الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ١٠
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء العاشر من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبيه) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
للطباعة والنشر بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب السير)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله تعالى إعلم أن السير جمع سيرة وبه سمى هذا الكتاب لأنه بين فيه
سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين
وأهل الذمة ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالانكار بعد الاقرار ومع أهل البغي
الذين حالهم دون حال المشركين وان كانوا جاهلين وفي التأويل مبطلين فأما بيان المعاملة
مع المشركين فنقول الواجب دعاؤهم إلى الدين وقتال الممتنعين منهم من الإجابة لان صفة
هذه الأمة في الكتب المنزلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبها كانوا خير الأمم قال
الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية ورأس المعروف الايمان بالله تعالى فعلى كل
مؤمن أن يكون آمرا به داعيا إليه وأصل المنكر الشرك فهو أعظم ما يكون من الجهل والعناد
لما فيه من انكار الحق من غير تأويل فعلى كل مؤمن أن ينهى عنه بما يقدر عليه وقد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا في الابتداء بالصفح والاعراض عن المشركين
قال الله تعالى فاصفح اصفح الجميل وقال تعالى وأعرض عن المشركين ثم أمر بالدعاء إلى
الدين بالوعظ والمجادلة بالأحسن فقال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
وجادلهم بالتي هي أحسن ثم أمر بالقتال إذا كانت البداية منهم فقال تعالى اذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا أي اذن لهم في الدفع وقال تعالى فان قاتلوكم فاقتلوهم وقال تعالى وان
جنحوا للسلم فاجنح لها ثم أمر بالبداية بالقتال فقال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقال
تعالى فاقتلوا؟ المشركين حيث وجدتموهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها
وحسابهم على الله فاستقر الامر على فرضية الجهاد مع المشركين وهو فرض قائم إلى قيام
2

الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة
من أمتي الدجال وقال صلى الله عليه وسلم بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت
ظل رمحي والذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم وتفسيره منقول عن
سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال بعث الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة
سيوف سيف قاتل به بنفسه عبدة الأوثان وسيف قاتل به أبو بكر رضي الله تعالى عنه
أهل الردة قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون وسيف قاتل به عمر رضى الله تعالى عنه
المجوس وأهل الكتاب قال الله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية وسيف قاتل به على
رضى الله تعالى عنه المارقين والناكثين والقاسطين وهكذا روى عنه قال أمرت بقتال
المارقين والناكثين والقاسطين قال الله تعالى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلي أمر الله ثم فريضة
الجهاد على نوعين أحدهما عين على كل من يقوى عليه بقدر طاقته وهو ما إذا كان النفير
عاما قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا وقال تعالى مالكم إذا قيل انفروا في سبيل الله اثاقلتم
إلى الأرض إلى قوله يعذبكم عذابا أليما ونوع هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط
عن الباقين لحصول المقصود وهو كسر شوكة المشركين واعزاز الدين لأنه لو جعل فرضا
في كل وقت على كل أحد عاد على موضوعه بالنقض والمقصود أن يأمن المسلمون ويتمكنوا
من القيام بمصالح دينهم ودنياهم فإذا اشتغل الكل بالجهاد لم يتفرغوا للقيام بمصالح دنياهم
فلذلك قلنا إذا قام به البعض سقط عن الباقين وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
تارة يخرج وتارة يبعث غيره حتى قال وددت أن لا تخرج سرية أو جيش الا وأنا معهم
ولكن لا أجد ما أحملهم ولا تطيب أنفسهم بالتخلف عنى ولوددت أن أقاتل في سبيل
الله تعالى حتى أقتل ثم أحيى ثم اقتل ففي هذا دليل على أن الجهاد وصفة الشهادة في
الفضيلة بأعلى النهاية حتى تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع درجة الرسالة وفى
حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله وسلم قال المجاهد في
سبيل الله كالصائم القائم الراكع الساجد الشاهد وفى حديث الحسن رضى الله تعالى عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غدوة أو روحة في سبيل الله تعالى خير من الدنيا وما فيها
والآثار في فضيلة الجهاد كثيرة وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سنام الدين
وعلى امام المسلمين في كل وقت أن يبذل مجهوده في الخروج بنفسه أو يبعث الجيوش
3

والسرايا من المسلمين ثم يثق بجميل وعد الله تعالى في نصرته بقوله تعالى يا أيها الذين
آمنوا ان تنصروا الله ينصركم فإذا بعث جيشا ينبغي أن يؤمر عليهم أميرا هكذا كان يفعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان به يجتمع كلامهم وتتألف قلوبهم وبذلك ينصرون قال
الله تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم وإنما يؤمر عليهم من
يكون صالحا لذلك بأن يكون حسن التدبير في أمر الحرب ورعا مشفقا عليهم سخيا
شجاعا ويحكي عن نصر بن سيار رحمه الله تعالى قال اجتمع عظماء العجم وغيرهم على أن قائد
الجيش ينبغي أن يكون فيه عشر خصال من خصال البهائم شجاعة كشجاعة الديك وتحنن
كتحنن الدجاجة وقلب كقلب الأسد وروغان كروغان الثعلب أي صاحب مكر وحيلة
وغارة كغارة الذئب وحذر كحذر الغراب وحرص كحرص الكركي وصبر على الجراح كالكلب
وحملة كالجبهة وسمن كما يكون لدابة بخراسان لا تهزل بحال وإذا أمر عليهم بهذه الصفة فينبغي له أن
يوصيه بهم كما بدأ الكتاب ببيانه ورواه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى عن علقمة بن مرثد عن عبد
الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا
أو سرية أوصى صاحبهم بتقوى الله في خاصة نفسه ففي هذا إشارة إلى الفرق بين الجيش
والسرية فالسرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار والجيش هو الجمع العظيم الذي
يجيش بعضهم في بعض قال صلى الله عليه وسلم خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة
وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفا عن قلة إذا كانت كلمتهم واحدة وفيه
بيان أنه ينبغي للامام ان يخص صاحب الجيش والسرية بالوصية لأنه يجعلهم تحت أمره
وولايته فيوصيه بهم وفى تخصيصه بالوصية بيان ان عليهم طاعته فلا تظهر فائدة الامارة
الا بذلك وقد أوصي أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان رحمه الله حين وجهه إلى
الشام في حديث طويل ذكره في السير الكبير وإنما يوصيه بتقوى الله تعالى لأنه بالتقوي
ينال النصرة والمدد من السماء قال الله تعالى بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا
يمددكم ربكم وبالتقوي يجتمع للمرء مصالح المعاش والمعاد قال صلى الله عليه وسلم ملاك دينكم
الورع وقال التقى ملجم وقيل في معنى قوله في خاصة نفسه أنه كان يوصيه سرا حتى
لا يقف على جميع ما يوصيه به غيره والأظهر ان المراد أنه كان يوصيه في حق نفسه أولا ثم
يوصيه بمن معه من المسلمين خيرا قال صلى الله عليه وسلم ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ونفسه
4

إليه أقرب فكأنه كان يوصيه بحفظ نفسه من المهالك وحفظ من معه من المسلمين حتى
لا يرضى لهم الا بما يرضى لنفسه ولا يخص نفسه بشئ دونهم فبذلك يتحقق التألف وانقيادهم
له ثم قال اغزوا باسم الله أي اخرجوا واقصدوا والغزو القصد قال الله تعالى أو كانوا غزا
وبين أنه ينبغي لهم أن يقصدوا على اسم الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي
بال لم يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أقطع قال وفى سبيل الله أي ليكن خروجكم لابتغاء
مرضاة الله تعالى لا لطلب المال فالمجاهد يبذل نفسه وماله فإنما يربح على عمله إذا قصد به
ابتغاء مرضاة الله تعالى فاما إذا كان قصده تحصيل المال فهو كرة خاسرة ثم قال قاتلوا من
كفر بالله فيه دليل فرضية القتال وانهم يقاتلون لدفع فتنة الكفر ودفع شر الكفار وهذا
عام لحقه خصوص فالمراد من كفر بالله من المقاتلين ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم حين رأى
امرأة مقتولة يوم فتح مكة استعظم ذلك وقال هاه ما كانت هذه تقاتل والى ذلك أشار
في هذا الحديث بقوله ولا تقتلوا وليدا ثم قال ولا تغلوا والغلول السرقة من الغنيمة وهو
حرام قال الله تعالى ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة قيل في التفسير يجعل ذلك في قعر
جهنم ويؤمر باخراجه وكل ما انتهي إلى شفير جهنم يرجع في قعرها وقال صلى الله عليه وسلم
الغلول من جمر جهنم والأسود الذي كان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصابه
سهم غرب فمات قال الصحابة رضى الله تعالى عنهم هنيئا له الشهادة فقال صلى الله عليه وسلم
كلا فان العباءة التي غلها من المغنم لتشتعل عليه نارا يوم القيامة وقال في خطبته ردوا الخيط
والمخيط فالغلول عار وشنار على صاحبه يوم القيامة قال ولا تغدروا والغدر الخيانة ونقض
العهد وهو حرام قال الله تعالى فانبذ إليهم على سواء ان الله لا يحب الخائنين وقال صلى
الله عليه وسلم لكل غادر لواء يركز عند باب أسته يعرف به غدرته يوم القيامة وكان صلى
الله عليه وسلم يكتب في العهود وفاء لا غدر فيه قال ولا تمثلوا والمثلة حرام كما روى عمران بن
حصين رضى الله تعالى عنه قال ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا بعد ما مثل
بالعرنيين الا ويحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة فتخصيصه بالذكر في كل وقت وخطبة دليل
على تأكيد الحرمة فيه قال ولا تقتلوا وليدا والوليد المولود في اللغة وكل آدمي مولود ولكن هذا
اللفظ إنما يستعمل في الصغار عادة ففيه دليل على أنه لا يحل قتل الصغار منهم إذا كانوا لا
يقاتلون وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان وقال
5

اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شروخهم والمراد بالشيوخ البالغين وبالشروخ الاتباع من
الصغار والنساء والاستحياء الاسترقاق قال الله تعالى واستحيوا نساءهم وفي وصية أبى بكر
رضى لله عنه ليزيد بن أبي سفيان لا تقتل شيخا ضرعا ولا صبيا ضعيفا يعني شيخا فانيا وصغيرا
لا يقاتل قال وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى الاسلام وفى نسخ أبي حفص رضي الله عنه
وإذا حاصرتم حصنا أو مدينة فادعوهم إلى الاسلام وفيه دليل أنه ينبغي للغزاة أن
يبدؤا بالدعاء إلي الاسلام وهو على وجهين فإن كانوا يقاتلون قوما لم تبلغهم الدعوة فلا يحل
قتالهم حتى يدعوا لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال ابن عباس رضي
الله عنهما ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى دعاهم إلي لاسلام وهذا لأنهم
لا يدرون على ماذا يقاتلون فربما يظنون أنهم لصوص قصدوا أموالهم ولو علموا أنهم يقاتلون
على الدعاء إلى الدين ربما أجابوا وانقادوا للحق فلهذا يجب تقديم الدعوة وان كانوا قد بلغتهم
الدعوة فالأحسن أن يدعوهم إلى الاسلام أيضا فالجد والمبالغة في الانذار بما ينفع وكان
صلى الله عليه وسلم إذا قاتل قوما من المشركين دعاهم إلى الاسلام ثم اشتغل بالصلاة وعاد بعد
الفراغ إلى القتال جدد الدعوة وان تركوا ذلك وبيتوهم فلا بأس بذلك لأنهم علموا على ماذا
يقاتلون ولو اشتغلوا بالدعوة ربما تحصنوا فلا يتمكن المسلمون منهم فكان لهم أن يقاتلوهم بغير
دعوة على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه أن يغير
على أبني صباحا وفي رواية ابنان صباحا فان أسلموا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وفيه دليل أنهم إذا
أظهروا الاسلام وجب الكف عنهم وقبول ذلك عنهم واليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله
فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم وقال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست
مؤمنا (قال) ادعوهم إلى التحول من ديارهم إلى دار المهاجرين وهذا في وقت كانت الهجرة
فريضة وذلك قبل فتح مكة كان يفترض على كل مسلم في قبيلته أن يهاجر إلى المدينة ليتعلم أحكام
الدين وينضم إلى المؤمنين في القيام بنصره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى والذين
آمنوا ولم يهاجروا الآية انتسخ ذلك بعد الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد
الفتح وإنما هو جهاد ونية وقال صلى الله عليه وسلم المهاجر من هجر السوء وهجر ما نهى الله
تعالى عنه قال فان فعلوا ذلك فاقبلوا منهم وكفوا عنهم والا فأخبروهم انهم كاعراب المسلمين
يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المسلمين وليس لهم في الفئ ولا في الغنيمة نصيب
6

وهذا كان الحكم حين كانت الهجرة فريضة فأمرهم بأن يعلموهم بذلك وهو أن يجرى عليهم
حكم الله تعالى لالتزامهم وانقيادهم لدين الحق وليس لهم في الفئ ولا في الغنيمة نصيب
لامتناعهم من الجهاد والقيام بنصرة الدين أو الاشتغال بتعلم أحكام الدين ففيه دليل أن
النصيب في الغنيمة والفئ لهذين الفريقين والغنيمة اسم للمال المصاب بالقتال على وجه يكون
فيه اعلاء كلمة الله تعالى واعزاز دينه والفئ اسم للمصاب من أموالهم بغير قتال كالخراج
والجزية قال الله تعالى وما أفاء الله على رسوله الآية فان أبوا فادعوهم إلى اعطاء الجزية
وهذا عام دخله الخصوص فالمراد من يقبل منهم الجزية من أهل الكتاب أو المجوس أو
عبدة الأوثان من العجم فاما المرتدون وعبدة الأوثان من العرب لا تقبل منهم الجزية
ولكنهم يقاتلون إلى أن يسلموا قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون أي حتى يسلموا فإن كانوا
ممن تقبل منهم الجزية بحب عرض ذلك عليهم إذا امتنعوا من الايمان لأنه أصل ما ينتهى
به القتال قال الله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وبقبول ذلك يصيرون من أهل دارنا
ويلتزمون أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات فيدعون إليه والمراد بالاعطاء القبول والالتزام
فان فعلوا ذلك فاقبلوا منهم وكفوا عنهم وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم
أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم فإنكم لا تدرون ما حكم الله تعالى فيهم وبه
يستدل محمد رحمه الله تعالى على أنه لا يجوز إنزال المحاصرين على حكم الله تعالى وأبو يوسف
رحمه الله تعالى يجوز ذلك ويقول كان هذا في ذلك الوقت فان الوحي كان ينزل والحكم
يتغير ساعة فساعة فالذين كانوا بالبعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يدرون
ما نزل بعدهم من حكم الله تعالى فأما الآن فقد استقر الحكم وعلى أن الحكم في المشركين
الدعاء إلى الاسلام وتخلية سبيلهم ان أجابوا قال الله تعالى فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة فخلوا سبيلهم فان أبوا فالدعاء إلى التزام الجزية فان أبوا فقتل المقاتلة وسبى الذرية
ومحمد رحمه الله تعالى يقول لا يجوز الانزال على حكم الله تعالى كما ذكر في الحديث فان
الحكم الذي ذكره أبو يوسف رحمه الله تعالى في قوم وقع الظهر عليهم فأما في قوم
محصورين ممتنعين في أنفسهم نزلوا على حكم الله تعالى فلا يدري أن الحكم هذا أو غيره
وفى هذا اللفظ دليل لأهل السنة والجماعة على أن المجتهد يخطئ ويصيب فإنه قال فإنكم
لا تدرون ما حكم الله فيهم ولو كان كل مجتهد مصيبا لكان يعلم حكم الله فيهم بالاجتهاد
7

لا محالة (فان قيل) فقد قال أنزلوهم على حكمكم ثم احكموا فيهم بما رأيتم ولو لم يكن المجتهد
مصيبا للحق لما أمر بانزالهم على حكمنا فإنه لا يأمر بالانزال على الخطأ وإنما يأمر بالانزال
على الصواب (قلنا) نعم نحن لا نقول المجتهد يكون مخطئا لا محالة ولكنه على رجاء من الإصابة
وهو آت بما في وسعه فلهذا أمر بالانزال على ذلك لا لأنه يكون مصيبا للحق باجتهاده لا محالة
وفائدة ذلك أنه لا يتمكن فيه شبهة الخلاف إذا نزلوا على حكمنا وحكمنا فيهم بما رأينا ويتمكن
ذلك إذا نزلوا على حكم الله تعالى باعتبار ان المجتهد يخطئ ويصيب فهذا فائدة هذا اللفظ
(قال) وإذا حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم ان تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله
صلى الله عليه وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم
فإنكم ان تخفروا ذممكم وذمم آبائكم فهو أهون والمراد بالذمة العهد ومنه سمى أهل الذمة قال
الله تعالى لا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة أي عهدا فهو عبارة عن اللزوم ومنه سمى محل
الالتزام من الآدمي ذمة والالتزام بالعهد يكون وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمسلمين ان يعطوا
المشركين عهد الله ولا عهد رسوله لأنهم ربما يحتاجون إلى النبذ إليهم ونقض عهد الله وعهد
رسوله لا يحل واليه أشار بقوله ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم يعنى عهدكم وعهد آبائكم
ممن المصالحة والصحبة التي كانوا يعتقدون الحرمة به في الجاهلية فإنكم ان تخفروا ذممكم فهو
أهون أي تنقضوا يقال أخفر إذا نقض العهد وخفر أي عاهد ومنه الخفير وهو الذي
يسير الناس في أمانه سمى خفيرا للمعاهدة مع الذين في أمانه أو مع الذين يتعرضون للناس
في أن لا يقصدوا من كان في أمانه وهذا بيان فوائد الحديث والله أعلم وعن ابن عباس رضي الله عنه
ان الخمس كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم فلله
ولرسوله سهم ولذي القربى سهم وللمساكين سهم ولليتامى سهم ولابن السبيل سهم ثم قسم أبو
بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل ومراده
بيان قول الله تعالى واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وكان ابن عباس رضي الله عنهما
يقول سهم الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم واحد وذكر اسم الله تعالى للتبرك
ومفتاح الكلام وكان أبو العالية يقول الغنيمة علي ستة أسهم سهم لله تعالى ويصرف ذلك إلى
عمارة الكعبة ان كانت الكعبة بالقرب منها والى عمارة الجامع في كل بلدة هي بالقرب من
موضع القسمة لأن هذه البقاع مضافة إلى الله تعالى وهذا السهم لله تعالى فيصرف إلى عمارة
8

البقاع المضافة إليه خالصا ولسنا نأخذ بهذا فذكر الله تعالى ليس للاستحقاق لان الدنيا
بما فيها لله تعالى ولكن للتبرك أو لتشريف هذا المال لان إضافة شئ من الدنيا إلى الله تعالى
على الخصوص لمعني التشريف كالمساجد والناقة وهذا المعني يتحقق في الغنيمة لأنها أصيبت
بطريق فيه اعلاء كلمة الله تعالى واعزاز دينه واما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد كان ثابتا في حياته وسقط بموته عندنا وقال الشافعي رحمه الله هو باق يصرف إلى كل
خليفة بعده لأنه كان يأخذ ذلك السهم في حياته ليستعين به في جوائز الوفود والرسل كما
قال صلى الله عليه وسلم والله ما يحل لي من غنائمكم الا الخمس والخمس مردود فيكم والخليفة
بعده محتاج إلى مثل ما كان هو محتاجا إليه فيصرف هذا السهم إليه ولكنا نقول الخلفاء الراشدون
بعده لم يرفعوا هذا السهم لأنفسهم فعرفنا أنه كان له بدرجة الرسالة لا بالقيام بأمور الناس
وذلك غير موجود في الخلفاء بعده ولما اجتمع الصحابة رضي الله عنهم ليفرضوا لأبي بكر
رضي الله عنه قدر كفايته لم يجعلوا ذلك من هذا السهم ولأنه كان له من الغنائم ثلاث
حظوظ خمس الخمس والصفي والسهم ثم الخليفة لا يقام مقامه في استحقاق الصفي فكذلك
في استحقاق خمس الخمس والصفي شئ نفيس كان يصطفيه لنفسه من سيف أو فرس أو
جارية كما روى أنه صلى الله عليه وسلم اصطفي ذا الفقار من غنائم بدر وكان سيفا لمنبه بن
الحجاج بخلاف ما يزعم الروافض أنه نزل من السماء لعلي رضي الله عنه واصطفى صفية من
غنائم خيبر وهذا شئ كان لرأس الجيش في الجاهلية كما قال القائل
لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفصول
فأما سهم ذوي القربى فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه إليهم في حياته وهم
صلبية بني هاشم وبني المطلب ولم يبق لهم ذلك بعده عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى
هو مستحق لهم يجمعون من أقطار الأرض فيقسم بين ذكورهم وإناثهم بالسوية وكان
الكرخي رحمه الله تعالى يقول إنما سقط بموته هذا السهم في حق الأغنياء منهم دون الفقراء
والطحاوي رحمه الله تعالى كان يقول سقط في حق الفقراء والأغنياء منهم جميعا وكان
أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول لم يكن لهم هذا السهم مستحقا بالقرابة بل كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصرفه إليهم مجازاة على النصرة التي كانت منهم ولم يبق ذلك المعني
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والاعتماد على هذا والشافعي رحمه الله تعالى استدل
9

بظاهر قوله تعالي ولذي القربى فقد أضاف إليهم سهما بلام التمليك فدل أنه حق مستحق
لهم وأن الأغنياء والفقراء فيه سواء لأنه ليس له في اسم القرابة ما ينبئ عن الفقر والحاجة
بخلاف سهم اليتامى ففي اسم اليتيم ما ينبئ عن الحاجة حتى لو أوصي ليتامى بني فلان وهم
لا يحصون فالوصية لفقرائهم بخلاف ما لو أوصى لأقرباء فلان وقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعطى الأغنياء منهم فإنه أعطى العباس رضي الله عنه وقد كان له
عشرون عبدا كل عبد يتجر في عشرين ألفا وأعطى الزبير بن العوام من غنائم خيبر خمسة
أسهم سهما له وسهمين لفرسه وسهما لقرابته وسهما لامه صفية وكانت عمة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ورضي عنها فإذا كان هذا الحكم ثابتا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقي بعده لأنه لا نسخ بعد وفاته ومن قال من مشايخنا رحمهم الله ان الا ستحقق للفقراء
منهم دون الأغنياء احتج بقوله تعالى كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وبين مصارف
الخمس ثم بين المعنى فيه وهو أن لا يكون شئ منه دولة بين الأغنياء تتداوله أيديهم واسم
ذوي القربى عام يتناول الأغنياء والفقراء فيخصه ويحمله على الفقراء بهذا الليل ومن قال
لاحق للفقراء والأغنياء منهم جميعا قال المراد بالآية بيان جواز الصرف إليهم لا بيان وجوب
الصرف إليهم وكان هذا مشكلا فان الصدقة لا تحل لهم فكان يشكل أنه هل يجوز صرف
شئ من الخمس إليهم ولم يزل هذا الاشكال ببيان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه
ما كان يصرف ما يأخذ إلى حاجة نفسه فأزال الله تعالى هذا الاشكال بقوله تعالى ولذي
القربى وإنما حملناه على هذا لاجماع الخلفاء الراشدين على قسمة الخمس على ثلاثة أسهم
ولا يظن بهم أنه خفى عليهم هذا النص ولا انهم منعوا حق ذوي القربى فعرفنا باجماعهم أنه
لم يبق الا الاستحقاق لأغنيائهم وفقرائهم والشافعي رحمه الله تعالى يقول لا اجماع ويستدل
بالحديث الذي ذكره عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما قال كان رأى علي رضي الله عنه
في الخمس رأى أهل بيته ولكنه كره ان يخالف أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال
والاجماع بدون أهل البيت لا ينعقد كيف وقد كان رأى علي رضي الله عنه معهم ولكنه
يتحرز من أن ينسب إلى مخالفة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ولكنا نقول ليس في هذا
الحديث بيان من كان يرى ذلك من أهل البيت وقد كان فيهم من لا يكون قوله حجة
وإنما كره علي رضي الله عنه هذه المخالفة لأنه رأى الحجة معهما فإنه خالفهما في كثير من
10

المسائل حين ظهر الدليل عنده وهذا لأنه كان مجتهدا ولا يحل للمجتهد ان يدع رأى نفسه
لرأى مجتهد آخر احتشاما له والدليل عليه حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله عن
علي رضي الله عنه قال اجتمعت انا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال العباس كبر سنى ورق عظمي وركبتني المؤن فان رأيت أن تأمر لي بكذا
وسقا من طعام فافعل ففعل ذلك وقالت فاطمة رضي الله عنها أنت تعلم مكاني منك فان
رأيت أن تأمر لي بمثل ما أمرت به لعمك فافعل ففعل لك وقال زيد بن حارثة كنت أعطيتني
أرضا فكنت أزرعها وأعيش بها ثم أخذتها منى فان رأيت أن تردها على فافعل ففعل ذلك
فقلت أنا ان رأيت أن توليني القسمة فيما هو حقنا كيلا ينازعني أحد بعدك فافعل ففعل ذلك
وقال للعباس رضى الله تعالى عنه هلا سألت كما سأل ابن أخيك فقال إلى ذلك انتهت مسألتي
فكنت أقسم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عهد أبى بكر وصدرا من خلافة
عمر رضى الله تعالى عنهما حتى أناه مال عظيم فدعاني لآخذ ما كنت آخذه وأقسمه بين
أهل البيت فقلت له ان بنا اليوم عنه غنى وبالمسلمين خلة فاصرفه إليهم ففعل ذلك وقال لي
العباس لقد جرمنا اليوم شيئا لا يعود الينا أبدا وكان رجلا داهيا فكان كما قال فبهذا تبين
أن عليا رضى الله تعالى عنه علم أن الصرف إليهم للحاجة لا للاستحقاق حين رد بقوله ان بنا
اليوم عنه غنى وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عرض علينا عمر رضي الله عنه أن
يزوج من الخمس أيمنا وأن يقضى به عن مغرمنا فأبينا إلا أن يسلمه الينا فأبى ذلك علينا قال
الشافعي رحمه الله تعالى وفي هذا دليل على أن ابن عباس رضي الله عنه كان يري استحقاق
ذلك السهم لهم وذلك ظاهر فيما ذكر بعد هذا من كتابه إلى نجدة وكتبت إلى أن تسألني عن
سهم ذوي القربى وانا لنزعم أنه لنا ويأبى علينا ذلك غيرنا ولكنا نقول بعد اجماع الخلفاء
الراشدين لا يؤخذ بقول ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في هذا كما لا يؤخذ به في العول
وغيره مع أن معني قوله فأبينا إلا أن يسلمه الينا لنتولى صرفه إلى المحتاجين منا لا لنصرفه إلى
أنفسنا وكل أحد يحب ذلك في أهل بيته ألا ترى أنه قال فأبى ذلك علينا وعمر رضي الله عنه
ما كان يعرف بمنع الحق من المستحق بل بايصال الحق إلى المستحق على ما قال صلى الله
عليه وسلم أينما دار عمر فالحق معه وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال قسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم الخمس يوم خيبر فقسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب
11

فكلم عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا نحن
وبنو المطلب في النسب إليك سواء فأعطيتهم دوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا
لم نزل نحن وبنو المطلب في الجاهلية والإسلام معا وفي بعض الروايات قالا لا ينكر
فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله تعالى فيهم ولكن نحن وإخواننا من بني المطلب
إليك في النسب سواء فما بالك أعطيتهم وحرمتنا فقال إنهم لم يفارقوني في الجاهلية ولا في
الاسلام وفى رواية فإنما بنو هاشم وبنو المطلب كشئ واحد وفي رواية لم نزل معهم هكذا
وشبك بين أصابعه واعتمادنا على هذا الحديث فقد بين رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن الاستحقاق بالنصرة دون القرابة وأن المراد بالقربى قرب النصرة حين شبك
بين أصابعه ومعني الحديث أن أصل النسب وهو عبد مناف كان له أربعة بنين هاشم
والمطلب ونوفل وعبد شمس ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أولاد هاشم فإنه
محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فكانت بنو هاشم أولاد جده
وجبير بن مطعم كان من بنى نوفل وعثمان رضي الله عنه كان من بني عبد شمس وولد جد
الانسان أقرب إليه من ولد أخ جده فهذا معنى قولهما لا ننكر فضل بني هاشم فأما بنو
نوفل وبنو عبد شمس كانوا مع بني المطلب في القرابة إسوة وقيل بنو نوفل وبنو عبد شمس
كانوا أقرب إليه من بني المطلب لان نوفلا وعبد شمس كانا أخوي هاشم لأب وأم
والمطلب كان أخا هاشم لأبيه لا لامه والأخ لأب وأم أقرب إلى المرء من الأخ لأب ثم
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب ولم يعط بني نوفل وبني عبد شمس فأشكل
ذلك عليهما فلذلك سألاه ثم أزال اشكالهما ببيان علة الاستحقاق أنه النصرة دون القرابة
ولم يرد يه نصرة القتال فقد كان ذلك موجودا من عثمان رضي الله عنه وجبير بن مطعم
وإنما أراد نصرة الاجتماع إليه للمؤانسة في حال ما هجره الناس على ما روى أن الله تعالى لما
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم ورأت قريش آثار الخير فيهم حسدوهم
وتعاقدوا فيما بينهم أن لا يجالسوا بني هاشم ولا يكلموهم حتى يدفعوا إليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليقتلوه وتعاقد بنو هاشم فيما بينهم على القيام بنصرة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فدخل بنو نوفل وبنو عبد شمس في عهد قريش ودخل بنو المطلب في
عهد بني هاشم حتى دخلوا معهم الشعب فكانوا فيه ثلاث سنين مع رسول الله صلى الله
12

عليه وسلم حتى أكلوا العلهز من الجهد القصة واليه أشار رسول الله صلى عليه وسلم انا
لم نزل نحن وبنو المطلب في الجاهلية والإسلام معا وإذا ثبت أن الاستحقاق بتلك النصرة
ولا تبقي تلك النصرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبقي الاستحقاق لا للانتساخ
بعد موته بل لانعدام الحكم لعدم علته وهذا معنى ما قلنا إن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم يصرفه إليهم مجازاة على تلك النصرة المخصوصة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكافئ كل من نصره يوما حتى قال يوما لما عرض عليه الأسارى لو كان مطعم بن عدي حيا
لو هبت هؤلاء السى؟ منه مجازاة له على ما صنع وقد كان مات على شركه ولكنه قام بنصرته
يوما وفيه قصة معروفة أو نقول ثبت بالكتاب أن الاستحقاق بالقرابة وببيان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ان الاستحقاق بالنصرة وما كان ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي
فصار هذا الاستحقاق ثابتا بعلة ذات وصفين القرابة والنصرة وانعدم أحد الوصفين وهو
النصرة بعد وفاته فلا يبقي الاستحقاق كما أنه لما انعدم أحد الوصفين في حق بني نوفل
وبني عبد شمس في حياته لم يعطهم شيئا فبنو هاشم وبنو المطلب بعد وفاته بمنزلة بني نوفل
وبني عبد شمس في حياته وتعليق الاستحقاق بالنصرة أولى منه بالقرابة لان القيام بنصرة رسول
الله صلى عليه وسلم قربة وطاعة ومال الله تعالى يجوز أن يستحق بعمل هو قربة ولا يجوز
ان يستحق بنفس القرابة لان قرابة الرجل سبب لاستحقاق ماله فاما مال الله تعالى
لا يستحق بالقرابة ولان درجة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى من أن تجعل علة
لاستحقاق شئ من الدنيا ولا معني لما يقول الخصم ان هذا السهم لهم عوض عن حرمة
الصدقة عليهم كما قال صلى الله عليه وسلم يا معشر بني هاشم ان الله تعالى كره لكم غسالة
الناس وعوضكم منها سهما من الخمس وهذا لان حرمة الصدقة عليهم لكرامتهم فلا
يدخل به عليهم نقصان يحتاج إلى جبره بالتعويض ولئن كان هذا السهم عوضا من حرمة
الصدقة فينبغي ان يستحقه من يستحق الصدقة لولا قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهم الفقراء دون الأغنياء وينبغي أن يكون استحقاقهم على نحو استحقاق الصدقة لولا قرابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقاقهم للصدقة لولا قرابة رسول الله صلى عليه وسلم
على وجه جواز الصرف إليهم لا وجوب الصرف إليهم فكذلك هذا السهم ونحن نقول إنه
يجوز صرف بعض الخمس إليهم وإنما ننكر وجوب الصرف إليهم بسبب القرابة وأيد جميع
13

ما قلنا حديث أم هانئ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس
لهم بعد وفاتي والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد باجماع الخلفاء الراشدين على العمل به وعن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان يحمل من الخمس في سبيل الله تعالى ويعطي منه نائبة
القوم فلما كثر المال جعل في غير ذلك وإنما أراد به ما كان يصرف من الخمس إلى ذوي
القربى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكر بعد هذا عن الضحاك ان أبا بكر
الصديق رضي الله عنه استشار المسلمين في سهم ذوي القربى فرأوا ان يجعل في الخيل
والسلاح وفي هذا بيان انهم كانوا مجمعين على أنه لا استحقاق لهم بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وان استحقاقهم في حياته كان للنصرة ألا ترى أنهم جعلوا مصرفة آلة النصرة وهي
الخيل والسلاح وقوله ويعطى منه نائبة القوم قيل المراد بالقوم ذوي القربى كما قال في
حديث ابن عباس رضي الله عنهما عرض علينا عمر رضي الله عنه ان يزوج منه أيمنا ويقضى
منه عن مغرمنا وقيل المراد بالقوم الغزاة أي يعطى منه ما يحتاج إليه الغزاة في سبيل الله تعالى
ومعلوم أن الصرف إلى المستحق المحتاج أولى من الصرف إلى محتاج غير مستحق وقوله فلما
كثر المال جعل في غير ذلك تعرض لبعض من كأن لا يصرفه إلى مصرفه في وقته يعنى
كثرة الاجماع فيه فمع كثرة المال لا يصل إلى المصرف الذي كان يصل إليه عند قلة المال وعن
ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رجلا وجد بعيرا في المغنم قد كان المشركون أصابوه قبل
ذلك فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن وجدته قبل القسمة فهو لك وان
وجدته بعد القسمة أخذته بالثمن إن شئت وفى رواية أخرى عن ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما أن المشركين أحرزوا ناقة لرجل من المسلمين بدارهم فاشتراها رجل منهم وأخرجها
فخاصم فيها مالكها فقال صلى الله عليه وسلم إن شئت أخذتها بالثمن وفي الحديثين حجة لنا
أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاحراز لأنهم لو لم يملكوا لرده رسول الله صلى الله عليه
وسلم على المالك مجانا بكل حال فان المسلمين إنما يملكون على الكفار مالهم لا مال المسلم وكذلك
المشترى إنما يملك على البائع ماله إلا أنه جعل له حق الاخذ قبل القسمة بغير شئ وبعد القسمة
بالقيمة لان المستولي عليه صار مظلوما وعلى من يذب عن دار الاسلام القيام بنصرته ودفع
الظلم عنه وذلك بإعادة ماله إليه وقبل القسمة لم يتعين الملك فيه لاحد بل هو باق على حق
الغزاة فكان عليهم الرد ليندفع به الظلم عن صاحبه وبعد القسمة قد تعين الملك لمن وقع في
14

سهمه وعليه دفع الظلم عنه ولكن ليس له أن يحول ملكه و حقه إليه إلا أن حقه في المالية
فلمراعاة النظر من الجانبين قلنا تعاد إليه العين بالقيمة ليصل المستولي عليه إلى عين ماله
ويصل الآخر إلى حقه في المالية ودليل أن حقه في المالية أن للامام بيع الغنائم وقسمتها
بين الغانمين ومراده بالثمن القيمة فالقيمة ثمن التعديل والمسمى ثمن التراضي ولهذا مكنه
من الاخذ من المشترى بالثمن لان حق المشترى فيما أعطى من ماله وهو الثمن فينظر له في
ذلك كما ينظر للمستولي عليه في إعادة ماله إليه وعن الشعبي رحمه الله تعالى أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه جعل أهل السواد ذمة المراد سواد العراق وفيه دليل على أن الامام إذا فتح
بلدة عنوة وقهرا فله أن يجعل أهلها ذمة ويضع الجزية على جماجمهم والخراج على أراضيهم
كما فعله عمر رضى الله تعالى عنه فإنه افتتح السواد عنوة وقهرا وذلك مشهور في كتب المغازي
وفيه أشعار وقد كان صاحب جيش العجم رستم بن فرخ هرمزان وقتل في الحرب وأنشد
الاعرابي الذي قتله فقال
ألم تر أنى حميت الذمار * وأبقيت مكرمة في الأمم
غداة الهزيمة إذ رستم * يسوق الفوارس سوق النعم
رماني بسهم وقد نلته * فصك الركاب ببطن القدم
وأضرب بالسيف يافوخه * فكانت لعمري فتح العجم
وقد كان صاحب جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان قد خرج به دماميل
فلم يحضر الحرب يوم الفتح وفى ذلك يقول قائلهم
ألم تر أن الله أنزل نصره * وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة * ونسوة سعد ليس فيهن أيم
وإنما بينا هذا لان بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله ينكرون فتح السواد عنوة وذكر
الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه لا أدري ماذا أقول في سواد الكوفة ولكني أقول قولا
بظن مقرون إلى علم وهذا جهل وتناقض من قائله فان الظن أن يترجح أحد الجانبين من
غير دليل فكيف يكون علما وفتح السواد عنوة وقهرا أشهر من أن يخفى على أحد حتى يحتاج
إلى هذا التكلف وربما يقول الشافعي رحمه الله أن عمر رضي الله عنه ملك الأراضي للمسلمين
واسترقهم ثم تركهم ليعملوا في أراضي المسلمين وما جعل عليهم من الخراج والجزية بمنزلة
15

الضريبة كالمولى يساوى عبده الضريبة ويستعمله وربما يقول من عليهم برقابهم وتملك
الأراضي ثم أجرها منهم والخراج الذي جعل عليهم أجرة وهذا بعيد فان جزيتهم أشهر
من أن تخفى وقد كانوا يتبايعون ذلك فيما بينهم ويتوارثونه من ذلك الوقت إلى يومنا هذا
فعرفنا أن الصحيح ما قاله علماؤنا رحمهم الله تعالى انه من عليهم برقابهم وأرضهم وجعل
عليهم الجزية في رؤسهم والخراج في أرضهم وإنما فعل ذلك بعدما شاور الصحابة
رضي الله عنهم على ما روى أنه استشارهم مرارا ثم جمعهم فقال اما اني تلوت آية من
كتاب الله تعالى واستغنيت بها عنكم ثم تلى قوله تعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل
القرى إلى قوله تعالى للفقراء المهاجرين إلى قوله تعالي والذين تبوؤا الدار هكذا في قراءة
عمر رضي الله عنه إلى قوله تعالى والذين جاؤوا من بعدهم ثم قال أري لمن بعدكم في هذا
الفئ نصيب ولو قسمتها بينكم لمن يكن لمن بعدكم نصيب فمن بها عليهم وجعل الجزية على
رؤسهم والخراج على أراضيهم ليكون ذلك لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين ولم يخالفه في
ذلك الا نفر يسير منهم بلال رضي الله عنه ولم يحمدوا على خلافه حتى دعا عليهم على المنبر
فقال اللهم اكفني بلالا وأصحابه فما حال الحول وفيهم عين تطرف أي ماتوا جميعا وذكر
عن عطاء رحمه الله تعالى قال كتب نجدة إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله هل للعبد في
المغنم سهم وهل كانت النساء يحضرن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتى يجب
للصبي سهم في المغنم وعن سهم ذوي القربى فكتب ابن عباس رضي الله عنهما إنه لاحق
للعبد في المغنم ولكن يرضخ له الحديث وفي هذا بيان ان الاستفتاء بالكتاب كان معروفا
فيهم فان نجدة كان حروريا وهم كانوا قوما يسألون سؤال التعمق فكان كثيرا ما يكتب نجدة
إلى ابن عباس رضي الله عنهما حتى ربما كان يضجر ابن عباس رضي الله عنهما ويقول لا يزال
يأتينا بأحموقة من خاطره ومع هذا كان يجيبه فيما كتب إليه وفيه بيان أنه لا يسهم للعبد
كما يسهم للحر وبه نأخذ فان العبد تبع للحر وليس من أهل أن يجاهد بنفسه حتى كان للمولى
أن يمنعه وهو ممنوع من الخروج بغير إذنه ولا يسوى بين الأصل والتبع في الاستحقاق
ولكن يرضخ له إذا قاتل بحسب جرأته وغنائه وكفايته وكتب إليه ان النساء كن يخرجن
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يداوين الجرحى وكان يرضخ لهن وخروج النساء مع رسول
الله عليه الصلاة والسلام مشهور في الآثار ومنهن من كانت تقاتل معه على ما روى أن
16

أم سليم بنت ملحان قاتلت يوم حنين شادة على بطنها وكانت حاملا حتى قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لمقامها خير من مقام فلان وفلان يعنى الذين انهزموا وهي التي قالت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم الا نقاتل هؤلاء الفرارين كما قاتلنا المشركين فقال صلى الله عليه وسلم
عافية الله أوسع لنا وأم أيمن كانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتداوى الجرحى
وتقوم على المرضى وبعض العجائز كانت تخرج مع خالد بن الوليد رضي الله عنه للطبخ والخبز
وسقي الماء وهذا دليل علي أنه لا بأس بخروج العجائز مع الجيش لهذه الاعمال ثم يرضخ لهن
لأنهن اتباع كالعبيد ولأنهن عاجزات عن القتال بنية والعبيد يعجزون عن ذلك بمنع الموالي
فاستويا في المعنى فلهذا يرضخ للفريقين وكتب أنه لاحق للصبي في المغنم حتى يحلم وإنما أراد
السهم الكامل أنه لا يثبت اسمه فيمن يسهم له ما لم يبلغ وبه نأخذ والأصل فيه حديث ابن
عمر رضي الله عنهما قال عرضت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع
عشرة سنة فردني ثم عرضت عليه يوم الخندق وانا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ولكن
يرضخ للصبي إذا قاتل فقد كان في الصبيان من يقاتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما روى أنه عرض عليه صبي فرده فقيل إنه رام فأجازه وعرض عليه صبيان فرد أحدهما
وأجاز لآخر فقال المردود أجزته ورددتني ولو صارعته لصرعته فقال صارعه فصارعه فصرعه
فأجازهما والمراد الإجازة في المقاتلين ليرضخ لهما لا ليسهم فقد ثبت أنه لا يستحق السهم
الا بعد البلوغ وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لاحق للعبد في المغنم والمراد السهم
الكامل فأما الرضخ ثابت له إذا قاتل باذن سيده أو المراد الآبق الخارج بغير إذن مولاه
وهذا لاحق له بل يؤدب على فعله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قسم غنائم بدر بعدما قدم المدينة وإنما أورد هذا ليبين أن الامام لا يشتغل بالقسمة
في دار الحرب لأنهم كانوا محتاجين في ذلك الوقت ثم أخر القسمة حتى قدم المدينة فدل
أنها لا تقسم في دار الحرب والذي يرويه الشافعي رحمه الله تعالى أنه قسمها بالسير شعب من
شعاب الصفراء والصفراء من بدر لا يكاد يصح بل المشهور أنه قسم بالمدينة حتى طلب منه
عثمان رضى الله تعالى عنه أن يضرب له فيها بسهم ففعل قال وأجرى يا رسول الله قال وأجرك
وكان خلفه بالمدينة على ابنته رقية يمرضها فماتت قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ما قاله بعضهم قدم علينا زيد بن حارثة بشيرا بفتح بدر حين سوينا على رقية يعني التراب
17

على قبرها وسأله طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن يضرب له بسهم وكان غائبا بالشام
فرافق قدومه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب له بسهم قال وأجري يا رسول الله
قال وأجرك وتكلموا في ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بالسهم ولم يشهدا بدرا
فذكر الواقدي رحمه الله تعالى أنه ضرب لثمانية نفر ممن لم يشهدوا بدرا بالسهم فقيل إنما
ضرب لعثمان رضى الله تعالى عنه لان تخلفه كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمرض
ابنته وكانت تحته وكان في ذلك فراغ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحق هو بمن
شهد بدرا ألا ترى أنه وعدله الاجر وطلحة كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتجسس
خبر العير فكان مشغولا بعمل المسلمين فجعله كمن شهد بدرا وقيل بل كان أسهم لهما لأنهما
كالمدد أما طلحة فقد كان في دار الحرب عازما على اللحوق بالمسلمين وعثمان رضي الله عنه
وإن كان بالمدينة فالمدينة إنما كان لها حكم دار الاسلام في ذلك الوقت حين كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم مع المسلمين فيها فأما بعد خروجهم فقد كانت الغلبة فيها لليهود والمنافقين
وهو دليل لنا على أن المدد إذا لحق الجيش في دار الحرب شركهم في الغنيمة وإن لم يشهد
الوقعة وقيل إنما أسهم لهما لان الامر في غنائم بدر كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطى من يشاء ويمنع من يشاء اما لأنها أصيبت بمنعة السماء أو لأنها كثرت المنازعة بينهم
فيها على ما روى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال ساءت أخلاقنا يوم بدر فحرمنا
ثم بين ذلك فقال كنا ثلاث فرق فرقة كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرقة
جمعوا الغنائم وفرقة اتبعوا المنهزمين فجعلت كل فرقة نقول الغنيمة لنا فارتفعت أصواتنا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فأنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال
لله والرسول فتبين أن الامر كان في غنائم بدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا
أعطى من أعطى ممن لم يحضر وذكر عن محمد بن إسحاق والكلبي رحمهما الله تعالى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين منصرفه من الطائف بالجعرانة وفي هذا
دليل أنها لا تقسم في دار الحرب فإنه أخر القسمة حتى أنتهي إلى الجعرانة وكانت حدود
دار الاسلام في ذلك الوقت لان فتح حنين كان بعد فتح مكة والجعرانة من نواحي مكة وقد
روي أن الاعراب طالبوه بالقسمة وأحاطوا به يقولون أقسم بيننا ما أفاء الله تعالى علينا حتى
ألجؤوه إلى سمرة وجذب بعضهم رداءه فتخرق فقال اتركوا لي ردائي فلو كانت هذه العضاء
18

إبلا وبقرا وغنما لقسمتها بينكم ثم لا تجدونني جبانا ولا بخيلا فمع كثرة مطالبتهم أخر
القسمة حتى انتهى إلى دار الاسلام فدل أنها لا تقسم في دار الحرب (قال) واما خيبر
فإنه افتتح الأرض وجرى فيها حكمه فكانت القسمة فيها بمنزلة القسمة في المدينة وقسم
الغنائم فيها قبل أن يخرج منها ففي هذا دليل أن الامام إذا افتتح بلدة وصيرها دار اسلام
باجراء أحكام الاسلام فيها فإنه يجوز له أن يقسم الغنائم فيها وقد طال مقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بخيبر بعد الفتح وأجرى أحكام الاسلام فيها فكانت من دار الاسلام القسمة
فيها كالقسمة في غيرها من بقاع دار الاسلام (قال) وقسم غنائم بني المصطلق في ديارهم
وكان قد افتتحها يعنى صيرها دار الاسلام ودل على ذلك حديث مكحول قال ما قسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم الغنائم الا في دار الاسلام وفى هذا دليل على أنها لا تقسم في دار
الحرب لان الأفعال المتفقة في الأوقات المختلفة لا تكون الا على صفة واحدة الا لداع
يدعو إليها وليس ذلك إلا لكراهة القسمة في دار الحرب وذكر عن ابن عباس رضى الله
تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس سهمين والراجل سهما يوم بدر وإنما
كان يوم بدر مع المسلمين فرسان وسبعون بعيرا ففي هذا دليل أنه يسهم للفرس دون غيره
من البهائم وهذا لان الارهاب الذي يحصل بالخيل لا يحصل بغيره قال الله تعالى ومن
رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وفيه دليل أنه يسهم للفرس سهم واحد وهو
حجة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنهما يقولان للفرس سهمان وللرجل سهم واحد وقد
ورد به بعض الآثار ولكن رجح أبو حنيفة رحمه الله تعالى حديث ابن عباس رضي الله عنه
ما في غنائم بدر قال السهم الواحد متيقن به لاتفاق الآثار وما زاد عليه مشكوك فيه
لاشتباه الآثار فلا أعطينه الا المتيقن ولا أفضل بهيمة على آدمي وسنقرره في موضعه إن شاء الله
تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما في جعل القاعد للشاخص ما جعل من ذلك
في الكراع والسلاح فلا بأس به وما صنع ذلك في متاع البيت فلا خير فيه وفيه دليل جواز
التجاعل بخلاف ما يقوله بعض الناس ان من خرج للجهاد لا يحل له أن يجتعل من غيره
واعتمدوا فيه ما روى أن رجلا استؤجر بدينارين للجهاد فلما جاء يطلب الغنيمة قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم بكم استؤجرت قال بدينارين قال إنما لك ديناران في الدنيا
والآخرة ولكنا نقول بهذا فنقول الاستئجار علي الجهاد لا يجوز والتجاعل ليس
19

باستئجار ولكنه إعانة على السير وهو مندوب إليه وجهاد بالمال والنفس جميعا قال الله تعالى
وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وقال جل وعلا ان الله اشتري من المؤمنين
أنفسهم وأحوال الناس متفاوتة فمنهم من يقدر على إقامة الفرض بهما ومنهم من يقدر على
إقامة الجهاد بالنفس لصحة بدنه ويعجز عن الخروج لفقره والآخر يعجز عن الخروج
والجهاد بالنفس لمرض أو آفة ويقدر علي الجهاد بالمال فيجهز بماله من يخرج فيجاهد بنفسه
حتى يكون الخارج مجاهدا بالنفس والقاعد المعطى المال مجاهدا بالمال والمؤمنون كالبنيان
يشد بعضهم بعضا ولهذا كره ابن عباس رضي الله عنهما لقابض المال أن يجعل ذلك في متاع
بيته لان المعطى أمره بالجهاد به وذلك في استعداده له والانفاق في الطريق على نفسه وهو
على وجهين عندنا ان قال هذا المال لك فاغز به فله أن يصرفه إلى ما يشاء لأنه ملكه المال ثم
أشار عليه بان يصرفه إلي الجهاد فإن شاء قبل مشورته وان شاء لم يقبل وان قال اغز بهذا المال
فليس له ان يصرفه إلى متاع بيته ولكن يشتري به الكراع والسلاح وينفق على نفسه في
طريق الجهاد وقد بينا نظيره في الحج وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يغزى العزب عن ذي
الحليلة ويعطى الغازي فرس القاعد وانه كان حسن التدبير والنظر للمسلمين فمن حسن نظره
هذا ان ذا الحليلة قبله مع أهله فلا يطيل المقام في الثغر والعزب لا يكون قبله وراء فيتمكن
من إطالة المقام فلهذا كان يأمر العزب بالخروج ومنهم من يروى الأعزب وكان يعطى
الغازي فرس القاعد ليكون صاحب الفرس مع زوجته يحفظها ويكون مجاهدا بفرسه والخارج
يكون مجاهدا ببدنه ثم منهم من يقول إنما كان يفعل ذلك بالتراضي فأما عند عدم الرضي
ما كان يفعل ذلك بل كان يجهز الغازي من بيت المال إن لم يكن مال فان مال بيت المال معد
لذلك والأصح أن نقول للامام أن يفعل ذلك عند الحاجة فإن لم يكن في بيت المال مال
ومست الحاجة إلى تجهيز الجيش ليذبوا عن المسلمين فله أن يحكم على الناس بقدر ما يحتاج
إليه لذلك لأنه مأمور بالنظر للمسلمين وإن لم يجهز الجيش للدفع ظهر المشركون على المسلمين
فيأخذون المال والذراري والنفوس فمن حسن التدبير أن يتحكم على أرباب الأموال بقدر
ما يحتاج إليه لتجهيز الجيش ليأمنوا فيما سوى ذلك وهو المراد بما ذكر بعده عن جرير بن
عبد الله ان معاوية رضي الله عنه ضرب بعثا على أهل الكوفة فرفع عن جرير وعن ولده
وقال جرير رضي الله عنه لا نقبل ذلك ولكن نجعل أموالنا للغازي ومعنى ضرب البعث
20

التحكم عليهم في أموالهم بقدر الحاجة لتجهيز الجيش فكأنه من على جرير وولده رضي الله عنه
م بأن رفع ذلك عنهم فقد كان موقرا فيهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقره
حتى قال جرير رضي الله عنه ما نظر إلى الا تبسم ولو في صلاته لكن لم يقبل جرير هذه
المنة منه لعلمه أن في الجهاد بالمال معنى الثواب واستحقاق المؤمن التوقير بكونه مستبقا إلى
الخيرات والطاعات ولكن قال لا أعطى المال إليك بل أدفع بنفسي إلى من أختاره من
الغزاة ليتبين به أنه غير مجبر على ما يعطى وبهذا يستدل من يقول من أصحابنا أن الأفضل
للمرء أن يشارك أهل محلته في اعطاء النائبة ولكنا نقول هذا كان في ذلك الوقت لأنه إعانة
على الطاعة فأما في زماننا إنما يوجد أكثر النوائب بطريق الظلم ومن تمكن من دفع الظلم عن نفسه
فذلك خير له وان أراد الاعطاء فليعطه من هو عاجز عن دفع الظلم عن نفسه وعن أداء المال
لفقره حتى يستعين على دفع الظلم فينال المعطى الثواب بذلك وعن أبي مرزوق عن رجل
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انه افتتح قرية بالمغرب فخطب أصحابه فقال لا أحدثكم
الا بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول يوم خيبر من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يسقين ماؤه زرع غيره ولا يتبع المغنم حتى يقسم ولا يركب دابة من فئ
المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه
ففيه دليل على أن صاحب الجيش عند الفتح ينبغي له ان يخطب ويعلم الناس في خطبته
ما يحتاجون إليه في ذلك الوقت فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعند
فتح خيبر فمما ذكر عنده في فتح خيبر هذا الحديث وفيه دليل على أنه لا يحل وطئ الحبالى
من الفئ وبه نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس الا لا توطأ الحبالى
من الفئ حتى يضعن ولا الحبالى حتى يستبرين بحيضة وفى وطئ الحامل سقى مائه زرع غيره
كما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قوة سمع الجنين وبصره وشعره بماء الواطئ
ففيه دليل انه ليس للغازي ان يبيع نصيبه قبل القسمة لان الملك لا يثبت له الا بالقسمة
وبيع مجرد الحق لا يجوز ولان نصيبه مجهول لا يدرى أين يقع وأي مقدار يكون وللامام
رأى في بيع الغنائم وقسمة الثمن فإنما يبيع ما هو مجهول جهالة متفاحشة وذلك باطل وفيه دليل
على أنه لا يحل لبعضهم الانتفاع بدواب الغنيمة وثيابها قبل القسمة وقد سمى ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذلك ربا الغلول في حديث آخر ونهى عنه ولكن هذا عند عدم
21

الحاجة فأما إذا تحققت الحاجة والضرورة فلا بأس بأن يفعل ذلك في دار الحرب بغير
ضمان وفى دار الاسلام يشترط ضمان النقصان لان عند الضرورة له أن يدفع الضرر عن
نفسه بمال الغير بشرط الضمان مع أنه لاحق له فيه فلأن يكون له ذلك فيما له فيه حق أولى
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا من المشركين وقع في الخندق فمات فأعطي المسلمون
بجيفته مالا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهاهم وفيه دليل لأبي يوسف
على أبي حنيفة ومحمد رحمهم الله تعالى في أنه لا يجوز للمسلم بيع الميتة من الحربي في دار
الحرب بمال فان مطلق النهى دليل فساد المنهى عنه ولكنهما يقولان إنما يجوز ذلك للمسلم
المستأمن في دار الحرب وموضع الخندق كان من دار الاسلام فلهذا نهى عن ذلك وهذا
ليس بقوى فان في دار الاسلام إنما لا يحل ذلك مع الحربي المستأمن فأما مع الحربي الذي
لا أمان له يجوز في دار الاسلام ودار الحرب لان ماله مباح فللمسلم أن يأخذه بأي وجه
يقدر عليه ولكن الأصح أن نقول إنما نهي عن ذلك لما عرف فيه من الكبت والغيظ
للمشركين لا لان ذلك حرام أو لئلا يظن بالمسلمين أنهم يجاهدون لطلب المال بل لابتغاء
مرضاة الله تعالى واعزاز الدين وعن الشعبي وزياد بن علاقة رحمهما الله تعالى أن عمر بن
الخطاب رضى الله تعالى عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضى الله تعالى عنه انى قد أمددتك
بقوم من أهل الشام فمن أتاك تتفقي القتلى فأشركه في الغنيمة فيه بيان أن الامام
إذا بعث جيشا ينبغي له أن يمدهم بقوم أخر ليزدادوا بهم قوة وان المدد إذا لحق الجيش بعد
إصابة الغنيمة قبل الاحراز فإنهم يشاركونهم في المصاب كما هو مذهب علمائنا رحمهم الله تعالى
وان مراد عمر رضي الله عنه في قوله الغنيمة لمن شهد الوقعة إذا كانت الوقعة في دار الاسلام
ودار الحرب بمنزلة موضع واحد فمن حصل من المدد في دار الحرب كان شاهدا للوقعة معنى
وتكلموا في معني قوله قبل أن تتفقي القتلى قيل معناه قبل أن تتشقق القتلى بطول الزمان
فجعل ذلك كناية عن الانصراف إلي دار الاسلام وقيل معناه قبل أن يميز قتلى المسلمين
من قتلى المشركين والتفقؤ عبارة عن هذا ومنه سمى الفقيه لأنه يميز الصحيح من السقيم
وقال الشاعر
تفقأ فوقه القلع السواري * وجن الخاز باز به جنونا
ومنهم من يروى تتفقي القتلى القاف قبل الفاء ومعناه قبل أن تجعلوا القتلى على قفاكم بالانصراف
22

إلى دار الاسلام وعن ابن أبي قسيط قال بعث أبو بكر رضي الله عنه عكرمة بن أبي جهل في
خمسمائة رجل مدد الزياد بن لبيد البياضي والمهاجر بن أمية المخزومي إلى اليمن فاتوهم حتى
افتتحوا النجير فأشركهم في الغنيمة وبهذا يستدل من يجعل للمد شركة وان لحقوا بالجيش
في دار الاسلام لان بالفتح قد صارت تلك البقعة دار اسلام ولكنا نقول تأويله أنهم فتحوا
ولم تجر احكام الاسلام فيها بعد وبمجرد الفتح قبل اجراء احكام الاسلام لا تصير دار اسلام
وعليه يحمل أيضا ما روى أن أبا هريرة رضي الله عنه التحق برسول الله صلى الله عليه وسلم
بعدما فتح خيبر وكذلك جعفر مع أصحابه رضي الله عنهم قدموا من الحبشة بعد فتح خيبر
حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدري بأي الامرين انا أشد فرحا بفتح خيبر أو بقدوم
جعفر ولم يشركهم في الغنيمة لأنهم إنما أدركوا بعد تصير البقعة دار الاسلام فلهذا لم يسهم
لهم مع أن غنائم خيبر كانت عدة من الله تعالى لأهل الحديبية خاصة كما قال الله تعالى وعدكم
الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وهما ما كانا من أهل الحديبية فلهذا لم يسهم لهما
والدليل على أن للمدد شركة إذا لحقوا بالجيش في دار الحرب ما روى أن أهل الكوفة غزوا
نهاوند فأمدهم أهل البصرة بألفي فارس وعليهم عمار بن ياسر رضي الله عنه فأدركوهم بعد
إصابة الغنيمة فطلب عمار رضي الله عنه الشركة وكان على الجيش رجل من عطارد فقال
يا أجدع أتريد أن تشركنا في غنائمنا فقال عمار رضي الله عنه خير أذني سببت وكان قد قطعت
احدى أذنيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ثم رفع إلى عمر رضي الله عنه فجعل
لهم الشركة في الغنيمة فبهذه الآثار يأخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود قينقاع علي بني قريظة ولم يعطهم من الغنيمة
شيئا في هذا دليل أنه لا بأس للمسلمين أن يستعينوا بأهل الذمة في القتال مع المشركين
وقد كره ذلك بعض الناس فقالوا فعل المشركين لا يكون جهادا فلا ينبغي أن يخلط بالجهاد
ما ليس بجهاد واستدلوا على ذلك بما روى أن رجلين من المشركين خرجا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال لا يغز معنا الا من كل على ديننا فأسلما ولكنا نقول في
الاستعانة بهم زيادة كبت وغيظ لهم والاستعانة بهم كالاستعانة بالكلاب عليهم وإنما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لعلمه ان الرجلين يسلمان إذ أبى ذلك عليهما ألا ترى أنه قال
في الحديث فأسلما وقيل كان يخاف الغدر منهما لضعف كان بالمسلمين يوم بدر كما قال الله
23

تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وإذا خاف الامام ذلك فلا ينبغي أن يستعين بهم وان
يمكنهم من الاختلاط بالمسلمين وهو تأويل ما ذكر من حديث الضحاك رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد فإذا كتيبة حسناء أو قال خشناء فقال من
هؤلاء قالوا يهود كذا وكذا فقال لا نستعين بالكفار أو تأويله أنهم كانوا متعززين في
أنفسهم لا يقاتلون تحت راية؟ المسلمين وعندنا إنما يستعين بهم إذا كانوا يقاتلون تحت راية
المسلمين فأما إذا انفردوا براية أنفسهم فلا يستعان بهم وهو تأويل ما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال لا تستضيئوا بنار المشركين وقال صلى الله عليه وسلم أنا برئ من كل
مسلم مع مشرك يعنى إذا كان المسلم تحت راية المشركين وعن الحكم أن أبا بكر رضي الله
عنهما كتب إليه في أسيرين من الروم أن لا تفادوهما وان أعطيتم بهما مدين من الذهب
ولكن اقتلوهما أو يسلما ففيه دليل أنه لا يجوز مفاداة الأسير بالمال كما هو المذهب عندنا
بخلاف ما يقوله الشافعي رحمه الله وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى الأسرى
يوم بدر وكان الفداء أربعة آلاف الا انه انتسخ ذلك بنزول قوله تعالى ما كان لنبي أن
يكون له أسرى إلى قوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقد كان
أبو بكر رضى الله عند قد أشار عليه بالفداء وعمر رضي الله عنه كان يشير بالقتل فمال رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى رأى أبى بكر رضي الله عنه لحاجة الصحابة رضي الله عنهم إلى
المال في ذلك الوقت واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لو نزل من السماء
عذاب ما نجى من ذلك الا عمر فلهذا بالغ أبو بكر رضى عنه في النهى عن المفاداة بقوله ولو
أعطيتم بهما مدين من ذهب ففيه دليل على أن الأسير يقتل إن لم يسلم وممن قتله رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر عقبة بن أبي معيط قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه
قدمه واضرب عنقه وأوف بنذر نبيك ومن رسول الله صلى الله عليه
وسلم على أبي عزة يوم بدر بشرط أن لا يعين عليه وكان شاعرا فوقع أسيرا يوم أحد
وأمر بقتله وكان طلب أن يمن عليه فقال صلى الله عليه وسلم لا تحدث العرب أني خدعت
محمدا مرتين ثم ذكر عن الحسن وعطاء رحمهما الله تعالى قال لا يقتل الأسير ولكن يفادى
أو يمن عليه وكأنهما اعتمدا ظاهر قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء ولسنا نأخذ بقولهما فان
حكم المن والمفاداة بالمال قد انتسخ بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم لان سورة
24

براءة من آخر ما نزل وذكر في بعض النوادر عن محمد رحمه الله تعالى قال كان ذلك في
عبدة الأوثان من العرب لأنه لا يجوز استرقاقهم فلم يكن في المن والمفاداة ابطال حق
المسلمين عما ثبت حقهم فيه ولكن هذا ضعيف والصحيح ما بينا أن حكم المن والمفاداة قد
انتسخ ولا يجوز للامام أن يفعل ذلك الا إذا عرف للمسلمين فيه منفعة عامة كما روى أن
ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة أسره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورضي الله عنهم وربطوه بسارية المسجد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
ما وراءك يا ثمامة فقال إن عاقبت عاقبت ذا ذنب وان مننت مننت على شاكر وإن أردت
المال فعندي من المال ما شئت فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط أن يقطع
الميرة عن أهل مكة ففعل ذلك حتى قحطوا وعن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه قال
لم يخمس طعام خيبر وكان قليلا فكان أحدنا إذا احتاج إلى شئ أخذ قدر حاجته وفى هذا
دليل أنه يباح لكل واحد من الغانمين أن يتناول من الطعام والعلف بقدر حاجته وقد رواه
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخمس الغنيمة
الا الطعام والعلف فكان يأخذ من ذلك بقدر حاجته وكتب صاحب جيش عمر رضي الله عنه
بالشام إليه انا فتحنا أرضا كثيرة الطعام فكرهت أن أمضى في ذلك شيئا الا بأمرك
فكتب إليه دع الناس ليصيبوا من ذلك بقدر حاجتهم بشرط أن لا يبيعوا فمن باع شيئا من
ذلك فقد وجب فيه خمس الله تعالى ورسوله وبهذه الآثار نأخذ لتساهل في أمر الطعام
بالناس وللعلم بتجدد الحاجة إليه في كل وقت وعجزهم عن الحمل من دار الاسلام ما يحتاجون
إليه للذهاب والرجوع إذا أمعنوا في دار الحرب فقد روى عن عبد الله بن المفضل قال
دلى على جراب من شحم من بعض حصون خيبر فاحتضنته وقلت في نفسي لا أعطى أحدا
منه شيئا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ويتبسم ولم ينكر عليه ذلك لعمله
بحاجته وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون يد على
من سواهم تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم والمراد باليد النصرة يعني النصرة للمسلمين
على من سواهم كما قال الله تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وفى قوله تتكافأ؟ دماؤهم
دليل لنا على المساواة بين العبيد والأحرار في حكم القصاص ولا معنى لاستدلال الشافعي
رحمه الله تعالى بهذا اللفظ أنه لا يقتل مسلم بكافر لان فيه اثبات التساوي في دماء المسلمين
25

لا نفي المساواة بين دمائهم ودماء غيرهم بل ذلك مفهوم والمفهوم عندنا ليس بحجة وبقوله يسعى
بذمتهم أدناهم يستدل محمد رحمه الله تعالى على صحة أمان العبد فان أدنى المسلمين العبيد ولكنا
نقول معناه يسعى بذمتهم أقربهم إلى دار الحرب وهو من يسكن الثغور مشتق من الدنو وهو
القرب لامن الدناءة قال الله تعالى فكان قاب قوسين أو أدنى وقيل معناه أقلهم في القرب
ويكون ذلك من القلة كما في قوله تعالى ولا أدنى من ذلك ولا أكثر فيكون ذلك دليلا على
صحة أمان الواحد أو المراد به الفاسق لأنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسب
العبد الورع إلي الدناءة وقيل المراد بالذمة عقد الذمة دون الأمان وذلك صحيح من العبد
عندنا وعن أبي عمير مولى آبي اللحم قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم
حنين فقال لي تقلد هذا السيف فتقلدته فجررته على الأرض فأعطاني؟ من حربي المتاع ومنهم
من يروى مولى أبى اللحم والأشهر هو الأول لان مولاه كان يأبى اللحم فسمى بآبي اللحم وفى
الحديث إشارة إلى صغره لان جر السيف على الأرض لصغره وقيل لا بل فعل ذلك على طريق
الخيلاء كما يفعله المبارز بين الصفين وفائدة الحديث أن من قاتل ممن لا يستحق السهم لصغر أو
رق فإنه يرضخ له لأنه أعطاه من حربي المتاع يعنى الشفق منه على سبيل الرضخ وعن ابن
عباس رضي الله عنهما قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم لمستهل الشهر وأقام
عليها أربعين يوما وفتحها يعنى الطائف في صفر وفى هذا دليل على أنه لا بأس بالقتال في الشهر
الحرام فان المحاصرة من القتال وقد روى أنه نصب المنجنيق على الطائف ففعله بيان أن
ما كان من حرمة القتال في الأشهر الحرم قد انتسخ وكان الكلبي رحمه الله يقول ذلك ليس
بمنسوخ ولسنا نأخذ بقوله في ذلك بل بما روى عن مجاهد رحمه الله قال النهى عن القتال في
الأشهر الحرم منسوخ نسخه قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقد بينا أن سورة
براءة من آخر ما نزل فانتسخ به ما كان من الحكم في قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام
قتال فيه الآية (فان قيل) كيف يستقيم دعوى النسخ بهذه الآية وقد قال الله تعالى فإذا انسلخ
الأشهر الحرام فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية (قلنا) المراد به مضى مدة الأمان الذي
كان لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى كما قال فسيحوا في الأرض أربعة
أشهر ووافق مضى ذلك انسلاخ الأشهر الحرم والدليل على نسخ حرمة القتال في الأشهر
الحرم قوله تعالى منها أربعة حرم إلى قوله فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة
26

كما يقاتلونكم كافة قيل معناه لا تظلموا فيهن أنفسكم بالامتناع من قتال المشركين ليجترئوا
عليكم بل قاتلوهم كافة لتنكسر شوكتهم وتكون النصرة لكم عليهم وفيما ذكر من الاخبار
في الأصل عن الزبير رضي الله عنه عمن شهد المشاهد قال شهدت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم بني قريظة فقال من كانت له عانة فاقتلوه ومن لم تكن له عانة فحلوا عنه
فكنت ممن لا عانة له فحلى عني قلت وما من أحد الا وله عانة فالعانة في اللغة الموضع
الذي ينبت عليه الشعر ولكن المراد من نبت الشعر على ذلك الموضع منه وجعل اسم الموضع
كناية عنه وبه يستدل مالك رحمه الله تعال فإنه يجعل نبات الشعر دليل البلوغ ولسنا نقول
به لاختلاف أحوال الناس فيه فنبات الشعر في الهنود يسرع وفى الأتراك يبطئ وتأويل
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف من طريق الوحي أن نبات الشعر في أولئك
القوم يكون عند البلوغ أو أراد تنفيذ حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فإنه كان من حكمه
بأن يقتل منهم من جرت عليه الموسى لعلمه أنه كان من المقاتلة فيهم وذكر عن محمد بن
إسحاق والكلبي رحمهما الله ان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان مع سهم
عاصم بن عدي وفيه دليل على أن الامام ينبغي له أن يقسم الغنيمة على العرفاء أولا ثم يقسم
كل عريف على من تحت رايته ليكون ذلك أسهل وفيه دليل على تواضع رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنه لم يجعل باسم نفسه سهما ولكن جعل نفسه تحت راية غيره وروى أن أول
السهام خرج يومئذ سهم عاصم بن عدي لكون سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم
وذكر عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله ما يصلح إلى من فيئهم ولا مثل
هذه الوبرة أخذها من سنام بعيره الا الخمس والخمس مردود فيكم فأدوا الخيط والمخيط
فان الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال
أخذت هذه لأخيط بها بردعة بعير لي فقال صلى الله عليه وسلم أما نصيبي فهو لك فقال أما
إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها وفيه دليل حرمة الغلول وان ذلك في القليل والكثير ويستدل
الشافعي رحمه الله تعالى بالحديث في جواز هبة المشاع فقد وهب رسول الله صلى الله عليه
وسلم نصيبه من الرجل وكان مشاعا ولكنا نقول مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم
من هذا المبالغة في المنع من الغلول يعنى انك تطلب منى أن أجعل لك هذه الكبة ولا ولاية
27

لي الا على نصيبي منها فقد جعلت نصيبي منها لك ان جاز ليبين به أنه ليس للامام ولاية
ابطال حق الغانمين وتخصيص أحدهم بشئ منه مع أن الكبة من الشعر لا تحتمل القسمة
بين الجند لكثرتهم فإنه لا يصيب كل واحد منهم شيئا منتفعا به إذا قسمت وعندنا هبة
المشاع فيما لا يحتمل القسمة يجوز وعن أبي المليح أسامة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال في حجة الوداع كل ربا كان في الجاهلية موضوع وأول ربا يوضع ربا العباس
ابن عبد المطلب زاد في رواية وكل دم كان في الجاهلية موضوع وأول دم يوضع دم ربيعة
ابن الحارث وان العباس رضي الله عنه بعدما أسلم يوم بدر رجع إلى مكة باذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فكان يربى بمكة قبل نزول التحريم وبعد نزوله لان حكم الربا لا يجرى
بين المسلم والحربي في دار الحرب وقد كانت مكة يومئذ دار حرب ثم بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه موضوع لا خصومة فيه بعد الفتح وقيل مراده أنه لا مطالبة له بما
بقي منه بعد الفتح قال الله تعالى وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين وإنما بدأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم بربا العباس رضي الله عنه فيما أخبر أنه موضوع ليبين أن فعله ليس على
نهج الملوك فالملوك في الأوامر يبدؤن بالأجانب وبدأ رسول الله صلى عليه وسلم
بعمه ليبين للناس أن القريب والبعيد عنده في حكم الشرع سواء وذكر عن حبيب بن
سلمة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل في البداءة الربع وفى الرجعة الثلث وفيه
دليل على جواز التنفيل للتحريض على القتال كما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه
وسلم بقوله يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال وبظاهره يستدل الأوزاعي رحمه الله
تعالى في جواز التنفيل بعد الإصابة فان التنفيل في الرجعة يكون بعد الإصابة ولكنا نقول
المراد أنه كان ينفل السرية الأولى الربع والسرية الثانية الثلث قبل الإصابة لا بعدها وهذا
لان التنفيل للتحريض والجيش في أول دخولهم ينشطون في القتال مالا ينشطون بعد
تطاول المدة ولهذا قلل نفل السرية الأولى وزاد في نفل السرية الثانية ولان السرية الثانية
يحتاجون إلى أن يمعنوا في الطلب فلهذا زاد في النفل لهم وذكر عن الزهري رحمه الله تعالى
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعقر الخيل في أرض العدو وهو دليلنا على مالك
رحمه الله تعالى فإنه يجوز العقر فيما يقوم عليه من الدواب من الغنيمة كانت أو من غيرها
لحديث جعفر الطيار رضي الله عنه فإنه لما استقتل يوم موته وعلم أنه لا ينجو منهم عقر فرسه
28

وتقدم في نحر العدو حتى قتل ولكنا نقول في العقر مثله ونهي رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولعل فعل جعفر رضي الله عنه كان قبل النهي فانتسخ به
وعن الضحاك رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال لا تقتلوا
وليدا ولا النساء ولا الشيخ الكبير وقد بينا حرمة قتل النساء والصبيان منهم لأنهم لا يقاتلون
وكذلك الشيخ الكبير الذي أمن من قتاله بنفسه ورأيه ولا يرجى له نسل أما إذا كان له رأى
يقتل ألا ترى ان دريد بن الصمة قتل يوم حنين وكان ابن مائة وستين سنة وقد ذهب بصره
ولكنهم أحضروه ليستعينوا برأيه وأشار إليهم بأن يرفعوا الثقل إلى عليا بلادهم ويلقوا
المسلمين على متون الخيل بسيوفهم فخالفوه في ذلك وفيه يقول
أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد الأضحى الغد *
وإنما قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيه في الحرب وعن ابن عمر رضي الله عنه
ما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تدخل المصاحف أرض العدو والمشهور فيه ما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو وإنما نهى عن ذلك
مخافة ان تناله أيدي العدو ويستخفوا به فعلي هذا النهى في سرية ليست لهم منعة قوية فاما
إذا كانوا جندا عظيما كالصائفة فلا بأس بأن يتبرك الرجل منهم بحمل المصحف مع نفسه
ليقرأ فيه لأنهم يأمنون من ذلك لقوتهم وشوكتهم (فان قيل) أهل الشرك وان كانوا
يزعمون أن القرآن ليس بكلام الله تعالى فيقرون أنه كلام حكيم فصيح فكيف
يستخفون به (قلنا) إنما يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين وقد ظهر ذلك من فعل القرامطة في
الموضع الذي أظهروا فيه اعتقادهم على ذكره ابن رزام في كتابه أنهم كانوا يستنجون
بالمصاحف وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار ان هذا النهى كان في ذلك
الوقت لأنه يخاف فوت شئ من القرآن من أيدي المسلمين فأما في زماننا فقد كثرت
المصاحف وكثر الحافظون للقرآن عن ظهر القلب فلا بأس بحمل المصحف إلى أرض العدو
لأنه لا يخاف فوت شئ من القرآن وان وقع بعض المصاحف في أيديهم وذكر عن يزيد
ابن هرمز قال انا كتبت كتاب ابن عباس رضي الله عنهما إلى نجدة كتبت إلى تسألني عن
قتل الوالدان وان عالم موسى قتل وليدا وقد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل
الولدان فلو كنب تعلم في الولدان ما كان يعلم عالم موسى كان ذلك وقد بينا ان نجدة كان
29

يسأل ابن عباس رضي الله عنهما سؤال التعمق حتى سأله يوما لماذا طلب سليمان عليه السلام
الهدهد قال ليخبره بالماء فإنه يبصر الماء تحت الأرض وإن كان إلى مائة ذراع فقال إنه
لا يبصر الفخ تحت التراب فكيف يبصر الماء تحت الأرض فقال ابن عباس رضي الله عنه
ما إذا جاء القضاء عمى البصر ومما سأله هذا الذي رواه وجوابه ما قال ابن عباس رضي
الله عنهما أن عالم موسى كان يعلم من ذلك الغلام ما أظهره لموسى عليه السلام حين استعظم
ذلك فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن ذلك الغلام الذي
قتله عالم موسى كان بالغا فقد كان عاقلا مميزا والبلوغ في ذلك الوقت كان بالعقل ثم ذكر
في الحديث وكتبت تسألني عن اليتيم متى يخرج من اليتم فإذا احتلم يخرج من اليتم ويضرب
له بسهم وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد الحلم والذي روى أن الكفار
كانوا يسمون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيم أبى طالب بعد المبعث قد كانوا يقصدون
الاستخفاف به لا انه في الحال يتيم قيل هذا لطف من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنهم
كانوا يشتمون يتيما وهو لم يكن يتيما ولا تتناوله تلك الشتمة كما روي أنهم كانوا يسمونه
مذمما ويشتمون مذمما وهو كان محمدا صلى الله عليه وسلم فلا تتناوله تلك الشتمة فهذا مثله
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب معاملة الجيش مع الكفار)
(قال) رضي الله عنه وإذا غزا الجيش أرضا لم تبلغهم الدعوة لا يحل لهم أن يقاتلوهم حتى
يدعوهم الاسلام ليعرفوا انهم على ماذا يقاتلون وهو معنى حديث ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى دعاهم إلى الاسلام ولو قاتلوهم بغير
دعوة كانوا آثمين في ذلك ولكنهم لا يضمنون شيئا مما أتلفوا من الدماء والأموال عندنا
وقال الشافعي رحمه الله تعالى في القديم يضمنون ذلك لبقاء صفة الحقن والعصمة إلا أن
يوجد الاباء منهم ولا يتحقق ذلك إلا أن تبلغهم الدعوة ولكنا نقول العصمة المقومة تكون
بالاحراز وذلك لم يوجد في حقهم ولئن كانت العصمة بالدين كما يدعيه الخصم فهو غير موجود
في حقهم أيضا والقتل اما أن يكون للمحاربة كما يقوله علماؤنا رحمهم الله تعالى أو للشرك كما
يقوله الخصم وذلك موجود في حقهم ولكن شرط الإباحة تقديم الدعوة فبدونه لا يثبت
30

