الكتاب: بدائع الصنائع
المؤلف: أبو بكر الكاشاني
الجزء: ٢
الوفاة: ٥٨٧
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٩ - ١٩٨٩ م
المطبعة:
الناشر: المكتبة الحبيبية - باكستان
ردمك:
ملاحظات:

الجزء الثاني من
كتاب
بدائع الصنائع
في
ترتيب الشرائع
تأليف
الامام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي
الملقب بملك العلماء المتوفى سنة 587 هجرية
* (الطبعة الأولى) *
1409 ه‍ 1989 م‍
الناشر
المكتبة الحبيبية
كانسى رود حاجى غيبي چوك كوئطه
باكستان
1

* (بسم الله الرحمن الرحيم) *
* (كتاب الزكاة) *
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في موضعين في بيان أنواع الزكاة وفي بيان حكم كل نوع منها أما الأول فالزكاة في
الأصل نوعان فرض وواجب فالفرض زكاة المال والواجب زكاة الرأس وهي صدقة الفطر وزكاة المال نوعان زكاة
الذهب والفضة وأموال التجارة والسوائم وزكاة الزروع والثمار وهي العشر أو نصف العشر أما الأول فالكلام
فيها يقع في مواضع في بيان فرضيتها وفي بيان كيفية الفرضية وفي بيان سبب الفرضية وفي بيان ركنيها وفي بيان شرائط
الركن وفي بيان ما يسقطها بعد وجوبها أما الأول فالدليل على فرضيتها الكتاب والسنة والاجماع والمعقول أما
الكتاب فقوله تعالى وآتوا الزكاة وقوله عز وجل خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقوله عز وجل وفى
أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والحق المعلوم هو الزكاة وقوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في
سبيل الله الآية فكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مال أديت الزكاة
عنه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وكل مال لم تؤد الزكاة عنه فهو كنز وإن كان على وجه الأرض فقد الحق
الوعيد الشديد بمن كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله ولا يكون ذلك الا بترك الفرض وقوله تعالى يا أيها الذين
آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم وأداء الزكاة انفاق في سبيل الله وقوله تعالى وأحسنوا ان الله يحب المحسنين وقوله
تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وايتاء الزكاة من باب الاحسان والإعانة على البر والتقوى وأما السنة فما ورد في
المشاهير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال بنى الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وأقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال
عام حجة الوداع اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم
تدخلوا جنة ربكم وروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى
حقها الا جعلت له يوم القيامة صفائح ثم أحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره
2

خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله اما إلى الجنة واما إلى النار وما من صاحب بقر ولا غنم
لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرنها ثم ذكر فيه ما ذكر في الأول قالوا يا رسول الله
فصاحب الخيل قال الخيل ثلاث لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر فاما من ربطها عدة في سبيل الله فإنه لو طول
لها في مرج خصب أو في روضة كتب الله له عدد ما أكلت حسنات وعدد أروائها حسنات وان مرت بنهر عجاج
لا يريد منه السقي فشربت كتب الله له عدد ما شربت حسنات ومن ارتبطها عزا وفخرا على المسلمين كانت له وزرا
يوم القيامة ومن ارتبطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله تعالى في رقابها وظهورها كانت له سترا من النار يوم القيامة
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من صاحب غنم لا يؤدى زكاتها الا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر
تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مانعي زكاة الغنم والإبل والبقر والغرس
لألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه شاة تيعر يقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا الا قد بلغت
ولألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه بعير له رغاء فيقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئا الا قد بلغت
ولألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه بقرة لها خوار فيقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا الا قد
بلغت ولألفين أحدكم يوم القيامة وعلى عاتقه فرس له حمحمة فيقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا الا
قد بلغت والأحاديث في الباب كثيرة وأما الاجماع فلان الأمة أجمعت على فرضيتها وأما المعقول فمن وجوه أحدها
أن أداء الزكاة من باب إعانة الضعيف وإغاثة اللهيف واقدار العاجز وتقويته على أداء ما افترض الله عز وجل عليه
من التوحيد والعبادات والوسيلة إلى أداء المفروض مغروض والثاني أن الزكاة تطهر نفس المؤدى عن أنجاس
الذنوب وتزكى أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال فتتعود
السماحة وترتاض لأداء الأمانات وايصال الحقوق إلى مستحقيها وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى خذ من أموالهم
صدقة تطهرهم وتزكيهم بها والثالث ان الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة
عن الحوائج الأصلية وخصهم بها فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا وأداء
الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة فكان فرضا
* (فصل) * واما كيفية فرضيتها فقد اختلف فيها ذكر الكرخي انها على الفور وذكر في المنتقى ما يدل عليه فإنه قال إذا
لم يؤد الزكاة حتى مضى حولان فقد أساء واثم ولم يحل له ما صنع وعليه زكاة حول واحد وعن محمد ان من لم يؤد الزكاة
لم تقبل شهادته وروى عنه أن التأخير لا يجوز وهذا نص على الفور وهو ظاهر مذهب الشافعي وذكر الجصاص انها
على التراخي واستدل بمن عليه الزكاة إذا هلك نصابه بعد تمام الحول والتمكن من الأداء أنه لا يضمن ولو كانت واجبة
على الفور لضمن كمن أخر صوم شهر رمضان عن وقته أنه يجب عليه القضاء وذكر أبو عبد الله الثلجي عن أصحابنا
أنها تجب وجوبا موسعا وقال عامة مشايخنا انها على سبيل التراخي ومعنى التراخي عندهم انها تجب مطلقا
عن الوقت غير عين ففي أي وقت أدى يكون مؤديا للواجب ويتعين ذلك الوقت للوجوب وإذا لم يؤد إلى آخر عمره
يتضيق عليه الوجوب بأن بقي من الوقت قدر ما يمكنه الأداء فيه وغلب على ظنه أنه لم يؤد فيه يموت فيفوت
فعند ذلك يتضيق عليه الوجوب حتى أنه لو لم يؤد فيه حتى مات يأثم وأصل المسألة أن الامر المطلق عن الوقت هل
يقتضى وجوب الفعل على الفور أم على التراخي كالأمر بقضاء صوم رمضان والامر بالكفارات والنذور المطلقة
وسجدة التلاوة ونحوها فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وقال امام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي
السمرقندي انه يجب تحصيل الفعل على الفور وهو الفعل في أول أوقات الامكان ولكن عملا لا اعتقادا على طريق
التعيين بل مع الاعتقاد المبهم أن ما أراد الله به من الفور والتراخي فهو حق وهذه من مسائل أصول الفقه ويجوز أن
تبنى مسألة هلاك النصاب على هذا الأصل لان الوجوب لما كان على التراخي عندنا لم يكن بتأخيره الأداء عن
أول أوقات الامكان مفرطا فلا يضمن وعنده لما كان الوجوب على الفور صار مفرطا لتأخيره فيضمن ويجوز
3

أن نبني على أصل آخر نذكره في بيان صفة الواجب إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما سبب فرضيتها فالمال لأنها وجبت شكر النعمة المال ولذا لضاف إلى المال فيقال زكاة المال
والإضافة في مثل هذا يراد بها السببية كما يقال صلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت ونحو ذلك
* (فصل) * وأما شرائط الفرضية فأنواع بعضها يرجع إلى من عليه وبعضها يرجع إلى المال أما الذي يرجع إلى
من عليه فأنواع أيضا منها اسلامه حتى لا تجب على الكافر في حق أحكام الآخرة عندنا لأنها عبادة والكفار
غير مخاطبين بشرائع هي عبادات هو الصحيح من مذهب أصحابنا خلافا للشافعي وهي من مسائل أصول
الفقه وأما في حق أحكام الدنيا فلا خلاف في أنها لا تجب على الكافر الأصلي حتى لا يخاطب بالأداء بعد
الاسلام كالصوم والصلاة وأما المرتد فكذلك عندنا حتى إذا مضى عليه الحول وهو مرتد فلا زكاة عليه
حتى لا يجب عليه أداؤها إذا أسلم وعند الشافعي تجب عليه في حال الردة ويخاطب بأدائها بعد الاسلام وعلى هذا
الخلاف الصلاة وجه قوله إنه أهل للوجوب لقدرته على الأداء بواسطة الطهارة فكان ينبغي أن يخاطب الكافر
الأصلي بالأداء بعد الاسلام الا انه سقط عنه الأداء رحمة عليه وتخفيفا له والمرتد لا يستحق التخفيف لأنه رجع
بعدما عرف محاسن الاسلام فكان كفره أغلظ فلا يلحق به (ولنا) قول النبي صلى الله عليه وسلم الاسلام يجب
ما قبله ولان الزكاة عبادة والكافر ليس من أهل العبادة لعدم شرط الأهلية وهو الاسلام فلا يكون من أهل
وجوبها كالكافر الأصلي وقوله إنه قادر على الأداء بتقديم شرطه وهو الايمان فاسد لان الايمان أصل والعبادات
توابع له بدليل أنه لا يتحقق الفعل عبادة بدونه والايمان عبادة بنفسه وهذه آية التبعية ولهذا لا يجوز أن يرتفع
الايمان عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غيره من العبادات فكان هو عبادة بنفسه
وغيره عبادة به فكان تبعا له فالقول بوجوب الزكاة وغيرها من العبادات بناء على تقديم الايمان جعل التبع متبوعا
والمتبوع تابعا وهذا قلب الحقيقة وتغيير الشريعة بخلاف الصلاة مع الطهارة لان الصلاة أصل والطهارة تابعة
لها فكان ايجاب الأصل ايجابا للتبع وهو الفرق ومنها العلم بكونها فريضة عند أصحابنا الثلاثة ولسنا نعنى به حقيقة
العلم بل السبب الموصل إليه وعند زفر ليس بشرط حتى أن الحربي لو أسلم في دار الحرب ولم يهاجر الينا ومكث هناك
سنين وله سوائم ولا علم له بالشرائع لا يجب عليه زكاتها حتى لا يخاطب بأدائها إذا خرج إلى دار الاسلام عندنا خلافا
لزفر وقد ذكرنا المسألة في كتاب الصلاة وهل تجب عليه إذا بلغه رجل واحد في دار الحرب أو يحتاج فيه إلى العدد
وقد ذكرنا الاختلاف فيه في كتاب الصلاة ومنها البلوغ عندنا فلا تجب على الصبي وهو قول على وابن عباس فإنهما
قالا لا تجب الزكاة على الصبي حتى تجب عليه الصلاة وعند الشافعي ليس بشرط وتجب الزكاة في مال الصبي
ويؤديها الولي وهو قول ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول يحصى الولي أعوام
اليتيم فإذا بلغ أخبره وهذا إشارة إلى أنه تجب الزكاة لكن ليس للولي ولاية الأداء وهو قول ابن أبي ليلى حتى قال لو
أداها الولي من ماله ضمن ومن أصحابنا من بنى المسألة على أصل وهو ان الزكاة عبادة عندنا والصبي ليس من أهل
وجوب العبادة فلا تجب عليه كما لا يجب عليه الصوم والصلاة وعند الشافعي حق العبد والصبي من أهل وجوب
حقوق العباد كضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب والزوجات والخراج والعشر وصدقة الفطر ولإن كان
ت عبادة فهي عبادة مالية تجرى فيها النيابة حتى تتأدى بأداء الوكيل والولي نائب الصبي فيها فيقوم مقامه في
إقامة هذا الواجب بخلاف العبادات البدنية لأنها لا تجرى فيها النيابة ومنهم من تكلم فيها ابتداء أما الكلام فيها
على وجه البناء فوجه قوله النص ودلالة الاجماع والحقيقة أما النص فقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء وقوله
عز وجل وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص بجهة الملك إذا كان
المضاف إليه من أهل الملك وأما دلالة الاجماع فلانا أجمعنا على أن من عليه الزكاة إذا وهب جميع النصاب من الفقير
ولم تحضره النية تسقط عنه الزكاة والعبادة لا تتأدى بدون النية ولذا يجرى فيها الجبر والاستحلاف من الساعي
4

وإنما يجريان في حقوق العباد وكذا يصح توكيل الذمي بأداء الزكاة والذمي ليس من أهل العبادة وأما الحقيقة فان
الزكاة تمليك المال من الفقير والمنتفع بها هو الفقير فكانت حق الفقير والصبا لا يمنع حقوق العباد على ما بينا ولنا قول
النبي صلى الله عليه وسلم بنى الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان
وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وما بنى عليه الاسلام يكون عبادة والعبادات التي تحتمل السقوط تقدر في
الجملة فلا تجب على الصبيان كالصوم والصلاة وأما الآية فالمراد من الصدقة المذكورة فيها محل الصدقة وهو المال
لا نفس الصدقة لأنها اسم للفعل وهو اخراج المال إلى الله تعالى وذلك حق الله تعالى لا حق الفقير وكذلك الحق
المذكور في الآية الأخرى المراد منه المال وذا ليس بزكاة بل هو محل الزكاة وسقوط الزكاة بهبة النصاب من الفقير
لوجود النية دلالة والجبر على الأداء ليؤدي من عليه بنفسه لا ينافي العبادة حتى لو مد يده وأخذه من غير أداء من
عليه لا تسقط عنه الزكاة عندنا وجريان الاستخلاف لثبوت ولاية المطالبة للساعي ليؤدي من عليه باختياره
وهذا لا يقتضى كون الزكاة حق العبد وإنما جازت بأداء الوكيل لان المؤدى في الحقيقة هو الموكل والخراج ليس
بعبادة بل هو مؤنة الأرض وصدقة الفطر ممنوعة على قول محمد وأما على قول أبي حنيفة وأبى يوسف فلأنها مؤنة
من وجه قال النبي صلى الله عليه وسلم أدوا عمن تمونون فتجب بوصف المؤنة لا بوصف العبادة وهو الجواب عن
العشر وأما الكلام في المسألة على وجه الابتداء فالشافعي احتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ابتغوا
في أموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الصدقة ولو لم تجب الزكاة في مال اليتيم ما كانت الصدقة تأكلها وروى عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال من ولى يتيما فليؤد زكاة ماله وروى من ولى يتيما فليزك ماله ولعمومات الزكاة من
غير فصل بين البالغين والصبيان ولان سبب وجوب الزكاة ملك النصاب وقد وجد فتجب الزكاة فيه كالبالغ (ولنا)
انه لا سبيل إلى الايجاب على الصبي لأنه مرفوع القلم بالحديث ولان ايجاب الزكاة ايجاب الفعل وايجاب الفعل على
العاجز عن الفعل تكليف ما ليس في الوسع ولا سبيل إلى الايجاب على الولي ليؤدي من مال الصبي لان الولي منهى
عن قربان مال اليتيم الا على وجه الأحسن بنص الكتاب وأداء الزكاة من ماله قربان ماله لا على وجه الأحسن لما
ذكرنا في الخلافيات والحديثان غريبان أو من الآحاد فلا يعارضان الكتاب مع ما ان اسم الصدقة يطلق على النفقة
قال صلى الله عليه وسلم نفقة الرجل على نفسه صدقة وعلى عياله صدقة وفى الحديث ما يدل عليه لأنه أضاف الاكل
إلى جميع المال والنفقة هي التي تأكل الجميع لا الزكاة أو تحمل الصدقة والزكاة على صدقة الفطر لأنها تسمى زكاة
وأما قوله من ولى يتيما فليزك ماله أي ليتصرف في ماله كي ينمو ماله إذ التزكية هي التنمية توفيقا بين الدلائل
وعمومات الزكاة لا تتناول الصبيان أو هي مخصوصة فتخص المتنازع فيه بما ذكرنا والله أعلم (ومنها) العقل عندنا فلا
تجب الزكاة في مال المجنون جنونا أصليا وجملة الكلام فيه ان الجنون نوعان أصلى وطارئ أما الأصلي وهو أن يبلغ
مجنونا فلا خلاف بين أصحابنا انه يمنع انعقاد الحول على النصاب حتى لا يجب عليه أداء زكاة ما مضى من الأحوال
بعد الإفاقة وإنما يعتبر ابتداء الحول من وقت الإفاقة لأنه الآن صار أهلا لان ينعقد الحول على ماله كالصبي إذا بلغ
أنه لا يجب عليه أداء زكاة ما مضى من زمان الصبا وإنما يعتبر ابتداء الحول على ماله من وقت البلوغ عندنا كذا هذا
ولهذا منع وجوب الصلاة والصوم كذا الزكاة وأما الجنون الطارئ فان دام سنة كاملة فهو في حكم الأصلي ألا ترى
انه في حق الصوم كذلك كذا في حق الزكاة لان السنة في الزكاة كالشهر في الصوم والجنون المستوعب للشهر يمنع
وجوب الصوم فالمستوعب للسنة يمنع وجوب الزكاة ولهذا يمنع وجوب الصلاة والحج فكذا الزكاة وإن كان في
بعض السنة ثم أفاق روى عن محمد في النوادر انه ان أفاق في شئ من السنة وإن كان ساعة من الحول من أوله أو
وسطه أو آخره تجب زكاة ذلك الحول هو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف أيضا وروى هشام عنه أنه قال إن أفاق
أكثر السنة وجبت والا فلا وجه هذه الرواية انه إذا كان في أكثر السنة مفيقا فكأنه كان مفيقا في جميع السنة لان
للأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام خصوصا فيما يحتاط فيه وجه الرواية الأخرى وهو قول محمد هو اعتبار
5

الزكاة بالصوم وهو اعتبار صحيح لان السنة للزكاة كالشهر للصوم ثم الإفاقة في جزء من الشهر يكفي لوجوب
صوم الشهر كذا الإفاقة في جزء من السنة تكفى لانعقاد الحول على المال وأما الذي يجن ويفيق فهو كالصحيح
وهو بمنزلة النائم والمغمى عليه ومنها الحرية لان الملك من شرائط الوجوب لما نذكر والمملوك لا ملك له حتى لا تجب
الزكاة على العبد وإن كان مأذونا له في التجارة لأنه ان لم يكن عليه دين فكسبه لمولاه وعلى المولى زكاته وإن كان
عليه دين محيط بكسبه فالمولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عند أبي حنيفة فلا زكاة فيه على أحد وعند أبي
يوسف ومحمد إن كان يملكه لكنه مشغول بالدين والمال المشغول بالدين لا يكون مال الزكاة وكذا المدبر وأم
الولد لما قلنا وكذا لا زكاة على المكاتب في كسبه لأنه ليس ملكه حقيقة لقيام الرق فيه بشهادة النبي صلى الله عليه
وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والعبد اسم للمرقوق والرق ينافي الملك وأما المستسعى فحكمه حكم المكاتب في
قول أبي حنيفة وعندهما هو حر مديون فينظر إن كان فضل عن سعايته ما يبلغ نصابا تجب الزكاة عليه والا فلا
ومنها أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد عندنا فإن كان فإنه يمنع وجوب الزكاة بقدره حالا كان أو
مؤجلا وعند الشافعي هذا ليس بشرط والدين لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان احتج الشافعي بعمومات الزكاة من
غير فصل ولان سبب وجوب الزكاة ملك النصاب وشرطه أن يكون معد للتجارة أو للاسامة وقد وجد
أما الملك فظاهر لان المديون مالك لماله لان دين الحر الصحيح يجب في ذمته ولا يتعلق بماله ولهذا يملك
التصرف فيه كيف شاء وأما الاعداد للتجارة أو الأسامة فلان الدين لا ينافي ذلك والدليل عليه انه
لا يمنع وجوب العشر (ولنا) ما روى عن عثمان رضي الله عنه انه خطب في شهر رمضان وقال في خطبته الا ان
شهر زكاتكم قد حضر فمن كان له مال وعليه دين فليحسب ماله بما عليه ثم ليزك بقية ماله وكان بمحضر من
الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم فكان ذلك اجماعا منهم على أنه لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين وبه
تبين ان مال المديون خارج عن عمومات الزكاة ولأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية لان قضاء الدين
من الحوائج الأصلية والمال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة لأنه لا يتحقق به الغنى ولا صدقة الا عن
ظهر غنى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج الجواب عن قوله إنه وجد سبب الوجوب وشرطه
لان صفة الغنى مع ذلك شرط ولا يتحقق مع الدين مع ما أن ملكه في النصاب ناقص بدليل ان لصاحب الدين إذا ظفر
بجنس حقه أن يأخذه من غير قضاء ولا رضاء وعند الشافعي له ذلك في الجنس وخلاف الجنس وذا آية عدم الملك كما
في الوديعة والمغصوب فلأن يكون دليل نقصان الملك أولى وأما العشر فقد روى ابن المبارك عن أبي حنيفة ان الدين
يمنع وجوب العشر فيمنع على هذه الرواية وأما على ظاهر الرواية فلان العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فلا
يعتبر فيه غنى المالك ولهذا لا يعتبر فيه أصل الملك عندنا حتى يجب في الأراضي الموقوفة وأرض المكاتب بخلاف
الزكاة فإنه لا بد فيها من غنى المالك والغنى لا يجامع الدين وعلى هذا يخرج مهر المرأة فإنه يمنع وجوب الزكاة عندنا
معجلا كان أو مؤجلا لأنها إذا طالبته يؤاخذ به وقال بعض مشايخنا ان المؤجل لا يمنع لأنه غير مطالب به عادة فأما
المعجل فيطالب به عادة فيمنع وقال بعضهم إن كان الزوج على عزم من قضائه يمنع وان لم يكن على عزم القضاء لا يمنع
لأنه لا يعده دينا وإنما يؤاخذ المرء بما عنده في الأحكام وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري في الإجارة
الطويلة التي تعارفها أهل بخارى ان الزكاة في الأجرة المعجلة تجب على الآجر لأنه ملكه قبل الفسخ وإن كان
يلحقه دين بعد الحول بالفسخ وقال بعض مشايخنا انه يجب على المستأجر أيضا لأنه يعد ذلك مالا موضوعا عند الآجر
وقالوا في البيع الذي اعتاده أهل سمرقند وهو بيع الوفاء ان الزكاة على البائع في ثمنه ان بقي حولا لأنه ملكه
وبعض مشايخنا قالوا يجب أن يلزم المشترى أيضا لأنه يعده مالا موضوعا عند البائع فيؤاخذ بما عنده وقالوا فيمن
ضمن الدرك فاستحق المبيع انه إن كان في الحول يمنع لان المانع قارن الموجب فيمنع الوجوب فأما إذا استحق بعد
الحول لا يسقط الزكاة لأنه دين حادث لان الوجوب مقتصر على حالة الاستحقاق وإن كان الضمان سببا حتى
6

اعتبر من جميع المال وإذا اقتصر وجوب الدين لم يمنع وجوب الزكاة قبله وأما نفقة الزوجات فما لم يصر دينا اما
بفرض القاضي أو بالتراضي لا يمنع لأنها تجب شيئا فشيئا فتسقط إذا لم يوجد قضاء القاضي أو التراضي وتمنع إذا فرضت
بقضاء القاضي أو بالتراضي لصيرورته دينا وكذا نفقة المحارم تمنع إذا فرضها القاضي في مدة قصيرة نحو ما دون الشهر
فتصير دينا فأما إذا كانت المدة طويلة فلا تصير دينا بل تسقط لأنها صلة محضة بخلاف نفقة الزوجات الا ان القاضي
يضطر إلى الفرض في الجملة في نفقة المحارم أيضا لكن الضرورة ترتفع بأدنى المدة وقال بعض مشايخنا ان نفقة المحارم
تصير دينا أيضا بالتراضي في المدة اليسيرة وقالوا دين الخراج يمنع وجوب الزكاة لأنه مطالب به وكذا إذا صار العشر
دينا في ذمته بان أتلف الطعام العشري صاحبه فأما وجوب العشر فلا يمنع لأنه متعلق بالطعام يبقى ببقائه ويهلك
بهلاكه والطعام ليس مال التجارة حتى يصير مستحقا بالدين وأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين الزكاة بان أتلف
مال الزكاة حتى أنتقل من العين إلى الذمة فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد سواء كان في الأموال
الظاهرة أو الباطنة وقال زفر لا يمنع كلاهما وقال أبو يوسف وجوب الزكاة في النصاب يمنع فأما دين الزكاة فلا يمنع
هكذا ذكر الكرخي قول زفر ولم يفصل بين الأموال الظاهرة والباطنة وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي
ان هذا مذهبه في الأموال الباطنة من الذهب والفضة وأموال التجارة ووجه هذا القول ظاهر لان الأموال
الباطنة لا يطالب الامام بزكاتها فلم يكن لزكاتها مطالب من جهة العباد سواء كانت في العين أو في الذمة فلا يمنع
وجوب الزكاة كديون الله تعالى من الكفارات والنذور وغيرها بخلاف الأموال الظاهرة لان الامام يطالب
بزكاتها وأما وجه قوله الآخر فهو ان الزكاة قربة فلا يمنع وجوب الزكاة كدين النذور والكفارات ولأبي يوسف
الفرق بين وجوب الزكاة وبين دينها هو ان دين الزكاة في الذمة لا يتعلق بالنصاب فلا يمنع الوجوب كدين
الكفارات والنذور وأما وجوب الزكاة فمتعلق بالنصاب إذ الواجب جزء من النصاب واستحقاق جزء من النصاب
يوجب النصاب إذ المستحق كالمصروف وحكى انه قيل لأبي يوسف ما حجتك على زفر فقال ما حجتي على من يوجب
في مائتي درهم أربعمائة درهم والامر على ما قاله أبو يوسف لأنه إذا كان له مائتا درهم فلم يؤد زكاتها سنين كثيرة
يؤدى إلى ايجاب الزكاة في المال أكثر منه باضعافه وانه قبيح ولأبي حنيفة ومحمد أن كل ذلك دين مطالب به من
جهة العباد أما زكاة السوائم فلأنها يطالب بها من جهة السلطان عينا كان أو دينا ولهذا يستحلف إذا أنكر الحول أو
أنكر كونه للتجارة أو ما أشبه ذلك فصار بمنزلة ديون العباد وأما زكاة التجارة فمطالب بها أيضا تقدير الآن حق الاخذ
للسلطان وكان يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى زمن عثمان رضي الله عنه
فلما كثرت الأموال في زمانه وعلم أن في تتبعها زيادة ضرر بأربابها رأى المصلحة في أن يفوض الأداء إلى
أربابها باجماع الصحابة فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الامام ألا ترى أنه قال من كان عليه دين فليؤده وليترك
ما بقي من ماله فهذا توكيل لأرباب الأموال باخراج الزكاة فلا يبطل حق الامام عن الاخذ ولهذا قال أصحابنا ان
الامام إذا علم من أهل بلدة انهم يتركون أداء الزكاة من الأموال الباطنة فإنه يطالبهم بها لكن إذا أراد الامام
أن يأخذها بنفسه من غير تهمة الترك من أربابها ليس له ذلك لما فيه من مخالفة اجماع الصحابة رضي الله عنهم
وبيان ذلك أنه إذا كان لرجل مائتا درهم أو عشرون مثقال ذهب فلم يؤد زكاته سنتين يزكى السنة الأولى وليس
عليه للسنة الثانية شئ عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يؤدى زكاة سنتين وكذا هذا في مال التجارة وكذا في السوائم
إذا كان له خمس من الإبل السائمة مضى عليها سنتان ولم يؤد زكاتها انه يؤدى زكاة السنة الأولى وذلك شاة ولا شئ
عليه للسنة الثانية ولو كانت عشر أو حال عليها حولان يجب للسنة الأولى شاتان وللثانية شاة ولو كانت الإبل
خمسا وعشرين يجب للسنة الأولى بنت محاض وللسنة الثانية أربع شياه ولو كان له ثلاثون من البقر السوائم يجب
للسنة الأولى تبيع أو تبيعة ولا شئ للسنة الثانية وإن كانت أربعين يجب للسنة الأولى مسنة وللثانية تبيع أو تبيعة
وإن كان له أربعون من الغنم عليه للسنة الأولي شاة ولا شئ للسنة الثانية وإن كانت مائة واحدى وعشرين
7

عليه للسنة الأولى شاتان وللسنة الثانية شاة ولو لحقه دين مطالب به من جهة العباد في خلال الحول هل ينقطع حكم
الحول قال أبو يوسف لا ينقطع حتى إذا سقط بالقضاء أو بالابراء قبل تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول وقال
زفر ينقطع الحول بلحوق الدين والمسألة مبنية على نقصان النصاب في خلال الحول لان بالدين ينعدم كون المال
فاضلا عن الحاجة الأصلية فتنعدم صفة الغنى في المالك فكان نظير نقصان النصاب في أثناء الحول وعندنا نقصان
النصاب في خلال الحول لا يقطع الحول وعند زفر يقطع على ما نذكر فهذا مثله وأما الديون التي لا مطالب لها من
جهة العبادات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر ووجوب الحج ونحوها لا يمنع وجوب الزكاة لان أثرها في حق
أحكام الآخرة وهو الثواب بالأداء والاثم بالترك فاما لا أثر له في أحكام الدنيا ألا ترى انه لا يجبر ولا يحبس فلا يظهر في
حق حكم من أحكام الدنيا فكانت ملحقة بالعدم في حق أحكام الدنيا ثم إذا كان على الرجل دين وله مال الزكاة وغيره
من عبيد الخدمة وثياب البذلة ودور السكنى فان الدين يصرف إلى مال الزكاة عندنا سواء كان من جنس الدين أو لا
ولا يصرف إلى غير مال الزكاة وإن كان من جنس الدين وقال زفر يصرف الدين إلى الجنس وان لم يكن مال الزكاة حتى أنه
لو تزوج امرأة على خادم بغير عينه وله مائتا درهم وخادم فدين المهر يصرف إلى المائتين دون الخادم عندنا وعنده
يصرف إلى الخادم وجه قول زفر ان قضاء الدين من الجنس أيسر فكان الصرف إليه أولى ولنا ان عين مال الزكاة
مستحق كسائر الحوائج ومال الزكاة فاضل عنها فكان الصرف إليه أيسر وأنظر بأرباب الأموال ولهذا لا يصرف
إلى ثياب بدنه وقوته وقوت عياله وإن كان من جنس الدين لما قلنا وذكر محمد في الأصل أرأيت لو تصدق عليه لم
يكن موضعا للصدقة ومعنى هذا الكلام ان مال الزكاة مشغول بحاجة الدين فكان ملحقا بالعدم وملك الدار والخادم
لا يحرم عليه أخذ الصدقة فكان فقيرا ولا زكاة على الفقير ولو كان في يده من أموال الزكاة أنواع مختلفة من
الدراهم والدنانير وأموال التجارة والسوائم فإنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير وأموال التجارة دون السوائم
لان زكاة هذه الجملة يؤديها أرباب الأموال وزكاة السوائم يأخذها الامام وربما يقصرون في الصرف إلى الفقراء
ضنا بما لهم فكان صرف الدين إلى الأموال الباطنة ليأخذ السلطان زكاة السوائم نظرا للفقراء وهذا أيضا عندنا
وعلى قول زفر يصرف الدين إلى الجنس وإن كان من السوائم حتى أن من تزوج امرأة على خمس من الإبل السائمة
بغير أعيانها وله أموال التجارة وابل سائمة فان عنده يصرف المهر إلى الإبل وعندنا يصرف إلى مال التجارة لما مر
وذكر الشيخ الامام السرخسي ان هذا إذا حضر المصدق فإن لم يحضر فالخيار لصاحب المال ان شاء صرف الدين إلى
السائمة وأدى الزكاة من الدراهم وان شاء صرف الدين إلى الدراهم وأدى الزكاة من السائمة لان في حق صاحب
المال هما سواء لا يختلف وإنما الاختلاف في حق المصدق فان له ولاية أخذ الزكاة من السائمة دون الدراهم
فلهذا إذا حضر صرف الدين إلى الدراهم وأخذ الزكاة من السائمة فاما إذا لم يكن له مال الزكاة سوى السوائم فان
الدين يصرف إليها ولا يصرف إلى أموال البذلة لما ذكرنا ثم ينظر إن كان له أنواع مختلفة من السوائم فان الدين
يصرف إلى أقلها زكاة حتى يجب الأكثر نظرا للفقراء بأن كان له خمس من الإبل وثلاثون من البقر وأربعون شاة فان
الدين يصرف إلى الإبل أو الغنم دون البقر حتى يجب التبيع لأنه أكثر قيمة من الشاة وهذا إذا صرف الدين إلى الإبل
والغنم بحيث لا يفضل شئ منه فاما إذا استغرق أحدهما وفضل منه شئ وان صرف إلى البقر لا يفضل منه شئ
فإنه يصرف إلى البقر لأنه إذا فضل شئ منه يصرف إلى الغنم فانتقص النصاب بسبب الدين فامتنع وجوب شاتين ولو
صرف إلى البقر وامتنع وجوب التبيع تجب الشاتان لأنه لو صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل السائمة كاملا
والتبيع أقل قيمة من شاتين ولو لم يكن له الا الإبل والغنم ذكر في الجامع أن لصاحب المال أن يصرف الدين إلى أيهما
شاء لاستوائهما في قدر الواجب وهو الشاة وذكر في نوادر الزكاة أن للمصدق أن يأخذ الزكاة من الإبل دون الغنم لان
الشاة الواجبة في الإبل ليست من نفس النصاب فلا ينتقص النصاب باخذها ولو صرف الدين إلى الإبل يأخذ الشاة
من الأربعين فينتقص النصاب فكان هذا أنفع للفقراء ولو كان له خمس وعشرون من الإبل وثلاثون بقرا
8

وأربعون شاة فإن كان الدين لا يفضل عن الغنم يصرف إلى الشاة لأنه أقل زكاة فان فضل منه ينظر إن كان بنت
مخاض وسط أقل قيمة من الشاة وتبيع وسط يصرف إلى الإبل وإن كان أكثر قيمة منها يصرف إلى الغنم والبقر
لان هذا أنفع للفقراء فالمدار على هذا الحرف فاما إذا لم يكن له مال للزكاة فإنه يصرف الدين إلى عروض البذلة
والمهنة أولا ثم إلى العقار لان الملك مما يستحدث في العروض ساعة فساعة فاما العقار فمما لا يستحدث فيه الملك غالبا
فكان فيه مراعاة النظر لهما جميعا والله أعلم
* (فصل) * وأما الشرائط التي ترجع إلى المال فمنها الملك فلا تجب الزكاة في سوائم الوقف والخيل المسبلة لعدم
الملك وهذا لان في الزكاة تمليكا والتمليك في غير الملك لا يتصور ولا تجب الزكاة في المال الذي استولى عليه العدو
وأحرزوه بدراهم عندنا لأنهم ملكوها بالاحراز عندنا فزال ملك المسلم عنها وعند الشافعي تجب لان ملك المسلم بعد
الاستيلاء والاحراز بالدار قائم وان زالت يده عنه والزكاة وظيفة الملك عنده ومنها الملك المطلق وهو أن يكون مملوكا
له رقبة ويدا وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر اليد ليست بشرط وهو قول الشافعي فلا تجب الزكاة في المال
الضمار عندنا خلافا لهما وتفسير مال الضمار هو كل مال غير مقدور الانتفاع به مع قيام أصل الملك كالعبد الآبق
والضال والمال المفقود والمال الساقط في البحر والمال الذي أخذه السلطان مصادرة والدين المجحود إذا لم يكن
للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة بأن أقر عند الناس والمال المدفون في الصحراء إذا خفى على المالك مكانه
فإن كان مدفونا في البيت تجب فيه الزكاة بالاجماع وفى المدفون في الكرم والدار الكبيرة اختلاف المشايخ احتجا
بعمومات الزكاة من غير فصل ولان وجوب الزكاة يعتمد الملك دون اليد بدليل ابن السبيل فإنه تجب الزكاة في ماله
وإن كانت يده فائتة لقيام ملكه وتجب الزكاة في الدين مع عدم القبض وتجب في المدفون في البيت فثبت ان الزكاة
وظيفة الملك والملك موجود فتجب الزكاة فيه الا انه لا يخاطب بالأداء للحال لعجزه عن الأداء لبعد يده عنه وهذا
لا ينفى الوجوب كما في ابن السبيل ولنا ما روى عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال لا زكاة في مال الضمار وهو المال الذي لا ينتفع به مع قيام الملك مأخوذ من البعير الضامر
الذي لا ينتفع به لشدة هزاله مع كونه حيا وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك لعدم وصول يده إليها فكانت
ضمارا ولان المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا ولا زكاة على غير الغنى بالحديث
الذي روينا ومال ابن السبيل مقدور الانتفاع به في حقه بيد نائبه وكذا المدفون في البيت لأنه يمكنه الوصول إليه
بالنبش بخلاف المفازة لان نبش كل الصحراء غير مقدور له وكذا الدين المقر به إذا كان المقر مليا فهو ممكن الوصول
إليه واما الدين المجحود فإن لم يكن له بينة فهو على الاختلاف وإن كان له بينة اختلف المشايخ فيه قال بعضهم تجب
الزكاة فيه لأنه يمكن الوصول إليه بالبينة فإذا لم يقم البينة فقد ضيع القدرة فلم يعذر وقال بعضهم لا تجب لان
الشاهد قد يفسق الا إذا كان القاضي عالما بالدين لأنه يقضى بعلمه فكان مقدور الانتفاع به وإن كان المديون يقر
في السر ويجحد في العلانية فلا زكاة فيه كذا روى عن أبي يوسف لأنه لا ينتفع باقراره في السر فكان بمنزلة الجاحد
سرا وعلانية وإن كان المديون مقرا بالدين لكنه مفلس فإن لم يكن مقضيا عليه بالافلاس تجب الزكاة فيه في قولهم
جميعا وقال الحسن بن زياد لا زكاة فيه لان الدين على المعسر غير منتفع به فكان ضمارا والصحيح قولهم لان
المفلس قادر على الكسب والاستقراض مع أن الافلاس محتمل الزوال ساعة فساعة إذ المال غاد ورائح وإن كان
مقضيا عليه بالافلاس فكذلك في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وقال محمد لا زكاة فيه فمحمد مر على أصله لان التفليس
عنده يتحقق وانه يوجب زيادة عجز لأنه يسد عليه باب التصرف لان الناس لا يعاملونه بخلاف الذي لم يقض
عليه بالافلاس وأبو حنيفة مر على أصله لان الافلاس عنده لا يتحقق في حال الحياة والقضاء به باطل وأبو يوسف
وإن كان يرى التفليس لكن المفلس قادر في الجملة بواسطة الاكتساب فصار الدين مقدور الانتفاع في الجملة فكان
أثر التفليس في تأخير المطالبة إلى وقت اليسار فكان كالدين المؤجل فتجب الزكاة فيه ولو دفع إلى إنسان وديعة ثم نسي
9

المودع فإن كان المدفوع إليه من معارفه فعليه الزكاة لما مضى إذا تذكر لان نسيان المعروف نادر فكان طريق الوصول
قائما وإن كان ممن لا يعرفه فلا زكاة عليه فيما مضى لتعذر الوصول إليه ولا زكاة في دين الكتابة والدية على العاقلة لان
دين الكتابة ليس بدين حقيقة لأنه لا يجب للمولى على عبده دين فلهذا لم تصح الكفالة به والمكاتب عبد ما بقي عليه
درهم إذ هو ملك المولى من وجه وملك المكاتب من وجه لان المكاتب في اكتسابه كالحر فلم يكن بدل الكتابة ملك
المولى مطلقا بل كان ناقصا وكذا الدية على العاقلة ملك ولى القتيل فيها متزلزل بدليل انه لو مات واحد من العاقلة سقط
ما عليه فلم يكن ملكا مطلقا ووجوب الزكاة وظيفة الملك المطلق وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة في الدين الذي وجب
للانسان لابد لا عن شئ رأسا كالميراث الدين والوصية بالدين أو وجب بدلا عما ليس بمال أصلا كالمهر للمرأة على الزوج
وبدل الخلع للزوج على المرأة والصلح عن دم العمد انه لا تجب الزكاة فيه وجملة الكلام في الديون انها على ثلاث
مراتب في قول أبي حنيفة دين قوى ودين ضعيف ودين وسط كذا قال عامة مشايخنا اما القوى فهو الذي وجب
بدلا عن مال التجارة كثمن عرض التجارة من ثياب التجارة وعبيد التجارة أو غلة مال التجارة ولا خلاف في وجوب
الزكاة فيه الا انه لا يخاطب بأداء شئ من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما فكلما قبض أربعين درهما أدى
درهما واحدا وعند أبي يوسف ومحمد كلما قبض شيئا يؤدى زكاته قل المقبوض أو كثر واما الدين الضعيف فهو الذي
وجب له بدلا عن شئ سواء وجب له بغير صنعه كالميراث أو بصنعه كما لوصية أو وجب بدلا عما ليس بمال كالمهر وبدل
الخلع والصلح عن القصاص وبدل الكتابة ولا زكاة فيه ما لم يقبض كله ويحول عليه الحول بعد القبض وأما الدين
الوسط فما وجب له بدلا عن مال ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة وفيه روايتان عنه ذكر في
الأصل انه تجب فيه الزكاة قبل القبض لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم فإذا قبض مائتي درهم زكى
لما مضى وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة انه لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول
من وقت القبض وهو أصح الروايتين عنه وقال أبو يوسف ومحمد الديون كلها سواء وكلها قوية تجب الزكاة فيها
قبل القبض الا الدية على العاقلة ومال الكتابة فإنه لا تجب الزكاة فيها أصلا ما لم تقبض ويحول عليها الحول وجه
قولهما ان ما سوى بدل الكتابة والدية على العاقلة ملك صاحب الدين ملكا مطلقا رقبة ويدا لتمكنه من القبض
بقبض بدله وهو العين فتجب فيه الزكاة كسائر الأعيان المملوكة ملكا مطلقا الا انه لا يخاطب بالأداء للحال لأنه
ليس في يده حقيقة فإذا حصل في يده يخاطب بأداء الزكاة قدر المقبوض كما هو مذهبهما في العين فيما زاد على النصاب
بخلاف الدية وبدل الكتابة لان ذلك ليس بملك مطلق بل هو ملك ناقص على ما بينا والله أعلم ولأبي حنيفة وجهان
أحدهما ان الدين ليس بمال بل هو فعل واجب وهو فعل تمليك المال وتسليمه إلى صاحب الدين والزكاة إنما تجب
في المال فإذا لم يكن مالا لا تجب فيه الزكاة ودليل كون الدين فعلا من وجوه ذكرناها في الكفالة بالدين عن ميت
مفلس في الخلافيات كان ينبغي أن لا تجب الزكاة في دين ما لم يقبض ويحول عليه الحول الا أن ما وجب له بدلا
عن مال التجارة أعطى له حكم المال لان بدل الشئ قائم مقامه كأنه هو فصار كأن المبدل قائم في يده وانه مال التجارة
وقد حال عليه الحول في يده والثاني إن كان الدين مالا مملوكا أيضا لكنه مال لا يحتمل القبض لأنه ليس بمال حقيقة
بل هو مال حكم في الذمة وما في الذمة لا يمكن قبضه فلم يكن مالا مملوكا رقبة ويدا فلا تجب الزكاة فيه كمال الضمار
فقياس هذا أن لا تجب الزكاة في الديون كلها لنقصان الملك بفوات اليد الا ان الدين الذي هو يدل مال التجارة
التحق بالعين في احتمال القبض لكونه بدل مال التجارة قابل للقبض والبدل يقام مقام المبدل والمبدل عين قائمة
قابلة للقبض فكذا ما يقوم مقامه وهذا المعنى لا يوجد فيما ليس ببدل رأسا ولا فيما هو بدل عما ليس بمال وكذا في
بدل مال ليس للتجارة على الرواية الصحيحة انه لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض قدر النصاب ويحول عليه الحول
بعد القبض لان الثمن بدل مال ليس للتجارة فيقوم مقام المبدل ولو كان المبدل قائما في يده حقيقة لا تجب الزكاة
فيه فكذا في بدله بخلاف بدل مال التجارة واما الكلام في اخراج زكاة قدر المقبوض من الدين الذي تجب فيه
10

الزكاة على نحو الكلام في المال العين إذا كان زائدا على قدر النصاب وحال عليه الحول فعند أبي حنيفة لا شئ
في الزيادة هناك ما لم يكن أربعين درهما فههنا أيضا لا يخرج شيئا من زكاة المقبوض ما لم يبلغ المقبوض أربعين درهما
فيخرج من كل أربعين درهما يقبضها درهما وعندهما يخرج قدر ما قبض قل المقبوض أو كثر كما في المال العين إذا
كان زائدا على النصاب وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى وذكر الكرخي ان هذا إذا لم يكن له مال سوى الدين فاما
إذا كان له مال سوى الدين فما قبض منه فهو بمنزلة المستفاد فيضم إلى ما عنده والله أعلم (ومنها) كون المال ناميا لان
معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل الا من المال النامي ولسنا نعنى به حقيقة النماء لان ذلك غير معتبر وإنما نعنى به كون
المال معدا للاستنماء بالتجارة أو بالأسامة لان الأسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن والتجارة سبب لحصول
الربح فيقام السبب مقام المسبب وتعلق الحكم به كالسفر مع المشقة والنكاح مع الوطئ والنوم مع الحدث ونحو ذلك
وان شئت قلت ومنها كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية لان به يتحقق الغنا ومعنى النعمة وهو التنعم وبه يحصل
الأداء عن طيب النفس إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيا عنه ولا يكون نعمة إذ التنعم لا
يحصل بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية لأنه من ضرورات حاجة البقاء وقوام البدن فكان شكره شكر نعمة البدن ولا
يحصل الأداء عن طيب نفس فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها لقوله صلى الله عليه وسلم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها
أنفسكم فلا تقع زكاة إذ حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليه فلا يعرف الفضل عن الحاجة فيقام دليل الفضل عن
الحاجة مقامه وهو الاعداد للأسامة والتجارة وهذا قول عامة العلماء وقال مالك هذا ليس بشرط لوجوب الزكاة
وتجب الزكاة في كل مال سواء كان ناميا فاضلا عن الحاجة الأصلية أو لا كثياب البذلة والمهنة والعلوفة والحمولة
والعمولة من المواشي وعبيد الخدمة والمسكن والمراكب وكسوة الأهل وطعامهم وما يتجمل به من آنية أو لؤلؤ أو
فرش ومتاع لم ينو به التجارة ونحو ذلك واحتج بعمومات الزكاة من غير فصل بين مال ومال نحو قوله تعالى خذ من
أموالهم صدقة وقوله عز وجل وفى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وقوله تعالى وآتوا الزكاة وغير ذلك ولأنها
وجبت شكر النعمة المال ومعنى النعمة في هذه الأموال أتم وأقرب لأنها متعلق البقاء فكانت أدعى إلى الشكر ولنا
أن معنى النماء والفضل عن الحاجة الأصلية لابد منه لوجوب الزكاة لما ذكرنا من الدلائل ولا يتحقق ذلك في هذه
الأموال وبه تبين أن المراد من العمومات الأموال النامية الفاضلة عن الحوائج الأصلية وقد خرج الجواب عن
قوله إنها نعمة لما ذكرنا أن معنى النعمة فيها يرجع إلى البدن لأنها تدفع الحاجة الضرورية وهي حاجة دفع الهلاك
عن البدن فكانت تابعة لنعمة البدن فكان شكرها شكر نعمة البدن وهي العبادات البدنية من الصلاة والصوم
وغير ذلك وقوله تعالى وآتوا الزكاة دليلنا لان الزكاة عبارة عن النماء وذلك من المال النامي على التفسير الذي
ذكرناه وهو أن يكون معدا للاستنماء وذلك بالاعداد للاسامة في المواشي والتجارة في أموال التجارة الا ان
الاعداد للتجارة في الأثمان المطلقة من الذهب والفضة ثابت بأصل الخلقة لأنها لا تصلح للانتفاع بأعيانها في دفع
الحوائج الأصلية فلا حاجة إلى الاعداد من العبد للتجارة بالنية إذ النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة
فلا حاجة إلى التعيين بالنبة فتجب الزكاة فيها نوى التجارة أو لم ينو أصلا أو نوى النفقة وأما فيما سوى الأثمان من
العروض فإنما يكون الاعداد فيها للتجارة بالنية لأنها كما تصلح للتجارة تصلح للانتفاع بأعيانها بل المقصود الأصلي
منها ذلك فلا بد من التعيين للتجارة وذلك بالنية وكذا في المواشي لابد فيها من نية الاسامة لأنها كما تصلح للدر
والنسل تصلح للحمل والركوب واللحم فلا بد من النية ثم نية التجارة والاسامة لا تعتبر ما لم تتصل بفعل التجارة
والاسامة لان مجرد النية لا عبرة به في الأحكام لقول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله عفا عن أمتي ما تحدثت به
أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يفعلوا ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة أما الصريح فهو ان ينوى عند عقد
التجارة أن يكون المملوك به للتجارة بان اشترى سلعة ونوى أن تكون للتجارة عند الشراء فتصبر للتجارة سواء كان
الثمن الذي اشتراها به من الأثمان المطلقة أو من عروض التجارة أو مال البذلة والمهنة أو أجر داره بعرض بنية
11

التجارة فيصير ذلك مال التجارة لوجود صريح نية التجارة مقارنا لعقد التجارة اما الشراء فلا شك أنه تجارة وكذلك
الإجارة لأنها معاوضة المال بالمال وهو نفس التجارة ولهذا ملك المأذون بالتجارة الإجارة والنية المقارنة للفعل معتبرة
ولو اشترى عينا من الأعيان ونوى أن تكون للبذلة والمهنة دون التجارة لا تكون للتجارة سواء كان الثمن من مال
التجارة أو من غير مال التجارة لأن الشراء بمال التجارة إن كان دلالة التجارة فقد وجد صريح نية الابتذال ولا
تعتبر الدلالة مع الصريح بخلافها ولو ملك عروضا بغير عقد أصلا بان ورثها ونوى التجارة لم تكن للتجارة لأن النية
تجردت عن العمل أصلا فضلا عن عمل التجارة لان الموروث يدخل في ملكه من غير صنعه ولو ملكها بعقد
ليس مبادلة أصلا كالهبة والوصية والصدقة أو بعقد هو مبادلة مال بغير مال كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم
العمد وبدل العتق ونوى التجارة يكون للتجارة عند أبي يوسف وعند محمد لا يكون للتجارة كذا ذكر الكرخي وذكر
القاضي الشهيد الاختلاف على القلب فقال في قول أبي حنيفة وأبى يوسف لا يكون للتجارة وفى قول محمد يكون
للتجارة وجه قول من قال إنه لا يكون للتجارة ان النية لم تقارن عملا هو تجارة وهي مبادلة المال بالمال فكان
الحاصل مجرد النية فلا تعتبر ووجه القول الآخر ان التجارة عقد اكتساب المال وما لا يدخل في ملكه الا بقبوله فهو
حاصل بكسبه فكانت نيته مقارنة لفعله فأشبه قرانها بالشراء والإجارة والقول الأول أصح لان التجارة كسب المال
ببدل ما هو مال والقبول اكتساب المال بغير بدل أصلا فلم تكن من باب التجارة فلم تكن النية مقارنة عمل التجارة
ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يصير للتجارة لان القرض ينقلب
معاوضة المال بالمال في العاقبة واليه أشار في الجامع أن من كان له مائتا درهم لا مال له غيرها فاستقرض قبل
حولان الحول بيوم من رجل خمسة أقفزة لغير التجارة ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول لا زكاة عليه في المائتين
ويصرف الدين إلى مال الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة فقوله استقرض لغير التجارة دليل انه لو استقرض
للتجارة يصير للتجارة وقال بعضهم لا يصير للتجارة وان نوى لان القرض إعارة وهو تبرع لا تجارة فلم توجد نية التجارة
مقارنة للتجارة فلا تعتبر ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة ما لم
يبعها فيكون بدلها للتجارة فرق بين هذا وبين ما إذا كان له مال التجارة فنوى أن يكون للبذلة حيث يخرج من
أن يكون للتجارة وان لم يستعمله لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل بالفعل وهو ليس بفاعل فعل التجارة فقد عزبت النية
عن فعل التجارة فلا تعتبر للحال بخلاف ما إذا نوى الابتذال لأنه نوى ترك التجارة وهو تارك لها في الحال فاقترنت
النية بعمل هو ترك التجارة فاعتبرت ونظير الفصلين السفر مع الإقامة وهو ان المقيم إذا نوى السفر لا يصير مسافرا
ما لم يخرج عن عمران المصر والمسافر إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير مقيما للحال ونظيرهما من غير هذا
الجنس الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما للحال والمسلم إذا قصد ان يكفر بعد سنين والعياذ بالله فهو
كافر للحال ولو أنه اشترى بهذه العروض التي اشتراها للابتذال بعد ذلك عروضا أخر تصير بدلها للتجارة بتلك النية
السابقة وكذلك في الفصول التي ذكرنا انه نوى للتجارة في الوصية والقرض ومبادلة مال بما ليس بمال إذا اشترى
بتلك العروض عروضا أخر صارت للتجارة لأن النية قد وجدت حقيقة الا انها لم تعمل للحال لأنها لم تصادف عمل
التجارة فإذا وجدت التجارة بعد ذلك عملت النية السابقة عملها فيصير المال للتجارة لوجود نية التجارة مع التجارة
وأما الدلالة فهي ان يشترى عينا من الأعيان بعرض التجارة أو يؤاجر داره التي للتجارة بعرض من العروض فيصير
للتجارة وان لم ينو التجارة صريحا لأنه لما اشترى بمال التجارة فالظاهر أنه نوى به التجارة وأما الشراء بغير مال التجارة
فلا يشكل واما إجارة الدار فلان بدل منافع عين معدة للتجارة كبدل عين معدة للتجارة في أنه للتجارة كذا ذكر في كتاب
الزكاة من الأصل وذكر في الجامع ما يدل على أنه لا يكون للتجارة الا بالنية صريحا فإنه قال وإن كانت الأجرة جارية
تساوى ألف درهم وكانت عند المستأجر للتجارة فاجر المؤجر داره بها وهو يريد التجارة شرط النية عند الإجارة
لنصير الجارية للتجارة ولم يذكر ان الدار للتجارة أو لغير التجارة فهذا يدل على أن النية شرط ليصير بدل منافع الدار
12

المستأجرة للتجارة وإن كانت الدار معدة للتجارة فكان في المسألة روايتان ومشايخ بلخ كانوا يصححون رواية الجامع
ويقولون ان العين وإن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار للعمارة
فلا تصير للتجارة مع التردد الا بالنية وأما إذا اشترى عروضا بالدراهم أو بالدنانير أو بما يكال أو يوزن موصوفا في الذمة
فإنها لا تكون للتجارة ما لم ينو التجارة عند الشراء وإن كانت الدراهم والدنانير أثمانا والموصوف في الذمة من المكيل
والموزون أثمان عند الناس ولأنها كما جعلت ثمنا لمال التجارة جعلت ثمنا لشراء ما يحتاج إليه للابتذال والقوت فلا
يتعين الشراء به للتجارة مع الاحتمال وعلى هذا لو اشترى المضارب بمال المضاربة عبيدا ثم اشترى لهم كسوة وطعاما
للنفقة كان الكل للتجارة وتجب الزكاة في الكل لان نفقة عبيد المضاربة من مال المضاربة فطلق تصرفه ينصرف إلى
ما يملك دون مالا يملك حتى لا يصير خائنا وعاصيا عملا بدينه وعقله وان نص على النفقة وبمثله المالك إذا اشترى
عبيدا للتجارة ثم اشترى لهم ثيابا للكسوة وطعاما للنفقة فإنه لا يكون للتجارة لان المالك كما يملك الشراء للتجارة يملك
الشراء للنفقة والبذلة وله ان ينفق من مال التجارة وغير مال التجارة فلا يتعين للتجارة الا بدليل زائد واما الاجراء
الذين يعملون للناس نحو الصباغين والقصارين والدباغين إذا اشتروا الصبغ والصابون والدهن ونحو ذلك
مما يحتاج إليه في عملهم ونووا عند الشراء أن ذلك للاستعمال في عملهم هل يصير ذلك مال التجارة روى بشر بن
الوليد عن أبي يوسف ان الصباغ إذا اشترى العصغر والزعفران ليصبغ ثياب الناس فعليه فيه الزكاة والحاصل
ان هذا على وجهين إن كان شيئا يبقى أثره في المعمول فيه كالصبغ والزعفران والشحم الذي يدبغ به الجلد فإنه يكون
مال التجارة لان الاجر يكون مقابلة ذلك الأثر وذلك الأثر مال قائم فإنه من أجزاء الصبغ والشحم لكنه لطيف
فيكون هذا تجارة وإن كان شيئا لا يبقى أثره في المعمول فيه مثل الصابون والأشنان والقلى والكبريت فلا يكون
مال التجارة لان عينها تتلف ولم ينتقل أثرها إلى الثوب المغسول حتى يكون له حصة من العوض بل البياض أصلى
للثوب يظهر عند زوال الدرن فما يأخذ من العوض يكون بدل عمله لا بدل هذه الآلات فلم يكن مال التجارة
وأما آلات الصناع وظروف أمتعة التجارة لا تكون مال التجارة لأنها لا تباع مع الأمتعة عادة وقالوا في نحاس
الدواب إذا اشترى المقاود والجلال والبراذع انه إن كان يباع مع الدواب عادة يكون للتجارة لأنها معدة لها وإن كان
لا يباع معها ولكن تمسك وتحفظ بها الدواب فهي من آلات الصناع فلا يكون مال التجارة إذا لم ينو التجارة عند شرائها
وقال أصحابنا في عبد التجارة قتله عبد خطأ فدفع به ان الثاني للتجارة لأنه عوض مال التجارة وكذا إذا فدى بالدية
من العروض والحيوان واما إذا قتله عمدا فصالح المولى من الدية على العبد القاتل أو على شئ من العروض لا يكون
مال التجارة لأنه عوض القصاص لا عوض العبد المقتول والقصاص ليس بمال والله أعلم ومنها الحول في
بعض الأموال دون بعض وجملة الكلام في هذا الشرط يقع في موضعين أحدهما في بيان ما يشترط له الحول من
الأموال ومالا يشترط والثاني في بيان ما يقطع حكم الحول وما لا يقطع أما الأول فنقول لا خلاف في أن أصل النصاب
وهو النصاب الموجود في أول الحول يشترط له الحول لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا زكاة في مال
حتى يحول عليه الحول ولان كون المال ناميا شرط وجوب الزكاة لما ذكرنا والنماء لا يحصل الا بالاستنماء
ولا بد لذلك من مدة وأقل مدة يستنمي المال فيها بالتجارة والاسامة عادة الحول فاما المستفاد في خلال الحول
فهل يشترط له حول على حدة أو يضم إلى الأصل فيزكى بحول الأصل جملة الكلام في المستفاد انه لا يخلو اما إن كان
مستفادا في الحول واما إن كان مستفادا بعد الحول والمستفاد في الحول لا يخلو اما إن كان من جنس الأصل
واما إن كان من خلاف جنسه فإن كان من خلاف جنسه كالإبل مع البقر والبقر مع الغنم فإنه لا يضم إلى نصاب
الأصل بل يستأنف له الحول بلا خلاف وإن كان من جنسه فاما إن كان متفرعا من الأصل أو حاصلا بسببه كالولد
والربح واما لم يكن متفرعا من الأصل ولا حاصلا بسببه كالمشترى والموروث والموهوب والموصى به فإن كان متفرعا
من الأصل أو حاصلا بسببه يضم إلى الأصل ويزكى بحول الأصل بالاجماع وان لم يكن متفرعا من الأصل
13

ولا حاصلا بسببه فإنه يضم إلى الأصل عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يضم احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم
لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول والمستفاد مال لم يحل عليه الحول فلا زكاة فيه ولان الزكاة وظيفة الملك
والمستفاد أصل في الملك لأنه أصل في سبب الملك لأنه ملك بسبب على حدة فيكون أصلا في شرط الحول كالمستفاد
بخلاف الجنس بخلاف الولد والربح لان ذلك تبع للأصل في الملك لكونه تبعا له في سبب الملك فيكون تبعا في الحول
ولنا أن عمومات الزكاة تقتضي الوجوب مطلقا عن شرط الحول الا ما خص بدليل ولان المستفاد من جنس
الأصل تبع له لأنه زيادة عليه إذ الأصل يزداد به ويتكثر والزيادة تبع للمزيد عليه والتبع لا يفرد بالشرط كما
لا يفرد بالسبب لئلا ينقلب التبع أصلا فتجب الزكاة فيها بحول الأصل كالأولاد والأرباح بخلاف المستفاد بخلاف
الجنس لأنه ليس بتابع بل هو أصل بنفسه الا ترى أن الأصل لا يزداد به ولا يتكثر وقوله إنه أصل في الملك لأنه أصل
في سبب الملك مسلم لكن كونه أصلا من هذا الوجه لا ينفى أن يكون تبعا من الوجه الذي بينا وهو أن الأصل يزداد
به ويتكثر فكان أصلا من وجه وتبعا من وجه فتترجح جهة التبعية في حق الحول احتياطا لوجوب الزكاة وأما
الحديث فعام خص منه بعضه وهو الولد والربح فيخص المتنازع فيه بما ذكرنا ثم إنما يضم المستفاد عندنا إلى
أصل المال إذا كان الأصل نصابا فأما إذا كان أقل من النصاب فإنه لا يضم إليه وإن كان يتكامل به النصاب وينعقد
الحول عليهما حال وجود المستفاد لأنه إذا كان أقل من النصاب لم ينعقد الحول على الأصل فكيف ينعقد على
المستفاد من طريق التبعية وأما المستفاد بعد الحول فلا يضم إلى الأصل في حق الحول الماضي بلا خلاف وإنما
يضم إليه في حق الحول الذي استفيد فيه لان النصاب بعد مضى الحول عليه يجعل متجددا حكما كأنه انعدم الأول
وحدث آخر لان شرط الوجوب وهو النماء بتجدد الحول فيصير النصاب كالمتجدد والموجود في الحول الأول
يصير كالعدم والمستفاد إنما يجعل تبعا للأصل الموجود لا للمعدوم هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن المستفاد ثمن الإبل
المزكاة فاما إذا كان فإنه لا يضم إلى ما عنده من النصاب من جنسه ولا يزكى بحول الأصل بل يشترط له حول على
حدة في قول أبي حنيفة وعندهما يضم وصورة المسألة إذا كان لرجل خمس من الإبل السائمة ومائتا درهم فتم حول
السائمة فزكاها ثم باعها بدراهم ولم يتم حول الدراهم فإنه يستأنف للثمن حولا عنده ولا يضم إلى الدراهم وعندهما
يضم ولو زكاها ثم جعلها علوفة ثم باعها ثم تم الحول على الدراهم فان ثمنها يضم إلى الدراهم فيزكى الكل بحول الدراهم
ولو كان له عبد للخدمة فأدى صدقة فطره أو كان له طعام فادى عشره أو كان له أرض فادى خراجها ثم باعها يضم
ثمنها إلى أصل النصاب وجه قولهما ما ذكرنا في المسألة الأولى وهو ظاهر نصوص الزكاة مطلقة عن شرط الحول
واعتبار معنى التبعية والدليل عليه ثمن الإبل المعلوفة وعبد الخدمة والطعام المعشور والأرض التي أدى خراجها
ولأبي حنيفة عموم قوله صلى الله عليه وسلم لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول من غير فصل بين مال ومال الا
أن المستفاد الذي ليس بثمن الإبل السائمة صار مخصوصا بدليل فبقي الثمن على أصل العموم وصار مخصوصا
عن عمومات الزكاة بالحديث المشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم لاثنى في الصدقة أي لا تؤخذ الصدقة مرتين
الا أن الاخذ حال اختلاف المالك والحول والمال صورة ومعنى صار مخصوصا وههنا لم يوجد اختلاف المالك
والحول ولا شك فيه وكذا المال لم يختلف من حيث المعنى لان الثمن بدل الإبل السائمة ويدل الشئ يقوم مقامه
كأنه هو فكانت السائمة قائمة معنى وما ذكرا من معنى التبعية قياس في مقابلة النص فيكون باطلا على أن اعتبار
التبعية إن كان يوجب الضم فاعتبار البناء يحرم الضم والقول بالحرمة أولى احتياطا وأما إذا زكاها ثم جعلها علوفة
ثم باعها بدراهم فقد قال بعض مشايخنا ان على قول أبي حنيفة لا يضم والصحيح أنه يضم بالاجماع ووجه التحريم أنه
لما جعلها علوفة فقد خرجت من أن تكون مال الزكاة لفوات وصف النماء فصار كأنها هلكت وحدث عين أخرى
فلم يكن الثمن بدل الإبل السائمة فلا يؤدى إلى البناء وكذا في المسائل الاخر الثمن ليس بدل مال الزكاة وهو المال
النامي الفاضل عن الحاجة الأصلية فلا يكون الضم بناء ولو كان عنده نصابان أحدهما ثمن الإبل المزكاة والآخر
14

غير ثمن الإبل من الدراهم والدنانير وأحدهما أقرب حولا من الآخر فاستفاد دراهم بالإرث أو الهبة أو الوصية فان
المستفاد يضم إلى أقربهما حولا أيهما كان ولو لم يوهب له ولا ورث شيئا ولا أوصى له بشئ ولكنه تصرف في النصاب
الأول بعدما أدى زكاته وربح فيه ربحا ولم يحل حول ثمن الإبل المزكاة فان الربح يضم إلى النصاب الذي ربح فيه
لا إلى ثمن الإبل وإن كان ذلك أبعد حولا وإنما كان كذلك لان في الفصل الأول استويا في جهة التبعية فيرجح أقرب
النصابين حولا يضم المستفاد إليه نظرا للفقراء وفى الفصل الثاني ما استويا في جهة التبعية بل أحدهما أقوى في
الاستتباع لان المستفاد تبع لأحدهما حقيقة لكونه متفرعا منه فتعتبر حقيقة التبعية فلا يقطع حكم التبع عن
الأصل وأما الثاني وهو بيان ما يقطع حكم الحول ومالا يقطع فهلاك النصاب في خلال الحول يقطع حكم الحول حتى
لو استفاد في ذلك الحول نصابا يستأنف له الحول لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول
والهالك ما حال عليه الحول وكذا المستفاد بخلاف ما إذا هلك بعض النصاب ثم استفاد ما يكمل به لان ما بقي من
النصاب ما حال عليه الحول فلم ينقطع حكم الحول ولو استبدل مال التجارة بمال التجارة وهي العروض قبل تمام
الحول لا يبطل حكم الحول سواء استبدل بجنسها أو بخلاف جنسها بلا خلاف لان وجوب الزكاة في أموال التجارة
يتعلق بمعنى المال وهو المالية والقيمة فكان الحول منعقدا على المعنى وانه قائم لم يفت بالاستبدال وكذلك الدراهم
والدنانير إذا باعها بجنسها أو بخلاف جنسها بأن باع الدراهم بالدراهم أو الدنانير بالدنانير أو الدنانير بالدراهم أو
الدراهم بالدنانير وقال الشافعي ينقطع حكم الحول فعلى قياس قوله لا تجب الزكاة في مال الصيارفة لوجود الاستبدال
منهم ساعة فساعة وجه قوله إنهما عينان مختلفان حقيقة فلا تقوم إحداهما مقام الأخرى فينقطع الحول المنعقد
على إحداهما كما إذا باع السائمة بالسائمة بجنسها أو بخلاف جنسها ولنا أن الوجوب في الدراهم أو الدنانير متعلق
بالمعنى أيضا لا بالعين والمعنى قائم بعد الاستبدال فلا يبطل حكم الحول كما في العروض بخلاف ما إذا استبدل السائمة
بالسائمة لان الحكم هناك متعلق بالعين وقد تبدلت العين فبطل الحول المنعقد على الأول فيستأنف للثاني حولا
ولو استبدل السائمة بالسائمة فان استبدلها بخلاف جنسها بأن باع الإبل بالبقر أو البقر بالغنم ينقطع حكم الحول
بالاجماع وان استبدلها بجنسها بأن باع الإبل بالإبل أو البقر بالبقر أو الغنم بالغنم فكذلك في قول أصحابنا الثلاثة
وقال زفر لا ينقطع وجه قوله إن الجنس واحد فكان المعنى متحدا فلا ينقطع الحول كما إذا باع الدراهم بالدراهم ولنا
أن الوجوب في السوائم يتعلق بالعين لا بالمعنى الا ترى أن من كان له خمس من الإبل عجاف هزال لا تساوى مائتي
درهم تجب فيها الزكاة فدل أن الوجوب فيها تعلق بالعين والعين قد اختلفت فيختلف له الحول وكذا لو باع
السائمة بالدراهم أو بالدنانير أو بعروض ينوى بها التجارة أنه يبطل حكم الحول الأول بالاتفاق لان متعلق الوجوب
في المالين قد اختلف إذ المتعلق في أحدهما العين وفى الآخر المعنى ولو احتال بشئ من ذلك فرارا من وجوب
الزكاة عليه هل يكره له ذلك قال محمد يكره وقال أبو يوسف لا يكره وهو على الاختلاف في الحيلة لمنع وجوب
الشفعة ولا خلاف في الحيلة لاسقاط الزكاة بعد وجوبها مكروهة كالحيلة لاسقاط الشفعة بعد وجوبها ومنها
النصاب وجملة الكلام في النصاب في مواضع في بيان أنه شرط وجوب الزكاة وفي بيان كيفية اعتبار هذا الشرط وفي بيان مقدار النصاب وفي بيان صفته وفي بيان مقدار الواجب في النصاب وفي بيان صفته أما الأول فكمال النصاب
شرط وجوب الزكاة فلا تجب الزكاة فيما دون النصاب لأنها لا تجب الا على الغنى والغنا لا يحصل الا بالمال الفاضل
عن الحاجة الأصلية وما دون النصاب لا يفضل عن الحاجة الأصلية فلا يصير الشخص غنيا به ولأنها
وجبت شكر النعمة المال وما دون النصاب لا يكون نعمة موجبة للشكر للمال بل يكون شكره شكر النعمة البدن
لكونه من توابع نعمة البدن على ما ذكرنا ولكن هذا الشرط يعتبر في أول الحول وفى آخره لا في خلاله حتى
لو أنتقص النصاب في أثناء الحول ثم كمل في آخره تجب الزكاة سواء كان من السوائم أو من الذهب والفضة أو مال
التجارة وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر كمال النصاب من أول الحول إلى آخره شرط وجوب الزكاة وهو قول
15

الشافعي الا في مال التجارة فإنه يعتبر كمال النصاب في آخر الحول ولا يعتبر في أول الحول ووسطه حتى أنه إذا كان
قيمة مال التجارة في أول الحول مائة درهم فصارت قيمته في آخر الحول مائتين تجب الزكاة عنده وجه قول زفر ان
حولان الحول على النصاب شرط وجوب الزكاة فيه ولا نصاب في وسط الحول فلا يتصور حولان الحول عليه
ولهذا لو هلك النصاب في خلال الحول ينقطع حكم الحول وكذا لو كان النصاب سائمة فجعلها علوفة في وسط الحول
بطل الحول وبهذا يحتج الشافعي أيضا الا أنه يقول تركت هذا القياس في مال التجارة للضرورة وهي أن النصاب
التجارة يكمل بالقيمة والقيمة تزداد وتنتقص في كل ساعة لتغير السعر لكثرة رغبة الناس وقلتها وعزة السلعة وكثرتها
فيشق عليه تقويم ماله في كل يوم فاعتبر الكمال عند وجوب الزكاة وهو آخر الحول لهذه الضرورة وهذه الضرورة
لا توجد في السائمة لان نصابها لا يكمل باعتبار القيمة بل باعتبار العين ولنا أن كمال النصاب شرط وجوب
الزكاة فيعتبر وجوده في أول الحول وآخره لا غير لان أول الحول وقت انعقاد السبب وآخره وقت ثبوت الحكم
فأما وسط الحول فليس بوقت انعقاد السبب ولا وقت ثبوت الحكم فلا معنى لاعتبار كمال النصاب فيه الا أنه
لابد من بقاء شئ من النصاب الذي انعقد عليه الحول ليضم المستفاد إليه فإذا هلك كله لم يتصور الضم
فيستأنف له الحول بخلاف ما إذا جعل السائمة علوفة في خلال الحول لأنه لما جعلها علوفة فقد
أخرجها من أن تكون مال الزكاة فصار كما لو هلكت وما ذكر الشافعي من اعتبار المشقة يصلح لاسقاط اعتبار كمال
النصاب في خلال الحول لا في أوله لأنه لا يشق عليه تقويم ماله عند ابتداء الحول ليعرف به انعقاد الحول
كمالا يشق عليه ذلك في آخر الحول ليعرف به وجوب الزكاة في ماله والله أعلم وأما مقدار النصاب وصفته ومقدار
الواجب في النصاب وصفته فلا سبيل إلى معرفتها الا بعد معرفة أموال الزكاة لأن هذه الجملة تختلف باختلاف
أموال الزكاة فنقول وبالله التوفيق أموال الزكاة أنواع ثلاثة أحدها الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضة
والثاني أموال التجارة وهي العروض المعدة للتجارة والثالث السوائم فنبين مقدار النصاب من كل واحد وصفته
ومقدار الواجب في كل واحد وصفته ومن له المطالبة بأداء الواجب في السوائم والأموال الظاهرة
* (فصل) * أما الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضة أما قدر النصاب فيهما فالامر لا يخلو اما أن يكون له فضة
مفردة أو ذهب مفرد أو اجتمع له الصنفان جميعا فإن كان له فضة مفردة فلا زكاة فيها حتى تبلغ مائتي درهم وزنا
وزن سبعة فإذا بلغت ففيها خمسة دراهم لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب كتاب الصدقات
لعمرو بن حزم ذكر فيه الفضة ليس فيها صدقة حتى تبلغ مائتي درهم فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم وروى عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن ليس فيما دون مائتين من الورق شئ وفى مائتين خمسة وإنما اعتبرنا
الوزن في الدراهم دون العدد لان الدراهم اسم للموزون لأنه عبارة عن قدر من الموزون مشتمل على جملة موزونة
من الدوانيق والحبات حتى لو كان وزنها دون المائتين وعددها مائتان أو قيمتها لجودتها وصياغتها تساوى مائتين
فلا زكاة فيها وإنما اعتبرنا وزن سبعة وهو أن يكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل والمائتان مما يوزن مائة
وأربعون مثقالا لأنه الوزن المجمع عليه للدراهم المضروبة في الاسلام وذلك أن الدراهم في الجاهلية كان بعضها
ثقيلا مثقالا وبعضها خفيفا طيريا فلما عزموا على ضرب الدراهم في الاسلام جمعوا الدرهم الثقيل والدرهم
الخفيف فجعلوهما درهمين فكانا درهمين بوزن سبعة فاجتمعت الأمة على العمل على ذلك ولو نقص النصاب عن
المائتين نقصانا يسيرا يدخل بين الوزنين قال أصحابنا لا تجب الزكاة فيه لأنه وقع الشك في كمال النصاب فلا نحكم بكماله
مع الشك والله أعلم ولو كانت الفضة مشتركة بين اثنين فإن كان يبلغ نصيب كل واحد منهما مقدار النصاب تجب
الزكاة والا فلا ويعتبر في حال الشركة ما يعتبر في حال الانفراد وهذا عندنا وعند الشافعي تجب ونذكر المسألة في
السوائم إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما صفة هذا النصاب فنقول لا يعتبر في هذا النصاب صفة زائدة على كونه فضة فتجب الزكاة فيها سواء
16

كانت دراهم مضروبة أو نقرة أو تبرا أو حليا مصوغا أو حلية سيف أو منطقة أو لجام أو سرج أو الكواكب في
المصاحف والأواني وغيرها إذا كانت تخلص عند الإذابة إذا بلغت مائتي درهم وسواء كان يمسكها للتجارة أو للنفقة
أو للتجمل أو لم ينو شيئا وهذا عندنا وهو قول الشافعي أيضا الا في حلي النساء إذا كان معد اللبس مباح أو للعارية
للثواب فله فيه قولان في قول لا شئ فيه وهو مروى عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما واحتج بما روى في
الحديث لا زكاة في الحلى وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال زكاة الحلى اعارته ولأنه مال مبتذل في وجه مباح فلا
يكون نصاب الزكاة كثياب البذلة والمهنة بخلاف حلي الرجال فإنه مبتذل في وجه محظور وهذا لان الابتذال إذا
كان مباحا كان معتبرا شرعا وإذا كان محظورا كان ساقط الاعتبار شرعا فكان ملحقا بالعدم نظيره ذهاب العقل
بشرب الدواء مع ذهابه بسبب السكر انه اعتبر الأول وسقط اعتبار الثاني كذا هذا ولنا قوله تعالى والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم الحق الوعيد الشديد بكنز الذهب والفضة وترك
انفاقها في سبيل الله من غير فصل بين الحلى وغيره وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز بالحديث الذي روينا
فكان تارك أداء الزكاة منه كانزا فيدخل تحت الوعيد ولا يلحق الوعيد الا بترك الواجب وقول النبي صلى الله
عليه وسلم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم من غير فصل بين مال ومال ولان الحلى مال فاضل عن
الحاجة الأصلية إذ الاعداد للتجمل والتزين دليل الفضل عن الحاجة الأصلية فكان نعمة لحصول التنعم
به فيلزمه شكرها باخراج جزء منها للفقراء وأما الحديث فقد قال بعض صيارفة الحديث انه لم يصح لاحد
شئ في باب الحلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمروى عن ابن عمر معارض بالمروى عنه أيضا انه زكى حلي
بناته ونسائه على أن المسألة مختلفة بين الصحابة فلا يكون قول البعض حجة على البعض مع ما ان تسمية إعارة
الحلى زكاة لا تنفى وجوب الزكاة المعهودة إذا قام دليل الوجوب وقد بينا ذلك هذا إذا كانت الدراهم فضة
خالصة فاما إذا كانت مغشوشة فإن كان الغالب هو الفضة فكذلك لان الغش فيها مغمور مستهلك كذا روى الحسن
عن أبي حنيفة ان الزكاة تجب في الدراهم الجياد والزيوف والنبهرجة والمكحلة والمزيفة قال لان الغالب فيها
كلها الفضة وما تغلب فضته على غشه يتناوله اسم الدراهم مطلقا والشرع أوجب باسم الدراهم وإن كان الغالب هو
الغش والفضة فيها مغلوبة فإن كانت أثمانا رائجة أو كان يمسكها للتجارة يعتبر قيمتها فان بلغت قيمتها مائتي درهم من
أدنى الدراهم التي تجب فيها الزكاة وهي التي الغالب عليها الفضة تجب فيها الزكاة والا فلا وان لم تكن أثمانا رائجة
ولا معدة للتجارة فلا زكاة فيها الا أن يكون ما فيها من الفضة يبلغ مائتي درهم بأن كانت كبيرة لان الصغر لا تجب
فيه الزكاة الا بنية التجارة والفضة لا يشترط فيها نية التجارة فإذا أعدها للتجارة اعتبرنا القيمة كعروض التجارة وإذا
لم تكن للتجارة ولا ثمنا رائجة اعتبرنا ما فيها من الفضة وكذا روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن كانت عنده فلوس أو
دراهم رصاص أو نحاس أو مموهة بحيث لا يخلص فيها الفضة انها إن كانت للتجارة يعتبر قيمتها فان بلغت مائتي
درهم من الدراهم التي تغلب فيها الفضة ففيها الزكاة وان لم تكن للتجارة فلا زكاة فيها لما ذكرنا ان الصفر ونحوه لا
تجب فيه الزكاة ما لم تكن للتجارة وعلى هذا كان جواب المتقدمين من مشايخنا بما وراء النهر في الدراهم المسماة
بالغطارفة التي كانت في الزمن المتقدم في ديارنا انها إن كانت أثمانا رائجة يعتبر قيمتها بأدنى ما ينطلق عليه اسم
الدراهم وهي التي تغلب عليها الفضة وان لم تكن أثمانا رائجة فإن كانت سلعا للتجارة تعتبر قيمتها أيضا وان لم تكن
للتجارة ففيها الزكاة بقدر ما فيها من الفضة ان بلغت نصابا أو بالضم إلى ما عنده من مال التجارة وكان الشيخ
الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يفتى بوجوب الزكاة في كل مائتين فيها ربع عشرها وهو خمسة منها عددا
وكأن يقول هو من أعز النقود فينا بمنزلة الفضة فيهم ونحن أعرف بنقودنا وهو اختيار الإمام الحلواني
والسرخسي وقول السلف أصح لما ذكرنا من الفقه ولو زاد على نصاب الفضة شئ فلا شئ في الزيادة حتى تبلغ
أربعين فيجب فيها درهم في قول أبي حنيفة وعلى هذا ابدا في كل أربعين درهم وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي
17

تجب الزكاة في الزيادة بحساب ذلك قلت أو كثرت حتى لو كانت الزيادة درهما يجب فيه جزء من الأربعين جزأ من
درهم والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روى عن عمر رضي الله عنه مثل قول أبي حنيفة وروى عن علي
وابن عمر رضي الله عنهما مثل قولهم ولا خلاف في السوائم انه لا شئ في الزوائد منها على النصاب حتى تبلغ نصابا
احتجوا بما روى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وما زاد على المائتين فبحساب ذلك وهذا
نص في الباب ولان شرط النصاب ثبت معدولا به عن القياس لان الزكاة عرف وجوبها شكر النعمة المال ومعنى
النعمة يوجد في القليل والكثير وإنما عرفنا اشتراطه بالنص وانه ورد في أصل النصاب فبقي الامر في الزيادة على
أصل القياس الا ان الزيادة في السوائم لا تعتبر ما لم تبلغ نصابا دفعا لضرر الشركة إذ الشركة في الأعيان عيب وهذا
المعنى لم يوجد ههنا ولأبي حنيفة ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في كتاب عمرو بن حزم فإذا بلغت
مائتين ففيها خمسة دراهم وفى كل أربعين درهم وليس فيما دون الأربعين صدقة وروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن لا تأخذ من الكسور شيئا فإذا كان الورق مائتي درهم فخذ منها خمسة دراهم
ولا تأخذ مما زاد شيئا حتى يبلغ أربعين درهما فتأخذ منها درهما ولان الأصل أن يكون بعد كل نصاب عفو نظرا
لأرباب الأموال كما في السوائم ولان في اعتبار الكسور حرجا وانه مدفوع وحديث علي رضي الله عنه لم يرفعه أحد
من الثقات بل شكوا في قوله وما زاد على المائتين فبحساب ذلك ان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم أو قول على
فإن كان قول النبي صلى الله عليه وسلم يكون حجة وإن كان قول علي رضي الله عنه لا يكون حجة لان المسألة مختلفة
بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يحتج بقول البعض على البعض وبه تبين انه لا يصلح معارضا لما روينا وما ذكروا من
شكر النعمة فالجواب عنه ما ذكرنا فيما تقدم لان معنى النعمة هو التنعم وانه لا يحصل بما دون النصاب ثم
يبطل بالسوائم مع أنه قياس في مقابلة النص وانه باطل والله أعلم
* (فصل) * وأما مقدار الواجب فيها فربع العشر وهو خمسة من مائتين للأحاديث التي روينا إذ المقادير لا تعرف
الا توقيفا وقوله صلى الله عليه وسلم هاتوا ربع عشور أموالكم وخمسة من مائتين ربع عشرها وأما صدقة الواجب
فنذكرها إن شاء الله تعالى
* (فصل) * هذا إذا كان له فضة مفردة فاما إذا كان له ذهب مفرد فلا شئ فيه حتى يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ
عشرين مثقالا ففيه نصف مثقال لما روى في حديث عمرو بن حزم والذهب ما لم يبلغ قيمته مائتي درهم فلا صدقة
فيه فإذا بلغ قيمته مائتي درهم ففيه ربع العشر وكان الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقوما بعشرة
دراهم وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي ليس عليك في الذهب زكاة ما لم يبلغ عشرين مثقالا فإذا
بلغ عشرين مثقالا ففيه نصف مثقال وسواء كان الذهب لواحد أو كان مشتركا بين اثنين أنه لا شئ على أحدهما
ما لم يبلغ نصيب كل واحد منهما نصابا عندنا خلافا للشافعي والمسألة تأتى في نصاب السوائم إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما صفة نصاب الذهب فنقول لا يعتبر في نصاب الذهب أيضا صفة زائدة على كونه ذهبا فتجب الزكاة
في المضروب والتبر والمصوغ والحلي الا على أحد قولي الشافعي في الحلى الذي يحل استعماله والصحيح قولنا لان
قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة وقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم وحديث على
يقتضى الوجوب في مطلق الذهب وكذا حكم الدنانير التي الغالب عليها الذهب كالمحمودية والصورية ونحوهما
وحكم الذهب الخالص سواء لما ذكرنا واما الهروية والمروية وما لم يكن الغالب عليها الذهب فتعتبر قيمتها إن كانت
أثمانا رائجة أو للتجارة والا فيعتبر قدر ما فيها من الذهب والفضة وزنا لان كل واحد يخلص بالإذابة ولو زاد على
نصاب الذهب شئ فلا شئ في الزيادة في قول أبي حنيفة حتى تبلغ أربعة مثاقيل فيجب فيها قيراطان وعند أبي
يوسف ومحمد والشافعي يجب في الزيادة وان قلت بحساب ذلك والمسألة قد مرت والله أعلم
* (فصل) * وأما مقدار الواجب فيه فربع العشر بحديث عمرو بن حزم وحديث علي رضي الله عنهما
18

لان نصف مثقال من عشرين مثقالا ربع عشره وأما صفة الواجب فنذكرها إن شاء الله تعالى هذا إذا كان له
فضة مفردة أو ذهب مفرد فاما إذا كان له الصنفان جميعا فإن لم يكن كل واحد منهما نصابا بأن كان له عشرة مثاقيل
ومائة درهم فإنه يضم أحدهما إلى الآخر في حق تكميل النصاب عندنا وعند الشافعي لا يضم أحدهما إلى الآخر
بل يعتبر كمال النصاب من كل واحد منهما على حدة وجه قوله إنهما جنسان مختلفان فلا يضم أحدهما للآخر
في تكميل النصاب كالسوائم عند اختلاف الجنس وإنما قلنا إنهما عينان مختلفان لاختلافهما صورة ومعنى اما
الصورة فظاهر وأما المعنى فلانه يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا وصار كالإبل مع الغنم بخلاف مال التجارة
لان هناك يكمل النصاب من قيمتها والقيمة واحدة وهي دراهم أو دنانير فكان مال الزكاة جنسا واحدا وهو الذهب أو
الفضة فاما الزكاة في الذهب والفضة فإنما تجب لعينها دون القيمة ولهذا لا يكمل به القيمة حالة الانفراد وإنما يدل
بالوزن كثرت القيامة أو قلت بأن كانت رديئة (ولنا) ما روى عن بكير بن عبد الله بن الأشج أنه قال مضت السنة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بضم الذهب إلى الفضة والفضة إلى الذهب في اخراج الزكاة ولأنهما مالان
متحدان في المعنى الذي تعلق به وجوب الزكاة فيهما وهو الاعداد للتجارة بأصل الخلقة والثمنية فكانا في حكم
الزكاة كجنس واحد ولهذا اتفق الواجب فيهما وهو ربع العشر على كل حال وإنما يتفق الواجب عند اتحاد المال
وأما عند الاختلاف فيختلف الواجب وإذا اتحد المالان معنى فلا يعتبر اختلاف الصورة كعروض التجارة ولهذا
يكمل نصاب كل واحد منهما بعروض التجارة ولا يعتبر اختلاف الصورة كما إذا كان له أقل من عشرين مثقالا وأقل
من مائتي درهم وله عروض للتجارة ونقد البلد في الدراهم والدنانير سواء فان شاء كمل به نصاب الذهب وان شاء كمل به
نصاب الفضة وصار كالسود مع البيض بخلاف السوائم لان الحكم هناك متعلق بالصورة والمعنى وهما مختلفان
صورة ومعنى فتعذر تكميل نصاب أحدهما بالآخر ثم إذا وجبت الزكاة عند ضم أحدهما بالآخر اختلفت الرواية
فيما يؤدى روى أبو يوسف عن أبي حنيفة انه يؤدى من مائة درهم درهمان ونصف ومن عشرة مثاقيل ذهب
ربع مثقال وهو احدى الروايتين عن أبي يوسف لان هذا أقرب إلى المعادلة والنظر من الجانبين وروى عن أبي
يوسف رواية أخرى انه يقوم أحدهما بالآخر ثم يؤدى الزكاة من نوع واحد وهو أقرب إلى موافقة نصوص
الزكاة ثم اختلف أصحابنا في كيفية الضم فقال أبو حنيفة يضم أحدهما إلى الآخر باعتبار القيمة وقال أبو يوسف
ومحمد يضم باعتبار الاجزاء وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا ذكره في نوادر هشام وإنما تظهر ثمرة الاختلاف فيما
إذا كانت قيمة أحدهما لجودته وصياغته أكثر من وزنه بأن كان له مائة درهم وخمسة مثاقيل قيمتها مائة درهم فعند
أبي حنيفة يقوم الدنانير بخلاف جنسها دراهم وتضم إلى الدراهم فيكمل نصاب الدراهم من حيث القيمة فتجب الزكاة
وعندهما تضم باعتبار الاجزاء فلا يكمل النصاب لان له نصف نصاب الفضة وربع نصاب الذهب فيكون ثلاثة
أرباع النصاب فلا يجب شئ وعلى هذا لو كان له مائة درهم وعشرة مثاقيل ذهب قيمتها مائة وأربعون درهما
تضم باعتبار القيمة عند أبي حنيفة فتبلغ مائتين وأربعين درهما فتجب فيها ستة دراهم وعندهما تضم باعتبار
الاجزاء فيكون نصف نصاب الذهب ونصف نصاب الفضة فيكون نصابا تاما فيجب في نصف كل واحد منهما ربع
عشره فاما إذا كان وزنهما وقيمتهما سواء بأن كان له مائة درهم وعشرة مثاقيل ذهب تساوى مائة أو مائة وخمسون
درهما وخمسة مثاقيل ذهب أو خمسة عشر مثقالا وخمسون درهما فههنا لا تظهر ثمرة الاختلاف بل يضم
أحدهما إلى الآخر بالاجماع على اختلاف الأصلين عنده باعتبار التقويم وعندهما باعتبار الاجزاء وأجمعوا
على أنه إذا كان له مائة درهم وخمسة مثاقيل ذهب قيمتها خمسون درهما لا تجب الزكاة فيهما لان النصاب لم
يكمل بالضم لا باعتبار القيمة ولا باعتبار الاجزاء وأجمعوا على أنه لا تعتبر القيمة في الذهب والفضة عند الانفراد
في حق تكميل النصاب حتى أنه إذا كان له إبريق فضة وزنه مائة درهم وقيمته لصناعته مائتان لا تجب فيه الزكاة
باعتبار القيمة وكذلك إذا كان له آنية ذهب وزنها عشرة وقيمتها لصناعتها مائتا درهم لا تجب فيها الزكاة
19

باعتبار القيمة وجه قولهما ان القيمة في الذهب والفضة ساقطة الاعتبار شرعا لان سائر الأشياء تقوم بهما
وإنما المعتبر فيهما الوزن الا ترى ان من ملك إبريق فضة وزنه مائة وخمسون درهما وقيمته مائتا درهم لا تجب
الزكاة وكذلك إذا ملك آنية ذهب وزنها عشرة مثاقيل وقيمتها مائتا درهم لا تجب الزكاة ولو كانت القيمة فيها
معتبرة لوجبت ولأبي حنيفة انهما عينان وجب ضم أحدهما إلى الآخر لايجاب الزكاة فكان الضم باعتبار
القيمة كعروض التجارة وهذا لان كمال النصاب لا يتحقق الا عند اتحاد الجنس ولا اتحاد الا باعتبار صفة المالية
دون العين فان الأموال أجناس بأعيانها جنس واحد باعتبار صفة المالية فيها وهذا بخلاف الإبريق والآنية لان
هناك ما وجب ضمه إلى شئ آخر حتى تعتبر فيه القيمة وهذا لان القيمة في الذهب والفضة إنما تظهر شرعا عند
مقابلة أحدهما بالآخر فان الجودة والصنعة لا قيمة لها إذا قوبلت بجنسها قال النبي صلى الله عليه وسلم جيدها
ورديئها سواء فاما عند مقابلة أحدهما بالآخر فتظهر للجودة قيمة الا ترى انه متى وقعت الحاجة إلى تقويم الذهب
والفضة في حقوق العباد تقوم بخلاف جنسها فان اغتصب قلبا فهشمه واختار المالك تضمينه ضمنه قيمته
من خلاف جنسه فكذلك في حقوق الله تعالى ولان في التكميل باعتبار التقويم ضرب احتياط في باب العبادة
ونظرا للفقراء فكان أولى ثم عند أبي حنيفة يعتبر في التقويم منفعة الفقراء كما هو أصله حتى روى عنه أنه قال إذا كان
لرجل مائة وخمسة وتسعون درهما ودينار يساوى خمسة دراهم انه تجب الزكاة وذلك بأن يقوم الفضة بالذهب
كل خمسة منها بدينار وهذا الذي ذكرنا كله من وجوب الضم إذا لم يكن كل واحد منهما نصابا بأن كان أقل من
النصاب فاما إذا كان كل واحد منهما نصابا تاما ولم يكن زائدا عليه لا يجب الضم بل ينبغي أن يؤدى من كل واحد
منهما زكاته ولو ضم أحدهما إلى الآخر حتى يؤدى كله من الفضة أو من الذهب فلا بأس به عندنا ولكن يجب
أن يكون التقويم بما هو أنفع للفقراء رواجا والا فيؤدى من كل واحد منهما ربع عشره وإن كان على كل واحد
من النصابين زيادة فعند أبي يوسف ومحمد لا يجب ضم احدى الزيادتين إلى الأخرى لأنهما يوجبان الزكاة في
الكسور بحساب ذلك وأما عند أبي حنيفة فينظر ان بلغت الزيادة أربع مثاقيل وأربعين درهما فكذلك وإن كان
أقل من أربعة مثاقيل وأقل من أربعين درهما يجب ضم احدى الزيادتين إلى الأخرى ليتم أربعين درهما
أو أربعة مثاقيل لان الزكاة لا تجب في الكسور عنده والله أعلم
* (فصل) * وأما أموال التجارة فتقدير النصاب فيها بقيمتها من الدنانير والدراهم فلا شئ فيها ما لم تبلغ قيمتها مائتي
درهم أو عشرين مثقالا من ذهب فتجب فيها الزكاة وهذا قول عامة العلماء وقال أصحاب الظواهر لا زكاة فيها أصلا
وقال مالك إذا نضت زكاها لحول واحد وجه قول أصحاب الظواهر ان وجوب الزكاة إنما عرف بالنص والنص ورد
بوجوبها في الدراهم والدنانير والسوائم فلو وجبت في غيرها لوجبت بالقياس عليها والقياس ليس بحجة خصوصا
في باب المقادير (ولنا) ما روى عن سمرة بن جندب أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا باخراج الزكاة
من الرقيق الذي كنا نعده للبيع وروى عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البر صدقة
وقال صلى الله عليه وسلم هاتوا ربع عشر أموالكم فان قيل الحديث ورد في نصاب الدراهم لأنه قال في آخره من كل
أربعين درهما درهم فالجواب ان أول الحديث عام وخصوص آخره يوجب سلب عموم أوله أو نحمل قوله من
كل أربعين درهم على القيمة أي من كل أربعين درهما من قيمتها درهم وقال صلى الله عليه وسلم وأدوا زكاة
أموالكم من غير فصل بين مال ومال الا ما خص بدليل ولان مال التجارة مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية فيكون
مال الزكاة كالسوائم وقد خرج الجواب عن قولهم إن وجوب الزكاة عرف بالنص لأنا قد روينا النص في الباب
على أن أصل الوجوب عرف بالعقل وهو شكر لنعمة المال وشكر نعمة القدرة بإعانة العاجز الا ان مقدار الواجب
عرف بالسمع وما ذكره مالك غير سديد لأنه وجد سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول فلا معنى لتخصيص
الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم والدراهم والدنانير وسواء كان مال التجارة عروضا أو عقارا أو شيئا مما يكال
20

