من وزرة) صوابه من إزرة
(وقميص وعمامة فذلك محسوب في عدد الأثواب الوتر) المستحب ثم
استدل على استحباب الوتر بقوله (وقد كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب
بيض سحولية) بفتح السين وضمها فالفتح منسوب إلى السحول وهو
القصار لأنه يسحلها أي يغسلها أو إلى سحول وهي قرية باليمن والضم جمع
سحل وهو الثوب الأبيض (أدرج) أي لف (فيها إدراجا) أي لفا
(صلى الله عليه وسلم). (ولا بأس أن يقمص الميت ويعمم) استعمل لا بأس هنا فيما فعله
خير من تركه فقد نص في المختصر على استحبابه أي كل واحد منهما
مستحب لا أنهما مستحب واحد والعمامة إنما تستحب للرجل ويترك منها
270

قدر الذراع ذؤابة تطرح على وجهه وأما المرأة فلا تعمم وإنما يجعل على
رأسها خمار يترك منه ذؤابة تطرح على وجهها. أفضل الكفن الأبيض
من القطن أو الكتان والقطن أفضل لأنه أستر وكفن فيه عليه الصلاة
والسلام، ويكره المعصفر ونحوه من الأخضر وكل لون يخالف البياض.
ومحل الكراهة عند إمكان الأبيض وإلا فلا. والكفن والحنوط ومؤنة
تجهيزه يقدم على الدين غير المرتهن والوصية وإلا بأن كان هناك رهن
على الدين قد حازه المرتهن فإنه يقدم الدين المرهون على مؤن التجهيز.
(وينبغي) بمعنى ويستحب (أن يحنط) الميت إن كان غير محرم ومعتدة
ويلي ذلك غير محرم ومعتدة ويستحب أن ينشف جسده بخرقة طاهرة
قبل أن يحنط ويستحب أيضا أن تجمر ثيابه أي تبخر وترا ثلاثا أو خمسا
أو سبعا بالعود ونحوه ويجعل (الحنوط) بفتح الحاء وهو ما يطيب به من
مسك وعنبر وكافور (بين أكفانه) أي فوق كل لفافة ما عدا العليا
(وفي جسده) كعينيه وأذنيه وأنفه وفمه ومخرجيه بأن يذر منه على
قطن ويلصق على عينيه وفي أذنيه وأنفه ومخرجه من غير إدخال فيها
(ومواضع السجود منه) الجبهة والأنف والركبتين واليدين وأطراف
أصابع الرجلين. (ولا يغسل الشهيد في المعترك) وهو من مات بسيف
القتال مع الكفار في وقت قيام القتال، ومثل الموت بالسيف لو داسته
الخيل فمات أو سقط عن دابته أو حمل على العدو فتردى في بئر أو سقط
من شاهق (و) كذلك (لا يصلى عليه) ظاهر كلامه ولو قتله العدو في
271

بلاد الاسلام وهو المشهور ومقابله يقول: إذا كان في بلاد الاسلام فإنه
يغسل ويصلى عليه، لان درجته انحطت عن الشهيد الذي دخل بلاد العدو
فإن رفع من المعترك حيا ثم مات فالمشهور أنه يغسل ويصلى عليه، ولو كان
حين الرفع منفوذ المقاتل إلا أن يكون لم يبق فيه إلا ما يكون من غمرة
الموت ولم يأكل ولم يشرب هذا محصل ذلك القول على ما يستفاد من بعض
شروح العلامة خليل ولكن المذهب أن منفوذها لا يغسل رفع مغمورا
أم لا وكذا غير منفوذها وهو مغمور (و) كما أنه لا يغسل ولا يصلى عليه
(يدفن بثيابه) مصحوبة بخف وقلنسوة ومنطقة قل ثمنها وأن تكون
مباحة وخاتم قل ثمن فصه إلا الدرع والسلاح فيجردان عنه ولا يزاد عليها
شئ فإن قصرت ثيابه عن الستر زيد عليها ما يستر وجوبا كما أنه يجب
تكفينه إذا وجد عريانا، وإنما لم يغسل الشهيد لقوله عليه الصلاة والسلام:
زملوهم بثيابهم اللون لون الدم والريح ريح المسك ومعنى زملوهم: أي لفوهم.
وقوله: والريح ريح المسك: أي ورائحة دم الشهيد عند الله بمنزلة ريح المسك
في الرضا، فلأجل ذلك لا يغسل ولا يزال عنه الدم. وإنما لم يصل عليه لما قيل
لمالك: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة فكبر سبعين تكبيرة؟ قال: لا،
ولا أنه صلى على أحد من الشهداء. قال في الموطأ: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الناس
عليه أفذاذا لا يؤمهم أحد. قال الحافظ جلال الدين رحمه الله: هذا أمر مجمع
عليه واختلف في تعقيله فقيل: هو من باب التعبد الذي يعسر تعقل معناه.
وعلى هذا فالصلاة عليه حقيقية وهو الصواب. فقد قال عياض: الصحيح
الذي عليه الجمهور أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية لا مجرد
الدعاء فقط. وقيل: المراد بالصلاة عليه مجرد الدعاء فقط. قال الباجي: ووجهه
272

أنه صلى الله عليه وسلم أفضل من كل شهيد والشهيد يغنيه فضله عن الصلاة عليه فهو
صلى الله عليه وسلم أولى وإنما فارق الشهيد في الغسل لان الشهيد منع من تغسيله إزالة
الدم عنه، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه ولأنه عنوان شهادته في الآخرة وليس
على النبي صلى الله عليه وسلم ما تكره إزالته عنه فافترقا. (ويصلى على قاتل نفسه) كان
القتل عمدا أو خطأ وإثمه على نفسه في العمد، ويصلي عليه أهل الفضل في
الخطأ دون العمد. (و) كذلك (يصلى على من قتله الامام في حد) وجب
عليه فيه القتل كتارك الصلاة كسلا والمحارب أي قاطع الطريق ومن وجب
عليه الرجم كلائط وزان محصنين (أو) قتله الامام (في قود) كمن قتل
نفسا بغير نفس (ولا يصلى عليه) أي على من قتله في حد أو قود (الامام)
ولا أهل الفضل، وإنما تركت الصلاة عليه من الامام وأهل الفضل ليكون
ذلك ردعا لغيره عن مثل فعله إذا رأوا الأئمة وأهل الفضل امتنعوا من
الصلاة عليه (ولا يتبع الميت بمجمر) بفتح الميم الأولى وكسرها اسم
للشئ الذي يجعل فيه الجمر والعود نفسه وكذا المجمر بالضم فيهما والمعنى
أنه لا يتبع الميت بمجمر فيها نار لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك (والمشي أمام
الجنازة) للرجال (أفضل) من المشي خلفها وإذا ركبوا فيستحب لهم أن
يكونوا خلفها. ودليل الأول ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عمر رضي
الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة.
ودليل الثاني ما رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: الراكب يسير خلف الجنازة.
(ويجعل الميت في قبره) على جهة الاستحباب (على شقه الأيمن) إلى
273

القبلة لأنها أشرف المجالس وتمد يده اليمنى على جسده ويعدل رأسه
بالتراب ويجعل التراب خلفه وأمامه لئلا ينقلب ويحل عقد كفنه
فإن لم يتمكن من جعله على شقة الأيمن فعلى ظهره استقبل القبلة بوجه
فإن لم يمكن فعلى حسب الامكان، وإذا خولف به الوجه المطلوب في دفنه
كما إذا جعل لغير القبلة أو على شقه الأيسر ولم يطل فإنه يتدارك ويحول عن
حاله والطول يكون بالفراغ من دفنه (و) بعد الفراغ من وضع الميت في
لحده (ينصب عليه اللبن) بفتح اللام وكسر الباء على الأصح جمع لبنة
وهو ما يعمل من طين وتبن وهو أفضل ما يسد به. لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم ألحد
ابنه إبراهيم ونصب اللبن على لحده، ويستحب سد الخلل الذي بين اللبن
لامره صلى الله عليه وسلم بذلك في ابنه إبراهيم عليه السلام. (ويقول) واضع
الميت في قبره أو من حضر دفنه (حينئذ) أي حين نصب اللبن عليه
(اللهم إن صاحبنا) المراد به جنس الميت ليدخل فيه الذكر والأنثى
صغيرا كان أو كبيرا أبا أو ابنا أو غيرهما (قد نزل بك) أي استضافك أي
أنه نزل عندك ضيفا (وخلف) أي نبذ (الدنيا) المراد بها أهله وماله
وولده (وراء ظهره) وأقبل على الآخرة (وافتقر إلى ما عندك) وهي
رحمتك وهو الآن أشد افتقارا إليها (اللهم ثبت عند المسألة) أي سؤال
الملكين (منطقه) أي كلامه فالمراد بالمنطق المنطوق به الذي هو الكلام
بحيث يجيب حين السؤال بقوله: ربي الله ونبيي محمد الخ (ولا تبتله) أي
274

لا تختبره الاختبار الامتحان والوارد من ذلك إنما هو السؤال فحينئذ يكون
دعاء بأن يلطف به في السؤال أي بحيث يسأل برفق (في قبره بما) أي
بشئ (لا طاقة له به وألحقه بنبيه) أي اجعله في جوار نبيه أي في البرزخ
بأن تكون روحه مجاورة لروحه وفي الجنة بأن يكون بجواره بذاته (محمد
صلى الله عليه وسلم). (ويكره البناء على القبور) ظاهره مطلقا وليس كذلك بل فيه تفصيل
خلاصته أن محل الكراهة إذا كان بأرض موات أو مملوكة حيث لا يأوي
إليه أهل الفساد ولم يقصد به المباهاة ولم يقصد به التمييز وإلا حرم فيما عدا
الأخير وجاز في الأخير كما يحرم في الأرض المحبسة مطلقا كالقرافة. قال في
التحقيق: ويجب على ولي الأمر أن يأمر بهدمها. (و) كذا يكره (تجصيصها)
أي تبييضها بالجص وهو الجبس لما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر وأن
يبنى عليه وأن يقعد عليه. (ولا يغسل المسلم أباه الكافر) لأنه لا يغسل
إلا من يصلى عليه وهذا لا يصلى عليه فلا فائدة في غسله والنهي للتحريم
وأولى غير أبيه (و) كما لا يغسله (لا يدخله قبره) لان بالموت سقط بره اللهم
(إلا أن يخاف أن يضيع) إذا تركه (فليواره) أي وجوبا، ولا فرق بين
الكافر الحربي وغيره ولا خصوصية للأب، بل وجوب المواراة عند خوف
الضيعة عام حتى في الأجنبي، ولا يستقبل به قبلتنا لأنه ليس من أهلها ولا
قبلتهم لان في ذلك تعظيما لها. (واللحد) بفتح اللام وضمها مع إسكان الحاء
275

(أحب إلى أهل العلم من الشق) بفتح الشين لخبر اللحد لنا والشق لغيرنا
ولأن الله تعالى اختاره لنبيه عليه الصلاة والسلام فأي داع إلى قول المصنف
إلى أهل العلم (وهو) أي اللحد (أن يحفر للميت تحت الجرف في حائط
قبلة القبر وذلك) أي كون اللحد أفضل (إذا كانت) حائط قبلة القبر
(تربة صلبة لا تتهيل) أي لا تسيل كأرض الرمل (ولا تتقطع) أي
لا تسقط جذوة جذوة أي قطعة قطعة أما إذا كانت كذلك فالشق أفضل
(وكذلك) أي الالحاد المفهوم من السياق (فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم)
وفسر اللحد ولم يفسر الشق وهو أن يحفر له حفرة كالنهر ويبنى جانباها
باللبن أو غيره ويجعل بينهما شق يوضع الميت فيه ويسقف عليه ويرفع
السقف قليلا بحيث لا يمس الميت ويجعل في شقوقه قطع اللبن ويوضع عليه
التراب. باب في الصلاة على الجنائز (باب في) بيان (الصلاة على الجنائز) جمع جنازة قال ابن العربي:
مذهب الخليل أن الجنازة بالكسر خشب سرير الموتى، وبالفتح الميت، وعكس
الأصمعي. وقال الفراء: هما لغتان. وقال ابن قتيبة: الجنازة بكسر الجيم الميت.
وقال ابن الأعرابي: والجنازة بالكسر النعش إذا كان عليه الميت ولا يقال
دون ميت جنازة واشتقاقها من جنز إذا ثقل. وقال في المصباح: جنزت الشئ
أجنزه من باب ضرب سترته ومنه اشتقاق الجنازة وعلى كل فهو يناسب
كونه اسما للميت (و) في بيان (الدعاء للميت) وحكم الصلاة عليه أنها فرض
276

كفاية ويصلى عليها في كل وقت من ليل أو نهار إلا عند طلوع الشمس
وغروبها فإنها تحرم وتكره في وقت الكراهة وتعاد في الأولى، ما لم تدفن
ولا تعاد في الثانية مطلقا ومحل ذلك ما لم يخف عليها التغير وإلا جازت الصلاة
بلا خلاف ويصلى على كل ميت مسلم حاضر تقدم استقرار حياته ليس بشهيد
معركة ولا يصلى على من صلى عليه ولا من فقد أكثره، فإذا فقد شئ من
هذه الشروط سقطت الصلاة عليه وكذا الغسل فإنهما متلازمان والأولى
بالصلاة عليه الموصى له بالصلاة فيقدم على الولي إذا كان معروفا بالخير
ترجى بركة دعائه إلا أن يعلم أن ذلك كان من الميت لعداوة بينه وبين
الولي فلا تجوز وصيته. وأركان الصلاة على الجنازة مسة القيام، فإن صلوا
من قعود لم تجز إلا من عذر وهذا على القول بوجوبها ودليل الوجوب
مفهوم قوله تعالى * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) * (التوبة: 84) بناء على أن الذي يفيد
المفهوم ضد حكم المنطوق وهو وجوب الصلاة على المؤمنين لا نقيض الحكم
المنطوق به وهو عدم حرمة الصلاة على المؤمنين الثاني والثالث، الاحرام
بمعنى النية والسلام، الرابع الدعاء، الخامس التكبير. وإليه أشار بقوله:
(والتكبير على الجنازة أربع تكبيرات) لفعله صلى الله عليه وسلم وذلك لما ثبت أن
آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كبر فيها أربعا فإن سلم من ثلاث ناسيا
وذكر بالقرب رجع بنية فقط ولا يكبر لئلا يلزم الزيادة في عدده فإن
كبر حسب من الأربع. قاله ابن عبد السلام. وإن زاد الامام خامسة سلم
المأموم ولا ينتظره رواه ابن القاسم واعترضه ابن هارون بما إذا قام الامام
لخامسة سهوا فإنهم ينتظرونه حتى يسلموا بسلامه، قال المواق: سمع ابن
القاسم إن كان الامام ممن يكبر خمسا فليقطع المأموم بعد الرابعة ولا يتبعه
277

في الخامسة انتهى. ومفهومه أنه لو كان ممن لا يكبر خمسا لكنه كبر خمسا
سهوا أن المأموم لا يقطع ولكنه يسكت فإذا سلم الامام سلم بسلامه. وقاله
مالك في الواضحة وأشهب. وبهذا يحسن الجمع بين إطلاقاتهم التي ظاهرها
التعارض وعلى هذا فلا اعتراض وإذا ابتدأ التكبير فإنه (يرفع يديه في
أولاهن وإن رفع في كل تكبيرة فلا بأس) وهو أحد أقوال أربعة وهو
لأشهب قال: يرفع يديه في الأولى وهو مخير في الباقي إن شاء رفع وإن شاء
لم يرفع. ثانيها: أنه يرفع في كل تكبيرة وهو في المدونة واختاره ابن حبيب.
ثالثها وهو في المدونة أيضا يرفع في التكبيرة الأولى فقط، وأما الرفع في غيرها
فهو خلاف الأولى واختاره التونسي. رابعها لا يرفع لا في الأولى ولا في غيرها
وهو أشهر من الرفع في الجميع وقد تقدم أن الدعاء أحد أركان الصلاة
فتعاد الصلاة لتركه واختلف في الدعاء بعد الرابعة فأثبته سحنون قياسا على
سائر التكبيرات وخالفه سائر الأصحاب قياسا على عدم القراءة بعد الركعة
الرابعة لان التكبيرات الأربع أقيمت مقام الركعات الأربع أي مجموعها
أي الهيئة الاجتماعية من التكبيرات الأربع مع ما احتوت عليه من الدعاء
بمنزلة ركعات أربع ولا قراءة بعد الركعة الرابعة فلا دعاء بعد التكبيرة
الرابعة وليس المراد أن كل تكبيرة بمنزلة ركعة لوحظت وحدها أو مع الدعاء،
وإلا لزم في الأول عدم الدعاء بعد غير الرابعة، وفي الثاني الدعاء بعد الرابعة
وظاهر كلام الشيخ التخيير حيث قال (وإن شاء دعا بعد الأربع ثم يسلم
وإن شاء سلم بعد الرابعة مكانه) فيكون قولا ثالثا. تنبيه: لم يتكلم
278

الشيخ على النية وهي أحد الأركان وصفتها أن يقصد بقلبه الصلاة على
هذا الميت مع استحضار أنها فرض كفاية ولا يضر إن غفل عن هذا
الأخير وتصح كما تصح لو صلى عليها مع اعتقاد أنها أنثى فوجدت ذكرا
وبالعكس أو أنها فلان ثم تبين أنها غيره لان مقصوده الشخص الحاضر
بين يديه، بخلاف ما لو كان في النعش اثنان أو أكثر واعتقد أن الذي
فيه واحد فإنها تعاد على الجميع حيث كان ذلك الواحد غير معين وإلا
أعيدت على غير المعين الذي نواه. ولو نوى واحدا بعينه ثم تبين أنهما
اثنان أو أكثر وليس فيهما أو فيهم من عينه فإنها تعاد على الجميع. ولو
نوى الصلاة على من في النعش مع اعتقاد أنه جماعة ثم تبين أنه واحد أو
اثنان صحت لان الواحد والاثنين بعض الجماعة. (ويقف الامام) على جهة
الاستحباب ومثله المنفرد (في) الصلاة على (الرجل عند وسطه) بفتح
السين (و) يقف الامام ومثله المنفرد (في) الصلاة على (المرأة عند
منكبيها) تثنية منكب بفتح الميم وكسر الكاف وهو مجمع عظم الكتف
والعضد وما ذكره المصنف من التفصيل هو المعروف من المذهب. وقال
ابن شعبان: يقف في الرجل والمرأة حيث شاء. (والسلام من الصلاة على
الجنائز تسليمة واحدة) على المشهور (خفية) وفي نسخة خفيفة بفاءين
بينهما ياء ساكنة وينبغي الجمع بين الوصفين فلا يمطط ولا يجهر كل الجهر
وظاهر قوله (للامام والمأموم) يخالف قوله في المدونة ويسلم إمام الجنازة
279

واحدة ويسمع نفسه ومن يليه ويسلم المأموم واحدة يسمع نفسه فقط
وإن أسمع من يليه فلا بأس به، وأجاب بعضهم بأن قوله للامام والمأموم
راجع لواحدة لا لقوله خفيفة وقوله خفية عائد على المأموم فقط ولكن
لا قرينة في اللفظ على ذلك التقدير. (وفي الصلاة على الميت) المسلم (قيراط
من الاجر وقيراط في حضور دفنه وذلك) القيراط (في التمثيل مثل جبل
أحد ثوابا). القيراط اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير بينه
بقوله مثل جبل أحد ومعنى المماثلة أنه لو جعل هذا الجبل في كفة وجعل
القيراط في كفة مقابلة لها لتعادلا، وأراد المصنف بذلك بيان قوله صلى الله عليه وسلم في
الصحيح: من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلى عليها
ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الاجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد،
ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط (ويقال في
الدعاء على الميت غير شئ محدود) أي معين لان الأدعية المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم
والمروية عن أصحابه رضي الله تعالى عنهم في ذلك مختلفة. وحكى ابن الحاجب
وغيره الاتفاق على أنه لا يستحب دعاء معين وتعقب بأن مالكا في الموطأ استحب
دعاء أبي هريرة رضي الله عنه وهو: اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك
كان يشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك،
وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز
عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. وقال الشيخ: (وذلك) أي
280

ما ورد من الدعاء (كله واسع) أي جائز فقل ما شئت منه (ومن مستحسن
ما قيل في ذلك) أي الدعاء (أن يكبر ثم يقول) الأولى الفاء بدل ثم
(الحمد لله الذي أمات وأحيا) أمات من أراد إماتته وأحيا من أراد بقاءه
(والحمد لله الذي يحيي الموتى) في الآخرة (له العظمة والكبرياء) هما
بمعنى واحد (والملك) أي التصرف بالهداية والاضلال والثواب والعقاب
(والقدرة) المتعلقة بكل ممكن إيجادا وإعداما (والسناء) والمد العلو والرفعة
وإذا كان مقصورا كان معناه الضياء (وهو على كل شئ قدير) أي
مشئ بمعنى مراد (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا وآل محمد
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم في العالمين إنك حميد) أي محمود (مجيد) أي كريم (اللهم) أي
يا الله (إنه) أي هذا الميت (عبدك وابن عبدك وابن أمتك أنت خلقته)
أي أخرجته من العدم إلى الوجود (ورزقته) من يوم خلقته إلى يوم
281

أمته (وأنت أمته) الآن في الدنيا (وأنت تحييه) في الآخرة (وأنت
أعلم) أي عالم (بسره) منه ومن غيره وفي بعض النسخ (وعلانيته)
وهي أحرى (جئناك شفعاء) أي نطلب (له) الشفاعة (فشفعنا) أي
اقبل شفاعتنا (فيه اللهم إنا نستجير) أي نطلب منك الإجارة له والامن
من عذابك (بحبل) أي بعهد (جوارك) بكسر الجيم على الأفصح
أي أمانك (له إنك ذو وفاء وذمة) أي صاحب عهد ووفاء (اللهم قه) أي نجه
(من فتنة القبر) لا شك أن الفتنة هي السؤال وهو لا بد منه فيكون
طلب النجاة ليس منه بل مما ينشأ عنه وهو عدم الثبات (و) قه (من
عذاب جهنم اللهم اغفر له) أي استر ذنوبه ولا تؤاخذه بها (وارحمه)
أي أنعم عليه (واعف عنه) أي ضع عنه ذنوبه (وعافه) أي أذهب
عنه ما يكره (وأكرم نزله). قال الفاكهاني رويناه بسكون الزاي وهو
ما يهيأ للنزيل أي للضيف، ولا يخفى التجوز في العبارة لعدم صحة المعنى الحقيقي.
فالمعنى أكرمه في نزله أي فيما يهيأ له، قال الأقفهسي: نزله حلوله في قبره
بأن يرى ما يرضاه ويسره (ووسع مدخله) بفتح الميم وضمها فبالفتح
الدخول وموضع الدخول وبالضم الادخال (واغسله بماء وثلج وبرد)
282

بفتح الراء قال أبو عمران: الثلج أنقى من الماء، والبر أنقى من الثلج فارتكب
طريق الترقي. وليس المراد بالغسل هنا ظاهره، بل هو استعارة للطهارة
العظيمة من الذنوب (و) وكأنه يقول: اللهم (نقه) أي طهره تنقية
عظيمة من الخطايا أي الذنوب (كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) أي
الأوساخ (وأبدله) أي عوضه (دارا) وهي الجنة (خيرا من داره)
وهي الدنيا (و) أبدله (أهلا) أي قرابة في الآخرة يوالونه (خيرا من
أهله) أي من قرابته في الدنيا (و) أبدله (زوجا خيرا من زوجه)
الذي تركه في الدنيا (اللهم إن كان محسنا) أي ذا إحسان أي طاعة
(فزد) أي فضاعف له (في) ثواب (إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز
عنه) أي عن سيئاته (اللهم إنه قد نزل بك) أي استضافك (و) الحال
أنك (أنت خير منزول به) الضمير في به راجع إلى موصوف أي أنت خير
مضيف، أي أنت خير من ينزل به، ولا يصح جعل الضمير لله، لأنه يلزم عليه
أنت يا الله خير من الله، هكذا صرح به الأجهوري، وأنه (فقير) أي أشد
افتقارا (إلى رحمتك) الآن (وأنت غني عن عذابه اللهم ثبت عند المسألة)
أي سؤال الملكين (منطقه) أي كلامه (ولا تبتله) أي لا تختبره (في
283

قبره بما) أي بشئ (لا طاقة له به) أي لا تجعل نهاية الاختبار بالسؤال
شيئا لا طاقة له به، وهو عدم الجواب، بل اجعل له قدرة على الجواب أو أن
مصدوق الشئ كون سؤال الملكين بعنف. (اللهم لا تحرمنا أجره) أي
أجر الصلاة عليه (ولا تفتنا) أي لا تشغلنا بسواك (بعده) فإن كل ما يشغل
عنك فهو فتنة. (تقول هذا) جميع ما ذكر من الثناء على الله تعالى والصلاة
على نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قوله: ولا تفتنا بعده (بإثر كل تكبيرة) قال بعضهم: هذا
عام أريد به الخصوص، إذ لا يقول ذلك بعد الرابعة، وإنما يقول بعدها
ما سيذكره الآن. وقال بعضهم: هو عام بإثر كل تكبيرة حتى الرابعة ويزيد
عليه قوله: وتقول بعد الرابعة، ولكن لمتبادر من المصنف أن يقول ذلك
وحده وإلا لقال: ويزيد بعد الرابعة. (وتقول بعد الرابعة) يريد إن شئت
يدل على التخيير ما تقدم من قوله: وإن شاء دعا بعد الأربع (اللهم اغفر
لحينا وميتنا) أي استر ذنوب من عاش منا ومن مات أي من المؤمنين
(وحاضرنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم متقلبنا) أي
تصرفاتنا في جميع أمورنا (و) تعلم (مثوانا) أي إقامتنا في أحد الدارين
(و) اغفر (لوالدينا ولمن سبقنا بالايمان و) اغفر (للمسلمين والمسلمات
284

والمؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والأموات، اللهم من أحييته) أي أبقيته
(منا فأحيه) بحذف حرف العلة، أي: أبقه (على الايمان) حتى تميته عليه
(ومن توفيته منا فتوفه على الاسلام) وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله. ولما كان المراد من الاسلام الشهادتين وقد قال صلى الله عليه وسلم: من
مات وهو يقول لا إله إلا الله دخل الجنة ناسب الدعاء بالوفاة عليه (وأسعدنا
بلقائك) أي برؤيتك في الآخرة (وطيبنا) أي طهرنا (للموت) بالتوبة
الصادقة ورد مرفوعا وهي أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن
في الضرع. (وطيبه لنا واجعل فيه) أي في الموت (راحتنا ومسرتنا) بحصول
ما يسر (ثم تسلم) كما تسلم من الصلاة (وإن كانت) الجنازة (امرأة قلت
اللهم إنها أمتك ثم تتمادى بذكرها على التأنيث) فتقول وبنت أمتك وبنت
عبدك أنت خلقتها ورزقتها الخ. (غير أنك لا تقول وأبدلها زوجا خيرا من
زوجها لأنها قد تكون زوجا في الجنة لزوجها في الدنيا) وإنما أتى بقد الدالة
على التوقع أي على شئ يتوقع حصوله لا مجزوم بحصوله لاحتمال أن يكون
لها زوج في الدنيا وتكون لغيره. تنبيه: لو لم تعلم الميت هل ذكر أو أنثى
285

فتنوي الصلاة على من حضر كما إذا لم يعلم هل هو واحد أو متعدد وتقول
في الدعاء: اللهم إنهما عبداك أو أمتاك الخ. وفي الجمع المذكر اللهم
إنهم عبيدك وأبناء عبيدك الخ. وفي الجمع المؤنث: اللهم إنهن إماؤك وبنات
إمائك وبنات عبيدك الخ. وإذا اجتمع مذكر ومؤنث غلب المذكر. (ونساء
الجنة مقصورات) أي محبوسات (على أزواجهن لا يبغين بهم بدلا، والرجل
قد يكون له زوجات كثيرة في الجنة) قال الأقفهسي: وانظر هل من الآدميات
أو من الحور العين الجواب أن الزوجات الكثيرات منهما معا، فقد روى
أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال: يزوج كل رجل من أهل الجنة أربعة آلاف بكر
وثمانية آلاف أيم ومائة حوراء الحديث والله أعلم. ولا يخفى أن هذا صريح
في أكثرية نساء الدنيا في الجنة فيرد عليه حديث اطلعت على الجنة فرأيت
أكثر أهلها الرجال، واطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء وأجيب
بحمل قوله في الحديث يزوج كل رجل على الكل المجموعي أي بعض
الرجال. (ولا يكون للمرأة أزواج في الجنة) لان اجتماع جماعة من الرجال
لي فرج واحد في الدنيا مما تنفر منه النفوس. (ولا بأس) بمعنى ويستحب
(أن تجمع الجنائز في صلاة واحدة) عند جمهور العلماء خلافا لمن قال
إنها لا تجمع بل يصلى على كل ميت وحده وعلى القول بجمع الجنائز في
صلاة واحدة على أي هيئة توضع الجنائز هل يلي الامام الأفضل وغيره
إلى جهة القبلة أو يجعلوا صفا واحدا، ويقرب إلى الامام أفضلهم وإلى الأول
286

أشار بقوله: (ويلي الامام) بالنصب في الصلاة على جماعة الموتى (الرجال)
بالرفع، ويجوز نصبه ورفع الامام (إن كان فيهم نساء وإن كانوا) أي
الجنائز (رجالا جعل أفضلهم مما يلي الامام وجعل من دونه النساء و) جعل
(الصبيان من وراء ذلك إلى القبلة) وما ذكره من تقديم النساء على
الصبيان هو قول ابن حبيب، والمشهور خلافه، وهو أن الذكور الأحرار
البالغين يكونون مما يلي الامام الأفضل فالأفضل ثم الذكور الأحرار الصغار
ثم الخنثى ثم الأرقاء الذكور ثم النساء الأحرار ثم صغارهن ثم أرقاؤهن
والهيئة الثانية أشار إليها بقوله (ولا بأس أن يجعلوا) أي الجنائز (صفا
واحدا ويقرب إلى الامام أفضلهم) هذا إذا كانوا كلهم من جنس واحد
كرجال أو نساء أو صبيان. وأما إن كانوا رجالا ونساء وصبيانا فيتقدم إلى
الامام صف الرجال، ثم صف الصبيان، ثم صف النساء هذا من حيث الجنائز.
وأما من حيث الإمامة فيقدم الأعلم ثم الأفضل ثم الأسن. ولما كان وضع
الجنائز إذا اجتمعت للصلاة عليها مخالفا لوضعها في قبر واحد إذا دعت لذلك
ضرورة أتى الشيخ بأداة الفصل فقال: (وأما دفن الجماعة في قبر واحد
فيجعل أفضلهم مما يلي القبلة) لما في السنن الأربعة أي أبي داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم
287

أحد احفروا وأوسعوا وعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر
واحد وقدموا أكثرهم قرآنا، قال الترمذي: حسن صحيح، ظاهر كلام
الشيخ جواز ذلك مطلقا دعت الضرورة لجمعهم في قبر واحد أم لا، وليس
كذلك بل إن دعت الضرورة جاز وإلا كره، ومحل الجواز للضرورة.
والكراهة لغيرها إذا حصل دفنهم في وقت واحد وأما لو أردنا دفن ميت
على آخر بعد تمام دفنه فيحرم لان القبر حبس على الميت لا ينبش ما دام
به إلا لضرورة فلا يحرم. (ومن دفن) من أموات المسلمين (ولم يصل
عليه وووري فإنه يصلى على قبره) عند ابن القاسم، وقال أشهب: لا يصلى عليه،
قال القرافي: وهو أحسن. وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة فذلك
خاص بها أو لأنه وعدها بالصلاة عليها، وعلى القول بالصلاة على القبر فقيل
يصلى ما لم يغلب على الظن أنه تغير وتمزق، وقيل: ما لم يجاوز شهرين، ومفهوم
قوله وووري أنه لو لم يوار يخرج ويصلى عليه، بل لو ووري وتم دفنه يجب
إخراجه ويصلى عليه ما لم يخش تغيره. (ولا يصلى على من قد صلي عليه)
على جهة الكراهة، أي سواء كان مريد الصلاة ثانيا هو الذي صلى عليه
أولا أو غيره (ويصلى على أكثر الجسد) كالثلثين فأكثر لان حكم
الجل حكم الكل. وينوي بالصلاة عليه الميت أي جميعه ما حضر منه وما
غاب ولا يصلى على نصف الجسد عند ابن القاسم، وهو المعتمد، بل ولو زاد
على النصف وكان دون الثلثين لأنه يؤدي إلى الصلاة على الغائب، واغتفر
غيبة اليسير لأنه تبع. (واختلف في الصلاة على مثل اليد والرجل) أطلق
288

المثل على الشئ نفسه، فذكر الخلاف في اليد والرجل فقال مالك: لا يصلى
عليه لاحتمال أن يكون صاحبها حيا. وقال ابن مسلمة: يصلي على اليد والرجل
وينوي بذلك الميت أي: ويغلب كون صاحبها ميتا.
باب في الدعاء للطفل (باب في الدعاء) أي في بيان ما يدعى به (للطفل) ذكرا كان أو أنثى
وقال بعض أهل اللغة: يقال للذكر طفل، والأنثى طفلة، وهو ما بلغ سنة فأقل
أي عند أهل اللغة وعند الفقهاء يطلق على من دون البلوغ أي مجازا
للمشابهة بينهما. وفي بيان (الصلاة عليه) أراد من يصلى عليه ومن لا يصلى
عليه من الأطفال (و) في بيان (غسله) أراد به بيان من يغسله ومن لا يغسله
وإنما فسر هذا وما قبله بالإرادة المذكورة لا بما يعطيه ظاهر لفظه لأنه
هو المذكور في هذا الباب. وإنما أفرد هذا الباب عما قبله لان فيه أحكاما
تختص بالطفل من الاستهلال وغسل الصغير ومن أنه يصلى على من استهل
صارخا وغير ذلك. وقد ابتدأ الدعاء له بقوله: (تثني على الله تبارك وتعالى
وتصلي على نبيه) محمد صلى الله عليه وسلم (ثم تقول: اللهم) أي يا الله (إنه) أي الطفل
(عبدك وابن عبدك وابن أمتك) ظاهره عام في ولد الزنى وولد الملاعنة
وغيرهما. وقد قيل إنما يقال هذا في الثابت النسب. وأما غيره فيقال فيه:
اللهم إنه عبدك وابن أمتك (أنت خلقته) أي أنشأته (ورزقته) تقول
ذلك ولو مات عقب الاستهلال لان الله رزقه في بطن أمه (وأنت
289

أمته) في الدنيا، (وأنت تحييه) في الآخرة (اللهم فاجعله لوالديه) قال
الفاكهاني رويناه بكسر الدال فيدخل فيه الأجداد والجدات، ولذا قال:
وثقل به موازينهم بصيغة الجمع. ولو كان بالفتح لقال: وثقل به موازينهما
(سلفا) أي متقدما (وذخرا) بذال معجمة أي مدخرا في الآخرة
والادخار في الدنيا بدال مهملة (وفرطا) بمعنى سلفا (وأجرا) عظيما أي
من حيث كون موته مصيبة عظيمة (وثقل به) أي بأجر مصيبته (موازينهم)
أي موزوناتهم لأنه الموصوف بالثقل أي بحيث ترجح حسناتهم على سيئاتهم
(وأعظم) أي كثر (به) أي بأجر مصيبته (أجورهم) ولما كان لا يلزم
من التكثير التثقيل ولا من التثقيل التكثير أتى بقوله: وأعظم به الخ بعد
قوله: وثقل به الخ. (ولا تحرمنا وإياهم أجره) أي أجر شهود الصلاة عليه
(ولا تفتنا وإياهم بعده) بما يشغلنا عنك (اللهم ألحقه بصالح سلف) أولاد
(المؤمنين في كفالة) أي حضانة (أبينا إبراهيم) الخليل عليه الصلاة
والسلام (وأبدله دارا) أي في الآخرة (خيرا من داره) أي في الدنيا (و)
أبدله (أهلا) أي قرابة في الآخرة (خيرا من أهله) أي من قرابته في
الدنيا بجواره بالأنبياء والصالحين يؤانسونه. (وعافه) أي نجه (من فتنة
290

القبر) وهي عدم الثبات الناشئ عن السؤال لان الفتنة هي السؤال.
ويتسبب عنه عدم الثبات وقضيته أن الطفل يسأل وأنه قابل للافتتان وقد
جرى الخلاف في السؤال. وأما الافتتان فهو مشكل إلا أن يقال إنه قابل
له، وإن كان غير مكلف نظرا لكون الله عز وجل له أن يعذب الطفل عقلا
وإن امتنع شرعا. وكذا يقال في قوله بعد وعافه من عذاب جهنم (و)
عافه (من عذاب جهنم تقول ذلك) أي كل ما تقدم من الثناء على الله
تعالى إلى هنا (في كل) أي بعد كل (تكبيرة) ما عدا الرابعة. (وتقول
بعد الرابعة) إن شئت (اللهم اغفر لأسلافنا وأفراطنا) هما بمعنى واحد
(و) اغفر (لمن سبقنا بالايمان اللهم من أحييته منا فأحيه على الايمان)
الكامل (ومن توفيته منا فتوفه على الاسلام) يعني شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله (واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الاحياء منهم والأموات ثم سلم) كتسليمك من الصلاة (ولا يصلى على من
لا يستهل صارخا) ولا يغسل ولو تحرك أو بال أو عطس أو رضع يسيرا أي
لا كثيرا فهو علامة الحياة. وهذا النهي على جهة الكراهة. أما من استهل
291

فله حكم الاحياء في جميع أموره وإن مات بالفور بلا خلاف (و) من
أحكام من لا يستهل أنه (لا يرث) من تقدمه بالموت (ولا يورث) ما تصدق
به عليه أو وهب له وهو في بطن أمه، لان الميراث فرع ثبوت الحياة، وخرج
بما تصدق به عليه الغرة فتورث عنه، وإن نزل علقة أو مضغة لأنها مأخوذة
عن ذاته وإذا كان لا يورث ما تصدق به عليه فيرجع إلى من تصدق أو وهب
(ويكره أن يدفن السقط) بتثليث السين المهملة من لم يستهل صارخا
ولو تمت خلقته (في الدور) خوفا من أن تنهدم الدار فتنبش عظامه
(ولا بأس أن يغسل النساء) الأجانب أي يباح ذلك (الصبي الصغير ابن
ست سنين أو سبع) سنين وثمان سنين ولا يغسلنه إذا زاد على ذلك
ولا يسترن عورته، أي لا يكلفن بستر عورته لأنه يجوز لهن النظر إلى بدنه
(ولا يغسل الرجال الصبية) وهذا النهي على جهة المنع اتفاقا إن كانت ممن
تشتهى كبنت ست سنين أو سبع ويغسلونها إن كانت رضيعة اتفاقا. والمراد
بها من لم تبلغ ثلاث سنين بدليل قوله بعد كبنت ثلاث سنين (واختلف
فيها) أي في غسلها (إن كانت) غير رضيعة وكانت (ممن لم تبلغ أن
تشتهى) كبنت ثلاث سنين فأجازه أشهب قياسا على غسل النساء ابن
ثلاث سنين وأربع وخمس، ومنعه ابن القاسم وهو مذهب المدونة، والمعتمد
ما قاله ابن القاسم لان مطلق الأنوثة مظنة الشهوة، وأحب في قول الشيخ
292

(والأول أحب إلينا) للوجوب أي وجوب ترك الغسل. ولما أنهى الكلام
على الصلاة التي هي ركن من أركان الاسلام انتقل يتكلم على ركن من
أركانه أيضا وهو الصوم فقال: باب في بيان حكم الصيام (باب في) بيان حكم (الصيام) وما يتعلق
به أي بالصيام، أي يرتبط به كصلاة التراويح وهو لغة الامساك والترك،
فمن أمسك عن شئ ما قيل له صائم. قال تعالى حكاية عن مريم: * (إني نذرت
للرحمن صوما) * (مريم: 26) أي صمتا وهو الامساك عن الكلام، وشرعا الامساك عن
شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية قبل
الفجر أو معه في غير أيام الحيض والنفاس وأيام الأعياد. والصوم باعتبار
حكمه ينقسم إلى واجب وغيره. ومن الواجب صوم رمضان، وإليه أشار
بقوله: (وصوم شهر رمضان فريضة) أخبر بالمؤنث عن المذكر باعتبار
كونه عبادة لا باعتبار كونه مصدرا دل على وجوبه الكتاب والسنة
والاجماع، فمن جحد وجوب صوم رمضان فهو كافر إجماعا يستتاب ثلاثا
فإن تاب وإلا قتل، ومن أقر بوجوبه وامتنع من صومه فهو عاص يجبر
على فعله، فإن لم يفعل قتل حدا كالصلاة أي بعد أن يؤخر إلى أن يبقى من
وقت نيته قدر ما يسعها. ويثبت صوم رمضان بأحد شيئين: إما بإتمام شعبان
ثلاثين يوما، وإما برؤية الهلال، وإليه أشار بقوله: (يصام لرؤية الهلال)
يعني هلال رمضان ظاهر كلامه سواء كانت الرؤية مستفيضة بأن وقعت
من جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، لان خبرهم يفيد العلم
293

أو بشاهدي عدل فقط مع غيم أو صحو، أي ولا فرق بين البلد الكبير
والصغير، ومثل العدلين العدل الواحد الموثوق بخبره ولو عبدا أو امرأة
إذا كان المحل لا يعتنى فيه بأمر الهلال في حق أهل الرائي وغيرهم. وأما
إذا كان المحل يعتنى فيه بأمر الهلال فلا يثبت برؤية الواحد ولو في حق
أهله ولو صدقوه، ولكن يجب عليه أن يرفع أمره إلى الحاكم. ولا يجوز
له الفطر، فإن أفطر كفر ولو متأولا لان تأويله بعيد. (و) كما يصام لرؤيته
(يفطر لرؤيته) أي لرؤية هلال شوال سواء (كان) الشهر الذي قبل
الشهر تثبت رؤيته (ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما) أي لان
الشهر يأتي ناقصا وكاملا (فإن غم) بضم الغين وتشديد الميم (الهلال)
يعني هلال رمضان بأن حال بينه وبين الناس غيم (فيعد ثلاثين يوما من
غرة) يعني من أول (الشهر الذي قبله) وهو شعبان (ثم يصام وكذلك
في الفطر) يفعل فيه كذلك فإن غم هلال شوال فإنه يعد ثلاثين يوما
من أول الشهر الذي قبله وهو رمضان، ثم يفطر، وأصل هذا ما في الصحيحين
من قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة
وشروط الصوم سبعة: أولها النية، وأشار إليه بقوله: (ويبيت الصيام في أوله)
أي ينوي بقلبه أول ليلة من رمضان بعد غروب الشمس وقبل طلوع
الفجر أو مع طلوعه القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من استغراق
294

طرفي النهار بالامساك عن الأكل والشرب والجماع. (و) بعد أن يبيت
الصيام أول ليلة ف‍ (- ليس عليه) وجوبا (البيات في بقيته) أي بقية شهر
رمضان. وعن مالك يجب التبييت كل ليلة، وبه قال الامامان الشافعي وأبو
حنيفة لان أيام الشهر عبادات ينفرد بعضها عن بعض، ولا يفسد بعضها
بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها كالأكل والشرب والجماع ليلا، فصارت الأيام
كالصلوات الخمس في اليوم، فيجب أن ينفرد صوم كل يوم بنية كما تنفرد
كل صلاة بنية. ووجه المذهب قول تعالى * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) *
(البقرة: 185) فتناول هذا الامر صوما واحدا وهو صوم الشهر وإنما كانت مبيتة لما رواه
أصحاب السنن من قوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل وإنما اغتفر
تقديمها في الصوم للمشقة. قال ابن ناجي: ظاهر كلام الشيخ أنه لا يلزم
تجديد النية لمن انقطع صومه كالحائض، وهو كذلك عند أشهب وغيره
بقي المريض والمسافر إذا تماديا على الصوم فإنه يجب عليهما النية في كل ليلة
لعدم وجوب التتابع في حقهما وعند صحة المريض وقدوم المسافر يكفيهما
نية لما بقي كالحائض تطهر، والصبي يبلغ في أثناء الصوم، والكافر يسلم في
أثناء الشهر. ثانيها الاسلام. ثالثها العقل. رابعها النقاء من الحيض
والنفاس. خامسها الامساك عن المفطرات. سادسها القدرة على الصوم.
سابعها البلوغ. ثم بين غايته بقوله: (ويتم الصيام إلى الليل) للآية، ولقوله
عليه الصلاة والسلام في الصحيح: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من
ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم أي انقضى صومه وتم. (ومن السنة
تعجيل الفطر) بعد تحقق دخول الليل، واختلف في الامساك بعد الغروب
295

فقال بعضهم: يحرم كما يحرم يوم العيد، وقال بعضهم: هو جائز وله أجر الصائم.
وفقه المسألة أن القول بأن له أجر الصائم ضعيف. والقول بالحرمة لا وجه
له إلا أن يكون قصده أنه واجب عليه، وإلا فالوجه الكراهة إذا كان لغير
ضرورة (و) من السنة أيضا (تأخير السحور) بفتح السين وضمها،
فالفتح اسم للمأكول، والضم اسم للفعل، وقدر التأخير الأفضل أن يبقى
بعد الفراغ من الأكل والشرب إلى الفجر قدر ما يقرأ القارئ خمسين
آية، والأصل في هذا قوله عليه الصلاة والسلام لا تزال أمتي بخير ما عجلوا
الفطر وأخروا السحور رواه الإمام أحمد. (وإن شك) صائم رمضان (في)
طلوع (الفجر فلا يأكل) ولا يشرب ولا يجامع، وهذا النهي يحتمل
الكراهة والتحريم، والمشهور التحريم، وإن شك في الغروب فيحرم الاكل
ونحوه اتفاقا. (ولا يصام يوم الشك ليحتاط به من رمضان) وهذا النهي
للكراهة على ظاهر المدونة، وقال ابن عبد السلام: الظاهر أنه للتحريم لما رواه
الترمذي وقال حسن صحيح أن عمار بن ياسر قال: من صام اليوم الذي يشك
فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. والأول يقول إن العصيان كناية عن التشديد ويوم
الشك المنهي عن صيامه عندنا أن تكون السماء مغيمة ليلة ثلاثين ولم
تثبت الرؤية فصبيحة تلك الليلة هو يوم الشك. (ولمن صامه) يعني يوم الشك
(كذلك) يعني احتياطا، ثم ثبت أنه من رمضان (لم يجزه وإن وافقه من
رمضان) لعدم جزم النية قال زروق قوله: وإن وافقه كذا بالواو، وهي تفهم
296

المبالغة، والصواب إن وافقه إذ لا محل لغيره (ولمن شاء صومه تطوعا أن يفعل)
أي بدون أن تكون عادته سرد الصوم أو صوم يوم بعينه (ومن أصبح)
يوم الشك (فلم يأكل ولم يشرب ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان لم
يجزه) لفقد النية (وليمسك) وجوبا (عن الاكل) والشرب وعن كل
ما يبطل الصوم (في بقيته). وكذلك يجب عليه الصوم إن أكل أو شرب
أو نحو ذلك. وقوله: (ويقضيه) أي ولا كفارة إذا كان ناسيا أو عامدا
متأولا، وأما غيره فتجب عليه الكفارة. (وإذا قدم المسافر) من سفره نهارا
حالة كونه (مفطرا أو طهرت الحائض نهارا ف‍) - يباح (لهما الاكل في بقية
يومهما) ولا يستحب لهما الامساك، وكذا الصبي يبلغ، والمجنون يفيق،
والمريض يصبح مفطرا، ثم يصح، وكذا المغمى عليه ثم يفيق، والمضطر لضرورة
جوع أو عطش، والمرضع يموت ولدها نهارا، وكذا الكافر يسلم إلا أن هذا
يستحب له الامساك دون غيره. وأما من أفطر ناسيا أو لكون اليوم يوم
شك أو أفطر مكرها فإذا زال عذرهم فيجب عليهم الامساك. وإذا أفطر
المكره بعد زوال الاكراه وجب القضاء كالكفارة إلا أن يتأول (ومن
أفطر في تطوعه عامدا) من غير ضرورة ولا عذر (أو سافر فيه) أي
أحدث سفرا حالة كونه متلبسا بصوم التطوع (فأفطر ل‍) - أجل (سفره
297

فعليه القضاء) في الصورتين وجوبا. قال ابن عمر: واختلف إذا أفطر عامدا
هل يستحب إمساك بقيته أم لا الراجح لا يستحب كما أفاده الأجهوري؟
وسكت عن الجاهل المشهور أنه كالعامد (وإن أفطر) في تطوعه (ساهيا
فلا قضاء عليه) وجوبا بلا خلاف. واختلف في قضائه استحبابا على قولين
سماع ابن القاسم منهما الاستحباب، وهذا (بخلاف الفريضة) إذا أفطر فيها
ساهيا فإنه يجب عليه القضاء. قال زروق: وظاهر كلامه كانت الفريضة من
رمضان أو من غيره. (ولا بأس بالسواك للصائم) وكذا عبر في المدونة
والجلاب بلا بأس وهي في كلامهم بمعنى الإباحة كما صرح به ابن الحاجب
حيث قال: والسواك مباح كل النهار بما لا يتحلل منه شئ، وكره بالرطب، وفي
كلام بعضهم ما يفيد أن محل الإباحة بعد الزوال لغير مقتض شرعي، وأما
لمقتض شرعي كالوضوء والصلاة والقراءة والذكر فهو مندوب وهو الصواب
كما يفيده الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام لولا أن أشق على أمتي
لامرتهم بالسواك عند كل صلاة فعم الصائم وغيره، وأشار بقوله: (في جميع
نهاره) إلى قول الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى أنه يجوز قبل الزوال
ويكره بعده لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم لخلوف فم الصائم أطيب عند الله
من ريح المسك والخلوف بضم الخاء ريح متغير كريه الشم يحدث من خلو
المعدة، والمراد بطيبه عند الله رضاه به وثناؤه على الصائم بسببه. (ولا تكره
له) أي للصائم (الحجامة إلا خيفة التغرير) أي المرض، قال في القاموس:
298

غرر بنفسه تغريرا أي عرضها للهلكة فيكون تفسيره بالمرض من تفسير
الشئ بمتعلقه، أو يراد بالهلاك ما يشمل المرض، فلا تكره الحجامة إلا إذا
خاف المرض بأن شك في السلامة وعدمها، وأما إذا علمت السلامة فلا كراهة.
(ومن ذرعه) بذال معجمة وراء وعين مهملتين مفتوحتين سبقه وغلبه
(القئ في) صوم شهر (رمضان) وغيره (فلا قضاء عليه) لا وجوبا ولا
استحبابا سواء كان لعلة أو امتلاء، وسواء تغير عن حالة الطعام أم لا، هذا إذا
علم أنه لم يرجع منه شئ بعد وصوله إلى فمه، أما إن علم برجوع شئ
منه بعد وصوله إلى فمه فعليه القضاء إذا لم يتعمد وإلا كفر، وكذا يجب
القضاء إذا شك في الوصول. والقلس كالقئ وهو ما يخرج من فم المعدة عند
امتلائها. وأما البلغم يصل إلى طرف اللسان وتعمد ابتلاعه فلا قضاء عليه،
وكذا الريق يتعمد جمعه في فيه ثم يبتلعه فلا قضاء عليه. (وإن استقاء)
الصائم أي طلب القئ (فقاء فعليه القضاء) وهل وجوبا أو استحبابا قولان
شهر ابن الحاجب الأول وهو الراجح، واختار ابن الجلاب الثاني، وظاهر
كلام الشيخ أنه لا كفارة على من استقاء في رمضان. والمسألة ذات خلاف
في الكفارة وعدمها قال عبد الملك: عليه القضاء والكفارة، وقال ابن الماجشون:
من استقاء من غير مرض متعمدا فعليه القضاء والكفارة، وقال أبو الفرج:
لو سئل مالك عن مثل هذا لألزمه الكفارة. وروي عن ابن القاسم أنه
يقضي خاصة. واعلم أن الفطر في رمضان يجب في مسائل ويباح في بعضها،
فمن الأول المرأة تحيض نهارا فيجب عليها الفطر بقية يومها. (و) منه
(إذا خافت) المرأة (الحامل) وهي صائمة في شهر رمضان (على ما في
299

بطنها) أو نفسها هلاكا أو حدوث علة (أفطرت) وجوبا (ولم تطعم)
على المشهور وتقضي (وقد قيل تطعم) رواه ابن وهب. ومفهوم كلامه أنها
إذا لم تخف لا تفطر ولو جهدها الصوم، وليس كذلك، بل إذا جهدها الصوم
تخير في الفطر. والذي يفيده كلام ابن عرفة أن الحامل ومثلها المرضع
والمريض يباح لهم الفطر حيث كان يشق عليهم الصوم، وإن لم يخافوا
حدوث مرض ولا زيادته. وأما الصحيح فليس له الفطر لحصول مشقة الصوم
وهل له الفطر لخوف المرض أو لا؟ قولان. ومن الثاني أي الفطر المباح المرض
في بعض صوره، وهو ما إذا خاف زيادة المرض أو تماديه. وأما إذا خاف
هلاكا أو شديد أذى فيجب. والخوف المجوز للفطر هو المستند صاحبه إلى
قول طبيب حاذق أو تجربة في نفسه أو خبر من هو موافق له في المزاج
والسفر بشرطه، وسيأتي الكلام عليهما، ومنه ما أشار إليه بقوله (وللمرضع)
بناء على أن اللام للإباحة أي أن محل كونه من الثاني إذا جعلت اللام
للإباحة، أي ويباح للمرأة المرضع (إن خافت على ولدها) أو على نفسها
من الصوم (ولم تجد ما) ويروى من (تستأجره له أو) وجدت ولكنه
أي الولد (لم يقبل غيرها أن تفطر و) يجب عليها حينئذ أن (تطعم) وقيل:
اللام في كلامه بمعنى على أي، وعلى المرضع وجوبا إذا خافت على ولدها أو
نفسها أن تفطر، وظاهر كلامه أن الإجارة عليها، وهو كذلك إذا لم يكن له
ولا لأبيه مال، ولا ترجع به بعد ذلك على أحد، ومنه ما أشار إليه بقوله
300

(ويستحب للشيخ الكبير) الذي لا يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة
(إذا أفطر أن يطعم) وإنما أبيح له الفطر لقوله تعالى * (لا يكلف الله نفسا
إلا وسعها) * (الانعام: 152) وقوله * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وما ذكره من استحباب
الاطعام ظاهر المدونة خلافه ونصها: لا فدية إلا أن المدونة حملت على أنه
لا يجب الاطعام فلا ينافي ندبه. (والاطعام) المتقدم ذكره (في هذا كله)
أي في فطر الحامل الخائفة على ما في بطنها والمرضع الخائفة على ولدها والشيخ
الكبير الذي لا يقدر على الصوم (مد) بمده عليه الصلاة والسلام وهو
رطل وثلث (عن كل يوم يقضيه) أي إن كان يجب عليه القضاء فلا يرد
الشيخ الهرم وغيره فإنهما يطعمان ولا يقضيان، والتشبيه في قوله (وكذلك
يطعم من فرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر) راجع
إلى القدر لا إلى الحكم فإن الحكم مختلف لان إطعام الشيخ كما تقدم مستحب،
وإطعام المرضع واجب، وظاهر كلامه أن قضاء رمضان على التراخي، وهو
الذي يدل عليه حديث عائشة في الموطأ، أي فإنها قالت: إن كان ليكون
علي الصيام من رمضان فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان للشغل
برسول الله صلى الله عليه وسلم، فظاهره لو كان يجوز تأخيره عن شعبان لاخرته، ولو
كان واجبا على الفور لما أخرته فلزم من ذلك أن يكون واجبا موسعا. وعن
مالك إنما هو على الفور، وهو ضعيف. وعلى الأول إنما يراعى تفريطه في
شعبان إذا كان فيه صحيحا مقيما، فيجب عليه الاطعام فإذا كان عليه خمسة
301

عشر يوما فتعتبر الإقامة والصحة في النصف الأخير من شعبان، فيجب
الاطعام إن كان فيه صحيحا مقيما، وإن مرض فيه أو سافر فلا إطعام. وعلى الثاني
الضعيف إنما يراعى تفريطه في شوال بقدر ما عليه من الصيام على قياس
ما قلنا في شعبان، ولو كان رمضان ثلاثين وصام شهرا قضاه عنه فكان تسعة
وعشرين كمل ثلاثين، ويجوز القضاء في كل وقت يجوز فيه التطوع بالصوم
ولا يقضي في الأيام الممنوع فيها الصوم. ثم أشار إلى الشرط الموعود بمجيئه
وهو البلوغ بقوله: (ولا صيام على لصبيان) لا وجوبا ولا استحبابا (حتى
يحتلم الغلام وتحيض الجارية) لو قال حتى يبلغوا لكان أولى فإن البلوغ
يكون بالاحتلام، أي الانزال أو السن، وهو ثمان عشرة على المشهور، بخلاف
الصلاة فإنهم يؤمرون بها استحبابا. (وبالبلوغ) هو قوة تحدث في الصغير
يخرج بها من حال الطفولية إلى حال الرجولية والعقل، ولو قال بالتكليف
إلخ لكان أولى من قوله وبالبلوغ. (لزمتهم أعمال الأبدان) من صلاة
وصيام وحج وغزو. (فريضة) بالنصب على الحال المؤكدة لعاملها لان
اللزوم والفرض مترادفان، وكذلك بالبلوغ لزمتهم أعمال القلوب كوجوب
النيات أي النيات الواجبة لان الذي من عمل القلب النية لا وجوبها
والاعتقادات كاعتقاد أن الله واحد مثلا واستدل على لزوم الصبيان الفرائض
بالبلوغ بقوله: (قال الله سبحانه) وتعالى: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم
فليستأذنوا) * (النور: 59) لان الاستئذان واجب، وقد علقه بالبلوغ. (ومن أصبح)
302

بمعنى طلع عليه الفجر (جنبا) كانت الجنابة من وطئ أو احتلام عمدا أو
نسيانا في فرض أو تطوع. (ولم يتطهر) بالماء. (أو امرأ حائض طهرت)
بمعنى انقطع عنها دم الحيض، ورأت علامة الطهر (قبل) طلوع (الفجر)
الصادق (فلم يغتسلا) أي الجنب والحائض المذكوران (إلا بعد الفجر)
سواء أمكنهما الغسل قبل طلوع الفجر أم لا (أجزأهما صوم ذلك اليوم)
ولا شئ عليهما أما صحة صوم الجنب فلما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر
في رمضان وهو جنب فيغتسل ويصوم، وأما صحة صوم الحائض إذا طهرت
قبل الفجر في رمضان فمتفق عليه إذا كان طهرها قبل الفجر بقدر
ما تغتسل فيه، وعلى المشهور إن كان قبله بمقدار لا يسع غسلها، وأما إذا طهرت
بعد الفجر فلا يصح صومها. (ولا يجوز صيام يوم الفطر ولا) صيام (يوم
النحر) أي ولا يصح إذ لا يلزم من عدم الجواز عدم الصحة لنهيه عليه
الصلاة والسلام عن صيامهما، وهل النهي تعبد أو معلل بضيافة الله؟. (ولا
يصام اليومان اللذان بعد يوم النحر إلا المتمتع الذي لا يجد هديا) كذا
الرواية يصام بالبناء لما لم يسم فاعله، والمتمتع بالرفع والصواب أن يقول
ولا يصوم اليومين الخ، وجهه أن المتمتع فاعل ففعله يكون بصيغة المبني للفاعل لا بصيغة
المبني للمفعول مع أنه هنا بتلك الصيغة وأيضا فقد
استوفى عمدته الذي هو نائب الفاعل، ووجهت الرواية بأن المتمتع فاعل
303

بفعل مضمر تقديره إلا أن يصومهما المتمتع، ومثل المتمتع القارن والمفتدي
ومن وجب عليه الدم لنقص في الحج غير ما ذكر، والنهي في قوله: ولا
يصام الخ للتحريم على الراجح. (واليوم الرابع) من يوم النحر (لا يصومه
متطوع، ويصومه من نذره أو من كان في صيام متتابع قبل ذلك)
كمن صام شوالا وذا القعدة عن كفارة ظهار أو قتل ثم مرض
ثم صح في ليلة الرابع، فإنه يصومه. (ومن أفطر) بأكل أو شرب أو جماع
(في نهار رمضان) حال كونه (ناسيا فعليه القضاء فقط) وجوبا ويجب
عليه الامساك. احترز بنهار رمضان عما إذا أفطر ناسيا في التطوع فإنه
لا قضاء عليه، أي ويجب عليه الامساك. وعما إذا أفطر ناسيا في واجب غير
رمضان فإنه لا قضاء عليه على المشهور. واحترز بناسيا عما إذا كان فطره
عمدا فإن عليه مع القضاء الكفارة. واحترز بقوله فقط عن الكفارة لأنه
لا كفارة عليه خلافا لابن الماجشون وأحمد أن عليه لكفارة إذا كان
فطره بجماع الحديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صدره
وينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟
أي شئ سبب ذاك؟ قال: جامعت أهلي في رمضان، فأمره بالكفارة. أجاب
عنه السادة المالكية بأن قرينة الحال من الضرب والنتف تدل على أن
الجماع كان عمدا (وكذلك) يجب على (من أفطر فيه) أي في نهار
رمضان (ل‍) - أجل (ضرورة من مرض) يشق معه الصوم أو لا يشق
304

لكن يخاف معه طول المرض أو زيادته أو تأخر برء القضاء فقط
من غير كفارة. أما إذا كان المرض لا يشق معه الصوم ولا يخاف
زيادة المرض ولا تأخر البرء، وأفطر فعليه القضاء والكفارة. (ومن
سافر سفرا) أي تلبس بسفر وقت انعقاد النية بأن وصل إلى محل
بدء القصر قبل طلوع الفجر (تقصر فيه الصلاة) بأن كان أربعة برد
فأكثر ذاهبا أو راجعا، ولم يكن سفر معصية، وبات على الفطر (ف‍) يباح
(له أن يفطر) بأكل أو شرب أو جماع، وبالغ على ذلك بقوله: (وإن لم
تنله ضرورة) غير ضرورة السفر فمع الضرورة أحرى (و) مع إباحة
الفطر للمسافر يجب (عليه القضاء) إذا أفطر من غير خلاف لقوله تعالى
* (فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) (والصوم) في السفر (أحب إلينا) أي إلى المالكية
لمن قوي عليه لقوله تعالى: * (وأن تصوموا خير لكم) * (البقرة 184) ويبيت الصيام في السفر
كل ليلة. (ومن سافر أقل من أربعة برد فظن) أي اعتقد (أن الفطر
مباح له فأفطر) لذلك (فلا كفارة عليه) لأنه متأول (و) إنما يجب
(عليه القضاء) فقط من غير خلاف، ولو ذكر هذه المسألة بعد قوله (وكل
من أفطر متأولا فلا كفارة عليه) لكان أولى لأنها جزئية من هذه الكلية.
وظاهر كلامه أن المتأول لا كفارة عليه مطلقا، وهو خلاف المشهور إذ المشهور
التفصيل وهو إن كان التأويل قريبا، وهو ما قوي سببه، فلا
305

كفارة عليه لأنه معذور باستناده إلى سبب قوي، وإن كان التأويل بعيدا
وهو ما لم يقو سببه فالكفارة، فمن الصور التي قوي سببها الصورة التي ذكرها
الشيخ ومنها من أفطر ناسيا ثم أفطر متعمدا ظانا الإباحة، فهذا لا كفارة
عليه. ومنها من كان جنبا أو حائضا قبل الفجر ولم يغتسل من ذلك إلا بعد
الفجر فظن أن صوم ذلك اليوم لا يلزم فأفطر عامدا فلا كفارة عليه،
ومنها من تسحر في الفجر فظن أن صوم ذلك اليوم لا يلزمه فأفطر بعد
ذلك عامدا فلا كفارة عليه، ومنها من قدم من سفره ليلا في رمضان
فاعتقد أن صبيحة تلك الليلة لا يلزم فيها صوم، وأن من شروط لزوم الصوم
أن يقدم من سفره قبل غروب الشمس فأفطر فلا كفارة عليه. ومن
صور التأويل البعيد وهو ما ضعف فيه السبب أن يرى هلال رمضان ولم
تقبل شهادته، فظن أن الصوم لا يلزمه فأصبح مفطرا، فهذا عليه الكفارة.
ومنها من عادته أن تأتيه الحمى في كل ثلاثة أيام فأصبح في اليوم الذي
تأتي فيه مفطرا ثم إن الحمى أتته في ذلك اليوم فإنه يلزمه الكفارة وأولى
إن لم تأته. ومنها من عادتها الحيض في يوم معين فأصبحت ذلك اليوم
مفطرة ثم جاءها الحيض في بقية ذلك اليوم. ومنها من اغتاب شخصا في
رمضان فظن أن ذلك أبطل صومه لأنه أكل لحم صاحبه فأفطر عامدا
فعليه الكفارة وأولى القضاء. (وإنما الكفارة على من أفطر متعمدا بأكل
أو شرب) بالفعل فلو عزم على الاكل أو الشرب أو الجماع ولم يفعل فلا شئ
عليه لا قضاء ولا كفارة، كمن عزم على أن ينقض وضوءه بريح مثلا ولم
يفعل فلا وضوء عليه، (أو جماع) من غير خلاف إن كان على سبيل الانتهاك.
وعلى المشهور إن كان بتأويل بعيد واحترز بالمتعمد من الناسي والجاهل أي
306

ناسي الحرمة وجاهلها، وهو من لم يستند لشئ كحديث عهد بالاسلام يعتقد
أن الصوم لا يحرم الجماع مثلا وجامع فلا كفارة عليه، وأشار بقوله: (مع
القضاء) إلى أن القضاء لازم للكفارة ففي كل موضع تلزم فيه الكفارة
يلزم فيه القضاء. ولما تقدم له ذكر الكفارة استشعر سؤال سائل قال له:
وما هي؟ فقال: (والكفارة في ذلك) أي في الأكل والشرب والجماع عمدا
في رمضان على وجه الانتهاك أو التأويل البعيد تكون بأحد أمور ثلاثة
على وجه التخيير. أحدها: (إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد بمد النبي
صلى الله عليه وسلم) وهو وزن رطل وثلث بالبغدادي ابن بشير، وهل يكون من عيش
المكفر أو من غالب عيش الناس إن اختلف ذلك؟ قال اللخمي: يجري ذلك
على الخلاف في الكفارة، أي كفارة اليمين، وفي زكاة الفطر، والراجح فيها
قوت أهل البلد. ومفهوم قوله كالمدونة ستين الخ أنه لا يجزئ إعطاء ثلاثين
مسكينا مدين مدين، فإن أعطى لدون ستين استرجع من كل واحد منهم
ما زاد على المد إن كان بيده وكمل الستين، فإن ذهب ذلك فلا رجوع له،
لأنه هو الذي سلطهم على ذلك، وليس المراد بالمسكين هنا ما يراد به في
الزكاة، أي من أنه الذي لا يملك شيئا، بل المراد به المحتاج الشامل له وللفقير
الذي لا يملك قوت عامه، وكون كفارة رمضان واجبة على التخيير هو
المشهور، وعليه انبنى الخلاف في أي أنواعها الثلاثة أفضل، والمشهور أنه
الاطعام، وإليه أشار الشيخ بقوله: (فذلك) أي الاطعام المذكور (أحب
إلينا) أي إلى بعض أصحاب مالك وهو منهم، لأنه أعم نفعا. وثانيها: العتق
307

وإليه أشار بقوله: (وله أن يكفر بعتق رقبة) ويشترط فيها أن تكون
كاملة غير ملفقة مؤمنة سليمة من العيوب كالعمى والبكم والجنون الخ،
محررة وتحريرها أن يبتدئ إعتاقها من غير أن تكون مستحقته بوجه.
وثالثها: الصوم وإليه أشار بقوله: (أو صيام شهرين متتابعين) وتتعدد
الكفارة بتعدد الأيام، ولا تتعدد بتكررها في اليوم الواحد قبل إخراجها
اتفاقا ولا بعد التكفير على المذهب (وليس على من أفطر في قضاء رمضان
متعمدا كفارة) لان الكفارة من خصائص رمضان وما ذكره لا خلاف
فيه على ما قال ابن ناجي وإنما الخلاف هل يقضي يوما واحدا أو يومين؟
الراجح أنه يقضي يومين كما قاله ابن عرفة. تنبيه: يصح قضاء رمضان
متفرقا ومتتابعا، والتتابع أحسن. (ومن أغمي عليه) أي ذهب عقله
(ليلا فأفاق بعد طلوع الفجر فعليه قضاء الصوم) قال ابن حبيب: ولا يؤمر
الكف عن الاكل بقية النهار. والاغماء زوال العقل بمرض يصيبه كما في
التحقيق، والذي عول عليه شراح خليل وهو المعتمد أنه إن أغمي عليه
كل النهار أو جله فلا بد من القضاء سلم أوله أو لا، وإن أغمي عليه أقل من
الجل الشامل للنصف، فإن سلم أوله أجزأ وإلا فلا. وقولنا: سلم أوله أي سلم من الاغماء
وقت النية، ولو كان قبلها أغمي عليه حيث سلم قبل الفجر بمقدار إيقاعها،
وإن لم يوقعها على المعتمد حيث تقدمت له نية في تلك الليلة قبله باندراجها
في نية الشهر وإلا فلا بد منها لعدم صحته بدون نية والسكران بحلال
308

كالمغمى عليه في التفصيل المذكور، والسكران بحرام ليلا واستمر على سكره
عليه القضاء من باب أولى، ولم يجز له استعمال المفطر بقية يومه والنائم ينوي
أول الشهر ثم ينام جميع الشهر صح صومه وبرئت ذمته. (ولا يقضي)
من أغمي عليه ليلا وأفاق بعد طلوع الفجر (من الصلوات) المفروضة
(إلا ما أفاق في وقته) وقد تقدم هذا في باب جامع الصلاة، وإنما أعاده
لينبه على أن الصوم يخالف الصلاة، ألا ترى أن الحائض تقضي الصوم ولا
تقضي الصلاة لمشقة التكرار. (وينبغي للصائم أن يحفظ لسانه) قيل
ينبغي في كلامه بمعنى الاستحباب، وقيل: بمعنى الوجوب، ولا معارضة بين
القولين، فيحمل من قال بالوجوب على الكف عن المحرم، ومن قال بالندب
على الكف عن غير المحرم كالاكثار من الكلام المباح (وجوارحه)
من عطف العام على الخاص. وجوارحه سبعة: السمع والبصر واللسان
واليدان والرجلان والبطن والفرج، وإنما صرح باللسان وإن كان داخلا
فيها لأنه عظمها آفة قيل: ما من صباح إلا والجوارح تشكو اللسان: ناشد ناك
الله إن استقمت استقمنا، وإن انعوجت انعوجنا. ودخل عمر على
أبي بكر رضي الله عنه فوجده يجذب لسانه فقال له: مه يا أبا بكر؟ فقال له رضي
الله عنه: دعني فإنه أوردني الموارد، فإذا كان أبو بكر يقول هذا، فما ظنك
بغيره. وخص الشيخ الصائم بالذكر تأكيدا له فينبغي لأهل الفضل والصلاح
أن يقلوا من الكلام فيما لا يعني. (و) ينبغي للصائم أيضا أن (يعظم من
شهر رمضان ما عظم الله) من زائدة المعنى، ويعظم شهر رمضان الذي عظمه
309

الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185) الآية بقراءة
القرآن والذكر والصيام والقيام والصدقة وسائر العبادات ويكره تعظيمه
بالتزويق والوقود ونحو ذلك. (ولا يقرب) بضم الراء وفتحها وهو الأفصح
أي لكونها لغة القرآن كما قال التتائي (الصائم) فاعله و (النساء) مفعوله
(بوطئ ولا مباشرة ولا قبلة للذة) أما الوطئ فحرام إجماعا، وأما ما بعده
فقيل حرام وقيل مكروه، ويمكن أن يقال لا تنافي، فتحمل الحرمة إذا لم تعلم
السلامة والكراهة حيث علمت، ومحصله أنه يكره الشيخ والشاب رجلا
أو امرأة أن يقبل زوجته أو أمته وهو صائم أو يباشر أو يلاعب، وكذلك
أن ينظر أو يذكر إذا علم من نفسه السلامة من مني ومذي، وإن علم عدم
السلامة أو شك فيها حرمت، ولا يحرم ذلك عليه في ليله إلا أن يكون
معتكفا أو صائما في كفارة ظهار فيستوي عنده الليل والنهار، فإن فعل
شيئا من ذلك وهو صائم وسلم فلا شئ عليه، وإن أنزل فعليه القضاء
والكفارة (في نهار رمضان) ثم صرح بمفهوم هذا زيادة في الايضاح فقال:
(ولا يحرم ذلك) أي ما ذكر من الوطئ والمباشرة والقبلة (عليه) أي
على الصائم (في ليله) أي ليل رمضان لقوله تعالى * (أحل لكم ليلة الصيام
الرفث إلى نسائكم) * (البقرة: 173) الآية وإنما يستوي الليل والنهار في حق المعتكف وصائم
كفارة الظهار. (ولا بأس أن يصبح) الصائم (جنبا من الوطئ) لا يقال
إنه مكرر مع ما تقدم لان ما قدمه لبيان كون الصوم صحيحا، وما هنا لبيان
310

جواز الاصباح بالجنابة (ومن التذ في نهار رمضان بمباشرة أو قبلة فأمذى
لذلك) أي للمباشرة أو القبلة ومثلهما الفكر والنظر فيجب القضاء بالمذي
الناشئ عنهما أدام أو لا، فليس في المذي إلا القضاء فقط نشأ عن مباشرة
أو قبلة أو فكر أو نظر استدام ما ذكر أو لا (فعليه القضاء) وجوبا،
مفهومه أنه إذا لم يمذ لا قضاء عليه، وإن أنعظ وهو ما رواه ابن وهب وأشهب
عن مالك في المدونة وهو الراجح. وقال ابن القاسم: إذا حرك ذلك منه لذة
وأنعظ كان عليه القضاء. (وإن تعمد ذلك) أي المباشرة والقبلة (حتى أمنى
فعليه) مع القضاء (الكفارة) على المشهور، وسكت عن النظر والتذكر.
قال الفاكهاني: إن تابع النظر حتى أنزل فعليه القضاء والكفارة، وإن لم
يتابعه فعليه القضاء فقط على المشهور، وقال القابسي: إذا نظر نظرة واحدة
متعمدا فعليه القضاء والكفارة، وصححه الباجي وحكم التذكر حكم النظر، فإن تابع
التذكر حتى أنزل فعليه القضاء والكفارة، وإن لم يتابعه فعليه القضاء بلا
كفارة. (ومن قام رمضان إيمانا) أي تصديقا بالاجر الموعود عليه (واحتسابا)
أي محتسبا أجره على الله تعالى يدخره له في الآخرة لا يفعل ذلك رياء ولا
سمعة (غفر له ما تقدم من ذنبه) والمراد بالذنوب التي يكفرها القيام
الصغائر التي بينه وبين ربه. وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو عفو
الله. وحكم قيام رمضان الاستحباب، ثم إن ثواب القيام لا يتقيد بالليل كله
بل يحصل لكل من قام منه شيئا على قدر حاله من غير تحديد، وإلى ذلك
أشار بقوله: (وإن قمت فيه) أي في رمضان
311

(بما تيسر فذلك) القيام (مرجو فضله و) مرجو (تكفير
الذنوب به) ظاهره كل الذنوب أي الصغائر فحينئذ يستوي القليل
والكثير في تكفير كل الذنوب، ولا يستبعد هذا على فضل الله
واهب المنن (والقيام فيه) أي في رمضان يجوز فعله (في مسجد الجماعات)
وفي كل ما يجتمعون فيه ويكون (بإمام) وجواز فعل التراويح بإمام
مستثنى من كراهة صلاة النافلة جماعة المشار إليه بقول الشيخ خليل عطفا
على المكروه وجمع كثير بنفل أو بمكان مشتهر لاستمرار العمل على الجمع
فيها من زمن عمر بن الخطاب، ومن سنته القيام أي من طريقته أي إن
وقت القيام بعد عشاء صحيحة وشفق للفجر فوقته وقت لوتر (ومن
شاء قام في بيته وهو أحسن) أي أفضل (لمن قويت نيته) يعني نشطت
نفسه (وحده) ولم يكسل قال في المصباح: كسل كسلا فهو كسل من باب
تعب وكسلان أيضا، وقيد بعضهم هذا بأن لا تعطل المساجد، ولما فرغ من
بيان المحل الذي يفعل فيه شرع يبين عدده فقال: (وكان السلف الصالح)
وهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (يقومون فيه) أي في زمن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه (في المساجد بعشرين ركعة) وهو اختيار
جماعة منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد، والعمل الآن عليه. (ثم) بعد
قيامهم بالعشرين ركعة (يوترون بثلاث) أي ثلاث ركعات. (يفصلون
312

بين الشفع والوتر بسلام) وقال أبو حنيفة: لا يفصل، وخير الشافعي بين
الوصل والفصل. (ثم صلوا) أي السلف غير السلف الأول أي فهم سلف
بالنسبة إلينا، وقد تقدم أن السلف الأول الصحابة فيكون المراد بهذا السلف
التابعين. (بعد ذلك) أي بعد القيام بعشرين ركعة غير الشفع والوتر (ستا
وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر) وكان الآمر لهم بذلك عمر بن عبد العزيز
لما في ذلك من المصلحة لأنهم كانوا يطيلون القراءة الموجبة للملل والسآمة،
فأمرهم بتقصير القراءة وزيادة الركعات. والسلطان إذا نهج منهجا
لا تجوز مخالفته، والذي نحاه عمر بن عبد العزيز هو الذي اختاره مالك
في المدونة، وعنه أي مالك في غير المدونة فيما يظهر الذي يأخذ بنفسي في
ذلك أي القيام والمعنى الحقيقي لهذا اللفظ الذي يأخذ نفسي ويتناولها فالباء
زيادة لتأكيد ذلك ومن لازم ذلك التمكن، فأطلق اللفظ وأراد لازمه
أي الذي يتمكن في نفسي أن الذي جمع عليه عمر الناس إحدى عشرة
ركعة منها الوتر وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. (وكل ذلك) أي القيام بعشرين
ركعة أو بست وثلاثين ركعة (واسع) أي جائز (ويسلم من كل ركعتين)
ولما بين قيام السلف استشعر سؤال سائل قال له: هذا قيام السلف فما قيام
النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب بقوله: (وقالت عائشة رضي الله عنها ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
في رمضان ولا في غيره على اثنتي عشرة ركعة بعدها الوتر) ما ذكره
313

عن عائشة مخالف لما في الموطأ عنها من قولها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في
رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، أي ومخالف أيضا لما روي عنها
من أن قيامه بخمس عشرة وسبع عشرة، وروى غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم
أنه رجع إلى تسع ثم إلى سبع، ويمكن الجمع بينها بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول
ما يبدأ إذا دخل بعد العشاء بتحية المسجد، وإذا قام يتهجد افتتح ورده
بركعتين خفيفتين لينشط، وإذا خرج لصلاة الصبح ركع ركعتي الفجر
فتارة عدت ما يفعله في ليله بتمامه وهو سبع عشرة بتسمح في عد ركعتي
الفجر، وتارة أسقطت ركعتي الفجر لأنهما ليستا من الليل فعدت خمس
عشرة وتارة أسقطت تحية المسجد فعدت ثلاث عشرة، وتارة أسقطت
الركعتين الخفيفتين فعدت إحدى عشرة ركعة هكذا جمع بعضهم وقال
في فتح الباري: أو كانت هذه المراتب بحسب الأوقات أو الاعذار من مرض أو
كبرن والله أعلم. باب في الاعتكاف (باب في الاعتكاف وإنما عقب الصيام بالاعتكاف لأنه
شرع عقبه وبدأ بحكمه فقال: (والاعتكاف من نوافل الخير المرغب فيها)
وأفضله في العشر الأواخر من رمضان لمواظبته عليه الصلاة والسلام عليه
أي على العشر الأواخر. (والعكوف الملازمة) هذا معناه لغة وهو ملازمة
الشئ وحبس النفس عليه، وأما معناه شرعا فهو لزوم المسلم المميز المسجد
للذكر والصلاة وقراءة القرآن صائما كافا عن الجماع ومقدماته يوما فما فوقه
بنية، وقد اشتمل هذا التعريف على أركانه أي التي هي الاسلام، والتمييز،
وكونه في مسجد، وكون المذكور ذكرا، وصلاة وغير ذلك، والكف عن
314

الجماع ومقدماته. والمراد بالأركان ما تتوقف حقيقة الشئ عليه وإلا فهو
اللزوم المقيد بتلك القيو (ولا اعتكاف إلا بصيام) على المشهور، فلا يصح
من مفطر ولو لعذر خلافا لمن يقول يصح اعتكاف الشيخ الكبير الذي
لا يقدر على الصوم وضعيف البنية ونحو هما، ولا يشترط أن يكون الصوم
للاعتكاف على المذهب، وقال ابن الماجشون وسحنون: لا بد من صوم يخصه،
فلا يجزئ في رمضان ويرده فعله صلى الله عليه وسلم له في رمضان. (و) من شرط
الاعتكاف أن (لا يكون إلا متتابعا) ما لم ينذره متفرقا، فإن نذره كذلك
لم يلزمه التتابع (ولا يكون) الاعتكاف (إلا في المساجد) فلا يصح في
البيوت والحوانيت ونحوها (كما قال الله سبحانه وتعالى * (وأنتم عاكفون
في المساجد) (البقرة: 187) فيصح الاعتكاف في أي مسجد كان ولو كان غير المساجد
الثلاثة في أي بلد كان (فإن كان بلد) بالرفع على أن كان تامة وبالنصب
على أنها ناقصة اسمها ضمير فيها تقديره كان هو أي اعتكافه في بلد (فيه
الجمعة) وهو ممن تلزمه الجمعة ونذر أياما تأخذه فيها الجمعة (فلا يكون)
بمعنى لا يصح الاعتكاف (لا في) المسجد (الجامع) في المكان
الذي تصح فيه الجمعة، فلا يصح على سطح المسجد ولا في بيت الخطابة ولا السقاية
ولا بيت قناديله لكونها محجورا عليها فأشبهت الحوانيت، والمستحب عجز
المسجد لأنه أخفى للعباد. (إلا أن ينذر أياما لا تأخذه فيها الجمعة) مثل ستة
315

أيام فأقل فإنه يصح أن يعتكف في أي مسجد كان على المذهب (وأقل
ما وأحب) أي مستحب (إلينا) أي إلى المالكية على رأي (من الاعتكاف
عشرة أيام) وأكمله شهر وتكره الزيادة عليه وعلى رأي أقله يوم وليلة
وأكمله عشرة أيام وما زاد عليها مكروه أو خلاف الأولى. (ومن نذر
اعتكاف يوم فأكثر لزمه) ما نواه ظاهره أنه إذا نذر يوما لا يلزمه ليلته.
ومذهب المدونة خلافه، أي إذا نذر يوما يلزمه يوم وليلة، فإن قلت هذا
مشكل إذ كيف يلزم مع أنه مكروه لان المدونة صرحت بكراهة ما دون
العشرة على القول بأن أقل مستحبه عشرة، ويجاب عنه بما قيل في ناذر
رابع النحر، فإنه يلزمه مع أنه مكروه، وذكره الأجهوري. (وإن نذر ليلة
لزمه يوم وليلة) على المشهور، وعن سحنون البطلان لان من نذر الاعتكاف
ليلا فقد نواه بغير شرطه، فلا يصح ثم شرع يتكلم على مفسدات الاعتكاف
فقال: (ومن أفطريه) أي اعتكافه بأكل أو شرب (متعمدا فليبتدئ
اعتكافه) ظاهر كلامه التفريق بين العامد والناسي وهو كذلك في
المدونة ومثل الفطر ناسيا المرض والحيض، أي فإذا أكل ناسيا أو مرض
أو حاضت فلا يبتدئه لعدم بطلانه ويقضيه بعد زوال عذره الذي حصل فيه
الفطر. (وكذلك) يبتدئ اعتكافه (من جامع فيه ليلا أو نهارا ناسيا أو
متعمدا) زاد في المدونة أو قبل أو باشر أو لمس، قال ابن ناجي: ظاهره وإن
316

لم تحصل لذة، أبو الحسن بقوله يريد إذا وجد لذة أو قصدها ولم
يجدها. (وإن مرض) المعتكف مرضا يمنعه من المكث في المسجد أو من
الصوم خاصة دون المكث في المسجد (خرج) منه (إلى بيته) أي وجوبا
مع المرض المانع من المكث في المسجد وجوازا مع المانع من الصوم فقط،
وفي الرجراجي أنه يجب عليه المكث في المسجد، (فإذا صح) من مرضه
رجع إلى المسجد (ويبني على ما تقدم) من الاعتكاف المراد بالبناء في كلامه
الاتيان ببدل ما فات بالعذر سواء كان على وجه القضاء بأن كانت أياما معينة
وفاتت، أو لا على وجه القضاء بأن كانت الأيام غير معينة بل مضمونة.
(وكذلك) الحكم (إن حاضت المعتكفة) أو نفست فإنها تخرج وتبني
على ما تقدم (وحرمة الاعتكاف) مستمرة (عليهما) فلا يجوز لهما أن
يفعلا خارج المسجد ما ينافي الاعتكاف إلا الفطر. وقوله (في المرض) عائد
على المريض. وقوله: (وعلى الحائض في الحيض) عائد على الحيض إلا أنه
لو قال في المرض والحيض لكان أحسن ليسلم من التكرار، إذ قوله: وعلى
الحائض مكرر باعتبار دخولها في عليهما لأنه عائد على المريض والحائض.
(فإذا طهرت الحائض) بمعنى أنها رأت علامة الطهر واغتسلت (أو أفاق
المريض) من مرضه سواء حصل لهما ذلك (في ليل أو نهار رجعا) وفي
نسخة رجع أي كل من الحائض والمريض (ساعتئذ) أي ساعة إذ طهرت
317

الحائض من الحيض بعد غسلها أو أفاق المريض من مرضه (إلى المسجد
) وإن لم يرجعا حينئذ ابتدأ على المشهور وإذا رجعا نهارا لا يعتد بذلك اليوم
لتعذر الصوم فيه. (ولا يخرج المعتكف من معتكفه إلا لحاجة الانسان)
وهي كل ما يحمله على الخروج من بول وغائط وغسل جمعة وعيد ووضوء
وغسل جنابة وأكل وشرب بشرط أن لا يتجاوز محلا قريبا إلى ما هو
أبعد، وإلا فسد اعتكافه، وبشرط أن لا يشتغل مع أحد بالمحادثة وإلا فسد
اعتكافه أيضا. ثم شرع يبين الوقت الذي يبتدئ منه الاعتكاف فقال:
(وليدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يبتدئ
فيها اعتكافه) وهذا الامر على جهة الاستحباب وانظر مع ما في الصحيحين
من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن
يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه، ويجاب عنه بأنه دخل من أول
الليل، وإنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعده لاعتكافه بعد صلاة الصبح.
والمراد بمعتكفه الخباء الذي تضربه له السيدة عائشة، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي
الصبح ثم يدخله. (ولا يعود مريضا) أي أنه ينهى المعتكف في مدة
اعتكافه عن عيادة المريض ما لم يكن أحد أبويه أو هما معا فيجب أن
يخرج لبرهما لوجوبه بالشرع ويبطل اعتكافه، ولا يجوز له أن يخرج
لجنازة أبويه معا فإن خرج بطل اعتكافه، وأما لجنازة أحدهما فيخرج
وجوبا لما في عدم الخروج من عقوق الحي أي أنه مظنة لذلك ولا
318

كذلك في موتهما معا ويبطل اعتكافه. وهذا في الأبوين دنية ولو كافرين
(ولا يصلي على جنازة) ولو وضعت بلصقه أي ولو جنازة جار أو صالح،
فالكراهة على كل حال، فإن عاد مريضا في المسجد أو صلى على جنازة فيه
لم يبطل اعتكافه. (ولا يخرج لتجارة) قال ابن عمر: هل قوله ولا يخرج
لتجارة خرج مخرج الغالب لان التجارة إنما يكون في الأسواق، فينهى
عن التجارة في لمسجد وخارجه، أو نقول: إنه لم يخرج مخرج الغالب فيجوز
له أن يفعل ذلك في لمسجد اه‍؟ الراجح الاحتمال الأول الموافق لما قاله
الأقفهسي: إن عقد على سلعة داخل المسجد لم يفسد اعتكافه، وكذا خارجه بين
يديه، وأما إذا خرج عن ذلك بطل اعتكافه إلا إن كان بسمسار منع من
غير خلاف و إن كان بغير سمسار فإن كان شيئا يسيرا جاز من غير كراهة،
وإن كان كثيرا كره، ولا يفسد الاعتكاف في الوجهين أي ان بسمسار
أم لا، كما أنه لا يفسخ المبيع من غير خلاف أي سواء في قسم الحرمة أو
الكراهة، ولا يتوهم ذلك في صورة الجواز، ويجوز له الخروج لغير التجارة
مما لاستغنى عنه ولو خارجه ببعد بحيث لا يتجاوز محلا قريبا يمكن الشراء
منه، وبشرط أن لا يجد من يشتري له. ومعنى قوله: (ولا شرط في الاعتكاف)
أنه لا يجوز الشرط فيه ظاهره الحرمة مثل أن يقول أعتكف عشرة
أيام، فإن بدا لي رأي في الخروج خرجت، ويقول: أعتكف الأيام دون
الليالي أو العكس، وكذا لو شرط إن عرض له أمر يوجب القضاء فلا قضاء
عليه لم يفده. ولا فرق في ذلك بين أن يشترط قبل دخول المعتكف أو
بعده، فإن وقع شئ من ذلك بطل الشرط وصح الاعتكاف، وانظر هل
319

أراد بقوله (ولا بأس أن يكون إمام مسجد) إن تركه أحسن أي فيكره
كونه إماما للمسجد أو أشار به إلى من يقول لا يكون إمام المسجد أي للرد
عليه، فقد حكى ابن وضاح عن سحنون أنه لم يجز للمعتكف أن يكون إماما
في الفرض والنفل، أي بل يجوز أن يكون إمام المسجد جوازا مستوي الطرفين
على ما قال ابن ناجي، أو يستحب أن يكون إماما راتبا، وهو المعتمد، أو
إنما أخبر بالجواز أي بدون أن يكون قصده الرد. قال أبو عمران: إنما أخبر
بالجواز وقد نص في المختصر على كراهة كونه إماما راتبا وانظره مع ما صح
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف وهو الامام اه‍. ولا يخفاك ضعف ما في المختصر
واعتماد القول بالاستحباب الموافق للحديث. (وله) أي ويباح للمعتكف (أن
يتزوج) بمعنى يعقد لنفسه (أو يعقد نكاح غيره) وقيده في المدونة بأن
يغشاه وهو في مجلسه أي يتلبس به وهو في مجلسه. وأما لو كان بغير مجلسه
فإن كان في المسجد كره، وإن كان خارجه حرم وبطل اعتكافه، وهو
مقيد أيضا بأن لا يطول التشاغل به وإلا كره سواء كان زوجا أو وليا، فإن
قيل المحرم ممنوع من عقد النكاح فما الفرق بينه وبين المعتكف مع
أن كلا منهما في عبادة يمنع فيها الوطئ، وأجيب بأجوبة منها أن الأصل
جواز عقد النكاح لكل أحد خرج المحرم بقوله صلى الله عليه وسلم: المحرم لا ينكح ولا
ينكح بالفتح في الأول أي لا يعقد لنفسه وبالضم في الثاني أي لا يعقد
لغيره، وبقي ما عداه على الأصل وهو الجواز. (ومن اعتكف أول الشهر)
يعني أول شهر من الشهور غير رمضان أو وسطه (خرج) بمعنى جاز له
320

الخروج (من اعتكافه بعد غروب الشمس من آخره) أي من آخر أيام
اعتكافه من غير خلاف في المذهب. هذا إن اعتكف بزمن غير رمضان
وأما إن كان اعتكافه في رمضان فقد أشار إليه الشيخ بقوله: (وإن اعتكف
بما يتصل فيه اعتكافه بيوم الفطر فليبت ليلة الفطر) يعني أن من
اعتكف بزمن يكون آخره غروب الشمس ليلة عيد الفطر فليبت تلك
الليلة على جهة الاستحباب (في المسجد) أي الذي اعتكف فيه (حتى يغدو
منه إلى المصلى) لفعله عليه الصلاة والسلام أي وليصل عبادة بعبادة. باب
في زكاة العين (باب في زكاة العين) أي في بيان حكم القدر الذي تجب فيه الزكاة والقدر
المخرج منه (و) في بيان حكم (الحرث) وبيان القدر الذي تجب فيه
الزكاة وبيان القدر المخرج (و) في بيان حكم (الماشية و) بيان (ما)
أي القدر الذي تجب فيه الزكاة مما (يخرج من المعدن) وبيان القدر المخرج
منه (و) في بيان (ذكر الجزية) أي ذكر من تؤخذ منه ومن لا تؤخذ
منه والقدر الذي يؤخذ منها (و) في بيان (ما) أي القدر الذي (يؤخذ
من تجار) بالضم والتشديد جمع تاجر كفاجر فجار وبالكسر والتخفيف
كصاحب وصحاب (أهل الذمة والحربيين) وتبرع في هذا الباب بالكلام
321

على شيئين الركاز وزكاة العروض أي ذكرهما، ولم يترجم لهما. والزكاة لغة النمو
ولزيادة، يقال: زكا الزرع وزكا المال إذا كثر، وشرعا مال مخصوص يؤخذ من
مال مخصوص إذا بلغ قدرا مخصوصا في وقت مخصوص يصرف في جهات
مخصوصة. ووجه تسميته زكاة أن فاعلها يزكو بفعلها عند الله تعالى، أي يرفع
حاله أي مرتبته بذلك عنده يشهد له قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103). وبدأ الشيخ رحمه الله بالحكم فقال: (وزكاة العين)
وهو الذهب والفضة والتذكير باعتبار الخبر، وإنما سمي ما ذكر من الذهب
والفضة بذلك أي بالعين أي باسم العين لشرفه، أي لشرف ما ذكر كما أن
العين شريفة ويسمى نقدا أيضا. (والحرث) وهو المقتات المتخذ للعيش
غالبا. (والماشية) وهي الإبل والبقر والغنم (فريضة) فرضت في العام الثاني
من الهجرة. ودليل فرضيتها الكتاب والسنة والاجماع من جحد وجوبها
فهو كافر، ومن أقر بوجوبها وامتنع من أدائها ضرب وأخذت منه كرها،
وتجزئه ولا يكفر، وعن ابن حبيب يكفر واستبعد. ولها شروط وجوب وشروط
صحة: أما الأولى فسبعة في الجملة - وإنما كانت سبعة في الجملة لان عد الاسلام
من شروط الوجوب مبني على عدم خطاب الكفار بفروع الشريعة، والأصح
خطابهم بها فيكون الاسلام شرط صحة - الاسلام والحرية والنصاب والملك
والحول في غير المعادن والمعشرات وعدم الدين في العين ومجئ الساعي في
الماشية إذا كان ثم سعاة وأمكنهم الوصول. وأما الثانية فأربعة: النية وتفرقتها
بموضع وجوبها وإخراجها بعد وجوبها ودفعها للامام العدل في أخذها
وصرفها إن كان أو لأربابها وهم الأصناف الثمانية المشار لها بقوله تعالى * (إنما
الصدقات) * (التوبة: 60) الخ. ثم بين وقت وجوب زكاة الحرث
322