ومجرد حرمة القتل لا يكفي لوجوب الضمان كما في النساء والولدان منهم وكما نهي عن قتل
من بلغته الدعوة منهم بطريق المثلة ثم لا يكون موجبا للضمان عليه على من فعله وان كانوا
قد بلغتهم الدعوة فان هم دعوهم فحسن لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
معاذا في سرية؟ وقال لا تقاتلوهم حتى تدعوهم فان أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدؤكم فان بدؤوكم
فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا؟ منكم قتيلا ثم أروهم ذلك القتيل وقولوا لهم هل إلى خير من هذا
سبيل فلان يهدي الله تعالى على يديك خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت وقد بينا
ان المبالغة في الانذار قد تنفع وان تركوا ذلك فحسن أيضا لأنهم ربما لا يقوون عليهم إذا
قدموا الانذار والدعاء ولا بأس ان يغيروا عليهم ليلا أو نهارا بغير دعوة لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم أغار علي بني المصطلق وهم غارون غافلون ويعمهم على الماء بسقي؟ وعهد
إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه ان يغيروا على أبنا صباحا ثم يحرق وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغير على قوم صبحهم واستمع النداء فإن لم يسمع أغار عليهم
حتى روى أنه صبح أهل خيبر وقد خرج العمال ومعهم المساحي والمكاتل فلما رأوهم ولوا
منهزمين يقولون محمد والخميس والخميس الجيش وقد كانوا وجدوا في التوراة ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يغزوهم يوم الخميس ويظفر عليهم وكان ذلك اليوم يوم الخميس فلما قالوا ذلك
قال رسول الله صلى الله وسلم الله أكبر خربت خيبر انا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين ولا بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها ويخربوا البنيان ويقطعوا الأشجار
وكان الأوزاعي رحمه الله تعالى يكره ذلك كله لحديث أبي بكر رضي الله عنه في وصية يزيد
ابن أبي سفيان رضي الله عنه لا تقطعوا شجرا ولا تخربوا ولا تفسدوا ضرعا ولقوله تعالى
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية وتأويل هذا ما ذكره محمد رحمه الله تعالى في
السير الكبير ان أبا بكر رضي الله عنه كان أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الشام
تفتح له على ما روى أنه قال يوما انكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر فقد أشار أبو بكر
رضي الله عنه إلى ذلك في وصيته حيث قال فان الله ناصركم عليهم وممكن لكم أن تتخذوا
فيها مساجد فلا يعلم الله منكم انكم تأتونها تلهيا فلما علم أن ذلك كله ميراث للمسلمين كره
القطع والتخريب لهذا ثم الدليل على جوازه ما ذكره الزهري رحمه الله تعالى ان النبي صلى
الله عليه وسلم أمر بقطع نخيل بني النضير فشق ذلك عليهم حتى نادوه ما كنت ترضى
31

بالفساد يا أبا القاسم فما بال النخيل تقطع فأنزل الله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة
على أصولها الآية واللينة النخلة الكريمة فيما ذكره المفسرون وأمر بقطع النخيل بخيبر حتى
أتاه عمر رضي الله عنه فقال أليس ان الله تعالى وعدلك خيبر فقال نعم فقال إذا تقطع نخيلك
ونخيل أصحابك فأمر بالكف عن ذلك ولما حاصر ثقيفا أمر بقطع النخيل والكروم حتى شق
ذلك عليهم وجعلوا يقولون الحبلة لا تحمل الا بعد عشرين سنة فلا عيش بعد هذا ففي هذا بيان
أنهم يذلون بذلك وان فيه كبتا وغيظا لهم وقد أمرنا بذلك قال الله تعالى ولا يطؤن موطئا
يغيظ الكفار ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوطاس يريد الطائف بدا له قصر
عوف بن مالك النضري فأمر بأن يحرق وفيه يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه
وهان على سراة بنى لؤي * حريق بالبويرة مستطير
فهذه الآثار تدل على جواز كله وكان الحسن بن زياد رحمه الله تعالى يقول هذا إذا
علم أنه ليس في ذلك الحصن أسير مسلم فأما إذا لم يعلم ذلك فلا يحل التحريق والتغريق
لان التحرز عن قتل المسلم فرض وتحريق حصونهم مباح والاخذ بما هو الفرض أولى
ولكنا نقول لو منعناهم من ذلك يتعذر عليهم قبال المشركين والظهور عليهم والحصون قل
ما تخلو عن أسير وكما لا يحل قتل الأسير لا يحل قتل النساء والولدان ثم لا يمتنع
تحريق حصونهم بكون النساء والولدان فيها فكذلك لا يمتنع ذلك بكون الأسير فيها
ولكنهم يقصدون المشركين بذلك لأنهم لو قدروا على التمييز فعلا لزمهم ذلك فكذلك إذا
قدروا على التمييز بالنية يلزمهم ذلك ولا تقسم الغنيمة في دار الحرب حتى يخرجوها إلى دار
الاسلام ويحرزوها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس بقسمتها في دار الحرب بعد
ما تم انهزام المشركين وهو بناء على أن الملك عنده ثبت بنفس الإصابة لأنه مال مباح فيملك
بنفس الاخذ ويجوز قسمته في ذلك الموضع كالصيد وهذا لان السبب الملك الاخذ وذلك
محسوس يتم بنفسه وقيام منازعة المشركين لكون الغزاة في دارهم لا يمنع تقرر ملكهم لقيام
منازعتهم في ثياب الغزاة ودوابهم فإنهم لو تمكنوا من الكر عليهم أخذوا جميع ذلك وهذا
لان توهم الكرة عليهم سبب يعارض الاستيلاء بالنقض والأمن عما ينقض سبب الملك
ليس بشرط لوقوع الملك كالملك بالبيع والهبة ألا ترى أنه لو كان القتال في دار السلام
أو صير الامام البقعة دار اسلام يجوز له أن يقسم فيها وهذا التوهم باق ولأنهم ان كروا
32

فالمسلمون واثقون؟ بجميل وعد الله تعالى الله في نصرة أوليائه ينصرهم في المرة الثانية كما
نصرهم في المرة الأولى فأما عندنا الحق يثبت بنفس الاخذ ويتأكد الاحراز ويتمكن
بالقسمة كحق الشفيع يثبت بالبيع ويتأكد بالطلب ويتم الملك بالأخذ وما دام الحق ضعيفا
لا تجوز القسمة لأنه دون الملك الضعيف في المبيع قبل القبض وبيان هذا الأصل أن السبب
لا يتم قبل الاحراز لان السبب هو القهر وقبل الاحراز هم قاهرون يدا مقهورون دارا
والثابت من وجه دون وجه يكون ضعيفا وهذا لان البقعة إنما تنسب الينا أو إليهم باعتبار
القوة والشوكة ولما بقيت هذه البقعة منسوبة إليهم عرفنا أن القوة فيها لهم والدليل عليه
أنه يحل للامام أن يرجع إلى دار الاسلام ويترك هذه البقعة في أيديهم وإنما حل ذلك
لعجزه عن المقام في هذا الموضع فعرفنا أنا نحسن العبارة في قولنا أنه هزم المشركين وفى
الحقيقة هو المنهزم منهم حين ترك هذا الموضع في أيديهم والدليل عليه أن بالأخذ يملك
الأراضي كما يملك الأموال ثم لا يتأكد الحق في الأرض التي نزلوا فيها إذا لم يصيرها دار الاسلام
فكذلك في الأموال والقصد إلى التملك وجد في الكل فإنه ما دخل دار الحرب الا قاصدا
لملك الأراضي والأموال عليهم بحسب الامكان ولسنا نسلم أن سبب الملك نفس الاخذ
بل هو قهر يحصل به اعلاء كلمة الله تعالى ولهذا كان المصاب غنيمة يخمس وهذا القهر
لا يتم بنفس الاخذ ولا بقهر الملاك بل بقهر جميع أهل دار الحرب وذلك بالاحراز ليكون
حينئذ جميع دارهم مقابلا بجميع دارنا فأما قبل الاحراز يقابل جميع دارهم بالجيش وليس
بهم قوة المقاومة مع جميع أهل الحرب وبه فارق المراغم إذا أحرز نفسه بمنعة أهل الجيش
فإنه يعتق لان حاجته إلى قهر مولاه فقط وذلك يتم بالجيش ألا ترى أنه لا يجب الخمس في
رقبته وإذا كان القتال في دار الاسلام فبنفس الاخذ يصير المال محرزا بالدار فيتم القهر وإذا
صير البقعة دار اسلام فقد تم الاحراز بالدار ألا ترى أنه وإن لم يؤخذ المال يتأكد حقهم
فيها وان الحق يتأكد في الأراضي أيضا وبه فارق الصيد فسبب الملك هناك الاخذ وهو
القهر على الممتنع في نفسه وهنا الامتناع في المال بل فيمن يقاتل دونه وذلك جميع أهل الحرب ولا يتم
قهر جميعهم الا بالاحراز حكما نقول فان قسمها جاز لأنه أمضى فصلا مجتهدا فيه وقضاء المجتهد في
المجتهدات نافذ وبيان هذا أن الاختلاف في سبب القسمة وهو الملك أنه هل يتم بنفس
الاخذ أم لا فإذا نفذ باجتهاده كان صحيحا كما إذا قضي بشهادة الأعمى أو المحدود في قذف
33

وقيل من مذهبنا كراهة القسمة في دار الحرب لا بطلان القسمة لما في القسمة من قطع
شركة المدد فتقل به رغبتهم في اللحوق بالجيش ولأنه إذا قسم تفرقوا فربما يكثر العدو
على بعضهم وهذا أمر وراء ما يتم به القسمة فلا يمتنع جوازها وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه قال إذا لم يجد الامام حمولة لها يحمله عليها فليقسمها في دار الحرب هكذا ذكر في بعض
روايات هذا؟ الكتاب ووجهه أن هذه حالة ضرورة لأنه لو لم يقسمها يحتاج إلى تركها فيبطل
حق الغانمين فيها فكان تقرير حقهم بالقسمة أنفع وإن كان فيه قطع شركة المدد وكما
لا يقسمها لا يبيعها في دار الحرب لان البيع ينبني على تأكد الحق بالاحراز ولان البيع
تصرف كالقسمة ألا ترى أن في البيع قبل القبض يسوى بين البيع والقسمة وإذا كان
في الغنيمة طعام أو علف فاحتاج إليه رجل تناول بقدر حاجته وقوله فاحتاج مذكور على
وجه العادة دون الشرط فللمحتاج وغير المحتاج ان يتناول من ذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنه
ما ان المسلمين أصابوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو طعاما وعسلا
فلم يخمس ذلك وكان الرجل منهم يصيب من ذلك بقدر حاجته وان المسلمين لما ظهروا
على كسرى ظفروا بمطبخه وكان قد أركت القدور وظن بعض الاعراب ان ذلك طيب
فهموا ان يصبغوا به لحاهم فقيل أنه مأكول فوقعوا في ذلك حتى اتخموا وان غلاما لسلمان
رضي الله عنه أتاه بسلة يوم القادسية فقال افتحها فإن كان فيها طعام أصبنا منه وإن كان
فيها مال رددناه على هؤلاء فإذا فيها خبز وجبن وسكين فجعل يأكل من ذلك ويقطع
لأصحابه من الجبن ويصف لهم كيف يتخذ الجبن فدل أنه كان معروفا بينهم الرخصة في
الطعام والعلف نظير الطعام لأنه محتاج إليه لظهره كما يحتاج إلى القوت لنفسه وهذا
لأنهم لا يمكنهم أن يستصحبوا من الطعام والعلف مقدار حاجتهم للذهاب والرجوع
ولا يجدون في دار الحرب من يشترون منه وما يأخذون يكون غنيمة فللعلم بوقوع الحاجة
إليه يصير مستثنى من شركة الغنيمة ويبقى على أصل الإباحة ولهذا حل للمحتاج وغير
المحتاج ما لم يخرجوا إلى دار الاسلام فإذا خرجوا فقد ارتفعت الضرورة لأنهم يجدون في
دار الاسلام الطعام والعلف بالشراء فيثبت حكم الغنيمة فيما كان باقيا منها وكذلك يتناول
من سلاح الغنيمة إذا احتاج إليه للقتال ثم يرده إذا استغنى عنه ويكره من غير حاجة لان
المستثنى من شركة الغنيمة الطعام والعلف للعلم بتجدد الحاجة إليهما في كل وقت وذلك لا يوجد
34

في السلاح وكل واحد منهم يتمكن من أن يستصحب السلاح من دار الاسلام فلا يصير
هذا مستثنى من الشركة ونفي المبيع تحقق الحاجة فإذا لم يوجد ذلك يكره الاستعمال وإذا وجد
فلا بأس به لان عند الضرورة يجوز له ان ينتفع بملك الغير مما لاحق له فيه فماله فيه حق أولى
وهذا لان المبارز قد يبتلى بهذا بان يسقط سيفه من يده فيعالج قرنه ليأخذ منه سيفه فإذا
أخذه صار غنيمة له فلو لم يجز له أن يضربه أدى إلى الضرر والحرج والى نحوه أشار قال
أرأيت لو رماه العدو بنشابة فرماهم بها أو انتزع سيفا من بعضهم فضربه أكان يكره ذلك
هذا ونحوه لا بأس به فأما المتاع والثياب والدواب فيكره الانتفاع؟ بها قبل القسمة لما روينا
من النهي قبل هذا ولان حقهم ثبت فيها وإن لم يتأكد قبل الاحراز فلا يكون لبعضهم ان
يختص بالانتفاع بشئ منها قبل القسمة اعتبارا للمنفعة بالعين فان احتاجوا إلى ذلك
قسمها الامام بينهم في دار الحرب لتحقق الحاجة وهذا لان مراعاة حقهم عند حاجتهم
أولى من مراعاة حق المدد ولا يدرى أيلحق بهم المدد أم لا يلحق وإن لم يحتاجوا إلى ذلك
كرهت القسمة في دار الحرب وهذا للفظ دليل على أن الخلاف في كراهة القسمة
لا في الجواز (قال) ألا ترى أن جيشا آخر لو دخلوا دار الحرب شركوهم في تلك
الغنيمة وهذا عندنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى لا شركة للمدد إذا لحق الجيش بعد
الإصابة بناء على أصله أن السبب هو الاخذ والملك يثبت بنفس الاخذ وما قبل الاحراز
بدار الاسلام وبعده سواء وعندنا السبب هو القهر وتمام القهر بالاحراز فإذا شارك المدد
للجيش في الاحراز الذي به يتم السبب يشاركونهم في تأكد الحق به كما إذا التحقوا بهم
في حالة القتال بعدما أخذوا بعض الأموال وهذا لان اجتماع المحاربين في دار الحرب
للمحاربة سبب الشركة في المصاب بدليل ان الردء يستوى بالمباشر للقتال وقد سأل علي رضي الله عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت الرجل يكون حامية لقوم وآخر لا يقدر
على حمل السلاح أيشتركان في الغنيمة فقال صلى الله عليه وسلم إنما تنصرون وترزقون
بضعفائكم ولان دخول دار الحرب سبب لقهر المشركين قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه ما غزى قوم في عقر دارهم الا ذلوا ولهذا جعل الله تعالى الواطئ موطئ العدو بمنزلة النيل
في الثواب قال الله تعالى ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا الآية
فكذلك في الشركة في المصاب يجعل الواطئ موطئ العدو على قصد الحرب بمنزلة النيل
35

منهم لما فيه من الكبت والغليظ لهم ولا يدخل على شئ مما ذكرنا التجار وأهل سوق
العسكر والأسير المنقلب منهم والذي أسلم في دار الحرب إذا التحق بالجيش لان قصد
هؤلاء ليس هو الحرب بل قصد بعضهم التجارة وقصد بعضهم التخلص فلا يستحقون
الشركة إلا أن يقاتلوا فيظهر حينئذ بفعلهم أن قصدهم هو القتال وان احتاج رجل من
المسلمين إلى شئ من المتاع حاجة يخاف على نفسه منها فلا بأس باستعمالها قبل القسمة كما يجوز
تناول ملك الغير عند الحاجة إلا أن ذلك بشرط الضمان لثبوت الملك للمأخوذ منه وهذا
بغير ضمان لعدم تأكد الحق قبل الاحراز ألا ترى أنه لو أتلف شيئا من المال قبل الاحراز
لم يكن ضامنا لما أتلف ولا يقسم السبي بينهم وان احتاج الناس إليه ما لم يخرجوهم إلى
دار الاسلام ولا يبيعهم كما لا يفعل في شئ من سائر الأموال وهذا لعدم تأكد الحق
فيهم قبل الاحراز ولكن يمشيهم حتى يحرزهم بدار الاسلام ان أطاقوا المشي فإن لم
يطيقوه وكان معهم فضل حمولة من الغنيمة حملهم عليها لان الحمولة حق الغانمين والسبي
كذلك فمن النظر لهم أن يحمل حقهم فإن لم يكن معهم فضل حمولة ولكن كان مع بعض
الغانمين فضل حمولة يحملهم عليها فعل ذلك برضاهم وإن لم تطب أنفسهم بذلك لم يفعل لان الحمولة
للخاص والسبي حق الجماعة فلا يكون له أن يستعمل في احراز حق الجماعة حمولة الخاص منهم
بغير رضاهم أرأيت لو أطاق بعضهم حمل بعض السبي على ظهره أو على عاتقه أكان يجبره
الإمام علي ذلك ثم يقتل الرجال لما بينا من جواز قتل الأسير قبل تعين الملك فيه إذا كان
فيه نظر وفي هذا الموضع لو لم يقتلهم احتاج إلى تركهم فيرجعون إلى دار الحرب حربا
على المسلمين فكان النظر في قتلهم ويترك النساء والصبيان في موضع يأمن أيدي المشركين
ان تصل إليهم لأنه إذا تركهم في موضع تصل إليهم أيديهم يتقوون بهم و بتركه إياهم في هذا
الموضع لا يكون متلفا بل يكون تاركا للاحسان إليهم وترك الاحسان لا يكون إساءة وإنما
جاز له هذا القدر لعجزه عن الاحسان إليهم بالاخراج عن المهلكة وان رأى أن يقسم
ليتكلف كل واحد منهم حمل نصيبه فعل ذلك وهو أنفع من الترك وأما السلاح والمتاع
فيحرقه بالنار إذا لم يستطع اخراجه إلي دار الاسلام لأنه مأمور بقطع قوة المشركين عنه
واثبات القوة للمسلمين به وقد عجز عن أحدهما وقدر على الآخر فيأتي بما يقدر عليه وهو
الاحراق بالنار كيلا تصل إليه يد المشركين ليتقووا به قال هذا فيما يحترق فأما مالا
36

يحترق كالحديد ينبغي أن يدفنه في موضع لا يقف عليه أهل الحرب فيستعينوا به وأما
الدواب والمواشي إذا قامت عليه فإنه لا يعقرها خلافا لمالك رحمه الله تعالى وقد بينا هذا
ولا يتركها كذلك خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لما في الترك من تقوى المشركين بها
ولكنه يذبحها ثم يحرقها لئلا ينتفع بها العدو فالذبح عند الحاجة مباح شرعا في مأكول
اللحم وغير مأكول اللحم وبعد الذبح ربما يتقوون بلحمها فيقطع ذلك عنها بالاحراق بالنار
كما يفعل بالثياب والمتاع وفى هذا كبت وغيظ لهم وقد بينا جواز التخريب والاحراق فيما
يكون فيه الكبت والغيظ للمشركين وما ظهروا عليه من أرض العدو فالامام فيها بالخيار
ان شاء خمسها وقسمها بين الغانمين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وان شاء
من بها على أهلها فتركهم أحرار الأصل ذمة للمسلمين والأراضي مملوكة لهم وجعل الجزية
على رقابهم والخراج على أراضيهم عندنا كما فعله عمر رضي الله عنه بالسواد وقال الشافعي رحمه
الله تعالى له ذلك في الرقاب فأما في الأراضي ليس له ذلك بل عليه أن يقسمها بين الغانمين
ويصرف الخمس إلى مصارفه وينبني هذا الكلام على فصلين أحدهما في السواد أنها
فتحت عنوة أو صلحا وقد بينا والثاني في فتح مكة فإنها فتحت عنوة وقهرا عندنا وزعم الشافعي
رحمه الله تعالى أنها فتحت صلحا قال الكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ومن له أدني علم
بالسير والفتوح لا يقول بهذا وقد كان أهل العلم مجمعين على فتح مكة عنوة وقهرا حتى حدث
قول بعد المأتين انها فتحت صلحا وإنما قال الشافعي رحمه الله تعالى هذا لان النبي صلى الله
عليه وسلم ترك لهم الأراضي والنخيل التي هي حول مكة فلم يجد بدا في اجراء مذهبه من
هذا (قال) والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه
وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ثم دخلها بعد
ذلك باثنين وعشرين شهرا فعرفنا أنه دخلها بذلك الصلح وقد أشار الله تعالى إلي ذلك في قوله
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم والدليل
عليه أنه لم يضع على أراضيهم وظيفة وفى البلاد المفتوحة عنوة وقهرا لا يجوز ترك الأراضي
لهم بغير وظيفة (وحجتنا) في ذلك أن الآثار اشتهرت بنقض قريش الصلح الذي كان
بينه وبينهم على ما روى أن بنى خزاعة دخلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ
وبني بكر في عهد قريش ثم قاتل بنو بكر بنى خزاعة وأردفتهم قريش بالأسلحة والأطعمة
37

وقاتل من قاتل من قريش معهم مستخفيا بالليل حتى جاء وافد بني خزاعة عمرو بن سالم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره ويقول
لا هم انى ناشد محمدا * خلف أبينا وأبيه الا تلدا
ان قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وبيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا
فقال صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم فنشأت سحابة فقال إنها تستهل
ينصر بني خزاعة إلى أن نزل صلى الله عليه وسلم بمر الظهران قال العباس رضي الله عنه
قلت واصباحا قريش لو دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرجوا فيستأمنوا
لهلكت قريش فركبت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت الأراك لعلى أجد بعض
الحطابين فأخبرهم بمجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت أبا سفيان بن حرب وحكيم
ابن حزام رضوان الله عليهم أجمعين يتراجعان الحديث ويقول أحدهما لصاحبه ما هذه النيران
فيقول الآخر نيران خزاعة ويقول الآخر هم أقل من ذلك وأذل فقلت يا حنظلة ما شأنك
قال يا أبا الفضل ما تفعل ههنا فقلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بمر الظهران في
عشرة آلاف قال وما الحيلة قلت لا أعرف لك حيلة ولكن أركب عجز دابتي فأردفته
فما مررت بنار الا قيل هذه بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عمه حتى مررت بنار
عمر رضي الله عنه فعرفه فأخذ السيف وعدا خلفه ليقتله فسرت بالدابة حتى اقتحمت
مضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر رضي الله عنه وقال يا رسول الله صلى الله
عليك ان الله مكنك من عدوك من غير عقد ولا صلح فدعني لأقتله فقلت مهلا فانى أجرته
ولو كان من بنى عدى ما قتلته فبكى عمر رضي الله عنه وقال والله ان سروري باسلامك
يوم أسلمت أكثر من سروري باسلام الخطاب أن لو أسلم فأمرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن أحمله إلى رحلي فغدوت به عليه وقال ألم يأن ان تشهد أن لا إله إلا الله فقال
أبو سفيان انى أقول لو كان مع الله آلهة لجاز أن ينصرونا فقال صلى الله عليه وسلم أتشهد
أنى رسول الله فقال إن في النفس بعد من هذا لشيئا فقلت أسلم فان السيف في قفاك
فأسلم فقلت ان أبا سفيان رجل يجب الفخر فاجعل له من الامر شيئا يا رسول الله فقال
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فقال وكم تسعهم داري يا رسول الله قال من أغلق الباب
38

على نفسه فهو آمن ومن ألقي السلاح فهو آمن ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن الا ابن
خطل ويعيش بن صبابة وقينتين لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم أمرني أن أحبسه في مضيق الوادي لتمر عليه الكتائب فكلما مرت عليه كتيبة
قال من هؤلاء الحديث إلى أن مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها
ألفا رجل من المهاجرين والأنصار عليهم السلاح والحلق لا يرى منهم الا الحدق فلما حاذاه
سعد بن عبادة وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هز اللواء وقال اليوم يوم
الملحمة اليوم تهتك فيه الحرمة فقال أبو سفيان ان ابن أخيك أصبح في ملك عظيم فقلت
ليس بملك إنما هو نبوة قال أو ذاك ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت باستئصال
قومك من قريش فقد قال سعد كذا فقال صلى الله عليه وسلم اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ فيه
الحرمة وبعث إلى سعد ليسلم اللواء إلى ابنه قيس الحديث فهذه القصة من أولها إلى آخرها
تدل على انتقاض ذلك العهد ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن
الوليد رضي الله عنه من جانب والزبير بن العوام رضي الله عنه من جانب وقال أترون
أوباش قريش احصدوهم حصدا حتى تلقوني على الصفا وفيه يقول قائلهم يخاطب زوجته
انك لو شهدت يوم خندمه * إذ فر صفوان وفر عكرمة
لم ينطلق اليوم بأدنى كلمه
وقال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه ينشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول
خلوا بنى الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
لا هم أني مؤمن بقيله
فقال له عمر رضي الله عنه أتنشد الشعر في حرم الله تعالى فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم دعه يا عمر فإنه أسرع في قلوبهم من وقع النبل حتى جاء أبو سفيان إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال لقد انتدب حضرا قريش فلا قريش بعد اليوم فقال صلى الله عليه
وسلم الأبيض والأسود آمن الا ابن خطل ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
باب الكعبة وفيها رؤساء قريش فأخذه بعضادتي الباب وقال ماذا ترون أنى صانع بكم فقالوا
أخ كريم وابن أخ كريم ملكت فاسجح فقال صلى الله عليه وسلم انى أقول لكم كما قال أخي
39

يوسف لاخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين أنتم الطلقاء لكم
أموالكم وصح أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر فذلك دليل أنه صلى الله
عليه وسلم دخلها مقاتلا وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته ان مكة حرام حرمها الله تعالى
يوم خلق السماوات والأرض وانها لم تحل لاحد قبلي ولا تحل لاحد بعدي وإنما أحلت لي
ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة وإنما مراده حل القتال فيها فدل أنه دخلها مقاتلا
وفى قوله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح يشهد لما قلنا ونزول قوله تعالى وهو الذي كف أيديهم
في صلح الحديبية ألا ترى إلى قوله تعالى والهدي معكوفا ان يبلغ محله وإنما لم يضع الخراج
على أراضيهم لان الأراضي تابعة للرقاب ولم يضع الجزية على رقابهم إذ لا جزية على عربي
ولا رق فكذلك لا خراج على أراضيهم فإذا ظهر انها فتحت قهرا اتضح مذهبنا في المسألة
التي قلنا وعلى سبيل الابتداء في تلك المسألة فالشافعي رحمه الله تعالى يقول قد تأكد حق
الغانمين في الأراضي أما عندي فقد ثبت الملك لهم بنفس الإصابة وعندكم تأكد الحق
بالاحراز فقد صارت محرزة بفتح البلدة واجراء أحكام الاسلام فيها وفى المن ابطال حق
الغانمين عما تأكد حقهم فيه والامام لا يملك ذلك كما إذا استولى على الأموال بدون الأراضي لم
يكن له أن يبطل حق الغانمين عنها بالرد عليهم بخلاف الرقاب فالحق في رقابهم لم يتأكد بدليل
أن له أن يقتلهم فكذلك يكون له أن يمن على رقابهم بجزية يأخذها منهم ثم حق مصارف
الخمس ثابت بالنص وفى المن ابطال ذلك ولهذا قلت اما تخمس الجزية لان الخمس من
الرقاب كان حقا لأرباب الخمس فيثبت حقهم في بدل ذلك وهو الجزية وعلماؤنا رحمهم الله
تعالى يقولون تصرف الامام وقع على وجه النظر وانه نصب لذلك وبيانه أنه لو قسمها بينهم
اشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد فيكر عليهم العدو وربما لا يهتدون لذلك العمل أيضا
فإذا تركها في أيديهم وهم أعرف بذلك العمل اشتغلوا بالزراعة وأدوا الجزية؟ والخراج
فيصرف ذلك إلى المقاتلة ويكونون مشغولين بالجهاد وبهذا تبين أنه ليس في هذا ابطال
حقهم بل فيه توفير المنفعة عنهم لان منفعة القسمة وان كانت أعجل فمنفعة الخراج أدوم
ولأنه كما ثبت الحق فيها للذين أصابوا ثبت لمن يأتي بعدهم بالنص قال الله تعالى والذين
جاؤوا من بعدهم وفى القسمة ابطال حق من يأتي بعدهم أصلا وفى المن عليهم مراعاة الحقين
جميعا وإنما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر لحاجة لأصحابه رضي الله عنهم كانت
40

يومئذ ونحن نقول للامام ذلك عند حاجة المسلمين فاما بدون الحاجة الأولى ما فعله عمر رضي
الله عنه بالسواد والاستدلال بما استدل به ولا قول أبعد من قول من أوجب في الجزية
الخمس فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر والحلل من بني نجران
وقال لمعاذ رضي الله عنه خذ من كل حالم وحالمة دينارا ولم يخمس شيئا من ذلك فدل أنه
لا خمس في الجزية وإذا قسم الغنيمة ضرب للفارس بسهمين وللراجل بسهم في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وهو قول أهل العراق وفى قولهما والشافعي رحمهم الله تعالى يضرب للفارس
بثلاثة أسهم وهو قول أهل الشام وأهل الحجاز لحديث عبد الله بن العمرى رضى الله تعالى
عنهما عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على ثمانية عشر سهما وكانت الرجال ألفا وأربعمائة
والخيل مائتي فرس وباسم كل كل مائة سهم فتبين أنه جعل سهم الفرس ضعف سهم الرجل
وعند تعارض الاخبار المصير إلى ما روينا أولى ما فيه من اثبات الزيادة ولأنه اتفق عليه
أهل الشام وأهل الحجاز فهم أعرف بذلك من أهل العراق ثم مؤنة الفرس أعظم من
مؤنة الرجل والاستحقاق باعتبار التزام المؤنة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بحديث
عبيد الله العمرى عن نافع عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قسم للفارس سهمين سهما له وسهما لفرسه وعبيد الله أوثق من أخيه عبد الله رضى الله
تعالى عنهما وفى حديث كريمة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها المقداد رضى الله تعالى عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم له يوم بدر سهمين سهما له وسهما لفرسه وفى حديث
مجمع بن يعقوب بن مجمع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس يوم
خيبر سهمين وما رووا أنه قسم خيبر على ثمانية عشر سهما صحيح لكن ذكر في هذا الحديث
أن الخيل كانت ثلاثمائة ولو ثبت ما رووا فالمراد من قوله وكانت الخيل مائتي فرس الخيل
بفرسانها والرجال ألف وأربعمائة أي الرجالة قال الله تعالى واجلب عليهم بخيلك ورجلك أي
بفرسانك ورجالتك وقال تعالى يأتوك رجالا أي رجالة فتبين بهذا ان الناس كانوا ألفا
وستمائة فإذا كان باسم كل مائة سهم كان للفارس سهمان وللراجل سهم ثم المصير إلى ما روينا
أولى لأنه هو المتيقن وما رجح به من اثبات الزيادة متعارض ففيما روينا أثبات الزيادة في
نصيب الراجل ثم في هذا تفضيل البهيمة على الآدمي وذلك غير جائز لان الاستحقاق
41

بالقتال والرجل يقاتل وحده والفرس لا تقاتل ولهذا كان القياس أن لا يسوى بين الفرس
والرجل وأن لا يستحق بالفرس شيئا لأنه آلة من آلات الحرب كسائر الآلات ولكن
الآثار اتفقت على سهم واحد فأخذنا بما اتفق عليه الأثر وأبقينا ما اختلف فيه الأثر على أصل
القياس ولا معنى لاعتبار المؤنة فصاحب الحمار والبغل يلتزم المؤنة أيضا ولا يستحق به شيئا
وصاحب الفيل والبعير مؤنته أكثر ثم لا يستحق بهما شيئا مع أنا لا نسلم ان مؤنة الفرس
أكثر فان ما يحتاج إليه الفرس من العلف يوجد مباحا ومطعوم بني آدم من الخبز واللحم
لا يوجد الا بثمن ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى مروي عن عمر رضي الله عنه وصاحب
البرذون والهجين والمقرف كصاحب الفرس العربي في استحقاق السهم به عندنا سواء وقال
أهل الشام لا يسهم للبراذين ورووا فيه حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه شاذ
والمشهور لهم حديث عمر رضي الله عنه على ما روي أن الخيل أغارت بالشام وعلى القوم
المنذر بن أبي خمصة الوداعي فأدركت العراب اليوم والبراذين ضحى الغد فلم يسهم المنذر
للبراذين وقال لا أجعل من أدرك كمن لا يدرك وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه
فقال هبلت الوداعي أمه لقد أذكت به وفي رواية لقد أذكرته أمضوها على ما قال (وحجتنا)
في ذلك أن استحقاق السهم بالخيل لمعني إرهاب العدو قال الله تعالى ومن رباط الخيل الآية
والارهاب يحصل بالبرذون كما يحصل بالفرس العربي ثم العربي في الطلب والهرب أقوى
والبرذون أقوى على الحرب وأصبر وألين عطفا عند اللقاء ففي كل جانب نوع منفعة معتبرة
ومعنى التزام المؤنة يجمعهما وتأويل حديث عمر رضي الله عنه أن المنذر فعل ذلك باجتهاده
فأمضى عمر رضي الله عنه اجتهاده وهكذا نقول ومن الناس من يقول يستحق بالفرس
العربي سهمان وبما سوى ذلك سهم واحد وهذا بعيد فان البرذون فرس العجم والعربي
فرس العرب وكما يسوى بين العجمي والعربي في استحقاق السهم فكذلك في الخيل
والهجين ما يكون أبوه من الكوادن وأمه عربية والمقرف ما يكون أبوه عربيا وأمه من
الكوادن ومعنى قوله لقد أذكت به اتت به ذكيا وقوله أذكرته اتت به ذكرا جلدا (قال)
وإذا دخل الغازي دار الحرب مع الجيش فارسا ثم نفق فرسه أو عقر قبل احراز الغنيمة
فله سهم الفرسان عندنا وهو قول عمر رضي الله عنه وقال الشافعي رحمه الله له سهم الراجل
لقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وقد شهد الوقعة راجلا ولان سبب
42

الاستحقاق الاخذ وعند الاخذ هو راجل فيستحق سهم الراجل كما لو نفق فرسه قبل
دخول دار الحرب و هذا لان سهم الفرس لا يكون أقوى من سهم صاحبه ولو مات الغازي
بعد مجاوزة الدرب لم يستحق شيئا فإذا نفق الفرس أولى ولأنه يستحق السهم بفرسه كما
يستحق الرضخ بعبده ولو مات عبده بعد مجاوزة الدرب لم يستحق به شيئا فكذلك الفرس
(وحجتنا) انه دخل دار الحرب فارسا على قصد الجهاد فيستحق سهم الفرسان كما لو كان
فرسه قائما وقاتل راجلا وهذا لان الاستحقاق بالفرس لمعني إرهاب العدو به وقد حصل
به والجيش إنما يعرض عند مجاوزة الدرب فمن كان فارسا في ذلك الوقت وأثبت اسمه في
ديوان الفرسان فقد حصل إرهاب العدو بفرسه لأنه ينتشر الخبر في دار الحرب انه دخل
كذا وكذا فارس وقل ما يعيش بعد ذلك ولأن الاعتبار للقهر الذي يحصل به اعزاز الدين
وذلك بدخول دار الحرب علي قصد الجهاد فإذا كان هو عند دخول دار الحرب ملتزما مؤنة
الفرس على قصد الجهاد انعقد له سبب الاستحقاق وبالإجماع لا معتبر ببقاء الفرس إلى حال
تمام الاستحقاق لأنه لو نفق فرسه بعد القتال قبل احراز الغنيمة بدار الاسلام استحق سهم
الفرسان فكان المعتبر حال انعقاد السبب ابتداء بخلاف ما لو مات قبل مجاوزة الدرب لان
معنى الارهاب العود والقهر لم يحصل به وبخلاف ما إذا مات الفارس لأنه هو المستحق ولا
يبقى الاستحقاق بعد موت المستحق وإن كان السبب منعقدا ألا ترى أنه لو قتل في دار
الحرب أو مات بعد الفراغ قبل الاحراز عندنا لا يستحق شيئا والعبد آدمي كالحر ثم الرضخ
ليس نظير السهم ألا ترى أنه غير مقدر بشئ فلا يستقيم اعتبار السهم بما دونه ولو باع
فرسه بعد ما جاوز الدرب قبل القتال ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
يستحق سهم الفرسان أيضا لأنه أثبت اسمه في ديوان الفرسان وفى ظاهر الرواية يستحق
سهم الرجالة لأنه تبين بالبيع انه ما كان قصده من التزام مؤنة الفرس القتال عليه إنما كان
قصده التجارة وبمجاوزة الدرب على قصده التجارة لا ينعقد سبب استحقاق الغنيمة بخلاف
ما إذا مات فرسه ولأنه بالبيع والهبة أزاله عن ملكه باختياره فيكون به مسقطا حقه
وبالموت ما أزاله عن ملكه باختياره بل هو مصاب في ذلك ولو باعه بعد الفراغ
من القتال لم يسقط سهمه لأنه لا يتبين به أنه لم يكن قصده من التزام مؤنة الفرس عدم
القتال الا ترى أنه ما لم يفرغ من القتال لم يشتغل بالبيع فيه واختلف مشايخنا رحمهم الله
43

تعالى فيما إذا باعه في حالة القتال قال بعضهم لا يسقط سهمه لان بيع الفرس عند القتال
مخاطرة بالنفس فمن ليس له قصد القتال يطلب في ذلك الوقت فرسا ليهرب عليه وبهذا تبين
أن بيعه الفرس لاظهار المبالغة في الحرب وهو أنه يرى العدو انه غير عازم على الفرار أصلا
(قال) رحمه الله تعالى والأصح عندي أنه لا يستحق سهم الفارس لان تأخيره بيع
الفرس إلى وقت القتال يحقق قصد التجارة فيه فان المشترى فيه عند ذلك أرغب والتاجر
يحبس مال تجارته إلى وقت عزته وكثرة الرغبة فيه فلهذا يسقط سهمه ببيع الفرس فأما إذا
دخل دار الحرب راجلا ثم اشترى فرسا وقاتل فارسا فله سهم الراجل وروى ابن المبارك
عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن له سهم الفرسان لان معنى إرهاب العدو والقهر الذي يتم
به اعزاز الدين بالقتال على الفرس أظهر منه في مجاوزة الدرب فإذا كان يستحق سهم الفرسان
بمجاوزة الدرب فارسا فالقتال علي الفرس أولى وجه ظاهر الرواية أن الامام إنما يدون
الدواوين ويثبت أسامي الفرسان والرجالة عند مجاوزة الدرب ويشق عليه تفقد أحوالهم بعد
ذلك فمن أثبت اسمه في ديوان الرجالة فقد انعقد له سبب الاستحقاق راجلا فلا يتغير
ذلك بشراء الفرس كما في الفصل الأول لا يتغير حاله بموت الفرس ومن دخل دار الحرب
فارسا ثم قاتل راجلا بان كان القتال على باب حصن أو في السفينة فإنه يستحق سهم
الفارس اما عندنا فلانه أثبت اسمه في ديوان الفرسان والاستحقاق بحصوله في دار الحرب
فارسا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه قاتل وله فرس معد للقتال عليه لو احتاج إليه فيستحق
سهم الفرسان كما يستحق الردء السهم مع المباشر وإذا مات الغازي أو قتل بعد إصابة الغنيمة
قبل اخراجها إلى دار الاسلام لم يورث سهمه عندنا وهو قول علي رضي الله عنه وقال
الشافعي رحمه الله يورث وهو قول عمر رضي الله عنه وهذا ينبنى على الأصل الذي بينا فان
عنده الملك يثبت لهم بنفس الإصابة وموت أحد الشركاء لا يبطل ملكه عن نصيبه بل
يخلفه وارثه فيه كالشركاء في الاصطياد إذا مات أحدهم بعد الاخذ ومن أصلنا ان الحق
يثبت بنفس الإصابة ولا يتأكد الا بالاحراز والحق الضعيف لا يورث كحق القبول فان
المشترى إذا مات بعد ايجاب البائع قبل قبوله لا يخلفه وارثه في القبول واما بعد الاحراز
الحق يتأكد والإرث يجرى في الحق المتأكد كحق الرهن والرد بالعيب وهو نظير
مذهبنا في الشفعة وخيار الشرط لا يورث لأنه حق ضعيف وقد استدل بعض مشايخنا على
44

ضعف الحق قبل الاحراز بإباحة تناول الطعام والعلف لكل واحد منهم من غير ضرورة
وضمان وبامتناع وجوب الضمان على من أتلف شيئا من الغنيمة قبل الاحراز بخلاف ما بعد
الاحراز وبقبول شهادة الغانمين في الغنيمة قبل الاحراز وامتناع قبول الشهادة بعد الاحراز
وتبين بذلك أن الحق ضعيف كحق كل مسلم في مال بيت المال ولكن أصحاب الشافعي
رحمهم الله ربما لا يسلمون هذين الفصلين وإذا كان العبد مع مولاه فقاتل باذنه يرضخ له
وكذلك الصبي والمرأة والذمي والمكاتب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله
عليه وسلم كأن لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم وعن فضالة بن عبيد ان
النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضخ للمماليك ولا يسهم لهم ولان العبد غير مجاهد بنفسه
الا ترى ان للمولى ان يمنعه من الخروج فلا يسوى بينه وبين الحر الذي هو أهل للجهاد
بنفسه في استحقاق السهم ولكن يرضخ له إذا قاتل لمعنى التحريض والصبي والمرأة ليس
لهما قوة الجهاد بأنفسهما ولهذا لا يلحقهما فرض الجهاد والذمي ليس من أهل الجهاد بنفسه
فان الكفار لا يخاطبون بالشرائع ما لم يسلموا والرق في المكاتب قائم ويتوهم ان يعجز فيمنعه
المولى من الخروج إلى الجهاد وإن كان العبد في خدمة مولاه وهو لا يقاتل لا يرضخ له
أيضا لان مولاه التزم مؤنته لخدمته لا للقتال به بخلاف الأول فإنه التزم مؤنته للقتال
به ونظيره ما قررناه من بيع الفرس وأهل سوق العسكر إن لم يقاتلوا فلا يسهم لهم ولا
يرضخ لان قصدهم التجارة لا إرهاب العدو واعزاز الدين فان قاتلوا استحقوا السهم لأنه
تبين بفعلهم ان قصدهم القتال ومعنى التجارة تبع لذلك فحالهم كحال التاجر في طريق الحج
لا ينتقص به ثواب حجه وفيه نزل قوله تعالى ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من
ربكم ومن دخل دار الحرب بأفراس لا يستحق السهم الا لفرس واحد في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أهل العراق وأهل الحجاز وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى يستحق السهم لفرسين وهو قول أهل الشام رحمهم الله تعالى لما روى أن الزبير بن
العوام رضي الله عنه شهد خيبر بفرسين فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم
سهما له وسهمين لكل فرس ولان الانسان قد يحتاج في القتال إلى فرسين حتى إذا كل
أحدهما قاتل على الآخر وهو عادة معروفة في المبارزين فكان ملتزما مؤنة فرسين للقتال
فيستحق السهم لهما وما زاد على ذلك غير محتاج إليه للقتال فكان من الجنائب وهما استدلا
45

بما روى إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لصاحب
الأفراس الا لفرس واحد يوم حنين وحديث ابن الزبير فإنما أعطاه سهم ذوي القربى له
ولأمه صفية وما أسهم له الا لفرس واحد ثم عند تعارض الآثار يؤخذ بالمتيقن لان القياس
يأبى استحقاق السهم بالفرس ولأنه لا يقاتل الأعلى فرس واحد ويحمل ما يروى من
الزيادة انه أعطى ذلك على سبيل التنفيل كما روى أنه أعطى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه
سهمين وكان راجلا ولكن أعطاه أحد السهمين على سبيل التنفيل لجده في القتال فإنه
قال خير رجالتنا سلمة بن الأكوع وخير فرساننا أبو قتادة وهذه المسألة نظير ما بينا في النكاح
ان المرأة لا تستحق النفقة الا لخادم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمهم
الله تستحق النفقة لخادمين ومن مرض أو كان جريحا في خيمته حتى أصابوا الغنائم فله
السهم كاملا لان سبب الاستحقاق وجد في حقه كما قررنا وفى نظيره قال صلى الله عليه
وسلم إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم وإذا بعث الامام سرية من العسكر في دار الحرب
فجاءت بغنائم وقد أصاب الجيش غنائم أيضا فان بعضهم يشارك بعضا في المصاب لأنهم
اشتركوا في سبب الاستحقاق وهو دخول دار الحرب على قصد القتال ولان الجيش في
حق أصحاب السرية كالردء لهم حتى يلجؤون إليهم إذا حزبهم أمروهم بمنزلة الردء لاجتماعهم
في دار الحرب وقد بينا أن للردء أن يشارك الجيش في المصاب وإن لم يلقوا قتالا بعد
ما التحقوا بهم فهذا أولى وان أسر فأصاب المسلمون بعده غنيمة ثم انفلت منهم فالتحق
بالجيش الذي أسر منه قبل أن يخرجوا فهو شريكهم في جميع ما أصابوا وإن لم يلقوا قتالا
بعد ذلك لأنه انعقد سبب الاستحقاق له معهم فيشاركهم فيما تأكد الحق به وهو الاحراز
فلا يعتبر العارض بعد ذلك كما لو مرض أو جرح وان التحق هذا الأسير بعسكر آخر في
دار الحرب وقد أصابوا غنائم فإنه لا يستحق السهم إلا أن يلقوا قتالا فيقاتل معهم لأنه
ما انعقد له سبب الاستحقاق معهم وإنما كان قصده من اللحوق بهم الفوز والنجاة فلا
يستحق السهم إلا أن يلقوا قتالا فحينئذ تبين بفعله ان قصده القتال معهم ويجعل قتاله للدفع
عن المصاب كقتاله للإصابة في الابتداء وكذلك الذي أسلم في دار الحرب إذا التحق بالعسكر
أو المرتد إذا تاب فالتحق بالعسكر أو التاجر الذي دخل بأمان إذا التحق بالعسكر فإنهم بمنزلة
الأسير ان قاتلوا استحقوا السهم وإلا فلا شئ لهم وفى الأصل ذكر أن عبدا لو جنى جناية
46

خطأ أو أفسد متاعا فلزمه دين ثم أسره العدو ثم أسلموا عليه فهو لهم لقوله صلى الله عليه
وسلم من أسلم على مال فهو له ثم الجناية تبطل عنه والدين يلحقه لان حق الجناية في رقبته
ولا يبقى بعد زوال ملك المولى ألا ترى أنه لو زال ملكه بالبيع والهبة لا يبقي فيه حق ولى
الجناية فأما الدين في ذمته يبطل عنه بزوال ملك المولى كما لا يبطل ببيعه وهذا لان الدين
في ذمة العبد يجب شاغلا لماليته فإنما يملك العدو ماليته مشغولة بالدين كما أسروه ولهذا يبقى
الدين عليه بعدما أسلم ولو اشتراه رجل منهم أو أصابه المسلمون في غنيمة يأخذه المولى
بالقيمة أو الثمن فان الجناية والدين يلحقانه لأنه يعيده بالأخذ إلى قديم ملكه وحق ولى
الجناية كان ثابتا في قديم ملكه وسيأتي بيان هذا الفصل وان كانت الجناية قتل عمد لم يبطل
ذلك عنه بحال لان المستحق عليه نفسه قصاصا فلا يبطل ذلك بزوال ملك المولى كما لو باعه
أو أعتقه بعد ما لزمه القصاص (قال) ولا ينبغي للامام أن ينفل أحدا مما قد أصابه إنما النفل
قبل احراز الغنيمة أن يقول من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له وقد كان
يستحب ذلك للاغراء على القتال وهذا الكلام يشتمل على فصول أحدها أن القاتل
لا يستحق السلب بالقتل عندنا من غير تنفيل الامام وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا قتله
مقبلا بين الصفين على وجه المبارزة استحق سلبه واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم يوم
بدر من قتل قتيلا فله سلبه فمثل هذا اللفظ في لسان صاحب الشرع لبيان السبب كقوله
صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فظاهره لنصب الشرع فإنه صلى الله عليه وسلم
بعث لذلك وفى حديث أبي قتادة رضى الله تعالى عنه قال أصاب المسلمين جولة يوم حنين
فلقيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فأتيته من ورائه وضربته على حبل
عاتقه ضربة فأقبل على وضمني إلى نفسه ضمة شممت منها رائحة الموت ثم أدركه الموت
فأرسلني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول من قتل قتيلا فله سلبه فقلت
من يشهد لي فقال رجل صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه عنى فقال
أبو بكر رضى الله تعالى عنه لاها الله أيعمد أسد من أسد الله فيقتل عدو الله ثم يعطيك
سلبه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان القتل منه قبل مقاله رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم أعطاه سلبه فظهر أن الاستحقاق بالقتل لا بالتنفيل ولان القاتل أظهر
فضل عناية على غيره بمباشرة القتل فيستحق في الاستحقاق كالفارس مع الراجل
47

وهذا لان القاتل على سبيل المبارزة يحتاج إلى زيادة عناء ومخاطرة بالنفس ولهذا
لو قتله مدبرا لا يستحق سلبه وكذلك لو رمى سهما من صف المسلمين فقتل مشركا لا يستحق
سلبه لأنه ليس فيه زيادة العناء فكل واحد يتجاسر على ذلك وأصحابنا استدلوا بقوله تعالى واعلموا
أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه والسلب من الغنيمة لان الغنيمة مال يصاب بأشرف الجهات
فينبغي أن يجب فيه الخمس بظاهر الآية وعندكم لا يجب وهذا مروى عن ابن عباس رضي الله عنه
ما قال السلب من الغنيمة وفيه الخمس واستدل بالآية وجاء رجل من بلقين إلي
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن المغنم قال لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم فقال هل
أحد أحق بشئ من غيره قال لا حتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن أحق
به من أخيك وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال كنت واقفا يوم بدر بين
شابين حديث أسنانهما أحدهما معوذ بن عفراء والآخر معاذ بن عمرو بن الجموح فقال لي
أحدهما أي عم أتعرف أبا جهل قلت وما شأنك به قال بلغني أنه يسب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فوالله لو لقيته ما فارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا موتا وعمر بي
الآخر إلى مثل ذلك فلقيت أبا جهل في صف المشركين فقلت ذاك صاحبكما الذي تريدانه
فابتداره بسيفيهما حتى قتلاه واختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل
واحد منهما أنا قتلته والسلب لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسحتما سيفيكما فقالا
لا فقال أرياني سيفيكما فأرياه فقال كلاكما قتله ثم أعطى السلب معوذ بن عفراء ولو كان
الاستحقاق بالقتل لما خص به أحدهما مع قوله صلى الله عليه وسلم كلاكما قتله (فان قيل)
كيف يصح هذا والمشهور أن ابن مسعود رضي الله عنه قتله قلنا هما أثخناه وابن مسعود
رضي الله عنه أجهز عليه على ما روى أنه قال وجدته صريعا في القتلى وبه رمق فجلست على
صدره ففتح عينيه وقال يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى عظيما لمن الدبرة قلت لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم فقال ما تريد أن تصنع قلت أحز رأسك قال لست بأول عبد قتل
سيده ولكن خذ سيفي فهو أمضى لما تريد وأقطع رأسي من كاهل ليكون أهيب في عين
الناظر وإذا لقيت محمدا فأخبره اني اليوم أشد بعضا له مما كنت قبل هذا فقطعت رأسه
واتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيته بين يديه وقلت هذا رأس أبى جهل فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر هذا كان فرعوني وفرعون أمتي شره على أمتي
48

أكثر من شر فرعون علي بني إسرائيل ونفلني سيفه ففي هذا بيان انه أجهز عليه وان
الاستحقاق ليس بنفس القتل إذا لو كان الاستحقاق بنفس القتل لكان المستحق للسيف
من أثخنه فما كان ينفله غيره وان البراء بن مالك رضي الله عنه قتل مرزبان الرازة واخذ
سلبه مرصعا باللؤلؤ والجوهر فقوم بعشرين ألفا فقال عمر رضي الله عنه كنا لا نخمس
الأسلاب وان سلب البراء بلغ هذا المبلغ وما أراني الا خامسه قال انس فبعثنا بالخمس
أربعة آلاف إليه فإذا تبين وجوب الخمس فيه ثبت ان الباقي منه مقسوم بين الغانمين وما نقل
من قوله من قتل قتيلا فله سلبه كان على سبيل التنفيل منه لا على وجه نصب الشرع
وإنما يكون ذلك نصب الشرع إذا قاله في المدينة في مسجده ولم ينقل أنه قال ذلك الا يوم
بدر عنه القتال للحاجة إلى التحريض وقد كانوا أذلة يوم حنين حين ولوا منهزمين للحاجة
إلى التحريض فعرفنا أنه قال ذلك على سبيل التنفيل لا على وجه نصب الشرع وعندنا
بالتنفيل يستحق ولان القاتل إنما تمكن من قتله وأخذ سلبه بقوة الجيش فلا يختص به
كما لو أخذ أسيرا أو أصاب مالا آخر لا يختص به وكما يكون منه فضل عناء في القتل
يكون ذلك منه بأخذ الأسير واستلاب سلب الحي ثم لا يختص به الا بعد تنفيل الامام
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر من قتيل قتيلا فله سلبه قال من أخذ أسيرا
فهو له ثم كان ذلك على وجه التنفيل فكذلك في السلب والأصل فيه قوله صلى الله عليه
وسلم ليس للمرء الا ما طابت به نفس امامه ويستحب للامام ان ينفل قبل الإصابة بحسب
ما يرى الصواب فيه للتحريض على القتال قال الله تعالى يا أيها النبي حرض المؤمنين على
القتال ولان بالنفل يعينه على البر وهو بذل النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى فكان ذلك
مستحبا ولكن قبل الإصابة وأما بعد الإصابة لا يجوز النفل الا على قول أهل الشام فإنهم
يجوزون ذلك وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم نفل بعد الإصابة وتأويل ذلك عندنا انه نفل
من الخمس أو من الصفي الذي كان له أو فعل ذلك يوم بدر لان الامر في الغنائم كان إليه كما
روينا واليه أشار سعيد بن المسيب رضي الله عنه فقال لا نفل بعد الاحراز الا ما كان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وكان المعنى فيه أن بعد الإصابة في التنفيل ابطال حق أرباب الخمس
وابطال حق بعض الغانمين عما ثبت حقهم فيه وهو سبب لايقاع الفتنة والعداوة بينهم
والتنفيل للتحريض على القتال وتسكين الفتنة فإذا نفل بعد الإصابة عاد على موضوعه
49

بالنقض والابطال وذلك لا يجوز وإذا أخذ الرجل علفا من الغنيمة ففضل منه فضلة بعد
ما خرج إلى دار الاسلام أعادها في الغنيمة ان كانت لم تقسم لان اختصاصه بذلك كان
للحاجة وقد زال بالخروج إلى دار الاسلام وكان ذلك لعدم تأكد الحق في الغنيمة لهم وقد
زال ذلك بالاحراز وان كانت الغنائم قد قسمت فذلك بمنزلة للقطة في يده فإن كان فقيرا فلا بأس
بأن يأكله وإن كان غنيا باعه وتصدق بثمنه كما يفعل باللقطة وكذلك لا ينبغي له أن يبيع
شيئا من الطعام والعلف لأنه أبيح له التناول للحاجة والمباح له التناول لا يملك التصرف
فيه بالبيع وان فعل ذلك أعاد الثمن في الغنيمة إن لم تقسم وان كانت قد قسمت صنع ما يصنع
باللقطة كما بينا وان أقرضه رجلا في دار الحرب من الجند لم يسمع له أن يأخذ منه شيئا لان
المقرض والمستقرض في حق إباحة تناوله سواء إلا أن الآخذ كان أحق به لأنه في يده فإذا
زال ما بيده إلى الآخر سقط حقه فلهذا لا يأخذ منه شيئا وإذا أعتق رجل من الجند جارية
من الغنيمة نفذ عتقه في القياس لان حقهم تأكد بالاحراز ألا ترى أن بالقسمة يتعين
ملك كل واحد منهم والقسمة لتميز الملك لا لابتداء الملك فتبين به أن الملك كان ثابتا لهم
من قبل وانه أعتق جارية مشتركة بينه وبين غيره وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى
أظهر فإنه يقول بنفس الإصابة يثبت لهم الملك وفى الاستحسان عندنا لا ينفذ عتقه لان نفوذ
العتق يستدعى ملكا قائما في المحل وذلك غير موجود لهم قبل القسمة ألا ترى أن للامام
أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن وأنه لا يدرى ان نصيب كل واحد منهم في أي موضع يقع عند
القسمة فكان ما هو شرط نفوذ العتق منعدما فلهذا لا ينفذ عتقه وكذلك لو استولدها لم
يصح استيلاده لان استيلاد يوجب حق العتق وذلك لا يكون الا بعد قيام الملك في
المحل بخلاف الأب يستولد جارية ابنه فله ولاية التملك هناك فيتملكها سابقا على الاستيلاد
وليس له ولاية تملك هذه الجارية بدون رأى الامام فلا يصح استيلاده فيها ولا يثبت
النسب منه ولكن يسقط الحد عنه لثبوت حق متأكد ويلزمه العقر لان الوطئ في دار
الاسلام عند ذلك لا ينفك عن حد أو عقر فكانت هي وولدها في الغنيمة لان الولد يتبع
الأم وعلى قول الشافعي رحمه الله استيلاده صحيح بناء على الأصل الذي بينا ان الملك عنده
يثبت بنفس الإصابة وان سرق بعض الغانمين شيئا من الغنيمة لم يقطع لتأكد حقه فيها
ولكنه يضمن المسروق ويؤدب ولا يحرق رحله عندنا وقال الأوزاعي رحمه الله يحرق رحله
50

ويستدل بحديث روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحرق رحل الغال وفى السير
الكبير ذكر عن محمد رحمه الله ان هذا الحديث لا يكاد يصح وقد كان في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الجيش أعراب جهال يكون منهم الغلول فلو كان يستحق احراق
رحل الغال لاشتهر ذلك ونقل نقلا مستفيضا أرأيت لو كان في رحله مصاحف كانت تحرق
واستكثر من الشواهد لاستبعاد هذا القول وكما لا يلزمه إذا سرق بنفسه فكذلك إذا
سرق عبده أو ذو رحم محرم منه لان فعل هذا في السرقة كفعله وقد بينا هذا في كتاب
السرقة وإذا قسمت الغنيمة على الرايات فوقعت جارية بين أهل راية أو عرافة فأعتقها رجل
منهم قال يجوز إذا قل الشركاء لان الملك قد ثبت بقسمة الجملة وإن لم يتعين لعدم القسمة
على الافراد الا تري انه لم يبق للامام رأى البيع بعد ذلك ولا رأى القتل في الأسارى فكانت
مشتركة بين أهل تلك العرافة شركة ملك وعتق أحد الشركاء نافذ ولكن هذا إذا قلوا
حتى تكون الشركة خاصة فاما إذا كثروا فالشركة عامة وبالشركة العامة لا نثبت ولاية
الاعتاق كشركة المسلمين في مال بيت المال ثم قال والقليل إذا كانوا مائة أو أقل ولست
أوقت فيه وقتا وفي السير الكبير حكى فيه أقاويل فقال قد قيل أربعون لان النبي صلى الله
عليه وسلم أظهر الاسلام حين كثر المسلمون فكانوا أربعين وقيل خمسون اعتبارا بعدد
الايمان في القسامة وقيل مائة استدلالا بقوله تعالى وان يكن منكم مائة صابرة وقيل إذا
كانوا يحصون من غير حاجة إلى كتاب وحساب وقيل إذا كانوا بحيث لو ولد لأحدهم
ولد يظهر ذلك من يومه فهم قليل والأصح انه موكول إلى رأي الامام في استقلال
عددهم واستكثاره لان نصب المقادير لا يكون بالرأي وليس فيه نص فالأولى ان
يجعل موكولا إلي اجتهاد الامام وإذا سبى الجند امرأة ثم سبوا زوجها بعدها بقليل أو كثير
وقد حاضت فيما بين ذلك حيضتين أو لم تحض غير أنهم لم يخرجوها من دار الحرب حتى
سبوا زوجها فهما على نكاحها وأيهما سبي وأخرج إلى دار الاسلام ثم سبى الاخر وأخرج
فلا نكاح بينهما وهذا فصل بيناه في كتاب النكاح ان الموجب للفرقة تباين الدارين لا السبي
فإذا انعدم تباين الدارين كانا على نكاحهما سواء سبيا معا أو أحدهما بعد الآخر وإذا أخرج
المسبى منهما إلى دار الاسلام وجد تباين الدارين بينهما حقيقة وحكما فارتفع النكاح بينهما
ثم لا يعود بعد ذلك وان سبى الآخر منهما والله أعلم بالصواب
51

(باب ما أصيب في الغنيمة مما كان المشركون أصابوه من مال المسلم)
(قال) رضي الله عنه بني مسائل الباب على أصل مختلف فيه وهو ان الكفار يملكون
أموال المسلمين بالقهر إذا أحرزوه بدارهم عندنا ولا يملكونها عند الشافعي لقوله تعالى ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا والتملك بالقهر أقوى جهات السبيل ولما أغار عتيبة بن
حصن على سرح المدينة وفيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وامرأة من الأنصار
قالت الأنصارية فلما جن لليل قصدت الفرار من أيديهم فما وضعت يدي على بعير الا رغى
حتى وضعت يدي على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء فركنت إلى فركبتها
وقلت لئن نجاني الله تعالى عليها لأنحرنها ولآكلن من سنامها وكبدها فلما أتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقصصت عليه هذه القصة قال بئسما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه
ابن آدم وفى رواية رديها فإنها ناقة من إبلنا وارجعي إلى أهلك على اسم الله والمعنى فيه أن
هذا عدوان محض لأنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة فلا يكون سببا للملك كاستيلاء المسلم
على مال المسلم وهذا لان الملك حكم مشروع مرغوب فيه فيستدعى سببا مشروعا والعدوان
المحض ضد المشروع ولان المعصوم بالاسلام لا يملك بالقهر كالرقاب فان الشرع أثبت
العصمة بسبب واحد في المال والرقاب قال صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا منى
دماءهم وأموالهم فذلك دليل المساواة بينهما في المنع من التملك بالقهر وهذا لان الاستيلاء
سبب الملك في محل مباح لا في معصوم حتى لا يملك مال المستأمن بالقهر بخلاف مال
الحربي الذي لا أمان له ولا يملك صيد الحرم بالاستيلاء بخلاف صيد الحل والسبب
لا يعمل الا في محله فإذا صادف الاستيلاء محلا معصوما لم يكن موجبا للملك وبه
فارق سائر أسباب الملك من البيع والهبة لأنه موجب للملك في محل معصوم وهو مملوك
(وحجتنا) في ذلك قوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم الآية فان
الله تعالى سمى المهاجرين فقراء والفقير حقيقة من لا ملك له ولو لم يملك الكفار أموالهم
بالاستيلاء لما سماهم فقراء ولما قال على لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ألا تنزل
دارك قال وهل ترك لنا عقيل من ربع وقد كان له دار بمكة ورثها من خديجة رضي الله عنها
فاستولى عليها عقيل بعد هجرته والمعني فيه أن الاستيلاء سبب يملك به المسلم مال الكافر
52

فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع والهبة وتأثيره أن نفس الاخذ سبب لملك المال إذا تم
بالاحراز وبيننا وبينهم مساواة في أسباب إصابة الدنيا بل حظهم أوفر من حظنا لان الدنيا
لهم ولأنه لا مقصود لهم في هذا الاخذ سوى اكتساب المال ونحن لا نقصد بالأخذ
اكتساب المال ثم جعل هذا الاخذ سببا للملك في حق المسلم بدون القصد فلأن يكون
سببا للملك في حقهم مع وجود القصد أولى وإنما يفارقوننا فيما يكون طريقه طريق الجزاء لان
الجزاء بوفاق العمل وذلك في تملك رقاب الأحرار لان الآدمي في الأصل خلق مالكا لا مملوكا
فصفة المملوكية فيه تكون بواسطة ابطال صفة المالكية وذلك مشروع في حقهم بطريق
الجزاء فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى جازاهم الله تعالى على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده
ولا يوجد ذلك في حق المسلمين ولا اشكال أن ابطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء
والعقوبة ألا تري أن اثبات صفة الحرية في المملوك مشروع بطريق الجزاء والتقرب
فابطال صفة الحرية يكون بطريق الجزاء والعقوبة وقد تعذر اثبات هذه الواسطة في
رقاب الأحرار المسلمين أو من ثبت له حق العتق منهم حتى أن في حق العبيد لما كان الملك
يثبت بدون هذه الواسطة قلنا بأنهم يملكون عبيدنا بالأخذ والمفارقة بيننا وبينهم في الحل
والحرمة لا يمنع المساواة في حكم الملك عند تقرر سببه ألا ترى أن استكساب المسلم عبده
الكافر سبب مباح للملك واستكساب الكافر عبده المسلم حرام ومع ذلك كان موجبا للملك
لتقرر السبب مع أن الفعل الذي هو عدوان غير موجب للملك عندنا لان الفعل إنما
يكون عدوانا في مال معصوم والعصمة بالاحراز والاحراز بالدار لا بالدين لان الاحراز
بالدين من حيث مراعاة حق الشرع والاثم في مجاوزة ذلك ولا يتحقق ذلك في حق المنكرين
فإنما يكون الاحراز في حقهم بالدار التي هي دافعة لشرهم حسا وما بقي المال معصوما
بالاحراز بدار الاسلام لا يملك بالاستيلاء عندنا وإنما يملك بعد انعدام هذه العصمة بالاحراز
بدار الحرب والاخذ بعد ذلك ليس بعدوان محض والمحل غير معصوم أيضا فلهذا كان
الاستيلاء فيه سببا للملك والدليل على أن الاحراز بالدين لا يظهر حكمه في حقهم فصل الضمان
فإنهم لا يضمنون ما أتلفوا من نفوس المسلمين وأموالهم وتأثير العصمة في ايجاب الضمان أظهر
منه في دفع الملك ثم لما لم يبق للعصمة بالدين اعتبار في حقهم في ايجاب الضمان فكذلك في
دفع الملك وتأويل الحديث أنهم لم يحرزوها بدارهم بعد فلم يملكوها ولا ملكت هي فلهذا
53

استردها وجعل نذرها فيما لا تملك والمراد بالآية حكم الاخذ بدليل قوله تعالى فالله يحكم بينهم
يوم القيامة وبه نقول إنهم يفارقوننا في دار الآخرة فإنها دار الجزاء ولا سبيل لهم علينا في
دار الجزاء إذا عرفنا هذا فنقول إذا وقع هذا المال في الغنيمة وقد كان المشركون أحرزوه
فان وجده مالكه قبل القسمة أخذه بغير شئ وان وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة ان شاء
لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين أحرزوا ناقة رجل من المسلمين بدارهم
ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها المالك القديم فقال صلى الله عليه وسلم ان وجدتها قبل
القسمة أخذتها بغير شئ وان وجدتها بعد القسمة أخذتها بالقيمة إن شئت ففي هذا دليل
أنهم قد ملكوها وإنما فرق في الاخذ مجانا بين ما قبل القسمة وما بعدها لان المستولي
عليه صار مظلوما وقد كان يفترض على من يقوم بنصرة الدار وهم الغزاة ان يدفعوا الظلم عنه
بأن يتبعوا المشركين ليستنقذوا المال من أيديهم وقبل القسمة الحق لعامة الغزاة فعليهم دفع
الظلم بإعادة ماله إليه فاما بعد القسمة فقد تعين الملك لمن وقع في سهمه وعليه دفع الظلم ولكن
لا بطريق ابطال حقه وحقه في المالية حتى كان للامام ان يبيع الغنائم ويقسم الثمن بين
الغانمين وحق المالك القديم في العين فيتمكن من الاخذ بالقيمة ان شاء ليتوصل كل واحد
منهما إلى حقه فيعتدل النظر من الجانبين ولان قبل القسمة ثبوت حق الغزاة فيه ليس بعوض
على شئ بل صلة شرعية لهم ابتداء فلا يكون في أخذ المالك القديم إياه مجانا ابطال حقهم
عن عوض كان حقا لهم فاما بعد القسمة فمن وقع في سهمه استحق هذا العين عوضا عن
سهمه في الغنيمة فلا وجه لابطال حقه في ذلك العوض فيثبت للمالك القديم حق الاخذ بعد
ما يعطى من وقع في سهمه العوض الذي كان حقا له وإنما يأخذه إذا أثبت دعواه فان مجرد
قوله ليس بحجة في ابطال حق الغانمين قبل القسمة ولا في استحقاق الملك على من وقع في
سهمه بعد القسمة وهذا إذا كان المأخوذ شيئا لا مثل له فاما الدراهم والدنانير والفلوس
والمكيل والموزون فان وجدها قبل القسمة أخذها بغير شئ وان وجدها بعد القسمة فلا
سبيل له عليها لان الاخذ شرعا إنما ثبت له إذا كان مفيدا وقبل القسمة هو مفيد فاما بعد
القسمة لو أخذها أخذها بمثلها وذلك غير مفيد فان المالية في هذا؟ الأشياء باعتبار الكيل
والوزن ولهذا جرى الربا فيها فلكون الاخذ غير مفيد قلنا بأنه لا يكون مشروعا بخلاف
مالا مثل له فإنه يأخذه بالقيمة وذلك يكون مفيدا لما في العين من الغرض الصحيح للناس وان
54

وجد عبدا كان له فابق إليهم وقد وقع في سهم رجل من الجند أخذه منه بغير شئ في
قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأخذه بالقيمة ان شاء لحديث ابن
عمر رضي الله عنهما أن عبدا لمسلم أبق إلى دار الحرب ثم وقع في الغنية فخاصم فيه المالك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن وجدته قبل القسمة أخذته بغير شئ وان وجدته
بعد القسمة أخذته بالقيمة إن شئت وعن الأزهر بن يزيد ان أمة لقوم أبقت إلى دار
الحرب ثم وقعت في الغنيمة فخاصم فيها مولاها فكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي
الله عنهما فرد جوابه ان وجدها قبل القسمة أخذها وان وجدها بعد القسمة فقد مضت
القسمة ولان الآبق يملك بسائر أسباب الملك فيملك بالاستيلاء كما لو كان مترددا في دار
الاسلام فأحرزوه بدارهم أو كالدابة إذا ندت إليهم وبيان الوصف انه يملك بالإرث حتى
لو أعتقه الوارث بعد موت المورث ينفذ عتقه ويملك بالضمان حتى إذا كان مغصوبا فضمن
الغاصب قيمته يملكه بالضمان ويملك بالهبة من ابنه الصغير وبالبيع ممن في يده وإنما لا يجوز
بيعه من غيره للعجز عن التسليم لا لأنه ليس بمحل للتمليك والدليل عليه آبقهم الينا فإنما
نملكه بالاستيلاء فكذا آبقنا إليهم لما بينا من تحقق المساواة بيننا وبينهم في أسباب إصابة
الدنيا وعلل أبو حنيفة في الكتاب وقال لان الكفار لم يحرزوه ويعنى انه صار في يد نفسه
وهي يد محترمة فتكون دافعة لاحراز المشركين إياه كيد المكاتب في نفسه وإنما قلنا ذلك
لان يد المولى زالت عنه حقيقة بالإباق وحكما بدخوله دار الحرب إذ لا يجوز ان يثبت
للمسلم يد على من في دار الحرب حكما كما لا يثبت لإمام المسلمين اليد على من كان في دار
الحرب فلم يخلفه الآخر اما لأنه حين انتهى إلى الموضع الذي لا يأتي فيه المسلمون وأهل
الحرب فقد زالت يد المولى ولا تثبت يد أهل الحرب عليه في هذا الموضع أو لان يد أهل
الحرب إنما تثبت عليه حسا لا حكما فما لم يأخذوه لا تثبت يدهم عليه فصار في يد نفسه لان
الآدمي من أهل ان تثبت له اليد على نفسه وإن كان مملوكا ألا ترى ان العبد إذا توكل بشراء
نفسه من مولاه لا يملك البائع حبسه بالثمن لثبوت اليد له على نفسه وهذا لان المانع من
ثبوت يده على نفسه يد المولى فإذا زالت تلك اليد لا إلى من يخلفه تثبت اليد له في نفسه
لزوال المانع كما في المكاتب وباعتبار هذه اليد المحترمة يبقى هو محرزا بدار الاسلام لان
صاحب اليد من أهل دار الاسلام ولا طريق لهم إلى الحيلولة بينه وبين هذه اليد وما بقي
55

المال محرزا بدار الاسلام لا يتم احراز المشركين إياه فهذا معني قوله أن الكفار لم يحرزوه
بخلاف المتردد في دار الاسلام فإنه في يد مولاه حكما ولهذا لو وهبه لابنه الصغير صار
قابضا له فبقاء المانع حكما يمنع ثبوت اليد له في نفسه فيتم احراز المشركين إياه فأما الآبق
إلى دار الحرب لا يكون في يد مولاه حكما حتى لو وهبه من ابنه الصغير لا يجوز هكذا
ذكره أبو الحسين قاضي الحرمين عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى بخلاف الدابة إذا ندت
إليهم لأنها ليست من أهل أن تثبت لها اليد في نفسها وبخلاف آبقهم الينا لان يده في نفسه
ليست بمحترمة فيتم احراز المسلمين إياه وبخلاف التملك بالإرث والضمان فإنه تملك حكمي
يثبت في المحل الذي لا يقبل الملك قصدا بسببه كالخمر والقصاص يملك بالإرث والدين يملك
بالإرث والضمان وإن لم يكن محلا للتمليك بالقهر وهذا لما بينا أنه مع بقاء العصمة والاحراز
قد يملك بالإرث والضمان ولا يملك بالأخذ وتأويل الحديثين أن الآبق لم يكن وصل إليهم
حتى خرجوا إليه فأخذوه وأحرزوه إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لما كان له أن يأخذه بعد القسمة بغير شئ فالامام يعوض لمن وقع في سهمه قيمته من بيت
المال لان نصيبه استحق فله أن يرجع على شركائه في الغنيمة وقد تعذر ذلك لتفرقهم في
القبائل فيعوضه من بيت المال لان حقه من نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لذلك ولأنه
لو فضل من الغنيمة شئ يتعذر قسمه كالجوهر ونحوه يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا
لحق غرم يجعل ذلك على بيت المال لان الغرم يقابل بالغنم وهكذا يقال على أصل الكل إذا
كان المأسور مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد لمسلم فان المالك القديم يأخذه بغير شئ بعد القسمة
ويعوض الامام من وقع في سهمه قيمته من بيت المال لما قلنا فان وجد العبد في يد مسلم
اشتراه من أهل الحرب فأخرجه فإن كان قد أبق إليهم فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى للمولى
أن يأخذه بغير شئ لبقائه على ملكه ولا يغرم للمشترى شيئا مما أدى لأنه فدى ملكه
بغير أمره إلا أن يكون أمره بالفداء فحينئذ يرجع عليه بما أدى وعندهما يأخذه منه بالثمن
ان شاء وكذلك أن كان العبد مأسورا بالاتفاق لأنه لا يستحق على المشترى دفع الظلم
عنه بالتزام الخسران في مال نفسه ولأنه وصل إليه هذا العبد بعوض وهو ما أدى من الثمن
فيبقى حقه مرعيا في ذلك العوض ولهذا يأخذه منه بالثمن أن شاء وإن كان أهل الحرب قد
وهبوه لرجل أخذ منه مولاه بالقيمة ان شاء لأنه صار ملك الموهوب له وهو ملك مرعى
56

محترم فلا يجوز ابطاله عليه مجانا لدفع الظلم عن المأسور منه ولكن حاله في ذلك كحال من
وقع في سهمه فلهذا يأخذه منه بالقيمة (فان قيل) هذا الملك يثبت للموهوب له بغير عوض
(قلنا) لا كذلك فالعوض والمكافأة في الهبة مقصود وإن لم يكن مشروطا ولهذا يثبت
حق الرجوع للواهب إذا لم ينل العوض فجعل ذلك المعني معتبرا في اثبات حقه في القيمة
وإن كان المشترى للعبد من العدو باعه من غيره أخذه المولى من المشترى الثاني بالثمن الذي
اشتراه به إن كان من ذوات الأمثال فبمثله وإن لم يكن فبقيمته ولان المشترى الثاني قائم
مقام المشترى الأول وملكه مرعى كملك المشترى الأول وليس للمالك القديم أن يبطل
العقد الثاني ليأخذه من يد المشترى الأول بالثمن الأول وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله
تعالى أن له ذلك لان حق المولى القديم في العين سابق على حق المشترى الأول ولم يبطل
ذلك بتصرفه فيكون متمكنا من نقض تصرفه كما يتمكن الشفيع من نقض تصرف المشترى
وهذا لان له في نقض هذا التصرف فائدة لما بين الثمنين من التفاوت وجه ظاهر الرواية
ان الشرع جعل للمالك القديم حق الاخذ من غير نقض التصرف ألا ترى أنه لم يجعل
له حق نقض القسمة ليأخذه مجانا وفائدته في ذلك أظهر وهذا بخلاف الشفيع لان تصرف المشترى قد يكون مبطلا لحق الشفيع لو لم يكن له حق النقض وربما يهبه من انسان والشفعة
تثبت في الشراء دون الهبة فلا بقاء حق الشفيع في العين مكناه من نقض التصرف فأما
ههنا ليس في تنفيذ تصرف المشترى ابطال حق المالك القديم فان حق الآخذ يبقي سواء
باعه المشترى أو وهبه أو تصدق به ولهذا تمكن من الاخذ من غير نقض التصرف توضيحه
ان حق الشفيع يثبت قبل ملك المشتري ولهذا لو اشترى بشرط الخيار يثبت حتى الشفيع
وتصرف المشترى بحكم ملكه فينتقض تصرفه بحق من سبق حقه في ملكه فأما حق
المولى القديم لم يثبت بعد ملك المشتري ألا تري ان الكفار لو أسلموا قبل أن يبيعوه لم يكن
للمولى ان يأخذه ولهذا لا يتمكن من نقض تصرف المشترى فان وقع الاختلاف بينهما في
مقدار الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه إنما يتملك عليه ماله فلا يتمكن من أخذه الا بما
يقر هو له كالمشترى مع الشفيع إذا اختلفا في الثمن الا ان يقيم المالك البينة أنه اشتراه بأقل
من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم وان اشتراه رجل من أهل الحرب
و؟؟؟ به مولاه فلم يخاصم فيه زمانا ثم أراد أن يأخذه بالثمن فله ذلك وفي رواية ابن سماعة عن
57

محمد ليس له بمنزلة الشفيع إذا لم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع وجه ظاهر الرواية ان سكوت
الشفيع جعل مبطلا حقه لدفع الضرر والغرر عن المشتري فإنه يتمكن الشفيع من نقض
تصرفه فلو لم يبطل حقه بالسكوت كان يتعذر على المشترى تنفيذ التصرف فيه مخافة ان
يبطل الشفيع تصرفه وهذا المعني لا يوجد ههنا فان المالك القديم لا يتمكن من نقض تصرف
المشترى علي ما بينا فلهذا لا يكون سكوته مبطلا لحقه فإن لم يأخذه حتى أسروه ثانيا ثم اشتراه
رجل آخر منهم ثم حضر مولاه الأول فلا سبيل له على المشترى الثاني لان حق الآخذ
إنما يثبت للمأسور منه والمأسور منه في هذه المرة المشتري الأول دون المالك القديم فلهذا
كان حق الآخذ من يد المشترى الثاني للمشتري الأول فإذا أخذه حينئذ يثبت للمالك
الاخذ من يده بالثمنين جميعا ان شاء وان أبى المشترى الأول ان يأخذه فلا سبيل للمالك
القديم عليه لان حقه كان ثابتا في ملك المشتري الأول فإذا أخذه فقد ظهر محل حقه وإن لم
يأخذه لم يظهر محل حقه فلا سبيل له عليه كالموهوب له إذا وهبه لغيره فلا سبيل للواهب
الأول عليه بالرجوع الا ان يرجع الموهوب له الأول فيه فحينئذ يثبت للواهب الأول حق
الرجوع لهذا المعني (فان قيل) إنما كان للمالك القديم حق الاخذ في الملك الذي استفاده
المشترى من العدو وهذا ملك آخر استفاده من المشترى الثاني فكيف يثبت حقه فيه
(قلنا) لا كذلك لان المأسور منه بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه ولهذا لو كان موهوبا كان
للواهب ان يرجع فيه وما يغرم المشترى من العدو فداء وليس ببدل عن الملك كالمولى
يفدى عبده من الجناية فيبقى على قديم ملكه لا ان يتملكه بالفداء وإنما يأخذه بالثمنين لان
ذلك هو العوض الذي أدى من ماله فيه مرتين ولو أداه مرة واحدة لم يملك المولى أخذه
ما لم يرد عليه جميع ذلك فكذلك إذا غرمه مرتين وإذا أسر العدو عبدا وفي عنقه جناية عمد
أو خطأ أو دين انسان فان رجع إلى مولاه الأول بوجه من الوجهين بحق الملك الأول
فذلك كله في عنقه كما كأن لما بينا أنه بالأخذ أعاده إلى قديم ملكه فالتحق بما لم يزل عن
ملكه أصلا وإن لم يرجع إليه أو رجع إليه بملك مستأنف بطلت جناية الخطأ لان المستحق
بالجناية الخطأ على الملك الذي كان له في وقتها وقد فات ذلك ولم يعدو الحق لا يبقى بعد
فوات محله كما لو زال العبد الجاني عن ملكه بالبيع أو بالعتق وأما جناية العمد والدين فهما عليه
كما كان يؤخذ بهما لان المستحق بجناية العمد ذمته وذلك باق بعد زوال ملك المولى الا ترى
58