أو يوزن لان الوجوب في أموال التجارة تعلق بالمعنى وهو المالية والقيمة وهذه الأموال كلها في هذا المعنى جنس
واحد وكذا يضم بعض أموال التجارة إلى البعض في تكميل النصاب لما قلنا وإذا كان تقدير النصاب من أموال
التجارة بقيمتها من الذهب والفضة وهو أن تبلغ قيمتها مقدار نصاب من الذهب والفضة فلا بد من التقويم حتى
يعرف مقدار النصاب ثم بماذا تقوم ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي انه يقوم بأوفى القيمتين من الدراهم
والدنانير حتى أنها إذا بلغت بالتقويم بالدراهم نصابا ولم تبلغ بالدنانير قومت بما تبلغ به النصاب وكذا روى عن أبي
حنيفة في الأمالي انه يقومها بأنفع النقدين للفقراء وعن أبي يوسف انه يقومها بما اشتراها به فان اشتراها بالدراهم
قومها بالدراهم وان اشتراها بالدنانير قومها بالدنانير وان اشتراها بغيرهما من العروض أو لم يكن اشتراها بأن كان وهب
له فقبله ينوى به التجارة قومها بالنقد الغالب في ذلك الموضع وعند محمد يقومها بالنقد الغالب على كل حال وذكر
في كتاب الزكاة أنه يقومها يوم حال الحول ان شاء بالدراهم وان شاء بالدنانير وجه قول محمد أن التقويم في حق الله تعالى
يعتبر بالتقويم في حق العباد ثم إذا وقعت الحاجة إلى تقويم شئ من حقوق العباد كالمغصوب والمستهلك يقوم بالنقد
الغالب في البلدة كذا هذا وجه قول أبى يوسف ان المشترى بدل وحكم البدل يعتبر بأصله فإذا كان مشترى بأحد
النقدين فتقويمه بما هو أصله أولي وجه رواية كتاب الزكاة أن وجوب الزكاة في عروض التجارة باعتبار ماليتها
دون أعيانها والتقويم لمعرفة مقدار المالية والنقدان في ذلك سيان فكان الخيار إلى صاحب المال يقومه بأيهما
شاء ألا ترى أن في السوائم عند الكثرة وهي ما إذا بلغت مائتين الخيار إلى صاحب المال ان شاء أدى أربع حقاق
وان شاء خمس بنات لبون فكذا هذا وجه قول أبي حنيفة أن الدراهم والدنانير وإن كانا في الثمنية والتقويم بهما
سواء لكنا رجحنا أحدهما بمرجح وهو النظر للفقراء والاخذ بالاحتياط أولى الا ترى انه لو كان بالتقويم بأحدهما
يتم الصاب وبالآخر لا فإنه يقوم بما يتم به النصاب نظرا للفقراء واحتياطا كذا هذا ومشايخنا حملوا رواية كتاب
الزكاة على ما إذا كان لا يتفاوت النفع في حق الفقراء بالتقويم بأيهما كان جمعا بين الروايتين وكيفما كان ينبغي ان
يقوم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم أو الدنانير وهي التي يكون الغالب فيها الذهب والفضة وعلى هذا إذا كان
مع عروض التجارة ذهب وفضة فإنه يضمها إلى العروض ويقومه جملة لان معنى التجارة يشمل الكل لكن عند أبي
حنيفة يضم باعتبار القيمة ان شاء قوم العروض وضمها إلى الذهب والفضة وان شاء قوم الذهب والفضة وضم
قيمتهما إلى قيمة أعيان التجارة وعندهما يضم باعتبار الاجزاء فتقوم العروض فيضم قيمتها إلى ما عنده من الذهب
والفضة فان بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة والا فلا ولا يقوم الذهب والفضة عندهما أصلا في باب الزكاة على ما مر
* (فصل) * وأما صفة هذا النصاب فهي أن يكون معدا للتجارة وهو ان يمسكها للتجارة وذلك بنية التجارة مقارنة
لعمل التجارة لما ذكرنا فيما تقدم بخلاف الذهب والفضة فإنه لا يحتاج فيهما إلى نية التجارة لأنها معدة للتجارة بأصل
الخلقة فلا حاجة إلى اعداد العبد ويوجد الاعداد منه دلالة على ما مر
* (فصل) * واما مقدار الواجب من هذا النصاب فما هو مقدار الواجب من نصاب الذهب والفضة وهو ربع
العشر لان نصاب مال التجارة مقدر بقيمته من الذهب والفضة فكان الواجب فيه ما هو الواجب في الذهب
والفضة وهو ربع العشر ولقول النبي صلى الله عليه وسلم هاتوا ربع عشور أموالكم من غير فصل
* (فصل) * وأما صفة الواجب في أموال التجارة فالواجب فيها ربع عشر العين وهو النصاب في قول أصحابنا وقال
بعض مشايخنا هذا قول أبى يوسف ومحمد وأما على قول أبي حنيفة فالواجب فيها أحد شيئين اما العين أو القيمة
فالمالك بالخيار عند حولان الحول ان شاء أخرج ربع عشر العين وان شاء أخرج ربع عشر القيمة وبنوا على
بعض مسائل الجامع فيمن كانت له مائتا قفيز حنطة للتجارة قيمتها مائتا درهم فحال عليها الحول فلم يؤد زكاتها
حتى تغير سعرها إلى النقصان حتى صارت قيمتها مائة درهم أو إلى الزيادة حتى صارت قيمتها أربعمائة درهم ان على
قول أبي حنيفة ان أدى من عينها يؤدى خمسة أقفزة في الزيادة والنقصان جميعا لأنه تبين أنه الواجب من الأصل
21

فان أدى القيمة يؤدى خمسة دراهم في الزيادة والنقصان جميعا لأنه تبين انها هي الواجبة يوم الحول وعند أبي
يوسف ومحمد ان أدى من عينها يؤدى خمسة أقفزة في الزيادة والنقصان جميعا كما قال أبو حنيفة وان أدى من
القيمة يؤدى في النقصان درهمين ونصفا وفى الزيادة عشرة دراهم لان الواجب الأصلي عندهما هو ربع
عشر العين وإنما له ولاية النقل إلى القيمة يوم الأداء فيعتبر قيمتها يوم الأداء والصحيح ان هذا مذهب جميع
أصحابنا لان المذهب عندهم أنه إذا هلك النصاب بعد الحول تسقط الزكاة سواء كان من السوائم أو من أموال التجارة
ولو كان الواجب أحدهما غير عين عند أبي حنيفة لتعينت القيمة عند هلاك العين على ما هو الأصل في التخيير بين
شيئين إذا هلك أحدهما انه يتعين الآخر وكذا لو وهب النصاب من الفقير ولم تحضره النية أصلا سقطت عنه الزكاة
ولو لم يكن الواجب في النصاب عينا لما سقطت كما إذا وهب منه غير النصاب وكذا إذا باع نصاب الزكاة من السوائم
والساعي حاضر ان شاء أخذ من المشترى وان شاء أخذ من البائع ولولا أن الواجب ربع عشر العين لما ملك الاخذ
من غير المشترى فدل أن مذهب جميع أصحابنا هذا وهو أن الواجب ربع عشر العين الا عند أبي حنيفة الواجب
عند الحول ربع عشر العين من حيث إنه مال لا من حيث إنه عين وعندهما الواجب ربع عشر العين من حيث
الصورة والمعنى جميعا لكن لمن عليه حق النقل من العين إلى القيمة وقت الأداء ومسائل الجامع مبنية على هذا
الأصل على ما نذكر وقال الشافعي الواجب من قدر الزكاة بعد الحول في الذمة لا في النصاب وعلى هذا ينبنى ما إذا
هلك مال الزكاة بعد الحول وبعد التمكن من الأداء انه تسقط عنه الزكاة عندنا وعنده لا تسقط وإذا هلك قبل
التمكن من الأداء لا تجب عندنا وللشافعي قولان في قول لا تجب أصلا وفى قول تجب ثم تسقط لا إلى ضمان ولا
خلاف في أن صدقة الفطر لا تسقط بهلاك النصاب وعلى هذا الخلاف العشر والخراج وجه قول الشافعي أن هذا
حق وجب في ذمته وتقرر بالتمكن من الأداء فلا يسقط بهلاك النصاب كما في ديون العباد وصدقة الفطر وكما في الحج
فإنه إذا كان موسرا وقت خروج القافلة من بلده ثم هلك ماله لا يسقط الحج عنه وإنما قلنا إنه وجب في ذمته لان
الشرع أضاف الايجاب إلى مال لا بعينه قال النبي صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفى أربعين
شاة شاة أوجب خمسة وشاة لا بعينها والواجب إذا لم يكن عينا كان في الذمة كما في صدقة الفطر ونحوها ولان غاية الأمر
ان قدر الزكاة أمانة في يده لكنه مطالب شرعا بالأداء بعد التمكن منه ومن منع الحق عن المستحق بعد طلبه
يضمن كما في سائر الأمانات والخلاف ثابت فيما إذا طلبه الفقير أو طالبه الساعي بالأداء فلم يؤد حتى هلك النصاب ولنا
أن المالك اما أن يؤاخذ بأصل الواجب أو بضمانه لا وجه للأول لان محله النصاب والحق لا يبقى بعد فوات
محله كالعبد الجاني أو المديون إذا هلك والشقص الذي فيه الشفعة إذا صار بحر أو الدليل على أن محل أصل الواجب هو
النصاب قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقول النبي صلى الله عليه وسلم خذ من الذهب الذهب ومن الفضة الفضة
ومن الإبل الإبل الحديث وكلمة من تبعيض فيقتضى أن يكون الواجب بعض النصاب وقوله صلى الله عليه وسلم في
مائتي درهم خمسة دراهم وفى أربعين شاة شاة جعل الواجب مظروفا في النصاب لان في للظرف ولان الزكاة عرف
وجوبها على طريق اليسر وطيبة النفس بأدائها ولهذا اختص وجوبها بالمال النامي الفاضل عن الحاجة الأصلية
وشرط لها الحول وكمال النصاب ومعنى اليسر في كون الواجب في النصاب يبقى ببقائه ويهلك بهلاكه ولا سبيل إلى
الثاني لان وجوب الضمان يستدعى تفويت ملك أو يد كما في سائر الضمانات وهو بالتأخير عن أول أوقات الامكان
لم يفوت على الفقير ملكا ولا يدا فلا يضمن بخلاف صدقة الفطر والحج لان محل الواجب هناك ذمته لا ماله
وذمته باقية بعد هلاك المال وأما قوله إنه منع حق الفقير بعد طلبه فنقول إن هذا الفقير ما تعين مستحقا لهذا
الحق فان له ان يصرفه إلى فقير آخر وان طالبه الساعي فامتنع من الأداء حتى هلك المال قال أهل العراق من
أصحابنا انه يضمن لان الساعي متعين للاخذ فيلزمه الأداء عند طلبه فيصير بالامتناع مفوتا فيضمن ومشايخنا بما
وراء النهر قالوا إنه لا يضمن وهو الأصح فإنه ذكر في كتاب الزكاة إذا حبس السائمة بعدما وجبت الزكاة فيها حتى
22

ثويت لم يضمنها ومعلوم انه لم يرد بهذا لحبس ان يمنعها العلف والماء لان ذلك استهلاك لها ولو استهلكها يصير
ضامنا لزكاتها وإنما أراد به حبسها بعد طلب الساعي لها والوجه فيه انه ما فوت بهذا الحبس ملكا ولا يدا على أحد
فلا يصير ضامنا وله رأى في اختيار محل الأداء ان شاء من السائمة وان شاء من غيرها فإنما حبس السائمة ليؤدي
من محل آخر فلا يصير ضامنا هذا إذا هلك كل النصاب فان هلك بعضه دون بعض فعليه في الباقي حصته من الزكاة
إذا لم يكن في المال فضل على النصاب بلا خلاف لان البعض معتبر بالكل ثم إذا هلك الكل سقط جميع الزكاة
فإذا هلك البعض يجب ان يسقط بقدره هذا إذ لم يكن في المال عفو فأما إذ اجتمع فيه النصاب والعفو ثم هلك
البعض فعلى قول أبي حنيفة وأبى يوسف يصرف الهلاك إلى العفو أولا كأنه لم يكن في ملكه الا النصاب وعند
محمد وزفر يصرف الهلاك إلى الكل شائعا حتى إذا كان له تسعة من الإبل فحال عليها الحول ثم هلك منها أربعة
فعليه في الباقي شاة كاملة في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد وزفر عليه في الباقي خمسة اتساع شاة والأصل
عند أبي حنيفة وأبى يوسف أن الوجوب يتعلق بالنصاب دون العفو وعند محمد وزفر رحمهما الله يتعلق بهما جميعا
واحتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة إلى تسع أخبر ان الوجوب يتعلق بالكل ولان سبب
الوجوب هو المال النامي والعفو مال نام ومع هذا لا تجب بسببه زيادة على أن الوجوب في الكل نظيره إذا قضى
القاضي بحق بشهادة ثلاثة نفر كان قضاؤه بشهادة الكل وإن كان لا حاجة إلى القضاء إلى الثالث وإذا ثبت
ان الوجوب في الكل فما هلك يهلك بزكاته وما بقي يبقى بزكاته كالمال المشترك واحتج أبو حنيفة وأبو يوسف بقول
النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم في خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شئ حتى تكون
عشرا وقال في حديثه أيضا في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض وليس في الزيادة شئ إلى خمس وثلاثين وهذا
نص على أن الواجب في النصاب دون الوقص ولان الوقص والعفو تبع للنصاب لان النصاب باسمه وحكمه
يستغنى عن الوقص والوقص باسمه وحكمه لا يستغنى عن النصاب والمال إذا اشتمل على أصل وتبع فإذا هلك منه
شئ يصرف الهلاك إلى التبع دون الأصل كمال المضاربة إذا كان فيه ربح فهلك شئ منه يصرف الهلاك إلى الربح
دون رأس المال كذا هذا وعلى هذا إذا حال الحول على ثمانين شاة ثم هلك أربعون منها وبقى أربعون فعليه في
الأربعين الباقية شاة كاملة في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لان الهلاك يصرف إلى العفو أولا عندهما
فجعل كان الغنم أربعون من الابتداء وفى قول محمد وزفر عليه في الباقي نصف شاة لان الواجب في الكل
عندهما وقد هلك النصف فيسقط الواجب بقدره ولو هلك منها عشرون وبقى ستون فعليه في الباقي شاة
عند أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد وزفر ثلاثة أرباع شاة لما قلنا وعلى هذا مسائل في الجامع ثم اختلف
أصحابنا فيما بينهم فعند أبي حنيفة الواجب في الدراهم والدنانير وأموال التجارة جزء من النصاب من حيث
المعنى لا من حيث الصورة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الواجب هو الجزء منه صورة ومعنى لكن يجوز إقامة
غيره مقامه من حيث المعنى ويبطل اعتبار الصورة باذن صاحب الحق وهو الله تعالى وأما في زكاة السوائم فقد
اختلف مشايخنا على قول أبي حنيفة قال بعضهم الواجب هناك أيضا جزء من النصاب من حيث المعنى وذكر
المنصوص عليه من خلاف جنس النصاب للتقدير وقال بعضهم الواجب هو المنصوص عليه لا جزء من النصاب
لكن من حيث المعنى وعندهما الواجب هو المنصوص عليه صورة ومعنى لكن يجوز إقامة غيره مقامه من حيث
المعنى دون الصورة على ما ذكرنا وينبنى على هذا الأصل مسائل الجامع إذا كان لرجل مائتا قفيز حنطة للتجارة
تساوى مائتي درهم ولا مال له غير ذلك وحال عليها الحول فان أدى من عينها يؤدى خمسة أقفزة بلا خلاف لأنها هي
ربع عشر النصاب وهو الواجب على ما مر ولو أراد أن يؤدى القيمة جاز عندنا خلافا للشافعي لكن عند أبي
حنيفة في الزيادة والنقصان جميعا يؤدى قيمتها يوم الحول وهي خمسة دراهم وعندهما في الفصلين جميعا يؤدى
قيمتها يوم الأداء في النقصان درهمين ونصفا وفى الزيادة عشرة هما يقولان الواجب جزء من النصاب وغير
23

المنصوص عليه حق لله تعالى غير أن الشرع أثبت له ولاية أداء القيمة اما تيسيرا عليه واما نقلا للحق والتيسير له
في الأداء دون الواجب وكذا الحاجة إلى نقل حق الله تعالى إلى مطلق المال وقت الأداء إلى الفقير فبقي الواجب
إلى وقت الأداء في الذمة عين المنصوص عليه وجزء النصاب ثم عند الأداء ينقل ذلك إلى القيمة فتعتبر القيمة يوم
النقل كما في ولد المغرور انه يضمن المغرور قيمته للمالك يوم التضمين لان الولد في حقه وان علق حر الأصل ففي حق
المستحق جعل مملوكا له لحصوله عن مملوكته وإنما ينقل عنه حقه إلى القيمة يوم الخصومة فكذا ههنا وأبو حنيفة
يقول الواجب هو الجزء من النصاب غير أن وجوبه من حيث إنه مطلق المال لا من حيث إنه جزء من النصاب
بدليل انه يجوز أداء الشاة عن خمس من الإبل وان لم يكن جزأ منها والتعلق بكونه جزأ للتيسير لا للتحقيق لان
الأداء منه أيسر في الأغلب حتى أن الأداء من غير الجزء لو كان أيسر مال إليه وعند ميله إليه يتبين انه هو الواجب
لأنه هو مطلق المال وهذا هو الواجب على طريق الاستحقاق وكذا المنصوص عليه معلول بمطلق المال والتعلق به
للتيسير بدليل جواز أداء الواحد من الخمس والناقة الكوماء عن بنت مخاض فكان الواجب عند الحول ربع
العشر من حيث إنه مال والمنصوص عليه من حيث إنه مال فوجب اعتبار قيمته يوم الوجوب ولا يعتبر التغير
بسبب نقصان السعر لأنه لا عبرة به لاسقاط الزكاة الواجبة احتياطا لحق الفقراء وأما في السوائم اختلف المشايخ على
قول أبي حنيفة قال بعضهم يعتبر قيمتها يوم الوجوب كما في مال التجارة لان الواجب جزء من النصاب من حيث إنه
مال في جميع أموال الزكاة وقال بعضهم يوم الأداء كما قالا لان الواجب ثمة هو المنصوص عليه صورة ومعنى ولكن
يجوز إقامة غيره مقامه والله أعلم وكذلك الجواب في مال الزكاة إذا كان جارية تساوى مائتين في جميع ما ذكرنا من تغير
السعر إلى زيادة أو نقصان وللمسألة فروع تعرف في كتاب الزكاة من الجامع هذا إذا هلك النصاب بعد الحول فاما إذا
تصرف فيه المالك فهل يجوز تصرفه عندنا يجوز وعند الشافعي لا وهذا بناء على أصلنا ان التصرف في مال الزكاة
بعد وجوبها جائز عندنا حتى لو باع نصاب الزكاة جاز البيع في الكل عندنا وأما عند الشافعي فلا يجوز في قدر الزكاة
قولا واحدا وله في الزيادة على قدر الزكاة قولان وجه قوله إن الواجب جزء من النصاب لما ذكرنا من الدلائل فلا
يخلو اما أن يكون وجوبه حقا للعبد كما يقول أو حقا لله تعالى كما يقولون وكل ذلك يمنع من التصرف فيه ولنا ان الزكاة
اسم للفعل وهو اخراج المال إلى الله وقبل الاخراج لا حق في المال حتى يمنع نفاذ البيع فيه فينفذ كالعبد إذا جنى جناية
فباعه المولى فينفذ بيعه لان الواجب فيه هو فعل الدفع فكان المحل خاليا عن الحق قبل الفعل فنفذ البيع فيه كذا هذا
وإذا جاز التصرف في النصاب بعد وجوب الزكاة فيه عندنا فإذا تصرف المالك فيه ينظر إن كان استبدالا بمثله لا
يضمن الزكاة وينتقل الواجب إليه يبقى ببقائه ويسقط بهلاكه وإن كان استهلاكا يضمن الزكاة ويصير دينا في ذمته
بيان ذلك إذا حال الحول على مال التجارة ووجبت فيه الزكاة فأخرجه المالك عن ملكه بالدراهم والدنانير أو بعرض
التجارة فباعه بمثل قيمته لا يضمن الزكاة لأنه ما أتلف الواجب بل نقله من محل إلى محل مثله إذ المعتبر في مال التجارة
هو المعنى وهو المالية لا الصورة فكان الأول قائما معنى فيبقى الواجب ببقائه ويسقط بهلاكه وكذا لو باعه وحابى
بما يتغابن الناس في مثله لان ذلك مما لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا ولهذا جعل عفوا في بيع الأب والوصي وان حابى
بما لا يتغابن الناس في مثله يضمن قدر زكاة المحاباة ويكون دينا في ذمته وزكاة ما بقي يتحول إلى العين يبقى ببقائها
ويسقط بهلاكها ولو أخرج مال الزكاة عن ملكه بغير عوض أصلا بالهبة والصدقة من غير الفقير والوصية أو بعوض
ليس بمال بأن تزوج عليه امرأة أو صالح به من دم العمد أو اختلعت به المرأة يضمن الزكاة في ذلك كله لان اخراج
المال بغير عوض اتلاف له وكذا بعوض ليس بمال وكذا لو أخرجه بعوض هو مال لكنه ليس بمال الزكاة بأن باعه
بعبد الخدمة أو ثياب البذلة سواء بقي العوض في يده أو هلك لأنه أبطل المعنى الذي صار المال به مال الزكاة فكان
استهلاكا له في حق الزكاة وكذا لو استأجر به عينا من الأعيان لان المنافع وإن كانت مالا في نفسها لكنها ليست بمال
الزكاة لأنه لا بقاء لها وكذا لو صرف مال الزكاة إلى حوائجه بالأكل والشرب واللبس لوجد حقيقة الاستهلاك
24

وكذا إذا باع مال التجارة بالسوائم على أن يتركها سائمة يضمن الزكاة لان زكاة مال التجارة خلاف زكاة السائمة
فيكون استهلاكا ولو كان مال الزكاة سائمة فباعها بخلاف جنسها من الحيوان والعروض والأثمان أو بجنسها يضمن
ويصير قدر الزكاة دينا في ذمته لا يسقط بهلاك ذلك العوض لما ذكرنا ان وجوب الزكاة في السوائم يتعلق بالصورة
والمعنى فبيعها يكون استهلاكا لها لا استبدالا ولو كان مال الزكاة دراهم أو دنانير فاقرضها بعد الحول فثوى المال
عنده ذكر في العيون عن محمد انه لا زكاة عليه لأنه لم يوجد منه الاتلاف وكذا لو كان مال الزكاة ثوبا فأعاره فهلك
لما قلنا وقالوا في عبد التجارة إذا قتله عبد خطأ فدفع به ان الثاني للتجارة لأنه عوض عن الأول قائم مقامه كأنه هو ولو
قتله عمدا وصالحه المولى من الدم على عبد أو غيره لم يكن للتجارة لان الثاني ليس بعوض عن الأول بل هو عوض
عن القصاص والقصاص ليس بمال وقالوا فيمن اشترى عصيرا للتجارة فصار خمرا ثم صار خلا انه للتجارة لان العارض
هو التخمر وأثر التخمر في زوال صفة التقوم لا غير وقد عادت الصفة بالتخلل فصار مالا متقوما كما كان وكذلك قالوا في
الشاة إذا ماتت فدبغ جلدها ان جلدها يكون للتجارة لما قلنا ولو باع السائمة بعد وجوب الزكاة فيها فإن كان المصدق
حاضرا ينظر إليها فهو بالخيار ان شاء أخذ قيمة الواجب من البائع وتم البيع في الكل وان شاء أخذ الواجب من
العين المشتراة ويبطل البيع في القدر المأخوذ وان لم يكن حاضرا وقت البيع فحضر بعد البيع والتفرق عن المجلس
فإنه لا يأخذ من المشترى ولكنه يأخذ قيمة الواجب من البائع وإنما كان كذلك لان بيع السائمة بعد وجوب الزكاة
فيها استهلاك لها لما بينا الا ان معنى الاستهلاك بإزالة الملك قبل الافتراق عن المجلس ثبت بالاجتهاد إذ المسألة
اجتهادية مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم فللساعي أن يأخذ بأي القولين أفضى اجتهاده إليه فان أفضى اجتهاده
إلى زوال الملك بنفس البيع أخذ قيمة الواجب منه لحصول الاستهلاك وتم البيع في الكل إذ لم يستحق شئ من المبيع
وان أفضى اجتهاده إلى عدم الزوال أخذ الواجب من غير المشترى كما قبل البيع ويبطل البيع في القدر المأخوذ كأنه
استحق هذا القدر من المبيع فاما بعد الافتراق فقد تأكد زوال الملك لخروجه عن محل الاجتهاد فتأكد الاستهلاك
فصار الواجب دينا في ذمته فهو الفرق وهل يشترط نقل الماشية من موضعها مع افتراق العاقدين بأنفسهما لم
يشترط ذلك في ظاهر الرواية وشرطه الكرخي وقال إن حضر المصدق قبل النقل فله الخيار وكذا روى ابن سماعة
عن محمد ولو باع طعاما وجب فيه العشر فالمصدق بالخيار ان شاء أخذ من البائع وان شاء أخذ من المشترى سواء
حضر قبل الافتراق أو بعده بخلاف الزكاة ووجه الفرق أن تعلق العشر بالعين آكد من تعلق الزكاة بها ألا ترى
ان العشر لا يعتبر فيه المالك بخلاف الزكاة ولو مات من عليه العشر قبل أدائه من غير وصية يؤخذ من تركته
بخلاف الزكاة والله أعلم وهذا الذي ذكرنا ان الواجب أداء جزء من النصاب من حيث المعنى أو من حيث الصورة
والمعنى مذهب أصحابنا رحمهم الله فاما عند الشافعي فالواجب أداء عين المنصوص عليه وينبنى عليه ان دفع القيم
والابدال في باب الزكاة والعشر والخراج وصدقة الفطر والنذور والكفارات جائز عندنا وعنده لا يجوز الا أداء
المنصوص عليه واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخمس من الإبل السائمة شاة وقوله في أربعين شاة شاة
وكل ذلك بيان لمجمل كتاب الله تعالى وآتوا الزكاة إذ ليس فيه بيان الزكاة فبينه النبي صلى الله عليه وسلم والتحق
البيان بمجمل الكتاب فصار كان الله تعالى قال وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة وفى خمس من الإبل شاة
فصارت الشاة واجبة للأداء بالنص ولا يجوز الاشتغال بالتعليل لأنه يبطل حكم النص ولهذا لا يجوز إقامة السجود
على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والانف والتعليل فيه بمعنى الخضوع لما ذكرنا كذا هذا وصار كالهدايا
والضحايا وجواز أداء البعير عن خمس من الإبل عندي باعتبار النص وهو قوله صلى الله عليه وسلم خذ من الإبل
الإبل الا ان عند قلة الإبل أوجب من خلاف الجنس تيسيرا على أرباب الأموال فإذا سمحت نفسه بأداء بعير من
الخمس فقد ترك هذا التيسير فجاز بالنص لا بالتعليل ولنا في المسألة طريقان أحدهما طريق أبي حنيفة والثاني
طريق أبى يوسف ومحمد أما طريق أبي حنيفة فهو ان الواجب أداء جزء من النصاب من حيث المعنى وهو المالية
25

وأداء القيمة مثل أداء الجزء من النصاب من حيث إنه مال وبيان كون الواجب أداء جزء من النصاب ما ذكرنا
في مسألة التفريط والدليل على أن الجزء من النصاب واجب من حيث إنه مال ان تعلق الواجب بالجزء من
النصاب للتيسير ليبقى الواجب ببقائه ويسقط بهلاكه ومعنى التيسير إنما يتحقق ان لو تعين الجزء من النصاب للوجوب
من حيث هو مال إذ لو تعلق الوجوب بغير الجزء لبقيت الشركة في النصاب للفقراء وفيه من العسر والمشقة مالا يخفى
خصوصا إذا كان النصاب من نفائس الأموال نحو الجواري الحسان والأفراس الفارهة للتجارة ونحوها ولا
كذلك إذا كان التعلق به من حيث هو مال لأنه حينئذ كان الاختيار إلى رب المال فان رأى أداء الجزء إليه
أيسر أدى الجزء وان رأى أداء غيره أيسر مال إليه فيحصل معنى اليسر وبه تبين ان ذكر الشاة في الحديث
لتقدير المالية لا لتعلق الحكم به وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه رأى في إبل الصدقة
ناقة كوماء فغضب على المصدق وقال ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس فقال أخذتها ببعيرين من إبل
الصدقة وفى رواية ارتجعتها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ البعير ببعيرين يكون باعتبار
القيمة فدل على صحة مذهبنا وأما طريق أبى يوسف ومحمد فهو ان الواجب عين ما ورد به النص وهو أداء
ربع العشر في مال التجارة وأداء المنصوص عليه في السوائم صورة ومعنى غير معقول المعنى بل هو تعبد محض
حتى أنه سبحانه وتعالى لو أمرنا باتلافه حقا له أو سبيه لفعلنا ولم نعدل عن المنصوص عليه إلى غيره غير أن الله تعالى لما
أمر بصرفه إلى عباده المحتاجين كفاية لهم وكفايتهم متعلقة بمطلق المال صار وجوب الصرف إليهم معقول المعنى وهو
الكفاية التي تحصل بمطلق المال فصار معلولا بمطلق المال وكان أمره عز وجل أرباب الأموال بالصرف إلى الفقير
اعلاما له أنه أذن لهم بنقل حقه الثابت في المنصوص عليه إلى مطلق المال كمن له على رجل حنطة ولرجل آخر على
صاحب الدين دراهم فأمر من له الحنطة من عليه الحنطة بأن يقضى دين الدراهم من الذي له عليه وهو الحنطة كان
ذلك اذنا منه إياه بنقل حقه إلى الدراهم بأن يستبدل الحنطة بالدراهم وجعل المأمور بالأداء كأنه أدى عين الحق إلى
من له الحق ثم استبدل ذلك وصرف إلى الآخر ما أمر بالصرف إليه فصار ما وصل إلى الفقير معلولا بمطلق المال
سواء كان المنصوص عليه أو غيره جزأ من النصاب أو غيره وأداء القيمة أداء مال مطلق مقدر بقيمة المنصوص عليه
بنية الزكاة فيجزئه كما لو أدى واحدا من خمس من الإبل بخلاف السجود على الخد والذقن لان معنى القربة فاتت
أصلا ولهذا لا ينتقل به ولا يصار إليه عند العجز وما ليس بقربة لا يقوم مقام القربة وبخلاف الهدايا والضحايا
لان الواجب فيها إراقة الدم حتى لو هلك بعد الذبح قبل التصدق لا يلزمه شئ وإراقة الدم ليس بمال فلا يقوم المال
مقامه والله أعلم وأما السوائم من الإبل والبقر والغنم أما نصاب الإبل فليس فيما دون خمس من الإبل زكاة وفى
الخمس شاة وفى العشر شاتان وفى خمسة عشر ثلاث شياه وفى عشرين أربع شياه وفى خمس وعشرين بنت مخاض
وفى ست وثلاثين بنت لبون وفى ست وأربعين حقة وفى احدى وستين جذعة وهي أقصى سن لها مدخل في الزكاة
والأصل فيه ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه فكتبه أبو بكر
لانس وكان فيه وفى أربع وعشرين فما دونها الغنم في كل خمس ذود شاة فإذا كانت خمسا وعشرين إلى خمس
وثلاثين ففيها بنت مخاض فإذا كانت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون فإذا كانت ستا وأربعين إلى
ستين ففيها حقة فإذا كانت احدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا كانت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا
لبون فإذا كانت احدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان ولا خلاف في هذه الجملة الا ما روى عن علي رضي الله عنه
أنه قال في خمس وعشرين خمس شياه وفى ست وعشرين بنت مخاض وهذه الرواية لا تكاد تثبت عن علي
رضي الله عنه لأنها مخالفة للأحاديث المشهورة منها ما روينا من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لأبي
بكر الصديق رضي الله عنه ومنها كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم وغير ذلك من الأحاديث المشهورة ولأنها مخالفة
لأصول الزكوات في السوائم لان فيها موالاة بين واجبين لا وقص بينهما والأصل فيها أن يكون بين الفريضتين وقص
26

وهذا دليل عدم الثبوت وقد حكى عن سفيان الثوري أنه قال كان علي رضي الله عنه أفقه من أن يقول مثل هذا
إنما هو غلط وقع من رجال علي رضي الله عنه أراد بذلك ان الراوي يجوز أن يكون سمعه يقول في ست وعشرين
بنت مخاض وفى خمس وعشرين خمس من الغنم قيمة بنت مخاض فجمع بينهما واختلف العلماء في الزيادة على مائة
وعشرين فقال أصحابنا إذا زادت الإبل على هذا العدد تستأنف الفريضة ويدار الحساب على الخمسينان في
النصاب وعلى الحقاق في الواجب لكن بشرط عود ما قبله من الواجبات والأوقاص بقدر ما يدخل فيه وبيان ذلك
إذا زادت الإبل على مائة وعشرين فلا شئ في الزيادة حتى تبلغ خمسا فيكون فيها شاة وحقتان وفى العشر شاتان
وحقتان وفى خمسة عشر ثلاث شياه وحقتان وفى عشرين أربع شياه وحقتان وفى خمس وعشرين بنت مخاض
وحقتان إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق في كل خمسين حقة ثم يستأنف الفريضة فلا شئ في الزيادة حتى تبلغ خمسا
فيكون فيها شاة وثلاث حقاق وفى العشر شاتان وثلاث حقاق وفى خمس عشرة ثلاث شياه وثلاث حقاق وفى
عشرين أربع شياه وثلاث حقاق فإذا بلغت مائة وخمسا وسبعين ففيها بنت مخاض وثلاث حقاق فإذا بلغت
مائة وستة وثمانين ففيها بنت لبون وثلاث حقاق إلى مائة وستة وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين فان شاء أدى
منها أربع حقاق من كل خمسين حقة وان شاء أدى خمس بنات لبون من كل أربعين بنت لبون ثم يستأنف الفريضة
أبدا في كل خمسين كما استؤنفت من مائة وخمسين إلى مائتين فيدخل فيها بنت مخاض وبنت لبون وحقة مع
الشياه هذا قول أصحابنا وقال مالك إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة لا تجب في الزيادة شئ إلى تسعة بل
يجعل تسعة عفوا حتى تبلغ مائة وثلاثين وكذا إذا بلغت مائة وثلاثين فلا شئ في الزيادة إلى تسعة وثلاثين ويجعل كل
تسعة عفوا وتجب في كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة فيدار النصاب على الخمسينات والأربعينات
والواجب على الحقاق وبنات لبون فيجب في مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون لأنها مرة خمسون ومرتين أربعون
وفى مائة وأربعين حقتان وبنت لبون وفى مائة وخمسين ثلاث حقاق وفى مائة وستين أربع بنات لبون وفى مائة
وسبعين حقة وثلاث بنات لبون وفى مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون وفى مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون إلى
مائتين فان شاء أدى من المائتين أربع حقاق وان شاء خمس بنات لبون وقال الشافعي مثل قول مالك انه يدار
الحساب على الخمسينات والأربعينات في النصب وعلى الحقاق وبنات اللبون في الواجب وإنما خالفه في فصل
واحد وهو أنه قال إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون احتجا بما روى عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقات وقرنه بقراب سيفه ولم يخرجه إلى عماله
حتى قبض ثم عمل به أبو بكر وعمر حتى قبضا وكان فيه إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون
وفى كل خمسين حقة غير أن مالكا قال لفظ الزيادة إنما تتناول زيادة يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها وذلك لا يكون
فيما دون العشرة والشافعي قال إن النبي صلى الله عليه وسلم علق هذا الحكم بنفس الزيادة وذلك يحصل بزيادة
الواحدة فعندهما يوجب في كل أربعين بنت لبون وهذه الواحدة لتعيين الواجب بها فلا يكون لها حظ من الواجب
ثم أعدل الأسنان بنت لبون والحقة فان أدناها بنت مخاض وأعلاها الجذعة فالأعدل هو المتوسط ولنا ما روى
عن قيس بن سعد أنه قال قلت لأبي بكر بن عمرو بن حزم اخرج إلى كتاب الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعمرو بن حزم فأخرج كتابا في ورقة وفيه فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة
فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود شاة وروى هذا المذهب عن علي وابن مسعود رضي الله عنه
ما وهذا باب لا يعرف بالاجتهاد فيدل على سماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روى عن علي
رضي الله عنه أنه قال ما عندنا شئ نقرأه الا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة فيها أسنان الإبل أخذتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن نخالفها وروى أنه أنفذها إلى عثمان فقال له مر سعاتك فليعملوا بها فقال
لا حاجة لنا فيها معنا مثلها وما هو خير منها فقد وافق عليا رضي الله عنهما ولان وجوب الحقتين في مائة وعشرين
27

ثابت باتفاق الاخبار واجماع الأمة فلا يجوز اسقاطه الا بمثله وبعد مائة وعشرين اختلفت الآثار فلا يجوز
اسقاط ذلك الواجب عند اختلاف الآثار بل يعمل بحديث عمرو بن حزم ويحمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما
على الزيادة الكثيرة حتى تبلغ مائتين وبه نقول إن في كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقة وأما قوله إن الواجب
في كل مال من جنسه فنعم إذا احتمل ذلك فلم قلتم ان الزيادة تحتمل الواجب من الجنس فان الزيادة لا يمكن الحاقها
بالمائة والعشرين لبقاء الحقتين فيها كما كانت ومع بقاء الحقتين فيها على حالهما لا يمكن البناء فلا تكون الزيادة مع
بقاء الحقتين بعد محتملة للايجاب من جنسه فلهذا صرنا إلى ايجاب القيمة فيها كما في الابتداء حتى أنه لما كان أمكن
البناء مع بقاء الحقتين بعد مائة وخمسة وأربعين بنينا فقلنا من بنات المخاض إلى الحقة إذا بلغت مائة وخمسين فلأنها
ثلاث مرات خمسين فيوجب من كل خمسين حقة والله أعلم
* (فصل) * وأما نصاب البقر فليس في أقل من ثلاثين بقرا زكاة وفى كل ثلاثين منها تبيع أو تبيعة ولا شئ في الزيادة
إلى تسع وثلاثين فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة والأصل فيه ما روى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وفى كل أربعين مسنة
فاما إذا زادت على الأربعين فقد اختلفت الرواية فيه ذكر في كتاب الزكاة وما زاد على الأربعين ففي
الزيادة بحساب ذلك ولم يفسر هذا الكلام وذكر في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى إذا كان له احدى
وأربعين بقرة قال أبو حنيفة عليه مسنة وربع عشر مسنة أو ثلث عشر تبيع وهذا يدل على أنه لا نصاب عنده
في الزيادة على الأربعين وانه تجب فيه الزكاة قل أو كثر بحساب ذلك وروى الحسن عن أبي حنيفة انه لا يجب في الزيادة
شئ حتى تبلغ خمسين فإذا بلغت خمسين ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة
أنه قال ليس في الزيادة شئ حتى تكون ستين فإذا كانت ستين ففيها تبيعان أو تبيعتان وهو قول أبى يوسف ومحمد
والشافعي فإذا زاد على الستين يدار الحساب على الثلاثينات والأربعينات في النصب وعلى الا تبعة والمسنات في
الواجب ويجعل تسعة بينهما عفوا بلا خلاف فيجب في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة وفى كل أربعين مسنة فإذا كانت
سبعين ففيها مسنة وتبيع وفى ثمانين مسنتان وفى تسعين ثلاثة أتبعة وفى مائة مسنة وتبيعان وفى مائة وعشرة مسنتان
وتبيع وفى مائة وعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة فإنها ثلاث مرات أربعين وأربع مرات ثلاثين
وعلى هذا الاعتبار يدار الحساب وجه رواية الأصل ان اثبات الوقص والنصاب بالرأي لا سبيل إليه وإنما طريق
معرفته النص ولا نص فيما بين الأربعين إلى الستين فلا سبيل إلى اخلاء مال الزكاة عن الزكاة فأوجبنا فيما زاد
على الأربعين بحساب ما سبق وجه رواية الحسن ان الأوقاص في البقر تسع تسع بدليل ما قبل الأربعين وما بعد
الستين فكذلك فيما بين ذلك لأنه ملحق بما قبله أو بما بعده فتجعل التسعة عفوا فإذا بلغت خمسين ففيها مسنة وربع
مسنة أو ثلث تبيع لان الزيادة عشرة وهي ثلث ثلاثين وربع أربعين وجه رواية أسد بن عمرو وهي أعدل
الرويات ما روى في حديث معاذ رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لا تأخذ من أوقاص البقر
شيئا وفسر معاذ الوقص بما بين الأربعين إلى الستين حتى قيل له ما تقول فيما بين الأربعين إلى الستين فقال تلك
الأوقاص لا شئ فيها ولان مبنى زكاة السائمة على أنه لا يجب فيها الأشقاص دفعا للضرر عن أرباب الأموال
ولهذا وجب في الإبل عند قلة العدد من خلاف الجنس تحرزا عن ايجاب الشقص فكذلك في زكاة البقر لا يجوز
ايجاب الشقص والله أعلم
* (فصل) * وأما نصاب الغنم فليس في أقل من أربعين من الغنم زكاة فإذا كانت أربعين ففيها شاة إلى مائة
وعشرين فإذا كانت مائة واحدى وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى
أربعمائة فإذا كانت أربعمائة ففيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة وهذا قول عامة العلماء وقال الحسن بن حي إذا
زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه وفى أربعمائة خمس شياه والصحيح قول العامة لما روى في
28

حديث أنس ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له كتاب الصدقات الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيه وفى أربعين من الغنم شاة وفى مائة وواحدة وعشرين شاتان وفى مائتين وواحدة ثلاث شياه إلى أربعمائة
ففيها أربع شياه وطريق معرفة النصب التوقيف دون الرأي والاجتهاد والله أعلم هذا الذي ذكرنا إذا كانت
السوائم لواحد فاما إذا كانت مشتركة بين اثنين فقد اختلف فيه قال أصحابنا انه يعتبر في حال الشركة ما يعتبر في حال
الانفراد وهو كمال النصاب في حق كل واحد منهما فإن كان نصيب كل واحد منهما يبلغ نصابا تجب الزكاة والا فلا وقال
الشافعي إذا كانت أسباب الاسامة متحدة وهو أن يكون الراعي والمرعى والماء والمراح والكلب واحدا والشريكان
من أهل وجوب الزكاة عليهما يجعل مالهما كمال واحد وتجب عليهما الزكاة وإن كان كل واحد منهما لو أنفرد لا تجب
عليه واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
وما كان بين خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الجمع والتفريق حيث نهى عن
جمع المتفرق وتفريق المجتمع وفى اعتبار حال الجمع بحال الانفراد في اشتراط النصاب في حق كل واحد من الشريكين
ابطال معنى الجمع وتفريق المجتمع (ولنا) ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس في سائمة المرء المسلم
إذا كانت أقل من أربعين صدقة نفى وجوب الزكاة في أقل من أربعين مطلقا عن حال الشركة والانفراد فدل ان
كمال النصاب في حق كل واحد منهما شرط الوجوب وأما الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين متفرق
ودليلنا أن المراد منه التفرق في الملك لا في المكان لاجماعنا على أن النصاب الواحد إذا كان في مكانين تجب الزكاة
فيه فكان المراد منه التفرق في الملك ومعناه إذا كان الملك متفرقا لا يجمع فيجعل كأنه لواحد لأجل الصدقة كخمس
من الإبل بين اثنين أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم حال عليهما الحول وأراد المصدق أن يأخذ منها الصدقة
ويجمع بين الملكين ويجعلهما كملك واحد ليس له ذلك وكثمانين من الغنم بين اثنين حال عليهما الحول انه يجب فيها
شاتان على كل واحد منهما شاة ولو أراد أن يجمعا بين الملكين فيجعلاهما ملكا واحدا خشية الصدقة فيعطيا المصدق
شاة واحدة ليس لهما ذلك لتفرق ملكيهما فلا يملكان الجمع لأجل الزكاة وقوله ولا يفرق بين مجتمع أي في الملك كرجل
له ثمانون من الغنم في مرعتين مختلفتين انه يجب عليه شاة واحدة ولو أراد المصدق أن يفرق المجتمع فيجعلها كأنها
لرجلين فيأخذ منها شاتين ليس له ذلك لان الملك مجتمع فلا يملك تفريقه وكذا لو كان له أربعون من الغنم في مرعتين
مختلفتين تجب عليه الزكاة لان الملك مجتمع فلا يجعل كالمتفرقين في الملك خشية الصدقة أو يحتمل ما قلنا فيحمل
عليه عملا بالدليلين بقدر الامكان وبيان هذه الجملة إذا كان خمس من الإبل بين اثنين حال عليهما الحول لا زكاة فيها
على أحدهما عندنا لان نصابه ناقص وعنده يجب عليهما شاة ولو كانت الإبل عشرا فعلى كل واحد منهما
شاة بلا خلاف لكمال نصاب كل واحد منهما وكذا لو كانت خمسة عشر عندنا وعنده ثلاث شياه ولو كانت
عشرين فعلى كل واحد منهما شاتان لان نصاب كل واحد منهما كامل ولو كانت خمسا وعشرين فكذلك عندنا
وعنده يجب عليهما بنت مخاض ولو كان النصاب ثلاثين من البقر فلا زكاة فيه عندنا وعنده يجب فيها تبيع
عليهما ولو كانت ستين ففيها تبيعان على كل واحد منهما تبيع بلا خلاف وكذلك أربعون من الغنم بين اثنين
لا شئ عليهما عندنا وعنده شاة واحدة عليهما ولو كانت ثمانين فعلى كل واحد منهما شاة عندنا وعنده عليهما
شاة واحدة ولو كان بينه وبين رجل شاة وبينه وبين رجل آخر تمام ثمانين وذلك تسعة وسبعون شاة ذكر
القدوري في شرحه مختصر الكرخي ان على قول أبى يوسف عليه الزكاة وعلى قول زفر لا زكاة عليه وذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان على قول أبي حنيفة ومحمد وزفر لا زكاة عليه بخلاف ما إذا كان
الثمانون بينه وبين رجل واحد وفى قول أبى يوسف عليه الزكاة كما إذا كان الثمانون بينه وبين رجل واحد وجه
قول من قال بالوجوب ان الزكاة تجب عند كمال النصاب وفى ملكه نصاب كامل فتجب فيه الزكاة كما لو كانت
مشتركة بينه وبين رجل واحد وجه قول من قال لا يجب انه لو قسم لا يصيبه نصاب كامل لأنه لا يملك من شاة
29

واحدة الا نصفها فلا يكمل النصاب فلا تجب الزكاة وكذلك ستون من البقر أو عشر من الإبل إذا كانت مشتركة
على الوجه الذي وصفنا فهو على ما ذكرنا من الاختلاف وكل جواب عرفته في السوائم المشتركة فهو الجواب في
الذهب والفضة وأموال التجارة وقد ذكرنا فيما تقدم وذكر الطحاوي وكذلك الزروع وهذا محمول على مذهب أبي
يوسف ومحمد لان النصاب عندهما شرط لوجوب العشر وذلك خمسة أوسق فاما على مذهب أبي حنيفة
لا يستقيم لان النصاب ليس بشرط لوجوب العشر بل يجب في القليل والكثير ثم إذا حضر المصدق بعد تمام الحول
على المال المشترك بينهما فإنه يأخذ الصدقة منه إذا وجد فيه واجبا على الاختلاف ولا ينتظر القسمة لان
اشتراكهما على علمهما يوجب الزكاة في المال المشترك وان المصدق لا يتميز له المال فيكون أذن من كل واحد
منهما بأخذ الزكاة من ماله دلالة ثم إذا أخذ ينظر إن كان المأخوذ حصة كل واحد منهما لا غير بأن كان المال بينهما
على السوية فلا تراجع بينهما لان ذلك القدر كان واجبا على كل واحد منهما بالسوية وإن كانت الشركة بينهما على
التفاوت فاخذ من أحدهما زيادة لأجل صاحبه فإنه يرجع على صاحبه بذلك القدر وبيان ذلك إذا كان ثمانون
من الغنم بين رجلين فأخذ المصدق منها شاتين فلا تراجع ههنا لان الواجب على كل واحد منهما بالسوية وهو شاة
فلم يأخذ من كل واحد منهما الا قدر الواجب عليه فليس له أن يرجع بشئ ولو كانت الثمانون بينهما أثلاثا يجب فيها
شاة واحدة على صاحب الثلثين لكمال نصابه وزيادة ولا شئ على صاحب الثلث لنقصان نصابه فإذا حضر المصدق
وأخذ من عرضها شاة واحدة يرجع صاحب الثلث على صاحب الثلثين بثلث قيمة الشاة لان كل شاة بينهما
أثلاثا فكانت الشاة المأخوذة بينهما أثلاثا فقد أخذ المصدق من نصيب صاحب الثلث ثلث شاة لأجل صاحب
الثلثين فكان له أن يرجع بقيمة الثلث وكذلك إذا كان مائة وعشرون من الغنم بين رجلين لأحدهما ثلثاها وللآخر
ثلثها ووجب على كل واحد منهما شاة فجاء المصدق وأخذ من عرضها شاتين كان لصاحب الثلثين أن يرجع على
صاحب الثلث بقيمة ثلث شاة لان كل شاة بينهما أثلاثا ثلثاها لصاحب الثمانين والثلث لصاحب الأربعين
فكانت الشاتان المأخوذتان بينهما أثلاثا لصاحب الثلثين شاة وثلث شاة ولصاحب الثلث ثلثا شاة والواجب عليه
شاة كاملة فاخذ المصدق من نصيب صاحب الثلثين شاة وثلث شاة ومن نصيب صاحب الثلث ثلثي شاة فقد صار
آخذا من نصيب صاحب الثلثين ثلث شاة لأجل زكاة صاحب الثلث فيرجع صاحب الثلثين على صاحب
الثلث بقيمة ثلث شاة وهذا والله أعلم معنى قوله صلى الله عليه وسلم وما كان بين الخليطين فإنهما يتراجعان بالسوية
* (فصل) * وأما صفة نصاب السائمة فله صفات منها أن يكون معدا للاسامة وهو أن يسميها للدر والنسل لما
ذكرنا ان مال الزكاة هو المال النامي وهو المعد للاستنماء والنماء في الحيوان بالاسامة إذ بها يحصل النسل فيزداد
المال فان أسيمت للحمل أو الركوب أو اللحم فلا زكاة فيها ولو أسيمت للبيع والتجارة ففيها زكاة مال التجارة
لا زكاة السائمة ثم السائمة هي الراعية التي تكتفي بالرعي عن العلف ويمونها ذلك ولا تحتاج إلى أن تعلف فإن كانت
تسام في بعض السنة وتعلف وتمان في البعض يعتبر فيه الغالب لان للأكثر حكم الكل ألا ترى ان أهل اللغة
لا يمنعون من اطلاق اسم السائمة على ما تعلف زمانا قليلا من السنة ولان وجوب الزكاة فيها لحصول معنى النماء
وقلة المؤنة لان عند ذلك يتيسر الأداء فيحصل الأداء عن طيب نفس وهذا المعنى يحصل إذا أسيمت في أكثر
السنة ومنها أن يكون الجنس فيه واحدا من الإبل والبقر والغنم سواء اتفق النوع والصفة أو اختلفا فتجب الزكاة
عند كمال النصاب من كل جنس من السوائم وسواء كانت كلها ذكورا أو إناثا أو مختلطة وسواء كانت من نوع واحد
أو أنواع مختلفة كالعراب والبخاتي في الإبل والجواميس في البقر والضأن والمعز في الغنم لان الشرع ورد بنصابها
باسم الإبل والبقر والغنم فاسم الجنس يتناول جميع الأنواع بأي صفة كانت كاسم الحيوان وغير ذلك وسواء كان
متولدا من الأهلي أو من أهلي ووحشي بعد إن كان الام أهليا كالمتولد من الشاة والظبي إذا كان أمه شاة
والمتولد من البقر الأهلي والوحشي إذا كان أمه أهلية فتجب فيه الزكاة ويكمل به النصاب عندنا وعند الشافعي
30

لا زكاة فيه وجه قوله إن الشرع ورد باسم الشاة بقوله في أربعين شاة شاة وهذا وإن كان شاة بالنسبة إلى الام
فليس بشاة بالنسبة إلى الفحل فلا يكون شاة على الاطلاق فلا يتناوله النص (ولنا) ان جانب الام راجح بدليل
ان الولد يتبع الام في الرق والحرية ولما نذكر في كتاب العتاق إن شاء الله تعالى ومنها السن وهو أن تكون كلها مسان
أو بعضها فإن كان كلها صغارا فصلانا أو حملانا أو عجاجيل فلا زكاة فيها وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وكان أبو حنيفة
يقول أولا يجب فيها ما يجب في الكبار وبه أخذ زفر ومالك ثم رجع وقال يجب فيها واحدة منها وبه أخذ أبو
يوسف والشافعي ثم رجع وقال لا يجب فيها شئ واستقر عليه وبه أخذ محمد واختلفت الرواية عن أبي يوسف في زكاة
الفصلان في رواية قال لا زكاة فيها حتى تبلغ عددا لو كانت كبارا تجب فيها واحدة منها وهو خمسة وعشرون وفى
رواية قال في الخمس خمس فصيل وفى العشر خمسا فصيل وفى خمسة عشر ثلاثة أخماس فصيل وفى عشرين أربعة
أخماس فصيل وفى خمس وعشرين واحدة منها وفى رواية قال في الخمس ينظر إلى قيمة شاة وسط والى قيمة خمس
فصيل فيجب أقلهما وفى العشر ينظر إلى قيمة شاتين والى قيمة خمس فصيل فيجب أقلهما وفى خمسة عشر ينظر
إلى قيمة ثلاث شياه والى قيمة ثلاثة أخماس فصيل فيجب أقلهما وفى عشرين ينظر إلى قيمة أربعة شياه والى قيمة
أربعة أخماس فصيل فيجب أقلهما وفى خمس وعشرين يجب واحدة منها وعلى رواياته كلها قال لا تجب في الزيادة
على خمس وعشرين شئ حتى تبلغ العدد الذي لو كانت كبارا يجب فيها اثنان وهو ستة وسبعون ثم لا يجب فيها شئ
حتى تبلغ العدد الذي لو كانت كبارا يجب فيها ثلاثة وهو مائة وخمسة وأربعون واحتج زفر بعموم قول النبي صلى الله
عليه وسلم في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض وقوله في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة من غير فصل بين الكبار
والصغار وبه تبين ان المراد من الواجب في قوله في خمس من الإبل شاة وفى قوله في أربعين شاة شاة هو الكبيرة
لا الصغيرة ولأبي يوسف انه لابد من الايجاب في الصغار لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة وفى
أربعين شاة شاة لكن لا سبيل إلى ايجاب المسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم للسعاة إياكم وكرائم أموال الناس
وقوله لا تأخذوا من حرزات الأموال ولكن خذوا من حواشيها وأخذ الكبار من الصغار أخذ من كرائم الأموال
وحرزاتها وأنه منهى ولان مبنى الزكاة على النظر من الجانبين جانب الملاك وجانب الفقراء الا ترى ان الواجب هو
الوسط وما كان ذلك الامر اعانه الجانبين وفى ايجاب المسنة اضرار بالملاك لان قيمتها قد تزيد على قيمة النصاب
وفيه اجحاف بأرباب الأموال وفى نفى الوجوب رأسا اضرار بالفقراء فكان العدل في ايجاب واحدة منها وقد روى
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لو منعوني عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم
والعناق هي الأنثى الصغيرة من أولاد المعز فدل ان أخذ الصغار زكاة كان أمرا ظاهرا في زمن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولأبي حنيفة ومحمد ان تنصيب النصاب بالرأي ممتنع وإنما يعرف بالنص والنص إنما ورد باسم الإبل والبقر
والغنم وهذه الأسامي لا تتناول الفصلان والحملان والعجاجيل فلم يثبت كونها نصابا وعن أبي بن كعب أنه قال وكان
مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهدي ان لا آخذ من راضع اللبن شيئا واما قول الصديق رضي الله عنه لو
منعوني عناقا فقد روى عنه أنه قال لو منعوني عقالا وهو صدقة عام أو الحبل الذي يعقل به الصدقة فتعارضت الرواية
فيه فلم يكن حجة ولئن ثبت فهو كلام تمثيل لا تحقيق أي لو وجبت هذه ومنعوها لقاتلتهم واما صورة هذه المسألة فقد
تكلم المشايخ فيها لأنها مشكلة إذ الزكاة لا تجب قبل تمام الحول وبعد تمامه لا يبقى اسم الفصيل والحمل والعجول
بل تصير مسنة قال بعضهم الخلاف في أن الحول هل ينعقد عليها وهي صغارا ويعتبر انعقاد الحول عليها إذا كبرت
وزالت صفة الصغر عنها وقال بعضهم الخلاف فيما إذا كان له نصاب من النوق فمضى عليها ستة أشهر أو أكثر
فولدت أولادا ثم ماتت الأمهات وتم الحول على الأولاد وهي صغار هل تجب الزكاة في الأولاد أم لا وعلى هذا
الاختلاف إذا كان له مسنات فاستفاد في خلال الحول صغارا ثم هلكت المسنات وبقى المستفاد انه هل تجب الزكاة
في المستفاد فهو على ما ذكرنا والى هذا أشار محمد رحمه الله تعالى في الكتاب فيمن كان له أربعون حملا وواحدة مسنة
31

فهلكت المسنة وتم الحول على الحملان انه لا يجب شئ عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف تجب واحدة منها
وعند زفر تجب مسنة هذا إذا كان الكل صغارا فاما إذا اجتمعت الصغار والكبار وكان واحد منها كبيرا فان
الصغار تعد ويجب فيها ما يجب في الكبار وهو المسنة بلا خلاف لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
وتعد صغارها وكبارها وروى أن الناس شكوا إلى عمر عامله وقالوا إنه يعد علينا السخلة ولا يأخذها منا فقال عمر
أليس يترك لكم الربى والماخض والأكيلة وفحل الغنم ثم قال عدها ولو راح بها الراعي على كفه ولا تأخذها منهم
ولأنها إذا كانت مختلطة بالكبار أو كان فيها كبير دخلت تحت اسم الإبل والبقر والغنم فتدخل تحت عموم النصوص
فيجب فيها ما يجب في الكبار ولأنه إذا كان فيها مسنة كانت تبعا للمسنة فيعتبر الأصل دون التبع فإن كان واحد
منها مسنة فهلكت المسنة بعد الحول سقطت الزكاة عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف تجب في الصغار زكاتها
بقدرها حتى لو كانت حملانا يجب عليه تسعة وثلاثون جزأ من أربعين جزأ من الحمل لان عندهما وجوب الزكاة
في الصغار لأجل الكبار تبعا لها فكانت أصلا في الزكاة فهلاكها كهلاك الجميع وعنده الصغار أصل في النصاب
والواجب واحد منها وإنما الفصل على الحمل الواحد باعتبار المسنة فهلاكها يسقط الفصل لا أصل الواجب
ولو هلكت الحملان وبقيت المسنة يؤخذ قسطها من الزكاة وذلك جزأ من أربعين جزءا من المسنة لان المسنة
كانت سبب زكاة نفسها وزكاة تسعة وثلاثين سواها لان كل الفريضة كانت فيها لكن أعطى الصغار حكم
الكبار تبعا لها فصارت الصغار كأنها كبار فإذا هلكت الحملان هلكت بقسطها من الفريضة وبقيت المسنة
بقسطها من الفريضة وهو ما ذكرنا ثم الأصل حال اختلاط الصغار بالكبار انه تجب الزكاة في الصغار تبعا للكبار
إذا كان العدد الواجب في الكبار موجودا في الصغار في قولهم جميعا فإذا لم يكن عدد الواجب في الكبار كله
موجودا في الصغار فإنها تجب بقدر الموجود على أصل أبي حنيفة ومحمد بيان ذلك إذا كان له مسنتان ومائة وتسعة
عشر حملا يجب فيها مسنتان بلا خلاف لان عدد الواجب موجود فيه وإن كان له مسنة واحدة ومائة وعشرون
حملا أخذت تلك المسنة لا غير في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف تؤخذ المسنة وحمل وكذلك ستون من
العجاجيل فيها تبيع عند أبي حنيفة ومحمد يؤخذ التبيع لا غير وعند أبي يوسف يؤخذ التبيع وعجول وكذلك
ستة وسبعون من الفصلان فيها بنت لبون انها تؤخذ فحسب في قولهما وعند أبي يوسف تؤخذ بنت لبون
وفصيل لان الوجوب لا يتعلق بالصغار أصلا عندهما وعنده يتعلق بها والله أعلم
* (فصل) * واما مقدار الواجب في السوائم فقد ذكرناه في بيان مقدار نصاب السوائم من الإبل والبقر والغنم وهو
الأسنان المعروفة من بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة والتبيع والمسنة والشاة ولابد من معرفة معاني
هذه الأسماء فبنت المخاض هي التي تمت لها سنة ودخلت في الثانية سميت بذلك لان أمها صارت حاملا بولد آخر
بعدها والماخض اسم للحامل من النوق وبنت اللبون هي التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة سميت بذلك لان
أمها حملت بعدها وولدت فصارت ذات لبن واللبون هي ذات اللبن والحقة هي التي تمت لها ثلاث سنين وطعنت
في الرابعة سميت بذلك اما لاستحقاقها الحمل والركوب أو لاستحقاقها الضراب والجذعة هي التي تمت لها أربع
سنين وطعنت في الخامسة ولا اشتقاق لاسمها والذكور منها ابن مخاض وابن لبون وحق وجذع ووراء هذه
أسنان من الإبل من الثنى والسديس والبازل لكن لا مدخل لها في باب الزكاة فلا معنى لذكر معانيها في كتب الفقه
والتبيع الذي تم له حول ودخل في الثاني والأنثى منه التبيعة والمسنة التي تمت لها سنتان وطعنت في الثالثة والذكر
منه المسن وأما الشاة فذكر في الأصل عن أبي حنيفة انه لا يجوز الا الثنى فصاعدا والثنى من الشاة هي التي دخلت
في السنة الثانية وروى الحسن عن أبي حنيفة انه يجوز الجذع من الضأن والثنى من المعز وهو قول أبى يوسف ومحمد
والشافعي وما ذكره الطحاوي يقتضى أن يجوز أخذ الجذع من الضأن والثنى من المعز لأنه قال ولا يؤخذ في
الصدقة الا ما يجوز في الأضحية والجذع من الضأن يجوز في الأضحية وقول الطحاوي يؤيد رواية الحسن والجذع
32

من الغنم الذي أتى عليه ستة أشهر وقيل الذي أتى عليه أكثر السنة ولا خلاف في أنه لا يجوز من المعز الا الثنى
وجه رواية الحسن ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما حقنا في الجذعة والثنية ولان الجذع يجوز في
الأضاحي فلان يجوز في الزكاة أولى لان الأضحية أكثر شروطا من الزكاة فالجواز هناك يدل على الجواز ههنا من
طريق الأولى وجه ظاهر الرواية ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال لا يجزئ في الزكاة الا الثنى من المعز فصاعدا
ولم يرو عن غيره من الصحابة خلافه فيكون اجماعا من الصحابة مع ما ان هذا باب لا يدرك بالاجتهاد فالظاهر أنه
قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم
* (فصل) * وأما صفة الواجب في السوائم فالواجب فيها صفات لابد من معرفتها منها الأنوثة في الواجب في الإبل
من جنسها من بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة ولا يجوز الذكور منها وهو ابن المخاض وابن اللبون
والحق والجذع الا بطريق القيمة لان الواجب فيها إنما عرف بالنص والنص ورد فيها بالإناث فلا يجوز الذكور
الا بالتقويم لان دفع القيم في باب الزكاة جائز عندنا وأما في البقر فيجوز فيها الذكر والأنثى لورود النص بذلك وهو
قول النبي صلى الله عليه وسلم وفى ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وكذا في الإبل فيما دون خمس وعشرين لان النص
ورد باسم الشاة وانها تقع على الذكر والأنثى وكذا في الغنم عندنا يجوز في زكاتها الذكر والأنثى وقال الشافعي لا يجوز
الذكر الا إذا كانت كلها ذكورا وهذا فاسد لان الشرع ورد فيها باسم الشاة قال النبي صلى الله عليه وسلم في أربعين شاة
شاة واسم الشاة يقع على الذكر والأنثى في اللغة ومنها أن يكون وسطا فليس للساعي أن يأخذ الجيد ولا الردئ الا من
طريق التقويم برضا صاحب المال لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للسعاة إياكم وحرزات أموال
الناس وخذوا من أوساطها وروى أنه قال للساعي إياك وكرائم أموال الناس وخذ من حواشيها واتق دعوة المظلوم
فإنها ليس بينها وبين الله حجاب وفى الخبر المعروف انه رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب على الساعي وقال ألم
أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس حتى قال الساعي أخذتها ببعيرين يا رسول الله ولان مبنى الزكاة على مراعاة
الجانبين وذلك في أخذ الوسط لما في أخذ الخيار من الاضرار بأرباب الأموال وفى أخذ الأرذال من الاضرار
بالفقراء فكان نظر الجانبين في أخذ الوسط والوسط هو أن يكون أدون من الا رفع وأرفع من الأدون كذا فسره محمد
في المنتقى ولا يؤخذ في الصدقة الربى بضم الراء ولا الماخض ولا الأكيلة ولا فحل الغنم قال محمد الربى التي تربى ولدها
والأكيلة التي تسمن للاكل والماخض التي في بطنها ولد ومن الناس من طعن في تفسير محمد الربى والأكيلة وزعم أن
الربى المرباة والأكيلة المأكولة وطعنه مردود عليه وكان من حقه تقليد محمد إذ هو كما كان اماما في الشريعة كان اماما
في اللغة واجب التقليد فيها كتقليد نقلة اللغة كأبي عبيد والأصمعي والخليل والكسائي والفراء وغيرهم وقد قلده
أبو عبيد القاسم بن سلام مع جلالة قدره واحتج بقوله وسئل أبو العباس ثعلب عن الغزالة فقال هي عين الشمس ثم
قال أما نرى ان محمد بن الحسن قال لغلامه يوما انظر هل دلكت الغزالة يعنى الشمس وكان ثعلب يقول محمد بن
الحسن عندنا من أقران سيبويه وكان قوله حجة في اللغة فكان على الطاعن تقليده فيها كيف وقد ذكر صاحب
الديوان ومجمل اللغة ما يوافق قوله في الربى قال صاحب الديوان الربى التي وضعت حديثا أي هي قريبة العهد
بالولادة وقال صاحب المجمل الربى الشاة التي تحبس في البيت للبن فهي مربية لا مرباة والأكيلة وان فسرت في بعض
كتب اللغة بما قاله الطاعن لكن تفسير محمد أولي وأوفق للأصول لان الأصل أن المفعول إذا ذكر بلفظ فعيل يستوى
فيه الذكر والأنثى ولا يدخل فيه هاء التأنيث يقال امرأة قتيل وجريح من غير هاء التأنيث فلو كانت الأكيلة
المأكولة لما أدخل فيها الهاء على اعتبار الأصل ولما أدخل الهاء دل انها ليست باسم للمأكولة بل لما أعد للاكل
كالأضحية انها اسم لما أعد للتضحية والله أعلم وسواء كان النصاب من نوع واحد أو من نوعين كالضأن والمعز
والبقر والجواميس والعراب والبخت أن المصدق يأخذ منها واحدة وسطا على التفسير الذي ذكرنا وقال الشافعي
في أحد قوليه يأخذ من الغالب وقال في القول الآخر انه يجمع بين قيمة شاة من الضأن وشاة من المعز وينظر في
33

نصف القيمتين فيأخذ شاة بقيمة ذلك من أي النوعين كانت وهو غير سديد لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن أخذ كرائم أموال الناس وحرزاتها وأمر بأخذ أوساطها من غير فصل بين ما إذا كان النصاب من
نوع واحد أو نوعين ولو كان له خمس من الإبل كلها بنات مخاض أو كلها بنات لبون أو حقاق أو جذاع ففيها
شاة وسط لقوله صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل شاة وإن كانت عجافا فإن كان فيها بنت مخاض وسط وأعلى
سنا منها ففيها أيضا شاة وسط وكذلك إن كانت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض وسط أنه يجب فيها بنت مخاض
وتؤخذ تلك لقوله صلى الله عليه وسلم في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض وإن كانت جيدة لا يأخذ المصدق
الجيدة ولكن يأخذ قيمة بنت مخاض وسط وان أخذ الجيدة يرد الفضل وإن كانت كلها عجافا ليس فيها بنت مخاض
ولا ما يساوى قيمتها قيمة بنت مخاض بل قيمتها دون قيمة بنت مخاض أوساط ففيها شاة بقدرها وطريق معرفة
ذلك أن تجعل بنت مخاض وسطا حكما في الباب فينظر إلى قيمتها والى قيمة أفضلها من النصاب إن كانت قيمة بنت
مخاض وسط مثلا مائة درهم وقيمة أفضلها خمسين تجب شاة قيمتها قيمة نصف شاة وكذلك لو كان التفاوت أكثر
من النصف أو أقل فكذلك يجب على قدره وهي من مسائل الزيادات تعرف هناك ثم إذا وجب الوسط في النصاب
فلم يوجد الوسط ووجد سن أفضل منه أو دونه قال محمد في الأصل ان المصدق بالخيار ان شاء أخذ قيمة الواجب
وان شاء أخذ الأدون وأخذ تمام قيمة الواجب من الدراهم وقيل ينبغي أن يكون الخيار لصاحب السائمة ان
شاء دفع القيمة وان شاء دفع الأفضل واسترد الفضل من الدراهم وان شاء دفع الأدون ودفع الفضل من الدراهم
لان دفع القيمة في باب الزكاة جائز عندنا والخيار في ذلك لصاحب المال دون المصدق وإنما يكون الخيار للمصدق
في فصل واحد وهو ما إذا أراد صاحب المال أن يدفع بعض العين لأجل الواجب فالمصدق بالخيار بين أنه لا يأخذ
وبين أنه يأخذ بأن كان الواجب بنت لبون فأراد صاحب المال أن يدفع بعض الحقة بطريق القيمة أو كان
الواجب حقة فأراد أن يدفع بعض الجذعة بطريق القيمة فالمصدق بالخيار ان شاء قبل وان شاء لم يقبل لما فيه
من تشقيص العين والشقص في الأعيان عيب فكان له أن لا يقبل فاما فيما سوى ذلك فلا خيار له وليس له أن يمتنع
من القبول والله أعلم
* (فصل) * وأما حكم الخيل فجملة الكلام فيه ان الخيل لا تخلو اما أن تكون علوفة أو سائمة فإن كانت علوفة
بأن كانت تعلف للركوب أو للحمل أو للجهاد في سبيل الله فلا زكاة فيها لأنها مشغولة بالحاجة ومال الزكاة هو
المال النامي الفاضل عن الحاجة لما بينا فيما تقدم وإن كانت تعلف للتجارة ففيها الزكاة بالاجماع لكونها مالا
ناميا فاضلا عن الحاجة لان الاعداد للتجارة دليل النماء والفضل عن الحاجة وإن كانت سائمة فإن كانت
تسام للركوب والحمل أو للجهاد والغزو فلا زكاة فيها لما بينا وإن كانت تسام للتجارة ففيها الزكاة بلا خلاف وإن كان
ت تسام للدر والنسل فإن كانت مختلطة ذكورا وإناثا فقد قال أبو حنيفة تجب الزكاة فيها قولا واحدا وصاحبها
بالخيار ان شاء أدى من كل فرس دينارا وان شاء قومها وأدى من كل مائتي درهم خمسة دراهم وإن كانت إناثا
منفردة ففيها روايتان عنه ذكرهما الطحاوي وإن كانت ذكورا منفردة ففيها روايتان عنه أيضا ذكرهما
الطحاوي في الآثار وقال أبو يوسف ومحمد لا زكاة فيها كيفما كانت وبه أخذ الشافعي احتجوا بما روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق الا أن في الرقيق صدقة الفطر وروى
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة وكل ذلك نص في الباب ولان زكاة
السائمة لابد لها من نصاب مقدر كالإبل والبقر والغنم والشرع لم يرد بتقدير النصاب في السائمة منها فلا يجب
فيها زكاة السائمة كالحمير ولأبي حنيفة ما روى عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في كل فرس
سائمة دينار وليس في الرابطة شئ وروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبى عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في صدقة
الخيل أن خير أربابها فان شاؤوا أدوا من كل فرس دينارا والا قومها وخذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم وروى
34

عن السائب بن زيد رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين أمرء أن يأخذ من
كل فرس شاتين أو عشرة دراهم ولأنها مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية فتجب فيها الزكاة كما لو كانت للتجارة
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فالمراد منها الخيل المعدة للركوب والغزو
لا للاسامة بدليل أنه فرق بين الخيل وبين الرقيق والمراد منها عبيد الخدمة الا ترى أنه أوجب فيها صدقة الفطر
وصدقة الفطر إنما تجب في عبيد الخدمة أو يحتمل ما ذكرنا فيحمل عليه عملا بالدليلين بقدر الامكان وهو الجواب
عن تعلقهم بالحديث الآخر وأما إذا كان الكل إناثا أو ذكورا فوجه رواية الوجوب الاعتبار بسائر السوائم
من الإبل والبقر والغنم أنه تجب الزكاة فيها وإن كان كلها إناثا أو ذكورا كذا ههنا والصحيح أنه لا زكاة فيها لما
ذكرنا أن مال الزكاة هو المال النامي ولا نماء فيها بالدر والنسل ولا لزيادة اللحم لان لحمها غير مأكول عنده
بخلاف الإبل والبقر والغنم لان لحمها مأكول فكان زيادة اللحم فيها بالسمن بمنزلة الزيادة بالدر والنسل والله أعلم
وأما البغال والحمير فلا شئ فيها وإن كانت سائمة لان المقصود منها الحمل والركوب عادة لا الدر والنسل لكنها
قد تسام في غير وقت الحاجة لدفع مؤنة العلف وإن كانت للتجارة تجب الزكاة فيها
* (فصل) * وأما بيان من له المطالبة بأداء الواجب في السوائم والأموال الظاهرة فالكلام فيه يقع في مواضع
في بيان من له ولاية الاخذ وفي بيان شرائط ثبوت ولاية الآخذ وفي بيان القدر المأخوذ أما الأول فمال الزكاة
نوعان ظاهر وهو المواشي والمال الذي يمر به التاجر على العاشر وباطن وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في
مواضعها أما الظاهر فللامام ونوابه وهم المصدقون من السعاة والعشار ولاية الاخذ والساعي هو الذي يسعى في
القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها والعاشر هو الذي يأخذ الصدقة من التاجر الذي يمر عليه والمصدق
اسم جنس والدليل على أن للامام ولاية الاخذ في المواشي والأموال الظاهرة الكتاب والسنة والاجماع وإشارة
الكتاب أما الكتاب فقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة والآية نزلت في الزكاة عليه عامة أهل التأويل
أمر الله عز وجل نبيه بأخذ الزكاة فدل أن للامام المطالبة بذلك والاخذ قال الله تعالى إنما الصدقات للفقراء
والمساكين والعاملين عليها فقد بين الله تعالى ذلك بيانا شافيا حيث جعل العاملين عليها حقا فلو لم يكن للامام
أن يطالب أرباب الأموال بصدقات الانعام في أماكنها وكان أداؤها إلى أرباب الأموال لم يكن لذكر العاملين وجه
واما السنة فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث المصدقين إلى احياء العرب والبلدان والآفاق لاخذ
الصدقات من الانعام والمواشي في أماكنها وعلى ذلك فعل الأئمة من بعده من الخلفاء الراشدين أبى بكر وعمر
وعثمان وعلي رضي الله عنهم حتى قال الصديق رضي الله عنه لما امتنعت العرب عن أداء الزكاة والله لو منعوني
عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاربتهم عليه وظهر العمال بذلك من بعدهم إلى يومنا
هذا وكذا المال الباطن إذا مر به التاجر على العاشر كان له أن يأخذ في الجملة لأنه لما سافر به وأخرجه من
العمران صار ظاهرا والتحق بالسوائم وهذا لان الامام إنما كان له المطالبة بزكاة المواشي في أماكنها لمكان الحماية
لان المواشي في البراري لا تصير محفوظة الا بحفظ السلطان وحمايته وهذا المعنى موجود في مال يمر به التاجر على
العاشر فكان كالسوائم وعليه اجماع الصحابة رضي الله عنهم فان عمر رضي الله عنه نصب العشار وقال لهم خذوا من
المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم
ينقل أنه أنكر عليه واحد منهم فكان اجماعا وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله بذلك وقال أخبرني
بهذا من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما المال الباطن الذي يكون في المصر فقد قال عامة مشايخنا ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم طالب بزكاته وأبو بكر وعمر طالبا وعثمان طالب زمانا ولما كثرت أموال الناس
ورأي أن في تتبعها حرجا على الأمة وفى تفتيشها ضررا بأرباب الأموال فوض الأداء إلى أربابها وذكر أمام الهدى
الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي رحمه الله وقال لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في مطالبة
35

المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة ولكن الناس كانوا يعطون ذلك ومنهم من كان يحمل إلى الأئمة فيقبلون
منه ذلك ولا يسألون أحدا عن مبلغ ماله ولا يطالبونه بذلك الا ما كان من توجيه عمر رضي الله عنه العشار إلى
الأطراف وكان ذلك منه عندنا والله أعلم عمن بعد داره وشق عليه أن يحمل صدقته إليه وقد جعل في كل طرف من
الأطراف عاشر التجار أهل الحرب والذمة وأمر أن يأخذوا من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه وكان ذلك من
عمر تخفيفا على المسلمين الا أن على الامام مطالبة أرباب الأموال العين وأموال التجارة بأداء الزكاة إليهم سوى
المواشي والانعام وأن مطالبة ذلك إلى الأئمة الا أن يأتي أحدهم إلى الامام بشئ من ذلك فيقبله ولا يتعدى عما
جرت به العادة والسنة إلى غيره وأما سلاطين زماننا الذين إذا أخذوا الصدقات والعشور والخراج لا يضعونها
مواضعها فهل تسقط هذه الحقوق عن أربابها اختلف المشايخ فيه ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني أنه يسقط ذلك
كله وإن كانوا لا يصنعونها في أهلها لان حق الاخذ لهم فيسقط عنا بأخذهم ثم إنهم ان لم يضعوها مواضعها
فالوبال عليهم وقال الشيخ أبو بكر بن سعيد ان الخراج يسقط ولا تسقط الصدقات لان الخراج يصرف إلى
المقاتلة وهم يصرفون إلى المقاتلة ويقاتلون العدو ألا ترى انه لو ظهر العدو فإنهم يقاتلون ويذبون عن حريم
المسلمين فاما الزكوات والصدقات فإنهم لا يضعونها في أهلها وقال أبو بكر الإسكاف ان جميع ذلك يسقط
ويعطى ثانيا لأنهم لا يضعونها مواضعها ولو نوى صاحب المال وقت الدفع انه يدفع إليهم ذلك عن زكاة ماله قيل
يجوز لأنهم فقراء في الحقيقة ألا ترى انهم لو أدوا ما عليهم من التبعات والمظالم صاروا فقراء وروى عن أبي مطيع
البلخي أنه قال تجوز الصدقة لعلي بن عيسى بن هامان وكان والى خراسان وإنما قال ذلك لما ذكرنا وحكى ان أميرا
ببلخ سأل واحدا من الفقهاء عن كفارة يمين لزمته فأمره بالصيام فبكى الأمير وعرف أنه يقول لو أديت ما عليك
من التبعات والمظلمة لم يبق لك شئ وقيل إن السلطان لو أخذ مالا من رجل بغير حق مصادرة فنوى صاحب المال
وقت الدفع أن يكون ذلك عن زكاة ماله وعشر أرضه يجوز ذلك والله أعلم
* (فصل) * وأما شرط ولاية الآخذ فأنواع منها وجود الحماية من الامام حتى لو ظهر أهل البغي على مدينة من
مدائن أهل العدل أو قرية من قراهم وغلبوا عليها فأخذوا صدقات سوائمهم وعشور أراضيهم وخراجها ثم ظهر
عليهم امام العدل لا يأخذ منهم ثانيا لان حق الاخذ للامام لأجل الحفظ والحماية ولم يوجد الا انهم يفتون فيما
بينهم وبين ربهم أن يؤدوا الزكاة والعشور ثانيا وسكت محمد عن ذكر الخراج واختلف مشايخنا قال بعضهم عليهم
أن يعيدوا الخراج كالزكاة والعشور وقال بعضهم ليس عليهم الإعادة لان الخراج يصرف إلى المقاتلة وأهل البغي
يقاتلون العدو ويذبون عن حريم الاسلام ومنها وجوب الزكاة لان المأخوذ زكاة والزكاة في عرف الشرع
اسم للواجب فلا بد من تقديم الوجوب فتراعى له شرائط الوجوب وهي ما ذكرنا من الملك المطلق وكمال النصاب
وكونه معدا للنماء وحولان الحول وعدم الدين المطالب به من جهة العباد وأهلية الوجوب ونحو ذلك ومنها ظهور
المال وحضور المالك حتى لو حضر المالك ولم يظهر ماله لا يطالب بزكاته لأنه إذا لم يظهر ماله لا يدخل تحت حماية
السلطان وكذا إذا ظهر المال ولم يحضر المالك ولا المأذون من جهة المالك كالمستبضع ونحوه لا يطالب بزكاته
وبيان هذه الجملة إذا جاء الساعي إلى صاحب المواشي في أماكنها يريد أخذ الصدقة فقال ليست هي مالي أو قال
لم يحل عليها الحول أو قال على دين يحيط بقيمتها فالقول قوله لأنه ينكر وجوب الزكاة ويستحلف لأنه تعلق به حق
العبد وهو مطالبة الساعي فيكون القول قوله مع يمينه ولو قال أديت إلى مصدق آخر فإن لم يكن في تلك السنة مصدق
آخر لا يصدق لظهور كذبه بيقين وإن كان في تلك السنة مصدق آخر يصدق مع اليمين سواء أتى بخط وبراءة أو لم
يأت به في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة انه لا يصدق ما لم يأت بالبراءة وجه هذه الرواية أن خبره يحتمل
الصدق والكذب فلا بد من مرجح والبراءة أمارة رجحان الصدق وجه ظاهر الرواية ان الرجحان ثابت بدون
البراءة لأنه أمين إذ له أن يدفع إلى المصدق فقد أخبر عن الدفع إلى من جعل له الدفع إليه فكان كالمودع إذا قال دفعت
36

الوديعة إلى المودع والبراءة ليست بعلامة صادقة لان الخط يشبه الخط وعلى هذا إذا أتى بالبراءة على خلاف اسم ذلك
المصدق انه يقبل قوله مع يمينه على جواب ظاهر الرواية لان البراءة ليست بشرط فكان الاتيان بها والعدم بمنزلة
واحدة وعلى رواية الحسن لا يقبل لان البراءة شرط فلا تقبل بدونها ولو قال أديت زكاتها إلى الفقراء لا يصدق
وتؤخذ منه عندنا وعند الشافعي لا تؤخذ وجه قوله إن المصدق لا يأخذ الصدقة لنفسه بل ليوصلها إلى مستحقيها وهو
الفقير وقد أوصل بنفسه ولنا ان حق الاخذ للسلطان فهو بقوله أديت بنفسي أراد ابطال حق السلطان فلا يملك ذلك
وكذلك العشر على هذا الخلاف وكذا الجواب فيمن مر على العاشر بالسوائم أو بالدراهم أو الدنانير أو بأموال التجارة
في جميع ما وصفنا الا في قوله أديت زكاتها بنفسي إلى الفقراء فيما سوى السوائم انه يقبل قوله ولا يؤخذ ثانيا لان
أداء زكاة الأموال الباطنة مفوض إلى أربابها إذا كانوا يتجرون بها في المصر فلم يتضمن الدفع بنفسه ابطال
حق أحد ولو مر على العاشر بمائة درهم وأخبر العاشر ان له مائة أخرى قد حال عليها الحول لم يأخذ منه زكاة هذه
المائة التي مر بها لان حق الاخذ لمكان الحماية وما دون النصاب قليل لا يحتاج إلى الحماية والقدر الذي في بيته لم يدخل
تحت الحماية فلا يؤخذ من أحدهما شئ ولو مر عليه بالعروض فقال هذه ليست للتجارة أو قال هذه بضاعة أو قال أنا
أجير فيها فالقول قوله مع اليمين لأنه أمين ولم يوجد ظاهر يكذبه وجميع ما ذكرنا انه يصدق فيه المسلم يصدق فيه الذمي
لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم ان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ولان الذمي
لا يفارق المسلم في هذا الباب الا في قدر المأخوذ وهو انه يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلم كما في التغلبي لأنه يؤخذ
منه بسبب الحماية وباسم الصدقة وان لم تكن صدقة حقيقة ولا يصدق الحربي في شئ من ذلك ويؤخذ منه العشر
الا في جوار يقول هن أمهات أولادي أو في غلمان يقول هم أولادي لان الاخذ منه لمكان الحماية والعصمة لما
في يده وقد وجدت فلا يمنع شئ من ذلك من الاخذ وإنما قبل قوله في الاستيلاد والنسب لان الاستيلاد والنسب كما
يثبت في دار الاسلام يثبت في دار الحرب وعلل محمد رحمه الله فقال الحربي لا يخلو اما أن يكون صادقا واما أن يكون
كاذبا فإن كان صادقا فقد صدق وإن كان كاذبا فقد صارت باقراره في الحال أم ولد له ولا عشر في أم الولد ولو قال هم
مدبرون لا يلتفت إلى قوله لان التدبير لا يصح في دار الحرب ولو مر على عاشر بمال وقال هو عندي بضاعة أو قال
أنا أجير فيه فالقول قوله ولا يعشره ولو قال هو عندي مضاربة فالقول قوله أيضا وهل يعشره كان أبو حنيفة أولا
يقول يعشره ثم رجع وقال لا يعشره وهو قول أبى يوسف ومحمد ولو مر العبد المأذون بمال من كسبه وتجارته وليس
عليه دين واستجمع شرائط وجوب الزكاة فيه فإن كان معه مولاه عشره بالاجماع وان لم يكن معه مولاه فكذلك
يعشره في قول أبي حنيفة وفى قولهما لا يعشره وقال أبو يوسف لا أعلم أنه رجع في العبد أم لا وقيل إن الصحيح ان
رجوعه في المضارب رجوع في العبد المأذون وجه قوله الأول في المضارب ان المضارب بمنزلة المالك لأنه يملك
التصرف في المال ولهذا يجوز بيعه من رب المال وجه قوله الأخير وهو قولهما ان الملك شرط الوجوب ولا ملك له فيه
ورب المال لم يأمره بأداء الزكاة لأنه لم يأذن له بعقد المضاربة الا بالتصرف في المال وقد خرج الجواب عن قوله إنه
بمنزلة المالك لأنا نقول نعم لكن في ولاية التصرف في المال لا في أداء الزكاة كالمستبضع والعبد المأذون في معنى
المضارب في هذا المعنى ولأنه لم يؤمر الا بالتصرف فكان الصحيح هو الرجوع ولا يؤخذ من المسلم إذا مر على
العاشر في السنة الا مرة واحدة لان المأخوذ منه زكاة والزكاة لا تجب في السنة الا مرة واحدة وكذلك الذمي لأنه
بقبول عقد الذمة صار له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين ولان العاشر يأخذ منه باسم الصدقة وان لم تكن صدقة
حقيقة كالتغلبي فلا يؤخذ منه في الحول الا مرة واحدة وكذلك الحربي الا إذا عشره فرجع إلى دار الحرب ثم خرج
انه يعشره ثانيا وان خرج من يومه ذلك لان الاخذ من أهل الحرب لمكان حماية ما في أيديهم من الأموال وما دام
هو في دار الاسلام فالحماية متحدة ما دام الحول باقيا فيتحد حق الاخذ وعند دخوله دار الحرب ورجوعه إلى دار
الاسلام تتجدد الحماية فيتجدد حق الاخذ وإذا مر الحربي على العاشر فلم يعلم حتى عاد إلى دار الحرب ثم رجع ثانيا
37

فعلم به لم يعشره لما مضى لان ما مضى سقط لانقطاع حق الولاية عنه بدخوله دار الحرب ولو اجتاز المسلم والحربي
ولم يعلم بهما العاشر ثم علم بهما في الحول الثاني أخذ منهما لان الوجوب قد ثبت ولم يوجد ما يسقطه ولو مر على
العاشر بالخضروات وبما لا يبقى حولا كالفاكهة ونحوها لا يعشره في قول أبي حنيفة وإن كانت قيمته مائتي
درهم وقال أبو يوسف ومحمد يعشره وجه قولهما ان هذا مال التجارة والمعتبر في مال التجارة معناه وهو ماليته
وقيمته لا عينه فإذا بلغت قيمته نصابا تجب فيه الزكاة ولهذا وجبت الزكاة فيه إذا كان يتجر فيه في المصر ولأبي
حنيفة ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس في الخضراوات صدقة والصدقة إذا أطلقت يراد بها
الزكاة الا ان ما يتجر بها في المصر صار مخصوصا بدليل أو يحمل على أنه ليس فيها صدقة تؤخذ أي ليس للامام أن
يأخذها بل صاحبها يؤديها بنفسه ولان الحول شرط وجوب الزكاة وأنها لا تبقى حولا والعاشر إنما يأخذ منها
بطريق الزكاة ولأن ولاية الاخذ بسبب الحماية وهذه الأشياء لا تفتقر إلى الحماية لان أحدا لا يقصدها ولأنها تهلك
في يد العاشر في المفازة فلا يكون أخذها مفيدا وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه تجب الزكاة على
صاحبها بالاجماع وإنما الخلاف في أنه هل للعاشر حق الاخذ وذكر الكرخي انه لا شئ فيه في قول أبي حنيفة وهذا
الاطلاق يدل على أن الوجوب مختلف فيه والله أعلم ولا يعشر مال الصبي والمجنون لأنهما ليسا من أهل وجوب
الزكاة عليهما عندهما ولو مر صبي وامرأة من بنى تغلب على العاشر فليس على الصبي شئ وعلى المرأة ما على الرجل
لان المأخوذ من بنى تغلب يسلك به مسلك الصدقات لا يفارقها الا في التضعيف والصدقة لا تؤخذ من الصبي
وتؤخذ من المرأة ولو مر على عاشر الخوارج في أرض غلبوا عليها فعشره ثم مر على عاشر أهل العدل يعشره ثانيا لأنه
بالمرور على عاشرهم ضيع حق سلطان أهل العدل وحق فقراء أهل العدل بعد دخوله تحت حماية سلطان أهل العدل
فيضمن ولو مر ذمي على العاشر بخمر للتجارة أو خنازير يأخذ عشر ثمن الخمر ولا يعشر الخنازير في ظاهر الرواية
وروى عن أبي يوسف انه يعشرهما وهو قول زفر وعند الشافعي لا يعشرهما وجه قول الشافعي أن الخمر والخنزير
ليسا بمال أصلا والعشر إنما يؤخذ من المال وجه قول زفر انهما مالان متقومان في حق أهل الذمة فالخمر عندهم
كالخل عندنا والخنزير عندهم كالشاة عندنا ولهذا كانا مضمونين على المسلم بالاتلاف وجه ظاهر الرواية وهو الفرق
بين الخمر والخنزير من وجهين أحدهما ان الخمر من ذوات الأمثال والقيمة فيما له مثل من جنسه لا يقوم مقامه فلا
يكون أخذ قيمة الخمر كاخذ عين الخمر والخنزير من ذوات القيم لا من ذوات الأمثال والقيمة فيما لا مثل له يقوم
مقامه فكان أخذ قيمته كاخذ عينه وذا لا يجوز للمسلم والثاني ان الاخذ حق للعاشر بسبب الحماية وللمسلم ولاية
حماية الخمر في الجملة الا ترى انه إذا ورث الخمر فله ولاية حمايتها عن غيره بالغصب ولو غصبها غاصب له ان يخاصمه
ويستردها منه للتخليل فله ولاية حماية خمر غيره عند وجود سبب ثبوت الولاية وهو ولاية السلطنة وليس للمسلم
ولاية حماية الخنزير رأسا حتى لو أسلم وله خنازير ليس له ان يحميها بل يسببها فلا يكون له ولاية حماية خنزير غيره
* (فصل) * واما القدر المأخوذ مما يمر به التاجر على العاشر فالمار لا يخلو اما إن كان مسلما أو ذميا أو حربيا فإن كان
مسلما يأخذ منه في أموال التجارة ربع العشر لان المأخوذ منه زكاة فيؤخذ على قدر الواجب من الزكاة في
أموال التجارة وهو ربع العشر ويوضع موضع الزكاة ويسقط عن ماله زكاة تلك السنة وإن كان ذميا يأخذ منه
نصف العشر ويؤخذ على شرائط الزكاة لكن يوضع موضع الجزية والخراج ولا تسقط عنه جزية رأسه في تلك
السنة غير نصارى بنى تغلب لان عمر رضي الله عنه صالحهم من الجزية على الصدقة المضاعفة فإذا أخذا العاشر
منهم ذلك سقطت الجزية عنهم وإن كان حربيا يأخذ منه ما يأخذونه من المسلمين فان علم أنهم يأخذون منا ربع العشر
أخذ منهم ذلك القدر وإن كان نصفا فنصف وإن كان عشرا فعشر لان ذلك ادعى لهم إلى المخالطة بدار الاسلام
فيروا محاسن الاسلام فيدعوهم ذلك إلى الاسلام فإن كان لا يعلم ذلك يأخذ منه العشر وأصله ما روينا عن عمر رضي الله عنه
كتب إلى العشار في الأطراف ان خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي
38

العشر وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم يخالفه أحد منهم فيكون اجماعا منهم على ذلك وروى أنه
قال خذوا منهم ما يأخذون من تجارنا فقيل له ان لم نعلم ما يأخذون من تجارنا فقال خذوا منهم العشر وما يؤخذ منهم
فهو في معنى الجزية والمؤنة توضع مواضع الجزية وتصرف إلى مصارفها
* (فصل) * وأما ركن الزكاة فركن الزكاة هو اخراج جزء من النصاب إلى الله تعالى وتسليم ذلك إليه يقطع المالك
يده عنه بتمليكه من الفقير وتسليمه إليه أو إلى يد من هو نائب عنه وهو المصدق والملك للفقير يثبت من الله تعالى
وصاحب المال نائب عن الله تعالى في التمليك والتسليم إلى الفقير والدليل على ذلك قوله تعالى ألم يعلموا أن الله هو
يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وقول النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة تقع في يد الرحمن قبل إن تقع
في كف الفقير وقد أمر الله تعالى الملاك بايتاء الزكاة لقوله عز وجل وآتوا الزكاة والايتاء هو التمليك ولذا سمى الله
تعالى الزكاة صدقة بقوله عز وجل إنما الصدقات للفقراء والتصدق تمليك فيصير المالك مخرجا قدر الزكاة إلى
الله تعالى بمقتضى التمليك سابقا عليه ولان الزكاة عبادة على أصلنا والعبادة اخلاص العمل بكليته لله تعالى وذلك
فيما قلنا إن عند التسليم إلى الفقير تنقطع نسبة قدر الزكاة عنه بالكلية وتصير خالصة لله تعالى ويكون معنى
القربة في الاخراج إلى الله تعالى بابطال ملكه عنه لا في التمليك من الفقير بل التمليك من الله تعالى في الحقيقة
وصاحب المال نائب عن الله تعالى غير أن عند أبي حنيفة الركن هو اخراج جزء من النصاب من حيث المعنى
دون الصورة وعندهما صورة ومعنى لكن يجوز إقامة الغير مقامه من حيث المعنى ويبطل اعتبار الصورة باذن
صاحب الحق وهو الله تعالى على ما بينا فيما تقدم وبينا اختلاف المشايخ في السوائم على قول أبي حنيفة وعلى هذا
يخرج صرف الزكاة إلى وجوه البر من بناء المساجد والرباطات والسقايات واصلاح القناطر وتكفين الموتى ودفنهم
انه لا يجوز لأنه لم يوجد التمليك أصلا وكذلك إذا اشترى بالزكاة طعاما فأطعم الفقراء غداء وعشاء ولم يدفع
عين الطعام إليهم لا يجوز لعدم التمليك وكذا لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة لأنه لم يوجد التمليك من الفقير
لعدم قبضه ولو قضى دين حي فقير ان قضى بغير أمره لم يجز لأنه لم يوجد التمليك من الفقير لعدم قبضه وإن كان
بأمره يجوز عن الزكاة لوجود التمليك من الفقير لأنه لما أمره به صار وكيلا عنه في القبض فصار كان الفقير قبض
الصدقة بنفسه وملكه من الغريم ولو أعتق عبده بنية الزكاة لا يجوز لانعدام التمليك إذ الاعتاق ليس بتمليك
بل هو اسقاط الملك وكذا لو اشترى بقدر الزكاة عبدا فاعتقه لا يجوز عن الزكاة عند عامة العلماء وقال مالك
يجوز وبه تأول قوله تعالى وفى الرقاب وهو ان يشترى بالزكاة عبدا فيعتقه ولنا أن الواجب هو التمليك والاعتاق
إزالة الملك فلم يأت بالواجب والمراد من قوله تعالى وفى الرقاب إعانة المكاتبين بالزكاة لما نذكره ولو دفع زكاته إلى
الامام أو إلى عامل الصدقة يجوز لأنه نائب عن الفقير في القبض فكان قبضه كقبض الفقير وكذا لو دفع زكاة ماله
إلى صبي فقير أو مجنون فقير وقبض له وليه أبوه أو جده أو وصيهما جاز لان الولي يملك قبض الصدقة عنه وكذا لو
قبض عنه بعض أقاربه وليس ثمة أقرب منه وهو في عياله يجوز وكذا الأجنبي الذي هو في عياله لأنه في معنى
الولي في قبض الصدقة لكونه نفعا محضا الا ترى انه يملك قبض الهبة له وكذا الملتقط إذا قبض الصدقة عن
اللقيط لأنه يملك القبض له فقد وجد تمليك الصدقة من الفقير وذكر في العيون عن أبي يوسف ان من عال يتيما
فجعل يكسوه ويطعمه وينوى به عن زكاة ماله يجوز وقال محمد ما كان من كسوة يجوز وفى الطعام لا يجوز الا ما دفع
إليه وقيل لا خلاف بينهما في الحقيقة لان مراد أبى يوسف ليس هو الاطعام على طريق الإباحة بل على وجه
التمليك ثم إن كان اليتيم عاقلا يدفع إليه وان لم يكن عاقلا يقبض عنه بطريق النيابة ثم يكسوه ويطعمه لان قبض
الولي كقبضه لو كان عاقلا ولا يجوز قبض الأجنبي للفقير البالغ العاقل الا بتوكيله لأنه لا ولاية له عليه فلا بد من
أمره كما في قبض الهبة وعلى هذا أيضا يخرج الدفع إلى عبده ومدبره وأم ولده انه لا يجوز لعدم التمليك إذ هم لا
يملكون شيئا فكان الدفع إليهم دفعا إلى نفسه ولا يدفع إلى مكاتبه لأنه عبد ما بقي عليه درهم ولان كسبه متردد
39