بقوله (فأما زكاة الحرث فيوم حصاده) بفتح الحاء و كسرها اعلم أن في الحبوب قولين وفي الثمار ثلاثة
أقوال الأول لمالك قال: إذا أزهت النخل وطاب الكرم واسود الزيتون
أو قارب وأفرك الزرع واستغنى عن الماء وجبت فيه الزكاة. قال ابن عبد
السلام: وهو المشهور، والثاني لابن مسلمة أنها لا تجب في الزرع إلا بالحصاد
ولا تجب في التمر إلا بالجذاذ. واحتج بقوله تعالى * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الانعام: 141) وهذا معنى قوله بالحصاد والجذاذ. والثالث خاص بالتمر أنها لا تجب إلا
بالخرص وهو للمغيرة وترتيب هذه الأشياء في الوجود، وهو أن الطيب أولا
ثم الخرص ثم الجذاذ وأن الافراك أولا ثم الحصاد. (و) أما (العين) غير
المعدن والركاز (والماشية) فتجب أي في كل منهما (في كل حول مرة)
أي بعد تمام الحول قال زروق: وشرط الماشية بعد الحول مجئ الساعي على
المشهور إن كان ويصل، وإلا وجبت بالحول اتفاقا وعلى المشهور لو أخرجت
قبل مجيئه حيث يكون لم تجز. ثم بين قدر النصاب الذي تجب فيه الزكاة
من الحرث بقوله: (ولا زكاة من الحب والتمر في أقل من خمسة أوسق)
لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق.
قال ابن عمر: انظر هل تدخل القطاني في الحب والزبيب والزيتون في
التمر أم لا؟ بعض الشراح أدخلها في الحب وجعل الحب شاملا لما عدا التمر الذي هو
تسعة عشر نوعا وهي القمح والشعير والسلت والأرز والدخن والذرة
والعلس والقطاني السبعة التي هي العدس واللوبيا والفول والحمص والترمس
والبسيلة والجلبان وذوات الزيوت وهي حب الفجل الأحمر والسمسم المعبر
323

عنه بالجلجلان والقرطم والزيتون والزبيب فهي بالتمر عشرون نوعا، فلا
تجب الزكاة في غيرها من بزر الكتان أو سلجم أو غير ذلك، وقد ذكروا
للأوسق الخمسة ضابطين أحدهما بالكيل والآخر بالوزن. أما الأول فبينه
الشيخ بقوله: (وذلك) أي الخمسة أوسق (ستة أقفزة وربع قفيز) أقفزة
جمع قفيز وهو ثمانية وأربعون صاعا. (والوسق) بفتح الواو وكسرها
واحد أوسق كفلس وأفلس، هو لغة ضم شئ إلى شئ قال تعالى:
* (والليل وما وسق) * (الانشقاق: 17) أي ضم وجمع أي من الظلمة والنجم أو لما عمل فيه
واصطلاحا (ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو) أي صاع النبي صلى الله عليه وسلم
(أربعة أمداد بمده عليه الصلاة والسلام) وقد حرر النصاب أي في سنة
سبع وأربعين وسبعمائة بمد معير على مد النبي صلى الله عليه وسلم فوجد ستة أرادب ونصفا
ونصف ويبة بأرادب القاهرة والإردب ست ويبات، والويبة ستة عشر قدحا.
ثم إن القدر المأخوذ يختلف باختلاف المأخوذ منه، فإن كان المأخوذ منه
حاصلا بعناء ومشقة كما لو سقي بالدواليب ففيه نصف العشر، وإن كان
بغير مشقة كما لو سقي بماء السماء ففيه العشر. والأرض الخراجية وغيرها
سواء في الزكاة. ثم شرع يبين أن الأنواع تضم فإذا اجتمع من مجموعها
نصاب زكيت وإلا فلا، وأن الأجناس لا تضم فإذا لم يجتمع من كل جنس
نصاب لا يزكى، فمن الأول قوله: (ويجمع مح والشعير والسلت) بضم
السين ضرب من الشعير ليس له قشر كأنه حنطة بناء على أنها كلها جنس
واحد وهو المنصوص في المذهب ولا مفهوم لقوله (في الزكاة) لأن هذه
324

الثلاثة في البيع أيضا جنس واحد على المشهور، أي فيحرم التفاضل في بيع
بعضها ببعض، وما ذكره من الجمع محله إذا كانت زراعتها وحصادها في عام
واحد. أما إذا كانا في عامين أو أعوام فقيل: المعتبر ما نبت في زمن واحد،
فيضاف بعضه إلى بعض، ولا يضاف ما نبت في زمان
إلى ما نبت في زمان آخر، وقيل: المعتبر الزراعة فإن زرع الثاني قبل حصاد الآخر ضم إليه وإلا
فلا. والأول لمالك في كتاب ابن سحنون، والثاني لابن مسلمة، وعليه اقتصر
صاحب المختصر، ثم بين فائدة الضم بقوله: (فإذا اجتمع من جميعها) أي
جميع ما ذكر من القمح والشعير والسلت (خمسة أوسق فليزك ذلك) قال
ابن عمر: فيخرج من كل ما ينوبه فيخرج لاعلى عن الاعلى والأدنى عن
الأدنى والأوسط عن الأوسط، فإذا أخرج الاعلى عن الأدنى جزأه، وإن
أخرج الأدنى عن الاعلى لم يجزه، فوقع الاتفاق في الحبوب أنه يخرج عن كل
نوع ما ينوبه ووقع الاتفاق في المواشي أنه يخرج الوسط. واختلف في
التمر فقيل: هو مثل المواشي، وقيل: مثل الحبوب. ومنه أيضا قوله: (وكذلك
يجمع أصناف القطنية) بكسر القاف وفتحها، وأصلها من قطن بالمكان
إذا أقام به، فإذا اجتمع من جميعها خمسة أوسق زكاها بناء على أنها جنس
واحد في الزكاة وهو المذهب بخلاف البيع فإنها فيه أجناس، وهي البسيلة
والحمص بكسر الميم المشددة وفتحها والعدس والجلبان والفول والترمس
واللوبيا والجلجلان بجيمين مضمومتين بعد كل جيم لام، قاله شارح
الموطأ، وحب الفجل. ومنه أيضا قوله: (وكذلك تجمع أصناف التمر) فإذا
325

اجتمع من جميعها خمسة أوسق زكاها (وكذلك أصناف الزبيب) بجمع
فإذا اجتمع من جميعها خمسة أوسق زكاها. (و) من الثاني (الأرز) فيه
ست لغات حداها ضم الهمزة والراء (والدخن) بضم الدال المهملة (والذرة)
بضم الذال المعجمة (كل واحد) منها صنف على حدته (لا يضم إلى
الآخر) على المذهب لتباين مقاصدها واختلاف صورها في الخلقة. وقوله
(في الزكاة) إشارة لمن يقول إنها كلها صنف واحد في الربا أي فلا يجوز
التفاضل بينها، وهو قول ابن وهب، والمشهور خلافه. (وإذا كان في الحائط
أصناف) ثلاثة (من التمر) جيد وردئ ووسط (أدى الزكاة عن الجميع
من وسطه) على المشهور. أما إن كان فيها نوع واحد أخذت منه جيدا
كان أو رديئا، وليس عليه أن يأتي بالوسط ولا بالأفضل منه، وإن كان فيها
جيد وردئ أخذت من كل ما يصيبه بحصته. ولو كان الردئ قليلا لان
الأصل أن تؤخذ زكاة كل عين من أصله لقوله صلى الله عليه وسلم: زكاة كل مال منه
فخصته السنة بالماشية، أي فأخرجت السنة من عمومه الماشية بسبب أنها
تؤخذ من الوسط وبقي ما سواه على الأصل. (ويزكى الزيتون إذا بلغ حبه
خمسة أوسق) أي مقدرة الجفاف، وقال ابن وهب: لا زكاة فيه ولا في كل
ما له زيت، ابن عبد السلام، وهو الصحيح على أصل المذهب أي صحة جارية
على قاعدة المذهب، وهو أن كل ما لا يقتات لا زكاة فيه. قال في التحقيق: وهو
326

وإن لم يقتت فله مدخل فيه إذ هو مصلح للقوت، وعلى القول بأنه يزكى
أخرجت زكاته من زيته لا من حبه على المشهور. ولا يشترط في الزيت
بلوغه نصابا بالوزن وإنما الشرط بلوغ الحب نصابا كما صرح به الشيخ.
وحكى ابن الحاجب الاتفاق عليه فلو أخرج من حبه لم يجزه. (و) كذلك
(يخرج من الجلجلان) وهو السمسم (و) في (حب الفجل) ونحوهما مما
يعصر (من زيته) إذا بلغ حبه خمسة وسق (فإن باع ذلك أي الزيتون
وما بعده (أجزأه أن يخرج من ثمنه) كان الثمن نصابا أم لا وإنما يراعى
نصاب الحب خاصة لا نصاب الثمن. قال بعضهم إنما قال: (إن شاء الله) لضعف
هذا القول. ومنهم من قال: إنما قال ذلك لقوة الخلاف فيه. والذي في المختصر
وشرحه أن الزيتون ونحوه إن كان له زيت أخرج من زيته، وإن لم يكن
له زيت كزيتون مصر أخرج من ثمنه، وكذلك ما لا يجف كرطب مصر
وعنبها. والفول الأخضر يزكى من ثمنه وإن بيع بأقل مما تجب فيه الزكاة
بشئ كثير إذا كان خرصه خمسة أوسق، وإن نقص عنها لم يجب فيه
شئ وإن بيع بأكثر مما تجب فيه الزكاة بأضعاف (ولا زكاة في الفواكه)
الخضرة كالتفاح والمشمش (و) لا في (الخضر) لما صح عن معاذ بن جبل
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر وفيما سقي
بالنضح - أي بالماء الذي ينضحه الناضح أي يحمله البعير من نهر أو بئر لسقي
الزرع ولكن المقصود هنا ما سقي بآلة - نصف العشر وإنما ذلك في التمر
327

والحنطة والحبوب. وأما القثاء والبطيخ فمعفو أي فشئ معفو عنه عفا عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ولا زكاة من الذهب في أقل من عشرين دينارا فإذا بلغت)
الدنانير (عشرين دينارا ففيها نصف دينار) وقوله: (ربع العشر) تفسير
لنصف الدينار (فما زاد) على العشرين دينارا (ف‍) - يخرج منه (بحساب
ذلك) أي ما زاد. (وإن قل) فلا يشترط بلوغه أربعة دنانير في الذهب ولا
أربعين درهما في الفضة. واشترط ذلك أبو حنيفة. (ولا زكاة من الفضة في
أقل من مائتي درهم وذلك) أي المائتا درهم (خمسة أواق) بحذف
الياء وثبوتها مخففة ومشددة جمع أوقية. (والأوقية) بضم الهمزة وتشديد
الياء زنتها (أربعون درهما) بالدرهم الشرعي وهو الدرهم المكي، وقد
تقدم أن زنته خمسون حبة وخمسا حبة من الشعير المتوسط إلى آخره.
ويقال له درهم الكيل لان به تتحقق المكايل الشرعية، إذ تركب منها
الأوقية والرطل والمد والصاع، أفاده في التحقيق. (من وزن سبعة أعني أن
السبعة دنانير) شرعية (وزنها عشرة) أي وزن عشرة (دراهم) شرعية
وذلك أنك إذا اعتبرت ما في سبعة دنانير وما في عشرة دراهم من درهم
الكيل وجدتهما واحدا لان وزن الدرهم كما تقدم خمسون حبة وخمسا
328

حبة من الشعير المتوسط وكل دينار وزنه اثنتان وسبعون حبة، فإذا ضربت
عشرة في خمسين خرج من ذلك خمسمائة وتبقى الأخماس وهي عشرون
خمسا بأربع حبوب فهذه خمسمائة وأربع حبوب وإذا ضربت سبعة في
اثنين وسبعين يخرج من ذلك خمسمائة وأربع حبوب، فاتفق السبعة دنانير
والعشرة دراهم في عدد الحبوب. وكرر قوله: (فإذا بلغت) الدراهم (من
هذه الدراهم مائتا درهم) صوابه مائتي درهم ليرتب عليه قوله (ففيها ربع
عشرها) وهو (خمسة دراهم فما زاد) على المائتي درهم (فبحساب ذلك
ويجمع الذهب والفضة في الزكاة) لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك بينه في
التحقيق بقوله: وروي عن بكير بن عبد الله بن الأشج أنه قال: مضت
السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضم الذهب إلى الفضة والفضة إلى الذهب، وأخرج
الزكاة عنهما. ثم فرع على الجمع قال: (فمن له مائة درهم وعشرة دنانير
فليخرج من كل مال ربع عشره) فالجمع بالاجزاء لا بالقيمة أي بالتجزئة
والمقابلة بأن يجعل كل دينار بعشرة دراهم، ولو كانت قيمته أضعافها كما
لو كان له مائة درهم وعشرة دنانير أو مائة وخمسون وخمسة دنانير، فلو
كان له مائة وثمانون درهما ودينار يساوي عشرين درهما فلا يخرج شيئا
ويجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر على المشهور. (ولا زكاة في العروض)
329

المراد بها في هذا الباب الرقيق والعقار والرباع والثياب والقمح وجميع
الحبوب والثمار والحيوان إذا قصرت عن النصاب، وهي إما للقنية ولا زكاة
فيها اتفاقا، وإما للتجارة ففيها الزكاة اتفاقا، وإما للإدارة وستأتي، وإما للاحتكار
وهي التي يترصد بها الأسواق لربح وافر ولوجوب الزكاة فيها شروط
أحدها النية، وإليه أشار بقوله: (حتى) أي إلا أن (تكون للتجارة) أي
ينوي بها التجارة فقط أو التجارة مع القنية أو الغلة احترازا من عدم النية،
كأن يعاوض بها الظاهر قراءته بالفتح أي كأن تدفع عوضا له في مقابلة
شئ يعطيه، أو تكون له نية مضادة لنية التجارة كالقنية فقط أو الغلة
فقط أو هما معا، فلا زكاة إذن. ثانيها: أنه يترصد بها الأسواق أي يمسكها إلى
أن يجد فيها ربحا جيدا، وأخذ هذا من قوله: (فإذا بعتها بعد حول فأكثر).
ثالثها: أن يملكها بمعاوضة، وأخذ هذا من قوله: (من يوم أخذت ثمنها أو
زكيته) احترازا من أن يملكها بإرث أو هبة ونحو ذلك، فإنه لا زكاة فيها
إلا بعد حول من يوم قبضت ثمنها ولو أخر قبضه هروبا من الزكاة. رابعها
أن يبيعها بعين لا إن لم يبعها أصلا أو باعها بغير عين، إلا أن يقصد ببيعه
بغير العين الهروب من الزكاة. ولا فرق في البيع بين أن يكون حقيقة وهو
ظاهر، أو مجازا بأن يستهلكه شخص ويأخذ التاجر قيمته، ولا بد أن
يكون المباع به نصابا لان عروض الاحتكار لا تقوم بخلاف المدير فيكفي
في وجود الزكاة في حقه مطلق البيع. ولو كان ثمن ما باعه أقل من نصاب
لأنه يجب عليه تقويم بقية عروضه، وأخذ هذا لشرط من قوله: (ففي ثمنها
الزكاة لحول واحد) احترازا من أن يبيعها بعرض، فإنه لا يزكى. خامسها:
330

مضي حول من يوم زكى الأصل أو ملكه. وسكت عن شرط وهو أن
يكون أصل ذلك العرض عينا اشتراه بها ولو كانت أقل من نصاب أو
عرض ملك معاوضة ولو للقنية، ثم باعه واشترى به ذلك العرض لقصد
التجارة (أقامت قبل البيع حولا أو أكثر) احترازا من أن يبيعها قبل
تمام الحول، فلا زكاة فيها حتى حول عليها الحول. ثم انتقل يتكلم على عروض
الإدارة وهي التي تشترى للتجارة، وتباع بالسعر الواقع ولا ينتظر بها سوق
نفاق البيع ولا سوق كساد الشراء كسائر أرباب الحوانيت المديرين
لسلع فقال مستثنيا من قوله ففي ثمنها الزكاة لحول واحد (إلا أن تكون
مديرا لا يستقر) أي لا يثبت (بيدك عين ولا عرض) بل تبيع بالسعر
الحاضر وتخلفها ولا تنتظر سوق نفاق البيع ولا سوق كساد الشراء،
(فإنك تقوم عروضك كل عام) كل جنس بما يباع به غالبا في ذلك الوقت
قيمة عدل على البيع المعروف دون بيع الضرورة، لان بيع الضرورة
يكون بالرخص الفاحش، فالديباج وشبهه كالثياب القطن الرفيعة والرقيق
والعقار يقوم بالذهب والثياب لغليظة واللبيسة أي الملبوسة، أي التي شأنها
كثرة اللبس تقوم بالفضة وابتداء التقويم أي ابتداء حول التقويم عند
أشهب من يوم أخذ في الإدارة. وقال الباجي: من يوم زكى الثمن أو من
يوم إفادته، واستظهره بعضهم، وهو ظاهر قول الرسالة من يوم أخذت ثمنها
أو زكيته. (و) بعد أن تفرغ من التقويم (تزكي ذلك) أي الذي قومته
331

من العروض بشرط أن ينض من أثمانها أي العروض المدارة شئ ما
ولو درهما، ولا فرق بين أن ينض له شئ في أول الحول أو في آخره. أما
إذا لم ينض له شئ أو ض له بعد الحول بشهر مثلا فإنه يقوم حينئذ
وينتقل حوله إلى ذلك الشهر ويلغى الزائد على الحول، وكذا يزكي المدير
النقد إن كان معه، وإليه أشار بقوله (مع ما بيدك من العين) وكذلك
يزكي عن دينه النقد الحال المرجو (وحول ربح المال حول أصله) ظاهره
كان الأصل نصابا أم لا، وهو كذلك على المشهور، مثاله أن يكون عنده دينار
أقام عنده أحد عشر شهرا، ثم اشترى به سلعة باعها بعد شهر بعشرين، فإنه
يزكي الآن أي حين بيعه بعد شهر مضاف إلى إقامتها عنده أحد عشر
شهرا، ويصير حوله ثاني عام من يوم التمام. (وكذلك حول نسل الانعام
حول الأمهات) والأصل في هذا قول عمر رضي الله عنه: عد عليهم
السخلة بحملها ولا تأخذها. والربح كالسخال. والسخلة تطلق على الذكر والأنثى
من أولاد الضأن والمعز ساعة تولد، والجمع سخال إلا أن المراد الصغيرة. (ومن
له مال) يعني من العين (تجب فيه الزكاة) مثل أن يكون عنده عشرون
دينارا (وعليه دين) بعوض سواء كان عرضا أو طعاما أو ماشية أو غيرها
وسواء كان حالا أو مؤجلا (مثله) أي مثل الذي له وهو عشرون دينارا
(أو) عليه دين (ينقصه) أي ينقص المال الذي معه (عن مقدار مال
الزكاة) أي القدر الذي تجب فيه الزكاة مثل أن يكون عنده عشرون
332

وعليه نصف دينار مثلا (فلا زكاة عليه) في الصورتين، وظاهر كلام الشيخ
أن الدين يسقط الزكاة. ولو كان مهر امرأته التي في عصمته وأخرى إذا
كانت مطلقة وعليه مهرها وهو الراجح من أحد التشهيرين وعلى التشهير
الآخر لا يسقطها وعلى المشهور أيضا أن الدين يسقط الزكاة ولو دين زكاة
خلاف ديون النذور والكفارات، فإنها لا تسقط الزكاة. والفرق أن دين
الزكاة تتوجه المطالبة به من الإمام العادل، وتؤخذ الزكاة ولو كرها ولا
كذلك النذور والكفارات. ثم استثنى من عموم ما تقدم مسألة فقال: (إلا
أن يكون عنده) أي عند من له مال فيه الزكاة وعليه دين مثله أو
دين ينقصه عن مال الزكاة شئ (مما لا يزكى من عروض مقتناة) تقدم
أن المراد بها هنا الرقيق والعقار والرباع والثياب وجميع الحبوب والثمار
والحيوان القاصرة عن النصاب، بل لو كان عنده حبوب أو أثمار أو حيوان
زكيت فإنه يجعلها في مقابلة ما عليه من الدين ويزكي فقوله (أو رقيق أو
حيوان مقتناة أو عقار) بالفتح مخففا وهي الأصول الثابتة، وإن لم يكن
لها عتبة كالأرض الساحة (أو ربع) وهو ما له عتبة كالدور من عطف
الخاص على العام (ما) اسم يكون بمعنى شئ وخبرها الظرف المتقدم ومما لا يزكى الخ بيان لما ففي كلامه تقديم وتأخير، تقديره أن من له مال تجب
فيه الزكاة وعليه دين مثله أو ينقصه عن مال الزكاة فإن الزكاة تسقط
عنه إلا أن يكون عنده شئ (فيه وفاء لدينه) مما لا تجب فيه الزكاة من
333

عروض القنية (فل‍) - يجعله في مقابلة ما عليه من الدين بشرط أن يحول
عليها الحول، وحول كل شئ حسبه، فحول المعشر طيبه، والمعدن خروجه،
وأن تكون مما يباع مثله في الدين، و (يزك ما بيده من المال) هذا إذا وفت عروضه بدينه (فإن لم تف عروضه بدينه حسب بقية دينه فيما)
أي الذي (بيده) من المال، (فإن بقي بعد ذلك) أي بعد أن يحسب بقية دينه
مما بيده (ما) أي شئ (فيه الزكاة زكاه) مثاله أن يكون عنده ثلاثون
دينارا، وعليه عشرون دينارا، وعنده من العروض التي تباع في الدين وحال
عليها الحول ما يفي بعشرة تبقى عشرة يأخذها من الثلاثين ويعطيها: أي
يلاحظ أنها في مقابلة الدين. وليس المراد الاخذ والاعطاء بالفعل لجواز
تأخر أجل الدين فتبقى عشرون خالية من الدين فيدفع عنها الزكاة. ولما
بين أن الدين يسقط زكاة العين شرع يبين أنه لا يسقط زكاة ما عداها
فقال: (ولا يسقط الدين زكاة حب ولا تمر ولا ماشية) وكذلك لا يسقط
زكاة معدن ولا ركاز مثل أن يكون عنده شئ من هذه المذكورات، وعليه
دين يستغرق ما عنده فتجب عليه الزكاة، ولا يسقطها الدين المستغرق لما
وجبت فيه والفرق بين ذلك وبين العين أن السنة إنما جاءت بإسقاط الدين في العين.
وأما الماشية والثمار، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده الخراص
والسعاة فخرصوا على الناس وأخذوا منهم زكاة مواشيهم، ولم يسألوا هل
عليهم دين أم لا؟. وكذلك لا يسقط الدين زكاة الفطر عند أشهب، أي وهو
334

الراجح، ويسقطها عند عبد الوهاب. ثم انتقل يتكلم على تعلق الزكاة
بصاحب الدين قال: (ولا زكاة عليه) أي على من له مال (في دين) أصله
عين عنده أو عرض تجارة (حتى يقبضه) يريد بالدين دين القرض ودين
البيع إذا كان محتكرا، مثال ذلك أن يكون عنده مال فسلفه لرجل أو
يشتري به سلعة ثم يبيعها بدين. (وإن أقام) الدين (أعواما) عند المدين
(فإنما يزكيه) ربه (لعام واحد) لما مضى من السنين (بعد قبضه) إذا
كان نصابا أو مضافا إلى مال عنده قد جمعه وإياه الحول فيكمل به النصاب.
وظاهر قول المصنف إنما يزكيه لعام واحد الخ، وإن كان تأخيره فرارا من
الزكاة والذي قاله ابن القاسم: إن تركه فرارا من الزكاة زكى ما مضى من
السنين، وإنما قيدنا قوله في دين بقولنا: أصله عين أو عرض تجارة احترازا
مما إذا لم يكن كذلك بأن كان من ميراث مثلا، فإنه يستقبل به كما
سيصرح ه، وقيدنا دين البيع بما إذا كان محتكرا احترازا مما إذا كان مديرا، فإن
حكم دينه حكم عروضه يقوم. (وا) نعني عرض تجارة الاحتكار
فحكمه حكم الدين إذا كان أصله عينا، فإنه إنما يزكى لعام واحد، وإن أقام
أعواما كثيرة (حتى يبيعه) وهذا مكرر مع قوله قبل، فإذا بعتها بعد
حول الخ، ولعله إنما كرره ليرتب عليه قوله (وإن كان الدين أو العرض
من ميراث) أي أتى له من ميراث لم يقبضه إلا بعد أعوام، أو كان العرض
الذي باعه من ميراث أي أتى له عرض من ميراث، ثم باعه بثمن ولم يقبض
335

ذلك الثمن إلا بعد أعوام، أو كان الدين من هبة أو صدقة بيد واهبها أو
متصدقها، أو صداقا بيد زوج أو خلع بيد دافعه، أو أرش جناية
بيد جانيه أو وكيله فلا زكاة فيه إلا بعد حول من قبضه، ولو أخره فرارا ولو بقيت
العطية بيد معطيها قبل القبول والقبض سنين فلا زكاة فيها لما مضى من
الأعوام على واحد منهما، لا على المعطى بالفتح لعدم القبض ولا على المعطي بالكسر
عند سحنون، لأنه بقبول المعطى بالفتح تبين أنها على ملكه من يوم الصدقة
ولذا تكون له الغلة من يوم العطية. (فليستقبل حولا بما يقبض منه) يعني
من الدين أو من ثمن القرض سواء تركه فرارا من الزكاة أم لا. (وعلى الأصاغر
الزكاة في أموالهم في العين والحرث والماشية) لما في الموطأ عن عبد الرحمن بن
القاسم عن أبيه أنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها تليني أنا وأخي يتيمين في
حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة. وفيه عن عمر رضي الله عنه:
اتجروا في أموال ليتامى لئلا تأكلها الزكاة. ومثل هذا لا يقال من قبل
الرأي، ولا يخرج ولي الأيتام الزكاة عنهم إلا بعد أن يرفع الامر للامام أو
القاضي، وحاصل فقه المسألة أن العبرة بمذهب الوصي في الوجود وعدمه لان
التصرف منوط به لا بمذهب أبي الطفل لموته وانتقال المال عنه، ولا بمذهب
الطفل لأنه غير مخاطب بها، فلا يزكيها الوصي إن كان مذهبه سقوطها عن
الطفل، وإلا أخرجها إن لم يكن حاكم أو كان مالكيا فقط، أو مالكيا
وحنفيا وخفي أمر الصبي عليه (وإلا رفع للمالكي) لعل الصواب ولا رفع
للمالكي، فإن لم يكن إلا حنفي أخرجها الوصي المالكي إن خفي أمر الصبي
على الحنفي، وإلا ترك. ومثل الأصاغر في وجوب الزكاة في أموالهم المجانين.
336

وقوله: (وزكاة الفطر) روي بالرفع مبتدأ لخبر محذوف أي وعليهم زكاة
الفطر وبالجر عطفا على ما قبله، وفي الجر ركة، إذ يصير تقديره حينئذ: وعلى
الأصاغر الزكاة في زكاة الفطر إلا أن يقال: يغتفر في التابع ما لا يغتفر
في المتبوع (ولا زكاة على بد) قن (ولا على من فيه بقية رق) كالمدبر
والمكاتب والمعتق بعضه، زاد في المدونة ولا على ساداتهم عنهم. أما عدم
ا على العبد فلقوله تعالى * (عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) * (النحل: 75) أي لا يملك
ملكا تاما. وأما عدم وجوبها على السيد فلان المال بيد غيره والإشارة
(في) قوله: (ذلك كله) عائدة على جميع ما تقدم من العين والحرث والماشية
وزكاة الفطر (فإذا أعتق) العبد أو من فيه بقية رق (فليأتنف) أي
يستأنف (حولا) أي عاما (من يومئذ) أي من يوم عتقه (بما يملك)
وروي بما ملك (من ماله) إن كان مما يشترط فيه الحول وهو العين
والماشية، وإن كان مما لا يشترط فيه الحول وهو الحبوب والثمار وعتق قبل
الطيب وجبت عليه الزكاة، وأما إن عتق بعد الطيب فلا زكاة عليه. (ولا زكاة على أحد في عبده وخادمه) قال ابن عمر: العبد تارة يطلق على الذكر
دون الأنثى وهو ما ذكر هنا، وكذا قوله وعلى العبد في الزنى خمسون جلدة
ويطلق على الذكر والأنثى وهو قوله قبل هذا: ولا زكاة على عبد. (و)
كذا لا زكاة على أحد (في فرسه وداره ولا) في (ما يتخذ للقنية من
337

الرباع والعروض) ولا يخلو من تكرار مع قوله قبل: ولا زكاة في العروض.
قال بعضهم: كرره إشارة لحديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس على
المسلم في عبده ولا فرسه صدقة. (ولا فيما يتخذ للباس) للنساء ولو كان
ملكا لرجل (من الحلي) بفتح الحاء وسكون اللام واحد حلي بضم الحاء
وكسر اللام كثدي، وظاهر كلامه أن الحلي إذا كان متخذا للكراء تجب
فيه الزكاة، وظاهر المدونة عدم الزكاة، وهو المعتمد. وأما الحلي المتخذ بنية
التجارة فتجب زكاته بإجماع سواء كان لرجل أو امرأة، ويزكيه لعام من
حين نوى به التجارة أي يزكي وزنه كل عام إذا كان فيه نصاب أو عنده
من الذهب والفضة ما يكمل النصاب، وكذا تجب الزكاة فيما كان متخذا
للعاقبة كان لرجل أو امرأة (ومن ورث عرضا أو وهب له أو رفع من
أرضه زرعا فزكاه فلا زكاة عليه في شئ من ذلك حتى يباع ويستقبل به
حولا من يوم يقبض ثمنه بما يقبض منه) استفيد من قوله قبل أو
العرض من ميراث الخ. وما ذكره يسمى مسألة زكاة الفوائد أي ما عدا
قوله ومن رفع من أرضه زرعا. والفائدة ما تجدد من المال من غير أصل
كالموروث والموهوب، أو تجدد عن مال غير مزكى كثمن عرض
القنية. وظاهر قوله: حتى يباع، سواء بيع بالنقد أو إلى أجل، وظاهره أيضا
تركه فرارا من الزكاة أم لا. وقوله: أو رفع من أرضه زرعا خرج مخرج
338

الغالب، إذ الحكم كذلك إذا رفعه من غير أرضه كما إذا استأجر أرضا
فزرعها، فالحكم فيهما سواء، وكذا قوله: فزكاة، أي الزرع خرج مخرج
الغالب أيضا، فإن حكمه كذلك إذا لم يزكه، وقوله: بما يقبض منه بدل من
به، أي يستقبل بما يقبض من ثمنه، أي بما يقبضه، وقوله: منه، بيان لما. ثم
شرع يتكلم على المعدن فقال: (وفيما يخرج من المعدن) بفتح الميم وكسر
الدال من عدن بفتح الدال في الماضي وكسرها في المستقبل عدونا إذا أقام،
ومنه جنة عدن أي إقامة. (من ذهب أو فضة) بيان لما يخرج (الزكاة)
ظاهره ولو كان ندرة بفتح النون وسكون المهملة، وهو ما يوجد من ذهب
أو فضة بغير عمل أو عمل يسير، والمشهور أن فيها الخمس، ويدفع ذلك
الخمس للامام إن كان عدلا وإلا فرق على فقراء المسلمين، ولا زكاة في معدن
غير الذهب والفضة من معادن الرصاص والنحاس والحديد والزرنيخ (إذا
بلغ) الخارج من معدن الذهب (وزن عشرين دينارا أو) بلغ الخارج
من معدن الفضة وزن (خمسة أواق فضة) إثبات التاء لغير المؤنث
(ف‍) - حينئذ يكون (في ذلك) الخارج (ربع العشر) لا الخمس لعموم
قوله صلى الله عليه وسلم وليس فيما دون خمس أواق صدقة أي بطريق المفهوم، فإن
مفهومه أنه إذا كان خمس أواق فيها الزكاة وهو شامل للمعدن: وظاهر
قوله (يوم خروجه) أي يوم خلاصه أنه لا يشترط فيه الحول، قال الأقفهسي:
يريد الشيخ أن الحول ليس بشرط، ويريد بعد تصفيته، لان الوجوب
339

لا يتعلق به إلا بعد التصفية وهو أحد قولين المشهور منهما ما حمل عليه
الأقفهسي الرسالة بقوله: يريد بعد تصفيته، وظاهرها أن الوجوب يتعلق
بإخراجه، ولا يتوقف على التصفية، وإنما يتوقف عليها الاخراج للفقراء.
(وكذلك فيما يخرج) من معدن الذهب والفضة (بعد ذلك) أي بعد
ما خرج منه نصاب إذا كان (متصلا به) أي بالنصاب المخرج أولا (وإن
قل). وهذا الاتصال يحتمل أن يكون في النيل، وأن يكون في العمل، وأن
يكون فيهما معا. فالاحتمالات ثلاثة يرجح أولها قوله: (فإن انقطع نيله) أي
عرقه الذي في المعدن (بيده) أي بعمله بأن تبعه حتى انقضى فأطلق
اليد هنا على العمل، (وابتدأ) آخر (غيره لم يخرج شيئا حتى يبلغ) الخارج
بعد النصاب الذي خرج أولا (ما فيه الزكاة) فإن لم يبلغ نصابا فلا زكاة فيه. ثم
انتقل يتكلم على الجزية فقال: (وتؤخذ الجزية من رجال أهل الذمة والأحرار
البالغين ولا تؤخذ من نسائهم ولا) من (صبيانهم ولا) من (عبيدهم) عرفها
ابن رشد بقوله: ما يؤخذ من أهل الكفر جزاء على تأمينهم وحقن دمائهم مع
إقرارهم على الكفر، وهي مشتقة من الجزاء وهو المقابلة، لأنهم قابلوا الأمان
بما أعطوه من المال، فقابلناهم بالأمان وقابلونا بالمال، وإنما لم تؤخذ من هؤلاء
الثلاثة أعني النساء والصبيان والعبيد لان الله تعالى إنما أوجبها على من قاتل،
وبحسب الغالب لا يكون إلا الرجال دون النساء والصبيان، وأما العبيد فشأنهم
340

الشغل بخدمة ملاكهم فليسوا مقاتلين بحسب الشأن، ويؤخذ من كلام
المصنف أن لاخذ الجزية أربعة شروط: الذكورية والبلوغ والحرية والكفر،
ويشترط أيضا أن يكون مخالطا لأهل دينه، فلا تؤخذ من المنعزل بدير أو
صومعة، ويشترط في الكافر أن يقر على كفره فالمرتد لا تؤخذ منه إذ
لا يقر على كفره، وبقي شرطان: العقل والقدرة على أدائها، فلا تؤخذ من
المجنون ولا من الفقير الذي لا شئ عنده. (وتؤخذ من المجوس) جمع مجوسي
منسوب إلى مجوسة نحلة، والنحلة الدعوى كما في الصحاح والقاموس والمصباح
أي ملة مدعاة وهي بالنون والحاء لا بالميم (و) تؤخذ (من نصارى العرب)
قال عبد الوهاب: العرب والعجم وبنو تغلب وغيرهم في ذلك سواء، قصد
بذلك التعميم ردا لمن خالف، فقد قيل: إنها لا تؤخذ من العرب وليس إلا
القتل أو الاسلام، وقال الثوري: إنها لا تؤخذ من نصارى بني تغلب فرقة من
العرب النصرانية ليست متأصلة فيهم، لان المتأصل فيها من أنزل عليه الإنجيل.
فرده بقوله: وبنو تغلب وغيرهم في ذلك سواء لقوله تعالى * (قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله) * (التوبة: 29) الآية ولأن الشرك قد شملهم. ثم بين حقيقة الجزية فقال: (والجزية على أهل
الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعون درهما) هذا في حق أهل
العنوة، وهم قوم من الكفار فتحت بلادهم قهرا وغلبة، وكذا أهل الصلح،
وهم قوم من الكفار حموا بلادهم حتى صالحوا على شئ يعطونه من
أموالهم إن أطلق ولم يقدر عليهم شئ معين، أما إن قدر عليهم شئ معين
أخذ منهم قليلا كان أو كثيرا (و) إذا أخذت منهم فإنه (يخفف عن
341

الفقير) بقدر ما يراه الامام، فإن لم يكن له قدرة على شئ سقطت عنه. وقال
ابن حبيب: لا تؤخذ من الفقير، واستحسنه اللخمي. (وتؤخذ ممن تجر منهم)
بفتح الجيم في الماضي وضمها في المضارع، أي من أهل الذمة رجالا كانوا
أو نساء أحرارا كانوا أو عبيدا بالغين كانوا أو صبيانا. (من أفق) بضم
الهمزة والفاء وسكونها (إلى أفق) أي من محل إلى غير محل جزيته أي
من إقليم إلى إقليم آخر، والأقاليم خمسة مصر والشام والعراق والأندلس
والمغرب (عشر ثمن ما يبيعونه) عند ابن القاسم، وقال ابن حبيب: عشر
ما يدخلون به كالحربيين، فعلى قول ابن القاسم لو أرادوا الرجوع قبل أن
يبيعوا أو يشتروا لا يجب عليهم، وهو ظاهر كلام الشيخ. وعلى قول ابن
حبيب يجب عليهم، ومنشأ الخلاف هل المأخوذ منهم لحق الانتفاع أو لحق
الوصول إلى القط. ومفهوم كلامه أنه لا يؤخذ منهم العشر إذا تجروا في
بلادهم وهو كذلك. ثم بالغ على أخذ عشر الثمن فقال: (وإن اختلفوا) أي
ترددوا (في السنة مرارا) وقال الامامان أبو حنيفة والشافعي: لا يؤخذ منهم
في السنة إلا مرة واحدة، لنا ما فعل عمر رضي الله عنه. ولتكرر الانتفاع
والحكم يتكرر بتكرر سببه. (وإن حملوا) أي أهل الذمة (الطعام خاصة)
قيل المراد به الحنطة والزيت خاصة. وقيل: المراد به كل ما يقتات به أو يجري
مجراه فيدخل في ذلك الحبوب والقطاني والزيتون والادهان وما في معنى
ذلك المذكور من الزيوت والادهان أي من بقية الادم ومن المصلح
342

كجبن وعسل وملح. وأما غير الطعام كالعروض فيؤخذ من ثمنه جميع العشر.
(ويؤخذ من تجار الحربيين العشر) أي عشر ما قدموا به باعوا أو لم
يبيعوا وسواء باعوا في بلد واحد أو في جميع بلاد الاسلام، وهو قول ابن
القاسم، وتقدم مذهبه في أهل الذمة أنه لا يؤخذ منهم حتى يبيعوا، والفرق
بينهما أن أهل الحرب قد حصل لهم الأمان ما داموا في أرض الاسلام، وجميع بلاد الاسلام
كالبلد الواحدة. وأما أهل الذمة فإنما يؤخذ منهم
لانتفاعهم، وهم غير ممنوعين من بلادنا، فلما تكرر نفعهم تكرر الاخذ منهم.
وظاهر كلام الشيخ أنه لا ينقص من العشر وإن رآه الامام، وهو قول
مالك وأشهب، وحاصله أنه إن كان قبل النزول يجوز أن يتفق معهم على
أكثر من العشر، وإن كان بعد النزول لم يؤخذ منهم إلا العشر. وقال ابن
القاسم: يؤخذ منهم بحسب ما يراه الامام. وصرح مرزوق بمشهوريته.
وكذلك لا يزاد على العشر شئ. هذا كله إذا دخلوا بأمان مطلق، وإما إذا
شارطوا على أكثر من ذلك عند عقد الأمان فأشار إليه بقوله: (إلا أن
ينزلوا على أكثر من ذلك) أي من العشر فيجوز أخذ الأكثر الذي
وقع عليه الشرط، قال ابن ناجي: ولا يمكنون من بيع خمر لمسلم باتفاق،
والمشهور تمكينهم لغيره. ونص عبارة ابن عمر: إذا قدموا بالخمر والخنزير
فإن كان هناك أهل الذمة الذين يشترون منهم ذلك تركوا، ويؤخذ منهم
العشر بعد البيع، وإن لم يكن هناك من يبتاع ذلك منهم ردوا به ولم يتركوا
يدخلون به. (وفي الركاز وهو) لغة على ما قال صاحب العين يقال لما يوضع في
الأرض، ولما يخرج من المعدن من قطع الذهب والورق. واصطلاحا (دفن
343

الجاهلية) زاد في الواضحة خاصة والكنز يقع على دفن الجاهلية ودفن الاسلام، والدفن
بكسر الدال المهملة بمعنى المدفون كالذبح بمعنى المذبوح.
واختلف هل هو خاص بجنس النقدين أو عام فيه وفي غيره كاللؤلؤ والنحاس
والرصاص، قولان لمالك اقتصر صاحب المختصر على الثاني، وبالغ فيه على أنه
يطلق عليه ركاز. ولو شك أهو جاهلي أم لا إذا التبست الامارات أو لم
توجد لان الغالب أن ذلك من فعلهم. وقال الفاكهاني: المعروف من المذهب
الذي رجع إليه مالك، وأخبر به ابن القاسم تخصيصه بالنقدين، وحكمه أنه
يجب فيه (الخمس على من أصابه) ظاهره ولو كان دون النصاب، وهو
كذلك على المشهور لان قوله عليه الصلاة والسلام: وفي الركاز الخمس عام
في الكثير والقليل. وظاهر كلامه أيضا أنه لا يشترط في واجده الاسلام
والحرية وهو كذلك، وظاهره أيضا أن فيه الخمس ولو وجد بنفقة كثيرة
أو عمل في تخليصه، وليس كذلك، وإنما فيه الزكاة على ما في المدونة والموطأ،
وظاهره أيضا أنه لمن وجده مطلقا وقرره ابن عمر بذلك وليس كذلك، بل
فيه تفصيل، وهو إن وجده في الفيافي أي موات أرض الاسلام فهو لواجده،
وإن وجده في ملك واحد من لناس فهو له اتفاقا. هذا حكم الركاز. وأما ما لفظه
البحر أي طرحه من جوفه إلى شاطئه كالعنبر واللؤلؤ وسائر الحلية التي
يلفظها فهو لمن وجده ولا يخمس. قال الفاكهاني: إلا أن يتقدم ملك
معصوم مسلم أو ذمي فقولان: سمع ابن القاسم من طرح متاعه خوف
غرقه أخذه ممن غاص عليه، وكذلك ما ترك بمضيعة عجزا عنه ففيه
قولان.
344

باب في زكاة الماشية (باب في) بيان (زكاة الماشية) من حيث حكمها ونصابها وما تزكى به،
وإنما أفردها بباب لأنها كذلك وردت في الحديث، أي مفردة، ولأن العمل
فيها مختلف أي من حيث إنه لا ضابط معين بعشر أو نصفه أو ربع عشر.
وبدأ بحكمها فقال: (وزكاة الإبل والبقر والغنم فريضة) وقوة كلامه
يقتضي أن زكاة الماشية محصورة فيما ذكر، وهو كذلك عند معاشر المالكية
لقوله عليه الصلاة والسلام: ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة وظاهر
كلام المصنف أن لماشية تجب فيها الزكاة مطلقا معلوفة أو عاملة وهو
المذهب، وعن أبي حنيفة والشافعي لا زكاة في العاملة لقوله عليه الصلاة والسلام
في الغنم السائمة الزكاة وبدأ بالكلام على بيان فروض زكاة الإبل اقتداء
بالحديث إذ فعل ذلك صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقة المكتوب لعمرو بن حزم.
وفروض زكاتها إحدى عشرة فريضة: أربعة منها المأخوذ فيها من غير
جنسها وهو الغنم، وسبعة المأخوذ فيها من جنسها. وقد أشار إلى أولى الأربعة
بقوله: (ولا زكاة من الإبل في أقل من خمس ذود) بذال معجمة في أوله
ودال مهملة في آخره (وهي خمس من الإبل) فإذا بلغت هذا العدد (ف‍)
الواجب (فيها شاة جذعة أو ثنية) وهما ما أوفى سنة ودخل في الثانية إلا
أن الثنية ما أوفت سنة ودخلت في الثانية دخولا بينا والتاء فيهما
للوحدة لا للتأنيث، إذ لا فرق بين الذكر والأنثى في الاجزاء (من جل غنم
345

أهل ذلك البلد من ضأن أو معز) فالحكم للغالب فإن كان الغالب الضأن
أخذت منه، وإن كان المعز أخذت منه، ولو دفع رب المال بعيرا بدلا عن
الشاة الواجبة عليه أجزأه لأنه مواساة من جنس المال بأكثر مما وجب
عليه. وغاية أخذ الشاة (إلى تسع) فالخمس فرض والأربعة وقص، وهي
أقل أوقاص الإبل. (ثم في العشر شاتان إلى أربعة عشر ثم في خمسة عشر
ثلاث شياه إلى تسعة عشر، فإذا كانت عشرون فأربع شياه إلى أربع
وعشرين) فالوقص في كل واحد من هذه الفروض الثلاثة أربعة أيضا
ثم شرع في السبعة الباقية فقال: (ثم في خمس وعشرين بنت مخاض
وهي بنت سنتين) ظاهره أنها كملت سنتين والمنصوص لغيره أنها ما أوفت
سنة ودخلت في الثانية وسميت بنت مخاض لان أمها ماخض أي حامل
لان الإبل تحمل سنة وتربي سنة، (فإن لم تكن فيها) بنت مخاض أو
وجدت لكن معيبة (ف‍) - المأخوذ حينئذ على سبيل الوجوب (ابن لبون)
وهو ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة وقوله (ذكر) تأكيد لستفادة
الذكورية من قوله ابن فإن عدما أي بنت مخاض وابن لبون كلفه الساعي
بنت مخاض، أي أحب أو كره، فجعل حكم عدم الصنفين كحكم وجودهما
346

فإن أتاه في تلك الحالة بابن لبون فذلك إلى الساعي بحسب ما يراه، فإن
رأى أخذه جاز وإلا لزمه بنت مخاض، وغاية أخذ بنت مخاض أو ابن لبون
(إلى خمس وثلاثين) فالوقص في هذه الفريضة عشرة (ثم في ست
وثلاثين بنت لبون وهي بنت ثلاث سنين) يس مراده ما أوفت ثلاث
سنين، بل مراده ما أوفت سنتين ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لان
أمها ذات لبن وغاية أخذها (إلى خمس وأربعين) فالوقص في هذه
الفريضة تسعة (ثم في ست وأربعين حقة) بكسر الحاء المهملة (وهي التي
يصلح على ظهرها الحمل ويطرقها الفحل) فلو دفع عنها بنتي لبون لم يجزيا
عنها ولو عادلت قيمتهما قيمتها خلافا للشافعي (وهي بنت أربع سنين) مراده
ما أكملت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة وغاية أخذها (إلى ستين)
فالوقص في هذه الفريضة أربعة عشر (ثم) بعد ذلك يتغير الواجب
ف‍ (- في إحدى وستين جذعة وهي بنت خمس سنين) مراده أيضا ما
أكملت أربعة ودخلت في الخامسة سميت بذلك لأنها تجذع سنها أي تسقطه
وهي آخر أسنان ما يؤخذ في الزكاة من الإبل وغاية أخذها (إلى خمس
وسبعين) فالوقص أربعة عشر (ثم في ست وسبعين بنتا لبون إلى تسعين)
347

فالوقص أربعة عشر أيضا (ثم في إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين
ومائة) فالوقص تسعة وعشرون فتلخص من هذا أن أوقاص الإبل
على خمس مراتب (فما زاد على ذلك) أي على المائة وعشرين (ف‍) - الواجب
(في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون) ثم أشار إلى زكاة البقر
ونصابها ثلاثون وأربعون وما زاد وما يزكى به بقوله (ولا زكاة من البقر
في أقل من ثلاثين) بقرة (فإذا بلغتها) أي الثلاثين (ففيها تبيع) سمي
بذلك لأنه يتبع أمه (عجل جذع) ظاهره اشتراط الذكر وليس كذلك،
بل المشهور عدم الاشتراط، وما ذكره في سنه من أنه ما (قد أوفى سنتين)
هو الصحيح (ثم كذلك) يستمر أخذ التبيع (حتى تبلغ أربعين) بقرة
(فإذا بلغتها) أي الأربعين يتغير الواجب و (يكون فيها مسنة) بضم
الميم وكسر السين المهملة ثم النون المشددة فعلى هذا الغاية غير داخلة في
المغيا وقوله (ولا تؤخذ إلا الأنثى) زيادة بيان، فإن فقدت المسنة من البقر
أجبر ربها على الاتيان بها إلا أن يعطي أفضل منها وهي بنت خمس سنين
(وهي) أي المسنة (بنت أربع سنين) ظاهر كلامه ما أوفت أربع
سنين وهو قول ابن حبيب وعبد الوهاب، ومنهم من أول كلامه بأن
348

مراده ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وهو لابن حبيب أيضا
فيكون له قولان. ومعنى قوله (وهي ثنية) زالت ثناياها وهما السنتان
اللتان من المقدم فوق وتحت والتي بجوارهما فوق وتحت من أي ناحية
يقال لها رباعية. والنصاب الثالث وما يزكى به أشار إليه بقوله: (فما زاد)
أي على الأربعين بقرة (ف‍) - الواجب (في كل أربعين) بقرة (مسنة وفي
كل ثلاثين) بقرة (تبيع) فإن زادت خمسة على الأربعين فلا شئ فيها،
وإذا بلغت خمسين فلا شئ في العشرة أيضا عندنا فإذا بلغت ستين
ففيهما تبيعان، وإن بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وإن بلغت ثمانين ففيها
مسنتان، فما زاد يجري عليه فهو ضابط له. ثم ثلث بالكلام على زكاة الغنم
وفروضها أربعة وقد أشار إلى أولها وما تزكى به بقوله: (ولا زكاة في الغنم
حتى تبلغ أربعين شاة فإذا بلغتها) أي الأربعين شاة (ف‍) - الواجب (فيها)
حينئذ (شاة جذعة أو ثنية) ولو معزا، والشاة تطلق على الذكر والأنثى
والضأن والمعز، فقوله جذعة أي سنها سن الجذعة أو الثنية لا خصوص الأنثى،
قاله ابن عمر، وقد تقدم بيانهما في زكاة نصاب الإبل، ويستمر أخذ الشاة
(إلى عشرين ومائة) فالوقص ثمانون. ثم أشار إلى الفريضة الثانية وغايتها
وما تزكى به بقوله (فإذا بلغت) أي كملت الغنم عند المزكي (إحدى
وعشرين) شاة (ومائة) أي مائة شاة (ف‍) - الواجب (فيها) حينئذ
349

(شاتان) ويستمر ذلك (إلى مائتي شاة) فالوقص هنا تسعة وسبعون.
ثم أشار إلى الفريضة الثالثة وغايتها وما تزكى به فقال (فإذا زادت) على
المائتين (واحدة) فأكثر (ف‍) - الواجب (فيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة).
ثم أشار إلى الفريضة الرابعة بقوله: (فإن زاد) عدد الغنم على ثلاثمائة من
المئين (ف‍) - الواجب (في كل مائة شاة) قال في الجلاب فما زاد بعد ذلك
يعني بعد الثلاثمائة ففي كل مائة شاة وفي ثلاثمائة وتسعة وتسعين ثلاث شياه وفي
الأربعمائة أربع شياه، وفي الخمسمائة خمس شياه، ثم العبرة فيما بعد ذلك من
المئات كذلك، أي في كل مائة شاة ثم شرع يبين حكم ما بين الفريضتين، قال:
(ولا زكاة في الأوقاص) جمع وقص بتسكين القاف عند الجمهور على ما قاله
سند. وقال الأقفهسي: وقص بفتح القاف ومن رواه بالسكون، فهو خطأ
يرده ما في المصباح حيث قال الوقص بفتحتين وقد تسكن القاف. (وهو)
لغة من وقص العنق الذي هو القصر لقصوره عن النصاب. واصطلاحا
هو (ما بين الفريضتين من كل الانعام) كان الأنسب أن يقول وهي أي
الأوقاص، وأجاب التتائي بما محصله أن هذا تفسير للمفرد لا للجمع (ويجمع
الضأن) بالهمز وعدمه واحده ضائن، ويقال أيضا في الجمع ضئين بفتح
الضاد وكسرها، والأنثى ضائنة، وجمعها ضوائن، وهي ذات الصوف (والمعز)
وهي ذات الشعر (في الزكاة) إجماعا على ما نقل بعضهم، أي وما نقل عن
350

ابن لبابة من أنها لا تجمع فشاذ لم يقل به غيره، كذا قاله في التحقيق، لان
اسم الجنس جمعهما في قوله عليه الصلاة والسلام ففي كل أربعين من الغنم
شاة (و). كذلك تجمع في الزكاة (الجواميس والبقر) اتفاقا لان اسم
الجنس جمعهما في قوله عليه الصلاة والسلام: ففي كل ثلاثين من البقر تبيع
(و) كذلك تجمع في الزكاة اتفاقا. (البخت) وهي إبل خراسان ضخمة
مائلة إلى القصر لها سنامان (والعراب) وهي إبل العرب المعهودة، إذ
لفظ الإبل صادق عليهما في قوله عليه الصلاة والسلام: في كل خمس من
الإبل شاة. (وكل خليطين فإنهما يترادان بينهما بالسوية) على عدد الماشية
فالذي توجبه الخلطة المجتمع فيها الشروط الآتية أن يكون المأخوذ من
المالكين كالمأخوذ من المالك الواحد في القدر والسن والصنف. مثال الأول
ثلاثة لكل واحد أربعون شاة من الغنم، فإن الواجب عليهم شاة واحدة على
كل واحد ثلثها، ومثال الثاني اثنان لكل واحد ستة وثلاثون من الإبل
فإن الواجب عليهما جذعة على كل واحد نصفها، ومثال الثالث اثنان لواحد
ثمانون من الضأن وللآخر أربعون من المعز، فإن الواجب شاة من الضأن
على صاحب الثمانين ثلثاها وعلى الآخر الثلث وفائدة الخلطة التخفيف كما
إذا كان لكل أربعون من الغنم فإن على كل واحد حالة الانفراد شاة
وعليهما معا حالة الاجتماع شاة واحدة وقد تفيد التثقيل كإذا كان لكل
مائة وعشرون من الغنم فإن كان على كل واحد منهما حالة الانفراد شاة واحدة
وعند الاجتماع عليهما ثلاث شياه، وقد لا تفيدهما كما إذا كان لكل واحد مائة من الغنم، فإن على كل واحد حالة الانفراد واحدة، وكذا حالة الاجتماع.
351

ويشترط في كون المالكين كالمالك الواحد شروط منها: أن يكون لكل
واحد نصاب فأكثر حال حوله، وإلى ذلك أشار بقوله: (ولا زكاة على من
لم تبلغ حصته عدد الزكاة) لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: ليس فيما دون
خمس ذود صدقة ومنها أن يكونا مخاطبين بالزكاة احترازا من أن يكونا
عبدين أو كافرين، ومنها أن يتحد الفحل الراعي والمراح والمرعى والدلو
والمبيت، وأن تكون الخلطة للارتفاق لا فرارا من الزكاة. وإلى هذا أشار
بقوله: (ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية) الزكاة في
(الصدقة) ولو قدم هذا على قوله: وكل خليطين الخ لكان أولى لأنه وقع
في الحديث مرتبا كذلك. (وذلك) أي النهي عن التفريق والجمع (إذا
قرب الحول) قال ابن شاس: هذا إذا كان ما وجدا عليه من افتراق أو
اجتماع منقصا من الزكاة، فإن لم يكن منقصا فلا يتهمان، بل يزكى المال
على ما يوجد عليه، وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: (فإذا كان) التفريق أو
الاجتماع عند قرب الحول (ينقص أداؤهما بافتراقهما أو باجتماعهما أخذا
بما كانا عليه قبل ذلك) الافتراق أو الاجتماع. مثال التفريق خوف الزيادة
في الصدقة رجلان لكل واحد مائة شاة وشاة فيفرقان في آخر الحول
فتجب عليهما شاتان، وقد كان الواجب عليهما ثلاثا. ومثال الجمع لذلك
ثلاث رجال لكل واحد منهم أربعون فيجمعونها في آخر الحول لتجب
352

عليهم شاة واحدة، وقد كان الواجب عليهم ثلاث شياه. ثم شرع يبين ما لا
يؤخذ في الزكاة من الانعام فقال: (ولا تؤخذ في الصدقة السخلة) وهي
الصغيرة من الغنم ضأنا كانت أو معزا ذكرا كانت أو أنثى. (و) مع ذلك
(تعد على أرباب الغنم) كان في الأصل نصاب أم لا. (و) كذلك (لا)
تؤخذ (العجاجيل في) صدقة (البقر) جمع عجل وهو ما كان دون السن
الواجب الذي هو التبيع. (و) كذلك (لا) تؤخذ (الفصلان في) صدقة
(الإبل) جمع فصيل وهو ما دون بنت مخاض (و) مع كونها أي الفصلان
والعجاجيل لا تؤخذ في الصدقة (تعد عليهم) أي على أربابها لتؤخذ زكاتها.
(و) كذلك (لا) يؤخذ في الصدقة (تيس) وهو ذكر المعز الصغير، ولا
يخفى أنه يستغنى عنه بقوله: ولا يؤخذ في الصدقة السخلة. (و) كذلك
(لا) يؤخذ في الصدقة (هرمة) وهي الكبيرة الهزيلة (و) كذلك (لا)
تؤخذ في الصدقة (الماخض) وهي الحامل التي ضربها الطلق بفتح الراء
مخففة أي تعلق بها الطلق، قاله الفاكهاني، وهو موافق للمصباح، فإنه قال:
مخضت المرأة وكل حامل من باب تعب دنا ولادها وأخذها الطلق، وإنما لم
تؤخذ لأنها من خيار أموال الناس. (و) كذلك (لا) تؤخذ في الصدقة
(شاة العلف) وهي المعدة للتسمين للاكل لا للنسل ذكرا كانت أو أنثى
لأنها من خيار أموال الناس. (و) كذلك (لا) تؤخذ في الصدقة (التي تربي
353

ولدها) وتسمى الربى بضم الراء وبالموحدة المشددة مقصورة (ولا خيار
أموال الناس) يريد ولا شرارها، وحاصله أنه لا تؤخذ في الصدقة خيار الأموال
لتعلق حق أرباب الأموال بها، ولا شرارها لتعلق حق الفقراء بغيرها، فإن
أعطى المالك الخيار طيبة بها نفسه جاز له ذلك، وإن أعطى الشرار فلا
تجزئ، وإن كانت الأموال كلها خيارا أو شرارا كلف الوسط، فإن امتنع
أجبر على ذلك. (ولا يؤخذ في ذلك) أي الصدقة (عرض ولا ثمن) أي
عين بدل ما وجب عليه من حب أو تمر أو ماشية (فإن أجبره المصدق)
بتخفيف الصاد وكسر الدال، وهو الساعي (على أخذ الثمن في الانعام وغيرها)
كالحبوب (أجزأه) مفهوم الشرط لو فعل ذلك اختيارا لم يجزه وهو
كذلك على المشهور فيهما أي في الطوع والاكراه. ونص ابن الحاجب
وإخراج القيمة طوعا لا يجزئ وكرها يجزئ على المشهور فيهما. وقول
الشيخ (إن شاء الله) إشارة إلى قوة الخلاف. وقوله: (ولا يسقط
الدين زكاة حب ولا تمر ولا ماشية) تقدم في الباب الذي قبل هذا ولم يظهر
لتكراره. معنى تتميم مهم مشتمل على عدة مسائل: الأولى: أن يخرجها
أي الصدقة بنية الزكاة، فإن أخرجها بغير نية الزكاة فلا تجزئ إلا أن يكون
مكرها أي ونية المكره بالكسر كافية. الثانية: أن لا ينقلها من الموضع
الذي وجبت فيه إلا أن لا يكون فيه من يعطيها له فينقلها إلى أقرب
354

المواضع إليه. الثالثة: أن يخرجها وقت وجوبها فإن أخرها عنه أجزأ وارتكب
محرما. الرابعة: أن يصرفها في مصارفها الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في قوله
* (إنما الصدقات للفقراء) * (التوبة: 60) إلى آخر الآية. ثم انتقل يتكلم على زكاة الفطر فقال:
باب في زكاة الفطر (باب في) بيان (زكاة الفطر) أي في بيان الأحكام المتعلقة بها (وزكاة الفطر
سنة واجبة) أي مؤكدة ما ذكر من أنها سنة واجبة أي مؤكدة نقل الفاكهاني
عن بعض شيوخه أنه المشهور. والظاهر من المذهب الوجوب، وصرح ابن
الحاجب بمشهوريته، واختلف في معنى قوله: (فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقيل معناه
قدرها فيكون مارا على أنها سنة، ولا ينافيه قوله: على كل كبير وعلى الأصاغر،
فإن الشيخ يستعمل على فيما دون الواجب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر
من رمضان على الناس صاع من تمر أو صاع من شعير على كل مسلم حر
أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وقيل معناه أوجبها، وعليه مشى صاحب
المختصر. وقوله: (على كل كبير أو صغير ذكر أو أنثى حر أو عبد) متعلق
بسنة، وقوله: (من المسلمين) بيان لكل كبير وما بعده واعترض ابن عمر
قوله أو عبد بأن ظاهره وجوبها على العبد، ولم يقل به مالك وإنما قال بذلك
أهل الظاهر، ثم أجاب بأن على بمعنى عن، وأوفى كلامه للتنويع لا التخيير، وإنما
تتعلق بمن فضل عن قوته في يومه صاع إن كان وحده أو فضل عن قوته وقوت
عياله يومه صاع إن كان له عيال، فإن لم يقدر على صاع بل على بعضه أخرجه،
والصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم (صاع) بالرفع خبر مبتدأ محذوف
355

تقديره قدرها صاع، وفي رواية صاعا بالنصب مفعول فرض. والصاع المفروض
المخرج (عن كل نفس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم) وهو أربعة أمداد بمده
صلى الله عليه وسلم. (وتؤدى) الصدقة (من جل) أي غالب (عيش أهل ذلك البلد)
أي بلد المزكي سواء كان قوتهم مثل قوته أو أعلى أو أدنى فإن كان قوته
أعلى من قوتهم وأخرج منه أجزأه، وإن كان دون قوتهم وأخرج منه
فإن فعل ذلك شحا، فظاهر كلام ابن الحاجب أن ذلك لا يجزئه اتفاقا. ثم
فسر الجل الذي تؤدى منه بقوله (من بر) وهو الحنطة (أو شعير أو
سلت) الشعير معروف، والسلت نوع منه ليس عليه قشر كالحنطة (أو تمر أو أقط) بفتح الهمزة وكسر القاف ويجوز إسكانها مع فتح الهمزة وكسرها
وهو لبن يابس غير منزوع الزبد (أو زبيب أو دخن) بدال مهملة
مضمومة (أو ذرة) بضم الذال المعجمة وفتح الراء المخففة حب
معروف (أو أرز) بضم الهمزة والراء على أحد لغاته حب معروف،
وإذا أخرج من غير هذه الأنواع التسعة لا يجزئه على المشهور، هذا إذا كانت موجودة
أو بعضها اقتيت أولا. وأما إذا لم توجد لا كلا ولا بعضا واقتيت غيرها
أجزأ. وزاد ابن حبيب عاشرا أشار إليه بقوله (وقيل إن كان العلس) بفتح
العين واللام المخففة وبالسين المهملة (قوت قوم أخرجت منه) الزكاة
(وهو) أي العلس (حب صغير يقرب من خلقة البر) وهو طعام أهل
356

صنعاء. ثم شرع يبين من يلزمه إخراجها عنه فقال: (ويخرج عن العبد
سيده) فإن كان مبعضا بأن أعتق بعضه يخرج السيد عن حصته ويسقط
عن العبد الجزء المعتق منه والعبد المشترك يخرج كل بقدر ما يملك منه (و)
كذا الولد المسلم (الصغير) الذي (لا مال له يخرج عنه والده) مفهومه
أن الكبير لا يخرج عنه، وليس هو على إطلاقه بل فيه تفصيل، وهو إن
كان ذكرا وبلغ صحيحا لا يخرج عنه، وإن بلغ زمنا أخرج عنه. والأنثى
يخرج عنها، وإن بلغت حتى تتزوج. ومفهوم لا مال له أنه لو كان له مال
لا يخرج عنه وهو كذلك، وتقييد الولد بالمسلم احترازا من الكافر فإنه
لا يخرج عنه ولو اقتصر على قوله (ويخرج الرجل) يعني أو غيره (زكاة
الفطر عن كل مسلم تلزمه نفقته) بقرابة أو رق أو نكاح لاغنى عما قبله.
(و) كذلك يخرج زكاة الفطر (عن مكاتبه) على المشهور، وعن مالك
سقوطها عنهما، وقيل: تجب على المكاتب فمقابل المشهور قولان (وإن كان
لا ينفق عليه لأنه عبد له بعد) أي بعد عجزه. (ويستحب إخراجها) أي
زكاة الفطر (إذا طلع الفجر من يوم الفطر) لما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان
يأمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى وتعرض لوقت
الاستحباب، ولم يتعرض لوقت الوجوب، وفيه قولان مشهوران أحدهما: أنها
تجب بغروب الشمس من آخر أيام رمضان والآخر بطلوع فجر يوم
357

العيد، ويجوز إخراجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين ولا تسقط بمضي
زمنها لأنها حق للمساكين ترتب في الذمة ولا يأثم ما دام يوم الفطر باقيا،
فإن أخرها مع القدرة على إخراجها أثم وتدفع لحر مسلم فقير أو مسكين
فلا تدفع لعبد ولو كان فيه شائبة حرية ولا لكافر ولا لغني. (ويستحب
الفطر قبل الغدو إلى المصلى) فيه أي في يوم الفطر على أي شئ، لكن
الأفضل أن يكون على تمر وترا لما صح من فعله عليه الصلاة والسلام
ذلك: (وليس ذلك) أي استحباب الفطر قبل الغدو إلى المصلى
(في) عيد (الأضحى) بل المستحب فيه الامساك حتى يرجع فيأكل
من أضحيته لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك. (ويستحب في العيدين
أن يمضي من طريق ويرجع من أخرى) تكرار مع ما تقدم له في صلاة
العيدين. باب في الحج والعمرة (باب في) بيان حكم (الحج) بفتح الحاء وكسرها الفتح هو
القياس والكسر أكثر سماعا، وكذا اللغتان في الحجة (و) في بيان
(العمرة) وصفتهما وما يتعلق بهما، ولكل واحد منهما معنى لغوي
واصطلاحي. أما الحج لغة فهو قصد الشئ مرة أو فعل الشئ مرة بعد
مرة أو مجرد القصد أقوال مأخوذ من قولك حج فلان فلانا إذا
كرر زيارته نظير قول تعالى * (مثابة للناس) * (البقرة: 125) أي يرجعون إليه كل عام
358

ويكررون زيارته. وأما اصطلاحا فهو عبادة ذات إحرام ووقوف وطواف
وسعي وغير ذلك. وأما العمرة لغة فهي الزيارة، يقال: اعتمر فلان فلانا إذا
زاره، واصطلاحا عبادة ذات إحرام وسعي وطواف. بدأ بحكم الحج (فقال: وحج
بيت الله الحرام الذي ببكة) بالباء لغة في مكة وإضافته إلى الله إضافة تشريف،
ومن شرفه أنه لا يعلوه طير إلا لعلة به، وإذا علاه ذو علة شفى الله علته، وإذا
عم الشتاء ركنا من أركانه عم ذلك البلد الذي يواليه، وإذا عم الشتاء جميع أركانه
عم الشتاء جميع البلاد. (فريضة) بشروط خمسة أشار إلى أحد ها بقوله
(على كل من استطاع إلى ذلك سبيلا) أي إلى بيت الله الحرام، ويحتمل
عوده إلى الحج كما في التتائي وإلى الثاني أشار بقوله: (من المسلمين) ظاهره
أن الاسلام شرط وجوب وهو الذي مشى عليه ابن الحاجب، والذي مشى
عليه صاحب المختصر أنه شرط صحة، فعلى الأول الكفر مانع من وجوبه،
وعلى الثاني مانع من صحته، وإلى الثالث أشار بقوله: (الأحرار) لا خلاف
في كون الحرية شرط وجوب، فالعبد القن ومن فيه شائبة رق لا يجب عليه
لأنه صلى الله عليه وسلم حج بأزواجه ولم يحج بأم ولده، وإذا لم يجب على أم الولد فغيرها
أولى، وإلى الرابع أشار بقوله: (البالغين) ولا يختص اشتراط البلوغ بالحج،
أي فلا ينبغي عده من شروط الحج لأنه لا يعد من شروط الشئ إلا ما
كان خاصا به، وكذلك لا ينبغي عد الاسلام ولا الحرية لأنهما لا يختصان
بالحج، ألا ترى أن الحرية شرط أيضا في الزكاة بقي شرط آخر وهو العقل،
أي فلا يجب الحج على غير العاقل، فالمكلف وما قبله شرطا وجوب، فلو
حج غير لمكلف أو العبد صح حجه ولا يسقط عنه حجة الاسلام، دل على
359

فرضيته الكتاب والسنة والاجماع فمن جحد وجوبه أو شك فيه فهو كافر،
ومن أقر بوجوبه وامتنع من فعله فالله حسبه، أي لا يتعرض له، وإنما يجب
الحج على من اجتمعت فيه الشروط (مرة) واحدة (في عمره) إجماعا.
ولا التفات لمن قال إنه يجب في كل خمسة أعوام. (والسبيل) المذكور
عبارة عن مجموع أربعة أشياء أحدها (الطريق السابلة) أي المأمونة، فإن
خاف على نفسه سقط عنه اتفاقا، وإن خاف على بعض ماله وكان يجحف به
سقط عنه، وإن كان لا يجحف به سقط على أحد القولين (و) ثانيهما (الزاد
المبلغ) أي الموصل (إلى مكة) ظاهر كلامه أنه لا يعتبر إلا ما يوصله فقط
وهو نص اللخمي، وقيده بقوله: إلا أن يعلم أنه لو بقي هناك ضاع وخشي على
نفسه، فيراعي ما يبلغه ويرجع به إلى أقرب المواضع مما يمكنه أن يتمعش
فيه وبيع في زاده داره وغير ذلك، وإن كان يترك ولده وزوجته لا مال لهم
إلا أن يخشى عليهم الضياع. (و) ثالثها (القوة على الوصول إلى مكة إما
راجلا) أي ماشيا (أو راكبا) فالأعمى إذا وجد من يقوده ولم يحصل له
مشقة فادحة فإنه يجب عليه، وقيد المشقة لأنه لا يشترط انتفاؤها جملة وإلا
سقط الحج عن أغلب الناس المستطيعين، إذ لا بد من أصل المشقة ومثل
الأعمى الشيخ الكبير الذي لا يهتدي إلا بقائد فيما ذكر. ورابعها أشار
إليه بقوله (مع صحة البدن) قيل هو داخل في قوله: والقوة على الوصول،
وقال بعضهم: هو شرط رابع فالمريض لا يجب عليه الحج ولو وجد ما يركبه
360

. ثم اعلم أن للحج فرائض وسننا وفضائل ولم يبينها الشيخ وإنما ذكر صفة
الحج على الترتيب الواقع المشتمل عليها. ونحن ننبه عليها إن شاء الله تعالى
فنقول: من الفرائض الاحرام وله ميقاتان زماني ومكاني، والأول لم يذكره
الشيخ وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامه على المشهور وقيل العشر
الأول منه، وفائدة الخلاف تظهر في تأخير طواف الإفاضة، فعلى المشهور
لا يلزمه دم إلا بتأخيره للمحرم، وعلى مقابله إذا أخره إلى حادي عشره
إذا علمت ذلك علمت أن الزمن المحدد بما ذكر وقت للحج تحللا وإحراما
لا إحراما فقط فلو أحرم قبل شوال كره وانعقد إحرامه. والثاني شرع في
بيانه فقال: (وإنما يؤمر أن يحرم من الميقات) فإن أحرم قبله كره أي
ويصح. والمستحب أن يحرم من أوله ولا يؤخره لآخره لان المبادرة للطاعة
ولى وهو يتنوع باختلاف حال المحرم، فإنه إما أن يكون مكيا أو آفاقيا.
والمكي لم يذكره الشيخ وهو المقيم بها سواء كان من أهلها أو لا فميقاته
للحج مكة، ويندب له أن يحرم من جوف المسجد وميقاته للعمرة وللقران
الحل لان كل إحرام لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم. والآفاقي يتنوع
ميقاته إلى خمسة أنواع باختلاف أفقه سواء كان محرما بحج أو عمرة.
(و) أما (ميقات أهل الشام ومصر والمغرب) فهو (الجحفة) بضم الجيم
وسكون الحاء المهملة، وهي قرية على نحو سبع مراحل من المدينة المشرفة
وثلاث أو خمس من مكة فالثلاثة على قول والخمسة على قول فانظر الأصح
منهما. (فإن مروا) أي أهل هذه الأفق الثلاثة (بالمدينة) المشرفة
361

(فالأفضل لهم أن يحرموا) من ميقات أهلها وهو (من ذي الحليفة)
بضم الحاء المهملة وفتح اللام وبالفاء بينه وبين المدينة المشرفة ستة أميال،
وهو أبعد المواقيت من مكة بينهما نحو عشرة مراحل. (و) أما (ميقات
أهل العراق) أي كالبصرة والكوفة زاد في الجلاب وفارس وخراسان (فذات
عرق) بكسر العين المهملة قرية خربت على مرحلتين من مكة. (و) أما
ميقات أهل (اليمن) ف‍ (- يلملم) بفتح المثناة تحت، وهو جبل من جبال
تهامة على مرحلتين من مكة. (و) أما ميقات أهل (نجد) ف‍ (- من قرن)
بفتح القاف وسكون الراء وهو جبل صغير منقطع عن الجبال تلقاء مكة
على مرحلتين منها. (ومن مر من هؤلاء) يعني أهل العراق واليمن ونجد
(بالمدينة) المشرفة (فواجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة إذ لا يتعداه)
من مر منهم بالمدينة (إلى ميقات له) بعد فيحرم منه بخلاف من مر
من أهل الشام ومصر والمغرب بالمدينة لم يجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة
إذ يتعداه إلى ميقات له بعد فيحرم منه، وإنما خالف الأفضل فقط. ومن
كان بين المواقيت فميقاته من بيته أي فيحرم منه. ومن
حج في البحر من أهل مصر وشبههم فليحرم إذا حاذى الجحفة. (ويحرم الحاج أو المعتمر
362

بإثر) بكسر الهمزة وسكون المثلثة وفتحهما (صلاة فريضة أو نافلة يقول
لبيك) أي في حال كونه قائلا الخ، أي على جهة السنية، وملخصه أن التلبية
واجبة في نفسها بحيث لو تركها يلزمه دم ويسن مقارنتها للاحرام، ومعنى
لبيك إجابة بعد إجابة، فالإجابة الأولى لقوله تعالى * (ألست بربكم قالوا بلى) *
(الأعراف: 172) والثانية حين أذن سيدنا إبراهيم في الناس بالحج فنادى: أيها الناس إن
لله بيتا فحجوه، فكانوا يجيبونه من مشارق الأرض ومغاربها ومن بطون
النساء وأصلاب الرجال (لا شريك لك لبيك، إن الحمد) بكسر الهمزة
(والنعمة) بالفتح على الأشهر أي لعطفه على منصوب إن قبل الاستكمال
(لك والملك) اختار بعضهم الوقف عليه والابتداء بقوله: (لا شريك لك.
وينوي ما أراد من حج أو عمرة) قال ابن عمر: ظاهر كلامه على قول ابن
حبيب القائل بأن الاحرام إنما ينعقد بالنية، والقول أي التلبية فجعل
التلبية شرطا في صحته، فهي بمنزلة تكبيرة الاحرام في الصلاة.
وفي مناسك خليل: حقيقة الاحرام الدخول بالنية في أحد النسكين مع قول
متعلق به كالتلبية أو فعل متعلق به كالتوجه على الطريق. وقال أيضا:
إن الاحرام لا ينعقد بمجرد النية، أي بل لا بد من قول كالتلبية أو فعل
كالتوجه إلى الطريق، فليس خصوص التلبية شرطا في صحة الاحرام
كما يقول ابن حبيب، بل المدار على وجود أحد الامرين من القول أو الفعل
ويستحب الاقتصار على التلبية المذكورة لأنها تلبيته عليه الصلاة والسلام.
363

(ويؤمر) مريد الحج أو العمرة ولو حائضا أو نفساء على جهة السنية (أن
يغتسل عند) إرادة (الاحرام قبل أن يحرم) لما في الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم
تجرد للاحرام واغتسل قبل أن يحرم، وليس في تركه عمدا أو نسيانا
دم، وكذا باقي اغتسالات الحج. والدليل على سنيته للحائض والنفساء ما في
الموطأ: أن أسماء ولدت فذكر أبو بكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرها
فلتغتسل ثم لتهل. ويستحب لمريد الاحرام بأحد النسكين أن يقلم أظفاره
ويحلق عانته ويقص شاربه ولا يحلق رأسه طلبا للشعث. (و) يؤمر
أيضا إن كان رجلا على جهة السنية أن (يتجرد من مخيط الثياب)
ويلبس إزارا ورداء ونعلين (ويستحب له) أي للمحرم إن كان غير
حائض ونفساء (أن يغتسل لدخول مكة) والأفضل أن يكون بذي طوى
مثلث الطاء لفعله عليه الصلاة والسلام (ولا يزال) المحرم (يلبي دبر
الصلوات) الفرائض والنوافل (وعند كل شرف) مكان عال وفي بطون
الأودية وعند ملاقاة الرفاق) جمع رفقة بضم الراء وكسرها، الجماعة
يرتفقون فينزلون معا ويرتحلون معا، وعند اليقظة من النوم ولا يرد الملبي
سلاما حتى يفرغ. ويستحب رفع الصوت بالتلبية رفعا متوسطا والمرأة تسمع نفسها
فقط ولا تكره التلبية للحائض ولا للجنب. (وليس عليه كثرة الالحاح بذلك)
لا وجوبا ولا استحبابا بل هو مكروه عند مالك. والالحاح الاكثار وهو
364

ملازمة التلبية حتى لا يفتر عن ذلك وكما أنه لا يلح لا يسكت حتى تفوته
الشعيرة (فإذا دخل مكة أمسك عن التلبية حتى يطوف ويسعى ثم) بعد
فراغه من الطواف والسعي (يعاودها) أي التلبية ويستمر على ذلك (حتى
تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها) وروي يقطعها عند
جمرة العقبة. وإليه مال اللخمي لما في مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى
جمرة العقبة. (ويستحب) للحاج والمعتمر (أن يدخل مكة من كداء
الثنية التي بأعلى مكة) لان النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذا والصحابة بعده. ويستحب
دخولها نهارا لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك، فإن دخل قبل طلوع
الشمس فلا يطوف، فإن طاف فلا يركع حتى تطلع الشمس وتحل النافلة.
ويستحب للمرأة إذا قدمت نهارا أن تؤخر الطواف إلى الليل (و) كذلك
يستحب له (إذا خرج) من مكة (أن يرجع من كدى) وهو موضع
من أسفل مكة وكدى بضم الكاف منون (وإن لم يفعل في الوجهين)
ما ذكر من الدخول من الثنية العليا والخروج من السفلى (فلا حرج)
أي لا إثم عليه ولا دم لأنه لم يترك واجبا (قال) الامام مالك رحمه الله:
(فإذا دخل) الحاج أو المعتمر (مكة فليدخل المسجد الحرام) أي يبادر
365

بدخول المسجد الحرام ولا يقدم عليه غيره إلا ما لا بد منه من حط رحل
وأكل خفيف فالتراخي عنه إساءة أدب. (وإذا أراد دخول المسجد)
الحرام (فمستحسن) أي مستحب (أن يدخل من باب بني شيبة) ويعرف
الآن بباب السلام لفعله عليه الصلاة والسلام، وبعد دخوله المسجد فليكن
أول ما يقصده بعد نية الطواف الركن الأسود فإذا وصل إليه (يستلم)
بمعنى يلمس (الحجر الأسود بفيه إن قدر) على ذلك (وإلا) أي وإن
لم يقدر على استلامه بفيه (وضع يده عليه) أي على الحجر الأسود (ثم
وضعها على فيه من غير تقبيل) أي تصويت فإن لم يصل إليه مسه بعود
ثم يضعه على فيه من غير تقبيل، فلا يكفي العود مع إمكان اليد ولا اليد مع
إمكان التقبيل. وهذا الاستلام سنة في أول الطواف مستحب في باقيه ودليل
الاستلام ما في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قبله وقال: إني أعلم أنك
حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
(ثم) إذا فرغ من استلام الحجر الأسود فإنه (يطوف) بالبيت الشريف
طواف القدوم وهو واجب على كل من أحرم من الحل سواء كان من أهل
مكة أو غيرها أما إذا أحرم من الحرم فإنه لا قدوم عليه لكونه غير قادم. وللطواف
من حيث هو سواء كان ركنا أو واجبا أو مندوبا واجبات وسنن
ومستحبات. أما واجباته فستة الواجب الأول شرائط الصلاة من طهارتي
الحدث والخبث وستر العورة، فلو أحدث في أثنائه تطهر وابتدأ ولا يبني
366

على المشهور ويباح فيه الكلام لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: الطواف حول
البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا
بخير. والثاني: أن يكون الطواف داخل المسجد. والثالث: جعل البيت على
يساره، وإليه أشار بقوله: (والبيت) الشريف (على يساره) فلو جعله على
يمينه لم يصح طوافه ولزمته الإعادة، وينبغي أن يحتاط عند ابتداء الطواف
فيقف قبل الركن بقليل بحيث يكون الحجر عن يمين موقفه، كذا في
الفاكهاني، والموافق عن يسار موقفه ليستوعب جملته بذلك لأنه إن لم
يستوعب الحجر لم يعتد بالشوط الأول فليتنبه لذلك، فإن كثيرا ما يقع فيه
الجهال ويكون في طوافه خارجا عن البيت، فعلى من قبل الحجر الأسود
أن لا يمشي إلا بعد أن ينتصب قائما كما كان، ولا يجوز له أن يقبله ثم يمشي
وهو مطأطئ رأسه أو يده لئلا يحصل بعض الطواف وليس جميع بدنه
خارجا عن البيت لأنه يكون بعض البدن على الشاذروان وهو من البيت
فلا يصح طوافه. والرابع: أن يطوف (سبعة أطواف) جمع طوف وهو
الشوط وابتداؤه من الحجر إلى الحجر، أي الحجر الأسود، فلو ابتدأ من
الركن اليماني أتم إليه وعليه دم. الخامس: الموالاة، فلو نسي شوطا وذكر بالقرب
ولم ينتقض وضوءه عاد إليه بالقرب، كما يرجع إلى الصلاة وإن طال بطل
الطواف قياسا على الصلاة. السادس: أن يركع ركعتين عقبه. وأما سننه
فأربعة أحدها: الرمل بفتح الراء وإليه أشار بقوله: (ثلاثة خببا) الخبب:
الرمل وهو الهرولة فوق المشي دون الجري، وهو سنة الرجل لا المرأة ولو
مريضا ولا دم في تركه ولو مع القدرة (ثم أربعة مشيا) ودليل هذا كله
فعله عليه الصلاة والسلام. ثانيها: الدعاء، وهو غير محدود. ثالثها: استلام الحجر
367

الأسود أول الطواف كما تقدم. رابعها: استلام الركن اليماني أول شوط. وأما
مستحباته فأربعة الأول استلام الحجر الأسود في أول كل شوط ما عدا
الأول، وإليه أشار بقوله: (ويستلم الركن) يعني الحجر الأسود (كلما مر به
كما ذكرنا) أولا. وهو أن يستلمه بفيه إن قدر وإلا وضع يده عليه ثم
يضعها على فيه من غير تقبيل. وظاهر قوله (ويكبر) أنه يجمع بين
الاستلام والتكبير. وظاهر المدونة خلافه، لكن الراجح الجمع بينهما. الثاني:
استلام الركن اليماني في أول كل شوط غير الأول، وإليه وإلى صفة استلامه
أشار بقوله: (ولا يستلم) الركن (اليماني بفيه ولكن بيده ثم يضعها على
فيه من غير تقبيل) ونحوه في المدونة. الثالث: الدنو من البيت للرجال
دون النساء. الرابع: الدعاء بالملتزم بعد الفراغ من الطواف والملتزم ما بين
الركن والباب فيعتنقه ويلح في الدعاء. (فإذا تم طوافه ركع عند المقام
ركعتين) اشتمل كلامه على واجب ومستحبين فالواجب فعل ركعتين بعد
الطواف على المذهب، والمستحبان كونهما عند المقام واتصالهما بالطواف.
ومفاده أنه ليس في ترك الاتصال دم مطلقا، وليس كذلك بل الدم في
بعض الأحوال فحينئذ ليس الاستحباب مطلقا بل في البعض والوجوب
في البعض الآخر الذي يترتب فيه الدم، وحاصل القول أن من لم يفعل
الركعتين حتى تباعد أو رجع لبلده فإنه يفعلهما مطلقا. ثم إن كانتا من طواف
واجب فعليه الدم وإن كانتا من غيره لم يجب عليه دم، وإن لم يتباعد ولا
368

رجع لبلده فإن لم تنتقض طهارته أتى بالركعتين فقط مطلقا. وإن انتقضت
طهارته عمدا فيأتي بالطواف والركعتين، ولو كانتا من غير فرض ويعيد السعي
إن كان فعله، وإن لم يتعمد نقض طهارته ففي الفرض يعيد الطواف
والركعتين والسعي، وفي غيره يعيدهما وهل يعيد الطواف أو لا؟ الظاهر
ترجيح الثاني. ولا يستلم اليماني، ويستحب بعد استلام الحجر الأسود أن
يمر بزمزم فيشرب منها. (ثم يخرج إلى الصفا) صرح الأقفهسي وابن عمر
باستحباب الخروج من باب الصفا لكونه أقرب إلى الصفا. ونقل زروق
عن ابن حبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج منه. (فيقف عليه ل‍) - أجل (الدعاء
ثم) إذا فرغ من الدعاء نزل منه ف‍ (- يسعى) أي يمشي (إلى المروة)
قال في المصباح: المرو الحجارة البيض الواحدة مروة. وسمي بالواحدة الجبل
المعروف بمكة. (و) الحال أنه (يخب) أي يسرع في مشيه وهذا سنة
الرجل دون المرأة (في بطن السيل) خاصة في المرور إلى المروة والمسيل
ما بين الميلين الأخضرين هما اللذان في جدار المسجد الحرام على يسار
الذاهب إلى المروة، أولهما: في ركن المسجد تحت منارة علي، والثاني: بعده قبالة
رباط العباس. فإذا أتى المروة (قف عليها ل‍) - أجل (الدعاء)
والدعاء عليها وعلى الصفا غير محدود والوقوف عليهما سنة. (ثم) بعد فراغه من الدعاء
على المروة (يسعى) أي يمشي (إلى الصفا يفعل ذلك) أي ما ذكر من
الوقوف على الصفا والمروة والدعاء عليهما والخبب في بطن المسيل (سبع
369

مرات) فيتحصل مما ذكرنا أنه (يقف لذلك أربع وقفات على الصفا
وأربعا على المروة) وهذا السعي ركن من أركان الحج والعمرة التي لا بد
منها، لا يجزئ في تركه هدي ولا غيره، دل على فرضيته الكتاب والسنة.
وله شروط وسنن ومستحبات، أما شرائطه فأربعة: الأول: الترتيب وهو أن
يأتي بالسعي بعد الطواف، فلو بدأ بالسعي رجع فطاف وسعى. الثاني: الموالاة
فإن جلس وطال وصار كالتارك ابتدأ السعي وإن كان شيئا خفيفا لم
يضر، وإن أصابه حقن أي حبس بول توضأ وبنى. والكلام فيه أخف من
الكلام في الطواف أي لا ينبغي له الكلام إلا أنه أخف. الثالث: إكمال
العدد، وإليه أشار بقوله: سبع مرات فمن ترك شوطا من حج أو عمرة
سواء كانا صحيحين أو فاسدين فليرجع لذلك من بلده، ومن ترك من السعي
ذراعا لم يجزه. الرابع: أن يتقدمه طواف صحيح ولا يشترط فيه أن يكون
واجبا بل يكفي أي طواف كان على ما صدر به ابن الحاجب وفهمه خليل من
المدونة وهو الراجح. وقال زروق: المشهور اشتراط كونه واجبا كطواف
الإفاضة والقدوم. (ثم) بعد فراغه من السعي إذا قرب وقت الوقوف فإنه
(يخرج يوم التروية إلى منى) سميت بذلك لان إبراهيم عليه الصلاة
والسلام تمنى فيها كشف ما نزل به من الامر بذبح ولده. وقيل: لان الدماء
تمنى أي تراق فيها، بينها وبين مكة ستة أميال. ويستحب أن يكون خروجه
إليها بقدر ما إذا وصل إليها حانت الصلاة (فيصلي بها الظهر والعصر
370

و) يستحب أيضا أن يبيت بها فيصلي بها (المغرب والعشاء) والأصل
في هذا فعله عليه الصلاة والسلام. فقد روى أحمد: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمنى خمس
صلوات الظهر والصبح وما بينهما. ومن ترك المبيت بها كره له ذلك ولا
دم عليه. (ثم) إذا صلى الصبح من اليوم التاسع بمنى يستحب له أن لا يخرج
منها إلا بعد طلوع الشمس ف‍ (- يمضي إلى عرفات) وهو موضع الوقوف
فإذا وصل إلى عرفة فالمستحب أن ينزل بنمرة وهو من آخر الحرم وأول
الحل (ولا يدع التلبية في هذا كله) أي ما ذكر من الخروج بعد طلوع
الشمس الخ (حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها) وهو
مسجد نمرة (وليتطهر) أي يغتسل بعد الزوال (قبل رواحه إلى المصلى) ولا
يتدلك في هذا الغسل دلكا بالغا بل بإمرار اليد فقط وهذا آخر اغتسالات
الحج الثلاثة. وقد تقدم بيان حكمه وهو للوقوف لا للصلاة فتخاطب به
الحائض والنفساء (ف‍) - إذا وصل إلى المصلى (يجمع بين الظهر والعصر
مع الامام) جمعا وقصرا. زاد في المدونة بأذانين وإقامتين والقراءة في ذلك
سرا لا جهرا، ولو وافقت جمعة، لأنه يصلي ظهرا لا جمعة. ومن فاته الجمع مع
الامام جمع في رحله. وما ذكر من القصر فهو في حق غير أهل عرفة أما هم
فيتمون، والضابط أن أهل كمكان يتمون فيه ويقصرون فيما سواه
والقصر بعرفة إنما هو للسنة وإلا فهو ليس بمسافة قصر في حق المكي وأهل
371

المزدلفة ونحوهم. (ثم) بعد الفراغ من الصلاة مع الامام (يروح معه إلى
موقف عرفة) أخذ من كلامه أن موقف عرفة غير مصلاها ويصح
الوقف في كل جزء منها إلا أنه يستحب الوقوف عند الصخرات العظام
المفروشة في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط عرفة لأنه الذي
وقف فيه صلى الله عليه وسلم. ويؤخذ منه أيضا أن أول الوقوف بعد الزوال. وظاهر قوله:
(فيقف معه) أي مع الامام (إلى غروب الشمس) على ما قاله الفاكهاني
وغيره، أنه لا يؤخذ جزء من الليل. والمذهب أنه لا بد من جزء من الليل.
قال ابن الحاجب: والفرض من الوقوف الركن أدنى حضور جزء من الليل
وجزء من عرفة حيث شاء سوى بطن عرنة: بضم العين والراء. وحاصل
الفقه أن الوقوف بعرفة بعد الزوال واجب ينجبر بالدم. والوقوف الركني
الوقوف بها جزءا من الليل بعد الغروب. والتعبير بالوقوف بيان للوجه
الأكمل فلا ينافي أنه إذا مر بعرفة ليلا ولم يقف فيها يجزئه بشرطين: أن
يكون عالما بأن هذا المحل عرفة، وأن ينوي الحضور بعرفة لا المار الجاهل
بأن هذا المحل عرفة. ويلزم المار على هذا الوجه المجزئ الدم لوجوب
الطمأنينة بعرفة. ويستحب الوقوف راكبا لفعله عليه الصلاة والسلام
ويستحب التسبيح والتحميد والتهليل والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والدعاء
للنفس وللوالدين، ويستحب الفطر ليقوى على العبادة. (ثم) بعد غروب
الشمس من يوم عرفة وتمكن الليل (يدفع بدفعه) بدفع
الامام إلى المزدلفة فإن دفع قبل دفعه بعد غروب الشمس كان تاركا
للأفضل وإذا وصل إليها فليكن أول اهتمامه إقامة الصلاة بعد حط ما خف
372

من رحله (فيصلي معه) أي مع الامام (بمزدلفة المغرب والعشاء) جمعا
وقصرا للعشاء لغير أهل مزدلفة والمذهب أن هذا الجمع سنة (و) إذا طلع
الفجر استحب له أن يصلي مع الامام (الصبح) أول الوقت أخذ من هذا
أنه يطلب منه البيات بالمزدلفة على جهة الاستحباب كما نص عليه في المختصر.
وأما النزول فهو واجب ولا يكفي فيه إناخة البعير بل لا بد من حط الرحال.
قال الحطاب: وهذا ظاهر إذا لم يحصل لبث. أما إن حصل لبث ولو لم يحط
الرحال بالفعل فالظاهر أنه كاف. ومن ترك النزول من غير عذر حتى طلع
الفجر لزمه دم، ومن تركه لعذر فلا شئ عليه. (ثم) بعد ذلك يستحب له
على المشهور أن (يقف معه بالمشعر الحرام) ويجعل وجهه أمام البيت
والمشعر جبل بالمزدلفة سمي بذلك لان الجاهلية كانت تشعر هداياها فيه.
(يومئذ) أي يوم النحر. المستفاد بطريق اللزوم لأنه لم يتقدم ذكر ليوم
النحر والعامل في قوله يومئذ: ليصلي الصبح المقدر أو ليقف وقوله: (بها)
أي بالمزدلفة أطلق اليوم على بعضه وهو من صلاة الصبح إلى قرب طلوع
الشمس يدل عليه قوله: (ثم يدفع بقرب طلوع الشمس إلى منى) ظاهره
كالمختصر جواز التمادي بالوقوف بالمشعر إلى الاسفار. والذي في المدونة: لا يقف
أحد بالمشعر الحرام إلى طلوع الشمس أو الاسفار، ولكن يدفع قبل ذلك.
وفي الصحيح ما يدل للأول ففيه أنه صلى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة
فدعا الله وكبره ووحده وهلله ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا. (و) الدافع
إلى منى إن كان راكبا (يحرك دابته) على جهة الاستحباب (ببطن
373

محسر) بكسر السين المهملة وهو واد بين مزدلفة ومنى والطريق في وسطه،
وإن كان ماشيا أسرع الرجل ولا تسرع المرأة وهذا الاسراع تعبدي.
(فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة) يعني بدأ برميها أول ما يأتي منى وهو
على حالته التي هو عليها من ركوب أو غيره. وهي آخر منى من ناحية مكة
سميت جمرة باسم ما يرمى فيها، وهي الحجارة. وللرمي وقت أداء وهو من طلوع
الفجر إلي غروب شمس يوم النحر ووقت قضاء، وهو كل يوم من أيام
الرمي بل الليل عقب كل يوم قضاء لذلك اليوم. ولا خلاف في وجوب الدم
مع الفوات، والفوات يكون بغروب الشمس من اليوم الرابع من أيام منى،
واختلف في وجوبه وسقوطه مع القضاء. ولا يبطل الحج بفوات شئ من
الجمار وللرمي شروط صحة فمن شروط الصحة أن يجعل الحصاة بين إبهامه
وسبابته. وقيل: يمسكها بإبهامه والوسطى. ومنها ما أشار إليه الشيخ (بسبع
حصيات) واحدة بعد واحدة فلا يجزئ أقل من ذلك. ولو رمى السبع
في مرة واحدة احتسب منها بواحدة، منها أن يكون المرمي به حجرا ونحوه، فلا
يجزئ الطين ولا المعادن كالحديد. واختلف في مقدار المرمي به فالذي عليه
أكثر الشيوخ ما أشار إليه بقوله: (مثل حصى الخذف) بخاء وذال
ساكنة معجمتين وفاء ومقدار حصى الخذف، قيل: قدر النواة، وقيل: قدر
الفولة. فلا يجزئ الصغير جدا كالحمصة. (ويكبر مع كل حصاة) أي على
جهة الاستحباب فإن لم يكبر أجزأه الرمي، وأن يتابع الرمي وأن يلتقط
الحصيات. ويكره له أن يأخذ حجرا ويكسره ويأخذ الحصيات، بل المندوب أن
يلتقطها من الأرض وأن تكون طاهرة فيكره الرمي بالنجس وأن تكون
374