انه لو زال ملكه بالبيع أو الهبة لا يبطل القصاص عنه وكذلك الدين المستحق في ذمته وذمته
باقية الا ترى ان بالبيع والعتق لا يبطل الدين عنه والدين في ذمته يكون شاغلا لماليته إذا كان
ظاهرا في حق مولاه فلهذا أخذ به وفى الموضع الذي تلحقه الجناية والدين يبدأ بالدفع
بالجناية ثم بالبيع ثم بالدين لأنه لو بدأ بالبيع بطل حق ولى الجناية ولو دفع بالجناية أولا لم يبطل
حق صاحب الدين فلهذا كانت البداية بالدفع بالجناية فان وقع المأسور في سهم رجل فلم يحضر
مولاه حتى أعتقه هذا الرجل أو دبره جاز لأنه تصرف بحكم ملكه وملكه تام مع قيام
حق المأسور منه فينفذ تصرفه ثم لا يكون للمولى عليه سبيل لأنه خرج من أن يكون قابلا
للنقل من ملك إلى ملك لما ثبت فيه من الحرية أو حقها ولان الولاء عليه قد لزم المشترى
الأول على وجه لا سبيل إلى ابطاله وحق المالك القديم بعرض الابطال وهو نظير الموهوب
له إذا أعتق أو دبر يبطل حق الواهب في الرجوع لما قلنا وان كانت أمة فزوجها فولدت
من الزوج فله أن يأخذها وولدها لأنها بالولادة من الزوج لم تخرج من أن تكون قابلة
للنقل من ملك إلي ملك والولد جزء من عينها فيثبت له حق الاخذ فيه كما في سائر أجزائها
بخلاف حق الواهب في الرجوع فإنه لا يثبت في الولد لان ذلك حق ضعيف العين ألا ترى
أنه لا يبقي بعد تصرف الموهوب له والحق الضعيف لا يعد ومحله والولد وإن كان جزءا من
العين ففي المال هو محل آخر فأما حق المولي ههنا قوى يتأكد في العين حتى لا يبطل
بتصرف المشترى فلهذا يسرى إلى الولد الذي هو جزء من العين ولا يكون له أن يفسخ
النكاح لما بينا أنه يتمكن من الاخذ من غير أن ينقض تصرف المشترى والنكاح ألزم من
سائر التصرفات ولا يتمكن من نقضه وإن كان أخذ عقرها أو أرش جناية جني عليها لم يكن
للمولى على ذلك سبيل لان حقه في العين والأرش والعقر غير متولد من العين ولم يوجد
فيه السبب وهو الاستيلاء عليه في ذلك المال ولأنه لو أخذ العقر والأرش أخذهما بمثلهما فلا
يكون مفيدا شيئا ثم لا ينتقص عن المولى القديم شئ من الثمن بسبب احتباس العقر
والأرش عند المشترى ألا ترى أنها لو تعيبت في يد المشترى بعيب يسير أو فاحش لم
ينتقص عن المولى شئ وهذا لما بينا أن ما يعطى فداء وليس ببدل في حقه والفداء لا يقابل
بشئ من الأوصاف وإن لم يكن زوجها المشترى من العدو حل له وطئها وإن كان
يعلم قصتها لأنها مملوكة ملكا صحيحا وقيام حق المولى في الاخذ لا ينافي ملكه كالجارية
59

الموهوبة يحل للموهوب له وطئها وإن كان للواهب فيها حق الرجوع (قال) فإن كان
المأسور منه يتيما كان للوصي أن يأخذه من مشتريه بالثمن لأنه قام مقام الصبي في استيفاء حقوقه
نظرا له فلا يكون له أخذه لنفسه لان الأسر لم يقع على ملكه وهو السبب المثبت لحق
لاخذ له فإذا كانت الجارية رهنا بألف درهم وهي قيمتها فأسرها العدو ثم اشتراها منهم
رجل بألف درهم كان مولاها أحق بها بالثمن لأنها أسرت على ملكه وحق الاخذ بالثمن
للمأسور منه باعتبار ملكه القديم وذلك للراهن دون المرتهن فان أخذها لم تكن رهنا لأنها
في حق المرتهن تاوية ولأنه لا فائدة للمرتهن في أخذها لان الراهن لم يكن متبرعا فيما
أعطي من الألف فإنه ما كان يتوصل إلى احياء ملكه الا بأداء الألف فلا يتمكن المرتهن
من أخذها الا برد الألف على الراهن وإنما يأخذها ليستوفى ألفا من ماليتها فلا يفيده
اعطاء الألف ليستوفى منه ألفا وهو نظير ما لو جنت جناية يبلغ أرشها ألف درهم وأبى المرتهن
أن يفديها ففداها الراهن وإن كان الثمن أقل من ألف درهم كان للمرتهن أن يؤدى ذلك
الثمن الذي أداه المولى فيكون رهنا عنده علي حاله ان شاء وان شاء تركها لان أخذه إياها
مفيد له فإنه يغرم الخمسمائة ليحيى به حقه في الألف وهو نظير الجناية إذا كان أرشها أقل
من الألف ففداها الراهن كان للمرتهن أن يرد عليه الفداء ونكون رهنا عنده على حالها
وان شاء تركها فكانت تاوية في حقه وقد بينا فيما سبق أن الثمن الذي يعطيه المالك القديم
للمشتري فداء وليس ببدل عن الملك بمنزلة الفداء من الجناية وان كانت في يده وديعة
أو عارية أو إجارة لم يكن له إلى أخذها سبيل وكان الحق في أخذها لمولاها لان ثبوت
الاخذ باعتبار قديم الملك وذلك للمولى دون ذي اليد وهذا بخلاف الاسترداد من
الغاصب فالغصب لا يزيل ملك المولى والمودع والمستعير قائم مقامه في حفظ ملكه فيمكن
من الاسترداد ليتوصل إلى الحفظ فاما الاحراز يزيل ملك المولى فيخرج به المستعير
والمستودع من أن يكون عاملا له ولو أثبتنا له حق الاخذ بالثمن كان عاملا لنفسه في التملك
ابتداء فلهذا لم يكن لهما حق الاخذ بالثمن وبه فارق الفداء من الجناية فان المودع والمستعير
لو فداها من الجناية صح وكان متبرعا في ذلك لان الجناية لا تزيل ملك المولى ونظيرها
بالفداء يقرر حفظ الملك عليه وأما الاحراز يزيل ملك المولى فان أخذ بالثمن يكون إعادة
الملك؟ لا أن يكون حفظا للملك وهو ما أقامهما في ذلك مقام نفسه فإن كان لها زوج قبل
60

ان تؤسر فالنكاح بحاله لأنه لم تتباين بهما الدار حكما فإنها مسلمة وان كانت مأسورة في
دار الحرب فالمسلم من أهل دار الاسلام حكما وإن كان في دار الحرب صورة وتباين
الدارين حقيقة لا حكما لا يقطع عصمة النكاح وبالاحراز تصير مملوكة لأهل الحرب
فيكون ذلك في حكم النكاح كبيع المولى إياها وذلك غير مفسد للنكاح فان غلب العدو
على مال المسلمين فأحرزوه وهناك مسلم تاجر مستأمن حل له ان يشتريه منهم فيأكل الطعام
من ذلك ويطأ الجارية لأنهم ملكوها بالاحراز فالتحقت بسائر أملاكهم وهذا بخلاف ما لو
دخل إليهم تاجر بأمان فسرق منهم جارية وأخرجها لم يحل للمسلم ان يشتريها منه لأنه أحرزها
على سبيل الغدر وهو مأمور بردها عليهم فيما بينه وبين ربه وان كأن لا يجبره الامام على
ذلك لأنه غدر بأمان نفسه لا بأمان الامام فاما ههنا هذا الملك تام للذي أحرزها بدليل أنه
لو أسلم أو صار ذميا كانت سالمة له ولا يفتى بردها فلهذا حل للمشترى منه وطئها وهذا
للفقه الذي قلنا إن العصمة الثابتة بالاحراز بدار الاسلام تنعدم عند تمام احراز المشركين إياها
وهذا بخلاف ما إذا كانت مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فإنها لم تصر مملوكة بالاحراز فلا يحل
للتاجر ان يشتريها منهم ولا ان يطأها ألا ترى أنهم لو أسلموا أو صاروا ذمة وجب عليهم
ردها على المالك القديم فتكون على ملكه كما كانت وان اشتري التاجر مكاتبا أو مدبرا
أو حرا أسره أهل الحرب فأخرجه فالحر على حاله والمكاتب والمدبر كذلك لأنهما لا يملكان
بشئ من أسباب الملك وإن كان المشترى فداهما بغير أمرهما فلا رجوع له عليهما لأنه تبرع
بما فداهما به وإن كان بأمر هما فله ان يرجع عليهما بما فداهما به لأنه أدي ماله نفسه في تخليصهما
وتوفير المنفعة عليهما بأمرهما وهذا في الحر غير مشكل وكذلك في المكاتب فان موجب
جناية المكاتب على نفسه لأنه بمنزلة الحر في ملك اليد والمكاسب وإن كان المأسور عبدا
لمسلم فباعه ملكه من رجل من أهل الحرب فأعتقه فهو حر كما لو باعه من مسلم فأعتقه وقيل
على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي ان يعتق بنفس البيع لا باعتاقه لان من أصله
ان عبد الحربي إذا أسلم فباعه مولاه يعتق فهذا أيضا عبد مسلم لحربي فإذا زال ملكه ويده
ببيعه يزول إلى العتق وعندهما بالبيع لا يعتق وإنما يعتق بالاعتاق اما عند أبي يوسف فالاعتاق
من الحربي صحيح وكذلك عند محمد إذا كان من حكم ملكهم منع المعتق من استرقاق المعتق
مع أن العبد ههنا مسلم فلا يكون محلا للاسترقاق بعد الاعتاق فلهذا يعتق باعتاقه وقيل
61

بل هذا قولهم جميعا فان أبا حنيفة إنما يقول يعتق بالبيع في عبد ليس لمسلم فيه حق وفى هذا
العبد للمولى القديم حق الإعادة إلى ملكه مجانا أو بفداء فلا يعتق بالبيع ما لم يعتقه مالكه
وإذا أسلم أهل الحرب على مال أخذوه من أموال المسلمين وصاروا ذمة فهو لهم ولا سبيل
للمسلمين عليه لان القياس أن لا يكون للمالك القديم حق الاخذ بعد زوال ملكه بتمام
الاحراز وبه كان يقول الزهري والحسن البصري رحمهما الله وإنما تركنا القياس بالسنة في
الذي وقع في الغنيمة أو اشتراه منهم مسلم والسنة ههنا جاءت بتقرر الملك للذي أسلم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم على مال فهو له والمعنى الذي لأجله ثبت للمالك القديم
حق الاخذ هناك وجوب نصرته والقيام بدفع الظلم عنه على المسلم الذي وقع في سهمه كما
بينا وهذا غير موجود ههنا فإنه ما كان على هذا الحربي القيام بنصرته حين أحرزوه لان
ذلك ثابت شرعا وهم لا يخاطبون بذلك ولان القيام بالنصرة علي من هو أهل دار الاسلام وهو
ما كان يومئذ من أهل دار الاسلام فلم يثبت حقه في ملكه وإذا أسلم أو صار ذمة فقد تقرر
ملكه وكذلك لو كان ذلك الحربي باعه من حربي آخر ثم أسلم المشترى أو صار ذمة فالمشترى
بمنزلة البائع في المعنى الذي قررنا وكذلك لو خرج الينا بأمان ومعه ذلك المال فإنه لا يتعرض
له فيه وهذا أظهر لأنه حربي وإن كان مستأمنا في دارنا ولم يكن حق المولى ثابتا في ملكه
فلو مكناه من الاخذ منه كان غدرا بالأمان وذلك حرام إلا أنه يجبر المستأمن على بيعه من
المسلمين لأنه عبد مسلم فلا يمكن الحربي من استذلاله باستدامة الملك واعادته إلى دار
الحرب وإذا سبى الصبي من أهل دار الحرب وأخرج إلى دار الاسلام فمات فإن كان معه
أبواه كافرين أو أحدهما فإنه لا يصلى عليه والأصل فيه أن الولد تابع للأبوين في الدين قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه اما شاكرا واما كفورا ولا تظهر تبعية الدار عنه تبعية الأبوين
ألا تري أن أولاد أهل الذمة في دار الاسلام يكونون على دين آبائهم وهذا لان الولد من
الأبوين ولكنه في الدار لا من الدار فكان اتباعه للأبوين أصلا والدار في حكم الخلف فلا
يظهر الخلف مع قيام الأصل وكذلك أحد الأبوين في هذا الحكم بمنزلتهما ألا ترى أن الذمية
إذا ولدت من زنا فان الولد يتبعها في الدين ولا أب هنا فعرفنا أن أحد الأبوين يكفي في الاتباع
فإن كان معه أبواه أو أحدهما فهو على دينه فإذا مات لا يصلى عليه وان كانت جارية لم يحل
62

للسابي وطئها إذا لم يكن أبواها أو أحدهما من أهل الكتاب فان أسلم أبواه أو أحدهما فقد
صار الصبي مسلما تبعا لمن أسلم منهما فإنه يتبع خير الأبوين دينا لأنه يقرب من التابع فإذا
مات يصلى عليه وان خرج وليس معه أبواه أو أحد من الأبوين فمات قبل أن يعقل
الاسلام صلى عليه لان التبعية بينه وبين الأبوين انقطعت بتباين الدار حقيقة وحكما فيظهر
تبعية الدار ويصير محكوما باسلامه تبعا للدار كاللقيط فإذا مات يصلى عليه وان خرج الأب
من ناحية والابن من ناحية معا فمات الصبي لم يصل عليه لأنه ما حصل في دارنا الا وله
أب كافر فيكون تبعا له دون الدار وكذلك أن خرج الأب أولا ثم الصبي بخلاف ما لو
خرج الصبي أولا ثم الأب فإنه حين خرج أولا حكم باسلامه تبعا للدار فلا يحكم بكفره بعد
ذلك وان خرج أبواه (فان قيل) إذا خرج معه أحد أبويه فاعتبار جانب الأب يوجب
كفره واعتبار جانب الدار يوجب اسلامه فينبغي ان يرجح الموجب لاسلامه كما لو أسلمت
أمه قلنا الاشتغال بالترجيح عند المساواة وذلك في حق الأبوين فاما الدار خلف عن
الأبوين في حقه كما بينا ولا يظهر الخلف في حال بقاء الأصل فلا معنى للاشتغال
بالترجيح وكذلك لو مات أبوه كافرا في دارنا لان بموته لا ينقطع حكم التبعية
الا ترى أن أولاد أهل الذمة لا يحكم باسلامهم وان ماتت آباؤهم وفى هذا نوع اشكال فان
من في دار الحرب في حق من هو في دار الاسلام كالميت ثم جعلنا الولد تبعا للدار إذا
بقي أبواه في دار الحرب ولا نجعله تبعا للدار إذا مات أبواه في دار الاسلام ولكن نقول
الموت لا يقطع العصمة الا ترى ان المتوفى عنها زوجها يبقى حل النكاح بينها وبينه في حق الغسل
وتباين الدارين حقيقة وحكما ينافي العصمة والتبعية فمن هذا الوجه يفترقان ولا بأس ببيع
السبي من أهل الذمة ما لم يسلموا لأنهم صاروا من أهل دارنا ولكنهم كفار فلا بأس
ببيعهم من أهل الذمة وإن كان الأولى أن لا يفعل الامام ذلك ولكن يبيعهم من المسلمين
ليسلموا عسى ويكره ببيعهم من أهل الحرب لأنهم صاروا من أهل دارنا فلا يباعون من أهل
الحرب ليعيدوهم إلى دار الحرب فيتقووا بهم على المسلمين ومن صار محكوما باسلامه
من صغارهم يكره بيعه من أهل الذمة كغيره من العبيد المسلمين وللامام أن يقتل الرجال
من الأسارى وله أن يستبقيهم ويقسمهم بين الجند ينظر أي ذلك خيرا للمسلمين فعله
لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل سبي بني قريظة وقسم سبايا أوطاس فعرفنا أن كل
63

ذلك جائز والامام نصب ناظرا فربما يكون النظر في قتلهم لمعنى الكبت والغيظ للعدو
وليأمن المسلمون فتنتهم وربما يكون النظر في قسمتهم لينتفع بهم المسلمون فيختار من
ذلك ما هو الأنفع ولهذا لا يحل للمسلمين قتلهم بدون رأى الامام لان فيه افتياتا علي رأيه
إلا أن يخاف الآسر فتنة فحينئذ له أن يقتله قبل أن يأتي به إلى الامام وليس لغير من أسره
ذلك لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتعاطى أحدكم أسير
صاحبه فيقتله وإن كان لو قتله لم يلزمه شئ لان الأسير ما لم يقسم الامام مباح الدم بدليل
أن للامام أن يقتله وقتل مباح الدم لا يوجب ضمانه فان أسلموا لم يقتلهم لقوله صلى الله عليه
وسلم فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم ولان القتل لدفع فتنة؟ الكفر وقد اندفعت
بالاسلام ولكنه يقسمهم لأنه كان مخيرا فيهم بين القتل والقسمة فإذا تعذر أحدهما
تعين الآخر وهذا لان حق المسلمين قد ثبت فيهم بالأخذ وصاروا بمنزلة الأرقاء
والإسلام لا ينافي بقاء الرق والقسمة لتعيين الملك لا أن يكون ابتداء الاسترقاق فاسلامهم
لا يمنع من ذلك فإن لم يسلموا ولكنهم ادعوا أمانا فقال قوم من المسلمين قد كنا أمناهم
فإنهم لا يصدقون على ذلك لان حق المسلمين قد ثبت فيهم فلا يصدقون في ابطال حق
المسلمين وقولهم هذا اقرار لا شهادة فإنهم أخبروا به عن أنفسهم ومن أخبر بما لا يملك
استنئافه كان متهما في خبره فلا يصدق وان شهد قوم من المسلمين عدول على طائفة
أخرى من المسلمين أنهم أسروهم وهم ممتنعون جازت شهادتهم لأنه لا تهمة
في شهادتهم فإنهم ان كانوا من الجند ففي شهادتهم ضرر عليهم وان كانوا من غير الجند
فليس في شهادتهم منفعة لهم وإذا انتفت التهمة فالثابت بالشهادة كالثابت معاينة ولا يقتل
الأعمى ولا المقعد والمعتوه من الأسارى لأنه إنما يقتل من يقاتل قال الله تعالى وقاتلوهم
والمفاعلة تكون من الجانبين ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال
هاه ما كانت هذه تقاتل فعرفنا أنه إنما يقتل من الأسارى من يقاتل والأعمى والمقعد والمعتوه
لا يقاتلون أحدا وإن كان ذلك منهم عارضا فقد اندفع بالأسر فلا يقتلون بعد ذلك كالمرأة
منهم إذا قاتلت فأسرت لا تقتل بعد ذلك ولا بأس بارساله الماء إلى مدينة أهل الحرب
واحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسر أو تجاري
وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى إذا علم أن فيهم مسلم وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له
64

ذلك لان الاقدام على قتل المسلم حرام وترك قتل الكافر حائز ألا ترى ان للامام أن
لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه ولكنا
نقول أمرنا بقتالهم فلو اعتبرنا هذا المعنى أدى إلى سد باب القتال معهم فان حصونهم
ومدائنهم قال ما تخلو من مسلم عادة ولأنه يجوز لنا ان نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم
وصبيانهم وكما لا يحل قتل المسلم لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم
وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا وقد روينا ان النبي صلى الله عليه وسلم
نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن يزيد رضي الله عنه بان يحرق وحرق حصن
عوف بن مالك وكذلك أن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم وإن كان الرامي
يعلم أنه يصيب المسلم وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يحل له ذلك وهو قول الشافعي لما
بينا ان التحرز عن قتل المسلم فرض وترك الرمي إليهم جائز ولكنا نقول القتال معهم فرض
وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم
يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترؤون بذلك على المسلمين وربما يصيبون
منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع الا ان على المسلم الرامي ان يقصد
به الحربي لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه فإذا عجز
عن ذلك كان عليه ان يميز بقصده لأنه وسع مثله ولا كفارة عليه ولادية فيما أصاب مسلما
منهم لأنه إصابة بفعل مباح مع العلم بحقيقة الحال والمباح مطلقا لا يوجب عليه كفارة
ولادية والشافعي يوجب ذلك ويقول هذا قتل خطأ لأنه يقصد بالرمي الكافر فيصيب
المسلم وهذا هو صورة الخطأ ولكنا نقول إذا كان عالما بحقيقة حال من يصيبه عند
الرمي لم يكن فعله خطأ بل كان مباحا مطلقا وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وله في
أيديهم جارية مأسورة كرهت له غصبها ووطئها لأنهم ملكوها عليه والتحقت بسائر أملاكهم
فلو غصبها منهم أو سرقها كان ذلك منه غدرا للأمان وقد ضمن أن لا يغدر بهم ولا يأخذ
شيئا من أموالهم الا بطيب أنفسهم وان كانت مدبرة أو أم ولد لم يكره له ذلك لأنهم لم يملكوها
عليه فهو إنما يعيد ملكه إلى يده ولا يتعرض لملكهم بشئ فلم يكن ذلك منه غدرا للأمان
الا تري انهم لو أسلموا كان عليهم ردها بخلاف الأمة وإن كان الرجل مأسورا فيهم لم
اكره له ان يغصب أمته أو يسرقها لأنه ما كان بينه وبينهم أمان ولكنه مقهور فيهم مظلوم
65

فكان له ان يدفع الظلم عن نفسه بما يقدر عليه ألا ترى ان له ان يقتل من قدر عليه منهم
وان يسرق ما استطاع من أموالهم وأولادهم بخلاف الذي دخل إليهم بأمان وإذا أسلم
الحربي في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على تلك الدار ترك له ما في يده من ماله ورقيقه
وولده الصغار لان أولاده الصغار صاروا مسلمين باسلامه تبعا فلا يسترقون والمنقولات في
يده حقيقة وهي يد محترمة لاسلام صاحبها فلا يتملك ذلك عليه بالاستيلاء ولأنه صار
محرزا ما في يده من المال بمنعة المسلمين وذلك سبب لتقرير ملك المسلم لا ابطال ملكه يوضحه
ان يده إلى أمتعته أسبق من يد المسلمين فأما عقاره فإنها تصير غنيمة للمسلمين في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى استحسن فاجعل عقاره له
لأنه ملك محترم له كالمنقول واستدل بحديث الكلبي ومحمد بن إسحاق رحمهما الله تعالى ان
نفرا من بني قريظة أسلموا حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم فأحرزوا
بذلك أنفسهم وأموالهم قال وعامة أموالهم الدور والأراضي ولكنا نقول هذه بقعة من
بقاع دار الحرب فتصير غنيمة للمسلمين كسائر البقاع وهذا لان اليد على العقار إنما تثبت
حكما ودار الحرب ليست بدار الاحكام فلا معتبر بيده فيها قبل ظهور المسلمين عليها وبعد
الظهور يد الغانمين فيها أقوى من يده فلهذا كانت غنيمة بخلاف المنقولات وتأويل الحديث
ان صح في المنقول دون العقار وكذلك أولاده الكبار فئ لأنهم ما صاروا مسلمين باسلامه
ولا كانت له عليهم يد فهم كسائر أهل الحرب وكذلك زوجته الحبلى لأنها لا تصير
مسلمة باسلام زوجها فتكون فيئا ويده عليها يد حكمية بسبب النكاح ومثله لا يمنع الاغتنام
كاليد على العقار وكذلك ما في بطنها فئ عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون
فيئا لان ما في بطنها مسلم باسلام أبيه والمسلم لا يسترق أبدا كالولد المنفصل ولكنا نقول
الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم؟ وهي قد صارت فيئا بجميع أجزائها ألا ترى أنه
لا يجوز أن يستثنى الجنين في اعتاق الأم كما لا يستثني سائر أجزائها وكما أن في الاعتاق
لا يصير الجنين مستثنى عند اعتاق الأم بحال فكذلك في الاسترقاق لا يصير الجنين
مستثني بعدما ثبت الرق في الأم وهذا لان الحكم في التبع لا يثبت ابتداء بل بثبوته في
الأصل يظهر في التبع فيكون هذا في حق التبع بمنزلة بقاء الحكم والإسلام لا يمنع بقاء
الرق وإن كان خرج إلى دار الاسلام ثم أسلم ثم ظهر المسلمون على الدار فأهله وماله وأولاده
66

أجمعون فئ لأنه لما أسلم في دارنا الذي في دار الحرب لا يصير مسلما باسلامه لما بينا
أن تباين الدارين حقيقة وحكما مناف للتبعية ولأنه لا يد له على شئ مما خلفه في دار الحرب
من أمواله فلهذا كان جميع ذلك فيئا للمسلمين لأنهم أحرزوه دونه ولو أسلم في دار الحرب
ثم دخل دار الاسلام ثم ظهر المسلمون على الدار فجميع ماله فئ الا أولاده الصغار لأنهم
صاروا مسلمين باسلامه لأنه حين أسلم في دار الحرب كانت التبعية بينه وبينهم قائمة وبعد
ما صاروا مسلمين لا يسترقون فأما الأموال فلم يبق له يد فيها بعد ما خرج إلى دار الاسلام
وتركها في دار الحرب وإن كان أودع شيئا من ماله مسلما أو ذميا فذلك المال لا يكون فيئا
لان يد المسلم والذمي يد صحيحة على هذا المال فتكون مانعة احراز المسلمين إياها كما في سائر
أموال المودع وإذا لم تصر غنيمة كانت يد المودع فيها كيد المودع فيصير هو المحرز لها من
هذا الوجه فترد عليه وإن كان أودع شيئا من ماله حربيا فذلك المال فئ في ظاهر الرواية وقد
روى عن أبي حنيفة رحمه الله انه لا يكون فيئا لان يد المودع كيد المودع فجعلت يده باقية
على هذا المال حكما بيد من يخلفه وجه ظاهر الرواية ان يد المودع في هذا المال ليست بيد
صحيحة الا ترى أنها لا تكون دافعة لاغتنام المسلمين عن سائر أمواله فكذلك عن هذه
الوديعة وإذا لم تكن يده معتبرة كان هذا والمال الذي لم يودعه أحدا سواء وإذا دخل
المسلم أو الذمي دار الحرب تاجرا بأمان فأصاب هناك مالا ودورا ثم ظهر المسلمون على
ذلك كله فهو له كله الا الدور والأرضين فإنها فئ لان يده يد صحيحة فإنه من أهل دار
الاسلام فيكون هو المحرز بيده لأمواله وتكون يده دافعة لاحراز المسلمين تلك الأموال
فأما الدور والأرضين فهي بقعة من بقاع دار الحرب فتصير مغنومة كسائر البقاع وتقرير
هذا الكلام ان اليد على هذه البقعة من دار الحرب لا تقوى مقصودة بنفسها وإنما تقوى
إذا ثبتت على جميع الدار فكانت هذه البقعة في حكم التبع وقد بينا ان ثبوت الحكم في
التبع كثبوته في الأصل بخلاف المنقولات فاليد عليها تبقى مقصودة بنفسها وقد سبق ذلك
من المسلم فكان هو المحرز لها يوضحه ان المسلم يتحقق منه الاحراز في المنقولات بأن
يخرجها إلى دار الاسلام فيجعل أيضا محرزا لها بظهور المسلمين على الدار فأما العقار لا يتحول
ولا يتحقق من المسلم احرازه بالاخراج إلى دار الاسلام فإنما تصير محرزة بالغانمين ومن
قاتل من كبار عبيده فهو فئ لأنه نزع نفسه من يده حين قاتل المسلمين فان المسلم يمنع
67

عبده من قتال المسلمين وإن لم يبق له عليه يد حقيقة كان فيئا كسائر عبيد أهل الحرب
وان كانت له امرأة حبلى فهي وما في بطنها فئ كما بينا وما كان له من وديعة عند مسلم
أو ذمي أو حربي فهو له وليست بفئ أما ما كان عند مسلم أو ذمي فلا اشكال فيه وأما
ما كان عند حربي فلانه ما دام في دار الحرب فيده ثابتة على تلك الوديعة باعتبار يد مودعه
وكونه حافظا له فتكون يده دافعة لاحراز المسلمين في ذلك المال بخلاف ما تقدم في ما إذا
خرج إلى دار الاسلام (قال) وكذلك أن كان خرج إلى دار الاسلام قبل ذلك فإن كان
مراده من هذا العطف ما أودعه عند مسلم أو ذمي فهو ظاهر وإن كان مراده ما أودعه
عند حربي فهو يقوى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحتاج إلى الفرق بين هذا وبين
ما سبق على ظاهر الرواية ووجه الفرق أن التاجر الذي دخل إليهم ماله كان محرزا بدار
الاسلام ولم يبطل ذلك الاحراز الا باحراز المشركين إياه وذلك لا يوجد فيما إذا أودعه من
الحربي إذا كان الحربي جاريا على وفاق ما أمر به فإذا بقي المال محرزا بدار الاسلام لا يملكه
المسلمون بالاستغنام فأما الذي أسلم في دار الحرب فماله لم يصر محرزا بدار الاسلام فكان محلا
للاستغنام الا ما ثبتت عليه يد صحيحة دافعة للاستغنام وذلك غير موجود فيما إذا أودعه من
أهل الحرب فان أخذ المسلمون تلك الوديعة فاقتسموها في الغنيمة ثم جاء صاحبها أخذها
بغير قيمة لأنه مال مسلم لم يحرزه المشركون وإن كان المشركون قتلوا هذا المسلم في دارهم
وأخذوا ماله ثم ظهر عليهم المسلمون ردوه على ورثة المقتول قبل القسمة بغير شئ لأنهم لما
قتلوه وأخذوا ماله فقد صاروا محرزين له فيملكونه ثم المسلمون يملكونه عليهم بالاغتنام
فهو بمنزلة مال المسلم استولى عليه أهل الحرب وأحرزوه ثم وقع في الغنيمة وقد مات
صاحبه فكان لوارثه أن يأخذه قبل القسمة بغير شئ لأنه قائم مقام مورثه في ملكه وحقوق
ملكه وتمكنه من الاخذ كان لحق ملكه القديم فيقوم فيه وارثه مقامه وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أنه لا يثبت لوارثه حق الاخذ واعتبر هذا بحق الشفعة وحق الخيار فان
ذلك لا يصير ميراثا عنه بعد موته فكذلك في حق المأسور ألا ترى أن هذا الحق دون
ذلك الحق فان للشفيع أن ينقض تصرف المشترى وليس للمالك القديم ذلك وان كانوا
اقتسموه ثم حضر ورثة المقتول أخذوا الأمتعة بالقيمة ان شاؤوا ولم يأخذوا الذهب والفضة
كما لو كان المورث حيا وإن كان هؤلاء المشركون أسلموا على دراهم وصالحوا لم يؤخذوا
68

بشئ من مال المقتول لان اسلامهم يقرر ملكهم ولا ضمان عليهم في دمه لأنهم قتلوه حين
كانوا حربا للمسلمين فلم يكن عليهم ضمان دمه يومئذ ثم لا يجب بعد ذلك باسلامهم ولو
كان مسلم دخل دار الحرب بأمان واشترى صبيا وصبية فأعتقهما ثم خرج وتركهما هناك
فكبرا هناك كافرين ثم ظهر المسلمون على الدار فهما فئ لان اعتاقه إياهما في دار الحرب
ليس بشئ في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فلا يصير محرزا لهما وعند أبي
يوسف رضي الله تعالى عنه إن كان ذلك اعتاقا صحيحا فهم كسائر أحرار أهل الحرب من الكفار
فيكونون فيئا ومقصوده ان الولاء ليس نظير الولاد فان الولد يصير مسلما باسلام أبيه والمعتق
لا يصير مسلما باسلام معتقه إن كان صغيرا لان الولاء أثر الملك وهو باعتبار أصل الملك
لا يتبع مولاه في الدين فباعتبار أثر الملك أولى وإذا كان المسلم في دار الحرب تاجرا أو أسيرا
أو أسلم هناك فأمنهم فأمانه باطل لأنه مقهور في أيديهم والظاهر أنه مكره على الأمان من
جهتهم ولأنه لا يقصد بالأمان منفعة للمسلمين وإنما قصده أن يؤمن نفسه ولان الأمان
يكون عن خوف ولا خوف لهم من جهته فيكون عقده على الغير ابتداء لا على نفسه وليس
له ولاية العقد على الغير ابتداء فان من أمن رجلا من أهل الجيش جاز أمانه لقوله صلى الله عليه
وسلم يسعى بذمتهم أدناهم أي أقلهم وهو الواحد وقال يعقد عليهم أولادهم ويرد عليهم
أقصاهم قيل معناه أن السرية الأولى تعقد الأمان فينفذ على المسلمين ثم السرية الأخرى
تنبذ إليهم فينفذ ذلك أيضا ولان من في الجيش إنما يؤمنهم من نفسه لأنهم
يخافونه فينفذ عقده على نفسه ثم يتعدى إلي غيره وهذا لان الأمان لا يحتمل الوصف
بالتجزئ وسببه وهو الايمان لا يتجزى أيضا فينفرد به كل مسلم لتكامل السبب في حقه
كالتزويج بولاية القرابة وكذلك لو أمنت المرأة من أهل دار الاسلام أهل الحرب جاز
أمانها لما روي أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أمنت زوجها
أبا العاص بن الربيع فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها وعن أم هانئ رضي الله عنه
ا قالت أجرت حموين لي يوم فتح مكة فدخل علي رضي الله عنه يريد قتلهما وقال
أتجيرين المشركين فقلت لا إلا أن تبدأ بي قبلهما وأخرجته من البيت وأغلقت الباب عليهما
ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال مرحبا بأم هانئ فاختة قلت ماذا لقيت
من ابن أمي على أجرت حموين لي وأراد قتلهما فقال صلى الله عليه وسلم ليس له ذلك
69

وقد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ولأنها من أهل الجهاد فإنها تجاهد بمالها وكذلك
بنفسها فإنها تخرج لمداواة المرضى والخبز وذلك جهاد منها فأما العبد إذا أمن أهل
الحرب فإن كان مأذونا له في القتال فأمانه صحيح لما روى أن عبدا كتب على سهم
بالفارسية مترسيت ورمى بذلك إلى قوم محصورين فرفع ذلك إلي عمر رضي الله عنه فأجاز
أمانه وقال إنه رجل من المسلمين وهذا العبد كان مقاتلا لان الرمي فعل المقاتل ولأنه إذا
كان متمكنا من القتال لوجود الاذن من مولاه فهم يخافونه فعقده يكون على نفسه ثم
يتعدى حكمه إلى الغير وقول العبد وقول العبد في مثله صحيح كما في شهادته على رؤية هلال رمضان
واقراره على نفسه بالقود ولا يقال قرابته فيهم فهو متهم بايصال المنفعة إليهم دون المسلمين
فينبغي أن لا يصح أمانه كالذمي وهذا لأنه لا يظن بالمسلم ايثار القرابة على الدين ولو اعتبرنا
هذا لم يصح أمانه بعد العتق أيضا ولا وجه للقول به فأما الذمي لم يوجد في حقه سبب
ولاية الأمان وهو موافق لهم في الاعتقاد فالظاهر أنه يميل إليهم وأنهم لا يخافونه فأما أمان
العبد المحجور عليه عن القتال فهو باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله صحيح في قول محمد والشافعي
رحمهما الله تعالى وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وذكر
الكرخي قوله مع محمد رحمهما الله تعالى حجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم يسعى
بذمتهم أدناهم وأدنى المسلمين العبد وفى حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال أمان العبد والصبي والمرأة سواء وفى حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال أمان العبد أمان ولأنه من أهل الجهاد ولا تهمة في أمره فيصح
أمانه كالحر وبيان الأهلية أن المطلوب بالجهاد اعزاز الدين ودفع فتنة الكفر فكل مسلم
يكون أهلا له ثم الجهاد يكون بالنفس تارة وبالمال أخرى فالعبد لا مال له وهو ممنوع من
الجهاد بالنفس لما فيه من ابطال حق المولى عن منافعه وتعريض ماليته للهلاك فاما الأمان
جهاد بالقول وليس فيه ابطال حق المولى عن شئ فكان العبد فيه كالحر والدليل عليه صحة
أمانه إذا كان مأذونا في القتل وتأثير الاذن في رفع المانع لا في اثبات الأهلية لمن ليس
بأهل ألا ترى ان بالاذن لا يصير أهلا للشهادة ونزول المانع من التصرفات لوجود الأهلية
ثم الأمان ترك القتال ولا يستفاد بالاذن في القتال لأنه ضده وبعد الاذن هو في الأمان
ليس بنائب عن المولى بدليل ان المعتبر دينه لا دين المولى فعرفنا انه كان أهلا لكونه مسلما
70

ولان الأمان من فروع الدين وقوله في أصل الدين معتبر ملزم فكذلك في فروعه ولهذا
صح احرامه وصح منه عقد الذمة مع قوم من المشركين والذمة أقوى من الأمان فيستدل
بصحة ما هو أقوى منه على صحة الأدنى بطريق الأولى (وحجتنا) قوله تعالى ضرب الله
مثلا عبدا مملوكا لا يقدر علي شئ والأمان شئ وهذا عام لا يجوز دعوى التخصيص فيه
لان الله تعالى ذكر هذا المثل للأصنام واحدها لا يقدر على شئ ولأنه ليس بأهل للجهاد
فلا يصح أمانه بنفسه كالذمي والصبي والمجنون وبيان الوصف أن الجهاد يكون بالنفس أو
بالمال ونفسه مملوكة لغيره وهو ليس من أهل ملك المال فعرفنا أنه ليس من أهل الجهاد
وتأثيره أن صحة الأمان من الواحد باعتبار منفعة المسلمين فربما يكون الأمان خيرا لهم لحفظ
قوة أنفسهم لان القتال حفظ قوة النفس أولا ثم العلو والغلبة ولكن الخيرة في الأمان
مستورة لا يعرفه الا من يكون مجاهدا فإذا كان العبد المحجور لا يملك القتال لا يعرف الخيرة
في الأمان فلا يكون أمانه جهادا بالقول بخلاف المأذون في القتال فإنه لما تمكن من مباشرة
القتال عرف الخيرة في الأمان فحكمنا بصحة أمانه ولهذا لا يحكم بصحة أمان الأسير لان
الخيرة في الأمان مستورة لا يعرفه الا من يكون آمنا على نفسه والأسير خائف فإذا تقرر هذا
في المقيد بالأسر ففي المقيد بالرق أولى لان الأسير مالك للقتال وإنما لا يتمكن منه حسا
والعبد غير مالك للقتال أصلا ولان عقد العبد على الغير ابتداء لأنهم لا يخافونه حين لم يكن
مالكا للقتال بخلاف المأذون له في القتال فإنهم يخافونه فإنما يعقد علي نفسه ولا معنى لقول
من يقول العبد يؤمن نفسه وهو يخافهم وإن كان محجورا عليه لأنه يقول أمنتكم ولا يقول
أمنت نفسي ولو قال ذلك لا يكون أمانا ولأنه نوع ولاية حيث أنه يتقيد القول على الغير
بشرط التكليف فيكون نظير ولاية النكاح والعبد لا يملك النكاح بنفسه الا ان
يأذن له مولاه فيه فكذلك لا يملك الأمان إلا أن يكون مأذونا في القتال لان الأمان ترك
القتال ضرورة ولكنه من القتال معنى فيملكه من يكون مالكا للقتال والآثار محمولة على
المأذون في القتال وقد تقدم بيان؟ تأويل قوله صلى الله عليه وسلم يسعى بذمتهم أدناهم
فاما عقد الذمة فنقول إنه يتمحض منفعة للمسلمين لان الكفار إذا طلبوا ذلك افترض
على الامام اجابتهم إليه فلو اعتبر ما سبق من العبد احتسب عليهم تلك المدة لاخذ الجزية
ولو لم يعتبر كان ابتداء تلك المدة من الحال فلكونه محض منفعة حكمنا بصحته من العبد كقبول
71

الهبة والصدقة فاما الأمان يتردد بين المضرة والمنفعة ولهذا لا يفترض إجابة الكفار إليه وفيه
ابطال حق المسلمين في الاستغنام والاسترقاق والتصرف الذي فيه توهم الضرر في حق
المولى خاصة كالبيع والشراء لا يملكه العبد بنفسه لما فيه من الحاق الضرر بالمولى فالتصرف
الذي فيه الحاق الضرر بالمسلمين أولى فأما الصبي إذا كأن لا يعقل فلا اشكال ان أمانه
باطل وإن كان يعقل فعند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله أمانه باطل أيضا وهو قول
الشافعي رحمه الله كما أنه لا يصح ايمانه ومحمد يقول بصحة أمانه كما يقول بصحة ايمانه فإن كان
هذا الصبي مأذونا في القتال فقد قال بعض مشايخنا لا يصح أمانه أيضا لان قوله غير معتبر
فيما يضربه وإن كان مأذونا كالطلاق والعتاق ففيما يضر بالمسلمين أولى والأصح انه يجوز
أمانه إذا كان مأذونا له في القتال لان هذا التصرف يتردد بين المضرة والمنفعة فهو نظير
البيع والشراء يملكه الصبي بعد الاذن وإذا قال الامام من أصاب شيئا فهو له فأصاب رجل
جارية فاستبرأها فإنه لا يطأها ولا يبيعها حتى يخرجها إلى دار الاسلام في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يحل له ذلك لأنه اختص بملكها
فيحل له وطئها بعد الاستبراء كالمسلم يشترى جارية في دار الحرب يحل له وطئها بعد
الاستبراء وهذا لان ملك المنفعة سببه ملك الرقبة وقد تحقق هذا السبب في حقه حين
اختص بملكها بتنفيل الامام وهذا بخلاف اللص في دار الحرب إذا أخذ جارية واستبرأها
فإنه لا يحل له وطئها لأنه ما اختص بملكها ألا ترى أنه لو التحق بجيش المسلمين في دار
الحرب شاركوه فيها وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا سبب الملك في المنفل
القهر فلا يتم الا بالاحراز بدار الاسلام كما في الغنيمة في حق الجيش وهذا لما بينا أنه قبل
الاحراز قاهر يدا مقهور دارا فيكون السبب ثابتا من وجه دون وجه ولا أثر للتنفيل في
إتمام القهر إنما تأثير التنفيل في قطع شركة الجيش مع المنفل له فأما سبب الملك للمنفل له
ما هو السبب لولا التنفيل وهو القهر فأشبه من هذا الوجه ما أخذه اللص في دار الحرب
وهذا لان لحوق الجيش به موهوم والموهوم لا يعارض الحقيقة فعرفنا ان امتناع ثبوت
الحل لعدم تمام القهر بخلاف المشتراة فسبب الملك فيها تم بالعقد والقبض وعلى هذا الخلاف
لو قسم الامام الغنائم في دار الحرب فأصاب رجل جارية فاستبرأها لان بقسمة الامام
لا ينعدم المانع من تمام القهر وهو كونهم مقهورين دارا ومن أصحابنا من يقول لما نفذت
72

القسمة من الامام تصير هي بمنزلة المشتراة لان من وقعت في سهمه يملك عينها بالقسمة
وقدم تم فينبغي ان يحل الوطئ عندهم جميعا والأول أظهر وإذا خرج القوم من مسلحة
أو عسكر فأصابوا غنائم فإنها تخمس وما بقي فهو بينهم وبين أهل العسكر سواء كان باذن
الامام أو بغير إذن الإمام وسواء كانت لهم منعة أو لم تكن لان أهل العسكر بمنزلة المدد
للخارجين فان المصاب صار محرزا بالدار بقوتهم جميعا إذ هم الردء لهم يستنصرونهم إذا حزبهم
أمر لأنهم دخلوا دار الحرب لينصر بعضهم بعضا والامام أذن لهم في أن يأخذوا ما يقدرون
عليه من أموال المشركين لأنه أدخلهم في دار الحرب لهذا فلا حاجة إلى اذن جديد بعد
ذلك وكذلك أن بعث الامام رجلا طليعة فأصاب ذلك لان أهل العسكر ردء له وان كانوا
خرجوا من مدينة عظيمة مثل المصيصة وملطية بعثهم الامام سرية منها فأصابوا غنائم لم
يشركهم فيها أهل المدينة لأنهم ساكنون في دار الاسلام فلا يكونون ردءا للمقاتلين في
دار الحرب وهذا لان توطنهم على قصد المقام في أهاليهم بخلاف أهل العسكر فان توطنهم
في العسكر للقتال فكانوا بمنزلة الردء للسرية ألا ترى أن من نوى منهم الإقامة في العسكر
في دار الحرب لا تصح نيته بخلاف ساكن المدينة ولان الاحراز ههنا حصل بالسرية خاصة
وهناك الاحراز بدار الاسلام حصل بالسرية والجيش فمن هذا الوجه يقع الفرق ثم الذين
خرجوا من مصر من أمصار المسلمين اما أن يكونوا قوما لهم منعة أولا منعة لهم خرجوا
باذن الامام أو بغير إذنه فإن كانت لهم منعة فسواء خرجوا باذن الامام أو بغير إذنه فان
ما أصابوه غنيمة حتى يخمس ويقسم ما بقي بينهم على سهام الفرسان والرجالة المصيب وغير
المصيب فيه سواء لان دخولهم لا يخفى على الامام عادة وعليه ان ينصرهم ويمدهم فإنهم
لو أصيبوا مع منعتهم كان فيه وهنا بالمسلمين ويجترئ عليهم المشركون فإذا كان على الامام
نصرتهم كانوا بمنزلة الداخلين باذنه ولان الغنيمة اسم لما أصيب بطريق فيه اعلاء كلمة الله
تعالى واعزاز دينه وذلك موجود ههنا لان المصيبين أهل منعة يفعلون ما يفعلون جهارا فاما
إذا كانوا قوما لا منعة لهم كالواحد والاثنين فإن كان دخولهما باذن الامام فكذلك الجواب
لان على الامام ان ينصره ويمده إذا حزبه أمر ولان الامام لا يأذن للواحد في الدخول
الا ان يعلم قوته على ما بعثه لأجله وعند ذلك يكون الواحد سرية على ما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سرية وحده وبعث دحية الكلبي رضي
73

الله عنه يوم الخندق طليعة وقد ذكر في النوادر انه لا يخمس ما أصاب هذا الواحد لان
أخذه ليس على طريق اعزاز الدين فإنه لا يجاهر بما يأخذ وإنما يفعله سرا إذ هو غير ممتنع
من أهل الحرب فهو كالداخل بغير إذن الإمام فإن كان دخول القوم الذين لا منعة لهم بغير إذن الإمام
على سبيل التلصص فلا خمس فيما أصابوا عندنا ولكن من أصاب منهم شيئا
فهو له خاصة وان أصابوا جميعا قسم بينهم بالسوية ولا يفضل الفارس على الراجل وقال
الشافعي رحمه الله تعالى يخمس ما أصابوا ويقسم ما بقي بينهم قسمة الغنيمة لقوله تعالى واعلموا
إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه والغنيمة اسم مال يأخذه المسلمون من الكفرة بطريق القهر
وذلك موجود ههنا فإنهم دخلوا للمحاربة والقهر لان القهر تارة يكون بالقوة جهارا وتارة
يكون بالمكر والحيلة سرا قال صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة ألا تري انهم لو دخلوا باذن
الامام كان ما يأخذون غنيمة وصفة أحدهم لا تختلف بوجود اذن الامام وعدمه (وحجتنا)
ما روى أن المشركين أسروا ابنا لرجل من المسلمين فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشكو ما يلقى من الوحشة فأمره ان يستكثر من قول لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
ففعل ذلك فخرج الابن عن قليل بقطيع من الغنم فسلم ذلك له رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يأخذ منه شيئا والمعنى ما بينا أن الغنيمة اسم لمال مصاب بأشرف الجهات وهو أن
يكون فيه اعلاء كلمة الله تعالى واعزاز الدين ولهذا جعل الخمس منه لله تعالى وهذا المعنى
لا يحصل فيما يأخذه الواحد على سبيل التلصص فيتمحض فعله اكتسابا للمال بمنزلة
الاصطياد والاحتطاب بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة وشوكة والدليل على الفرق أن الواحد من الذين
لهم منعة لو أمنهم صح أمانه واللص في دار الحرب لو أمنهم لم يصح أمانه وقد بينا اختلاف
الرواية فيما إذا كان دخول الواحد باذن الامام ووجه الفرق على ظاهر الرواية وان دخل
مسلم دار الحرب بأمان فاشترى جارية كتابية؟ واستبرأها كان له أن يطأها هناك لان ملكه
فيها تم بتمام سببه فان الشراء في كونه سبب الملك تام لا يختلف بدار الحرب ودار الاسلام
بخلاف المتلصص إذا أصاب جارية فان سبب ملكه هناك لم يتم قبل الاحراز لكونه مقهورا في
دارهم ولأنه ربما يتصل بجيش في دار الحرب فيشاركونه فيها إذا شاركوه في الاحراز (قال)
واكره للرجل أن يطأ أمته أو امرأته في دار الحرب مخافة أن يكون له فيها نسل لأنه ممنوع
من التوطن في دار الحرب قال صلى صلى الله عليه وسلم أنا برئ من كل مسلم مع مشرك
74

وإذا خرج ربما يبقى له نسل في دار الحرب فيتخلق ولده بأخلاق المشركين ولان موطوءته
إذا كانت حربية فإذا علقت منه ثم ظهر المسلمون على الدار ملكوها مع ما في بطنها ففي
هذا تعريض ولده للرق وذلك مكروه ولا بأس بأن يعطى الامام أبا الغازي شيئا من الخمس
إذا كان محتاجا لأنه لو عرف حاجة الغازي إلى ذلك جاز له أن يضعه فيه ففي أبيه أولى
وهذا لان المقصود سد خلة المحتاج بخلاف الزكاة فإنها تجب على صاحب المال والواجب
فعل الايتاء فإنما يتم ذلك إذا جعله لله خالصا بقطع منفعته منه من كل وجه وههنا الخمس
ليس بواجب على الغزاة بل خمس ما أصابوه لله تعالى يصرف إلى المحتاجين بأمر الله تعالى
والغازي وأبوه في ذلك كغيره وإذا غزا أمير الشام في جيش عظيم فإنه يقيم الحدود في
العسكر وقد بينا هذا في كتاب الحدود وفرقنا بينه وبين أمير الجيش الذي فوض إليه
الحرب خاصة فان حاصر أمير الشام مدينة مدة طويلة لم يتم الصلاة ولم يجمع لأنه مسافر
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة وكان يقصر الصلاة
وابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر الصلاة وقد بينا في
كتاب الصلاة أن نية المحارب في دار الحرب الإقامة لا تصح لأنه لا يتمكن من التوطن
فإنه بين ان يهزم عدوه فيقرأ وينهزم فيفر وإذا أراد قوم من المسلمين ان يغزوا أرض الحرب
ولم تكن لهم قوة ولا مال فلا بأس بأن يجهز بعضهم بعضا ويجعل القاعد للشاخص وقد
بينا ذلك في حديث عمر رضي الله عنه والمعني فيه أن الجهاد بالنفس تارة وبالمال أخرى
والقادر على الخروج بنفسه يحتاج إلى مال كثير ليتمكن به من الخروج وصاحب المال يحتاج
إلى مجاهد يقوم بدفع أذى المشركين عنه وعن ماله فلا بأس بالتعاون بينهما والتناصر ليكون
القاعد مجاهدا بماله والخارج بنفسه والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا ثم دافع المال إلى
الخارج ليغزو بماله يعينه على إقامة الفرض وذلك مندوب إليه في الشرع وان كانت عندهم
قوة أو عند الامام كرهت ذلك أما إذا كان في بيت المال فذلك المال في يد الامام معد
لمثل هذه الحاجة فعليه ان يصرفه إليها ولا يحل له ان يأخذ من المسلمين شيئا لاستغنائه
عن ذلك بما في يده وكذلك أن كان الغازي صاحب مال فلا حاجة به إلى الاخذ من غيره
وتمام الجهاد بالمال والنفس ولأنه لو أخذ من غيره مالا فعمله في الصورة كعمل من يعمل
بالأجرة فلا يكون ذلك لله تعالى خالصا الا ترى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لذلك
75

الأجير بكم استؤجرت قال بدينارين قال إنما لك ديناراك في الدنيا والآخرة ولان الاشتراك
ينفي معنى العبادة قال صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عن ربه من عمل لي عملا وأشرك فيه
غيري فهو كله لذلك الشريك وأنا منه برئ فلهذا يكره له الاشراك بأخذ المال من غيره
إذا كان مستغنيا عنه وإذا وجد من يكفيه الحرس فالصلاة بالليل أفضل له من الحرس وكل
واحد منهما طاعة أما الصلاة بالليل فظاهر وأما الحرس فلقوله صلى الله عليه وسلم ثلاث
أعين لا تمسها نار جهنم عين غضت من محارم الله تعالى وعين بكت من خشية الله وعين
باتت تحرس في سبيل الله إلا أنه إذا كان له من يكفيه الحرس فالصلاة أولى لأنها عبادة
بجميع البدن فهي تنهى عن الفحشاء وتدفع الخواطر الردية وتمنع اللغو فالاشتغال بها أولى
وإن لم يجد من يكفيه الحرس فان أمكنه أن يجمع بين الصلاة والحرس فالجمع بينها أفضل
وقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير عن بعض الصحابة أنه كان يجمع بينهما وإذا
تعذر عليه الجمع بينهما فالحرس أفضل لأنه أعم نفعا وقال صلى الله عليه وسلم خير الناس من ينفع
الناس ولان الصلاة بالليل ممكن إذا رجع إلى أهله ولا يتمكن من الحرس الا في هذا الموضع
فالاشتغال في هذا الموضع بما هو متعين أولى وهو كالطواف بالبيت للغرباء أفضل من
الصلاة بخلاف أهل مكة وإذا طعن المسلم بالرمح في جوفه لم يكن له أن يمشي إلى صاحبه
والرمح في جوفه حتى يضربه بالسيف ولا يكون به معينا على نفسه لان المسلم مندوب إلى
بذل نفسه في قهر المشركين واعزاز الدين وليس في هذا أكبر من بذل النفس لهذا المقصود
ولكن هذا إذا كان يعلم أن يصيب من قرنه إذا فعل ذلك وهو نظير ما لو حمل الواحد على
جمع عظيم من المشركين فإن كان يعلم أنه يصيب بعضهم أو ينكى فيهم نكاية فلا بأس بذلك
وإن كان يعلم أنه لا ينكى فيهم فلا ينبغي له أن يفعل ذلك لقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ولا
تلقوا بأيديكم إلى التهلكة والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى يوم أحد
كتيبة من اليهود فقال من لهذه الكتيبة؟؟؟؟ وهب بن قابوس أنا لها يا رسول الله فحمل
عليهم حتى فرقهم ثم رأى كتيبة أخرى؟ فقال من لهذه الكتيبة فقال وهب أنا لها فقال صلى
الله عليه وسلم؟؟؟ وأبشر بالشهادة فحمل عليهم حتى فرقهم وقتل هو فذلك دليل
على أنه؟؟ ينكى فعله فيهم فلا بأس بأن يحمل عليهم وإذا كان المسلمون في سفينة فألقيت
إليهم النار لم يضيق على أحد منهم أن يصبر على النار أو يلقي نفسه في البحر أما إذا كان
76

يرجو النجاة في أحد الجانبين تعين عليه ذلك لأنه مأمور بدفع الهلاك عن نفسه بما يقدر
عليه وذلك في الميل إلى الطريق الذي يرجو النجاة فيه وإن كان يرجو النجاة في الجانبين
يخير لاختلاف أحوال الناس فمنهم من يصبر على الماء فوق ما يصبر على النار ومنهم من
يكون صبره على الدخان والنار أكثر على غم الماء وان كأن لا يرجو النجاة في واحد من
الجانبين فعلي قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى يتخير وعلى قول محمد رحمه الله
تعالى ليس له أن يلقي نفسه في الماء لأنه لو صبر على النار كان هلاكه بفعل العدو ولو ألقى
نفسه كان هلاكه بفعل نفسه فيتعين عليه الصبر لذلك ولأنه إنما يجوز له ان يلقى في نفسه الماء لدفع
الهلاك وذلك عند رجاء النجاة فيه فإذا كأن لا يرجو النجاة لم يكن فعله دفعا للهلاك عن نفسه
وهما يقولان ان طبائع الناس تختلف فمنهم من يختار غم الماء على ألم النار فهو بالالقاء يدفع ألم
النار عن نفسه لعلمه انه لا يجد الصبر عليه فكان في سعة من ذلك لأنه مضطر ومن ابتلى
ببليتين يختار أهونهما عليه ثم هو وان ألقي نفسه مدفوع بفعل المشركين فقد ألجؤوه إلى
ذلك وأفسدوا عليه اختياره فلا يبقى فعله معتبرا بعد ذلك في إضافة الفعل إليه فلهذا يخير
والله أعلم بالصواب
(باب في توظيف الخراج)
(قال) رضي الله عنه وإذا جعل الامام قوما من الكفار أهل ذمة وضع الخراج على
رؤس الرجال وعلى الأرضين بقدر الاحتمال اما خراج الرؤس ثابت بالكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون واما السنة ما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وأخذ الحلل من نصاري نجران
وكانت جزية وقال سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب يعني في أخذ الجزية منهم وقد طعن
بعض الملحدين قال كيف يجوز تقرير الكافر على الشرك الذي هو أعظم الجرائم بمال يؤخذ
منه ولو جاز ذلك جاز تقرير الزاني على الزنا بمال يؤخذ منه والكلام في هذا يرجع إلى
الكلام في اثبات الصانع وانه حكيم واثبات النبوة ثم نقول المقصود ليس هو المال بل الدعاء
إلى الدين بأحسن الوجوه لأنه بعقد الذمة يترك القتال أصلا ولا يقاتل من لا يقاتل ثم
يسكن بين المسلمين فيرى محاسن الدين ويعظه واعظ فربما يسلم إلا أنه إذا سكن دار
77

الاسلام فما دام مصرا على كفره لا يخلا عن صغار وعقوبة وذلك بالجزية التي تؤخذ منه
ليكون ذلك دليلا على ذل الكافر وعز المؤمن ثم يأخذ المسلمون الجزية منه خلفا عن النصرة
التي فاتت باصراره على الكفر لان من هو من أهل دار الاسلام فعليه القيام بنصرة الدار
وأبدانهم لا تصلح لهذه النصرة لأنهم يميلون إلى أهل الدار المعادية فيشوشون علينا أهل
الحرب فيؤخذ منهم المال ليصرف إلى الغزاة الذين يقومون بنصرة الدار ولهذا يختلف
باختلاف حاله في الغنى والفقر فإنه معتبر بأصل النصرة والفقير لو كان مسلما كان ينصر الدار
راجلا ووسط الحال كان ينصر الدار راكبا والفائق في الغنى يركب ويركب غلاما فما كان
خلفا عن النصرة يتفاوت بتفاوت الحال أيضا والأصل في معرفة المقدار حديث عمر رضي الله عنه
فإنه وضع الجزية على رؤس الرجال اثني عشر درهما وأربعة وعشرين وثمانية
وأربعين ونصب المقادير بالرأي لا يكون فعرفنا انه اعتمد السماع من رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخذنا به وقلنا المعتمل الذي يكتسب أكثر من حاجته ولا مال له يؤخذ منه
كل سنة اثنى عشر درهما والمعتمل الذي له مال ولكنه لا يستغني بماله عن العمل يؤخذ منه أربعة
وعشرون درهما في كل سنة والفائق في الغنى وهو صاحب المال الكثير الذي لا يحتاج إلي
العمل يؤخذ منه ثمانية وأربعون درهما ولا يمكن أن يقدر في المال بتقدير فان ذلك يختلف
باختلاف البلدان فبالعراق من يملك خمسين ألفا يعد وسط الحال وفي ديارنا من يملك عشرة
آلاف درهم يعد غنيا فيجعل ذلك موكولا إلى رأى الامام والحسن البصري كان يقول إنما
يؤخذ ثمانية وأربعون ممن يركب البغلة الشهباء ويتختم بخاتم الذهب وقد قيل إنه بدل عن
السكنى لأنه مع الاصرار على الكفر لا يكون من أهل دار الاسلام أصلا ولا يمكن من
السكنى في دار الغير الا بكراء فالفقير يكفيه لمؤنة السكني في كل شهر درهم ووسط الحال
يحتاج إلي أكثر من ذلك فيضعف عليه وكذلك الفائق في الغني والأصح هو الأول انه
خلف عن النصرة كما بينا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى تتقدر الجزية بدينار ولا يختلف
باختلاف حاله في الفقر والغنى بناء على أصله ان وجوب هذا المال بحقن الدم وذلك لا يختلف
بفقره وغناه واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه خذ من كل حالم وحالمة دينارا
ولكنا نقول ثبوت الحقن ليس بالمال بل بانعدام علة الإباحة وهو القتال ولصحة احرازه
نفسه وماله في دارنا لأنه بقبول عقد الذمة يصير من أهل دارنا حتى لا يمكن من الرجوع
78

إلى دار الحرب بحال وحديث معاذ رضي الله عنه في مال كان وقع الصلح عليه دون الجزية ألا ترى أنه
أمر بالأخذ من النساء والجزية لا تجب على النساء واما خراج الأرض فالأصل فيه حديث
عمر رضي الله عنه فإنه وضع على كل أرض تصلح للزرع على الجريب درهما وقفيزا وعلى جريب
الكرم عشرة دراهم وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم واعتمد في ما صنع السنة أيضا فان النبي
صلى الله عليه وسلم قال منعت العراق قفيزها ودرهمها فيما ذكر من أشراط الساعة بعده ثم
تفاوت الواجب بتفاوت ريع الأراضي ولان أصل الوجوب باعتبار الريع فان الخراج مؤنة
الأرض النامية فيتفاوت بتفاوت الريع وقد روى أنه بعث لذلك عثمان بن حنيف وحذيفة
ابن اليمان رضي الله عنهما فلما رجعا إليه قال لعلكما حملتما الأرض مالا تطيق فقالا لا بل حملناها
ما تطيق ولو زدنا لأطاقت وبظاهر هذا الحديث يستدل أبو يوسف رضي الله عنه ويقول
لا تجوز الزيادة على وظيفة عمر رضي الله عنه وان كانت الأرض تطيق الزيادة لأنهما قالا لو زدنا
لأطاقت فلم يأمرهما بالزيادة ومحمد رحمهما الله تعالى يقول إنه فيما وظف اعتبر الطاقة حيث قال لعلكما
حملتما الأرض مالا تطيق فإذا كانت تطيق الزيادة يزاد بقدر الطاقة ألا تري انها إذا كانت
لا تطيق تلك الوظيفة لقلة ريعها تنقص فكذلك إذا كانت تطيق الزيادة لكثرة ريعها يزاد
وقد قررنا هذا في شرح الزيادات ثم في خراج الأراضي الرجال والنساء والصبيان سواء لأنها
مؤنة الأراضي النامية وهم في حصول النماء لهم سواء فأما خراج الرؤس لا يؤخذ من النساء
والصبيان لما بينا أنه خلف عن النصرة التي فاتت باصرارهم علي الكفر ونصرة القتال لو كانوا
مسلمين على الرجال دون النساء والصبيان ولان في حقهم الوجوب بطريق العقوبة كالقتل وإنما
يقتل الرجال منهم دون النساء والصبيان حين كانوا حربيين فكذلك حكم الجزية بعد عقد
الذمة ولئن كان مؤنة السكني فالنساء والصبيان في السكنى تبع وأجرة السكنى على من هو
الأصل دون التبع ولكن الأول أصح فإنه لا تؤخذ الجزية من الأعمى والشيخ الفاني والمعتوه
والمقعد مع أنهم في السكني أصل ولكن لا يلزمه أصل النصرة ببدنه لو كان مسلما فكذلك
لا يؤخذ منه ما هو خلف عن النصرة وعن أبي يوسف ان الأعمى والمقعد إذا كان صاحب مال
ورأي يؤخذ منه لأنه يقاتل برأيه وان كأن لا يقاتل ببدنه لو كان مسلما وعجزه لنقصان في بدنه
ولا نقصان في ماله فيؤخذ منه ما هو خلف عن النصرة والفقير الذي لا يستطيع أن يعمل
لا تؤخذ منه الجزية لان الجزية مال يؤخذ منه ولا مال له والعاجز عن الأداء معذور شرعا
79

فيما هو حق العباد قال الله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ففي الجزية أولى وهذا
لان الجزية صلة مالية وليست بدين واجب ألا ترى أنها سميت خراجا في الشرع والخراج
اسم لما هو صلة قال الله تعالى فهل نجعل لك خرجا أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير والصلة
المالية لا تكون الا ممن يجد للمال فأما من لا يجد يعان بالمال فكيف يؤخذ منه ولإخراج علي
رؤس المماليك لأنه خلف عن النصرة والمملوك لا يملك نصرة القتال في نفسه ان لو كان مسلما
فلا يلزمه ما هو خلف عن النصرة ثم هو أعسر من الحر الذي لا يجد شيئا لأنه ليس من أهل
الملك أصلا ثم المملوك في السكنى تبع لمولاه ولإخراج في الاتباع كالنساء والصبيان ولا صدقة
في أموال أهل الذمة من السوائم ومال التجارة في أوطانهم لان الامام في الباب عمر رضي الله عنه
وهو لم يتعرض لأموالهم في ذلك بشئ لا أن يمروا على العاشر فقد بينا ذلك في الزكاة
وكان المعنى فيه أن الاخذ من أموال المسلمين بطريق العبادة المحضة دون المؤنة فان الشرع
جعل الزكاة أحد أركان الدين والكافر ليس بأهل لذلك بخلاف الخراج والعشر فالأخذ من
المسلم بطريق مؤنة الأرض ولهذا جاز أخذه من الكافر ولكن يؤخذ من الكافر ما هو أبعد
عن معنى العبادة وأقرب إلى معني الصغار وهو الخراج ومن أسلم من أهل الذمة قبل استكمال
السنة أو بعدها قبل أن يؤخذ منه خراج رأسه سقط عنه ذلك عندنا وقال الشافعي ان
أسلم بعد كمال السنة لم يسقط عنه وان أسلم قبل كمال السنة فله فيه وجهان وحجته في ذلك أنه
دين استقر وجوبه في ذمته فلا يسقط عنه باسلامه كسائر الديون وبيان الوصف وهو
انه مطالب بأدائه مجبر على ذلك محبوس فيه كسائر الديون أو أقوى حتى إذا بعث بالجزية
على يد نائبه لا تقبل بخلاف سائر الديون وبان كأن لا تجب ابتداء على المسلم فهذا لا يمنع
بقاءه عليه بعد الاسلام كخراج الأراضي فالمسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج على الأرض
ثم يبقي وكذلك الرق لا يبتدأ به المسلم ثم يبقى رقيقا بعد الاسلام وكذلك الفقير لا تجب عليه
الزكاة ابتداء ثم تبقى إذا استهلك النصاب بعد الوجوب عليه وهذا لأنه مؤنة السكني فالاسلام
لا ينافي استيفاءه كالاجرة وإنما لا يوجب عليه بعد الاسلام ابتداء لأنه صار من أهل دار
الاسلام أصلا وهذا بدل حقن الدم بمنزلة المال الواجب بالصلح عن القصاص فالاسلام
لا يمنع استيفاءه إذا حصل له الحقن به فيما مضى ولكن لا يجب بعد الاسلام ابتداء لأنه
حقن دمه بالاسلام (وحجتنا) في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلي
80

الله عليه وسلم قال على مسلم جزية وفى حديث عمر رضي الله عنه ان ذميا طولب
بالجزية فأسلم فقيل له انك أسلمت تعوذا فقال إن أسلمت تعوذا ففي الاسلام لمتعوذ
فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال صدق فأمر بتخلية سبيله والمعني فيه ما قررنا ان
الوجوب عليهم بطريق العقوبة لا بطريق الديون وعقوبات الكفر تسقط بالاسلام
كالقتل والدليل على أنه نظير القتل انه يختص بالوجوب عليه من يقتل على كفره حتى
لا يوجب على النساء والصبيان وبه فارق خراج الأراضي والاسترقاق مع أن الاسترقاق
عقوبة من حيث تبديل صفة المالكية بالمملوكية وقد تم ذلك حين استرق فهو عقوبة مستوفاة
ووزانها جزية استوفيت قبل الاسلام ثم في حق المسلمين هذا المال خلف عن النصرة كما
بينا وإذا أسلم فقد صار من أهل النصرة فيسقط ما هو الخلف لأنه لابقاء للخلف بعد وجود
الأصل ولان أخذ الجزية منهم بطريق الصغار كما قال تعالى وهم صاغرون ولهذا لا تقبل منه
لو بعثها على يد نائبه بل يكلف بأن يأتي به بنفسه فيعطي قائما والقابض منه قاعد وفي رواية
يأخذ بتلبيبه فيهزه هزا ويقول إعط الجزية يا ذمي وبعد الاسلام لا يمكن استيفاؤه بطريق
الصغار لان المسلم يوقر لايمانه وإذا تعذر استيفاؤه من الوجه الذي وجب امتنع الاستيفاء
لأنه لا يجوز أن يستوفي غير الواجب وإنما يتحقق استيفاء الواجب إذا استوفي بالصفة التي
وجب وهذا بخلا ما إذا استهلك النصاب في مال الزكاة بعد وجوبها لان وجوب الزكاة
على المسلم بطريق العبادة وبعدما افتقر يستوفي بطريق العبادة أيضا حتى لو خرج من أن يكون
أهلا للعبادة بان ارتد نقول بأنه لا يبقى وقد بينا أن الجزية ليست بدين ولا بدل عن السكني
ولا بدل عن حقن الدم ولئن سلمنا له ذلك فإنما هو بدل عن الحقن في المستقبل لا فيما مضى
وقد استفاد الحقن بالاسلام فلا معني لاخذ الجزية منه بعد ذلك وعلى هذا الخلاف لو مات
بعد مضي السنة عندنا لا يستوفى الجزية من تركته وعنده يستوفى اعتبارا بسائر الديون
وطريقنا ما قررنا في المسألة الأولى ولأن هذه صلة والصلات لا تتم الا بالقبض وتبطل
بالموت قبل التسليم كالنفقات ودليل أنها صلة ما بينا أنها ليست ببدل عن السكنى لأنه بعقد
الذمة صار من أهل دارنا فإنما يسكن دار نفسه ولا يسكن ملك نفسه حقيقة وقولنا دار
الاسلام نسبة للولاية فلا يستحق باعتباره الأجرة ولا هو بدل عن حقن الدم لان الآدمي
في الأصل محقون الدم والإباحة بعارض القتال فإذا زال ذلك بعقد الذمة عاد الحقن الأصلي
81

ولان قتل الكافر جزاء مستحق لحق الله تعالى فلا يجوز اسقاطه بمال أصلا فإذا ثبت أنه
ليس بعوض عن شئ عرفنا أنه صلة وفى الصلات المعتبر الفعل دون المال والأفعال لا يمكن
استيفاؤها من التركة فإنما يبقى بعد الموت ما يمكن استيفاؤه ألا ترى أنه لو استأجر خياطا
ليخيط ثوبه بيده فمات الخياط بطل العقد لان المستحق الفعل ولا يمكن استيفاؤه من
التركة وإن لم يمت ومرت عليه سنون قبل أن يؤخذ خراج رأسه لم يؤخذ بذلك في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى الا باعتبار السنة التي هو فيها ويؤخذ في قولهما بجميع ما مضى إذا
لم يكن ترك ذلك لعذر وتلقب هذه المسألة بالموانيذ وهما يقولان الموانيذ في خراج الرأس
كالموانيذ في خراج الأرض ثم يستوفى جميع ذلك وان طالت المدة فكذلك هنا وهذا لأنه
ما بقي حيا مصرا على كفره فاستيفاؤه من الوجه الذي وجب ممكن بخلاف ما بعد اسلامه
وموته ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان أحدهما أن الواجب عليهم بطريق العقوبة
والعقوبات التي تجب لحق الله تعالى إذا اجتمعت تداخلت كالحدود وفى حقنا خلف عن
النصرة وهذا المعنى يتم باستيفاء جزية واحدة منه فلا حاجة إلى استيفاء ما مضى ولان
المقصود ليس هو المال بل المقصود استذلال الكافر واستصغاره لان اصراره على الشرك
في دار التوحيد جناية فلا ينفك عن صغار يجرى عليه وهذا المقصود يحصل باستيفاء
جزية واحدة فلو أخذناه بالموانيذ لم يكن ذلك الا لمقصود المال وقد بينا ان المال غير
مقصود ولهذا لا يبقى بعد موته واسلامه ثم أو ان أخذ خراج الرأس منه آخر السنة قبل أن
يتحول وقد روى عن أبي يوسف انه يؤخذ منه في كل شهرين بقسط ذلك وعن محمد
انه يؤخذ شهرا فشهرا ليكون أشد عليه وأقرب إلى تحصيل المنفعة للمسلمين والأصح
هو الأول من أن المعتبر الحول كما في زكاة المال في حق المسلم وخراج الأراضي ولا يؤخذ
بخراج الأرض في السنة الا مرة واحدة وان استغلها صاحبها مرات لحديث عمر رضي الله عنه
فإنه ما أخذ الخراج من أهل الذمة في السنة الا مرة واحدة ولان ريع عامة الأراضي
في السنة يكون مرة واحدة وإنما يبنى الحكم على العام الغالب والأراضي يكون فيها الشجر
الكبير يوضع عليها من الخراج بقدر الطاقة لان عمر رضي الله عنه فيما وظفه اعتبر الطاقة
فعرفنا ان ذلك هو الأصل فإذا عطل أرضه لم يسقط عنه خراجها لأنه هو الذي اختار
ترك الاستغلال والانتفاع بها وقصد بذلك اسقاط حق مصارف الخراج فرد عليه قصده
82

بخلاف العشر فالواجب هناك جزء من الخراج والايجاب بدون المحل لا يتحقق وههنا
الواجب مال في ذمته باعتبار تمكنه من الانتفاع بالأرض فلم ينعدم ذلك بتعطيله الأرض وان
زرعها فأصاب الزرع آفة فذهب لم يؤخذ الخراج لأنه مصاب فيستحق المعونة ولو أخذناه
بالخراج كان فيه استئصاله ومما حمد من سير الأكاسرة انهم كانوا إذا اصطلم الأرض
آفة يردون على الدهاقين من خزائنهم ما أنفقوا في الأرض ويقولون التاجر شريك في الخسران
كما هو شريك في الربح فإن لم يرد عليه شيئا فلا أقل من أن لا يؤخذ منه الخراج وهذا
بخلاف الاجر فإنه يجب بقدر ما كان الأرض مشغولا بالزرع لان الاجر عوض المنفعة
فبقدر ما استوفى من المنفعة يصير الاجر دينا في ذمته فأما الخراج صلة واجبة باعتبار
الأراضي فلا يمكن ايجابها بعدما اصطلم الزرع آفة لأنه ظهر أنه لم يتمكن من استغلال
الأرض بخلاف ما إذا عطلها وإذا أسلم الذمي على أرضه كان عليه خراجها كما كان عندنا
وقال مالك رحمه الله تعالى يسقط ذلك وكذلك إذا باعها من مسلم واعتبر خراج الأرض
بخراج الرأس فكما لا يجب على المسلم بعد اسلامه خراج الرأس فكذلك خراج الأرض
ولكنا نقول الخراج مؤنة الأرض النامية كالعشر والمسلم من أهل التزام المؤنة وهذا لأنه
بعد الاسلام لا يخلى أرضه عن مؤنة فابقاء ما تقرر واجبا أولى لأنا ان أسقطنا ذلك احتجنا
إلى ايجاب العشر بخلاف خراج الرأس فانا لو أسقطنا ذلك عنه بعد اسلامه لا نحتاج إلى
ايجاب مؤنة أخرى عليه ولا يكره للمسلم أداء خرج الأرض لما روى عن ابن مسعود
والحسن بن علي وشريح رضي الله عنهم انه كانت لهم أرضون بالسواد يؤدون خراجها فبهذا
تبين ان خراج الأرض لا يعد من الصغار وإنما الصغار خراج الأعناق بخلاف ما يقوله المتقشفة ويستدلون بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيئا من آلات الحراثة فقال ما دخل
هذا بيت قوم الا ذلوا ظنوا ان المراد الذل بالتزام الخراج وليس كذلك بل المراد ان المسلمين
إذا اشتغلوا بالزراعة واتبعوا أذناب البقر وقعدوا عن الجهاد كر عليهم عدوهم فجعلوهم أذلة
تغلبي اشترى أرضا من أرض الخراج فعليه الخراج كما كأن لأنه إنما يضعف عليه ما يبتدأ
المسلم بالايجاب عليه هكذا جرى الصلح بيننا ولا يبتدأ المسلم بتوظيف الخراج على
أرضه الا ترى ان أهل بلدة لو أسلموا طوعا يجعل على أراضيهم العشر دون الخراج فلهذا
لا يضعف الخراج على التغلبي وان اشترى أرضا من أرض العشر ضوعف عليه العشر لان
83

العشر يبتدأ به المسلم فيضعف على التغلبي كالزكاة والرجل والمرأة والصبي منهم في ذلك سواء
وقد بينا تمام هذه الفصول في كتاب الزكاة وذكرنا قول محمد ان التضعيف عليهم
في الأراضي التي وقع الصلح عليها فأما فيما اشتراها من مسلم لا تتغير الوظيفة بتغير المالك
كما لا تتغير وظيفة الخراج إذا اشترى مسلم أرضا خراجية وكما لا تتغير وظيفة العشر إذا
اشتراها مكاتب أو صبي (قال) أرأيت لو أن أرضا بمكة في الحرم اشتراها ذمي أو تغلبي كانت
تصير خراجية أو تتحول عن العشر الذي كان عليها قبل ذلك وإذا دخل الحربي دار الاسلام
مستأمنا فتزوج امرأة ذمية لم يصر ذميا لان الرجل ليس بتابع لامرأته في السكنى فهو
بالنكاح لم يصر راضيا بالمقام في دارنا على التأبيد وإنما استأمن الينا للتجارة والتاجر قد يتزوج
في موضع لا يقصد التوطن فيه فلهذا لا يصير ذميا فان أطال المقام وأوطن فحينئذ توضع
عليه الجزية وينبغي للامام أن يتقدم إليه ويأمره بالخروج إلى دار الحرب على سبيل الانذار
والاعذار وفى التقدم إليه إن بين مدة فقال إن خرجت إلى وقت كذا والا جعلتك ذميا
فان خرج إلى ذلك الوقت تركه ليذهب وإن لم يخرج لم يمكنه من الخروج بعد ذلك وجعله
ذميا لان مقامه بعد التقدم إليه حتى مضت المدة رضا منه بالمقام في دارنا على التأبيد وإن لم
يقدر له مدة فالمعتبر هو الحول فإذا أقام في دارنا بعد ذلك حولا لا يمكنه من الخروج لان
هذا لابلاء العذر والحول لذلك حسن كما في أجل العنين ونحوه وان اشتري أرض
خراج فزرعها يوضع عليه خراج الأرض والرأس أما خراج الأرض فلانه مؤنة الأرض
النامية وقد تقرر ذلك في حقه حين استغل الأرض ثم بالتزام خراج الأرض صار راضيا
بالتزام أحكام دار الاسلام فيكون بمنزلة لذمي لان الذمي ملتزم أحكام الاسلام فيما يرجع إلى
المعاملات والالتزام تارة يكون نصا وتارة يكون دلالة والحربية المستأمنة إذا تزوجت مسلما
أو ذميا فقد توطنت وصارت ذمية لأن المرأة في السكنى تابعة للزوج ألا ترى أنها لا تملك
الخروج الا باذنه فجعلها نفسها تابعة لمن هو من دارنا رضى بالتوطن في دارنا على التأبيد
فرضاها بذلك دلالة كالرضا بطريق الافصاح فلهذا صارت ذمية والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب واليه المرجع والمآب
84

