الكتاب: تحفة الفقهاء
المؤلف: السمرقندي
الجزء: ١
الوفاة: ٥٣٩
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٣ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي وهي أصل "بدائع الصنائع" للكاساني - قال اللكنوي : " ملك العلماء الكاساني ، صاحب البدائع شرح تحفه الفقهاء : أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي ، صحاب التحفة "

تحفة الفقهاء
1

تحفة الفقهاء
لعلاء الدين السمرقندي
539 ه‍
وهي أصل " بدائع الصنائع " للكاساني - قال اللكنوي:
" ملك العلماء الكاساني، صاحب البدائع شرح تحفة الفقهاء:
أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي: صاحب التحفة ".
الجزء الأول
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
3

جميع الحقوق محفوظة
لدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
الطبعة الثانية
1414 ه‍ - 1994 م.
دار الكتاب العلمية بيروت - لبنان
ص - ب: 9424 / 11 - تلكس: - le nasher 41245
هاتف: 366135 - 602133 - 868051 - 815573
فاكس: 4781373 / 1212 / 00 - 602133 / 9611 / 00
4

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
الحمد لله حمده، والصلاة على رسوله " محمد " أفضل عبيده، وعلى
آله وأصحابه من بعده.
قال الشيخ الامام علاء الدين: محمد بن أحمد بن أبي أحمد
السمرقندي، رحمه الله تعالى.
اعلم أن " المختصر " المنسوب إلى الشيخ أبي الحسين القدوري (1) رحمه
الله جامع جملا من الفقه مستعملة، بحيث لا تراها مدى الدهر مهملة:
يهدي بها الرائض في أكثر الحوادث والنوازل، ويرتقي بها المرتضا إلى أعلى
المراقي والمنازل، ولما عمت رغبة الفقهاء إلى هذا الكتاب، طلب مني
بعضهم، من الاخوان والأصحاب، أن أذكر فيه بعض ما ترك المصنف
من أقسام المسائل، وأوضح المشكلات منه، بقوي من الدلائل، ليكون
ذريعة إلى تضعيف الفائدة، بالتقسيم والتفصيل، ووسيلة، بذكر
الدليل، إلى تخريج ذوي التحصيل - فأسرعت في الاسعاف والإجابة،
رجاء التوفيق، من الله تعالى، في الاتمام والإصابة، وطمعا، من
فضله، في العفو والغفران والإنابة: فهو الموفق للصواب والسداد،
والهادي إلى سبل الرشاد وسميته " تحفة الفقهاء "، إذ هي هديتي لهم،
لحق الصحبة والإخاء، عند رجوعهم إلى مواطن الآباء.

(1) هو أحمد بن محمد بن جعفر بن حمدان القدوري، ولد سنة 362 ه‍. وتوفي سنة 428 ه‍.
ببغداد.
5

فليقبل هديتي هذه من شاء كسب العز والبهاء، وليذكرني بصالح
الدعاء، في الحياة والممات، فهو غرضي ونيتي، والأعمال بالنيات،
وقابل الاعمال عالم بالخفيات، وما توفيقي إلا بالله: عليه توكلت، وإليه
أنيب.
6

كتاب
الطهارة
اعلم أن الطهارة شرط جواز الصلاة.
وهي نوعان: حقيقية، وحكمية.
أما الحقيقية: فهي الطهارة عن النجاسة حقيقة، وهي أنواع ثلاثة:
طهارة البدن، وطهارة المكان، وطهارة الثياب.
وأما الحكمية: فهي الطهارة عن النجاسة حكما، وهي نوعان:
الوضوء، والغسل.
عرفنا فرضية الطهارة بأنواعها: بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم (الآية)) * (1)، وقوله تعالى: * (وإن كنتم جنبا
فاطهروا) * (2)، وقوله تعالى: * (أن طهرا بيتي للطائفين) *، وقوله:
* (وثيابك فطهر) *.
وأما السنة: فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: مفتاح
الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. وقال عليه
7

السلام: إن تحت كل شعرة جنابة: ألا فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة.
وعليه إجماع الأمة.
فنبدأ بالوضوء فنقول:
إنه يشتمل على الغسل، والمسح، فالغسل هو تسييل الماء على
العضو، والمسح هو إيصال الماء إليه والامرار عليه لا غير، حتى لا يجوز
الوضوء والغسل بدون التسييل في الغسل، على جواب ظاهر الروايات،
إلا رواية عن أبي يوسف، فإنه قال: لو مسح عضوه ببلة، دون
التسييل جاز.
ثم للوضوء أركان وشروط وسنن وآداب.
أما الأركان فأربعة
أحدها: غسل الوجه مرة واحدة، لقوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * (1). وحد الوجه قصاص الشعر إلى حدة الذقن، وإلى شحمتي الاذن،
وهو حد صحيح فإن الوجه، في اللغة، اسم لما يواجه الناظر إليه في
العادة.
فإن كان قبل نبات الشعر: يجب غسل جميعه.
وإذا نبت الشعر، لا يجب غسل ما تحته، عند عامة العلماء. وقال
بعضهم: يجب غسل ما تحت الشعرة، وإيصال الماء إلى أصول الشعر
وقال الشافعي: إن كانت اللحية خفيفة، يجب غسل ما تحتها، وإن
كانت كثيفة، لا يجب.
وعلى هذا الاختلاف إيصال الماء إلى الشوارب،
8

والحاجبين ثم يجب غسل ظاهر الشعر الذي يوازي الذقن والخدين، في
أصح الروايات، لأنه قائم مقام البشرة.
والشعر المسترسل من الذقن، لا يجب غسله عندنا، خلافا
للشافعي، لأنه ليس بوجه، ولا قائم مقامه.
والفرجة التي بين العذار والاذن يجب غسلها عند أبي حنيفة ومحمد
خلافا لأبي يوسف لأنها من جملة حد الوجه، وليس عليها شعرة.
والثاني: غسل اليدين مع المرفقين، مرة واحدة عندنا، لقوله تعالى:
* (و أيديكم إلى المرافق) * (4). وقال زفر: لا يجب غسل المرفقين.
والصحيح قولنا، لان المرفق عضو مركب من الساعد والعضد،
وغسل الساعد واجب، وغسل العضد غير واجب، ولا يمكن التمييز
بينهما، فيجب غسل الكل احتياطا.
والثالث: مسح الرأس، مرة واحدة، لقوله تعالى: * (وامسحوا
برؤوسكم) * (5).
واختلف العلماء في مقدار المفروض منه: فعن أصحابنا فيه ثلاث
روايات: في ظاهر الرواية: مقدر بثلاثة أصابع اليد مطلقا.
9

وفي اختلاف زفر ويعقوب مقدر بربع الرأس، وهو قول زفر.
وذكر الكرخي، والطحاوي: مقدار الناصية.
وقال مالك: ما لم يمسح جميع الرأس أو أكثره، لا يجوز.
وقال الشافعي: إذا مسح مقدار ما يسمى مسحا، جاز.
والصحيح جواب ظاهر الرواية، لقوله تعالى: * (وامسحوا
برؤوسكم) *، والمسح يكون بالآلة، وآلة المسح هي أصابع اليد في
العادة، فيكون المسح، في الغالب بأثرها وهو الثلاث، فيصير تقدير
الآية: وامسحوا بثلاث أصابع أيديكم برؤوسكم.
ثم على قياس ظاهر الرواية: إذا وضع ثلاث أصابع، ولم يمدها،
جاز - وهكذا روي عن محمد في النوادر، وعلى قياس رواية الربع
والناصية: لا يجوز لأنه أقل من ذلك.
ولو مسح بأصبع، أو بأصبعين صغيرتين ومدهما حتى بلغ مقدار
الفرض، لم يجز عندنا خلافا لزفر، لأن الماء يصير مستعملا بالوضع،
والمسح بالماء المستعمل لا يجوز.
ولو مسح بأصبع واحدة، ثلاث مرات بماء جديد جاز لأنه
بمنزلة ثلاث أصابع.
ولو مسح بإصبع واحدة، ببطنها وظهرها وجانبيها جاز. وقال
بعض مشايخنا: لا يجوز. والصحيح أنه يجوز، كما لو استنجى بحجر له
ثلاثة أحرف، وهكذا روى زفر عن أبي حنيفة.
والرابع: غسل الرجلين مرة واحدة، لقوله تعالى: * (وأرجلكم إلى
الكعبين) *. (1)
10

وهذا فرض عند عامة العلماء.
وقال بعض الناس: الفرض هو المسح لا غير.
وعن الحسن البصري أنه قال: يخير بين الغسل والمسح.
وقال بعضهم: إنه يجمع بينهما.
والصحيح قول عامة العلماء، لان العلماء أجمعوا على وجوب غسل
الرجلين بعد وجود الاختلاف فيه في السلف، والاجماع المتأخر يرفع
الاختلاف المتقدم.
ثم يجب غسل الكعبين مع الرجلين عندنا خلافا لزفر، كما في
المرفقين. والكعبان هما العظمان الناتئان، في أسفل الساق عليه عرف
الناس، وهكذا روي عن رسول الله آ أنه قال في تسوية الصفوف:
ألصقوا الكعاب بالكعاب، والمناكب بالمناكب.
وأما شرائط الوضوء فنذكرها في مواضعها إن شاء الله.
وأما سنن الوضوء فأحد وعشرون فعلا،
وهي أنواع ثلاثة: نوع يكون قبل الوضوء، ونوع يكون عند
ابتدائه، ونوع يكون في خلاله.
أما الذي يكون قبل الوضوء فواحد، وهو الاستنجاء بالأحجار
والامدار وما يقوم مقامها.
فأما الذي يكون عند ابتداء الوضوء فأربعة:
أحدها: النية، وعند الشافعي فرض. وفي التيمم فرض بالاجماع.
11

والثاني: التسمية، وعند بعضهم فرض، وهم أصحاب الشافعي.
والثالث: غسل اليدين إلى الرسغين لادخالهما في الاناء احترازا عن
توهم النجاسة.
والرابع: الاستنجاء بالماء، وهو كان أدبا في عصر النبي عليه
السلام، فصار سنة بعد عصره بإجماع الصحابة كالتراويح.
فأما الذي يكون في خلاله فستة عشر:
أحدهما - المضمضة.
والثاني - الاستنشاق.
وهذا قول عامة العلماء، وعند بعضهم: هما واجبان.
والثالث - الترتيب في المضمضة والاستنشاق، وهو أن يمضمض أولا
ثلاثا، ثم يستنشق ثلاثا يأخذ لكل واحد منهما ماء جديدا في كل
مرة.
وقال الشافعي: السنة أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بماء
واحد ثلاث مرات، فيأخذ الماء بكفه فيمضمض ببعضه ويستنشق
ببعضه، ثم هكذا في المرة الثانية والثالثة.
والرابع - أن يمضمض ويستنشق باليمين.
وقال بعضهم: يمضمض بيمينه، ويستنشق بيساره، لان اليسار
للأقذار.
والخامس: المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا في حالة الصوم. لما
روي عن النبي عليه السلام أنه قال للقيط بن صبرة: بالغ في
المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما فارفق.
12

والسادس: أن يستاك في حال المضمضة، تكميلا للانقاء، على ما
قال عليه السلام: السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب.
فإن لم يجد، فيعالج فمه بالإصبع، والسواك أفضل.
والسابع: الترتيب في الوضوء.
وقال الشافعي: إنه فرض.
والثامن - الموالاة في الوضوء، وهو أن لا يشتغل بين أفعال الوضوء
بعمل ليس منه.
وقال مالك: إنه فرض.
والتاسع: أن يغسل أعضاء الوضوء ثلاثا ثلاثا، على ما روي عن
النبي عليه السلام أنه توضأ مرة مرة فقال: هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين وقال: هذا وضوء من يضعف
الله له الاجر مرتين ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: هذا وضوئي
ووضوء أمتي، ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم فمن زاد
على ذلك أو نقص فقد تعدى وظلم معناه من زاد على الثلاث، أو
نقص ولم ير الثلاث سنة.
والعاشر: البداءة بالميامن، وهي سنة في الوضوء وغيره من
الاعمال، لما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يحب التيامن في كل
شئ حتى التنعل والترجل.
والحادي عشر - البداءة من رؤوس الأصابع في غسل اليدين
والرجلين.
والثاني عشر - تخليل الأصابع في اليدين والرجلين بعد إيصال الماء إلى
ما بين الأصابع، والتخليل للمبالغة سنة، فأما إيصال الماء إلى ما بين
13

الأصابع ففرض.
والثالث عشر - الاستيعاب في مسح الرأس، وهو سنة وهو أن
يمسح كله.
وعند مالك فرض على ما مر.
والرابع عشر - هو البداءة في المسح من مقدم الرأس كيفما فعل.
وقال الحسن البصري: السنة أن يبدأ من الهامة فيضع يده عليها،
ويمدها إلى مقدم رأسه ثم يعيدها إلى القفا.
والخامس عشر - أن يمسح مرة واحدة، والتثليث مكروه.
وقال الشافعي: السنة هو التثليث.
والسادس عشر - أن يمسح الاذنين، ظاهرهما وباطنهما بماء الرأس لا
بماء جديد.
وقال الشافعي: يمسح بماء جديد، لا بماء الرأس.
وأما تخليل اللحية فهو من الآداب عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي
يوسف سنة - كذا ذكر محمد في كتاب الآثار.
واختلف المشايخ في مسح الرقبة: قال أبو بكر الأعمش: إنه سنة.
وقال أبو بكر الإسكاف: إنه أدب.
وأما آداب الوضوء فكثيرة:
والفرق بين السنة والأدب أن السنة ما واظب عليها رسول الله (ص) ولم
يتركها، إلا مرة أو مرتين، لمعنى من المعاني، والأدب ما فعله رسول الله
(ص)، مرة أو مرتين ولم يواظب عليه.
14

وذلك نحو إدخال الإصبع المبلولة في صماخ الاذنين، وكيفية مسح
الرأس، وكيفية إدخال اليد في الماء والاناء، والدلك في غسل أعضاء
الوضوء والغسل، أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله. عند كل فعل من أفعال الوضوء، والدعوات المأثورة
عند غسل كل عضو في الغسل والوضوء، ونحو ذلك مما ورد في الأحاديث
أنه فعله رسول الله (ص) في الوضوء، ولم يواظب عليه.
15

باب
الحدث
الحدث نوعان: حقيقي وحكمي.
أما الحقيقي: فهو خروج النجس من الادمي الحي كيفما
كان، من السبيلين أو من غيرهما، معتادا كان أو غير معتاد، قليلا كان
أو كثيرا، وهذا عند أصحابنا الثلاثة.
وقال زفر: هو ظهور النجس، من الادمي، الحي.
وقال مالك في قول: هو خروج النجس، المعتاد من السبيل
المعتاد، حتى قال: إن دم الاستحاضة ليس بحدث لأنه عارض غير
معتاد.
وقال، في قول، وهو قول الشافعي: هو خروج الشئ من السبيلين
لا غير، كيفما كان.
والصحيح قولنا، لما روي عن أبي إمامة الباهلي أنه قال: دخلت
على رسول الله (ص) فغرفت له غرفة فأكل، فجاء المؤذن فقلت:
الوضوء يا رسول الله، فقال: إنما علينا الوضوء مما يخرج، ليس مما
يدخل. وخروج الطاهر، كالبزاق وغيره، ليس بحدث بالاجماع،
فتعين خروج النجس.
17

إذا ثبت هذا فلا يخلوا: إما أن يكون الخروج من السبيلين أو غير
السبيلين.
فإن كان من السبيلين فهو حدث إذا ظهر على رأسهما، قل أو
كثر، انتقل وسال عنه أم لا، لأنه وجد خروج النجس من الآدمي،
وهو انتقال النجس من الباطن إلى الظاهر.
وذلك مثل البول، والغائط، والدم، والمني، والودي، والمذي.
وكذلك كل ما خرج من الأشياء الطاهرة في أنفسها، كاللحم
والدودة، والولد، والمحقنة، ونحوها لأنه لا يخلو عن أجزاء النجاسة.
وأما الريح فإن خرجت من الدبر، ينقض الوضوء بالاجماع. وإن
خرجت من قبل المرأة أو الرجل، قال بعضهم: إن كانت منتنة، ينقض
الوضوء، وإلا فلا. وروي عن محمد أنه ينقض ولم يعتبر النتن. وكذا
ذكر الكرخي في مختصره. وروى القدوري عنه أن خروج الريح من
قبل الرجل لا يتصور، وإنما هو اختلاج يظنه ريحا، ولكنها قد تخرج من
قبل المرأة، فإن خرجت يستحب لها الوضوء، ولا يجب. وقال بعضهم:
إن كانت مفضاة يجب الوضوء، وإن كانت غير مفضاة لا يجب
الوضوء.
وأما إذا كان الخروج من غير السبيلين: فإن كان الخارج طاهرا
مثل الدمع، والريق، والمخاط، والعرق، واللبن ونحوها لا ينقض
الوضوء بالاجماع، وإن كان نجسا ينقض الوضوء.
ولكن إنما يعرف الخروج ههنا بالسيلان والانتقال عند رأس الجرح
والقرح: إن سال إلى موضع يجب تطهيره، أو يسن تطهيره يكون حدثا،
وإلا فلا، لان البدن محل الدم والرطوبات، ولكن لم يظهر لقيام الجلدة
عليه، فإذا انشقت الجلدة ظهر في محله. فما لم يسل عن رأس الجرح لا
18

يصير خارجا.
وذلك مثل دم الجرح، والقيح، والصديد من القرح، والماء الصافي
الذي خرج من البثرة.
وهذا عندنا وعلى قول زفر يكون حدثا، سال أو لم يسل، لان
الحدث عنده ظهور النجاسة من الادمي وقد ظهرت.
وعلى هذا القئ إن كان ملء الفم، ينقض الوضوء، وإن لم يكن
ملء الفم لا ينقض الوضوء.
ولا فرق بين أن يكون القئ طعاما، أو ماء صافيا، أو مرة
صفراء، أو سوداء، أو غيرها، لان الفم له حكم الظاهر فإنه يجب
غسله في الغسل، ولا ينتقض الصوم بالمضمضة، فإذا وصل القئ إليه،
فقد وجد انتقال النجس من الجوف إلى الظاهر، فتحقق الخروج فيكون
حدثا، إلا أن القليل لم يجعل حدثا باعتبار الجرح إذ الانسان لا يخلو عن
قليل القئ، بسبب السعال وغيره.
ولم يذكر تفسير ملء الفم في ظاهر الرواية. وروي عن الحسن بن
زياد أنه قال: إن عجز عن إمساكه، يكون ملء الفم وإلا فلا. وعن
أبي علي الدقاق أنه قال: إن منعه عن الكلام، يكون ملء الفم، وإلا
فلا.
وأما إذا قاء بلغما، فإن نزل من الرأس لا يكون حدثا، لأنه
لا نجاسة في جوف الرأس.
وإن خرج من البطن، فإن كان صافيا ليس معه شئ من الطعام
19

وغيره، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما لا يكون حدثا،
وإن كان ملء الفم. وعلى قول أبي يوسف يكون حدثا إن كان ملء
الفم.
وإن كان مخلوطا بشئ من الطعام وغيره فالأصح أن يكون حدثا
بالاجماع.
والصحيح قولهما لأنه طاهر في نفسه، كالمخاط، إلا إذا كان مخلوطا
بشئ من الطعام، فيظهر أنه خرج من الجوف فينجس بمجاورة
النجس.
وإما إذا قاء دما فلمن يذكر في ظاهر الرواية صريحا. وروى المعلى
عن أبي حنيفة وأبي يوسف، أنه ينقض الوضوء، قل أو كثر، جامدا كان
أو مائعا.
وروى الحسن عنهما أنه إن كان جامدا، لا ينقض، ما لم يكن ملء
الفم وإن كان مائعا ينقض الوضوء. وإن كان يسيرا.
وقال محمد: إن حكمه حكم القئ، وهو الأصح، ويجب أن يكون
هذا قول جميع أصحابنا، إنه ذكر في الجامع الصغير إشارة إليه، فإنه
قال: إذا قلس أقل من ملء فيه لم ينقض الوضوء، ولم يفصل بين الدم
وغيره.
هذا الذي ذكرنا في حق الأصحاء. فأما في حق صاحب العذر
كالمستحاضة وصاحب الجرح السائل ونحوهما، فخروج النجس من
20

الادمي لا يكون حدثا ما دام وقت الصلاة قائما، وحتى إنه إذا توضأ
في أول الوقت، له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم
يخرج الوقت، وإن دام السيلان، وهذا عندنا.
وقال مالك: له أن يتوضأ لكل صلاة، فرضا كان أو نفلا.
وقال الشافعي: يتوضأ لكل فرض، وله أن يصلي من النوافل
ما شاء.
والصحيح قولنا، لقوله عليه السلام: المستحاضة تتوضأ لوقت كل
صلاة.
ثم طهارتها تنتقض بخروج الوقت لا غير عند أبي حنيفة ومحمد
وعند زفر بدخول الوقت لا غير، وعند أبي يوسف بأيهما كان. وفائدة
الخلاف تظهر في موضعين:
أحدهما: أن يوجد خروج الوقت، بدون الدخول، كما إذا توضأت
في وقت الفجر، ثم طلعت الشمس تنتقض طهارتها عند أصحابنا
الثلاثة، وعند زفر: لا تنتقض.
والثاني: أن يوجد الدخول بدون الخروج، كما إذا توضأت قبل
الزوال، ثم زالت الشمس لا تنتقض طهارتها، على قول أبي حنيفة
ومحمد، وعلى قول أبي يوسف وزفر تنتقض. ف زفر يعتبر دخول
الوقت وقد دخل فينتقض، وهما يعتبران الخروج ولم يخرج، فلا
تنتقض طهارتها.
فأما في غير هذين الموضعين، فكما يخرج الوقت يدخل وقت آخر،
فينتقض الوضوء بالاجماع، على اختلاف الأصول.
لكن هذا شئ ذكره مشايخنا للحفظ، ومدار الخلاف على فقه ظاهر
يعرف، في المبسوط، إن شاء الله تعالى.
21

وأما الحدث الحكمي فنوعان:
أحدهما: ما يكون دالا على وجود الحدث الحقيقي غالبا، فأقيم
مقامه شرعا احتياطا للعبادة.
وهو أنواع منها: المباشرة الفاحشة، وهو أن يباشر الرجل امرأته
لشهوة، وقد انتشر لها، وليس بينهما ثوب، ولم ير بللا.
فعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يكون حدثا. ولم يشترط في ظاهر
الرواية مماسة الفرجين عندهما، وشرط ذلك في النوادر.
وعند محمد: ليس بحدث،
والصحيح قولهما، لان المباشرة على هذا الوجه سبب لخروج
المذي غالبا.
فأما مجرد مس المرأة لشهوة أو غير شهوة، أو مس ذكره أو ذكر
غيره فليس بحدث عند عامة العلماء ما لم يخرج منه شئ، خلافا
لمالك والشافعي، لأنه ليس بسبب للخروج غالبا.
ومن هذا النوع: الاغماء، والجنون، والسكر الذي يستر العقل،
لأنه سبب يدل على الحدث غالبا.
ومن هذا النوع أيضا: النوم مضطجعا أو متوركا، بأن نام على
إحدى وركيه فهو حدث، على كل حال، لأنه سبب لخروج الريح
غالبا.
فأما النوم في غير هاتين الحالتين فينظر:
إن كان في حال الصلاة لا يكون حدثا كيفما كان، في جواب
ظاهر الرواية.
وعن أبي يوسف: إن نام معتمدا فحدث، وإن غلب عليه النوم
22

فليس بحدث.
وقال الشافعي: يكون حدثا، إلا إذا كان قاعدا مستقرا على
الأرض فله فيه قولان.
والصحيح قولنا، لما روي عن رسول الله (ص) أنه قال: إذا نام
العبد في سجوده، يباهي الله تعالى به ملائكته، فيقول يا ملائكتي:
انظروا إلى عبدي روحه عندي، وجسده في طاعتي، ولم يفصل بين
حال وحال.
وإن كان خارج الصلاة، فإن كان قاعدا مستقرا على الأرض غير
مستند إلى شئ لا يكون حدثا لأنه ليس بسبب للخروج غالبا.
وإن كان قائما أو على هيئة الركوع والسجود غير مستند إلى
شئ، فقد اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه ليس بحدث، كما في حال
الصلاة.
فأما إذا نام مستندا إلى جدار، أو متكئا على يديه، فقد ذكر
الطحاوي أنه إن كان بحال لو زال السند لسقط يكون حدثا، وإلا فلا،
وبه أخذ كثير من مشايخنا.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: إن لم يكن مستقرا على
الأرض يكون حدثا، وإن كان مستقرا على الأرض لا يكون حدثا،
وبه أخذ عامة مشايخنا، وهو الأصح.
ومن نام قائما أو قاعدا مستقرا على الأرض فسقط روي عن
أصحابنا في روايات مختلفة أنه إن انتبه قبل السقوط على الأرض أو في حال
السقوط، أو سقط على الأرض وهو نائم فانتبه من ساعته، لا يكون
حدثا، وإن استقر نائما على الأرض بعد الوقوع وإن قل يكون
حدثا، لأنه وجد النوم مضطجعا.
23

وقال بعض مشايخنا: إذا زال مقعده عن الأرض ينتقض وضوؤه
والصحيح هو الأول.
فأما النوع الثاني من الحدث الحكمي: فهو ما يكون حدثا بنفسه
شرعا من غير أن يكون دالا على الحدث الحقيقي. وهو القهقهة في
صلاة مطلقة لها ركوع وسجود حتى تنتقض طهارته.
وإذا قهقه في صلاة الجنازة، أو سجدة التلاوة لا تنتقض طهارته
وإذا قهقه خارج الصلاة: لا تنتقض.
ولو تبسم لا تنتقض أصلا.
ثم عند أصحابنا الثلاثة لا فرق بين وجودها في حال أداء الركن،
كما في وسط الصلاة، أو في حال قيام التحريمة دون حال أداء الركن، كما
إذا قهقه بعدها قعد قدر التشهد الأخير، أو في سجدتي السهو، أو بعد ما
سبقه الحدث في الصلاة فذهب للوضوء وتوضأ ثم قهقه قبل أن يبني،
حتى تنتقض طهارته.
وعلى قول زفر: لا تنتقض ما لم يوجد في حال أداء الركن.
وأما فسد الصلاة بها، فإن وجدت قبل الفراغ من الأركان،
تفسد، وإن وجدت بعد الفراغ من الأركان، لا تفسد ويخرج من الصلاة
لأنها كلام بمنزلة السلام.
وهذا كله مذهبنا، وهو جواب الاستحسان.
والقياس أن لا يكون حدثا، لأنها ليست بحدث حقيقة، ولا بسبب
دال عليه، وبه أخذ الشافعي.
ولكنا جعلناها حدثا شرعا لورود الحديث فيها، وهو ما روي عن
النبي عليه السلام أنه كان يصلي بالناس في المسجد، فدخل أعرابي في
24

بصره سوء، فوقع في بئر عليها خصفة فضحك بعض الناس، فلما فرغ
النبي عليه السلام من صلاته، قال: ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد
الوضوء والصلاة جميعا والحديث ورد في حال صلاة مستتمة الأركان،
فبقي حال خارجا لصلاة وما ليس بصلاة مطلقة، على أصل القياس.
ثم تغميض الميت، وغسله، وحمل الجنازة، والكلام الفاحش،
وأكل ما مسته النار، لا ينقض الوضوء عند عامة العلماء، لأنه لم يوجد
الحدث حقيقة ولا حكما.
وقال بعض الناس بأن هذه الأشياء أحداث شرعا، ولورود الأحاديث
فيها، فصارت نظير القهقهة عندكم، وهو ما روي عنه عليه السلام أنه
قال: توضأوا مما مسته النار. وروي عنه عليه السلام: من غمض
ميتا، أو حمل جنازة فليغتسل وروي: من غسل ميتا فليغتسل.
ولكنا نقول: هذه أخبار آحاد، وردت فيما عم به البلوى، فلا
تقبل، بخلاف خبر القهقهة فإنه ورد فيما لا يعم به البلوى فيقلب.
الجنابة والغسل
الكلام ههنا في خمسة مواضع:
في بيان ما يتعلق به وجوب الغسل.
وفي أنواع الغسل المشروع.
وفي تفسير الغسل.
وفي مقدار الماء الذي يغتسل به.
وفي أحكام الحدث.
25

أما الأول فنقول:
وجوب الغسل يتعلق بأحد معان ثلاثة: الجنابة والحيض والنفاس.
أما الجنابة فإنها تثبت بسببين:
أحدهما - خروج المني عن شهوة دفقا، وإن كان من غير إيلاج،
بأي طريق وسبب حصول الخروج نحو اللمس، والنظر، والاحتلام،
وغيرها: فعليه الغسل بالاجماع، إذا كان من أهل وجوب الصلاة عليه
فإما إذا لم يكن من أهل وجوب الصلاة عليه، كالحائض والمجنون والكافر
والصبي، فإنه لا غسل عليهم، لان الغسل يجب لأجل الصلاة، ولا
صلاة عليهم.
أما إذا خرج المني لا عن شهوة، وقد انفصل لا عن شهوة مثل أن
يضرب على ظهر رجل، أو حمل حملا ثقيلا، أو به سلس البول، فيخرج
المني من غير شهوة، فلا غسل فيه عندنا.
وقال الشافعي: يجب.
فأما إذا انفصل عن شهوة وخرج لا عن شهوة، فعلى قول أبي حنيفة
ومحمد: يجب الغسل، وعلى قول أبي يوسف: لا يجب. وفائدة الخلاف
تظهر في ثلاث مسائل:
أحدها: إذا احتلم فانتبه، وقبض على عورته حتى سكنت
شهوته، ثم خرج منه المني بعد ذلك، بلا شهوة.
والثانية: إذا اغتسل الرجل من الجنابة، ثم خرج منه شئ من
المني، أو على صورة المذي، قبل النوم أو البول.
والثالثة: إذا وجد الرجل، على فراشه بللا، منيا أو على صورة
26

المذي، ولم يتذكر الاحتلام.
هكذا ذكر ابن رستم الخلاف في هذه المسائل الثلاث في نوادره.
فأبو يوسف أخذ بالقياس، وأبو حنيفة ومحمد أخذا بالاستحسان
احتياطا في باب العبادة.
ثم المني هو الماء الأبيض، الغليظ، الذي ينكسر به الذكر،
وتنقطع به الشهوة.
والمذي هو الماء الأبيض الرقيق الذي يخرج عند الملاعبة.
والودي هو الماء، الأبيض، الذي يخرج بعد البول.
وأما السبب الثاني: فهو إيلاج الفرج في أحد سبيلي الانسان وإن لم
يوجد الانزال حتى يجب الغسل على الفاعل والمفعول به جميعا.
فأما الايلاج في البهائم، فلا يوجب الغسل، ما لم ينزل. وكذا
الاحتلام لا يوجب الغسل، ما لم ينزل.
وهذا قول عامة العلماء. وقال بعضهم: لا يجب الغسل، بدون
الانزال في جميع الأحوال لقوله عليه السلام: الماء من الماء.
إلا أنا نقول: هذا غريب، وما رويناه مشهور والاخذ بما رويناه
أولى، وهو قوله عليه السلام: إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب
الغسل، أنزل أو لم ينزل.
وأما حكم الحيض والنفاس فنذكره في بابهما إن شاء الله تعالى.
وأما أنواع الغسل المشروع: فتسعة:
27

ثلاثة منهما فريضة، وهي الغسل من الجنابة، والحيض، والنفاس.
وواحد منهما واجب، وهو غسل الموتى.
وأربعة منها سنة، وهي: غسل يوم الجمعة، ويوم عرفة،
والعيدين، وعند الاحرام.
وواحد منها يستحب، وهو: الغسل عند الاسلام، وغسل المجنون
والصبي عند البلوغ، والإقامة لان هؤلاء غير مخاطبين بالشرائع، وإن
وجد في حقهم الجنابة والحيض والنفاس.
ثم غسل يوم الجمعة لأجل صلاة الجمعة عند أبي يوسف، وعن
الحسن بن زياد لأجل اليوم.
وفائدة الاختلاف أن من اغتسل يوم الجمعة ثم أحدث وتوضأ
وصلى الجمعة لا يكون مدركا لفضيلة الغسل عند أبي يوسف، وعند
الحسن يصير مدركا.
وكذا إذا صلى بالوضوء، ثم اغتسل، فهو على هذا الخلاف.
ومن اغتسل من الجنابة، يوم الجمعة وصلى به الجمعة قالوا: ينال
فضيلة غسل يوم الجمعة، على اختلاف الأصلين، لأنه وجد الاغتسال في
يوم الجمعة، والصلاة به.
وأما تفسير الغسل، فنقول:
للغسل ركن واحد، وشرائط، وسنن، وآداب.
أما الركن: فهو تسييل الماء، على جميع ما يمكن غسله. من بدنه،
مرة واحدة، حتى لو ترك شيئا يسيرا، لم يصبه الماء، لم يخرج من
الجنابة، وكذا في الوضوء، لقوله تعالى: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) *
28

أي فطهروا أبدانكم. والبدن اسم للظاهر والباطن فيجب عليه
تطهيره بقدر الممكن، وإنما سقط غسل الباطن لأجل الحرج، فلا
يسقط ما لا حرج فيه.
ولهذا تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل، لأنه يمكن إيصال الماء
إلى داخل الانف والفم بلا حرج ويجبان في الوضوء، لان الواجب ثم
غسل الوجه، وداخل الفم والانف ليس بوجه، لأنه لا يواجه الناظر إليه
بكل حال.
ولهذا يجب إيصال الماء في الغسل إلى أصول الشعر وإلى أثناء
الشعر أيضا، إلا إذا كان ضفيرة فلا يجب الايصال إلى أثنائه، لان في
نقضه حرجا.
ولهذا يجب إيصال الماء إلى أثناء اللحية، كما يجب إيصال الماء إلى
أصولها، لأنه لا حرج فيه.
ويجب إيصال الماء إلى داخل السرة، وينبغي أن يدخل إصبعه فيها
للمبالغة.
ويجب على المرأة غسل الفرج الخارج في الغسل، لأنه يمكن غسله.
وأما شروطه: فنذكرها في موضعها.
وأما السنن: فما ذكره محمد رحمه الله في كتاب الصلاة، وهو أن
يبدأ فيغسل يديه إلى الرسغين ثلاثا، ثم يفرغ الماء بيمينه على شماله،
فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثلاثا ثلاثا، إلا أنه
لا يغسل رجليه، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا، ثم يتنحى
عن ذلك المكان، فيغسل قدميه.
هكذا روت ميمونة زوج النبي عليه السلام أنه اغتسل هكذا ثم إنما
يؤخر غسل القدمين إذا اغتسل في موضوع تجتمع فيه الغسالة تحت
29

القدمين، فأما إذا لم تجتمع بأن اغتسل على حجر ونحوه، فلا يؤخر،
لأنه لا فائدة في تأخيره.
وقالوا في غسل الميت إنه يغسل رجليه عند التوضئة ولا يؤخر لأن الماء
المستعمل لا يجتمع على التخت.
وأما مقدار الماء الذي يغتسل به ويتوضأ به:
ذكر في ظاهر الرواية وقال: أدنى ما يكفي من الماء في الغسل صاع،
وفي الوضوء مد، ولم يفسر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: في الاغتسال: كفاه صاع،
وفي الوضوء: إن كان الرجل متخففا ولا يستنجي كفاه رطل لغسل الوجه
واليدين ومسح الرأس والخفين، وإن كان يستنجي وهو متخفف كفاه
رطلان: رطل للاستنجاء، ورطل للباقي، وإن لم يكن متخففا
ويستنجي: كفاه ثلاثة أرطال، رطل للاستنجاء، ورطل للقدمين، ورطل
للباقي.
وقال بعض مشايخنا: في الاغتسال صاع واحد إذا ترك الوضوء، فأما
إذا جمع بين الوضوء والغسل فإنه يحتاج إلى عشرة أرطال: رطلان
للوضوء، وثمانية أرطال للغسل.
وعامة مشايخنا قالوا: إن الصاع كاف للوضوء والغسل جميعا، وهو
الأصح.
ولكن مشايخنا قالوا: ما ذكر محمد رحمة الله عليه في بيان مقدار أدنى
الكفاية ليس بتقدير لازم لا يجوز الزيادة عليه، ولا النقصان عنه، بل
إن كفى رجلا أقل من ذلك، ينقص عنه، وإن لم يكفه يزيد عليه بقدر
ما لا إسراف فيه ولا تقتير.
30

وأما بيان أحكام الحدث فنقول:
ههنا خمسة أشخاص: المحدث، والجنب، والحائض، والنفساء،
والمستحاضة.
أما المحدث فحكمه وحكم الطاهر سواء، غير أنه لا يجوز له أداء
الصلاة إلا بالوضوء.
ولا يباح له مس المصحف إلا بغلافه، وكذا مس الدرهم التي
كتب عليها القرآن، ومس كتاب تفسير القرآن. أما مس كتاب الفقه فلا
بأس به، لكن المستحب له أن لا يفعل.
وكذا لا يطوف بالبيت، وإن طاف جاز النقصان، لأنه شبيه
بالصلاة وليس بصلاة على الحقيقة.
ويباح له دخول المسجد، وقراءة القرآن، وأداء الصوم.
ويجب عليه الصلاة والصوم، حتى يجب عليه القضاء بالترك.
وكذا سائر الأحكام.
واختلف المشايخ في تفسير الغلاف، قال بعضهم: هو الجلد الذي
عليه. وقال بعضهم: هو الكم. وقال بعضهم: هو الخريطة. وهو
الصحيح، لان الجلد تبع للمصحف، والكم تبع للحامل، فأما الخريطة
فليست بتبع، ولهذا لو بيع المصحف لا تدخل الخريطة في البيع من غير
شرط.
وقال بعض مشايخنا: المعتبر حقيقة هو المكتوب، حتى إن مسه
31

مكروه، فأما مس الجلد ومس موضع البياض منه، لا يكره، لأنه لم
يمس القرآن.
وهذا أقرب إلى القياس، والأول أقرب إلى التعظيم.
وأما الجنب: فلا يباح له مس المصحف بدون غلافه.
ولا يباح له أيضا قراءة القرآن عند عامة العلماء، خلافا ل مالك، وذكر
الطحاوي أن الجنب لا يقرأ الآية التامة، فأما ما دون الآية فلا بأس
به.
وعامة مشايخنا قالوا: إن الآية التامة وما دونها سواء في حق
الكراهة تعظيما للقرآن.
ولكن إذا قرأ القرآن على قصد الدعاء لا على قصد القرآن، فلا
بأس به، بأن قال: بسم الله الرحمن الرحيم عند افتتاح الاعمال، أو
قال الحمد لله رب العالمين. لقصد الشكر، لأنه غير ممنوع عن الدعاء
والذكر لله تعالى.
ويصح منه أداء الصوم، دون الصلاة. ويجب عليه كلاهما، حتى
يجب عليه قضاؤهما بالترك.
ولا يباح له دخول المسجد، وإن احتاج يتيمم ويدخل.
ولا يطوف بالبيت أيضا، لكن متى طاف يصح مع النقصان، كما في
المحدث، إلا أن النقصان مع الجنابة أفحش.
وأما الحائض والنفساء: فحكمهما مثل حكم الجنب، إلا إنه لا يجب
عليهما الصلاة. حتى لا يجب القضاء عليهما بعد الطهارة، ولا يباح
لزوجهما قربانهما، ويباح للزوج قربان المرأة التي أجنبت.
وأما المستحاضة: فحكمهما حكم الطاهرات، إلا أنها تتوضأ لوقت
كل صلاة، على ما ذكرنا.
32

باب
الحيض
الكلام في هذا الباب في تفسير الحيض، والنفاس، والاستحاضة،
فنقول:
الحيض في الشرع: هو الدم الخارج من الرحم، الممتد إلى وقت
معلوم، واختلف في الوقت.
قال علماؤنا: أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها، وأكثره عشرة
أيام ولياليها.
وروي عن أبي يوسف: أقل الحيض يومان، وأكثر اليوم الثالث.
وقال الشافعي: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما.
والصحيح قولنا: لما روي عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله
عليه، أنه قال: أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها، وأكثره عشرة أيام
ولياليها، وما زاد فهو استحاضة.
وأما النفاس: فهو الدم، الذي يخرج عقيب الولادة.
وأقله غير مقدر. حتى إذا رأت ساعة دما ثم انقطع فإنه ينقضي
النفاس، وتطهر.
وأكثر النفاس أربعون يوما عندنا.
وقال الشافعي: ستون يوما.
33

وقال مالك: سبعون يوما.
والصحيح قولنا لما روي عن أنس عن رسول الله (ص)، أنه قال:
وقت النفاس أربعون يوما إلا أن تطهر قبل ذلك.
وأما الاستحاضة: فهي ما انتقص من أقل الحيض، وما زاد على
أكثر الحيض والنفاس، لما روينا من حديث أبي أمامة الباهلي.
ثم المستحاضة نوعان: مبتدأة وصاحبة عادة.
أما المبتدأة: فهي التي ابتدأت بالدم، ورأت أول ما رأت أكثر من
عشرة أيام فإن العشرة حيض، وما زاد عليها فهو استحاضة.
وكذلك في كل شهر.
وأما صاحبة العادة: إذا استحيضت، فعادتها تكون حيضا إذا كانت
عشرة. وما زاد عليها يكون استحاضة.
وأما إذا زاد الحيض على عادتها وهي أقل من عشرة فما رأت يكون
حيضا إلى العشرة، لان الزيادة على الحيض في وقته حيض، فإن
جاوز عن العشرة فعادتها حيض، وما زاد عليها استحاضة.
وأصله ما روي عن النبي (ص) أنه قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام
أقرائها أي أيام حيضها.
فأما إذا لم يكن لها عادة معروفة بأن ترى مرة ستا ومرة سبعا
فاستحضيت، فإن عليها، إذا رأت الست أن تغتسل في اليوم
السابع، وتصوم وتصلي ولا يطؤها زوجها وتنقطع الرجعة. فإذا
مضى اليوم السابع، فعليها أن تغتسل في اليوم الثامن ثانيا، وتقضي
الصوم الذي صامت في اليوم السابع، دون الصلاة، ويحل للزوج أن
يطأها، لان الحيض إحدى العادتين، فعليها الاخذ بالاحتياط وذلك فيما
قلنا.
34

باب
التيمم
الكلام في هذا الباب في خمسة مواضع:
في بيان كيفية التيمم شرعا،
وفي بيان شروطه،
وفي بيان ما يتمم به،
وفي بيان وقته،
وفي بيان ما ينقضه.
أما الأول فنقول:
قال علماؤنا بأن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى
المرفقين.
وهو أحد قولي الشافعي، وفي قوله القديم: التيمم ضربتان: ضربة
للوجه، وضربة لليدين إلى الرسغين.
وهو قول مالك.
وقال بعضهم: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى الإبطين.
والصحيح مذهبنا، لما روى جابر عن النبي، عليه السلام، أنه
قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين.
35

ثم اختلف مشايخنا في كيفيته:
قال بعضهم: يضرب بيديه على الأرض ضربة واحدة، ثم
يرفعهما وينفضهما حتى يتناثر التراب فيمسح بهما وجهه، ثم يضرب مرة
أخرى، فينفضهما، ويمسح بأربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده
اليمنى من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى باطن
يده اليمنى إلى الرسغ ويمر بباطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه
اليمنى. ثم يفعل باليد اليسرى كذلك.
وقال بعضهم: يمسح بضربة وجهه، وبضربة أخرى يمسح بطن كفه
اليسرى مع الأصابع ظاهر يده اليمنى إلى المرفق، ويمسح به باطن
ذراعه اليمنى إلى أصل الابهام، ويفعل بيده اليسرى كذلك، ولا
يتكلف.
والقول الأول أحوط لان فيه احترازا عن استعمال التراب
المستعمل بقدر الممكن، فإن التراب الذي على اليد يصير مستعملا
بالمسح، فإنه لو ضرب بيده مرة واحدة ومسح بها الوجه والذراعين فإنه
لا يجوز.
ثم الاستيعاب في التيمم: هل هو مشروط؟
لم يذكر في ظاهر الرواية، وذكر ما يدل عليه، فإنه قال: إن ترك
ظاهر كفه لم يجزه، وذكر ههنا وقال: إذا ترك شيئا من مواضع التيمم،
لا يجوز قليلا كان أو كثيرا.
وروى الحسن بن زياد في المجرد عن أبي حنيفة، أنه لو تيمم أكثر
الوجه والذراعين والكفين، جاز.
والأول أصح.
وعلى قياس شرط الاستيعاب، ينبغي أن يخلل بين أصابعه في
36

التيمم - وهكذا روي عن محمد.
وعلى قياس رواية الحسن: لا يخلل.
ثم عندنا: يمسح المرفق مع الذراعين، خلافا لزفر كما في
الوضوء.
وأما شروط التيمم:
فمنها - عدم الماء، لأنه خلف، والخلف لا يشرع مع وجود الأصل -
قال الله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) *
ثم العدم نوعان: أحدهما: من حيث الحقيقة، والثاني: من حيث
الحكم والمعنى.
أما الأول: فهو أن يكون الماء معدوما عنده على الحقيقة، بأن
كان بعيدا عنه.
واختلفت الروايات في مقدار البعد، وحاصل ذلك: أن بعض
المشايخ فصلوا بين المقيم والمسافر، فجعلوا حد البعد في حق المقيم ميلا،
وفي حق المسافر ميلين إذا كان الماء قدامه.
وعامتهم سووا بينهما وجعلوا الحد ميلا، وهو ثلث فرسخ وهذا هو
الأصح.
هذا إذا ثبت بعد الماء بطريق التيقن، أو بطريق الغالب.
فأما إذا كان غالب ظنه أن الماء قريب منه، أو أخبره رجل عدل
بقرب الماء، لا يباح له التيمم، لأنه ليس بعادم للماء، ظاهرا، ولكن
يجب عليه الطلب، وهكذا روي عن محمد.
37

وكذلك إذا كان بقرب من العمران، يجب عليه الطلب.
هكذا روي حتى لو تيمم قبل الطلب وصلى ثم ظهر الماء لا
تجوز صلاته.
فأما إذا لم يكن بحضرته أحد يخبره، ولا غلب على ظنه قرب الماء،
فإنه لا يجب عليه الطلب، عندنا.
وقال الشافعي: يجب عليه الطلب عن يمين الطريق ويساره
مقدار الغلوة، حتى لو تيمم، وصلى قبل الطلب، ثم ظهر أن الماء قريب
منه، جازت صلاته عندنا، خلافا للشافعي.
والصحيح قولنا، لان المفازة مكان عدم الماء غالبا، فثبت العدم
ظاهرا.
وأما العدم من حيث الحكم والمعنى: فهو أن يعجز عن استعمال الماء
لموانع، مع وجوده حقيقة بقرب منه بأن كان على رأس البئر، ولم يجد
آلة الاستقاء، أو كان بينه وبين الماء عدو أو سبع يمنعه، أو لصوص يخاف
منهم على نفسه الهلاك أو الضرر، أو كان معه ماء، وهو يخاف على نفسه
العطش، أو به جراحة أو جدري أو مرض يضره استعمال الماء، أو
مرض لا يضره استعمال الماء ولكن ليس معه خادم، ولا مال يستأجر به
أجيرا، وليس بحضرته من يوضئه، وهو في المفازة، فإن كان في المصر لا
يجزئه، لأن الظاهر أنه يجد من يعينه، أو كان مع رفيقه ماء لا يعطيه
إياه، ولا يبيعه بمثل قيمته أو بغبن يسير، أو يخاف على نفسه الهلاك، أو
زيادة المرض بسبب البرد، وهو لا يقدر على تسخين الماء، ولا على
أجرة الحمام، في المفازة والمصر عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعند أبي
يوسف ومحمد: في السفر كذلك، وفي المصر لا يجزئه.
وكذا إذا خاف فوت صلاة تفوت لا إلى خلف، إن اشتغل
38

بالوضوء كصلاة الجنازة والعيدين، يباح له التيمم.
أما إذا شرع في صلاة العيد متوضئا ثم أحدث، فعلى قول أبي
حنيفة يبني بالتيمم أيضا، وإن كان الماء بقرب منه. وعلى قول أبي
يوسف ومحمد: لا يبني ولكن يذهب ويتوضأ ويتم صلاته.
فأما في الجمعة وسجدة التلاوة وسائر الصلوات المفروضة، لا
يتيمم وإن خاف الفوت عن وقته، لأنه يفوت إلى خلف.
ومن شروطه النية أيضا: حتى لو تيمم، ولم ينو أصلا، لا يجوز
عند عامة العلماء، خلافا لزفر.
فإن تيمم ونوى استباحة الصلاة أو نوى مطلق الطهارة، أجزأه.
ويصح به أداء الصلوات كلها، ويباح له كل فعل لا صحة له بدون
الطهارة من دخول المسجد، ومس المصحف، وقراءة القرآن، وسجدة
التلاوة، وصلاة الجنازة، لان نية الاعلى تكون نية للأدنى، ونية الكل
تكون نية لجنس الاجزاء.
ولو تيمم لصلاة الجنازة، أو لسجدة التلاوة: أو لقراءة القرآن، جاز
له أن يؤدي جميع ما لا صحة له إلا بالطهارة، لان ذلك من جنس أجزاء
الصلاة.
فأما إذا تيمم لمس المصحف، أو لدخول المسجد، لا يباح له أن
يصلي به الصلاة، ولا ما هو من جنس أجزائها، لان ذلك ليس بعبادة
مقصودة بنفسها، ولا من جنس الصلاة ولا من جنس أجزائها، ولا من
ضروراتها، حتى يكون ذلك نية لها، فجعل التراب طهورا في حقها لا
غير.
ولو تيمم الكافر، ونوى الاسلام، أو الصلاة، أو الطهارة، ثم
39

أسلم، لم يجز تيممه عند عامة العلماء، إلا ما روي عن أبي يوسف أنه
يجوز.
أما عند الشافعي فلان التيمم عبادة، والكافر ليس بأهل لها.
وعندنا التيمم ليس بعبادة كالوضوء، لكنه ليس بطهور حقيقة، وإنما
جعل طهورا باعتبار الحاجة إلى مباشرة فعل لا صحة له بدون الطهارة.
والاسلام يصح بدون الطهارة، فلا حاجة إلى أن يجعل طهورا في حقه
بخلاف الوضوء فإنه يصح من الكافر، لأنه طهور حقيقة.
ولو تيمم المسلم ثم ارتد ثم أسلم، فهو على تيممه عند عامة
العلماء.
أما عند الشافعي فلان التيمم، وإن كان عبادة، ولكن عنده لا
تبطل العبادات بالردة.
وأما عندنا، فلان الردة لا تبطل وصف الطهورية كما في الوضوء،
واحتمال الحاجة باق، لأنه مجبور على الاسلام.
ومن شروطه أيضا أن يكون التراب طاهرا، حتى لو تيمم بالتراب
النجس لا يجوز.
ولهذا لو تيمم بأرض أصابتها النجاسة، فجفت بالشمس وذهب
أثرها، إنه لا يجوز في ظاهر الرواية، لأنه لا يخلو عن أجزاء النجاسة.
وفي رواية ابن الكاس: جاز لاستحالته أرضا.
وأما بيان ما يتيمم به فنقول:
اختلف العلماء فيه:
40

قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما: يجوز بكل ما هو من
جنس الأرض.
وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل خاصة.
وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز إلا التراب،
وهو قوله الأخير.
وبه أخذ الشافعي.
والصحيح قول أبي حنيفة ومحمد، لقوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا
طيبا) * والصعيد عبارة عن وجه الأرض، وذلك قد يكون ترابا
ورملا وحجرا أو غير ذلك، والحديث المشهور دليل عليه وهو قوله عليه
السلام: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا: أينما أدركتني الصلاة،
تيممت وصليت.
ثم الحد الفاصل بين جنس الأرض وغيرها أن كل ما يحترق بالنار
فيصير رمادا، كالشجر والحشيش، أو ما ينطبع ويلين كالحديد والصفر،
وعين الذهب والفضة والزجاج ونحوها فليس من جنس الأرض.
ثم اختلف أبو حنيفة ومحمد فيما بينهما، فعلى قول أبي حنيفة يجوز
التيمم بكل ما هو من جنس الأرض، سواء التزق بيده شئ أو لا.
وعند محمد: لا يجوز، إلا أن يلتزق بيده شئ من أجزائه.
إذا ثبت ذا:
فعلى قول أبي حنيفة يجوز التيمم بالتراب، والرمل، والحصى،
والجص والزرنيخ، والنورة، والطين الأحمر، والأخضر والأصفر،
والأسود، والكحل، والحجر الأملس، والحائط المطين والمجصص،
41

والملح الجبلي دون المائي، والسبخة المنعقدة من الأرض دون المائية،
والمردراسنج المعدني دون المتخذ من شئ آخر.
وأما الآجر فقد ذكر ههنا وقال: يجوز، لأنه طين مستحجر، فيكون
كالحجر الأصلي، وفي رواية: لا يجوز.
والخزف إن كان من طين خالص يجوز، كما في الآجر، وإن كان
من طين مخلوط بما ليس من جنس الأرض لا يجوز، كالزجاج المتخذ
من الرمل، وشئ آخر ليس من جنس الأرض.
وعند محمد في هذه الفصول: إن التزق بيده شئ منها بأن كان
مدقوقا جاز وإلا فلا.
ولو تيمم بالرماد لا يجوز لأنه من أجزاء الخشب ونحوه.
وإن تيمم باللآلئ لا يجوز، مدقوقة كانت أو لا، لأنها ليست من
جنس الأرض.
ولو تيمم بالياقوت، والفيروزج، والمرجان، والزمرد، جاز لأنها
أحجار مضيئة.
ولو تيمم بأرض ندية، على قول أبي حنيفة يجوز، التزق بيده شئ
أم لا. وعند محمد: إن التزق بيده شئ جاز وإلا فلا. وعند أبي
يوسف: لا يجوز كيفما كان، لان التراب مخلوط بما لا يجوز به التيمم،
وهو الماء.
ولو تيمم بالطين الرطب فهو على هذا الاختلاف، يجوز على قول
أبي حنيفة التزق بيده شئ أو لا، وعند محمد إن التصق بيده
شئ جاز وإلا فلا. وعند أبي يوسف: لا يجوز، لأنه مخلوط بما لا
42

يجوز به التيمم، وهو الماء.
وإن تيمم بالغبار، بأن ضرب بيده على ثوب أو على لبد فارتفع
غباره، أو على الذهب والفضة أو الحبوب، فارتفع غبار فيتمم به، جاز
عند أبي حنيفة ومحمد، خلافا لأبي يوسف، لأنه من أجزاء الأرض.
وأما وقت التيمم فنقول:
اختلف العلماء في وقته، إن وقته أول وقت الصلاة، أو آخره أو
وسطه.
ذكر في ظاهر الرواية، وقال: أحب إليه أن يؤخر الصلاة إلى آخر
الوقت، ولم يفصل بين ما إذا كان على طمع من وجود الماء في آخر
الوقت أو لم يكن.
وروى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إن كان على طمع من
وجود الماء في آخر الوقت يؤخر إلى آخر الوقت. وإن لم يكن على طمع
من وجود الماء في آخره، فإنه يؤخر إلى آخر الوقت المستحب، ويصلي في
آخره.
وتكون هذه الرواية تفسيرا لظاهر الرواية.
وقال حماد: لا يؤخره إلى آخر الوقت، ما لم يتيقن وجود الماء في آخر
الوقت.
وهو قول الشافعي.
وقال مالك: يستحب له أن يتيمم في وسط الوقت.
والصحيح مذهبنا، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال مثل
مذهبنا. ولم يرو عن غيره خلافه، فيكون كالاجماع.
وإن تيمم في أول الوقت وصلى، فإن كان عالما أن الماء يقرب منه،
43

بأن كان أقل من ميل، لا تجوز صلاته، وإن كان ميلا فصاعدا،
جازت صلاته لان حد البعد هو الميل، وإن كان يمكنه أن يذهب
ويتوضأ ويصلي في الوقت، وتعتبر الجملة.
وإن لم يكن عالما بذلك، يجوز، سواء كان يرجو وجود الماء في آخر
الوقت، أو لا، بعد الطلب أو قبله، عندنا، لان العدم ثابت من حيث
الظاهر، واحتمال الوجود لا يعارض الثابت ظاهرا.
فأما إذا كان على يقين من وجود الماء في آخر الوقت أو من حيث
الغالب، فإن كان بينه وبين الماء مقدار ما يمكنه أن يذهب ويتوضأ ويصلي
في الوقت فإنه ينظر إن كان أقل من ميل لا تجوز صلاته، وإن كان
ميلا فصاعدا جازت صلاته لان حد البعد هو الميل.
وإن أخبر في آخر الوقت أن الماء بقرب منه بأن كان أقل من ميل
ولكن لو ذهب إليه وتوضأ تفوته الصلاة عن الوقت، فإنه يجب عليه أن
يذهب، ويتوضأ، ويصلي خارج الوقت، ولا يجزيه التيمم، لان
الصلاة تفوته إلى بدل وهو القضاء.
وأما ما يبطل التيمم فنقول:
كل ما يبطل الوضوء من الحدث الحقيقي والحكمي فإنه يبطله.
وأما ما يبطله على الخصوص فهو رؤية الماء.
وأصله قوله عليه السلام: التيمم وضوء المسلم ولو إلى عشر
حجج، ما لم يجد الماء أو يحدث.
ثم إن وجد الماء، قبل الشروع في الصلاة، يبطل تيممه، ويجب
عليه الوضوء بالاجماع.
وإن وجد بعد الشروع: إن كان قبل أن يقعد قدر التشهد من القعدة
الأخيرة، فإنه تفسد صلاته، عندنا.
44

وقال الشافعي: لا تفسد.
وحجتنا ما روينا من الحديث المشهور، من غير فصل بين حالة
الصلاة، وغيرها.
وإن كان بعد ما قعد قدر التشهد الأخير، أو بعد ما سلم، وعليه
سجدتا السهو، وعاد إلى الصلاة، تبطل صلاته، عند أبي حنيفة، ويلزمه
الاستقبال.
وعند أبي يوسف ومحمد: يبطل تيممه، وصلاته تامة.
وهذه المسألة من جملة المسائل الاثني عشرية على ما يعرف في
موضعها.
وإن وجد بعد الفراغ من الصلاة، فإن كان بعد خروج الوقت، لا
يلزمه الإعادة، بالاجماع. وإن وجد في الوقت فكذلك عند عامة العلماء
وقال مالك: يعيد.
والصحيح قولنا، لأنه قدر على الأصل، بعد حصول المقصود
بالبدل.
وأنه إذا رأى سؤر حمار، فإن كان خارج الصلاة، ينبغي أن يتوضأ
به، مع التيمم، لأنه مشكوك فيه، فوجب الجمع بينهما، حتى يكون
مؤديا للصلاة بيقين.
إن كان في الصلاة، ينبغي أن لا يقطع، لان الشروع قد صح
فلا يقطع بالشك، ولكن يمضي عليها، فإذا فرغ منها يقضي تلك
الصلاة بسؤر الحمار حتى يكون مؤديا للصلاة بيقين.
وأما إذا وجد نبيذ التمر: فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه:
45

ينتقض تيممه لأنه بمنزلة الماء عند عدم الماء المطلق.
وعلى قول أبي يوسف: لا ينتقض، لأنه ليس بطهور أصلا.
وعند محمد: يمضي على صلاته ثم يعيد، كما في سؤر الحمار.
ثم الأصل عندنا أن التيمم بدل مطلق وليس بضروري، يعني به
أن الحدث يرتفع عندنا بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة
المؤداة، لا أن تباح له الصلاة مع قيام الحدث للضرورة.
وعند الشافعي: هو بدل ضروري. وعنى به أن يباح له الصلاة
بالتيمم مع قيام الحدث حقيقة، وجعل عدما شرعا، لضرورة صحة
الصلاة بمنزلة طهارة المستحاضة.
والصحيح قولنا، لما روينا عن النبي عليه السلام أنه قال: التيمم
وضوء المسلم، ولو إلى عشر حجج، ما لم يجد الماء أو يحدث.
وينبني على هذا الأصل أن عادم الماء إذا تيمم قبل دخول وقت
الصلاة، فإنه يجوز تيممه، لأنه خلف مطلق، حال عدم الماء.
وعند الشافعي: لا يجوز لأنه خلف ضروري ولا ضرورة قبل
الوقت، كما في طهارة المستحاضة.
وعلى هذا إذا تيمم، يجوز له أن يؤدي به ما شاء من الفرائض
والنوافل، ما لم يجد الماء، أو يحدث.
ولا ينتقض تيممه بخروج الوقت، كطهارة المستحاضة.
وعنده لا يجوز له أن يؤدي فرضا غير الذي تيمم لأجله، ولكن
يجوز له أن يصلي بذلك التيمم النوافل لأنها تبع للفرائض، كما قال
في طهارة المستحاضة.
وعلى هذا الأصل:
46

قال الزهري: إنه لا يجوز التيمم في حق النوافل، لأنه طهارة
ضرورية ولا ضرورة في حق النوافل.
ولكن عامة العلماء قالوا: إن الحاجة إلى إحراز الثواب معتبرة، كما
في طهارة المستحاضة تطهر في حق النوافل، بالاجماع، لما قلنا - كذا
هذا.
ثم اختلف أصحابنا في كيفية البدلية،
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: التراب خلف عن الماء عند عدمه،
والبدلية بين التراب والماء.
وقال محمد: التيمم خلف عن الوضوء عند عدمه، والبدلية بين
التيمم والوضوء.
وعلى هذا:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: بأن المتيمم إذا أم المتوضئين فإنه تجوز إمامته
لهم، وتكون صلاتهم جائزة استحسانا، إذا لم يكن مع المتوضئين ماء،
فأما إذا كان معهم ماء فلا تجوز إمامته لهم، وتكون صلاتهم فاسدة.
وقال محمد: لا تجوز إمامته، سواء كان مع المتوضئين ماء أو لم
يكن.
وقال زفر: تجوز إمامته لهم، سواء كان معهم ماء أو لم يكن. لان
عند محمد لما كانت البدلية بين التيمم والوضوء، فالمقتدي إذا كان على
وضوء لم يكن تيمم الامام، الذي هو بدل عن الوضوء طهارة في حقه،
لقدرته على الأصل، ويكون وجوده وعدمه سواء، فيكون مقتديا
بالمحدث، فلا يجوز، كالصحيح إذا اقتدى بصاحب جرح سائل، لم
47

يجز اقتداؤه لان طهارته ضرورية، فلا يعتبر في حق الصحيح - كذا
هذا.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لما كانت البدلية بين التراب والماء،
فإذا لم يكن مع المقتدين ماء، فيكون التراب طهارة مطلقة في حال عدم
الماء، وإذا كان معهم ماء، فقد فات الشرط في حق المقتدين فلا يبقى
التراب طهورا في حقهم، فلم تبق طهارة الامام طهارة في حقهم،
فلا يصح اقتداؤهم به.
وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن المتيمم إذا أم المتوضئين،
ولم يكن معهم ماء، ثم رأى واحدا منهم الماء، بطلت صلاته لان طهارة
الامام، جعلت عدما في حقه، لقدرته على الماء الذي هو أصل، لأنه لا
يبقى الخلف عند وجود الأصل.
48

باب
النجاسات
الكلام في هذا الباب في ستة مواضع:
في بيان أنواع الأنجاس.
وفي بيان المقدار الذي يصير به المحل نجسا شرعا.
وفي بيان ما يقع به التطهير.
وفي طريق التطهير.
وفي شرائط التطهير.
وفي حكم الغسالة.
أما الأول وهو بيان أنواع النجاسات
فمن ذلك أن كل ما يخرج من بدن الانسان مما يتعلق بخروجه
وجوب الوضوء أو الغسل فهو نجس، نحو الغائط والبول والدم
والصديد، والقئ ملء الفم، ودم الحيض، والنفاس والاستحاضة،
والودي، والمذي، والمني.
ولا خلاف في هذه الجملة إلا في المني، فإن عند الشافعي هو طاهر.
والأصل في ذلك حديث عمار بن ياسر: أنه كان يغسل ثوبه من
النخامة فمر عليه رسول الله آ فقال: ما تصنع يا عمار؟
فأخبره بذلك، فقال: وما نخامتك، ودموع عينيك، والماء الذي
49

في ركوتك إلا سواء وإنما يغسل الثوب من خمس: بول، وغائط، ودم
وقئ، ومني.
وأما القئ الذي يكون أقل من ملء الفم، والدم الذي لم يسل عن
رأس الجرح، هل يكون نجسا؟ فعلى قياس ما ذكرنا ههنا، لا يكون
نجسا، لأنه لا يتعلق به وجوب الوضوء. وهكذا روي عن أبي يوسف.
لأنه ليس بدم مسفوح.
وقال محمد: هو نجس لأنه جزء من الدم المسفوح.
وأما الدم إذا لم يكن مسفوحا في الأصل كدم البق والبراغيث،
فهو ليس بنجس عندنا.
وعند الشافعي هو نجس، إلا أنه إذا أصاب الثوب يجعل عفوا لأجل
الضرورة.
ثم ما ذكرنا أنه نجس من الآدمي فهو نجس من سائر الحيوانات،
من الأبوال والأرواث، ونحوها، عند عامة العلماء، إلا أنه قد سقط
اعتبار نجاسة بعضها لأجل الضرورة.
وقال محمد: بول ما يؤكل لحمه طاهر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: نجس، لكن يباح شربه للتداوي عند
أبي يوسف. وعند أبي حنيفة، رحمة الله عليه، لا يباح.
وقال ابن أبي ليلى بأن السرقين طاهر.
وقال مالك بأن البعر، والروث، وأخثاء البقر، كلها طاهرة.
وقال زفر: روث ما يؤكل لحمه طاهر.
50

والصحيح قول العامة، لان الآدمي أطهر الحيوانات ذاتا وغذاء، فإذا
كانت هذه الأشياء نجسة منه، فمن غيره أولى.
وأما خرء الطيور، فالطيور ثلاثة أنواع:
ما لا يذرق من الهواء، نحو الدجاج والبط والإوز، وخرؤها نجس
في رواية الحسن عن أبي حنيفة.
وفي رواية أبي يوسف عنه أن خرء الدجاج والبط نجس، دون خرء
الإوز.
وما يذرق من الهواء نوعان:
الصغار منها، مثل الحمام ونحوه: وخرؤها طاهر.
والكبار، كالصقر والبازي ونحوهما: وخرؤها طاهر عند أبي حنيفة
وأبي يوسف. وقال محمد: نجس.
وهذا كله قول علماؤنا. وقال الشافعي: خرء الطيور كلها نجس.
والقياس قوله، لأنه نجس حقيقة، إلا أنا استحسنا وأسقطنا
نجاسة البعض لمكان الضرورة.
ومن أنواع الأنجاس الميتات: وهي نوعان:
منها ما ليس لها دم سائل: وهي ليست بنجسة عندنا، خلافا
للشافعي على ما نذكره.
والثاني: ما لها دم سائل، فنقول:
لا خلاف أن الاجزاء التي فيها دم سائل، مثل اللحم والشحم
والجلد ونحوها، فهي نجسة، لاختلاط الدم النجس بها.
وأما الاجزاء التي ليس فيها دم: ففي غير الآدمي، والخنزير من
51

الحيوانات ينظر:
إن كانت صلبة، مثل الشعر والصوف والريش والقرن والعظم
والسن والحافر والخف والظلف والعصب والإنفحة الصلبة، فليست
بنجسة بلا خلاف بين أصحابنا.
وأما الإنفحة المائعة واللبن، فكذلك عند أبي حنيفة، وعندنا:
نجس.
وقال الشافعي: الكل نجس.
وكذا الجواب فيما أبين من الحي من الاجزاء إن كان فيه دم، فهو
نجس بالاجماع، وإن لم يكن، فعلى هذا الخلاف.
فالشافعي أخذ بظاهر الآية، وهو قوله تعالى: * (حرمت عليكم
الميتة) *.
وأصحابنا قالوا: إن نجاسة الميتات باعتبار ما فيها من الدم السائل
والرطوبات النجسة، ولم يوجد في هذه الاجزاء.
وأما في الآدمي فعن أصحابنا روايتان:
في رواية نجس، حتى لا يجوز بيعها ولا الصلاة معها، إذا كان أكثر
من قدر الدرهم، وزنا أو عرضا على حسب ما يليق به.
وفي رواية يكون طاهرا، وهي الأصح لأنه لا دم فيها، إلا أنه لا
يجوز بيعها ويحرم الانتفاع بها احتراما للآدمي.
وأما الخنزير: فيروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه نجس العين،
52

فيحرم استعمال شعره وسائر أجزائه، إلا أنه رخص في شعره للخرازين
لأجل الحاجة.
وإذا وقع شعره في الماء: روي عن أبي يوسف أنه يوجب التنجيس.
وعن محمد أنه لا يوجب ما لم يغلب على الماء كشعر غيره.
وروي عن أصحابنا في غير رواية الأصول أن هذه الاجزاء منه
طاهرة، لأنه لا دم فيها.
وأما الكلب، فمن قال من مشايخنا إنه نجس العين، فهو والخنزير
سواء.
ومن قال إنه ليس بنجس العين فهو وسائر الحيوانات سواء، وهذا
أصح.
وأما حكم أسئار الحيوانات، وعرفها، وألبانها فنقول: الأسئار
على أربعة أوجه:
سؤر متفق على طهارته من غير كراهة، وسؤر مختلف في طهارته
ونجاسته، وسؤر مكروه، وسؤر مشكوك فيه.
أما السؤر الطاهر المتفق على طهارته: فهو سؤر الآدمي بكل حال،
إلا في حال شرب الخمر فإنه نجس لنجاسة فمه.
وكذا سؤر ما يؤكل لحمه من الانعام والطيور، إلا الإبل الجلالة:
والبقر الجلالة، والدجاجة المخلاة، فإن سؤرها مكروه لاحتمال نجاسة
فمها، حتى إذا كانت محبوسة لا يكره.
وأما سؤر الفرس، فعلى قول أبي يوسف ومحمد: طاهر لطهارة
لحمه.
وعند أبي حنيفة روايتان كما في طهارة لحمه: على رواية الحسن:
53

نجس كلحمه، وعلى جواب ظاهر الرواية: طاهر كلحمه.
وأما السؤر المختلف في طهارته ونجاسته: فهو سؤر الخنزير والكلب
وسائر سباع الوحوش. وهو نجس عند عامة العلماء.
وقال مالك: طاهر.
وقال الشافعي: سؤر السباع كلها طاهر، سوى الكلب والخنزير.
وأما السؤر المكروه: فهو سؤر سباع الطير، كالحدأة، والبازي
والصقر، ونحوها استحسانا.
والقياس أنه نجس.
وكذا سؤر سواكن البيوت، كالحية والفأرة والعقرب ونحوها. وكذا
سؤر الهرة في رواية الجامع الصغير.
وفي ظاهر الرواية قال: أحب إلي أن يتوضأ بغيره، ولم يذكر
الكراهة.
وعن أبي يوسف أنه لا يكره.
وأما السؤر المشكوك فيه: فهو سؤر الحمار والبغل في جواب ظاهر
الرواية.
وروى الكرخي عن أصحابنا أن سؤرهما نجس.
وقال الشافعي: طاهر.
ثم السؤر المتفق على طهارته والماء المطلق سواء.
والسؤر المكروه لا ينبغي أن يتوضأ به، إن وجد ماء مطلقا، وإن
توضأ به جاز مع الكراهة، وإن لم يجد ماء مطلقا، يجوز من غير
كراهة.
54

والسؤر المشكوك فيه، لا يجوز التوضؤ به إن وجد ماء مطلقا، وإن
توضأ به، جاز مع الكراهة. وإن لم يجد يتوضأ به ويتيمم، لان أحدهما
مطهر بيقين. وأيهما قدم أو أخر، جاز عندنا.
وعند زفر لا يجوز ما لم يقدم الوضوء على التيمم حتى يصير عادما
للماء.
ومن الأنجاس: الخمر والسكر على ما يعرف في كتاب الأشربة.
وأما بيان المقدار الذي به يصير المحل نجسا شرعا فنقول:
ينظر إما إن وقع في المائعات، من الماء والخل ونحوهما، أو أصاب
الثوب والبدن والمكان.
أما إذا وقع في الماء: فلا يخلو: إما إن كان جاريا أو راكدا.
فإن كان جاريا، إن كانت النجاسة غير مرئية، فإنه لا ينجس ما
لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، ويتوضأ منه كيف شاء من الموضع الذي
وقع فيه النجس أو من الطرف الآخر، لأن الماء طاهر في الأصل فلا
يحكم بنجاسته بالشك.
وإن كانت النجاسة مرئية، مثل الجيفة ونحوها، فإن كان النهر
كبيرا، فإنه لا يتوضأ من أسفل الجانب الذي فيه الجيفة، ولن يتوضأ
من الجانب الآخر، لأنه متيقن بوصول النجاسة إلى الموضع الذي يتوضأ
منه.
وإن كان النهر صغيرا بحيث لا يجري بالجيفة، بل يجري الماء
عليها، إن كان يجري عليها جميع الماء، فإنه لا يجوز التوضؤ به من أسفل
الجيفة، لأنه تنجس جميع الماء، والنجس لا يطهر بالجريان.
وإن كان يجري عليها بعض الماء، فإن كان يجري عليها أكثر الماء،
55

فهو نجس، وإن كان يجري عليها أقل الماء، فهو طاهر لان العبرة
للغالب.
وإن كان يجري عليها النصف، يجوز التوضؤ به في الحكم، ولكن
الأحوط أن لا يتوضأ به.
واختلف المشايخ في حد الجريان:
قال بعضهم: إن كان يجري بالتبن والورق فهو جار، وإلا فلا.
وقيل: إن وضع رجل يده في الماء عرضا، لم ينقطع جريانه، فهو
جار وإلا فلا.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن كان بحال لو اغترف
رجل الماء بكفيه لم ينحسر وجه الأرض ولم ينقطع الجريان، فهو جار،
وإلا فلا.
وأصح ما قيل فيه: إن الماء الجاري ما يعده الناس جاريا.
وأما إذا كان الماء راكدا، فقد اختلف العلماء فيه،
قال أصحاب الظواهر بأن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه كيفما
كان، لقوله عليه السلام: الماء طهور لا ينجسه شئ.
وقال عامة العلماء: إن كان الماء قليلا ينجس، وإن كان كثيرا
لا ينجس.
واختلفوا في الحد الفاصل بينهما:
فقال مالك: إن كان بحال يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، فهو قليل
وإن كان لا يتغير فهو كثير.
وقال الشافعي: إذا بلغ الماء القلتين، فهو كثير، لا يحتمل خبثا،
56

لورود الحديث فيه هكذا. والقلتان عنده خمس قرب، كل قربة خمسون
منا فيكون جملته مائتين وخمسين منا.
وقال علماؤنا: إن كان الماء بحال يخلص بعضه إلى بعض، فهو
قليل، وإن كان لا يخلص بعضه إلى بعض فهو كثير. واختلفوا في تفسير
الخلوص:
اتفقت الروايات عن أصحابنا المتقدمين أنه يعتبر بالتحريك، فإن
تحرك طرف منه بتحريك الجانب الآخر، فهذا مما يخلص وإن كان لا
يتحرك فهو مما لا يخلص.
ولكن في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة: يعتبر التحريك
بالاغتسال.
وفي رواية محمد: يعتبر التحريك بالوضوء.
والمشايخ المتأخرون اعتبر بعضهم الخلوص بالصبغ، وبعضهم
بالتكدير، وبعضهم بالمساحة، إن كان عشرا في عشر، فهو مما لا
يخلص، وإن كان دونه فهو مما يخلص، وبه أخذ مشايخ بلخ.
وذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي في الكتاب وقال: لا عبرة للتقدير في
الباب، ولكن يتحرى في ذلك إن كان أكبر رأيه أن النجاسة وصلت إلى
هذا الموضع الذي يتوضأ منه، لا يجوز، وإن كان أكبر رأيه أنها لم تصل:
يجوز التوضئة به، لان غالب الرأي دليل عند عدم اليقين.
هذا إذا كان له طول وعرض.
فأما إذا كان له طول بلا عرض كالأنهار التي فيها مياه راكدة، فإنه
لا ينجس بوقع النجاسة فيه.
57

وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه لا يتوضأ به.
ولو توضأ به إنسان أو وقعت فيه النجاسة: إن كان في أحد الطرفين
تنجس منه مقدار عشرة أذرع، وإن كان في وسطه تنجس من كل جانب
عشرة أذرع.
وأما العمق هل يشترط مع الطول والعرض؟
عن أبي سليمان الجوزجاني أن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق.
وعن أبي جعفر الهنداوي: إن كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه
ينحسر أسفله فهذا ليس بعميق، وإن كان لا ينحسر، فهو عميق.
وقيل: مقدار شبر.
وقيل: مقدار ذراع.
ثم إذا كانت النجاسة غير مرئية، بأن بال فيه إنسان أو اغتسل فيه
جنب: اختلف المشايخ فيه.
قال مشايخ العراق بأن حكم المرئية وغير المرئية سواء في أنه لا يتوضأ
من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من الجانب الآخر،
بخلاف الماء الجاري.
ومشايخنا فصلوا بين الامرين، كما قالوا جميعا في الماء الجاري
وهو الأصح.
ثم النجاسة إذا وقعت في الماء القليل، فلا يخلو إما إن كان في
الأواني أو في البئر أو في الحوض الصغير.
أما في الأواني فتوجب التنجيس كيفما كانت، مستجسدة أو
مائعة، لأنه ليس في الأواني ضرورة غالبة، إلا في البعرة، إذا وقعت في
اللبن عند الحلب، إذا رميت من ساعتها، عند مشايخنا المتقدمين لأجل
58