من غير ما رمى به أولا، وأن يكون رميها من بطن الوادي، وبرمي جمرة
العقبة يحل من كل شئ ما عدا النساء والصيد. ويسمى التحلل الأصغر
وبطواف الإفاضة يحل له كل شئ حتى النساء والصيد. ويسمى التحلل
الأكبر. (ثم) بعد فراغه من رمي جمرة العقبة (ينحر) ما ينحر ويذبح ما
يذبح (إن كان معه هدي) وقف به في عرفة، ومنى كلها محل للنحر، إلا ما وراء
جمرة العقبة. ولا ينتظر الامام في ذلك إذ ليس هناك صلاة عيد (ثم) إذا
فرغ من النحر (يحلق) أو يقصر إن كان رجلا لم يلبد رأسه ولم يعقصه.
أما إن لبد أو عقص فالحلاق ليس إلا أي يجب فيهما الحلاق. ولا بد من
حلق الرأس كله فبعضه كالعدم. ومن برأسه وجع لا يقدر على الحلاق أهدى.
وأما المرأة فالسنة في حقها التقصير ليس إلا. (ثم) بعد الحلاق (يأتي البيت)
الحرام (فيفيض) أي يطوف طواف الإفاضة وهو آخر أركان الحج
الأربعة التي لا تنجبر بالدم، ويحل به جميع ما كان ممنوعا منه حتى النساء والصيد.
وأخذ من كلام الشيخ أن المبادرة به يوم النحر أفضل وهو كذلك ولو
أخره عن أيام التشريق لا يلزمه دم، وإنما يلزمه الدم إذا تركه حتى خرج
ذو الحجة على المشهور. ومقابله إذا أخره الحادي عشره لزمه الدم. وقوله:
(ويطوف سبعا ويركع) تفسير لقوله: فيفيض ولا يرمل في هذا الطواف،
ولا يسعى لأنه سعى بعد طواف القدوم، وهذا في حق غير المراهق. وأما
المراهق الذي ضاق عليه الزمن فلم يتيسر له طواف القدوم فيرمل في طواف
الإفاضة ندبا. (ثم) بعد الفراغ من طواف الإفاضة وركعتيه (يقيم بمنى
ثلاثة أيام) بلياليها إن كان غير متعجل فلو ترك جل لياليها لزمه دم، والإقامة
375

هنا لغوية فيقصر الصلاة، لا شرعية إذ لو كانت شرعية لتم. ولا يجوز المبيت
دون جمرة العقبة لأنه ليس من منى، واستثنوا من لزوم البيات بمنى من ولي
السقاية لأنه عليه الصلاة والسلام أرخص للعباس البيات بمكة من أجل
السقاية. قال ابن حبيب: وأرخص للرعاة أن ينصرفوا بعد جمرة العقبة يوم
النحر ويأتون ثالثه فيرمون لليومين أي ثاني النحر وثالثه، ثم إن شاؤوا تعجلوا
فسقط عنهم رمي الرابع وإن شاؤوا أقاموا اليوم الرابع فيرمونه مع الناس. وأما
أهل السقاية فيرمون كل يوم، وإنما يرخص لهم في ترك البيات بمنى لا في ترك
الرمي نهارا فيبيتون بمكة ويرمون الجمار نهارا ويعودون لمكة كما في الطراز.
(فإذا زالت الشمس من كل يوم منها) أي من الأيام الثلاثة (رمى الجمرة) الأولى
(التي تلي مسجد منى بسبع حصيات) بالشروط المتقدمة (يكبر مع كل حصاة ثم
يرمي بعدها الجمرتين) فيبدأ بالوسطى ثم يختم بالثالثة وهي جمرة العقبة (كل
جمرة بمثل ذلك) أي بسبع حصيات مثل حصى الخذف (ويكبر مع كل
حصاة ويقف للدعاء بأثر الرمي في الجمرة الأولى) التي تلي مسجد منى (و) في
الجمرة (الثانية) وهي الوسطى، قال الأقفهسي: قوله: فإذا زالت يريد قبل الصلاة،
فإن رمى قبل الزوال لم يجزه ويعيد بعد الزوال. كما إذا رمى جمرة العقبة قبل الفجر
(ولا يقف) للدعاء (عند جمرة العقبة ولينصرف) أمامه أي سريعا عقب
376

رميها من غير دعاء (فإذا رمى في اليوم الثالث وهو رابع يوم النحر انصرف)
من منى (إلى مكة) شرفها الله تعالى. قال ابن عمر: ولا يقيم بمنى بعد رميه
في اليوم الثالث. والمستحب أن ينزل بالمحصب فيصلي به الظهر والعصر
والمغرب والعشاء، ويدخل مكة ليلا لفعله ذلك عليه الصلاة والسلام، وكذا
الصحابة بعده رضوان الله عليهم أجمعين. وإن صلى الظهر قبله فلا شئ عليه،
كما أنه لو ترك النزول به لا دم عليه. وفي قوله: (وقد تم حجه) شئ وهو
أن يقال ماذا أراد بالتمام فإن أراد بسننه وفرائضه وفضائله فقد بقي عليه
طواف الوداع وإن أراد الفرائض فقد تمت قبل هذا فالجواب أنه أراد
تم بفرائضه وسننه ولم يعتبر طواف الوداع لأنه لا يختص بالحاج بل يفعله كل
من خرج من مكة حاجا أو غيره. وقوله: (وإن شاء تعجل في يومين من
أيام منى فرمى وانصرف) قسيم قوله: يقيم بمنى ثلاثة أيام هذا ما لم تغرب
الشمس من اليوم الثاني، فإذا غربت فلا عجيل لان الليلة إنما أمر بالمقام
فيها من أجل رمي النهار، فإذا غربت الشمس فكأنه التزم رمي اليوم الثالث.
(فإذا خرج من مكة) أي أراد الخروج منها (طاف للوداع) بكسر
الواو وفتحها. وحكم هذا الطواف الاستحباب فلا دم في تركه (و) إذا فرغ
منه (ركع). قال ابن فرحون: لطواف الوداع ركعتان إن تركهما حتى تباعد
377

أو بلغ بلده ركعهما ولا شئ عليه، وإن قرب وهو على طهارته رجع لهما
وإن انتقض وضوءه تطهر وابتدأ الطواف وركعهما (وانصرف. والعمرة
يفعل فيها كما ذكرنا أولا إلى تمام السعي بين الصفا والمروة) أخذ منه أن
أركانها ثلاثة الاحرام والطواف والسعي. ولها ميقاتان زماني ومكاني، فالزماني
الوقت كله، والمكاني هو الحل سواء كان آفاقيا أو مقيما بمكة. وظاهر قوله:
(ثم يحلق رأسه وقد تمت عمرته) أن العمرة لا تتم حتى يحلق رأسه،
وليس كذلك لان مالكا قال: تتم عمرته بالطواف والسعي. وأما الحلاق فمن
شروط الكمال أي ليس شرط صحة، فلا ينافي أنه واجب ويمكن الجواب
بأن المراد بتمام العمرة كمالها فلا ينافي تمامها بالفراغ من طوافها وسعيها.
وقوله: (والحلاق أفضل في الحج والعمرة) من التقصير ليس على إطلاقه
فإن التقصير في عمرة التمتع أفضل لاستبقاء الشعث للحج، قاله زروق ولا
يتنسك الحلاق إلا بجميع الرأس لفعله صلى الله عليه وسلم. (والتقصير يجزئ) عن
الحلاق (والمقصر إن كان رجلا ف‍ (- ليقصر من جميع شعره) قال ابن
الحاجب: وسنته أي التقصير من الرجل أن يجز من قرب أصوله أي الصفة
الكاملة أي المندوبة أن يجز الخ، وأقله أن يأخذ من جميع الشعر أي الذي
لا يجزئ بدونه أن يأخذ من جميع الشعر ولقدر الأنملة، فإن اقتصر
على بعضه فكالعدم. (وسنة المرأة التقصير) أي الطريقة المتعينة في حقها
378

التقصير ويكره لها الحلاق، وقيل: هو حرام لأنه مثلة وعليه اقتصر في
التحقيق فيفيد اعتماده، والأصل في ذلك ما رواه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم
ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير. ثم انتقل يتكلم على ما يجوز
للمحرم قتله فقال: (ولا بأس) أي يجوز جوازا مستوي الطرفين (أن يقتل
المحرم الفأرة) بالهمز وبدون همز والتاء فيه للوحدة لا للتأنيث (و) يجوز أيضا
أن يقتل (الحية والعقرب وشبهها) أي شبه الفأرة والحية والعقرب، فشبه
الفأرة ما يقرض الثياب كابن عرس، وشبه الحية الأفعى والثعبان، وشبه
العقرب الزنبور (والكلب العقور) المراد به كل ما يعدو فيدخل فيه السبع
والكلب والنمر، قاله الفاكهاني. فعلى هذا يكون قول الشيخ (وما يعدو من
الذئاب والسباع ونحوها) تكرارا. وانظر لم خالف الأسلوب بين ما تقدم.
وقوله (ويقتل من الطير ما يتقى أذاه من الغربان والأحدية) حيث قال
أولا: ولا بأس الخ، ثم قال هنا: ويقتل الخ، وقوله: والأحدية قال ابن العربي:
صوابه الحدأ بالهمز والقصر، وظاهر كلامه أن هذين النوعين يقتلان وإن
لم يبتدئا بالأذية كبيرا كان أو صغيرا، وهو كذلك ومفهوم قوله: (فقط)
إن ما آذى من الطير غيرهما وما آذى من غير الطير لا يقتل وهو أحد
قولين حكاهما ابن الحاجب، الراجح منهما قتل ما ذكر حيث ابتدأ بالأذية.
و (يجتنب) المحرم (في حجه وعمرته) وجوبا (النساء) أي الاستمتاع
379

بهن بالوطئ وغيره. أما الوطئ فموجب للافساد مطلقا كان في قبل أو دبر،
آدميا كان الموطوء أو غيره وقع عمدا أو نسيانا أو جهلا، أنزل أو لا، مباح
الأصل أو لا، كان موجبا للحد والمهر أو لا، وقع من بالغ أو لا، وظاهر كلامهم
كما في الأجهوري: ولو لم يوجب الغسل كأن لف على الذكر خرقة كثيفة
أو أدخله في هواء الفرج أو في غير مطيقة، ويجب عليه إتمام ما أفسده
لبقائه على إحرامه فإن لم يتمه ظنا منه أنه خرج منه بإفساده وتمادى
إلى السنة الثانية وأحرم بحجة القضاء فإنه لا يجزئه ذلك عن الفائت،
وإحرامه الثاني لغو لم يصادف محلا وهو على إحرامه الفاسد. ولا يكون
ما أحرم به قضاء عنه، ومحل كونه يجب عليه إتمامه إذا أدرك الوقوف في
العام لواقع فيه الفساد فإن لم يدركه فإنه يؤمر أن يتحلل منه بفعل عمرة
وجوبا. ولا يجوز له البقاء على إحرامه اتفاقا لان فيه التمادي على الفاسد
مع تمكنه من الخلوص منه. وأما مقدمات الوطئ كالقبلة والمباشرة فحرام،
فإن قبل أو باشر وحصل إنزال أفسد وإلا فليهد بدنة. وأما النظر والفكر
فلا يحصل فساد بخروج المني بسببهما إلا إذا كان كل منهما للذة وإدامة.
وأما خروجه بمجرد النظر والفكر فإنما فيه الهدي فقط. هذه أحكام
خروج المني، وأما خروج المذي، فموجب للهدي مطلقا حرج بعد مداومة النظر أو
الفكر أو القبلة أو المباشرة أم لا. (و) يجتنب المحرم في حجه وعمرته (الطيب)
مذكرا كان كالورد والياسمين ولا فدية فيه، أو مؤنثا وهو ما له جرم يعلق
بالبدن والثوب كالمسك والزعفران وفيه الفدية ولو زاله سريعا. (و)
يجتنب المحرم أيضا في حجه وعمرته (مخيط الثياب) لا خلاف في تحريمه
على الرجال دون النساء، والمراد به كل ما أحاط بالبدن أو ببعضه مخيطا
كان أو غيره، فيحرم عليه أن يلبس ما لبد أو نسج على شكل المخيط،
380

ويحرم عليه أيضا أن يلبس العمائم والسراويل والبرانس. (و) كذلك
يجتنب المحرم في حجه وعمرته (الصيد) أي ما شأنه أن يصاد في البر فيحرم
صيده والتسبب في اصطياده، سواء كان مأكول اللحم كالغزال وحمار
الوحش أو لا كالقرد من غير فرق بين أن يكون متأنسا أو وحشيا، مملوكا
أو مباحا. ولا يستثنى من ذلك إلا ما يتناوله الحديث وهو الغراب والحدأة
والفأرة والعقرب والكلب العقور. (و) كذلك يجتنب فيهما (قتل الدواب)
فلا يقتل القمل ولا يلقيه عن جسده. (و) كذلك يجتنب (إلقاء التفث)
كقص الشارب تمثيل لالقاء التفث، فالتفث اسم لما تأنف منه النفس
وتكرهه فإن أزال شيئا من شعره أطعم حفنة. (ولا يغطي رأسه في الاحرام)
أي: يحرم على المحرم أن يغطي رأسه، وكذا وجهه بأي ساتر كان كطين، وأولى
العمامة. وأما غيرهما من سائر البدن فإنه يحرم تغطيته بنوع خاص وهو المخيط.
(ويحلقه إلا من ضرورة) لقوله تعالى: * (لا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي
محله فكان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) * (البقرة: 196) المعنى فحلق لإزالة الأذى
ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وقد أشار إلى ذلك بقوله: (ثم يفتدي بصيام
ثلاثة أيام) ولو أيام منى (أو إطعام ستة مساكين مدين لكل مسكين بمد
النبي صلى الله عليه وسلم أو ينسك بشاة) أي يتعبد. وقوله: بشاة أي أو غيرها واقتصر
على الشاة لان الفدية كالضحية الأفضل فيها طيب اللحم، ولا بد من ذبحها
381

ولا يكفي إخراجها غير مذبوحة كما أفاده بعضهم وقوله (يذبحها حيث شاء
من البلاد) مقيد بما إذا لم قلدها أو يشعرها، فإن قلدها أو أشعرها لم
يذبحها إلا بمنى. ثم بين ما تخالف فيه المرأة الرجل فقال: (وتلبس المرأة
الخفين) مطلقا وجدت نعلين أم لا (و) تلبس (الثياب) المخيطة في
إحرامها (وتجتنب ما سوى ذلك) أي ما سوى لبس الخفين والثياب (مما
يجتنبه الرجل) في إحرامه من الوطئ ومقدماته والصيد وقتل الدواب
وإلقاء التفث. وأما تغطية الرأس فلا تجتنبه وإليه أشار بقوله: (وإحرام
المرأة في وجهها وكفيها) بمعنى أنها تبديهما فيحرم عليها سترهما بكل شئ
ولو طينا. وليس لها لبس النقاب ولا البرقع ولا اللثام فإن فعلت شيئا من
ذلك افتدت. (وإحرام الرجل في وجهه ورأسه) بمعنى أنه يبديهما في حال
الاحرام ليلا ونهارا فإن غطى شيئا من ذلك وانتفع حرم عليه وافتدى،
ناسيا كان أو عالما أو جاهلا. وإن نزعه مكانه فلا شئ عليه ويجوز
توسده وستره بيده من شمس أو ريح فاليد لا تعد ساترا إلا إذا ألصقها
برأسه وطال فعليه الفدية كما في العتبية. ويجوز له أن يحمل على رأسه
ما لا بد منه من خروجه وجرابه وغير ذلك كحزمة حطب يحملها ليبيعها
فإن حمل لغيره أو للتجارة فالفدية. ويجوز استظلاله بالبناء والأخبية. (ولا
يلبس الرجل الخفين) في الاحرام (إلا أن لا يجد نعلين
382

فليقطعهما أسفل من الكعبين) كما ورد في الحديث. ثم انتقل يبين الفاضل
والمفضول من أوجه الاحرام فقال: (والافراد) وهو أن يحرم (بالحج) فقط
(أفضل عندنا) أي المالكية (من التمتع وسن القرآن) وإنما كان الافراد أفضل
لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أفرد أي في حجة الوداع. واتصل عمل الخلفاء أي
فقد أفرد الصديق في السنة الثانية وعمر بعده عشر سنين وعثمان اثنتي
عشرة سنة. وما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم قرن أو تمتع فأجاب عنه الامام بحمله على
أن المراد أمر بعض أصحابه بالقران وأمر بعضا بالتمتع، فنسب ذلك إليه
على طريق المجاز. ولأن الافراد لا يحتاج إلى أن يجبر بالهدي بخلاف القران
والتمتع فإنهما يحتاجان إليه. وإلى ذلك أشار بقوله: (فمن قرن) بفتح
الراء (أو تمتع من غير أهل مكة فعليه هدي) مفهومه أن أهل مكة لا هدي
عليهم وهو كذلك. والمراد بهم من كان حاضرا بها أو بذي طوى وقت
فعل النسكين. ولوجوب الدم على القارن شرطان: أن لا يكون حاضرا بمكة
أو بذي طوى، وأن يحج من عامه فلو فاته الحج وتحلل بعمرة فلا دم عليه،
فإن ترك الأولى في حقه لم يتحلل بعمرة وبقي على إحرامه لم يسقط
عنه. ثم بين محل نحر الهدي وذبحه بقوله: (يذبحه) أي الهدي
إن كان مما يذبح (أو ينحره) إن كان مما ينحر (بمنى) أي في منى نهارا
بعد الفجر فلا يجزئ فعله ليلا. والأصل في هذا كله أي فيما ذكر من كونه
في منى ونهارا وبعد الفجر فعله عليه الصلاة والسلام. ولصحة النحر
بها شروط أحدها: (إن أوقفه) من وجب عليه الهدي أو نائبه
383

(بعرفة) ليلا. قال ابن هارون: أما اشتراط كون الوقوف ليلا فلا أعلم
فيه خلافا، لان كل من اشترط الوقوف بعرفة ليلا كمالك جعل حكمه
حكم ربه فيما يجزئه من الوقوف. ثانيها: أن يكون النحر في أيام منى وهي يوم
النحر واليومان بعده فلا يدخل اليوم الرابع. ثالثها: أن يكون النحر في
حجة أي كان الهدي سيق في إحرام حج سواء وجب لنقص فيه أو في عمرة
أو تطوعا أو جزاء صيد، فإذا اجتمعت هذه الشروط فلا يجوز النحر بمكة
ولا بغيرها أي فالنحر بمنى واجب، وإن فقد بعضها جاز. وإليه أشار بقوله:
(وإن لم يوقفه بعرفة) يعني أو فاتته أيام منى ولو وقف به بعرفة (فلينحره)
أو يذبحه (بمكة) أو ما يليه من البيوت وجوبا. ولا يجزئه الذبح بذي طوى
ونحوها مما كان خارجا عن بيوتها ولو كان من لواحقها، وحيث تعين الهدي
وذبحه بمكة فلا يفعل ذلك إلا (بعد أن يدخل به من الحل) أي من أي جهة
كانت لان كل هدي لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرام، والهدي يكون
من الغنم والبقر والإبل لكن الأفضل الإبل. ولا يجزئ في الجميع إلا السليم
كالأضحية. والهدي من هذه الثلاثة إنما يتعين على المتمتع والقارن إذا
وجده (فإن لم يجد هديا) بأن يئس من وجوده (ف‍) - الواجب عليه
(صيام ثلاثة أيام في الحج) وفاعل (يعني) ضمير يعود على الله سبحانه
وتعالى والتلاوة * (فمن لم يجد) * (البقرة: 196) ولم يذكر فيها إلا التمتع دون القران (من
وقت يحرم) أي ابتداء الأيام الثلاثة التي في الحج من وقت يحرم (إلى)
آخر (يوم عرفة) يعني أن النقص الموجب للهدي إن كان سابقا على الوقوف
384

عرفة فإنه يدخل زمن صوم الثلاثة من إحرامه ويمتد إلى يوم عرفة لان
له صومه وذلك كتعدي الميقات، وتمتع وقران وترك طواف قدوم. ومفهوم
قولنا سابقا على الوقوف أن النقص إن تأخر عن الوقوف كترك النزول
بالمزدلفة أو ترك رمي أو حلق أو أخر الثلاثة حتى فاتت أيام التشريق فإنه
يصومها مع السبعة متى شاء (فإن فاته ذلك) أي صوم ثلاثة أيام في الحج
(صام أيام منى) ولا إثم عليه إن تأخر الصوم إليها لعذر (و) بعد فراغه
من صيام الأيام الثلاثة سواء صامها في الحج أو في منى فإنه (يصوم سبعة)
أي سبعة أيام (إذا رجع) من منى إلى مكة سواء أقام بمكة أو لا فإن أخرها
صام متى شاء ويندب التتابع في الثلاثة أيام وليس بلازم وكذا في العشرة وإنما
هو مستحب على المشهور. (وصفة التمتع أن يحرم بعمرة) أولا (ثم يحل
منها في أشهر الحج) ولا يشترط إيقاع جميعها في أشهر الحج بل لو أحرم
بها في رمضان وأكملها في ليلة شوال كان متمتعا إن كان ما أوقعه في
أشهر الحج ركنا، فلو لم يبق عليه إلا الحلق وأوقعه في أشهر الحج لا يكون
متمتعا. (ثم يحج من عامه) لأنهما إن لم يكونا في عام واحد لم يحصل
التمتع كما أنه لا يكون متمتعا إذا رجع بعد عمرته في أشهر الحج وقبل
إحرامه بالحج إلى بلده، فالتمتع صادق في صورة ما إذا فرغ من العمرة في
أشهر الحج وأحرم بالحج قبل رجوعه إلى بلده، وإليه يشير قول المصنف:
(قبل الرجوع إلى أفقه) بضم الفاء وسكونها (أو) إلى (مثل أفقه في
العبد) ظاهره ولو كان من أهل الحجاز وهو المشهور خلافا لابن المواز
385

القائل بعدم سقوط الدم عمن أفقه بالحجاز إلا بالعودة إلى نفس أفقه لا إلى
مثله، إلا أن يخرج عن أرض الحجاز بالكلية (ولهذا) اللام للإباحة
والإشارة عائدة على المحرم بعمرة في أشهر الحج الدال عليه السياق أي
ويباح للمحرم إذا حل من عمرته (أن يحرم من مكة إن كان بها) ويستحب
أن يكون إحرامه من باب المسجد (ولا يحرم منها) أي من
مكة (من أراد أن يعتمر حتى يخرج إلى الحل) لان من شروط العمرة أن يجمع
فيها بين الحل والحرم (وصفة القران أن يحرم بحج وعمرة معا) ويبدأ
بالعمرة (في نيته وإذا أردف الحج على العمرة قبل أن يطوف ويركع فهو
قارن) ظاهر كلامه أنه لا يردف في الطواف والمشهور جوازه ويصح بعد
كماله وقبل الركوع لكنه مكروه فإن ركع فات الأرداف فإن أردف بعد
السعي لم يكن قارنا اتفاقا (وليس على أهل مكة) فقدم إنهم الحاضرون
بها أو بذي طوى وقت فعل النسكين (هدي في تمتع) اتفاقا (ولا) في
(قران) على المشهور أي قياسا على التمتع، وأوجبه ابن الماجشون واختاره
اللخمي (ومن حل من عمرته قبل أشهر الحج ثم حج من عامه فليس بمتمتع)
386

ولو تأخر حلاقه إلى أشهر الحج. (ومن أصاب) أي قتل (صيدا) بريا
مأكول اللحم أو غير مأكوله غير ما نص عليه الشارع، سواء كان القاتل
محرما بأحد النسكين أو كان بالحرم ولو لم يكن محرما، وسواء كان حرا أو
عبدا، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا كان أو كبيرا، كان القتل عمدا أو خطأ أو
نسيانا مباشرة أو تسببا، تكرر ذلك منه أو لم يتكرر (فعليه) وجوبا
(جزاء مثل ما قتل من النعم) والمثلية تكون في الصورة والمساواة في
القدر أو القرب، فعلى من قتل فيلا بدنة خراسانية ذات سنامين، وعلى من
قتل بقرة وحشية أو حمارا وحشيا أو ظبية بقرة إنسية، وعلى من قتل نعامة
بدنة لأنها تقاربها في القدر والصورة وعلى من قتل ضبعا أو ثعلبا أو حماما
من حمام مكة والحرم ويمامهما شاة، وفي غير حمام مكة والحرم حكومة أي فمن
قتل حماما في الحل فإنه يلزمه قيمته طعاما أي حين الاتلاف. وأدنى ما يجزئ
في جزاء الصيد الجذع من الضأن والثني مما سواه لان الله تعالى سماه هديا
فيشترط فيه ما يشترط في الهدي. ولما كان وجوب جزاء المثل لا يكتفى فيه
بمعرفة نفسه قال (يحكم به ذوا عدل) كما قال الله تعالى فإن أخرج قبل
حكمهما عليه أعاد، ولو كان المقوم غير مأكول واشتراط العدالة يستلزم
الحرية والبلوغ ولا بد من لفظ الحكم ولا كفي الفتوى (من فقهاء المسلمين)
ومن شرط حكمهما أن لا يجتهدا بحكمهما في غير ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة، فإن حكما بما لم يتقدم فيه حكم من مضى فإنه يرد ولا ينفذ. ولا
يخرج أحد جزاء من غير حكم فإن أخرجه من غير الحكم أعاده. ولو وافق
فيه حكم من مضى وخرج عن ذلك حمام مكة والحرم ويمامه فإنه لا يحتاج
387

في لزوم الشاة لحكم لخروجه عن الاجتهاد بالدليل، فكان حكما مقررا
كغيره. (ومحله) أي محل نحره أي جزاء الصيد إن كان مما ينحر وذبحه
إن كان مما يذبح (منى إن وقف به) هو أو نائبه (بعرفة وإلا فمكة) أي وإلا
يقف به هو أو نائبه. فمحل ذبحه أو نحره مكة. وهذا التفصيل في أحق الحاج،
وأما المعتمر أو الحلال فمحله مكة لا غير (و) حيث كان محله مكة فإنه (يدخل
به من الحل) لان من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرام، فإن ملكه
في الحرم فلا بد أن يخرج به إلى الحل. ثم أشار إلى وجوب مثل ما قتل على
التخيير بقوله (وله) أي لمن قتل صيدا (أن يختار ذلك) أي مثل ما قتل
من النعم (أو) يختار أحد شيئين أحدهما (كفارة طعام مساكين) وصفة
الاطعام (أن ينظر إلى قيمة الصيد طعاما) من غالب طعام الموضع الذي
قتل فيه الصيد بالغا ما بلغت، فإن لم يكن له قيمة هنالك اعتبرت قيمة
أقرب المواضع إليه، (فيتصدق به) عليهم. وإذا أطعم فلكل مسكين مد
ولو أعطى ثمنا أو عرضا لم يجزه. والشئ الآخر أشار إليه بقوله (أو عدل ذلك)
أي أو يختار عدل طعام المساكين (صياما) وصفة ذلك (أن يصوم عن
كل مد يوما ولكسر المد يوما كاملا) وإنما وجب في كسر المد يوم لأنه
لا يمكن إلغاؤه ولا يتبعض الصوم فلم يبق إلا جبره بالكمال، كالأيمان في
القسامة. واختلف في العدل في الآية فقيل: ما عدل الشئ من غير جنسه، كالعشرة
388

الأيام فإنها عدلت العشرة الامداد وليست من جنسها. وقيل: عدل الشئ
بالفتح مثله وليس بالنظير المساوي كما في المصباح، أو أن صيام العشرة الأيام
ليس مساويا للعشرة الامداد لاختلاف الجنس، والمساواة تقتضي اتحاد
الجنس. (والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر) ولها ميقاتان: مكاني وهو
ميقات الحج، وزماني وهو جميع السنة. ولها أركان ثلاثة: الاحرام والطواف
والسعي، وليس الحلاق ركنا فيها. وصفة الاحرام بها في استحباب الغسل
وما يجوز من اللباس وما يحرم عليه والطيب الخ، كالحج. ويكره تكرارها
في العام الواحد على المشهور (ويستحب لمن انصرف من مكة من حج
أو عمرة أن يقول آيبون تائبون) هما بمعنى واحد وهو الرجوع عن أفعال
مذمومة إلى أفعال محمودة (عابدون لربنا) بما افترض علينا (حامدون)
له على ذلك (صدق الله وعده) لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النصر وإنجاز الوعد
بدخول مكة بقوله تعالى: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) (ونصر
عبده) محمدا صلى الله عليه وسلم (وهزم الأحزاب وحد) سبحانه وتعالى، وذلك أن
المشركين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم ونزلوا بالمدينة فأرسل الله عليهم ريح
الصبا وهو الريح الشرقي قال صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور
وهو الريح الغربي. وإنما استحب قول هذا لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله إذا
389

انصرف من غزو أو حج أو عمرة. باب في الضحايا (باب في الضحايا) حكما وصفة (و)
في (الذبائح) أي بيان ما يذبح وما ينحر وصفة الذكاة (والعقيقة) أي
صفة وحكما (و) في حكم (الصيد) أي الاصطياد وتقسيمه (و) في بيان
حكم (الختان و) في بيان (ما يحرم من الأطعمة والأشربة) وما لا يحرم
منها. وبدأ بما صدر به فقال (والأضحية): بضم الهمزة وكسرها وسكون
الضاد وكسر الحاء وتشديد الياء والجمع أضاحي: بتشديد الياء وهي ما تقرب
بذكاته من الانعام يوم الأضحى وتالييه، سميت بذلك لأنها تذبح يوم
الأضحى وقت الضحى، وسمي يوم الأضحى من أجل الصلاة فيه في ذلك
الوقت، وحكمها أنها (سنة واجبة) أي مؤكدة على المشهور (على من
استطاعها) إذا كان حرا مسلما كبيرا كان أو صغيرا، ذكرا كان أو أنثى،
مقيما كان أو مسافرا، حالة كونه غير حاج لان سنته الهدي عن نفسه
وعمن تلزمه نفقته من أقاربه، كالوالد والأولاد الفقراء، واحترز
بالمستطيع عن غيره كالفقير. قال ابن الحاجب: والمستطيع من
لا تجحف بماله أي من لا يحتاج إلى ثمنها في عامه والشركة فيها في الاجر
جائزة دون الشركة في ثمنها. (وأقل ما يجزئ فيها) أي الأضحية (من
الأسنان الجذع من الضأن وهو) على المشهور (ابن سنة وقيل) هو
390

(ابن ثمانية أشهر وقيل) هو (ابن عشرة أشهر والثني من المعز ما أوفى
سنة ودخل في الثانية) ما ذكره في سن الثني من المعز هو المشهور، وعليه
يظهر الفرق بين سن الجذع من الضأن والثني من المعز (ولا يجزئ في
الضحايا من المعز والبقر والإبل إلا الثني والثني من البقر ما دخل في
السنة الرابعة) هذا مفسر لقوله في الزكاة وهي بنت أربع سنين (والثني
من الإبل ابن ست سنين) أي ما دخل في السنة السادسة. قال الفاكهاني:
انظر كيف قال في ثني البقر ما دخل في السنة الرابعة، ولم يقل في ثني الإبل
ما دخل في السادسة. ولا فرق بينهما عند أهل اللغة وهو أن الثني من البقر
ما أوفى ثلاث سنين ودخل في الرابعة، والثني من الإبل ما أوفى خمس سنين
ودخل في السادسة فما وجه التغاير بينهما والمعنى واحد. (وفحول الضأن في
لضحايا أفضل من خصيانها وخصيانها أفضل من إناثها) وفي بعض النسخ
وفحول الضأن في الضحايا وخصيانها أفضل من إناثها. والنسخة الأولى
موافقة للمشهور وهو أن الفحل أفضل من الخصي وعلل بأنه أكمل منه
في الخلقة (وإناثها) أي إناث الضأن (فضل من ذكور المعز ومن إناثها)
391

أي وفحول المعز أفضل من خصيانها (وفحول المعز) أي وخصيانها (أفضل
من إناثها وإناث المعز أفضل من الإبل والبقر في الضحايا) أي وذكورهما
أفضل من إناثهما. فالمراتب اثنا عشر أعلاها فحل الضأن وأدناها أنثى
الإبل والبقر. وهذا آخر الكلام على التفضيل في الضحايا. (وأما في الهدايا
فالإبل أفضل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز) هذا هو المشهور لان المقصود
من الهدايا تكثير اللحم للمساكين، والمقصود من الضحايا طيب اللحم أي
لادخال المسرة على الأهل. قال بهرام: والحجة لنا في الموضعين أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان أكثر هداياه الإبل وضحى عليه الصلاة والسلام بكبشين، كما
ورد في الصحيح. ثم شرع يبين الصفات التي تتقى في الضحايا والهدايا
لأنها إذا وجدت منعت من الاجزاء فقال: (ولا يجوز) بمعنى لا يجزئ
(في شئ من ذلك) أي من الضحايا والهدايا (عوراء) هي من ذهب
نور إحدى عينيها، وإن بقيت صورتها. أما إن كان على الناظر بياض يسير
لا يمنع الابصار فلا يمنع الاجزاء. وإذا لم تجز العوراء فالعمياء أولى (و)
كذلك (لا) تجزئ فيهما (مريضة) مرضا بينا. أما إن كان خفيفا
لا يمنعها التصرف فلا. ومن المرض البين التخمة من الاكل غير المعتاد أو
الكثير. قال في المصباح: التخمة وزان رطبة والجمع بحذف الهاء، والتخمة
بالسكون لغة والتاء مبدلة من واو لأنها من الوخامة، ومنه الجرب الكثير وسقوط
الأسنان كلها أو بعضها ما عدا الواحدة إذا كان السقوط لغير إثغار أو كبر
392

وإلا فتجزئ ولو الجميع. (و) كذلك (لا) يجزئ فيهما (العرجاء البين
ضلعها) بفتح الضاد المعجمة واللام. وروي بالظاء المشالة، أي المرتفعة، أي البين
عرجها وهي التي لا تلحق الغنم أما إن كان العرج لا يمنعها أن تسير بسيرهم
فلا يمنع الاجزاء. (و) كذلك (لا) يجزئ فيهما (العجفاء) بالمد هي التي
لا مخ في عظامها. وهذه العيوب الأربعة مجمع عليها وبها ورد الحديث،
واختلف هل يقاس عليها غيرها من العيوب أم لا؟ المشهور القياس وعليه
مشى الشيخ فقال (ويتقى فيهما) أي في الهدايا والضحايا (العيب كله)
إذا كان كثيرا ويغتفر اليسير، ويعني بذلك الخرقاء وهي التي في أذنها خرق
مستدير، والمقابلة وهي التي قطع من أذنها من قبل وجهها وترك معلقا،
والمدابرة وهي التي قطع من أذنها من جهة قفاها، والشرقاء وهي المشقوقة
الاذن وإليها أشار بقوله (ولا المشقوقة الاذن إلا أن يكون الشق يسيرا)
وهو الثلث فما دونه. (وكذلك القطع) أي قطع الاذن لا يجوز إلا أن يكون يسيرا.
واختلف في حده فالذي صححه الباجي ومشى عليه صاحب المختصر
وهو الراجح أن ذهاب ثلث الاذن يسير وذهاب ثلث الذنب كثير، لان
الذنب لحم وعصب ولا كذلك الاذن وهذا في ذنب الغنم التي لها ألية كبيرة.
وأما نحو الثور والجمل والغنم في بعض البلدان مما لا لحم في ذنبه فالذي يمنع
الاجزاء منه ما ينقص الجمال ولا يتقيد بالثلث. (ومكسورة القرن إن كان
393

يدمي) يعني لم يبرأ (فلا يجوز وإن لم) يكن (يدمي) بأن برئ (فذلك
جائز) ومن لازم الجواز الاجزاء (وليل الرجل ذبح أضحيته) أو نحرها
وكذلك هديه (بيده) على جهة الاستحباب إن أمكنه ذلك اقتداء برسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يمكنه ذلك لعذر وكل مسلما ويستحب أن يكون من أهل
الفضل والصلاح فإن وكل تارك الصلاة كره وتجزئ على المشهور، وإن وكل
كافرا كتابيا أو غيره لم تجزه. وابتداء زمن الذبح في الأضحية (بعد ذبح
الامام) ما يذبح (أو نحره) ما ينحر (يوم النحر) أي في يوم النحر وهو
العاشر من ذي الحجة وذبح الامام يوم النحر يكون (ضحوة) وهو وقت
حل النافلة، فمن ذبح قبل يوم النحر أو يوم النحر بعد الفجر وقبل طلوع
الشمس لم يجزه وأعاد أضحيته. (و) كذا (من ذبح قبل أن يذبح الامام
أو ينحر) لم يجزه و (أعاد أضحيته) لقوله تعالى: * (لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله) * (الحجرات: 1) قال الحسن البصري: نزلت في قوم ذبحوا قبل الامام. هذا حكم من
لهم إمام (و) أما (من لا إمام لهم فليتحروا صلاة أقرب الأئمة إليهم وذبحه)
فيذبحون حينئذ، فلو نحروا ثم تبين خطؤهم أجزأهم على المشهور. والمعتبر
إمام الصلاة على المشهور. (ومن ضحى بليل) في ليلة اليوم الثاني أو الثالث
394

(أو أهدى لم يجزه) لقوله تعالى: * (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات) * (الحج: 28) فذكر
الأيام دون الليالي، والمراد بالليالي هنا من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
ومن ضحى في اليوم الثاني أو الثالث بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس
أجزأه، ويكون تاركا للمستحب، بخلاف من ضحى في اليوم الأول بعد الفجر
وقبل طلوع الشمس فإنه لا يجزئه. (وأيام النحر) عند مالك تبعا لجماعة
من الصحابة (ثلاثة) أي ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده (يذبح فيها)
ما يذبح (أو ينحر) ما ينحر. وقد قدم أن ابتداء زمن النحر والذبح من
ضحوة يوم النحر بعد صلاة الامام وذبحه، وأما آخره ف‍ (- إلى غروب الشمس
من آخرها) أي من آخر الأيام الثلاثة، وهي متفاوتة في الفضيلة وقد بين
ذلك بقوله (وأفضل أيام النحر) للأضحية (أولها) لفعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء
الراشدين بعده (ومن فاته الذبح) أو النحر (في اليوم الأول إلى الزوال
فقد قال بعض أهل العلم) وهو ابن حبيب ونقله بهرام من روايته عن
مالك: (يستحب له أن يصبر إلى ضحى اليوم الثاني) قال بهرام: لا خلاف أن
ما قبل الزوال من أول يوم أفضل مما بعده. واختلف هل ما بعد الزوال منه أفضل مما
قبل الزوال من اليوم الثاني؟ وهو ظاهر لفظ المختصر، وهو مذهب الرسالة وغيرها.
وإليه ذهب ابن المواز، أو ما قبل الزوال من الثاني أفضل مما بعده من الأول وهو
قول مالك في كتاب ابن حبيب وهو ضعيف، فالمعتمد أن جميع اليوم الأول
395

أفضل مما بعده، حتى أن القابسي أنكر رواية ابن حبيب (ولا يباع) على
جهة المنع (شئ من الأضحية) التي تجزئ بعد الذبح. وكذا كل ما هو
قربة كالهدي والعقيقة. وقوله: (جلد ولا غيره) صرح به وإن كان داخلا
فيما قبله إشارة للرد على من يقول يجوز بيع الجلد (وتوجه الذبيحة)
في الأضحية وغيرها (عند الذبح إلى القبلة) استحبابا فإن تركه لعذر أو
نسيانا أكلت اتفاقا. (وليقل الذابح) عند الذبح (باسم الله والله أكبر)
والجمع بين التسمية والتكبير هو الذي مضى عليه عمل الناس أما التكبير
فسنة أي مستحب، وأما التسمية فيؤخذ من كلامه بعد وهو مذهب المدونة:
أنها واجبة مع الذكر، والقدرة ساقطة مع العجز والنسيان: وإن اقتصر عليها
أجزأه لقوله تعالى: * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * (الانعام: 118) فلم يشترط سوى مجرد اسم
الله تعالى. (وإن زاد الذابح) على التسمية والتكبير (في) ذبح (الأضحية)
والهدي أو النسك والعقيقة. (ربنا تقبل منا فلا بأس بذلك) قيل: لا بأس
هنا بمعنى الاستحباب، وقيل: بمعنى الإباحة. (ومن نسي التسمية في ذبح
أضحية أو غيرها فإنها تؤكل فإن تعمد ترك التسمية لم تؤكل) هذا على
مذهب المدونة أنها فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان (وكذلك) من
نسي التسمية (عند ارسال الجوارح) أو رمي السهم وغيره مما يصاد به
396

(على الصيد) فإنه يؤكل وإن تعمد ترك التسمية لم يؤكل لقوله تعالى: * (ولا
تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * (الانعام: 121) وقوله تعالى: * (فكلوا مما أمسكن عليكم
واذكروا اسم الله عليه) * (المائدة: 4) ولو قدم هذه المسألة على التي قبلها لكان أولى لان
النص إنما جاء في إرسال الجوارح على الصيد، ولم يأت في الذبيحة. نص وفي
قوله: (ولا يباع من الأضحية والعقيقة والنسك لحم ولا جلد ولا ودك) أي
دهن (ولا عصب) أي عروق (ولا غير ذلك) مثل القرن والشعر والصوف
تكرار مع قوله: ولا يباع شئ من الأضحية. قال ابن عمر: يحتمل تكراره
ليرتب عليه قوله: (ويأكل الرجل) يريد أو غيره (من أضحيته ويتصدق
منها أفضل له) يحتمل عود الفضل على التصدق خاصة، ويحتمل عوده على
الجمع بين الاكل والتصدق، وهو الظاهر لقوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا
القانع والمعتر) * (الحج: 36) وقوله تعالى: * (وأطعموا البائس الفقير) * (الحج: 28) القانع الفقير أي سواء
كان يسأل أم لا. وقيل: الفقير: الذي لا يسأل، والمعتر: الزائر المتعرض لما يناله من
غير سؤال. ويكره التصدق بالجميع وليس لما يؤكل أو يطعم حد. والجمهور
على منع إطعام الكافر منها مطلقا كتابيا كان أو مجوسيا. وقوله (وليس
بواجب عليه) تكرار مع قوله: أفضل له. (ولا يأكل) الرجل أو غيره ممن
وجب عليه هدي (من فدية الأذى) المترتبة في ذمته إذا بلغت محلها هذا
397

إذا جعلها هديا بأن قلدها أو أشعرها، فإن لم يجعلها فإنه لا يأكل منها بلغت
محلها أم لا. (و) كذلك لا يأكل من (جزاء الصيد) الذي ترتب في ذمته
بعد بلوغ محله (و) كذا لا يأكل من (نذر المساكين) غير المعين بعد
محله (و) كذلك لا يأكل (مما عطب من هدي التطوع بل محله) أي
لاتهامه على عطبه (ويأكل مما سوى ذلك) كفدية الأذى قبل بلوغ
محلها، وجزاء الصيد قبل محله ونذر المساكين قبل محله، وما عطب من هدي
التطوع بعد محله وهدي القران والتمتع، وهدي الفساد وكل هدي لنقص
شعيرة من شعائر الحج. وقوله: (إن شاء) إشارة إلى أن الأصل في الهدي
عدم الاكل بخلاف الأضحية. ثم اعلم أن المحل هو منى إن وقف بها بعرفة
وكان في أيام النحر ومكة، إن لم يقف ها أو خرجت أيام النحر، وإنما حرم
الاكل من المذكورات الثلاثة بعد بلوغ محلها لان الله سبحانه وتعالى
سمى الفدية والجزاء كفارة، والانسان لا يأكل من كفارته وأخرج نفسه
في الثالث لجعله للمساكين. وإنما جاز له الاكل قبل المحل لان عليه البدل،
وإنما جاز له الاكل من هدي التطوع إذا عطب بعد المحل لعدم الاتهام، وإنما
جاز له الاكل من هدي القران والتمتع وهدي الفساد وكل هدي لزم لنقص
شعيرة من شعائر الحج مطلقا قبل المحل وبعده لعدم الاتهام إذا لم يبلغ
المحل، لان عليه البدل وبعده الامر ظاهر. (والذكاة قطع الحلقوم) جميعه
(و) قطع جميع (الأوداج) أي الودجين عبر بالجمع عن المثنى (ولا
398

يجزئ أقل من ذلك) أي من قطع الحلقوم بتمامه والأوداج هذا قول
سحنون وشهر. وقيل: يكتفى بقطع تمام الودجين ونصف الحلقوم. وظاهر
كلام الشيخ: أنه لا يشترط قطع المرئ. قال عياض: المرئ بفتح الميم وكسر
الراء وهمز آخره، وقد يشدد آخره ولا يهمز مبلع الطعام والشراب وهو
البلعوم. وفسره الجوهري: بالحلق (وإن رفع) الذابح (يده) عن الذبيحة
(بعد قطع بعض ذلك) الحلقوم والأوداج (ثم أعاد يده فأجهز فلا تؤكل)
ظاهره سواء طال الرفع أو لم يطل، وهو كذلك باتفاق في الطول واختلف
إذا رجع بالقرب. فقال سحنون: تحرم، وقال ابن حبيب: تؤكل لان كل ما طلب فيه
الفور يغتفر فيه التفريق اليسير وهو المعتمد. وفقه المسألة أنه لو رفع يده
بعد إنفاذ مقاتلها وعاد عن بعد فلا تؤكل، ولو كان رفع يده اضطرارا، وأما
لو رفع يده قبل إنفاذ شئ من مقاتلها فإنها تؤكل، ولو عاد عن بعد لان
الثانية ذكاة مستقلة، وكذلك تؤكل إذا أنفذ مقاتلها وعاد عن قرب كما ذهب
إليه ابن حبيب. (وإن تمادى الذابح) عمدا (حتى قطع الرأس) من الذبيحة
(أساء ولتؤكل) يعني وتؤكل ولم يرد الامر، وإذا أكلت مع العمد فأحرى
مع النسيان أو غلبة السكين. (ومن ذبح من القفا) أو من صفحة العنق
(لم تؤكل) لأنه لم يأت بالذكاة المشروعة ولأنه قد أنفذ المقتل بقطع النخاع،
وإذا أنفذت المقاتل قبل الذبح لم تؤكل، ولو قطع الحلقوم وعسرت السكين
على الودجين لعدم حد السكين فقلبها وقطع بها الأوداج من داخل لم تؤكل
399

على المذهب. (والبقر تذبح فإن نحرت أكلت والإبل تنحر فإن ذبحت لم
تؤكل) فالبقر يجوز فيها الأمران لان لها موضع النحر وموضع الذبح، ومحل
النحر اللبة وهو موضع القلادة من الصدر من كل شئ، ولا يشترط في النحر
قطع شئ من الحلقوم والودجين لان محله اللبة وهو محل تصل منه الآلة إلى القلب
فيموت بسرعة ويستحب في نحر الإبل أن تكون قائمة. (وقد اختلف في أكلها)
أي المذبوحة من الإبل فقوله إنها لا تؤكل إذا ذبحت مثله في المدونة وحمله ابن
حبيب على التحريم وشهره ابن الحاجب وهو الراجح. وحمله غيره على الكراهة.
ومحل الخلاف إذا وقع الذبح لغير ضرورة. وأما إن كان لضرورة كما لو وقع
بعير في مهواة ولم يصل إلى لبته فذبح فأكله جائز اتفاقا. والغنم تذبح (فإن
نحرت لم تؤكل، وقد اختلف أيضا في ذلك) أي في أكلها وهو مقيد أيضا
بما إذا لم تكن ضرورة، والمشهور التحريم وإن كان لضرورة كما لو وقع في
مهواة ونحر أكل اتفاقا. (وذكاة ما في البطن ذكاة أمه) معناه أن البهيمة
من ذوات الانعام إذا ذكيت فخرج من بطنها جنين ليس فيه روح فإنه يؤكل
بشروط (إذا تم خلقه ونبت شعره) يريد بتمام خلقه تناهي خلقته ووصولها
إلى الحد الذي ينزل عليه من بطن أمه لا كمال أطرافه فيؤكل ناقص يد
أو رجل. ثم انتقل يبين ما لا تعمل فيه الذكاة من الانعام (وهو) أشياء
400

منها (المنخنقة بحبل ونحوه والموقوذة) وهي المضروبة (بعصا وشبهها)
كالرمح والحجر (والمتردية) وهي الساقطة من علو إلى أسفل (والنطيحة)
أي المنطوحة (وأكيلة السبع) وهي التي ضربها السبع وهو كل ما يتسبع
(إن بلغ ذلك) الفعل المذكور (منها) أي من الخمسة المذكورة في هذه
الوجوه من ترد ونحوه (مبلغا لا تعيش معه لم تؤكل بذكاة) لان سبيلها
سبيل الميتة. والمقاتل خمسة: انقطاع النخاع وهو المخ الذي في عظام الرقبة
والصلب، وقطع الأوداج، وخرق المصران، وانتشار الحشوة، ونثر دماغ. وأما
إذا لم تنفذ مقاتلها فإن كانت مرجوة الحياة فلا خلاف في أعمال
الذكاة فيها وإن كانت غير مرجوة، فعن ما لك من رواية أشهب:
أنها لا تذكى ولا تؤكل وهو الذي مشى عليه الشيخ، ومذهب
ابن القاسم وروايته عن مالك أنها تذكى وتؤكل وهو الراجح. (ولا بأس
للمضطر) وهو من خاف الهلاك على نفسه، ولا يعني بذلك أن يكون قد أشرف
على الموت إذ الاكل حينئذ لا ينفع (أن يأكل الميتة) من كل حيوان غير
الآدمي ولو كافرا ولو مما لا حرمة له كالمرتد والحربي إما لأنه يؤذي أكله
أو لمحض التعبد. ولو وجد المحرم الصيد والميتة أكل الميتة وإذا وجد ميتة
وخنزيرا أكل الميتة، وإن لم يجد إلا خنزيرا أكل منه ويستحب له تذكيته
وذكاته العقر. قال التتائي: والظاهر أنه لا يحتاج إلى تذكيته لان الذكاة
401

لا تفيد في محرم الاكل (و) كذلك لا بأس للمضطر أن (يشبع ويتزود)
من الميتة إذا خاف العدم فيما يستقبل ومحل جواز أكل الميتة للمضطر حيث
لم يجد طعام الغير وإلا قدمه حيث لم يكن ضالة الإبل، ولم يخف القطع أو
الضرب الشديد فيما لا يقطع فيه فإذا أكل من عام الغير عند عدم خوف
القطع أو الضرب الشديد، فقيل: يقتصر على سد الرمق من غير شبع وتزود
وعليه المواق، وقيل: يشبع ولا يتزود وعليه الحطاب، وكما يباح له أكل الميتة
عند الاضطرار يباح له أيضا شرب كل ما يرد عطشا كالمياه النجسة وغيرها
من المائعات النجسة كماء الورد النجس إلا الخمر فإنها لا تحل لإساغة
الغصة، وأما العطش فلا إذ لا تفيد في ذلك بل ربما زادت العطش. (ولا بأس
بالانتفاع بجلدها) أي الميتة ويباح الانتفاع به (إذا دبغ) بما يزيل ريحه
ورطوبته. ومفهوم الشرط أنه لا ينتفع به قبل الدبغ وهو كذلك، وظاهر
كلامه أن الدبغ يفيد في جلد كل ميتة. وبه قال سحنون وابن عبد الحكم.
والمشهور أن الدبغ لا يعمل في جلد الخنزير. وظاهره أيضا أن طهارته عامة
في المائعات وغيرها، وهو كذلك عند سحنون وغيره والمشهور: أن طهارته
مقيدة باليابسات والماء وحده من بين المائعات لان له قوة يدفع بها عن
نفسه. (ولا يصلى عليه) أي ولا فيه على المشهور (ولا يباع) على إحدى
الروايتين وهي المشهورة في المذهب، وطهارته طهارة مخصوصة بجواز استعماله
في اليابسات وفي الماء وحده من بين سائر المائعات، وليست عامة حتى في
جواز بيعه والصلاة فيه وعليه. (ولا بأس بالصلاة) استعمل لا بأس هنا
402

بمعنى الجواز أي وتجوز الصلاة (على جلود السباع إذا ذكيت) أي ونحوها
من كل حيوان مكروه الاكل ليشمل الفيل والذئب والثعلب والضبع
بشرط أن تذكى (و) كذلك لا بأس ب‍ (- بيعها) أي بيع جلود السباع
إذا ذكيت. (وينتفع بصوف الميتة وشعرها) بعد الجز انتفاعا عاما من
البيع والصلاة عليه والصدقة به، وغير ذلك إلا أنه إذا باع بين وظاهر قوله:
وشعرها دخول شعر الخنزير. وهو كذلك عند مالك وابن القاسم وغيرهما
يقول باستثناء شعر الخنزير والكلب فقول الشيخ آخر الكتاب وكل
شئ من الخنزير حرام أراد به إلا شعره. (و) كذلك (ما ينتزع منها) أي
الميتة (في) حال (الحياة) أي على تقدير لو انتزع منها في حال الحياة لم
يؤلمها إلا اللبن فإنه نجس وهو مما ينتزع منها في حال الحياة ولا يؤلمها.
(وأحب إلينا) أي المالكية (أن يغسل) ما ذكر من الصوف وما بعده
إذا لم تتيقن طهارته ولا نجاسته، أما إن تيقنت طهارته فلا يستحب غسله،
وإن تيقنت نجاسته وجب غسله. (ولا ينتفع بريشها) أي الميتة ظاهره
معارض لقوله أولا وما ينتزع منها في حال الحياة، وقد تقدم ما يزيل الاعتراض
وهو تخصيص ما تقدم بقوله ولا يؤلمها (و) كذلك (لا) ينتفع (بقرنها)
أي الميتة (وأظلافها وأنيابها) ظاهره على جهة التحريم لان الحياة تحله
(وكره الانتفاع بأنياب الفيل) وكذا عبر في المدونة.
403

(وقد اختلف في ذلك) أي في أنياب الفيل وكذا القرن والظلف وهو للبقر والشاة
والظبي والظفر وهو للبعير والإوز والنعامة وحمر الوحش والعظم على أربعة أقوال
مشهورها: أن ذلك كله نجس بناء على أنه تحله الحياة. قال ابن وهب: طاهر
أي بناء على أنه لا تحله الحياة، وما تقرر من كون ناب الفيل نجسا إذا كان
من ميتة مثله المنفصل من الفيل حال الحياة وحيث كان المنفصل من الميتة
نجسا فالكراهة في قول المدونة، وأكره الادهان في أنياب الفيل والمشط
بها والتجارة فيها لأنها ميتة محمولة على التحريم. وأما أنياب الفيل المذكى
ولو بالعقر فإنه مكروه والكراهة على التنزيه. (وما مات فيه فأرة) بالهمز
(من سمن أو زيت أو عسل) أو ودك (ذائب) راجع للجميع (طرح
ولم يؤكل) ولا يباع ومثل الفأرة كل ما له نفس سائلة، ولما ذكر أنه يطرح
ولا يؤكل وخشي أن يتوهم أنه لا ينتفع به أصلا رفع ذلك الايهام بقوله:
(ولا بأس) بمعنى ويباح (أن يستصبح بالزيت المتنجس وشبهه) كالودك
والسمن (في غير المساجد) كالبيوت والحوانيت، (و) أما المساجد
ف‍ (- ليتحفظ منه) لأنه نجس فلا يستصبح به فيها لتنزيهها عن النجاسات،
ثم صرح بمفهوم ذائب فقال: (وإن كان) ما ذكر من السمن وما عطف
عليه (جامدا طرحت) الفأرة التي ماتت فيه هي (وما حولها وأكل
ما بقي) وله بيعه إلا أنه يبين لان النفس تكرهه، ولا تحديد فيما يطرح
404

منه، وإنما ذلك على حب غلبة الظن (قال سحنون: إلا أن يطول مقامها)
بضم الميم أي إقامتها (فيه فإنه يطرح كله) لأن النجاسة إذا طال مقامها
في الجامد نفذت في جميع أجزائه. (ولا بأس بطعام أهل الكتاب وذبائحهم)
لا بأس هنا للإباحة قال تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * (المائدة: 5) الآية.
الجمهور من المفسرين على أن المراد بالطعام الذبيحة كلها ما حل ذلك منها
وما حرم عليه كالطريفة وهي أن توجد الذبيحة فاسدة الرئة، ولابد لجواز
الاكل أن يكون ممن لا يستحل الميتة وأما من يستحلها فقال الباجي: إن
ذبح بحضرتك وأصاب وجه الذكاة جاز أكلها، وأما إن غاب عنها فلا يجوز.
(وكره أكل شحوم اليهود منهم من غير تحريم) أي مما هو محرم عليهم
بشرعنا كشحم البقر والغنم الخالص كالشحم الرقيق الذي يغشى الكرش
والأمعاء، فإن قيل: شحم اليهود مما ثبت تحريمه بشرعنا فلم لم يكن حراما
فالجواب: أنه جزء مذكى والمذكى حل له فهو لم يذبح غير حل له لكن
لحرمته عليه كره أكله لنا (ولا يؤكل ما ذكاه المجوسي) مطلقا وثنيا كان
وهو ما يعبد الوثن أي الصنم. قال في المصباح: الوثن الصنم سواء كان من
خشب أو حجر، أو غير وثني ذكاه لنفسه أو لمسلم إلا أن يأمره المسلم
بالذبح ويقول له: قل باسم الله عليها فإنها تؤكل من غير خلاف. وكذلك
لا تؤكل ذبيحة السكران والمجنون ولو أصابا الذكاة لفقدان عقلهما قال ابن
الحاجب: وتصح من الصبي المميز والمرأة من غير ضرورة على الأصح.
405

(وما كان مما ليس فيه ذكاة من طعامهم) يجوز أكله اتفاقا إن تيقنت
طهارته أما إن تيقنت نجاسته فيحرم أكله وما شك فيه يحمل على
التنجيس (والصيد للهو مكروه) قال في التنبيه: اللهو مصدر لهوت بالشئ
بالفتح لهوا إذا لعبت به (والصيد لغير اللهو مباح) وقد يكون واجبا إذا
كان لا يمكنه الانفاق على عياله إلا منه (وكل ما قتله كلبك المعلم أو بازك
المعلم فجائز أكله ولا خصوصية لهذين بل كل ما علم بالفعل من الكلاب
والسباع والطيور وهو أن يكون بحيث إذا أرسل أطاع، وإذا زجر انزجر.
إلا أن يكون طيرا فيكفي فيه الإطاعة عند إرادة الارسال، ولا يشترط فيه
قبول الانزجار بعد الارسال (إذا أرسلته عليه) فقتله فإنه يجوز أكله
فيشترط في المصاد به إذا كان حيوانا أن يكون علم بالفعل، ولو كان من
نوع ما لا يقبل التعليم كالأسد والنمر والنمس، وأولى ما يقبله من كلب وباز
وسنور، ولو كان طبع المعلم بالفعل الغدر كدب فإنه لا يمسك إلا لنفسه وأن
يكون مرسلا من يد الصائد، ويشترط في المصيد أن يكون مرئيا أي أو
يكون في مكان محصور كغار أو غيضة علم به أو لم يعلم به أبصره أو لا.
ويشترط أن لا يكون لهما منفذ آخر وإلا لم يؤكل ما كان بواحد منهما وأن
يكون مما يؤكل لحمه ولو ظن خلافه، كما لو ظنه أرنبا مثلا فأرسل عليه كلبه
فإذا هو ظبي، وأن يكون غير مقدور عليه أي جملة أو في القدرة عليه مشقة
ككونه في شاهق جبل أو على شجرة ولا يتوصل إليه إلا بأمر يخاف منه
406

العطب، أو كان في جزيرة كبيرة. وأما الصائد فيشترط فيه أن ينوي وأن
يسمي حال الارسال فإن ترك التسمية عامدا لم يؤكل مصيده بخلاف النسيان.
وأن يكون مسلما وهذا خاص بصيد البر، وأما صيد البحر فإنه جائز لكل
أحد وأن يكون عاقلا فالمجنون والسكران لا يصح منهما. (وكذلك) جائز
(أكل كل ما أنفذت الجوارح مقاتله قبل قدرتك على ذكاته) إذا تبعته ولم
تفرط في طلبه (و) أما (ما أدركته قبل إنفاذها) لمقاتله (لم يؤكل إلا
بذكاة) ولا يجوز أكله بدون ذكاة. قال ابن عمر: يريد إذا فرط بأن لم
يكن عنده السكين وأخذ يطلبها من غيره حتى مات. أما إن لم يفرط فإنه
يؤكل وإن لم تنفذ مقاتله إذا نيبه أي لا بد من الادماء ولو في الاذن مع شق جلد
أم لا، لا شق جلد بدون إدماء في وحشي صحيح، فلا يكفي بخلافه في مريض فيكفي.
(وكل ما صدته بسهمك ورمحك) يعني وبكل ما له حد ولو غير حديد وقتله
السهم أو الرمح أو جرحه ومات قبل قدرتك على ذكاته (فكله) حيث
نويت وسميت عند رمي السهم أو الرمح فلو أدركته حيا بعد إنفاذ شئ من
مقاتله ندب تذكيته (فإن أدركت ذكاته فذكه وإن فات بنفسه فكله
إذا قتله سهمك ما لم يبت عنك) لا خصوصية للسهم بذلك الشرط الذي
هو قوله: ما لم يبت عنك، فقد قال في المدونة: إذا بات عنه الصيد ثم وجده
منفود المقاتل فإنه لا يؤكل وسواء في ذلك الكلب والباز والسهم وحينئذ
407

فالأولى للمصنف أن يحذف قوله إذا قتله سهمك (وقيل: إنما ذلك) أي
عدم أكل ما فات بنفسه (فيما بات عنك فيما قتله الجوارح وأما السهم
يوجد في مقاتله فلا بأس بأكله) لا بأس هنا بمعنى الجواز. وهذه التفرقة
لابن المواز وهي تفرقة ضعيفة. (ولا تؤكل الانسية بما يؤكل به الصيد)
ظاهره ولو ندت والتحقت بالوحش وكذلك الحيوان الوحشي إذا تأنس
وصار مقدورا عليه فلا يؤكل إلا بالذبح. (والعقيقة) أطلقت شرعا على الشاة
المذبوحة يوم سابع المولود منقولة من معناها لغة: وهو شعر رأس المولود
لأنها تذبح عند حلقه وهي في الأصل: فعيلة بمعنى مفعولة من العق وهو
القطع. ولا يخفى وجوده في كل من الشعر، الذبيحة لقطع أوداجها وحلقها
(سنة مستحبة) فيه نظر لان الشئ الواحد لا يجتمع فيه حكمان وأجيب
عنه بأنه عنى بقوله: مستحبة أي غير مؤكدة. والأصل في مشروعيتها ما رواه
أحمد بسند جيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: كل غلام مرهون بعقيقته. (ويعق عن المولود)
ذكرا كان أو أنثى (يوم سابعه) أي سابع ولادته بشرط حياته إليه
(بشاة) من الضأن أو المعز يشترط فيها أن تكون (مثل ما ذكرنا) فيما
تقدم (من سن الأضحية) وهو الجذع من الضأن والثني من المعز (وصفتها)
بأن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الاجزاء في الأضحية. (ولا يحسب
408

في السبعة الأيام اليوم الذي ولد فيه) من بعد الفجر فإن ولد مع الفجر
حسب. (وتذبح ضحوة) على جهة الاستحباب ويكره من بعد الزوال إلى
الغروب فلا يجزئ ذبحها ليلا ولا قبل طلوع الشمس (ولا يمس الصبي
بشئ من دمها) حذرا مما كان يفعله أهل الجاهلية من تلطيخ رأسه
بدمها تفاؤلا بأن يكون شجاعا سفاكا للدماء. (ويؤكل منها ويتصدق) أي
يستحب أن يطعم منها أهل بيته وجيرانه. قال الفاكهاني: والاطعام فيها كهو
في الأضحية. ولا حد للاطعام فيها بل يأكل ما شاء ويتصدق بما شاء، ولو قدم
الصدقة لكان أولى لما قيل: إنها لا تكون عقيقة حتى يتصدق بها كلها أو
بعضها، فالمقصود من العقيقة الصدقة والصدقة تكون منها طريا ومطبوخا.
(وتكسر عظامها) استحبابا مخالفة للجاهلية فإنهم كانوا لا يكسرون
عظامها مخافة ما يصيب الولد (وإن حلق شعر رأس المولود) ذكرا كان أو
أنثى (وتصدق بوزنه من ذهب أو فضة فذلك مستحب) لما في الترمذي
من حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن بكبش
وقال: يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة فوزناه فكان درهما
أو بعض درهم. وقوله: (حسن) تأكيد فإن المستحب هو الحسن ويستحب
409

أن يسمى يوم سابعه إن عق عنه وإن لم يعق عنه سمي قبل ذلك، ويستحب
أن يسبق إلى جوف المولود الحلاوة لأنه صلى الله عليه وسلم حنك عبد الله بن أبي طلحة
بتمرة (وإن خلق رأسه بخلو بفتح الخاء كالطيب والزعفران، ابن العربي.
ولا يسمى خلوقا حتى يعجن بماء الورد (بدلا من الدم الذي كانت تفعله
الجاهلية فلا بأس بذلك) لما رواه أبو داود عن بريدة الصحابي قال: كنا
في الجاهلية إذا ولد لاحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الله
بالاسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. (والختان سنة في
الذكور) وكذا عبر في آخر الكتاب وزاد هنا (واجبة) أي مؤكدة
ويكره أن يختن يوم يولد أو يوم سابعه لأنه فعل اليهود، وحد الختان حين
يؤمر الصلاة من سبع سنين إلى عشر واختلف في الكبير إذا أسلم
وخاف على نفسه هل يختن أم لا. قال سحنون: يلزمه الختان قائلا أرأيت
إن وجب قطع سرقة أيترك للخوف على نفسه، ومن ترك الختان لغير عذر
لم تجز إمامته ولا شهادته. (والخفاض في النساء) وهو إزالة ما بفرج
المرأة من الزيادة (مكرمة) بفتح الميم وضم الراء أي كرامة بمعنى مستحب،
قاله التتائي. وإنما كان مكرمة لأنه يرد ماء الوجه ويطيب الجماع. المراد برد
ماء الوجه أنه يتسبب عنه رونق الوجه وبريقه ولمعانه. وهنا انتهى الكلام
على النصف الأول من الرسالة ولله الحمد ثم انتقل يتكلم على نصف الثاني
410

فقال: باب الجهاد (باب في) حكم (الجهاد) وهو لغة مأخوذ من الجهد بفتح الجيم
أي التعب والمشقة، وأما بالضم فهو الطاقة أفاده المصباح، واصطلاحا قتال مسلم
كافرا غير ذي عهد لاعلاء كلمة الله أو حضوره له، أو دخوله أرضه له. وله
فرائض يجب الوفاء بها وهي طاعة الامام إذا ندبه أن يذهب إلى جهة
للقتال فيها تعين عليه ذلك، وترك الغلول وهو الاخذ من الغنيمة قبل القسم،
والوفاء بالأمان أي أنه إذا أمن كافرا فيجب عليه الوفاء به ولا يجوز له
بعد ذلك أن يستبيح دمه وأن لا يفر واحد من اثنين، وهو معنى الثبات
عند الزحف وهو قسمان: فرض عين وفرض كفاية فيتعين لفك الأسارى
وباستنفار الامام بمعنى أن الامام إذا عين واحدا أو أكثر لقتال العدو
فإنه يتعين عليه ذلك ولا تسعه المخالفة سواء كان ممن يخاطب بفرض
الجهاد أم لا كالعبد والصبي الذي يقدر على القتال والمرأة ويفجأ العدو محلة
قوم، وما عدا هذه يكون فرض كفاية. وإليه أشار بقوله (والجهاد فريضة
يحمله بعض الناس عن بعض) لقوله تعالى: * (لا يستوي القاعدون من
المؤمنين) * إلى قوله * (وكلا وعد الله الحسنى) * (النساء: 95) أي المثوبة الحسنى وهي الجنة
وتواتر في السنة أنه صلى الله عليه وسلم أرسل قوما دون آخرين. (وأحب إلينا) أي
المالكية (أن لا يقاتل العدو حتى يدعوا إلى دين الله) أي حتى تدعى كل
فرقة إلى الخروج عما كفرت به فيدعى إلى الشهادتين من لم يقر بمضمونهما،
ويدعى إلى عموم رسالة المصطفى من ينكر العموم ويدعون إلى ذلك ثلاثة
411

أيام متوالية في كل يوم مرة (إلا أن يعاجلونا) أي يبادرونا بالقتال
فإن الدعوة حينئذ لا تستحب بل يجب قتالهم وظاهر قوله (فإما أن يسلموا
أو يؤدوا الجزية) أنهم يخيرون بين الامرين دفعة واحدة فإن أجابوا إلى
أحدهما كف عنهم (وإلا قوتلوا)، والذي في الجواهر: وصفة الدعوة أن يعرض
عليهم الاسلام، فإن أجابوا كف عنهم وإن أبوا عرض عليهم أداء الجزية،
فإن أبوا قوتلوا. هذا كله مع الامهال فلو عجلوا عن الدعوى من باب تعب،
أي: فلو أسرعوا لمقاتلتنا كافين عن دعوتنا أي تاركين لها قوتلوا دونها لان
الدعوة حينئذ حرام (وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا حيث تنالهم
أحكامنا، فأما إن بعدوا منا فلا تقبل منهم الجزية إلا أن يرتحلوا إلى بلادنا
وإلا قوتلوا) قال ابن عمر: هذا الشرط في أهل العنوة، وأما أهل الصلح
فلا يشترط فيهم هذا الشرط وتقبل منهم الجزية في موضعهم لأنهم منعوا
أنفسهم حتى صالحوا على أنفسهم وبلادهم. (والفرار) بكسر الفاء أن يولي
(من العدو) عده العلماء (من الكبائر إذا كانوا) أي العدو من الكفار
(مثلي عدد المسلمين فأقل) سواء كان المسلمون مثلهم في القوة أو أشد
أو جهل الامر، وهو المشهور، إذ المشهور يعتبر الضعف بحسب العدد لا القوة
412

خلافا لابن الماجشون فإنه يقول: يلزم أن يثبتوا لأكثر من النصف إذا
كانوا أكثر من الكفار سلاحا وأشد قوة وجلدا، ومحل حرمة الفرار
إذا فر ونيته عدم الرجوع، أما إذا فعل ذلك مكيدة أو تحيزا إلى فئة بأن
يرى العدو الانهزام حتى يتبعه فيكر عليه أو يرجع إلى الأمير أو إلى جماعة
المسلمين لأجل أن يستعين بهم فلا يحرم الفرار إذا. (فإن كانوا) أي العدو
(أكثر من ذلك) أي من مثلي عدد المسلمين (فلا بأس بذلك) الفرار
من العدو، وظاهره ولو بلغ المسلمون ثني عشر ألفا وهو كذلك في النوادر عن
سحنون، ونقل ابن رشد عن جمهور أهل العلم وارتضاه: أن المسلمين إذا
بلغوا اثني عشر ألفا لا يجوز لهم الفرار وإن كان الكفار أكثر من مثليهم.
وقيد به بعضهم كلام الشيخ واعتمده صاحب المختصر. (ويقاتل العدو)
بالبناء للمفعول أي: ويجب على كل من وجب عليه الجهاد أن يقاتل العدو
من الكفار (مع كل بر) بفتح الموحدة وهو الموفي بالعهود (و) مع كل
فاجر) وهو الجائر في أحكامه (من الولاة) أما مع الأول فظاهر، وأما مع الثاني
فلما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. ولأنه لو
ترك القتال معه لكان ضررا على المسلمين. (ولا بأس بقتل من أسر من الاعلاج):
جمع علج وهو الرجل من كفار العجم، أي: إذا كان في قتله مصلحة (ولا
يقتل أحد من العدو بعد أمان) كان الأمان من الامام أو غيره على المشهور،
خلافا لمن يقول: إن أمان غير الامام موقوف على نظر الامام وسند المشهور
413

قوله صلى الله عليه وسلم: ينصب للغادر لواء يوم القيامة أي: راية فيقال: هذه غدرة فلان
بفتح الغين المعجمة. والمراد شهرته يوم القيامة بصفة الغدر ليذمه أهل
الموقف (ولا يخفر لهم) أي للعدو (بعهد) والاخفار نقض العهد وليس
هذا تكرارا مع ما قبله، فإن الأول خاص بالقتل، وهذا عام في القتل وغيره
. (ولا يقتل النساء و) لا (الصبيان) لما صح من نهيه عليه الصلاة والسلام
عن قتلهم. وكذلك لا تضرب عليهم الجزية ويتخير الامام فيهم بين ثلاثة
أوجه الاسترقاق والعتق والفداء (ويجتنب قتل الرهبان) جمع راهب وهو
العابد، ليس النهي عن قتل الرهبان ونحوهم لفضل ترهبهم بل هم من الله
أبعد من غيرهم لشدة كفرهم، وإنما تركوا لتركهم أهل دينهم فصاروا
كالنساء (و) قتل (الأحبار) جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو الأفصح:
العالم. واختلف في مرجع الضمير من قوله (إلا أن يقاتلوا) فقيل: عائد على
جميع من تقدم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار، وقيل: عائد على
الرهبان وما بعده واستقرب لسلامته من التكرار مع قوله: وكذلك المرأة
تقتل إذا قاتلت، ظاهره كان ذلك في حال القتال أو بعده وقيده ابن عمر
بقوله يعني حال القتال، وأما إذا برد القتال فلا تقتل والراجح أنها إذا
قاتلت بسلاح تقتل مطلقا حال القتال وبعده، ولو لم تقتل أحدا. والصبي في
التفصيل كالمرأة. (ويجوز أمان أدنى المسلمين) وهو الخسيس لذي إذا
كغاب لا ينتظر وإذا حضر لا يستشار (على بقيتهم) فأمان الشريف أحرى
414

بالجواز وهذا في قوم مخصوصين أي في قوم كفار مخصوصين. وأما أهل
ناحية أو بلد فلا عقد لهم الأمان إلا السلطان فإن عقد غيره نقضه إن شاء.
قال في الجواهر: وشرط الأمان أن لا يكون على المسلمين ضرر فلو أمن
جاسوسا أو طليعة أو من فيه مضرة لم نعقد. (وكذلك المأة) يجوز أمانها (والصبي) مثلها يجوز
أمانه (إذا عقل الأمان) أي علم أن نقض
الأمان حرام يعاقب عليه والوفاء به واجب يثاب عليه. (وقيل: إن أجاز
ذلك) أي أمان الصبي (الامام جاز) وإن لم يجزه لم يجز. (وما غنم المسلمون)
من العدو (بإيجاف) أي تعب وحملات في الحرب جمع حملة وهي الكرة
في الحرب كما في القاموس (فيأخذ الامام خمسه) يتصرف فيه بما شاء فإما
أن يضعه في بيت لمال، وإما أن يصرفه في مصالح المسلمين من شراء سلاح
أو غيره مما يراه مصلحة للمسلمين، وإن شاء دفعه لآل النبي صلى الله عليه وسلم أو لغيرهم
أو يجعل بعضه فيهم وبقيته في غيرهم، وهذا إذا كان الذي غنموه غير
أرض من كراع بوزن غراب الخيل كما في المصباح، وقماش وعبيد ومال
وحنطة، وأما الأرض فلا تخمس ولا تقسم بل توقف ويصرف خراجها في
مصالح المسلمين (و) بعد أن يأخذ الامام خمس المغنم (يقسم الأربعة
الأخماس) الباقية (بين أهل الجيش المجاهدين) الإضافة للبيان أي أهل
هم الجيش (وقسم ذلك) أي ما غنمه المسلمون (ببلد الحرب أولى) لما
415

وقع منه صلى الله عليه وسلم من ذلك لما فيه من نكاية في العدو (وإنما يخمس ويقسم
ما أوجف) أي حمل (عليه بالخيل والركاب) أي الإبل. قال ابن العربي:
واحد الركاب راحلة من غير لفظها (وما غنم بقتال) عطف عام على خاص.
وأما ما أخذ بغير إيجاف ولا قتال كالمأخوذ ممن انجلى عنه أهله حين
سماعهم بخروج جيش المسلمين عليهم فلا يخمس، ولا يقسم، بل النظر فيه
للامام مثل خمس الغنيمة يصرف حيث شاء. (ولا بأس) بمعنى ويباح
فاستعمل لا بأس هنا فيما فعله وتركه سواء (أن يؤكل من الغنيمة قبل
أن تقسم الطعام والعلف لمن احتاج إلى ذلك) سواء أذن الامام أم لا، والمراد
بالطعام ما يؤكل لحما أو غيره. والأصل فيما قال ما في الصحيح من قول
ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله
ولا نرفعه. ولما كانت أربعة أخماس المغنم لا تقسم بين الجيش إلا بشروط
شرع في بيانها فقال (وإنما يسهم لمن حضر القتال) المراد حضور المناشبة
أي المضاربة سواء قاتل أم لا، لا حضور المواجهة، فإذا قامت الصفوف ولم
يتناشب القتال فلا يسهم لمن مات حينئذ، ويسهم لمن مات بعد انتشاب
القتال. (أو تخلف عن القتال في شغل المسلمين من أمر جهادهم) ككشف
طريق أو جلب عدد أو نحو ذلك، ويسهم لمن ضل عن الجيش في بلاد
416

العدو (و) كذلك (يسهم للمريض) إذا حصل له المرض بعد القتل أو
في حال القتال أي شهد أوله صحيحا ثم مرض واستمر يقاتل مريضا، أما لو
حصل له المرض قبل حضور القتال سواء كان ابتدأ مرضه في دار الحرب
أو في بلاد الاسلام فلا يسهم له (و) كذلك يسهم (للفرس الرهيص)
إذا حصل بعد القتال أو في حال القتال. الرهص: داء يصيب الفرس في حافره.
قال ابن عمر: ليس الرهص بشرط وكذا إذا مرض بغيره. (ويسهم للفرس)
الواحد (سهمان واحترز بالفرس عن البعير والبغل والحمار فإنه لا يسهم
لها، والتقيد بالواحد لاخراج ما زاد عليه فإنه لا يسهم له (و) يسهم (سهم)
واحد (لراكبه) وفيه من التسامح ما لا يخفى، فإن الراكب إنما يقال
لراكب الإبل، وأما راكب الفرس فإنما يقال: له فارس. والأصل فيما ذكر
ما صح أنه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين وللفارس سهما. (و) من الشروط
التي يستحق بها القسم الحرية ف‍ (- لا يسهم لعبد) قاتل أو لم يقاتل (و) منها
الذكورية ف‍ (- لا) يسهم (لامرأة) قاتلت أو لم قاتل (و) منها البلوغ
ف‍ (- لا) يسهم (لصبي إلا) بشروط ثلاثة (أن يطيق) الصبي الذي لم يحتلم
(القتال ويجيزه الامام ويقاتل فيسهم له) والذي نقله بهرام عن المدونة
وصرح بمشهوريته: أنه لا يسهم له قاتل أو لم يقاتل ومقتضى صنيع صاحب
المختصر أن ما ذكره الشيخ مشهور أيضا. وظاهر الحديث يدل للأول أي
417

وهو عدم الاسهام. والحديث ما رواه ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم للعبيد
ولا للنساء ولا للصبيان (و) منها أن يخرج بنية الجهاد ف‍ (- لا يسهم للأجير)
الخاص الذي ملكت منافعه كأجير الخدمة ومثله الأجير العام في عدم
السهم (إلا أن يقاتل) وهو ظاهر المختصر وهو الظاهر، وفرق بينهما ابن
عمر وليس بظاهر. وبقي من الشروط ثلاثة: العقل والاسلام والصحة، فالمجنون
المطبق لا يسهم له اتفاقا، والذمي لا يسهم له اتفاقا إن لم يقاتل ولا إن قاتل على
المشهور والزمن أي المقعد أي الذي لا رأي له بل ولو كان ذا رأي وتدبير
على المشهور. (ومن أسلم من العدو على شئ في يده من أموال المسلمين فهو
له حلال) قال ابن ناجي: ظاهر كلامه لو أسلم على أحرار المسلمين أنهم
ينتزعون منه، وهو المشهور. وعليه يكون الانتزاع مجانا بغير عوض، وإنما
كان هذا ظاهر كلامه لأنه قال: وفي يده شئ من أموال المسلمين والحر
ليس بمال. (ومن اشترى) من المسلمين بدار الحرب (شيئا منها) أي من
أموال المسلمين، وكذا من أموال أهل الذمة (من مال العدو لم يأخذ ربه)
ممن اشتراه (إلا بالثمن) الذي أخذه به في دار الحرب إن كان يحل له
تملكه. أما إن كان لا يحل له تملكه كالخمر والخنزير فإن ربه يأخذه من غير
شئ. (وما وقع في المقاسم منها) أي من أموال المسلمين (فربه أحق به
بالثمن) هذا إذا وجده مع من اشتراه من الغنيمة، أما إذا وجده في يد من
418

أخذه في سهمه أو جهل الثمن فلا يأخذه إلا بالقيمة لتعلق حق الغير به.
(وما لم يقع في المقاسم منها فربه أحق به بلا ثمن) قصده أن المسلم أو
الذمي إذا وجد أحدهما متاعه في الغنيمة قبل قسمتها وشهدت له البينة
بذلك فإنه يأخذه بغير عوض، لكن بعد أن يحلف اليمين الشرعية أنه ما باع
ولا وهب ولا خرج عن ملكه بناقل شرعي، وأنه باق على ملكه إلى الآن.
(ولا نفل) بفتح الفاء وسكونها وهو لغة الزيادة وشرعا الزيادة على السهم
وحكمه أنه مباح لا يعطى (إلا) لمن له سهم في الغنيمة، ولا يكون من أصل
الغنيمة وإنما يكون (من الخمس على الاجتهاد من الامام) لما روى ابن
وهب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نفل يوم حنين من الخمس. (ولا يكون ذلك)
النفل (قبل القسم) ويروى: قبل الغنيمة. وعلى هذا لا يتصور إلا بالوعد
بأن يقول مثلا: من قتل قتيلا فله سلبه أي من يقتل قتيلا وكلامه محتمل للمنع
والكراهة أي نهي الامام أو أمير الجيش نهي كراهة أو تحريم أن يقول
قبل القدرة على العدو: من قتل قتيلا فله سلبه لان ذلك يؤدي إلى إبطال
نياتهم وإلى فسادها لان بعضهم ربما ألقى بنفسه في المهالك لأجل الغرض
الدنيوي فيصير قتاله لا ثواب فيه وأما بعد انقضاء القتال فلا محذور فيه
ويكون معنى قوله: من قتل قتيلا الخ من كان قتل قتيلا إلخ (والسلب من)
جملة (النفل) فلا يعطيه الامام إلا من الخمس على حسب اجتهاده والسلب
هو ما يوجد مع القتيل من ثيابه وسلاحه وما شابهها من المعتاد دون ما ينفرد
419

بلبسه عظماء المشركين من سوار وتاج. وكذلك العين فليست هذه المذكورات
من السلب على المشهور أي خلافا لابن حبيب في دخول ما ذكر من السوار
والتاج والعين في السلب. (والرباط) لغة: الإقامة، وشرعا الإقامة في الثغور
لحراستها أي حراسة من بها، وهو يشمل المال وغيره والذمي والمسلم وحراسة
غيرها تتبع حراستها. والثغور موضع المخافة من فروج البلدان وتكلم هنا
على فضله فقال (فيه فضل كبير) روي بالمثلثة والموحدة والرباط أفضل من
الجهاد لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا
وما عليها وإنما كان خيرا الخ لان جميع ما عليها على فرض لو ملكه إنسان
وتنعم به لا محالة أنه ينفد بخلاف نعيم الآخرة، فإنه باق لا ينفد ولأن الرباط
لأجل حقن دماء المسلمين وحقن دمائهم أفضل من سفك دماء المشركين (وذلك) الفضل المذكور متفاوت (بقدر كثرة خوف أهل ذلك الثغر
وكثرة تحرزهم من عدوهم) وقلته والخوف والتحرز متلازمان فمتى اشتد
الخوف اشتد التحرز. (ولا يغزى بغير إذن الأبوين) إذا كانا مسلمين عند ابن القاسم وعند سحنون مطلقا مسلمين
أو كافرين (إلا أن يفجأ
العدو) أي ينزلون (مدينة قوم ويغيرون عليهم) أي على أهل المدينة أو
غيرها من القرى (ففرض عليهم) أي على أهل المدينة وغيرها (دفعهم
ولا يستأذن الأبوان في مثل هذا) أي فيجب على من له أب ومن لا أب
420

له عبدا كان أو حرا وعلى هذا فيسهم للعبيد هنا لأنهم مخاطبون بالجهاد لأننا
إنما منعناهم من السهم لأنهم كانوا غير مخاطبين والآن قد خوطبوا. ذكره
في التحقيق وذكر أنه يجب على من يليهم أن يعينوهم. وقول المصنف: ولا
يستأذن الأبوان في مثل هذا أي هذا ومثله من فرائض الأعيان كالحج
والصلاة وطلب العلم العيني لأنه إنما يلزمه طاعتهما في ترك المباحات والنوافل
أي: لا الفرائض المعينة.
باب في الايمان والنذور (باب في الايمان والنذور) بيان ما يجوز الحلف به من (الايمان) وما لا يجوز وما يلزم
منها وما لا يلزم (و) في بيان ما يجوز من (النذور) وما لا يجوز وما يلزم منها
وما لا يلزم وغير ذلك، أي غير الجائز الخ كالكفارة. واليمين بمعنى القسم والحلف
مؤنثة بلا خلاف وكذلك العضو المخصوص كما صرح به التتائي. ومفاد
المصباح: أن اليمين حقيقة في الجارحة مجاز في غيرها قال: اليمين الجارحة
وسمي الحلف يمينا لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على
يمين صاحبه فسمي الحلف يمينا مجازا انتهى. (ومن كان حالفا فليحلف
بالله) أي مريد الحلف فليحلف باسم الله أي لا بالنبي ولا بغيره مما هو معظم
شرعا أو بصفة من صفاته كالوحدانية والقدم والوجود إلى آخر الصفات
(أو ليصمت) أي لا يحلف لا أنه يلزمه الصمت إذا لم يحلف بالله وإنما
كان منهيا عن الحلف بغير الله لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: ألا - أداة استفتاح -
إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.
فأمر بالصمت عما عدا اليمين بالله أي فاللام لام الامر، فظاهره الوجوب
421

وهو مستلزم لتحريم اليمين بغير الله قاله ابن عبد السلام. (ويؤدب من
حلف بطلاق أو عتاق) إذا كان بالغا عالما معتادا للحلف بذلك ويكون
ذلك جرحة في شهادته وظاهر كلامه أنه يؤدب حنث أو لم يحنث، والأدب
عند مالك غير محدود بل على ما يراه الامام من ضرب أو شتم أو غيره
ويختلف باختلاف الأشخاص والأحوال (و) مع تأديب من حلف بطلاق
أو عتاق (يلزمه) ما حلف به من طلاق أو عتق إذا أيقن بالحنث، بل
لو شك في الحنث أو توهمه أو ظنه فإنه يحنث على المشهور، وأما لو شك
هل قال: أنت طالق أو لم يقل؟ أو شك هل حلف وحنث أو لم يحلف ولم
يحنث؟ فلا شئ عليه (ولا) تنفع (ثنيا) أي استثناء بمشيئة الله تعالى مثل
أن يقول الحالف بعد تلفظه بالمحلوف به: إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله
(و) كذلك (لا) تنفع (كفارة) كما لا تنفع ثنيا ومعنى عدم نفعهما أنهما
لا يفيدان في شئ من الايمان (إلا في اليمين بالله عز وجل) أي بهذا
الاسم العظيم أي والنذر المبهم كاليمين بالله كما في المدونة وكذا سائر ما فيه
كفارة يمين كحلفه بالكفارة ويمكن دخول هذا في قول المصنف
إلا في اليمين بالله أي حقيقة أو حكما. والمراد به ما فيه كفارة يمين
وليس من أسمائه تعالى ولا من صفاته (أو بشئ من أسماء الله) غير هذا
الاسم كالعزيز والباري (وصفاته) أي: أو بشئ من صفاته الذاتية كالعلم
والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة. وأما الفعلية كالرزق
بفتح الراء أي تعلق القدرة بالرزق والاحياء تعلق القدرة بالحياة والإمامة
تعلق القدرة بالموت فإنه لا يحلف بها أصلا وظاهر كلامه أن الثنيا لا تنفع
422

في الطلاق المعلق مثل أن يقول: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله
وفيه تفصيل فقد قال ابن الماجشون: إن رده للفعل وهو دخول الدار مثلا
نفعه ذلك، ومذهب ابن القاسم أنه لا ينفعه ولو رده للفعل وأنه متى دخل
الدار وقع عليه الطلاق، وهو الذي ذهب إليه العلامة خليل وهو المشهور.
(ومن استثنى) في اليمين بالله أو بصفة من صفاته (فلا كفارة عليه)
بشروط ثلاثة أحدها: (إذا قصد الاستثناء) أي قصد حل اليمين، لا فرق
في القصد بين أن يكون قبل الحلف أو في ثنائه أو بعد تمامه فإنه ينفعه
كما شهره التتائي. أما لو جرى على لسانه من غير قصد كما لو نطق سهوا أو
تكلم به تبركا فلا ينفعه في حل اليمين. (و) ثانيها: إذا (قال) أي تلفظ
ب‍ (- إن شاء الله) فلا تكفي النية وحدها. (و) ثالثها: إن (وصلها) أي إن
شاء الله (بيمينه قبل أن يصمت) أي يسكت ما لم يضطر لتنفس أو
سعال فإن اضطر لم يضر (وإلا) أي وإن لم يقصد الاستثناء أو لم ينطق به
أو لم يصله بيمينه (لم ينفعه ذلك) الاستثناء. (والايمان ب‍) - اسم (الله
أربعة) وفي نسخة أربع: (فيمينان تكفران وهو) أي ما يكفر يمينان
أحدهما: أن تكون اليمين منعقدة على بر وحقيقتها أن يكون الحالف بأثر
حلفه موافقا لما كان عليه من البراءة الأصلية مثل (أن يحلف بالله إن
فعلت كذا) أو لا أفعل كذا، ثم يفعل المحلوف عليه. والأخرى أن تكون
اليمين منعقدة على حنث وحقيقتها أن يكون الحالف بأثر حلفه مخالفا لما كان عليه
423

من البراءة الأصلية مثل أن يحلف إن لم يفعل كذا (أو يحلف ليفعلن
كذا) ثم لم يفعل المحلوف عليه. واليمين على الحنث مقيدة بما إذا لم يؤجل،
أما إن أجل فإنه على بر إلى الاجل مثل أن يقول إن لم أفعل كذا قبل
شهر فإنه على بر إلى الاجل، وإن ولي صيغة الحنث حرف شرط كقوله: والله إن
لم أتزوج لا أقيم في هذه البلدة. وفي صيغة البر حرف نفي إذا لم يكن ثم جزاء
نحو والله إن كلمت فلانا معناه والله لا أكلم فلانا لان كلم هنا وإن كان
ماضيا معناه الاستقبال إذ الكفارة لا تتعلق إلا بالمستقبل، وإن كان ثم جزاء
فهي مع الجزاء شرط كقولك والله إن كلمت فلانا لأعطينك مائة. (ويمينان
لا تكفران إحداهما لغو اليمين) وهو أي لغو اليمين على المشهور في تفسيره
(أن يحلف على شئ يظنه) بمعنى يتيقنه هذا جواب عما يقال: إن قوله
يظنه يقتضي أن اليمين على الظن لغو وليس كذلك بل من أقسام الغموس
أفاده الحطاب. والمراد بالتيقن الاعتقاد لا الجزم المطابق لدليل لقوله: ثم تبين
له خلافه (كذلك في يقينه) المعنى يعتقده في عقله مماثلا لنا في نفس الامر
فالمشار له ما في نفس الامر ومثل الاعتقاد الظن القوي لا إن كان غير قوي
فغموس وأولى الشك (ثم يتبين له خلافه) وقوله: (فلا كفارة عليه)
تكرار ذكره ليترتب عليه قوله: (ولا إثم) وإنما لم يكن عليه إثم لقوله
تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) *
(المائدة: 89) قال في المدونة: ولا لغو إلا في اليمين بالله أو نذر لا مخرج له أي: النذر
424

المبهم كقوله: إن فعلت كذا فعلي نذر، ولا يفيد اللغو في نحو طلاق أو عتق
أو نذر غير مبهم (والأخرى) اليمين الغموس وفسرها أنها (الحالف
متعمدا للكذب) مثل أن يحلف أنه لقي فلانا بالأمس وهو لم يلقه
(أو شاكا) مثل أن يحلف. أنه لقيه وهو شاك هل لقيه أم لا؟ ومثل
الشك الظن أي غير القوي وظاهر قوله: (فهو) أي الحالف متعمدا للكذب
أو شاكا (آثم) وإن وافق ما حلف عليه أي فهو آثم مطلقا وافق أم لا
على الراجح. (ولا تكفر ذلك) الحلف (الكفارة) أي فلا كفارة في الغموس
إن تعلقت بماض، وأما إن تعلقت بالحال أو الاستقبال كفرت، واللغو كذلك
إن تعلقت بمستقبل، وإن تعلقت بماض أو حال لم تكفر (و) إذا كانت
الكفارة لا تكفر اليمين ف‍ (- ليتب من ذلك إلى الله سبحانه وتعالى) لأنها
من الكبائر ويتقرب إليه بما قدر عليه من عتق وصدقة وصوم. (والكفارة)
في اليمين بالله تعالى تتنوع إلى أربعة أنواع: ثلاثة على التخيير وهي: الاطعام
والكسوة والعتق، وواحد مرتب بعد العجز عن هذه الثلاثة وهو: الصوم.
وأفضلها الاطعام ولذا بدأ به فقال: (إطعام عشرة مساكين من المسلمين
الأحرار مدا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم) أخذ من كلامه أن الاطعام له
شروط خمسة: العدد معتبر من قوله عشرة فلا يجزئ إعطاؤه لأكثر ولا
لأقل ولا لواحد مرارا فإذا أعطى خمسة مدين مدين بنى على خمسة وكمل
425

لخمسة أخرى، وله نزع الزائد بشرط أن يبقى بيد المسكين لم يتلفه وكان
وقت الدفع له بين أنها كفارة. وإن أطعم عشرين نصف مد نصف مد لم
يجزه. ثانيها: أن يكونوا مساكين، فلو دفعها لأغنياء مع علمه بذلك فإنه
لا يجزئه. ثالثها: أن يكونوا مسلمين، فلو دفعها لفقراء أهل الذمة فإنها لا تجزئه
قياسا على الزكاة. رابعها: أن يكونوا أحرارا فلو دفعها لرقيق فلا يجزئ.
خامسها: أن يكون المعطى مدا لكل مسكين بمده عليه الصلاة والسلام
فلا يجزئ دونه، ويقوم مقام المد شيئان على سبيل البدل: إما رطلان من
الخبز مع أدم زيت أو لبن أو لحم، وإما شبعهم غداء وعشاء أو غداءين أو
عشاءين. ولا يكفي غداء أو عشاء ولو بلغ مدا (وأحب إلينا) يعني نفسه
(أن لو زاد على المد مثل ثلث مد أو نصف مد وذلك) أي استحباب
الزيادة على المد (بقدر ما يكون من وسط عيشهم) ما مصدرية أي: بقدر
وجود أي: حال عيشهم الوسط، ووسط العيش الحب المقتات غالبا. وقوله:
(في غلاء) راجع لقوله ثلث مد وقوله (أو رخص) راجع إلى نصف
مد (ومن أخرج مدا على كل حال) أي: في كل بلد وفي كل زمان من
غير زيادة (أجزأه) لأنه هو الواجب (وإن كساهم) أي وإن اختار
كسوة العشرة مساكين (كساهم للرجل قميص وللمرأة قميص وخمار)
426