(باب صلح المملوك والموادعة)
(قال) رضي الله عنه ملك من ملوك أهل الحرب له أرض واسعة فيها قوم من أهل مملكته
هم عبيد له يبيع منهم ما شاء صالح المسلمين وصار ذمة لهم فان أهل مملكته عبيد له كما كانوا
يبيعهم ان شاء لان عقد الذمة خلف عن الاسلام في حكم الاحراز ولو أسلم كانوا عبيدا له
لقوله صلى الله عليه وسلم من أسلم على مال فهو له فكذلك إذا صار ذميا وهذا لأنه كان
مالكا لهم بيده القاهرة وقد استقرت يده وازدادت وكادة بعقد الذمة فان ظهر عليهم عدو
غيرهم ثم استنقذهم المسلمون من أيدي أولئك فإنهم يردون على هذا الملك بغير شئ قبل
القسمة وبالقيمة بعد القسمة بمنزلة سائر أموال أهل الذمة وهذا لان على المسلمين القيام بدفع
الظلم عن أهل الذمة كما عليهم ذلك في حق المسلمين وعلى هذا لو أسلم الملك وأهل أرضه أو
أسلم أهل أرضه دونه فهم عبيد له كما كانوا لأنه كان محرزا لهم بعقد الذمة فيزداد ذلك قوة باسلامه
واسلام مملوكه الذمي لا يبطل ملكه عنه وإن كان طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل مملكته
بما شاء من قتل أو صلب أو غيره مما لا يصلح في دار الاسلام لم يجب إلى ذلك لان التقرير
على الظلم مع امكان المنع منه حرام ولان الذمي من يلتزم أحكام الاسلام فيما يرجع إلى
المعاملات فشرطه بخلاف موجب العقد باطل كما لو أسلم بشرط أن يرتكب شيئا من
الفواحش كان الشرط باطلا والأصل فيه ما روى أن وفد ثقيف جاؤوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا نؤمن بشرط أن لا ننحني للركوع والسجود فانا نكره ان تعلونا أستانا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في دين لا صلاة فيه ولا خير في صلاة لا ركوع فيها
ولا سجود فان أعطى الصلح والذمة على هذا بطل من شروطه مالا يصلح في الاسلام
لقوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فان رضى بما يوافق حكم
الاسلام والا أبلغ مأمنه وأصحابه لان عقد الذمة يعتمد الرضى وما تم رضاه بدون هذا
الشرط وقد تعذر الوفاء بهذا الشرط فإذا أبى ان يرضى بدون هذا الشرط يبلغ مأمنه كغيره
من المستأمنين فان التحرز عن الغدر واجب قال صلى الله عليه وسلم في العهود وفاء لا غدر
فيه بخلاف ما لو أسلم بشرط أن لا يصلى فان الاسلام صحيح بدون تمام الرضى كما لو أسلم
مكرها ولا يترك بعد صحة اسلامه ليرتد فيرجع إلى الكفر فان صار ذمة ثم وقفت منه على
أنه يخبر المشركين بعورة المسلمين ويقرى عيونهم لم يكن هذا منه نقضا للعهد ولكن يعاقب
85

على هذا ويحبس وقال مالك رحمه الله تعالى هو ناقض للعهد بما صنع فيقتل وكذلك أن كان
لا يزال يغتال رجلا من المسلمين فيقتله أو يفعل ذلك أهل أرضه لم يكن هذا نقضا للعهد
عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى هو نقض لأنه خلاف موجب العقد فان الذمي من ينقاد
لحكم الاسلام في المعاملات ويكون مقهورا في دار الاسلام تحت يد المسلمين ومباشرة
ما كان يخالف موجب العقد يكون نقضا للعهد ولكنا نقول لو فعل هذا مسلم لم يكن به ناقضا
لايمانه فكذلك إذا فعله ذمي لا يكون ناقضا لأمانه والأصل فيه حديث حاطب بن أبي
بلتعة وفيه نزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء وقصته فيما صنع
معروفة في المغازي وقد سماه الله تعالى مؤمنا مع ذلك وحديث أبي لبابة بن المنذر وفيه نزل
قوله تعالي يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وقصته فيما أخبر به بني قريظة معروفة
وقد سماه الله مؤمنا فعرفنا ان مثل هذا لا يكون نقضا للايمان ولا للذمة ولكن من ثبت عليه
القتل بالبينة يقتص منه فإن لم يعرف القاتل ووجد القتيل في قرية من قراهم ففيه القسامة
والدية كما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتيل الموجود بخيبر فيحلف الملك
خمسين يمينا بالله ما قتلت ولا عرفت قاتله ثم يغرم الدية ولا يحلف بقية أهل مملكته لأنهم
عبيده والعبيد لا يزاحمون الأحرار في القسامة والدية فإن كانوا أحرارا فعليهم القسامة والدية
لأنهم يساوونه في الحرية والسكنى في القرية فيشاركونه في القسامة والدية وإذا طلب
قوم من أهل الحرب الموادعة سنين بغير شئ نظر الامام في ذلك فان رآه خيرا للمسلمين
لشدة شوكتهم أو لغير ذلك فعله لقوله تعالى وان جنحوا للسلم فاجنح لها ولان رسول الله
صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم
عشر سنين فكان ذلك نظرا للمسلمين لمواطئة كانت بين أهل مكة وأهل خيبر وهي
معروفة ولان الامام نصب ناظرا ومن النظر حفظ قوة المسلمين أولا فربما يكون ذلك
في الموادعة إذا كانت للمشركين شوكة أو احتاج إلى أن يمعن في دار الحرب ليتوصل إلى
قوم لهم بأس شديد فلا يجد بدا من أن يوادع من على طريقه وإن لم تكن الموادعة خيرا
للمسلمين فلا ينبغي أن يوادعهم لقوله تعالى ولا تهنوا وتدعوا إلي السلم وأنتم الأعلون ولان
قتال المشركين فرض وترك ما هو الفرض من غير عذر لا يجوز فان رأى الموادعة خيرا
فوادعهم ثم نظر فوجد موادعتهم شرا للمسلمين نبذ إليهم الموادعة وقاتلهم لأنه ظهر في الانتهاء
86

ما لو كان موجودا في الابتداء منعه ذلك من الموادعة فإذا ظهر ذلك في الانتهاء منع ذلك
من استدامة الموادعة وهذا لان نقض الموادعة بالنبذ جائز قال صلى الله عليه وسلم يعقد
عليهم أولاهم ويرد عليهم أقصاهم ولكن ينبغي أن ينبذ إليهم على سواء قال تعالى وإما تخافن
من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء أي على سواء منكم ومنهم في العلم بذلك فعرفنا أنه
لا يحل قتالهم قبل النبذ وقبل أن يعلموا بذلك ليعودوا إلى ما كانوا عليه من التحصن وكان ذلك للتحرز عن الغدر فان حاصر العدو المسلمين وطلبوا الموادعة على أن يؤدي إليهم
المسلمون شيئا معلوما كل سنة فلا ينبغي للامام أن يجيبهم إلى ذلك لما فيه من الدينة والذلة
بالمسلمين إلا عند الضرورة وهو ان يخاف المسلمون الهلاك على أنفسهم ويرى الامام أن
هذا الصلح خير لهم فحينئذ لا بأس بأن يفعله لما روى أن المشركين أحاطوا بالخندق وصار
المسلمون كما قال الله تعالى هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى عبيدة بن حصن وطلب منه ان يرجع بمن معه على أن يعطيه كل سنة
ثلث ثمار المدينة فأبى الا النصف فلما حضر رسله ليكتبوا الصلح بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم قام سيد الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما
وقالا يا رسول الله إن كان هذا عن وحي فامض لما أمرت به وإن كان رأيا رأيته فقد كنا
نحن وهم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لهم دين فكانوا لا يطمعون في ثمار المدينة الا بشراء أو
قرى فإذا أعزنا الله بالدين وبعث فينا رسوله نعطيهم الدينة لا نعطيهم الا السيف فقال
صلى الله عليه وسلم انى رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فأحببت ان أصرفهم عنكم
فإذا أبيتم ذلك فأنتم وأولئك اذهبوا فلا نعطيكم الا السيف فقد مال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الصلح في الابتداء لما أحس الضعف بالمسلمين فحين رأى القوة فيهم بما قاله السعدان
رضي الله عنهما امتنع من ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم من
الصدقة لدفع ضررهم عن المسلمين فدل على أنه لا بأس بذلك عند خوف الضرر وهذا
لأنهم ان ظهروا على المسلمين أخذوا جميع الأموال وسبوا الذراري فدفع بعض المال
ليسلم المسلمون في ذراريهم وسائر أموالهم أهون وأنفع وان أراد قوم من أهل الحرب من
المسلمين الموادعة سنين معلومة على أن يؤدى أهل الحرب الخراج إليهم كل سنة شيئا
معلوما على أن لا تجرى أحكام الاسلام عليهم في بلادهم لم يفعل ذلك إلا أن يكون في ذلك
87

خير للمسلمين لأنهم بهذه الموادعة لا يلتزمون أحكام الاسلام ولا يخرجون من أن يكونوا
أهل حرب وقد بينا ان ترك القتال مع أهل الحرب لا يجوز إلا أن يكون خيرا للمسلمين
فإذا رأي الامام منفعة في ذلك فصالحهم فإن كان قد أحاط مع الجيش ببلادهم فما يأخذ
منهم يكون غنيمة يخمسها ويقسم ما بقي بينهم لأنه توصل إليها بقوة الجيش فهو كما لو ظهر
عليهم بالفتح فإن لم ينزل مع الجيش بساحتهم ولكنهم أرسلوا إليه وادعوه على هذا فما
يأخذ منهم بمنزلة الجزية لا خمس فيها بل يصرف مصارف الجزية وان وقع الصلح على أن
يؤدوا إليهم كل سنة مائة رأس فإن كانت هذه المائة الرأس يؤدونها من أنفسهم وأولادهم
لم يصح هذا لان الصلح وقع علي جماعتهم فكانوا جميعا مستأمنين واسترقاق المستأمن لا يجوز
الا ترى ان واحدا منهم لو باع ابنه بعد هذا الصالح لم يجز وكذلك لا يجوز تمليك شئ من
نفوسهم وأولادهم بحكم تلك الموادعة لان حريتهم تأكدت بها وان صالحوهم على مائة
رأس بأعيانهم أول السنة وقالوا أمنونا على أن هؤلاء لكم ونصالحكم ثلاث سنين مستقبلة
على أن نعطيكم كل سنة مائة رأس من رقيقنا فهذا جائز لان المعينين في السنة الأولى لا تتناولهم
الموادعة وباعتباره يثبت الأمان فإذا جعلوهم مستثنين من الموادعة بجعلهم إياهم عوضا للمسلمين
صاروا مماليك للمسلمين بالموادعة ثم شرطوا في السنين المستقبلة مائة رأس من رقيقهم في كل
سنة ورقيقهم قابل للملك والتملك بالبيع فكذا بالموادعة وهذا لان الموادعة ليست بمال في
نفسها واشتراط الحيوان دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال صحيح إذا كان معلوم الجنس كما
في النكاح والخلع وإذا وقع الصلح على هذا ثم سرق منه مسلم شيئا لم يصح شراء ذلك منه
لأنهم استفادوا الأمان في أنفسهم وأموالهم ومال المستأمن لا يملك بالسرقة وإذا لم يملكه
السارق لم يحل شراؤه منه ولان ما صنعه غدر يؤدبه الإمام علي ذلك إذا علمه منه وفى الشراء
منه اغراء له على هذا الغدر وتقرير ذلك لا يحل فان أغار عليهم قوم من أهل الحرب جاز
أن يشترى منهم ما أخذوا من أموالهم ورقيقهم لأنهم تملكوها عليهم بالاحراز ولو تملكوا
ذلك من أموال المسلمين جاز شراؤها منهم فمن أموال أهل الحرب أولى ثم لا يرد عليهم
شئ من ذلك مجانا ولا بالثمن لأنهم بالموادعة ما خرجوا من أن يكونوا أهل حرب حين لم
ينقادوا الحكم الاسلام فلا يجب على المسلمين القيام بنصرتهم وبه فارق مال المسلمين وأهل
لذمة ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم الا الكراع والسلاح والحديد لأنهم أهل حرب
88

وان كانوا موادعين ألا ترى أنهم بعد مضى المدة يعودون حربا للمسلمين ولا يمنع التجار من
دخول دار الحرب بالتجارات ما خلا الكراع والسلاح فإنه يتقوون بذلك على قتال المسلمين
فيمنعون من حمله إليهم وكذلك الحديد فإنه أصل السلاح قال الله تعالى وأنزلنا الحديد
فيه بأس شديد ومن دخل منهم دار الاسلام بغير أمان جديد سوى الموادعة لم يتعرض له لأنه
آمن بتلك الموادعة ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يتعرضوا له في داره فكذلك إذا دخل
دار الاسلام قد دخل أبو سفيان رضي الله عنه المدينة في زمن الهدنة ولم يتعرض له أحد
بشئ وكذلك لو دخل رجل منهم دار حرب أخرى فظهر المسلمون عليهم لم يتعرضوا له
لأنه في أمان المسلمين حيث كان بمنزلة ذمي يدخل دار الحرب ثم يظهر المسلمون على تلك
الدار وإذا اشتري الحربي المستأمن في دار الاسلام عبدا مسلما أو ذميا أو أسلم بعض عبيده
الذين أدخلهم لم يترك ليرده إلى دار الحرب لأنه مسلم ولا يترك في ملك الكافر ليستذله ولكن
يجبر على بيعه من المسلمين بمنزلة الذمي يسلم عبده (فان قيل) الذمي ملتزم أحكام الاسلام
فيما يرجع إلى المعاملات والمستأمن غير ملتزم لذلك (قلنا) المستأمن ملتزم ترك الاستخفاف
بالمسلمين فانا ما أعطيناه الأمان ليستذل المسلم إذ لا يجوز اعطاء الأمان على هذا فلهذا يجبر
على بيعه وان رجع المستأمن إلى دار الحرب وقد أدان في دار الاسلام وأودع ودبر ثم أسر وظهر
على تلك الدار وقتل فنقول اما مدبروه وأمهات أولاده فهم أحرار ان قتل فغير مشكل
وكذلك إذا استرق لأنه صار مملوكا والرق اتلاف له حكما ولأنهم خرجوا من ملكه لوجود
المنافي ولا يصيرون في ملك غيره لان المدبر وأم الولد لا يحتمل ذلك فلهذا كان حرا واما
الدين فهو يسقط عمن عليه لخروجه من أن يكون أهلا للملك ولان الدين لا يرد عليه
القهر ليصير مملوكا للسابي إذ هو في ذمة من عليه ويده إلي ما في ذمته أسبق من يد غيره
فصار محرزا له والودائع فئ لأنها تدخل تحت القهر ويد المودع كيد المودع ولو كانت في يده
حين سبى كان ذلك فيئا فكذلك أن كان في يد مودعه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى
انها مملوكة للمودعين لان أيديهم إليها أسبق حين سقط عنها يد الحربي بالأسر فصاروا
محرزين لها دون الغانمين وهذا كله لان بقاء حكم الأمان له في هذه الأموال ما لم يتقرر
المنافي وقد تقرر ذلك حين أسر وظهر المسلمون على الدار وان دخل بعبده المسلم الذي
اشتراه أو أسلم في يده في دار الحرب عتق في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يعتق في قول
89

أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حتى يظهر المسلمون على الدار أو يخرج مراغما لمولاه لأنه كان
قاهرا له في دارنا حكما بعقد الأمان وفى دار الحرب حسا بقوته فيبقى مملوكا له حتى يصير
العبد قاهرا له وذلك بخروجه مراغما أو ظهور المسلمين عليه الا ترى أنه لو كان في دار
الحرب حين أسلم عبده لم يعتق الا بأحد هذين الوجهين فكذلك إذا أدخله دار الحرب
وقد بينا طريق أبي حنيفة رحمه الله لهذه المسألة في كتاب العتاق وفيه طريق آخر نذكره
ههنا وهو انه حين انتهي به إلى آخر جزء من أجزاء دار الاسلام فقد ارتفع حكم الأمان
الذي بيننا وبينه وبقاء ملكه بعد اسلام العبد كان بحكم الأمان فإذا ارتفع زال ذلك الملك
وحصل العبد في يد نفسه فيعتق وهي يد محترمة فتكون دافعة لقهره وان أدخله دار الحرب
فلا يثبت له باعتبار هذا القهر الملك في دار الحرب (فان قيل) بارتفاع الأمان زال صفة
الحظر لا أصل الملك كمن أباح لغيره شيئا لا يزول أصل ملكه به فملكه المباح في دار
الحرب ابقاء ما كان من الملك لا اثبات ملك له فيه ابتداء (قلنا) ما كان ملكه بعد اسلام
العبد في دار الاسلام الا باعتبار صفة الحظر فإنه لو لم يكن مستأمنا لكان العبد قاهرا له
في دار الاسلام وكان حرا فإذا زال الحظر بزوال الأمان زال أصل الملك (قال) ألا ترى أنه
في دار الحرب لو قتل مولاه وأخذ ماله وخرج الينا كان حرا وكان ما خرج به من المال
له وهذا إشارة إلى ما بينا أنه ظهرت يده في نفسه وهي يد محترمة وكذلك لو كان هذا العبد
الذي اشتراه وأدخله ذميا لان للذمي يدا محترمة في نفسه كما للمسلم ولو أسلم عبد الحربي
في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على الدار فالعبد حر لاحرازه نفسه بمنعة المسلمين وان أسلم
مولاه قبل أن يظهر المسلمون عليه فهو عبد له على حاله لان بالاسلام العبد لم يزل ملكه عنه
ومن أسلم على مال فهو له ولو كان حين أسلم عبده باعه من مسلم أو ذمي أو حربي فهو حر
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان العبد المسلم متي زال ملك الحربي عنه يزول إلى
العتق كما لو خرج مراغما وكان أبو بكر الرازي يقول بمجرد البيع عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لا يعتق ما لم يخرجه من يده بالتسليم فإذا أخرجه ثم زال قهره عنه فحينئذ يعتق ولا يثبت
عليه قهر المشترى لأنه مسلم في يد نفسه ويده دافعة للقهر عنه سواء كان من مسلم أو ذمي
أو حربي وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يعتق لان ملك المشتري ويده
كملك البائع ويده وقبل البيع كان مملوكا للبائع باعتبار يده فكذلك بعد البيع وقد بينا هذه
90

المسألة مع أخواتها في كتاب العتاق وإذا مات المستأمن في دار الاسلام عن مال وورثته في
دار الحرب وقف ماله حتى يقدم ورثته لأنه وإن كان في دارنا صورة فهو في الحكم كأنه
في دار الحرب فيخلفه ورثته في دار الحرب في أملاكه وبموته في دارنا لا يبطل حكم الأمان
الذي كان ثبت له بل ذلك باق في ماله فيوقف لحقه حتى يقدم ورثته وإذا قدموا فلا بد من
أن يقيموا البينة ليأخذوا المال لأنهم بمجرد الدعوى لا يستحقون شيئا فان أقاموا بينة
من أهل الذمة ففي القياس لا تقبل هذه البينة لان المال في يد امام المسلمين وحاجتهم إلى
استحقاق اليد على المسلمين وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في الاستحقاق على المسلمين
وفى الاستحسان تقبل شهادتهم ويدفع المال إليهم إذا شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثا غيرهم
لأنهم يستحقون المال على المستأمن فان المال موقوف لحقه وشهادة أهل الذمة حجة على
المستأمن ولأنهم لا يجدون شهودا مسلمين على وراثتهم عادة فان أنسابهم في دار الحرب
لا يعرفها المسلمون فهو بمنزلة شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال ويؤخذ منهم كفيل بما
أدرك في المال من درك قيل هو قولهما دون قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى كما فيما بين
المسلمين وقيل بل هذا قولهم جميعا لان المال مدفوع إليهم بحجة ضعيفة فلا يدفع الا بعد
الاحتياط بكفيل ولا يقبل كتاب ملكهم في ذلك لان ملكهم كافر لا أمان له ولو شهد لم
تقبل شهادته فكيف يقبل كتابه وان شهد على كتابه وختمه قوم من المسلمين فكذلك
الجواب لأنه في حق المسلمين كواحد من العوام أو دونه وكتابه وختمه لا يكون حجة
وإذا أراد الحربي المستأمن أن يرجع إلى دار الحرب لم يترك أن يخرج معه كراعا وسلاحا
أو حديدا أو رقيقا اشتراهم في دار الاسلام مسلمين أو كفارا كما لا يترك تجار
المسلمين ليحملوا إليهم هذه الأشياء وهذا لأنهم يتقوون بها على المسلمين ولا يجوز اعطاء
الأمان له ليكتسب به ما يكون قوة لأهل الحرب على قتال المسلمين وفى العبيد لا اشكال
لأنهم مسلمون وأهل الذمة فلا يترك أن يدخل بهم ليعودوا حربا للمسلمين ولا يمنع أن
يرجع بما جاء به من هذه الأشياء لأنه كان معه في دار الحرب فباعادته لا يزدادون
قوة لم تكن لهم بخلاف ما اشتراه في دار الاسلام ولأنا أمناه على ما في يده من المال وكما
لا يمنع هو من الرجوع للوفاء بذلك الأمان فكذلك لا يمنع من أن يرجع بما جاء به فإن كان
جاء بسيف فباعه واشترى مكانه قوسا أو رمحا أو ترسا لم يترك أن يخرج به مكان سيفه
91

لان معنى القوة يختلف باختلاف الأسلحة فإنما قصد بما صنع أن يزداد قوة علينا ولأنه قد
يكثر فيهم نوع من أنواع الأسلحة ويعز نوع آخر خير فيقصدون تحصيل ذلك لهم بهذا
الطريق وكذلك إذا استبدل بسيفه سيفا آخر خيرا منه لان بتلك الزيادة يزدادون قوة ولم
يكن استحق ذلك حين أمناه فيمنع من تحصيل تلك الزيادة ولا يمكن منعه من ذلك الا بأن
يمنع من ادخاله هذا السيف بأصله دارهم وإن كان هذا السيف مثل الأول أو شرا منه لم يمنع
أن يدخل به لأنه بمنزلة الأول إذ ليس فيه زيادة قوة لهم وجنس المنفعة واحد فكما لو أعاد الأول
إلى دار الحرب لم يمنع منه فكذلك إذا أعاد مثله وله أن يخرج بما شاء من الأمتعة سوى
ما ذكرنا كما للتاجر المسلم أن يحمل إليهم ما شاء من سائر الأمتعة للتجارة وللشافعي رحمه الله
تعالى قول أنه يمنع من ذلك أيضا لأنهم يزدادون قوة بما يحمل طعاما كان أو ثيابا أو سلاحا
ولكنا نستدل بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهدى إلى أبي سفيان رضي الله عنه
تمر عجوة حين كان بمكة حربيا واستهداه ادما وبعث بخمسمائة دينار إلى أهل مكة حين قحطوا
لتفرق بين المحتاجين منهم ولان بعض ما يحتاج إليه المسلمون من الأدوية وغيرها يحمل من
دار الحرب فإذا منعنا تجار المسلمين من أن يحملوا إليهم ما سوى السلاح فهم يمنعون ذلك
أيضا وفيه من الضرر مالا يخفى وإذا بعث الحربي عبدا له تاجرا إلى دار الاسلام بأمان فأسلم
العبد فيها بيع وكان ثمنه للحربي لان الأمان يثبت له في مالية العبد حين خرج العبد بأمان منقادا
له ولو كان المولى معه فأسلم أجبر على بيعه وكان ثمنه له فكذلك إذا لم يكن المولى معه قلنا
يباع لإزالة ذل الكفر عن المسلم ويكون ثمنه للحربي للأمان له في هذه المالية وإذا وجد
الحربي في دار الاسلام فقال إنا رسول فان أخرج كتابا عرف أنه كتاب ملكهم كان آمنا
حتى يبلغ رسالته ويرجع لان الرسل لم تزل آمنة في الجاهلية والإسلام وهذا لان أمر
القتال أو الصلح لا يتم الا بالرسل فلا بد من أمان الرسل ليتوصل إلى ما هو المقصود ولما
تكلم رسول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بما كرهه قال لولا انك رسول لقتلتك
وفى هذا دليل ان الرسول آمن ثم لا يتمكن من إقامة البينة على أنه رسول فلو كلفناه ذلك
أدى إلى الضيق والحرج وهذا مدفوع فلهذا يكتفي بالعلامة والعلامة أن يكون معه كتاب
يعرف أنه كتاب ملكهم فإذا أخرج ذلك فالظاهر أنه صادق والبناء على الظاهر واجب
فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته وإن لم يخرج كتابا أو أخرج ولم يعلم أنه كتاب ملكهم فهو
92

وما معه فئ لان الكتاب قد يفتعل وإذا لم يعلم أنه كتاب ملكهم بختم وتوقيع معروف فالظاهر
أنه افتعل ذلك وأنه لص مغير في دار الاسلام فحين أخذناه احتال بذلك ليتخلص من أيدينا
ولهذا كان فيئا مع ما معه وان؟ ادعى أنه دخل بأمان لم يصدق وهو فئ لان حق المسلمين قد
ثبت فيه حين تمكنوا منه من غير أمان ظاهر له فلا يصدق هو في ابطال حقهم وإذا خرج
قوم من أهل الحرب مستأمنين لم يعرض لهم فيما كان جرى بينهم في دار الحرب من
المداينات لأنهم بالدخول بأمان ما صاروا من أهل دارنا وقد كانت هذه المعاملة بينهم حين
لم يكونوا تحت يد الامام فلا يسمع الامام الخصومة في شئ من ذلك إلا أن يلتزموا حكم
الاسلام وذلك يكون بعقد الذمة فإن كان ذلك جرى بينهم في دار الاسلام
أخذوا به لأنهم كانوا تحت يد الامام حين جرت هذه المعاملة بينهم وما أمناهم ليظلم
بعضهم بعضا بل التزمنا لهم ان نمنع الظلم عنهم فلهذا تسمع الخصومة التي جرت بينهم في دارنا
كما لو جرت بينهم وبين المسلمين ولو أن حربيا دخل دار الاسلام بغير أمان فأخذه واحد
من المسلمين فهو فئ لجماعة المسلمين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهي رواية بشر عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى وظاهر المذهب عند أبي يوسف وهو قول محمد رحمهما الله تعالى انه لمن
أخذه خاصة وحجتهما في ذلك أن يد الآخذ سبقت إليه وهو مباح في دارنا فمن سبقت يده إليه
صار محرزا له فاختص بملكه كالصيد والحطب والركاز الذي يجده في دار الاسلام وهذا لأنه
وان دخل دارنا فلم يصر به مأخوذا مقهورا لعدم علم المسلمين به ألا ترى أنه لو عاد إلى دار
الحرب قبل أن يعلم به كان حرا فإنما صار مقهورا بالأخذ فكان للآخذ خاصة كما لو أخذه
في دار الحرب وأخرجه ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه طريقان أحدهما ان نواحي دار
الاسلام تحت يد امام المسلمين ويده يد جماعة المسلمين فهو كما دخل دار الاسلام صار في
يد المسلمين حكما فصار مأخوذا وثبت فيه حق جماعة المسلمين فمن أخذه بعد ذلك فإنما
استولى على ما ثبت فيه حق المسلمين فلا يختص به كما إذا استولى على مال بيت المال ولكن
هذا اليد حكمية فتظهر في حق المسلمين ولا تظهر في حق أهل الحرب فلهذا إذا عاد إلى دار
الحرب قبل أن يعلم به كان حرا حربيا علي حاله ولان الحق الثابت فيه ضعيف فهو بمنزلة حق
الغانمين في دار الحرب وهناك من عاد من الأسرى إلى منعة أهل الحرب قبل الاحراز يكون
حرا فهنا من عاد قبل أن يعلم به يكون حرا ولكنه لا يختص به الآخذ لثبوت الحق للجماعة
93

فيه والثاني أن الآخذ إنما تمكن منه بقوة المسلمين لأنه رقبانى مثله يدفعه عن نفسه فإنما
صار قاهرا له بقوة المسلمين فلهذا لا يختص به؟ وهو نظير السرية مع الجيش في دار الحرب
فان السرية لا تختص بما أخذت لان تمكنهم بقوة الجيش فهذا مثله والمسلمون بمنزلة المدد
للآخذ وتأكد الحق بالأخذ والاحراز وقد شاركوه في الاحراز وان اختص هو بالأخذ
وقد بينا أن المدد يشاركون الجيش إلا أن الاحراز هناك بعد الاخذ وههنا الاحراز سبق
الاخذ فإذا شاركوه بالمشاركة في الاحراز بعد الاخذ فلان يشاركوه بالاحراز منهم قبل
أخذه أولى وبه فارق الصيد والحطب لان تمكنه من هذه الأشياء لم يكن بقوة المسلمين
إذ لا دفع في المال ولكن الطريق الأول أصح فان على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا
أسلم قبل أن يؤخذ فهو رقيق للمسلمين ومن أسلم قبل الاخذ فحريته تتأكد باسلامه
كما لو أسلم في دار الحرب فلولا أنه صار مأخوذا بالدار لكان حرا إذا أسلم قبل أن يؤخذ
وعندهما إذا أسلم قبل أن يؤخذ فهو حر لا سبيل عليه لان سبب الرق فيه الاخذ والمسلم
لا يسترق فكان حرا ولو أسلم ثم رجع إلى دار الحرب قبل أن يؤخذ فهو حر بالاتفاق كما
لو رجع قبل أن يسلم ثم في وجوب الخمس فيه إذا أخذ روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
في احدى الروايتين قال المأخوذ بمنعة الدار كالمأخوذ بمنعة الجيش يكون غنيمة يخمس وفى
الرواية الأخرى قال الخمس فيما أوجف عليه المسلمون ولم يوجد ذلك ههنا فهو بمنزلة الجزية
والخراج لا خمس فيها ولان الحق فيه لجماعة المسلمين يصرف إلى بيت المال فلا فائدة في ايجاب
الخمس فيه وكذلك عن محمد رحمه الله تعالى روايتان في ايجاب الخمس فيه في احدى الروايتين
جعله كالحطب والصيد فلا خمس فيه لأنه ما أصيب بطريق فيه اعزاز الدين وفي الرواية الأخرى
قال فيه الخمس بمنزلة الركاز وهذا لان الواجد إنما أخذه بقوة المسلمين وأذن الامام له في ذلك
فان الامام أذن في مثله لكل مسلم ولو أخذه في دار الحرب بهذا الطريق اختص به وكان
فيه الخمس فكذلك إذا أخذه في دار الاسلام وان دخل الحرم قبل أن يؤخذ فعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى يؤخذ ويكون فيئا للمسلمين لان حقهم ثبت فيه قبل أن يدخل
الحرم فهو كعبد من عبيد بيت المال دخل الحرم وهذا لأنه قبل أن يدخل الحرم كان يجوز
قتله واسترقاقه فبدخوله الحرم استفاد الامن من القتل فيبقى حكم الرق فيه للمسلمين كما
لو أسلم فأما عندهما لا يتعرض له في الحرم لأنه لم يصر مأخوذا عندهما فهو حر مباح الدم
94

التجأ إلى الحرم فلا يتعرض له في الحرم ولكن لا يطعم ولا يسقي ولا يؤوى حتى يخرج
وقد بينا هذا في المناسك فان أسلم الحربي في الحرم قبل أن يخرج فهو حر عندهما لأنه لم
يصر مأخوذا بالدار فتتأكد حريته بالاسلام وليس لاحد أن يتعرض له بعد ذلك بشئ
وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فداينهم أو داينوه أو غصبهم شيئا أو غصبوه لم يحكم فيما
بينهم بذلك فإنهم فعلوا ذلك حيث لا تجرى عليهم أحكام المسلمين أما إذا غصبهم فلان
أموالهم في حقنا على أصل الإباحة وإنما ضمن المستأمن لهم أن لا يخونهم وإنما غدر بأمان
نفسه دون أمان الامام فيفتى بالرد ولا يجبر عليه في الحكم وان غصبوه فقد غدروا بأمانهم
حين لم يكونوا ملتزمين لحكم الاسلام ولو قتلوه لم يضمنوا فإذا أتلفوا ماله أو غصبوه
شيئا أولى وهذا لأنه عرض نفسه لذلك حين فارق منعة المسلمين ودخل إليهم فاما في المداينة
فهم وان خرجوا بأمان لم يلتزموا أحكام المسلمين فلا تسمع الخصومة عليهم في مداينة
كانت في دارهم ولا تسمع الخصومة على المسلم منهم أيضا لتحقيق معني التسوية بين الخصمين
الأعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول تسمع الخصومة على المسلم لأنه ملتزم أحكام
الاسلام حيث ما يكون وان بايعهم المستأمن إليهم الدرهم بالدرهمين نقد أو نسيئة أو بايعهم
في الخمر والخنزير والميتة فلا بأس بذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجوز
شئ من ذلك في قول أبى يوسف رحمه الله لان المسلم ملتزم أحكام الاسلام حيثما يكون ومن
حكم الاسلام حرمة هذا النوع من المعاملة ألا ترى أنه لو فعله مع المستأمنين منهم في دارنا
لم يجز فكذلك في دار الحرب وهما يقولان هذا أخذ مال الكافر بطيبة نفسه ومعني هذا
ان أموالهم على أصل الإباحة إلا أنه ضمن أن لا يخونهم فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرز
عن الغدر ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة لا باعتبار العقد وبه فارق المستأمنين في دارنا لان
أموالهم صارت معصومة بعقد الأمان فلا يمكنه أخذها بحكم الإباحة والاخذ بهذه العقود
الباطلة حرام وتمام هذه الفصول في كتاب الصرف وان قتل المسلم في دارنا حربيا مستأمنا
عمدا أو خطأ أو قطع يده فلا قود عليه لبقاء شبهة الإباحة في دم المستأمن فإنه حربي حكما
فلا يمكن المساواة بينه وبين من هو أهل دارنا في العصمة والقصاص يعتمد المساواة
ولكن عليه دية الحر المسلم لان أصل العصمة تثبت موجبة للتقوم في نفسه حين استأمن
الينا ألا تري أن العصمة المتقومة تثبت في ماله بهذا القدر من الاحراز حتى يضمن بالاتلاف
95

ففي نفسه أولى وصار حاله في قيمة نفسه كحال الذمي فكما يسوى بين دية الذمي والمسلم عندنا
فكذلك يسوي بين دية المسلم والمستأمن والله أعلم بالصواب
(باب نكاح أهل الحرب ودخول التجار إليهم بأمان)
(قال) رضي الله عنه حربي تزوج امرأة حربية لها زوج ثم أسلما وخرجا إلى دارنا لم تحل له
الا بنكاح جديد لأن العقد الذي كان بينهما في دار الحرب لغو فإنها كانت منكوحة الغير يومئذ
ونكاح المنكوحة لا يحله أحد من أهل الأديان فكانا أجنبيين حين أسلما فلا يحل له أن يطأها
الا بنكاح جديد كما لو لم يسبق بينهما ذلك العقد في دار الحرب وإذا تزوج الحر الحربي أربع
نسوة ثم سبى وسبين معه فلا نكاح بينه وبينهن سواء تزوجهن في عقدة أو في عقد لان الرق
المعترض في الزوج ينافي نكاح الأربع بقاء وابتداء وليس بعضهن بأولى من البعض في
التفريق بينه وبينها فتقع الفرقة بينه وبينهن كما لو تزوج رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما
ولا فرق فالمنافي هناك عارض في المحل بعد صحة نكاحهما وهو الأختية وههنا عارض في
الزوج بعد صحة نكاحهن فإن كانت قد ماتت امرأتان منهن فنكاح الباقيتين جائز لأنه حين
استرق فليس في نكاحه الا اثنتين ورقه لا ينافي نكاح اثنتين ابتداء ولا بقاء وقد تقدم بيان
هذه الفصول في النكاح وذكرنا أنه يكره للمسلم ان يتزوج كتابية في دار الحرب ولا بأس
له ان يتناول من ذبائح أهل الكتاب منهم وذلك منقول عن علي رضي الله عنه ثم كراهة النكاح
لمعنى كراهة التوطن فيهم أو مخافة ان يبقى له نسل في دار الحرب أو ما فيه من تعريض ولده
للرق إذا سبيت والولد في بطنها وذلك لا يوجد في الذبائح وإذا قتل المسلم المستأمن في دار الحرب
انسانا منهم أو استهلك ماله لم يلزمه غرم ذلك إذا خرجوا لأنهم لو فعلوا ذلك به لم يلزمهم غرم
فكذلك إذا فعل بهم وهذا لأنهم غير ملتزمين أحكام الاسلام في دار الحرب حيث جرى
ذلك بينهم وأكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم لان الغدر حرام قال صلى الله
عليه وسلم لكل غادر لواء؟ يركز عند باب أسته يوم القيامة يعرف به غدرته فان غدر بهم
وأخذ مالهم وأخرجه إلى دار الاسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك لأنه حصله بكسب
خبيث وفى الشراء منه اغراء له على مثل هذا السبب وهو مكروه للمسلم والأصل فيه حديث
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين قتل أصحابه وجاء بمالهم إلى المدينة فأسلم وطلب من رسول
96

الله صلى الله عليه وسلم أن يخمس ماله فقال أما اسلامك فمقبول وأما مالك فمال غدر فلا
حاجة لنا فيه فان اشتراه أجزته لأنه صار مالكا للمال بالاحراز والنهى عن الشراء منه ليس
لمعنى في عين الشراء فلا يمنع جوازه وان كانت جارية كرهت للمشترى وان يطأها لأنه
قائم فيها مقام البائع وكان يكره للبائع وطئها فكذلك للمشترى وهذا بخلاف المشتراة شراء
فاسدا إذا باعها المشترى جاز للثاني وطئها بعد الاستبراء لان الكراهة في حق الأول لبقاء
حق البائع في الاسترداد وقد زال بالبيع الثاني وههنا الكراهة لمعني الغدر وكونه
مأمورا بردها عليهم دينا وهذا المعنى في حق الثاني كهو في حق الأول فان أصاب أهل
هذه الدار سبايا من غيرهم من أهل الحرب وسع هذا المسلم أن يشتريها منهم لأنهم ملكوا
ذلك بالاحراز بمنعتهم فإنهم نهبة يملك بعضهم على بعض نفسه وماله بالاحراز فحل للمستأمن
إليهم شراء ذلك منهم كسائر أموالهم وكذلك أن سبى أهل الدار التي هو فيها جاز له أن
يشتريهم من السابين لأنهم ملكوهم بالاحراز وقد كانوا على أصل الإباحة في حقه إنما
كان الواجب عليه أن لا يغدر بهم وليس ذلك من الغدر في شئ وكذلك لو أن المسلمين
وادعوا قوما من أهل الحرب ثم أغار عليهم قوم آخرون أهل حرب لهم فلهذا المسلم أن
يشترى السبي منهم لأنهم بالموادعة ما خرجوا من أن يكونوا أهل حرب ولكن علينا أن
لا نغدر بهم وقد صاروا مملوكين للسابي بالاحراز فيجوز شراؤه منهم كسائر الأموال وإن كان
الذين سبوهم قوم من المسلمين غدروا بأهل الموادعة لم يسمع المسلمون أن يشتروا من
ذلك السبي وان اشتروا رددت البيع لأنهم كانوا في أمان من المسلمين فان أمان بعض
المسلمين كأمان الجماعة ولا يملك المسلمون رقاب المستأمنين وأموالهم بالاحراز وهذا بخلاف
ما لو كان دخل إليهم رجل بأمان ثم استولى عليهم المسلمون لان هناك المسلم ما أمنهم
ولكنهم أمنوه وكيف يقال قد أمنهم وهو مقهور غير ممتنع منهم فلهذا حل للمسلمين
سبيهم وههنا هم في أمان من المسلمين لأنه أمنهم من له منعة من المسلمين وإذا كان
قوم من المسلمين مستأمنين في دار الحرب فأغار على تلك الدار قوم من أهل الحرب لم
يحل لهؤلاء المسلمين أن يقاتلوهم لان في القتال تعريض النفس فلا يحل ذلك الا على
وجه اعلاء كلمة الله عز وجل واعزاز الدين وذلك لا يوجد ههنا لان أحكام أهل الشرك
غالبة فيهم فلا يستطيع المسلمون أن يحكموا بأحكام أهل الاسلام فكان قتالهم في الصورة
97

لاعلاء كلمة الشرك وذلك لا يحل إلا أن يخافوا على أنفسهم من أولئك فحينئذ لا بأس
بأن يقاتلوهم للدفع عن أنفسهم لا لاعلاء كلمة الشرك والأصل فيه حديث جعفر رضي الله عنه
فإنه قاتل بالحبشة مع العدو الذي كان قصد النجاشي وإنما فعل ذلك لأنه لما كان مع
المسلمين يومئذ آمنا عند النجاشي فكان يخاف على نفسه وعلى المسلمين من غيره فعرفنا أنه
لا بأس بذلك عند الخوف وان أغار أهل الحرب الذي فيهم المسلمون المستأمنون على دار
من المسلمين فأسروا ذراري المسلمين إذا كانوا يطيقون القتال لأنهم ما ملكوا ذراري
المسلمين بالاحراز فهم ظالمون في استرقاقهم والمستأمنون ما ضمنوا لهم التقرير على الظلم فلا
يسعهم الا قتالهم لاستنقاذ ذراري المسلمين من أيديهم بخلاف الأموال لأنهم ملكوها
بالاحراز وقد ضمن المستأمنون أن لا يتعرضوا لهم في أموالهم وكذلك أن كانوا أغاروا
على الخوارج وسبوا ذراريهم لأنهم مسلمون فلا تملك ذراريهم بالاحراز بدار الحرب
وكذلك أن كان في بلاد الخوارج الذين أغار عليهم أهل الحرب قوم من أهل العدل لم يسعهم
إلا أن يقاتلوا عن بيضة المسلمين وحريمهم لان الخوارج مسلمون ففي القتال معهم اعزاز الدين
ولأنهم بهذا القتال يدفعون أهل الحرب عن المسلمين ودفع أهل الحرب عن المسلمين
واجب على كل من يقدر عليه فلهذا لا يسعهم إلا أن يقاتلوهم والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب المرتدين)
(قال) رضي الله عنه وإذا ارتد المسلم عرض عليه الاسلام فان أسلم والا قتل مكانه إلا أن
يطلب أن يؤجل فإذا طلب ذلك أجل ثلاثة أيام والأصل في وجوب قتل المرتدين قوله تعالى
أو يسلمون قيل الآية في المرتدين وقال صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وقتل المرتد على
ردته مروى عن علي وابن مسعود ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وهذا لان المرتد
بمنزلة مشركي العرب أو أغلظ منهم جناية فإنهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن
نزل بلغتهم ولم يراعوا حق ذلك حين أشركوا وهذا المرتد كان من أهل دين رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد عرف محاسن شريعته ثم لم يراع ذلك حين ارتد فكما لا يقبل من مشركي
العرب الا السيف أو الاسلام فكذلك من المرتدين إلا أنه إذا طلب التأجيل أجل ثلاثة
أيام لأن الظاهر أنه دخل عليه شبهة ارتد لأجلها فعلينا إزالة تلك الشبهة أو هو يحتاج إلى
98

التفكر ليتبين له الحق فلا يكون ذلك الا بمهلة فان استمهل كان على الامام ان يمهله ومدة
النظر مقدرة بثلاثة أيام في الشرع كما في الخيار فلهذا يمهله ثلاثة أيام لا يزيده على ذلك وإن لم
يطلب التأجيل يقتل من ساعته في ظاهر الرواية وفى النوادر عن أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله تعالى أنه يستحب للامام أن يؤجله ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب وقال الشافعي
رحمه الله تعالى يجب على الامام أن يؤجله ثلاثة أيام ولا يحل له أن يقتله قبل ذلك لما روى
أن رجلا قدم على عمر رضي الله عنه فقال له هل من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد
ايمانه فقال ماذا صنعتم به قال قدمناه فضربنا عنقه فقال هلا طينتم عليه الباب ثلاثة أيام
ورميتم إليه كل يوم برغيف فلعله أن يتوب ويراجع الحق ثم رفع يديه وقال اللهم إني لم
أشهد ولم أرض إذ بلغني وقد روى هذا الحديث بطريق آخر أن عمر رضي الله عنه قال لو
وليت منه مثل الذي وليتم لاستتبته ثلاثة أيام فان تاب والا قتلته فهذا دليل أنه يستحب
الامهال وتأويل اللفظ الأول أنه لعله كان طلب التأجيل إذ كان في ذلك الوقت فقد كان
فيهم من هو حديث عهد بالاسلام فربما يظهر له شبهة ويتوب إذا رفعت شبهته فلهذا كره
ترك الامهال والاستتابة فأما في زماننا فقد استقر حكم الدين وتبين الحق فالاشراك بعد
ذلك قد يكون تعنتا وقد يكون لشبهة دخلت عليه وعلامة ذلك طلب التأجيل وإذا لم يطلب
ذلك فالظاهر أنه متعنت في ذلك فلا بأس بقتله إلا أنه يستحب أن يستتاب لأنه بمنزلة كافر قد
بلغته الدعوة وتجديد الدعوة في حق مثله مستحب وليس بواجب فهذا كذلك قال استتيب
فتاب خلى سبيله ولكن توبته أن يأتي بكلمة الشهادة ويتبرأ عن الأديان كلها سوى الاسلام
أو يتبرأ عما كان انتقل إليه فان تمام الاسلام من اليهودي التبري عن اليهودية ومن النصراني
التبري عن النصرانية ومن المرتد التبري عن كل ملة سوى الاسلام لأنه ليس للمرتد ملة
منفعة وان تبرأ عما انتقل إليه فقد حصل ما هو المقصود فان ارتد ثانيا وثالثا فكذلك يفعل به
في كل مرة فإذا أسلم خلى سبيله لقوله تعالى فان تابوا؟ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا
سبيلهم وكان علي وابن عمر رضي الله عنهما يقولان إذا ارتد رابعا لم تقبل توبته بعد ذلك
ولكن يقتل على كل حال لأنه ظهر أنه مستخف مستهزئ وليس بتائب واستدلا بقوله عز
وجل ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر
لهم ولكنا نقول الآية في حق من ازداد كفر الا في حق من آمن وأظهر التوبة والخشوع فحاله في
99

المرة الرابعة كحاله قبل ذلك وإذا أسلم يجب قبول ذلك منه لقوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام لست مؤمنا وروى أن أسامة بن زيد رضي الله عنه حمل على رجل من
المشركين فقال لا إله إلا الله فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقتلت رجلا قال
لا إله إلا الله من لك بلا إله الا الله يوم القيامة فقال إنما قالها تعوذا فقال هلا شققت عن
قلبه فقال لو فعلت ذلك ما كان يتبين لي فقال صلى الله عليه وسلم فإنما يعبر عن قلبه لسانه
إلا أنه ذكر في النوادر أنه إذا تكرر ذلك منه يضرب ضربا مبرحا لجنايته ثم يحبس إلى أن
يظهر توبته وخشوعه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا فعل ذلك مرارا يقتل غيلة
وهو أن ينتظر فإذا أظهر كلمة الشرك قتل قبل أن يستتاب لأنه قد ظهر منه الاستخفاف
وقتل الكافر الذي بلغته الدعوة قبل الاستتابة جائز فان أبى المرتد أن يسلم فقتل كان ميراثه
بين ورثته المسلمين على فرائض الله تعالى في قول علمائنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ماله
فئ يوضع في بيت مال المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر والمرتد
كافر فلا يرثه المسلم ولان المرتد لا يرث أحدا فلا يرثه أحد كالرقيق يوضحه أنه لا يرثه
من يوافقه في الملة والموافقة في الملة سبب التوريث والمخالفة في الملة سبب الحرمان فلما لم
يرثه من يوافقه في الملة مع وجود سبب التوريث فلأن لا يرثه من يخالفه في الملة أولى وإذا
انتفي التوريث عن ماله فهو في أحد الوجهين لأنه مال حربي لا أمان له فيكون فيئا للمسلمين
وفى الوجه الآخر هو مال ضائع فمصيبه بيت المال كالذمي إذا مات ولا وارث له من الكفار
يوضع ماله في بيت المال (وحجتنا) في ذلك ظاهر قوله تعالى ان امرؤ هلك ليس له ولد
وله أخت فلها نصف ما ترك والمرتد هالك لأنه ارتكب جريمة استحق بها نفسه فيكون هالكا
ولما مات عبد الله بن أبي سلول جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله لورثته المسلمين
وهو كان مرتدا وإن كان منافقا فقد شهد الله بكفره بعد الايمان وفيه نزل قوله تعالي ان
الذين آمنوا ثم كفروا وان عليا رضي الله عنه قتل المستورد العجلي على الردة وقسم ماله بين
ورثته المسلمين وذلك مروي عن ابن مسعود ومعاذ رضى الله تعالى عنهما والمعنى فيه أنه كان
مسلما مالكا لماله فإذا تم هلاكه يخلفه وارثه في ماله كما لو مات المسلم وتحقيق هذا الكلام
أن الردة هلاك فإنه يصير به حربا وأهل الحرب في حق المسلمين كالموتى إلا أن تمام هلاكه
حقيقة بالقتل أو الموت فإذا تم ذلك استند التوريث إلى أول الردة وقد كان مسلما عند ذلك
100

فيخلفه وارثه المسلم في ماله ويكون هذا توريث المسلم من المسلم وهذا لان الحكم عند
تمام سببه يثبت من أول السبب كالبيع بشرط الخيار إذا أجيز يثبت الملك من وقت العقد
حتى يستحق المبيع بزوائد المتصلة والمنفصلة جميعا فعلى هذا الطريق يكون فيه توريث
المسلم من المسلم (فان قيل) زوال ملكه اما أن يكون قبل الردة أو معها أو بعدها والحكم
لا يسبق السبب ولا يقترن به بل يعقبه وبعد الردة هو كافر (قلنا) نعم المزيل للملك
ردته كما أن المزيل للملك موت المسلم ثم الموت يزيل الملك عن الحي لا عن الميت فكذلك
الردة تزيل الملك عن المسلم وكما أن الردة تزيل ملكه فكذلك تزيل عصمة نفسه وإنما
تزيل العصمة عن معصوم لا عن غير معصوم فعرفنا أنه يتحقق بهذا الطريق توريث
المسلم من المسلم ولهذا لا يرثه ورثته الكفار لان التوريث من المسلم والكافر لا يرث المسلم
وهو دليلنا فإنه كان تعلق باسلامه حكمان حرمان ورثته الكفار وتوريث ورثته المسلمين
ثم بقي أحد الحكمين بعد ردته باعتبار أنه مبقى على حكم الاسلام فكذلك الحكم الآخر
وإنما لا يرث المرتد أحد لجنايته فهو كالقاتل لا يرث المقتول لجنايته ويرثه المقتول لو مات
القاتل قبله ولأنه لا وجه لجعل ماله فيئا فان هذا المال كان محرزا بدار الاسلام ولم
يبطل ذلك الاحراز بردته حتى لا يغنم في حياته والمال المحرز بدار الاسلام لا يكون فيئا
وبهذا تبين ثبوت حق الورثة فيه لأنه إنما لا يغنم في حياته لألحقه فإنه لا حرمة له بل لحق
الورثة فكذلك بعد موته وان قال يوضع في بيت المال ليكون للمسلمين باعتبار أنه مال ضائع
(قلنا) المسلمون يستحقون ذلك بالاسلام وورثته ساووا المسلمين في الاسلام وترجحوا
عليهم بالقرابة وذو السببين مقدم في الاستحقاق على ذي سبب واحد فكان الصرف إليهم
أولى فأما ما اكتسب في حال ردته فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو فئ يوضع في
بيت المال وعندهما هو ميراث لورثته المسلمين لان كسبه يوقف على أن يسلم له بالاسلام
فيخلفه وارثه فيه بعد موته ككسب الاسلام وما ذكرنا من المعاني يجمع؟ الكسبين وليس
في الردة أكثر من أنه صار به مشرفا على الهلاك فيكون كالمريض والمكتسب في مرض
الموت كالمكتسب في الصحة في حكم الإرث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الوراثة خلافة
في الملك والردة تنافى بقاء الملك فتنافي ابتداء الملك بطريق الأولى فما اكتسب في اسلامه
كان مملوكا له فيخلفه وارثه فيه إذا تم انقطاع حقه عنه وكسب الردة لم يكن مملوكا له لقيام
101

المنافى عند الاكتساب وإنما كان له حق ان يتملك ان لو أسلم والوارث لا يخلفه في مثل
هذا الحق فبقي هذا مالا ضائعا بعد موته يوضع في بيت المال والأصح ان نقول اسناد
التوريث إلى أول الردة في كسب الاسلام ممكن لان السبب يعمل في المحل والمحل كان
موجودا عند أول الردة فاما اسناد التوريث في كسب الردة غير ممكن لانعدام المجل عند
السبب في هذا الكسب فلو ثبت فيه حكم التوريث ثبت مقصورا على الحال وهو كافر
بعد الاكتساب والمسلم لا يرث الكافر فيبقى موقوفا على أن يسلم له بالاسلام فإذا زال ذلك
بأن مات أو قتل فهذا كسب حربي لا أمان له فيكون فيئا للمسلمين يوضع في بيت مالهم
ثم اختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيمن يرث المرتد فروي الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى أنه من كان وارثا له وقت ردته وبقي إلى موت المرتد فإنه يرثه ومن
حدث له صفة الوراثة بعد ذلك لا يرثه حتى لو أسلم بعض قرابته بعد ردته أو ولد له من
علوق حادث بعد ردته فإنه لا يرثه على هذه الرواية لان سبب التوريث الردة فمن لم يكن
موجودا عند ذلك السبب لم ينعقد له سبب الاستحقاق ثم تمام الاستحقاق بالموت فإنما
يتم في حق من أنعقد له السبب لا في حق من لم ينعقد له السبب ثم في حق من أنعقد له
السبب يشترط بقاؤه إلى وقت تمام الاستحقاق فإذا مات قبل ذلك يبطل السبب في حقه كما
في بيع الموقوف يتم الملك عند الإجازة من وقت السبب ولكن بشرط قيام المعقود عليه
عند الإجازة حتى إذا هلك قبل ذلك بطل السبب وفى رواية أبى يوسف عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى يعتبر وجود الوارث وقت الردة ثم لا يبطل اسحقاقه بموته قبل موت
المرتد لان الردة في حكم التوريث كالموت ومن مات من الورثة بعد موت المورث قبل قسمة
ميراثه لا يبطل استحاقه ولكن يخلفه وارثه فيه فهذا مثله وأما رواية محمد عن أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى وهو الأصح انه يعتبر من يكون وارثا له حين مات أو قتل سواء كان موجودا
عند الردة أو حدث بعده لان الحادث بعد انعقاد السبب قبل تمامه يجعل كالموجود عند
ابتداء السبب الا ترى ان الزيادة التي تحدث من المبيع قبل القبض تجعل كالموجود عند ابتداء
العقد في أنه يصير معقودا عليه بالقبض ويكون له حصة من الثمن؟ فههنا أيضا من يحدث
قبل انعقاد السبب يجعل كالموجود عند ابتداء السبب ولو تصور بعد الموت الحقيقي ولد
له من علوق حادث لكنا نجعله كذلك أيضا إلا أن ذلك لا يتصور فأما بعد الهلاك بالحكم بالردة
102

يتصور فيجعل الحادث كالموجود عند ابتداء السبب وكذلك أن لحق بدار الحرب قسم
الامام ماله بين ورثته وكان لحاقه بدار الحرب بمنزلة موته وعند الشافعي رحمه الله تعالى يبقى
ماله بعد لحاقه موقوفا كما كان قبل لحاقه لن ذهابه إلى دار الحرب نوع غيبة فلا يتغير به
حكم ماله كما لو كان مترددا في دار الاسلام ولكنا نقول إنه صار حربيا حقيقة وحكما لأنه
قد أبطل حياة نفسه بدار الحرب حين عاد إلى دار الحرب حربا للمسلمين والحربي في دار
الحرب كالميت في حق المسلمين قال الله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وقد قررنا هذا
في النكاح في مسألة تباين الدارين ولأنه قد خرج من يد الامام حقيقة وحكما ولو كان في
يده لموته حقيقة بان يقتله ويقسم ماله فإذا عجز عن ذلك بخروجه عن يده موته حكما
فيقسم ماله بين ورثته وحكم بعتق أمهات أولاده ومدبريه وبحلول آجاله ثم قال أبو يوسف
يعتبر من يكون وارثا له وقت قضاء القاضي بلحاقه وعند محمد وقت لحاقه وهذا لان عندهما
ملكه لا يزول بالردة ولهذا ينفذ تصرف المرتد عندهما على ما نبينه فإنما زوال ملكه
بسبب الردة عند لحاقه فيعتبر وارثه عند ذلك ولحاقه موت حكمي فهو كالموت الحقيقي
بالقتل ولكن أبو يوسف يقول اللحاق في الحقيقة غيبة وإنما يصير موتا حكما بقضاء القاضي
فيعتبر من يكون وارثا له عند القضاء باللحاق في استحقاق ماله وكذلك ترث منه امرأته
ان كانت في العدة لان النكاح بينهما وان ارتفع بنفس الردة لكنه فار عن ميراثها وامرأة
الفار ترث إذا كانت في العدة عند موته وعلى رواية أبي يوسف ترث وان كانت منقضية
العدة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان سبب التوريث كان موجودا في حقها عند ردته
وعلى تلك الرواية إنما يعتبر قيام السبب عند أول الردة وتبطل وصاياه لان تنفيذ الوصايا
لحق الموصى ولم يبق له حق بعدما قتل على الردة أو لحق بدار الحرب وهذا بخلاف التدبير
فان حق العبد في العتق بالتدبير قد ثبت للمدبر فيكون عتقه كعتق أم الولد أو حقه كحق
أصحاب الديون وفى الكتاب يقول ردته كرجوعه عن الوصية لأنه بالردة يبطل حقه وتنفيذ
الوصية كان لحقه فرجوعه يعمل في ابطال وصاياه ولا يعمل في ابطال تدبيره فكذلك ردته
وهو لا يفعل شيئا من ذلك ما دام المرتد مقيما في دار الاسلام لأنه في يده حقيقة وحكما
فيموته بالقتل حقيقة إن لم يسلم أولا ثم يقسم ماله وان فعل ذلك بعد لحاقه بدار الحرب ثم
رجع تائبا قد مضى جميع ما فعله الامام غير أنه إذا وجد شيئا من ملكه بعينه في يد وارثه أخذه
103

منه لان الوراثة خلافة والخلف يسقط اعتباره إذا ظهر الأصل ولما جاء تائبا فقد صار حيا
حكما وإنما كانت خلافة الوارث إياه في هذا الملك كموته حكما فإذا انعدم ذلك ظهر حكم
الأصل ولهذا قلنا لو كان الوارث كاتب عبدا يعاد إليه ذلك العبد مكاتبا لان الحكم لا يكون
منتقلا من الخلف إلى الأصل وتأثير الكتابة في منع النقل ولكن ينعدم الخلف بظهور
الأصل فيكون الملك لصاحب الأصل بطريق البقاء ولا يعاد إليه شئ مما باعه وارثه لان
الأصل والخلف في الحكم فلا بد من قيامه عند ظهور الأصل ليكون عاملا وما تصرف
الوارث من بيع أو غيره فهو نافذ منه لمصادفته ملكه ولا ضمان عليه في شئ مما أتلفه
لان الملك كان خالصا له وفعله فيما خلص حقا له لا يكون سبب الضمان فلو لم يفعل الامام
شيئا من ذلك حتى رجع تائبا فجميع ذلك له كما كان قبل ردته لان اللحاق قبل أن يتصل به
القضاء بمنزلة الغيبة فهو والمتردد في دار الاسلام في الحكم سواء (قال) وجميع ما فعل
المرتد في حال ردته من بيع أو شراء أو عتق أو تدبير أو كتابة باطل ان لحق بدار
الحرب وقسم الامام ماله والحاصل أن تصرفات المرتد أربعة أنواع نوع منها نافذ بالاتفاق
وهو الاستيلاد حتى إذا جاءت جاريته بولد فادعى نسبه ثبت النسب منه وورث هذا الولد
مع ورثته وكانت الجارية أم ولد له لان حقه في ملكة أقوى من حق الأب في جارية ولده
واستيلاد الأب صحيح فاستيلاد المرتد أولى لأنها موقوفة على حكم ملكه حتى إذا أسلم
كانت مملوكة له وحقه فيها أقوى من حق المولى في كسب المكاتب وهناك يصح منه
دعوة النسب فههنا أولى الا ان هناك يحتاج إلى تصديق المكاتب لاختصاصه بملك اليد
والتصرف وههنا لا يحتاج إلى تصديق الورثة لأنه لم يثبت لهم ملك اليد والتصرف في الحال
ومنها ما هو بالاتفاق باطل في الحال كالنكاح والذبيحة لان الحل بهما يعتمد الملة ولا ملة
للمرتد فقد ترك ما كان عليه وهو غير مقر على ما اعتمده ومنها ما هو موقوف بالاتفاق
وهو المفاوضة فإنه إذا شارك غيره شركة مفاوضة توقف صفة المفاوضة بالاتفاق وان
اختلفوا في توقف أصل الشركة ومنها ما هو مختلف فيه وهو سائر تصرفاته عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى يتوقف بين أن ينفذ بالاسلام أو يبطل إذا مات أو قتل على الردة أو لحق
بدار الحرب وعندهما نافذ إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول ينفذ كما ينفذ من الصحيح
حتى يعتبر تبرعاته من جميع المال وعند محمد رحمه الله تعالى ينفذ كما ينفذ من المريض
104

وحجتهما في ذلك أنه من أهل التصرف لاقي تصرفه ملكه فينفذ وبيان ذلك أن التصرف
قول والأهلية له باعتبار قوله شرعا ولا ينعدم ذلك بالردة والمالكية باعتبار صفة الحرية ولا
ينعدم ذلك بالردة إنما تأثير ردته في إباحة دمه وذلك لا يحصل بالمالكية كالمقضى عليه بالرجم
والقصاص والدليل عليه أن تصرف المكاتب بعد الردة نافذ بالاتفاق وحال الحر في التصرف
فوق حال المكاتب فإذا كانت الردة لا تنافي ملك اليد الذي ينبني عليه تصرف المكاتب
حتى ينفذ تصرفه فلأن لا ينافي ملك الحر وتصرفه أولى إلا أن محمد رحمه الله تعالى قال
هو مشرف على الهلاك فيكون بمنزلة المريض في التصرف ألا ترى أن زوجته ترثه بحكم
الفرار وذلك لا يتحقق الا في المريض وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هو متمكن من
دفع الهلاك عن نفسه بسبب يستحق عليه مرغوب فيه فلا يصير في حكم المريض كمن
قصد أن يلقى نفسه من شاهق جبل لا يصير به في حكم المريض يوضحه أن المقضى
عليه بالرجم والقصاص لا يصير كالمريض ما دام في السجن لتمكنه من دفع الهلاك عن نفسه
بادعاء شبهة فالمرتد أولى وأبو حنيفة يقول بالردة يزول ملكه عن المال وكان موقوفا على
العود إليه بالاسلام وتصرفه بحكم الملك فيتوقف بتوقف الملك ودليل الوصف ان المالكية
عبارة عن القدرة والاستيلاء وإنما يكون ذلك حكما باعتبار العصمة الا ترى ان الشرع
جعل عصمة النفس والمال بسبب واحد ثم عصمة نفسه تزول بالردة حتى يقتل فكذلك
عصمة ماله والدليل عليه أنه هالك حكما وإذا كان الهلاك حقيقة ينافي مالكية المال ولا
ينافي توقف المال على حقه كالتركة المستغرقة بالدين فكذلك الهلاك الحكمي ولان تأثير
الردة في نفي المالكية فوق تأثير الرق فان الرق ينافي مالكية المال ولا ينافي مالكية النكاح
والردة تنافيهما وهذا بخلاف المقضي عليه بالقصاص والرجم فهناك لم يزل ما به عصمة المال
والنفس وإنما استحق عليه نفسه بما هو من حقوق تلك العصمة فيبقى مالكا حقيقة لبقاء
عصمة ماله وقد انعدم ههنا ما به كانت العصمة في حق النفس فكذلك في حق المال لأنها
تابعة للنفس في العصمة بخلاف المكاتب فان تصرفه باعتبار عقد الكتابة والردة لا تؤثر فيه
ألا تري أن الهلاك الحقيقي لا يمنع بقاء الكتابة فالهلاك الحكمي أولى ولهذا نفذ تصرف
المكاتب بعد لحاقه بدار الحرب وههنا بالاتفاق لا ينفذ تصرفه في ماله بعد لحاقه بل يتوقف
فكذلك قبل لحاقه لان الهلاك بردته لا بلحاقه وكذلك التوريث باعتبار ردته على ما قررنا
105

أنه يستند التوريث إلى أول الردة ليكون فيه توريث المسلم من المسلم والدليل عليه أنه بالردة
صار حربيا ولهذا يقتل والحربي المقهور في أيدينا يتوقف تصرفه كالمأسورين إلا أن هناك
توقف حالهم بين الاسترقاق والقتل والمن ههنا بين القتل والإسلام ثم توقف تصرفهم
هناك لتوقف حالهم فكذلك ههنا وإذا أعتق المرتد عبده ثم أعتقه ابنه أيضا ولا وارث له غيره
لم يجز عتق واحد منهما اما عتق المرتد فكان موقوفا فبموته يبطل واما عتق الوارث فقد سبق
ملكه لان قبول موت المرتد لا ملك للوارث في ماله بل الملك موقوف على حق المرتد فلا
ينفذ تصرف الوارث وهذا بخلاف التركة المستغرقة بالدين إذا أعتق الوارث عبدا منها ثم
سقط الدين لا سبب التوريث هناك قد تم والتوقف لحق الغرماء والعتق بعد تمام سبب الملك
لا يتوقف وههنا أصل السبب انعقد بالردة ولكن لا يتم لقيام الأصل حقيقة وحكما والخلافة
تكون بعد فوات الأصل فلهذا لا تنفذ تصرفات لوارث وان ملك بعد ذلك وإذا مات الابن وله
معتق والأب مرتد ثم مات الأب وله معتق كان ميراث الأب لمعتقه دون معتق الابن لما بينا ان
أصل السبب وان انعقد بالردة فإذا مات الابن قبل وقت تمام السبب بطل ذلك لان بقاءه إلى
وقت تمام السبب شرط وقد بينا اختلاف الرواية في هذا الفصل وما اكتسبه في ردته فهو فئ
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهما يستدلان على أبي حنيفة رحمه الله تعالى بكسب الردة أنه
ينفذ تصرفه فيه حتى لو قضى دينه بكسب ردته أو رهنه بدين عليه كان صحيحا فكذلك
كسب الاسلام ومن أصحابنا من سلم واشتغل بالفرق فقال تصرفه في كسب الردة باعتبار
أنه كسبه لا باعتبار أنه ملكه لان الردة تنافي الملك فاما في كسب الاسلام تصرفه باعتبار
ملكه وقد بينا توقف ملكه والأصح ان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف تصرفه في
الكسبين جميعا ويبطل ذلك بموته واختلفت الروايات عنه في قضاء ديونه فروى أبو يوسف
عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يقضي ديونه من كسب الردة فإن لم يف بذلك فحينئذ
من كسب الاسلام لان كسب الاسلام حق ورثته ولا حق لورثته في كسب ردته بل هو
خالص حقه فلهذا كان فيئا إذا قتل فكان وفاء الدين من خالص حقه أولى فعلى هذا نقول
عقد الرهن لقضاء الدين وإذا قضى دينه من كسب الردة أو رهنه بالدين فقد فعل عين
ما كان يحق فعله فلهذا كان نافذا وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يبدأ
بكسب الاسلام في قضاء ديونه فإن لم تف بذلك فحينئذ من كسب الردة لان قضاء الدين من
106

ملك المديون وكسب الاسلام كان مملوكا له ولهذا يخلفه الوارث فيه وخلافة الوارث بعد
الفراغ من حقه فأما كسب الردة لم يكن مملوكا له فلا يقضي دينه منه الا إذا تعذر قضاؤه
من محل آخر فعلى هذا لا ينفذ تصرفه في الرهن وقضاء الدين من كسب الردة إذا كان في
كسب الاسلام وفاء بذلك وروي زفر عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن ديون اسلامه
تقضى من كسب الاسلام وما استدان في الردة يقضي من كسب الردة لان المستحق
للكسبين مختلف وحصول كل واحد من الكسبين باعتبار السبب الذي وجب به الدين فيقضى
كل دين من الكسب المكتسب في تلك الحالة ليكون الغرم بمقابلة الغنم وبه أخذ زفر رحمه الله
تعالى وان جنى المرتد جناية لم يعقله العاقلة لان تحمل العقل باعتبار معني النصرة وهو أن
تمكنه من الجناية بقوة العاقلة وأحد لا ينصر المرتد أو ذلك للتخفيف على الجاني لعذر الخطأ
والمرتد غير مستحق للتخفيف فيكون الأرش في ماله وكذلك ما غصب وأتلف من أموال
الناس فذلك كله دين عليه وإن لم يكن له مال الا ما اكتسبه في ردته كان ذلك كله فيه لأنه
كسبه فيكون مصروفا إلى دينه ككسب المكاتب والجناية على المرتد هدر لان اعتبار الجناية
عليه لعصمة نفسه وقد انعدمت العصمة بردته فكانت الجناية عليه هدرا مسلم قطع يد مسلم
عمدا أو خطأ ثم ارتد المقطوعة يده عن الاسلام فمات أو قتل أو لحق بدار الحرب فعلى القاطع
دية اليد في ماله إن كان عمدا وعلى عاقلته إن كان خطأ لان قطع اليد كانت جناية موجبة للضمان
وقد انقطعت السراية بزوال عصمة نفسه بالردة فصار كما لو أنقطع بالبرء فيلزمه دية اليد فقط
وان أسلم قبل اللحوق بدار الحرب ثم مات من تلك الجناية فعلى قول أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله عليه دية النفس استحسانا وعند محمد وزفر رحمهما الله ليس عليه الا دية اليد قياسا
لان السراية قد انقطعت بزوال عصمة نفسه بالردة ثم بالاسلام بعد ذلك لا يتبين أن العصمة
لم تكن زائلة فحكم السراية بعدما انقطع لا يعود وكان موته من تلك الجناية وموته بسبب
آخر سواء ألا ترى أنه لو لحق بدار الحرب ثم عاد ثانيا فمات من تلك الجناية لم يجب على
القاطع الا دية اليد فكذلك قبل اللحوق ولان اعتبار الجناية والسرية لحقه بعد سقوط
حقه بالردة فيصير هو كالمبرئ عن سراية تلك الجناية كما لو قطع يد عبد ثم أعتقه مولاه
أو باعه صار مبرئا عن السراية بإزالة ملكه وبعد ما صح الابراء ليس له ولاية إعادة حقه في
السراية فكان وجود اسلامه في حكم السراية كعدمه وهما يقولان حقه توقف بالردة على ما قررنا
107

فإذا أسلم زال التوقف فصار ما اعترض كأن لم يكن بخلاف العبد إذا باعه أو أعتقه فقد تم
زوال ملكه هناك واعتبار الجناية كأن لملكه يوضح الفرق ان ضمان الجناية في المماليك
باعتبار صفة المملوكية ولهذا يجب الضمان لتمكن النقصان في المالية شيئا فشيئا وقد انعدم ذلك
بالعتق أصلا وبالبيع في حق من كان مستحقا له فاما وجوب ضمان الجزء باعتبار النفسية ولا
ينعدم بالردة ولكن العصمة شرط فإنما يراعى وجوده عند ابتداء السبب لينعقد موجبا وعند
تقرره بالموت لتقرر الحكم فلا يعتبر فيه بقاء العصمة وهو نظير ما لو قال لعبده ان دخلت
الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار يعتق لهذا المعني فاما إذا لحق بدار الحرب فإن كان
القاضي قضى بلحاقه فقد صار ميتا حكما وبقاء حكم الجناية باعتبار بقاء النفسية وذلك
لا يتحقق بعد موته حكما إذ لا تصور لبقاء الحكم بدون المحل وإذا لم يقض القاضي بلحاقه
فالأصح انه على الخلاف فمن أصحابنا من سلم وقال بنفس اللحاق صار حربيا والحربي في
حق من هو في دار الاسلام كالميت ولهذا لو كانت امرأة تسترق كسائر الحربيات فيتم به
انقطاع حكم السراية بخلاف ما قبل لحاقه بدار الحرب يوضحه ان الردة عارض فإذا زال
قبل تقرره صار كأن لم يكن كالعصير المشترى إذا تخمر قبل القبض ثم تخلل بقي العقد
صحيحا ولا يعتبر زواله بعد تقرره كما في العصير إذا تخمر فقضى القاضي بفسخ العقد ثم تخلل
وباللحاق قد تقرر خصوصا إذا قضى به القاضي فلا يعتبر زواله بعد ذلك بخلاف ما قبل
اللحاق وإن كان القاطع هو الذي ارتد فقتل ومات المقطوعة يده من ذلك مسلما فإن كان
عمدا فلا شئ له لان الواجب في العمد القود وقد فات محله حين قتل على ردته أو مات
وإن كان خطأ فعلى عاقلة القاطع دية النفس لأنه عند الجناية كان مسلما وجناية المسلم إذا
كانت خطأ على عاقلته وتبين بالسراية ان جنايته كانت قتلا فلهذا كان على عاقلته دية
النفس وان كانت الجناية منه في حال ردته كانت الدية في الخطأ في ماله لما بينا ان المرتد
لا يعقل جنايته أحد ولا تقتل المرتدة ولكنها تحبس وتجبر على الاسلام عندنا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى تقتل إن لم تسلم وهكذا يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى في
الابتداء ثم رجع وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى انها تخرج في كل قليل وتعذر
تسعة وثلاثين سوطا ثم تعاد إلى الحبس إلى أن تتوب أو تموت واستدل الشافعي بقوله
صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وهذه الكلمة تعم الرجال والنساء كقوله تعالى
108

فمن شهد منكم الشهر فليصمه وتبين ان الموجب للقتل تبديل الدين لان مثل هذا في لسان
صاحب الشرع لبيان العلة وقد تحقق تبديل الدين منها وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم قتل مرتدة يقال لها أم مروان وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قتل مرتدة يقال لها
أم فرقة ولأنها اعتقدت دينا باطلا بعدما اعترفت ببطلانه فتقتل كالرجل وهذا لان القتل
جزاء على الردة لان الرجوع عن الاقرار بالحق من أعظم الجرائم ولهذا كان قتل المرتد
من خالص حق الله تعالى وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء وفى أجزية الجرائم
الرجال والنساء سواء كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر وبهذا تبين أن الجناية بالردة أغلظ
من الجناية بالكفر الأصلي فان الانكار بعد الاقرار أغلظ من الاصرار في الابتداء على
الانكار كما في سائر الحقوق وبأن كانت لا تقتل إذا لم تتغلظ جنايتها فذلك لا يدل على
أنها لا تقتل إذا تغلظت جنايتها ثم في الكفر الأصلي إذا تغلظت جنايتها بأن كانت مقاتلة أو
ساحرة أو ملكة تحرض على القتال تقتل فكذلك بعد الردة والدليل عليه انها تحبس وتعزر
وتجبر على الاسلام بعد الردة ولا يفعل ذلك بها في الكفر الأصلي وكذلك الشيوخ وأصحاب
الصوامع والرهبان يقتلون بعد الردة ولا يقتلون في الكفر الأصلي وذوو الاعذار كالأعمى
والزمن كذلك وكذلك الرق في الكفر الأصلي يمنع القتل وهو ما إذا استرق الأسير وفى
الردة لا يمنع ثم في الكفر الأصلي لا تسلم لها نفسها حتى تسترق لينتفع المسلمون بها
فكذلك بعد الردة وبالاتفاق لا تسترق في دار الاسلام فقلنا إنها تقتل (وحجتنا) في
ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء وفيه حديثان أحدهما ما رواه رباح بن
ربيعة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بعض الغزوات قوما مجتمعين
على شئ فسأل عن ذلك فقالوا ينظرون إلى امرأة مقتولة فقال لواحد أدرك خالدا وقل
له لا يقتلن عسيفا ولا ذرية والثاني حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فقال من قتل هذه قال رجل أنا يا رسول الله أردفتها
خلفي فأهوت إلى سيفي لتقتلني فقتلتها فقال ما شأن قتل النساء وارها ولا تعدو لما رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة امرأة مقتولة فقال ها ما كانت هذه
تقاتل ففي هذا بيان أن استحقاق القتل بعلة القتال وأن النساء لا يقتلن لأنهن لا يقاتلن وفى
هذا لا فرق بين الكفر الأصلي وبين الكفر الطارئ وما روى من الحديث غير مجرى
109

على ظاهره فالتبديل يتحقق من الكافر إذا أسلم فعرفنا أنه عام لحقه خصوص فنخصه
ونحمله على الرجال بدليل ما ذكرنا والمرتدة التي قتلت كانت مقاتلة فان أم مروان كانت
تقاتل وتحرض علي القتال وكانت مطاعة فيهم وأم قرفة كان لها ثلاثون ابنا وكانت تحرضهم
على قتال المسلمين ففي قتلها كسر شوكتهم ويحتمل أنه كان ذلك من الصديق رضي الله عنه
بطريق المصلحة والسياسة كما أمر بقطع يد النساء اللاتي ضربن الدف لموت رسول الله صلى
الله عليه وسلم لاظهار الشماتة والمعنى فيه أنها كافرة فلا تقتل كالأصلية وهذا لان القتل
ليس بجزاء على الردة بل هو مستحق باعتبار الاصرار على الكفر ألا ترى أنه لو أسلم
يسقط لانعدام الاصرار وما يكون مستحقا جزاء لا يسقط بالتوبة كالحدود فإنه بعدما ظهر
سببها عند الامام لا تسقط بالتوبة وحد قطاع الطريق لا يسقط بالتوبة بل توبته برد المال
قبل أن يقدر عليه فلا يظهر السبب عند الامام بعد ذلك يقرره ان تبديل الدين وأصل الكفر
من أعظم الجنايات ولكنها بين العبد وبين ربه فالجزاء عليها مؤخر إلي دار الجزاء وما عجل
في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد كالقصاص لصيانة النفوس وحد الزنا
لصيانة الأنساب والفرش وحد السرقة لصيانة الأموال وحد القذف لصيانة الاعراض وحد
الخمر لصيانة العقول وبالاصرار على الكفر يكون محاربا للمسلمين فيقتل لدفع المحاربة إلا أن
الله تعالى نص علي العلة في بعض المواضع بقوله تعالى فان قاتلوكم فاقتلوهم وعلى السبب
الداعي إلى العلة في بعض المواضع وهو الشرك فإذا ثبت أن القتل باعتبار المحاربة وليس
للمرأة بنية صالحة للمحاربة فلا تقتل في الكفر الأصلي ولا في الكفر الطارئ ولكنها تحبس
فالحبس مشروع في حقها في الكفر الأصلي فإنها تسترق والاسترقاق حبس نفسها عنها ثم
الحبس مشروع في حق كل من رجع عما أقربه كما في سائر الحقوق وليس ذلك باعتبار
الكفر ولا باعتبار المحاربة وما يدعى من تغلظ الجناية لا يقوي فالرجوع عن الاقرار والاصرار
على الانكار بعد قيام الحجة في الجناية سواء مع أن الجناية في الاصرار أغلظ من وجه لأنه
بعد الردة لا يقر علي ما اعتقده والشئ قبل تقرره يكون أضعف منه بعد تقرره ولو سلمنا
تغلظ الجناية فإنما يعتبر بمن يغلظ جنايتها في الكفر الأصلي المشركة العربية فكما لا تقتل تلك
فكذلك لا تقتل هذه وإذا كانت مقاتلة أو ملكة أو ساحرة فقتلها الدفع وبدون القتل
ههنا يحصل المقصود إذا حبست وأجبرت كما بينا على الاسلام وأما الرق لا يمنع القتل في
110

الكفر الأصلي فإنه تقتل عبيدهم كأحرارهم وإنما الاسترقاق بمنزلة اعطاء الأمان وبعقد
الذمة ينتهي القتال في حق من يجوز أخذ الجزية منه لا في حق من لا يجوز أخذ
الجزية منه كما في مشركي العرب والمرتدون لا تؤخذ منهم الجزية فلهذا لا ينتهى القتال
في حقهم بعقد الذمة والشيخ إذا كان له رأى يقتل في الكفر الأصلي والردة لا تتصور
الا ممن له رأى والترهب لا يتحقق بعد الاسلام لان القيام بنصرة دين الحق واجب
على كل مسلم قال صلى الله عليه وسلم لا رهبانية في الاسلام وبدون تحقق السبب
لا يثبت الحكم واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في ذوي الأعذار من مشركي العرب فمنهم
من يقول يقتلون في الكفر الأصلي لان حلول الآفة كعقد الذمة فإنه ينعدم به القتال فمن
لا يسقط القتال عنه بعقد الذمة في الكفر الأصلي فكذلك بحلول الآفة فعلى هذا القول
ذوو الاعذار من المرتدين يقتلون وقيل حلول الآفة بمنزلة الأنوثة لأنه تخرج به بنيته من
أن تكون صالحة للقتال فعلى هذا القول لا يقتلون بعد الردة كما لا يقتلون في الكفر الأصلي
وإذا ثبت أن المرتدة لا تقتل قلنا تسترق إذا لحقت بدار الحرب لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم
فان بني حنيفة لما ارتدوا استرق أبو بكر رضي الله عنه نساءهم وأصاب علي رضي الله عنه
جارية من ذلك السبي فولدت له محمد بن حنفية رحمهما الله تعالى وذكر عاصم عن أبي
رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما في النساء إذا ارتددن بسببين ولا يقتلن وهذا لأنها
كالحربية والاسترقاق مشروع في الحربيات وما دامت في دار الاسلام في ظاهر الرواية
لا تسترق لان حريتها المتأكدة بالاحراز لم تبطل بنفس الردة وهي دافعة للاسترقاق ولان
دار الاسلام ليست بدار الاسترقاق وفي النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله انها تسترق لأنا
لما جعلنا المرتد بمنزلة حربي مقهور لا أمان له فكذلك المرتدة بمنزلة حربية مقهورة لا أمان
لها فتسترق وان كانت في دارنا فان تصرفت في مالها بعد الردة نفذ تصرفها ما دامت في دار
الاسلام لأنها تصرفت في خالص ملكها بخلاف الرجل على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وأشار إلى الفرق قال المرأة لا تقتل والرجل يقتل ومعنى هذا ان عصمة المال تبع لعصمة
النفس فبالردة لا تزول عصمة نفسها حتى لا تقتل فكذلك عصمة مالها بخلاف الرجل
ولهذا استوت بالرجل في التصرف بعد اللحوق لان عصمة نفسها تزول بلحاقها حتى تسترق
والاسترقاق اتلاف حكما فكذلك عصمة مالها فان ماتت في الحبس أو لحقت بدار الحرب
111