الضرورة، وهو الصحيح.
فأما إذا كان في البئر: فالواقع لا يخلو إما أن يكون حيوانا أو غيره
من النجاسات.
فإن كان حيوانا، فلا يخلو إما إن أخرج حيا أو ميتا.
فإن أخرج حيا: إن كان نجس العين، كالخنزير، يجب نزح جميع
الماء. وفي الكلب اختلف المشايخ فيه: هل هو نجس العين أم لا؟
والصحيح أنه ليس بنجس العين.
وأما إذا لم يكن نجس العين: فإن كان آدميا فإنه لا يوجب التنجيس
إلا إذا كان عليه نجاسة بيقين، حقيقة أو حكمية، أو نوى الغسل أو
الوضوء - في جواب ظاهر الرواية، وهو الصحيح.
وأما سائر الحيوانات: فإن كان لا يؤكل لحمه كسباع الوحش
والطيور، اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يوجب التنجيس.
وكذلك الحمار والبغل. والصحيح أنه يصير الماء مشكوكا فيه. وإن
كان حيوانا يؤكل لحمه لا يوجب التنجيس لأنه طاهر
وهذا كله إذا لم يتيقن أن يكون على بدنه نجاسة، أو على مخرجه، أو
لم يصل إلى الماء شئ من لعابه.
فأما إذا تيقن يصير الماء نجسا في النجاسة، وفي اللعاب يصير
حكم الماء حكم اللعاب.
فأما إذا خرج ميتا: فإن كان منتفخا أو متفسخا، ينزح ماء البئر
كله، لأنه تيقن بوصول شئ من النجاسة إليه.
وإن لم يكن منتفخا ولا متفسخا، ذكر في ظاهر الرواية وجعله على
ثلاث مراتب:
59

في الفأرة ونحوها: ينزح عشرون دلوا أو ثلاثون.
وفي الدجاجة ونحوها: ينزح أربعون أو خمسون.
وفي الآدمي ونحوه: ينزح ماء البئر كله.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه جعله على خمس مراتب: في الحلمة
ونحوها: ينزح عشر دلاء. وفي الفأرة ونحوها: عشرون. وفي الحمام
ونحوه: ثلاثون. وفي الدجاجة ونحوها: أربعون. وفي الادمي ونحوه:
ينزح ماء البئر كله.
وإنما ثبتت هذه المراتب بإجماع الصحابة توقيفا، لأنها لا تعرف
بالاجتهاد.
وهذا إذا كان الواقع واحدا، فإن كان أكثر، روي عن أبي يوسف
أنه قال: في الفأرة ونحوها: عشرون إلى الأربع، فإذا بلغ خمسا، ينزح
أربعون، إلى التسع، فإذا بلغ عشرا ينزح ماء البئر كله.
وعن محمد أنه قال في الفأرتين: ينزح عشرون. وفي الثلاث:
أربعون، وإذا كانت الفأرتان كهيئة الدجاج: ينزح أربعون.
وأما إذا كان الواقع غير الحيوان من الأنجاس، فلا يخلو: إما إن
كان مستجمدا أو غير مستجمد.
فإن كان غير مستجمد كالبول والدم: ينزح ماء البئر كله.
وإن كان مستجمدا، ينظر:
إن كان رخوا متخلخل الاجزاء، كالعذرة وخرء الدجاج ونحوهما:
ينزح ماء البئر كله، رطبا كان أو يابسا، قل أو كثر.
وإن كان صلبا، نحو بعر الإبل والغنم، ذكر في ظاهر الرواية
وقال: القياس أن ينجس، قل أو كثر. وفي الاستحسان: ينجس في
60

الكثير دون القليل، ولم يفصل بين الرطب واليابس، والصحيح
والمنكسر.
واختلف المشايخ في الرطب:
ذكر في النوادر أنه ينجس، كذا ذكر الحاكم الجليل الشهيد في
الإشارات.
وعن الشيخ الامام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أن الرطب
واليابس سواء، لوجود الضرورة في الجملة.
وكذا اختلفوا في اليابس المنكسر، والصحيح أنه لا ينجس، لان
الضرورة في المنكسر أشد.
وأما في روث الحمار والبغل والفرس وأخثاء البقر، فقد روي عن أبي
يوسف رحمه الله أنه قال في الروث اليابس: إذا وقع في البئر ثم أخرج من
ساعته، لا يوجب التنجيس.
واختلف المشايخ قال بعضهم: إن كان رطبا أو يابسا منكسرا
يوجب التنجيس، وإلا فلا.
وقيل: إن كان في موضع يتحقق الضرورة فيها، كما في البعر،
فالجواب سواء، وإلا فلا.
واختلفوا أيضا في البئر إذا كانت في المصر. والصحيح أنه لا فرق بين
الحالين، لان الضرورة قد تقع في المصر في الجملة أيضا.
ثم لم يذكر في ظاهر الرواية الحد الفاصل بين القليل والكثير.
وروي عن أبي حنيفة أنه قال: ما استكثره الناس فهو كثير، وما
استقلوه فهو قليل.
وعن محمد أنه اعتبر الربع بأن يأخذ ربع وجه الماء.
61

وقيل: إن كان لا يخلو كل دلو عن بعرة أو بعرتين، فهو كثير، وإلا
فلا.
وقال بعضهم: إن أخذ أكثر وجه الماء، فهو كثير.
وقيل: ما لم يأخذ جميع وجه الماء، لا يكون كثيرا.
وقال بعضهم: الثلاث كثير.
وهو فاسد، فإنه ذكر في ظاهر الرواية وقال: في البعرة والبعرتين من
بعر الإبل والغنم، إذا وقعت في البئر، لا يفسد الماء، ما لم يكن كثيرا
فاحشا، والثلاث ليس بكثير فاحش.
ثم الحيوان إذا مات في المائع القليل، فلا يخلو إما إن كان له دم
سائل، أو لم يكن، ولا يخلو إما أن يكون بريا أو مائيا، ولا يخلو إما
إن مات في الماء أو في غير الماء.
أما إذا لم يكن له دم سائل، فإنه لا ينجس بالموت، ولا ينجس ما
يموت فيه من المائع كيفما كان عندنا، خلافا للشافعي، إلا فيما فيه
ضرورة، على ما ذكرنا.
فأما إذا كان له دم سائل: فإن كان بريا ينجس بالموت. وينجس
المائع الذي يموت فيه، لان الدم السائل نجس فينجس ما يخالطه.
وأما إذا كان مائيا: فإن مات في الماء. لا يوجب التنجيس كالضفدع
المائي والسمك والسرطان ونحو ذلك، عندنا.
وعند الشافعي يوجب التنجيس إلا في السمك خاصة في حق الاكل.
فأما إذا سال منه الدم أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم يوجب
التنجيس.
والصحيح قولنا: لان المائي لا دم له حقيقة، وإن كان يشبه صورة
62

الدم، لان الدموي لا يعيش في الماء.
وأما إذا مات في غير الماء، ذكر الكرخي عن أصحابنا أن كل ما لا
يفسد الماء، لا يفسد غير الماء.
وكذا روى هشام عنهم.
واختلف المشايخ المتأخرون، فمن مشايخ بلخ أنه يوجب التنجيس،
لأنه مات في غير معدنه ومظانه، بخلاف المائي.
وعن أبي عبد الله الثلجي، ومحمد بن مقاتل الرازي أنه لا يوجب.
وهو الأصح، لأنه ليس له دم حقيقة، لكن يحرم أكله لفساد الغذاء
وخبثه.
ويستوي الجواب بين المنفسخ وغيره، إلا أنه يكره شرب المائع لأنه لا
يخلو عن أجزاء ما يحرم أكله.
ثم الحد الفاصل بين المائي والبري، أن المائي هو الذي لا يعيش إلا
في الماء، والبري هو الذي لا يعيش إلا في البر.
فأما الذي يعيش فيهما جميعا كالبط والإوز ونحو ذلك، فقد
أجمعوا على أنه إذا مات في غير الماء، يوجب التنجيس، وإن مات في الماء
فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يفسد الماء.
هذا الذي ذكرنا حكم وقوع النجس في المائع.
فأما إذا أصاب البدن أو الثوب أو المكان:
فحكم المكان نذكره في موضعه.
63

وأما حكم الثوب والبدن، فلا يخلو أما إن كانت النجاسة غليظة
أو خفيفة، قليلة أو كثيرة.
أما النجاسة القليلة فلا تمنع جواز الصلاة غليظة أو خفيفة
استحسانا، والقياس أن تمنع جواز الصلاة، وهو قول زفر والشافعي،
إلا إذا كانت لا تأخذها العين، أو ما لا يمكن الاحتراز عنه، كدم البق
والبراغيث، والقياس متروك لان الضرورة في القليل عامة.
وأما النجاسة الكثيرة فتمنع جواز الصلاة، لعدم الضرورة.
والحد الفاصل بين القليل والكثير في النجاسة الغليظة، هو أن يكون
أكثر من قدر الدرهم الكبير، فيكون الدرهم وما دونه قليلا.
ولم يذكر في ظاهر الرواية صريحا أن المراد من الدرهم الكبير، من
حيث العرض والمساحة، أو من حيث الوزن، وذكر في النوادر: الدرهم
الكبير ما يكون عرض الكف. وذكر الكرخي مقدار مساحة الدرهم
الكبير.
وفي كتاب الصلاة: الدرهم الكبير المثقال، فهذا إشارة إلى أن العبرة
للوزن.
وقال أبو جعفر الهنداوي: لما اختلفت عبارات محمد رحمة الله عليه في
هذا، فنوفق فنقول: أراد بذكر العرض تقدير المائع كالبول
ونحوه، وبذكر الوزن تقدير المستجسد كالعذرة ونحوها، فإن كانت أكثر
من مثقال ذهب وزنا تمنع جواز الصلاة وإلا فلا وهو المختار عند
مشايخنا، وهو الأصح.
وأما حد الكثير في النجاسة الخفيفة فهو الكثير الفاحش. ولم يذكر
حده في ظاهر الرواية. واختلفت الروايات فيه عن أبي حنيفة:
روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة رضي الله عنه عن
64

الكثير الفاحش، فكره أن يجد فيه حدا، وقال: الكثير الفاحش ما
يستفحشه الناس ويستكثرونه.
وروى الحسن عنه أنه قال: شبر في شبر.
وذكر الحاكم في مختصره عن أبي حنيفة ومحمد: الربع وهو الأصح،
لان للربع حكم الكل في أحكام الشرع.
واختلف المشايخ في تفسير الربع،
قيل: ربع جميع الثوب والبدن.
وقيل: ربع كل عضو وطرف أصابته النجاسة من اليد، والرجل
والكم - وهو الأصح.
ثم اختلف أصحابنا في تفسير النجاسة الغليظة والخفيفة:
قال أبو حنيفة: الغليظة كل ما ورد في النص على نجاسته، ولم يرد
نص آخر على طهارته معارضا له، وإن اختلف العلماء فيه. والخفيفة ما
تعارض النصان في طهارته ونجاسته.
وقال أبو يوسف ومحمد: الغليظة ما وقع الاجماع على نجاستها
والخفيفة ما اختلف العلماء فيها.
فعلى قول أبي حنيفة الأرواث كلها نجسة نجاسة غليظة، لما روي
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه السلام طلب منه ليلة الجن
أحجار الاستنجاء، فأتى بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى بالروثة
وقال: إنها ركس، أي نجس، وليس له نص معارض.
وعلى قولهما: نجاستها خفيفة، لاختلاف العلماء فيها.
وبول ما لا يؤكل لحمه نجس نجاسة غليظة، بالاجماع على اختلاف
الأصلين.
65

وبول ما يؤكل لحمه نجس نجاسة خفيفة بالاتفاق: أما عنده
فلتعارض النصين وهو حديث العرنيين مع حديث عمار وغيره في البول
مطلقا. وعندهما لاختلاف العلماء فيه.
وأما العذرات وخرء الدجاج والبط فغليظة بالاجماع، لما ذكرنا من
الأصلين. والله أعلم.
وأما الذي يقع به التطهير، فأنواع:
من ذلك - الماء المطلق فنقول: لا خلاف أن الماء المطلق يحصل به
الطهارة الحقيقية والحكمية جميعا، قال الله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء
طهورا) *.
وأما الماء المقيد، وما سوى الماء من المائعات الطاهرة، فإنه لا يحصل
به الطهارة الحكمية بالاتفاق.
أما الطهارة الحقيقية: وهي إزالة النجاسة، فقد قال أبو حنيفة وأبو
يوسف: يحصل بها. وقال محمد وزفر والشافعي: لا يحصل، وهي
مسألة معروفة.
وهذا إذا كان مائعا ينعصر بالعصر.
فأما إذا كان لا ينعصر بالعصر، مثل العسل والسمن والدهن، فإنه لا
يزيل.
ثم الفرق بين الماء المطلق والمقيد، أن الماء المطلق ما تسارع أفهام
الناس إليه عند إطلاق اسم الماء، كماء العيون والآبار والغدران وماء
البحر والماء الذي ينزل من السماء، ويستوي فيه العذب والأجاج.
66

وأما المقيد، فهو الماء الذي يستخرج من الأشياء الطاهرة الرطبة،
بالعلاج، كماء الأشجار والثمار ونحوهما.
وأما الماء المطلق إذا اختلط به شئ من المائعات الطاهرة على وجه
يزول به اسم الماء ومعناه بالطبخ وغيره: فإن صار مغلوبا به، فهو ملحق
بالماء المقيد غير أنه يعتبر الغلبة أولا من حيث اللون أو الطعم، ثم من
حيث الاجر الاجزاء فينظر إن كان شيئا يخالف لونه لون الماء، مثل
اللبن والخل والعصير وماء الزعفران والعصفر والزردج وماء النشا
ونحوها، فإن العبرة فيه للون، فإن كانت الغلبة للون الماء، يجوز
التوضي به. وإن كان مغلوبا، لا يجوز.
وإن كان يوافق لونه لون الماء، نحو ماء البطيخ وماء الأشجار، فإن
العبرة فيه للطعم، فإن كان شيئا له طعم يظهر في الماء، فإن كان الغالب
طعم ذلك الشئ، لا يجوز التوضي به، وذلك نحو نقيع الزبيب وسائر
الأنبذة، وكذلك ماء الباقلي والمرقة وماء الورد ونحوها.
وإن كان شيئا لا يظهر طعمه في الماء - فإن العبرة فيه لكثرة الاجزاء
إن كانت أجزاء الماء أكثر يجوز التوضي به، وإلا فلا.
وهذا إذا كان شيئا لا يقصد به زيادة التطهير.
فأما إذا كان شيئا يطبخ الماء به، أو يخلط لزيادة التطهير، فإنه لا
يمنع التوضي به، وإن تغير لون الماء وطعمه، وذلك نحو ماء الصابون
وماء الأشنان إلا إذا صار غليظا لا يمكن تسييله على العضو، فإنه لا يجوز،
لأنه زال عنه اسم الماء ومعناه.
وهذا كله في غير حالة الضرورة.
فأما عند الضرورة فيجوز التوضي به.
وإن تغير بامتزاج غيره من حيث الطعم واللون، بأن وقعت الأوراق
67

والثمار في الحياض حتى تغير، فإنه يجوز التوضي به، لأنه يتعذر صيانة
الحياض عنها.
وكذلك إذا اختلط به الطين الطاهر أو التراب الطاهر، وتغير الماء إلى
الكدرة يجوز التوضي به، لأن الماء في الأغلب، يجري على التراب إلا إذا صار غليظا.
وكذلك الجص والنورة والنفط والكبريت، لأنها من أجزاء الأرض،
والماء ينبع منها.
فأما إذا تغير بمضي الزمان، لا بالاختلاط بشئ آخر، من حيث
اللون والطعم، فإنه يجوز التوضي به، لأنه لم يزل معنى الماء واسمه.
وكذلك إذا طبخ الماء وحده، لان اسم الماء باق، وازداد به معنى
التطهير.
وعلى هذا الأصل يخرج قول أبي يوسف في نبيذ التمر: أنه لا يجوز
التوضي به، لتغير الماء من حيث الطعم كما في سائر الأنبذة.
وعلى قول محمد: يجمع بينهما.
وأصله حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنت مع
رسول الله (ص) ليلة الجن، فقال لي: هل معك ماء يا ابن مسعود؟
فقلت: لا إلا نبيذ تمر في إداوة، فقال عليه السلام: ثمرة طيبة، وماء
طهور فأخذه وتوضأ به. فصح هذا الحديث عند أبي حنيفة ولم يثبت
نسخه، فأخذ به وترك القياس، ولم يثبت الحديث عند أبي يوسف أو ثبت
نسخه، فأخذ بالقياس، واشتبه الامر عند محمد، فجمع بينهما،
احتياطا.
ثم عند محمد أيهما قدم أو أخر جاز، خلافا لزفر، كما في السؤر
المشكوك فيه.
68

ثم لم يذكر محمد تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف في ظاهر
الروايات، وإنما ذكر الخلاف في النوادر، فقال: على قول أبي حنيفة إنما
يجوز التوضي بنبيذ التمر إذا كان رقيقا يسيل مثل ماء الزبيب، فأما إذا
كان غليظا مثل الرب، فلا يجوز.
ثم النئ منه إذا كان حلوا رقيقا لا يشكل أنه يجوز الوضوء به.
وإن كان مرا لا يشكل أنه لا يجوز لأنه مسكر.
وأما إذا كان مطبوخا أدنى طبخه وكان رقيقا، ذكر في الكتاب عن
الكرخي أنه قال: يجوز التوضي به، حلوا كان أو مسكرا.
وعن أبي طاهر الدباس أنه قال: لا يجوز التوضي بالمطبوخ منه
حلوا كان أو مسكرا، وهذا القول أصح.
وأما سائر الأنبذة: فلا يجوز التوضي بها عند عامة العلماء.
وقال الأوزاعي وغيره: يجوز، استدلالا بنبيذ التمر.
والصحيح قول العامة، لان القياس أن لا يجوز التوضي به، لأنه
ليس بماء مطلق، ولهذا لا يجوز التوضي به إذا قدر على الماء المطلق،
وإنما جوز أبو حنيفة التوضي به بالحديث، وأنه ورد في نبيذ التمر، فبقي
الباقي على أصل القياس.
ومنها: الفرك والحث بعد الجفاف في بعض الأنجاس في بعض
المحال، فنقول:
69

لا خلاف أن المني إذا أصاب الثوب وجف، فإنه يطهر بالفرك،
استحسانا، وفي القياس لا يطهر.
فأما إذا كان رطبا، فلا يطهر إلا بالغسل.
وأصله حديث رسول الله (ص): أنه قال لعائشة رضي الله عنها:
إذا رأيت المني في ثوبك إن كان رطبا فاغسليه، وإن كان يابسا
فافركيه.
وأما إذا كان على البدن وجف. هل يطهر بالفرك؟
روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر.
وذكر الكرخي وقال بأنه يطهر، لان النص الوارد في الثوب، يكون
واردا في البدن: بطريق الأولى، لأنه أقل تشربا من الثوب.
وأما سائر النجاسات إذا أصابت الثوب والبدن ونحوهما فلا تزول
إلا بالغسل، بلا خلاف، كيفما كانت يابسة أو رطبة لها جرم أو سائلة.
فأما إذا أصابت الخف والنعل ونحوهما: فإن كانت رطبة لا تزول إلا
بالغسل.
وإن كانت يابسة، فإن كانت لها جرم كثيف، مثل السرقين
والعذرة، والدم الغليظ والغائط، والمني، يطهر بالحت، وإن لم يكن لها
جرم كثيف، نحو البول والخمر والماء النجس، لم يطهر إلا بالغسل
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا يطهر بالفرك، وهو
أحد قولي الشافعي، إلا في المني: فإنه روي عن محمد أنه قال في المني،
إذا يبس: يطهر بالفرك ههنا كما في الثوب بطريق الأولى.
وأما إذا أصابت النجاسة شيئا صلبا صقيلا، كالسيف والمرآة
ونحوهما، فما دامت رطبة، لا يطهر إلا بالغسل، فإن جفت، أو جففت
70

بالمسح، بالتراب، يطهر بالحت، لأنه لم يدخل في أجزائه شئ من
الرطوبة، وظاهره يطهر بالمسح.
وأما الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت وذهب أثرها، جازت الصلاة
عليها، عندنا - خلافا لزفر والشافعي.
والصحيح قولنا لان معظم النجاسة قد زال، فيجعل اليسير عفوا
في حق جواز الصلاة.
وأما التيمم على هذا التراب في ظاهر الرواية: لا يجوز، لأن النجاسة
اليسيرة جعلت عفوا في حق جواز الصلاة، لا في حق الطهارة
به، كما في الماء.
وفي رواية: يجوز التيمم عليها.
ومنها: الدباغ، والذكاة:
أما الدباغ، فتطهير في الجلود كلها، إلا في جلد الانسان والخنزير،
عند عامة العلماء.
وقال مالك: جلد الميتة لا يطهر بالدباغ لكنه يجوز استعماله في
الجامد، دون المائع، بأن يجعل جرابا للحبوب، دون السمن والدبس
والماء.
وقال عامة أصحاب الحديث: لا يطهر إلا جلد ما يؤكل لحمه.
وقال الشافعي مثل قولنا، إلا في جلد الكلب لأنه نجس العين،
عنده كالخنزير.
والصحيح قولنا، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: أيما
إهاب دبغ فقد طهر، كالخمر تخلل فتحل ولما ذكر أن نجاسة الميتة لها
71

فيها من الرطوبات، والدم السائل، وأنها تزول بالدباغ، فيجب أن
تطهر، كالثوب النجس إذا غسل.
ثم قوله: إلا جلد الخنزير والانسان جواب ظاهر قول أصحابنا.
وروي عن أبي يوسف أن الجلود كلها تطهر بالدباغ.
ومشايخنا قالوا: أما الخنزير فهو نجس العين، لا باعتبار ما فيه من
الرطوبات والدم، فكان وجود الدباغ في حقه كالعدم، وأما جلد الآدمي
إذا دبغ فاندبغ، فإنه يجب أن يطهر على الحقيقة، لأنه ليس بنجس
العين، ولكن لا يجوز الانتفاع به لحرمته.
أما الذكاة: فنقول: الحيوان إذا ذبح: إن كان مأكول اللحم، يطهر
بجميع أجزائه إلا الدم.
وإن كان غير مأكول اللحم فما يطهر من الميتة، نحو الشعر وأمثاله،
يطهر منه، وما لا يطهر من الميتة، نحو اللحم والشحم والجلد، وهل
يطهر بالذكاة أم لا؟:
على قول الشافعي: لا يطهر.
وأما عندنا فقد ذكر الكرخي وقال: كل حيوان يطهر جلده بالدباغ،
يطهر جلده بالذكاة فهذا يدل على أن جميع أجزائه تطهر.
وقال بعض مشايخنا وبعض مشايخ بلخ: إن كل حيوان يطهر جلده
بالدباغ، يطهر جلده بالذكاة، فأما اللحم والشحم ونحوهما فلا يطهر
بالذكاة.
والصحيح هو الأول، لان الذكاة أقيمت مقام زوال الدم المسفوح
كله، ونجاسة الحيوان لأجل الدم والرطوبات التي لا تخلو أجزاؤه عنها.
ومنها - تطهير البئر، وذلك باستخراج الواقع فيه، ونزح ما وجب
72

من عدد الدلاء، أو نزح جميع الماء.
عرفنا ذلك بإجماع الصحابة.
ثم إذا وجب نزح جميع الماء من البئر، ينبغي أن يسد منابع الماء
وينزح ما فيها من الماء النجس. وإن كان لا يمكن سد منابعه لغلبة الماء،
فإنه ينزح جميع الماء بطريق الحزر والاجتهاد.
ولم يذكر في ظاهر الرواية كم ينزح عند غلبة الماء. وروي عن أبي
حنيفة في غير رواية الأصول أنه ينزح مائة دلو، وفي رواية مائتا دلو. وعن
محمد أنه ينزح مائتا دلو أو ثلاثمائة دلو. وقد تكلم المشايخ فيه. والأوفق ما
روي عن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام أنه قال: يؤتى برجلين لهما
بصارة بالماء، ثم ينزح مقدار ما حكما به، لان ما يعرف بالاجتهاد يجب
أن يرجع فيه إلى أهل الاجتهاد في ذلك الباب.
واختلف المشايخ في الدلو الذي ينزح به الماء النجس من البئر: قال
بعضهم: يعتبر في كل بئر دلوها، صغيرا كان أو كبيرا. وروى الحسن
عن أبي حنيفة أنه يعتبر دلو يسع قدر صاع. وقيل: المعتبر هو الدلو
المتوسط بين الصغير والكبير.
وأما حكم طهارة الدلو والرشاء:
فقد روي عن أبي يوسف أنه سئل عن الدلو الذي ينزح به الماء
النجس من البئر أيغسل؟ قال: لا، بل يطهره ما يطهر البئر. وعن
الحسن بن زياد أنه قال: إذا طهرت البئر يطهر الدلو والرشاء، كما يطهر
طين البئر، والله أعلم.
ومنها: تطهير الحوض الصغير إذا تنجس:
واختلف المشايخ فيه:
73

قال أبو بكر الأعمش: إذا دخل الماء فيه وخرج منه مقدار ما كان
فيه ثلاث مرات، فإنه يطهر، ويصير ذلك بمنزلة الغسل له ثلاثا.
وقال أبو جعفر الهنداوي رحمه الله: إذا دخل فيه الماء الطاهر،
وخرج بعضه يحكم بطهارته، لأنه صار ماء جاريا فلم يستيقن ببقاء
النجس فيه - وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
وقيل: إذا خرج منه مقدار الماء النجس، يطهر، كالبئر إذا
تنجست: تطهر بنزح ما فيها من الماء.
وعلى هذا أيضا الجواب في حوض الحمام أو الأواني إذا تنجست.
وأما بيان طريق التطهير بالغسل - فنقول:
لا خلاف أنه يطهر النجس بالغسل في الماء الجاري.
وكذلك بالغسل بصب الماء عليه.
فأما الغسل، في الأواني، هل يطهره أم لا؟
على قول أبي حنيفة ومحمد: يطهر.
وعلى قول أبي يوسف في البدن لا يطهره رواية واحدة، وفي الثوب
عنه روايتان، والمسألة مع الفروع مذكورة في الجامع الكبير.
وأما شرائط التطهير بالماء:
فمنها - العدد في نجاسة غير مرئية:
وبيان ذلك أنه لا خلاف أن النجاسة الحكمية، وهي الحدث الأكبر
والأصغر، يزول بالغسل مرة، ولا يشترط فيه العدد.
وأما النجاسة الحقيقية فينظر:
إن كانت غير مرئية، مثل البول ونحوه، ذكر في ظاهر الرواية أنها لا
74

تزول إلا بالغسل ثلاثا.
وقال الشافعي: تطهر بالغسل مرة كما في الحدث، إلا في ولوغ
الكلب فإنه لا يطهر إلا بالغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
والصحيح قولنا، لما روينا عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا
استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمسن يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا،
فإنه لا يدري أين باتت يده أمره بالغسل ثلاثا عند توهم النجاسة،
فلان يجب عند التحقق أولى.
ثم التقدير عندنا بالثلاث ليس بلازم، بل هو مفوض إلى اجتهاده،
فإن كان غالب ظنه أنها تزول بما دون الثلاث، يحكم بطهارته.
وإن كانت النجاسة مرئية فطهارتها بزوال عينها فإن بقي بعد
زوال العين أثر لا يزول بالغسل، فلا بأس به، لما روي في الحديث عن
النبي عليه السلام أنه قال لتلك المرأة: حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه
بالماء، ولا يضرك أثره.
ومن شرائط التطهير أيضا: العصر فيما يحتمل أو ما يقوم مقامه فيما
لا يحتمله، من المحل الذي يتسرب فيه النجس:
وبيان ذلك أن المحل الذي تنجس إما إن كان شيئا لا يتشرب فيه
أجزاء النجس، مثل الأواني المتخذة من الحجر والخزف والنعل ونحو
ذلك، أو كان شيئا يتشرب فيه شئ كثير كالثياب واللبود والبسط.
فإن كان مما لا يتشرب، فإنه يطهر بما ذكرنا، من زوال العين أو
العدد، وبإكفاء الماء النجس من الاناء في كل مرة.
وإن كان شيئا يتشرب فيه شئ قليل، فكذلك، لأن الماء يستخرج
ذلك القليل، فيحكم بطهارته.
75

وإن كان شيئا يتشرب فيه شئ كثير ينظر:
إن كان مما يمكن عصره، كالثوب ونحوه، فإن طهارته بالغسل ثلاثا
والعصر في كل مرة، لان المتشرب فيه كثير، فلا يخرج إلا بالعصر، فلا
يتم الغسل بدونه.
وإن كان مما لا يمكن عصره، كالحصير المتخذ من البردي ونحوه
فإن علم أنه لم يتشرب فيه، بل أصاب ظاهره: فإنه يطهر بالغسل ثلاث
مرات، من غير عصر.
فأما إذا علم أنه تشرب فيه: فقال أبو يوسف: ينقع في الماء ثلاث
مرات، ويجفف في كل مرة، ويقوم التجفيف ثلاثا مقام العصر ثلاثا،
ويحكم بطهارته.
وقال محمد: لا يطهر أبدا.
وعلى هذا الأصل مسائل على الخلاف الذي ذكرنا، مثل الخزف
والحديد إذا تشرب فيه النجس الكثير، والسكين إذا موه بالماء النجس،
والجلد إذا دبغ بالدهن النجس، واللحم إذا طبخ بالماء النجس،
ونحوها.
وأما الأرض إذا أصابتها نجاسة رطبة: فإن كانت الأرض رخوة،
فإنه يصب عليها الماء حتى يتسفل فيها. فإذا تسفل ولم يبق على وجهها
شئ من الماء يحكم بطهارتها، ولا يعتبر فيه العدد، وإنما هو على ما يقع
في غالب ظنه أنها طهرت. والتسفل في الأرض بمنزلة العصر فيما يحتمله.
وعلى قياس ظاهر الرواية: ينبغي أن يصب الماء عليها ثلاث مرات،
ويتسفل في كل مرة.
وإن كانت الأرض صلبة، فإن كانت صعودا، فإنه يحفر في أسفلها
حفيرة ويصب الماء عليها، ويزال عنها إلى الحفيرة، ويكنس الحفيرة.
76

وإن كانت الأرض مستوية، لم يزل الماء عنها، فإنها لا تغسل لأنه
لا فائدة في غسلها.
وقال الشافعي: إذا كوثرت بالماء طهرت.
وهو فاسد لأن الماء النجس باق حقيقة، ولكن ينبغي أن تحفر فيجعل
أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها فيصير التراب الطاهر وجه الأرض، كذا
روي أن أعرابيا بال في المسجد، فأمر النبي عليه السلام بأن يحفر موضع
بوله.
وأما حكم الغسالة - فنقول:
الغسالة نوعان:
أحدهما: غسالة النجاسة الحكمية، وهي الماء المستعمل.
والثاني: غسالة النجاسة الحقيقية.
أما الأول - فنقول: الكلام في الماء المستعمل يقع من ثلاثة أوجه:
أحدها: في صفته أنه طاهر أم نجس.
والثاني: أنه في أي حال يصير مستعملا.
والثالث: بأي سبب يصير مستعملا.
أما الأول فنقول:
ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يجوز التوضي به، ولم يذكر أنه طاهر أم
نجس.
وروى محمد عن أبي حنيفة أنه طاهر غير طهور وبه أخذ محمد
وهو أحد قولي الشافعي.
77

وروى أبو يوسف والحسن بن زياد عنه أنه نجس، إلا أن الحسن
روى أنه نجس نجاسة غليظة، وبه أخذ وروى أبو يوسف أنه نجس
نجاسة خفيفة وبه أخذ.
وقال زفر: إن كان المستعمل غير محدث، فالماء المستعمل طاهر
وطهور، وإن كان محدثا، فالماء المستعمل طاهر غير طهور:
وهو أحد قولي الشافعي.
وقال مالك: إنه طاهر وطهور بكل حال.
ثم مشايخ بلخ حققوا هذا الاختلاف على الوجه الذي ذكرنا.
ومشايخ العراق قالوا: إنه طاهر غير طهور، بلا خلاف بين
أصحابنا.
واختيار المحققين من مشايخنا هو هذا، فإنه هو الأشهر عن أبي
حنيفة - وهو الاقيس، فإنه ماء طاهر لاقى عضوا طاهرا، فحدوث
النجاسة من أين؟ كما في غسل الثوب الطاهر بالماء الطاهر.
ثم على هذا المذهب المختار إذا وقع الماء المستعمل في الماء القليل.
قال بعضهم: لا يجوز التوضي به، وإن قل.
وقال بعضهم: يجوز ما لم يغلب على الماء المطلق، وهذا هو
الصحيح.
وأما بيان حال الاستعمال، وتفسير الماء المستعمل فنقول:
قال بعض مشايخنا: الماء المستعمل ما زايل البدن، واستقر في
مكان.
وذكر في الفتاوى أن الماء إذا زال عن البدن فلا ينجس، ما لم يستقر
78

على الأرض أو في الاناء.
ولكن هذا ليس مذهب أصحابنا، إنما هو مذهب سفيان الثوري.
أما عندنا فما دام الماء على العضو الذي يستعمله فيه، لا يكون مستعملا،
وإذا زايله، يكون مستعملا.
فإن لم يستقر على الأرض أو في الاناء فإنه ذكر في ظاهر الرواية:
رجل نسي مسح الرأس، فأخذ من لحيته ماء ومسح به رأسه: لا يجوز،
وإن لم يوجد الاستقرار على الأرض، وعلى قول سفيان الثوري: يجور،
لأنه لم يستقر على الأرض، وذكر في باب المسح على الخفين، أن من مسح
على خفيه، فبقي في كفه بلل فمسح به رأسه: لا يجوز، وعلل وقال:
لأنه مسح به مرة، وإن لم يستقر على الأرض.
وقالوا فيمن بقيت على رجله لمعة في الوضوء، فبلها بالبلل الذي على
الوجه أو على عضو آخر: لا يجوز، لأنه صار مستعملا، وإن لم يستقر
على الأرض، أو في الاناء، فدل أن المذهب ما قلنا.
وأما سبب صيرورة الماء مستعملا - فنقول:
عند أبي حنيفة وأبي يوسف: يصير الماء مستعملا بأحد أمرين:
بزوال الحدث أو بإقامة القربة.
وعند محمد: يصير مستعملا بإقامة القربة لا غير.
وعند زفر والشافعي: يصير مستعملا بإزالة الحدث لا غير.
إذا ثبت هذا الأصل فنقول:
من توضأ بنية إقامة القربة، نحو الصلوات المعهودة وصلاة الجنازة
79

ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن ونحوها: فإن كان محدثا،
يصير الماء مستعملا بلا خلاف، لوجود زوال الحدث وحصول القربة
جميعا، وإن لم يكن محدثا فعلى قول علماؤنا الثلاثة يصير مستعملا، لأنه
وجد إقامة القربة. وعلى قول زفر والشافعي: لا يصير مستعملا، لأنه لم
يوجد إزالة الحدث.
وعلى هذا الأصل يخرج: من دخل في البئر لطلب الدلو أو
للغسل، وهو جنب أو طاهر، على ما عرف في كتاب الشرحين
والمبسوط.
وأما حكم غسلة النجاسة الحقيقية فنقول:
إذا وقعت في الماء، أو أصابت الثوب أو البدن، ففي حق منع جواز
الصلاة والوضوء، المياه الثلاث على السواء، لان الكل نجس.
فأما في حق تطهير المحل الذي أصابته النجاسة، فالمياه يختلف
حكمها حتى قال بعض مشايخنا: إن الماء الأول وإذا أصاب شيئا يطهر
بالغسل مرتين، والثاني بالغسل مرة. والثالث يطهر بالعصر لا غير.
والصحيح أن الأول يطهر بالغسل ثلاثا والثاني بالغسل مرتين،
والثالث بالغسل مرة، ويكون حكم كل ما في الثوب الثاني مثل حكمه
في الثوب الأول. وهل يجوز الانتفاع بالغسالة في غير الشرب والتطهير؟
ينظر: إن تغير طعمها أو لونها أو ريحها، فإنه يحرم الانتفاع بها
أصلا، ويصير نظير البول، لكون النجس غالبا، وإن لم يتغير وصف
الماء، يجوز الانتفاع به في غير الشرب والتطهير نحو أن يبل به الطين، أو
يسقى الدواب ونحو ذلك.
وعلى هذا الفأرة إذا وقعت في العصير والدهن والخل وماتت فيه
80

فأخرجت فإنه ينجس جميعه، ولكن يجوز الانتفاع به، فيما سوى الاكل،
من دبغ الجلد بالدهن النجس والاستصباح به، ويجوز بيعه.
وإن كان جامدا، فإنه يلقي الفأرة وما حولها، وحكمه حكم
الذائب ويكون الباقي طاهر، بخلاف ودك الميتة فإنه لا يجوز الانتفاع
به أصلا.
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه سئل عن الفأرة تموت في
السمن فقال عليه السلام: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وخلوا
البقية، وإن كان مائعا فاستصبحوا به والله أعلم.
81

باب
المسح على الخفين والجبائر
المسح أنواع ثلاثة: مسح الرأس، ومسح الخف، ومسح الجبائر.
أما أحكام مسح الرأس - فقد ذكرنا.
وأما مسح الخف: فالكلام فيه في خمسة مواضع:
في بيان مشروعيته،
وفي بيان مدة المسح،
وفي بيان شروط جواز المسح ووجوده،
وفي بيان نفس المسح،
وفي بيان حكم سقوطه.
أما الأول - فنقول:
قال عامة العلماء بأن المسح على الخفين مشروع، ويقوم مقام غسل
القدمين في حق المقيم والمسافر جميعا.
وقال بعض الشيعة: بأن المسح غير مشروع، في حق المقيم والمسافر
جميعا.
وقال مالك: مشروع في حق المسافر، دون المقيم.
83

والصحيح قول عامة العلماء، لاجماع الصحابة على ذلك، قولا
وفعلا، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس ثم رجع، فإنه روي عن
عطاء تلميذه أنه قال: كان عبد الله بن عباس خالف الناس في المسح على
الخفين، ولم يمت حتى رجع إلى قول الناس. وإجماع الصحابة حجة
قاطعة.
والثاني - بيان المدة:
اختلف العلماء في أن المسح على الخف مقدر أم لا؟
فعند عامتهم مقدر في حق المقيم بيوم وليلة، وفي حق المسافر بثلاثة
أيام ولياليها.
وقال مالك: غير مقدر.
والصحيح قول العامة، لما روي في الحديث المشهور عن النبي عليه
السلام أنه قال: يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها.
ثم اختلف العلماء في ابتداء مدة المسح، من أي وقت يعتبر،
قال عامة العلماء: يعتبر من وقت الحدث بعد اللبس.
وقال بعضهم: يعتبر من وقت اللبس.
وقال بعضهم: يعتبر من وقت المسح.
بيان ذلك أن من توضأ عند طلوع الفجر، ولبس الخف وصلى
الفجر، فلما طلعت الشمس أحدث، ثم لما زالت الشمس توضأ، ومسح
84

على الخف فعلى قول العامة يعتبر ابتداء المدة من وقت الحدث بعد
اللبس، وهو وقت طلوع الشمس فمتى جاء ذلك الوقت من اليوم الثاني في حق المقيم،
وفي حق المسافر من اليوم الرابع، تمت المدة فلا يمسح
بعد ذلك، ولكن ينزع الخفين، ويغسل القدمين، ثم يبتدئ المسح
بعده.
وعلى قول من اعتبر وقت اللبس: لا يمسح في اليوم الثاني من وقت
طلوع الفجر.
وعلى قول من اعتبر وقت المسح: لا يمسح في اليوم الثاني من وقت
زوال الشمس.
وأما شرائط جواز المسح ووجوده فأنواع:
من ذلك: أن يكون لابس الخفين، أو ما كان في معناهما، على
طهارة كاملة عند الحدث بعد اللبس. ولا يشترط أن يكون على طهارة
كاملة عند اللبس، أو على طهارة أيضا.
وبيانه أن الرجل إذا غسل الرجلين ولبس الخفين، ثم أكمل الوضوء
بعد ذلك قبل الحدث ثم أحدث، جاز له أن يمسح على الخفين.
وعلى قول الشافعي، ليس له أن يمسح ما لم يكمل الوضوء ثم يلبس
الخفين بعد ذلك.
ولهذا قلنا: إذا لبس الخفين وهو محدث ثم توضأ وخاض الماء حتى
دخل الماء خفيه، ثم أحدث، جاز له أن يمسح عليه.
وأجمعوا على أنه إذا لبس الخفين بعد غسل الرجلين، ثم أحدث قبل
أن يكمل الوضوء، ثم توضأ بعد ذلك، ومسح على الخفين، لا يجوز
عندنا، لانعدام الطهارة الكاملة عند الحدث بعد اللبس، وعنده لانعدام
الطهارة الكاملة عند اللبس.
85

ومن شرائطه - الحدث الأصغر فأما الحدث الأكبر، فالمسح فيه غير
مشروع، لان الجواز باعتبار الحرج، ولا حرج في الحدث الأكبر، لان
ذلك يشذ في السفر.
ومن الشرائط - أن يكون لابسا خفا يستر الكعبين فصاعدا وليس به
خرق كثير، لان الشروع ورد بالمسح على الخفين. وما يستر الكعبين
ينطلق عليه اسم الخف وكذا ما يستر الكعبين، وسوى الخف، فهو في
معناه، نحو المكعب الكبير والجرموق، والمثيم وهو نوع من الخف.
وأما المسح على الجوربين فهو على أقسام ثلاثة:
إن كانا مجلدين أو منعلين: جاز المسح بإجماع بين أصحابنا.
وأما إذا كانا غير منعلين: فإن كانا رقيقين بحيث يرى ما تحتهما: لا
يجوز المسح عليهما. وإن كانا ثخينيين، قال أبو حنيفة: لا يجوز المسح
عليهما، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز. وروي عن أبي حنيفة أنه رجع
إلى قولهما في آخر عمره.
وقال الشافعي: لا يجوز المسح على الجوارب، وإن كانت منعلة،
إلا إذا كانت مجلدة إلى الكعبين، فيجوز.
وما قالاه أرفق بالناس، وما قاله أبو حنيفة رحمة الله عليه، أحوط
وأقيس.
ولو لبس الخفين ثم لبس فوقهما الجرموقين من الجلد ينظر إن لبسهما
بعد ما أحدث ووجب المسح على الخفين، فإنه لا يجوز المسح على
الجرموقين، بالاجماع.
فأما إذا لبسهما قبل الحدث، ثم أحدث: فإنه يجوز المسح على
86

الجرموقين عندنا. وعند الشافعي لا يجوز.
وعلى هذا، إذا لبس خفا على خف.
ثم الخف إذا كان به خرق، إن كان يسيرا يجوز المسح عليه، وإن
كان كثيرا لا يجوز وهذا جواب الاستحسان.
والقياس أن يكون اليسر مانعا كالكثير، وهو قول زفر والشافعي.
وقال مالك وسفيان الثوري: إن الخرق، قليله وكثيره لا يمنع،
بعد أن كان ينطلق عليه اسم الخف.
والحد الفاصل بينهما هو قدر ثلاث أصابع الرجل فصاعدا، حتى إذا
كان أقل منه، يجوز المسح عليه.
ثم صفة الخرق المانع أن يكون منفتحا بحيث يظهر ما تحته من
القدم مقدار ثلاثة أصابع. أو يكون منضما، لكن ينفرج عند المشي
ويظهر القدم. فأما إذا كان منضما لا ينفرج ولا يظهر القدم عند المشي،
فإنه لا يمنع وإن كان أكثر من ثلاث أصابع، كذا روى المعلى عن أبي
يوسف عن أبي حنيفة.
ولو كان ينكشف الطهارة، وفي داخله بطانة، من جلد، ولم يظهر
القدم: يجوز المسح عليه.
هذا إذا كان الخرق في موضوع واحد، فإن كان في مواضع مختلفة - ينظر:
إن كان في خف واحد، فإنه يجمع: فإن بلغ مقدار ثلاث أصابع
الرجل يمنع، وإلا فلا وإن كان في خفين، فإنه لا يجمع، كذا ذكر
محمد في الزيادات.
87

وأما بيان نفس المسح - فنقول:
المسح المشروع هو مسح ظاهر الخف، دون أسفله وعقبه، مرة
واحدة، حتى إذا مسح على أسفل الخف، أو على العقب وجانبيه لا
يجوز، وكذا إذا مسح على الساق.
وهو قول الشافعي، المذكور في كتبه. وقال أصحابه: بأنه إذا
مسح على أسفل الخف وحده جاز، ولكن السنة عنده الجمع بين
المسح على ظاهر الخف وأسفله.
وأما السنة عندنا، فأن يمسح على ظاهر خفيه، بكلتا يديه،
ويبتدئ به من قبل الأصابع إلى الساق.
والصحيح قولنا لما روي عن المغيرة بن شعبة أن النبي عليه
السلام توضأ ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه
الأيسر، ومدهما من الأصابع إلى أعلاهما مسحة واحدة، وكأني أنظر إلى
أصابع رسول الله عليه السلام على ظاهر خفيه.
ثم مقدار المفروض عندنا، مقدار ثلاث أصابع اليد على ظاهر
الخف، سواء كان طولا أو عرضا، حتى لو مسح بأصبع أو بأصبعين: لا
يجوز.
وعند الشافعي: إذا مسح مقدار ما يسمى به ماسحا: جاز كما في
مسح الرأس.
وأما بيان حكم سقوطه - فنقول:
إذا أنقضت مدة المسح يسقط ويجب عليه غسل القدمين، دون
88

الوضوء بكماله إن كان متوضئا. وإن كان محدثا يجب ب عليه الوضوء
بكماله.
وكذلك إذا نزع الخفين، وكذلك إذا نزع أحدهما: ينقض المسح،
وعليه غسل القدمين، حتى لا يكون جامعا بين البدل والمبدل.
ولو أخرج بعض القدم، أو خرج بغير صنعه.
روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا أخرج أكثر العقب من الخف،
انتقض مسحه وإلا فلا.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: إذا أخرج أكثر القدم ينتقض
مسحه وإلا فلا.
وروى عن محمد، أنه قال: إذا بقي في الخف قدر ما يجوز المسح
عليه جاز، وإلا فلا.
وأما المسح على الجبائر: فالكلام فيه في مواضع:
أحدها: أن الغسل في أي وقت يسقط، ويشرع المسح على الجبائر.
والثاني: أن المسح على الجبائر هل هو واجب في الجملة، أم لا؟
والثالث: فيما يبطل المسح ويسقطه.
والرابع: في بيان الفصول التي خالف المسح على الجبائر فيها المسح
على الخفين.
أما الأول - فنقول:
إن كان الغسل مما يضر بالعضو المنكسر، والجرح، والقرح، فإنه
يسقط، ويشرع المسح على الجبائر.
89

وكذا إذا كان لا يضره، ولكن في نزع الجبائر خوف زيادة العلة، أو
زيادة الضرر.
وأصل ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: كسر زنداي
يوم أحد، فسقط اللواء من يدي، فقال عليه السلام: اجعلوها في
يساره، فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة فقلت: يا رسول
الله ما أصنع بالجبائر؟ فقال: امسح عليها.
هذا إذا مسح على الجبائر والخرق التي فوق الجراحة، فأما إذا كانت
زائدة على رأس الجرح، هل يجوز المسح على الخرقة الزائدة؟ وكذلك إذا
اقتصد وربط عليه رباطا؟ ينظر:
إن كان حل الخرقة، وغسل ما تحتها، مما يضر بالجرح والقرح،
فإنه يجوز المسح على الخرقة الزائدة، كما يجوز المسح على الخرقة التي على
موضع الجراح.
وإن كان الحل مما لا يضر بالجرح، ولا يضره المسح أيضا، فإنه لا
يجزئه المسح على الجبائر، بل عليه أن ينزع الجبائر، ويحل الخرق،
ويغسل ما حول الجراح، ويمسح عليها لا على الخرقة.
وإن كان يضره المسح، ولكن لا يضره الحل: فإنه يمسح على الخرقة
التي على الجراح، ويغسل حواليها، وما تحت الخرق الزائدة.
كذا ذكره الحسن بن زياد مفسرا، لأن جواز المسح بطريق
الضرورة فيتقدر بقدرها.
وأما بيان أن المسح على الجبائر واجب، أم لا فنقول:
ذكر في ظاهر الرواية وقال: إذا ترك المسح على الجبائر، وذلك
يضره: جاز عند أبي حنيفة، وقالا: إذا كان لا يضره، لا يجزئه،
فأجاب كل واحد منهما في غير ما أجاب الاخر.
90

وبعض مشايخنا قالوا: إن قول أبي حنيفة مثل قولهما: في أن المسح
على الجبائر واجب عند تعذر الغسل، وإنما يبسط إذا كان المسح يضره لما
روينا من الحديث: أن النبي عليه السلام أمر بالمسح على الجبائر، وظاهر
الامر لوجوب العمل، إلا أنه إذا كان يخاف الضرر في المسح، يسقط لان
الغسل يسقط عند خوف زيادة الضرر، فالمسح أولى أن يسقط.
وبعض مشايخنا قالوا بأن المسألة على الخلاف: على قول أبي حنيفة:
المسح على الجبائر مستحب، وليس بواجب وعندهما: واجب.
وكذا ذكر هذا في الكتاب، ولكن القول الأول أصح.
ولو ترك المسح على بعض الجبائر، ومسح على البعض، لم يذكر هذا
في ظاهر الرواية.
وروي عن الحسن بن زياد، أنه قال: إن مسح على الأكثر جاز،
وإلا فلا.
وأما بيان ما يبطل المسح - فنقول:
إذا سقطت الجبائر، بعدما مسح عليها، فلا يخلو: إما أن تسقط
عن برء أو لا عن برء، ولا يخلو: إما أن سقطت في حالة الصلاة أو
خارج الصلاة.
أما إذا سقطت لا عن برء: فإن كان في الصلاة، يمضي عليها،
وإن كان خارج الصلاة، فإنه يضع الجبائر عليها، ولا يعيد المسح عليها،
لان سقوط الغسل بسبب العذر، وهو قائم، وإنما الواجب هو المسح،
وهو قائم، وإن زال الممسوح الضرر، وكما لو مسح على رأسه ثم حلقه.
وأما إذا سقطت عن برء: فإن كان خارج الصلاة، إن لم يحدث بعد
المسح، يغسل موضع الجبائر لا غير، وبطل المسح، لأنه صار قادرا على
الأصل، فيبطل حكم البدل، فيجب عليه غسله. أما غسل سائر
91

الأعضاء فقائم، ولم يوجد ما يرفعه، وهو الحدث.
وإن كان في الصلاة يستقبل لأنه قدر على الأصل قبل حصول
المقصود بالبدل.
وهل يجب عليه إعادة ما صلى بالمسح إذا برأت الجراحة؟
فعندنا لا يجب.
وعلى قول الشافعي: يجب الإعادة على من جبر على الجرح والقرح،
قولا واحدا وله في صاحب الجبائر على العضو المنكسر قولان.
والصحيح مذهبنا لما روينا من حديث علي: أن النبي عليه السلام
لم يأمره بإعادة الصلوات، بعد البرء مع وقوع الحاجة إلى البيان.
وأما بيان الفرق بين المسح على الجبائر والمسح على الخفين فمن وجوه:
أحدها: إذا وضع الجبائر، وهو محدث ثم توضأ، جاز له أن
يمسح عليها، وإذا لبس الخفين وهو محدث ثم توضأ ليس له أن
يمسح.
والفرق أن المسح على الجبائر، كالغسل لما تحتها، فيكون قائما
مقامه، وقد وجد.
ثم من شرط جواز المسح، أن يكون ظاهرا عند الحدث بعد
اللبس حتى يكون الخف مانعا للحدث لا رافعا.
والثاني: أن المسح على الجبائر غير مؤقت بالأيام، ولكن مؤقت إلى
وقت وجود البرء حتى ينتقض بوجود البرء، وفي حق العضو الذي عليه
الجبائر، والمسح على الخفين مؤقت بالمدة المعلومة.
والثالث: أن سقوط الجبائر، لا عن برء ولا ينقض المسح - حتى
92

إن عليه أن يضعها مرة أخرى ويصلي. وفي المسح على الخفين، إذا سقط
يجب عليه غسل الرجلين، والله أعلم.
93

كتاب
الصلاة
اعلم بأن الله تعالى فرض خمس صلوات، في اليوم والليلة.
عرفت فرضيتها بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة:
أما الكتاب: فقوله تعالى: * (إنه الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
موقوتا) * أي فرضا مؤقتا. وقال تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون
وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين
تظهرون) * فهذا بيان الصلوات الخمس.
وأما السنة: فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في خطبة حجة
الوداع: أيها الناس اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا
شهركم، وحجوا بيت ربكم، وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم،
تدخلوا جنة ربكم.
وعليه إجماع الأمة.
ثم للصلاة فرائض، وواجبات، وسنن، وآداب.
أما الفراض فاثنتا عشر، ستة من الشرائط وستة من نفس الصلاة.
فأما الستة التي من الشرائط - فالطهارة بأنواعها، وستر العورة،
95

واستقبال القبلة، والوقت، والنية، والتحريمة، وهي تكبيرة الافتتاح.
وقال الشافعي بأن التحريمة ركن، وليست بشرط.
وفائدة الخلاف، أن من أحرم للفرض، ثم أراد أن يؤدي بها
التطوع: جاز عندنا، كما لو تطهر للفرض جاز له أن يصلي به التطوع،
وعند الشافعي لا يجوز بأن يحرم للفرض، ويفرغ منه، ثم يشرع في
التطوع قبل السلام، من غير تحريمة جديدة يصير شارعا في التطوع،
عندنا، وعند الشافعي: لا يجوز وعليه مسائل.
وأما الستة التي هي من نفس الصلاة: فالقيام، والقراءة، والركوع،
والسجود، والانتقال من ركن إلى ركن، والقعدة الأخيرة، إلا أن
الأربعة الأولى، من الأركان الأصلية، دون الاثنين الباقيين، حتى إن من
حلف أن لا يصلي، فقيد الركعة بالسجدة: يحنث، وإن لم توجد
القعدة، ولو أتى بما دون الركعة: لا يحنث. ولكن الاثنتين الباقيتين من
فروض الصلاة أيضا، حتى لا تجوز الصلاة بدونهما، ويشترط لهما ما
يشترط للأركان.
وأما واجبات الصلاة فثمانية: قراءة الفاتحة، والسورة في الأوليين
فأما مقدار المفروض، فآية واحدة عند أبي حنيفة. وعندهما آية طويلة، أو
ثلاث آيات قصيرة، على ما نذكر.
منها: الجهر بالقراءة فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، في الصلاة التي
تقام بالجماعة.
ومنها: تعديل الأركان عند أبي حنيفة على قول بعض المشايخ، وعند
بعضهم ستة.
ومنها: مراعاة الترتيب، فيما شرع مكررا من الأركان، وهو السجدة
الثانية إذ هي واجبة وليست بفرض، حتى إن من ترك السجدة الثانية من
96

الركعة الأولى ساهيا، وقام وصلى تمام الصلاة، ثم تذكر، فإن عليه أن
يسجد السجدة المتروكة، ويسجد للسهو بترك الترتيب.
ومنها: القعدة الأولى، وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة. والقنوت
في الوتر، وتكبيرات العيدين.
وأما السنن والآداب فكثيرة نذكرها في مواضعها.
والحد الفاصل بينهما أن كل ما فعله رسول الله عليه السلام على طريق
المواظبة ولم يتركه إلا لعذر، فهو سنة، نحو الثناء، والقعود، وتكبيرات
الركوع والسجود، ونحوها، وكل ما فعله رسول الله عليه السلام مرة أو
مرتين، ولم يواظب عليه، فهو من الآداب، كزيادة التسبيحات في
الركوع والسجود على الثلاثة، ونحوها على ما يعرف في مواضعها إن
شاء الله تعالى - والله أعلم.
97

باب
مواقيت الصلاة
الكلام في هذا الباب يقع في خمسة مواضع:
في بيان أصل أوقات الصلوات المفروضة،
وفي بيان الأوقات المستحبة منها،
وفي بيان أوقات الصلوات الواجبة،
وفي بيان أوقات السنن المؤقتة،
وفي بيان الأوقات التي يكره فيها الصلاة.
أما بيان أوقات الصلاة المفروضة - فنقول:
أول وقت صلاة الفجر حين يطلع الفجر الثاني، وآخره حين تطلع
الشمس، وإنما قيد بالفجر الثاني، لان الفجر فجران:
الأول: وهو الذي يبدو في ناحية من السماء، كذنب السرحان
طولا، ثم ينكتم، سمي فجرا كاذبا لأنه يبدو نوره، ثم يخلف ويعقبه
الظلام، وهذا الفجر مما لا يحرم به الطعام والشراب على الصائمين، ولا
يخرج به وقت العشاء ولا يدخل وقت صلاة الفجر.
وأما الفجر الثاني فهو المعترض في الأفق: لا يزال نوره حتى
تطلع الشمس: سمي فجرا صادقا لأنه إذا بدا نوره ينتشر في الأفق، ولم
يخلف، وهذا الفجر مما يحرم به الطعام والشراب على الصائمين ويخرج به
99

وقت العشاء ويدخل وقت صلاة الفجر.
وهكذا روى ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال: الفجر
فجران: فجر مستطيل يحل به الطعام، وتحرم فيه الصلاة، وفجر مستطير
يحرم به الطعام وتحل فيه الصلاة.
وأما أول وقت الظهر: فحين زالت الشمس بلا خلاف.
وأما آخره فلم يذكر في ظاهر الرواية وقد اختلفت الروايات فيه عن
أبي حنيفة.
روى محمد عنه: إذا صار ظل كل شئ مثليه، سوى فئ الزوال:
يخرج وقت الظهر، ويدخل وقت العصر، وبه أخذ أبو حنيفة.
وروى الحسن بن زياد عنه أنه قال: إذا صار ظل كل شئ مثله،
سوى في الزوال يخرج وقت الظهر، ويدخل وقت العصر، وبه أخذ أبو
يوسف ومحمد وزفر والشافعي.
وروى أسد بن عمرو عنه أنه قال: إذا صار ظل كل شئ مثله،
سوى فئ الزوال، يخرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير
ظل كل شئ مثليه، فيكون بين وقت الظهر والعصر وقت مهمل، كما
بين الظهر والفجر.
وأما أول وقت العصر فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في آخر وقت
الظهر.
ثم لا بد من معرفة زوال الشمس، ومعرفة فئ الزوال، حتى يعرف
وقت الظهر والعصر، فينبغي أن يغرز عودا مستويا، في أرض مستوية،
100

قبل الزوال: فما دام طول العود على النقصان، فالشمس في الانقطاع
ولم تزل بعد. وإن امتنع الظل عن النقصان، ولم يأخذ في الزيادة،
فالشمس في الاستواء، وهو حال قيام الظهيرة، وإذا أخذ الظل في الزيادة
فالشمس قد زالت وهي حال الزوال.
فأما معرفة فئ الزوال فينبغي أن يخط على رأس موضع الزيادة فيكون
من رأس الخط إلى العود فئ الزوال، فإذا صار العود مثليه من رأس
الخط إلا من العود: خرج وقت الظهر، ودخل وقت العصر، عند أبي
حنيفة، وإذا صار ظل العود مثله من رأس الخط خرج وقت الظهر
ودخل وقت العصر، عندهم.
وأما آخر وقت العصر فحين تغرب الشمس عندنا.
وللشافعي فيه قولان في قول: إذا صار ظل كل شئ مثليه،
يخرج وقت العصر، ولا يدخل وقت المغرب حتى تغرب الشمس فيكون
بينهما وقت مهمل عنده على هذا القول.
وفي قول: إذا صار ظل كل شئ مثليه، يخرج وقت المستحب
ويبقى أصل الوقت إلى غروب الشمس.
وأما أول وقت المغرب فحين تغرب الشمس بلا خلاف.
واختلفوا في آخره: قال علماؤنا رحمهم الله: حين يغيب الشفق.
وقال الشافعي: إذا مضى من الوقت مقدار ما يتطهر الانسان
ويؤذن، ويقيم، ويصلي المغرب ثلاث ركعات، يخرج وقت المغرب،
حتى إذا صلى المغرب، بعد ذلك، يكون قضاء لا أداء.
وأما أول وقت العشاء فحين يغيب الشفق بلا خلاف.
واختلفوا في تفسير الشفق:
101

قال أبو حنيفة: هو البياض.
وقال أبو يوسف ومحمد الشافعي: هو الحمرة فمتى غابت الحمرة،
وارتفع البياض، وانتشر الظلام في الأفق: يدخل وقت العشاء، ويخرج
وقت المغرب عندهم.
وإذا غاب البياض، وبدأ الظلام في الأفق، يخرج وقت المغرب
ويدخل وقت العشاء عنده.
وأما آخر وقت العشاء، فحين يطلع الفجر الصادق عندنا.
وعند الشافعي قولان: في قول حين يمضي ثلث الليل. وفي قول
حين يمضي النصف.
وأما بيان الأوقات المستحبة - فنقول:
لا يخلو إما إن كانت السماء مصحية أو متغيمة.
فإن كانت مصحية ففي الفجر: المستحب هو آخر الوقت، ويكون
الاسفار بصلاة الفجر أفضل من التغليس في السفر والحضر، والصيف
والشتاء، وفي حق جميع الناس إلا في حق الحاج بمزدلفة: فإن التغليس
بها أفضل في حقهم.
وكان اختيار الطحاوي: أن يبدأ بالتغليس، فيبطل القراءة ثم يختم
بالاسفار.
وفي الظهر: المستحب هو آخر الوقت في الصيف، وأوله في الشتاء.
وفي العصر: المستحب هو التأخير، ما دامت الشمس بيضاء نقية،
في الشتاء والصيف.
وفي المغرب: المستحب أول الوقت، ويكون تعجيله أفضل.
وتأخيره إلى وقت اشتباك النجوم مكروه.
102

وفي العشاء: المستحب هو التأخير إلى ثلث الليل في الشتاء، ويكره
التأخير إلى نصف الليل، وذكر الكرخي: تأخير العشاء ما لم يتجاوز ثلث
الليل، أفضل وكذا ذكر الطحاوي.
وفي الصيف التعجيل أفضل.
وهذا كله مذهب علماؤنا. وقال الشافعي: المستحب هو التعجيل في
الصلوات كلها.
وأما إذا كانت السماء متغيمة، فإن المستحب أن يؤخر الفجر،
والظهر، والمغرب، ويعجل العصر والعشاء. فكل صلاة في أول اسمها
عين تعجل. وما لم يكن في أول اسمها عين تؤخر.
وأما بيان أوقات الصلوات الواجبة، وما هو شبيه بها:
فمنها وقت الوتر، وهو على قول أبي حنيفة وقت صلاة العشاء إلا
أنه شرع مرتبا عليها، كوقت قضاء الفائتة: هو وقت أدا الوقتية، لكنه
شرع مرتبا عليه فلا يجوز أداؤه قبل صلاة العشاء مع أنه وقته، لفوت
شرطه وهو الترتيب.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وقته بعد أداء صلاة
العشاء.
وهذا بناء على أن الوتر واجب عنده، وعندهم سنة.
ثم الوقت المستحب للوتر لم يذكر في ظاهر الرواية.
ومشايخنا قالوا: إن طمع أنه يستيقظ في آخر الليل غالبا، فالأفضل
أن يؤخر إلى وقت السحر. وإن خشي أن لا يستيقظ فالأفضل أن يوتر
بعد العشاء، في الوقت المستحب.
103

وإذا ترك الوتر عن وقته حتى طلع الفجر، يجب عليه القضاء عند
أصحابنا.
وعلى قول الشافعي: لا يجب لأنه سنة.
وأما على قول أبي حنيفة فلا يشكل، لأنه واجب، وإنما المشكل على
قولهما، فإنه سنة عندهما، فكان ينبغي أن لا يقضي، ولكن هذا هو
القياس عندهما - وكذا روي عنهما في غير رواية الأصول. وجواب ظاهر
الرواية هو الاستحسان وتركا القياس بالأثر، وهو ما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: من نام عن وتر أو نسيه فليصله إذا ذكره ولم يفصل
بين ما إذا تذكر في الوقت أو بعده.
من هذا النوع وقت صلاة الجنازة: وهو وقت حضور الجنازة،
حتى إذا حضرت الجنازة وقت الغروب فأداها فيه، يجوز من غير
كراهة لأنها وجبت في هذا الوقت ناقصة وبمنزلة أداء العصر في الوقت
المكروه.
وكذا وقت وجوب سجدة التلاوة، وقت التلاوة، حتى لو تلا آية
السجدة في وقت غير مكروه، وسجدها في وقت مكروه، لا يجوز لأنها
وجبت كاملة فلا تؤدى ناقصة.
ولا تلا في وقت مكروه، وسجدها فيه، جاز من غير كراهة.
ومن هذا النوع - وقت صلاة العيدين، وهو من وقت ابيضاض الشمس
إلى وقت الزوال، فإن صلاة العيدين واجبة على ما تذكر.
وأما أوقات السنن المؤقتة:
فوقت بعض السنن بعد أداء الفرائض، ووقت بعضها قبل الفريضة
في وقتها.
104

فمتى أدى السنن على الوجه الذي شرع، يكون سنة، وإلا فيكون
تطوعا مطلقا، على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
وأما بيان الأوقات التي يكره فيها الصلاة فنقول:
الأوقات المكروهة اثنا عشر وقتا: فثلاثة منها يكره الصلاة فيها لمعنى
في الوقت، والباقي لمعنى غير الوقت.
أما الثلاثة التي يكره الصلاة فيها لمعنى يتصل بالوقت:
فيما بعد طلوع الشمس إلى أن ترتفع وتبيض. ووقت استواء الشمس
حتى تزول، ووقت احمرار الشمس واصفرارها حتى تغرب.
وفي هذه الأوقات الثلاثة، يكره أداء التطوع المبتدأ الذي لا سبب
له، في جميع الأزمان، وفي جميع الأمكنة حتى لو شرع فيه فالأفضل أن
يقطع، ولكن أو أدى جاز مع الكراهة.
وكذا التطوع الذي له سبب، مثل ركعتي الطواف، وركعتي تحية
المسجد، ونحوهما.
وكذا يكره أداء الفرض فيه، وهو صلاة العصر عند تغير الشمس.
ولا يتصور أداء الفرض وقت الاستواء قبل الزوال، ووقت الطلوع،
لأنه لا فرض فيهما.
ولكن مع هذا أداء العصر في الوقت المكروه، جائز مع الكراهة،
بالحديث، فالأداء فيه مع الكراهة أولى، لأنها تفوت عن الوقت أصلا.
وكذا يكره أداء الواجبات في هذه الأوقات، لكن يجوز مع الكراهة،
وذلك نحو من قرأ آية السجدة فيها، أو حضرت الجنازة فيها، أو أوجب
على نفسه الصلاة فيها فأدى السجدة والصلاة يجوز مع الكراهة.
لكن الأفضل في صلاة الجنازة أن يؤديها ولا يؤخرها، لقوله عليه
105

السلام: ثلاث لا يؤخرون: الجنازة إذا حضرت، وفي سجدة
التلاوة، والصلاة المنذورة الأفضل أن يقطع ويؤديها في وقت آخر، لان
الوقت في حقها ليس بسبب الوجوب، ولا بشرط، بل الأداء وجب
مطلقا، فلا يفوت عن الوقت.
فأما قضاء الفرائض والصلاة المنذورة الفائتة وقضاء الواجبات
الفائتة، عن أوقاتها، كسجدة التلاوة التي وجبت بالتلاوة في وقت غير
مكروه، أو الوتر الذي فات عن الوقت، فإنه لا يجوز في هذه الأوقات.
وهذا كله مذهب علماؤنا.
وقال الشافعي: يجوز ذلك كله من غير كراهة، إلا التطوع المبتدأ
الذي لا سبب له فإنه مكروه فيها، إلا بمكة في جميع الأزمان أو في يوم
الجمعة في جميع الأمكنة فإنه غير مكروه.
والصحيح مذهبنا لما روي عن عقبة بن عامر الجهني أنه قال: ثلاث
ساعات كان رسول الله آ ينهانا أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا:
إذا طلعت الشمس حتى ترتفع، ونصف النهار، وإذا تضيفت الشمس
للغروب، من غير فصل بين التطوع المبتدأ وغيره، فهو على العموم.
وأما الأوقات الاخر التي تكره الصلاة فيها لمعنى في غير الوقت:
فمنها بعد طلوع الفجر إلى أن يصلي الفجر، وبعد صلاة الفجر
إلى أن تطلع الشمس. وبعد صلاة العصر إلى أن تتغير الشمس
للغروب: فلا خلاف أن أداء التطوع المبتدأ مكروه فيها.
ولا خلاف أن قضاء الفرائض، والواجبات يجوز فيها، من غير
كراهة.
106

وأما التطوعات التي لها أسباب، مثل ركعتي الطواف، وركعتي
التحية، وركعتي الفجر بعدما صلى الفجر، ولم يؤدهما لعذر أو لغير
عذر، فيكره أداؤها عندنا.
وعند الشافعي: لا يكره.
وأجمعوا أنه لا يكره أداء ركعتي الفجر قبل صلاة الفجر.
وكذا أداء الواجبات، في هذه الأوقات من سجدة التلاوة، وصلاة
الجنازة: يجوز من غير كراهة.
والصحيح مذهبنا، لما روي عن عبد الله بن عباس أنه قال: شهد
عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله عليه
السلام قال: لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تشرق الشمس، ولا
صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ليس في الحديث فصل
إلا ما خص بالاجماع.
وأما أداء الواجب الذي وجب بصنع العبد، من النذر وقضاء
التطوع الذي أفسده، ونحو ذلك فيها، فإنه يكره في ظاهر الرواية.
وعن أبي يوسف أنه لا يكره، لأنه واجب بسبب النذر كسجدة
التلاوة.
والصحيح جواب ظاهر الرواية، لان المنذور عينه ليس بواجب،
وكذا عين الصلاة، لا يجب بالشروع.
ومنها: ما بعد الغروب: يكره النفل فيه، وغيره، لان فيه تأخير
المغرب عن وقته.
ومنها: ما بعد نصف الليل: يكره فيه أداء العشاء لا غير، كي لا
يؤخر العشاء إلى النصف، لما فيه من تقليل الجماعة.
107

ومنها: وقت الخطبة يوم الجمعة: يكره فيه الصلاة، لأنه سبب
لترك استماع الخطبة.
ومنها: وقت خروج الامام للخطبة، قبل أن يشتغل بها، وبعد
الفراغ منها، إلى أن يشرع في الصلاة: يكره التطوع فيه، عند أبي
حنيفة، خلافا لهما.
ومنها: بعد شروع الامام في الجماعة، يكره للقوم التطوع قضاء لحق
الجماعة، إلا في صلاة الفجر: فإنه إذا لم يصل ركعتي الفجر، فله أن
يصلي إذا لم يخف فوت الجماعة أصلا، بأن كان عنده أنه يدرك ركعة من
الفجر بجماعة، لاحراز ثواب الجماعة مع فضيلة ركعتي الفجر، على ما
نذكر إن شاء الله تعالى.
ومنها: وقت يكره فيه التنفل لبعض الناس دون بعض، وهو قبل
صلاة العيدين لمن حضر المصلى يوم العبد، فإنه يكره له أن يتطوع قبل
صلاة العيد - لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ينهى
الناس عن التنفل قبل صلاة العيد.
108

باب
الاذان
الكلام
في هذا الباب في ستة مواضع:
وفي بيان الاذان أنه سنة أو واجب.
وفي بيان كيفية الاذان.
وفي بيان سنن الاذان.
وفي بيان المحل الذي شرع فيه الاذان.
وفي بيان وقت الاذان.
وفي بيان ما يجب على السامعين عند الاذان.
أما الأول فنقول:
اختلف المشايخ فيه:
بعضهم قالوا: إنه واجب، لما روي عن محمد أن أهل بلدة من بلاد
الاسلام إذا تركوا الأذان والإقامة، فإنه يجب القتال معهم وإنما يقاتل على
ترك الواجب، دون السنة.
وعامة مشايخنا قالوا: إنهما سنتان مؤكدتان، لما روى أبو يوسف عن
أبي حنيفة أنه قال في قوم صلوا الظهر أو العصر في المصر بجماعة، من
غير أذان وإقامة إنهم أخطؤوا السنة، وخالفوا، وأثموا.
ولكن كلا من القولين متقاربان، لان السنة المؤكدة والواجب سواء.
109

وأما بيان كيفية الاذان - فنقول:
الاذان هو الاذان المعروف فيما بين الناس، من غير زيادة ولا
نقصان. وهذا قول عامة العلماء.
وقد خالف بعض الناس في الزيادة عليه، والنقصان عنه:
قال عامة العلماء: يكبر أربع مرات في ابتداء الاذان، وقال مالك: يكبر مرتين.
وقال عامة العلماء: يختم الاذان بقوله: لا إله إلا الله، وقال
مالك يختم بقوله: لا إله إلا الله والله أكبر.
وقال عامة العلماء: لا ترجيع في الاذان. وقال الشافعي: الترجيع
فيه سنة.
وتفسير الترجيع عنده أن يبتدئ المؤذن بالشهادتين، فيقول:
أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، وأشهد أن محمدا رسول الله مرتين،
ويخفض بهما صوته، ثم يرجع إليهما ويرفع بهما صوته.
وقال عامة العلماء: الإقامة مثنى مثنى، وكالآذان، وقال مالك
والشافعي: الإقامة فرادى فرادى.
وقال عامة العلماء: يقال في الإقامة: قد قامت الصلاة مرتين.
وقال مالك: يقال مرة واحدة.
وقال عامة العلماء بالتثويب في أذان الفجر، بأن يقال فيه: الصلاة
خير من النوم مرتين بعد قوله: حي على الفلاح وقال الشافعي في
قوله الجديد: إنه لا تثويب فيه.
وأما بيان سنن الاذان - فنقول:
إنها نوعان: منها ما يرجع إلى نفس الاذان، ومنها ما يرجع إلى
المؤذن.
110

أما الذي يرجع إلى نفس الاذان فمنها: أن يأتي بالأذان والإقامة
جهرا، ويرفع بهما صوته، إلا أن الإقامة أخفض.
ومنها - أن يفصل بين كلمتي الاذان بسكتة، ولا يفصل بين كلمتي
الإقامة، بل يجعلهما كلاما واحدا.
ومنها - أين يترسل في الاذان، ويجدر في الإقامة.
ومنها - أين يرتب بين كلمات الأذان والإقامة، كما شرع، حتى إذا
قدم البعض وأخر البعض، فالأفضل أن يعيد مراعاة للترتيب.
ومنها - أن يوالي ويتابع بين كلمات الأذان والإقامة كما يوالي في
الوضوء حتى لو ترك الموالاة، فالسنة أن يعيد الاذان.
ومنها - أن يأتي بهما مستقبل القبلة، إلا إذا انتهى إلى الصلاة
والفلاح، يحول وجهه، يمينا وشمالا، ولا يحول قدميه إلا إذا كان في
الصومعة، فلا بأس بأن يستدير في الصومعة ليخرج رأسه من نواحيها.
وأما الذي يرجع إلى المؤذن فينبغي أن يكون رجلا، عاقلا،
بالغا، صالحا، تقيا، عالما بالسنة، وبأوقات الصلوات، مواظبا على
ذلك، فإن أذان الصبي العاقل صحيح من غير كراهية، كذا ذكر في ظاهر
الرواية، ولكن أذان البالغ أفضل.
وأما أذان المرأة: فيكره بالاجماع، ولكن يجوز مع الكراهة، حتى
لا يعاد - كذا ذكر في ظاهر الرواية.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعاد.
وأما أذان الصبي الذي لا يعقل: فلا يجوز، ويعاد.
وكذا أذان السكران الذي لا يعقل، والمجنون.
هكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة، لأنه لا يقع به الاعلام لان
111

الصلحاء لا يعتمدون على أذانهم.
وفي ظاهر الرواية قال: يكره أذان السكران، والمعتوه الذي لا
يعقل، وأحب إليه أن يعاد، ولم يذكر وجوب الإعادة.
ومن السنة: أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وإن ترك لا يضره، كذا ذكر
في ظاهر الرواية.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الأحسن أن يجعل إصبعيه في أذنيه في
الاذان، والإقامة، وإن جعل يديه على أذنيه فحسن.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: إن جعل إحدى يديه على أذنه فحسن.
ومن السنة - أن يكون المؤذن على وضوء، وإن ترك الوضوء في
الاذان: لا يكره في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن يكره.
وأما أذان الجنب وإقامته: فيكره بالاتفاق، وهل يعاد؟
ذكر في ظاهر الرواية أنه يجوز، ولا تجب الإعادة، ولكن يستحب.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يعاد.
فالحاصل أنه يستحب إعادة أذان أربعة نفر في ظاهر الرواية: ذكر
أذان الجنب والمرأة في الجامع الصغير، وذكر أذان السكران والمعتوه الذي لا
يعقل في كتاب الصلاة.
وفي غير رواية الأصول: يعاد أذان هؤلاء الأربعة.
ومن السنة - أن يؤذن ويقيم إذا أذن للجماعة، ولو ترك من غير
عذر، يكره.
وأما إذا أذن لنفسه، فلا بأس بأن يؤذن قاعدا.
وأما المسافر فلا بأس بأن يؤذن راكبا، ولا يكره له ترك القيام.
112

وينبغي أن يؤذن محتسبا، ولا يأخذ على الاذان أجرا، وإن أخذ
يكره. وأصله ما روي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه قال: آخر ما عهد
إلي رسول الله (ص) أن أصلي بالقوم صلاة أضعفهم وأن أتخذ مؤذنا لا
يأخذ على الاذان أجرا.
أما بيان المحل الذي شرع فيه الاذان، والإقامة - فنقول:
المحل الذي شرعا فيه هو الصلوات المكتوبات، التي تؤدى بجماعة
مستحبة، أو ما هو شبيه بها.
ولهذا: لا أذان في التطوعات ولا إقامة لأنه لا يستحب فيها
الجماعة.
وكذا في الوتر، لأنه تطوع عندهما. وعند أبي حنيفة، وإن كان
واجبا، ولكنه تبع للعشاء، فيجعل تبعا في الاذان.
وكذا، لا أذان ولا إقامة في صلاة العيدين ولا في صلاة
الكسوف والخسوف وصلاة الاستسقاء لأنها من السنن.
وكذا في صلاة الجنازة، لأنها ليست بصلاة حقيقية.
وكذا الاذان في حق النسوان والعبيد، وكذا من لا جماعة عليهم،
لأنها سنة الجماعة المستحبة، ولا يستحب جماعة النسوان والعبيد.
فأما الجمعة ففيها أذان وإقامة لأنها فريضة. لكن الاذان
المعتبر، ما يؤتى به إذا صعد الامام المنبر. والإقامة المعتبرة ما يؤتى بها إذا
فرع إمام من الخطبة حتى تجب الإجابة لهذا الاذان والاستماع، دون
الاذان الذي يؤتى به في الصومعة.
113