بين أن يكون له أو لمولاه لجواز ان يعجز نفسه ولا يدفع إلى والده وان علا ولا إلى ولده وان سفل لأنه ينتفع بملكه
فكان الدفع إليه دفعا إلى نفسه من وجه فلا يقع تمليكا مطلقا ولهذا لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه ولا يدفع
أحد الزوجين زكاته إلى الآخر وقال أبو يوسف ومحمد تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها احتجا بما روى أن امرأة
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة على زوجها عبد الله فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة ولأبي حنيفة ان أحد الزوجين ينتفع بمال
صاحبه كما ينتفع بمال نفسه عرفا وعادة فلا يتكامل معنى التمليك ولهذا لم يجز للزوج ان يدفع إلى زوجته كذا
الزوجة وتخرج هذه المسائل على أصل آخر سنذكره والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائط الركن فأنواع بعضها يرجع إلى المؤدى وبعضها يرجع إلى المؤدى وبعضها يرجع إلى
المؤدى إليه أما الذي يرجع إلى المؤدى فنية الزكاة والكلام في النية في موضعين في بيان ان النية شرط جواز أداء
الزكاة وفي بيان وقت نية الأداء اما الأول فالدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لا عمل لمن لا نية له وقوله إنما
الأعمال بالنيات ولان الزكاة عبادة مقصودة فلا تتأدى بدون النية كالصوم والصلاة ولو تصدق بجميع ماله
على فقير ولم ينو الزكاة أجزأه عن الزكاة استحسانا والقياس ان لا يجوز وجه القياس ما ذكرنا أن الزكاة عبادة
مقصودة فلا بد لها من النية وجه الاستحسان أن النية وجدت دلالة لأن الظاهر أن من عليه الزكاة
لا يتصدق بجميع ماله ويغفل عن نية الزكاة فكانت النية موجودة دلالة وعلى هذا إذا وهب جميع
النصاب من الفقير أو نوى تطوعا وروى عن أبي يوسف انه ان نوى ان يتصدق بجميع ماله فتصدق شيئا
فشيئا أجزأه عن الزكاة لما قلنا وان لم ينو أن يتصدق بجميع ماله فجعل يتصدق حتى أتى عليه ضمن الزكاة لان
الزكاة بقيت واجبة عليه بعدما تصدق ببعض المال فلا تسقط بالتصدق بالباقي ولو تصدق ببعض ماله من غير
نية الزكاة حتى لم يجزئه عن زكاة الكل فهل يجزئه عن زكاة القدر الذي تصدق به قال أبو يوسف لا يجزئه وعليه
ان يزكى الجميع وقال محمد يجزئه عن زكاة ما تصدق به ويزكى ما بقي حتى أنه لو أدى خمسة من مائتين لا ينوى
الزكاة أو نوى تطوعا لا تسقط عنه زكاة الخمسة في قول أبى يوسف وعليه زكاة الكل وعند محمد تسقط عنه
زكاة الخمسة وهو ثمن درهم ولا يسقط عنه زكاة الباقي وكذا لو أدى مائة لا ينوى الزكاة ونوى تطوعا لا تسقط
زكاة المائة وعليه ان يزكى الكل عند أبي يوسف وعند محمد يسقط عنه زكاة ما تصدق وهو درهمان ونصف
ولا يسقط عنه زكاة الباقي كذا ذكر القدوري الخلاف في شرحه مختصر الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي انه يسقط عنه زكاة القدر المؤدى ولم يذكر الخلاف وجه قول محمد اعتبار البعض بالكل وهو انه لو تصدق
بالكل لجاز عن زكاة الكل فإذا تصدق بالبعض يجوز عن زكاته لان الواجب شائع في جميع النصاب ولأبي يوسف
ان سقوط الزكاة بغير نية لزوال ملكه على وجه القربة عن المال الذي فيه الزكاة ولم يوجد ذلك في التصدق
بالبعض ولو تصدق بخمسة ينوى بجميعها الزكاة والتطوع كانت من الزكاة في قول أبى يوسف وقال محمد هي
من التطوع وجه قول محمد ان النيتين تعارضتا فلم يصح التعيين للتعارض فالتحق بالعدم فبقي التصدق بنية مطلقة
فيقع عن التطوع لأنه أدنى والأدنى متيقن به وجه قول أبى يوسف ان عند تعارض الجهتين يعمل بالأقوى وهو
الفرض كما في تعارض الدليلين انه يعمل بأقواهما ولان التعيين يعتبر في الزكاة لا في التطوع لان التطوع لا يحتاج
إلى التعيين الا ترى أن اطلاق الصدقة يقع عليه فلغا تعيينه وبقيت الزكاة متعينة فيقع عن الزكاة والمعتبر في
الدفع نية الآمر حتى لو دفع خمسة إلى رجل وأمره ان يدفعها إلى الفقير عن زكاة ماله فدفع ولم تحضره النية عند الدفع
جاز لأن النية إنما تعتبر من المؤدى والمؤدى هو الآمر في الحقيقة وإنما المأمور نائب عنه في الأداء ولهذا لو وكل
ذميا بأداء الزكاة جاز لان المؤدى في الحقيقة هو المسلم وذكر في الفتاوى عن الحسن بن زياد في رجل أعطى رجلا
دراهم ليتصدق بها تطوعا ثم نوى الآمر أن يكون ذلك من زكاة ماله ثم تصدق المأمور جاز عن زكاة مال الآمر وكذا
40

لو قال تصدق بها عن كفارة يميني ثم نوى الآمر عن زكاة ماله جاز لما ذكرنا أن الآمر هو المؤدى من حيث المعنى
وإنما المأمور نائب عنه ولو قال إن دخلت هذه الدار فلله على أن أتصدق بهذه المائة درهم ثم نوى وقت الدخول عن
زكاة ماله لا تكون زكاة لان عند الدخول وجب عليه التصدق بالنذر المتقدم أو اليمين المتقدمة وذلك لا يحتمل
الرجوع فيه بخلاف الأول ولو تصدق عن غيره بغير أمره فان تصدق بمال نفسه جازت الصدقة عن نفسه ولا تجوز
عن غيره وان أجازه ورضى به أما عدم الجواز عن غيره فلعدم التمليك منه إذ لا ملك له في المؤدى ولا يملكه بالإجازة فلا
تقع الصدقة عنه وتقع عن المتصدق لان التصدق وجد نفاذا عليه وان تصدق بمال المتصدق عنه وقف على اجازته
فان أجاز والمال قائم جاز عن الزكاة وإن كان المال هالكا جاز عن التطوع ولم يجز عن الزكاة لأنه لما تصدق عنه بغير
أمره وهلك المال صار بدله دينا في ذمته فلو جاز ذلك عن الزكاة كان أداء الدين عن الغير وانه لا يجوز والله أعلم واما
وقت النية فقد ذكر الطحاوي ولا تجزئ الزكاة عمن أخرجها الا بنية مخالطة لاخراجه إياها كما قال في باب الصلاة
وهذا إشارة إلى أنها لا تجزئ الا بنية مقارنة للأداء وعن محمد بن سلمة أنه قال إن كان وقت التصدق بحال لو سئل
عماذا يتصدق أمكنه الجواب من غير فكرة فان ذلك يكون نية منه وتجزئه كما قال في نية الصلاة والصحيح أن النية
تعتبر في أحد الوقتين اما عند الدفع واما عند التمييز هكذا روى هشام عن محمد في رجل نوى ان ما يتصدق به إلى آخر
السنة فهو عن زكاة ماله فجعل يتصدق إلى آخر السنة ولا تحضره النية قال لا تجزئه وان ميز زكاة ماله فصرها في كمه
وقال هذه من الزكاة فجعل يتصدق ولا تحضره النية قال أرجو ان تجزئه عن الزكاة لان في الأول لم توجد النية
في الوقتين وفى الثاني وجد في أحدهما وهو وقت التمييز وإنما لم تشترط في وقت الدفع عينا لان دفع الزكاة قد يقع
دفعة واحدة وقد يقع متفرقا وفى اشتراط النية عند كل دفع مع تفريق الدفع حرج والحرج مدفوع والله أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المؤدى فمنها أن يكون مالا متقوما على الاطلاق سواء كان منصوصا عليه أو لا من
جنس المال الذي وجبت فيه الزكاة أو من غير جنسه والأصل ان كل مال يجوز التصدق به تطوعا يجوز أداء الزكاة
منه ومالا فلا وهذا عندنا وعند الشافعي لا يجوز الأداء المنصوص عليه وقد مضت المسألة غير أن المؤدى يعتبر
فيه القدر والصفة في بعض الأموال وفى بعضها القدر دون الصفة وفى بعضها الصفة دون القدر وفى بعض هذه
الجملة اتفاق وفى بعضها اختلاف وجملة الكلام فيه ان مال الزكاة لا يخلو اما أن يكون عينا واما أن يكون دينا والعين
لا يخلو اما أن تكون مما لا يجرى فيه الربا كالحيوان والعروض واما أن يكون مما يجرى فيه الربا كالمكيل والموزون
فإن كان مما لا يجرى فيه الربا فإن كان من السوائم فان أدى المنصوص عليه من الشاة وبنت المخاض ونحو ذلك
يراعى فيه صفة الواجب وهو أن يكون وسطا فلا يجوز الردئ الا على طريق التقويم فبقدر قيمته وعليه التكميل
لأنه لم يؤد الواجب ولو أدى الجيد جاز لأنه أدى الواجب وزيادة وان أدى القيمة أدى قيمة الوسط فان أدى قيمة
الردئ لم يجز الا بقدر قيمته وعليه التكميل ولو أدى شاة واحدة سمينة عن شاتين وسطين تعدل قيمتها قيمة
شاتين وسطين جاز لان الحيوان ليس من أموال الربا والجودة في غير أموال الربا متقومة ألا ترى انه يجوز بيع شاة
بشاتين فبقدر الوسط يقع عن نفسه وبقدر قيمة الجودة يقع عن شاة أخرى وإن كان من عروض التجارة فان أدى
من النصاب ربع عشره يجوز كيفما كان النصاب لأنه أدى الواجب بكماله وان أدى من غير النصاب فإن كان
من جنسه يراعى فيه صفة الواجب من الجيد والوسط والردئ ولو أدى الردئ مكان الجيد والوسط لا يجوز الا
على طريق التقويم بقدره وعليه التكميل لان العروض ليست من أموال الربا حتى يجوز بيع ثوب بثوبين
فكانت الجودة فيها متقومة ولهذا الوادي ثوبا جيدا عن ثوبين رديئين يجوز وإن كان من خلاف جنسه يراعى فيه
قيمة الواجب حتى لو أدى أنقص منه لا يجوز الا بقدره وإن كان مال الزكاة مما يجرى فيه الربا من الكيلي والوزني
فان أدى ربع عشر النصاب يجوز كيفما كان لأنه أدى ما وجب عليه وان أدى من غير النصاب فلا يخلو اما إن كان
من جنس النصاب واما إن كان من خلاف جنسه فإن كان المؤدى من خلاف جنسه بأن أدى الذهب عن الفضة أو
41

الحنطة عن الشعير يراعى قيمة الواجب بالاجماع حتى لو أدى أنقص منها لا يسقط عنه كل الواجب بل يجب عليه
التكميل لان الجودة في أموال الربا متقومة عند مقابلتها بخلاف جنسها وإن كان المؤدى من جنس النصاب فقد
اختلف فيه على ثلاثة أقوال قال أبو حنيفة وأبو يوسف ان المعتبر هو القدر لا القيمة وقال زفر المعتبر هو القيمة
لا القدر وقال محمد المعتبر ما هو انفع للفقراء فإن كان اعتبار القدر أنفع فالمعتبر هو القدر كما قال أبو حنيفة وأبو
يوسف وإن كان اعتبار القيمة أنفع فالمعتبر هو القيمة كما قال زفر وبيان هذا في مسائل إذا كان له مائتا قفيز حنطة
جيدة للتجارة قيمتها مائتا درهم فحال عليها الحول فلم يؤد منها وأدى خمسة أقفزة رديئة يجوز وتسقط عنه الزكاة
في قول أبي حنيفة وأبى يوسف ويعتبر القدر لا قيمة الجودة وعند محمد وزفر عليه أن يؤدى الفضل إلى تمام قيمة
الواجب اعتبارا في حق الفقراء للقيمة عند زفر واعتبارا للأنفع عند محمد والصحيح اعتبار أبي حنيفة وأبى يوسف
لان الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها لقول النبي صلى الله عليه وسلم جيدها ورديئها
سواء الا ان محمدا يقول إن الجودة متقومة حقيقة وإنما سقط اعتبار تقومها شرعا لجريان الربا والربا اسم لمال
يستحق بالبيع ولم يوجد والجواب ان المسقط لاعتبار الجودة وهو النص مطلق فيقتضى سقوط تقومها مطلقا
الا فيما قيد بدليل ولو كان النصاب حنطة رديئة للتجارة قيمتها مائتا درهم فادى أربعة أقفزة جيدة عن خمسة أقفزة
رديئة لا يجوز الا عن أربعة أقفزة منها وعليه أن يؤدى قفيزا آخر عند أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد اعتبارا للقدر
دون القيمة عندهما واعتبارا للأنفع للفقراء عند محمد وعند زفر لا يجب عليه شئ آخر اعتبارا للقيمة عنده وعلى
هذا إذا كان له مائتا درهم جيدة حال عليها الحول فادى خمسة زيوفا جاز عند أبي حنيفة وأبى يوسف لوجود القدر
ولا يجوز عند محمد وزفر لعدم القيمة والأنفع ولو أدى أربعة دراهم جيدة عن خمسة رديئة لا يجوز الا عن أربعة
دراهم وعليه درهم آخر عند أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد وأما عند أبي حنيفة وأبى يوسف فلاعتبار القدر والقدر
ناقص وأما عند محمد فلاعتبار الأنفع للفقراء والقدر ههنا أنفع لهم وعلى أصل زفر يجوز لاعتبار القيمة ولو كان له
قلب فضة أو اناء مصوغ من فضة جيدة وزنه مائتا درهم وقيمته لجودته وصياغته ثلاثمائة فان أدى من النصاب
أدى ربع عشره وان أدى من الجنس من غير النصاب يؤدى خمسة دراهم زكاة المائتين عند أبي حنيفة وأبى
يوسف وعند محمد وزفر يؤدى زكاة ثلاثمائة درهم بناء على الأصل الذي ذكرنا وان أدى من غير جنسه يؤدى
زكاة ثلاثمائة وذلك سبعة دراهم ونصف بالاجماع لان قيمة الجودة تظهر عند المقابلة بخلاف الجنس ولو أدى
عنها خمسة زيوفا قيمتها أربعة دراهم جيدة جاز وسقطت عنه الزكاة عند أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد وزفر
عليه أن يؤدى الفضل إلى تمام قيمة الواجب وعلى هذا النذر إذا أوجب على نفسه صدقة قفيز حنطة جيدة فادى
قفيزا رديئا يخرج عن النذر في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد وزفر عليه أداء الفضل ولو أوجب على نفسه
صدقة قفيز حنطة رديئة فتصدق بنصف قفيز حنطة جيدة تبلغ قيمته قيمة قفيز حنطة رديئة لا يجوز الا عن النصف
وعليه أن يتصدق بنصف آخر في قول أصحابنا الثلاثة وفى قول زفر لا شئ عليه غيره وهذا والزكاة سواء والأصل ما
ذكرنا ولو أوجب على نفسه صدقة بشاتين فتصدق مكانهما بشاة واحدة تبلغ قيمتها شاتين جاز ويخرج عن النذر
كما في الزكاة وهذا بخلاف ما إذا أوجب على نفسه أن يهدى شاتين فاهدى مكانهما شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين انه
لا يجوز الا عن واحدة منهما وعليه شاة أخرى لان القربة هناك في نفس الإراقة لا في التمليك وإراقة دم واحد لا يقوم
مقام إراقة دمين وكذا لو أوجب على نفسه عتق رقبتين فاعتق رقبة تبلغ قيمتها قيمة رقبتين لم يجز لان القربة ثمة
ليس في التمليك بل في إزالة الرق وإزالة رق واحدة لا يقوم مقام إزالة رقين ولهذا لم يجز اعتاق رقبة واحدة وإن كانت
سمينة الا عن كفارة واحدة والله أعلم وإن كان مال الزكاة دينا فجملة الكلام فيه ان أداء العين عن العين جائز بأن
كان له مائتا درهم عين فحال عليها الحول فادى خمسة منها لأنه أداء الكامل عن الكامل فقد أدى ما وجب عليه
فيخرج عن الواجب وكذا إذا أدى العين عن الدين بأن كان له مائتا درهم دين فحال عليها الحول ووجبت فيها الزكاة
42

فادى خمسة عينا عن الدين لأنه أداء الكامل عن الناقص لأن العين مال بنفسه ومالية الدين لاعتبار تعينه في
العاقبتة وكذا العين قابل للتمليك من جميع الناس والدين لا يقبل التمليك لغير من عليه الدين وأداء الدين عن
العين لا يجوز بأن كان له على فقير خمسة دراهم وله مائتا درهم عين حال عليها الحول فتصدق بالخمسة على الفقير ناويا
عن زكاة المائتين لأنه أداء الناقص عن الكامل فلا يخرج عما عليه والحيلة في الجواز أن يتصدق عليه بخمسة
دراهم عين ينوى عن زكاة المائتين ثم بأخذها منه قضاء عن دينه فيجوز ويحل له ذلك وأما أداء الدين عن الدين
فإن كان عن دين يصير عينا لا يجوز بأن كان له على فقير خمسة دراهم دين وله على رجل آخر مائتا درهم فحال عليها
الحول فتصدق بهذه الخمسة على من عليه ناويا عن زكاة المائتين لان المائتين تصير عينا بالاستيفاء فتبين في الآخرة
ان هذا أداء الدين عن العين وانه لا يجوز لما بينا وإن كان عن دين لا يصير عينا يجوز بأن كان له على فقير مائتا
درهم دين فحال عليها الحول فوهب منه المائتين ينوى عن الزكاة لان هذا دين لا ينقلب عينا فلا يظهر في الآخرة
ان هذا أداء الدين عن العين فلا يظهر انه أداء الناقص عن الكامل فيجوز هذا إذا كان من عليه الدين فقيرا فوهب
المائتين له أو تصدق بها عليه فاما إذا كان غنيا فوهب أو تصدق فلا شك أنه سقط عنه الدين لكن هل يجوز وتسقط
عنه الزكاة أم لا يجوز وتكون زكاتها دينا عليه وذكر في الجامع أنه لا يجوز ويكون قدر الزكاة مضمونا عليه وذكر
في نوادر الزكاة انه يجوز وجه رواية الجامع ظاهر لأنه دفع الزكاة إلى الغنى مع العلم بحاله أو من غير تحر وهذا لا يجوز
بالاجماع وجه رواية النوادر ان الجواز ليس على معنى سقوط الواجب بل على امتناع الوجوب لان الوجوب
باعتبار ماليته وماليته باعتبار صيرورته عينا في العاقبة فإذا لم يصر تبين انه لم يكن مالا والزكاة لا تجب فيما ليس بمال
والله أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المؤدى إليه فأنواع منها أن يكون فقيرا فلا يجوز صرف الزكاة إلى الغنى الا أن يكون
عاملا عليها لقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين
وفى سبيل الله وابن السبيل جعل الله تعالى الصدقات للأصناف المذكورين بحرف اللام وانه للاختصاص
فيقتضى اختصاصهم باستحقاقها فلو جاز صرفها إلى غيرهم لبطل الاختصاص وهذا لا يجوز والآية خرجت
لبيان مواضع الصدقات ومصارفها ومستحقيها وهم وان اختلفت أساميهم فسبب الاستحقاق في الكل واحد
وهو الحاجة الا العاملين عليها فإنهم مع غناهم يستحقون العمالة لان السبب في حقهم العمالة لما نذكر ثم لابد من
بيان معاني هذه الأسماء اما الفقراء والمساكين فلا خلاف في أن كل واحد منهما جنس على حدة وهو الصحيح لما
نذكر واختلف أهل التأويل واللغة في معنى الفقير والمسكين وفى ان أيهما أشد حاجة وأسوأ حالا قال الحسن الفقير
الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل وهكذا ذكره الزهري وكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة وهو المروى عن ابن
عباس رضي الله عنهما وهذا يدل على أن المسكين أحوج وقال قتادة الفقير الذي به زمانة وله حاجة والمسكين المحتاج
الذي لا زمانة به وهذا يدل على أن الفقير أحوج وقيل الفقير الذي يملك شيئا يقوته والمسكين الذي لا شئ له سمى
مسكينا لما أسكنته حاجته عن التحرك فلا يقدر يبرح عن مكانه وهذا أشبه الأقاويل قال الله تعالى أو مسكينا
ذا متربة قيل في التفسير أي استتر بالتراب وحفر الأرض إلى عانته وقال الشاعر
أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد
سماه فقيرا مع أن له حلوبة هي وفق العيال والأصل ان الفقير والمسكين كل واحد منهما اسم ينبئ عن الحاجة الا
حاجة المسكين أشد وعلى هذا يخرج قول من يقول الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل لان من شأن الفقير
المسلم انه يتحمل ما كانت له حيلة ويتعفف ولا يخرج فيسأل وله حيلة فسؤاله يدل على شدة حاله وما روى أبو
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس المسكين الطواف الذي يطوف على الناس ترده
اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قيل فما المسكين يا رسول الله قال الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه
43

ولا يقوم فيسأل الناس فهو محمول على أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكينا فان الذي لا يسأل ولا يفطن به أشد
مسكنة من هذا وعلى هذا يحمل ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال ليس المسكين الذي لا مال له ولكن المسكين الذي
لا مكسب له أي الذي لا مال وإن كان مسكينا فالذي لا مال له ولا مكسب له أشد مسكنة منه وكأنه قال الذي لا مال
له ولا مكسب فهو فقير والمسكين الذي لا مال له ولا مكسب وما قاله بعض مشايخنا ان الفقراء والمساكين جنس
واحد في الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا بدليل جواز صرفها إلى جنس واحد وإنما الخلاف بعد في كونهما جنسا واحدا
أو جنسين في الوصايا اختلاف بين أصحابنا غير سديد بل لا خلاف بين أصحابنا في أنهما جنسان مختلفان فيهما جميعا لما
ذكرنا والدليل عليه ان الله تعالى عطف البعض على البعض والعطف دليل المغايرة في الأصل وإنما جاز صرف الزكاة
إلى صنف واحد لمعنى آخر وذلك المعنى لا يوجد في الوصية وهو دفع الحاجة وذا يحصل بالصرف إلى صنف واحد
والوصية ما شرعت لدفع حاجة الموصى له فإنها تجوز للفقير والغنى وقد يكون للموصى اغراض كثيرة لا يوقف عليها
فلا يمكن تعليل نص كلامه فتجرى على ظاهر لفظه من غير اعتبار المعنى بخلاف الزكاة فانا عقلنا المعنى فيها وهو دفع
الحاجة وإزالة المسكنة وجميع الأصناف في هذا المعنى جنس واحد لذلك افترقا لا لما قالوه والله أعلم وأما العاملون
عليها فهم الذين نصبهم الامام لجباية الصدقات واختلف فيما يعطون قال أصحابنا يعطيهم الامام كفايتهم منها وقال
الشافعي يعطيهم الثمن وجه قوله إن الله تعالى قسم الصدقات على الأصناف الثمانية منهم العاملون عليها فكان لهم
منها الثمن ولنا ان ما يستحقه العامل إنما يستحقه بطريق العمالة لا بطريق الزكاة بدليل انه يعطى وإن كان غنيا
بالاجماع ولو كان ذلك صدقة لما حلت للغنى وبدليل انه لو حمل زكاته بنفسه إلى الامام لا يستحق العامل منها
شيئا ولهذا قال أصحابنا ان حق العامل فيما في يده من الصدقات حتى لو هلك ما في يده سقط حقه كنفقة المضارب انها
تكون في مال المضاربة حتى لو هلك مال المضاربة سقطت نفقته كذا هذا دل انه إنما يستحق بعمله لكن على سبيل
الكفاية له ولأعوانه لا على سبيل الأجرة لان الأجرة مجهولة اما عندنا فظاهر لان قدر الكفاية له ولا عوانه غير
معلوم وكذا عنده لان قدر ما يجتمع من الصدقات بجبايته مجهول فكان ثمنه مجهولا لا محالة وجهالة أحد البدلين
يمنع جواز الإجارة فجهالة البدلين جميعا أولى فدل أن الاستحقاق ليس على سبيل الأجرة بل على طريق الكفاية له
ولا عوانه لاشتغاله بالعمل لأصحاب المواشي فكانت كفايته في مالهم واما قوله إن الله تعالى قسم الصدقات على
الأصناف المذكورين في الآية فممنوع انه قسم بل بين فيها مواضع الصدقات ومصارفها لما نذكر ولو كان العامل
هاشميا لا يحل له عندنا وعند الشافعي يحل واحتج بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه
إلى اليمن مصدقا وفرض له ولو لم يحل للهاشمي لما فرض له ولان العمالة أجرة العمل بدليل انها تحل للغنى فيستوي
فيها الهاشمي وغيره ولنا ما روى أن نوفل بن الحارث بعث ابنيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما
على الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم لا تحل لكما الصدقة ولا غسالة الناس ولان المال المجبى صدقة ولما حصل
في يد الامام حصلت الصدقة مؤداة حتى لو هلك المال في يده تسقط الزكاة عن صاحبها وإذا حصلت صدقة
والصدقة مطهرة لصاحبها فتمكن الخبث في المال فلا يباح للهاشمي لشرفه صيانة له عن تناول الخبث تعظيما
لرسول الله صلى الله عليه مسلم أو نقول للعمالة شبهة الصدقة وانها من أوساخ الناس فيجب صيانة الهاشمي عن
ذلك كرامة له وتعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يوجد في الغنى وقد فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج
إلى الكفاية والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل انه يباح له وإن كان غنيا ملكا فكذا هذا وقوله إن
الذي يعطى للعامل أجرة عمله ممنوع وقد بينا فساده وأما حديث علي رضي الله عنه فلا حجة فيه لان فيه أنه فرض
له وليس فيه بيان المفروض انه من الصدقات أو من غيرها فيحتمل انه فرض له من بيت المال لأنه كان قاضيا والله
أعلم وأما المؤلفة قلوبهم فقد قيل إنهم كانوا قوما من رؤساء قريش وصناديد العرب مثل أبي سفيان بن حرب
وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الغزاري والعباس بن مرادس السلمي ومالك بن عوف
44

النضري وحكيم بن حزام وغيرهم ولهم شوكة وقوة واتباع كثيرة بعضهم أسلم حقيقة وبعضهم أسلم ظاهرا
لا حقيقة وكان من المنافقين وبعضهم كان من المسالمين فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات
تطييبا لقلوب المسلمين منهم وتقريرا لهم على الاسلام وتحريضا لاتباعهم على اتباعهم وتأليفا لمن لم يحسن اسلامه
وقد حسن اسلام عامتهم الا من شاء الله تعالى لحسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم معهم وجميل سيرته حتى روى
عن صفوان بن مية قال أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه لأبغض الناس إلى فما زال يعطيني حتى أنه
لأحب الخلق إلى واختلف في سهامهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامة العلماء انه انتسخ سهمهم
وذهب ولم يعطوا شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعطى الآن لمثل حالهم وهو أحد قولي الشافعي وقال بعضهم
وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه ان حقهم بقي وقد أعطى من بقي من أولئك الذين أخذوا في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والآن يعطى لمن حدث اسلامه من الكفرة تطييبا لقلبه وتقريرا له على الاسلام وتعطى الرؤساء
من أهل الحرب إذا كانت لهم غلبة يخاف على المسلمين من شرهم لان المعنى الذي له كان يعطى النبي صلى الله عليه
وسلم أولئك موجود في هؤلاء والصحيح قول العامة لاجماع الصحابة على ذلك فان أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى أنه لما قبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا إلى أبى بكر واستبدلوا الخط منه لسهامهم فبدل لهم الخط ثم جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه
وأخبروه بذلك فاخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم
على الاسلام فاما اليوم فقد أعز الله دينه فان ثبتم على الاسلام والا فليس بيننا وبينكم الا السيف فانصرفوا إلى
أبى بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما وقالوا أنت الخليفة أم هو فقال إن شاء الله هو ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله
وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون اجماعا منهم على ذلك ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الاسلام ولهذا سماهم الله المؤلفة قلوبهم والاسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة
وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد الله عز الاسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك
أذلاء والحكم متى ثبت معقولا بمعنى خاص ينتهى بذهاب ذلك المعنى ونظيره ما كان عاهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم كثيرا من المشركين لحاجته إلى معاهدتهم ومداراتهم لقلة أهل الاسلام وضعفهم فلما أعز الله الاسلام وكثر
أهله امر رسوله صلى الله عليه وسلم ان يرد إلى أهل العهود عهودهم وان يحارب المشركين جميعا بقوله عز وجل
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين إلى قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم وأما قوله تعالى وفى الرقاب فقد قال بعض أهل التأويل معناه وفى عتق الرقاب ويجوز اعتاق الرقبة بنية
الزكاة وهو قول مالك وقال عامة أهل التأويل الرقاب المكاتبون قوله تعالى وفى الرقاب أي وفى فك الرقاب وهو ان
يعطى المكاتب شيئا من الصدقة يستعين به على كتابته لما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
علمني عملا يدخلني الجنة فقال صلى الله عليه وسلم أعتق النسمة وفك الرقبة فقال الرجل أوليسا سواء قال لا عتق
النسمة ان تنفرد بعتقها وفك الرقبة ان تعين في عتقها وإنما جاز دفع الزكاة إلى المكاتب ليؤدي بدل كتابته
فيعتق ولا يجوز ابتداء الاعتاق بنية الزكاة لوجهين أحدهما ما ذكرنا ان الواجب إيتاء الزكاة والايتاء هو
التمليك والدفع إلى المكاتب تمليك فاما الاعتاق فليس بتمليك والثاني ما أشار إليه سعيد بن جبير فقال لا يعتق من
الزكاة مخافة جر الولاء ومعنى هذا الكلام ان الاعتاق يوجب الولاء للمعتق فكان حقه فيه باقيا ولم ينقطع من كل
وجه فلا يتحقق الاخلاص فلا يكون عبادة والزكاة عبادة فلا تتأدى بما ليس بعبادة فاما الذي يدفع إلى المكاتب
فينقطع عنه حق المؤدى من كل وجه ولا يرجع إليه بذلك نفع فيتحقق الاخلاص واما قوله تعالى والغارمين قيل
الغارم الذي عليه الدين أكثر من المال الذي في يده أو مثله أو أقل منه لكن ما وراءه ليس بنصاب وأما قوله تعالى وفى
سبيل الله عبارة عن جميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا وقال
45

أبو يوسف المراد منه فقراء الغزاة لان سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع يراد به ذلك وقال محمد المراد منه
الحاج المنقطع لما روى أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يحمل عليه الحاج
وقال الشافعي يجوز دفع الزكاة إلى الغازي وإن كان غنيا وأما عندنا فلا يجوز الا عند اعتبار حدوث الحاجة
واحتج بما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تحل الصدقة لغنى
الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأعطاها له وعن عطاء بن يسار عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال لا تحل الصدقة الا لخمس العامل عليها ورجل اشتراها وغارم وغاز في سبيل الله وفقير تصدق
عليه فأهداها إلى غنى نفى حل الصدقة للأغنياء واستثنى الغازي منهم والاستثناء من النفي اثبات فيقتضى حل
الصدقة للغازي الغنى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني وقوله صلى الله عليه وسلم أمرت ان
آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم جعل الناس قسمين قسما يؤخذ منهم وقسما يصرف إليهم فلو جاز صرف
الصدقة إلى الغنى لبطلت القسمة وهذا لا يجوز وأما استثناء الغازي فمحمول على حال حدوث الحاجة وسماه غنيا
على اعتبار ما كان قبل حدوث الحاجة وهو أن يكون غنيا ثم تحدث له الحاجة بأن كان له دار يسكنها ومتاع يمتهنه
وثياب يلبسها وله مع ذلك فضل مائتي درهم حتى لا تحل له الصدقة ثم يعزم على الخروج في سفر غزو فيحتاج إلى آلات
سفره وسلاح يستعمله في غزوه ومركب بغزو عليه وخادم يستعين بخدمته على ما لم يكن محتاجا إليه في حال اقامته
فيجوز ان يعطى من الصدقات ما يستعين به في حاجته التي تحدث له في سفره وهو في مقامه غنى بما يملكه لأنه غير
محتاج في حال اقامته فيحتاج في حال سفره فيحمل قوله لا تحل الصدقة لغني الا لغاز في سبيل الله على من كان غنيا في
حال مقامه فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره لما أحدث السفر له من الحاجة الا انه يعطى حين يعطى وهو غنى وكذا
تسمية الغارم غنيا في الحديث على اعتبار ما كان قبل حلول الغرم به وقد حدثت له الحاجة بسبب الغرم وهذا الان
الغنى اسم لمن يستغنى عما يملكه وإنما كان كذلك قبل حدوث الحاجة فاما بعده فلا وأما قوله تعالى وابن السبيل فهو
الغريب المنقطع عن ماله وإن كان غنيا في وطنه لأنه فقير في الحال وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا تحل الصدقة لغني الا في سبيل الله أو ابن السبيل الحديث ولو صرف إلى واحد من هؤلاء الأصناف يجوز عند
أصحابنا وعند الشافعي لا يجوز الا ان يصرف إلى ثلاثة من كل صنف واحتج بقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء
والمساكين إلى آخر الأصناف أخبر الله تعالى ان الصدقات للأصناف المذكورين في الآية على الشركة فيجب ايصال
كل صدقة إلى كل صنف الا ان الاستيعاب غير ممكن فيصرف إلى ثلاثة من كل صنف إذ الثلاثة أدنى الجمع الصحيح
ولنا السنة المشهورة واجماع الصحابة وعمل الأئمة إلى يومنا هذا والاستدلال أما السنة فقول النبي صلى الله عليه
وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فان أجابوك لذلك فأعلمهم ان الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد
في فقرائهم ولم يذكر الأصناف الأخر وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال بعث علي رضي الله عنه وهو
باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم مذهبة في ترابها فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الأقرع بن حابس وبين
زيد الخليل وبين عيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة فغضبت قريش والأنصار وقالوا تعطى صناديد أهل نجد فقال
النبي صلى الله عليه وسلم إنما أتألفهم ولو كان كل صدقة مقسومة على الثمانية بطريق الاستحقاق لما دفع النبي صلى
الله عليه وسلم المذهبة إلى المؤلفة قلوبهم دون غيرهم وأما اجماع الصحابة فإنه روى عن عمر رضي الله عنه انه كان إذا
جمع صدقات المواشي من البقر والغنم نظر منها ما كان منيحة اللبن فيعطيها لأهل بيت واحد على قدر ما يكفيهم
وكان يعطى العشرة للبيت الواحد ثم يقول عطية تكفى خير من عطية لا تكفى أو كلام نحو هذا وروى عن علي رضي الله عنه
انه أتى بصدقة فبعثها إلى أهل بيت واحد وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال هؤلاء أهلها ففي أي صنف
وضعتها أجزأك وكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كذلك وأما عمل الأئمة فإنه لم يذكر عن أحد من الأئمة
انه تكلف طلب هؤلاء الأصناف فقسمها بينهم مع ما انه لو تكلف الامام أن يظفر بهؤلاء الثمانية ما قدر على
46

ذلك وكذلك لم يذكر عن أحد من أرباب الأموال انه فرق صدقة واحدة على هؤلاء ولو كان الواجب هو القسمة على
السوية بينهم لا يحتمل أن يقسموها كذلك ويضيعوا حقوقهم وأما الاستدلال فهو ان الله تعالى أمر بصرف
الصدقات إلى هؤلاء بأسامي منبئة عن الحاجة فعلم أنه إنما أمر بالصرف إليهم لدفع حاجتهم والحاجة في الكل واحدة
وان اختلفت الأسامي وأما الآية ففيها بيان مواضع الصدقات ومصارفها ومستحقيها لان اللام للاختصاص
وهو انهم المختصون بهذا الحق دون غيرهم لا للتسوية لغة وإنما الصيغة للشركة والتسوية لغة حرف بين ألا ترى انه إذا
قيل الخلافة لبني العباس والسدانة لبنى عبد الدار والسقاية لبني هاشم يراد به انهم المختصون بذلك لا حق فيها لغيرهم
لأنها بينهم بالحصص بالسوية ولو قيل الخلافة بين بنى العباس والسدانة بين بنى عبد الدار والسقاية بين بني هاشم كان
خطأ ولهذا قال أصحابنا فيمن قال مالي لفلان وللموتى انه كله لفلان ولو قال مالي بين فلان وبين الموتى كان لفلان
نصفه ولو كان الامر على ما قاله الشافعي ان الصدقة تقسم بين الأصناف الثمانية على السوية لقال إنما الصدقات
بين الفقراء الآية فان قيل أليس أن من قال ثلث مالي لفلان وفلان انه يقسم بينهما بالسوية كما إذا قال ثلث مالي بين
فلان وفلان والجواب ان الاشتراك هنا ليس موجب الصيغة إذ الصيغة لا توجب الاشتراك والتسوية بينهما بل
موجب الصيغة ما قلنا الا ان في باب الوصية لما جعل الثلث حقا لهما دون غيرهما وهو شئ معلوم لا يزيد بعد الموت
ولا يتوهم له عدد وليس أحدهما بأولى من الآخر فقسم بينهما على السواء نظرا لهما جميعا فاما الصدقات فليست
بأموال متعينة لا تحتمل الزيادة والمدد حتى يحرم البعض بصرفها إلى البعض بل يردف بعضها بعضا وإذا فنى مال
يجئ مال آخر وإذا مضت سنة تجئ سنة أخرى بمال جديد ولا انقطاع للصدقات إلى يوم القيامة فإذا صرف
الامام صدقة يأخذها من قوم إلى صنف منهم لم يثبت الحرمان للباقين بل يحمل إليه صدقة أخرى فيصرف إلى فريق
آخر فلا ضرورة إلى الشركة والتسوية في كل مال يحمل إلى الامام من الصدقات والله أعلم وكما لا يجوز صرف الزكاة
إلى الغنى لا يجوز صرف جميع الصدقات المفروضة والواجبة إليه كالعشور والكفارات والنذور وصدقة الفطر لعموم
قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني ولان الصدقة مال تمكن فيه
الخبث لكونه غسالة الناس لحصول الطهارة لهم به من الذنوب ولا يجوز الانتفاع بالخبيث الا عند الحاجة والحاجة
للفقير لا للغنى وأما صدقة التطوع فيجوز صرفها إلى الغنى لأنها تجرى مجرى الهبة ولا يجوز الصرف إلى عبد الغنى
ومدبره وأم ولده لان الملك في المدفوع نفع لمولاه وهو غنى فكان دفعا إلى الغنى هذا إذا كان العبد محجورا أو كان
مأذونا لكنه لم يكن عليه دين مستغرق لرقبته لان كسبه ملك الولي فالدفع يقع إلى المولى وهو غنى فلا يجوز ذلك وإن كان
عليه دين مستغرق لكنه غير ظاهر في حق المولى لأنه يتأخر إلى ما بعد العتاق فكان كسبه ملك المولى وهو
غنى وأما إذا كان ظاهرا في حق المولي كدين الاستهلاك ودين التجارة فينبغي أن يجوز على قول أبي حنيفة لان
المولى لا يملك كسب عبده المأذون والمديون دينا مستغرقا ظاهرا في حقه وعندهما لا يجوز لأنه يملك كسبه عندهما
ويجوز الدفع إلى مكاتب الغنى لان كسب المالك المكاتب ملكه من حيث الظاهر وإنما يملكه المولى بالعجز ولم
يوجد وأما ولد الغنى فإن كان صغيرا لم يجز الدفع إليه وإن كان فقيرا لا مال له لان الولد الصغير يعد غنيا بغنى أبيه وإن كان
كبيرا فقيرا يجوز لأنه لا يعد غنيا بمال أبيه فكان كالأجنبي ولو دفع إلى امرأة فقيرة وزوجها غنى جاز في قول أبي حنيفة
ومحمد وهو احدى الروايتين عن أبي يوسف وروى عنه انها لا تعطى إذا قضى لها بالنفقة وجه هذه الرواية ان
نفقة المرأة تجب على زوجها فتصير غنية بغنى الزوج كالولد الصغير وإنما شرط القضاء لها بالنفقة لان النفقة
لا تصير دينا بدون القضاء وجه ظاهر الرواية ان المرأة الفقيرة لا تعد غنية بغنى زوجها لأنها لا تستحق على زوجها الا
مقدار النفقة فلا تعد بذلك القدر غنية وكذا يجوز الدفع إلى فقير له ابن غنى وإن كان يجب عليه نفقته لما قلنا إن تقدر
النفقة لا يصير غنيا فيجوز الدفع إليه وأما صدقة الوقف فيجوز صرفها إلى الأغنياء ان سماهم الواقف في الوقف
ذكره الكرخي في مختصره وان لم يسمهم لا يجوز لأنها صدقة واجبة ثم لابد من معرفة حد الغنا فنقول الغنا أنواع
47

ثلاثة غنى تجب به الزكاة وغنى يحرم به أخذ الصدقة وقبولها ولا تجب به الزكاة وغنى يحرم به السؤال ولا يحرم
به الاخذ أما الغنا الذي تجب به الزكاة فهو ان يملك نصابا من المال النامي الفاضل عن الحاجة الأصلية وأما الغنا الذي
يحرم به أخذ الصدقة وقبولها فهو الذي تجب به صدقة الفطر والأضحية وهو ان يملك من الأموال التي لا تجب
فيها الزكاة ما يفضل عن حاجته وتبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم من الثياب والفرش والدور والحوانيت والدواب
والخدم زيادة على ما يحتاج إليه كل ذلك للابتذال والاستعمال لا للتجارة والاسامة فإذا فضل من ذلك ما يبلغ قيمته
مائتي درهم وجب عليه صدقة الفطر والأضحية وحرم عليه أخذ الصدقة ثم قدر الحاجة ما ذكره الكرخي في مختصره
فقال لا بأس بأن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البدن وكتب
العلم إن كان من أهله فإن كان له فضل عن ذلك ما يبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة لما روى عن الحسن
البصري أنه قال كانوا يعطون الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من الفرس والسلاح والخادم والدار وقوله كانوا
كناية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن هذه الأشياء من الحوائج اللازمة التي لابد للانسان
منها فكان وجودها وعدمها سواء وذكر في الفتاوى فيمن له حوانيت ودور الغلة لكن غلتها لا تكفيه ولعياله انه فقير
ويحل له أخذ الصدقة عند محمد وزفر وعند أبي يوسف لا يحل وعلى هذا إذا كان له أرض وكرم لكن غلته لا تكفيه
ولعياله ولو كان عنده طعام للقوت يساوى مائتي درهم فإن كان كفاية شهر تحل له الصدقة وإن كان كفاية سنة قال
بعضهم لا تحل وقال بعضهم تحل لان ذلك مستحق الصرف إلى الكفاية والمستحق ملحق بالعدم وقد روى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ادخر لنسائه قوت سنة ولو كان له كسوة شتاء وهو لا يحتاج إليها في الصيف يحل له أخذ
الصدقة ذكر هذه الجملة في الفتاوى وهذا قول أصحابنا وقال مالك من ملك خمسين درهما لا يحل له أخذ الصدقة ولا
يباح أن يعطى واحتج بما روى عن علي وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم انهم قالوا لا تحل
الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب وهذا نص في الباب ولنا حديث معاذ حيث قال له النبي صلى الله
عليه وسلم خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم قسم الناس قسمين الأغنياء والفقراء فجعل الأغنياء يؤخذ منهم
والفقراء يرد فيهم فكل من لم يؤخذ منه يكون مردودا فيه وما رواه مالك محمول على حرمة السؤال معناه لا يحل
سؤال الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب أو يحمل ذلك على كراهة الاخذ لان من له سداد من
العيش فالتعفف أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله وقال الشافعي يجوز
دفع الزكاة إلى رجل له مال كثير ولا كسب له وهو يخاف الحاجة ويجوز له الاخذ وهذا فاسد لان هذا دفع الزكاة إلى
الغنى ولا سبيل إليه لما بينا وخوف حدوث الحاجة في الثاني لا يجعله فقيرا في الحال ألا تر انه لا يعتبر ذلك في سقوط
الوجوب حتى تجب عليه الزكاة فكذا في جواز الاخذ ولو كان الفقير قويا مكتسبا يحل له أخذ الصدقة عندنا وعند
الشافعي لا يحل واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى وفى بعض الروايات
ولا لقوى مكتسب ولنا ما روى عن سلمان الفارسي أنه قال حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فقال
لأصحابه كلوا ولم يأكل ومعلوم انه لا يتوهم ان أصحابه رضي الله عنهم كانوا كلهم زمني بل كان بعضهم قويا مكتسبا
وما رواه الشافعي محمول على حرمة الطلب والسؤال فان ذلك للزجر عن المسألة والحمل على الكسب والدليل عليه
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجلين اللذين سألاه ان شئتما أعطيتكما منه ولا حق فيها لغني ولا لقوى
مكتسب ولو كان حراما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيهما الحرام ولكن قال ذلك للزجر عن السؤال والحمل على
الكسب كذا هذا ويكره لمن عليه الزكاة ان يعطى فقيرا مائتي درهم أو أكثر ولو أعطى جاز وسقط عنه الزكاة في قول
أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يجوز ولا يسقط وجه قوله إن هذا نصاب كامل فيصير غنيا بهذا المال ولا يجوز الصرف
إلى الغنى ولنا انه إنما يصير غنيا بعد ثبوت الملك له فاما قبله فقد كان فقيرا فالصدقة لاقت كف الفقير فجازت وهذا لان
الغنا يثبت بالملك والقبض شرط ثبوت الملك فيقبض ثم يملك المقبوض ثم يصير غنيا الا ترى انه يكره لان المنتفع به
48

يصير هو الغنى وذكر في الجامع الصغير وان يغنى به انسانا أحب إلي ولم يرد به الاغناء المطلق لان ذلك مكروه لما
بينا وإنما أراد به المقيد وهو انه يغنيه يوما أو أياما عن المسألة لان الصدقة وضعت لمثل هذا الاغناء قال النبي
صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر اغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم هذا إذا أعطى مائتي درهم
وليس عليه دين ولا له عيال فإن كان عليه دين فلا بأس بأن يتصدق عليه قدر دينه وزيادة ما دون
المائتين وكذا إذا كان له عيال يحتاج إلى نفقتهم وكسوتهم واما الغنا الذي يحرم به السؤال فهو أن يكون له سداد
عيش بأن كان له قوت يومه لما روى عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما
يستكثر من جمر جهنم قيل يا رسول الله وما ظهر الغنا قال إن يعلم أن عنده ما يغديهم أو يعشيهم فإن لم يكن له قوت
يومه ولا ما يستر به عورته يحل له ان يسأل لان الحال حال الضرورة وقد قال الله تعالى ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة
وترك السؤال في هذا الحال القاء النفس في التهلكة وانه حرام فكان له أن يسأل بل يجب عليه ذلك ومنها أن يكون
مسلما فلا يجوز صرف الزكاة إلى الكافر بلا خلاف لحديث معاذ رضي الله عنه خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم
أمر بوضع الزكاة في فقراء من يؤخذ من أغنيائهم وهم المسلمون فلا يجوز وضعها في غيرهم وأما ما سوى الزكاة
من صدقة الفطر والكفارات والنذور فلا شك في أن صرفها إلى فقراء المسلمين أفضل لان الصرف إليهم يقع إعانة
لهم على الطاعة وهل يجوز صرفها إلى أهل الذمة قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف لا يجوز وهو قول زفر
والشافعي وجه قولهم الاعتبار بالزكاة وبالصرف إلى الحربي ولهما قوله تعالى ان تبدو الصدقات فنعما هي وان
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم من سيأتكم من غير فصل بين فقير وفقير وعموم هذا النص
يقتضى جواز صرف الزكاة إليهم الا انه خص منه الزكاة لحديث معاذ رضي الله عنه وقوله تعالى في الكفارات
فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم من غير فصل بين مسكين ومسكين الا انه خص منه
الحربي بدليل ولان صرف الصدقة إلى أهل الذمة من باب ايصال البر إليهم وما نهينا عن ذلك قال الله تعالى لا ينهاكم
الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ان الله يحب المقسطين وظاهر هذا
النص يقتضى جواز صرف الزكاة إليهم لان أداء الزكاة بربهم الا ان البر بطريق الزكاة غير مراد عرفنا ذلك
بحديث معاذ رضي الله عنه وإنما لا يجوز صرفها إلى الحربي لان في ذلك إعانة لهم على قتالنا وهذا لا يجوز وهذا المعنى
لم يوجد في الذمي (ومنها) أن لا يكون من بني هاشم لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا معشر بني هاشم
ان الله كره لكم غسالة الناس وعوضكم منها بخمس الخمس من الغنيمة وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن
الصدقة محرمة على بني هاشم وروى أنه رأى في الطريق تمرة فقال لولا انى أخاف أن تكون من الصدقة
لأكلتها ثم قال إن الله حرم عليكم يا بني هاشم غسالة أيدي الناس والمعنى ما أشار إليه انها من غسالة الناس فيتمكن فيها
الخبث فصان الله تعالى بني هاشم عن ذلك تشريفا لهم واكراما وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها أن
لا يكون من مواليهم لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقم
ابن أبي أرقم الزهري على الصدقات فاستتبع أبا رافع فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال يا أبا رافع ان الصدقة
حرام على محمد وآل محمد وان موالي القوم من أنفسهم أي في حرمة الصدقة لاجماعنا على أن مولى القوم ليس منهم
في جميع الأحكام الا ترى انه ليس بكفء لهم وكذا مولى المسلم إذا كان كافرا تؤخذ منه الجزية ومولى التغلبي تؤخذ
منه الجزية ولا تؤخذ منه الصدقة المضاعفة فدل ان المراد منه في حرمة الصدقة خاصة وبنو هاشم الذين تحرم
عليهم الصدقات آل العباس وآل على وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب كذا ذكره الكرخي ومنها
أن لا تكون منافع الاملاك متصلة بين المؤدى وبين المؤدى إليه لان ذلك يمنع وقوع الأداء تمليكا من الفقير من
كل وجه بل يكون صرفا إلى نفسه من وجه وعلى هذا يخرج الدفع إلى الوالدين وان علوا والمولودين وان سفلوا لان
أحدهما ينتفع بمال الآخر ولا يجوز أن يدفع الرجل الزكاة إلى زوجته بالاجماع وفى دفع المرأة إلى زوجها اختلاف بين
49

أبي حنيفة وصاحبيه ذكرناه فيما تقدم وأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء والدفع إليهم أولى لان فيه أجرين
أجر الصدقة وأجر الصلة وكونه دفعا إلى نفسه من وجه لا يمنع صدقة التطوع قال النبي صلى الله عليه وسلم نفقة
الرجل على نفسه صدقة وعلى عياله صدقة وكل معروف صدقة ويجوز دفع الزكاة إلى من سوى الوالدين والمولودين
من الأقارب ومن الاخوة والأخوات وغيرهم لانقطاع منافع الاملاك بينهم ولهذا تقبل شهادة البعض على البعض
والله أعلم هذا الذي ذكرنا إذا دفع الصدقة إلى إنسان على علم منه بحاله انه محل الصدقة فاما ذا لم يعلم بحاله ودفع
إليه فهذا على ثلاثة أوجه في وجه هو على الجواز حتى يظهر خطأه وفى وجه على الفساد حتى يظهر صوابه وفى وجه
فيه تفصيل على الوفاق والخلاف أما الذي هو على الجواز حتى يظهر خطأه فهو أن يدفع زكاة ماله إلى رجل ولم يخطر
بباله وقت الدفع ولم يشك في أمره فدفع إليه فهذا على الجواز الا إذا ظهر بعد الدفع انه ليس محل الصدقة فحينئذ
لا يجوز لأن الظاهر أنه صرف الصدقة إلى محلها حيث نوى الزكاة عند الدفع والظاهر لا يبطل الا باليقين فإذا ظهر
بيقين انه ليس بمحل الصدقة ظهر انه لم يجز وتجب عليه الإعادة وليس له أن يسترد ما دفع إليه ويقع تطوعا حتى أنه
لو خطر بباله بعد ذلك وشك فيه ولم يظهر له شئ لا تلزمه الإعادة لأن الظاهر لا يبطل بالشك وأما الذي هو على الفساد
حتى يظهر جوازه فهو انه خطر بباله وشك في أمره لكنه لم يتحر ولا طلب الدليل أو تحرى بقلبه لكنه لم يطلب الدليل
فهو على الفساد الا إذا ظهر انه محل بيقين أو بغالب الرأي فحينئذ يجوز لأنه لما شك وجب عليه التحري والصرف
إلى من وقع عليه تحريه فإذا ترك لم يوجد الصرف إلى من أمر بالصرف إليه فيكون فاسدا الا إذا ظهر انه محل فيجوز
وأما الوجه الذي فيه تفصيل على الوفاق والخلاف فهو ان خطر بباله وشك في أمره وتحرى ووقع تحريه على أنه محل
الصدقة فدفع إليه جاز بالاجماع وكذا ان لم يتحر ولكن سأل عن حاله فدفع أو رآه في صف الفقراء وعلى زي الفقراء
فدفع فان ظهر انه كان محلا جاز بالاجماع وكذا إذا لم يظهر حاله عنده وأما إذا ظهر انه لم يكن محلا بان ظهر انه غنى
أو هاشمي أو مولى لهاشمي أو كافرا ووالد أو مولود أو زوجة يجوز وتسقط عنه الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد
ولا تلزمه الإعادة وعند أبي يوسف لا يجوز وتلزمه الإعادة وبه أخذ الشافعي وروى محمد بن شجاع عن أبي حنيفة
في الوالد والولد والزوجة انه لا يجوز كما قال أبو يوسف ولو ظهر انه عبده أو مدبره أو أم ولده أو مكاتبه لم يجز وعليه
الإعادة في قولهم جميعا ولو ظهر انه مستسعاه لم يجز عند أبي حنيفة لأنه بمنزلة المكاتب عنده وعندهما يجوز لأنه حر
عليه دين وجه قول أبى يوسف ان هذا مجتهد ظهر خطأه بيقين فبطل اجتهاده وكما لو تحرى في ثياب أو أواني وظهر خطأه
فيها وكما لو صرف ثم ظهر انه عبده أو مدبره أو أم ولده أو مكاتبه ولهما أنه صرف الصدقة إلى من أمر بالصرف
إليه فيخرج عن العهدة كما إذا صرف ولم يظهر حاله بخلافه ودلالة ذلك أنه مأمور بالصرف إلى من هو محل عنده وفى
ظنه واجتهاده لا على الحقيقة إذ لا علم له بحقيقة الغنا والفقر لعدم امكان الوقوف على حقيقتهما وقد صرف إلى
من أدى اجتهاده انه محل فقد أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة بخلاف الثياب والأواني لان العلم بالثوب الطاهر
والماء الطاهر ممكن فلم يأت بالمأمور به فلم يجز وبخلاف ما إذا ظهر انه عبده لان الوقوف على ذلك بامارات تدل
عليه ممكن على أن معنى صرف الصدقة وهو التمليك هناك لا يتصور لاستحالة تمليك الشئ من نفسه وقوله ظهر
خطأه بيقين ممنوع وإنما يكون كذلك ان لو قلنا إنه صار محل الصدقة باجتهاده فلا نقول كذلك بل المحل المأمور
بالصرف إليه شرعا حالة الاشتباه وهو من وقع عليه التحري وعلى هذا لا يظهر خطأه ولهما في الصرف إلى ابنه وهو
لا يعلم به الحديث المشهور وهو ما روى أن يزيد بن معن دفع صدقته إلى رجل وأمره بأن يأتي المسجد ليلا فيتصدق
بها فدفعها إلى ابنه معن فلما أصبح رآها في يده فقال له لم أردك بها فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا معن لك ما أخذت ويا يزيد لك ما نويت والله أعلم
* (فصل) * وأما حولان الحول فليس من شرائط جواز أداء الزكاة عند عامة العلماء وعند مالك من شرائط الجواز
فيجوز تعجيل الزكاة عند عامة العلماء خلافا لمالك والكلام في التعجيل في مواضع في بيان أصل الجواز وفي بيان
50

شرائطه وفي بيان حكم المعجل إذا لم يقع زكاة أما الأول فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وجه قول مالك ان أداء الزكاة
أداء الواجب وأداء الواجب ولا وجوب لا يتحقق ولا وجوب قبل الحول لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا زكاة
في مال حتى يحول عليه الحول ولنا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة سنتين
وأدنى درجات فعل النبي صلى الله عليه وسلم الجواز واما قوله إن أداء الزكاة أداء الواجب ولا وجوب قبل حولان
الحول فالجواب عنه من وجهين أحدهما ممنوع انه لا وجوب قبل حولان الحول بل الوجوب ثابت قبله لوجود
سبب الوجوب وهو ملك نصاب كامل نام أو فاضل عن الحاجة الأصلية لحصول الغنا به ولوجوب شكر نعمة
المال على ما بينا فيما تقدم ثم من المشايخ من قال بالوجوب توسعا وتأخير الأداء إلى مدة الحول ترفيها وتيسيرا على
أرباب الأموال كالدين المؤجل فإذا عجل فلم يترفه فيسقط الواجب كما في الدين المؤجل فمنهم من قال بالوجوب لكن
لا على سبيل التأكيد وإنما يتأكد الوجوب بآخر الحول ومنهم من قال بالوجوب في أول الحول لكن بطريق
الاستناد وهو أن يجب أولا في آخر الحول ثم يستند الوجوب إلى أوله لاستناد سببه وهو كون النصاب حوليا فيكون
التعجيل أداء بعد الوجوب لكن بالطريق الذي قلنا فيقع زكاة والثاني ان سلمنا انه لا وجوب قبل الحول لكن سبب
الوجوب موجود وهو ملك النصاب ويجوز أداء العبادة قبل الوجوب بعد وجود سبب الوجوب كأداء الكفارة
بعد الجرح قبل الموت وسواء عجل عن نصاب واحد أو اثنين أو أكثر من ذلك مما يستفيده في السنة عند
أصحابنا الثلاثة وعند زفز لا يجوز الا عن النصاب الموجود حتى لو كان له مائتا درهم فعجل زكاة الألف وذلك
خمسة وعشرون ثم استفاد مالا أو ربح في ذلك المال حتى صار ألف درهم فتم الحول وعنده ألفا درهم جاز عن الكل
عندنا وعند زفر لا يجوز الا عن المائتين وجه قوله إن التعجيل عما سوى المائتين تعجيل قبل وجود السبب
فلا يجوز كما لو عجل قبل ملك المائتين ولنا ان ملك النصاب موجود في أول الحول والمستفاد على ملك النصاب في
الحول كالموجود من ابتداء الحول بدليل وجوب الزكاة فيه عند حولان الحول فلو لم يجعل كالموجود في أول الحول
لما وجبت الزكاة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وإذا كان كذلك جعلت الألف
كأنها كانت موجودة في ابتداء الحول ليصير مؤديا بعد وجود الألف تقديرا فجاز والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائط الجواز فثلاثة أحدها كمال النصاب في أول الحول والثاني كماله في آخر الحول
والثالث ان لا ينقطع النصاب فيما بين ذلك حتى لو عجل وله في أول الحول أقل من النصاب ثم كمل في آخره
فتم الحول والنصاب كامل لم يكن المعجل زكاة بل كان تطوعا وكذا لو عجل والنصاب كامل ثم هلك نصفة مثلا فتم الحول
والنصاب غير كامل لم يجز التعجيل وإنما كان كذلك لان المعتبر كمال النصاب في طرفي الحول ولان سبب الوجوب
هو النصاب فأحد الطرفين حال انعقاد السبب والطرف الآخر حال الوجوب أو حال تأكد الوجوب بالسبب وما
بين ذلك ليس بحال الانعقاد ولا حال الوجوب إذ تأكد الوجوب بالسبب فلا معنى لاشتراط النصاب عنده ولان
في اعتبار كمال النصاب فيما بين ذلك حرجا لان التجار يحتاجون إلى النظر في ذلك كل يوم وكل ساعة وفيه من الحرج
مالا يخفى ولا حرج في مراعاة الكمال في أول الحول وآخره وكذلك جرت عادة التجار بتعرف رؤس أموالهم في
أول الحول وآخره ولا يلتفتون إلى ذلك في أثناء الحول الا أنه لا بد من بقاء شئ من النصاب وان قل في أثناء الحول
ليضم المستفاد إليه ولأنه إذا هلك النصاب الأول كله فقد انقطع حكم الحول فلا يمكن ابقاء المعجل زكاة فيقع تطوعا
ولو كان له نصاب في أول الحول فعجل زكاته وانتقص النصاب ولم يستفد شيئا حتى حال الحول والنصاب ناقص لم يجز
التعجيل ويقع المؤدى تطوعا ولا يعتبر المعجل في تمام النصاب عندنا وعند الشافعي يكمل النصاب بما عجل ويقع زكاة
وصورته إذا عجل خمسة عن مائتين ولم يستفد شيئا حتى حال الحول وعنده مائة وخمسة وتسعون أو عجل شاة من
أربعين فحال عليها الحول وعنده تسعة وثلاثون لم يجز التعجيل عندنا وعنده جائز وجه قوله إن المعجل وقع زكاة
عن كل النصاب فيعتبر في اتمام النصاب ولنا أن المؤدى مال أزال ملكه عنه بنية الزكاة فلا يكمل به النصاب كما لو
51

هلك في يد الامام ولو استفاد خمسة في آخر الحول جاز التعجيل لوجود كمال النصاب في طرفي الحول ولو كان له مائتا
درهم فعجل زكاتها خمسة فانتقص النصاب ثم استفاد ما يكمل به النصاب بعد الحول في أول الحول الثاني وتم الحول
الثاني والنصاب كامل فعليه الزكاة للحول الثاني وما عجل يكون تطوعا لأنه عجل للحول الأول ولم تجب عليه
الزكاة للحول الأول لنقصان النصاب في آخر الحول ولو كان له مائتا درهم فعجل خمسة منها ثم تم الحول والنصاب
ناقص ودخل الحول الثاني وهو ناقص ثم تم الحول الثاني وهو كامل لا تجزى الخمسة عن السنة الأولى ولا عن السنة
الثانية لان في السنة الأولى كان النصاب ناقصا في آخرها وفى السنة الثانية كان ناقصا في أولها فلم تجب الزكاة في
السنتين فلا يقع المؤدى زكاة عنهما ولو كان له مائتا درهم فحال الحول وأدى خمسة منها حتى أنتقص منها خمسة
ثم إنه عجل عن السنة الثانية خمسة حتى أنتقص منها خمسة أخرى فصار المال مائة وتسعين فتم الحول الثاني وقد
استفاد عشرة حتى حال الحول على المائتين ذكر في الجامع أن الخمسة التي عجل للحول الثاني جائزة طعن عيسى
ابن أبان وقال ينبغي أن لا تجزئه هذه الخمسة عن السنة الثانية لان الحول الأول لما تم وجبت الزكاة وصارت
خمسة من المائتين واجبة ووجوب الزكاة يمنع وجوب الزكاة فانعقد الحول الثاني والنصاب ناقص فكان تعجيل
الخمسة عن السنة الثانية تعجيلا حال نقصان النصاب فلم يجز والواجب أن الزكاة تجب بعد تمام السنة الأولى
وتمام السنة الأولى يتعقبه الجزء الأول من السنة الثانية والوجوب ثبت مقارنا لذلك الجزء والنصاب كان كاملا في
ذلك الوقت ثم انتقص بعد ذلك وهو حال وجود الجزء الثاني من السنة الثانية فكان ذلك نقصان النصاب في
أثناء الحول ولا عبرة به عند وجود الكمال في طرفيه وقد وجد ههنا فجاز التعجيل لوجود حال كمال النصاب
* (فصل) * وأما حكم المعجل إذا لم يقع زكاة أنه ان وصل إلى يد الفقير يكون تطوعا سواء وصل إلى يده من يد رب
المال أو من يد الامام أو نائبه وهو الساعي لأنه حصل أصل القربة وإنما التوقف في صفة الفرضية وصدقة التطوع
لا يحتمل الرجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير وإن كان المعجل في يد الامام قائما له أن يسترده لأنه لما لم يصل إلى
يد الفقير لم يتم الصرف لان يد المصدق في الصدقة المعجلة يد المالك من وجه لأنه مخير في دفع المعجل إليه وإن كان
يد الفقير من وجه من حيث إنه يقبض له فلم يتم الصرف فلم تقع صدقة أصلا وان هلك في يده لا يضمن عندنا وقال
الشافعي ان استسلف الامام بغير مسألة رب المال ولا أهل السهمان يضمن وهذا فاسد لأن الضمان إنما يجب
على الانسان بفعله وفعله الاخذ وانه مأذون فيه فلا يصلح سببا لوجوب الضمان والهلاك ليس من صنعه بل هو
محض صنع الله تعالى أعني مصنوعه ولو دفع الامام المعجل إلى فقير فأيسر الفقير قبل تمام الحول أو مات أو ارتد
جاز عن الزكاة عندنا وقال الشافعي يسترده الامام الا أن يكون يساره من ذلك المال وجه قوله أن كون المعجل
زكاة إنما يثبت عند تمام الحول وهو ليس محل الصرف في ذلك الوقت فلا يقع زكاة الا إذا كان يساره من ذلك
المال لأنه حينئذ يكون أصلا فلا يقطع التبع عن أصله ولنا أن الصدقة لاقت كف الفقير فوقعت موقعها فلا تتغير
بالغنا الحادث بعد ذلك كما إذا دفعها إلى الفقير بعد حولان الحول ثم أيسر ولو عجل زكاة ماله ثم هلك المال لم يرجع
على الفقير عندنا وقال الشافعي يرجع عليه إذا كان قال له انها معجلة وهذا غير سديد لان الصدقة وقعت في محل
الصدقة وهو الفقير بنية الزكاة فلا يحتمل الرجوع كما إذا لم يقل انها معجلة ولو كان له دراهم أو دنانير أو عروض
للتجارة فعجل زكاة جنس منها ثم هلك بعض المال جاز المعجل عن الباقي لان الكل في حكم مال واحد بدليل أنه يضم
البعض إلى البعض في تكميل النصاب فكانت نية التعيين في التعجيل لغوا كما لو كان له ألف درهم فعجل زكاة
المائتين ثم هلك بعض المال وهذا بخلاف السوائم المختلفة بأن كان له خمس من الإبل وأربعون من الغنم فعجل
شاة عن خمس من الإبل ثم هلكت الإبل أن المعجل لا يجوز عن زكاة الغنم لأنهما مالان مختلفان صورة ومعنى
فكان نية التعيين صحيحة فالتعجيل عن أحدهما لا يقع عن الآخر والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يسقطها بعد وجوبها فالمسقط لها بعد الوجوب أحد الأشياء الثلاثة منها هلاك
52

النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء وبعده عندنا وعند الشافعي لا يسقط بالهلاك بعد التمكن والمسألة قد
مضت ومنها الردة عندنا وقال الشافعي الردة لا تسقط الزكاة الواجبة حتى لو أسلم لا يجب عليه الأداء عندنا
وعنده يجب وجه قوله أن المرتد قادر على أداء ما وجب عليه لكن بتقديم شرطه وهو الاسلام فإذا أسلم وجب
عليه الأداء كالمحدث والجنب انهما قادران على أداء الصلاة لكن بواسطة الطهارة فإذا وجدت الطهارة
يجب عليهما الأداء كذا هذا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم الاسلام يجب ما قبله ولان المرتد ليس من أهل
أداء العبادة فلا يكون من أهل وجوبها فتسقط عنه بالردة وما ذكر أنه قادر على الأداء بتقديم شرطه وهو الاسلام
كلام فاسد لما فيه من جعل الأصل تبعا لتبعه وجعل التبع أصلا لمتبوعه على ما بينا فيما تقدم ومنها موت من عليه
الزكاة من غير وصية عندنا وعند الشافعي لا تسقط وجملة الكلام فيه أن من عليه الزكاة إذا مات قبل أدائها فلا
يخلو اما إن كان أوصى بالأداء واما إن كان لم يوص فإن كان لم يوص تسقط عنه في أحكام الدنيا حتى لا تؤخذ من
تركته ولا يؤمر الوصي أو الوارث بالأداء من تركته عندنا وعنده تؤخذ من تركته وعلى هذا الخلاف إذا مات
من عليه صدقة الفطر أو النذر أو الكفارات أو الصوم أو الصلاة أو النفقات أو الخراج أو الجزية لأنه لا يستوفى
من تركته عندنا وعنده يستوفى من تركته وان مات من عليه العشر فإن كان الخارج قائما فلا يسقط بالموت
في ظاهر الرواية وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة أنه يسقط ولو كان استهلك الخارج حتى صار دينا في
ذمته فهو على هذا الاختلاف وإن كان أوصى بالأداء لا يسقط ويؤدى من ثلث ماله عندنا وعند الشافعي
من جميع ماله والكلام فيه بناء على أصلين أحدهما ما ذكرناه فيما تقدم وهو أن الزكاة عبادة عندنا والعبادة
لا تتأدى الا باختيار من عليه اما بمباشرته بنفسه أو بأمره أو انابته غيره فيقوم النائب مقامه فيصير مؤديا بيد
النائب وإذا أوصى فقد أناب وإذا لم يوص فلم ينب فلو جعل الوارث نائبا عنه شرعا من غير أنابته لكان ذلك إنابة
جبرية والجبر ينافي العبادة إذ العبادة فعل يأتيه العبد باختياره ولهذا قلنا إنه ليس للامام أن يأخذ الزكاة من صاحب
المال من غير اذنه جبرا ولو أخذ لا تسقط عنه الزكاة والثاني أن الزكاة وجبت بطريق الصلة الا ترى أنه لا يقابلها
عوض مالي والصلات تسقط بالموت قبل التسليم والعشر مؤنة الأرض وكما ثبت ثبت مشتركا لقوله تعالى يا أيها
الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض أضاف المخرج إلى الكل الأغنياء والفقراء
جميعا فإذا ثبت مشتركا فلا يسقط بموته وعنده الزكاة حق العبد وهو الفقير فأشبه سائر الديون وانها لا تسقط بموت
من عليه كذا هذا ولو مات من عليه الزكاة في خلال الحول ينقطع حكم الحول عندنا وعند الشافعي لا ينقطع بل يبنى
الوارث عليه فإذا تم الحول أدى الزكاة والكلام فيه أيضا مبنى على ما ذكرنا وهو أن الزكاة عبادة عندنا فيعتبر
فيه جانب المؤدى وهو المالك وقد زال ملكه بموته فينقطع حوله وعنده ليست بعبادة بل هو مؤنة الملك فيعتبر
قيام نفس الملك وانه قائم إذ الوارث يخلف المورث في عين ما كان للمورث والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما زكاة الزروع والثمار وهو العشر فالكلام في هذا النوع أيضا يقع في مواضع في بيان فرضيته وفي بيان
كيفية الفرضية وفي بيان سبب الفرضية وفي بيان شرائط الفرضية وفي بيان القدر المفروض وفي بيان صفته وفي بيان
من له ولاية الاخذ وفي بيان وقت الفرض وفي بيان ركنه وفي بيان شرائط الركن وفي بيان ما يسقطه وفي بيان ما يوضع
في بيت المال من الأموال وفي بيان مصارفها أما الأول فالدليل على فرضيته الكتاب والسنة والاجماع والمعقول
أما الكتاب فقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده قال عامة أهل التأويل ان الحق المذكور هو العشر أو نصف العشر
فان قيل إن الله تعالى أمر بايتاء الحق يوم الحصاد ومعلوم أن زكاة الحبوب لا تخرج يوم الحصاد بل بعد التنقية
والكيل ليظهر مقدارها فيخرج عشرها فدل أن المراد به غير العشر فالجواب أن المراد منه والله أعلم وآتوا حقه
الذي وجب فيه يوم حصاده بعد التنقية فكان اليوم ظرفا للحق لا للايتاء على أن عند أبي حنيفة يجب العشر في
الخضراوات وإنما يخرج الحق منها يوم الحصاد وهو القطع ولا ينتظر شئ آخر فثبت أن الآية في العشر الا أن مقدار
53

هذا الحق غير مبين في الآية فكانت الآية مجملة في حق المقدار ثم صارت مفسرة ببيان النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر كقوله تعالى وآتوا الزكاة أنها مجملة في
حق المقدار فبينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في مائتي درهم خمسة دراهم فصار مفسرا كذا هذا وقوله تعالى يا أيها
الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وفى الآية دلالة على أن الفقراء حقا
في المخرج من الأرض حيث أضاف المخرج إلى الكل فدل على أن للفقراء في ذلك حقا كما أن للأغنياء فيدل
على كون العشر حق الفقراء ثم عرف مقدار الحق بالسنة وأما السنة فما روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم
ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر وأما الاجماع فلان الأمة أجمعت على فرضية
العشر وأما المعقول فعلى نحو ما ذكرنا في النوع الأول لان اخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة واقدار
العاجز وتقويته على القيام بالفرائض ومن باب تطهير النفس عن الذنوب وتزكيتها وكل ذلك لازم عقلا وشرعا
والله أعلم
* (فصل) * وأما الكلام في كيفية فرضية هذا النوع فعلى نحو الكلام في كيفية فرضية النوع الأول وقد
مضى الكلام فيه
* (فصل) * وأما سبب فرضيته فالأرض النامية بالخارج حقيقة وسبب وجوب الخراج الأرض النامية بالخارج
حقيقة أو تقديرا حتى لو أصاب الخارج آفة فهلك لا يجب فيه العشر في الأرض العشرية ولا الخراج في الأرض
الخراجية لفوات النماء حقيقة وتقديرا ولو كانت الأرض عشرية فتمكن من زراعتها فلم تزرع لا يجب العشر لعدم
الخارج حقيقة ولو كانت أرض خراجية يجب الخراج لوجود الخارج تقديرا ولو كانت أرض الخراج نزة أو غلب
عليها الماء بحيث لا يستطاع فيها الزراعة أو سبخة أو لا يصل إليها الماء فلا خراج فيه لانعدام الخارج فيه حقيقة
وتقديرا وعلى هذا يخرج تعجيل العشر وانه على ثلاثة أوجه في وجه يجوز بلا خلاف وفى وجه لا يجوز بلا خلاف
وفى وجه فيه خلاف أما الذي يجوز بلا خلاف فهو ان يعجل بعد الزراعة وبعد النبات لأنه تعجيل بعد وجود
سبب الوجوب وهو الأرض النامية بالخارج حقيقة ألا ترى أنه لو قصله هكذا يجب العشر وأما الذي لا يجوز بلا
خلاف فهو أن يعجل قبل الزراعة لأنه عجل قبل الوجوب وقبل وجود سبب الوجوب لانعدام الأرض النامية
بالخارج حقيقة لانعدام الخارج حقيقة وأما الذي فيه خلاف فهو أن يعجل بعد الزراعة قبل النبات قال أبو يوسف
يجوز وقال محمد لا يجوز وجه قول محمد ان سبب الوجوب لم يوجد لانعدام الأرض النامية بالخارج لا الخارج
فكان تعجيلا قبل وجود السبب فلم يجز كما لو عجل قبل الزراعة وجه قول أبى يوسف ان سبب الخروج موجود وهو
الزراعة فكان تعجيلا بعد وجود السبب فيجوز وأما تعجيل عشر الثمار فان عجل بعد طلوعها جاز بالاجماع وان عجل
قبل الطلوع ذكر الكرخي انه على الاختلاف الذي ذكرنا في الزرع وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه
لا يجوز في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف انه يجوز وجعل الأشجار للثمار بمنزلة الساق للحبوب وهناك يجوز
التعجيل كذا ههنا ووجه الفرق لأبي حنيفة ومحمد ان الشجر ليس بمحل لوجوب العشر لأنه حطب ألا ترى انه
لو قطعه لا يجب العشر فاما ساق الزرع فمحل بدليل انه لو قطع الساق قبل أن ينعقد الحب يجب العشر ويجوز تعجيل
الخراج والجزية لان سبب وجوب الخراج الأرض النامية بالخارج تقديرا بالتمكن من الزراعة لا تحقيقا وقد وجد
التمكن وسبب وجوب الجزية كونه ذميا وقد وجد والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائط الفرضية فبعضها شرط الأهلية وبعضها شرط المحلية أما شرط الأهلية فنوعان
أحدهما الاسلام وانه شرط ابتداء هذا الحق فلا يبتدأ بهذا الحق الا على مسلم بلا خلاف لان فيه معنى العبادة
والكافر ليس من أهل وجوبها ابتداء فلا يبتدأ به عليه وكذا لا يجوز أن يتحول إليه في قول أبي حنيفة وعند أبي
يوسف ومحمد يجوز حتى أن الذمي لو اشترى أرض عشر من مسلم فعليه الخراج عنده وعند أبي يوسف عليه عشران
54

وعند محمد عليه عشر واحد وجه قول محمد ان الأصل ان كل أرض ابتدئت بضرب حق عليها أن لا يتبدل الحق
بتبدل المالك كالخراج والجامع بينهما ان كل واحد منهما مؤنة الأرض لا تعلق له بالمالك حتى يجب في أرض
غير مملوكة فلا يختلف باختلاف المالك وأبو يوسف يقول لما وجب العشر على الكافر كما قاله محمد فالواجب
على الكافر باسم العشر يكون مضاعفا كالواجب على التغلبي ويوضع موضع الخراج ولأبي حنيفة ان العشر فيه
معنى العبادة والكافر ليس من أهل وجوب العبادة فلا يجب عليه العشر كما لا تجب عليه الزكاة المعهودة ولهذا
لا تجب عليه ابتداء كذا في حالة البقاء وإذا تعذر ايجاب العشر عليه فلا سبيل إلى أن ينتفع الذمي بأرضه في دار
الاسلام من غير حق يضرب عليها فضربنا عليها الخراج الذي فيه معنى الصغار كما لو جعل داره بستانا واختلفت
الرواية عن أبي حنيفة في وقت صيرورتها خراجية ذكر في السير الكبير انه كما اشترى صارت خراجية وفى رواية
أخرى لا تصير خراجية ما لم يوضع عليها الخراج وإنما يؤخذ الخراج إذا مضت من وقت الشراء مدة يمكنه أن
يزرع فيها سواء زرع أو لم يزرع كذا ذكر في العيون في رجل باع أرض الخراج من رجل وقد بقي من السنة مقدار
ما يقدر المشترى على زرعها فخراجها على المشترى وان لم يكن بقي ذلك القدر فخراجها على البائع واختلفت الرواية
عن محمد في موضع هذا العشر ذكر في السير الكبير انه يوضع موضع الصدقة لان قدر الواجب لما لم يتغير عنده
لا تتغير صفته أيضا وروى عنه انه يوضع موضع الخراج لان مال الصدقة لا يؤخذ فيه لكونه مالا مأخوذا من الكافر
فيوضع موضع الخراج ولو اشترى مسلم من ذمي أرضا خراجية فعليه الخراج ولا تنقلب عشرية لان الأصل ان
مؤنة الأرض لا تتغير بتبدل المالك الا لضرورة وفى حق الذمي إذا اشترى من مسلم أرض عشر ضرورة لان
الكافر ليس من أهل وجوب العشر فاما المسلم فمن أهل وجوب الخراج في الجملة فلا ضرورة إلى التغيير بتبدل المالك
ولو باع المسلم من ذمي أرضا عشرية فاخذها مسلم بالشفعة ففيها العشر لان الصفقة تحولت إلى الشفيع كأنه
باعها منه فكان انتقالا من مسلم إلى مسلم وكذلك لو كان البيع فاسدا فاستردها البائع منه لفساد البيع عادت إلى
العشر لان البيع الفاسد إذا فسخ يرتفع من الأصل ويصير كان لم يكن فيرتفع بأحكامه ولو وجد المشترى بها عيبا
فعلى رواية السير الكبير ليس له أن يردها بالعيب لأنها صارت خراجية بنفس الشراء فحدث فيها عيب زائد في يده
وهو وضع الخراج عليها فمنع الرد بالعيب لكنه يرجع بحصة العيب وعلى الرواية الأخرى له أن يردها ما لم يوضع
عليها الخراج لعدم حدوث العيب فان ردها برضا البائع لا تعود عشرية بل هي خراجية على حالها عند أبي
حنيفة لان الرد برضا البائع بمنزلة بيع جديد والأرض إذا صارت خراجية لا تنقلب عشرية بتبدل المالك ولو
اشترى التغلبي أرضا عشرية فعليه عشران في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد عليه عشر واحد أما محمد
فقد مر على أصله ان كل مؤنة ضربت على أرض انها لا تتغير بتغير حال المالك وفقهه ما ذكرنا وهما يقولان
الأصل ما ذكره محمد لكن يجوز أن تتغير إذا وجد المغير وقد وجد ههنا وهو قضية عمر رضي الله عنه فإنه صالح بنى تغلب
على أن يؤخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين بمحضر من الصحابة فان أسلم التغلبي أو باعها من مسلم لم يتغير
العشران عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف يتغير إلى عشر واحد وجه قوله إن العشرين كانا لكونه نصرانيا تغلبيا
إذ التضعيف يختص بهم وقد بطل بالاسلام فيبطل التضعيف ولأبي حنيفة ان العشرين كانا خراجا على التغلبي
والخراج لا يتغير باسلام المالك لما ذكرنا ان المسلم من أهل وجوب الخراج في الجملة ولا يتفرع التغير على أصل محمد
لأنه كان عليه عشر واحد قبل الاسلام والبيع من المسلم فيجب عشر واحد كما كان وهكذا ذكر الكرخي في
مختصره ان عند محمد يجب عشر واحد وذكر الطحاوي في التغلبي يشترى أرض العشر من مسلم انه يؤخذ منه
عشران في قولهم والصحيح ما ذكره الكرخي لما ذكرنا من أصل محمد رحمه الله ولو اشترى التغلبي أرض عشر
فباعها من ذمي فعليه عشران لما ذكرنا ان التضعيف على التغلبي بطريق الخراج والخراج لا يتغير بتبدل المالك
وروى الحسن عن أبي حنيفة ان عليه الخراج لان التضعيف يختص بالتغلبي والله أعلم والثاني العلم بكونه مفروضا
55

ونعني به سبب العلم في قول أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر والمسألة ذكرت في كتاب الصلاة وأما العقل والبلوغ
فليسا من شرائط أهلية وجوب العشر حتى يجب العشر في أرض الصبي والمجنون لعموم قول النبي صلى الله
عليه وسلم ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر ولان العشر مؤنة الأرض
كالخراج ولهذا لا يجتمعان عندنا ولهذا يجوز للامام ان يمد يده إليه فيأخذه جبرا ويسقط عن صاحب الأرض
كما لو أدى بنفسه الا انه إذا أدى بنفسه يقع عبادة فينال ثواب العبادة وإذا أخذه الامام كرها لا يكون له ثواب فعل
العبادة وإنما يكون ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى بمنزلة ثواب المصائب كرها بخلاف الزكاة فان الامام
لا يملك الاخذ جبرا وان أخذ لا تسقط الزكاة عن صاحب المال ولهذا لو مات من عليه العشر والطعام قائم يؤخذ
منه بخلاف الزكاة فإنها تسقط بموت من هي عليه وكذا ملك الأرض ليس بشرط لوجوب العشر وإنما الشرط ملك
الخارج فيجب في الأراضي التي لا مالك لها وهي الأراضي الموقوفة لعموم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من
طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقوله عز وجل وآتوا حقه يوم حصاده وقول النبي صلى الله عليه
وسلم ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو داليه ففيه نصف العشر ولان العشر يجب في الخارج لا في الأرض
فكان ملك الأرض وعدمه بمنزلة واحدة ويجب في أرض المأذون والمكاتب لما قلنا ولو آجر أرضه العشرية
فعشر الخارج على المؤاجر عنده وعندهما على المستأجر وجه قولهما ظاهر لما ذكرنا أن العشر يجب في الخارج
والخارج ملك المستأجر فكان العشر عليه كالمستعير ولأبي حنيفة ان الخارج للمؤاجر معنى لان بدله وهو الأجرة
له فصار كأنه زرع بنفسه وفيه اشكال لان الاجر مقابل للمنفعة لا الخارج والعشر يجب في الخارج عندهما
والخارج يسلم للمستأجر من غير عوض فيجب فيه العشر والجواب ان الخارج في إجارة الأرض وإن كان عينا حقيقة
فله حكم المنفعة فيقابله الاجر فكان الخارج للآجر معنى فكان العشر عليه فان هلك الخارج فإن كان قبل الحصاد
فلا عشر على المؤاجر ويجب الاجر على المستأجر لان الاجر يجب بالتمكن من الانتفاع وقد تمكن منه وان هلك
بعد الحصاد لا يسقط عن المؤاجر عشر الخارج لان العشر كان يجب عليه دينا في ذمته ولا يجب في الخارج عنده
حتى يسقط بهلاكه فلا يسقط عنه العشر بهلاكه ولا يسقط الاجر عن المستأجر أيضا وعند أبي يوسف ومحمد
العشر في الخارج فيكون على من حصل له الخارج ولو هلك بعد الحصاد أو قبله هلك بما فيه من العشر ولو أعارها من
مسلم فزرعها فالعشر على المستعير عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر على المعير وهكذا روى عبد الله بن المبارك عن
أبي حنيفة ولا خلاف في أن الخراج على المعير وجه قول زفر ان الإعارة تمليك المنفعة بغير عوض فكان هبة المنفعة
فأشبه هبة الزرع ولنا ان المنفعة حصلت للمستعير صورة ومعنى إذ لم يحصل للمعير في مقابلتها عوض فكان العشر على
المستعير ولو أعارها من كافر فكذلك الجواب عندهما لان العشر عندهما في الخارج على كل حال وعن أبي حنيفة فيه
روايتان في رواية العشر في الخارج وفى رواية على رب المال ولو دفعها مزارعة فاما على مذهبهما فالمزارعة جائزة
والعشر يجب في الخارج والخارج بينهما فيجب العشر عليهما وأما على مذهب أبي حنيفة فالمزارعة فاسدة ولو كان
يجيزها كان يجب على مذهبه جميع العشر على رب الأرض الا ان في حصته جميع العشر يجب في عينه وفى حصة
المزارع يكون دينا في ذمته ولو غصب غاصب أرضا عشرية فزرعها فإن لم تنقصها الزراعة فالعشر على الغاصب في
الخارج لا على رب الأرض لأنه لم تسلم له منفعة كما في العارية وان نقصتها الزراعة فعلى الغاصب نقصان الأرض كأنه
آجرها منه وعشر الخارج على رب الأرض عند أبي حنيفة وعندهما في الخارج ولو كانت الأرض خراجية في
الوجوه كلها فخراجها على رب الأرض بالاجماع الا في الغصب إذا لم تنقصها الزراعة فخراجها على الغاصب وان
نقصتها فعلى رب الأرض كأنه آجرها منه وقال محمد انظر إلى نقصان الأرض والى الخراج فإن كان ضمان النقصان
أكثر من الخراج فالخراج على رب الأرض يأخذ من الغاصب النقصان فيؤدى الخراج منه وإن كان ضمان
النقصان أقل من الخراج فالخراج على الغاصب وسقط عنه ضمان النقصان ولو باع الأرض العشرية وفيها زرع
56

قد أدرك مع زرعها أو باع الزرع خاصة فعشره على البائع دون المشترى لأنه باعه بعد وجوب العشر وتقرره
بالادراك ولو باعها والزرع بقل فان قصله المشترى للحال فعشره على البائع أيضا لتقرر الوجوب في البقل بالقصل
وان تركه حتى أدرك فعشره على المشترى في قول أبي حنيفة ومحمد لنحول الوجوب من الساق إلى الحب وروى عن أبي
يوسف أنه قال عشر قدر البقل على البائع وعشر الزيادة على المشترى وكذلك حكم الثمار على هذا التفصيل
وكذا عدم الدين ليس بشرط لوجوب العشر لان الدين لا يمنع وجوب العشر في ظاهر الرواية بخلاف الزكاة المعهودة
وقد مضى الفرق فيما تقدم
* (فصل) * وأما شرائط المحلية فأنواع منها أن تكون الأرض عشرية فإن كانت خراجية يجب فيها الخراج ولا
يجب في الخارج منها العشر فالعشر مع الخراج لا يجتمعان في أرض واحدة عندنا وقال الشافعي يجتمعان فيجب في
الخارج من أرض الخراج العشر حتى قال بوجوب العشر في الخارج من أرض السواد وجه قوله إنهما حقان مختلفان
ذاتا ومحلا وسببا فلا يتدافعان أما اختلافهما ذاتا فلا شك فيه وأما المحل فلان الخراج يجب في الذمة والعشر يجب
في الخارج وأما السبب فلان سبب وجوب الخراج الأرض النامية وسبب وجوب العشر الخارج حتى لا يجب
بدونه والخراج يجب بدون الخارج وإذا ثبت اختلافهما ذاتا ومحلا وسببا فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب
الآخر ولنا ما روى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يجتمع عشر وخراج في أرض ملسم ولان
أحدا من أئمة العدل وولاة الجور لم يأخذ من أرض السواد عشرا إلى يومنا هذا فالقول بوجوب العشر فيها يخالف
الاجماع فيكون باطلا ولان سبب وجوبهما واحد وهو الأرض النامية فلا يجتمعان في أرض واحدة كما لا يجتمع
زكاتان في مال واحد وهي زكاة السائمة والتجارة والدليل على أن سبب وجوبهما الأرض النامية انهما يضافان إلى
الأرض يقال خراج الأرض وعشر الأرض والإضافة تدل على السببية فثبت ان سبب الوجوب فيهما هو
الأرض النامية الا انه إذا لم يزرعها وعطلها يجب الخراج لان انعدام النماء كان لتقصير من قبله فيجعل موجودا
تقديرا حتى لو كان الفوات لا بتقصيره بان هلك لا يجب وإنما لا يجب العشر بدون الخارج حقيقة لأنه متعين ببعض
الخارج فلا يمكن ايجابه بدون الخارج وعلى هذا قال أصحابنا فيمن اشترى أرض عشر للتجارة أو اشترى أرض خراج
للتجارة ان فيها العشر أو الخراج ولا تجب زكاة التجارة مع أحدهما هو الرواية المشهورة عنهم وروى عن محمد انه يجب
العشر والزكاة أو الخراج والزكاة وجه هذه الرواية ان زكاة التجارة تجب في الأرض والعشر يجب في الزرع وانهما
مالان مختلفان فلم يجتمع الحقان في مال واحد وجه ظاهر الرواية ان سبب الوجوب في الكل واحد وهو الأرض
ألا ترى انه يضاف الكل إليها يقال عشر الأرض وخراج الأرض وزكاة الأرض وكل واحد من ذلك حق الله تعالى
وحقوق الله تعالى المتعلقة بالأموال النامية لا يجب فيها حقان منها بسبب مال واحد كزكاة السائمة مع التجارة وإذا
ثبت انه لا سبيل إلى اجتماع العشر والزكاة واجتماع الخراج والزكاة فايجاب العشر أو الخراج أولى لأنهما أعم وجوبا
ألا ترى انهما لا يسقطان بعذر الصبا والجنون والزكاة تسقط به فكان ايجابهما أولى وإذا عرف ان كون الأرض
عشرية من شرائط وجوب العشر لابد من بيان الأرض العشرية وجملة الكلام فيه ان الأراضي نوعان عشرية
وخراجية أما العشرية فمنها أرض العرب كلها قال محمد رحمه الله وأرض العرب من العذيب إلى مكة وعدن أبين إلى
أقصى حجر باليمن بمهرة وذكر الكرخي هي أرض الحجاز وتهامة واليمن ومكة والطائف والبرية وإنما كانت هذه
أرض عشر لان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يأخذوا من أرض العرب خراجا فدل انها
عشرية إذ الأرض لا تخلو عن احدى المؤنتين ولان الخراج يشبه الفئ فلا يثبت في أرض العرب كما لم يثبت في
رقابهم والله أعلم ومنها الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا ومنها الأرض التي فتحت عنوة وقهرا وقسمت بين
الغانمين المسلمين لان الأراضي لا تخلو عن مؤنة اما العشر واما الخراج والابتداء بالعشر في أرض المسلم أولى لان في
العشر معنى العبادة وفى الخراج معنى الصغار ومنها دار المسلم إذا اتخذها بستانا لما قلنا وهذا إذا كان يسقى بماء العشر
57

فإن كان يسقى بماء الخراج فهو خراجي وأما ما أحياه المسلم من الأرض الميتة باذن الامام فقال أبو يوسف إن كانت
من خير أرض العشر فهي عشرية وإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجية وقال محمد ان أحياها بماء السماء
أو ببئر استنبطها أو بماء الأنهار العظام التي لا تملك مثل دجلة والفرات فهي أرض عشر وان شق لها نهرا من أنهار
الأعاجم مثل نهر الملك ونهر يزد جرد فهي ارض خراج وجه قول محمد ان الخراج لا يبتدأ بأرض المسلم لما فيه من معنى
الصغار كالفئ الا إذا التزمه فإذا استنبط عينا أو حفر بئرا أو أحياها بماء الأنهار العظام فلم يلتزم الخراج فلا يوضع عليه
وإذا أحياها بماء الأنهار المملوكة فقد التزم الخراج لان حكم الفئ يتعلق بهذه الأنهار فصار كأنه اشترى أرض الخراج
ولأبي يوسف ان حيز الشئ في حكم ذلك الشئ لأنه من توابعه كحريم الدار من توابع الدار حتى يجوز الانتفاع به ولهذا
لا يجوز احياء ما في حيز القرية لكونه من توابع القرية فكان حقا لأهل القرية وقياس قول أبى يوسف أن
تكون البصرة خراجية لأنها من حيز أرض الخراج وان أحياها المسلمون الا انه ترك القياس باجماع الصحابة رضي الله عنه
م حيث وضعوا عليها العشر وأما الخراجية فمنها الأراضي التي فتحت عنوة وقهرا فمن الامام عليهم وتركها في
يد أربابها فإنه يضع على جماعتهم الجزية إذا لم يسلموا وعلى أراضيهم الخراج أسلموا أو لم يسلموا وأرض السواد كلها
أرض خراج وحد السواد من العذيب إلى عقبة حلوان ومن العلث إلى عبادان لان عمر رضي الله عنه لما فتح تلك
البلاد ضرب عليها الخراج بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فانفذ عليها حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف
فمحاها ووضعا عليها الخراج ولان الحاجة إلى ابتداء الايجاب على الكافر والابتداء بالخراج الذي فيه معنى الصغار
على الكافر أولى من العشر الذي فيه معنى العبادة والكافر ليس بأهل لها وكان القياس أن تكون مكة خراجية لأنها
فتحت عنوة وقهرا وتركت على أهلها ولم تقسم لكنا تركنا القياس بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يضع
عليها الخراج فصارت مكة مخصوصة بذلك تعظيما للحرم وكذا إذا من عليهم وصالحهم من جماجمهم وأراضيهم على
وظيفة معلومة من الدراهم أو الدنانير أو نحو ذلك فهي خراجية لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح
نصارى بنى نجران من جزية رؤسهم وخراج أراضيهم على ألفي حلة وفى رواية على ألفي ومائتي حلة تؤخذ منهم في
وقتين لكل سنة نصفها في رجب ونصفها في المحرم وكذا إذا أجلاهم ونقل إليها قوما آخرين من أهل الذمة
لأنهم قاموا مقام الأولين ومنها أرض نصارى بنى تغلب لان عمر رضي الله عنه صالحهم على أن يأخذ من أراضيهم
العشر مضاعفا وذلك خراج في الحقيقة حتى لا يتغير بتغير حال المالك كالخراجي ومنها الأرض الميتة التي أحياها
المسلم وهي تسقى بماء الخراج وماء الخراج هو ماء الأنهار الصغار التي حفرتها الأعاجم مثل نهر الملك ونهر يزدجرد
وغير ذلك مما يدخل تحت الأيدي وماء العيون والقنوات المستنبطة من مال بيت المال وماء العشر هو ماء السماء
والآبار والعيون والأنهار العظام التي لا تدخل تحت الأيدي كسيحون وجيحون ودجلة والفرات ونحوها إذ
لا سبيل إلى اثبات اليد عليها وادخالها تحت الحماية وروى عن أبي يوسف ان مياه هذه الأنهار خراجية لامكان
اثبات اليد عليها وادخالها تحت الحماية في الجملة بشد السفن بعضها على بعض حتى تصير شبه القنطرة ومنها أرض
الموات التي أحياها ذمي وأرض الغنيمة التي رضخها الامام لذمي كان يقاتل مع المسلمين ودار الذمي التي اتخذها
بستانا أو كرما لما ذكرنا ان عند الحاجة إلى ابتداء ضرب المؤنة على أرض الكافر الخراج أولى لما بينا ومنها أي من
شرائط المحلية وجود الخارج حتى أن الأرض لو لم تخرج شيئا لم يجب العشر لان الواجب جزء من الخارج وايجاب
جزء من الخارج ولا خارج محال ومنها أن يكون الخارج من الأرض مما يقصد بزراعته نماء الأرض وتستغل
الأرض به عادة فلا عشر في الحطب والحشيش والقصب الفارسي لأن هذه الأشياء لا تستنمى بها الأرض
ولا تستغل بها عادة لان الأرض لا تنمو بها بل تفسد فلم تكن نماء الأرض حتى قالوا في الأرض إذا اتخذها
مقصبة وفى شجره الخلاف التي يقطع في كل ثلاث سنين أو أربع سنين انه يجب فيها العشر لان ذلك غلة وافرة
ويجب في قصب السكر وقصب الذريرة لأنه يطلب بهما نماء الأرض فوجد شرط الوجوب فيجب فاما كون
58