المراد بالرجل الذكر وبالمرأة الأنثى لأنه لا فرق بين الصغير والكبير في
إعطاء الكسوة والامداد. ولا يشترط في الكسوة أن تكون من وسط
كسوة أهله لان الله تعالى شرط ذلك في الاطعام دون الكسوة. (أو عتق
رقبة) شرطوا فيها شروطا أحدها أشار إليه بقوله (مؤمنة) فلا تجزئ الكافرة.
ثانيها: أن تكون سليمة من العيوب التي تشين كالعمى والهرم والعرج
الشديدين أما ما لا يشين كقطع الظفر فيجزئ. ثالثها: أن تكون ممن يستقر
ملكه عليه بعد الشراء لا ممن يعتق عليه بمجرد الشراء أو يشتريه بشرط
العتق. رابعها: أن تكون كاملة لا إن كانت مشتركة. خامسها: أن لا يكون فيها
عقد حرية فلا تجزئ أم الولد ولا المكاتب. فإن عجز عن الخصال
الثلاثة وهي: الاطعام والكسوة والعتق انتقل إلى الخصلة الرابعة وإلى ذلك
أشار المصنف بقوله: (فإن لم يجد) المكفر (ذلك) أي العتق أي أو
الكسوة بدليل قوله (ولا إطعاما فليصم ثلاثة أيام يتابعهن) استحبابا لان
المبادرة إلى براءة الذمة أولى (فإن فرقهن) أي الأيام الثلاثة (أجزأه)
ولكن لا بد من تبييت لنية في كل ليلة. (و) يباح (له) أي: للحالف
(أن يكفر قبل الحنث وبعده) ظاهره مطلقا سواء كانت يمينه على بر أو
على حنث كانت كفارته بالصوم أو غيره (و) لكن تكفيره (بعد الحنث
أحب إلينا) يعني نفسه إشارة إلى الرد على أشهب لقائل بعدم الاجزاء أو
على من يقول بعدم جواز تقديم الصوم دون غيره، ثم انتقل يتكلم على
427

النذور فقال: (ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله
فلا يعصه) النذر لغة: الايجاب، وشرعا: التزام ما يلزم من القرب. وهو على
قسمين: نذر طاعة يجب الوفاء به، ونذر معصية: لا يجب الوفاء به ومع عدم
وجوب الوفاء به هل يكون عليه كفارة وهو قول أبي حنيفة أو لا كفارة
عليه وهو مذهب الجمهور وإليه أشار بقوله: (ولا شئ عليه. ومن نذر
صدقة مال غيره أو عتق) رقبة (عبد غيره) كره و (لم يلزمه شئ)
لا صدقة ولا عتق ما لم يعلق، فإن علق على شرط لزم عند وجود الشرط على
المشهور نحو: لله علي أن أعتق عبد فلان إن ملكته (ومن قال: إن فعلت
كذا) سواء كان واجبا أو حراما (فعلي نذر كذا) أي: منذور هو كذا
فإنه يلزمه ما نذر إن فعل ما شرطه. (وكذا) إن قال (لشئ) اللام
زائدة أي: وكذا إن ذكر شيئا بلسانه أو بقلبه فقوله: (يذكره) توكيد
وقوله: (من فعل البر) بيان لشئ، وإضافة فعل لما بعده من إضافة العام
للخاص، فهي للبيان وقوله: من صلاة أي صلاة تطوع بيان لفعل البر
واحترز به من الحرام والمباح فلا يلزمه (أو صوم) كذلك (أو حج)
كذلك (أو عمرة أو صدقة شئ سماه) أي: بين قدره لفظا أو نية فالتعميم
428

الأول متعلق بأصل العبادة وهذا متعلق ببيان القدر (ذاك) أي كل واحد
مما ذكر من الصلاة وما بعدها يريد ونحو ذلك من القرب كالعتق والذكر
(يلزمه) ما سماه (إن حنث)، أما إذا لم ينو الصلاة أي لم ينو قدرها ولا
سماه فيلزمه أقل ما يطلق عليه اسم الصلاة وهو ركعتان. وكذا الصوم إذا
لم يسمه فيلزمه أقل ما يطلق عليه اسم الصوم وهو يوم. وأما إن قال: إن
كلمت فلانا فعلي المشي إلى مكة فكلمه لزمه المشي في حج أو عمرة. وأما
الصدقة إذا لم يسم شيئا فيلزمه ثلث ماله. أما إذا سمى فظاهر كلامه أنه
يلزمه ما سماه، ولو كان كل ماله. قال ابن عمر: فإن ذكر الدار ولم يكن عنده
إلا هي لزمه ذلك. وفي كلام المصنف من المخالفة لما يأتي له بعد من قوله ومن
جعل ماله صدقة أو هديا أجزأه ثلثه ما لا يخفى. (كما يلزمه لو نذره مجردا من
غير يمين) أي: يلزمه المقيد بوقوع شئ عند وقوع ذلك الشئ، كما يلزمه
الذي لا تعليق فيه نحو لله علي صوم أو صلاة أو غيرهما (وإن لم يسم لنذره
مخرجا من الأعمال) أي لم يسم لنذره شيئا يخرج منه النذر أي يتحقق
به من تحقق الكلي في بعض جزئياته. كقوله: لله علي نذر ولم يسم هل
هو صلاة أو صوم أو حج أو ما أشبه ذلك (فعليه كفارة يمين) على
المذهب. (ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر) هو المسكر من
ماء العنب (أو شبهه) كالنبيذ وهو المسكر من
غير ماء العنب (أو)
429

نذر (ما ليس بطاعة ولا معصية) كالمباح والمكروه (فلا شئ) أي:
لا كفارة (عليه ليمينه) في الفرعين وفي كلامه تكرار بالنسبة للفرع
الأول الذي هو قوله: ومن نذر معصية وهل قوله: (وليستغفر الله) راجع
لنذر المعصية فقط أو له ولما بعده؟ الراجح الثاني. (وإن حلف) إنسان
(ب‍) - اسم (الله) أو بصفة من صفاته النفسية أو المعنوية (ليفعلن معصية)
من المعاصي كشرب الخمر أو قتل النفس أو سب من لا يجوز سبه (فليكفر
عن يمينه) الذي حلفه (ولا يفعل ذلك) المحلوف عليه (وإن تجرأ)
أي اقتحم (وفعله) عطف تفسير أي وإن ارتكب فعل المحلوف عليه
مع علمه بأنه معصية ولم يبال بعقوبة عاقبته (فهو آثم) لفعله المعصية
(ولا كفارة عليه ليمينه) لأنه بر في يمينه. (ومن قال: علي عهد الله وميثاقه
في يمين فحنث فعليه كفارتان) لان العهد يمين والميثاق يمين، فإذا جمعهما فقد
حلف يمينين وما ذكره خلاف المشهور والمشهور ما في التوضيح من عدم
تعدد الكفارة سواء قصد الحالف التأكيد أو الانشاء أو لا قصد له إلا أن
ينوي كفارات. (وليس على من وكد اليمين فكررها في شئ واحد غير
كفارة واحدة) قال ابن الحاجب: وإذا كرر اليمين على شئ واحد لم تتعدد
430

وإن قصد التكرار أي الانشاء ما لم ينو كفارات. قال ابن عبد السلام: يعني
أن الحالف بشئ من أسماء الله تعالى أو صفاته إذا حلف على شئ ثم كرر
اليمين بذلك الاسم بعينه أو الصفة بعينها على ذلك الشئ بعينه، فإن نوى
باليمين الثانية تأكيد الأولى أو لم تكن له نية لم تتعدد الكفارة عليه
بالحنث اتفاقا وإن قصد تعدد الكفارة تعددت اتفاقا وإن قصد الانشاء به
ولم يتعرض إلى تعدد الكفارة، فالمشهور أنها لا تتعدد اه‍. ومفهوم في شئ
واحد أنه لو كررها في شيئين مثلا لزم لكل كفارة يمين نحو: والله لا أكلم
فلانا والله لا آكل من هذا الطعام، والله لا ألبس هذا الثوب. (من قال)
والعياذ بالله (أشركت بالله أو هو يهودي أو نصراني) أو عابد وثن ونحو
ذلك (إن فعل كذا) ثم فعله (فلا شئ) أي لا كفارة (عليه) أي في
شئ من ذلك لان الحلف بغير أسماء الله أو صفاته لا تنعقد به يمين (ولا
يلزمه غير الاستغفار) المراد منه التوبة أي: ولا تطلب منه الشهادة فلا ينافي
أنه يطلب منه زيادة على الاستغفار التقرب بشئ من أنواع القربات: كعتق
أو صدقة أو صوم. ولو قال: إن فعل كذا يكون مرتدا أو على غير ملة
الاسلام أو يكون واقعا في حق رسول لله فكذلك. (ومن حرم على نفسه
شيئا مما أحل الله له) من طعام أو شراب أو غير ذلك (فلا شئ) أي:
لا كفارة (عليه) ويلزمه الاستغفار لأنه آثم بذلك، لان المحلل والمحرم هو
الله تعالى. وقد ذم الله تعالى من فعل ذلك بقوله تعالى: * (قل أرأيتم ما أنزل الله
431

لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله
تفترون) * (يونس: 59) ويستثنى مما قال مسألتان أشار إلى إحداهما: بقوله: (إلا في زوجته)
إذا قال: هي علي حرام (فإنها تحرم عليه) لان تحريمها طلاقها ثلاثا لا تحل
له (إلا بعد زوج) هذا في المدخول بها، وأما غير المدخول بها فيلزمه فيها
الثلاث إلا أن ينوي أقل. والمسألة الثانية: إذا حرم أمته ونوى بها لعتق
فإنها تصير حرة بذلك تحرم عليه لا يطؤها إلا بنكاح جديد. وأما إذا لم يقصد
العتق فهي كتحريم الطعام والشراب فلا يلزمه إلا الاستغفار. (ومن جعل
ماله كله صدقة) لله تعالى (أو هديا) يبعثه (إلى بيت الله) الحرام
(أجزأه ثلثه) قال ابن عمر: يريد إذا كان ذلك في يمين أو نذر ويريد أيضا ما لم
يسم شيئا. أما إذا سمى لزمه ولو كان كل ماله. ويريد أيضا: ما لم يتصدق به
على معين بالشخص كزيد أو بالوصف كبني زيد فيلزمه الجميع حين حلفه
إلا أن ينقص فما بقي ويترك له ما يترك للمفلس. (ومن حلف بنحر ولده)
مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي نحر ولدي (فإن ذكر مقام إبراهيم)
الخليل عليه الصلاة والسلام أي قصته مع ولده (أهدى هديا) أعلاه بدنة
ثم بقرة ثم شاة (يذبح بمكة) بعد أن يدخل به من الحل أو بمنى إن أوقفه
بعرفة واختلف في حكم الهدي المذكور فقيل: مستحب، وقيل: واجب وهو
الراجح (وتجزئه شاة) أي مع الكراهة مع القدرة على أعلى منها والمراد
بها هنا الذكر والأنثى، والراجح أن الأجنبي مثل ولده في لزوم الهدي إذا
432

حلف بنحره وذكر مقام إبراهيم كما تقدم (وإن لم يذكر المقام فلا شئ
عليه) لا هدي ولا كفارة، وإنما عليه الاستغفار من ذلك. (ومن حلف
بالمشي إلى مكة) مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي المشي إلى مكة (فحنث
فعليه المشي) لزوما (من موضع حلفه) يريد من البلد الذي حلف فيه
لا من المكان الذي هو مستقر عليه حال حلفه، إلا أن يعين موضعا بعينه
وما ذكره من التخيير في قوله (فليمش إن شاء في حج أو عمرة) محله
إذا لم تكن له نية في أحدهما وهو المشهور، أي: إن التخيير عند عدم النية هو
المشهور وذكر مبدأ المشي ولم يذكر منتهاه، ومنتهاه في العمرة بعد
الفراغ من السعي، وفي الحج بعد الفراغ من طواف الإفاضة وما ذكره من
لزوم المشي إلى مكة للحالف به محله إن استطاعه (فإن عجز عن المشي)
إليها بعد أن شرع في المشي (ركب ثم يرجع) مرة (ثانية) ماشيا (إن
قدر) عليه لتلافي ما ركب، فإن لم يقدر فإنه يلزمه الهدي (فيمشي أماكن
ركوبه) ويركب التي مشى إذا علم ما ركب فيه وما مشى ويهدي لتفرقة
المشي بدنة، فإن لم يجدها فبقرة فإن لم يجدها فشاة، وإن لم يعلم ما مشى وما
ركب فإنه يمشي الطريق كله (فإن علم) هذا مقابل قوله: إن قدر عليه أي:
ظن (أنه لا يقدر) على المشي (قعد وأهدى) ولا يلزمه الرجوع مرة
433

ثانية (وقال عطاء) أي: ابن أبي رباح من المجتهدين (لا يرجع) مرة
(ثانية وإن قدر) على المشي ثانيا (ويجزئه الهدي) هذا خلاف المذهب
أدى إليه اجتهاده، وما ذكر من التخيير المتقدم إذا كان غير صرورة (و)
أما (إذا كان صرورة) بالصاد المهملة وهو من لم يحج قط إذا حلف بالمشي
إلى مكة وحنث أو نذر (جعل ذلك) المشي (في عمرة) وجوبا على ما في
المختصر إذا لم تكن له نية، أما إذا كان له نية مشى فيما نوى. (فإذا طاف
وسعى وقصر أحرم) من الحل استحبابا فإن لم يحرم منه أحرم (من مكة)
ويستحب له أن يحرم من المسجد أي من جوفه على مذهب المدونة أو
بابه على قول ابن حبيب (بفريضة) وهي حجة الاسلام (وكان متمتعا)
إذا صادفت عمرته أو بعضها أشهر الحج (والحلاق في غير هذا) التمتع
(أفضل) من التقصير (وإنما يستحب له التقصير في هذا) التمتع (استبقاء
للشعث في الحج ومن نذر مشيا إلى المدينة) المشرفة على ساكنها أفضل
الصلاة وأكمل السلام (أو إلى بيت المقدس) مثل أن يقول: لله علي أن
أمشي إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أو أمشي إلى بيت المقدس، وكذا إذا حلف
بالمشي إليهما (أتاهما راكبا) إن شاء أو ماشيا على المشهور. وقال ابن وهب:
434

يلزمه الاتيان إليهما ماشيا. واستحسنه اللخمي والمازري وغيرهما لأنها طاعة
يجب الوفاء بها ولا يلزمه الاتيان إليهما إلا (إن نوى الصلاة) المفروضة
وقيل: والنافلة (بمسجديهما) ومثل الصلاة الصوم والاعتكاف (وإلا) أي
وإن لم ينو الصلاة فيهما (فلا شئ عليه) لن مجرد المشي ليس بعبادة.
(وأما غير هذه الثلاثة مساجد) المفهومة من السياق (فلا يأتيها) من
نذر المشي إليها (ماشيا ولا راكبا) قربت داره أو بعدت (ل‍) - أجل
(صلاة نذرها) أي يصليها فيها (وليصل‍) - ها (بموضعه) لما في مسلم من
قوله صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام
والمسجد الأقصى. وهذا الحديث مخصص لحديث: من نذر أن يطيع الله
فليطعه. (ومن نذر رباطا بموضع من الثغور) ولو كان من أهل مكة والمدينة
(فذلك) المنذور واجب عليه (أن يأتيه) لان الرباط قربة ومن التزم
قربة لزمته بلا خلاف. باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والايلاء
واللعان والخلع والرضاع (باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والايلاء
واللعان والخلع والرضاع) هذه ثمانية أشياء أولها هو: الأصل، والباقي توابع
435

له ولكل منها معنى لغة واصطلاحا تذكر في موضعها إن شاء الله تعالى. أما
النكاح لغة: فهو حقيقة في الوطئ مجاز في العقد من استعمال اسم المسبب في
السبب. واصطلاحا حقيقة في العقد مجاز في الوطئ من استعمال اسم السبب
في المسبب. ويترتب على كونه مجازا في الوطئ لا حقيقة أن من زنى بامرأة
لا يحرم عليه بنتها ولا أمها. وقد يستعمل عرفا مرادا به الوطئ كقوله تعالى:
* (حتى تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 230) فيفيد هذا أن الوطئ يسند لكل من الرجل
والمرأة بأن يقال: نكحت المرأة الرجل أي وطئته كما يقال نكح الرجل
امرأته أي وطئها، إلا أنه ينافيه قول المصباح: وطئته برجلي أطؤه وطأ: علوته،
إلى أن قال: وطئ زوجته وطأ: جامعها لأنه استعلى عليها. والنكاح بمعنى الوطئ
لا يجوز في الشرع إلا بأحد أمرين عقد نكاح أو ملك يمين لقوله تعالى:
* (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين) * (المؤمنون: 5) والأول له أركان أربعة: الولي والمحل والصيغة والصداق المفروض
ولو حكما. وبدأ في ذكر الأركان بالولي اهتماما به فقال: (ولا نكاح إلا بولي
وصداق وشاهدي عدل) أي: ولا عقد نكاح إلا بولي وهو كما قال ابن
عرفة: من له على المرأة ملك أو أبوة أو تعصيب أو إيصاء أو كفالة أو سلطنة
أو ذو إسلام، ويشترط فيه الاسلام والحرية والبلوغ والعقل والذكورية
ولا تشترط العدالة على المشهور في صحة العقد بل في كماله ولا الرشد فيعقد
السفيه لابنته بإذن وليه عند ابن القاسم وهو شرط صحة لا يصح العقد
بدونه لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي
تزوج نفسها رواه الدارقطني وقال: حسن صحيح. فإن وقع بغير ولي فسخ
قبل البناء وبعده وإن ولدت الأولاد، وهل الفسخ بطلاق وبغيره؟ روايتان.
436

وأما الصداق فشرط صحة في الدخول أيضا لقوله تعالى: * (وآتوا النساء صدقاتهن
نحلة) * (النساء: 4) أي: هبة من الله للنساء. وأما الاشهاد فشرط صحة في الدخول
لا في صحة العقد. ويشترط في شاهدي النكاح العدالة لما واه ابن حبان
في صحيحه من قوله عليه الصلاة والسلام: لا نكاح إلا بولي وشاهدي
عدل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل الحديث. فإن لم توجد العدول
استكثروا من الشهود كالثلاثين والأربعين. ومن شروط صحة العقد: الصيغة
من الولي والزوج أو وكيله. فمن الولي: بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد
في حال الحياة: كأنكحتك أو زوجتك. ومن الزوج ما يدل على الرضا:
كقبلت أو رضيت، ولا يشترط الترتيب بل هو مندوب فلو بدأ الزوج بأن
قال: زوجني فيقول الولي: زوجتك لصح. نعم يشترط الفور بين القبول
والايجاب ولا يضر التفريق اليسير بخلاف الكثير إلا في صورة واحدة
وهي: ما إذا كان رجل مريضا وقال: إن مت من مرضي هذا فقد زوجت
ابنتي من فلان ومات بعد شهر مثلا، وقبل الزوج بعد موته فإنه يصح.
تنبيه: يلزم النكاح بمجرد القبول والايجاب ولو قال الأول بعد رضا
الآخر: لا أرضى، أنا كنت هازلا لان النكاح جد، ولو قامت قرينة من
الجانبين على إرادة الهزل. (فإن لم يشهدا) أي الولي والزوج (في العقد
فلا يبني بها حتى يشهدا) وفي نسخة: حتى يشهد بالافراد أي الزوج. فلو دخل
من غير إشهاد فسخ بطلقة بائنة ويحدان إن لم يفش ولم يعذرا بجهل وأقرا
بالوطئ. أما إن فشا فلا يحدان، وإن كانا عالمين، والفشو بالوليمة والدف
والشاهد الواحد. (وأقل الصداق) بفتح الصاد وكسرها أي أقل ما يصح
به العقد إما (ربع دينار) من الذهب الخالص وهو وزن ثمان عشرة
437

حبة من الشعير الوسط، وإما ثلاثة دراهم من خالص الفضة كل درهم
خمسون حبة وخمسا حبة وإما قيمة أحدهما من العروض، ولا حد لأكثره لقوله
تعالى: * (وآتيتم إحداهن قنطارا) * (النساء: 20) (وللأب إنكاح) أي جبر (ابنته البكر) على
النكاح ممن شاء بما شاء ولو كان أقل من صداق المثل فله أن يزوجها بربع
دينار، وإن كان داق مثلها ألفا. ولا كلام لها ولا لغيرها (بغير إذنها وإن
بلغت) ولو عانسا وهي التي طال مكثها في بيت أهلها بعد بلوغها واختلف في
حد التعنيس فقيل: ثلاثون سنة. وقيل: أربعون. وقيل: غير ذلك (وإن شاء
شاورها) التخيير من غير أرجحية على حسب ظاهره والذي في الجواهر
وغيرها: يستحب له استئذانها. (وأما غير الأب في البكر وصي أو غيره فلا
يزوجها حتى تبلغ وتأذن وإذنها صماتها) قال في المدونة: لا تزوج اليتيمة التي
يولى عليها حتى تبلغ وتأذن. قال ابن ناجي: إلا أن يكون نص الأب في
الوصية على الاجبار فينزل منزلته. ونص في المختصر على أن الوصي ووصيه
ينزل منزلة الأب في الاجبار بشرطين على سبيل البدل، أحدهما: أن يعين له
الزوج، والآخر: أن يأمره الأب بإجبار. وهذا الثاني نص عليه الشيخ بعد
قوله: ولا يزوج الصغيرة إلا أن يأمره الأب بإنكاحها. فعلى هذا يحمل قول
الشيخ هنا حتى تبلغ على ما إذا لم يأمره الأب بالانكاح. وما ذكره في غير
الوصي كالجد والأخ هو المعروف من المذهب، وقيل: له جبرها إن كانت مميزة
وخيف فسادها مع بلوغ سنها عشر سنين مع مشورة القاضي. المراد أن
438

يثبت عند القاضي موجبات التزويج من خوف فسادها بزنى أو ضيعة لفقر
وكونها بلغت عشر سنين فأكثر. (ولا يزوج الثيب) البالغة العاقلة الحرة
التي لم تزل بكارتها بعارض أو بزنى رشيدة كانت أو سفيهة (أب ولا غيره
إلا برضاها وتأذن بالقول) وقيدنا بالبالغة احترازا من الصغيرة التي ثيبت
قبل البلوغ فلا يتوقف تزويجها على رضاها، بل حكمها حكم المجبرة وبالعاقلة
احترازا عن المجنونة أي عن الثيب البالغ المجنونة، فإن الأب يجبرها ولو
كان لها أولاد. وكذا الحاكم يجبر المجنونة البالغة إذا لم يكن هناك أب
وبالحرة احترازا من الأمة، فإن للسيد جبرها اتفاقا. وبالتي لم تزل بكارتها الخ
مما أزيلت بكارتها بعارض فإن للأب جبرها اتفاقا. ومن أزيلت بكارتها
بزنى فكذلك على ما في المدونة وما ذكر من أنها تأذن بالقول فهو كذلك
لما رواه مالك والشافعي ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: الأيم أحق بنفسها من
وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها. والمراد بالأيم الثيب والفرق
بين البكر والثيب أن الحياء قائم في البكر، والثيب قد زال منها ذلك أي
لم يوجد بتمامه، نقل عن ابن القصار: أن الحياء عشرة أجزاء تسعة في النساء
وجزء في الرجال، فإذا تزوجت المرأة ذهب ثلثه فإذا ولدت ذهب ثلثاه فإذا
زنت ذهب كله. (ولا تنكح المرأة) ذات الحال (إلا بإذن وليها) أو وكيله
لما تقدم أن الولي شرط في صحة العقد ولا خلاف في ذلك عندنا (أو) بإذن
(ذي الرأي من أهلها كالرجل من عشيرتها أو السلطان) وذو الرأي من
439

اجتمعت فيه شروط الولاية وشروطها الذكورة والحرية والعقل والبلوغ
وعدم الاحرام، وعدم الكفر في المسلمة. وقوله: كالرجل من عشيرتها تفسير
لذي الرأي. وقوله: أو السلطان معطوف على ذي الرأي فأو الترتيب، وإنما
قيدنا المرأة في كلامه بذات الحال لقوله: (وقد اختلف في الدنية) وهي
التي لا يرغب فيها لكونها ليست ذات جمال ولا مال ولا حال، فمتى اتصفت
بجمال أو مال أو حال تكون شريفة، والحال ما يعد مفخرة كالنسب والحسب
ككرم الآباء هل لها (أن تولي أجنبيا) وهو من له ولاية الاسلام فقط أي فلم
يكن وليا ولا ذا رأي من أهلها ولا مولى ولا سلطانا مع وجود الولي
الخاص؟ فقال ابن القاسم: يجوز لها أن توليه ابتداء مع وجود القريب. وقال
أشهب: لا يجوز ذلك إلا لعدم القريب. فالشيخان متفقان على الصحة، وإنما
الخلاف بينهما في الجواز ابتداء هذا ما أفاده بعضهم، وأفاد التتائي خلاف ذلك، وأن
الخلاف بينهما إنما وبالصحة وعدمها، فابن القاسم يقول بالصحة أي مع الكراهة
وهو المعتمد، وأشهب يقول: بعدمها. ثم انتقل يتكلم على مراتب الأولياء
بالنسبة للثيب فقال: (والابن أولى) بتزويج أمه (من الأب) أي من أبيها
لأنه أقوى العصبة بدليل أنه أحق بموالي مواليها من الأب، فلو كانت المرأة
أعتقت عبدا والعبد أعتق عبدا فالعبد الثاني مولى لمولاها الذي هو العبد
الأول الذي باشرت عتقه، فالأحق بذلك الذي جعل مولى لمولاها ابنها لا أبوها
وأحق بالصلاة عليها منه. (والأب أولى) بنكاح ابنته (من الأخ) الشقيق
أو لأب لان الأخ يدلي بالأب والأب يحجبه عن الميراث والحاجب أولى من
المحجوب، ولو اقتصر على قوله: (ومن قرب من العصبة) فهو (أحق)
440

لكفى ومعنى أحق على جهة الأولوية بدليل قوله: (وإن زوجها البعيد) كالعم
مع وجود الأقرب الخاص كالأخ (مضى ذلك) التزويج لان الترتيب
بينهما إنما هو على جهة الأولوية فقط، كما أفاد ذلك معظم شيوخ المدونة،
وأن مخالفته مكروهة فقط إن كان التزويج بكفء ولم يكن الخاص مجبرا،
فإن زوجها بغير كف ء فإنه يرد أي يجب على الولي الأقرب رد
النكاح، ولو رضيت المرأة بذلك فإن لم يرده رفعت ذلك للامام
أي وجوبا لرده. ولا يجوز لها الرضا وإن زوجها مع وجود المجبر فسخ.
(وللوصي أن يزوج الطفل) الذكر الذي (في ولايته) أي له جبره
على التزويج كالأب حيث كان في ذلك مصلحة كنكاحه من المرأة
الموسرة أو الشريفة (ولا يزوج الوصي الصغيرة إلا أن يأمره الأب بإنكاحها)
وأن يعين له الزوج كما لبعضهم كأن يقول له زوجها من فلان. وعلى ما في المختصر
يكفي إذا أمره بالاجبار أن يزوجها ممن شاء. (وليس ذوو الأرحام من
الأولياء) في النكاح وهم من كان من جهة الام سواء كان وارثا كالأخ
للام أو غير وارث كالخال. (والأولياء من العصبة) جمع عاصب وهو كل
ذكر يدلي بنفسه أو بذكر مثله، والأقوى تعصيبا يقدم فيقدم الأخ الشقيق
مثلا على الأخ للأب. قال ابن عمر: ظاهر كلامه أن الولي لا يكون إلا من
العصبة، وقد قال قبل هذا: أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان فتنافى
كلامه سابقا ولاحقا، ويجاب بمنع لمنافاة برد ما هنا إلى ما تقدم بأن نقول:
الولي لا يكون إلا من العصبة أي لا من ذوي الأرحام فلا ينافي أنه قد
441

يكون غير عاصب بأن يكون كافلا أو حاكما، فالحصر إضافي، واختلف في
قدر الكفالة التي يستحق بها الكافل تزويج المكفولة، فقيل: عشر سنين،
وقيل: أقله أربعة أعوام، وقيل: العبرة بمدة يعد فيها مشفقا. (ولا يخطب أحد
على خطبة أخيه) بكسر الخاء طلب التزويج (ولا يسوم على سومه) قال
الفاكهاني: رويناه في هذا الموضع بضم الفعلين، وقال الأقفهسي: الفعلان
مجزومان على النهي هكذا الرواية نقلا للحديث بلفظه، وعلى ما قال الفاكهاني
يكون بلفظ الخبر ومعناه النهي (وذلك) النهي عن الخطبة على الخطبة
والسوم على السوم حرام بشرط (إذا ركنا) بفتح الكاف وكسرها
وإضافة شرط إلى ما بعده للبيان (وتقاربا) أي الزوجان أو المتبايعان.
والتراكن في النكاح أن تميل إليه ويميل إليها. والتقارب في النكاح
اشتراط الشروط بحيث لم يبق بينهما إلا الايجاب والقبول. وفي البيع أن
يشترط عليه الوزن أي يشترط البائع على المشتري وزن الدنانير مثلا
ويتبرأ له الآخر أي المشتري من العيوب، بأن يقول: إذا وجدت عيبا
رددته. ثم شرع يبين الأنكحة الفاسدة فقال: (ولا يجوز نكاح الشغار)
بكسر الشين وبالغين المعجمتين، وهو على ثلاثة أقسام: صريح الشغار ووجه
الشغار ومركب منهما واقتصر الشيخ على الأول فقال (وهو البضع بالبضع)
أي الفرج بالفرج، والأصل فيه ما في الموطأ والصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن الشغار، وهل هو مشتق من الرفع، تقول شغر الكلب إذا
رفع رجله للبول، وإنما يفعل ذلك عند بلوغه وهو موجود في المرأة عند
الجماع أو من الخلو، وهو رفع الصداق بينهما، تقول: شغرت البلد خلت من
442

الناس، ولذا استعمل في النكاح بدون مهر كما في التتائي. وصريح الشغار
أن يزوج الرجل ابنته لرجل على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق،
ووجه الشغار أن يسمي لكل واحدة صداقا مثل أن يقول: زوجني ابنتك
بخمسين على أن أزوجك ابنتي بخمسين والمركب منهما أن يسمى لواحدة
دون الأخرى، مثل أن يقول: زوجني ابنتك بخمسين على أن أزوجك ابنتي
بغير شئ. وحكم الأول أنه يفسخ بطلاق على المشهور قبل الدخول وبعده
وإن ولدت الأولاد، وللمدخول بها صداق المثل ولا شئ لغير المدخول بها.
وحكم الثاني أنه يفسخ قبل البناء لا بعده على المشهور، ولكل واحدة منهما
الأكثر من المسمى وصداق المثل، وحكم الثالث أنهما يفسخان ويثبت
نكاح لمسمى لها بعد البناء واختلف هل لها صداق المثل أو الأكثر من
المسمى وصداق المثل تأويلان. ويفسخ نكاح التي لم يسم لها وليس لها إلا صداق المثل. (ولا)
يجوز (نكاح بغير صداق) إذا شرطا إسقاطا فإن
وقع فالمشهور أنه يفسخ قبل الدخول، وليس لها شئ، وفي فسخه بطلاق
قولان. ويثبت بعده بصداق المثل ويلحق به الولد ويسقط الحد لوجود
الخلاف. (و) كذلك (لا) يجوز (نكاح المتعة) إجماعا (وهو النكاح إلى
أجل) ظاهر المصنف كخليل والمدونة وغيرها قرب الاجل أو بعد بحيث
لا يدركه عمر أحدهما. قال ابن رشد: هو نكاح بصداق وولي وشهود وإنما
فسد من ضرب الاجل، وحكمه أنه يفسخ أبدا بغير طلاق فيفيد أنه من
المتفق على فساده. وعليه فمن نكح امرأة نكاح متعة ولم يتلذذ بها جاز
لأبيه وابنه نكاحها، ويعاقب فيه الزوجان ولا يبلغ بهما الحد والولد لاحق
وعليها العدة كاملة ولا صداق لها إن كان الفسخ قبل الدخول وإن كان
443

بعد الدخول فلها صداق المثل مطلقا سمي لها صداقا أم لا. (و) كذا (لا)
يجوز (النكاح) بمعنى العقد على المرأة حال كونها (في العدة) سواء كانت
عدة وفاة أو طلاق، كان الطلاق بائنا أو رجعيا لقوله تعالى: * (حتى يبلغ الكتاب
أجله) * (البقرة: 235) والاجماع على ذلك. فمن عقد على معتدة فسخ بغير طلاق لأنه مجمع
على فساده فإن دخل بها عوقبا، والشهود إن علموا ولها المسمى ويلحق
الولد ولا يتوارثان إذا حصل موت قبل الفسخ لفساد العقد ويتأبد تحريمها
عليه وعلى أصوله وفروعه بشرط كونها معتدة من وفاة أو طلاق بائن.
ومقدمات الوطئ القبلة والمباشرة في العدة كالوطئ فيها وتخالفه إذا وقعت
بعد العدة فلا تحرم بها كما إذا لم يدخل بها أصلا ولا حصل منه مقدمات
لا قبل ولا بعد، وإنما حصل مجرد عقد وفسخ فلا يتأبد تحريمها ويجوز له
أن يتزوجها بعد العدة إن شاء. (و) كذا (ل‍) يجوز النكاح على (ما جر إلى
غرر في عقد) كالنكاح على الخيار (أو) جر إلى غرر في (صداق) كالنكاح
على عبد آبق أو بعير شارد. (و) كذا (لا) يجوز النكاح (بما لا يجوز
بيعه) كالخمر والخنزير فإن وقع شئ من ذلك فسخ قبل البناء ولا صداق
لها ويثبت بعده بصداق المثل. (وما فسد من النكاح لصداقه) كالنكاح
بما لا يجوز تملكه شرعا كالخمر أو يجوز لكنه لا يصح بيعه كالآبق (فسخ
قبل البناء) بطلاق ولا صداق فيه وإن قبضته ردته (فإن) لم يعثر عليه
إلا بعد أن (دخل بها مضى) أي ثبت (وكان فيه صداق المثل) أي
444

مثلها في الحال أي الدين والحسب والنسب (وما فسخ من النكاح ل‍) - أجل
(عقده) كالنكاح بغير ولي فسخ قبل البناء وبعده (و) إذا فسخ قبل
البناء لا صداق فيه وإذا (فسخ بعد البناء ففيه المسمى) هذا إن سمي
صداقا وإلا فصداق المثل (وتقع به) أي بالنكاح الفاسد الذي يفسخ بعد
البناء. وكان متفقا على فساده (الحرمة كما تقع بالنكاح الصحيح) قال
الأقفهسي: معنى وقوع الحرمة به أن المرأة التي بنى بها بالنكاح الفاسد تحرم
عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه، كتحريم النكاح الصحيح.
وأما لو فسخ النكاح الفاسد المتفق على فساده قبل البناء لم تقع به حرمة
إلا أن يفعل شيئا من مقدمات الوطئ كالقبلة والمباشرة. وأما النكاح المختلف
في فساده فتقع الحرمة بعقده ولما شبه النكاح الفاسد بالصحيح في الحرمة
وخشي أن يتوهم مساواته له في كل الوجوه رفع ذلك بقوله (ولكن
لا تحل به المطلقة ثلاثة) أي بالنكاح الفاسد بعد البناء أي المتفق على
فساده ولو تكرر وطؤه، وأما المختلف في فساده وطلقت بعد الوطئ فإن
تكرر وطؤه، بحيث ثبت النكاح حلت. وأما لو طلقت بعد أول وطأة ففي
حلها تردد مبني على أن النزع هل هو وطئ أو لا، وإنما حصل التحريم
بالوطئ دون التحليل احتياطا من الجانبين (ولا يحصن به الزوجين) لان
من شروط الاحلال والاحصان صحة العقد فما قاله هنا مفسر لما قاله أول
الكتاب إن مغيب الحشفة يحصن الزوجين، ويحل المطلقة ثلاثا للذي طلقها
445

بأن يحمل ما تقدم على ما إذا كان صحيحا أو مختلفا في فساده. ثم ما في
النسخة التي بأيدينا من قوله: ولا يحصن به الزوجين غير صواب، والصواب
ولا يحصن به الزوجان كما في نسخة التحقيق وأفاد التتائي أن للمصنف نسختين
النسخة التي في التحقيق ونسخة ولا يحصن الزوجين بإسقاط به وهي ظاهرة
أيضا. (وحرم الله سبحانه وتعالى) على الرجال (من النساء سبعا بالقرابة
وسبعا بالرضاعة والصهر فقال عز وجل: * (حرمت عليكم أمهاتكم) *) (النساء: 23) جمع أم
وهي المرأة التي ولدتك وإن علت فأمك المباشرة للولادة محرمة عليك
وكذلك أم الأب وأم الام وأم الجد للأب وأم الجد للام (وبناتكم) جمع
بنت وهي كل من لك عليها ولادة وإن بعدت (وأخواتكم) جمع أخت وهي
كل امرأة شاركتك في رحم وصلب أو فيهما معا (وعماتكم) جمع عمة
وهي كل امرأة اجتمعت مع أبيك في رحم وصلب أو فيهما معا (وخالاتكم)
جمع خالة وهي كل امرأة اجتمعت مع أمك في رحم أو صلب أو فيهما معا
(وبنات الأخ) وهي كل امرأة لأخيك عليها ولادة فهي بنت أخيك كان
الأخ شقيقا أو لأب أو لام (وبنات الأخت) وهي كل امرأة لأختك عليها
ولادة فهي بنت أختك كانت الأخت شقيقة أو لأب أو لام (فهؤلاء) السبعة
(من القرابة و) أما السبعة (اللواتي من الرضاع والصهر) فأشار إليها
446

بقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) سواء كانت المرضعة بكرا أو ثيبا
أو متجالة ولو كانت غير بالغ بل ولو كانت خنثى مشكلا حية كانت أو ميتة
حيث كان في ثديها لبن ولو مع الشك * (وأخواتكم من الرضاعة) *) كان
الرضاع في زمن واحد بأن صاحبتك في الرضاع أو في أزمنة بأن أرضعت
قبل أن ترضع أو بعد أن رضعت ولم يذكر في القرآن من المحرم بالرضاع
إلا الام والأخت فالأم أصل والأخت فرع فنبه تعالى بذلك على جميع
والأصول والفروع أي فروع الأصول. (* (وأمهات نسائكم) *) كل امرأة لها
على زوجتك ولادة فهي أم امرأتك وإن علت وسواء عقد له عليها في حال
بلوغه أو صباه وجمهور أهل العلم على أنها عامة فيمن دخل بها ومن لم
يدخل به، فالعقد على البنت يحرم أمها، وكذا تحرم أم الزوجة بالرضاع. وغير
الجمهور كعلي وابن عباس رضي الله عنهما قالا: إن قوله عز وجل: اللاتي
* (الآتي دخلتم بهن) * (النساء: 23) شرط في هذه وفي الربيبة فعلى مذهبهما إذا تزوج رجل امرأة
فطلقها قبل أن يدخل بها فيجوز له أن يتزوج بأمها. (* (وربائبكم) *) جمع
ربيبة فعيلة بمعنى مفعولة أو مربوبة أي مولى أمرها وهي بنت الزوجة. وقوله (* (اللاتي في حجوركم من نسائكم) *) خرج مخرج الغالب فلا مفهوم
له إجماعا إلا ما روي عن علي رضي الله عنه أنها لا تحرم إذا لم تكن في الحجر. والحجر:
بفتح الحاء وكسرها مقدم ثوب الانسان ثم استعمل في الحفظ
والستر مجازا مرسلا من استعمال اسم السبب في المسبب، لان الحجر سبب
447

للستر في الجملة واختلف في معنى الدخول من قوله تعالى: (* (اللاتي دخلتم بهن) *)
فقال الشافعي رضي الله عنه: هو الجماع. وأفاد البيضاوي أن قوله تعالى: * (دخلتم بهن) * أي دخلتم
معهن الستر وهي كناية عن الجماع أي كناية مشهورة كما أفاده الشهاب. وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: هو التمتع من اللمس
والقبلة الخ. فإن لم يقع شئ من ذلك فالربيبة حلال وإليه الإشارة بقوله
تعالى * (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) * (النساء: 23) أي لا إثم عليكم
حينئذ في نكاح الربيبة * (وحلائل أبنائكم) *) جمع حليلة وهي زوجة الابن
وإن سفل دخل بها الابن أو لم يدخل وقوله تعالى * (الذين من أصلابكم) *
(النساء: 23) تخصيص ليخرج من عمومه التبني أي من عموم أبنائكم الأبناء بالتبني
وتحرم عليه حليلة الابن من الرضاع بالاجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم: يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب أي فالابن من الرضاع حكم ابن الصلب في
حرمة حليلته. والمشهور أن أمة الابن لا تحرم على الأب حتى يطأها الابن
أو يتلذذ بها. (* (وأن تجمعوا بين الأختين) *) سواء كان بنكاح أو ملك أو
كانت واحدة بنكاح وأخرى بملك فيمتنع أيضا. أما الجمع للاستخدام فلا
بأس به * (إلا ما قد سلف) * استثناء منقطع معناه لكن ما قد سلف من
ذلك ووقع وأزاله الاسلام فإن الله يغفره، والاسلام يجبه أي يقطعه،
أي يمحوه من الصحف بحيث صار لا يؤاخذ عليه وليس هذا مثل قوله:
إلا ما قد سلف في نكاح منكوحات الآباء لان نكاح منكوحات الآباء
448

لم يشرع قط وإنما كانت جاهلية وفاحشة شائعة ونكاح الأختين كان
شرعا لمن قبلنا نسخه الله تعالى فينا. (وقال تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء) *) (النساء: 22) سواء دخل بها الأب أو لم يدخل فبالعقد تحرم على
الابن وكذلك زوجة الجد لأنه أب وثبت في بعض النسخ (إلا ما قد سلف)
ومعناه ما تقدم قبل الاسلام ولما لم يكن في القرآن من المحرمات بالرضاع
صريحا إلا الام والأخت وكان جميع الأصول والفروع حكمهم حكم من
ذكر أتى بما يدل على ذلك عموما فقال (وحرم النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاع ما يحرم
من النسب) ولفظ الصحيحين: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. ولما لم
يكن في الآية ما يدل على تحريم الجمع بين المحارم غير الأختين، وألحقت السنة بهما
الجمع بين سائر المحارم نبه على ذلك بقوله (ونهى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (أن تنكح
المرأة على عمتها أو على خالتها) خرجه في الموطأ والصحيحين ابن شاس.
والضابط أن كل امرأتين بينهما من القرابة والرضاعة ما يمنع تناكحهما لو
قدرت إحداهما ذكرا لحرم الجمع بينهما في العقد والحل أي حلية الوطئ، فإن جمعهما
في العقد بطل النكاحان وفسخا أبدا، وإن حصل دخول بهما بلا طلاق ولا
مهر لمن لم يدخل بها إن جمع بينهما في الحل، فإن علمت الأولى فسخ نكاح
الثانية وثبت نكاح الأولى، ويفسخ نكاح من ادعى أنها ثانية لكن
بطلاق، وإن لم تعلم الأولى من الثانية ولم يدع الزوج العلم بأولية إحداهما فإنه
يفسخ نكاحهما. ثم ذكر مسائل داخلة فيما تقدم على وجه التفسير فقال:
(فمن نكح امرأة حرمت ب‍) - مجرد (العقد) عليها (دون أن تمس)
449

أي توطأ (على آبائه وأبنائه) بمجرد العقد عليها ولا تتوقف حرمتها على
الوطئ. فقوله: حرمت على آبائه تفسير لقوله: وحلائل أبنائكم وقوله: وأبنائه
تفسير لقوله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وقوله: (وحرمت عليه
أمهاتها) تفسير لقوله وأمهات نسائكم. فبالعقد على البنت تحرم الام دخل
بها أو لم يدخل. وقوله (ولا تحرم عليه بناتها حتى يدخل بالام أو يتلذذ بها)
ولو بالنظر لغير الوجه ومثل الوجه الكفان (بنكاح أو ملك يمين) هذا
خروج لغير الموضوع لان الموضوع أنه عقد على الام (أو) يتلذذ بها
(بشبهة من نكاح أو) شبهة (من ملك) تفسير لقوله: * (وربائبكم اللاتي
في حجوركم من نسائكم) * (النساء: 23) فبالعقد على الام لا تحرم البنت وإنما يحرمها الدخول
بها أي وطؤها أو التلذذ ولو بالنظر لجسدها والنظر للوجه ولو مع لذة لغو
اتفاقا. ومثله اليدان مثال التلذذ بالنكاح الصحيح ظاهر، ومثال الشبهة من
النكاح أن ينكح خامسة أو معتدة غير عالم ويتلذذ بها، أو يطأ امرأة
يظنها زوجته فيحرم عليه فرع كل واحدة من المذكورات وأصلها. وضابط
نكاح الشبهة أن ينكح نكاحا فاسدا مجمعا على فساده، لكن يدرأ الحد
كأن يتزوج بمعتدة أو خامسة أو ذات محرم غير عالم ويتلذذ بها أو يطأ
امرأة يظنها زوجته فيحرم عليه أصل كل واحدة منهن وفرعها. (ولا يحرم
بالزنى حلال) المعنى أن من زنى بامرأة ولو تكرر زناه بها لا يحرم عليه به
أصلها ولا فرعها بل يحل له أن يتزوج بأمها أو بنتها التي لم تتخلق من مائه
450

وأما هذه فتحرم عليه ومن باب أولى يجوز لاصله وفرعه أن يتزوج بتلك
المرأة. ومثله قول مالك في الموطأ: فأما الزنى فإنه لا يحرم شيئا. وظاهر قوله في
المدونة خلافه ونصها: وإن زنى بأم زوجته أو بنتها فليفارقها فحمل أكثر
الشيوخ هذه المفارقة على الوجوب فاختلف ما في الموطأ وظاهر المدونة فأكثر
الشيوخ رجح ما في الموطأ وهو المعتمد، لان كل أصحاب مالك عليه ما عدا ابن
القاسم ومنهم من رجح ما في المدونة لما ذكره ابن حبيب عن مالك: أنه
رجع عما في الموطأ وأفتى بالتحريم إلى أن مات. (وحرم الله سبحانه وتعالى) على
المسلم (وطئ الكوافر) جمع كافرة (ممن ليس من أهل الكتاب بملك
أو نكاح) لقوله تعالى: * (لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 221) قال الفاكهاني:
الشرك يشمل المجوس والصابئة، وهم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية
وعبدوا الملائكة، ويشمل عبدة الأوثان وغيرهم وهم من يعبدون غير
الصنم فعبدة الأوثان من يعبدون الصنم وغيرهم من يعبدون الشمس والقمر.
(ويحل) للمسلم (وطئ) الإماء (الكتابيات بالملك) دون النكاح لعموم
قوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 3) (ويحل) للمسلم ولو كان عبدا (وطئ
حرائرهن) أي الكتابيات (بالنكاح) لقوله تعالى: * (والمحصنات من الذين
أوتوا الكتاب) * (المائدة: 5) وهن الحرائر أو العفائف الكتابيات. قال في الذخيرة: لما
شرف أهل الكتاب بالكتاب ونسبتهم إلى المخاطبة من رب الأرباب أبيح
نساؤهم وطعامهم، وفات غيرهم هذا الشرف بحرمانهم. وروي عن عبد الله
451

بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم جواز نكاح الكتابية الحرة
محتجا بآية البقرة قال: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. (ولا يحل
وطئ إمائهن) أي إماء الكتابيات (بالنكاح) لا (لحر ولا لعبد)
مسلمين سواء خاف على نفسه العنت أم لا لقوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم
طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)
* (النساء: 25) أي فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات فشرط الايمان فيهن. (ولا تتزوج
المرأة عبدها) سواء كان كامل الرق أو مبعضا أو كان فيه بعض عقد من
حرية كالمكاتب لتعارض الحقوق لأنه لو تزوجها لكان له عليها سلطنة
الزوجية وهي لها عليه سلطنة الملك، فإذا وقع فإنه يفسخ بغير طلاق لأنه
متفق على فساده. (و) كذلك (لا) تتزوج المرأة (عبد ولدها) لأنه
كعبدها. (و) كذلك (لا) يتزوج (الرجل أمته) أي أمة نفسه لان
النكاح إنما هو ملك المنافع، وهو البضع، والملك إنما هو ملك الرقبة بكمالها،
فملك المنافع داخل في ملك الرقبة فلا فائدة للنكاح. (و) كذلك (لا)
يتزوج الرجل (أمة ولده) للشبهة التي له في مال ولده ولذا لا يقطع إذا سرق من
مال ولا يحد إذا وطئ أمته وتجب نفقته عليه إن احتاج فهو في معنى من
تزوج أمة نفسه فإن وقع النكاح على شئ مما كر فسخ بغير طلاق. (وله)
أي ويباح للرجل (أن يتزوج أمة والده) الحر وإن علا إن لم يستمتع بها
الوالد بوطئ أو قبلة أو مباشرة. (و) كذا يباح له أن يتزوج (أمة أمه)
452

الحرة وإن علت لأنه لا شبهة له في مالهما إذ لو سرق من مالهما قطع أو زنى
بأمة إحداهما حد. ولا يشترط في جواز تزويجهما خوف العنت لان ولده
يعتق على أبويه وإنما يشترط ذلك إذا كانا عبدين لان الولد للسيد. (و)
يباح (له) أيضا (أن يتزوج بنت امرأة أبيه من رجل غيره) هذا واضح
إذا كانت البنت معها قبل لتزويج وانفصلت من الرضاع. أما إذا تزوجها
وهي ترضعها أو طلقها الأب ثم تزوجت بعده برجل وأولدها بنتا فهل
لابن الزوج الأول أن يتزوج هذه البنت أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال،
استظهر منها المنع والكراهة احتياطا ثم ذكر عكس هذه المسألة
بقوله: (وتتزوج المرأة ابن زوجة أبيها من رجل غيره) أي غير أبيها هذا
إذا تزوجها أبوها بعد انقطاع الولد من الرضاع. أما إذا تزوجها وهي ترضعه
فهو أخو الربيبة من الرضاع. (ويجوز للحر والعبد) المسلمين (نكاح أربع
حرائر مسلمات أو كتابيات) اتفاقا في حق الحر وعلى المشهور في حق
العبد. وروى ابن وهب قصره على اثنتين قياسا على طلاقه وحدوده وقد
يمتنع القياس بأن النكاح لذة يستوي فيها الحر والعبد كالأكل والشرب،
وإنما يتشطر العذاب ويمتنع نكاح الخامسة بإجماع. فإن وقع فسخ قبل
الدخول وبعده، وتحل الخامسة بطلاق إحدى الأربع طلاقا بائنا لا رجعيا
لبقاء العصمة. (و) يجوز (للعبد نكاح أربع إماء مسلمات) مملوكات
453

للغير من غير اشتراط خوف العنت وبغير اشتراط أن لا يجد للحرائر طولا
وإنما يشترط الاسلام. (و) يجوز (للحر ذلك) أي تزويج أربع إماء مسلمات
مملوكات للغير بشرطين أحدهما (إن خشي العنت) أي الزنى لقوله تعالى:
* (ذلك لمن خشي العنت منكم) * (النساء: 25) ويتم ذلك بغلبة الشهوة وضعف الخوف من الله
تعالى، فإن اشتد الخوف من الله وأمن على نفسه حرمت الأمة وسمي الزنى
عنتا لان أصله التعب والمشقة لقوله تعالى: * (ولو شاء الله لأعنتكم) * (البقرة: 220) أي ضيق
عليكم (و) الآخر إذا (لم يجد للحرائر طولا) وهو ما يتزوج به الحرة
(وليعدل بين نسائه) سواء كن حرائر أو إماء مسلمات أو كتابيات
دل على وجوبه الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: * (فإن خفتم
أن لا تعدلوا فواحدة) * (النساء: 3) أي فاختاروا واحدة أمر الله سبحانه وتعالى بالاقتصار
على الواحدة إن خاف الجور، فدل على أن العدل واجب. وأما السنة فقوله
صلى الله عليه وسلم: إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه
ساقط. رواه أصحاب السنن الأربعة، وأجمعت الأمة على وجوبه فمن لم يعدل
بين نسائه فهو عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا تجوز إمامته ولا شهادته والراجح
أنه يقصر العدل على المبيت فقط. وأما الكسوة والنفقة فبحسب حال كل
واحدة، فالشريفة بقدر مثلها والدنيئة بقدر مثلها، ولا يجب في الوطئ ويحرم
عليه أن يوفر نفسه لينشط للأخرى والقسم بيوم وليلة ولا يقسم بيومين
إلا برضاهن (وعليه) أي الزوج حرا كان أو عبدا وجوبا (النفقة
والسكنى) للزوجة حرة كانت أو أمة مسلمة كانت أو كتابية (بقدر وجده)
454

بضم الواو وسكون الجيم أي وسعه ظاهره أنه لا يراعى إلا حال الزوج
فقط، والمشهور أنه يراعى حالهما معا فينفق نفقة مثله لمثلها في عسره ويسره
وكذلك الكسوة. ويجوز إعطاء الثمن عما لزمه ولا يلزمها الاكل معه
واتفق على أنها تطلق عليه إذا عجز عن النفقة بعد التلوم على المشهور
ومقابله أنه يطلق عليه من غير تلوم، ذكره بهرام. وطلاقه يكون رجعيا ولو
أوقعه الحاكم ولكن لا تصح رجعته لها إلا إذا وجد يسارا يظن معه دوام
القدرة على الانفاق. (ولا قسم في المبيت لامته ولا لام ولده) مع زوجة
أو مع أمة أخرى لان القسم إنما يجب لمن له حق في الوطئ وهاتان لا حق
لهما فيه اتفاقا إذ الذي على سيد المملوك طعامه وكسوته ذكرا أو أنثى
ولسيده عليه الخدمة التي يطيقها، ولو تضررت الجارية من ترك الوطئ
واحتاجت للزواج لا يجبر سيدها والعبد مثلها. وأما قوله عليه الصلاة والسلام
: لا ضرر ولا ضرار فإنما هو فيما يجب للشخص ومن حقه والرق لا حق له في
الوطئ. (ولا نفقة للزوجة) يتيمة كانت أو غيرها حرة أو أمة بمجرد العقد
عليها على المشهور، وإنما تجب بأحد شيئين أحدهما (حتى يدخل بها) المراد
بالدخول هنا إرخاء الستور وطئ أم لا، كانت ممن يوطأ مثلها أم لا بأن
كانت غير مطيقة أو بها مانع من رتق ونحوه، بشرط أن يكون الزوج
بالغا وأن يكونا غير مشرفين. والشئ الآخر أشار إليه بقوله: (أو يدعى
إلى الدخول) ويشترط في هذه أن يكون الزوج بالغا وأن لا يشتد مرضهما
بحيث أخذا في السياق والنزع. وهناك شرط آخر أشار إليه بقوله: (وهي)
455

أن تكون (ممن يوطأ مثلها) فالصغيرة التي لا يمكن وطؤها لا نفقة لها
بالدعوة بل بالدخول لأنه إذا دخل استمتع بغير الوطئ. وإذا اختلفا في
الدعوة بأن قالت: دعوتك للدخول من شهر كذا، والزوج ينكر ذلك
فالقول قوله. (ونكاح التفويض جائز) من غير خلاف (وهو أن يعقداه)
بلفظ التثنية أي الزوج والولي ويروى يعقده بلفظ الافراد أي الزوج
(ولا يذكران صداقا) استشكل إثبات النون لأنه معطوف على المنصوب
هذا الاشكال مبني على أن الواو للعطف، أما لو جعلت للحال كما فعل التتائي
فلا إشكال وكلام المصنف صادق بصورتين لأنهما إذا لم يذكرا صداقا إما
أن يصرحا مع ذلك بالتفويض نحو: أنكحتك وليتي على التفويض أولا
نحو: زوجتك وليتي من غير ذكر مهر. وعلى كلا الوجهين النكاح صحيح.
أما لو صرحا باشتراط إسقاط المهر لما جاز وفسخ قبل الدخول. واختلف
قول ابن القاسم في فسخه بعد والمعتمد عدم الفسخ وأنه يمضي بصداق
المثل (ثم) إذا قلنا بجواز نكاح التفويض وصحته ووقع ومنعت الزوج
من الدخول فإنه (لا يدخل بها حتى يفرض لها) صداق مثلها ويعتبر
صداق المثل يوم العقد لأنه يوجب الميراث وغيره من حقوق النكاح الثابتة
به وليستحقه بالدخول لا بالعقد ولا بالموت فإن مات أحدهما توارثا ولا
صداق إلا بفرض وأثبته بعضهم بالموت وهو ضعيف. (فإن فرض) الزوج
(لها) أي الزوجة المنكوحة على التفويض (صداق المثل لزمها) ما فرض
456

لها على المذهب (وإن كان) ما فرض لها (أقل) من صداق مثلها مثل
أن يفرض لها خمسين دينارا وصداق مثلها مائة (فهي مخيرة) في الرضا به
ورده (فإن) رضيت به وكانت ثيبا رشيدة لزمها ذلك ما لم ينقص عن
ربع دينار وإن لم ترض به بأن (كرهته فرق بينهما) بطلقة بائنة
لأنها قبل الدخول. وأما ذات الأب والوصي فاختلف هل لهما الرضا بأقل
من صداق المثل على ثلاثة أقوال مشهورها الصحة من الأب قبل البناء
وبعده، ومن الوصي قبل البناء فقط ثم استثنى من المسألة التي تخير فيها
صورتين فقال: (إلا أن يرضيها) بزيادة شئ على ما سماه مما لم يبلغ صداق
المثل (أو يفرض لها صداق مثلها) بعد أن فرض لها دونه (فيلزمها)
ما أرضاها به في الصورة الأولى، وصداق المثل الذي فرضه ثانيا في الصورة
الثانية. (وإذا ارتد) أي قطع (أحد الزوجين) الاسلام أي بكلمة مكفرة
ودخل في دين غير دين الاسلام (فسخ النكاح) بينهما ساعة ارتداده
(بطلاق) بائن على المشهور أي فسخ بطلاق على المشهور بائن على المشهور فهو
راجع للموصوف وصفته ومحل ذلك ما لم يقصد المرتد منهما بردته فسخ النكاح،
وإلا فلا فسخ، وعليه لو أسلم المرتد فالزوجية باقية ولا تحتاج لعقد ولا رجعة لبقاء
العصمة، وإن قتل على ردته لا يرث الآخر وتعتبر ردة غير البالغ على المشهور فيحال
بينهما واتفق على أنه لا يقتل إلا بعد بلوغه واستتابته، وينبني على أن ردته
معتبرة أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يصلى عليه. (وقد قيل) الفسخ (بغير طلاق)
457

وهو رواية ابن أبي أويس وابن الماجشون ووجه بأنهما مغلوبان ومقهوران
على فسخه لقوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * (الممتحنة: 10) أي لا يكون بينكم
وبينهن عصمة ولا علقة زوجية والكوافر جمع كافر. (وإذا أسلم)
الزوجان (الكافران) سواء كانا كتابيين أو غيرهما أسلما قبل الدخول
أو بعده سواء كان النكاح بولي وصداق أو لا (ثبتا على نكاحهما) ما لم
يكن ثم مانع مثل أن يكون بينهما نسب أو رضاع. أما إن كان ثم مانع
من الاستدامة فسخ النكاح. (وإن أسلم أحدهما) أي الزوجين فذلك فسخ
(بغير طلاق) على المشهور وصوروا هذه المسألة بصور منها أن يسلم الزوج
وتحته مجوسية أو نحوها ممن ليست من أهل الكتاب ولم تسلم أي لم تسلم
بالقرب أي في كالشهر، وأما إذا لم يبعد الزمان بين إسلاميهما بل كان قريبا
كالشهر ونحوه فيقر عليها دخل بها أولا (فإن أسلمت هي) أي الزوجة
كتابية أو غيرها قبل زوجها الذي بنى بها (كان أحق بها إن) كان
حاضرا و (أسلم) وهي (في العدة) ولو طلقها في العدة إذ لا عبرة بطلاق
الكافر. وأما لو أسلم بعد انقضاء العدة فلا يقر عليها لان إسلامه كالرجعة
ولا رجعة بعد انقضاء العدة فإن أسلمت قبل زوجها الذي لم يبن بها فإنه
تبين مكانها. (وإن أسلم هو) أي الزوج قبلها (وكانت كتابية ثبت
عليها) أي أقر على نكاحها ما لم يكن هناك مانع من الاستدامة مثل أن
يكون بينهما نسب أو رضاع، أو تزوجها في العدة، وسواء كان إسلامه قبل
458

الدخول أو بعده (فإن) لم تكن كتابية بل (كانت مجوسية) فلا
يخلو إما أن تسلم في الحال أولا (فإن أسلمت بعده مكانها) كانا زوجين
ما لم يكن مانع من الاستدامة كما تقدم. (وإن) لم تسلم بعده مكانها بل
(تأخر ذلك) أي إسلامها عن إسلامه (فقد بانت منه) وما قاله الشيخ
يخالف ما في المختصر، وهو أنها إن أسلمت بعد زوجها بدون أن يبعد ما بين
إسلاميهما ثبت النكاح ويحد القرب بالشهر ونحوه، وفي بعض الروايات
الشهر إن قرب. (وإذا أسلم مشرك وعنده) من النسوة (أكثر من
أربع فليختر) نسوة منهن (أربعا) ممن يجوز نكاحهن في الاسلام قبل
الدخول أو بعده، وسواء عقد عليهن في عقد واحد أو في عقود مختلفة،
سواء كن أوائل أو أواخر، أسلمن معه أو أسلم هو وكن كتابيات، والاختيار
يكون بلفظ صريح أو ما يدل عليه من لوازم النكاح كطلاق أو ظهار أو
وطئ (و) بعد أن يختار منهن أربعا (يفارق باقيهن) بغير طلاق على
المشهور أي أن مفارقة الباقي ليست طلاقا على المشهور ومقابله يقول: إنها
طلاق وعليه ابن المواز وابن حبيب. وفائدة الخلاف أنه لو أسلم على عشر
نسوة ولم يدخل بواحدة واختار أربعا وفارق الباقي فلا مهر لهن. وعند ابن
المواز لكل واحدة منهن خمس صداقها لأنه لو فارق الجميع لزمه صداقان.
وعند ابن حبيب نصف صداقها والأصل في ذلك ما رواه الشافعي والبيهقي
وغيرهما، أن غيلان الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فقال
459

النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك أربعا وفارق باقيهن. (ومن لاعن زوجته لتحل له أبدا) زاد
في الموطأ وإن كذب نفسه جلد الحد وألحق به الولد ولم ترجع إليه أبدا.
(وكذلك) مثل تأبيد الزوجة الملاعنة (الذي يتزوج المرأة) بمعنى يعقد
عليها وهي (في عدتها) من غيره سواء كانت عدة وفاة أو طلاق، وإنما
قيدنا العدة بكونها من غيره لأنه لو تزوج بمبتوتته وإن كان حراما قبل
زوج، ويفسخ ويحد إلا أنه لا يتأبد تحريمها عليه. (ويطؤها في عدتها)
ظاهر كلامه أنه لو عقد في العدة ودخل بعدها لا تحرم، والمشهور تأبيد الحرمة
وظاهره أيضا أن القبلة ونحوها إذا وقعت في العدة لا تحرم وخالفه صاحب
المختصر قائلا: إذا وقعت القبلة ونحوها في العدة تأبد التحريم. (ولا نكاح)
جائز لازم (لعبد ولا لامة إلا أن يأذن السيد) فلو تزوج العبد بغير إذن
السيد ثم علم بعد ذلك فله الخيار إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه بطلقة بائنة
لأنه أدخل على ملكه نقصا، ثم إن كان الفسخ قبل البناء فلا شئ على
العبد وإن كان بعده استرد السيد ما أخذته الزوجة من الصداق الأربع
دينار، فإن عتق العبد أتبعته بما أخذه السيد. وأما الأمة إذا تزوجت بغير
إذن السيد فإن أكلت رجلا في عقد نكاحها فحكمها حكم العبد إن شاء
السيد أمضاه وإن شاء فسخه وإن باشرت العقد بنفسها فليس للسيد
الإجازة بحال بل يجب الفسخ اتفاقا. (ولا تعقد امرأة ولا عبد ولا من على
460

غير دين الاسلام نكاح امرأة) فالذكورية والحرية والاسلام شروط في
صحة العقد، إذ المرأة لما لم يجز لها أن تتولى العقد لنفسها فعقدها لغيرها أحرى.
وأما العبد فلا ولاية له إلا المكاتب في أمته فإنه يتولى عقد نكاحها ولا ولاية
لكافر على مسلمة وله الولاية على الكافرة زوجها لمسلم أو كافر. (ولا يجوز
أن يتزوج رجل امرأة ليحلها) أي فالباعث له على التزويج قصد الاحلال
أو قصد الاحلال مع نية إمساكها إن أعجبته والعبرة بالنية وقت العقد
فلو طرأت له نية التحليل عند الوطئ لا يضر (لمن طلقها ثلاثا) لقوله صلى الله عليه وسلم:
ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلل. ثم قال: لعن
الله المحلل والمحلل له رواه الدارقطني. ففي قوله التيس تشبيه الرجل بالتيس
واستعارة اسمه له على طريق التصريح بجامع الدناءة إشارة إلى أنه بمثابة
حيوان بهيمي دنئ، ثم قوله: لعن الله المحلل والمحلل له سماه محللا بحسب زعمهم،
والمحلل بكسر اللام الأولى الذي يتزوج مطلقة ثلاثا بعد العدة والمحلل له
هو الزوج الأول. قال في التحقيق: وسكت صلى الله عليه وسلم عن الولي والمرأة والشهود
مع أن الحرمة لاحقة للكل لتعلق الحرمة بالزوجين أشد ولذلك أخبر
صلى الله عليه وسلم بأن الله لعنهما أي طردهما من رحمته. (ولا يحلها ذلك) الزوج لمن
طلقها البتات. وإذا عثر على هذا النكاح فسخ قبل البناء وبعده وعبارة
بعضهم ويفرق بينهما بتطليقة بائنة ولها بالبناء صداق المثل فإن تزوجها
الأول بهذا النكاح فسخ بغير طلاق ويعاقب من عمل بنكاح المحلل من زوج
وولي وشهود وزوجة. وظاهر كلامه إن قصد المطلق أو الزوجة التحليل
461

بنكاح الثاني لا يضر وتحل به وهو كذلك. (ولا يجوز نكاح المحرم)
بحج أو عمرة (لنفسه ولا يعقد نكاحا لغيره) لما صح أنه صلى الله عليه وسلم
قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح، ولا يخطب. فإن وقع نكاحه أو
إنكاحه فسخ أبدا قبل الدخول وبعده بطلاق على المشهور ولا يتأبد
التحريم. وإذا فسخ قبل الدخول فلا شئ لها. وإذا فسخ بعده فلها الصداق
لان كل مدخول بها لها الصداق (ولا يجوز نكاح المريض) والمريضة
مرضا مخوفا وهو الذي يحجر فيه عن ماله ويلحق به كل من حكم عليه
بقطع أو محبوس لقتل. وظاهر كلامه أن نكاح المريض لا يجوز ولو
احتاج إلى امرأة تقوم به وهو كذلك على أحد المشهورين والمشهور
الآخر يجوز مع الحاجة (و) إذا قلنا لا يجوز نكاح المريض فإنه (يفسخ)
ظاهره قبل البناء وبعده عثر عليه قبل الصحة أو بعدها. والراجح ما في
المختصر أنه إذا عثر عليه بعد الصحة لا يفسخ وظاهره أيضا كانت الزوجة
حرة أو أمة مسلمة أو كتابية أجازه الورثة أم لا وهو المشهور، لان العلة
وهي إدخال وارث لم تؤمن لجواز عتق الأمة وإسلام الكتابية فيصيران
من أهل الميراث لا يقال الحق للوارث فينبغي جوازه بإجازته كالتبرع
بزائد الثلث لأنا نقول إخراج المال موقوف حتى يعلم الوارث بعد الموت
فيحتمل موت المجيز وحدوث وارث غيره، والراجح أن الفسخ بطلاق لأنه
من المختلف فيه فإن لم يبن بها فلا شئ لها (وإن بنى بها فلها الصداق في
الثلث مبدأ) قال ابن عمر: يريد صداق المثل وهو قول ابن القاسم. وقال
462

ابن ناجي: ظاهر كلام الشيخ أن لها المسمى وإن كان أكثر من صداق
المثل يقضى لها به من رأس ماله قل أو كثر (ولا ميراث لها) أي لمن
تزوجها في المرض لنهيه عليه الصلاة والسلام عن إدخال وارث وإخراجه
وليعامل بنقيض قصوده. (ولو طلق المريض امرأته لزمه ذلك) الطلاق بلا
خلاف لأنه عاقل مكلف (وكان الميراث لها منه إن مات في مرضه ذلك) كان
الطلاق بائنا أو رجعيا ولا يرثها هو إن كان الطلاق ثلاثا ويرثها إن كان رجعيا
ما لم تخرج من العدة. ومفهوم الشرط أنه إذا صح من مرضه ومرض مرضا آخر
فلا ترثه لأنه قد زال الحجر عنه الذي هو سبب ميراثها. (ومن طلق) من
المسلمين الأحرار (امرأته) حرة كانت أو أمة سلمة كانت أو كتابية
مدخولا بها أو غير مدخول بها (ثلاثا لم تحل له بملك ولا نكاح حتى
تنكح زوجا غيره) للآية والمراد بالنكاح في كلام الشيخ وفي الآية
الوطئ دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث امرأة رفاعة: لا حتى تذوقي عسيلته
ويذوق عسيلتك. ويشترط في الزوج أن يكون مسلما فلو كان المسلم
متزوجا يهودية أو نصرانية وطلقها ثلاثا ثم تزوجها يهودي أو نصراني
وطلقها أو مات عنها فلا تحل لزوجها المسلم بذلك بالغا فالصبي وطؤه كالعدم
فلا تحل به ويعتبر البلوغ عند الوطئ. فلو عقد قبل البلوغ ولم يدخل حتى
بلغ حلت وأن يكون النكاح لازما احترازا عن نكاح الخيار لأنه غير لازم
كنكاح العبد بغير إذن سيده وأن يولج حشفته أو مثلها من مقطوعها
463

في قبلها انتشار احترازا من الايلاج بغير انتشار فإنه لا عسيلة معه إيلاجا
مباحا، فالوطئ في الحيض أو العدة غير معتبر، وكذا وطئ المحلل من غير
تناكر فيه وإن تعلم الخلوة المعتادة بينهما وتثبت بامرأتين فلا بد من
ثبوت الخلوة وإلا لم تحل. قال أشهب: ولو صدقها الثاني على الوطئ لأنها تتهم
على الوطئ لتملك الرجعة لمن طلقها، ويتهم الثاني ليملك الرجعة وأن تكون
عالمة بالوطئ، فلا يعتبر وطئ المغمى عليها أو المجنونة. ويشهد لذلك حديث
امرأة رفاعة فإنه يقتضي أنه لا بد من علمها، لأنه قال لها: حتى تذوقي
عسيلته الخ. ثم شرع يتكلم على الطلاق وهو لغة الارسال من قولك:
أطلقت الناقة، واصطلاحا حل العصمة المنعقدة بين الزوجين وله أربعة أركان:
الزوج والزوجة والقصد فمن سبق لسانه إلى الطلاق لم يقع عليه طلاق يعني
من راد أن يتكلم بغير الطلاق فالتوى لسانه فتكلم بالطلاق فلا شئ
عليه وكذلك من أكره على الطلاق إلا أن يترك التورية مع العلم بها،
والتورية لفظ له معنيان قريب وبعيد ويريد البعيد كقوله: هي طالق
ويريد من وثاق ومعناه القريب إبانة العصمة والرابع الصيغة وتنقسم إلى
صريح وهو ما فيه لفظ الطلاق ولا يحتاج إلى نية وإلى ناية وهي صريحة
وستأتي ومحتملة فتقبل دعواه في نيته وعدده، فإذا قال: اذهبي أو انصرفي
مثلا وقال: لم أرد بذلك طلاقا فإنه يحلف على ذلك ولا شئ عليه. وإن قال
نويت بذلك الطلاق فإنه يلزمه فإن كانت له نية بطلقة أو أكثر عمل
بها وإن لم تكن له نية في عدد لزمه الثلاث. وقد قسم الشيخ الطلاق
باعتبار أنواعه إلى قسمين بدعي وسني فالأول قوله (وطلاق الثلاث في
كلمة واحدة بدعة) أي محدثة أي لم يؤمر بها بل أمر بخلافها فلا ينافي
464

وقوعها في زمنه صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما بلغه أن رجلا طلق امرأته ثلاث
تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: أتلعبون بكتاب الله عز وجل وأنا بين
أظهركم. (ويلزمه) الطلاق الثلاث (إن وقع) في كلمة واحدة على المعروف
من المذهب وقيل: واحدة (و) أما الثاني: فهو (طلاق السنة) أي الذي
أذنت فيه السنة وحكمه أنه (مباح) ثم فسره بقوله: (وهو أن يطلقها
في طهر لم يقربها) أي لم يجامعها (فيه طلقة) واحدة (ثم لا يتبعها طلاقا
حتى تنقضي العدة) فهذه أربعة قيود متى فقد واحد منها لم يكن سنيا (وله
الرجعة في التي تحيض ما لم تدخل في الحيضة الثالثة في) حق (الحرة أو) في
الحيضة (الثانية في) حق (الأمة) لان أسباب الزوجية باقية بينهما
ما عدا الوطئ. والرجعة تكون بالنية مع القول كراجعتها وأمسكتها أو ما يقوم
مقام القول كالوطئ ومقدماته، إلا أنه لا بد من النية مع الوطئ فالوطئ بدون النية
ليس برجعة. (فإن كانت) المطلقة (ممن لم تحض) لصغر (أو ممن يئست
من المحيض) قال ابن ناجي: أراد بها من أيس الحيض منها فتصدق
ببنت ثلاثين سنة وليس المراد من جاوز سنها الخمسين أو الستين أو السبعين
سنة كما قال في غير هذا الموضع (طلقها متى شاء) أي في أي وقت شاء
465

. قال التتائي: ولو بعد وطئها اه‍. لان طلاق ذوات الأشهر لا يوجب تطويل
عدة (وكذلك الحامل) أي للأمن من التطويل وكذلك الزوجة غير
المدخول بها ولو في حال حيضها بناء على أن النهي لتطويل العدة ولو قدم
قوله: فإن كانت الخ على قوله: وله الرجعة الخ لكان أنسب لأنه من جملة
مسائل الطلاق لا الرجعة. (وترتجع الحامل ألم تضع) حملها كله فترتجع
بعد وضع بعضه فإن وضعت جميعه انقضت عدتها فلا رجعة. وتنقضي العدة
بما أسقطته من مضغة أو علقة، فإن أشكل الامر ولم يعلم أهو ولد أو دم
منعقد اختبر بالماء الحار فإن كان دما انحل وإن كان ولدا لا يزيده ذلك إلا شدة.
(والمعتدة بالشهور) وهي المستحاضة واليائسة ترجع (ما لم تنقض العدة)
وعدة الأولى سنة يعتبر منها تسعة أشهر استبراء والثلاثة الباقية هي العدة فالعدة
في الحقيقة ثلاثة أشهر وعدة الثانية ثلاثة أشهر، ومثلها الصغيرة المطيقة
للوطئ ولا فرق في الاعتداد بالشهور بين الزوجة الحرة والأمة كالاعتداد
بوضع الحمل وإنما يفترقان بالأقراء (والأقراء) أي في الآية لا في المصنف
لأنه لم يتقدم لها ذكر وعندنا وعند الشافعي (هي الأطهار) وعند أبي
حنيفة هي: الحيض. وثمرة الخلاف حلها بمجرد رؤية الدم الأخير، على أن
المراد الأطهار وعدم حلها حتى تتم الحيضة على أن المراد بالأقراء الحيض.
(وينهى) بمعنى ونهى نهي تحريم (أن يطلق) الرجل زوجته وهي (في
الحيض) أي والفرض أنها غير حامل (فإن طلق لزمه) لما صح أن
466

ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر،
ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر
الله أن يطلق لها النساء. قال ابن عمر: حسبت علي بتطليقة أي الطلقة التي
طلقها في الحيض والذي حسبها عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لعمر: مره فليراجعها
والمراجعة بدون الطلاق محال (و) إن لم يراجعها (أجبر على الرجعة).
وصفة الجبر أن يأمره الحاكم بها فإن أبى هدده بالسجن، فإن أبى سجن،
فإن أبى هدده بالضرب، فإن أبى ضرب ويكون ذلك قريبا بعضه من
بعض (والتي لم يدخل بها) يباح له أن (يطلقها متى شاء) في طهر أو حيض
على المشهور إذ لا عدة عليها. ومنعه أشهب في الحيض لان العلة عنده
محض التعبد (والواحدة تبينها) أي غير المدخول بها لأنها لا عدة عليها ومثل
طلاقها قبل الدخول ما إذا دخل بها ووطئها وطأ غير مباح، كما لو كان في
حيض أو نفاس مثلا فإنها بائنة أيضا (والثلاث تحرمها إلا بعد زوج)
أي الثلاث في كلمة أو ما في حكمها كالبتة أو بتكرر لفظ الطلاق نسقا.
(ومن قال لزوجته أنت طالق فهي واحدة) أي يلزمه طلقة واحدة ولو
لم ينو حل العصمة لأنه صريح يلزم به الطلاق ولو هزلا. وأما أنت منطلقة
أو مطلوقة فلا يلزم به الطلاق إلا بالنية لأنه من الكنايات الخفية (حتى
467

ينوي أكثر من ذلك) فيلزمه ما نوى اثنتين أو ثلاثا. ثم انتقل يتكلم
على الخلع وهو لغة: الإزالة وشرعا: إزالة العصمة بعوض من الزوجة أو غيرها
وهو معنى قوله. (والخلع طلقة لا رجعة فيها وإن لم يسم طلاقا إذا أعطته
شيئا فخلعها به من نفسه) فقوله طلقة إشارة للرد على من يقول إنه فسخ
وإن صرح بلفظ الطلاق فعلى الأول لو طلقها قبل الخلع طلقتين لا تحل له
إلا بعد زوج وعلى الثاني له مراجعتها قبل أن تتزوج. وقوله: لا رجعة فيها
إشارة لمن يقول: إنه رجعي لا بائن. وقوله: وإن لم يسم طلاقا إشارة لمن يقول:
إن الخلع لا يكون طلاقا إلا إذا سمي طلاقا، وإلا فلا يلزمه الطلاق ثم انتقل
يتكلم على ألفاظ الكناية فقال: (ومن قال لزوجته: أنت طالق البتة فهي
ثلاث دخل بها أو لم يدخل) ولا ينوي في البتة مطلقا مدخولا بها
أم لا (وإن قال) لها: أنت (برية أو خلية أو حرام أو حبلك على غاربك
فهي ثلاث في التي دخل بها وينوي) في عدد الطلاق لا في إرادة غير
الطلاق (في التي لم يدخل بها) خلاف المشهور، والمشهور أن في قوله حبلك
على غاربك الثلاث مطلقا دخل بها أو لم يدخل (والمطلقة) التي سمى لها
468

الزوج صداقا (قبل البناء) يجب (لها
نصف الصداق) الذي سماه لها لقوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة
فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) * (البقرة: 228) أي الثيبات الرشيدات أو يعفو الذي بيده
عقدة النكاح وهو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته وهو معنى قوله:
(إلا أن تعفو) أي عن نصف الصداق (هي إن كانت ثيبا) رشيدة
(وإن كانت بكرا فذلك) أي العفو راجع (إلى أبيها) ومن طلق امرأته
طلاقا بائنا أو رجعيا حرة كانت أو كتابية أو أمة مسلمة مدخولا بها أو
غير مدخول بها، لم يسم لها في نكاح لازم (فينبغي) بمعنى يستحب (له
أن يمتع) أي يعطيها شيئا يجري مجرى الهبة على قدر حاله من عسر ويسر
(ولا يجبر) تأكيد إذ المستحب لا يجبر عليه من أباه. (والتي) أي المطلقة
التي (لم يدخل بها و) الحال أنه كان (قد فرض لها) صداقا (ف‍) - إنه
(لا متعة لها) لأنها قد أخذت نصف الصداق مع بقاء سلعتها، ومفهومه أنها
إذا لم يفرض لها فإن لها المتعة وهو كذلك كما قدمنا (ولا) متعة (للمختلعة)
لأنها قد دفعت شيئا من ما لها لأجل فراقها من زوجها كراهية فيه فلا ألم
عندها. (وإن مات) الزوج (عن) زوجته (التي لم يفرض لها) صداقا
469

(و) الحال أنه (لم يبن بها فلها الميراث منه) اتفاقا لأنه بعقد النكاح في
الصحة التوارث بينهما (و) لكن (لا صداق لها) عليه على المشهور،
ومفهومه أنه لو فرض لها كان لها الصداق أيضا (ولو دخل بها) أي التي
مات عنها ولم يفرض لها (كان لها) مع الميراث (صداق المثل) لأنه قد
فوت عليها سلعتها وإنما يكون لها صداق المثل (إن لم تكن رضيت بشئ
معلوم) أي حيث كانت رشيدة فيجوز لها الرضا بدون صداق المثل. ثم
انتقل يتكلم على العيوب الموجبة للرد فقال (وترد المرأة من الجنون
والجذام والبرص) ظاهر كلامه الرد بهذه العيوب قلت أو كثرت وهو
كذلك (و) ترد المرأة أيضا ب‍ (- داء الفرج) وهو ما يمنع الوطئ أو لذته
وهو خمسة أشياء: القرن: بسكون الراء وفتحها لحمة تكون في فم الفرج.
والرتق: بفتح الراء والتاء وهو التحام الفرج بحيث لا يمكن دخول الذكر،
والافضاء وهو أن يكون مسلك البول ومسلك الجماع واحدا، والاستحاضة
وهو كما تقدم جريان الدم في غير زمن الحيض وهي تمنع من كمال الجماع،
والبخر وهو نتن الفرج. (فإن دخل الزوج) بالتي (بها) شئ من العيوب
المتقدمة (و) الحال أنه (لم يعلم) به عند الدخول (ودي) أي دفع
(صداقها ورجع به) معنى كلامه أنه يلزمه أن يدفع لها جميع الصداق
ثم يرجع به على أبيها) إن كان زوجها له، ظاهره ولو كان معسرا، ولا
470

يرجع الأب على المرأة بشئ، وهو كذلك إذا كانت غائبة حين التزويج أما
إذا كانت حاضرة وكتما العيب فيخير الزوج في الرجوع عليها وعليه.
(وكذلك) مثل رجوع الزوج على الأب في الحكم (إن) كان الذي
(زوجها أخوها) فإنه يرجع عليه (وإن زوجها ولي ليس بقريب القرابة)
أي بعيد كابن العم ولم يعلم بالعيب ودخل بها الزوج فلا شئ عليه وإن
علم بالعيب رجع عليه كالقريب وحيث قلنا لا رجوع له على البعيد فإنه
يرجع على المرأة بجميع الصداق (ولا يكون لها) منه (إلا ربع دينار)
لئلا يعرى البضع عن بدل (ويؤجل المعترض سنة) أي إذا لم يسبق له وطئ
لها كان الاعتراض سابقا على العقد أو متأخرا عنه فإن سبق منه وطئ لها ثم
اعترض فتلك مصيبة نزلت بها (فإن وطئ) في الاجل فلا يفرق بينهما
(وإلا فرق بينهما) إذا تقاررا على عدم الوطئ
في الاجل. وأما لو ادعى الوطئ وأنكرته فإن كانت الدعوى في الاجل
أو بعد الاجل أنه وطئ في الاجل فالقول قوله بيمينه، فإن نكل حلفت وكان القول قولها (إن شاءت)
بطلقة بائنة لان كل طلاق من القاضي بائن إلا طلاق المعسر بالنفقة والمولي
من زوجته. (والمفقود) الذي فقد في بلاد الاسلام ولم يعلم له موضع في
غير مجاعة ولا وباء إذا ان له زوجة فإنها ترفع أمرها إلى الحاكم ليكشف
لها عن خبره فإن كان حرا (يضرب له أجل) أي مدة (أربع سنين)
471

وإن كان عبدا يضرب له مدة سنتين وابتداء ضرب الاجل من يوم الرفع
(من يوم ترفع ذلك) إلى السلطان (وينتهي الكشف عنه) وعبارة
الشيخ مشكلة ولهذا أولها بعضهم قال: إن الواو في وينتهي الكشف
عنه بمعنى مع أي فلا بد من حصول الامرين لأنه لا يستلزم أحدهما الآخر،
فلذا ذكرهما (ثم إذا انقضى الاجل ولم يظهر له خبرة ف‍ (- تعتد) زوجته
(كعدة الميت) وعليها الاحداد على المشهور (ثم) بعد انقضاء العدة (تتزوج
إن شاءت) ولا تحتاج إلى ذن الحاكم (ولا يورث ماله حتى يأتي عليه
من الزمان ما لا يعيش إلى مثله) غالبا وهو ثمانون سنة على ما اختاره الشيخ
والقابسي، وسبعون على ما اختاره عبد الوهاب. (ولا تخطب المرأة) المطلقة
طلاقا بائنا أو رجعيا أو المتوفى زوجها وهي (في عدتها) بصريح اللفظ أي
يحرم وهذا إذا كانت معتدة من غير المطلق وأما منه فإنه لا يحرم حيث لم يكن
بالثلاث. وكذا يحرم مواعدة بالنكاح من الجانبين بأن يتوثق كل من
صاحبه أن لا يأخذ غيره (ولا بأس) بمعنى ويباح خطبة المعتدة (بالتعريض
بالقول المعروف) أي الحسن وهو ما يفهم به المقصود مثل: إني فيك لراغب
(ومن نكح) أي تزوج على امرأته أو نسائه (بكرا) صغيرة كانت
أو كبيرة مسلمة أو كتابية أو أمة (ف‍) - يباح (له) وفي أكثر النسخ
472

فلها بالتأنيث (أن يقيم عندها سبعا) أي سبعة أيام متواليات (دون
سائر نسائه) ثم بعد ذلك يسبينهن في
القسم. (و) أما الحكم (في الثيب) إذا تزوجها على نسائه فلا يقيم عندها إلا (ثلاثة أيام) متواليات
ثم يسوي بينهن (ولا يجمع بين الأختين في ملك اليمين في الوطئ) أي أو
غيره من أنواع الاستمتاع. وإذا جمعهما في الملك فله أن يطأ أيتهما شاء
والكف عن الأخرى موكول إلى الأمانة (فإن شاء) أي أراد وطئ
الأخرى (فليحرم عليه) أي على نفسه (فرج الأولى) التي وطئها إما
(ببيع) بعد الاستبراء بيعا ناجزا لمن لا يعتصره منه وأما إن لم يكن
ناجزا كبيع الخيار فإنه لا يحرم فرج الأولى حتى تخرج من أيام الخيار
(أو) ب‍ (- كتابة) لان المكاتبة أحرزت نفسها ومالها (أو) ب‍ (عتق)
ناجز أو مؤجل (وشبهه مما تحرم به) الهبة لغير الثواب لمن لا يعتصرها
منه إذا قبضها الموهوب. (ومن وطئ أمة بملك) صحيح أو فاسد أو
مختلف في فساده وأما المتفق على فساده إن درأ الحد فكذلك وإلا فلا
أو قبلها أو باشرها (لم تحل له أمها) قياسا على أم الزوجة (ولا) تحل له
(ابنتها) قياسا على الربيبة (وتحرم على آبائه) قياسا على حليلة الابن
473

(و) تحرم على (أبنائه) قياسا على زوجة الأب فتحريم المصاهرة يجري
في الملك (كتحريم) المصاهرة في (النكاح) لعموم قوله تعالى: * (حرمت
عليكم أمهاتكم) * (النساء: 23) الآية. (والطلاق بيد العبد دون السيد) لقوله عليه الصلاة
والسلام: إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق كناية عن الزوج، وهذا إذا
تزوج بإذن السيد، أما إذا تزوج بغير إذنه فله فسخه. (ولا طلاق لصبي)
وإنما يصح طلاق المسلم المكلف وحيث قلنا لا طلاق على الصبي إنما يطلق
عليه وليه لمصلحة. (والمملكة) وهي التي يقول لها زوجها: ملكتك نفسك
أو أمرك أو طلاقك بيدك أو أنت طالق إن شئت (والمخيرة) وهي التي
يخيرها في النفس مثل أن يقول لها: اختاريني
أو اختاري نفسك أو اختاريني أو اختاري طلقة أو طلقتين حكمهما أن (لهما أن يقضيا ما دامتا في
المجلس) فيجيبا بصريح يفهم منه مرادهما فإن أجابا بمحتمل أمرا ببيان
مرادهما فيعمل به، ثم لا يخلو حال المملكة من أمرين لأنها إما أن تطلق
واحدة أو أكثر ففي الواحدة لا مناكرة له، وفيما زاد عليها له المناكرة وإلى
هذا أشار بقوله (وله) أي زوج المملكة (أن يناكر المملكة خاصة)
دون المخيرة (فيما فوق الواحدة) بشرط أن ينكر حين سماعه من غير
إهمال، وأن يقر بأنه أراد بتمليكه الطلاق. فلو قال: لم أرد طلاقا فإنه يقع
الثلاث ولا عبرة بعد ذلك بقوله: أردت بما جعلته لها طلقة واحدة وأن يدعي
أنه نوى واحدة في حال مليكه وأن يكون تمليكه طوعا احترازا مما إذا
474

شرط لها في عقد نكاحها فطلقت نفسها ثلاثا فإنه لا مناكرة له دخل بها
أم لم يدخل. وأما المخيرة فلا يخلو إما أن تخير في العدد أو في النفس فإن
خيرت في العدد فليس لها أن تختار زيادة على ما جعل لها، وإن خيرت في
النفس فإن قالت: اخترت واحدة أو اثنتين لم يكن لها لك وبطل خيارها.
وإن قالت اخترت نفسي كان ثلاثا ولا تقبل منها إن فسرته بما دون ذلك
وهذا معنى قوله: (وليس لها في التخيير أن تقضي إلا بالثلاث ثم لا نكرة
له فيها) لان قوله: اختاريني أو اختاري نفسك اختيار ما تنقطع به العصمة،
وهي لا تنقطع في المدخول بها دون الثلاث فثبت أنه قد جعل لها الثلاث
فلا مناكرة له وعد ذلك. ثم انتقل يتكلم على الايلاء بقوله: (وكل حالف)
من المكلفين المسلمين الأحرار يتصور منه الوقاع (على ترك الوطئ) من
زوجته المطيقة للوطئ سواء كانت مسلمة أو كتابية أو أمة قاصدا بذلك
الضرر (أكثر من أربعة أشهر فهو مول) من يوم اليمين إن كانت يمينه
صريحة كقوله والله لا وطئتك أكثر من أربعة أشهر، ومن يوم الرفع
والحكم إن كانت يمينه محتملة لأقل من الاجل كقوله: والله لا أطؤك
حتى يقدم زيد. فلو حلف على أربعة أشهر فدون لا يكون موليا (ولا
يقع عليه الطلاق إلا بعد أجل الايلاء وهو أربعة أشهر للحر وشهران
للعبد حتى يوقفه السلطان) هذا هو المشهور أي أن كونه لا يقع عليه
475

الطلاق بتمام الاجل من غير إيقاف هو المشهور أي فيوقفه السلطان
إما فاء أو طلق فإن فاء أي رجع سقط عنه حكم الايلاء لقوله تعالى:
* (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم) * (البقرة: 226) وتحصل لفيئة بمغيب الحشفة في القبل
وإن لم يفئ أمره السلطان بالطلاق فإن امتنع طلق
عليه أي طلق عليه الحاكم (ومن تظاهر) من المسلمين المكلفين حرا كان أو
عبدا فالمسلم يشمل الزوج والسيد (من امرأته) أو أمته وهو أن يشبهها
بمحرمة عليه تحريما مؤبدا بنسب أو رضاع أو صهر، وهو منحصر في أربعة
أمور أم الزوجة والربيبة إذا دخل بالام وزوجة الأب وزوجة الابن كقوله:
أنت علي كظهر أمي (فلا يطؤها) ولا يقبلها ولا يلمسها ولا ينظر إلى
شعرها (حتى يكفر) بأحد أمور ثلاثة على الترتيب أولها (بعتق رقبة مؤمنة سليمة
من العيوب ليس فيها شرك ولا طرف من حرية) أما اشتراط الايمان فظاهر لان
المقصود من العتق القربة، وعتق الكافر ينافيها وأما اشتراط السلامة
من العيوب فليس على إطلاقه بل إن منع من كمال الكسب كقطع اليد
أو الرجل أو العمى أو البكم أو الجنون إلى آخر العيوب فإنه لا يجزئ، وإن لم يمنعه
كالعرج الخفيف والعور فإنه يجزئ كما سينص عليه بعد (فإن) عجز عن
العتق بأن (لم يجد) رقبة ولا ثمنها ولا قيمتها (صام شهرين متتابعين) بالأهلة
فإن انكسر شهر صام أحدهما بالهلال وتمم المنكسر ثلاثين وتجب نية
التتابع ونية الكفارة، فإذا انقطع التتابع استأنف لان الله سبحانه اشترط التتابع (فإن لم
476

يستطع) الصوم بأن كان ضعيف البنية (أطعم ستين مسكينا) أحرارا
مسلمين (مدين) بمده صلى الله عليه وسلم (لكل مسكين) وهذا في حق الحر، وأما
العبد فلا يكفر بالاطعام إلا إذا أذن له سيده وقوله: (ولا يطؤها) يريد ولا
يقبلها ولا يباشرها (في ليل أو نهار حتى تنقضي الكفارة) تكرار مع
قوله قبل فلا يطؤها حتى يكفر (فإن فعل) المظاهر (ذلك) أي ما نهى
عنه بأن وطئ المظاهر منها أو فعل شيئا من مقدمات الجماع (فليتب إلى
الله عز وجل) مما فعل وليس عليه كفارة أخرى (فإن كان وطؤه) أو
استمتاعه بغير الوطئ (بعد أن فعل بعض الكفارة بإطعام أو صوم
فليبتدئها) أي الكفارة وسكت عن العتق فإنه لا يتبعض. (ولا بأس
بعتق الأعور في الظهار) لأن العين الواحدة تسد مسد العينين في الابصار
والاكتساب والقوة على الحرف والصنائع. (و) كذلك لا بأس بعتق
(ولد الزنى) والآبق والسارق والزاني (ويجزئ الصغير) أي عتقه في
الظهار لصدق اسم الرقبة عليه (ومن صلى وصام أحب إلينا) أي المالكية
لتمكنه من معايشه بخلاف الرضيع فإنه وإن أجزأ في الظهار إلا أن ذلك
477

متعذر فيه. ولذا يلزمه الانفاق عليه حتى يبلغ القدرة على الكسب.
(واللعان) مشروع رخصة نص عليه الكتاب والسنة ولا خلاف في ذلك
بين الأئمة (بين كل زوجين) ولو كان نكاحهما مجمعا على فساده دخل بها
أو لا ولو فاسقين لقول الموازية: ومن نكح ذات محرم أو أخته غير عالم وقد
حملت وأنكر الولد فإنهما يتلاعنان لأنه نكاح شبهة، فإن نكلت حدت
وإن نكل حد للقذف ويلزمه الولد. ويشترط في الزوج أن يكون مسلما
مكلفا يتأتى منه الوطئ. ويشترط في الزوجة أن تكون ممن يمكن حملها
ولا يشترط فيها الاسلام والحرية فتلاعن الكتابية والأمة. واللعان بين
الزوجين يكون (في نفي حمل يدعى قبل الاستبراء) ولو بحيضة ومثل
الاستبراء دعواه عدم وطئها بعد وضعها الحمل الأول الذي قبل هذا المنفي
والحال أن بين الوضعين ما يقطع الثاني عن الأول وهو ستة أشهر فأكثر
(أو) يدعى (رؤية الزنى كالمرود) بكسر الميم (في المكحلة) بضم الميم
والحاء. ويشترط في اللعان لنفي الحمل أن يقوم بفوره، وأما إذا رآه سكت
ثم قام بعد ذلك فلا لعان. ويشترط في اللعان بالرؤية أن لا يطأ بعدها. وأما
التأخير فلا يمنع اللعان لرؤية الزنى (واختلف في اللعان في القذف) من
غير دعوى رؤية وطئ ولا نفي حمل على قولين مشهورين أحدهما: أنه يلاعن والآخر: أنه
يحد ولا يلاعن. ويتعلق باللعان أربعة أحكام أحدها أشار إليه
بقوله: (وإذا افترقا باللعان ولم يتناكحا أبدا) والثلاثة الباقية سقوط الحد
478