وقال بعضهم: الاذان المعتبر هو الاذان الذي يؤتى به على المنارة.
والصحيح قول العامة لما روي عن السائب بن يزيد أنه قال كان
الاذان يوم الجمعة على عهد رسول الله عليه السلام وعلى عهد أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما عند المنبر أذانا واحدا، فلما كان في زمن عثمان
رضي الله عنه كثر الناس وأحدثوا هذا الاذان في الزوراء.
فأما إذا صلى الرجل وحده في بيته: فقد ذكر في ظاهر الرواية إنه إن
صلى أذان وإقامة يجزئه ويكفيه أذان الناس وإقامتهم، ولو أتى بالاذان
والإقامة فحسن.
وأما في حق المسافرين فالأفضل أن يؤذنوا ويقيموا ويصلوا
بالجماعة فإن صلوا بجماعة وأقاموا وتركوا الاذان، أجزأهم ولا
يكره - بخلاف أهل المصر، فإنهم إذا تركوا الاذان، وأقاموا يكره لهم
ذلك، لوجود سبب الرخصة في حق المسافرين دونهم.
وأما المسافر إذا كان وحده، لو ترك الاذان لا بأس به، ولو ترك
الإقامة يكره، بخلاف المقيم إذا كان يصلي وحده في بيته، لو ترك
الأذان والإقامة لا بأس به، لان أذان الناس وإقامتهم يقوم مقام
فعل المقيم، ولم يوجد ذلك في حق المسافر.
وإن صلى في مسجد بأذان وإقامة هل يكره أن يؤذن ويقام
فيه ثانيا؟ ينظر:
إن كان مسجدا له أهل معلوم: فإن صلى فيه غير أهله، بأذان
وإقامة، لا يكره لأهله أن يصلوا فيه بجماعة، مع الاذان، والإقامة وإن
صلى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله فإنه يكره لغير أهله
114

وللباقين من أهله، أن يعيدوا الاذان، والإقامة.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: لا يكره تكرار الاذان، والإقامة.
وهذه المسألة، في الحاصل، بناء على مسألة أخرى أن تكرار
الجماعة، لصلاة واحدة، في مسجد واحد، هل يكره؟ ففي كل موضع
يكره تكرار الجماعة، يكره تكرار الاذان، وفي كل موضع لا يكره تكرار
الجماعة، لا يكره، لأنهما من سنة الصلاة بجماعة، والجواب فيه ما
ذكرنا.
وعلى قول الشافعي: لا يكره تكرار الجماعة، مرة بعد أخرى، في
المسجد كيفما كان.
وروي عن أبي يوسف ومحمد، أنه إنما يكره إذا كان على سبيل
الاجتماع، والتداعي، وقام في المحراب. فإما إذا أقام الصلاة بواحد،
أو باثنين، في ناحية المسجد فلا يكره.
وإن كان له أهل معلومون: فإن صلى فيه غير أهله، بأذان
الطرق، فإنه لا يكره فيه تكرار الجماعة، بالاجماع.
وأما الفوائت فتقام بالجماعة بأذان وإقامة عندنا وعند
الشافعي في قول يقضي بالإقامة لا غير. وفي قول بغير أذان وإقامة.
وروي: في غير رواية الأصل عن محمد، أنه إذا فاتت صلوات
يقضي الأولى بأذان وإقامة، والباقي بالإقامة دون الاذان.
وحكي عن أبي بكر الرازي أنه قال: يجوز أن يكون ما قال محمد
قولهم جميعا.
115

والمذكور في الكتاب محمول على الصلاة الواحدة، فيرتفع الخلاف بين
أصحابنا.
وأما بيان وقت الأذان والإقامة - فنقول:
وقتهما هو وقت الصلوات المكتوبات، حتى إذا أذن قبل أوقاتها،
لا يجوز، وهذا جواب ظاهر الرواية.
وروي عن أبي يوسف أنه قال في صلاة الفجر: إذا أذن في النصف
الأخير من الليل يجوز، وبه أخذ الشافعي.
والصحيح قولنا: لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
عن النبي عليه السلام، أنه قال: لا يمنعكم أذان بلال من السحور،
فإنه يؤذن بليل ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم، ويتسحر صائمكم،
فعليكم بأذان ابن أم مكتوم.
وأما بيان ما يجب على السامعين عند الاذان - فنقول:
يجب عليهم الإجابة، على ما روي عن النبي عليه السلام، أنه قال:
أربع من الجفاء وذكر من جملتها ومن سمع الأذان والإقامة ولم
يجب.
والإجابة أن يقول مثل ما قاله المؤذن، إلا في قوله: حي على
الصلاة حي على الفلاح فإنه يقول مكان ذلك: لا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم لان إعادة ذلك تشبه المحاكاة والاستهزاء.
وكذا إذا قال المؤذن الصلاة خير من النوم فلا يقول السامع
مثله، لأنه يشبه المحاكاة، ولكن يقول: صدقت، وبالحق نطقت،
وبررت.
116

وكذا ينبغي أن لا يتكلم في حال الاذان، والإقامة، ولا يقرأ
القرآن، ولا يشتغل بشئ من الاعمال سوى الإجابة.
ولو أن في قراءة القرآن حين سمع الاذان، ينبغي أن يقطع القراءة،
ويستمع الاذان، ويجيب، هكذا ذكر في الفتاوى. والله أعلم.
117

باب
استقبال القبلة
لا يخلو إما إن كان قادرا على الاستقبال، أو كان عاجزا.
فإن كان قادرا:
يجب عليه أن يتوجه إلى القبلة.
فإن كان في حال مشاهدة الكعبة فإلى عينها.
وإن كان في حالة البعد، يجب التوجه إلى المحراب والمنصوب،
بالامارات الدالة عليها، هكذا ذكر أبو الحسن ههنا.
وقال بعضهم: الواجب إصابة عين الكعبة، بالاجتهاد والتحري،
في حالة البعد.
والصحيح هو الأول.
ولهذا إن من دخل البلدة وعاين المحاريب المنصوبة: يجب عليه أن
يصلي إليها، ولا يجوز له أن يتحرى، لان الجهة صارت قبلة باجتهادهم
المبنى، على الامارات الدالة عليها، من النجوم، والشمس، والقمر،
فيكون فوق الاجتهاد بالتحري.
وكذا إذا دخل مسجدا لا محراب له، وبحضرته أهل المسجد،
فتحرى وصلى لا يجزئه.
وكذلك إذا كان في المفازة، والسماء مصحية، وله علم بالاستدلال
119

بالنجوم على القبلة لا يجوز له التحري، لان هذا فوق التحري.
وأما إذا كان عاجزا:
فإما إن كان عاجزا بعذر من الاعذار مع العلم بالقبلة، أو كان
عاجزا، بسبب الاشتباه.
فإن كان عاجزا بعذر: فله أن يصلي إلى أي جهة كان، يسقط عنه
الاستقبال، وذلك نحو أن يخاف على نفسه من العدو في صلاة الخوف،
أو كان بحال لو استقبل القبلة يقف عليه العدو أو قطاع الطريق، أو
السبع، أو كان على خشبة في السفينة في البحر لو وجهها إلى القبلة يغرق
غالبا، ونحو ذلك.
وأما إذا كان بسبب الاشتباه: وهو أن يكون في المفازة في ليلة
مظلمة، أو كان لا يعلم بالامارات الدالة على القبلة، وليس معه من
يسأله عن القبلة، فعليه أن يصلي بالتحري في هذه الحالة. فإذا صلى
إلى جهة من الجهات، فلا يخلو إما إن صلى إلى جهة بالتحري، أو
بدون التحري.
أما إذا صلى بدون التحري، فلا يخلو من ثلاثة أوجه:
إما إن كان لا يخطر بباله شئ ولم يشك في جهة القبلة،
أو خطر بباله وشك في وجهة الكعبة وصلى من غير التحري.
أو تحرى ووقع تحريه على جهة وصلى إلى الجهة التي لم يقع عليها
التحري.
أما إذا لم يخطر بباله شئ، ولم يشك في جهة القبلة، فصلى إلى
جهة من الجهات، فالأصل هو الجواز. فإذا مضى على هذه الحالة، ولم
يخطر بباله شئ، صارت الجهة التي صلى إليها، قبلة له ظاهرا، فأما إذا
120

ظهر خطؤه بيقين، بأن انجلى الظلام وتبين أنه صلى إلى غير القبلة، أو
تحرى ووقع تحريه على غير الجهة التي صلى إليها، فإنه يعيد الصلاة إن كان
بعد الفراغ، وإن كان في الصلاة يستقبل.
وأما إذا شك ولم يتحر، وصلى إلى جهة فالأصل هو الفساد.
إن ظهر بيقين، أو بالتحري أن الجهة التي صلى إليها ليست بقبلة، تقرر
الفساد، وإن ظهر أن الجهة التي صلى إليها قبلة: فإن كان بعد الفراغ
من الصلاة، يحكم بجوازها، ولا يعيد، وإن ظهر في وسط الصلاة،
فعند أبي يوسف يبني على صلاته كما قلنا، وفي ظاهر الرواية يستقبل
الظلاة.
- وأما إذا تحرى ووقع تحريه إلى جهة، ثم صلى إلى جهة أخرى،
وأصاب القبلة، فلا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد.
وعند أبي يوسف: يجوز.
فأما إذا صلى إلى الجهة التي تحرى، ثم ظهر أنه أخطأ.
فإن ظهر أنه صلى إلى اليمنة أو اليسرة جاز بلا خلاف، وإن ظهر
أنه صلى مستدبر الكعبة يجوز عندنا.
وعند الشافعي: لا يجوز.
والصحيح قولنا، لان القبلة في حالة الاشتباه هي الجهة التي تحرى
إليها لقوله تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) *.
121

باب افتتاح الصلاة
افتتاح الصلاة يتعلق بفروض وسنن، فلا يصح بدون استجماع
فروضه، ولا يتم بدون إتيان سننه.
أما فروضه:
فما ذكرنا من الشرائط الستة، وهي: الطهارة، وستر العورة،
واستقبال القبلة، والوقت، والنية، وتكبيرة الافتتاح.
ولا خلاف في هذه الجملة إلا في تكبيرة الافتتاح.
فعند أبي بكر الأصم: يصح الشروع في الصلاة بمجرد النية، دون
التكبير.
وهو فاسد: لقول النبي عليه السلام: لا يقبل الله صلاة امرئ
حتى يضع الطهور مواضعه، ويستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر.
ثم عند أبي حنيفة ومحمد، يصح الشروع بكل ذكر هو ثناء خالص
لله تعالى، مراد به تعظيمه لا غير نحو أن يقول: الله أكبر، الله
أعظم. وكذا كل اسم ذكر مع الصفة، نحو الرحمن أعظم،
الرحيم أجل، أو يقول: الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا
إله إلا الله سواء كان يحسن التكبير أو لا يحسن.
وقال أبو يوسف: لا يصير شارعا، إلا بألفاظ مشتقة من التكبير لا
غير، وهي ثلاثة ألفاظ: الله أكبر، الله الأكبر، الله الكبير -
123

إلا إذا كان لا يحسن التكبير.
وقال الشافعي: لا يصح إلا بقوله: الله أكبر، الله الأكبر.
وقال مالك: لا يصير شارعا إلا بقوله: الله أكبر.
فأما إذا قال: الله أو الرحمن أو الرحيم، ولم يقرن به
الصفة هل يصير شارعا؟
لم يذكر في الرواية
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يصير شارعا، وفي الجامع
الصغير إشارة إليه، فإنه ذكر: إذا قال: لا إله إلا الله يصير شارعا،
والشروع يصح بقوله: الله لا بالنفي.
وأجمعوا أنه إذا قال: اللهم اغفر لي لا يصير شارعا، لأنه لم
يخلص تعظيم الله تعالى به، لان غرضه الدعاء.
واختلف المشايخ فيما إذا قال: اللهم ولم يذكر شيئا آخر.
فأما إذا قال بالفارسية: خدائ بزرك تر أو خدائ بزرك:
فعلى قول أبي حنيفة: يصير شارعا، كيفما كان.
وعلى قولهما: إن كان لا يحسن العربية، فكذلك، وإن كان يحسن،
لا يجوز.
ثم إنما يصير شارعا إذا كبر، في حال القيام إذا كان قادرا.
فأما إذا كبر قاعدا، ثم قام: لا يصير شارعا.
فأما إذا لم يكن قادرا على القيام فيجوز.
ثم النية شرط صحة الشروع لان العبادة لا تصح بدون النية.
124

وتفسيرها إرادة الصلاة لله تعالى، على الخلوص، والإرادة عمل
القلب.
ثم ذكر ما نوى بقلبه، باللسان هل هو سنة؟
عند بعضهم، ليس بسنة.
وقال بعضهم: هو سنة مستحبة، فإن محمدا ذكر في كتاب
المناسك: إذا أردت أن تحرم الحج: إن شاء الله، فقل: اللهم إني
أريد الحج، فيسره لي، وتقبله مني فههنا يجب أن يقول: اللهم إني
أريد صلاة كذا، فيسرها لي، وتقبلها مني.
ثم لا يخلو: إما إن كان منفردا، أو إماما، أو مقتديا.
فإن كان منفردا أو إماما، فإن كان يصلي التطوع، ينوي أصل
الصلاة، وإن كان يصلي الفرض، ينبغي أن ينوي فرض الوقت أو
ظهر الوقت، ولا يكفيه نية مطلق الصلاة، لان الفرائض من الصلوات
مشروعة في الوقت، فلا بد من التعيين.
وكذا ينبغي أن ينوي صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة
الجنازة، لان التعيين يحصل بهذا.
وإن كان مقتديا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المنفرد، ويحتاج إلي نية
الاقتداء بالامام. بأن ينوي فرض الوقت، والاقتداء بالامام فيه، أو
ينوي الشروع في صلاة الامام، أو ينوي الاقتداء بالامام في صلاته.
ثم الأفضل في النية أن تكون مقارنة لتكبير، ولكن القرآن ليس
بشرط عند أصحابنا.
وقال الشافعي: شرط.
ولكن إذا نوى قبل الشروع، ولم يشتغل بعمل آخر جاز.
125

وإذا نوى بعد التكبير: لا يجوز، لان الحرج يندفع بتقديم النية إلا
ما روي عن الكرخي أنه يجوز، إذا نوى وقت الثناء.
ونية الكعبة شرط عند بعض المشايخ، وعند بعضهم ليس بشرط
وهو الأصح.
وأما سنن الافتتاح:
فأن يحذف التكبير، ولا يطول، وأن يرفع اليدين عند تكبيرة
الافتتاح مقارنا لها.
والسنة في رفع اليدين أن ينشر بالأصابع، ويجعل كفيه مستقبلي
القبلة. وأراد بالنشر أن لا يرفعهما مضمومتين، بل مفتوحتين، حتى
تكون الأصابع نحو القبلة، لا أن يفرج بين الأصابع تفريجا.
ويرفع يديه حذاء أذنيه.
وقال الشافعي: يرفع حذو منكبيه.
وقال مالك: يرفع حذاء رأسه.
ولم يذكر في ظاهر الرواية حكم المرأة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها ترفع يديها حذاء أذنيها، كالرجل،
لان كفيها ليسا بعورة.
وروى محمد بن مقاتل عن أصحابنا: إنها ترفع يديها حذاء
منكبيها.
فإذا فرغ المصلي من التكبير، يضع يمينه على شماله، تحت السرة.
وقال مالك: السنة هي إرسال اليدين حالة القيام.
وروى عن محمد، في النوادر أنه يرسلهما حالة الثناء، فإذا فرغ من
126

الثناء يضع يمينه على شماله.
وقال الشافعي: يضعهما على الصدر.
ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى
جدك، ولا إله غيرك، سواء كان مع الامام أو وحده.
وروي عن أبي يوسف: ينبغي أن يقول مع التسبيح: * (إني وجهت
وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) *،
* (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له،
وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين) *.
ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم إذا كان إماما أو منفردا، فهو سنة
في حقهما، دون المقتدي عند أبي حنيفة ومحمد، ولا ينبغي أن يأتي به.
وعلى قول أبي يوسف، سنة في حقه أيضا.
وحاصل الخلاف أن التعوذ تبع للثناء أو تبع للقراءة فعلى قولهما تبع
للقراءة، وعلى قوله تبع للثناء.
ويخرج عليه ثلاث مسائل:
إحداهما - أن المقتدي لا قراءة عليه، فلا يأتي بما هو تبع لها عندهما.
والمقتدي يأتي بالثناء، فيأتي بما هو تبع له عنده.
والثانية: المسبق إذا شرع في صلاة الامام، وسبح لا يتعوذ، وإذا
قام إلى قضاء ما سبق به يتعوذ عند ابتداء القراءة عندهما. وعنده يتعوذ
عند التسبيح، لما ذكرنا.
والثالثة: الامام. في صلاة العيد، يأتي بالتعوذ بعد التكبيرات،
127

عندهما، لأنه وقت القراءة، وعنده يأتي به قبل التكبيرات، كالتسبيح.
ثم يخفي: بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا عندنا.
وعند الشافعي: يجهر.
وهذا بناء على أن التسمية عنده من الفاتحة قولا واحدا، ومن رأس
كل سورة قولين، فيجهر بهما، بمنزلة الفاتحة والسورة.
وعندنا هي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، والافتتاح بها
تبركا، وليست من الفاتحة، ولا من رأس كل سورة، فلا يجهر بها،
ولكن يأتي بها الامام لافتتاح القراءة بها تبركا، كما يأتي بالتعوذ في
الروايات كلها، في الركعة الأولى.
وهل يأتي بها في أول الفاتحة في الركعات الاخر؟
فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية الحسن: لا يأتي بها. وفي رواية
المعلى: يأتي، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وهل يأتي بها عند رأس كل سورة في الصلاة؟
على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يأتي بها.
وقال محمد: يأتي بها.
ثم القراءة فرض في الصلاة عند عامة العلماء، خلافا لأبي بكر
الأصم وسفيان بن عيينة، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: لا
صلاة إلا بقراءة وهذا في حق الامام والمنفرد.
فأما المقتدي فلا قراءة عليه عندنا.
وعند الشافعي، عليه القراءة، والمسألة معروفة.
ثم عندنا، القراءة فرض في الركعتين
128

الأوليين، حتى لو تركها في الأوليين وقرأها في الأخريين، ويكون قضاء على الأوليين وهو الصحيح من
مذهب أصحابنا.
وقدر القراءة المفروض عند أبي حنيفة، آية واحدة.
وعندهما، آية طويلة أو ثلاث آيات قصيرة.
وقراءة الفاتحة والسورة جميعا في الركعتين الأوليين، ليست بفرض
عندنا.
وعند الشافعي فرض.
ولكن قراءتهما جميعا في الأوليين عندنا واجبة، حتى لو تركهما
أو ترك إحداهما عمدا، يكون مسيئا، وإن كان ساهيا، يلزمه سجود
السهو.
وأما في الأخريين، فالسنة أن يقرأ بفاتحة الكتاب لا غير.
ولو سبح في كل ركعة ثلاث تسبيحات، أجزأه، ولا يكون مسيئا.
وإن لم يقرأ، ولم يسبح، وسكت أجزأته صلاته، ويكون مسيئا.
وروي عن أبي يوسف: هو بالخيار في الأخريين: إن
شاء قرأ وإن شاء سبح، وإن شاء سكت.
ويجهر بالقراءة في جميع الصلوات المفروضة إلا في صلاة الظهر،
والعصر.
وكذا يجهر في كل صلاة يشترط فيها الجماعة، سواء كانت فرضا أو
واجبة، كصلاة الجمعة والعيدين.
ثم إن كان إماما، يجب عليه مراعاة الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما
يخافت، سواء كان في الفرض أو الواجب أو التطوع، كما في
129

الترويحات، والوتر والعيدين، حتى لو ترك ذلك ساهيا، يجب عليه
سجود السهو.
وإن كان منفردا: إن كانت صلاة يخافت فيها بالقراءة خافت. ولو
جهر فيها عمدا يكون مسيئا. وإن كان ساهيا، لا يجب عليه
السهو، بخلاف الامام.
وإن كانت صلاة يجهر فيها، فهو بالخيار: إن شاء جهر، وإن شاء
خافت - كذا ذكر ههنا وفسر في موضع آخر أنه مخير، بين خيارات
ثلاث:
إن شاء جهر وأسمع غيره، وإن شاء جهر وأسمع نفسه. وإن شاء
أسر القراءة في نفسه.
ولو قرأ القرآن بالفارسية في الصلاة:
فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: تجوز صلاته، سواء كان يحسن
العربية أو لا يحسن.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية، لا يجوز. وإن كان
لا يحسن يجوز.
وقال الشافعي: لا يجوز في الحالين جميعا.
ثم مقدار القراءة الذي يخرج به عن حد الكراهة هو فاتحة الكتاب.
وسورة قصيرة قدر ثلاث آيات، أو ثلاث آيات من أية سورة كانت.
واختلفت الروايات في مقدار المستحب عن أبي حنيفة.
ذكر في كتاب الصلاة: ويقرأ في الفجر بأربعين آية مع فاتحة
الكتاب، أي سواها. وفي الظهر نحوا من ذلك أو دونه. وفي العصر
عشرين آية مع فاتحة الكتاب أي سواها. وفي المغرب يقرأ في كل ركعة
130

من الأوليين سورة قصيرة، خمس آيات أو ستا، مع فاتحة الكتاب أي
سواها. ويقرأ في العشاء مثل ما يقرأ في العصر.
وروى الحسن، عن أبي حنيفة، في المجرد، أنه يقرأ في الفجر ما
بين ستين إلى مائة آية. وفي الظهر يقرأ ب‍ * (عبس) * أو * (إذا الشمس
كورت) * في الأولى،
وفي الثانية ب‍ * (لا أقسم) * أو * (والشمس
وضحاها) *. وفي العصر يقرأ في الأولى * (والضحى ؤ) * أو و * (العاديات) *
وفي الثانية ب‍ * (ألهاكم) * أو * (ويل لكل همزة) *. وفي المغرب يقرأ في
الأوليين مثل ما يقرأ في العصر. وفي الأوليين من العشاء مثل ما في
الظهر.
وذكر في الجامع الصغير: ويقرأ في الفجر بأربعين أو خمسين أو ستين
سوى الفاتحة. وفي الظهر يقرأ في الأوليين مثل ركعتي الفجر. والعصر
والعشاء سواء. والمغرب دون ذلك.
وروى الكرخي - عن المعلى، عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في
مختصره: وقدر القراءة في الفجر للمقيم ثلاثون آية إلى ستين
سوى الفاتحة، في الأولى، وفي الثانية ما بين عشرين إلى ثلاثين. وفي الظهر
في الركعتين جميعا سوى الفاتحة مثل القراءة في الركعة الأولى من
الفجر. وفي العصر والعشاء يقرأ في كل ركعة قدر عشرين آية سوى فاتحة
الكتاب، وفي المغرب بفاتحة الكتاب وسورة من قصار المفصل.
وهذه الرواية أحب الروايات إلى.
وقال مشايخنا: للامام أن يعمل بأكثر الروايات قراءة في مسجد له
قوم زهاد وعباد، وبأوسطها في مسجد له قوم أوساط، وبأدناها في مسجد
يكون على شوارع الطرق، عملا بالروايات كلها.
هذا في حق المقيم فأما المسافر، فينبغي أن يقرأ مقدار ما يخف عليه
131

وعلى القوم: بأن يقرأ فاتحة الكتاب، وسورة قصيرة.
وأما في الوتر فإنه يقرأ الفاتحة وسورة قصيرة، ولا توقيت فيه، ويقرأ
أحيانا * (سبح اسم ربك الاعلى) * و * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو
الله أحد) * ولا يواظب.
وهذا إذا صلى الوتر بجماعة، فإن صلى وحده، له أن يقرأ كيفما
شاء.
وأما في صلاة التطوع فله أن يقرأ ما شاء، قل أو كثر، بعد أن
خرج عن حد الكراهة، لأنه لا يؤدي إلى تنفير القوم. والله أعلم.
وإذا فرغ من الفاتحة، فإنه يقول آمين، إماما كان أو منفردا أو
مقتديا - وهذا قول عامة العلماء.
وقال بعضهم: لا يؤتى بالتأمين أصلا.
وقال مالك: يأتي به المقتدي، دون الامام، والمنفرد.
ولكن عندنا: يؤتى به على وجه المخافتة، فهو السنة.
وقال الشافعي: يجهر به في صلاة يجهر فيها بالقراءة.
والصحيح قولنا، لأنه من باب الدعاء، والأصل في الدعاء
المخافتة، دون الجهر.
فإذا فرغ من القراءة ينحط للركوع ويكبر مع الانحطاط، ولا يرفع
يديه عندنا.
وقال الشافعي: يرفع.
وكذلك عند رفع الرأس من الركوع.
والصحيح مذهبنا، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه
132

قال: إن العشرة الذين بشر لهم رسول الله عليه السلام بالجنة، ما كانوا
يرفعون أيديهم إلا لافتتاح الصلاة، وخلاف هؤلاء الصحابة قبيح.
ثم قدر المفروض في الركوع هو أصل الانحناء.
وكذلك في السجود، هو أصل الوضع.
فأما الطمأنينة، والقرار في الركوع والسجود، فليس بفرض عند أبي
حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف والشافعي: إن الفرض هو الركوع والسجود، مع
الطمأنينة بمقدار تسبيحة واحدة، حتى لو ترك تجوز صلاته عند أبي حنيفة
ومحمد، وعندهما لا تجوز.
ولقب المسألة أن تعديل الأركان ليس بفرض عند أبي حنيفة ومحمد،
وعندهما فرض.
وعلى هذا: القومة التي بعد الركوع، والقعدة التي بين السجدتين.
والصحيح قول أبي حنيفة ومحمد لقول الله تعالى: * (يا أيها الذين
آمنوا اركعوا واسجدوا) * والركوع هو الانحناء، والسجود هو الوضع:
يقال: سجد البعير إذ وضع جرانه على الأرض، والطمأنينة دوام عليه،
والامر بالفعل لا يقتضي الدوام، فلا تجوز الزيادة عليه بخبر الواحد.
وأما سنن الركوع فهي: أن يبسط ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا
ينكسه، حتى يكون رأسه سويا، لعجزه، أن يضع يديه على ركبتيه على
سبيل الاخذ، ويفرج بين أصابعه حتى تكون أمكن للاخذ.
133

ويقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثة، وذلك أدناه، وإن زاد أفضل.
وقال الشافعي: يكفيه تسبيحة واحدة.
هذا إذا كان منفردا.
فأما المقتدي فيسبح إلى أن يرفع الامام رأسه.
وإن كان إماما ينبغي أن يسبح ثلاثا، ولا يطول، حتى لا يؤدي
تنفير القوم عن الجماعة.
فإذا اطمأن راكعا رفع رأسه، وقال سمع الله لمن إلى تنفير القوم عن الجماعة. حمده، ولا
يرفع يديه، ولا يأتي بالتحميد عند أبي حنيفة إن كان إماما.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي: يجمع بينهما.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مثل قولهما.
وإن كان مقتديا فإنه يأتي بالتحميد، دون التسبيح عندنا.
وقال الشافعي: يجمع بينهما.
وإن كان منفردا لم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي حنيفة، وإنما ذكر
قولهما: إنه يجمع بينهما.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة كذلك.
وفي رواية النوادر أنه يأتي بالتحميد لا غير.
فإذا اطمأن قائما ينحط للسجود، ويكبر مع الانحطاط، ولا يرفع
يديه، ويضع ركبتيه على الأرض، ثم يديه، ثم جبهته، ثم أنفه، وقيل:
أنفه ثم جبهته.
ثم السجود فرض على بعض الوجه، لا غير عند أصحابنا الثلاثة.
134

وقال زفر الشافعي: السجود على الأعضاء السبعة، وهي:
الوجه، واليدان، والركبتان، والقدمان.
ثم على قول أبي حنيفة محل السجود في حق الجواز هي الجبهة أو
الانف غير عين، حتى لو وضع أحدهما في حال الاختيار فإنه يجوز، غير
أنه لو وضع الجبهة وحدها، جاز من غير كراهة، ولو وضع الأنف وحده
جاز مع الكراهة.
وقال أبو يوسف ومحمد: الفرض في حال الاختيار هو وضع الجبهة،
حتى لو ترك لا يجوز.
وأجمعوا أنه لو وضع الأنف، في حال العذر، جاز.
ولا خلاف أن المستحب هو الجمع بينهما في حال الاختيار.
وأما سنن السجود فمنها أن يسجد على الجبهة من غير حائل، من
العمامة والقلنسوة.
ولكن لو سجد على كور العمامة وجد صلابة الأرض جاز، كذا ذكر
محمد في الآثار.
وقال الشافعي: لا يجوز.
ومنها: أن يضع يديه حذاء أذنيه في السجود، وأن يوجه أصابع يديه
نحو القبلة، وأن يعتمد على راحتيه في السجود، ويبدي ضبعيه، وأن
يعتدل في سجوده، ولا يفترض ذراعيه.
وهذا في حق الرجل، فأما المرأة فينبغي أن تفترش ذراعيها،
وتنخفض ولا تنتصب كانتصاب الرجل، وتلزق بطنها بفخذيها، لان هذا
أستر لها.
وأن يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه.
135

قال: ثم يرفع رأسه. ويكبر حتى يطمئن قاعدا، ثم يكبر، وينحط
للسجدة الثانية، لان السجدة الثانية فرض، فلا بد من رفع الرأس
للانتقال إليها ويقول ويفعل فيها مثل ما في الأولى.
قال: ثم ينهض على صدور قدميه معتمدا بيديه على ركبتيه لا على
الأرض، فلا يقعد قعدة خفيفة، ويرفع يديه من الأرض قبل ركبتيه.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: يجلس جلسة خفيفة، ثم يقوم ويعتمد على
الأرض، دون ركبتيه.
والصحيح مذهبنا، لما روى أبو هريرة، أن النبي عليه السلام كان
ينهض في الصلاة على صدور قدميه.
ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى.
ويقعد على رأس الركعتين. وهذه القعدة واجبة شرعت للفصل
بين الشفعين على ما ذكرناه.
فأما القعدة الأخيرة ففرض عند عامة العلماء.
وقال مالك: سنة.
ثم مقدار فرض القعدة الأخيرة مقدار التشهد لما روي عن عبد الله بن
عمرو بن العاص عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا رفع الامام رأسه
من السجدة الأخيرة وقعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته.
والسنة في القعدتين: أن يفترض رجله اليسرى ويقعد عليها.
وينصب اليمين نصبا، ويوجه أصابع رجليه نحو القبلة، وهذا عندنا.
وقال الشافعي في القعدة الأولى كذلك، وفي الثانية يتورك.
وقال مالك: يتورك فيهما.
136

وتفسير التورك أن يضع أليتيه على الأرض ويخرج رجليه إلى جانبه
الأيمن.
هذا في حق الرجل.
أما في حق المرأة فذكر محمد في كتاب الآثار: تجمع رجليها من
جانب، ولا تنتصب انتصاب الرجل.
وذكر محمد بن شجاع في نوادره أنها تجلس متوركة.
ثم التشهد المختار عندنا ما هو المعروف، وهو تشهد عبد الله بن مسعود.
والشافعي أخذ بتشهد عبد الله بن عباس، وهو أن يقول:
التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها
النبي، ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
والصحيح مذهبنا، فإنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه علم
الناس على منبر رسول الله (ص) هذا التشهد، وكان ذلك بمحضر من
الصحابة، من غير تكبر، فيكون إجماعا.
ثم التشهد في القعدة الأولى سنة عن عامة مشايخنا، واجب عند
بعضهم، أما في القعدة الأخيرة فواجب، وليس بفرض.
وعلى قول الشافعي فرض.
ثم: هل يزاد على التشهد من الصلوات والدعوات؟ فنقول في
التشهد الأول: لا يزاد عليه شئ عند عامة العلماء.
وقال مالك والشافعي: يزاد عليه الصلوات لا غير.
وأما في التشهد الأخير فيزاد عليه الصلاة على النبي عليه السلام، ثم
137

الدعوات، كذا ذكر الطحاوي في مختصره، ولم يذكر في الأصل.
ثم الصلوات سنة مستحبة عندنا في الصلاة.
وقال الشافعي: فرض حتى تفسد الصلاة بتركها.
وأما في غير حالة الصلاة فكان أبو الحسن الكرخي يقول: إن الصلاة
على النبي عليه السلام فرض على كل مسلم، بالغ، عاقل في العمر مرة
واحدة.
وقال الطحاوي: تجب عند سماع اسمه في كل مرة، وهو
الصحيح.
والصلوات التي يؤتى بها في الصلاة، ما تعارفه الناس عقيب
التشهد، لكثرة الأحاديث فيه.
وإذا جلس للتشهد، ينبغي أن يضع يده اليمنى على فخذه الأيمن،
ويده اليسرى على فخذه الأيسر، كذا روي عن محمد في نوادره.
فإذا أراد أن يسلم بعد الفراغ من الصلوات والدعوات، يسلم عن يمينه
فيقول: السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيمن، ثم
عن يساره كذلك.
والتسليمتان سنة عند عامة العلماء.
وقال بعضهم: يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، وهو قول مالك،
وقيل إنه قول الشافعي أيضا.
وقال بعضهم: يسلم تسليمة واحدة عن يمينه لا غير.
ولكن إذا سلم إحداهما، يخرج عن صلاته عند عامة العلماء.
وقال بعضهم لا يخرج ما لم يوجد التسليمتان.
138

وإصابة لفظة السلام ليست بفرض عندنا، وقال مالك والشافعي:
فرض.
واختلف مشايخنا، فقال بعضهم: إنها سنة. وقال بعضهم: هي
واجبة.
ثم ينوي في التسليمة الأولى من كان عن يمينه من الحفظة، والرجال
والنساء كيف شاء بلا ترتيب، وهو الصحيح. وفي التسليمة الثانية من
كان عن يساره من الحفظة والرجال والنساء.
لكن قال بعضهم: ينوي من مكان معه في الصلاة من الرجال والنساء
لا غير.
وقال بعضهم: ينوي جميع المؤمنين والمؤمنات، كذا أشار الحاكم
الجليل في مختصره.
هذا في حق الامام. فأما المنفرد فعلى قول الأولين، ينوي الحفظة
لا غير، وعلى قول الباقين، ينوي الحفظة وجميع البشر من أهل الايمان.
وأما المقتدي فإنه ينوي ما ينوي الامام وينوي أيضا، إن كان
يمين الامام في يساره، وإن كان عن يساره ففي يمينه. وإن كان بحذائه،
لم يذكر في الكتاب. وروي عن أبي يوسف أنه ينوي عن يمينه. وروى
الحسن عن أبي حنيفة أنه ينويه في الجانبين.
ثم المقتدي يسلم تسليمتين: إحداهما للخروج عن الصلاة، والثانية
للتسوية بين القوم في التحية، بمنزلة الامام والمنفرد.
وقال مالك: يسلم تسليمة ثالثة أيضا، وينوي بها رد السلام على
الامام.
وهو فاسد، لان تسليمهم رد السلام عليه.
139

باب
ما يستحب في الصلاة وما يكره فيها
قال: ينبغي للرجل إذا دخل في صلاته أن يخشع فيها.
ويكون منتهى بصره إلى موضع سجوده في قيامه، وإلى أطراف
أصابع رجليه في ركوعه، وإلى أرنبة أنفه في سجوده، وإلى حجره في
قعوده، ولا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يطأطئه.
ولا يشتغل بشئ غير صلاته، من عبث بثيابه أو جسده أو لحيته.
قال الله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون ئ الذين هم في صلاتهم خاشعون) *.
وروي أن النبي عليه السلام رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:
أما هذا لو خشع قلبه، لخشعت جوارحه.
ولا يفرقع أصابعه، ولا يشبكها، ولا يجعل يديه على خاصرته.
ولا يقلب الحصى، ولا بأس أن يسويه مرة واحدة، إذا لم يمكنه إتمام
السجود وتركه أفضل.
ولا يلتفت يمنة ويسرة، ولا يتمطى. ولا يتثاءب. فإن غلبه شئ من
ذلك، كظم ما استطاع، فإن لم يستطع فليضع يده على فيه.
ولا يقعى، ولا يتربع، ولا يفترش ذراعيه، إلا من عذر، على ما
141

روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: نهاني خليلي عليه السلام عن
ثلاث: أن أنقر نقر الديك، وأن أقعى إقعاء الكلب، وأن أفترش
افتراش الثعلب. واختلفوا في تفسير الاقعاء: قال الكرخي: هو أن
يقعد على عقبيه، ناصبا رجليه واضعا يده على الأرض. وقال
الطحاوي: الاقعاء أن يضع أليتيه على الأرض. واضعا يديه عليها،
وينصب فخذيه ويجمع ركبته إلى صدره. وهذا أشبه بإقعاء الكلب.
وينبغي للمصلي أن يدرأ المار، ويدفعه، حتى لا يمر بين يديه، إلا
أنه لا يدرأ بعمل كثير، ولا يعالج معالجة شديدة، حتى لا تفسد
صلاته.
ويكره للمار أيضا أن يمر بين يدي المصلي، إلا إذا كان بينهما حائل
من الأسطوانة ونحوها، فلا بأس بالمرور، وكذا إذا كان بين يديه مقدار
مؤخرة الرحل.
وينبغي أن ينصب بين يديه عودا، أو يضع شيئا مثل ذراع أو أكثر،
حتى لا يحتاج إلى الدرء والدفع. فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه صلى
في الجبانة ونصب بين يديه عنزة.
ويكره أن يغمض عينيه في الصلاة، وأن يبزق على حيطان المسجد،
ولا بين يديه على الحصى، ولكن يأخذ بثوبه، وإن فعل فعليه أن يدفعه
ولو دفنه في السجد تحت الحصير، يرخص له ذلك، ولكن الأفضل أن لا
يفعل، وكذا المخاط على هذا.
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إن المسجد لينزوي
من النخامة، كما تنزوي الجلدة في النار.
142

وكره أبو حنيفة رضي الله عنه عد الآي في الصلاة، وعد التسبيح.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بذلك في الفريضة والتطوع.
وفي ظاهر الرواية لا فرق بينهما أيضا عند أبي حنيفة.
وفي رواية: كره في الفرض، ورخص في التطوع.
ويكره أن يكون الامام على الدكان والقوم أسفل منه، أو هم على
الدكان والامام أسفل منهم، إلا من عذر في ظاهر الروايات، لا فصل
بين الامام والقوم في هذا، ولا بين دكان ودكان.
وروى الطحاوي عن أصحابنا أنه لا يكره أن يكون المأموم في مكان
أرفع من مكان الامام، ولا ينبغي للامام أن يكون أرفع من المأموم بما
يجاوز القامة، ولا بأس بأن يكون أرفع منهما بما دونها.
هذا وإذا كان الامام وحده.
فأما إذا كان معه على الدكان بعض القوم فاصطفوا خلفه: لم يذكر في
ظاهر الرواية: واختلف المشايخ فيه: كره بعضهم، ولم يكره بعضهم.
وهذا في غير حالة العذر.
فأما عند العذر فلا بأس به، كما إذا ازدحم القوم في يوم الجمعة
والأعياد، وغير ذلك من الاعذار.
ويكره أن يغطي فاه في الصلاة، إلا إذا كانت التغطية لدفع
التثاؤب فلا بأس به، لما مر.
ويكره أن يكف ثوبه، لما فيه من ترك سنة وضع اليد، وسنة اليد أن
يضع يمينه على شماله.
ويكره أن يصلي عاقصا شعره. والعقص أن يشد الشعر ضفيرة حول
143

رأسه كما يفعله النساء، أو يجمع شعره فيعقده في مؤخرة رأسه.
ويكره أن يصلي معتجرا، واختلف المشايخ في تفسيره. قيل: هو أن
يلف حوالي رأسه بالمنديل، ويترك وسطه مكشوفا، لأنه تشبه بأهل
الكتاب. وقيل: هو العقص الذي ذكرنا. وقيل هو أن يجعل منديله على
رأسه ووجهه، كمعجر النساء إما لأجل الحر والبرد أو للكبر.
ويكره للمأموم أن يسبق الامام بالركوع والسجود. ثم ينظر إن
شاركه الامام في ذلك الركن الذي سبقه: جاز، عندنا، خلافا لزفر،
لان المشاركة في الركن قد وجدت وإن قلت، وإن لم يشاركه حتى رفع
رأسه من الركوع والسجود: لا يجوز، حتى لو لم يعد ذلك الركن حتى
فرغ من الصلاة وسلم، تفسد صلاته لأنه لم يوجد فيه المشاركة ولا المتابعة
والاقتداء عبارة عن هذا، فلا يعتبر.
وكذا يكره أن يرفع رأسه قبل الامام في الركوع والسجود. وأصله
قول عليه السلام: إنما جعل الامام إماما ليؤتم به فلا فلا تختلفوا
عليه.
ويكره أن يقرأ في غير حالة القيام، لان الركوع والسجود محل الثناء
والتسبيح، دون القراءة.
ويستحب للرجل إذا دخل المسجد والامام راكع، أن يأتي إلى
الصف، وعليه السكينة والوقار، ولا يكبر ولا يركع حتى يصل إلى
الصف لأنه إن ركع يصير مصليا خلف الصفوف وحده. وهو
مكروه، وإن مشى حتى اتصل بالصف، يكره، لان المشي ينافي
الصلاة، حتى قال مشايخنا: إن مشى خطوة خطوة، لا تفسد صلاته،
وإن مشى خطوتين أو أكثر تفسد صلاته.
ثم الصلاة خلف الصفوف منفردا إنما يكره إذا وجد فرجة في
144

الصف، فأما إذا لم يجد، لا يكره، لان حال العذر مستثناة، ألا ترى أن
المرأة يجب عليها أن تصلي منفردة خلف الصفوف، لان محاذاتها للرجال
مفسدة لصلاتهم.
ويكره النفخ في الصلاة إذا لم يكن مسموعا، لان ليس من أعمال
الصلاة، ولكن لا تفسد صلاته لأنه ليس بكلام معهود، ولا يفعل
كثير.
فأما إذا كان مسموعا فقد قال أبو حنيفة ومحمد: تفسد صلاته، أراد
به التأفيف أو لم يرد.
وكان أبو يوسف يقول أولا: إن أراد به التأفف، يعني أن يقول
" أف " أو " تف " على وجه الكراهة للشئ والتبعيد على وجه الاستخفاف
تفسد صلاته، وإن لم يرد به التأفف لا تفسد. ثم رجع وقال: لا
تفسد صلاته، لأنه ليس بكلام في عرف الناس، بل هو بمنزلة السعال
والتنحنح.
والصحيح قولهما، لان الكلام في العرف حروف منظومة مسموعة،
وأدنى ما يقع به انتظام الحروف حرفان، وقد وجد.
ويكره أن يمسح المصلي جبهته من التراب في وسط الصلاة، ولا بأس
به بعد ما قعد قدر التشهد، كذا ذكر في ظاهر الرواية.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا بأس به، كيفما كان.
والصحيح جواب ظاهر الرواية، لأنه إذا مسح مرة يحتاج إلى أن
يمسح عند كل سجود، لأنه يتلطخ فيتكرر المسح فيشبه فعلا كثيرا.
فأما بعد ما قعد قدر التشهد، فلا بأس به، لأنه يكفيه مرة واحدة وإنه
فعل قليل، فيكون معفوا عنه، والترك أفضل، لأنه ليس من جنس
الصلاة.
145

ولا يكره الصلاة في ثوب واحد متوشح به، أو قميص صفيق.
واللبس في الصلاة ثلاثة أنواع: مستحب، وجائز، ومكروه.
أما المستحب فأن يصلي في ثلاثة أثواب: قميص، وإزار، ورداء أو
عمامة، كذا ذكر الفقيه أبو جعفر الهنداوي عن أصحابنا.
وعن محمد أن المستحب أن يصلي في ثوبين: إزار ورداء.
وأما الجائز فأن يصلي في ثوب واحد متوشح به، أو قميص واحد
صفيق، لأنه حصل به ستر العورة وأصل الزينة، إلا أنه لم يتم الزينة.
وأصله حديث رسول الله عليه السلام أنه سئل عن الصلاة في ثوب
واحد فقال: أو كلكم يجد ثوبين.
وأما المكروه فأن يصلي في سراويل واحدة، أو إزار واحد، لأنه،
وإن حصل ستر العورة، ولكن لم تحصل به الزينة أصلا، فإن الله تعالى
قال: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) *.
هذا إذا كان صفيقا، فأما إذا كان رقيقا يصف ما تحته لا تجوز
صلاته، لان عورته مكشوفة.
هذا في حق الرجل، فأما في حق المرأة فالمستحب ثلاثة أثواب في
الروايات كلها: إزار، ودرع، وخمار، وإن صلت في ثوب واحد
متوشحة به أو قميص واحد صفيق، لا يجزئها، إذا كان رأسها أو بعض
جسدها مكشوفا، إلا إذا سترت بالثوب الواحد رأسها وجميع جسدها،
سوى الوجه والكفين فحينئذ يجوز.
وهذا في حق الحرة. فأما الأمة فإذا صلت مكشوفة الرأس، جاز،
لان رأسها ليس بعورة.
146

باب
صلاة المسافر
في الباب فصول ثلاثة:
أحدها: بيان الشروط التي تتعلق بها رخصة السفر.
والثاني: بيان الرخصة.
والثالث: بيان ما يبطل به حكم السفر، ويعود إلى حكم الإقامة.
أما الأول - فنقول:
هو أن ينوي مدة السفر، ويخرج من عمران المصر. فما لم يوجد
هذان الشرطان، لا يثبت في حقه أحكام السفر، ورخصة المسافرين،
فإنه إذا خرج من عمران المصر، ولم يقصد موضعا بينه وبين مصره مدة
السفر أو خرج قاصدا موضعا ليس بينه وبين ذلك الموضع مدة السفر، لا
يصير مسافرا، وإن قطع مسافة بعيدة أكثر من مدة السفر، لان الانسان
قد يخرج لحاجة إلى موضع لاصلاح الضياع لا للسفر، ثم تبدو
له حاجة أخرى، فيجاوزه إلى موضع آخر ليس بينهما مدة السفر، فلا بد
من قصد مدة السفر.
ثم اختلف العلماء في مدة السفر التي تتعلق بها الرخصة.
قال علماؤنا: ثلاثة أيام ولياليها، يسير الإبل ومشي الاقدام هذا
جواب ظاهر الرواية.
147

وروى الحسن عن أبي حنيفة، وابن سماعة عنهما، أنه مقدر بيومين
وأكثر اليوم الثالث.
وقال الشافعي في قول: مقدر بمسيرة يومين. وفي قول: ستة
وأربعون ميلا، كل ميل ثلث فرسخ.
وقال بعض الناس: إنه مقدر بمسيرة يوم وليلة.
وأصل ذلك قول النبي عليه السلام: يمسح المقيم يوما وليلة،
والمسافر ثلاثة أيام ولياليها.
ثم إذا نوى مدة السفر، لا يثبت حكم السفر ما لم يخرج من
العمران، ولا يصير مسافرا بمجرد النية، لان مجرد العزم معفو ما لم
يتصل بالفعل. فإذا خرج من عمران المصر، لقصد السفر، فقد وجد
عزم مقارن للفعل، فيكون معتبرا.
وأما المسافر إذا نوى الإقامة، فإنه يبطل حكم السفر، ويصير مقيما
للحال، لان العزم وجد مقارنا للفعل، وهو ترك السفر والإقامة حقيقة،
فيكون معتبرا.
ثم المعتبر في حق النية هو نية الأصل دون التابع، حتى إن المولى إذا
نوى السفر، وخرج من العمران مع عبده، يصير عبده مسافرا، وإن لم
ينو السفر لأنه تابع، وكذلك الزوج مع الزوجة، وكذلك كل من لزمه
طاعة غير من الخليفة والسلطان وأمير الجند ونحو ذلك.
وأما بيان الرخصة - فنقول:
الرخص التي تعلقت بالسفر هي إباحة الفطر في رمضان، وقصر
الصلاة التي هي من ذوات الأربع.
ثم اختلف العلماء في ذلك.
148

فقال علماؤنا: الصوم في رمضان في حقه عزيمة، والافطار
رخصة. أما قصر الصلاة فهو عزيمة، والاكمال مكروه ومخالفة
للسنة، ولكن سمي رخصة مجازا.
وقال الشافعي: القصر رخصة، والاكمال عزيمة.
وثمرة الخلاف أن المسافر إذا صلى أربعا، لا يكون الأربع فرضا،
بل المفروض ركعتان لا غير، والشطر الثاني تطوع عندنا، حتى إنه إذا
قعد على رأس الركعتين قدر التشهد تجوز صلاته، وإذا لم يقعد، لا
تجوز لأنها القعدة الأخيرة في حقه، وهي فرض فإذا تركها فقد ترك
فرضا، بخلاف المقيم تجوز لان الاكمال عزيمة عنده، وقد اختار
العزيمة، فيكون فرضا.
وكذا إذا ترك القراءة في الركعتين الأوليين، أو في ركعة منهما، تفسد
صلاته عندنا، خلافا له.
وأصله ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: صلاة المسافر
ركعتان تمام غير قصر، على لسان نبيكم عليه السلام.
ثم الرخصة، وهي قصر الصلاة وغيره، تثبت بمطلق السفر، سواء
كان سفر طاعة كالجهاد والحج أو سفر مباح كالخروج إلى التجارة، أو سفر
معصية كالخروج لقطع الطريق ونحوه وهذا عندنا.
وقال الشافعي: لا تثبت بسفر هو معصية، لان الجاني لا يستحق
التخفيف.
ولكنا نقول: إن النصوص التي وردت، في قصر الصلاة، وإباحة
الفطر في حق المسافر، لا تفصل بين سفر وسفر.
ثم إذا خرج من عمران المصر قاصدا مدة السفر، فله أن يقصر
الصلاة، سواء كان في أول الوقت أو في أوسطه أو في آخره، حتى إنه إذا
149

بقي من الوقت مقدار ما يمكنه أداء ركعتين فإنه يقصر بلا خلاف بين
أصحابنا.
فأما إذا بقي مقدار ما يتمكن من أداء ركعة واحدة، أو من التحريمة
لا غير، فإنه يصلي ركعتين عندنا خلافا لزفر.
وقال بعض أصحابنا: إنما يقصر إذا خرج من العمران، قبل زوال
الشمس فأما إذا خرج بعده فإنه يصلي أربعا للظهر، وإنما يقصر العصر.
وقال بعض أصحاب الشافعي: إذا مضى من الوقت مقدار ما
يتمكن من أداء الأربع، فإنه يجب عليه الاتمام، ولا يجوز القصر. فأما
إذا مضى من الوقت شئ قليل بحيث لا يسع لأربع ركعات، فإنه
يقصر.
وهذا بناء على أن الصلاة تجب في أول الوقت أو في آخره: فعندهم
تجب في أول الوقت، وعندنا تجب في جزء من الوقت غير عين.
وأما بيان ما يبطل به حكم السفر - فنقول:
يبطل بما يضاده وينافيه، وهو الإقامة.
لكن إنما تثبت الإقامة بأربعة أشياء: بصريح نية الإقامة، وبوجود
الإقامة بطريق التبعية، وبالدخول في مصره. وبالعزم على العود إلى
مصره.
أما الأول: إذا نوى المسافر إقامة خمسة عشر يوما، في مكان يصلح
للإقامة، فإنه يصير مقيما. فلا بد من ثلاثة أشياء: نية الإقامة ونية مدة
الإقامة. والمكان الصالح للإقامة، فإنه إذا أقام، في مصر أو قرية أياما
كثيرة لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى، ولم ينو الإقامة لا يصير مقيما
عندنا.
150

وللشافعي قولان في قول: إذا أقام أربعة أيام، يصير مقيما، وفي
قول: إذا أقام أكثر مما أقام رسول الله (ص) بتبوك، يصير مقيما، والنبي
عليه السلام أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين.
وأما مقدار مدة الإقامة فخمسة عشر يوما عندنا.
وقال مالك والشافعي: أقل ذلك أربعة أيام.
وهذا إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما، في موضع واحد.
فأما إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما في موضعين فإن كل واحد
منهما أصلا بنفسه، فلا يكون أحدهما تبعا للآخر، فإن نوى أن يقيم بمكة
ومنى: فإنه لا يصير مقيما.
فأما إذا كان أحدهما تبعا للمصر حتى تجب الجمعة على من سكن
هناك، فإنه يصير مقيما، بنية إقامة خمسة عشر يوما في هذين الموضعين،
لأنهما في الحكم كموضع واحد.
وأما المكان الصالح للإقامة فهو موضع لبث وقرار في العادة، نحو
الأمصار والقرى، فأما المفازة والجزيرة والسفينة، فليست بموضع
الإقامة.
فأما الاعراب والأكراد والتركمان الذين يسكنون المفاوز في بيوت
الشعر والصوف، فهم مقيمون، لان موضع مقامهم المفاوز عادة فأما إذا
ارتحلوا عن موضع إقامتهم في الصيف، وقصدوا موضعا آخر للإقامة في
الشتاء، وبين الموضعين مدة السفر، فإنهم يصيرون مسافرين في
الطريق.
وأما الثاني: وهو أن توجد نية الإقامة في الأصل، فيصير الاتباع
مقيمين تبعا له من غير نية. وذلك نحو العبد والزوجة، وكل من
وجب عليه طاعة غيره، من إمام أو أمير جيش.
151

وأما الغريم مع صاحب الدين فإن كان المديون مليئا، لا يصير
تبعا له، لأنه يمكنه قضاء الدين فيقيم في أي موضع شاء ويرتحل، فأما إذا
كان مفلسا، فإنه يصير تبعا، لان له حق حبسه وملازمته فلا يمكنه أن
يفارق صاحب الدين، فيصير مقيما تبعا له.
ولكن في هذه الفصول إنما يصير التبع مقيما بإقامة الأصل، وتنقلب
صلاته أربعا إذا علم التبع نية إقامة الأصل. فأما إذ لم يعلم فلا، حتى
إن التبع إذا صلى صلاة المسافرين قبل العلم بنية إقامة الأصل، فإن
صلاته جائزة، ولا يجب عليه الإعادة لان في لزوم الحكم قبل العلم به
حرجا، فهو مدفوع.
وعلى هذا الأصل:
إذا اقتدى المسافر بالمقيم في الوقت يجوز وتنقلب أربعا، لان
المقتدي تابع للامام، والأداء وهو الصلاة في الوقت، يتغير بنية الإقامة
صريحا، فإنه إذا نوى الإقامة في القوت ينقلب أربعا، فيتغير بوجود
الإقامة تبعا، فصار صلاة المقتدي مثل صلاة الامام فصح الاقتداء.
فإذا اقتدى بالمقيم خارج الوقت، لا يصح، لان القضاء لا يتغير
بالنية بعد خروج الوقت، ولا يصير أربعا، فكذا بالإقامة تبعا، فتكون
القعدة الأولى فرضا في حق المقتدي، نقلا في حق الامام، واقتداء
المفترض بالمتنفل لا يجوز في البعض كما لا يجوز في كل الصلاة.
وأما اقتداء المقيم بالمسافر فيجوز في الوقت وخارج الوقت، لان صلاة
المسافر في الحالين واحدة، والقعدة فرض في حقه، نفل في حق المقتدي،
واقتداء المتنفل بالمفترض جائز، فافترقا.
وأما الثالث: فهو بدخول مصره الذي هو وطنه الأصلي، يصير
مقيما، وإن لم ينو الإقامة. ولا يختلف الجواب بين ما إذا دخل مصره
152

مختارا، أو لقضاء حاجة حدثت مع نية الخروج، أو بدا له أن يترك
السفر، لان مصره متعين للإقامة، فلا يحتاج فيه إلى النية.
وأما الرابع: فهو العزم على العود إلى مصره، بأن خرج من مصره بنية
السفر ثم عزم على العود إلى مصره، ولم يكن بين هذا الموضع الذي
بلغ وبين مصره مدة سفر فإنه يصير مقيما حين عزم على العود إلى
مصره، وإن لم يدخل مصره، ولا نوى الإقامة صريحا، ويصلي أربعا،
ما لم يعزم على السفر ثانيا.
وإذا كان بينه وبين مصره مدة سفر، لا يصير مقيما، والله أعلم.
فصل
ثم الصلاة على الراحلة أنواع ثلاثة: فرض، وواجب، وتطوع.
أما الفرض فيجوز على الراحلة بشرطين:
أحدهما: أن يكون خارج المصر، سواء كان مسافرا، أو خرج إلى
الضيعة.
والثاني: أن يكون به عذر مانع من النزول عن الراحلة، وهو خوف
زيادة العلة والمرض، أو خوف العدو والسبع، أو كان في طين وردغة
بحيث لا يمكن القيام فيه، ونحو ذلك.
ولكن يصلي بالايماء، من غير ركوع وسجود، ويجهل السجود
أخفض من الركوع.
ثم هل يجوز الصلاة على الدابة بجماعة، بأن يقوم البعض بجنب
البعض ويتقدمهم الامام أو يتوسطهم؟
153

في جواب ظاهر الرواية: لا يجوز كيفما كان.
وروي عن محمد أنه قال: إذا اصطف القوم صفا واحدا، بحيث لم
يكن بينهم فرج، وقام الامام في وسطهم، جاز، وإلا فلا.
وأما الصلاة الواجبة فكذلك، لأنها ملحقة بالفرائض في الأحكام.
وذلك نحو الوتر، لان عند أبي حنيفة، الوتر واجب، وعندهما:
لا يجوز أيضا، لأنه سنة مؤكدة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ركعتا الفجر على الدابة، من
غير عذر.
وكذا الصلاة المنذورة.
وكذا التطوع الذي وجب قضاؤه بالشروع والافساد.
وكذا سجدة التلاوة التي وجبت بالتلاوة على الأرض.
فأما إذا تلا آية السجدة على الدابة، فسجدها عليها بالايماء،
جازت، لأنها وجبت كذلك.
ولو أوجب على نفسه صلاة ركعتين، وهو راكب، فصلاهما على
الدابة، فإنه يجوز، كذا ذكر الكرخي. وروي عن محمد أن من أوجب
على نفسه صلاة ركعتين، وهو راكب، فصلاهما على الدابة لا يجوز،
ولم يفصل بين ما إذا كان الناذر على الأرض أو على الدابة.
وأما صلاة التطوع فإنه تجوز على الدابة، كيفما كان الراكب:
مسافرا أو غير مسافر، بعد أن يكون خارج المصر، وإن كان قادرا على
النزول.
وهذا قول عامة العلماء.
وقال بعضهم: لا يجوز إلا في حق المسافر، فأما في حق من خرج
154

إلى بعض القرى فلا يجوز، لان الحديث ورد في السفر.
والصحيح قول عامة العلماء، لما روي أنه عليه السلام خرج إلى
خيبر، وكان يصلي على الدابة تطوعا، وليس بين المدينة وخيبر مدة
سفر.
وأما التطوع على الدابة في المصر فلا يجوز في ظاهر الرواية.
وعن أبي يوسف: يجوز استحسانا.
ولا تجوز الصلاة ماشيا، ولا مقاتلا، ولا سابحا في الماء، لان النص
ورد في الدابة.
ثم الصلاة على الدابة تطوعا كيفما كان، أو فرضا عند العذر المانع عن
التوجه إلى القبلة، تجوز من غير استقبال القبلة أصلا، لا عند
الشروع، ولا بعده.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: لا تجوز، إلا إذا وجه الدابة نحو القبلة عند
الشروع، ثم يصلي حيث توجهت الدابة.
فأما إذا كانت الصلاة على الراحلة بعذر الطين والردغة فإن كان
يمكنهم التوجه إلى القبلة، فإنه لا تجوز صلاتهم إلى غير القبلة، لان القبلة
لم تسقط من غير عذر.
وأصله ما روى جابر عن النبي عليه السلام أنه كان يصلي على الدابة
نحو المشرق تطوعا، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة، صلى على الأرض.
ثم الصلاة على الدابة لخوف العدو تجوز كيفما كانت الدابة، سائرة أو
واقفة، لأنه يحتاج إلى السير.
أما في حال المطر والطين فإن صلى والدابة تسير فلا تجوز، لان
155

السير مناف للصلاة، فلا يسقط من غير عذر.
وكذا إذا استطاعوا النزول، ولم يقدروا على القعود نزلوا، وأومأوا
قياما على الأرض. وإن قدروا على القعود، ولم يقدروا على السجود
نزلوا، وصلوا قعودا بالايماء، لان السقوط بقدر الضرورة.
وأما الصلاة في السفينة: فإن كانت واقفة، بأن كانت مشدودة على
الجد ونحو ذلك فإنه لا يجوز إلا بالركوع والسجود، قائما متوجها إلى
القبلة، لأنه قادر.
وإن كانت السفينة جارية: فإن كان يقدر على الخروج إلى الشط،
فإنه يستحب له الخروج.
ولو صلى في السفينة قائما بركوع وسجود متوجها إلى القبلة حيثما
دارت السفينة: فإنه يجوز، لان السفينة بمنزلة الأرض.
أما إذا صلى قاعدا بركوع وسجود فإن كان عاجزا عن القيام، يجوز
بالاتفاق.
وإن كان قادرا على القعود بركوع وسجود فصلى بالايماء لا يجوز
بالاتفاق.
أما إذا كان قادرا على القيام، فصلى قاعدا بركوع وسجود فإنه يجوز
عند أبي حنيفة، وقد أساء.
وعلى قولهما: لا يجوز، لان القيام ركن فلا يسقط من غير عذر.
وقول أبي حنيفة أرفق بالناس، لان الغالب في السفينة دوران
الرأس، فالحق بالمتحقق تيسيرا.
156

فإذا صلى في السفينة بجماعة، جازت صلاتهم.
ولو اقتدى به رجل في سفينة أخرى: فإن كانت السفينتان
مقرونتين جاز. وإن كانتا منفصلتين: لا يجوز.
وإن كان الامام في السفينة والمقتدي على الشط، والسفينة واقفة:
فإن كان بين السفينة والشط مقدار نهر عظيم، لا يصح الاقتداء، وإن لم
يكن جاز والله أعلم.
157

باب
صلاة الجمعة
الكلام في هذا الباب في أربعة مواضع:
في بيان أن الجمعة فرض أصلي أم لا،
وفي بيان شرائط الجمعة،
وفي بيان صفة صلاة الجمعة، وقدرها،
وفي بيان ما يستحب يوم الجمعة.
أما الأول - فنقول:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: فرض الوقت الظهر، إلا أن المقيم
الصحيح الحر مأمور بإسقاطه بأداء الجمعة على طريق الختم،
والمعذور مأمور بإسقاطه بالجمعة، على طريق الرخصة حتى إنه إذا أدى
الجمعة سقط عنه الظهر وتكون الجمعة فرضا، وإن ترك الترخص،
عاد الامر إلى العزيمة، ويكون الفرض هو الظهر لا غير.
وقال محمد في قول: الفرض هو الجمعة، وله أن يسقطه بالظهر
رخصة. وفي قول: الفرض أحدهما، إما الظهر وإما الجمعة، ويتعين
ذلك بالفعل: فأيهما فعل، يتبين أن الفرض هو.
وقال زفر: فرض الوقت الجمعة، والظهر بدل عنها.
وهذا كله قول علماؤنا رحمهم الله.
وقول الشافعي: الجمعة ظهر قاصر.
159

وعندنا هي صلاة غير صلاة الظهر، حتى لا يصح عندنا بناء الظهر
على تحريمة الجمعة، بأن خرج الوقت، وهو في الصلاة، فعندنا يستقبل
ظهرا، وعند الشافعي يتمها ظهرا.
إذا ثبت هذا الأصل، تخرج عليه المسائل - فنقول:
من صلى الظهر في بيته وحده، وهو غير معذور، فإنه يقع فرضا في
قول أصحابنا الثلاثة، خلافا لزفر، فإن عنده لا يجوز الظهر. أما عند
أبي حنيفة، وأبي يوسف فلان فرض الوقت هو الظهر، لكن أمر بإسقاطه
بالجمعة، فإذا لم يأت بالجمعة، وأتى بالظهر، فقد أدى فرض الوقت
فيجزئه، وأما عند محمد فلان فرض الوقت، وإن كان هو الجمعة، في
قول، فله أن يسقطه الظهر رخصة. وفي قول: أحدهما غير عين وإنما
يتعين بفعله وقد عينه. وعلى قول زفر: لما كان الظهر بدلا عن
الجمعة، وهو قادر على الأصل. فإنه لا يجوز البدل.
وعلى هذا المعذور، نحو المريض، والمسافر، والعبد، إذا صلى
الظهر في بيته وحده، يقع عن الفرض عند أصحابنا جميعا، على اختلاف
الأصول: أما عندهما فلان فرض الوقت هو الظهر في حق الكل،
والمعذور أمر بإسقاطه بالجمعة بطريق الرخصة، إلا أن الفرق أن في
الفصل الأول يأثم بترك الجمعة، وههنا لا يأثم بترك الجمعة، لان ثمة
ترك الفرض، فيأثم وهنا ترك الرخصة فلا يأثم ويعذر، وأما عند زفر فلان
الواجب عليه الظهر، بدلا عن الجمعة، لكونه معذورا.
وعلى هذا الأصل إن المعذور إذا صلى الظهر في بيته، ثم شهد
الجمعة وصلى مع الامام انتقض ظهره ويكون تطوعا، وفرضه
الجمعة لأنه أمر بإسقاط الظهر بالجمعة إذا كان قادرا عليه وقد
قدر فينتفض ظهره ضرورة تمكن أداء الجمعة. وعند زفر: لا يبطل
لما قلنا: إن الظهر عنده بدل، وقد قدر على الأصل، بعد حصول المقصود
160

بالبدل، فلا يبطل البدل.
وأما غير المعذور إذا صلى الظهر في بيته، ثم شهد الجمعة، فهذا
على وجهين:
أحدهما: إذا حضر الجامع وصلى الجمعة مع الامام أو أدركه في
الصلاة بعدما قام فإنه يبطل ظهره بلا خلاف بيننا لما قلنا.
والثاني: حين خرج من بيته وسعى إلى الجامع والامام في
الجمعة، لكنه إذا حضر ووجد الامام قد فرغ عنها فكذلك الجواب عند أبي
حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: لا ينتفض ما لم يشرع معه في الجمعة.
وعلى هذا الأصل إذا شرع الرجل في صلاة الجمعة، ثم تذكر أن
عليه صلاة الفجر فإن كان بحال لو اشتغل بالفجر تفوته الجمعة والظهر عن
وقتهما، فإنه يمضي فيها ولا يقطع بالاجماع. وإن كان بحال لو اشتغل
بالفجر تفوته الجمعة، ولكن يدرك الظهر في وقته، فعلى قول أبي حنيفة
وأبي يوسف: يصلي الفجر، ثم يصلي الظهر، ولا تجزئه الجمعة، وعلى
قول محمد: يمضي على الجمعة، ولا يقطع لما قلنا.
وأما الثاني: في بيان شرائط الجمعة - فنقول:
للجمعة شرائط بعضها من صفات المصلي، وبعضها ليس من صفاته.
فالتي من صفات المصلي ستة: الذكورة، والعقل، والبلوغ،
والحرية، وصحة البدن، والإقامة، حتى لا تجب الجمعة على النسوان،
والصبيان، والمجانين، والعبيد والزمني والمرضى، والمسافرين.
وأما الأعمى فهل يجب عليه الجمعة؟ أجمعوا على أنه إذا لم يجد
قائدا، لا يجب، كما لا يجب على الزمني. أما إذا وجد قائدا، إما
بالإعارة أو بالإجارة، على قول أبي حنيفة لا يجب أيضا، وعندهما يجب
أيضا.
161

وعلى هذا الاختلاف إذا كان له زاد وراحلة، وأمكنه أن يستأجر
قائدا، أو وجد له إنسان يقوده إلى مكة ذاهبا وجائيا، فعند أبي حنيفة
لا يجب عليه الحج، وعندهما يجب.
ثم هؤلاء الذين لا يجب عليهم الجمعة إذا حضروا الجمعة
وصلوا، فإنه يجزئهم ويسقط عنهم فرض الوقت، لان امتناع الوجوب
للعذر قد زال.
وأما الشرائط التي ليست من صفات المصلي فستة أيضا: خمسة ذكرها في
ظاهر الرواية، وهي: المصر الجامع، والسلطان، والجماعة،
والخطبة، والوقت، والسادس ذكره في نوادر الصلاة وهو أن يكون أداء
الجمعة بطريق الاشتهار، حتى إن أميرا لو جمع جنوده في الحصن، وأغلق
الأبواب وصلى بهم الجمعة، فإنه لا يجزئهم وإن فتح باب الحصن
وأذن للعامة فيه بالدخول، جاز.
وأما المصر الجامع فقد ذكر الكرخي: ما أقيمت فيه الحدود، ونفذت
فيه الأحكام. وقد تكلم فيه أصحابنا بأقوال.
وروي عن أبي حنيفة: هو بلدة كبيرة، فيها سكك وأسواق، ولها
رساتيق. وفيها وال يقدر على إنصاف المظلوم من الظالم، بحشمه وعلمه
أو علم غيره، ويرجع الناس إليه فيما وقع لهم من الحوادث، وهذا هو
الأصح.
وأما الثالث: في بيان صفة صلاة الجمعة وقدرها - فنقول:
ينبغي أن يصلي ركعتين، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة
مقدار ما يقرأ في صلاة الظهر على ما مر.
ولو قرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة الجمعة، وفي
الثانية بفاتحة الكتاب وسورة المنافقون فحسن تبركا بفعل النبي عليه
162

السلام، ولكن لا يواظب على قراءة هاتين السورتين أيضا. فلو واظب
على قراءاتهما، يكره لان فيه هجر بعض القرآن، وإيهام العامة على أن
ذلك بطريق الحتم.
ويجهر بالقراءة فيهما لورود الأثر بالجهر فيها والله أعلم.
وأما الرابع: في بيان ما يستحب في يوم الجمعة فنقول:
السنة والمستحب فيه أن يدهن، ويمس طيبا إن وجد، ويلبس أحسن
ثيابه ويغتسل.
وغسل يوم الجمعة عند عامة العلماء: سنة.
وقال مالك: واجب.
ولكنه سنة اليوم أو سنة الجمعة؟ فعلى الاختلاف الذي ذكرنا.
163

باب
صلاة العيدين
الكلام في صلاة العيدين في مواضع:
وفي بيان أنها واجبة أم سنة،
وفي شرائط وجوبها،
وفي وقت أدائها،
وفي كيفية أدائها،
وفي بيان ما يستحب، ويسن، في يوم عيد الأضحى، والفطر.
أما الأول، وهو بيان أنها واجبة أم سنة - فنقول:
اختلفت الروايات عن أصحابنا:
في ظاهر الرواية دليل على أنها واجبة، فإنه قال: ولا يصلي نافلة في
جماعة، إلا قيام رمضان، وصلاة الكسوف فهذا دليل على أن
صلاة العيد واجبة، فإنها تقام بجماعة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: وتجب صلاة العيد على أهل
الأمصار، كما تجب الجمعة.
وذكر أبو الحسن الكرخي ههنا وقال: وتجب صلاة العيد على من يجب
عليه الجمعة.
وذكر في الجامع الصغير أنه سنة، فإنه قال: إذا اجتمع العيدان في
يوم واحد، فالأول سنة.
165

وذكر أبو موسى الضرير في مختصره أنها فرض كفاية.
والأصح أنها واجبة.
أما بيان شرائط وجوبها:
فكل ما هو شرط وجوب الجمعة، فهو شرط وجوب صلاة العيدين
من: الامام، والمصر، والجماعة، إلا الخطبة، فإنها سنة بعد الصلاة
بإجماع الصحابة.
وشرط الشئ يكون سابقا عليه، أو مقارنا له.
وأما الوقت:
فقال أبو الحسن: وقت صلاة العيدين من حين تبيض الشمس إلى أن
تزول، لما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يصلي العيد والشمس
قدر رمح أو رمحين، إلا أن في عيد الفطر إذا ترك الصلاة في اليوم الأول
لعذر، يؤدي في اليوم الثاني في وقتها، وإن ترك بغير عذر سقطت
أصلا.
وفي عيد الأضحى إن تركت في يوم النحر لعذر، تؤدى في اليوم
الثاني، فإن تركت في اليوم الثاني، لعذر
أيضا، تؤدى في اليوم الثالث
أيضا. وكذلك قالوا إذا تركت بغير عذر، تؤدى في اليوم الثاني
والثالث، وتسقط بعد ذلك، سواء دام العذر أو انقطع، لان القياس أن
لا تؤدى إلا في يوم العيد، لأنها عرفت بصلاة العيد.
وإنما عرف جواز الأداء في اليوم الثاني في عيد الفطر بالنص الخاص في
حالة العذر وفي عيد الأضحى في اليوم الثاني والثالث استدلالا
بالأضحية، لأنها تجوز في اليوم الثاني والثالث، وصارت هذه أيام النحر،
وصلاة العيد تؤدى في أيام النحر.
166

وأما بيان كيفية أداء صلاة العيدين - فنقول:
يصلي الامام ركعتين: فيكبر تكبيرة الافتتاح، ويقول: سبحانك
اللهم وبحمدك إلى آخره، ثم يكبر ثلاثا، ثم يقرأ جهرا، ثم يكبر
تكبيرة الركوع فإذا قام إلى الثانية يقرأ أولا، ثم يكبر ثلاثا، ويركع
بالرابعة فتكون التكبيرات الزوائد ستا، ثلاثة في الركعة الأولى وثلاثة في
الركعة الثانية، وثلاثة أصليات: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرات الركوع، فصار
حاصل الجواب عندنا أن يكبر في صلاة العيدين تسع تكبيرات، ستة في
الزوائد، وثلاثة أصليات. ويوالي بين القراءتين فيقرأ في الركعة الأولى
بعد التكبيرات وفي الثانية قبل التكبيرات.
وهذا هو مذهب عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعقبة بن
عامر الجهني، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وابن مسعود
الأنصاري رضي الله عنهم.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثلاث روايات، والمشهور
منها أنه فرق بين عيد الفطر وعيد الأضحى، فقال: ويكبر في الفطر
إحدى عشرة تكبيرة: ثلاث أصليات، وثمان زوائد، في كل ركعة
أربعة، وفي الأضحى يكبر خمس تكبيرات ثلاث أصليات وزائدتان
في كل ركعة تكبيرة.
وعنده يقدم القراءة على التكبيرات في الركعتين جميعا.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما روايات كثيرة، والمشهور
منها أنه يكبر ثلاث عشرة تكبيرة، ثلاث أصليات، وعشر زوائد، في كل
167

ركعة خمسة، في العيدين جميعا، ويقدم التكبيرات على القراءة في
الركعتين جميعا.
وإنما أخذ أصحابنا بقول ابن مسعود لأنه وافقه كثير من الصحابة،
وأنه لا اضطراب في قوله بخلاف قول غيره.
ثم إن عند أبي حنيفة ومحمد: يرفع يديه عند تكبيرات الزوائد وعلى
قول أبي يوسف: لا يرفع.
ويتعوذ: قبل التكبيرات عند أبي يوسف وعند محمد بعد التكبيرات
قبل القراءة، على ما ذكرنا أن عند أبي يوسف التعوذ تبع للاستفتاح
وعند محمد تبع للقراءة مقدمة عليه.
ثم القوم يجب عليهم أن يتابعوا الامام في التكبيرات، على رأي
الامام، دون رأي أنفسهم، بأن كان الامام على رأي ابن مسعود،
والقوم على رأي عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، لأنهم تبع للامام،
فيجب عليهم متابعته وترك رأيهم برأيه.
ثم إن القوم إنما يتابعون الامام في التكبيرات إذا لم يزد على ما قاله
الصحابة، فأما إذا زاد عليه، لا يتابعونه، لأنه خلاف الاجماع.
ولكن هذا إذا سمع التكبيرات من الامام، فأما إذا سمع ذلك من
المكبرين فإنه يأتي بالكل، وإن خرج عن أقاويل الصحابة، لأنه لو ترك
البعض ترك ما أتى به الامام فكان الاحتياط في تحصيل الكل.
ثم الامام إذا شرع في صلاة العيد مع القوم، فجاء إنسان واقتدى
به:
فإن كان قبل التكبيرات الزوائد، كان له أن يتابع الامام على مذهب
الامام ورأيه لما قلنا.
168

فأما إذا أدرك بعدما كبر الامام الزوائد، وشرع في القراءة، فإنه يكبر
تكبيرة الافتتاح ويأتي بالزوائد، قائما ما لم يخف فوت الركوع، لأنه خلف
الامام حقيقة، ويكبر برأي نفسه، لا برأي الامام، لأنه مسبوق.
فأما إذا خاف فوت الركوع، بأن ركع الامام، فإنه يكبر تكبيرة
الافتتاح قائما، ثم يكبر ويركع، ويأتي بالزوائد في الركوع، برأي نفسه
لا برأي الامام لأنه مسبوق.
وعن الحسن بن زياد أنه يسقط عنه الزوائد، لأنها فات محلها وهو
القيام.
ولكنا نقول إن للركوع حكم القيام من وجه، فيأتي بها احتياطا.
وإن خاف فوت التسبيحات، يأتي بالزوائد دون التسبيحات لأنها
واجبة والتسبيحات سنة.
فأما إذا كان بعد رفع الامام رأسه من الركوع، فإن يسقط عنه
التكبيرات الزوائد وله أن يشرع في صلاته، ثم يقضي الركعة، ويأتي
بالتكبيرات على رأيه لا على رأي إمامه، بخلاف ما إذا أدركه في الركعة
الثانية من صلاة العيد، فإنه يتابع الامام فيها برأي الامام في البداية، لأنه
خلف الامام حقيقة، فإذا فرغ الامام من صلاته، فإنه يقضي ما سبق
به، وعلى رأيه أيضا، لأنه المسبوق بمنزلة المنفرد.
ثم إذا قام إلى قضاء ما سبق به ينبغي أن يقرأ أولا ثم يكبر
الزوائد، كما هو مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الركعة
الثانية.
هكذا ذكر في عامة الروايات.
وذكر في نوادر أبي سليمان أنه يكبر أولا ثم يقرأ.
169