قسم مالها بين ورثتها ويستوي في ذلك كسب اسلامها وكسب ردتها لما بينا ان العصمة
باقية بعد ردتها فكان كل واحد من الكسبين ملكها فيكون ميراثا لورثتها ولا ميراث
لزوجها منها لأنها بنفس الردة قد بانت منه ولم تصر مشرفة علي الهلاك فلا تكون في حكم
الفارة المريضة ولزوجها ان يتزوج بأختها بعد لحاقها قبل انقضاء عدتها لأنها صارت حربية
فكانت كالميتة في حقه وبعد موتها له ان يتزوج أختها ولأنه لا عدة على الحربية من المسلم
لأن العدة فيها حق الزوج وتباين الدارين مناف له فان سبيت أو عادت مسلمة لم يضر ذلك
نكاح الأخت لأنه بعدما سقطت العدة عنها لا تعود معتدة ثم إن جاءت مسلمة فلها ان
تتزوج من ساعتها لأنها فارغة عن النكاح والعدة وان سبيت أجبرت على الاسلام كما
كانت تجبر عليه قبل لحاقها وان ولدت بأرض الحرب ثم سبيت ومعها ولدها كان ولدها
فيئا معها لان ولدها بمنزلتها وهي حربية تسترق فكذلك ولدها وإذا رفعت المرتدة إلى الامام
فقالت ما ارتددت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهذا توبة منها لما بينا
ان توبة المرتد بالاقرار بكلمة الشهادتين والتبري عما كان انتقل إليه وقد حصل ذلك فإنه
بالانكار يحصل نهاية التبري فلهذا كان ذلك توبة من الرجل والمرأة جميعا ويقتل المملوك على
الردة لأنه محارب كالحر وكسبه إذا قتل لمولاه لأنه بملك الرقبة يخلفه في ملك الكسب
ولا تقتل المملوكة وتحبس لأنها ليس لها بنية صالحة للقتال كالحرة وإذا كان أهلها يحتاجون
إلى خدمتها دفعتها إليهم وأمرتهم باجبارها على الاسلام لان حق العبد في المحل مقدم على
حق الله تعالى لحاجة العبد ولان الجمع بين الحقين ممكن فان حق الله تعالى في إجبارها
على الاسلام ومولاها ينوب في ذلك عن الامام فتدفع إليه ليستخدمها ويجبرها على
الاسلام وجناية الأمة والمكاتب في الردة كجنايتهم في غيرة الردة لان الملك فيهم باق بعد
الردة والمكاتب أحق بكسبه بعد الردة يدا وتصرفا كما كان قبله فيكون موجب جنايته
في كسبه والجناية على المماليك في الردة هدر أما في الذكور منهم فلاستحقاق قتلهم بالردة
ومن استوفي قتلا مستحقا يكون محسنا لا جانيا وفي الإناث قتل المملوكة بعد الردة كقتل
الحرة ومن قتل حرة مرتدة لم يضمن شيئا وان ارتكب مالا يحل ويؤدب على ذلك
فكذلك الأمة قال لان بعض الفقهاء يرى عليها ولأنها كالحربية والحربية لا تقتل ولو
قتلها قاتل لا يلزمه شئ فكذلك المرتدة (فان قيل) فلما إذا لا تسترق في دارنا قلنا لبقاء
112

الاحراز ومن ضرورة تأكد الحرمة بالاحراز منع الاسترقاق وليس من ضرورته تقوم الدم
كما في المقضى عليها بالرجم وإذا كان هدر الدم مما يثبت مع الاحراز يثبت ذلك في حق
المرتدة فكانت فيه كالحربية وإذا باع الرجل عبده المرتد أو أمته المرتدة فالبيع جائز لبقاء
صفة المملوكية والرق فيه بعد الردة (فان قيل) جواز البيع باعتبار المالية والتقوم ولا مالية
فيهما حتى لا يضمن قاتلهما (قلنا) لا كذلك بل المالية في الآدمي بسبب المملوكية وهو
ثابت على الاطلاق والتقوم بالاحراز وهو باق فيهما وان كأن لا يجب على المتلف الضمان
لعارض وهو الردة ألا ترى ان غاصبهما يكون ضامنا وان الردة عيب فيهما والعيب لا يعدم
المالية والتقوم ولهذا لو كان البائع اعلم المشتري فالبيع لازم لانتفاء التدليس حين أعلمه العيب
مدبرة أو أم ولد ارتدت ولحقت بدار الحرب فمات مولاها في دار الاسلام ثم أخذت
أسيرة فهي فئ بخلاف ما لو أسرت قبل موت المولى فإنها ترد عليه لقيام ملكه فأما بعد
موت المولى فقد عتقت لان عتقها كان تعلق بموت المولى وتباين الدارين لا يمنع نزول العتق
عند وجود شرطه وإذا عتقت فهي حرة مرتدة أسرت من دار الحرب فتكون فيئا عبد
ارتد مع مولاه ولحقا بدار الحرب فمات المولى هناك وأسر العبد فهو فئ لأنه مال حربي فقد
أحرزه مع نفسه بدار الحرب وذلك مانع من ثبوت حق ورثته المسلمين فيه فيكون فيئا ويقتل
إن لم يسلم لردته وكذلك كل ما ذهب به المرتد من ماله مع نفسه فهو فئ فإن كان خرج من
دار الحرب مغيرا فأخذ مالا من ماله قد قسم بين ورثته وذهب به ثم قتل مرتدا وأصيب
ذلك المال فهو لورثته بغير قيمة قبل القسمة وبالقيمة بعد القسمة لأنهم ملكوا ذلك المال حين
قسمه القاضي بينهم فهذا حربي أحرز مال المسلم بدار الحرب ثم ظهر المسلمون عليه وقد بينا
الحكم فيه ولو ارتد العبد وأخذ مال مولاه فذهب به إلى دار الحرب ثم أخذ مع ذلك المال
لم يكن فيئا ويرد على مولاه لان العبد باق على ملكه فلأن يكون محرزا نفسه بدار الحرب ألا
ترى أنه لو أبق منه غير مرتد فدخل دار الحرب لم يكن محرزا نفسه عليه فكذلك إذا أبق
مرتدا وكذلك لا يكون محرزا لما معه من المال فيرد ذلك كله على المولى ثم هذا لا يشكل
على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما هو مذهبه في الآبق وكذلك عندهما لان أهل
الحرب لم يأخذوه وإنما يزول ملك المولى عندهما باحراز المشركين إياه بالأخذ فإذا لم يوجد
ذلك بقي على ملك مولاه قوم ارتدوا عن الاسلام وحاربوا المسلمين وغلبوا على مدينة من
113

مدائنهم في أرض الحرب ومعهم نساؤهم وذراريهم ثم ظهر المسلمون عليهم فإنه تقتل رجالهم
وتسبى نساؤهم وذراريهم والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما تصير دارهم دار
الحرب بثلاث شرائط أحدها أن تكون متاخمة أرض الترك ليس بينها وبين أرض الحرب
دار للمسلمين والثاني أن لا يبقى فيها مسلم آمن بايمانه ولا ذمي آمن بأمانه والثالث أن يظهروا
أحكام الشرك فيها وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا أظهروا أحكام الشرك فيها فقد
صارت دارهم دار الحرب حرب لان البقعة إنما تنسب الينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة فكل موضع
ظهر فيه حكم الشرك فالقوة في ذلك الموضع للمشركين فكانت دار حرب وكل موضع كان
الظاهر فيه حكم الاسلام فالقوة فيه للمسلمين ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يعتبر تمام القهر
والقوة لأن هذه البلدة كانت من دار الاسلام محرزة للمسلمين فلا يبطل ذلك الاحراز الا
بتمام القهر من المشركين وذلك باستجماع الشرائط الثلاث لأنها إذا لم تكن متصلة بالشرك
فأهلها مقهورون بإحاطة المسلمين بهم من كل جانب فكذلك أن بقي فيها مسلم أو ذمي آمن
فذلك دليل عدم تمام القهر منهم وهو نظير ما لو أخذوا مال المسلم في دار الاسلام لا يملكونه
قبل الاحراز بدارهم لعدم تمام القهر ثم ما بقي شئ من آثار الأصل فالحكم له دون العارض
كالمحلة إذا بقي فيها واحد من أصحاب الخطة فالحكم له دون السكان والمشترين وهذه الدار
كانت دار اسلام في الأصل فإذا بقي فيها مسلم أو ذمي فقد بقي أثر من آثار الأصل فيبقى
ذلك الحكم وهذا أصل لأبي حنيفة رحمه الله حتى قال إذا اشتد العصير ولم يقذف بالزبد
لا يصير خمر البقاء صفة السكون وكذلك حكم كل موضع معتبر بما حوله فإذا كان ما حول
هذه البلدة كله دار اسلام لا يعطى لها حكم دار الحرب كما لو لم يظهر حكم الشرك فيها وإنما
استولى المرتدون عليها ساعة من نهار ثم في كل موضع لم تصر الدار دار حرب فإذا ظهر
المسلمون عليها قتلوا الرجال وأجبروا النساء والذراري على الاسلام ولم يسب واحد منهم
وفى كل موضع صار دار حرب فالنساء والذراري والأموال فئ فيه الخمس ويجبرون على
الاسلام لردتهم فلا يحل لمن وقعت امرأة منهم في سهمه ان يطأها ما دامت مرتدة وان
كانت متهودة أو متنصرة لان الردة تنافى الحل وإنما يحل بملك اليمين من يحل بالنكاح فإن كان
عليها دين فقد بطل بالسبي لأنها صارت أمة وما كان من الدين على حرة لا يبقي بعد أن
تصير أمة لان بالرق تتبدل نفسها ولان الدين لا يجب على المملوك الا شاغلا مالية رقبته
114

وهذه مالية حادثة بالسبي فتخلص للسابي فلهذا لا يبقى الدين عليها وإذا ارتد الزوجان وذهبا
إلى دار الحرب بولدهما الصغير ثم ظهر المسلمون فالولد فئ لأنه خرج من أن يكون
مسلما حين لحقا به إلى دار الحرب فان ثبوت حكم الاسلام للصغير باعتبار تبعية الأبوين والدار
فقد انعدم كل ذلك حين ارتدا ولحقا به بدار الحرب فلهذا كان الولد فيئا يجبر على الاسلام
إذا بلغ كما تجبر الأم عليه وإن كان الأب ذهب به وحده والأم مسلمة في ذار الاسلام لم
يكن الولد فيئا لأنه بقي مسلما تبعا لامه (فان قيل) كيف يتبعها بعد تباين الدارين (قلنا) تباين
الدارين يمنع الاتباع في الاسلام ابتداء لا في ابقاء ما كان ثابتا ألا تري أن الحربي لو أسلم في
دار الحرب وله ولد صغير ثم خرج إلى دارنا بقي الولد مسلما باسلامه حتى إذا وقع الظهور
عليه لا يكون فيئا بخلاف ما لو أسلم في دارنا وله ولد في دار الحرب فههنا قد كان الولد مسلما
فيبقى كذلك ببقاء الأم مسلمة وان كانت في دار الاسلام وكذلك أن كانت الأم ماتت مسلمة
لان اسلامها يتأكد بموتها ولا يبطل وكذلك أن كانت الأم نصرانية ذمية لأنها من أهل
دارنا وكما يتبعها الولد إذا كانت من أهل ديننا يتبعها إذا كانت من أهل دارنا توفيرا للمنفعة
على الولد ولأنه لا يتم احراز الولد بدار الحرب لان اعتبار جانب الأب يوجب أن يكون الولد
حربيا واعتبار جانب الأم يوجب أن يكون الولد من أهل دار الاسلام فيترجح هذا الجانب
عند المعارضة توفير المنفعة على الولد وإذا بقي من أهل دار الاسلام فكأنه من أهل دارنا
حقيقة فلا يسترق وكذلك أن كان الأب ذميا نفض العهد فهو كالمسلم يرتد في أنه يصير من
أهل دار الحرب إذا التحق بهم وإذا ولد للمرتدين في دار الحرب ولد ثم ولد لولدهما ولد ثم
وقع الظهور عليهم أجبر ولدهما على الاسلام ولم يجبر ولد ولدهما على الاسلام لان حكم
الاسلام قد ثبت لولدهما باعتبار ان الأبوين كانا مسلمين في الأصل والولد تابع لهما فكذلك
يجبر على الاسلام فأما ولد الولد لم يثبت له حكم الاسلام لأنه تابع لأبيه في الدين لا لجده
وأبوه ما كان مسلما قط ألا ترى أنه لو أسلم الجد لا يصير ولد الولد مسلما باسلامه فكذلك
لا يجبر على الاسلام باسلام جده وهذا لأنه لو اعتبر اسلام جده في حق النافلة كان الجد
الأعلى والأدنى في ذلك سواء فيؤدي إلى أن يكون الكفار كلهم مرتدين يجبرون على
الاسلام باسلام جدهم آدم أو نوح عليهما السلام وذكر في النوادر انهما إذا ارتدا أو لحقا
بولد صغير لهما بدار الحرب فولد لذلك الولد بعدما كبر ثم ظهر المسلمون على ولد الولد فهو
115

يجبر على الاسلام في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجبر عليه في قول أبى يوسف
رحمه الله تعالى لان هذا الولد ما كان مسلما بنفسه وإنما ثبت حكم الاسلام في حقه تبعا فهو
والمولود في دار الحرب بعد ردتهما سواء وهما يقولان قد كان هذا الولد محكوما باسلامه
تبعا لأبويه أو لدار الاسلام والولد يتبع أباه في الدين فإذا كان الأب مسلما في يثبت
لولده حكم الاسلام فيجبر على الاسلام بخلاف ما إذا ولد في دار الحرب بعد ردتهما لان هذا
الولد لم يكن مسلما قط وإذا نقض قوم من أهل الذمة العهد وغلبوا على مدينة فالحكم فيها كالحكم
في المرتدين الا ان للامام ان يسترق رجالهم بخلاف المرتدين لأنهم كفار في الأصل وإنما
كانوا لا يسترقون لكونهم من أهل دارنا وقد بطل ذلك حين نقضوا العهد وصارت
دارهم دار الحرب فأما المرتدون كانوا مسلمين في الأصل فلا يقبل منهم الا السيف أو الاسلام
وكذلك أن رجع الذين كان نقضوا العهد إلى الصلح والذمة قبل ذلك منهم؟ بخلاف المرتدين لأنهم
لما نقضوا العهد التحقوا بالحربيين وأهل الحرب إذا انقادوا للذمة قبل ذلك منهم بخلاف
المرتدين والأصل أن من جاز استرقاقه جاز ابقاؤه على الكفر بالجزية لان القتال ينتهي بكل
واحد من الطريقين وفيه منفعة للمسلمين ثم إذا عادوا إلى الذمة أخذوا بالحقوق التي كانت
قبل نقض الذمة عليهم من القصاص والمال لبقاء نفوسهم وذممهم على ما كانت قبل نقض
العهد ونقض العهد كان عارضا فإذا انعدم صار كأن لم يكن ولم يؤخذوا بما أصابوا في المحاربة لأنهم
أهل حرب حين باشروا السبب وقد بينا أن أهل الحرب لا يضمنون ما أتلفوا من النفوس
والأموال في حال حربهم إذا تركوا المحاربة بالاسلام أو الذمة وكذلك المرتدون في هذا
هم بمنزلة أهل الذمة لان القصاص المستحق عليهم عقوبة ثابتة لحق المسلم والردة ونقض
العهد لا ينافيهما وان تعذر استيفاؤها لقصور يد صاحب الحق عمن عليه والمال كذلك فإذا
تمكن من الاستيفاء كان له أن يستوفي حقه وإذا نقض الذمي العهد مع امرأته ولحقا
بأرض الحرب ثم عادا على الذمة فهما على نكاحهما لأنه لم يتباين بهما دين ولا دار ولو ارتد
المسلمان ثم أسلما كانا على نكاحهما فالذميان أولى بذلك وإن كان خلف في دار الاسلام امرأة ذمية
بانت منه بتباين الدار حقيقة وحكما والتي بقيت في دارنا من أهل دارنا وكذلك المرتد إذا لحق
بدار الحرب وخلف امرأته المرتدة معه في دار الاسلام انقطعت العصمة بينهما لأن المرأة من
أهل دارنا وان كانت مرتدة فقد تباينت بينهما الدار حقيقة وذلك قاطع للعصمة بينهما وإذا منع
116

المرتدون دارهم وصارت دار كفر ثم لحقوا بدار الحرب فأصابوا سبايا منهم وأصابوا مالا من
أموال المسلمين وأهل الذمة ثم أسلموا كان ذلك كله لهم لأنهم ملكوا ذلك كله بالاحراز بدارهم
ومن أسلم على مال فهو له إلا أن يكونوا أخذوا من المسلمين أو أهل الذمة حرا أو مدبرا أو
مكاتبا أو أم ولد فعليهم تخلية سبيلهم لان هؤلاء لا يملكون بالاحراز لتأكد حقيقة الحربة أو
حقها فيهم بالاسلام فإن كان أهل الاسلام أصابوا من هؤلاء في حربهم مالا أو ذرية فاقتسموها
على الغنيمة لم يردوا عليهم شيئا من ذلك لأنهم أصابوا أموال أهل الحرب وذراريهم
وملكوها بالاحراز والقسمة فلا ترد عليهم وان أسلموا بعد ذلك كما لو أصابوا ذلك من
غيرهم من أهل الحرب وان طلب المرتدون أن يجعلوا ذمة للمسلمين لم يفعلوا ذلك بهم
لأنه إنما تقبل الذمة ممن تجوز استرقاقه ولان المرتدين كمشركي العرب فان أولئك جناة
على قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء على دينه وكمالا تقبل الذمة من مشركي
العرب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع في جريرة العرب دينان فكذلك لا يقبل
ذلك من المرتدين وان طلبوا الموادعة مدة لينظروا في أمورهم فلا بأس بذلك أن كان ذلك
خيرا للمسلمين ولم يكن للمسلمين بهم طاقة لأنهم لما ارتدوا دخلت عليهم الشبهة ويزول ذلك إذا
نظروا في أمرهم وقد بينا أن المرتد إذا طلب التأجيل يؤجل إلا أن هناك لا يزاد على
ثلاثة أيام لتمكن المسلمين من قتله وههنا لا طاقة بهم للمسلمين فلا بأس بأن يمهلوهم مقدار
ما طلبوا من المدة لحفظ قوة أنفسهم ولعجزهم عن مقاومتهم وان كانوا يطيقونهم وكان
الحرب خيرا لهم من الموادعة حاربوهم لان القتال معهم فرض إلى أن يسلموا قال الله تعالى
تقاتلونهم أو يسلمون ولا يجوز تأخير إقامة الفرض مع التمكن من اقامته فإذا وادعوهم لم
يأخذ الامام منهم في الموادعة خراجا لان ذلك حينئذ يشبه عقد الذمة وقد بينا أنه لا تقبل منهم
الذمة فكذلك لا يؤخذ منهم على الموادعة خراج بخلاف أهل الحرب فان أخذ منهم مالا جاز لان
العصمة زالت عن مالهم ألا ترى أنه لو ظهر المسلمون عليهم كانت أموالهم غنيمة وكذلك أن
أخذوا شيئا من مالهم ملكوا ذلك بأي طريق أخذوا منهم (قال) ولا يقبل من مشركي العرب
الصلح والذمة ولكن يدعون إلى الاسلام فان أسلموا والا قوتلوا وتسترق نساؤهم وذراريهم
ولا يجبرون علي الاسلام وهم في ذلك بمنزلة المرتدين الا في حكم الاجبار على الاسلام فان نساء
المرتدين وذراريهم كانوا مسلمين في الأصل فيجبرون على العود وأما النساء والذراري
117

من مشركي العرب ما كانوا مسلمين في الأصل فلا يجبرون على الاسلام ولكنهم يسترقون
لان النبي صلى الله عليه وسلم سبى النساء والذراري بأوطاس وقسمهم وقد
بينا أن أبا بكر رضي الله عنه سبي النساء والذراري من بنى حنيفة فإذا جاز ذلك في المرتدين
ففي مشركي العرب أولى وأما الرجال منهم لا يسترقون عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله
تعالى يسترقون لان المعني لأجله جاز الاسترقاق في حق سائر الكفار موجود في
حق مشركي العرب وهو منفعة للمسلمين في عملهم وخدمتهم ولان الاسترقاق اتلاف
حكمي ومن جاز في حقه الاتلاف الحقيقي من الكفار الأصليين يجوز الاتلاف الحكمي
بطريق الأولى لان فيه تحقيق معنى العقوبة بتبديل صفة المالكية بالمملوكية وهو الأليق
بحال كل كافر فإنهم لما أنكروا وحدانية الله تعالى عاقبهم على ذلك بأن جعلهم عبيد عبيده
وهكذا كان ينبغي في المرتدين الا ان قتل المرتد على ردته حد فقلنا لا يترك إقامة الحد لمنفعة
المسلمين ولان حريته كانت متأكدة بالاسلام فلا يحتمل النقض بالاسترقاق وذلك لا يوجد
في حق مشركي العرب (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون قيل معناه إلى أن
يسلموا والآية فيمن كان يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عبدة الأوثان من العرب
فدل أنهم يقتلون إن لم يسلموا وقال صلى الله عليه وسلم لا رق على عربي وقال يوم أوطاس
لو جرى رق على عربي لكان اليوم وإنما هو القتل أو الاسلام وظاهر قوله تعالى ما كان
لنبي أن يكون له أسري حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا يدل على تحريم الاسترقاق
كما يدل على المنع من المفاداة لان المقصود بكل واحد منهما ابتغاء عرض الدنيا ولأنه
لا يقبل منهم عقد الذمة بالاتفاق والاسترقاق والذمة يتقاربان في المعنى لان في كل واحد
من الامرين ابقاء الكافر على كفره لمنفعة المسلمين في ذلك من مال أو عمل وفى الجزية
معنى الصغار والعقوبة في حقهم كما في الاسترقاق بل أظهر والاسترقاق ثابت في حق
النساء والصغار والجزية لا تجب الأعلى الرجال البالغين فإذا لم يجز ابقاء عبدة الأوثان من
العرب على الشرك بالجزية فكذلك بالاسترقاق وقد بينا أنهم في تغلظ جنايتهم كالمرتدين فكما
لا يسترق المرتدون فكذلك عبدة الأوثان من العرب بخلاف سائر المشركين وأهل
الكتاب من العرب حكمهم حكم غيرهم من أهل الكتاب حتى يجوز استرقاقهم وأخذ الجزية
منهم لأنهم ليسوا من العرب في الأصل وان توطنوا في أرض العرب بل هم في الأصل من
118

بني إسرائيل ولئن كانوا في الأصل من العرب فجنايتهم في الغلظ ليست كجناية عبدة الأوثان
فان أهل الكتاب يدعون التوحيد ولهذا تؤكل ذبائحهم وتجوز مناكحة نسائهم بخلاف
عبدة الأوثان والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من يهود تيماء
ووادي القري وكذلك من بهزا وتنوخ وطي وعمر رضي الله عنه أراد أن يوظف الجزية
على نصاري بنى تغلب ثم صالحهم على الصدقة المضعفة وقال هذه جزية فسموها ما شئتم
وكانوا من العرب فأما عبدة الأوثان من العجم فلا خلاف في جواز استرقاقهم وإنما الخلاف
في جواز أخذ الجزية منهم فعندنا يجوز ذلك وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز بمنزلة عبدة
الأوثان من العرب فان الله تعالى خص أهل الكتاب بحكم الجزية بقوله تعالي ولا يدينون
دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وزعم الشافعي
ان المجوس أهل كتاب وروى فيه أثرا عن علي رضي الله عنه أنه قال كان لهم كتاب يقرؤن
إلى أن واقع ملكهم ابنته فأصبحوا وقد أسرى بكتابهم حديث فيه طول (وحجتنا) في ذلك أن
الجزية تؤخذ من المجوس بالاتفاق ولا كتاب لهم فان النبي صلى الله عليه وسلم قال سنوا
بالمجوس سنة أهل الكتاب ففي هذا تنصيص على أنه لا كتاب لهم وقال الله تعالى ان تقولوا
إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ولو كان للمجوس كتاب لكانوا ثلاث طوائف والأثر
بخلاف نص القرآن لا يكاد يصح عن علي رضي الله عنه فثبت أن لا كتاب للمجوس ومع ذلك
تؤخذ منهم الجزية وهم مشركون فإنهم يدعون الاثنين وان اختلفت عبارتهم في ذلك من
النور والظلمة أو يزدان وأهرمن وليس الشرك الا هذا فإذا جاز أخذ الجزية منهم فكذلك
من غيرهم من المشركين وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر
وبهذا تبين أن ذكر أهل الكتاب في الآية ليس لتقييد الحكم بل لبيان جواز أخذ الجزية
من أهل الكتاب ومن أصلنا أن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل علي أن الحكم فيما عداه
بخلافه قوم غزوا أرض الحرب فارتد منهم طائفة واعتزلوا عسكرهم وحاربوا ونابذوهم
فأصاب المسلمون غنيمة وأصاب أولئك المرتدون غنيمة من أهل الشرك ثم تابوا قبل أن
يخرجوا من دار الحرب لم يشارك أحد الفريقين الآخر فيما أصابوا لان بعضهم لم يكن
ردءا للبعض فالمسلمون لا ينصرون المرتدين ولا يستنصرون بالمرتدين إذا حزبهم أمر ولان
مصاب المرتدين ليس بغنيمة إذ لم يكن قصدهم عند الإصابة اعزاز الدين والمرتدون في حق
119

المسلمين كاهل الحرب فإنهم في دار الحرب وأهل الحرب إذا أسلموا والتحقوا بالجيش لم
يشاركوهم فيما أصابوا قبل ذلك وكذلك المرتدون إلا أن يلقوا قتالا فيقاتلوا قبل أن
يخرجوا إلى دار الاسلام فحينئذ يشارك بعضهم بعضا لأنهم قاتلوا دفعا عن ذلك المال فكأنهم
أصابوه بهذا القتال واشتركوا في احرازه بالدار فيشارك بعضهم بعضا في ذلك ثم هذا فيما أصابه
المسلمون غير مشكل بمنزلة من أسلم من أهل الحرب والتحق بالجيش إذا لقوا قتالا فقاتل بعضهم
وما أصاب المرتدون وإن لم يكن له حكم الغنيمة فإنه يأخذ حكم الغنيمة بهذا القتال كالمتلصص
إذا أصاب مالا ثم لحقه جيش المسلمين فان مصابه يأخذ حكم الغنيمة حتى يخمس ولا شئ على من
قتل المرتدين قبل أن يدعوهم إلى الاسلام لأنهم بمنزلة كفار قد بلغتهم الدعوة فان جددوها
فحسن وان قاتلوهم قبل أن يدعوهم فحسن (قال) وإذا ارتد الغلام المراهق عن الاسلام
لم يقتل وهنا فصلان إذا أسلم الغلام العاقل الذي لم يحتلم فاسلامه صحيح عندنا استحسانا وفى
القياس لا يصح اسلامه في أحكام الدنيا وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله صلى
الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم ومن كان مرفوع القلم فلا ينبني
الحكم في الدنيا على قوله ولأنه غير مخاطب بالاسلام ما لم يبلغ فلا يحكم بصحة اسلامه كالذي
لا يعقل إذا لقن فتكلم به وتقريره من أوجه أحدها أنه لا عبرة لعقله قبل البلوغ حتى يكون
تبعا لغيره في الدين والدار بمنزلة الذي لا يعقل وتقرير هذا انه يحكم باسلامه إذا أسلم أحد
أبويه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه فإذا لم يعتبر اعتقاده ومعرفته في ابقاء ما كان ثابتا فكيف
يعتبر ذلك في اثبات ما لم يكن ثابتا وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه بعينه مغايرة على
سبيل المنافاة والثاني انه لو صح اسلامه بنفسه كان ذلك منه فرضا لاستحالة القول بكونه
مستقلا في الاسلام ومن ضرورة كونه فرضا أن يكون مخاطبا به وهو غير مخاطب باتفاق
فإذا لم يمكن تصحيحه فرضا لم يصح أصلا بخلاف سائر العبادات فإنه يتردد بين الفرض
والنفل وبخلاف ما إذا جعل مسلما تبعا لغيره لان صفة الفرضية في الأصل تغني عن اعتباره
في التبع كالاقرار باللسان والاعتقاد بالقلب ولان اعتبار عقله قبل البلوغ لضرورة الحاجة
إليه وذلك يختص بما لا يمكن تحصيله له من قبل غيره ففيما يمكن تحصيله له من جهة غيره
لا حاجة إلى اعتبار عقله فلا يعتبر والدليل عليه انه لو لم يصف الاسلام بعدما عقل لا تقع
الفرقة بينه وبين امرأته ولو صار عقله معتبرا في الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن ان
120

يصف كما بعد البلوغ ولان أحكام الاسلام في الدنيا تنبنى على قوله وقوله اما أن يكون اقرارا
أو شهادة ولا يتعلق به حكم الشرع كسائر الأقارير والشهادات وأما فيما بينه وبين ربه إذا
كان معتقدا لما يقول فنحن نسلم ان له في أحكام الآخرة ما للمسلمين (وحجتنا) في ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم حتى يعرب عنه لسانه اما شاكرا واما كفورا وقد أعرب هنا لسانه
شاكرا شكورا فلا نجعله كافرا كفورا وان عليا رضي الله عنه أسلم وهو صبي وحسن اسلامه
حتى افتخر به في شعره قال
سبقتكم إلى اسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي
واختلفت الروايات في سنه حين أسلم وحين مات فقال محمد ابن جعفر رضي الله عنهما
أسلم وهو ابن خمس سنين ومات وهو ابن ثمانية وخمسين سنة لان النبي صلى الله عليه وسلم
دعاه إلى الاسلام في أول مبعثه ومدة البعث ثلاث وعشرون سنة والخلافة بعده ثلاثون
انتهي بموت علي رضي الله عنه فإذا ضممت خمسا إلى ثلاث وخمسين فيكون ثمانية وخمسين
وقال العتيبي أسلم وهو ابن سبع سنين ومات وهو ابن ستين سنة بهذا الطريق أيضا وقال
الجاحظ أسلم وهو ابن عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين وهكذا ذكره محمد
في السير الكبير والمعنى فيه أنه أتى بحقيقة الاسلام وهو من أهله فيحكم باسلامه كالبالغ
وبيان الوصف ان الاسلام اعتقاد بالقلب واقرار باللسان وهو من أهل الاعتقاد ومن
رجع إلى نفسه علم أنه كان معتقد للتوحيد قبل بلوغه ولأنه من أهل اعتقاد سائر
الأشياء والمعروفة به ومن أهل معرفة أبويه والرجوع إليهما إذا حزبه أمر فعرفنا ضرورة أنه
من أهل معرفة خالقه وقد سمعنا اقراره بعبارة مفهومة ونحن نرى صبيا يناظر في الدين
ويقيم الحجج الظاهرة حتى إذا ناظر الموحدين أفهم وإذا ناظر الملحدين أفحم فلا يظن بعاقل أن يقول
أنه ليس من أهل المعرفة والدليل على الأهلية أنه يجعل مسلما تبعا لغيره وبدون الأهلية
لا يتصور ذلك ولأنه مع الصبا أهل للرسالة قال الله تعالى وآتيناه الحكم صبيا فعلم ضرورة
أنه أهل للاسلام ثم بعد وجود الشئ حقيقة اما ان يسقط اعتباره بحجر شرعي فلا يظن
ذلك ههنا والناس عن آخرهم دعوا إلى الاسلام والحجر عن الاسلام كفر أولا يحكم بصحته
لضرر يلحقه ولا تصور لذلك في الاسلام فإنه سبب للفوز والسعادة الأبدية فيكون محض
منفعة في الدنيا والآخرة وان حرم ميراث مورثه الكافر أو بانت منه زوجته الكافرة فإنما
121

يحال بذلك على خبثها لا على اسلامه ألا ترى ان هذا الحكم يثبت إذا جعل تبعا لغيره والتبعية
فيما يتمحض منفعة لا فيما يشوبه ضرر وإنما تبعا لتوفير المنفعة عليه وفى اعتبار منفعته
مع ابقاء التبعية معنى توفير المنفعة لأنه ينفتح عليه باب تحصيل هذه المنفعة بطريقين فكان
ذلك أنفع وإنما يمتنع الجمع بين معنى التبعية والأصالة إذا كان بينهما مضادة فاما إذا تأيد
أحدهما بالآخر فذلك مستقيم كالمرأة إذا سافرت مع زوجها ونوت السفر فهي مسافرة بنيتها
مقصودا وتبعا لزوجها أيضا وإنما لم يعتبر اعتقاده عند اسلام أحد الأبوين لتوفير المنفعة
عليه فهذا يدل على اعتبار اعتقاده إذا أسلم مع كفرهما لتوفير المنفعة عليه وإنما لم يكن
مخاطبا بالأداء لدفع الحرج عنه إذا امتنع من الأداء وهذا يدل على أنه يحكم بصحته إذا
أدي باعتبار ان عند الأداء يجعل الخطاب كالسابق لتحصيل المقصود كالمسافر لا يخاطب
بأداء الجمعة فإذا أدى يجعل ذلك فرضا منه بهذا الطريق وهذا لأن عدم توجه الخطاب
إليه بالاسلام لدفع الضرر ولا ضرر عليه إذا أدرج الخطاب بهذا الطريق بل تتوفر
المنفعة عليه مع أنه يحكم باسلامه لوجود حقيقته من غير أن يتعرض لصفته وإنما لا تبين
زوجته منه إذا لم يحسن أن يصف بعدما عقل لبقاء معنى التبعية ولتوفير المنفعة عليه
ولا وجه لاعتبار هذا القول بسائر الأقاويل فانا نجعله فيها كاذبا أو لاغيا وإذا أقر بوحدانية
الله تعالى فلا يظن بأحد أن يقول إنه كاذب في ذلك أو لاغ بل يتيقن بأنه صادق في ذلك
فجرينا الحكم عليه فأما إذا ارتد هذا الصبي العاقل فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول لا تصح ردته وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو القياس لان الردة تضره وإنما يعتبر
معرفته وعقله فيما ينفعه لا فيما يضره ألا ترى أن قبول الهبة منه صحيح والرد باطل وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا يحكم بصحة ردته استحسانا لعلته لا لحكمه فان من
ضرورة اعتبار معرفته والحكم باسلامه بناء على علته اعتبار ردته أيضا لأنه جهل منه بخالقه
وجهله في سائر الأشياء معتبر حتى لا يجعل عارفا إذا علم جهله فكذلك جهله
بربه ولان من ضرورة كونه أهلا للعقد أن يكون أهلا لرفعه كما أنه لما كان أهلا
لعقد الاحرام والصلاة كان أهلا للخروج منهما وإنما لم يصح منه رد الهبة لما فيه من نقل
الملك إلى غيره ألا تري أن ضرر الردة يلحقه بطريق التبعية إذا ارتد أبواه ولحقا به بدار
الحرب وضرر رد الهبة لا يلحقه من جهة أبيه فبهذا يتضح الفرق بينهما وإذا حكم بصحة
122

ردته بانت منه امرأته ولكنه لا يقبل استحسانا لان القتل عقوبة وهو ليس من أهل أن
يلتزم العقوبة في الدنيا بمباشرة سببها كسائر العقوبات ولكن لو قتله انسان لم يغرم شيئا لان
من ضرورة صحة ردته اهدار دمه وليس من ضرورته استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت
لا تقتل ولو قتلها قاتل لم يلزمه شئ وهذه فصول أحدها في الذي أسلم تبعا لأبويه إذا بلغ
مرتدا في القياس يقتل لارتداده بعد اسلامه وفى الاستحسان لا يقتل ولكن يجبر علي
الاسلام لأنه ما كان مسلما مقصودا بنفسه وإنما يثبت له حكم الاسلام تبعا لغيره فيصير
ذلك شبهة في اسقاط القتل عنه وان بلغ مرتدا والثاني إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتدا
فهو على هذا القياس والاستحسان لقيام الشبهة بسبب اختلاف العلماء في صحة اسلامه في
الصغر والثالث إذا ارتد في صغره والرابع المكره على الاسلام إذا ارتد فإنه لا يقتل
استحسانا لأنا حكمنا باسلامه باعتبار الظاهر وهو أن الاسلام مما يجب اعتقاده ولكن قيام
السيف على رأسه دليل على أنه غير معتقد فيصير ذلك شبهة في اسقاط القتل عنه وفى جميع
ذلك يجبر على الاسلام ولو قتله قاتل قبل أن يسلم لا يلزمه شئ وإذا ارتد السكران في القياس
تبين منه امرأته لان السكران كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله حتى لو طلق امرأته بانت
منه ولو باع أو أقر بشئ كان صحيحا منه ولكنه استحسن وقال لا تبين منه امرأته لان الردة
تنبنى على الاعتقاد ونحن نعلم أن السكران غير معتقد لما يقول ولأنه لا ينجو سكران من
التكلم بكلمة الكفر في حال سكره عادة والأصل فيه ما روى أن واحدا من كبار الصحابة
رضي الله عنهم سكر حين كان الشرب حلالا وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنتم
الا عبيدي وعبيد آبائي ولم يجعل ذلك منه كفرا وقرأ سكران سورة قل يا أيها الكافرون
في صلاة المغرب فترك اللاآت فيه فنزل فيه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فهو دليل على أنه لا يحكم بردته في حال سكره كما لا يحكم
به في حال جنونه فلا تبين منه امرأته والمكره على الردة في القياس تبين منه امرأته وبه
أخذ الحسن لأنا لا نعلم من سره ما نعلم من علانيته وإنما ينبني الحكم على ما نسمع منه
ولهذا يحكم باسلامه ان أسلم مكرها ولا أثر لعذر الاكراه في المنع من وقوع الفرقة كما لو أكره
على الطلاق وفى الاستحسان لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته لان قيام السيف على رأسه
دليل ظاهر على أنه غير معتقد لما يقول وإنما قصد به دفع الشر عن نفسه والردة تنبني على
123

الاعتقاد وبخلاف الاسلام فهناك بمقابلة هذا الظاهر ظاهر آخر وهو أن الاسلام مما يجب
اعتقاده بخلاف الطلاق لان ذلك انشاء سببه التكلم والاكراه لا ينافي الانشاء وهذا اخبار
عن اعتقاده والاكراه دليل على أنه كاذب فيه فوز انه الاكراه على الاقرار بالطلاق وإذا
طلب ورثة المرتد كسبه الذي اكتسبه في ردته وقالوا أسلم قبل أن يموت فعليهم البينة في
ذلك وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه يفرق بين الكسبين والمعنى فيه أن سبب
حرمانهم ظاهر وهو ردته عند اكتسابه فهم يدعون عارضا مزيلا لذلك وهو اسلامه قبل
موته فعليهم أن يثبتوا ذلك بالبينة وان نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب عمل في تركته
ورثته ما يعمل في تركة المرتد لأنه صار حربيا حقيقة وحكما فيكون كالميت في حق من
هو من أهل دارنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب الخوارج)
(قال) رضي الله عنه اعلم أن الفتنة إذا وقعت بين المسلمين فالواجب على كل مسلم أن
يعتزل الفتنة ويقعد في بيته هكذا رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله
عليه وسلم من فر من الفتنة أعتق الله رقبته من النار وقال لواحد من أصحابه في الفتنة كن
حلسا من أحلاس بيتك فان دخل عليك فكن عبد الله المقتول أو قال عند الله معناه كن
ساكنا في بيتك لا قاصدا فإن كان المسلمون مجتمعين على واحد وكانوا آمنين به والسبيل
آمنة فخرج عليه طائفة من المسلمين فحينئذ يجب على من يقوى على القتال أن يقاتل مع
امام المسلمين الخارجين لقوله تعالى فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي
والامر حقيقة للوجوب ولان الخارجين قصدوا أذى المسلمين وإماطة الأذى من أبواب
الدين وخروجهم معصية ففي القيام بقتالهم نهى عن المنكر وهو فرض ولأنهم يهيجون
الفتنة قال صلى الله عليه وسلم الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها فمن كان ملعونا على لسان صاحب
الشرع صلوات الله عليه يقاتل معه والذي روى أن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره
لزم بيته تأويله انه لم يكن له طاقة على القتال وهو فرض على من يطيقه والامام فيه علي
رضي الله عنه فقد قام بالقتال وأخبر أنه مأمور بذلك بقوله رضي الله عنه أمرت بقتال المارقين
؟ الناكثين والقاسطين ولهذا بدأ الباب بحديث كثير الحضرمي حيث قال دخلت مسجد
124

الكوفة من قبل أبواب كندة فإذا نفر خمسة يشتمون عليا رضي الله عنه وفيهم رجل
عليه برنس يقول أعاهد الله لأقتلنه فتعلقت به وتفرق أصحابه فأتيت به عليا رضي الله عنه
فقلت انى سمعت هذا يعاهد الله ليقتلنك قال ادن ويحك من أنت قال أنا سوار المنقري
فقال علي رضي الله عنه خل عنه فقلت أخلى عنه وقد عاهد الله ليقتلنك فقال أفأقتله
ولم يقتلني قلت وأنه قد شتمك قال فاشتمه إن شئت أو دعه وفى؟ هذا دليل على أن من لم
يظهر منه خروج فليس للامام أن يقتله وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
قال ما لم يعزموا على الخروج فالامام لا يتعرض لهم فإذا بلغه عزمهم على الخروج فحينئذ ينبغي
له أن يأخذهم فيحبسهم قبل أن يتفاقم الامر لعزمهم على المعصية وتهييج الفتنة وكان هؤلاء
لم يكونوا مغلبين الخروج عليه ولم يعزموا على ذلك أولم يصدقه على رضي الله تعالى عنه فيما
أخبره به من عزمه على قتله فلهذا أمره بأن يخلى عنه وليس مراده من قوله فاشتمه إن شئت
أن ينسبه إلى ما ليس فيه فذلك كذب وبهتان لا رخصة فيه وإنما مراده أن ينسبه إلى
ما علمه منه فيقول يا فتان يا شرير لقصده إلى الشر والفتنة وما أشبه ذلك من الكلام وهو
معنى قوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم (قال) وبلغنا عن علي رضى
الله تعالى عنه أنه بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ حكمت الخوارج من ناحية المسجد فقال علي رضي الله عنه
كلمة حق أريد بها باطل لن نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله ولن
نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا ثم أخذ في خطبته ومعني
قوله إذ حكمت الخوارج أي نادوا الحكم لله وكانوا يتكلمون بذلك إذا أخذ علي رضي الله عنه
في خطبته ليشوشوا خاطره فإنهم كانوا يقصدون بذلك نسبته إلى الكفر لرضاه بالحكمين
وتفويضه الحكم إلى أبي موسى رضي الله عنه ولهذا قال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها
باطل يعني ان ظاهر قول المرء الحكم لله حق ولكنهم يقصدون به الباطل وهو نسبته إلى
الكفر ثم فيه دليل على أنهم ما لم يعزموا على الخروج فالامام لا يتعرض لهم بالحبس والقتل
فان المتكلمين بذلك ما كانوا عازمين على الخروج عند ذلك فلهذا قال لن نمنعكم مساجد
الله ولن نمنعكم الفئ وفيه دليل على أن التعريض بالشتم لا يوجب التعزير فإنه لم يعزرهم وقد
عرضوا بنسبته إلى الكفر والشتم بالكفر موجب للتعزير وفيه دليل على أن الخوارج إذا
كانوا يقاتلون الكفار تحت راية أهل العدل فإنهم يستحقون من الغنيمة ما يستحقه غيرهم
125

لأنهم مسلمون وفيه دليل على أنهم يقاتلون دفعا لقتالهم فإنه قال ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا
معناه حق تعزموا على القتال بالتجمع والتحيز عن أهل العدل (قال) وبلغنا عن علي رضي الله عنه
أنه قال يوم الجمل لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا ولا تدففوا على جريح ولا يكشف
ستر ولا يؤخذ مال وبهذا كله نأخذ فنقول إذا قاتل أهل العدل أهل البغي فهزموهم فلا ينبغي
لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا لأنا قاتلناهم لقطع بغيهم وقد اندفع حين ولوا مدبرين ولكن
هذا إذا لم يبق فئة يرجعون إليها فان بقي فئة فإنه يتبع مدبرهم لأنهم ما تركوا قصدهم
لهذا حين ولوا منهم منهزمين بل تحيزوا إلى فئتهم ليعودوا فيتبعون لذلك ولهذا يتبع المدبر
من المشركين لبقاء الفئة لأهل الحرب وكذلك لا يقتلون الأسير إذا لم يبق لهم فئة وقد
كان علي رضي الله عنه يحلف من يؤسر منهم أن لا يخرج عليه قط ثم يخلى سبيله وان كانت
له فئة بأس بأن يقتل أسيرهم لأنه ما اندفع شره ولكنه مقهور ولو تخلص انحاز إلى
فئته فإذا رأى الامام المصلحة في قتله لا بأس بأن يقتله وكذلك لا يجهزوا على جريحهم إذا
لم يبق لهم فئة فإن كانت باقية فلا بأس بأن يجهز على جريحهم لأنه إذا برئ عاد إلى تلك
الفتنة والشر بقوة تلك الفئة ولان في قتل الأسير والتجهيز على الجريح كسره شوكة أصحابه
فإذا بقيت لهم فئة فهذا المقصود يحصل بذلك بخلاف ما إذا لم يبق لهم فئة وقوله لا يكشف
ستر قيل معناه لا يسبي الذراري ولا يؤخذ مال على سبيل التملك بطريق الاغتنام وبه
نقول لا تسبي نساؤهم وذراريهم لأنهم مسلمون ولا يتملك أموالهم لبقاء العصمة فيها بكونها
محرزة بدار الاسلام فان التملك بالقهر يخص بمحل ليس فيه عصمة الاحراز بدار الاسلام
(قال) وما أصاب أهل العدل من كراع أهل البغي وسلاحهم فلا بأس باستعمال ذلك عليهم
عند الحاجة لأنهم لو احتاجوا إلى سلاح أهل العدل كان لهم أن يأخذوه للحاجة والضرورة
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان دروعا في حرب هوازن وكان ذلك
بغير رضاه حيث قال أغصبا يا محمد فإذا كان يجوز ذلك في سلاح من لا يقاتل ففي سلاح
من يقاتل من أهل البغي أولى فإذا وضعت الحرب أو زارها رد جميع ذلك عليهم لزوال
الحاجة وكذلك ما أصيب من أموالهم يرد إليهم لأنه لم يتملك ذلك المال عليهم لبقاء العصمة
والاحراز فيه ولان الملك بطريق القهر لا يثبت ما لم يتم وتمامه بالاحراز بدار تخالف دار
المستولي عليه وذلك لا يوجد بين أهل البغي وأهل العدل لان دار الفئتين واحدة (قال)
126

وبلغنا عن علي رضي الله عنه أنه ألقي ما أضاب من عسكر أهل النهروان في الرحبة فمن
عرف شيئا أخذه حتى كان آخر من عرف شيئا لإنسان قدر حديد فأخذها ولما قيل لعلي رضي الله عنه
يوم الجمل الا تقسم بيننا ما أفاء الله علينا قال فمن يأخذ منكم عائشة وإنما قال
ذلك استبعادا لكلامهم واظهارا لخطئهم فيما طلبوا وإذا أخذت المرأة من أهل البغي فإن كان
ت تقاتل حبست حتى لا يبقى منهم أحد ولا تقتل لأن المرأة لا تقتل على ردتها فكيف
تقتل إذا كانت باغية وفى حال اشتغالها بالقتال إنما جاز قتلها دفعا وقد اندفع ذلك حين أسرت
كالولد يقتل والده دفعا إذا قصده وليس له ذلك بعدما اندفع قصده ولكنها تحبس
لارتكابها المعصية ويمنعها من الشر والفتنة وإذا أخذ رجل حر أو عبد كان يقاتل وكان
عسكر أهل البغي على حاله قتل لأنه ممن يقاتل عبدا كان أو حرا وقد بينا جواز قتل الأسير
إذا بقيت له فئة وإن كان عبدا يخدم مولاه ولم يقاتل حبس حتى لا يبقي من أهل البغي أحد
ولم يقتل لأنه ما كان مقاتلا والقتل في حق أهل البغي للدفع فمن لم يقاتل ولم يعزم على ذلك
لا يقتل ولكنه مال الباغي وقد بينا أنه يوقف حتى لا يبقي أحد منهم وإنما يوقف العبد بحبسه
لكيلا يهرب فيعود إلى مولاه وما أصاب المسلمون منهم من كراع أو سلاح وليس
لهم إليه حاجة قال اما الكراع فيباع ويحبس الثمن لأنه يحتاج إلى النفقة فلا ينفق عليه الامام
من بيت المال لما فيه من الاحسان إلى صاحبه الباغي ولان حبس الثمن أهون عليه من حبس
الكراع فلهذا يبيعه ويحبس ثمنه حتى يتفرق جمعهم فيرد ذلك على صاحبه وأما السلاح فيمسكه
ليرده على صاحبه إذا وضعت الحرب أو زارها وهذا لان في الرد في الحال إعانة لهم على أهل
العدل وذلك لا يجوز فلهذا يوقف لتفرق الجمع فان طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إليها
إن كان خيرا للمسلمين لما بينا أنهم قد يحتاجون إلى الموادعة لحفظ قوة أنفسهم إذا لم يقووا
على قتالهم وكما يجوز ذلك في حق المرتدين يجوز في حق أهل البغي ولم يؤخذ منهم عليها
شئ لأنهم مسلمون ولا يجوز أخذه الجزية من المسلمين وقد بينا مثله في حق المرتدين الا
ان هناك إذا أخذوا ملكوا لأنهم بعدما صاروا أهل حرب تغنم أموالهم وههنا ان أخذوا
لا يملكون لان أموال الخوارج لا تغنم بحال وإذا تاب أهل البغي ودخلوا إلى أهل العدل لم
يؤخذوا بشئ مما أصابوا يعني بضمان ما أتلفوا من النفوس والأموال ومراده إذا أصابوا
ذلك بعد ما تجمعوا وصاروا أهل منعة فاما ما أصابوا قبل ذلك فهم ضامنون لذلك لأنا أمرنا
127

في حقهم بالمحاجة والالزام بالدليل فلا يعتبر تأويلهم الباطل في اسقاط الضمان قبل أن يصيروا
أهل منعة فاما بعدما صارت لهم منعة فقد انقطع ولاية الالزام بالدليل حسا
فيعتبر تأويلهم وإن كان باطلا في اسقاط الضمان عنهم كتأويل أهل الحرب بعدما أسلموا
والأصل فيه حديث الزهري قال وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانوا متوافرين فاتفقوا؟ على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل
بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال أتلف بتأويل القرآن فهو موضوع وما كان قائما بعينه
في أيديهم فهو مردود على صاحبه لأنهم لم يملكوا ذلك بالأخذ كما أنا لا نملك عليهم مالهم
والتسوية بين الفئتين المقاتلتين بتأويل الدين في الاحكام أصل وقد روى عن محمد قال
افتيهم إذا تابوا بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والأموال ولا ألزمهم ذلك في الحكم وهذا
صحيح فإنهم كانوا معتقدين الاسلام وقد ظهر لهم خطأهم في التأويل إلا أن ولاية الالزام
كان منقطعا للمنعة فلا يجبر على أداء الضمان في الحكم ولكن يفتي به فيما بينه وبين ربه ولا
يفتى أهل العدل بمثله لأنهم محقون في قتالهم وقتلهم ممتثلون للامر وإن كان أهل البغي قد
استعانوا بقوم من أهل الذمة على حربهم فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد ألا
ترى أن هذا الفعل من أهل البغي ليس ينقض للايمان فكذلك لا يكون من أهل الذمة
نقضا للعهد وهذا لان أهل البغي مسلمون فان الله تعالى سمى الطائفتين باسم الايمان
بقوله تعالى وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال علي رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا فالذين
انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الاسلام في المعاملات
وأن يكونوا من أهل دار الاسلام فلهذا لا ينتقض عهدهم بذلك ولكنهم بمنزلة أهل البغي
فيما أصابوا في الحرب لأنهم قاتلوا تحت راية البغاة فحكمهم فيما فعلوا كحكم البغاة وينبغي
لأهل العدل إذا لقوا أهل البغي أن يدعوهم إلى العدل هكذا روى عن علي رضي الله عنه أنه
بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى أهل حرورا حتى ناظرهم ودعاهم إلى التوبة ولان
المقصود ربما يحصل من غير قتال؟ بالوعظ والانذار فالأحسن ان يقدم ذلك على
القتال لان الكي آخر لدواء وإن لم يفعلوا فلا شئ عليهم لأنهم قد علموا ما يقاتلون عليه فحالهم
في ذلك كحال المرتدين وأهل الحرب الذين بلغتهم الدعوة ولهذا يجوز قتالهم بكل ما يجوز
القتال به من أهل الحرب كالرمي بالنبل والمنجنيق وارسال الماء والنار عليهم والبيات بالليل
128

لان قتالهم فرض كقتال أهل الحرب والمرتدين وإذا وقعت الموادعة بينهم فأعطى كل واحد
من الفريقين رهنا على أنه أيهما غدر فقتل الرهن فدماء الآخرين لهم حلال فغدر
أهل البغي وقتلوا الرهن الذين في أيديهم لم ينبغ لأهل العدل ان يقتلوا الرهن الذين في
أيديهم ولكنهم يحبسونهم حتى يهلك أهل البغي أو يتوبوا لأنهم صاروا آمنين فينا إما بالموادعة
أو بأن أعطيناهم الأمان حين أخذناهم رهنا وإنما كان الغدر من غيرهم فلا يؤاخذون بذنب
الغير قال الله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى ولكنه لا يخلى سبيلهم لأنهم يخاف فتنتهم
وان يعودوا إلى فئتهم فيحاربون أهل العدل فلهذا حبسوا إلى أن يتفرق جمعهم وكذلك أن
كان هذا الصلح بين المسلمين والمشركين فغدر المشركون حبس رهنهم في أيدي المسلمين
حتى يسلموا وان أبوا فهم ذمة المسلمين يوضع عليهم الجزية لأنهم حصلوا في أيدينا آمنين
فلا يحل قتلهم بغدر كان من غيرهم ولكنهم احتبسوا في دارنا على التأبيد لأنهم كانوا راضين
بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد فات ذلك حين قتلوا رهننا فقلنا إنهم يحتبسون
في دارنا على التأبيد والكافر لا يترك في دارنا مقيما الا بجزية فتوضع عليهم الجزية إن لم
يسلموا ويحكي أن الدوانيقي كان ابتلى بهذا الصلح مع أهل الموصل ثم إنهم غدروا فقتلوا
رهنه فجمع العلماء ليستشيرهم في رهنهم فقالوا يقتلون كما شرطوا على أنفسهم وفيهم أبو حنيفة
رحمه الله تعالى ساكت فقال له ما تقول قال ليس لك ذلك فإنك شرطت لهم مالا يحل
وشرطوا لك مالا يحل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا تزر وازرة وزر
أخرى فأغلظ عليه القول وأمر باخراجه من عنده وقال ما دعوتك لشئ الا أتيتني بما
أكره ثم جمعهم من الغد وقال قد تبين لي أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم قال سل العلماء
فسألهم فقالوا لا علم لنا بذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى توضع عليهم الجزية فقال لم وهم
لا يرضون بذلك قال لأنهم رضوا بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد تحقق فوات
ذلك فكانوا راضين بالمقام في دارنا على التأبيد والكافر إذا رضى بذلك توضع عليه الجزية
فاستحسن قوله واعتذر إليه ورده إلى بيته بمحمل وإذا أمن الرجل من أهل العدل رجلا من
أهل البغي جاز أمانه لان وجوب قتل الباغي لا يكون أقوى من وجوب قتل المشرك ثم هناك
يصح أمان واحد من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم يسعى بذمتهم أدناهم فكذلك ههنا
ولأنه ربما يحتاج إلي أن يناظره فعسى أن يتوب من غير قتال ولا يتأتى ذلك ما لم يأمن كل
129

واحد منهما من صاحبه وكذا ان قال لا سبيل عليك أو أمنه بالفارسية أو النبطية هكذا
روى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أيما مسلم قال لكافر مبرس أولا
يذهل أولاده فهو أمان وكل من يصح أمانه للحربي يصح أمانه للباغي كالمرأة والعبد الذي
يقاتل مع مولاه فإن كان العبد لا يقاتل مع مولاه فأمانه لأهل البغي على الخلاف ولا يجوز
أمان الذمي وإن كان يقاتل مع أهل العدل كما لا يجوز أمانه للكفار وإذا قاتل النساء من أهل
البغي أهل العدل وسعهم قتلهن دفعا لقتالهن فإذا لم يقاتلن لم يسعهم قتالهن كما في حق أهل
الحرب بل أولى فهذا القتال دفع محض فإذا قاتلن قتلن للدفع وإذا لم يقاتلن فلا حاجة إلى دفعهن
وإذا كان قوم من أهل العدل في يدي أهل البغي تجار أو أسري فجني بعضهم على بعض
ثم ظهر عليهم أهل العدل لم يقتص لبعضهم من بعض لأنهم فعلوا ذلك حيث لا تصل إليهم
يد امام أهل العدل ولا يجري عليهم حكمه فكأنهم فعلوا ذلك في دار الحرب ولا يقبل
قاضي أهل العدل كتاب قاضي أهل البغي لان أهل البغي فسقة وما لم يخرجوا ففسقهم فسق
اعتقاد فأما بعدما خرجوا ففسقهم فسق التعاطي فكما لا تقبل شهادة الفاسق فكذلك كتاب
الفاسق ولأنهم يستحلون دماءنا وأموالنا فربما حكم قاضي أهل البغي بناء على هذا
الاستحلال من غير حجة وان ظهر أهل البغي على مصر فاستعملوا عليه قاضيا من أهله
وليس من أهل البغي فإنه يقيم الحدود والقصاص والاحكام بين الناس بالحق لا يسعه الا
ذلك لان شريحا رحمه الله تعالى تقلد القضاء من جهة بعض بني أمية والحسن رحمه الله تعالى
كذلك وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعدما استخلف لم يتعرض لقضاء القضاة الذين
تقلدوا من جهة بني أمية والمعني فيه أن الحكم بالعدل ودفع الظلم عن المظلوم من باب الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر وذلك فرض على كل مسلم إلا أن كل من كان من الرعية فهو غير
متمكن من إلزام ذلك فإنما تمكن من ذلك بقوة من قلده كان عليه أن يحكم بما هو فرض
عليه سواء كان من قلده باغيا أو عادلا فان شرط التقليد التمكن وقد حصل فان كتب هذا
القاضي كتابا إلي قاضي أهل العدل بحق لرجل من أهل المصر بشهادة من شهد عنده بذلك
أجازه إذا كان هذا القاضي الذي أتاه الكتاب يعرف الشهود الذين شهدوا عند ذلك القاضي
وليسوا من أهل البغي لأنهم لو شهدوا عنده بذلك كان عليه أن يقضى بشهادتهم فكذلك
إذا نقل القاضي بكتابه شهادتهم إلى مجلسه وان كانوا من أهل البغي لا يجيز كتابه كما لو
130

شهدوا عنده بذلك لم يقض بشهادتهم على ما بينا وكذلك أن كأن لا يعرفهم لأن الظاهر في
منعة أهل البغي أن من يسكن فيهم فهو منهم فما لم يعلم خلافه وجب عليه الاخذ بالظاهر
(قال) وما أصاب أهل البغي من القتل والأموال قبل أن يخرجوا ويحاربوا ثم صالحوا بعد
الخروج على ابطال ذلك لم يجز وأخذوا بجميع ذلك من القصاص والأموال لان ذلك حق
لزمهم للعباد وليس للامام ولاية اسقاط حقوق العباد فكان شرطهم اسقاط ذلك عنهم شرطا
باطلا فلا يوفي به ويصنع بقتلى أهل العدل ما يصنع بالشهيد فلا يغسلون ويصلى عليهم
هكذا فعل علي رضي الله عنه بمن قتل من أصحابه وأوصى عمار بن ياسر وحجر بن عدي
وزيد بن صوحان رضي الله عنهم حين استشهدوا وقد رويناه في كتاب الصلاة ولا يصلى
على قتلى أهل البغي ولا يغسلون أيضا ولكنهم يدفنون لإماطة الأذى هكذا روى عن علي
رضي الله عنه أنه لم يصل على قتلى النهروان ولان الصلاة عليهم الدعاء لهم والاستغفار
قال الله تعالى وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم وقد منعنا من ذلك في حق أهل البغي
ولان القيام بغسلهم والصلاة عليهم نوع موالاة معهم والعادل ممنوع من الموالاة مع أهل
البغي في حياة الباغي فكذلك بعد وفاته وكان الحسن بن زياد رحمهما الله تعالى يقول هذا
إذا بقيت لهم فئة فإن لم يبق لهم فلا بأس للعادل بأن يغسل قريبه من أهل البغي ويصلى
عليه وجعل ذلك بمنزلة قتل الأسير والتجهيز على الجريح لان في القيام بذلك مراعاة
حق القرابة ولا بأس بذلك إذا لم يبق لهم فئة (قال) وأكره ان تؤخذ رؤسهم فيطاف
بها في الآفاق لأنه مثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب
العقور ولأنه لم يبلغنا ان عليا رضي الله عنه صنع ذلك في شئ من حروبه وهو المتبع في الباب
ولما حمل رأس يباب البطريق إلى أبي بكر رضي الله عنه كرهه فقيل إن الفرس والروم
يفعلون ذلك فقال لسنا من الفرس ولا الروم يكفينا الكتاب والخبر وقد جوز ذلك بعض
المتأخرين من أصحابنا إن كان فيه كسر شوكتهم أو طمأنينة قلب أهل العدل استدلالا
بحديث ابن مسعود رضي الله عنهم حين حمل رأس أبى جهل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم ينكر عليه وإذا قتل العادل في الحرب أباه الباغي ورثه لأنه قتل بحق فلا يحرمه
الميراث كالقتل رجما أو في قصاص وهذا لان حرمان الميراث عقوبة شرعت جزاء على قتل
محظور فالقتل المأمور به لا يصلح أن يكون سببا له وكذلك الباغي إذا قتل مورثه العادل
131

يرثه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يرثه في قول أبى يوسف رحمه الله
تعالى لأنه قتل بغير حق فيحرمه الميراث كما لو قتله ظلما من غير تأويل وهذا لان
اعتقاده تأويله لا يكون حجة على مورثه العادل ولا على سائر ورثته وإنما يعتبر ذلك في حقه
خاصة يوضحه ان تأويل أهل البغي عند انضمام المنعة يعتبر على الوجه الذي يعتبر في حق
أهل الحرب وتأثير ذلك في اسقاط ضمان النفس والمال لا في حكم التوريث إذ لا توارث بين
المسلم والكافر فكذلك تأويل أهل البغي وهما يقولان المقاتلة بين الفئتين بتأويل الدين
فيستويان في الاحكام وان اختلفا في الآثام كما في سقوط الضمان وكما في حق أهل الحرب
مع المسلمين وكما أن قتل الباغي مورثه بغير حق فقتل الحربي كذلك بغير حق ثم لا يتعلق به
حرمان الميراث حتى إذا جرح الكافر مورثه ثم أسلم ثم مات من تلك الجراحة ورثه وكما أن
اعتقاده لا يكون حجة على العادل في حكم التوريث فكذلك في حكم سقوط حقه في
الضمان لا يكون حجة ولكن قيل لما انقطعت ولاية الالزام بانضمام المنعة إلي التأويل
جعل الفاسد من التأويل كالصحيح في ذلك الحكم فكذلك في حكم التوريث ويكره
للعادل أن يلي قتل أخيه وأبيه من أهل البغي اما في حق الأب لا يشكل فإنه يكره له
قتل أبيه المشرك كما قال تعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا فالمراد في الأبوين المشركين
كذلك تأول الآية وهو قوله تعالى وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا
تطعهما ولما استأذن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قتل أبيه المشرك كره له ذلك وقال يكفيك ذلك غيرك وكذلك لما استأذن عبد الله بن عبد
الله بن أبي سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه المشرك نهاه عن ذلك ولا بأس
بقتل أخيه إذا كان مشركا ويكره إذا كان باغيا لان في حق الباغي اجتمع حرمتان حرمة القرابة
وحرمة الاسلام فيمنعه ذلك من القصد إلى قتله وفى حق الكافر إنما وجد حرمة واحدة
وهو حرمة القرابة فذلك لا يمنعه من القتل كالحرمة في حق الدين في حق الأجانب من أهل
البغي فان قصده أبوه المشرك أو الباغي ليقتله كان للابن أن يمتنع منه يقتله لأنه يقصد
بفعله الدفع عن نفسه لا قتل أبيه وكل واحد مأمور بأن يدفع قصد الغير عن نفسه وإن كان
الرجل من أهل العدل في صف أهل البغي فقتله رجل لم يكن عليه فيه الدية كما لو كان في
صف أهل الحرب لأنا أمرنا بقتال الفريقين فكل من كان واقفا في صفهم فقتاله حلال
132

والقتال الحلال لا يوجب شيئا ولأنه أهدر دمه حين وقف في صف أهل البغي وإذا دخل
الباغي عسكر أهل العدل بأمان فقتله رجل من أهل العدل فعليه الدية كما لو قتل المسلم
مستأمنا في دارنا وهذا لبقاء شبهة الإباحة في دمه حين كان دخوله بأمان ألا ترى أنه يجب
تبليغه مأمنه ليعود حربا فالقصاص يندرئ بالشبهات ووجوب الدية للعصمة والتقوم
في دمه للحال (قال) وإذا حمل العادل على الباغي في المحاربة فقال قد تبت وألقى السلاح
كف عنه لأنه إنما يقاتله ليتوب وقد حصل المقصود فهو كالحربي إذا أسلم ولأنه يقاتله دفعا
لبغيه وقتاله وقد اندفع ذلك حين ألقى السلاح وكذلك لو قال كف عني حتى أنظر في أمري
فلعلي أتابعك وألقى السلاح لأنه استأمن لينظر في أمره فعليه أن يجيبه إلى ذلك رجاء أن
يحصل المقصود بدون القتال وفي حق أهل الحرب لا يلزمه اعطاء الأمان لان الداعي إلى
المحاربة هناك شركه ولا ينعدم ذلك بالقاء السلاح وههنا أهل البغي مسلمون وإنما يقاتلون
لدفع قتالهم فإذا ألقي السلاح واستمهله كان عليه أن يمهله ولو قال أنا على دينك ومعه السلاح
لم يكف عنه بذلك لأنه صادق فيما قال وقد بينا أن البغاة مسلمون وقد كان العادل مأمورا
بقتالهم مع علمه بذلك فلا يتغير ذلك باخباره إياه بذلك وهذا لأنه ما دام حاملا للسلاح فهو
قاصد للقتال ان تمكن منه فيقتله دفعا لقتاله وإذا غلب قوم من أهل البغي على مدينة فقاتلهم
قوم آخرون من أهل البغي فهزموهم فأرادوا أن يسبوا ذراري أهل المدينة لم يسع أهل
المدينة إلا أن يقاتلوا دون الذراري لان ذراري المسلمين لا يسبون فان البغاة ظالمون في
سبيهم وعلي كل من يقوى على دفع الظلم عن المظلوم أن يقوم به كما قال صلى الله عليه
وسلم لا حتى تأخذوا علي يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا وإذا وادع أهل البغي
قوما من أهل الحرب لم يسع لأهل العدل أن يغزوهم لأنهم من المسلمين وأمان المسلم إذا
كان في فئة ممتنعة نافذ على جميع المسلمين فان غدر بهم أهل البغي فسبوهم لم يشتر منهم
أهل العدل شيئا من تلك السبايا لاتهم؟ كانوا في موادعة وأمان من المسلمين فالذين غدروا
بهم لا يملكونهم ولكنهم يؤمرون باعادتهم إلى ما كانوا عليه حتى إذا تاب أهل البغي
أمروا بردهم وكذلك أن كان أهل العدل هم الذين وادعوهم وان ظهر أهل البغي علي أهل
العدل حتى ألجؤوهم إلى دار الشرك فلا يحل لهم أن يقاتلوا مع المشركين أهل البغي لان
حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغي من
133

المسلمين إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر ولا بأس بأن يستعين أهل العدل يقوم؟
من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل ظاهرا لأنهم يقاتلون
لاعزاز الدين والاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب وإذا
لم يكن لأهل البغي منعة وإنما خرج رجل أو رجلان من أهل مصر على تأويل يقاتلان ثم
يستأمنان أخذا بجميع الاحكام لأنهما بمنزلة اللصوص وقد بينا أن التأويل إذا تجرد عن
المنعة لا يكون معتبرا لبقاء ولاية الالزام بالمحاجة والدليل انهما معتقدان الاسلام
فيكونان كاللصين في جميع ما أصابا وإذا اشتد رجل على رجل في المصر بعصا أو حجر
فقتله المشدود عليه بحديدة قتل به في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى إذا اشتد عليه بشئ لو قتله به قتله فقتله المشدود عليه فدمه هدر وينبغي له
ان يقتله وهذه المسألة تنبني على مسألة كتاب الديات ان القتل بالحجر والعصا لا يوجب القصاص عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما مالا يثبت من الحجر الكبير والعصا بمنزلة السلاح
في أنه يجب القصاص به بخلاف العصا الصغير ثم المشدود عليه يتمكن من دفع شر
القتل عن نفسه إذا صار مقصودا بالقتل وإقدامه علي ما هو مباح له أو مستحق عليه
شرعا لا يوجب عليه شيئا فإذا كان عندهما الحجر الكبير كالسلاح فنقول الشاد لو حقق
مقصوده لزمه القصاص فبمجرد قصده يهدر دمه بل أولى لان هدر الدم وإباحة القتل
بمجرد القصد أسرع ثبوتا حتى كان للابن ان يقتل أباه إذا قصده دفعا للضرر وإن كان
لو حقق مقصوده لا يلزمه القود وكذلك الصبي والمجنون إذا قصد قتل انسان بالسلاح يباح
قتله دفعا وإن كان لو حقق مقصوده لا يلزمه القصاص ثم مالا يثبت عندهما آلة القتل
كالسلاح فالمقصود بالقتل دفع شر القتل عن نفسه فلا يلزمه شئ وعند أبي حنيفة
العصا والحجر ليس بآلة القتل فهو لا يدفع القتل عن نفسه وإنما يدفع الأذى عن نفسه
وبالحاجة إلى دفع الأذى لا يباح له الاقدام على القتل ولان الشاد لو حقق مقصوده لا يلزمه
القصاص فبمجرد القصد أيضا لا يهدر دمه (فان قيل) ان كأن لا يخاف على نفسه من جهة
القتل بخلاف الجرح وحرمة أطرافه لا تكون دون حرمة ماله ولو قصد ماله كان له ان
يقتله دفعا فهنا أولى (قلنا) بناء هذا الحكم على قصده وقصده ههنا النفس لا الطرف والمشدود
عليه لا يخاف القتل من جهة لأنه في المصر بالنهار فيلحقه الغوث قبل أن يأتي على نفسه فلهذا
134

لا يباح الاقدام على قتله بخلاف ما إذا كان بالليل أو كان بالمفازة لان الغوث بالبعد منه عادة
فإلى ان ينتبه الناس ويخرجوا ربما يأتي على نفسه فكان هو دافعا شر القتل عن نفسه وبخلاف
السلاح فإنه آلة القتل من حيث أنه جارح فالظاهر أنه يأتي على نفسه قبل أن يلحقه الغوث
فيباح له أن يقتله دفعا فلا يلزمه به شئ ولا يفصل بين قصده إلى المال أو إلى النفس بل هو
على التقسيم الذي قلنا سواء أراد نفسه أو ماله ومقصوده من ايراد هذه المسألة ههنا الفرق
بين اللصوص وبين أهل البغي فان في حق اللصوص المنعة تجردت عن تأويل وقد بينا ان
في حق أهل البغي ان المغير للحكم اجتماع المنعة والتأويل وأنه إذا تجرد أحدهما عن الآخر
لا يتغير الحكم في حق ضمان المصاب والعبد في جميع ما ذكرنا كالحر وعلى هذا لو أن لصوصا
غير متأولين غلبوا على مدينة فقتلوا الأنفس واستهلكوا الأموال ثم ظهر عليهم أهل العدل
أخذوا بجميع ذلك لتجرد المنعة عن التأويل وإذا غلب أهل البغي على مدينة فاستعملوا عليها
قاضيا فقضى بأشياء ثم ظهر أهل العدل على تلك المدينة فرفعت قضاياه إلى قاضي أهل العدل
فإنه ينفذ منها ما كان عدلا لأنه لو نقضها احتاج إلي إعادة مثلها والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد
ولا ينقض شيئا ليعيده وكذلك أن قضى بما رآه بعض الفقهاء لان قضاء القاضي في المجتهدات
نافذ فلا ينقض ذلك قاضي أهل العدل من قضايا من تقلد من أهل البغي وإن كان مخالفا
لرأيه وإذا اجتمع عسكر أهل العدل والبغي على قتال أهل الحرب فغنموا غنيمة اشتركوا فيها
لأنهم مسلمون اشتركوا في القتال لاعزاز الدين وفى احراز الفئ بدار الاسلام وهو معني
قول علي رضي الله عنه لن نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم مع أيدينا ويأخذ خمسها أهل العدل
ليصرفوا ذلك إلى المصارف فان أهل البغي لا يفعلون ذلك لأنهم يستحلون أموالنا فالظاهر أنهم
لا يصرفون الخمس إلى مصارفه ولان أهل العدل يؤمرون بأن يتكلفوا لتكون الراية لهم
وإنما يظهر ذلك إذا كانوا هم الذين أخذوا الخمس وكذلك أن غنم أحد الفريقين دون الآخر
اشتركوا فيها لان بعضهم ردء البعض وقد اشتركوا في الاحراز وكذلك إذا غزا الامام
بجند المسلمين فمات في أرض الحرب واختلف الجند فيمن يستخلفونه ثم غنموا أو غنمت
طائفة منهم اشتركوا فيها لأنهم مع هذا الاختلاف يجتمعون على قتال أهل الحرب
لاعلاء كلمة الله تعالى واعزاز الدين فيشتركون في المصاب وقد بينا ان جيشا لهم منعة
لو دخلوا دار الحرب من غير اذن الامام خمس ما أصابوا وقسم ما بقي بينهم علي سهام الغنيمة
135

فكذلك حال الذين قاتلوا بعد ما مات الامام قبل أن يستخلفوا غيره وإذا استعان قوم من
أهل البغي بقوم من أهل الحرب على قتال أهل العدل وقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل
قال يسبى أهل الحرب وليست استعانة أهل البغي بهم بأمان لهم لان المستأمن يدخل دار
الاسلام تاركا للحرب وهؤلاء ما دخلوا دار الاسلام الا ليقاتلوا المسلمين من أهل
العدل فعرفنا أنهم غير مستأمنين ولان المستأمنين لو تجمعوا وقصدوا قتال المسلمين
وناجزوهم كان ذلك منهم نقضا للأمان فلأن يكون هذا المعنى مانعا ثبوت الأمان في
الابتداء أولى وكذلك أهل البغي إذا دعوا قوما من أهل الحرب فأعان أولئك
القوم من أهل الحرب على أهل العدل فقاتلوهم فظهر عليهم أهل العدل فإنهم يسبونهم لما بينا
أن موادعة أهل البغي وان كانت عاملة في حق أهل العدل فهم بالقصد إلى مال أهل العدل
صاروا ناقضين لتلك الموادعة والتحقوا بمن لا موادعة لهم من أهل الحرب في حكم
السبي من لحق بعسكر أهل البغي وحارب معهم لم يكن فيه حكم المرتد حتى لا يقسم ماله
بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه وبين امرأته فان عليا رضي الله تعالى عنه لم يفعل ذلك
في حق أحد ممن التحق من أهل عسكره بمن خالف ولما قال للذي أتاه بعد ذلك يخاصم في
زوجته أنت الممالئ علينا عدونا قال أو يمنعني ذلك عدلك فقال لا وقضى له بزوجته ولان
الموت الحكمي إنما يثبت بتباين الدارين حقيقة وحكما وذلك لا يوجد ههنا فمنعة أهل
البغي وأهل العدل كلها في دار الاسلام فلهذا لا يقسم ماله بين ورثته ولا تنقطع العصمة بينه
وبين زوجته والله أعلم
(باب آخر في الغنيمة)
(قال) قال أبو حنيفة رحمه الله المقطوع في الحرب وصاحب الديون في الغنيمة سواء لان
النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغنيمة قال لله سهم ولهؤلاء أربعة أسهم فقال السائل
فهل أحدا حق بشئ من غيره قال لا حتى لو رميت بسهم في جنبك فاستخرجته لم تكن
أحق به من صاحبك ولان السبب هو القهر على وجه يكون فيه اعزاز الدين والمتطوع في
ذلك كصاحب الديون ومن دخل دار الحرب للتجارة وهو في عسكر المسلمين فلا حق
له في الغنيمة الا ان يلقى المسلمون العدو فيقاتل معهم فيشاركهم حينئذ لان التاجر ما كان
136

قصده عند الانفصال إلى دار الحرب القتال لاعزاز الدين وإنما كان قصده التجارة فلا يكون
هو من الغزاة وإن كان فيهم الا ان يقاتل فحينئذ يتبين بفعله ان مقصوده القتال ومعنى
التجارة تبع فلا يحرمه ذلك سهمه وقيل نزل قوله عز وجل ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا
من ربكم يعنى التجارة في طريق الحج فكذلك في طريق الغزو وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير الذي لا
يطيق القتال والذين بهم زمانة لا يطيقون القتال فنهى عن ذلك وكرهه والأصل فيه قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين رأي امرأة مقتولة هاما كانت هذه تقاتل فهذا تنصيص على أنها
لا تقتل والشيخ الكبير ومن به زمانة بهذه الصفة قالوا وهذا إذا كأن لا يقاتل برأيه
وأما إذا كان يقاتل برأيه ففي قتله كسر شوكتهم فلا بأس بذلك فان دريد بن الصمة قتل يوم
حنين وكان ابن مائة وستين سنة وقد عمى وكان ذا رأي في الحرب (قال) وسألته عن
أصحاب الصوامع والرهبان فرأي قتلهم؟ حسنا وفى السير الكبير مروي عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى انهم لا يقتلون وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله وقيل لا خلاف في الحقيقة
فإنهم ان كانوا يخالطون الناس يقتلون عندهم جميعا لان المقاتلة يصدرون عن رأيهم وهم
الدين يحثونهم على قتال المسلمين وان كانوا طينوا على أنفسهم الباب ولا يخالطون الناس
أصلا فإنهم لا يقتلون لأنهم لا يقاتلون بالفعل ولا بالحث عليه وقيل بل في المسألة خلاف
فهما استدلا بوصية أبى بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان حيث قال وستلقى أقواما من
أصحاب الصوامع والرهبان زعموا انهم فرغوا أنفسهم للعبادة فدعهم وما فرغوا أنفسهم له
والمعني فيه أنهم لا يقاتلون والقتل لدفع القتال فكانوا هم في ذلك كالنساء والصبيان وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى يقول هؤلاء من أئمة الكفر قال تعالى فقاتلوا أئمة الكفر فمعنى هذا الكلام
انهم فرغوا أنفسهم للاصرار على الكفر والاشتغال بما يمنع عنه في الاسلام والظاهر أن
الناس يقتدون بهم فهم يحثون الناس على القتال فعلا وان كانوا لا يحثونهم على ذلك قولا
ولأنهم بما صنعوا لا تخرج بنيتهم من أن تكون صالحة للمحاربة وان كانوا لا يشتغلون بالمحاربة
كالمشغولين بالتجارة والحراثة منهم بخلاف النساء والصبيان (قال) وسألته عن الرجل
يأسر الرجل من أهل العدو هل يقتله أو يأتي به الإمام قال أي ذلك فعل فحسن لان بالأسر
ما تسقط الإباحة من دمه حتى يباح للامام ان يقتله فكذلك يباح لمن أسره كما قبل أخذه
137