ونفي النسب وقطع النكاح وتقع الفرقة بينهما بتمام لعانهما ولا يحتاج إلى
حكم حاكم وهي فسخ لا طلاق على المشهور. (و) صفة اللعان أنه (يبدأ
الزوج) وجوبا وإذا ابتدأ الزوج (فيلتعن أربع شهادات بالله) فإن
كان اللعان لنفي حمل يقول: أشهد بالله ما هذا الحمل مني، أربع مرات. قاله
المواز. والذي في المدونة وهو المشهور يقول: أشهد بالله لزنت وإن كان
للرؤية يقول أربع مرات: أشهد بالله لرأيتها تزني (ثم) بعد أن يلتعن
أربع شهادات بالله (يخمس باللعنة) فيقول: عليه لعنة الله إن كان من
الكاذبين. كذا في المختصر والذي في المدونة يقول: إن لعنة الله عليه وهو
أولى للآية (ثم) إذا تم لعان الرجل (تلتعن هي) أي المرأة (أربعا أيضا)
مبطلة لحلف الزوج، فإذا قال في نفي الحمل: أشهد بالله لزنت فترد هي ذلك
فتقول في الأربع المرات: أشهد بالله ما زنيت. وإذا قال في الرؤية: أشهد بالله
لرأيتها تزني فترد ذلك فتقول في المرات الأربع: ما رآني أزني (و) بعد
الرابعة (تخمس بالغضب كما ذكره الله سبحانه وتعالى) فتقول: غضب الله
عليها إن كان من الصادقين. ويجب أن يكون اللعان بحضرة جماعة من
الناس أقلهم أربعة أن يكون في أشرف أمكنة البلد، ولا يكون إلا في
المسجد ويستحب أن يكون بعد صلاة لعصر، ويستحب تخويفهما خصوصا
عند الخامسة بأن يقال لهما: هذه الخامسة هي الموجبة عليكما العذاب (وإن
نكلت هي) أي المرأة عن اللعان، أي: امتنعت منه بعد لعان الزوج
479

(رجمت إن كانت حرة محصنة بوطئ تقدم من هذا الزوج) الملاعن
(أو) من (زوج غيره) أي في نكاح صحيح لازم (وإلا) أي وإن لم
يتقدم للملاعنة احصان (جلدت مائة جلدة) حيث كانت حرة مسلمة مكلفة.
فإن كانت أمة فنصف الحد، وإن كانت ذمية يلزمها الأدب لأذيتها لزوجها
وردت لحاكم ملتها بعد تأديبها. (وإن نكل الزوج وكانت الزوجة بالغة
مسلمة حرة جلد) ثمانين جلدة حد القذف ولحق به الولد ثم انتقل يتكلم
على الخلع فقال: (وللمرأة) أي ويباح لها إذا كانت بالغة رشيدة (أن
تفتدي) أي تختلع (من زوجها) إذا كان بالغا رشيدا. أما إذا كان
صبيا أو مجنونا فلا يباح لها ذلك والظاهر الحرمة (ب‍) - جميع (صداقها
أو) ب‍ (- أقل أو) ب‍ (- أكثر) منه وإباحته مقيدة بما (إذا لم يكن) ذلك
عن (ضرر بها) مثل أن ينقصها من النفقة أو يكلفها شغلا لا يلزمها
(فإن كان) ذلك الافتداء ناشئا (عن ضرر بها رجعت) عليه (بما أعطته
ولزمه الخلع) ويكفي في ثبوت الضرر إقامة بينة السماع، والحاصل أن
المرأة إذا ادعت بعد المخالعة أنها ما خلعت إلا عن ضرر وأقامت بينة السماع
بذلك فإن الزوج يرد ما خالعها به وبانت منه. (والخلع طلقة) بائنة (لا
480

رجعة فيها إلا بنكاح جديد) بولي وصداق وشاهدي عدل (برضاها) إن
كانت غير مجبرة على النكاح. أما المجبرة فإنما يراعى رضا الولي (و) الأمة
(المعتقة) أي التي عتقت وهي (تحت العبد) أي في عصمته قنا كان
أو فيه بقية رق يحال بينهما ويثبت (لها الخيار) بين (أن تقيم معه أو
تفارقه) فإن اختارت نفسها فهو طلاق لا فسخ وهل بطلقة بائنة أو بطلقتين؟
روايتان: وعلى الرواية الأولى لو عتق زوجها وهي في العدة لا رجعة له عليها
لان الطلقة بائنة. ولثبوت الخيار لها شروط أن يكون عتقها كاملا ناجزا
وأن تكون طاهرة، فإن اختارت وهي حائض جبرت على الرجعة حتى
تطهر وأن لا تمكنه من نفسها طائعة بعد علمها بالعتق. (ومن اشترى
زوجته) كلها أو بعضها (انفسخ نكاحه) فإن ملكها قبل الدخول فلا
صداق لها وإن كان بعد الدخول فهو كمالها ويطؤها بالملك قبل الاستبراء
عند ابن القاسم. وقال أشهب: لا بد من استبرائها. ومثل ما إذا اشتراها ما
إذا ملكها بهبة أو صدقة أو ميراث أو ملكته هي بشراء أو غيره لكن
لا يطؤها لا بالملك ولا بالنكاح. (وطلاق العبد) القن ومن فيه شائبة رق
سواء كانت زوجته حرة أو أمة (طلقتان) فلو أوقع نصفه في حال الرق
ثم عتق لا يبقى له إلا طلقة واحدة (وعدة الأمة) سواء كان زوجها حرا
أو عبدا (حيضتان) صوابه طهران ليوافق ما تقدم وما يأتي أن العدة
481

بالطهر لا بالحيض. (وكفارة العبد كالحر) مراده أن ما يكفر به العبد
هو كالحر فيه أي فلا يتنصف لا إن كل ما يكفر به الحر يكفر به العبد،
إذ العتق لا يكفر به ولو أذن له السيد (بخلاف معاني الحدود والطلاق)
لفظ معاني زائدة أي بخلاف الحدود والطلاق فإنها تشطر عليه (وكل ما
وصل إلى جوف الرضيع في الحولين من اللبن فإنه يحرم وإن مصة) وفي
نسخة ولو مصة بالنصب وعلى كل من النسختين فهو خبر لكان المحذوفة
التقدير وإن كان الواصل من اللبن مصة أو لو كان الخ (واحدة) عملا
بمطلق قول تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) * (النساء: 23) فإنه صادق ولو بمرة واحدة
ويشترط في تحريم الرضاع شروط منها ما أشار إليه بقوله في الحولين
احترازا مما لو وصل إلى جوفه بعد لحولين بكثير وإليه أشار بقوله: (ولا
يحرم ما أرضع بعد الحولين إلا ما قرب منهما) لقوله تعالى: * (والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين) * (البقرة: 233) وقوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *
(الأحقاف: 15) فأخبر بحانه عن أقل مدة الحمل وكمال مدة الرضاع (كالشهر ونحوه
وقيل: والشهرين) وهو تفسير للقرب على حسب اختلاف الرواية فيه
فالأول رواية ابن عبد الحكم والثاني رواية ابن القاسم. (ولو فصل قبل الحولين
482

فصالا استغنى فيه عن اللبن بالطعام والشراب لم يحرم ما أرضع بعد
ذلك) لما في الترمذي والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق
الأمعاء. وكان قبل الفطام، ومن استغنى بالطعام عن اللبان فقد فتقت
أمعاؤه وفي حديث آخر: إنما الرضاعة من المجاعة (ويحرم بالوجور) بفتح
الواو وهو ما صب في وسط الفم أي فهو نفس اللبن المصبوب ويفيده
المصباح (والسعوط) بفتح السين وهو ما صب في المنتخر ظاهر كلامه أن
السعوط يحرم وإن لم يتحقق وصوله للجوف وهو كذلك في كتاب ابن
حبيب عن مالك، وقال ابن القاسم: إن وصل إلى الجوف حرم وإلا فلا.
(ومن أرضع صبيا) ذكر الضمير مراعاة للفظ من نظير قوله تعالى: * (ومن
يقنت) * (الأحزاب: 31) (فبنات تلك المرأة) المرضعة للصبي (وبنات فحلها ما تقدم أو تأخر
إخوة له) أي لمن أرضعته وكان حقه أن يقول: أخوات له إلا أنه راعى
لفظ ما (ولأخيه) أي أخي الصبي من لنسب لا من الرضاع (نكاح
بناتها) أي بنات التي أرضعته. باب في العدة والنفقة والاستبراء (باب في) بيان ثلاثة أشياء (العدة والنفقة
والاستبراء) أما العدة فهي تربص المرأة زمانا معلوما قدره الشارع علامة
على براءة الرحم مع ضرب من التعبد، وحكمها الوجوب لقوله تعالى: * (حتى
483

يبلغ الكتاب أجله) * (البقرة: 235) وقوله صلى الله عليه وسلم للفريعة: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب
أجله. وأنواعها ثلاثة أقراء وشهور وحمل. أما الأقراء فهي للمطلقة ذات الحيض
حرة وأمة وإلى الأولى أشار بقوله: (وعدة الحرة المطلقة) ذات الحيض
(ثلاثة قروء) سواء كانت مسلمة أو كتابية لشمول عموم الآية الجميع
ولا خلاف في ذلك. ثم أشار إلى الثانية بقوله (والأمة)
أي وعدة الأمة القن (ومن فيها بقية رق) كالمكاتبة والمدبرة ذات الحيض (قرءان)
بفتح القاف وضمها سواء (كان الزوج في جميعهن) أي جميع من ذكر
وهي الحرة المسلمة والكتابية والأمة ومن فيها بقية رق (حرا أو عبدا)
لما أن العدة معتبرة من جهة النساء والطلاق معتبر من جهة الرجال
(والأقراء وعندنا (هي الأطهار التي بين الدمين) الأنسب بلفظ
الأقراء الدماء لان الذي بين الدمين قرء واحد، ولا بد من الأقراء. وعند
أبي حنيفة هي الحيض (فإن كانت) أي المطلقة (ممن لم تحض) لصغر
ويوطأ مثلها أمن حملها أم لا (أو) كانت (ممن قد يئست من الحيض)
كبنت سبعين سنة (فعدتها ثلاثة أشهر) اتفاقا في الحرة المسلمة أو الكتابية
(و) على المشهور (في الأمة) وتعتبر الشهور بالأهلة فإذا طلقت في أثناء
484

الشهر كملت الشهر الذي طلقت فيه من الشهر الرابع ولا يحسب يوم الطلاق.
والثالثة أشار إليها بقوله: (وعدة الحرة المستحاضة
أو الأمة) أي المستحاضة (في الطلاق سنة) تسعة أشهر في استبراء وثلاثة أشهر عدة (وعدة
الحامل في وفاة) على المشهور (وطلاق) اتفاقا (وضع حملها كله) ولو
وضعته عقب الطلاق أو الوفاة بلحظة (سواء كانت حرة أو أمة) مسلمتين
(أو) حرة (كتابية) لقوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن) * (الطلاق: 4) وهي مخصصة لعموم قوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) والتقيد بكله لبيان أنها لو
وضعت أحد التوأمين لم تحل إلا بوضع الثاني. (والمطلقة التي لم يدخل بها)
حرة كانت أو أمة مسلمة وكتابية صحيحا كان الزوج أو مريضا (لا عدة
عليها) لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن
من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * (الأحزاب: 49) ولا مفهوم لصفة
الايمان هنا بلا خلاف لأنه خرج مخرج الغالب (وعدة الحرة) غير الحامل
سواء كانت مستحاضة أو غير مستحاضة (من الوفاة أربعة أشهر وعشرا
كانت) الزوجة (صغيرة أو كبيرة دخل بها) الزوج (أو لم يدخل
485

مسلمة كانت أو كتابية) كان الزوج صغيرا أو كبيرا. (وفي الأمة) أي
والعدة من الوفاة في حق الأمة القن (ومن فيها بقية رق) دخل بها أو لم
يدخل ولم تكن حاملا (شهران وخمس ليال) وقوله (ما لم ترتب الكبيرة
ذات الحيض بتأخيره عن وقته فقعد حتى تذهب الريبة) لا يبعد أن
يكون قيدا في عدة الحرة والأمة في الوفاة، وذهاب الريبة يكون بحيضة أو
بتمام تسعة أشهر. (وأما) الأمة (التي لا تحيض لصغر أو كبر وقد بنى بها فلا
تنكح في الوفاة إلا بعد ثلاثة) ظاهره أمن حملها أم لا وهو رواية أشهب
ورواية ابن القاسم: شهران وخمس ليال. (والاحداد) وهو لغة الامتناع
وشرعا (أن لا تقرب المعتدة من الوفاة) على جهة الوجوب (شيئا من
الزينة)
ظاهره كبيرة كانت أو صغيرة حرة أو أمة مسلمة أو كتابية والزينة
تكون بأشياء أحدها ما أشار إليه بقوله: (بحلي) بضم الحاء وكسر اللام
وتشديد الياء جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام كالسوار. وثانيها: ما أشار
إليه بقوله (أو كحل) ظاهره ولو كان لضرورة وهو قول ابن عبد الحكم
486

والذي في المدونة: ولا تكتحل إلا من ضرورة. وثالثها: إزالة الشعث عن نفسها
وإليه أشار بقوله: (أو غيره) فلا تدخل الحمام إلا من ضرورة ولا تطلي
جسدها بالنورة (وتجتنب الصباغ كله إلا الأسود) فإنه لباس الحزن إلا
أن يكون زينة قوم فتجتنبه (و) كذلك (تجتنب الطيب كله) وإنما
منعت منه ومن الزينة لأنهما يدعوان إلى النكاح (ولا تختضب بحناء)
بالمد ليس إلا لأنها من الزينة (ولا تقرب دهنا مطيبا) وفي نسخة ولا دهن
مطيب (ولا تمتشط بما يختمر في رأسها) وهو ما له رائحة طيبة. (وعلى
الأمة) الصغيرة والكبيرة (والحرة) الصغيرة والكبيرة (الاحداد) لما
في أبي داود من قوله صلى الله عليه وسلم: المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب
ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب. (واختلف في) وجوب الاحداد على
(الكتابية) على قولين مشهورهما وجوب الاحداد. (وليس على المطلقة)
طلاقا بائنا أو رجعيا (إحداد) لأنه إنما شرع في حق الميت احتياطا للأنساب.
لأنه قد مات ولا مدافع له عن نسبه، فجعل الاحداد زاجرا قائما مقام
المدافع عن الميت. (وتجبر الحرة الكتابية على العدة من المسلم في الوفاة)
دخل بها أو لم يدخل (و) في (الطلاق) إذا دخل بها لحق الزوج ففي
487

الوفاة أربعة أشهر وعشرا ولو كانت صغيرة غير مطيقة والزوج كذلك.
وفي الطلاق ثلاثة أقراء أو أشهر. (وعدة أم الولد من وفاة سيدها) وهي
الحر حملها من وطئ مالكها (حيضة) لما صح من قوله عليه الصلاة
والسلام: لا توطأ حامل حتى تضع حملها ولا غير ذات حمل حتى تحيض
حيضة. (وكذلك) عدة أم الولد حيضة (إذا أعتقها) سيدها هذا حكم
استبراء أم الولد إن كانت ممن تحيض (و) أما (إن) أنت قد (قعدت
عن الحيض) أي يئست منه لكبر سنها (ف‍) استبراؤها (ثلاثة أشهر
واستبراء الأمة في انتقال الملك حيضة) واحدة مراعاة لحفظ الأنساب
سواء انتقل الملك (ببيع أو هبة أو سبي أو غير ذلك) كالإرث والصدقة
(ومن هي في حيازته) برهن أو وديعة مثلا إذا علم أنها (قد حاضت
عنده ثم إنه اشتراها) الأحسن أن لو قال: ثم ملكها ليشمل الشراء وغيره
(ف‍) إنه (لا استبراء عليها إن لم تكن تخرج) خروجا متباعدا بحيث
يغاب عليها. ثانيا أن تكون ممن يوطأ مثلها احترازا ممن لا يوطأ مثلها
وإليه أشار بقوله (واستبراء الصغيرة في البيع) الأحسن أن لو قال في
488

انتقال الملك ليشمل الهبة والصدقة ونحوهما (إن كانت) ممن (توطأ)
ظاهره أمن حملها أم لا (ثلاثة أشهر) لان الحمل لا يتبين في أقل من ذلك
(و) كذلك الأمة (اليائسة من المحيض) استبراؤها في البيع ونحوه
(ثلاثة أشهر و) أما الأمة (التي لا توطأ) لصغر سنها كبنت ست
سنين (ف‍) إنه (لا استبراء فيها ومن ابتاع) أمة (حاملا من غيره أو ملكها
بغير البيع) كالميراث والهبة والصدقة (فلا يقربها) بوطئ (ولا يتلذذ
منها) بشئ من مقدمات الوطئ كالقبلة (حتى تضع) الحمل سواء كان الحمل
من زوج أو من زنى على المعروف من المذهب (والسكنى) واجبة على الزوج
إذا كان يتأتى منه الوطئ (لكل مطلقة مدخول بها) يوطأ مثلها حرة
كانت أو أمة مسلمة كانت أو كتابية كان الطلاق واحدة أو أكثر رجعيا
أو بائنا ولو خلعا. (ولا نفقة) للمطلقة (إلا للتي طلقت) طلاقا (دون
الثلاث) واحدة أو اثنتين (وللحامل) التي طلقت سواء (كانت مطلقة)
طلقة (واحدة) أو اثنتين (أو ثلاثا) وتقييد وجوب النفقة للأولى بما
دون الثلاث احتراز مما لو طلقت ثلاثا فإنه لا نفقة، وقيدوه أيضا بما إذا
489

كان الطلاق رجعيا احترازا من الخلع وإليه أشار بقوله: (ولا نفقة للمختلعة
إلا في الحمل) لا مفهوم لها بل كل مطلقة طلاقا بائنا لا نفقة لها ما لم تكن
حاملا (ولا نفقة للملاعنة ولو كانت حاملا و) كذلك (لا نفقة) ولا
كسوة (لكل معتدة من وفاة) سواء كانت حاملا أم لا صغيرة كانت أو
كبيرة، دخل بها أم لم يدخل، مسلمة كانت أو كتابية، لأنه بموت الزوج صار
المال للورثة (ولها) أي وللمعتدة من الوفاة (السكنى إن كانت) مدخولا
بها وكانت (الدار للميت أو) كان الميت (قد) أكراها و (نقد كراءها)
والتقييد بمدخول بها احتراز من غيرها فإنه لا سكنى لها إلا أن يكون قد
سكنها قبل موته. (ولا تخرج) المعتدة (من بيتها) خروج نقلة لغير
ضرورة سواء كانت معتدة (في طلاق أو وفاة حتى تتم العدة) والتقييد
بخروج النقلة لأجل الاحتراز عن خروجها في حوائجها، فإنه جائز لكن
لا تبيت إلا في بيتها. وظاهر كلامه أنها لا تخرج ولو لحجة الاسلام وهو
كذلك (إلا أن يخرجها رب الدار) التي انقضت مدة كرائها (ولم يقبل من
الكراء ما يشبه كراء المثل) مثل أن تكون بأربعة ويزيد درهمين (فلتخرج
490

و) إذا خرجت فإنها (تقيم بالموضع الذي تنتقل إليه) ويصير
لها بمنزلة الذي خرجت منه فيلزمها فيه ما كان يلزمها في الأول حتى
تنقضي العدة. ثم انتقل يتكلم على رضاع المرأة ولدها فقال (والمرأة
ترضع) أي يجب عليها أن ترضع (ولدها) إذا كانت (في العصمة) أي
عصمة أبيه أو كانت مطلقة طلاقا رجعيا، وليس لها أجر في نظير ذلك ولا
حد لأقل الرضاع وأكثره حولان بنص القرآن (إلا أن يكون مثلها لا
يرضع) لعلو قدرها فلا يلزمها إلا إذا كان الولد لا يقبل غيرها فإنه يلزمها
إرضاعه. (وللمطلقة) طلاقا بائنا أو رجعيا وخرجت من العدة (رضاع
ولدها) أي بالأجرة وترجع بها (على أبيه) أفهم كلامه أن الرضاع حق
لها لا عليها لما رواه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم: للمرأة التي طلقها زوجها وأراد
أن يأخذ ولدها منها أنت أحق به منه ما لم تنكحي. (والحضانة) حق
(للام) حرة كانت أو أمة مسلمة كانت أو كتابية رشيدة أو سفيهة على
طريقة ابن عرفة (بعد الطلاق) وبعد الوفاة ما لم تسقطها (إلى احتلام
الذكر) أي المحقق فالخنثى المشكل تستمر حضانته ما دام مشكلا (و) إلى
(نكاح الأنثى ودخول بها) ولا يكفي الدعوى للدخول بل لا بد من
491

الدخول وإن صغيرين واستمرت نفقتها على أبيها (وذلك) أي الحضانة
تنتقل (بعد الام إن ماتت أو نكحت للجدة) أم الام ثم الجدة من جهة
الام وإن بعدت (ثم) بعد جدة الام ينتقل الحق (للخالة) أي خالة الطفل
أخت أمه الشقيقة، ثم التي للام، ثم التي للأب، ثم من بعد الخالة
ينتقل الحق لخالة خالة الطفل وهي أخت جدة الطفل لامه ثم من بعدها للجدة التي للأب أي أم
الأب ثم الجدة من جهة الأب (إن لم يكن من ذوي رحم الام أحد)
مثل خالة الام ولا من غير ذوي رحم الام وهي الجدة للأب أي الجدة
من جهة الأب وهي أم الأب وجدة الأب (ف‍) المستحق حينئذ للحضانة
(الأخوات) فتقدم الشقيقة ثم التي للام ثم التي للأب (و) يلي الأخوات
(العمات) على الترتيب المذكور (فإن لم يكونوا) صوابه يكن لان ذلك
راجع للأخوات العمات لكن ذكر باعتبار الأشخاص التقدير، فإن لم يكن
أحد ممن ذكر موجودا أو كان إلا أنه سقط لمانع (ف‍) المستحق للحضانة
حينئذ (العصبة) فيه نظر بل الأب مقدم على الأخوات، قال في التوضيح:
ووجه تقديم بعض الحاضنين على بعض على الترتيب المتقدم قوة الشفقة
في المقدم. ولذا لو علم قلة الحنان والشفقة ممن كانت مرتبته التقديم في
الحضانة وعلم الشفقة والعطف ممن مرتبته التأخير في الحضانة لقدم هذا
على ذاك. (ولا يلزم الرجل) الموسر (النفقة) من قوت وأدم وكسوة
ومسكن (إلا على زوجته) التي دخل بها ولو صغيرة أو مريضة أو التي
492

دعته للدخول بها وهي مطيقة لوطئه مع بلوغه وليس أحدهما مشرفا
على الموت (سواء كانت غنية أو فقيرة) مسلمة كانت أو كتابية، حرة أو
أمة وتطلق عليه بعد التلوم بالعجز عنها إلا أن تكون تزوجته عالمة
بفقره وعجزه عن النفقة. (و) لا يلزمه النفقة على أحد من أقاربه إلا في
صورتين إحداهما (على أبويه الفقيرين) حرين مسلمين كانا أو كافرين،
إذا كان حرا واعترف بفقرهما. أما إذا أنكر فقرهما فعلى الأبوين إثبات
عدمهما ولا يحلفان مع ذلك لان تحليفهما عقوق (و) الأخرى (على
صغار ولده الذين لا مال لهم) أما لزوم النفقة (على) الأولاد الصغار (الذكور)
الأحرار ولو كانوا كفارا فإنها مستمرة عليهم (حتى يحتلموا و) الحال
أنه (لا زمانة) أي لا آفة (بهم) تمنعهم من الكسب، وأما لو بلغ مجنونا
أو زمنا أو أعمى فتستمر نفقته على الأب. (و) أما لزومها (على الإناث)
الأحرار فهي مستمرة عليهن (حتى ينكحن ويدخل بهن) أي يطأهن
(أزواجهن) أو يدعى إلى الدخول وهو بالغ. والزوجة ممن يوطأ مثلها فإذا
طلقها زوجها أو مات عنها فلا تعود نفقتها على الأب إن كانت بالغة وتعود
إن كانت غير بالغة (ولا نفقة) على الرجل (لمن سوى هؤلاء) المذكورين
(من الأقارب) كالجد وأولاد الأولاد لان نفقة القرابة إنما تجب ابتداء
لا انتقالا ونفقة الجد لازمة للابن فلا تنتقل إلى بنيه ونفقة أولاد الأولاد
493

لازمة لأبيهم فلا تنتقل إلى جدهم (وإن اتسع) أي أيسر الزوج (فعليه)
وجوبا (إخدام زوجته) الشريفة التي لا تخدم نفسها (وعليه) أي المالك
المفهوم من السياق وجوبا (أن ينفق على عبيده) في حياتهم (ويكفنهم
إذا ماتوا) والأصل في وجوب النفقة ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: أفضل
الصدقة ما ترك عن غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول.
المرأة تقول: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني. ويقول العبد: أطعمني واستعملني.
ويقول الولد: أطعمني إلى من تدعني. (واختلف في كفن الزوجة) الحرة
وقيل والأمة المدخول بها أو التي دعي إلى الدخول بها (فقال ابن القاسم)
وسحنون: هو (في مالها) ولا يلزم الزوج غنية كانت أو فقيرة لان الكفن
من توابع النفقة، وهي إنما كانت لمعنى وهو الاستمتاع وقد ذهب بالموت،
وإذا ذهب المتبوع ذهب التابع (وقال) مالك في الواضحة و (عبد
الملك) قيل: هو ابن حبيب، وقيل: هو ابن الماجشون هو (في مال الزوج)
وإن كانت غنية لان علاقة الزوجية باقية بدليل أنه يغسلها ويطلع على
عورتها، والموارثة قائمة بينهما. (وقال) مالك في العتبية (وسحنون) أيضا
(ان كانت مليئة فهو في مالها وإن كانت فقيرة ف‍) - هو (في مال الزوج).
494

باب في البيوع وما شاكل البيوع (باب في البيوع وما شاكل البيوع) كالإجارة والشركة وجمع البيع
باعتبار أنواعه كبيع النقد وبيع الدين والصحيح والفاسد، وحد البيع
نقل الملك بعوض بوجه جائز بناء على أن البيع الفاسد لا يقال فيه بيع
إلا على جهة المجاز، لان الحقائق الشرعية لا ينبغي أن يقصد في تعريفها إلا
ما هو الصحيح منها ومعرفته مستلزمة لمعرفة الفاسد وله ثلاثة أركان العاقد
وهو البائع والمبتاع، ويشترط فيه التمييز فلا ينعقد بيع غير المميز لصبا أو
جنون، والتكليف وهو شرط في لزوم البيع دون الانعقاد، والاسلام وهو
شرط في شراء المصحف والعبد المسلم. الثاني: المعقود عليه من ثمن ومثمن
وشرطه أن يكون طاهرا منتفعا به مقدورا على تسليمه معلوما للمتبايعين
غير منهي عن بيعه. الثالث: ما ينعقد به البيع وهو الايجاب والقبول وما
شاركهما في الدلالة على الرضا كالمعاملات وافتتح الباب تبركا بقوله تعالى:
* (وأحل الله البيع وحرم الربا) * (البقرة: 275). حرمته السنة أيضا وانعقد الاجماع على
تحريمه فمن استحله كفر بلا خلاف (وكان ربا الجاهلية) أي أهل
الجاهلية وهي الأزمنة التي كانت قبل الاسلام (في الديون إما أن يقضيه)
دينه (وإما أن يربي) أي يزيد (له فيه) أي ويؤخره وسواء كانت
الزيادة في القدر أو الصفة (ومن الربا في غير النسيئة) بالمد والهمز كخطيئة
(بيع الفضة بالفضة يدا بيد متفاضلا وكذلك) منه (الذهب) أي بيع
495

الذهب (بالذهب) يدا بيد متفاضلا والأصل في منعه قوله عليه الصلاة
والسلام: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض.
الحديث وتشفوا بضم الفوقية وكسر الشين المعجمة وضم الفاء المشددة أي:
لا تفضلوا. والشف بكسر الشين الزيادة، ويطلق على النقصان فهو من أسماء
الأضداد قاله الحطاب. ومثله لورق في حرمة التفاضل (ولا يجوز) بيع
(فضة بفضة ولا ذهب بذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد والفضة بالذهب ربا
إلا يدا بيد) أي فيجوز ولو اختلفا في العدد. (والطعام من الحبوب) ذوات
السنابل وهي القمح والشعير والسلت وذوات الأغلاف وهي الذرة والدخن
والأرز ومفاده أن القطنية ليست من الحبوب (و) من (القطنية بكسر
القاف وفتحها الفول والحمص والبسيلة والجلبان والترمس واللوبيا والعدس
(و) من (شبهها) أي القطنية (مما يدخر من قوت) وهو ما تقوم به
البنية الآدمية كاللحم والسمن (أو إدام) كالعسل والخل (لا يجوز) خبر
عن قوله والطعام أي الطعام كله لا يجوز (الجنس) أي بيع الجنس الواحد
(منه بجنسه إلا مثلا بمثل يدا بيد) وقوله: (ولا يجوز فيه تأخير) تأكيد
لقوله: يدا بيد وتعتبر المماثلة في الكيل والوزن الشرعيين، فإن لم يحفظ عن
الشارع في شئ من الأشياء معيار معين فبالعادة العامة. (ولا يجوز طعام)
496

أي بيعه (بطعام إلى أجل كان الطعام من جنسه أو من خلافه كان مما
يدخر أو لا يدخر) كالرمان والبطيخ لدخول ربا النساء في كل المطعومات.
(ولا بأس) أي يجوز (بيع الفواكه و) بيع (البقول ما لا يدخر
متفاضلا وإن كان من جنس واحد يدا بيد) أما ما لا يدخر من الفواكه
أصلا كالمشمش والتفاح فيجوز فيها التفاضل اتفاقا وإن كانت تدخر نادرا
في قطر دون قطر كالكمثري يجوز فيها التفاضل على المشهور، وإن كان
يدخر غالبا كالجوز واللوز فأشار بقوله: (ولا يجوز التفاضل في الجنس
الواحد فيما يدخر من الفواكه اليابسة) ما قاله قول ضعيف في المذهب،
والمشهور جواز التفاضل فيها مناجزة وقوله (وسائر الادام والطعام والشراب)
مثل العسل والخل ممتنع فيها التفاضل (إلا الماء وحده) فإنه يجوز فيه
التفاضل، ولا يجوز بيعه بالطعام إلى أجل على المشهور فيهما (وما اختلفت
أجناسه من ذلك) أي من الشراب (ومن سائر الحبوب والثمار والطعام
فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد) لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: إذا
497

اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد. (ولا يجوز التفاضل
في الجنس الواحد منه) أي من الطعام (إلا في الخضر والفواكه) شمل
كلامه ما يدخر منها وما لا يدخر وهو مخالف لقوله سابقا فيما يدخر من
الفواكه اليابسة، لكن قدمنا أن المشهور جواز التفاضل فيها والفرق بين
جواز ذلك في الخضر والفواكه وبين منعه في الطعام أن الطعام فيه
الاقتيات. والادخار بخلاف هذا فإنه وإن ادخر بعضه لا يقتات غالبا. ولما
ذكر أن الجنس الواحد لا يجوز إلا مناجزة أراد أن يبين ما هو فقال:
(والقمح والشعير والسلت) نوع من الشعير ليس له قشر كأنه حنطة
(كجنس واحد فيما يحل منه ويحرم) أي لتقاربها في المنفعة. وقوله: فيما
يحل أي من التناجز والتماثل. وقوله: ويحرم أي من عدم ذلك. (والزبيب
كله) أعلاه وأدناه أحمره وأسوده (صنف) واحد يجوز فيه التماثل ويحرم
فيه التفاضل (و) كذلك (التمر كله) على اختلاف أنواعه قديما وجديدا
(صنف) واحد يجوز بيع بعضه ببعض متماثلا ويحرم متفاضلا (والقطنية)
المتقدم ذكرها (أصناف في) باب (البيوع و) هذا ليس متفقا عليه بل
(اختلف فيها قول) الامام (مالك) رحمه الله فرواية ابن القاسم: أنها
أصناف ورواية ابن وهب أنها صنف. (ولم يختلف قوله في) المدونة في
498

باب (الزكاة أنها صنف)
واحد (ولحوم ذوات الأربع من الانعام) الإبل والبقر والغنم (و) من (الوحش) كالغزال وبقر الوحش كله (صنف)
واحد يجوز بيع بعضه ببعض متماثلا، ويحرم متفاضلا. (ولحوم الطير كله)
إنسيه ووحشيه وإن كان طير ماء (صنف) واحد (ولحوم دواب الماء كله
صنف) واحد (وما تولد من لحوم الجنس الواحد من شحم فهو كلحمه) فلا يباع
شحم بهيمة الأنعام بلحمها إلا مثلا بمثل، يدا بيد، ولا شحم الحوت بالحوت إلا
مثلا بمثل يدا بيد. (وألبان ذلك الصنف) من الانعام (وجبنه وسمنه
صنف) صنيع كلامه يقتضي جوازا بيع بعضه ببعض متماثلا لان ذلك
شأن الصنف الواحد وهو من مشكلات الرسالة ولم يجزه مالك ولا أصحابه.
وقد أجاب عنه الجزولي بأن تقدير كلامه وألبان ذلك الصنف صنف
وجبنه صنف وسمنه صنف فهؤلاء الأصناف الثلاثة يجوز بيع كل صنف بعضه
ببعض متماثلا ولا يجوز متفاضلا. (ومن ابتاع طعاما) ربويا كان أو غيره
(فلا يجوز بيعه قبل أن يستوفيه) لما صح من نهيه عليه الصلاة والسلام
عن ذلك. والنهي عن بيع الطعام قبل قبضه مقيد بما (إذا كان شراؤه)
499

أي شراء المبتاع (ذلك) الطعام (على وزن أو كيل أو عدد بخلاف الجزاف)
وهو بيع الشئ بلا كيل ولا وزن ولا عدد فإن بيعه قبل قبضه جائز على
المشهور، لأنه قد ملكه بالعقد. ولذا لو تلف قبل قبضه كان ضمانه من
المشتري (وكذلك كل طعام) ربويا كان أو غير ربوي (أو كل
(إدام) كالشحم واللحم (أو) كل الابزار كالملح أو (كل شراب) لا يجوز
بيع شئ من ذلك قبل أن يستوفيه ولا يستثنى منه شئ (إلا الماء وحده)
لأنه ليس بطعام بدليل جواز بيعه بالطعام إلى أجل (وما يكون من الأدوية)
كالعسل يركب أي مع غيره من العقاقير فيجعل دواء (و) ما يكون من
(الزراريع التي لا يعتصر منها زيت) صوابه: الزرائع لان الواحدة زريعة
خفيفة الراء والتشديد من لحن العوام، وذلك كزريعة السلق وحب الفجل
الأبيض وحب البصل. وقوله: التي لا يعتصر منها زيت أي شأنها ذلك
يحترز به عن حب السمسم والقرطم وحب الفجل الأحمر والزيتون فهذه
لا يجوز بيعها قبل قبضها. وكذا مصلح الطعام كبصل وثوم وتابل كفلفل
وكزبرة وشمار وكمونين أبيض وأسود (فلا يدخل ذلك فيما) أي الذي
(يحرم من الطعام قبل قبضه أو) فيما يحرم من (التفاضل في الجنس
الواحد منه) فيجوز بيعه قبل قبضه والتفاضل في الجنس الواحد منها
500

(ولا بأس ببيع الطعام القرض قبل أن يستوفيه) فيجوز للمقترض أن يبيعه
قبل أن يستوفيه من المقرض وغيره شرط النقد، ولا يجوز لجل لأنه إذا باعه
للمقرض يكون من فسخ الدين في الدين، وإن باعه من غيره يكون من
بيع الدين بالدين. (ولا بأس بالشركة) في الطعام المكيل قبل قبضه وهو أن
يشرك غيره في البعض (و) كذا لا بأس ب‍ (التولية فيه) وهو أن يولي ما اشتراه لآخر (و) كذا لا بأس ب‍ (الإقامة في الطعام المكيل قبل
قبضه) وهو أن يقيل البائع المشتري أو العكس (وكل عقد بيع أو إجارة
أو كراء بخطر أو غرر) أي وكان فيه خطر أو غرر، فالخطر ما لم يتيقن
وجوده كقوله: بعني فرسك بما أربح غدا والغرر ما يتيقن وجوده وشك
في سلامته كبيع الثمار قبل بدو صلاحها (في ثمن أو مثمون أو أجل فلا
يجوز) مثاله في الثمن أن يشتري منه سلعة ببعيره الشارد، ومثاله في المثمون
أن يشتري منه عبده الآبق، ومثاله في الاجل أن يشتري منه سلعة إلى قدوم
زيد ولا يدري متى يقدم، وقوله: (ولا يجوز بيع الغرر ولا بيع شئ
مجهول ولا إلى أجل مجهول) مكرر لأنه بعض ما قبله. (ولا يجوز في
البيوع لتدليس) وهو أن يعلم أن بسلعته عيبا فيكتمه عن المشتري
501

(ولا الغش) وهو أن يخلط الشئ ير ه كخلط العسل بالماء. (ولا)
تجوز (الخلابة) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وهي الخديعة بالكذب
في الثمن كأن يقول له: أنا أخذتها بعشرين دينارا وأنقص لك من ذلك.
(ولا الخديعة) وهي أن يخدعه بالكلام حتى يوقعه مثل أن يقول له:
اشتر مني وأنا أرخص لك. (ولا خلط دنئ بجيد) كخلط حنطة دنيئة
بجيدة. (لا) يجوز (أن يكتم من أمر سلعته ما) أي شيئا (إذا ذكره
كرهه المبتاع) كثوب لميت أو المجذوم (أو كان ذكره أنجس له) أي
للبائع (في الثمن) كالثوب الجديد إذا كان نجسا أو مغسولا. (ومن ابتاع
عبدا) أو غيره (فوجد به عيبا) ن التدليس فيه (فله) أي للمبتاع الخيار
(بين أن يحبسه ولا شئ له) في مقابلة العيب الذي وجده (أو يرده
ويأخذ ثمنه) والتقييد بيمكن التدلس احترازا مما لا يمكن التدليس به إما
لظهوره كالعور وإما لخفائه كالجوز يكسره فيجده فارغا فإنه لا كلام للمشتري
(إلا أن يدخله) أي المبيع (عنده) أي المبتاع عيب مفسد) أي
منقص من الثمن كثيرا (فله) أي للمبتاع (أن يرجع) على البائع (بقيمة العيب
502

القديم من الثمن) الذي أخذه (أو يرده) أي المبيع (ويرد معه
ما نقصه العيب) الحادث (عنده وإن رد) المبتاع (عبدا) أو غيره سبب
عيب (و) الحال أنه (قد استغله) غلة غير متولدة كالخدمة (فله غلته)
إلى حين الفسخ ولا يلزمه شئ لذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: الخراج
بالضمان. قال بعضهم: معنى ذلك أن المبيع إذا كان في ضمان المشتري فغلته
له، فإذا فسخ فالغلة حينئذ للبائع كالغلة المتولدة كالولد. (والبيع على الخيار)
من البائع أو المبتاع أو كل منهما (جائز) لقوله عليه الصلاة والسلام:
المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا. رواه مالك في الموطأ وشرط الجواز (إذا ضربا
لذلك أجلا) ويشترط في الاجل أن يكون (قريبا) ونهايته إلى (ما تختبر
فيه تلك السلعة أو) إلى (ما تكون فيه المشورة) والمشورة تكون في قلة
الثمن أو كثرته وفي الاقدام على الشراء أو على البيع، والاختبار يكون في حال
السلعة وهو مختلف باختلافها فالخيار في الدابة ثلاثة أيام ونحوها وفي الرقيق
خمسة أيام والجمعة لاختبار حاله وعمله وفي الدار الشهر ونحوه (ولا يجوز
النقد في) بيع (الخيار ولا في) البيع على (عهدة الثلاث) وهي بيع
الرقيق على أن يكون الضمان على البائع فيما يظهر فيه من العيوب مدة ثلاثة
503

أيام بعد العقد (ولا) يجوز أيضا النقد (في) بيع الأمة (المواضعة) وهي
أن توقف الجارية العلية أو التي أقر البائع بوطئها على يد أمين رجل أو
امرأة حتى يتبين هل رحمها مشغول أم لا. وإنما يمتنع النقد في هذه المسائل
لثلاث إذا كان بشرط النقد لأنه تارة يصير بيعا، وتارة سلفا فهو متردد
بين السلفية والثمنية. (والنفقة في ذلك) أي في بيع الخيار وعلى عهدة
الثلاث وعلى المواضعة (والضمان على البائع) أي إذا لم يظهر كذب المشتري
ولكن لا بد من حلفه ولو غير متهم (وإنما يتواضع) وجوبا (للاستبراء)
جاريتان الجارية (والتي) تكون (للفراش في الأغلب) وإن لم يعترف
البائع بوطئها إذ الغالب فيمن هي كذلك الوطئ فنزل الأغلب منزلة المحقق
احتياطا للفروج (أو) الجارية (التي أقر البائع بوطئها وإن كانت وخشا)
خشية أن تكون حملت فترد (ولا تجوز البراءة من الحمل) إذا كانت الأمة
علياء ولم يطأها البائع، فلو تبرأ من حملها فسخ البيع (إلا) أن يكون
الحمل (حملا ظاهرا) فيجوز حينئذ اشتراط البراءة من حملها والتقييد
بالعلياء احتراز من الوخش فإنه يجوز اشتراط البراءة من حملها مطلقا سواء
كان الحمل ظاهرا أم لا (والبراءة في الرقيق جائزة) ظاهره أن غير الرقيق
لا تجوز فيه البراءة، وهو المشهور، والجواز مقيد بشيئين أحدهما أشار إليه
504

بقوله: (ما لم يعلم به البائع) أما إذا علم أن به عيبا وتبرأ منه فلا يفيده والآخر
أن تطول إقامته عنده. أما إذا اشترى عبدا مثلا فباعه بقرب ما اشتراه
وشرط البراءة فإنه لا ينتفع بذلك (ولا يفرق) بمعنى لا يجوز أن يفرق (بين
الام) لكن من النسب فقط (وبين ولدها في البيع) سواء كانا مسلمين أو
كافرين أو أحدهما مسلما والآخر كافرا، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام:
من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة. رواه
الترمذي وحسنه والتقييد بالام من النسب احتراز من الام من الرضاع فإن
التفرقة بينها وبين الولد جائزة وبفقط احتراز من غير الام كالأب، فإن
التفرقة بينه وبين الولد جائزة والمنع من التفرقة مغيا بغاية وهي (حتى
يثغر) بضم الياء وسكون المثلثة وكسر الغين المعجمة بمعنى حتى تسقط
أسنانه فإذا أثغر جازت التفرقة حينئذ لاستغنائه عن أمه في أكله وشربه
ومنامه. (وكل يع فاسد) كالبيع وقت نداء الجمعة (فضمانه من البائع)
لأنه على ملكه لم ينتقل إلى ملك المشتري (فإن قبضه) أي المبيع بيعا
فاسدا (المبتاع فضمانه من المبتاع) لأنه لم يقبضه على جهة أمانته، وإنما قبضه
على جهة التمليك، هكذا علله عبد الوهاب. قال الفاكهاني: وفي تعليله من
الاضطراب كما لا يخفى حيث جعل فيما تقدم البيع الفاسد غير ناقل،
وفي هذا جعله ناقلا. ويمكن الجواب بأن قوله: إنما قبضه على جهة
التمليك أي بحسب زعمه، فلما قبضه على جهة التمليك بحسب زعمه
وتعدى وأخذه ضمن وإن لم ينتقل له الملك بحسب نفس الامر
505

وحيث قلنا يضمنه المشتري فإنه يكون (من يوم قبضه) لا من يوم عقده، وإنما
يضمن يوم العقد ما يكون صحيحا (فإن فات المبيع بيعا فاسدا بأن حال)
عليه (سوقه) أي تغير. بزيادة في الثمن أو نقص فيه (أو تغير في بدنه)
أي في نفسه بزيادة أو نقص فإن ان مقوما (فعليه قيمته) بلغت ما بلغت
ولو كانت أكثر من الثمن (يوم قبضه) لا يوم الفوات ولا يوم الحكم
(ولا يرده) أي لا يلزمه رد المقوم إذا كان موجودا. (وإن كان) مثليا
(مما يوزن أو يكال) أو يعد (فليرد مثله) فإن تعذر المثلي فالقيمة كثمر
فات أبانه وتعتبر القيمة يوم التعذر. (ولا يفوت الرباع حوالة الأسواق)
لان الغالب في شراء العقار أن يكون للقنية فلا يطلب فيه كثرة الثمن ولا
قلته بخلاف غيره (ولا يجوز سلف يجر منفعة) لنهيه عليه الصلاة والسلام
عن ذلك، مثل أن يكون عنده حنطة رديئة فيسلفها لمن يأخذ منه عوضها
جيدا. (و) كذا (لا يجوز بيع وسلف) وصورة ذلك أن تبيع سلعتين
بدينارين إلى شهر مثلا ثم تشتري واحدة منهما بدينار نقدا، فكأن البائع
خرج من يده سلعة ودينار نقدا يأخذ عنهما عند الاجل دينارين أحدهما
عوض عن السلعة وهو بيع، والثاني: عوض عن الدينار المنقود وهو
سلف (وكذلك) لا يجوز (ما قارن السلف من إجارة أو كراء) بشرط
506

السلف لأنهما من ناحية البيع. ولا خصوصية لهما بذلك بل النكاح والشركة
والقراض والمساقاة والصرف، لا يجوز شرط السلف مع واحد منها. وملخصه
أن كل عقد معاوضة يمتنع جمعه مع السلف (والسلف) بمعنى القرض وهو
دفع المال على وجه القربة لله تعالى لينتفع به آخذه ثم يرد له مثله (جائز)
أي مندوب، لما فيه من إيصال النفع للمقترض وتفريج كربته. وقد يعرض
له ما يقتضي وجوبه أو حرمته (في كل شئ) يحل تملكه ولو لم يصح
بيعه فيدخل جلد الميتة المدبوغ ولحم الأضحية (إلا في الجواري) فإنه
لا يجوز لأنه يؤدي إلى إعارة الفروج، إلا أن يكون القرض لامرأة أو
كانت في سن من لا توطأ، فإنه يجوز، كما قيد به اللخمي وغيره المدونة
ووقع في بعض النسخ عقب قوله إلا في الجواري. (وكذلك تراب الفضة)
قال الفاكهاني: لا يجوز قرضه وهو ساقط في بعض الروايات (ولا تجوز
الوضيعة من الدين على تعجيله) على المشهور وتسمى هذه المسألة عند
الفقهاء: ضع وتعجل. وصورتها: أن يكون لرجل لي آخر دين إلى أجل مثل
أن يكون عليه مائة درهم إلى شهر فيقول له رب الدين: عجل لي خمسين
وأنا أضع عنك خمسين. وإنما امتنع هذا لان من عجل شيئا قبل وجوبه
مسلفا، فكأن الدافع أسلف رب الدين خمسين ليأخذ من ذمته إذا
حل الاجل مائة ففيه سلف بزيادة، فإن وقع ذلك رد إليه ما أخذه منه، فإذا
حل الاجل أخذ منه جميع ما كان له أولا وهو المائة. (و) كذلك (لا)
يجوز (التأخير به) أي بالدين (على الزيادة فيه) كما كانت الجاهلية تفعله
507

لان فيه سلفا بزيادة، وتسمى هذه المسألة: أخرني وأزيدك، مثل أن يقول
من عليه الدين عند حلول أجل الدين: أخرني وأنا أعطيك أكثر مما لك
علي. (و) كذلك (لا) يجوز (تعجيل عرض) على الزيادة فيه (إذا
كان من بيع) لأنه من باب حط الضمان وأزيدك مثال ذلك: أن يكون لك على
رجل مائة ثوب موصوفة فيقول لك: خذ ثيابك فتقول له: اتركها عندك
لا حاجة لي بها الآن. فيقول من هي عليه: خذها وأزيدك عليها خمسة مثلا
لان تلك الخمسة في مقابلة إسقاط الضمان عنه. (ولا بأس بتعجيل ذلك)
العرض بشرطين أحدهما (إذا كان) العرض من قرض، والآخر (إذا
كانت الزيادة في الصفة) مثل أن تكون الثياب دنيئة فيقول أعطيك
أجود منها إن تعجلتها (ومن رد في القرض أكثر عددا في مجلس القضاء)
وهو الوقت الذي يقضيه فيه سواء كان قبل الاجل أو بعده (فقد اختلف
في) جواز (ذلك إذا لم يكن شرط) مثل أن يقول لا أسلفك إلا أن تزيدني
على ما أسلفتك (و) أن (لا) يكون فيه (وأي) بفتح الواو وسكون
الهمزة الوعد (و) أن (لا) تكون (عادة) خاصة بالمستقرض بأن
يزيد عند القضاء أم لا (فأجازه أشهب) وجه الجواز قوله صلى الله عليه وسلم: أحسن
الناس أحسنهم قضاء وخيركم أحسنكم قضاء. قال ابن عمر: ظاهر كلام المصنف
أن أشهب يجيز مطلقا قلت الزيادة أو كثرت. والمنصوص لأشهب فيما
508

قل مثل زيادة الدينار في المائة والأردب في المائة. ويحتمل أن يكون لأشهب
قول عام في القليل والكثير (وكرهه ابن القاسم) كراهة تحريم على
المشهور. فقوله: (ولم يجزه) توكيد. (ومن عليه دنانير أو دراهم من بيع)
مؤجل (أو) من (قرض مؤجل فله) أي لمن عليه الدنانير أو الدراهم
(أن يعجله) أي يعجل ما عليه (قبل أجله) لان الحق في الاجل له فإذا
أسقط حقه لزم المقرض قبوله وأجبر على ذلك. (وكذلك له) أي لمن عليه
دين (أن يعجل العروض والطعام من قرض لا من بيع) فلا يلزم
صاحب الدين والعرض والطعام قبوله قبل الاجل لان الاجل في عرض
البيع ومنه السلم من حقهما فإذا عجله من وعليه لا يلزم صاحبه ولو قرب
الاجل كاليوم واليومين. (ولا يجوز بيع ثمر) ذات الأشجار كبلح وعنب
ما دامت خضراء (أو حب لم يبد صلاحه) كقمح وفول وعدم الجواز
لعدم الانتفاع به شرعا في البيع قبل بدو صلاحه، وبدو صلاح البلح أن يحمر
أو يصفر. وأما بدوه في نحو العنب فظهور الحلاوة وبدو صلاح الحب أن
ييبس فلو عقد عليه قبل ذلك فسخ. (ويجوز بيعه) أي الثمر (إذا بدا) أي
ظهر (صلاح بعضه وإن نخلة) واحدة (من نخيل كثيرة) ما لم تكن باكورة
509

وهي التي تسبق بالزمن الطويل بحيث لا يحصل معه تتابع الطيب فهذه لا يجوز
بيع الحائط بطيبها ويجوز بيعها وحدها (ولا جوز بيع ما في الأنهار) جمع نهر
بفتح الهاء وسكونها (و) لا بيع ما في (البرك) بكسر الباء جمع بركة بكسر
الباء أيضا (من الحيتان) لما رواه أحمد أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن شراء السمك
في الماء. أي للغرر. والغرر فيه من جهتين عدم التسليم وكونه يقل ويكثر.
(و) كذا (لا) يجوز (بيع الجنين في بطن أمه) آدمية أو غيرها
للغرر لأنه لا يدرى أحي هو أو ميت ناقص أو تام ذكر أو أنثى فقوله: (ولا
بيع ما في بطون سائر الحيوان) أي لا يجوز تكرار (و) كذا (لا)
يجوز (بيع نتاج) بكسر النون (ما تنتج الناقة) بضم التاء الأولى من
الفعل وفتح الثانية على ما لم يسم فاعله لما صح أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع حبل
الحبلة. فسره ابن وهب بنتاج ما تنتج الناقة. ولا يخفى ما في هذا من شدة
الغرر لأنه إذا امتنع بيع الجنين فكيف بجنين الجنين؟ وحاصله أن الحبلة
اسم لما في البطن وحبلها ولد ذلك الذي في البطن. (و) كذا (لا) يجوز
(بيع ما في ظهور الإبل) لما صح أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع ضراب الجمل.
قال ابن ناجي: إن كان النزو مضبوطا بمرات أو زمان جاز. وروى ابن حبيب
كراهته للنهي عنه. (و) كذا (لا) يجوز بيع (الآبق) في حال إباقه
للغرر المنهي عنه. وأما إن كان حاضرا وبين له غاية إباقه جاز أي غايته
باعتبار الزمان كأن يقول له غاية إباقه أربعة أيام مثلا وباعتبار المكان
510

كأن يقول: إن غاية إباقه إلى الإسكندرية، مثلا. (و) كذا (لا) يجوز
بيع (البعير الشارد) للغرر لعدم القدرة عليه. (ونهى عن بيع الكلاب)
أشار بذلك ما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان
الكاهن. ومهر البغي: بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتية فعيل
بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث هو ما تأخذه المرأة على فرجها، وسمي
مهرا مجازا لكونه على صورته وحلوان الكاهن بضم الحاء ما يأخذه على
كهانته، شبه بالشئ الحلو من حيث إنه يأخذه بلا مشقة. (واختلف في)
جواز (ما أذن في اتخاذه منها) أي من الكلاب للحراسة والصيد في
جوازه ومنعه على قولين مشهورين. (وأما من قتله) أي المأذون في اتخاذه
(فعليه قيمته) على تقدير جواز بيعه. وأما غير المأذون في اتخاذه فلا قيمة
فيه. (و) كذا (لا) يجوز (بيع اللحم بالحيوان) لنهيه عليه الصلاة
والسلام عن ذلك، ولأنه بيع معلوم بمجهول وهو معنى المزابنة. والنهي عند مالك
مخصوص باللحم مع نوعه من الحيوان وإليه أشار الشيخ بقوله: (من
جنسه) أراد الجنس اللغوي الصادق بالنوع والصنف، مثل أن يبيع لحم
بقر مثلا بغنم وقيد في المختصر المنع بما إذا لم يطبخ وإلا جاز كما يجوز بيعه
بغير جنسه كبيع لحم الغنم بالطير. (و) كذا (لا) يجوز (بيعتان) وفي
نسخة بيعتين وهي مؤولة تقدير ولا بيع بيعتين (في بيعة) لما صح من
نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك. (و) صوروا (ذلك) بصورتين
511

إحداهما أن يبيع سلعة واحدة بثمنين مختلفين. وإليها أشار الشيخ بقوله:
(أن يشتري سلعة) إما بخمسة نقدا، أو عشرة إلى أجل قد لزمته (بأحد
الثمنين) فأراد بالبيعتين الثمنين من إطلاق اسم الكل على الجزء لان الثمن
من أركان البيع (و) الأخرى (أن يبيعه إحدى سلعتين مختلفتين
بثمن واحد) كثوب وشاة بدينار على اللزوم، فشرط المنع في الصورتين
معا كون البيع على اللزوم للمتبايعين أو لاحد هما للغرر، إذ لا يدري البائع
بم باع ولا المشتري بم اشترى، فإن لم يكن على اللزوم جاز. (و) كذا
(لا يجوز بيع التمر بالرطب) لا متفاضلا ولا متماثلا لما صح أنه صلى الله عليه وسلم
سئل عن بيع التمر بالرطب، فقال صلى الله عليه وسلم: أينقص
الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم. قال: فلا إذا. قال مالك: فلا يباع إذا وعن
أبي حنيفة: فلا بأس إذا. (و) كذا (لا) يجوز (بيع الزبيب
بالعنب لا متفاضلا ولا مثلا بمثل) لان التماثل لا يتأتى فيه، لان الرطب
إذا يبس قد يكون أكثر من اليابس أو أقل منه أو مثله، فهذا
غرر والجهل بالتماثل كتحقق التفاضل والتفاضل لا يجوز لأنه جنس واحد.
(و) كذا (لا) يجوز (رطب) بفتح الراء أي بيعه (بيابس من
جنسه) لو اقتصر على هذا ولم يذكر قوله: (من سائر الثمار والفواكه)
لكان أولى ليدخل فيه الحبوب واحترز بقوله بيابس من جنسه عما لو
512

اختلفا أي الرطب واليابس في الجنس، فإنه جائز إذ التفاضل بين الأجناس
جائز (وهو) أي بيع الرطب باليابس من جنسه (مما) أي
من بعض الذي (نهي عنه من المزابنة) أي الذي هو المزابنة، إذ المزابنة بيع معلوم
بمجهول من جنسه والمزابنة عندنا لا تختص بالربوي وإن وقعت مفسرة في
الحديث بالربوي. (ولا يباع جزاف) مثلث الجيم (بمكيل من صنفه)
كبيع صبرة قمح لا يعلم كيلها بوسق أو وسقين منه للمزابنة. (و) كذا
(لا) يباع (جزاف بجزاف من صنفه) كصبرة قمح لا يعلم كيلها بصبرة
قمح لا يعلم كيلها للمزابنة أيضا. واحترز بصنفه مما إذا اختلف الجنسان فإنه
يجوز بشرط المناجزة، أي فيجوز إذا اختلف الجنسان بيع مجهول بمعلوم
وبيع معلوم بمجهول سواء تبين الفضل أو لم يتبين (إلا أن يتبين الفضل
بينهما) أي بين الجزاف بالمكيل والجزاف بالجزاف، فإنه يجوز البيع
(إن كان مما يجوز التفاضل في الجنس الواحد منه) بأن لا يكون مما يقتات
ويدخر ولا من أحد النقدين بل كان مما يدخله ربا النساء فقط، أو لا يدخله
ربا أصلا كالنحاس والحديد. (ولا بأس ببيع الشئ الغائب) عند مالك
وجميع أصحابه بشروط أحدها: أن يقع (على الصفة) قال ابن ناجي: ظاهر
كلامه أنه لو بيع دون صفة، ولا تقدم رؤية لا يجوز وإن كان على خياره عند
رؤيته وهو نص ما في كتاب الغرر من المدونة. ثانيها: أن يصفه غير البائع لان البائع
513

لا يوثق بوصفه إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لينفق سلعته، لكن اشتراط
وصف غير البائع إن حصل نقد الثمن ولو تطوعا وإلا جاز، ولو بوصف البائع
على الراجح. ثالثها: أن لا يكون المبيع بعيدا جدا وهذا الشرط إذا
وقع البيع على البت، وأما لو وقع على الخيار فيجوز لأنه لا ضرر على المشتري
إذا. رابعها: أشار إليه بقوله: (ولا ينقد فيه بشرط) وإنما امتنع مع الشرط
لأنه يجوز أن يسلم المبيع فيكون ذلك ثمنا وأن لا يسلمه فيكون سلفا
ثم استثنى من منع اشتراط النقد مسألتين فقال: (إلا أن يقرب مكانه)
أي مكان المبيع الغائب سواء كان حيوانا أو عرضا أو عقارا كاليوم واليومين
(أو يكون) المبيع الفائت بعيدا بعدا غير متفاحش وهو (مما يؤمن
تغيره) غالبا (من دار أو أرض أو شجر فيجوز النقد فيه) أي فيما ذكر
من الفرعين بشرط واحترز بقوله مما يؤمن تغيره مما يسرع إليه التغير
كالحيوان فإنه لا يجوز اشتراط النقد فيه مع البعد. (والعهدة) وهي تعلق
ضمان المبيع بالبائع بعد العقد مما يصيبه في مدة خاصة (جائزة) يقضى بها
(في الرقيق) خاصة دون الحيوان لان له قدرة على كتمان ما به من
العيوب دون غيره، لأنه قد يكتم عيبه كراهية في المشتري أي فيخفيه يريد
ضرره أو كراهية في البائع، ولا يقضي بها إلا (إن اشترطت أو كانت جارية
بالبلد) أو حمل السلطان الناس عليها فإن لم يكن شئ من ذلك فلا يقضى بها
(فعهدة الثلاث الضمان فيها من البائع من كل شئ) ولو موتا أو غرقا
514

أو حرقا أو قتل نفسه فإن وجد المشتري داء في ثلاثة أيام رده بغير بينة وإن
وجد داء بعد الثلاثة كلف البينة إنه اشتراه وبه هذا الداء، ونفقته وكسوته
في هذه المدة عليه وغلته له. (وعهدة السنة) معمول بها وتكون بعد
عهدة الثلاث والضمان فيها على البائع (من) ثلاثة أشياء (الجنون) الذي
يكون بمس جان أو بطبع، لا ما يكون من ضربة أو طربة فإنه لا يرد به
لامكان زواله بمعالجة دون الأولين (والجذام والبرص) وإنما اختصت
هذه العهدة بهذه الأدواء، وهي جمع داء لان أسبابها تتقدم ويظهر ما يظهر
منها في فصل من فصول السنة دون فصل بحسب ما أجرى الله عادته فيه
باختصاص تأثير ذلك السبب بذلك الفصل، فانتظر بذلك الفصول الأربعة وهي السنة كلها حتى يؤمن من هذه العيوب. (ولا بأس بالسلم) ويقال
له: السلف أيضا، وهو نوع من أنواع البيوع جعل لقبا على ما لم يتعجل
فيه قبض المثمون فحقيقته تقديم الثمن وتأخير المثمون دل على جوازه
الكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * (البقرة: 275) وأما
السنة ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أسلم فليسلم في كيل معلوم
ووزن معلوم إلى أجل معلوم. وقد أجمعت الأمة على جوازه (في العروض
والرقيق والحيوان والطعام والإدام) بشرط أن يكون المسلم فيه معلوم
الجنس والقدر والصفة وإلى هذه الشروط أشار بقوله: (بصفة معلومة وأجل
معلوم) فإن كان المسلم فيه طعاما يعين الجنس إما قمحا، أو شعيرا، أو ذرة.
515

وإن كان فاكهة يعين إما زبيبا، أو تمرا، ويعين القدر بما جرت العادة بتقديره
من الوزن أو الكيل أو العدد أو الذراع أو غير ذلك، ويعين الصفة فإن كان
طعاما ذكر ما يصفه به، وإن كان حيوانا ذكر النوع واللون والذكورة
والأنوثة ويعتبر في الاجل شيئان: أن يكون معلوما وأن يكون مما
تتغير في مثله الأسواق فأقله نصف شهر واحترز بالأجل من الحال فلا يصح
السلم الحال على المعروف من المذهب، وأشار إلى شروط رأس مال السلم بقوله:
(ويعجل رأس المال) يعني جميعه لأنه متى قبض البعض وأخر البعض
فسد لأنه دين بدين أي ابتداء دين بدين ونبه بقوله: (أو يؤخره) أي رأس مال السلم (إلى مثل يومين أو ثلاثة) على أنه لا يشترط قبضه في
المجلس بل إذا عقد السلم على النقد وأخر قبض رأس مال السلم اليومين
أو الثلاثة جاز ولا يخرج بذلك عن كونه معجلا وبالغ على ذلك فقال: (وإن
كان) التأخير المذكور (بشرط) وظاهر كلامه إن تأخر أكثر من
ثلاثة أيام لم يجز بشرط أو غيره. (وأجل السلم أحب إلينا أن يكون خمسة
عشر يوما) لان الأسواق تتغير في مثل هذه المدة غالبا والظاهر أنه عنى
نفسه وكأنه قال: أجل السلم خمسة عشر يوما على ما نختاره، ومذهب مالك:
أن أجل السلم ما تتغير في مثله الأسواق من غير تحديد، ومحل الخلاف إذا
كان قبض رأس مال السلم والمسلم فيه في بلد واحد، أما إذا كان قبض كل
واحد منهما ببلد فلا يشترط الاجل المذكور وإليه أشار بقوله: (أو على أن
يقبض) بالبناء للمفعول أي المسلم فيه (ببلد آخر) غير البلد الذي قبض
516

فيه رأس مال السلم وتكون مسافة ما بين البلدين أجل السلم لان الغالب
في اختلاف المواضع اختلاف الأسعار، وقوله: (وإن كانت مسافته يومين أو
ثلاثة) ليس بشرط، وكذا لو كانت نصف يوم. (ومن أسلم) في شئ يجوز
السلم فيه إلى ثلاثة أيام) على أنه (يقبضه ببلد أسلم فيه فقد أجازه)
بمعنى أمضاه (غير واحد) أي أكثر من واحد (من العلماء) منهم مالك (
وكرهه) بمعنى فسخه (آخرون) من العلماء منهم ابن القاسم (ولا
يجوز أن يكون رأس المال) أي مال السلم (من جنس ما أسلم فيه) هذا
إذا كان المسلم فيه أزيد من رأس المال كقنطار حديد في قنطارين لأنه
سلف جر نفعا، أو كان أنقص كثوبين في ثوب من جنسهما، لأنه ضمان
بجعل. وأما إذا كان رأس مال السلم مثل المسلم فيه صفة وقدرا جاز كما
سينص عليه. وقوله: (ولا يسلم شئ في جنسه) تكرار كرره ليرتب عليه
قوله (أو فيما يقرب منه) أي من جنس المسلم فيه في الخلقة والمنفعة
كالحمر الأهلية في البغال أو رقيق الكتان في رقيق القطن لان منافعهما
متقاربة ثم استثنى من منع سلم الشئ من جنسه، فقال: (إلا أن يقرضه)
قرضا (شيئا) وفي نسخة بينا (في مثله صفة ومقدارا) وجواز القرض
517

في مثله صفة ومقدارا مقيد بما إذا كان (النفع في ذلك للمتسلف) أما إذا
كان النفع للمسلم فلا يجوز (ولا يجوز دين) أي بيعه (بدين) لما روي
أنه عليه الصلاة والسلام: نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. قال أهل اللغة:
وبالهمز النسيئة بالنسيئة أي: الدين بالدين. وهو عند الفقهاء عبارة عن ثلاثة
أشياء بيع الدين بالدين وابتداء الدين بالدين، وفسخ الدين في الدين.
وحينئذ يكون بيع الدين بالدين له إطلاقان ما يعم الثلاثة، وعلى ما يخص
واحدا منها. (وتأخير رأس المال) أي مال السلم (بشرط إلى محل السلم)
أي أجله (أو) إلى (ما بعد من العقدة) أي عن عقدة السلم بأكثر من
ثلاثة أيام (من ذلك) أي من الدين بالدين لان فيه تعمير كل من الذمتين.
(ولا يجوز فسخ دين في دين وهو أن يكون لك شئ في ذمته فتفسخه
في شئ آخر لا تتعجله) مثل أن يكون لك عليه عشرة دنانير إلى سنة
فتفسخها في عشرة أثواب مثلا فإن كان الفسخ إلى الاجل نفسه أو دونه
فقولان الجواز، وهو أظهر في النظر، والمنع وهو أشهر. (ولا يجوز بيع ما ليس
عندك على أن يكون عليك حالا) الظاهر أنه أراد السلم الحال وهو أن
يبيع شيئا في ذمته ليس عنده على أن يمضي للسوق فيشتريه ويدفعه للمشتري،
لأنه غرر، لأنه إما أن يجده أو لا. وإذا وجده فإما بأكثر مما باعه فيؤدي
518

من عنده ما يكمل به الثمن، وذلك من السفه المنهي عنه. وإما أن يجده
بأقل فيأكل ما بقي باطلا وهو لا يجوز (وإذا بعت سلعة بثمن مؤجل فلا
تشترها بأقل منه نقدا أو إلى دون الاجل) الذي بعت به. مثال الأولى: أن
يبيع ثوبا بعشرة دراهم إلى شهر ثم يشتريه بخمسة نقدا، ومثال الثانية:
أن يبيعه بمائة إلى شهر ثم يشتريه بخمسين إلى خمسة عشر يوما. وهاتان
ممنوعتان لأنهما دخلهما سلف بزيادة، لأنه دفع قليلا ليأخذ أكثر منه
(ولا بأكثر) أي وكذا إذا بعت سلعة بثمن مؤجل فلا تشترها بأكثر
(منه إلى أبعد من أجله) مثل أن يبيع رجلا سلعة بمائة إلى شهر ثم
يشتريها منه بمائة وخمسين إلى شهرين لأنه يدخله الدين بالدين. (وأما)
إذا بعت سلعة بثمن مؤجل فاشتريتها بثمن مؤجل (إلى الاجل نفسه
فذلك) الشراء بأقل أو بأكثر أو بالمثل المفهوم من الكلام (كله جائز)
لأنه لا علة حينئذ تتقى (وتكون مقاصة) فإذا بعت سلعة بمائة إلى شهر ثم
اشتريتها بمائة إلى الاجل، فهذا في ذمته مائة. وهو كذلك فإذا حل الاجل
يقطع هذه المائة في المائة. (ولا بأس بشراء الجزاف) مثلث الجيم وهو
: ما جهل قدره أو وزنه أو كيله أو عدده، واستعمل لا بأس هنا بمعنى الجواز. وفي
الصحيح: كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يتبايعون الثمار جزافا (فيما
519

يكال أو يوزن) أو يعد (سوى الدنانير والدراهم ما كان مسكوكا) أي ما دامت
مسكوكة فإنه يمتنع شراؤها جزافا لأنه من بيع المخاطرة والقمار. (وأما نقار)
بكسر النون جمع نقرة بالضم القطعة من الذهب والفضة (الذهب والفضة فذلك
فيهما جائز) إذا لم يتعامل بهما أما إذا تعومل بهما فلا يجوز بيعهما جزافا (ولا
يجوز شراء الرقيق والثياب جزافا ولا) أي ولا يجوز شراء (ما يمكن عده
بلا مشقة جزافا) كالحيتان أي القلائل التي لا مشقة في عدها. (ومن باع
نخلا قد أبرت) كلها أو أكثرها وفيها ثمر لم يبعه (فثمرها للبائع) أي
باق على ملكه، لا يدخل في العقد على النخل (إلا أن يشترطه المبتاع
لنفسه) فيدخل في العقد. (وكذلك غيرها) أي غير النخل (من)
الأشجار ذات (الثمار) العنب والزيتون فيه التفصيل المذكور. ثم فسر
التأبير بقوله (والآبار) في النخل (التذكير) بأن يجعل على الثمرة دقيقا
يكون في فحل النخل، وأما غير النخل كالخوخ والتين فالتأبير فيه أن تبرز
الثمرة فيه عن موضعها وتتميز بحيث تظهر للناظر (وإبار الزرع خروجه
520

من الأرض) على المشهور وعليه فمن اشترى أرضا مبذورة لم يبرز زرعها
فإنها تتناول بذرها. (ومن باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه
المبتاع) ومعنى يشترطه المبتاع أي يشترطه للعبد لا لنفسه فإن اشترطه
لنفسه امتنع إن كان الثمن ذهبا والمال ذهبا أو فضة. (ولا بأس) بمعنى
الجواز وكان الأصل منعه لكنه أجيز لما في حل العدل من الحرج والمشقة
على البائع من تلويث ما فيه ومؤنة شده إن لم يرضه المشتري فأقيمت الصفة
مقام الرؤية (بشراء ما في العدل على البرنامج) بفتح الباء وكسر الميم. قال
الفاكهاني: هي كلمة فارسية والمراد بها الصفة لما في العدل المكتتبة. وفي
عرف زماننا الدفتر (بصفة معلومة) فإن وجده على الصفة التي في البرنامج
لزمه البيع ولا خيار له، وإن وجده على غيرها فهو بالخيار باللزوم والفسخ.
(ولا يجوز شراء ثوب لا ينشر ولا يوصف) ظاهره أنه لو وصفه لجاز
والمشهور عدم الجواز لأنه لا مشقة في إخراجه ونشره (أو في ليل مظلم
لا يتأملانه ولا يعرفان ما فيه) مفهوم كلامه: لو كان في ليل مقمر لجاز. والذي
في (وكذلك الدابة)
لا يجوز المدونة لا يجوز مطلقا كان الليل مظلما أو مقمرا شراؤها (في ليل مظلم) وكذلك بهيمة الأنعام عند ابن القاسم.
وفصل أشهب بين ما يؤكل لحمه، أجاز شراء ما يؤكل لحمه لأنه يمكن اختباره
521

بالليل إذ جسه باليد يبين الغرض المقصود منه من سمن أو هزال (ولا
يسوم أحد على سوم أخيه) وهو الزيادة في الثمن، وكان الواجب حذف الواو
من يسوم حيث كانت لا ناهية، وسهل ذلك كونه خبرا لفظا (وذلك) أي
النهي عن السوم (إذا ركنا وتقاربا) وهو أن يميل البائع إلى المبتاع، أي
بحيث لم يبق بينهما إلا الايجاب والقبول باللفظ. قال التتائي: والسوم في
المبايعة طلب كمية الثمن. (والبيع) عندنا (ينعقد بالكلام) وبكل ما يدل
على الرضا كالإشارة والمعاطاة (وإن لم يفترق المتبايعان) وما في الحديث
من قوله عليه الصلاة والسلام: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا. محمول عند الامام
مالك على التفرق بالأقوال. ثم شرع يتكلم على ما شاكل البيوع فقال:
(والإجارة جائزة) لما في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: ثلاثة أنا
خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، أي أعطى الأمان بما شرعته
من ديني، ورجل باع رجلا فأكل ثمنه، وفي نسخة حرا ومعناه أنه باع نفس
الحر. ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره. وهذا حديث
قدسي أخرجه الصحيحان. (إذا ضربا لها أجلا وسميا الثمن) ظاهره أنه لا بد
من ضرب الاجل في كل إجارة وليس كذلك، إذ من الإجارات ما لا يحتاج
إلى ضرب أجل، وهو ما يكون غايته الفراغ منه كالخياطة والنسج. وأما
تسمية الثمن فلا بد منها كما قال ابن ناجي. وإذا لم تقع تسمية لم تجز إلا أن
يكون عرف لا يختلف فتجوز، ثم انتقل يتكلم على الجعالة بقوله: (ولا
522

يضرب في الجعل) بمعنى الجعالة (أجل) لان ذلك مما يزيد في غرر الجعل
إذ قد ينقضي الاجل قبل تمام العمل فيذهب عمله باطلا أو يأخذ ما لا يستحق
إن انقضى العمل قبل تمام الاجل. الجعالة تكون (في) أشياء كثيرة
ك‍ (رد آبق أو بعير شارد أو حفر بئر أو بيع ثوب ونحوه) وقوله: (ولا
شئ له) أي للمجعول له (إلا بتمام العمل) نحوه في المختصر. قال بهرام: ولعله
فيما لا يحصل للجاعل فيه نفع إلا بتمام العمل، وإلا فمتى حصل له ذلك ولو لم يتم
العمل فينبغي أن يكون له مقدار ما انتفع به. مثال لك: إذا طلب الآبق
في ناحية ولم يجده بها فإنه وقع للجاعل النفع بذلك، لأنه تحقق أنه لم يكن
في تلك الناحية. ومفهوم كلام الشيخ والمختصر أنه إذا لم يتم العمل لا شئ
له. وهو كذلك لقوله تعالى: * (ولمن جاء به حمل بعير) * (يوسف 72). (والأجير على البيع)
بشئ معين (إذا تم الاجل ولم يبع وجب له جميع الاجر، وإن باع في نصف
الاجل فله نصف الإجارة) لان الإجارة إذا تعلقت بمنافع كان كل جزء
منها في مقابلة جزء من المنافع فإن قيل: قد تقدم أنه لا يضرب في الجعل
أجل، وقال هنا: إذا تم الاجل فهذه مناقضة، أجيب: بأنه لا مناقضة لان ما قاله
أولا في الجعل، وما قاله هنا في الإجارة، وهي لا تجوز إلا بضرب الاجل. قاله ابن عمر.
(والكراء) بالمد لا غير قال ابن عمر: يستعمل فيما لا يعقل والإجارة
523

فيمن يعقل (كالبيع فيما يحل) يعني من الاجل المعلوم والأجرة المعلومة
(و) فيما (يحرم) يعني من جهل الاجل ونحوه، ويؤخذ الفرق بين الكراء
والإجارة من قوله: (ومن اكترى دابة بعينها) وذلك أنه عبر في الدابة
بالاكتراء فدل على أن الاكتراء بيع منفعة الحيوان الذي لا يعقل. وقال
بعد: وكذا الأجير فدل على أن الإجارة تتعلق بالعاقل، فهي بيع منفعة حيوان
يعقل مثل أن يقول له: اكر لي هذه الدابة، وعينها بالإشارة إليها لأسافر
عليها (إلى بلد كذا) مثلا (فماتت) أو غصبت أو استحقت (انفسخ
الكراء فيما بقي) وله بحساب ما سار من الطريق بقيمة أخرى من غير
التفات إلى الكراء الأول، لأنه قد يرخص ويغلو. (وكذلك الأجير) إجارة
ثابتة في عينه مدة معلومة على خدمة بيت أو رعاية غنم (يموت) إجارة
المدة حكمه حكم الدابة المعينة تنفسخ الإجارة في باقي المدة. (و) كذا (الدار
تنهدم) كلها أو جلها أو ما فيه مضرة كبيرة أو أحرقت أو استحقت (قبل
تمام مدة الكراء) سواء كانت مشاهرة أو مساناة أي كل شهر بكذا أو كل
سنة بكذا، فإنها تنفسخ ويعطى بحساب ما سكن (ولا بأس بتعليم المتعلم
القرآن على الحذاق) بكسر الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة، كما في الصحاح
والمعنى أنه يجوز لمعلم القرآن أن يجاعل على تعليم الصبيان القرآن حتى
524

يحذقوا من باب ضرب أي يحفظوا كلا أو بعضا. (و) كذا لا بأس
ب‍ (مشارطة) أي بمجاعلة (الطبيب على البرء) حتى يبرأ (ولا ينتقض)
بمعنى لا ينفسخ (الكراء بموت الراكب أو الساكن) لان عين المستأجر
باقية. ويجوز للورثة أن تكري لمن هو مثله أو دونه. (و) كذلك (لا)
ينتقض الكراء (بموت غنم الرعاية وليأت بمثلها) فإن لم يأت دفع جميع
الاجر (ومن اكترى كراء مضمونا) مثل أن يقول له: اكر لي دابة لأحمل
عليها كذا إلى موضع كذا (فماتت الدابة فليأت بغيرها) لان المنافع مستحقة في
الذمة وليست متعلقة بهذه العين. وقوله: (وإن مات الراكب لم ينفسخ الكراء)
مكرر كرره ليرتب عليه قوله (وليكتروا مكانه غيره) يعني من اكترى
دابة ونقد كراءها ثم مات لم ينفسخ الكراء، بل تكري ورثته الدابة لمن
هو مثله في القدر والحال. (ومن اكترى ماعونا) الماعون اسم جامع لمنافع
البيت من قدر وقصعة وفأس وقدوم ومنخل (أو غيره) كالثوب والدابة
(ف‍) إنه (لا ضمان عليه في هلاكه بيده وهو مصدق) في تلفه لأنه مؤتمن
525

على ما استأجره (إلا أن يتبين كذبه) فلا يصدق ويضمن. مثل أن يقول:
هلكت أول الشهر، ثم ترى عنده بعد ذلك. ومفهوم بيده أنه لو أخرجه
عن يده فهلك في يد الغير يضمن إذا أكرى لغير أمين أو لمن هو أثقل
منه أو أضر. (والصناع) الذين نصبوا أنفسهم للصنعة التي معاشهم منها
كالخياطين (ضامنون لما غابوا عليه) أي ضامنون قيمته يوم القبض ولا
أجرة لهم فيما عملوه أي لأنهم يضمنون قيمته غير مصنوع، قال في الموازية:
ليس لربه أن يقول: أنا أدفع الأجرة وآخذ قيمته معمولا. قال ابن رشد:
إلا أن يقر الصانع أنه تلف بعد العمل. (ولا ضمان على صاحب الحمام) قال
ابن ناجي: ظاهر كلامه أنه المكري لا حارس الثياب. وقرر ابن عمر كلامه
بعكس هذا ولفظه صاحب الحمام حارس الثياب سواء كان يحرسها بأجرة
أو بغير أجرة، وهذا إذا سرقت أو تلفت بأمر من الله تعالى، وأما إذا قال:
جاء رجل يطلبها فظننت أنه صاحبها فأعطيتها له فإنه يضمن، وكذا إذا قال:
رأيت من أخذها فظننت أنه صاحبها. وقال ابن المسيب: يضمن صاحب الحمام،
وبه قال أبو حنيفة. (و) كذا (لا ضمان على صاحب السفينة) إذا غرقت
بسبب ريح أو موج (ولا كراء له) أي لصاحب السفينة (إلا على البلاغ)
لان الإجارة في السفينة جارية مجرى الجعل فإذا لم يحصل الغرض
المطلوب لم يستحق الأجرة. وقيل: له من الأجرة بحساب ما سار واستظهر
لان رد الكراء إلى الأجرة أولى من رده إلى الجعل لان الغاية معلومة
526

والأجرة معلومة فيكون له بحسب ما سار. (ولا بأس بالشركة بالأبدان)
قال بعضهم: لم يثبت فيها إلا كسر الشين وسكون الراء وهي إذن كل واحد
من الشريكين لصاحبه في أن يتصرف مع نفسه، دليلها ما في الصحيح: أن
زهرة بن معبد كان يخرج به جده فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن
الزبير رضي الله عنهم فيقولان له: أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة،
فيشركهما فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل. (إذا عملا في
موضع واحد) اتحدت الصنعة أو لا وهذا مذهب المدونة. وصرح ابن عمر
بمشهوريته، وأجاز في العتبية تعدد المكان إن اتحدت الصنعة وشهره
صاحب المختصر (عملا واحدا) كخياطين (أو متقاربا) بأن يتوقف عمل
أحدهما على عمل الآخر كما إذا كان أحدهما يجهز الغزل للنسج والآخر
ينسج. أما إذا اختلفت صنعتهما ولم تتلازم كخياط وحداد لم تجز الشركة
للغرر إذ قد تنفق صنعة هذا دون هذا فيأخذ من صاحبه ما لا يستحقه.
(وتجوز الشركة بالأموال) الدنانير والدراهم من كلا الجانبين إجماعا
وبالطعام المتفق صفة ونوعا عند ابن القاسم ومنعه مالك، أي منع المتفق صفة
ونوعا وقدرا فأولى المختلف وحيث قيل: بالجواز فإنما هو (على أن يكون
الربح بينهما بقدر ما أخرج كل واحد) منهما (و) على أن يكون (العمل
عليهما بقدر ما شرطا من الربح لكل واحد) فإذا أخرج أحدهما مثلا
527

مائة والآخر مائتين فالربح والخسران بينهما أثلاثا. وقوله: (ولا يجوز أن
يختلف رأس المال ويستويا في الربح) تكرار مع قوله على أن يكون الربح
بينهما الخ. (والقراض جائز) بشروط أحدها: أن يكون (بالدنانير والدرهم)
سواء كان التعامل بهما بالعد أو بالوزن (وقد أرخص فيه) أي في القراض
(بنقار الذهب والفضة) النقار: بكسر النون القطعة من الذهب أو الفضة
(ولا يجوز) القراض (بالعروض) ولا بشئ من المكيلات أو الموزونات،
لان القراض في الأصل غرر لأنه إجارة مجهولة إذ العامل لا يدري هل يربح
أو لا وعلى تقدير الربح كم مقداره وكذلك رب المال لا يدري هل يربح أم لا؟
وهل يرجع إليه رأس ماله أم لا؟ فكان ذلك غررا من هذه الوجوه إلا أن
الشارع جوزه للضرورة إليه ولحاجة الناس إلى التعامل به فيجب أن يجوز
منه مقدار ما جوزه الشارع وهو النقد المضروب، وما في حكمه من نقار
الذهب والفضة. (و) إذا امتنع القراض بها أي بالعروض فإن العامل
(يكون إن نزل) أي وقع القراض بها (أجيرا في بيعها) ويكون (على
قراض مثله في الثمن) أي إذا اتجر بالثمن، والذي في المختصر أن أجرة
مثله في بيع العروض، وأما عمله في القراض بعد ذلك فله قراض مثله من
الربح إن كان ثم ربح، وإلا فلا شئ له ثم بين أمورا يستبد بها العامل
528

دون رب المال بقوله: (وللعامل) أي وجوبا (كسوته وطعامه) المراد به
نفقته ذهابا وإيابا بشرطين أحدهما السفر ومن شرطه أن ينوي به تنمية
المال، أما إذا سافر به لزيارة أهله أو لحج فلا نفقة له، والآخر أن يكون
المال له بال وإليهما أشار بقوله: (إذا سافر في المال الذي له بال) كان السفر
قريبا أو بعيدا بالنسبة للطعام. (و) أما الكسوة (فإنما يكتسي في السفر
البعيد) لا القريب إذا كان المال كثيرا لا قليلا حد القريب مثل مسيرة
عشرة أيام وحد المال الكثير خمسون دينارا فأكثر (ولا يقسمان الربح
حتى ينض رأس المال) بكسر النون من نض ينض. قال الأجهوري:
وكسر النون هو مقتضى ما في لامية الافعال والصحاح، ومعنى ينض المال:
يصير ذهبا أو فضة صورة ذلك أن يبيع بعض السلع ويبقي بعضها ويكون فيها
رأس المال فيقول له: نقتسم هذا الذي نض، فهذا لا يجوز لأنه قد تهلك
السلعة الباقية. (والمساقاة) من المفاعلة التي تكون من الواحد وهو قليل
نحو سافر وعافاه الله ومعناها اصطلاحا: أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله
مثلا لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل، على أن ما أطعم الله
من ثمرها بينهما نصفين أو على جزء معلوم من الثمر كثلث وربع، وحكمها أنها
(جائزة) لما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عامل أهل خيبر على
شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وهي مستثناة من المخابرة وهي كراء الأرض
بما يخرج منها ومن بيع الثمرة والإجارة بها قبل طيبها وقبل وجودها، ومن
529

الإجارة بالمجهول. ولها شروط منها: العاقدان، ويشترط فيهما أهلية الإجارة.
ومنها: أن تكون بلفظ: ساقيت فلا تنعقد بعاملتك ونحوه (في الأصول)
الثابتة ظاهره عدم جوازها في غيرها وليس كذلك بل تصح في الزرع
كالقصب والبصل والمقاثئ بشروط أحدها: عجز رب الزرع عن القيام به.
ثانيها: أن يخاف عليه الموت بترك السقي. ثالثها: أن يبرز من الأرض. رابعها:
أن لا يبدو صلاحه لأنه إذا جاز بيعها لا ضرورة حينئذ للمساقاة. ومنها
أن يساقي على جزء معلوم سواء كان كثيرا كالثلثين أو قليلا كالربع، وإليه
أشار بقوله: (على ما تراضيا) عليه (من الاجزاء) فلو ساقاه على آصع أو
أوسق معدودة لم يجز (و) منها: أن يكون (العمل كله على المساقي) بفتح
القاف وهو العامل، والعمل القيام بما تفتقر إليه الثمرة من السقي والآبار
والتنقية والجذاذ وإقامة الأدوات من الدلاء والمساحي الخ (و) منها: أن رب
الحائط (لا يشترط عليه عملا) آخر (غير عمل المساقاة) مثل أن يساقيه
ويشترط عليه أن يبيع له ثوبا ونحو ذلك مما لا تعلق له بالثمرة. (و) كذا
(لا) يجوز له أن يشترط عليه (عمل شئ ينشئه) أي يحدثه (في
الحائط إلا ما) أي شيئا (لا بال) أي لا خطر (له) لقلته فإنه يجوز له
أن يشترطه عليه (من شد الحظيرة) بالظاء المشالة وهي الحائط المحيطة
بالبستان (و) من (إصلاح الضفيرة) بالضاد المعجمة (وهي) كما قال
530

للنف (مجتمع الماء) أي موضع اجتماع الماء كالصهريج، وأما بناؤها
من أصلها فلا يجوز أن يشترط ذلك على العامل وإليه أشار بقوله: (من غير
أن ينشئ بناءها) لان ذلك مما يبقى بعد الثمرة. (والتذكير) أي التلقيح
(على العامل) أي عليه شراء ما يلقح به وتعليقه وهو المذهب. (وتنقية
مناقع الشجر) جمع منقع بفتح القاف موضع يستنقع فيه الماء، قال في
المصباح: ومنقع الماء بالفتح مجتمعه (وإصلاح مسقط الماء) موضع السقوط
(من الغرب) وهو الدلو الكبير (وتنقية العين) وهو كنسها بما يقع فيها
من تراب أو ورق (وشبه ذلك) من عمل المساقاة أي مثل الجذاذ والجرين.
وقوله: (جائز) خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا، وشبهه جائز بعد (أن
يشترط على العامل) ومنها: ما أشار إليه بقوله: (ولا تجوز المساقاة على إخراج
ما في الحائط من الدواب) ولفظ المدونة: ولا ينبغي لرب الحائط أن يساقيه
على أن ينزع شيئا مما في الحائط من الرقيق والدواب. قال بهرام: قوله: ولا ينبغي على
التحريم لا على الكراهة (وما مات منها) أي الدواب التي في الحائط (فعلى
ربه خلفه) وإن لم يشترط العامل ذلك عليه، لأن العقد كان على عمل في
ذمة صاحب الحائط أي من حيث تلك الدواب التي وقع عقد المساقاة وهي في
الحائط، ولو شرط خلفهم على العامل لم يجز. (و) أما (نفقة الدواب) أي
531

علفهم (و) نفقة (الاجراء) جمع أجير أي إطعامهم وكسوتهم ف‍ (- على
العامل) على المشهور لان عليه العمل وجميع المؤن المتعلقة به (وعليه)
أيضا (زريعة) بفتح الزاي وكسر الراء مخففة والتشديد من لحن العوام
(البياض اليسير) أي الأرض الخالية عن الشجر والثلث فما دونه يسير
ولا بأس أن يلغى) أي يترك (ذلك) البياض اليسير (للعامل وهو)
أي الالغاء (أحله) أي أحل له أي رب الحائط ليسلم من كراء الأرض
بجزء ما يخرج منها (وإن كان البياض كثيرا لم يجز أن يدخل في مساقاة
النخل إلا أن يكون قدر الثلث من الجميع فأقل): حاصل المسألة أن
البياض اليسير يجوز إدخاله في المساقاة بالشروط المتقدمة، ويختص به العامل
إن سكتا عنه أو اشترطه ويفسد عقد المساقاة إن اشترطه ربه له إن كان
يناله سقي العامل، كما يفسد عقد المساقاة بإدخال الكثير أو اشتراطه للعامل أو
إلغائه له بل يبقى لربه. والمعتبر يسارته وكثرته بالنسبة لجميع الثمرة لا بالنسبة
لحصة العامل فقط (والشركة في الزرع جائزة) ومنهم من يعبر عنها بالمزارعة.
وقد ذكر الشيخ في هذا الفصل ثمانية مسائل أربعة جائزة منها: ثلاثة
متوالية والرابعة متأخرة. وأربعة ممنوعة واحدة بالمفهوم وثلاثة بالمنطوق.
أما الثلاثة الجائزة: فأشار إلى أولها بقوله: (إذا كانت الزريعة منهما جميعا
532

والربح بينهما كانت الأرض لأحدهما والعمل على الآخر) بشرط مساواته
لأجرة الأرض في القيمة أو مقاربته، كأن تكون قيمة الأرض تسعة
عشر وقيمة العمل عشرين أو عكسه. وأما لو تباعدت فلا جواز. وثانيها:
أشار إليه بقوله: (أو العمل بينهما واكتريا الأرض) فهي المسألة المتقدمة
بحالها إلا أن المتقدمة كانت الأرض في مقابلة العمل، وفي هذه العمل بينهما واكتريا
الأرض. وثالثها: أشار إليه بقوله: (أو كانت) أي الأرض (بينهما) والمسألة
بحالها. وأما الثلاثة الممنوعة المأخوذة بالمنطوق فأشار إليها بقوله: (أما إن
كان البذر من عند أحدهما، ومن عند الآخر الأرض والعمل عليه أو
عليهما) معا (والربح بينهما لم يجز) بيان أخذها من المنطوق أن الضمير
في عليه يحتمل عوده على صاحب الأرض، فيكون أحدهما أخرج البذر
والآخر الأرض والعمل وهذه مسألة. ويحتمل عوده على مخرج البذر
فيكون أحدهما أخرج البذر والعمل والآخر الأرض وهذه مسألة. وقوله: أو عليهما
أي العمل عليهما. والمسألة بحالها أخرج أحدهما الأرض والآخر البذر، وهذه مسألة.
ثم أشار إلى المسألة الرابعة المكملة للمسائل الجائزة بقوله: (ولو كانا اكتريا الأرض)
أو كانت بينهما أو كانت لأحدهما ويعطيه الآخر كراء نصفه (والبذر من
533

عند واحد وعلى الآخر العمل جاز) ذلك (إذا تقاربت قيمة ذلك البذر
والعمل مفهومه: إذا لم تتقارب لا تجوز وهو كذلك، وتكون هذه المسألة
هي المكملة للأربعة الممنوعة. (ولا ينقد) بشرط (في كراء أرض غير
مأمونة) الري (قبل أن تروى) كأرض المطر وأرض العين القليلة
الماء، أما لو كانت مأمونة الري كأرض النيل القريبة من البحر الشديدة
الانخفاض، وكأرض المطر في بلاد المشرق فيجوز عقد الكراء فيها على النقد
ولو مع الشرط كما يجوز عقد كرائها ولو طالت المدة كالثلاثين سنة. (ومن
ابتاع) أي اشترى (ثمرة) من أي الثمار دون أصلها بعد الزهو قبل كمال
طيبها (في رؤوس الشجر فأجيح ببرد) بفتح الباء (و) أجيح ب‍ (جراد
أو جليد) وهو الماء الجامد في زمان البرد له لمعان كالزجاج (أو) أجيح
ب‍ (غيره) أي غير ما ذكر كالريح والثلج دخل في عبارته الجيش والسارق
(فإن أجيح قدر الثلث) فأكثر (وضع عن المشتري قدر ذلك من الثمن)
لما رواه ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا باع المرء الثمرة فأصابها عاهة
فذهبت بثلث الثمرة فقد وجب على صاحب المال الضمان. (و) أما (ما نقص
عن الثلث فمن المبتاع) وما ذكره من التحديد في وضع الجائحة بالثلث محله
534

إذا كان سبب الجائحة غير العطش. أما إذا كان سببها العطش فلا تحديد،
بل يوضع قليلها وكثيرها، كانت تشرب من العيون أو من السماء، لان السقي
لما كان على البائع أشبه ما فيه حق توفية. (ولا جائحة في الزرع) لأنه
لا يباع إلا بعد يبسه. (و) كذا (لا) جائحة (فيما اشترى بعد أن يبس
من الثمار) لان تأخيره بعد اليبس حض تفريط من المشتري فلا جائحة إذا.
(وتوضع جائحة البقول) كالبصل والسلق (وان قلت) لان غالبها من
العطش (وقيل: لا يوضع إلا) إذا كانت (قدر الثلث). ثم عقب الجوائح
بالعرايا وهي آخر ما ذكره مما شاكل البيوع، وهي جمع عرية بتشديد
الياء مشتقة من عروته أعروه إذا طلبت معروفة فهي فعيلة بمعنى مفعولة
أي عطية. واصطلاحا أن يمنح الرجل لآخر ثمن نخله أو نخلات العام والعامين
يأكلها هو وعياله، ولها شروط أحدها أن تكون بلفظ العرية وأخذ هذا
من قوله: (ومن أعرى) فلو أعطاه بلفظ الهبة ونحوها لم يجز (ثمر نخلات
لرجل) الرجل ليس بشرط بل المرأة وكذلك الصبي والعبد (فلا بأس أن
يشتريها) إن بدا صلاحها وإليه أشار بقوله: (إذا أزهت) أي بدا صلاح ما هي
فيه من ثمر أو غيره، وإذا اشتراها فلا اشتريها إلا (بخرصها) بكسر الخاء أي
بكيلها. وأما بالفتح فهو الفعل، وصورة ذلك أن يقال: كم في هذه النخلة من
535

وسق؟ فيقال: كذا وكذا وهلم إلى خمسة أوسق أو غير ذلك. ثم يقال: كم ينقص
ذلك إذا جف فيقال: وسق أو أكثر، فإن كان الباقي بعد ذلك خمسة أوسق
فأقل جاز كما سينص عليه، وإن كان أكثر من ذلك لم يجز (تمرا) يريد
من نوعه إن صيحانيا فصيحاني وإن برنيا فبرني (يعطيه ذلك عند الجذاذ)
المراد أن لا يدخلا على شرط تعجيلها بل دخلا إما على التوفية عند الجذاذ
أو سكتا، فالمضر الدخول على شرط تعجيلها. وأما تعجيلها من غير شرط فلا
يضر (إن كان فيها خمسة أوسق فأقل ولا يجوز) للمعري ولا لغيره (شراء
أكثر من خمسة أوسق إلا بالعين والعرض) نقدا أو إلى أجل أي يشتريها
كلها بالعين أو العرض. وأما لو أراد أن يشتري من الأكثر من خمسة أوسق
خمسة أوسق بخرصها والزائد بعين أو عرض إنه لا يجوز.
(باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء) ذكر في
هذه الترجمة ستة أشياء لكل منها حقيقة وحكم وغير ذلك. أما الوصايا فجمع
وصية وهي في عرف الفقهاء عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته.
واختلف هل هي واجبة أو مندوبة؟ وإليه ذهب أكثر العلماء، وعليه حمل
بعضهم قول الشيخ: (ويحق) بكسر الحاء وفتحها
وفتح الياء وضمها (على من له ما) أي مال (يوصي فيه أن يعد) بضم الياء أي يهيئ
536