ومنهم من قال ما ذكر في النوادر قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وما
ذكرنا في عامة الروايات قول محمد، بناء على أن المسبوق، يقضي أول
صلاته في حق القراءة عندهما، وعند محمد يقضي آخر صلاته.
فإن كان يقضي أول صلاته عندهما، فيأتي بالتكبير أولا ثم بالقراءة
إذا كان يرى رأي ابن مسعود ولما كان يقضي آخر صلاته عند محمد، يأتي
بالقراءة ثم بالتكبير كما هو مذهب ابن مسعود.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان وهذا يعرف في المبسوط.
وأما ما يستحب ويسن في يوم العيد، فأشياء:
الاغتسال، والاستياك، والتطيب، ولبس أحسن ثيابه جديدا كان
أو غسيلا.
وينبغي أن يخرج صدقة فطره قبل الخروج إلى المصلى، في عيد
الفطر، وكذا يذوق شيئا لكونه يوم فطر.
وأما في عيد الأضحى فإن كان في الرساتيق يذبح حين أصبح،
ويذوق منه، ولا يمسك كما في عيد الفطر، وفي المصر لا يذبح حتى يفرغ
من صلاة العيد، ولا يذوق في أول اليوم، حتى يكون تناوله من
القرابين.
وهل يكبر الناس في الطريق، قبل الوصول إلى المصلى، على سبيل
الجهر؟
ذكر الطحاوي أنه يأتي على سبيل الجهر في العيدين جميعا.
ولكن مشايخنا قالوا بأن في عيد الأضحى، يكبر في حال ذهابه إلى
المصلى جهرا، فإذا انتهى إلى المصلى يترك، فأما في عيد الفطر فعلى
قول أبي حنيفة لا يكبر جهرا في حال ذهابه إلى المصلى وعلى قولهما يكبر
فيهما جهرا.
170

والصحيح قول أبي حنيفة، فإن الأصل في الأذكار هو الاخفاء دون
الجهر، وإنما يصار إلى الجهر، بدليل زائد وفي عيد الأضحى ثبت عن
رسول الله (ص) أنه كان يكبر في الطريق، ولم يكبر في عيد الفطر.
ثم في يوم العيد، ينبغي أن يترك التطوع في المصلى، قبل صلاة
العيد، وقبل أن يفرغ الامام من الخطبة حتى لو فعل يكون مكروها
ويصير مسيئا، أما لو فعل بعد الفراغ من الخطبة، فلا بأس به، ومعنى
الكراهة والإساءة قد بيناه في باب الأوقات.
171

باب
تكبير أيام التشريق
الكلام ههنا في:
تفسير التكبير،
وفي بيان كونه واجبا أم سنة،
وفي بيان وقت التكبير،
وفي بيان محل أدائه،
وفي بيان من يجب عليه.
وفي بيان أنه هل يجب فيه القضاء بعد الفوت؟
أما الأول: فقد اختلفت الرواية عن الصحابة في تفسير التكبير،
والصحيح هو المشهور والمتعارف بين الأمة، وهو قولهم: الله أكبر، الله
أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
وأما الثاني - فنقول: إنه واجب، وذكر ههنا أنه سنة، ثم فسرها
بالواجب، فإنه قال: تكبير أيام التشريق سنة ماضية، نقلها أهل
العلم، وأجمعوا على العمل بها، ولكن إطلاق اسم السنة جائز على
الواجب: فإنها عبارة عن الطريقة المرضية.
ودليل الوجوب قوله تعالى: * (واذكروا الله فيح أيام معدودات) * قال أهل
التفسير: المراد هذه الأيام.
173

وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: ما من أيام أحب إلى الله
تعالى العمل فيهن، من هذه الأيام، فأكثروا فيها من التكبير والتهليل
والتسبيح.
والثالث: الكلام في وقت التكبير: اختلفت الصحابة في ابتداء وقت التكبير
وانتهائه.
اتفق الكبار منهم، مثل أبي بكر وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود
و عبد الله بن عباس وغيرهم رضي الله عنهم، على أن يبدأ من صلاة
الفجر من يوم عرفة.
واختلفوا في الانتهاء، روي عن عمر: ينتهي إلى وقت الظهر من
آخر أيام التشريق يكبر ثم يقطع.
وعن علي أنه يقطع في وقت العصر في آخر أيام التشريق تمام ثلاث
وعشرين صلاة.
وعن عبد الله بن مسعود أنه يقطع وقت الصلاة العصر من يوم
النحر يكبر ثم يقطع تمام ثمان صلوات.
فأخذ أبو حنيفة يقول ابن مسعود ابتداء وانتهاء.
وأخذ أبو يوسف ومحمد يقول على ابتداء وانتهاء.
واتفق الشبان من أصحاب رسول الله آ، نحو عبد الله بن عمر
وعائشة وغيرهما، أنه يبدأ من صلاة الظهر من يوم النحر، وهكذا روي
عن زيد بن ثابت.
وروي عن ابن عمر أنه يقطع في الظهر من آخر أيام التشريق.
وأخذ الشافعي بقول ابن عمر ابتداء وانتهاء.
ودلائل المسألة تعرف في المبسوط والجامع الكبير.
174

وأما محل أداء التكبير: ففي دبر الصلاة وإثرها، من غير أن يتخلل،
ما يقطع حرمة الصلاة، حتى إنه لو قام وخرج من المسجد أو تكلم، فإنه
لا يكبر، ولو قام ولم يخرج من المسجد فإنه يكبر.
ثم إذا نسي الامام ولم يكبر فللقوم أن يكبروا، لأنه ليس من جملة
أفعال الصلاة حتى يكون الامام فيه أصلا.
وأما الكلام فيمن يجب عليه: فقد قال أبو حنيفة إنه لا يجب إلا على
الرجال، الأحرار، البالغين، المكلفين، من أهل الأمصار، المصلين
للفرض بجماعة حتى لا يجب على العبيد، ولا على النسوان،
والصبيان، ولا على المسافرين، ولا على أهل الرساتيق، ولا على من
يصلي الفرض وحده.
وقال أبو يوسف ومحمد: يجب على كل مؤد فرضا، على أي وصف
كان، وفي أي مكان كان.
وقال الشافعي: على كل مصل، فرضا كانت الصلاة أم نفلا.
والدلائل مذكورة في المبسوط والجامع الكبير.
وأما الكلام في وجوب القضاء عند الفوت فهو أربعة فصول:
إذا ترك الصلاة في الأيام التي هو فيها، وقضى في تلك الأيام،
فإنه يكبر بلا خلاف، لان القضاء على حسب الأداء، وقد فاتته مع
التكبير، فيقضي كذلك.
ولو ترك صلاة في غير هذه الأيام، فتذكر في هذه الأيام، يقضي
بلا تكبير، لأنه فاتته بلا تكبير.
ولو ترك في هذه الأيام، وقضاها في غير أيام التشريق يقضي بلا
تكبير، لأنه ليس في وقت القضاء تكبير مشروع، على سبيل الجهر، فلا
يمكنه القضاء.
175

ولو ترك التكبير في أيام التشريق، فتذكر في أيام التشريق من
القابل، ففي المشهور من الروايات أنه لا يقضي مع التكبير، كرمي
الجمار إذا فاته في هذه الأيام، لا يقضي في هذه الأيام في السنة القابلة،
فكذلك التكبير.
وفي رواية أخرى أنه يقضي مع التكبير، لأنه يمكنه القضاء
مع التكبير، وقد فاتت مع التكبير، والله أعلم.
176

باب
صلاة الخوف
في الباب فصول:
منها: أن صلاة الخوف مشروعة، بعد وفاة النبي عليه السلام، عند
عامة العلماء.
وقال الحسن بن زياد: إنها كانت مشروعة، في زمن النبي عليه
السلام، مع وجود المنافي لفضيلة الصلاة مع رسول الله (ص)، وهذا المعنى لم
يوجد بعد وفاته.
وجه قول عامة العلماء، إجماع الصحابة على ذلك.
ومنها: بيان صفة صلاة الخوف.
وقد اختلف العلماء في كيفيتها اختلافا كثيرا، لاختلاف الاخبار، في
الباب واختار أصحابنا ما هو الأوجه من ذلك، فقالوا: ينبغي للامام أن
يجعل الناس طائفتين: طائفة بإزاء العدو: ويفتتح الصلاة بطائفة،
فيصلي بهم ركعة إن كان مسافرا، أو صلاة الفجر وركعتين، إن كان
مقيما، في ذوات الأربع، ثم تنصرف هذه الطائفة التي صلى بهم إلى
وجه العدو. وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم بقية الصلاة، ويسلم
ولا يسلم القوم. ثم هذه الطائفة ينصرفون إلى وجه العدو، وتعود
الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها، بغير قراءة، لأنهم لاحقون،
وينصرفون إلى وجه العدو. ثم تعود الطائفة الثانية فتقضي بقية صلاتها،
177

بقراءة لأنهم مسبوقون، ولكن ينبغي أن ينصرفوا مشاة. فأما إذا انصرفوا
ركبانا، فإنه لا تجوز صلاتهم، سواء كان انصرافهم من القبلة إلى العدو
أو من العدو إلى القبلة، هذا جواب ظاهر الرواية عن أصحابنا.
هذا الذي ذكرنا إذا كانت الصلاة ركعتين، أو من ذوات الأربع.
فأما في صلاة المغرب، فينبغي للامام أن يصلي بالطائفة الأولى
ركعتين، وبالثانية ركعة واحدة، وهذا قول عامة العلماء خلافا لسفيان
الثوري، المعادلة في القسمة أن تنصف الصلاة، فيقيم بكل طائفة
نصفها، إلا أن الركعة لا تتجزأ فتتكامل ضرورة.
ثم إنما تجوز صلاة الخوف، إذا لم يوجد من الامام ولا من القوم
مقاتلة ومراماة، في الصلاة. فأما إذا وجد شئ من ذلك، فإنه تفسد
صلاته عندنا، خلافا للشافعي.
ثم كل من كان لا يمكنه أن ينزل، يصلي راكبا بالايماء متوجها إلى
القبلة إن قدر، وإن لم يقدر يصلي حيثما توجه، ولا يسعه أن يترك الصلاة حتى
يخرج الوقت، ولكن يصلون وحدانا، ولا يجوز بجماعة، على ما
ذكرناه.
وكذلك الراجل لا ينبغي أن يؤخر الصلاة، إن قدر على الركوع
والسجود، وإلا فبالايماء.
ثم الخوف الذي يجوز الصلاة على الوجه الذي قلنا إذا كان العدو
بقرب منهم بطريق الحقيقة. فأما إذا كان يبعد منهم، أو ظنوا عدوا،
بأن رأوا سوادا أو غبارا، فصلوا صلاة الخوف، ثم ظهر غير ذلك لا تجوز
صلاتهم. ثم الخوف من العدو ومن السبع سواء.
178

ثم الراكب إذا كان سائرا إن كان مطلوبا يفر من العدو، وتجوز
صلاته للضرورة.
ولو كان طالبا للعدو في الجهاد، وهو سائر، لا تجوز
صلاته، لأنه لا ضرورة.
179

باب
صلاة الكسوف
الكلام في هذا الباب في مواضع:
في بيان مشروعية الصلاة في الكسوفين،
وفي بيان أنها واجبة أو سنة،
وفي بيان كيفية الصلاة وقدرها،
وفي بيان مواضع الصلاة،
وفي بيان وقت الصلاة.
أما الأول فنقول - الصلاة مشروعة في الكسوفين جميعا: كسوف
الشمس، وكسوف القمر للأحاديث الواردة في هذا الباب، ومنها ما
روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: انكسفت الشمس
على عهد رسول الله آ، يوم توفي إبراهيم ابن النبي عليه السلام، فقال
الناس: انكسفت الشمس بموت إبراهيم فقام رسول الله عليه السلام
وخطب وقال في خطبته: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا
ينكسفان بموت أحد ولا بحياته، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله تعالى،
وكبروا وسبحوا، حتى تنجلي الشمس ثم نزل فصلى ركعتين وعنه أنه
قال: إذا رأيتم شيئا من هذه الافزاع فافزعوا إلى الصلاة.
وأما الكلام في بيان أنها سنة أم واجبة، فقد ذكر الحسن بن زياد عن أبي
حنيفة ما يدل على أنها سنة، فإنه روي عنه أنه قال في كسوف الشمس:
إن شاؤوا صلوا ركعتين، وإن شاؤوا أربعا، وإن شاؤوا أكثر من
181

ذلك. والتخيير يكون في التطوع.
وقال بعض مشايخنا بأنها واجبة، لان النبي عليه السلام قال: إذا
رأيتم شيئا من هذه الافزاع، فافزعوا إلى الصلاة وظاهر الامر للوجوب.
وأما الكلام في كيفية الصلاة، أما الصلاة في كسوف الشمس فإنهم
يصلون ركعتين إن شاؤوا بجماعة، وإن شاؤوا فرادى، في منازلهم أو في
موضع اجتمعوا فيه، لكن الجماعة أفضل غير أنهم إذا صلوا
بجماعة، يصلي بهم إمام الجمعة أو نائب السلطان، كما في الجمعة
والعيدين.
ثم عندنا يصلي ركعتين، كما في سائر الصلوات.
وللشافعي قولان في قول يصلي ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين،
وفي قول يصلي أربع ركعات في أربع سجدات، يكبر فيقوم
ويقرأ الفاتحة وسورة ويركع ثم يقوم من غير أن يسجد فيقرأ الفاتحة
والسورة، ثم يركع ويسجد سجدتين ويفعل في الثانية مثلما يفعل في
الأولى.
وكلا القولين متقاربان.
ولا يجهر بالقراءة على قول أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف يجهر.
وعن محمد روايتان.
والصحيح قول أبي حنيفة، لان الأصل في صلاة النهار المخافتة إلا
إذا قام الدليل بخلافه.
ثم هو في مقدار القراءة بالخيار إن شاء طول وإن شاء خفف.
وقال الشافعي: يطول القراءة، فيقرأ الفاتحة ويقرأ مثل سورة
البقرة في الركعة الأولى وآل عمران في الثانية ويمكث في الركوع
182

والسجود مقدار ما يمكث في القراءة.
ولكننا نقول إن المسنون أن يشتغل بالصلاة والدعاء حتى تنجلي
الشمس، فإن طول القراءة قصر الدعاء، وإن قصر الصلاة طول
الدعاء.
وليس في هذه الصلاة آذان، ولا إقامة، ولا خطبة.
ثم إذا فرغوا من الصلاة ينبغي أن يشتغلوا بالدعاء إلى أن تنجلي
الشمس.
ولا يصعد الامام المنبر للدعاء، لان السنة في الأدعية، بعد الفراغ
من الصلاة، لقوله تعالى: * (فإذا فرغت فانصب ئ وإلى ؤ ربك فارغب) *.
وأما الصلاة في كسوف القمر فالسنة فيها أن يصلوا وحدانا في
منازلهم، لان الخسوف في الليل، والاجتماع في الليل مما يتعذر.
وكذا الصلاة وحدانا مستحبة في جميع الافزاع، مثل الريح
الشديدة، والظلمة، والمطر الدائم، والريح الدائم، والخوف من
العدو، وغير ذلك، للحديث الذي ذكرنا.
وقال الشافعي: يصلي في الخسوف بجماعة أيضا.
وأما موضع الصلاة فقد ذكرنا في شرح الطحاوي أنه يصلي في
كسوف الشمس في المسجد الجامع، أو في مصلى العيد.
وذكر القدوري وقال: كان أبو حنيفة يرى صلاة الكسوف في
المسجد، ولكن الأفضل أن تؤدى في أعظم المساجد، وهو الجامع الذي
تصلى فيها الجمعة، ولو صلوا في موضع آخر أجزأهم.
وليس فيها خطبة، ولا صعود منبر.
183

وأما في كسوف القمر فالسنة هي: الصلاة وحدانا في منازلهم على
ما مر.
وأما الوقت فهو الوقت الذي يستحب فيه سائر الصلوات، دون
الأوقات المكروهة، لأن هذه الصلاة إن كانت نافلة، فالنوافل فيها
مكروهة، وإن كانت لها أسباب عندنا كصلاة التحية، وإن كانت
واجبة، فيكره، كالوتر وصلاة الجنازة، والله أعلم.
184

باب
صلاة الاستسقاء
ذكر في ظاهر الرواية أنه لا صلاة في الاستسقاء، وإنما فيه الدعاء.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن الاستسقاء:
هل فيه صلاة، أو دعاء مؤقت، أو خطبة؟ فقال: أما صلاة جماعة
فلا، ولكن الدعاء والاستغفار. وإن صلوا وحدانا، فلا بأس.
وقال أبو يوسف ومحمد: يصلي الامام أو نائبه في الاستسقاء ركعتين،
بجماعة، كما في الجمعة.
والصحيح جواب ظاهر الرواية بقوله تعالى: * (فقلت استغفروا ربكم إنه
كان غفارا السماء عليكم مدرارا) * فمن زاد الصلاة فلا بد من
الدليل.
ثم عندهما يقرأ في الصلاة بما شاء جهرا، كما في صلاة العيدين،
لكن الأفضل أن يقرأ * (سبح اسم ربك الاعلى ؤ) * و * (هل أتاك حديث
الغاشية) *، ولا يكبر فيها سوى تكبيرة الافتتاح وتكبيرتي الركوع في
المشهور من الرواية عنهما، وفي رواية يكبر فيهما كما في صلاة العيد.
ثم بعد الفراغ من الصلاة، يخطب عندهما.
وعند أبي حنيفة: لا يخطب.
وهل يجلس في خطبة الاستسقاء؟ عن أبي يوسف روايتان: في رواية
185

لا يجلس، وفي رواية أخرى: إن خطب خطبة واحدة قائما فحسن.
ولكن يخطب، على الأرض قائما معتمدا على قوس أو سيف
مستقبلا بوجهه إلى الناس وهم مقبلون عليه ويستمعون خطبته
وينصتون، كما في خطب الجمعة، وإن توكأ على عصا، فحسن.
وإذا فرغ من الخطبة، يجعل ظهره إلى الناس، ووجه إلى القبلة،
ويقلب رداءه ثم يشتغل بدعاء الاستسقاء، قائما، يستقبل القبلة،
والناس قعود مستقبلون ووجوههم إلى القبلة في الخطبة والدعاء، لان
الدعاء مستقبل القبلة أقرب إلى الإجابة، يدعو الله تعالى، ويستغفر
للمؤمنين، ويجددون التوبة، ويستسقون، وهذا عندهما.
فأما عند أبي حنيفة، فتقليب الرداء ليس بسنة.
ثم كيفية التقليب عندهما: إن كان مربعا جعل أسفله أعلاه، وأعلاه
أسفله، وإن كان مدورا، جعل الجانب
الأيمن على الأيسر، والأيسر على
الأيمن.
ولكن القوم لا يقلبون أرديتهم عند عامة العلماء.
وقال مالك بأنهم يقلبون أيضا.
ثم عند الدعاء إن رفع يديه نحو السماء فحسن، وإن ترك ذلك
وأشار بإصبعه السبابة فحسن.
وكذا الناس يرفعون أيديهم أيضا، لان السنة في الدعاء بسط
اليدين.
ثم المستحب أن يخرج الامام بالناس إلى الاستسقاء ثلاثة أيام
متتابعة، لان الثلاثة مدة لابلاء العذر فلو لم يخرج الامام وأمر الناس
بالخروج، فلهم أن يخرجوا ويدعوا، ولا يصلوا بجماعة، إلا إذا أمر
إنسانا أن يصلي بهم جماعة.
186

ولا ينبغي أن يخرج أهل الذمة مع المسلمين في الاستسقاء عند
عامة العلماء، بل يمنعون عن الخروج، خلافا لمالك، لأنهم يخرجون
لطلب الرحمة والكفرة أهل السخط والعقوبة دون الرحمة والله أعلم.
187

باب
صلاة المريض
الصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام قادرا على الأداء.
فمتى عجز بسبب المرض عن أداء بعض الأركان، ويسقط
بقدره، لان العاجز لا يكلف.
فإن كان قادرا على الأداء، لكن يخاف زيادة العلة، يسقط عنه
أيضا.
فإذا عجز عن القيام، يصلي قاعدا بركوع وسجود، فإن عجز عن
الركوع والسجود، يصلي قاعدا بالايماء، ويجعل السجود أخفض من
الركوع، ليقع الفصل بينهما، فإن عجز عن القعود أيضا يستلقي ويومئ
إيماء.
وأصله ما روي عن عمران بن الحصين أنه كان به مرض، فسأل
رسول الله (ص) فقال: صلى قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم
تستطع، فعلى الجنب تومئ إيماء.
ثم إذا صلى قاعدا بركوع وسجود، أو بإيماء كيف يقعد في أول
الصلاة، وفي حال الركوع؟ اختلفت الروايات عن أصحابنا:
روى محمد عن أبي حنيفة أنه يجلس كيف شاء.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا افتتح الصلاة، يتربع وإذا
ركع، يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها.
189

وروي عن أبي يوسف أنه يتربع في جميع صلاته.
وروي عن زفر أنه يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته.
والصحيح رواية محمد، لان عذر المريض يسقط عنه الأركان، فلان
يسقط عنه الهيئة أولى.
وأما كيفية صلاة المستلقي فالمشهور من الروايات عن أصحابنا أنه
يصلي مستلقيا على قفاه، ورجلاه نحو القبلة، فإن عجز عن هذا وقدر
على الصلاة على الجنب، فينام على شقه الأيمن، متوجها إلى القبلة
عرضا.
وقد روي عن أصحابنا أيضا أنه يصلي على جنبه الأيمن ووجهه إلى
القبلة فإذا عجز فحينئذ يستلقي على قفاه.
وهو مذهب الشافعي.
وحجتهم حديث عمران بن الحصين.
والصحيح مذهبنا، لان التوجه إلى القبلة، بقدر الممكن، فرض
وذلك فيما قلنا، لان الصلاة في حقه بالايماء وذلك بتحريك الرأس
والوجه، وفي حالة الاستلقاء التحريك إلى القبلة، فإذا كان على
الجنب: يتحرك الرأس لا إلى القبلة بل يكون منحرفا عنها، والانحراف
من غير ضرورة غير مشروع.
والمراد من الجنب في حديث عمران بن الحصين هو السقوط فمعنى
قوله: فعلى الجنب أي يصلي ساقطا على قفاه، وهو تفسير الاستسقاء.
فإن كان قادرا على القيام دون الركوع والسجود، فإنه يومئ قاعدا
لا قائما، فهو المستحب، ولو أومأ قائما، جاز.
وهذا عندنا.
190

وقال الشافعي: يصلي قائما لا قاعدا، لان القيام ركن، فلا يسقط من
غير عذر.
ولكنا نقول إن الغالب أن من عجز عن الركوع، عجز عن القيام
والغالب ملحق بالمتيقن.
وينبغي للمريض أن يأتي بالأركان كلها، مثل الصحيح لان السقوط
بقدر العجز ولم يوجد.
ثم الاضجاع المشروع أنواع:
أحدها: في حالة الصلاة، وهو ما ذكرنا من الاستلقاء على القفا،
دون الاضجاع على الجنب.
والثاني: الاضطجاع في حالة المرض على الفراش، والسنة فيه أن
يضجع المريض على شقه الأيمن عرضا، ووجهه إلى القبلة.
ومنها: أن يضجع المريض المحتضر، وهو أن تقرب وفاته. والسنة
فيه أيضا أن يضجع على شقه الأيمن عرضا وجهه إلى القبلة، إلا أن
العرف قد جرى بين الناس أن يضجع مستلقيا على قفاه نحو القبلة، كما
في حالة الصلاة بالايماء، لما قيل إن هذا أيسر لخروج الروح.
ومنها: الاضجاع على التخت عند الغسل، ولا رواية فيه عن
أصحابنا، لكن العرف قد جرى أن يضجع مستلقيا على قفاه نحو القبلة، لما
في حالة الصلاة بالايماء.
ومنها: الاضجاع في حالة الصلاة على الميت، وهو أن يضجع على
قفاه معترضا للقبلة.
ومنها: الاضجاع في اللحد. والسنة فيه أن يضجع على شقه الأيمن
ووجهه نحو القبلة.
191

ثم إذا عجز عن الايماء، وهو تحريك الرأس، سقط عنه أداء الصلاة
عندنا.
وقال الشافعي: ينبغي أن يومئ بقلبه وبعينه.
وقال زفر: يومئ بقلبه، ويقع مجزئا.
وقال الحسن بن زياد: يومئ بحاجبيه، وبقلبه، ويعيد، متى قدر على
الأركان.
والصحيح قولنا لان الايماء بالقلب هو الإرادة والنية، والصلاة غير
النية والإرادة.
ثم إذا سقط عنه الصلاة بالعجز، فإذا مات من ذلك المرض فلا
شئ عليه، لأنه لم يدرك وقت القضاء. فأما إذا برأ وصح فإن ترك
صلاة يوم وليلة وما دونها، فإنه يقضي فأما إذا ترك أكثر من ذلك، فإنه
لا يقضي.
وعلى ذلك قال أصحابنا في المغمى عليه: إذا فاتته الصلوات ثم
أفاق، يقضي صلاة يوم وليلة، وما دونها، ولا يقضي أكثر من ذلك
وروي عن محمد في الجنون القصير إنه بمنزلة الاغماء.
وهذا لما عرف أن العجز عن الأداء لا يسقط القضاء، إنما يسقط
بسبب الحرج، وإنما الحرج إذا دخل الفائت في حد الكثرة، والحد
الفاصل بين القليل والكثير هو ست صلوات عرفنا ذلك بإجماع
الصحابة، فإنه روي عن علي وعمار وعبد الله بن عمر مثل قولنا، ولم يرو
عن غيرهم خلافه فيكون إجماعا.
ثم المريض إذا فاتته الصلوات في مرضه، أو كان عليه فوائت
الصحة، فقضاها في المرض، بأنقص مما فات من حيث الأركان، فإنه
يجوز.
192

ولو فاتته الصلوات في حال المرض بلا قيام، أو بالايماء، ثم صح
وبرأ، فإن عليه أن يقضي بقيام وركوع وسجود. ولو قضاها كما فاتت لا
يجوز. والمعتبر حال الشروع في القضاء، لان وجوب القضاء موسع،
وإنما يتغير الوجوب وقت الشروع.
وأصله قوله عليه السلام: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها
إذا ذكرها فإن ذلك وقتها.
ولو أن المريض إذا قدر على القيام، أو على الركوع والسجود، بعد ما
شرع في الصلاة قاعدا وبالايماء ينظر:
إن شرع قاعدا بركوع وسجود، فإنه يبني على تلك الصلاة
ويتمها قائما بركوع وسجود، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لان من
أصلهما أن اقتداء القائم بالقاعد الذي يصلي بركوع وسجود، جائز في
الابتداء، فكذلك يجوز في البناء.
وعلى قول محمد لا يبني بل يستقبل، لان عنده لا يجوز اقتداء القائم
بالقاعدة، فكذا لا يجوز البناء.
وأما إذا كان يصلي بالايماء قاعدا أو مستلقيا، فلا يبني إذا قدر على
القيام أو الركوع والسجود عندنا.
وعلى قول زفر يبني.
والصحيح قولنا وهو أن الصلاة بالايماء ليست صلاة حقيقية، لكن
جعلت صلاة في حق المومئ بطريق الضرورة فيظهر في حقه لا في حق
غيره، فلا يجوز الاقتداء به إلا من الذي هو مثله، بخلاف القائم مع
القاعد، فإن القاعد مصل بالركوع والسجود على ما عرف.
فأما الصحيح إذا مرض في وسط الصلاة بحيث يعجز عن القيام أو
الركوع والسجود، فجواب ظاهر الرواية، أنه يمضي على صلاته على
193

حسب ما يقدر عليه من الركوع والسجود، قاعدا أو بالايماء.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يستقبل.
والصحيح ظاهر الرواية، لأنه إذا بنى صار مؤديا بعض الصلاة كاملا
وبعضها ناقصا، وإذا استقبل صار مؤديا الكل ناقصا فكان الأول أولى.
ولو أن المريض المومئ إذا رفع إلى وجهه وسادة أو شئ، فسجد
عليه ولم يومئ، بأن لم يحرك رأسه نوع تحريك، فإنه لا يجوز، ولا
ينبغي أن يفعل هكذا، لان الفرض في حقه الايماء وهو قائم مقام
الصلاة، ولم يوجد. فأما إذا وجد منه نوع تحريك الرأس حتى وصل
رأسه إلى الوسادة جاز لوجود الايماء، وإن قل، والله أعلم.
194

باب
صلاة التطوع
التطوع نوعان تطوع مطلق، وتطوع بسبب.
أما المطلق فيستحب أداؤه في كل وقت لم يكره فيه التطوع. ويجوز
أداؤه مع الكراهة في الأوقات المكروهة.
وأما التطوع بسبب: فوقته ما ورد الشرع به، كالسنن المعهودة
للصلوات المكتوبة.
وذكر أبو الحسن الكرخي ههنا وقال: التطوع قبل الفجر ركعتان،
أي التطوع المسنون قبل صلاة الفجر ركعتان، وأربع قبل الظهر لا يسلم
إلا في آخرها، وركعتان بعد الظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد
المغرب، وأربع قبل العشاء الأخيرة إن أحب ذلك، وأربع بعدها.
وذكر في ظاهر الرواية في كتاب الصلاة هكذا، إلا أنه قال في
الأربع قبل العصر: إنه حسن، وليس بسنة، وقال في العشاء: إنه لا
تطوع قبل العشاء، وإن فعل لا بأس به، وركعتان بعدها.
والصحيح جواب ظاهر الرواية لما روي عن أم حبيبة أن النبي عليه
السلام قال: من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة، بنى له بيت في
الجنة: ركعتان بعد طلوع الفجر، وأربع قبل الظهر،
وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
وأما السنة في صلاة الجمعة فأربع قبلها، وأربع بعدها، كذا ذكر
195

ههنا، وفي ظاهر الرواية في كتاب الصلاة.
وذكر في كتاب الصوم في باب الاعتكاف أن بعد الجمعة يصلي ستا.
ومن أصحابنا من قال: ما ذكر في كتاب الصوم قول أبي يوسف
ومحمد، وما ذكر في كتاب الصلاة قول أبي حنيفة.
والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم، روي عن ابن مسعود
أنه قدم الكوفة وكان يصلي بعد الجمعة أربعا لا غير، ثم قدم علي رضي
الله عنه بعد وفاته، وكان يصلي بعدها ستا.
فأخذ أبو حنيفة بمذهب ابن مسعود، وهم أخذوا بمذهب علي رضي الله عنه.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: ينبغي أن يصلي أربعا، ثم ركعتين،
حتى لا يكون متنفلا بعد صلاة الفرض بمثلها، فيدخل تحت النهي، وهو
قوله عليه السلام: لا يصلى بعد صلاة مثلها.
ثم السنن إذا فاتت عن وقتها، لا تقضى، سواء فاتت وحدها أو مع
الفرائض، سوى سنة صلاة الفجر، فإنها تقضى إن فاتت مع
الفريضة، بلا خلاف بين أصحابنا.
واختلفوا فيما إذا فاتت بدون الفرض:
على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، لا تقضى.
وقال محمد: لا تقضى قبل طلوع الشمس أيضا، ولكن تقضى بعد
طلوع الشمس إلى وقت الزوال، ثم تسقط.
وقال الشافعي: تقضى جميع السنن.
والصحيح مذهبنا لما روي عن أم سلمة أن النبي عليه السلام صلى
ركعتين بعد صلاة العصر في حجرتي فقلت: يا رسول الله ما هاتان
196

الركعتان اللتان لم تكن تصليهما من قبل؟ فقال: ركعتان كنت أصليهما
بعد الظهر فغشاني عنهما الوفد، فكرهت أن أصليهما بحضرة الناس
فيروني فقلت: أفتقضيهما إذا فاتتا؟ فقال: لا، وهذا نص على أن
القضاء في حق الأمة غير واجب في السنن، وإنما هو شئ اختص به رسول الله.
وقياس هذا الحديث أنه لا يجب قضاء ركعتي الفجر أصلا لكن
استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف في القضاء إذا فاتتا مع الفرض، بالحديث
المعروف، وهو أن النبي عليه السلام لما نام في ذلك الوادي ثم استيقظ
لحر الشمس، فارتحل منه، ثم نزل وأمر بلالا فأذن وصلى ركعتين،
ثم أمر فأقام فصلى الفجر فبقي الباقي على الأصل.
قال:
ويكره للامام أن يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، ولا يكره
للمقتدي ذلك، لان الامام إذا لم يتنح عن مكانه، فربما يشتبه على
الداخل أنه في الفرض فيقتدي به ثم يظهر بخلافه، وهذا المعنى
معدوم في حق المقتدي، فلا يكره.
وروي عن أصحابنا أن المستحب للمقتدي أن يتنحى عن مكانه
أيضا، حتى تنكسر الصفوف، فيزول الاشتباه من كل وجه.
قال:
ويكره التطوع في المسجد والناس في الجماعة، لان يصير متهما بأنه
لا يرى صلاة الجماعة.
ثم ينظر بعدها إما إن صلى تلك المكتوبة أو لم يصل:
فإن لم يصلها ينظر إن أمكنه أن يؤدي السنة قبل أن يركع الامام،
فإنه يأتي بالسنة خارج المسجد، ثم يشرع في الفرض، فيحرز الفرض
197

والنفل جميعا، مع نفي التهمة عن نفسه.
وإن خاف أن يفوته ركعة، شرع مع الامام.
وهذا في سائر الصلوات سوى الفجر.
فأما في الفجر: فإن كان عنده أنه يمكنه أن يصلي السنة ويدرك
ركعة من الفرض مع الامام، فعليه أن يأتي بالسنة خارج المسجد، ثم
يشرع في الفرض مع الامام.
وإن كان عنده أنه تفوته الركعتان، فلا يشتغل بالسنة، لا أداء
الصلاة بالجماعة سنة مؤكدة أو في معنى الواجب.
وكذا ركعتا الفجر، لكثرة ما روي فيهما من الآثار، فمهما أمكن
إحراز الفضيلتين، كان أحق، وذلك فيما قلنا، لان إدراك ركعة من
الفجر في معنى إدراك الكل، على ما روي: من أدرك ركعة من الصلاة
مع الامام فقد أدركه فأما إذا خاف فوت الركعتين مع الامام، فكان
فيه فوت الفرض حقيقة ومعنى، فكان الاشتغال بالفرض أولى بخلاف
سائر السنن، لأنها دون الصلاة بالجماعة في الفضيلة، فكان اعتبار إقامة
الجماعة أولى.
وأما إذا صلى المكتوبة فدخل المسجد والناس في الجماعة، فإنه ينبغي
أن يتابع الامام في صلاته إن كانت صلاة لا يكره التطوع بعدها أو بها
كالمغرب.
فأما إذا كان في صلاة يكره التطوع بعدها، أو يكره التنفل بها وهي
المغرب، فإنه لا يشرع فيها، ولكن يخرج من المسجد، لان فيه إحراز
فضيلة ومباشرة كراهة، فالكف عن المكروه أولى وأحق.
وقد ذكرنا قبل هذه الصلاة التي يكره التطوع بعدها.
198

هذا الذي ذكرنا إذا دخل المسجد وقد أقيمت فيه المكتوبة.
فأما إذا دخل المسجد وشرع في الصلاة، ثم أقيمت المكتوبة فيه،
فهذا على وجهين: إما أن يشرع في التطوع أو في فرض الوقت.
أما إذا شرع في التطوع، فإنه يتم الشفع الذي هو فيه إن علم أنه
يمكنه الشروع مع الامام في الركعة الأولى من صلاته، لأنه يقدر على إتمام
النفل الذي وجب عليه تحصيله بالشروع، وإدراك الجماعة، فيجب
مراعاتهما، ولا يزيد على الشفع، لأنه لا يلزمه بالشروع في النفل أكثر من
الشفع.
فأما إذا كان لا يمكنه إدراك الركعة الأولى من صلاة الامام فإنه يقطع
ويشرع مع الامام إلا في صلاة الفجر على ما ذكرنا من التفصيل.
فأما إذا شرع في الفريضة ثم أقيمت تلك الصلاة بالجماعة فإن كان
صلاة الفجر وقد صلى ركعة، يقطع ويشرع مع الامام، لان نقض
الفرض للأداء على الوجه الأكمل جائز، والصلاة بالجماعة أكمل، فإن
قيد الركعة الثانية بالسجدة أو صلى ركعتين، فإنه يمضي على ذلك، لان
الصلاة بعد التمام لا تحتمل الانتقاض، وللأكثر حكم الكل أيضا.
وإن كان صلاة الظهر إن صلى ركعة يضم إليها ركعة أخرى، إن
كان يمكنه الشروع مع الامام في الركعة الأولى من صلاته، وإن صلى
ركعتين يتشهد ويسلم حتى يكون محرزا للفضيلتين.
وإن قيد الثالثة بالسجدة، مضى عليها، لأنه أدى الأكثر، وهو
الفرض.
وكذلك الجواب في العصر والعشاء.
فأما في المغرب فإن صلى ركعة، قطعها، لأنه لو ضم إليها
الثانية، يصير أكثر الفرض، فلا يمكنه القطع، وإن قيد الثانية
199

بالسجدة، مضى عليها لما قلنا.
ثم في الموضع، الذي يمكنه القطع والشروع في الصلاة مع الامام،
إذا فرغ من كل الفرض إن كان صلاة لا يكره التطوع بعدها، يدخل
مع الامام، وإن كان يكره التنفل بعدها أو التنفل بها، صلاة المغرب،
فإنه لا يشرع مع الامام على ما مر، والله أعلم.
200

باب
صلاة الوتر
في الباب فصول:
منها - أن الوتر واجب أم سنة؟ واختلفت الروايات فيه عن أبي
حنيفة.
روي أنه فرض، وبه أخذ زفر.
ثم رجع وقال بأنه سنة، وبه أخذ أبو يوسف ومحمد والشافعي.
ثم رجع وقال بأنه واجب.
وحاصل ذلك ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: ثلاث كتبت
علي ولم تكتب عليكم: الوتر، والضحى، والأضحية. وروي عنه
عليه السلام أيضا أنه قال: إن الله تعالى زادكم صلاة، ألا وهي
الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، والامر للفرضية
والوجوب، فوقع التعارض بين الحديثين، فلا تثبت الفرضية والوجوب
بالاحتمال.
هذا عندهم.
وأبو حنيفة يقول: يمكن الجمع بينهما، لان الفرض غير الواجب في
عرف الشرع، فالفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به، والواجب ما
ثبت وجوبه بدليل فيه شبهة نحو خبر الواحد والقياس، والوتر من هذا
القبيل لأنه ثبت بخبر الواحد.
201

ومنها: بيان مقداره، فعندنا الوتر ثلاث ركعات، بتسليمة
واحدة، في الأوقات كلها.
والشافعي قال: هو بالخيار، إن شاء أوتر بركعة، أو بثلاث، أو
بخمس، أو بسبع، أو بتسع، أو بإحدى عشرة ركعة، ولا يزيد
عليها.
وقال الزهري: في شهر رمضان ثلاث ركعات، وفي غيره ركعة.
والصحيح قولنا، لما روي عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي
الله عنهم أنهم قالوا: كان رسول الله (ص) يوتر بثلاث ركعات.
ومنها - أن يقرأ فيه في الركعات بالثلاث بالاجماع:
أما عندهم فلانه نفل، وفي النفل تجب القراءة في الكل.
وكذا على قول أبي حنيفة، لان الوتر عنده واجب، والواجب ما
يحتمل أنه نفل لكن ترجح جهة الفرضية بدليل فيه شبهة، فكان الاحتياط
فيه بوجوب القراءة في الكل.
ولا ينبغي أن يقرأ سورة معينة على الدوام، لان الفرض هو مطلق
القراءة بقوله تعالى: * (ما تيسر من القرآن علم) * والتعيين على الدوام
يفضي إلى أن يعتقده بعض الناس واجبا، وإنه لا يجوز، لكن قد ورد
عن النبي عليه السلام أنه قرأ في الركعة الأولى: * (سبح اسم ربك
الاعلى) *، وفي الثانية: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثالثة * (قل هو الله
أحد) * فمن قرأها كذلك أحيانا يكون حسنا، ولكن لا يواظب عليه، على
ما ذكرنا.
ومنها - أن الوتر يعم الناس أجمعين الحر والعبد، والذكر والأنثى،
202

بعد أن كان أهلا للوجوب، لان الدليل الذي ورد في الباب لا يوجب
الفصل.
ومنها - أن القنوت في الوتر في الركعة الثالثة بعد القراءة قبل
الركوع، واجب، وإذا أراد أن يقنت يكبر ويرفع يديه حذاء أذنيه ثم
يقنت. و
الكلام في القنوت في مواضع:
منها: أنه إذا أراد أن يقنت يكبر، لما روي عن علي أنه كان إذا أراد
القنوت كبر وقنت.
ومنها: أن يرفع يديه عند التكبير، لما روي عن النبي عليه السلام
أنه قال: لا ترفع الأيدي إلا في سبع موطن، وذكر من جملتها
القنوت.
ومنها: أن القنوت في الوتر واجب، في جميع الأوقات.
وقال الشافعي: يؤتى بالقنوت في النصف الأخير من شهر رمضان لا
غير.
والصحيح قولنا، لما روي عن علي وابن مسعود وابن عباس أن كل
واحد منهم راعى صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فقنت قبل
الركوع، فدل أنه كان يأتي به في الأوقات كلها.
ومنها: محل القنوت: عندنا قبل الركوع.
وعند الشافعي بعد الركوع.
والصحيح قولنا لما روينا من حديث الصحابة.
ومنها: مقدار القنوت: ذكر في الكتاب مقدار سورة * (إذا السماء
انشقت) * أو * (والسماء ذات البروج) *.
203

وفي بعض الروايات مقدار * (إذا السماء انشقت) * و * (والسماء ذات
البروج) *.
والصحيح هو الأول: فإن المروي عن النبي عليه السلام في
القنوت: اللهم إنا نستعينك واللهم أهدنا فيمن هديت وكلاهما
على مقدار إحدى السورتين.
ولا ينبغي أن يقتصر على الدعاء المأثور: اللهم إنا نستعينك و
اللهم اهدنا كي لا يتوهم العوام أنه فرض، ولكن إذا أتي بالدعاء
المأثور في بعض الأوقات، وبغيره في البعض فحسن.
ومنها: أن يرسل اليدين في حال القنوت أو يضع؟ ذكر ههنا أنه
يرسلهما، وكذا ذكر الطحاوي في مختصره وكذا روى الحسن عن أبي
حنيفة.
وروي عن أبي يوسف أنه يبسط يديه بسطا نحو السماء.
وذكر محمد في الأصل: إذا أراد أن يقنت، كبر، ورفع يديه
حذاء أذنيه، ناشرا أصابعه، ثم يكفها، وقال أبو بكر الإسكاف:
معناه: يضع يمينه على شماله.
وروي عن أبي حنيفة ومحمد، في غير رواية الأصول، أنه يضعهما.
204

وقد تكلم المتأخرون في هذا، وفي كل قيام لا قراءة فيه، كالقيام في
حال تكبيرات العيدين، والقيام في صلاة الجنازة، والقيام بعد الافتتاح
إلى وقت القراءة، والقيام بين الركوع والسجود إذا كان فيه طول، كما في
الجمعة والعيدين.
وأجمعوا على الوضع في القيام في حالة القراءة.
ومن قال بالوضع قال: إن هذا أقرب إلى التعظيم، كما في
الشاهد.
ومن قال بالارسال قال: في الوضع زيادة فعل، فلا يثبت من
غير دليل.
وقد ذكرنا قبل هذا.
ومنها: إذا نسي القنوت حتى ركع ثم تذكر في الركوع، فإنه يمضي
على ركوعه ولا يعود إلى القيام ليقنت.
وروي عن أبي يوسف أنه يعود إلى القيام ويقنت، كما إذا ترك الفاتحة
أو السورة ناسيا وركع، فله أن يعود إلى القيام ويقرأها.
والصحيح هو الأول.
والفرق بين القنوت وقراءة الفاتحة والسورة أن الركوع فرض وقد
شرع فيه، فلا ينقضه لأجل القنوت وهو واجب، وإنما يجوز نقضه
ليؤدي على وجه الكمال، فيجوز نقضه للتكميل، كنقض المسجد ليبنى
أحسن منه، وفي قراءة الفاتحة والسورة زيادة الكمال وأصل القراءة فرض
لا جواز للركعة بدونه، فأما القنوت فدعاء والركعة لها تمام بدونه، ولهذا
لم يشرع في كل ركعة كالقراءة في النفل، فلو نقض يكون نقضا لا
للتكميل بل لأداء الواجب، ونقض الفرض لأداء الواجب، لا يجوز.
205

وكذا لا يقنت في حال الركوع بخلاف تكبيرات العيدين إذا فاتت
في حق المسبوق وأدرك الامام في الركوع، فإنه يكبر، ويركع، ثم يأتي
بالتكبيرات في الركوع، لان القنوت لم يشرع إلا في حالة محض القيام،
فأما التكبيرات فيشرع بعضها في حال الركوع، فإن تكبير الركوع محسوب
من تكبيرات العيد، فيجوز أداء الكل عند العذر.
ولو رفع رأسه من الركوع وأتى بالقنوت فإن عليه أن يعيد
الركوع.
وكذلك إذا رفع رأسه، وعاد إلى القيام، وأتى بقراءة الفاتحة أو
السورة، فإنه يعيد الركوع، لأنه لما عاد إلى القيام قاصدا أداء الفاتحة
والسورة والقنوت ومحل هذه الواجبات قبل الركوع، صار ناقضا للركوع
ضرورة صحة أدائها فيجب عليها الإعادة.
وفكر في شرح الطحاوي وقال: إذا ترك الفاتحة أو السورة أو القنوت
ناسيا وركع، له أن يعود إلى القيام، ويأتي بالكل، ويعيد الركوع،
ولكن لو ترك إعادة الركوع هل يجزئه؟ ليس فيه رواية منصوصة. قال
وكان شيخنا يقول: على قياس قول أصحابنا، يجوز، وعلى قياس قول
زفر، لا يجوز، لان الركوع حصل بعد القراءة، فجاز، والترتيب في
أفعال الصلاة ليس بشرط الجواز عندنا، وعند زفر الترتيب في الافعال
شرط.
والصحيح ما ذكر ههنا على ما ذكرناه.
ومنها: أن الوتر لا يجوز أداؤه على الراحلة من غير عذر يجوز به أداء
الفرائض عليها.
أما على قول أبي حنيفة فلا يشكل، لان عنده
الوتر واجب، وأداء
الواجبات والفرائض على الراحلة، من غير عذر، لا يجوز.
206

وأما على قولهما: الوتر سنة، لكن صح عن النبي عليه السلام أنه
كان يتنفل على راحلة من غير عذر في الليل، فإذا بلغ الوتر ينزل فيوتر
على الأرض.
ومنها: الكلام في وقت الوتر وبيان الوقت المستحب منه: وقد ذكرناها
في بيان الأوقات.
ومنها: القنوت بجهرية أم بخافت: ذكر في شرح الطحاوي أن
المنفرد بالخيار إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء جهر وأسمع غيره،
وإن شاء أسر كما ذكرنا في القراءة، وإن كان إماما فإنه يجهر بالقنوت
ولكن دون الجهر بالقراءة في الصلاة، والقوم يتابعونه كذلك في القنوت
إلى قوله: إن عذابك بالكفار ملحق.
وإذا دعا بعد ذلك هل يتابعه القوم فيه؟ ذكر في الفتاوى اختلافا بين
أبي يوسف ومحمد: ففي قول أبي يوسف يتابعونه، وفي قول محمد لا
يتابعونه ولكنهم يؤمنون.
وقال مشايخنا بأن المنفرد يخفي القنوت لا محالة ولا يجهر، ولا خيار له
في ذلك، وأما الامام فقال بعض مشايخنا بأنه يخفي أيضا مع القوم، لان
الأصل في الدعاء هو المخافتة، قال الله تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا
وخفية) * وقال بعضهم: يخفي، ولكن يرفع صوته قليلا، ويؤمن
القوم.
207

باب
السهو
أصل الباب أن سجود السهو إنما يجب بترك الواجب الأصلي في
الصلاة، أو بتغيير فرضها، على سبيل السهو، ولا يجب بترك السنن
والآداب.
والكلام في هذا الباب في خمسة مواضع:
في أن سجود السهو واجب أم سنة،
وفي بيان سبب الوجوب،
وفي بيان أن المتروك ساهيا: هل يقضي أم لا؟
وفي بيان محل سجود السهو،
وفي بيان من يجب عليه السجود ومن لا يجب عليه.
أما الأول: فقد ذكر محمد في الأصل ونص على الوجوب، فإنه قال: إذا
سها الامام، وجب على المؤتم أن يسجد.
وكذا روي عن أبي الحسن الكرخي أنه واجب.
وذكر القدوري أنه سنة عند عامة أصحابنا.
والصحيح جواب ظاهر الرواية، لان النبي عليه السلام وأصحابه
واظبوا على إتيان سجود السهو، وما تركوه تركوه بعذر تترك به النوافل،
والمواظبة على الشئ دليل على أنه واجب.
وأما بيان سبب الوجوب: فما ذكرنا من ترك الواجب الأصلي
209

للصلاة، ساهيا، أو بتغيير فرضها.
وتخرج المسائل على هذا.
- إذا ترك القعدة الأولى، ساهيا، وقام حتى لا يقضي، تجب
السجدة، بتركها، لأنها واجبة.
- وإذا قعد في موضع القيام، أو قام في موضع القعود، أو ركع في
موضع السجود، أو سجد في موضع الركوع، أو ركع ركوعين، أو سجد
ثلاث سجدات ساهيا يجب عليه سجود السهو، لأنه وجد تغيير
الفرض، من التأخير عن مكانه، أو التقديم على مكانه.
- وكذا إذا ترك سجدة من ركعة، ساهيا فتذكر في آخر الصلاة،
سجدها، وعليه سجدتا السهو، لأنه أخرها عن موضعها.
- وإذا قام من الرابعة إلى الخامسة قبل أن يقعد قدر التشهد فإنه يجب
عليه أن يعود، ويسجد لأنه ترك الفرض عند موضعه وأخره عن مكانه.
- وإن قام بعدما قعد قدر التشهد، فإنه يعود وتجب السجدة، لأنه
أخر السلام، والخروج عن الصلاة بفعله فرض عند أبي حنيفة.
- ولو ترك تعديل الأركان، ساهيا، أو القومة التي بين الركوع
والسجود، يجب عليه السهو، لأنه غير الفرض، وترك الواجب.
- ويخرج على هذا الأصل أيضا أن من شك في صلاته فتفكر في ذلك
حتى استيقن، قال: إن طال تفكره بحيث يمكنه أداء ركن من أركان
الصلاة، تجب عليه السجدة، وإن كان دون ذلك، لا يجب، لان
التفكر الطويل مما يؤخر الأركان عن موضعها، والفكر القليل مما لا يمكن
الاحتراز عنه فجعل كأن لم يكن.
ثم الحكم في هذه المسألة إذا وقع الشك بين أن صلى ثلاثا أو أربعا:
210

إن كان ذلك أول ما يقع له فإن عليه أن يستقبل الصلاة، لأنه يمكنه أن
يصلي ويؤدي الفرض بيقين، والتحري دليل مع الظن عند الحاجة، دفعا
للحرج، ولا حرج في أول مرة.
فأما إذا وقع الشك مرارا، فإنه يتحرى ويبني على ما وقع عليه
التحري، في جواب ظاهر الرواية.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يبني على اليقين، وهو الأقل.
وهو قول الشافعي.
والصحيح قولنا لما روي عن ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه
قال: من شك في صلاته، فلم يدر أثلاثا صلى أو أربعا، فليتحر
الصواب، فإنه أقرب ذلك إلى الصواب وليبن عليه، ويسجد سجدتي
السهو وهذا حديث مشهور، فلا يعارض بالحديث الغريب،
والقياس.
وأما الشك في أركان الحج فذكر الجصاص أن ثمة يتحرى أيضا ولا
يؤدى ثانيا وعامة المشايخ قالوا: يؤدى ثانيا.
والفرق بين الفصلين أن تكرار الركن والزيادة عليه مما لا يفسد
الحج، أما الزيادة ههنا فإذا كانت ركعة تكون مفسدة، لأنه يخلط المكتوبة
بالتطوع قبل الفراغ من المكتوبة، فيصير فاصلا وخارجا عن المكتوبة،
فكان العمل بالتحري أحوط من البناء على الأقل.
فأما الأذكار: فلا يجب السجود بتركها إلا في أربعة: القراءة،
والقنوت، والتشهد الأخير، وتكبيرات العيدين، لأن هذه الأذكار
واجبة.
ثم القراءة: بقدر ما تكون فرضا، إذا تركها سهوا، ولم يقض في
الصلاة، تفسد صلاته، وإنما يجب سجود السهو بتركها سهوا من حيث
211

هي واجبة بيان ذلك:
- إذا ترك القراءة في الركعتين الأوليين، فأداها في الأخريين، تجب
السجدة، لان القراءة فرض في الركعتين غير عين، وفي الأوليين واجبة
عند بعض مشايخنا، وعند بعضهم فرض في الأوليين، ولكن يقضيها في
الأخريين، ويسجد لتركها عن محل الأداء سهوا.
- وكذا إذا ترك الفاتحة وقرأ غيرها تجب السجدة، لان تعيين
الفاتحة واجب عندنا في الصلاة، وعند الشافعي فرض.
وكذا لو قرأ الفاتحة في الركعتين، وترك السورة، تجب السجدة لان
قراءة السورة، أو مقدار ثلاث آيات، واجبة أيضا.
وكذا يجب سجود السهو بتغيير القراءة، بأن جهر فيما يخافت، أو
خافت فيما يجهر، لان ذلك واجب أيضا.
لكن اختلفت الروايات عن أصحابنا في مقدار ما يتعلق به سجود
السهو من الجهر:
ذكر الحاكم عن ابن سماعة عن محمد أنه قال: إذا جهر بأكثر الفاتحة
يسجد، ثم رجع وقال: إذا جهر مقدار ما تجوز به الصلاة يجب، وإلا
فلا.
وروى أبو سليمان عن محمد أنه قال: إن جهر بأكثر الفاتحة سجد،
وإن جهر بأقل الفاتحة أو بآية طويلة، لم يسجد.
وروى أبو يوسف أنه إن جهر بحرف، فعليه السجدة.
والصحيح مقدار ما تجوز به الصلاة، لأنه يصير مصليا بالقراءة
212

جهرا. وهذا إذا كان إماما، فأما في حق المنفرد إذا جهر في موضع
الاخفاء، فلا سهو عليه، لان الاخفاء ليس بواجب عليه، بل هو مخير
بين أن يجهر ويسمع نفسه، وبين أن يسمع غيره، وبين أن يسر بالقراءة ولا
يسمع نفسه ولا غيره على ما مر، فلا يصير تاركا للواجب.
فأما ما سوى ما ذكرنا من الأذكار، فر سهو فيها، لأنها من جملة
من السنن.
وقال مالك: إذا ترك ثلاث تكبيرات، تجب عليه السجدة.
هذا الذي ذكرنا إذا ترك واجبا أصليا للصلاة بسبب التحريمة.
فأما إذا ترك واجبا ليس بأصلي، بل صار من أفعال الصلاة
بعارض، كما إذا وجب عليه سجدة التلاوة في الصلاة فتذكر في آخر
الصلاة، لا تجب السجدة بتأخيرها عن موضعها.
وكذلك إذا لم يتذكر فسلم ساهيا عن السجود، لا يلزمه سجود
السهو، لأنه لم يجب بسبب التحريمة.
وأما قضاء المتروك - فنقول: إن كان المتروك فرضا أو واجبا، فعليه
قضاؤه ما أمكن، فإن لم يتذكر حتى خرج من الصلاة، فإنه تفسد صلاته
بترك الفرض، لا بترك الواجب، حتى إنه إذا ترك القعدة الأولى لا
تفسد صلاته، ولو ترك القعدة الأخيرة تفسد.
وكذلك في الأذكار إن ترك التشهد وقام لا يعود، وإن كان
في التشهد الأخير، وقام يعود ويتشهد.
وكذا إذا لم يقم وتذكر يقضي قبل أن يخرج من الصلاة. ولو خرج
لا تفسد صلاته، لأنه واجب.
وأما القراءة فإن تركها عن الأوليين يقضي في الأخريين.
213

فأما إذا كانت في الفجر والمغرب، وتركها عن الأوليين تفسد
صلاته، ولا يتصور قضاؤها.
وأما تكبيرات العيدين إذا تركها ساهيا، يقضي في الركوع، ولا
يرفع رأسه عن الركوع ويعود إلى القيام ليقضيها في حال القيام.
وقد ذكرنا القنوت إذا تركه ساهيا وركع، فلا نعيده.
وأما بيان محل السجود فعندنا بعد السلام.
وقال الشافعي: قبل السلام.
وقال مالك: إن وجب بسبب النقصان، فقبل السلام، وإن وجب
بسبب الزيادة فبعده.
والصحيح مذهبنا، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: لكل سهو سجدتان بعد السلام.
وإذا ثبت أن محله المسنون بعد السلام، فينبغي أنه إذا أتى بالتشهد،
يسلم قبل الاشتغال بالصلاة، على النبي عليه السلام، ثم يكبر، ويعود
إلى سجدتي السهو، ويرفع رأسه ويكبر، ويتشهد ويصلي على النبي عليه
السلام، لكن ينبغي أن يدعو بالدعوات بعد التشهد الثاني لا في الأول،
لان الدعوات إنما شرعت بعد الفراغ عن الافعال والأذكار الموضوعة في
الصلاة، ومن عليه السهو قد بقي عليه بعد التشهد الأول أفعال وأذكار،
وهو سجود السهو، والصلاة على النبي عليه السلام، فينبغي أن يؤخر
الدعوات إلى التشهد الثاني، ولكن ينبغي أن يدعو بدعوات لا تشبه كلام
الناس، حتى لا يصير قاطعا للصلاة ولا يمكنه الخروج عن الصلاة، على
الوجه المسنون وهو السلام.
ولو سها في سجود السهو، لا يجب عليه السهو، لان تكرار سجود
السهو غير مشروع لأنه لا حاجة، لان السجدة الواحدة كافية على ما
214

قال عليه السلام: سجدتان تجزئان عن كل زيادة ونقصان.
وأما بيان من يجب عليه ومن لا يجب عليه فنقول: إن سجود
السهو يجب على الامام، وعلى المنفرد مقصودا، لأنه يتحقق منهما
سببه وهو السهو.
أما المقتدي إذا سها في صلاته، فلا سجدة عليه، لأنه لا يمكنه أداء
السجود قبل السلام، لما فيه من مخالفة الامام، ولا بعد سلام الامام،
لأنه سلام عمد، فيخرج به عن الصلاة، فيسقط السهو أصلا.
وكذا اللاحق وهو المدرك الأول الصلاة، ثم فاته بعضها بعد
الشروع بسبب النوم أو الحدث السابق، ثم اشتغل بقضاء ما سبق به،
فسها لا يجب عليه السجدة، لأنه في حكم المصلي خلف الامام، ولهذا
لا قراءة عليه فيما يقضي.
فأما المسبوق إذا اشتغل بقضاء ما سبق به بعد سلام الامام وفراغه
فسها فيه يجب عليه السجدة لأنه بمنزلة المنفرد ولهذا يجب عليه القراءة.
ولو أن الامام سها في صلاته، يجب عليه وعلى القوم جميعا سجدتا
السهو، لان سبب الوجوب وهو السهو وجد من الامام، والقوم تبع
له، والحكم في حق التبع يستغني عن السبب.
وكذلك اللاحق يجب عليه بسبب سهو الامام، بأن سها الامام في
حال نوم المقتدي، أو حال ذهابه إلى الوضوء، لأنه بمنزلة المصلي خلفه.
وكذلك المسبوق بأن سها الامام في الركعة الأولى، ثم دخل في
صلاته رجل يجب عليه السجود بسبب سهو الامام، فإذا أراد الامام أن
يسلم، ليس للمسبوق أن يسلم معه، لأنه بقي عليه أركان الصلاة،
فتفسد صلاته بالسلام، ولكن ينتظر حتى يسلم الامام، فإذا سجد الإمام
له أن يسجد معه، ثم يقوم إلى قضاء ما سبق به.
215

ونظيره المقيم إذا اقتدى بالمسافر، فسها الامام، فإن المقيم يتابعه
في السجود، دون السلام، لان صلاته لم تتم.
ولو أنه إذا سجد معه، ثم قام إلى قضاء ما سبق به، وسها فيه،
فعليه أن يسجد ثانيا، وإن كانت تكرارا، لأنه فيما يقضي كالمنفرد فيكون
صلاتين حكما.
وكذلك في حق المقيم المقتدي بالمسافر.
فلو أن هذا المسبوق، إذا لم يسجد مع الامام، وقام إلى قضاء ما
سبق به هل يسجد في آخر صلاته؟ القياس أن لا يسجد، وفي
الاستحسان يسجد، لأنه وجب عليه بسبب المتابعة، وأمكنه قضاؤه في
آخر صلاته، فيجب عليه القضاء.
ولو ترك الامام سجود السهو، وخرج من المسجد، فإن المقتدي لا
يأتي به، لأنه يأتي بحكم المتابعة، فلا يجب عليه المتابعة فيما ترك.
ولو أدرك الامام بعد ما فرغ من سجدتي السهو، قبل السلام،
فاقتدى به صح الاقتداء، ولا يجب عليه السجدة، لأنه لم يجب عليه
المتابعة حتى أتى الامام بالسجود، فلا يلزمه القضاء.
ولو أدرك الامام في سجود السهو، فكبر وشرع في صلاته، فعليه أن
يتابعه في سجود السهو، لان المتابعة واجبة عليه في جميع أفعال صلاة
الامام، وسجود السهو من أفعال صلاته.
وإن أدركه بعدما سجد السجدة الأولى، فله أن يتابعه في السجدة
الثانية، وليس عليه أن يقضي السجدة الفائتة، لأنه ما وجب عليه
أداؤها بحكم المتابعة، لأنه لم يكن في صلاته وقت أدائها، فلا يجب عليه
القضاء.
ولو سلم الامام وعليه السهو، فسلم المسبوق معه ساهيا، أن عليه
216

قضاء ما سبق به، ثم تذكر، فعليه أن يقضي ما فاته، لان سلام
الساهي لا يخرجه عن الصلاة وعليه أن يسجد في آخره، لأنه سلم
ساهيا قبل وقته، وهو فيما يقضي كالمنفرد فعليه السجدة.
ولو أن من عليه السهو إذا سلم ثم فعل بعد السلام، ما ينافي
الصلاة، من الحدث العمد والكلام، والخروج من المسجد ونحوه،
يسقط سجود السهو، لأنه فات محله وهو حرمة الصلاة.
217

باب
الحدث في الصلاة
أجمع العلماء أن الحدث العمد مفسد للصلاة مانع من البناء.
واختلفوا في الحدث السابق، وهو الذي سبقه من غير قصده، بأن
سال من أنفه دم أو خرج منه ريح ونحو ذلك.
فالقياس أن يفسد الصلاة ويقطع البناء، وهو قول زفر والشافعي،
لان الحدث مضاد للصلاة، لان الصلاة لا تجوز من غير طهارة.
وفي الاستحسان لا يفسد، وهو مذهب أصحابنا، للحديث
الخاص، وهو ما روي عن عائشة عن النبي عليه السلام أنه قال: من
قاء في صلاته أو رعف، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته، ما لم
يتكلم، ولما روي عن أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم أنهم قالوا
كذلك، وتركنا القياس بالحديث، وإجماع الصحابة.
إذا ثبت أنه جاز البناء، فكل فعل مناف للصلاة في الأصل، لكن
هو من ضرورات البناء، نحو المشي والاستقاء وغير ذلك، لا يفسد
الصلاة، وكل ما لم يكن من ضروراته، يكون مفسدا، بناء على
الأصل.
وتخرج المسائل على هذا.
ولو أصاب بدنه أو ثوبه نجاسة، لحدث سبقه، فإنه يتوضأ
ويغسل ذلك، لان ذلك مانع للوضوء، لان الوضوء لا يعمل بدونه.
219

وعلى هذا قالوا: لو استنجى على وجه لا تنكشف عورته، بأن ألقى
الذيل خلفه وقبله، لا تفسد، لان الاستنجاء مما يحتاج إليه لاحراز
الفضيلة.
ولهذا لو استوعب مسح الرأس وتمضمض، واستنشق، وأتى بسائر
سنن الوضوء، فإنه يبني لأنه من باب كمال الوضوء.
وأما إذا انكشفت عورته فإنه يقطع البناء، لان كشف العورة مناف
للصلاة، ولا حاجة إليه، لان أداء الصلاة يجوز، بدون الاستنجاء في
الجملة، ولهذا قلنا: إنه في الحدث العمد لا يبني لأنه نادر، ولا حرج في
القول بقطع البناء، بخلاف الحدث السابق.
وعلى هذا:
إذا أغمي عليه، أو جن، أو نام في الصلاة فاحتلم فأنزل، أو نظر
إلى فرج امرأته، أو إلى وجهها، وأنزل عن شهوة، أو قهقه في صلاته
فإنه لا يبني لأن هذه الأفعال مما لا يغلب في الصلاة.
ولو أصابه الحدث بفعل سماوي، بأن يسقط عليه شئ من
السقف، أو بفعل غيره، بأن رماه إنسان بحجر فشجه فسال الدم، فإنه
لا يبني عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يبني، لان هذا حدث
حصل بغير فعله، فصار كالحدث السابق، والصحيح ما قالا لان
هذا مما لا يغلب، فلا يلحق بالغالب، وهو الحدث السابق.
هذا إذا سبقه الحدث في وسط الصلاة.
فأما إذا سبقه بعد ما قعد قدر التشهد الأخير، فإن عليه أن يذهب
ويتوضأ ويبني على صلاته، حتى يخرج عن الصلاة على الوجه المسنون
بالسلام، لان الحدث السابق لا يقطع التحريمة.
ولو وجد فعل ليس من أفعال الصلاة، ولا من ضرورات الوضوء
220

والبناء مثل الكلام والأكل والشرب ونحو ذلك، يقطع البناء، لأن هذه
الأشياء منافية للصلاة، فتتنافى التحريمة في حال الذهاب والمجئ.
وكذلك كل ما كان نظير الكلام معنى، بأن ذكر الله تعالى وأراد به
خطاب إنسان أو زجره عن شئ أو أراد به بجوابه عن شئ، فإنه يفسد
صلاته عند أبي حنيفة ويقطع البناء، وقال أبو يوسف: كل ما كان من ذكر
الله في الوضع لا تفسد به الصلاة، ولو نوى خطاب الناس به.
وعلى هذا الخلاف إذا عطس إنسان فقال: الحمد لله فشمته
رجل فقال: يرحمك الله تفسد صلاته عندهما، وعند أبي يوسف لا
تفسد.
وأجمعوا أن المصلي إذا قال: سبحان الله أو قال: الله أكبر وعنى به
إعلام الامام، فيما ترك ساهيا ونحوه، لا تفسد صلاته.
ولو أن في صلاته أو تأوه، فإن كان من ذكر الجنة أو النار، فصلاته
تامة، وإن كان لوجع أو مصيبة، فسدت صلاته.
وقال أبو يوسف: إذا كان حرفين لا تفسد، حتى إذا قال: أوه
تفسد.
وقولهما أصح، لان التأوه إذا كان من ذكر الجنة النار، فكان كناية
عن سؤال الجنة، والتعوذ من النار، فلا تفسد، فأما الأصل فهو أن
الحروف المهجاة كلام الناس، سواء كان حرفين أو أكثر، ألا ترى أنه إذا
قال: أخ أخ، تفسد صلاته، دل أن المدار على هذا.
ثم إذا جاء البناء في الحدث السابق فينظر، إما إن كان إماما، أو
مقتديا، أو منفردا:
فإن كان منفردا أو إماما، فإن الأولى أن يعود إلى مكان صلاته ويتم
صلاته، وإن بنى في موضع الوضوء، جاز.
221

وإن كان مقتديا به علم أن إمامه قد فرغ، فكذلك الجواب، فأما إذا
لم يفرغ فعليه أن يعود إلى مكان الامام ويصلي مع الامام، بعد قضاء ما
سبق به، لان المتابعة واجبة عليه، حتى إذا ترك مع القدرة عليه، تفسد
صلاته، وإنما يقضي ما فاته في حال ذهابه ومجيئه أولا، ثم يدخل في
صلاة الامام، لأنه في المعنى كأنه خلف الامام فصار كما لو سبقه الامام
بركن، وهو معه في الصلاة، فإن عليه أن يؤديه أولا، ثم يشرع في
الركن الذي فيه الامام، لان المتابعة واجبة على الترتيب.
هذا الذي ذكرنا إذا سبقه الحدث حقيقة.
فأما إذا انتقضت طهارته بمعنى من المعاني، سوى الحدث، بغير
صنعه، بأن كان متيمما فرأى الماء في صلاته، أو صاحب جرح سائل
فخرج الوقت، أو الماسح على الخفين، إذا انقضت مدة مسحه ونحو
ذلك - فإنه لا يبني لان في هذه المواضع تبين أن الشروع لم يصح، لأنه
يجب عليه الوضوء بالحدث السابق على التحريمة ويجعل محدثا من ذلك
الوقت، في حق الصلاة التي لم تؤد بعد، وإن بقي له حكم الطهارة في
حق الصلاة المؤداة.
وكذلك الجواب في هذه المواضع، بعد القعود قدر التشهد الأخير
عند أبي حنيفة، خلافا لهما، لان الصلاة لم تؤد بعد، ولأن هذه المعاني
الناقضة للطهارة مما يندر وجودها، فلا تلحق بالحدث السابق الذي يغلب
وجوده.
ثم الامام إذا سبقه الحدث فأراد أن يذهب ليتوضأ، فهو على
إمامته، ما لم يخرج من المسجد، أو يستخلف رجلا فيقوم الخليفة مقامه
ينوي أن يؤم الناس، أو يستخلف القوم رجلا قبل أن يخرج هو من
المسجد فيقوم مقامه ينوي الإمامة حتى إن رجلا لو دخل المسجد ساعتئذ
واقتدى به، فإنه يصح اقتداؤه ويصير شارعا في الصلاة هكذا روى ابن
222

سماعة عن أبي يوسف.
وقال بشر المريسي: لا يصح شروعه في الصلاة واقتداؤه به لان
الامام محدث، والمحدث ليس في الصلاة، فكيف يصح الاقتداء به في
صلاته.
والصحيح هو الأول لان الحدث السابق لا ينافي التحريمة لان التحريمة
شرط في الصلاة، فلا يشترط لها الطهارة وإنما ينافي فعل الصلاة، وصحة
الاقتداء تعتمد قيام التحريمة، لا قيام نفس الصلاة، ولهذا يصح
استخلافه، ولم تبطل صلاة القوم، ويمكنه البناء على صلاته فدل أن
التحريمة قائمة.
فإذا وجد شئ من هذه الأشياء يخرج من الإمامة، أما إذا قام
الخليفة مقامه ناويا للإمامة فلانه يصير إماما في هذه الصلاة، فخرج هو
من الإمامة، لأنه لا يجتمع في صلاة واحدة إمامان في حالة واحدة،
وكذلك إذا استخلف القوم، لان بهم حاجة إلى تصحيح صلاتهم، وذلك
بالاستخلاف فإذا ترك الامام الاستخلاف، فيثبت لهم ولاية ذلك،
وكذلك إذا خرج من المسجد لأنه خلا مكان الامام عن الامام لان المسجد
بمنزلة بقعة واحدة، فما دام فيه فكأنه في مكانه، إلا أن في الفصلين
الأولين قام الخليفة مقامه، فلم تفسد صلاته ولا صلاة القوم، أما في
الخروج عن المسجد فإنه تفسد صلاة القوم، لأنه بقي القوم بلا إمام
والاقتداء بدون الامام لا يتحقق.
وأما صلاة الامام هل تفسد؟ اختلفت الروايات فيه، والمشهور من
الرواية أنها لا تفسد، وكذا ذكر أبو عصمة عن أصحابنا وذكر الطحاوي
أنها تفسد.
والأول أصح، لان الامام في حكم المنفرد، وهو أصل بنفسه.
223

هذا إذا لم يكن خارج المسجد صفوف متصلة به.
فأما إذا كانت متصلة، فخرج الامام، ولم يتجاوز الصفوف هل
تبطل صلاة القوم أم لا؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: تبطل.
وقال محمد: لا تبطل، لان موضع الصفوف لها حكم المسجد، ألا
ترى أن من صلى في الصحراء جاز استخلافه ما لم يتجاوز الصفوف.
والصحيح قولهما، لان القياس أن يكون الانحراف عن القبلة،
لقصد الخروج عن المسجد، مبطلا صلاة القوم، إلا أنه بقي إماما
حكما، ما دام في المسجد لضرورة صحة الاستخلاف، والضرورة
تندفع غالبا في المسجد، فبقي حكم خارج المسجد على أصل القياس
لهذا بالاجماع الامام يوم الجمعة، لو كبر وحده في المسجد، والقوم
خارج المسجد، متصلا بصفوفهم وكبروا، لا ينعقد الجمعة لان
الشرط أن يكون جماعة من القوم والامام في مكان واحد ولم يوجد.
وأما الامام إذا كان يصلي بالناس في الصحراء، فأحدث فما دام في
الصفوف، صح استخلافه، وإذا جاوز الصفوف لا يجوز، لان مواضع
الصفوف التحقت بالمسجد ههنا، لضرورة صحة الاستخلاف لعدم
المسجد.
وهذا إذا ذهب الامام يمنة أو يسرة أو خلفا.
أما إذا مشى أمامه وليس بين يديه بناء، ولا سترة، فإنه لا تفسد
صلاتهم ما لم يذهب مقدار ما يجاوز الصفوف التي خلفه، لان هذا أقدر
من المشي، ليس بمناف للصلاة، إذا وجد في أحد الجنبين.
أما إذا كان بين يديه حائط أو سترة فجاوزه تفسد صلاتهم، لان
السترة تجعل لما دونها حكم المسجد، حتى يباح للمار المرور، وراء
السترة، ولا يباح داخل السترة.
224

وهذه المسائل رويت عن أبي يوسف.
وهذا الذي ذكرنا إذا كان في المسجد مع الامام جماعة من القوم.
فأما إذا كان معه واحد، فإذا خرج الامام من المسجد، لم تفسد
صلاة هذا الرجل، لأنه تعين إماما، قدمه الإمام المحدث أولا لعدم
المزاحمة.
ولو أن الامام إذا ظن أنه أحدث فانصرف، ثم علم أنه لم يحدث
إن خرج من المسجد، تفسد صلاتهم، ولا يبني.
أما إذا لم يخرج، فإنه يرجع إلى مكانه ويبني، ولا تفسد صلاته في
قول أبي حنيفة وأبي يوسف وإحدى الروايتين عن محمد، وفي رواية عن
محمد: فسد.
وأجمعوا أنه إذا ظن الامام أنه افتتح الصلاة على غير وضوء، أو كان
على ثوبه نجاسة، أو كان متيمما، فرأى سرابا ظنه ماء، فانصرف
وتحول عن القبلة، فإنه تفسد صلاته لا يبني، وإن لم يخرج من
المسجد.
فأما إذا سلم على رأس الركعتين ساهيا في ذوات الأربع، وهو
يظن أنه قد أتم الصلاة، ثم تذكر ورجع إلى مكانه، فإن كان بعد
الخروج تفسد صلاته بالاجماع، وإن كان قبل الخروج، فعلى الخلاف
الذي ذكرنا.
فمحمد قاس موضع الخلاف على المسائل المتفق عليها، بعلة
الانحراف عن القبلة من غير ضرورة.
والصحيح قولهما، لان الانحراف لم يوجد لقصد الخروج عن
الصلاة، لان عنده أنه انحرف لاصلاح صلاته حتى يتوضأ ويبني
عليها، ولو تحقق ما توهم لا يمنع البناء، فكذلك إذا سلم ساهيا إلا أنه
225

مشى في صلاته، لا لاصلاح صلاته، حقيقة، لأنه غير محدث بل ظن
أنه محدث، والمشي بغير عذر مفسد للصلاة، ولكن المسجد له حكم بقعة
واحدة، فلم يجعل ماشيا تقديرا، فإذا خرج فقد وجد المشي بغير عذر
حقيقة وحكما، فتفسد صلاته، بخلاف ما ذكرنا من المسائل، فإن ثمة
الانحراف عن القبلة لقصد الخروج عن الصلاة، وعزم الرفض، لان
البناء في هذه المواضع لا يصح، فصار بمنزلة السلام عمدا، فإنه يكون
قاطعا للصلاة لما قلنا، كذا هذا.
226

باب
الإمامة
في الباب فصول:
منها: أن الجماعة واجبة وقد سماها بعض أصحابنا سنة
مؤكدة وكلاهما واحد.
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه واظب عليها، وكذلك
الأمة من لدن رسول الله آ إلى يومنا هذا، مع النكير على تاركها وهذا
حد الواجب دون السنة.
ومنها: أن الجماعة إنما تجب على من قدر عليها من غير حرج،
فأما من كان به عذر فإنها تسقط عنه، حتى لا تجب على المريض،
والأعمى، والزمن، ونحوهم هذا إذا لم يجد الأعمى قائدا، أو الزمن
من يحمله، فأما إذا وجد الأعمى قائدا، أو الزمن حاملا بأن يكون له
مركب وخادم، فعند أبي حنيفة: لا يجب، وعندهما: يجب وقد ذكرنا
هذا في باب الجمعة.
ومنها: أن أقل الجماعة: في غير صلاة الجمعة، الاثنان وهو أن
يكون إمام واحد مع القوم، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال:
الاثنان فما فوقهما جماعة.
ويستوي أن يكون ذلك الواحد رجلا، أو امرأة، أو صبيا يعقل،
227

لان هؤلاء من أهل الصلاة، فأما المجنون، والصبي الذي لا يعقل فلا
عبرة بهما.
فأما عدد الجماعة في باب الجمعة، فقد ذكرنا في باب الجمعة.
ثم ينظر إن كان مع الامام رجل واحد أو صبي يعقل، فإن المأموم
ينبغي أن يقوم عن يمينه ولا يتقدمه الامام.
وإذا كان معه اثنان من الرجال أو الصبيان العقلاء، يتقدمهما
الامام. وقال بعض مشايخنا: إن لم يتقدم الامام وقام بينهما، فلا بأس
والأول أصح.
فإن كان معه نسوان، أو امرأة واحدة فإنه يتقدمها، لان محاذاة المرأة
الرجل في حرمة صلاة مشتركة مستتمة الأركان، توجب فساد صلاة الرجل
عندنا، خلافا للشافعي وهي مسألة معروفة.
وإن كان معه رجال ونساء، فإنه يتقدم الرجال على النسوان لما قلنا.
ولو قامت امرأة بحذاء الامام، وقد نوى الامام إمامتها، تفسد صلاة
الامام، وصلاة القوم، لفساد صلاة الامام.
وإن قامت في صف الرجال تفسد صلاة رجل
كان عن يمينها، ورجل كان عن يسارها ورجل خلفها، ورجل بحذائها.
ولو تقدمت الامام حتى يكون الامام خلفها، لا تفسد صلاة الامام
والقوم، لكن تفسد صلاتها، لان الواجب عليها المتابعة، فقد تركت
فرضا من فرائض الصلاة، فتفسد صلاتها.
ولو كان في صف الرجال ثنتان من النساء، وخلف هذا الصف
صفوف أخر، تفسد صلاة رجل عن يمينهما، وصلاة رجل عن يسارهما،
وصلاة رجلين خلفهما.
228