ولما قتل أمية بن خلف بعدما أسر يوم بدر لم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
على من قتله وان أتى به الامام فهو أقرب إلى تعظيم حرمة الامام والأول أقرب إلى
إظهار الشدة على المشركين وكسر شوكتهم فينبغي ان يختار من ذلك ما يعلمه أنفع
وأفضل للمسلمين (قال) وسألته عن الرجل من أهل الحرب يقتله المسلمون هل يبيعون
جيفته من أهل الحرب قال لا بأس في ذلك بدار الحرب في غير عسكر المسلمين وقال
أبو يوسف رحمه الله تعالى أكره ذلك وأنهي عنه وأصل الخلاف في عقود الربا بين المسلم
والحربي في دار الحرب وقد بيناه وأشار إلى المعنى ههنا فقال أموال أهل الحرب تحل
للمسلمين بالغصب فبطيب أنفسهم أولى معناه أو في غير عسكر المسلمين لا أمان لهم
في المال الذي جاؤوا به فان للمسلمين أن يأخذوه بأي طريق يتمكنون من ذلك ولا يكون
هذا أخذا بسبب بيع الميتة والدم بل بطريق الغنيمة ولهذا يخمس ويقسم ما بقي بينهم على
طريق الغنيمة وسألته عن المسلمين يستعينون بأهل الشرك على أهل الحرب قال لا بأس
بذلك أن كان حكم الاسلام هو الظاهر الغالب لان قتالهم بهذه الصفة لاعزاز الدين
والاستعانة عليهم بأهل الشرك كالاستعانة بالكلاب ولكن يرضخ لأولئك ولا يسهم لان
السهم للغزاة والمشرك ليس بغاز فان الغزو عبادة والمشرك ليس من أهلها وأما الرضخ
لتحريضهم على الإعانة إذا احتاج المسلمون إليهم بمنزلة الرضخ للعبيد والنساء (قال) وسألته
عن الأسير يقتل أو يفادى قال لا يفادي ولكنه يقتل أو يجعل فيئا أي ذلك كان خيرا
للمسلمين فعله الامام والكلام ههنا في فصول (أحدها) مفاداة الأسير بمال يؤخذ من
أهل الحرب فان ذلك لا يجوز عنده وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال العظيم وذكر
محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير ان ذلك يجوز إذا كان بالمسلمين حاجة إلى المال لقوله
تعالى فإما منا بعد واما فداء والمراد به الأسارى بدليل أول الآية فشدوا الوثاق ولما شاور
رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضى الله تعالى عنهم في الأسارى يوم بدر أشار
أبو بكر رضي الله عنه بالمفاداة فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لما رأي من
حاجة أصحابه إلي المال في ذلك الوقت والمعنى فيه أن استرقاق الأسير جائز وفيه منفعة للمسلمين
من حيث المال فإذا فادوه بمال عظيم فمنفعة المسلمين من حيث المال في ذلك أظهر فيجوز
ذلك ولا يجوز قتله وفيه ابطال حق الغانمين عنه بغير عوض فلان يجوز بعوض وهو المال
138

الذي يفادى به كان أولى (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
فبهذا تبين أن قتل المشرك عند التمكن منه فرض محكم وفى المفاداة ترك إقامة هذا الفرض
وسورة براءة من آخر ما نزل فكانت هذه الآية قاضية على قوله تعالى فاما منا بعد واما
فداء على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفاداة الأسارى يوم بدر كيف وقد
قال تعالى لولا كتاب من الله أسبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال صلى الله عليه
وسلم لو نزل العذاب ما نجى منه الا عمر فإنه كان أشار بقتلهم واستقصي في ذلك وقال تعالى
وان يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم اخراجهم فما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة
على وجه الانكار عليهم ففائدتنا أن لا نفعل مثل ما فعلوا وحديث أبي بكر رضي الله عنه في
الأسير حيث قال لا تفادوه وان أعطيتم به مدين من ذهب ولأنه صار من أهل دارنا فلا
يجوز اعادته إلى دار الحرب ليكون حربا علينا بمال يؤخذ منه كأهل الذمة وبه فارق الاسترقاق
لان في ذلك تقرير كونه من أهل دارنا لا لمقصود المال كأخذ الجزية من أهل الذمة ولان
تخلية سبيل المشرك ليعود حربا للمسلمين معصية وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز
وقتل المشرك فرض ولو أعطونا مالا لترك الصلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة
إلى المال فكذلك لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة يوضحه أن في هذا تقوية المشركين بمعنى
يختص بالقتال وذلك لا يجوز لمنفعة المال كما لا يجوز بيع الكراع والسلاح منهم بل أولى
لان قوة القتال بالمقاتل أظهر منه بآلة القتال وعن محمد رحمه الله تعالى قال لا يجوز المفاداة
للشيخ الكبير الذي لا يرجي له نسل ولا رأى له في الحرب بالمال لان مثله لا يقتل وليس
في المفاداة ترك القتل المستحق ولا تقوية المشركين بإعادة المقاتل إليهم فهو كبيع الطعام وغيره
من الأموال منهم فأما مفاداة الأسير بالأسير لا يجوز في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وفي رواية عنه أنه جوز ذلك وهو قولهما لان في هذا تخليص المسلم من
عذاب المشركين والفتنة في الدين وذلك جائز كما تجوز المفاداة في أسارى المسلمين بمال من
كراع أو سلاح أو غير ذلك وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان قتل المشركين فرض
محكم فلا يجوز تركه بالمفاداة وهذا لأنه إذ ابتلى الأسير المسلم بعذاب أو فتنة من جهتهم
فذلك لا يكون مضافا إلى فعل المسلم وإذا خلينا سبيل المشرك ليعود حربا لنا فذلك بفعل
مضاف الينا فمراعاة هذا الجانب أولى وهذا لأنا أمرنا ببذل النفوس والأموال لنتوصل إلى
139

قتلهم فبعد التمكن من ذلك لا يجوز تركه للخوف على الأسير المسلم ولان أسيرهم صار من
أهل دارنا بمنزلة الذمي فكما لا يجوز إعادة الذمي إليهم بطريق المفاداة بأسير المسلمين فكذلك
بأسيرهم ويستوى ان طلب مفاداة أسير بأسير أو أسيرين بأسير منهم لأن الظاهر أنهم
إنما يطلبون ذلك لقوة قتال ذلك الأسير وفى المفاداة تقويتهم على قتال المسلمين وقد بينا أن
ذلك ممتنع شرعا ثم قال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز المفاداة بالأسير قبل القسمة ولا يجوز
بعد القسمة لان قبل القسمة لم يتقرر كونه من أهل دارنا حتى كان للامام أن يقتله وقد تقرر
ذلك بعد القسمة حتى ليس للامام أن يقتله فكان بمنزلة الذي بعد القسمة وجعل قوله حتى
تضع الحرب أوزارها كناية عن القسمة لان تحققه يكون عند ذلك ومحمد رحمه الله تعالى يجوز
المفاداة بالأسير بعد القسمة لان المعني الذي لأجله جوزنا ذلك قبل القسمة الحاجة إلي
تخليص المسلم من عذابهم وهذا موجود بعد القسمة وحقهم في الاسترقاق ثابت قبل القسمة
وقد صار بذلك من أهل دارنا ثم تجوز المفاداة به لهذه الحاجة فكذلك بعد القسمة وقال لو
انفلتت إليهم دابة مسلم فأخذوها في دارهم ثم ظهر المسلمون عليها أخذها صاحبها قبل القسمة
بغير شئ وبعد القسمة بالقيمة لأنه لا يد للدابة في نفسها فتحقق احراز المشركين إياها
بالأخذ في دارهم بخلاف الآبق على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه وان خرج
رجل من المشركين بمال أصابه من المسلمين ليبيعه في دار الاسلام فلا سبيل المالك القديم
عليه كما لو أسلم أو صار ذميا لأنا أعطيناه الأمان فيما معه من المال وفى أخذ ذلك منه ترك
الوفاء بالأمان الا في العبد الآبق فان أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال يأخذه مولاه حيث ما
وجده بغير شئ لأنهم لم يملكوه وإنما أعطيناه الأمان فيما هو مملوك له وإذا أسر المشركون
جارية لمسلم فأحرزوها ثم اشتراها منهم مسلم فعميت عندهم لم يكن لمولاها أن يأخذها الا
بجميع الثمن في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما
أعلم لان الثمن يعطيه المالك القديم فداء وليس ببدل والفداء بمقابلة الأصل دون الوصف
ألا ترى أن العبد الجاني إذا عمى عند مولاه واختار الفداء لزمه الفداء بجميع الدية ولان
المولى إذا اختار الاخذ بالثمن يصير المشتري كالمأمور من جهته بالشراء له ولو كان أمره
بذلك فعميت عنده لم يسقط عنه شئ من الثمن فهذا مثله وكذلك لو قطعت يدها فأخذ
المشترى أرشها فان مولاها يأخذها دون الأرش بجميع الثمن لان الأرش دراهم ودنانير
140

وهي لا تفدى فإذا كان حق المولى في الأرش لا يثبت كان هذا في حقه وما لو سقطت اليد
بآفة سواء فلا يسقط شئ من الفداء عن المولى بسلامة الأرش للمشترى ألا ترى أن
المشترى لو كان هو الذي قطع يدها أو فقأ عينها لم ينتقص شئ من الفداء باعتباره فكذلك إذا
فعل ذلك غيره لان سلامة البدل كسلامة الأصل وبه يظهر الفرق بين هذا وبين الشفعة
فان هناك لو هدم المشترى شيئا من البناء سقط عن الشفيع حصته من الثمن فكذا إذا فعله
غيره يسلم للمشترى بدله وهذا لان ما يعطيه الشفيع بدل وما صار مقصودا من الأوصاف
يكون له حصة من البدل كما لو فقأ البائع عين المبيعة قبل القبض وكذلك أن ولدت عند
المشترى فاعتق المشتري الأم أو الولد أخذ الباقي منهما بجميع الثمن وكذلك لو قتل الولد
فاختار الاخذ فله ان يأخذ الامام بجميع الثمن لان الولد جزء من الأصل فاتلاف الولد
كاتلاف جزء منها وإذا بقي الولد فبقاء الجزء في حكم الفداء كبقاء الأصل ولم يذكر الخلاف
ههنا فيما إذا أتلف الأم وبقي الولد وفى ذلك اختلاف بين أبي يوسف ومحمد وقد قررنا ذلك
فيما أمليناه من شرح الجامع ولو أن رجلا باع أمة من رجل فلم يقبضها المشترى ولم ينقد الثمن
حتى أسرها أهل الحرب فاشتراها منهم رجل لم يكن للمشترى عليها سبيل حتى يأخذها البائع
لان قبل الأسر كان البائع أحق بها ليحبسها بالثمن فكذلك بعد الأسر هو أحق بأن يأخذها
بالثمن ليعيد حقه في الحبس وإذا أخذها بالثمن كان للمشترى أن يأخذها بالثمنين جميعا
الثمن الأول الذي اشتراها به والثاني الذي افتكها به لان قصده بما أدي من الفداء إحياء
حقه وكأن لا يتوصل إلى احياء حقه الا بذلك فلم يكن متبرعا فيما أدى وكل حر اسره أهل
الحرب ثم أسلموا عليه فهو حر لأنهم لم يملكوه بالأسر فكانوا ظالمين في حبسه فيؤمرون
بعد الاسلام بتخلية سبيله وكذلك أم الولد والمدبر والمكاتب لان أهل الحرب لم يملكوهم
لما ثبت فيهم من حق الحرية أو اليد المحترمة للمكاتب في نفسه ولهذا لا يملكون بالبيع
فكذلك بالأسر ولو أن الحر أمر تاجرا في دراهم فاشتراه منهم كان للمشترى ان يرجع
عليه بالثمن لأنه أمره بأن يعطى مال نفسه في عمل يباشره له فيرجع عليه بذلك كما لو أمره
بأن ينفق عليه أو على عياله والمكاتب كذلك لان أحق بكسبه وأمره بالفداء صحيح في
كسبه كأمر الحر وأما المدبر وأم الولد فإنه يرجع عليهما بالثمن إذا أعتقا لان كسبهما ملك
مولاهما وأمرهما غير معتبر في حق المولى ولكنه معتبر في حقهما فيكون هذا بمنزلة
141

كفالة أو اقرار منهما بمال فيؤخذان به بعد العتق وان اشتراهم بغير أمرهم لم يملكهم لان
البائع يكن مالكا لهم فكذلك المشترى لا يملكهم وبطل ماله لأنه متبرع فيما فدى به غير
مجبر على ذلك شرعا ولا مأمور به من جهة من حصلت له المنفعة فلا يرجع عليه بشئ كما
لو أنفق على عيال رجل بغير أمره ولو أن رجلا حرا أمر رجلا ان يشترى حرا من
دار الحرب بعينه بمال سماه فاشتراه لم يكن له على الحر الذي اشتراه من ذلك شئ لأنه لم
يأمره بما فعل وكان للمأمور ان يرجع على الذي أمره إن كان ضمن له الثمن أو قال اشتره
لي لأنه استعمله وضمن له ما يؤدي من مال نفسه وإن كان قال له اشتره لنفسه واحتسب
فيه لم يرجع عليه بشئ لأنه أشار عليه بما هو تبرع واحسان ولم يستعمله ولا ضمن له شيئا
والرجوع عليه بهذا الطريق يكون وإذا اشترى من المشركين عبدا كانوا أسروه من
المسلمين فرهنه المشترى ثم جاء مولاه الأول لم يكن له عليه سبيل حتى يفتكه الراهن لان
الراهن بعقد الرهن أوجب الحق للمرتهن في ماليته وصح ذلك منه بمصادفة تصرفه ملكه
ولا يتمكن المولى من أخذه من المرتهن لأنه ليس بمالك له ولا من الراهن قبل الفكاك
لقصور يده عنه بحق المرتهن فان أراد أن يتطوع بأداء الدين ثم يعطى الراهن الثمن فذلك
له لأنه أوصل إلى المرتهن حقه وهو متطوع في الدين الذي أدى لأنه متبرع بقضاء الدين
عن الغير ولأنه فادى ملك الغير وهذا بخلاف البائع فإنه قبل التسليم هو بمنزلة المالك يدا
وإنما فادى حقا له يوضحه ان هناك لا طريق له في التواصل إلى احياء حقه الا بما أدى من
الفداء فلا يجعل متبرعا فيه وههنا للمولى القديم طريق إلى ذلك بدون قضاء الدين وهو ان يصبر
حتى يفتك الراهن فيأخذه حينئذ (قال) ولا يجبر الراهن على افتكاكه لان الاحياء لحق
ثابت في العين في الحال ولاحق للمولى القديم في الاخذ ما لم يسقط حق المرتهن فلهذا لا يجبر
على افتكاكه ولو كان أجره المشترى إجارة كأن لمولاه أن يأخذه بالثمن ويبطل الإجارة فيما بقي
لان الإجارة عقد ضعيف ينقض بالعذر ألا ترى أنها تنقض بالرد بسبب فساد البيع والرد
بالعيب بخلاف الرهن فكذلك تنقض بالرد على المالك القديم بالثمن بخلاف الرهن وإذا غلب
قوم من أهل الحرب على قوم آخرين من أهل الحرب فاتخذوهم عبيد للملك ثم إن الملك
وأهل أرضه أسلموا أو صاروا ذمة فأولئك المغلوبون عبيد له يصنع بهم ما شاء لما بينا أنهم نهبة
فالمقهورون منهم صاروا مملوكين للقاهر باحرازه إياهم بمنعته لان قهره بالذين هم جنده
142

يطيعونه كقهره بنفسه وأما جنده الذين غلب بهم فهم أحرار لأنه كان قاهرا بهم لا لهم
فكانوا قبل الاسلام أحرارا وبالإسلام تتأكد حريتهم ولا تبطل وان حضر الملك الموت
فورث ماله بعض بنيه دون بعض أو جعل لكل واحد من بنيه موضعا معلوما فإن كان صنع
ذلك قبل أن يسلم أو يصير ذمة ثم أسلم ولده بعده فهو جائز على ما صنع لان الولد الذي
ملكه أبوه صار قاهرا مالكا لما أعطاه ولو فعل ذلك بعد موت أبيه بقوته بنفسه
أو أتباعه كان يتم ملكه فكذلك إذا فعله بقوة أبيه ومنعته وما كان هو مالكا له قبل الاسلام
فبالاسلام يتأكد ملكه فيه وكذلك أن كان فعله وهو موادع للمسلمين جاز أيضا لان
بالموادعة لا تخرج أمواله من أن تكون نهبة تملك بالقهر وإنما يحرم علينا أخذه لمعنى الغدر
وهذا لان بالموادعة لا يصير محرزا له فان داره لا تصير دار الاسلام فكان ما فعله بعد
الموادعة من تخصيص بعض الأولاد بتمليك المال منه كالمفعول قبل الموادعة ولأنه ما التزم
أحكام الاسلام والمنع من إيثار بعض الأولاد على البعض من حكم الاسلام وإن كان جعله
لابنه فظهر عليه ابن آخر له بعده فقتله أو نفاه وغلب على ما في يده ثم أسلم كان للابن القاهر
ما غلب عليه من ذلك لما بينا أنه بالقهر يصير متملكا عليه ذلك المال لبقائه على الإباحة بعد
الموادعة في حق ما بينهم فان ذلك هذا الابن بعدما أسلم الابن المقهور أو صار ذمة غلبه
على جميع ذلك أو أخرج منه أخاه فان صنعه وهو محارب فجميع ما غلبه عليه له ان أسلم أو صار ذمة
لأنه تم احرازه لمال المسلم أو الذمي فيملكه ويتأكد ملكه باسلامه وان صنعه وهو مسلم أو
ذمي أمر برد ذلك عليه لأنهم جميعا من أهل دار الاسلام فلا يملك بعضهم مال بعض
بالقهر وان صنع وهو محارب ثم ظهر المسلمون على ذلك فان وجد الابن الأول قبل القسمة
أخذه بغير شئ وان وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة وان اشتراه مسلم منهم وسعه ذلك
وكان للأول أن يأخذه منه بالثمن أن شاء كما هو الحكم في أهل الحرب إذا أحرزوا مال
المسلمين وإن كان الابن القاهر صنع ذلك وهما مسلمان أو ذميان فلا ينبغي للمسلمين
ان يشتروا منه شيئا من ذلك لأنه غاصب غير مالك وهو مأمور بالرد ولا يسع أحد أن
يشترى منه شيئا من ذلك وان اشتراه أخذه منه الأول بغير ثمن لان البائع لم يكن
مالكا فكذلك المشترى منه لا يكون مالكا بل يؤمر برده على المالك مجانا وان ارتد هذا
الابن القاهر بعد ذلك ومنع الدار وأجرى حكم الشرك في داره فقد تم إحرازه وصارت داره
143

دار حرب عندهما باجراء أحكام الشرك فيها وعند أبي حنيفة رضي الله عنه بالشرائط
الثلاثة كما بينا فان ظهر المسلمون على تلك الدار بعد ذلك أخذ الابن المقهور ما وجد
من ماله قبل القسمة بغير شئ وما وجده بعد القسمة بالقيمة لأنه
مال مسلم أحرزه أهل الحرب بدارهم ثم ظهر المسلمون عليه
وقد بينا الحكم فيه فيما سبق والله أعلم انتهى شرح
السير الصغير المشتمل على معني أثير باملاء المتكلم
بالحق المنير المحصور لأجله شبه الأسير
المنتظر للفرج من العالم القدير السميع
البصير المصلى على البشير الشفيع
لامته النذير وعلى كل
صاحب له ووزير
والله هو اللطيف
الخبير
144

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الاستحسان)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي كان شيخنا الامام يقول الاستحسان ترك القياس والاخذ بما هو أوفق
للناس وقيل الاستحسان طلب السهولة في الاحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الاخذ
بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الاخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة وحاصل هذه العبارات أنه
ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
وقال صلى الله عليه وسلم خير دينكم اليسر وقال لعلى ومعاذ رضى الله تعالى عنهما حين وجههما
إلى اليمن يسرا ولا تعسرا قربا ولا تنفرا وقال صلى الله عليه وسلم إلا أن هذا الدين متين فأوغلوا
فيه برفق؟ ولا تبغضوا عبادة الله فان المنبت؟ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى القياس
والاستحسان في الحقيقة قياسان أحدهما جلى ضعيف أثره فسمى قياسا والآخر خفي قوى
اثره فسمى استحسانا أي قياسا مستحسنا فالترجيح بالأثر لا بالخفاء والظهور كالدنيا مع
العقبى فان الدنيا ظاهرة والعقبى باطنة وترجحت بالصفاء والخلود وقد يقوى أثر القياس في
بعض الفصول فيؤخذ به وهو نظير الاستدلال مع الطرد فإنه صحيح والاستدلال بالمؤثر
أقوي منه والأصل فيه قوله تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
والقرآن كله حسن ثم أمر باتباع الأحسن وبيان هذا ان المرأة من قرنها إلى قدمها عورة
هو القياس الظاهر واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المرأة عورة مستورة ثم
أبيح النظر إلي بعض المواضع منها للحاجة والضرورة فكان ذلك استحسانا لكونه أرفق
بالناس كما قلنا والكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ذكر مسائل هذا الكتاب وسماه كتاب
الحظر والإباحة لما فيه من بيان ما يحل ويحرم من المس والنظر ولو سماه كتاب الزهد
والورع كان مستقيما لان بين فيه غض البصر وما يحل ويحرم من المس والنظر وهذا
145

هو الزهد والورع ثم بدأ الكتاب بمسائل النظر وهو ينقسم أربعة أقسام نظر الرجل إلى
الرجل ونظر المرأة إلى المرأة والمرأة إلى الرجل والرجل إلى المرأة اما بيان القسم الأول
فإنه يجوز للرجل أن ينظر إلى الرجل الا إلى عورته وعورته ما بين سرته حتى يجاوز ركبتيه
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن وجده رضي الله عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته وفي رواية ما دون سرته حتى يجاوز ركبته وبهذا تبين
ان السرة ليست من العورة بخلاف ما يقوله أبو عصمة سعد بن معاذ أنه أحد حدى العورة
فيكون من العورة كالركبة بل هو أولى لأنه في معنى الاشتهاء فوق الركبة (وحجتنا) في
ذلك ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا تزر أبدى عن سرته وقال أبو هريرة
للحسن رضي الله عنهما أرني الموضع الذي كان يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فأبدى
عن سرته فقبلها أبو هريرة رضي الله عنه والتعامل الظاهر فيما بين الناس انهم إذا اتزروا في
الحمامات أبدوا عن السرة من غير نكير منكر دليل على أنه ليس بعورة فأما ما دون السرة
عورة في الرواية للحديث الذي روينا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى
يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضا لتعامل العمال في الابداء عن ذلك
الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا بعيد لان التعامل
بخلاف النص لا يعتبر وإنما يعتبر فيما لا نص فيه فأما الفخذ عورة عندنا وأصحاب الظواهر
يقولون العورة من الرجل موضع السرة وأما الفخذ ليس بعورة لقوله تعالى بدت لهما
سوآتهما والمراد منه العورة وفى الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في حائط رجل
من الأنصار وقد دلى ركبته في ركية وهو مكشوف الفخذ إذ دخل أبو بكر رضي الله عنه
فلم يتزحزح ثم دخل عمر رضي الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عثمان رضي الله عنه فتزحزح
وغطى فخذه فقيل له في ذلك فقال الا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة فلو كان الفخذ من
العورة لما كشفه بين يدي أبى بكر وعمر رضي الله عنهما (وحجتنا) في ذلك ما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقال له جرهد وهو يصلى مكشوف الفخذ فقال
له عليه الصلاة والسلام وار فخذك اما علمت أن الفخذ عورة وحديث عمرو بن شعيب رضي الله عنه
نص فيه فأما الحديث الذي رواه فقد ذكر في بعض الروايات أنه كان مكشوف
الركبة ثم تأويله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حين دخلا جلسا في موضع لم يقع بصرهما
146

على الموضع الذي كان مكشوفا منه فلما دخل عثمان رضي الله عنه لم يبق الا موضع لو جلس
فيه وقع بصره على ركبته فلهذا غطاه فأما الآية فالمراد بالسوأة العورة الغليظة وبه نقول إن
العورة الغليظة هي السوأة ولكن حكم العورة ثبت فيما حول السوأتين باعتبار القرب من
موضع العورة فيكون حكم العورة فيه أخف فأما الركبة فهي من العورة عندنا وقال الشافعي
رحمه الله تعالى ليست من العورة لحديث أنس رضي الله عنه ما أبدى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ركبته بين يدي جليس قط وإنما قصد بهذا ذكر الشمائل فلو كانت الركبة من
العورة لم يكن هذا من جملة الشمائل لان ستر العورة فرض ولأنه حد العورة فلا يكون من
العورة كالسرة وهذا لان الحد لا يدخل في المحدود (وحجتنا) في ذلك حديث أبي هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الركبة من العورة وما ذكر في حديث عمرو بن
شعيب حتى تجاوز الركبة دليل على أن الركبة من العورة ولان الركبة ملتقي عظم الساق
والفخذ وعظم الفخذ عورة وعظم الساق ليس بعورة فقد اجتمع في الركبة المعنى الموجب
لكونها عورة وكونها غير عورة فترجح الموجب لكونها عورة احتياطا قال صلى الله عليه
وسلم ما اجتمع الحلال والحرام في شئ الا غلب الحرام الحلال فأما حديث أنس رضي الله عنه
فالمروي ما مد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجليه بين يدي جليس قط وهذا من
الشمائل وابداء الركبة على ما ذكر في بعض الروايات كناية عن هذا المعنى أيضا ثم حكم
العورة في الركبة أخف منه في الفخذ لتعارض المعنيين فيه ولهذا قلنا من رأى غيره مكشوف
الركبة عليه برفق ولا ينازع عليه ان لج وان رآه مكشوف الفخذ أنكر عليه بعنف ولا
يضربه ان لج وان رآه مكشوف العورة أمره بسترها وأدبه على ذلك أن لج وما يباح إليه النظر
من الرجل فكذلك المس لان ما ليس بعورة يجوز مسه كما يجوز النظر إليه فأما نظر المرأة إلى
المرأة فهو كنظر الرجل إلى الرجل باعتبار المجانسة ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها كما
يغسل الرجل الرجل وقد قال بعض الناس نظر المرأة إلي المرأة كنظر الرجل إلى ذوات
محارمه حتى لا يباح لها النظر إلى ظهرها وبطنها لحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء من دخول الحمامات بمئزر وبغير مئزر وكان ابن عمر رضي
الله عنهما يقول امنعوا النساء من دخول الحمامات الا مريضة أو نفساء ولتدخل مستترة
ولكنا نقول المراد منع النساء من الخروج وبالقرار في البيوت وبه نقول والعرف الظاهر
147

في جميع البلدان ببناء الحمامات للنساء وتمكينهن من دخول الحمامات دليل على صحة ما قلنا
وحاجة النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجال لان المقصود تحصيل الزينة والمرأة
إلى هذا أحوج من الرجل ويتمكن الرجل من الاغتسال في الأنهار والحياض والمرأة
لا تتمكن من ذلك فأما نظر المرأة إلى الرجل فهو كنظر الرجل إلى الرجل لما بينا أن السرة
وما فوقها وما تحت الركبة ليس بعورة من الرجل وما لا يكون عورة فالنظر إليه مباح
للرجال والنساء كالثياب وغيرها وأشار في كتاب الخنثى إلى أن نظر المرأة إلى الرجل
كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها أن تنظر إلى ظهره وبطنه لأنه قال الخنثى
ألا ينكشف بين الرجال ولا بين النساء ووجه ذلك أن حكم النظر عند اختلاف الجنس
غلظ ألا ترى أنه لا يباح للمرأة أن تغسل الرجل بعد موته ولو كانت هي في النظر كالرجل
لجاز لها ان تغسله بعد موته وإنما يباح النظر إلى هذه المواضع إذا علم أنه لا يشتهي
ان نظر ولا يشك في ذلك فأما إذا كان يعلم أنه يشتهى أو كان على ذلك أكبر رأيه فلا
يحل له النظر لان النظر عن شهوة نوع زنا قال صلى الله عليه وسلم العينان تزنيان وزناهما النظر
واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي والفرج يصدق ذلك كله
أو يكذب والزنا حرام بجميع أنواعه وقال صلى الله عليه وسلم النظر عن شهوة سهم من
سهام الشيطان فاما نظر الرجل إلى المرأة فهو ينقسم إلى أربعة أقسام نظره إلى زوجته
ومملوكته ونظره إلى ذوات محارمه ونظره إلى إماء الغير ونظره إلى الحرة الأجنبية فاما نظره
إلى زوجته ومملوكته فهو حلال من قرنها إلى قدمها عن شهوة أو عن غير شهوة لحديث
أبي هريرة رضي الله عنه قال غض بصرك إلا عن زوجتك وأمتك وقالت عائشة رضي الله
عنها كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكنت أقول بق لي وهو
يقول بقي لي ولو لم يكن النظر مباحا ما تجرد كل واحد منهما بين يدي صاحبه ولان
ما فوق النظر وهو المس والغشيان حلال بينهما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون الأعلى
أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم الآية إلا أن مع هذا الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما
إلى عورة صاحبه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا رأي منى مع طول صحبتي إياه وقال صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله فليستتر
ما استطاع ولا يتجرد ان تجرد العير ولان النظر إلى العورة يورث النسيان وفى شمائل الصديق
148

رضي الله عنه ما نظر إلى عورته قط ولامسها بيمينه فإذا كان هذا في عورة نفسه فما ظنك في عورة
الغير وكان ابن عمر رضى الله تعالى عنهما يقول الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معني اللذة
فاما نظره إلى ذوات محارمه فنقول يباح له أن ينظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة
لقوله تعالى ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن الآية ولم يرد به عين الزينة فإنها تباع في الأسواق
ويراها الأجانب ولكن المراد منه موضع الزينة وهي الرأس والشعر والعنق والصدر والعضد
والساعد والكف والساق والرجل والوجه فالرأس موضع التاج والا كليل والشعر موضع
القصاص والعنق موضع القلادة والصدر كذلك فالقلادة والوشاح قد ينتهي إلى الصدر
والاذن موضع القرط والعضد موضع الدملوج والساعد موضع السوار والكف موضع الخاتم
والخضاب والساق موضع الخلخال والقدم موضع الخضاب وجاء في الحديث ان الحسن
والحسين رضي الله عنهما دخلا على أم كلثوم وهي تمتشط فلم تستتر ولان المحارم يدخل
بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها عادة
ولا تكون مستترة فلو أمرها بالتستر من ذوي محارمها أدى إلى الحرج وكما يباح النظر إلى
هذه المواضع يباح المس لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل فاطمة رضي الله عنها
ويقول أجد منها ريح الجنة وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها وقبل رأسها وقبل أبو بكر
رأس عائشة رضي الله عنهما وقال صلى الله عليه وسلم من قبل رجل أمه فكأنما قبل عتبة الجنة
وقال محمد بن المنكدر رحمه الله بت أغمز رجل أمي وبات أخي أبو بكر يصلى وما أحب أن تكون
ليلتي بليلته ولكن إنما يباح المس والنظر إذا كان يأمن الشهوة على نفسه وعليها فأما
إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له ذلك لما بينا ان النظر عن شهوة والمس
عن شهوة نوع زنا وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ وكما لا يحل له ان يعرض نفسه للحرام
لا يحل له ان يعرضها للحرام فإذا كان يخاف عليها فليجتنب ذلك ولا يحل له أن ينظر إلى
ظهرها وبطنها ولا ان يمس ذلك منها وقال الشافعي رحمه الله في القديم لا بأس بذلك وجعل
حالهما كحال الجنس في النظر وهذا ليس بصحيح فان حكم الظهار ثابت بالنص وصورته أن يقول
الرجل لامرأته أنت على كظهر أمي وهو منكر من القول لما فيه من تشبيه المحللة
بالمحرمة فلو كان النظر إلى ظهر الأم حلالا له لكان هذا تشبيه محللة بمحللة وإذا ثبت هذا في
الظهر يثبت في البطن لأنه أقرب إلى المأتي وإلى أن يكون مشتهى منها والجنبان كذلك
149

وذوات المحارم بالنسب كالأمهات والجدات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل
امرأة هي محرمة عليه بالقرابة على التأبيد فهذا الحكم ثابت في حقها وكذلك المحرمة بالرضاع
لقوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ولحديث عائشة رضي الله عنه
ا أنها قالت يا رسول الله ان أفلح بن أبي قعيس يدخل على وأنا في ثياب فضل فقال ليلج
عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة وان عبد الله بن الزبير كان يدخل على زينب بنت أم
سلمة وهي تمتشط فيأخذ بقرون رأسها ويقول أقبلي علي وكانت أخته من الرضاعة ولان
الرضاع لما جعل كالنسب في حكم الحرمة فكذلك في حل المس والنظر وكذلك المحرمة
بالمصاهرة لان الله تعالى سوى بينهما بقوله فجعله نسبا وصهرا إلا أن مشايخنا رحمهم الله
تعالى يختلفون فيما إذا كان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا فقال بعضهم لا يثبت به حل المس
والنظر لان ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزاني لا بطريق النعمة ولأنه قد جرب مرة
فظهرت خيانته فلا يؤمن ثانيا والأصح أنه لا بأس بذلك لأنها محرمة عليه التأبيد فلا
بأس بالنظر إلى محاسنها كما لو كان ثبوت حرمة المصاهرة بالنكاح ولا يجوز أن يقال ثبوت
الحرمة بطريق العقوبة هناك لأنا إنما نثبت الحرمة هناك بالقياس على النكاح فإذا جعلناها
بطريق العقوبة لم تكن تلك الحرمة واثبات الحرمة ابتداء بالرأي لا يجوز ثم يحل له أن يخلو
بهؤلاء وأن يسافر بهن لقوله صلى الله عليه وسلم ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل
فان ثالثهما الشيطان معناه ليست بمحرم له فدل أنه يباح له أن يخلو بذوات محارمه ولكن
بشرط أن يأمن على نفسه وعليها لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه خرج من
بيته مذعورا فسئل عن ذلك فقال خلوت بابنتي فخشيت على نفسي فخرجت وكذلك
المسافرة لقوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها الا ومعها زوجها
أو ذو رحم محرم منها فدل أنه لا بأس بأن تسافر مع المحرم وان احتاج إلى أن يعالجها في
الا ركاب والانزال فلا بأس يمسها وراء ثيابها ويأخذ بظهرها وبطنها لما روي أن محمد
ابن أبي بكر رضي الله عنهما أدخل يده في هو دج عائشة رضي الله عنها ليأخذها من
الهودج فوقعت يده على صدرها فقالت من الذي وضع يده على لم يضعه أحد
الا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا أخوك وروى أن رجلا جاء إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي كانت سيئة الخلق فغضب وقال أكانت سيئة الخلق حين
150

حملتك أكانت سيئة الخلق حين أرضعتك حولين الحديث إلى أن قال الرجل أرأيت لو حملتها
على عاتقي وحججت بها أكنت قاضيا حقها فقال لا ولا طلقة ورأي ابن عمر رضي الله عنه
في موضع الطواف رجلا قد حمل أمه على عاتقه يطوف بها فلما رأى ابن عمر رضي الله عنه
ما ارتجز فقال
انا لها بعيرها المذلل * إذا الركاب ذعرت لم أذعر
حملتها ما حملتني أكثر * فهل ترى جازيتها يا بن عمر
فقال لا ولا طلقة يا لكع ولان بسبب الستر ينعدم معنى العورة وبالمحرمية ينعدم معنى
الشهوة فلا بأس يحملها ومسها في الا ركاب والانزال كما في حق الجنس وأما النظر إلى
إماء الغير والمدبرات وأمهات الأولاد والمكاتبات فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه
لقوله تعالي يدنين عليهن من جلابيبهن الآية وقد كانت الممازحة مع إماء الغير عادة في
العرب فأمر الله تعالى الحرائر باتخاذ الجلباب ليعرفن به من الإماء فدل أن الإماء لا تتخذ
الجلباب وكان عمر رضي الله عنه إذا رأي أمة متقنعة علاها بالدرة وقال القي عنك الخمار
يا دفار وقال عمر رضي الله عنه ان الأمة ألقت قرونها من وراء الجدار أي لا تتقنع قال
أنس رضي الله عنه كن جواري عمر رضي الله عنه يخد من الضيفان كاشفات الرؤس
مضطربات البدن ولان الأمة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها وإنما تخرج في ثياب مهنتها
وحالها مع جميع الرجال في معنى البلوى بالنظر والمس كحال الرجل في ذوات محارمه ولا
يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها كما في حق ذوات المحارم وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول
لا ينظر إلى ما بين سرتها إلى ركبتها ولا بأس بالنظر إلى ما وراء ذلك لما روى عن ابن عباس
رضي الله عنهما في حديث طويل قال ومن أراد أن يشترى جارية فلينظرها إليها الا إلى موضع
المئزر ولكن تأويل هذا الحديث عندنا ان المرأة قد تتزر على الصدر فهو مراد ابن عباس
رضي الله عنه وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه منها إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لما
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بجارية تباع فضرب في صدرها ومس ذراعها ثم
قال اشتروا فإنها رخيصة فهذا ونحوه لا بأس به لمن يريد الشراء أو لا يريد وهذا لأنه بمنزلة
ذوات المحارم في حكم المس ولأنه كما يحتاج إلى النظر يحتاج إلى المس ليعرف لين بشرتها
فيرغب في شرائها وتحل الخلوة والمسافرة بينهما كما في ذوات المحارم إلا أن عند بعض مشايخنا
151

رحمهم الله تعالى ليس له أن يعالجها في الا ركاب والانزال لان معني العورة وان انعدم بالستر
فمعنى الشهوة باق فيها فإنها ممن يحل له والأصح أنه لا بأس بذلك إذا أمن الشهوة على نفسه
وعليها لان المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرما ليسافر معها وهي تحتاج
إلى من يركبها وينزلها فلا بأس بذلك وكذلك لا بأس بأن يخلو بها كالمحارم ألا ترى ان جارية
المرأة قد تغمز رجل زوجها وتخلو به ولا يمتنع أحد من ذلك والمدبرة وأم الولد والمكاتبة
في هذا كالأمة القنة لقيام الرق فيهن والمستسعاة في بعض القيمة كذلك عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لأنها بمنزلة المكاتب وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا بلغت الأمة لم ينبغ
ان تعرض في إزار واحد قال محمد وكذلك إذا بلغت ان تجامع وتشتهي لان الظهر والبطن منها
عورة لمعني الاشتهاء فإذا صارت مشتهاة كانت كالبالغة لا تعرض في إزار واحد فاما النظر إلى
الأجنبيات فنقول يباح النظر إلى موضع الزينة الظاهرة منهن دون الباطنة لقوله تعالى ولا يبدين
زينتهن الا ما ظهر منها وقال على وابن عباس رضي الله عنهم ما ظهر منها الكحل والخاتم وقالت
عائشة رضي الله عنها احدى عينيها وقال ابن مسعود رضي الله عنه خفها وملاءتها واستدل
في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم النساء حبائل الشيطان بهن يصيد الرجال وقال صلى الله
عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وجرى في مجلسه صلى الله عليه
وسلم يوم ما خير ما للرجال من النساء وما خير ما للنساء من الرجال فلما رجع علي رضي الله عنه
إلى بيته أخبر فاطمة رضي الله عنها بذلك فقالت خير ما للرجال من النساء أن
لا يراهن وخير ما للنساء من الرجال أن لا يرينهن فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذلك قال هي بضعة منى فدل أنه لا يباح النظر إلى شئ من بدنها ولان حرمة النظر لخوف
الفتنة وعامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر
الأعضاء وبنحو هذا تستدل عائشة رضي الله تعالى عنها ولكنها تقول هي لا تجد بدا من أن
تمشى في الطريق فلا بد من أن تفتح عينها لتبصر الطريق فيجوز لها أن تكشف احدى
عينيها لهذه الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولكنا نأخذ بقول على
وابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقد جاءت الاخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها
وكفها من ذلك ما روي أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنظر إلى وجهها فلم ير فيها رغبة ولما قال عمر رضي الله عنه في خطبته ألا لا تغالوا في أصدقة
152

النساء فقالت امرأة سفعاء الخدين أنت تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم فانا نجد في كتاب الله تعالى بخلاف ما تقول قال الله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا
تأخذوا منه شيئا فبقي عمر رضي الله عنه باهتا وقال كل الناس أفقه من عمر حتى النساء في
البيوت فذكر الراوي أنها كانت سفعاء الخدين وفى هذا بيان أنها كانت مسفرة عن وجهها
ورأي رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة غير مخضوب فقال أكف رجل هذا
ولما ناولت فاطمة رضي الله عنها أحد ولديها بلالا أو انسا رضي الله عنهم قال أنس رأيت
كفها كأنه فلقة قمر فدل انه لا بأس بالنظر إلى الوجه والكف فالوجه موضع الكحل والكف
موضع الخاتم والخضاب وهو معنى قوله تعالى الا ما ظهر منها وخوف الفتنة قد يكون بالنظر
إلى ثيابها أيضا قال القائل
وما غرني الا خضاب بكفها * وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
ثم لاشك انه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفها
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة انه يباح النظر إلى قدمها أيضا وهكذا ذكر الطحاوي
لأنها كما تبتلى بابداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبابداء كفها في الاخذ والاعطاء تبتلى
بابداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة وربما لا تجد الخف في كل وقت وذكر في جامع
البرامكة عن أبي يوسف انه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا لأنها في الخبز وغسل الثياب تبتلى
بابداء ذراعيها أيضا قيل وكذلك يباح النظر إلى ثناياها أيضا لان ذلك يبدو منها في التحدث
مع الرجال وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة فإن كان يعلم أنه ان نظر أشتهي لم يحل له
النظر إلى شئ منها لقوله صلى الله عليه وسلم من نظر إلى محاسن أجنبية عن شهوة صب
في عينيه الآنك يوم القيامة وقال لعلي رضي الله عنه لا تتبع النظرة بعد النظرة فان الأولى
لك والأخرى عليك يعنى بالأخرى ان يقصدها عن شهوة وجاء رجل إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال إني نظرت إلى امرأة فاشتهيتها فاتبعتها بصرى فأصاب رأسي جدار
فقال صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا وكذلك أن كان أكبر
رأيه أنه ان نظر أشتهي لان أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين وذلك فيما هو
مبني على الاحتياط وكذلك لا يباح لها أن تنظر إليه إذا كانت تشتهى أو كان على ذلك
أكبر رأيها لما روى أن ابن أم مكتوم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة
153

وحفصة رضي الله عنهما فقال لهما احتجبا فقالتا انه أعمى يا رسول الله فقال أوعمياوان أنتما ولا يحل
له أن يمس وجهها ولا كفها وإن كان يأمن الشهوة لقوله صلى الله عليه وسلم من مس كف امرأة
ليس منها بسبيل وضع في كفه جمرة يوم القيامة حتى يفصل بين الخلائق ولان حكم المس
أغلظ حتى أن المس عن شهوة يثبت حرمة المصاهرة والنظر إلى غير الفرج لا يثبت والصوم
يفسد بالمس عن شهوة إذا اتصل به الانزال ولا يفسد بالنظر فالرخصة في النظر لا يكون دليل
الرخصة في المس والبلوى التي تتحقق في النظر تتحقق في المس أيضا وعلى هذا نقول للمرأة
الحرة أن تنظر إلى ما سوى العورة من الرجل ولا يحل لها أن تمس ذلك منه لان حكم
المس أغلظ وهذا إذا كانت شابة تشتهى فإذا كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بمصافحتها
ومس يدها لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافع
الشواب ولكن كان يضع يده في قصعة ماء ثم تضع المرأة يدها فيها فذلك بيعتها إلا أن
عائشة رضي الله عنها أنكرت هذا الحديث وقالت من زعم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مس امرأة أجنبية فقد أعظم الفرية عليه وروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التي كان مسترضعا فيها فكان يصافح العجائز ولما
مرض الزبير رضي الله عنه بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه
ولان الحرمة لخوف الفتنة فإذا كانت ممن لا تشتهي فخوف الفتنة معدوم وكذلك أن كان
هو شيخا يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها وان كأن لا يأمن عليها أن تشتهى لم
يحل له أن يصافحها فيعرضها للفتنة كما لا يحل له ذلك إذا خاف على نفسه فأما النظر إليها عن
شهوة لا يحل بحال إلا عند الضرورة وهو ما إذا دعى إلى الشهادة عليها أو كان حاكما ينظر
ليوجه الحكم عليها باقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها لأنه لا يجد بدا من النظر في
هذا الموضع والضرورات تبيح المحظورات ولكن عند النظر ينبغي أن يقصد أداء الشهادة
أو الحكم عليها ولا يقصد قضاء الشهوة لأنه لو قدر على التحرز فعلا كان عليه أن يتحرز فكذلك
عليه أن يتحرز بالنية إذا عجز عن التحرز فعلا كما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من
يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم واختلفوا فيما إذا دعى إلى تحمل
الشهادة وهو يعلم أنه ان نظر إليها اشتهى فمنهم من جوز له ذلك أيضا بشرط أن يقصد تحمل
الشهادة لا قضاء الشهوة ألا ترى أن شهود الزنا لهم أن ينظروا إلى موضع العورة على قصد
154

تحمل الشهادة والأصح أنه لا يحل له ذلك لأنه لا ضرورة عند التحمل فقد يوجد من يتحمل
الشهادة ولا تشتهى بخلاف حالة الأداء فقد التزم هذه الأمانة بالتحمل وهو متعين لأدائها
وكذلك أن كان أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها وإن كان يعلم أنه يشتهيها لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة لما أراد أن يتزوج امرأة أبصرها فإنه
أحرى أن يؤدم بينكما وكان محمد بن أم سلمة يطالع بنية تحت أجار لها فقيل له أتفعل ذلك
وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول إذا ألقى الله خطبة امرأة في قلب رجل أحل له النظر إليها ولان مقصوده إقامة السنة
لا قضاء الشهوة وإنما يعتبر ما هو المقصود لا ما يكون تبعا وإن كان عليها ثياب فلا بأس
بتأمل جسدها لان نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها فهو كما لو كانت في بيت فلا بأس بالنظر
إلى جدرانه والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي امرأة عليها شارة حسنة
فدخل بيته ثم خرج وعليه أثر الاغتسال فقال إذا هاجت بأحدكم الشهوة فليضعها فيما أحل
الله له وهذا إذا لم تكن ثيابها بحيث تلصق في جسدها وتصفها حتى يستبين جسدها فإن كان
كذلك فينبغي له ان يغض بصره عنها لما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لا تلبسوا
نساءكم الكتان ولا القباطي فإنها تصف ولا تشف وكذلك أن كانت ثيابها رقيقة لما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله الكاسيات العاريات يعني الكاسيات الثياب
الرقاق اللاتي كأنهن عاريات وقال صلى الله عليه وسلم صنفان من أمتي في النار رجال
بأيديهم السياط كأنها أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات متمايلات
كأسنمة البخت ولان مثل هذا الثوب لا يسترها فهو كشبكة عليها فلا يحل له النظر إليها
وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فإن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس بالنظر إليها
ومن مسها لأنه ليس لبدنها حكم العورة ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة والأصل فيه
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل زب الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما
وهما صغيران وروى أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما فيجره والصبي يضحك ولان العادة
الظاهرة ترك التكلف لستر عورتها قبل أن تبلغ حد الشهوة وأما النظر إلى العورة حرام
لما روى عن سلمان رضي الله عنه قال لان أخر من السماء فانقطع نصفين أحب لي من أن
أنظر إلى عورة أحد أو ينظر أحد إلى عورتي ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعيد
155

في كشف العورة قيل يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا فقال إن الله أحق أن يستحيى منه
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فرأى راعيها تجرد في الشمس فعزله
وقال لا يعمل لنا من لاحياء له ولكن مع هذا إذا جاء العذر فلا بأس بالنظر إلى العورة لأجل
الضرورة فمن ذلك أن الخاتن ينظر ذلك الموضع والخافضة كذلك تنظر لان الختان سنة وهو
من جملة الفطرة في حق الرجال لا يمكن تركه وهو مكرمة في حق النساء أيضا ومن ذلك
عند الولادة المرأة تنظر إلى موضع الفرج وغيره من المرأة لأنه لا بد من قابلة تقبل الولد
وبدونها يخاف على الولد وقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة القابلة على الولادة
فذاك دليل على أنه يباح لها النظر وكذلك ينظر الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة
اما عند المرض فلان الضرورة قد تحققت والاحتقان من المداواة وقال صلى الله عليه وسلم
تداووا عباد الله فان الله لم يخلق داء الا وخلق له دواء الا الهرم وقد روي عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أنه إذا كان به هزال فاحش وقيل له أن الحقنة تزيل ما بك من الهزال فلا
بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن وهذا صحيح فان الهزال الفاحش نوع مرض يكون
آخره الدق والسل وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إذا قيل له ان الحقنة تقويك على
المجامعة فلا بأس بذلك أيضا ولكن هذا ضعيف لان الضرورة لا تتحقق بهذا وكشف
العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز وإذا أصاب امرأة قرحة في موضع لا يحل
للرجل ان ينظر إليه لا ينظر إليه ولكن يعلم امرأة دواءها لتداويها لان نظر الجنس إلي
الجنس أخف ألا تري ان المرأة تغسل المرأة بعد موتها دون الرجل وكذلك في امرأة
العنين ينظر إليها النساء فان قلن هي بكر فرق القاضي بينهما وان قلن هي ثيب فالقول قول
الزوج مع يمينه والمقصود في هذا الموضع بيان إباحة النظر عند الضرورة فاما ما وراء ذلك
من الفرق بين الاخبار ببكارتها وثيابتها ليس من مسائل هذا الكتاب وحاصله ان شهادتهن
متى تأيدت بمؤيد كانت حجة والبكارة في النساء أصل فإذا قلن انها بكر تأيدت شهادتهن
بما هو الأصل وان قلن هي ثيب تجردت شهادتهن عن مؤبد فلا بد من أن يستحلف الزوج
حتى ينضم نكوله إلى شهادتهن وكذلك لو اشترى جارية على أنها بكر فقبضها وقال وجدتها
ثيبا فان النساء ينظرن إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما فان قلن هي بكر فلا يمين على
البائع لان شهادتهن قد تأيدت بأصل البكارة وبمقتضى البيع وهو اللزوم وان قلن هي ثيب
156

يستحلف البائع لتجرد شهادتهن عن مؤبد؟ فإذا انضم نكول البائع إلى شهادتهن ردت عليه
وإن لم يجدوا امرأة تداوى تلك القرحة ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك إذا علمت وخافوا
أن تهلك أو يصيبها بلاء أو وجع لا تحتمله فلا بأس ان يستروا منها كل شئ الا موضع
تلك القرحة ثم يداويها رجل ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك الموضع لان نظر
الجنس إلى غير الجنس أغلظ فيعتبر فيه تحقق الضرورة وذلك لخوف الهلاك عليها وعند
ذلك لا يباح الا بقدر ما ترتفع الضرورة به وذوات المحارم وغيرهم في هذا سواء لان النظر
إلى موضع العورة لا يحل بسبب المحرمية فكان المحرم وغير المحرم فيه سواء (قال) والعبد
فيما ينظر من سيدته كالحر الأجنبي معناه أنه لا يحل له أن ينظر الا إلى وجهها وكفيها عندنا
وقال مالك نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن ولا
يجوز أن يحمل ذلك على الإماء لان ذلك دخل في قوله تعالى أو نسائهن ولان هذا مما
لا يشكل لان للأمة أن تنظر إلى مولاتها كما للأجنبيات فإنما بحمل البيان على موضع
الاشكال وعن أم سلمة انه كان لها مكاتب فلما انتهى إلى آخر النجوم قالت له أتقدر على
الأداء فقال نعم فاحتجبت وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا كان
لإحداكن مكاتب فأدى آخر النجوم فلتحتجب منه والمعنى فيه أن بينهما سبب محرم
للنكاح ابتداء وبقاء فكان بمنزلة المحرمية بينهما وإباحة النظر عند المحرمية لأجل الحاجة وهو
دخول البعض على البعض من غير استئذان ولا حشمة وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولا به؟
(حجتنا) في ذلك ما روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضي الله عنهما قالا لا
يغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور ومرادهما قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن
والموضع موضع الاشكال لان حال الأمة يقرب من حال الرجل حتى تسافر بغير محرم
فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدي أمتها ولم يزل هذا الاشكال بقوله تعالى
أو نسائهن لان مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء والمعني فيه أنه ليس بينهما
زوجية ولا محرمية وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة ينبني على هذا السبب وحرمة
المناكحة التي بينهما بعارض على شرف الزوال فكانت في حقه بمنزلة منكوحة الغير أو معتدته
ولان وجوب الستر عليها وحرمة الخلوة بالرجل لمعنى خوف الفتنة وذلك موجود ههنا
وإنما ينعدم بالمحرمية لان الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة فأما الملك لا يقلل الشهوة بل يحملها
157

على رفع الحشمة ومعنى البلوى لا يتحقق لان اتخاذ العبيد للاستخدام خارج البيت لا داخل
البيت على ما قيل من اتخذ عبدا للخدمة داخل بيته فهو كشحان وحديث أم سلمة رضي الله عنها
محمول على الاحتجاب لمعنى زوال الحاجة فان قبل ذلك تحتاج إلى المعاملة معه بالأخذ والاعطاء
فتبدى وجهها وكفها له وقد زال ذلك بالأداء فلتحتجب منه ثم قال خصيا أو فحلا هكذا
نقل عن عائشة رضي الله عنها قالت الخصا مثلة فلا يبيح ما كان محرما قبله ولان الخصي في
الاحكام من الشهادات والمواريث كالفحل وقطع تلك الآلة منه كقطع عضو آخر
ومعنى الفتنة لا ينعدم فالخصي قد يجامع وقد قيل هو أشد الناس جماعا فإنه لا تفتر آلته
بالانزال وكذلك المجبوب لأنه قد يستحق فينزل وإن كان مجبوبا قد جف ماؤه فقد رخص
بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء لوقوع الامن من الفتنة والأصح انه لا يحل له ذلك
ومن رخص فيه تأويل قوله تعالى أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال وبين أهل التفسير
كلام في معني هذا فقيل هو المجبوب الذي جف ماؤه وقيل هو المخنث الذي لا يشتهى
النساء والكلام في المخنث عندنا انه إذا كان مخنثا في الردى من الأفعال فهو كغيره من
الرجال بل من الفساق ينحى عن النساء واما من كان في أعضائه لين وفى لسانه تكسر
بأصل الخلقة ولا يشتهي النساء ولا يكون مخنثا في الردى من الأفعال فقد رخص بعض
مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روى أن مخنثا كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى سمع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة فاحشة قال لعمر بن أبي سلمة لئن فتح الله الطائف على رسوله لأدلنك على ماوية بنت غيلان فإنها تقبل
فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان
فقال صلى الله عليه وسلم ما كنت أعلم أنه يعرف مثل هذا أخرجوه وقيل المراد بقوله تعالى
أو التابعين الأبله الذي لا يدرى ما يصنع بالنساء إنما همه بطنه وفى هذا كلام عندنا فقيل
إذا كان شابا ينحى عن النساء وإنما كان ذلك إذا كان شيخا كبيرا قد ماتت شهوته فحينئذ
يرخص في ذلك والأصح أن نقول قوله تعالى أو التابعين من المتشابه وقوله تعالى قل للمؤمنين
يغضوا محكم فنأخذ بالمحكم فنقول كل من كان من الرجال فلا يحل لها أن تبدى موضع الزينة
الباطنة بين يديه ولا يحل له أن ينظر إليها إلا أن يكون صغيرا فحينئذ لا بأس بذلك لقوله
تعالى أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء فأما جماع الحائض في الفرج حرام بالنص
يكفر مستحله ويفسق مباشره لقوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض وفى قوله تعالى ولا
158

تقربوهن حتى يطهرهن دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر وقال صلى الله عليه وسلم من
أتى امرأة في غير مأتاها أو أتاها في حالة الحيض أو أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما
أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ولكن لا يلزمه بالوطئ سوى التوبة والاستغفار ومن
العلماء من يقول إن وطئها في أول الحيض فعليه ان يتصدق بدينار وان وطئها في آخر
الحيض فعليه ان يتصدق بنصف دينار وروي فيه حديثا شاذا ولكن الكفارة لا يثبت بمثله
(وحجتنا) في ذلك ما روى أن رجلا جاء إلى الصديق رضي الله عنه وقال إني رأيت في
المنام كأني أبول دما فقال أتصدقني قال نعم قال إنك تأتي امرأتك في حالة الحيض فاعترف
بذلك فقال أبو بكر رضي الله عنه استغفر الله ولا تعد ولم يلزمه الكفارة واختلفوا فيما سوى
الجماع فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى له ان يستمتع بما فوق المئزر وليس له ما تحته وقال محمد رحمه
الله تعالى يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وذكر الطحاوي قول أبى يوسف مع أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وذكره الكرخي مع محمد
رحمهما الله تعالى وجه الاستدلال بقوله تعالى قل هو أذى ففيه بيان ان الحرمة لمعني
استعمال الأذى وذلك في محل مخصوص وروي ذلك في الكتاب عن الصلت بن دينار عن معاوية
بن قرة رضي الله عنهم قال سألت عائشة رضي الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي
حائض قالت يتجنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وفى حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها
قالت يحل للرجل من امرأته الحائض كل شئ الا النكاح يعني الجماع والمعنى فيه أن ملك
الحل باق في زمان الحيض وحرمة الفعل لمعني استعمال الأذى فكل فعل لا يكون فيه استعمال
الأذى فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض وقاسه بالاستمتاع فوق المئزر وحجة أبي حنيفة
رحمه الله قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض فظاهره يقتضى تحريم الاستمتاع بكل عضو
منها فما اتفق عليه الآثار صار مخصوصا من هذا الظاهر وبقي ما سواء على الظاهر وروى أن
وفدا سألوا عمر رضي الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض وعن قراءة القرآن في
البيوت وعن الاغتسال من الجنابة فقال أسحرة أنتم لقد سألتموني عما سألت عنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال للرجل من امرأته ما فوق المئزر وليس له ما تحته وقراءة القرآن نور
فنور بيتك ما استطعت وذكر الاغتسال من الجنابة وفى حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت
كنت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضت فانسللت من الفراش فقال مالك
159

أنفست قلت نعم ائتزري وعودي إلى مضجعك ففعلت فعانقني طول الليل والمعني فيه
أن الاستمتاع في موضع الفرج محرم عليه وإذا قرب من ذلك الموضع فلا يأمن على نفسه
أن يواقع الحرام فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر وكان هذا نوع احتياط ذهب
إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم ألا إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه
فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ومحمد أخذ بالقياس وقال ليس المراد بالاتزار حقيقة
الاتزار بل المراد موضع الكرسف في ذلك الموضع وبين التابعين اختلاف في معني قوله
عليه الصلاة والسلام ما فوق المئزر فكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول المراد به الاستمتاع
بالسرة وما فوقها وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول المراد أن يتدفأ بالإزار ويقضى حاجته
منها فيما دون الفرج فوق الإزار ولا ينبغي له أن يعتزل فراشها لان ذلك تشبه باليهود وقد
نهينا عن التشبه بهم وروى أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك فبلغ ميمونة رضي الله عنه
ا فأنكرت عليه وقالت أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضاجعنا في
فراش واحد في حالة الحيض وإذا أراد أن يشترى جارية فلا بأس بان ينظر إلى شعرها
وصدرها وساقها وان اشتهى لان المالية مطلوبة بالشراء فلا يصير مقداره معلوما الا بالنظر
إلى هذه المواضع فللحاجة جاز النظر ولا يحل له أن يمس ان اشتهى أو كان ذلك أكبر رأيه
لأنه لا حاجة به إلى المس فمقدار المالية يصير معلوما بدونه ولان حكم المس أغلظ من النظر
كما قررنا وقد بينا في كتاب الصلاة حكم غسل كل واحد من الزوجين لصاحبه بعد موته
وما فيه من الاختلاف وحكم غسل أم الولد لمولاها وإذا ماتت المرأة مع الرجال ولا امرأة
معهم لم يغسلوها وان كانوا محارمها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لابنها أو أبيها أن يغسلها بناء
على مذهبه أن الظهر والبطن في حق المحرم ليس بعورة فهو بمنزلة نظر الجنس عنده وعندنا
الظهر والبطن عورة في حق المحارم وبالموت تتأكد الحرمة ولا ترتفع ولأن هذه الحرمة
لحق الشرع والآدمي محترم شرعا حيا وميتا ولهذا لا يغسلها المحرم ولا غير المحرم ولكنها تيمم
بالصعيد هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل
عن امرأة ماتت مع الرجال ليس معهم امرأة قال تيمم بالصعيد ولأنه تعذر غسلها لانعدام
من يغسلها فصار كما لو تعذر غسلها لانعدام ما تغسل به وإن كان من يتممها محرما لها يممها بغير
خرقة وإن كان غير محرم لها يممها بخرقة يلفها على كفه لأنه لم يكن له أن يمسها في حال
160

حياتها فكذلك بعد وفاتها بخلاف المحرم ولا بأس بأن ينظر إلى وجهها ويعرض بوجهه عن
ذراعيها كما في حال الحياة كان له أن ينظر إلى وجهها دون ذراعيها وكذلك يفعل زوجها لأنه
التحق بالأجنبي كما قال عمر رضي الله عنه في امرأة له هلكت نحن أحق بها حين كانت
حية فأما إذا ماتت فأولياؤها أحق بها وان مات رجل مع نساء ليس فيهن امرأته يممنه
على ما بينا إلا أن من تيممه إذا كانت حرة تيممه بخرقة تلفها على كفها لأنه ما كان لها أن تمسه
في حياته فذلك بعد موته وان كانت مملوكة تيممه بغير خرقة لأنه كان لها أن تمسه في حياته
فكذلك بعد موته فان الأمة بمنزلة المحرم في حق الرجال وأمته وأمة غيره في هذا سواء
لان ملكه قد انتقل إلى وارثه بموته فإن كان معهن رجل كافر علمنه الغسل وكذلك أن كان
مع الرجال امرأة كافرة علموها الغسل لتغسلها لان نظر الجنس إلى الجنس لا يختلف بالموافقة
في الدين والمخالفة الا ان الكافر لا يعرف سنة غسل الموتى فيعلم ذلك وكذلك أن كان معهن
صبية صغار لم يبلغوا حد الشهوة علموهم غسل الموتى ليغسلنها وهذا عجيب فالرجال قد
يعجزون عن غسل الميت فيكف يقوى عليه الصغار الذين لم يبلغوا حد الشهوة ولكن مراد
محمد بيان الحكم ان تصور فان ارتدت امرأته عن الاسلام بعد موته ثم رجعت إلى الاسلام أو
فجر بها ابنه لم يكن لها ان تغسله عندنا وقال زفر رحمه الله لها ذلك لان حل المس والغسل
ههنا باعتبار العدة حتى لو أنقضت عدتها بوضع الحمل لم يكن لها ان تغسله وبما اعترض لم
يتغير حكم العدة بخلاف ما إذا كان العارض قبل موته لان الحل هناك باعتبار النكاح وقد
ارتفع بهذا العارض (وحجتنا) في ذلك أن ردتها وفعل ابن الزوج بها لو صادف حلا مطلقا
كان رافعا له فكذلك إذا صادف ما بقي من الحل بعد موته وهو حل الغسل والمس فيكون
رافعا له بطريق الأولى ولا نقول إن هذا الحل لأجل العدة فان العدة من نكاح فاسد والوطئ
بالشبهة لا يفيد حل الغسل والمس وذكره في اختلاف زفر ويعقوب ان المجوسي لو أسلم
ومات ثم أسلمت امرأته فليس لها ان تغسله عند زفر ولها ذلك في قول أبى يوسف فزفر
يعتبر وقت الموت فإذا لم يكن بينهما حل الغسل والمس عند الموت لا يثبت بعد ذلك بخلاف
ما لو أسلمت قبل موته أو انقضت عدة الأخت وقاس بحكم الفرار في الميراث فإنها لو
أعتقت بعد موته أو أسلمت لم ترث منه بخلاف ما لو أسلمت في حال الحياة أو أعتقت ثم
طلقها ثلاثا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الحل قائم بينهما بعد وطئ الأخت ولكن عدتها
161

مانعة ولو زال هذا المانع في حال حياته ثبت حل الاستمتاع مطلقا فكذلك إذا زال بعد موته
ثبت من الحل بقدر ما يقبله المحل وهو حل الغسل والمس وأما الصغير الذي لم يبلغ حد
الشهوة إذا مات مع النساء فلا بأس بأن يغسلنه وكذلك الصغيرة مع الرجال لما بينا أنه ليس
لعورته حكم العورة في الحياة حتى لا يجب ستره ويباح النظر إليه فكذلك بعد الموت
والمعتوهة كالعاقلة لأنها تشتهى وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء الا في إناء أخبره رجل
أنه قذر وهو عنده مسلم مرضى لا يتوضأ به وهذا لان خبر الواحد حجة في أمر الدين
في حق وجوب العمل به عندنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أن ما لا يوجب علم اليقين لا
يوجب العمل أيضا فان العمل بغير علم لا يجوز قال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم
(وحجتنا) في ذلك قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الله الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ومن
ضرورة وجوب البيان على كل واحد وجوب القبول منه وفائدة القبول منه العمل به قال
تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين واسم الطائفة يتناول الواحد
فصاعدا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر ليدعوه إلى الاسلام
وعبد الله بن أنيس إلى كسرى ومع كل واحد منهما كتاب فلو لم يكن خبر الواحد ملزما
لما اكتفي ببعث الواحد وبعث عليا ومعاذا رضى الله تعالى عنهما إلي اليمن والآثار في خبر
الواحد كثيرة ذكر محمد بعد هذا بعضها وليس من شرط وجوب العمل أن يكون الخبر موجبا
للعلم كما أنه ليس من شرط جواز العمل بما يخبر في المعاملات أن يكون موجبا للعلم حتى
يكتفي فيها بخبر الواحد بالاتفاق والدليل عليه وجوب العمل بالقياس وغالب الرأي وإن لم
يكن ذلك موجبا علم اليقين إذا عرفنا هذا فنقول هذا المخبر بنجاسة الماء أن يكون عدلا
مرضيا أو فاسقا أو مستورا فإن كان عدلا فليس له ان يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب
الصدق في خبره لظهور عدالته وإن كان فاسقا فله ان يتوضأ بذلك الماء لعدم ترجيح الصدق
في خبره فان اعتبار دينه يدل على صدقه في خبره واعتبار تعاطيه الكذب وارتكابه ما يعتقد
الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فتتحقق المعارضة بينهما ولهذا أمر الله تعالى بالتوقف
في خبر الفاسق بقوله تعالى فتبينوا وعند المعارضة الأصل في الماء الطهارة فيتمسك به ويتوضأ
وهذا بخلاف المعاملات فإنه يجوز الاخذ فيها بخبر الفاسق لان الضرورة هناك تتحقق
فالعدل لا يوجد في كل موضع ولا دليل هناك يعمل به سوى الخبر وهنا لا ضرورة ومعنا
162

دليل آخر يعمل به سوى الخبر وهو ان الأصل في الماء الطهارة (فان قيل) أليس ان خبر
الفاسق لا يقبل في رواية الاخبار وليس هناك دليل سوى الخبر (قلنا) الضرورة هناك
لا تتحقق لان في العدول الذين يروون ذلك الخبر كثرة يوضح الفرق ان الخبر في المعاملات
غير ملزم فيسقط فيه اعتبار شرط العدالة وفي الديانات الخبر ملزم فلا بد من اعتبار شرط
العدالة فيه وكذلك أن كان مستورا فالحق المستور في ظاهر الرواية بالفاسق وفى رواية الحسن
عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال المستور في هذا الخبر كالعدل وهو ظاهر على مذهبه
فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم ولكن الأصح ما ذكره لأنه لا بد من
اعتبار أحد شرطي الشهادة ليكون الخبر ملزما وقد سقط اعتبار العدد فلم يبق الا
اعتبار العدالة فإذا ثبت ان العدالة شرطا قلنا ما كان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال
لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ثم مضي اليوم فقال العبد لم أدخل وقال المولى دخلت
فالقول قول المولى لأن عدم الدخول شرط فلا يكتفي بثبوته ظاهر النزول العتق وكذلك أن
كان المخبر عبدا لان في أمور الدين خبر العبد كخبر الحر كما في رواية الاخبار وهذا لأنه
يلزم نفسه ثم يتعدى منه إلى غيره فلا يكون هذا من باب الولاية على الغير وبالرق يخرج
من أن يكون أهلا للولاية فأما فيما هو إلزام يسوى بين العبد والحر لكونه مخاطبا وكذلك أن
كان مخبرا امرأة حرة أو أمة كما في رواية الاخبار وهذا لأنها تلتزم كالرجل ثم يتعدى إلى
غيرها ورواية النساء من الصحابة رضي الله عنهم كانت مقبولة كرواية الرجال قال صلى الله
عليه وسلم تأخذون شطر دينكم من عائشة رضي الله عنها ثم بين في الفاسق والمستور أنه
يحكم رأيه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به لان أكبر الرأي فيما بني على
الاحتياط كاليقين وان أراقه ثم تيمم كان أحوط وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ به ولم
يتيمم (فان قيل) كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعني التعارض في خبر الفاسق كما قلنا في سؤر
الحمار أنه يجمع بين التوضئ وبين التيمم لتعارض الأدلة في سؤر الحمار (قلنا) حكم التوقف
في خبر الفاسق معلوم بالنص وفى الامر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص
ولما ثبت التوقف في خبره بقي أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه واستدل بحديث
عمر رضى الله تعالى عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من
أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضي الله عنه لا تخبرنا عن شئ فلولا
163

أن خبره عد خبرا لما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الاخذ بالاحتياط وقد
كره عمر رضى الله تعالى عنه لوجود دليل الطهارة باعتبار الأصل فعرفنا أنه ما بقي هذا
الدليل فلا حاجة إلى احتياط آخر وإن كان الذي أخبره بنجاسة الماء رجل من أهل الذمة لم
يقبل قوله لا لان الكفر ينافي معنى الصدق في خبره ولكن لأنه ظهر منهم السعي في افساد
دين الحق قال الله تعالى لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في افساد أمركم فكان متهما في
هذا الخبر فلا يقبل منه كما لا تقبل شهادة الولد لوالده لمعنى التهمة يقول فان وقع في قلبه أنه
صادق فأحب إلى أن يريق الماء ثم يتيمم وان توضأ به وصلى أجزأه وفى خبر الفاسق قال
وإذا وقع في قلبه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به وهذا لان الفاسق أهل للشهادة ولهذا نفذ
القضاء بشهادته فيتأيد ذلك بأكبر رأيه وليس الكافر من أهل الشهادة في حق المسلم يوضحه
ان الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم ولا ولاية له على المسلم فاما الفاسق المسلم يلتزم
وهو من أهل الولاية على المسلم (قال) وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان من
أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول مراده بهذا العطف ان الصبي كالبالغ إذا كان مرضيا ولأنه
كان في الصحابة رضى الله تعالى عنهم من سمع في صغره ولو روى كان مقبولا منه وكما سقط
اعتبار الحرية والذكورة يسقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات والأصح ان مراده العطف
على الذمي وان خبر الصبي والمعتوه في هذا كخبر الذمي لأنهما لا يلتزمان شيئا ولكن يلزمان
الغير ابتداء فإنهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الالزام فكان خبرهما في معنى خبر الكافر
رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاما ويشربون شرابا فدعوه إليه فقال رجل مسلم ثقة
قد عرفه هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه الخمر وقال الذين دعواه إلى ذلك
ليس الامر كما قال وهو حلال فإنه ينظر إلى حالهم فإن كانوا عدولا لا يلتفت إلى قول
ذلك الواحد لان خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة فان خبر الجماعة حجة في الديانات
والاحكام وخبر الواحد لبس بحجة في الاحكام ولان الظاهر من حال المسلمين أنهم لا
يأكلون ذبيحة المجوسي ولا يشربون ما خالطه الخمر فخبر الواحد في معارضة خبرهم خبر
مستنكر فلا يقبل وان كانوا متهمين أخذ بقوله ولم يسعه ان يقرب شيئا من ذلك لان خبره
باعتبار حالهم مستقيم صالح ولا معتبر بخبرهم لفسقهم في حكم العمل به ولان خبر العدل بالحرمة
يريبه في هذا الموضع باعتبار حالهم وقال صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى مالا يريبك
164

ويستوي إن كان المخبر بالحرمة حرا أو مملوكا ذكرا أو أنثى لأنه أخبر بأمر ديني فان الحل
والحرمة من باب الدين ولو كان في القوم رجلان مرضيان أخذ بقولهما لان الحجة في
الاحكام تتم بخلاف المثنى فلا يعارض خبرهما خبر الواحد وإن كان فيهم ثقة واحد عمل فيه على
أكبر رأيه لاستواء الخبرين عنده وإن لم يكن له فيه رأى واستوى الحالان عنده فلا بأس
بأكل ذلك وشربه وكذلك الوضوء منه في جميع ذلك اما المصير إلى غالب الرأي فللمعارضة
بين الخبرين لان عند المعارضة لا بد من ترجيح أحد الجانبين وغالب الرأي يصلح أن يكون
دليلا للعمل في بعض المواضع فلان يصلح للترجيح أولي فإن لم يكن له رأى تمسك بأصل
الطهارة (فان قيل) لا معارضة بين الخبرين لان أحدهما ينفي الحرمة والآخر يثبت ولا
تعارض بين النفي والاثبات (قلنا) هذا في الشهادات فأما في الاخبار المعارضة تتحقق؟ بين
النفي والاثبات لان كل واحد منهما بانفراده مقبول (فان قيل) لا كذلك في الشاهد إذا
زكاه أحد المزكين وجرحه الآخر كان الجرح أولى لان الجرح مثبت والآخر ناف (قلنا)
نعم ولكن في كل موضع يكون النافي معتمدا لدليل في خبره تتحقق المعارضة في ذلك بين
النفي والاثبات وفي كل موضع لا يكون النافي معتمدا لدليل يترجح المثبت فهنا النافي معتمد
لدليل لان طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة وكذلك حل الطعام وحرمته فلهذا تحققت المعارضة
والذي زكى الشاهد لا يعتمد دليلا في خبره لان نفي أسباب الجرح لا يعلم حقيقة فلهذا يرجح
المثبت هناك على النافي فإن كان الذي أخبره بأنه حلال مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حرام
واحد حر فلا بأس بأكله لان في الخبر الديني المملوك والحر سواء ولا تتحقق المعارضة بين
الواحد والمثني في الخبر لأنه يحصل منه طمأنينة القلب بخبر الاثنين مالا يحصل بخبر الواحد
وإن كان الذي زعم أنه حرام مملوكا ثقتان والذي زعم أنه حلال حر واحد ثقة ينبغي له أن
لا يأكله لما بينا أن خبر الواحد لا يكون معارضا لخبر الاثنين وكذلك لو أخبره بأحد الامرين
عبد ثقة وبالآخر حر ثقة يعمل بأكبر رأيه فيه لان الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر
حر واحد ومن حيث الدين خبر الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة بين الخبرين يصير
إلي الترجيح بأكبر الرأي وان أخبره بأحد الامرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران
ثقتان أخذ بقول الحرين لان الحجة تتم بقول الحرين ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض
يترجح قول الحرين لان في قولهما زيادة إلزام فان الالزام بقول المملوكين ينبنى على الالزام
165

اعتقادا والالزام في قول الحرين لا ينبني على الالزام اعتقادا حتى كان ملزما فيما لا يكون
المرء معتقدا له فعرفنا أن في خبرهما زيادة إلزام فالترجيح بقوة السبب صحيح قال ألا ترى
ان أبا بكر رضي الله عنه شهد عنده المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الجدة
أم الأم السدس فقال ائت معك بشاهد آخر فجاء بمحمد بن سلمة فشهد على مثل شهادته
فأعطاها أبو بكر رضي الله عنه السدس وهذا من أمر الدين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه
شهد عنده أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا
استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال ائت معك بشاهد آخر فشهد أبو سعيد الخدري
رضي الله عنه على مثل شهادته قال محمد فهذا إنما فعلاه للاحتياط والواحد يجزى وكان عيسى
بن ابان يقول بل إنما طلبنا شاهدا آخر على طريق الشرط لان طمأنينة القلب تحصل بقول
المثنى دون الواحد ولم يكن في ذلك الوقت ضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد لكثرة الرواة
فاما في زماننا فقد تحقق معني الضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد والأصح ما أشار إليه محمد
رحمه الله تعالى انهما طلبا ذلك للاحتياط وكانا يقبلان ذلك وإن لم يشهد شاهد آخر الا ترى ان عمر
رضي الله عنه قبل شهادة عبد الرحمن بن عوف حين شهد عنده ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ولم يطلب
شاهدا آخر وأجاز قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين أراد أن يدخل
الشام وبها الطاعون فاستشارهم فأشار عليه بعض المهاجرين بالدخول فقال له أبو عبيدة بن
الجراح رضي الله عنه يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا وقع هذا الرجز بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا
وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فأخذ عمر رضي الله عنه بقوله ورجع وذكر الطحاوي رحمه
الله تعالى في مشكل الآثار هذا الحديث فقال تأويله انه إذا كان بحال لو دخل فابتلى وقع عنده
انه ابتلى بدخوله ولو خرج فنجى وقع عنده أنه نجى بخروجه فلا يدخل ولا يخرج صيانة
لاعتقاده فأما إذا كان يعلم أن كل شئ بقدر وأنه لا يصيبه الا ما كتب الله تعالى فلا بأس
بأن يدخل ويخرج واستدل محمد رحمه الله تعالى أيضا بحديث عمر رضي الله عنه فإنه كأن لا يورث
المرأة من دية زوجها حتى شهد عنده الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فأخذ بقوله
166

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الاسلام
فكان حجة عليه فهذا كله دليل ان خبر الواحد في أمر الدين كان ملزما في ذلك الوقت
كما هو اليوم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنت إذا لم أسمع من رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديثا فحدثني به غيره استحلفته على ذلك وحدثني أبو بكر رضى الله تعالى
عنه وصدق أبو بكر وهذا مذهب تفرد به علي رضي الله عنه فإنه كان يحلف الشاهد
ويحلف المدعي مع البينة ويحلف الراوي ولم يتبع ذلك فكأنه كان يقول إن خبره يصير مزكى
بيمينه كالشهادات في باب اللعان من كل واحد من الزوجين حتى تصير مزكاة باليمين ومن لم
يعصم عن الكذب لا يكون خبره حجة ما لم يصر مزكى بيمينه الا أبو بكر رضي الله عنه
فان تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه الصديق كاف في جعل خبره مزكى ولسنا
نأخذ بهذا القول لان الله تعالى أمرنا باستشهاد شاهدين وبطلب العدالة في الشهود
فاشتراط اليمين مع ذلك يكون زيادة على ما في الكتاب وقد وقعت الدعاوى والخصومات
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه حلف أحدا من الشهود ولا حلف
المدعى مع البينة ولا يجوز أن يقال إنهم قد تركوا نقله لان هذا لا يظن بهم خصوصا فيما تعم
البلوى فقد نقلوا كل ما دق وجل من أقواله وأفعاله (قال) وبلغنا ان نفرا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو طلحة كانوا يشربون شرابا لهم من الفضيخ فأتاهم آت
فأخبرهم ان الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إليها
فكسرتها حتى اهراق ما فيها ولو لم يكن خبر الواحد حجة ما وسعهم ذلك لما فيه من إضاعة
المال وتأويل كسر الجرار ان الخمر كانت تشرب فيها فلا تصلح للانتفاع بها بوجه آخر وكان
ذلك لاظهار الانقياد وتحقيق الانزجار عن العادة المألوفة وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر بكسر الدنان وشق الروايا وذكر حديث عكرمة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قبل شهادة اعرابي وحده على رؤية هلال رمضان حين قدم المدينة
فأخبرهم بأنه رآه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصوموا بشهادته فهذا يدل على أن
شهادة الواحد في الدين مقبولة ولا يقبل في هلال الفطر أقل من شاهدين رجلين أو رجل
وامرأتين والكلام في هذا الفصل قد بيناه في كتاب الصوم وذكر ابن سماعة في نوادره
قال قلت لمحمد فإذا قبلت شهادة الواحد في هلال رمضان وأمرت بالصوم ثلاثين يوما ولم يروا
167