الخارج مما له ثمرة باقية فليس بشرط لوجوب العشر بل يجب سواء كان الخارج له ثمرة باقية أوليس له ثمرة باقية
وهي الخضراوات كالبقول والرطاب والخيار والقثاء والبصل والثوم ونحوها في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف
ومحمد لا يجب الا في الحبوب وماله ثمرة باقية واحتجا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس في
الخضراوات صدقة وهذا نص ولأبي حنيفة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما
أخرجنا لكم من الأرض وأحق ما تتناوله هذه الآية الخضراوات لأنها هي المخرجة من الأرض حقيقة وأما الحبوب
فإنها غير مخرجة من الأرض حقيقة بل من المخرج من الأرض ولا يقال المراد من قوله تعالى ومما أخرجنا لكم من
الأرض أي من الأصل الذي أخرجنا لكم كما في قوله تعالى قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم أي أنزلنا الأصل
الذي يكون منه اللباس وهو الماء لا عين اللباس إذ اللباس كما هو غير منزل من السماء وكقوله تعالى خلقكم من تراب أي
خلق أصلكم وهو آدم عليه السلام كذا هذا لأنا نقول الحقيقة ما قلنا والأصل اعتبار الحقيقة ولا يجوز العدول عنها
الا بدليل قام دليل العدول هناك فيجب العمل بالحقيقة فيما وراء ولان فيما قاله أبو حنيفة عملا بحقيقة الإضافة
لان الاخراج من الأرض والانبات محض صنع الله تعالى لا صنع للعبد فيه الا ترى إلى قوله تعالى أفرأيتم ما تحرثون
أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون فاما بعد الاخراج والانبات فللعبد فيه صنع من السقي والحفظ ونحو ذلك فكان
الحمل على النبات عملا بحقيقة الإضافة أولى من الحمل على الحبوب وقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده والحصاد
القطع وأحق ما يحمل الحق عليه الخضراوات لأنها هي التي يجب إيتاء الحق منها يوم القطع وأما الحبوب فيتأخر
الايتاء فيها إلى وقت التنقية وقول النبي صلى الله عليه وسلم ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية ففيه
نصف العشر من غير فصل بين الحبوب والخضراوات ولان سبب الوجوب هو الأرض النامية بالخارج والنماء
بالخضر أبلغ لان ريعها أوفر وأما الحديث فغريب فلا يجوز تخصيص الكتاب والخبر المشهور بمثله أو يحمل على
الزكاة أو يحمل قوله ليس في الخضراوات صدقة على أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بل أربابها هم الذين يؤدونها بأنفسهم
فكان هذا نفى ولاية الاخذ للامام وبه نقول والله أعلم وكذا النصاب ليس بشرط لوجوب العشر فيجب العشر
في كثير الخارج وقليله ولا يشترط فيه النصاب عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يجب فيما دون خمسة أوسق
إذا كان مما يدخل تحت الكيل كالحنطة والشعير والذرة والأرز ونحوها والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله
عليه وسلم والصاع ثمانية أرطال جملتها نصف من وهو أربعة أمنان فيكون جملته ألفا ومائتي من وقال أبو يوسف
الصاع خمسة أرطال وثلث رطل واحتجا في المسألة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس فيما دون
خمسة أوسق صدقة ولأبي حنيفة عموم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا
لكم من الأرض وقوله عز وجل وآتوا حقه يوم حصاده وقول النبي صلى الله عليه وسلم ما سقته السماء ففيه العشر
وما سقى بغرب أو دالية ففيه نصف العشر من غير فصل بين القليل والكثير ولان سبب الوجوب وهي الأرض
النامية بالخارج لا يوجب التفصيل بين القليل والكثير وأما الحديث فالجواب عن التعلق به من وجهين أحدهما انه
من الآحاد فلا يقبل في معارضة الكتاب والخبر المشهور فان قيل ما تلوتم من الكتاب وورثتم من السنة يقتضيان
الوجوب من غير التعرض لمقدار الموجب منه وما روينا يقتضى المقدار فكان بيانا لمقدار ما يحب فيه العشر
والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل والمتشابه فالجواب انه لا يمكن حمله على البيان لان ما تمسكنا به عام يتناول
ما يدخل تحت الوسق ومالا يدخل وما رويتم من خبر المقدار خاص فيما يدخل تحت الوسق فلا يصلح بيانا للقدر
الذي يجب فيه العشر لان من شأن البيان أن يكون شاملا لجميع ما يقتضى البيان وهذا ليس كذلك على ما بينا فعلم أنه
لم يرد مورد البيان والثاني ان المراد من الصدقة الزكاة لان مطلق اسم الصدقة لا يتصرف الا إلى الزكاة المعهودة
ونحن به نقول إن ما دون خمسة أوسق من طعام أو تمر للتجارة لا يجب فيه الزكاة ما لم يبلغ قيمتها مائتي درهم أو يحتمل
الزكاة فيحمل عليها عملا بالدلائل بقدر الامكان ثم نذكر فروع مذهب أبي يوسف ومحمد في فصلى الخلاف وما فيه
59

من الخلاف بينهما في ذلك والوفاق فنقول عندهما يجب العشر في العنب لان المجفف منه يبقى من سنة إلى سنة وهو
الزبيب فيخرص العنب جافا فان بلغ مقدار ما يجئ منه الزبيب خمسة أوسق يجب في عنبه العشر أو نصف العشر
والا فلا شئ فيه وروى عن محمد ان العنب إذا كان رقيقا يصلح للماء ولا يجئ منه الزبيب فلا شئ فيه وان كثر لان
الوجوب فيه باعتبار حال الجفاف وكذا قال أبو يوسف في سائر الثمار إذا كان يجئ منها ما يبقى من سنة إلى سنة
بالتجفيف انه يخرص ذلك جافا فان بلغ نصابا وجب والا فلا كالتين والإجاص والكمثرى والخوخ ونحو ذلك لأنها
إذا جففت تبقى من سنة إلى سنة فكانت كالزبيب وقال محمد لا عشر في التين والإجاص والكمثرى والخوخ
والتفاح والمشمش والنبق والتوت والموز والخروب لأنها وإن كان ينتفع بها بعضها بالتجفيف وبعضها بالتشقيق
والتجفيف فالانتفاع بها بهذا الطريق ليس بغالب ولا يفعل ذلك عادة ويجب العشر في الجوز واللوز والفستق لأنها
تبقى من السنة إلى السنة ويغلب الانتفاع بالجاف منها فأشبهت الزبيب وروى عن محمد ان في البصل العشر لأنه
يبقى من سنة إلى سنة ويدخل في الكيل ولا عشر في الآس والورد والوسمة لأنها من الرياحين ولا يعم الانتفاع بها
وأما الحناء فقال أبو يوسف فيه العشر وقال محمد لا عشر فيه لأنه من الرياحين فأشبه الآس والورد ولأبي يوسف
انه يدخل تحت الكيل وينتفع به منفعة عامة بخلاف الآس والعصفر والكتان إذا بلغ القرطم والحب خمسة أوسق
وجب فيه العشر لان المقصود من زراعتها الحب والحب يدخل تحت الوسق فيعتبر فيه الأوسق فإذا بلغ ذلك
يجب العشر ويجب في العصفر والكتان أيضا على طريق التبع وقالا في بزر القنب إذا بلغ خمسة أوسق ففيه العشر
لأنه يبقى ويقصد بالزراعة والانتفاع به عام ولا شئ في القنب لأنه لحاء الشجر فأشبه لحاء سائر الأشجار ولا عشر
فيه فكذا فيه وقالا في حب الصنوبر إذا بلغ الأوسق ففيه العشر لأنه يقبل الادخار ولا شئ في خشبه كما لا شئ
في خشب سائر الشجر ويجب في الكراويا والكزبرة والكمون والخردل لما قلنا ولا يجب في السعتر والشونيز
والحلبة لأنها من جملة الأدوية فلا يعم الانتفاع بها وقصب السكر إذا كان مما يتخذ منه السكر فإذا بلغ ما يخرج
منه خمس أفراق وجب فيه العشر كذا قال محمد لأنه يبقى وينتفع به انتفاعا عاما ولا شئ في البلوط لأنه لا يعم المنفعة به
ولا عشر في بزر البطيخ والقثاء والخيار والرطبة وكل بزر لا يصلح الا للزراعة بلا خلاف بينهما لأنه لا يقصد بزراعتها
نفسها بل ما يتولد منها وذا لا عشر فيه عندهما ومما يتفرع على أصلهما ما إذا أخرجت الأرض أجناسا مختلفة
كالحنطة والشعير والعدس كل صنف منها لا يبلغ النصاب وهو خمسة أوسق انه يعطى كل صنف حكم نفسه أو يضم
البعض إلى البعض في تكميل النصاب وهو خمسة أوسق روى محمد عن أبي يوسف انه لا يضم البعض إلى البعض بل
يعتبر كل جنس بانفراده ولم يرو عنه ما إذا أخرجت نوعين من جنس وروى الحسن بن زياد وابن أبي مالك عنه ان كل
نوعين لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كالحنطة البيضاء والحمراء ونحو ذلك يضم أحدهما إلى الآخر سواء
خرجا من أرض واحدة أو أراض مختلفة ويكمل به النصاب وإن كانا مما يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا
كالحنطة والشعير لا يضم وان خرجا من أرض واحدة وتعين كل صنف منهما بانفراده ما لم يبلغ خمسة أوسق لا شئ فيه
وهو قول محمد وروى ابن سماعة عنه ان الغلتين إن كانتا تدركان في وقت واحد تضم إحداهما إلى الأخرى وان
اختلفت أجناسهما وإن كانتا لا تدركان في وقت واحد لا تضم وجه رواية اعتبار الادراك ان الحق يجب في المنفعة
وإن كانتا تدركان في مكان واحد كانت منفعتهما واحدة فلا يعتبر فيه اختلاف جنس الخارج كعروض التجارة في
باب الزكاة وإذا كان ادراكهما في أوقات مختلفة فقد اختلفت منفعتهما فكانا كالأجناس المختلفة وجه رواية
اعتبار التفاضل وهو قول محمد انه لا عبرة لاختلاف النوع فيما لا يجوز فيه التفاضل إذا كان الجنس متحدا كالدراهم
السود والبيض في باب الزكاة انه يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب وإن كان النوع مختلفا فاما فيما لا يجرى
فيه التفاضل فاختلاف الجنس معتبر في المنع من الضم كالإبل مع البقر في باب الزكاة وهو رواية محمد عن أبي يوسف
وقال أبو يوسف إذا كان لرجل أراضي مختلفة في رساتيق مختلفة والعامل واحد ضم الخارج من بعضها إلى بعض
60

وكمل الأوسق به وان اختلف العامل لم يكن لاحد العاملين مطالبة حتى يبلغ ما خرج من الأرض التي في عمله خمسة
أوسق وقال محمد إذا اتفق المالك ضم الخارج بعضه إلى بعض وان اختلفت الأرضون والعمال وهذا لا يحقق الخلاف
لان كل واحد منهما أجاب في غير ما أجاب به الآخر لان جواب أبى يوسف في سقوط المطالبة عن المالك ولم يتعرض
لوجوب الحق على المالك فيما بينه وبين الله تعالى وهو فيما بينه وبين الله تعالى مخاطب بالأداء لاجتماع النصاب في
ملكه وانه سقطت المطالبة عنه وجواب محمد في وجوب الحق ولم يتعرض لمطالبة العامل فلم يتحقق الخلاف بينهما ومما
يتفرع على قولهما الأرض المشتركة إذا أخرجت خمسة أوسق انه لا عشر فيها حتى تبلغ حصة كل واحد منهما
خمسة أوسق وروى الحسن عن أبي يوسف ان فيها العشر وجه هذه الرواية ان المالك ليس بشرط لوجوب العشر
بدليل انه يجب في الأرض الموقوفة وأرض المكاتب وأرض المأذون وإنما الشرط كمال النصاب وهو خمسة أوسق
وقد وجد والصحيح هو الأول لان النصاب عندهما شرط الوجوب فيعتبر كماله في حق كل واحد منهما كما في مال
الزكاة على ما بينا هذا الذي ذكرنا من اعتبار الأوسق عندهما فيما يدخل تحت الكيل واما ما لا يدخل تحت
الكيل كالقطن والزعفران فقد اختلفا فيما بينهما قال أبو يوسف يعتبر فيه القيمة وهو أن يبلغ قيمة الخارج
قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق من الحبوب وقال محمد يعتبر خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك
الشئ فالقطن يعتبر بالاحمال فإذا بلغ خمسة أحمال يجب والا فلا ويعتبر كل حمل ثلاثمائة من فتكون جملته ألفا
وخمسمائة منا والزعفران يعتبر بالأمنان فإذا بلغ خمسة أمنان يجب والا فلا وكذلك في السكر يعتبر خمسة أمنان
وجه قول محمد ان التقدير بالوسق في الموسوقات لكون الوسق أقصى ما يقدر به في بابه وأقصى ما يقدر به في غير
الموسوق ما ذكرنا فوجب التقدير به ولأبي يوسف ان الأصل هو اعتبار الوسق لان النص ورد به غير أنه ان أمكن
اعتباره صورة ومعنى يعتبر وان لم يمكن يجب اعتبار معنى وهو قيمة الموسوق واما العسل فقد ذكر القدوري
في شرحه مختصر الكرخي عن أبي يوسف انه اعتبر فيه قيمة خمسة أوسق فان بلغ ذلك يجب فيه العشر والا فلا بناء
على أصله من اعتبار قيمة الأوسق فيما لا يدخل تحت الكيل وما روى عنه انه يعتبر فيه خمسة أوسق فإنما أراد به قدر
خمسة أوسق لان العسل لا يكال وروى عنه انه قدر ذلك بعشرة أرطال وروى أنه اعتبر خمس قرب كل قربة خمسون
منا فيكون جملته مائتين وخمسين منا ومحمد اعتبر فيه خمسة افراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا فيكون ثمانية عشر منا
فتكون جملته تسعين منا بناء على أصله من اعتبار خمسة أمثال أعلى ما يقدر به كل شئ وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي ان أبا يوسف اعتبر في نصاب العسل عشرة أرطال ومحمد اعتبر خمسة افراق في رواية وخمس قرب في
رواية وخمسة أمنان في رواية ثم وجوب العشر في العسل مذهب أصحابنا رحمهم الله وقال الشافعي لا عشر فيه وزعم أن
ما روى في وجوب العشر في العسل لم يثبت وجه قوله إن سبب الوجوب وهو الأرض النامية بالخارج لم يوجد لأنه
ليس من نماء الأرض بل هو متولد من حيوان فلم تكن الأرض نامية بها ونحن نقول إن لم يثبت عندك وجوب العشر
في العسل فقد ثبت عندنا الا ترى إلى ما روى أن أبا سيارة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي نحلا فقال
النبي صلى الله عليه وسلم أد عشرها فقال أبو سيارة احمها لي يا رسول الله فحماها له وروى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده ان بطنا من فهر كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحل لهم العشر من كل عشر قرب قربة
وكان يحمى لهم واديين فلما كان عمر رضي الله عنه استعمل على ما هناك سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن يؤدوا
إليه شيئا وقالوا إنما كان شيئا نؤديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب ذلك سفيان إلى عمر رضي الله عنه
فكتب إليه عمر رضي الله عنه إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله تعالى رزقا إلى من يشاء فان أدوا إليك
ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحم له واديهم والا فخل بين الناس وبينها فأدوا إليه وعن أبي
هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر وعن عمر رضي الله عنه
أنه كان يأخذ عن العسل العشر من كل عشر قرب قربة وكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما انه كان
61

يفعل ذلك حين كان واليا بالبصرة وأما قوله ليس من نماء الأرض فنقول هو ملحق بنمائها لاعتبار الناس اعداد
الأرض لها ولأنه يتولد من أنوار الشجر فكان كالثمر ثم إنما يجب العشر في العسل إذا كان في ارض العشر فاما إذا
كان في أرض الخراج فلا شئ فيه لما ذكرنا ان وجوب العشر فيه لكونه بمنزلة الثمر لتولده من أزهار الشجر ولا شئ في
ثمار أرض الخراج ولان أرض الخراج يجب فيها الخراج فلو وجب العشر في العسل لاجتمع العشر والخراج في
أرض واحدة ولا يجتمعان عندنا ويجب العشر في قليله وكثيره في قول أبي حنيفة لأنه ملحق بالنماء ويجرى
مجرى الثمار والنصاب ليس بشرط في ذلك عنده وعندهما شرط وقد ذكرنا اختلاف الرواية عنهما في ذلك
وما يوجد في الجبال من العسل والفواكه فقد روى محمد عن أبي حنيفة ان فيه العشر وروى أصحاب الاملاء
عن أبي يوسف انه لا شئ فيه وجه قول أبى يوسف ان هذا مباح غير مملوك فلا يجب فيه العشر كالحطب
والحشيش ولأبي حنيفة عمومات العشر الا أن ملك الخارج شرط ولما أخذه فقد ملكه فصار كما لو كان في أرضه
والحول ليس بشرط لوجوب العشر حتى لو أخرجت الأرض في السنة مرارا يجب العشر في كل مرة لان
نصوص العشر مطلقة عن شرط الحول ولان العشر في الخارج حقيقة فيتكرر الوجوب بتكرر الخارج
وكذلك خراج المقاسمة لأنه في الخارج فاما خراج الوظيفة فلا يجب في السنة الا مرة واحدة لان ذلك ليس في
الخارج بل في الذمة عرف ذلك بتوظيف عمر رضي الله عنه وما وظف في السنة الا مرة واحدة
* (فصل) * وأما بيان مقدار الواجب فالكلام في هذا الفصل في موضعين أحدهما في بيان قدر الواجب من
العشر والثاني في بيان قدر الواجب من الخراج اما الأول فما سقى بماء السماء أو سقى سيحا ففيه عشر كامل وما
سقى بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
ما سقته السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر وعن أنس رضي الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما سقته السماء أو العين أو كان بعلا العشر وما سقى بالرشاء ففيه نصف العشر ولان
العشر وجب مؤنة الأرض فيختلف الواجب بقلة المؤنة وكثرتها ولو سقى الزرع في بعض السنة سيحا وفى بعضها
بآلة يعتبر في ذلك الغالب لان للأكثر حكم الكل كما في السوم في باب الزكاة على ما مر ولا يحتسب لصاحب الأرض
ما أنفق على الغلة من سقى أو عمارة أو أجر الحافظ أو أجر العمال أو نفقة البقر لقوله صلى الله عليه وسلم ما سقته
السماء ففيه العشر وما سقى بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر أوجب العشر ونصف العشر مطلقا عن
احتساب هذه المؤن ولان النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الحق على التفاوت لتفاوت المؤن ولو رفعت المؤن
لارتفع التفاوت وأما الثاني وهو بيان قدر الواجب من الخراج فالخراج نوعان خراج وظيفة وخراج مقاسمة اما
خراج الوظيفة فما وظفه عمر رضي الله عنه ففي كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة قفيز مما يزرع فيها ودرهم
القفيز صاع والدرهم وزن سبعة والجريب أرض طولها ستون ذراعا وعرضها ستون ذراعا بذراع كسرى يزيد
على ذراع العامة بقصبة وفى جريب الرطبة خمسة دراهم وفى جريب الكرم عشرة دراهم هكذا وظفه عمر
بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد ومثله يكون اجماعا وأما جريب الأرض التي فيها أشجار مثمرة بحيث
لا يمكن زراعتها لم يذكر في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف أنه قال إذا كانت النخيل ملتفة جعلت عليها الخراج
بقدر ما تطيق ولا أزيد على جريب الكرم عشرة دراهم وفى جريب الأرض التي يتخذ فيها الزعفران قدر ما تطيق
فينظر إلى غلتها فإن كانت تبلغ غلة الأرض المزروعة يؤخذ منها قدر خراج الأرض المزروعة وإن كانت تبلغ غلة
الرطبة يؤخذ منها قدر خراج أرض الرطبة هكذا لان مبنى الخراج على الطاقة الا ترى أن حذيفة بن اليمان وعثمان
ابن حنيف رضي الله عنهما لما مسحا سواد العراق بأمر عمر رضي الله عنه ووضعا على كل جريب يصلح للزراعة
قفيزا ودرهما وعلى كل جريب يصلح للرطبة خمسة دراهم وعلى كل جريب يصلح للكرم عشرة دراهم فقال
لهما عمر رضي الله عنه لعلكما حملتما مالا تطيق فقالا بل حملنا ما تطيق ولو زدنا لأطاقت فدل الحديث على أن مبنى
62

الخراج على الطاقة فيقدر بها فيما وراء الأشياء الثلاثة المذكورة في الخبر فيوضع على أرض الزعفران والبستان في
أرض الخراج بقدر ما تطيق وقالوا لنهاية الطاقة قدر نصف الخارج لا يزاد عليه وقالوا فيمن له أرض زعفران فزرع
مكانه الحبوب من غير عذر انه يؤخذ منه خراج الزعفران لأنه قصر حيث لم يزرع الزعفران مع القدرة عليه فصار
كأنه عطل الأرض فلم يزرع فيها شيئا ولو فعل ذلك يؤخذ منه خراج الزعفران كذا هذا وكذا إذا قطع كرمه من غير
عذر وزرع فيه الحبوب انه يؤخذ منه خراج الكرم لما قلنا وان أخرجت أرض الخراج قدر الخراج لا غير يؤخذ
نصف الخراج وان أخرجت مثلي الخراج فصاعدا يؤخذ جميع الخراج الموظف عليها وإن كانت لا تطيق قدر
خراجها الموضوع عليها ينقض ويؤخذ منها قدر ما تطيق بلا خلاف واختلف فيما إذا كانت تطيق أكثر من
الموضوع أنه هل تزاد أم لا قال أبو يوسف لا تزاد وقال محمد تزاد وجه قول محمد ان مبنى الخراج على الطاقة على
ما بينا فتجوز الزيادة على القدر الموظف إذا كانت تطيقه ولأبي يوسف أن معنى الطاقة إنما يعتبر فيها وراء
المنصوص والمجمع عليه والقدر الموضوع من الخراج الموظف منصوص ومجمع عليه على ما بينا فلا تجوز الزيادة
عليه بالقياس وأما خراج المقاسمة فهو ان يفتح الامام بلدة فيمن على أهلها ويجعل على أراضيهم خراج
مقاسمة وهو ان يؤخذ منهم نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه وأنه جائز لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا فعل لما فتح خيبر ويكون حكم هذا الخراج حكم العشر ويكون ذلك في الخارج كالعشر الا انه يوضع موضع
الخراج لأنه خراج في الحقيقة والله أعلم
* (فصل) * وأما صفة الواجب فالواجب جزء من الخارج لأنه عشر الخارج أو نصف عشره وذلك جزؤه الا أنه
واجب من حيث إنه مال لا من حيث إنه جزء عندنا حتى يجوز أداء قيمته عندنا وعند الشافعي الواجب عين الجزء
ولا يجوز غيره وهي مسألة دفع القيم وقد مرت فيما تقدم
* (فصل) * وأما وقت الوجوب فوقت الوجوب وقت خروج الزرع وظهور الثمر عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف
وقت الادراك وعند محمد وقت التنقية والجذاذ فإنه قال إذا كان الثمر قد حصد في الحظيرة وذرى البر وكان خمسة
أوسق ثم ذهب بعضه كان في الذي بقي منه العشر فهذا يدل على أن وقت الوجوب عنده هو وقت التصفية في
الزرع ووقت الجذاذ في الثمر هو يقول تلك الحال هي حال تناهى عظم الحب والثمر واستحكامها فكانت هي حال
الوجوب وأبو يوسف يحتج بقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده ويوم حصاده هو يوم ادراكه فكان هو وقت
الوجوب ولأبي حنيفة قوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض أمر الله تعالى
بالانفاق مما أخرجه من الأرض فدل أن الوجوب متعلق بالخروج ولأنه كما خرج حصل مشتركا كالمال
المشترك لقوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض جعل الخارج للكل فيدخل فيه الأغنياء والفقراء وإذا عرفت
وقت الوجوب على اختلافهم فيه ففائدة هذا الاختلاف على قول أبي حنيفة لا تظهر الا في الاستهلاك فما كان
منه بعد الوجوب يضمن عشره وما كان قبل الوجوب لا يضمن وأما عند أبي يوسف ومحمد فتظهر ثمرة الاختلاف
في الاستهلاك وفى الهلاك أيضا في حق تكميل النصاب بالهالك فما هلك بعد الوجوب يعتبر الهالك مع الباقي في
تكميل النصاب وما هلك قبل الوجوب لا يعتبر وبيان هذه الجملة إذا أتلف انسان الزرع أو الثمر قبل الادراك
حتى ضمن أخذ صاحب المال من المتلف ضمان المتلف وأدى عشره وان أتلف البعض دون البعض أدى
قدر عشر المتلف من ضمانه وما بقي فعشره في الخارج وان أتلفه صاحبه أو أكله يضمن عشره ويكون دينا في
ذمته وان أتلف البعض دون البعض يضمن قدر عشر ما أتلف ويكون دينا في ذمته وعشر الباقي يكون في
الخارج وهذا على أصل أبي حنيفة لان الاتلاف حصل بعد الوجوب لثبوت الوجوب بالخروج والظهور فكان الحق
مضمونا عليه كما لو أتلف مال الزكاة بعد حولان الحول واما على قولهما فلا يضمن عشر المتلف لان الاتلاف حصل
قبل وقت وجوب الحق ولو هلك بنفسه فلا عشر في الهالك بلا خلاف سواء هلك كله أو بعضه لان العشر لا يضمن
63

بالهلاك سواء كان قبل الوجوب أو بعده ويكون عشر الباقي فيه قل أو كثر في قول أبي حنيفة لان النصاب عنده
ليس بشرط وكذلك عندهما إن كان الباقي نصابا وهو خمسة أوسق وان لم يكن نصابا لا يعتبر قدر الهالك في تكميل
النصاب في الباقي عندهما بل إن بلغ الباقي بنفسه نصابا يكون فيه العشر والا فلا هذا إذا هلك قبل الادراك
أو استهلك فاما بعد الادراك والتنقية والجذاذ أو بعد الادراك قبل التنقية والجذاذ فان هلك سقط الواجب
بلا خلاف بين أصحابنا كالزكاة تسقط إذا هلك النصاب وعند الشافعي لا تسقط وقد ذكرنا المسألة وان هلك
بعضه سقط الواجب بقدره وبقى عشر الباقي فيه قليلا كان أو كثيرا عند أبي حنيفة لان النصاب ليس بشرط
عنده وعندهما يكمل نصاب الباقي بالهالك ويحتسب به في تمام الخمسة الأوسق وروى عن أبي يوسف انه لا يعتبر
الهالك في تمام الأوسق بل يعتبر التمام في الباقي فإن كان في نفسه نصابا يكون فيه العشر والا فلا وان استهلك
فان استهلكه المالك ضمن عشره ويكون دينا في ذمته وان استهلك بعضه فقدر عشر المستهلك يكون دينا في ذمته
وعشر الباقي في الخارج وان استهلكه غير المالك أخذ الضمان منه وأدى عشره لأنه هلك إلى خلف وهو الضمان
فكان قائما معنى وان استهلك بعضه أخذ ضمانه وأدى عشر القدر المستهلك وعشر الباقي منه لما قلنا وان أكل
صاحب المال من الثمر أو أطعم غيره يضمن عشره ويكون دينا في ذمته وعشر ما بقي يكون فيه وهذا على قول
أبي حنيفة رحمه الله وروى عن أبي يوسف ان ما أكل أو أطعم بالمعروف لا يضمن عشره لكن يعتد به في تكميل
النصاب وهو الأوسق فإذا بلغ الكل نصابا أدى عشر ما بقي احتج أبو يوسف بما روى عن سهل بن أبي خيثمة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فالربع وروى أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا خيثمة خارصا فجاء رجل فقال يا رسول الله ان أبا خيثمة زاد على فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم ان ابن عمك يزعم انك قد زدت عليه فقال يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما
يطعم المساكين وما يصيب الريح فقال صلى الله عليه وسلم لقد زادك ابن عمك وانصفك وعنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال خففوا في الخرص فان في المال العرية والوصية والمراد من العرية الصدقة أمر بالتخفيف في الخرص
وبين المعنى وهو أن في المال عرية ووصية فلو ضمن عشر ما تصدق أو أكل هو وأهله لم يتحقق التخفيف
ولأنه لو ضمن ذلك لامتنع من الاكل خوفا من العشر وفيه حرج الا انه يعتد بذلك في تكميل النصاب لان
نفى وجوب الضمان عنه تخفيفا عليه نظرا له وفى عدم الاعتداد به في تمام الأوسق ضرر به وبالفقراء وهذا
لا يجوز ولأبي حنيفة النصوص المقتضية لوجوب العشر في كل خارج من غير فصل بين المأكول والباقي
فان قيل أليس الله تعالى قال وآتوا حقه يوم حصاد أمر بايتاء الحق يوم الحصاد فلا يجب الحق فيما أخذ منه قبل
الحصاد يدل عليه قرينة الآية وهي قوله تعالي كلوا من ثمره إذا أثمر وهذا يدل على أن قدر المأكول أفضل
إذ لو لم يكن أفضل لم يكن لقوله كلوا من ثمره إذا أثمر فائدة لان كل أحد يعلم أن الثمرة تؤكل ولا تصلح لغير الاكل
فالجواب أن الآية لازمة له لان الحصاد هو القطع فيقتضى أن كل ما قطع أخذ منه شئ لزمه اخراج عشره من غير
فصل بين ما إذا كان المقطوع مأكولا أو باقيا على أنا نقول بموجب الآية انه يجب إيتاء حقه يوم حصاده لكن
ماحقه يوم حصاده أداء العشر عن الباقي فحسب أم عن الباقي والمأكول والآية لا تتعرض لشئ من ذلك فكان
تمسكا بالمسكوت وانه لا يصح وأما قوله لا بد وأن يكون لقوله تعالي كلوا من ثمره إذا أثمر فائدة فنقول يحتمل أن
يكون له فائدة سوى ما قلتم وهو إباحة الانتفاع رد الاعتقاد الكفرة تحريم الانتفاع بهذه الأشياء بجعلها للأصنام
فرد ذلك عليهم بقوله عز وجل كلوا من ثمره إذا أثمر أي انتفعوا بها ولا تضيعوها بالصرف إلى الأصنام ولذلك
قال ولا تسرفوا انه لا يجب المسرفين وأما الأحاديث فقد قيل إنها وردت قبل حديث العشر ونصف العشر
فصارت منسوخة به والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ركن هذا النوع وشرائط الركن أما ركنه فهو التمليك لقوله تعالى وآتوا حقه يوم
64

حصاده والايتاء هو التمليك لقوله تعالى وآتوا الزكاة فلا تتأدى بطعام الإباحة وبما ليس بتمليك رأسا من بناء
المساجد ونحو ذلك مما ذكرنا في النوع الأول وبما ليس بتمليك من كل وجه وقد مر بيان ذلك كله وأما شرائط
الركن فإننا ذكرناها في النوع الأول مما يرجع بعضها إلى المؤدى وبعضها إلى المؤدى وبعضها إلى المؤدى إليه
فلا معنى للإعادة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يسقط بعد الوجوب فمنها هلاك الخارج من غير صنعه لان الواجب في الخارج فإذا
هلك يهلك بما فيه كهلاك نصاب الزكاة بعد الحول وهذا عندنا وعند الشافعي لا يسقط وهو على الاختلاف في
الزكاة وقد مرت المسألة وان هلك البعض يسقط الواجب بقدره ويؤدى عشر الباقي قل الباقي أو كثر في قول
أبي حنيفة وعندهما يعتبر قدر الهالك مع الباقي في تكميل النصاب ان بلغ نصابا يؤدى والا فلا وفى رواية عن أبي
يوسف يعتبر كمال النصاب في الباقي بنفسه من غير ضم قدر الهالك إليه على ما مر وان استهلك فان استهلكه غير
المالك أخذ الضمان منه وأدى عشره وان استهلك بعضه أدى عشر القدر المستهلك من الضمان وان استهلكه
المالك أو استهلك البعض بأن أكله ضمن عشر الهالك وصار دينا في ذمته في قول أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف
وقد ذكرنا المسألة ومنها الردة عندنا لان في العشر معنى العبادة والكافر ليس من أهل العبادة وعند الشافعي
لا يسقط كالزكاة ومنها موت المالك من غير وصية إذا كان استهلك الخارج عندنا خلافا للشافعي كما في الزكاة
وإن كان الخارج قائما بعينه يؤدى العشر منه في ظاهر الرواية وفى رواية عن أبي يوسف يسقط بخلاف الزكاة
وقد مضى الفرق فيما تقدم والله تعالى أعلم
* (فصل) * هذا الذي ذكرنا حكم الخارج من الأرض وأما حكم المستخرج من الأرض فالكلام فيه في موضعين
أحدهما في بيان ما فيه الخمس من المستخرج من الأرض ومالا خمس فيه والثاني في بيان من يجوز صرف الخمس
إليه ومن له ولاية أخذ الخمس أما الأول فالمستخرج من الأرض نوعان أحدهما يسمى كنزا وهو المال الذي دفنه
بنو آدم في الأرض والثاني يسمى معدنا وهو المال الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض والركاز اسم
يقع على كل واحد منهما الا أن حقيقته للمعدن واستعماله للكنز مجازا أما الكنز فلا يخلو اما أن وجد في دار
الاسلام أو دار الحرب وكل ذلك لا يخلو اما أن يكون في ارض مملوكة أو في أرض غير مملوكة ولا يخلو اما أن يكون
به علامة الاسلام كالمصحف والدراهم المكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله أو غير ذلك من علامات
الاسلام أو علامات الجاهلية من الدراهم المنقوش عليها لصنم أو الصليب ونحو ذلك أو لا علامة به أصلا فان
وجد في دار الاسلام في أرض غير مملوكة كالجبال والمفاوز وغيرها فإن كان به علامة الاسلام فهو بمنزلة اللقطة
يصنع به ما يصنع باللقطة يعرف ذلك في كتاب اللقطة لأنه إذا كان به علامة الاسلام كان مال المسلمين ومال
المسلمين لا يغنم الا انه مال لا يعرف مالكه فيكون بمنزلة اللقطة وإن كان به علامة الجاهلية ففيه الخمس وأربعة
أخماسه للواجد بلا خلاف كالمعدن على ما بين وان لم يكن به علامة الاسلام ولا علامة الجاهلية فقد قيل إن في
زماننا يكون حكمه حكم اللقطة أيضا ولا يكون له حكم الغنيمة لان عهد الاسلام قد طال فالظاهر أنه لا يكون من
مال الكفرة بل من مال المسلمين لم يعرف مالكه فيعطى له حكم اللقطة وقيل حكمه حكم الغنيمة لان الكنوز غالبا
بوضع الكفرة وإن كان به علامة الجاهلية يجب فيه الخمس لما روى أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الكنز فقال فيه وفى الركاز الخمس ولأنه في معنى الغنيمة لأنه استولى عليه على طريق القهر وهو على حكم ملك
الكفرة فكان غنيمة فيجب فيه الخمس وأربعة أخماسه للواجد لأنه أخذ بقوة نفسه وسواء كان الواجد حرا أو
عبدا مسلما أو ذميا كبيرا أو صغيرا لان ما روينا من الحديث لا يفصل بين واجد وواجد ولان هذا المال بمنزلة
الغنيمة الا ترى انه وجب فيه الخمس والعبد والصبي والذي من أهل الغنيمة الا إذا كان ذلك باذن الامام وقاطعه
على شئ فله ان يفي بشرطه لقول النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم ولأنه إذا قاطعه على شئ
65

فقد جعل المشروط أجرة لعمله فيستحقه بهذا الطريق وان وجد في أرض مملوكة يجب فيه الخمس بلا خلاف
لما روينا من الحديث ولأنه مال الكفرة استولى عليه على طريق القهر فيخمس واختلف في الأربعة
الأخماس قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله هي لصاحب الخطة إن كان حيا وإن كان ميتا فلورثته ان عرفوا وإن كان
لا يعرف صاحب الخطة ولا ورثته تكون لاقصى مالك للأرض أو لورثته وقال أبو يوسف أربعة أخماسه للواجد
وجه قوله إن هذا غنيمة ما وصلت إليها يد الغانمين وإنما وصلت إليه يد الواجد لا غير فيكون غنيمة يوجب الخمس
واختصاصه باثبات اليد عليه يوجب اختصاصه به وهو تفسير الملك كما لو وجده في أرض غير مملوكة ولهما ان صاحب
الخطة ملك الأرض بما فيها لأنه إنما ملكها بتمليك الامام والامام إنما ملك الأرض بما وجد منه ومن سائر الغانمين
من الاستيلاء والاستيلاء كما ورد على ظاهر الأرض ورد على ما فيها فملك ما فيها وبالبيع لا يزول ما فيها لان البيع
يوجب زوال ما ورد عليه البيع والبيع ورد على ظاهر الأرض لا على ما فيها وإذا لم يكن ما فيها تبعا لها فبقي على ملك
صاحب الخطة وكان أربعة أخماسه له وصار هذا كمن اصطاد سمكة كانت ابتلعت لؤلؤة أو اصطاد طائرا كان قد
ابتلع جوهرة انه يملك الكل ولو باع السمكة أو الطائر لا تزول اللؤلؤة والجوهرة عن ملكه لورود العقد على السمكة
والطير دون اللؤلؤة والجوهرة كذا هذا فان قيل كيف يملك صاحب الخطة ما في الأرض بتمليك الامام إياه الأرض
والامام لو فعل ذلك لكان جورا في القسمة والامام لا يملك الجور في القسمة فثبت ان الامام ما ملكه الا الأرض فبقي
الكنز غير مملوك لصاحب الخطة فالجواب عنه من وجهين أحدهما ان الامام ما ملكه الا رقبة الأرض على
ما ذكرتم لكنه لما ملك الأرض بتمليك الامام فقد تفرد بالاستيلاء على ما في الأرض وقد خرج الجواب عن وجوب
الخمس لأنه ما ملك ما في الأرض بتمليك الامام حتى يسقط الخمس وإنما ملكه بتفرده بالاستيلاء عليه فيجب عليه
الخمس كما لو وجده في أرض غير مملوكة والثاني ان مراعاة المساواة في هذه الجهة في القسمة مما يتعذر فيسقط
اعتبارها دفعا للحرج هذا إذا وجد الكنز في دار الاسلام فاما إذا وجده في دار الحرب فان وجده في أرض ليست
بمملوكة لاحد فهو للواجد ولا خمس فيه لأنه مال أخذه لا على طريق القهر والغلبة لانعدام غلبة أهل الاسلام
على ذلك الموضع فلم يكن غنيمة فلا خمس فيه ويكون الكل له لأنه مباح استولى عليه بنفسه فيملكه كالحطب
والحشيش وسواء دخل بأمان أو بغير أمان لان حكم الأمان يظهر في المملوك لا في المباح وان وجده في أرض
مملوكة لبعضهم فإن كان دخل بأمان رده إلى صاحب الأرض لأنه إذا دخل بأمان لا يحل له أن يأخذ شيئا من أموالهم
بغير رضاهم لما في ذلك من الغدر والخيانة في الأمانة فإن لم يرده إلى صاحب الأرض يصير ملكا له لكن لا يطيب
له لتمكن خبث الخيانة فيه فسبيله التصدق به فلو باعه يجوز بيعه لقيام الملك لكن لا يطيب للمشترى بخلاف بيع
المشترى شراء فاسدا والفرق بينهما يذكر في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى وإن كان دخل بغير أمان حل له ولا
خمس فيه أما الحل فلان له أن يأخذ ما ظفر به من أموالهم من غير رضاهم وأما عدم وجوب الخمس فلانه غير
مأخوذ على سبيل القهر والغلبة فلم يكن غنيمة فلا يجب فيه الخمس حتى لو دخل جماعة ممتنعون في دار الحرب
فظفروا بشئ من كنوزهم يجب فيه الخمس ولكونه غنيمة لحصول الاخذ على طريق القهر والغلبة وان وجده في
أرض مملوكة لاحد أو في دار نفسه ففيه الخمس بلا خلاف بخلاف المعدن عند أبي حنيفة لان الكنز ليس من أجزاء
الأرض ولهذا لم تكن أربعة أخماسه لمالك الرقبة بالاجماع فلو وجد فيه المؤنة وهو الخمس لم يصر الجزء مخالفا للكل
بخلاف المعدن على ما نذكر وأما أربعة أخماسه فقد اختلف أصحابنا في ذلك عند أبي حنيفة ومحمد هي للمختط له
وعند أبي يوسف للواجد لأنه مباح سبقت يده إليه ولهما ان هذا مال مباح سبقت إليه يد الخصوص وهي يد
المختط يصير ملكا له كالمعدن الا ان المعدن انتقل بالبيع إلى المشترى لأنه من أجزاء الأرض والكنز لم ينتقل إليه
لأنه ليس من أجزاء المبيع والتمليك فان استولى عليه بالاستيلاء فيبقى على ملكه كمن اصطاد سمكة في بطنها درة
ملك السمكة والدرة لثبوت اليد عليهما فلو باع السمكة بعد ذلك لم تدخل الدرة في البيع كذا ههنا والمختط له من
66

خصه الامام بتمليك البقعة منه فإن لم يعرف المختط له يصرف إلى أقصى مالك له يعرف في الاسلام كذا ذكر
الشيخ الإمام الزاهد السرخسي رحمه الله هذا إذا وجد الكنز في دار الاسلام وأما المعدن فالخارج منه في الأصل
نوعان مستجسد ومائع والمستجسد منه نوعان أيضا نوع يذوب بالإذابة وينطبع بالحلية كالذهب والفضة
والحديد والرصاص والنحاس ونحو ذلك ونوع لا يذوب بالإذابة كالياقوت والبلور والعقيق والزمرد والفيروزج
والكحل والمغرة والزرنيخ والجص والنورة ونحوها والمائع نوع آخر كالنفط والقار ونحو ذلك وكل ذلك لا يخلو
اما ان وجده في دار الاسلام أو في دار الحرب في أرض مملوكة أو غير مملوكة فان وجد في دار الاسلام في أرض غير
مملوكة فالموجود مما يذوب بالإذابة وينطبع بالحلية يجب فيه الخمس سواء كان ذلك من الذهب والفضة أو غيرهما
مما يذوب بالإذابة وسواء كان قليلا أو كثيرا فأربعة أخماسه للواجد كائنا من كان الا الحربي المستأمن فإنه يسترد
منه الكل الا إذا قاطعه الامام فان له أن يفي بشرطه وهذا قول أصحابنا رحمهم الله وقال الشافعي في معادن الذهب
والفضة ربع العشر كما في الزكاة حتى شرط فيه النصاب فلم يوجب فيما دون المائتين وشرط بعض أصحابه الحول
أيضا وأما غير الذهب والفضة فلا خمس فيه وأما عندنا فالواجب خمس الغنيمة في الكل لا يشترط في شئ منه شرائط
الزكاة ويجوز دفعه إلى الوالدين والمولودين الفقراء كما في الغنائم ويجوز للواجد أن يصرف إلى نفسه إذا كان محتاجا
ولا تغنيه الأربعة الأخماس احتج الشافعي بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث
المعادن القليلة وكان يأخذ منها ربع العشر ولأنها من نماء الأرض وريعها فكان ينبغي أن يجب فيها العشر الا انه
اكتفى بربع العشر لكثرة المؤنة في استخراجها ولنا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وفى الركاز
الخمس وهو اسم للمعدن حقيقة وإنما يطلق على الكنز مجاز الدلائل أحدها انه مأخوذ من الركز وهو الاثبات وما في
المعدن هو المثبت في الأرض لا الكنز لأنه وضع مجاورا للأرض والثاني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عما
يوجد من الكنز العادي فقال فيه وفى الركاز الخمس عطف الركاز على الكنز والشئ لا يعطف على نفسه هو الأصل
فدل ان المراد منه المعدن والثالث ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال المعدن جبار والقليب جبار وفى
الركاز الخمس قيل وما الركاز يا رسول الله فقال هو المال الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق السماوات
والأرض فدل على أنه اسم للمعدن حقيقة فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الخمس في المعدن من غير فصل
بين الذهب والفضة وغيرهما فدل ان الواجب هو الخمس في الكل ولان المعادن كانت في أيدي الكفرة وقد زالت
أيديهم ولم تثبت يد المسلمين على هذه المواضع لأنهم لم يقصدوا الاستيلاء على الجبال والمفاوز فبقي ما تحتها على حكم
ملك الكفرة وقد استولى عليه على طريق القهر بقوة نفسه فيجب فيه الخمس ويكون أربعة أخماسه له كما في الكنز
ولا حجة له في حديث بلال بن الحارث لأنه يحتمل انه إنما لم يأخذ منه ما زاد على ربع العشر لما علم من حاجته وذلك
جائز عندنا على ما نذكره فيحمل عليه عملا بالدليلين وأما ما لا يذوب بالإذابة فلا خمس فيه ويكون كله للواجد لأنه
الزرنيخ والجص والنورة ونحوها من أجزاء الأرض فكان كالتراب والياقوت والغصوص من جنس الأحجار الا انها
أحجار مضيئة ولا خمس في الحجر وأما المائع كالقير والنفط فلا شئ فيه ويكون للواجد لأنه ماء وانه مما لا يقصد
بالاستيلاء فلم يكن في يد الكفار حتى يكون من الغنائم فلا يجب فيه الخمس وأما الزئبق ففيه الخمس في قول أبي حنيفة
الآخر وكأن يقول أولا لا خمس فيه وهو قول أبى يوسف الأول ثم رجع وقال فيه الخمس فان أبا يوسف قال سألت
أبا حنيفة عن الزئبق فقال لا خمس فيه فلم أزل به حتى قال فيه الخمس وكنت أظن أنه مثل الرصاص والحديد ثم
بلغني بعد ذلك أنه ليس كذلك وهو بمنزلة القير والنفط وجه قول أبي حنيفة الأول انه شئ لا ينطبع بنفسه فأشبه
الماء وجه قوله الآخر وهو قول محمد انه ينطبع مع غيره وإن كان لا ينطبع بنفسه فأشبه الفضة لأنها لا تنطبع بنفسها
لكن لما كانت تنطبع مع شئ آخر يخالطها من نحاس أو آنك وجب فيها الخمس كذا هذا هذا إذا وجد المعدن في
دار الاسلام في أرض غير مملوكة فاما إذا وجده في أرض مملوكة أو دار أو منزل أو حانوت فلا خلاف في أن الأربعة
67

الأخماس لصاحب الملك وجده هو أو غيره لان المعدن من توابع الأرض لأنه من أجزائها خلق فيها ومنها ألا ترى
انه يدخل في البيع من غير تسمية فإذا ملكها المختط له بتمليك الامام ملكها بجميع أجزائها فتنتقل عنه إلى غيره
بالبيع بتوابعها أيضا بخلاف الكنز على ما مر واختلف في وجوب الخمس قال أبو حنيفة لا خمس فيه في الدار وفى
الأرض عنه روايتان ذكر في كتاب الزكاة انه لا خمس فيه وذكر في الصرف انه يجب فيه الخمس وكذا ذكر في الجامع
الصغير وقال أبو يوسف ومحمد يجب فيه الخمس في الأرض والدار جميعا إذا كان الموجود مما يذوب بالإذابة
واحتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم وفى الركاز الخمس من غير فصل والركاز اسم للمعدن حقيقة لما ذكرنا ولان
الامام ملك الأرض من ملكه متعلقا بهذا الخمس لأنه حق الفقراء فلا يملك ابطال حقهم وجه قول أبي حنيفة ان
المعدن جزء من أجزاء الأرض فيملك بملك الأرض والامام ملكه مطلقا عن الحق فيملكه المختط له كذلك وللامام
هذه الولاية ألا ترى انه لو جعل الكل للغانمين الأربعة الأخماس مع الخمس إذا علم أن حاجتهم لا تندفع بالأربعة
الأخماس جاز وإذا ملكه المختط له مطلقا عن حق متعلق به فينتقل إلى غيره كذلك وجه الفرق بين الدار والأرض على
الرواية الأخرى ان تمليك الامام الدار جعل مطلقا عن الحقوق ألا ترى انه لا يجب فيها العشر ولا الخراج بخلاف
الأرض فان تمليكها وجد متعلقا بها العشر أو الخراج فجاز ان يجب الخمس والحديث محمول على ما إذا وجده في أرض
غير مملوكة توفيقا بين الدليلين هذا إذا وجده في دار الاسلام فاما إذا وجده في دار الحرب فان وجده في أرض غير مملوكة
فهو له ولا خمس فيه لما مر وان وجده في ملك بعضهم فان دخل بأمان رد على صاحب الملك لما بينا وان دخل بغير
أمان فهو له ولا خمس فيه كما في الكنز على ما بينا هذا الذي ذكرنا في حكم المستخرج من الأرض فاما المستخرج من البحر
كاللؤلؤ والمرجان والعنبر وكل حلية تستخرج من البحر فلا شئ فيه في قول أبي حنيفة ومحمد وهو للواجد وعند أبي
يوسف فيه الخمس واحتج بما روى أن عامل عمر رضي الله عنه كتب إليه في لؤلؤة وجدت ما فيها قال فيها الخمس
وروى عنه أيضا أنه أخذ الخمس من العنبر ولان العشر يجب في المستخرج من المعدن فكذا في المستخرج من البحر
لان المعنى بجمعهما وهو كون ذلك مالا منتزعا من أيدي الكفار بالقهر إذ الدنيا كلها برها وبحرها كانت تحت أيديهم
انتزعناها من بين أيديهم فكان ذلك غنيمة فيجب فيه الخمس كسائر الغنائم ولهما ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه
انه سئل عن العنبر فقال هو شئ دسره البحر لا خمس فيه ولان يد الكفرة لم تثبت على باطن البحار التي يستخرج
منها اللؤلؤ والعنبر فلم يكن المستخرج منها مأخوذا من أيدي الكفرة على سبيل القهر فلا يكون غنيمة فلا يكون فيه
الخمس وعلى هذا قال أصحابنا انه ان استخرج من البحر ذهبا أو فضة فلا شئ فيه لما قلنا وقيل في العنبر انه مائع نبع
فأشبه القير وقيل إنه روث دابة فأشبه سائر الأرواث وما روى عن عمر في اللؤلؤ والعنبر محمول على لؤلؤ وعنبر
وجد في خزائن ملوك الكفرة فكان مالا مغنوما فأوجب فيه الخمس وأما الثاني وهو بيان من يجوز صرف الخمس
إليه ومن له ولاية الاخذ وبيان مصارف الخمس موضعه كتاب السير ويجوز صرفه إلى الوالدين والمولودين إذا كانوا
فقراء بخلاف الزكاة والعشر ويجوز أن يصرفه إلى نفسه إذا كان محتاجا لا تغنيه الأربعة الأخماس بأن كان دون
المائتين فاما إذا بلغ مائتين لا يجوز له تناول الخمس وما روى عن علي رضي الله عنه انه ترك الخمس للواجد محمول
على ما إذا كان محتاجا ولو تصدق بالخمس بنفسه على الفقراء ولم يدفعها إلى السلطان جاز ولا يؤخذ منه ثانيا بخلاف
زكاة السوائم والعشر والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يوضع في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها فاما ما يوضع في بيت المال من الأموال
فأربعة أنواع أحدها زكاة السوائم والعشور وما أخذه العشار من تجار المسلمين إذا مروا عليهم والثاني خمس
الغنائم والمعادن والركاز والثالث خراج الأراضي وجزية الرؤس وما صولح عليه بنو نجران من الحلل وبنو تغلب
من الصدقة المضاعفة وما أخذه العشار من تجار أهل الذمة والمستأمنين من أهل الحرب والرابع ما أخذ من تركة
الميت الذي مات ولم يترك وارثا أصلا أو ترك زوجا أو زوجة وأما مصارف هذه الأنواع فاما مصرف النوع الأول
68

فقد ذكرناه وأما النوع الثاني وهو خمس الغنائم والمعادن والركاز فنذكر مصرفه في كتاب السير وأما مصرف النوع
الثالث من الخراج وأخواته فعمارة الدين واصلاح مصالح المسلمين وهو رزق الولاة والقضاة وأهل الفتوى من
العلماء والمقاتلة ورصد الطرز وعمارة المساجد والرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور واصلاح الأنهار التي
لا ملك لاحد فيها وأما النوع الرابع فيصرف إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم والى أكفان الموتى الذين لا مال
لهم والى نفقة اللقيط وعقل جنايته والى نفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه نفقته ونحو ذلك
وعلى الامام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها والله أعلم
* (فصل) * وأما الزكاة الواجبة وهي زكاة الرأس فهي صدقة الفطر والكلام فيها يقع في مواضع في بيان وجوبها
وفي بيان كيفية الوجوب وفي بيان من تجب عليه وفي بيان من تجب عنه وفي بيان جنس الواجب وقدره وصفته وفي بيان وقت الوجوب وفي بيان وقت الأداء وفي بيان ركنها وفي بيان شرائط الركن وهي شرائط جواز الأداء وفي بيان
مكان الأداء وفي بيان ما يسقطها بعد الوجوب أما الأول فالدليل على وجوبها ما روى عن ثعلبة بن صعير العذري
أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في خطبته أدوا عن كل حر وعبد صغير وكبير نصف صاع من بر أو
صاعا من تمر أو صاعا من شعير أمر بالأداء ومطلق الامر للوجوب وإنما سمينا هذا النوع واجبا لا فرضا لان الفرض
اسم لما ثبت لزومه بدليل مقطوع به ولزوم هذا النوع من الزكاة لم يثبت بدليل مقطوع به بل بدليل فيه شبهة العدم
وهو خبر الواحد وما روى في الباب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والعبد صاعا من تمر أو صاعا من شعير فالمراد من قوله فرض أي قدر أداء الفطر
والفرض في اللغة التقدير قال الله تعالى فنصف ما فرضتم أي قدرتم ويقال فرض القاضي النفقة بمعنى قدرها فكان
في الحديث تقدير الواجب بالمذكور لا الايجاب قطعا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما كيفية وجوبها فقد اختلف أصحابنا فيه قال بعضهم إنما يجب وجوبا مضيقا في يوم الفطر عينا
وقال بعضهم يجب وجوبا موسعا في العمر كالزكاة والنذور والكفارات ونحوها وهذا هو الصحيح لان الامر بأدائها
مطلق عن الوقت فلا يتضيق الوجوب الا في آخر العمر كالأمر بالزكاة وسائر الأوامر المطلقة عن الوقت
* (فصل) * وأما بيان من تجب عليه فيتضمن بيان شرائط الوجوب وأنها أنواع منها الاسلام فلا تجب على
الكافر لأنه لا سبيل إلى الايجاب في حالة الكفر لان فيها معنى العبادة حتى لا تتأدى بدون النية والكافر ليس من
أهل العبادة ولا تجب بدون الاسلام بالاجماع وايجاب فعل لا يقدر المكلف على أدائه في الحال وفى الثاني تكليف
ما ليس في الوسع لهذا قلنا إن الكفار ليسوا مخاطبين بشرائع هي عبادات ومنها الحرية عندنا فلا تجب على العبد
وقال الشافعي الحرية ليست من شرائط الوجوب وتجب الفطرة على العبد ويتحملها المولى عنه واحتج بما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أدوا عن كل حر وعبد والأداء عنه ينبئ عن التحمل عنه وانه يقتضى الوجوب
عليه ولنا ان الوجوب هو وجوب الأداء ولا سبيل إلى ايجاب الأداء على العبد لان العبد لا يكلف بأدائها في الحال
ولا بعد العتق وايجاب فعل لا سبيل إلى أدائه رأسا ممتنع بخلاف الصبي الغنى إذا لم يخرج وليه عنه على أصل أبي حنيفة
وأبى يوسف انه يلزمه الأداء لأنه يقدر على أدائه بعد البلوغ وأما الحديث فلم قلتم ان الأداء عنه يقتضى
الوجوب عليه وسنذكر معناه ومنها الغنا فلا يجب الأداء الا على الغنى وهذا عندنا وقال الشافعي لا يشترط لوجوبها
الغنا وتجب على الفقير الذي له زيادة على قوت يومه وقوت عياله وجه قوله إن وجوبها ثبت مطهرة للصائم ومعنى
المطهرة لا يختلف بالغنا والفقر ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا صدقة الا عن ظهر غنى وقد بينا حد الغنا الذي
يجب به صدقة الفطر في زكاة المال ثم الغنا شرط الوجوب لا شرط بقاء الواجب حتى لو افتقر بعد يوم الفطر لا يسقط
الواجب لان هذا الحق يجب في الذمة لا في المال فلا يشترط لبقائه بقاء المال بخلاف الزكاة وأما العقل والبلوغ
فليسا من شرائط الوجوب في قول أبي حنيفة وأبى يوسف حتى تجب صدقة الفطر على الصبي والمجنون إذا كان
69

لهما مال ويخرجها الولي من مالهما وقال محمد وزفر لا فطرة عليهما حتى لو أدى الأب أو الوصي من مالهما لا يضمنان
عند أبي حنيفة وأبى يوسف وعن محمد وزفر يضمنان وجه قولهما انها عبادة والعبادات لا تجب على الصبيان
والمجانين كالصوم والصلاة والزكاة ولأبي حنيفة وأبى يوسف انها ليست بعبادة محضة بل فيها معنى المؤنة فأشبهت
العشر وكذلك وجود الصوم في شهر رمضان ليس بشرط لوجوب الفطرة حتى أن من أفطر لكبر أو مرض أو سفر
يلزمه صدقة الفطر لان الامر بأدائها مطلق عن هذا الشرط ولأنها تجب على من لا يوجد منه الصوم وهو الصغير
* (فصل) * وأما بيان من تجب عليه فيشتمل على بيان سبب وجوب الفطرة على الانسان عن غيره وبيان شرط
الوجوب اما شرطه فهو أن يكون من عليه الواجب عن غيره من أهل الوجوب على نفسه وأما السبب فرأس يلزمه
مؤنته ويلي عليه ولاية كاملة لان الرأس الذي يمونه ويلي عليه ولاية كاملة تكون في معنى رأسه في الذب والنصرة فكما
يجب عليه زكاة رأسه يجب عليه زكاة ما هو في معنى رأسه فيجب عليه ان يخرج صدقة الفطر عن مماليكه الذين هم
لغير التجارة لوجود السبب وهو لزوم المؤنة وكمال الولاية مع وجود شرطه وهو ما ذكرنا وقال صلى الله عليه وسلم أدوا
عن كل حر وعبد وسواء كانوا مسلمين أو كفارا عندنا وقال الشافعي لا تؤدى الا عن مسلم وجه قوله إن الوجوب على
العبد وإنما المولى يتحمل عنه لان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالأداء عن العبد والأداء عنه ينبئ عن التحمل فثبت
ان الوجوب على العبد فلا بد من أهلية الوجوب في حقه والكافر ليس من أهل الوجوب فلم يجب عليه ولا يتحمل
عنه الولي لان التحمل بعد الوجوب فاما المسلم فمن أهل الوجوب فتجب عليه الزكاة الا انه ليس من أهل الأداء
لعدم الملك فيتحمل عنه المولى ولنا انه وجد سبب وجوب الأداء عنه وشرطه وهو ما ذكرنا فيجب الأداء عنه وقوله
الوجوب على العبد وإنما المولي يتحمل عنه أداء الواجب فاسد لان الوجوب على العبد يستدعى أهلية الوجوب
في حقه وهو ليس من أهل الوجوب لان الوجوب هو وجوب الأداء والأداء بالملك ولا ملك له فلا وجوب عليه فلا
يتصور التحمل وقوله المأمور به هو الأداء عنه بالنص مسلم لكن لم قلتم ان الأداء عنه يقتضى أن يكون بطريق
التحمل بل هو أمر بالأداء بسببه وهو رأسه الذي يمونه ويلي عليه ولاية كاملة فكان في الحديث بيان سببية
وجوب الأداء عمن يؤدى عنه لا الأداء بطريق التحمل فتعتبر أهلية وجوب الأداء في حق المولى وقد وجدت
روى عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أدوا صدقة الفطر عن كل حر وعبد صغير
أو كبير يهودي أو نصراني أو مجوسي نصف صاع من برأ وصاعا من تمر أو شعير وهذا نص في الباب ويخرج عن
مدبريه وأمهات أولاده لعموم قوله صلى الله عليه وسلم أدوا عن كل حر وعبد وهؤلاء عبيد لقيام الرق والملك فيهم
الا ترى ان له أن يستخدمهم ويستمتع بالمدبرة وأم الولد ولا يجوز ذلك في غير الملك ولا يجب عليه أن يخرج عن
مكاتبه ولا عن رقيق مكاتبه لأنه لا يلزمه نفقتهم وفى ولايته عليهم قصور ولا يجب على المكاتب أن يخرج فطرته
عن نفسه ولا عن رقيقه عند عامة العلماء وقال مالك يجب عليه لان المكاتب مالك لأنه يملك اكتسابه فكان
في اكتسابه كالحر فتجب عليه كما تجب على الحر ولنا انه لا ملك له حقيقة لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم والعبد مملوك فلا يكون مالكا ضرورة وأما معتق البعض فهو بمنزلة المكاتب عند أبي
حنيفة وعندهما هو حر عليه دين وإن كان غنيا بأن كان له مال فضلا عن دينه مائتي درهم فصاعدا فإنه يخرج صدقة
الفطر عن نفسه وعن رقيقه والا فلا ويخرج عن عبده المؤاجر والوديعة والعارية وعبده المديون المستغرق بالدين
وعبده الذي في رقبته جناية لعموم النص ولوجود سبب الوجوب وشرطه وهو ما ذكرنا ويخرج عن عبد الرهن لما
ذكرنا وهذا إذا كان للراهن وفاء فإن لم يكن له وفاء فلا صدقة عليه عنه لأنه فقير بخلاف عبده المديون دينا مستغرقا
لان الصدقة تجب على المولي ولا دين على المولي وأما عبد عبده المأذون فإن كان على المولى دين فلا يخرج في قول
أبي حنيفة لان المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون وعندهما يخرج لأنه يملكه وان لم يكن عليه دين فلا يخرج
بلا خلاف بين أصحابنا لأنه عبد التجارة ولا فطرة في عبد التجارة عندنا ولا يخرج عن عبده الآبق ولا عن المغصوب
70

المجحود ولا عن عبده المأسور لأنه خارج عن يده وتصرفه فأشبه المكاتب قال أبو يوسف ليس في رقيق الأخماس
ورقيق القوام الذين يقومون على مرافق العوام مثل زمزم وما أشبهها ورقيق الفئ صدقة الفطر لعدم الولاية
لاحد عليهم إذ هم ليس لهم مالك معين وكذلك السبي ورقيق الغنيمة والأسرى قبل القسمة على أصله لما قلنا وأما
العبد الموصى برقبته لانسان وبخدمته لآخر فصدقة فطره على صاحب الرقبة لقوله صلى الله عليه وسلم أدوا
عن كل حر وعبد والعبد اسم للذات المملوكة وانه لصاحب الرقبة وحق صاحب الخدمة متعلق بالمنافع فكان كالمستعير
والمستأجر ولا يخرج عن عبيد التجارة عندنا وعند الشافعي يخرج وجه قوله إن وجوب الزكاة لا ينافي وجوب صدقة
الفطر لان سبب وجوب كل واحد منهما مختلف ولنا ان الجمع بين زكاة المال وبين زكاة الرأس يكون ثنى
في الصدقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ثنى في الصدقة والعبد المشترك بينه وبين غيره ليس على أحدهما
صدقة فطره عندنا وقال الشافعي تجب الفطرة عليهما بناء على أصله الذي ذكرنا ان الوجوب على العبد وإنما
المولى يتحمل عنه بالملك فيتقدر بقدر الملك وأما عندنا فالوجوب على المولى بسبب الوجوب وهو رأس يلزمه مؤنته
ويلي عليه ولاية كاملة وليس لكل واحد منهما ولاية كاملة الا ترى انه لا يملك كل واحد منهما تزويجه فلم يوجد
السبب وإن كان عدد من العبيد بين رجلين فلا فطرة عليهما في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وقال محمد إن كان بحال
لو قسموا أصاب كل واحد منهما عبد كامل تجب على كل واحد منهما صدقة فطره بناء على أن الرقيق لا يقسم قسمة
جمع عند أبي حنيفة فلا يملك كل واحد منهما عبدا كاملا وعند محمد يقسم الرقيق قسمة جمع فيملك كل واحد منهما
عبدا تاما من حيث المعنى كأنه انفرد به فيجب على كل واحد منهما كالزكاة في السوائم المشتركة وأبو يوسف وافق أبا
حنيفة في هذا وإن كان يرى قسمة الرقيق لنقصان الولاية إذ ليس لكل واحد منهما ولاية كاملة وكمال الولاية
بعض أوصاف السبب ولو كان بين رجلين جارية فجاءت بولد فادعياه معا حتى ثبت نسب الولد منهما وصارت
الجارية أو ولدلهما فلا فطرة على واحد منهما عن الجارية بلا خلاف بين أصحابنا لأنها جارية مشتركة بينهما وأما
الولد فقال أبو يوسف يجب على كل واحد منهما صدقة فطره تامة وقال محمد تجب عليهما صدقة واحدة وجه قوله إن
الذي وجب عليه واحد والشخص الواحد لا تجب عنه الا فطرة واحدة كسائر الأشخاص ولأبي يوسف ان الولد
ابن تام في حق كل واحد منهما بدليل انه يرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل فيجب على كل واحد منهما عنه
صدقة تامة ولو اشترى عبدا بشرط الخيار للبائع أو للمشترى أولهما جميعا أو شرط أحدهما الخيار لغيره فمر يوم
الفطر في مدة الخيار فصدقة الفطر موقوفة ان تم البيع بمضي مدة الخيار أو بالإجازة فعلى المشترى لأنه ملكه من
وقت البيع وان فسخ فعلى البائع لأنه تبين ان المبيع لم يزل عن ملكه وعند زفر إن كان الخيار للبائع أولهما جميعا
أو شرط البائع الخيار لغيره فصدقة الفطر على البائع تم البيع أو انفسخ وإن كان الخيار للمشترى فعلى المشترى تم
البيع أو انفسخ ولو اشتراه بعقد ثان فمر يوم الفطر قبل القبض فصدقة فطره على المشترى ان قبضه لان الملك ثبت
للمشترى بنفس الشراء وقد تقرر بالقبض وان مات قبل القبض فلا يجب على واحد منهما أما جانب البائع فظاهر
لان العبد قد خرج عن ملكه بالبيع ووقت الوجوب هو وقت طلوع الفجر من يوم الفطر كان الملك للمشترى واما
جانب المشترى فلان ملكه قد انفسخ قبل تمامه وجعل كأنه لم يكن من الأصل ولو رده المشترى على البائع بخيار
رؤية أو عيب ان رده قبل القبض فعلى البائع لان الرد قبل القبض فسخ من الأصل وان رده بعد القبض فعلى المشترى
لأنه بمنزلة بيع جديد وان اشتراه شراء فاسدا فمر يوم الفطر فإن كان مر وهو عند البائع فعلى البائع لان البيع الفاسد
لا يفيد الملك للمشترى قبل القبض فمر عليه يوم الفطر وهو على ملك البائع فكان صدقة فطره عليه وإن كان في يد
المشترى وقت طلوع الفجر فصدقة فطره موقوفة لاحتمال الرد فان رده فعلى البائع لان الرد في العقد الفاسد فسخ
من الأصل وان تصرف فيه المشترى حتى وجبت عليه قيمته فعلى المشترى لأنه تقرر ملكه عليه ويخرج عن
أولاده الصغار إذا كانوا فقراء لقوله صلى الله عليه وسلم أدوا عن كل صغير وكبير ولان نفقتهم واجبة على الأب
71

وولاية الأب عليهم تامة وهل يخرج الجد عن ابن ابنه الفقير الصغير حال عدم الأب أو حال كونه فقيرا ذكر محمد
في الأصل انه لا يخرج وروى الحسن عن أبي حنيفة انه يخرج وجه رواية الحسن ان الجد عند عدم الأب قائم مقام
الأب فكانت ولايته حال عدم الأب كولاية الأب وجه رواية الأصل ان ولاية الجد ليست بولاية تامة مطلقة
بل هي قاصرة الا ترى انها لا تثبت الا بشرط عدم الأب فأشبهت ولاية الوصي والوصي لا يجب عليه الاخراج
فكذا الجد وأما الكبار العقلاء فلا يخرج عنهم عندنا وإن كانوا في عياله بأن كانوا فقراء زمني وقال الشافعي عليه
فطرتهم واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير ممن تمونون
فإذا كانوا في عياله يمونهم فعليه فطرتهم ولنا ان أحد شطرى السبب وهو الولاية منعدم والحديث محمول على
جواز الأداء عنهم لا على الوجوب ولا يلزمه أن يخرج عن أبويه وإن كانا في عياله لعدم الولاية عليهما ولا يخرج عن
الحمل لانعدام كمال الولاية ولأنه لا يعلم حياته ولا يلزم الزوج صدقة فطر زوجته عندنا وقال الشافعي يلزمه لأنها تحب مؤنة الزوج وولايته فوجد سبب الوجوب (ولنا)
ان شرط تمام السبب كمال الولاية ولاية الزوج عليها ليست
بكاملة فلم يتم السبب وليس في شئ من الحيوان سوى لرقيق صدقة الفطر اما لان وجوبها عرف بالتوقيف وانه
لم يرد فيما سوى الرقيق ن الحيوانات أو لأنها وجبت طهرة للصائم عن الرفث ومعنى الطهرة لا يتقرر في سائر
الحيوانات فلا تجب عنها والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان جنس الواجب قدره وصفته اما جنسه وقدره فهو نصف صاع من حنطة أو صاع من
شعير أو صاع من مر وهذا عندنا وقال الشافعي من الحنطة صاع واحتج بما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه أنه قال كنت أؤدي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من ر ولنا ما روينا من حديث ثعلبة بن صعير
العذري أنه قال خطبنا رسول الله صلى لله عليه وسلم فقال أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو
شاعا من شعير وذكر امام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي ان عشرة من الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر
وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم رووا عن رسول الله لي الله عليه وسلم في صدقة الفطر نصف صاع من بر واحتج
بروايتهم وأما حديث بي سعيد فليس فيه دليل الوجوب بل هو حكاية عن فعله فيدل على الجواز وبه نقول يكون
الواجب نصف صاع وما زاد يكون تطوعا على أن المروى من لفظ أبي سعيد رضى لله عنه أنه قال كنت أخرج
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من عام صاعا من تمر صاعا من شعير وليس فيه ذكر البر فيجعل قوله
صاعا من تمر صاعا من شعير تفسيرا لقوله صاعا من طعام ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة ودقيق الشعير وسويقه
كالشعير عندنا وعند الشافعي لا يجزئ بناء على أصله من اعتبار المنصوص عليه وعندنا المنصوص عليه معلول
بكونه مالا متقوما على الاطلاق لما ذكر وذكر المنصوص عليه للتيسير لأنهم كانوا يتبايعون بذلك على عهد رسول
الله لي الله عليه وسلم على أن الدقيق منصوص عليه لما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال أدوا قبل الخروج زكاة الفطر فان على ل مسلم مدا من قمح أو دقيق وروى على أبى يوسف أنه قال
الدقيق أحب إلي من الحنطة والدراهم أحب إلي من الدقيق والحنطة لان ذلك أقرب إلى دفع حاجة الفقير اختلفت
الرواية عن أبي حنيفة في الزبيب ذكر في الجامع الصغير نصف صاع وروى لحسن وأسد بن عمر وعن أبي حنيفة صاعا
من زبيب وهو قول أبى يوسف ومحمد وجه ذه الرواية ما روى عن أبي سعيد الخدري أنه قال كنا نخرج زكاة الفطر
على عهد سول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من زبيب وكان طعامنا الشعير لان الزبيب لا يكون
مثل الحنطة في التغذي بل يكون أنقص منها كالشعير والتمر كان التقدير فيه بالصاع كما في الشعير والتمر وجه رواية
الجامع أن قيمة الزبيب تزيد على قيمة الحنطة في العادة ثم اكتفى من الحنطة بنصف صاع فمن الزبيب أولى ويمكن
التوفيق بين القولين بأن يجعل الواجب فيه بطريق القيمة كانت قيمته في عصر أبي حنيفة مثل قيمة الحنطة وفى
عصرهما كانت قيمته مثل قيمة الشعير والتمر وعلى هذا أيضا يحمل اختلاف الروايتين عن أبي حنيفة وأما الاقط
72

فتعتبر فيه القيمة لا يجزئ الا باعتبار القيمة وقال مالك يجوز أن يخرج صاعا من أقط وهذا غير سديد لأنه غير
منصوص عليه من وجه يوثق به وجواز ما ليس منصوص عليه لا يكون الا باعتبار القيمة كسائر الأعيان التي
لم يقع التنصيص عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي لا أحب أن يخرج الا قط فان أخرج صاعا وأقط
لم يتبين لي ان عليه الإعادة والصاع ثمانية أرطال بالعراقي عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف خمسة أرطال
وثلث رطل بالعراقي وهو قول الشافعي وجه قوله إن صاع المدينة خمسة أرطال وثلث رطل ونقلوا ذلك عن رسول
الله صلى لله عليه وسلم خلفا عن سلف ولهما ما روى عن أنس رضي الله عنه أنه قال كان سول الله صلى الله عليه
وسلم يتوضأ بالمد والمد رطلان ويغتسل بالصاع والصاع ثمانية أرطال وهذا نص ولان هذا صاع عمر رضي الله عنه
ونقل أهل المدينة لم يصح ن مالكا من فقهائهم يقول صاع المدينة ثبت بتحرى عبد الملك بن مروان فلم يصح
لنقل وقد ثبت ان صاع عمر رضي الله عنه ثمانية أرطال فالعمل بصاع عمر أولى من لعمل بصاع عبد الملك ثم المعتبر
أن يكون ثمانية أرطال وزنا وكيلا وروى الحسن ن أبي حنيفة وزنا وروى عن محمد كيلا حتى لو وزن وأدى جاز
عند أبي حنيفة وعند حمد لا يجوز وقال الطحاوي الصاع ثمانية أرطال فيما يستوى كيله ووزنه وهو العدس والماش والزبيب وإذا كان الصاع يسع ثمانية أرطال من العدس والماش فهو لصاع الذي يكال به الشعير
والتمر وجه ما ذكره الطحاوي ان من الأشياء بما لا يختلف كيله ووزنه كالعدس والماش وما سواهما يختلف منها
ما يكون وزنه أكثر ن كيله كالشعير ومنها ما يكون كيله أكثر من وزنه كالملح فيجب تقدير المكاييل ما لا يختلف
وزنه وكيله كالعدس والماش فإذا كان المكيال يسع ثمانية أرطال م‍ لك فهو الصاع الذي يكال به الشعير والتمر
وجه قول محمد ان النص ورد باسم لصاع وانه مكيال لا يختلف وزن ما يدخل فيه خفة وثقلا فوجب اعتبار
الكيل المنصوص عليه وجه قول أبي حنيفة ان الناس إذا اختلفوا في صاع يقدرونه بالوزن دل ان المعتبر هو
الوزن وأما صفة الواجب فهو أن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوم على الاطلاق لا من حيث إنه
عين فيجوز ان يعطى عن جميع ذلك القيمة رآهم أو دنانير أو فلوسا أو عروضا أو ما شاء وهذا عندنا وقال الشافعي
لا يجوز خراج القيمة وهو على الاختلاف في الزكاة وجه قوله إن النص ورد بوجوب أشياء خصوصة وفى تجويز
القيمة يعتبر حكم النص وهذا لا يجوز ولنا ان الواجب في لحقيقة اغناء الفقير لقوله صلى الله عليه وسلم اغنوهم عن
المسألة في مثل هذا ليوم والاغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر لأنها أقرب إلى دفع الحاجة وبه تبين ان لنص
معلول بالاغناء وانه ليس في تجويز القيمة يعتبر حكم النص في الحقيقة الله الموفق ولا يجوز أداء المنصوص عليه
بعضه عن بعض باعتبار القيمة سواء كان الذي أدى عنه من جنسه أو من خلاف جنسه بعد أن كان منصوصا عليه
فكما لا يجوز اخراج الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة بأن أدى نصف صاع من حنطة جيدة عن صاع من
نطة وسط لا يجوز اخراج غير الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة بأن أدى نصف صاع من مر تبلغ قيمته قيمة
نصف صاع من الحنطة عن الحنطة بل يقع عن نفسه وعليه تكميل لباقي وإنما كان كذلك لان القيمة لا تعتبر في
المنصوص عليه وإنما تعتبر في يره وهذا يؤيد قول من يقول من أهل الأصول ان الحكم في المنصوص عليه يثبت
عين النص لا بمعنى النص وإنما يعتبر المعنى لاثبات الحكم في غير المنصوص عليه هو مذهب مشايخ العراق واما
التخريج على قول من يقول إن الحكم في المنصوص عليه يثبت بالمعنى أيضا وهو قول مشايخنا بسمرقند وأما في
الجنس فظاهر لان عض الجنس المنصوص عليه إنما يقوم مقام كله باعتبار القيمة وهي الجودة والجود ى أموال
الربا لا قيمة لها شرعا عند مقابلتها بجنسها لقول النبي صلى الله عليه سلم جيدها ورديئها سواء أسقط اعتبار الجودة
والساقط شرعا ملحق بالساقط حقيقة اما في خلاف الجنس فوجه التخريج ان الواجب في ذمته في صدقة الفطر
عند هجوم قت الوجوب أحد شيئين اما عين المنصوص عليه واما القيمة ومن عليه بالخيار ان شاء أخرج العين
وان شاء أخرج القيمة ولأيهما اختار تبين انه هو الواجب من لأصل فإذا أدى بعض عين المنصوص عليه تعين واجبا
73

من الأصل فيلزمه تكميل هذا التخريج في صدقة الفطر صحيح لان الواجب ههنا في الذمة ألا ترى انه لا يسقط
هلاك النصاب بخلاف الزكاة فان الواجب هناك في النصاب لأنه ربع العشر وهو جزء ن النصاب حتى يسقط
بهلاك النصاب لفوات محل الوجوب
* (فصل) * اما وقت وجوب صدقة الفطر فقد اختلف فيه قال أصحابنا هو وقت طلوع الفجر لثاني من يوم الفطر
وقال الشافعي هو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان تى لو ملك عبدا أو ولد له ولدا وكان كافرا فاسلم
أو كان فقيرا فاستغنى إن كان لك قبل طلوع الشمس تجب عليه الفطرة وإن كان بعده لا تجب عليه وكذا من مات
بل طلوع الفجر لم تجب فطرته وان مات بعده وجبت وعند الشافعي إن كان ذلك قبل روب الشمس تجب عليه
وإن كان بعده لا تجب وكذا ان مات قبله لم تجب وان مات بعده وجبت وجه قوله إن سبب وجوب هذه الصدقة هو
الفطر لأنها تضاف إليه الإضافة تدل على السببية كإضافة الصلوات إلى أوقاتها وإضافة الصوم إلى الشهر نحو
ذلك وكما غربت الشمس من آخر يوم من رمضان جاء وقت الفطر فوجبت لصدقة ولنا ما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال صومكم يوم تصومون فطركم يوم تفطرون أي وقت فطركم يوم تفطرون خص وقت الفطر بيوم
الفطر حيث ضافه إلى اليوم والإضافة للاختصاص فيقتضى اختصاص الوقت بالفطر يظهر باليوم والا الليالي
كلها في حق الفطر سواء فلا يظهر الاختصاص وبه تبين ان المراد من قوله دقة الفطر أي صدقة يوم الفطر فكانت
الصدقة مضافة إلى يوم الفطر فكان سببا وجوبها ولو عجل الصدقة على يوم الفطر لم يذكر في ظاهر الرواية وروى
الحسن عن بي حنيفة انه يجوز التعجيل سنة وسنتين وعن خلف بن أيوب انه يجوز تعجيلها إذا خل رمضان
ولا يجوز قبله وذكر الكرخي في مختصره انه يجوز التعجيل بيوم أو يومين قال الحسن بن زياد لا يجوز تعجيلها
أصلا وجه قوله إن وقت وجوب هذا الحق هو وم الفطر فكان التعجيل أداء الواجب قبل وجوبه وانه ممتنع
كتعجيل الأضحية قبل وم النحر وجه قول خلف ان هذه فطرة عن الصوم فلا يجوز تقديمها على وقت الصوم
ما ذكره الكرخي من اليوم أو اليومين فقد قيل إنه ما أراد به الشرط فان أراد به لشرط فوجهه ان وجوبها
لاغناء الفقير في يوم الفطر وهذا المقصود يحصل بالتعجيل يوم أو يومين لأن الظاهر أن المعجل يبقى إلى يوم
الفطر فيحصل الاغناء يوم الفطر ما زاد على ذلك لا يبقى فلا يحصل المقصود والصحيح انه يجوز التعجيل مطلقا
وذكر لسنة والسنتين في رواية الحسن ليس على التقدير بل هو بيان لاستكثار المدة أي جوز وان كثرت المدة كما في
قوله تعالى ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ووجهه ان الوجوب ان لم يثبت فقد وجد سبب الوجوب وهو
رأس يمونه يلي عليه والتعجيل بعد وجود السبب جائز كتعجيل الزكاة والعشور وكفارة القتل الله أعلم
* (فصل) * وأما وقت أدائها فجميع العمر عند عامة أصحابنا ولا تسقط التأخير عن يوم الفطر وقال الحسن بن زياد
وقت أدائها يوم الفطر من أوله إلى خره وإذا لم يؤدها حتى مضى اليوم سقطت وجه قول الحسن ان هذا حق
معرف بيوم لفطر فيختص أداؤه به كالأضحية وجه قول العامة ان الامر بأدائها مطلق عن الوقت يجب في مطلق
الوقت غير عين وإنما يتعين بتعيينه فعلا أو بآخر العمر كالأمر الزكاة والعشر والكفارات وغير ذلك وفى أي وقت
أدى كان مؤديا لا قاضيا كما في سائر الواجبات الموسعة غير أن المستحب ان يخرج قبل الخروج إلى المصلى لان
سول الله صلى الله عليه وسلم كذا كان يفعل ولقوله صلى الله عليه وسلم اغنوهم عن ل‍ مسألة في مثل هذا اليوم فإذا
أخرج قبل الخروج إلى المصلى استغنى المسكين عن لسؤال في يومه ذلك فيصلى فارغ القلب مطمئن النفس
* (فصل) * وأما ركنها التمليك لقول النبي صلى الله عليه وسلم أدوا عن كل حر وعبد الحديث والأداء هو لتمليك
فلا يتأدى بطعام الإباحة وبما ليس بتمليك أصلا ولا بما ليس بتمليك طلق والمسائل المبنية عليه ذكرناها في زكاة
المال وشرائط الركن أيضا ما ذكرنا ناك غير أن اسلام المؤدى إليه ههنا ليس بشرط لجواز الأداء عند أبي حنيفة
محمد فيجوز دفعها إلى أهل الذمة وعند أبي يوسف والشافعي شرط ولا يجوز الدفع ليهم ولا يجوز الدفع إلى الحربي
74

المستأمن بالاجماع والمسألة ذكرناها في زكاة المال ويجوز أن يعطى ما يجب في صدقة الفطر عن إنسان واحد جماعة
مساكين يعطى ما يجب عن جماعة مسكينا واحدا لان الواجب زكاة فجاز جمعها وتفريقها كزكاة لمال ولا
يبعث الامام عليها ساعيا لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث ولنا فيه قدوة
* (فصل) * واما مكان الأداء وهو الموضع الذي يستحب فيه اخراج الفطرة روى عن محمد انه يؤدى زكاة المال حيث
المال ويؤدى صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو وهو قول أبى يوسف الأول ثم رجع وقال يؤدى صدقة
الفطر عن نفسه حيث هو عن عبيده حيث هم حكى الحاكم رجوعه وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي
قول بي حنيفة مع قول أبى يوسف واما زكاة المال فحيث المال في الروايات كلها ويكر خراجها إلى أهل غير ذلك
الموضع الا رواية عن أبي حنيفة انه لا بأس أن يخرجها لي قرابته من أهل الحاجة ويبعثها إليهم وجه قول أبى
يوسف ان صدقة الفطر أحد وعى الزكاة ثم زكاة المال تؤدى حيث المال فكذا زكاة الرأس ووجه الفرق لمحد
واضح وهو أن صدقة الفطر تتعلق بذمة المؤدى لا بماله بدليل انه لو هلك ماله لا تسقط لصدقة واما زكاة المال فإنها
تتعلق بالمال ألا ترى أنه لو هلك النصاب تسقط إذا تعلقت الصدقة بذمة المؤدى اعتبر مكان المؤدى ولما تعلقت
الزكاة بالمال اعتبر مكان المال وروى عن أبي يوسف في الصدقة انه يؤدى عن العبد الحي حيث هو عن الميت
حيث المولى لان الوجوب في العبد الحي عنه فيعتبر مكانه وفى الميت فيعتبر مكان المولى
* (فصل) * واما بيان ما يسقطها بعد الوجوب فما يسقط زكا لمال يسقطها الا هلاك المال فإنها لا تسقط به بخلاف
زكاة المال والفرق ان صدقة لفطر تتعلق بالذمة وذمته قائمة بعد هلاك المال فكان الواجب قائما والزكاة تتعلق بالمال فتسقط بهلاكه والله أعلم
* (كتاب الصوم) * الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان أنواع الصيام وصفة كل نوع وفي بيان رائطها وفي بيان أركانها
ويتضمن بيان ما يفسدها وفي بيان حكمها إذا فسدت وفي بيان حكم الصوم المؤقت إذا فات عن وقته وفي بيان ما يسن
وما يستحب للصائم ما يكره له أن يفعله اما الأول فالصوم في القسمة الأولى ينقسم إلى لغوي وشرعي اما اللغوي فهو
الامساك المطلق وهو الامساك عن أي شئ كان فيسمى الممسك عن الكلام هو الصامت صائما قال الله تعالى انى
نذرت للرحمن صوما أي صمتا ويسمى الفرس لممسك عن العلف صائما قال الشاعر
خيل صيام وخيل غير صائمة * تحث العجاج أخرى تعلك اللجما
أي ممسكة عن العلف وغير ممسكة وأما الشرعي فهو الامساك عن أشياء مخصوصة وهي الأكل والشرب والجماع
بشرائط مخصوصة نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى ثم الشرعي ينقسم إلى فرض وواجب وتطوع والفرض
ينقسم إلى عين دين فالعين ماله وقت معين اما بتعيين الله تعالى كصوم رمضان وصوم التطوع خارج مضان لأن خارج
رمضان متعين للنفل شرعا واما بتعيين العبد كالصوم المنذور به في قت بعينه والدليل على فرضية صوم شهر
رمضان الكتاب والسنة والاجماع والمعقول ما الكتاب فقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما
كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله كتب عليكم أي فرض وقوله تعالى فمن شهد منكم لشهر فليصمه
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم بنى الاسلام على خمس هادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وأقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم مضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وقوله صلى الله عليه وسلم عام حجة
لوداع أيها الناس اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها
أنفسكم تدخلوا جنة ربكم وأما الاجماع فان الأمة أجمعت لي فرضية شهر رمضان لا يجحدها الا كافر وأما
المعقول فمن وجوه أحدها ان الصوم وسيلة إلى شكر النعمة إذ هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع وأنها
75

من جل النعم وأعلاها والامتناع عنها زمانا معتبرا يعرف قدرها إذ النعم مجهولة فإذا قدت عرفت فيحمله ذلك
على قضاء حقها بالشكر وشكر النعم فرض عقلا وشرعا واليه أشار الرب تعالى في قوله في آية الصيام لعلكم تشكرون
والثاني انه وسيلة إلى لتقوى لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعا في مرضات الله تعالى وخوفا ن أليم
عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام فكان الصوم سببا للاتقاء عن محارم الله تعالى وانه فرض واليه وقعت
الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصوم علكم تتقون والثالث ان في الصوم قهر الطبع وكسر الشهوة لان النفس
إذا شبعت منت الشهوات وإذا جاعت امتنعت عما تهوى ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ن خشي منكم
الباءة فليصم فان الصوم له وجاء فكان الصوم ذريعة إلى الامتناع عن المعاصي وانه فرض وأما صوم الدين فما ليس
له وقت معين كصوم قضاء رمضان وصوم فارة القتل والظهار واليمين والافطار وصوم المتعة وصوم فدية الحلق
وصوم جزاء لصيد وصوم النذر المطلق عن الوقت وصوم اليمين بأن قال والله لأصومن شهرا ثم عض هذه
الصيامات المفروضة من العين والدين متتابع وبعضها غير متتابع بل أحبها فيه بالخيار ان شاء تابع وان شاء
فرق أما المتتابع فصوم رمضان وصوم فارة القتل والظهار والافطار وصوم كفارة اليمين عندنا أما صوم كفارة
القتل الظهار فلان التتابع منصوص عليه قال الله تعالى في كفارة القتل فمن لم يجد صيام شهرين متتابعين توبة
من الله وقال عز وجل في كفارة الظهار فمن لم يجد صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا واما صوم كفارة اليمين
فقد قرأ ابن سعود رضي الله عنه فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات وعند الشافعي التتابع فيه ليس بشرط
وموضع المسألة كتاب الكفارات وقال صلى الله عليه وسلم في فارة الافطار بالجماع في حديث الاعرابي صم شهرين
متتابعين وأما صوم شهر رمضان لان الله تعالى أمر بصوم الشهر بقوله عز وجل فمن شهد منكم الشهر فليصمه
والشهر تتابع لتتابع أيامه فيكون صومه متتابعا ضرورة وكذلك الصوم المنذور به في وقت عينه بأن قال لله على أن
أصوم شهر رجب يكون متتابعا لما ذكرنا في صوم شهر مضان وأما غير المتتابع فصوم قضاء رمضان وصوم
المتعة وصوم كفارة الحلق وصوم زاء الصيد وصوم النذر المطلق وصوم اليمين لأن الصوم في هذه المواضع ذكر
مطلقا ن صفة التتابع قال الله تعالى في قضاء رمضان فمن كان منكم مريضا أو على سفر عدة من أيام أخر أي فأفطر
فليصم عدة من أيام أخر وقال عز وجل في صوم المتعة من تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم وقال عز وجل في كفارة الحلق ففدية من صيام أو صدقة أو نسك قال
سبحانه وتعالى في جزاء الصيد أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره ذكر الله عالي الصيام في هذه الأبواب مطلقة
عن شرط التتابع وكذا الناذر والحالف في لنذر المطلق واليمين المطلقة ذكر الصوم مطلقا عن شرط التتابع
وقال بعضهم في وم قضاء رمضان انه يشترط فيه التتابع لا يجوز الا متتابعا واحتجوا بقراءة أبي بن عب رضي الله عنه
انه قرأ الآية فعدة من أيام أخر متتابعات فيزاد على لقراءة المعروفة وصف التتابع بقراءته كما زيد وصف
التتابع على القراءة المعروفة في صوم كفارة اليمين بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولان القضاء كون
على حسب الأداء والأداء وجب متتابعا فكذا القضاء (ولنا) ما روى عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم من نحو على وعبد الله بن عباس وأبى عيد الخدري وأبي هريرة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم انهم
قالوا إن شاء تابع ان شاء فرق غير أن عليا رضي الله عنه قال إنه يتابع لكنه ان فرق جاز وهذا منه شارة إلى أن
التتابع أفضل ولو كان التتابع شرطا لما احتمل الخلفاء على هؤلاء لصحابة ولما احتمل مخالفتهم إياه في ذلك لو
عرفوه وبهذا الاجماع تبين ان راءة أبي بن كعب لو ثبتت فهي على الندب والاستحباب دون الاشتراط إذ لو كانت
ثابتة وصارت كالمتلو وكان المراد بها الاشتراط لما احتمل الخلاف من هؤلاء رضى لله عنهم بخلاف ذكر التتابع
في صوم كفارة اليمين في حرف ابن مسعود رضي الله عنه لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك فصار كالمتلو في حق
العمل به وأما وله ان القضاء يجب على حسب الأداء والأداء وجب متتابعا فنقول التتابع في لأداء ما وجب
76

لمكان الصوم ليقال أينما كان الصوم كان التتابع شرطا وإنما جب لأجل الوقت لأنه وجب عليهم صوم شهر
معين ولا يتمكن من أداء الصوم في الشهر له الا بصفة التتابع فكان لزوم التتابع لضرورة تحصيل الصوم في هذا
الوقت وهذا والأصل ان كل صوم يؤمر فيه بالتتابع لأجل الفعل وهو الصوم يكون التتابع شرطا في حديث دار
الفعل وكل صوم يؤمر فيه بالتتابع لأجل الوقت ففوت ذلك الوقت يسقط لتتابع وان بقي الفعل واجب القضاء
فان من قال لله على صوم شعبان يلزمه أن صوم شعبان متتابعا لكنه ان فات شئ منه يقضى ان شاء متتابعا وان
شاء متفرقا ن التتابع ههنا لمكان الوقت فيسقط بسقوطه وبمثله لو قال لله على أن أصوم شهرا تتابعا يلزمه
أن يصوم متتابعا لا يخرج عن نذره الا به ولو أفطر يوما في وسط لشهر يلزمه الاستقبال لان التتابع ذكر للصوم
فكان الشرط هو وصل الصوم بعينه فلا سقط عنه ابدا وعلى هذا صوم كفارة القتل والظهار واليمين لأنه لما
وجب لعين لصوم لا يسقط ابدا الا بالأداء متتابعا والفقه في ذلك ظاهر وهو انه إذا وجب لتتابع لأجل نفس الصوم
فما لم يؤده على وصفه لا يخرج عن عهدة الواجب وإذا وجب ضرورة قضاء حق الوقت أو شرط التتابع لوجب
الاستقبال فيقع جميع الصوم في غير لك الوقت الذي أمر بمراعاة حقه بالصوم فيه ولو لم يجب لوقع عامة الصوم فيه
بعضه في غيره فكان أقرب إلى قضاء حق الوقت والدليل على أن التتابع في صوم شهر مضان لما قلنا من قضاء حق
الوقت انه لو أفطر في بعضه لا يلزمه الاستقبال ولو أن التتابع شرطا للصوم لوجب كما في الصوم المنذور به بصفة
التتابع وكما في وم كفارة الظهار واليمين والقتل وكذا لو أفطر أياما من شهر رمضان بسبب المرض م برأ في الشهر
وصام الباقي لا يجب عليه وصل الباقي بشهر رمضان حتى إذا مضى وم الفطر يجب عليه أن يصوم عن القضاء
متصلا بيوم الفطر كما في صوم كفارة لقتل والافطار إذا أفطرت المرأة بسبب الحيض الذي لا يتصور خلو شهر عنه
انها ما طهرت يجب عليها أن تصل وتتابع حتى لو تركت يجب عليها الاستقبال وههنا يس كذلك بل يثبت له
الخيار بين أن يصوم شوال متصلا وبين أن يصوم شهرا آخر دل ان التتابع لم يكن واجبا لأجل الصوم بل
لأجل الوقت فيسقط بفوات الوقت الله أعلم وأما الصوم الواجب فصوم التطوع بعد الشروع فيه وصوم
قضائه عند لافساد وصوم الاعتكاف عندنا أما مسألة وجوب الصوم بالشروع ووجوب القضاء الافساد فقد
مضت في كتاب الصلاة وأما وجوب صوم الاعتكاف فنذكره في الاعتكاف أما التطوع فهو صوم النفل خارج
رمضان قبل الشروع فهذه جملة أقسام الصيام الله أعلم
* (فصل) * وأما شرائطها فنوعان نوع يعم الصيامات كلها وهو شرط جوا لأداء ونوع يخص البعض دون البعض
وهو شرط الوجوب أما الشرائط العامة فبعضهم رجع إلى الصائم وهو شرط أهلية الأداء وبعضها يرجع إلى
وقت الصوم وهو شرط لمحلية أما الذي يرجع إلى وقت الصوم فنوعان نوع يرجع إلى أصل الوقت ونوع يرجع إلى وصفه من الخصوص والعموم أما الذي يرجع إلى أصل الوقت فهو بياض النهار ذلك من حين يطلع الفجر
الثاني إلى غروب الشمس فلا يجوز الصوم في الليل لان لله تعالي أباح الجماع والأكل والشرب في الليالي إلى طلوع
الفجر ثم أمر الصوم إلى الليل بقوله تعالي أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله الآن باشروهن وابتغوا
ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أي حتى يتبين
لكم بياض النهار من سواد الليل كذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الخيط الأبيض والأسود
هما بياض النهار وظلمة الليل ثم أتموا الصيام إلى الليل فكان هذا تعيينا لليالي لفطر والنهار للصوم فكان محل
الصوم هو اليوم لا الليل ولان الحكمة التي لها شر لصوم وهو ما ذكرنا من التقوى وتعريف قدر النعم الحامل
على شكرها لا يحصل الصوم في الليل لان ذلك لا يحصل الا بفعل شاق على البدن مخالف للعادة وهوى النفس لا
يتحقق ذلك بالامساك في حالة النوم فلا يكون الليل محلا للصوم وأما الذي يرجع لي وصفه من الخصوص
والعموم فنقول وبالله التوفيق أما صوم التطوع فالأيام كلها حل له عندنا وهو رواية محمد عن أبي حنيفة ويجوز
77