وإن كن ثلاثا اختلف المشايخ فيه:
قال بعضهم: تفسد صلاة ثلاثة رجال خلفهن لا غير.
وقال بعضهم: تفسد صلاة الرجال كلهم خلفهن، ويصير الثلاث
من النسوان بمنزلة صف على حدة.
وأصله حديث النبي عليه السلام أنه قال: ليس مع الامام من كان
بينه وبين الامام نهر، أو طريق أو صف من النساء.
ومنها: بيان من يصلح للإمامة فنقول:
الصالح للإمامة هو الرجل الذي من أهل الصلاة المفروضة، سواء
كان حرا أو عبدا بصيرا كان أو أعمى، تقيا كان أو فاجرا، وعلى ما روي
عن النبي عليه السلام أنه قال: صلوا خلف كل بر وفاجر.
والصبي العاقل لا تجوز إمامته في الفرائض، لأنه لا يصح منه أداء
الفرائض، لأنه ليس من أهل الفرض.
وهل تجوز إمامته في النوافل، كالتراويح وغيرها؟ اختلف المشايخ
فيه، أجاز بعضهم، ولم يجز عامتهم.
هذا كله عندنا.
وقال الشافعي: تجوز إمامة الصبي العاقل.
وأما صاحب الهوى: فإن كان هوى يكفره: لا تجوز إمامته، وإن
كان لا يكفره جاز مع الكراهة.
ومنها: بيان الأفضل، فنقول:
إن الحر، والتقي، والبصير، أفضل من العبد، والفاجر،
والأعمى - لان إمامة هؤلاء سبب لتكثير الجماعة، وإمامة أولئك سبب
229

للتقليل، فما هو سبب للتكثير أولى وأفضل.
ثم أفضل هؤلاء، من كان أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بالسنة،
فإن كان منهم رجلان أو أكثر على هذا، فأكبرهما سنا أولى، وإن استويا
في الكبر فأبينهما صلاحا أولى، وإن استويا في ذلك قالوا: أحسنهما خلقا
أولى. وإن استويا، فأحسنهما وجها أولى، لأن هذه الأوصاف سبب
الرغبة إلى الجماعة.
ولو استويا في العلم وأحدهما أقرأ، أو استويا في القراءة وأحدهما
أعلم فهو أولى.
فأما إذا كان أحدهما أقرأ، والآخر أعلم، فالأعلم أولى، لان حاجة
الناس إلى علم الإمام أشد.
وعلى هذا قالوا: العالم بالنسبة إذا كان ممن يجتنب الفواحش
الظاهرة، وغيره أورع منه، لكن غير عالم بالسنة، فتقديم العالم أولى.
ولو كان أحدهما أكبر، والآخر أورع، فإن الأكبر سنا أولى إذا لم
يكن فيه فسق ظاهر أو لم يكن متهما به، لان النبي عليه السلام قال:
الكبر الكبر.
230

باب
قضاء الفائتة
الكلام في مسائل الترتيب من وجوه:
أحدها: أن الترتيب في أداء الصلوات المكتوبات فرض بلا خلاف
حتى لا يجوز أداء الظهر قبل الفجر، ولا أداء العصر قبل الظهر، لان
الصلاة لا تجب قبل وجود هذه الأوقات.
فأما إذا وجدت الأوقات ووجبت الصلاة، فلم يؤدها حتى دخل
وقت صلاة أخرى فهل يعتبر الترتيب واجبا، حتى لا يجوز أداء الوقتية
قبل قضاء الفوائت أم لا.
على قول أصحابنا: يجب الترتيب.
وعلى قول الشافعي: لا يجب.
والأصل في الباب قوله عليه السلام: من نام عن صلاة أو نسيها
فليصلها، إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها فالنبي عليه السلام جعل وقت
الفائتة وقت التذكر، فكان أداء الوقتية فيه قبل وقته، فلا يجوز عملا
بظاهر الحديث.
ثم الترتيب لا يجب عند النسيان، ولا عند ضيق الوقت، وعند كثرة
الفوائت - في قول عامة العلماء.
وقال مالك: لا يسقط حالة النسيان، ولا عند ضيق الوقت.
وقال زفر: لا يسقط عند كثرة الفوائت.
231

هما يقولان: إن الدليل الموجب للترتيب، وهو الحديث، لا يوجب
الفصل بين هذه الأحوال.
ولكن الصحيح قول العامة، لان الترتيب إنما وجب بخبر الواحد،
وشرط وجوب العمل به أن لا يؤدي إلى نسخ حكم الكتاب والسنة
المشهورة وحكم الكتاب، والسنة المشهورة أن لا يجوز ترك الوقتية عن
الوقت، وفي هذه الأحوال الثلاث يؤدي إلى هذا فيسقط العمل بخبر
الواحد.
ثم اختلف أصحابنا في أدنى حد الفائت الكثير:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا كان الفائت ست صلوات، ودخل
وقت السابعة، يسقط الترتيب، ويجوز أداء السابعة.
وقال محمد: إذا كان الفوائت صلاة يوم وليلة، وهو خمس
صلوات، ودخل وقت السادسة، يسقط الترتيب ويجوز أداء السادسة.
ولو ترك صلاة، ثم صلى بعدها خمس صلوات، وهو ذاكر للفائتة
فإن هذه الخمسة موقوفة عند أبي حنيفة، فإذا صلى السابعة تجوز السابعة
بالاتفاق، وتعود الخمسة إلى الجواز. وفي قولهما عليه قضاء ست صلوات،
المؤديات الخمسة والفائتة، وعلى قياس قول محمد: يعيد خمس صلوات.
وكذلك إذا ترك خمس صلوات، ثم صلى السادسة، فهي موقوفة
عند أبي حنيفة، حتى لو صلى السابعة تنقلب السادسة إلى الجواز عنده -
وعندهما لا تنقلب.
وكذلك لو ترك صلاة، ثم صلى شهرا، وهو ذاكر للفائتة: على قول
أبي يوسف يعيد الفائتة وخمس صلوات أخر، وعند محمد يعيد الفائتة
وأربع صلوات أخر، وعند أبي حنيفة يعيد الفائتة لا غير، وهي مسألة
معروفة.
232

ولو ترك صلاة من يوم واحد، ولا يدري أية صلاة هي، فإنه ينبغي
أن يتحرى، فإن لم يقع تحريه على شئ، يعيد صلاة يوم وليلة
احتياطا، حتى يخرج عن قضاء الفائتة بيقين.
الحائض إذا طهرت في آخر وقت الظهر، أو المسافر إذا أقام، أو
الصبي إذا بلغ، أو الكافر أسلم، أو المجنون أو المغمى عليه آفاق،
فعليهم صلاة الظهر ويصلي المقيم أربعا، وعلى قول زفر لا يجب ما لم
يدركوا من الوقت ما يمكنهم أداء تلك الصلاة فيه.
وعلى هذا إذا كانت طاهرة فحاضت في آخر الوقت، أو كان مقيما
فسافر، أو ارتد في آخر الوقت، فلا قضاء عليه.
وحاصل هذا أن الصلاة يتضيق وجوبها في آخر الوقت إذا بقي من
الوقت مقدار ما يمكن أداء تلك الصلاة فيه، بلا خلاف بين أصحابنا،
فأما إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدي بعض الصلاة، أو مقدار ما يتحرم
لا غير:
فعندنا يجب عليه الصلاة.
وعنده لا يجب، لأنه لا يقدر على الأداء في هذا الوقت، فيكون
تكليف ما ليس في الوسع.
ولكنا نقول يجب عليه الأداء في الوقت بقدر ما يمكن، والقضاء في
الوقت الثاني بقدر ما لا يمكن، والصلاة الواحدة يجوز أن يكون بعضها
قضاء وبعضها أداء، كالمقيم إذا اقتدى كالمسافر في آخر الوقت: يؤدي
معه ركعتين في آخر الوقت ثم يقضي ركعتين في الوقت الثاني.
233

باب
سجدة التلاوة
الكلام في الباب في مواضع:
في بيان أن سجدة التلاوة واجبة أم لا،
وفي بيان مواضع السجدة،
وفي بيان سبب الوجوب،
وفي بيان من يجب عليه، ونحو ذلك.
أما الأول - فنقول:
سجدة التلاوة واجبة عندنا.
وعند الشافعي سنة.
والصحيح قولنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: السجدة
على من سمعها أو تلاها.
وأما مواضع السجدة فأربعة عشر:
أربع في النصف الأول: في آخر الأعراف، وفي الرعد، وفي
النحل، وفي بني إسرائيل.
وعشرة في النصف الأخير: في سورة مريم، وفي الحج في الأولى،
وفي الفرقان، وفي النمل، والم السجدة، وص وحم
السجدة، والنجم وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك.
235

وعلى هذا قول عامة العلماء.
وقال الشافعي: في آخر سورة الحج سجدة في قوله: واركعوا
واسجدوا. وقال في سورة ص سجدة الشكر لا سجدة التلاوة.
وقال مالك: ليس في سورة النجم وسورة إذا السماء انشقت
واقرأ باسم ربك سجدة.
وأما سبب وجوب السجدة:
فهو التلاوة والسماع، للحديث الذي روينا.
ثم السجدة تجب بسماع التلاوة مطلقا، سواء كانت في الصلاة أو
خارج الصلاة، كان التالي مسلما أو كافرا، طاهرا أو محدثا أو جنبا أو
حائضا أو نفساء، صغيرا كان أو كبيرا، عاقلا كان أو مجنونا بعد أن
يكون السامع من أهل وجوب السجدة عليه.
وكذلك التلاوة، سبب الوجوب في حق التالي، إذا كان أهلا
للوجوب أيضا.
ثم أهل وجوب السجدة:
من كان من أهل وجوب الصلاة عليه، أو من أهل وجوب القضاء،
لأنها جزء من أجزاء الصلاة، فلا تجب على الكافر، والصبي، والمجنون،
والحائض، والنفساء، لأنه لا وجوب عليهم.
فأما الجنب والمحدث فيجب عليهما، لأنه يجب عليهما الصلاة،
والطهارة شرط الأداء لا شرط الوجوب.
ومنها - شرائط صحة أداء سجدة التلاوة:
وهي ما كان من شرائط صحة الصلاة، من الطهارة عن النجاسة
236

الحقيقة بدنا ومكانا وثيابا، وستر العورة، واستقبال القبلة، ونحوها،
لأنها بعض الصلاة فيشترط لأدائها ما هو شرط في الكل.
وكذلك كل ما كان مفسدا للصلاة، من الكلام، والقهقهة،
والحدث العمد ونحوها، فهو يفسد السجدة، إلا أنه إذا قهقه في السجدة
لا تنتقض طهارته بخلاف الصلاة على ما مر من قبل، لان انتقاض
الطهارة بالقهقهة في الصلاة عرفناه نصا، بخلاف القياس، في صلاة
تامة - غير معقول المعنى، فلا يثبت في حقها، كما في صلاة الجنازة.
ولو قرأ على الدابة، وهو مسافر، فسجد على الدابة، مع القدرة على
النزول، فالقياس أن لا يجوز، وبه قال بشر المريسي، وفي الاستحسان
يجوز، بخلاف الصلاة، فإنها لا تجوز فرضا على الدابة مع القدرة
على النزول، لان القراءة أمر دائم، بمنزلة التطوع، فكان في اشتراط
النزول حرج، بخلاف الفرض.
ومنها: أنه هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة؟ فنقول:
إذا قرأ في مجلس واحد آيات السجدة، أو قرأ آية واحدة في مجالس
مختلفة، تجب السجدة بقدر عدد القراءة.
فأما إذا قرأ آية واحدة، في مجلس واحد مرارا، لا تجب إلا سجدة
واحدة، لان في إيجاب التكرار في مجلس واحد، إيقاع الناس في الحرج،
ولا حرج عند اختلاف الآية في مجلس واحد، وعند اختلاف المجالس.
هذا حكم خارج الصلاة.
أما إذا كرر آية السجدة في الصلاة، فإن كانت في ركعة واحدة، لا
تجب إلا سجدة واحدة، لاتحاد المجلس حقيقة.
وإن قرأها في كل ركعة فالقياس أن لا يجب إلا سجدة واحدة،
237

هو قول أبي يوسف لاتحاد المجلس حقيقة، وفي الاستحسان يجب بكل
تلاوة سجدة، وهو قول محمد، لأنه لا حرج في الوجوب، لان تكرار آية
سجدة في كل ركعة نادرة في الصلاة، لأنها ليست بموضع التعليم.
ومنها: أن الامام إذا قرأها في الصلاة فإنه يجب عليه السجدة،
على القوم، لكن إذا سجدوا في الصلاة يجوز، وإن لم يسجدوا
تسقط لأنها صلاتية فتسقط بالخروج عنها.
وأما المقتدي إذا قرأها فقد أجمعوا أنه لا يجب عليه أن يسجد في
الصلاة، وهل يسجد خارج الصلاة؟
على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجب، وعلى قول محمد يجب.
وكذلك لا تجب السجدة على الامام والقوم.
وأجمعوا أنه تجب السجدة على من سمع من المقتدي خارج الصلاة.
والصحيح قولهما، لأنه لا فائدة في الوجوب، لان فائدة الوجوب
الأداء، ولا يمكنه الأداء في الصلاة، لأنه تابع للامام، وتجب عليه
متابعته، فيه ترك المتابعة، ولا يمكنه بعد السلام، لأنها صارت صلاتية،
والصلاتية تسقط بالسلام.
ولو سمع المقتدي ممن قرأ خارج الصلاة، يجب عليه أن يسجد خارج
الصلاة، لأنها ليست بصلاتية.
وكذلك الامام لو سمع ممن قرأ خارج الصلاة، يجب عليه أن يسجد
خارج الصلاة أيضا، لما قلنا.
ولو سجد هذه السجدة في الصلاة، لم يجز، لأنها ليست بصلاته،
ولكن هل تفسد صلاته؟ في رواية الأصول: لا تفسد الصلاة، لان
السجدة ليس بمنافية للصلاة، وهي ما دون الركعة، فصار كما لو سجد
سجدة زائدة تطوعا، والله أعلم.
238

كتاب
الجنائز
قال رحمه الله:
إذا احتضر الرجل الموت فإنه يوجه على شقه الأيمن، نحو القبلة على
ما ذكرنا، ويلقن كلمة الشهادة، لقوله عليه السلام: لقنوا موتاكم:
لا إله إلا الله.
وإذا مضى، ينبغي أن يغمض عيناه، ويشد لحياه. لأنه إذا ترك
مفتوحا، يصير كريه المنظر ويقبح في أعين الناس، وعليه توارث الأمة،
وما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن.
ثم المستحب أن يعجل في جهازه ولا يؤخر، لقوله عليه السلام:
عجلوا موتاكم، فإن يك خيرا، قدمتموه إليه، وإن يك شرا، فبعدا
لأهل النار.
ولا بأس بإعلام الناس بموته، لان فيه تحريض الناس إلى الطاعة،
وحثا على الاستعداد لها، فيكون سببا إلى الخير، ودلالة عليه، والنبي
عليه السلام قال: الدال على الخير كفاعله.
ثم يشتغل بغسله، فإن غسل الميت واجب، بإجماع الأمة عليه من
لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا. وأصله ما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: لما توفي آدم عليه السلام، غسلته الملائكة، وقالت
239

لولده: هذه سنة موتاكم.
ثم كيف يغسل؟
روى أبو يوسف عن أبي حنيفة، وذكر محمد في كتاب الصلاة أنه يجرد
الميت، ويوضع على تخت، وتستر عورته بخرقة، وهي من الركبة إلى
السرة، ويوضأ وضوءه للصلاة، إلا أنه لا يمضمض، ولا يستنشق، ولا
يمسح على رأسه، ولا يؤخر غسل رجليه، بخلاف غسل الجنب - ثم
يضجع على شقه الأيسر، فيغسل بالماء الذي غلي بالسدر والخطمي
والحرض، أو بالماء القراح إن لم يكن شئ من ذلك، حتى ينقيه ويخلص
الماء إلى ما يلي التخت، لان المسنون هو البداءة بالميامن، فيضجع على
شقه الأيسر حتى يمكن البداءة بغسل الأيمن ثم يضجع على شقه الأيمن،
فيغسل الأيسر حتى ينقيه ثم يقعده ويسنده إلى نفسه، ويمسح يده
على بطنه مسحا رقيقا، فإن سال منه شئ يمسحه، ويغسل ذلك
الموضع، حتى يطهر عن النجاسة الحقيقة.
ولا يجب إعادة الغسل ولا الوضوء بخروج شئ منه، وعند الشافعي
يعاد الوضوء.
والصحيح قولنا، لان الغسل والوضوء ما وجب لأجل الحدث، وإنما
عرفناه بالنص، بخلاف القياس وقد وجد.
ثم يضجعه على شقه الأيسر حتى ينقيه ويرى أن الماء قد خلص إلى ما
يلي السرير، حتى يكون الغسل ثلاث مرات، وهو الغسل المسنون في
حالة الحياة، فكذلك بعد الممات، ثم ينشفه بثوب حتى لا تبتل أكفانه.
ولا يؤخذ شئ من ظفره، ولا شعره، ولا يسرح لحيته، لان هذا
من باب الزينة، والميت لا يزين.
هذا الذي ذكرنا سنة في كل ميت مات بعد الولادة، إلا الشهيد
240

الذي مثل شهداء أحد، على ما نذكر.
ولهذا قلنا: إن المولود إذا خرج ميتا لا يغسل، هذا جواب هذا الكتاب
على ما نذكر.
فأما إذا استهل الصبي ثم وجد ميتا، يغسل، لان الاستهلال دلالة
الحياة.
وإذا وجد أكثر الانسان الميت يغسل، لان للأكثر حكم الكل،
فأما إذا وجد الأقل أو النصف، لم يغسل عندنا، وعند الشافعي يغسل
كيفما كان.
ثم الجنس يغسل الجنس كالذكر للذكر، والأنثى للأنثى، ولا
يغسل الجنس خلاف الجنس، كالرجل للأنثى والأنثى للرجل، لان مس
العورة حرام، في حالة الحياة والممات جميعا للأجانب.
فأما إذا كانا زوجين، فالزوجة المعتدة بسبب الموت يحل لها غسل
الزوج، بالاجماع، ما لم يوجد منها في حال العدة ما هو سبب الفرقة وهو
المصاهرة أو الردة.
فأما المعتدة بالطلاق البائن، إذا مات الزوج بعد ذلك: فلا تغسله،
لان الطلاق البائن يرفع النكاح.
فأما الزوج فلا يغسل الزوجة عندنا، خلافا له، والمسألة معروفة.
وأما أم الولد فلا تغسل مولاها، وإن كانت معتدة بعد موته
عندنا، وقال زفر تغسل، إلا أن الصحيح قولنا، لان القياس أن المعتدة
للزوج لا تغسل، لان النكاح انتهى بالموت كما في جانب الزوج، وإنما
جاءت الإباحة بخلاف القياس في حق الزوجة، فبقي الحكم في حق أم
الولد على أصل القياس.
241

فأما الصبي والصبية: إن كانا من أهل الشهوة فكذلك الجواب،
وإن لم يكونا من أهل الشهوة، فلا بأس بغسلهما عند اختلاف الجنس.
وإذا ماتت المرأة في السفر، ولم يكن هناك غير الرجال، فإن كان
منهم ذو رحم محرم منها، فإنه ييممها بيده بغيره خرفة، وإن لم يكن،
فالأجنبي ييممها بخرقة، لان الأجنبي لا يحل له مس محل التيمم بدون
الخرقة، فأما المحرم فيحل له مس ذلك الموضع من غير حائل.
ثم يكفن الميت بعد الغسل، لان تكفين الميت سنة، لما روي في
قصة آدم عليه السلام أن الملائكة قالت لولده بعدما غسلوه وكفنوه
ودفنوه: هذه سنة موتاكم.
ثم الكفن يصير من جميع المال، وهو مقدم على الدين، والوصية،
والميراث، لان هذا من حوائج الميت.
ومن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته وكسوته في حال
حياته، إلا المرأة خاصة، في قول محمد فإن كفنها لا يجب على زوجها،
لان الزوجية تنقطع بالموت.
ومن لم يكن له مال، ولا من ينفق عليه، في بيت المال لأنه
أعد لحوائج المسلمين.
ثم أكثر ما يكفن به الرجل ثلاث أثواب: إزار، ورداء، وقميص،
وأدنى ذلك ثوبان: إزار ورداء.
وأكثر ما تكفن به المرأة خمسة أثواب إزار، ولفافة، ودرع، وخمار،
وخرقة يربط ثدياها، وأدنى ذلك ثلاثة: لفافة، وخمار، وإزار.
وكذلك الجواب في الصبي، والصبية المراهقين.
فأما الذي لم يراهق فيكفن في خرقتين: إزار ورداء، ولو كفن في
242

إزار واحد لا يكره، لان بدنه ليس بعورة، وليس له حرمة كاملة.
وإن كان سقطا، فإنه يكفن في خرقة.
وكذلك إذا ولد ميتا، يلف في خرقة أيضا، لان حرمته لم تكمل.
ثم كيفية لبس الأكفان: ينبغي أن تجمر الأكفان أولا وترا، لان
الثوب الجديد أو الغسيل مما يطيب في حالة الحياة، فكذلك بعد الممات
فيلبس القميص أولا، ثم تبسط اللفافة، وهي الرداء، طولا، ثم يبسط
الإزار فوقها عرضا فيوضع الميت عليها، ثم يوضع الحنوط في رأسه ولحيته
وسائر جسده، ويوضع الكافور على مساجده - وأرادوا بالمساجد الجبهة
واليدين والركبتين - تشريفا للميت، لان المغتسل في حالة الحياة قد
يتطيب، ولا بأس بسائر الطيب في الحنوط غير الزعفران والورس في حق
الرجل، ولا بأس به في حق المرأة، ثم يعطف الإزار على الميت من شقه
الأيسر على رأسه وسائر جسده، ثم يعطف من قبل شقه الأيمن كذلك، ثم
يعطف الرداء عليه، وهو اللفافة. فإن خيف انتشار الكفن وظهور
العورة، يربط بشئ من الخرقة.
وكذلك في حق المرأة تبسط اللفافة أيضا ثم الإزار وتلبس الدرع،
والخمار فوق الدرع، والخرقة تربط فوق الأكفان عند الصدر فوق
الثديين، ويسدل شعرها من الجانبين فوق الدرع على صدرها، ثم
يعطف الإزار واللفافة، على ما ذكرنا.
ثم الغسيل والجديد سواء في حق الكفن.
ولا بأس بالبرد، والكتان، والقصب، وفي حق النسوان بالحرير،
والإبريسم والمعصفر، والمزعفر على ما روي عن النبي عليه السلام أنه
قال: إذا ولي أحدكم أخاه، فليحسن كفنه. لكن الثياب البيض
243

أفضل، على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: البسوا هذه
الثياب البيض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم.
ثم يؤتى بالجنازة، ويحمل عليها الميت، ويسرع به، فإن الاسراع به
سنة، لكن ينبغي أن يكون مشيا دون الخبب وأصله ما روي عن النبي
عليه السلام أنه قال: عجلوا موتاكم، فإن كان خيرا قدمتموه، وإن
كان شرا ألقيتموه عن رقابكم.
والمستحب للمشيع المشي خلفها دون التقدم، وإن مشى ماش أمامها
كان واسعا، لكن لا ينبغي أن يتقدم الكل، لما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: الجنازة متبوعة وليست بتابعة ليس معها من
تقدمها.
وتحمل الجنازة من جوانبها الأربع فيبدأ الذي يريد حملها بالمقدم
الأيمن من الميت فيجعله على عاتقه الأيمن، ثم المؤخر الأيمن على عاتقه
الأيمن، ثم المقدم الأيسر على عاتقه الأيسر ثم المؤخر الأيسر على عاتقه الأيسر.
وقال الشافعي: يقوم من يحمل الجنازة بين العمودين فإن سعد بن
معاذ حمل بين العمودين.
والصحيح ما قلنا، لعمل الأمة، من لدن رسول الله (ص) إلى يومنا
هذا، من غير نكير، وحديث سعد يحتمل أن يكون ذلك لضيق المكان أو
لعذر من الاعذار.
ويكره أن يحمل الميت على الدابة، صغيرا كان أو كبيرا، لان من
تعظيم الميت، أن يحمل على أعناق الرجال.
وإن كان صبيا فحمله إنسان على يديه، وهو راكب، فلا بأس به.
وكذا لا بأس بأن يحمل الرضع، أو فوق ذلك، في سقط ونحوه،
244

على الأيدي، ويتداولونه، لان معنى الكرامة حاصل.
ويكره لمشيعي الجنازة أن يقعدوا قبل وضع الجنازة، لأنهم أتباع
الجنازة، والتبع لا يقعد قبل قعود الأصل تعظيما له.
245

باب
الصلاة على الجنازة
الكلام في الباب في مواضع:
في بيان أنها واجبة،
وفي بيان من يصلي عليه،
وفي بيان كيفية صلاة الجنازة،
وفي بيان ولاية الصلاة: لمن هي؟
وفي بيان ما يفسد صلاة الجنازة وما يمنع منها.
أما الأول - فنقول:
الصلاة على الميت واجبة في الجملة، لا يسع الاجتماع على تركها
ومتى فعلها فريق من الناس تسقط عن الباقين، فكانت واجبة على
سبيل الكفاية.
وبيان الوجوب: مواظبة الرسول، وأصحابه، والأمة بأجمعهم من
لدن رسول الله (ص) إلى يومنا هذا.
وبيان أنها واجبة على طريقة الكفاية، لان ما هو الفرض، وهو قضاء
حق الميت، يحصل بالبعض، ولا يمكن إيجابه على كل أحد من آحاد
الناس، فصار بمنزلة الجهاد.
وأما بيان من يصلى عليه - فنقول:
كل من مات مسلما بعد ولادته، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا
247

كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا، إلا البغاة وقطاع الطريق ومن كان بمثل
حالهم، لقوله عليه السلام: صلوا على كل بر وفاجر.
ولا يصلى على من ولد ميتا، لما روي عن النبي عليه السلام أنه
قال: إذا استهل المولود، صلي عليه، ومن لم يستهل، لم يصل عليه،
لان الاستهلال دلالة الحياة، والميت في عرف الناس من زالت حياته، لا
يعلم أنه خلقت الحياة فيه أم لا، فلم يعلم بموته، ولهذا قلنا: إنه لا
يرث، ولا يورث، ولا يغسل، ولا يسمى، لأن هذه أحكام الاحياء،
ولم تثبت حياته.
وروي عن الطحاوي أن الجنين الميت يغسل، ولم يحك خلافا.
وعن محمد في السقط الذي استبان خلقه، إنه يغسل ويكفن
ويخط ولا يصلى عليه.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة فيمن ولد ميتا، أنه لا يغسل.
فعلى الرواية التي لا يغسل اعتبر بالصلاة وأنه لا يصلى عليه،
والغسل لأجل الصلاة، فسقط الغسل. وعلى الرواية التي يغسل اعتبر
أنه سنة الموتى في الأصل بحديث قصة آدم عليه السلام أنه قالت الملائكة
بعد ما غسلته: إنه سنة موتاكم ولهذا يغسل الكافر وإن لم يصل عليه.
وأما البغاة فلا يصلى عليهم عندنا، خلافا للشافعي.
والصحيح قولنا، فإن عليا لم يصل على قتلى نهروان وغيرهم ممن
خالفه، وهم أهل بغي، فإن الخليفة الحق هو علي رضي الله عنه، حال
حياته، بعد وفاة عثمان رضي الله عنه، وكان ذلك بمحضر من
الصحابة، فيكون إجماعا.
248

وإذا ثبت الحكم في البغاة، ثبت في قطاع الطريق، لأنهم في
معناهم.
وكذلك الذي يقتل الناس خنقا، حتى يأخذ أموالهم، لان هذا ساع في
الأرض بالفساد.
وكذلك المكابرون في المصر بالسلاح، ومن كان في مثل حالهم.
وأما كيفية الصلاة على الميت - فنقول:
أن يقوم الامام والقوم، فيكبر الامام أربع تكبيرات والقوم معه
فيكبرون التكبيرة الأولى، ويحمدون الله بما هو أهله، كذا ذكر الكرخي.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يكبر الأولى ويقول: سبحانك اللهم
وبحمدك.... إلى آخره، ثم يكبرون الثانية ويصلون على النبي عليه
السلام على ما هو المعروف، ثم يكبرون الثالثة ويدعون للميت ولأموات
المسلمين ويستغفرون لهم. وإذا كان الميت صبيا فيقول: اللهم اجعله
لنا فرطا واجعله لنا ذخرا، ثم يكبرون الرابعة ولا يدعون بعدها - ثم
يسلم الامام تسليمتين عن يمينه ويساره والقوم معه، لان كل صلاة لها
تحريم بالتكبير، فيكون لها تحليل بالتسليم.
هذا الذي ذكرناه قول عامة العلماء، وعليه الاجماع، فإنه روي عن
عبد الله بن مسعود أنه قال: كل ذلك قد كان، حين سئل عن تكبيرات
الجنازة، لكن رأيت الناس أجمعوا على أربع تكبيرات.
ثم إن عندنا لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى. وعلى قول الشافعي
يرفع عند كل تكبيرة، وقد ذكرنا قبل هذا.
وليس فيها قراءة الفاتحة أصلا، عندنا. وقال الشافعي: لا يجوز
بدون الفاتحة.
والصحيح قولنا، لأنها ليست بصلاة حقيقة، إنما شرعت الدعاء
249

على الميت، وأصله حديث ابن مسعود أنه قال: ما وقت لنا رسول الله صلى
الله عليه في صلاة الجنازة قولا ولا قراءة، كبر ما كبر الامام، واختر من
أطيب الكلام ما شئت.
ثم المشهور من الروايات عن أصحابنا، في الأصل وغيره، أن يقوم
الامام بحذاء صدر الميت في الرجل والمرأة جميعا حتى يصلي عليه.
وعن الحسن أنه يقوم في الرجل بحذاء وسطه، وفي المرأة بحذاء
وسطها إلا أنه يكون إلى رأسها أقرب.
وعن أبي يوسف أنه يقوم من المرأة بحذاء وسطها، ومن الرجل مما
يلي الرأس وقال الطحاوي: وهذا قوله الأخير.
والصحيح هو الأول، لأنه لا بد من أن يحاذي جزءا من أجزاء
الميت، فكان محاذاة الصدر، الذي هو موضع الايمان أحق.
وإذا اجتمعت الجنائز فالامام بالخيار إن شاء الله صلى عليها كلها دفعة
واحدة، وإن شاء صلى على كل جنازة على حدة، فإن أراد أن يصلي على
كل جنازة على حدة، فالأولى أن يقدم الأفضل منهم، وإن صلى كيف
شاء، فلا بأس به، وإن أراد أن يصلي عليهم جملة ينبغي أن يكون
الرجال مما يلي الامام، ثم الصبيان الذكور، ثم النساء، ثم الصبيات،
لما روي عن عمر أنه صلى على أربع جنائز رجال ونساء وجعل الرجال مما
يلي الامام.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يضع أفضلها مما يلي الامام.
وقال أبو يوسف: أحسن ذلك عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي
الامام.
ثم تكلموا في كيفية الوضع من حيث المكان:
250

قال ابن أبي ليلى: إذا اجتمعت الجنائز يوضع رجل خلف رجل،
رأس الآخر أسفل من رأس الأول، يوضعون هكذا درجا.
وعن أبي حنيفة أنه قال: إن وضعوا كما قال ابن أبي ليلى فحسن،
لان النبي عليه السلام وصاحبيه دفنوا على هذه الصفة، والوضع للصلاة
كذلك، فإن وضعوا رأس كل واحد منهم بحذاء رأس صاحبه فحسن،
لان المقصود حاصل، وهو الصلاة عليهم.
وأما بيان ولاية الصلاة فنقول:
ذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي: قال أبو حنيفة: يصلي على الجنازة
أئمة الحي، والذي يصلي بالاحياء هو الذي يصلي على الموتى - وهو قول
إبراهيم.
وروى الحسن عن أبو حنيفة: يصلي الامام إن حضر، أو القاضي،
أو الوالي، فإن لم يحضر أحد منهم فينبغي أن يقدموا إمام الحي، فإن لم يكن
إمام الحي، فأقرب الناس إليه.
وقال محمد: ينبغي للوالي أن يقدم إمام المسجد، ولا يجبر الوالي على
ذلك - وهو قول أبي حنيفة.
وعن ابن سماعة عن أبي يوسف: الصلاة على الميت إلى الأولياء،
دون إمام الحي.
وحاصل ذلك أن السلطان إذا حضر فهو أولى، لما روي أن الحسن
رضي الله عنه لما مات، قدم الحسين رضي الله عنه سعيد بن العاص أمير
المدينة وقال: لولا السنة لما قدمتك.
وأما إمام الحي فتقديمه على طريق الأفضل، وليس بواجب بخلاف
تقديم السلطان، هكذا فسر ابن شجاع.
251

ثم أجمع أصحابنا أن بعد إمام الحي الأقرب فالأقرب من ذوي
الأنساب أحق فإن تساووا في القرابة فأكبرهم سنا، فإن أراد الأسن أن
يقدم غير شريكه فليس له ذلك إلا بإذنه، لان الولاية لهما، وإنما قدم
الأسن للسنة، فأما إذا كان أحدهما أقرب. فللأقرب أن يقدم من شاء.
ولو أن امرأة ماتت وتركت زوجها وابنها، يكره للابن أن يتقدم أباه
وعليه أن يقدم أباه.
أما الزوج فلا ولاية له، لان الزوجة قد انقطعت بالموت.
وأما بيان ما يفسد صلاة الجنازة وما يمنع منها - فنقول:
إن الصلاة كلها مكروهة في الأوقات الثلاثة على ما ذكرنا، لكن إن
صلوا على الجنازة في هذه الأوقات، لم يجب الإعادة، وإن كانت واجبة،
لان صلاة الجنازة فرض كفاية، وإنما يتعين الوجوب على المصلين
بالشروع وقد وجد الشروع في الوقت المكروه، فيحب ناقصا، بمنزلة
عصر الوقت فيجزئه.
ومن صلى على جنازة راكبا أو قاعدا من غير عذر فالقياس أن
يجزئه. وفي الاستحسان لا يجزئه، لان صلاة الجنازة ليست بأكثر من
القيام فإذا ترك القيام لم تجز.
ولو صلى على صبي، وهو محمول على دابة لم تجز، لأنه بمنزلة
الامام.
وإذا صلى الامام من غير طهارة أعادوا، لأنه لا صحة لها بدون
الطهارة، فإذا لم تصح صلاة الامام، لم تصح صلاة القوم.
فأما إذا كان الامام على طهارة، والقوم على غير طهارة، جازت صلاة
الامام دون صلاة القوم، ولم يعيدوا صلاة الجنازة، لان صلاة الامام
تنوب عن الكل.
252

وبهذا تبين أنه لا تجب صلاة الجماعة، فإن الامام منفرد هنا.
وإذا صلت نساء وحدهن على جنازة، قامت التي تؤم وسط الصف،
وهذه المسألة تدل على أنه لا يشترط أن يقوم الرجال لصلاة الجنازة، دون
النساء وحدهن.
ولو صلوا على الميت، ثم علموا أنهم لم يغسلوه فهذا على وجوه:
إن ذكروا قبل أن يدفن، يغسل وتعاد الصلاة، لان غسل الميت شرط
جواز الصلاة.
وإن ذكروا بعدما دفنوه، وأهالوا التراب عليه، وسووا القبر، فإنه لا
ينبش القبر.
فأما إذا لم يهيلوا عليه التراب، فإنه يخرج من القبر ويغسل، سواء
نصبوا اللبن عليه أم لا.
وروى ابن سماعة عن محمد أنهم إذا أهالوا عليه التراب، لم
يخرجوه، ولكن يصلون على قبره ثانيا، لأن الطهارة إنما شرطت عند
القدرة لا عند العجز، وقد ثبت العجز بسبب الدفن.
والصحيح قول ظاهر الروايات: أنه لا يعاد الصلاة، لان الصلاة
بدون الغسل غير مشروعة، ولا وجه إلى الغسل، لأنه يتضمن أمرا
حراما، وهو نبش القبر فتسقط الصلاة.
وأما إذا نسوا الصلاة على الميت بعد الغسل، فتذكروا بعد الدفن:
فإن كان قبل مضي ثلاثة أيام، يصلى على القبر، وإن كان بعد ذلك، لا
يصلى وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه صلى على قبر المسكينة.
253

باب
الدفن وحكم الشهداء
في الباب:
بيان حكم الدفن،
وبيان أحكام الشهداء.
أما الأول - فنقول:
ينبغي أن يوضع الميت في القبر على شقه الأيمن، يستقبل القبلة،
ويستقبل به القبلة عند إدخاله القبر أيضا.
ولا بأس بأن يدخل القبر واحدا أو أكثر، وترا كان أو شفعا، على
قدر ما يحتاج إليه.
ويقول واضعه: بسم الله، وعلى ملة رسول الله،
لكن ذوو الرحم المحرم أولى، لادخال المرأة القبر، من غيرهم، لأنه
يجوز لهم مسها حالة الحياة، ويكره للأجانب مسها حال الحياة فكذلك بعد
الممات.
والسنة هي اللحد عندنا دون الشق، حلافا للشافعي.
والصحيح قولنا، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: اللحد
لنا، والشق لغيرنا.
وإذا وضع في القبر فإن كانت الأكفان قد عقدت تحل العقد.
255

ويجعل على اللحد اللبن والقصب، ويكره الآجر والخشب، لان
ذلك من باب الزينة وعمارة الدنيا.
والسنة في القبر أن يسنم ولا يربع، ولا يطين، ولا يجصص.
وكره أبو حنيفة البناء على القبر، وأن يعلم بعلامة.
وعن أبي يوسف أنه قال: أكره أن يكتب عليه، لما روي عن النبي
عليه السلام أنه نهى عن تربيع القبور، وعن تجصيصها، وعن الكتابة
عليها.
وأما رش الماء على القبر فلا بأس به، لان ذلك مما يحتاج إليه لتسوية
التراب عليه.
وعن أبي يوسف أنه يكره الرش، لأنه يجري مجرى التطيين.
ويكره أن يزاد التراب على تراب القبر الخارج منه، لان ذلك يجري
مجرى البناء.
ويسجى قبر المرأة دون الرجل، لأن المرأة عورة دونه.
ولا ينبغي أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد، لعمل الأمة على
دفن الواحد في قبر واحد من لدن رسول الله (ص) إلى يومنا هذا، فأما عند
الحاجة فلا بأس به.
ويقدم في اللحد أفضلهم، ويجعل ما بين الرجلين حاجز من تراب،
هكذا أمر النبي عليه السلام في قتلى أحد، وقال: قدموا أكثرهم
قرآنا.
ولو وضعوا في اللحد ميتا على غير القبلة، أو على يساره، ثم
تذكروا - فإن أبا حنيفة قال: إن كان بعد تشريج اللبن قبل أن يهيلوا
التراب عليه، أزالوا ذلك، ويوجه إلى القبلة على يمينه، وإن أهالوا
256

التراب، لم ينبش القبر، لان التوجيه إلى القبلة سنة، والنبش حرام.
وكره أبو حنيفة أن يوطأ على قبر، أو يجلس عليه، أو ينام عليه، أو
يقضي عليه حاجة من غائط أو بول، على ما روي عن النبي عليه السلام
أنه نهى عن الجلوس على قبر، ولان في هذه الأشياء ترك تعظيم الميت.
وكذا يكره أن يصلى عند القبر، على ما روي عن النبي عليه السلام أنه
قال: لا تتخذوا قبري مسجدا، كما اتخذت بنو إسرائيل قبور أنبيائهم
مساجد.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي أن يصلى على ميت
بين القبور، وإن فعلت أجزت، لأنه روي عن علي وابن عباس أنهما كانا
يكرهان ذلك.
وروى نافع أنهم صلوا على عائشة وأم سلمة، بين مقابر البقيع،
والامام أبو هريرة، وكان ابن عمر هناك.
ثم إذا نبش الميت وأخذ كفنه، فلا يخلو إما إن كان طريا لم يتفسخ
ولم يتفتت، أو لم يكن طريا.
فإن كان طريا يجب إعادة الكفن، لان الأول يحتاج إلى الستر
تعظيما له، والحاجة قائمة، لكن ينظر إن كان قبل القسمة، يكون ذلك
من جميع التركة، ويقدم على الدين والوصية وإن كان بعد القسمة
فيكون على الورثة، لان التركة قبل القسمة على ملك الميت، وبالقسمة
انتقل الملك إلى الورثة، وإذا نبش فأخذ كفنه، فهذا ميت احتاج إلى
الكفن، ولا مال له، فيكون على ورثته.
وأما إذا لم يكن طريا فإن لم يكن متفسخا، فكذلك الجواب، وإن
كان متفسخا، فإنه يلف في ثوب واحد، ولا يكفن على وجه السنة، لان
حرمته دون حرمة الآدمي الكامل المركب، فلا يساويه في حق السترة.
257

وأما حكم الشهداء - فنقول:
الشهيد يخالف حكمه حكم سائر الموتى في حق التكفين والغسل:
أما التكفين، فينبغي أن يكفن في ثيابه التي قتل فيها. وإن أحبوا أن
يزيدوا عليه شيئا حتى يبلغ مبلغ السنة، وأن ينقصوا عنه شيئا، فلا بأس
به.
وينزع عنه السلام، والفرو، والجلود، وما لا يصلح للكفن.
ولا يكفن، ابتداء في ثياب أخر، بدون ثيابه.
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: زملوهم بكلومهم
ودمائهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة وكلومهم تشخب دما: اللون لون
الدم، والريح ريح المسك.
وأما حكم الغسل - فنقول: الشهيد نوعان: نوع يغسل، ونوع لا
يغسل.
أما الذي لا يغسل، فهو الذي في معنى شهداء أحد، فيلحق بهم في
حق سقوط الغسل، بالحديث الذي رويناه، وإلا فيبقى، على الأصل
المعهود، وهو أن الغسل سنة للموتى. وحقيقة شهداء أحد أنهم قتلوا
ظلما، ولم يرتثوا ولم يؤخذ عن دمائهم عوض دنياوي. فمتى وجد في غيرهم
هذه المعاني، سقط الغسل عنهم أيضا فنقول:
إن من قتل في المعركة أو غيرها، وهو يقاتل عدوا مع الكفار
المحاربين، أو قطاع الطريق، أو البغاة، أو قتل بسبب دفع القتل عن
نفسه أو عن أهله أو عن المسلمين أو أهل الذمة، فإنه يكون شهيدا، لان
هؤلاء في معنى شهداء أحد، لوجود القتل ظلما، ولا يوجد في قتلهم
عوض دنياوي.
258

وإذا كان قتلا يجب فيه القصاص، يكون شهيدا، لان القصاص
ليس فيه منفعة مالية، فلا ينقض معنى الشهادة، وأما المنفعة المالية فتبطل
معنى الشهادة من وجه.
ويستوي فيه القتل بأي آلة كان جارحة أو غير جارحة، لان شهداء
أحد قتل بعضهم بآلة غير جارحة.
ثم إنما لا يغسل في هذه المواضع إذا لم يكن المقتول مرتثا، أما إذا
كان مرتثا فإنه يغسل.
وتفسير الارتثاث ما روي عن أبي يوسف أنه قال: الذي كان يحمل
على أيدي الناس، من المعركة قبل أن يموت، أو يأكل أو يشرب في
مكانه، أو يوصي بدينه أو ببنيه طال الكلام أو قل حتى روى ابن
سماعة وإن تكلم بكلمة وروي في رواية أخرى: إن تكلم زيادة على
كلمة واحدة أو يصلي، أو يمضي عليه وقت صلاة، وهو يعقل،
ويقدر على أداء الصلاة بالايماء، حتى يجب عليه القضاء بالترك، أو يبقى
حيا يوما وليلة في المعركة وإن كان لا يقدر على أداء الصلاة بعد أن كان
عاقلا فهو مرتث، وإن كان حيا أقل من يوم وليلة، وهو عاقل، أو كان
مغمى عليه لا يعقل، فليس بمرتث، وإن زاد على يوم وليلة.
وروي عن محمد مثل قول أبي يوسف في جميع ذلك، إلا أنه قال:
إن عاش في مكانه يوما كان مرتثا، سواء كان عاقلا أو لم يكن، وإن كان
أقل من ذلك فليس بمرتث، وكذلك لم يجعل الوصية ارتثاثا، هكذا روي
عنه مطلقا، سواء كانت الوصية بأمور الدنيا أو الآخرة، قل أو كثر.
وقال في الزيادات: إن أوصى بمثل وصية سعد بن الربيع ونحوها ثم
مات، لم يغسل، وإن كثر ذلك في كلامه حتى طال غسل.
وحاصل هذا أنه إذا صار المقتول بحال جرى عليه شئ من أحكام
الدنيا، أو وصل إليه شئ من منافع الدنيا، فإنه يوجب نقصان شهادته
259

ويخرجه عن صفة شهداء أحد، فسقوط الغسل كرامة لهم، لا يكون
سقوطا في حق من هو دونهم، في معنى الشهادة، ولهذا غسل رسول الله
(ص) سعد بن معاذ، وإن كان شهيدا لما أنه ارتث لما ذكر من أحكام
الدنيا ومصالحه.
ثم الشهيد على هذا الوصف الذي ذكرنا إن كان جنبا يغسل عند
أبي حنيفة، وعندنا لا يغسل، لعموم الحديث الوارد في الشهداء
ولكن أبا حنيفة قال: إنه ورد دليل خاص في الجنب وهو ما روي أن
حنظلة غسلته الملائكة بعدما استشهد وقد كان قتل جنبا، فصار مخصوصا
عن الحديث العام.
وأما الحائض، أو النفساء، فإن قتلت بعد انقطاع الدم غسلت عند
أبي حنيفة، لان الغسل وجب قبل الموت، كما وجب بالجنابة.
وأما إذا قتلت قبل انقطاع الدم، روى أبو يوسف عنه أنها لا تغسل،
روى الحسن عنه أنها تغسل.
ومن وجد قتيلا في المعركة ليس به أثر القتل، غسل، لأنه لو كان
قتيلا لظهر به أثر القتل.
فإن كان الدم خرج من عينه أو أذنه لم يغسل، لان خروج الدم من
هذه المواضع من آثار القتل ظاهرا. وإن خرج من أنفه أو ذكره أو دبره
غسل، لأنه محتمل، فلا يسقط الغسل بالاحتمال. وإن خرج الدم من
جوفه لم يغسل، لأن الظاهر أن خروجه بسبب الضرب وقطع العرق.
فأما الصلاة على الشهيد: فواجبة عندنا، خلافا للشافعي.
والصحيح قولنا لان النبي عليه السلام صلى على شهداء أحد، ولان
الشهيد، إن اعتبر بمن عظمت درجته، يجب أن يصلى عليه، كالأنبياء
عليهم السلام، وإن اعتبر بسائر الناس، الذين لم يوجد منهم ما هو
260

سبب سقوط الموالاة، يجب أن يصلى عليه، لان شهادته إن لم توجب
زيادة كرامة، فلا توجب نقصانا، بخلاف البغاة وقطاع الطريق، لأنهم
حرب للمسلمين، ولا موالاة بينهم فلم يستحقا الصلاة التي شرعت،
قضاء لحقهم، بسبب الموالاة والله أعلم.
261

كتاب
الزكاة
اعلم أن الزكاة تثبت فرضيتها بالكتاب، والسنة، والاجماع، على ما
ذكرنا في كتاب الصلاة.
ثم اختلف مشايخنا في كيفية فرضيتها،
ذكر محمد بن شجاع الثلجي عن أصحابنا أنها على التراخي، وكذا
قال أبو بكر الجصاص، أنها على التراخي. واستدل بمسألة هلاك
النصاب، بعد التأخير عن أول الحول أنه لا يضمن، ولو وجبت على
الفور، لوجب الضمان، كتأخير الصوم عن شهر رمضان.
وذكر الكرخي ههنا أنها على الفور، وذكر في المنتقى عن محمد أنها على
الفور.
وحاصل الخلاف أن الامر المطلق عن الوقت على الفور أم على
التراخي؟ على قول بعض مشايخنا على التراخي، وعلى قول بعضهم على
الفور، وبه قال الشيخ أبو منصور الماتريدي، وهذه من مسائل أصول
الفقه تعرف ثم إن شاء الله تعالى.
ثم اعلم أن مال الزكاة نوعان: السوائم، ومال التجارة، لان من
شرط وجوب الزكاة أن يكون المال ناميا، والسماء من حيث العين يكون
بالأسامة، ومن حيث المعنى بالتجارة.
ثم مال التجارة نوعان: الأثمان المطلقة، وهي الذهب والفضة،
263

وما سواهما من السلع، غير أن الأثمان خلقت في الأصل للتجارة، فلا
تحتاج إلى تعيين العباد للتجارة بالنية، فتجب الزكاة فيها، وإن لم ينو
التجارة أو أمسك للنفقة، فأما السلع فكما هي صالحة للتجارة بها، فهي
صالحة للانتفاع بأعيانها، بل هو المقصود الأصلي منها، فلا بد من النية،
حتى تصير للتجارة.
إذا ثبت هذا:
فنبدأ بزكاة الذهب والفضة فنقول:
لا يخلوا إما أن يكون الانسان له فضة مفردة، أو ذهب مفرد، أو من الصنفين جميعا.
فإن كانت له فضة مفردة،
إن كان نصابا، وهو مائتا درهم، وزنا، وزن سبعة، يجب عليه
خمسة دراهم، ربع عشرها، اجتمع شرائط الوجوب.
وإن كان ما دون ذلك لا يجب، لما روي عن النبي عليه السلام أنه
كتب في كتاب الصدقات لعمرو بن حزم: الرقة ليس فيها صدقة حتى
تبلغ مائتين، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم.
ثم الفضة مال الزكاة كيفما كانت، مضروبة، أو غير مضروبة، أو
تبر، أو حليا، يحل استعمالها أو لا، أمسكها للنفقة أو لا، نوى التجارة أو
لم ينو.
وكذلك حلية السيف، واللجام، والسرج، والكواكب التي في
المصاحف، إذا كانت تخلص عند الإذابة.
264

ويستوي في ذلك الجيد والردئ، نحو النقرة السوداء.
وهذا عندنا. وقال الشافعي كذلك إلا أنه قال: إذا كانت حليا يحل
لبسها، كحلي النساء وخواتيم الفضة للرجال ونحوها، لا زكاة فيها في
أحد القولين.
والصحيح مذهبنا لما روينا من الحديث من غير فصل.
هذا إذا كانت خالصة، أما إذا كانت مختلطة بالغش: إن كان
الغالب هو الفضة، فكذلك الجواب، لان الغش مغمور مستهلك فيها،
وإن كان الغالب هو الغش، وهي الستوقة: إن لم تكن أثمانا رائجة أو
معدة للتجارة، فلا زكاة فيها، إلا أن تكون كثيرة يبلغ ما فيها من الفضة
نصابا. أما إذا كانت أثمانا رائجة أو معدة للتجارة. فإن تعتبر قيمتها
إن بلغت نصابا من أدنى ما تجب الزكاة فيه من الدراهم الرديئة، فإنه
تجب فيها الزكاة، فإنه روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن كان عنده فلوس
أو دراهم رصاص أو نحاس مموهة بحيث لا تخلص منها الفضة: إن لم
تكن للتجارة فلا زكاة فيها، وإن كانت للتجارة وقيمتها تبلغ مائتي درهم
رديئة ففيها الزكاة.
أما الغطارفة فبعض المتأخرين قالوا: يجب في كل مائتين منها،
ربع عشرها، وهو خمسة منها، عددا لأنها من أعز الأثمان في ديارنا.
وقال السلف: ينظر إن كانت أثمانا رائجة يعتبر قيمتها بأدنى ما
ينطلق عليه اسم الدراهم، فتجب الزكاة في قيمتها، وإن لم تكن رائجة،
فإن كانت سلعا للتجارة، تعتبر قيمتها أيضا، وإن لم تكن للتجارة، ففيها
الزكاة بقدر ما فيها من الفضة إن بلغت نصابا أو بالضم إلى ما عنده من
مال التجارة.
وهذا هو الأصح.
265

وأما الذهب المفرد:
إن يبلغ نصابا، وذلك عشرون مثقالا، ففيه نصف مثقال.
وإن كان أقل من ذلك، فلا زكاة فيه، لما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال لعلي: يا علي ليس في الذهب زكاة ما لم يبلغ عشرين
مثقالا فإذا بلغ عشرين مثقالا ففيه نصف مثقال.
ثم الجيد والردئ، والتبر والمصوغ والمضروب والحلي فيه سواء،
خلافا للشافعي في الحلي كما في الفضة.
وكذلك الحكم في الدنانير التي الغالب فيها الذهب، كالمحمودية
ونحوها.
فأما الهروية والمروية وما لم يكن الغالب فيها الذهب: فتعتبر قيمتها
إن كانت أثمانا رائجة، أو للتجارة، وإلا فيعتبر قدر ما فيها من الذهب
والفضة، وزنا، لان كل واحد منهما يخلص بالإذابة.
فأما إذا زاد على نصاب الذهب أو الفضة فلا يجب في الزيادة شئ
عند أبي حنيفة حتى تبلغ أربعة مثاقيل في الذهب فيجب فيها قيراطان،
وأربعين من الدراهم فيجب فيها درهم، ولا تجب في أقل من ذلك.
وقال أبو يوسف ومحمد الشافعي: تجب الزكاة في الكسور، بحساب
ذلك.
والصحيح قول أبي حنيفة، لان في اعتبار الكسور حرجا بالناس،
والحرج موضوع.
فأما إذا اجتمع الصنفان:
فإنه ينظر: إن لم يكن كل واحد منهما نصابا، أو كان أحدهما نصابا
دون الآخر: فإنه تجب ضم أحدهما إلى الآخر حتى يكمل النصاب
عندنا.
266

وقال الشافعي: لا يضم، لأنهما جنسان مختلفان، حتى يجوز بيع
أحدهما بالآخر، متفاضلا، فلا يضم، كما في السوائم عند اختلاف
الجنس.
والصحيح قولنا، لأنهما في معنى الثمنية والتجارة، كشئ واحد،
فيجب الضم تكميلا للنصاب، نظرا للفقراء، كما في مال التجارة،
بخلاف السوائم، لان ثمة الحكم متعلق بالصورة والمعنى، فلا يتحقق
تكميل النصاب عند اختلاف الجنس.
فأما إذا كان كل واحد منهما نصابا، ولم يكن زائدا عليه، فلا يجب
الضم، بل ينبغي أن يؤدي من كل واحد منهما زكاته.
وإن زاد على النصابين شئ، فإن كان أقل من أربعة مثاقيل أو أقل
من أربعين درهما، فإنه يجب ضم إحدى الزيادتين إلى الأخرى ليتم
أربعين درهما، أو أربعة مثاقيل عند أبي حنيفة، لان عنده لا تجب الزكاة في
الكسور.
وعندهما لا يجب ضم إحدى الزيادتين إلى الأخرى، لان عندهما تجب
الزكاة في الكسور بحساب ذلك.
ولو ضم صاحب المال أحد النصابين إلى الآخر، حتى يؤدي كله من
الذهب أو من الفضة، فلا بأس به، ولكن يجب أن يكون التقويم بما هو
أنفع للفقراء، قدرا ورواجا، وإلا فيؤدي من كل واحد ربع عشره.
واختلف أصحابنا في كيفية الضم، فقال أبو حنيفة: يضم باعتبار
القيمة.
وقال أبو يوسف ومحمد: يضم باعتبار الاجزاء، دون التقويم.
وإنما يظهر الخلاف فيما إذا كان قيمة أحدهما، لجودته أو لصياغته،
أزيد على وزنه، بأن كان له مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها مائة درهم:
267

فعند أبي حنيفة يقوم الدنانير، بخلاف جنسها، دراهم ويضمها إلى
الدراهم، فيكمل نصاب الدراهم من حيث القيمة، فيجب خمسة
دراهم، نظرا للفقراء، وعلى قولهما: يضم باعتبار الاجزاء، دون
التقويم، فيضم نصف نصاب الفضة إلى ربع نصاب الذهب، فيكون
ثلاثة أرباع أنصاب، فلا يجب فيه شئ.
ولو كان مائة درهم، وعشرة دنانير قيمتها مائة وأربعون، فيضم
باعتبار القيمة عند أبي حنيفة، فتبلغ مائتين وأربعين درهما، فيجب ستة
دراهم. وعندهما، يضم باعتبار الاجزاء، فيكون نصف نصاب الفضة
ونصف نصاب الذهب نصابا تاما، فيجب في نصف كل واحد منهما ربع
عشرة.
فأما إذا كان وزنهما وقيمتهما سواء فلا يظهر الخلاف.
فإن كان مائة درهم، وعشرة دنانير قيمتها مائة درهم، فإنه تجب
الزكاة فيه بالاتفاق، على اختلاف الأصلين، عنده يضم باعتبار القيمة،
وعندهما باعتبار الاجزاء.
ولو كان مائة درهم، وخمسة دنانير قيمتها خمسون، لا تجب الزكاة
فيها بالاجماع، لان النصاب لم يكمل بالضم، لا باعتبار القيمة، ولا
باعتبار الاجزاء.
وأجمعوا أنه لا تعتبر القيمة في الذهب والفضة، عند الانفراد، في
حق تكميل النصاب، حتى إنه إذا كان له إبريق فضة وزنه مائة درهم،
وقيمته لصياغته مائتا درهم، لا تجب فيه الزكاة باعتبار القيمة.
وكذلك إذا كانت آنية ذهب وزنها عشرة وقيمتها لصياغتها مائتا
درهم، لا تجب فيها الزكاة، باعتبار القيمة، لان الجودة في الأموال
الربوية لا قيمة لها عند الانفراد، ولا عند المقابلة بجنسها عندنا،
268

خلافا للشافعي، لكن أبا حنيفة ضم الدراهم إلى الدنانير، التي هي
خلاف جنسها، لتظهر قيمة الجودة، فيكمل النصاب من حيث المعنى،
احتياطا في باب العبادة، ونظرا للفقراء.
269

باب
زكاة أموال التجارة
أصل الباب ما ذكرنا أن المعتبر في باب التجارة معنى المالية والقيمة،
دون العين، لان سبب وجوب الزكاة هو المال النامي، الفاضل عن
الحاجة، والنماء في مال التجارة بالاسترباح، وذلك من حيث المالية، إلا
أن حقيقة النماء مما يتعذر اعتباره، فأقيمت التجارة، التي هي سبب
النماء، مع الحول الذي هو زمان النماء مقامه فمتى حال الحول على مال
التجارة، يكون ناميا، فاضلا عن الحاجة تقديرا.
إذا ثبت هذا - فنقول:
كل ما كان من أموال التجارة، كائنا ما كان، من العروض
والعقار، والمكيل، والموزون، وغيرها تجب فيه الزكاة، إذا بلغ نصاب
الذهب أو الفضة، وحال عليه الحول، وهو ربع عشره.
وهذا قول عامة العلماء.
وقال أصحاب الظواهر: لا زكاة فيها.
وقال مالك: لا تجب الزكاة فيها، ما دامت أعيانا، فإذا نضت
وصارت دراهم أو دنانير، تجب فيها زكاة حول واحد.
والصحيح قول عامة العلماء، لما روي عن شمرة بن جندب عن
النبي عليه السلام، أنه كان يأمرنا بإخراج الزكاة من الرقيق الذي نعده
للبيع، والمعنى ما ذكرنا في الأصل.
271

ثم ما سوى الذهب والفضة إنما يصير للتجارة بالنية، والتجارة
جميعا - حتى إنه إذا كان له عروض للبذلة والمهنة، ثم نوى أن تكون
للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة، ما لم يوجد منه الشراء بعد ذلك
بذلك المال، فيكون بدله للتجارة.
فأما إذا كان له مال للتجارة ونوى أن يكون للبذلة، يخرج عن
التجارة، وإن لم يستعمله، لان التجارة عمل معلوم، ولا يوجد بمجرد
النية، فلا يعتبر مجرد النية، فأما إذا نوى الابتذال، فقد ترك التجارة
للحال، فتكون النية مقارنة لعمل، هو ترك التجارة، فاعتبرت النية.
ثم مال الزكاة يعتبر فيه كمال النصاب في أول الحول وآخره.
ونقصان النصاب، بين طرفي الحول، لا يمنع وجوب الزكاة، سواء كان
مال التجارة، أو الذهب والفضة، أو السوائم.
هذا عند أصحابنا الثلاثة.
وقال زفر: يعتبر كمال النصاب من أوله إلى آخره، والنقصان فيما
بين ذلك يقطع حكم الحول.
وهو قول الشافعي في غير أموال التجارة، فأما في مال التجارة فيعتبر
كما النصاب في آخر الحول، لا في أوله ووسطه.
والصحيح قولنا، لأنه كمال النصاب شرط وجوب الزكاة، فيعتبر
حال انعقاد السبب، وحال ثبوت الحكم، وهو أول الحول وآخره ووسط
الحول ليس حال انعقاد لسبب، ولا حال الوجوب، فلا يجب اشتراطه
فيه.
فأما إذا هلك النصاب أصلا، بحيث لم يبق منه شئ، يستأنف
الحول، لأنه لم يوجد شئ من النصاب الأصلي حتى يضم إليه المستفاد،
272

وفي الفصل الأول بعض الأصل باق، فيضم إليه المستفاد فيتكامل
الحول.
ولو استبدل أموال التجارة كلها، في الحول بجنس آخر، لم ينقطع
الحول، وإن هلك الجنس الأول، لان الأول قائم من حيث المعنى، وهو
المالية.
وكذلك الجواب في الدراهم والدنانير إذا باعها بجنسها أو بخلاف
جنسها، أعني الدراهم أو بالدنانير، فإنه لا ينقطع حكم الحول، لان
الحكم ثمة متعلق بالمعنى أيضا، وعلى قول الشافعي: ينقطع لأنهما جنسان
مختلفان، فعلى قول مذهبه: لا تجب الزكاة في أموال الصيارفة، لوجود
الاستبدال في كل ساعة.
وأما إذا باع السائمة بالسائمة، فإن باع الجنس بخلاف الجنس،
كالإبل بالبقر ينقطع الحول بالاتفاق.
أما إذا باع الجنس بالجنس فينقطع عندنا، خلافا لزفر.
والصحيح قولنا، لان الزكاة في السوائم تتعلق بالعين، والأعيان
مختلفة، فلم يتم الحول على النصاب لا حقيقة ولا تقديرا.
ثم إذا تم الحول على مال التجارة، فإنه ينبغي أن يقومها حتى يعرف
مقدار مال الزكاة، لكن عند أبي حنيفة يقوم بما هو أوفى القيمتين،
وأنظرهما للفقراء، من الدراهم والدنانير، كذا ذكر ههنا، وذكر في
كتاب الزكاة وقال: إن شاء قومها بالدراهم، وإن شاء قومها بالدنانير.
ومشايخنا حملوا رواية كتاب الزكاة على ما إذا كان لا يتفاوت النفع،
في حق الفقراء، بالتقويم بأيهما كان، حتى يكون جمعا بين الروايتين.
ولكن كيفما كان، ينبغي أن يقوم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم
والدنانير.
273

وروى محمد عن أبي يوسف أنه قال: يقوم الثمن الذي اشتراها به،
دراهم كان أو دنانير، وإن كان الثمن من العروض، يقوم بالنقد الغالب
في ذلك الموضع.
وذكر ابن سماعة عن محمد: إنما يقوم بالنقد الغالب في ذلك
الموضع.
وكذلك إذا كان مع عروض التجارة ذهب وفضة، فإنه يضمها إلى
العروض ويقوم جملة، لكن على قول أبي حنيفة، يضمها باعتبار القيمة،
إن شاء قوم العروض وضمها إلى الدراهم أو الدنانير، وإن شاء قوم
الذهب والفضة وضم قيمتهما إلى قيمة أعيان التجارة، وعندهما يضم
باعتبار الاجزاء، فيقوم العروض ويضم قيمتها إلى ما عنده من الدراهم
والدنانير، فإن بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة، وإلا فلا، ولا يقوم
الدراهم والدنانير عندهما أصلا في باب الزكاة.
ثم إنما تجب الزكاة في مال الزكاة إذا لم يكن مستحقا بدين، مطالب
من جهة العباد أو شئ منه.
فأما إذا كان مستحقا به، فلا تجب الزكاة بقدر الدين، لان المال
المستحق بالدين محتاج إليه، وسبب وجوب الزكاة هو المال الفاضل عن
الحاجة المعد للنماء والزيادة.
ثم الديون على ضربين:
دين يطالب به ويحبس، من جهة العباد، كديون العباد، حالة
كانت أو مؤجلة، وهو يمنع، لما ذكرنا من المعنى.
وكذلك مهر المرأة يمنع، مؤجلا كان أو معجلا، لأنها إذا
طالبت، يؤاخذ به وقال بعض مشايخنا: إن المؤجل لا يمنع، لأنه غير
مطالب به عادة، فأما المعجل فمطالب به عادة، فمنع. وقال بعض
274

مشايخنا: إن كان المعجل على عزم من قضائه يمنع، وإن لم يكن على عزم
الأداء لا يمنع، لأنه لا يعده دينا، والمرء يؤاخذ بما عنده في باب
الأحكام، وهذا غير صحيح.
فأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين الزكاة بأن أتلف مال الزكاة
حتى انتقل من العين إلى الذمة، فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة عندهما.
وقال زفر: لا يمنع كلاهما.
وقال أبو يوسف: وجوب الزكاة في النصاب يمنع، ودين الزكاة لا
يمنع.
والصحيح قولهما لان زكاة السوائم مطالب بها حقيقة من جهة
السلطان، عينا كان أو دينا، وزكاة التجارة مطالب بها تقديرا، لان حق
الاخذ للسلطان، ولهذا كان يأخذها الامام إلى زمن عثمان، ثم فوض إلى
أربابها، بإجماع الصحابة، لمصلحة رأي في ذلك، فيصير أرباب الأموال
كالوكلاء عن السلطان، فلا يبطل حق السلطان عن الاخذ، ولهذا قال
أصحابنا إن الامام إذا علم من أهل بلدة أنهم يتركون أداء الزكاة من
الأموال الباطنة، فإنه يطالبهم بها، ولكن لو أراد الامام أن يأخذها
بنفسه، من غير تهمة الترك من أربابها، ليس له ذلك، لما فيه من مخالفة
إجماع الصحابة.
وأما الديون التي هي غير مطالب بها من جهة العباد، كديون الله
تعالى، من النذور، والكفارات، وصدقة الفطر، ووجوب الحج،
ونحوها: فلا تمنع، لأنه لا يطالب بها في الدنيا.
وهذا كله مذهب أصحابنا.
وقال الشافعي: الدين لا يمنع وجوب الزكاة، كيفما كان والمسألة
معروفة.
275

ثم التصرف في مال الزكاة بعد وجوبها، جائز، كيفما كان، عندنا.
وقال الشافعي: لا يجوز، بقدر الزكاة، قولا واحدا، وفيما زاد على
قدر الواجب قولان.
ثم ينظر عندنا إن كان تصرفا ينقل الواجب إلى محل مثله، لا
يضمن الزكاة، ويصير المحل الثاني كالأول، فيبقى الواجب ببقائه،
ويهلك بهلاكه، وإن كان تصرفا لا ينقل الواجب إلى محل مثله، فإنه
يضمن، لأنه يصير متلفا، فيبقى الضمان في الذمة، فلا يهلك الواجب
بهلاك ذلك البدل.
إذا ثبت هذا نقول:
إذا كان له سوائم فباعها بعد الحول، بجنسها أو بخلاف جنسها من
الحيوان والعروض والأثمان، فإنه يضمن، ولا ينتقل الواجب إلى ما
جعله بدلا، حتى لا يسقط بهلاك ذلك البدل، لان الواجب في السوائم
متعلق بالعين صورة ومعنى، فالبيع يكون إتلافا، لا استبدالا ونقلا،
فيضمن.
وأما إذا كان مال التجارة، فباعها بعد الحول، بدراهم أو بدنانير أو
بعروض التجارة أو مطلقا بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله، لا
يضمن، ويكون نقلا للواجب من محل إلى مثله معنى لان المعتبر في مال
التجارة هو معنى المالية دون الصورة، فيبقى الواجب ببقائه ويهلك
بهلاكه.
ولو حابى قدر ما لا يتغابن الناس في مثله، يكون زكاة ما حابى دينا في
ذمته، وزكاة ما بقي يتحول إلى العين، فيبقى ببقائه، ويفوت بفواته.
وإذا باعه بمال لا تجب فيه الزكاة، بأن باعه بعروض ونوى أن يكون
المشترى للبذلة، أو استأجر به عينا من الأعيان، يضمن، لان المنافع،
276

وإن كانت مالا ولكن ليست بمال الزكاة، لأنه لا بقاء لها.
وكذلك إذا باعه بالسوائم، على أن يتركها سائمة، فإنه يضمن
أيضا، لان زكاة التجارة خلاف زكاة السائمة، فيكون ذلك إتلافا.
وكذلك إذا أخرجه عن ملكه بغير بدل، نحو الهبة والصدقة
والوصية، أو بدل ليس بمال، نحو أن يتزوج عليه أو يصالح به عن دم
العمد، أو يختلع به المرأة، فالزكاة مضمونة عليه، لان هذا إتلاف.
وكذلك إذا استهلكه حقيقة بالأكل والشرب واللبس ونحو ذلك.
ثم المستفاد على ضربين: متولد من الأصل حاصل بسببه، كالأولاد
والأرباح، وغير متولد منه ولا حاصل بسببه، بل حاصل بسبب مقصود في
نفسه كالموروث والموهوب والمشترى ونحو ذلك. وكل ذلك على نوعين:
أحدهما: أن يكون مستفادا بعد الحول، والثاني: أن يكون مستفادا في
الحول.
والأصل في الباب أن الحول الموجود في حق الأصل، كالموجود في حق
التبع فكل مستفاد، هو تبع للأصل، تجب فيه الزكاة، وإلا فلا.
إذا ثبت هذا فنقول:
أما المستفاد بعد الحول فلا يضم بالاجماع في حق السنة الماضية،
وإنما يضم في حق الحول الذي استفيد فيه، لان النصاب بعد الحول
كالمتجدد حكما، لأنه يتجدد النماء بتجدد الحول، والنصاب هو المال
الموصوف بالنماء، دون مطلق المال، وإذا تجدد النماء جعل النصاب
كالمتجدد، ويجعل النصاب الموجود في الحول الأول كالعدم، والمستفاد
يجعل تبعا للنصاب الموجود دون المعدوم.
وأما المستفاد في الحول، فإن كان من خلاف جنسه كالإبل مع
الشاة ونحوها، لا يضم بالاجماع، لان الزيادة تجعل تبعا للمزيد عليه،
277

من وجه وخلاف الجنس لا يكون زيادة، لان الأصل لا يزداد به ولا
يتكثر.
وأما إذا كان من جنسه، إن كان حاصلا بسبب التفرع والاسترباح
فيضم بالاجماع كالأولاد والأرباح، لأنه تابع للأصول حقيقة.
وأما إذا لم يكن متولدا حاصلا بسببه كالموروث، والموهوب والميت
ونحوها، فإنه يضم عندنا.
وقال الشافعي: لا يضم، لأنه أصل ملك بسبب مقصود، فكيف
يكون تبعا؟.
وقلنا نحن: هو أصل من هذا الوجه، ولكن تبع من حيث أن
الأصل يتكثر به ويزداد والزيادة تبع للمزيد عليه، فاعتبرنا جهة التبعية،
في حق الحول، احتياطا لوجوب الزكاة.
ثم إنما يضم عندنا إذا كان الأصل نصابا.
فأما إذا كان أقل منه، فإنه لا يضم إليه المستفاد، وإن تكامل به
النصاب، لان الأصل إذا لم يكن سبب الوجوب لقلته، فكيف يتبع
المستفاد إياه في حكمه؟
وأما المستفاد إذا كان ثمن الأصل المزكى، فإنه لا يضم إلى ما عنده
من النصاب من جنسه عند أبي حنيفة، وعندهما يضم، لما ذكرنا من
المعنى، فأبو حنيفة يقول إن الثنى حرام في باب الزكاة، لقوله عليه
السلام: لا ثنى في الصدقة. والمستفاد أصل من وجه، تبع من
وجه، فمن حيث إنه أصل لا يضم، ومن حيث إنه تبع يضم، فوقع
التعارض هنا إن اعتبر معنى الوجوب بضم، وإن اعتبر معنى حرمة
الثنى لا يضم، فلا يضم مع الشك، بخلاف غيره، من المستفاد على ما
مر.
278

وصورة المسألة: رجل له خمس من الإبل السائمة ومائتا درهم،
فتم الحول على السائمة وزكاها ثم باعها بدراهم، ثم تم حول الدراهم،
يضم الثمن إلى الدراهم التي عنده، ويزكي الكل عندهما، وعند أبي
حنيفة يستأنف لها حول على حدة.
ولو جعل هذه الإبل علوفة، بعدما زكاها، ثم باعها، ثم حال
الحول على الدراهم التي عنده، فإنه يضم ثمنها إلى ما عنده، فيزكي
الكل، كذا ذكر في الكتاب.
وقال بعض مشايخنا: هذا قولهما، فأما على قول أبي حنيفة: فيجب
أن لا يضم.
والصحيح أن هذا بالاتفاق، لأنه لما جعلها علوفة، فقد خرجت من
أن تكون مال الزكاة، بفوات وصف النماء، فجعل كأن مال الزكاة قد
هلك، وحدثت عين أخرى من حيث المعنى، فلا يؤدي إلى الثنى من
وجه.
ولو كان له عبد للخدمة، فأدى صدقة فطره، أو كان طعاما أدى
عشره، أو أرضا أدى خراجها، ثم باعها، فإن الثمن يضم إلى ما عنده
بالاتفاق، لأنه ليس بذل مال الزكاة، وهو المال الفاضل عن الحاجة، فلا
يؤدي إلى شبهة الثنى.
ولو استفاد دراهم بالإرث، أو الهبة، وعنده نصابان أحدهما أثمان
الإبل المزكاة والثاني نصاب آخر من الدراهم والدنانير، فإنه يضم إلى
أقربهما حولا، فإن كان أدى زكاة النصاب الذي هو غير ثمن الإبل، فإنه
يضم إلى أثمان الإبل، لأنها أقرب إلى الحول، فكان أنفع للفقراء.
ولو أنه لم يوهب له، ولكن تصرف في النصاب الأول، بعدما أدى
زكاته، وربح فيه ربحا، ولم يحل حول أثمان الإبل المزكاة، فإن الربح
279

يضم إلى النصاب الذي ربح فيه، دون أثمان الإبل المزكاة، وإن كان
أبعد حولا من الأثمان، بخلاف الأول، لأنهما استويا في التبعية ثمة،
فترجح الأقرب حولا، بالضم إليه نظرا للفقراء، لما فيه من زيادة
النفع، وهنا لم يستويا في التبعية، فإنه تبع لأحدهما حقيقة، فلا يقطع
حكم التبع عن الأصل.
280

باب
زكاة السوائم
أصل الباب ما ذكرنا أن سبب وجوب الزكاة هو المال النامي،
الفاضل عن الحاجة.
ثم قدر الفضل والغنى متفاوت في نفسه لا يعرف حده بالرأي،
فجاء الشرع بالنصب لبيان مقدار الغنى الذي يتعلق به الوجوب، فوجب
اعتبار التوقيف في النصب، على الوجه الذي ورد الشرع به.
ثم في الباب فصلان:
أحدهما: في بيان النصب، وصفاتها.
والثاني: في بيان قدر الواجب وصفاته.
أما الأول - فنقول:
بأن نصاب السوائم مختلف فنبدأ بالإبل.
اتفقت الأحاديث إلى مائة وعشرين، وعليه الاجماع أن لا زكاة في
الإبل ما لم تبلغ خمسا.
فإذا كانت خمسا: ففيها شاة، إلى تسع.
فإذا كانت عشرا: ففيها شاتان، إلى أربع عشرة.
فإذا كانت خمس عشرة: ففيها ثلاث شياه، إلى تسع عشرة.
فإذا كانت عشرين: ففيها أربع شياه، إلى أربع وعشرين.
281

فإذا كانت خمسا وعشرين: ففيها بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين.
فإذا كانت ستا وثلاثين: ففيها بنت لبون، إلى خمس وأربعين.
فإذا كانت ستا وأربعين: ففيها حقة، إلى ستين.
فإذا كانت إحدى وستين، ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين.
فإذا كانت ستا وسبعين: ففيها بنتا لبون، إلى تسعين.
فإذا كانت إحدى وتسعين: ففيها حقتان، إلى مائة وعشرين.
فأما إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة فقد اختلف العلماء
في ذلك إلى تمام الخمسين:
فقال أصحابنا بأنه نستأنف الفريضة، ويدار الحساب على الخمسينات
في النصاب، وعلى احقاق في الواجب، ولكن بشرط عود ما قبله من
الواجبات والأوقاص بقدر ما يدخل فيه.
بيان ذلك أنه إذا زادت الإبل على مائة وعشرين، فلا يجب في الزيادة
شئ ما لم تبلغ خمسا.
فإذا صارت مائة وخمسا وعشرين: فيجب فيها حقتان وشاة.
وفي مائة وثلاثين: حقتان وشاتان.
وفي مائة وخمس وثلاثين: حقتان، وثلاث شياه.
وفي مائة وخمس وأربعين: حقتان، وأربع شياه.
وفي مائة وخمس وأربعين: حقتان، وبنت مخاض إلى مائة وتسع
وأربعين.
فإذا صارت مائة وخمسين: ففيها ثلاث حقاق، في كل خمسين:
حقة.
ثم تستأنف الفريضة فلا يجب في أقل من الخمس شئ.
فإذا صارت مائة وخمسا وخمسين: ففيها ثلاث حقاق، وشاة.
282