الهلال أليس أنهم يفطرون وهذا فطر بشهادة الواحد فقال لا أتهم المسلم بتبديل يوم مكان
يوم ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال الفطر غير ثابت بشهادته وان كانت تفضى إليه شهادته كما
لو شهدت القابلة بالنسب يثبت استحاق الميراث ولا يستحق المال بشهادة القابلة وهذا على
قول محمد فأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا يفطرون وان صاموا
ثلاثين يوما إذا لم يروا الهلال قال الحاكم وهلال الأضحى كهلال الفطر ذكره في كتاب
الشهادات وفى النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان الشهادة على هلال الأضحى
كالشهادة على هلال رمضان لما يتعلق به من امر ديني وهو ظهور وقت الحاج وذلك حق الله تعالى فأما في ظاهر الرواية قال هذا في معنى هلال الفطر لان فيه منفعة للناس
هنا من حيث التوسع بلحوم الأضاحي في اليوم العاشر كما في هلال الفطر ولا يقبل
في هلال رمضان قول مسلم ولا مسلمين ممن لا تجوز شهادتهم للتهمة لما بينا أن خبر الفاسق
في أمر الدين غير ملزم وذكر الطحاوي أن شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان مقبول عدلا
كان أو غير عدل قيل المراد بقوله غير عدل أن يكون مستورا فيكون موافقا لرواية الحسن عن
أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في المستور وقيل بل مراداه الفاسق وجه هذه الرواية ان التهمة
منتفية عن خبره هذا لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم فأما عبد مسلم ثقة أو أمة مسلمة أو
امرأة مسلمة حرة فشهادتهم في ذلك جائزة لان في الخبر الديني الذكور والإناث والأحرار
والمماليك سواء وكذلك أن شهد واحد على شهادة واحد وبهذا تبين أنه خبر لا شهادة حتى لا يشترط
فيه لفظ الشهادة وذكر أنه إذا كان محدودا في قذف قد حسنت توبته فشهادته جائزة أيضا وروي
الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن شهادته لا تقبل لأنه محكوم بكذبه وإذا كانت شهادة
المتهم بالكذب لا تقبل هنا فالمحكوم بالكذب أولى ووجه هذه الرواية ان خبر المحدود في أمر
الدين مقبول الا ترى ان أبا بكرة بعدما أقيم عليه حد القذف كانت تعتمد روايته وهذا لان رد شهادته
لحق المقذوف وهو دفع العار عنه باهدار قوله وذلك في الاحكام التي يتعلق بها حقوق العباد وينعدم
هذا المعنى في أمور الدين فكان المحدود فيه كغيره يقول فإذا كان الذي شهد بذلك في المصر ولا
علة في السماء من ذلك لا تقبل شهادته لان الذي يقع في القلب من ذلك أنه باطل وقد بينا في
كتاب الصوم أقاويل العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الفصل وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه
اعتبر فيه عدد الخمسين على قياس الايمان في القسامة وفيما ذكر هناك إشارة إلى أنه إذا جاء
168

من خارج المصر فإنه تقبل شهادته فقد ذكر بعد هذا أيضا أو جاء من مكان
آخر وأخبر بذلك وهكذا ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه لان يتفق من الرؤية
في الصحارى مالا يتفق في الأمصار لما فيها من كثرة الغبار وكذلك أن كان في المصر على
موضع مرتفع فقد يتفق له من الرؤية مالا يتفق لمن هو دونه في الموقف رجل تزوج امرأة
فجاء رجل مسلم ثقة أو امرأة فأخبر انهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلى التنزه عنها
فيطلقها ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها والكلام في هذه المسألة في فصلين
أحدهما في الحكم والآخر في التنزه اما في الحكم فالحرمة لا تثبت بشهادة امرأة واحدة على
الرضاع عندنا ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نسوة كما
هو مذهبه فيما لا يطلع عليه الرجال وزعم أن الرضاع لا يحل مطالعته للأجانب من الرجال
ولكن نقول الارضاع يكون بالثدي وذلك مما يحل مطالعته لذي الرحم المحرم ثم قد
يكون بالايجار وذلك مما يطلع عليه الأجانب ومالك كان يقول يكتفى بشهادة الواحد
لاثبات الحرمة بالرضاع وذلك مروي عن عثمان رضي الله عنه واستدل فيه بحديث ابن أبي
مليكة بن عقبة أن عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنهما تزوج بنت إهاب فجاءت امرأة
سوداء فأخبرت أنها أرضعتهما جميعا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له
صلى الله عليه وسلم كيف وقد قيل هذا القدر ذكره محمد رحمه الله تعالى وأهل الحديث
يروون ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فهو حجة مالك رحمه الله تعالى (وحجتنا)
في ذلك حديث عكرمة بن خالد قال عمر رضي الله عنه لا يقبل على الرضاع أقل من
شاهدين ولأن هذه شهادة تقوم لابطال الملك ولا تتم الحجة فيه الا بشاهدين كالعتق
والطلاق فأما الحديث ففيه إشارة إلى التنزه بقوله كيف وقد قيل ولو ثبتت الحرمة بخبرها
لما أشار إلى التنزه بهذا اللفظ والزيادة التي يرويها أهل الحديث لم تثبت عندنا والدليل على
ضعفه ما روى عن عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه قال تزوجت بنت أبي إهاب فجاءت
امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت من الغد تشهد على الرضاع ومثل هذه
الشهادة تكون عن ضغن فلا تتم الحجة بها فأما بيان وجه التنزه أن المخبر إذا كان ثقة فالذي يقع
في قلوب السامعين أنه صادق فيه فصحبتها تريبه ومفارقتها لا تريبه ولو أمسكها ربما يطعن
فيه أحد ويتهمه وقال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف
169

التهم وقال صلى الله عليه وسلم إياك وما يسبق إلى القلوب انكاره وإن كان عندك اعتذاره فليس
كل سامع نكرا تطيق أن توسعه عذرا ولان يدع وطءا حلالا خير له من أن يقدم على وطئ
حرام ولكن ينبغي له أن يطلقها لأنها منكوحته في الحكم فإذا لم يطلقها لا تقدر على التزوج؟
بغيره فتبقى معلقة ثم يعطيها نصف الصداق بعد الطلاق وإن لم يكن دخل بها لأنها استوجبت
في الحكم ذلك عليه فلا ينبغي له أن يمنعها بنظره لنفسه والمستحب لها أن لا تأخذ شيئا ان
كأن لم يدخل بها لجواز أن يكون المخبر صادقا والنكاح لم يكن منعقدا بينهما وإن كان دخل
بها فلا بأس بأن تأخذ مقدار مهر مثلها بما استحل من فرجها وينبغي أن لا تأخذ الزيادة على
ذلك إلي تمام المسمى ولكن تبريه عن ذلك لأنه حق مستحق لها في الحكم فلا يسقط الا
باسقاطها ولا يبعد أن يندب كل واحد منهما إلى ما قلنا كما أن الله تعالى أثبت نصف الصداق
بالطلاق قبل الدخول ثم ندب كل واحد من الزوجين إلى العفو وكذلك الرجل يشترى
الجارية فيخبره عدل انها حرة الأبوين أو أنها أخته من الرضاع فان تنزه عن وطئها فهو
أفضل وإن لم يفعل وسعه ذلك وفرق بين هذين الفصلين وبين ما تقدم من الطعام والشراب
فاثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا لان حل الطعام و الشراب يثبت بالاذن بدون الملك حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل
ذلك فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وحل الوطئ لا يثبت بدون الملك حتى لو قال
طء جاريتي هذه فقد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطئ فكذلك
الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد وتقرير هذا الفرق من وجهين أحدهما
ان الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت بدون ملك الحل وتثبت
الحرمة مع قيام الملك فكان هذا خبرا بأمر ديني وقول الواحد فيه ملزم فاما في الوطئ الحل
والحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا يثبت مقصودا بنفسه وقول الواحد في ابطال الملك ليس
بحجة فكذلك في الحل الذي ينبنى عليه والثاني ان في الوطئ معنى الالزام على الغير لان
المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها وخبر الواحد
لا يكون حجة في ابطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حق الطعام والشراب
فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل ذلك بثبوت الحرمة وإنما ذلك أمر ديني وخبر
الواحد في مثله حجة مسلم اشتري لحما فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة مجوسي لم ينبغ له أن
170

يأكله لأنه أخبر بحرمة العين وهو أمر ديني فتتم الحجة بخبر الواحد فيه وكما لا يأكله
لا يطعمه غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في نظيره أتطعمين
ما لا تأكلين ولا يرده على صاحبه لان فسخ البيع معتبر بنفس البيع وكما لا تتم الحجة بخبر
الواحد في البيع فكذلك فيما يفسخه ولا يستحل منع البائع ثمنه لأنه قد استوجبه بالعقد قبله وقول الواحد ليس بحجة في اسقاط حق مستحق للعباد ولأن العين قد بقي مملوكا له متقوما لان نقض الملك فيه بقول الواحد لا يجوز فعليه أداء ثمنه (فان قيل) الحل هنا إنما يثبت
حكما للمالك فينبغي أن لا تثبت الحرمة الا بما يبطل كما في المسألة الوطئ (قلنا) لا كذلك
بل ثبوت حل التناول بالاذن لان الموجب للبيع اذن المشترى في التناول مسلطا له على ذلك
وهو كاف لثبوت الحل في هذا العين فما زاد عليه غير معتبر في حكم الحل وبنحوه علل في
البيوع في تنفيذ تصرف المشترى بشراء فاسد فقال لان البائع سلطه على ذلك والدليل على
هذا تمام البيع بهذا اللفظ حتى لو قال كل هذا الطعام بدرهم لي عليك فأكله كان هذا
بيعا وكان قد أكله حلالا بخلاف الوطئ فان الحرة لو قالت طئني بكذا لا يحل له ان يفعل
ولا ينعقد النكاح بينهما لو فعله يوضحه ان المعتبر هو الجملة دون الأحوال وإذا كان حل
الطعام في الجملة يثبت بغير ملك فكذلك الحرمة تثبت مع قيام الملك ولو لم يبعه هذا الرجل
ولكن اذن له في التناول فأخبره مسلم ثقة انه محرم العين لم يحل له تناوله فكذلك إذا باعه
يوضحه ان قبل البيع إنما لا يحل له تناوله لان حرمة العين تثبت في حقه بخبر الواحد والبيع
ليس له تأثير في إزالة حرمة ثابتة للعين فإذا ثبت انه لو اشتراه بعد الاذن أو ملكه بسبب
آخر لم يحل له تناوله فكذلك إذا اشتراه قبل الاذن فأخبره عدل بأنه محرم العيني ولو اشترى
طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو صدقة أو وصية فجاء مسلم ثقة فشهد ان
هذا لفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت فأحب إلى أن يتنزه عن أكله
وشربه والوضوء منه ووطئ الجارية لان خبر الواحد يمكن ريبة في قلبه والتنزه عن مواضع
الريبة أولى وإن لم يتنزه كان في سعة من ذلك لان المخبر هنا لم يخبر بحرمة العين وإنما أخبر
ان من تملك من جهته لم يكن مالكا وهو مكذب في هذا الخبر شرعا فان الشرع جعل صاحب
اليد مالكا باعتبار يده ولهذا لو نازعه فيه غيره كان القول قوله وعلى هذا أيضا لو أذن له ذو
اليد في تناول طعامه وشرابه فأخبره ثقة أن هذا الطعام والشراب في يده غصب من فلان وذو
171

اليد يكذبه وهو متهم غير ثقة فان تنزه عن تناوله كان أولى وإن لم يتنزه كان في سعة وفى الماء
إذا لم يجد وضوء غيره توضأ به ولم يتمم لان الشرع جعل القول قول ذي اليد فيما في يده وهذا
بخلاف ما سبق لان هناك المخبر إنما أخبر بملك الغير في المحل وخبره في هذا ليس بحجة
وهناك أخبر بحرمة ثابتة في المحل لحق الشرع وخبر الواحد فيه حجة (فان قيل) الحل والحرمة
ليس بصفة للمحل حقيقة وإنما هو صفة للفعل الصادر من المخاطب وهو التناول وقد أخبره
بحرمة التناول في الفصلين جميعا (قلنا) هذا شئ توهمه بعض أصحابنا وهو غلط عظيم فانا
لو جعلنا الحرمة صفة للفعل حقيقة ثم توصف العين به مجازا كان شروعا في المحل من وجه
وذلك ممتنع بعد ثبوت حرمة الأمهات وحرمة الميتة بالنص ولكن نقول الحرمة صفة العين
حقيقة باعتبار أنه خرج شرعا من أن يكون محلا للفعل الحلال وكذلك حقيقة موجبه
النفي والنسخ ثم ينتفي الفعل باعتبار انعدام المحل لان الفعل لا يتصور الا في المحل كالقتل لا
يتصور في الميت وكان هذا امامة العين مقام الفعل في أن صفة الحرمة تثبت له حقيقة ويتضح
ذلك بالتأمل في مورد الشرع فان الله تعالى في مال الغير نهى عن الأكل فإنه قال تعالى ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلى قوله لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم فعرفنا أن المحرم
هو الأكل وفي الميتة قال تعالى حرمت عليكم الميتة فقد جعل الحرمة صفة للعين وكذلك قال
حرمت عليكم أمهاتكم وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن الفقه وكذلك من حيث
الاحكام من قال لامرأته أنت علي كالميتة كان بمنزلة قوله أنت على حرام بخلاف ما لو قال
أنت علي كمتاع فلان فإذا تقرر هذا قلنا الحرمة الثابتة صفة للعين محض حق الشرع فتثبت
بخبر الواحد ولهذا لا يسقط الا باذن الشرع وحرمة التناول في طعام الغير ثابتة لحق الغير
ولهذا يسقط باذنه وحق الغير لا يثبت بخبر الواحد فلا تثبت الحرمة أيضا ولو أن رجلا مسلما
شهد عنده رجل أن هذه لجارية التي هي في يد فلان وهي مقرة له بالرق أمة لفلان غصبها
والذي هي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون على ما ذكر فأحب إلى أن لا يشتريها وان اشتراها
ووطئها فهو في سعة من ذلك لان المخبر مكذب فيما أخبر به شرعا والقول قول ذي اليد
أنها مملوكة له فله ان يعتمد الدليل الشرعي فيشتريها وان احتاط فلم يشترها كان أولى له
لأنه متمكن من تحصيل مقصوده بغيرها وابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في مثله كنا
ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام ولو أخبره انها حرة الأصل أو انها كانت أمة لهذا الذي
172

في يده فأعتقها وهو مسلم ثقة فهذا والأول سواء لما بينا ان المخبر مكذب شرعا وان تصادقهما
على أنها مملوكة لذي اليد حجة شرعا في اثبات الملك له فللمشتري ان يعتمد الحجة الشرعية
والتنزه أفضل له (فان قيل) في هذا الموضع أخبر بحرمة المحل حين زعم أنها معتقة أو حرة
فلو جعلت هذا نظير ما سبق (قلنا) لا كذلك فحرمة المحل هنا لعدم الملك والملك ثابت بدليل
شرعي ومع ثبوت الملك لا حرمة في المحل وفي الكتاب قال هذا بمنزلة النكاح الذي يشهد فيه
بالرضاع وهو إشارة إلى ما قلنا أن حل الوطئ لا يكون الا بملك والملك المحكوم به شرعا لا
يبطل بخبر الواحد فكذلك ما ينبنى عليه من الحل وإذا كانت الجارية لرجل فأخذها رجل
آخر وأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها للأول ان يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من
ملكه وانتقلت إلى ملك ذي اليد بسبب صحيح أو يعلم أنه وكله ببيعها لان دليل الملك الأول ظهر عنده فلا يثبت الملك للثاني في حقه الا بدليل يوجب النقل إليه والشراء من غير المالك لا يحل
الا بإذن المالك ولو علم القاضي ما علمه هو كان يحق عليه تقريره على ملك الأول حتى يثبت
الثاني سبب الملك لنفسه فكذلك إذا علمه هذا الذي يريد شراءه فان سأل ذا اليد فقال إني
قد اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصديق بها على أو وكلني ببيعها فإن كان ثقة فلا بأس بان
يصدقه على ذلك ويشتريها منه ويطأها لأنه أخبر بخبر مستقيم صالح فيكون خبره محمولا
على الصدق ما لم يعارضه مانع يمنع من ذلك والمعارض انكار الأول ولم يوجد ولو كلفناه
الرجوع إلى الأول ليسأله كان في ذلك نوع حرج لجواز أن يكون غائبا أو مختفيا وإن كان
غير ثقة الا ان أكبر راية فيه أنه صادق فكذلك أيضا لما بينا ان في المعاملات لا يمكن اعتبار
العدالة في كل خبر لمعنى الحرج والضرورة لان الخبر غير ملزم إياه شرعا مع أن أكبر الرأي
إذا انضم إلى خبر الفاسق تأيد به وقد بينا نظيره في الاخبار الدينية فههنا أولى وإن كان أكبر
راية أنه كاذب لم ينبغ له أن يتعرض لشئ من ذلك لان أكبر الرأي فيما لا يوقف على
حقيقته كاليقين ولو تيقن بكذبه لم يحل له أن يعتمد خبره فكذلك إذا كان أكبر رأيه في
ذلك والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضى الله تعالى عنه ضع يدك على
صدرك واستفت قلبك فيما حاك في صدرك فهو السالم وان أفتاك الناس به وقال صلى الله
عليه وسلم الاثم حراز القلوب أي على المرء ان يترك ما حرز في قلبه تحرزا عن الاثم وكذلك
لو لم يعلم أن ذلك الشئ لغير الذي هو في يديه حتى أخبره الذي في يديه أنه لغيره وانه وكله
173

ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه لان اقراره بالملك للغير حجة في حق المقر شرعا فهذا في حق
السامع بمنزلة ما لو علم ملك الغير بأن عاينه في يده فإن كان المخبر ثقة صدقه فيما أخبر به من
سبب الولاية له في بيعه وكذلك أن كان غير ثقة وأكبر راية انه صادق فيه صدقه أيضا وإن كان
أكبر رأيه أنه كاذب لم يقبل ذلك منه ولم يشتره وان كأن لم يخبره ان ذلك الشئ لغيره
فلا بأس بشرائه منه وقبوله هبته وإن كان غير ثقة لان دليل الملك شرعا ثابت له وهو اليد
والفاسق والعدل في هذا الدليل سواء حتى إذا نازعه غيره فالقول قوله ويحل لمن رآه في
يده ان يشهد له بالملك والمصير إلى أكبر الرأي عند انعدام دليل ظاهر كما لا يصار إلى
القياس عند وجود النص (قال) إلا أن يكون مثله لا يتملك مثل ذلك العين فأحب ان يتنزه
عنه ولا يتعرض له بالشراء أو غيره وذلك كدرة يراها في يد فقير لا يملك شيئا أو رأى
كتابا في يد جاهل ولم يكن في آبائه من هو أهل لذلك فالذي سبق إلى قلب كل أحد أنه
سارق لذلك العين فكان التنزه عن شرائه منه أفضل وان اشترى أو قبل وهو لا يعلم أنه
لغيره رجوت أن يكون في سعة من ذلك لأنه يزعم أنه مالك والقول قوله شرعا فالمشتري
منه يعتمد دليلا شرعيا وذلك واسع له إلا أنه مع هذا لم يبت الجواب وعلقه بالرجاء لما ظهر
من عمل الناس ولما سبق إلى وهم كل أحد أن مثله لا يكون مالكا لهذه العين فإن كان الذي
أتاه به عبد أو أمة لم ينبغ له أن يشترى ولا يقبله حتى يسأله عن ذلك لان المنافى للملك وهو
الرق معلوم فيه فما لم يعلم دليلا مطلقا للتصرف في حق من رآه في يده لا يحل له الشراء منه
لأنه عالم أنه لغيره واليد في حق المملوك ليس بمطلق للتصرف وان الرق مانع له من التصرف
ما لم يوجد الاذن فان سأله فأخبره أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأمون فلا بأس بشرائه
منه وقبوله لأنه أخبر بخبر مستقيم صالح وهو محتمل في نفسه فيعتمد خبره إذا كان ثقة وإن كان
غيره ثقة فهو على ما يقع في قلبه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قال صدقه بقوله وإن كان
أكبر رأيه أنه كاذب لم يعرض لشئ من ذلك وكذلك أن كأن لا رأي له فيما قال لان
الحاجز له عن التصرف ظاهر فلا يكون له أن يتصرف معه بمجرد خبره ما لم يترجح جانب
الصدق فيه بنوع دليل ولم يوجد ذلك وكذلك الغلام الذي لم يبلغ حرا كان أو عبدا فيما
يخبر أنه أذن له في بيعه أو ان فلانا بعث معه إليه هدية أو صدقة فإن كان أكبر رأيه أنه صادق
وسعه ان يصدقه وهذا للعادة الظاهرة في بعث الهدايا على أيدي المماليك والصبيان وفى
174

التورع عنه من الجرح ما لا يخفى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يقبل منه شيئا
لان أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقة كاليقين (قال) وكان شيخنا الامام رحمه الله تعالى
يقول الصبي إذا أتي بقالا بفلوس يشترى منه شيئا وأخبره أن أمه أمرته بذلك فان طلب
الصابون ونحوه فلا بأس ببيعه منه وان طلب الزبيب وما يأكله الصبيان عادة فينبغي له أن
لا يبيعه لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول وقد عثر على فلوس أمه فيريد أن يشترى بها حاجة
نفسه وان قال الصبي هذا لي وقد أذن لي أبى في أن أهبه لك أو أتصدق به عليك لم ينبغ
له أن يقبله منه لان ليس للأب ولاية الاذن بهذا التصرف لولده بخلاف ما إذا قال أبى
بعثه إليك على يدي صدقة أو هبة لان للأب هذه الولاية في مال نفسه فكان ما أخبره
مستقيما وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه ولو أن رجلا علم أن جارية
لرجل يدعيها ثم رآها في يد رجل آخر يبيعها ويزعم أنها كانت في يد فلان وذلك الرجل
يدعى أنها له وكانت مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت لي وإنما أمرته بذلك الامر
خفية وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة مسلم فلا بأس بشرائها منه لأنه أخبر بخبر مستقيم محتمل ولو كان ما أخبر به معلوما للسامع كان له ان يشتريها منه فكذلك إذا أخبره بذلك
ولا منازع له فيه وإن كان في رأيه انه كاذب لم ينبغ له ان يشتريها ولا يقبلها لأنه ثبت
عنده انها مملوكة للأول فان اقرار ذي اليد بان الأول كان يدعى انها مملوكته حين كانت
في يده يثبت الملك له وكذلك سماع هذا الرجل منه انها له دليل في حق اثبات الملك له
والذي أخبره المخبر بخلاف ذلك لم يثبت عنده حين كان في أكبر رأيه انه كاذب في
ذلك ولو لم يقل هذا ولكنه قال ظلمني وغصبني وأخذتها منه لم ينبغ له ان يتعرض لشراء
ولا قبول إن كان المخبر ثقة أو غير ثقة والفرق من وجهين أحدهما انه أخبر هناك بخبر
مستنكر قان الظلم والغصب مما يمنع كل أحد عنه عقله ودينه فلم يثبت لم بخبره غصب ذلك
الرجل بقي قوله أخذتها منه وهذا أخذ بطريق العدوان ألا ترى ان القاضي لو عاين ذلك
منه أمره برده عليه حتى يثبت ما يدعيه وإذا سقط اعتبار يده بقي دعواه الملك فيما ليس
في يده وذلك لا يطلق الشراء منه وفى الأول أخبر بخبر مستقيم كما قررنا فان دينه وعقله
لا يمنعه من التلجئة عند الخوف والثاني ان خبر الواحد عند المسالمة حجة وعند المنازعة
لا يكون حجة لأنه يحتاج فيه إلى الالزام وذلك لا يثبت بخبر الواحد وفى الفصل الثاني
175

أخبر عن حال منزعة بينهما في غضب الأول واسترداد هذا فلا يكون خبره حجة
وفى الأول أخبر عن حال مسالمة ومواضعة كان بينهما فيعتمد خبره إن كان ثقة وان قال إنه
كان ظلمني وغصبني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلى فإن كان عنده ثقة فلا بأس
بشرائها وقبولها منه لأنه أخبر عن مسالمة وهو اقراره له بها ودفعها إليه ولان القاضي
لو عاين ما أخبره به قضى بالملك له فيجوز للسامع أن يعتمد خبره إن كان ثقة وفى الأول
لو عاين القاضي أخذها منه قهرا أو أمره بالرد ولم يلتفت إلى قوله كان غصبني وكذلك أن
قال خاصمته إلى القاضي فقضى لي بها ببينة أقمتها عليه أو بنكوله عن اليمين لأنه أخبر بخبر
مستقيم وهو اثباته ملك نفسه بالحجة ثم الاخذ بقضاء القاضي وذلك أقوي من الاخذ
بتسليم من كان في يده إليه بعد اقراره له بها وإن كان غير ثقة وأكبر رأيه انه كاذب لم يشترها
منه في جميع هذه الوجوه لان أكبر الرأي في هذا كاليقين وان قال قضى لي بها القاضي
وأخذها منه فدفعها إلى أو قال قضى لي بها وأخذتها من منزله باذنه أو بغير إذنه فهذا وما
سبق سواء لأنه أخبر ان أخذه كان بقضاء القاضي أو أن القاضي دفعها إليه وهذا خبر
مستقيم صالح وهو بمنزلة حالة المسالمة معنى لان كل ذي دين يكون مستسلما لقضاء القاضي وان قال قضى لي بها فجحدني قضاه فأخذتها منه لم ينبغ له أن يشتريها منه لأنه لما جحد
القضاء فقد جاءت المنازعة فإنما أخبر بالأخذ في حالة المنازعة وخبر الواحد في هذا لا يكون
حجة لما فيه من الالزام ولان القضاء سبب مطلق للاخذ له كالشراء ولو قال اشتريتها
ونقدته الثمن ثم جحدني الشراء فأخذتها منه لم يجز له أن يعتمد خبره وكذلك إذا قال
جحدني القضاء وهذا لان الشرع جعل القول قول الجاحد فيكون سبب استحقاقه عند
جحود الآخر كالمعدوم ما لم يثبته بالبينة يبقى قوله أخذتها منه ولو قال اشتريتها من فلان
وقبضتها بأمره ونقدته الثمن وكان ثقة عنده مأمونا فقال له رجل آخر ان فلانا جحد هذا
الشراء وزعم أنه لم يبع منه شيئا والذي قال هذا أيضا ثقة مأمون لم ينبغ له أن يتعرض لشئ
من ذلك بشراء ولا غيره لان الأول لو خبر أنه جحد الشراء لم يكن له أن يشتريها فكذلك
إذا أخبره غيره وهذا لان المعارضة تحققت بين الخبرين في الامر بالقبض وعدم الامر
والجحود والاقرار فالأصل فيه الجحود وإن كان الذي أخبره الثاني غير ثقة إلا أن أكبر
رأيه أنه صادق فكذلك الجواب لان خبر الفاسق يتأيد بأكبر رأى السامع وإن كان رأيه
176

أنه كاذب وهو غير ثقة فلا بأس بشرائها منه لان خبره غير معتبر إذا كان أكبر رأى السامع
بخلافه فكان المعني فيه أن خبر العدل كان مقبولا لترجح جانب الصدق فيه بأكبر الرأي
لا بطريق اليقين فان العدل غير معصوم من الكذب فإذا وجد مثله في خبر الفاسق كان
خبره كخبر العدل وان كانا جميعا غير ثقة وأكبر رأيه أن الثاني صادق لم يتعرض لشئ من
ذلك بمنزلة ما لو كان الثاني ثقة وفي الكتاب قال لان هذا من أمر الدين وعليه أمور الناس
وهو إشارة إلي أن كل ذي دين معتقد لما هو من أمور الدين فتتم الحجة بخبر الثقة لوجود
الالتزام من السامع اعتقادا أو التعامل الظاهر بين الناس اعتماد هذه الأخبار ولو لم يعمل في
مثل هذه الا بشاهدين لضاق الامر على الناس فلدفع الحرج يعتمد فيه خبر الواحد كما
جعل الشرع شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة تامة لدفع الضيق والحرج
(قال) ألا تري لو أن تاجرا قدم بلدا بجواري وطعام وثياب فقال أنا مضارب فلان أو أنا
مفاوضه وسع الناس أن يشتروا منه ذلك وكذلك العبد يقدم بلدا بتجارة ويدعى أن مولاه
قد أذن له في التجارة فان الناس يعتمدون خبره ويعاملونه ولو لم يطلق لهم ذلك كان فيه من
الحرج ما لا يخفى واستدل عليه بحديث رواه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى عن أبي الهيثم أن
عاملا لعلي رضي الله عنه أهدى إليه جارية فسألها أفارغة أنت فأخبرته أن لها زوجا
فكتب إلى عامله انك بعثت بها إلى مشغولة قال أفترى أنه كان مع الرسول شاهدان أن
عاملك أهدى هذه إليك وقد سألها علي رضي الله عنه أيضا فلما أخبرته أن لها زوجا
صدقها وكف عنها ولم يسألها عن ذلك إلا أنها لو أخبرته أنها فارغة لم ير بأسا بوطئها (قال)
وأكبر الرأي والظن مجوز للعمل فيما هو أكبر من هذا كالفروج وسفك الدماء فان من
تزوج امرأة ولم يرها فأدخلها عليه انسان وأخبره أنها امرأته وسعه أن يعتمد خبره إذا كان
ثقة أو كان في أكبر رأيه انه صادق فيغشاها وكذلك لو دخل على غيره ليلا وهو شاهر
سيفه أو ماد رمحه يشتد نحوه ولا يدرى صاحب المنزل انه لص أو هارب من اللصوص
فإنه يحكم رأيه فإن كان في أكبر رأيه انه لص قصده ليأخذ ماله ويقتله ان منعه وخافه ان
ان زجره أو صاح به أن يبادره بالضرب فلا بأس بأن يشد عليه صاحب البيت بالسيف
فيقتله وإن كان في أكبر رأيه أنه هارب من اللصوص لم ينبغ له أن يعجل عليه ولا يقتله
وإنما أورد هذا لايضاح ما تقدم أن أهم الأمور الدماء والفرج فان الغلط إذا وقع فيهما
177

لا يمكن التدارك ثم جاز العمل فيهما بأكبر الرأي عند الحاجة ففيما دون ذلك أولي وإنما
يتوصل إلى أكبر الرأي في حق الداخل عليه بأن يحكم رأيه وهيئته فإن كان قد عرفه قبل
ذلك بالجلوس مع أهل الخير فيستدل به على أنه هارب من اللصوص وان عرفه بالجلوس
مع السراق استدل عليه أنه سارق وإذا قال الرجل إن فلانا الرجل أمرني ببيع جاريته التي هي في
منزله ودفعها إلى مشتريها فلا بأس بشرائها منه وقبضها من منزل مولاها بأمر البائع أو
بغير أمره أو إذا فاه ثمنها وكان البائع ثقة أو كان غير ثقة ووقع في قلبه أنه صادق لان الجارية
لو كانت في يده جاز شراؤها منه لا باعتبار يده بل باخباره أنه وكيل بالبيع فان هذا خبر
مستقيم صالح وهذا موجود وإن لم تكن في يده وبعد صحة الشراء له أن يقبضها إذا أوفي
الثمن من غير أن يحتاج إلى اذن أحد في ذلك وإن كان وقع في قلبه أنه كاذب قبل الشراء أو
بعده قبل أن يقبض لم ينبع له أن يتعرض لشئ حتى يستأمر مولاها في أمرها لان أكبر
الرأي بمنزلة اليقين في حقه فان ظهر كذبه قبل الشراء فهو مانع له من الشراء وان ظهر بعد
الشراء فهو مانع له من القبض بحكم الشراء لان ما يمنع العقد إذا اقترن به يمنع القبض بحكمه
أيضا كالتخمر في العصير وكذلك لو قبضها ووطئها ثم وقع في قلبه أن البائع كذب فيما قال
وكان عليه أكبر ظنه فإنه يعتزل وطأها حتى يتعرف خبرها لان كل وطأة فعل مستأنف من
الواطئ ولو ظهر له هذا قبل الوطأة الأولى لم يكن له أن يطأها فكذلك بعدها وهكذا
أمر الناس ما لم يجئ التجاحد من الذي كان يملك الجارية فإذا جاز ذلك لم يقربها وردها عليه
لان الملك له فيها ثابت بتصادقهم وتوكيله لم يثبت بقول البائع فعليه أن يردها ويتبع البائع
بالثمن لبطلان البيع بينهما عند جحود التوكيل وينبغي للمشتري أن يدفع العقر إلى مولى
الجارية لأنه وطئها وهي غير مملوكة له وقد سقط الحد بشبهة فيلزمه العقر وإن كان المشترى
حين اشتراها شهد عنده شاهدا عدل أن مولاها قد أمره ببيعها ثم حضر مولاها فجحد
أن يكون أمره ببيعها فالمشترى في سعة من امساكها والتصرف فيها حتى يخاصمه إلى القاضي
لان شهادة الشاهدين حجة حكمية ولو شهدا عند القاضي لم يلتفت القاضي إلى جحود المالك
وقضى بالوكالة وبصحة البيع فكذلك إذا شهدا عنده فإذا خاصم إلى القاضي فقضى له بها لم
يسعه امساكها بشهادة الشاهدين لان قضاء القاضي أنفذ من الشهادة التي لم يقض بها ومعني
هذا أن الشهادة لم تكن ملزمة بدون القضاء وقضاء القاضي يلزمه بنفسه والضعيف لا يظهر
178

في مقابلة القوي رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبره مخبر أنها قد ارتدت
عن الاسلام والمخبر ثقة عنده وهو حر أو مملوك أو محدود في قذف وسعه أن يصدقه
ويتزوج أربعا سواها لأنه أخبره بأمر ديني وهو حل نكاح الأربع له وهذا أمر بينه وبين
ربه وكذلك أن كان غير ثقة وكان أكبر رأيه أنه صادق لان خبر الفاسق يتأكد بأكبر
الرأي ولان هذا الخبر غير ملزم إياه شيئا والمعتبر في مثله التمييز دون العدالة وإنما اعتبار
العدالة في خبر ملزم وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتزوج أكثر من ثلاث لان خبر
الفاسق يسقط اعتباره بمعارضة أكبر الرأي بخلافه ولو كان المخبر أخبر المرأة أن زوجها
قد ارتد فلها أن تتزوج بزوج آخر في رواية هذا الكتاب أيضا وفي السير الكبير يقول ليس
لها ذلك حتى يشهد عندها بذلك رجلان أو رجل وامرأتان قال لان ردة الزوج أغلظ
حتى يتعلق بها استحقاق القتل بخلاف ردة المرأة وما ذكر هنا أصح لان المقصود الاخبار
بوقوع الفرقة لا اثبات موجب الردة ألا ترى أنها تثبت بشهادة رجل وامرأتين
والقتل بمثله لا يثبت وكذلك أن كانت صغيرة فأخبر أنها قد رضعت من أمه أو أخته ولو
أخبر أنه تزوجها يوم تزوجها وهي مرتدة أو أخته من الرضاعة والمخبر ثقة لم ينبغ له أن
يتزوج أربعا سواها ما لم يشهد بذلك عنده شاهدا عدل لأنه أخبر بفساد عقد حكمنا بصحته
ولا يبطل ذلك الحكم بخبر الواحد وفى الأول أصل النكاح بل أخبر بوقوع الفرقة بأمر محتمل يوضحه أن اخباره بأن أصل النكاح كان فاسدا مستنكر لان المسلم
لا يباشر العقد الفاسد عادة فأما اخباره بوقوع الفرقة بسبب عارض غير مستنكر وان
شهد عنده شاهدا عدل بذلك وسعه أن يتزوج أربعا لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي
حكم ببطلان النكاح فكذلك إذا شهدا به عند الزوج وعلى هذا لو أن امرأة غاب عنها
زوجها فأخبرها مسلم ثقة أن زوجها طلقها ثلاثا أو مات عنها أو كان غير ثقة فأتاها بكتاب
من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا إلا أن أكبر رأيها أنه حق فلا بأس بأن
تعتد وتتزوج ولو أتاها فأخبرها أن أصل نكاحها كان فاسدا وان زوجها كان أخاها من
الرضاعة أو مرتدا لم يسعها أن تتزوج بقوله وإن كان ثقة لأنه في هذا الفصل أخبرها بخبر
مستنكر وقد ألزمها الحكم بخلافه وفى الأول أخبرها بخبر محتمل وهو أمر بينها وبين ربها
فلها أن تعتمد ذلك الخبر وتتزوج وهي نظير امرأة قالت لرجل قد طلقني زوجي ثلاثا وانقضت
179

عدتي ووقع في قلبه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها بقولها وكذلك المطلقة ثلاثا إذا قالت
لزوجها الأول انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي فلا
بأس على زوجها الأول أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لأنها أخبرت
بحلها له بأمر محتمل وفى هذا بيان أنها لو قالت لزوجها الأول حللت لك لا يحل له أن يتزوجها
ما لم يستفسرها لاختلاف بين الناس في حلها له بمجرد العقد قبل الدخول فلا يكون له أن
يعتمد مطلق خبرها بالحل حتى تفسره ولو أن جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل
يدعى أنها له فلما كبرت لقيها رجل من بلد آخر فقالت أنا حرة الأصل لم يسعه أن يتزوجها
لأنه علم أنها كانت مملوكة لذي اليد فان اليد فيمن لا يعبر عن نفسه دليل الملك والقول قول
ذي اليد أنها مملوكته فاخبارها بخلاف المعلوم لا يكون حجة له وهو خبر مستنكر وان
قالت كنت أمة له فأعتقني وكانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لم أر بأسا بأن
يتزوجها لأنها أخبرت بحلها له بسبب محتمل لم يعلم هو خلافه فيجوز له أن يعتمد خبرها
وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها الأول كان فاسدا
وان زوجها كان على غير الاسلام لم ينبغ لهذا أن يصدقها ولا يتزوجها لأنها أخبرته بخبر
مستنكر يعلم هو خلاف ذلك وان قالت إنه طلقني بعد النكاح أو ارتد عن الاسلام وسعه
ان يعتمد خبرها ويتزوجها لأنها أخبرت بحلها له بسبب محتمل فمتى أقرت بعد النكاح أنه
كان مرتدا حين تزوجني أو انى كنت أخته من الرضاعة لا يعتمد خبرها لأنه خلاف المعلوم
وإذا أخبرت بالحرمة بسبب عارض بعد النكاح من رضاع أو غير ذلك وثبتت على ذلك
فإن كانت ثقة مأمونة أو غير ثقة الا ان أكبر رأيه انها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها وفيه
شبهة فان الملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبرها وقيام الملك للغير يمنعه من أن يتزوج بها
ولكن قيام الملك للغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال فما عرف ثبوته
فالأصل بقاؤه وخبر الواحد أقوى من استصحاب الحال فاما صحة النكاح في الابتداء بدليل
موجب له وهو العقد الذي عاينه فلا يبطل ذلك بخبر الواحد واستدل بحديث بريرة أنها
اتت عائشة رضي الله عنها بهدية إليها فأخبرتها انها صدقة تصدق بها عليها فكرهت عائشة
رضي الله عنها ان تأكله حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم
هي لها صدقة ولنا هدية فقد صدق بريرة بقولها وقد علم أن العين كان مملوكا لغيرها وصدق
180

عائشة رضي الله عنها بقولها أيضا حين تناول منها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(باب الرجل يرى الرجل يقتل أباه أو يره)
(وقال) وإذا رأى الرجل رجلا يقتل أباه متعمدا فأنكر القاتل أن يكون قتله أو قال لابنه
فيما بينه وبينه أن قتلته لأنه قتل وليي فلانا عمدا أو لأنه ارتد عن الاسلام ولا يعلم الابن مما
قال القاتل شيئا ولا وارث للمقتول غيره فالابن في سعة من قتل القاتل لأنه تيقن بالسبب
الموجب لحل دمه للقاتل فكان له أن يقتص منه معتمدا على قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا
وعلى قوله صلى الله عليه وسلم العمد قود وحاصل المسألة على أربعة أوجه أحدها إذا عاين
قتله والثاني إذا أقر عنده أنه قتله فهذا ومعاينة القتل سواء لان الاقرار موجب بنفسه حتى
لا يملك المقر الرجوع عن اقراره فهذا ومعاينة السبب سواء والثالث أن يقيم البينة بأنه قتل
أباه فيقضى له القاضي بالقود فهو في سعة من قتله لان قضاء القاضي ملزم فيثبت به السبب
المطلق لاستيفاء القود له والرابع أن يشهد عنده شاهدا عدل أن هذا الرجل قتل أباه فليس له أن
يقتله بشهادة لان الشهادة لا توجب الحق ما لم يتصل بها قضاء القاضي فلا يتقرر عنده السبب المطلق
لاستيفاء القود بمجرد الشهادة ما لم ينضم إليه القضاء والذي بينا في الابن كذلك في غيره
إذا عاين القتل أو سمع اقرار القاتل به أو عاين قضاء القاضي به كان في سعة من أن يعين الابن
على قتله لأنه يعينه على استيفاء حقه وذلك من باب البر والتقوى ولو شهد عنده بذلك شاهدان لم
يسعه ان يعينه على قتله بشهادتهما حتى يقضي القاضي له بذلك وان أقام القاتل عند الابن
شاهدين عدلين ان أباه كان قتل أبا هذا الرجل عمدا فقتله به لم ينبغ للابن ان يجعل بقتله حتى
ينظر فيما شهدا به لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي حكم ببطلان حقه فكذلك إذا شهدا عنده
وكذلك لا ينبغي لغيره ان يعينه على ذلك إذا شهد عنده عدلان لما قلنا أو بأنه كان مرتدا حتى يتثبت فيه وهذا لان القتل إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيتثبت فيه حتى يكون إقدامه
عليه عن بصيرة وان شهد بذلك عنده محدودان في قذف أو عبدان أو نسوة عدول
لا رجل معهن أو فاسقان فهو في سعة من قتله لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي لم يمنعه من قتله
بل يعينه على ذلك فكذلك إذا شهدوا عنده وان تثبت فيه فهو خير له لأنه أقرب إلى الاحتياط
فان القتل لا يمكن تداركه إذا وقع فيه الغلط وفرق بين القصاص وحد القذف فقال القاذف
181

إذا أقام أربعة من الفساق يشهدون على صدق مقالته لا يقام عليه حد القذف والقاتل إذا
أقام فاسقين على العفو أو على أن قتله كان بحق لا يسقط القود عنه والفرق ان هناك السبب
الموجب للحد لم يتقرر فان نفس القذف ليس بموجب للحد لأنه خبر متمتل بين الصدق
والكذب وإنما يصير موجبا بعجزه عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يظهر ذلك العجز لان
للفساق شهادة وإن لم تكن مقبولة والموجب للقود هو القتل وقد تقرر ذلك فالعفو بعده
مسقط وهذا المسقط لا يظهر الا بقبول شهادته وليس للفاسق شهادة مقبولة وبيان هذا ان
الله تعالى قال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء والمعطوف على الشرط
شرط وفي باب القتل أوجب القود بنفس القتل فقال تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى
ثم قال فمن تصدق به فهو كفارة له فعرفنا ان العفو مسقط بعد الوجوب لا أن يكون عدم
العفو مقررا سبب الوجوب وان شهد بذلك عنده شاهد عدل ممن يجوز شهادته فقال القاتل
عندي شاهد آخر مثله ففي القياس له أن يقتله لان المانع لا يظهر بشهادة الواحد وفى
الاستحسان لا يعجل بقتله حتى ينظر أيأتيه بآخر أم لأنه لو أقام شاهد عدل عند القاضي
وادعى ان له شاهدا آخر حاضرا أمهله إلي آخر مجلسه فكذلك الولي يمهله حتى يأتي بشاهد
آخر وان قتله كان في سعة لان السبب المثبت لحقه مقرر والمانع لم يظهر وعلى هذا مال في
يدي رجل شهد عدلان عند رجل أن هذا المال كأن لأبيك غصبه هذا الرجل منه ولا وارث
للأب غيره فله أن يدعى بشهادتهم وليس له أن يأخذ ذلك المال ما لم تقم البينة عند القاضي
ويقضي له بذلك لان الشهادة لا تكون ملزمة بدون القضاء وفى الاخذ قصر يد الغير
وليس في الدعوى إلزام أحد شيئا فيتمكن من الدعوى بشهادتهما ولا يتمكن من الاخذ
حتى يقضى له القاضي بذلك لان ذا اليد مزاحم له بيده ولا تزول مزاحمته الا بقضاء القاضي
وكذلك لا يسع غير الوارث أن يعين الوارث على أخذه بهذه الشهادة ما لم يتصل به القضاء
وإن كان الوارث عاين أخذه من أبيه وسعه أخذه منه وكذلك أن أقر الآخذ عنده بالأخذ
لان اقراره ملزم فهو كمعاينة السبب أو قضاء القاضي له به ويسعه أن يقاتله عليه وكذلك
يسع من عاين ذلك اعانته عليه وان أتى ذلك على نفسه إذا امتنع وهو في موضع لا يقدر
فيه على سلطان يأخذ له بحقه لأنه يعلم أنه ملكه وكما أن له أن يقاتل دفعا عن ملكه إذا قصد
الظالم أخذه منه فكذلك له أن يقاتل في استرداده والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم من
182

قتل دون ماله فهو شهيد وإذا شهد عدلان عند امرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وهو يجحد
ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضي بذلك لم يسع امرأته ان تقيم عنده وكان ذلك
بمنزلة سماعها لو سمعته يطلقها ثلاثا لأنهما لو شهدا بهذا عند القاضي حكم بحرمتها عليه
فكذلك إذا شهدا بذلك عندها وهذا بخلاف ما تقدم لان القتل وأخذ المال قد يكون بحق
وقد يكون بغير حق فاما التطليقات الثلاث لا تكون الا موجبة للحرمة فان قال قائل فقد
يطلق الرجل غير امرأته ولا يكون ذلك طلاقا (قلنا) هذا على أحد وجهين اما أن تكون
امرأته فيكون الطلاق واقعا عليها أو تكون غير امرأته فليس لها أن تمكنه من نفسها
وحاصل الفرق أن هناك الشبهة من وجهين (أحدهما) احتمال الكذب في شهادتهما والآخر
كون القتل بحق فيصير ذلك مانعا من الاقدام على مالا يمكنه تداركه وهنا الشبهة من وجه
واحد وهو احتمال الكذب في شهادتهما فأما إذا كانا صادقين فلا مدفع للطلاق وبظهور
عدالتهما عندها ينعدم هذا الاحتمال حكما كما ينعدم عند القاضي (فان قيل) كما أن في شهادة
شاهدين احتمال الكذب ففي اقرار المقر ذلك وقد قلتم يسعه أن يقتله إذا سمع اقراره (قلنا)
هذا الاحتمال يدفعه عقل المقر فالانسان لا يقر على نفسه بالسبب الموجب لسفك دمه كاذبا
إذا كان عاقلا وإن لم يكن عاقلا فلا معتبر باقراره وكذلك لو شهدا على رضاع بينهما لم يسعها
المقام على ذلك النكاح لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي فرق بينهما فكذلك إذا شهدا عندها
فان مات الشاهدان وجحد الزوج وحلف ينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه ولا تمكنه
من نفسها بوجه من الوجوه لأنه تمكين من الزنا وكان إسماعيل الزاهد رحمه الله تعالى يقول
تسقيه ما تنكسر به شهوته فإن لم تقدر على ذلك قتلته إذا قصدها لأنه لو قصد أخذ مالها كان
لها أن تقتله دفعا عن مالها فإذا قصد الزنا بها أولى أن يكون لها أن تقتله دفعا عن نفسها ولو
هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج لأنها في الحكم زوجة الأول فلو تزوجت غيره كانت
ممكنة من الحرام فعليها أن تكف عن ذلك قالوا وهذا في القضاء فأما فيما بينها وبين الله
تعالى فلها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها ولا يشتبه ما وصفت لك قضاء القاضي فيما يختلف
فيه الفقهاء مما يرى الزوج فيه خلاف ما يرى القاضي وبيان هذا الفصل أنه لو قال لامرأته
اختاري فاختارت نفسها وهو يري ان ذلك تطليقة بائنة والمرأة لا ترى ذلك فاختصما في
النفقة والقاضي يراه تطليقة رجعية فقضى القاضي بأنه يملك رجعتها جاز قضاؤه ووسع الرجل
183

ان يراجعها فيمسكها وكذلك أن كانت المرأة هي التي تراه تطليقة بائنة فراجعها الزوج وحكم
القاضي له بذلك وسعها المقام بذلك معه ولم يسعها ان تفارقه لان قضاء القاضي هنا اعتمد
دليلا شرعيا وفى الأول قضى بالنكاح لعدم ظهور الدليل الموجب للحرمة فكان ابقاء لما كان
لا قضاء بالحل بينهما حقيقة ثم حاصل الكلام في المجتهدات ان المبتلى بالحادثة إذا كان غائبا لا
رأى له فعليه ان يتبع قضاء القاضي سواء قضى القاضي له بالحل أو بالحرمة وإن كان عالما مجتهدا
فقضى القاضي بخلاف اجتهاده فإن كان هو يعتقد الحل وقضي القاضي عليه بالحرمة فعليه ان
يأخذ بقضاء القاضي ويدع؟ رأي نفسه لان القضاء ملزم للكافة ورأيه لا يعدوه وان قضى له بالحل
وهو يعتقد الحرمة ففي قول أبى يوسف رحمه الله تعالى عليه ان يتبع رأى نفسه وفى قول
محمد رحمه الله تعالى يأخذ بقضاء القاضي لان الاجتهاد لا يعارض القضاء ألا ترى ان للقاضي
ولاية نقض اجتهاد المجتهد والقضاء عليه بخلافه وليس له ولاية نقض القضاء في المجتهدات
والقضاء بخلاف الأول والضعيف لا يظهر مع القوى وأبو يوسف يقول اجتهاده ملزم في
حقه وقضاء القاضي يكون عن اجتهاد فمن حيث ولاية القضاء ما يقضي به القاضي أقوى ومن
حيث حقيقة الاجتهاد يترجح ما عنده في حقه على ما عند غيره فتتحقق المعارضة بينهما
فيغلب الموجب للحرمة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع الحرام والحلال في شئ
الا غلب الحرام الحلال يوضحه أن عنده ان قضاء القاضي ليس بصواب ولو كان ما عنده
غير القاضي لم يقض بالحل فكذلك إذا كان ذلك عنده لا يعتقد فيه الحل فان الله تعالى قال
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية ففي هذا بيان أن قضاء
القاضي لا يحل للمرء ما يعتقد فيه الحرمة وعلى هذا الأموال فان القاضي لو قضي بالميراث
للجد دون الأخ والأخ ففيه يعتقد فيه قول زيد رضي الله عنه فعليه أن يتبع رأى القاضي وان
قضى القاضي بالمقاسمة على قول زيد رحمه الله تعالى والأخ يعتقد مذهب الصديق رضي الله عنه
فعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يأخذ المال وعلى قول محمد رحمه الله تعالى
له أن يأخذ المال وعلى هذا الطلاق المضاف إذا كان الزوج يعتقد وقوع الطلاق فقضى القاضي
بخلافه فهو على الخلاف وإن كان الزوج غائبا أو كان يعتقد أن الطلاق غير واقع فعليه أن
يتبع رأى القاضي أو قضى بخلاف اعتقاده وعلى هذا لو استفتى العامي أقوى الفقهاء عنده
فأفتى له بشئ فذلك بمنزلة اجتهاده لأنه وسع مثله ثم فيما يقضي القاضي بعد ذلك بخلافه
184

حكمه كحكم المجتهد في جميع ما بينا وكذلك لو حكمنا ففيها فحكمه كفتواه لان سببه
تراضيهما لا ولاية ثابتة له حكما فكان تراضيهما على تحكيمه كسؤالهما إياه والفتوى
لا تعارض قضاء القاضي فإذا قضى القاضي عليه بخلاف ذلك كان عليه ان يتبع رأى القاضي
الا ترى ان للقاضي ان يقضى بخلاف حكم الحكم في المجتهدات وليس له ان يقضي بخلاف
ما قضى به غيره في المجتهدات ولو قضى به لم ينفذ قضاؤه فهذا معنى قولنا حكم الحكم
في حقهما كفتواه وعلى هذا لو شهد عدلان عند جارية ان مولاها أعتقها أو أقر أنه
أعتقها لم يسعها أن تدعه يجامعها إن قضى القاضي به أولم يقض لان حجة حرمتها عليه
تمت عندها فهو والطلاق سواء ولا يسعها أن تتزوج إذا كان المولى يجحد العتق وكذلك إذا
شهدا بعتق العبد والمولى يجحد لم يسع العبد ان يتزوج بشهادتهما حتى يقضي له القاضي
بالعتق لأنهما مملوكان له في الحكم فلو تزوجا بغير إذنه كانا مرتكبين للحرام عند القاضي وعند الناس والتحرز عن ارتكاب الحرام فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه
المرجع والمآب
(كتاب التحري)
(قال) رضي الله عنه اعلم بان التحري لغة هو الطلب والابتغاء كقول القائل لغيره أتحرى
مسرتك أي اطلب مرضاتك قال تعالى فأولئك تحروا رشدا وهو والتوخي سواء الا ان
لفظ التوخي يستعمل في المعاملات والتحري في العبادات قال صلى الله عليه وسلم للرجلين
الذين اختصما في المواريث إليه اذهبا وتوخيا واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه وقال
صلى الله عليه وسلم في العبادات إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وفى الشريعة
عبارة عن طلب الشئ بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته وقد منع بعض الناس
العمل بالتحري لأنه نوع ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ولا ينتفي الشك به من كل
وجه ومع الشك لا يجوز العمل ولكنا نقول التحري غير الشك والظن فالشك أن يستوى
طرف العلم بالشئ والجهل به والظن أن يترجح أحدهما بغير دليل والتحري أن يترجح أحدهما
بغالب الرأي وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وان كأن لا يتوصل به إلى ما يوجب
حقيقة العلم ولأجله سمى تحريا فالحر اسم لجبل على طرف المفاوز والدليل على ما قلنا الكتاب
185

والسنة أما الكتاب فقوله تعالى فامتحنوهن الله أعلم بايمانهن فان علمتموهن مؤمنات
وذلك بالتحري وغالب الرأي فقد أطلق عليه العلم والسنة قوله صلى الله عليه وسلم المؤمن
ينظر بنور الله وقال صلى الله عليه وسلم فراسة المؤمن لا تخطئ وقال صلى الله عليه وسلم
لوابصة ضع يدك على صدرك فالاثم ما حاك في قلبك وان أفتاك الناس وشئ من المعقول
يدل عليه فان الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائز للعمل به وذلك عمل بغالب الرأي ثم جعل
مدركا من مدارك أحكام الشرع وان كأن لا يثبت به ابتداء فكذلك التحري مدرك من
مدارك التوصل إلى أداء العبادات وان كانت العبادة لا تثبت به ابتداء والدليل عليه أمر الحروب
فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك (فان قيل)
ذلك من حقوق العباد وتتحقق الضرورة لهم في ذلك كما في قيم المتلفات ونحوها ونحن إنما
أنكرنا هذا في العبادات التي هي حق الله تعالى (قلنا) في هذا أيضا معنى حق العبد وهو
التوصل إلي اسقاط ما لزمه أداؤه وكذلك في أمر القبلة فان التحري لمعرفة حدود الأقاليم
وذلك من حق العبد وفى الزكاة التحري لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى فيجوز أن يكون
غالب الرأي طريقا للوصول إليه إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بمسائل الزكاة وكان
الأولى أن يبدأ بمسائل الصلاة لأنها مبتدأة في القرآن وكأنه إنما فعل ذلك لان معني حق
العبد في الصدقة أكثر فإنه يحصل بها سد خلة المحتاج أو لأنه وجد في باب الصدقة نصا
وهو حديث يزيد السلمي على ما بينه فبدأ بما وجد فيه النص ثم عطف عليه ما كان مجتهدا
فيه ومسألة الزكاة على أربعة أوجه أحدها أن يعطى زكاة ماله رجلا من غير شك ولا
تحر ولا سؤال فهذا يجز به ما لم يتبين انه غنى لان مطلق فعل المسلم محمول على ما يصح شرعا
وعلي ما يصح فيه تحصيل مقصوده وعلى ما هو المستحق عليه حتى يتبين خلافه فان الفقر في
القابض أصل فان الانسان يولد ولا شئ له والتمسك بالأصل حتى يظهر خلافه جائز شرعا
فالمعطى في الاعطاء يعتمد دليلا شرعيا فيقع المؤدى موقعه ما لم يعلم أنه غنى فإذا علم ذلك فعليه
الإعادة لان الجواز كان باعتبار الظاهر ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الامر بخلافه فان شك في
أمره بأن كان عليه هيئة الأغنياء أو كان في أكبر رأيه أنه غنى ومع ذلك دفع إليه فإنه
لا يجزيه ما لم يعلم أنه فقير لان بعد الشك لزمه التحري فإذا ترك التحري بعدما لزمه
لم يقع المؤدى موقع الجواز إلا أن يعلم أنه فقير فحينئذ يجوز لان التحري كأن لمقصود
186

وقد حصل ذلك المقصود بدونه فسقط وجوب التحري كالسعي إلى الجمعة واجب لمقصود
وهو أداء الجمعة فإذا توصل إلى ذلك بأن حمل إلى الجامع مكرها سقط عنه فرض السعي
والثالث ان يتحرى بعد الشك ويقع في أكبر رأيه أنه غني فدفع إليه مع ذلك فهذا
لا يشكل أنه لا يجزيه ما لم يعلم بفقره فإذا علم فهو جائز وهو الصحيح وقد زعم بعض مشايخنا
رحمهم الله تعالى ان عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجزيه على قياس ما نبينه في
الصلاة والأصح هو الفرق فان الصلاة لغير القبلة مع العلم لا تكون طاعة فإذا كان عنده
أن فعله معصية لا يمكن اسقاط الواجب عنه فأما التصديق على الغنى صحيح ليس فيه معنى
المعصية فيمكن اسقاط الواجب بفعله هذا إذا تبين وصول الحق إلى مستحقه بظهور فقر
القابض والفصل الرابع ان يتحرى ويقع في أكبر رأيه أنه فقير فدفع إليه فإذا ظهر أنه فقير
أو لم يظهر من حاله شئ جاز بالاتفاق وان ظهر أنه كان غنيا فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمد
وهو قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الأول وفى قوله الآخر تلزمه الإعادة وهو قول الشافعي
رحمه الله تعالى وكذلك لو كان جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء
أو سأله فأعطاه فهذه الأسباب بمنزلة التحري وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه تبين
له الخطأ في اجتهاده بيقين فسقط اعتبار اجتهاده كمن توضأ بماء وصلى ثم تبين له أنه كان
نجسا أو صلى في ثوب علم أنه كان نجسا أو القاضي قضى في حادثة؟ بالاجتهاد ثم ظهر نص
بخلافه وبيانه ان صفة الفقر والغنى يوقف عليهما حقيقة فان الشرع علق بهما أحكاما من
النفقة وضمان العتق وغير ذلك وإنما تتعلق الأحكام الشرعية بما يوقف عليه وإذا ثبت الوصف
فتأثيره أن المقصود ليس هو عين الاجتهاد بل المقصود اتصال الحق إلى المستحق فإذا تبين
أنه لم يوصله إلى مستحقه صار اجتهاده وجود أو عدما بمنزلة لان غالب الرأي معتبر شرعا في
حقه ولكن لا يسقط به الحق المستحق عليه لغيره والزكاة صلة مستحقة للمحاويج على الأغنياء
فلا يسقط ذلك بعذر في جانبه إذا لم يوصل الحق إلى مستحقه وبه فارق الصلاة على أصل
أبى يوسف رحمه الله تعالى لان فريضة التوجه إلى القبلة لحق الشرع وهو معذور عند
الاشتباه فيمكن إقامة الاجتهاد مقام ما هو المستحق عليه في حق الشرع وحجة أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى أنه مؤد لما كلف فيسقط به الواجب كما لو لم يظهر شئ من حال
المصروف إليه وبيانه أنه مأمور بالأداء إلى من هو فقير عنده لا إلى من هو فقير حقيقة لأنه
187

لا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة فالانسان قد لا يعرف من نفسه حقيقة الفقر والغنى فكيف
يعرفه من غيره والتكليف يثبت بحسب الوسع والذي في وسعه الاستدلال على فقره
بدليل ظاهر من سؤال أو هيئة عليه أو جلوس في صف الفقراء وعند انعدام ذلك كله
المصير إلى غالب الرأي وقد أتى بذلك وإنما يكتفي بهذا القدر لمعنى الضرورة ولا يرتفع ذلك
بظهور حاله بعد الأداء لأنه ليس له أن يسترد المقبوض من القابض ولا أن يضمنه بالاتفاق
فلو لم يجز عنه ضاع ماله فلبقاء الضرورة قلنا يجعل المؤدى مجزيا عنه ولأنه لا يعلم حقيقة غناه
وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وتعلق الأحكام الشرعية
بالغنى لا يدل على أنه يعرف صفة الغني حقيقة لان الاحكام تنبنى على ما يظهر لنا كما ينبنى
الحكم على صدق الشهود وان كأن لا يعلم حقيقة وبه فارق النص لأنه يوقف عليه حقيقة
فكان المجتهد مطالبا بالوصول إليه وإن كان قد تعذر إذا كان يلحقه الحرج
في طلبه فإذا ظهر بطل حكم الاجتهاد وكذلك نجاسة الماء ونجاسة الثوب يعرف
حقيقة فيبطل بظهور النجاسة حكم الاجتهاد في الطهارة ولا نقول في الزكاة حق الفقراء بل
هي محض حق الله تعالى والفقير مصرف لا مستحق كالكعبة لأداء الصلاة جهة تستقبل عند أدائها والصلاة تقع لله تعالى ثم هناك يسقط عنه الواجب إذا أتي بما في وسعه ولا
معتبر بالتبين بعد ذلك بخلافه فكذلك هنا ولو تبين أن المدفوع إليه كان أبا الدافع أو ابنه
فهو على هذا الاختلاف أيضا وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه
هنا كما هو قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أما طريق أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه من لا يكون
مصرفا للصدقة مع العلم بحاله لا يكون مصرفا عند الجهل بحاله إذا تبين الامر بخلافه وجه
رواية ابن شجاع أن النسب مما يعرف حقيقة ولهذا لو قال لغيره لست لأبيك لا يلزم الحد
والحد يدرأ بالشبهة فكان ظهور النسب بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد وجه ظاهر
الرواية ما احتج به في الكتاب فإنه روى عن إسرائيل عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد
السلمي قال خاصمت أبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه وذلك أن أبى
أعطى صدقته الرجل في المسجد وأمره بأن يتصدق بها فأتيته فأعطانيها ثم أتيت أبى فعلم بها فقال
والله يا بنى ما أياك أردت بها فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا يزيد لك ما نويت
ويا معن لك ما أخذت ولا معني لحمله على التطوع لان ترك الاستفسار من رسول الله صلى
188

الله عليه وسلم دليل على أن الحكم في الكل واحد مع أن مطلق الصدقة ينصرف إلى الواجب
وفى بعض الروايات قال صدقة ماله وهو تنصيص إلى الواجب وكان المعني فيه أن الواجب
فعل هو قربة في محل يجري فيه الشح والضن وهو المال باعتبار مصرف ليس بينهما ولاد ثم
عند الاشتباه والحاجة أقام الشرع أكثر هذه الأوصاف مقام الكل في حكم الجواز
والحاجة ماسة لتعذر استرداد المقبوض من القابض وبهذا يستدل في المسألة الأولى أيضا
فان الصدقة على الغني فيها معنى القربة كالتصدق على الولد ولهذا لا رجوع فيه فيقام أكثر
الأوصاف مقام الكل في حق الجواز ثم طريق معرفة البنوة الاجتهاد الا تري انه لما نزل
قوله تعالى الدين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه
والله إني بنبوته أعرف منى بولدي فانى أعرفه نبيا حقا ولا أدري ماذا أحدث النساء
بعدي وإذا كان طريق المعرفة الاجتهاد كان هذا والأول سواء من حيث إنه لا ينتقض
الاجتهاد باجتهاد مثله فان تبين انه هاشمي فكذلك الجواب في ظاهر الرواية لان المنع من
جواز صرف الواجب إليه باعتبار النسب مع أن التصدق عليه قربة فهو وفصل الأب
سواء وفى جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى انه يلزمه الإعادة
لان كونه من بني هاشم مما يوقف عليه في الجملة ويصير كالمعلوم حقيقة فكان هذا
بمنزلة ظهور النص بخلاف الاجتهاد ودليله انه لو قال لهاشمي لست بهاشمي فإنه يحد
أو يعزر على حسب ما اختلفوا فيه ولو تبين أن المدفوع إليه ذمي فهو على هذا الخلاف أيضا
وفى الأمالي روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجزئه لان الكفر مما
يوقف عليه ولهذا لو ظهر أن الشهود كفار بطل قضاء القاضي وفى ظاهر الرواية قال ما يكون
في الاعتقاد فطريق معرفته الاجتهاد والتصدق على أهل الذمة قربة فهو وما سبق سواء
وفى الكتاب قال أعطى ذميا أخبره انه مسلم أو كان عليه سيما المسلمين وفى هذا دليل انه
يجوز تحكيم السيما في هذا الباب قال تعالى يعرف المجرمون بسيماهم وقال تعالى تعرفهم بسيماهم
وفيه دليل ان الذمي إذا قال أنا مسلم لا يصير مسلما لأنه قال أخبره انه مسلم ثم علم أنه
ذمي وهذا لان قوله أنا مسلم أن منقاد للحق مستسلم وكل أحد يدعى ذلك فيما يعتقده وقد
قال بعض المتأخرين المجوسي يا ذا قال أنا مسلم يحكم باسلامه لأنهم يتشاءمون بهذا اللفظ
ويتبرؤون منه بخلاف أهل الكتاب وان تبين أن المدفوع إليه مستأمن حربي فهو جائز على ما
189

ذكر في كتاب الزكاة وفي جامع البرامكة روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق
بين الذمي والحربي المستأمن فقال قد نهينا عن البر مع من يقاتلنا في ديننا فلا يكون فعله في
ذلك قربة وبدون فعل القربة لا يتأدى الواجب ولم ننه عن المبرة مع من لا يقاتلنا قال تعالى
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين فيكون فعله في حق الذمي قربة يتأدى به الواجب
عند الاشتباه ولو تبين أن المدفوع إليه عبده أو مكاتبه لا يجزئه لقصور فعله فان الواجب
عليه بالنص الايتاء وذلك لا يكون الا باخراجه عن ملكه وجعله لله تعالى خالصا وكسب
العبد مملوك له وله في كسب المكاتب حق الملك فبقاء حقه يمنع جعله لله تعالى خالصا وهذا
بخلاف ما لو تبين أن المدفوع إليه عبد لغني أو مكاتب له فإنه يجزئه وفي حق المكاتب مع
العلم أيضا ولا ينظر إلى حال المولى لان اخراجه من ملكه على وجه التقرب هناك فصار
لله تعالى خالصا فأما في عبد نفسه ومكاتبه لم يتم اخراجه عن ملكه وبقاء حقه يمنعه أن
يصير لله تعالى خالصا فلهذا لا يسقط به الواجب والأصل في فريضة التوجه إلى الكعبة
للصلاة قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمكة يصلى إلى بيت المقدس ويجعل البيت بينه وبين بيت المقدس فلما هاجر
إلى المدينة اضطر إلى استدبار الكعبة والتوجه إلى بيت المقدس وكان يحب أن تكون
الكعبة قبلته كما كانت قبلة إبراهيم صلوات الله عليه فسأل جبريل عليه السلام ان يسأل
الله له في ذلك وكان يديم النظر إلى السماء رجاء ان يأتيه جبريل عليه السلام بذلك فأنزل
الله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها الآية ثم لا خلاف في حق من
هو بمكة ان عليه التوجه إلى عين الكعبة فاما من كان خارجا من مكة فقد كان أبو عبد الله
الجرجاني يقول الواجب على التوجه إلى عين الكعبة أيضا لظاهر الآية ولان وجوب
ذلك لاظهار تعظيم البقعة فلا يختلف بالقرب منه والبعد وغيره من مشايخنا رحمهم الله يقول
الواجب في حق من هو خارج عن مكة التوجه إلى الجهة لان ذلك في وسعه والتكليف
بحسب الوسع ومعرفة الجهة اما بدليل يدل عليه أو بالتحري عند انقطاع الأدلة فمن الدليل المحاريب
المنصوبة في كل موضع لان ذلك كان باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم فان الصحابة
رضي الله عنهم فتحوا العراق وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب ثم فتحوا خراسان وجعلوا قبلة
أهلها ما بين المغربين مغرب الشتاء ومغرب الصيف فكانوا يصلون إليها ولما ماتوا جعلت قبورهم
190

إليها أيضا من غير نكير منكر من أحد منهم وكفي باجماعهم حجة وقد كانت عنايتهم في أمر
الدين أظهر من عناية من كان بعدهم فيلزمنا اتباعهم في ذلك ومن الدليل السؤال في كل
موضع ممن هو من أهل ذلك الموضع لان أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من عيرهم عادة
وقال تعالى فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ومن الدليل النجوم أيضا على ما حكى
عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في
استقبال القبلة ونحن نجعل الجدي خلف الاذن اليمنى وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي
رحمه الله تعالى يقول السبيل في معرفة الجهة ان ينظر إلي مغرب الصيف في أطول أيام السنة
فيعينه ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام الشتاء فيعينه ثم؟ يدع الثلثين على يمينه والثلث
على يساره فيكون مستقبلا للجهة إذا واجه ذلك الموضع ولا معنى للانحراف إلى جانب الشمال
بعد هذا لأنه إذا مال بوجه يكون إلى حد غروب الشمس في أقصر أيام السنة أو يجاوز
ذلك فلا يكون مستقبلا للقبلة ولا للحرم أيضا على ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني
رحمه الله تعالى ان الحرم من جانب الشمال ستة أميال ومن الجانب الآخر اثنى عشر ميلا
ومن الجانب الآخر ثمانية عشر ميلا ومن الجانب الآخر أربعة وعشرون ميلا وقيل قبلة
أهل الشام الركن الشامي وقبلة أهل المدينة موضع الحطيم والميزاب من جدار البيت وقبلة
أهل اليمن الركن اليماني وما بين الركن اليماني إلى الحجر قبلة أهل الهند وما يتصل بها وقبلة
أهل خراسان والمشرق الباب ومقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإذا
انحرف بعد هذا وان قل انحرافه يصير غير مستقبل للقبلة وعند انقطاع الأدلة فرضه
التحري وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى ان الجهة التي يؤديه إليها تحريه تكون قبلة حقيقة في
حقه لأنه أتى بما في وسعه والتكليف بحسب الوسع وهذا غير مرضى ففيه قول بأن كل مجتهد
مصيب ولكنه مؤد لما كلف وإنما كلف طلب الجهة على رجاء الإصابة والمقصود ليس عين
الجهة إنما المقصود وجه الله تعالى كما قال فأينما تولوا فثم وجه الله ولا جهة لوجه الله تعالى
إلا أنا لو قلنا يتوجه إلى أي جانب شاء انعدم الابتلاء وإنما يتحقق معني العبادة إذا كان فيه
معنى الابتلاء فإنما نوجب عليه التحري لرجاء الإصابة لتحقيق الابتلاء وإذا فعل ذلك كان
مؤديا لما عليه وإن لم يكن مصيبا للجهة حقيقة والدليل على أن الصحيح هذا ما بينا في
كتاب الصلاة أن المصلين بالتحري إذا أمهم أحدهم فصلاة من يعلم أنه مخالف للامام
191

في الجهة فاسدة ولو أنتصب ما ظن الامام إليه قبلة حقيقة يصح اقتداء هذا الرجل
به وان خالفه في الجهة كما إذا صلوا في جوف الكعبة إذا عرفنا هذا نقول من اشتبه
عليه القبلة في السفر في ليلة مظلمة واحتاج إلى أداء الصلاة فعليه التحري ثم المسألة
على أربع أوجه فاما أن يصلى إلى جهة من غير شك ولا تحر أو يشك ثم يصلى إلى جهة من غير
تحر أو يتحرى فيصلى إلى جهة التحري أو يعرض عن الجهة التي أدى إليها اجتهاده فيصلى إلى
جهة أخرى فأما بيان الفصل الأول أنه إذا صلى من غير شك ولا تحر فان تبين أنه أصاب
أو أكبر رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شئ بأن ذهب من ذلك الموضع فصلاته
جائزة لان فعل المسلم محمول على الصحة ما أمكن فكل من قام لأداء الصلاة يجعل مستقبلا
للقبلة في أدائها باعتبار الظاهر وحمل أمره على الصحة حتى يتبين خلافه وان تبين أنه أخطأ القبلة
فعليه إعادة الصلاة لأن الظاهر يسقط اعتباره إذا تبين الحال بخلافه لان الحكم بجواز الصلاة
هنا لانعدام الدليل المفسد لا للعلم بالدليل المجوز فإذا ظهر الدليل المفسد وجب الإعادة وكذلك أن
كان أكبر رأيه أنه أخطأ فعليه الإعادة لان أكبر الرأي كاليقين خصوصا فيما يبني على
الاحتياط وأما إذا شك ولم يتحر ولكن صلى إلى جهة فان تبين أنه أخطأ القبلة أو أكبر رأيه
أنه أخطأ أو لم يتبين من حاله شئ فعليه الإعادة لأنه لما شك فقد لزمه التحري لأجل هذه
الصلاة وصار التحري فرضا من فرائض صلاته فإذا ترك هذا الفرض لا تجزيه صلاته بخلاف
الأول لان التحري إنما يفترض عليه إذا شك ولم يشك في الفصل الأول فأما إذا تبين أنه
أصاب القبلة جازت صلاته لان فريضة التحري لمقصود وقد توصل إلى ذلك المقصود بدونه
فسقط فريضة التحري عنه وإن كان أكبر رأيه انه أصاب فكان الشيخ الإمام الزاهد أبو
بكر محمد بن حامد رحمهم الله تعالى يفتى بالجواز هنا أيضا لان أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما
لا يتوصل إلى معرفته حقيقة والأصح أنه لا يجزيه لان فرض التحري لزمه بيقين فلا
يسقط اعتباره الا بمثله ولان غالب الرأي يجعل كاليقين احتياطا والاحتياط هنا في الإعادة
فأما إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فان تبين انه أصاب أو أكبر
رأيه أنه أصاب أو لم يتبين من حاله شئ فصلاته جائزة بالاتفاق وكذلك أن تبين انه أخطأ
فصلاته جائزة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان تبين أنه تيامن أو تياسر فكذلك الجواب
وان تبين انه استدبر الكعبة فصلاته فاسدة وعليه الإعادة في أحد القولين لأنه تبين الخطأ
192

في اجتهاده فيسقط اعتبار اجتهاده كالقاضي فيما يقضي باجتهاده إذا ظهر النص بخلافه
والمتوضئ بماء إذا علم بنجاسته بخلاف ما إذا تيامن أو تياسر لان هناك لا يتيقن بالخطأ فان
وجه المرء مقوس فان عند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانب وجهه إلى القبلة وأما عند
الاستدبار لا يكون شئ من وجهه إلى الكعبة فيتيقن بالخطأ به (وحجتنا) في ذلك قوله
تعالى ولله المشرق والمغرب الآية وفي سبب نزولها حديثان أحدهما ما روي عن عبد الله بن
عامر رحمه الله تعالى قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة طحياء
مظلمة فاشتبهت علينا القبلة فتحرى كل واحد منا وخط بين يديه خطأ فلما أصبحنا
إذا الخطوط على غير القبلة فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك
فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وسلم أجزأتكم صلاتكم وفى حديث جابر رضي الله عنه
قال كنا في سفر في يوم ذي ضباب فاشتبهت علينا القبلة فتحرى وصلى كل واحد منا إلى
جهة فلما انكشف الضباب فمنا من أصاب ومنا من أخطأ فسألنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فنزلت الآية ولم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة وقال
علي رضي الله عنه قبلة المتحري جهة قصده معناه تجوز صلاته إذا توجه إلى جهة قصده
والمعنى فيه أنه مؤد لما كلف فيسقط عنه الفرض مطلقا كما لو تيامن أو تياسر وبيان الوصف
ما قررناه فيما سبق ان المقصود من طلب الجهة ليست عين الجهة إنما المقصود وجه الله تعالى
الا انه يؤمر بطلب الجهة لتحقيق معنى الابتلاء وما هو المقصود وهو الابتلاء قد تم بتحريه
فيسقط عنه ما لزمه من الفرض ألا تري ان في التيامن والتياسر علي وجه لا يجوز مع العلم
يحكم بجواز صلاته عند التحري للمعنى الذي قلنا فكذلك في الاستدبار وايضاح ما قلنا فيما
نقل عن بعض العارفين قال قبلة البشر الكعبة وقبلة أهل السماء البيت المعمور وقبلة؟؟؟؟
الكرسي وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه الله تعالى وهذا بخلاف ما إذا ظهرت
النجاسة في الثوب أوفى الماء لما قلنا إن ذلك مما يمكن الوقوف على حقيقته ولان التوضي بالماء النجس
ليس بقربة فلا يمكن أداء الواجب به بحال فأما الصلاة إلى غير القبلة قربة ألا ترى ان الراكب
يتطوع على دابته حيث ما توجهت به اختيارا ويؤدى الفرض كذلك عند العذر أيضا وبنحو
هذا فرق في الزكاة أيضا ان التصدق على الأب وعلى الغنى قربة ولهذا لا يثبت له حق
الاسترداد كما قررنا فأما إذا أعرض عن الجهة التي أدى إليها اجتهاده وصلى إلى جهة أخرى
193

ثم تبين انه أصاب القبلة فعليه إعادة الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقد روى عن
أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال أخشى عليه الكفر لاعراضه عن القبلة عنده وروى عنه أيضا
أنه قال أما يكفيه أن لا يحكم بكفره وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى تجوز صلاته لان لزوم
التحري كأن لمقصود وقد أصاب ذلك المقصود بغيره فكان هذا وما لو أصابه بالتحري سواء
وهذا على أصله مستقيم لأنه يسقط اعتبار التحري إذا تبين الامر بخلافه كما قال في الزكاة
وإذا سقط اعتبار التحري فكأنه صلى إلى هذه الجهة من غير تحر وقد تبين أنه أصاب
فتجوز صلاته وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه اعتقد فساد صلاته لان عنده
أنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز الحكم بجواز صلاته مع اعتقاده الفساد فيه كما لو اقتدى
بالامام وهو يصلى إلى غير جهته لم تجز صلاته إذا علم لاعتقاده أن امامه على الخطأ يوضحه أن
الجهة التي أدى إليها اجتهاده صارت بمنزلة القبلة في حقه عملا حتى لو صلى إليها جازت صلاته
وان تبين الامر بخلافه فصار هو في الاعراض عنها بمنزلة ما لو كان معاينا الكعبة فأعرض
عنها وصلى إلى جهة أخري فتكون صلاته فاسدة ولهذا لا يحكم بكفره لان تلك الجهة
ما انتصبت قبلة حقيقة في حق العمل وان انتصبت قبلة في حق العمل فإن كان تبين الحال
له في خلال الصلاة فنقول أما في هذا الفصل فعليه استقبال الصلاة لأنه لو تبين له بعد
الفراغ لزمه الإعادة فإذا تبين في خلال الصلاة أولى ولم يرو عن أبي يوسف رضي الله عنه
خلاف هذا وينبغي أن يكون هذا مذهبه أيضا لأنه قد يقول قوى حاله بالتيقن بالإصابة
في خلال الصلاة ولا ينبني القوى على الضعيف كالمومى إذا قدر على الركوع والسجود في
خلال الصلاة فاما إذا كان مصليا إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه
ان يتحول إلى جهة الكعبة ويبنى على صلاته لأنه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الإعادة
فكذلك إذا تبين له في خلال الصلاة وهذا لان افتتاحه إلي جهة تلك الجهة قبلة في حقه
عملا فيكون حاله كحال أهل قباحين كانوا يصلون إلي بيت المقدس فأتاهم آت وأخبرهم ان
القبلة حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم ركوع ثم جوز رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلاتهم وعلى هذا قالوا لو صلى بعض الصلاة إلى جهة بالتحري ثم تحول رأيه إلى
جهة أخرى يستقبل تلك الجهة ويتم صلاته لان الاجتهاد لا ينقض بمثله ولكن في المستقبل
يبني على ما أدى إليه اجتهاده حتى روي عن محمد أنه قال لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات
194