صوم التطوع خارج رمضان ف‍ لأيام كلها لقول النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل ابن آدم له الا الصوم فإنه لي أنا
أجزى به وقوله من صام من كل شهر ثلاثة أيام الثالث عشر والرابع عشر الخامس عشر فكأنما صام السنة كلها
فقد جعل السنة كلها محلا للصوم على العموم قوله من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر
كله جعل الدهر كله حلا للصوم عن غير فصل وقوله الصائم المتطوع أمير نفسه ان شاء صام وان شاء لم يصم لان
المعاني التي لها كان الصوم حسنا وعبادة وهي ما ذكرنا موجودة في سائر لأيام فكانت الأيام كلها محلا للصوم الا
أنه يكره الصوم في بعضها ويستحب في لبعض أما الصيام في الأيام المكروهة فمنها صوم يومى العيد وأيام التشريق
وعند لشافعي لا يجوز الصوم في هذه الأيام وهو رواية أبى يوسف وعبد الله بن المبارك ن أبي حنيفة واحتج
بالنهي الوارد عن الصوم فيها وهو ما روى أبو هريرة رضى الله عالي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
ألا لا تصوموا في هذه الأيام انها أيام أكل وشرب وبعال والنهى للتحريم ولأنه عين هذه الأيام لاضداد
الصوم فلا بقي محلا للصوم والجواب ان ما ذكرنا من النصوص والمعقول يقتضى جواز الصوم في ذه الأيام فيحمل
النهى على الكراهة ويحمل التعيين على الندب والاستحباب توفيقا بين الدلائل بقدر الامكان وعندنا يكره الصوم
في هذه الأيام والمستحب هو لافطار ومنها اتباع رمضان بست من شوال كذا قال أبو يوسف كانوا يكرهون أن
تبعوا رمضان صوما خوفا أن يلحق ذلك بالفرضية وكذا روى عن مالك أنه قال أكره ن يتبع رمضان بست من
شوال وما رأيت أحدا من أهل الفقه والعلم يصومها ولم بلغنا عن أحد من السلف وان أهل العلم يكرهون ذلك
ويخافون بدعته وأن يلحق هل الجفاء برمضان ما ليس منه والاتباع المكروه هو أن يصوم يوم الفطر ويصوم بعده خمسة أيام فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة ومنها صوم يوم الشك
بنية رمضان أو بنية مترددة أما بنية رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يصام اليوم الذي يشك فيه من
رمضان الا تطوعا عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنهم كانوا ينهون عن صوم اليوم الذي يشك فيه ن
رمضان ولأنه يريد أن يزيد في رمضان وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لان أفطر يوما من رمضان
ثم أقضيه أحب إلي أن أزيد فيه ما ليس منه وأما لنية المترددة بأن نوى أن يكون صومه عن رمضان إن كان اليوم
من رمضان وان لم كن يكون تطوعا فلأن النية المترددة لا تكون نية حقيقة لأن النية تعيين للعمل التردد يمنع
التعيين وأما صوم يوم الشك بنية التطوع فلا يكره عندنا ويكره عند لشافعي واحتج بما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال من صام يوم الشك قد عصى أبا القاسم ولنا ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يصام
ليوم الذي يشك فيه من رمضان الا تطوعا استثنى التطوع والمستثنى يخالف حكمه حكم لمستثنى منه وأما الحديث
فالمراد منه صوم يوم الشك عن رمضان لان المروى أن لنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك عن
رمضان وقال من صام يوم لشك فقد عصى أبا القاسم أي صام عن رمضان واختلف المشايخ في أن الأفضل أن
صوم فيه تطوعا أو يفطر أو ينتظر قال بعضهم الأفضل أن يصوم لما روى عن عائشة وعلي رضي الله عنهما أنهما
كانا يصومان يوم الشك بنية التطوع ويقولان لان نصوم يوما ن شعبان أحب الينا من أن نفطر يوما من رمضان
فقد صاما ونبها على المعنى وهو انه يحتمل أن يكون هذا اليوم من رمضان ويحتمل أن يكون من شعبان فلو صام
لدار لصوم بين أن يكون من رمضان وبين أن يكون من شعبان ولو أفطر لدار الفطر بين أن كون في رمضان وبين
أن يكون في شعبان فكان الاحتياط في الصوم وقال بعضهم الافطار أفضل وبه كان يفتى محمد بن سلمة وكان يضع
كوزاله بين يديه يوم الشك فإذا جاءه مستفتى عن صوم يوم الشك أفتاه بالافطار وشرب من الكوز بين يدي المستفتى
وإنما كان يفعل كذلك لأنه لو أفتى بالصوم لاعتاده الناس فيخاف أن يلحق بالفريضة وقال بعضهم يصام سرا ولا
يفتى به العوام لئلا يظنه الجهال زيادة على صوم رمضان هكذا روى عن أبي يوسف أنه استفتى عن صوم يوم الشك
فأفتى بالفطر ثم قال للمستفتي تعال فلما دنا منه أخبره سرا فقال إني صائم وقال بعضهم ينتظر فلا يصوم ولا يفطر فان تبين
78

قبل الزوال أنه من رمضان عزم على الصوم وان لم يتبين أفطر لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
أصبحوا يوم الشك مفطرين متلومين أي غير آكلهن ولا عازمين على الصوم الا إذا كان صائما قبل ذلك فوصل
يوم الشك به ومنها أن يستقبل الشهر بيوم أو يومين بأن تعمد ذلك فان وافق ذلك صوما كان يصومه قبل ذلك
فلا بأس به لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تتقدموا الشهر بيوم ولا بيومين الا أن يوافق ذلك صوما
كان يصومه أحدكم ولان استقبال الشهر بيوم أو بيومين يوهم الزيادة على الشهر ولا كذلك إذا وافق صوما
كان يصومه قبل ذلك لأنه لم يستقبل الشهر وليس فيه وهم الزيادة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يصل شعبان برمضان ومنها صوم الوصال لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا صام من صام
الدهر وروى أنه نهى عن صوم الوصال فسر أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الوصال بصوم يومين لا يفطر بينهما لان
الفطر بينهما يحصل بوجود زمان الفطر وهو الليل قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار
من ههنا فقد أفطر الصائم أكل أو لم يأكل وقيل في تفسير الوصال أن يصوم كل يوم من السنة دون ليلته ومعنى
الكراهة فيه أن ذلك يضعفه عن أداء الفرائض والواجبات ويقعده عن الكسب الذي لا بد منه ولهذا روى
أنه لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال وقيل له انك تواصل يا رسول الله قال إني لست كأحدكم انى
أبيت عند ربى يطعمني ويسقيني أشار إلى المخصص وهو اختصاصه بفضل قوة النبوة وقال بعض الفقهاء من
صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت نهى صوم الوصال ورد عليه أبو يوسف
فقال ليس هذا عندي كما قال والله أعلم هذا قد صام الدهر كأنه أشار إلى أن النهى عن صوم الدهر ليس لمكان صوم
هذه الأيام بل لما يضعفه عن الفرائض والواجبات ويقعده عن الكسب ويؤدى إلى التبتل المنهى عنه والله أعلم
وأما صوم يوم عرفة ففي حق غير الحاج مستحب لكثرة الأحاديث الواردة بالندب إلى صومه ولان له فضيلة على
غيره من الأيام وكذلك في حق الحاج إن كان لا يضعفه عن الوقوف والدعاء لما فيه من الجمع بين القربتين وإن كان
يضعفه عن ذلك يكره لان فضيلة صوم هذا اليوم مما يمكن استدراكها في غير هذه السنة ويستدرك عادة
فاما فضيلة الوقوف والدعاء فيه لا يستدرك في حق عامة الناس عادة الا في العمر مرة واحدة فكان احرازها أولى
وكره بعضهم صوم يوم الجمعة بانفراده وكذا صوم يوم الاثنين والخميس وقال عامتهم انه مستحب لأن هذه الأيام من
الأيام الفاضلة فكان تعظيمها بالصوم مستحبا ويكره صوم يوم السبت بانفراده لأنه تشبه باليهود وكذا صوم يوم
النيروز والمهرجان لأنه تشبه بالمجوس وكذا صوم الصمت وهو أن يمسك عن الطعام والكلام جميعا لان النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولأنه تشبه بالمجوس وكره بعضهم صوم يوم عاشوراء وحده لمكان التشبه باليهود ولم
يكرهه عامتهم لأنه من الأيام الفاضلة فيستحب استدراك فضيلتها بالصوم وأما صوم يوم وافطار يوم فهو مستحب
وهو صوم سيدنا داود عليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ولأنه أشق على البدن إذا الطبع ألوف
وقال صلى الله عليه وسلم خير الاعمال أحمزها أي أشقها على البدن وكذا صوم الأيام البيض لكثرة الأحاديث فيه
منها ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صام ثلاثة أيام من كل شهر الثالث عشر والرابع عشر
والخامس عشر فكأنما صام السنة كلها وأما صوم الدين فالأيام كلها محل له ويجوز في جميع الأيام الا ستة أيام
يومى الفطر والأضحى وأيام التشريق ويوم الشك أما ما سوى صوم يوم الشك فلورود النهى عنه والنهى وإن كان
عن غيره أو لغيره فلا شك أن ذلك الغير يوجد بوجود الصوم في هذه الأيام فأوجب ذلك نقصانا فيه والواجب في
ذمته صوم كامل فلا يتأدى بالناقص وبهذا تبين ببطلان أحد قولي الشافعي في صوم المتعة أنه يجوز في هذه الأيام
لان النهى عن الصوم في هذه الأيام عام يتناول الصيامات كلها فيوجب ذلك نقصانا فيه والواجب في ذمته كامل
فلا ينوب الناقص عنه وأما يوم الشك فلانه يحتمل أن يكون من رمضان ويحتمل أن يكون من شعبان فإن كان
من شعبان يكون قضاء وإن كان من رمضان لا يكون قضاء فلا يكون قضاء مع الشك وهل يصح النذر بصوم يومى
79

العيد وأيام التشريق روى محمد عن أبي حنيفة انه يصح نذره لكن الأفضل أن يفطر فيها ويصوم في أيام أخر ولو
صام في هذه الأيام يكون مسيئا لكنه يخرج عنه النذر لأنه أوجب ناقصا وأداه ناقصا وروى أبو يوسف عن أبي
حنيفة أنه لا يصح نذره ولا يلزمه شئ وهكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة وهو قول زفر والشافعي والمسألة
مبنية على جواز صوم هذه الأيام وعدم جوازه وقد مرت فيما تقدم ولو شرع في صوم هذه الأيام ثم أفسده لا يلزمه
القضاء في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يلزمه وجه قولهما أن الشروع في التطوع سبب الوجوب كالنذر
فإذا وجب المضي فيه وجب القضاء بالافساد كما لو شرع في التطوع في سائر الأيام ثم أفسده ولأبي حنيفة أن الشروع
ليس سبب الوجوب وضعا وإنما الوجوب يثبت ضرورة صيانة للمؤدى عن البطلان والمؤدى ههنا لا يجب صيانته
لمكان النهى فلا يجب المضي فيه فلا يضمن بالافساد ولو شرع في الصلاة في أوقات مكروهة فافسدها ففيه روايتان
عن أبي حنيفة في رواية لا قضاء عليه كما في الصوم وفى رواية عليه القضاء بخلاف الصوم وقد ذكرنا وجوه الفرق في
كتاب الصلاة وأما صوم رمضان فوقته شهر رمضان لا يجوز في غيره فيقع الكلام فيه في موضعين أحدهما في
بيان وقت صوم رمضان والثاني في بيان ما يعرف به وقته أما الأول فوقت صوم رمضان شهر رمضان لقوله تعالى
فمن شهد منكم الشهر فليصمه أي فليصم في الشهر وقول النبي صلى الله عليه وسلم وصوموا شهركم أي في شهركم
لان الشهر لا يصام وإنما يصام فيه وأما الثاني وهو بيان ما يعرف به وقته فإن كانت السماء مصحية يعرف برؤية
الهلال وإن كانت متغيمة يعرف باكمال شعبان ثلاثين يوما لقول النبي صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته فان غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا وكذلك ان غم على الناس هلال شوال أكملوا عدة
رمضان ثلاثين يوما لان الأصل بقاء الشهر وكماله فلا يترك هذا الأصل الا بيقين على الأصل المعهود أن ما ثبت بيقين
لا يزول الا بيقين مثله فإن كانت السماء مصحية ورأي الناس الهلال صاموا وان شهد واحد برؤية الهلال لا تقبل
شهادته ما لم تشهد جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم في ظاهر الرواية ولم يقدر في ذلك تقديرا وروى عن أبي يوسف
أنه قدر عدد الجماعة بعدد القسامة خمسين رجلا وعن خلف بن أيوب أنه قال خمسمائة ببلخ قليل وقال بعضهم
ينبغي أن يكون من كل مسجد جماعة واحد أو اثنان وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يقبل
فيه شهادة الواحد العدل وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وقال في قول آخر تقبل فيه شهادة اثنين وجه رواية
الحسن رحمه الله تعالى أن هذا من باب الاخبار لا من باب الشهادة بدليل أنه تقبل شهادة الواحد إذا كان
بالسماء علة ولو كان شهادة لما قبل لان العدد شرط في الشهادات وإذا كان اخبار الا شهادة فالعدد ليس بشرط في
الاخبار عن الديانات وإنما تشترط العدالة فقط كما في رواية الاخبار عن طهارة الماء ونجاسته ونحو ذلك وجه ظاهر
الرواية ان خبر الواحد العدل إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر وههنا الظاهر يكذبه لان تفرده بالرؤية مع مساواة
جماعة لا يحصون إياه في الأسباب الموصلة إلى الرؤية وارتفاع الموانع دليل كذبه أو غلطه في الرؤية وليس كذلك
إذا كان بالسماء علة لان ذلك يمنع التساوي في الرؤية لجواز ان قطعة من الغيم انشقت فظهر الهلال فرآه واحد ثم استتر
بالغيم من ساعته قبل أن يراه غيره وسواء كان هذا الرجل من المصر أو من خارج المصر وشهد برؤية الهلال انه
لا تقبل شهادته في ظاهر الرواية وذكر الطحاوي انه تقبل وجه رواية الطحاوي ان المطالع تختلف بالمصر وخارج
المصر في الظهور والخفاء لصفاء الهواء خارج المصر فتختلف الرؤية وجه ظاهر الرؤية ان المطالع لا تختلف الا عند
المسافة البعيدة الفاحشة وعلى هذا الرجل الذي أخبر أن يصوم لان عنده ان هذا اليوم من رمضان والانسان
يؤاخذ بما عنده فان شهد فرد الامام شهادته ثم أفطر يقضى لأنه أفسد صوم رمضان في زعمه فيعامل بما عنده
وهل تلزمه الكفارة قال أصحابنا لا تلزمه وقال الشافعي تلزمه إذا أفطر بالجماع وان أفطر قبل أن يرد الامام شهادته
فلا رواية عن أصحابنا في وجوب الكفارة واختلف المشايخ فيه قال بعضهم تجب وقال بعضهم لا تجب وجه قول
الشافعي انه أفطر في يوم علم أنه من رمضان لوجود دليل العلم في حقه وهو الرؤية وعدم علم غيره لا يقدح في علمه
80

فيؤاخذ بعلمه فيوجب عليه الكفارة ولهذا أوجب عليه الصوم (ولنا) انه أفطر في يوم هو من شعبان وافطار يوم
هو من شعبان لا يوجب الكفارة وإنما قلنا ذلك لان كونه من رمضان إنما يعرف بالرؤية إذا كانت السماء
مصحية ولم تثبت رؤيته لما ذكرنا ان تفرده بالرؤية مع مساواة عامة الناس إياه في التفقد مع سلامة الآلات دليل
عدم الرؤية وإذا لم تثبت الرؤية لم يثبت كون اليوم من رمضان فيبقى من شعبان والكفارة لا تجب بالافطار في يوم
هو من شعبان بالاجماع وأما وجوب الصوم عليه فممنوع فان المحققين من مشايخنا قالوا لا رواية في وجوب الصوم
عليه وإنما الرواية أنه يصوم وهو محمول على الندب احتياطا وقال الحسن البصري انه لا يصوم الا مع الامام
ولو صام هذا الرجل وأكمل ثلاثين يوما ولم ير هلال شوال فإنه لا يفطر الا مع الامام وان زاد صومه على ثلاثين
لأنا إنما أمرناه بالصوم احتياطا والاحتياط ههنا ان لا يفطر لاحتمال ان ما رآه لم يكن هلالا بل كان خيالا فلا يفطر
مع الشك ولأنه لو أفطر للحقه التهمة لمخالفته الجماعة فالاحتياط ان لا يفطر وإن كانت السماء متغيمة تقبل شهادة
الواحد بلا خلاف بين أصحابنا سواء كان حرا أو عبدا رجلا أو امرأة غير محدود في قذف أو محدودا تائبا بعد إن كان
مسلما عاقلا بالغا عدلا وقال الشافعي في أحد قوليه لا تقبل الا شهادة رجلين عدلين اعتبارا بسائر الشهادات (ولنا)
ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه انه رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبصرت الهلال
فقال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال نعم قال قم يا بلال فأذن في الناس فليصوموا غدا فقد قبل
رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة الواحد على هلال رمضان ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة
ولان هذا ليس بشهادة بل هو اخبار بدليل ان حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد
والانسان لا يتهم في ايجاب شئ على نفسه فدل انه ليس بشهادة بل هو اخبار والعدد ليس بشرط في الاخبار الا انه
اخبار في باب الدين فيشترط فيه الاسلام والعقل والبلوغ والعدالة كما في رواية الاخبار وذكر الطحاوي في مختصره
انه يقبل قول الواحد عدلا كان أو غير عدل وهذا خلاف ظاهر الرواية الا أنه يريد به العدالة الحقيقية فيستقيم
لان الاخبار لا تشترط فيه العدالة الحقيقية بل يكتفى فيه بالعدالة الظاهرة والعبد والمرأة من أهل الأخبار الا ترى
انه صحت روايتهما وكذا المحدود في القذف فان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلوا اخبار أبى بكرة وكان
محدودا في قذف وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة ان شهادته برؤية الهلال لا تقبل والصحيح انها تقبل وهو رواية
الحسن عن أبي حنيفة لما ذكرنا ان هذا خبر وليس بشهادة وخبره مقبول وتقبل شهادة واحد عدل على شهادة واحد
عدل في هلال رمضان بخلاف الشهادة على الشهادة في سائر الأحكام انها لا تقبل ما لم يشهد على شهادة رجل واحد
رجلان أو رجل وامرأتان لما ذكرنا ان هذا من باب الاخبار لا من باب الشهادة ويجوز اخبار رجل عدل عن رجل
عدل كما في رواية الاخبار ولو رد الامام شهادة الواحد لتهمة الفسق فإنه يصوم ذلك اليوم لان عنده ان ذلك اليوم
من رمضان فيؤاخذ بما عنده ولو أفطر بالجماع هل تلزمه الكفارة فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وأما هلال
شوال فإن كانت السماء مصحية فلا يقبل فيه الا شهادة جماعة يحصل العلم للقاضي بخبرهم كما في هلال رمضان كذا
ذكر محمد في نوادر الصوم وروى الحسن عن أبي حنيفة انه يقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان
بالسماء علة أو لم يكن كما روى عن أبي حنيفة في هلال رمضان انه تقبل فيه شهادة الواحد العدل سواء كان في السماء
علة أو لم يكن وإن كان بالسماء علة فلا تقبل فيه الا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين مسلمين حرين عاقلين بالغين
غير محدودين في قذف كما في الشهادة في الحقوق والأموال لما روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انهما قالا إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز الافطار الا بشهادة
رجلين ولان هذا من باب الشهادة الا ترى انه لا يلزم الشاهد شئ بهذه الشهادة بل له فيه نفع وهو اسقاط الصوم عن
نفسه فكان متهما فيشترط فيه العدد نفيا للتهمة بخلاف هلال رمضان فان هناك لا تهمة إذ الانسان لا يتهم
في الاضرار بنفسه بالتزام الصوم فان غم على الناس هلال شوال فان صاموا رمضان بشهادة شاهدين أفطروا
81

بتمام العدة ثلاثين يوما بلا خلاف لان قولهما في الفطر يقبل وان صاموا بشهادة شاهد واحد فروى الحسن عن أبي
حنيفة انهم لا يفطرون على شهادته برؤية هلال رمضان عند كمال العدد وان وجب عليهم الصوم بشهادته فثبتت
الرمضانية بشهادته في حق الصوم لا في حق الفطر لأنه لا شهادة له في الشرع على الفطر جميعا الا ترى انه لو شهد وحده
مقصود الا تقبل بخلاف ما إذا صاموا بشهادة شاهدين لان لهما شهادة على الصوم والفطر جميعا الا ترى لو شهدا
برؤية الهلال تقبل شهادتهما لان وجوب الصوم عليهم بشهادته من طريق الاحتياط والاحتياط ههنا في أن لا
يفطروا بخلاف ما إذا صاموا بشهادة شاهدين لان الوجوب هناك ثبت بدليل مطلق فيظهر في الصوم والفطر جميعا
وروى ابن سماعة عن محمد انهم يفطرون عند تمام العدد فأورد ابن سماعة على محمد اشكالا فقال إذا قبلت
شهادة الواحد في الصوم تفطر على شهادته ومتى أفطرت عند كمال العدد على شهادته فقد أفطرت بقول الواحد
وهذا لا يجوز لاحتمال ان هذا اليوم من رمضان فأجاب محمد رحمه الله فقال لا أتهم المسلم أن يتعجل يوما مكان يوم
ومعناه أن الظاهر أنه إن كان صادقا في شهادته فالصوم وقع في أول الشهر فيختم بكمال العدد وقيل فيه بجواب آخر
وهو ان جواز الفطر عند كمال العدد لم يثبت بشهادته مقصودا بل بمقتضى الشهادة وقد يثبت بمقتضى الشئ ما لا يثبت
به مقصودا كالميراث بحكم النسب الثابت انه يظهر بشهادة القابلة بالولادة وإن كان لا يظهر بشهادتها مقصودا
والاستشهاد على مذهبهما لا على مذهب أبي حنيفة لان شهادة القابلة بالولادة لا تقبل في حق الميراث عنده
(واما) هلال ذي الحجة فإن كانت السماء مصحية فلا يقبل فيه الا ما يقبل في هلال رمضان وهلال شوال وهو ما ذكرنا
وإن كان بالسماء علة فقد قال أصحابنا انه يقبل فيه شهادة الواحد وذكر الكرخي انه لا يقبل فيه الا شهادة رجلين
أو رجل وامرأتين كما في هلال شوال لأنه يتعلق بهذه الشهادة حكم شرعي وهو وجوب الأضحية على الناس فيشترط
فيه العدد والصحيح هو الأول لان هذا ليس من باب الشهادة بل من باب الاخبار الا ترى ان الأضحية تجب على
الشاهد ثم تتعدى إلى غيره فكان من باب الخبر ولا يشترط فيه العدد ولو رأوا يوم الشك الهلاك بعد الزوال أو قبله فهو
لليلة المستقبلة في قول أبي حنيفة ومحمد ولا يكون ذلك اليوم من رمضان وقال أبو يوسف إن كان بعد الزوال فكذلك
وإن كان قبل الزوال فهو لليلة الماضية ويكون ذلك اليوم من رمضان والمسألة مختلفة بين الصحابة وروى عن عمر
وابن مسعود وابن عمر وأنس مثل قولهما وروى عن عمر رضي الله عنه رواية أخرى مثل قوله وهو قول على وعائشة
رضي الله عنهما وعلى هذا الخلاف هلال شوال إذا رأوه يوم الشك وهو يوم الثلاثين من رمضان قبل الزوال أو بعده
فهو لليلة المستقبلة عندهما ويكون اليوم من رمضان وعنده ان رأوا قبل الزوال يكون لليلة الماضية ويكون اليوم
يوم الفطر والأصل عندهما انه لا يعتبر في رؤية الهلال قبل الزوال ولا بعده وإنما العبرة لرؤية قبل غروب الشمس
وعنده يعتبر وجه قول أبى يوسف ان الهلال لا يرى قبل الزوال عادة الا أن يكون لليلتين وهذا يوجب كون اليوم
من رمضان في هلال رمضان وكونه يوم الفطر في هلال شوال ولهما قول النبي صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته أمر بالصوم والفطر بعد الرؤية وفيما قاله أبو يوسف يتقدم وجوب الصوم والفطر على الرؤية
وهذا خلاف النص ولو أن أهل مصر لم يروا الهلال فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا وفيهم رجل صام يوم الشك
بنية رمضان ثم رأوا هلال شوال عشية التاسع والعشرين من رمضان فصام أهل المصر تسعة وعشرين يوما
وصام ذلك الرجل ثلاثين يوما فأهل المصر قد أصابوا وأحسنوا وأساء ذلك الرجل وأخطأ لأنه خالف السنة إذ السنة
ان يصام رمضان لرؤية الهلال إذا كانت السماء مصحية أو بعد شعبان ثلاثين يوما كما نطق به الحديث وقد عمل
أهل المصر بذلك وخالف الرجل فقد أصاب أهل المصر وأخطأ الرجل ولا قضاء على أهل المصر لان الشهر قد يكون
ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين يوما لقول النبي صلى الله عليه وسلم الشهر هكذا وهكذا وأشار إلى جميع
أصابع يديه ثم قال الشهر هكذا هكذا ثلاثا وحبس ابهامه في المرة الثالثة فثبت ان الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون
تسعة وعشرين وقد روى عن أنس رضى الله تعالى عنه أنه قال صمنا على عهد رسول الله صلى الله عليه
82

وسلم تسعة وعشرين يوما أكثر مما صمنا ثلاثين يوما ولو صام أهل بلد ثلاثين يوما وصام أهل بلد آخر تسعة
وعشرين يوما فإن كان صوم أهل ذلك البلد برؤية الهلال وثبت ذلك عند قاضيهم أو عدوا شعبان ثلاثين
يوما ثم صاموا رمضان فعلى أهل البلد الاخر قضاء يوم لأنهم أفطروا يوما من رمضان لثبوت الرمضانية
برؤية أهل ذلك البلد وعدم رؤية أهل البلد لا يقدح في رؤية أولئك إذ العدم لا يعارض الوجود وإن كان صوم
أهل ذلك البلد بغير رؤية هلال رمضان أو لم تثبت الرؤية عند قاضيهم ولا عدوا شعبان ثلاثين يوما فقد
أساؤا حيث تقدموا رمضان بصوم يوم وليس على أهل البلد الآخر قضاؤه ولما ذكرنا ان الشهر قد يكون
ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين هذا إذا كانت المسافة بين البلدين قريبة لا تختلف فيها المطالع فاما إذا
كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم الآخر لان مطالع البلاد عند المسافة الفاحشة تختلف فيعتبر في أهل
كل بلد مطالع بلدهم دون البلد الآخر وحكى عن أبي عبد الله بن أبي موسى الضرير انه استفتى في أهل إسكندرية
ان الشمس تغرب بها ومن على منارتها يرى الشمس بعد ذلك بزمان كثير فقال يحل لأهل البلد الفطر ولا يحل لمن
على رأس المنارة إذا كان يرى غروب الشمس لان مغرب الشمس يختلف كما يختلف مطلعها فيعتبر في أهل كل موضع
مغربه ولو صام أهل مصر تسعة وعشرين وأفطروا للرؤية وفيهم مريض لم يصم فان علم ما صام أهل مصره فعليه
قضاء تسعة وعشرين يوما لان القضاء على قدر الفائت والفائت هذا القدر فعليه قضاء هذا القدر وان لم يعلم هذا
الرجل ما صنع أهل مصره صام ثلاثين يوما لان الأصل في الشهر ثلاثون يوما والنقصان عارض فإذا لم يعلم عمل
بالأصل وقالوا فيمن أفطر شهر العذر ثلاثين يوما ثم قضى شهرا بالهلال فكان تسعة وعشرين يوما ان عليه
قضاء يوم آخر لان المعتبر عدد الأيام التي أفطر فيها دون الهلال لان القضاء على قدر الفائت والفائت ثلاثون يوما
فيقضى يوما آخر تكملة الثلاثين واما الذي يرجع إلى الصائم فمنها الاسلام فإنه شرط جواز الأداء بلا خلاف وفى كونه
شرط الوجوب خلاف سنذكره في موضعه ومنها الطهارة عن الحيض والنفاس فإنها شرط صحة الأداء باجماع
الصحابة رضي الله عنهم وفى كونها شرط الوجوب خلاف نذكره في موضعه فاما البلوغ فليس من شرائط صحة
الأداء فيصح أداء الصوم من الصبي العاقل ويثاب عليه لكنه من شرائط الوجوب لما نذكره وكذا العقل والإفاقة
ليسا من شرائط صحة الأداء حتى لو نوى الصوم من الليل ثم جن في النهار أو أغمي عليه يصح صومه في ذلك اليوم
ولا يصح صومه في اليوم الثاني لا لعدم أهلية الأداء بل لعدم النية لأن النية من المجنون والمغمى عليه لا تتصور
وفى كونهما من شرائط الوجوب كلام نذكره في موضعه ومنها النية والكلام في هذا لشرط يقع في ثلاث مواضع
أحدها في بيان أصله والثاني في بيان كيفيته والثالث في بيان وقته اما الأول فاصل النية شرط جواز الصيامات كلها
في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر صوم رمضان في حق المقيم جائز بدون النية واحتج بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر
فليصمه أمر بصوم الشهر مطلقا عن شرط النية والصوم هو الامساك وقد أتى به فيخرج عن العهدة ولأن النية
إنما تشترط للتعيين والحاجة إلى التعيين عند المزاحمة ولا مزاحمة لان الوقت لا يحتمل الا صوما واحدا في حق المقيم
وهو صوم رمضان فلا حاجة إلى التعيين بالنية ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا عمل لمن لا نية له وقوله الأعمال بالنيات
ولكل امرئ ما نوى ولان صوم رمضان عبادة والعبادة اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصا لله تعالى
بأمره والاختيار والاخلاص لا يتحققان بدون النية واما الآية فمطلق اسم الصوم ينصرف إلى الصوم الشرعي
والامساك لا يصير صوما شرعا بدون النية لما بينا واما قوله إن النية شرط للتعيين وزمان رمضان متعين لصوم
رمضان فلا حاجة إلى النية فنقول لا حاجة إلى النية لتعيين الوصف لكن تقع الحاجة إلى النية لتعيين الأصل بيانه ان
أصل الامساك متردد بين أن يكون عادة أو حمية وبين أن يكون لله تعالى بل الأصل أن يكون فعل كل فاعل لنفسه ما لم
يجعله لغيره فلا بد من النية ليصير لله تعالى ثم إذا صار أصل الامساك لله تعالى في هذا الوقت بأصل النية والوقت متعين
لفرضه يقع عن الفرض من غير الحاجة إلى تعيين الوصف واما الثاني في كيفية النية فإن كان الصوم عينا وهو صوم
83

رمضان وصوم النفل خارج رمضان والمنذور به في وقت بعينه يجور بنية مطلقة عندنا وقال الشافعي صوم النفل
يجوز بنية مطلقة فاما الصوم الواجب فلا يجوز الا بنية معينة وجه قوله أن هذا صوم مفروض فلا يتأدى الا بنية
الفرض كصوم القضاء والكفارات والنذور المطلقة وهذا لان الفرضية صفة زائدة على أصل الصوم يتعلق بها زيادة
الثواب فلا بد من زيادة النية وهي نية الفرض ولنا قوله تعالي فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهذا قد شهد الشهر
وصامه فيخرج عن العهدة ولأن النية لو شرطت إنما تشترط اما ليصير الامساك لله تعالى واما للتمييز بين نوع ونوع
ولا وجه للأول لان مطلق النية كان لصيرورة الامساك لله تعالى لأنه يكفي لقطع التردد ولقول النبي صلى الله عليه
وسلم ولكل امرئ ما نوى وقد نوى أن يكون امساكه لله تعالى فلو لم يقع لله تعالي لا يكون له ما نوى وهذا خلاف
النص ولا وجه للثاني لان مشروع الوقت واحد لا يتنوع فلا حاجة إلى التمييز بتعيين النية بخلاف صوم القضاء
والنذر والكفارة لان مشروع الوقت وهو خارج رمضان متنوع فوقعت الحاجة إلى التعيين بالنية فهو الفرق
وقوله هذا صوم مفروض مسلم ولكن لم لا تتأدى نية الفرض بدون نية الفرض وقوله الفرضية صفة للصوم زائدة
عليه فتفتقر إلى نية زائدة ممنوع انها صفة زائدة على الصوم لأن الصوم صفة والصفة لا تحتمل صفة زائدة عليها قائمة بها
بل هو وصف إضافي فيسمى الصوم مفروضا وفريضة لدخوله تحت فرض الله تعالى لا لفرضية قامت به وإذا لم يكن
صفة قائمة بالصوم لا يشترط له نية الفرض وزيادة الثواب لفضيلة الوقت لا لزيادة صفة العمل والله أعلم ولو صام
رمضان بنية النفل أو صام المنذور بعينه بنية النفل يقع صومه عن رمضان وعن المنذور عندنا وعند الشافعي لا يقع
وكذا لو صام رمضان بنية واجب آخر من القضاء والكفارات والنذور يقع عن رمضان عندنا وعنده لا يقع هو
يقول لما نوى النفل فقد أعرض عن الفرض والمعرض عن فعل لا يكون آتيا به ونحن نقول إنه نوى الأصل
والوصف والوقت قابل للأصل غير قابل للوصف فبطلت نية الوصف وبقيت نية الأصل وانها كافية لصيرورة
الامساك لله تعالى على ما بينا في المسألة الأولي ولو نوى في النذر المعين واجبا آخر يقع عما نوى بالاجماع بخلاف
صوم رمضان وجه الفرق ان كل واحد من الوقتين وان تعين لصومه الا ان أحدهما وهو شهر رمضان معين بتعيين
من له الولاية على الاطلاق وهو الله تعالى فثبت التعيين على الاطلاق فيظهر في حق فسخ سائر الصيامات والآخر
تعين بتعيين من له ولاية قاصرة وهو العبد فيظهر تعيينه فيما عينه له وهو صوم التطوع دون الواجبات التي هي حق
الله تعالى في هذه الأوقات فبقيت الأوقات محلا لها فإذا نواها صح هذا الذي ذكرنا في حق المقيم فاما المسافر فان
صام رمضان بمطلق النية فكذلك يقع صومه عن رمضان بلا خلاف بين أصحابنا وان صام بنية واجب آخر يقع
عما نوى في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يقع عن رمضان وان صام بنية التطوع فعندهما يقع عن رمضان
وعن أبي حنيفة فيه روايتان روى أبو يوسف عن أبي حنيفة انه يقع عن التطوع وروى الحسن عنه انه يقع عن
رمضان قال القدوري الرواية الأولى هي الأصح وجه قولهما ان الصوم واجب على المسافر وهو العزيمة والافطار
له خصة فإذا اختار العزيمة وترك الرخصة صار هو والمقيم سواء فيقع صومه عن رمضان كالمقيم ولأبي حنيفة ان
الصوم وان وجب عليه لكن رخص له في الافطار نظرا له فلان يرخص له اسقاط ما في ذمته والنظر له فيه أكثر
أولى واما إذا نوى التطوع فوجه رواية أبى يوسف عن أبي حنيفة ان الصوم غير واجب على المسافر في رمضان
بدليل انه يباح له الفطر فأشبه خارج رمضان ولو نوى التطوع خارج رمضان يقع عن التطوع كله كذا في رمضان
وجه رواية الحسن عنه ان صوم التطوع لا يفتقر إلى تعيين نية المتطوع بل نية الصوم فيه كافية فتلغو نية التعيين
ويبقى أصل النية فيصير صائما في رمضان بنية مطلقة فيقع عن رمضان واما قوله إن الصوم غير واجب على
المسافر في رمضان فممنوع بل هو واجب الا انه يترخص فيه فإذا لم يترخص ولم ينو واجبا آخر بقي صوم رمضان
واجبا عليه فيقع صومه عنه واما المريض الذي رخص له في الافطار فان صام بنية مطلقة يقع صومه عن رمضان بلا
خلاف وان صام بنية التطوع فعامة مشايخنا قالوا إنه يقع صومه عن رمضان لأنه لما قدر على الصوم صار كالصحيح
84

والكرخي سوى بين المريض والمسافر وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة انه يقع عن التطوع ويشترط لكل يوم من
رمضان نية على حدة عند عامة العلماء وقال مالك يجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة وجه قوله إن الواجب صوم
الشهر لقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه والشهر اسم لزمان واحد فكان الصوم من أوله إلى آخره عبادة
واحدة كالصلاة والحج فيتأدى بنية واحدة ولنا ان صوم كل يوم عبادة على حدة غير متعلقة باليوم الآخر بدليل ان
ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر فيشترط لكل يوم منه نية على حدة وقوله الشهر اسم لزمان واحد ممنوع بل هو اسم
لأزمنة مختلفة بعضها محل للصوم وبعضها ليس بوقت له وهو الليالي فقد تخلل بين كل يومين ما ليس بوقت لهما فصار
صوم كل يومين عبادتين مختلفتين كصلاتين ونحو ذلك وإن كان الصوم دينا وهو صوم القضاء والكفارات والنذور
المطلقة لا يجوز الا بتعيين النية حتى لو صام بنية مطلق الصوم لا يقع عما عليه لان زمان خارج رمضان متعين للنفل
شرعا عند بعض مشايخنا والمطلق ينصرف إلى ما تعين له الوقت وعند بعضهم هو وقت للصيامات كلها على الابهام
فلابد من تعيين الوقت للبعض بالنية لتتعين له لكنه عند الاطلاق ينصرف إلى التطوع لأنه أدنى والأدنى متيقن
به فيقع الامساك عنه ولو نوى بصومه قضاء رمضان والتطوع كان عن القضاء في قول أبى يوسف وقال محمد يكون
عن التطوع وجه قوله إنه عين الوقت لجهتين مختلفتين متنافيتين فسقطتا للتعارض وبقى أصل النية وهو نية
الصوم فيكون عن التطوع ولأبي يوسف ان نية التعيين في التطوع لغو فلغت وبقى أصل النية فصار كأنه نوى قضاء
رمضان والصوم ولو كان كذلك يقع عن القضاء كذا هذا فان نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار قال أبو يوسف
يكون عن القضاء استحسانا والقياس أن يكون عن التطوع وهو قول محمد وجه القياس على نحو ما ذكرنا في
المسألة الأولى ان جهتي التعيين تعارضتا للتنافي فسقطتا بحكم التعارض فبقي نية مطلق الصوم فيكون تطوعا وجه
الاستحسان ان الترجيح لتعيين جهة القضاء لأنه خلف عن صوم رمضان وخلف الشئ يقوم مقامه كأنه هو وصوم
رمضان أقوى الصيامات حتى تندفع به نية سائر الصيامات ولأنه بدل صوم وجب بايجاب الله تعالى ابتداء وصوم
كفارة الظهار وجب بسبب وجد من جهة العبد فكان القضاء أقوى فلا يزاحمه الا ضعف وروى ابن سماعة عن
محمد فيمن نذر صوم يوم بعينه فصامه ينوى النذر وكفارة اليمين فهو عن النذر لتعارض النيتين فتساقطا وبقى نية
الصوم مطلقا فيقع عن النذر المعين والله أعلم واما الثالث وهو وقت النية فالأفضل في الصيامات كلها أن ينوى
وقت طلوع الفجر ان أمكنه ذلك أو من الليل لأن النية عند طلوع الفجر تفارن أول جزء من العبادة حقيقة ومن
الليل تقارنه تقديرا وان نوى بعد طلوع الفجر فإن كان الصوم دينا لا يجوز بالاجماع وإن كان عينا وهو صوم
رمضان وصوم التطوع خارج رمضان والمنذور المعين يجوز وقال زفر إن كان مسافرا لا يجوز صومه عن رمضان
بنية من النهار وقال الشافعي لا يجوز بنية من النهار الا التطوع وقال مالك لا يجوز التطوع أيضا ولا يجوز صوم
التطوع بنية من النهار بعد الزوال عندنا وللشافعي فيه قولان اما الكلام مع مالك فوجه قوله إن التطوع تبع
للفرض ثم لا يجوز صوم الفرض بنية من النهار فكذا التطوع ولنا ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح لا ينوى الصوم ثم يبدو له فيصوم وعن عائشة رضي الله عنها ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أهله فيقول هل عندكم عن غداء فان قالوا لا قال فانى صائم وصوم التطوع
بنية من النهار قبل الزوال مروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبى طلحة وأما الكلام فيما بعد الزوال فبناء
على أن صوم النفل عندنا غير متجزئ كصوم الفرض وعند الشافعي في أحد قوليه متجزئ حتى قال يصير صائما
من حين نوى لكن بشرط الامساك في أول النهار وحجته ما روينا عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما مطلقا
من غير فصل بين ما قبل الزوال وبعده وأما عندنا فالصوم لا يتجزأ فرضا كان أو نفلا ويصير صائما من أول النهار
لكن بالنية الموجودة وقت الركن وهو الامساك وقت الغداء المتعارف لما نذكر فإذا نوى بعد الزوال فقد خلا بعض
الركن عن الشرط فلا يصير صائما شرعا والحديثان محمولان على ما قبل الزوال بدليل ما ذكرنا وأما الكلام مع
85

الشافعي في صوم رمضان فهو يحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا صيام لمن لم يعزم الصوم من الليل
ولان الامساك من أول النهار إلى آخره ركن فلا بد له من النية ليصير لله تعالى وقد انعدمت في أول النهار فلم يقع
الامساك في أول النهار لله تعالي لفقد شرطه فكذا الباقي لان صوم الفرض لا يتجزأ ولهذا لا يجوز صوم القضاء
والكفارات والنذور المطلقة بنية من النهار وكذا صوم رمضان ولنا قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى قوله
ثم أتموا الصيام إلى الليل أباح للمؤمنين الأكل والشرب والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر وأمر بالصيام عنها
بعد طلوع الفجر متأخرا عنه لان كلمة ثم للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار والامر
بالصوم أمر بالنية إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية فكان أمرا بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار وقد أتى به فقد
أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة وفيه دلالة ان الامساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية أو لم توجد لان
اتمام الشئ يقتضى سابقية وجود بعض منه ولأنه صام رمضان في وقت متعين شرعا لصوم رمضان لوجود ركن
الصوم مع شرائطه التي ترجع إلى الأهلية والمحلية ولا كلام في سائر الشرائط وإنما الكلام في النية ووقتها وقت
وجود الركن وهو الامساك وقت الغداء المتعارف والامساك في أول النهار شرط وليس بركن لان ركن العبادة
ما يكون شاقا على البدن مخالفا للعادة وهو النفس وذلك هو الامساك وقت الغداء المتعارف فأما الامساك في أول
النهار فمعتاد فلا يكون ركنا بل يكون شرطا لأنه وسيلة إلى تحقيق معنى الركن الا انه لا يعرف كونه وسيلة للحال
لجواز أن لا ينوى وقت الركن فإذا نوى ظهر كونه وسيلة من حين وجوده والنية تشترط لصيرورة الامساك الذي
هو ركن عبادة لا لما يصير عبادة بطريق الوسيلة على ما قررنا في الخلافيات وأما الحديث فهو من الآحاد فلا
يصلح ناسخا للكتاب لكنه يصلح مكملا له فيحمل على نفى الكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد ليكون
عملا بالدليلين بقدر الامكان وأما صيام القضاء والنذور والكفارات فما صامها في وقت متعين لها شرعا لأن خارج
رمضان متعين للنفل موضوع له شرعا الا أن يعينه لغيره فإذا لم ينو من الليل صوما آخر بقي الوقت متعينا للتطوع
شرعا فلا يملك تغييره فاما ههنا فالوقت متعين لصوم رمضان وقد صامه لوجود ركن الصوم وشرائطه على ما بينا
واما الكلام مع زفر في المسافر إذا صام رمضان بنية من النهار فوجه قوله إن الصوم غير واجب على المسافر في
رمضان حتما ألا ترى ان له أن يفطر والوقت غير متعين لصوم رمضان في حقه فان له أن يصوم عن واجب آخر
فأشبه صوم القضاء خارج رمضان وذا لا يتأدى بنية من النهار كذا هذا ولنا ان الصوم واجب على المسافر في رمضان
وهو العزيمة في حقه الا ان له أن يترخص بالافطار وله أن يصوم عن واجب آخر عند أبي حنيفة بطريق الرخصة
والتيسير أيضا لما فيه من اسقاط الفرض عن ذمته على ما بينا فيما تقدم فإذا لم يفطر ولم ينو واجبا آخر بقي صوم
رمضان واجبا عليه وقد صامه فيخرج عن العهدة كالمقيم سواء ويتصل بهذين الفصلين وهو بيان كيفية النية
ووقت النية مسألة الأسير في يد العدو إذا اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى وصام شهرا عن رمضان وجملة
الكلام فيه انه إذا صام شهرا عن رمضان لا يخلوا ما ان وافق شهر رمضان أو لم يوافق بان تقدم أو تأخر فان وافق جاز
وهذا لا يشكل لأنه أدى ما عليه وان تقدم لم يجز لأنه أدى الواجب قبل وجوبه وقبل وجود سبب وجوبه وان
تأخر فان وافق شوال يجوز لكن يراعى فيه موافقة الشهرين في عدد الأيام وتعيين النية ووجودها من الليل وأما
موافقة العدد فلان صوم شهر آخر بعده يكون قضاء والقضاء يكون على قدر الفائت والشهر قد يكون ثلاثين يوما
وقد يكون تسعة وعشرين يوما وأما تعيين النية ووجودها من الليل فلان صوم القضاء لا يجوز بمطلق النية ولا
بنية من النهار لما ذكرنا فيما تقدم وهل تشترط نية القضاء ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي انه لا يشترط
وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه يشترط والصحيح ما ذكره القدوري لأنه نوى ما عليه من صوم
رمضان وعليه القضا فكان ذلك منه تعيين نية القضاء وبيان هذه الجملة انه إذا وافق صومه شهر شوال ينظر إن كان
رمضان كاملا وشوال كاملا قضى يوما واحدا لأجل يوم الفطر لان صوم القضاء لا يجوز فيه وإن كان رمضان كاملا
86

وشوال ناقصا قضى يومين يوما لأجل يوم الفطر ويوما لأجل النقصان لان القضاء يكون على قدر الفائت وإن كان
رمضان ناقصا وشوال كاملا لا شئ عليه لأنه أكمل عدد الفائت وان وافق صومه هلال ذي الحجة فإن كان
رمضان كاملا وذو الحجة كاملا قضى أربعة أيام يوما لأجل يوم النحر وثلاثة أيام لأجل أيام التشريق لان القضاء
لا يجوز في هذه الأيام وإن كان رمضان كاملا وذو الحجة ناقصا قضى خمسة أيام يوما للنقصان وأربعة أيام ليوم
النحر وأيام التشريق وإن كان رمضان ناقصا وذو الحجة كاملا قضى ثلاثة أيام لان الفائت ليس الا هذا القدر
وان وافق صومه شهرا آخر سوى هذين الشهرين فإن كان الشهران كاملين أو ناقصين أو كان رمضان ناقصا
والشهر الآخر كاملا فلا شئ عليه وإن كان رمضان كاملا والشهر الآخر ناقصا قضى يوما واحدا لان الفائت يوم
واحد ولو صام بالتحري سنين كثيرة ثم تبين انه صام في كل سنة قبل شهر رمضان فهل يجوز صومه في السنة الثانية
عن الأولى وفى الثالثة عن الثانية وفى الرابعة عن الثالثة هكذا قال بعضهم يجوز لأنه في كل سنة من الثانية والثالثة
والرابعة صام صوم رمضان الذي عليه وليس عليه الا القضاء فيقع قضاء عن الأول وقال بعضهم لا يجوز وعليه قضاء
الرمضانات لأنه صام في كل سنة عن رمضان قبل دخول رمضان وفصل الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله في
ذلك تفصيلا فقال إن صام في السنة الثانية عن الواجب عليه الا انه ظن أنه من رمضان يجوز وكذا في الثالثة والرابعة
لأنه صام عن الواجب عليه والواجب عليه قضاء صوم رمضان الأول دون الثاني ولا يكون عليه الا قضاء
رمضان الأخير خاصة لأنه ما قضاه فعليه قضاؤه وان صام في السنة الثانية عن الثالثة وفى السنة الثالثة عن الرابعة
لم يجزو عليه قضاء الرمضانات كلها أما عدم الجواز عن الرمضان الأول فلانه ما نوى عنه وتعيين النية في القضاء
شرط ولا يجوز عن الثاني لأنه صام قبله متقدما عليه وكذا الثالث والرابع وضرب له مثلا وهو رجل اقتدى بالامام
على ظن أنه زيد فإذا هو عمر وصح اقتداؤه به ولو اقتدى بزيد فإذا هو عمر ولم يصح اقتداؤه به لأنه في الأول نوى
الاقتداء بالامام الا انه ظن أن الامام زيد فأخطأ في ظنه فهذا لا يقدح في صحة اقتدائه بالامام وفى الثاني نوى الاقتداء
بزيد فإذا لم يكن زيدا تبين انه ما اقتدى بأحد كذلك ههنا إذا نوى في صوم كل سنة عن الواجب عليه تعلقت نيته
بالواجب عليه لا بالأول والثاني الا انه ظن أنه الثاني فأخطأ في ظنه فيقع عن الواجب عليه لا عما ظن والله أعلم وأما
الشرائط التي تخص بعض الصيامات دون بعض وهي شرائط الوجوب فمنها الاسلام فلا يجب الصوم على الكافر
في حق أحكام الدنيا بلا خلاف حتى لا يخاطب بالقضاء بعد الاسلام وأما في حق أحكام الآخرة فكذلك عندنا وعند
الشافعي يجب ولقب المسألة ان الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا خلافا له وهي تعرف في أصول
الفقه وعلى هذا يخرج الكافر إذا أعلم في بعض شهر رمضان انه لا يلزمه قضاء ما مضى لان الوجوب لم يثبت فيما
مضى فلم يتصور قضاء الواجب وهذا التخريج على قول من يشترط لوجوب القضاء سابقة وجوب الأداء من
مشايخنا وأما على قول من لا يشترط ذلك منهم فإنما لا يلزمه قضاء ما مضى لمكان الحرج إذ لو لزمه ذلك للزمه قضاء
جميع ما مضى من الرمضانات في حال الكفر لان البعض ليس بأولى من البعض وفيه من الحرج ما لا يخفى وكذا إذا
أسلم في يوم من رمضان قبل الزوال لا يلزمه صوم ذلك اليوم حتى لا يلزمه قضاؤه وقال مالك يلزمه وانه غير سديد
لأنه لم يكن من أهل الوجوب في أول اليوم أو لما في وجوب القضاء من الحرج على ما بينا ومنها البلوغ فلا يجب صوم
رمضان على الصبي وإن كان عاقلا حتى لا يلزمه القضاء بعد البلوغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث
عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ولان الصبي لضعف بنيته وقصور عقله
واشتغاله باللهو واللعب يشق عليه تفهم الخطاب وأداء الصوم فاسقط الشرع عنه العبادات نظرا له فإذا لم يجب عليه
الصوم في حال الصبا لا يلزمه القضاء لما بينا انه لا يلزمه لمكان الحرج لان مدة الصبا مديدة فكان في ايجاب القضاء
عليه بعد البلوغ حرج وكذا إذا بلغ في يوم من رمضان قبل الزوال لا يجزئه صوم ذلك اليوم وان نوى وليس عليه
قضاؤه إذ لم يجب عليه في أول اليوم لعدم أهلية الوجوب فيه والصوم لا يتجزأ وجوبا وجوازا ولما فيه من الحرج
87

على ما ذكرنا وروى عن أبي يوسف في الصبي يبلغ قبل الزوال أو أسلم الكافر أن عليهما القضاء ووجهه انهما أدركا
وقت النية فصار كأنهما أدركا من الليل والصحيح جواب ظاهر الرواية لما ذكرنا ان الصوم لا يتجزأ وجوبا فإذا لم
يجب عليهما البعض لم يجب الباقي أو لما في ايجاب القضاء من الحرج وأما العقل فهل هو من شرائط الوجوب وكذا
الإفاقة واليقظة قال عامة مشايخنا انها ليست من شرائط الوجوب ويجب صوم رمضان على المجنون والمغمى عليه
والنائم لكن أصل الوجوب لا وجوب الأداء بناء على أن عندهم الوجوب نوعان أحدهما أصل الوجوب وهو
اشتغال الذمة بالواجب وانه ثبت بالأسباب لا بالخطاب ولا تشترط القدرة لثبوته بل ثبت جبرا من الله تعالى شاء
العبد أو أبى والثاني وجوب الأداء وهو اسقاط ما في الذمة وتفريغها من الواجب وانه ثبت بالخطاب وتشترط له القدرة
على فهم الخطاب وعلى أداء ما تناوله الخطاب لان الخطاب لا يتوجه إلى العاجز عن فهم الخطاب ولا على العاجز
عن فعل ما تناوله الخطاب والمجنون لعدم عقله أو لاستتاره والمغمى عليه والنائم لعجزهما عن استعمال
عقلهما عاجزون عن فهم الخطاب وعن أداء ما تناوله الخطاب فلا يثبت وجوب الأداء في حقهم ويثبت
أصل الوجوب في حقهم لأنه لا يعتمد القدرة بل يثبت جبرا وتقرير هذا الأصل معروف في أصول الفقه
وفى الخلافيات وقال أهل التحقيق من مشايخنا بما وراء النهر ان الوجوب في الحقيقة نوع واحد وهو
وجوب الأداء فكل من كان من أهل الأداء كان من أهل الوجوب ومن لا فلا وهو اختيار أستاذي
الشيخ الأجل الزاهد علاء الدين رئيس أهل السنة محمد بن أحمد السمرقندي رضي الله عنه لان الوجوب المعقول
هو وجوب الفعل كوجوب الصوم والصلاة وسائر العبادات فمن لم يكن من أهل أداء الفعل الواجب وهو القادر
على فهم الخطاب والقادر على فعل ما يتناوله الخطاب لا يكون من أهل الوجوب ضرورة والمجنون والمغمى عليه
والنائم عاجزون عن فعل الخطاب بالصوم وعن أدائه إذ الصوم الشرعي هو الامساك لله تعالى ولن يكون ذلك بدون
النية وهؤلاء ليسوا من أهل النية فلم يكونوا من أهل الأداء فلم يكونوا من أهل الوجوب والذي دعا الأولين إلى
القول بالوجوب في حق هؤلاء ما انعقد الاجماع عليه من وجوب القضاء على المغمى عليه والنائم بعد الإفاقة
والانتباه بعد مضى بعض الشهر أو كله وما قد صح من مذهب أصحابنا رحمهم الله في المجنون إذا أفاق في بعض شهر
رمضان أنه يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر فقالوا إن وجوب القضاء يستدعى فوات الواجب المؤقت عن
وقته مع القدرة عليه وانتفاء الحرج فلا بد من الوجوب في الوقت ثم فواته حتى يمكن ايجاب القضاء فاضطرهم ذلك
إلى اثبات الوجوب في حال الجنون والاغماء والنوم وقال الآخرون ان وجوب القضاء لا يستدعى سابقية الوجوب
لا محالة وإنما يستدعى فوت العبادة عن وقتها والقدرة على القضاء من غير حرج ولذلك اختلفت طرقهم في المسألة
وهذا الذي ذكرنا في المجنون إذا أفاق في بعض شهر رمضان أنه يلزمه قضاء ما مضى جواب الاستحسان والقياس
أن لا يلزمه وهو قول زفر والشافعي وأما المجنون جنونا مستوعبا بأن جن قبل دخول شهر رمضان وأفاق بعد مضيه
فلا قضاء عليه عند عامة العلماء وعند مالك يقضى وجه القياس أن القضاء هو تسليم مثل الواجب ولا وجوب
على المجنون لان الوجوب بالخطاب ولا خطاب عليه لانعدام القدرتين ولهذا لم يجب القضاء في الجنون المستوعب
شهرا وجه قول أصحابنا أما من قال بالوجوب في حال الجنون يقول فإنه الواجب عن وقته وقدر على قضائه من غير
حرج فليزمه قضاؤه قياسا على النائم والمغمى عليه ودليل الوجوب لهم وجود سبب الوجوب وهو الشهر إذ
الصوم يضاف إليه مطلقا يقال صوم الشهر والإضافة دليل السببية وهو قادر على القضاء من غير حرج وفى ايجاب
القضاء عند الاستيعاب حرج وأما من أبى القول بالوجوب في حال الجنون يقول هذا شخص فاته صوم شهر رمضان
وقدر على قضائه من غير حرج فيلزمه قضاؤه قياسا على النائم والمغمى عليه ومعنى قولنا فاته صوم شهر رمضان
أي لم يصم شهر رمضان وقولنا من غير حرج فلانه لا حرج في قضاء نصف الشهر وتأثيرها من وجهين
أحدهما أن الصوم عبادة والأصل في العبادات وجوبها على الدوام بشرط الامكان وانتفاء الحرج لما ذكرنا في
88

الخلافيات الا أن الشرع عين شهر رمضان من السنة في حق القادر على الصوم فبقي الوقت المطلق في حق العاجز
عنه وقتاله والثاني أنه لما فاته صوم شهر رمضان فقد فاته الثواب المتعلق به فيحتاج إلى استدراكه بالصوم في
عدة من أيام أخر ليقوم الصوم فيها مقام الفائت فينجبر الفوات بالقدر الممكن فإذا قدر على قضائه من غير
حرج أمكن القول بالوجوب عليه فيجب كما في المغمى عليه والنائم بخلاف الجنون المستوعب فان هناك في
ايجاب القضاء حرجا لان الجنون المستوعب قلما يزول بخلاف الاغماء والنوم إذا استوعب لان استيعابه
نادر والنادر ملحق بالعدم بخلاف الجنون فان استيعابه ليس بنادر ويستوى الجواب في وجوب قضاء ما مضى
عند أصحابنا في الجنون العارض ما إذا أفاق في وسط الشهر أو في أوله حتى لو جن قبل الشهر ثم أفاق في آخر
يوم منه يلزمه قضاء جميع الشهر ولو جن في أول يوم من رمضان فلم يفق الا بعد مضى الشهر يلزمه قضاء
كل الشهر الا قضاء اليوم الذي جن فيه إن كان نوى الصوم في الليل وإن كان لم ينو قضى جميع الشهر ولو
جن في طرفي الشهر وأفاق في وسطه فعليه قضاء الطرفين وأما المجنون الأصلي وهو الذي بلغ مجنونا ثم أفاق في بعض
الشهر فقد روى عن محمد انه فرق بينهما فقال لا يقضى ما مضى من الشهر وروى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
أنه سوى بينهما وقال يقضى ما مضى من الشهر وهكذا روى هشام عن أبي يوسف في صبي له عشر سنين جن فلم
يزل مجنونا حتى أتى عليه ثلاثون سنة أو أكثر ثم صح في آخر يوم من شهر رمضان فالقياس أنه لا يجب عليه قضاء
ما مضى لكن استحسن أن يقضى ما مضى في هذا الشهر وجه قول محمد أن زمان الإفاقة في حيز زمان ابتداء
التكليف فأشبه الصغير إذا بلغ في بعض الشهر بخلاف الجنون العارض فان هناك زمان التكليف سبق الجنون الا
أنه عجز عن الأداء بعارض فأشبه المريض العاجز عن أداء الصوم إذا صح وجه رواية عن أبي حنيفة وأبى يوسف
ما ذكرنا من الطريقين في الجنون العارض ولو أفاق المجنون جنونا عارضا في نهار رمضان قبل الزوال فنوى الصوم
أجزأه عن رمضان والجنون الأصلي على الاختلاف الذي ذكرنا ويجوز في الاغماء والنوم بلا خلاف بين أصحابنا
وعلى هذا الطهارة من الحيض والنفاس انها شرط الوجوب عند أهل التحقيق من مشايخنا إذ الصوم الشرعي
لا يتحقق من الحائض والنفساء فتعذر القول بوجوب الصوم عليهما في وقت الحيض والنفاس الا أنه يجب عليهما
قضاء الصوم لفوات صوم رمضان عليهما ولقدرتهما على القضاء في عدة من أيام أخر من غير حرج وليس عليهما قضاء
الصلوات لما فيه من الحرج لان وجوبها يتكرر في كل يوم خمس مرات ولا يلزم الحائض في السنة الا قضاء عشرة
أيام ولا حرج في ذلك وعلى قول عامة المشايخ ليس بشرط واصل الوجوب ثابت في حالة الحيض والنفاس وإنما
تشترط الطهارة لأهلية الأداء والأصل فيه ما روى أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها فقالت لم تقض الحائض
الصوم ولا تقضى الصلاة فقالت عائشة رضي الله عنها للسائلة أحرورية أنت هكذا كن النساء يفعلن على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أشارت إلى أن ذلك ثبت تعبدا محضا والظاهر أن فتواها بلغ الصحابة ولم ينقل أنه أنكر
عليها منكر فيكون اجماعا من الصحابة رضي الله عنهم ولو طهرتا بعد طلوع الفجر قبل الزوال لا يجزيهما صوم
ذلك اليوم لا عن فرض ولا عن نفل لعدم وجوب الصوم عليهما ووجوده في أول اليوم فلا يجب ولا يوجد في
الباقي لعدم التجزى وعليهما قضاؤه مع الأيام الأخر لما ذكرنا وان طهرتا قبل طلوع الفجر ينظر إن كان الحيض
عشرة أيام والنفاس أربعين يوما فعليهما قضاء صلاة العشاء ويجزيهما صومهما من الغد عن رمضان إذا نوتا
قبل طلوع الفجر لخروجهما عن الحيض والنفاس بمجرد انقطاع الدم فتقع الحاجة إلى النية لا غير وإن كان الحيض
دون العشرة والنفاس دون الأربعين فان بقي من الليل مقدار ما يسع للاغتسال ومقدار ما يسع النية بعد
الاغتسال فكذلك وان بقي من الليل دون ذلك لا يلزمهما قضاء صلاة العشاء ولا يجزيهما صومهما من الغد
وعليهما قضاء ذلك اليوم كما لو طهرتا بعد طلوع الفجر لان مدة الاغتسال فيما دون العشرة والأربعين من الحيض
باجماع الصحابة رضى عنهم ولو أسلم الكافر قبل طلوع الفجر بمقدار ما يمكنه النية فعليه صوم الغد والا فلا
89

وكذلك الصبي إذا بلغ وكذلك المجنون جنونا أصليا على قول محمد لأنه بمنزلة الصبا عنده
* (فصل) * وأما ركنه فالامساك عن الأكل والشرب والجماع لان الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع
في ليالي رمضان لقوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى قوله فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أي حتى يتبين لكم ضوء النهار من ظلمة
الليل من الفجر ثم أمر بالامساك عن هذه الأشياء في النهار بقوله عز وجل ثم أتموا الصيام إلى الليل فدل أن ركن
الصوم ما قلنا فلا يوجد الصوم بدونه وعلى هذا الأصل ينبنى بيان ما يفسد الصوم وينقضه لان انتقاض الشئ
عند فوات ركنه أمر ضروري وذلك بالأكل والشرب والجماع سواء كان صورة ومعنى أو صورة لا معنى أو معنى
لا صورة وسواء كان بغير عذر أو بعذر وسواء كان عمدا أو خطأ طوعا أو كرها بعد إن كان ذاكرا لصومه لا ناسيا ولا
في معنى الناسي والقياس أن يفسد وإن كان ناسيا وهو قول مالك لوجود ضد الركن حتى قال أبو حنيفة لولا قول
الناس لقلت يقضى أي لولا قول الناس أن أبا حنيفة خالف الامر لقلت يقضى لكنا تركنا القياس بالنص وهو ما
روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فان الله عز
وجل أطعمه وسقاه حكم ببقاء صومه وعلل بانقطاع نسبة فعله عنه بإضافته إلى الله تعالى لوقوعه من غير قصده
وروى عن أبي حنيفة أنه قال لا قضاء على الناسي للأثر المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس أن يقضى
ذلك ولكن اتباع الأثر أولى إذا كان صحيحا وحديث صححه أبو حنيفة لا يبقى لاحد فيه مطعن وكذا انتقده أبو
يوسف حيث قال وليس حديث شاذ نجترئ على رده وكان من صيارفة الحديث وروى عن علي وابن عمرو وأبي هريرة
رضي الله عنهم مثل مذهبنا ولان النسيان في باب الصوم مما يغلب وجوده ولا يمكن دفعه الا بحرج فجعل
عذار دفعا للحرج وعن عطاء والثوري انهما فرقا بين الأكل والشرب وبين الجماع ناسيا فقالا يفسد صومه في
الجماع ولا يفسد في الأكل والشرب لان القياس يقتضى الفساد في الكل لفوات ركن الصوم في الكل الا انا تركنا
القياس بالخبر وانه ورد في الأكل والشرب فبقي الجماع على أصل القياس وانا نقول نعم الحديث ورد في الأكل والشرب
لكنه معلول بمعنى يوجد في الكل وهو أنه فعل مضاف إلى الله تعالى على طريق التمحيض بقوله فإنما أطعمه
الله وسقاه قطع اضافته عن العبد لوقوعه فيه من غير قصده واختياره وهذا المعنى يوجد في الكل والعلة إذا كانت
منصوصا عليها كان الحكم منصوصا عليه ويتعمم الحكم بعموم العلة وكذا معنى الحرج يوجد في الكل ولو أكل
فقيل له انك صائم وهو لا يتذكر انه صائم ثم علم بعد ذلك فعليه القضاء في قول أبى يوسف وعند زفر والحسن بن
زياد لا قضاء عليه وجه قولهما انه لما تذكر انه كان صائما تبين انه أكل ناسيا فلم يفسد صومه ولأبي يوسف
انه أكل متعمدا لان عنده أنه ليس بصائم فيبطل صومه ولو دخل الذباب حلقه لم يفطره لأنه لا يمكنه الاحتراز عنه
فأشبه الناسي ولو أخذه فأكله فطره لأنه تعمد أكله وان لم يكن مأكولا كما لو أكل التراب ولو دخل الغبار
أو الدخان أو الرائحة في حلقه لم يفطره لما قلنا وكذا لو ابتلع البلل الذي بقي بعد المضمضة في فمه مع البزاق أو ابتلع البزاق
الذي اجتمع في فمه لما ذكرنا ولو بقي بين أسنانه شئ فابتلعه ذكر في الجامع الصغير أنه لا يفسد صومه وان أدخله
حلقه متعمدا روى عن أبي يوسف أنه ان تعمد عليه القضاء ولا كفارة عليه ووفق ابن أبي مالك فقال إن كان
مقدار الحمصة أو أكثر يفسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة كما قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وقول أبى
يوسف محمول عليه وإن كان دون الحمصة لا يفسد صومه كما لو ذكر في الجامع الصغير والمذكور فيه محمول عليه
وهو الأصح ووجهه ان ما دون الحمصة يسير يبقى بين الأسنان عادة فلا يمكن التحرز عنه بمنزلة الريق فيشبه
الناسي ولا كذلك قدر الحمصة فان بقاءه بين الأسنان غير معتاد فيمكن الاحتراز عنه فلا يلحق بالناسي وقال زفر عليه
القضاء والكفارة وجه قوله إنه أكل ما هو مأكول في نفسه الا انه متغير فأشبه اللحم المنتن ولنا انه أكل ما لا يؤكل عادة
إذ لا يقصد به الغذاء ولا الدواء فان تثاءب فرفع رأسه إلى السماء فوقع في حلقه قطرة مطر أو ماء صب في ميزاب فطره
90

لان الاحتراز عنه ممكن وقد وصل الماء إلى جوفه ولو أكره على الاكل أو الشرب فاكل أو شرب بنفسه مكرها وهو
ذاكر لصومه فسد صومه بلا خلاف عندنا وعند زفر والشافعي لا يفسد وجه قولهما ان هذا أعذر من الناسي
لان الناسي وجد منه الفعل حقيقة وإنما انقطعت نسبته عنه شرعا بالنص وهذا لم يوجد منه الفعل أصلا فكان
أعذر من الناسي ثم لم يفسد صوم الناسي فهذا أولى ولنا ان معنى الركن قد فات لوصول المغذي إلى جوفه بسبب
لا يغلب وجوده ويمكن التحرز عنه في الجملة فلا يبقى الصوم كما لو أكل أو شرب بنفسه مكرها وهذا لان المقصود
من الصوم معناه وهو كونه وسيلة إلى الشكر والتقوى وقهر الطبع الباعث على الفساد على ما بينا ولا يحصل شئ
من ذلك إذا وصل الغذاء إلى جوفه وكذا النائمة الصائمة جامعها زوجها ولم تنتبه أو المجنونة جامعها زوجها فسد
صومها عندنا خلافا لزفر والكلام فيه على نحو ما ذكرنا ولو تمضمض أو استنشق فسبق الماء حلقه ودخل جوفه
فإن لم يكن ذاكرا لصومه لا يفسد صومه لأنه لو شرب لم يفسد فهذا أولى وإن كان ذاكرا فسد صومه عندنا وقال
ابن أبي ليلى إن كان وضوؤه للصلاة المكتوبة لم يفسد وإن كان للتطوع فسد وقال الشافعي لا يفسد أيهما كان وقال
بعضهم ان تمضمض ثلاث مرات فسبق الماء حلقه لم يفسد ان زاد على الثلاث فسد وجه قول ابن أبي ليلى ان
الوضوء للصلاة المكتوبة فرض فكل المضمضة والاستنشاق من ضرورات اكمال الفرض فكان الخطأ فيهما عذرا
بخلاف صلاة التطوع وجه قول من فرق بين الثلاث وما زاد عليه ان السنة فيهما الثلاث فكان الخطأ فيهما من
ضرورات إقامة السنة فكان عفوا وأما الزيادة على الثلاث فمن باب الاعتداء على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن
زاد أو نقص فقد تعدى وظلم فلم يعذر فيه والكلام مع الشافعي على نحو ما ذكرنا في الاكراه يؤيد ما ذكرنا ان الماء لا
يسبق الحلق في المضمضة والاستنشاق عادة الا عند المبالغة فيهما والمبالغة مكروهة في حق الصائم قال النبي صلى الله
عليه وسلم للقيط بن صبره بالغ في المضمضة والاستنشاق الا أن تكون صائما فكان في المبالغة متعديا فلم يعذر بخلاف
الناسي ولو احتلم في نهار رمضان فأنزل لم يفطره لقول النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يفطرن الصائم القئ والحجامة
والاحتلام ولأنه لا صنع له فيه فيكون كالناسي ولو نظر إلى امرأة وتفكر فأنزل لم يفطره وقال مالك ان تتابع نظره
فطره لان التتابع في النظر كالمباشرة ولنا انه لم يوجد الجماع لا صورة ولا معنى لعدم الاستمتاع بالنساء فأشبه
الاحتلام بخلاف المباشرة ولو كان يأكل أو يشرب ناسيا ثم تذكر فالقى اللقمة أو قطع الماء أو كان يتسحر فطلع الفجر
وهو يشرب الماء فقطعه أو يأكل فالقى اللقمة فصومه تام لعدم الأكل والشرب بعد التذكر والطلوع ولو كان يجامع
امرأته في النهار ناسيا لصومه فتذكر فنزع من ساعته أو كان يجامع في الليل فطلع الفجر وهو مخالط فنزع من ساعته
فصوم تام وقال زفر فسد صومه وعليه القضاء وجه قوله إن جزأ من الجماع حصل بعد طلوع الفجر والتذكر وانه
يكفي لفساد الصوم لوجود المضادة له وان قل ولنا ان الموجود منه بعد الطلوع والتذكر هو النزع والنزع ترك الجماع
وترك الشئ لا يكون محصلا له بل يكون اشتغالا بضده فلم يوجد منه الجماع بعد الطلوع والتذكر رأسا فلا يفسد صومه
ولهذا لم يفسد في الأكل والشرب كذا في الجماع وهذا إذا نزع بعدما تذكر أو بعدما طلع الفجر فاما إذا لم ينزع وبقى
فعليه القضاء ولا كفارة عليه في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف انه فرق بين الطلوع والتذكر فقال في الطلوع
عليه الكفارة وفى التذكر لا كفارة عليه وقال الشافعي عليه القضاء والكفارة فيهما جميعا وجه قوله إنه وجد الجماع
في نهار رمضان متعمدا لوجوده بعد طلوع الفجر والتذكر فيوجب القضاء والكفارة وجه رواية أبى يوسف وهو
الفرق بين الطلوع والتذكر ان في الطلوع ابتداء الجماع كان عمدا والجماع جماع واحد بابتدائه وانتهائه والجماع العمد
يوجب الكفارة وأما في التذكر فابتداء الجماع كان ناسيا وجماع الناسي لا يوجب فساد الصوم فضلا عن وجوب
الكفارة وجه ظاهر الرواية ان الكفارة إنما تجب بافساد الصوم وافساد الصوم يكون بعد وجوده وبقاؤه في الجماع
يمنع وجود الصوم فإذا امتنع وجوده استحال الافساد فلا تجب الكفارة ووجوب القضاء لانعدام صومه اليوم لا
لافساده بعد وجوده ولان هذا جماع لم يتعلق بابتدائه وجوب الكفارة فلا يتعلق بالبقاء عليه لان الكل فعل واحد
91

وله شبهة الاتحاد وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة لما نذكره ولو أصبح جنبا في رمضان فصومه تام عند عامة
الصحابة مثل على وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبى الدرداء وأبي ذر وابن عباس وابن عمر ومعاذ بن جبل رضى الله
تعالى عنهم وعن أبي هريرة رضي الله عنه انه لا صوم له واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من
أصبح جنبا فلا صوم له محمد ورب الكعبة قاله راوي الحديث وأكده بالقسم ولعامة الصحابة قوله تعالى أحل لكم
ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أحل الله عز وجل الجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر وإذا
كان الجماع في آخر الليل يبقى الرجل جنبا بعد طلوع الفجر لا محالة فدل ان الجنابة لا تضر الصوم وأما حديث أبي
هريرة فقد ردته عائشة وأم سلمة فقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم
يتم صومه ذلك من رمضان وقالت أم سلمة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من قراف أي جماع
مع أنه خبر واحد ورد مخالفا للكتاب ولو نوى الصائم الفطر ولم يحدث شيئا آخر سوى النية فصومه تام وقال الشافعي
بطل صومه وجه قوله إن الصوم لابد له من النية وقد نقض نية الصوم بنية ضده وهو الافطار فبطل صومه لبطلان
شرطه ولنا ان مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع ما لم يتصل به الفعل لقول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى
عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يفعلوا ونية الافطار لم يتصل به الفعل وبه تبين انه ما نقض نية
الصوم بنية الفطر لان نية الصوم نية اتصل بها الفعل فلا تبطل بنية لم يتصل بها الفعل على أن النية شرط انعقاد
الصوم لا شرط بقائه منعقدا الا ترى انه يبقى مع النوم والنسيان والغفلة ولو ذرعه القئ لم يفطره سواء كان أقل من ملء
الفم أو كان ملء الفم لقول النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يفطرن الصائم القئ والحجامة والاحتلام وقوله من قاء
فلا قضاء عليه ولان ذرع القئ مما لا يمكن التحرز عنه بل يأتيه على وجه لا يمكنه دفعه فأشبه الناسي ولان الأصل
أن لا يفسد الصوم بالقئ سواء ذرعه أو تقيأ لان فساد الصوم متعلق بالدخول شرعا قال النبي صلى الله عليه وسلم
الفطر مما يدخل والوضوء مما يخرج علق كل جنس الفطر بكل ما يدخل ولو حصل لا بالدخول لم يكن كل جنس
الفطر معلقا بكل ما يدخل لان الفطر الذي يحصل بما يخرج لا يكون ذلك الفطر حاصلا بما يدخل وهذا خلاف
النص الا انا عرفنا الفساد بالاستيقاء بنص آخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن استقاء فعليه القضاء فبقي
الحكم في الذرع على الأصل ولأنه لا صنع له في الذرع وهو سبق القئ بل يحصل بغير قصده واختياره والانسان
لا يؤاخذ بما لا صنع له فيه فلهذا لا يؤاخذ الناسي بفساد الصوم فكذا هذا لان هذا في معناه بل أولى لأنه لا صنع له فيه
أصلا بخلاف الناسي على ما مر فان عاد إلى جوفه فإن كان أقل من ملء الفم لا يفسد بلا خلاف وإن كان ملء الفم
فذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان في قول أبى يوسف يفسد وفى قول محمد لا يفسد وذكر القدوري في
شرحه مختصر الكرخي الاختلاف على العكس فقال في قول أبى يوسف لا يفسد وفى قول محمد يفسد وجه قول من
قال يفسد انه وجد المفسد وهو الدخول في الجوف لان القئ ملء الفم له حكم الخروج بدليل انتقاض الطهارة
والطهارة لا تنتقض الا بخروج النجاسة فإذا عاد فقد وجد الدخول فيدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم
والفطر مما يدخل وجه قول من قال لا يفسد ان العود ليس صنعه بل هو صنع الله تعالى على طريق التمحض يعنى به
مصنوعه لا صنع للعبد فيه رأسا فأشبه ذرع القئ وانه غير مفسد كذا عود القئ فان اعاده فإن كان ملء الفم فسد
صومه بالاتفاق لوجود الادخال متعمدا لما ذكرنا ان للقئ ملء الفم حكم الخروج حتى يوجب انتقاض الطهارة فإذا
أعاده فقد أدخله في الجوف عن قصد فيوجب فساد الصوم وإن كان أقل من ملء الفم ففي قول أبى يوسف لا يفسد
وفى قول محمد يفسد وجه قول محمد انه وجد الدخول إلى الجوف بصنعه فيفسد ولأبي يوسف ان الدخول إنما
يكون بعد الخروج وقليل القئ ليس له حكم الخروج بدليل عدم انتقاض الطهارة به فلم يوجد الدخول فلا يفسد
هذا الذي ذكرنا كله إذا ذرعة القئ فاما إذا استقاء فإن كان ملء الفم يفسد صومه بلا خلاف لقول النبي صلى الله عليه
92

وسلم ومن استقاء فعليه القضاء وإن كان أقل من ملء الفم لا يفسد في قول أبى يوسف وعند محمد يفسد واحتج
بقول النبي صلى الله عليه وسلم ومن استقاء فعليه القضاء مطلقا من غير فصل بين القليل والكثير وجه قول أبى
يوسف ما ذكرنا ان الأصل أن لا يفسد الصوم الا بالدخول بالنص الذي روينا ولم يوجد ههنا فلا يفسد والحديث
محمول على الكثير توفيقا بين الدليلين بقدر الامكان ثم كثير المستقاء لا يتفرع عليه العود والإعادة لأن الصوم قد فسد
بالاستقاء وكذا قليله في قول محمد لان عنده فسد الصوم بنفس الاستقاء وإن كان قليلا وأما على قول أبى يوسف
فان عاد لا يفسد وان أعاده ففيه عن أبي يوسف روايتان في رواية يفسد وفى رواية لا يفسد وما وصل إلى الجوف أو إلى
الدماغ من المخارق الأصلية كالأنف والاذن والدبر بان استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى
الدماغ فسد صومه أما إذا وصل إلى الجوف فلا شك فيه لوجود الاكل من حيث الصورة وكذا إذا وصل إلى الدماغ
لأنه له منفذا إلى الجوف فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للقيط
ابن صبرة بالغ في المضمضة والاستنشاق الا أن تكون صائما ومعلوم ان استشاءه حالة الصوم للاحتراز عن فساد
الصوم والا لم يكن للاستثناء معنى ولو وصل إلى الرأس ثم خرج لا يفسد بان استعط بالليل ثم خرج بالنهار لأنه لما خرج علم أنه
لم يصل إلى الجوف أو لم يستقر فيه وأما ما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن غير المخارق الأصلية بان داوى الجائفة
والآمة فان داواها بدواء يابس لا يفسد لأنه لم يصل إلى الجوف ولا إلى الدماغ ولو علم أنه وصل يفسد في قول أبي حنيفة
وان داواها بدواء رطب يفسد عند أبي حنيفة وعندهما لا يفسدهما اعتبرا المخارق الأصلية لان الوصول
إلى الجوف من الخارق الأصلية متيقن به ومن غيرها مشكوك فيه فلا نحكم بالفساد مع الشك ولأبي حنيفة ان
الدواء إذا كان رطبا فالظاهر هو الوصول لوجود المنفذ إلى الجوف فيبنى الحكم على الظاهر وأما الأقطار في الإحليل
فلا يفسد في قول أبي حنيفة وعندهما يفسد قيل إن الاختلاف بينهم بناء على أمر خفى وهو كيفية خروج البول من
الإحليل فعندهما ان خروجه منه لان له منفذا فإذا قطر فيه يصل إلى الجوف كالاقطار في الاذن وعند أبي حنيفة
ان خروج البول منه من طريق الترشح كترشح الماء من الخزف الجديد فلا يصل بالأقطار فيه إلى الجوف والظاهر أن
البول يخرج منه خروج الشئ من منفذه كما قالا وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما وعلى هذه الرواية اعتمد
أستاذي رحمه الله وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي وقول محمد مع أبي حنيفة واما الأقطار في قبل المرأة
فقد قال مشايخنا انه يفسد صومها بالاجماع لان لمسانتها منفذا فيصل إلى الجوف كالاقطار في الاذن ولو طعن برمح
فوصل إلى جوفه أو إلى دماغه فان أخرجه مع النصل لم يفسد وان بقي النصل فيه يفسد وكذا قالوا فيمن ابتلع لحما
مربوطا على خيط ثم انتزعه من ساعته انه لا يفسد وان تركه فسد وكذا روى عن محمد في الصائم إذا أدخل خشبة في
المقعد انه لا يفسد صومه الا إذا غاب طرفا الخشبة وهذا يدل على أن استقرار الداخل في الجوف شرط فساد الصوم
ولو أدخل أصبعه في دبره قال بعضهم يفسد صومه وقال بعضهم لا يفسد وهو قول الفقيه أبى الليث لان الإصبع
ليست بآلة الجماع فصارت كالخشب ولو اكتحل الصائم لم يفسد وان وجد طعمه في حلقه عند عامة العلماء وقال
ابن أبي ليلى يفسد وجه قوله إنه لما وجد طعمه في حلقه فقد وصل إلى جوفه (ولنا) ما روى عن عبد الله بن مسعود
أنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وعيناه مملوءتان كحلا كحلتهما أم سلمة ولأنه لا منفذ من
العين إلى الجوف ولا إلى الدماغ وما وجد من طعمه فذاك أثره لا عينه وانه لا يفسد كالغبار والدخان وكذا لو دهن
رأسه أو أعضاءه فتشرب فيه انه لا يضره لأنه وصل إليه الأثر لا العين ولو أكل حصاة أو نواه أو خشبا أو حشيشا
أو نحو ذلك مما لا يؤكل عادة ولا يحصل به قوام البدن يفسد صومه لوجود الاكل صورة ولو جامع امرأته فيما دون
الفرج فأنزل أو باشرها أو قبلها أو لمسها بشهوة فأنزل يفسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة عليه وكذا إذا فعل
ذلك فأنزلت المرأة لوجود الجماع من حيث المعنى وهو قضاء الشهوة بفعله وهو المس بخلاف النظر فإنه ليس بجماع
أصلا لأنه ليس بقضاء للشهوة بل هو سبب لحصول الشهوة على ما نطق به الحديث إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب
93

الشهوة ولو عالج ذكره فامنى اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يفسد وقال بعضهم يفسد وهو قول محمد بن سلمة
والفقيه أبى الليث لوجود قضاء الشهوة بفعله فكان جماعا من حيث المعنى وعن محمد فيمن أولج ذكره في امرأته
قبل الصبح ثم خشي الصبح فانتزع منها فامنى بعد الصبح انه لا يفسد صومه وهو بمنزلة الاحتلام ولو جامع بهيمة فأنزل
فسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة عليه لأنه وان وجد الجماع صورة ومعنى وهو قضاء الشهوة لكن على سبيل
القصور لسعة المحل ولو جامعها ولم ينزل لا يفسد ولو حاضت المرأة أو نفست بعد طلوع الفجر فسد صومها لان
الحيض والنفاس منافيان للصوم لمنافاتهما أهلية الصوم شرعا بخلاف القياس باجماع الصحابة رضي الله عنهم
على ما بينا فيما تقدم بخلاف ما إذا جن انسان بعد طلوع الفجر أو أغمي عليه وقد كان نوى من الليل ان صومه
ذلك اليوم جائز لما ذكرنا ان الجنون والاغماء لا ينافيان أهلية الأداء وإنما ينافيان النية بخلاف الحيض
والنفاس والله أعلم
* (فصل) * وأما حكم فساد الصوم ففساد الصوم يتعلق به أحكام بعضها يعم الصيامات كلها وبعضها يخص البعض
دون البعض أما الذي يعم الكل فالاثم إذا أفسد بغير عذر لأنه أبطل عمله من غير عذر وابطال العمل من غير عذر
حرام لقوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وقال الشافعي كذلك الا في صوم التطوع بناء على أن الشروع في التطوع
موجب للاتمام عندنا وعنده ليس بموجب والمسألة ذكرناها في كتاب الصلاة وإن كان بعذر لا يأثم وإذا اختلف
الحكم بالعذر فلا بد من معرفة الاعذار المسقطة للإثم والمؤاخذة فنبينها بتوفيق الله تعالى فنقول هي المرض
والسفر والاكراه والحبل والرضاع والجوع والعطش وكبر السن لكن بعضها مرخص وبعضها مبيح مطلق
لا موجب كما فيه خوف زيادة ضرر دون خوف الهلاك فهو مرخص وما فيه خوف الهلاك فهو مبيح مطلق بل
موجب فنذكر جملة ذلك فنقول اما المرض فالمرخص منه هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم واليه وقعت الإشارة في
الجامع الصغير فإنه قال في رجل خاف ان لم يفطر تزداد عيناه وجعا أو حماه شدة أفطر وذكر الكرخي في مختصره ان
المرض الذي يبيح الافطار هو ما يخاف منه الموت أو زيادة العلة كائنا ما كانت العلة وروى عن أبي حنيفة انه إن كان
بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعدا فلا بأس بأن يفطر والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك لان
فيه القاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب والوجوب لا يبقى في هذه الحالة وانه حرام فكان
الافطار مباحا بل واجبا وأما السفر فالمرخص منه هو مطلق السفر المقدر والأصل فيهما قوله تعالى فمن كان منكم
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أي فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر بعذر المرض والسفر فعدة من
أيام أخر دل ان المرض والسفر سببا الرخصة ثم السفر والمرض وان أطلق ذكرهما في الآية فالمراد منهما المقيد لان
مطلق السفر ليس بسبب الرخصة لان حقيقة السفر هو الخروج عن الوطن أو الظهور وذا يحصل بالخروج إلى
الضيعة ولا تتعلق به الرخصة فعلم أن المرخص سفر مقدر بتقدير معلوم وهو الخروج عن الوطن على قصد مسيرة
ثلاثة أيام فصاعدا عندنا وعند الشافعي يوم وليلة وقد مضى الكلام في تقديره في كتاب الصلاة وكذا مطلق المرض
ليس بسبب للرخصة لان الرخصة بسبب المرض والسفر لمعنى المشقة بالصوم تيسيرا لهما وتخفيفا عليهما على
ما قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ومن الأمراض ما ينفعه الصوم ويخفه ويكون الصوم
على المريض أسهل من الاكل بل الاكل يضره ويشتد عليه ومن التعبد الترخص بما يسهل على المريض
تحصيله والتضييق بما يشتد عليه وفى الآية دلالة وجوب القضاء على من أفطر بغير عذر لأنه لما وجب القضاء
على المريض والمسافر مع أنهما أفطرا بسبب العذر المبيح للافطار فلان يجب على غير ذي العذر أولي وسواء كان
السفر سفر طاعة أو مباح أو معصية عندنا وعند الشافعي سفر المعصية لا يفيد الرخصة والمسألة مضت في كتاب
الصلاة والله أعلم وسواء سافر قبل دخول شهر رمضان أو بعده ان له أن يترخص فيفطر عند عامة الصحابة وعن علي
وابن عباس رضي الله عنهما انه إذا أهل في المصر ثم سافر لا يجوز له أن يفطر وجه قولهما انه لما استهل في الحضر
94

لزمه صوم الإقامة وهو صوم الشهر حتما فهو بالسفر يريد اسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك كاليوم الذي سافر فيه انه
لا يجوز له أن يفطر فيه لما بينا كذا هذا ولعامة الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على
سفر فعدة من أيام أخر جعل الله مطلق السفر سبب الرخصة ولان السفر إنما كان سبب الرخصة لمكان المشقة
وانها توجد في الحالين فتثبت الرخصة في الحالين جميعا وأما وجه قولهما ان بالاهلال في الحضر لزمه صوم الإقامة
فنقول نعم إذا أقام أما إذا سافر يلزمه صوم السفر وهو أن يكون فيه رخصة الافطار لقوله تعالى فمن كان منكم
مريضا أو على سفر فكان ما قلناه عملا بالآيتين فكان أولى بخلاف اليوم الذي سافر فيه لأنه كان مقيما في أول اليوم
فدخل تحت خطاب المقيمين في ذلك اليوم فلزمه اتمامه حتما فاما اليوم الثاني والثالث فهو مسافر فلا يدخل تحت
خطاب المقيمين ولان من المشايخ من قال إن الجزء الأول من كل يوم سبب لوجوب صوم ذلك اليوم وهو كان مقيما
في أول الجزء فكان الجزء الأول سببا لوجوب صوم الإقامة وأما في اليوم الثاني والثالث فهو مسافر فيه فكان الجزء
الأول في حقه سببا لوجوب صوم السفر فيثبت الوجوب مع رخصة الافطار ولو لم يترخص المسافر وصام رمضان
جاز صومه وليس عليه القضاء في عدة من أيام أخر وقال بعض الناس لا يجوز صومه في رمضان ولا يعتد به ويلزمه
القضاء وحكى القدوري فيه اختلافا بين الصحابة فقال يجوز صومه في قول أصحابنا وهو قول على وابن عباس
وعائشة وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم وعند عمرو ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم لا يجوز وحجة
هذا القول ظاهر قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أمر المسافر بالصوم في أيام أخر
مطلقا سواء صام في رمضان أو لم يصم إذ الافطار غير مذكور في الآية فكان هذا من الله تعالى جعل وقت الصوم
في حق المسافر أياما أخر وإذا صام في رمضان فقد صام قبل وقته فلا يعتد به في منع لزوم القضاء وروى عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال من صام في السفر فقد عصى أبا القاسم والمعصية مضادة للعبادة وروى عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال الصائم في السفر كالمفطر في الحضر فقد حقق له حكم الافطار (ولنا) ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صام في السفر وروى أنه أفطر وكذا روى عن الصحابة انهم صاموا في السفر وروى أنهم أفطروا حتى روى أن عليا
رضي الله عنه أهل هلال رمضان وهو يسير إلى نهروان فأصبح صائما ولان الله تعالى جعل المرض والسفر من
الاعذار المرخصة للافطار تيسيرا وتخفيفا على أربابها وتوسيعا عليهم قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد
بكم العسر فلو تحتم عليهم الصوم في غير السفر ولا يجوز في السفر لكان فيه تعسير وتضييق عليهم وهذا يضاد موضوع
الرخصة وينافى معنى التيسير فيؤدى إلى التناقض في وضع الشرع تعالى الله عن ذلك ولان السفر لما كان سبب
الرخصة فلو وجب القضاء مع وجود الأداء لصار ما هو سبب الرخصة سبب زيادة فرض لم يكن في حق غير صاحب
العذر وهو القضاء مع وجود الأداء فيتناقض ولأن جواز الصوم للمسافر في رمضان مجمع عليه فان التابعين أجمعوا
عليه بعد وقوع الاختلاف فيه بين الصحابة رضي الله عنهم والخلاف في العصر الأول لا يمنع انعقاد الاجماع في العصر
الثاني بل الاجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم عندنا على ما عرف في أصول الفقه وبه تبين ان الافطار مضمر
في الآية وعليه اجماع أهل التفسير وتقديرها فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر وعلى ذلك
يجرى ذكر الرخص على أنه ذكر الحظر في القرآن قال الله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير إلى قوله
تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه أي من اضطر فأكل لأنه لا اثم يلحقه بنفس الاضطرار وقال تعالى
وأتموا الحج والعمرة لله فان أحصرتم فما استيسر من الهدى أي فان أحصرتم فأحللتم فما استيسر من الهدى لأنه
معلوم انه على النسك من الحج ما لم يوجد الاحلال وقال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان
منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أي فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ودفع
الأذى عن رأسه ففدية من صيام ونظائره كثيرة في القرآن والحديثان محمولان على ما إذا كان الصوم بجهده ويضعفه
فإذا لم يفطر في السفر في هذه الحالة صار كالذي أفطر في الحضر لأنه يجب عليه الافطار في هذه الحالة لما في الصوم
95

في هذه الحالة من القاء النفس إلى التهلكة وانه حرام ثم الصوم في السفر أفضل من الافطار عندنا إذا لم يجهده الصوم
ولم يضعفه وقال الشافعي الافطار أفضل بناء على أن الصوم في السفر عندنا عزيمة والافطار رخصة وعند الشافعي
على العكس من ذلك وذكر القدوري في المسألة اختلاف الصحابة فقال روى عن حذيفة وعائشة وعروة بن الزبير
مثل مذهبنا وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل مذهبه واحتج بما روينا من الحديثين في المسألة الأولى ولنا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله تعالى ولتكملوا العدة
والاستدلال بالآية من وجوه أحدهما انه أخبر أن الصيام مكتوب على المؤمنين عاما أي مفروض إذ الكتابة هي
الفرض لغة والثاني انه أمر بالقضاء عند الافطار بقوله عز وجل فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام
أخر والامر بالقضاء عند الافطار دليل الفرضية من وجهين أحدهما أن القضاء لا يجب في الآداب وإنما يجب
في الفرائض والثاني أن القضاء بدل عن الأداء فيدل على وجوب الأصل والثالث أن الله تعالى من علينا بإباحة
الافطار بعذر المرض والسفر بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر أي يريد الاذن لكم بالافطار للعذر
ولو لم يكن الصوم فرضا لم يكن للامتنان بإباحة الفطر معنى لان الفطر مباح في صوم النفل بالامتناع عنه والرابع
أنه قال ولتكملوا العدة شرط اكمال العدة في القضاء وهو دليل لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء
وإنما يكون ذلك في الفرائض وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كانت له حمولة تأوى إلى سبع فليصم
رمضان حيث أدركه أمر المسافر بصوم رمضان إذا لم يجهده الصوم فثبت بهذه الدلائل أن صوم رمضان فرض
على المسافر الا أنه رخص له الافطار وأثر الرخصة في سقوط المأثم لا في سقوط الوجوب فكان وجوب الصوم عليه
هو الحكم الأصلي وهو معنى العزيمة وروى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المسافر ان
أفطر فرخصة وان يصم فهو أفضل وهذا نص في الباب لا يحتمل التأويل وما ذكرنا من الدلائل في هذه المسألة
حجة في المسألة الأولى لأنها تدل على وجوب الصوم على المسافر في رمضان وما لا يعتد به لا يجب والجواب عن
تعلقه بالحديثين ما ذكرناه في المسألة الأولى انهما يحملان على حال خوف التلف على نفسه لو صام عملا بالدلائل
أجمع بقدر الامكان وهذا الذي ذكرنا من وجوب الصوم على المسافر في رمضان قول عامة مشايخنا وعند
بعضهم لا وجوب على المسافر في رمضان والافطار مباح مطلق لأنه ثبت رخصة وتيسير عليه ومعنى الرخصة وهو
التيسير والسهولة في الإباحة المطلقة أكمل لما فيه من سقوط الحظر والمؤاخذة جميعا الا أنه إذا ترك الترخص واشتغل
بالعزيمة يعود حكم العزيمة لكن مع هذا الصوم في حقه أفضل من الافطار لما روينا من حديث أنس رضي الله عنه
وأما المبيح المطلق من السفر فما فيه خوف الهلاك بسبب الصوم والافطار في مثله واجب فضلا عن الإباحة
لما ذكرنا في المرض وأما الاكراه على افطار صوم شهر رمضان بالقتل في حق الصحيح المقيم فمرخص والصوم
أفضل حتى لو امتنع من الافطار حتى قتل يثاب عليه لان الوجوب ثابت حالة الاكراه وأثر الرخصة في الاكراه في
سقوط المأتم بالترك لا في سقوط الوجوب بل بقي الوجوب ثابتا والترك حراما وإذا كان الصوم واجبا حالة الاكراه
والافطار حراما كان حق الله تعالى قائما فهو بالامتناع بذل نفسه لإقامة حق الله تعالى طلبا لمرضاته فكان مجاهدا
في دينه فيثاب عليه وأما في حق المريض والمسافر فالاكراه مبيح مطلق في حقهما بل موجب والأفضل هو الافطار
بل يجب عليه ذلك ولا يسعه أن لا يفطر حتى لو امتنع من ذلك فقتل يأثم ووجه الفرق ان في الصحيح المقيم
الوجوب كان ثابتا قبل الاكراه من غير رخصة الترك أصلا فإذا جاء الاكراه وانه من أسباب الرخصة فكان أثره
في اثبات رخصة الترك لا في اسقاط الوجوب فكان الوجوب قائما فكان حق الله تعالى قائما فكان بالامتناع باذلا
نفسه لإقامة حق الله تعالى فكان أفضل كما في الاكراه على اجراء كلمة الكفر والاكراه على اتلاف مال الغير فاما في
المريض والمسافر فالوجوب مع رخصة الترك كان ثابتا قبل الاكراه فلابد وأن يكون للاكراه أثر آخر لم يكن ثابتا قبله
وليس ذلك الا اسقاط الوجوب رأسا واثبات الإباحة المطلقة فنزل منزلة الاكراه على أكل الميتة وهناك يباح له
96