فإذا صارت مائة وستين: ففيها ثلاث حقاق، وشاتان.
فإذا صارت مائة وخمسا وستين: ففيها ثلاث شياه، وثلاث حقاق.
فإذا كانت مائة وسبعين: ففيها أربع شياه، وثلاث حقاق.
فإذا كانت مائة وخمسا وسبعين: ففيها ثلاث حقاق، وبنت مخاض.
فإذا كانت مائة وستا وثمانين: ففيها ثلاث حقاق، وبنت لبون.
فإذا كانت مائة وستا وتسعين: ففيها أربع حقاق، إلى مائتين.
فإذا زادت عليها: تستأنف الفريضة، مثلما استؤنفت في مائة
وخمسين إلى مائتين، فيدخل فيها بنت مخاض، وبنت لبون، وحقة، مع
الشاة.
وقال مالك في قول: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة،
المصدق بالخيار، إن شاء أخذ منها ثلاث بنات لبون، وإن شاء تركها
حتى تبلغ مائة وثلاثين، فيأخذ منها بنتي لبون وحقة.
وفي قول: إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات
لبون، وهو قول الشافعي، وليس فيها إلى مائة وتسعة وعشرين شئ،
فإذا صارت مائة وثلاثين فبعد ذلك يجعل كل تسعة عفوا، ويجب في كل
أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة، فيدور الحساب في النصب
على الخمسينات والأربعينات، وفي الواجب على الحقاق وبنات اللبون.
والصحيح مذهبنا، فإن الأحاديث قد تعارضت، فقد روي استئناف
الفريضة كما قلنا، وروي كما قالا، ولكن الترجيح لما قلنا، فإنه مذهب
علي وعبد الله بن مسعود، وكانا من فقهاء الصحابة، وهذا باب لا يجري
فيه القياس والرأي، فكان ذلك دليلا على الاستقرار، على الوجه الذي
قالا، من حيث التوقيف من النبي عليه السلام.
وأما نصاب البقر - فنقول:
ليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة.
283

فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع أو تبيعة، ولا شئ في الزيادة إلى تسع
وثلاثين.
فإذا صارت أربعين، ففيها مسنة.
وهذا بلا خلاف بين الأمة، فأما إذا زادت على الأربعين، فقد
اختلفت الروايات فيها عن أبي حنيفة:
ذكر في ظاهر الرواية أنه تجب مسنة، وفي الزيادة بحساب ذلك،
يعني إن كانت الزيادة واحدة تجب مسنة، وجزء من أربعين جزءا من
مسنة، وفي الاثنتين وأربعين، مسنة وجزآن من أربعين جزءا من مسنة.
وكذلك إلى ستين، على هذا الاعتبار.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجب في الزيادة شئ حتى تبلغ
خمسين، فإذا كانت خمسين ففيها مسنة، وربع مسنة أو ثلث تبيع، لان
الزيادة عشر، وهي ثلث وثلاثين وربع أربعين، فإن شاء أعطى ربع
المسنة، وإن شاء أعطى ثلث التبعية إلى ستين.
وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه قال: لا شئ في الزيادة
حتى تبلغ ستين، فيكون فيها تبيعان أو تبيعتان.
وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي.
وهذه الرواية أعدل لما روي عن معاذ أنه قيل له: ماذا تقول فيما
بين الأربعين إلى الستين من البقر؟ فقال: تلك أوقاص لا شئ فيها.
وأما إذا زادت على الستين، فإنه يدار الحساب على الأربعينات
والثلاثينات في النصب، وعلى الا تبعة والمسنات في القريضة، ويجعل تسعة
بينهما عفوا، فيجب في كل ثلاثين: تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين:
مسنة، فإذا كانت سبعين ففيها: مسنة وتبيع، وفي الثمانين: مسنتان،
284

وفي التسعين: ثلاثة أتبعة، وفي المائة: مسنة وتبيعتان، وفي المائة
والعشرة: مسنتان وتبيع، وفي المائة والعشرين: ثلاث مسنات أو أربع
أتبعة. وعلى هذا الاعتبار يدار الحساب.
وأما نصاب الغنم:
فليس في أقل من أربعين شاة شئ.
فإذا بلغت أربعين ففيها شاة، وليس في الزيادة شئ، حتى تبلغ
مائة وعشرين.
فإذا زادت واحدة ففيها شاتان، إلى مائتين.
فإذا زادت واحدة ففيها: ثلاث شياه.
ثم لا شئ فيها حتى تبلغ أربعمائة.
فإذا كانت أربعمائة ففيها أربع شياه.
ثم في كل مائة شاة: شاة، وإن كثرت.
هذا الذي ذكرنا بيان قدر النصب، فأما بيان صفة النصاب فهو أن
يكون موصوفا بالاسامة، حتى لا تجب الزكاة في العلوفة، والحمولة، لما
ذكرنا أن الزكاة لا تجب إلا في المال النامي، والنماء في الحيوان بالاسامة.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: ليس في العوامل والحوامل
صدقة.
والسائمة هي التي تسام في البراري لقصد الدر والنسل، حتى إذا
أسيمت للحمل والركوب، لا للدر والنسل، لا تجب فيها الزكاة،
وكذلك إذا أسيمت للبيع وقصد التجارة، لا للدر والنسل، لا يجب فيها
زكاة السائمة عندنا، ولكن تجب فيها زكاة التجارة.
ثم ليس الشرط أن تسام في جميع السنة، في البراري، بل المعتبر هو
285

الغالب فإن كان أكثر السنة تسام في البراري، وتعلف في الأمصار في
أقل السنة، فهي سائمة.
ومن صفات النصاب أن يكون الجنس واحدا، كالإبل والبقر
والغنم، وإن اختلفت صفاتها من الذكورة والأنوثة، واختلفت أنواعها
كالغراب والبخاتي، والبقر، والجواميس، والضأن والمعز، لان اسم
الإبل والبقر والغنم يتناول الكل.
وأما الفصل الثاني وهو بيان قدر الواجب وصفاته فنقول:
أما قدر الواجب من الإبل فما ذكرنا من بنت المخاض، وبنت
اللبون، والحقة، والجذعة.
وفي البقرة التبيع والتبيعة والمسنة، لما ذكرنا من الأحاديث المشهور،
فبنت المخاض التي أتت عليها سنة وطعنت في السنة الثانية،
وبنت اللبون هي التي أتت عليها سنتان وطعنت في الثالثة،
والحقة هي التي تمت لها ثلاث سنين وطعنت في الرابعة،
والجذعة هي التي أتت عليها أربع سنين وطعنت في الخامسة وهي
أقصى سن يدخل في باب زكاة الإبل.
والتبيع والتبيعة هو الذي أتى عليه حول وطعن في الثانية.
والمسنة هي التي أتت عليها سنتان وطعنت في الثالثة وهي أقصى ما
يجب من السن في البقر.
أما صفة الشاة الواجبة في الزكاة: فقد ذكر في كتاب الزكاة من
الأصل عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلى الثنى، فصاعدا وهو الذي أتى عليه
حول وطعن في الثانية.
286

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز الجذع من الضأن، وهو الذي
أتى عليه ستة أشهر.
وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي.
وهو قياس ما ذكره الطحاوي، فإنه قال: لا يؤخذ في الصدقة إلا
ما يجوز في الأضحية، والجذع من الضأن يجوز في الأضحية.
والصحيح جواب ظاهر الرواية، فإنه لا يجوز من المعز إلا الثنى،
فكذا في الضأن، وأصله حديث علي رضي الله عنه أنه قال: لا يجزئ
في الزكاة إلا الثنى فصاعدا. ولم يرو عن غيره خلافه، فيكون كالاجماع.
ومن صفات الواجب:
في الإبل: الأنوثة، حتى لا يجوز فيها سوى الإناث، ولا يجوز
الذكور إلا بطريق القيمة.
وأما في البقر: فالذكور والإناث سواء بالنص، وهو قوله عليه
السلام لمعاذ: في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة.
وأما في الغنم: فيجوز فيه، عندنا، الذكر والأنثى.
وقال الشافعي: لا يجور الذكر، إلا إذا كانت كلها ذكورا.
والصحيح قولنا: لان الأحاديث وردت بلفظ الشاة، وهو اسم
يتناول الذكر والأنثى.
ومن صفات الواجب أيضا أن يكون وسطا، حتى لا يكون للساعي أن
يأخذ الجيد ولا الردئ، إلا بطريق التقويم، برضا صاحب المال، لما
روي عن النبي عليه السلام أنه قال للساعي: إياك وكرائم أموال
الناس، وخذ من حواشيها، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله
حجاب.
287

فلو أنه لم يوجد الوسط، فإن صاحب المال بالخيار إن شاء دفع
قيمة الوسط، وإن شاء دفع الأفضل واسترد الزيادة من الدراهم، وإن
شاء دفع الأدون مع الزيادة من الدراهم، لان دفع القيم جائز عندنا،
خلافا للشافعي والمسألة معروفة.
وذكر في كتاب الزكاة هذه المسألة وقال: المصدق بالخيار، وأراد به
إذا رضي صاحب المال، وإنما يكون الخيار للمصدق في فصل واحد،
وهو أن صاحب المال إذا وجب عليه بنت مخاض أو بنت لبون، فأدى
بعض سن آخر بطريق القيمة فالمصدق بالخيار إن شاء قبل، وإن شاء لم
يقبل، لان التشقيص في الأعيان عيب.
هذا الذي ذكرنا إذا كان الكل كبارا، فإما إذا كانت صغارا أو
مختلطة بالكبار،
فأما الصغار المفردة، فمن أبي حنيفة فيها ثلاث روايات،
روى أنه يجب فيها ما يجب في الكبار.
ثم رجع وقال: يجب فيها واحد منها إذا بلغت مبلغا يجب فيها واحد
من الكبار، وهو خمسة وعشرون فصيلا.
ثم رجع وقال: لا يجب فيها شئ.
وأخذ بقوله الأول زفر: وهو قول مالك.
وبقوله الثاني: أبو يوسف.
وبقوله الثالث: محمد.
ويتكلم الفقهاء في صورة المسألة فإنها مشكلة، لان الزكاة لا تجب
بدون مضي الحول، بعد الحول لم يبق اسم الجعلان والفصلان
والعجاجيل.
288

قال بعضهم: الخلاف في هذا أن الحول هل ينعقد على الحملان
والفصلان والعجاجيل أم لا بأن ملك في أول الحول نصابا من هذه
الصغار، ثم تم الحول عليها هل يجب واحد منها، وإن خرجوا عن
الدخول تحت هذه الأسماء؟ أو يعتبر انعقاد الحول من حين كبروا وإن
زالت صفة الصغر عنهم؟
وقال بعضهم: الخلاف فيمن كانت له أمهات، فمضت ستة أشهر
فولدت أولادا، ثم ماتت الأمهات وبقي الأولاد، ثم تم الحول عليها،
وهي صغار هل تجب الزكاة في هذه الأولاد؟
وعلى هذا إذا كان له مسان، فاستفاد صغارا في وسط الحول، ثم
هلكت المسان، وبقي المستفاد هل تجب الزكاة في المستفاد؟ فعلى هذا
الخلاف.
وإلى هذا أشار محمد في الكتاب فيمن كان له أربعون حملا، وواحدة
مسنة فهلكت المسنة وتم الحول على الحملان لا يجب شئ عند أبي
حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يجب واحد منها، وعند زفر تجب مسنة.
والصحيح قول أبي حنيفة ومحمد، لما ذكرنا من الأصل ثم عن أبي
يوسف ثلاث روايات أخرى سوى ما ذكرنا والمشهور ما ذكرنا.
فأما إذا كان مع الصغار كبار أو واحد منها فإنه يحتسب الصغار معها من
النصاب وتجب الزكاة فيها مثلما تجب في الكبار وهو المسنة.
وأصله حديث عمر أنه قال للساعي: عد عليهم السخلة، ولو جاء
بها الراعي يحملها على كفه، ولا تأخذها منهم.
ثم في حال اختلاط الكبار بالصغار تجب الزكاة في الصغار تبعا
للكبار، إذا كان العدد الواجب من الكبار موجودا فيها، في قولهم
جميعا.
289

فأما إذا لم يكن العدد الواجب كله موجودا، فإنه يجب بقدر الموجود،
فإنه إذا كان له مسنتان ومائة وتسعة عشر حملا، فإنه تجب فيها مسنتان،
بلا خلاف، لان العدد الواجب، وهو المسنتان، موجود في النصاب.
ومثله لو كان له مسنة ومائة وعشرون حملا يجب فيها مسنة واحدة
عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يجب عليه شاة وحمل.
وأما حكم الخيل - فنقول:
لا يخلو إما إن كانت علوفة في المصر للركوب والحمل أو للتجارة، أو
سائمة للركوب والحمل أو للغزو والجهاد، أو سائمة للدر والنسل.
أما إذا كانت علوفة أو كانت سائمة للحمل والركوب أو الجهاد:
فلا يجب فيها شئ، لأنها مشغولة بحاجته، لان قصد الدر والنسل دليل
الفضل عن الحاجة، ولم يوجد.
وإن كانت للتجارة يجب فيها زكاة التجارة بالاجماع، سواء كانت
تعلف في المصر أو تسام في البراري.
فأما إذا كانت سائمة للدر والنسل:
فإن كانت مختلطة، ذكورا وإناثا: يجب فيها الزكاة عند أبي حنيفة
رواية واحدة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: لا زكاة فيها.
وإن كانت كلها إناثا، ففيها روايتان عن أبي حنيفة، ذكرهما
الطحاوي.
وإن كانت كلها ذكورا، ففيها روايتان عنه أيضا، ذكرها محمد
في الآثار.
وفي المشهور من الروايات أن لا زكاة فيها.
وإذا وجبت الزكاة فيها، فيكون صاحبها بالخيار بين أن يعطي من
290

كل فرس دينارا، وبين أن يقومها فيؤدي من كل مائتي درهم خمسة
دراهم، لكن حق الاخذ للساعي، لان السائمة ترعى في البراري، ولا
يمكن حفظ السوائم فيها إلا بحماية السلطان.
والصحيح قول أبي حنيفة لما روى جابر عن النبي عليه السلام أنه
قال: في كل فرس سائمة دينار، وليس في الرابطة شئ.
وأما الحمير والبغال فلا يجب فيها شئ، وإن كانت سائمة، لان
الحمل والركوب هو المقصود فيها غالبا دون التناسل، لكنها تسام في
غير وقت الحاجة للتخفيف في الحفظ ودفع مؤونة العلف.
فأما إذا كانت للتجارة: فيجب فيها زكاة التجارة.
هذا الذي ذكرنا كله إذا كانت السوائم لواحد أما إذا كانت
مشتركة:
فعندنا يعتبر في حال الشركة ما يعتبر في حالة الانفراد: فإن كان
نصيب كل واحد منهما بلغ نصابا: تجب الزكاة فيه، وإلا فلا.
وقال الشافعي: إذا كان أسباب الأسامة واحدة، يجعل الكل كمال
واحد، وهو أن يكون الراعي والمرعى والماء والمراح والكلب واحدا،
ويكون المالكان من أهل وجوب الزكاة.
بيان ذلك:
إذا كان خمس من الإبل بين شريكين لا تجب فيها الزكاة
عندنا، لان نصيب كل واحد منهما، بانفراده، ليس بنصاب.
ولو كانت عشرا من الإبل بينهما، فعلى كل واحد منهما شاة.
وعنده تجب شاة في الفصل الأول عليهما.
- وإن كان ثلاثون من البقر بين رجلين، لا تجب الزكاة، عندنا
291

لعدم النصاب في حقه، وعنده تجب تبيعة بينهما.،
وإن كان أربعون من الغنم بين اثنين، لا يجب شئ عندنا،
خلافا له.
- ولو كان لهما ثمانون، يجب على كل واحد منهما شاة عندنا
وعنده: تجب شاة واحدة بينهما.
كذلك على هذا إذا كان الذهب والفضة، وأموال التجارة،
مشتركة بين اثنين، فإنه يعتبر عندنا نصيب كل واحد على حدة.
ثم إن المصدق، إذا جاء بعد تمام الحول، فإنه يأخذ الصدقة من
المال المشترك بينهما، إذا وجد فيه واجبا، على اختلاف الأصلين، ولا
ينتظر القسمة لأنهما راضيان بذلك، لبقائهما على الشركة.
فإذا أخذ ينظر:
إن كان ما أخذ من مال كل واحد منهما، بأن كان المال مشتركا
بينهما، على السوية، فلا تراجع ههنا، لان ذلك القدر واجب على كل
واحد منهما، على السواء.
أما إذا كان المال مشتركا بينهما، على التفاوت، والواجب على أحدهما
أكثر من الآخر، أو الواجب على أحدهما دون الآخر فإنه يرجع على
صاحبه بقدر ذلك.
بيانه:
- لو كان ثمانون من الغنم بين رجلين، فأخذ المصدق منها شاتين
فلا تراجع، لما ذكرنا أنه يجب على كل واحد منهما شاة، وكل شاة بينهما
نصفان.
- ولو كانت الثمانون بينهما أثلاثا، وحال الحول، فإنه يجب فيها شاة
واحدة على صاحب الثلثين، لكمال نصابه وزيادة، ولا يجب على
292

صاحب الثلث، لنقصان نصيبه عن النصاب، فقد أخذ المصدق ثلث نصيبه
لأجل صاحب الثلثين، فله أن يرجع عليه بقيمة الثلث.
- ولو كان الغنم مائة وعشرين بين رجلين، لأحدهما
ثلثها وللآخر ثلثها، فإنه يجب على كل واحد منهما شاة، لان الثمانين لأحدهما،
والأربعين لشريكه، فيأخذ المصدق شاتين من المال المشترك، ولصاحب
الثلثين أن يرجع على صاحب الثلث بقيمة ثلث شاة، لان الشاتين إذا
كانتا أثلاثا بينهما يكون لصاحب الثلثين شاة وثلث ولصاحب الثلث ثلثا
شاة، وقد أخذ المصدق شاة كاملة لأجل صاحب الثلث، فقد صار آخذا
ثلثا من نصيب صاحب الثلثين لأجل زكاة صاحب الثلث، فيرجع عليه
بذلك.
وهذا معنى قوله عليه السلام: وما كان بين الخليطين فإنهما
يتراجعان بالسوية.
هذا الذي ذكرنا حكم الزكاة في العين.
فأما حكم الزكاة في الدين فنقول:
الدين عند أبي حنيفة على ثلاث مراتب: دين قوي، ودين وسط،
ودين ضعيف.
فالدين القوي هو الذي ملكه، بدلا عما هو مال الزكاة كالدراهم
والدنانير وأموال التجارة وكذا غلة مال التجارة من العبيد والدور ونحوها.
والحكم فيه أنه إذا كان نصابا وتم الحول تجب الزكاة، لكن لا
يخاطب بالأداء ما لم يقبض أربعين درهما، فإذا قبض أربعين زكاها،
وذلك درهم. وإن قبض أقل من ذلك لا يزكي، وكذلك يؤدي من كل
أربعين عند القبض درهما.
293

وأما الدين الوسط فهو الذي وجب بدل مال لو بقي عنده حولا لم
تجب فيه الزكاة، مثل عبيد الخدمة وثياب البذلة وغلة مال الخدمة.
والحكم فيه أن عند أبي حنيفة فيه روايتين:
ذكر في الأصل وقال: تجب فيه الزكاة، ولا يخاطب بالأداء، ما لم
يقبض مائتي درهم، فإذا قبض المائتين يزكي لما قبض.
وروى ابن سماعة عن أبي حنيفة أنه لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول
عليه الحول، بعد ذلك.
وهو الصحيح عنده.
وأما الدين الضعيف فهو ما وجب وملك، لا بدلا عن شئ وهو
دين إما بغير فعله كالميراث أو بفعله كالوصية أو وجب بدلا عما ليس
بمال دينا، كالدية على العاقلة والمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد
وبدل الكناية.
والحكم فيه أنه لا يجب فيه الزكاة، حتى يقبض المائتين، ويحول عليها
الحول - عنده.
وقال أبو يوسف ومحمد: الديون على ضربين: ديون مطلقة وديون
ناقصة.
فالناقص هو بدل الكناية، والدية على العاقلة وما سواهما فديون
مطلقة.
والحكم فيها أنه تجب الزكاة في الدين المطلق، ولا يجب الأداء ما لم
يقبض، فإذا قبض منها شيئا، قل أو كثر، يؤدى بقدر ما قبض.
وفي الدين الناقص لا تجب الزكاة، ما لم يقبض النصاب، ويحول
عليه الحول.
294

وأما دين السعاية فلم يذكر في كتاب الزكاة الاختلاف بينهما.
وذكر في نوادر الزكاة الاختلاف فقال: عند أبي حنيفة هو دين
ضعيف، وعندهما دين مطلق.
وعند الشافعي الديون كلها سواء، وتجب الزكاة فيها والأداء، وإن لم
يقبض.
وأما حكم هذه الابدال إذا كانت عينا:
أما الميراث والوصية المعنية إذا حال عليها الحول، ولم يقبضها، تجب
فيها الزكاة، في الذهب والفضة.
فأما في مال التجارة والأسامة، فإن نوى الورثة التجارة أو الأسامة،
بعد الموت، تجب.
وإن لم ينووا، قال بعضهم: تجب، لان الوارث والموصى له خلف
الميت، فينتقل المال إليهما، على الوصف الذي كان، ما لم يوجد التعيين
من جهتهما، بأن وجدت منهما نية الابتذال والاعلاف.
وقال بعضهم: لا بد من وجود النية، لان الملك قد زال عن الميت
حقيقة، وتجدد الملك للوارث والموصى له.
وكذلك الجواب في بدل أعيان البذلة والمهنة وعبيد الخدمة إذا كان
عينا، لا تجب فيه الزكاة، ما لم ينو التجارة عند العقد.
فأما المهر وبدل ما ليس بمال، فعلى قول أبي حنيفة لا تجب ما لم
يقبض، ولم يحل عليه الحول، ولم ينو التجارة بعد القبض، وعلى قولهما
تجب إذا نوى التجارة عند العقد لان المهر لا يصلح نصابا عند أبي حنيفة
إذا كان دينا، وعندهما يصلح فالعين كذلك، لكن لا بد من نية التجارة في
العين.
295

هذا الذي ذكرنا إذا كان الدين مقرا به ومن عليه الدين موسرا.
فأما الدين إذا كان مجحودا به، ومضى عليه أحوال ثم أقر به،
وقبضه:
فلا تجب الزكاة للسنين الماضية عندنا.
وقال زفر والشافعي: تجب.
وكذلك الخلاف فيما إذا كانت دراهم ودنانير مغصوبة.
وكذلك إذا سقطت عن يد المالك: فلم يجدها سنين.
وكذلك عبيد التجارة: إذا أبقوا ثم قدر عليهم، بعد سنين.
وكذلك العدو: إذا استولوا على الدراهم والدنانير، وأحرزوها
بدارهم فعلى الخلاف بيننا وبين الشافعي.
وكذلك إذا دفن، في غير حرز، ونسي ذلك سنين ثم تذكره،
فعلى الخلاف.
وكذلك إذا أودع رجلا، مجهولا لا يعرفه، مال الزكاة، ثم أصابه
بعد سنين: لا يجب.
وأجمعوا أنه إذا دفن في الحرز، من الدور ونحوها، ونسيه، ثم
تذكر، فإنه تجب عليه زكاة ما مضى.
وكذلك إذا أودع رجلا معروفا، ثم نسيه سنين ثم تذكر، فإنه
يجب بالاجماع.
ثم في المال المغصوب، لا تجب الزكاة عندنا، سواء كانت له بينة أو
لم يكن.
وكذلك المال المجحود إذا كان له بينة، كذا روى هشام عن محمد.
296

وبعض مشايخنا قالوا: إذا كانت له بينة، تجب فيه الزكاة.
والصحيح رواية هشام: لان البينة قد تقبل وقد لا تقبل.
فأما إذا كان القاضي عالما بالدين، أو بالغصب، فإنه تجب الزكاة،
لان القاضي يقضي بعلمه في الأموال، فصاحبه يكون مقصرا في
الاسترداد، فلا يعذر.
وأما الغريم إذا كان يقر في السر، ينكر في العلانية، فلا زكاة فيه -
كذا روى المعلى عن أبي يوسف.
فأما إذا كان الدين مقرا به، ولكن من عليه الدين معسر، فمضى
عليه أحوال، ثم أيسر، فقبضه صاحب الدين فإنه يزكي لما مضى
عندنا. وروى الحسن بن زياد أنه لا زكاة فيه إلا أنا نقول إنه مؤجل
شرعا، فصار كما لو كان مؤجلا، بتأجيل صاحبه، ثم تجب الزكاة كذا
هذا.
هذا إذا كان معسرا، لم يقض عليه بالافلاس.
فأما إذا قضى عليه بالافلاس فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف:
تجب الزكاة، لما مضى، إذا أيسر، لان الافلاس عندهما لا يتحقق في
حال الحياة والقضاء به باطل.
وعلى قول محمد: لا تجب، لان القضاء بالافلاس، عنده صحيح.
297

باب
من يوضع فيه الصدقة
مسائل الباب مبنية على معرفة:
من يجوز وضع الزكاة فيه،
وعلى معرفة ركن الزكاة،
وشرائط الأداء.
أما بيان من يجوز وضع الزكاة فيه:
فهو الذي استجمع شرائط،
منها - الفقر:
فإنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الأغنياء، لقوله تعالى: * (إنما
الصدقات للفقراء) * أمر بالصرف إلى الأصناف الثمانية، وذكر هؤلاء
لبيان محلية الصرف، باعتبار الحاجة، لا بطريق الاستحقاق، إلا أن
النص صار منسوخا في حق المؤلفة قلوبهم عندنا.
وأما العامل فيما يعطى له، فهو أجر عمله، لا بطريق الزكاة، فإنه
ينبغي للامام أن يعطي الساعي مقدار ما يكفيه ويكفي أعوانه، ولهذا قلنا
بأنه يعطي العامل الغني. ولهذا إن صاحب المال إذا حمل الزكاة بنفسه إلى
الامام، فإنه لا يعطي العاملين على الصدقات من ذلك شيئا.
ولهذا قلنا: إن حق العامل فيما في يده من الصدقات حتى لو هلك ما
في يده من الصدقات تسقط أجرته، وهو كنفقة المضارب في مال المضاربة
299

إذا هلك مال المضارب سقطت نفقته.
ولكن للعمالة شبهة الصدقة، فيحرم في حق بني هاشم، كرامة
لهم، وإن كان لا يحرم على العامل الغني.
وقال الشافعي: يجب الصرف إلى الأصناف الثمانية: إلى ثلاثة من
كل صنف، لأنه لا يمكن القول بالاستيعاب. واختلف أصحابه في سهم
المؤلفة قلوبهم:
وبعضهم قالوا: صار منسوخا بالاجماع.
وبعضهم قالوا: يصرف إلى كل من كان حديث العهد بالاسلام،
ممن هو في مثل حالهم في الشوكة والقوة، حتى يكون حملا لأمثالهم على
الدخول في دين الاسلام.
ثم كما لا يجوز صرف الزكاة إلى أغنياء، لا يجوز صرف جميع
الصدقات المفروضة الواجبة إليهم، وذلك نحو الكفارات المفروضة،
والعشر المفروض بكتاب الله، وصدقة الفطر، والصدقات المنذور بها
من الواجبات لقوله عليه السلام: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي
مرة سوي.
وكذا لا يجوز صرف الصدقات الواجبة إلى ولد الغني إذا كان
صغيرا، وإذا كان كبيرا يجوز، لان الصغير يعد غنيا بمال أبيه، بخلاف
الكبير.
وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة
وكذلك إلى البنت الكبيرة الفقيرة لغني. وهو إحدى الروايتين عن أبي
يوسف، لان الزوج لا يدفع جميع حوائج الزوجة والبنت الكبيرة.
وكذا لا يجوز الدفع إلى عبد الغني ومدبره، وأم ولده، إذا لم يكن
عليهم دين مستغرق لرقابهم، لا أكسابهم ملك المولى.
300

وكذا إن كان عليهم دين، لكن غير ظاهر في حق المولى، حتى يكون
مؤخرا إلى ما بعد العتاق.
وأما إذا كان ظاهرا في حق المولى، كدين الاستهلاك ودين التجارة،
ينبغي أن يجوز على قول أبي حنيفة، لأنه لا يملك كسبه عنده إذا
كان عليه دين مستغرق ظاهر في حقه.
وعلى قولهما: لا يجوز، لأنه يملك كسبه، عندهما.
ويجوز الدفع إلى مكاتب الغني، لان المكاتب أحق بمكاسبه من
المولى.
وأما صدقة الأوقاف: فيجوز صرفها إلى الأغنياء إذا سماهم
الواقف: فأما إذا لم يسمهم: فلا يجوز، لأنها صدقة واجبة.
فأما صدقة التطوع: فيجوز صرفها إلى الغني، وتحل له وتكون بمنزلة
الهبة له.
ثم الغنى أنواع ثلاثة:
أحدها: الغنى الذي يتعلق به وجوب الزكاة، وهو أن يملك نصابا
من المال، الفاضل عن الحاجة، الموصوف بالنماء والزيادة، إما بالأسامة
أو التجارة.
والثاني: الغنى الذي يتعلق به حرمان الصدقة، ويتعلق به وجوب
صدقة الفطر والأضحية، دون وجوب الزكاة وهو أن يملك من الأموال
الفاضلة عن حوائجه ما تبلغ قيمته مائتي درهم بأن كان له ثياب وفرش
ودور وحوانيت ودواب، زيادة على ما يحتاج إليه، للابتذال، لا للتجارة
والأسامة.
ثم مقدار ما يحتاج إليه ما ذكر أبو الحسن في كتابه فقال: لا بأس بأن
301

يعطي من الزكاة من له مسكن وخدم وما يتأثث به في منزله،
وفرس، وسلاح، وثياب البدن، وكتب العلم إن كان من أهله، ما لم
يكن له فضل عن ذلك مائتا درهم.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: يجوز دفع الصدقة إلى رجل ليس له مال كثير، ولا كسب
له، وهو يخاف الحاجة.
وقال مالك: إذا كان له خمسون درهما، لا يجوز دفع الصدقة إليه ولا
يحل له الاخذ.
والثالث: الغنى الذي يحرم به السؤال، ولا يحرم الاخذ ولا الدفع
من غير سؤال:
قال بعضهم: خمسون درهما.
وقال عامة العلماء: إذا ملك قوت يومه وما يستر به عورته، فلا يحل
له السؤال، فأما إذا لم يكن، فلا بأس به.
وأما الفقير إذا كان قويا مكتسبا فيحل به أخذ الصدقة، ولا يحل له
السؤال.
وعند الشافعي: لا تحل له الصدقة.
والشرط الآخر:
أن لا يكون الفقير من بني هاشم، ولا من مواليهم، لقوله عليه
السلام: لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد.
وكذا حرم الصدقة على موالي بني هاشم، وقال: إن مولى القوم
من أنفسهم.
302

والشرط الاخر - هو الاسلام:
وهو شرط في حق وجوب الزكاة والعشر، بالاجماع حتى لا يجوز
صرفهما إلى الكفار.
وأما صرف ما وراء الزكاة والعشر إلى فقراء أهل الذمة فجائز عند
أبي حنيفة ومحمد، نحو صدقة الفطر والصدقة، المنذورة والكفارات
ولكن الصرف إلى المسلمين أولى.
وعن أبي يوسف ثلاث روايات.
والأصح أنه لا يجوز صرف صدقة ما إليهم إلا التطوع.
وأما الحربي فلا يجوز صرف صدقة ما إليه.
والشرط الآخر:
أن لا يكون منافع الاملاك متصلة بين صاحب المال وبين المدفوع
إليه، لان الواجب هو التمليك من الغير من كل وجه، فإذا كانت المنافع
بينهما متصلة عادة، فيكون صرفا إلى نفسه من وجه، فلا يجوز.
بيان ذلك أنه لو دفع الزكاة إلى الوالدين وإن علوا، أو إلى المولودين
وإن سفلوا، لا يجوز، لاتصال منافع الاملاك بينهم، ولهذا لا تقبل
شهادة بعضهم لبعض.
ولو دفع إلى سائر الأقارب، سواهم، من الاخوة والأخوات وغيرهم
جاز، لانقطاع المنافع بينهم، من حيث الغالب، ولهذا تقبل شهادة
بعضهم لبعض.
ولو دفع إلى الزوج أو الزوجة، لا يجوز عند أبي حنيفة، لما قلنا من
اتصال المنافع بينهم من حيث الغالب. وعلى قول أبي يوسف ومحمد: يجوز
303

للزوجة أن تدفع إلى زوجها الفقير، ولا يجوز للزوج أن يدفع إلى زوجته
الفقيرة.
ولو دفع إلى عبيده، أو مدبريه، أو أمهات أولاده، لا يجوز، سواء
كان عليهم دين أو لم يكن لأنه صرف إلى نفسه من وجه.
وكذلك إذا دفع إلى مكاتبه لا يجوز، وإن كان الملك يقع
للمكاتب، لأنه من وجه يقع للمولى.
وأما صدقة التطوع: فيجوز صرفها إلى هؤلاء، لقوله عليه السلام:
نفقة الرجل على نفسه صدقة، وعلى عياله صدقة، وكل معروف
صدقة.
وهذا الذي ذكرنا في حالة الاختيار، وهو أن يكون للدافع علم
بهؤلاء عند الدفع.
فأما إذا دفع الزكاة إلى هؤلاء، ولم يعلم بحالهم، فهذا على ثلاثة
أوجه:
أحدها: أنه لا يخطر بباله شئ أنه غني أو فقير، مسلم وذمي
ونحو ذلك ودفع بنية الزكاة، فالأصل هو الجواز، إلا إذا ظهر أنه غني أو
أبوه أو ابنه أو ذمي بيقين، فحينئذ لا يجوز، لأن الظاهر أنه صرف
الصدقة إلى محلها حيث نوى الزكاة، والظاهر لا يبطل إلا باليقين، ولهذا
إذا خطر بباله بعد ذلك، وشك في ذلك، ولم يظهر له شئ، فإنه لا
يلزمه الإعادة، لأن الظاهر لا يبطل بالشك.
والثاني: إذا خطر بباله، وشك في ذلك، ولم يتحر، ولم يطلب دليل
الفقر بأن لم يسأل عنه أنه غني أو فقير، ونحو ذلك، ودفع إليه، أو تحرى
بقلبه، ولكن لم يطلب دليل الفقر فالأصل هو الفساد، إلا إذا ظهر
بيقين أو بدليل، من حيث الغالب أنه فقير، فحينئذ يجوز، لأنه وجب
304

عليه التحري في هذه الحالة، والصرف إلى فقير وقع عليه التحري،
فإذا ترك فلم يوجد الصرف إلى من أمر بالصرف إليه، فيكون فاسدا
إلا إذا ظهر أنه فقير أو أجنبي بيقين ونحوه، فيجوز لأنه بطل الظاهر
بالحقيقة.
والثالث: إذا خطر بباله وشك، وتحرى، وطلب دليل الفقر، وسأل
المدفوع إليه فأخبر أنه فقير، أو رآه في صف الفقراء، أو كان عليه زي
الفقراء، أو كان ضريرا، أو معه ركوة وعصا، فدفع إليه ثم ظهر أنه
غني، أو دفع في ليلة مظلمة إلى رجل يخبره أنه أجنبي أو مسلم، ثم ظهر
أنه أبوه أو ابنه أو ذمي. فإنه لا يلزمه الإعادة عند أبي حنيفة ومحمد في
الفصول كلها - وعلى قول أبي يوسف: يلزمه الإعادة.
وأجمعوا أنه إذا ظهر أنه حربي، أو حربي مستأمن، فإنه لا يجوز.
وكذا إذا ظهر أنه عبده أو مكاتبه أو مدبره.
هذا جواب ظاهر الرواية.
وروى محمد بن شجاع عن أبي حنيفة في غير الغني: أنه لا يجوز
ويلزمه الإعادة كما قال أبو يوسف والمسألة معروفة.
وأما ركن الزكاة
فهو إخراج جزء من النصاب من حيث المعنى، إلى الله تعالى،
والتسليم إليه، وقطع يده عنه، بالتمليك من الفقير والتسليم إليه أو إلى
من هو نائب عنه، وهو الساعي.
وصاحب المال نائب عن الله في التسليم إلى الفقراء قال الله تعالى:
* (وآتوا الزكاة) * والايتاء هو التمليك.
هذا الذي ذكرنا قول أبي حنيفة.
305

وأما على قولهما فالواجب جزء من النصاب، من حيث الصورة
والمعنى، لكن يجوز إقامة غيره مقامه من حيث المعنى، ويبطل اعتبار
الصورة، بإذن صاحب الحق، وهو الله تعالى.
وأما في زكاة السوائم فقد اختلف مشايخنا في قول أبي حنيفة،
بعضهم قالوا: إنه يجب صرف جزء من النصاب من حيث المعنى،
وذكر المنصوص عليه، بخلاف جنس النصاب للتقدير.
وبعضهم قالوا: الواجب هو المنصوص عليه من حيث المعنى، لا
جزء من النصاب.
وعند الشافعي: الواجب هو المنصوص عليه من الأسنان مطلقا، لا
جزء من النصاب.
وبيان هذا في المسائل:
على قول أصحابنا: يجوز دفع القيم والابدال في باب الزكاة العشر
والخراج وصدقة الفطر، وعند الشافعي لا يجوز.
ولو هلك النصاب بعد الحول أو بعضه إن كان قبل التمكن من
الأداء من غير تفريط، فلا شئ عليه بالاجماع.
فأما إذا تمكن من الأداء وفرط حتى هلك فكذلك الجواب عندنا،
وقال الشافعي: لا يسقط.
وأجمعوا أنه إذا أتلف مال الزكاة فإنه يضمن قدر الزكاة، لان الواجب
عندنا تمليك جزء من محل معين هو النصاب، إما من حيث المعنى عند
أبي حنيفة، أو من حيث الصورة والمعنى عندهما، ولا يبقى الوجوب بعد
هلاك المحل، كالعبد الجاني، إذا مات، سقط وجوب الدفع، لكون
المحل متعينا، لوجوب الدفع فلا يبقى واجبا بعد فواته، كذا ههنا.
306

وإذا أتلف يضمن لأنه أتلف حقا مستحق الأداء عليه، فصار كالمولى
إذا أتلف العبد الجاني.
فأما في السوائم إذا جاء الساعي وطالب الزكاة فمنع حتى هلك:
فذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي أنه يجب الضمان، لأنه بالمنع صار
متلفا، بمنزلة المودع إذا منع الوديعة، بعد الطلب حتى هلكت، يضمن،
كذا هذا.
وعن أبي سهل الزجاجي أنه لا يضمن.
والأول أصح.
ولو صرف الزكاة إلى بناء المسجد والرباطات وإصلاح القناطر وتكفين
الموتى ودفنهم لا يجوز، لأنه لم يوجد التمليك.
وكذلك إذا اشترى بالزكاة طعاما، وأطعم الفقراء غداء وعشاء، ولم
يدفع إليهم عين الطعام، فإنه لا يجور، لأنه لم يوجد التمليك.
وكذلك لو قضى دين ميت فقير، بنية الزكاة لا يجوز.
وأما إذا قضى دين حي فقير، فإذا قضى بغير أمره، يكون متبرعا،
ولا يقع عن الزكاة، وإن قضى بأمره فإنه يقع عن الزكاة ويصير وكيلا في
قبض الصدقة عن الفقير، والصرف إلى قضاء دينه، فقد وجد التمليك
من الفقير فيجوز.
وكذلك لو اشترى بزكاته رقيقا فاعتقله لا تسقط الزكاة، لأنه
إسقاط وليس بتمليك.
ولو دفع زكاة ماله إلى الامام، أو إلى عامل الصدقة، فإنه يجوز،
لأنه نائب عن الفقير في القبض.
وكذلك من تصدق على صبي أو مجنون وقبض له وليه: أبوه أو جده
307

أو وصيه، جاز لان قبض الولي كقبضه. ولو قبض عنهما بعض ذوي
أرحامه، وليس ثمة أقرب منه، وهو في عياله جاز.
وكذلك الأجنبي، الذي هو في عياله، بمنزلة الولي، في قبض
الصدقة، لان هذا من باب النفع.
وكذلك الملتقط، يصح منه قبض الصدقة في حق اللقيط.
وذكر في العيون عن أبي يوسف أن من عال يتيما، فجعل يكسوه
ويطعمه وينوي به عن زكاة ماله قال: يجوز. وقال محمد: ما كان من
كسوة يجوز، وما كان من طعام لا يجوز إلا ما دفع إليه. وهذا مما لا
خلاف فيه بينهما في الحقيقة، فإن أبا يوسف لم يرد إلا الاطعام على طريق
الإباحة، ولكن على وجه التمليك، إن كان اليتيم عاقلا يدفع إليه، وإن
لم يكن عاقلا يقبض عنه، بطريق النيابة، ثم يطعمه ويكسوه، لان قبض
الولي كقبضه.
وأما شرائط الأداء
فمنها - أن يكون الأداء على الوجه الذي وجب عليه، من حيث
الوصف، فإن كان في السوائم يؤدى الوسط: إما عينه، أو مثله من
حيث القيمة. حتى لو أدى الردئ، يجوز عن الكل، إنما يقع بقدر
قيمته، ولو أدى الجيد: جاز، لأنه أدى الواجب وزيادة.
ولو أدى شاة سمينة جيدة عن شاتين وسطين جاز، لان الجودة في
غير أموال الربا متقومة، فبقدر الوسط يقع عن نفسه، وقدر قيمة الجودة
يقع عن شاة أخرى.
وكذا هذا في العروض إذا كانت للتجارة إن أدى ربع عشرها
يجوز، إن كان رديئا فردئ، وإن كان جيدا فجيد. فإن أدى القيمة:
فإنه يؤدي قيمته من كل وجه.
308

ولو أدى الردئ مكان الجيد لا يجوز، لان الجودة متقومة في هذا
الباب، ولهذا لو أدى الثوب الجيد عن الثوبين الرديئين - جاز.
فأما إذا كان مال الزكاة من أموال الربا، كالكيلي والوزني، فإن أدى
ربع عشر النصاب يجوز، كيفما كان. وإن أدى غيره، فلا يخلو إما
أن أدى زكاته من جنسه، أو من خلاف جنسه:
فإن أدى من خلاف جنسه، كما إذا أدى الفضة عن الذهب أو
الحنطة عن الشعير، فإنه يؤدي قدر قيمة الواجب، بلا خلاف.
ولو أدى النقص منها، فإنه يجب عليه التكميل، لان الجودة في أموال
الربا، معتبرة متقومة، عند المقابلة بخلاف الجنس.
فأما إذا كان المؤدى من جنس النصاب: فقد اختلفوا فيه على ثلاثة
أقوال.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: المعتبر هو القدر دون القيمة.
وقال: المعتبر هو القيمة دون القدر.
وقال محمد: المعتبر ما هو الأنفع للفقراء فإن كان اعتبار القيمة
أنفع فقوله مثل قول زفر، وإن كان اعتبار القدر أنفع فقوله مثل قول أبي
حنيفة وأبي يوسف.
بيان ذلك أن من وجب عليه أداء خمسة أقفزة من حنطة جيدة في مائتي
قفيز حنطة جيدة للتجارة بعد حولان الحول، فأدى خمسة أقفزة رديئة،
يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، اعتبارا للقدر، ولا يضمن قيمة
الجودة، لأنه لا قيمة لها في أموال الربا، عند مقابلتها بجنسها، وعلى قول
محمد وزفر: عليه أن يؤدي قيمة الجودة اعتبارا للقيمة عند زفر، واعتبارا
للأنفع في حق الفقراء عند محمد.
309

وكذلك إذا كان له قلب فضة أو إناء مصبوغ، من فضة وزنه مائتا
درهم وقيمته لجودته وصياغته ثلاثمائة درهم، وأدى خمسة زيوفا أو نبهرجة
أو فضة رديئة قيمتها أربعة دراهم، فإنه يجوز، وتسقط عنه الزكاة في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف، لوجود القدر، وعند محمد وزفر: عليه أن يؤدي
سبعة دراهم ونصف درهم، ويصرفه إلى تمام القيمة لما ذكرنا من
الأصلين.
وأما إذا أدى زكاته من الذهب أو من مال ليس من جنس الفضة،
فإن عليه أن يؤدي قيمته بالغة ما بلغت، وهي سبعة دراهم ونصف،
لان الجودة متفوقة في أموال الربا، عند مقابلتها بخلاف الجنس، بمنزلة
الجودة في غير أموال الربا.
وإن وجب على رجل خمسة أقفزة رديئة أو خمسة دراهم رديئة، فأدى
أربعة أقفزة جيدة قيمتها خمسة أقفزة رديئة وأربعة دراهم جيدة قيمتها خمسة
دراهم رديئة: فإنه يجوز عن أربعة دراهم وأربعة أقفزة، وعليه قفيز واحد
ودرهم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. أما عندهما فاعتبارا للقدر
وهو ناقص، وأما عند محمد فلان عنده المعتبر هو القدر إذا كان أنفع.
للفقراء، واعتبار القدر ههنا أنفع وعلى قول زفر يجوز عن الخمسة اعتبارا
للقيمة.
وعلى هذا نظائر المسائل.
ومن شرائط الأداء - النية، فإن الزكاة، عبادة فلا تصح من غير
النية، لكن يشترط النية في أي وقت؟
ذكر الطحاوي أنه لا تجزئ الزكاة عمن أخرجها، إلا بنية قارنة
مخالطة لاخراجها إياها. كما قال في الصلاة.
ولكن مشايخنا قالوا: يعتبر في أحد وقتين: وقت الدفع، أو وقت
310

تمييز قدر الزكاة عن النصاب، حتى يكون الأداء بناء على نية صحيحة.
ولو دفع خمسة إلى رجل وأمره أن يدفع إلى الفقراء عن زكاة ماله،
ودفع ذلك الرجل ولم ينو عند الدفع جاز، لان المعتبر نية الامر، وهو
المؤدي في الحقيقة والمأمور نائب عنه.
ولو دفع إلى ذمي، ليدفعها إلى الفقراء، جاز لوجود النية من الامر
المسلم.
ولهذا قال أصحابنا: لا يجب الزكاة على الصبيان والمجانين، لان
الأداء لا يصح منهم، لأنه عبادة، فلا تتأدى بدون النية والاختيار،
والطفل والمجنون لا اختيار لهما، والصبي العاقل عقله عدم فيحق
التصرفات الضارة.
ولو مات من عليه الزكاة قبل الأداء، فلا يخلو: إما إن أوصى
بالأداء أو لم يوص.
فإن لم يوص فإنه تسقط عنه الزكاة، ولا يؤمر الوصي والوارث
بالأداء، من ماله، عندنا.
وقال الشافعي: تؤخذ من تركته.
وعلى هذا الاختلاف إذا مات وعليه صدقة الفطر، والخراج
والجزية، والنذور، والكفارات، والنفقات، لا يستوفى من تركته
عندنا، وعند الشافعي يستوفى.
وأما العشر، فإن كان الخارج قائما: لا يسقط بالموت، في ظاهر
الرواية.
وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة أنه يسقط.
311

وأما إذا استهلك الخارج، حتى صار دينا في ذمته، فهو على هذا
الاختلاف.
وأما إذا أوصى بالأداء فإنه يؤدي من ثلث ماله عندنا، وعند
الشافعي من جميع ماله، لان عنده الزكاة حق الفقراء، فصار كسائر
الديون.
ولنا طريقان: أحدهما: أن الزكاة عبادة، والأداء من الميت لا
يتحقق، ولم يوجد منه الايصاء والإنابة حتى يكون أداء النائب كأدائه،
والعبادة لا تتأدى إلى بالإنابة الشرعية.
والثاني: أن هذه الأشياء وجبت بطريق الصلة، والصلات تسقط
بالموت، قبل التسليم.
وأما العشر فقد ثبت مشتركا.
ولو امتنع من عليه الزكاة عن الأداء، فإن الساعي لا يأخذ منه الزكاة
جبرا. ولو أخذ لا يقع عن الزكاة عندنا. وقال زفر والشافعي: له أن
يأخذ من النصاب جبرا، ويقع عن الزكاة، لان الزكاة عبادة عندنا،
فلا بد من الأداء ممن عليه باختياره، حتى تحصل العبادة.
ولكن عندنا للساعي أن يجبره على الأداء بالحبس فيؤديه بنفسه،
لان الاكراه لا ينافي الاختيار، فيتحقق الفعل عن اختياره فيجوز.
ولو عجل زكاة ماله ودفع إلى الفقراء بنية الزكاة جاز عندنا
خلافا لمالك.
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه استسلف من العباس زكاة
عامين.
ثم عندنا كما يجوز تعجيل الزكاة عن النصاب الموجود للحال، يجوز
312

عن نصب كثيرة لم توجد بعد، إن كان في ملكه نصاب واحد، بأن كان
عنده مائتا درهم فعجل زكاة الألف أو أكثر، يجوز عندنا. وقال زفر:
لا يجوز.
وإنما يجوز التعجيل عندنا بشرائط ثلاثة:
أحدها: أن يكون مالكا للنصاب في أول الحول.
والثاني: أن يكون النصاب كاملا في آخر الحول أيضا.
والثالث: أن يكون في وسط الحول بعض النصاب، الذي انعقد
عليه الحول، أو كله موجودا، ولا يشترط كماله، لان أول الحول وقت
انعقاد سبب الوجوب، وآخره وقت الوجوب، فأما كمال النصاب في
وسط الحول فليس بشرط، لأنه ليس وقت الوجوب ولا وقت انعقاد
السبب، لكن لا بد من بقاء بعض النصاب الأول حتى يصح ضم
المستفاد إليه على ما مر.
بيان ذلك أن من كان عنده في أول الحول مائة درهم أو أربع من
الإبل السائمة، ثم استفاد ما يكمل به في آخر الحول، لا يجب.
ولو كان عنده في أول الحول، مائتا درهم فعجل خمسة منها، ولم
يستفد شيئا حتى حال الحول، فإن ما عجل لا يكون زكاة، ولكن يكون
تطوعا، لأنه لم يوجد كمال النصاب وقت الوجوب.
ولو استفاد خمسة في وسط الحول، ثم حال الحول وعنده مائتا
درهم، فإن المعجل يكون زكاة، لوجود كمال النصاب في أوله وآخره.
ولو استفاد ما يكمل به النصاب في أول الحول الثاني، وتم الحول
الثاني، والنصاب كامل، فإن المعجل لا يكون زكاة، عن الحول الثاني،
لأنه عجل الزكاة عن الحول الأول.
313

ولو كان له مائتا درهم، فعجلها كلها عن الزكاة أو أدى البعض
وهلك الباقي ثم استفاد نصابا آخر وتم الحول، فإن المعجل لا يقع عن
الزكاة، لأنه لم يبق شئ من النصاب الأول في وسط الحول، فانقطع
الحول.
ولو عجل زكاة ماله إلى الفقير ثم هلك النصاب، كله أو بعضه، ولم
يستفد شيئا يكمل به النصاب حتى تم الحول، فإنه لا يرجع على
الفقير، لأنه وقع أصل القربة، وإنما التوقف في صفة الفرضية، فلا
يصح الرجوع.
ولو دفع المعجل إلى الساعي، ثم هلك النصاب كله، فله أن يأخذه
لأنه لم يصل إلى يد الفقير بعد.
314

باب
ما يمر به على العاشر
المار على العاشر أصناف ثلاثة: المسلم، والذمي، والحربي.
أما المسلم فيؤخذ منه ربع العشر، على وجه الزكاة، حتى تسقط عنه
زكاة تلك السنة، ويوضع موضع الزكاة، إلا أنه ثبت حق الاخذ
لعاشر، لأجل الحماية، لان الأموال في المفاوز لا تحفظ إلا بقوة
السلطان، فتصير بمنزلة السوائم.
وإذا كان المأخوذ زكاة: فيشترط شرائط الزكاة من الأهلية، وكون
المال ناميا، فاضلا عن الحاجة، حتى لا يأخذ من مال الصبي والمجنون
ربع العشر، وكذا لا يأخذ إذا لم يحل عليه الحول، وكذا إذا كان عليه
دين لا يأخذ ولا يأخذ إذا لم يكن المال للتجارة.
ويقبل قوله في دعوى الدين، وفي دعواه أنه لم يحل عليه الحول، وإنه
ليس بمال التجارة، كما في الزكاة سواء، إلا إذا اتهمه العاشر فيحلفه، لان
حق الاخذ له، فيكون القول قول المنكر مع يمينه.
وكذا لا يأخذ من المكاتب، لا تجب عليه الزكاة.
وكذا إذا قال: هذه بضاعة لفلان، لا يأخذ منه، لان المالك ما أمره
بأداء الزكاة، وإنما أمره بالتصرف لا غير.
وكذلك المضارب والعبد المأذون إذا مرا على العاشر بمال المضاربة،
ومال المولى: لا يأخذ منهما، لأنهما لم يؤمرا بأداء الزكاة.
315

وذكر في الجامع الصغير: إذا مر المضارب والعبد المأذون بمال أخذ
منه الزكاة في قول أبي حنيفة الأول. قال أبو يوسف: ثم رجع في
المضاربين وقال: لا يأخذ منه، ولا أعلمه رجع في العبد المأذون أم لا
ولكن رجوعه في المضارب رجوع في العبد المأذون.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعشرهما.
والأصح أن لا يعشرهما، لأنهما أمرا بالحفظ والتصرف، لا بأداء
الزكاة.
ولو قال: معي أقل من النصاب، وعندي في البلد ما يكمل به
النصاب، فإنه لا يأخذ منه، لان حق الاخذ له باعتبار الحماية، وما دون
النصاب تحت حمايته لا كل النصاب، وفيما بينه وبين الله تعالى تجب عليه
الزكاة، لكمال النصاب.
وإذا مر على العاشر في الحول أكثر من مرة واحدة، لا يأخذ إلا
مرة واحدة، لان الواجب زكاة، وهي لا تتكرر في الحول.
ولو قال المسلم للعاشر: أديت الزكاة إلى عاشر غيرك، وفي السنة
عاشر غيره أو قال: دفعتها إلى المساكين فالقول قوله، لأنه أمين
كالمودع. وفي رواية أخرى: لا يقبل قوله إلا أن يأتي ببراءة من ذلك
العاشر.
وأما الذمي: إذا مر على العاشر، فالجواب فيه وفي المسلم سواء، في
جميع ذلك لأنه يؤخذ منه باسم الزكاة، إلا أنه يؤخذ منه نصف العشر،
استدلالا بصدقة بني تغلب: لما كان يؤخذ منهم باسم الزكاة، يؤخذ
نصف العشر - فهذا كذلك.
وأما الحربيون: فإنه يؤخذ منهم مثلما يأخذون من المسلمين. وإن
كان لا يعلم ذلك يؤخذ منهم العشر.
316

وأصل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى العشار
وقال: خذوا من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن
الحربي العشر، وروي أنه قال: خذوا منهم ما يأخذون من تجارنا
فقيل له: إن لم نعلم ما يأخذون من تجارنا؟، قال: خذوا العشر.
ثم ما يؤخذ منهم في معنى الجزية والمؤونة لا باسم الصدقة، حتى
يصرف في مصارف الجزية.
ولا يشترط أن يكون المال للتجارة ولا فارغا عن الدين، ولا يشترط
حولان الحول.
ولو قال: هذا المال بضاعة، لا يقبل قوله.
وكذلك إذا قال: أديت إلى عاشر آخر، لا يقبل لان المأخوذ منهم
أجرة الحماية وقد وجدت الحماية.
وكذا لا يصدق في جميع ما يصدق فيه الذمي والمسلم إلا في فصل
واحد، وهو أن يقول: هذه الجارية أم ولدي وهذا الغلام ولدي، فإنه
يقبل، لان النسب يثبت في دار الحرب.
وكذلك يؤخذ العشر من مال الصبي الحربي، والمجنون الحربي.
ولو دخل الحربي دار الاسلام بأمان، فعشر ثم دخل دار الحرب، ثم
خرج في ذلك الحول مرة أخرى أو مرارا، فإنه يؤخذ منه، في كل مرة،
لأنه يستفيد عصمة جديدة في كل مرة.
ولو مر التاجر على العاشر بما لا يبقى حولا، من الرطاب والخضرة
والثمار الرطبة، فإنه لا يعشره عند أبي حنيفة، وعندهما يعشره.
والصحيح قوله: لان النبي عليه السلام قال: ليس في الخضراوات
صدقة. وهذا النص، ولان في هذه الأشياء لا يحتاج إلى الحماية
317

غالبا، لان السراق وقطاع الطريق لا يقطعون الطريق لأجل الخضر، ولا
يأخذون إلا بقدر ما يؤكل في الحال، فلا يجب فيها المؤونة مقصودا.
وذكر في الجامع الصغير أن الذمي إذا مر على العاشر بالخمور
والخنازير: يعشر الخمور دون الخنازير.
وقال أبو يوسف: يعشرهما جميعا، لأنهما أموال عندهم.
وعند أبي حنيفة ومحمد: لا تعشر الخنازير.
وقول أبي يوسف أظهر.
318

باب
العشر والخراج
في الباب فصول:
بيان الأرض العشرية والخراجية.
وبيان ما يجب فيه العشر، وأن النصاب هل هو شرط أم يجب في
القليل والكثير؟
وبيان سبب وجوب العشر والخراج.
وبيان المحل الذي يجب فيه العشر والذي فيه نصف العشر.
أما بيان الأراضي - فنقول:
الأراضي نوعان: عشرية وخراجية.
فالعشرية خمسة أنواع:
أحدها: أرض العرب: فكلها عشرية.
والثاني - كل أرض أسلم أهلها طوعا: فهي عشرية.
والثالث: الأراضي التي فتحت عنوة وقهرا، وقسمت بين الغانمين:
فهي عشرية، لان الأرض لا تخلو عن المؤونة، فكانت البداءة بالعشر،
في حق المسلمين، أولى، لما فيه من شبهة العبادة.
والرابع: المسلم إذا اتخذ داره بستانا أو كرما: فهي عشرية، لأنها مما
يبتدئ عليها المؤونة، فالعشر أولى.
319

والخامس: المسلم إذا أحيى الأراضي الميتة بإذن الامام، وهي من
توابع الأراضي العشرية، أو تسقى بماء العشر، وهو ماء السماء وماء
العيون المستنبط من الأراضي العشرية، فهي عشرية.
وأما الأراضي الخراجية: فسواد العراق كلها خراجية.
وكل أرض فتحت عنوة وقهرا، وتركت على أيدي أربابها ومن عليهم
الامام، فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذا لم يسلموا، والخراج على
أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا.
وكذلك إذا جلاهم ونقل إليها آخرين: فالجواب كذلك.
والمسلم إذا أحيى أرضا ميتة، وهي تسقى بماء الخراج، فهي
خراجية.
وكذلك الذمي إذا أحيى أرضا ميتة بإذن الامام، أو رضخ له أرضا في
الغنيمة إذا قاتل مع المسلمين.
وكذلك الذمي إذا اتخذ داره بستانا، فإنه تكون خراجية.
وأما الذمي إذا اشترى من مسلم أرض العشر، فإنها تصير خراجية
عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه عشران، وقال محمد: عليه
عشر واحد.
والصحيح ما قاله أبو حنيفة، لان العشر والخراج شرعا لمؤونة
الأراضي، فمن كان أهلا لأداء العشر يوضع عليه العشر، ومن لم يكن
يوضع عليه الخراج، فأما الذمي إذا اشترى أرض المسلم، وهو ليس من
أهل العشر، يجب أن تنقلب خراجية.
والمسلم إذا اشترى من الذمي أرضا خراجية، لا تنقلب عشرية،
320

لان المسلم من أهل وجوب الخراج في الجملة.
والأصل أن مؤونة الأرض لا تغير من حالها إلا لضرورة، وفي حق
الذمي ضرورة، لأنه ليس من أهل وجوب العشر.
ولو اشترى التغلبي أرض عشر من مسلم فعليه عشران عند أبي
حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: عليه عشر واحد.
وأما بيان المحل الذي يجب فيه العشر فنقول:
اختلفوا فيه:
قال أبو حنيفة: كل خارج من الأرض، يقصد بزراعته نماء الأرض
والغلة ويستنبت في الجنات، يجب فيه العشر، سواء كانت له ثمرة
باقية، كالحنطة والشعير وسائر الحبوب والزبيب والتمر، أو لم يكن له
ثمرة باقية، كأصناف الفاكهة الرطبة، أو من الخضراوات والرطاب
والرياحين وقصب الذريرة وقصب السكر وقوائم الخلاف التي تقطع في كل
ثلاث سنين وغير ذلك.
فأما إذا كان من جنس لا يستنبت في الأرض، ولا يقصد بالزراعة
كالطرفاء والقصب الفارسي والحطب والحشيش والسعف والتبن فلا
عشر فيه.
321

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجب العشر إلا في الحبوب وماله ثمرة
باقية.
ثم النصاب هل هو شرط: لوجوب العشر فيما هو باق من الحبوب
والثمار أم لا؟ على قول أبي حنيفة ليس بشرط، بل يجب في قليله
وكثيره. وعلى قولهما لا يجب ما لم يكن خمسة أوسق، والوسق ستون
صاعا، كل صاع ثمانية أرطال.
والصحيح ما قاله أبو حنيفة لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا
من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) * ولما روي عن
النبي عليه السلام أنه قال: فيما سقته السماء العشر، وفيما سقي بغرب
أو دالية نصف العشر.
وأما بيان المحل الذي يجب فيه العشر، وما يجب فيه نصف العشر -
فنقول:
ما سقي بماء السماء والأنهار والعيون العشرية: يجب فيه العشر، وما
سقي بغرب أو دالية أو سانية: يجب فيه نصف العشر، لما روينا من
الحديث.
ولو أن الزرع يسقى في بعض السنة سيحا، وفي بعضها بدالية، فإن
المعتبر فيه أكثر المدة والغالب.
وأما بيان سبب وجوب العشر والخراج: فنقول:
سبب وجوب العشر هو الأرض النامية بالخارج حقيقة. وسبب
وجوب الخراج هو الأرض النامية، بالخارج، حقيقة أو تقديرا. ولهذا
قلنا إن الخارج إذا أصابته آفة، فهلك، لا يجب العشر إن كانت الأرض
322

عشرية، ولا الخراج إن كانت خراجية لفوات النماء حقيقة وتقديرا.
ولو كانت له أرض عشرية، وتمكن من زراعتها، ولم يزرع، لا
يجب عليه العشر، لأنه لم يوجد الخارج حقيقة.
ولو كانت الأرض خراجية، وتمكن من زراعتها، ولم يزرع - يجب
عليه الخراج، لوجود الخارج تقديرا.
وعلى هذا قال أصحابنا إن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض
واحدة، بل إن كانت عشرية يجب فيها العشر، وإن كانت خراجية يجب
الخراج، وقال الشافعي: يجتمعان.
ولو استأجر أرضا عشرية، وزرعها، فالعشر على الاجر عند أبي
حنيفة. وعندهما على المستأجر، لان العشر يجب في الخارج، وهو ملك
المستأجر، ولكن أبا حنيفة يقول إن الزرع، في المعنى، حاصل
للمؤاجر، لحصول الاجر له، فلو هلك الخارج، قبل الحصار، لا يجب
العشر على الاجر، وإن هلك، بعد الحصاد، لا يسقط العشر عن
المؤاجر، وعلى قولهما لو هلك، قبل الحصاد أو بعده فإنه يهلك بما فيه.
ولو أعارها من مسلم، فزرعها، فالعشر على المستعير، بالاتفاق،
لان الخارج له صورة ومعنى، ولو هلك يهلك بما فيه.
ولو دفعها مزارعة: فعندهما المزارعة جائزة، والعشر في الخارج،
وعند أبي حنيفة: المزارعة فاسدة، ولو خرج الزرع وأدرك فعشر الخارج
كله على رب الأرض إلا أن في حصته يجب في عينه، وفي حصة المزارع
يكون دينا في ذمته.
ولو غصبها غاصب، فزرعها، ينظر: إن انتقصت الأرض
بالزراعة، فالعشر على رب الأرض، وعلى الغاصب نقصان الأرض،
كأنه أجرها منه، وهذا عند أبي حنيفة. وعندهما في الخارج.
323

وإن لم تنتقص الأرض بالزراعة، فالعشر على الغاصب في الخارج،
كالعارية سواء.
وإن كانت الأرض خراجية في الوجوه كلها، فإن الخارج على رب
الأرض، بالاجماع، إلا في الغصب، فإنه إذا لم تنتقص الأرض
بالزراعة، فإن الخراج على الغاصب، وإن نقصت، فعلى رب الأرض،
كأنه أجرها.
وأما بيان الخراج ومقداره: فنقول:
الخراج نوعان: خراج وظيفة، وخراج مقاسمة.
أما الأول: فعلى مراتب، ثبت ذلك بتوظيف عمر، رضي الله عنه،
بإجماع الصحابة.
في كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة: قفيز مما يزرع فيها،
ودرهم. فالقفيز هو الصاع. والدرهم هو الفضة الخالصة وزنه وزن
سبعة، والجريب أرض طولها ستون ذراعا، وعرضها ستون ذراعا، بذراع
الملك كسرى ويزيد على ذراع العامة بقبضة.
وفي جريب الرطبة خمسة دراهم.
وفي جريب الكرم عشرة دراهم.
وأما الجريب الذي فيه أشجار مثمرة ولا يصلح للزراعة: فلم يذكر في
ظاهر الرواية، وروي عن أبي يوسف أنه قال: إذا كانت النخيل
ملتفة جعلت عليه الخراج بقدر ما يطيق، ولا أزيده على جريب الكرم.
وفي جريب الأرض التي ينبت فيها الزعفران، قدر ما تطيق، فإن
كان: ينظر إلى غلتها، فإن كانت تبلغ غلة الأرض المزروعة: يؤخذ منها
قدر خراج الزرع، وإن كانت تبلغ غلة الرطبة: يؤخذ منها خمسة على
هذا.
324

ثم أرض الخراج: إذا لم تخرج شيئا، بسبب آفة البرد ونحوها، لا
شئ فيها، وإن أخرجت قدر الخراج لا غير: فإنه يجب نصف الخراج.
وإن أخرجت مقدار مثلي الخراج فصاعدا: يؤخذ جميع الخراج الموظف
عليها.
فأما إذا كانت الأرض تطيق أكثر من الخراج الموظف، هل يزاد عليه
أم لا؟
روي عن محمد أنه قال: يزاد بقدر ما تطيق.
وقال أبو يوسف: لا يزاد.
وأما خراج المقاسمة: فهو أن الامام إذا من على أهل بلدة فتحها،
جعل على أراضيهم الخراج مقدار ربع الخارج أو ثلثه أو نصفه.
وهذا جائز: كما فعل رسول الله آ بأهل خيبر.
ويكون حكم هذا الخراج كحكم العشر، إلا أنه يوضع في موضع
الخراج، لأنه في الحقيقة خراج.
ثم في العشر والخراج لا يعتبر المالك، ولا أهليته، حتى يجب في
الأرض الموقوفة، ويجب في أراضي المكاتب والصبيان والمجانين.
325

باب
المعدن والركاز
في الباب فصلان:
أحدهما: حكم المال المستخرج من الأرض.
والثاني: حكم المال المستخرج من البحار.
أما الأول فهو قسمان: أحدهما: مال مدفون الناس.
والثاني: مال مخلوق في الأرض بتخليق الله تعالى.
فالمدفون يسمى كنزا على الخصوص.
والمال المخلوق في الأرض يسمى معدنا على الخصوص.
والركاز اسم يحتملهما جميعا، فيذكر ويراد به الكنز، ويذكر ويراد به
المعدن.
أما الكنز:
فلا يخلو إما إن وجد في دار الاسلام، أو في دار الحرب، وكل
ذلك لا يخلو: إما إن وجد في أرض مملوكة، أو في أرض غير مملوكة. ولا
يخلو: إما إن كان به علامة الاسلام، كالمصحف والدراهم المكتوب عليها
القرآن وما أشبه ذلك، أو لم يكن.
327

أما إذا كان وجد في دار الاسلام:
فإن كان في أرض غير مملوكة، كالجبال والمفاوز وغيرهما، فإنه
ينظر:
إن كان به علامة الاسلام، فإن حكمه حكم اللقطة، يصنع به ما
يصنع في اللقطة، على ما يعرف إن شاء الله.
وإن لم يكن ثمة علامة الاسلام، ولا علامة الجاهلية: بعضهم قالوا
بأن في زمان حكمه حكم اللقطة، لان عهد الاسلام قد طال.
وبعض مشايخنا قالوا إن حكمه حكم ما يعرف أنه مال الجاهلية،
بوجود العلام، لان الكنوز غالبا من الكفرة.
ثم حكم الكنز الذي به علامة الجاهلية، من الدراهم المنقوشة عليها
الصنم ونحو ذلك، أنه يجب فيه الخمس، لان حكمه حكم الغنيمة،
لأنه مال الكفار، وأربعة أخماسه للواجد، لأنه أخذه بقوة نفسه،
ويستوي الواحد بين أن يكون حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا، صغيرا أو
كبيرا، غنيا أو فقيرا، لان هؤلاء من أهل الغنيمة، إلا الحربي
المستأمن: فإنه إذا وجد كنزا، في دار الاسلام، فإنه يسترد منه،
لأنه ليس من أهل ملك الغنيمة، إلا إذا كان يعمل في المفاوز، بإذن
الامام، على شرط: فله أن يعطي المشروط، والباقي له، لأنه جعل ذلك
أجره.
وأما إذا وجد في أرض مملوكة فالخمس واجب، لما مر، وأما الأربعة
الأخماس فلصاحب الخطة أو لورثته إن عرفوا، وإن لم يعرفوا فيكون
لأقصى مالك الأرض أو لورثته، وإلا فيكون لبيت المال، وهذا قول أبي
حنيفة و محمد.
وقال أبو يوسف: يكون للواجد، والمسألة معروفة.
328

وأما إذا وجد في دار الحرب:
فإن كان في أرض غير مملوكة يكون للواجد، ولا خمس فيه، سواء
دخل بأمان أو بغير أمان، لان ذلك مال مباح، فيكون للواجد، ولا
خمس فيه، لأنه أخذ ملك الكفار، متلصصا، لأنه لورثة الواضع.
وأما إذا كان في أرض مملوكة: فإن دخل بأمان، فعليه أن يرده إلى
صاحب الأرض، حتى لا يؤدي إلى الغدر والخيانة في الأمان. ولو لم
يرده وأخرجه إلى دار الاسلام، يكون ملكا له، ولا يطيب له، كالملوك
بشراء فاسد، ولو باعه يصير ملكا للمشتري.
وأما إذا دخل بغير أمان، حل له ذلك، ولا خمس فيه، لان هذا
مال مباح، أخذه متلصصا، حتى إذا دخل جماعة ممتنعون في دار الحرب
وظفروا على كنوزهم، فإنه يجب فيه الخمس.
وأما المعدن:
فالخارج منه على ثلاثة أنواع:
منها: ما يذاب بالإذابة وينطبع بالحيلة، كالذهب والفضة والنحاس
والرصاص وأشباه ذلك.
والنوع الثاني: ما لا يذاب ولا ينطبع كالجص، والنورة والزرنيخ
والكحل والياقوت والفصوص والفيروزج ونحوها.
والنوع الثالث: ما هو مائع، كالنفط والقير ونحو ذلك.
ولا يخلو إما إن وجد في دار الاسلام، أو في دار الحرب، في أرض
مملوكة، أو غير مملوكة.
329

أما إذا وجد في دار الاسلام فينظر:
إن وجد في أرض غير مملوكة والموجود مما ينطبع بالحيلة، ويذاب
بالإذابة: فإنه يجب فيه الخمس قل أو كثر، وأربعة أخماسه للواجد،
كائنا من كان غير الحربي المستأمن: فإنه يسترد منه إلا إذا قاطعه الامام،
فإنه يؤدي إليه المشروط حكما للأمان.
وهذا عندنا،
وعند الشافعي: يجب في معادن الذهب والفضة ربع العشر. وفيما
ينطبع، غير الذهب والفضة، الخمس فعلى أصل الشافعي يؤخذ بطريق
الزكاة، حتى قال: النصاب شرط، وعند بعضهم الحول شرط. وفي
غير الذهب والفضة يحتاج إلى نية التجارة، حتى يجب فيه الخمس.
وعندنا يؤخذ بطريق الغنيمة، فلا يشترط فيه شرائط الزكاة.
ويحل دفع الخمس إلى الوالدين والمولودين، وهم فقراء، كما في
الغنائم.
ويجوز للواجد أن يصرف إلى نفسه، إذا كان محتاجا، ولا يكفيه
الأربعة الأخماس.
وعنده لا يجوز.
والصحيح قولنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: العجماء
جبار، والقليب جبار، وفي الركاز الخمس قيل يا رسول الله: وما
الركاز؟ قال: الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم
خلق السماوات والأرض. ولان المعدن كان في يد الكفرة وقد زالت
330

أيديهم، ولم تثبت يد المسلمين، لأنهم لم يقصدوا الاستيلاء على الجبال
والمفاوز، فبقي ما تحتها على حكم ملك الكفار، فيكون ملكا للمستولي،
بقوة نفسه، بطريق مشروع، فيجب الخمس كما في الكنز.
فأما إذا كان معدن النورة، وما لا ينطبع من الفصوص ونحوها.
فإنه يثبت الملك فيه للواجد، ولا يجب الخمس، لأنها من أجزاء الأرض،
كالتراب والأحجار، والفصوص أحجار مضيئة.
وأما إذا كان معدن القير والنفط، فلا شئ فيه، ويكون للواجد،
لان هذا ماء، ولا يقصد بالاستيلاء، فلم يكن في يد الكفار، حتى
يكون من الغنائم، فلا يجب الخمس فيها.
وأما إذا وجد المعدن في أرض مملوكة في دار الاسلام، فإن الملك
يكون لصاحب الأرض، ولا يجب الخمس عند أبي حنيفة، وكذلك في
الدار والحانوت.
وذكر في الجامع الصغير أنه يجب في الأرض، ولا يجب في الدار.
وعندهما يجب الخمس والأربعة الأخماس تكون لصاحب الملك، لان
الامام ملك الأرض بما فيها من المعدن، فيصح في حق الأربعة الأخماس،
دون الخمس، لأنه حق الفقراء.
وأبو حنيفة يقول إن الامام ملك الأرض مطلقا، بجميع أجزائها،
وهذا من أجزائها، والامام لو قسم الغنائم وجعل الكل للغانمين، إذا
كانت حاجتهم لا تندفع بالأربعة الأخماس، جاز، وله هذه الولاية، فكذا
هذا.
فأما إذا وجد المعدن في دار الحرب:
فإن وجد في أرض غير مملوكة فهي له، ولا خمس فيه.
331

وإن وجد في ملكهم فإن دخل بأمان، رد عليهم، وإن دخل بغير
أمان: يكون خالصا له من غير خمس كما في الكنز.
وأما المستخرج من البحار
كاللؤلؤ والمرجان والعنبر وغيرها فنقول:
قال أبو حنيفة ومحمد: لا يجب فيه الخمس.
وقال أبو يوسف: يجب.
والصحيح قولهما، لان البحار لم تكن في يد الكفرة حتى يكون ما فيها
ملكهم فيكون غنيمة.
وأما الزئبق: فعلى قول أبي حنيفة ومحمد: يجب.
ولهما أن الزئبق ينطبع بالحيلة، مع غيره، وإن كان لا ينطبع بنفسه،
فيكون في معنى الرصاص، فيجب فيه الخمس، والله أعلم.
332

باب
صدقة الفطر
في الباب فصول - منها:
بيان وجوب صدقة الفطر،
وبيان من تجب عليه،
وبيان من تجب عليه لأجل الغير،
وبيان قدر الواجب، وصفته،
وبيان وقت الوجوب،
وبيان وقت الأداء،
وبيان مكان الأداء،
وما يتصل بهذه الجملة.
أما الأول - فنقول:
صدقة الفطر واجبة.
عرف وجوبها بالأحاديث الصحيحة، ومنها ما روي عن ثعلبة بن
صغير العذري، وفي رواية العدوي، أنه قال: خطبنا رسول الله (ص)
فقال: أدوا عن كل حر وعبد، صغير وكبير، نصف صاع من بر،
333

أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير.
فأما بيان من يجب عليه فنقول:
إنما تجب على المسلم، الحر، الغني.
فالاسلام شرط، لان فيها معنى العبادة، ولهذا لا تجوز بدون النية،
ولا تتأدى بفعل الغير، بغير إذنه، أو بإذن الشرع، لكونه نائبا عنه.
وأما الغنى فهو شرط عندنا.
وقال الشافعي: ليس بشرط، لكن القدرة شرط، حتى إن من
ملك زيادة على قوته نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو
تمر، تجب عليه.
والصحيح قولنا، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: لا
صدقة إلا عن ظهر غنى.
وأما الحرية فهي شرط عندنا.
وعند الشافعي ليس بشرط حتى أن العبد عنده تجب عليه صدقة
فطره، ويتحمل عنه المولى، حتى لو لم يؤد المولى عنه، فعليه أن يؤدي
بعد العتاق.
وعندنا يجب على مولاه، إذا كان غنيا، والعبد للخدمة وهذا بناء
على ما ذكرنا أن الغنى شرط عندنا، والغني بالملك، والعبد لا ملك له.
وعند الشافعي ليس بشرط.
وأما العقل والبلوغ: فليسا بشرط الوجوب عند أبي حنيفة وأبي
يوسف.
وعند محمد وزفر: شرط، حتى إن الصبي والمجنون إذا كان لهما
334

نصاب معين وليس للأب مال، فإنه يجب صدقة الفطر عليهما.
عندهما: يؤدي الأب والوصي، ولا ضمان عليهما إذا أديا.
وعند محمد وزفر: لا يجب، لان فيها معنى العبادة.
وهما يقولان: إن فيها معنى العبادة والمؤونة، ولا يمكن الجمع بينهما
في حالة واحدة في حق شخص واحد في حكم واحد، فوجب اعتبار
المؤونة في بعض الأحكام، ومعنى العبادة في البعض، عملا بالدلائل بقدر
الامكان، فقالا بالوجوب اعتبارا بالمؤونة.
وأما بيان من يجب عليه صدقة الفطر بسبب الغير - فنقول:
كل من كان من أهل وجوب صدقة الفطر على نفسه، وله ولاية
كاملة على من كان من جنسه وتجب مؤونته ونفقته، فإنه تجب عليه صدقة
فطره. وإلا فلا، لأنه إذا كان بهذا الصفة كان رأسه بمنزلة رأسه في الذب
والنصرة، فكما وجب عليه صدقة فطر رأسه تجب صدقة فطر ما هو في
معنى رأسه.
إذا ثبت هذا فنقول:
يجب على الأب صدقة فطر أولاده الصغار إذا كان غنيا ولا مال لهم،
لوجود الولاية والمؤونة بطريق الكمال.
وكذا إذا كانوا مجانين لما قلنا.
وإذا كان لهم مال يجب عليهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند
محمد وزفر على الأب الغني على ما مر.
وأما الجد: حال عدم الأب، إذا كان غنيا، هل تجب عليه صدقة
فطر ابن ابنه؟ على جواب ظاهر الرواية لا يجب، لأنه ليس له ولاية
مطلقة، فإنه محجوب بالأب، بمنزلة الاخوة الصغار الفقراء، ولا تجب
335