بهذه الصفة يجوز واختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى فمنهم من يقول
يستقبل تلك الجهة أيضا فتتم صلاته جريا على طريقة القياس ومنهم من يستقبح هذا ويقول إذا
آل الامر إلى هذا فعليه استقبال الصلاة لأنه كان أعرض عن هذه الجهة في هذه الصلاة فليس
له أن يستقبلها في هذه الصلاة أيضا فأما إذا افتتح الصلاة مع الشك من غير تحر ثم تبين له
في خلال الصلاة انه أصاب القبلة أو أكبر رأيه انه أصاب فعليه الاستقبال لان افتتاحه كان ضعيفا
حتى لا يحكم بجواز صلاته ما لم يعلم بالإصابة فإذا علم في خلال الصلاة فقد تقوى حاله وبناء القوى
على الضعيف لا يجوز فيلزمه الاستقبال بخلاف ما إذا علم بعد الفراغ فإنه لا يحتاج إلى البناء
ونظيره في المومى والمتيمم وصاحب الجرح السائل يزول ما بهم من العذر إذا كان بعد الفراغ
لا يلزمهم الإعادة وإن كان في خلال الصلاة يلزمهم الاستقبال فأما إذا كان افتتحها من غير
شك وتحر فان تبين في خلال الصلاة أنه أخطأ فعليه الاستقبال وان تبين أنه أصاب فهذا
الفصل غير مذكور في الكتاب وكان الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل رحمهم الله تعالى يقول
يلزمه الاستقبال أيضا لان افتتاحه كان ضعيفا ألا ترى أنه إذا تبين الخطأ تلزمه الإعادة فإذا
تبين الصواب في خلال الصلاة فقد تقوى حاله فيلزمه الاستقبال وكان الشيخ الإمام أبو بكر
محمد بن حامد رحمه الله تعالى يقول لا يلزمه الاستقبال وهو الأصح لان صلاته هنا في الابتداء
كانت صحيحة لانعدام الدليل المفسد فبالتبين لا تزداد القوة حكما فلا يلزمه الانتقال بخلاف
ما بعد الشك لان هناك صلاته ليست بصحيحة الا بالتيقن بالإصابة فإذا تبين أنه أصاب فقد
تقوى حاله حكما فلهذا لزمه الاستقبال رجل دخل مسجدا لا محراب فيه وقبلته مشكلة وفيه
قوم من أهله فتحرى القبلة وصلي ثم علم أنه أخطأ القبلة فعليه أن يعيد الصلاة لان التحري
حصل في غير أوانه فان أوان فان التحري ما بعد انقطاع الأدلة وقد بقي هنا دليل له وهو
السؤال فكان وجود التحري كعدمه فيصير كأنه صلى بعد الشك من غير التحري فلا
تجزيه صلاته الا إذا تبين أنه أصاب فكذا هذا عليه الإعادة لما تبين أنه أخطأ فان تبين
أنه أصاب فصلاته جائزة واستشهد لهذا بمن أتي ماء من المياه أو حيا من الاحياء وطلب
الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم حتى تيمم وصلى
ثم سألهم فأخبروه لم تجز صلاته وان سألهم فلم يخبروه أو لم يكن بحضرته من يسأله أجزأته
صلاته وكذلك لو افتتح الصلاة بالتيمم ثم رأى انسانا فظن أن عنده خبر الماء يتم صلاته
195

ثم يسأله فان أخبره أن الماء قريب منه يعيد الصلاة فإن لم يعلم من خبر الماء شيئا فليس عليه
إعادة الصلاة وقد بينا في كتاب الصلاة هذه الفصول والفرق بينهما وبين ما إذا سأله في الابتداء
فلم يخبره حتى صلى بالتيمم ثم أخبره فليس عليه إعادة الصلاة فأمر القبلة كذلك ولم يذكر
في الكتاب أن هذا الاشتباه لو كان له بمكة ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ثم
تبين أنه أخطأ هل يلزمه الإعادة فقد ذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى أنه لا إعادة
عليه وهذا هو الأقيس لأنه لما كان محبوسا في بيت وقد انقطعت عنه الأدلة ففرضه
التحري ويحكم بجواز صلاته بالتحري فلا تلزمه الإعادة كما لو كان خارج مكة وكان أبو بكر
الرازي رحمه الله تعالى يقول هنا تلزمه الإعادة لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة (قال) وكذلك
إذا كان بالمدينة لان القبلة بالمدينة مقطوع بها فإنه إنما نصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالوحي بخلاف سائر البقاع ولان الاشتباه بمكة يندر والحكم لا ينبني على النادر فلا يندر
تحريه للحكم بالجواز هنا بخلاف سائر البقاع فان الاشتباه يكثر فيها والأصل في المسائل بعد
هذا أن الحكم للغالب لان المغلوب يصير مستهلكا في مقابلة الغالب والمستهلك في حكم المعدوم
ألا ترى أن الاسم للغالب فان الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير ثم يطلق على الكل اسم
الحنطة وعلى هذا قالوا في قرية عامة أهلها المجوس لا يحل لاحد أن يشترى لحما ما لم يعلم أنه ذبيحة
مسلم وفى القرية التي عامة أهلها مسلمون يحل ذلك بناء للحكم على الغالب ويباح لكل أحد
الرمي في دار الحرب إلى كل من يراه من بعدما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي ولا يحل له ذلك في
دار الاسلام ما لم يعلم أنه حربي ولو أن أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة لم يجز
استرقاق واحد منهم الا من يعلم بعينه انه حربي لان الغالب في هذه المواضع أهل الذمة ولو
دخل قوم من أهل الذمة قرية من قري أهل الحرب جاز للمسلمين استرقاق أهل تلك القرية
الا من يعلم أنه ذمي ثم المسائل نوعان مختلط منفصل الاجزاء ومختلط متصل الاجزاء فمن المختلط
الذي هو منفصل الاجزاء مسألة المساليخ وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام اما أن تكون الغلبة للحلال
أو للحرام أو كانا متساويين وفيه حالتان حالة الضرورة بان كأن لا يجد غيرها وحالة الاختيار ففي
حالة الضرورة ويجوز له التحري في الفصول كلها لان تناول الميتة عند الضرورة جائز له شرعا
فلان يجوز له التحري عند الضرورة وإصابة الحلال بتحريه مأمول كأن أولى واما في حالة
الاختيار فإن كانت الغلبة للحلال بأن كانت المساليخ ثلاثة أحدها ميتة جاز له التحري أيضا
196

لان الحلال هو الغالب والحكم للغالب فبهذا الطريق جاز له التناول منها الا ما يعلم أنه ميتة
فالسبيل ان يوقع تحريه على أحدها انها ميتة فيتجنبها ويتناول ما سوى ذلك لا بالتحري بل
بغلبة الحلال وكون الحكم له وإن كان الحرام غالبا فليس له ان يتحرى عندنا وله ذلك عند الشافعي
لأنه يتيقن بوجود الحلال فيها ويرجو إصابته بالتحري فله ان يتحرى كما في الفصول الأول
وهذا لان الحرمة في الميتة محض حق الشرع والعمل بغالب الرأي جائز في مثله كما في
استقبال القبلة فان جهات الخطأ هناك تغلب على جهات الصواب ولم يمنعه ذلك من العمل
بالتحري فهذا مثله (وحجتنا) في ذلك أن الحكم للغالب وإذا كان الغالب هو الحرام كان الكل
حراما في وجوب الاجتناب عنها في حالة الاختيار وهذا لأنه لو تناول شيئا منها إنما يتناول
بغالب الرأي وجواز العمل بغالب الرأي للضرورة ولا ضرورة في حالة الاختيار بخلاف
ما إذا كان الغالب الحلال فان حل التناول هناك ليس بغالب الرأي كما قررنا وهذا بخلاف
أمر القبلة لان الضرورة هناك قد تقررت عند انقطاع الأدلة عنه فوز انه ان لو تحققت
الضرورة هنا بأن لم يجد غيرها مع أن الصلاة إلى غير جهة الكعبة قربة جائزة في حالة
الاختيار وهو التطوع على الدابة وتناول الميتة لا يجوز مع الاختيار بحال ولهذا لا يجوز
له العمل بغالب الرأي هنا في حالة الاختيار وكذلك أن كانا متساويين لان عند المساواة
يغلب الحرام شرعا قال صلى الله عليه وسلم ما اجتمع الحرام والحلال في شئ الا غلب الحرام
الحلال ولان التحرز عن تناول الحرام فرض وهو مخير في تناول الحلال ان شاء أصاب
من هذا وان شاء أصاب من غيره ولا يتحقق المعارضة بين الفرض والمباح فيترجح جانب
الفرض وهو الاجتناب عن الحرام ما لم يعلم الحلال بعينه أو بعلامة يستدل بها عليه ومن
العلامة أن الميتة إذا ألقيت في الماء تطفو لما بقي من الدم فيها والذكية ترسب وقد يعرف
الناس ذلك بكثرة النشيش وبسرعة الفساد إليها ولكن هذا كله ينعدم إذا كان الحرام ذبيحة
المجوسي أو ذبيحة مسلم ترك التسمية عمدا ومن المختلط الذي هو متصل الاجزاء مسألة الدهن
إذا اختلط به ودك الميتة أو شحم الخنزير وهي تنقسم ثلاثة أقسام فإن كان الغالب ودك الميتة
لم يجز الانتفاع بشئ منه لا بأكل لا بغيره من وجوه الانتفاع لان الحكم للغالب وباعتبار
الغالب هذا محرم العين غير منتفع به فكان الكل ودك الميتة واستدل عليه بحديث جابر رضي الله عنه
قال جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ان لنا سفينة في البحر وقد
197

احتاجت إلى الدهن فوجدنا ناقة كثيرة الشحم ميتة أفندهنها بشحمها فقال صلى الله عليه
وسلم لا تنتفعوا من الميتة بشئ وكذلك أن كانا متساويين لان عند المساواة يغلب الحرام فكان
هذا كالأول فأما إذا كان الغالب هو الزيت فليس له أن يتناول شيئا منه في حالة الاختيار
لان ودك الميتة وإن كان مغلوبا مستهلكا حكما فهو موجود في هذا المحل حقيقة وقد تعذر تمييز
الحلال من الحرام ولا يمكنه أن يتناول جزءا من الحلال الا بتناول جزء من الحرام وهو
ممنوع شرعا من تناول الحرام ويجوز له أن ينتفع بها من حيث الاستصباح ودبغ الجلود بها فان
الغالب هو الحلال فالانتفاع إنما يلاقى الحلال مقصودا وقد روينا في كتاب الصلاة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن علي رضى الله تعالى عنه جواز الانتفاع بالدهن النجس
لأنه قال وإن كان مائعا فانتفعوا به دون الأكل وكذلك يجوز بيعه مع بيان العيب عندنا ولا
يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه نجس العين كالخمر ولكنا نقول النجاسة للجار لا لعين الزيت
فهو كالثوب النجس يجوز بيعه وان كأن لا تجوز الصلاة فيه وهذا لان إلى العباد احداث
المجاورة بين الأشياء لا تقليب الأعيان وإن كان التنجس يحصل بفعل العباد عرفنا أن
عين الطاهر لا يصير نجسا وقد قررنا هذا الفصل في كتاب الصلاة فان باعه ولم يبين عيبه
فالمشترى بالخيار إذا علم به لتمكن الخلل في مقصوده حين ظهر أنه محرم الأكل وان دبغ به
الجلد فعليه أن يغسله ليزول بالغسل ما على الجلد من أثر النجاسة وما يشرب فيه فهو عفو
ومن المختلط الذي هو منفصل الاجزاء مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى
الكفار وهي تنقسم ثلاثة أقسام فإن كانت الغلبة لموتي المسلمين فإنه يصلى عليهم
ويدفنون في مقابر المسلمين لان الحكم للغالب والغالب موتى المسلمين إلا أنه ينبغي لمن
يصلى عليهم ان ينوي بصلاته المسلمين خاصة لأنه لو قدر على التمييز فعلا كان عليه ان يخص
المسلمين بالصلاة عليهم فإذا عجز عن ذلك له ان يخص المسلمين بالنية لان ذلك
في وسعه والتكليف بحسب الوسع ونظيره ما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من
يرميهم ان يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم وإن كان الغالب موتى الكفار لا يصلى
على أحد منهم الا من يعلم أنه مسلم بالعلامة لان الحكم للغالب والغلبة للكفار هنا وان كانا
متساويين فكذلك الجواب لان الصلاة على الكافر لا تجوز بحال قال الله تعالى ولا تصل
على أحد منهم مات أبدا ويجوز ترك الصلاة على بعض المسلمين كأهل البغي وقطاع الطريق
198

فعند المساواة يغلب ما هو الأوجب وهو الامتناع عن الصلاة على الكفار ولا يجوز المصير
إلى التحري هنا عندنا لما بينا ان العمل بغالب الرأي في موضع الضرورة ولا تتحقق الضرورة
هنا وذكر في ظاهر الرواية انهم يدفنون في مقابر المشركين لان في حكم ترك الصلاة
عليه جعل كأنهم كفار كلهم فكذلك في حكم الدفن هذا قول محمد رحمه الله تعالى فأما على
قول أبى يوسف رحمه الله ينبغي أن يدفنوا في مقابر المسلمين مراعاة لحرمة المسلم منهم فان
الاسلام يعلو ولا يعلى ودفن المسلم في مقابر المشركين لا يجوز بحال وقيل بل يتخذ لهم مقبرة
على حدة لامن مقابر المسلمين ولا من مقابر المشركين فيدفنون فيها وأصل هذا الخلاف بين
الصحابة رضي الله عنهم في نظير هذه المسألة وهو ان النصرانية إذا كانت تحت مسلم فماتت
وهي حبلى فإنه لا يصلى عليها لكفرها ثم تدفن في مقابر المشركين عند على وابن مسعود رضي الله عنه
ما ومنهم من يقول تدفن في مقابر المسلمين لان الولد الذي في بطنها مسلم ومنهم
من يقول يتخذ لها مقبرة على حدة فهذا مثله وهذا كله إذا تعذر تمييز المسلم بالعلامة فان أمكن
ذلك وجب التمييز ومن العلامة للمسلمين الختان والخضاب ولبس السواد فاما الختان فلانه
من الفطرة كما قال صلى الله عليه وسلم عشر من الفطرة وذكر من جملتها الختان الا ان من
أهل الكتاب من يختتن فإنما يمكن التمييز بهذه العلامة إذا اختلط المسلمون بقوم من
المشركين يعلم أنهم لا يختتنون واما الخضاب فهو من علامات المسلمين قال صلى الله عليه
وسلم غير والشيب ولا تتشبهوا باليهود وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يختضب بالحناء
والكتم حتى قال الراوي رأيت ابن أبي قحافة رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولحيته كأنها ضرام عرفج واختلفت الرواية في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل
فعل ذلك في عمره والأصح انه لم يفعل ولا خلاف انه بأس للغازي أن يختضب في
دار الحرب ليكون أهيب في عين قرنه وأما من اختضب لأجل التزين للنساء
والجواري فقد منع من ذلك بعض العلماء رحمهم الله تعالى والأصح أنه لا بأس به وهو
مروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها
وأما السواد من علامات المسلمين جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء وقال صلى الله عليه وسلم إذا لبست أمتي السواد
فابغوا الاسلام ومنهم من روى فانعوا والأول أوجه فقد صح ان النبي صلى الله عليه وسلم
199

بشر العباس رضي الله عنه بانتقال الخلافة إلى أولاده بعده وقال من علاماتهم لبس السواد
والكفار لا يلبسون السواد فان أمكن التمييز بشئ من هذه العلامة وجب المصير إليها
كما إذا أمكن معرفة جهة القبلة بشئ من العلامات وجب المصير إليها عند الاشتباه ومن
المختلط الذي هو منفصل الاجزاء مسألة الثياب إذا كان في بعضها نجاسة كثيرة وليس معه
ثوب غير هذه الثياب ولا ما يغسلها به ولا يعرف الطاهر من النجس فإنه يتحرى ويصلى
في الذي يقع تحريه أنه طاهر سواء كانت الغلبة للثياب النجسة أو للثياب الطاهرة أو كانا
متساويين بخلاف مسألة المساليخ وعند التأمل لان فرق لان هناك يجوز له التحري عند
الضرورة أيضا والضرورة هنا قد تحققت لأنه لا يجد بدا من ستر العورة في الصلاة
ولا ثوب معه سوى هذه الثياب فجوزنا له التحري للضرورة ثم الفرق ان عين الثوب
ليس بنجس ولا يلزمه الاجتناب عنه بل له ان يلبسه لغير الصلاة وإن كان نجسا فإذا لم
تكن النجاسة صفة العين كان له ان يلبس أي هذه الثياب شاء في غير الصلاة فإنما يتحرى
لما هو من شرائط الصلاة على الخصوص وهو طهارة الثوب فكان هذا والتحري لاستقبال
القبلة سواء بخلاف المساليخ فان الميتة محرمة العين فإذا كانت الغلبة للحرام كان بمنزلة ما لو كان
الكل حراما في وجوب الاجتناب عنه والى نحو هذا أشار في الكتاب وقال لان الثياب
لو كانت كلها نجسة لكان عليه ان يصلى في بعضها ثم لا يعيد الصلاة معناه ليس عليه الاجتناب
عن لبس الثوب النجس في هذه الحالة فلأن يكون له أن يتحرى وإصابة الطاهر بتحريه
مأمول أولى وفى المساليخ في حالة الاختيار عليه الاجتناب عن الحرام فإذا كانت الغلبة للحرام
كان عليه الاجتناب أيضا وإذا وقع تحريه في ثوبين على أحدهما انه هو الطاهر فصلى فيه الظهر
ثم وقع في أكبر رأيه علي الآخر انه هو الطاهر فصلى فيه العصر لا يجوز لأنا حين حكمنا بجواز
الظهر فيه حكمنا بان الطاهر ذلك الثوب ومن ضرورته الحكم بنجاسة الثوب الآخر فلا يعتبر
أكبر رأيه بعد ما جري الحكم بخلافه وهذا بخلاف أمر القبلة فإنه إذا صلى الظهر إلى جهة ثم
تحول رأيه إلى جهة أخرى فصلى العصر أجزأه لان هناك ليس من ضرورة الحكم بجواز الظهر
الحكم بأن تلك الجهة هي جهة الكعبة ألا ترى أنه وان تبين الخطأ جازت صلاته فكان تحريه
عند العصر إلى جهة أخرى مصادفا محله وهنا من ضرورة الحكم بجواز الظهر الحكم بان
الطاهر ذلك الثوب ألا ترى أنه لو تبينت النجاسة فيه تلزمه الإعادة يوضحه ان الصلاة إلى
200

غير جهة الكعبة يجوز في حالة الاختيار مع العلم وهو التطوع على الدابة والصلاة في
الثوب الذي فيه نجاسة كثيرة لا يجوز في حالة الاختيار مع العلم فمن ضرورة جواز الظهر
تعين صفة الطهارة في ذلك الثوب والنجاسة في الثوب الآخر والاخذ بالدليل الحكمي
واجب ما لم يعلم خلافه فان استيقن أن الذي صلى فيه الظهر هو النجس أعاد صلاة الظهر
لأنه تبين له الخطأ بيقين فيما يمكن الوقوف عليه في الجملة وكذلك لو لم يحضره التحري
ولكنه أخذ أحد الثوبين فصلي فيه الظهر فهذا وما لو فعله بالتحري سواء لان فعل المسلم
محمول على الصحة ما لم يتبين الفساد فيه فيجعل كان الطاهر هذا الثوب ويحكم بجواز صلاته
الا ان يتبين خلافه وكذلك لو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى وهو ساه في أحدهما
الظهر وفى الاخر العصر وفى الأول المغرب وفى الآخر العشاء ثم نظر فإذا في أحدهما قذر
ولا يدرى انه هو الأول أو الآخر فصلاة الظهر والمغرب جائزة وصلاة العصر والعشاء
فاسدة لأنه لما صلى الظهر في أحدهما جازت صلاته باعتبار الظاهر فذلك بمنزلة الحكم
بطهارة ذلك الثوب وبنجاسة الثوب الآخر فكل صلاة أداها في الثوب الأول فهي جائزة
وكل صلاة أداها في الثوب الثاني فعليه اعادتها ولا يلزمه إعادة ما صلى في الثوب الأول
من المغرب لمكان الترتيب لأنه حين صلى المغرب ما كان يعلم أن عليه إعادة العصر والترتيب
بمثل هذا العذر يسقط ومن المختلط الذي هو منفصل الاجزاء مسألة الأواني إذا كان في
بعضها ماء نجس وفي بعضها ماء طاهر وليس معه ماء طاهر سوى ذلك ولا يعرف الطاهر
من النجس فإن كانت الغلبة للأواني الطاهرة فعليه التحري لان الحكم للغالب فباعتبار
الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر وإصابته بتحريه مأمول وان كانت الغلبة للأواني النجسة أو
كانا سواء فليس له أن يتحرى عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يتحرى ويتوضأ بما
يقع في تحريه أنها طاهرة وهذا ومسألة المساليخ سواء والفرق بين مسألة الثياب وبين
مسألة الأواني لنا أن الضرورة لا تتحق في الأواني لان التراب طهور له عند العجز
عن الماء الطاهر فلا يضطر إلى استعمال التحري للوضوء عند غلبة النجاسة لما أمكنه إقامة
الفرض بالبدل وفى مسألة الثياب الضرورة مست لأنه ليس للستر بدل يتوصل به إلى إقامة
الفرض حتى أن في مسألة الأواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وعدم الماء
الطاهر يحوز له أن يتحرى للشرب لأنه لما جاز له شرب الماء النجس عند الضرورة فلان
201

يجوز التحري وإصابة الطاهر مأمول بتحريه أولى يوضحه أن في مسألة الأواني لو كانت
كلها نجسة لا يؤمر بالتوضئ بها لو فعل لا تجوز صلاته فإذا كانت الغلبة له فكذلك أيضا
وفي مسألة الثياب وإن كان الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها ويجزيه ذلك فكذلك
إذا كانت الغلبة للنجاسة وفى الكتاب يقول إذا كانت الغلبة للماء النجس يريق الكل ثم يتيمم
وهذا احتياط وليس بواجب ولكنه ان أراق فهو أحوط ليكون تيممه في حال عدم الماء
بيقين وإن لم يرق أجزأه أيضا لأنه عدم آلة الوصول إلى الماء الطاهر وهو العلم والطحاوي
رحمه الله تعالى يقول في كتابه يخلط الماءين يتيمم وهذا أحوط لان بالإراقة ينقطع عنه
منفعة الماء وبالخلط لا فإنه بعد الخلط يسقى دوابه ويشرب عند تحقق العجز فهو أولى وبعض
المتأخرين من أئمة بلخ كان يقول يتوضأ بالإناءين جميعا احتياطا لأنه يتيقن بزوال الحدث
عند ذلك لأنه قد توضأ مرة بالماء الطاهر وحكم نجاسة الأعضاء أخف من حكم الحدث
فإذا كان قادرا على إزالة أغلظ الحدثين لزمه ذلك وقاسوا بمن كان معه سؤر الحمار يؤمر
بالتوضي به مع التيمم احتياطا ولسنا نأخذ بهذا لأنه إذا فعل ذلك كان متوضئا بما يتيقن
بنجاسته وتتنجس أعضاؤه أيضا خصوصا رأسه فإنه بعد المسح بالماء ينجس وان مسحه بالماء
الطاهر لا يطهر فلا معنى للامر به بخلاف سؤر الحمار فإنه ليس بنجس ولهذا لو غمس الثوب
فيه جازت صلاته فيه فيستقيم الامر بالجمع بينه وبين التيمم احتياطا ثم الأصل بعد هذا أن
التحري في الفروج لا يجوز بحال لان التحري إنما يجوز فيما يحل تناوله عند الضرورة على ما قررنا
أن استعمال التحري نوع ضرورة والفرج لا يحل بالضرورة ألا ترى أن المكره على الزنا
لا يحل له الاقدام عليه ومن خاف الهلاك من فرط الشبق لا يحل له الاقدام على الوطئ في
غير الملك فلهذا لا يحل الفرج بالتحري بحال بخلاف جميع ما تقدم من الفصول إذا عرفنا
هذا فنقول رجل له أربع جوار أعتق واحدة منهن بعينها ثم نسيها لم يسعه أن يتحرى
للوطئ لان المعتقة بعينها محرمة عليه فلا يحل له أن يقرب واحدة منهن حتى يعرف المحرمة
بعينها وهذا لان قيام الملك في المحل شرط منصوص للحل وبتحريه لا يصير هذا الشرط
معلوما بيقين بخلاف ما إذا أعتق إحداهن بغير عينها فان العتق في المنكر لا يزيل الملك
عن المعين الا بالبيان فكان له أن يطأ من شاء منهن باعتبار الملك المتيقن به في المحل وكما لا يتحرى
للوطئ هنا لا يتحرى للبيع لأن جواز البيع واباحته شرعا لا يكون الا باعتبار قيام الملك في المحل
202

فان الحرة ليست بمحل للبيع شرعا ولا يخلى الحاكم بينه وبينهن حتى يبين المعتقة من غيرها
فإنه لا يسعه الا ذلك لأنه علم أن إحداهن محرمة عليه فليس له أن يخلى بينه وبين المحرمة
ليرتكب الحرام بوطئها فيحول بينه وبينهن حتى يتبين المعتقة وكذلك إذا طلق احدى
نسائه بعينها ثلاثا ثم نسيها وهذا أبلغ من الأول لان المطلقة ثلاثا محرمة العين لا تحل له
بنكاح ولا غيره ما لم تتزوج بزوج آخر وكذلك أن متن كلهن الا واحدة لم يسعه أن
يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة بخلاف ما إذا أوقع الطلاق على إحداهن بغير عينها لان
بموت الثلاث هناك يتعين الطلاق في الرابعة وهنا الطلاق وقع على عين فلا يتحول
بالموت من محل إلى محل فحال هذه التي بقيت بعد موت ضرائرها كحالها قبل موتهن
لا يسعه أن يقربها حتى يعلم أنها غير المطلقة فإذا أخبر بذلك فقد أخبر بحلها وهذا
أمر بينه وبين ربه فيصدق في ذلك مع اليمين ويستحلفه ما طلق هذه بعينها ثلاثا
ثم يخلى بينهما اما إذا كانت تدعى هي الثلاث فغير مشكل وكذلك أن كانت لا تدعى
ففي الحرمة معني حق الشرع الا تري ان البينة تقبل فيه من غير دعوى فلهذا يستحلفه
القاضي إذا اتهمه فان حلف وهو جاهل بذلك فلا ينبغي له ان يقربها لأنه مجازف في يمينه
واليمين الكاذبة لا تحل الحرام وان ادعت كل واحدة منهن انها المطلقة حلفه القاضي لكل
واحدة منهن فان نكل عن اليمين لهن فرق بينه وبينهن لان النكول في حق كل واحدة
منهن بمنزلة الاقرار وان حلف لهن بقي حكم الحيلولة كما كأن لأنا نتيقن انه كاذب في بعض
هذه الايمان وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه قال إذا حلف لثلاث منهن يتعين
الطلاق في الرابعة ضرورة فيفرق بينه وبينها كما لو أخبر انها هي المطلقة ولكن هذا لا يستقيم
فيما إذا وقع على المعينة في الابتداء لأنه ليس إليه البيان إنما عليه ان يتذكر وذلك لا يحصل بيمينه
لبعضهن بخلاف ما إذا كان الايقاع على غير المعينة في الابتداء فان باع في المسألة الأولى
ثلاثا من الجواري فحكم الحاكم بجواز بيعهن وكان ذلك من رأيه وجعل الباقية هي المعتقة
ثم رجع إليه مما باع شئ بشراء أو بهبة أو ميراث لم ينبغ له ان يطأها لان القاضي في ذلك
قضى بغير علم ولا معتبر للقضاء عن جهل ولأنا نعلم أنه مخطئ في قضائه لأنه حكم بجواز
البيع في محل لا يعرف فيه الملك بيقين فيكون باطلا وأدنى الدرجات فيه أن يكون حكمه
بجواز البيع في شخص متردد الحال بين الرق والحرية فلا ينفذ حكمه كما لو حكم بجواز
203

بيع المكاتب بغير رضاه ولا ينبغي للمولى أن يطأ شيئا منهن بالملك إلا أن يتزوجها فان
نزوجها فلا بأس بوطئها لأنها ان كانت حرة فالنكاح بينه وبينها صحيح وان كانت أمة فهي
حلال له بالملك فهي إما زوجته أو أمته فله أن يقربها ولو أن قوما كان لكل واحد
منهم جارية فأعتق أحدهم جاريته ثم لم يعرفوا المعتقة فلكل واحد منهم أن يطأ جاريته
حتى يعلم المعتقة بعينها لأنا علمنا قيام الملك لكل واحد منهم في جاريته وحل
وطئها له ولم نتيقن باكتساب سبب الحرمة من كل واحد منهم فله أن يتمسك بما يتيقن به
لان اليقين لا يزال بالشك بخلاف ما تقدم لأنا تيقنا هناك باكتساب سبب الحرمة من
المولى في بعضهن فليس له الاقدام على الوطئ ما لم يعلم أن الموطوءة خارجة عن تلك الحرمة
وهذا لان القضاء بالحرمة يصح على المعلوم دون المجهول ففي المسألة الأولى المقضى عليه
المولى وهو معلوم فالجهالة في جانب الجواري لا يمنع القضاء بحرمة هي حق الشرع وهنا
المقضى عليه بالحرمة من الموالي مجهول ولا يمكن القضاء على المجهول فلكل واحد منهم ان
يتمسك في جاريته بالحل الذي تيقن به حتى يعلم خلافه فإن كان أكبر رأى أحدهم انه هو
الذي أعتق فأحب إلى أن لا يقربها وان قرب لم يكن ذلك عليه حراما حتى يستيقن لان أكبر
الرأي يوجب الاحتياط ولا يزيل الملك والحرمة في هذا المحل باعتبار زوال الملك وذلك
لا يثبت بأكبر الرأي ولو اشتراهن جميعا رجل واحد قد علم ذلك لم يحل له أن يقرب واحدة
منهن حتى يعرف المعتقة اما إذا اشتراهن بعقد واحد فهذا البيع باطل لان فيه الجمع بين الحرة
والإماء وبيع الكل بثمن واحد وان اشتراهن بعقود متفرقة فنقول لما اجتمعن عنده وهو متيقن
بأن إحداهن محرمة عليه كان هذا وما لو مكان؟ المولى في الابتداء واحدا سواء لان المقضى عليه
معلوم هنا ولو اشتراهن الا واحدة حل له وطئهن لأنه لا يتيقن بالحرمة فيما اشتري فلعل المعتقة
تلك الواحدة التي لم يشترها فلا يصير المقضى عليه بالحرمة معلوما بهذا فان وطئهن ثم اشترى الباقية
لم يحل له وطئ شئ منهن ولا بيعه حتى يعلم المعتقة منهن لأنه يعلم أن إحداهن محرمة عليه وليس
لما سبق من الوطئ تأثير في تمييز المعتقة من غير المعتقة؟؟؟؟ لذلك الا التذكر والوطئ
ليس من التذكر في شئ وكذلك لو كان المشترى أحد أصحاب الجواري لأنهن قد اجتمعن عنده
فصار المقضي عليه بالحرمة معلوما ثم أعاد المسألة الأولى لايضاح ما بينا ان التحري لا يجوز في
الفروج فقال لو مات المولى بعدما أعتق واحدة منهن بعينها ونسيها فليس للقاضي أن يتحرى
204

ولا يأمر الورثة بذلك أيضا في تعيين المعتقة حتى لا يقول لهم أعتقوا التي أكبر رأيكم انها حرة
وأعتقوا أيتهن شئتم وكيف يقول لهم ذلك والعتق الواقع على شخص بعينه لا يتصور انتقاله
إلى شخص آخر بحال ولكنه يسألهم عن ذلك فان زعموا ان الميت أعتق فلانة بعينها أعتقها
واستحلفهم على علمهم في الباقيات لأنهم خلفاء المورث وخبرهم كخبر المورث أن المعتقة هذه الا
ان اليمين في حقهم على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير فإن لم يعرفوا شيئا من ذلك أعتقهن
جميعا وأبطل من قيمتهن قيمة واحدة بينهن بالحصص ويسعين فيما بقي لأنه تعذر استدامة الملك
فيهن لحق الشرع فيخرجن إلى الحرية بالسعاية كأم ولد النصرانية أسلمت تخرج إلى الحرية بالسعاية
إلا أنه يسقط عنهن ما يتيقن بسقوطه وهو قيمة واحدة ثم ختم الكتاب بهذا في بعض النسخ
ذكر بابا من كتاب الإجارات وكأنه تذكر تلك المسائل حين صنف هذا الكتاب فأثبتها
لكيلا يفوت فقال رجل أجر عنده من رجل سنة بمائة درهم للخدمة فخدمه ستة أشهر ثم أعتقه
المولى فالعتق نافذ لقيام الملك في رقبته وحق المستأجر إنما يثبت في المنفعة دون الرقبة ولا تأثير
لما استحقه من اليد الا في عجز المولى عن تسليمه والقدرة على التسليم ليس يشرط لنفوذ العتق
حتى ينفذ العتق في الآبق والجنين في البطن ثم يتخير العبد في فسخ الإجارة لان على احدى
الطريقين الإجارة في حكم عقود متفرقة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة ولو أجره
ابتداء بعد العتق لا يلزم العقد الا برضاه فكذلك لا يتجدد انعقاد العقد لازما بعد العقد الا برضاه
وعلى الطريق الآخر العقد وان انعقد جملة فهو يحتمل الفسخ بعذر والعذر قد تحقق هنا
لان لزوم تسليم النفس للخدمة بعد العتق بعقد باشره المولى يلحق الشين به ويكون ذلك
عذرا له في فسخ الإجارة أرأيت لو تفقه وقلد القضاء أكان يجبر على الخدمة بسبب ذلك العقد
يقرره ان في إجارة النفس للخدمة كذا وتعبا فلا يلزم من المولى على العبد الا في منافع مملوكة
للمولى والمنافع بعد العتق تحدث على ملك العبد فيثبت له الخيار بظهور هذا النوع من الملك
له كالمنكوحة إذا أعتقت يثبت لها الخيار لملكها أمر نفسها أو زيادة ملك الزوج عليها فان
فسخ العقد فأجر ما مضى للمولى لان ما يقابله استوفي على ملكه بعقده وان مضى على
الإجارة فللعبد أجر ما بقي من المدة لأنه بدل ما هو مملوك للعبد فان المنافع بعد العتق تحدث
على ملكه والبدل إنما يملك بملك الأصل وهذا بخلاف المنكوحة فإنها إذا لم تختر نفسها بعد العتق
فالصداق للمولى وإن لم يدخل بها الزوج قبل العتق لان الصداق وجب بالعقد جملة واستحقه
205

المولى عوضا عن ملكه وهنا الاجر يجب شيئا فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة أو يتجدد
انعقاد العقد على أحد الطريقين هنا فهو بمنزلة ما لو أجره بعد العتق برضاه فيكون الاجر
للعبد الا ان المولى هو الذي يتولى قبضه لان الوجوب بعقده وحقوق العقد تتعلق بالعاقد
وليس للعبد ولاية ان يقبضها الا بوكالة المولى وليس له ان ينقض العقد بعد اختياره المضي عليها
لأنه أسقط خياره كالمعتقة إذا اختارت زوجها فإن كان المستأجر عجل الأجرة كلها للمولى قبل أن
يعمل العبد شيئا في أول الإجارة فهذا والأول سواء الا خصلة واحدة إذا اختار العبد المضي
على الإجارة فالاجر كله للمولى لأنه ملك الاجر بالقبض وما ملكه المولى من كسب العبد يبقى
على ملكه بعد عتقه بخلاف الأول لأنه ما ملك الاجر بنفس العقد هناك وإنما يملكه شيئا
فشيئا بحسب ما يستوفى من المنفعة وان فسخ العبد الإجارة في بقية المدة فعلى المولى رد
حصة ذلك من الاجر على المستأجر كما لو تفاسخا العقد وهذا لان المولي أكسب سبب
ثبوت الخيار للعبد وفسخ العقد من العبد بناء عليه فيصير مضافا إلى المولى فلهذا يلزمه الرد
بحساب ما بقي من المدة وإذا اختار المضي فقد بقي العقد على ما باشر المولى والملك في جميع
الاجر قد ثبت للمولى بذلك العقد فيبقى ولا يتحول شئ منه إلى العبد وإن كان الاجر شيئا
بعينه في جميع هذه الوجوه فالجواب فيه والجواب في الدراهم والدنانير سواء وهذا أظهر
لان الأجرة لما كانت بعينها لا تملك قبل التعجيل ولا تجب وجوبا مؤجلا ولا حالا وفى الاجر
إذا كان بغير عينه كلام أنه هل يجب بنفس العقد وجوبا مؤجلا أم لا فإذا كان هناك حصة
ما بقي من المدة للعبد فهنا أولى (قال) وكذلك الجواب في العبد إذا ولى إجارة نفسه بإذن المولى
إلا أن العبد هو الذي يلي القبض هنا إذا اختار المضي على الإجارة لأنه المباشر للعقد
وحقوق العقد تتعلق بالعاقد وهو الذي يطالب برد ما يجب رده من المقبوض عند الفسخ
لأنه هو الذي قبضه بحكم العقد ثم يرجع هو على المولى به عينا كان ذلك في يد المولى أو
مستهلكا لأنه إنما وجب بعد العتق والفسخ وهو من أهل أن يستوجب على مولاه دينا في
هذه الحالة وقد لزمه هذا الدين بسبب كان هو في مباشرته عاملا لمولاه باذنه فيثبت له به
حق الرجوع عليه ثم ذكر في الكتاب سؤالا فقال كيف يكون للعبد أن يفسخ
الإجارة وهو الذي يليها ثم أجاب فقال لأنها تمت في حال رقه بإذن المولى فكأن المولى هو
الذي باشر العقد ألا ترى لو أن أمة زوجت نفسها باذن مولاها ثم عتقت كان لها الخيار كما
206

لو كان المولى هو الذي زوجها وكذلك الصبي إذا أجره الوصي في عمل من الاعمال فلم
يعمل حتى بلغ الصبي مبلغ الرجال فهو بالخيار بين المضي على الإجارة وفسخها وكذلك
الأب إذا أجر ابنه ثم أدرك الابن لما بينا أن في إجارة النفس كدا وتعبا فلا يلزم من الأب
والوصي في حق الصبي بعد بلوغه وما يلحقه من المشقة يصير عذرا له في الفسخ
بخلاف ما لو أجر داره أو عبده سنين معلومة فأدرك الغلام لم يكن له أن يبطل
الإجارة والشافعي رحمه الله تعالى يسوى بينهما فيقول العقد نفذ بولاية تامة فلا يثبت
له حق الفسخ بعد ذلك في الفصلين والفرق لنا بين الفصلين من وجهين أحدهما
أنه ليس في إجارة الدار والعبد معني الكد والعار في حق الصبي إذا أدرك فلا يثبت له حق
الفسخ بخلاف إجارة النفس والثاني أن إجارة الدار والعبد يملك بالولاية ألا تري
أن من لا ولاية له من القرابات ممن يعول الصبي ليس له ولاية إجارة داره وعبده
فإذا نفذ باعتبار قيام ولايتهما يجعل كأنهما باشراه بعد البلوغ بالولاية فأما صحة إجارة
النفس ليس باعتبار الولاية بل باعتبار المنفعة والمصلحة للولد في ذلك ليتأدب ويتعلم ما يحتاج
إليه الا تري ان من يعول اليتيم بملك ذلك منه وببلوغه زال هذا المعني لأنه صار من أهل
النظر لنفسه فيما يحتاج إليه فلهذا يثبت له الخيار وإذا أجر العبد المحجور عليه نفسه من رجل سنة
بمائة درهم للخدمة فخدمه ستة أشهر ثم أعتق فالقياس أن لا يحب الاجر لان المستأجر كان ضامنا له
حين استعمله بغير إذن مولاه والأجر والضمان لا يجتمعان ولكنا نستحسن إذا سلم العبدان
يجعل له الاجر فيما مضى لان في ذلك محض منفعة لا يشوبه ضرر والعبد غير محجور عن
اكتساب المال وما يكون فيه محض منفعة كالاحتطاب والاحتشاش بخلاف ما إذا هلك فان الضمان
قد تقرر عليه من حين استعمله وهو يملكه بالضمان من ذلك الوقت فتبين انه استعمل عبد نفسه
فلا يجب الاجر وبه فارق الصبي المحجور إذا أجر نفسه ومات في خلال العمل فإنه يجب الاجر
بحساب ما عمل لان الصبي الحر لا يملك بالضمان فلا ينعدم السبب الموجب للأجر فيما مضي
وان هلك الصبي من استعماله غرم ديته وإذا سلم العبد من العمل حتى وجب الاجر بحساب
ما مضي يقبضه العبد فيدفعه إلي مولاه لأنه وجب بعقده ولكن بمقابلة منافع هي مملوكة
للمولى فيلزمه دفعه إلى المولى وتجوز الإجارة فيما بقي من السنة للعبد ولا خيار له في نقض
الإجارة لأنها نفذت بعد عتقه بغير إجارة المولى فكأنه باشره بعد العتق ألا ترى ان أمة
207

لو زوجت نفسها بغير إذن المولى ثم أعتقها المولى نفذ العتق ولا خيار لها بخلاف ما إذا كان
عقدها بإذن المولى أو اجازه المولى قبل العتق فكذلك في الإجارة وكذلك الجواب هنا
إن كان قبض الاجر في حال رقه لان للعبد منه حصة ما بقي وللمولى حصة ما مضى بخلاف
ما تقدم لأن العقد هناك كان نافذا فالاجر كله بالقبض صار ملكا للمولى وهنا العقد
لم يكن نافذا لان مباشره محجور عليه فإنما ينفذ بحسب ما يستوفى من المنفعة لأنه
حينئذ يتمحض منفعة فحصة ما استوفى من المنفعة صار مملوكا من الآجر
فيكون للمولى وحصة ما لم يستوف من المنفعة لم يصر مملوكا وإن كان
مقبوضا وإنما يملك بعد العتق باعتبار ابقاء المنفعة وإنما
أو في فيما بقي من المدة المنافع التي هي مملوكة له فلهذا
كان الاجر بحساب ما بقي من المدة للعبد والله
أعلم بالصواب
208

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب اللقيط)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رضي الله عنه اللقيط لغة اسم لشئ موجود فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح
بمعنى المقتول والمجروح وفي الشريعة اسم لحى مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا
من تهمة الريبة مضيعه آثم ومحرزه غانم لما في احرازه من احياء النفس فإنه على شرف الهلاك
واحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه قال تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولهذا
كان رفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغار قال صلى الله عليه وسلم من
لم يرحم صغيرا ولم يوقر كبيرا فليس منا وفى رفعه إظهار الشفقة وهو أفضل الأعمال بعد
الايمان على ما قيل أفضل الأعمال بعد الايمان بالله التعظيم لامر الله والشفقة على خلق الله
وقد دل على ما قلنا الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن الحسن البصري أن رجلا التقط
لقيطا فأتى به عليا رضى الله تعالى عنه فقال هو حر ولان أكون وليت من أمره مثل الذي
وليت منه أحب إلى من كذا وكذا فقد استحب على رضى الله تعالى عنه مع جلالة قدره
أن يكون هو الملتقط له فدل على أن رفعه أفضل من تركه (فان قيل) ما معنى هذا الكلام
وكان متمكنا من أخذه بولاية الإمامة (قلنا) نعم ولكن احياؤه كان في التقاطه حين كان
على شرف الهلاك ولا يحصل ذلك بالأخذ منه بعد ما ظهر له حافظ ومتعهد فلهذا استحب
ذلك مع أنه لا ينبغي للامام أن يأخذه من الملتقط الا بسبب يوجب ذلك لان يده سبقت
إليه فهو أحق به باعتبار يده وفى هذا الحديث دليل على أن اللقيط حر وهو
المذهب أنه حر مسلم اما باعتبار الدار لان الدار دار حرية واسلام فمن كان فيها
فهو حر مسلم باعتبار الظاهر أو باعتبار الغلبة لان الغالب فيمن يسكن دار الاسلام الأحرار
المسلمون والحكم للغالب أو باعتبار الأصل فالناس أولاد آدم وحواء عليهما السلام وكانا حرين
209

فلهذا كان اللقيط حرا وفى حديث آخر أن عليا رضي الله عنه فرض له وهذا يدل على أن
نفقة اللقيط في بيت المال لأنه عاجز عن الكسب محتاج إلى النفقة ومال بيت المال معد
للصرف إلى المحتاجين وفى حديث آخر أن عليا رضي الله عنه قال ولاؤه وعقله للمسلمين
وهو المذهب أن عقل جنايته على بيت المال لأنه لو مات وترك مالا كان ماله مصروفا إلى
بيت المال ميراثا للمسلمين فكذلك عقل جنايته ونفقته على بيت المال لان الغنم مقابل بالغرم
وهو مروي عن عمر رضي الله عنه أيضا قال اللقيط حر وولاؤه وعقله للمسلمين وذكر في
حديث الزهري رضي الله عنه سنين ابن جميلة قال وجدت منبوذا على بابي فأتيت به
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه عسى الغوير أبؤسا هو حر ونفقته
علينا معنى المنبوذ المطروح قال تعالى فنبذوه وراء ظهورهم وهو الاسم الحقيقي للموجود لأنه
مطروح وإنما سمى لقيطا باعتبار مآله وتفاؤلا لاستصلاح حاله فاما معنى قول عمر رضي الله
عنه عسى الغوير أبؤسا مثل معروف لما يكون باطنه بخلاف ظاهره وأول من تكلم به الزباء
الملكة حين رأت الصناديق فيها الرجال وقد أخبرت ان فيها الأموال فلما أحست بذلك أنشأت
تقول
ما للجمال مشيها وئيدا * أجندلا تحمل أم حديدا
أم صرفانا باردا شديدا * أم الرجال جثما قعودا
ثم قالت عسى الغوير أبؤسا فطار كلامها مثلا وكان عمر رضي الله عنه ظن أن هذا الرجل جاء إليه
بولده يزعم أنه لقيط ليستوفى منه نفقته فلهذا ذكر هذا المثل وفى الحديث دليل أن الملتقط
ينبغي له أن يأتي باللقيط إلى الامام وينبغي للامام أن يعطى نفقته من بيت المال وأنه يكون
حرا كما قال عمر رضي الله عنه نفقته علينا وهو حر وان أنفق عليه الملتقط فهو في نفقته
متطوع لا يرجع بها على اللقيط إذا كبر لأنه غير مجبور على ما صنع شرعا والمتطوع من يكون
مخيرا غير مجبر على ايجاد شئ شرعا ولو أنفق على ولد له أب معروف بغير إذن أبيه كما متطوعا
في ذلك فكذلك إذا أنفق على اللقيط وهذا لان بالالتقاط يثبت له من الحق بقدر ما ينتفع به
اللقيط وهو الحفط؟ والتربية ولم يثبت له عليه ولاية إلزام شئ في ذمته لان ذلك لا ينفعه ولأنه
ليس بينهما سبب مثبت للولاية ولهذا لا يرجع بالنفقة عليه ولان الغالب من أحوال الناس أنهم
بمثل هذا يتبرعون وفى الرجوع لا يطمعون ومطلق الفعل محمول على ما هو المعتاد فان أمره
210

القاضي أن ينفق عليه على أن يكون ذلك دينا عليه فهو جائز وهو دين عليه لان القاضي نصب
ناظرا ومعنى النظر فيما أمر به فإنه إذا لم يكن في بيت المال مال وأبى الملتقط أن يتبرع بالانفاق
فتمام النطر بالأمر بالانفاق عليه لأنه لا يبقى بدون النفقة عادة وللقاضي عليه ولاية الالزام
لأنه ولى كل من عجز عن التصرف بنفسه يثبت ولايته بحق الدين ومن وجه هذه الولاية
فوق الولاية الثابتة بالأبوة فلهذا اعتبر أمره في إلزام الدين عليه وقد قال بعض مشايخنا
رحمهم الله تعالى مجرد أمر القاضي بالانفاق عليه يكفي ولا يشترط أن يكون دينا عليه ولان
أمر القاضي نافذ عليه كامره بنفسه ان لو كان من أهله ولو أمر غيره بالانفاق عليه كان
ما ينفق دينا عليه فكذلك إذا أمر القاضي به والأصح ما ذكره في الكتاب أن يأمره على
أن يكون دينا عليه لان مطلقه محتمل قد يكون للحث والترغيب في اتمام ما شرع فيه من
التبرع فإنما يزول هذا الاحتمال إذا اشترط أن يكون دينا له عليه فلهذا قيد الامر به فإذا
ادعى بعد بلوغه أنه أنفق عليه كذا وصدقه اللقيط في ذلك رجع عليه به وان كذبه فالقول
قول اللقيط وعلي المدعى البينة لأنه يدعى لنفسه دينا في ذمته وهو ليس بأمين في ذلك
وإنما يكون أمينا فيما ينفي به الضمان عن نفسه فلهذا كان عليه اثبات ما يدعيه بالبينة
وشهادة اللقيط بعدما أدرك جائزة إذا كان عدلا لأنه حر مسلم فيكون مقبول الشهادة في
الأمور كلها إذا ظهرت عدالته وكان مالك يقول لا تقبل شهادته في الزنا لأنه في الناس متهم
بأنه ولد الزنا فيعير بذلك فربما يقصد بشهادته الحاق عار الزنا بغيره ليسويه بنفسه ولكن هذا
ضعيف فان الزاني بعد ظهور توبته مقبول الشهادة في الزنا والسارق كذلك ثم تهمة الكذب
كما تنفى عنه في سائر الشهادات بترجح جانب الصدق عند ظهور عدالته فكذلك في
الشهادة بالزنا وجنايته والجناية عليه وحدوده كغيره من الأحرار المسلمين لأنه محكوم
بحريته باعتبار الظاهر كما قررنا رجل التقط لقيطا فادعى رجل ابنه صدقته استحسانا
وثبت نسبه منه ألا ترى ان الذي التقط لو ادعاه يثبت نسبه منه والقياس والاستحسان في
الفصلين أما الملتقط إذا ادعاه في القياس لا يصدق لأنه مناقض في كلامه فقد زعم أنه لقيط
في يده وابنه لا يكون لقيطا في يده ولأنه يلزمه النسبة إليه إذا بلغ وليس له عليه ولاية الالزام
وفي الاستحسان هو يقر له بما يحتاج إليه اللقيط فإنه محتاج إلى النسب ليتشوف به ويندفع
العار عنه فهو في هذا الاقرار يكتسب له ما ينفعه وبالالتقاط ثبت له عليه هذا المقدار يوضحه
211

أنه يلتزم حفظه ونفقته بهذا الاقرار وهذا الالتزام تصرف منه على نفسه وله هذه الولاية
ثم التناقض لا يمنع ثبوت النسب بالدعوة كالملاعن إذا أكذب نفسه وهذا لان سببه خفي
فربما اشتبه عليه الامر في الابتداء فظن أنه لقيط ثم تبين له أنه ولده وان ادعاه غير الملتقط في
القياس لا يثبت نسبه منه وهذا قياس آخر سوى الأول لأنه يقصد بهذه الدعوة أن يأخذه من
الملتقط وحق الحفظ قد ثبت للملتقط على وجه ليس لغيره أن يأخذه منه فلا يقبل مجرد
دعواه في ابطال الحق الثابت له وجه الاستحسان أن اللقيط محتاج إلى النسب فهو في
دعوة النسب يقر له بما ينفعه ويلتزم حقا له فكان دعواه كدعوى الملتقط لنسبه ثم يترجح
هو على الملتقط في الحفظ حكما لثبوت نسبه ومثل هذا يجوز أن يثبت حكما وإن لم يتمكن
من اثباته قصدا كما أن النسب والميراث يثبت بشهادة القابلة على الولادة حكما وإن كان
لا يثبت المال بشهادتها قصدا يوضحه أنه إذا قصد أخذ اللقيط من يده فإنما منازعته في عين
ما باشره الأول فيترجح الأول بالسبق وأما إذا ادعى نسبه فمنازعته ليست في شئ باشره الملتقط
فصحت دعوته لمصادفتها محلها ولا منازع له في ذلك ثم من ضرورة ثبوت النسب أن يكون هو أحق
بحفظ ولده من أجنبي وإذا أبي الملتقط ان ينفق على اللقيط وسأل القاضي ان يقبله منه
فللقاضي أن لا يصدقه في ذلك ما لم يقم البينة على أنه لقيط لأنه متهم فيما يقول فلعله ولده
أو بعض من تلزمه نفقته واحتال بهذه الحيلة ليسقط نفقته عن نفسه فلهذا لا يصدقه ما لم
يقم البينة فإذا أقام البينة انه لقيط قبل منه البينة من غير خصم حاضر إما لأنها تقوم لكشف
الحال والبينة لكشف الحال مسموعة من غير خصم أو لأنها غير ملزمة واشتراط حضور
الخصم لمعني الالزام ثم القاضي مخير ان شاء قبضه منه وإن شاء لم يقبض ولكن يوليه ما
تولى فيقول له قد التزمت حفظه فأنت وما التزمت وليس لك ان تلزمني ما التزمته والأولى
أن يقبضه إذا علم بعجزه عن حفظه والانفاق عليه لان في تركه في يده تعريضه للهلاك
ولان الاخذ الآن من باب النظر والقاضي منصوب لذلك فان أخذه ووضعه في يد رجل
وأمره بأن ينفق عليه على أن يكون ذلك دينا على اللقيط ثم إن الذي التقطه سأل القاضي ان
يرده عليه فهو بالخيار ان شاء رده عليه وان شاء لم يرد لأنه أسقط ما كان له من حق الاختصاص
فحاله بعد ذلك كحال غيره من الناس في طلب الرد رجل التقط لقيطا فجاء رجل آخر
فانتزعه منه فاختصما فيه فإنه يدفع إلى الأول لان يده سبقت إليه فكان هو أحق بحفظه
212

ثم الثاني بالأخذ فوت عليه يدا محقة فيؤمر بإعادتها بالرد عليه وهذا لان الأول أخذ ما هو
مندوب إلي أخذه والثاني أخذ ما هو ممنوع من أخذه لحق الأول فلا تكون يده
معارضة ليد الأول ولا ناسخة لها وإذا كبر اللقيط فادعاه رجل فذلك إلى اللقيط
لأنه في يد نفسه وله قول معتبر إذا كان يعبر عن نفسه فيعتبر تصديقه لاثبات النسب
منه وهذا لان المدعى يقر له بالنسب من وجه ويدعى عليه وجوب النسبة إليه من وجه
فلا يثبت حكم كلامه في حقه الا بتصديقه دعوى كان أو اقرارا وإذا صدقه يثبت النسب منه
إذا كان مثله يولد لمثله فأما إذا كان مثله لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه لان الحقيقة
تكذبهما وجناية اللقيط على بيت المال لان ولاءه لبيت المال فان الولاء مطلوب لمعنى
التناصر والتقوى به ومن ليس له مولى معين فتناصره بالمسلمين وإنما يتقوى بهم فإذا كان
ولاؤه لهم كان موجب جنايته عليهم يؤدى من بيت المال لأنه مالهم وميراثه لبيت المال
دون الذي التقطه ورباه لان استحقاق الميراث لشخص بعينه بالقرابة أو ما في معناه من زوجية
أو ولاء وليس للملتقط شئ من ذلك (فان قيل) هو بالالتقاط والتربية قد أحياه فينبغي أن يثبت
له عليه الولاء كما يثبت للمعتق بالاعتاق الذي هو احياء حكما (قلنا) هذا ليس في معنى ذلك
لان الرقيق في صفة مالكية المال هالك والمعتق محدث فيه لهذا الوصف واللقيط كان حيا
حقيقة ومن أهل الملك حكما فالملتقط لا يكون محييا له حقيقة ولا حكما فلا يثبت له عليه ولاء ما لم
يعاقده عقد الولاء بالبلوغ وإذا ثبت أنه لا ميراث للملتقط منه كان ميراثه لبيت المال لأنه مسلم
ليس له وارث معين فيرثه جماعة المسلمين يوضع ماله في بيت المال وان والي رجلا بعدما أدرك
جاز كما لو والى الملتقط لان ولاءه لبيت المال لم يتأكد بعد فله أن يوالي من شاء بخلاف ما إذا
جنى جناية وعقله بيت المال فان هناك قد تأكد ولاؤه للمسلمين حين عقلوا جنايته فلا يملك
ابطال ذلك بعقد الموالاة مع أحد كالذي أسلم من أهل الحرب له أن يوالي من شاء إلا أن
يجني جناية ويعقله بيت المال ولا يجوز للملتقط على اللقيط ذكرا كان أو أنثى عقد النكاح
ولا بيع ولا شراء لان نفوذ هذه التصرفات على الغير يعتمد الولاية كما قال صلى الله عليه وسلم
لا نكاح الا بولي ولا ولاية للملتقط على اللقيط وإنما له حق الحفظ والتربية لكونه منفعة
محضة في حقه وبهذا السبب لا تثبت الولاية وان ادعى ان اللقيط عبده لم يصدق بعد أن يعرف
أنه لقيط لأنه محكوم بحريته باعتبار الظاهر فلا يبطل ذلك بمجرد قوله ولان يده يد حفظ فلا
213

يمكنه أن يحول يده يد ملك بمجرد قوله من غير حجة وهذا بخلاف ما إذا ادعى أنه ابنه لان
ذلك اقرار للقيط بما ينفعه وهذا دعوى عليه بما يضره وهو تبديل صفة المالكية بالمملوكية
ولو أن رجلا وجد لقيطا معه مال فوضعه القاضي على يده وقال أنفق عليه منه فهو جائز
لان ذلك المال للقيط فإنه موجود معه فكانت يده أسبق إليه من يد غيره وإنما ينفق عليه من
ماله ولان الظاهران واضعه وضع ذلك المال لينفق عليه منه والبناء على الظاهر جائز ما لم يظهر
خلافه وهو مصدق في نفقة مثله لأنه أمين يخبر بما هو محتمل وينكر وجوب الضمان عليه
فيقبل قوله في ذلك كمن دفع إلى انسان مالا وأمره بأن ينفق على عياله يقبل قوله في نفقة
مثلهم وما اشترى من طعام أو كسوة فهو جائز عليه لان القاضي لما أمره بانفاق المال عليه
فقد أمره بأن يشتري به ما يحتاج إليه من الطعام والكسوة وللقاضي عليه هذه الولاية
فكذلك ما يملكه الملتقط بأمر القاضي وإذا مات اللقيط وترك ميراثا أو لم يترك فادعي
رجل أنه ابنه لم يصدق لان نسبه لا يثبت بعد موت فان حكم النسب وجوب الانتساب
والمقصود به الشرف وذلك لا يتحقق بعد الموت ولان صحة الدعوة باعتبار أنه أقر له بما يحتاج
إليه وهو بالموت قد استغنى عن النسب فبقي كلامه دعوى الميراث فلا يصدق الا بحجة
وإذا أدرك اللقيط كافرا وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين حبس وأجبر على الاسلام
استحسانا لما وجد في مصر من أمصار المسلمين فقد حكم له بالاسلام باعتبار المكان
فإنه مكان المسلمين ومن حكم له بالاسلام تبعا لغيره إذا أدرك كافرا يجبر على الاسلام ولا
يقتل استحسانا كالمولود من المسلمين إذا بلغ مرتدا وفى القياس يقتل ان أبى ان يسلم لأنه
كان محكوما باسلامه فيقتل على الردة كما لو وصف الاسلام بنفسه قبل البلوغ ثم ارتد ولكن
في الاستحسان لا يقتل لان حقيقة الاسلام تكون بالاعتقاد بالقلب والاقرار باللسان وقد انعدم
ذلك منه فيصير هذا شبهة في اسقاط القتل الذي هو نهاية في العقوبة في الدنيا وهذا لان ثبوت
حكم الاسلام له بطريق التبعية كان لتوفير المنفعة عليه وليس في القتل معنى توفير المنفعة وهو
نظير ما نقول في الصبي العاقل إذا أسلم يحسن اسلامه ثم إذا بلغ مرتدا يحبس ويجبر على الاسلام
ولا يقتل فان مات هذا اللقيط قبل أن يعقل صليت عليه سواء كان وجده مسلم أو ذمي لأنه
حكم باسلامه تبعا للمكان فيصلى عليه إذا مات كالصبي إذا سبى وأخرج إلى دار الاسلام وليس
معه أحد من أبويه يصلى عليه إذا مات (قال) ولو كان وجد في بيعة أو كنيسة أو قرية ليس
214

فيها الا مشرك لم يجبر على الاسلام إذا بلغ كافرا وان مات قبل أن يعقل لم يصل عليه لأن الظاهر
أنه من أولاد أهل تلك القرية وهم كفار كلهم وهذه المسألة على أربعة أوجه في الحاصل
أحدها أن يجده مسلم في مكان المسلمين كالمسجد ونحوه فيكون محكوما له بالاسلام والثاني
أن يجده كافر في مكان أهل الكفر كالبيعة والكنيسة فيكون محكوما بالكفر لا يصلى عليه إذا
مات والثالث أن يجده كافر في مكان المسلمين والرابع أن يجده مسلم في مكان الكفار ففي هذين
الفصلين اختلفت الرواية ففي كتاب اللقيط يقول العبرة للمكان في الفصلين جميعا وفى رواية
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى قال العبرة للواجد في الفصلين جميعا وهكذا ذكر في بعض
النسخ من كتاب الدعوى وفى بعض النسخ قال أيهما كان موجبا للاسلام يعتبر ذلك وفى
بعض النسخ قال يحكم زيه وعلامته وجه رواية هذا الكتاب أن المكان إليه أسبق من يد
الواجد وعند التعارض يترجح السابق والظاهر يدل عليه فان المسلمين لا يضعون أولادهم
في البيعة عادة وكذلك أهل الذمة لا يضعون أولادهم في مساجد المسلمين عادة فيبنى على
الظاهر ما لم يعلم خلافه وجه رواية ابن سماعة رضى الله تعالى عنه أن يد الواجد أقوى لأنه
احراز له والمباح بالاحراز يظهر حكمه وإنما يعتبر تبعية المكان عند عدم يد معتبرة ألا ترى
أن من سبي ومعه أحد أبويه لا يحكم له بالاسلام باعتبار الدار فكذلك مع يد الواجد لا معتبر
بالمكان فكان المعتبر فيه حال الواجد ووجه الرواية الأخرى أن اعتبار أحدهما يوجب الاسلام
واعتبار الآخر يوجب الكفر فيترجح الموجب للاسلام كما في المولود بين مسلم وكافر ووجه
الرواية التي يعتبر فيها الزي قال عند الاشتباه اعتبار الزي والعلامة أصل كما إذا اختلط موتى
المسلمين بموتى الكفار يعتبر الزي والعلامة للفصل وكذلك المسلمون إذا فتحوا القسطنطينية
فوجدوا شيخا عليه سيما المسلمين يعلم صبيانا حوله القرآن ويزعم أنه مسلم فإنه يجب الاخذ بقوله
ولا يجوز استرقاقه لاعتبار الزي والعلامة والأصل فيه قوله تعالى تعرفهم بسيماهم فهذا اللقيط
إذا كان عليه زي المسلمين يحكم باسلامه أيضا وإذا كان عليه زي الكفار بأن كان في عنقه
صليب أو عليه ثوب ديباج أو هو محروز وسط الرأس فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أنه من
أولاد الكفار فيحكم بكفره وان وجد مسلم في قرية فيها مسلمون وكفار صليت عليه إذا
مات استحسانا وعلى رواية هذا الكتاب يعتبر المكان وجه القياس أنه لما تعارض
الدليلان وتساويا لا يصلى عليه كموتى الكفار والمسلمين إذا اختلطوا واستووا لم يصل
215

عليهم على ما بيناه في التحري ووجه الاستحسان أن الأدلة لما تعارضت في حق المكان
يترجح الاسلام باعتبار الواجد لأنه مسلم أو باعتبار علو حالة الاسلام فلهذا يصلى عليه إذا
مات وإذا وجد اللقيط على دابة فالدابة له لسبق يده إليها فان المركوب تبع لراكبه وهو
كمال آخر يوجد معه وقد بينا أن ذلك له باعتبار الظاهر أن من وضع معه المال فإنما وضع
لينفق عليه منه فكذلك من حمله على الدابة فإنما حمله عليها لينفق عليه مالية تلك الدابة وإذا
وجد اللقيط بالكوفة فادعاه رجل من أهل الذمة أنه ابنه فلا يصدق في القياس لأنه حكم
له بالحرية والإسلام فلو جعل ابن الكافر بدعواه لكان تبعا له في الدين وذلك ممتنع بعد
ما حكم باسلامه ولان تنفيذ قوله عليه في دعوة النسب نوع ولاية ولا ولاية للكافر على
المسلم ولكنا نستحسن أن يكون ابنه ويكون مسلما لأنه محتاج إلى النسب بعدما حكم
باسلامه فمن ادعى نسبه وإن كان ذميا فهو مقر له بما ينفعه فيكون اقراره صحيحا وموجب
كلامه شيئان أحدهما ثبوت نسبه منه وذلك ينفعه والآخر كفره وذلك يضره وليس من
ضرورة امتناع قبول قوله في أحد الحكمين امتناعه في الآخر لان النسب ينفصل عن الدين ألا
ترى أن ولد الكافر من امرأة مسلمة يكون ثابت النسب من الكافر ويكون مسلما فهذا مثله
فإذا ادعى مسلم ان اللقيط عبده وأقام البينة قضى له به لأنه أثبت دعواه بالحجة وثبوت
حريته باعتبار الظاهر والظاهر لا يعارض البينة (فان قيل) كيف تقبل هذه البينة ولا خصم
عن اللقيط لان الملتقط ليس بولي فلا يكون خصما عنه فيما يضره (قلنا) الملتقط خصم له
باعتبار يده لأنه يمنعه منه ويزعم أنه أحق بحفظه لأنه لقيط فلا يتوصل المدعى إلى استحقاق
يده عليه الا بإقامة البينة على رقه فلهذا كان خصما عنه فان أقام الذمي البينة من أهل الذمة
انه ابنه لم تجز شهادتهم على المسلمين قيل مراده انه أقام البينة من أهل الذمة في معارضة
بينة المسلم الذي أقامها على رقه ولا تحصل المعارضة بهذه لان شهادة أهل الذمة لا تكون
حجة على الخصم المسلم والأصح ان مراده إذا ادعى الذمي ابتداء انه ابنه وأقام البينة من
أهل الذمة فان النسب قد ثبت منه بالدعوة ولكنه محكوم له بالاسلام فلا يبطل ذلك بهذه
البينة ولا يحكم بكفره لأن هذه الشهادة في حكم الدين إنما تقوم على المسلم وشهادة أهل
الذمة بالكفر على المسلم لا تقبل وإن كان شهوده مسلمين قضيت له به لأنه أثبت نسبه منه
بما هو حجة على المسلم فيصير تبعا له في الدين ولا يأخذه الملتقط بما أنفق عليه لأنه كان متطوعا
216

فيما فعل وإذا وجد اللقيط مسلم وكافر فتنازعا في كونه عبد أحدهما قضى به للمسلم لأنه
محكوم له بالاسلام فكان المسلم أحق بحفظه ولان المسلم يعلمه أحكام الاسلام والكافر يعلمه أحكام
الكفر إذا كان عنده وكونه عند المسلم أنفع له حتى يتخلق بأخلاق المسلمين واللقيط يعرف
ما هو أنفع له وان ادعت امرأة اللقيط انه ابنها لم تصدق الا بشهود بخلاف ما إذا ادعاه رجل
لان النسب يثبت باعتبار الفراش فإنما يثبت من صاحب الفراش أولا وهو الرجل فالمرأة
بالدعوة تحمل النسب على غيرها وهو صاحب الفراش حتى إذا ثبت منه يثبت منها وقولها
ليس بحجة على الغير والرجل يدعي النسب لنفسه ابتداء ويقربه علي نفسه يوضح الفرق
أن سبب ثبوت النسب من الرجل خفى لا يقف عليه غيره وهو الوطئ فيقبل فيه مجرد
قوله وسبب ثبوت النسب من المرأة الولادة وذلك يقف عليه غيرها وهو القابلة فلم يكن
مجرد قولها فيه حجة فان أقامت رجلا وامرأتين على الولادة يثبت النسب منها لان النسب
مما يثبت مع الشبهات فيثبت بشهادة الرجال مع النساء وان ادعته امرأتان وأقامت كل
كل واحدة امرأة أنه ابنهما فهو ابنهما جميعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا في
رواية أبى حفص رحمه الله تعالى وأما في رواية أبى سليمان رضي الله عنه لا يكون ابن واحدة
منهما وجه رواية أبي حفص ان شهادة المرأة الواحدة حجة تامة في اثبات الولادة لأنه
لا يطلع عليها الرجال فكان إقامة كل واحدة منهما امرأة واحدة بمنزلة اقامتها رجلين
أو رجل وامرأتين وجه رواية أبى سليمان رضي الله عنه ان شهادة المرأة الواحدة حجة
ضعيفة لأنها شهادة ضرورية فلا تكون حجة عند المعارضة والمزاحمة ألا ترى أنه لو أقامت
إحداهما رجلين والأخرى امرأة واحدة لم تكن شهادة المرأة الواحدة حجة في معارضة
شهادة رجلين فلا يثبت النسب من واحدة منهما الا ان يقيم كل واحدة منهما البينة رجلين أو
رجلا وامرأتين فحينئذ يثبت النسب منهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى قولهما لا
يثبت من واحدة منهما وقد بينا هذه المسألة فيما أمليناه من شرح كتاب الدعوى مع أختها
وهو أن يدعى رجلان أو أكثر من ذلك وما في ذلك من اختلاف الروايات فان أقامت إحداهما
رجلين والأخرى امرأتين جعلته ابن التي شهد لها الرجلان لان شهادة الرجلين حجة قوية
وشهادة المرأتين حجة ضعيفة والضعيف ساقط الاعتبار في مقابلة القوى وإذا وجد العبد أو
المكاتب أو الذمي أو الحربي لقيطا في مصر من أمصار المسلمين فهو حر لأنه لما علم أنه لقيط
217

فقد حكم بحريته باعتبار الدار أو الأصل فلا يتغير ذلك الحكم بصفة الملتقط بعد ذلك وإذا
وجد اللقيط قتيلا في مكان غير ملك الملتقط فالقسامة والدية على أهل ذلك المكان وتلك
المحلة لبيت المال لأنه حر محترم فإنه لما حكم باسلامه وحريته كانت لنفسه من الحرمة والتقوم
ما لسائر نفوس الأحرار ووجوب الدية والقسامة لصيانة النفوس المحترمة عن الاهدار
كما قال صلى الله عليه وسلم لا يترك في الاسلام دم مفرج أي مهدر ثم بدل النفس
ميراث عنه وقد بينا أن ميراثه لبيت المال وإذا وجد العبد لقيطا فلم يعرف ذلك الا بقوله
وقال المولى كذبت بل هو عبدي فالقول قول المولى إذا كان العبد محجورا لأنه
ليست له يد معتبرة فيما هو قابض له بل يده يد مولاه فكأنه في يد مولاه وإن كان مأذونا له
في التجارة فالقول قول العبد لان له يدا معتبرة في كسبه فان الاذن في التجارة فك الحجر
واطلاق اليد في الكسب ومن له يد معتبرة في شئ فقوله فيه مسموع يوضح الفرق ان
العبد بقوله هذا لقيط في يدي يخبر بسقوط حتى مولاه عنه لأنه حر والمحجور لا قول له فيما
في يده في اسقاط حق المولى عنه ألا تري أنه لو أقر على نفسه بالدين لا يسقط به حق مولاه
عما في يده بخلاف المأذون فقوله فيما يده مقبول في اسقاط حق المولى عن أخذه كما لو أقر
بدين على نفسه وإذا وجد الرجل لقيطا فأقر بذلك ثم قتله هو أو غيره خطأ فالدية على عاقلة
القاتل لبيت المال لقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله
واللقيط حر مؤمن فيجب على قاتله الدية على عاقلته إذا كان خطأ والملتقط وغيره في ذلك سواء
وان قتله عمدا فإن شاء الامام قتله به وان شاء صالحه على الدية في قول أبي حنيفة ومحمد وقال
أبو يوسف رضوان الله عليهم أجمعين عليه الدية في ماله ولا أقتله به والحربي إذا أسلم وخرج
إلى دارنا ثم قتله انسان عمدا فعلي قاتله القصاص في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
وفيه روايتان عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى انا نعلم أن
للقيط وليا في دار الاسلام من عصبة أو غير ذلك وان بعد إلا أنا نعرفه؟ بعينه وحق
استيفاء القصاص يكون إلى الولي كما قال الله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا فيصير ذلك شبهة
مانعة للامام من استيفاء القصاص وإذا تعذر استيفاء القصاص بشبهة وجبت الدية في مال
القاتل لأنها وجبت بعمد محض وعلى هذا الطريق نقول في الذي أسلم من أهل الحرب
218

يجب القصاص لأنا نعلم أنه لاولى له في دار الاسلام والطريق الآخر ان القصاص عقوبة
مشروعة ليشفي الغيظ ودرك الثار وهذا المقصود يحصل للأولياء ولا يحصل للمسلمين والامام
نائب عن المسلمين في استيفاء ما هو حق لهم وحقهم فيما ينفعهم وهو لدية لأنه مال مصروف إلى
مصالحهم فلهذا أوجبنا الدية دون القصاص وعلى هذا الطريق الذي أسلم من أهل دار الحرب
واللقيط سواء وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى العمومات الموجبة للقود كقوله تعالى
كتب عليكم القصاص وقال صلى الله عليه وسلم العمد قود ولان من لا يعرف له ولى فالامام
وليه كما قال صلى الله عليه وسلم السلطان ولى من لاولى له وإذا ثبت ان السلطان هو الولي تمكن
من استيفاء القصاص لقوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانا والمراد سلطان استيفاء القود ألا
ترى أنه عقبه بالنهي عن الاسراف في القتل بقوله تعالى فلا يسرف في القتل وهذا يتضح
في الذي أسلم وكذلك في اللقيط لان مالا يوقف عليه في حكم المعدوم ولان وليه لما كان عاجزا
عن الاستيفاء ناب الامام منابه في ذلك وليس هنا شبهة عفو لان ذلك الولي غير معلوم حتى
يتوهم العفو منه وحديث الهرمزان حجة لهما أيضا فان عبيد الله بن عمر رضى الله تعالى
عنهما لما قتله بتهمة دم أبيه واستقر الامر على عثمان رضى الله تعالى عنه طلب منه على رضى
الله تعالى عنه أن يقتص منه فقال عثمان رضى الله تعالى عنه هذا رجل قتل أبوه بالأمس فأنا
أستحيي أن أقتله اليوم وان الهرمزان رجل من أهل الأرض وأنا وليه أعفو عنه وأؤدي لدية
فقد اتفقا على وجوب القصاص ثم القصاص مشروع لحكمة الحياة كما قال تعالى ولكم في
القصاص حياة الآية و ذلك بطريق الزجر حتى ضر إذا تفكر في نفسه أنه متى قتل غيره قتل
به انزجر عن قتله فيكون حياة لهما جميعا ولهذا قيل القتل أنفي للقتل وهذا المعنى متحقق في
اللقيط والذي أسلم كتحققه في غيرهما فكان للامام أن يستوفى القصاص ان شاء وان شاء
صالح على الدية لأنه مجتهد وله أن يميل باجتهاده إلى المطالبة بالدية ولأنه ناظر للمسلمين فربما
يكون استيفاء الدية أنفع للمسلمين وليس له أن يعفو بغير مال لأنه نصب لاستيفاء حق المسلمين
لا لابطاله ويحد قاذف اللقيط في نفسه ولا يحد قاذفه في أمه لأنه محصن فإنه عفيف عن
الزنا أولا معتبر بالنسب في احصان القذف فيحد قاذفه في نفسه فأما أمه ليست بمحصنة بل
هي في صورة الزانيات لان لها ولد لا يعرف له والد فلهذا لا يحد قاذفه في أمه وفي حد القذف
219

والقصاص اللقيط كغيره من الأحرار لأنه محكوم بحريته فعليه الحد الكامل إذا ارتكب
السبب الموجب له فان أقر بعد ما أدرك أنه عبد لفلان وادعاه فلان كان عبدا له لأنه غير
متهم فيما يقربه على نفسه وليس في قبول اقراره ابطال حق ثابت لاحد فيه وليس له نسب
معروف فكان ما أقر به من الرق محتملا ولكن هذا إذا لم تتأكد حريته بقضاء القاضي عليه
بما لا يقضى به الأعلى الحر كالحد الكامل والقصاص في الطرف فأما إذا اتصلت حريته
بقضاء القاضي بذلك لم يقبل اقراره بالرق بعد ذلك لأنه يبطل حكم الحاكم باقراره وقوله ليس
بحجة في ابطال الحكم ولأنه مكذب في هذا الاقرار شرعا ولو كذبه المقر له كان حرا فإذا
كذبه الشرع أولى ومتى ثبت الرق باقراره فأحكامه بعد ذلك في الجنايات والحدود كاحكام
العبد لأنه صار محكوما عليه بالرق وإن كان اللقيط امرأة فأقرت بالرق لرجل وادعى ذلك
الرجل كانت أمة له لتصادقهما على ما هو محتمل ولاحق لغيرهما في ذلك الا انها ان كانت
تحت زوج لا تصدق في إبطال النكاح لان ذلك حق الزوج وليس من ضرورة الحكم
برقها انتفاء النكاح لان الرق لا ينافي النكاح ابتداء وبقاء بخلاف ما إذا أقرت أنها ابنة أبى
زوجها وصدقها الأب في ذلك فإنه يثبت النسب ويبطل النكاح لتحقق المنافي فان الأختية
تنافى النكاح ابتداء وبقاء ولو أعتقها المقر له لم يكن لها خيار أيضا لان اقرارها بالرق في حق
الزوج لم يكن صحيحا ولأنه نتمكن تهمة المواضعة بينهما وبين المقر له في أن تقر له بالرق ثم
يعتقها فتختار نفسها لتخلص من الزوج فلهذا لا تصدق في حقه والأصل في كل حكم لحق
الزوج فيه ضرر لا يمكنه دفعه عن نفسه فإنها لا تصدق في ذلك الحكم وفى كل ما يمكنه دفع
الضرر عن نفسه تكون مصدقة في حقه حتى إذا طلقها واحدة فأقرت بالرق صار طلاقها
اثنتين لأنه يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بمراجعتها وامساكها بحكم التطليقة الثانية ولو كان
طلقها اثنتين ثم أقرت بالرق فإنه يملك رجعتها لأنا لو جعلنا طلاقها اثنتين باقرارهما لحق الزوج
ضرر لا يمكنه دفع ذلك عن نفسه فلا نصدقها في ذلك وكذا حكم العدة ان أقرت بالرق بعد
مضي حيضتين فله أن يراجعها في الحيضة الثالثة وان أقرت بالرق بعد مضي حيضة فعدتها
حيضتان لما قلنا ولو قذفها زوجها لم يكن عليه حد ولا لعان لان الرق ثبت في حقها
باقرارها والمملوكة لا تكون محصنة فلا يجب بقذفها حد ولا لعان ولو كانت دبرت عبدا
220

أو أمة ثم أقرت بالرق لم تصدق على ابطاله لان المدبر استحق حق العتق بالتدبير ولو استحق
حقيقة العتق بأن أعتقته لم تصدق على ابطاله لكونها متهمة في حقه فكذلك في التدبير فإذا
ماتت عتق من ثلثها وسعى في ثلثي قيمته لمولاها لان السعاية حقها وقد زعمت أن كسبها
لمولاها واقرارها في حق نفسها صحيح ولو أن مولاها أعتقها كان المدبر على حاله غير أن
خدمته للمولى وسعايته بعد موتها له لأنها أقرت له بذلك واقرارها بذلك صحيح لأنه خالص
حقها ثم باعتاق المولى إياها لا يسقط حقه عن كسبها الذي كان قبل العتق فلهذا كانت خدمة
مدبرها وسعايته بعد موتها لمولاها وإذا أدرك اللقيط فتزوج امرأة ثم أقر أنه عبد لفلان
ولامرأته عليه صداق فصداقها لازم له ولا يصدق على ابطاله لان ذلك دين ظهر
وجوبه عليه لصحة سببه فكان هو متهما في قراره فيما يرجع إلى ابطاله وكذلك أن
استدان دينا أو باع انسانا أو كفل بكفالة أو وهب هبة أو تصدق
بصدقه وسلمها أو كاتب عبدا أو أعتقه أو دبره ثم أقر بأنه عبد
لفلان لا يصدق على ابطال شئ من ذلك لأنه متهم في ذلك
ولان ثبوت الحكم بحسب الحجة وقوله ليس بحجة على
أحد من هؤلاء فيما يرجع إلى ابطال حقهم فوجود
اقراره في ذلك وعدمه سواء والله سبحانه
أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
* تم الجزء العاشر من كتاب المبسوط * (تم الجزء العاشر من كتاب المبسوط ويليه الجزء الحادي عشر)
(وأوله كتاب اللقيطة)
221