الاكل بل يجب عليه كذا هنا والله أعلم واما حبل المرأة وارضاعها إذا خافتا الضرر بولدهما فمرخص لقوله تعالى
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وقد بينا أنه ليس المراد عين المرض فان المريض الذي لا يضره
الصوم ليس له أن يفطر فكان ذكر المرض كناية عن أمر يضر الصوم معه وقد وجد ههنا فيدخلان تحت رخصة
الافطار وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يفطر المريض والحبلى إذا خافت أن تضع ولدها والمرضع
إذا خافت الفساد على ولدها وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة
وعن الحبلى والمرضع الصيام وعليهما القضاء ولا فدية عليهما عندنا وقال الشافعي عليهما القضاء والفدية لكل
يوم مد من حنطة والمسألة مختلفة بين الصحابة والتابعين فروى عن علي من الصحابة والحسن من التابعين انهما
يقضيان ولا يفديان وبه أخذ أصحابنا وروى عن ابن عمر من الصحابة ومجاهد من التابعين انهما يقضيان ويفديان
وبه أخذ الشافعي احتج بقوله تعالى وعلى الذين يطيقون فدية طعام مسكين والحامل والمرضع يطيقان الصوم
فدخلتا تحت الآية فتجب عليهما الفدية ولنا قوله تعالى فمن كان منكم مريضا الآية أوجب على المريض القضاء
فمن ضم إليه الفدية فقد زاد على النص فلا يجوز الا بدليل ولأنه لما لم يوجب غيره دل انه كل حكم لحادثة لان تأخير
البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وقد ذكرنا أن المراد من المرض المذكور ليس صورة المرض بل معناه وقد وجد
في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما فيدخلان تحت الآية فكان تقدير قوله تعالى فمن كان منكم مريضا فمن
كان منكم به معنى يضره الصوم أو على سفر فعدة من أيام أخر وأما قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فقد قيل في
بعض وجوه التأويل ان لا مضمرة في الآية معناه وعلى الذين لا يطيقونه وانه جائز في اللغة قال الله تعالى يبين الله لكم
أن تضلوا أي لا تضلوا وفى بعض القراءات وعلى الذين يطوقونه ولا يطيقونه على أنه لا حجة له في الآية لان فيها شرع
الفداء مع الصوم على سبيل التخيير دون الجمع بقوله تعالى وان تصوموا خير لكم وقد نسخ ذلك بوجوب صوم شهر
رمضان حتما بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وعنده يجب الصوم والفداء جميعا دل أنه لا حجة له فيها
ولان الفدية لو وجبت إنما تجب جبرا للفائت ومعنى الجبر يحصل بالقضاء ولهذا لم تجب على المريض والمسافر
وأما الجوع والعطش الشديد الذي يخاف منه الهلاك فمبيح مطلق بمنزلة المرض الذي يخاف منه الهلاك بسبب الصوم
لما ذكرنا وكذا كبر السن حتى يباح للشيخ الفاني أن يفطر في شهر رمضان لأنه عاجز عن الصوم وعليه الفدية
عند عامة العلماء وقال مالك لا فدية عليه وجه قوله إن الله تعالى أوجب الفدية على المطيق للصوم بقوله تعالى وعلى
الذي يطيقونه فدية طعام مسكين وهو لا يطيق الصوم فلا تلزمه الفدية وما قاله مالك خلاف اجماع السلف فان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجبوا الفدية على الشيخ الفاني فكان ذلك اجماعا منهم على أن المراد من الآية الشيخ
الفاني اما على اضمار حرف لا في الآية على ما بينا واما على اضمار كانوا أي وعلى الذين كانوا يطيقونه أي الصوم
ثم عجزوا عنه فدية طعام مسكين والله أعلم ولأن الصوم لما فاته مست الحاجة إلى الجابر وتعذر جبره بالصوم فيجبر
بالفدية وتجعل الفدية مثلا للصوم شرعا في هذه الحالة للضرورة كالقيمة في ضمان المتلفات ومقدار الفدية مقدار
صدقة الفطر وهو ان يطعم عن كل يوم مسكينا مقدار ما يطعم في صدقة الفطر وقد ذكرنا ذلك في صدقة الفطر وذكرنا
الاختلاف فيه ثم هذه الاعذار كما ترخص أو تبيح الفطر في شهر رمضان ترخص أو تبيح في المنذور في وقت بعينه حتى
لو جاء وقت الصوم وهو مريض مرضا لا يستطيع معه الصوم أو يستطيع مع ضرر أفطر وقضى وأما الذي يخص
البعض دون البعض فاما صوم رمضان فيتعلق بفساده حكمان أحدهما وجوب القضاء والثاني وجوب الكفارة أما
وجوب القضاء فإنه يثبت بمطلق الافساد سواء كان صورة ومعنى أو صورة لا معنى أو معنى لا صورة وسواء كان عمدا
أو خطأ وسواء كان بعذر أو بغير عذر لان القضاء يجب جبرا للفائت فيستدعى فوات الصوم لا غير والفوات يحصل
بمطلق الافساد فتقع الحاجة إلى الجبر بالقضاء ليقوم مقام الفائت فينجبر الفوات معنى واما وجوب الكفارة فيتعلق
بافساد مخصوص وهو الافطار الكامل بوجود الاكل أو الشرب أو الجماع صورة ومعنى متعمدا من غير عذر
97

مبيح ولامر خص ولا شبهة الإباحة ونعني بصورة الأكل والشرب ومعناهما ايصال ما يقصد به التغذي أو
التداوي إلى جوفه من الفم لان به يحصل قضاء شهوة البطن على سبيل الكمال ونعني بصورة الجماع ومعناه ايلاج
الفرج في القبل لان كمال قضاء شهوة الفرج لا يحصل الا به ولا خلاف في وجوب الكفارة على الرجل بالجماع
والأصل فيه حديث الاعرابي وهو ما روى أن اعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله
هلكت وأهلكت فقال ماذا صنعت قال واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا وأنا صائم فقال أعتق رقبة وفى بعض
الروايات قال له من غير عذر ولا سفر قال نعم فقال أعتق رقبة واما المرأة فكذلك يجب عليها عندنا إذا كانت
مطاوعة وللشافعي قولان في قول لا يجب عليها أصلا وفى قول يجب عليها ويتحملها الرجل وجه قوله الأول أن
وجوب الكفارة عرف نصا بخلاف القياس لما نذكر والنص ورد في الرجل دون المرأة وكذا ورد بالوجوب
بالوطئ وانه لا يتصور من المرأة فإنها موطوءة وليست بواطئة فبقي الحكم فيها على أصل القياس وجه قوله
الثاني أن الكفارة إنما وجبت عليها بسبب فعل الرجل فوجب عليه التحمل كثمن ماء الاغتسال ولنا
أن النص وان ورد في الرجل لكنه معلول بمعنى يوجد فيهما وهو افساد صوم رمضان بافطار كامل حرام محض
متعمدا فتجب الكفارة عليها بدلالة النص وبه تبين انه لا سبيل إلى التحمل لان الكفارة إنما وجبت عليها
بفعلها وهو افساد الصوم ويجب مع الكفارة القضاء عند عامة العلماء وقال الأوزاعي ان كفر بالصوم فلا قضاء
عليه وزعم أن الصومين يتداخلان وهذا غير سديد لان صوم الشهرين يجب تكفيرا زجرا عن جناية
الافساد أو رفعا لذنب الافساد وصوم القضاء يجب جبرا للفائت فكل واحد منهما شرع لغير ما شرع له الآخر
فلا يسقط صوم القضاء بصوم شهرين كما لا يسقط بالاعتاق وقد روى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر الذي واقع امرأته ان يصوم يوما ولو جامع في الموضع المكروه فعليه الكفارة في قول أبى يوسف ومحمد
لأنه يجب به الحد فلان تجب به الكفارة أولى وعن أبي حنيفة روايتان روى الحسن عنه أنه لا كفارة
عليه وروى أبي يوسف عنه إذا توارت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل وعليه القضاء والكفارة
وجه رواية الحسن انه لا يتعلق به وجوب الحد فلا يتعلق به وجوب الكفارة والجامع أن كل واحد
منهما شرع للزجر والحاجة إلى الزجر فيما يغلب وجوده وهذا يندر ولان المحل مكروه فأشبه وطئ الميتة وجه رواية
أبى يوسف ان وجوب الكفارة يعتمد افساد الصوم بافطار كامل وقد وجد لوجود الجماع صورة ومعنى ولو أكل أو
شرب ما يصلح به البدن اما على وجه التغذي أو التداوي متعمدا فعليه القضاء والكفارة عندنا وقال الشافعي
لا كفارة عليه وجه قوله إن وجوب الكفارة ثبت معدولا به عن القياس لان وجوبها لرفع الذنب والتوبة كافية
لرفع الذنب ولان الكفارة من باب المقادير والقياس لا يهتدى إلى تعيين المقادير وإنما عرف وجوبها بالنص والنص
ورد في الجماع والأكل والشرب ليسا في معناه لان الجماع أشد حرمة منهما حتى يتعلق به وجوب الحد دونهما
فالنص الوارد في الجماع لا يكون واردا في الأكل والشرب فيقتصر على مورد النص ولنا ما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر وعلى المظاهر الكفارة بنص الكتاب فكذا على
المفطر متعمدا ولنا أيضا الاستدلال بالمواقعة والقياس عليها اما الاستدلال بها فهو ان الكفارة في المواقعة وجبت
لكونها افسادا لصوم رمضان من غير عذر ولا سفر على ما نطق به الحديث والأكل والشرب افساد لصوم رمضان
متعمدا من غير عذر ولا سفر فكان ايجاب الكفارة هناك ايجابا ههنا دلالة والدليل على أن الوجوب في المواقعة لما
ذكرنا وجهان أحدهما مجمل والآخر مفسر أما المجمل فالاستدلال بحديث الاعرابي ووجهه ما ذكرناه في
الخلافيات واما المفسر فلان افساد صوم رمضان ذنب ورفع الذنب واجب عقلا وشرعا لكونه قبيحا والكفارة
تصلح رافعة له لأنها حسنة وقد جاء الشرع بكون الحسنات من التوبة والايمان والأعمال الصالحات رافعة
للسيئات الا ان الذنوب مختلفة المقادير وكذا الروافع لها لا يعلم مقاديرها الا الشارع للأحكام وهو الله تعالى فمتى ورد
98

الشرع في ذنب خاص بايجاب رافع خاص ووجد مثل ذلك الذنب في موضع آخر كان ذلك ايجابا لذلك الرافع فيه
ويكون الحكم فيه ثابتا بالنص لا بالتعليل والقياس والله أعلم وجه القياس على المواقعة فهو ان الكفارة هناك
وجبت للزجر عن افساد صوم رمضان صيانة له في الوقت الشريف لأنها تصلح زاجرة والحاجة مست إلى الزاجر اما
الصلاحية فلان من تأمل انه لو أفطر يوما من رمضان لزمه اعتاق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم
يستطع فاطعام ستين مسكينا لامتنع منه ولنا الحاجة إلى الزجر فلوجود الداعي الطبعي إلى الأكل والشرب والجماع
وهو شهوة الأكل والشرب والجماع وهذا في الأكل والشرب أكثر لان الجوع والعطش يقلل الشهوة فكانت
الحاجة إلى الزجر عن الأكل والشرب أكثر فكان شرع الزاجر هناك شرعا ههنا من طريق الأولى وعلى هذه
الطريقة يمنع عدم جواز ايجاب الكفارة بالقياس لان الدلائل المقتضية لكون القياس حجة لا يفصل بين
الكفارة وغيرها ولو أكل ما لا يتغذى به ولا يتداوى كالحصاة والنواة والتراب وغيرها فعليه القضاء ولا كفارة عليه
عند عامة العلماء وقال مالك عليه الكفارة لأنه وجد الافطار من غير عذر ولنا ان هذا افطار صورة لا معنى لان معنى
الصوم وهو الكف عن الأكل والشرب الذي هو وسيلة إلى العواقب الحميدة قائم وإنما الفائت صورة الصوم الا انا
ألحقنا الصورة بالحقيقة وحكمنا بفساد الصوم احتياطا ولو بلع جوزة صحيحة يابسة أو لوزة يابسة فعليه القضاء ولا
كفارة عليه لوجود الاكل صورة لا معنى لأنه لا يعتاد أكله على هذا الوجه فأشبه أكل الحصا ولو مضغ الجوزة أو
اللوزة اليابسة حتى يصل المضغ إلى جوفها حتى ابتلعه فعليه القضاء والكفارة كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف
لأنه أكل لبها الا انه ضم إليها مالا يؤكل عادة وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه لو أكل لوزة صغيرة فعليه
القضاء والكفارة وقوله في اللوزة محمول على اللوزة الرطبة لأنها مأكولة كلها كالخوخة ولو أكل جوزة رطبة فعليه
القضاء ولا كفارة عليه لأنه لا يؤكل عادة ولا يحصل به التغذي والتداوي ولو أكل عجينا أو دقيقا فعليه القضاء
ولا كفارة عليه لأنه لا يقصد بهما التغذي ولا التداوي فلا يفوت معنى الصوم وذكر في الفتاوى رواية عن محمد انه
فرق بين الدقيق والعجين فقال في الدقيق القضاء والكفارة وفى العجين القضاء دون الكفارة ولو قضم حنطة فعليه
القضاء والكفارة كذا روى الحسن عن أبي حنيفة لان هذا مما يقصد بالاكل ولو ابتلع اهليلجة روى ابن رستم عن محمد
أن عليه القضاء ولا كفارة لأنه لا يتداوى بها على هذه الصفة وروى هشام عنه ان عليه الكفارة قال الكرخي وهذا
أقيس عندي لأنه يتداوى بها على هذه الصفة وهكذا روى ابن سماعة عن محمد وكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي ان عليه الكفارة ولو أكل طينا فعليه القضاء ولا كفارة لما قلنا الا أن يكون أرمينا فعليه القضاء والكفارة
وكذا روى ابن رستم عن محمد قال محمد لأنه بمنزلة الغار يقون أي يتداوى به قال ابن رستم فقلت له هذا الطين الذي
يقلى يأكله الناس قال لا أدرى ما هذا فكأنه لم يعلم أنه يتداوى به أولا ولو أكل ورق الشجر فإن كان مما يؤكل عادة
فعليه القضاء والكفارة وإن كان مما لا يؤكل فعليه القضاء ولا كفارة عليه ولو أكل مسكا أو غالية أو زعفران فعليه
القضاء والكفارة لان هذا يؤكل ويتداوى به وروى عن محمد فيمن تناول سمسمة قال فطرته ولم يذكر ان عليه الكفارة
أولا واختلف المشايخ فيه قال محمد بن مقاتل الرازي عليه القضاء والكفارة وقال أبو القاسم الصفار عليه القضاء
ولا كفارة عليه وقد ذكرنا ان السمسمة لو كانت بينه أسنانه فابتلعها انه لا يفسد لأنه لا يمكن التحرز عنه وروى عن أبي
يوسف فيمن امتص سكرة بفية في رمضان متعمدا حتى دخل الماء حلقه عليه القضاء والكفارة لان السكر
هكذا يؤكل ولو مص اهليلجة فدخل الماء حلقه قال لا يفسد صومه ذكره في الفتاوى ولو خرج من بين أسنانه دم
فدخل حلقه أو ابتلعه فإن كانت الغلبة للدم فسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة عليه وإن كانت الغلبة للبزاق فلا
شئ عليه وإن كانا سواء فالقياس ان لا يفسد وفى الاستحسان يفسد احتياطا ولو أخرج البزاق من فيه ثم ابتلعه فعليه
القضاء ولا كفارة عليه وكذا إذا ابتلع بزاق غيره لان هذا مما يعاف منه حتى لو ابتلع لعاب حبيبه أو صديقه ذكر الشيخ
الإمام الزاهد شمس الأئمة الحلواني ان عليه القضاء والكفارة لان الحبيب لا يعاف ريق حبيبه أو صديقه ولو أكل
99

لحما قديدا فعليه القضاء والكفارة لأنه يؤكل في الجملة ولو أكل شحما قديدا اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا كفارة
عليه لأنه لا يؤكل وقال الفقيه أبو الليث ان عليه القضاء والكفارة كما في اللحم لأنه يؤكل في الجملة كاللحم القديد ولو
أكل ميتة فإن كانت قد انتنت ودودت فعليه القضاء ولا كفارة عليه وإن كانت غير ذلك فعليه القضاء والكفارة ولو
أولج ولم ينزل فعليه القضاء والكفارة لوجود الجماع صورة ومعنى إذ الجماع هو الايلاج فاما الانزال ففراغ من الجماع
فلا يعتبر ولو أنزل فيما دون الفرج فعليه القضاء ولا كفارة عليه لقصور في الجماع لوجوده معنى لا صورة وكذلك إذا
وطئ بهيمة فأنزل لقصور في قضاء الشهوة لسعة المحل ونبوة الطمع ولو أخذ لقمة من الخبز ليأكلها وهو ناس فلما
مضغها تذكر انه صائم فابتلعها وهو ذاكر ذكر في عيون المسائل ان في هذه المسألة أربعة أقوال للمتأخرين قال بعضهم
لا كفارة عليه وقال بعضهم عليه الكفارة وقال بعضهم ان ابتلعها قبل أن يخرجها فلا كفارة عليه فان أخرجها من
فيه ثم أعادها فابتلعها فعليه الكفارة وقال بعضهم ان ابتلعها قبل أن يخرجها فعليه الكفارة وان أخرجها من فيه
ثم أعادها فلا كفارة عليه قال الفقيه أبو الليث هذا القول أصح لأنه لما أخرجها صار بحال يعاف منها وما دامت في
فيه فإنه يتلذذ بها ولو تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو طالع أو أفطر على ظن أن الشمس قد غربت فإذا هي لم
تغرب فعليه القضاء ولا كفارة عليه لأنه لم يفطر متعمدا بل خاطئا ألا ترى انه اثم عليه ولو أصبح صائما في سفره ثم
أفطر متعمدا فلا كفارة عليه لان السبب المبيح من حيث الصورة قائم وهو السفر فأورث شبهة وهذه الكفارة
لا تجب مع الشبهة والأصل فيه ان الشبهة إذا استندت إلى صورة دليل فإن لم يكن دليلا في الحقيقة بل من حيث
الظاهر اعتبرت في منع وجوب الكفارة والا فلا وقد وجدت ههنا وهي صورة السفر لأنه مرخص أو مبيح في
الجملة ولو أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو ذرعه القئ فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء ولا
كفارة عليه لان الشبهة ههنا استندت إلى ما هو دليل في الظاهر لوجود المضاد للصوم في الظاهر وهو الأكل والشرب
والجماع حتى قال مالك بفساد الصوم بالاكل ناسيا وقال أبو حنيفة لولا قول الناس لقلت له يقضى وكذا القئ لأنه
لا يخلو عن عود بعضه من الفم إلى الجوف فكانت الشبهة في موضع الاشتباه فاعتبرت قال محمد الا أن يكون بلغه
أي بلغه الخبر ان اكل الناسي والقئ لا يفطران فتجب الكفارة لأنه ظن في غير موضع الاشتباه فلا يعتبر وروى
الحسن عن أبي حنيفة انه لا كفارة عليه سواء بلغه الخبر وعلم أن صومه لم يفسد أو لم يبلغه ولم يعلم قال احتجم فظن أن
ذلك يفطره فاكل بعد ذلك متعمدا ان استفتى فقيها فأفتاه بأنه قد أفطر فلا كفارة عليه لان العامي يلزمه تقليد
العالم فكانت الشبهة مستندة إلى صورة دليل وان بلغه خبر الحجامة وهو المروى عن رسول الله صلى عليه وسلم
أفطر الحاجم والمحجوم روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه لان ظاهر الحديث واجب العمل به في الأصل
فأورث شبهة وروى عن أبي يوسف انه تجب عليه الكفارة لان الواجب على العامي الاستفتاء من المفتى لا العمل
بظواهر الأحاديث لان الحديث قد يكون منسوخا وقد يكون ظاهره متروكا فلا يصير ذلك شبهة وان لم يستفت
فقيها ولا بلغه الخبر فعليه القضاء والكفارة لان الحجامة لا تنافى ركن الصوم في الظاهر وهو الامساك عن الأكل والشرب
والجماع فلم تكن هذه الشبهة مستندة إلى دليل أصلا ولو لمس امرأة بشهوة أو قبلها أو ضاجعها ولم ينزل
فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه الكفارة لان ذلك لا ينافي ركن الصوم في الظاهر فكان ظنه في
غير موضعه فكان ملحقا بالعدم الا إذا تأول حديثا أو استفتى فقيها فأفطر على ذلك فلا كفارة عليه وان أخطأ
الفقيه ولم يثبت الحديث لان ظاهر الحديث والفتوى يصير شبهة ولو اغتاب انسانا فظن أن ذلك يفطره ثم أكل
بعد ذلك متعمدا فعليه الكفارة وان استفتى فقيها أو تأول حديثا لأنه لا يعتبر بفتوى الفقيه ولا بتأويله الحديث ههنا
لان ذلك مما لا يشتبه على من له سمة من الفقه وهو لا يخفى على أحد ان ليس المراد من المروى الغيبة تفطر الصائم
حقيقة الافطار فلم يصر ذلك شبهة وكذا لو دهن شاربه فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه الكفارة
وان استفتى فقيها أو تأول حديثا لما قلنا والله أعلم ولو أفطر وهو مقيم فوجبت عليه الكفارة ثم سافر في يومه ذلك
100

لم تسقط عنه الكفارة ولو مرض في يومه ذلك مرضا يرخص الافطار أو يبيحه تسقط عنه الكفارة ووجه الفرق ان في
المرض معنى يوجب تغيير الطبيعة عن الصحة إلى الفساد وذلك المعنى يحدث في الباطن ثم يظهر أثره في الظاهر
فلما مرض في ذلك اليوم علم أنه كان موجودا وقت الافطار لكنه لم يظهر أثره في الظاهر فكان المرخص أو المبيح
موجودا وقت الافطار فمنع انعقاد الافطار موجبا للكفارة أو وجود أصله أورث شبهة في الوجوب وهذه الكفارة
لا تجب مع الشبهة وهذا المعنى لا يتحقق في السفر لأنه اسم للخروج والانتقال من مكان إلى مكان وانه يوجد مقصورا
على حال وجوده فلم يكن المرخص أو المبيح موجودا وقت الافطار فلا يؤثر في وجوبها وكذلك إذا أفطرت المرأة ثم
حاضت في ذلك اليوم أو نفست سقطت عنها الكفارة لان الحيض دم مجتمع في الرحم يخرج شيئا فشيئا فكان موجودا
وقت الافطار لكنه لم يبرز فمنع وجوب الكفارة ولو سافر في ذلك اليوم مكرها لا تسقط عنه الكفارة عند أبي يوسف
وعند زفر تسقط والصحيح قول أبى يوسف لما ذكرنا أن المرخص أو المبيح وجد مقصورا على الحال فلا يؤثر في
الماضي ولو جرح نفسه فمرض مرضا شديدا مرخصا للافطار أو مبيحا اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يسقط وقال
بعضهم لا يسقط وهو الصحيح لان المرض هنا حدث من الجرح وانها وجدت مقصورة على الحال فكان المرض
مقصورا على حال حدوثه فلا يؤثر في الزمان الماضي والله أعلم ومن أصبح في رمضان لا ينوى الصوم فأكل أو شرب
أو جامع عليه قضاء ذلك اليوم ولا كفارة عليه عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر عليه الكفارة بناء على أن صوم رمضان
يتأدى بدون النية عنده فوجد افساد صوم رمضان بشرائطه وعندنا لا يتأدى فلم يوجد الصوم فاستحال الافساد
وروى عن أبي يوسف ان أكل قبل الزوال فعليه القضاء والكفارة وان أكل بعد الزوال فلا كفارة عليه كذا ذكر
القدوري الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبى يوسف في شرحه مختصر الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي الخلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه وجه قول من فصل بين ما قبل الزوال أو بعده أن الامساك قبل
الزوال كان بفرض أن يصير صوما قبل الأكل والشرب والجماع لجواز أن ينوى فإذا أكل فقد أبطل الفرضية وأخرجه
من أن يصير صوما فكان افسادا للصوم معنى بخلاف ما بعد الزوال لان الاكل بعد الزوال لم يقع ابطالا للفرضية
لبطلانها قبل الاكل وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن أصبح لا ينوى صوما ثم نوى قبل الزوال ثم جامع في بقية
يومه فلا كفارة عليه وروى عن أبي يوسف أن عليه الكفارة وجه قوله أن صوم رمضان يتأدى بنية من النهار قبل
الزوال عند أصحابنا فكانت النية من النهار والليل سواء وجه ظاهر الرواية أنه لو جامع في أول النهار لا كفارة
عليه فكذا إذا جامع في آخره لان اليوم في كونه محلا للصوم لا يتجزأ أو يوجب ذلك شبهة في آخر اليوم وهذه
الكفارة لا تجب مع الشبهة وذكر في المنتقى فيمن أصبح ينوى الفطر ثم عزم على الصوم ثم أكل متعمدا أنه لا كفارة
عليه عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف عليه الكفارة والكلام من الجانبين على نحو ما ذكرنا ولو جامع في رمضان
متعمدا مرارا بأن جامع في يوم ثم جامع في اليوم الثاني ثم في الثالث ولم يكفر فعليه لجميع ذلك كله كفارة واحدة عندنا
وعند الشافعي عليه لكل يوم كفارة ولو جامع في يوم ثم كفر ثم جامع في يوم آخر فعليه كفارة أخرى في ظاهر الرواية
وروى زفر عن أبي حنيفة أنه ليس عليه كفارة أخرى ولو جامع في رمضانين ولم يكفر للأول فعليه لكل جماع كفارة
في ظاهر الرواية وذكر محمد في الكيسانيات أن عليه كفارة واحدة وكذا حكى الطحاوي عن أبي حنيفة وجه قول
الشافعي أنه تكرر سبب وجوب الكفارة وهو الجماع عنده وافساد الصوم عندنا والحكم يتكرر بتكرر سببه وهو
الأصل الا في موضع فيه ضرورة كما في العقوبات البدنية وهي الحدود لما في التكرر من خوف الهلاك ولم يوجد
ههنا فيتكرر الوجوب ولهذا تكرر في سائر الكفارات وهي كفارة القتل واليمين والظهار ولنا حديث الاعرابي
أنه لما قال واقعت امرأتي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتاق رقبة واحدة بقوله أعتق رقبة وإن كان
قوله واقعت يحتمل المرة والتكرار ولم يستفسر فدل أن الحكم لا يختلف بالمرة والتكرار ولان معنى الزجر لازم
في هذه الكفارة أعني كفارة الافطار بدليل اختصاص وجوبها بالعمد المخصوص في الجناية الخالصة الخالية عن
101

الشبهة بخلاف سائر الكفارات والزجر يحصل بكفارة واحدة بخلاف ما إذا جامع فكفر ثم جامع لأنه لما جامع بعد
ما كفر علم أن الزجر لم يحصل بالأول ولو أفطر في يوم فاعتق ثم أفطر في اليوم الثاني فأعتق ثم أفطر في اليوم الثالث
فاعتق ثم استحقت الرقبة الأولى فلا شئ عليه لان الثانية تجزى عن الأولى وكذا لو استحقت الثانية لان الثالثة
تجزئ عن الثانية ولو استحقت الثالثة فعليه اعتاق رقبة واحدة لان ما تقدم لا يجزئ عما تأخر ولو استحقت
الثانية أيضا فعليه اعتاق رقبة واحدة لليوم الثاني والثالث ولو استحقت الأولى أيضا فعليه كفارة واحدة لان
الاعتاق بالاستحقاق يلتحق بالعدم وجعل كأنه لم يكن وقد أفطر في ثلاثة أيام ولم يكفر لشئ منها فتكفيه كفارة واحدة
ولو استحقت الأولي والثالثة دون الثانية أعتق رقبة واحدة لليوم الثالث لان الثانية أجزأت عن الأولى والأصل
في هذا الجنس أن الاعتاق الثاني يجزئ عما قبله ولا يجزئ عما بعده وأما صيام غير رمضان فلا يتعلق بافساد شئ
منه وجوب الكفارة لان وجوب الكفارة بافساد صوم رمضان عرف بالتوقيف وانه صوم شريف في وقت
شريف لا يوازيهما غيرهما من الصيام والأوقات في الشرف والحرمة فلا يلحق به في وجوب الكفارة وأما وجوب
القضاء فأما الصيام المفروض فإن كان الصوم متتابعا كصوم الكفارة والمنذور متتابعا فعليه الاستقبال لفوات
الشرائط وهو التتابع ولو لم يكن متتابعا كصوم قضاء رمضان والنذر المطلق عن الوقت والنذر في وقت بعينه
فحكمه أن لا يعتد به عما عليه ويلحق بالعدم وعليه ما كان قبل ذلك في قضاء رمضان والنذر المطلق وفى
المنذور في وقت بعينه عليه قضاء ما فسد وأما صوم التطوع فعليه قضاؤه عندنا خلافا للشافعي وقد روى عن عائشة
رضي الله عنها انها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدى الينا حبس فأكلنا منه فسألت حفصة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اقضيا يوما مكانه والكلام في وجوب القضاء مبنى على الكلام في وجوب
المضي وقد ذكرناه في كتاب الصلاة واختلف أصحابنا في الصوم المظنون إذا أفسده بان شرع في صوم أو صلاة
على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه فأفطر متعمدا قال أصحابنا الثلاثة لا قضاء عليه لكن الأفضل أن يمضى
فيه وقال زفر عليه القضاء وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة فيمن شرع في صلاة يظن أنها عليه مثل قول زفر وعلى
هذا الخلاف إذا شرع في صوم الكفارة ثم أيسر في خلاله فأفطر متعمدا وجه قول زفر انه لما تبين أنه ليس عليه تبين
أنه شرع في النفل ولهذا ندب إلى المضي فيه والشروع في النفل ملزم على أصل أصحابنا فليزمه المضي فيه ويلزمه
القضاء إذا أفسد كما لو شرع في النفل ابتداء ولهذا كان الشروع في الحج المظنون ملزما كذا الصوم ولنا أنه
شرع مسقطا لا موجبا فلا يجب عليه المضي ودليل ذلك أنه قصد بالشروع اسقاط ما في ذمته فإذا تبين أنه ليس
في ذمته شئ من ذلك لم يصح قصدا والشروع في العبادة لا يصح من غير قصد الا أنه استحب له أن يمضى فيه
لشروعه في العبادة في زعمه وتشبهه بالشارع في العبادة فيثاب عليه كما يثاب المتشبه بالصائمين بامساك بقية يومه
إذا أفطر بعذر والاشتباه مما يكثر وجوده في باب الصوم فلو أوجبنا عليه القضاء لوقع في الحرج بخلاف الحج فان
وقوع الشك والاشتباه في باب الحج نادر غاية الندرة فكان ملحقا بالعدم فلا يكون في ايجاب القضاء عليه حرج
والله أعلم
* (فصل) * وأما حكم الصوم المؤقت إذا فات عن وقته فالصوم المؤقت نوعان صوم رمضان والمنذور في وقت بعينه
أما صوم رمضان فيتعلق بفواته أحكام ثلاثة وجوب امساك بقية اليوم تشبها بالصائمين في حال ووجوب القضاء
في حال ووجوب الفداء في حال أما وجوب الامساك تشبها بالصائمين فكل من كان له عذر في صوم رمضان في أول
النهار مانع من الوجوب أو مبيح للفطر ثم زال عذره وصار بحال لو كان عليه في أول النهار لوجب عليه الصوم
ولا يباح له الفطر كالصبي إذا بلغ في بعض النهار وأسلم الكافر وأفاق المجنون وطهرت الحائض وقدم المسافر مع
قيام الأهلية تجب عليه امساك بقية اليوم وكذا من وجب عليه الصوم في أول النهار لوجود سبب الوجوب
والأهلية ثم تعذر عليه المضي فيه بان أفطر متعمدا أو أصبح يوم الشك مفطرا ثم تبين انه من رمضان أو تسحر على
102

ظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين له انه طلع فإنه يجب عليه الامساك في بقية اليوم تشبها بالصائمين وهذا عندنا وأما
عند الشافعي فكل من وجب عليه في أول النهار ثم تعذر عليه المضي مع قيام الأهلية يجب عليه امساك
بقية اليوم تشبها ومن لا فلا فعلى قوله لا يجب الامساك على الصبي إذا بلغ في بعض النهار والكافر إذا أسلم والمجنون
إذا أفاق والحائض إذا طهرت والمسافر إذا قدم مصره لأنه لم يجب عليهم الصوم في أول النهار وجه قوله أن الامساك
تشبها يجب خلفا عن الصوم والصوم لم يجب فلم يجب الامساك خلفا ولهذا لو قال الله على أن أصوم اليوم الذي يقدم
فيه فلان فقدم بعدما أكل الناذر فيه أنه لا يجب الامساك كذا ههنا ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال في يوم عاشوراء الا من أكل فلا يأكلن بقية يومه وصوم عاشوراء كان فرضا يومئذ ولان زمان رمضان وقت
شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن فإذا عجز عن تعظيمه بتحقيق الصوم فيه يجب تعظيمه بالتشبه
بالصائمين قضاء لحقه بالقدر الممكن إذا كان أهلا للتشبه ونفيا لتعريض نفسه للتهمة وفى حق هذا المعنى الوجوب
في أول النهار وعدم الوجوب سواء وقوله التشبه وجب خلفا عن للصوم ممنوع بل يجب قضاء لحرمة الوقت بقدر
الامكان لا خلفا بخلاف مسألة النذر لان الوقت لا يستحق التعظيم حتى يجب قضاء حقه بامساك بقية اليوم وههنا
بخلافه وأما وجوب القضاء فالكلام في قضاء صوم رمضان يقع في مواضع في بيان أصل وجوب القضاء وفي بيان
شرائط وجوب القضاء وفي بيان وقت وجوبه وكيفية الوجوب وفي بيان شرائط جوازه أما أصل الوجوب فلقوله
تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فأفطر فعدة من أيام أخر ولان الأصل في العبادة
المؤقتة إذا فاتت عن وقتها أن تقضى لما ذكرنا في كتاب الصلاة وسواء فاته صوم رمضان بعذر أو بغير عذر لأنه لما
وجب على المعذور فلان يجب على المقصر أولى ولان المعنى يجمعهما وهو الحاجة إلى جبر الفائت بل حاجة غير
المعذور أشد وأما بيان شرائط وجوبه فمنها القدرة على القضاء حتى لو فاته صوم رمضان بعذر المرض أو السفر
ولم يزل مريضا أو مسافرا حتى مات لقى الله ولا قضاء عليه لأنه مات قبل وجوب القضاء عليه لكنه ان أوصى بأن
يطعم عنه صحت وصيته وان لم يجب عليه ويطعم عنه من ثلث ماله لان صحة الوصية لا تتوقف على الوجوب كما لو
أوصى بثلث ماله للفقراء أنه يصح وان لم يجب عليه شئ كذا هذا فان برأ المريض أو قدم المسافر وأدرك من الوقت
بقدر ما فاته يلزمه قضاء جميع ما أدرك لأنه قدر على القضاء لزوال العذر فإن لم يصم حتى أدركه الموت فعليه ان
يوصى بالفدية وهي ان يطعم عنه لكل يوم مسكينا لان القضاء قد وجب عليه ثم عجز عنه بعد وجوبه بتقصير منه
فيتحول الوجوب إلى بدله وهو الفدية والأصل فيه ما روى أبو مالك الأشجعي أن رجلا سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن رجل أدركه رمضان وهو شديد المرض لا يطيق الصوم فمات هل يقضى عنه فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ان مات قبل إن يطيق الصيام فلا يقضى عنه وان مات وهو مريض وقد أطاق الصيام في
مرضه ذلك فليقض عنه والمراد منه القضا بالفدية لا بالصوم لما روى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنه موقوفا عليه
ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يصومن أحد عن أحد ولا يصلين أحد عن أحد ولان مالا يحتمل
النيابة حالة الحياة لا يحتمل بعد الموت كالصلاة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مفسرا أنه قال من مات وعليه
قضاء رمضان أطعم عنه وليه وهو محمول على ما إذا أوصى أو على الندب إلى غير ذلك وإذا أوصى بذلك يعتبر من
الثلث وان لم يوص فتبرع به الورثة جاز وان لم يتبرعوا لم يلزمهم وتسقط في حق أحكام الدنيا عندنا وعند
الشافعي يلزمهم من جميع المال سواء أوصى به أو لم يوص والاختلاف فيه كالاختلاف في الزكاة والصحيح
قولنا لأن الصوم عبادة والفدية بدل عنها والأصل لا يتأدى بطريق النيابة فكذا البدل والبدل لا يخالف الأصل
والأصل فيه انه لا يجوز أداء العبادة عن غيره بغير أمره لأنه يكون جبرا والجبر ينافي معنى العبادة على ما بينا في كتاب
الزكاة هذا إذا أدرك من الوقت بقدر ما فاته فمات قبل أن يقضى فاما إذا أدرك بقدر ما يقضى فيه البعض دون
البعض بان صح المريض أياما ثم مات ذكر في الأصل انه يلزمه القضاء بقدر ما صح ولم يذكر الخلاف حتى لو مات
103

لا يجب عليه أن يوصى بالاطعام لجميع الشهر بل لذلك القدر الذي لم يصمه وان صامه فلا وصية عليه رأسا وذكر
الطحاوي هذه المسألة على الاختلاف فقال في قول أبي حنيفة يلزمه قضاء الجميع إذا صح يوما واحدا حتى يلزمه
الوصية بالاطعام لجميع الشهر ان لم يصم ذلك اليوم وان صامه لم يلزمه شئ بالاجماع وعند محمد يلزمه بقدر ما أدرك
وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي ان ما ذكره محمد في الأصل قول جميع أصحابنا وما أثبته الطحاوي من
الاختلاف في المسألة غلط وإنما ذلك في مسألة النذر وهي ان المريض إذا قال لله على أن أصوم شهرا فان مات
قبل أن يصح لا يلزمه شئ وان صح يوما واحدا يلزمه أن يوصى بالاطعام لجميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
وعند محمد لا يلزمه الا مقدار ما يصح على ما ذكره القدوري وإن كان مسألة القضاء على الاتفاق على ما ذكره
القدوري فوجه هذا القول ظاهر لان القدرة على الفعل شرط وجوب الفعل إذ لو لم يكن لكان الايجاب تكليف
ما لا يحتمله الوسع وانه محال عقلا وموضوع شرعا ولم يقدر الا على صوم بعض الأيام فلا يلزمه الا ذلك القدر فان صام
ذلك القدر فقد أفي بما عليه فلا يلزمه شئ آخر وان لم يصم فقد قصر فيما وجب عليه فيلزمه أن يوصى بالفدية لذلك
القدر لا غير إذ لم يجب عليه من الصوم الا ذلك القدر وإن كانت المسئلتان على الاختلاف على ما ذكره الطحاوي
فوجه قول محمد في المسئلتين ما ذكرنا وهو لا يحتاج إلى الفرق بينهما لان قوله فيهما واحد وهو انه لا يلزمه من صوم
القضاء والصوم المنذور به الا قدر أيام الصحة حتى لا يلزمه الوصية بالاطعام فيهما الا لذلك القدر وأما وجه قولهما
فهو ان قدر ما يقدر عليه من الصوم يصلح له الأيام كلها على طريق البدل لان كل يوم صالح للصوم فيجعل كأنه قدر
على الكل فإذا لم يصم لزمته الوصية بالفدية للكل وإذا صام فيما قدر وصار قدر ما صام مستحقا للوقت فلم يبق صالحا
لوقت آخر فلم يكن القول بوجوب الكل على البدل فلا يلزمه الوصية بالفدية للكل ومنها أن لا يكون في القضاء حرج
لان الحرج منفى بنص الكتاب وأما وجوب الأداء في الوقت فهل هو شرط وجوب القضاء خارج الوقت فقد
ذكرنا اختلاف المشايخ في ذلك وخرجنا ما يتصل به من المسائل على القولين ما فيه اتفاق وما فيه اختلاف وأما وقت
وجوبه فوقت أدائه وقد ذكرناه وهو سائر الأيام خارج رمضان سوى الأيام الستة لقوله تعالي فمن كان منكم
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أمر بالقضاء مطلقا عن وقت معين فلا يجوز تقييده ببعض الأوقات الا بدليل
والكلام في كيفية وجوب القضاء انه على الفور أو على التراخي كالكلام في كيفية الوجوب في الامر المطلق عن
الوقت أصلا كالأمر بالكفارات والنذور المطلقة ونحوها وذلك على التراخي عند عامة مشايخنا ومعنى التراخي
عندهم انه يجب في مطلق الوقت غير عين وخيار التعيين إلى المكلف ففي أي وقت شرع فيه تعين ذلك الوقت
للوجوب وان لم يشرع يتضيق الوجوب عليه في آخر عمره في زمان يتمكن فيه من الأداء قبل موته وحكى
الكرخي عن أصحابنا انه على الفور والصحيح هو الأول وعند عامة أصحاب الحديث الامر المطلق يقتضى الوجوب
على الفور على ما عرف في أصول الفقه وفى الحج اختلاف بين أصحابنا نذكره في كتاب الحج إن شاء الله تعالى وحكى
القدوري عن الكرخي انه كأن يقول في قضاء رمضان انه مؤقت بما بين رمضانين وهذا غير سديد بل المذهب
عند أصحابنا ان وجوب القضاء لا يتوقت لما ذكرنا ان الامر بالقضاء مطلق عن تعيين بعض الأوقات دون بعض
فيجرى على اطلاقه ولهذا قال أصحابنا انه لا يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع ولو كان الوجوب على الفور
لكره له التطوع قبل القضاء لأنه يكون تأخيرا للواجب عن وقته المضيق وانه مكروه وعلى هذا قال أصحابنا انه إذا أخر
قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر فلا فدية عليه وقال الشافعي عليه الفدية كأنه قال بالوجوب على الفور مع
رخصة التأخير إلى رمضان آخر وهذا غير سديد لما ذكرنا انه لا دلالة في الامر على تعيين الوقت فالتعيين يكون تحكما
على الدليل والقول بالفدية باطل لأنها تجب خلفا عن الصوم عند العجز عن تحصيله عجزا لا ترجى معه القدرة
عادة كما في حق الشيخ الفاني ولم يوجد العجز لأنه قادر على القضاء فلا معنى لايجاب الفدية وأما شرائط جواز القضاء
فما هو شرط جواز أداء صوم رمضان فهو شرط جواز قضائه الا الوقت وتعيين النية من الليل فإنه يجوز القضاء
104

في جميع الأوقات الا الأوقات المستثناة ولا يجوز الا بنية معينة من الليل بخلاف الأداء ووجه الفرق ما ذكرنا والله
الموفق وأما وجوب الفداء فشرطه العجز عن القضاء عجزا لا ترجى معه القدرة في جميع عمره فلا يجب الا على الشيخ
الفاني ولا فداء على المريض والمسافر ولا على الحامل والمرضع وكل من يفطر لعذر ترجى معه القدرة لفقد شرطه
وهو العجز المستدام وهذا لان الفداء خلف عن القضاء والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف كما في سائر
الاخلاف مع أصولها ولهذا قلنا إن الشيخ الفالى إذا فدى ثم قدر على الصوم بطل الفداء وأما الصوم المنذور في وقت
بعينه فهو كصوم رمضان في وجوب القضاء إذا فات عن وقته وقدر على القضاء وان فات بعضه يلزمه قضاء ما فاته
لا غير ولا يلزمه الاستقبال كصوم رمضان بخلاف ما إذا أوجب على نفسه صوم شهر متتابعا فأفطر يوما انه يلزمه
الاستقبال والفرق بينهما قد تقدم ولو مات قبل ممر الوقت فلا قضاء عليه لان الايجاب مضاف إلى زمان متعين
فإذا مات قبله لم يجب عليه فلا يلزمه شئ كما لو مات قبل دخول رمضان وكذلك إذا أدرك الوقت وهو مريض ثم
مات قبل أن يبرأ فلا قضاء عليه فان برأ قبل الموت فعليه القضاء كما في صوم رمضان ولو نذر وهو صحيح وصام بعض
الشهر وهو صحيح ثم مرض فمات قبل تمام الشهر يلزمه أن يوصى بالفدية لما بقي من الشهر ولو نذر وهو مريض ثم
مات قبل أن يصح لا يلزمه شئ بلا خلاف ولو صح يوما يلزمه أن يوصى بالفدية لجميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبى
يوسف وعند محمد بقدر ما صح وقد ذكرنا المسألة والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يسن وما يستحب للصائم وما يكره له أن يفعله فنقول يسن للصائم السحور لما روى
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن فصلا بين صيامنا وصيام أهل الكتاب
أكلة السحور ولأنه يستعان به على صيام النهار واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الندب إلى السحور فقال
استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل وبأكل السحور على صيام النهار والسنة فيها هو التأخير لان معنى الاستعانة
فيه أبلغ وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من سنن المرسلين تأخير السحور وتعجيل الافطار
ووضع اليمين على الشمال تحت السرة في الصلاة وفى رواية قال ثلاث من أخلاق المرسلين ولو شك في طلوع الفجر
فالمستحب له أن لا يأكل هكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال إذا شك في الفجر فأحب إلى أن يدع الاكل
لأنه يحتمل ان الفجر قد طلع فيكون الاكل افسادا للصوم فيتحرز عنه والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال لوابصة بن معبد الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريك إلى مالا يريك
ولو أكل وهو شاك لا يحكم عليه بوجوب القضاء عليه لان فساد الصوم مشكوك فيه لوقوع الشك في طلوع
الفجر مع أن الأصل هو بقاء الليل فلا يثبت النهار بالشك وهل يكره الاكل مع الشك روى هشام عن أبي يوسف
انه يكره وروى ابن سماعة عن محمد انه لا يكره والصحيح قول أبى يوسف وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة انه
إذا شك فلا يأكل وان أكل فقد أساء لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا ان لكل ملك حمى
ألا وان حمى الله محارمه فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه والذي يأكل مع الشك في طلوع الفجر يحوم حول
الحمى فيوشك أن يقع فيه فكان بالاكل معرضا صومه للفساد فيكره له ذلك وعن الفقيه أبى جعفر الهندواني انه
لو ظهر على امارة الطلوع من ضرب الدبداب والاذان يكره والا فلا ولا تعويل على ذلك لأنه مما يتقدم ويتأخر هذا
إذا تسحر وهو شاك في طلوع الفجر فاما إذا تسحر وأكبر رأيه ان الفجر طالع فذكر في الأصل وقال إن الاحب الينا أن
يقضى وروى الحسن عن أبي حنيفة انه يقضى وذكر القدوري ان الصحيح انه لا قضاء عليه وجه رواية الأصل انه على
يقين من الليل فلا يبطل الا بيقين مثله وجه رواية الحسن ان غالب الرأي دليل واجب العمل به بل هو في حق
وجوب العمل في الأحكام بمنزلة اليقين وعلى رواية الحسن اعتمد شيخنا رحمه الله ويسن تعجيل الافطار إذا غربت
الشمس هكذا روى عن أبي حنيفة أنه قال وتعجيل الافطار إذا غربت الشمس أحب الينا لما روينا من الحديث
وهو قوله صلى الله عليه وسلم ثلاث من سنن المرسلين وذكر من جملتها تعجيل الافطار وروى عن النبي صلى الله
105

عليه وسلم أنه قال لا تزال أمتي بخير ما لم ينتظروا للافطار طلوع النجوم والتأخير يؤدى إليه ولو شك في غروب
الشمس لا ينبغي له أن يفطر لجواز ان الشمس لم تغرب فكان الافطار افسادا للصوم ولو أفطر وهو شاك في غروب
الشمس ولم يتبين الحال بعد ذلك أنها غربت أم لا لم يذكره في الأصل ولا القدوري في شرحه مختصر الكرخي
وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه يلزمه القضاء فرق بينه وبين التسحر ووجه الفرق ان هناك الليل
أصل فلا يثبت النهار بالشك فلا يبطل المتيقن به بالمشكوك فيه وههنا النهار أصل فلا يثبت الليل بالشك فكان
الافطار حاصلا فيما له حكم النهار فيجب قضاؤه ويجوز أن يكون ما ذكره القاضي جواب الاستحسان احتياطا فاما
في الحكم المر وهو القياس ان لا يحكم بوجوب القضاء لان وجوب القضاء حكم حادث لا يثبت الا بسبب حادث
وهو افساد الصوم وفى وجوده شك وعلى هذا يحمل اختلاف الروايتين في مسألة التسحر بأن تسحروا كبر
رأيه ان الفجر طالع ولو أفطروا كبر رأيه ان الشمس قد غربت فلا قضاء عليه لما ذكرنا ان غالب الرأي حجة
موجبة للعمل به وانه في الأحكام بمنزلة اليقين وإن كان غالب رأيه انها لم تغرب فلا شك في وجوب القضاء عليه
لأنه انضاف إلى غلبة الظن حكم الأصل وهو بقاء النهار فوقع افطاره في النهار فليزمه القضاء واختلف المشايخ
في وجوب الكفارة قال بعضهم تجب لما ذكرنا ان غالب الرأي نزل منزلة اليقين في وحوب العمل كيف وقد انضم
إليه شهادة الأصل وهو بقاء النهار وقال بعضهم لا تجب وهو الصحيح لان احتمال الغروب قائم فكانت
الشبهة ثابتة وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة والله أعلم ولا بأس أن يكتحل الصائم بالإثمد وغيره
ولو فعل لا يفطره وان وجد طعمه في حلقه عند عامة العلماء لما روينا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
اكتحل وهو صائم ولما ذكرنا انه ليس للعين منفذا إلى الجوف وان وجده في حلقه فهو أثره لا عينه ولا باس أن
يدهن لما قلنا وكره أبو حنيفة أن يمضغ الصائم العلك لأنه لا يؤمن أن ينفصل شئ منه فيدخل حلقه فكان المضغ
تعريضا لصومه للفساد فيكره ولو فعل لا يفسد صومه لأنه لا يعلم وصول شئ منه إلى الجوف وقيل هذا إذا كان
معجونا فاما إذا لم يكن يفطره لأنه يتفتت فيصل شئ منه إلى جوفه ظاهرا وغالبا ويكره للمرأة ان تمضغ لصبيتها طعاما
وهي صائمة لأنه لا يؤمن أن يصل شئ منه إلى جوفها الا إذا كان لابد لها من ذلك فلا يكره للضرورة ويكره للصائم
أن يذوق العسل أو السمن أو الزيت ونحو ذلك بلسانه ليعرف انه جيد أو ردئ وان لم يدخل حلقه ذلك وكذا يكره
للمرأة ان نذوق المرقة لتعرف طعمها لأنه يخاف وصول شئ منه إلى الحلق فتفطر ولا باس للصائم أن يستاك سواء
كان السواك يابسا أو رطبا مبلولا أو غير مبلول وقال أبو يوسف إذا كان مبلولا يكره وقال الشافعي يكره
السواك في آخر النهار كيفما كان واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله من ريح المسك والاستياك يزيل الخلوف فيكره وجه قول أبى يوسف ان الاستياك بالمبلول من السواك ادخال
الماء في الفم من غير حاجة فيكره ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير خلال الصائم السواك
والحديث حجة على أبى يوسف والشافعي لأنه وصف الاستياك بالخيرية مطلقا من غير فصل بين المبلول وغير المبلول
وبين أن يكون في أول النهار وآخره لان المقصود منه تطهير الفم فيستوى فيه المبلول وغيره وأول النهار وآخره
كالمضمضة وأما الحديث فالمراد منه تفخيم شأن الصائم والترغيب في الصوم والتنبيه على كونه محبوبا لله تعالى
ومرضيه ونحن به نقول أو يحمل على أنهم كانوا يتحرجون عن الكلام مع الصائم لتغير فمه بالصوم فمنعهم عن
ذلك ودعاهم إلى الكلام ولا بأس للصائم أن يقبل ويباشر إذا أمن على نفسه ما سوى ذلك أما القبلة فلما روى أن
عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال أرأيت لو تمضمضت بماء ثم
مججته أكان يضرك قال لا قال فصم إذا وفى رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه أنه قال هششت إلى أهلي ثم أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت انى عملت اليوم عملا عظيما انى قبلت وأنا صائم فقال أرأيت لو تمضمضت
بماء أكان يضرك قلت لا قال فصم إذا وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل
106

وهو صائم ورى ان شابا وشيخا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فنهى الشاب ورخص للشيخ
وقال الشيخ أملك لإربه وأنا أملككم لإربي وفى رواية الشيخ يملك نفسه وأما المباشرة فلما روى عن عائشة رضي الله عنه
الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه وروى عن أبي حنيفة انه كره
المباشرة ووجه هذه الرواية ان عند المباشرة لا يؤمن على ما سوى ذلك ظاهرا وغالبا بخلاف القبلة وفى
حديث عائشة رضي الله عنها إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك حيث قالت وكان
أملككم لإربه قال أبو يوسف ويكره للصائم أن يتمضمض لغير الوضوء لأنه يحتمل أن يسبق الماء إلى حلقه ولا
ضرورة فيه وإن كان للوضوء لا يكره لأنه محتاج إليه لإقامة السنة وأما الاستنشاق والاغتسال وصب الماء على
الرأس والتلفف بالثوب المبلول فقد قال أبو حنيفة انه يكره وقال أبو يوسف لا يكره واحتج بما روى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صب على رأسه ماء من شدة الحر وهو صائم وعن ابن عمر رضي الله عنهما انه كان يبل الثوب
ويتلفف به وهو صائم ولأنه ليس فيه الا دفع أذى الحر فلا يكره كما لو استظل ولأبي حنيفة ان فيه اظهار الضجر من
العبادة والامتناع عن تحمل مشقتها وفعل رسول الله صلى عليه وسلم محمول على حال مخصوصة وهي حال
خوف الافطار من شدة الحر وكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه محمول على مثل هذه الحالة ولا كلام فيه ولا تكره
الحجامة للصائم لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم وعن
أنس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم ولو احتجم لا يفطره عند عامة العلماء
وعند أصحاب الحديث يفطره واحتجوا بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على معقل بن يسار وهو
يحتجم في رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم ولنا ما روى عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ولو كان الاحتجام يفطر لما فعله وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
ثلاث لا يفطرن الصائم القئ والحجامة والاحتلام وأما ما روى من الحديث فقد قيل إنه كان ذلك في الابتداء ثم
رخص بعد ذلك والثاني انه ليس في الحديث اثبات الفطر بالحجامة فيحتمل انه كان منهما ما يوجب الفطر وهو
ذهاب ثواب الصوم كما روى عن ابن عباس رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يحجم رجل
وهما يغتابان فقال أفطر الحاجم والمحجوم أي بسبب الغيبة منهما على ما روى الغيبة تفطر الصائم ولان الحجامة
ليست الا اخراج شئ من الدم والفطر مما يدخل والوضوء مما يخرج كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس للمرأة
التي لها زوج أن تصوم تطوعا الا باذن زوجها لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر ان تصوم صوم تطوع الا باذن زوجها ولان له حق الاستمتاع بها ولا يمكنه ذلك في حال الصوم
وله أن يمنعها إن كان يضره لما ذكرنا انه لا يمكنه استيفاء حقه مع الصوم فكان له منعها فإن كان صيامها لا يضره بأن
كان صائما أو مريضا لا يقدر على الجماع فليس له أن يمنعها لان المنع كان لاستيفاء حقه فإذا لم يقدر على الاستمتاع
فلا معنى للمنع وليس لعبد ولا أمة ولا مدبر ولا مدبرة وأم ولد أن تصوم بغير اذن المولى لان منافعه مملوكة للمولى الا في
القدر المستثنى وهو الفرائض فلا يملك صرفها إلى التطوع وسواء كان ذلك يضر المولي أو لا يضره بخلاف المرأة لان
المنع ههنا لمكان الملك فلا يقف على الضرر وللزوج أن يفطر المرأة إذا صامت بغير اذنه وكذا للمولى وتقضى المرأة إذا
أذن لها زوجها أو بانت منه ويقضى العبد إذا أذن له المولى أو أعتق لان الشروع في التطوع قد صح منهما الا انهما
منعا من المضي فيه لحق الزوج والمولى فإذا أفطر ألزمهما القضاء وأما الأجير الذي استأجره الرجل ليخدمه فلا يصوم
تطوعا الا باذنه لان صومه يضر المستأجر حتى لو كان لا يضره فله أن يصوم بغير اذنه لان حقه في منافعه بقدر ما
يتأدى به الخدمة والخدمة حاصلة له من غير خلل بخلاف العبد ان له أن يمنعه وإن كان لا يضره صومه لان المانع
هناك ملك الرأس وانه يظهر في حق جميع المنافع سوى القدر المستثنى وههنا المانع ملك بعض المنافع وهو قدر ما
تتأدى به الخدمة وذلك القدر حاصل من غير خلل فلا يملك منعه وأما بنت الرجل وأمه وأخته فلها أن تطوع بغير
107

اذنه لأنه لا حق له في منافعها فلا يملك منعها كما لا يملك منع الأجنبية ولو أراد المسافر دخول مصره أو مصرا آخر
ينوى فيه الإقامة يكره له أن يفطر في ذلك اليوم وإن كان مسافرا في أوله لأنه اجتمع المحرم للفطر وهو الإقامة
والمرخص والمبيح وهو السفر في يوم واحد فكان الترجيح للمحرم احتياطا فإن كان أكبر رأيه أن لا يتفق دخوله
المصر حتى تغيب الشمس فلا بأس بالفطر فيه ولا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة وهو مذهب عمر وعامة
الصحابة رضي الله عنهم الا شيئا حكى عن علي رضي الله عنه أنه قال يكره فيها لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه
نهى عن قضاء رمضان في العشر والصحيح قول العامة لقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام
أخر مطلقا من غير فصل ولأنها وقت يستحب فيها الصوم فكان القضاء فيها أولى من القضاء في غيرها وما روى من
الحديث غريب في حد الأحاديث فلا يجوز تقييد مطلق الكتاب وتخصيصه بمثله أو نحمله على الندب في حق
من اعتاد التنفل بالصوم في هذه الأيام فالأفضل في حقه أن يقضى في غيرها لئلا تفوته فضيلة صوم هذه الأيام
ويقضى صوم رمضان في وقت آخر والله أعلم بالصواب
* (كتاب الاعتكاف) *
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان صفة الاعتكاف وفي بيان شرائط صحته وفي بيان ركنه ويتضمن بيان
محظورات الاعتكاف وما يفسده ومالا يفسده وفي بيان حكمه إذا فسد وفي بيان حكمه إذا فات عن وقته المعين له أما
الأول فالاعتكاف في الأصل سنة وإنما يصير واجبا بأحد أمرين أحدهما قول وهو النذر المطلق بأن يقول لله على أن
أعتكف يوما أو شهرا أو نحو ذلك أو علقه بشرط بأن يقول إن شفى الله مريض أو ان قدم فلان فلله على أن
أعتكف شهرا أو نحو ذلك والثاني فعل وهو الشروع لان الشروع في التطوع ملزم عندنا كالنذر والدليل على أن
ه في الأصل سنة مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه روى عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما انهما قالا كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله تعالى وعن الزهري أنه قال
عجبا للناس تركوا الاعتكاف وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الشئ ويتركه ولم يترك الاعتكاف منذ
دخل المدينة إلى أن مات ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه دليل كونه سنة في الأصل ولان الاعتكاف تقرب
إلى الله تعالى بمجاورة بيته والاعراض عن الدنيا والاقبال على خدمته لطلب الرحمة وطمع المغفرة حتى قال عطاء
الخراساني مثل المعتكف مثل الذي ألقى نفسه بين يدي الله تعالى يقول لا أبرح حتى يغفر لي ولأنه عبادة لما فيه من
اظهار العبودية لله تعالى بملازمة الأماكن المنسوبة إليه والعزيمة في العبادات القيام بها بقدر الامكان وانتفاء
الحرج وإنما رخص تركها في بعض الأوقات فكان الاشتغال بالاعتكاف اشتغالا بالعزيمة حتى لو نذر به يلتحق
بالعزائم الموظفة التي لا رخصة في تركها والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائط صحته فنوعان نوع يرجع إلى المعتكف ونوع يرجع إلى المعتكف فيه أما ما يرجع
إلى المعتكف فمنها الاسلام والعقل والطهارة عن الجنابة والحيض والنفاس وانها شرط الجواز في نوعي
الاعتكاف الواجب والتطوع جميعا لان الكافر ليس من أهل العبادة وكذا المجنون لان العبادة لا تؤدى الا
بالنية وهو ليس من أهل النية والجنب والحائض والنفساء ممنوعون عن المسجد وهذه العبادة لا تؤدى
الا في المسجد وأما البلوغ فليس بشرط لصحة الاعتكاف فيصح من الصبي العاقل لأنه من أهل العبادة كما
يصح منه صوم التطوع ولا تشترط الذكورة والحرية فيصح من المرأة والعبد بإذن المولى والزوج إن كان
لها زوج لأنهما من أهل العبادة وإنما المانع حق الزوج والمولى فإذا وجد الاذن فقد زال المانع ولو نذر
المملوك اعتكافا فللمولى أن يمنعه عنه فإذا أعتق قضاه وكذلك المرأة إذا نذرت فلزوجها أن يمنعها فإذا
بانت قضت لان للزوج ملك المنفعة فيها وللمولى ملك الذات والمنفعة في المملوك وفى الاعتكاف تأخير
108

حقهما في استيفاء المنفعة فكان لهما المنع ما داما في ملك الزوج والمولى فإذا بانت المرأة واعتق المملوك لزمهما
قضاؤه ولان النذر منهما قد صح لوجوده من الأهل لكنهما منعا لحق المولى والزوج فإذا سقط حقهما بالعتق
والبينونة فقد زال المانع فيلزمهما القضاء واما المكاتب فليس للمولى أن يمنعه من الاعتكاف الواجب والتطوع
لان المولى لا يملك منافع مكاتبه فكان كالحر في حق منافعه وإذا أذن الرجل لزوجته بالاعتكاف لم يكن له أن يرجع
عنه لأنه لما أذن لها بالاعتكاف فقد ملكها منافع الاستمتاع بها في زمان الاعتكاف وهي من أهل الملك فلا
يملك الرجوع عن ذلك والنهى عنه بخلاف المملوك إذا أذن له مولاه بالاعتكاف انه يملك الرجوع عنه لان هناك
ما ملكه المولى منافعه لأنه ليس من أهل الملك وإنما أعاره منافعه وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء الا انه يكره له
الرجوع لأنه خلف في الوعد وغرور فيكره له ذلك ومنها النية لان العبادة لا تصح بدون النية ومنها الصوم فإنه شرط
لصحة الاعتكاف الواجب بلا خلاف بين أصحابنا وعند الشافعي ليس بشرط ويصح الاعتكاف بدون الصوم
والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم وروى عن ابن عباس وعائشة واحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه
م مثل مذهبنا وروى عن علي وعبد الله بن مسعود مثل مذهبه وجه قوله إن الاعتكاف ليس الا اللبث
والإقامة وذا لا يفتقر إلى الصوم ولأن الصوم عبادة مقصودة بنفسه فلا يصلح شرطا لغيره لان شرط الشئ تبع له
وفيه جعل المتبوع تبعا وانه قلب الحقيقة ولهذا لم يشترط لاعتكاف التطوع وكذا يصح الشروع في الاعتكاف
الواجب بدونه بأن قال لله على أن اعتكف شهر رجب فكما رأى الهلال يجب عليه الدخول في الاعتكاف ولا صوم
في ذلك الوقت ولو كان شرطا لما جاز بدونه فضلا عن الوجوب إذ الشروع في العبادة بدون شرطها لا يصح والدليل
عليه انه لو قال لله على أن اعتكف شهر رمضان فصام رمضان واعتكف خرج عن عهدة النذر وان لم يجب عليه
الصوم بالاعتكاف ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا اعتكاف الا بصوم
ولأن الصوم هو الامساك عن الأكل والشرب والجماع ثم أحد ركني الصوم وهو الامساك عن الجماع شرط
صحة الاعتكاف فكذا الركن الاخر وهو الامساك عن الأكل والشرب لاستواء كل واحد منهما في كونه ركنا
للصوم فإذا كان أحد الركنين شرطا كان الآخر كذلك ولان معنى هذه العبادة وهو ما ذكرنا من الاعراض
عن الدنيا والاقبال على الآخرة بملازمة بيت الله تعالى لا يتحقق بدون ترك قضاء الشهوتين الا بقدر الضرورة
وهي ضرورة القوام وذلك بالأكل والشرب في الليالي ولا ضرورة في الجماع وقوله الاعتكاف ليس الا اللبث والمقام
مسلم لكن هذا لا يمنع أن يكون الامساك عن الأكل والشرب شرطا لصحته كما لم يمنع أن يكون الامساك عن
الأكل والشرب والجماع شرطا لصحته والنية وكذا كون الصوم عبادة مقصوده بنفسه لا ينافي أن يكون شرطا
لغيره ألا ترى ان قراءة القرآن عبادة مقصودة بنفسه ثم جعل شرطا لجواز الصلاة حالة الاختيار كذا ههنا وأما
اعتكاف التطوع فقد روى الحسن عن أبي حنيفة انه لا يصح بدون الصوم ومن مشايخنا من اعتمد على هذه الرواية
واما على ظاهر الرواية فلان في الاعتكاف التطوع عن أصحابنا روايتين في رواية مقدر بيوم وفى رواية غير مقدر
أصلا وهو رواية الأصل فإذا لم يكن مقدرا والصوم عبادة مقدرة بيوم فلا يصلح شرطا لما ليس بمقدر بخلاف
الاعتكاف الواجب فإنه مقدر بيوم لا يجوز الخروج عنه قبل تمامه فجاز أن يكون الصوم شرط لصحته واما إذا
قال لله على أن اعتكف شهر رجب فإنما أوجب عليه الدخول في الاعتكاف في الليل لان الليالي دخلت في
الاعتكاف المضاف إلى الشهر لضرورة اسم الشهر إذ هو اسم للأيام والليالي دخلت تبعا لا أصلا ومقصودا فلا يشترط
لها ما يشترط للأصل كما إذا قال لله على أن اعتكف ثلاثة أيام انه يدخل فيه الليالي ويكون أول دخوله فيه من الليل
لما قلنا كذا هذا واما النذر باعتكاف شهر رمضان فإنما يصح لوجود شرطه وهو الصوم في زمان الاعتكاف
وان لم يكن لزومه بالتزام الاعتكاف لان ذلك أفضل واما اعتكاف التطوع فالصوم ليس بشرط لجوازه في ظاهر الرواية
وإنما الشرط أحد ركني الصوم عينا وهو الامساك عن الجماع لقوله تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
109

المساجد فاما الامساك عن الأكل والشرب فليس بشرط وروى الحسن عن أبي حنيفة انه شرط واختلاف
الرواية فيه مبنى على اختلاف الرواية في اعتكاف التطوع انه مقدر بيوم أو غير مقدر ذكر محمد في الأصل انه غير
مقدر ويستوى فيه القليل والكثير ولو ساعة وروى الحسن عن أبي حنيفة انه مقدر بيوم فلما لم يكن مقدرا على
رواية الأصل لم يكن الصوم شرطا له لأن الصوم مقدر بيوم إذ صوم بعض اليوم ليس بمشروع فلا يصلح شرطا لما
ليس بمقدر ولما كان مقدرا بيوم على رواية الحسن فالصوم يصلح أن يكون شرطا له والكلام فيه يأتي في موضعه
وعلى هذا يخرج ما إذا قال لله على أن اعتكف يوما انه يصح نذره وعليه أن يعتكف يوما واحدا بصوم والتعيين إليه
فإذا أراد أن يؤدى يدخل المسجد قبل طلوع الفجر فيطلع الفجر وهو فيه فيعتكف يومه ذلك ويخرج منه بعد
غروب الشمس لان اليوم اسم لبياض النهار وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فيجب أن يدخل المسجد قبل
طلوع الفجر حتى يقع اعتكافه في جميع اليوم وإنما كان التعيين إليه لأنه لم يعين اليوم في النذر ولو قال لله على أن
اعتكف ليلة لم يصح ولم يلزمه شئ عندنا لأن الصوم شرط صحة الاعتكاف فالليل ليس بمحل للصوم ولم
يوجد منه ما يوجب دخوله في الاعتكاف تبعا فالنذر لم يصادف محله وعند الشافعي يصح لأن الصوم عنده ليس
بشرط لصحة الاعتكاف وروى عن أبي يوسف انه ان نوى ليلة بيومها لزمه ذلك ولم يذكر محمد هذا التفصيل في
الأصل فاما ان يوفق بين الروايتين فيحمل المذكور في الأصل على ما إذا لم تكن له نية واما أن يكون في المسألة روايتان
وجه ما روى عن أبي يوسف اعتبار الفرد بالجمع وهو ان ذكر الليالي بلفظ الجمع يكون ذكرا للأيام كذا ذكر الليلة الواحدة
يكون ذكر اليوم واحد والجواب ان هذا اثبات اللغة بالقياس ولا سبيل إليه فلو قال لله على أن اعتكف ليلا ونهارا
لزمه ان يعتكف ليلا ونهارا وان لم يكن الليل محلا للصوم لان الليل يدخل فيه تبعا ولا يشترط للتتبع ما يشترط للأصل
ولو نذر اعتكاف يوم قد أكل فيه لم يصح ولم يلزمه شئ لان الاعتكاف الواجب لا يصح بدون الصوم ولا يصح الصوم
في يوم قد أكل فيه وإذا لم يصح الصوم لم يصح الاعتكاف ولو قال لله على أن اعتكف يومين ولا نية له يلزمه
اعتكاف يومين بليلتيهما وتعيين ذلك إليه فإذا أراد ان يؤدى يدخل المسجد قبل غروب الشمس فيمكث تلك الليلة
ويومها ثم الليلة الثانية ويومها إلى أن تغرب الشمس ثم يخرج من المسجد وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال
أبو يوسف الليلة الأولى لا تدخل في نذره وإنما تدخل الليلة المتخللة بين اليومين فعلى قوله يدخل قبل طلوع الفجر
وروى عن ابن سماعة ان المستحب له ان يدخل قبل غروب الشمس ولو دخل قبل طلوع الفجر جاز وجه قوله إن
اليوم في الحقيقة اسم لبياض النهار الا ان الليلة المتخللة تدخل لضرورة حصول التتابع والدوام ولا ضرورة في
دخول الليلة الأولى بخلاف ما إذا ذكر الأيام بلفظ الجمع حيث يدخل ما بإزائها من الليالي لان الدخول هناك للعرف
والعادة كقول الرجل كنا عند فلان ثلاثة أيام ويريد به ثلاثة أيام وما بإزائها من الليالي ومثل هذا العرف
لم يوجد في التثنية ولهما ان هذا العرف أيضا ثابت في التثنية كما في الجمع يقول الرجل كنا عند فلان يومين ويريد به
يومين وما بإزائهما من الليالي ويلزمه اعتكاف يومين متتابعين لكن تعيين اليومين إليه لأنه لم يعين في النذر ولو
نوى يومين خاصة دون ليلتيهما صحت نيته ويلزمه اعتكاف يومين بغير ليلة لأنه نوى حقيقة كلامه وهو بالخيار ان
شاء تابع وان شاء فرق لأنه ليس في لفظه ما يدل على التتابع واليومان متفرقان لتخلل الليلة بينهما فصار الاعتكاف
ههنا كالصوم فيدخل في كل يوم المسجد قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس وكذا لو قال لله على أن
اعتكف ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك ولا نية له انه يلزمه الأيام مع لياليهن وتعيينها إليه لكن يلزمه مراعاة صفة
التتابع وان نوى الأيام دون الليالي صحت نيته لما قلنا ويلزمه اعتكاف ثلاثة أيام بغير ليلة وله خيار التفريق لان
القربة تعلقت بالأيام والأيام متفرقة فلا يلزمه التتابع الا بالشرط كما في الصوم ويدخل كل يوم قبل طلوع
الفجر إلى غروب الشمس ثم يخرج ولو قال لله على أن اعتكف ليلتين ولا نية له يلزمه اعتكاف ليلتين مع يوميهما
وكذلك لو قال ثلاث ليال أو أكثر من ذلك من الليالي ويلزمه متتابعا لكن التعيين إليه لما قلنا ويدخل المسجد قبل
110

غروب الشمس ولو نوى الليل دون النهار صحت نيته لأنه نوى حقيقة كلامه ولا يلزمه شئ لان الليل ليس وقتا
للصوم والأصل في هذا ان الأيام إذا ذكرت بلفظ الجمع يدخل ما بإزائها من الليالي وكذا الليالي إذا ذكرت بلفظ الجمع
يدخل ما بإزائها من الأيام لقوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام ثلاثة أيام الا رمزا وقال عز وجل في موضع آخر ثلاث
ليال سويا والقصة قصة واحدة فلما عبر في موضع باسم الأيام وفى موضع باسم الليالي دل ان المراد من كل واحد منهما
هو وما بإزاء صاحبه حتى أن في الموضع الذي لم تكن الأيام فيه على عدد الليالي أفرد كل واحد منهما بالذكر قال الله
تعالى سبع ليال وثمانية أيام حسوما وللآيتين حكم الجماعة ههنا لجريان العرف فيه كما في اسم الجمع على ما بينا ولو
قال لله على أن اعتكف ثلاثين يوما ولا نية له فهو على الأيام والليالي متتابعا لكن التعيين إليه ولو قال نويت النهار
دون الليل صحت نيته لأنه عنى به حقيقة كلامه دون ما نقل عنه بالعرف والعرف أيضا باستعمال هذه الحقيقة باق
فيصح نيته ثم هو بالخيار ان شاء تابع وان شاء فرق لان اللفظ مطلق عن قيد التتابع وكذا ذات الأيام لا تقتضي
التتابع لتخلل ما ليس بمحل للاعتكاف بين كل يومين ولو قال عنيت الليالي دون النهار لم يعمل بنيته ولزمه الليل
والنهار لأنه لما نص على الأيام فإذا قال نويت بها الليالي دون الأيام فقد نوى مالا يحتمله كلامه فلا يقبل قوله
ولو قال لله على أن اعتكف ثلاثين ليلة وقال عنيت به الليالي دون النهار لا يلزمه شئ لأنه عنى به حقيقة كلامه
والليالي في اللغة اسم للزمان الذي كانت الشمس فيه غائبة الا ان عند الاطلاق تتناول ما بإزائها من الأيام بالعرف
فإذا عنى به حقيقة كلامه والعرف أيضا باستعمال هذه الحقيقة باق صحت نيته لمصادفتها محلها ولو قال لله على أن
اعتكف شهرا يلزمه اعتكاف شهر أي شهر كان متتابعا في النهار والليالي جميعا سواء ذكر التتابع أو لا وتعيين ذلك
الشهر إليه فيدخل المسجد قبل غروب الشمس فتغرب الشمس وهو فيه فيعتكف ثلاثين ليلة وثلاثين يوما ثم
يخرج بعد استكمالها بعد غروب الشمس بخلاف ما إذا قال لله على أن أصوم شهرا ولم يعين ولم يذكر التتابع ولا نواه
انه لا يلزمه التتابع بل هو بالخيار ان شاء تابع وان شاء فرق وهذا الذي ذكرنا من لزوم التتابع في هذه المسائل
مذهب أصحابنا الثلاثة وقال زفر لا يلزمه التتابع في شئ من ذلك الا بذكر التتابع أو بالنية وهو بالخيار ان شاء تابع
وان شاء فرق وجه قوله إن اللفظ مطلق عن قيد التتابع ولم ينو التتابع أيضا فيجرى على اطلاقه كما في الصوم ولنا
الفرق بينهما ووجه الفرق ان الاعتكاف عبادة دائمة ومبناها على الاتصال لأنه لبث وإقامة والليالي قابلة للبث
فلا بد من التتابع وإن كان اللفظ مطلقا عن قيد التتابع لكن في لفظه ما يقتضيه وفى ذاته ما يوجبه بخلاف ما إذا
نذر أن يصوم شهرا ولزمه أن يصوم شهرا غير معين انه إذا عين شهرا له ان يفرق لأنه أوجب مطلقا عن قيد التتابع
وليس مبنى حصوله على التتابع بل على التفريق لان بين كل عبادتين منه وقتا لا يصلح لها وهو الليل فلم يوجد فيه
قيد التتابع ولا اقتضاء لفظه وتعيينه فبقي له الخيار ولهذا لم يلزم التتابع فيما لم يتقيد بالتتابع من الصيام المذكور في
الكتاب كذا هذا ولو نوى في قوله لله على أن اعتكف شهرا النهار دون الليل لم تصح نيته ويلزمه الاعتكاف شهرا
بالأيام والليالي جميعا لان الشهر اسم لزمان مقدر بثلاثين يوما وليلة مركب من شيئين مختلفين كل واحد منهما أصل
في نفسه كالبلق فإذا أراد أحدهما فقد أراد بالاسم ما لم يوضع له ولا احتمله فبطل كمن ذكر البلق وعنى به البياض
دون السواد فلم تصادف النية محلها فلغت وهذا بخلاف اسم الخاتم فإنه اسم للحلقة بطريق الأصالة والفص كالتابع لها
لأنه مركب فيها زينة لها فكان كالوصف لها فجاز ان يذكر الخاتم ويراد به الحلقة فاما ههنا فكل واحد من الزمانين
أصل فلم ينطلق الاسم على أحدهما بخلاف ما إذا قال لله على أن أصوم شهرا حيث انصرف إلى النهار دون
الليالي لان هناك أيضا لا نقول إن اسم الشهر تناول النهار دون الليالي لما ذكرنا من الاستحالة بل تناول النهار
والليالي جميعا فكان مضيفا النذر بالصوم إلى الليالي والنهار جميعا معا غير أن الليالي ليست محلا لإضافة النذر
بالصوم إليها فلم تصادف النية محلها فلغا ذكر الليالي والنهار محل لذلك فصحت الإضافة إليها على الأصل المعهود ان
التصرف المصادف لمحله يصح والمصادف لغير محله يلغو فاما في الاعتكاف فكل واحد منهما محل ولو قال لله
111

على أن اعتكف شهر النهار دون الليل يلزمه كما التزم وهو اعتكاف شهر بالأيام دون الليالي لأنه لما قال النهار دون
الليل فقد لغا ذكر الشهر بنص كلامه كمن قال رأيت فرسا أبلق للبياض منه دون السواد وكان هو بالخيار ان شاء
تابع وان شاء فرق لأنه تلفظ بالنهار والأصل فيه ان كل اعتكاف وجب في الأيام دون الليالي فصاحبه فيه بالخيار
ان شاء تابع وان شاء فرق وكل اعتكاف وجب في الأيام والليالي جميعا يلزمه اعتكاف شهر يصومه متتابعا ولو
أوجب على نفسه اعتكاف شهر بعينه بان قال لله على أن اعتكف رجب يلزمه ان يعتكف فيه يصومه متتابعا
وان أفطر يوما أو يومين فعليه قضاء ذلك ولا يلزمه قضا ما صح اعتكافه فيه كما إذا أوجب على نفسه
صوم رجب على ما ذكرنا في كتاب الصوم فإن لم يعتكف في رجب حتى مضى يلزمه اعتكاف شهر يصومه
متتابعا لأنه لما مضى رجب من غير اعتكاف صار في ذمته اعتكاف شهر بغير عينه فيلزمه مراعاة صفة التتابع
فيه كما إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر بغير عينه ابتداء بان قال لله على أن اعتكف شهرا ولو أوجب اعتكاف
شهر بعينه فاعتكف شهرا قبله عن نذره بان قال لله على أن أعتكف رجبا فاعتكف شهر ربيع الآخر أجزأه عن
نذره عند أبي يوسف وعند محمد رحمهما الله تعالى لا يجزئه وهو على الاختلاف في النذر بالصوم في شهر معين
فصام قبله ونذكر المسألة في كتاب النذر إن شاء الله تعالى ولو قال لله على أن اعتكف شهر رمضان يصح نذره
ويلزمه ان يعتكف في شهر رمضان كله لوجود الالتزام بالنذر فان صام رمضان واعتكف فيه خرج عن عهدة
النذر لوجود شرط صحة الاعتكاف وهو الصوم وان لم يكن لزومه بالتزامه الاعتكاف لان ذلك ليس بشرط إنما
الشرط وجوده معه كمن لزمه أداء الظهر وهو محدث يلزمه الطهارة ولو دخل وقت الظهر وهو على الطهارة يصح
أداء الظهر بها لان الشرط هو الطهارة وقد وجدت كذا هذا ولو صام رمضان كله ولم يعتكف يلزمه قضاء الاعتكاف
بصوم آخر في شهر آخر متتابعا كذا ذكر محمد في الجامع وروى عن أبي يوسف انه لا يلزمه الاعتكاف بل يسقط
نذره وجه قوله إن نذره انعقد غير موجب للصوم وقد تعذر ابقاؤه كما أنعقد فتسقط لعدم الفائدة في البقاء وجه
قول محمد رحمه الله تعالى أن النذر بالاعتكاف في رمضان قد صح ووجب عليه الاعتكاف فيه فإذا لم يؤد بقي
واجبا عليه كما إذا نذر بالاعتكاف في شهر آخر بعينه فلم يؤده حتى مضى الشهر وإذا بقي واجبا عليه ولا يبقى
واجبا عليه الا بوجوب شرط صحة أدائه وهو الصوم فيبقى واجبا عليه بشرطه وهو الصوم واما قوله إن نذره
ما انعقد موجبا للصوم في رمضان فنعم لكن جاز أن يبقى موجبا للصوم في غير رمضان وهذا لان وجوب الصوم
لضرورة التمكن من الأداء ولا يتمكن من الأداء في غيره الا بالصوم فيجب عليه الصوم ويلزمه متتابعا لأنه لزمه
الاعتكاف في شهر بعينه وقد فاته فيقضيه متتابعا كما إذا أوجب اعتكاف رجب فلم يعتكف فيه انه يقضيه في
شهر آخر متتابعا كذا هذا ولو يصم رمضان ولم يعتكف فيه فعليه اعتكاف شهر متتابعا بصوم وقضاء رمضان
فان قضى صوم الشهر متتابعا وقرن به الاعتكاف جاز ويسقط عنه قضاء رمضان وخرج عن عهدة النذر
لأن الصوم الذي وجب فيه الاعتكاف باق فيقضيهما جميعا يصوم شهرا متتابعا وهذا لان ذلك الصوم لما كان
باقيا لا يستدعى وجوب الاعتكاف فيها صوما آخر فبقي واجب الأداء بعين ذلك الصوم كما أنعقد ولو صام ولم يعتكف
حتى دخل رمضان القابل فاعتكف قاضيا لما فاته بصوم هذا الشهر لم يصح لما ذكرنا ان بقاء وجوب الاعتكاف
يستدعى وجوب صوم يصير شرطا لأدائه فوجب في ذمته صوم على حدة وما وجب في الذمة من الصوم لا يتأدى
بصوم الشهر ولو نذر ان يعتكف يومى العيد وأيام التشريق فهو على الروايتين اللتين ذكرناهما في الصوم ان
على رواية محمد عن أبي حنيفة يصح نذره لكن يقال له اقض في يوم آخر ويكفر اليمين إن كان أراد به اليمين وان
اعتكف فيها جاز وخرج عن عهدة النذر وكان مسيئا وعلى رواية أبى يوسف وابن المبارك عن أبي حنيفة لا يصح نذره
بالاعتكاف فيها أصلا كما لا يصح نذره بالصوم فيها وإنما كان كذلك لأن الصوم من لوازم الاعتكاف الواجب
فكان الجواب في الاعتكاف كالجواب في الصوم والله أعلم وأما الذي يرجع إلى المعتكف فيه فالمسجد وانه شرط في
112

نوعي الاعتكاف الواجب والتطوع لقوله تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وصفهم بكونهم عاكفين
في المساجد مع أنهم لم يباشروا الجماع في المساجد لينهوا عن الجماع فيها فدل ان مكان الاعتكاف هو المسجد ويستوى
فيه الاعتكاف الواجب والتطوع لان النص مطلق ثم ذكر الكرخي انه لا يصح الاعتكاف الا في مساجد الجماعات
يريد به الرجل وقال الطحاوي انه يصح في كل مسجد وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة انه لا يجوز الا في مسجد
تصلى فيه الصلوات كلها واختلفت الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه روى عنه انه لا يجوز الا في المسجد الحرام
ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس كأنه ذهب في ذلك إلى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا اعتكاف الا في المسجد الحرام وروى أنه قال لا تشد الرحال الا لثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا
والمسجد الأقصى وفى رواية ومسجد الأنبياء ولنا عموم قوله تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد وعن
حذيفة رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاعتكاف في كل مسجد له امام ومؤذن
والمروى أنه لا اعتكاف الا في المسجد الحرام ان ثبت فهو على التناسخ لأنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف
في مسجد المدينة فصار منسوخا بدلالة فعله إذ فعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلح ناسخا لقوله أو يحمل على بيان
الأفضل كقوله لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد أو على المجاورة على قول من لا يكرهها وأما الحديث الآخر ان
ثبت فيحمل على الزيارة أو على بيان الأفضل فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام ثم في مسجد المدينة
وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في المسجد الأقصى ثم في المسجد الجامع ثم في المساجد العظام التي كثر
أهلها وعظم اما المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد ما خلا المسجد الحرام ولان للمسجد الحرام من الفضائل
ما ليس لغيره من كون الكعبة فيه ولزوم الطواف به ثم بعده مسجد المدينة لأنه مسجد أفضل الأنبياء والمرسلين صلى
الله تعالى عليه وعليهم وسلم ثم مسجد بيت المقدس لأنه مسجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاجماع المسلمين
على أنه ليس بعد المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد أفضل منه ثم المسجد الجامع
لأنه مجمع المسلمين لإقامة الجمعة ثم بعده المساجد الكبار لأنها في معنى الجوامع لكثرة أهلها وأما المرأة فذكر في
الأصل انها لا تعتكف الا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد جماعة وروى الحسن عن أبي حنيفة أن للمرأة ان
تعتكف في مسجد الجماعة وان شاءت اعتكفت في مسجد بيتها ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها ومسجد
حيها أفضل لها من المسجد الأعظم وهذا لا يوجب اختلاف الروايات بل يجوز اعتكافها في مسجد الجماعة على
الروايتين جميعا بلا خلاف بين أصحابنا والمذكور في الأصل محمول على نفى الفضيلة لا على نفى الجواز توفيقا بين
الروايتين وهذا عندنا وقال الشافعي لا يجوز اعتكافها في مسجد بيتها وجه قوله أن الاعتكاف قربة خصت بالمساجد
بالنص ومسجد بيتها ليس بمسجد حقيقة بل هو اسم للمكان المعد للصلاة في حقها حتى لا يثبت له شئ من أحكام
المسجد فلا يجوز إقامة هذا القربة فيه ونحن نقول بل هذه قربة خصت بالمسجد لكن مسجد بيتها له حكم
المسجد في حقها في حق الاعتكاف لان له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة لحاجتها إلى احراز فضيلة الجماعة
فأعطى له حكم مسجد الجماعة في حقها حتى كانت صلاتها في بيتها أفضل على ما روى عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال صلاة المرأة في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في مسجد دارها وصلاتها في صحن
دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها وإذا كان له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة
فكذلك في حق الاعتكاف لان كل واحد منهما في اختصاصه بالمسجد سواء وليس لها أن تعتكف في بيتها في غير
مسجد وهو الموضع المعد للصلاة لأنه ليس لغير ذلك الموضع من بيتها حكم المسجد فلا يجوز اعتكافها فيه والله أعلم
* (فصل) * وأما ركن الاعتكاف ومحظوراته وما يفسده ومالا يفسده فركن الاعتكاف هو اللبث والإقامة يقال
اعتكف وعكف أي أقام وقال الله تعالى قالوا لن نبرح عليه عاكفين أي لن نزال عليه مقيمين ويقال فلان معتكف على
113

حرام أي مقيم عليه فسمى من أقام على العبادة في المسجد معتكفا وعاكفا وإذا عرف هذا فنقول لا يخرج المعتكف
من معتكفه في الاعتكاف الواجب ليلا ولا نهارا الا لما لابد له منه من الغائط والبول وحضور الجمعة لان الاعتكاف
لما كان لبثا وإقامة فالخروج يضاده ولا بقاء للشئ مع ما يضاده فكان ابطالا له وابطال العبادة حرام لقوله تعالى
ولا تبطلوا أعمالكم الا انا جوزنا له الخروج لحاجة الانسان إذ لابد منها وتعذر قضاؤها في المسجد فدعت الضرورة
إلى الخروج ولان في الخروج لهذه الحاجة تحقيق هذه القربة لأنه لا يتمكن المرء من أداء هذه القربة الا بالبقاء ولا
بقاء بدون القوت عادة ولابد لذلك من الاستفراغ على ما عليه مجرى العادة فكان الخروج لها من ضرورات
الاعتكاف ووسائله وما كان من وسائل الشئ كان حكمه حكم ذلك الشئ فكان المعتكف في حال خروجه عن المسجد
لهذه الحاجة كأنه في المسجد وقد روى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج من
معتكفه ليلا ولا نهارا الا لحاجة الانسان وكذا في الخروج في الجمعة ضرورة لأنها فرض عين ولا يمكن اقامتها في كل
مسجد فيحتاج إلى الخروج إليها كما يحتاج إلى الخروج لحاجة الانسان فلم يكن الخروج إليها مبطلا لاعتكافه وهذا
عندنا وقال الشافعي إذا خرج إلى الجمعة بطل اعتكافه وجه قوله إن الخروج في الأصل مضاد للاعتكاف ومناف
له لما ذكرنا انه قرار وإقامة والخروج انتقال وزوال فكان مبطلا له الا فيما لا يمكن التحرز عنه كحاجة الانسان وكان
يمكنه التحرز عن الخروج إلى الجمعة بان يعتكف في المسجد الجامع ولنا ان إقامة الجمعة فرض لقوله تعالى يا أيها الذين
آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله والامر بالسعي إلى الجمعة أمر بالخروج من المعتكف ولو كان
الخروج إلى الجمعة مبطلا للاعتكاف لما أمر به لأنه يكون أمرا بابطال الاعتكاف وانه حرام ولان الجمعة لما كانت
فرضا حقا لله تعالى عليه والاعتكاف قربة ليست هي عليه فمتى أوجبه على نفسه بالنذر لم يصح نذره في ابطال
ما هو حق لله تعالى عليه بل كان نذره عدما في ابطال هذا الحق ولان الاعتكاف دون الجمعة فلا يؤذن بترك الجمعة
لأجله وقد خرج الجواب عن قوله إن الاعتكاف لبث والخروج يبطله لما ذكرنا ان الخروج إلى الجمعة لا يبطله لما بينا
واما وقت الخروج إلى الجمعة ومقدار ما يكون في المسجد الجامع فذكر الكرخي وقال ينبغي أن يخرج إلى الجمعة عند
الاذان فيكون في المسجد مقدار ما يصلى قبلها أربعا وبعدها أربعا أو ستا وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة
مقدار ما يصلى قبلها أربعا وبعدها أربعا وهو على الاختلاف في سنة الجمعة بعدها انها أربع في قول أبي حنيفة
وعندهما ستة على ما ذكرنا في كتاب الصلاة وقال محمد إذا كان منزله بعيدا يخرج حين يرى أنه يبلغ المسجد عند
النداء وهذا أمر يختلف بقرب المسجد وبعده فيخرج في أي وقت يرى أنه يدرك الصلاة والخطبة ويصلى قبل
الخطبة أربع ركعات لان إباحة الخروج إلى الجمعة إباحة لها بتوابعها وسننها من توابعها بمنزلة الأذكار المسنونة فيها
ولا ينبغي أن يقيم في المسجد الجامع بعد صلاة الجمعة الا مقدار ما يصلى بعدها أربعا أو ستا على الاختلاف ولو أقام يوما
وليلة الا ينتقض اعتكافه لكن يكره له ذلك اما عدم الانتقاض فلان الجامع لما صلح لابتداء الاعتكاف فلان يصلح
للبقاء أولى لان البقاء أسهل من الابتداء واما الكراهة فلانه لما ابتدأ الاعتكاف في مسجد فكأنه عينه
للاعتكاف فيه فيكره له التحول عنه مع امكان الاتمام فيه ولا يخرج لعيادة مريض ولا لصلاة جنازة لأنه لا ضرورة
إلى الخروج لان عيادة المريض ليست من الفرائض بل من الفضائل وصلاة الجنازة ليست بفرض عين بل فرض
كفاية تسقط عنه بقيام الباقين بها فلا يجوز ابطال الاعتكاف لأجلها وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من
الرخصة في عيادة المريض وصلاة الجنازة فقد قال أبو يوسف ذلك محمول عندنا على الاعتكاف الذي يتطوع به
من غير ايجاب فله أن يخرج متى شاء ويجوز أن تحمل الرخصة على ما إذا كان خرج المعتكف لوجه مباح كحاجة
الانسان أو للجمعة ثم عاد مريضا أو صلى على جنازة من غير أن كان خروجه لذلك قصدا وذلك جائز اما المرأة إذا
اعتكفت في مسجد بيتها لا تخرج منه إلى منزلها الا لحاجة الانسان لان ذلك في حكم المسجد لها ما بينا فان
خرج من المسجد الذي يعتكف فيه لعذر بان انهدم المسجد أو أخرجه السلطان مكرها أو غير السلطان
114

فدخل مسجد آخر غيره من ساعته لم يفسد اعتكافه استحسانا والقياس أن يفسد وجه القياس انه وجد ضد
الاعتكاف وهو الخروج الذي هو ترك الإقامة فيبطل كما لو خرج عن اختيار وجه الاستحسان انه خرج من غير
ضرورة اما عند انهدام المسجد فظاهر لأنه لا يمكنه الاعتكاف فيه بعدما انهدم فكان الخروج منه أمرا لابد منه
بمنزلة الخروج لحاجة الانسان واما عند الاكراه فلان الاكراه من أسباب العذر في الجملة فكان هذا القدر من الخروج
ملحقا بالعدم كما إذا خرج لحاجة الانسان وهو يمشى مشيا رفيقا فان خرج من المسجد لغير عذر فسد اعتكافه
في قول أبي حنيفة وإن كان ساعة وعند أبي يوسف ومحمد لا يفسد حتى يخرج أكثر من نصف يوم قال محمد قول
أبي حنيفة أقيس وقول أبى يوسف أوسع وجه قولهما ان الخروج القليل عفو وإن كان بغير عذر بدليل انه لو خرج
لحاجة الانسان وهو يمشى متأنيا لم يفسد اعتكافه وما دون نصف اليوم فهو قليل فكان عفوا ولأبي حنيفة انه ترك
الاعتكاف باشتغاله بضده من غير ضرورة فيبطل اعتكافه لفوات الركن وبطلان الشئ بفوات ركنه يستوى فيه
الكثير والقيل كالأكل في باب الصوم وفى الخروج لحاجة الانسان ضرورة وأحوال الناس في المشي مختلفة لا يمكن
ضبطها فسقط اعتبار صفة المشي وههنا لا ضرورة في الخروج وعلى هذا الخلاف إذا خرج لحاجة الانسان ومكث
بعد فراغه أنه ينتقض اعتكافه عند أبي حنيفة قل مكثه أو كثر وعندهما لا ينتقض ما لم يكن أكثر من نصف يوم ولو
صعد المئذنة لم يفسد اعتكافه بلا خلاف وإن كإن كان باب المئذنة خارج المسجد لان المئذنة من المسجد الا ترى انه
يمنع فيه كل ما يمنع في المسجد من البول ونحوه ولا يجوز بيعها فأشبه زاوية من زوايا المسجد وكذا إذا كان داره بجنب
المسجد فأخرج رأسه إلى داره لا يفسد اعتكافه لان ذلك ليس بخروج الا ترى أنه لو حلف لا يخرج من الدار ففعل
ذلك لا يحنث في يمينه وروى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه من
المسجد فيغسل رأسه وان غسل رأسه في المسجد في إناء لا بأس به إذا لم يلوث المسجد بالماء المستعمل فإن كان
بحيث يتلوث المسجد يمنع منه لان تنظيف المسجد واجب ولو توضأ في المسجد في إناء فهو على هذا التفصيل
وأما اعتكاف التطوع فهل يفسد بالخروج لغير عذر كالخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة فيه روايتان في
رواية الأصل لا يفسد وفى رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة يفسد بناء على أن اعتكاف التطوع غير مقدر
على رواية الأصل فله أن يعتكف ساعة من نهار أو نصف يوم أو ما شاء من قليل أو كثير أو يخرج فيكون معتكفا
ما أقام تاركا ما خرج وعلى رواية الحسن هو مقدر بيوم كالصوم ولهذا قال إنه لا يصبح بدون الصوم كما لا يصح
الاعتكاف الواجب بدون الصوم وجه رواية الحسن ان الشروع في التطوع موجب للاتمام على أصل أصحابنا
صيانة للمؤدى عن البطلان كما في صوم التطوع وصلاة التطوع ومست الحاجة إلى صيانة المؤدى ههنا لان القدر
المؤدى انعقد قربة فيحتاج إلى صيانته وذلك بالمضي فيه إلى آخر اليوم وجه رواية الأصل ان الاعتكاف لبث وإقامة
فلا يتقدر بيوم كامل كالوقوف بعرفة وهذا لان الأصل في كل فعل تام بنفسه في زمان اعتباره في نفسه من غير
أن يقف اعتباره على وجود غيره وكل لبث وإقامة توجد فهو فعل تام في نفسه فكان اعتكافا في نفسه فلا تقف صحته
واعتباره على وجود أمثاله إلى آخر اليوم هذا هو الحقيقة الا إذا جاء دليل التغيير فتجعل الافعال المتعددة المتغايرة
حقيقة متحدة حكما كما في الصوم ومن ادعى التغيير ههنا يحتاج إلى الدليل وقوله الشروع فيه موجب مسلم لكن
بقدر ما اتصل به الأداء ولما خرج فما أوجب الا ذلك القدر فلا يلزمه أكثر من ذلك ولو جامع في حال الاعتكاف
فسد اعتكافه لان الجماع من محظورات الاعتكاف لقوله تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد قيل
المباشرة كناية عن الجماع كذا روى عن ابن عباس رضي الله عنه ان ما ذكر الله عز وجل في القرآن من المباشرة
والرفث والغشيان فإنما عنى به الجماع لكن الله تعالى حيى كريم يكنى بما شاء دلت الآية على أن الجماع محظور في
الاعتكاف فان حظر الجماع على المعتكف ليس لمكان المسجد بل لمكان الاعتكاف وإن كان ظاهر النهى عن
المباشرة في حال الاعتكاف في المسجد بقوله عز وجل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد لان الآية الكريمة
115