صدقة فطرهم على الأخ الغني الكبير لما قلنا.
وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه تجب لما قلنا.
فإن كان حيا ولكنه فقير، ولهم جد غني، لا يجب على الجد، في
الروايات كلها، لأنه لا ولاية له حال قيام الأب، وإن كان يجب عليه
المؤونة.
وعند الشافعي يجب.
ولا يجب على الوصي، وإن كان له ولاية، لأنه لا يجب عليه
النفقة.
وأما أولاده الكبار إذا كانوا فقراء زمني فإنه لا يجب عليه صدقة
فطرهم عندنا.
وعند الشافعي: يجب.
وكذلك الأب الفقير: لا يجب على الابن صدقة فطره، وكذلك الزوجة،
خلافا للشافعي، لان عنده تنبني على المؤونة لا غير، وعندنا على
المؤونة والولاية جميعا، ولا ولاية في حق هؤلاء، وإن كان يجب النفقة.
فأما الأب الفقير إذا كان مجنونا، فإنه تجب صدقة فطره على ابنه
لوجود الولاية والمؤونة جميعا.
ولا يجب على الأب صدقة فطر الجنين، لأنه ليس له ولاية كاملة
عليه، لأنه لا تعرف حياته.
وعلى هذا يجب على المولى صدقة فطر عبيده وإمائه إذا كانوا للخدمة.
وكذلك أمهات أولاده ومدبريه، سواء كان عليهم دين أو لم يكن، إذا
كان المولى غنيا، لما قلنا من اجتماع الولاية والمؤونة.
336

فأما المكاتب والمكاتبة والمستسعي فلا يجب عليه صدقة فطرهم، لأنه
لا يجب عليه نفقتهم، ولا تجب عليهم، لأنه لا ملك لهم.
وأما العبد، إذا كان كافرا، فإنه تجب على المولى صدقة فطره
عندنا، خلافا للشافعي، لما قلنا من الولاية والنفقة.
والعبد المشترك بين اثنين لا تجب صدقة فطره على الموليين، لأنه ليس
لكل واحد منهما ولاية كاملة.
فإما إذا كانوا عبيدا بين رجلين: فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف:
لا يجب عليهما صدقة فطرهم.
وعند محمد: إن كانوا بحال لو قسموا أصاب كل واحد منهما عبدا
كاملا، تجب عليه صدقة فطره.
وهذا بناء على أصل أن العبد لا يقسم عند أبي حنيفة قسمة جمع،
فلا يكون لكل واحد منهما عبد كامل، وعند محمد يقسم قسمة جمع،
فيكون لكل واحد منهما عبد كامل من حيث المعنى، وأبو يوسف يرى
القسمة لكن قبل القسمة لم يكن لكل واحد منهما ولاية كاملة.
وأما مقدار الواجب فنقول:
نصف صاع من حنطة، أو صاع من شعير أو تمر، عندنا.
وقال الشافعي: من البر صاع أيضا، وروى حديثا لكنه غريب،
فلا يقبل بمقابلة ما روينا وهو مشهور.
وأما الزبيب فقد ذكر في الجامع الصغير عن أبي حنيفة نصف صاع،
لان الغالب أن قيمته مثل قيمة البر في ديارهم.
وروى الحسن عن أبي حنيفة صاعا، وهو قول أبي يوسف ومحمد، لما
روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر على عهد
337

رسول الله (ص) صاعا من طعام، أو صاعا من زبيب وكان طعامنا
الشعير.
وقد قال أصحابنا إن دقيق الحنطة والشعير وسويقهما مثلهما، لما روي
في الحديث: أدوا مدين من قمح أو دقيق.
وأما الاقط فيعتبر فيه القيمة عندنا، خلافا لمالك.
وما سوى ذلك، فيعتبر قيمته بقيمة الأشياء المنصوص عليها، بأن
أدى الدراهم أو العروض والثمار ونحوها.
ولو أدى بعض المنصوص عليه، وقيمته تبلغ قيمة كله، بأن أدى
ربع صاع من حنطة جيدة مكان النصف، أو نصف صاع من شعير جيد
مكان صاع من شعير، لا يجوز عن الكل، بل يقع عن نفسه وعليه
تكميل الباقي، لان الجودة لا قيمة لها في أموال الربا.
وفي الزكاة لو أدى شاة سمينة مكان شاتين، جاز، لان الجودة فيها
متقومة. فبقدر الشاة الوسط تجزئ عن الشاة، وقيمة الجودة عن
الأخرى.
ثم مقدار الصاع ثمانية أرطال عندنا.
وقال أبو يوسف والشافعي: خمسة أرطال وثلث رطل، لان صاع
أهل المدينة كذلك، وتوارثوه خلفا عن سلف.
لكنا نقول: ما ذكرنا صاع عمر، ومالك من فقهاء المدينة، قال:
إن صاع المدينة أخرجه عبد الملك بن مروان فأما قبله كان ثمانية أرطال
فكان العمل بصاع عمر أولى.
338

ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر الصاع وزنا، وهو ثمانية
أرطال.
وروى ابن رستم عن محمد أنه يعتبر كيلا، حتى لو أدى أربعة
أمناء، من غير كيل، لا يجوز.
وأما وقت الوجوب
فعند أصحابنا وقت الفجر الثاني من يوم الفطر.
وعلى قول الشافعي ليلة الفطر.
وفائدة الخلاف أن من ولد له ولد قبل طلوع الفجر، تجب عليه
صدقة فطره، ومن ولد له بعد ذلك لا تجب، ولو أسلم قبله تجب عليه،
وبعده لا وكذلك الفقير إذا أيسر قبله تجب ولو افتقر الغني قبله لا تجب.
وعند الشافعي على عكس هذا.
والصحيح قولنا، لأنه تضاف الصدقة إلى الفطر، وهو يوم العيد.
ولو عجل صدقة الفطر على يوم الفطر: ذكر الكرخي أنه إذا عجل
بيوم أو يومين جاز، ولم يذكر أنه لو عجل بأكثر من ذلك هل يجوز؟.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز التعجيل بسنة وسنتين، وعن
خلف بن أيوب أنه يجوز التعجيل بشهر لا غير.
وعن الحسن أنه قال: لا يجوز التعجيل، ولا يجوز دون يوم الفطر،
ولو لم يؤد يوم الفطر تسقط عنه.
والصحيح رواية الحسن بن زياد، لان سبب الوجوب هو رأس
يمونه، لولايته عليه، والوقت شرط الوجوب، والتعجيل بعد سبب
الوجوب جائز، كما في الزكاة.
339

وأما وقت الأداء
فهو يوم الفطر من أوله إلى آخره، ثم بعده يسقط الأداء ويجب
القضاء عند بعض أصحابنا.
وعند بعضهم: وهو الأصح، أنها تجب وجوبا موسعا، لكن المستحب أن
يؤدي قبل الخروج إلى المصلى، حتى لا يحتاج الفقير إلى الكسب
والسؤال يوم العيد، فيتمكن من أداء صلاة العيد فارغ القلب عن
القوت، على ما قال عليه السلام: اغنوهم عن المسألة في مثل هذا
اليوم.
وأما مكان الأداء
روي عن محمد أنه قال: زكاة المال من حيث المال، وصدقة الفطر عن
نفسه وعبيده من حيث هو.
وروي عن أبي يوسف أنه يؤدي عن نفسه من حيث هو، وعن عبيدة
من حيث هم.
والأول أصح، لان صدقة الفطر لا تعلق لها بالمال، حتى إذا
هلك المال، بعد الوجوب، لا تسقط الفطرة بخلاف الزكاة، والله
أعلم.
340

كتاب
الصوم
اعلم أن الصوم نوعان: لغوي وشرعي:
فاللغوي! هو الامساك عن أي شئ كان، من الكلام والطعام
والشراب والجماع والعلف وغيرها: قال الله تعالى: * (إني نذرت للرحمن
صوما) * أي صمتا، وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
والصوم الشرعي هو الامساك عن الأكل والشرب والجماع، قال الله
تعالى: [* (فالآن باشروهن وابتغوا) * إلى أن قال: * (ثم أتموا الصيام إلى
الليل) * أمسكوا عن هذه الأشياء.
ثم الصوم الشرعي أربعة عشر نوعا:
ثمانية منها مذكورة في كتاب الله تعالى: أربعة منها متتابعة وهي:
صوم رمضان، وصوم كفارة الظهار، وصوم كفارة القتل، وصوم كفارة
اليمين، وأربعة منها صاحبها بالخيار: إن شاء تابع وإن شاء فرق وهي:
قضاء صوم رمضان، وصوم المتعة، وصوم جزاء الصيد وصوم كفارة
الحلق.
وستة مذكورة في السنة وهي: صوم كفارة الفطر في شهر رمضان
341

عمدا، وصوم النذر، وصوم التطوع، والصوم الواجب باليمين بقول
الرجل: والله لأصومن شهرا وصوم الاعتكاف، وصوم قضاء التطوع
بالافطار.
وهذا قول عامة العلماء.
وقد خالف الشافعي في هذه الجملة في ثلاثة مواضع:
أحدها: قال: إن صوم كفارة اليمين ليس بمتتابع.
والثاني: قال: إن صوم الاعتكاف ليس بواجب.
والثالث: قال: لا يجب قضاء صوم التطوع.
ثم للصوم أركان وشروط وسنن وآداب.
فنبدأ بالشروط فنقول:
للصوم شروط بعضها للوجوب، وبعضها شرط صحة الأداء.
فمنها - الوقت:
وهو شرط الوجوب في حق الصوم الواجب، وشرط الأداء في حق
الصيامات كلها. وهو اليوم من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب
الشمس: قال الله تعالى: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) *.
ثم الصوم نوعان: فرض وتطوع.
فوقت التطوع هو الأيام كلها، لكن الصوم في بعض الأيام مكروه،
وفي بعضها مستحب، وفي بعضها سنة، حتى لو صام في الأيام المنهي
عنها، فإنه يقع جائزا، حتى لا يجب عليه القضاء.
أما الصوم المكروه فأنواع:
342

منها: صوم ستة أيام في كل سنة: صوم يوم النحر، وصوم أيام
التشريق، ويوم الفطر، ويوم الشك بنية رمضان، أو بنية مترددة بأن
نوى الصوم عن رمضان إن كان من رمضان وإن لم يكن فعن التطوع،
وهذا مكروه: قال النبي عليه السلام: من صام يوم الشك فقد عصى
أبا القاسم، وقد قام الدليل على أن الصوم فيه، عن واجب آخر أو عن
التطوع مطلقا، لا يكره، ثبت أن المكروه ما قلنا. وإنما لا يكره عن
مطلق التطوع على وجه لا يعلم العوام ذلك، كيلا يعتادوا الصوم فيه،
فيظنه الجهال زيادة على رمضان.
وكذا صوم الصمت مكروه في الأوقات كلها، بأن يصوم ويمسك عن
الكلام والطعام جميعا، لان هذا تشبه بالمجوس، فإنهم يفعلون هكذا.
وكذا صوم يوم السبت مفردا: مكروه، لان هذا تشبه باليهود.
وكذا صوم يوم عاشوراء مفردا: مكروه، عند بعض أصحابنا، لأنه
تشبه باليهود.
وأما صوم يوم عرفة في حق الحاج: فإن كان يضعفه عن الوقوف
بعرفة ويخل بالدعوات، فإن المستحب له أن يترك الصوم، لان صوم يوم
عرفة يوجد في غير هذه السنة، فأما الوقوف بعرفة فيكون في حق عامة
الناس في سنة واحدة، وأما إذا كان لا يخالف الضعف فلا بأس به.
وأما في حق غير الحاج، فهو مستحب، لان له فضيلة على عامة
الأيام.
والصوم قبل رمضان بيوم ويمين مكروه أي صوم كان، لقوله عليه
السلام: لا تتقدموا الشهر بصوم يوم ولا بصوم يومين إلا أن يوافق
صوما كان يصومه أحدكم، وإنما كره خوفا من أن يظن أنه زيادة على
صوم رمضان إذا اعتادوا ذلك، ولهذا قال أبو يوسف إنه يكره أن يوصل
343

برمضان صوم شوال ستة أيام تطوعا، وروي عن مالك أنه قال: يكره
ذلك، وما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه يصوم ذلك، ولم يبلغنا من
السلف، وكانوا يكرهون ذلك، لما ذكرنا.
وكذلك يكره صوم الوصال، وهو أن يصام في كل يوم، دون ليلته،
وهو صوم الدهر الذي ورد النهي عنه، لقوله عليه السلام: لا صيام
لمن صام الدهر. ومعنى الكراهة أنه يضعف عن أداء العبادات وعن
الكسب الذي يحتاج إليه في الجملة، ولهذا أشار النبي عليه السلام لما نهى
عن صوم الوصال فقيل له: إنك تواصل فقال: إني لست كأحدكم:
إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.
وأما صوم يوم الاثنين وحده، وكذا صوم يوم الخميس وحده، وكذا
صوم يوم الجمعة وحده، فإنه لا يكره، وقال بعضهم: يكره، لأنه
خص هذه الأيام من بين سائرها.
وعامة العلماء قالوا: بل هو مستحب، لان لهذه الأيام فضيلة،
فكان تعظيمها بالصوم مستحبا، وإنما يكره إذا كان فيه تشبه بغير أهل
القبلة، ولم يوجد في هذه الصيامات.
وأما صوم وإفطار يوم: فهو مستحب على ما روي أنه صوم داود عليه
السلام: كان يفطر يوما ويصوم يوما.
وصوم الأيام البيض مستحب وسنة، لكثرة الأحاديث فيه.
وأما صوم الفرض فنوعان عين ودين
فالعين هو صوم رمضان.
وصوم الدين هو سائر الصيامات من: قضاء رمضان، والكفارات،
والنذور المطلقة، ونحوها، فسائر الأيام وقت لها، سوى خمسة أيام: يوم
344

النحر، وأيام التشريق، ويوم الفطر، لان صوم هذه الأيام ناقص
والواجب عليه صوم كامل، فلا يتأدى بالناقص.
وصوم المتعة لا يجوز عندنا في هذه الأيام.
وعند الشافعي يجوز في أيام التشريق، دون يوم النحر.
والنذر بالصوم في هذه الأيام جائز عندنا، خلافا لزفر، والشافعي،
لأنه وجب ناقصا فيجوز أن يتأدى ناقصا.
ولو شرع في الصوم في هذه الأيام: ففي ظاهر الرواية لا يلزم
بالشروع.
وروي عن أبي يوسف ومحمد أنه يلزم.
والصحيح ظاهر الرواية، لان صاحب الحق، وهو الله تعالى أمره
بالافطار بعد الشروع، ومن أتلف حق غيره بإذنه لا يجب عليه الضمان.
وفي الشروع في الأوقات المكروهة في الصلاة: عن أبي حنيفة
روايتان، وأشهرهما أنه يلزمه القضاء بخلاف الصوم، والفرق معروف.
وأما صوم رمضان فوقته رمضان.
وإنما يعرف برؤية الهلال إن كانت السماء مصحية.
وإن كانت متغيمة فإنه يكمل شعبان ثلاثين يوما ثم يصوم عن
رمضان، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: صوموا لرؤيته،
وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا.
فإذا كانت السماء مصحية ورأي الناس الهلال، فإنه يجب عليهم
الصوم.
وأما إذا رأى واحد وشهد عند القاضي، فإن القاضي لا يقبل شهادة
345

الواحد والاثنين ما لم يدخل في حد التواتر، بأن شهد جماعة كبيرة من محال
مختلفة.
هذا إذا كان الشهود من المصر.
وإن كانوا من خارج المصر: ذكر الطحاوي وقال: يقبل خبر
الواحد، لان المطالع مختلفة في حق الظهور، لصفاء الهواء في خارج
المصر.
وفي ظاهر الرواية لم يفصل لان المطالع لا تختلف إلا عند المسافة
البعيدة الفاحشة.
وإن كانت السماء متغيمة فإنه يقبل خبر الواحدة العدل، ذكرا كان أو
أنثى، حرا كان أو عبدا، محدودا في القذف أو لا بعد ما تاب وصار عدلا
لان هذا من باب الاخبار دون الشهادة يلزم الشاهد الصوم، فيتعدى
إلى غيره لكنه من باب الدين فيشترط فيه العدالة.
ولو رد القاضي شهادة الواحد لتهمة الفسق إذا كانت السماء متغيمة،
أو لتفرده إذا كانت السماء مصحية، وإن كان عدلا، فإنه يجب عليه أن
يصوم ذلك اليوم.
ولو أفطر بالجماع لا يلزمه الكفارة عندنا، خلافا للشافعي، وهي
مسألة معروفة.
وأما هلال شوال، فلا يقبل إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين،
لان هذا من باب الشهادة لما فيه من نفع للشاهد، وهو سقوط الصوم
عنه.
وأما هلال ذي الحجة فقد قالوا: يشترط شهادة رجلين، لأنه يتعلق
به حكم شرعي، وهو وجوب الأضحية. والصحيح أنه يقبل فيه شهادة
الواحد، لان هذا من باب الخبر، فإنه يلزم المخبر ثم يتعدى إلى غيره.
346

وهذا إذا كانت السماء متغيمة.
فإن كانت مصحية: فلا يقبل إلا التواتر، كما ذكرنا في رمضان.
ولو رأوا الهلال، قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المستقبلة عند أبي
حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: إذا كان قبل الزوال أو بعده إلى وقت المصر، فهو
لليلة الماضية، أما إذا كان بعد العصر، فهو لليلة المستقبلة بلا خلاف.
وفيه خلاف بين الصحابة: فقد روي عن عمرو ابن مسعود وأنس
مثل قولهما، وروي عن عمر، في رواية أخرى، وهو قول علي وعائشة
مثل قول أبي يوسف.
ومن الشروط: النية:
وهي شرط صحة الأداء، لأن الصوم عبادة، فلا تصح بدونه النية،
ثم الكلام في: كيفية النية، وفي وقت النية.
أما كيفية النية: فينظر:
إن كان الصوم عينا يكفيه نية مطلق الصوم، حتى لو صام رمضان
بنية مطلق الصوم يقع على رمضان.
وكذا في صوم التطوع: إذا صام مطلقا خارج رمضان، يقع عن
النفل، لان الوقت متعين للنفل شرعا.
وكذا في النذر إذا كان الوقت معينا، بأن نذر صوم شهر رجب
ونحوه، إذا صام مطلقا فيه، يقع عن المنذور.
وهذا عندنا.
وعند الشافعي: صوم الفرض والواجب لا يصح بدون نية الفرض
والواجب، وأما التطوع فيصح بمطلق النية.
347

والصحيح قولنا، لان مطلق النية كاف لصيرورة العمل لله تعالى،
وإنما يعتبر الوصف لتعيين الوقت لذلك الصوم، فإذا كان الوقت متعينا،
فلا حاجة إلى التعيين.
وأما إذا صام بنية التطوع في رمضان أو في النذر الذي تعين وقته،
فإنه يقع عن الفرض وتلغو نية التطوع عندنا، خلافا للشافعي، لان
الوقت قابل لأصل الصوم، غير قابل لوصفه، فبطلت نية الوصف،
وتعتبر نية الأصل، وهي كافية لصيرورة العمل لله تعالى.
ولو صام بنية واجب آخر من القضاء والنذور والكفارات في
رمضان، يقع عن رمضان أيضا عندنا، خلافا له. ولو كان ذلك في
النذر المعين يقع عما نوى، لان صوم رمضان تعين بتعيين الشرع، فظهر
التعيين مطلقا، لكمال الولاية، فظهر في حق نسخ سائر الصيامات،
وأما في النذر فقد تعين بولاية قاصرة فيظهر تعيينه في حقه، وهو صوم
التطوع، ولا يظهر في الواجبات، التي هي حق الله تعالى في هذه الأوقات
فبقيت الأوقات محلا لها.
هذا الذي ذكرنا في حق المقيم.
فأما في حق المسافر: فإن صام مطلقا يقع عن رمضان. وإن صام
بنية واجب آخر، يقع عما نوى عند أبي حنيفة وعندهما يقع عن رمضان،
وإن صام بنية التطوع فعن أبي حنيفة روايتان.
وأما المريض فإذا صام مطلقا يقع عن رمضان، وإذا صام بنية
التطوع: قال مشايخنا بأنه يقع عن الفرض، بخلاف المسافر، لأنه إذا
قدر على الصوم صار كالصحيح، وذكر الكرخي ههنا وسوى بين المريض
والمسافر.
وكذا روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقع عن التطوع.
348

وأما صوم الدين: من القضاء والنذور المطلقة والكفارات، إذا نوى
خارج رمضان مطلقا ولم ينو صوم القضاء أو الكفارة، فإنه لا يقع عنه،
لأن خارج رمضان متعين للنفل عند بعض مشايخنا، وعند بعضهم هو
وقت الصيامات كلها على الابهام، وإنما يتعين بالتعيين، فكانت نية
الوصف لتعيين الوقت لا لتصير عبادة.
وأما وقت النية: فالأفضل أن ينوي من الليل أو مقارنا لطلوع الفجر،
في الصيامات كلها.
فأما إذا نوى بعد طلوع الفجر: فإن كان الصوم دينا فلا يجوز
بالاجماع، وإن كان الصوم عينا فيجوز عندنا، سواء كان فرضا أو نذرا أو
تطوعا.
وقال الشافعي: لا يجوز إلا في التطوع.
وقال مالك: لا يجوز في التطوع أيضا.
ولو صام بنية بعد الزوال في التطوع لا يجوز عندنا خلافا للشافعي
وبعض أصحابه قالوا لا يجوز.
والصحيح قولنا، لأنه ما وجد الامساك لله تعالى، في وقت الغداء،
ووقت الغداء من وقت طلوع الفجر إلى وقت الزوال يختلف باختلاف
أحوال الناس، والصوم هو الامساك عن الغداء وتأخير العشاء إلى الليل،
وبعد الزوال لا يجوز، لأنه لم يوجد الامساك عن الغداء لله تعالى.
فأما في صوم الدين فلا يجوز، لأنه إذا لم ينو من الليل، تعين اليوم
وقتا للتطوع شرعا فلا يملك تغييره وفي الليل لم يتعين فصح منه تعيين
المحتلم بالنية، فهو الفرق بينهما.
ومن الشروط: الطهارة عن الحيض والنفاس
وهو شرط صحة الأداء، لا شرط الوجوب، فإن صوم رمضان يجب
349

على الحائض والنفساء، حتى يجب القضاء عليهما خارج رمضان، لكن لا
يصح الأداء، لأن الطهارة عن الحيض والنفاس شرط صحة الصوم، كما
أن الطهارة عن جميع الاحداث شرط صحة الصلاة.
عرفنا ذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الاسلام فهو شرط وجوب الصوم وسائر العبادات عندنا، خلافا
للشافعي.
وهو شرط صحة الأداء، بلا خلاف.
ولقب المسألة أن الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا،
خلافا له.
وأما العقل فليس بشرط الوجوب، ولا بشرط الأداء، حتى قلنا إن
صوم رمضان يجب على المجنون فإنه إذا جن في بعض الشهر ثم أفاق
يلزمه القضاء عندنا، خلافا للشافعي.
ولو استوعب الشهر ثم أفاق، لا يلزمه القضاء، لان في وجوب
القضاء عليه حرجا، لان الجنون الطويل قلما يزول، فيضاعف عليه
القضاء فيحرج.
وعلى هذا قلنا إن الاغماء. قل أو كثر، لا يمنع وجوب القضاء،
وكذا المرض، لان الاستغراق في الاغماء نادر. وكذا قلنا إن الحيض لا يمنع
وجوب قضاء الصوم، ويمنع وجوب قضاء الصلاة، لأنه ليس في وجوب
قضاء صوم عشرة أيام في سنة حرج، وفي قضاء عشرة أيام كل يوم خمس
صلوات في شهر واحد حرج، فافترقا.
ولو كان مفيقا فنوى الصوم من الليل ثم جن، فإنه يجوز صومه ذلك
اليوم، لأنه وجد منه النية من الليل، فصار كوجودها في النهار.
350

ولا يجوز صومه اليوم الثاني وإن أمسك، لأنه لم يوجد منه النية، لان
المجنون ليس من أهل النية.
فأما البلوغ فشرط الوجوب، وليس بشرط الأداء.
وعلى هذا لا يجب الصوم على الصبي، لان في وجوب القضاء عليه،
ومدة الصبا مدة طويلة، إيقاعه في الحرج.
وإذا كان عاقلا يصح منه الصوم، لأنه من أهل النية والاختيار،
حتى صح منه الاسلام، لكن لا يجب عليه الصوم، لان الشرع أسقط
حقوقه عنه، نظرا له لقصور عقله.
وأما ركن الصوم
فهو الامساك عن الأكل والشرب والجماع، قال الله تعالى: * (فالآن
باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى ؤ يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) *
أباح هذه الجملة في الليالي ثم أمر بالامساك عن هذه الجملة في النهار:
فمتى وجد الركن مع وجود ما ذكرنا من الشرائط، من الأهلية والوقت
وغير ذلك يكون صوما شرعيا، فيجب عليه عبادة الله تعالى.
إذا ثبت هذا فنقول:
من شرع في الصوم في وقته ونوى الامساك لله تعالى، انعقد فعله
صوما شرعيا، فيجب عليه الاتمام، ويحرم عليه الافطار، سواء كان في
صوم الفرض أو في التطوع، لأنه إبطال العمل لله تعالى، وأنه منهي عنه
لقوله تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) *.
351

وعند الشافعي: في صوم التطوع لا يجب عليه الاتمام، لأنه غير
مقدر عنده فيكون ما أدى عبادة بنفسه.
فأما إذا شرع في الصوم، على ظن أنه عليه، ثم تبين أنه ليس
عليه، فالأفضل له أن يمضي فيه ولا يفطر، ولو أفطر لا قضاء عليه،
وهذا عندنا.
وعلى قول زفر يجب عليه المضي، والقضاء إذا أفسده.
وفي الحج يلزمه بالشروع تطوعا سواء كان معلوما أو مظنونا، والفرق
بينهما أن الظن في باب الحج نادر وفي باب الصوم والصلاة ليس بنادر،
فكان في إيجاب المعنى والقضاء حرج لكثرة وجود ههنا، بخلاف الحج.
وإذا ثبت أن ركن الصوم ما ذكرنا، ففواته وفساده بوجود ضده،
وهو الأكل والشرب والجماع، لأنه لا بقاء للشئ مع ضده.
وهذا هو القياس المحض، ولهذا إن من أكل أو شرب أو جامع ناسيا
لصومه فإنه يفسد صومه قياسا، وهو قول مالك.
وعامة العلماء قالوا: لا يفسد، استحسانا، للأثر المعروف في باب
الناس: تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك.
ولهذا قال أبو حنيفة: لولا قول الناس لقلت يقضي، ذكر ذلك في
الجامع الصغير: أي لولا قول الناس إنه خالف الأثر، لقلت يقضي.
وبعض السلف فرق بين الأكل والشرب وبين الجماع ناسيا، وقال:
يفسد صومه في الجماع، لان الحديث ورد في الأكل والشرب، دون
الجماع.
والصحيح أنه لا فرق بينهما، لان الحديث معلول بمعنى يقتضي
التسوية بينهما، وهو أنه فعل سماوي غير مضاف، إليه، حيث قال:
352

فإنما أطعمك الله وسقاك فكان وجوده كعدمه.
ولو دخل الذباب حلقه وهو ذاكر لصومه، لا يفسد، لأنه مغلوب
فيه، فيكون بمعنى الناسي.
وكذلك لو نظر إلى فرج امرأة شهوة فأمنى، أو تفكر، فأمنى، لا
يفسد صومه، لأنه حصل الانزال لا بصنعه، فلا يكون شبيه الجماع، لا
صورة ولا معنى.
وكذلك لو دخل الغبار أو دخل الدخان أو الرائحة في حلقه، لأنه لا
يمكنه الامتناع عنه، فيكون في معنى الناس.
وكذلك لو بقي بلل بعد المضمضة وابتلعه مع
البزاق، أو ابتلع البزاق الذي اجتمع في فيه، لا يفسد صومه، لما قلنا.
ولو بقي بين أسنانه شئ فابتلعه: ذكر في الجامع الصغير وقال: لا
يفسد صومه ولم يقدره بشئ.
وعن أبي يوسف أن الصائم إذا كان بين أسنانه لحم، فابتلعه
متعمدا، فعليه القضاء، دون الكفارة.
وعن بن أبي مالك ما هو توفيق بين الروايتين، قال: إن كان مقدار
الحمصة أو أكثر فإنه يفسد صومه. ولو أكله متعمدا فعليه القضاء وليس
عليه الكفارة، وإن كان أقل من ذلك لا يفسد صومه، لأنه لا يمكنه
الاحتراز عنه كالريق.
وقال زفر: يلزمه الكفارة، لأنه من جنس ما يتعلق به الكفارة، إلا
أنه متغير فصار كاللحم المنتن.
والصحيح قولنا إنه لا كفارة عليه، لأنه غير مقصود بالاكل فصار
353

شبهة، كما إذا أكل الطين.
ولو أكره على الافطار، فأكل، يفسد صومه، لأنه وجد ما يضاده وهذا
ليس بنظير الناسي، لان الاكراه على الافطار ليس بغالب فلا يكون في
وجوب القضاء حرج.
فأما إذا أوجد في حلقة، وهو مكروه ذاكر للصوم، يفسد صومه،
عندنا، وعند الشافعي لا يفسد صومه، لأنه أعذر من الناسي.
ولكنا نقول إن هذا نادر، وليس بغالب.
وكذلك الصائم: إذا فتح فاه ورفع رأسه إلى السماء فوقع قطرة من
المطر في حلقه، يفسد صومه، لأنه نادر.
وكذلك إذا وجد في حلق النائم، يفسد صومه، لأنه نادر.
وكذلك لو جومعت النائمة أو المجنون، يفسد صومها، بخلاف
الناسية والناسي، لان هذا ليس في معناهما، لأنه لا يكثر وجوده
خصوصا في حالة الصوم.
ولو تمضمض فوصل الماء إلى حلقه: فإن لم يكن ذاكرا للصوم، لا
يفسد صومه، لأنه في معنى الناسي، وإن كان ذاكرا لصومه يفسد
صومه عندنا.
وعند الشافعي لا يفسد لأنه خاطئ، والخاطئ معذور،
كالناسي.
ونحن نقول بأنه ليس كالناسي، لأنه يمكنه أن لا يبالغ في المضمضة
فلا يعذر.
ثم اعلم أن فساد الصوم يتعلق به أحكام من وجوب القضاء، ووجوب الكفارة
ووجوب إمساك بقية اليوم، ونحوها.
354

أما وجوب القضاء فيتعلق بمطلق الافساد، سواء كان بعذر أو بغير
عذر، وجد الافساد من حيث الصورة، أو من حيث المعنى، فيه شبهة
الإباحة أو حرام من كل وجه، وذلك بوصول شئ من الخارج إلى
الجوف.
بيانه:
أن من أكل حصاة أو نواة أو ترابا يفسد صومه، وعليه القضاء،
لوجود الاكل صورة، لا من حيث المعنى، فإنه لم يحصل به قوام البدن
ودفع الجوع والعطش.
وكذلك لو طعن، برمح ووقع الرمح فيه، يفسد صومه لدخول
شئ من الخارج إلى الجوف، فوجد الاكل صورة ولا معنى.
فأما إذا طعن برمح ثم أخرجه من ساعته، لا يفسد صومه، لأنه لم
يستقر في محل الطعام.
ولهذا قالوا: إن من ابتلع لحما مربوطا على خيط، ثم انتزع من
ساعته، لا يفسد صومه، لأنه لم يستقر في محله، حتى يعمل عمله في
دفع الجوع.
ولو وصل إلى جوف الرأس بالأقطار في الاذن أو السعوط، أو إلى
البطن بالاحتقان يفسد صومه، لأنه يصل إلى جوفه بالحقنة، وكذا
بالسعوط والأقطار في الاذن، لان جوف الرأس له منفذ إلى البطن.
وأما في الأقطار من الإحليل: فلا يفسد الصوم عند أبي حنيفة،
وعندهما يفسد، وهذا ليس بخلاف من حيث الحقيقة، لأنه لو وصل إلى
الجوف يفسد بالاجماع، ولو لم يصل لا يفسد بالاجماع، إلا أنهما أخذا
بالظاهر: فإن البول يخرج منه فيكون له منفذ، وأبو حنيفة يقول: ليس
له منفذ، وإنما البول يترشح منه كما يترشح الماء من الكوز الجديد والبول
355

يدفع ما أقطر في الإحليل من الترشح إلى الجوف.
وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما.
وهو الصحيح.
وأما الجائفة والأمة إذا داووهما: فإن كان الدواء يابسا فلا يفسد،
لأنه لا يصل إلى الجوف.
وأما إذا كان رطبا: فيفسد عند أبي حنيفة، وعندهما لا يفسد.
فأبو حنيفة اعتبر ظاهر الوصول بوصول المغذي إلى الجوف حقيقة.
وهما يعتبران الوصول بالمخارق الأصلي، لا غير ويقولان: في المخارق
الأصلية يتيقن الوصول، فأما في المخارق العارض فيحتمل الوصول إلى
الجوف، ويحتمل الوصول إلى موضع آخر، لا إلى محل الغذاء والدواء،
فلا يفسد الصوم مع الشك والاحتمال، وأبو حنيفة يقول: الوصول إلى
الجوف ثابت ظاهرا، فكفى لوجوب القضاء احتياطا.
وعلى هذا: إذا ذرعه القئ بغير فعله، لا يفسد صومه، وإن كان
ملء الفم، لقوله عليه السلام: ثلاث لا يفطرن الصائم: القئ،
والحجامة، والاحتلام.
وإن عاد شئ من القئ إلى جوفه.
فإن كان أقل من ملء الفم: لا يفسد صومه، بالاجماع.
وإن كان ملء الفم: ذكر القدوري أن على قول أبي حنيفة ومحمد
يفسد صومه، وعلى قول أبي يوسف لا يفسد.
وقال بعض مشايخنا في هذا الفصل: على قول أبي يوسف لا يفسد.
356

وعلى قول محمد لا يفسد، ولم يذكر قول أبي حنيفة.
وما ذكره القدوري أثبت.
فأما إذا أعاده: فإن كان ملء الفم، يفسد صومه بالاجماع.
فأما إذا كان أقل من ملء الفم: فعن أبي حنيفة وأبي يوسف
روايتان.
وقال محمد: ينقض صومه.
فأما إذا استقاء عمدا وأخرج بصنعه: فإن كان ملء الفم ينتقض
صومه بالاجماع.
وإن كان أقل من ملء الفم: ذكر في ظاهر الرواية وقال إذا تقيأ
عمدا يفسد صومه، ولم يفصل بين القليل والكثير.
وذكر الكرخي ههنا أنه إذا تقيأ عمدا، وهو أقل من ملء الفم،
فطره وهو قول محمد.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن كان ملء الفم يفطره وإن كان ما
دونه لا يفطره.
وهكذا روي عن أبي يوسف.
فأما إذا عاد أو أعاد: فعلى قول محمد لا يجئ هذا التفصيل، لأن الصوم
عنده فسد بنفس الاستقاء.
وعلى قول أبي يوسف: إن عاد لا يفسد، وفي الإعادة عنه روايتان.
وهذا كله إذا كان ذاكرا للصوم.
وإن لم يكن ذاكرا: لا يفسد صومه، كالناسي.
ولو جامع امرأته فيما دون الفرج، فأنزل: يفسد صومه، لوجود
357

الجماع من حيث المعنى، دون الصورة.
ولو باشرها وأنزل، يفسد أيضا، لوجود اقتضاء الشهوة، بفعله.
وكذلك لو استمنى بالكف، فأنزل، فإنه يفسد لأنه اقتضى
شهوته، بفعله.
ولو جامع البهيمة فأنزل، يفسد صومه، ولا يلزمه الكفارة، لأنه
وجد الجماع من حيث الصورة والمعنى، وعلى وجه القصور لسعة المحل،
فلا يكون نظيرا للجماع في قبل المرأة.
ولو أولج في البهيم ولم ينزل لا يفسد، بخلاف الايلاج في
الآدمي، وقيل يفسد كما في الايلاج في الآدمي.
وكذلك الافطار إذا كان بعذر: يوجب القضاء.
والاعذار التي تبيح الافطار للصائم ستة: السفر، والمرض الذي
يزداد بالصوم أو يقضي إلى الهلاك، وحبل المرأة وإرضاعها، إذا أضر بها
أو بولدها، والعطاش الشديد، والجوع الذي يخاف منه الهلاك. والشيخ
الفاني إذا كان لا يقدر على الصوم.
وأصله قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو على ؤ سفر فعدة من
أيام أخر) *.
ثم السفر المبيح للفطر هو السفر المبيح للقصر، وهو مسيرة ثلاثة أيام
ولياليها سير الإبل ومشي الاقدام.
ويستوي الجواب بين أن يسافر قبل رمضان وبين أن يسافر بعد دخول
رمضان.
358

وروي عن علي وعبد الله بن عباس أنهما كانا لا يبيحان الفطر إذا
سافر بعدما أهل، في الحضر، هلال رمضان.
والصحيح قول عامة الصحابة وعامة العلماء، لان النص مطلق،
وهو قوله تعالى: * (أو على ؤ سفر) *، وكذلك الداعي إلى الرخصة،
وهو المشقة، عام شامل للحالين جميعا.
ولكن الصوم في رمضان جائز في السفر عند عامة العلماء، وهو
مختلف بين الصحابة: عند بعضهم يجوز، وعند بعضهم لا يجوز،
والاجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم.
واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الافطار:
فعندنا الصوم أفضل، لأنه عزيمة، والافطار رخصة إذا لم يلحقه
مشقة.
وعند الشافعي الفطر أفضل، لأنه عزيمة والصوم رخصة عنده.
وروي عن حذيفة بن اليمان وعروة بن الزبير وعائشة رضي الله عنهم
مثل مذهبنا. وعن ابن عباس مثل مذهبه.
والصحيح مذهبنا لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: من
كانت له حمولة يأوي إلى شبع، فليصم رمضان، حيث أدركه.
ومن أفطر لشئ من العذر ثم زال العذر، فعليه القضاء بعدد
الأيام التي يزول عنه العذر فيها. وليس عليه قضاء ما لم يزل العذر عنه
فيها، حتى إن المسافر إذا مات في السفر، والمريض قبل البرء، لا يجب
عليهما القضاء، لان العاجز لا يكلف، وإن أدركا بعدد ما فاتهما يلزمهما
القضاء، وإذا ماتا قبل القضاء يجب عليهما الفدية.
والفدية أن يطعم لكل يوم مسكينا، بقدر ما يجب في صدقة الفطر.
359

لكن إن أوصى يؤدي الوصي من ثلث ماله، وإن لم يوص وتبرع الورثة
جاز، وإن لم يتبرعوا لا يلزمهم الأداء، بل يسقط في حكم الدنيا.
وهذا عندنا، خلافا للشافعي، لما ذكرنا من الزكاة: إذا مات من
عليه الزكاة من غير وصية بالأداء.
وأما إذا صح المريض أياما ثم مات يلزمه القضاء، بعدد ما صح، ولا
يلزمه قضاء جميع ما فاته في قول أصحابنا جميعا.
وذكر الطحاوي هذه المسألة على الاختلاف، فقال: عند أبي حنيفة
وأبي يوسف يلزمه قضاء الجميع إذا صح يوما واحدا. وقال محمد: يلزمه
بقدر ما أدرك.
وهذا غلط، وإنما نقل الطحاوي جواب مسألة النذر وترك جواب
هذه المسألة وتلك المسألة أن المريض إذا قال: لله علي أن أصوم
شهرا، فإن مات قبل أن يصح لم يلزمه شئ، وإن صح يوما واحد لزم
أن يوصي بالاطعام لجميع الشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد
لا يلزمه إلا مقدار ما صح، فمحمد قاس إيجاب العبد بإيجاب الله تعالى
وفي إيجاب الله تعالى لا يلزمه لا بقدر ما صح، فكذا في النذر. وهما فرقا
بينهما، وبين الامرين فرق: ألا ترى أن من قال: لله علي أن أحج ألف
حجة يلزمه، وإن لم يكن في وسعه عادة، والله تعالى ما أوجب إلا حجة
واحدة.
وأما الكلام في وجوب الكفارة: فإنها تتعلق بالافطار الكامل صورة
ومعنى، في رمضان، مع وجود صفة العمدية، وكونه حراما محضا ليس
فيه شبهة الإباحة بأن أفطر متعمدا، ولا يباح له الافطار بعذر، ولا له
شبهة الإباحة.
بيان ذلك:
360

إذا جامع الصحيح، المقيم، عمدا في شهر رمضان، فإنه يلزمه
الكفارة. بحديث الاعرابي: أنه قال: هلكت وأهلكت فقال: رسول
الله (ص): ماذا صنعت؟ فقال: واقعت امرأتي في شهر رمضان وأنا
صائم فقال له عليه السلام: أعتق رقبة.
وأما المرأة التي تجامع يلزمها الكفارة عندنا.
وللشافعي قولان: في قول: لا يلزمها الكفارة، لان النص ورد في
الرجل دون المرأة. وفي قول: تجب، ويتحملها الرجل، لأنه وجب
عليها بسبب فعله.
والصحيح قولنا، لان الحكم تعلق بالجماع الحرام المفسد للصوم،
وقد وجد منها، ولهذا في باب الزنى يجب على كل واحد منهما الحد،
لاستوائهما في الزنى، فكذا هذا.
وأما في الأكل والشرب عمدا: فتجب الكفارة عندنا.
وعند الشافعي: لا تجب لان النص ورد في الجماع بخلاف القياس فلا
يقاس عليه غيره.
وقلنا إنها تجب معقول المعنى، وهو تكفير جناية إفساد الصوم، من
كل وجه، وهذا المعنى موجود في الأكل والشرب، لأن الصوم هو
الامساك عن الاكل والجماع فكان الافساد بأحدهما نظير الافساد بالآخر،
وإذا استويا في الافساد، فاستويا في الاثم، فيجب أن يستويا في وجوب
الرافع للإثم.
ولو أولج، ولم ينزل، تجب الكفارة، لان الايلاج هو الجماع، فأما
الانزال حالة الفراغ فلا عبرة به.
ولو أنزل فيما دون الفرج، لا يجب الكفارة، لأنه وجد الجماع معنى،
لا صورة، وفي المعنى قصور، فكان دون الجماع في الجناية.
361

ولو جامع البهيمة وأنزل: لا تجب الكفارة، لأنه قاصر من حيث
المعنى، لسعة المحل ونحوها.
وأما إذا جامع في الموضع المكروه عمدا: فعلى قول أبي يوسف ومحمد
تجب الكفارة، لأنه ملحق بالزنى عندهما في حق وجوب الحد، ففي حق
وجوب الكفارة أولى.
وعن أبي حنيفة روايتان: في رواية الحسن عنه أنه لا يجب. وفي
رواية أبي يوسف عنه أن عليه الكفارة والغسل، أنزل أو لم ينزل.
ولو جامع في شهر رمضان مرارا: في ظاهر الرواية تلزمه كفارة
واحدة، ما لم يكفر للأول. ولو كفر ثم جامع ثانيا، يلزمه كفارة
أخرى.
وذكر في الكيسانيات أنه يلزمه كفارة واحدة، من غير فصل.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي يلزمه، لكل يوم، كفارة لأنه وجد في كل يوم إفساد
كامل.
ولو أفسد، بالجماع، في رمضانين: فعن أصحابنا روايتان:
في رواية: يجب كفارتان.
وفي رواية: كفار واحدة.
ولنا في المسألة طريقان: أحدهما: أن الكفارة تجب بطريق الزجر،
وأسباب الزجر، إذا اجتمعت، لا يجب بها إلا زاجر واحد، كما في الزنى
إذا وجد مرارا: لا تجب إلا حد واحد.
والثاني: أنها تجب بطريق التكفير ورفع الاثم، ولكن الافطار في اليوم
الثاني والثالث، في الجناية، فوق الافطار في اليوم الأول، لأنه انضمت
362

إليه جناية الافطار وجناية الاصرار وإيجاب الكفارة لأدنى الجنايتين لا يصلح
للأعلى.
هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن في الافطار شبهة.
فأما إذا كان فيه شبهة، فلا يجب، فإن المسافر إذا صام في رمضان
ثم جامع متعمدا لا يلزمه الكفارة، لان فيه شبهة الإباحة لقيام السبب
المبيح صورة، وهو السفر.
وكذلك إذا تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو طالع، أو أفطر
على ظن أن الشمس قد غربت، فإذا هي لم تغرب، لا تجب الكفارة،
لأنه خاطئ، وإلا ثم عنه مرفوع بالنص.
وكل من أكل أو شرب أو جامع، ناسيا، أو ذرعه القئ، فظن أن
ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمدا، لا كفارة عليه، لان هذا شبهة في
موضع الاشتباه لوجود المضاد للصوم، قال محمد: إلا إذا بلغ الخبر أن
أكل الناس والقئ لا يفسدان الصوم، فتجب عليه الكفارة، لان
الظن، في غير موضع الشبهة، لا يعتبر.
فأما إذا احتجم، فظن أن ذلك يفطره ثم أفطر متعمدا: إن استفتى
فقيها فأفتى بالافطار، ثم أفطر متعمدا لا كفارة عليه، لان العامي يجب
عليه تقليد العالم، فيصير ذلك شبهة.
ولو بلغه الحديث أفطر الحاجم والمحجوم: روى الحسن عن أبي
حنيفة أنه لا كفارة عليه، لأنه اعتمد على الحديث، وهو حجة في
الأصل.
وروي عن أبي يوسف أنه تجب عليه الكفارة، لان العامي يجب عليه
الاستفتاء من المفتي، دون العمل بظاهر الحديث، لأنه قد يكون متروك
الظاهر وقد يكون منسوخا فلا يصير شبهة.
363

وإن لمس امرأة بشهوة، أو قبل امرأة بشهوة، ولم ينزل، فظن أن
ذلك يفطره فأكل عمدا، يلزمه الكفارة، لان ذلك لا ينافي الصوم،
فيكون ظنا في غير موضعه، إلا إذا استفتى فقيها، أو أول الحديث،
فأفطر على ذلك: فلا كفارة عليه، وإن أخطأ ولم يثبت الحديث،
لان ظاهره يعتبر شبهة.
فإن اغتاب، فظن أن ذلك يفطره، فأكد عمدا، يلزمه الكفارة،
وإن بلغه الحديث، لأنه تأويل بعيد، لأنه لا يراد به إفطار الصوم
حقيقة - والله أعلم.
وأما حكم وجوب إمساك بقية اليوم بعد الافطار: فعندنا كل من
صار بحال لو كان على تلك الحالة في أول النهار يجب عليه الصوم، فإنه
يجب عليه الامساك في الباقي، سواء كان الصوم واجبا عليه في أول النهار
يجب عليه الصوم، فإنه يجب عليه الامساك في الباقي، سواء كان الصوم
واجبا عليه في أول النهار القيام سبب الوجوب والأهلية ثم عجز عن الأداء
لمعنى من المعاني، كمن أفطر في رمضان متعمدا، أو اشتبه عليه يوم
الشك فأفطر، أو تسحر على ظن أن العجز لم يطلع وقد طلع، أو لم يكن
الصوم واجبا عليه لعدم الأهلية، أو لعذر العجز فأكل ثم زال العذر
وحدثت الأهلية، كالمريض إذا صح، والمسافر إذا قدم، والمجنون إذا
أفاق، والصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم، والحائض إذا طهرت،
ونحوها.
وهو أحد قولي الشافعي:
وقال في قول آخر: إن كل من وجب عليه الصوم ثم أفطر لعذر أو
لغير عذر، يلزمه الامساك. وكل من لا يجب عليه الصوم فأفطر، ثم صار
بحال لو كان كذلك في أول النهار يجب عليه الصوم، فإنه لا يجب عليه
الامساك.
364

قال: ولهذا بالاجماع إن من قال: لله عليه أن أصوم اليوم الذي
يقدم فلان فيه. فقدم فلان في اليوم بعدما أكل فيه، لا يجب عليه
الامساك، لما أنه لا يجب عليه الصوم فيه. والمعنى الجامع أن الامساك
بمنزلة الخلف عن الصوم، في حق قضاء حرمة الوقت، فإن لم يكن
الأصل واجبا، لا يجب الخلف.
وقلنا: يجب، لان الامساك إنما يجب تشبها بالصائمين، قضاء لحق
الوقت، بقدر الامكان، لا خلفا، ألا ترى أنه يجب القضاء خارج
رمضان، على الفطر الذي وجب عليه الصوم، خلفا عن الصوم
الواجب، فكيف يكون الامساك خلفا عنه؟
وفي هذا المعنى يستوي الحال، بين الوجوب وعدم الوجوب،
بخلاف مسألة النذر، لان ثمة الصوم ما وجب بإيجاب الله تعالى، حتى
يجب الامساك قضاء لحق الوقت، بل يجب بالنذر، فهو الفرق بينه وبين
سائر الفصول بخلاف الطاهرة إذا حاضت أو نفست في حالة الصوم،
حيث لا تمسك لأنها ليست بأهل للصوم، والتشبه بأهل العبادة لا يصح
من غير الأهل، كحقيقة العبادة، بخلاف هذا الفصول. والله أعلم.
وأما بيان سنن الصوم وآدابه، وما يكره فيه وما لا يكره فنقول:
إنما التسحر سنة في حق الصائم، على ما روي عن عمرو بن العاص عن
النبي عليه السلام أنه قال: إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل
الكتاب أكلة السحر.
ثم ينظر: إن كان شاكا في طلوع الفجر: إنه طلع أم لا، ينبغي أن
يدع التسحر، لأنه ربما طلع الفجر، فيفسد صومه.
فأما إذا كان متيقنا أن الفجر لم يطلع، فالمستحب أن يتسحر.
وإن كان أكثر رأيه أن الفجر لم يطلع، ينبغي أن يدع الاكل أيضا،
365

لما قلنا، لكن لو تسحر لا يلزمه القضاء، لان بقاء الليل أصل، وهو ثابت
بغالب الرأي، وإنما الشك والاحتمال في طلوع الفجر، فلا يجب القضاء
بالشك والاحتمال.
ولو أن أكثر رأيه أن الفجر طالع فأكل: عن الحسن عن أبي حنيفة
أنه يلزمه القضاء.
وروي عن أبي يوسف أنه لا يلزمه القضاء، لان الأصل هو الليل،
فلا ينقل عنه إلا بيقين.
والصحيح هو الأول، لان غالب الرأي دليل واجب العمل به.
ولو كان غالب ظنه أن الشمس قد غربت لا يسعه أن يفطر،
لاحتمال أن الشمس لم تغرب، ولو أفطر لا قضاء عليه، لان الغالب، في
حق العمل، بمنزلة المتيقن.
ولو كان غالب ظنه أن الشمس لم تغرب ثم أفطر كان عليه القضاء،
لان بقاء النهار أصل والاحتمال في الغروب، ولكن لا كفارة عليه، خلافا
لما قال بعض الفقهاء أنه تجب الكفارة، لأنه متيقن بالنهار.
والصحيح ما ذكرنا لان احتمال الغروب قائم، وإنه يكفي شبهة.
ولا بأس بأن يكتحل الصائم، بالإثمد وغيره: وإن وجد طعم ذلك
في حلقه: لا يفطره، خلافا لابن أبي ليلى.
وأصله ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن النبي عليه السلام خرج
في رمضان، وعيناه مملوءتان كحلا: كحلته أم سلمة. ولأن العين لا
منفذ بها إلى الجوف، وما يجد في حلقه فذلك أثره لا عينه.
ويكره إدخال شئ مطعوم في الغم للذوق، أو ليمضغه لصبي له،
لأنه ربما يصل إلى جوفه منه شئ، فيفطره، ولكن لا يفسد صومه إلا أن
366

يصل إلى جوفه شئ منه، بيقين أو بغالب الرأي.
وكره أبو حنيفة أن يمضع الصائم العلك، لأنه لا يؤمن من أن
ينفصل منه شئ فيدخل جوفه.
وقيل: إنما يكره إذا كان متفتتا، فأما إذا كان معجونا فلا يكره،
لأنه لا يصل شئ منه إلى جوفه.
وقيل: إنما لا يفسد إذا لم يكن متيقنا، فأما إذا كان متيقنا فيفسد،
لأنه يصل إلى جوفه شئ منه لا محالة.
ولا بأس للصائم أن يستاك، رطبا كان أو يابسا، مبلولا بالماء أو غير
مبلول، في أول النهار أو في آخره.
وقال الشافعي: يكره في آخر النهار.
وقال أبو يوسف: يكره إذا كان مبلولا بالماء.
والصحيح ما ذكرنا، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: خير
خلال الصائم السواك، من غير فصل بين حال وحال.
ولا ينبغي للمقيم، إذا سافر في بعض نهار رمضان، أن يفطر، لأنه
تعين اليوم للصوم، لكونه مقيما في أوله.
ومثله لو أراد المسافر أن يقيم في مصر من الأمصار، أو يدخل
مصره، فليس ينبغي أن يفطر، لأنه في آخره مقيم، والمقيم لا يجوز له
الافطار، ولما فيه من إيقاع نفسه في التهمة.
ولا بأس أن يقبل ويباشر، إذا كان يأمن على نفسه ما سوى ذلك.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا بأس بالقبلة للصائم، ويكره له
المعانقة والمباشرة.
367

وأصله ما روي أن شابا وشيخا سألا رسول الله (ص) عن القبلة
للصائم، فنهى الشاب، ورخص للشيخ.
وأما المباشرة: فمكروهة، على رواية الحسن، لان الغالب أن
المباشرة تدعو إلى ما سواها، بخلاف القبلة.
وهو الأصح.
وأما المضمضة والاستنشاق: فلا بأس بهما لصلاة.
وروي عن أبي يوسف أنه يكره لغير الصلاة، لاحتمال وصول شئ
إلى الجوف.
وأما الاستنشاق لغير الصلاة، والاغتسال، وصب الماء على الرأس
والتلفف بالثوب المبلول:
فروي عن أبي حنيفة أنه يكره، إظهار الضجر من العبادة.
وقال أبو يوسف: لا يكره.
فأخذ أبو حنيفة بقول الشعبي وأخذ أبو يوسف بقول
البصري.
ولا يكره الحجامة للصائم.
وقال بعض أصحاب الحديث إنها تفطر الصائم، لما روي عن النبي
عليه السلام أنه قال: أفطر الحاجم والمحجوم.
والصحيح قول العامة، لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه
السلام قال: ثلاث لا يفطرن الصائم: القئ، والحجامة،
والاحتلام، وأما الحديث فذاك في الابتداء لما أنه سبب ضعف الصائم،
ثم رخص بعد ذلك.
368

وليس للمرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، وكذا العبد: ليس له
أن يصوم تطوعا إلا بإذن المولى، لان في ذلك تفويت حقهما عن الانتفاع
المستحق، فيمنعان عن ذلك.
ولا بأس بأن يصبح الرجل جنبا، وإن ذلك لا يفسد صومه.
وقال بعض الناس بأنه يفسد صومه، لما روى أبو هريرة عن النبي عليه
السلام أنه قال: من أصبح جنبا فلا صوم له: محمد ورب
الكعبة قاله.
وحجة عامة العلماء ما روى محمد في الكتاب عن عائشة أن النبي (ص)
كان يصبح جنبا، من غير احتلام، ويصوم يومه ذلك وذلك في رمضان
وحديث أبي هريرة روته عائشة فلا يعارض بما روينا.
369

باب
الاعتكاف
الكلام في الاعتكاف في مواضع:
في بيان كونه سنة أو واجبا.
وفي بيان شرائطه.
وفي بيان ركنه.
وفي بيان ما يفسده.
وفي بيان سننه وآدابه.
أما الأول
فالاعتكاف سنة: فقد فعله النبي عليه السلام، وواظب عليه، على
ما روي عن عائشة وأبي هريرة أن النبي عليه السلام كان يعتكف، العشر
الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله. لكن يصير واجبا بالنذر،
وبالشروع، لأنهما جعلا من أسباب الوجوب في الشرع.
فأما الشرائط
فمنها: الصوم: في الاعتكاف الواجب، في ظاهر الرواية، لا في
التطوع.
وفي رواية الحسن: في التطوع أيضا.
وقال الشافعي: ليس بشرط.
وروى الحسن عن عائشة، وابن عباس، وفي إحدى الروايتين عن
371

علي: مثل قولنا.
وروي عن عبد الله بن مسعود مثل قول الشافعي.
ولنا أن أحد ركني الصوم، وهو الامساك عن الجماع، شرط في
باب الاعتكاف، فكذلك الركن الآخر، وهو الامساك عن الأكل والشرب
، وهذا لان الاعتكاف مجاورة بيت الله تعالى، والاعراض عن
الدنيا، والاشتغال بخدمة المولى، وهذا لا يتحقق بدون ترك قضاء
الشهوتين إلا بقدر ما فيه ضرورة، وهو الأكل والشرب في الليالي، ولا
ضرورة في الجماع.
وينبني على هذا الأصل أن الاعتكاف لا يجوز في الليل وحده،
عندنا، خلافا للشافعي، لأن الصوم شرط الاعتكاف أو ركنه على ما
ذكرنا، ولا وجود للشئ بدون ركنه وشرطه.
وأما إذا أوجب الاعتكاف أياما: يدخل الليل تبعا، فلا يشترط له
شرط الأصل.
وعند الشافعي: الصوم ليس بشرط، فيكون الليل والنهار سواء.
ومنها: أن الامساك عن الجماع شرط: قال الله تعالى: * (ولا
تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *.
منها - أن لا يصح الاعتكاف من الرجال إلا في مسجد يصلى فيه
بالجماعة. وأصله قوله تعالى: * (وأنتم عاكفون في المساجد) *
وأما المرأة: فقد ذكر ههنا وقال: لا تعتكف المرأة إلا في مسجد
بيتها، ولا ينبغي أن تخرج من المنزل في الاعتكاف.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن للمرأة أن تعتكف في مسجد
372

الجماعة، وإن شاءت اعتكفت في مسجد بيتها، ومسجد بيتها أفضل لها
من مسجد حيها، ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الجامع.
وهذا ليس باختلاف الرواية، لأنه على الروايتين يجوز الاعتكاف في
المسجد، والأفضل هو في مسجد بيتها.
وقال الشافعي: لا يجوز في مسجد بيتها.
وهو فاسد، فإن صلاتها تجوز في مسجد بيتها، وهذا المكان متعين
للصلاة، فالاعتكاف أولى.
وأما ركن الاعتكاف
فهو كاسمه: وهو الليث والمقام في المسجد.
وإذا كان كذلك: فيحرم الخروج من معتكفه لأنه يضاده، ولا بقاء
للشئ مع ضده، وإبطال العبادة حرام. وإنما يباح الخروج لأجل
الضرورة، وذلك لحجة البول والغائط، ولأداء الجمعة لأنها فرض عليه.
فأما الأكل والشرب والنوم: فجائز في المسجد فلا ضرورة في ذلك.
ولهذا قالوا: لا يباح له فخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة، لان
ذلك ليس بفرض عليه، لأنه ليس بفرض عين فإذا قام به البعض سقط
عن الباقين.
ثم إذا أراد أن يخرج إلى الجمعة ينبغي أن يخرج وقت سماع الاذان،
فيكون في المسجد مقدار ما يصلي قبلها أربعا، وبعدها أربعا أو ستا، كذا
ذكر ههنا.
وروى الحسن عن أبي حنيفة: مقدار ما يصلي قبلها أربعا وبعدها
أربعا.
وقال محمد: إذا كان منزله بعيدا، يخرج حين يرى أنه يبلغ المسجد
373

عند النداء، لان الفرض أداء الجمعة، فيقدر بوقت يمكنه فيه أداء الجمعة
بسنتها.
فإن أقام في المسجد الجامع. حين خرج إلى الجمعة، يوما وليلة، لم
ينتقض اعتكافه، لان الجامع يصلح لابتداء الاعتكاف، فيصلح للبقاء،
ولكن لا أحب أن يفعل ذلك، بل يكره له ذلك، لان التزم فعل
الاعتكاف في المسجد المعين، فيلزمه ذلك مع الامكان.
ولو أنه انهدم المسجد الذي اعتكف فيه أو أخرجه عنه سلطان أو
غيره، فدخل مسجدا آخر من ساعته، صح اعتكافه، استحسانا،
والقياس أن يفسد، لأنه ترك اللبث المستحق، وهو الاعتكاف في المسجد
المعين، ووجه الاستحسان أنه معذور في الخروج، فقدر زمان المشي
مستثنى من الجملة، كما في الخروج إلى الجمعة.
فأما إذا خرج لغير ما ذكرنا من الأمور، ساعة، فسد اعتكافه عند
أبي حنيفة.
وعند أبى يوسف ومحمد: لا يفسد حتى يخرج أكثر من نصف يوم.
وقال محمد: قول أبي حنيفة أقيس، وقول أبي يوسف أوسع.
هذا الذي ذكرنا في الاعتكاف الواجب. فأما في اعتكاف التطوع:
فلا بأس بأن يعود المريض، ويشهد الجنازة، على جواب ظاهر الرواية.
وأما على رواية الحسن: مقدر باليوم، فالجواب فيه وفي الواجب
سواء لأنه صار واجبا بالشروع.
وأما بيان ما يفسد الاعتكاف
فمن ذلك: ما لو جامع في الاعتكاف، ليلا أو نهارا، ناسيا أو
عامدا، فإنه يفسد الاعتكاف، لأنه من محظورات الاعتكاف، قال الله
374

تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *.
ولهذا: إنه إذا خرج من المسجد، ناسيا للاعتكاف، يفسد
اعتكافه - فالنسيان لم يجعل عذرا في باب الاعتكاف، وفي باب الصوم
جعل عذرا بالنص الخاص.
ولو جامع فيما دون الفرج، أو قبل، وأنزل، يفسد اعتكافه، فأما
إذا لم ينزل، فلا يفسد اعتكافه، ولكن يكون حراما، لان الجماع حرام
ههنا، بالنص، فيحرم بدواعيه، وفي باب الصوم الافطار حرام، وحرم
الجماع، لكونه إفطارا وذلك المعنى لم يوجد في الدواعي.
ولو خرج المعتكف إلى مسجد آخر، من غير عذر، انتقض اعتكافه
عند أبي حنيفة، وعندهما لا يبطل لما ذكرنا أن الخروج، من غير عذر
مبطل للاعتكاف، عنده، خلافا لهما.
وليس للمرأة أن تعتكف بدون إذن زوجها، وكذلك العبد، فإن أذن
الزوج لها في الاعتكاف فاعتكفت، ليس له أن يرجع، بخلاف المولى،
لان منافع العبد مملوكة للمولى، وإنما أعارها من العبد، فيمكنه الرجوع
والاسترداد، بخلاف الزوجة فإنها حرة، لكنها أمرت بخدمة الزوج،
فمتى أذن فقد أسقط في حق نفسه، فيظهر حقها الأصلي، فما لم تمض
المدة التي أذن لها فيها، ليس له حق الرجوع.
ولو أوجب على نفسه اعتكافه ليلة: لا يلزمه، لأنها ليست بوقت
للصوم.
ولو أوجب اعتكاف يوم، يصح، ولا يلزمه اعتكاف يوم بليلة، لان
اليوم اسم لزمان مقدر، وهو وقت الصوم، فيجوز.
375

وإن نوى يوما بليلته يلزمه اعتكاف يوم مع ليلته.
وإن أوجب على نفسه اعتكاف يومين أو أكثر، تلزمه الأيام وما
يقابلها من الليالي، لان ذكر الأيام ذكر الليالي وكذلك ذكر الليالي ذكر
الأيام: قال الله تعالى: * (ثلاثة أيام إلا رمزا) * وقال في موضع آخر:
* (ثلاث ليال سويا) * والقصة قصة واحدة. ولو لم يكن الامر، على ما
قلنا: يؤدي إلى التناقض في خبر الله تعالى، وإنه لا يجوز.
ولو أوجب على نفسه اعتكاف شهر بعينه يجب عليه اعتكاف ذلك
الشهر، لأنه أوجب عينا، ولو أفسد صوم يوم، يجب عليه اعتكاف
الباقي، وكذلك لو ترك اعتكاف يوم يجب عليه باقي الشهر، ويقضي
يوما، ولا يلزمه استقبال، لان التتابع ثبت لمجاورة الأيام، لا بالنذر.
ولو قال: لله على أن أعتكف شهرا، أو ثلاثين يوما يلزمه
متتابعا، حتى لو ترك اعتكاف يوم فيه، يلزمه الاستقبال، لان التتابع
وجب حكم النذر، فيجب الوفاء به.
ولو أوجب على نفسه اعتكاف شهر بعينه، وترك الاعتكاف فيه حتى
مضى، يجب عليه قضاء شهر متتابعا، لأنه وجب عليه قضاء شهر، بغير
عينه.
ولو أوجب على نفسه اعتكاف ثلاثين يوما، وعنى به النهار دون
الليل، تصح نيته، لان حقيقة اليوم لبياض النهار، وإنما يحمل على
الوقت المطلق، بدليل فإذا نوى حقيقة كلامه يصح.
ولو أوجب على نفسه اعتكاف ثلاثين ليلة، ونوى الليل دون النهار،
يصدق، ولا يصح الاعتكاف، لعدم وقت الصوم.
376

ولو أوجب اعتكاف شهر بغير عينه ونوى الليالي دون الأيام أو الأيام
دون الليالي، لا يصدق، لان الشهر اسم لزمان مقدر، بعضه أيام
وبعضه ليال، فيكون اسما لمركب خاص، فلا ينطلق اسم الشهر على
بعضه، فإذا نوى ما ذكرنا فقد نوى ما لا يحتمله كلامه، بخلاف ما إذا
قال إلا الليالي، أو أوجب اعتكاف شهر بالنهار دون الليالي، صح، لان
الاستثناء تكلم بالباقي، وذكر النهار، مقارنا لذكر الشهر بيان وتفسير
له، فكأنه قال: لله علي أن أعتكف ثلاثين نهارا فهو الفرق بينهما،
والله أعلم.
377

كتاب
المناسك
اعلم أن الحج فريضة.
عرفت فرضيته بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت: من استطاع
إليه سبيلا) * وكلمة على موضوعة للايجاب.
وأما السنة: فلما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: قال بني
الاسلام على خمس وذكر منها حج البيت. ولما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، فلم يحج،
فليمت، إن شاء، يهوديا أو نصرانيا.
وعليه الاجماع.
ثم يحتاج إلى:
بيان كيفية فرضيته.
وبيان أركانه، وواجباته، وسننه وآدابه.
وبيان شرائط وجوبه وأدائه.
وبيان محظوراته.
أما بيان كيفية فرضية الحج - فنقول:
لا خلاف أن الحج فرض عين، لا فرض كفاية، فإنه يجب على كل
379

مكلف استجمع شرائط فإذا قام به البعض لا يسقط عن الباقين،
بخلاف الجهاد، فإنه إذا قام به البعض يسقط عن الباقين.
وكذلك يجب في العمر، مرة واحدة، فيكون وقته العمر، بخلاف
الصلاة: فإنه يتكرر وجوبها في كل يوم خمس مرات، والزكاة والصوم
يجبان في كل سنة.
وأصله ما روي أنه لما نزلت آية الحج قال الأقرع بن حابس: يا
رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال عليه السلام: للأبد.
واختلفت الرواية عن أصحابنا: أنه يجب وجوبا موسعا أو مضيقا؟
ذكر الكرخي أنه يجب على الفور، وكذا كل فرض ثبت، مطلقا عن
الوقت، كالكفارات وقضاء رمضان ونحوها.
وذكر محمد بن شجاع أنه على التراخي.
وذكر الزجاجي مسألة الحج على الاختلاف، فقال: على قول أبي
يوسف: يجب على الفور، وعلى قول محمد: يجب على التراخي.
وروى محمد بن شجاع الثلجي قول أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف.
وفائدة الخلاف أن من أخر الحج عن أول أحوال الامكان، هل يأثم
أم لا؟ أما لا خلاف أنه إذا أخر ثم أدى في سنة أخرى، فإنه يكون
مؤديا ولا يكون قاضيا، بخلاف العبادات المؤقتة: إذا فاتت عن أوقاتها
ثم أديت يكون قضاء بالاجماع.
وهذا حجة محمد في المسألة.
وهما يقولان: إنا نقول بالوجوب على الفور، مع إطلاق الصيغة عن
380

الوقت، احتياطا: فيظهر في حق الآثم، حتى يكون حاملا على الأداء،
وبقي الاطلاق فيما رواه ذلك.
وأما ركن الحج فشيئان: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة.
وأما الواجبات فخمسة: السعي بين الصفا والمروة، والوقوف
بمزدلفة، ورمي الجمار، والخروج عن الاحرام بالحلق أو بالتقصير،
وطواف الصدر.
وأما السنن والآداب: فسنته ما واظب عليه رسول الله (ص) في
الحج. ولم يتركه إلا مرة أو مرتين، لمعنى من المعاني. وآدابه ما لم يواظب
عليه، وفعل ذلك مرة أو مرتين، على ما يعرف في أثناء المسائل عند بيان
أداء الحج على الترتيب.
ثم إذا ترك الركن: لا يجوز الحج، ولا يجزئ عنه البدل، من ذبح
البدنة والشاة.
وإذا ترك السنة أو الآداب: لا يلزمه شئ، ويكون مسيئا.
وإذا ترك الواجب: لا يفوت الحج ويجزئ عنه البدل، إن عجز عن
الأداء.
وبيان ذلك أن الحج له ثلاثة أطوفة.
طواف اللقاء: ويسمى طواف التحية، وطواف أول عهد بالبيت.
والثاني: طواف الزيارة، ويسمى طواف يوم النحر وطواف الركن.
والثالث: طواف الصدر، ويسمى طواف الوداع وطواف الإفاضة.
وطواف اللقاء سنة: والسعي عقيبه واجب.
فإذا ترك الطواف: فلا شئ عليه.
381

وإذا ترك السعي: فعليه أن يسعى عقيب طواف الزيارة، ولو تركه
أصلا: فعليه الدم.
وكذلك من ترك طواف الصدر أصلا وهو ممن يجب عليه ذلك:
يجب عليه الدم.
ولو ترك طواف الزيارة لا يخلو: إما إن ترك طواف الزيارة وطواف
الصدر جميعا، أو ترك أحدها دون الآخر، ولا يخلو إما إن عاد إلى أهله
أو لم يعد.
فأما إذا تركهما جميعا:
فما دام بمكة، فإنه يعيدها. فإن أعاد طواف الزيارة في أيام النحر:
فلا شئ عليه، لأنه أداه في وقته. وإن أعاد بعد مضي أيام النحر: فعليه
الدم، للتأخير عن وقته، عند أبي حنيفة. وعندهما: لا شئ عليه،
للتأخير.
ثم يطوف طواف الصدر، قضاء، لأنه قاض فيه. وليس عليه
شئ، لتأخير طواف الصدر، بالاجماع.
وإن رجع إلى أهله فهو محرم على النساء أبدا. وعليه أن يعود إلى
مكة، بذلك الاحرام، ويطوف طواف الزيارة وطواف الصدر، وعليه
دم، لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر، عنده، وعندهما: لا شئ
عليه.
وأما إذا طاف للزيارة ولم يطف للصدر:
فإن كان بمكة: يأتي به، ولا شئ عليه للتأخير، بالاجماع.
وإن رجع إلى أهله: فإنه لا يعود إلى مكة، وعليه دم، لترك طواف
الصدر، فإذا أراد أن يعود إلى مكة ويقضيه، يعود بإحرام العمرة، ويقوم
بالعمرة. فإذا فرغ منها، طاف للصدر، ثم يرجع.
382

وأما إذا طاف للصدر ولم يطف للزيارة:
فإن طواف الصدر ينقل إلى طواف الزيارة. فما دام بمكة فيأتي بطواف
الصدر، وعليه دم، لتأخير طواف الزيارة، عن أيام النحر، عند أبي
حنيفة، خلافا لهما.
وإن عاد إلى أهله: فعليه، لترك طواف الصدر، دم، بالاتفاق
وفي وجوب الدم. في تأخير طواف الزيارة عن وقته، اختلاف على ما
ذكرنا.
وأما شرائط الوجوب
فبعضها عام في العبادات كلها، نحو: العقل، والبلوغ،
والاسلام، حتى لا يجب الحج على الصبي، والمجنون، والكافر، وإن
ملكوا الزاد والراحلة، لأنه لا خطاب على هؤلاء.
ولو أنه إذا وجد منهم الاحرام، ثم بلغ الصبي، وأفاق المجنون،
وأسلم الكافر، ووقت الحج باق: فإن جددوا الاحرام، بنية حجة
الاسلام، فإنه يقع عن حجة الاسلام، لان إحرام الكافر والمجنون لا
يصح أصلا، لعدم الأهلية، وإحرام الصبي العاقل صحيح، لكنه غير
ملزم، فينتقض، بخلاف العبد: إذا أحرم، بإذن المولى، ثم عتق،
والوقت باق، فجدد الاحرام، بنية حجة الاسلام، وهو مالك للزاد
والراحلة، فإنه لا ينتقض إحرامه الأول، ولا يصح الثاني، لان إحرام
العبد، بإذن المولى، لازم فلا يحتمل الانفساخ.
وأما الشرط الخاص: فالحرية: حتى لا يجب الحج على العبد، وإن
أذن له مولاه، لان منافعه في حق الحج، غير مستثناة عن ملك المولى،
فإذا أذن له المولى، فقد أعاره منافع بدنه، والحج لا يجب بقدرة عارية.
ولهذا، بالاجماع، إن الأجنبي إذا أعار الزاد والراحلة، لمن لا يملك
383

الزاد والراحلة فإنه لا يجب الحج عليه، فكذلك هذا، بخلاف الفقير:
إنه لا يجب الحج عليه، ولو تكلف وذهب إلى مكة بالسؤال، وأدى،
يقع عن حجة الاسلام، لأنه مالك لمنافع بدنه، لكن لا يملك الزاد
والراحلة، فلم يجب عليه، فمتى وصل إلى مكة وصار قادرا على الحج
بالمشي وقليل الزاد، وجب عليه الحج فيقع عن الفرض، فهو الفرق.
ومن شرطه أيضا: صحة البدن وزوال الموانع الحسية عن الذهاب
إلى الحج، حتى إن المقعد والمريض والزمن والمحبوس والخائف من السلطان
الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج، فإنه لا يجب عليهم الحج
بأنفسهم، لأن هذه عبادة بدنية، فلا بد من القدرة، بصحة البدن
وزوال المانع، حتى يتوجه عليهم التكليف، ولكن يجب عليهم الاحجاج
إذا ملكوا الزاد والراحلة.
وأما الأعمى: إذا وجد قائدا، بطريق الملك، بأن كان له مال فاشترى
عبدا، أو استأجر أجيرا بماله، هل يجب عليه أن يحج بنفسه؟ ذكر في
الأصل أنه لا يجب عليه أن يحج بنفسه، ولكن يجب في ملكه، عند أبي
حنيفة.
وروى الحسن عنه أنه يجب عليه أن يحج بنفسه.
وكذلك روي في المقعد والزمن: أنه يجب عليهما إذا قدر أن يشتريا
عبدا، أو يستأجر أجيرا.
وقال أبو يوسف ومحمد بالوجوب في حق الأعمى، دون المقعد
والزمن.
وجه رواية الحسن أن القدرة وسيلة إلى أداء الحج، فيستوي القدرة
بالملك والعارية.
وهما يقولان: إن الأعمى قادر بنفسه على أداء الحج، إلا أنه لا
384

يهتدي إلى الطريق، وذلك يحصل بالقائد، فأما المقعد فعاجز عن الأداء
بنفسه، فلا يكلف بالقدرة التي تحصل بالغير، لان ذلك قد يكون وقد لا
يكون، بأن أبق العبد، ونقض المستأجر العقد لعذر من الاعذار.
وأبو حنيفة يقول بأن الأعمى، وإن كان قادرا بنفسه، لكن لا يعمل
قدرته بدون القائد، وإباقه وموته محتمل.
ثم إذا لم يجب الحج على هؤلاء بأنفسهم، ولهم مال وزاد وراحلة
فعليهم أن يأمروا من يحج عنهم، بمالهم، ويكون ذلك مجزئا عن حجة
الاسلام.
وأصله ما روي أن الخثعمية جاءت إلى رسول الله (ص) وقالت: إن
أبي أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة فيجزئني
أن أحج عنه؟ فقال عليه السلام: أرأيت لو كان على أبيك دين
فقضيته: أما كان يقبل منك؟ فقالت: نعم، فقال: دين الله
أحق.
فإن مات هؤلاء، قبل أن يقدروا على الحج بأنفسهم، وقع ذلك عن
حجة الاسلام، وإن قدروا على الحج، بأنفسهم، يجب عليهم حجة
الاسلام، وما حج عنهم يكون تطوعا، لأنه خلف ضروري، فيسقط
اعتباره بالقدرة على الأصل، كالشيخ الفاني إذا عجز عن صوم رمضان،
ثم صار قادرا على الصوم: يجب عليه الإعادة لما قلنا، كذا هذا.
385

ولو تكلف المقعد والزمن والمريض، فحجوا بأنفسهم على الدابة،
وكذلك الأعمى مع القائد، فإنه يسقط عنهم الحج، لأنه إنما لم يجب
عليهم، دفعا للحرج عنهم، فمتى تحملوا الحرج، وقع موقعه، كالجمعة
ساقطة عن العبد بحق المولى: فإذا حضر، وأدى: جاز، لما ذكرنا، كذا
هذا.
ومن شرطه أيضا: ملك الزاد والراحلة: حتى لا يجب الحج
عندنا، لوجود الزاد بطريق الإباحة، سواء كانت الإباحة من جهة من لا
منة له عليه كالوالدين والمولودين، أو من جهة من له عليه المنة،
كالأجانب.
وقال الشافعي: إن كانت من جهة من لا منة له عليه: يجب عليه
الحج. وإن كانت من جهة الأجنبي: فله فيه قولان.
وأما إذا وهبه إنسان مالا يحج به: فلا يجب عليه القبول عندنا.
وله فيه قولان.
وأصله ما ذكرنا أن القدرة بالملك هي الأصل في توجه الخطاب.
وأما تفسير الزاد والراحلة فأن يكون عنده دراهم، مقدار ما يبلغه إلى
مكة، ذاهبا وجائيا، راكبا لا ماشيا، سوى ما هو من كفافه، وحوائجه
من المسكن والخادم والسلاح نحو ذلك، وسوى ما يقضي به ديونه،
ويمسك لنفقة عياله ومرمة مسكنة ونحوها، إلى وقت انصرافه.
وروي عن أبي يوسف: ونفقة شهر بعد انصرافه أيضا.
وإن لم يبلغ ماله يكتري راحلة أو شق راحلة، ولكن يكفي لنفقة
الأجير والمشي راجلا، فإنه لا يجب عليه الحج.
وهذا في حق البعيد من مكة.
386