(وصيته) ويشهد عليها، فإن لم يشهد عليها فهي باطلة. ولو وجدت بخطه إلا
أن يقول ما وجدتم بخط يدي فأنفذوه فإنه ينفذ. وهل أراد بقوله: (ولا
وصيه لوارث) نفي الصحة أو أراد النهي المذهب أنها ليست بصحيحة ولو
بأقل من الثلث، وإن أجازها الوارث كانت ابتداء عطية منه وانظر هل
أراد بقوله: (والوصايا خارجة من الثلث) أن مصرفها إنما هو في الثلث أو
إنما أراد لا يجوز للموصي أن يوصي إلا بالثلث فأقل (ويرد ما زاد عليه) أي
على الثلث ولو كانت الزيادة يسيرة (إلا أن يجيزه الورثة) إذا كانوا بالغين
رشداء ويعتبر ثلث مال الميت يوم موته لا يوم الوصية، على ما في ابن الحاجب.
وتعقبه ابن عبد السلام أنه خلاف المذهب فإن ا لمعتبر على المذهب في
الوصية أن تخرج من الثلث يوم تنفذ الوصية لا يوم الموت، حتى لو كانت
الوصية يسعها الثلث يوم الموت فطرأ على المال جائحة أذهبت بعضه فصار
لا يسعها ثلث ما بقي، كان حكمها يوم القسمة حكم من أوصى بأكثر من الثلث.
ولا أعلم في ذلك خلافا في المذهب اه‍. ثم انتقل يتكلم على ما يبدأ بإخراجه
من الثلث فقال (والعتق بعينه) سواء كان في ملكه أو ملك غيره مثل
أن يقول اشتروا عبد فلان وأعتقوه (مبدأ عليها) أي على الوصايا بالمال
وإنما قيدناه بهذا لان الزكاة والكفارات إذا أوصى بها الميت مبدأة على
العتق أي على الوصية بالعتق لان الكلام ليس في تنجيز العتق، إنما هو في
الوصية به فالزكاة والكفارة مبدأتان على الوصية بالعتق بصوره المذكورة
537

(والمدبر في) حال (الصحة مبدأ على ما) يصدر منه (في) حال (المرض)
من عتق أو غيره (و) المدبر في الصحة مبدأ أيضا (على ما فرط فيه من
الزكاة فأوصى به فإن ذلك في ثلثه مبدأ على الوصايا) فإن لم يوص به فلا
يخرج من الثلث. وقوله: (ومدبر الصحة مبدأ عليه) تكرار (وإذا ضاق
الثلث) عما أوصى به (تحاص أهل الوصايا التي لا تبدئة فيها) كما يتحاص
في العول في الفرائض مثل أن يوصي لرجل بنصف ماله ولآخر بربعه، فإنك
تأخذ مقام النصف ومقام الربع وتنظر ما بينهما فتجدهما متداخلين فتكتفي
بالكثير وهو الربع، فتأخذ نصفه وربعه. فتجمعها فتكون ثلاثة فتعلم أن
الثلث بينهما على ثلاثة أسهم، لصاحب الربع سهم وللآخر سهمان، أي
فيقسم ثلث مال الميت على ثلاثة وهذا إن لم يجز الوارث الوصايا. وأما
إن أجازها فيأخذ الموصى له بالنصف اثنين والموصى له بالربع واحدا
ويفضل واحدا يأخذه الوارث. (وللرجل) ولو سفيها وكذا المرأة والصبي
(الرجوع عن وصيته من عتق وغيره) ظاهره كانت الوصية أو الرجوع
عنها في الصحة أو المرض. وهو كذلك كما في تحقيق المباني عن الفاكهاني
وبهرام. وظاهره أيضا أن له الرجوع ولو أشهد في وصيته، أن لا رجوع له
فيها وهو فيها وهو الذي جرى عليه العمل. (والتدبير أن يقول الرجل
538

لعبده أنت مدبر أو أنت حر عن دبر مني) مأخوذ من إدبار الحياة ودبر
كل شئ ما وراءه بسكون الباء وضمها، والجارحة بالضم لا غير وأنكر
بعضهم الضم في غيرها. وحكم التدبير الاستحباب. ومن شروطه: الصيغة التي
ينعقد بها: كأنت حر بعد موتي أو أنت حر يوم أموت والتكليف والرشد
فلا يصح من المجنون والصبي ولو مميزا. (ثم) إذا دبر المكلف الرشيد
عبده (لا يجوز له) بعد ذلك (بيعه) فإن بيع فسخ بيعه ورجع مدبرا
كما كان إذا لم يتصل به عتق فإن أعتقه المشتري مضى، وكان ولاؤه له أي
إذا نجز عتقه في حياة سيده فإن البيع يكون ماضيا مع العتق، وكان الولاء
لمعتقه أما لو أعتقه بعد موت مدبره فلا يمضي، لان الولاء انعقد لمدبره (وله
خدمته) بمعنى استخدامه لأنه سيده إلى أن يموت (وله) أيضا (انتزاع
ماله ما لم يمرض) السيد مرضا مخوفا فليس له ذلك لأنه ينتزع لغيره (وله)
أيضا (وطؤها إن كانت أمة) لأنها على أصل الإباحة فإن حملت كانت
أم ولد تعتق من رأس ماله بعد موته. (ولا يطأ) الأمة (المعتقة إلى أجل)
مثل أن يقول لها: اخدميني سنة وأنت حرة لأنه قد يجئ الاجل قبل
موته فتخرج حرة فإذا وطئها ربما حملت فلا تخرج حرة إلا بعد موته،
وأيضا فإن نكاحها في هذه الحالة يشبه نكاح المتعة (و) كما أنه لا يطأ
الأمة المعتقة إلى أجل (لا يبيعها) ولا يهبها ولا يتصدق بها لان فيها عقدا
من عقود الحرية (وله) أيضا (أن يستخدمها في بيته) لبقائها على ملكه
539

حتى ينقضي الاجل (وله) أيضا أن (ينتزع مالها) الذي أفادته بهبة مثلا
وهذا مقيد ب‍ (ما) إذا (لم يقرب الاجل) ولا حد في القرب إلا ما يقال
قريب. (وإذا مات) الرجل المدبر (ف‍) العبد (المدبر) في الصحة يخرج
(من ثلثه) أي من ثلث مال السيد مطلقا، أعني من مال علم به ومال لم
يعلم به. والمدبر في المرض يخرج من ثلث مال علم به فقط. (و) أما (المعتق
إلى أجل) فإنه يخالف المدبر فيخرج (من رأس ماله). ثم شرع يتكلم
على الكتابة فقال (والمكاتب عبد ما بقي عليه شئ) من كتابته ولو قل
لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: المكاتب عبد ما بقي عليه في كتابته
درهم. وكان حقه أن يؤخر هذه المسألة عن قوله: (والكتابة) وهي إعتاق
العبد على مال منجم (جائزة) بدون مخالف في جوازها (على ما رضيه العبد
والسيد من المال) دل على مشروعيتها الكتاب قال تعالى: * (فكاتبوهم إن
علمتم فيهم خيرا) * (النور: 33) وتكون بلفظ فهم منه ذلك المعنى، وهو إعتاق العبد على
مال نحو كاتبتك أو أنت مكاتب أو أنت معتق على كذا. وشرطه أن يكون
منجما وإليه أشار بقوله: (منجما) قال الفاكهاني عن المدونة: ولا تكون
حالة والتنجيم التقدير وهو أن يقول له: تعطيني في كل شهر أو في كل سنة
كذا على ما تراضيا عليه (قلت النجوم أو كثرت) وفي الجواهر عن
الأستاذ أبي بكر أنه قال وعلماؤنا النظار أي الحفاظ يقولون: إن الكتابة
540

الحالة جائزة وهو القياس قائل ذلك يقول: إنها كالبيع تقبل الحلول
والتأجيل (فإن عجز) المكاتب عن العوض (رجع رقيقا ولا يعتق
منه شئ (وحل له) أي لسيد المكاتب إذا عجز (ما أخذ منه) لأنه
عبده. أما إن أعانه أحد ثم عجز فإنه يرجع بذلك على السيد (ولا يعجزه
إلا السلطان بعد التلوم إذا امتنع من التعجيز) أي مع سيده (وكل ذات
رحم) أي صاحبة ولد من الآدميات (فولدها بمنزلتها) إذا كان من زوج
أو زنى. أما إن كان من السيد فهو حر بلا خلاف إذا كان السيد حرا، وإن
كان عبدا فهو عبد بمنزلتها في جميع أحكامها من العتق والخدمة والبيع
وغير ذلك (من مكاتبة أو مدبرة أو معتقة إلى أجل أو مرهونة وولد أم الولد
من غير السيد) بعد صيرورتها أم ولد فهو (بمنزلتها) بلا خلاف في المذهب
أما ولدها من غير السيد قبل صيرورتها أم ولد فرقيق. (ومال العبد له إلا
أن ينتزعه السيد) قال ابن ناجي: ظاهر كلامه أنه يملكه حقيقة فيقوم
من كلامه فرعان أحدهما: أنه يجوز له أن يطأ جاريته إذا ملكها وهو
كذلك. الثاني: أنه يجب على العبد أن يزكي المال الذي بيده، والمشهور أنه
541

لا يزكي (فإن أعتقه أو كاتبه ولم يستثن ماله فليس له أن ينتزعه) اتفاقا
إن اكتسبه بعد الكتابة، وعلى المذهب إن اكتسبه قبل عقد
الكتابة. (وليس له) أي لا يجوز للسيد (وطئ مكاتبته) لأنها أحرزت
نفسها ومالها، فإن وطئ لا حد عليه على المشهور، ويعاقب إلا أن يعذر بجهل
أي أو غلط ولا مهر عليه، وإذا كانت بكرا أو أكرهها فعليه نقصها وإلا
فلا. قال في الجواهر: فإن حملت خيرت في التعجيز فتكون أم ولد والبقاء على
كتابتها فإن اختارت التعجيز كانت أم ولد وإن اختارت البقاء على كتابتها
كانت مستولدة ومكاتبة، ثم إن أدت النجوم عتقت وإلا عتقت بموت السيد.
(وما حدث للمكاتب والمكاتبة من ولد) بعد عقد الكتابة (دخل معهما
في الكتابة وعتق بعتقهما وتجوز كتابة الجماعة) في عقد واحد إذا كانوا
المالك واحد وتوزع على قدر قوتهم على الأداء يوم عقد الكتابة. (وليس)
أي لا يجوز (للمكاتب عتق ولا إتلاف ماله) بغير عوض فيما له بال كالهبة
والصدقة (حتى يعتق) لان ذلك الضرر لسيده وربما أدى ذلك إلى عجزه
(و) كذلك (لا يتزوج أي لا يجوز له ذلك لئلا يعيبه إن عجز (ولا
542

يسافر) أي ولا يجوز له أن يسافر (السفر البعيد) الذي تحل فيه نجومه
قبل قدومه (بغير إذن سيده) قال الأقفهسي: الضمير في قوله: بغير إذن
سيده يعود على التزويج والسفر خاصة وظاهره أنه لو أذن له السيد جاز
وهو كذلك (وإذا مات) المكاتب (وله ولد) دخل معه في الكتابة أو
حدث بعدها (قام) ولده (مقامه) في أداء الكتابة إلا أنه لا يؤدي ذلك
منجما بل حالا. وإليه أشار بقوله: (وودى من ماله) أي من مال الميت (ما بقي
عليه حالا) إذا ترك قدر ما عليه فأكثر لأنه بموته حلت نجومه لخراب
ذمته بالموت كسائر الديون المؤجلة تحل بموت من هي عليه (وورث من
معه من ولده ما بقي فإن لم يكن في المال وفاء بها) أي بالكتابة (فإن
ولده يسعون) أي يعملون فيه (ويؤدون نجوما) على تنجيم الميت (إن
كانوا كبارا) لهم قدرة على السعي وأمانة على المال، وإلا أعطي المال لأمين
يؤدي عنهم. (وإن كانوا) أي أولاد المكاتب (صغارا وليس في المال قدر
النجوم إلى بلوغهم السعي رقوا) مفهومه أنه لو كان فيه ما يبلغهم السعي
لم يرقوا، ويوضع ذلك على يد أمين ويعطى للسيد على قدر النجوم (وإن)
543

مات المكاتب و (لم يكن له ولد معه في كتابته) وليس في ماله وفاء
(ورثه سيده) يعني بالرق لا بالولاء لكونه مات رقيقا ثم انتقل يتكلم على
أم الولد وهي في العرف الأمة التي ولدت من سيدها فقال: (ومن أولد أمة
ف‍) يباح (له أن يستمتع منها في حياته) بالوطئ ودواعيه لقوله تعالى: * (أو
ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * (المؤمنون: 6) وتسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية.
(وتعتق من رأس ماله بعد مماته) من غير حكم حاكم، ولا يرقها دين كان
قبل حملها أو بعده (ولا يجوز بيعها) فإن وقع فسخ وإن عتقها المشتري
أو اتخذها أم ولد أو ماتت فيرجع المشتري على البائع بالثمن ومصيبتها من
البائع ومثل البيع الهبة والرهن ونحوهما (ولا له عليها خدمة) كثيرة،
وأما اليسيرة فله أن يستخدمها فيها كالطحن والسقي (ولا غلة) فلا يؤجرها
من غيره (وله ذلك) أي ما ذكر من الغلة والخدمة (في ولدها من غيره)
فيؤاجره من غيره (وهو) أي ولد أم الولد من غيره وبمنزلة أمه في العتق يعتق
بعتقها) هذا إذا مات السيد وهي حية فإن ماتت قبله فلا يعتق أولادها
حتى يموت السيد. (وكل ما أسقطته مما يعلم أنه ولد فهي به أم ولد) مضغة
أو علقة وكذلك الدم المنعقد على المشهور (ولا ينفعه) أي السيد (العزل)
544

وهو الانزال خارج الفرج، أي لا ينفعه ادعاء العزل عن الأمة (إذا أنكر
ولدها) أن يكون منه (و) الحال أنه (أقر بالوطئ) لأن الماء قد يغلبه
ولو اليسير منه (فإن ادعى) السيد (استبراء) بحيضة فأكثر (لم يطأ
بعده لم يلحق به ما جاء من ولد بعدها) على المشهور، ولا يلزمه في ذلك
يمين. ثم انتقل يتكلم على العتق وهو شرعا خلوص الرقبة من الرق وهو
من أعظم القربات لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله
عز وجل بكل إرب منها إربا منه من النار. وفي لفظ أعتق الله بكل عضو
منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه. وعتق الذكر فضل وله ثلاثة
أركان أولها: المعتق بكسر التاء: وهو البالغ العاقل الذي لا حجر عليه ولم يحط
الدين بماله. (ولا يجوز عتق) الصبي ولا المجنون ولا المحجور عليه ولا (من
أحاط) الدين بماله كان الدين حالا أو مؤجلا لأنه حينئذ تصرف في ملك
الغير. ثانيها: المعتق بفتح التاء وهو كل رقيق قن أو من فيه شائبة من
شوائب الحرية كالمدبر. وثالثها: الصيغة وهي كل ما دل وضعا على رفع الملك
كأنت حر. (ومن أعتق بعض عبده) كالربع أو الثلث أو النصف
(استتم) أي عتق (عليه) جميعه بالحكم لا بعتق البعض إذا كان المعتق
مسلما عاقلا رشيدا لا دين عليه، هذا إذا كان العبد لمالك واحد لقوله: (وإن
كان لغيره معه فيه شركة قوم عليه) أي على من أعتق البعض (نصيب
545

شريكه بقيمته يوم يقام عليه وعتق) القيمة معتبرة يوم الحكم فقول
المصنف يوم يقام عليه أي إن وقع الحكم فيه وحينئذ يكون العتق مستندا
للحكم به لا بالسراية لعتق البعض. ومحله إذا كان موسرا بما يحمل نصيب
شريكه يوم الحكم (فإن) كان غير موسر يوم الحكم بأن (لم يوجد له
مال بقي سهم الشريك) رقيقا إلا أن يعتقه ربه وإن وجد له من المال ما يفي
ببعض حصة شريكه قوم عليه بقدر ما يوجد معه. (ومن مثل بعبده مثلة)
بضم الميم وسكون المثلثة (بينة من قطع جارحة) كيد أو رجل وكخصاء
أوجب ولو قصد استزادة الثمن لتعذيبه بذلك (ونحوه) أي نحو قطع
الجارحة كفقء العين أو وسم وجهه وغيره بالنار (عتق إليه) من رأس
ماله، وظاهر كلامه أن العتق يحصل بنفس المثلة، وهو الأشهب. الذي لابن
القاسم: لا يعتق إلا بالحكم. (ومن ملك أبويه) نسبا لا رضاعا (أو أحدا من ولده
أو ولد ولده أو ولد بناته أو جده أو جدته أو أخاه لام أو لأب أو لهما جميعا عتق
عليه) كل من ذكر بنفس الملك ولا يحتاج إلى حكم على المشهور بشرط أن
لا يكون عليه دين يستغرق قيمته، فإن كان عليه دين يستغرق قيمته
فإنه لا يعتق عليه بذلك ولا يرد البيع ولا يستقر ملكه عليه بل يباع عليه للدين.
(ومن أعتق) أمة (حاملا) من تزويج أو زنى (كان جنينها حرا معها)
546

لان كل ولد حدث من غير ملك يمين من تزويج أو زنى فإنه تابع لامه في
الحرية والعبودية. وهذه المسألة مكررة مع قوله وكل ذات رحم فولدها
بمنزلتها. (ولا يعتق في الرقاب الواجبة) ككفارة القتل (من فيه معنى من عتق
بتدبير أو كتابة أو غيرهما) كأم ولد أو معتق لأجل أو مبعض لنقصان
الرقبة بما تشبثت به من عقد الحرية. (و) ذلك (لا) يعتق في الرقاب
الواجبة (أعمى ولا أقطع اليد وشبهه) أي شبه الأقطع نقصان الرقبة
بالعيب. (ولا) يعتق فيها أيضا (من هو على غير الاسلام) لقوله تعالى: عتق
* (فتحرير رقبة مؤمنة) * (النساء: 92) (ولا يجوز عتق الصبي) لأنه رأس من أهل التكليف (ولا)
عتق (المولى عليه) وهو السفيه الذي يضع المال في غير موضعه (والولاء)
بفتح الواو ممدودا (لمن أعتق) فمن زال ملكه بالحرية عن رقيق فهو
مولاه إن كان المعتق مسلما، فلو كان المعتق كافرا والعبد مسلما فلا ولاء
له على عتيقه المسلم بل لجماعة المسلمين. ثم لا يعود إليه بإسلامه. والأصل قوله
عليه الصلاة والسلام: إنما الولاء لمن أعتق (ولا يجوز بيعه ولا هبته) لما
رواه ابن فان وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام: الولاء لحمة كلحمة
النسب لا يباع ولا يوهب. (ومن أعتق عبدا عن رجل) مثلا (فالولاء
547

للرجل) المعتق عنه إذا كان حرا. أما إذا كان رقيقا فالولاء لسيده (و)
إذا أسلم كافر على يد مسلم فإنه (لا كون الولاء) عليه (لمن أسلم على يده
و) إنما (هو لجماعة المسلمين وولاء ما أعتقت المرأة لها
و) كذلك لها (ولاء من يجر) ولاءه لها (من ولد أو عبد أعتقته) لأنها لما كانت هي
المعتقة أولا، أضاف لها ذلك إقامة للمتسبب مقام المباشر. (ولا ترث) المرأة
من الولاء (ما أعتق غيرها من أب أو ابن أو زوج أو غيره) لان الولاء
إنما يورث بالتعصيب والنساء لاحظ لهن فيه. (وميراث السائبة لجماعة
المسلمين) والمراد بها هنا أن يقول لعبده: أنت حر مسيب أو أنت سائبة
، ويريد بذلك العتق. ويكره هذا اللفظ لاستعمال الجاهلية له في الانعام كما
قال الله تعالى حكاية عنهم: * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) * (المائدة: 103) الآية. (والولاء
للأقعد) أي الأقرب (من عصبة الميت الأول) الأولى المباشر للعتق. وعبارة
التحقيق: الأحسن لو قال من عصبة المعتق (فإن مات) المعتق (وترك
ابنين فورثا ولاء مولى لأبيهما ثم مات أحدهما وترك ابنين رجع
548

الولاء إلى أخيه دون بنيه) أطلق الإرث هنا على الولاء وهو لا يورث
لأنه سببه، وإلا فالولاء لا يورث وإنما يورث به. (وإن مات واحد) من الابنين
المذكورين (وترك ولد أو مات) بعد ذلك (أخوه و) الحال أنه (ترك ولدين
فالولاء بين الثلاثة أثلاثا) لتساويهم في القرب من الميت المعتق.
باب في بيان الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية
والوديعة واللقطة والغصب (باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب فهذه تسعة أشياء ذكرها
في الباب كما ذكرها في الترجمة. أما الشفعة فبضم الشين وسكون الفاء مأخوذة من الشفع ضد
الوتر لان الشفيع يضم الحصة التي يأخذها إلى حصته فتصير حصته
حصتين، وعرفها ابن الحاجب بأنها أخذ الشريك حصة شريكه جبرا شراء،
فخرج بإضافته إلى الشريك الجار، فإنه لا شفعة له عندنا، وبالجبر ما يأخذه
بالشراء الاختياري، وهي رخصة أرخص فيها دفعا لضرر الشريك، قال
جابر: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما ينقسم، فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة. رواه البخاري وغيره، وأخذ من هذا الحديث
حكمان: وجوب الشفعة للشريك دون الجار لأنه حكم في الحديث بأنه لا شفعة
بعد القسمة، وهو بعد القسمة جار، فالجار لا شفعة له، ووجوبها في الرباع
دون العروض، وإلى هذا أشار بقوله: (وإنما الشفعة في المشاع) يعني الأرض
549

وما يتصل بها من البناء والشجر. قال الفاكهاني: لحكمة في ثبوت الشفعة
إزالة الضرر عن الشريك، وخصت بالعقار لأنه أكثر الأنواع ضررا،
واتفقوا على أنه لا شفعة في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقولات،
ويشترط فيما فيه الشفعة أن يكون قابلا للقسمة احترازا عما لا يقبلها إلا
بفساد كالحمام. (ولا شفعة فيما قد قسم) لان الشفعة شرعت إما لضرر
القسمة أو لضرر الشركة، وذلك غير موجود في المقسوم، فلذلك لم تجب فيه
شفعة. (ولا شفعة الجار) باتفاق الأئمة الثلاثة، وخالف أبو حنيفة فأثبت له
الشفعة، لكن الشريك فدم عنده على الجار. (ولا) شفعة (في طريق)
خاص بين الشركاء إلى الدار أو إلى الجنان، وأما الطريق العام فلا يجوز
بيعه. (ولا في عرصة دار قد قسمت بيوتها) وأما إذا كان الأصل غير
مقسوم وباع أحد الشريكين حصته من الأصل والطريق فلشريكه
الشفعة في الأصل والطريق باتفاق. (و) كذا (لا) شفعة (في فحل)
أي ذكر (نخل أو في بئر إذا قسمت النخل والأرض) فلو جوزت الشفعة
في ذلك لصار مع الشريك الفحل كله وبقي المشتري من غير فحل لان
الشفعة إنما هي في الذي فيه الشركة الذي هو الفحل فقط. وقوله: أو بئر
فيما إذا قسمت الأرض وبقيت البئر بلا قسم. وقوله: (ولا شفعة إلا في
الأرض وما يتصل بها من البناء والشجر) تكرار مع قوله: وإنما الشفعة
550

في المشاع، وتسقط الشفعة بأحد أمور ثلاثة أحدها الترك بصريح اللفظ
كقوله: أسقطت شفعتي. ثانيها ما يدل على الترك كرؤيته للمشتري يبني ويغرس
وهو ساكت. ثالثها ما أشار إليه الشيخ بقوله: (ولا شفعة للحاضر) يعني في
البلد دون العقد (بعد السنة) أما إذا حضر العقد وسكت عن طلب الشفعة شهرين
فإن ذلك يسقط شفعته (و) أما (الغائب) غيبة بعيدة فإنه (على شفعته
وإن طالت غيبته) إذا كانت غيبته قبل وجود الشفعة له علم بالبيع أو لم
يعلم، وليس للبعد والقرب حد على الصحيح (وعهدة الشفيع على المشتري)
قال الفاكهاني: إن استحقها أحد من يد الشفيع فإنه يأخذها من غير
أن يدفع فيها شيئا ويرجع الشفيع على المشتري بما أعطاه ويرجع المشتري
على البائع بالثمن، (ويوقف الشفيع فإما أخذ أو ترك) يعني أن للمشتري
أن يقوم على الشفيع ويلزمه بالترك أو الاخذ بالثمن الذي اشترى به إن
كان مما له مثل، أو قيمته إن كان من ذوات القيم، فإن امتثل أحد الامرين
فلا كلام وإلا رفعه للحاكم، وإذا طلب التأخير ليختار أو ليأتي بالثمن أخر
ثلاثة أيام. (ولا توهب الشفعة ولا تباع) يعني لا يجوز للشفيع أن يهب أو
يبيع ما وجب له من الشفعة. وصورة ذلك أن يقول زيد الذي قد وجبت
له الشفعة لعمرو الذي لا شفعة له: قد وهبتك شفعتي التي قد وجبت لي عند
خالد، أو اشترها مني بكذا، لان الشفعة إنما جعلت للشريك لأجل إزالة
551

الضرر عنه بأن يدخل عليه من لا يعرف شركته ولا معاملته. (ولا تتم
هبة ولا صدقة ولا حبس إلا بالحيازة) لا تفترق الهبة والصدقة إلا في شيئين
أحدهما أن الهبة تعتصر والصدقة لا تقتصر، فإذا وهب الأب لابنه شيئا فله
أن يعتصره منه، ولا كذلك إذا تصدق عليه. ثانيهما: أن عود الهبة إلى
ملك واهبها ببيع أو هبة أو صدقة أو غير ذلك جائز، ولا كذلك الصدقة
بل يكره عودها إلى ملك المتصدق بما ذكر من الأنواع المتقدمة في الهبة
وحكمها الندب دل عليه الكتاب والسنة والاجماع، فمن الكتاب قوله
تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) * (النحل: 90) وقوله: * (وآتى المال على حبه) وفي
* (البقرة: 177) وفي الحديث من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب
فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما أبي أحدكم فلوه حتى تكون
مثل الجبل والاجماع على ذلك حكاه ابن رشد وغيره. (فإن مات) الواهب
(قبل أن تحاز عنه فهي ميراث) يرثه الورثة وتبطل لمن جعلت فيه (إلا
أن يكون ذلك في المرض فذلك نافذ من الثلث) لأنه خرج مخرج
الوصية (إن كان لغير وارث) لان الوصية للوارث غير جائزة، أي غير
نافذة، أي فهي باطلة، وإن أجاز الوارث كان ابتداء عطية منه. (والهبة
لصلة الرحم) أي الهبة للرحم لجل صلته (أو لفقير) حكمها (كالصدقة
لا رجوع) له (فيها) أما منعه الرجوع في الصدقة والهبة للفقير، فإنهما
552

خرجتا عن ملكه على طريق الثواب وابتغاء وجه الله تعالى. (ومن تصدق
على ولده فلا رجوع له) مستغنى عنه بما قبله (وله أن يعتصر ما وهب
لولده) أي لا لصلة الرحم ولا لفقره ولا لقصد ثواب الآخرة، بل وهبه
لوجهه، ولا فرق بين أن يكون الولد ذكرا أو أنثى غنيا أو فقيرا (الصغير
والكبير ما لم أنكح لذلك) أي للهبة (أو يداين) لها (أو يحدث في
الهبة حدثا) مثل أن يهبه حديدا فيصنعه آنية (والام تعتصر) ما وهبته
لولدها سواء كان صغيرا أو كبيرا (ما دام الأب حيا) أي ولو مجنونا زمن
الهبة إلا أن تكون قصدت بهبتها صلة رحم أو ثواب آخرة أو لفقره فلا
تعتصر، وأما إن كان حين الهبة لا أب له فليس لها أن تعتصرها لأنه يتيم
وبعد ذلك كالصدقة (فإن مات لم تعتصر ولا يعتصر من يتيم) ويسمى
يتيما ما لم يبلغ، فإذا بلغ لم يسم يتيما (واليتم من قبل الأب) هذا في الآدمي،
وأما في الحيوان فمن قبل الام، وفي الطير من قبلهما معا (وما وهبه)
الأب (لابنه الصغير فحيازته له جائزة) أي معمول بها ولو استمر عند
الأب إلى أن أفلس أو مات (إذا لم يسكن) الأب (ذلك) الشئ الموهوب
553

(أو يلبسه إن كان ثوبا) وأما إذا كان الموهوب دار سكناه واستمر
ساكنا لجميعها أو أكثرها أو استمر لابسا لما وهبه حتى حصل المانع بطلت
الهبة. وأما إن سكن الأقل وأكرى الأكثر فلا بطلان (وإنما يجوز له
ما يعرف بعينه) مثل أن يقول له وهبتك الدار التي صفتها كذا وكذا.
وأما ما لا يعرف بعينه فلا مثل أن يقول له وهبتك دارا من دوري. (وأما)
الابن (الكبير فلا تجوز حيازته) أي حيازة الأب (له) إن كان رشيدا.
وأما السفيه فتجوز حيازته له. وقوله: (ولا يرجع الرجل في صدقته) مفهوم
مما تقدم. (ولا ترجع) الصدقة (إليه) أي إلى المتصدق بعد الحوز
مطلقا أعني كانت وشراء أو غيره ولا يستثنى من ذلك شئ (إلا) إذا
كانت (بالميراث) فإنه يجوز له تملكها به إذ لا تسبب منه في رجوعها
ولا تهمة فيه. (ولا بأس أن يشرب) المتصدق (من لبن ما) أي الشئ
الذي (تصدق به) كالبقرة والشاة. واستعمل لا بأس هنا لما غيره خير منه (و)
كذا (لا يشتري) المتصدق (ما) أي الشئ الذي (تصدق به) لا من
المتصدق عليه ولا من غيره، وكلامه محتمل للمنع والكراهة وهو المذهب
(والموهوب) أي الشئ الذي وهب له (ل‍) أجل أخذ (العوض) منه
(إما أثاب) أي عاوض (القيمة أو رد الهبة) تعرض هنا لهبة الثواب
554

وهي أن يعطي الرجل شيئا من ماله لآخر ليثيبه عليه، وهي عقد معاوضة
بعوض مجهول، وحكمها الجواز أي المستوي الطرفين. قال الباجي: هبة
الثواب ليست على وجه القربة، وإنما هي على وجه المعاوضة فإن الموهوب
له إما عاوض القيمة عن عين الهبة، أو ردها إذا كانت الهبة قائمة لم تفت،
يدل عليه قوله: (فإن فاتت فعليه قيمتها ذلك) أي الإثابة بالقيمية أو
رد الهبة (إذا كان يرى) بالبناء للمفعول أي يظن (أنه) أي الواهب
(أراد) بهبته (الثواب من الموهوب له) يعرف أي يظن ذلك بقرائن
الأحوال (و) من كان له ولدان فأكثر ومعه مال (يكره) له كراهة
تنزيه على المشهور (أن يهب لبعض ولده ماله كله) أو جله ويمضي ما لم يقم
عليه أولاده الآخرون فيمنعونه من ذلك فلهم رده، والأصل ما في الحديث
من قوله عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم (وأما) إذا
وهب له (الشئ) اليسير (منه فذلك سائغ) أي جائز (ولا بأس أن يتصدق
على الفقراء بماله كله لله) عز وجل وهو مقيد أيضا بما لم يمنعه ولده من
ذلك، ومقيد أيضا بما لم يمرض وأما إذا كان مريضا فتخرج من ثلثه.
(ومن وهب هبة فلم يحزها الموهوب له حتى مرض الواهب) مرضا
555

مخوفا (أو أفلس فليس له) أي للموهوب له (حينئذ) أي حين مرض
الواهب أو أفلس (قبضها) أي الهبة ومثلها الصدقة والحبس (ولو مات
الموهوب) أي الذي وهب له وكان حرا قبل قبض الهبة (كان لورثته
القيام فيها) أي الهبة (على الواهب الصحيح) غير المفلس. ثم انتقل
يتكلم على الحبس بضم الحاء وسكون الباء وهو إعطاء المنافع إما على سبيل
التأبيد، أو على مدة معينة ثم رجع ملكا وحكمه الندب لأنه من أحسن
ما يتقرب به إلى الله، والأصل في جوازه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس وعمر
بن الخطاب وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة
دورا وحوائط. (ومن حبس) وشرطه أن يكون أهلا للتصرف بأن
يكون من أهل التبرع (دارا) وكذا يجوز وقف الحيوان والعروض
ويشترط في الموقوف أن يكون مملوكا للواقف ذاتا أو منفعة ولم يتعلق به
حق لغيره وإن لم يجز بيعه كجلد الأضحية وكلب الصيد، (فهي) أي الدار
(على ما جعلها عليه) يفهم منه أنه عين الجهة الموقوف عليها. وأما لو
أوقف داره ولم يعين الشئ الموقوف عليه، فإنه يصرف في غالب مصارف
تلك البلد (إن حيزت قبل موته) هذا إذا كان الوقف على معين، فإن لم
تحز حتى مات الواقف أو أفلس بطل الوقف. أما إذا كان على غير معين
كالمسجد فلا يحتاج إلى حيازة معين، بل إذا خلى بين الناس وبين الصلاة
556

فيها صح الوقف. (ولو كانت) الدار (حبسا على ولد الصغير) الحر
(جازت حيازته له إلى أن يبلغ) فغاية الحيازة البلوغ بشرط أن يعلم
منه الرشد (وليكرها له) من غيره (ولا يسكنها فإن لم يدع سكناها)
أي لم يترك سكناها (حتى مات) أو مرض أو أفلس (بطلت). صوابه
بطل أي الحبس، وعلى ثبات التاء يحتمل الحيازة، وقيدنا الصغير بالحر
احترازا عما إذا كان عبدا، فإن سيده هو الذي يحوز له. (فإن انقرض
من حبست) الدار (عليه رجعت حبسا إلى أقرب الناس بالمحبس) سواء
كان المحبس حيا أو ميتا مثل أن يكون للمحبس أخ شقيق وأخ لأب
فيموت الشقيق ويترك ابنا ثم ينقرض من حبس عليه فإنه يرجع للأخ للأب
دون ابن الأخ الشقيق. والعبرة في رجوع الحبس على الأقرب إنما هو (يوم
المرجع) لا يوم الحبس، لأنه قد يصير البعيد يوم التحبيس قريبا يوم المرجع
المثال المذكور. (ومن أعمر رجلا حياته) أي حياة الرجل (دارا رجعت بعد
موت الساكن ملكا لربها) أو لوارثه إن مات. (وكذلك إن أعمرها عقبه)
557

أي عقب الرجل (فانقرضوا) فإنها ترجع ملكا لربها أو لوارثه إن مات.
فحقيقة العمرى في العرف أي عرف أهل الشرع هبة منافع الملك مدة
عمر الموهوب له أو مدة عمره عمر عقبه لا هبة الرقبة، ولا يتعين التقييد
بعمر الموهوب له، بل لو قيد بعمر المعمر كانت عمرى أيضا (بخلاف
الحبس) فإنه لا يرجع بعد موت المحبس عليه ملكا لربه بل يكون حبسا على
أقرب الناس بالمحبس، وإنما فارق الحبس العمرى لان الحبس تمليك الرقاب
والعمرى تمليك المنافع. (فإن مات المعمر) بكسر الميم (يومئذ كان) ما أعمره
وهي الدار (لورثته يوم موته ملكا) قال ابن عمر: يحتمل قوله يومئذ أن
يعود على يوم التعمير ويكون على هذا إنما يملكون الرقاب دون المنافع،
ويحتمل أن يعود على موت المعمر، فعلى هذا يملكون الرقاب والمنافع.
(ومن مات من أهل الحبس) المعينين (فنصيبه) يقسم (على) رؤوس (من بقي)
من أصحابه الذكور والإناث فيه سواء (ويؤثر في الحبس أهل الحاجة بالسكنى
والغلة) أي يجب على متولي الوقف على غير معين كالفقراء أن يؤثر في
قسم الحبس أهل الحاجة والعيال على غيرهم بالسكنى والغلة باجتهاده لان
قصد لواقف الارفاق، وأما لو كان على معينين فإنه يسوي بين الجميع ولا
يفضل فقير على غني. (ومن سكن) من المحبس عليهم (فلا يخرج لغيره)
558

ولو لم يجد الغير مسكنا ولا كراء ولو استغنى من سكن لأجل فقره بعد أن
سكن لأجل هذا الوصف لان العبرة بالاحتياج في الابتداء لا في الدوام،
وأيضا لا تؤمن عودته، فإن سبق غير الأحوج وسكن أخرج، فإن تساووا
في الحاجة فمن سبق بالسكنى فهو أحق. (إلا أن يكون في أصل الحبس
شرط فيمضي) أي فيجري الحبس على شرط المحبس. (ولا يباع الحبس
إن خرب بحيث صار لا ينتفع به ولو لم يرج عوده، وكذا لا يجوز بيع
أنقاضه، وهذا مقيد ما إذا لم يكن الواقف شرط للموقوف عليه بيعه وإلا
عمل بالشرط. واستثنى في المختصر المقدار الذي احتيج إليه لتوسعة المسجد
أي مسجد الجمعة لا غيره، ومثل مسجد الجمعة مقبرة المسلمين وطريقهم، لان
نفع المسجد والطريق والمقبرة أكثر من نفع الوقف، فهو غرض قريب
للواقف، ويستبدل بالثمن خلافه، فإن امتنع فلا يقضى عليه بذلك. (ويباع
الفرس الحبس يكلب) بفتح الياء واللام والكلب شئ يعتري الخيل
كالجنون (و) إذا بيع فإنه (يجعل ثمنه في) شراء فرس (آخر أو يعان
به فيه) بأن يجعل ثمنه مع شئ آخر فيشتري به فرس آخر أو يتصدق
بثمنه في الجهاد. (واختلف في المعاوضة بالربع) الحبس (الخرب بربع
غير خرب) حمله بعضهم على ظاهره بأن يعاوض الربع الخرب بربع
559

غير خرب فيدفعه بعينه في الربع الصحيح وحمله آخر على أنه يباع
الربع الخرب ويشترى بقيمته صحيحا فيصير ما كان حبسا غير حبس،
وما ليس بحبس حبسا فالمباع يكون غير حبس والمشترى يكون حبسا قائلا
هو البين اه‍ من التتائي. والربع بفتح الراء الدار بعينها حيث كانت
وجميعها رباع وربوع وأرباع وأربع كذا في التنبيه. ثم انتقل يتكلم على
الرهن وبدأ بحكمه فقال: (والرهن جائز) حضرا وسفرا وإنما خص
السفر في قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة)
* (البقرة: 283) لغلبة فقدان الكاتب الذي هو البينة فيه، وقد رهن عليه الصلاة والسلام
درعه، وهو بالمدينة فدل ذلك على الجواز حضرا (ولا يتم) الرهن (إلا
بالحيازة) ظاهره أنه يصح قبل القبض، لكن لا يختص المرتهن به عن
الغرماء إلا بالقبض، قال ابن الحاجب: فإن تراخى إلى الفلس أو الموت بطل
اتفاقا. (ولا تنفع الشهادة في حيازته إلا بمعاينة البينة) قال ابن عمر: هذا
فيما يبان وينقل، وأما إذا رهنه ما لا يبان ولا ينقل، فإن الشهادة تنفع فيه
على إقرارهما. (وضمان الرهن) أي المرهون (من المرتهن) بكسر الهاء
آخذ الرهن ما لم يكن بيد أمين، فإنه من الراهن، وهو دافع الرهن، وإنما
يلزم المرتهن الضمان (فيما يغاب عليه) كالحلي إلا أن تقوم بينة على هلاكه
فلا يضمن. (ولا يضمن ما لا يغاب عليه) كالدور والحيوان على المشهور.
ولو شرط المرتهن نفي الضمان فيما يغاب عليه، أو اشترط الراهن الضمان على
560

المرتهن فيما لا يغاب عليه ويحلف المتهم لقد ضاع ولا فرطت ولا ضيعت ولا
تعديت ولا أعرف موضعه، وغير المتهم لا يحلف إلا على عدم التفريط
خاصة لأنه لا يتهم في إخفائه. (وثمرة النخل الرهن للراهن) وهو دافع
الرهن كانت الثمار موجودة أو معدومة حين الرهن مأبورة أو لا، إلا أن
يشترط ذلك المرتهن، فإنها تدخل على أي حالة كانت. (وكذلك غلة الدور)
للراهن على المشهور إلا أن يشترط المرتهن ذلك فيكون له. (والولد رهن
مع الأمة الرهن تلده بعد الرهن) ولو شرط عدم دخول الولد في الرهن
لم يجز، وحينئذ يكون الرهن باطلا. (ولا يكون مال العبد رهنا معه إلا
بشرط) كان ماله معلوما أو مجهولا لان رهن الغرر جائز. (وما هلك بيد
أمين) مما يغاب عليه (فهو من الراهن) دون الأمين لأنه لا ضمان على
الأمين. ثم انتقل يتكلم على العارية بتشديد الياء، وقد عرفها ابن الحاجب
بأنها تمليك منافع العين بغير عوض، وحكمها الندب، وتتأكد في القرابة
والجيران والأصحاب، والأصل فيها قوله تعالى: * (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) *
(الحج: 77) وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام استعار من صفوان درعه فقال
أغصبا يا محمد، فقال: لا بل عارية مضمونة وإلى هنا أشار الشيخ بقوله:
(والعارية مؤداة) ثم فسر ذلك بقوله: (يضمن ما يغاب عليه) إلا إذا
قامت بينة على هلاكه، فإنه لا يضمن على المشهور لأن الضمان للتهمة وهي
561

تزول بالبينة. (ولا يضمن ما لا يغاب عليه من عبد أو دابة) قال ابن عمر:
وعليه اليمين متهما كان أو غير متهم، ولو شرط المعير الضمان على المستعير
لا ينفعه ذلك، وكذلك لو شرط المستعير على المعير عدم الضمان مما فيه
الضمان لا ينفعه، وعليه الضمان على أحد قولي ابن القاسم وأشهب، ولهما أيضا
ينفعه ويعمل بالشرط لان العارية باب معروف أي وإسقاط الضمان من
المعروف. ثم استثنى مما لا ضمان فيه صورة فقال (إلا أن يتعدى) المستعير
فيضمن. ووجوه التعدي كثيرة منها الزيادة في الحمل والزيادة في المسافة،
وكذلك يضمن في صورة أخرى وهي أن يتبين كذبه كما إذا قال: تلفت
في موضع كذا ولم يسمع أحد من الرفقة بتلفها. ثم انتقل يتكلم على
الوديعة من الودع وهو الترك، قال تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) * (الضحى: 3) أي ما ترك
عادة إحسانه في الوحي إليك، وهي في الاصطلاح مال كل على حفظه ويجب
رده مهما طلب المالك، وانتفى العذر، ويصدق في ردها إلى المودع بالكسر
إلا أن يقبض ذلك ببينة فلا يبرأ إلا ببينة، وإلى ذلك أشار بقوله: (والمودع)
بفتح الدال (إن قال رددت الوديعة إليك صدق إلا أن يكون قبضها
بإشهاد) فلا يبرأ إلا بإشهاد على ردها لأنه حين أشهد عليه لم يكتف
بأمانته، ولا بد أن تكون البينة مقصودة للتوثق وبذلك قيد غير واحد
المدونة فلا تعتبر البينة إلا إذا قال: اشهدوا بأني استودعته كذا وكذا.
وظاهر قوله: صدق، أنه لا يمين عليه، وعزوا للمدونة أن عليه اليمين. (وإن قال)
562

المودع بفتح الدال (ذهبت) بمعنى تلفت الوديعة (فهو مصدق بكل حال)
قبضها بإشهاد أو لا، ويحلف المتهم دون غيره على المشهور. وقيل: يحلف المتهم
وغيره، وصدر به ابن عمر، قاله التتائي. وقوله: (والعارية لا يصدق في هلاكها فيما
يغاب عليه) تكرار لأنه داخل في قوله: والعارية مؤداة. (ومن تعدى على
وديعة ضمنها) وأوجه التعدي أشياء كثيرة منها الايداع عند الغير لغير عذر
في السفر والحضر والسفر بها من غير عذر، والانتفاع بها فتهلك، وإليه يشير
قول الشيخ: (وإن كانت) الوديعة (دنانير أو دراهم) مربوطة أو
مختومة فتسلفها أو بعضها (فرد مثلها (في صرتها ثم هلكت) الوديعة
(فقد اختلف في تضمينه) فقيل عليه الضمان لأنه متعد في حلها، وقيل
لا ضمان عليه، وبه أخذ ابن القاسم وغيره وشهره، قال في التوضيح: وعليه
فلا يصدق إلا بيمين. (ومن اتجر بوديعة فذلك مكروه والربح له) أي
والخسارة عليه لأنه ضامن، وقوله: (إن كانت عينا) قيد في قوله وذلك مكروه
تقدير كلامه ومن اتجر بوديعة فذلك مكروه إن كانت عينا، قاله الأقفهسي.
(وإن باع) المودع (الوديعة وهي عرض فربها مخير في) أخذ (الثمن)
563

الذي باعها به، (أو) في أخذ (القيمة يوم التعدي) هذا إذا فاتت السلعة
وأما إن كانت قائمة فهو مخير بين رد البيع وأخذ السلعة وبين أخذ الثمن
الذي بيعت به. ثم انتقل يتكلم على اللقطة قال: (ومن وجد لقطة) بضم
اللام وفتح القاف ما يلتقط (فليعرفها سنة) وجوبا على الفور، فلو توانى
حتى ضاعت ثم جاء ربها ضمنها، قاله التتائي، وإنما وجب تعريفها لامره عليه
الصلاة والسلام بذلك، ففي الموطأ أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله
عن اللقطة فقال: أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة الخ الحديث.
والتعريف سنة مختص بالكثير، وأما التافه الذي لا تلتفت إليه النفوس
وهو ما دون الدرهم الشرعي كما قاله أبو الحسن شارح المدونة فلا يعرف،
وما فوق التافه دون الكثير فيعرف أياما هي مظنة طلبه، وأما ما يفسد
بالتأخير كالفاكهة فيختص به الملتقط ولا يعرفه، والتعريف يكون (بموضع
يرجو التعريف بها) أي ثمرة التعريف وهو الموضع الذي التقطت فيه.
وإذا عرفها لا يذكر جنسها بل يذكرها بأمر عام بأن يقول: من ضاع له
شئ (فإن تمت سنة ولم يأت لها أحد فإن شاء حبسها وإن شاء تصدق
بها) عن نفسه أو عن ربها (و) إذا تصدق بها (ضمنها لربها إن جاء)
وإن وجدها ربها قائمة أخذها. (وإن انتفع) الملتقط (بها) أي باللقطة
564

(ضمنها) إن تلفت. وأما إن لم يحصل تلف فإنما يلزمه كراؤها لصاحبها إن
كان مثله يكري الدواب. (وإن هلكت قبل السنة أو بعدها بغير تحريك)
أي تعد وتفسير التحريك بالتعدي إشارة إلى أنه ليس المراد مطلق التحريك،
إذ قد يكون التحريك مأذونا فيه كما إذا كان للعلف مثيلا (لم يضمنها)
لأنها أمانة عنده (وإذا عرف طالبها) أي اللقطة (العفاص) بكسر العين
وبالفاء والصاد المهملة وهو الوعاء الذي تكون فيه النفقة (والوكاء)
بالمد وهو الخيط الذي يشد به الوعاء (أخذها) ظاهر كلامه أنه لا بد من
مجموع الامرين وليس كذلك، بل أحدهما كاف لأنه قد ينسى الآخر.
وظاهره أيضا أن معرفة عدد الدراهم والدنانير لا تشترط، وهو كذلك عند
أصبغ، واعتبر ذلك ابن القاسم وأشهب، والمعتمد ما عليه الامام أصبغ وغلة
اللقطة في مدة التعريف للملتقط. (ولا يأخذ الرجل ضالة الإبل من الصحراء)
ولا يلحق بضالة الإبل الخيل والحمير، بل هي داخلة في اللقطة فلواجدها
أخذها (وله) أي للرجل (أخذ الشاة وأكلها إن كانت بفيفاء) وهي
الصحراء التي (لا عمارة فيها) ولا ضمان إليه أكلها في الصحراء أو العمران
لكن إن أتى بها إلى العمران وهي حية فعليه تعريفها لأنها صارت
كاللقطة. ثم انتقل يتكلم على ما تبرع به في الباب فقال: (ومن استهلك عرضا
565

فعليه قيمته) على المشهور ومقابله ما حكى الباجي عن مالك بأن له قولا
بأن جميع المتلفات مثلية كقول أبي حنيفة والشافعي، وعلى المشهور من
اعتبار القيمة فبموضع الاستهلاك سواء كان عمدا أو خطأ إذ العمد والخطأ
في أموال الناس سواء. (وكل ما يوزن أو يكال) أو يعد مما لا تختلف آحاده
كالبيض (فعليه مثله) في الموضع الذي استهلكه فيه. ثم انتقل يتكلم
على ما ختم به الترجمة وهو الغصب ومعناه اصطلاحا أخذ مال قهرا تعديا
بلا حرابة، وحكمه الحرمة ما ورد في شأنه من الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية من الآيات * (إن الله لا يحب المعتدين) * (البقرة: 190، المائدة: 87) ومن الأحاديث ما في الصحيحين
من قوله عليه الصلاة والسلام: من أخذ شبرا من أرض ظلما فإنه يطوقه
يوم القيامة من سبع أرضين ومن أحكامه الضمان، وإليه أشار بقوله:
(والغاصب ضامن لما غصب) قال القرافي: وهو أي الغاصب كل آدمي يتناوله
عقد الاسلام أو الذمة لقوله عليه الصلاة والسلام: على اليد ما أخذت حتى
ترده أي ملزمة بدفعه إن كان باقيا أو قيمته أو مثله إن فات، والمراد ذي
اليد والمشهور أن الضمان يعتبر حالة الغصب إن فات المغصوب (فإن)
لم يفت (رد) الغاصب (ذلك) المغصوب (بحاله) إن لم يتغير في بدنه
(فلا شئ) أي لا قيمة (عليه) إنما يلزمه الأدب التوبة والاستغفار
من إثم الاغتصاب (وإن تغير) المغصوب بنقص في ذاته بأمر سماوي حالة
كونه (في يده) أي يد الغاصب (فربه مخير بين أخذه بنقصه) من غير
566

أرش العيب (أو تضمينه) أي الغاصب (القيمة) يوم الغصب (ولو كان
النقص) في المغصوب (بتعديه) أي الغاصب (خير) المغصوب منه (أيضا
في أخذه وأخذ) أي مع أخذ (ما نقصه) قال الفاكهاني: أو تضمينه القيمة
يوم التعدي وعن أشهب وابن القاسم في أحد قوليه إنما له أخذ القيمة أو
أخذه ناقصا ولا شئ له معه، وإلى هذا الخلاف أشار بقوله: (وقد اختلف
في ذلك). ثم شرع يبين غلة المغصوب لمن هي فقال: (ولا غلة للغاصب ويرد
ما أكل من غلة أو انتفع) ظاهره وجوب رد الغلة مطلقا سواء كان
المغصوب ربعا أو حيوانا أو رقيقا أو غير ذلك، وهي رواية أشهب وابن
زياد عن مالك، قال الفاكهاني: وظاهر الكتاب اختصاص الضمان بغلة
الرباع دون الرقيق والحيوان، وهو قول ابن القاسم في المدونة. (وعليه)
أي الغاصب (الحد إن) ثبت ببينة أو إقرار أنه (وطئ الأمة) لأنه زان
لا شبهة له البتة (وولده رقيق لرب الأمة) لان كل ولد نشأ عن زنا أو
أو عقد نكاح تابع لامه في الملك (ولا يطيب لغاصب المال ربحه حتى
يرد رأس المال على ربه) قال الفاكهاني: يعني إذا غصب مالا فاتجر فيه
ونما في يده وتعلق بذمته كان الربح له كما أن الضمان عليه، ولكنه مكروه
567

لكونه نشأ عن مال لم يطب قلب صاحبه بتقلبه فيه فإذا رد رأس المال
على وجهه واستحل من ربه جاز له وطاب بطيب نفس رب المال. (ولو
تصدق) الغاصب (بالربح كان أحب إلى بعض أصحاب مالك) وهو الامام
أشهب لعل التصدق به يكون كفارة لما اقترفه من إثم الغصب لما في الحديث من
قوله صلى الله عليه وسلم: الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (وفي باب الأقضية
شئ من هذا المعنى) أي مسائل الغصب، والله أعلم.
باب في أحكام الدماء (باب في) بيان (أحكام الدماء) من قود ودية وقصاص ونحو ذلك
كالغرة (و) في بيان أسباب (الحدود) كالزنى والقذف والشرب والسرقة.
والحدود جمع حد، وهو لغة المنع شرعا ما وضع لمنع الجاني من عوده لمثل
فعله وزجر غيره. (ولا تقتل نفس) مكافئة (بنفس) مكافئة لها في الحرية
والاسلام والعصمة (إلا) إذا ثبت القتل بأحد أمور ثلاثة إما (ببينة
عادلة أو اعتراف) أي إقرار (أو بالقسامة) أي الايمان، ويشترط في القتل
بها شروط وهي ما أشار إليه بقوله: (إذا وجبت) أي القسامة بأن يكون
القاتل عاقلا بالغا مكافئا للمقتول في الدين والحرية غير أب، واتفق الأولياء
على القتل وأن يكون الحالف اثنين فصاعدا، وأن يكون مع الأولياء لوث
568

أي قرينة تقوي جانب المدعي ويغلب على الظن صدقه كأن يرى العدل
المقتول يتخبط في دمه والمتهم بقربه وعليه أثر القتل، أي كتلطخه بدمه
والمدية بيده. وكيفية القسامة أنه (يقسم) أي يحلف (الولاة) ويشترط
فيهم أن يكونوا عصبة المقتول ورثوه أم لا، فإن كانوا خمسين حلفوا
(خمسين يمينا) كل واحد يحلف يمينا بتا واحدة بالله الذي لا إله إلا هو
أن فلانا قتله أو مات من ضربه (ويستحقون الدم) لما في الموطأ من
قوله صلى الله عليه وسلم: أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون م صاحبكم (ولا يحلف في
العمد أقل من رجلين) عصبة لان أيمان الأولياء أقيمت مع اللوث مقام
البينة، وكما لم يكتف في البينة بشهادة واحد فكذلك هنا لا يكتفى في الايمان
واحد (و) إذا كان المدعى عليهم جماعة ف‍ (- لا يقتل بالقسامة أكثر من
رجل واحد) يقسمون عليه وقيل يقسمون على الجميع ثم يختارون واحدا
منهم يقتلونه. (وإنما تجب القسامة بقول الميت) في مرضه (دمي عند فلان)
لم يختلف في هذا قول مالك وجميع أصحابه أنه لوث في العمد يوجب القسامة
والقود، (أو بشهادة) واحد (على) معاينة (القتل) فإذا شهد العدل
بمعاينة القتل يقسم الولاة مع شهادته ويستحقون الدم (أو بشاهدين على
الجرح ثم يعيش بعد ذلك) أي أن يشهد الشاهدان على معاينة الجرح
569

بالفتح لان المراد الفعل بل والضرب، أي أو يشهدا على معاينة الضرب،
وكذا يعد لوثا شهادة العدل الواحد على معاينة الجرح أو الضرب عمدا
أو خطأ أو على إقرار المقتول أن فلانا جرحه أو ضربه فيقسم الولاة أنه
من ذلك الجرح أو الضرب مات. أما إن مات بفوره أو أنفذت مقاتله فإنه
يقتل به بلا قسامة. وقوله: (ويأكل ويشرب) ليس بشرط بل المقصود
تأخير الموت بعد معاينة البينة للجرح أو الضرب يوما فصاعدا ولو لم يأكل
ولم يشرب (وإذا نكل) بفتح الكاف بمعنى رجع (مدعو الدم) كلهم
أو بعضهم عن اليمين في العمد، وكانت القسامة وجبت بقول المقتول أو
بشاهد على القتل (حلف المدعى عليهم خمسين يمينا) ويحلف المتهم معهم،
فحلف المتهم معهم قرينة على جعل عصبة المدعى عليه الذي يستعين بهم
مدعى عليهم. (فإن لم يجد من يحلف من ولاته معه غير المدعى عليه وحده
حلف الخمسين) يمينا وبرئ، فإن نكل حبس حتى يحلف فلا يخرج من
السجن إلا إذا حلف (ولو ادعى القتل على جماعة) قال الأقفهسي: يريد
وقد نكل مدعو الدم (الف كل واحد) من المدعى عليهم (خمسين يمينا)
لان كل واحد من الجماعة مدعى إليه فلا يبرأ إلا بخمسين يمينا. (ويحلف
570

من الولاة في طلب الدم خمسون رجلا خمسين ومينا) قال الأقفهسي: هذا
قول عبد الملك إنه لا يجوز أن يحلف اثنان مع وجود أكثر. (وإن كانوا
أقل) من خمسين رجلا اثنين فصاعدا (قسمت عليهم الايمان) فالاثنان
يحلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا (ولا تحلف امرأة في العمد)
كان معها ذكر أم لا لان استحقاق الدم في القسامة شرطه الذكورية فإن
انفردت النسوة يصير المقتول بمنزلة من لا وراث له فترد الايمان على المدعى
عليه (وتحلف الورثة في الخطأ بقدر ما يرثون من الدية من رجل أو
امرأة) فالاثنان يحلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا والثلاثة
الواجب على كل واحد ستة عشر يمينا وثلثان، ويجبر كل واحد منهم الكسر
الذي صار إلى حصته، فيحلف كل واحد سبعة عشر يمينا (وإن انكسرت
يمين عليهم حلفها أكثرهم نصيبا منها) أي من اليمين المنكسرة فلو ترك
ابنا وبنتا فالمسألة من ثلاثة للذكر ثلاثة وثلاثون وثلث وللبنت ستة عشر
وثلثا اليمين المنكسرة، فقد خص البنت من اليمين المنكسرة أكثر من
الابن فتحلف البنت سبعة عشر يمينا. (وإذا حضر بعض ورثة دية الخطأ)
571

وغاب البعض (لم يكن له) أي لمن حضر (بد) بضم الموحدة وشد
المهملة أي مهرب (أن يحلف جميع الايمان) الخمسين عند مالك وإلا
لم يستحق من الدية شيئا (ثم يحلف من يأتي) أي يجئ ممن كان غائبا
(بعده بقدر نصيبه من الميراث) ولا يجتزى بيمين من حضر قبله قال
الفاكهاني: لان من شرط أخذ هذا المال حصول الايمان، فإذا حلف الحاضر
استحق نصيبه منه، والآتي بعد ذلك من الورثة يحلف ما ينوبه من الايمان
ويأخذ نصيبه، ولا يحلف الكل لتقدم حلف الحاضر كل الايمان (ويحلفون
في القسامة) وغيرها من الحقوق المالية (قياما) على المشهور ردعا لهم
وزجرا لعل المبطل يرجع للحق، وظاهر كلامه أنه لا يغلظ عليهم بالزمان
وإنما يغلظ عليهم بالمكان، وإليه أشار بقوله: (ويجلب الحالف إلى مكة)
المشرفة (وإلى المدينة) على ساكنها وفضل الصلاة والسلام (و) إلى
(بيت المقدس أهل أعمالها) نائب فاعل يجلب والمعنى أنه يجلب لهذه
الأماكن المشرفة أهل طاعة هذه الأماكن للقسامة تغليظا عليهم، ولو كان
بينه وبين هذه الأماكن زمن طويل نحو عشرة أيام لأنه أدرع للكاذب
لشرفها (ولا يجلب في غيرها) أي إلى غير هذه الأماكن الثلاثة (إلا
من الأميال اليسيرة) أي إلا أن يكون الجلب من الأميال اليسيرة وحدها
572

بعضهم بثلاثة وبعضهم بعشرة (ولا قسامة في جرح) يعني إذا جرح شخص
شخصا ولم تقم له بينة لا يقسم استحق القصاص في العمد والدية في الخطأ
أي فإذا قامت له بينة شاهدان فالدية في الخطأ والقصاص في العمد، وإذا لم
يشهد به إلا واحد فإنه يحلف مع الشاهد يمينا واحدة وتؤخذ الدية في
الخطأ، ويقتص في العمد، فإن لم يحلف المدعي برئ الجارح إن حلف
وإلا حبس في جرح العمد وغرم في الخطأ. (و) كذا (لا) قسامة (في)
قتل (عبد) لأنه أخفض رتبة من الحر، فإذا ثبت أن فلانا قتله بشاهدين
غرم قيمته في العمد والخطأ بلغت ما بلغت، ويضرب مائة، ويسجن سنة.
(و) كذا (لا) قسامة (بين أهل الكتاب) ليس ظاهر العبارة مرادا
وهو أن القاتل والمقتول كافران، وإنما المراد أن الذمي إذا وجد منفوذ
المقاتل وهو يقول دمي عند فلان المسلم، وشهد على إقراره عدلان فإنه لا قسامة
فيه، وإنما يغرم ديته في العمد من ماله ومع العاقلة في قتل الخطأ، فإن لم يكن إلا دعوى
ولي الكافر على المسلم فلا يلتفت إليه. (و) كذا (لا قسامة) ولا دية (في
قتيل وجد بين الصفين) المسلمين إذا كانت الطائفتان متأولتين بأن ظنت
كل طائفة جواز قتالها للأخرى لكونها أخذت مالها مثلا، فمن مات منهما
فدمه هدر (أو) قتيل (وجد في محلة) أي دار (قوم) وهذا حيث كان
المحل الذي وجد فيه المقتول مطروقا لمرور الناس فيه غير أهله، وأما لو كان لا يمر
فيه إلا أهله ووجد فيهم شخص مقتول من غيرهم فإنه يكون لوثا. (وقتل
الغيلة) وهي قتل الانسان لاخذ ماله (لا عفو فيه) أي لا يجوز العفو فيه أو لا
عفو فيه نافذ، ولو كان المقتول كافرا والقاتل حرا مسلما لان قتله على هذا الوجه في
573

معنى المحاربة والمحارب بالقتل يجب قتله ولو بعبد والكافر وإنما لم يجز العفو
فيها لأنها حق الله تعالى، وعلى هذا فهو مقتول حدا لا قودا. (وللرجل
العفو عن دمه) أي عن دم نفسه (العمد) إذا عفا بعد ما وجب له
لدم مثل أن يعفو بعد إنفاذ مقاتله، ولا كلام للأولياء إذا. وقوله: (إن
لم يكن تل غيلة) تكرار (وعفوه) أي الرجل المقتول (عن) دم نفسه
(الخطأ) كائن (في ثلثه) لان الدية مال من أمواله، فللورثة أن يمنعوه
من الزائد على الثلث لأنه في هذه الحالة محجور عليه (وإن عفا أحد البنين)
بعد ثبوت الدم وكان بالغا (فلا قتل) لان الدم لما لم يتبعض كان سقوط بعضه
يوجب سقوط جميعه، وإذا ثبت سقوط القتل بعفو بعض البنين سقط نصيبه
وحده (و) يثبت (لمن بقي) من البنين (نصيبهم من الدية ولا عفو للبنات مع
البنين) أي ولا للأخوات مع الاخوة، وإنما العفو والاستيفاء للعاصب دون من
معه من الإناث المتساويات (ومن عفي عنه في العمد) أو تعذر منه القصاص
لعدم التكافؤ كالمسلم يقتل الكافر (ضرب مائة) أي مائة سوط (وحبس
عاما) وعلى ذلك مضى عمل السلف رضوان الله عليهم أجمعين. (والدية)
واحدة الديات مأخوذة من الودي وهو الهلاك، يقال: أودى فلان إذا هلك
فلما كانت تلزم من الهلاك سميت بذلك وهي اصطلاح مال يجب بقتل
574

آدمي حر عوضا عن دمه، فما وجب في قتل غيره يقال فيه قيمة وكذا
ما وجب في قتل الرق يقال له قيمة أيضا، إنما وجبت الدية لقوله تعالى: * (ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) * (النساء: 92) وهي مختلفة
الجنس بحسب الجاني ف‍ (على أهل الإبل) وهم أهل البادية والعمود (مائة
من الإبل) مخمسة (وعلى أهل الذهب) كأهل مصر والشام (ألف دينار)
(وعلى أهل الورق) كأهل العراق (اثنا شر ألف درهم) وأخذ من
كلامه أن الدية لا تكون إلا من هذه الأجناس الثلاثة، وهو كذلك على
المشهور فلا تكون من البقر ولا من الغنم ولا من العروض (ودية
العمد) إذا قبلت بأن حصل عفو عليها أو تعذر القصاص لفقد المماثلة
تكون مربعة من كل سن من الأسنان (خمس) وفي رواية خمسة
(وعشرون حقة) وهي بنت أربع سنين (وخمس وعشرون جذعة)
وهي بنت خمس سنين (وخمس وعشرون بنت لبون) وهي بنت
ثلاث سنين (وخمس وعشرون بنت مخاض) وهي بنت سنتين (ودية
الخطأ مخمسة عشرون من كل ما ذكرنا) من الحقة والجذعة وبنت اللبون
وبنت المخاض، (و) يزاد على ذلك (عشرون بنو لبون ذكورا) فدية
575

العمد ناقصة عن دية الخطأ بالنسبة إلى الأنواع، وإن كانت في العدد واحدة.
(وإنما تغلظ الدية في الأب يرمي ابنه بحديدة) ونحوها غير قاصد بذلك
قتله (فيقتله فلا يقتل به) لحرمة الأبوة، أما إذا كان ثم قرينة تدل على
أنه أراد قتله حقيقة فإنه يقتل به على المشهور. (و) اختلف فيمن تكون
عليه الدية على أقوال مشهورها أنها (تكون عليه) أي على القاتل أبا
أو غيره حالة غير مؤجلة، فإن كان له مال وقتئذ أخذت منه وإلا انتظر يسره
(وهي ثلاثون جذعة وثلاثون حقة وأربعون خلفة) بكسر اللام المخففة
وهي الحوامل وقوله (في بطونها أولادها) تكرار زيادة في البيان (وقيل
ذلك) أي الدية المغلظة (على عاقلته) ابن العربي قبيلته التي تعقل عنه
والعقل الدية (وقيل ذلك في ماله) إن كان له مال وإلا فعلى عاقلته. (و)
أما (دية المرأة) الحرة المسلمة ف‍ (على النصف من دية الرجل) الحر
المسلم فديتها خمسون من الإبل مخمسة أو مربعة على حسب القتل في الخطأ
والعمد فإن كانت مغلظة تكون مثلثة ستة عشر وثلثا بعير من كل جنس،
ومن الذهب خمسمائة دينار، ومن الورق ستة آلاف درهم. (وكذلك دية
الكتابيين) وهم اليهود والنصارى نصف دية رجال المسلمين لما في النسائي
576

أنه صلى الله عليه وسلم قال: عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين (ونساؤهم) أي نساء
الكتابيين. (على النصف من ذلك) أي من نصف دية رجالهم (والمجوسي)
وهو مليس بكتابي (ديته ثمانمائة درهم) إن كان من أهل الورق، وعلى هذه
النسبة تكون ديته من الذهب والإبل فتكون على أهل الذهب ستة
وستين دينارا وثلثي دينار وعلى أهل الإبل ستة أبعرة وثلثي بعير (ونساؤهم)
أي نساء المجوس (على النصف من ذلك) أي على النصف من دية
رجالهم (ودية جراحهم كذلك) أي دية جراح نساء المجوس على النصف
من دية رجالهم وجمع النساء بالميم باعتبار الأشخاص. (وفي اليدين) أي
قطع مجموعهما (الدية) كاملة (وكذلك في) مجموع قطع (الرجلين)
الدية كاملة (أو) أي وكذا في مجموع قلع (العينين) الدية كاملة (وفي
كل واحدة منها) أي مما ذكر من اليدين والرجلين والعينين (نصفها)
أي نصف الدية. قال ابن عمر: هذا في الخطأ وأما في العمد، فإنه يقتص
من الجاني. (وفي الانف يقطع مارنه) وهو ما لان من الانف (الدية)
كاملة، وإذا قطع بعض المارن بحسابه (وفي) إبطال (السمع) من
الاذنين (الدية) كاملة وفي إبطاله من أحدهما نصف الدية، ولو لم يكن يسمع
577

إلا بها. (وفي العقل) إذا أزاله بالضرب (الدية) وإذا أزاله بقطع يديه ديتان
دية له ودية لهما. (وفي الصلب ينكسر لدية) كاملة (وفي) قطع (الأنثيين)
دون الذكر (الدية) وفي قطعهما مع الذكر ديتان. (وفي) قطع الحشفة
وحدها (الدية) كاملة. (وفي) قطع (اللسان الدية) كاملة (وفيما منع
منه) أي من اللسان (الكلام الدية) كاملة يعني أن من قطع من
شخص بعض لسانه الناطق ومنع ذلك نطقه ففيه الدية كاملة لأنها للنطق
لا للسان، وفي لسان الأخرس حكومة، ومعنى الحكومة أن يقوم المجني
عليه عبدا سالما بعشرة مثلا ثم يقوم بالجناية بتسعة، فالتفاوت بالعشر فيجب
عشر الدية. (وفي) قطع (ثديي المرأة الدية) كاملة سواء كان القطع من
أصلهما أو من حلمتيهما (وفي عين الأعور الدية) في الخطأ وسيأتي إذا كان
عمدا. (وفي الموضحة) بكسر الضاد المعجمة (خمس من الإبل) في الخطأ
وفي عمدها القصاص. (وفي) قلع (السن) ومثل القلع تصييرها مضطربة
جدا وسواء كانت من مقدم الفم أو مؤخره (خمس من الإبل وفي)
قطع (كل أصبع) من أصابع اليدين أو الرجلين في الخطأ عشر من الإبل،
وأما في العمد ففيه القصاص. (وفي) قطع (الأنملة) بفتح الهمزة والميم
578

(ثلاث وثلث) لان في كل أصبع ثلاث أنامل هذا في حال الخطأ. وأما
في العمد فالواجب القصاص. (وفي) قطع (كل أنملة من الابهامين خمس
من الإبل) سواء كانت من إبهام الرجل أو اليد (وفي المنقلة) بكسر
القاف المشددة (عشر ونصف عشر) وذلك خمسة عشر من الإبل والعمد
والخطأ فيها سواء إذ لا قصاص فيها لأنها من التالف. (والموضحة) بكسر
الضاد (ما أوضح) أي أظهر (العظم) وأزال الساتر الذي يحجبه وهو
الجلد وما تحته من اللحم، وهي لا تكون إلا في الرأس والجبهة والخدين، ولا
يشترط في تسميتها موضحة أن توضح ما له قدر وبال بل لو أوضحت مقدار
إبرة كفى في تسميتها موضحة. (والمنقلة ما طار فراشها) بفتح الفاء وكسرها
(من العظم ولم تصل إلى الدماغ) من بيانية، أي الفراش الذي هو العظم
ولم تصل تلك الجراحة إلى الدماغ (وما وصل إليه) أي إلى الدماغ ولو
بقدر إبرة، ويبقى على الدماغ جلدة رقيقة متى انكشفت عنه مات (فهي
المأمومة) ولا تكون إلا في الرأس والجبهة ثم بين حكمها بقوله: (ففيها
ثلث الدية) فعلى أهل الإبل ثلاثة وثلاثون دينارا وثلث بعير، وعلى أهل الذهب
ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار، وعلى أهل الورق أربعة آلاف
درهم. (وكذلك الجائفة) وهي ما أفضت إلى الجوف ولا تكون إلا في
579

الظهر فواجبها ثلث الدية (وليس فيما دون) أي أقل من (الموضحة إلا
الاجتهاد) أي الحكومة، وصفتها أنه يقوم عبدا سالما من ذلك الجرح على
صفته فهي هو عليها يوم الجناية بعشرة مثلا، ثم يقوم ثانيا معيبا بتسعة
فالتفاوت بين القيمتين بالعشر فيجب على الجاني بتلك النسبة من الدية
وهو عشرها (وكذلك) وليس فيما دون الجائفة في الخطأ (في جراح
الجسد) إلا الاجتهاد أي الحكومة التي سلف بيانها. (ولا يعقل جرح)
أي لا تؤخذ ديته (إلا بعد البرء) لأنه لا يعلم هل الواجب الدية كاملة أم لا
ولا يقتص منه إلا بعد البرء، قاله الأقفهسي. (وما برئ) منها (على غير
شين) أي عيب (مما دون الموضحة) وكذا ما دون الجائفة مما لا عقل فيه
يسمى (ف‍) إنه (لا شئ) على الجاني من عقل وأدب وأجرة طبيب.
مفهوم كلامه أن ما برئ على شين فيه شئ وهو ما تقدم من قوله وليس
فيما دون الموضحة إلا الاجتهاد. (وفي الجراح القصاص في العمد إلا في
المتالف مثل المأمومة والجائفة المنقلة والفخذ والأنثيين والصلب ونحوه)
كعظم الصدر (ففي كل ذلك الدية) يعني أن ما كان من الجراحات التي
يغلب فيها الموت سريعا كرض الأنثيين وكسر عظم الصدر وعظم الصلب
580

ففي عمد ذلك الدية أي عقله المقدر فيه أما الدية كاملة إذا كانت الجناية
موجبة لكمال الدية ككسر عظم الصدر أو العنق أو الصلب أو ثلث
الدية أو عشرها أو نصف العشر على ما تقدم من البيان. (ولا تحمل العاقلة
قتل عمد ولا اعترافا به) يعني أن العاقلة لا تحمل دية عمد سقط فيه
القصاص بعفو أو غيره من المسقطات، وحينئذ تكون حالة في مال الجاني، وإنما
لم تحملها العاقلة لاحتمال التواطؤ بين القاتل وولي المقتول (وتحمل من جراح
الخطأ ما كان قدر الثلث فأكثر وما كان دون مال الجاني ففي مال الجاني)
وحد العاقلة الذين يحملون الدية سبعمائة رجل ينتسبون إلى أب واحد، وسميت
بذلك لأنهم يعقلون أي يحملون عنه (وأما المأمومة والجائفة عمدا فقال)
إمامنا (مالك) رحمه الله (ذلك على العاقلة، وقال أيضا: إن ذلك في ماله إلا أن
يكون عديما فتحمله العاقلة لأنهما لا يقاد من عمدها) والأول هو المشهور
(وكذلك ما بلغ ثلث الدية مما لا يقاد منه) ففيه الخلاف المذكور (لأنه
متلف) أي لا يقاد منه لخوف تلف النفس. (ولا تعقل العاقلة من قتل
581

نفسه عمدا أو خطأ) وهو هدر لا شئ فيه لقوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا
خطأ) * (النساء: 92) الآية فأوجب الدية على من قتل غيره فدل على أنها لا تجب بقتل
الانسان نفسه. (وتعاقل) أي تساوي (المرأة الرجل) من أهل ديتها (إلى
ثلث دية الرجل) فتأخذ في أطرافها مثل ما يأخذ الرجل إلى أن تبلغ ثلث
دية الرجل والغاية خارجة. (فإذا بلغتها) صوابه بلغته لان الثلث مذكر
لكنه أنث باعتبار اكتساب التأنيث من المضاف إليه (رجعت) أي
ردت (إلى عقلها) أي ديتها، فإذا قطع لها ثلاثة أصابع ففيها ثلاثون بعيرا
لمساواتها للرجل فيما يقصر عن ثلث ديته، وإذا قطع لها أربعة أصابع ففيها
عشرون بعيرا لأنها لو ساوته لزم أن يجب لها أربعون، وذلك أكثر من
ثلث ديته فلذلك رجعت إلى نصف الواجب للرجل وهو عشرون وعلى
هذا إجماع أهل المدينة. (والنفر) هو واللغة من ثلاثة إلى تسعة وعند
الفقهاء الجماعة (يقتلون رجلا فإنهم يقتلون به) جميعا إذا تمالؤوا على قتله
أي اجتمعوا عليه. (والسكران) بمحرم شربه كخمر عالما بحرمته قاصدا
شربه لأنه أدخل السكر على نفسه فلا يعذر، وأما لو أتى له السكر من
طريق الدواء فإنه يعذر (إن قتل قتل) أي إن قتل معصوما مكافئا له
أو أعلى منه. (وإن قتل مجنون) مطبق لا يفيق من جنونه (رجلا)
فالدية على عاقلته إذا بلغت الثلث كما سيأتي. (وعمد الصبي كالخطأ) في نفي
582

القصاص (وذلك على عاقلته إن كان) ما جناه تبلغ ديته (ثلث
الدية فأكثر وإلا) تبلغ ثلث الدية (ففي ماله) أي مال الصبي
إن كان له مال، وإلا اتبع به دينا في ذمته. (وتقتل المرأة بالرجل)
اتفاقا (و) يقتل (الرجل بها) عند الجمهور لقوله تعالى: * (وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس) * (المائدة: 45) وهي ناسخة لقوله تعالى: * (الحر بالحر) *
(البقرة: 178) الآية (ويقتص لبعضهم من بعض في الجراح) لقوله تعالى: * (والجروح
قصاص) * (المائدة: 45) (ولا يقتل حر) مسلم (بعبد) وأما الحر غير المسلم فيقتل بالعبد
المسلم، وحينئذ لو قتل الحر المسلم العبد فالواجب عليه قيمته وفي جرحه ما نقص
قيمته. (ويقتل به) أي بالحر المسلم (العبد) قال ابن عمر: يريد إذا شاء
الأولياء لأنهم بالخيار بين أن يقتلوه أو يستحيوه، فإن استحيوه كان السيد بالخيار
بين إسلام العبد أو يعطى دية المقتول. (ولا يقتل مسلم) حر أو عبد (ب‍) قتل
(كافر ويقتل به) أي يقتل بالمسلم الحر أو العبد. (الكافر ولا قصاص
بين حر وعبد في جرح) لأنه إنما يجب بوجود التكافؤ في الدماء. وحاصل
المسألة أن الجاني إن ساوى المجني عليه في الحرية والاسلام اقتص له منه
في الجرح والنفس، وإن كان أعلى منه فيهما لم يقتص له لا في جرح، ولا في
نفس، وإن كان أدنى منه فيهما اقتص له منه في النفس دون الجرح وإن
583

كان في أحدهما الحرية فقط والآخر الاسلام فقط فأجروه على التفصيل
(و) كذلك (لا) قصاص (بين مسلم وكافر) في جرح، فإن جنى المسلم
على الكافر وعليه دية ذلك العضو إن كان مما له عقل مسمى فإن لم يكن
فيه عقل ففيه الحكومة، وإن جنى الكافر على المسلم فالدية عليه فيما كان
فيه عقل مسمى والحكومة فيما ليس فيه عقل مسمى. (والسائق) الذي
يسوق الدابة من خلفها (والقائد) الذي يقودها (والراكب) الذي على
ظهرها (ضامنون لما وطئته الدابة) برجلها لأنهم قادرون على ضبطها (وما
كان منها) أي الدابة من الاتلاف (من غير فعلهم) أي بأن أتلفته بذنبها أو كدمته بفمها (أو
وهي واقفة لغير شئ) أي من غير شئ فعل بها من ضرب أو
نخس، (فذلك) الفعل منها (هدر) أي لا دية فيه لما صح من قوله عليه الصلاة
والسلام: فعل العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار والجبار بضم الجيم
وتخفيف الموحدة الهدر الذي لا دية فيه. (وما مات في بئر أو معدن من
غير فعل أحد فهو هدر) يعني أنه إذا انهار البئر أو المعدن على من يعمل
فيه فهلك لم يؤخذ به مستأجره لأنه لا صنع فيه لمكلف، فلا يتعلق به
ضمان. (وتنجم) أي تقسط (الدية) الكاملة المأخوذة في الخطأ عن
قتل المسلم أو غيره (على العاقلة في ثلاث سنين) والقاتل كواحد منهم
584

(وثلثها في سنة) كدية المأمومة والجائفة (ونصفها في سنتين) كما لو
قطع يد أو رجل شخص وقد جرى على القول بأنها تنجم على أربع
سنين، وإلا لقال في سنة ونصف. (والدية) سواء كانت من عمد أو خطأ
(على) حكم (الفرائض) المقدرة في مال الميت، فيأخذ كل واحد من
الورثة نصيبه المقدر له في كتاب الله تعالى. (وفي جنين الحرة غرة عبد أو
وليدة) على الجاني (تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم) وذلك نصف
عشر دية أبيه أو عشر دية أمه. والمشهور أنه لا يعطى في الغرة إلا الذهب
دون الإبل، قاله الأقفهسي. (وتورث) الغرة (على) حكم الفرائض
المذكورة في (كتاب الله تعالى) في ميراث الميت (ولا يرث قاتل العمد من مال
ولا دية) ولا يحجب أحدا إذ من لا يرث لا يحجب وارثا. (وقاتل الخطأ
يرث من المال دون الدية) وحيث يرث يحجب وحيث لا يرث لا يحجب،
وصورة ذلك إذا كانوا ثلاثة إخوة وأما، وقتل أحدهم الآخر فإن الام
ترث من الدية الثلث لان ما هنالك إلا أخ واحد مع القاتل لان القاتل
لا يرث من الدية، وترث من المال السدس لان القاتل يرث المال فيحجبها
الاخوان عن الثلث إلى السدس. (وفي جنين الأمة من سيدها) الحر
585

إذا ألقته ميتا مثل (ما في جنين الحرة) من زوجها الحر غرة عبد أو أمة
وإطلاقه على أم الولد أمة خلاف الاصطلاح. (وإن كان) الجنين (من
غيره) أي غير السيد (ففيه عشر قيمتها) أي قيمة الأمة إذا ألقته ميتا
ذكرا كان أو أنثى. (ومن قتل) من المسلمين عبدا (فعليه قيمته) في
ماله قتله خطأ أو عمدا إلا أن يكون قتله غيلة، فإنه يقتل لحق الله تعالى.
(وتقتل الجماعة بالواحد) مسلما حرا كان أو عبدا أو ذميا (في الحرابة والغيلة)
تقدم تفسير الغيلة بأنها قتل إنسان لاخذ ماله والحرابة كل فعل يقصد به
أخذ المال على وجه تتعذر الاستغاثة معه عادة سواء صدر ذلك الفعل من
رجل أو امرأة (وإن ولي القتل بعضهم) أي هذا إذا وليهم كلهم، بل وإن
وليه بعضهم ولو لم يكن منهم تمالؤ قبل ذلك بخلاف غير الحرابة والغيلة، فإنه
لا يقتل الجمع بواحد إلا إذا تمالؤوا على قتله ابتداء، أو باشر جميعهم القتل.
(وكفارة القتل في الخطأ واجبة). قال التتائي: ولا يشترط كون القاتل مكلفا
فلذا تؤخذ من مال الصبي والمجنون لأنها من خطاب الوضع وقوله (عتق
رقبة) تفسير أي هي عتق رقبة (مؤمنة) سليمة من العيوب كاملة
الرق. (فإن لم يجد) بمعنى فإن لم يستطع عتق رقبة بأن كان معسرا
(فصيام شهرين متتابعين) أي فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين
586

فإن لم يتابع الصوم بأن أفطر عمدا ابتدأه أو نسيانا أو لمرض لا يبتدئه
(ويؤمر بذلك) أي بالتكفير لكن على جهة الاستحباب (إن عفا عنه)
الولي (في العمد فهو خير له) لعظم ما ارتكبه من الاثم. (ويقتل الزنديق)
حدا لا كفرا أي إن تاب حين اطلعنا عليه وفائدة قتله حدا أن ماله لوارثه،
ومثل توبته بعد الاطلاع عليه إنكاره لما شهدت به البينة عليه من الزندقة.
وأما لو اعترف بها ولم يتب فلا يكون قتله حدا بل كفرا ويكون ماله كمال
المرتد لا يورث عنه بل يكون مقره بيت مال المسلمين. (ولا تقبل توبته)
إن ظهر عليه، وتقبل إن جاء تائبا قبل أن يظهر عليه (وهو الذي يسر
الكفر ويظهر الاسلام) وهو المنافق في زمن النبوة. (وكذلك) يقتل
(الساحر ولا تقبل توبته) بعد أن ظهر عليه. أما إن جاء تائبا قبل أن
يظهر عليه فتقبل توبته. (ويقتل من ارتد) أي رجع عن الاسلام فالردة
كفر بعد إسلام تقرر (إلا أن يتوب) أي وإذا قلتم بأن من ارتد يقتل
عند عدم التوبة فلا يبادر بقتله (و) لكن تعرض عليه التوبة فإن أبى
فإنه (يؤخر للتوبة ثلاثا) أي ثلاثة أيام وجوبا، فإن تاب فلا إشكال وإلا
قتل بغروب شمس الثالث. وقوله: (وكذلك المرأة) تكرار لان من تعم
الذكر والأنثى وتؤخر الحامل حتى تضع. (ومن لم يرتد) عن دين الاسلام
587

(وأقر بوجوب الصلاة وقال لا أصلي) الآن وأصلي بعد أو قال لا أصلي
مطلقا (أخر حتى يمضي وقت صلاة واحدة) أي يكاد يمضي أي بحيث
يبقى من الوقت الضروري ما يسع ركعة بسجدتيها غير معتبر فيها طمأنينة
ولا اعتدال ولا قراءة فاتحة صونا للدماء ما أمكن، فإن قام للفعل فلا إشكال
وإلا قتل بالسيف في الحال، وهو معنى قوله: (فإن لم يصلها قتل) أي في
الحال. (ومن امتنع من الزكاة أخذت منه كرها) بفتح الكاف أي قهرا
وإن أدى ذلك إلى قتاله، وإذا مات فيكون دمه هدرا. (ومن ترك الحج
فالله حسبه) أي لا تتعرض له بقتل ولا بغيره إذ لعله لم تتوفر عنده شروط
وجوب الحج في نفس الامر ولو توفرت في الظاهر. (ومن ترك الصلاة)
المفروضة (جحدا لها) أي لوجوبها (فهو كالمرتد يستتاب ثلاثا، فإن لم
يتب قتل) كفرا لا حدا وحينئذ لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين
ولا توارث بينه وبين ورثته ومقر ماله بيت مال المسلمين. (ومن سب رسول الله
صلى الله عليه وسلم) بأن ذكر ما يدل على النقص (قتل حدا) أي إن تاب أو أنكر
ما شهدت به عليه البينة ولا تفيد التوبة في سقوط الحد، ولذا قال المصنف:
(ولا تقبل توبته) أي إنه يقتل، ولا بد ولا تنفعه التوبة لأنه حد وجب
588

فلا تسقطه التوبة. أما إذا لم يتب كان قتله كفرا. (ومن سبه) صلى الله عليه وسلم
(من أهل الذمة بغير ما به كفر أو سب الله عز وجل بغير ما به كفر قتل
إلا أن يسلم وميراث المرتد لجماعة المسلمين) فيوضع في بيت مالهم. (والمحارب
لا عفو فيه إذا ظفر به) أي أخذ قبل توبته لأنه حق لله تعالى (فإن قتل
أحدا) ولو عبدا أو كافرا (فلا بد من قتله) ولو عفا عنه ولي المقتول
لأنه حق لله تعالى (وإن لم يقتل) أحدا (فيسع) أي يبذل (الامام فيه
اجتهاده بقدر جرمه) أي اكتسابه للمعاصي (وكثرة مقامه في فساده)
فيفعل به الامام ما يراه كافيا في ردعه، فإن كان ذا قوة فعل به أشد
العقوبات الآتية وهو القطع من خلاف، وإن لم يكن كذلك فعل به أيسر
العقوبات وهي النفي، ثم بين ما يبذل فيه الامام اجتهاده فقال: (فأما قتله
أو صلبه ثم قتله أو يقطعه من خلاف أو ينفيه إلى بلد يسجن بها حتى
يتوب) والأصل في هذا قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)
589

* (المائدة: 33) الآية، والقتل يكون على الوجه المعتاد بالسيف أو الرمح بوضعه في لبته
والصلب الربط على الجذع ويكون قائما غير منكس، ومعنى القطع من
خلاف أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، فإن حارب بعد ذلك قطعت
يده اليسرى ورجله اليمنى، فإن حارب بعد ذلك قتل. (فإن لم يقدر) أي لم
يظهر (عليه حتى جاء) إلى الامام (تائبا وضع عنه كل حق هو لله)
تعالى، (ومن ذلك) أي من عقوبات الحرابة وهي القتل وما ذكر معه
في الآية لقوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * (المائدة: 34) الآية. وأما
حقوق الآدميين وحقوق الله في غير الحرابة كحد الزنى وشرب الخمر فلا
يوضع عنه شئ منها، وإلى هذا أشار بقوله (وأخذ بحقوق الناس) التي
جناها في حال حرابته (من مال أو دم) لان التوبة لا تأثير لها في حقوق
الآدميين فيؤخذ منه المال إن وجد واتبع به إن أعدم. (وكل واحد من
اللصوص ضامن لجميع ما سلبوه من الأموال) والمراد به المحارب وليس
المراد به السارق وسواء قدر عليه في حال تلصصه أو جاء تائبا، وأما المجتمعون
على السرقة فكل مخاطب بما أخذه خاصة. وقوله: (وتقتل الجماعة بالواحد
في الحرابة والغيلة وإن ولي القتل واحد منهم) تكرار مع ما تقدم (ويقتل
590

المسلم بقتل الذمي) أو العبد إذا قتله (قتل غيلة أو حرابة) قبل أن يتوب.
وأما إن تاب بعد ما قتل فعليه دية الذمي وقيمة العبد ولا يقتل بهما ثم
شرع يتكلم على الزنى ولفظه مقصور عند أهل الحجاز ممدود عند أهل نجد،
وعرفوه بأنه وطئ مكلف مسلم فرج آدمي وحكمه الحرمة، وعقوباته ثلاثة: رجم
فقط، جلد مع تغريب، جلد فقط، وإلى أولها أشار بقوله: (ومن زنى من حر)
مسلم مكلف ذكرا كان أو أنثى (محصن رجم حتى يموت) بحجارة معتدلة
وليس بالعظيمة خشية التشويه، ولا بالصغيرة خشية التعذيب، ويتقى في
حالة الضرب وجهه وفرجه ويضرب على ظهره أو بطنه. (والاحصان أن
يتزوج) الاحصاء لغة العفة، وشرعا أن يتزوج الرجل العاقل البالغ (امرأة)
مسلمة كانت أو كتابية حرة أو أمة بالغة أو غير بالغة ممن يوطأ مثلها
(نكاحا صحيحا) احترازا من النكاح الفاسد فإنه لا يحصن اتفاقا، (ويطؤها
وطأ صحيحا) أي مباحا فلو وطئ في حال الحيض فلا إحصان بهذا الوطئ
(فإن لم يحصن) الحر المسلم المكلف (جلد مائة جلدة و) بعد أن يجلد
(غربه الامام إلى بلد آخر) على نحو ثلاث مراحل أي ثلاثة أيام (وحبس
فيه عاما) فإن رجع قبل تمام العام أخرج إليه أو إلى محل آخر مثله في
البعد (وعلى العبد في الزنى خمسون جلدة) وفي بعض النسخ خمسين
591

وهي على تقدير مضاف أي حد خمسين (وكذلك الأمة) عليها في الزنى
خمسون جلدة، وكان الأولى أن يقدم الأمة على العبد لأنها التي ورد فيها
النص قال الله تعالى * (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب) * (النساء: 25) والعبد مقيس عليها من باب لا فارق. (وإن كانا متزوجين) لان
من شرط الاحصان الحرية ففارق الحر في ذلك (ولا تغريب عليهما)
فالحكم في حقهما الجلد فقط (و) كذا (لا) تغريب (على المرأة)
لأنها محتاجة إلى الحفظ والصيانة، ففي تغريبها تعريض لهتكها ومواقعة
مثل الذي غربت من أجله. ثم شرع يبين الطرق التي تثبت الزنى فقال:
(ولا يحد الزاني إلا باعتراف منه) فاعترافه بالزنى ولو مرة موجب للحد
المشروع بالنسبة له من رجم أو جلد (أو بحمل يظهر) ممن هي خالية
من الزوج والسيد (أو بشهادة أربعة) رجال أحرار (بالغين عدول يرونه)
أي ذكر الزاني في فرجها (كالمرود) بكسر الميم (في المكحلة) بضم
الميم والحاء وتقع منهم الشهادة في وقت واحد، وهو وقت أداء الشهادة، ولا
بد من اتحاد الرؤيا أي أن الأربعة يجتمعون في النظر للذكر في الفرج.
فلو اجتمعوا ونظر واحد بعد واحد فلا يكفي ذلك لاحتمال تعدد الوطئ،
والافعال لا يضم بعضها إلى بعض. (وإن لم يتم أحدهم الصفة) بأن يقول
592

رأيته بين فخذيها ولا أدري ما وراء ذلك (حد الثلاثة الذين أتموها) حد
القذف، ولا حد على الرابع، بل يعاقب باجتهاد الامام ولو زاد على الحد. (ولا
حد على من لم يحتلم) لأنه غير مكلف فاعلا كان أو مفعولا، وإنما يؤدب
أي يجب على من تولى أمور الناس أن يؤدبه لأجل إصلاح حاله. (ويحد
واطئ أمة والده) لعدم الشبهة في ماله (ولا يحد واطئ أمة ولده) لان
له شبهة في ماله (و) لكن (تقوم عليه) يوم وطئ لأنه فوتها عليه.
(وإن لم تحمل) ولا يجوز للابن وطؤها بعد ذلك. ويجب على الأب بعد
أيغرم قيمتها أن يستبرئها إن أراد الاستمرار على وطئها ليفرق بين ماء
الشبهة والملك، وإنما يباح له وطؤها بعد الاستبراء إذا لم يتقدم للابن وطئ
وإلا حرمت عليهما ولكن يغرم القيمة لابنه لأنه أتلفها عليه. (ويؤدب
الشريك في الأمة يطؤها) ولو أذن له شريكه في وطئها لان فرجها لا يباح
بمجرد إذن شريكه مع بقائه على الشركة، وإنما لزم الأدب دون الحد لقوله
عليه الصلاة والسلام ادرؤوا الحدود بالشبهات (و) لكن (يضمن قيمتها)
أي نصف قيمتها مثلا (إن كان له مال) إذا حملت وليس لشريكه التماسك
بنصيبه ويبقى على الشركة لثبوت حرمة الاستيلاد لها، وتكون له أم ولد،
ولا قيمة عليه في الوطئ لأنه كالواطئ لملكه. (فإن لم تحمل فالشريك)
الذي لم يطأ (بالخيار بين أن يتماسك) بنصيبه منها ولا شئ له على الواطئ
593

لا صداق ولا ما نقصها. (أو تقوم عليه) أي على الواطئ فإن كان موسرا
أخذ منه شريكه ثمن نصيبه منها وإن كان معسرا اتبعه بالقيمة على ما يتفقان
عليه من حلول أو تأجيل. (وإن قالت امرأة) حرة غير طارئة لم يعلم لها
زوج والحال أن (بها حمل) ظاهر (استكرهت) عليه (لم تصدق) في
دعواها الاكراه لان الأصل الطوع حتى يثبت الاكراه ولأن تصديقها
ذريعة إلى كثيرة الزنى لا سيما مع قلة دين النساء وميلهن للوطئ وسواء
كانت ممن يليق بها الاكرام أم لا (وحدت إلا أن) تظهر أمارة تدل
على صدقها وهي أن (تعرف بينة) عادلة (أنها احتملت حتى غاب عليها)
المكره وخلا بها (أو جاءت مستغيثة عند النازلة) أي عقب الوطئ لان
مجيئها صائحة قرينة غصبها (أو جاءت تدمي) إذا كانت بكرا ظاهر المصنف
أن مجيئها بتلك الحالة مسقط للحد وليس كذلك، فلا يكفي في سقوط الحد
عنها مجرد مجيئها تدمي، بل لا بد بعد تحقق الفعل من قرينة تدل على صدقها
كمجيئها متعلقة بمن ادعت عليه. (والنصراني) أو اليهودي (إن غصب
المسلمة في الزنى قتل) إذا ثبت الغضب بأربعة شهداء لأنه بهذا الفعل ناقض
للعهد وكل ناقض للعهد يحكم بقتله. (وإن رجع المقر بالزنى أقيل وترك)
594