نزلت في قوم كانوا يعتكفون في المساجد وكانوا يخرجون يقضون حاجتهم في الجماع ثم يغتسلون ثم يرجعون إلى
معتكفهم لا أنهم كانوا يجامعون في المساجد لينهوا عن ذلك بل المساجد في قلوبهم كانت أجل وأعظم من أن يجعلوها
مكانا لوطئ نسائهم فثبت ان النهى عن المباشرة في حال الاعتكاف لأجل الاعتكاف فكان الجماع من محظورات
الاعتكاف فيوجب فساده وسواء جامع ليلا أو نهارا لان النص مطلق فكان الجماع من محظورات الاعتكاف ليلا
ونهارا وسواء كان عامدا أو ناسيا بخلاف الصوم فان جماع الناسي لا يفسد الصوم والنسيان لم يجعل عذرا في باب
الاعتكاف وجعل عذرا في باب الصوم والفرق من وجهين أحدهما ان الأصل أن لا يكون عذرا لان فعل الناسي
مقدورا لامتناع عنه في الجملة إذ الوقوع فيه لا يكون الا لنوع تقصير ولهذا كان النسيان جابر المؤاخذة عليه عندنا
وإنما رفعت المؤاخذة ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا ولهذا لم يجعل عذرا
في باب الصلاة الا انه جعل عذرا في باب الصوم بالنص فيقتصر عليه والثاني ان المحرم في الاعتكاف عين الجماع
فيستوي فيه العمد والسهو والمحرم في باب الصوم هو الافطار لا عين الجماع أو حرم الجماع لكونه افطارا لا لكونه جماعا
فكانت حرمته لغيره وهو الافطار والافطار يختلف حكما بالعمد والنسيان ولو أكل أو شرب في النهار عامدا فسد
صومه وفسد اعتكافه لفساد الصوم ولو أكل ناسيا لا يفسد اعتكافه لأنه لا يفسد صومه والأصل ان ما كان من
محظورات الاعتكاف وهو ما منع عنه لأجل الاعتكاف لا لأجل الصوم يختلف فيه العمد والسهو والنهار والليل
كالجماع والخروج من المسجد وما كان من محظورات الصوم وهو ما منع عنه لأجل الصوم يختلف فيه العمد والسهو
والنهار والليل كالجماع والخروج من المسجد وكالأكل والشرب والفقه ما بينا ولو باشر فأنزل فسد اعتكافه لان
المباشرة منصوص عليها في الآية وقد قيل في بعض وجوه التأويل ان المباشرة الجماع وما دونه ولان المباشرة مع
الانزال في معنى الجماع فيلحق به وكذا لو جامع فيما دون الفرج فأنزل لما قلنا فإن لم ينزل لا يفسد اعتكافه لأنه بدون
الانزال لا يكون في معنى الجماع لكنه يكون حراما وكذا التقبيل والمعانقة واللمس انه ان أنزل في شئ من ذلك فسد
اعتكافه والا فلا يفسد لكنه يكون حراما بخلاف الصوم فان في باب الصوم لا تحرم الدواعي إذا كان يأمن على نفسه
والفرق على نحو ما ذكرنا ان عين الجماع في باب الاعتكاف محرم وتحريم الشئ يكون تحريما لدواعيه لأنها تقضى
إليه فلو لم تحرم لأدى إلى التناقض وأما في باب الصوم فعين الجماع ليس محرما إنما المحرم هو الافطار أو حرم الجماع لكونه
افطارا وهذا لا يتعدى إلى الدواعي فهو الفرق ولو نظر فأنزل لم يفسد اعتكافه لانعدام الجماع صورة ومعنى فأشبه
الاحتلام والله الموفق ولا يأتي الزوج امرأته وهي معتكفة إذا كانت اعتكفت باذن زوجها لان اعتكافها إذا
كان باذن زوجها فإنه لا يملك الرجوع عنه لما بينا فيما تقدم فلا يجوز وطؤها لما فيه من افساد عبادتها ويفسد
الاعتكاف بالردة لان الاعتكاف قربة والكافر ليس من أهل القربة ولهذا لم ينعقد مع الكفر فلا يبقى مع الكفر أيضا
ونفس الاغماء لا يفسده بلا خلاف حتى لا ينقطع التتابع ولا يلزمه أن يستقبل الاعتكاف إذا أفاق وان أغمي عليه
أياما أو أصابه لمم فسد اعتكافه وعليه إذا برأ أن يستقبل لأنه لزمه متتابعا وقد فاتت صفة التتابع فيلزمه الاستقبال كما
في صوم كفارة الظهار فان تطاول الجنون وبقى سنين ثم أفاق هل يجب عليه أن يقضى أو يسقط عنه ففيه روايتان
قياس واستحسان نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى ولو سكر ليلا لا يفسد اعتكافه عندنا وعند الشافعي يفسد
وجه قوله إن السكران كالمجنون والجنون يفسد الاعتكاف فكذا السكر (ولنا) ان السكر ليس الا معنى له أثر في
العقل مدة يسيرة فلا يفسد الاعتكاف ولا يقطع التتابع كالاغماء ولو حاضت المرأة في حال الاعتكاف فسد اعتكافها
لان الحيض ينافي أهلية الاعتكاف لمنافاتها الصوم ولهذا منعت من انعقاد الاعتكاف فتمنع من البقاء ولو احتلم
المعتكف لا يفسد اعتكافه لأنه لا صنع له فيه فلم يكن جماعا ولا في معنى الجماع ثم إن أمكنه الاغتسال في المسجد من غير
أن يتلوث المسجد فلا بأس به والا فيخرج فيغتسل ويعود إلى المسجد ولا بأس للمعتكف أن يبيع ويشترى ويتزوج
ويراجع ويلبس ويتطيب ويدهن ويأكل ويشرب بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر ويتحدث ما بدا له بعد
116

أن لا يكون مأثما وينام في المسجد والمراد من البيع والشراء هو كلام الايجاب والقبول من غير نقل الأمتعة إلى
المسجد لان ذلك ممنوع عنه لأجل المسجد لما فيه من اتخاذ المسجد متجرا لا لأجل الاعتكاف وحكى عن مالك أنه
لا يجوز البيع في المسجد كأنه يشير إلى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم
ومجانينكم وبيعكم وشراءكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم (ولنا) عمومات البيع والشراء من الكتاب الكريم
والسنة من غير فصل بين المسجد وغيره وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن أخيه جعفر هلا اشتريت خادما
قال كنت معتكفا قال وماذا عليك لو اشتريت أشار إلى جواز الشراء في المسجد وأما الحديث فمحمول على اتخاذ
المساجد متاجر كالسوق يباع فيها وتنقل الأمتعة إليها أو يحمل على الندب والاستحباب توفيقا بين الدلائل بقدر
الامكان وأما النكاح والرجعة فلان نصوص النكاح والرجعة لا تفصل بين المسجد وغيره من نحو قوله تعالى فانكحوا
ما طاب لكم من النساء ونحو ذلك وقوله تعالى فأمسكوهن بمعروف ونحو ذلك وكذا الأكل والشرب واللبس والطيب
والنوم لقوله تعالى وكلوا واشربوا وقوله تعالى يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وقوله تعالى قل من حرم زينة
الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقوله عز وجل وجعلنا نومكم سباتا وقد روى أن النبي كان يفعل ذلك
في حال اعتكافه في المسجد مع ما ان الأكل والشرب والنوم في المسجد في حال الاعتكاف لو منع منه لمنع من
الاعتكاف إذ ذلك أمر لا بد منه وأما التكلم بما لا مأثم فيه فلقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا
سديدا قيل في بعض وجوه التأويل أي صدقا وصوابا لا كذبا ولا فحشا وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يتحدث مع أصحابه ونسائه رضي الله عنهم وهو معتكف في المسجد فاما التكلم بما فيه مأثم فإنه لا يجوز
في غير المسجد ففي المسجد أولى وله أن يحرم في اعتكافه بحج أو عمرة وإذا فعل لزمه الاحرام وأقام في اعتكافه إلى أن
يفرغ منه ثم يمضى في احرامه الا أن يخاف فوت الحج فيدع الاعتكاف ويحج ثم يستقبل الاعتكاف أما صحة
الاحرام في حال الاعتكاف فلانه لا تنافى بينهما ألا ترى ان الاعتكاف ينعقد مع الاحرام فيبقى معه أيضا وإذا صح
احرامه فإنه يتم الاعتكاف ثم يشتغل بافعال الحج لأنه يمكنه الجمع بينهما وأما إذا خاف فوت الحج فإنه يدع
الاعتكاف لان الحج يفوت والاعتكاف لا يفوت فكان الاشتغال بالذي يفوت أولى ولان الحج آكد وأهم من
الاعتكاف فالاشتغال به أولى وإذا ترك الاعتكاف يقضيه بعد الفراغ من الحج والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكمه إذا فسد فالذي فسد لا يخلو اما أن يكون واجبا وأعنى به المنذور واما أن يكون تطوعا
فإن كان واجبا يقضى إذا قدر على القضاء الا الردة خاصة لأنه إذا فسد التحق بالعدم فصار فائتا معنى فيحتاج إلى
القضاء جبرا للفوات ويقضى بالصوم لأنه فاته مع الصوم فيقضيه مع الصوم غير أن المنذور به إن كان اعتكاف
شهر بعينه يقضى قدر ما فسد لا غير ولا يلزمه الاستقبال كالصوم المنذور به في شهر بعينه إذا أفطر يوما انه يقضى
ذلك اليوم ولا يلزمه الاستئناف كما في صوم رمضان لما ذكرنا في كتاب الصوم وإذا كان اعتكاف شهر بغير عينه
يلزمه الاستقبال لأنه يلزمه متتابعا فيراعى فيه صفة التتابع وسواء فسد بصنعه من غير عذر كالخروج والجماع
والأكل والشرب في النهار الا الردة أو فسد بصنعه لعذر كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج فخرج أو بغير صنعه رأسا
كالحيض والجنون والاغماء الطويل لان القضاء يجب جبرا للفائت والحاجة إلى الجبر متحققة في الأحوال كلها الا
أن سقوط القضاء في الردة عرف بالنص وهو قوله تعالى قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقول النبي
صلى الله عليه وسلم الاسلام يجب ما قبله والقياس في الجنون الطويل ان يسقط القضاء كما في صوم رمضان الا ان في
الاستحسان يقضى لان سقوط القضاء في صوم رمضان إنما كان لدفع الحرج لان الجنون إذا طال قلما يزول
فيتكرر عليه صوم رمضان فيحرج في قضائه وهذا المعنى لا يتحقق في الاعتكاف وأما اعتكاف التطوع إذا
قطعه قبل تمام اليوم فلا شئ عليه في رواية الأصل وفى رواية الحسن يقضى بناء على أن اعتكاف التطوع غير معتد
في رواية محمد عن أبي حنيفة وفى رواية الحسن عنه مقدر بيوم وقد ذكرنا الوجه للروايتين فيما تقدم وأما حكمه إذا
117

فات عن وقته المعين له بان نذر اعتكاف شهر بعينه انه إذا فات بعضه قضاء لا غير ولا يلزمه الاستقبال كما في الصوم
وان فاته كله قضى الكل متتابعا لأنه لما لم يعتكف حتى مضى الوقت صار الاعتكاف دينا في ذمته فصار كأنه أنشأ
النذر باعتكاف شهر بعينه فان قدر عن قضائه فلم يقضه حتى أيس من حياته يجب عليه أن يوصى بالفدية لكل
يوم طعام مسكين لأجل الصوم لا لأجل الاعتكاف كما في قضاء رمضان والصوم المنذور في وقت بعينه وان قدر على
البعض دون البعض فلم يعتكف فكذلك إن كان صحيحا وقت النذر فإن كان مريضا وقت النذر فذهب الوقت
وهو مريض حتى مات فلا شئ عليه وان صح يوما فهو على الاختلاف الذي ذكرناه في الصوم المنذور في وقت بعينه
وإذا نذر اعتكاف شهر بغير بعينه فجميع العمر وقته كما في النذر بالصوم في وقت بغير بعينه وفى أي وقت أدى كان
مؤديا لا قاضيا لان الايجاب حصل مطلقا عن الوقت وإنما يتضيق عليه الوجوب إذا أيس من حياته وعند
ذلك يجب عليه ان يوصى بالفدية كما في قضاء رمضان والصوم المنذور المطلق فإن لم يوص حتى مات سقط عنه في
أحكام الدنيا عندنا حتى لا تؤخذ من تركته ولا يجب على الورثة الفدية الا أن يتبرعوا به وعند الشافعي لا تسقط
وتؤخذ من تركته وتعتبر من جميع المال والمسألة مضت في كتاب الزكاة والله الموفق
* (كتاب الحج) *
الكتاب يشتمل على فصلين فصل في الحج وفصل في العمرة أما فصل الحج فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان فرضية
الحج وفي بيان كيفية فرضه وفي بيان شرائط الفرضية وفي بيان أركان الحج وفي بيان واجباته وفي بيان سننه وفي بيان الترتيب في أفعاله من الفرائض والواجبات والسنن وفي بيان شرائط أركانه وفي بيان ما يفسده وبيان حكمه إذا
فسد وفي بيان ما يفوت الحج بعد الشروع فيه وفي بيان حكمه إذا فات عن عمره أصلا ورأسا أما الأول فالحج فريضة
ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة واجماع الأمة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا في الآية دليل وجوب الحج من وجهين أحدهما أنه قال ولله على الناس حج البيت وعلى كلمة
ايجاب والثاني أنه قال تعالى ومن كفر قيل في التأويل ومن كفر بوجوب الحج حتى روى عن ابن عباس رضي الله عنه
أنه قال أي ومن كفر بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما وقوله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وأذن في الناس
بالحج أي ادع الناس ونادهم إلى حج البيت وقيل أي اعلم الناس ان الله فرض عليهم الحج دليله قوله تعالى يأتوك
رجالا وعلى كل ضامر وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم بنى الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأقام الصلاة
وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وقوله صلى الله عليه وسلم اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم
وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم وروى عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال من مات ولم يحج حجة الاسلام من غير أن يمنعه سلطان جائر أو مرض حابس أو عدو ظاهر فليمت
ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا أو مجوسيا وروى أنه قال من ملك زاد أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فلا
عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وأما الاجماع فلان الأمة أجمعت على فرضيته وأما المعقول فهو ان العبادات
وجبت لحق العبودية أو لحق شكر النعمة إذ كل ذلك لازم في العقول وفى الحج اظهار العبودية وشكر النعمة أما
اظهار العبودية فلان اظهار العبودية هو اظهار التذلل للمعبود وفى الحج ذلك لان الحاج في حال احرامه يظهر
الشعث ويرفض أسباب التزين والارتفاق ويتصور بصورة عبد سخط عليه مولاه فيتعرض بسوء حاله لعطف
مولاه ومرحمته إياه وفى حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه فوقف بين يديه متضرعا حامدا له مثنيا عليه
مستغفرا لزلاته مستقيلا لعثراته وبالطواف حول البيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه بمنزلة عبد معتكف على
باب مولاه لائذ بجنابه وأما شكر النعمة فلان العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية والحج عبادة لا تقوم الا بالبدن
والمال ولهذا لا يجب الا عند وجود المال وصحة البدن فكان فيه شكر النعمتين وشكر النعمة ليس الا استعمالها
118

في طاعة المنعم وشكر النعمة واجب عقلا وشرعا والله أعلم
* (فصل) * وأما كيفية فرضه فمنها انه فرض عين لا فرض كفاية فيجب على كل من استجمع شرائط الوجوب عينا
لا يسقط بإقامة البعض عن الباقين بخلاف الجهاد فإنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لان الايجاب
تناول كل واحد من آحاد الناس عينا والأصل أن الانسان لا يخرج عن عهدة ما عليه الا بأدائه بنفسه الا إذا حصل
المقصود منه بأداء غيره كالجهاد ونحوه وذلك لا يتحقق في الحج ومنها أنه لا يجب في العمر الا مرة واحدة بخلاف
الصلاة والصوم والزكاة فان الصلاة تجب في كل يوم وليلة خمس مرات والزكاة والصوم يجبان في كل سنة مرة
واحدة لان الامر المطلق بالفعل لا يقتضى التكرار لما عرف في أصول الفقه والتكرار في باب الصلاة والزكاة
والصوم ثبت بدليل زائد لا بمطلق الامر ولما روى أنه لما نزلت آية الحج سأل الأقرع بن حابس رضي الله عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل عام أو مرة واحدة فقال عليه الصلاة والسلام
مرة واحدة وفى رواية قال لما نزلت آية الحج ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد فقال للأبد ولأنه عبادة لا تتأدى الا
بكلفة عظيمة ومشقة شديدة بخلاف سائر العبادات فلو وجب في كل عام لأدى إلى الحرج وأنه منفى شرعا ولأنه
إذا لم يمكن أداؤه الا بحرج لا يؤدى فيلحق المأثم والعقاب إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الأقرع
ابن حابس وقال ألعامنا هذا أم للأبد فقال عليه الصلاة والسلام للأبد ولو قلت في كل عام لوجب ولو وجب ثم
تركتم لضللتهم واختلف في وجوبه على الفور والترخى ذكر الكرخي أنه على الفور حتى يأثم بالتأخير عن أول أوقات
الامكان وهي السنة الأولى عند استجماع شرائط الوجوب وذكر أبو سهل الزجاجي الخلاف في المسألة بين أبى
يوسف ومحمد فقال في قول أبى يوسف يجب على الفور وفى قول محمد على التراخي وهو قول الشافعي وروى عن أبي
حنيفة مثل قول أبى يوسف وروى عنه مثل قول محمد وجه قول محمد أن الله تعالى فرض الحج في وقت مطلقا
لان قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا مطلقا عن الوقت ثم بين وقت الحج بقوله عز
وجل الحج أشهر معلومات أي وقت الحج أشهر معلومات فصار المفروض هو الحج في أشهر الحج مطلقا من العمر
فتقييده بالفور تقييد المطلق ولا يجوز الا بدليل وروى أن فتح مكة كان لسنة ثمان من الهجرة وحج رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سنة العشر ولو كان وجوبه على الفور لما احتمل التأخير منه والدليل عليه أنه لو أدى
في السنة الثانية أو الثالثة يكون مؤديا لا قاضيا ولو كان واجبا على الفور وقد فات الفور فقد فات وقته فينبغي أن
يكون قاضيا لا مؤديا كما لو فاتت صلاة الظهر عن وقتها وصوم رمضان عن وقته ولهما أن الامر بالحج في وقته مطلق
يحتمل الفور ويحتمل التراخي والحمل على الفور أحوط لأنه إذا حمل عليه يأتي بالفعل على الفور ظاهرا وغالبا
خوفا من الاثم بالتأخير فان أريد به الفور فقد أتى بما أمر به فأمن الضرر وان أريد به التراخي لا يضره الفعل على
الفور بل ينفعه لمسارعته إلى الخير ولو حمل على التراخي ربما لا يأتي به على الفور بل يؤخر إلى السنة الثانية والثالثة
فتلحقه المضرة ان أريد به الفور وإن كان لا يلحقه ان أريد به التراخي فكان الحمل على الفور حملا على أحوط
الوجهين فكان أولى وهذا قول امام الهدى الشيخ أبى منصور الماتريدي في كل أمر مطلق عن الوقت أنه
يحمل على الفور لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين أن المراد منه الفور أو التراخي بل يعتقد أن ما أراد
الله تعالى به من الفور والتراخي فهو حق وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى
بيت الله الحرام فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا الحق الوعيد بمن أخر الحج عن أول أوقات الامكان
لأنه قال من ملك كذا فلم يحج والفاء للتعقيب بلا فصل أي لم يحج عقيب ملك الزاد والراحلة بلا فصل وأما طريق
عامة المشايخ فان للحج وقتا معينا من السنة يفوت عن تلك السنة بفوات ذلك الوقت فلو أخره عن السنة الأولى وقد
يعيش إلى السنة الثانية وقد لا يعيش فكان التأخير عن السنة الأولى تفويتا له للحال لأنه لا يمكنه الأداء للحال إلى أن
يجئ وقت الحج من السنة الثانية وفى ادراكه السنة الثانية شك فلا يرتفع الفوات الثابت للحال بالشك والتفويت
119

حرام وأما قوله إن الوجوب في الوقت ثبت مطلقا عن الفور فمسلم لكن المطلق يحتمل الفور ويحتمل التراخي والحمل
على الفور أولى لما بينا ويجوز تقييد المطلق عند قيام الدليل وأما تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عن
أول أوقات الامكان فقد قيل إنه كان لعذر له ولا كلام في حال لعذر يدل على أنه لا خلاف في أن التعجيل أفضل
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يترك الأفضل الا لعذر على أن المانع من التأخير هو احتمال الفوات ولم يكن في
تأخيره ذلك فوات لعلمه من طريق الوحي أنه يحج قبل موته قال الله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين والثنيا للتيمن والتبرك أو لما أن الله تعالى خاطب الجماعة وقد علم أن
بعضهم يموت قبل الدخول وأما قوله لو أدى في السنة الثانية كان مؤديا لا قاضيا فإنما كان كذلك لان أثر الوجوب
على الفور عملا في احتمال الاثم بالتأخير عن أول الوقت في الامكان لا في اخراج السنة الثانية والثالثة من أن يكون
وقتا للواجب كما في باب الصلاة وهذا لان وجوب التعجيل إنما كان تحرزا عن الفوات فإذا عاش إلى السنة
الثانية والثالثة فقد زال احتمال الفوات فحصل الأداء في وقته كما في باب الصلاة والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائط فرضيته فنوعان نوع يعم الرجال والنساء ونوع يخص النساء أما الذي يعم الرجال والنساء
فمنها البلوغ ومنها العقل فلا حج على الصبي والمجنون لأنه لا خطاب عليهما فلا يلزمهما الحج حتى لو حجا ثم بلغ
الصبي وأفاق المجنون فعليهما حجة الاسلام وما فعله الصبي قبل البلوغ يكون تطوعا وقد روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال أيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الاسلام ومنها الاسلام في حق أحكام الدنيا بالاجماع
حتى لو حج الكافر ثم أسلم يجب عليه حجة الاسلام ولا يعتد بما حج في حال الكفر وقد روى عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال أيما اعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا هاجر يعنى أنه إذا حج قبل الاسلام
ثم أسلم ولان الحج عبادة والكافر ليس من أهل العبادة وكذا لا حج على الكافر في حق أحكام الآخرة عندنا حتى
لا يؤاخذ بالترك وعند الشافعي ليس بشرط ويجب على الكافر حتى يؤاخذ بتركه في الآخرة وأصل المسألة أن
الكفار لا يخاطبون بشرائع هي عبادات عندنا وعنده يخاطبون بذلك وهذا يعرف في أصول الفقه ولا حجة له
في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا لان المراد منه المؤمنون بدليل سياق الآية وهو
قوله ومن كفر فان الله غنى عن العالمين وبدليل عقلي يشمل الحج وغيره من العبادات وهو أن الحج عبادة والكافر
ليس من أهل أداء العبادة ولا سبيل إلى الايجاب لقدرته على الأداء بتقديم الاسلام لما فيه من جعل المتبوع تبعا
والتبع متبوعا وانه قلب الحقيقة على ما بينا في كتاب الزكاة وتخصيص العام بدليل عقلي جائز ومنها الحرية فلا حج
على المملوك لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيما عبد حج عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا أعتق
ولان الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج بقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
ولا استطاعة بدون ملك الزاد والراحلة لما نذكر إن شاء الله تعالى ولا ملك للعبد لأنه مملوك فلا يكون مالكا
بالاذن فلم يوجد شرط الوجوب وسواء أذن له المولى بالحج أو لا لأنه لا يصير مالكا الا بالاذن فلم يجب الحج عليه
فيكون ما حج في حال الرق تطوعا ولان ما روينا من الحديث لا يفصل بين الاذن وعدم الإذن فلا يقع حجه عن حجة
الاسلام بحال بخلاف الفقير لأنه لا يجب الحج عليه في الابتداء ثم إذا حج بالسؤال من الناس يجوز ذلك عن حجة
الاسلام حتى لو أيسر لا يلزمه حجة أخرى لان الاستطاعة بملك الزاد والراحلة ومنافع البدن شرط الوجوب لان
الحج يقام بالمال والبدن جميعا والعبد لا يملك شيئا من ذلك فلم يجب عليه ابتداء وانتهاء والفقير يملك منافع نفسه إذ
لا ملك لاحد فيها الا أنه ليس له ملك الزاد والراحلة وانه شرط ابتداء الوجوب فامتنع الوجوب في الابتداء فإذا
بلغ مكة وهو يملك منافع بدنه فقد قدر على الحج بالمشي وقليل زاد فوجب عليه الحج فإذا أدى وقع عن حجة
الاسلام فأما العبد فمنافع بدنه ملك مولاه ابتداء وانتهاء ما دام عبدا فلا يكون قادرا على الحج ابتداء وانتهاء فلم
يجب عليه ولهذا قلنا إن الفقير إذا حضر القتال يضرب له بسهم كامل كسائر من فرض عليه القتال وإن كان لا يجب
120

عليه الجهاد ابتداء والعبد إذا شهد الوقعة لا يضرب له بسهم الحر بل يرضخ له وما افترقا الا لما ذكرنا وهذا بخلاف
العبد إذا شهد الجمعة وصلى أنه يقع فرضا وإن كان لا تجب عليه الجمعة في الابتداء لان منافع العبد مملوكة للمولى والعبد
محجور عن التصرف في ملك مولاه نظرا للمولى الا قدر ما استثنى عن ملكه من الصلوات الخمس فإنه مبقى فيها على
أصل الحرية لحكمة الله تعالى في ذلك وليس في ذلك كبير ضرر بالمولى لأنها تتأدى بمنافع البدن في ساعات قليلة
فيكون فيه نفع العبد من غير ضرر بالمولى فإذا حضر الجمعة وفاتت المنافع بسبب السعي فيعد ذلك الظهر والجمعة
سواء فنظر المالك في جواز الجمعة إذ لو لم يجز له ذلك يجب عليه أداء الظهر ثانيا فيزيد الضرر في حق المولى بخلاف
الحج والجهاد فإنهما لا يؤديان الا بالمال والنفس في مدة طويلة وفيه ضرر بالمولى بفوات ماله وتعطيل كثير من منافع
العبد فلم يجعل مبقى على أصل الحرية في حق هاتين العبادتين ولو قلنا بالجواز عن الفرض إذا وجد من العبد يتبادر
العبيد إلى الأداء لكون الحج عبادة مرغوبة وكذا الجهاد فيؤدى إلى الاضرار بالمولى فالشرع حجر عليهم وسد
هذا الباب نظرا بالمولى حتى لا يجب الا بملك الزاد والراحلة وملك منافع البدن ولو أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف
بعرفة فان مضى على احرامه يكون حجه تطوعا عندنا وعند الشافعي يكون عن حجة الاسلام إذا وقف بعرفة
وهو بالغ وهذا بناء على أن من عليه حجة الاسلام إذا نوى النفل يقع عن النفل عندنا وعنده يقع عن الفرض
والمسألة تأتى في موضعها إن شاء الله تعالى ولو جدد الاحرام بأن لبى أو نوى حجة الاسلام ووقف بعرفة وطاف
طواف الزيارة يكون عن حجة الاسلام بلا خلاف وكذا المجنون إذا أفاق والكافر إذا أسلم قبل الوقوف
بعرفة فجدد الاحرام ولو أحرم العبد ثم عتق فأحرم بحجة الاسلام بعد العتق لا يكون ذلك عن حجة الاسلام
بخلاف الصبي والمجنون والكافر والفرق أن احرام الكافر والمجنون لم ينعقد أصلا لعدم الأهلية واحرام الصبي
العاقل وقع صحيحا لكنه غير لازم لكونه غير مخاطب فكان محتملا للانتقاض فإذا جدد الاحرام بحجة الاسلام
انتقض فأما احرام العبد فإنه وقع لازما لكونه أهلا للخطاب فانعقد احرامه تطوعا فلا يصح احرامه الثاني
الا بفسخ الأول وانه لا يحتمل الانفساخ ومنها صحة البدن فلا حج على المريض والزمن والمقعد والمفلوج والشيخ
الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه والمحبوس والممنوع من قبل السلطان الجائر عن الخروج إلى الحج لان
الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج والمراد منها استطاعة التكليف وهي سلامة الأسباب والآلات ومن
جملة الأسباب سلامة البدن عن الآفات المانعة عن القيام بما لابد منه في سفر الحج لان الحج عبادة بدنية فلا بد
من سلامة البدن ولا سلامة مع المانع وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل من استطاع إليه سبيلا ان
السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يحجب ولان القرب والعبادات وجبت بحق الشكر
لما أنعم الله على المكلف فإذا منع السبب الذي هو النعمة وهو سلامة البدن أو المال كيف يكلف بالشكر ولا نعمة
وأما الأعمى فقد ذكر في الأصل عن أبي حنيفة انه لا حج عليه بنفسه وان وجد زاد أو راحلة وقائدا وإنما يجب
في ماله إذا كان له مال وروى الحسن عن أبي حنيفة في الأعمى والمقعد والزمن أن عليهم الحج بأنفسهم وقال
أبو يوسف ومحمد يجب على الأعمى الحج بنفسه إذا وجد زاد أو راحلة ومن يكفيه مؤنة سفره في خدمته ولا يجب
على الزمن والمقعد والمقطوع وجه قولهما ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة فقال
هي الزاد والراحلة فسر صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة وللأعمى هذه الاستطاعة فيجب عليه
الحج ولان الأعمى يجب عليه الحج بنفسه الا انه لا يهتدى إلى الطريق بنفسه ويهتدى بالقائد فيجب عليه بخلاف
الزمن والمقعد ومقطوع اليد والرجل لان هؤلاء لا يقدرون على الأداء بأنفسهم وجه رواية الحسن في الزمن
والمقعد انهما يقدران بغيرهما إن كانا لا يقدران بأنفسهما والقدرة بالغير كافية لوجوب الحج كالقدرة بالزاد
والراحلة وكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة وقد وجد وجه رواية الأصل لأبي حنيفة
ان الأعمى لا يقدر على أداء الحج بنفسه لأنه لا يهتدى إلى الطريق بنفسه ولا يقدر على ما لابد منه في الطريق
121

بنفسه من الركوب والنزول وغير ذلك وكذا الزمن والمقعد فلم يكونا قادرين على الأداء بأنفسهم بل بقدرة غير
مختار والقادر بقدرة غير مختار لا يكون قادرا على الاطلاق لان فعل المختار يتعلق باختياره فلم تثبت الاستطاعة
على الاطلاق ولهذا لم يجب الحج على الشيخ الكبير الذي لا يستمسك على الراحلة وإن كان ثمة غيره يمسكه لما قلنا كذا
هذا وإنما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة لكونهما من الأسباب الموصلة إلى الحج لا لاقتصار
الاستطاعة عليهما ألا ترى انه إذا كان بينه وبين مكة بحر زاخر لا سفينة ثمة أو عدو حائل يحول بينه وبين الوصول
إلى البيت لا يجب عليه الحج مع وجود الزاد والراحة فثبت أن تخصيص الزاد والراحلة ليس لاقتصار الشرط
عليهما بل للتنبيه على أسباب الامكان فكلما كان من أسباب الامكان يدخل تحت تفسير الاستطاعة معنى
ولان في ايجاب الحج على الأعمى والزمن والمقعد والمفلوج والمريض والشيخ الكبير الذي لا يثبت على
الراحلة بأنفسهم حرجا بينا ومشقة شديدة وقد قال الله عز وجل ما جعل عليكم في الدين من حرج ومنها ملك الزاد
والراحلة في حق النائي عن مكة والكلام فيه في موضعين أحدهما في بيان انه من شرائط الوجوب والثاني في تفسير
الزاد والراحلة اما الأول فقد قال عامة العلماء انه شرط فلا يجب الحج بإباحة الزاد والراحلة سواء كانت الإباحة
ممن له منة على المباح له أو كانت ممن لا منة له عليه كالأب وقال الشافعي يجب الحج بإباحة الزاد والراحلة إذا كانت
الإباحة ممن لا منة له على المباح له كالوالد بذل الزاد والراحلة لابنه وله في الأجنبي قولان ولو وهبه انسان مالا يحج
به لا يجب على الموهوب له القبول عندنا وللشافعي فيه قولان وقال مالك الراحلة ليست بشرط لوجوب الحج
أصلا لا ملكا ولا إباحة وملك الزاد شرط حتى لو كان صحيح البدن وهو يقدر على المشي يجب عليه الحج وان لم يكن
له راحلة أما الكلام مع مالك فهو احتج بظاهر قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن
كان صحيح البدن قادرا على المشي وله زاد فقد استطاع إليه سبيلا فليزمه فرض الحج (ولنا) ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة جميعا فلا تثبت الاستطاعة بأحدهما وبه تبين ان القدرة على المشي
لا تكفى لاستطاعة الحج ثم شرط الراحلة إنما يراعى لوجوب الحج في حق من نأى عن مكة فاما أهل مكة ومن حولهم
فان الحج يجب على القوى منهم القادر على المشي من غير راحلة لأنه لا حرج يلحقه في المشي إلى الحج كما لا يلحقه
الحرج في المشي إلى الجمعة وأما الكلام مع الشافعي فوجه قوله إن الاستطاعة المذكورة هي القدرة من حيث
سلامة الأسباب والآلات والقدرة تثبت بالإباحة فلا معنى لاشتراط الملك إذ الملك لا يشترط لعينه بل للقدرة
على استعمال الزاد والراحلة أكلا وركوبا وإذا ثبتت بالإباحة ولهذا استوى الملك والإباحة في باب الطهارة
في المنع من جواز التيمم كذا ههنا (ولنا) ان استطاعة الأسباب والآلات لا تثبت بالإباحة لان الإباحة لا تكون
لازمة الا ترى ان للمبيح أن يمنع المباح له عن التصرف في المباح ومع قيام ولاية المنع لا تثبت القدرة المطلقة فلا
يكون مستطيعا على الاطلاق فلم يوجد شرط الوجوب فلا يجب بخلاف مسألة الطهارة لان شرط جواز التيمم
عدم الماء بقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا والعدم لا يثبت مع البذل والإباحة وأما تفسير الزاد
والراحلة فهو أن يملك من المال مقدار ما يبلغه إلى مكة ذاهبا وجائيا راكبا لا ماشيا بنفقة وسط لا اسراف فيها
ولا تقتير فاضلا عن مسكنه وخادمه وفرسه وسلاحه وثيابه وأثاثه ونفقة عياله وخدمه وكسوتهم وقضاء ديونه
وروى عن أبي يوسف أنه قال ونفقة شهر بعد انصرافه أيضا وروى الحسن عن أبي حنيفة انه فسر الراحلة فقال
إذا كان عنده ما يفضل عما ذكرنا ما يكترى به شق محمل أو زاملة أو رأس راحلة وينفق ذاهبا وجائيا فعليه الحج
وان لم يكفه ذلك الا أن يمشى أو يكترى عقبة فليس عليه الحج ماشيا ولا راكبا عقبة وإنما اعتبرنا الفضل على
ما ذكرنا من الحوائج لأنها من الحوائج اللازمة التي لابد منها فكان المستحق بها ملحقا بالعدم وما ذكره بعض
أصحابنا في تقدير نفقة العيال سنة والبعض شهرا فليس بتقدير لازم بل هو على حسب اختلاف المسافة في القرب
والبعد لان قدر النفقة يختلف باختلاف المسافة فيعتبر في ذلك قدر ما يذهب ويعود إلى منزله وإنما لا يجب
122

عليه الحج إذا لم يكف ماله الا للعقبة لأن المفروض هو الحج راكبا لا ماشيا والراكب عقبة لا يركب في كل الطريق
بل يركب في البعض ويمشي في البعض وذكر ابن شجاع انه إذا كانت له دار لا يسكنها ولا يؤاجرها ومتاع لا يمهنه
وعبد لا يستخدمه وجب عليه أن يبيعه ويحج به وحرم عليه أخذ الزكاة إذا بلغ نصابا لأنه إذا كان كذلك كان
فاضلا عن حاجته كسائر الأموال وكان مستطيعا فيلزمه فرض الحج فان أمكنه بيع منزله وان يشترى بثمنه منزلا
دونه ويحج بالفضل فهو أفضل لكن لا يجب عليه لأنه محتاج إلى سكناه فلا يعتبر في الحاجة قدر ما لابد منه كمالا
يجب عليه بيع المنزل والاقتصار على السكنى وذكر الكرخي ان أبا يوسف قال إذا لم يكن له مسكن ولا خادم
ولا قوت عياله وعنده دراهم تبلغه إلى الحج لا ينبغي أن يجعل ذلك في غير الحج فان فعل أثم لأنه مستطيع لملك
الدراهم فلا يعذر في الترك ولا يتضرر بترك شراء المسكن والخادم بخلاف بيع المسكن والخادم فإنه يتضرر بيعهما
وقوله ولا قوت عياله مؤول وتأويله ولا قوت عياله ما يزيد على مقدار الذهاب والرجوع فاما المقدار المحتاج إليه
من وقت الذهاب إلى وقت الرجوع فذلك مقدم على الحج لما بينا (ومنها) أمن الطريق وانه من شرائط الوجوب
عند بعض أصحابنا بمنزلة الزاد والراحلة وهكذا روى ابن شجاع عن أبي حنيفة وقال بعضهم انه من شرائط الأداء
لا من شرائط الوجوب وفائدة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الوصية إذا خاف الفوت فمن قال إنه من شرائط الأداء
يقول إنه تجب الوصية إذا خاف الفوت ومن قال إنه شرط الوجوب يقول لا تجب الوصية لان الحج لم يجب عليه ولم
يصر دينا في ذمته فلا تلزمه الوصية وجه قول من قال إنه شرط الأداء لا شرط الوجوب ما روينا ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ولم يذكر أمن الطريق وجه قول من قال إنه شرط الوجوب
وهو الصحيح ان الله تعالى شرط الاستطاعة ولا استطاعة بدون أمن الطريق كما لا استطاعة بدون الزاد
والراحلة الا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستطاعة بالزاد والراحلة بيان كفاية ليستدل بالمنصوص عليه على
غيره لاستوائهما في المعنى وهو امكان الوصول إلى البيت الا ترى انه كما لم يذكر أمن الطريق لم يذكر صحة الجوارح
وزوال سائر الموانع الحسية وذلك شرط الوجوب على أن الممنوع عن الوصول إلى البيت لا زاد له ولا راحلة معه
فكان شرط الزاد والراحلة شرطا لامن الطريق ضرورة (وأما) الذي يخص النساء فشرطان أحدهما أن يكون
معها زوجها أو محرم لها فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج وهذا عندنا وعند الشافعي هذا ليس بشرط
ويلزمها الحج والخروج من غير زوج ولا محرم إذا كان معها نساء في الرفقة ثقات واحتج بظاهر قوله تعالى ولله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وخطاب الناس يتناول الذكور والإناث بلا خلاف فإذا كان لها
زاد وراحلة كانت مستطيعة وإذا كان معها نساء ثقات يؤمن الفساد عليها فيلزمها فرض الحج (ولنا) ما روى
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الا لا تحجن امرأة الا ومعها محرم وعن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسافر امرأة ثلاثة أيام الا ومعها محرم أو زوج ولأنها إذا لم يكن معها زوج ولا محرم
لا يؤمن عليها إذ النساء لحم على وضم الا ما ذب عنه ولهذا لا يجوز لها الخروج وحدها والخوف عند اجتماعهن
أكثر ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية وإن كان معها امرأة أخرى والا آية لا تتناول النساء حال عدم الزوج والمحرم
معها لأن المرأة لا تقدر على الركوب والنزول بنفسها فتحتاج إلى من يركبها وينزلها ولا يجوز ذلك لغير الزوج
والمحرم فلم تكن مستطيعة في هذه الحالة فلا يتناولها النص فان امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج لا يجبران على
الخروج ولو امتنع من الخروج لإرادة زاد وراحلة هل يلزمها ذلك ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي انه يلزمها
ذلك ويجب عليها الحج بنفسها وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه لا يلزمها ذلك ولا يجب الحج عليها
وجه ما ذكره القدوري ان المحرم أو الزوج من ضرورات حجها بمنزلة الزاد والراحلة إذ لا يمكنها الحج بدونه كما لا يمكنها
الحج بدون الزاد والراحلة ولا يمكن الزام ذلك الزوج أو المحرم من مال نفسه فيلزمها ذلك له كما يلزمها الزاد والراحلة
لنفسها وجه ما ذكره القاضي ان هذا من شرائط وجوب الحج عليها ولا يجب على الانسان تحصيل شرط
123

الوجوب بل إن وجد الشرط وجب والا فلا الا ترى ان الفقير لا يلزمه تحصيل الزاد والراحلة فيجب عليه الحج ولهذا
قالوا في المرأة التي لا زوج لها ولا محرم انه لا يجب عليها أن تتزوج بمن يحج بها كذا هذا ولو كان معها محرم فلها
أن تخرج مع المحرم في الحجة الفريضة من غير اذن زوجها عندنا وعند الشافعي ليس لها ان تخرج بغير اذن زوجها
وجه قوله إن في الخروج تفويت حقه المستحق عليها وهو الاستمتاع بها فلا تملك ذلك من غير رضاه (ولنا) انها إذا
وجدت محرما فقد استطاعت إلى حج البيت سبيلا لأنها قدرت على الركوب والنزول وأمنت المخاوف لان المحرم
يصونها وأما قوله إن حق الزوج في الاستمتاع يفوت بالخروج إلى الحج فنقول منافعها مستثناة عن ملك الزوج في
الفرائض كما في الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك حتى لو أرادت الخروج إلى حجة التطوع فللزوج أن يمنعها كما
في صلاة التطوع وصوم التطوع وسواء كانت المرأة شابة أو عجوزا انها لا تخرج الا بزوج أو محرم لان ما روينا من
الحديث لا يفصل بين الشابة والعجوز وكذا المعنى لا يوجب الفصل بينهما لما ذكرنا من حاجة المرأة إلى من يركبها
وينزلها بل حاجة العجوز إلى ذلك أشد لأنها أعجز وكذا يخاف عليها من الرجال وكذا لا يؤمن عليها من أن يطلع عليها
الرجال حال ركوبها ونزولها فتحتاج إلى الزوج أو إلى المحرم ليصونها عن ذلك والله أعلم ثم صفة المحرم أن يكون ممن لا
لا يجوز له نكاحها على التأبيد اما بالقرابة أو الرضاع أو الصهرية لان الحرمة المؤيدة تزيل التهمة في الخلوة ولهذا
قالوا إن المحرم إذا لم يكن مأمونا عليه لم يجز لها أن تسافر معه وسواء كان المحرم حرا أو عبدا لان الرق لا ينافي المحرمية
وسواء كان مسلما أو ذميا أو مشركا لان الذمي والمشرك يحفظان محارمهما الا أن يكون مجوسيا لأنه يعتقد إباحة
نكاحها فلا تسافر معه لأنه لا يؤمن عليها كالأجنبي وقالوا في الصبي الذي لم يحتلم والمجنون الذي لم يفق انهما ليسا
بمحرمين في السفر لأنه لا يتأتى منهما حفظها وقالوا في الصبية التي لا يشتهى مثلها انها تسافر بغير محرم لأنه يؤمن
عليها فإذا بلغت حد الشهوة لا تسافر بغير محرم لأنها صارت بحيث لا يؤمن عليها ثم المحرم أو الزوج إنما يشترط إذا
كان بين المرأة وبين مكة ثلاثة أيام فصاعدا فإن كان أقل من ذلك حجت بغير محرم لان المحرم يشترط للسفر وما دون
ثلاثة أيام ليس بسفر فلا يشترط فيه المحرم كما لا يشترط للخروج من محلة إلى محلة ثم الزوج أو المحرم شرط الوجوب أم
شرط الجواز فقد اختلف أصحابنا فيه كما اختلفوا في أمن الطريق والصحيح انه شرط الوجوب لما ذكرنا في أمن
الطريق والله أعلم والثاني أن لا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة لان الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله عز
وجل ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه انه رد المعتدات من ذي
الحليفة وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه ردهن من الجحفة ولان الحج يمكن أداؤه في قت آخر
فاما العدة فإنها إنما يجب قضاؤها في هذا الوقت خاصة فكان الجمع بين الامرين أولى وان لزمتها بعد الخروج إلى السفر
وهي مسافر فإن كان الطلاق رجعيا لا يفارقها زوجها لان الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية والأفضل أن يراجعها
وإن كانت بائنا أو كانت معتدة عن وفاة فإن كان إلى منزلها أقل من مدة سفر والى مكة مدة سفر فإنها تعود إلى منزلها
لأنه ليس فيه انشاء سفر فصار كأنها في بلدها وإن كان إلى مكة أقل من مدة سفر والى منزلها مدة سفر مضت
إلى مكة لأنها لا تحتاج إلى المحرم في أقل من مدة السفر وإن كان من الجانبين أقل من مدة السفر فهي بالخيار ان
شاءت مضت وان شاءت رجعت إلى منزلها فإن كان من الجانبين مدة سفر فإن كانت في المصر فليس لها أن
تخرج حتى تنقضي عدتها في قول أبي حنيفة وان وجدت محرما وعند أبي يوسف ومحمد لها أن تخرج إذا وجدت
محرما وليس لها أن تخرج بلا محرم بلا خلاف وإن كان ذلك في المفازة أو في بعض القرى بحيث لا تأمن على نفسها
ومالها فلها أن تمضي فتدخل موضع الامن ثم لا تخرج منه في قول أبي حنيفة سواء وجدت محرما أو لا وعندهما
تخرج إذا وجدت محرما وهذه من مسائل كتاب الطلاق نذكرها بدلائلها في فصول العدة إن شاء الله تعالى ثم
من لم يجب عليه الحج بنفسه لعذر كالمريض ونحوه وله مال يلزمه أن يحج رجلا عنه ويجزئه عن حجة الاسلام إذا
وجد شرائط جواز الاحجاج على ما نذكره ولو تكلف واحد ممن له عذر فحج بنفسه أجزأه عن حجة الاسلام إذا كان
124

عاقلا بالغا حرا لأنه من أهل الفرض الا انه لم يجب عليه لأنه لا يمكنه الوصول الا مكة الا بحرج فإذا تحمل الحرج وقع
موقعه كالفقير إذا حج والعبد إذا حضر الجمعة فاداها ولأنه إذا وصل إلى مكة صار كاهل مكة فيلزمه الحج بخلاف العبد
والصبي والمجنون فان العبد والصبي ليسا من أهل فرض الحج والمجنون ليس من أهل العبادة أصلا والله أعلم ثم ما
ذكرنا من الشرائط لوجوب الحج من الزاد والراحلة وغير ذلك يعتبر وجودها وقت خروج أهل بلده حتى لو ملك الزاد
والراحلة في أول السنة قبل أشهر الحج وقبل أن يخرج أهل بلده إلى مكة فهو في سعة من صرف ذلك إلى حيث أحب
لأنه لا يلزمه التأهب للحج قبل خروج أهل بلده لأنه لم يجب عليه الحج قبله ومن لا حج عليه لا يلزمه التأهب
للحج فكان بسبيل من التصرف في ماله كيف شاء وإذا صرف ماله ثم خرج أهل بلده لا يجب عليه الحج فاما إذا جاء
وقت الخروج والمال في يده فليس له أن يصرفه إلى غيره على قول من يقول بالوجوب على الفور لأنه إذا جاء وقت
خروج أهل بلده فقد وجب عليه الحج لوجود الاستطاعة فيلزمه التأهب للحج فلا يجوز له صرفه إلى غيره كالمسافر
إذا كان معه ماء للطهارة وقد قرب الوقت لا يجوز له استهلاكه في غير الطهارة فان صرفه إلى غير الحج اثم وعليه
الحج والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما ركن الحج فشيئان أحدهما الوقوف بعرفة وهو الركن الأصلي للحج والثاني طواف الزيارة أما
الوقوف بعرفة فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان انه ركن وفي بيان مكانه وفي بيان زمانه وفي بيان مقداره وفي بيان
سننه وفي بيان حكمه إذا فات عن وقته أما الأول فالدليل عليه قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم الحج بقوله الحج عرفة أي الحج الوقوف بعرفة إذ الحج فعل وعرفة مكان فلا
يكون حجا فكان الوقوف مضمرا فيه فكان تقديره الحج الوقوف بعرفة والمجمل إذا التحق به التفسير يصير مفسرا
من الأصل فيصير كأنه تعالى قال ولله على الناس حج البيت والحج الوقوف بعرفة فظاهره يقتضى أن يكون هو
الركن لا غير الا انه زيد عليه طواف الزيارة بدليل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق التفسير من وقف
بعرفة فقد تم حجه جعل الوقوف بعرفة اسما للحج فدل انه ركن فان قيل هذا يدل على أن الوقوف بعرفة
واجب وليس بفرض فضلا عن أن يكون ركنا لأنه علق تمام الحج به والواجب هو الذي يتعلق بوجوده التمام
لا الفرض فالجواب ان المراد من قوله فقد تم حجه ليس هو التمام الذي هو ضد النقصان بل خروجه عن احتمال
الفساد فقوله فقد تم حجه أي خرج من أن يكون محتملا للفساد بعد ذلك لوجود المفسد حتى لو جامع بعد ذلك لا يفسد
حجه لكن تلزمه الفدية على ما نذكر إن شاء الله تعالى وهذا لان الله تعالى فرض الحج بقوله ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الحج بالوقوف بعرفة فصار الوقوف بعرفة فرضا وهو ركن
فلو حمل التمام المذكور في الحديث على التمام الذي هو ضد النقصان لم يكن فرضا لأنه يوجد الحج بدونه فيتناقض
فحمل التمام المذكور على خروجه عن احتمال الفساد عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض وقوله عز وجل ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس قيل إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون نحن أهل حرم الله لا نفيض
كغيرنا ممن قصدنا فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة يأمرهم بالوقوف بعرفات والإفاضة من حيث أفاض الناس
والناس كانوا يفيضون من عرفات وإفاضتهم منها لا تكون الا بعد حصولهم فيها فكان الامر بالإفاضة منها أمرا
بالوقوف بها ضرورة وروى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت كانت قريش ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة ولا
يقفون بعرفات فأنزل الله عز وجل قوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وكذا الأمة أجمعت على كون الوقوف
ركنا في الحج وأما مكان الوقوف فعرفات كلها موقف لقول النبي صلى الله عليه وسلم عرفات كلها موقف الا بطن
عرفة ولما روينا من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه مطلقا من غير
تعيين موضع دون موضع الا انه لا ينبغي أن يقف في بطن عرفة لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وأخبر انه
وادى الشيطان وأما زمانه فزمان الوقوف من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم
125

النحر حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه وعدم وقوفه سواء لأنه فرض مؤقت فلا يتأدى في غير وقته
كسائر الفرائض المؤقتة الا في حال الضرورة وهي حال الاشتباه استحسانا على ما نذكره إن شاء الله تعالى وكذا
الوقوف قبل الزوال لم يجز ما لم يقف بعد الزوال وكذا من لم يدرك عرفة بنهار ولا بليل فقد فاته الحج والأصل فيه
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة بعد الزوال وقال خذوا عنى مناسككم فكان بيانا لأول الوقت وقال
صلى الله عليه وسلم من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج وهذا بيان آخر الوقت فدل
أن الوقت يبقى ببقاء الليل ويفوت بفواته وهذا الذي ذكرنا قول عامة العلماء وقال مالك وقت الوقوف هو الليل فمن
لم يقف في جزء من الليل لم يجز وقوفه واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أدرك عرفة بليل فقد
أدرك الحج علق ادراك الحج بادراك عرفة بليل فدل ان الوقوف بجزء من الليل هو وقت الركن ولنا ما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من وقف معنا هذا الموقف وصلى معنا هذه الصلاة وكان وقف قبل ذلك بعرفة
ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تمام الحج بالوقوف ساعة من ليل
أو نهار فدل ان ذلك هو وقت الوقوف غير عين وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من وقف بعرفة فقد تم
حجه مطلقا عن الزمان الا أن زمان ما قبل الزوال وبعد انفجار الصبح من يوم النحر ليس بمراد بدليل فبقي ما بعد
الزول إلى أنفجار الصبح مرادا ولان هذا نوع نسك فلا يختص بالليل كسائر أنواع المناسك ولا حجة له في الحديث
لان فيه من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج وليس فيه ان من لم يدركها بليل ماذا حكمه فكان متعلقا بالمسكوت فلا
يصح ولو اشتبه على الناس هلال ذي الحجة فوقفوا بعرفة بعد ان أكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوما ثم شهد الشهود
انهم رأوا الهلال يوم كذا وتبين ان ذلك اليوم كان يوم النحر فوقوفهم صحيح وحجتهم تامة استحسانا والقياس أن لا
يصح وجه القياس انهم وقفوا في غير وقت الوقوف فلا يجوز كما لو تبين انهم وقفوا يوم التروية وأي فرق بين التقديم
والتأخير والاستحسان ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم
تضحون وعرفتكم يوم تعرفون وروى وحجكم يوم تحجون فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وقت الوقوف أو
الحج وقت تقف أو تحج فيه الناس والمعنى فيه من وجهين أحدهما ما قال بعض مشايخنا ان هذه شهادة قامت على
النفي وهي نفى جواز الحج والشهادة على النفي باطلة والثاني ان شهادتهم جائزة مقبولة لكن وقوفهم جائز أيضا لان
هذا النوع من الاشتباه مما يغلب ولا يمكن التحرز عنه فلو لم نحكم بالجواز لوقع الناس في الحرج بخلاف ما إذا تبين
ان ذلك اليوم كان يوم التروية لان ذلك نادر غاية الندرة فكان ملحقا بالعدم ولأنهم بهذا التأخير بنوا على دليل
ظاهر واجب العمل به وهو وجوب اكمال العدة إذا كان بالسماء علة فعذروا في الخطأ بخلاف التقديم فإنه خطأ غير مبنى
على دليل رأسا فلم يعذروا فيه نظيره إذا اشتبهت القبلة فتحرى وصلى إلى جهة ثم تبين أنه أخطأ جهة القبلة جازت
صلاته ولو لم يتحر وصلى ثم تبين انه أخطأ لم يجز لما قلنا كذا هذا وهل يجوز وقوف الشهود روى هشام عن محمد انه يجوز
وقوفهم وحبهم أيضا وقد قال محمد إذا شهد عند الامام شاهدان عشية يوم عرفة برؤية الهلال فإن كان الامام
لم يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة ووقف من الغد بعد الزوال لأنهم وان
شهدوا عشية عرفة لكن لما تعذر على الجماعة الوقوف في الوقت وهو ما بقي من الليل صاروا كأنهم شهدوا
بعد الوقت فإن كان الامام يمكنه الوقوف قبل طلوع الفجر مع الناس أو أكثرهم بأن كان يدرك الوقوف عامة
الناس الا انه لا يدركه ضعفة الناس جاز وقوف فإن لم يقف فات حجة لأنه ترك الوقوف في وقته مع علمه به
والقدرة عليه قال محمد فان اشتبه على الناس فوقف الامام والناس يوم النحر وقد كان من رأى الهلال وقف
يوم عرفة لم يجزه وقوفه وكان عليه أن يعيد الوقوف مع الامام لان يوم النحر صار يوم الحج في حق
الجماعة ووقت الوقوف لا يجوز ان يختلف فلا يعتد بما فعله بانفراده وكذا إذا أخر الامام الوقوف لمعنى يسوغ
فيه الاجتهاد لم يجز وقوف من وقف قبله فان شهد شاهدان عند الامام بهلال ذي الحجة فرد شهادتهما لأنه
126

لا علة بالسماء فوقف بشهادتهما قوم قبل الامام لم يجز وقوفهم لان الامام أخر الوقوف بسبب يجوز العمل عليه
في الشرع فصار كما لو أخر بالاشتباه والله تعالى أعلم واما قدره فنبين القدر المفروض والواجب أما القدر المفروض
من الوقوف فهو كينونته بعرفة في ساعة من هذا الوقت فمتى حصل اتيانها في ساعة من هذا الوقت تأدى فرض
الوقوف سواء كان عالما بها أو جاهلا نائما أو يقظان مفيقا أو مغمى عليه وقف بها أو مر وهو يمشى أو على الدابة
أو محمولا لأنه أتى بالقدر المفروض وهو حصوله كائنا بها والأصل فيه ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
من وقف بعرفة فقد تم حجه والمشي والسير لا يخلو عن وقفة وسواء نوى الوقوف عند الوقوف أو لم ينو بخلاف
الطواف وسنذكر الفرق في فصل الطواف إن شاء الله وسواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء لأن الطهارة ليست
بشرط لجواز الوقوف لان حديث الوقوف مطلق عن شرط الطهارة ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت افعلى ما يفعله الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت ولأنه نسك غير متعلق بالبيت
فلا تشترط له الطهارة كرمي الجمار وسواء كان قد صلى الصلاتين أو لم يصل لاطلاق الحديث ولان الصلاتين وهما
الظهر والعصر لا تعلق لهما بالوقوف فلا يكون تركهما مانعا من الوقوف والله أعلم وأما القدر الواجب من الوقوف
فمن حين تزول الشمس إلى أن تغرب فهذا القدر من الوقوف واجب عندنا وعند الشافعي ليس بواجب بل هو
سنة بناء على أنه لا فرق عنده بين الفرض والواجب فإذا لم يكن فرضا لم يكن واجبا ونحن نفرق بين الفرض والواجب
كفرق ما بين السماء والأرض وهو أن الفرض اسم لما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به والواجب اسم لما ثبت
وجوبه بدليل فيه شبهة العدم على ما عرف في أصول الفقه وأصل الوقوف ثبت بدليل مقطوع به وهو النص
المفسر من الكتاب والسنة المتواترة المشهورة والاجماع على ما ذكرنا فاما الوقوف إلى جزء من الليل فلم يقم عليه
دليل قاطع بل مع شبهة العدم أعني خبر الواحد وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أدرك عرفة
بليل فقد أدرك الحج أو غير ذلك من الآحاد التي لا تثبت بمثلها الفرائض فضلا عن الأركان وإذا عرف أن الوقوف
من حين زوال الشمس إلى غروبها واجب فان دفع منها قبل غروب الشمس فان جاوز عرفة بعد الغروب فلا شئ
عليه لأنه ما ترك الواجب وان جاوزها قبل الغروب فعليه دم عندنا لتركه الواجب فيجب عليه الدم كما لو ترك غيره
من الواجبات وعند الشافعي لا دم عليه لأنه لم يترك الواجب إذ الوقوف المقدر ليس بواجب عنده ولو عاد إلى
عرفة قبل غروب الشمس وقبل إن يدفع الامام ثم دفع منها بعد الغروب مع الامام سقط عنه الدم عندنا لأنه
استدرك المتروك وعند زفر لا يسقط وهو على الاختلاف في مجاوزة الميقات بغير احرام والكلام فيه على نحو
الكلام في تلك المسألة وسنذكرها إن شاء الله في موضعها وان عاد قبل غروب الشمس بعدما خرج الامام من
عرفة ذكر الكرخي أنه يسقط عنه الدم أيضا وكذا روى ابن شجاع عن أبي حنيفة ان الدم يسقط عنه أيضا لأنه
استدرك المتروك إذ المتروك هو الدفع بعد الغروب وقد استدركه وذكر في الأصل انه لا يسقط عنه الدم قال
مشايخنا اختلاف الرواية لمكان الاختلاف فيما لأجله يجب الدم فعلى رواية الأصل الدم يجب لأجل دفعه قبل
الامام ولم يستدرك ذلك وعلى رواية ابن شجاع يجب لأجل دفعه قبل غروب الشمس وقد استدركه بالعود
والقدوري اعتمد على هذه الرواية وقال هي الصحيحة والمذكور في الأصل مضطرب ولو عاد إلى عرفة بعد الغروب
لا يسقط عنه الدم بلا خلاف لأنه لما غربت الشمس عليه قبل العود فقد تقرر عليه الدم الواجب فلا يحتمل
السقوط بالعود والله الموفق وأما بيان حكمه إذا فات فحكمه انه يفوت الحج في تلك السنة ولا يمكن استدراكه فيها
لان ركن الشئ ذاته وبقاء الشئ مع فوات ذاته محال
* (فصل) * وأما طواف الزيارة فالكلام فيه في مواضع في بيان أنه ركن وفي بيان ركنه وفي بيان شرائطه وواجباته
وسننه وفي بيان مكانه وفي بيان زمانه وفي بيان مقداره وفي بيان حكمه إذا فات عن أيام النحر اما الأول فالدليل على أن
ه ركن قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق والمراد منه طواف الزيارة بالاجماع ولأنه تعالى أمر الكل بالطواف
127

فيقتضى الوجوب على الكل وطواف اللقاء لا يجب أصلا وطواف الصدر لا يجب على الكل لأنه لا يجب على
أهل مكة فيتعين طواف الزيارة مرادا بالآية وقوله تعالى ولله على الناس حج البيت والحج في اللغة هو القصد
وفى عرف الشرع هو زيارة البيت والزيارة هي القصد إلى الشئ للتقرب قال الشاعر
ألم تعلمي يا أم سعد بأنما * تخاطانى ريب الزمان لا كثرا
واشهد من عوف حلولا كثيرة * يحجون بيت الزبر قان المزعفرا
وقوله يحجون أي يقصدون ذلك البيت للتقرب فكان حج البيت هو القصد إليه للتقرب به وإنما يقصد البيت
للتقرب بالطواف به فكان الطواف به ركنا والمراد به طواف الزيارة لما بينا ولهذا يسمى في عرف الشرع طواف
الركن فكان ركنا وكذا الأمة أجمعت على كونه ركنا ويجب على أهل الحرم وغيرهم لعموم قوله تعالى وليطوفوا
بالبيت العتيق وقوله عز وجل ولله على الناس حج البيت
* (فصل) * وأما ركنه فحصوله كائنا حول البيت سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره وسواء كان عاجزا عن الطواف
بنفسه فطاف به غيره بأمره أو بغير أمره أو كان قادرا على الطواف بنفسه فحمله غيره بأمره أو بغير أمره غير أنه إن كان
عاجزا أجزأه ولا شئ عليه وإن كان قادرا أجزأه ولكن يلزمه الدم اما الجواز فلان الفرض حصوله كائنا حول البيت
وقد حصل واما لزوم الدم فلتركه الواجب وهو المشي بنفسه مع القدرة عليه فدخله نقص فيجب جبره بالدم كما إذا
طاف راكبا أو زحفا وهو قادر على المشي وإذا كان عاجزا عن المشي لا يلزمه شئ لأنه لم يترك الواجب إذ لا وجوب
مع العجز ويجوز ذلك عن الحامل والمحمول جميعا لما ذكرنا أن الفرض حصوله كائنا حول البيت وقد حصل كل
واحد منهما كائنا حول البيت غير أن أحدهما حصل كائنا بفعل نفسه والآخر بفعل غيره فان قيل إن مشى
الحامل فعل والفعل الواحد كيف يقع عن شخصين فالجواب من وجهين أحدهما أن المفروض ليس هو الفعل في
الباب بل حصول الشخص حول البيت بمنزلة الوقوف بعرفة ان المفروض منه حصوله كائنا بعرفة لا فعل
الوقوف على ما بينا فيما تقدم والثاني أن مشى الواحد جاز ان يقع عن اثنين في باب الحج كالبعير الواحد إذا ركبه
اثنان فطافا عليه وكذا يجوز في الشرع ان يجعل فعل واحد حقيقة كفعلين معنى كالأب والوصي إذا باع مال نفسه
من الصغير أو اشترى مال الصغير لنفسه ونحو ذلك كذا ههنا
* (فصل) * وأما شرطه وواجباته فشرطه النية وهو أصل النية دون التعيين حتى لو لم ينو أصلا بان طاف هاربا من
سبع أو طالبا لغريم لم يجز فرق أصحابنا بين الطواف وبين الوقوف أن الوقوف يصح من غير نية الوقوف عند
الوقوف والطواف لا يصح من غير نية الطواف عند الطواف كذا ذكره القدوري في شرحه مختصر الكرخي
وأشار القاضي في شرحه مختصر الطحاوي إلى أن نية الطواف عند الطواف ليست بشرط أصلا وان نية الحج عند
الاحرام كافية ولا يحتاج إلى نية مفردة كما في سائر أفعال الحج وكما في أفعال الصلاة ووجه الفرق على ما ذكره
القدوري أن الوقوف ركن يقع في حال قيام نفس الاحرام لانعدام ما يضاده فلا يحتاج إلى نية مفردة بل تكفيه
النية السابقة وهي نية الحج كالركوع والسجود في باب الصلاة لأنه لا يحتاج إلى افرادهما بالنية لاشتمال نية
الصلاة عليهما كذا الوقوف فاما الطواف فلا يؤتى به في حال قيام نفس الاحرام لوجود ما يضاده لأنه تحليل لأنه
يقع به التحليل ولا احرام حال وجود التحليل لان الشئ حال وجوده موجود ووجوده يمنع الاحرام من الوجود فلا
تشتمل عليه نية الحج فتقع الحاجة إلى الافراد بالنية كالتسليم في باب الصلاة إذ التسليم تحليل أو نقول إن الوقوف
يوجد في حال قيام الاحرام المطلق لبقائه في حق جميع الأحكام فيتناوله نية الحج فلا يحتاج إلى نية على حدة ولا
كذلك الطواف فإنه يوجد حال زوال الاحرام من وجه لوقوع التحلل قبله من وجه بالحلق أو التقصير الا ترى انه يحل
له كل شئ الا النساء فوقعت الحاجة إلى نية على حدة فاما تعيين النية حال وجوده في وقته فلا حاجة إليه حتى لو نفر
في النفر الأول فطاف وهو لا يعين طوافا يقع عن طواف الزيارة لا عن الصدر لان أيام النحر متعينة لطواف الزيارة
128

فلا حاجة إلى تعيين النية كما لو صام رمضان بمطلق النية انه يقع عن رمضان لكون الوقت متعينا لصومه كذا هذا
وكذا لو نوى تطوعا يقع عن طواف الزيارة كما لو صام رمضان بنية التطوع وكذلك كل طواف واجب أو سنة يقع في
وقته من طواف اللقاء وطواف الصدر فإنما يقع عما يستحقه الوقت وهو الذي انعقد عليه الاحرام دون غيره سواء
عين ذلك بالنية أو لم يعين فيقع عن الأول وان نوى الثاني لا يعمل بنيته في تقديمه على الأول حتى أن المحرم
إذا قدم مكة وطاف لا يعين شيئا أو نوى التطوع فإن كان محرما بعمرة يقع طوافه للعمرة وإن كان محرما بحجة يقع
طوافه للقدوم لان عقد الاحرام انعقد عليه وكذلك القارن إذا طاف لا يعين شيئا أو نوى التطوع كان ذلك للعمرة
فان طاف طوافا آخر قبل أن يسعى لا يعين شيئا أو نوى تطوعا كان ذلك للحج والله أعلم فاما الطهارة عن الحدث
والجنابة والحيض والنفاس فليست بشرط لجواز الطواف وليست بفرض عندنا بل واجبة حتى يجوز الطواف
بدونها وعند الشافعي فرض لا يصح الطواف بدونها واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
الطواف صلاة الا أن الله تعالى أباح فيه الكلام وإذا كان صلاة فالصلاة لا جواز لها بدون الطهارة ولنا
قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق أمر بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب
بخبر الواحد فيحمل على التشبيه كما في قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم أي كأمهاتهم ومعناه الطواف كالصلاة اما في
الثواب أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة لان كلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه
عملا بالكتاب والسنة أو نقول الطواف يشبه الصلاة وليس بصلاة حقيقة فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة
لا تفترض له الطهارة ومن حيث إنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة عملا بالدليلين بالقدر الممكن وإن كانت الطهارة من
واجبات الطواف فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإعادة لان الإعادة جبر له بجنسه وجبر الشئ
بجنسه أولى لان معنى الجبر وهو التلافي فيه أتم ثم إن أعاد في أيام النحر فلا شئ عليه وان أخره عنها فعليه دم في قول
أبي حنيفة والمسألة تأتى إن شاء الله تعالى في موضعها وان لم يعد ورجع إلى أهله فعليه الدم غير أنه إن كان محدثا فعليه
شاة وإن كان جنبا فعليه بدنة لان الحدث يوجب نقصانا يسيرا فتكفيه الشاة لجبره كما لو ترك شوطا فاما الجنابة فإنها
توجب نقصانا متفاحشا لأنها أكبر الحدثين فيجب لها أعظم الجابرين وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال
البدنة تجب في الحج في موضعين أحدهما إذا طاف جنبا والثاني إذا جامع بعد الوقوف وإذا لم تكن الطهارة من
شرائط الجواز فإذا طاف وهو محدث أو جنب وقع موقعه حتى لو جامع بعده لا يلزمه شئ لان الوطئ لم يصادف
الاحرام لحصول التحلل بالطواف هذا إذا طاف بعد أن حلق أو قصر ثم جامع فاما إذا طاف ولم يكن حلق ولا قصر ثم
جامع فعليه دم لأنه إذا لم يحلق ولم يقصر فالاحرام باق والوطئ إذا صادف الاحرام يوجب الكفارة الا انه يلزمه
الشاة لا البدنة لان الركن صار مؤدى فارتفعت الحرمة المطلقة فلم يبق الوطئ جنابة محضة بل خف معنى الجنابة
فيه فيكفيه أخف الجابرين فاما الطهارة عن النجس فليست من شرائط الجواز بالاجماع فلا يفترض تحصيلها ولا
تجب أيضا لكنه سنة حتى لو طاف وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم جاز ولا يلزمه شئ الا انه يكره واما ستر
العورة فهو مثل الطهارة عن الحدث والجنابة أي انه ليس بشرط الجواز وليس بفرض لكنه واجب عندنا حتى
لو طاف عريانا فعليه الإعادة ما دام بمكة فان رجع إلى أهله فعليه الدم وعند الشافعي شرط الجواز كالطهارة عن
الحدث والجنابة وحجته ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الطواف صلاة الا ان الله أباح فيه الكلام
وستر العورة من شرائط جواز الصلاة وحجتنا قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق أمر بالطواف مطلقا عن شرط
الستر فيجرى على اطلاقه والجواب عن تعلقه بالحديث على نحو ما ذكرنا في الطهارة والفرق بين ستر العورة وبين
الطهارة عن النجاسة ان المنع من الطواف مع الثوب النجس ليس لأجل الطواف بل لأجل المسجد وهو صيانته عن
ادخال النجاسة فيه وصيانته عن تلويثه فلا يوجب ذلك نقصانا في الطواف فلا حاجة إلى الجبر فاما المنع من الطواف
عريانا فلأجل الطواف لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف عريانا بقوله صلى الله عليه وسلم الا لا يطوفن بعد
129

عامي هذا مشرك ولا عريان وإذا كان النهى لمكان الطواف تمكن فيه النقص فيجب جبره بالدم لكن بالشاة لا بالبدنة
لان النقص فيه كالنقص بالحدث لا كالنقص بالجنابة قال محمد ومن طاف تطوعا على شئ من هذه الوجوه فأحب
الينا إن كان بمكة أن يعيد الطواف وإن كان قد رجع إلى أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف وعلى ثوبه نجاسة لان
التطوع يصير واجبا بالشروع فيه الا انه دون الواجب ابتداء بايجاب الله تعالى فكان النقص فيه أقل فيجبر بالصدقة
ومحاذاة المرأة الرجل في الطواف لا تفسد عليه طوافه لان المحاذاة إنما عرفت مفسدة في الشرع على خلاف القياس
في صلاة مطلقة مشتركة والطواف ليس بصلاة حقيقة ولا اشتراك أيضا والموالاة في الطواف ليست بشرط حتى
لو خرج الطائف من طوافه لصلاة جنارة أو مكتوبة أو لتجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه ولا يلزمه الاستئناف لقوله
تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق مطلقا عن شرط الموالاة وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه خرج
من الطواف ودخل السقاية فاستسقى فسقى فشرب ثم عاد وبنى على طوافه والله تعالى أعلم ومن واجبات الطواف
أن يطوف ماشيا لا راكبا الا من عذر حتى لو طاف راكبا من غير عذر فعليه الإعادة ما دام بمكة وان عاد إلى أهله
يلزمه الدم وهذا عندنا وعند الشافعي ليس بواجب فإذا طاف راكبا من غير عذر لا شئ عليه واحتج بما روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم انه طاف راكبا ولنا قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق والراكب ليس بطائف حقيقة
فأوجب ذلك نقصا فيه فوجب جبره بالدم واما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى أن ذلك كان لعذر كذا روى
عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ان ذلك كان بعد ما أسن وبدن ويحتمل انه فعل ذلك لعذر آخر وهو التعليم
كذا روى عن جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس فيسألوه ويتعلموا منه وهذا
عذر وعلى هذا أيضا يخرج ما إذا طاف زحفا انه إن كان عاجزا عن المشي أجزأه ولا شئ عليه لان التكليف بقدر
الوسع وإن كان قادرا عليه الإعادة إن كان بمكة والدم إن كان رجع إلى أهله لان الطواف مشيا واجب عليه ولو
أوجب على نفسه أن يطوف بالبيت زحفا وهو قادر على المشي عليه أن يطوف ماشيا لأنه نذر وايقاع العبادة
على وجه غير مشروع فلغت الجهة وبقى النذر بأصل العبادة كما إذا نذر أن يطوف للحج على غير طهارة فان طاف
زحفا أعاد إن كان بمكة وان رجع إلى أهله فعليه دم لأنه ترك الواجب كذا ذكر في الأصل وذكر القاضي في شرحه
مختصر الطحاوي انه إذا طاف زحفا أجزأه لأنه أدى ما أوجب على نفسه فيجزئه كمن نذر أن يصلى ركعتين في
الأرض المغصوبة أو يصوم يوم النحر انه يجب عليه أن يصلى في موضع آخر ويصوم يوما آخر ولو صلى في الأرض
المغصوبة وصام يوم النحر أجزأه وخرج عن عهدة النذر كذا هذا وعلى هذا أيضا يخرج ما إذا طاف محمولا انه إن كان
لعذر جاز ولا شئ عليه وإن كان لغير عذر جاز ويلزمه الدم لان الطواف ماشيا واجب عند القدرة على
المشي وترك الواجب من غير عذر يوجب الدم فاما الابتداء من الحجر الأسود فليس بشرط من شرائط جوازه بل
هو سنة في ظاهر الرواية حتى لو افتتح من غير عذر أجزأه مع الكراهة لقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق مطلقا
عن شرط الابتداء بالحجر الأسود الا انه لو لم يبدأ يكره لأنه ترك السنة وذكر محمد رحمه الله في الرقيات إذا افتتح
الطواف من غير الحجر لم يعتد بذلك الشوط الا أن يصير إلى الحجر فيبدأ منه الطواف فهذا يدل على أن الافتتاح
منه شرط الجواز وبه أخذ الشافعي والدليل على أن الافتتاح من الحجر اما على وجه السنة أو القرض ما روى أن
إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما انتهى في البناء إلى مكان الحجر قال لإسماعيل عليه الصلاة والسلام ائتني بحجر
أجعله علامة لابتداء الطواف فخرج وجاء بحجر فقال ائتني بغيره فأتاه بحجر آخر فقال ائتني بغيره فأتاه بثالث فألقاه
وقال جانى بحجر من أغناني عن حجرك فرأى الحجر الأسود في موضعه واما الابتداء من يمين الحجر لا من
يساره فليس من شرائط الجواز بلا خلاف بين أصحابنا حتى يجوز الطواف منكوسا بان افتتح الطواف عن يسار
الحجر ويعتد به وعند الشافعي هو من شرائط الجواز لا يجوز بدونه واحتج بما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم افتتح الطواف من يمين الحجر لا من يساره وذلك تعليم منه صلى الله عليه وسلم مناسك الحج وقد قال عليه
130

الصلاة والسلام خذوا عنى مناسككم فتجب البداية بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم ولنا قوله تعالى وليطوفوا
بالبيت العتيق مطلقا من غير شرط البداية باليمين أو باليسار وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على
الوجوب وبه نقول إنه واجب كذا ذكره الامام القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه تجب عليه الإعادة ما دام
بمكة وان رجع إلى أهله يجب عليه الدم وكذا ذكر في الأصل ووجهه انه ترك الواجب وهو قادر على استدراكه بجنسه
فيجب عليه ذلك تلافيا للتقصير بأبلغ الوجوه وإذا رجع إلى أهله فقد عجز عن استدراكه الفائت بجنسه فيستدره
بخلاف جنسه جبرا للفائت بالقدر الممكن على ما هو الأصل في ضمان الفوائت في الشرع وذكر القدوري في شرحه
مختصر الكرخي ما يدل على أنه سنة فإنه قال أجزأه الطواف ويكره وهذا امارة السنة واما سننه فنذكرها عند بيان
سنن الحج ولا رمل في هذا الطواف إذا كان الطواف طواف اللقاء وسعى عقيبه وإن كان لم يطف طواف اللقاء أو
كان قد طاف لكنه لم يسع عقيبه فإنه يرمل في طواف الزيارة والأصل فيه ان الرمل سنة طواف عقيبه سعى وكل
طواف يكون بعده سعى يكون فيه رمل والا فلا لما نذكر إن شاء الله عند بيان سنن الحج والترتيب بين أفعاله ويكره
لنشاد الشعر والتحدث في الطواف لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الطواف بالبيت صلاة فاقلوا فيه
الكلام وروى أنه قال صلى الله عليه وسلم فمن نطق فيه فلا ينطق الا بخير ولان ذلك يشغله عن الدعاء ويكره أن يرفع
صوته بالقرآن لأنه يتأذى به غيره لما يشغله ذلك عن الدعاء ولا بأس بأن يقرأ القرآن في نفسه وقال مالك يكره وانه
غير سديد لان قراءة القرآن مندوب إليها في جميع الأحوال الا في حال الجنابة والحيض ولم يوجد ومن المشايخ من
قال التسبيح أولى لان محمدا رحمه الله ذكر لفظة لا بأس وهذه اللفظة إنما تستعمل في الرخص ولا بأس أن يطوف
وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرتين لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه طاف مع نعليه ولأنه تجوز
الصلاة مع الخفين والنعلين مع أن حكم الصلاة أضيق فلان يجوز الطواف أولى ولا يرمل في هذا الطواف إذا كان
طاف طواف اللقاء وسعى عقيبه وإن كان لم يطف طواف اللقاء أو كان قد طاف لكنه لم يسع عقيبه فإنه يرمل في
طواف الزيارة والأصل فيه ان الرمل سنة طواف عقيبه سعى فكل طواف بعد سعى يكون فيه رمل والا فلا
لما نذكر عند بيان سنن الحج والترتيب في أفعاله إن شاء الله تعالى واما سننه فنذكرها عند بيان سنن الحج إن شاء الله
تعالى
* (فصل) * واما مكان الطواف فمكانه حول البيت لقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق والطواف بالبيت هو
الطواف حوله فيجوز الطواف في المسجد الحرام قريبا من البيت أو بعيدا عنه بعد أن يكون في المسجد حتى لو طاف
من وراء زمزم قريبا من حائط المسجد أجزأه لوجود الطواف بالبيت لحصوله حول البيت ولو طاف حول
المسجد وبينه وبين البيت حيطان المسجد لم يجز لان حيطان المسجد حاجزة فلم يطف بالبيت لعدم الطواف
حوله بل طاف بالمسجد لوجود الطواف حوله لا حول البيت ولأنه لو جاز الطواف حول المسجد مع حيلولة حيطان
المسجد لجاز حول مكة والحرم وذا لا يجوز كذا هذا ويطوف من خارج الحطيم لان الحطيم من البيت على
لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه روى عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ان قومك
قصرت بهم النفقة فقصروا البيت عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام وان الحطيم من البيت ولولا حدثان
عهدهم بالجاهلية لرددته إلى قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وروى أن رجلا نذر أن يصلى في
البيت ركعتين فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى في الحطيم ركعتين وروى أن عائشة رضي الله عنها نذرت
بذلك فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلى في الحطيم ركعتين فان قيل إذا كان الحطيم من البيت فلم لا يجوز
التوجه إليه في الصلاة فالجواب ان كون الحطيم من البيت ثبت بخبر الواحد ووجوب التوجه إلى البيت ثبت بنص
الكتاب العزيز وهو قوله تعالى وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ولا يجوز ترك العمل بنص الكتاب بالآحاد
وليس في الطواف من وراء الحطيم عملا بخبر الواحد ترك العمل بنص الكتاب العزيز وهو قوله تعالى وليطوفوا
131

بالبيت العتيق بل فيه عمل بهما جميعا ولو طاف في داخل الحجر فعليه أن يعيد لان الحطيم لما كان من البيت فإذا
طاف في داخل الحطيم فقد ترك الطواف ببعض البيت والمفروض هو الطواف بكل البيت لقوله تعالى وليطوفوا
بالبيت العتيق والأفضل ان يعيد الطواف كله مراعاة للترتيب فان أعاد على الحجر خاصة أجزأه لان المتروك
هو لا غير وقد استدركه ولو لم يعد حتى عاد إلى أهله يجب عليه الدم لان الحطيم ربع البيت فقد ترك من طوافه ربعه
* (فصل) * واما زمان هذا الطواف وهو وقته فأوله حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر بلا خلاف بين
أصحابنا حتى لا يجوز قبله وقال الشافعي أول وقته منتصف ليلة النحر وهذا غير سديد لان ليلة النحر وقت
ركن آخر وهو الوقوف بعرفة فلا يكون وقتا للطواف لان الوقت الواحد لا يكون وقتا لركنين وليس لآخره
زمان معين موقت به فرضا بل جميع الأيام والليالي وقته فرضا بلا خلاف بين أصحابنا لكنه موقت بأيام النحر
وجوبا في قول أبي حنيفة حتى لو أخره عنها فعليه دم عنده وفى قول أبى يوسف ومحمد غير موقت أصلا
ولو أخره عن أيام النحر لا شئ عليه وبه أخذ الشافعي واحتجوا بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل عمن ذبح قبل أن يرمى فقال ارم ولا حرج وما سئل يومئذ عن أفعال الحج قدم شئ منها أو أخر الا قال
افعل ولا حرج فهذا ينفى توقيت آخره وينفى وجوب الدم بالتأخير ولأنه لو توقت آخره لسقط بمضي آخره
كالوقوف بعرفة فلما لم يسقط دل أنه لم يتوقت ولأبي حنيفة أن التأخير بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر
بدليل أن من جاوز الميقات بغير احرام ثم أحرم يلزمه دم ولو لم يوجد منه الا تأخير النسك وكذا تأخير الواجب في
باب الصلاة بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر وهو سجدتا السهو فكان الفقه في ذلك أن أداء الواجب كما هو واجب
فمراعاة محل الواجب واجب فكان التأخير تركا للمراعاة الواجبة وهي مراعاته في محله والترك تركا لواجبين أحدهما
أداء الواجب في نفسه والثاني مراعاته في محله فإذا ترك هذا الواجب يجب جبره بالدم وإذا توقت هذا الطواف
بأيام النحر وجوبا عنده فإذا أخره عنها فقد ترك الواجب فأوجب ذلك نقصانا فيه فيجب جبره بالدم ولما لم يتوقت
عندهما ففي أي وقت فعله فقد فعله في وقته فلا يتمكن فيه نقص فلا يلزمه شئ ولا حجة لهما في الحديث لان فيه
نفى الحرج وهو نفى الاثم وانتفاء الاثم لا ينفى وجوب الكفارة كما لو حلق رأسه لأذى فيه أنه لا يأثم وعليه الدم
كذا ههنا وقولهما انه لا يسقط بمضي آخر الوقت مسلم لكن هذا لا يمنع كونه موقتا وواجبا في الوقت كالصلوات
المكتوبات انها لا تسقط بخروج أوقاتها وإن كانت موقتة حتى تقضى كذا هذا والأفضل هو الطواف في أول
أيام النحر لقوله صلى الله عليه وسلم أيام النحر ثلاثة أولها أفضلها وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم طاف في أول
أيام النحر ومعلوم انه كان يأتي بالعبادات في أفضل أوقاتها ولان هذا الطواف يقع به تمام التحلل وهو التحلل من
النساء فكان في تعجيله صيانة نفسه عن الوقوع في الجماع ولزوم البدنة فكان أولى
* (فصل) * وأما مقداره فالمقدار المفروض منه هو أكثر الأشواط وهو ثلاثة أشواط وأكثر الشوط الرابع فأما
الاكمال فواجب وليس بفرض حتى لو جامع بعد الاتيان بأكثر الطواف قبل الاتمام لا يلزمه البدنة وإنما تلزمه
الشاة وهذا عندنا وقال الشافعي الفرض هو سبعة أشواط لا يتحلل بما دونها وجه قوله أن مقادير العبادات
لا تعرف بالرأي والاجتهاد وإنما تعرف بالتوقيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم طاف سبعة أشواط فلا يعتد
بما دونها ولنا قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق والامر المطلق لا يقتضى التكرار الا أن الزيادة على المرة
الواحدة إلى أكثر الأشواط ثبت بدليل آخر وهو الاجماع ولا اجماع في الزيادة على أكثر الأشواط ولأنه أتى
بأكثر الطواف والأكثر يقوم مقام الكل فيما يقع به التحلل في باب الحج كالذبح إذا لم يستوف قطع العروق الأربعة
وإنما كان المفروض هذا القدر فإذا أتى به فقد أتى بالقدر المفروض فيقع به التحلل فلا يلزمه البدنة بالجماع
بعد ذلك لان ما زاد عليه إلى تمام السبعة فهو واجب وليس بفرض فيجب بتركه الشاة دون البدنة كرمي
الجمار والله تعالى أعلم
132

* (فصل) * وأما حكمه إذا فات عن أيام النحر فهو أنه لا يسقط بل يجب أن يأتي به لان سائر الأوقات وقته بخلاف
الوقوف بعرفة انه إذا فات عن وقته يسقط لأنه موقت بوقت مخصوص ثم إن كان بمكة يأتي به باحرامه الأول لأنه
قائم إذ التحلل بالطواف ولم يوجد وعليه لتأخيره عن أيام النحر دم عند أبي حنيفة وإن كان رجع إلى أهله فعليه
أن يرجع إلى مكة باحرامه الأول ولا يحتاج إلى احرام جديد وهو محرم عن النساء إلى أن يعود فيطوف وعليه
للتأخير دم عند أبي حنيفة ولا يجزئ عن هذا الطواف بدنة لأنه ركن وأركان الحج لا يجزئ عنها البدل ولا
يقوم غيرها مقامها بل يجب الاتيان بعينها كالوقوف بعرفة وكذا لو كان طاف ثلاثة أشواط فهو والذي لم يطف
سواء لان الأقل لا يقوم مقام الكل وإن كان طاف جنبا أو على غير وضوء أو طاف أربعة أشواط ثم رجع إلى أهله
أما إذا طاف جنبا فعليه أن يعود إلى مكة لا محالة هو العزيمة وباحرام جديد حتى يعيد الطواف أما وجوب العود
بطريق العزيمة فلتفاحش النقصان بالجنابة فيؤمر بالعود كما لو ترك أكثر الأشواط وأما تجديد الاحرام فلانه
حصل التحلل بالطواف مع الجنابة على أصل أصحابنا والطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجواز الطواف
فإذا حصل التحلل صار حلالا والحلال لا يجوز له دخول مكة بغير احرام فإن لم يعد إلى مكة لكنه بعث بدنة جاز
لما ذكرنا أن البدنة تجبر النقص بالجنابة لان العزيمة هو العود لان النقصان فاحش فكان العود أجبر له لأنه
جبر بالجنس وأما إذا طاف محدثا أو طاف أربعة أشواط فان عاد وطاف جاز لأنه جبر النقص بجنسه وان بعث شاة
جاز أيضا لان النقص يسير فينجبر بالشاة والأفضل أن يبعث بالشاة لان الشاة تجبر النقص وتنفع الفقراء وتدفع
عنه مشقة الرجوع وإن كان بمكة فالرجوع أفضل لأنه جبر الشئ بجنسه فكان أولى والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما واجبات الحج فخمسة السعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة ورمى الجمار والحلق أو التقصير
وطواف الصدر أما لسعى فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان صفته وفي بيان قدره وفى بين ركنه وفي بيان
شرائط جوازه وفي بيان سننه وفي بيان وقته وفي بيان حكمه إذا تأخر عن وقته أما الأول فقد قال أصحابنا انه واجب
وقال الشافعي انه فرض حتى لو ترك الحاج خطوة منه وأتى أقصى بلاد المسلمين يؤمر بأن يعود إلى ذلك الموضع
فيضع قدمه عليه ويخطو تلك الخطوة وقال بعض الناس ليس بفرض ولا واجب واحتج هؤلاء بقوله عز وجل
فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما وكلمة لا جناح لا تستعمل في الفرائض والواجبات ويدل
عليه قراءة أبى فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما واحتج الشافعي بما روى عن صفية بنت فلان انها سمعت امرأة
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال إن الله تعالى كتب عليكم السعي بين الصفا والمروة أي فرض
عليكم إذ الكتابة عبارة عن الفرض كما في قوله تعالى كتب عليكم الصيام وكتب عليكم القصاص وغير ذلك
ولنا قوله عز وجل ولله على الناس حج البيت وحج البيت هو زيارة البيت لما ذكرنا فيما تقدم فظاهره يقتضى
أن يكون طواف الزيارة هو الركن لا غير الا أنه زيد عليه الوقوف بعرفة بدليل فمن ادعى زيادة السعي فعليه
الدليل وقول النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة فظاهره يقتضى أن يكون الوقوف بعرفة كل الركن الا أنه زيد
عليه طواف الزيارة فمن ادعى زيادة السعي فعليه الدليل وعن عائشة رضي الله عنها انها قالت ماتم حج امرئ قط
الا بالسعي وفيه إشارة إلى أنه واجب وليس بفرض لأنها وصفت الحج بدونه بالنقصان لا بالفساد وفوت الواجب
هو الذي يوجب النقصان فأما فوت الفرض فيوجب الفساد والبطلان ولان الفرضية إنما ثبتت بدليل
مقطوع به ولا يوجد ذلك في محل الاجتهاد إذا كان الخلاف بين أهل الديانة وأما الآية فليس المراد منها رفع الجناح
على الطواف بهما مطلقا بل على الطواف بهما لمكان الأصنام التي كانت هنالك لما قيل إنه كان بالصفا صنم
وبالمروة صنم وقيل كان بين الصفا والمروة أصنام فتحرجوا عن الصعود عليهما والسعي بينهما احترازا عن
التشبه بعبادة الأصنام والتشبه بأفعال الجاهلية فرفع الله عنهم الجناح بالطواف بهما أو بينهما مع كون الأصنام
هنالك وأما قراءة أبى رضي الله عنه فيحتمل أن تكون لا صلة زائدة معناه لا جناح عليه أن يطوف بينهما لان لا قد
133

تزاد في الكلام صلة كقوله تعالى ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك معناه أن تسجد فكان كالقراءة المشهورة في المعنى
وأما الحديث فلا يصح تعلق الشافعي به على زعمه لأنه قال روت صفية بنت فلان فكانت مجهولة لا ندري من هي
والعجب منه أنه يأبى مرة قبول المراسيل لتوهم الغلط ويحتج بقول امرأة لا تعرف ولا يذكر اسمها على أنه ان ثبت
فلا حجة له فيه لان الكنية قد تذكر ويراد بها الحكم قال الله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب
الله أي في حكم الله وقال عز وجل كتب الله عليكم أي حكم الله عليكم فان أريد بها الأول تكون حجة وان أريد
بها الثاني لا تكون حجة لان حكم الله تعالى لا يقتصر على الفرضية بل الوجوب والانتداب والإباحة من حكم
الله تعالى فلا يكون حجة مع الاحتمال أو نحملها على الوجوب دون الفرضية توفيقا بين الدلائل صيانة لها
عن التناقض وإذا كان واجبا فان تركه لعذر فلا شئ عليه وان تركه لغير عذر لزمه دم لان هذا حكم ترك الواجب
في هذا الباب أصله طواف الصدر وأصل ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حج هذا البيت
فليكن آخر عهده بالبيت الطواف ورخص للحائض بخلاف الأركان فإنها لا تسقط بالعذر لان ركن الشئ ذاته فإذا
لم يأت به فلم يوجد الشئ أصلا كأركان الصلاة بخلاف الواجب ولو ترك أربعة أشواط بغير عذر فعليه دم
والأصل أن كل ما وجب في جميعه دم يجب في أكثره دم أصله طواف الصدر ورمى الجمار ولو ترك ثلاثة أشواط
أطعم لكل شوط نصف صاع من بر مسكينا الا أن يبلغه ذلك دما فله الخيار والأصل في ذلك أن كل ما يكون في جميعه
دم يكون في أقله صدقة لما نذكر إن شاء الله تعالى ولو ترك الصعود على الصفا والمروة يكره له ذلك ولا شئ عليه
لان الصعود عليهما سنة فيكره تركه ولكن لو ترك لا شئ عليه كما لو ترك الرمل في الطواف
* (فصل) * وأما قدره فسبعة أشواط لاجماع الأمة ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعد من الصفا إلى
المروة شوطا ومن المروة إلى الصفا شوطا آخر كذا ذكر في الأصل وقال الطحاوي من الصفا إلى المروة ومن المروة
إلى الصفا شوط واحد والصحيح ما ذكر في الأصل لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما سبعة
أشواط ولو كان كما ما ذكره الطحاوي لكان أربعة عشر شوطا والدليل على أن المذهب ما قلنا أن محمدا رحمه الله
ذكر في الأصل فقال يبتدئ بالصفا ويختم بالمروة وعلى ما ذكره الطحاوي يقع الختم بالصفا لا بالمروة فدل أن مذهب
أصحابنا ما ذكرنا
* (فصل) * وأما ركنه فيكنونته بين الصفا والمروة سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره عند عجزه عن السعي
بنفسه بأن كان مغمى عليه أو مريضا فسعى به محمولا أو سعى راكبا لحصوله كائنا بين الصفا والمروة وإن كان قادرا
على المشي بنفسه فحمل أو ركب يلزمه الدم لان السعي بنفسه عند القدرة على المشي واجب فإذا تركه فقد ترك
الواجب من غير عذر فيلزمه الدم كما لو ترك المشي في الطواف من غير عذر
* (فصل) * وأما شرائط جوازه فمنها أن يكون بعد الطواف أو بعد أكثره لان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا
فعل وقد قال صلى الله عليه وسلم خذوا عنى مناسككم ولان السعي تبع للطواف وتبع الشئ كاسمه وهو ان
يتبعه فيما تقدمه لا يتبعه فلا يكون تبعا له الا انه يجوز بعد وجود أكثر الطواف قبل تمامه لان للأكثر حكم
الكل ومنها البداية بالصفا والختم بالمروة في الرواية المشهورة حتى لو بدأ بالمروة ختم بالصفا لزمه إعادة
شوط واحد وروى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان ذلك ليس بشرط ولا شئ عليه لو بدأ بالمروة وجه هذه
الرواية انه أتى بأصل السعي وإنما ترك الترتيب فلا تلزمه الإعادة كما لو توضأ في باب الصلاة وترك الترتيب (ولنا)
ان الترتيب ههنا مأمور به لقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أما قوله فلما روى أنه لما نزل قوله عز وجل ان
الصفا والمروة من شعائر الله قالوا بأيهما نبدأ يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ابدؤا بما بدأ الله به وأما فعله صلى
الله عليه وسلم فإنه بدأ بالصفا وختم بالمروة وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا موجبة لما تبين وإذا لزمت
البداية بالصفا فإذا بدأ بالمروة إلى الصفا لا يعتد بذلك الشوط فإذا جاء من الصفا إلى المروة كان هذا أول شوط
134