وأما في حق من كان بمكة أو بمنى وعرفات: فهل يشترط الزاد
والراحلة؟
بعضهم قالوا: إذا كان رجلا قويا يمكنه المشي بالقدم، يجب عليه
الحج، لأنه يحتاج إلى مشي أربعة فراسخ، لان بين مكة وعرفات أربعة
فراسخ، وإما إذا كان ضعيفا فلا يجب عليه، ما لم يقدر على الراحلة.
وقال بعضهم: لا يجب بدون الراحلة، لان المشي، راجلا فيه،
حرج، وكل أحد لا يقدر على مشي أربعة فراسخ، راجلا، والله تعالى
يقول: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *.
ومن شرطه: أمن الطريق أيضا، لأنه لا يجب بدون الزاد والراحلة،
ولا بقاء للزاد والراحلة بدون الامن.
وهذا في حق الرجل، فأما في حق المرأة فلا بد من وجود هذه
الشرائط ويشترط في حقها شرطان آخران.
أحدهما: أن يكون لها زوج، أو من لا يجوز المناكحة بينهما، على
طريق التأييد إما بسبب القرابة أو الرضاع أو الصهرية.
وإذا لم يخرج المحرم إلا بنفقة منها، هل يجب عليها نفقته؟
ذكر في شرح القدوري إنها تجب، لأنها لا تتمكن من الحج إلا
بالمحرم، كما لا تتمكن إلا بالزاد والراحلة، فيجب عليها بذلك، إذا
كان لها مال.
وذكر في شرح الطحاوي: أنه لا يجب عليها نفقته، ولا يجب عليها
الحج.
وإذا لم يكن لها زوج ولا محرم: لا يجب عليها أن تتزوج ليذهب معها
387

إلى الحج، ولا يجب عليها الحج بنفسها، ويجب في مالها.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: يجب عليها إذا كان في الرفقة نساء.
وإذا وجدت محرما يجب عليها الحج، ولا يشترط رضا الزوج وإذنه،
عندنا.
وقال الشافعي: لا بد من إذن الزوج، لان فيه فوات حقه.
ولكنا نقول إن الحج من الفرائض اللازمة فيكون منافعها مستثناة عن
ملك الزوج، فأما في التطوع فللزوج حق المنع كما في الصلاة.
ويستوي الجواب بين أن تكون المرأة شابة أو عجوزا، في اشتراط
المحرم، لأنها عورة أيضا.
هذا إذا كان بينها وبين مكة مدة السفر، وهي ثلاثة أيام ولياليها
فأما إذا كان دون مدة السفر، فإنه لا يشترط المحرم.
والشرط الثاني: أن لا تكون معتدة من طلاق بائن أو رجعي أو عن
وفاة لان الحج مما يمكن أداؤه في وقت آخر، فأما العدة فيجب قضاؤها في
هذا الوقت خاصة، والله تعالى يقول: * (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا
يخرجن) *.
فإن لزمتها العدة بعد الخروج إلى الحج:
إن كان الطلاق رجعيا: فإنها لا تفارق زوجها، لان النكاح قائم
فتمضي معه، والأفضل للزوج أن يراجعها.
وإن كان الطلاق بائنا أو عن وفاة: فإن كان إلى منزلها أقل من مدة
388

السفر، وإلى مكة مدة السفر، فإنها تعود وجعلت كأنها في المصر.
وإن كان إلى مكة أقل من مدة السفر، فإنها تمضي، لأنه لا حاجة
بها إلى المحرم، وفي أقل من مدة السفر.
وإن كان إلى الجانبين مدة السفر: فإن كانت في المصر فإنها لا تخرج
حتى تنقضي العدة، وإن وجدت محرما. وعندهما تخرج إن وجدت
محرما. ولا تخرج بغير محرم بالاجماع.
وإن كانت في المفازة، أو في قرية لا يؤمن على نفسها ومالها: تمضي
حتى تدخل موضع الامن، ثم لا تخرج ما لم تنقض عدتها وإن وجدت
محرما عنده.
وعندهما تخرج على ما نذكر في باب العدة.
وهذا كله مذهب علمائنا.
وقال مالك والضحاك بن مزاحم بأن الزاد والراحلة ليسا بشرط، بل
يجب الحج على كل مسلم، بالغ، عاقل، صحيح البدن.
والصحيح قول عامة العلماء لقوله تعالى: * (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا) *، قال أهل التفسير بأن المراد منه الزاد
والراحلة.
ثم هذه الشرائط التي ذكرنا إنما تعتبر عند خروج أهل بلدة إلى
الحج، لان ذلك وقت الوجوب في حقه، حتى إنه إذا كان عنده دراهم،
قبل خروج أهل بلده واشترى بها المسكن والخادم وأثاث البيت ونحو
389

ذلك. فعند خروج أهل بلده، لا يجب عليه أن يبيع ذلك، ولا يجب
الحج عليه.
فأما إذا كان له دراهم وقت الخروج، مقدار الزاد والراحلة، ولم
يكن له مسكن ولا خدام ولا زوجة، فأراد أن يصرفها إلى هذه الأشياء،
فإنه يأثم ويجب عليه الحج، ويلزمه الخروج معهم.
ومن شرائط الأداء
الاحرام: فإنه لا يصح أداء أفعال الحج بدون الاحرام، كما لا
تصح الصلاة بدون التحريمة: وهي التكبير.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: الاحرام ركن، وليس بشرط.
وينبني على هذا الأصل أن الاحرام، قبل أشهر الحج، جائز،
عندنا. وعند الشافعي: لا يجوز وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من
ذي الحجة، لان ركن عنده وأداء الركن لا يصح في غير وقته، كأداء
الصلاة قبل الوقت. وعندنا لما كان شرطا يجوز وجوده قبل وقت الفعل،
كالطهارة وستر العورة، في باب الصلاة قبل الوقت.
وأجمعوا أن الاحرام، قبل أشهر الحج، مكروه، لا لأنه قبل وقت
الفعل، لكن لاحتمال أن يلحقه حرج عظيم في الامتناع عن محظورات
الحج.
ومنها: الوقت شرط: لان أداء الحج في غير وقته، غير مشروع،
لكونه مؤقتا، قال الله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * وهو:
شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فلا يجوز أداء شئ من
الافعال قبلها.
390

ومعظم أفعال الحج مؤقت، بوقت خاص، في مكان خاص،
كطواف الزيارة في يوم النحر، والوقوف بعرفة في يوم عرفة، ونحو ذلك،
على ما يعرف إن شاء الله.
ومنها: شرط الخروج عن الحج: وهو الحلق أو التقصير، بمنزلة
السلام: شرط الخروج عن الصلاة.
وأما الطهارة عن الحدث والجنابة في حالة الطواف فشرط الكمال،
عندنا، لا شرط الجواز.
وعند الشافعي شرط الجواز، حتى إن الأفضل أن يعيد الطواف، ولو
لم يعد يلزمه الدم: في الجنابة يلزمه البدنة، وفي الحدث يلزمه الشاة، لان
النقصان بسبب الجنابة أفحش، فكان الجزاء أكمل.
وأما محظورات الاحرام
فكثيرة، وهو: الارتفاق بمرافق المقيمين، لأنه عبادة سفر، من لبس
المخيط والوطئ، ودواعيه، من اللمس والقبلة، والتطيب، وإزالة
التفث، وحلق الشعر، ونتف شعر الإبط، وتقليم الأظفار، وقتل
القمل، من أخذ الصيود، والإشارة إليها والدلالة عليها، وقتلها، سواء
كان مأكول اللحم أولا، ونحو ذلك.
هذا بيان شرائط الحج.
فأما العمرة
فعندنا: ليست بفريضة.
وقال الشافعي: فريضة، وهي الحجة الصغرى.
391

واختلف مشايخنا: بعضهم قالوا: هي سنة مؤكدة وبعضهم قالوا:
واجبة، وهما متقاربان.
واحتج بقوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * ولقوله عليه
السلام: العمرة هي الحجة الصغرى.
ولنا ما روى أبو هريرة أن أعرابيا سأل رسول الله آ عن الايمان
والشرائع، فبين إلى أن قال: وأن تقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي
الزكاة المفروضة، وأن تحج البيت فقال الاعرابي: هل علي شئ سوى
هذا؟ فقال: لا، أن تتطوع ولم يذكر العمرة، وأما الآية فقرأ
بعضهم: * (والعمرة) * بالرفع ووقف على قوله: * (وأتموا الحج) *. ومع
اختلاف القراء لا تكون حجة، ولان الآية نزلت في أهل الحديبية وهم
خرجوا محرمين بالعمرة، وأنها تصير واجبة بالشروع، ثم حصروا،
فأوجب عليهم إتمام العمرة، بطريق القضاء، والحج بطريق الابتداء.
وأما ركن العمرة فشيئان: الطواف والسعي.
والاحرام شرط أدائها.
والحلق أو التقصير شرط الخروج.
وما ذكرنا من الشرائط في الحج، فشرط في العمرة.
وكذلك ما ذكرنا من محظورات الحج فهو من محظورات العمرة.
وأما وقت العمرة: فالسنة كلها وقت لها، ولا تكره، سواء كانت
في أشهر الحج أو في غيره، إلا في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر،
وأيام التشريق، لان الحاج مشغول بأداء الحج، إلا إذا قضى القرآن أو
التمتع، فلا بأس به يكون أفضل في حق الآفاقي.
392

باب
الاحرام
في الباب فصول:
بيان أنواع المحرمين.
وبيان مواقيت إحرامهم.
وبيان الاحرام.
وبيان الحج، والعمرة، والقرآن، والمتعة، بشروطها وأركانها،
وسننها، وآدابها، على الترتيب.
أما بيان أنواع المحرمين - فنقول:
المحرمون أربعة: المفرد بالحج، والمفرد بالعمرة، والقارن بينهما،
والمتمتع.
فأما المفرد بالحج: أن يحرم بالحج لا غير.
والمفرد بالعمرة: أن يحرم بالعمرة لا غير.
والقارن: أن يجمع بين الحج والعمرة، فيحرم بهما. ويقول: لبيك
اللهم بحجة وعمرة.
والمتمتع: أن يأتي بالعمرة والحج في أشهر الحج، من غير أن يلم
بأهله سواء حل من إحرامه الأول أم لا، على ما نذكر.
ثم هؤلاء الأصناف ثلاثة:
393

صنف منهم: أهل الآفاق.
وصنف منهم: من كان داخل الحرم، وهم أهل مكة والحرم.
وصنف منهم: من كان خارج الحرم، داخل مواقيت أهل الآفاق.
وأما مواقيت إحرامهم
فمواقيت أهل الآفاق خمسة: للحج والعمرة. وهي مواقيت بينها
رسول الله (ص)، تعظيما للبيت، حتى لا يجوز للآفاقي التجاوز عن هذه
المواقيت، لدخول مكة، لقصد الحج، أو للتجارة، ونحوها، إلا
محرما، فلأهل العراق ذات عرق ولأهل المدينة ذو الحليفة، ولأهل الشام
الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن، وقد وردت أحاديث
مشهورة في هذا الباب.
ثم هذه المواقيت لهؤلاء من أهل الآفاق ولمن حصل من أهل ميقات
آخر في هذا الميقات.
وكذلك إن كان من أهل الحرم وأهل الحل من داخل هذه
المواقيت، إذا خرج إلى الآفاق للتجارة، ثم رجع: فحكمه حكم أهل
الآفاق: لا يجوز له مجاوزته إلا محرما، إذا قصد مكة، إما الحج أو
العمرة.
فأما إذا قصدوا بالمجاوزة، السكنى في بستان بني عامر، الذي هو
داخل المواقيت خارج الحرم، فإنه يباح لهم المجاوزة، من غير إحرام،
وهي الحيلة في إسقاط الاحرام.
394

وروي عن أبي يوسف أنه لا يسقط ما لم ينو أن يقيم بالبستان خمسة
عشر يوما.
وأما ميقات من كان داخل المواقيت، خارج الحرم، كأهل بستان بني
عامر، للحج والعمرة جميعا: فمن دويرة أهلهم أو حيث شاؤوا من
الحل، ولا يباح لهم دخول مكة، بقصد الحج والعمرة، إلا محرمين.
وكذلك الآفاقي إذا حضر بالبستان، والمكي إذا خرج من الحرم إليه
وأراد أن يحج أو يعتمر: فيكون حكمهما كحكم أهل البستان.
وأما ميقات من كان داخل الحرم: فللحج من دويرة أهلهم، وحيثما
شاؤوا من الحرم، ولعمرة من الحل كالتنعيم وغيره. وكذلك من حصل
بمكة من غير أهلها، من البستاني والآفاقي، فحكمه حكم أهل الحرم.
ثم الآفاقي إذا جاوز الميقات، بغير إحرام. وهو يريد الحج، أو
العمرة، ثم عاد إلى الميقات قبل أن يحرم، فأحرم منه، وجاوزه محرما،
فإنه لا يجب عليه الدم، لأنه قضى حقه بالاحرام.
فأما إذا أحرم بعد المجاوزة من داخل الميقات، للحج أو العمرة،
ومضى على إحرامه ذلك ولم يعد: فيحب عليه الدم، لأنه أدخل النقص في
إحرامه.
فأما إذا أحرم، ثم عاد إلى الميقات، وجدد التلبية، والاحرام:
فيسقط عنه الدم في قول أصحابنا الثلاثة.
وعند زفر: لا يسقط.
ولو عاد، إلى الميقات، محرما، ولم يجدد التلبية: لا يسقط عنه
الدم عند أبي حنيفة.
395

وعند أبي يوسف ومحمد: يسقط، لبى أو لم يلب.
ولو لم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين، أو وقف بعرفة في
الحج - تأكد عليه الدم، حتى لا يسقط عنه، وإن عاد إلى الميقات وجدد
الميقات والتلبية.
ولو عاد إلى ميقات آخر، سوى الميقات الذي جاوزه من غير
إحرام، وجدد التلبية، قبل أن يتصل إحرامه بأفعال الحج أو العمرة
فهو كما لو عاد إلى ذلك الميقات.
وروي عن أبي يوسف: إن كان هذا الميقات محاذيا لذلك الميقات،
الذي جاوزه، أو أبعد إلى الحرم سقط الدم عنه، وإلا فلا.
وكذلك هذا الحكم في حق من كان داخل المواقيت، خارج
الحرم، فميقاته دويرة أهله.
ولو دخل الحرم لقصد الحج أو العمرة، من غير إحرام، ثم عاد إلى
الحل، وجدد التلبية، فهو على ما ذكرنا من الاختلاف.
وكذلك هذا الحكم في حق أهل مكة: فإن إحرامهم للحج في
الحرم، وللعمرة من الحل.
ولو أنه إذا أحرم للحج، من الحل، وللعمرة من الحرم: يجب عليه
الدم، إلا إذا أعاده، على الاختلاف الذي ذكرنا.
لو أن الآفاقي إذا جاوز الميقات، لقصد الحج أو لقصد مكة
للتجارة، من غير إحرام، ودخل مكة كذلك، فإنه يلزمه: إما حجة أو
عمرة عندنا.
وعند الشافعي: لا يلزمه شئ.
فأما من كان خارج الحرم، داخل المواقيت، إذا دخل الحرم
396

للتجارة، لا لقصد الحج والعمرة، فإنه لا يلزمه شئ.
وكذلك المكي إذا خرج إلى الحل، للاحتطاب والاحتشاش، ثم
دخل مكة: لا يلزمه شئ، ويباح له الدخول من غير إحرام.
وأصله ما روي أن النبي عليه السلام رخص للحطابة في الدخول من
غير إحرام، وهذا المعنى موجود في حق من حوالي مكة، من أهل الحل
دون المواقيت، لان من حوالي مكة محتاجون إلى الدخول فيها،
لحوائجهم، بخلاف الآفاقي ومن صار في جملتهم من أهل الحرم،
وخارج الحرم دون المواقيت، لان الأصل هو المجاوزة مع الاحرام،
تعظيما للحرم والكعبة، وإنما سقط باعتبار الضرورة، ولا ضرورة في حق
الآفاقي، لأنه يدخل مرة واحدة.
وكذلك الجواب في حق الآفاقي إذا صار من أهل البستان، بأن قصد
دخول البستان، لا دخول مكة، ثم أراد بعد ذلك أن يدخل مكة، من
غير إحرام، له ذلك ولا يلزمه شئ، لأنه صار من أهل البستان
حكما.
ثم الآفاقي إذا لزمه الحج أو العمرة بسبب مجاوزته الميقات في دخول
مكة من غير إحرام، فأحرم في تلك السنة، لما وجب عليه بسبب
المجاوزة، أو لحجة الاسلام أو للحجة التي وجبت عليه بسبب النذر، فإنه
يسقط عنه ما وجب عليه، بسبب المجاوزة.
ثم ينظر: إن خرج إلى ميقاته وأحرم منه، لا يجب عليه الدم
لمجاوزته، من غير إحرام.
وإن لم يخرج إلى ميقاته، لكن أحرم من ميقات أهل مكة إن كان
بها، أو من ميقات أهل البستان إن كان بها، يجب عليه الدم لمجاوزته،
غير محرم، عن ميقاته الأصلي.
397

وهذا عندنا.
وعند زفر: لا يسقط عنه الحج، الذي وجب عليه لدخوله مكة من
غير إحرام، إلا أن ينوي ما وجب عليه، بسبب المجاوزة.
ولو تحولت السنة: لا يسقط عنه إلا بتعيين النية، بالاجماع، لأنه
صار دينا عليه، فلا بد من تعيين النية.
ولو أنه إذا نوى في السنة الثانية عما وجب عليه، لأجل المجاوزة،
وأحرم لكن أحرم في وقت أهل مكة، وهو بمكة، أو في وقت أهل البستان
وهو بها، لم يخرج إلى ميقاته، فإنه يسقط عنه ما وجب عليه، لأجل
المجاوزة.
ولا يجب عليه الدم لترك التلبية، عند ميقاته، لأنه لما حصل بمكة
صار كالمكي وكذلك إذا حصل بالبستان صار من أهله فقد أتى بالاحرام،
في ميقاته ونوى قضاء ما عليه، فيسقط عنه، فأما في السنة الأولى فهو مؤد
لما عليه، وقد وجب عليه الدم، بسبب مجاوزة ميقاته، غير محرم، فلا
يسقط عنه إلا بتجديد التلبية أو بالعود إليه محرما، ولم يوجد.
وأما بيان الاحرام
وهو أن يوجد منه فعل هو من خصائص الحج، وتقترن به نية
الحج، أو العمرة بأن يقول: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك، وينوي به الحج أو
العمرة إذا كان مفردا بالحج أو بالعمرة، أو ينويهما جميعا إن كان قارنا.
وإن كان متمتعا، يريد الحج والعمرة: فإن شاء ذكر العمرة أو الحج في
إهلاله فيقول: لبيك بحجة أو بعمرة أو بهما أو بالعمرة والحجة فإنه
روي عن النبي عليه السلام أنه قال: أتاني آت من ربي وقال: قل
لبيك بعمرة وحجة.
398

والأفضل أن يذكر النية باللسان، مع القلب، فيقول: اللهم إني
أريد الحج والعمرة فيسرهما لي، وتقبلهما مني.
ولو ذكر مكان التلبية والتسبيح أو التهليل أو التحميد ونوى به
الاحرام، يصير محرما، سواء كان يحسن التلبية أو لا.
وكذلك إذا أتى بلسان آخر، أجزأه سواء كان يحسن العربية أو لا
يحسنها، هكذا جواب ظاهر الرواية.
وروى الحسن عن أبي يوسف أنه إذا كان لا يحسن التلبية: جاز،
وإلا فلا، كما في الصلاة.
والصحيح أن هذا بالاتفاق: وأما أبو حنيفة فقد مر على أصله، في
باب الصلاة، وهما فرقا بين الصلاة والحج، لان النيابة جارية في الحج
بخلاف الصلاة.
ولو قلد بدنة، ونوى الاحرام، وساقها، وتوجه معها: يصير
محرما، سواء قلد بدنة تطوعا أو نذرا، أو جزاء صيد ونحو ذلك، لان
تقليد البدنة، مع السوق، من خصائص أفعال الحج، لان الحجاج
يقلدون بدنهم، وذلك بأن يعلقوا عليها شراك نعل أو عروة مزادة أو ما
أشبه ذلك من الجلود.
فإذا وجدت نية الاحرام مقارنة لفعل، هو من خصائص الحج،
يصير محرما، لما عرف أن مجرد النية، لا يعتبر، ما لم يقترن بالفعل.
فأما إذا قلد بدنة، ونوى الاحرام، ولم يسق البدنة، ولم يتوجه
معها، بل بعث بها على يد رجل، وأقام في بلده، لا يصير محرما، لأنه لم
399

يوجد منه إلا الامر بالذبح، وذلك لا يكون من أفعال الحج.
ولو قلد شاته، وساقها، ونوى الاحرام: لا يصير محرما، لان تقليد
الشاة غير معتاد في باب الحج.
وكذلك لو جلل بدنه بأن ألبسها الجل ونوى الاحرام وساقها، لا
يصير محرما لان ذلك ليس بقربة، ولا نسك من مناسك الحج.
ولو أشعر بدنته، بأن طعنها في سنامها في الجانب الأيسر، فسال منه
الدم ونوى به الاحرام ولا يصير محرما: أما عند أبي حنيفة فلان الاشعار
مكروه وليس بسنة، وعندهما، وإن كان سنة، ولكن ليس من خصائص
الحج، لان الناس تركوه لأنه يشبه المثلة.
فأما إذا نوى عند الاحرام، ولم يذكر التلبية، ولم يوجد منه تقليد
البدنة والسوق، لا يصير محرما، عندنا.
وعند الشافعي: يصير محرما.
وروي عن أبي يوسف مثله.
والصحيح قولنا: لان مجرد النية لا عبرة به، لما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: إن الله تعالى عفا، عن أمتي ما تحدثت بها
أنفسهم، ما لم يتكلموا أو يفعلوا.
وأما بيان الحج والعمرة، والقران والمتعة
على سبيل الاستقصاء - فنقول:
إن من كان من أهل الآفاق إذا بلغ الميقات، وهو يريد العمرة
وحدها، ولم يسق الهدي مع نفسه، فإنه يتجرد، ويغتسل، أو يتوضأ،
والاغتسال أفضل.
ثم يلبس ثوبين: إزارا ورداء، غسيلين أو جديدين، ويمس من
400

الطيب ما شاء، ويدهن بأي دهن شاء، سواء كان يبقى على بدنه أثره
بعد الاحرام أو لا، في قول أبي حنيفة أبي يوسف.
وعلى قول محمد وزفر: يكره أن يتطيب يبقى أثره بعد الاحرام.
ثم يصلي ركعتين، ثم ينوي العمرة، ويلبي في دبر صلاته بذلك،
أو بعدما تستوي به راحلته على الوجه الذي ذكرنا، ويرفع صوته بالتلبية،
لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: أفضل الحج العج والثج،
فالعج رفع الصوت بالتلبية، والثج هو تسييل الدم بالذبح.
ثم يكرر التلبية في أدابر الصلوات المكتوبات والنوافل، بعد الاحرام
وكلما علا شرفا، أو هبط واديا، أو لقي ركبا، وكلما استيقظ من منامه
وفي الأسحار، هكذا جاءت الاخبار عن رسول الله (ص).
فإذا أتى مكة، فلا بأس بأن يدخلها، ليلا أو نهارا، ويأتي المسجد
الحرام ويبدأ بالحجر الأسود، فإن استقبله كبر، ورفع يديه كما يرفع في
الصلاة ثم يرسلهما، ثم يستلمه، إن أمكنه من غير أن يؤذي أحدا،
وإن لم يمكنه، كبر، وهلل، وحمد الله، وصلى على النبي آ، وهو رافع
يديه، مستقبلا بوجهه إليه. وقال مشايخنا: إن الأفضل أن يقبل الحجر،
إن أمكنه، ويستلمه، فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قبله
والتزمه، وقال: رأيت رسول الله آ بك حفيا. ثم يقطع التلبية عند
استلام الحجر، ولا يلبي بعده في العمرة.
ثم يأخذ عن يمين الحجر مما يلي الباب، فيفتتح الطواف فيطوف حول
الكعبة، سبعة أشراط: يرمل في الثلاثة الأول ويمشي على هينته في الأربع
البواقي، من الحجر إلى الحجر، ويستلم الحجر في كل شوط، مفتتحا
لطوافه به، فإن ازدحم الناس في الرمل، يرمل، بعد ذلك، إذا وجد
مسلكا.
401

وإن استلم الركن اليماني، كما استلم الحجر الأسود. فهو حسن
وإن تركه فلا يضره.
وذكر الطحاوي عن محمد أنه يستلم الركن، ويفعل به ما يفعل
بالحجر الأسود.
وينبغي أن يكون الطواف، في كل شوط، من وراء الحطيم، فإن
الحطيم من البيت.
فإذا فرغ من الطواف يصلي ركعتين، عند مقام إبراهيم عليه السلام
أو حيث تيسر عليه، في المسجد، وهي عندنا واجبة.
وقال الشافعي: سنة.
ثم إذا فرغ من ركعتي الطواف يعود إلى الحجر الأسود، فيستلمه،
إن أمكنه، أو يستقبله بوجهه، ويكبر، ويهلل ويحمد الله تعالى، على ما
ذكرنا، حتى يكون افتتاح السعي باستلام الحجر، كما يكون افتتاح
الطواف به.
ثم يخرج من باب الصفاء، أو من أي باب تيسر له، فيبدأ بالصفا،
فيصعد عليها، ويقف من حيث يرى البيت، ويحول وجهه إلى الكعبة،
ويكبر، ويهلل، ويحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم،
ويسأل الله تعالى حوائجه. ويرفع يديه، ويجعل بطون كفيه نحو السماء.
ثم يهبط منها نحو المروة، ماشيا، على هينته، حتى ينتهي إلى بطن
الوادي، فإذا كان عند الميل الأخضر سعى في بطن الوادي، سعيا حتى
يجاوز الميل الأخضر، ثم يصعد على المروة مشيا على هينته.
402

فإذا صعد، يقف، ويستقبل بوجهه الكعبة، ويفعل مثلما فعل على
الصفا، ويطوف بينهما سبعة أشواط: يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة، يعد
البداءة شوطا، والعود شوطا آخر، فيسعى في بطن الوادي، كلما مر
به.
وذكر الطحاوي وقال: يبتدئ في كل مرة بالصفا، ويختم بالمروة،
ولم يعد عودة من المروة إلى الصفا شوطا.
والصحيح هو الأول.
فإذا فرغ من السعي، يحلق أو يقصر، والحلق أفضل، وقد تمت
العمرة، وحل له جميع المحظورات الثابتة بالاحرام.
وليس عليه في العمرة طواف الصدر.
هذا إذا لم يسق الهدي، فإن ساق الهدي، أقام محرما، ولم يقصر،
ولم يحلق للعمرة، لان سوق الهدي دليل قصد التمتع، والمتمتع إذا ساق
الهدي، لا يحل له، ما لم يفرغ من الحج، فلهذا لم يقصر، ولم يحلق،
لأنه شرط الخروج، وهو لم يخرج.
وأما المفرد بالحج فإنه ينوي إحرام الحج عند الميقات.
فإذا أتى مكة، فإنه يستقبل بطواف اللقاء، تحية للبيت سبعة أشواط.
والأفضل أن لا يسعى بين الصفا والمروة لان طواف اللقاء سنة،
والسعي واجب، فما ينبغي أن يجعل الواجب تبعا للسنة، ولكنه يؤخر
إلى طواف الزيارة، لأنه ركن والواجب يجوز أن يكون تبعا للفرض. ومتى
أخر السعي عن طواف اللقاء، فإنه لا يرمل فيه، وإنما الرمل سنة في
طواف يعقبه السعي، عرفناه بالنص بخلاف القياس، فيقتصر على مورد
النص، لكن العلماء رخصوا في الاتيان بالسعي عقيب طواف اللقاء، لان
403

يوم النحر، الذي هو وقت طواف الزيارة، يوم شغل من الذبح ورمي
الجمار ونحو ذلك فكان فيه تخفيف بالناس.
وإذا أتى بالسعي، عقيب طواف اللقاء، فينبغي أن يرمل كما في
طواف العمرة.
ثم الحاج لا يقطع التلبية عند استلام الحجر، وفي العمرة يقطع.
ثم بعد طواف اللقاء له أن يطوف ما شاء، إلى يوم التروية،
ويصلي، لكل أسبوع، ركعتين في الوقت الذي يباح فيه التطوع.
فإذا كان يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، يصلي صلاة
الفجر بمكة، ثم يغدو مع الناس إلى منى، ويصلي بها الظهر والعصر
والمغرب والعشاء لأوقاتها، ويبيت بها ليلة عرفة.
فإذا أصبح يوم عرفة، يصلي صلاة الفجر بمنى، لوقتها المعروف.
فإذا طلعت الشمس، دفع منها إلى عرفات، على السكينة والوقار.
فإذا بلغ إليها، ينزل بها حيث أحب، إلا في بطن عرفة.
فإذا زالت الشمس يؤذن المؤذن، والامام على المنبر، فإذا فرغ من
الاذان، يقوم الامام، ويخطب خطبتين قائما، ويفصل بينهما بجلسة
خفيفة، كما في يوم الجمعة.
فإذا خطب الامام، يقيم المؤذن الصلاة ويصلي بهم الامام صلاة
الظهر، ثم يقوم ويصلي بهم صلاة العصر، في وقت الظهر، بآذان
واحد، وإقامتين.
ولا يشتغل الامام، ولا القوم، بالسنن والتطوع، فيما بينهما، وإذا
اشتغلوا بذلك أعاد المؤذن آذان العصر، ويخفي الامام بالقراءة فيهما كما في
سائر الأيام.
404

فإن كان الامام مقيما، من أهل مكة، يتم الصلاتين أربعا أربعا،
ويتم القوم معه، وإن كانوا مسافرين لان المسافر إذا اقتدى بالمقيم في
الوقت، يجب عليه الاتمام تبعا للامام.
وإن كان الامام مسافرا، يصلي ركعتين ركعتين، ويقول لهم بعد
الفراغ: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر.
فإذا فرغ من الصلاة، راح الامام إلى الموقف، والناس معه، عقيب
انصرافهم عن الصلاة، فيقف الامام على راحلته، وهو أفضل، وإلا
فيقف قائما، والناس يقفون معه. وكل من كان وقوفه إلى الامام أقرب،
فهو أفضل، لان الامام يعلم الناس أمور المناسك، حتى يستمع منه.
وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة فلا ينبغي الوقوف فيها، فيقفون
إلى غروب الشمس، فيكبرون، ويهللون، ويحمدون الله، ويثنون
عليه، ويصلون على النبي عليه السلام، ويسألون الله تعالى حوائجهم،
فإنه وقت مرجو: قال النبي عليه السلام: أفضل الدعاء دعاء أهل
عرفة، وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي عرفة: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت
بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وروي عن النبي عليه السلام أنه
قال: إن الله تعالى يباهي بأهل عرفة، يوم عرفة، فيقول: انظروا
ملائكتي إلى عبادي: يأتون شعثا غبرا، يأتون من كل فج عميق،
اشهدوا أني قد غفرت لهم، فيرجعون كيوم ولدتهم أمهم.
فإذا غربت الشمس دفع الامام، والقوم خلفه، على السكينة
والوقار، إلى مزدلفة، من غير أن يصلوا صلاة المغرب بعرفة، فإن دفع
أحد منهم، قبل غروب الشمس، ينظر: إن جاوز حد عرفة بعد غروب
405

الشمس، فلا شئ عليه، فإن جاوز قبل الغروب وجب عليه دم، وإن
عاد إلى عرفة قبل الغروب، ثم دفع الامام والقوم، بعد الغروب، سقط
عنه الدم، وقال زفر: لا يسقط، كما في مجاوزة الميقات.
وإن عاد إلى عرفة بعد الغروب، لا يسقط الدم، بالاجماع.
ثم وقت الوقوف بعرفة: بعد زوال الشمس من يوم عرفة، إلى
طلوع الفجر من يوم النحر، فمن حصل في هذا الوقت بعرفات، وهو
عالم بها أو جاهل، أو نائم أو مغمى عليه، فوقف بها، أو مر بها ولم
يقف، صار مدركا للحج، ولا يحتمل الفوات بعده، لقوله عليه
السلام: الحج عرفة، فمن وقف بها، فقد تم حجه، غير أنه إن
أدرك عرفة بالنهار، وعلم به، فإنه يقف بها إلى غروب الشمس، فإن لم
يقف بها، ومر بها، بعد الزوال قبل الغروب: يجب عليه الدم.
وإن أدركها بعد الغروب، فلم يقف ومر بها، فلا شئ عليه.
وإن لم يدرك عرفة، حتى طلع الفجر، من أول يوم النحر، فقد
فات حجه وسقط عنه أفعال الحج، ويتحول إحرامه إلى العمرة فيأتي
بأفعال العمرة، ويحل، ويجب عليه قضاء الحج من قابل إلا في فصل
واحد، وهو إنه إذا اشتبه عليهم هلال ذي الحجة، فأكملوا عدة ذي
القعدة ثلاثين يوما،، ووقفوا بعرفة، ثم تبين أن ذلك يوم النحر، فإن
وقوفهم صحيح، وحجهم تام، لحديث رسول الله آ: حجكم يوم
تحجون.
ثم إذا أتوا مزدلفة، ينزل واحد حيث أحب بمزدلفة، إلا وادي
محسر، ويكره النزول على قارعة الطريق، ولكن يتنحى عنه، يمنة أو
يسرة، حتى لا يتأذى به المار.
فإذا غاب الشفق، ودخل وقت العشاء، يصلي الامام بهم صلاة
406

المغرب، في وقت العشاء، ثم يصلي بهم صلاة العشاء بآذان واحد،
وإقامة واحدة، ولا يشتغل بينهما بتطوع، ولا بغيره، فإن اشتغل بذلك
فينبغي أن تعاد الإقامة، ويصلي العشاء، لأنه وجد الفاصل بينهما، فلا
بد من الإقامة لاعلام الناس.
ثم يبيت هو، مع الامام والناس، بمزدلفة.
فإذا طلع الفجر يصلي الامام مع الناس بغلس، ثم يقف مع الناس
في موضوع الوقوف، والأفضل أن يكون وقوف الناس خلف الامام عند
الجبل الذي يقال له قزح.
ووقت الوقوف بمزدلفة: بعد طلوع الفجر من يوم النحر، إلى أن
يسفر جدا، فمن حصل في هذا الوقت، في جزء من أجزاء المزدلفة
فقد أتى بالوقوف، ولا شئ عليه، غير أن السنة ما وصفنا.
ومن مر إلى منى، قبل الوقوف بمزدلفة، قبل طلوع الفجر، فعليه
دم، لترك الوقوف بمزدلفة، إذ هو واجب، إلا إذا كان به علة وضعف،
فيخاف الزحام، فيدفع منها ليلا، ولا شئ عليه، لما روي عن النبي عليه
السلام أنه رخص للضعفة أن يتعجلوا من مزدلفة بليل.
ثم يفيض الامام مع القوم، من مزدلفة، قبل طلوع الشمس، ويأتي
منى.
وينبغي أن يأخذ كل واحد حصى الجمار، من المزدلفة أو من
الطريق، ولا يأخذ من الجمار التي رميت عند الجمرة، لما قيل إنه حصى
من لم يقبل حجة، فإن من قبلت حجته رفعت جمرته.
ثم يأتي جمرة العقبة، قبل الزوال، فيرميها بسبع حصيات، في بطن
الوادي من أسفل إلى أعلى، فوق حاجبه الأيمن، مثل حصى الخزف،
ويكبر مع كل حصاة يرميها، ولا يرمي يومئذ من الجمار شيئا غيرها،
407

ولا يقف عندها، وبأي شئ رماه من الأرض، أجزأه، حجرا كان أو
طينا.
ولو رمى جمرة العقبة، بعد طلوع الفجر، قبل طلوع الشمس:
أجزأه عندنا.
وعند الشافعي: لا يجوز، إلا بعد طلوع الشمس.
والأفضل عندنا أن يرمي بعد طلوع الشمس.
ثم يرجع إلى منى، فإن كان معه شاة يذبح، وإن لم يذبح فلا
يضره، لأنه مفرد بالحج، فلا دم عليه، فينبغي أن يحلق أو يقصر،
والحلق أفضل.
وإن كان قارنا أو متمتعا، فعليه الذبح، فينبغي أن يذبح أولا، ثم
يحلق أو يقصر.
فإذا حلق حل له كل شئ إلا النساء.
ثم يزور البيت، من يومه ذلك، ويطوف طواف الزيارة، أو من
الغد، أو بعد الغد، فوقته أيام النحر، وهي ثلاثة أيام، وأولها أفضل.
ثم إن سعى في طواف اللقاء، لا يرمل في طواف الزيارة، وإن لم
يسع، عقيب طواف اللقاء، فيسعى عقيب طواف الزيارة بين الصفا
والمروة، ويرمل في هذا الطواف.
فإذا طاف طواف الزيارة، أو أكثره، حل له النساء أيضا.
ثم يخرج إلى منى، ولا يبيت بمكة ولا بالطريق، ويكره أن يبيت في
غير منى، في أيام منى.
فإذا كان في اليوم الثاني من أيام النحر، رمى الجمار الثلاث بعد
الزوال، فيبدأ بالجمرة الأولى التي عند مسجد الخفيف، فيرمها بسبع
408

حصيات، مثل حصى الخزف، ويكبر مع كل حصاة، يرميها، وقف
عندها، ويكبر، ويحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي عليه
السلام، ويدعو الله حوائجه، ويرفع يديه عند الدعاء بسطا.
ثم يأتي الجمرة الوسطى، ويفعل فيها كما يفعل في الأولى.
ثم يأتي جمرة العقبة، فيفعل بها، كما فعل بالأمس، ولا يقف.
ثم يرجع إلى رحله، فإن أراد أن ينفر من منى إلى مكة، فله ذلك،
لقوله تعالى: * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) *.
وإن أقام ولم ينفر حتى طلع الفجر من اليوم الثالث من أيام النحر،
فعليه أن يرمي الجمار الثلاث فيه، بعد الزوال، كما رماهن بالأمس،
فيقف عند الجمرتين الأوليين، ولا يقف عند العقبة.
وإذا أراد أن ينفر، ويدخل مكة، نفر قبل غروب الشمس، فإن لم
ينفر حتى غربت الشمس، فإن الأفضل له أن لا ينفر، حتى يرمي الجمار
الثلاث من الغد.
ولو نفر قبل طلوع الفجر من اليوم الرابع فلا شئ عليه، وقد أساء.
وعلى قول الشافعي: إذا أغربت الشمس من اليوم الثالث: فلا يحل
له النفر، حتى يرمي الجمار الثلاث، في اليوم الرابع.
وكذلك عندنا: إذا طلع الفجر من اليوم الرابع، وهو آخر أيام
التشريق، يجب عليه الإقامة، ولا يحل له النفر حتى يرمي الجمار
الثلاث، كما في الأمس، ولو نفر قبل الرمي: فعليه دم.
ثم من نفر في النفر الأول أو في الثاني، فإن له أن يحمل ثقله
مع نفسه، ويكره أن يقدمه، لأنه سبب لشغل قلبه.
409

وينبغي أن ينزل بالأبطح ساعة، ويقال له المحصب، وهو موضع
بين منى ومكة، لان النبي عليه السلام نزل به.
ثم يدخل مكة، ويطوف طواف الصدر، لما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف.
فإذا فرغ من طواف الصدر، فيأتي المقام، فيصلي عنده ركعتين، ثم
يأتي زمزم ويشرب من مائها، قائما، ويصب بعضه على وجهه ورأسه.
ثم يأتي الملتزم، وهو بين الحجر الأسود والباب ويضع صدره ووجهه
عليه، ويتشبث بأستار الكعبة ويسأل الله تعالى حوائجه، ثم يستلم
الحجر، ويكبر الله، إن أمكنه أن يدخل البيت فحسن، وإن لم يدخل
أجزأه ولا يضره.
ثم يرجع فإن أراد أن يعتمر بعد الفراغ من الحج، وبعدما مضى أيام
النحر والتشريف، كان له ذلك - ولكنه يخرج إلى التنعيم، فيحرم من
ذلك الموضع، لأنه لما فرغ من الحج صار كواحد من أهل مكة، وميقاتهم
للعمرة من الحل، نحو التنعيم وغيره.
وليس على أهل مكة، ولا على أهل المواقيت، طواف الصدر إذا
حجوا، لأنه طواف الوداع عند المفارقة، وهم غير مفارقين للبيت.
وليس على المعتمرين، من أهل الآفاق، طواف الصدر أيضا، لان
ركن العمرة هو الطواف، فكيف يصير ركنه تبعا له؟.
وليس على الحائض والنفساء طواف الصدر، ولا شئ عليهما
التركة، لان النبي عليه السلام رخص للنساء الحيض بتركه ولم يأمرهن
بإقامة شئ مقامه.
410

ولو نفر قبل طواف الصدر فقبل أن جاوز الميقات، له أن يرجع،
ويطوف، لأنه واجب.
وإن جاوز: فإن مضى، يجب عليه الدم، وإن رجع لا بد له من
إحرام العمرة، فيرجع ويعتمر، ثم يطوف للصدر.
هذا في حق المفرد بالحج.
وأما القارن فحكمه ما ذكرنا في المفرد بالحج، إلا أنه يحرم بالحج
والعمرة جميعا، ثم إذا أتى مكة يطوف لعمرته ويسعى، ثم بعد ذلك
يطوف ويسعى لحجته، ويقدم أفعال العمرة على أفعال الحج.
فأما إذا أفرد بالحج، ثم قبل الفراغ من أفعال الحج أحرم للعمرة،
يصير قارنا أيضا، لكنه أساء لترك السنة، فإن السنة تقديم أفعال
العمرة، على أفعال الحج، للقارن.
وإذا جاء وقت الحلق، فإنه يذبح أولا، ثم يحلق.
وأما المتمتع فإنه يحرم للعمرة أولا، ويأتي بها قبل يوم التروية، ثم
يحرم للحج، سواء حل من العمرة أو لم يحل، وهو ممن يحصل له العمرة
والحج، في أشهر الحج، بسفر واحد، من غير أن يلم بأهله، فيما
بينهما، إلماما صحيحا.
ولو قدم إحرامه للحج، على يوم التروية، فهو أفضل.
وهذا إذا لم يسق، مع نفسه، هدي المتعة.
فأما إذا ساق، فإنه لا يحل عن إحرام العمرة إلا بعد الفراغ من الحج
فله أن يحرم بالحج ويتم.
ثم المتعة والقران مشروعان في حق أهل الآفاق.
فأما في حق حاضري المسجد الحرام، وهم أهل مكة، وأهل داخل
411

المواقيت: فمكروه.
وأصله قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * إلى أن قال:
* (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) *.
ولو تمتعوا مع ذلك أو قرنوا، يجوز، ويلزمهم دم لإساءتهم ويكون
ذلك دم جبر، حتى لا يحل لهم أكله، وعليهم أن يتصدقوا به على
الفقراء.
فأما في حق أهل الآفاق، فمشروعة مستحبة، ويلزمهم
الدم، شكرا لما أنعم الله عليهم في الجمع بين النسكين، بسفر واحد، حتى يحل
له الاكل منه، ويطعم من شاء من الغني والفقير، ولا يجب عليه
التصدق، لكن المستحب أن يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي
الثلث، إلى أقربائه وجيرانه. كما في الأضحية.
وإنما يذبح في أيام النحر، ويذبح في الحرم، فإن كان معسرا ولم
يجد الهدي، فإنه يصوم ثلاثة أيام، قبل يوم عرفة، بعد إحرام العمرة،
والأفضل أن تكون ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة.
فإن فعل ذلك ثم جاء يوم النحر، حلق أو قصر، ثم يصوم سبعة
أيام، بعد مضي أيام النحر والتشريق، وإن لم يرجع إلى أهله.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: يصوم السبعة بعدما رجع إلى أهله، ولا يجوز قبله،
لقوله تعالى: * (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم - تلك
عشرة كاملة) *.
إلا أنا نقول: معنى قوله: رجعتم أي فرغتم من أفعال الحج -
412

كذا قال أهل التفسير.
ثم القران أفضل من الافراد، عندنا، ثم التمتع، ثم الافراد.
وقال الشافعي: الافراد أفضل منهما جميعا.
وقال مالك: التمتع أفضل، ثم القران، ثم الافراد.
وحاصل الخلاف أن القارن محرم بإحرامين، ولا يدخل إحرام العمرة
في إحرام الحج، عندنا.
وعنده: يكون محرما بإحرام واحد، ويدخل إحرام العمرة في إحرام
الحج، لقوله عليه السلام: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
ولكنا نستدل بإجماع الأمة على تسميته قرانا، والقران يكون بين
شيئين، وأما الحديث فتأويله: دخل وقت العمرة في وقت الحجة، فإنهم
كانوا يعدون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فنسخ الاسلام
ذلك.
وينبني على هذا الأصل مسائل:
منها: ما قلنا إن القران أفضل، لأنه جمع بين العبادتين بإحرامين،
وعنده بخلافه.
ومنها: أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعين، ويقدم أفعال
العمرة على أفعال الحج، وعنده يطوف طوافا واحدا، ويسعى سعيا
واحدا.
ومنها: أن الدم الواجب فيه دم نسك، عندنا، شكرا للجمع بين
العبادتين، وعنده دم جبر، لتمكن النقصان في الحج، بسبب إدخال
العمرة فيه، حتى لا يحل له أكل هديه عنده، وعندنا يحل.
ومنها: أنه إذا تناول محظور إحرامه، فإنه يجب عليه دمان، عندنا
413

وعنده: يجب عليه دم واحد.
ومنها: أنه لو أحصر القارن، فإنه يحل بهديين عندنا، وعنده يهدي
واحد.
ثم النساء في الحج والعمرة كالرجال إلا في أشياء منها:
أنه لا يحرم عليهم لبس المخيط.
وعليهن أن يغطين رؤوسهن، لكن لا يغطين وجوههن، ولو غطين
حافين - فيكون إحرامهم في وجوههن.
وكذا لا يرفعن أصواتهن بالتلبية.
وكذا لا يرملن في الطواف.
ولا يسعين في بطن الوادي، بين الصفا والمروة، بل يمشين على
هينتهن.
ولا يحلقن رؤوسهن، ولكن يقصرن: فيأخذن من أطراف شعورهن
قدر أنملة.
ويسقط عنهن طواف الصدر، في باب الحج، إذا حضن أو نفسن.
ولا يجب عليهم، بتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر، بسبب
الحيض والنفاس، شئ.
414

باب آخر
جمع في الكتاب:
مسائل الاحصار.
ومسائل المحظورات.
ومسائل الامر بالحج.
وبدأ بالاحصار - فقال:
من منع عن الوصول إلى البيت، بعدما أحرم، بالحج أو بالعمرة أو
بهما، بسبب مرض أو عدو، فهو محصر. و
الكلام في الاحصار في مواضع:
أحدها: أن الاحصار قد يكون بالعدو، كفارا كانوا أو مسلمين،
وقد يكون بالمرض أو بعلة مانعة عن المشي، وهذا عندنا.
وقال الشافعي: لا يكون إلا بالعدو.
وعلى هذا إذا أحرمت المرأة بحجة الاسلام، فلم تجد محرما، أو
مات عنها زوجها، فهي محصرة.
فأما إذا سرقت نفقة الحاج. أو هلكت راحلته: فإن كان لا يقدر
على المشي، أو يقدر في الجملة لكن يخاف أن لا يمكنه المشي مع القافلة،
فإنه يكون محصرا، وإن كان ممن يقدر على المشي، لا يكون محصرا، بل
يجب عليه أن يذهب، بخلاف ما إذا لم يكن قادرا على الراحلة في
415

الابتداء، لأنه صار الحج لازما عليه، بسبب الشروع.
فأما المرأة إذا أحرمت بالحج تطوعا، فللزوج أن يمنعها لان منفعتها
ملك الزوج، ولم تصر مستثناة في حق التطوع، فتصير محصرة وللزوج أن
يحللها، بأن يقبلها أو يعانقها فتحل للحال، من غير أن تذبح وعليها أن
تبعث الهدي فيذبح في الحرم، لان الاحلال مستحق عليها حقا للزوج.
وكذلك العبد والأمة إذا أحرما: فللمولى أن يحللهما، وعليها
الهدي، بعد العتاق وقضاء الحج والعمرة، لأنه يصير واجبا، بالشروع.
ولو أذن المولى لعبده في الحج، فأحرم يكره له أن يحلله، لأنه خلاف
وعده، ولكن مع هذا لو حلله، يجوز، ويحل، ولا يلزم المولى الهدي
بسبب الاحلال، لان الاحلال حق المولى.
وقال أبو يوسف: ليس له أن يحلله، لأنه أسقط حق نفسه،
بالاذن.
ولو باع العبد، فللمشتري أن يحلله من غير كراهة، وعلى قول زفر:
يكره.
ولو أذن لامته بالحج، ولها زوج، فأحرمت، فليس للزوج أن
يحللها، لان للمولى أن يسافر بها، فكان له أن يأذن بذلك.
والصحيح مذهبنا، لان الاحصار يتحقق بكل مانع من الوصول إلى
البيت، قوله تعالى: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) * من غير فصل
بين سبب وسبب، فهو على الاطلاق.
ومنها: حكم الاحصار وهو أن يبعث الهدي إلى الحرم، أو يأمر
رجلا ليشتري هديا، ثمة ويواعده، بأن يذبحه، عنه ثمة، في يوم
416

معين، فإذا ذبحه، عنه، يحل له كل شئ، ولا يحتاج إلى الحلق، في
قول أبي حنيفة ومحمد، وإن فعل فحسن.
وقال أبو يوسف: ينبغي أن يحلق، وإن لم يفعل، فلا شئ عليه.
وروي عنه أنه واجب لا يسع تركه.
وله أن يرجع إلى أهله إذا بعث الهدي، سواء ذبح عنه أو لا، لان
إذا لم يتمكن من المشي إلى الحج، فلا فائدة في المقام.
ومنها: أن يتحلل بشاة، وإن كان اسم الهدي يقع على الشاة والإبل
والبقر، لما روى جابر أن النبي عليه السلام أمر الناس عام الحديبية أن
يتحللوا بشاة ويذبحوا البقرة عن سبعة.
ومنها: أن هدي الاحصار لا يجوز ذبحه إلا في الحرم، عندنا.
وعند الشافعي في الموضع الذي يتحلل فيه.
والصحيح مذهبنا، لقوله تعالى: * (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) *.
ومنها: أن دم الاحصار يجوز تقديمه على أيام النحر عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز تقديمه على أيام النحر.
وأجمعوا أن هدي الاحصار عن العمرة يجوز، في أي وقت شاء.
ومنها: أن المحصر إذا لم يجد الهدي، ولا ثمن الهدي، لا يحل
بالاطعام والصوم، بل يبقى محرما إلى أن يجد الهدي. فيذبح عنه في
الحرم بأمره، أو، متى زال الاحصار، فيذهب إلى مكة، فيحج إن بقي
وقت الحج، وإن فات وقت الحج فيتحلل بأفعال العمرة.
هذا هو المشهور من قولنا.
417

وقال عطاء بن أبي رباح: يحل بالاطعام ثم بالصوم، بأن يقوم الهدي
طعاما، فيتصدق به على المساكين، وإن لم يجد الطعام: يصوم لكل
نصف صاع يوما.
وبه أخذ أبو يوسف في رواية.
وقال الشافعي، في قول: يحل بالصوم، ويصوم ثلاثة أيام في الحج،
ويصوم سبعة أيام بعدها، كما في المتمتع والقارن.
وفي قول: يطعم، وإن فات.
ومنها - أن المحصر إذا حل بالهدي، فعليه قضاء حجة وعمرة من
القابل: أما الحجة فلانه أوجبها بالشروع، وإن كانت تطوعا، وإن كانت
حجة الاسلام، وفاتت فعليه أداؤها وعليه قضاء عمرة، لفوات الحج في
عامة ذلك، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، هذا هو الأصل.
فإذا خرج بالهدي، فعليه قضاء العمرة، التي يتحلل بها فائت
الحج، وإن كان قارنا يقضي حجة وعمرة، مكان ما فاته من الحج
والعمرة، وعمرة أخرى لكونه فائت الحج.
ومنها: ما ذكرنا أن القارن إذا أحصر يبعث بهديين وما لم يذبحا
جميعا، لا يحل، خلافا للشافعي.
ومنها: أنه إذا ذبح هديه، قبل اليوم الذي واعد فيه، أو قبل يوم
النحر على قولهما، وقد باشر أفعالا هي حرام بسبب الاحرام، فإنه يجب
عليه الجزاء، لأنه متى ذبح في غير ذلك اليوم، أو ذبحه في غير الحرم،
فهو محمر بعد، والمحرم إذا باشر محظوره يجب عليه الجزاء.
ومنها: أنه إذا زال الاحصار، وقدر على إدراك الهدي والحج جميعا،
فإنه يجب عليه التوجه إلى البيت، لان الهدي إنما شرع عند الضرورة،
للاحلال، وقد زالت الضرورة.
418

وإن قدر على إدراك الهدي دون الحج فقد تحقق الاحصار، لأنه لا
فائدة في إدراك الهدي إذا فات الحج، فيذبح عنه، ويحل ولا يجب عليه
الذهاب إلى مكة.
وإن قدر على إدراك الحج، دون الهدي، فهذا إنما يتحقق على قول
أبي حنيفة في الحج، وعند الكل في الاحصار بالعمرة، لان ذبح الهدي
غير مؤقت بيوم النحر، فأما عندهما ففي ذبح هدي الاحصار عن الحج لا
يتحقق، لأنه يذبح يوم النحر، فإذا أدرك الحج فقد أدرك الهدي.
ثم الجواب على قياس قوله: لا يحل بالهدي، لأنه لم يتحقق بالاحصار
لأنه صار قادما على أداء الحج، فصار كالشيخ الفاني إذا قدر على الصوم.
وفي الاستحسان يحل بالهدي، لأنه لما لم يكن قادرا على إدراك
الهدي، صار حلالا بالذبح.
فإن ذهب من عامه ذلك إلى قضاء الحج، فإنه يقضي بإحرام
جديد، وعليه قضاء الحج لا غير، لأنه لم يفت عنه الحج في هذا العام.
وإن قضى في عام آخر، فعليه قضاء الحج، وعليه العمرة، لفوات
الحج، من العام الأول.
وأما مسائل المحظورات، فنقول:
إذا لبس المحرم المخيط: فإن كان يوما كاملا، فعليه دم، فأما إذا
كان في بعض اليوم، فإنه يجب عليه صدقة، لان لبس المخيط إنما حرم
لكونه من مرافق المقيمين، واللبس يوما كاملا يكون استمتاعا كاملا،
فعليه دم، وإلا فيجب بقدره من الصدقة بأن يقسم قيمة الهدي، على
ساعات اليوم، فما يصيب ذلك الوقت الذي ليس فيه، يجب عليه بقدره،
وكذا قال بعض أصحابنا.
وروي عن أبي يوسف أنه يطعم نصف صاع من بر.
419

وكل صدقة في الاحرام غير مقدرة فهي نصف صاع، إلا في قتل
الجرادة والقملة: فهي كف من طعام.
ولو لبس جميع الثياب ولبس الخفين أيضا، لا يلزمه إلا جزاء
واحد لان الجنس واحد.
ولو لبس قلنسوة ولف عمامة، للضرورة، لا يلزمه إلا فدية
واحدة.
ولو وضع قميصا على رأسه، وقلنسوة يلزمه، للضرورة، فدية،
وللقميص دم، لأنه لا حاجة إلى القميص في الرأس.
ولو لبس قميصا للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة، يلزمه
الفدية، لأجل الضرورة، والدم لأجل الخفين، من غير ضرورة.
وكذلك الجواب، في لبس الخفين، وتغطية الوجه والرأس في حق
الرجل.
أما المرأة فعليها أن تغطي رأسها، ولكن لا تغطي وجهها.
ثم في الجواب ظاهر الرواية: إذا غطى ربع الرأس أو الوجه، يوما
واحدا: يجب عليه الدم، وإن كان أقل من يوم: يجب عليه الصدقة
بقدره.
وفي رواية عن محمد أنه قدر بالأكثر.
وإن ألقى على منكبيه قباء، أو توشح قميصا، أو اتزر بسراويل، لا
شئ عليه، لأنه ليس بلبس معتاد.
وكذا لو غطى رأسه بما لبس بمعتاد، بأن وضع الإجانة على رأسه أو
جوالق حنطة على رأسه، فلا شئ عليه.
420

ولو أدخل اليد في الكمين، بعدما ألقى القباء على منكبيه، يجب
الجزاء، لان لبس القباء في العادة هكذا.
وإن لم يجد النعلين، ينبغي أن يقطع الخفين أسفل من الكعبين،
ويلبس، ولا شئ عليه.
وكذا لو فتق السراويل، ولم يبق إلى موضع التكة، لا شئ عليه،
لان هذا اتزار، وليس بلبس.
ولو حلق رأسه أو ربع رأسه: فعليه دم عند أبي حنيفة، وعندهما:
إن حلق أكثر الرأس: يجب دم، وإن كان أقل: يجب صدقة.
ولو قلم الأظفار: إن كان قلم يدا واحدة ورجلا واحدة، أو قلم
الأظافير كلها، لا يلزمه إلا دم واحد، لان جنس الجنابة واحد.
ولو قلم خمسة أظافير من اليدين، أو الرجلين: لا يجب عليه الدم،
لان هذا ليس من باب الارتفاق، ولكن يجب لكل ظفر نصف صاع من
حنطة.
وهذا إذا فعل بغير عذر.
فأما إذا فعل بعذر، فعليه الفدية، وهو أحد الأشياء الثلاثة: صيام
ثلاثة أيام، أو صدقة على ستة مساكين، أو ذبح شاة، لقوله تعالى:
* (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) *.
ثم المحرم يحرم عليه أخذ صيد البر، وقتله، والإشارة إليه،
والدلالة عليه، فأما صيد البحر فحلال له، قال الله تعالى: * (أحل لكم
صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم
حرما) *.
421

والصد ما كان متوحشا ممتنعا، إما بجناحيه أو بقوائمه، حتى إن
الدجاج والبط الأهلي لم يكن من الصيد.
فإن قتل صيدا.
فإن لم يقصد الصيد بالايذاء: يلزمه الجزاء.
وأما إذا قصد بالايذاء، وإن لم يكن مؤذيا في الأصل، أو كان من
جملة المؤذيات، كالكلب العقور والذئب، فلا شئ عليه.
وأصله حديث رسول الله (ص) أنه قال: خمس يقتلن في الحل
والحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والحدأة، والكلب العقور وفي
رواية: الغراب الأبقع.
وإذا قتل شيئا، من غير المؤذيات، ابتداء، ينظر: إما إن كان
مأكول اللحم، أو لم يكن مأكول اللحم.
فإن كان مأكول اللحم: فإنه يجب عليه قيمته عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، وتعتبر قيمته في الموضع الذي قتله فيه إن كان مما يباع في ذلك
الموضع، أو في أقرب الأماكن الذي يباح فيه ويقوم.
وإذا ظهرت قيمته فالخيار إلى القاتل عند أبي حنيفة، وأبي يوسف
ومحمد وفي رواية الكرخي: إن بلغت قيمته هديا، إن شاء اشترى بها هديا
فذبح في الحرم، وإن شاء اشترى بها طعاما، فتصدق على كل فقير
نصف صاع من حنطة، وإن شاء صام مكان كل نصف صاع من
حنطة، يوما.
فإن اشترى هديا، ذبح في الحرم، سقط عنه الجزاء، بمجرد الذبح
حتى إنه لو سرق، بعد الذبح، أو ضاع، بوجه ما قبل التصدق، فلا
شئ عليه، ولو تصدق بكله على فقير واحد، جاز، لا يجب عليه
التفريق على المساكين.
422

ولو ذبحه في الحل، لا يسقط عنه الجزاء، إلا إذا تصدق بلحمه على
الفقراء: على كل فقير قدر قيمة نصف صاع من حنطة، فيجزئه، بدلا
عن الطعام أو الصيام، إذا بلغت قيمته قيمة الصيد وإلا فيكمل.
وإذا اختار الطعام أو الصيام: يجزئانه في الأماكن كلها.
ويجوز في الاطعام، الإباحة والتمليك.
ويجوز الصوم متتابعا ومتفرقا.
ولو لم تبلغ قيمة الهدي، فله الخيار بين الاطعام والصيام.
والهدي هو كل ما يجوز في الأضاحي من الثنايا في المعز والشاة التي
أتت عليها السنة، إلا الجذع من الضأن، إذا كان عظيما، وهو الذي
أتت عليه ستة أشهر فصاعدا.
وفي رواية الطحاوي عن محمد: الخيار في ذلك إلى الحكمين: إن
شاءا حكما عليه هديا، وإن شاءا حكما عليه طعاما، وإن شاءا حكما
عليه صياما، وليس له أن يخرج من حكمهما:
فإن حكما عليه هديا، يجب عليه ذبح نظير المتلف من النعم الأهلي،
من حيث الهيئة والصورة، إن كان له نظير من حيث الصورة عند محمد
والشافعي، سواء كانت قيمته مثل قيمة المتلف أو أقل أو أكثر، بأن يجب
في الظبي شاة، وفي النعامة بدنة، وفي الأرنب عناق وفي اليربوع
جفرة، والجفرة من أولاد المعز الذي أتى عليه ستة أشهر.
وإن لم يكن له نظير من حيث الخلقة، فإنه يشتري بقيمته هديا،
فيذبح في الحرم.
423

فأما إذا ما حكما عليه طعاما أو صياما، فعلى ما قال أبو حنيفة وأبو
يوسف.
فأما إذا كان المقتول غير مأكول اللحم: سوى المؤذيات المنصوص
عليها، وقد قتله ابتداء، لا بطريق الدفع لأذاة فإنه يجب عليه الجزاء،
عندنا خلافا للشافعي، إلا أنه لا يجاوز عن ثمن هدي وإن كانت قيمته
أكثر من ذلك، في ظاهر الرواية.
وعن الكرخي أنه قال: لا يبلغ دما، بل ينقص منه شئ.
هذا حكم المحرم. فأما حكم صيد الحرم، فنقول: إن أخذ صيد الحرم وقتله،
حرام لحرمة الحرم: قال النبي عليه السلام في صفة الحرم:
لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها.
إذا ثبت هذا، فنقول:
الحلال إذا أتلف صيدا، مملوكا، في الحرام معلما، كالبازي
والحمام، فإنه يجب عليه قيمتان: قيمته معلما للمالك، وقيمته غير
معلم، حقا لله تعالى، لأنه جنى على حقين، إلا أن في حق الله تعالى
يضمن من حيث إنه صيد، لا من حيث إنه معلم.
ولو أتلف صيدا غير مملوك، يجب عليه جزاء واحد، وهو قيمته.
ولو أتلف المحرم صيدا الحرم: فالقياس أن يجب عليه جزآن، لوجود
الجناية على الحرم والاحرام.
وفي الاستحسان: يجب عليه جزاء واحد، لان حرمة الاحرام أقوى
من حرمة الحرم، فيجب اعتبار الأقوى.
424

ولو اشترك الحلالان في إتلاف صيد الحرم، يجب عليهما جزاء
واحد، لأنه في معنى إتلاف مال الناس، كإتلاف المساجد، لان منافعها
ترجع إلى العباد، فكان واجبا بطريق الجبر، والفائت واحد، فيكتفي
بضمان واحد، بخلاف المحرمين: إذا أتلفا صيدا، يجب على كل واحد
منهما جزاء كامل، لأنه وجب حزاء الفعل، وفعل كل واحد منهما جناية
على حدة.
ولو اشترك الحلال والحرام في قتل صيد خارج الحرم: إن كان غير
مملوك لا يجب على الحلال شئ، ويجب على المحرم جزاء كامل.
وإن كان مملوكا: يجب على الحلال نصف القيمة للمالك، وعلى
المحرم نصف القيمة للمالك، وجزاء كامل لأجل الجناية على الاحرام.
ولو أن حلالا ومفردا بالحج اشتركا في قتل صيد الحرم: يجب على
الحلال نصف الجزاء، وعلى المفرد جزاء كامل.
ولو اشترك الحلال والقارن: يجب على الحلال النصف وعلى القارن
جزآن.
ولو اشترك الحلال والقارن والمفرد: يجب على الحلال ثلث الجزاء،
وعلى المفرد جزاء واحد، وعلى القارن جزآن.
وكذلك قطع شجرة، وحشيش نبت بنفسه في الحرم، فإنه يحرم
قطعه، وعليه الجزاء، بقدر قيمته.
وإن كان مما ينبته الناس، وصار ملكا لهم: لا يجب الجزاء بقطعه
ولكن تجب القيمة لصاحبه إلا في الإذخر، فإنه لا يجب بإتلافه شئ،
فإن النبي عليه السلام لما قال: لا يختلى خلاها، قال العباس: إلا
الإذخر، فقال: الإذخر، استثناه، وحكم المستثنى خلاف حكم المستثنى
منه.
425

وأما الكمأة في الحرم: فلا بأس بأخذها، لأنها ليست من جنس
النبات.
وكذلك إذا جف النبات والشجر وسقط: فلا بأس بأخذه، لأنه
ليس من النبات، لأنه خرج عن حد النمو.
ولو أن الحلال إذا دخل الحرم، ومعه صيد مملوك: يجب عليه إرساله
في الحل، ولم يجز بيعه، لان التعرض للصيد حرام عليه في الحرم، وفي
إمساكه تعرض له، وكذلك في بيعه. ومعنى: يجب عليه إرساله في
الحل أن يضعه في يد رجل وديعة، لا أن يضيعه ويطيره.
ولو ذبحه يجب عليه الجزاء، لأنه لما وجب عليه الارسال، لحرمة
الحرم، فيكون بالذبح تاركا للواجب.
وكذلك الجواب في المحرم في الحل إذا كان في يده صيد مملوك: يجب
أن يرسله في يد رجل، ولا يجوز له أن يبيعه ويذبحه، لأنه تعرض له،
وإزالة لأمنه، وعليه الجزاء لو فعل ذلك.
وأما مسائل الامر بالحج - فنقول:
من مات، وعليه حجة الاسلام، وله مال، فلا يخلو: إما إن أمر
بأن يحج عنه، وأوصى به، أو لم يأمر الوصي بشئ.
أما إذا لم يوص، سقط عنه في حق أحكام الدنيا، ولا يجب على
الوارث والوصي أن يأمر بالحج، عنه بماله عندنا. وقال الشافعي: يجب
كمن مات، وعليه الزكاة من غير إيصاء: فإنه تسقط الزكاة عنه، عندنا،
خلافا له، وقد ذكرنا في كتاب الزكاة.
ولو أحج الوارث عنه رجلا، بمال نفسه، أو حج عنه، بنفسه، من
غير وصية من الميت، قال: تسقط عن الميت حجة الاسلام إن شاء الله.
426

وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه سأله رجل وقال: إن أمي
قد ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ فقال: نعم.
وإنما قال يجوز إن شاء الله، لان سقوط الحج بفعل الوارث،
بغير أمره، أنما يثبت بخبر الواحد، وإنه لا يوجب العلم قطعا، فلا
يحكم بسقوطه عنه قطعا، ولكن علق السقوط بالمشيئة، احترازا عن
الشهادة على الله تعالى، من غير علم قطعا.
فأما إذا أوصى، فإنه تصح وصيته من الثلث، لان ديون الله تعالى،
من حيث إنه لا يجب بمقابلتها عوض مالي، فهي بمنزلة التبرعات فيعتبر
خروجها من الثلث.
ويحج عن الميت من بلده، الذي يسكنه إن بلغ الثلث، ذلك لان
الواجب عليه الحج من بلده، الذي هو يسكنه.
ولو أنه خرج إلى بلد آخر، أقرب إلى مكة، فمات فيه وأوصى
بالحج ينظر: إن خرج لغير الحج: يحج من بلده بالاتفاق.
فأما إذا خرج للحج ثم مات في الطريق قال أبو حنيفة: يحج من
بلده.
وقالا: يحج من حيث بلغ، لان الخروج من بلده، بنية الحج،
يعتد من الحج، ولم يسقط اعتباره، بالموت، قال الله تعالى: * (ومن
يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على
الله) * ألا أن أبا حنيفة قال إنه لما لم يتصل بالحج بذلك الخروج، خرج
من أن يكون وسيلة، وإن كان حكم الثواب قائما بوعد الله، ألا ترى أنه
إذا خرج إلى السقر، بنية الحج، ثم أقام في بعض البلاد لعذر حتى دارت
السنة، ثم مات وأوصى بأن يحج عنه، من بلده، لا من
427

هذا الموضع الذي مات فيه، لما ذكرنا، كذا هنا.
ولو أوصى بأن يحج عنه من غير بلده من موضع أقرب إلى مكة،
أو أبعد، فإنه يحج عنه، كما أوصى، لأنه لا يجب الاحجاج عنه، بدون
الوصية، فيجب بمقدار الوصية.
وكذلك إذا أوصى بأن يحج عنه بمال مقدر: إن كان يبلغ أن يحج عنه
من بلده، يحج من بلده، وإلا يحج عنه من حيث بلغ، لأنه لما عين المال
يجب الحج بهذا القدر من المال، لأنه لم توجد الوصية بالزيادة عنه،
وبدون الوصية لا يجب.
وأما إذا أوصى بأن يحج عنه، مطلقا، فإنه يحج عنه من ثلث ماله:
فإن بلغ ثلث ماله أن يحج عنه من بلده: يجب ذلك.
وإن لم يبلغ من بلده: فالقياس أن تبطل الوصية، لأنه لا يمكن
تنفيذها على ما قصده الموصي.
وفي الاستحسان: يحج من حيث يبلغ، لان قصده إسقاط الفرض
عن نفسه، فإن لم يكن على الكمال فيصر إلى قدر الممكن.
ثم إن كان الثلث يبلغ أن يحج عنه، راكبا، من بلده، فأحج عنه،
ماشيا، لم يجز، لان الفرض هو الحج راكبا.
أما إذا لم يبلغ الحج، راكبا، من بلده وبلغ الحج راكبا، من بلد
آخر، أقرب إلى مكة، ومن بلده ماشيا: روى هشام عن محمد أنه يحج
من حيث بلغ، راكبا، ولا يجوز أن يحج من بلده ماشيا، لما ذكرنا أن
الفرض هو الحج راكبا فتنصرف الوصية إليه.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أن أحجوا عنه، ماشيا، من
بلدة: جاز، وإن أحجوا راكبا من حيث بلغ: جاز، لان في كل واحد
428

من الوجهين نقص من وجه وكمال من وجه فاستويا.
ثم الأفضل أن يحج عنه من قد حج عن نفسه حجة الاسلام، لان
من حضر مكة يكره له أن يترك حجة الاسلام، فيكون ما أدى حجا
مكروها، ولكن جاز لان النبي عليه السلام قال للخثعمية: حجي عن
أبيك ولم يسألها عن الحج عن نفسها، ولو كان الحكم يختلف لاستفسر.
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: لا يجوز، ويقع الحج عن الضرورة، أي عن
نفسه.
وعلى هذا: إذا حج الضرورة، بنية التطوع، يقع عن التطوع
عندنا، وعنده يقع عن الفريضة.
ثم الحاج عن غيره إذا أصاب في إحرامه ما يوجب الدم، وغير ذلك
من الصدقة: فهو على الحاج.
وكذا دم المتعة والقران، إذا أمر بالقران.
ولا يجب على المحجوج عنه إلا دم الاحصار، لأن هذه الدماء إنما
وجبت لفعله، فإما دم الاحصار فإنه يجب للتخليص عن مشقة السفر،
وهو الذي أوقعه في هذه المشقة، فعليه التخليص.
ولو جامع الحاج عن غيره، قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه،
ويمضي فيه، وينفق من ماله، ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه،
ثم يقضي الحاج من مال نفسه حجة وعمره، من القابل، لأنه أمر بحج
صحيح، فإذا أفسد فقد خالف الامر، فصار حاجا على نفسه، والمأمور
بالحج إذا حج عن نفسه، بنفقة الآمر، يضمن فإذا أفسده يجب عليه
القضاء، على ما بينا.
429

ولو كان مأمورا بالقران، فأفسد يلزمه قضاء حجة وعمرة، من مال
نفسه، لما قلنا.
فأما إذا فاته الحج، فإنه يصنع كما يصنع الذي فوته الحج ولا
يضمن النفقة، لأنه لم يوجد منه المخالفة، حتى ينقلب الحج عنه،
والفوات حصل لا بصنعه، فلا يلزمه الضمان، وعليه من مال نفسه،
الحج من قابل، لان الحجة لزمته بالدخول، فإذا فاتت لزمه قضاؤها،
لان فعل الحج يقع عن الحاج وإنما تقع عن المأمور ثواب الحج.
ثم ما فضل في يد الحاج من النفقة بعد رجوعه، فإنه يرده على
الورثة، ولا يسعه أن يمسكه، لان النفقة لا تصير ملكا للحاج، لان
الاستئجار لا يصح عندنا في باب الحج وسائر القرب التي تجري فيها
النيابة، حتى يكون المال أجرة، فيكون ملكا للأجير، ولكن ينفق المال
على حكم ملك الميت في الحج ليكون له ثواب النفقة، فإذا فرغ من الحج
يجب صرفه إلى ورثة الميت.
ولو كان للموصي بالحج وطنان، فإنه يحج عنه من أقرب الوطنين من
مكة، لأنا تيقنا بدخول الأقرب في الوصية، فكان الاخذ باليقين أولى.
ولو كان مكيا فقدم الري بالتجارة، فمات وأوصى بالحج، فإنه يحج
عنه من مكة، لما ذكرنا أن الوصية بالحج تصرف إلى ما فرض الله عليه
والفرض عليه من وطنه.
ولو أوصى بأن يحج عنه، فأعطى الوصي دراهم إلى رجل، ليحج
عنه، فحج عنه ماشيا، قال: يضمن النفقة ويحج عن الميت راكبا، لان
الحج الواجب على الموصي هو الحج راكبا، فتنصرف الوصية إليه فصار كما
لو نص أن يحج عنه راكبا، ولو نص وحج ماشيا يضمن النفقة لمخالفة
430

أمره، كذا هنا.
ومن حج عن ميت وقضى حجه، ثم نوى المقام بمكة خمسة عشر
يوما، له أن ينفق من مال نفسه في مقامه، وإذا رجع بعد ذلك ينفق من
مال الميت.
والحاصل أن الإقامة بعد الفراغ عن الحج: إن كانت معتادة:
فالنفقة في مال الميت.
وإن زادت على العادة: فالنفقة في ماله، وذلك مدة مقام القافلة،
لأنه لا يمكنه الخروج إلا مع الناس.
وإذا كان منتظرا لخروج القافلة فالنفقة في مال الميت.
وإذا تخلف عن القافلة: فالنفقة في ماله.
وقد قالوا في الآفاقي إذا حج عن غيره فدخل بغداد فأقام بها مقدار ما
يقيم الناس: فالنفقة في مال الميت، وإن أقام أكثر من ذلك: ففي
ماله، لكن إذا رجع: فالنفقة في مال الميت، لأن هذه مدة الرجوع،
فلم ينقطع حكم السفر الأول، فهي محسوبة على الميت.
هذا إذا لم يتخذ دارا بمكة للإقامة.
فأما إذ اتخذ دارا وأقام بها مدة. ثم رجع، فالنفقة في ماله، لا في
مال الميت، لأنه انقطع حكم السفر الأول، باتخاذه دارا للإقامة.
ولو أن الحاج عن غيره إذا تعجل الدخول بمكة، بأن دخل في شهر
رمضان محرما، فإن عليه أن ينفق من ماله إلى عشر الأضحى، وروي:
إلى ما قبل الحج بيوم أو يومين، لان هذا القدر من المقام يعتاد في مكة
للحج، فأما الزيادة عليه فلا، فينصرف الامر إلى المعتاد.
ولو دفع مالا إلى رجل ليحج عن الميت: فلم يبلغ مال الميت
431

النفقة، فأنفق الحاج من مال نفسه ومن مال الميت، فإن كان مال الميت
يبلغ الكراء، وعامة النفقة، فهو جائز، وإلا فهو لمال الميت،
ويحج عن الميت، من ماله من حيث يبلغ، لأنه إذا كان عامة النفقة من
مال الميت والقليل من مال الحاج، فالقليل يسقط اعتباره بمقابلته الكثير،
لحاجة الناس، لان الحاج يحتاج إلى أن يزيد من عنده النفقة، لزيادة
الترفه والتوسعة، وأن يزيد ثيابا، ولو جعل هذا مانعا لامتنع الناس عن
الحج عن الغير.
فأما إذا كان الأكثر من مال نفسه، فلا عبرة للقليل، فيكون حاجا
عن نفسه، فيضمن.
ثم في الحج ثلاث خطب: بين كل خطبتين فاصل، بيوم:
فالخطبة الأولى: قبل يوم التروية، وهو اليوم السابع من ذي الحجة،
بمكة، خطبة واحدة لا يجلس فيها، بعد صلاة الظهر، ويعلم الناس
فيها أحكام المناسك إلى يوم عرفة.
والخطبة الثانية: يوم عرفة، قبل صلاة الظهر: يخطب خطبتين،
يجلس بينهما جلسة خفيفة، ويعلم الناس فيها أحكام المناسك إلى أيام
الثاني من أيام النحر، وذلك بعد الاذان، كما في يوم الجمعة.
والخطبة الثالثة: في اليوم الثاني من أيام النحر، بعد صلاة الظهر،
بمنى، خطبة واحدة، يعلمهم فيها ما بقي من أحكام المناسك.
وهو قول أصحابنا الثلاثة.
وقال زفر: يخطب في الحج ثلاث خطب متواليات: يوم التروية،
ويوم عرفة، ويوم النحر.
والله تعالى اعلم.
432