سواء رجع لشبهة أو لا، رجع في الحد أو قبله، وأما الهروب فإن كان في أثناء
الحد فكالرجوع، وأما قبل فالحد لازم، وفرق بأن الهروب في أثناء الحد
يدل على الرجوع لإذاقته العذاب بخلافه قبله، وحيث سقط الحد عنه
لا يسقط عنه صداق المزني بها حيث كانت مكرهة. (ويقيم الرجل على
عبده وأمته حد الزنى) وحد القذف وحد الشرب ولا يقيم عليهما حد السرقة،
ويشترط في إقامته الحد المذكور أحد أمور وهي: (إذا ظهر حمل) بالأمة
(أو أقامت بينة) عليها أو على العبد بالزنى (غيره) أي غير السيد وهو
(أربعة شهداء أو كان إقرار) منهما على أنفسهما بذلك. ولما كان حكم الأمة
المتزوجة بغير عبد السيد يخالف حكم غيرها خشي أن يتوهم دخولهما فيما
تقدم استدرك على ذلك فقال: (ولكن إن كان للأمة زوج حر أو عبد
لغيره) أي لغير السيد (فلا يقيم الحد عليها إلا السلطان) أي لحق الآخر
من الزوجين إن كان حرا ولحق سيده إن كان رقا. ثم شرع يتكلم على اللواط
فقال: (ومن عمل قوم لوط بذكر بالغ أطاعه رجما أحصنا أو لم يحصنا)
لفظ من عام يشمل الحر والعبد والكافر، وعمل قوم لوط إتيان الذكور في
أدبارهم، وسواء كان الذكر مملوكة أم لا. وخرج بالذكر الأنثى فإنه لا يرجم
595

بذلك، لكن إن كانت ممن يحل له وطؤها عوقب عقوبة شديدة وإن كانت
ممن لا يحل له وطؤها حد حد الزنى، ويشترط في رجم المفعول به أن يكون
بالغا وهو شرط أيضا في رجم الفاعل. وأما لو كانا غير مكلفين فالأدب فقط.
ثم شرع يتكلم على القذف بالذال المعجمة وهو في الاصطلاح ما يدل على
الزنى أو اللواط أو النفي عن الأب أو الجد، وهو محرم بالكتاب، قال تعالى:
* (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 4) الآية، والسنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جلد الذين خاضوا
في الإفك. وله شروط في القاذف، وشروط في المقذوف. وبدأ بما يوجب القذف
فقال: (وعلى القاذف الحر) البالغ مسلما كان أو كافرا ولو سكرانا أو أبا
(ثمانين) جلدة، (وعلى العبد) يعني جنسه الصادق بالذكر والأنثى مسلما
كان أو كافرا (أربعين) جلدة في القذف (وخمسين) جلدة (في الزنى).
قال ابن عمر: صوابه ثمانون وأربعون وخمسون، ووجه الرواية بالنصب على
التمييز (والكافر) الحر (يحد في القذف ثمانين) جلدة لعموم الآية،
والتقييد بالحر لاخراج العبد، فإن عليه نصف ما على
الحر. (ولا حد على قاذف عبد) أي جنسه الصادق بالذكر والأنثى أو قاذف (كافر) حر
أو عبد لأنه لا حرمة لعرضهما (ويحد قاذف الصبية بالزنى إن كان مثلها
يوطأ ولا يحد قاذف الصبي) بذلك أي بالزنى لأنه لا يلحقه العار بذلك إلا
596

أن يكون قذفه بأنه فعل به لأنه يلحقه العار في هذا (ولا حد على من لم يبلغ
في قذف ولا) في (وطئ) لارتفاع القلم عنه. (ومن نفى رجلا) حرا
مسلما أي أو امرأة كذلك ولو صغيرين أو مجنونين (من نسبه) من أبيه
وإن علا مثل أن يقول له: لست بابن فلان (فعليه الحد) لان المعرة التي
تدخل على الانسان في كونه ولد زنى أعظم من فعله الزنى، لان معرة الزنى
تزول بالتوبة ومعرة كونه ولد زنى لا تزول أبدا. (وفي التعريض) وهو
خلاف التصريح مثل أن يقول لشخص: ما أنا بزان وغرضه أن المخاطب
زان وإنما عبر عنه بلفظ موضوع لضده أي لمنافيه (الحد) للقذف الملوح
له بالتعريض. (و) كذا (من قال لرجل يا لوطي حد) لأنه نسبه إلى
فاحشة يلزم فاعلها الحد. (ومن قذف جماعة) بكلمة واحدة (ف‍) - عليه
(حد واحد يلزمه لمن قام به منهم ثم) بعد ذلك (لا شئ عليه) أي
لا حد عليه لمن قام منهم لان الحد في القذف، إنما هو لأجل دفع المعرة عن
المقذوف وتكذيب القاذف، فإذا حد القاذف فقد ارتفعت المعرة عن
المقذوف وحصل الغرض المطلوب للشارع، وحينئذ لا يحتاج إلى تكرار الحد.
(ومن كرر شرب الخمر أو) كرر (الزنى ف‍) - يلزمه (حد واحد في ذلك
597

كله) لان الحدود إذا كان جنسها واحدا تداخلت بمعنى اكتفي
بإحداها كالاحداث إذا تكررت كان الواجب في جميعها طهرا واحدا.
(وكذلك من قذف جماعة) عليه حد واحد لا يقال إن هذا تكرار مع
ما تقدم لأنا نقول ما تقدم كان قذفه لجماعة مرة واحدة، وهذا تكرر منه
القذف. (ومن لزمته حدود وقتل) مثل أن يزني ويشرب الخمر ويسرق
ويقتل مسلما (فالقتل يجزئ عن ذلك) كله ولا يحد (إلا في) اجتماع
(القذف) مع القتل (فليحد) للقذف (قبل أن يقتل) لنفي المعرة عن
المقذوف. (ومن شرب خمرا) وهو ما دخلته الشدة المطربة من ماء العنب
بحيث صار شأنه الاسكار أسكر بالفعل أم لا (أو) شرب (نبيذا) وهو
ما يجعل في الماء من التمر أو الزبيب وقوله (مسكرا) صفة لنبيذ لا لخمر
لان الاجماع على أن شارب الخمر يحد سكر أم لم يسكر (حد ثمانين) جلدة
بعد صحوه إن ثبت عليه ذلك بإقرار أو بشهادة شاهدين على الاستعمال
أو الشم ممن يعرفها وقوله: (وسكر أو لم يسكر) إشارة إلى الرد على المخالف
القائل بأنه إنما يحد في النبيذ إذا سكر (ولا سجن عليه) أي على من
شرب الخمر أو النبيذ المسكر وإن كثر ذلك منه، لأنه لم يرد عن النبي ولا
عن أحد من أصحابه أنهم سجنوا فيه. (ويجرد المحدود) الذكر من كل
598

شئ إلا ما يستر عورته. (ولا تجرد المرأة إلا مما يقيها من الضرب) كالفرو
لان الغرض الانزجار عن مثل ما ارتكبه، وعند التألم بالضرب يظن
الانزجار عن المعاصي ويندب أن تجعل في قفة ويجعل تحتها شئ من تراب
ويبل بالماء لأجل الستر. (ويجلدان قاعدين) على
الحال (ولا تحد حامل حتى تضع) وتجد من يقوم بحال الطفل لحديث
الغامدية أي حيث جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حامل فقالت له: طهرني،
فقال لها: اذهبي حتى تضعي إلى آخر الحديث (و) كذا (لا) يحد
(مريض مثقل) بفتح القاف المشددة أي اشتد مرضه (حتى يبرأ)
لخوف التلف إذا جلد (ولا يقتل واطئ البهيمة) قال ابن ناجي: لولا
قوله: (وليعاقب) لاحتمل أن يفهم منه أنه يحد حد البكر، ولكن قوله
وليعاقب قرينة دالة على أن المراد بقوله ولا يقتل أنه لا حد عليه، وإنما
كان عليه العقاب بما يراه الامام لارتكابه أمرا محرما. (ومن سرق) بفتح
الراء من المكلفين الذكور أو الإناث الأحرار أو الأرقاء مسلمين وغيرهم
(ربع دينار ذهبا) ولا يلتفت إلى كونه يساوي ثلاثة دراهم (أو)
سرق (ما قيمته يوم السرقة) لا يوم الحكم (ثلاثة دراهم من العروض
599

أو) سرق (وزن ثلاثة دراهم فضة) خالصة ولا التفات إلى كونها تساوي
ربع دينار (قطع) والأصل في ذلك ما في الصحيحين من قوله عليه
الصلاة والسلام: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا وفي الموطأ أنه
عليه الصلاة والسلام قطع يد سارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم، المجن هو
الترس لأنه يواري حامله أي يستره، والميم زائدة ويجمع على مجان، وإنما
كانت زائدة لأنه من الجنة والسترة، ذكره في النهاية. (إذا سرق من حرز)
وهو ما لا يعد الواضع فيه مضيعا عرفا، وإن كان يختلف باختلاف الأشخاص
والأموال فرب مكان يكون حرزا بالنسبة إلى شخص وغير حرز بالنسبة لآخر، أو يكون حرزا بالنسبة
لمتاع ولا يكون حرزا بالنسبة إلى متاع آخر.
(ولا قطع في الخلسة) بضم الخاء وهي أخذ المال ظاهرا غفلة أي أخذا
ظاهرا لا خفية. (ويقطع في ذلك) أي في سرقة ما ذكر (يد الرجل والعبد
والمرأة) والقطع المذكور يكون أولا في يده اليمنى، (ثم إن سرق) ثانيا
بعد أن قطعت يده اليمنى (قطعت رجله من خلاف) بأن يكون القطع
لرجله اليسرى، (ثم إن سرق) ثالثا (ف‍) - تقطع (يده) اليسرى، (ثم إن
سرق) رابعا (ف‍) تقطع (رجله) اليمنى. وموضع القطع في اليدين من
الكوع وفي الرجلين من مفصل الكعبين. (ثم إن سرق) في الخامسة
(جلد وسجن) ولعل الحبس لظهوره توبته أو موته. (ومن أقر بسرقة
600

قطع) ويكفي في الاقرار مرة واحدة. (وإن رجع) عن إقراره بالسرقة
لشبهة أو غيرها مثال الشبهة أن يقول أخذت مالي المودع فظننت ذلك سرقة،
ومثال غير الشبهة أن يقول مثلا: أنا كذبت في إقراري (أقيل) من
القطع أي ترك (وغرم السرقة) أي قيمتها (إن كانت) القيمة (معه
وإلا أتبع بها) في ذمته إلى ملائه (ومن أخذ في الحرز لم يقطع حتى يخرج
السرقة من الحرز) سواء كان الاخراج بنفسه، أو رماه إلى خارج، أو
أخرجه على ظهر دابته، أو كانوا جماعة فرفعوه على رأس أحدهم أو ظهره
فخرج به، وسواء بقوا هم في الحرز، أو خرجوا معه، ففي كل ذلك القطع. أما
إذا لم يخرجها من الحرز أو أتلفها فيه ثم أخرجها فلا قطع. (وكذلك
الكفن) لا يقطع سارقه حتى يخرجه (من القبر) إذا كان يساوي ربع
دينار. (ومن سرق من بيت أذن له في دخوله لم يقطع) لأنه ليس بسارق،
وإنما هو خائن والخائن لا قطع عليه، والأصل ما رواه الترمذي وحسنه أنه
صلى الله عليه وسلم قال: ليس على منتهب - وهو من أخذ المال عيانا قوة وغلبة - ولا خائن
ولا مختلس قطع قوله: (ولا يقطع المختلس) تكرار وهو ساقط في بعض
النسخ (وإقرار العبد فيما يلزمه) في بدنه من حد أو قطع كإقراره بشرب
601

أو قذف أو زنى أي من كل أمر يوجب العقوبة عليه في جسده لزمه ما أقر به.
وإن أنكر ذلك سيده كما في التتائي لأنه لا يتهم أن يوقع على نفسه هذا.
(و) أما إقراره فيه (- ما كان في رقبته) أي فيما يوجب أخذه فيه كما إذا
أقر بقطعه يد حر (فلا إقرار له) لأنه يتهم بحب انتقاله لمن أقر له (ولا
قطع في ثمر) معلق على رؤوس الشجر هذا في المعلق في البستان. وأما ما كان من الثمر في الدور أو البيوت فإن سارقه يقطع لأنه من حرز. (ولا) قطع
(في الجمار) وهو قلب النخل حال كونه (في النخل ولا) قطع (في الغنم
الراعية) في حال رعيها سواء كان معها راع أم لا (حتى تسرق من مراحها)
بضم الميم وفتحها موضع مقيلها التي تساق إليه عقب الرواح من المرعى.
(وكذلك التمر) المقطوع لا قطع فيه حتى يسرق (من الأندر) وهو
الجرين سواء كان قريبا أو بعيدا من البلد. (ولا يشفع لمن بلغ الامام في
السرقة والزنى) والخمر لأنه إذا بلغ الامام تعلق به حق الله فلا يجوز للامام
العفو عنه ولا طلبه منه، وإن تاب الزاني والسارق يدل على عدم جواز
العفو حديث ماعز والغامدية. (واختلف في ذلك) أي في الشفاعة بعد
بلوغ الامام (في القذف) فقال مالك مرة: يجوز بناء على أن القذف حق للمقذوف،
ومرة قال: لا يجوز بناء على أنه حق الله تعالى. وأما قبل بلوغ الامام فيجوز
على المعتمد. (ومن سرق من الكم) ونحوه كالجيب والعمامة والحزام
602

(قطع) لان الانسان حرز لما عليه. (ومن سرق من الهري) وهو بيت يجعله
السلطان للمتاع والطعام وهو المعروف بالشون (و) من (بيت المال) وهو
بيت يجعله السلطان للعين الذهب والفضة (و) من (المغنم) أي بعد
حوزه (فليقطع) في ذلك كله، وقيل: إن سرق فوق حقه من المغنم بثلاثة
دراهم قطع (ويتبع السارق إذا قطع بقيمة ما فات من السرقة) أي
يؤخذ منه قيمتها (في) حال (ملائه) وأما إذا كان المسروق باقيا لم
يفت فإن صاحبه يأخذه بعد القطع لان القطع ليس عوضا عنه (ولا
يتبع) السارق بما فات (في) حال (عدمه) المراد أنه لو أعسر جزءا من
الزمن الذي بين سرقته وقطعه لسقط عنه لئلا يجتمع عليه عقوبتان
(ويتبع) السارق (في عدمه بما) أي بالشئ الذي (لا يقطع فيه من
السرقة) بأن كان دون النصاب.
603

باب في الأقضية والشهادات (باب في الأقضية والشهادات) الأقضية جمع قضاء ويستعمل لغة بمعنى
الحكم والفراغ والهلاك والأداء والانهاء والمضي والصنع والتقدير، واصطلاحا
ما قال ابن رشد: القضاء الاخبار عن حكم شرعي على سبيل الالزام، وهو
من فروض الكفاية، أي عند تعدد من يقوم به لما فيه من المصالح التي
لا بد منها. وقد يعرض له الوجوب العيني كما إذا انفرد إنسان بشروطه وخاف
ضياع الحق على أربابه أو نفسه إن لم يتول القضاء، وقد تعرض له الحرمة
ككونه جاهلا أو قاصدا به تحصيل الدنيا أو جائرا والحكم بالعدل من
أفضل أعمال البر، والجور في الاحكام من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر،
قال تعالى: * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) * (الجن: 15) وقال صلى الله عليه وسلم إن أعتى الناس
على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله رجل ولاه الله من
أمة محمد شيئا فلم يعدل فيهم ومن شروطه الاجتهاد، فلا تصح ولاية مقلد
مع وجود مجتهد. وبدأ المصنف بحديث صحيح فقال: (والبينة على المدعي
واليمين على من أنكر) قال بعض الشيوخ: المدعي هو الذي يقول: كان،
والمدعى عليه هو الذي يقول: لم يكن. وجعلت البينة على المدعي لان جانبه
أضعف من أجل أنه يريد أن يثبت، وجعلت اليمين على من أنكر لأنه
أقوى جانبا من أجل أنه يدعي الأصل إذ الأصل براءة الذمة. (ولا يمين)
أي ولا يقضي بيمين (حتى يثبت الخلطة أو الظنة) بكسر الظاء التهمة
وتثبت الخلطة بإقرار المدعى عليه أو بشهادة عدلين أو عدل واحد ويحلف
604

المدعي معه، والظنة إنما تكون في حق السارق والغاصب، فالخلطة في المعاملات،
والظنة لأهل الغصوبات. (وكذلك قضى حكام أهل المدينة) وإجماع أهل
المدينة رضي الله عنهم حجة، فيخصص به الحديث أي قوله صلى الله عليه وسلم: البينة على
المدعي واليمين على من أنكر أي فإن ظاهر الحديث أن اليمين متوجهة مطلقا،
فيخصص بأن يكون بينهما خلطة، وإن ذلك من الأقضية المحدثة بقدر
ما أحدث الناس من الفجور. وأكد ذلك بقوله: (وقد قال عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية) أي أحكام مستنبطة بحسب
الاجتهاد مما ليس فيه نص (بقدر ما أحدثوا من الفجور) ولا يخفى أن
عمر بن عبد العزيز من الأئمة المقتدى بهم قولا وفعلا، ولا يعارض هذا
بقوله وترك كل ما أحدثه المحدثون، لان ذلك فيما لم يستند إلى كتاب
ولا سنة ولا إجماع. (وإذا نكل المدعى عليه) بأن قال: لا أحلف مثلا
(لم يقض) أي لم يحكم (للطالب) وهو المدعي بمجرد نكول المدعى
عليه (حتى يحلف) الطالب (فيما يدعي فيه معرفة) أي علما بصفة الشئ المدعى
فيه وقدره، وهذا في دعوى التحقيق، وأما دعوى التهمة كأن يتهم شخصا
بسرقة مال، فإنه لا يحلف الطالب بل يغرم المدعى عليه بمجرد نكوله ولا
ترد على المدعي إلا في دعوى التحقيق. (واليمين) في الحقوق كلها (بالله)
أي يقول: والله (الذي لا إله إلا هو) ولا يزيد على ذلك ولا ينقص عنه
605

وهذا عام في جميع الناس المسلم والكتابي، وقيل: لا يزاد على الكتابي الذي
لا إله إلا هو، بل يقول: والله فقط (ويحلف قائما) تغليظا عليه، فلو حلف
جالسا لم يجز بناء على أن التغليظ واجب وهو المعتمد. (وعند منبره صلى الله عليه وسلم
في ربع دينار فأكثر) إن كان بالمدينة المشرفة لان ذلك أردع للحالف
(و) إن كان (في غير المدينة) المشرفة (يحلف في ذلك) أي في ربع
دينار فأكثر (في الجامع) الذي تصلى فيه الجمعة (و) يكون ذلك
(بموضع يعظم منه) بكسر الظاء وهو المحراب فإن أبى أن يحلف هناك
عد نكولا منه (ويحلف الكافر) كتابيا أو مجوسيا (بالله حيث يعظم)
بكسر الظاء أي في المكان الذي يعتقد تعظيمه فاليهودي يحلف في كنيسته
والنصراني في بيعته، والمجوسي في بيت النار. (وإذا وجد الطالب) وهو
المدعي (بينة بعد يمين المطلوب) وهو المدعى عليه (و) الحال أن المدعي
(لم يكن يعلم بها) أي بالبينة (قضى له بها) سواء كانت حاضرة أو غائبة
غيبة قريبة لان اليمين لا تبرئ الذمة، وإنما شرعت لقطع الخصومة، قال
ابن الماجشون: وإنما يقضى له بها بعد أن يحلف أنه ما علم (و) أما (إن)
كان (علم بها) أي بالبينة وهي حاضرة (فلا تقبل منه) على المشهور
606

(وقد قيل تقبل منه) وصححه ابن القصار. (ويقضى بشاهد ويمين في الأموال) وما
أدى إلى الأموال مثل أن يدعي أحدهما أن البيع وقع على الخيار، والآخر على
البت، فالقول قول مدعي البت إلا أن يأتي مدعي الخيار بشاهد ويمين وعبر
بمثل ليدخل في ذلك الإجارة وجراحات الخطأ والكتابة. (ولا يقضى بذلك)
أي بالشاهد واليمين (في نكاح أو طلاق أو حد) وإنما يقضى في هذه
المذكورات بعدلين. قال في المدونة: ومن ادعى نكاح امرأة وأنكرت فلا
يمين له عليها وإن أقام شاهدا. ولا يثبت نكاح إلا بشاهدين وصورة ذلك
في الطلاق أن تدعي المرأة أن زوجها طلقها وأقامت شاهدا واحدا لا تحلف
معه ولا يلزمه الطلاق ومثال ذلك في الحد أن يدعي رجل على آخر أنه
قذفه وأقام شاهدا واحدا لا يحلف معه ولا يحد القاذف. (و) كذلك
(لا) يقضى بشاهد ويمين (في دم عمد) كأن يدعي شخص على آخر أنه
جرحه عمدا وأقام شاهدا واحدا، فإنه لا يحلف معه، وإنما ترد اليمين على
الجاني فإن حلف برئ، وإن نكل سجن، فإن طال سجنه دين وأخرج.
(أو) قتل (نفس) ثم استثنى من عدم قبول الشاهد واليمين في قتل
النفس، قوله: (إلا مع القسامة في النفس) مراده أنه يقضى بالقسامة مع
الشاهد الواحد من غير يمين وإن كان ظاهر اللفظ لا يعطيه، فإن ظاهره أنه
لا يقضى بالشاهد واليمين في قتل نفس عمدا إلا مع القسامة في النفس
فيقضى بالشاهد واليمين مع القسامة، وهذا لم يقل به أحد. (وقد قيل يقضى
607

بذلك) أي بالشاهد واليمين (في الجراح) مطلقا سواء كان عمدا أو خطأ
وقد اعترض على المصنف بتعريضه لهذا القول مع أنه المشهور وتقديم غيره
عليه مع أنه خلاف المشهور. (ولا تجوز شهادة النساء) فيما هو شأن
الرجال (إلا في الأموال) وما يتعلق بها كالإجارة (ومائة امرأة كامرأتين)
وذلك كرجل واحد يقضي بذلك مع رجل أو مع اليمين (فيما يجوز فيه
شاهد ويمين وشهادة امرأتين فقط فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة
والاستهلال) وهو النطق بأن يشهدن أنه نزل مستهلا، وفائدة ذلك الإرث
له أو منه. (وشبهه) مثل عيوب الفرج أو البدن (جائزة) ولا يعارض
هذا الحصر في قوله: ولا تجوز شهادة النساء إلا في الأموال لان ذلك
مخصوص بما قيدنا به كلامه من قولنا فيما هو من شأن الرجال. (ولا تجوز
شهادة خصم) على خصمه (ولا) شهادة (ظنين) بالظاء وهو المتهم في
دينه بارتكاب أمر لا يجوز شرعا (ولا يقبل) في الشهادة (إلا العدول)
ليست العدالة أن يتمحض الرجل للطاعة حتى لا يشوبها معصية لان ذلك
متعذر لا يقدر عليه إلا الصديقون ولكن المراد من كانت الطاعة أكثر
608

أحواله وهو مجتنب للكبائر. (و) كذلك (لا) تجوز (شهادة المحدود
في الزنا) مثلا ما لم يتب، أما إن تاب فسينص عليه. (و) كذا (لا) تجوز
(شهادة عبد) في حال رقه لان الشهادة رتبة عظيمة فهي من المناصب
الشرعية التي هي سبب في إلزام الغير ما يحكم به عليه وليس العبد أهلا لها
والتقييد بحال الرق لاخراج ما إذا تحمل في حال الرق، وأدى بعد العتق
فإنها تقبل. (و) كذا (لا) تقبل شهادة (صبي) في حال صباه وسينص
على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض. (و) كذا (لا) تجوز شهادة
(كافر) في حال كفره لا على مسلم ولا على كافر. وأما إن تحمل حال الكفر
وأدى حال الاسلام فإنها تقبل ما لم ترد في حال كفره فإنها لا تقبل بعد إسلامه،
لأنه يتهم على إزالة النقص الذي ردت شهادته لأجله، لما جبلت عليه الطبائع
البشرية في دفع المعرة. (وإذا تاب المحدود في الزنى قبلت شهادته إلا في
الزنى) فإنها لا تقبل، ولا خصوصية للزنى بل إذا تاب المحدود في غير الزنى،
فإن شهادته لا تقبل إلا في غير ما حد فيه، ولأجل هذا التعميم قال المصنف
(وفيما حد فيه) ولو صار بعد توبته من أحسن الناس لأنه يتهم على التأسي
بإثبات مشارك له في صفته. (و) كذا (لا) تجوز (شهادة الابن
للأبوين) وفقه المسألة أن الفرع لا يشهد لاصله ولا الأصل لفرعه، وأما
شهادة الفرع للفرع على أصله أو عكسه فتجوز، وكذا تجوز شهادة أحد
الأبوين لاحد أولاده على ولده الآخر إن لم يظهر ميل للمشهود له، وإلا
609

امتنعت كما لو شهد الوالد لابنه البار على الفاجر. (و) كذا (لا) تجوز
(شهادتهما) أي الأبوين (له) أي للابن. (و) كذا (لا) تجوز
شهادة (الزوج للزوجة ولا) شهادتها (هي له) في حال العصمة ولو حكما
فتدخل المطلقة طلاقا رجعيا. وأما بعد العصمة فتجوز. (وتجوز شهادة الأخ
العدل لأخيه) ولكن في الأموال خاصة والجراحات التي فيها المال لا فيما
يلتمس فيه لأخيه شرفا أو جاها كشهادته له، بأنه تزوج من يحصل له
بنكاحها شرف أو جاه لكونها من ذوي القدر. (ولا) تجوز (شهادة
مجرب في كذب) حرام وتكرر منه ذلك. وأما المرأة الواحدة فلا أثر
لها لأنها صغيرة ما لم يترتب عليها مفسدة فكبيرة ولذلك قدحت في شهادته
(أو مظهر لكبيرة) أو يباشر صغير الخسة كسرقة لقمة، أو تطفيف حبة
في الكيل، وأما صغائر غير الخسة كنظرة لأجنبية فلا يقدح إلا بشرط
الادمان عليها. (و) كذا (لا) تجوز شهادة (جار لنفسه نفعا) مثل
أن يشهد لشريكه في شئ من مال الشركة صورة ذلك أن أحد الشريكين
ادعى على رجل بمال، والحال أن ذلك المال المدعى به من مال الشركة فلا
يجوز لشريكه أن يشهد له لأنه يجر نفعا لنفسه. (و) كذا (لا) تجوز
شهادة (دافع عنها) أي عن نفسه (ضررا) مثل أن يكون لرجل على
آخر دين فادعى عليه رجل آخر بدين فشهد له هذا أنه قضاه دينه، فهذا
يتهم أن يكون دفع عن نفسه المخاصمة أي بينه وبين المدعي الآخر
610

بحيث يقول له إني أقاسمك في مال المدين، أو أنا أستقل به، أو أنت ليس
لك دين. (ولا وصي ليتيمه) هذا داخل في قوله ولا جار لنفسه لأنه يجر
بشهادته مالا يتصرف فيه، وإنما كرره ليرتب عليه قوله: (وتجوز شهادته
عليه) ولفظ المدونة: وكل من لا تجوز شهادته له فشهادته عليه جائزة.
(ولا يجوز تعديل النساء ولا تجريحهن) لا للرجال ولا للنساء أي فيما
لا تجوز شهادتهن فيه ولا في غيره (ولا يقبل في التزكية إلا من يقول
عدل رضا). والعدالة: هيئة راسخة في النفس تحمله على ملازمة التقوى
(ولا يقبل في ذلك) أي في التزكية (ولا في التجريح واحد) إذا زكاه
في العلانية. وأما في السر فيجوز فيه واحد (تقبل شهادة الصبيان) فيما
يقع بينهم (في الجراح). وكذا تقبل شهادتهم في القتل على المشهور فيه
وفي الجراح (قبل أن يفترقوا) لان تفريقهم مظنة تعليمهم (أو يدخل
بينهم كبير) لأنه أيضا مظنة تعليمهم. (وإذا اختلف المتبايعان) أي البائع
والمشتري في قدر الثمن بأن يقول البائع: بعتها بدينار، ويقول المشتري: بل
بنصف دينار (استحلف البائع) أولا فالمذهب وجوب تبدئة البائع باليمين
فيحلف على نفي دعوى صاحبه وإثبات دعواه في يمين واحدة فيقول:
611

والله ما بعتها بنصف دينار، ولقد بعتها بدينار. (ثم) بعد حلفه (يأخذ المبتاع)
السلعة بما حلف عليه البائع (أو يحلف) هو أي المبتاع على نفي دعوى
صاحبه وإثبات دعواه، فيقول في المثال المذكور والله لم أشترها بدينار ولقد
اشتريتها بنصف دينار. (ويبرأ) من لزوم البيع فهو مخير بين أن يأخذ
السلعة بما قال البائع أو يحلف ويبرأ. (وإذا اختلف المتداعيان في شئ
بأيديهما) كل منهما يدعيه لنفسه، ولم يقم لواحد منهما دليل على صدقة ولا
بينة، ولم ينازعهما فيه أحد، وهو مما يشبه أن يكتسبه كل واحد منهما (حلفا
وقسم بينهما) لأنهما تساويا في الدعوى ولم يترجح أحدهما على الآخر، ومن
نكل عن اليمين سقط حقه للذي حلف. (وإن أقاما بينتين) أي أقام كل
بينة تشهد له وكانت إحداهما راجحة على الأخرى بالأعدلية (قضى
بأعدلهما) بعد أن يحلف من أقامها أنه ما باع ذلك الشئ ولا وهبه ولا
خرج عن ملكه بوجه من الوجوه. (فإن لم تترجح) إحدى البينتين بما
ذكر (بل استويا) كان الواجب استويتا أي البينتان في العدالة ولا ترجيح
بكثرة عدد إلا أن يبلغ حد التواتر لإفادته العلم (حلفا وكان) الشئ
المتنازع فيه (بينهما) نصفين لان الحكم بإحداهما ليس بأولى من الأخرى.
(وإذا رجع الشاهد بعد الحكم أغرم ما أتلف بشهادته إن اعترف أنه شهد
612

بزور، قاله أصحاب مالك) قال ابن ناجي: ظاهر كلامه يقتضي أن جميع
أصحاب مالك يفرقون بين أن يعترف بأنه شهد زورا أو لا يعترف، فيغرم
في الأول دون الثاني، وليس كذلك، بل قال مطرف وابن القاسم وأصبغ
في الواضحة إنه يغرم مطلقا لان الخطأ والعمد في أموال الناس سواء. (ومن
قال) لموكله (رددت لك ما وكلتني عليه) مثاله أن يوكله على دفع دين
لزيد فلم يجده فرده لموكله، فلو نازعه الموكل، فالقول قول الوكيل في رده
لأنه أمين (أو على بيعه أو) قال له: (دفعت إليك ثمنه أو) قال المودع
لمن استودعه شيئا رددت عليك (وديعتك أو) قال العامل لمن دفع إليه
مالا قراضا فيطلبه فيقول له دفعت إليك (قراضك فالقول قوله) أي
قول كل واحد من الوكيل والمودع والمقارض. ويحتمل أن المؤلف ماش
على ما قاله شيوخ المدونة أنه إذا قال فيها القول قوله فلا بد من اليمين،
فيكون القول قوله أي بيمين، وإذا قال صدق فبغير يمين. (ومن قال
دفعت إلى فلان كما أمرتني فأنكر فلان) بأنه لم يصل إليه ما أمره بدفعه
إليه (فعلى الدافع البينة) أنه دفع إليه (وإلا ضمن) إن لم يقم بذلك
بينة (وكذلك على ولي الأيتام البينة أنه أنفق عليهم) إذا نازعوه في أصل
613

الانفاق بأن ادعوا أنه لم ينفق عليهم أو نازعوه في مقدار ما أنفق إذا لم
يكونوا في حضانته بأن كان ينفق عليهم مساناة أو مشاهرة لقوله: (وإن
كانوا في حضانته صدق في النفقة فيما يشبه) مع يمينه لما يدركه من
صعوبة الاشهاد، فخفف عليه الامر. (والصلح) وهو قطع المنازعة (جائز
إلا ما جر إلى حرام) أي أدى إلى ارتكاب محرم شرعا كأن يصالحه عن
الذهب المؤجل بالورق ولو على الحلول (ويجوز) الصلح (على الاقرار)
ويكون بيعا إن وقع على أخذ غير المقر به كأن يكون له عرض أو حيوان
ويصالح عنه بدراهم (و) على (الانكار) وصورته أن يدعي دارا مثلا
فينكر المدعى عليه ثم يصالحه على أن يدفع له شيئا من ماله، ثم إن الجواز
بالنظر إلى العقد. وأما بالنظر إلى الباطن فإن كان الصادق المنكر فالمأخوذ
منه حرام وإلا فهو حلال. (والأمة) القن (الغارة) بمقالها أو بشاهد
حالها بأنها حرة لمن يريد أن يتزوجها ف‍ (- تتزوج على أنها حرة) ثم يظهر
خلافه (فلسيدها أخذها وأخذ قيمة الولد يوم الحكم له بها) وعلى الزوج
الأقل من المسمى وصداق المثل، وإنما يأخذ قيمة الولد من أبيه إذا لم
يكن الولد ممن يعتق على السيد، فإن كان يعتق على السيد فإنه لا غرامة
على الأب المغرور بدفع قيمة ولده كما لو غرت الولد أمة أبيه أو أمة جده
من أب أو أم فتزوجها ظانا حريتها وأولدها، ثم علم بعد ذلك برقها فإن الولد
614

يعتق على جده أجدته ولا قيمة فيه. (ومن استحق أمة) والحال
أنها (قد ولدت) من حر غير غاصب سواء وطئها بملك أو هبة أو ميراث
أو شراء أو غير ذلك من وجوه الملك (فله) أي لمستحق الأمة (قيمتها
وقيمة الولد) وتعتبر القيمة (يوم الحكم) ويكون الولد حرا ثابت النسب
(وقيل يأخذها) أي الأمة (وقيمة الولد وقيل له قيمتها فقط) يوم
وطئها والأقوال الثلاثة لمالك (إلا أن يختار الثمن فيأخذه من الغاصب
الذي باعها له) وإذا اختار الثمن كان كالمقرر لبيع الغاصب (و) أما
(لو كانت) الأمة المستحقة بعد الولادة (بيد غاصب) علم بغصبه (فعليه)
أي الغاصب (الحد) لأنه زان (وولده رقيق معها) أي مع الأمة (لربها)
إذا كان غير أب، ولو قال: وولدها بالإضافة إلى ضمير الأنثى لكان أحسن
لأنه لاحق بها لا به، وحكم من اشتراها من الغاصب عالما بغصبه كحكم الغاصب
أي في قطع نسب الولد وحده حيث شهدت بينة على إقراره بعلمه قبل
الوطئ أنها مغصوبة. (ومستحق الأرض) أي ومن استحق أرضا من
يد مشتر أو غيره ممن ليس بغاصب (بعد أن عمرت) بفتح الميم من
العمارة أي بعد أن تصرف فيها بالبناء والغرس ونحوه فإن المستحق (يدفع)
615

لمن أعمرها (قيمة العمارة قائما) ويأخذ أرضه بما فيها (فإن أبى) أن
يدفع قيمة ما أعمر فيها (دفع إليه المشتري) أو من في منزلته قيمة
البقعة (براحا) أي لا شئ فيها (فإن أبى) المشتري من ذلك وفي نسخة
أبيا بلفظ التثنية أي المستحق والمشتري، أي أبى كل واحد منهما من دفع
ما نسب إليه (كانا شريكين بقيمة ما لكل واحد منهما) فالمستحق بقيمة
أرضه والذي أعمر بقيمة عمارته، فإذا كانت قيمة البقعة عشرة دنانير
وقيمة العمارة عشرين دينارا فيكون بينهما أثلاثا وتعتبر القيمة في ذلك
يوم الحكم على المشهور لا يوم البناء (والغاصب) أي لعرصة ويبنيها أو
يغرمها (يؤمر بقلع بنائه وزرعه وشجره) من الأرض المستحقة (وإن شاء
أعطاه ربها قيمة ذلك النقض) بضم النون وسكون القاف (و) قيمة
(الشجر ملقى) أي مقلوعا فيعتبر الشجر حطبا والبناء أنقاضا، ولا يجوز
أن يتفقا على إبقائه في الأرض على أن يدفع له الكراء لأنه يؤدي إلى
بيع الزرع قبل بدو صلاحه على التبقية، لان المالك لما كان قادرا على أخذه
مجانا في القسم الأول أو بقيمته مقلوعا في هذا القسم الثاني يعد بائعا له، وإن
أعطاه ربها قيمة نقضه وزرعه فإنما يكون ذلك (بعد قيمة أجر من يقلع
ذلك) مثال ذلك أن تكون قيمته مقلوعا عشرة دراهم وأجر من يقلعه
616

أربعة دراهم، فإنه يعطيه ستة دراهم (ولا شئ عليه) أي لا يغرم شيئا
للغاصب (فيما لا قيمة له بعد القلع والهدم) كالنقش أي أو الزرع أو الشجر
قبل بلوغه حد الانتفاع (ويرد الغاصب الغلة) ومثله اللص والخائن والمختلس
ونحوهم من كل ما لا شبهة له فيما اغتله، ولقوله عليه الصلاة والسلام لا يحل
مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس (ولا يردها غير الغاصب) وهو صاحب
الشبهة ولو كان مشتريا من الغاصب حيث لا علم عنده لقوله عليه الصلاة
والسلام الخراج بالضمان ولما كان الولد غير داخل في الغلة وخشي
توهم دخوله نبه عليه بقوله (والولد في الحيوان) غير الآدمي. (وفي الأمة إذا
كان الولد من غير السيد) الحر (يأخذ المستحق للأمهات من يد مبتاع
أو غيره) كالموهوب له والمتصدق عليه لان حكم الولد حكم الام في كونه
ملكا لمن هي له ملك فيأخذه المستحق لأنه ليس بغلة (ومن غصب أمة
ثم وطئها فولده رقيق وعليه الحد) ولا صداق عليه، وإنما يلزمه أرش
نقصها بوطئه. (وإذا كان لرجل) بيت ولآخر (غرفة) عليه (وضعف
السفل) وخاف عليه الهدم (فإصلاح السفل على صاحب
617

السفل) ليتمكن صاحب العلو من المنفعة (و) كذلك (الخشب لحمل السقف عليه) أي على
صاحب السفل (و) كذلك (تعليق الغرف عليه) أي على صاحب السفل
(إذا وهي السفل) وضعف (وهدم) أي قارب أن ينهدم، وقوله: (حتى
يصلح) غاية لتعليق الغرف، والمعنى أن صاحب البناء الأسفل إذا وهي
بناؤه وقارب أن ينهدم، فيجب عليه أمران، ويقضى عليه بهما: أن يعلق
الغرف التي فوق بنائه ليتمكن صاحب العلو من المنفعة، وأن يصلح الأسفل
أو يبيعه ممن يصلحه، وإلى هذا الإشارة بقوله: (ويجبر) أي صاحب السفل
(على أن يصلح) سفله (أو يبيعه ممن يصلحه) فإذا باعه لشخص وامتنع
أيضا، فإنه يقضى عليه بالاصلاح أو البيع ممن يصلح وهكذا. وقوله: (ولا
ضرر ولا ضرار) أي لا تضر من لم يضرك، وهو معنى لا ضرر، وقوله: ولا
ضرار، أي لا تفعل معه زيادة على ما فعل معك فتعد ضارا. وأما مثل فعله
أو أنقص منه فجائز، قال تعالى: * (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194) هذا
بالنسبة للعامة. وأما أكابر الناس وخواصهم فيقابلون الإساءة بالمعروف (فلا
يفعل ما يضر بجاره من فتح كوة) بفتح الكاف هي الطاقة، أفهم كلامه
أن الكوة السابقة على بيت الجار لا يقضى بسدها وهو كذلك، ولكن
يمنع من التطلع على الجار منها (قريبة يكشف جاره منها) بحيث يميز
الذكور من الإناث (أو فتح باب قبالة بابه) أي قبالة باب جار الفاتح، فإن
618

فعل منع من ذلك لأنه يلزم منه الاطلاع على عورة جاره (أو حفر ما يضر
بجاره في حفره) وإن كان الحفر في ملكه كحفر بئر ملتصقة بجداره أو
حاصل لمرحاضه. (ويقضى بالحائط لمن إليه) أي عند (القمط والعقود)
القمط بكسر القاف وسكون الميم الخشب الذي يجعل في وسط الحائط
ليحفظه من الكسر والعقود تناكح الأحجار أي تداخل بعض البناء في
بعض. (ولا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ) وصورة ذلك أن يكون بإزاء
الماء مرعى ينزل فيه قوم يريدون الرعي فيه فيمنعهم أهل الماء من الشرب
ليرتحلوا عن مرعاهم. (فأهل آبار الماشية أحق بها) أي بماء الآبار (حتى
يسقوا) ثم المسافرون لسقيهم، ثم ماشية أهل الآبار، ثم ماشية المسافرين
(ثم الناس) بعدهم (فيها) أي في الآبار أي في فضل مائها شركاء (سواء.
ومن كان في أرضه عين أو بئر فله منعها إلا أن تنهدم بئر جاره) أو يغور
ماؤها (و) الحال أن (له) أي للجار (زرع يخاف عليه فلا يمنعه)
أي لا يجوز له أن يمنعه (فضله) بل يلزمه بذله، ويقضى عليه بذلك بشروط
ثلاثة: أن يكون الجار زرع على أصل ماء فانهارت بئره، وأن يخاف على
619

زرعة التلف، وأن يشرع في إصلاح بئره ولا يؤخر (واختلف هل عليه)
أي على الجار (في ذلك) الفضل ثمن لصاحب الماء، وهو محكي عن مالك
(أم لا) وهو قول في المدونة، ووجهه أن بذل فضل مائه واجب على طريق
الإعانة فلم يكن له أخذ العوض عنه، ووجه الأول أنه انتفع بمال الغير
لاحياء مال نفسه. (وينبغي) بمعنى ويستحب (أن لا يمنع الرجل جاره
أن يغرز) أي يدخل (خشبه في جداره) لما صح من قوله عليه الصلاة
والسلام: لا يمنع الرجل جاره أن يغرز خشبة في جداره روي خشبة بالافراد
وخشبه بالجمع، وقوله: (ولا يقضى عليه) تأكيد للندب المستفاد من قوله:
وينبغي أن يمنع الخ، وإشارة إلى رد قول ابن كنانة والشافعي أنه يقضى
عليه. (وما أفسدت الماشية من الزروع والحوائط بالليل فذلك على أرباب
الماشية ولا شئ عليهم في إفساد النهار) وهذا التفصيل في الموطأ وغيره فقد روى
مالك في موطئه أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت الماشية
بالليل فهو ضمان على أهلها، ومحل كون ضمان ما أتلفته ليلا على ربها ما لم
يكن معها راع، وإلا فالضمان عليه. (ومن وجد سلعته) التي باعها من
رجل لم تفت ولم يقبض ثمنها حتى أفلس مشتريها، فالبائع حينئذ أي في
620

التفليس بالخيار (فإما حاصص بها) أي دخل مع الغرماء في جملة المال
فيأخذ نصيبا بنسبة ماله منه (وإلا أخذ سلعته إن كانت تعرف بعينها)
وكانت من ذوات القيم كالدواب والرقيق. وأما إن كانت من ذوات الأمثال
كالقمح فليس له إلا الحصاص، والموضوع أن الفلس طارئ على الشراء،
وإلا فلا يكون أحق بسلعته بل يحاصص الغرماء. (وهو) أي صاحب
السلعة إذا وجدها (في الموت) أي موت من ابتاع السلعة وصاحب السلعة
لم يقبض ثمنها حتى مات المبتاع (أسوة الغرماء) وليس أحق بسلعته بل
يحاصص (والضامن غارم) عند تعذر الاستيفاء من الغريم (وحميل الوجه)
وهو من التزم إحضار الغريم وقت الحاجة إليه إن أتى بوجه من تحمل به
عند الاجل برئ، و (إن لم يأت به) عند الاجل (غرم) المال الذي
عليه (حتى) بمعنى إلا أن (يشترط أن لا يغرم) فلا يلزمه إن تغيب الغريم
غرامة المال، قال ابن عمر: إلا أن يكون أمكنه الاتيان به ففرط، فإنه يغرم.
(ومن أحيل بدين فرضي فلا رجوع له على الأول وإن أفلس هذا) المحال
عليه (إلا أن يغره منه) أي يغر المحيل المحال، وقوله: منه أي فيه، أي
المدين الذي هو المحال عليه مثل أن يعلم أنه عديم، وأحال عليه فإنه لا يبرأ
ويرجع عليه المحال بدينه. (وإنما الحوالة على أصل دين وإلا) أي وإن
621

لم تكن على أصل دين (فهي حمالة) أي ضمان لان الحوالة مأخوذة من
تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فإن لم يكن هناك أصل دين لم تكن
حوالة، ولو وقعت بلفظ الحوالة. وفائدة ذلك أن للمحتال أن يرجع على المحيل،
ولا تبرأ ذمته بذلك، لأن الضمان لا يبرئ ذمة المضمون عنه، وإنما هو شغل
ذمة أخرى، فلو كانت حوالة لبرئت بها ذمته ولم يكن للمحتال الرجوع
عليه. وقوله: (ولا يغرم الحميل إلا في عدم الغرم أو غيبته) راجع إلى قوله
والضامن غارم، ومحل كون الحميل يغرم في غيبة الغريم البعيدة إذا لم يكن
للغريم مال حاضر يمكن الاستيفاء منه، وإلا فلا يغرم. (ويحل بموت المطلوب أو
تفليسه كل دين عليه) المراد به حكم الحاكم بخلع ماله لا مجرد قيام الغرماء،
فلا يحل به ما أجل، أما حلول الديون المؤجلة بالموت فلان الدين كان متعلقا
بالذمة، وبالموت قد خربت ولم يبق للغريم ما يتعلق به، فوجب أن يحل
ما كان مؤجلا، وأن ينتقل من الذمة إلى التركة، لأنه لا يتعلق بغيرهما، فإذا
ذهبت إحداهما فلم يبق غير الأخرى. وأما حلوله بالفلس فلان الغرماء لما
دخلوا على ذمة عامرة وبالفلس قد خربت فأشبه ذلك موته. (ولا يحل)
بموت المطلوب أو تفليسه (ما كان له على غيره) من الديون لان محلها وهي
الذمم لم تفت بل هي باقية. (ولا تباع رقبة) العبد (المأذون) له في التجارة
(فيما عليه) من الديون وإنما تتبع ذمته (ولا يتبع به) أي مما على العبد
622

(سيده) إلا إذا قال لهم عاملوه وما عاملتموه به فذلك علي. (ويحبس
المديان) المجهول الحال (ليستبرأ) أي يستبين أمره فإن ثبت عدمه
بشهادة عدلين أنهما لا يعرفان له مالا لا ظاهرا ولا باطنا فلا يطلق حتى
يستحلف ما له مال ظاهر ولا باطن، وتكون يمينه على البت، ويزيد عليها
وإن وجدت مالا لأقضينه عاجلا. (وما انقسم بلا ضرر قسم) فيقسم كل ما كان
قابلا للقسمة (من ربع) وهو البناء (وعقار) وهي الأرض
وغيرها كالحيوان والعروض والمكيل والموزون، والمراد أن كل ما كان
قابلا للقسمة وتنافسوا فيه فبعضهم يطلب القسمة وبعضهم يأباها أجبر
الممتنع عليها. (وما لم ينقسم بغير ضرر) بأن لم يقبل القسمة كالعبد
الواحد فإن في قسمته إتلاف عينه أو يقبلها بضرر كالخفين، فإن في قسمتهما
إتلاف منفعتهما (فإنه لا يجوز قسمه) فإن تشاح الشركاء في شئ من
ذلك ولم يتراضوا على أن ينتفعوا به مشاعا وأراد أحدهم البيع وأباه
بعضهم (ف‍) - إن (من دعا إلى البيع أجبر عليه من أباه) لأنه لا يجوز
قسمه حتى يحسم مادة النزاع فتعين البيع، وأجيب له من طلبه لقطع
النزاع. (وقسم القرعة لا يكون إلا في صنف واحد) أي جنس واحد فلا
يجوز في قسم القرعة الجمع بين جنسين أو نوعين متباعدين كالتفاح والخوخ،
623

بل كل منهما يقسم على حدة، لان جمعهما في قسمة واحدة غرر بين. (ولا
يؤدي أحد الشركاء ثمنا) لأنه إذا أداه صار صنفين، والقرعة لا تكون
إلا في صنف واحد (وإن كان في ذلك تراجع لم تجز القسمة إلا بتراض)
مثال ذلك أن يوجد ثوبان ثمن أحدهما ديناران وثمن الآخر دينار فيقرع
عليهما، فمن صار في سهمه الذي ثمنه ديناران على صاحبه خمسة دراهم
ليتعادلا، فهذا لا يجوز إلا بتراض بأن يقول أحدهما للآخر: لك الخيار إما
أن تختار الذي ثمنه ديناران وتعطي خمسة دراهم، أو تأخذ الذي ثمنه
دينار وتأخذ خمسة دراهم. (ووصي الوصي كالوصي) إن كان الأصلي بوصية
الأب لا بوصية القاضي، فإذا كان مقاما من قبل القاضي فليس له الوصاية.
(وللوصي أن يتجر في أموال اليتامى ويزوج إماءهم) لكن ليس له أن
يتجر بها بنفسه، فإن فعل ذلك تعقبه الامام فإن رآه خيرا إمضاء، وإلا أبطله.
(ويبدأ بالكفن) يريد بعد المعينات مثل أم الولد والمعتقة لأجل ونحو
ذلك (ثم بالدين) الثابت ببينة أو إقرار في صحته أو مرضه لكن لمن
لا يتهم عليه (ثم) بعد الدين (بالوصية) إن كان أوصى (ثم الميراث) إلا
قدر كفنه، فإن لم يترك إلا قدر كفنه كان أحق به. (ومن حاز دارا) مثلا
624

أو عقارا فهو أعم من الدار (على حاضر) أي مع حاضر أي مع موجود
حاضر رشيد أجنبي غير شريك (عشر سنين) وهي (تنسب) أي
تضاف (إليه) كأن يقال: دار فلان (وصاحبها) المنازع (حاضر عالم)
بأنها ملكه، وأما إذا لم يعلم بأن هذا المحل المحاز عنه ملكه بأن قال:
لا أعلم أنه ملكي، في حال تصرف هذا الحائز وما وجدت الوثيقة إلا عند
فلان، أو كان وارثا وادعى أنه لا يعلم أنه ملكه فإنه يقبل قوله: (لا يدعي
شيئا) ولم يمنعه مانع من المطالبة، أما إذا كان الحائز ذا شوكة فإن له القيام
ولو طال الزمن وتسمع دعواه (فلا قيام له) أي بعد ذلك ولا تسمع
بينته لان العرف يكذبه، إذ ولو كانت له لما سكت عن الدعوى بها في هذه
المدة هذا كله في غير حق الله. وأما هو فلا يفوت بالحيازة ولو طالت المدة.
كما لو حاز طريق المسلمين أو جزأ منها أو مسجدا أو محلا موقوفا على
غيره. (ولا يجوز) بمعنى لا يصح (إقرار المريض) مرضا مخوفا (لوارثه
بدين) له في ذمته (أو بقبضه) أي بقبض دين كان له عليه صورة
الاقرار بالدين أن تقول: لفلان علي كذا وكذا. وصورة الاقرار بقبضه
أن يقول: الدين الذي لي على فلان قبضته. وهذا مقيد بأن يكون هناك
تهمة بأن كان الوارث له ابنته وابن عمه فالميل لابنته يقضي بالتهمة، وإن
إقرار لها بدين أو بقبضه ليس الغرض منه إلا محاباتها. (ومن أوصى
625

بحج أنفذ من الثلث) على المشهور (والوصية بالصدقة أحب إلينا) أي إلى
المالكية من الايصاء بالحج لأنه لا خلاف فيها. ولا خلاف في انتفاع الميت
بها. وأما الحج فمختلف فيه بين أهل العلم هل ينتفع به الميت أم لا؟ ومذهب
مالك أنه لا ينتفع به الميت. (وإذا مات أجير الحج) أي من استؤجر لان يحج
عمن أوصى بحج في أثناء الطريق (قبل أن
يصل) إلى مكة أو قبل أن يقضي أفعال الحج (فله بحساب ما سار) من الطريق أي من حيث
الصعوبة والسهولة والامن والخوف، لا من حيث المسافة فقد يكون ربعها
يساوي نصف الكراء (ويرد ما بقي) لأنه لا يستحق كل الاجر إلا بتمام
العمل (وما هلك بيده فهو) أي ضمانه (منه) لان عليه معاوضته أي
لأنه تقرر عليه وتحمل عليه عوضه وهو العمل (إلا أن يأخذ المال على
أن ينفق على البلاغ ف‍) - إنه إذا هلك يكون (الضمان من الذين واجروه)
صوابه آجروه بغير واو، وإنما كان الضمان منهم لتفريطهم بعدم إجارة
الضمان التي هي أحوط. وصورة إجارة البلاغ أن يعطى الأجير مالا ليحج
به فإن أكمل العمل كان له، وإن لم يكمله لم يستحق منه شيئا، وإن احتاج
إلى زيادة رجع بها على المستأجر (ويرد ما فضل إن فضل شئ) ولا يجوز
له صرف شئ منه في غير الحج.
626

باب في علم الفرائض (باب في علم الفرائض) جمع فريضة بمعنى المقدر ومما يدل على مزيد
فضله قوله عليه الصلاة والسلام: تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإن العلم
سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من
يفصل بينهما رواه البيهقي وغيره (ولا يرث من الرجال إلا عشرة الابن
وابن الابن وإن سفل) بفتح الفاء وضمها (والأب والجد للأب وإن بعد)
وفي نسخة وإن علا (والأخ) شقيقا كان أو لأب أو لام (وابن الأخ)
الشقيق أو لأب (وإن بعد والعم) الشقيق أو لأب (وابن العم) الشقيق
أو لأب (وإن بعد والزوج ومولى النعمة) وهو المعتق أو ما قام مقامة
من ابن المعتق أو معتق المعتق. (ولا يرث من النساء غير سبع: البنت وبنت
الابن والام والجدة) لام أو لأب (والأخت) الشقيقة أو لأب أو لام (والزوجة
ومولاة النعمة) أي المعتقة. ولما فرغ من تعداد من يرث شرع يبين مقدار
ما يرث كل واحد منهم فقال (فميراث الزوج من الزوجة إن لم تترك ولدا
627

ولا ولد ابن النصف فإن تركت ولدا) ذكرا كان أو أنثى (أو ولد ابن)
كذلك سواء كان الولد (منه) أي من الزوج (أو من غيره) بنكاح
أو زنى أو لعان من حر أو عبد مسلم أو كافر، ويشترط في الولد أو ولد ابنه أن
يكون حرا مسلما غير قاتل (فله) أي الزوج (الربع) ودليل الفرضيين
قوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * (النساء: 12) الآية (وترث هي) أي الزوجة
أو الزوجتان أو الزوجات (منه) أي الزوج (الربع إن لم يكن له ولد
ولا ولد ابن) ذكرا كان أو أنثى كان الولد (منها أو من غيرها) زوجة
كانت أو أم ولد (فإن كان له ولد أو ولد ابن فلها الثمن) ودليل الفرضيين
قوله تعالى: * (ولهن الربع) * (النساء: 12) الآية. (وميراث الام من ابنها الثلث) لو قال من
ولدها لكان أحسن ليشمل الذكر والأنثى (إن لم يترك ولدا أو ولد ابن
أو اثنين مع الاخوة ما كانوا فصاعدا) أي في حال كون الاخوة أي
إخوة كانوا ذكورا فقط أو إناثا فقط أو ذكورا وإناثا أشقاء أو لأب
أو لام بشرط أن يكونوا أحرارا مسلمين غير قاتلين (إلا في فريضتين)
أولهما: (في زوجة وأبوين ف‍) - هي من أربعة (للزوجة الربع) سهم (وللأم
628

ثلث ما بقي) سهم (وما بقي) وهو سهمان ف‍ (- للأب) فلو كان موضع الأب
جد لكان لها الثلث حقيقة من رأس المال لأنها ترث معه بالفرض ومع
الأب بالتعصيب. (و) ثانيهما: (في زوج وأبوين) فهي من ستة (للزوج
النصف) ثلاثة (وللأم ثلث ما بقي) سهم (وما بقي) وهو سهمان (للأب)
وتسمى هاتان الفريضتان بالغراوين لان الام غرت فيهما فإنها تأخذ
الثلث لفظا لا معنى لأنها أخذت في الأولى الربع وفي الثانية السدس (ولها)
أي للام (في غير ذلك) أي في غير الفريضتين الغراوين (الثلث) كاملا
(إلا ما نقصها العول) وهو الزيادة على الفريضة، وذلك أن يجتمع في الفريضة
كالأربعة والعشرين فروض كالثلثين والسدسين لا تفي الفريضة بها ولا
يمكن إسقاط بعضها من غير حاجب ولا تخصيص بعض ذوي الفروض
بالتنقيص، فيزاد في الفريضة سهام حتى يتوزع النقص على الجميع إلحاقا
لأصحاب الفروض بأصحاب الديون. فسمي ذلك عولا. والملحق العباس،
ووافقه الصحابة، وذلك حين ماتت امرأة في خلافه عمر رضي الله عنه
وتركت زوجا وأختين فجمع الصحابة فقال لهم: فرض الله للزوج النصف
وللأختين الثلثين، فإن بدأت بالزوج لم يبق للأختين حقهما، وإن بدأت
بالأختين لم يبق للزوج حقه فأشيروا علي. فأشار العباس بن عبد المطلب
بالعول وقال: أرأيت لو مات رجل وترك ستة دراهم ولرجل عليه ثلاثة
ولآخر أربعة أليس يجعل المال سبعة أجزاء. فأخذت الصحابة بقوله. (إلا
629

أن يكون للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الاخوة ما كانا فلها السدس
حينئذ) ما ذكره من حجب الام من الثلث إلى السدس بالاثنين
من الاخوة مذهب الأئمة قاطبة، إلا ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال:
لا يحجبها إلا ثلاثة من الاخوة مستدلا بقوله تعالى: * (فإن كان له) * (النساء: 11) أي للميت
* (إخوة فلأمه السدس) * ومنشأ الخلاف الخلاف في أقل الجمع (وميراث الأب من
ولده) الذكر والأنثى نقول في شأنه (إذا انفرد ورث المال كله) بلا خلاف.
(ويفرض له مع) وجود (الولد الذكر أو) مع (ولد الابن) الذكر
(السدس) من أصل التركة (فإن لم يكن له ولد) ذكر (ولا ولد ابن)
كذلك (فرض للأب السدس) من أصل التركة (وأعطي) بعد ذلك
(من شركه من أهل السهام) وهم البنت أو بنت الابن أو الاثنتان من
ذلك فصاعدا (سهامهم ثم كان له ما بقي) إن بقي شئ، فإن فضل شئ
بعد أخذ ذوي السهام سهامهم أخذه بالتعصيب، لما صح من قوله عليه الصلاة
والسلام: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر. أي وهو موجود
في الأب. (وميراث الولد الذكر جميع المال إن كان وحده) وليس معه ذو
630

سهم أما إن كان معه أخ فأكثر فإنهم يرثون جميع المال ويكون بينهم
بالسوية (أو يأخذ ما بقي بعد) أخذ (سهام من معه من زوجة وأبوين
أو جد أو جدة) وإنما بدأ بأهل السهام لأنهم أصل بالنسبة للعصبة لان
لهم سهاما معينة في الكتاب والسنة. فإذا كان معه زوجة فقط فالمسألة
من ثمانية لها ثمنها والباقي له. وإن كان معه أبوان فقط فالمسألة من ستة
للأبوين ثلثها وللابن ما بقي. وإن كان معه جد أو جدة فالمسألة أيضا من
ستة للجد أو الجدة السدس واحد، والباقي له. وإن كان معه زوجة وأبوان
فالمسألة من أربعة وعشرين للزوجة ثمنها ثلاثة وللأبوين ثلثها ثمانية والباقي
له. (وابن الابن بمنزلة الابن) غالبا (إذا لم يكن) للميت (ابن) من صلبه
ولا يكون كالابن في جميع الوجوه لان الابن لا يسقط أصلا وابن الابن
يسقط في نحو أبوين وابنتين وابن ابن وقد لا يحجب من يحجبه الابن
وأيضا ليس مثله في التعصيب، فإن ابن الصلب يعصب بنات الصلب ولا
يعصبهن ابن الابن (فإن كان ابن) لصلب (و) معه (ابنة) كذلك
(* (فللذكر مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 176) سواء ورث المال جميعه أو ما فضل منه
بعد أخذ ذوي السهام سهامهم (وكذلك في كثرة البنين والبنات وقلتهم
يرثون كذلك جميع المال) فيقتسمونه للذكر مثل حظ الأنثيين مثل
أن يترك خمس بنين وخمس بنات فإنهم يقتسمون المال على خمسة عشر
631

سهما (أو ما فضل منه) أي من المال (بعد من شركهم من أهل السهام)
ثم ما فضل يقتسمونه للذكر مثل حظ الأنثيين. وقوله: (وابن الابن كالابن
في عدمه فيما يرث ويحجب) تكرار مع قوله وابن الابن بمنزلة الابن.
(وميراث البنت الواحدة) التي للصلب (النصف) لقول تعالى: * (وإن كانت
واحدة فلها النصف) * (النساء: 11) (والاثنتين) من بنات الصلب (الثلثان) لما صح أنه
عليه الصلاة والسلام ورثهما كذلك (فإن كثرن لم يزدن على الثلثين
شيئا وابنة الابن كالبنت) الواحدة للصلب (إذا لم تكن بنت) الصلب
موجودة فإنها ترث النصف بالاجماع (وكذلك بناته) أي الابن
(كالبنات) للصلب (في) حال (عدم البنات) للصلب ترث الاثنتان منهن
فصاعدا الثلثين بلا خلاف (فإن كانت ابنة) واحدة للصلب موجودة
ومعها (ابنة ابن فللابنة) للصلب (النصف ولبنت الابن السدس تمام
الثلثين) لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قضى بذلك. (وإن كثرت بنات الابن) مع
632

بنت الصلب (لم يزدن على ذلك السدس شيئا إن لم يكن معهن ذكر) في
درجتهن وسيصرح بحكم ما إذا كان معهن ذكر (و) إذا أخذت بنت
الصلب النصف وبنتا الابن أو بناته السدس. ف‍ (- ما بقي) بعد ذلك وهو
الثلث (للعصبة) ثم صرح بمفهوم قوله: فإن كانت ابنة فقال (وإن
كانت البنات) للصلب (اثنتين) فصاعدا مع بنت ابن فأكثر (لم
يكن لبنات الابن شئ) في السدس لان الثلثين تكملا دون بنات الابن
(إلا أن يكون معهن) أي مع بنات الابن (أخ) لهن (فيكون ما بقي
بينهن وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين) إن بقي شئ فإن لم يبق شئ
فلا شئ لهن لأنهن إنما يرثن بالتعصيب والعاصب لا يرث إلا ما فضل. (وكذلك
إذا كان ذلك الذكر) الذي مع بنات الابن (تحتهن) فإنه يعصبهن فإذا
عصبهن (كان) ذلك (الباقي بينه وبينهن كذلك) أي للذكر مثل حظ
الأنثيين. قال ابن عمر: إن ابن الابن يعصب من في درجته ومن فوقه ولا
يعصب من تحته. (وكذلك لو ورث بنات الابن مع الابنة) للصلب
(السدس وتحتهن بنات ابن معهن) ذكر في درجتهن (أو تحتهن
633

ذكر كان ذلك) الثلث الباقي (بينه وبين إخوته أو من فوقه من عماته ولا
يدخل في ذلك) الثلث الباقي (من دخل في الثلثين من بنات الابن)
من الطبقة الأولى. (وميراث الأخت الشقيقة النصف) لقوله تعالى: * (إن
امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) * (النساء: 176) (و) ميراث (الاثنتين
فصاعدا الثلثان) لقوله تعالى * (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) * (النساء: 176) (فإن
كانوا إخوة وأخوات شقائق أو لأب، فالمال بينهم للذكر مثل حظ
الأنثيين قلوا أو كثروا) لقوله تعالى: * (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر
مثل حظ الأنثيين) * (النساء: 176) (والأخوات) الشقائق والأخت الواحدة (مع البنات)
راجع للطرفين أعني قوله: الشقائق والأخت. وقوله: مع البنات أو البنت
الواحدة أو مع بنت ابن أو بنات ابن (كالعصبة لهن يرثن ما فضل عنهن
ولا يربى لهن) أي لا يفرض ولا يراد لهن أي للأخوات. وقوله: كالعصبة
لهن اللام بمعنى مع (معهن) أي مع البنات بل يأخذن ما فضل بالتعصيب
634

وإنما قال كالعصبة أي يشبهن العصبة في أنهن لا يرثن إلا ما بقي ولا يشبهن
العصبة في حيازة المال إذا انفردن فهذا وجه قوله كالعصبة. (ولا ميراث
للاخوة والأخوات مع الأب) لأنهم يدلون به وكل من يدلي بشخص
لا يرث مع وجوده بل يحجب حجب إسقاط (ولا ميراث) لهم أيضا (مع
الولد الذكر أو مع ولد الولد) الذكر أما الأول فلانه أقوى تعصيبا منهم
لأنه يدلي بنفسه والأخ يدلي بغيره كما قاله التتائي. وأما الثاني فلان ابن
الابن بمنزلة الابن (والإخوة للأب في) حال (عدم) الاخوة (الشقائق
كالاخوة الشقائق ذكورهم وإناثهم) فلو انفردت إحداهن فإنها ترث
النصف. (وإذا اجتمع ذكور وإناث قسم المال) بينهم للذكر مثل حظ
الأنثيين إلى آخر ما تقدم (فإن كانت) الوارثة (أختا شقيقة) ليس
معها ذكر (و) إنما معها (أخت) واحدة (لأب أو أخوات لأب فالنصف)
يعطى (للشقيقة و) يعطى (لمن بقي من) جنس (الأخوات للأب
السدس) تكملة الثلثين. وعن ابن مسعود: لاحظ للأخت التي للأب في
هذه الصورة (ولو كانتا أختين شقيقتين) فأكثر (لم يكن للأخوات)
635

اللواتي (للأب) معهما (شئ) في السدس لان الشقيقتين استكملتا
الثلثين، ولا في غير السدس (إلا أن يكون معهن) أي اللواتي للأب
(ذكر) في درجتهن ولم يكن مع الشقيقتين ذكر (ف‍) - إنهم (يأخذون
ما بقي) بعد أخذ الشقيقتين أو الشقائق الثلثين فيقتسمونه (للذكر
مثل حظ الأنثيين. وميراث الأخت للأم والأخ للام سواء) حال من الأخت
والأخ أي حال كونهما مستويين في الفريضة لا مزية لذكر على أنثى
(السدس لكل واحد) منهما إذا انفرد. (و) أما (إن كثروا) بأن
زادوا على الواحد ذكورا فقط أو إناثا فقط أو ذكورا وإناثا (ف‍) - فرضهم
(الثلث) يقسم (بينهم الذكر والأنثى فيه سواء) لا يميز الذكر على الأنثى.
أجمعوا على أن المراد بالأخ والأخت في قوله تعالى * (وإن كان رجل يورث
كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت) * (النساء: 12) الأخ والأخت من قبل الام خاصة والكلالة
الفريضة التي لا ولد فيها ولا والد (ويحجبهم) أي الاخوة والأخوات للأم
(عن الميراث) حجب إسقاط (الولد) ذكرا كان أو أنثى (وبنوه)
وإن سفلوا ذكورا وإناثا. (والأب والجد للأب) وأما الجد للام فلا يحجب
لأنه لا يرث (والأخ يرث المال) كله تعصيبا (إذا انفرد كان شقيقا أو
636

لأب) عند عدم الشقيق (والشقيق) أي الأخ الشقيق (يحجب الأخ
) الذي (للأب) لان كل من ساوى في درجة وزاد فهو مقدم (وإن كان)
من يرث (أخ وأخت فأكثر شقائق أو لأب) عند عدم الشقائق (فالمال)
الموروث يقسم (بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين) وهذه المسألة مكررة
وإنما كررها ليرتب عليها قوله: (وإن كان مع الأخ ذو) أي صاحب (سهم)
أي فرض (بدئ بأهل السهام وكان له) أي الأخ (ما بقي) لقوله عليه
الصلاة والسلام: فما أبقت السهام فلأولى رجل ذكر فهو من جملة ما دخل
تحت الحديث (وكذلك يكون ما بقي) عن أهل السهام (للاخوة
والأخوات) الأشقاء إن كانوا، وإلا فللاخوة والأخوات للأب يقسم ذلك
الباقي إن كان بينهم (للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يبق شئ فلا شئ
لهم إلا أن يكون في أهل السهام إخوة لام) ذكورا فقط أو إناثا فقط
أو ذكورا وإناثا (قد ورثوا الثلث) وورث بقية أهل السهام الثلثين
637

كزوج وأم أو جدة فقد استكملوا المال (و) الحال أنه (قد بقي) بعد
استغراق أهل السهام جميع المال (أخ شقيق) فقط (أو إخوة ذكور)
فقط (أو ذكور وإناث) معا (شقائق معهم) لا حاجة له. والمعنى أو ذكور
وإناث حالة كونهم أي الذكور والإناث إخوة شقائق (ف‍) - إن الأخ الشقيق
أو الاخوة الشقائق (يشاركون كلهم) تأكيد للواو في قوله: يشاركون
(الاخوة للام في ثلثهم) لاشتراكهم في ولادة الام (فيكون بينهم
بالسواء) حظ الذكر كالأنثى (وهي الفريضة التي تسمى) عند الفرضيين
(بالمشتركة) لاشتراك الاخوة في الثلث وهي كل مسألة فيها زوج وأم أو
جدة واثنان من ولد الام فصاعدا وعصبة من الأشقاء. وتعرف أيضا بالحمارية.
وذلك أنها رفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأراد أن يحكم بإسقاط
الاخوة الأشقاء، فقال واحد منهم: هب أن أبانا كان حمارا أليست الام لنا
واحدة فحكم بالثلث لجميعهم بالسواء الأشقاء والذين للام حظ الأنثى منه
كحظ الذكر. (ولو كان من بقي إخوة لأب لم يشاركوا الاخوة للام في
ثلثهم لخروجهم عن ولادة الام) ثم ثنى بفقدان العصبة فقال (وإن
638

كان من بقي أختا أو أخوات لأبوين أو لأب أعيل لهن) أي بطل
الاشتراك وصارت من مسائل العول فيعال للواحدة بالنصف ثلاثة فتبلغ تسعة
ويعال للاثنتين بالثلثين أربعة فتبلغ عشرة (وإن كان من قبل الام أخ
واحد أو أخت لم تكن مشتركة وكان ما بقي) وهو السدس (للاخوة
إن كانوا ذكورا) فقط (أو ذكورا وإناثا) فالذكور فقط يقتسمونه
بالسوية والذكور والإناث يقتسمونه للذكر مثل حظ الأنثيين. وقوله: (وإن
كن إناثا) أي الأخوات (لأبوين أو لأب أعيل لهم) صوابه لهن (والأخ
للأب كالشقيق في) حال (عدم الشقيق إلا في المشتركة) لان المعنى الذي
ثبت للشقيق فيها مفقود في حق الأخ للأب وهو الاشتراك في ولادة الام.
(وابن الأخ كالأخ في) حال (عدم الأخ كان شقيقا أو لأب) أي
أنه ينزل منزلته في التعصيب خاصة لا في كل الوجوه فمن الوجوه التي يخالف
فيها ابن الأخ الأخ ما أشار إليه بقوله: (ولا يرث ابن الأخ للام) وعلة
ذلك أن أباه من ذوي الفروض لا مدخل له في التعصيب فكان كابن
639

البنت. وقوله: (والأخ للأبوين يحجب الأخ للأب) تكرار مع ما تقدم
كرره ليرتب عليه قوله: (والأخ للأب أولى من ابن أخ شقيق) لعلوه
عليه بدرجة. (و) كذا (ابن أخ شقيق أولى من ابن أخ لأب) في درجته
لأنه أقوى منه (وابن الأخ لأب يحجب عما لأبوين) لأنه يدلي بولادة الأب
والعم يدلي بولادة الجد (وعم لأبوين يحجب عما لأب) لأنه جمع رحما وتعصيبا
والذي للأب ليس في درجته إلا التعصيب (وعم لأب يحجب ابن عم لأبوين) لعلوه
عليه بدرجة (وابن عم لأبوين يحجب ابن عم لأب) في درجته لأنه
يدلي بسببين والضابط هو قوله: (وهكذا يكون الأقرب أولى) مطلقا
أي في الأخوات وأبنائهم والأعمام وأبنائهم. (ولا يرث بنو الأخوات
ما كن) شقائق أو لأب لام وبناتهن من باب أولى (ولا) يرث (بنو
البنات) وبناتهن من باب أولى. (ولا يرث بنات الأخ) ما كان شقيقا
أو لأب أو لام. (ولا) يرث (بنات العم ولا عم أخو أبيك لامه) قال
640

الفاكهاني: وفي بعض النسخ هنا: ولا جد لام وفي بعضها أيضا (ولا ابن
أخ لام ولا أم أبي الام) وكذا الخال والخالة والعمة. (ولا يرث عبد) قن
(ولا من فيه بقية رق) كالمدبر وأم الولد. (و) كذا (لا يرث المسلم
الكافر) عند الجمهور (ولا الكافر المسلم) إجماعا. وقوله: (ولا ابن أخ
لام ولا جد لام ولا أم أبي الام) تقدم وقضية قوله: (ولا ترث أم أبي الأب
مع ولدها أبي الميت) أنه لو فقد ولدها أو الميت ترث وليس كذلك.
إذ هي لا ترث بحال تدبر. وقوله: (ولا ترث إخوة لام مع الجد للأب ولا
مع الولد وولد الولد) تكرار لكن فيه زيادة قوله: (ذكرا كان) الولد
(أو أنثى) وكذا قوله (ولا ميراث للاخوة مع الأب ما كانوا) أشقاء أو
لأب تكرار. (ولا يرث عم مع الجد ولا ابن الأخ مع الجد) لان رتبة
الجد في رتبة الأخ والأخ يحجب ابنه، فكذا ما هو بمنزلته. (ولا يرث قاتل
العمد العدوان من مال ولا دية) وأما قاتل العمد غير العدوان كقتل
الامام أحدا ممن يرث في حد وجب عليه، وكقتل شخص أباه مثلا في باغية
641

فإنه يرثه (ولا يرث قاتل الخطأ من الدية ويرث من المال) ويحجب في
موضع يرث، ولا يحجب في موضع لا يرث. مثال ذلك: أن يترك الميت أما
وأخوين أحدهما قاتله، فإن الام ترث من المال السدس وما بقي للأخوين
معا لان الأخوين يحجبانها من الثلث إلى السدس، وترث من الدية الثلث
لان القاتل لا يرث من الدية فلا يحجبها وباقي موانع الميراث انتفاء النسب
باللعان وإبهام التقديم والتأخير. كما إذا مات قوم من الأقارب في سفر أو
تحت هدم وجهل السابق منهم لفقد الشرط وهو تأخير حياة الوارث من
موت الموروث. (وكل من لا يرث بحال لا يحجب وارثا) إلا في مسائل
مذكورة في الأصول. (والمطلقة ثلاثا في المرض) المخوف الذي أشرف فيه
الزوج على الموت (ترث زوجها إن مات من مرضه ذلك) الذي طلقها فيه.
لنهيه عليه الصلاة والسلام عن إخراج وارث وبه قضى عثمان، فقد ورث
زوجة عبد الرحمن بن عوف منه بعد انقضاء عدتها وكان قد طلقها البتة
وهو مريض ثم مات من مرضه هذا (ولا يرثها هو) لأنها أجنبية منه
ببينونتها. (وكذلك إن كان الطلاق واحدة) رجعية (و) الحال أنه (قد
مات من مرضه ذلك) الذي طلق فيه (بعد) انقضاء (العدة) في أنها
ترثه (وإن طلق الصحيح زوجته طلقة واحدة) رجعية (فإنهما يتوارثان
642

ما كانت في العدة). وكذا بقية أحكام الزوجية ثابتة بينهما (فإن انقضت
العدة فلا ميراث بينهما بعدها) لان الطلاق في الصحة لا تهمة فيه. (ومن
تزوج امرأة في مرضه لم ترثه ولا يرثها) لفساد ذلك النكاح (وترث
الجدة للأم السدس) فقط لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس (وكذا)
الجدة (التي للأب) ترث السدس بطريق القياس على التي للام (فإن
اجتمعتا فالسدس بينهما) نصفان (إلا أن تكون التي للام أقرب بدرجة
فتكون أولى به لأنها التي) ورد (فيها النص وإن كانت التي للأب أقربهما
فالسدس بينهما نصفين) ولا تختص به التي للأب كما اختصت به التي للام
عند القرب لأنها إنما أخذت بطريق القياس وتلك بطريق النص. (ولا
يرث عند مالك رحمه الله أكثر من جدتين أم الأب وأم الام وأمهاتهما)
يقمن مقامهما عند عدمهما تحجب القربى البعد على حكم ما تقدم. (ويذكر
عن زيد بن ثابت) رضي الله عنه (أنه ورث ثلاث جدات
643

واحدة من قبل الام) وهي أم الام (واثنتين من قبل الأب) إحداهما (أم
الأب و) الأخرى (أم أبي الأب. ولم يحفظ عن الخلفاء) الأربعة رضي الله
عنهم (توريث أكثر من جدتين) گ ثم انتقل يتكلم على ميراث الجد فقال:
(وميراث الجد) للأب عند عدم الأب من ولد ابنه وإن سفل ذكرا كان
أو أنثى (إذا انفرد) بأن لم يكن معه أحد من الاخوة والأخوات الأشقاء
أو لأب أو غيرهم من أهل السهام، أي كالبنت وبنت الابن (فله المال)
كله كالأب إجماعا (وله مع الولد الذكر أو مع ولد الولد الذكر السدس)
فقط إذا لم يكن معه صاحب فرض ولا أحد من الاخوة (فإن شركه أحد
من أهل السهام غير الاخوة أو الأخوات فليفرض) وفي نسخة فليقض
وهي أولى (له السدس) من أصل المال كما تقدم في ميراث الأب مع البنت
أو بنت الابن (فإن بقي شئ من المال) بعد أخذ الجد السدس وأهل
السهام سهامهم (كان له) أي للجد فهو في هذه الحالة وارث بالفرض
والتعصيب (فإن كان مع أهل السهام إخوة) أي جنس الاخوة أشقاء
أو لأب (فالجد مخير في ثلاثة أوجه) وفي تعبيره بقوله: مخير تجوز لأنه
644

إنما يأخذ الأفضل منها كما نص على ذلك هو في آخر عبارته بقوله: (يأخذ
أي ذلك أفضل له) والأوجه الثلاثة (إما مقاسمة الاخوة) فيقدر أخا
(أو) يأخذ (السدس من رأس المال أو) يأخذ (ثلث ما بقي فإن لم
يكن معه) أي الجد (غير الاخوة) لا أهل السهام ولا غيرهم (فهو يقاسم
أخا وأخوين) أي ويقاسم أخوين (أو عدلهما أربع أخوات) بدل من
عدلهما (فإن زادوا) أي الاخوة على الأخ والأخوين وعدلهما بأن يكونوا
أكثر من مثلي الجد (فله الثلث) من أصل المال فرضا لا ينقص عنه إذا
علمت هذا (فهو) أي الجد (يرث الثلث مع الاخوة إلا أن تكون
المقاسمة أفضل له) من أخذ الثلث أو استويا فإنه يقاسم (والإخوة للأب
معه) أي مع الجد (في) حال (عدم) الاخوة (الشقائق
كالشقائق) إلا في المسألة المشتركة التي تقدمت (فإن اجتمعوا) أي
الأشقاء والذين للأب مع الجد (عاده الشقائق بالذين للأب) أي حاسبوه
645

فهو فعل ماض (ف‍) - بسبب عد الشقائق على الجد الإخوة للأب (منعوه
بعدهم كثرة الميراث ثم كانوا) أي الأشقاء الذكور (أحق منه) صوابه
منهم أي من الإخوة للأب مثال ذلك أن يترك الميت جدا وأخا
شقيقا وأخا لأب. فإن الأخ الشقيق يحاسب الجد بالأخ للأب فيكون للجد الثلث وهو
الذي تعطيه المقاسمة ثم يرجع الأخ الشقيق فيأخذ السهم الذي للأخ للأب
فيكون في يده سهمان وفي يد الجد سهم (إلا أن يكون مع الجد أخت
شقيقة ولها أخ لأب أو أخت لأب أو أخ وأخت لأب فتأخذ) الشقيقة (نصفها
مما حصل) كما لو كانت تأخذ لو انفردت (و) بعد أن تأخذ نصفها (تسلم
ما بقي) من التركة (إليهم) أي إلى من ذكر من جد أو أخ لأب أو أخت لأب
أو هما لأب. (ولا يربى) أي لا يفرض (للأخوات مع الجد) شئ
مسمى (إلا في) المسألة المعروفة عند الفرضيين بالأكدرية وب‍ (- الغراء
وحدها) فإنه يفرض فيها للأخوات مع الجد (وسنذكرها بعد) إن شاء
الله تعالى آخر هذا الباب. (ويرث المولى الاعلى) وهو المعتق بكسر المثناة
(إذا انفرد) بأن لم يكن معه صاحب فرض ولا أحد من عصبة العتيق (جميع
646

المال) لأنه يرث بالتعصيب سواء (كان رجلا أو امرأة) وإنما ثبتت الوراثة للمولى
المعتق بالولاء لقوله عليه الصلاة والسلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب. (فإن كان معه
أهل سهم) أي فرض ولم يكن معهم عصبة أخذ أهل السهام سهامهم (وكان)
بعد ذلك أي بعد أخذ أهل السهام سهامهم (للمولى الاعلى ما بقي) لأنه
إنما يرث بالتعصيب. وبهذا قضى عليه الصلاة والسلام. مثال ذلك: أن يترك
بنتا فتأخذ هي النصف (و) يأخذ هو الباقي (ولا يرث المولى) الاعلى
(مع العصبة) أي عصبة العتيق لأنهم يرثون بالنسب وهو بالولاء (وهو)
أي المولى الاعلى (أحق من ذوي الأرحام الذين لا سهم لهم في كتاب الله
عز وجل) لعدم التعصيب فيهم ولا فرض لهم فسقطوا (ولا يرث) عندنا
(من ذوي الأرحام إلا من له سهم في كتاب الله) عز وجل وهم الاخوة
للام (ولا يرث النساء من الولاء) أي من أجل الولاء. ومفعول يرث
محذوف أي شيئا. وأراد بالولاء أثره من المال (إلا ما أعتقن) أي إلا
الولاء الكائن في الشخص الذي أعتقنه أي باشرن عتقه أو أعتق عنهن أي أعتقه عنهن
غيرهن بإذنهن أو بغير إذنهن كما أفاده التتائي. (أو جره)
647

إليهن (من عتقن بولادة أو عتق) قال ابن عمر: أما العتق فبين بأن
تعتق المرأة عبدا وهو يعتق عبدا فيموت العبد المعتق بالكسر أولا ثم يموت
المعتق بالفتح عن معتقة معتقه بالكسر فيهما. وأما الولادة ففيها تفصيل
فإذا أعتقت أي المرأة الأمة وهي حامل فولاء الأمة والجنين للمرأة، وما ولدت
بعد العتق فإن ولاءه لموالي أبيه أي الذين أعتقوا أباه. فلو انقرض موالي
الأب لكان الحق لبيت المال. (وإذا اجتمع من له سهم معلوم في كتاب
الله تعالى) أو في السنة أو بالاجماع (وكان ذلك أكثر من المال أدخل
عليهم كلهم الضرر وقسمت الفريضة على مبلغ سهامهم) وتحقيق ما يقال
في هذا الموضع أن تقيم أصل الفريضة بأن تصحح المسألة وتعطي لكل
وارث من أهل الفريضة سهمه، ثم تجمع ذلك فإن اجتمع مثلها أو أقل
علمت أنها غير عائلة وإن اجتمع أكثرها أي أكثر منها علمت أنها عائلة
كالمنبرية، فإن ثلثيها وسدسيها وثمنها يزيد على أربعة وعشرين. وإذا عالت
فتجعل الفريضة من الموضع الذي بلغته سهامهم وهو السبعة والعشرون
مثال ذلك المنبرية وهي زوجة وأبوان وابنتان، للبنتين الثلثان ولكل
واحد من الأبوين السدس، وللزوجة الثمن، فاتحد مخرج فرض الأبوين
فاكتفينا بواحد وهو من ستة واندرج فيه فرض البنتين، واتفق فرض
الزوجة مع مخرج السدس بالنصف فتضرب ثلاثة في ثمانية يحصل أربعة وعشرون،
للبنتين ثلثاها ستة عشر وللأب سدسها أربعة، وللأم كذلك أربعة فصار
648

ذلك أربعة وعشرين فاحتجنا إلى فرض الزوجة فعلنا بقدر ثمنها ثلاثة
أسهم فعالت إلى سبعة وعشرين. (ولا يعال للأخت مع الجد إلا في)
المسألة التي سماها مالك ب‍ (- الغراء وحدها وهي) أي من حيث مثالها
(امرأة تركت زوجها وأمها وأختها لأبوين أو لأب وجدها لأبيها ف‍) - المسألة
من ستة (للزوج النصف) وهو ثلاثة (وللأم الثلث) وهو اثنان (وللجد
السدس) وهو واحد (فلما فرغ المال أعيل للأخت بالنصف ثلاثة) فتصير
المسألة بعولها من تسعة، ثم يقول الجد للأخت: لا ينبغي لك أن تزيدي علي
في الميراث لأنك معي كالأخ، فردي ما بيدك وهو ثلاثة إلى ما بيدي وهو
سهم ليقسم بيننا للذكر مثل حظ الأنثيين، وأربعة على ثلاثة لا تصح ولا
توافق فتضرب ثلاثة عدد الرؤوس المنكسرة في الفريضة بعولها وهو تسعة
فتكون سبعة وعشرين للزوج، ثلاثة مضروبة في ثلاثة بتسعة، وللأخت والجد
أربعة مضروبة في ثلاثة باثني عشر تأخذ الأخت ت منها ثلثها وهو أربعة، ويأخذ
الجد ثلثيها وهو ثمانية ومن هذا علم معنى قول الشيخ: (ثم يجمع إليها سهم الجد
فيقسم جميع ذلك بينهما على الثلث لها والثلثين له فتبلغ سبعا وعشرين سهما)
649

أي وإذا أريد القسم تبلغ الفريضة سبعا وعشرين.
(باب جمل) أي في بيان جمل من الفرائض وجمل من السنن
(الواجبة) أي المؤكدة (و) جمل (من الرغائب). وابتدأ هذا الباب
بمسائل فقهية فقال: (الوضوء للصلاة) فرضا كانت أو نفلا (فريضة) أي
عبادة مفروضة (وهو مشتق من الوضاءة) وهي الحسن. قال زروق: وهذا
في الظاهر بإزالة الأوساخ، وفي الباطن بتكفير الذنوب، ولما خشي أن يتوهم
من قوله فريضة فرضية جميع أجزائه استثنى ما ليس له هذا الحكم، فقال:
(إلا المضمضة والاستنشاق ومسح الاذنين منه فإن ذلك سنة) أي كل
واحد فالإشارة تعود إلى المذكور. (والسواك) في الوضوء بمعنى الاستياك
(مستحب مرغب فيه) أي مؤكد في طلبه (والمسح على الخفين رخصة)
أي ذو رخصة وهي لغة التخفيف، وشرعا إباحة الشئ الممنوع مع قيام
السبب المانع، ويقابلها العزيمة وهي الحكم المشروع أولا (وتخفيف) عطف
بيان. (والغسل من الجنابة) وهي الانزال ومغيب الحشفة (ودم الحيض
والنفاس فريضة) أي عبادة مفروضة فرضها الشارع (وغسل الجمعة للصلاة
650

سنة) مؤكدة. وهذا مفسر لقوله في الجمعة والغسل لها واجب. (وغسل
العيدين مستحب) على المشهور، وقيل: إنه سنة (والغسل على من أسلم فريضة
لأنه جنب) في الغالب أي فما وجب الغسل إلا للجنابة فإذا تحقق أنه لم يجنب
لم يجب. (وغسل الميت) أي تغسيله غير شهيد المعركة ومن لم يستهل (سنة)
وأما غسل الشهيد فحرام. (والصلوات الخمس فريضة) فمن جحد وجوبها
استتيب فإن لم يتب قتل كفرا. (وتكبيرة الاحرام) وهي الله أكبر (فريضة)
على كل من يحسنها من فذ وإمام ومأموم (وباقي التكبير سنة) أي إن
كل تكبيرة من تكبيرات الصلاة غير تكبيرة الاحرام سنة، وليس الجميع
سنة وإن قال به أشهب (والدخول في الصلاة بنية الفرض) أي الفريضة
أي المفروضة التي هي الصلاة المعينة (فريضة) أي الدخول المصور بنية
الفرض فريضة (ورفع اليدين) عند تكبيرة الاحرام فقط دون ما عداها
من التكبيرات (سنة) وقيل: إن ذلك مستحب (والقراءة بأم القرآن
في الصلاة) المفروضة في حق الامام والفذ في كل ركعة أو في الجل (فريضة)
وأما المأموم فيحملها عنه الامام (وما زاد عليها) أي على أم القرآن في
651

الفرض (سنة واجبة) أي مؤكدة (والقيام في الصلاة) المفروضة للقادر
عليه غير المسبوق (والركوع والسجود) للقادر عليه (فريضة) بلا خلاف
في ذلك كله فإن ترك شيئا من ذلك مع القدرة عليه فصلاته باطلة (والجلسة
الأولى) فيما فيه تشهدان (سنة والثانية) بمقدار ما يوقع فيه السلام خاصة
(فريضة) والزائد على ذلك سنة. (والسلام) من الصلاة (فريضة) من
كل صلاة لها سلام فلا سلام لسجدة التلاوة (والتيامن به) أي بالسلام
(قليلا) بحيث ترى صفحة وجهه للامام والفذ والمأموم (سنة) والمعتمد
ما اعتمده صاحب المختصر أنه فضيلة (وترك الكلام في الصلاة) لغير
إصلاحها (فريضة). وأما من تكلم لاصلاح صلاته أي يسيرا وأما الكثير
فيبطل. وكذا الناسي إن تكلم يسيرا فلا شئ عليه وأما الكثير فمبطل
(والتشهدان) أي كل تشهد (سنة) على المشهور (والقنوت في الصبح)
فقط سرا (حسن) أي مستحب وقوله (وليس بسنة) تأكيد ولا سجود
على من نسيه (واستقبال القبلة فريضة) في كل صلاة ذات ركوع وسجود
وغيرها كصلاة الجنائز إلا في الفرض في شدة الخوف وإلا في حال المرض
إذا لم يجد من يحوله إلى القبلة فإنه يصلي حيث تيسر. (والوتر سنة واجبة)
652

أي مؤكدة. (وكذلك صلاة العيدين و) صلاة (الخسوف) أي خسوف
الشمس والقمر (و) صلاة (الاستسقاء) أي طلب السقيا (وصلاة الخوف)
أي حالة التحام الحرب (سنة واجبة) أي وجوب السنن المؤكدة، وآكدها
الوتر ثم العيدان ثم الخسوف ثم الاستسقاء (أمر الله سبحانه وتعالى بها)
بقوله: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * (النساء: 102) الآية. فالصلاة في نفسها فريضة
وعلى الهيئة المذكورة سنة (وهو فعل يستدركون به فضل الجماعة) أي
يحصلون به السنة. (والغسل لدخول مكة مستحب. والجمع) بين المغرب والعشاء
(ليلة المطر) وفي الطين والظلمة (تخفيف) أي رخصة (وقد فعله الخلفاء
الراشدون)، وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وهو القدوة. وإنما استشهد بفعلهم
دون فعله عليه الصلاة والسلام لان فعله يتطرق إليه النسخ دون فعلهم لأنه
لا نسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. (والجمع بعرفة) بين الظهر والعصر (وبالمزدلفة)
بين المغرب والعشاء (سنة واجبة) أي مؤكدة (وجمع المسافر) سفرا
واجبا كسفر الحج الواجب أو مندوبا أو مباحا كحج التطوع والتجارة (في)
حال (جد السير رخصة) وظاهره اشتراط جد السير وهو نص المدونة والذي
653

في المختصر عدم الاشتراط (وجمع المريض الذي يخاف أن يغلب على
عقله) عند الصلاة الثانية (تخفيف) أي رخصة، فإذا جمع ولم يغلب على
عقله في وقت الثانية فإنه يعيدها (وكذلك جمعه ل‍) - أجل (علة به) تخفيف
(فيكون ذلك أرفق به) لأنه إذا جمع كان له قيام واحد ووضوء واحد فبالجمع حصل
التخفيف. (والفطر في السفر) الذي تقصر فيه الصلاة، ويرخص فيه الجمع
(رخصة) إن شاء فعل وإن شاء ترك، والمشهور أن الصوم أفضل (والاقصار
فيه) أي قصر الصلاة في السفر بشرطه (واجب) وجوب السنن المؤكدة
فلا يحرم الاتمام (وركعتا الفجر من الرغائب) لهما نية تخصهما (وقيل)
هما (من السنن) والأول هو المشهور (وصلاة الضحى نافلة) أي متأكدة
والنافلة ما دون السنة والرغيبة (وكذلك قيام شهر رمضان نافلة وفيه
فضل كبير) لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: من قام رمضان إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: (ومن قامه
إيمانا واحتسابا) أي محتسبا أجره على الله (غفر له ما تقدم من ذنبه) بمحض
654

الاحسان. (والقيام من الليل في رمضان وغيره من النوافل المرغب فيها
والصلاة على موتى المسلمين فريضة) من فروض الكفاية (يحملها من
قام بها) عن الباقين (وكذلك مواراتهم بالدفن) أي موتى المسلمين (وغسلهم
سنة واجبة) أي مؤكدة. ولا يخفى عدم الملاءمة في كلامه فإن من يقول
بسنية الغسل يقول بسنية الصلاة ومن يقول بوجوبه يقول بوجوبها، والراجح
القول بوجوب الغسل والصلاة. (وكذلك طلب العلم فريضة عامة) أي واجبة
على جميع المسلمين (يحملها من قام بها) عن الباقين (إلا) فيه (- ما يلزم
الرجل في خاصة نفسه) كالتوحيد والوضوء والصلاة والحج والبيع والشراء
لما تقرر. وثبت أنه لا يجوز لاحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه
فهذه من فروض الأعيان لا يحملها أحد عن أحد (وفريضة الجهاد عامة)
أي واجبة على جميع المسلمين (يحملها من قام بها منهم) فتسقط عن الباقين
(إلا أن يغشى العدو محلة قوم) أي يغير ويهجم على محلة قوم بفتح الميم
655

المكان ينزله القوم (فيجب فرضا عليهم) أي يجب وجوبا مؤكدا عينا
على الذكر والأنثى الحر والعبد (قتالهم إذا كانوا مثلي عددهم) فإذا بلغ
عدد الكفار أكثر من مثليهم جاز لهم الفرار. (والرباط) وهو الإقامة (في
ثغور المسلمين) وهي الفرج الكائنة بين المسلمين والكفار (وسدها
وحياطتها) أي حفظها (واجب) وجوب فرض الكفاية (يحمله من قام
به) عن بقية المسلمين. (وصوم شهر رمضان فريضة) على كل مسلم مكلف.
(والاعتكاف) وهو ملازمة المسجد المباح للذكر وتلاوة القرآن (نافلة)
وقيل: إنه سنة. (والتنفل بالصوم مرغب فيه) وهو أحسن ما فسر به قوله
تعالى: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * (الزمر: 10) فقد فسر الصبر بالصوم. (وكذلك
صوم يوم عاشوراء) بالمد وهو العاشر من المحرم مرغب فيه (و) كذلك
صوم شهر (رجب مرغب) فيه (و) كذلك صوم شهر (شعبان) مرغب
فيه (و) كذلك صوم (يوم عرفة) وهو التاسع من ذي الحجة مرغب
فيه (و) كذلك صوم (يوم التروية) وهو الثامن من ذي الحجة مرغب
فيه (وصوم يوم عرفة لغير الحاج أفضل) وفي نسخة أحسن (منه للحاج)
656

وأما الحاج فالفطر له أفضل. (وزكاة العين) الذهب والفضة (و) زكاة
(الحرث و) زكاة (الماشية فريضة) أي كل ذلك واجب (وزكاة الفطر
سنة) أي واجبة بالسنة وهو معنى قوله: (فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي
فهي واجبة بالسنة. (وحج البيت فريضة) في العمر مرة واحدة (والعمرة
سنة واجبة) أي مؤكدة مرة واحدة في العمر (والتلبية) في الحج
والعمرة (سنة واجبة) أي مؤكدة (والنية بالحج فريضة و) كذا
(الطواف للإفاضة) وهو الذي يفعل بعد الرجوع من عرفة (فريضة)
بلا خلاف (و) كذلك (السعي بين الصفا والمروة فريضة وكذلك الطواف
المتصل به) أي بالسعي وهو طواف القدوم (واجب) يترتب على تركه دم.
(وطواف الإفاضة آكد منه) أي من طواف القدوم (والطواف للوداع
سنة) والذي في المختصر أنه مستحب (والمبيت بمنى ليلة يوم عرفة سنة)
لا دم على من تركه. وقوله: (والجمع بعرفة واجب) تكرار مع ما تقدم (والوقوف
657

بعرفة فريضة) بلا خلاف (ومبيت المزدلفة سنة واجبة) أي مؤكدة (ووقوف
المشعر الحرام مأمور به) استحبابا. (ورمي الجمار سنة واجبة) أي مؤكدة
(وكذلك الحلاق) في حق الرجل دون المرأة (سنة واجبة) أي مؤكدة
(وتقبيل الركن) يعني الحجر الأسود في أول شوط (سنة واجبة) أي
مؤكدة. (والغسل للاحرام سنة) للرجل والمرأة ولو حائضا أو نفساء
(والركوع عند الاحرام سنة وغسل عرفة) لأجل الوقوف بعرفة سنة.
وقوله: (والغسل لدخول مكة مستحب) تكرار (والصلاة في الجماعة أفضل
من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وفي رواية بخمس وعشرين جزءا
ولا تنافي لجواز كون الجزء أكبر من الدرجة. (والصلاة في المسجد الحرام
ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فذا أفضل من الصلاة في سائر المساجد)
ويليهما في الفضل مسجد إيلياء وهو بيت المقدس (واختلف في مقدار
658

التضعيف) أي الزيادة (بذلك) التفضيل (بين المسجد الحرام ومسجد
الرسول عليه الصلاة والسلام) لم يرد ما هو الظاهر من أنه اختلف بماذا
يفضل أحد المسجدين على الآخر وإنما أراد بيان الخلاف الواقع بين العلماء
هل مكة أفضل أو المدينة؟ ومشهور المذهب أن المدينة أفضل. ومعنى التفصيل
بينهما أن ثواب العمل في إحداهما أكثر من ثواب العمل في الأخرى.
(ولم يختلف أن الصلاة في مسجد الرسول) عليه الصلاة والسلام (أفضل من
ألف صلاة فيما سواه وسوى المسجد الحرام من المساجد) واختلفت هل
الصلاة فيه أفضل أو الصلاة في المسجد الحرام (فأهل) أي علماء (المدينة
المشرفة يقولون: إن الصلاة فيه) أي في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام
(أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف) قال بعضهم معناه
بسبعمائة (وهذا) التفضيل الذي ذكر إنما هو (في الفرائض. وأما النوافل ف‍)
- فعلها (في البيوت أفضل) لقوله عليه الصلاة والسلام: اجعلوا من صلاتكم
في بيوتكم أي شيئا من صلاتكم في بيوتكم (والتنفل بالركوع
659

لأهل مكة) أي سكانها (أحب إلينا) أي إلى المالكية (من الطواف) لئلا
يزاحموا الغرباء (وبالطواف للغرباء) وهم أهل المواسم (أحب إلينا من الركوع
لقلة وجود ذلك لهم) وذلك أن الطواف إنما يكون حول البيت الحرام. وأما
الركوع فيتيسر ولو للخارج من مكة. (ومن الفرائض غض البصر)
قال ابن القطان: الاجماع على أن العين لا تتعلق بها كبيرة ولكنها أعظم
الجوارح آفة على القلب وأسرع الأمور في خراب الدين والدنيا
(عن النظر إلى جميع المحارم) أي المحرمات كالنظر للأجنبية
والأمرد على وجه التلذذ، لقوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) * (النور: 30) الآية
الغض اسم للكسر والبصر للعين (وليس في النظرة الأولى) إلى المحارم
(بغير تعمد) أقصد (حرج) أي إثم (ولا) حرج (في النظر إلى
المتجالة) أي التي لا أرب فيها للرجال (ولا) حرج (في النظر إلى الشابة)
وتأمل صفتها (لعذر من شهادة عليها) في نكاح أو بيع ومثل الشاهد
الطبيب والجرائحي وإليه أشار بقوله: (أو شبهه) أي شبه العذر من
شهادة فيجوز للطبيب والجرائحي النظر إلى موضع العلة وإن كانت في العورة،
لكن يبقر الثوب قبالة العلة وينظر إليها لأنه إذا لم يبقر الثوب لربما تعدى
نظره إلى غير موضع العلة (وقد أرخص في ذلك) أي في النظر إلى الشابة
660

(للخاطب) أي إذا كان قصده مجرد علم صفتها فقط، وهذا نظره قاصر
على رؤية الوجه والكفين. وإنما رخص له في النظر إليهما لأنه يستدل
برؤية الوجه على الجمال وبرؤية الكفين على خصب البدن ومصدر ذلك
أمره عليه الصلاة والسلام بذلك. (ومن الفرائض صون اللسان) أي حفظه (عن
الكذب) وهو الاخبار عن الشئ على غير ما هو عليه (و) من الفرائض
أي من الأمور الواجبة على كل إنسان بعينه صون اللسان عن شهادة
(الزور) وهو أن يشهد بما لم يعلم وإن وافق الواقع (و) منها صون اللسان
عن (الفحشاء) وهي كل محرم أي من قول أو فعل (و) منها صون
اللسان عن (الغيبة) وهي أن يقول الانسان في غيره في غيبته ما يكره
أي من شأنه فخرج ما إذا كان الانسان يكره أن يذكر بطاعة لان هذا
مدح والمدح ليس شأنه ذلك، فإذا مدحه بما يكرهه وليس فيه فيحرم من
جهة أنه كذب لا من جهة أنه غيبة. (والنميمة) أي ومنها صون اللسان
عن النميمة وهي نقل الكلام عن المتكلم به إلى غير المتكلم به على وجه
الافساد، بالإضافة البيانية أي وجه هو الافساد (و) عن (الباطل كله) أي
يجب صون اللسان عن الباطل كله من الأقوال حيث كان مصدرها اللسان، فالمراد
الباطل من الأقوال، والباطل أكثر من أن يحصى وهو خلاف الحق. ثم استدل على
ما ذكر بحديثين صحيحين وإن كانا لا ينتجان خصوص المدعى وهو الفرضية إلا
أنهما ينتجان المدعى بوجه عام، وهو مطلق طلب صون اللسان على الكذب بقوله:
(قال الرسول عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا
661

أو ليصمت) لما كان ظاهر الحديث أنه مخير بين قول الخير أو السكوت عنه
وهذا غير صحيح، لان الكلام قد يكون واجبا كالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فلذا صرف عن ظاهره. وقيل: إن معناه فليقل خيرا يثب عليه
ويسكت عن شر يعاقب عليه. أي فيكون مطلوبا بالامرين فعل الخير
والسكوت عن الشر. (وقال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) الذي
لا يعنيه هو كل ما لا تعود عليه منه منفعة لدينه ولا لآخرته، والذي يعنيه
ما يكون في تركه فوات الثواب. وإنما قال: من حسن إسلام المرء ولم يقل
من إسلام المرء لان ترك ما لا يعني ليس هو الاسلام ولا جزءا منه، وإنما هو
من أوصافه الحسنة. (وحرم الله سبحانه وتعالى دماء المسلمين) بقوله: * (ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * (الانعام: 151) وكذا دماء أهل الذمة والمعاهد (و)
حرم سبحانه وتعالى (أموالهم وأعراضهم) بقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) وقال صلى الله عليه وسلم: إن أربى الربا عند الله استحلال عرض المسلم.
مفاد الحديث اعتقاد حليته إلا أنه ليس بمراد، وإنما المراد التكلم في عرضه
لكن لما كان المتكلم في الاعراض كأنه مستحل لها أطلق عليه الاستحلال
والاستثناء في قوله: (إلا بحقها) راجع للأمور الثلاثة فحق الأموال أن
من استهلك شيئا منها فعليه قيمته، وحق الاعراض ما يأتي من قوله: ولا
غيبة في هذين في ذكر حالهما، وحق استباحة الدماء ما أشار إليه بقوله:
(ولا يحل دم امرئ مسلم إلا أن يكفر بعد إيمانه) أي بعد أن يستتاب
662

ثلاثة أيام (أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض)
وهو قطع الطريق لمنع السلوك (أو يمرق من الدين) بأن يعتقد اعتقاد
أهل الأهواء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: يمرقون من الدين كما يمرق السهم
من الرمية. في المصباح مرق السهم من الرمية مروقا من باب قعد نفذ من
الجانب الآخر. انتهى. والرمية ما يرمى من الحيوان ذكرا كان أو أنثى.
(ولتكف يدك عما لا يحل لك) تناوله (من مال كالسرقة أو) مباشرة
(جسد) غير الزوجة والأمة مما يتلذذ به ذكرا كان أو أنثى (أو) مباشرة
(دم) قتل أو جرحا (ولا تسع بقدميك فيما لا يحل لك) المشي إليه كالزنى
(ولا تباشر بفرجك أو بشئ من جسدك ما لا يحل لك) مثل الزنى
واللواط والاستمناء باليد (قال الله سبحانه) وتعالى: (* (والذين هم لفروجهم
حافظون - إلى قوله - فأولئك هم العادون) * (المؤمنون: 5 - 7) أي المتجاوزون ما لا يحل لهم. (وحرم
الله سبحانه الفواحش) قال التتائي: هي كل مستقبح من قول أو فعل
663

(ما ظهر منها) على الجوارح (وما بطن) في الضمائر (و) حرم الله سبحانه
وتعالى (أن يقرب النساء في دم حيضهن أو نفاسهن) بالجماع في الفرج
بل يحرم التمتع بغير النظر بما بين السرة والركبة ولو بغير الوطئ ومن فوق
حائل ولا حرج في النظر ومصداق هذا قوله تعالى * (ولا تقربوهن حتى
يطهرن) * (البقرة: 222) (وحرم من النساء ما تقدم ذكرنا إياه) في باب النكاح وهو
أنه يحرم سبع بالقرابة وسبع بالرضاع والصهر (وأمر بأكل
الطيب وهو الحلال) والحلال هو ما انحلت عنه التبعات فلم يتعلق به
حق الله ولا حق لغيره وإليه الإشارة بقول تعالى * (يا أيها الذين آمنوا
كلوا من طيبات ما رزقناكم) * (البقرة: 172) والمراد بالاكل هنا الانتفاع فإذا علمت أن
الله تعالى أمرك تأكل الطيب (فلا يحل لك أن تأكل إلا طيبا) أي
حلالا قال ابن عباس لا يقبل الله صلاة من في بطنه حرام (ولا) يحل لك
(أن تلبس إلا طيبا) أي حلالا (ولا) يحل لك (أن تركب) شيئا من
الدواب (إلا طيبا) فركوب الدابة المغصوبة أو المشتراة بمال حرام حرام
(ولا) يحل لك (أن تسكن إلا طيبا) فسكنى ما اشترى بمال حرام حرام
(وتستعمل سائر ما تنتفع به طيبا) أي حلالا (ومن وراء ذلك) أي
664

الحلال أمور (متشابهات من تركها سلم ومن أخذ منها كان كالراتع حول
الحمى يوشك) بكسر الشين أي يقرب (أن يقع فيه) فإذا وقع فيه
فإنه يخاف عليه من سطوة صاحب الحمى والحمى لغة ما يحميه صاحب
الشوكة ويمنع غيره من الرعي فيه والقصد اجتناب المتشابه والاقتصار
على محقق الحل (وحرم الله سبحانه أكل المال بالباطل) أي أخذه من
وجه غير جائز وليس المراد حقيقة الاكل وإنما عبر عن الاخذ بالاكل
لان الغالب فيما يكتسب أن يراد للاكل. (ومن الباطل الغصب) وهو
استيلاء يد عادية على مال الغير (و) من الباطل (التعدي) في الكراء
(و) منه (الخيانة) وهو أن يخون غيره في ماله أو أهله أو في أمانته أو
نفسه (و) منه (الربا) وهو الزيادة في الثمن أو الاجل على غير وجه سائغ
(و) منه (السحت) وهو الرشوى التي يأخذها الشاهد على شهادته أو
القاضي على حكمه والذي في غير هذه النسخة الرشوة بالهاء وكذا في المصباح
بالهاء (و) منه (القمار) وهو ما يأخذ بعضهم من بعض على لعب الشطرنج
ونحوه (و) منه (الغرر) الكثير كشراء الطير في الهواء والسمك في
البحر وأما اليسير فمغتفر لان البياعات لا تنفك عنه كالحبوب المباعة فإنها
لا تخلو من نحو طين (و) منه (الغش) بكسر الغين وهو خلط الشئ
بغير جنسه أو بجنسه الدنئ (و) منه (الخديعة) بالكلام أو الفعل
665

ليتوصل إلى عرض دنيوي كأن يقول من يتعاطى البيع لرجل قدم عليه
نهارك مبارك حصل أنسكم قصده التوصل إلى أن يشتري منه (و) منه
(الخلابة) بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام وفسرت بالخديعة. (وحرم
الله) سبحانه وتعالى (أكل الميتة) ما عدا ميتة البحر (و) أكل (الدم
و) حرم (لحم الخنزير) أي أكله (و) حرم أكل (ما أهل لغير الله به)
أي ما ذبح ورفعت عليه الأصوات بغير ذكر الله تعالى، مثل أن يذكر عليه
اسم المسيح (و) حرم الله سبحانه وتعالى أكل (ما ذبح لغير الله) كالأصنام
وفي كلامه هنا مع ما تقدم من قوله في الضحايا ولا بأس بأكل طعام أهل
الكتاب معارضة وجهها أن من جملة طعام أهل الكتاب ذبائحهم لقصد
عيسى مثلا فيكون مفيد الحل ما ذبح لغير الله، وأجاب ابن عمر بأن ما قاله
هنا محمول على ذبائح المجوس ويبقى ما في الضحايا على إطلاقه. وحاصل هذا
الجواب أن ذبائح أهل الكتاب تؤكل مطلقا أهل عليها لغير الله أو لا وليس
كذلك. وفقه المسألة: أن ذبح الكتابي لا يحل إذا أهل به لغير الله، وذبح
المجوسي لا يحل مطلقا (و) أكل (ما) أي الذي (أعان على موته ترد
من جبل) أي فلا يؤكل ولو ذكي لأنه لا يدرى هل مات من الذكاة أو
السقوط من علو إلى سفل كما لو سقط من نحو جبل (أو) أعان على موته
(وقذة) أي رمية (بعصا أو غيرها) كالحجر (و) حرم الله (المنخنقة)
أي أكلها وهي ما تخنق (بحبل أو غيره) مثل أن تخنق بين عودين
666

ودليل تحريم هذه المذكورات قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة: 3) الخ الآية
(إلا أن يضطر إلى) أكل (ذلك) فإنها لا يحرم أكلها (ك‍) - المضطر
لاكل (الميتة) من مأكول اللحم وغيره ما عدا ميتة الآدمي (وذلك)
أي تحريم أكل المتردية وما ذكر معها (إذا صارت بذلك) الفعل الذي
هو التردي أو الوقذ أو الخنق (إلى حال لا حياة بعده) عادة فإذا وصلت
إلى هذه الحالة (فلا ذكاة) تؤثر (فيها) ظاهره سواء أنفذت مقاتلها
أم لا وهو خلاف المذهب والمذهب التفصيل فإن أنفذت مقاتلها تحقيقا أو
شكا لم تفد فيها الذكاة، وإلا فالذكاة مفيدة فيها، وإن أيس من حياتها.
(ولا بأس للمضطر) الذي بلغ الجوع منه مبلغا يخاف منه على نفسه الهلاك
(أن يأكل الميتة) وظاهر قوله: ولا بأس إن ترك الأكل أفضل وليس
كذلك، بل هو واجب كما قال مالك، لقوله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (النساء: 29) (و)
إذا أكل لا بأس أن (يشبع) منها كما قال ابن ناجي وعند مالك لا يأكل
إلا ما يسد رمقه خاصة (و) أن (يتزود) منها فقال مالك له ذلك. وقيل:
ليس له ذلك وإذا قلنا بالأول (ف‍) - إنه إن (استغنى عنها طرحها) أي
وجوبا (ولا بأس بالانتفاع بجلدها) أي الميتة (إذا دبغ) في اليابسات
والماء فقط، أما إذا لم يدبغ فلا ينتفع به أصلا (ولا يصلى عليه ولا يباع)
667

على المشهور، فالمشهور أنه لا يصلى عليه ولا يباع. (ولا بأس بالصلاة على
جلود السباع إذا ذكيت وبيعها وينتفع بصوف الميتة وشعرها، وما ينزع منها
في) حال (الحياة) أي إن جز أيضا. والضمير في منها راجع للميتة لا من
حيث كونها ميتة بالفعل أي ميتة بحسب الامكان (وأحب إلينا أن
يغسل) وقال ابن حبيب: يجب غسله (ولا ينتفع بريشها ولا بقرنها وأظلافها)
المراد بالريش: قصب ريش الميتة لان الزغب كالشعر في طهارته بالجز. وأما
القرن فلا ينتفع به مطلقا طرفه وأصله سواء في عدم الانتفاع والأظلاف
هي الاخفاف (وأنيابها وكره الانتفاع بأنياب الفيل) أي غير المذكى
(وكل شئ من الخنزير) لحمه وشحمه وعظمه وجلده (حرام) أي أكله
والانتفاع به (وقد أرخص في الانتفاع بشعره) لأنه ليس بنجس على
المشهور. (وحرم الله سبحانه) وتعالى (شرب الخمر قليلها وكثيرها) قال
في شرح عمدة الاحكام: إن بعض الشيوخ يقول: حتى لو أخذ منها برأس
إبرة على لسانه لحد انتهى. (وشراب العرب) وهم الصحابة وغيرهم لان
668

الخمر لم يكن حراما قبل (يومئذ) أي يوم تحريم الخمر (فضيخ التمر) بفاء
وضاد وخاء معجمتين بينهما تحتية ساكنة، وهو تمر يهرس ويجعل في
الأواني ويجعل عليه ماء ويترك حتى يتخمر، أي يصير خمرا مسكرا (وبين
الرسول عليه) الصلاة و (السلام أن كل ما أسكر كثيره من جميع
الأشربة فقليله حرام) أي ولو لم يسكر (وكل ما خامر) أي ستر (العقل
فأسكره من كل شراب فهو خمر) لما كان يتوهم قصر الخمر على ماء العنب
قال: وكل ما خامر العقل أي ستر العقل. وقوله: فأسكره أي فليس المراد كل
ساتر للعقل، بل أراد سترا تسبب عنه إسكار أي نشوة وفرح. (وقال الرسول
عليه الصلاة والسلام: إن الذي حرم شربها): وهو الله (حرم بيعها). روى
مالك في الموطأ أن ابن عباس قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية
خمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها؟ قال: لا. فسأله إنسان
إلى جنبه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها. ففتح
المزادتين حتى ذهب ما فيهما. (ونهى) عليه الصلاة والسلام (عن الخليطين
من الأشربة) أي عن شرب الخليطين لان النهي إنما يتعلق بالافعال
(و) يصور (ذلك) بحالتين إحداهما (أن يخلطا عند الانتباذ) بأن
669

يفضخ التمر والزبيب مثلا ويخلطا ويوضعا في إناء ويصب عليهما الماء
ويتركا حتى يتخمرا. (و) الحالة الثانية أن ينبذ هذا على حدة وهذا على
حدة ثم يخلطا (عند الشرب) فالنهي متعلق بكل من الحالتين. (ونهى)
عليه الصلاة والسلام (عن الانتباذ في الدباء) بضم الدال وتشديد الباء
وبالمد القرع (و) عن الانتباذ في (المزفت) وهي قلال تزفت أي تطلى
بالزفت، وإنما نهى عن ذلك لان السكر يسرع إليهما. (ونهى عليه)
الصلاة و (السلام عن) أكل (كل ذي ناب من السباع) وهو كل ما له
ناب يعدو به ويفترس كالفهد والنمر والذئب. وأما الثعلب فليس بسبع وإن
كان له ناب لأنه لا يعدو به ولا يفترس. (ونهى عليه) الصلاة و (السلام
عن أكل لحوم الحمر الأهلية ودخل مدخلها) في منع الاكل (لحوم الخيل
والبغال) أي شارك أكلها في الحرمة أكل لحوم الخيل الخ وذلك أن الله
تعالى لما ذكر الانعام قال: * (لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون) * (النحل: 5) ولما ذكر
هؤلاء لم يذكر غير الركوب والزينة، فدل على أنه لا يجوز فيها إلا ذلك. وإلى
ذلك الغرض أشار الشيخ بقوله: (لقول الله تبارك وتعالى: * (لتركبوها
وزينة) * (النحل: 8) أي يتزين بها (ولا ذكاة في شئ منها) أي من ذي الناب وما
بعده أي لا تعمل فيه الذكاة شيئا أصلا بحيث يترتب عليها حل الاكل (إلا
670

في الحمر الوحشية) فإنها تعمل فيها الذكاة ما دامت متوحشة والاستثناء في
كلامه منقطع لان الحمر الوحشية لم تدخل فيما تقدم. (ولا بأس بأكل
سباع الطير) كالبازي وظاهر قوله: (وكل ذي مخلب منها) أن السباع غير
ذي المخلب، وليس كذلك. ويلتزم التأويل في كلامه بأن نقول تقديره:
وهي كل ذي مخلب منها، والمخلب الظفر الذي يعقر به. (ومن الفرائض بر
الوالدين وإن كانا فاسقين) بالعمل أو الاعتقاد (وإن كانا مشركين) أي
فيقود الأعمى منهما للكنيسة ويحملهما لها ويعطيهما ما ينفقانه في أعيادهما
(فليقل لهما قولا لينا) بأن لا يرفع صوته فوق صوتهما (وليعاشرهما
بالمعروف) أي بكل ما عرف من الشرع الاذن فيه (ولا يطعهما في معصية
كما قال الله سبحانه وتعالى): * (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعهما) * (لقمان: 15). (و) يجب (على المؤمن أن يستغفر لأبويه المؤمنين) لقوله
تعالى: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * (الاسراء: 24) ولا يستغفر لهما إذا كانا كافرين
بعد الموت إجماعا. (و) يجب (عليه) أي المؤمن (موالاة المؤمنين)
وهي الألفة والاجتماع أي إظهار المحبة لهم وعدم ما يوجب المنافرة من حسد
671

وغيره (و) يجب على المؤمن (النصيحة لهم) أي للمؤمنين لما صح من
قوله عليه الصلاة والسلام: الدين النصيحة. أي معظم الدين النصيحة كما
قال: الحج عرفة. وحين قال له الحاضرون: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه
ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فالنصيحة لله أن تصفه بما وصف به نفسه
من سائر الصفات الواجبة له وتنزهه عما لا يليق به، والنصيحة لكتابه أن
تتلوه حق تلاوته وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، والنصيحة لرسوله أن تؤمن
به وبجميع ما جاء به، والنصيحة لائمة المسلمين بامتثال أوامرهم واتباع
قوانينهم الموافقة للشرع من الموازين والمكاييل وغير ذلك. والنصيحة
لعامتهم أن ترشدهم إلى ما فيه مصالحهم وأن (ولا يبلغ
أحد حقيقة الايمان حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب تعاملهم بالصدق لنفسه) ذكر المحبة
مبالغة لأنها الركن الأعظم ومستلزمة لبقية الأركان، فلا يرد أن الايمان له
أركان أخر. وذكر الأخ ليحترز به عن الرسول صلوات الله عليه فإن المرء
لا يكون مؤمنا حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ونفسه.
أفاده التتائي. (و) يجب (عليه) أي المؤمن (أن يصل رحمه) وهو كل
قرابة أي ذي قرابة بنسب من جهة الأبوة أو الأمومة (ومن حق المؤمن
على المؤمن أن يسلم عليه) أي يبدأه بالسلام (إذا لقيه و) من حقه عليه
أن (يعوده إذا مرض) ومن آداب ذلك أن يقل عنه السؤال أي عن
672

حاله وأن يظهر له الشفقة وأن لا يقنطه (و) من حقه عليه (أن يشمته
إذا عطس) أي يقول له: يرحمك الله إذا سمعه يحمد الله (و) من حقه
عليه (أن يشهد جنازته إذا مات) لأجل الصلاة عليه والدفن (وأن
يحفظه إذا غاب في السر) بأن لا يغتابه (و) يحفظه في (العلانية) بأن
لا يشتمه ولا يأخذ ما له علانية. (ولا) يجوز للمؤمن أن (يهجر أخاه)
المؤمن بحيث لا يكلمه ولا يسلم عليه (فوق ثلاث ليال) بأيامها لقوله
عليه الصلاة والسلام: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. ومفهومه
أن هجران الثلاثة جائز وهو كذلك، لأنه لو حرم الهجران مطلقا لكان
في ذلك مشقة لان طبع الانسان قل أن ينفك عن غضب (والسلام
يخرج من الهجران) إن نوى به ذلك فإن رد الآخر فقد خرجا من
الهجران معا وإلا فقد خرج المسلم فقط. (ولا ينبغي) بمعنى يستحب
(له أن) لا (يترك كلامه بعد السلام) أي يستحب له أن يسترسل ويداوم
على كلامه لان في تركه بعد السلام إساءة الظن به. (والهجران الجائز)
شيئان (هجران ذي البدعة) المحرمة كالقدرية هم طائفة يقولون الخير
والشر من الانسان لا من الله (أو متجاهر بالكبائر) أي معلن بها بحيث
673

لا يستتر عند فعلها كما إذا كان يشرب الخمر مثلا جهارا. ومحل هجران معلن
الكبيرة إذا كان لا يقدر على عقوبته الشرعية من أدب ونحوه كبقية
أنواع التعزير وإلا لزمه ذلك (ولا يقدر على موعظته) أي لشدة تجبره
(أو) يقدر عليها لكنه (لا يقبلها) أي لعدم عقل ونحوه (ولا غيبة في
هذين) أي المبتدع والمتجاهر (في ذكر حالهما) أي بسبب ذكر حالهما
بالفسق بالاعتقاد وبالجارحة فقط إذا سئل عن حالهم بأن يقول في المبتدع:
فلان اعتقاده باطل لمخالفته أهل السنة. وفي حق المتجاهر: فلان مصر على
الكبائر فيجوز ذكر كل بما يتجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب.
(ولا) تجوز غيبتهما في غير هذين الوجهين إلا (فيما يتشاور فيه) أي
الذي تشرع فيه المشاورة مثل أن يسأل عنه (ل‍) - أجل (نكاح) أي
بأن يقول شخص لآخر أريد أن أتزوج بنت لان ولا أعرف حاله فيجوز
له ذكر حاله بقصد النصيحة لا غير (أو) لأجل (مخالطة) كالشركة (ونحوه)
مثل أن يسأل عنه لأجل أن يتصدق عليه هل هو أهل لذلك أم لا؟. (و)
كذا (لا) غيبة (في تجريح شاهد ونحوه) أي نحو الشاهد كالامام للصلاة
يريدون أن يقدموه فسألوه عنه، فإنه يجوز له أن يخبرهم بجراحته بل
يجب عليه ذلك. وكذا يجوز له جراحة الراوي مخافة أن يتقول على النبي
صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. (ومن مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من
674

قطعك) لقوله عليه الصلاة والسلام: أمرني ربي أن أصل
من قطعني وأعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني. (وجماع آداب الخير) أي خصال الخير
وسميت بالآداب لان بها يحصل التأديب (وأزمته)
جمع زمام الطريق الموصل إليه، وهو في الأصل ما يقاد به البعير أطلق على
الطريق الموصل للخير على جهة المجاز لان كلا يقود إلى ما ينتفع به (تتفرع)
أي تتخرج (عن أربعة أحاديث) مرفوعة أحدها (قول النبي عليه)
الصلاة و (السلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فلا يؤذ جاره، ومن
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم
الآخر (فليقل خيرا أو ليصمت). أي فليقل خيرا يؤجر عليه أو يسكت
عن شر يعاقب عليه. (و) ثانيها (قوله عليه) الصلاة و (السلام: من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). وهو ما لا تعود عليه منه منفعة دنيوية ولا
أخروية. (و) ثالثها (قوله عليه) الصلاة و (السلام ل‍) - لرجل (الذي
اختصر له في الوصية) حين قال له أوصني، قال: (لا تغضب) فردد مرارا
أي فرجع ترجيعا مرارا أي حيث يقول له: أوصني يعتقد أن عدم الغضب
ليس أمرا يعتد به، فقال: لا تغضب مفيدا له أن عدم الغضب أمر عظيم يعتد
675

به لما يترتب على الغضب من المفاسد الدنيوية والأخروية، وعلى عدمه من
المصالح والثمرات الأخروية ما لا يحصى، لان الله تعالى خلق الغضب من النار
وعجنه بطينة الانسان، فمهما نوزع في غرض من أغراضه اشتعلت نار
الغضب فيه وفارت فورانا يغلي منه دم القلب وينتشر في العروق فيرتفع
إلى أعالي البدن ارتفاع الماء في القدر، ثم ينصب في الوجه والعينين حتى
يحمرا منه إذ البشرة لصفائها كالزجاجة تحكي ما وراءها. وغرض الشارع
صلوات الله عليه أي: لا تعمل موجبات الغضب لا أنه ينهاه عن شئ جبل
عليه لأنه لا يمكن إخراجه عن جبلته. (و) رابعها (قوله عليه) الصلاة
و (السلام: المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه) وهو في البخاري
بلفظ: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. أي من الطاعات
والأشياء المباحات. (ولا يحل لك) أيها المكلف (أن تتعمد سماع الباطل
كله) كان الباطل قولا كالغيبة أو فعلا كصوت آلات الملاهي، وصوتها
فعل لها حقيقة وفعل للشخص من حيث إنه متسبب عن فعله (ولا)
يحل لك (أن تتلذذ بسماع صوت) كلام (امرأة لا تحل لك) أي لا يحل
لك مناكحتها أي فيجوز التلذذ بكلام من تحل من زوجة أو أمة. وكذا
لا يحل التلذذ بصوت الأمرد الذي فيه لين (ولا) يحل لك (سماع شئ
من آلات الملاهي) كالعود (و) كذا لا يحل لك سماع (الغناء بالمد)
676

وهو الصوت الذي يطرب به. (ولا) يحل لك (قراءة القرآن) ولا سماعه
(باللحون المرجعة) أي الأصوات المطربة (كترجيع الغناء) بالمد أي
المشبهة بالغناء (وليجل) أي يعظم وينزه (كتاب الله العزيز أن يتلى)
أي يقرأ (إلا بسكينة ووقار) أي طمأنينة وتعظيم فمرجع الطمأنينة إلى
سكون الجوارح بحيث لا يعبث بيده، ولا ينظر إلى ما يلهي. ومرجع التعظيم
إلى كونه إذا عرض له الريح يمسك عن القراءة حتى يتكامل خروجه ونحو
ذلك (وما يوقن أن الله يرضى به ويقرب منه) أي على حالة يغلب على
ظنه أن الله يرضى بها بأن يكون على طهارة مستقبل القبلة، جالسا كجلوس
المتعلم بين يدي أستاذه أو قائما في الصلاة. وقوله: ويقرب منه أي يوقن
أن الله يقرب القارئ منه أي بوجهه، وحالة تقرب القارئ من المولى أي
قرب قبول وإحسان (مع إحضار الفهم لذلك) أي لما يتلوه فإذا مر بآية
نهي تيقن أنه المنهي أو بآية أمر تيقن أنه المأمور فهذا من ثمرات إحضار
الفهم. (ومن الفرائض الامر بالمعروف) وهو ما أمر الله ورسوله به
(والنهي عن المنكر) وهو ما نهى الله ورسوله عنه (على كل من بسطت
يده) بالبناء للمفعول أي بسط الله يده أي حكمه (في الأرض) كالسلطان
677

(وعلى كل من تصل يده إلى ذلك) أي الأمر والنهي (فإن لم يقدر على)
ذلك التغيير بيده (فبلسانه فإن لم يقدر) بلسانه (فبقلبه) وصفة
تغيير القلب إذا رأى منكرا يقول في نفسه لو كنت أقدر على تغييره لغيرته.
وإذا رأى معروفا ضاع يقول في نفسه: لو كنت أقدر على الامر به لأمرت.
ويحب الفاعل للمعروف ويكره الفاعل للمنكر بقلبه. (وفرض على كل مؤمن
أن يريد بكل قول وعمل من البر وجه الله الكريم) أي ذات الله الكريم
لا رياء ولا سمعة، فدخل مرتبتان الكاملة بأن لا يقصد جنة ولا نارا والناقصة
بأن يقصد دخول الجنة والبعد عن النار (ومن أراد بذلك) القول أو العمل
(غير) وجه (الله) الكريم (لم يقبل عمله) ولا قوله. (والرياء) هو أن
يريد بعمله أي مما كان قربة. وقوله: غير الله بأن أراد الناس فلا يتأتى في
غير القربة كالتجمل باللباس (الشرك الأصغر) لما رواه أحمد من قوله
عليه الصلاة والسلام: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول
الله وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء. الحديث. (والتوبة فريضة من كل ذنب)
وهي الندم على ما فات والاقلاع عن الذنب في الحال، والنية أن لا يعود وقوله:
(من غير إصرار) زائد لان التوبة لا تصلح إلا برفع الاصرار (والاصرار
678

المقام) بضم الميم بمعنى الإقامة (على الذنب واعتقاد العود إليه ومن التوبة
رد المظالم) إلى أهلها بأن يدفعها إليهم إن كانت أموالا أو يردها لوارثه
فإن لم يجده ولا وجد وارثه تصدق بها على المظلوم، وإن كان أعراضا
كقذف استحل المقذوف (واجتناب المحارم والنية أن لا يعود) هذه
شروط التوبة الواجبة فيها. وإلى شروط الكمال أشار بقوله: (وليستغفر ربه
ويرجو رحمته ويخاف عذابه ويتذكر نعمته لديه) أي عليه (ويتقرب
إليه) أي إلى الله تعالى (بما تيسر له) فعله وإن قل (من نوافل الخير)
كالصلاة لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم عن الله: وما زال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي
يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن
سألني أعطيته وإن استعاذ بي لأعيذنه. (وكل ما ضيع من فرائضه) التي أوجبها عليه كالصلاة
(فليفعله الآن) وجوبا على الفور (و) إذا فعل التائب ما ضيعه من
الفرائض ف‍ (- ليرغب إلى الله تعالى في تقبله) منه (ويتوب إليه من
679

تضييعه) للفرائض (وليلجأ) أي يتضرع (إلى الله) تعالى (فيما عسر
عليه من قيادة نفسه) إلى الطاعة لأنه سبحانه وتعالى هو المسهل والميسر
(و) يتضرع إليه في (محاولة أمره) أي فيما يشكل عليه في حاله حال كونه
(موقنا) أي مصدقا (أنه المالك لصلاح شأنه) أي حاله (و) المالك (لتوفيقه
وتسديده) هما بمعنى واحد وهو الاستقامة على الطاعة (لا يفارق ذلك) أي
ما ذكر من اللجأ واليقين (على ما فيه) أي على أي حالة هو فيها (من
حسن) وهو الطاعة (أو قبح) وهو المعصية ولا يمنعه الذنب من ذلك
لقوله تعالى: * (إن الله يحب التوابين) * (البقرة: 222) والتواب هو الذي كلما أذنب تاب (ولا
ييأس من رحمة الله) تعالى على ما هو عليه من المعصية (والفكرة) أي
التفكر (في أمر الله) تعالى أي مخلوقاته لأنه إذا تفكر في مصنوعات
خالقه علم وجوب وجوده وكمال قدرته وحقيقة ربوبيته، فيجد في عبادته.
وفيه إشارة إلى أنه لا يتفكر في ذاته لعدم قدرة العبد على إدراكها، وحينئذ
فالنظر في مخلوقات الله تعالى كما قال الشيخ (مفتاح العبادة واستعن)
على نفسك (بذكر الموت) لان الانسان إذا تفكر في الموت قصر أمله
وكثر عمله (و) استعن عليها أيضا (بالفكرة فيما بعده) لان الموت أشد مما قبله وما بعده أشد
680

منه (و) استعن عليها أيضا بالفكرة (في نعمة ربك عليك) لأنك إذا تفكرت في نعمه
ربك عليك استحييت أن تبارزه
بالمعاصي (و) تفكر أيضا (في إمهاله لك) وأنت تعصيه (وأخذه لغيرك)
من الأمم الماضية (بذنبه) في الحال (و) استعن أيضا وتفكر (فيه) - ما
تقدم من (سالف ذنبك) وخف الاخذ به (و) تفكر أيضا في (عاقبة
أمرك) إذ لا تدري بماذا يختم الله لك (و) تفكر أيضا في (مبادرة) أي
مسارعة (ما عسى أن يكون قد اقترب من أجلك) بيان لما أي مسارعة
أجلك الذي عسى الاجل أي لعله أن يكون قد اقترب أي تفكر هل هو
أي الاجل نهاية يوم أو أقل لان ذلك يسهل الطاعة ويقل الامل والحرص
ولأنه إذا تفكر في الموت أتاه وهو مستعد له، وإذا أتاه بغتة فيندم حيث
لا ينفعه الندم. فيا لطيف الطف بنا فإنه لا حول ولا قوة إلا بك وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. باب في الفطرة (باب في) بيان (الفطرة) أي الخصال
التي يكمل بها المرء حتى يكون على أفضل الصفات أي أفضل الهيئات (و)
في بيان حكم (الختان و) حكم (حلق الشعر و) في بيان ما يجوز من
(اللباس) وما لا يجوز (و) في بيان (ستر العورة و) في بيان (ما يتصل بذلك)
681

أي بما ذكر مما أمر به أو نهى عنه في هذا الباب كالصور والتماثيل
وبدأ بما صدر به في الترجمة فقال: (ومن الفطرة خمس) أولها (قص
الشارب وهو الإطار) أي والشارب بالمعنى المذكور الإطار بوزن كتاب (وهو
طرف الشعر المستدير على الشفة) أي النابت على الشفة، والاستدارة بالشئ
الإحاطة به، فالمعنى المحيط بالشفة هذا معناه بحسب الأصل. ولكن المراد هنا
النازل على طرف الشفة هذا هو السنة في قصه (لا إحفاؤه والله أعلم)
أي استئصاله. (و) ثانيها (قص الأظفار) للرجال والنساء. (و) ثالثها
(نتف الجناحين) أي الإبطين وهو سنة للرجال والنساء. (و) رابعها
(حلق العانة) سنة للرجال والنساء ولا تنتفها المرأة ولا الرجل على سبيل
الكراهة لان ذلك يرخي المحل ويبطل كثيرا من منافعه، ويجوز إزالتها
بالنورة (ولا بأس بحلاق غيرها) أي العانة (من شعر الجسد) كشعر
اليدين والرجلين وشعر حلقة الدبر. وظاهره الإباحة في حق الرجال. وأما
النساء فحلق ذلك منهن واجب لان في تركه بهن مثلة. (و) خامسها
(الختان للرجال) أراد بالرجال الذكور كانوا بالغين أو غير بالغين إلا أن
البالغ يؤمر بختن نفسه لحرمة نظر عورة الكبير، والختان هو زوال الغرلة
بضم الغين المعجمة غشاء الحشفة (سنة) زاد في الضحايا واجبة أي مؤكدة
(والخفاض في النساء) وهو قطع الناتئ في أعلى فرج الأنثى كأنه عرف
682

الديك (مكرمة) بفتح الميم وضم الراء أي كرامة بمعنى مستحب (وأمر
النبي) صلى الله عليه وسلم (أن تعفى) أي توفر (اللحية) فقوله (وتوفر ولا تقص)
تأكيد وقوله (قال مالك: ولا بأس بالأخذ) بمعنى يستحب الاخذ (من
طولها إذا طالت كثيرا) والمعروف لا حد للاخذ منها إلا أنه لا يتركها لنحو
الشهرة (و) ما قاله مالك (قاله) قبله (غير واحد) أي أكثر من واحد
(من الصحابة والتابعين) رضي الله عنهم أجمعين. (ويكره صباغ الشعر)
الأبيض (بالسواد من غير تحريم) لما كانت الكراهة تطلق ويراد بها
التنزيه وتطلق ويراد به التحريم دفع هذا الثاني بقوله: من غير تحريم.
وهذا الحكم خاص بغير البيع والجهاد. أما في البيع فيحرم، وأما في الجهاد
لايهام العدو الشباب فيؤجر عليه (و) أما صبغه بغير السواد ف‍ (- لا بأس
به بالحناء والكتم) بفتح التاء ورق السلم وهو يصفر الشعر، والحناء تحمره.
وكلامه محتمل للندب والإباحة وهي أقرب (ونهى الرسول عليه) الصلاة
(والسلام) نهي تحريم الذكر (عن لباس) أي لبس (الحرير) أي
والجلوس عليه (و) عن (تختم الذهب و) نهى عليه الصلاة والسلام (عن
683

التختم بالحديد ولا بأس بالفضة في حلية الخاتم والسيف والمصحف)
أراد بحلية الخاتم أن يكون الخاتم من فضة، لما في الصحيحين أنه اتخذ
خاتما من ورق فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر من بعد، ثم كان في يد
عمر، ثم كان في يد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، حتى وقع في بئر أريس -
كجليس - قريبة من مسجد قباء وقد بالغ عثمان في التفتيش عليه ونزح
البئر ثلاثة أيام وأخرج جميع ما فيه فلم يجده إشارة إلى أن أمر الخلافة
منوط بذلك الخاتم. (ولا يجعل ذلك) المذكور من التحلية بالفضة (في
لجام ولا سرج ولا سكين) ولا في غير ذلك من آلات الحرب اقتصارا
على ما ورد الشرع به. (ويتختم النساء بالذهب) وأولى بالفضة (ونهي عن
التختم بالحديد) للنساء. وتقدم النهي عن ذلك للرجال فالتختم بالحديد منهي
عنه مطلقا للرجال والنساء (والاختيار) عند الجمهور منهم مالك (مما)
أي من الذي (روي) عن النبي صلى الله عليه وسلم (في التختم التختم في اليسار)
ويتختم في اليسار في الخنصر ويجعل فصه مما يلي الكف، فإذا أراد الاستنجاء
خلعه كما يخلعه عند إرادة الخلاء وإنما جعل في اليسار (لان تناول الشئ)
684

الصادق بالخاتم وغيره (باليمين فهو يأخذه بيمينه ويجعله في يساره) ولأن
كونه في اليسار أبعد عن الاعجاب. (واختلف في لبس الخز) بخاء وزاي
معجمتين وهو ما سداه حرير ولحمته صوف أو قطن أو كتان على أقوال.
فأشار إلى اثنين منها بقوله (فأجيز وكره) صحح في القبس الأول واستظهر
ابن رشد الثاني، والثالث يحرم لبسه، قال القرافي: وهو ظاهر مذهب مالك
لقوله عليه الصلاة والسلام في حلة عطارد، وكان يخالطها الحرير: إنما يلبس
هذه من لا خلاق له في الآخرة. (وكذلك العلم في الثوب من الحرير إلا
الخط الرقيق) وهو ما كان أقل من أصبع فإنه جائز (ولا يلبس النساء)
على جهة المنع (من الرقيق ما يصفهن) أي الذي يوصفن فيه. فإسناد
الوصف للثياب استعارة أي الذي يظهر منه أعالي الجسد كالثديين والردف
ومحل المنع (إذا خرجن من) بيوتهن. أما إذا لبسنه في بيوتهن مع أزواجهن
فيجوز. (ولا يجر الرجل إزاره بطرا) أي كبرا (ولا ثوبه من الخيلاء)
أي حال كون الجر ناشئا من الخيلاء. والرجل في كلامه لا مفهوم له فإن
المرأة كذلك إذا قصدت الخيلاء (و) إذا لم يجز للرجل فعل ذلك
ف‍ (- ليكن) المذكور من الإزار والثوب (إلى الكعبين فهو أنظف لثوبه)
685

وإزاره (وأتقى لربه) لأنه يتقى العجب والكبر، والأول: يرجع إلى ملاحظة
الشخص لنفسه بعين الكمال مع نسيان نعمة الله، والثاني: يرجع إلى ذلك
مع احتقار غيره. فإذا الكبر أخص من العجب وهو الفرد الأشد حرمة.
(وينهى) بمعنى ونهي (عن اشتمال الصماء) نهي تحريم (وهي) أي
صفة اشتمال الصماء أن تكون (على غير ثوب) أي إزار مثلا (يرفع
ذلك) أي طرف ما يشتمل به (من جهة واحدة ويسدل الأخرى) قد
فسرت في حديث أبي سعيد: بجعل الرجل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد
شقيه، وفسرها اللغويون: بأن يلبس الرجل ثوبا يلتف فيه، ولا يجعل ليديه
مخرجا فإذا أراد أن يخرج يديه بدت عورته. فقد قال صاحب القاموس: أن
يرد الكساء من جهة يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانية
من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا، إذا تقرر هذا فقوله:
اشتمال الصماء، الإضافة للبيان أي اشتمال هو الصماء. وقوله: (وذلك إذا لم
يكن تحت اشتمالك) أي تحت ما تشتمل به (ثوب) تكرار كرره ليرتب
عليه قوله: (واختلف فيه) أي في حكم الاشتمال المذكور (على ثوب) أي
إزار مثلا على قولين لمالك بالمنع اتباعا لظاهر الحديث والإباحة لانتفاء
العلة المذكورة وهي كشف العورة. (ويؤمر) المكلف (بستر العورة)
686

عن أعين الناس وجوبا إجماعا. وفي الخلوة استحبابا على المشهور. ومقابله أنه
فرض عين في الخلوة أيضا (وإزرة) الرجل (المؤمن) بكسر الهمزة لان
المراد الهيئة (إلى أنصاف ساقيه) ولفظ الموطأ من قوله عليه الصلاة والسلام:
إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما
أسفل من ذلك ففي النار. لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا
(والفخذ) وهو ما بين الساق والورك (عورة وليس كالعورة) ولما انتفى
كونه كالعورة خف أمره فغاية ما يقال إنه يكره مع غير الخاصة، والحرمة
بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كشف فخذه مع أبي بكر وعمر. ففي مسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته كاشفا
فخذيه وساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحالة فتحدث، ثم
استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه فدخل وتحدث معه، فلما خرج قالت عائشة: دخل
أبو بكر فلم تباله، ودخل عمر فلم تباله، أي لم تهتم لدخولهما وتستر فخذيك، ثم
دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحيي
منه الملائكة. والاستحياء منه مزية وهي لا تقتضي الأفضلية. (ولا يدخل
الرجل الحمام إلا بمئزر) بكسر الميم والهمز وتركه ما يؤتزر به (ولا تدخله المرأة
إلا من علة) من مرض أو نفاس لا من حيض أو جنابة (ولا يتلاصق
687

رجلان ولا امرأتان في لحاف) أو ثوب (واحد) غير مستوري العورة
وهذا على جهة المنع سواء كانت بينهما قرابة أم لا. لما رواه أبو داود من قوله
عليه الصلاة والسلام: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى
عورة المرأة، ولا يفض الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفض المرأة إلى
المرأة في ثوب واحد. (ولا تخرج امرأة إلا مستترة فيما لا بد) أي لا غنى
(لها منه من شهود موت أبويها أوذي قرابتها) كالأخ (أو نحو ذلك
مما يباح لها) الخروج لأجله كجنازة من ذكر وحضور عرسه (ولا تحضر)
المرأة (من ذلك) أي مما أبيح لها الخروج إليه (ما فيه نوح نائحة أو
لهو من مزمار أو عود أو شبهه من الملاهي الملهية) فيمتنع حضور شئ
من ذلك (إلا الدف) بضم الدال فإنه يجوز (في النكاح) خاصة للرجال
والنساء. (وقد اختلف في الكبر) بفتحتين وهو طبل صغير يجلد من
ناحية واحدة فأجازه ابن القاسم ومنعه غيره. (ولا يخلو رجل بامرأة)
688

شابة ليست بذي محرم منه لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قائلا: فإن
الشيطان ثالثهما. (ولا بأس أن يراها) بمعنى يجوز للرجل أن يرى ما ليست
بذي محرم منه (ل‍) - أجل (عذر من شهادة عليها أو) لها و (نحو ذلك)
كنظر الطبيب (أو إذا خطبها) لنفسه وهذا في غير المتجالة (وأما المتجالة)
وهي التي لا أرب للرجال فيها (فله أن يرى وجهها على كل حال) لعذر
وغيره. (وينهى النساء) نهي تحريم (عن وصل الشعر وعن الوشم)
لقوله عليه الصلاة والسلام: لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة
والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله المتنمصة هي التي تنتف
شعر الحاجب حتى يصير دقيقا حسنا، والمتفلجة هي التي تبرد أسنانها ليتباعد
بعضها عن بعض أو يكون في أسنانها طول فتزيله بالمبرد. ومفهوم قوله: للحسن
أن الحرام هو المفعول للحسن، فلو احتيج إليه لعلاج أو عيب فلا بأس به.
(ومن لبس خفا أو نعلا) أي أراد أن يلبسهما (بدأ بيمينه) على جهة
الاستحباب (وإذا) أراد (نزعهما بدأ بشماله) على جهة الندب (ولا
بأس بالانتعال قائما) أي كما يجوز جالسا فلا بأس للجواز المستوي الطرفين
(ويكره المشي في نعل واحدة) لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
689

(وتكره التماثيل) أي عملها وهي الصور التي تصنع على هيئة الحيوان
(في الأسرة) بكسر المهملة جمع سرير وهو معلوم (و) في (القباب)
جمع قبة وهي ما يجعل من الثياب على الهودج مثلا (و) في (الخاتم) بكسر
التاء وفتحها (وليس الرقم في الثوب من ذلك) أي التماثيل المكروهة
(وتركه) أي الرقم في الثوب وفي نسخة وغيره (أحسن) مراعاة لمن
يقول بتحريمه.
باب في بيان آداب الطعام والشراب (باب في) بيان (آداب الطعام والشراب) أي الأكل والشرب والآداب
منها سوابق ومقارنة ولواحق فمن الأول قوله: (وإذا أكلت أو شربت)
أي إذا أردتهما (فواجب عليك) وجوب السنن أي سنة عين (أن تقول:
بسم الله) جهرا ولا تزيد الرحمن الرحيم (وتتناوله) أي تأخذ ما تأكله أو
تشربه (بيمينك) على جهة الاستحباب. ومن الثالث قوله: (فإذا فرغت)
من الاكل أو الشرب (فلتقل الحمد لله) سرا (وحسن) أي مستحب
(أن تلعق يدك) وفي رواية أصابعك وهي مفسرة للأولى (قبل مسحها)
690

لما في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يلعق يده قبل أن يمسحها. (ومن آداب الاكل
أن تجعل بطنك ثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للنفس) ووجه ذلك أنه
إذا أكثر من الطعام لم يبق موضع للنفس إلا على وجه يضر به. (و) من
آداب الاكل (إذا أكلت مع غيرك) ممن ليس من أهلك (أكلت مما
يليك) لامره عليه الصلاة والسلام بذلك. (و) من آدابه أيضا أنك (لا تأخذ
لقمة حتى تفرغ الأخرى) بالبلع لئلا تنسب إلى الشره، أي الحرص على
الاكل ولئلا تشرق فيحصل لك الخجل. ومن الآداب أيضا أن تأكل كما يأكلون
من تصغير اللقمة والترسل في الاكل، وإن خالف ذلك عادتك. (و) من آداب
الشرب أنك (لا تتنفس في الاناء عند شربك) لنهيه عليه الصلاة والسلام
عن ذلك. ويؤخذ من قوله: (ولتبن القدح عن فيك ثم تعاوده إن شئت)
جواز الشرب من نفس واحد، وهو قول لمالك. وقيل: يكره لما ثبت من
قوله عليه الصلاة والسلام: إذا شرب أحدكم فليتنفس ثلاث مرات فإنه
أهنأ وأمرأ. (ولا تعب الماء عبا) قال في المصباح: عب الرجل الماء عبا من
باب قتل شربه من غير تنفس، وعب الحمام شرب من غير مص، كما تشرب
الدواب، وأما باقي الطيور فإنه يحسوه جرعة بعد جرعة انتهى. (ولتمصه مصا)
691

بفتح الميم في ولتمصه مضارع مصص بالكسر، والمص بلع الماء برفق شيئا
بعد شئ (وتلوك) أي تمضغ (طعامك وتنعمه مضغا) أي تبالغ في مضغه
(قبل بلعه) لان ذلك أبلغ في اللذة وأسهل على المعدة. (وتنظف فاك بعد)
الفراغ من (طعامك) بالمضمضة والسواك لدفع ما يتقى من تغير طعم الفم.
(وإن غسلت يدك) بعد المسح الواقع بعد اللعق (من الغمر) بفتح الغين
المعجمة وفتح الميم الودك وهو دسم اللحم والشحم (و) من (اللبن فحسن)
أي مستحب (وتخلل) أي تزيل (ما تعلق بأسنانك) أي تداخل بينها
(من الطعام) لامره عليه الصلاة والسلام بذلك. (ونهى الرسول عليه)
الصلاة (والسلام عن الأكل والشرب بالشمال) فإن الشيطان يأكل بشماله
ويشرب بشماله. (و) من آداب الشرب إذا كنت بحضرة جماعة أنك
(تناول إذا شربت من على يمينك) أولا لما في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم أتي بلبن
قد شيب بماء أي خلط، وعن يمينه أعرابي وعن يساره الصديق فشرب ثم
أعطى الأعرابي فضله. وقال: الأيمن فالأيمن. (وينهى عن النفخ في الطعام
والشراب والكتاب) الظاهر أن المراد مطلق الكتاب فقها أو حديثا
692

وهو في الأولين لما يتقى من القذر، وفي الثالث لحرمته وكذلك نهى نهي تحريم
(عن الشرب في آنية الذهب والفضة) لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: لا تشربوا
في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا، ولكم في
الآخرة وضمير لهم للكفار. (ولا بأس بالشرب قائما) لما في الترمذي أنه
صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائما وقاعدا. وفعله عمر وعثمان وعلي، وعليه جماعة الفقهاء.
(ولا ينبغي لمن أكل الكراث أو الثوم أو البصل نيئا) بكسر النون
والمد والهمز، ويروى بتشديد الياء (أن يدخل المسجد) ال فيه للجنس
من حيث وجوده في جميع أفراده، وسواء كان مسجد جمعة أم لا، أي
يكره له ذلك، كما في سماع ابن القاسم من مالك، إلا أن غير واحد رجح
الحرمة. وحمل ابن عمر كلام المصنف عليه. (ويكره أن يأكل متكئا)
وصفة الاتكاء أن يميل على مرفقه الأيسر أي بأن يبسط الفخذ اليسرى
ويركز فيها المرفق اليسرى، ويعتمد عليها والفخذ اليمنى قائمة (ويكره
الاكل من رأس الثريد) لما صح أنه عليه الصلاة والسلام أتي بقصعة من
ثريد فقال: كلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها. (ونهى عن القران
في التمر) أي الازدواج أي بأن يجمع بين التمرتين في المرة الواحدة. (وقيل
693

إن ذلك) النهي عن القران في التمر إنما هو (مع الأصحاب الشركاء فيه)
والنهي نهي كراهة إن عللنا بسوء الأدب، وإن عللنا بالاستبداد وكان
القوم شركاء كان النهي نهي تحريم (ولا بأس بذلك مع أهلك) لأنه
يجوز لك أن تستبد بشئ دونهم (أو مع قوم تكون أنت أطعمتهم)
وهذا على التعليل بالاستبداد، وأما على التعليل بسوء الأدب فالعلة موجودة
والكراهة باقية. (ولا بأس في التمر وشبهه) كالزبيب (أن تجول بيدك
في الاناء) الذي يكون فيه المأكول أي تشيعها وترسلها يمينا وشمالا
(لتأكل ما) أي الذي (تريد منه) وقد وردت السنة بذلك، وكان
الأنسب ذكر هذه المسألة عقب قوله فيما سبق، وإذا أكلت مع غيرك أكلت
مما يليك. (وليس غسل اليد قبل) أكل (الطعام من السنة) بل هو
مكروه إذا كانتا نظيفتين. قال مالك: وليس العمل على قوله عليه الصلاة
والسلام: الغسل قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم. أي ليس عمل أهل
المدينة عليه أي ومذهبه أنه يقدم على الحديث وإن كان صحيحا وذلك لان
عملهم على خلاف حديث المصطفى لا يكون إلا لموجب وذلك لكون النبي
صلى الله عليه وسلم فعل خلاف مقتضاه الدال على نسخه (إلا أن يكون بها) أي اليد
694

(أذى) أي قذر فيجب غسلها إكراما للطعام. وفي قوله: (وليغسل يده
وفاه بعد الطعام من الغمر) تكرار بالنسبة لليد مع قوله: وإن غسلت يدك
من الغمر الخ لأنه لا فرق بين قوله فحسن وقوله وليغسل. (وليمضمض
فاه من اللبن) ظاهره مطلق اللبن. وقال يوسف بن عمر: إنه خاص بالحليب
لان له دسما ويقويه الحديث، وهو أنه عليه الصلاة والسلام شرب لبنا
ثم دعا بماء فمضمض فاه ثم قال: إن له دسما. (وكره غسل اليد بشئ من الطعام)
كدقيق الحنطة (أو بشئ) من دقيق (القطاني) من عطف الخاص
على العام وأفردها بالذكر، لان دقيقها لا يؤكل إلا في المسغبة فربما يتوهم
خفة الامر في دقيقها وأنه لا حذر فيه. (وكذلك بالنخالة) وهي ما يتخلص
بالغربال من قشور الحنطة (وقد اختلف في ذلك) أي في غسل اليد
بجميع ما تقدم بالجواز والكراهة. وهذا آخر الكلام على ما ترجم له ثم
انتقل يتكلم على ما تبرع به فقال (ولتجب) بضم التاء وكسر الجيم قيل
وجوبا وقيل استحبابا (إذا دعيت إلى وليمة العرس) فوجوب الإجابة
مشروط بالدعوة وبتعيين المدعو، ويزاد على هذين ما أشار إليه الشيخ
بقوله: (إن لم يكن هناك لهو مشهور) أي ممنوع مثل آلات الطرب
الممنوعة (ولا منكر بين) أي ممنوع مثل اجتماع الرجال والنساء وفرش
695

الحرير (و) إن حضرت ف‍ (أنت في الاكل بالخيار) أي إن شئت أكلت
وإن شئت لم تأكل. (وقد أرخص مالك في التخلف) عن الإجابة لوليمة
العرس (لكثرة زحام الناس فيها) لان في حضورها حينئذ مشقة، خصوصا
لأهل الفضل والصلاح.
باب في السلام والاستئذان.... (باب في) بيان (السلام) من حيث الحكم والصفة (و) في بيان
(الاستئذان) حكما وصفة (و) حكم (التناجي و) في بيان (القراءة)
أي بيان ما يتعلق به من طلب أو ترك أو قدر (و) في (الدعاء) أي
ما يتعلق به من كونه كذا وكذا. وفي موضع كذا (وذكر الله) سبحان
وتعالى أي وفي حكم ذكر الله تعالى (والقول في السفر) أي ما يقوله إذا
أراد سفرا، وعكس في الباب، فقدم الذكر على القراءة والدعاء،
وقدم الدعاء على القراءة، وهذا الصنع جائز جاء مثله في القرآن قال الله تعالى: * (يوم تبيض
وجوه) * (آل عمران: 106) الآية وبدأ بحكم رد السلام فقال: (ورد السلام واجب
) وجوب فروض الكفاية على المشهور (والابتداء به سنة) كفاية على المشهور
696

(مرغب فيها) أشار به إلى أنه سنة مؤكدة (والسلام) أي حقيقته (أن
يقول الرجل السلام عليكم) بصيغة الجمع كان المسلم عليه واحدا أو أكثر،
لان الواحد كالجماعة من حيث وجود الحفظة معه (ويقول الراد وعليكم
السلام) بواو التشريك وتقديم الجار والمجرور (أو يقول سلام عليكم)
بتقديم السلام منكرا بغير واو وتأخير الجار والمجرور (كما قيل له) ظاهره
تساويهما. والأحسن ما ذهب إليه ابن رشد فإنه قال: الاختيار أن يقول
المبتدئ السلام عليكم، ويقول الراد: وعليكم السلام. (وأكثر ما ينتهي
السلام إلى البركة) فالزيادة على ذلك غلو وبدعة، وإذا كان كذلك فيلزمك
إذا سلم عليك إنسان وانتهى في سلامه إلى البركة (أن تقول في ردك)
عليه (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ولا تقل في ردك) على من سلم
عليك (سلام الله عليك) لأنه لم يرد به خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو مأثور
عن السلف الصالح. (وإذا سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم) لأنه من
697

سنن الكفاية (وكذلك إن رد واحد منهم) أي من الجماعة المسلم عليهم أجزأ
عن جماعتهم، لان ذلك من فروض الكفاية (وليسلم الراكب على الماشي
والماشي على الجالس) لامره عليه الصلاة والسلام بذلك. (والمصافحة حسنة)
أي مستحبة على المشهور، ومقابله ما لمالك من رواية أشهب من كراهتها.
(وكره) إمامنا (مالك) رحمه الله تعالى (المعانقة) وهي أن يجعل الرجل
عنقه على عنق صاحبه (وأجازها) سفيان (بن عيينة) وهو من كبار
أهل العلم والفضل. (وكره مالك) رحمه الله (تقبيل اليد) أي يد الغير
سواء كان الغير عالما أو سيدا أو أبا، وهو ظاهر نص أهل المذهب، لأنه من
فعل الأعاجم الداعي إلى الكبر ورؤية النفس. (وأنكر) مالك رحمه الله
(ما روي فيه) من الأحاديث التي منها أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم
ابتدروا يديه ورجليه وهو صحيح. ومنها تقبيل سعد بن مالك يده
صلى الله عليه وسلم. (ولا تبتدأ اليهود والنصارى بالسلام) لما صح من نهيه عليه الصلاة
والسلام عن ذلك (فمن سلم على ذمي) ظانا أنه مسلم (فلا يستقيله) أي
لا يطلب منه الإقالة بأن يقول له: إنما سلمت عليك ظنا مني أنك مسلم، ولو
698

علمت أنك كافر ما سلمت عليك، فرد علي سلامي الذي سلمته عليك. (وإن
سلم عليه) أي على المسلم (اليهودي أو النصراني فليقل) له في الرد عليه:
(عليك) بغير واو لما في مسلم: أن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم:
السام عليكم، فالمناسب لذلك أن يقول في الرد: عليك أو عليكم بغير واو
ليكون دعاء عليه، لان المراد عليك أو عليكم السام واللعنة والسام الموت.
(ومن قال) في الرد عليه (عليك السلام بكسر السين وهي الحجارة فقد
قيل ذلك) أي يجوز ذلك، وفي العبارة حذف والتقدير: ومن قال كذا
فلا لوم عليه لأنهم قد قالوا بجواز ذلك. (و) أما (الاستئذان) وهو طلب
الاذن على أهل البيت في الدخول عليهم ف‍ (واجب) وجوب الفرائض
لقوله تعالى: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) * (النور: 59) فمن تركه فهو عاص
لله ورسوله فإذا كان كذلك (فلا تدخل بيتا فيه أحد حتى تستأذن
ثلاثا) أي ثلاث مرات. كان ذلك الأحد محرما أو غيره مما لا يحل لك
النظر إلى عورته بخلاف الزوجة والأمة. وصفة الاستئذان أن تقول: أدخل
ثلاث مرات (فإن أذن لك) فادخل (وإلا رجعت) وقوله: (ويرغب
في عيادة المرضى) تقدم وليس لذكره هنا مناسبة لا بما قبله ولا بما بعده
699

(ولا يتناجى) قال ابن عمر: التناجي التسارر بالكلام ليخفي ذلك عن الغير
(اثنان دون واحد) في سفر أو حضر. (وكذلك جماعة إذا أبقوا واحدا
منهم) لا يتناجون دونه (وقد قيل: لا ينبغي ذلك) أي تناجي اثنين مثلا
دون واحد أو جماعة دونه (إلا بإذنه) فإن الحق له، فإذا أسقطه سقط.
(وذكر الهجرة قد تقدم في باب قبل هذا) أي الهجران وقوله: قد تقدم
أي فلا حاجة لإعادته (قال معاذ بن جبل) الذي قال في حقه عليه الصلاة
والسلام: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. (ما عمل آدمي عملا أنجى له
من عذاب الله من ذكر) يحتمل أن يريد الذكر باللسان أو القلب،
والذكر الكامل ما كان بالقلب واللسان. (و) ما (قال عمر) بن الخطاب
رضي الله عنه: (أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه)
لا ينافي أن أكمل الذكر الجمع بينهما، وذكر القلب نوعان أجلهما الفكر
في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وآياته في سمائه وأرضه. ويليه ذكره
بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه. (ومن
700

دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أصبح وأمسى: اللهم) يا الله (بك نصبح وبك
نمسي وبك نحيا وبك نموت. وتقول) زيادة على ذلك إن كنت (في الصباح
وإليك النشور) أي نشور الخلائق إليك أي مشيهم إلى جزائك (و) إن
كنت (في المساء) قلت: (وإليك المصير) أي: وإليك الرجوع بالموت وهذا
الحديث خرجه أصحاب السنن الأربعة الترمذي وأبو داود والنسائي وابن
ماجة (وروي) أنه يقول (مع ذلك) الدعاء المتقدم في الصباح: (اللهم
اجعلني من أعظم عبادك عندك حظا ونصيبا في كل خير تقسمه في هذا اليوم،
وفيما بعده من نور) أي هدى، وهو خلق القدرة على الطاعة (تهدي
به أو رحمة تنشرها) أي تظهرها (أو رزق تبسطه) أي تكثره (أو ضر
تكشفه) أي تزيله (أو ذنب) نهيت عنه (تغفره) أي تستره (أو
شدة) وهي ما يصيب الانسان من الكروب والأحزان (تدفعها) أي
تزيلها (أو فتنة) وهي كل ما يشغل عن الله من أهل ومال وولد (تصرفها)
701

أي تصرف الاشتغال بها أي تزيله (أو معافاة تمن بها) أي تتفضل بها
(برحمتك إنك على كل شئ قدير.) وظاهر قوله: وروي أنه حديث مرفوع،
وصرح به الأقفهسي. وروي أنه من كلام ابن عمر رضي الله عنهما. (ومن
دعائه عليه) الصلاة و (السلام عند) إرادة (النوم) أنه كان (يضع
يده اليمنى تحت خده الأيمن) بعد أن يضطجع على شقه الأيمن (و) يده
(اليسرى على فخذه الأيسر ثم يقول: اللهم باسمك وضعت جنبي وباسمك
أرفعه، اللهم إن أمسكت) أي قبضت (نفسي) قبض وفاة (فاغفر لها)
أي فاستر ذنوبها (وإن أرسلتها) أي رددتها إلى جسدها (فاحفظها بما
تحفظ به الصالحين من عبادك) أي لتوفيق ودفع مكاره دنيوية (اللهم
إني أسلمت نفسي إليك) إذ لا قدرة لي على تدبيرها بالنظر في عواقب
الأمور (وألجأت) أي أسندت (ظهري إليك) وهو كناية عن شدة
التوجه والاعتماد عليه (وفوضت) أي وكلت تكرار لأنه إذا أسلمها فوضها وإذا فوضها أسلمها
702

وهو مطلوب في الدعاء (أمري إليك) فافعل
بي ما تريد (ووجهت وجهي إليك) أي وجهت نفسي إليك فهو بمعنى
أسندت ظهري إليك (رهبة منك) أي خوفا منك أي راهبا وخائفا
منك (ورغبة إليك) أي طمعا في رحمتك أي طامعا في رحمتك (لا منجى)
أي لا مهرب (ولا ملجأ منك) أي لا مرجع منك فالمهرب والمرجع كل
منهما مصدر ميمي والتقدير: لا هروب ولا رجوع منك (إلا إليك أستغفرك)
أي أطلب منك مغفرتك (وأتوب) أي أرجع (إليك) من أفعال
مذمومة إلى أفعال محمودة (آمنت) أي صدقت (بكتابك) أي القرآن
(الذي أنزلته) على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (و) آمنت (برسولك) والذي في
صحيح مسلم نبيك (الذي أرسلت فاغفر لي ما قدمت) من الذنوب (وما
أخرت) من التوبة لان تأخيرها معصية كبيرة (وما أسررت) أي الذي
عملته سرا (وما أعلنت) أي الذي عملته جهرا (أنت إلهي لا إله إلا أنت) أي
أنت المعبود بحق (رب قني عذابك) أي يا رب نجني منه (يوم تبعث عبادك)
703

أي تحييهم. (ومما روي) عن النبي صلى الله عليه وسلم (في الدعاء عند الخروج من المنزل)
(اللهم إني أعوذ بك) أي أتحصن بك (أن أضل) أي أنفك عن الحق
بنفسي (أو أضل) أي يضلني غيري عنه (أو أزل) أي أزيغ عن الحق (أو أزل)
أي يزيغني غيري عنه (أو أظلم أو أظلم) أي سلمني أن أظلم أحدا أو يظلمني
أحد (أو أجهل أو يجهل علي) أي سلمني أن أسفه على أحد أو يسفه علي
أحد. (وروي) عن النبي صلى الله عليه وسلم (في دبر) بضم الدال بمعنى عقب (كل
صلاة) مكتوبة (أن يسبح الله ثلاثا وثلاثين، ويحمد الله ثلاثا وثلاثين ويكبر الله ثلاثا وثلاثين،
ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير و) مما روي من الذكر (عند)
الخروج (من الخلاء) وهو ما أعد لقضاء الحاجة أنك (تقول: الحمد لله
الذي رزقني لذته) أي الطعام أي لذته عند أكله (وأخرج عني مشقته)
704

أي مشقة بقائه (وأبقى في جسمي قوته) وذلك أن العروق تتغذى من
ذلك فتتقوى أعضاؤه على الطاعات (وتتعوذ من كل شئ تخافه) من إنس
وجن وحيوان. (وعند ما تحل بموضع أو تجلس بمكان أو تنام فيه تقول
أعوذ بكلمات الله) أي القرآن (التامات) أي التي لا يعتريها نقص ولا
باطل (من شر ما خلق) وتكررها ثلاث مرات كما في مسلم (ومن التعوذ
أن تقول أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن) أي
لا يتعداهن (بر ولا فاجر) البر المحسن والفاجر ضده. ووقوع المكروه من
البر ممكن (و) أعوذ (بأسماء الله الحسنى) وصفت بذلك لما استلزمته
من معان حسنة مثلا وهاب معناه كثير الهبة، وهذا يتضمن معنى هو كثرة
حمد الحامدين وتعظيم المعظمين (كلها) تأكيد (ما علمت منها وما لم أعلم)
يؤخذ منه أنها ليست محصورة في التسعة والتسعين. قال القشيري: إن لله
ألف اسم ثلاثمائة في التوراة وثلاثمائة في الزبور وثلاثمائة في الإنجيل وتسعة
وتسعين في القرآن وواحدا في صحف إبراهيم (من شر ما خلق وذرأ وبرأ)
ألفاظ مترادفة معناها الايجاد من العدم إلى الوجود (ومن شر ما ينزل من السماء)
705

كالصواعق (ومن شر ما يعرج فيها) أي يصعد في السماء مما هو
سبب لنزول البلاء وهو سيئ الأعمال (ومن شر ما ذرأ في الأرض) أي
خلق (ومن شر ما يخرج منها) مما له شر وأذية (ومن فتنة الليل والنهار)
أي الفتنة الواقعة فيهما من المحن والابتلاءات (ومن طوارق الليل والنهار)
أي حوادثهما التي تأتي بغتة (إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن. ويقال: في
ذلك) أي التعوذ (أيضا ومن شر كل دابة) والمراد بها هنا كل ما اتصف
بالدبيب وهو المشي (ربي آخذ بناصيتها) وهو مقدم الرأس وهذا مجاز
مرسل بمعنى القهر والغلبة (إن ربي على صراط مستقيم) أي إن تصرف
ربي على وجه مستقيم أي ليس فيه نقص ولا قصور. (ويستحب لمن دخل
منزله) أو بستانه أو حانوته أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) بعد
أن يسلم إن كان ثم أحد، وإلا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين من
قال ذلك كان حرزا لمنزله. وحسبك قوله تعالى: * (ولولا إذ دخلت جنتك قلت
ما شاء الله لا قوة إلا بالله) * (الكهف: 39). (ويكره) كراهة تحريم (العمل في المساجد من خياطة
706

ونحوها ولا يغسل يديه فيه ولا يأكل فيه إلا الشئ الخفيف) مما
لا يلوث (كالسويق) وهو القمح أو الشعير المقلي إذا طحن. زاد في التحقيق
سواء كان ملتوتا بسمن أو عسل (ونحوه) مما لا يلوث. (ولا يقص فيه
شاربه ولا يقلم أظفاره) لأنها أوساخ (وإن قص أو قلم أخذه في ثوبه)
أي بحيث لا ينزل منه شئ على الأرض. (ولا يقتل فيه قملة ولا برغوثا
وأرخص في مبيت الغرباء في مساجد البادية) للضرورة مفهومه أنه
لا يرخص ذلك في مساجد الحاضرة لوجود الفنادق فيها إذا وجد ما يعطيه
أجرة وإلا بات للضرورة. (ولا ينبغي أن يقرأ في الحمام إلا الآيات اليسيرة
ولا يكثر) ومثله موضع القذر. (ويقرأ الراكب والمضطجع) لأنها ذكر
وقد أمر الله بالذكر في جميع هيئات الشخص. قال تعالى: * (فاذكروا الله
قياما وقعودا وعلى جنوبكم) * (النساء: 103). (و) كذا يقرأ (الماشي من قرية إلى قرية
ويكره ذلك للماشي إلى السوق) أي سوق الحاضرة لا سوق البادية فلا
707

كراهة (وقد قيل: إن ذلك) أي قراءة الماشي إلى السوق (للمتعلم واسع)
أي جائز. (ومن قرأ القرآن في سبع) أي سبع ليال (فذلك حسن) أي
مستحب لأنه عمل أكثر السلف (والتفهم مع قلة القراءة أفضل) من
سرد حروفه بلا تفهم لقوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن) * (النساء: 82، محمد: 24) (وروي أن النبي
عليه) الصلاة و (السلام لم يقرأ القرآن في أقل من ثلاث) وهذا مع
معرفته صلى الله عليه وسلم معانيه وفهم ما فيه. (ويستحب للمسافر أن يقول عند ركوبه
بسم الله اللهم أنت الصاحب) أي الحافظ (في السفر والخليفة في الأهل)
أي الوكيل في حفظهم بعد سفري عنهم القائم بأمورهم (اللهم إني أعوذ بك
من وعثاء) بسكون المهملة أي مشقة (السفر وكآبة) بفتح الكاف
والهمز والمد الحزن وسوء الحال من فوات ما أريد (المنقلب) أي الرجوع
(وسوء المنظر) أي ما يسئ النظر إليه (في الأهل والمال) بحيث يلحق
708

الأهل والمال أمور مشقة أي تشق على النفس. (ويقول إذا استوى على
الدابة * (سبحان الذي سخر لنا هذا) *) أي ذلله (* (وما كنا له مقرنين) *) (الزخرف: 13، 14) أي
مطيقين قادرين (* (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) *) أي راجعون (وتكره التجارة
إلى أرض العدو) لان في ذلك تغريرا للانسان بنفسه وماله وإذلالا للدين
(وإلى بلد السودان) أي الكفار منهم للعلة المتقدمة. (وقال النبي عليه)
الصلاة و (السلام: السفر قطعة من العذاب) يمنع أحدكم نومه وطعامه
وشرابه. الحديث. (ولا ينبغي) بمعنى لا يحل (أن تسافر المرأة مع غير ذي
محرم منها سفر يوم وليلة فأكثر، إلا في حج الفريضة خاصة في قول مالك)
فإن لها أن تسافر مع غير ذي محرم لكن بشرط أن تكون (في رفقة
مأمونة) من المسلمين فإن لم تجد رفقة مأمونة لا يجوز لها ذلك (وإن لم
يكن معها ذو محرم فذلك لها) مرتبط بقوله إلا في حج الفريضة فذلك لها.
709

باب في التعالج باب في) بيان حكم (التعالج) وهو محاولة الداء بدوائه أي يحاول
الداء بالدواء أي بدواء ذلك الداء. (و) في بيان (ذكر الرقي) جمع رقية
أي في حكم الرقي وما يرقى به. (و) في بيان حكم (الطيرة) بكسر الطاء
وفتح التحتية وهي العمل على سماع ما يكره أو رؤيته. (و) في بيان ما يحل
تعلمه من علم (النجوم و) في بيان حكم (الخصاء) وبيان ما يجوز أن
يخصى وما يكره. (و) في بيان حكم (الوسم) بالسين المهملة وهو العلامة
بالكي في الحيوان. (و) في ذكر (الكلاب) أي في بيان ما يجوز أن
يتخذ منها وما لا يتخذ. (و) في بيان (الرفق بالمملوك) يعني من الآدميين
إذ لا يسمى بذلك عرفا غيره. (ولا بأس بالاسترقاء من العين وغيرها)
كاللدغة بالدال المهملة والغين المعجمة لدغ العقرب والحية والعين ذو سم
جعله الله في عين العائن إذا تعجب من شئ ولم يبارك، وأما لو بارك عند
نظره لم يصبه شئ لقوله عليه الصلاة والسلام. للعائن: هلا باركت. ولا خلاف
في جواز الاسترقاء بأسماء الله تعالى وكتابه (و) لا بأس (بالتعوذ) ففي
مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات بكسر الواو،
الاخلاص والفلق والناس وينفث بكسر الفاء وضمها أي يخرج الريح
من فمه في يديه مع شئ من ريقه ويمسح بهما ما بلغ من جسده. (و)
كذا لا بأس ب‍ (التعالج) أي بمعالجة المريض الداء بالدواء (وشرب
710

الدواء والفصد) وهو قطع العرق لاستخراج الدم الذي يؤذي (والكي)
وهو الحرق بالنار (والحجامة حسنة) أي مستحبة في كل أيام السنة (والكحل)
بالإثمد (ل‍) أجل ا (لتداوي للرجال جائز) فلا يكتحل لغير ضرورة (وهو
من زينة النساء) والتشبه بهن حرام كالعكس. (ولا يتعالج) أي لا يجوز
التعالج (بالخمر) في باطن الجسم وظاهره (ولا بالنجاسة) غيره (ولا بما
فيه ميتة) أي ولا بشئ فيه جزء من الميتة، وهذا وإن كان داخلا فيما
قبله إلا أنه لما كانت نجاسته عرضية ربما يتوهم جواز التداوي بما هي فيه
(ولا بشئ مما حرم الله سبحانه وتعالى) وحينئذ لا يجوز التداوي في الحكة
بلبس الحرير خلافا لبعض. وقوله: (ولا بأس بالاكتواء) تكرار (والرقى)
جمع رقية تكون (بكتاب الله تعالى) أي القرآن وآخر الرقية بالفاتحة
وإياك نستعين (وبالكلام الطيب) وهو العربي المفهوم. روى الشيخان:
أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس أذهب
الباس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما أي لا يترك
ولا يرقى بالمبهمات لما سئل مالك عن الأسماء المعجمة، فقال: ما يدريك لعلها
711

كفر. وقضية ذلك أن ما جهل معناه لا تجوز الرقية به. ولو جرب وصح (ولا
بأس بالمعاذة) وهي التمائم التي (تعلق) في العنق (وفيها القرآن) وسواء
في ذلك المريض والصحيح بعد جعلها فيما يكنها. (وإذا وقع الوباء)
مقصورا وممدودا وهو الطاعون (بأرض) أي في أرض قوم (فلا يقدم
عليه) من هو خارج عن تلك الأرض. (ومن كان بها فلا يخرج) منها
(فرارا منه) أي من الوباء لما صح أنه عليه الصلاة والسلام: نهى عن
ذلك والنهي نهي كراهة. (وقال الرسول عليه) الصلاة و (السلام في) شأن
(الشؤم: إن كان) له حكم ثابت أي وجود ثابت في نفس الامر (ففي) ثلاثة أشياء
(المسكن والمرأة والفرس) شؤم المسكن سوء الجيران وشؤم المرأة قلة نسلها وشؤم
الفرس ترك الغزو عليه (وكان) النبي (عليه) الصلاة و (السلام يكره
سيئ الأسماء) كمرة وحنظلة وحرب. (و) كان عليه الصلاة والسلام
(يحب الفأل الحسن) الفأل بالهمز والجمع فؤول وفي الصحيح قيل: يا رسول
الله وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم. كما إذا خرج للسفر أو
عيادة مريض ولم يقصد سماع الفأل فسمع يا غانم أو يا سالم، أما إذا قصد
سماع الفأل ليعمل عليه فلا يجوز لأنه من الأزلام وهي أقداح أي سهام
712

يكون في أحدها: افعل وفي الآخر: لا تفعل، والثالث: لا شئ فيه، فإذا خرج
الذي فيه: افعل مضى، وإذا خرج الذي فيه: لا تفعل رجع، وإن خرج الذي لا شئ
فيه أعاد الاستقسام. ثم بين صفة رقية العين. بقوله: (والغسل للعين) أي
وصفة الرقية بالعين إذا عرف العائن (أن يغسل العائن) أي وجوبا ويجبر
عليه إن امتنع من ذلك إذا خشي على المعيون الهلاك، ولم يمكن الخلاص
إلا به فيغسل (وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة
إزاره) أي ما يلي فرجه، وفيه من حسن العبارة ما لا يخفى حيث لم يعبر
باللفظ الذي يستحيا منه وهو الفرج، وأشار إليه إشارة لطيفة ويجمع
ذلك (في قدح ثم يصب على المعين) قال ابن العربي: صوابه العائن وفيه
نظر، لان الصب على المعان أي المصاب بالعين لا العائن. وصفة صب القدح
على المعان: أن يصب عليه من فوقه ويقلب القدح أي وراء ظهره على الأرض
(ولا ينظر في) علم (النجوم إلا) في شيئين فإن النظر فيه لهما. قد ورد
الشرع به أحدهما: (ما يستدل به على) معرفة سمت (القبلة) أي جهتها.
(و) ثانيهما: ما يستدل به على معرفة (أجزاء الليل) ما مضى وما بقي وبقي
ثالث جائز وهو النظر فيما يهتدى به في السير لقوله تعالى: * (وهو الذي جعل
لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) * (الانعام: 97) (ويترك ما سوى ذلك) مما
713

يدعيه المنجمون. (ولا يتخذ كلب في الدور في الحضر ولا في دور البادية) على
جهة الكراهة إلا أن يكون عقورا فيحرم (إلا ل‍) أجل حراسة (زرع أو)
لأجل حراسة (ماشية) وهي الغنم (يصحبها في الصحراء ثم يروح) أي يرجع
يبيت (معها) حيث باتت (أو ل‍) أجل (صيد يصطاده لعيشه) أي قوته وقوت
عياله (لا للهو) أي اللعب فلا يجوز اتخاذه. (ولا بأس بخصاء الغنم) الضأن
والمعز لما فيه من صلاح لحومها (ونهي عن خصاء الخيل) لان ذلك
ينقص القوة ويذهب النسل منها. وأما خصاء البغال والحمير فجائز وخصاء
الآدمي حرام إجماعا. (ويكره الوسم) أي العلامة بالنار (في الوجه ولا
بأس به في غير ذلك) أي غير الوجه لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
الوسم في الوجه، وأرخص في السمة أي العلامة في الاذن لان المالك يحتاج
لها للتميز. (ويترفق بالمملوك) في أكله وشربه وعمله (و) إذا كان الامر
كذلك (لا يكلف من العمل إلا ما يطيق) فلا يجوز للسيد أن يكلف
عبده أو أمته ما يشق عليهما ولا ما لا تتحمله أبدانهما والله أعلم.
714

باب في الرؤيا (باب في الرؤيا) أي في بيان كون ما يراه الرجل الصالح في منامه جزء
من ستة وأربعين جزءا من النبوة. (و) في (التثاؤب) أي بيان ما يفعله
من تثاءب (والعطاس) أي بيان ما يقول من عطس ومن سمعه. (و)
في بيان حكم (اللعب بالنرد) وبيان معناها (و) اللعب ب‍ (غيرها) وهو
الشطرنج، وحكم الجلوس إلى من يلعب بها وحكم السلام عليه. (و) في بيان
حكم (السبق بالخيل) والإبل (و) السبق (بالرمي) بالسهام. (و) بيان
حكم (غير ذلك) أي غير ما ذكر كقتل القمل والضفادع، وبيان أفضل
العلوم (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح) أي وكذا
المرأة الصالحة والمراد غالب رؤياهم، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث ولكنه
نادر (جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) لان فيها اطلاعا على الغيب
من وجه ما. وأما تفصيل النسبة فيختص بمن عرف درجة النبوة. (و)
قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم ما يكره في منامه فإذا استيقظ فليتفل عن
يساره ثلاثا وليقل: اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت في منامي أن يضرني
715

في ديني ودنياي) وفي رواية: فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثا
وليتحول عن جنبه الذي كان عليه. وحكمة التحول التفاؤل بأن الله يبدل
المكروه بالحسن. (ومن تثاءب فليضع يده) اليمنى ظاهرها أو باطنها (على
فيه) فإذا زال عنه التثاؤب نفث ثلاثا إن كان في غير صلاة. (ومن عطس)
خارج الصلاة (فليقل: الحمد لله) وقيل: يزيد رب العالمين (وعلى من سمعه
يحمد الله أن يقول له: يرحمك الله) ونقل ابن ناجي عن البيان أن الأشهر
أنه فرض عين، ويدل له حديث البخاري: حقا على كل مسلم سمعه أن يقول:
له يرحمك الله (ويرد العاطس عليه بيغفر الله لنا ولكم أو يقول) له
(يهديكم الله ويصلح بالكم). والثاني أفضل لان الهداية أفضل من المغفرة
لأنها لا تكون إلا عن ذنب. (ولا يجوز اللعب بالنرد) لا بعوض ولا بغيره
لما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله قال ابن عمرو:
النرد قطع تكون من العاج أي الذي هو عظم الفيل أو من البقس ملونة
يلعب بها ليس فيها كيس، أي ليس فيها فطانة لأنها تجري على حكم الاتفاق
(ولا بأس أن يسلم على من يلعب بها) في غير حال اللعب، وأما في حال
اللعب فلا يجوز لأنهم متلبسون بمعصية، وعند مالك: لا تسقط الشهادة إلا
716

إذا أدمن والمدمن لا يخلو من الايمان الحانثة. وأما على وجه الندرة فيجب
عليه تركه ولا تسقط عدالته وبئسما صنع (ويكره الجلوس إلى من يلعب
بها) مخافة أن ينسب إليهم. (ولا بأس بالسبق بالخيل وبالإبل وبالسهام
بالرمي) بجعل وبغير جعل، ولا يجوز السبق بغير هذه الثلاثة إلا بغير جعل
(وإن أخرجا شيئا جعلا بينهما محللا) على أنه (يأخذ ذلك المحلل إن سبق)
هو أي المحلل (وإن سبق غيره) أي غير المحلل من جاعل الجعل (لم يكن
عليه) أي المحلل (شئ) ويأخذ السابق الجميع (وقال) إمامنا (مالك)
رحمه الله: (إنما يجوز) السبق إلا (أن يخرج الرجل) من المتسابقين
(سبقا) بفتح الباء أي جعلا على أن لا يرجع إليه (فإن سبق غيره)
وهو الآخر من المتسابقين الذي لم يخرج جعلا (أخذه) أي أخذ الغير
الجعل (وإن سبق هو) أي الرجل خارج الجعل (كان للذي يليه من
المتسابقين وإن لم يكن) ثم (غير جاعل السبق) بفتح الباء أي الجعل
717

(وآخر) وهو من يسابقه فقط (ف‍) إنه (إذا سبق جاعل السبق أكله
من حضر ذلك) أي المسابقة. (وجاء) عن النبي صلى الله عليه وسلم (فيما ظهر من
الحيات بالمدينة) المشرفة (أن تؤذن) أي تعلم (ثلاثا) أي ثلاثة أيام
وجوبا، والدليل على طلب الاستئذان ما في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا
لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان. وصفة الاستئذان أن تقول: إن
كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وأنت مسلم فلا تظهر لنا خلاف اليوم
ولا تؤذنا فإن ظهرت لنا قتلناك. (ولا تؤذن) الحيات (في الصحراء)
ونحوها كالطرقات (ويقتل ما ظهر منها) بغير استئذان (ويكره قتل
القمل والبراغيث) وغيرهما كالبق والبعوض (بالنار) ما لم تضر لكثرتها
فيجوز (ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها)
وأتى الشيخ بالمشيئة كأنه من عنده لم يقف فيه لمالك على شئ (ولو لم تقتل) النمل
718

(كان أحب إلينا إن كان يقدر على تركها) بأن أمكنه التبعد
عنها. (ويقتل الوزغ حيث وجد ويكره قتل الضفادع) ما لم تؤذ
وإلا جاز قتلها. (وقال النبي) عليه الصلاة و (السلام: إن الله أذهب عنكم
غبية الجاهلية وفخرها) والغبية التكبر والتجبر (بالآباء مؤمن تقي أو
فاجر شقي) أي لأنكم ما بين مؤمن تقي أي ممتثل للمأمورات مجتنب
للمنهيات فيكون مرتفعا عند الله بتقواه وإن لم يكن نسيبا أو فاجرا أي
كافر شقي بعدم تقواه، ولو كان نسيبا فالتفاضل بالآباء لا يكسب شيئا (أنتم
بنو آدم وآدم من تراب) فكيف تتكبرون وتفتخرون. (وقال النبي
عليه) الصلاة و (السلام في رجل تعلم أنساب الناس) مثل أن يقول: فلان
ابن فلان من بني فلان، وبنو فلان يجتمعون مع بني فلان: (علم لا ينفع)
في الدنيا ولا في الآخرة (وجهالة لا تضر) فلا يقال لمن جهله جاهل. (وقال
عمر) بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)
وهو كل من بينك وبينه قرابة (وقال مالك) رحمه الله: (وأكره أن
719

يرفع في النسبة) فيما (قبل الاسلام من الآباء) مثل أن يعد أجداده
المسلمين حتى يبلغ الكفار وقوله: (والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين
جزءا من النبوة، ومن رأى في منامه ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا
وليتعوذ من شر ما رأى) تكرار مع ما تقدم (ولا ينبغي) بمعنى يحرم
(أن يفسر الرؤيا من لا علم له بها) لأنه يكون كاذبا ومخالفا لقوله تعالى:
* (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الاسراء: 36) (ولا يعبرها) أي الرؤيا المعبر (على الخير
وهي عنده على المكروه) وهذا نهي تحريم لأنه كذب وغرر بالرائي
فإن ظهر له خير ذكره، وإن ظهر له مكروه يقول خيرا إن شاء الله. (ولا
بأس بإنشاد الشعر) إذا لم يكن فيه ذم أحد (وما خف من) إنشاد
(الشعر) ونظمه (فهو أحسن ولا ينبغي أن يكثر منه و) لا (من الشغل
به) لان ذلك بطالة مما كان أولى واشتغال بغير الأولى (وأولى العلوم
وأفضلها وأقربها) أي التي يتقرب بها (إلى الله تعالى علم دينه) أي العلم
720

المشتمل على العقائد الدينية كمعرفة الصانع وعلم وجوده إلى آخر الصفات
(و) علم (الشرائع) وهو علم الحلال والحرام والشرائع النسب التامة
(مما أمر) الله (به) من الواجبات والمندوبات (ونهى عنه) من المحرمات
والمكروهات (ودعا إليه وحض عليه في كتابه) وعلى لسان نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم (والفقه في ذلك) أي في فهم دين الله وعلم شرائعه، وهو بمعنى قوله
(والفهم فيه والتهمم) أي الاهتمام (برعايته) أي بحفظه (والعمل به)
وإنما كان العمل به أفضل وأقرب إلى الله تعالى لان ثمرة العلم العمل
ثم بين أفضل الأعمال فقال: (والعلم أفضل الأعمال) أراد به علم الدين
وعلم الشرائع لما قال عليه الصلاة والسلام: أفضل العبادة الفقه، وأفضل
الدين الورع. (وأقرب العلماء إلى الله عز وجل وأولاهم به أكثرهم له
خشية) أي خوفا (و) أكثرهم (فيما عنده رغبة) أي رجاء (والعلم
دليل إلى الخيرات وقائد إليها) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له طريقا
إلى الجنة (واللجأ) بفتح اللام والجيم
أي الاستناد والرجوع (إلى كتاب الله عز وجل) أي القرآن (و) إلى
(سنة نبيه) محمد صلى الله عليه وسلم وهي أقواله وأفعاله وتقريراته
721

(و) إلى (اتباع سبيل) أي طريق (المؤمنين) المراد بها هنا الاجماع
(و) اتباع (خير القرون) وهم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين (من
خير أمة أخرجت للناس) وقوله: (نجاة) خبر اللجأ ثم بين ثمرة الرجوع
إلى هذه الثلاثة بقوله: (ففي المفزع) أي اللجأ (إلى ذلك) أي الكتاب
والسنة والاجماع والسلف الصالح (العصمة) أي الحفظ (وفي اتباع) سبيل
(السلف الصالح) وهم أهل القرون الثلاثة الأول من العلماء العاملين
ومن اتصف بأوصافهم من المتأخرين (النجاة) أي الخلاص كرره ليرتب
عليه قوله: (وهم القدوة في تأويل ما تأولوه واستخراج ما استنبطوه)
التأويل صرف اللفظ عن ظاهره كقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد. فظاهره لا صلاة صحيحة. وحاصله أن مدلول اللفظ الأصلي نفي
الحقيقة من أصلها وهو لا يصح قطعا فيلتفت إلى القريب منه وهو نفي
الكمال والاستخراج القياس كقياس حد الخمر على القذف (وإذا اختلفوا
في الفروع والحوادث) أي النوازل (لم يخرج عن جماعتهم) أي الصحابة
لان إجماعهم حجة يجب اتباعه وتحرم مخالفته (والحمد لله الذي هدانا)
أي وفقنا (ل‍) - تأليف (هذا) الكتاب والاقدار عليه (وما كنا لنهتدي
722

لولا أن هدانا الله) ثم بين أنه وفى بما شرطه في ديباجة كتابه فقال:
(قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد قد أتينا على ما شرطنا) في أول
كتابنا (أن نأتي به في كتابنا هذا) من المسائل (مما ينتفع به إن شاء
الله تعالى من رغب في تعليم ذلك من الصغار، ومن احتاج إليه من الكبار
وفيه ما يؤدي) أي يبلغ (الجاهل إلى علم ما يعتقده من دينه) وهو
ما ذكره في العقيدة (ويعمل به من فرائضه) كالطهارة والصوم والحج
(ويفهم كثيرا من أصول الفقه وفنونه) أي فروعه (و) يفهم كثيرا
(من السنن والرغائب والآداب) كما علمت ذلك كله ولله الحمد (وأنا
أسأل الله عز وجل) أي أطلب منه (أن ينفعنا وإياك بما علمنا ويعيننا
723

وإياك على القيام بحقه فيما كلفنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى
الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وصحبه) وأزواجه وذريته (وسلم تسليما كثيرا).
724