فيجب عليه أن يعود بعد ستة من الصفا إلى المروة حتى يتم سبعة وأما الطهارة عن الجنابة والحيض فليست بشرط
فيجوز سعى الجنب والحائض بعد إن كان طوافه بالبيت على الطهارة عن الجنابة والحيض لان هذا نسك غير
متعلق بالبيت فلا تشترط له الطهارة عن الجنابة والحيض كالوقوف الا انه يشترط أن يكون الطواف على الطهارة
عن الجنابة والحيض لان السعي مرتب عليه ومن توابعه والطواف مع الجنابة والحيض لا يعتد به حتى تجب
اعادته فكذا السعي الذي هو من توابعه ومرتب عليه فإذا كان طوافه على الطهارة عن الحدثين فقد وجد شرط
جوازه فجاز وجاز سعى الجنب والحائض تبعا له لوجود شرط جواز الأصل إذ التبع لا يفرد بالشرط بل يكفيه
شرط الأصل فصار الحاصل ان حصول الطواف على الطهارة عن الجنابة والحيض من شرائط جواز السعي فإن كان
طاهرا وقت الطواف جاز السعي سواء كان طاهرا وقت السعي أو لا وان لم يكن طاهرا وقت الطواف لم يجز
سعيه رأسا سواء كان طاهرا أو لم يكن والله أعلم
* (فصل) * وأما سننه فالرمل في بعض كل شوط والسعي في البعض وسنذكرها في بيان سنن الحج لأنها من السنن
لا من الواجبات حتى لو رمل في الكل أو سعى في الكل لا شئ عليه لكنه يكون مسيئا لتركه السنة والله أعلم
* (فصل) * وأما وقته فوقته الأصلي يوم النحر بعد طواف الزيارة لا بعد طواف اللقاء لان ذلك سنة والسعي
واجب فلا ينبغي أن يجعل الواجب تبعا للسنة فأما طواف الزيارة ففرض والواجب يجوز أن يجعل تبعا للفرض
الا انه رخص السعي بعد طواف اللقاء وجعل ذلك وقتا له ترفيها بالحاج وتيسيرا له لازدحام الاشتغال له يوم النحر
فأما وقته الأصلي فيوم النحر عقيب طواف الزيارة لما قلنا والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكمه إذا تأخر عن وقته الأصلي وهي أيام النحر بعد طواف الزيارة فإن كان لم يرجع إلى أهله
فإنه يسعى ولا شئ عليه لأنه أتى بما وجب عليه ولا يلزمه بالتأخير شئ لأنه فعله في وقته الأصلي وهو ما بعد طواف
الزيارة ولا يضره إن كان قد جامع لوقوع التحلل بطواف الزيارة إذ السعي ليس بركن حتى يمنع التحلل وإذا صار حلالا
بالطواف فلا فرق بين أن يسعى قبل الجماع أو بعده غير أنه لو كان بمكة يسعى ولا شئ عليه لما قلنا وإن كان رجع إلى
أهله فعليه دم لتركه السعي بغير عذر وان أراد أن يعود إلى مكة يعود باحرام جديد لان احرامه الأول قد ارتفع
بطوف الزيارة لوقوع التحلل به فيحتاج إلى تجديد الاحرام وإذا عاد وسعى يسقط عنه الدم لأنه تدارك الترك
وذكر في الأصل وقال والدم أحب إلي من الرجوع لان فيه منفعة للفقراء والنقصان ليس بفاحش فصار كما إذا
طاف محدثا ثم رجع إلى أهله على ما ذكرنا فيما تقدم والله أعلم
* (فصل) * وأما الوقوف بمزدلفة فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان صفته وركنه ومكانه وزمانه وحكمه
إذا فات عن وقته أما الأول فقد اختلف فيه أصحابنا قال بعضهم انه واجب وقال الليث انه فرض وهو قول الشافعي
واحتجا بقوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام والمشعر الحرام هو المزدلفة والامر
بالذكر عندها يدل على فرضية الوقوف بها (ولنا) ان الفرضية لا تثبت الا بدليل مقطوع به ولم يوجد لان
المسألة اجتهادية بين أهل الديانة وأهل الديانة لا يختلفون في موضع هناك دليل قطعي ودليل الوجوب ما روى عن
عروة بن المضرس الطائي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أتعبت مطيتي فما مررت بشرف الا علوته فهل لي
من حج وفى بعض الروايات قال أتعبت راحلتي وأجهدت نفسي وما تركت جبلا من جبال طي الا وقفت عليه
فهل لي من حج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقف معنا هذا الوقوف وصلى معنا هذه الصلاة وقد كان وقف
قبل ذلك بعرفة ساعة بليل أو نهار فقد تم حجه فقد علق تمام الحج بهذا الوقوف والواجب هو الذي يتعلق التمام
بوجوده لا الفرض لان المتعلق به أصل الجواز لا صفة التمام وقال النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة من أدرك
عرفة فقد أدرك الحج جعل الوقوف بعرفة كل الحج وظاهره يقتضى أن يكون كل الركن وكذا جعل مدرك
عرفة مدركا للحج ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يكن الوقوف بعرفة كل الحج بل بعضه ولم يكن أيضا مدركا
135

للحج بدونه وهذا خلاف الحديث وظاهر الحديث يقتضى أن يكون الركن هو الوقوف بعرفة لا غير الا أن طواف
الزيارة عرف ركنا بدليل آخر وهو ما ذكرنا فيما تقدم ولان ترك الوقوف بمزدلفة جائز لعذر على ما نبين ولو كان
فرضا لما جاز تركه أصلا كسائر الفرائض فدل انه ليس بفرض بل هو واجب الا انه قد يسقط وجوبه لعذر من
ضعف أو مرض أو حيض أو نحو ذلك حتى لو تعجل ولم يقف لا شئ عليه وأما الآية فقد قيل في تأويلها ان المراد
من الذكر هو صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة وقيل هو الدعاء وفرضيتها لا تقتضي فرضية الوقوف على أن مطلق
الامر للوجوب لا للفرضية بل الفرضية ثبتت بدليل زائد والله أعلم
* (فصل) * وأما ركنه فكينونته بمزدلفة سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره بأن كان محمولا وهو نائم أو مغمى
عليه أو كان على دابة لحصوله كائنا بها سواء علم بها أو لم يعلم لما قلنا ولان الفائت ليس الا النية وانها ليست
بشرط كما في الوقوف بعرفة وسواء وقف أو مر مارا لحصوله كائنا بمزدلفة وان قل ولا تشترط له الطهارة عن الجنابة
والحيض لأنه عبادة لا تتعلق بالبيت فتصح من غير طهارة كالوقوف بعرفة ورمى الجمار والله أعلم
* (فصل) * وأما مكانه فجزء من أجزاء مزدلفة أي جزء كان وله أن ينزل في أي موضع شاء منها الا انه لا ينبغي أن
ينزل في وادى محسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم عرفات كلها موقف الا بطن عرنة ومزدلفة كلها موقف
الا وادى محسر وروى أنه قال مزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن المحسر فيكره النزول فيه ولو وقف به أجزأه مع
الكراهة والأفضل أن يكون وقوفه خلف الامام على الجبل الذي يقف عليه الامام وهو الجبل الذي يقال له قزح
لأنه روى أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه وقال خذوا عنى مناسككم ولأنه يكون أقرب إلى الامام فيكون أفضل
والله أعلم
* (فصل) * وأما زمانه فما بين طلوع الفجر من يوم النحر وطلوع الشمس فمن حصل بمزدلفة في هذا الوقت فقد
أدرك الوقوف سواء بات بها أو لا ومن لم يحصل بها فيه فقد فاته الوقوف وهذا عندنا وقال الشافعي يجوز في
النصف الأخير من ليلة النحر كما قال في الوقوف بعرفة وفى جمرة العقبة والسنة أن يبيت ليلة النحر بمزدلفة والبيتوتة
ليست بواجبة إنما الواجب هو الوقوف والأفضل أن يكن وقوفه بعد الصلاة فيصلى صلاة الفجر بغلس ثم يقف
عند المشعر الحرام فيدعو الله تعالى ويسأله حوائجه إلى أن يسفر ثم يفيض منها قبل طلوع الشمس إلى منى ولو
أفاض بعد طلوع الفجر قبل صلاة الفجر فقد أساء ولا شئ عليه لتركه السنة والله أعلم
* (فصل) * وأما حكم فواته عن وقته انه إن كان لعذر فلا شئ عليه لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قدم ضعفة أهله ولم يأمرهم بالكفارة وإن كان فواته لغير عذر فعليه دم لأنه ترك الواجب من غير عذر وانه يوجب
الكفارة والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما رمى الجمار فالكلام فيه في مواضع في بيان وجوب الرمي وفى تفسير الرمي وفي بيان وقته وفي بيان
مكانه وفي بيان عدد الجمار وقدرها وجنسها ومأخذها ومقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع وكيفية الرمي
وما يسن في ذلك ويستحب وما يكره وفي بيان حكمه إذا تأخر عن وقته أو فات عن وقته (أما) الأول فدليل وجوبه
الاجماع وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أما الاجماع فلان الأمة أجمعت على وجوبه وأما قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم فما روى أن رجلا سأله وقال إني ذبحت ثم رميت فقال صلى الله عليه وسلم ارم ولا حرج
وظاهر الامر يقتضى وجوب العمل وأما فعله فلانه صلى الله عليه وسلم رمى وافعال النبي صلى الله عليه وسلم فيما
لم يكن بيانا لمجمل الكتاب ولم يكن من حوائج نفسه ولا من أمور الدنيا محمول على الوجوب لورود النصوص
بوجوب الاقتداء به والاتباع له ولزوم طاعته وحرمة مخالفته فكانت أفعاله فيما قلنا محمولة على الوجوب لكن
عملا لا اعتقادا على طريق التعيين لاحتمال الخصوص كما في بعض الواجبات نحو صلاة الليل وبعض المباحات
وهو حل تسع نسوة أو زيادة عليها فاعتقاد الوجوب منها عينا يؤدى إلى اعتقاد غير الواجب واجبا في حقه وغير
136

المباح مباحا في حقه وهذا لا يجوز فاما القول بالوجوب عملا مع الاعتقاد مبهما ان ما أراد الله تعالى به فهو حق
مما لا ضرر فيه لأنه إن كان واجبا يخرج عن العهدة بفعله وان لم يكن واجبا يثاب على فعله فكان ما قلناه احترازا
عن الضرر بقدر الامكان وانه واجب عقلا وشرعا والله أعلم
* (فصل) * وأما تفسير رمى الجمار فرمى الجمار في اللغة هو القدف بالأحجار الصغار وهي الحصى إذ الجمار جمع
جمرة والجمرة هي الحجر الصغير وهي الحصاة وفى عرف الشرع هو القدف بالحصى في زمان مخصوص ومكان
مخصوص وعدد مخصوص على ما نبين إن شاء الله تعالى وعلى هذا يخرج ما إذا قام عند الجمرة ووضع الحصاة
عندها وضعا انه لم يجزه لعدم الرمي وهو القذف وان طرحها طرحا أجزأه لوجود الرمي الا انه رمى خفيف فيجزئه
وسواء رمى بنفسه أو بغيره عند عجزه عن الرمي بنفسه كالمريض الذي لا يستطيع الرمي فوضع الحصى في كفه
فرمى بها أو رمى عنه غيره لان أفعال الحج تجرى فيها النيابة كالطواف والوقوف بعرفة ومزدلفة والله أعلم
* (فصل) * وأما وقت الرمي فأيام الرمي أربعة يوم النحر وثلاثة أيام التشريق أما يوم النحر فأول وقت الرمي منه
ما بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر فلا يجوز قبل طلوعه وأول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس قبل
الزوال وهذا عندنا وقال الشافعي إذا انتصف ليلة النحر دخل وقت الجمار كما قال في الوقوف بعرفة ومزدلفة
فإذا طلعت الشمس وجب وقال سفيان الثوري لا يجوز قبل طلوع الشمس والصحيح قولنا لما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم انه قدم ضعفة أهله ليلة المزدلفة وقال صلى الله عليه وسلم لا ترموا جمرة العقبة حتى
تكونوا مصبحين نهى عن الرمي قبل الصبح وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلج أفخاذ أغيلمة بنى
عبد المطلب وكأن يقول لهم لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين فان قيل قد روى أنه قال لا ترموا
جمرة العقبة حتى تطلع الشمس وهذا حجة سفيان فالجواب ان ذلك محمول على بيان الوقت المستحب توفيقا
بين الروايتين بقدر الامكان وبه نقول إن المستحب ذلك وأما آخره فآخر النهار كذا قال أبو حنيفة ان وقت
الرمي يوم النحر يمتد إلى غروب الشمس وقال أبو يوسف يمتد إلى وقت الزوال فإذا زالت الشمس يفوت الوقت
ويكون فيما بعده قضاء وجه قول أبى يوسف أن أوقات العبادة لا تعرف الا بالتوقيف والتوقيف ورد بالرمي في
يوم النحر قبل الزوال فلا يكون ما بعده وقتا له أداء كما في سائر أيام النحر لأنه لما جعل وقته فيها بعد الزوال لم يكن قبل
الزوال وقتا له ولأبي حنيفة الاعتبار بسائر الأيام وهو ان في سائر الأيام ما بعد الزوال إلى غروب الشمس وقت الرمي
فكذا في هذا اليوم لان هذا اليوم إنما يفارق سائر الأيام في ابتداء الرمي لا في انتهائه فكان مثل سائر الأيام في الانتهاء
فكان آخره وقت الرمي كسائر الأيام فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمى قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأه
ولا شئ عليه في قول أصحابنا وللشافعي فيه قولان في قول إذا غربت الشمس فقد فات الوقت وعليه الفدية وفى قول
لا يفوت الا في آخر أيام التشريق والصحيح قولنا لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للرعاء أن يرموا
بالليل ولا يقال إنه رخص لهم ذلك لعذر لأنا نقول ما كان لهم عذر لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي
بالنهار فيرمى فثبت ان الإباحة كانت لعذر فيدل على الجواز مطلقا فلا يجب الدم فان أخر الرمي حتى طلع الفجر من
اليوم الثاني رمى وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف ومحمد لا شئ عليه والكلام فيه يرجع إلى أن
الرمي مؤقت عنده وعندهما ليس بمؤقت وهو قول الشافعي وهو على الاختلاف الذي ذكرنا في طواف الزيارة
في أيام النحر انه مؤقت بها وجوبا عنده حتى الدم بالتأخير عنها وعندهم ليس بمؤقت أصلا فلا يجب بالتأخير
شئ والحجج من الجانبين وجواب أبي حنيفة عن تعلقهما بالخبر والمعنى ما ذكرنا في الطواف والله أعلم
* (فصل) * وأما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي
فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وروى عن أبي حنيفة ان
الأفضل أن يرمى في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال فان رمى قبله جاز وجه هذه الرواية ان قبل الزوال وقت
137

الرمي في يوم النحر فكذا في اليوم الثاني والثالث لان الكل أيام النحر وجه الرواية المشهورة ما روى عن جابر
رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال وهذا
باب لا يعرف بالقياس بل بالتوقيف فان أخر الرمي فيهما إلى الليل فرمى قبل طلوع الفجر جاز ولا شئ عليه لان
الليل وقت الرمي في أيام الرمي لما روينا من الحديث فإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال
فأراد أن ينفر من منى إلى مكة وهو المراد من النفر الأول فله ذلك لقوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه أي من
نفر إلى مكة بعد ما رمى يومين من أيام التشريق وترك الرمي في اليوم الثالث فلا اثم عليه في تعجيله والأفضل
أن لا يتعجل بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث منها فيستوفى الرمي في الأيام كلها ثم ينفر وهو المعنى من
النفر الثاني وذلك معنى قوله تعالى ومن تأخر فلا اثم عليه وفى ظاهر هذه الآية الشريفة اشكال من وجهين أحدهما
انه ذكر قوله تعالى لا اثم عليه في المتعجل والمتأخر جميعا وهذا إن كان يستقيم في حق المتعجل لأنه يترخص لا يستقيم
في حق المتأخر لأنه أخذ بالعزيمة والأفضل والثاني أنه قال تعالى في المتأخر فلا اثم عليه لمن اتقى قيده بالتقوى
وهذا التقييد بالمتعجل أليق لأنه اخذ بالرخصة ولم يذكر فيه هذا التقييد والجواب عن الاشكال الأول
ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية فمن تعجل في يومين غفر له ومن تأخر غفر له وكذا
روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى فلا اثم عليه رجع مغفورا له وأما قوله تعالى لمن اتقى فهو
بيان أن ما سبق من وعد المغفرة للمتعجل والمتأخر بشرط التقوى ثم من أهل التأويل من صرف التقوى
إلى الاتقاء عن قتل الصيد في الاحرام أي لمن اتقى قتل الصيد في حال الاحرام وصرف أيضا قوله تعالى واتقوا الله
أي فاتقوا الله ولا تستحلوا قتل الصيد في الاحرام ومنهم من صرف التقوى إلى الاتقاء عن المعاصي كلها في الحج
وفيما بقي من عمره ويحتمل أن يكون المراد منه التقوى عما حظر عليه الاحرام من الرفث والفسوق والجدال
وغيرها والله أعلم وإنما يجوز له النفر في اليوم الثاني والثالث ما لم يطلع الفجر من اليوم الثاني فإذا طلع الفجر لم يجز
له النفر وأما وقت الرمي من اليوم الثالث من أيام التشريق وهو اليوم الرابع من أيام الرمي فالوقت المستحب
له بعد الزوال ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف ومحمد لا يجوز واحتجا بما روى
عن جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال
وأوقات المناسك لا تعرف قياسا فدل ان وقته بعد الزوال ولان هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه
بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق ولأبي حنيفة ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إذا
افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو باب
لا يدرك بالرأي والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا
الحديث أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب ولان له أن ينفر قبل الرمي ويترك الرمي في هذا اليوم
رأسا فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلان يجوز له الرمي قبل الزوال أولى والله أعلم
* (فصل) * وأما مكان الرمي ففي يوم النحر عند جمرة العقبة وفى الأيام الأخر عند ثلاثة مواضع عند الجمرة
الأولى والوسطى والعقبة ويعتبر في ذلك كله مكان وقوع الجمرة لامكان الرمي حتى لو رماها من مكان بعيد
فوقعت الحصاة عند الجمرة أجزأه وان لم تقع عنده لم تجزها الا إذا وقعت بقرب منها لان ما يقرب من ذلك المكإن كان
في حكمه لكونه تبعا له والله أعلم
* (فصل) * وأما الكلام في عدد الجمار وقدرها وجنسها ومأخذها ومقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع
وكيفية الرمي وما يسن في ذلك وما يستحب وما يكره فيأتي إن شاء الله تعالى في بيان سنن أفعال الحج والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكمه إذا تأخر عن وقته أو فات فنقول إذا ترك من جمار يوم النحر حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى
الغد فإنه يرمى ما ترك أو يتصدق لكل حصاة نصف صاع من حنطة الا أن يبلغ قدر الطعام دما فينقص ما شاء ولا
138

يبلغ دما والأصل ان ما يجب في جميعه دم يجب في أقله صدقة لما نذكر إن شاء الله تعالى وههنا لو ترك جميع الرمي
إلى الغد كان عليه دم عند أبي حنيفة فإذا ترك أقله تجب عليه الصدقة الا أن يبلغ دما لما نذكر وان ترك الأكثر منها
فعليه دم في قول أبي حنيفة لان في جميعه دم عنده فكذا في أكثره وعند أبي يوسف ومحمد لا يجب في جميعه دم فكذا
في أكثره فان ترك رمى أحد الجمار الثلاث من اليوم الثاني فعليه صدقة لأنه ترك أقل وظيفة اليوم وهو رمى
سبع حصيات فكان عليه صدقة إلى أن يصير المتروك أكثر من نصف الوظيفة لان وظيفة كل يوم ثلاث جمار
فكان رمى جمرة منها أقلها ولو ترك الكل وهو الجمار الثلاث فيه للزمه عنده دم فيجب في أقلها الصدقة بخلاف اليوم
الأول وهو يوم النحر إذا ترك الجمرة فيه وهو سبع حصيات انه يلزمه دم عنده لان سبع حصيات كل
وظيفة اليوم الأول فكان تركه بمنزلة ترك كل وظيفة اليوم الثاني والثالث وذلك أحد وعشرون حصاة وترك ثلاث
حصيات فيه بمنزلة ترك جمرة تامة من اليوم الثاني والثالث وهي سبع حصيات فان ترك الرمي كله في سائر
الأيام إلى آخر أيام الرمي وهو اليوم الرابع فإنه يرميها فيه على الترتيب وعليه دم عنده وعندهما لا دم عليه لما
بينا ان الرمي مؤقت عنده وعندهما ليس بمؤقت ثم على قوله لا يلزمه الا دم واحد وإن كان ترك وظيفة
يوم واحد بانفراده يوجب دما واحدا ومع ذلك لا يجب عليه لتأخير الكل الا دم واحد لان جنس الجناية
واحد حظرها احرام واحد من جهة غير متقومة فيكفيها دم واحد كما لو حلق المحرم ربع رأسه انه يجب
عليه دم واحد ولو حلق جميع رأسه يلزمه دم واحد أيضا وكذا لو طيب عضوا واحدا أو طيب أعضاءه كلها
أو لبس ثوبا واحدا أو لبس ثيابا كثيرة لا يلزمه في ذلك كله الا دم واحد كذا ههنا بخلاف ما إذا قتل
صيودا انه يجب عليه لكل صيد جزاؤه على حدة لان الجهة هناك متقومة فان ترك الكل حتى غربت الشمس
من آخر أيام التشريق وهو آخر أيام الرمي يسقط عنه الرمي وعليه دم واحد في قولهم جميعا أما سقوط الرمي
فلان الرمي عبادة مؤقتة والأصل في العبادات المؤقتة إذا فات وقتها ان تسقط وإنما القضاء في بعض العبادات
المؤقتة يجب بدليل مبتدأ ثم إنما وجب هناك لمعنى لا يوجد ههنا وهو ان القضاء صرف ماله إلى ما عليه
فيستدعى أن يكون جنس الفائت مشروعا في وقت القضاء فيمكنه صرف ماله إلى ما عليه وهذا لا يوجد في الرمي
لأنه ليس في غير هذه الأيام رمى مشروع على هيئة مخصوصة ليصرف ماله إلى ما عليه فتعذر القضاء فسقط
ضرورة ونظير هذا إذا فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في غيرها انه يقضيها بلا تكبير لأنه ليس في وقت القضاء
تكبير مشروع ليصرف ماله إلى ما عليه فسقط أصلا كذا هذا وأما وجوب الدم فلتركه الواجب عن وقته أما
عند أبي حنيفة فظاهر لان رمى كل يوم مؤقت وعندهما ان لم يكن مؤقتا فهو مؤقت بأيام الرمي فقد ترك
الواجب عن وقته فان ترك الترتيب في اليوم الثاني فبدأ بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي المسجد ثم
ذكر ذلك في يومه فإنه ينبغي ان يعيد الوسطى وجمرة العقبة وان لم يعد أجزأه ولا يعيد الجمرة الأولى أما إعادة الوسطى
وجمرة العقبة فلتركه الترتيب فإنه مسنون لان النبي صلى الله عليه وسلم رتب فإذا ترك المسنون
تستحب
الإعادة ولا يعيد الأولى لأنه إذا أعاد الوسطى والعقبة صارت هي الأولى وان لم يعد الوسطى والعقبة أجزأه لان
الرميات مما يجوز ان ينفرد بعضها من بعض بدليل ان يوم النحر يرمى فيه جمرة العقبة ولا يرمى غيرها
من الجمار وفيما جاز ان ينفرد البعض من البعض لا يشترط فيه الترتيب كالوضوء بخلاف ترتيب السعي على
الطواف انه شرط لأنه السعي لا يجوز ان ينفرد عن الطواف بحال فان رمى كل جمرة بثلاث حصيات ثم ذكر ذلك
فإنه يبدأ فيرمى الأولي بأربع حصيات حتى يتم ذلك لان رمى تلك الجمرة غير مرتب على غيره فيجب عليه ان
يتم ذلك بأربع حصيات ثم يعيد الوسطى بسبع حصيات لان قدر ما فعل حصل قبل الأولى فيعيد مراعاة
للترتيب الا ترى انه لو فعل الكل يعيد فإذا رمى الثلاث أولى أن يعيد وكذلك جمرة العقبة فإن كان قد رمى كل واحدة
بأربع حصيات فإنه يرمى كل واحدة بثلاث لان الأربع أكثر الرمي فيقوم مقام الكل فصار كأنه رتب الثاني
139

على رمى كامل وكذا الثالث وان استقبل رميها فهو أفضل ليكون الرمي في الثلاث البواقي على الوجه المسنون
وهو الترتيب ولو نقص حصاة لا يدرى من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة اسقاطا للواجب
عن نفسه بيقين كمن ترك صلاة واحدة من الصلوات الخمس لا يدرى أيتها هي أنه يعيد خمس صلوات ليخرج عن
العهدة بيقين كذا هذا والله أعلم
* (فصل) * وأما الحلق أو التقصير فالكلام فيه يقع في وجوبه وفي بيان مقدار الواجب وفي بيان زمانه ومكانه وفي بيان حكمه إذا وجد وفي بيان حكم تأخره عن وقته وفعله في غير مكانه اما الأول فالحلق أو التقصير واجب عندنا إذا
كان على رأسه شعر لا يتحلل بدونه وعند الشافعي ليس بواجب ويتحلل من الحج بالرمي ومن العمرة بالسعي احتج
بما روى عن ابن عمر رضي الله عنه ان عمر رضي الله عنه خطب سفية وعلمهم أمر الحج فقال لهم إذا جئتم منى
فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج الا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت ولنا قوله تعالى ثم ليقضوا تفثهم
وروى عن ابن عمر رضي الله عنه ان التفث حلاق الشعر ولبس الثياب وما يتبع ذلك وهو قول أهل التأويل انه
حلق الرأس وقص الأظافير والشارب ولان التفث في اللغة الوسخ يقال امرأة تفثة إذا كانت خبيثة الرائحة وقوله
تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين
قيل في بعض وجوه التأويل ان قوله لتدخلن خبر بصيغته ومعناه الامر أي ادخلوا المسجد الحرام إن شاء الله
آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين فيقتضى وجوب الدخول بصفة الحلق أو التقصير لان مطلق الامر لوجوب العمل
والاستثناء على هذا التأويل يرجع إلى قوله آمنين أي إن شاء الله ان تأمنوا تدخلوا وان شاء لا تأمنوا لا تدخلونه
وإن كانت الآية على الاخبار والوعد على ما يقتضيه ظاهر الصيغة فلابد وأن يكون المخبر به على ما أخبر وهو
دخولهم محلقين ومقصرين وذلك متعلق باختيارهم وقد يوجد وقد لا يوجد فلا بد من الدخول ليكون
الوجوب حاملا لهم على التحصيل فيوجد المخبر به ظاهرا وغالبا فالاستثناء على هذا التأويل يكون على طريق
التيمن والتبرك باسم الله تعالى أو يرجع إلى دخول بعضهم دون بعض لجواز ان يموت البعض أو يمنع بمانع فيحمل
عليه لئلا يؤدى إلى الخلف في الخبر وقوله محلقين رؤوسكم ومقصرين أي بعضكم محلقين وبعضكم مقصرين
لاجماعنا على أنه لا يجمع بين الحلق والتقصير فدل أن الحلق أو التقصير واجب لكن الحلق أفضل لأنه روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة فقال اللهم اغفر للمحلقين فقيل له
والمقصرين فقال اللهم اغفر للمحلقين فقيل له والمقصرين فقال اللهم اغفر للمحلقين والمقصرين ولان في
الحلق تقصير أو زيادة ولا حلق في التقصير أصلا فكان الحلق أفضل وأما حديث عمر رضي الله عنه فيضمر
فيه الحلق أو التقصير معناه فمن رمى الجمرة وحلق أو قصر فقد حل ويجب حمله على هذا ليكون موافقا
للكتاب هذا إذا كان على رأسه شعر فاما إذا لم يكن أجرى الموسى على رأسه لما روى عن ابن عمر أنه قال
من جاءه يوم النحر ولم يكن على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه والقدوري رواه مرفوعا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا عجزوا عن تحقيق الحلق فلم يعجز عن التشبه بالحالقين وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم من تشبه بقوم فهو منهم فان حلق رأسه بالنورة أجزأه والموسى أفضل اما الجواز فلحصول المقصود وهو ازلة
الشعر وأما أفضلية الحلق بالموسى فلقوله تعالى محلقين رؤوسكم واصلاق اسم الحلق يقع على الحلق بالموسى وكذا
النبي صلى الله عليه وسلم حلق بالموسى وكان يختار من الاعمال أفضلها وهذا إذا لم يكن محصرا فاما المحصر فلا حلق
عليه في قول أبي حنيفة ومحمد وفى قول أبى يوسف عليه الحلق وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى في بيان أحكام
الاحصار ولو وجب عليه الحلق أو التقصير فغسل رأسه بالخطمى مقام الحلق لا يقوم مقامه وعليه الدم لغسل رأسه
بالخطمى في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف ومحمد لا دم عليه ذكر الطحاوي الخلاف وقال الجصاص
لا أعرف فيه خلافا والصحيح انه يلزمه الدم لان الحلق أو التقصير واجب لما ذكرنا فلا يقع التحلل الا بأحدهما ولم
140

يوجد فكان احرامه باقيا فإذا غسل رأسه بالخطمى فقد أزال التفث في حال قيام الاحرام فيلزمه الدم والله أعلم
ولا حلق على المرأة لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس على النساء
حلق وإنما عليهن تقصير وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى المرأة ان تحلق رأسها ولان
الحلق في النساء مثلة ولهذا لم تفعله واحدة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها تقصر فتأخذ من أطراف
شعرها قدر أنملة لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه سئل فقيل له كم تقصر المرأة فقال مثل هذه وأشار إلى أنملته وليس
على الحاج إذا حلق ان يأخذ من لحيته شيئا وقال الشافعي إذا حلق ينبغي ان يأخذ من لحيته شيئا لله تعالى وهذا
ليس بشئ لان الواجب حلق الرأس بالنص الذي تلونا ولان حلق اللحية من باب المثلة لان الله تعالى زين الرجال
باللحى والنساء بالذوائب على ما روى في الحديث ان لله تعالى ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى
والنساء بالذوائب ولان ذلك تشبه بالنصارى فيكره
* (فصل) * وأما مقدار الواجب فاما الحلق فالأفضل حلق جميع الرأس لقوله عز وجل محلقين رؤوسكم والرأس اسم
للجميع وكذا روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه فإنه روى أنه رمى ثم ذبح ثم دعا بالحلاق
فأشار إلى شقه الأيمن فحلقه وفرق شعره بين الناس ثم أشار إلى الأيسر فحلقه وأعطاه لام سليم وروى أنه قال صلى الله
عليه وسلم أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق والحلق المطلق يقع على حلق جميع الرأس ولو حلق بعض
الرأس فان حلق أقل من الربع لم يجزه وان حلق ربع الرأس أجزأه ويكره اما الجواز فلان ربع الرأس يقوم مقام
كله في القرب المتعلقة بالرأس كمسح ربع الرأس في باب الوضوء واما الكراهة فلان المسنون هو حلق جميع الرأس
لما ذكرنا وترك المسنون مكروه واما التقصير فالتقدير فيه بالأنملة لما روينا من حديث عمر رضي الله عنه
لكن أصحابنا قالوا يجب ان يزيد في التقصير على قدر الأنملة لان الواجب هذا القدر من أطراف جميع الشعر
وأطراف جميع الشعر لا يتساوى طولها عادة بل تتفاوت فلو قصر قدر الأنملة لا يصير مستوفيا قدر الأنملة من
جميع الشعر بل من بعضه فوجب ان يزيد عليه حتى يستيقن باستيفاء قدر الواجب فيخرج عن العهدة بيقين
* (فصل) * وأما بيان زمانه ومكانه فزمانه أيام النحر ومكانه الحرم وهذا قول أبي حنيفة ان الحلق يختص بالزمان
والمكان وقال أبو يوسف لا يختص بالزمان ولا بالمكان وقال محمد يختص بالمكان لا بالزمان وقال زفر
يختص بالزمان لا بالمكان حتى لو أخر الحلق عن أيام النحر أو حلق خارج الحرم يجب عليه الدم في قول أبي حنيفة
وعند أبي يوسف لا دم عليه فيهما جميعا وعند محمد يجب عليه الدم في المكان ولا يجب في الزمان
وعند زفر يجب في الزمان ولا يجب في المكان احتج زفر بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق عام
الحديبية وأمر أصحابه بالحلق وحديبية من الحل فلو اختص بالمكان وهو الحرم لما جاز في غيره ولو كان كذلك
لما فعل بنفسه ولما أمر أصحابه فدل ان الحلق لا يختص جوازه بالمكان وهو الحرم وهذا أيضا حجة أبى
يوسف في المكان ولأبي يوسف ومحمد في أنه لا يختص بزمان ما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال حلقت قبل إن اذبح فقال صلى الله عليه وسلم اذبح ولا حرج وجاءه آخر فقال ذبحت قبل إن ارمى فقال
ارم ولا حرج فما سئل في ذلك اليوم عن تقديم نسك وتأخيره الا قال افعل ولا حرج ولأبي حنيفة انه صلى الله عليه
وسلم حلق في أيام النحر في الحرم فصار فعله بيانا لمطلق الكتاب ويجب عليه بتأخيره دم عنده لان تأخير الواجب
بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر لما ذكرنا في طواف الزيارة واما حديث الحديبية فقد ذكرنا ان الحديبية بعضها
من الحل وبعضها من الحرم فيحتمل انهم حلقوا في الحرم فلا يكون حجة مع الاحتمال مع ما انه روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان نزل بالحديبية في الحل وكان يصلى في الحرم فالظاهر أنه لم يحلق في الحل وله سبيل الحلق في الحرم
واما الحديث الآخر فنقول بموجبه انه لا حرج في التأخير عن المكان والزمان وهو الاثم لكن انتفاء الاثم لا يوجب
انتفاء الكفارة كما في كفارة الحلق عند الأذى وكفارة قتل الخطا ولو لم يحلق حتى خرج من الحرم ثم عاد إلى الحرم
141

فحلق أو قصر فلا دم عليه لوجود الشرط على قول من يجعل المكان شرطا
* (فصل) * وأما حكم الحلق فحكمه حصول التحلل وهو صيرورته حلا لا يباح له جميع ما حظر عليه الاحرام الا
النساء وهذا قول أصحابنا وقال مالك الا النساء والطيب وقال الليث الا النساء والصيد وقال الشافعي يحل له بالحلق
الوطئ فيما دون الفرج والمباشرة احتج مالك بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حلقتم فقد حل لكم
كل شئ الا النساء والطيب والصحيح قولنا لما روى عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
من رمى ثم ذبح ثم حلق فقد حل له كل شئ الا النساء والحديث حجة على الكل لان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر
أنه حل له كل شئ واستثنى النساء فبقي الطيب والصيد داخلين تحت نص المستثنى منه وهو احلال ما سوى النساء
وخرج الوطئ فيما دون الفرج والمباشرة عن الاحلال بنص الاستثناء وأما حديث عمر فقد قيل إنه لما بلغ
عائشة رضى الله تعالى عنها قالت يغفر الله لهذا الشيخ لقد طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلق
* (فصل) * وأما حكم تأخيره عن زمانه ومكانه فوجوب الدم عن أبي حنيفة وأبو يوسف خالفه في الزمان
والمكان ومحمد وافقه في المكان لا في الزمان وزفر وافقه في الزمان لا في المكان على ما ذكرنا والله أعلم
* (فصل) * وأما طواف الصدر فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان وجوبه وفي بيان شرائطه وفي بيان قدره
وكيفيته وما يسن له أن يفعله بعد فراغه منه وفي بيان وقته وفي بيان مكانه وحكمه إذا نفر ولم يطف أما الأول
فطواف الصدر واجب عندنا وقال الشافعي سنة وجه قوله مبنى على أنه لا يفرق بين الفرض والواجب وليس
بفرض بالاجماع فلا يكون واجبا لكنه سنة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على المواظبة وانه دليل
السنة ثم دليل عدم الوجوب انا أجمعنا على أنه لا يجب على الحائض والنفساء ولو كان واجبا لوجب عليهما
كطواف الزيارة ونحن نفرق بين الفرض والواجب على ما عرف ودليل الوجوب ما روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف ومطلق الامر لوجوب العمل الا أن الحائض
خصت عن هذا العموم بدليل وهو ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء الحيض ترك طواف
الصدر لعذر الحيض ولم يأمرهن بإقامة شئ آخر مقامه وهو الدم وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر انه
لا يجب بتركه من المعذور كفارة والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائطه فبعضها شرائط الوجوب وبعضها شرائط الجواز أما شرائط الوجوب فمنها أن يكون من
أهل الآفاق فليس على أهل مكة ولا من كان منزله داخل المواقيت إلى مكة طواف الصدر إذا حجوا لان هذا
الطواف إنما وجب توديعا للبيت ولهذا يسمى طواف الوداع ويسمى طواف الصدر لوجوده عند صدور الحجاج
ورجوعهم إلى وطنهم وهذا لا يوجد في أهل مكة لأنهم في وطنهم وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة فلا يجب
عليهم كما لا يجب على أهل مكة وقال أبو يوسف أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر لأنه وضع لختم أفعال
الحج وهذا المعنى يوجد في أهل مكة ولو نوى الآفاقي الإقامة بمكة أبدا بان توطن بها واتخذها دارا فهذا لا يخلو
من أحد وجهين اما ان نوى الإقامة بها قبل إن يحل النفر الأول واما ان نوى بعد ما حل النفر الأول فان نوى
الإقامة قبل إن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر أي لا يجب عليه بالاجماع وان نوى بعدما حل النفر الأول
لا يسقط وعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف يسقط عنه الا إذا كان شرع فيه ووجه قوله إن
ه لما نوى الإقامة صار كواحد من أهل مكة وليس على أهل مكة طواف الصدر الا إذا شرع فيه لأنه وجب
عليه بالشروع فلا يجوز له تركه بل يجب عليه المضي فيه ووجه قول أبي حنيفة انه إذا حل له النفر فقد وجب عليه
الطواف لدخول وقته الا انه مرتب على طواف الزيارة كالوتر مع العشاء فنية الإقامة بعد ذلك لا تعمل كما
إذا نوى الإقامة بعد خروج وقت الصلاة ومنها الطهارة من الحيض والنفاس فلا يجب على الحائض والنفساء
حتى لا يجب عليهما الدم بالترك لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للحيض ترك هذا الطواف
142

لا إلى بدل فدل أنه غير واجب عليهن إذ لو كان واجبا لما جاز تركه لا إلى بدل وهو الدم فاما الطهارة عن الحدث
والجنابة فليست بشرط للوجوب ويجب على المحدث والجنب لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك
عذرا والله أعلم
* (فصل) * وأما شرائط جوازه فمنها النية لأنه عبادة فلا بد له من النية فاما تعيين النية فليس بشرط حتى لو طاف
بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا أو نوى تطوعا كان للصدر لان الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه كما في صوم
رمضان ومنها أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوى شيئا أو نوى تطوعا أو
الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر لان الوقت له طواف وطواف الصدر مرتب عليه فاما النفر على فور
الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف للصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر فان فيل أليس
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف فقد أمر أن يكون آخر عهده
الطواف بالبيت ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به فيجب ان لا يجوز ان إذ لم يأت بالمأمور به فالجواب
أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة والطواف آخر مناسكه بالبيت وان تشاغل بغيره وروى عن أبي حنيفة
أنه قال إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلى أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل وكذا
الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به والأفضل ان يعيد
طاهرا فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا لان النقص كثير فيجبر بالشاة كما لو ترك أكثر الأشواط وإن كان محدثا
ففيه روايتان عن أبي حنيفة في رواية عليه صدقة وهي الرواية الصحيحة وهو قول أبى يوسف ومحمد لان النقص
يسير فصار كشوط أو شوطين وفى رواية عليه شاة لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة وكذا ستر عورته ليس
بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز ولكن يجب عليه الدم وكذا الطهارة
عن النجاسة الا انه يكره ولا شئ عليه والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة والله أعلم
* (فصل) * وأما قدره وكيفيته فمثل سائر الاطوفة ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما وقته فقد روى عن أبي حنيفة أنه قال ينبغي للانسان إذا أراد السفر ان يطوف طواف الصدر حين
يريد ان ينفر وهذا بيان الوقت المستحب لا بيان أصل الوقت ويجوز في أيام النحر وبعدها ويكون أداء لا قضاء
حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا جاز طوافه وان أقام سنة بعد
الطواف الا ان الأفضل أن يكون طوافه عند الصدر لما قلنا ولا يلزمه شئ بالتأخير عن أيام النحر بالاجماع
* (فصل) * وأما مكانه فحول البيت لا يجوز الا به لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فليكن آخر عهده
به الطواف والطواف بالبيت هو الطواف حوله فان نفر ولم يطف يجب عليه ان يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات
لأنه ترك طوافا واجبا وأمكنه ان يأتي به من غير الحاجة إلى تجديد الاحرام فيجب عليه ان يرجع ويأتي به وان
جاوز الميقات لا يجب عليه الرجوع لأنه لا يمكنه الرجوع الا بالتزام عمرة بالتزام احرامها ثم إذا أراد أن يمضى مضى
وعليه دم وان أراد أن يرجع أحرم بعمرة ثم رجع وإذا رجع يبتدئ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شئ عليه
لتأخيره عن مكانه وقالوا الأولى ان لا يرجع ويريق دما مكان الطواف لان هذا نفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه
من دفع مشقة السفر وضرر التزام الاحرام والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان سنن الحج وبيان الترتيب في أفعاله من الفرائض والواجبات والسنن فنقول وبالله التوفيق
إذا أراد أن يحرم اغتسل أو توضأ والغسل أفضل لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ ذا الحليفة
اغتسل لاحرامه وسواء كان رجلا أو امرأة والمرأة طاهرة عن الحيض والنفاس أو حائض أو نفساء لان المقصود من
إقامة هذه السنة النظافة فيستوي فيها الرجل والمرأة وحال طهر المرأة وحيضها ونفاسها والدليل عليه أيضا ما روى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل تحت الشجرة في بيعة الرضوان أتاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال
143

له ان أسماء قد نفست وكانت ولدت محمد بن أبي بكر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مرها فلتغتسل
ولتحرم بالحج وكذا روى أن عائشة رضي الله عنها حاضت فأمرها بالاغتسال والاهلال بالحج والامر بالاغتسال
في الحديثين على وجه الاستحباب دون الايجاب لان الاغتسال عن الحيض والنفاس لا يجب حال قيام الحيض
والنفاس وإنما كان الاغتسال أفضل لان النبي صلى الله عليه وسلم اختاره على الوضوء لاحرامه وكان يختار من
الاعمال أفضلها وكذا أمر به عائشة وأسماء رضي الله عنهما ولان معنى النظافة فيه أتم وأوفر ويلبس ثوبين
ازار أو رداء لأنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثوبين ازار أو رداء ولان المحرم ممنوع عن لبس المخيط ولابد
من ستر العورة وما يتقى به الحر والبرد وهذه المعاني تحصل بإزار ورداء جديدين كانا أو غسيلين لان المقصود
يحصل بكل واحد منهما الا ان الجديد أفضل لأنه أنظف وينبغي لولي من أحرم من الصبيان العقلاء ان يجرده
ويلبسه ثوبين ازار أو رداء لان الصبي في مراعاة السنن كالبالغ ويدهن باي دهن شاء ويتطيب باي طيب شاء
سواء كان طيبا تبقى عينه بعد الاحرام أو لا تبقى في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وهو قول محمد أولا ثم رجع وقال
يكره له ان يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الاحرام وحكى عن محمد في سبب رجوعه أنه قال كنت لا أرى به بأسا حتى
رأيت قوما أحضروا طيبا كثيرا ورأيت أمرا شنيعا فكرهته وهو قول مالك احتج محمد بما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال للاعرابي اغسل عنك هذا الخلوف وروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما انهما كرها ذلك ولأنه
إذا بقي عينه ينتقل من الموضع الذي طيبه إلى موضع آخر فيصير كأنه طيب ذلك الموضع ابتداء بعد الاحرام ولأبي
حنيفة وأبى يوسف ما روى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه حين
أحرم ولاحلاله حين أحل قبل إن يطوف بالبيت ولقد رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد احرامه ومعلوم ان وبيص الطيب إنما يتبين مع بقاء عينه فدل أن الطيب كان بحيث تبقى عينه بعد
الاحرام ولان التطيب بعد حصل مباحا في الابتداء لحصوله في غير حال الاحرام والبقاء على التطيب لا يسمى
تطيبا فلا يكره كما إذا حلق رأسه ثم أحرم وأما حديث الاعرابي فهو محمول على ما إذا كان عليه ثوب مزعفر
والرجل يمنع من المزعفر في غير حال الاحرام ففي حال الاحرام أولى حملناه على هذا توفيقا بين الحديثين بقدر
الامكان وأما حديث عمر وعثمان فقد روى عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما بخلافه فوقع التعارض فسقط
الاحتجاج بقولهما وما ذكر من معنى الانتقال إلى مكان آخر غير سديد لأن اعتباره يوجب الجزاء لو أنتقل وليس
كذلك بالاجماع ولو ابتدأ الطيب بعد الاحرام فوجبت عليه الكفارة فكفر وبقى عليه هل يلزمه كفارة أخرى
ببقاء الطيب عليه اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يلزمه كفارة أخرى لان ابتداء الاحرام كان محظورا لوجوده
في حال الاحرام فكذا البقاء عليه بخلاف المسألة الأولى وقال بعضهم لا يلزمه كفارة أخرى لان حكم الابتداء قد
سقط عنه بالكفارة والبقاء على الطيب لا يوجب الكفارة كما في المسألة الأولى ثم يصلى ركعتين لما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال أتاني آت من ربى وأنا بالعقيق وقال لي صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بعمرة
وحجة لأنه كان قارنا ثم ينوى الاحرام ويستحب له ان يتكلم بلسانه ما نوى بقلبه فيقول إذا أراد ان يحرم بالحج
اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله منى وإذا أراد أن يحرم بالعمرة يقول اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها
منى وإذا أراد القرآن يقول اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما منى لان الحج عبادة عظيمة فيها كلفة
ومشقة شديدة فيستحب الدعاء بالتيسير والتسهيل وبالقبول بعد التحصيل إذ لا كل عبادة تقبل الا ترى ان
إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام لما بنيا البيت على الوجه الذي أمرا ببنائه سألا ربهما قبول ما فعلا فقالا
ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم ويستحب ان يذكر الحج والعمرة أوهما في اهلاله ويقدم العمرة على الحج
في الذكر إذا أهل بهما فيقول لبيك بعمرة وحجة لما رينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاني آت من
ربى وأنا بالعقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بعمرة وحجة وإنما يقدم العمرة على الحج في الذكر
144

لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول كذلك ولأن العمرة تقدم على الحج في الفعل فكذا في الذكر ثم يلبى في دبر
كل صلاة وهو الأفضل عندنا وقال الشافعي الأفضل ان يلبى بعدما استوى على راحلته وقال مالك بعدما استوى
على البيداء وإنما اختلفوا فيه لاختلاف الرواية في أول تلبية النبي صلى الله عليه وسلم روى عن ابن عباس رضي الله عنه
انه لبى دبر صلاته وروى عن ابن عمر رضي الله عنه انه لبى حين ما استوى على راحلته وروى جابر بن
عبد الله رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لبى حين استوى على البيداء وأصحابنا أخذوا برواية ابن عباس رضي الله عنه
لأنها محكمة في الدلالة على الأولية ورواية ابن عمر وجابر رضي الله عنهما محتملة لجواز ان ابن عمر رضي الله عنه
لم يشهد تلبية النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة وإنما شهد تلبيته حال استوائه على الراحلة فظن أن ذلك
أول تلبيته فروى ما رأى وجابر لم ير تلبيته الا عند استوائه على البيداء فظن أنه أول تلبيته فروى ما رأى والدليل
على صحة هذا التأويل ما روى عن سعيد بن جبير أنه قال قلت لابن عباس كيف اختلف أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم في اهلاله فقال إنا أعلم بذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة ركعتين وأهل
بالحج وكانت ناقته مسرجة على باب المسجد وابن عمر عندها فرآه قوم فقالوا أهل عقيب الصلاة ثم استوى على
راحلته وأهل فكان الناس يأتونه ارسالا فأدركه قوم فقالوا إنما أهل حين استوى على راحلته ثم ارتفع على البيداء
فأهل فأدركه قوم فقالوا إنما أهل حين ارتفع على البيداء وأيم الله لقد أوجبه في مصلاه ويكثر التلبية بعد ذلك في
أدبار الصلوات فرائض كانت أو نوافل وذكر الطحاوي انه يكثر في ادبار المكتوبات دون النوافل والفوائت وأجراها
مجرى التكبير في أيام التشريق والمذكور في ظاهر الرواية في ادبار الصلوات عاما من غير تخصيص ولان فضيلة
التلبية عقيب الصلاة لاتصالها بالصلاة التي هي ذكر الله عز وجل إذ الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر الله تعالى
وهذا يوجد في التلبية عقيب كل صلاة وكلما علا شرفا وكلما هبط واديا وكلما لقى ركبا وكلما استيقظ من منامه وبالاسحار
لما روى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا كانوا يفعلون ويرفع صوته بالتلبية لما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال أفضل الحج العج والثج والعج هو رفع الصوت بالتلبية والثج هو سيلان الدم وعن خلاد بن
السائب الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاني جبريل وأمرني ان آمر أصحابي
ومن معي ان يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج أمر برفع الصوت في التلبية وأشار إلى المعنى وهو انها من
شعائر الحج والسبيل في أذكار هي من شعائر الحج اشهارها واظهارها كالاذان ونحوه والسنة ان يأتي بتلبية رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهي أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك
لك كذا روى عن ابن مسعود وابن عمر هذه الألفاظ في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فالسنة ان يأتي بها ولا
ينقص شيئا منها وان زاد عليها فهو مستحب عندنا وعند الشافعي لا يزيد عليها كما لا ينقص منها وهذا غير سديد لأنه
لو نقص منها لترك شيئا من السنة ولو زاد عليها فقد أتى بالسنة وزيادة والدليل عليه ما روى عن جماعة من الصحابة
رضي الله عنهم انهم كانوا يريدون على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن مسعود رضى الله تعالى عنه
يزيد لبيك عدد التراب لبيك لبيك ذا المعارج لبيك لبيك اله الحق لبيك وكان ابن عمر يزيد لبيك وسعديك والخير
كله بيديك لبيك والرغباء إليك ويروى والعمل والرغباء إليك ولان هذا من باب الحمد لله تعالى والثناء عليه فالزيادة
عليه تكون مستحبة لا مكروهة ثم اختلفت الرواية في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة وهي
قوله لبيك ان الحمد والنعمة لك رويت بالكسر والفتح والكسر أصح وهكذا ذكر محمد في الأصل أن الأفضل
أن يقول بالكسر وإنما كان كذلك لان معنى الفتح فيها يكون على التفسير أو التعليل أي ألبي بان الحمد لك
أو البى لان الحمد لك أي لأجل ان الحمد لك وإذا كسرتها صار ما بعدها ثناء وذكرا مبتدأ لا تفسيرا ولا تعليلا
فكان أبلغ في الذكر والثناء فكان أفضل وإذا قدم مكة فلا يضره ليلا دخلها أو نهارا لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخلها نهارا وروى أنه دخلها ليلا وكذا روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها دخلتها ليلا وروى أن
145

الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما دخلاها ليلا وما روى عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه نهى عن دخول مكة
ليلا فهو محمول على نهى الشفقة مخافة السرقة كذا أوله إبراهيم النخعي ولأنه إذا دخل ليلا لا يعرف موضع
النزول فلا يدرى أين ينزل وربما نزل في غير موضع النزول فيتأذى به ويدخل المسجد الحرام والأفضل أن
يدخل من باب بنى شيبة ويقول اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأعذني من الشيطان الرجيم وإذا وقع نظره على
البيت يقول ويخفى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم هذا بيتك عظمته وشرفته وكرمته فزده
تعظيما وتشريفا وتكريما ويبدأ بالحجر الأسود فإذا استقبله كبر ورفع يديه كما يرفعهما في الصلاة لكن حذو
منكبيه لما روى عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد بدأ بالحجر الأسود فاستقبله وكبر
وهلل وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلاة أنه قال لا ترفع الأيدي الا في سبع مواطن وذكر
من جملتها عند استلام الحجر الأسود ثم يرسلهما ويستلم الحجر ان أمكنه ذلك من غير أن يؤذى أحدا والأفضل
أن يقبله لما روى أن عمر رضى الله تعالى عنه التزمه وقبله وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا
وروى أنه قال والله انى لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك
ما قبلتك وفى رواية أخرى قال لولا انى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمك ما استلمتك ثم استلمه وعن
ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه فبكى
طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر يبكى فقال له ما يبكيك فقال يا رسول الله رأيتك تبكى فبكيت لبكائك فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ههنا تسكب العبرات وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال طاف رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ثم يرده إلى فيه وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليبعثن الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما وأذنان يسمع بهما
ولسان ينطق به فيشهد لمن استلمه بالحق وروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستلمون الحجر
ثم يقبلونه فيلتزمه ويقبله ان أمكنه ذلك من غير أن يؤذى أحدا لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال لعمر يا أبا حفص انك رجل قوى وانك تؤذي الضعيف فإذا وجدت مسلكا فاستلم والا فدع وكبر وهلل
ولان الاستلام سنة وايذاء المسلم حرام وترك الحرام أولى من الاتيان بالسنة وإذا لم يمكنه ذلك من غير أن يؤذى
استقبله وكبر وهلل وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلى عليه في الصلاة ولم يذكر
عن أصحابنا فيه دعاء بعينه لان الدعوات لا تحصى وعن مجاهد أنه كأن يقول إذا أتيت الركن فقل اللهم إني أسألك
إجابة دعوتك وابتغاء رضوانك واتباع سنة نبيك وعن عطا رضى الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا مر بالحجر الأسود قال أعوذ برب هذا الحجر من الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب القبر ولا يقطع
التلبية عند استلام الحجر ويقطعها في العمرة لما نذكر إن شاء الله ثم يفتتح الطواف وهذا الطواف يسمى طواف
اللقاء وطواف التحية وطواف أول عهد بالبيت وانه سنة عند عامة العلماء وقال مالك انه فرض واحتج بظاهر
قوله عز وجل وليطوفوا بالبيت العتيق أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية ولنا أنه لا يجب
على أهل مكة بالاجماع ولو كان ركنا لوجب عليهم لان الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم كطواف الزيارة
فلما لم يجب على أهل مكة دل أنه ليس بركن والمراد من الآية طواف الزيارة لاجماع أهل التفسير ولأنه خاطب
الكل بالطواف بالبيت وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل
على أن المراد هو طواف الزيارة وكذا سياق الآية دليل عليه لأنه أمرنا بذبح الهدايا بقوله عز وجل ليذكروا
اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وأمر بقضاء التفث وهو الحلق والطواف بالبيت عقيب
ذبح الهدى لان كلمة ثم للترتيب مع التعقيب فيقتضى أن يكون الحلق والطواف مرتبين على الذبح والذبح يختص
بأيام النحر لا يجوز قبلها فكذا الحلق والطواف وهو طواف الزيارة فأما طواف اللقاء فإنه يكون سابقا على أيام
146

النحر فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف الزيارة وبه نقول إنه ركن وإذا افتتح الطواف يأخذ عن يمينه
مما يلي الباب فيطوف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول ويمشي على هينته في الأربعة الباقية
والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف
بالبيت سبعة أشواط وأما الرمل فالأصل فيه أن كل طواف بعده سعى فمن سننه الاضطباع والرمل في الثلاثة
الأشواط الأول منه وكل طواف ليس بعده سعى فلا رمل فيه وهذا قول عامة الصحابة رضى الله تعالى عنهم الا
ما حكى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الرمل في الطواف ليس بسنة وجه قوله إن النبي صلى الله عليه
وسلم إنما رمل وندب أصحابه إليه لاظهار الجلد للمشركين وابداء القوة لهم من أنفسهم فإنه روى أنه دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وكفار قريش قد صفت عند دار الندوة ينظرون إليهم ويستضعفونهم
ويقولون أوهنتهم حمى يثرب فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه ورمل ثم قال رحم
الله امرأ أبدى من نفسه جلدا وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة وذلك
المعنى قد زال فلم يبق الرمل سنة لكنا نقول الرواية عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لا تكاد تصح لأنه قد صح
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بعد فتح مكة وروى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا وكذا أصحابه رضى الله تعالى عنهم بعده
رملوا وكذا المسلمون إلى يومنا هذا فصار الرمل سنة متواترة فاما ان يقال إن أول الرمل كان لذلك السبب وهو اظهار
الجلادة وابداء القوة للكفرة ثم زال ذلك السبب وبقيت سنة الرمل على الأصل المعهود ان بقاء السبب ليس بشرط
لبقاء الحكم كالبيع والنكاح وغيرهما واما أن يقال لما رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال ذلك السبب صار
الرمل سنة مبتدأة فنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وإن كان لا نعقل معناه والى هذا أشار عمر رضى الله تعالى
عنه حين رمل في الطواف وقال مالي أهز كتفي وليس ههنا أحد رأيته لكن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو قال لكن أفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرمل من الحجر إلى الحجر وهذا قول عامة العلماء وقال
سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وطاوس رضى الله تعالى عنهم لا يرمل بين الركن اليماني وبين الحجر الأسود وإنما
يرمل من الجانب الآخر وجه قولهم إن الرمل في الأصل كان لاظهار الجلادة للمشركين والمشركون إنما كانوا
يطلعون على المسلمين من ذلك الجانب فإذا صاروا إلى الركن اليماني لم يطلعوا عليهم لصيرورة البيت حائلا
بينهم وبين المسلمين ولنا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا من الحجر إلى الحجر والجواب
عن قولهم إن الرمل كان لاظهار القوة والجلادة ان الرمل الأول كان لذلك وقد زال وبقى حكمه أو صار الرمل
بعد ذلك سنة مبتدأة لا لما شرع له الأول بل لمعنى آخر لا نعقله وأما الاضطباع فلما روينا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يرمل مضطبعا بردائه وتفسير الاضطباع بالرداء هو أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ويرد
طرفه على يساره ويبدى منكبه الأيمن ويغطى الأيسر سمى اضطباعا لما فيه من الضبع وهو العضد لما فيه
من ابداء الضبعين وهما العضدان فان زوحم في الرمل وقف فإذا وجد فرجة رمل لأنه ممنوع من فعله الاعلى
وجه السنة فيقف إلى أن يمكنه فعله على وجه السنة ويستلم الحجر في كل شوط يفتتح به ان استطاع من غير أن
يؤذى أحدا لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بالحجر الأسود استلمه ولان كل شوط
طواف على حدة فكان استلام الحجر فيه مسنونا كالشوط الأول وان لم يستطع استقبله وكبر وهلل وأما الركن
اليماني فلم يذكر في الأصل أن استلامه سنة ولكنه قال إن استلمه فحسن وان تركه لم يضره في قول أبي حنيفة
رحمه الله وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة وقال محمد رحمه الله يستلمه ولا يتركه وهذا يدل على أن استلامه
سنة ولا خلاف في أن تقبيله ليس بسنة وقال الشافعي يستلمه ويقبل يده وجه قول محمد ما روى عن عمر رضى الله
تعالى عنه أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين ولا يستلم غيرهما وعن ابن عباس
147

رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ويضع خده عليه وجه ما ذكر في
الأصل وهو أنه مستحب وليس بمسنون أنه ليس من السنة تقبيله ولو كان مسنونا لسن تقبيله كالحجر الأسود
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ولم يقبله وهذا يدل على أنه مستحب
وليس بسنة وأما الركنان الآخران وهما العراقي والشامي فلا يستلمهما عند عامة الصحابة رضي الله عنهم وهو
قولنا وعن معاوية وزيد بن ثابت وسويد بن غفلة رضي الله عنهم أنه يستلم الأركان الأربعة وعن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه رأى معاوية وسويدا استلما جميع الأركان فقال ابن عباس لمعاوية إنما يستلم هذين الركنين
فقال معاوية ليس شئ من البيت مهجورا والصحيح قول العامة لان الاستلام إنما عرف سنة بفعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما استلم غير الركنين لما روينا عن عمر رضي الله عنه
أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين ولا يستلم غيرهما ولان الاستلام لأركان البيت
والركن الشامي والعراقي ليسا من الأركان حقيقة لان ركن الشئ ناحيته وهما في وسط البيت لان الحطيم من
البيت وجعل طوافه من وراء الحطيم فلو لم يجعل طوافه من ورائه لصار تاركا الطواف ببعض البيت الا
أنه لا يجوز التوجه إليه في الصلاة لما ذكرنا فيما تقدم وإذا فرغ من الطواف يصلى ركعتين عند المقام أو حيث
تيسر عليه من المسجد وركعتا الطواف واجبة عندنا وقال الشافعي سنة بناء على أنه لا يعرف الواجب الا
الفرض وليستا بفرض وقد واظب عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانتا سنة ونحن نفرق بين الفرض
والواجب ونقول الفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به والواجب ما ثبت وجوبه بدليل غير مقطوع به
ودليل الوجوب قوله عز وجل واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قيل في بعض وجوه التأويل ان مقام إبراهيم
ما ظهر فيه آثار قدميه الشريفين عليه الصلاة والسلام وهو حجارة كان يقوم عليها حين نزوله وركوبه من الإبل
حين كان يأتي إلى زيارة هاجر وولده إسماعيل فامر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ ذلك الموضع مصلى يصلى
عنده صلاة الطواف مستقبلا الكعبة على ما روى أن النبي عليه السلام لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني ليصلى
فقال عمر رضى الله تعالى عنه ألا نتخذ مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ومطلق
الامر لوجوب العمل وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف أتى المقام وصلى عنده ركعتين وتلا
قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وروى عن عمر رضي الله عنه انه نسي ركعتي الطواف فقضاهما بذى
طوى فدل انها واجبة ثم يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ليكون افتتاح السعي بين الصفا والمروة باستلام الحجر
كما يكون افتتاح الطواف باستلام الحجر الأسود والأصل فيه ان كل طواف بعده سعى فإنه يعود بعد الصلاة إلى
الحجر وكل طواف لا سعى بعده لا يعود إلى الحجر كذا روى عن عمر وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وعن
عائشة رضي الله عنها انه لا يعود وإن كان بعده سعى وهو قول عمر بن عبد العزيز والصحيح انه يعود لما روى عن
جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه صلى ركعتين خلف المقام وقرأ فيهما آيات من
سورة البقرة وقرأ فيهما واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ورفع صوته يسمع الناس ثم رجع إلى الركن فاستلمه ولان
السعي مرتب على الطواف لا يجوز قبله ويكره ان يفصل بين الطواف وبين السعي فصار كبعض أشواط الطواف
والاستلام بين كل شوطين سنة وهذا المعنى لا يوجد في طواف لا يكون بعده سعى لأنه إذا لم يكن بعده سعى لا يوجد
الملحق له بالأشواط فلا يعود إلى الحجر ثم يخرج إلى الصفا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن
وخرج إلى الصفا فقال نبدأ بما بدأ الله به وتلا قوله تعالى ان الصفا والمروة من شعائر الله ولم يذكر في الكتاب انه
من أي باب يخرج من باب الصفا أو من حيث تيسر له وما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خرج من باب الصفا فذلك ليس على وجه السنة عندنا وإنما خرج منه لقربه من الصفا أو لأمر آخر ويصعد على
الصفا إلى حيث يرى الكعبة فيحول وجهه إليها ويكبر ويهلل ويحمد الله تعالى ويثنى عليه ويصلى على النبي صلى
148

الله عليه وسلم ويدعو الله تعالى بحوائجه ويرفع يديه ويجعل بطون كفيه إلى السماء لما روى عن جابر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى على الصفا حتى بدا له البيت ثم كبر ثلاثا وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له
له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده
وجعل يدعو بعد ذلك ثم يهبط نحو المروة فيمشي على هينته حتى ينتهى إلى بطن الوادي فإذا كان عند الميل
الأخضر في بطن الوادي سعى حتى يجاوز الميل الأخضر فيسعى بين الميلين الأخضرين لحديث جابر أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما فرغ من الدعاء مشى نحو المروة حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى وقال في سعيه رب
اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم أنك أنت الأعز الأكرم وكان عمر رضي الله عنه إذا رمل بين الصفا والمروة قال اللهم
استعملني بسنة نبيك وتوفني على ملته وأعذني من عذاب القبر ثم يمشى على هينته حتى يأتي المروة فيصعد عليها
ويقوم مستقبل القبلة فيحمد الله تعالى ويثنى عليه ويكبر ويهلل ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل
الله تعالى حوائجه فيفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل
ويطوف بينهما سبعة أشواط هكذا يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ويسعى في بطن الوادي في كل شوط ويعد البداية
شوطا والعود شوطا آخر خلافا لما قاله الطحاوي انهما يعدان جميعا شوطا واحدا وانه خلاف ظاهر الرواية لما بينا
فيما تقدم فإذا فرغ من السعي فإن كان محرما بالعمرة ولم يسق الهدى يحلق أو يقصر فيحل لان أفعال العمرة هي
الطواف والسعي فإذا أتى بهما لم يبق عليه شئ من أفعال العمرة فيحتاج إلى الخروج منها بالتحلل وذلك بالحلق أو
التقصير كالتسليم في باب الصلاة والحلق أفضل لما ذكرنا فيما تقدم فإذا حلق أو قصر حل له جميع محظورات الاحرام
وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا وقال الشافعي يقع التحلل من العمرة بالسعي ومن الحج بالرمي والمسألة قد مرت في بيان
واجبات الحج وإن كان قد ساق الهدى لا يحلق ولا يقصر للعمرة بل يقيم حراما إلى يوم النحر لا يحل له التحلل
الا يوم النحر عندنا وعند الشافعي سوق الهدى لا يمنع من التحلل ونذكر المسألة في التمتع إن شاء الله تعالى وإن كان
محرما بالحج فإن كان مفردا به يقيم على احرامه ولا يتحلل لان افعال الحج عليه باقية فلا يجوز له التحلل إلى يوم
النحر ومن الناس من قال يجوز له ان يفتتح احرام الحج بفعل العمرة وهو الطواف والسعي والتحلل منها بالحلق
أو التقصير لما روى عن جابر رضي الله عنه ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أهلوا بالحج مفردين فقال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم أحلوا من احرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا
كان يوم التروية أهلوا بالحج فالجواب أن ذلك كان ثم نسخ وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال اشهد أن فسخ الاحرام
كان خاصا للركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قارنا فإنه يطوف طوافين ويسعى سعيين عندنا
فيبدأ أولا بالطواف والسعي للعمرة فيطوف ويسعى للعمرة ثم يطوف ويسعى للحج كما وصفنا وعند الشافعي
يطوف لهما جميعا طوافا واحدا ويسعى لهما سعيا واحدا وهذا بناء على أن القارن عندنا محرم باحرامين باحرام
العمرة واحرام الحج ولا يدخل احرام العمرة في احرام الحج وعنده يحرم باحرام واحد ويدخل احرام العمرة في
احرام الحج لان نفس العمرة لا تدخل في الحجة ولان الاحرام على أصله ركن لما نذكر فكان من أفعال الحج
والافعال يجوز فيها التداخل كسجدة التلاوة والحدود وغيرها ولنا ما روى عن علي وعبد الله بن مسعود
وعمران بن الحصين رضي الله عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافين وسعى
لهما سعيين ولان القارن محرم بالعمرة ومحرم بالحجة حقيقة لان قوله لبيك بعمرة وحجة معناه لبيك بعمرة ولبيك
بحجة كقوله جاءني زيد وعمرو ان معناه جاءني زيد وجاءني عمرو وإذا كان محرما بكل واحد منهما يطوف ويسعى لكل
واحد منهما طوافا على حدة وسعيا على حدة وكذا تسمية القران يدل على ما قلنا إذ القران حقيقة يكون بين
شيئين إذ هو ضم شئ إلى شئ ومعنى الضم حقيقة فيما قلنا لا فيما قاله واعتبار الحقيقة أصل في الشريعة وأما الحديث
فمعناه دخل وقت العمرة في وقت الحج لان سبب ذلك أنهم كانوا يعدون العمرة في وقت الحج من أفجر الفجور ثم
149

رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة أي دخل وقت العمرة في وقت
الجمعة وهو أشهر الحج ويحتمل ما قلنا ويحتمل ما قاله فلا يكون حجة مع الاحتمال ولو طاف القارن طوافين
متواليين وسعى سعيين متواليين أجزأه وقد أساء اما الجواز فلانه أتى بوظيفة من الطوافين والسعيين وأما الإساءة
فلتركه السنة وهي تقديم أفعال الحج على أفعال العمرة ولو طاف أولا بحجته وسعى لها ثم طاف لعمرته وسعى لها
فنيته لغو وطوافه الأول وسعيه يكونان للعمرة لما مر أن أفعال العمرة تترتب على ما أوجبه احرامه واحرامه
أوجب تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج فلغت نيته وإذا فرغ من أفعال العمرة لا يحلق ولا يقصر لأنه بقي
محرما باحرام الحج وإن كان متمتعا فإذا قدم مكة فإنه يطوف ويسعى لعمرته ثم يحرم بالحج في أشهر الحج ويلبس
الإزار والرداء ويلبى بالحج لان هذا ابتداء دخوله في الحج للاحرام بالحج وله ان يحرم من جوف مكة أو من
الأبطح أو من أي حرم شاء وله ان يحرم يوم التروية عند الخروج إلى منى وقيل يوم التروية وكلما قدم الاحرام
بالحج على يوم التروية فهو أفضل عندنا وقال الشافعي الأفضل ان يحرم يوم التروية واحتج بما روى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالاحرام يوم التروية فدل ان ذلك أفضل ولنا ما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال من أراد الحج فليتعجل وأدنى درجات الامر الندب ولان التعجيل من باب المسارعة
إلى العبادة فكان أولي ولأنه أشق على البدن لأنه إذا أحرم بالحج يحتاج إلى الاجتناب عن محظورات الاحرام
وأفضل الاعمال أحمزها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الحديث فإنما ندب إلى الاحرام بالحج
يوم التروية لركن خاص اختار لهم الأيسر على الأفضل ألا ترى انه أمرهم بفسخ احرام الحج وانه لا يفسخ
اليوم وإذا أحرم المتمتع بالحج فلا يطوف بالبيت ولا يسعى في قول أبي حنيفة ومحمد لان طواف القدوم للحج لمن
قدم مكة باحرام الحج والمتمتع إنما قدم مكة باحرام العمرة لا باحرام الحج وإنما يحرم للحج من مكة وطواف القدوم
لا يكون بدون القدوم وكذلك لا يطوف ولا يسعى أيضا لان السعي بدون الطواف غير مشروع ولان المحل الأصلي
للسعى ما بعد طواف الزيارة لان السعي واجب وطواف الزيارة فرض والواجب يصلح تبعا للفرض فأما طواف
القدوم فسنة والواجب لا يتبع السنة الا أنه رخص تقديمه على محله الأصلي عقيب طواف القدوم فصار واجبا
عقيبه بطريق الرخصة وإذا لم يوجد طواف القدوم يؤخر السعي إلى محله الأصلي فلا يجوز قبل طواف الزيارة وروى
الحسن عن أبي حنيفة ان المتمتع إذا أحرم بالحج يوم التروية أو قبله فان شاء طاف وسعى قبل إن يأتي إلى منى
وهو أفضل وروى هشام عن محمد انه ان طاف وسعى لا بأس به ووجه ذلك ان هذا الطواف ليس بواجب بل
هو سنة وقد ورد الشرع بوجوب السعي عقيبه وإن كان واجبا رخصة وتيسيرا في حق المفرد بالحج والقارن
فكذا المتمتع والجواب نعم انه سنة لكنه سنة القدوم للحج لمن قدم باحرام الحج والمتمتع لم يقدم مكة باحرام الحج
فلا يكون سنة في حقه وعن الحسن بن زياد انه فرق بينهما قبل الزوال وبعده فقال إذا أحرم يوم التروية طاف
وسعى الا أن يكون أحرم بعد الزوال ووجهه ان بعد الزوال يلزمه الخروج إلى منى فلا يشتغل بغيره وقبل الزوال لا
يلزمه الخروج فكان له ان يطوف ويسعى والجواب ما ذكرنا وإذا فرغ المفرد بالحج أو القارن من السعي يقيم على
احرامه ويطوف طواف التطوع ماشيا إلى يوم التروية لان الطواف خير موضوع كالصلاة فمن شاء استقل ومن
شاء استكثر وطواف التطوع أفضل من صلاة التطوع للغرباء واما لأهل مكة فالصلاة أفضل لان الغرباء
يفوتهم الطواف إذ لا يمكنهم الطواف في كل مكان ولا تفوتهم الصلاة لأنه يمكن فعلها في كل مكان وأهل مكة
لا يفوتهم الطواف ولا الصلاة فعند الاجتماع الصلاة أفضل وعلى هذا الغازي الحارس في دار الحرب انه إن كان
هناك من ينوب عنه في دار الحرب فصلاة التطوع أفضل له وان لم يكن فالحراسة أفضل ولا يرمل في هذا الطواف
بل يمشى على هينته ولا يسعى بعده بين الصفا والمروة غير السعي الأول ويصلى لكل أسبوع ركعتين في الوقت
الذي لا يكره فيه التطوع ويكره الجمع بين أسبوعين من غير صلاة بينهما عند أبي حنيفة ومحمد سواء انصرف
150

عن شفع أو وتر وقال أبو يوسف لا بأس به إذا انصرف عن وتر نحو ان ينصرف عن ثلاثة أسابيع أو عن خمسة
أسابيع أو عن سبعة أسابيع واحتج بما روى عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تجمع بين الطواف ثم تصلى
بعده ثم فرق أبو يوسف بين انصرافه عن شفع أو عن وتر فقال إذا انصرف عن أسبوعين وذلك أربعة عشر أو
أربعة أسابيع وذلك ثمانية وعشرون يكره ولو أنصرف عن ثلاثة أو عن خمسة لا يكره لان الأول شفع والثاني
وتر وأصل الطواف سبعة وهي وتر ولهما ان ترتيب الركعتين على الطواف كترتيب السعي عليه لان كل واحد
منهما واجب ثم لو جمع بين أسبوعين من الطواف وأخر السعي يكره فكذا إذا جمع بين أسبوعين منه وأخر الصلاة
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فيحمل أنها فعلت ذلك لضرورة وعذر فإذا كان يوم التروية وهو اليوم
الثامن من ذي الحجة يروح مع الناس إلى منى فيصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر لما روى عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام يوم التروية فخرج به إلى منى
فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم غدا به إلى عرفات وروى عن جابر رضي الله عنه أنه قال لما
كان يوم التروية توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح
ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وسار إلى عرفات فان دفع منها قبل طلوع الشمس جاز والأول أفضل لما
روينا فيخرج إلى عرفات على السكينة والوقار فإذا انتهى إليها نزل بها حيث أحب الا في بطن عرنة لما روى
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عرفات كلها موقف الا بطن عرنة ويغتسل يوم عرفة وغسل يوم عرفة
سنة كغسل يوم الجمعة والعيدين وعند الاحرام وذكر في الأصل ان اغتسل فحسن وهذا يشير إلى
الاستحباب ثم غسل يوم عرفة لأجل يوم عرفة أو لأجل الوقوف فيجوز أن يكون على الاختلاف الذي
ذكرنا في غسل يوم الجمعة في كتاب الطهارة فإذا زالت الشمس صعد الامام المنبر فاذن المؤذنون والامام على المنبر
في ظاهر الرواية فإذا فرغوا من الاذان قام الامام وخطب خطبتين وعن أبي يوسف ثلاث روايات روى عنه مثل
قول أبي حنيفة ومحمد وروى عنه انه يؤذن المؤذن والامام في الفسطاط ثم يخرج بعد فراغ المؤذن من الاذان
فيصعد المنبر ويخطب وروى الطحاوي عنه في باب خطب الحج أن الامام يبدأ بالخطبة قبل الاذان فإذا مضى صدر
من خطبته أذن المؤذنون ثم يتم خطبته بعد الاذان اما تقديم الخطبة على الصلاة فلان النبي صلى الله عليه وسلم
قدمها على الصلاة ولان المقصود من هذه الخطبة تعليم أحكام المناسك فلا بد من تقديمها ليعلموا ولأنه لو أخرها
يتبادر القوم إلى الوقوف ولا يستمعون فلا يحصل المقصود من هذه الخطبة ثم هذه الخطبة سنة وليست بفريضة
حتى لو جمع بين الظهر والعصر فصلاهما من غير خطبة أجزأه بخلاف خطبة الجمعة لأنه لا تجوز الجمعة بدونها
والفرق ان هذه الخطبة لتعليم المناسك لا لجواز الجمع بين الصلاتين وفرضية خطبة الجمعة لقصر الصلاة وقيامها
مقام البعض على ما قالت عائشة رضي الله عنها إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة وقصر الصلاة ترك شطرها ولا
يجوز ترك الفرض الا لأجل الفرض فكانت الخطبة فرضا ولا قصر ههنا لان كل واحد من الفرضين يؤدى على
الكمال والتمام فلم تكن الخطبة فرضا الا أنه يكون مسيئا بترك الخطبة لأنه ترك السنة ولو خطب قبل الزوال
أجزأه وقد أساء اما الجواز فلأن هذه الخطبة ليست من شطر الصلاة فلا يشترط لها الوقت وأما الإساءة فلتركه
السنة إذ السنة أن تكون الخطبة بعد الزوال بخلاف خطبة يوم الجمعة فإنه إذا خطب قبل الزوال لا تجوز الجمعة لان
الخطبة هناك من فرائض الجمعة ألا ترى انه قصرت الجمعة لمكانها ولا يترك بعض الفرض الا لأجل الفرض
واما الكلام في وقت صعود الامام على المنبر انه يصعد قبل الاذان أو بعده فوجه رواية أبى يوسف ان الصلاة التي
تؤدى في هذا الوقت هي صلاة الظهر والعصر فيكون الاذان فيهما قبل خروج الامام كما في سائر الصلوات وكما في
الظهر والعصر في غير هذا المكان والزمان وجه ظاهر الرواية ان هذه الخطبة لما كانت متقدمة على الصلاة كان
هذا الاذان للخطبة فيكون بعد صعود الامام على المنبر كخطبة الجمعة وقد خرج الجواب عما قاله أبو يوسف ان
151

هذه صلاة الظهر والعصر لأنا نقول نعم لكن نقدم عليها الخطبة فيكون وقت الاذان بعدما صعد الامام المنبر للخطبة
كما في خطبة الجمعة فإذا فرغ المؤذنون من الاذان قام الامام وخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة خفيفة كما
يفصل في خطبة الجمعة وصفة الخطبة هي ان يحمد الله تعالى ويثنى عليه ويكبر ويهلل ويعظ الناس فيأمرهم بما
أمرهم الله عز وجل وينهاهم عما نهاهم الله عنه ويعلمهم مناسك الحج لان الخطبة في الأصل وضعت لما ذكرنا من
الحمد والثناء والتهليل والتكبير والوعظ والتذكير ويزاد في هذه الخطبة تعليم معالم الحج لحاجة الحجاج إلى ذلك
ليتعلموا الوقوف بعرفة والإفاضة منها والوقوف بمزدلفة فإذا فرغ من الخطبة أقام المؤذنون فصلى الامام بهم
صلاة الظهر ثم يقوم المؤذنون فيقيمون للعصر فيصلى بهم الظهر والعصر باذان واحد وإقامتين ولا يشتغل الامام
والقوم بالسنن والتطوع فيما بينهما لان النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بعرفة يوم عرفة باذان واحد وإقامتين
ولم يتنفل قبلهما ولا بعدهما مع حرصه على النوافل فان اشتغلوا فيما بينهما بتطوع أو غيره أعادوا الاذان للعصر
لان الأصل ان يؤذن لكل مكتوبة وإنما عرف ترك الاذان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وانه لم يشتغل فيما بين
الظهر والعصر بالتطوع ولا بغيره فبقي الامر عند الاشتغال على الأصل ويخفى الامام القراءة فيهما بخلاف الجمعة
والعيدين فإنه يجهر فيهما بالقراءة لان الجهر بالقراءة هناك من الشعائر والسبيل في الشعائر اشهارها وفى الجهر زيادة
اشهار فشرعت تلك الصلاة كذلك فأما الظهر والعصر فهما على حالهما لم يتغيرا لأنهما كظهر سائر الأيام وعصر
سائر الأيام والحادث ليس الا اجتماع الناس واجتماعهم للوقوف لا للصلاة وإنما اجتماعهم في حق الصلاة حصل
اتفاقا ثم إن كان الامام مقيما من أهل مكة يتم كل واحدة من الصلاتين أربعا أربعا والقوم يتمون معه وإن كانوا
مسافرين لان المسافر إذا اقتدى بالمقيم في الوقت يلزمه الاتمام لأنه بالاقتداء بالامام صار تابعا له في هذه الصلاة
وإن كان الامام مسافرا يصلى كل واحدة من الصلاتين ركعتين ركعتين فإذا سلم يقول لهم أتموا صلاتكم يا أهل مكة
فانا قوم سفر ثم لجواز الجمع أعني تقديم العصر على وقتها وأداءها في وقت الظهر شرائط بعضها متفق عليه وبعضها
مختلف فيه أما المتفق عليه فهو شرطان أحدهما أن يكون أداؤها عقيب الظهر لا يجوز تقديمها عليها لأنها شرعت
مرتبة على الظهر فلا يسقط الترتيب الا بأسباب مسقطة ولم توجد فلا تسقط فلزم مراعاة الترتيب والثاني أن تكون
مرتبة على ظهر جائزة استحسانا حتى لو صلى الامام بالناس الظهر والعصر في يوم غيم ثم استبان لهم أن الظهر
وقعت قبل الزوال والعصر بعد الزوال فعليهم إعادة الظهر والعصر جميعا استحسانا والقياس أن لا يكون هذا
شرطا وليس عليه الا إعادة الظهر وجه القياس الاعتبار بسائر الأيام فإنه إذا صلى العصر في سائر الأيام على ظن
أنه صلى الظهر ثم تبين أنه لم يصلها يعيد الظهر خاصة كذا ههنا والجامع أنه صلى العصر على ظن أنه ليس عليه الا
إعادة الظهر فأشبه الناسي والنسيان عذر مسقط للترتيب وجه الاستحسان أن العصر مؤداة قبل وقتها حقيقة
فالأصل أن لا يجوز أداء العبادة المؤقتة قبل وقتها وإنما عرفنا جوازها بالنص مرتبة على ظهر جائزة فإذا لم تجز
بقي الامر فيها على الأصل وأما المختلف فيه فمنها أن يكون أداء الصلاتين بالجماعة عند أبي حنيفة حتى لو صلى
العصر وحده أو الظهر وحده لا تجوز العصر قبل وقتها عنده وعند أبي يوسف ومحمد هذا ليس بشرط ويجوز
تقديمها على وقتها وجه قولهما أن جواز التقديم لصيانة الوقوف بعرفة لان أداء العصر في وقتها يحول بينه وبين
الوقوف وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين الوحدان والجماعة ولأبي حنيفة أن الجواز ثبت معدولا به عن الأصل
لأنها عبادة مؤقتة والعبادات المؤقتة لا يجوز تقديمها على أوقاتها الا أن جواز تقديم العصر على وقتها ثبت بالنص
غير معقول المعنى فيراعى فيه عين ما ورد به النص والنص ورد بجواز أداء العصر كاملا مرتبا على ظهر كامل وهي
المؤداة بالجماعة والمؤداة لا بجماعة لا تساويها في الفضيلة فلا يكون في معنى المنصوص عليه وقولهما ان الجواز
ثبت لصيانة الوقوف ممنوع ولا يجوز أن يكون معلولا به لان الصلاة لا تنافى الوقوف لأنها في نفسها وقوف
والشئ لا ينافي نفسه وإنما ثبت نصا غير معقول المعنى فيتبع فيه مورد النص وهو ما ذكرنا ولم يوجد ولو أدرك
152

ركعة من كل واحدة من الصلاتين مع الامام بان أدرك ركعة من الظهر ثم قام الامام ودخل في العصر فقام الرجل
وقضى ما فاته من الظهر فلما فرغ من الظهر دخل في صلاة الامام في العصر وأدرك شيئا من كل واحدة من
الصلاتين مع الامام جاز له تقديم العصر بلا خلاف لأنه أدرك فضيلة الجماعة فتقع العصر مرتبة على ظهر كامل
ومنها أن يكون أداء الصلاتين بامام وهو الخليفة أو نائبه في قول أبي حنيفة حتى لو صلى الظهر بجماعة لكن لا مع
الامام والعصر مع الامام لم تجز العصر عنده وعندهما هذا ليس بشرط والصحيح قول أبي حنيفة لما ذكرنا أن جواز
التقديم ثبت معدولا به عن الأصل مرتبا على ظهر كامل وهي المؤداة بالجماعة مع الامام أو نائبه فالمؤداة بجماعة
من غير امام أو نائبه لا تكون مثلها في الفضيلة فلا تكون في معنى مورد النص ولو أحدث الامام بعدما خطب
فأمر رجلا بالصلاة جاز له أن يصلى بهم الصلاتين جميعا سواء شهد المأمور الخطبة أو لم يشهد بخلاف الجمعة لان
الخطبة ليست هناك من شرائط جواز الجمعة وههنا الخطبة ليست بشرط لجواز الجمع بين الصلاتين والفرق
ما بينا فإن لم يأمر الامام أحدا فتقدم واحد من عرض الناس وصلى بهم الصلاتين جميعا لم يجز الجمع في قول أبي حنيفة
لان الامام أو نائبه شرط عنده ولم يوجد وعندهما يجوز وإن كان المتقدم رجلا من ذي سلطان كالقاضي
وصاحب الشرط جاز لأنه نائب الامام فإن كان الامام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا فإنه يصلى بهم
الظهر والعصر لأنه قائم مقام الامام فان فرغ من العصر قبل أن يرجع الإمام فان الامام لا يصلى العصر الا في
وقتها لأنه لما استخلف صار كواحد من المؤتمين والمؤتم إذا صلى الظهر مع الامام ولم يصل العصر معه لا يصلى العصر
الا في وقتها كذا هذا ومنها أن يكون محرما بالحج حال أداء الصلاتين جميعا حتى لو صلى الظهر بجماعة مع الامام
وهو حلال من أهل مكة ثم أحرم للحج لا يجوز له أن يصلى العصر الا في وقتها كذا ذكر في نوادر الصلاة وروى
عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه يجوز وهو قول زفر والصحيح رواية النوادر لان العصر شرعت
مرتبة على ظهر كامل وهو ظهر المحرم وظهر الحلال لا يكون مثل ظهر المحرم في الفضيلة فلا يجوز ترتيب
العصر على ظهر هي دون المنصوص عليه وعلى هذا إذا صلى الظهر بجماعة مع الامام وهو محرم لكن باحرام العمرة
ثم أحرم بالحج لا يجزئه العصر الا في وقتها وعند زفر يجوز كما في المسألة الأولى والصحيح قولنا لان ظهر المحرم
بالعمرة لا يكون مثل ظهر المحرم بالحج في الفضيلة فلا يكون أداء العصر في معنى مورد النص فلا تجوز الا في وقتها
ولو نفر الناس عن الامام فصلى وحده الصلاتين أجزاه ودلت هذه المسألة على أن الشرط في الحقيقة هو الامام
عند أبي حنيفة لا الجماعة فان الصلاتين جازتا للامام ولا جماعة فتبنى المسائل عليه إذ هو أقرب إلى الصيغة
ولا يلزمه على هذا ما إذا سبق الامام الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا وذهب الامام ليتوضأ فصلى الخليفة
الظهر والعصر ثم جاء الامام أنه لا يجوز له أن يصلى العصر الا في وقتها لأن عدم الجواز هناك ليس لعدم الجماعة بل
لعدم الامام لأنه خرج عن أن يكون اماما فصار كواحد من المؤتمين أو يقال الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لكن في حق غير الامام لا في حق الامام والله تعالى الموفق فان مات الامام فصلى بالناس خليفته جاز لان
موت الامام لا يوجب بطلان ولاية خلفائه كولاية السلطنة والقضاء فإذا فرغ الامام من الصلاة راح إلى الموقف
عقيب الصلاة وراح الناس معه لان النبي صلى الله عليه وسلم راح إليه عقيب الصلاة ويرفع الأيدي بسطا
يستقبل كما يستقبل الداعي بيده ووجهه لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يدعو بعرفات باسطا يديه في نحره كاستطعام المسكين فيقف الامام والناس إلى غروب الشمس يكبرون
ويهللون ويحمدون الله تعالى ويثنون عليه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون الله تعالى حوائجهم
ويتضرعون إليه بالدعاء لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الدعاء دعاء أهل عرفة وأفضل ما قلت
وقالت الأنبياء قبلي عشية يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت
بيده الخير وهو على كل شئ قدير وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أكثر دعائي ودعاء
153

الأنبياء قبل عشية يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير
اللهم اجعل في قلبي نورا وفى سمعي نورا وفى بصرى نورا اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأعوذ بك من
وسواس الصدور وسيآت الأمور وفتنة الفقر اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما تهب به الرياح
وليس عن أصحابنا فيه دعاء مؤقت لان الانسان يدعو بما شاء ولان توقيت الدعاء يذهب بالرقة لأنه يجرى على
لسانه من غير قصده فيبعد عن الإجابة ويلبى في موقفه ساعة بعد ساعة ولا يقطع التلبية وهذا قول عامة العلماء
وقال مالك إذا وقف بعرفة يقطع التلبية والصحيح قول العامة لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى حتى
رمى جمرة العقبة وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لبى عشية يوم عرفة فقيل له ليس هذا موضع
التلبية فقال أجهل الناس أم نسوا فوالذي بعث محمدا بالحق لقد حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما
ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة الا أن يخللها أو يخلطها بتكبير وتهليل ولان التلبية ذكر يؤتى به في ابتداء هذه
العبادة وتكرر في أثنائها فأشبه التكبير في باب الصلاة وكان ينبغي أن يؤتى به إلى آخر أركان هذه العبادة كالتكبير الا
أنا تركنا القياس فيما بعد رمى جمرة العقبة أو ما يقوم مقام الرمي في القطع بالاجماع فبقي الامر فيما قبل ذلك على أصل
القياس وسواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو متمتعا بخلاف المفرد بالعمرة أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر حين
يأخذ في طواف العمرة لان الطواف ركن في العمرة فأشبه طواف الزيارة في الحج وهناك يقطع التلبية قبل الطواف
كذا ههنا والأفضل أن يكون في الموقف مستقبل القبلة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير المجالس
ما استقبل به القبلة وروى عن جابر رضي الله عنه أنه قال ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف
فاستقبل به القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس فان انحرف قليلا لم يضره لان الوقوف ليس بصلاة وكذا لو وقف
وهو محدث أو جنب لم يضره لما مر أن الوقوف عبادة لا يتعلق بالبيت فلا يشترط له الطهارة كرمي الجمار والأفضل
للامام أن يقف على راحلته لان النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا وكلما قرب في وقوفه من الامام فهو أفضل
لان الامام يعلم الناس ويدعو فكلما كان أقرب كان أمكن من السماع وعرفات كلها موقف الا بطن عرنة فإنه
يكره الوقوف فيه لما ذكرنا في بيان مكان الوقوف فيقف إلى غروب الشمس فإذا غربت الشمس دفع الامام والناس
معه ولا يدفع أحد قبل غروب الشمس لا الامام ولا غيره لما مر أن الوقوف إلى غروب الشمس واجب وروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب عشية عرفة فقال أما بعد فان هذا يوم الحج الأكبر وان الجاهلية كانت تدفع
من ههنا والشمس على رؤس الجبال مثل العمائم على رؤس الرجال فخالفوهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدفع
منه بعد الغروب فان خاف بعض القوم الزحام أو كانت به علة فيقدم قبل الامام قليلا ولم يجاوز حد عرفة فلا بأس به
لأنه إذا لم يجاوز حد عرفة فهو في مكان الوقوف وقد دفع الضرر عن نفسه وان ثبت على مكانه حتى يدفع الامام فهو
أفضل لقوله تعالي ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وينبغي للناس أن يدفعوا وعليهم السكينة والوقار حتى يأتوا
مزدلفة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة حتى روى أنه كان يكبح ناقته وروى
أنه لما دفع من عرفات فقال أيها الناس ان البر ليس في ايجاف الخيل ولا في ابضاع الإبل بل على هينتكم ولان هذا
مشى إلى الصلاة لأنهم يأتون مزدلفة ليصلوا بها المغرب والعشاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتيتم الصلاة
فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون وعليكم السكينة والوقار فان أبطأ الامام بالدفع وتبين للناس الليل
دفعوا قبل الامام لأنه إذا تبين الليل فقد جاء أو ان الدفع والامام بالتأخير ترك السنة فلا ينبغي لهم أن يتركوها وإذا أتى
مزدلفة ينزل حيث شاء عن يمين الطريق أو عن يساره ولا ينزل على قارعة الطريق ولا في وادى محسر لقول النبي
صلى الله عليه وسلم مزدلفة كلها موقف الا وادى محسر وإنما لا ينزل على الطريق لأنه يمنع الناس عن الجواز
فيتأذون به فإذا دخل وقت العشاء يؤذن المؤذن ويقيم فيصلى الامام بهم صلاة المغرب في وقت صلاة العشاء ثم يصلى
بهم صلاة العشاء بأذان واحد وإقامة واحدة في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر باذان واحد وإقامتين وقال الشافعي
154

بأذانين وإقامة واحدة احتج زفر بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بمزدلفة بإقامتين
ولان هذا أحد نوعي الجمع فيعتبر بالنوع الآخر وهو الجمع بعرفة والجمع هناك بأذان واحد وإقامتين كذا ههنا
ولنا ما روى عن عبد الله بن عمر وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء
بمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال صليتهما مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بأذان واحد وإقامة واحدة وما احتج به زفر محمول على الأذان والإقامة فيسمى الاذان إقامة كما يقال
سنة العمرين ويراد به سنة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما وقال صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة لمن شاء الا
المغرب وأراد به الأذان والإقامة كذا ههنا والقياس على الجمع الا آخر غير سديد لان هناك الصلاة الثانية وهي
العصر تؤدى في غير وقتها فتقع الحاجة إلى إقامة أخرى للاعلام بالشروع فيها والصلاة الثانية ههنا وهي العشاء
تؤدى في وقتها فيستغنى عن تجديد الاعلام كالوتر مع العشاء ولا يتشاغل بينهما بتطوع ولا بغيره لان النبي صلى الله
عليه وسلم لم يتشاغل بينهما بتطوع ولا بغيره فان تطوع بينهما أو تشاغل بشئ أعاد الإقامة للعشاء لأنها انقطعت عن
الاعلام الأول فاحتاجت إلى اعلام آخر فان صلى المغرب وحده والعشاء وحده أجزأه بخلاف الظهر والعصر بعرفة
على قول أبي حنيفة أنه لا يجوز الا بجماعة عنده والفرق له أن المغرب تؤدى فيما هو وقتها في الجملة ان لم يكن وقت
أدائها فكان الجمع ههنا بتأخير المغرب عن وقت أدائها فيجوز فعلها وحده كما لو تأخرت عنه بسبب آخر فقضاه في
وقت العشاء وحده والعصر هناك تؤدى فيما ليس وقتها أصلا ورأسا فلا يجوز إذ لا جواز للصلاة قبل وقتها وإنما عرفنا
جوازها بالشرع وإنما ورد الشرع بها بجماعة فيتبع مورد الشرع والأفضل أن يصليهما مع الامام بجماعة لان
الصلاة بجماعة أفضل ولو صلى المغرب بعد غروب الشمس قبل أن يأتي مزدلفة فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل
طلوع الفجر لم تجز صلاته وعليه اعادتها ما لم يطلع الفجر في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وقال أبو يوسف
تجزئه وقد أساء وعلى هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول وقتها وجه قوله أنه أدى المغرب والعشاء في
وقتيهما لأنه ثبت كون هذا الوقت وقتا لهما بالكتاب العزيز والسنن المشهورة المطلقة عن المكان على ما ذكرنا في
كتاب الصلاة فيجوز كما لو أداها في غير ليلة المزدلفة الا أن التأخير سنة وترك السنة لا يسلب الجواز بل يوجب
الإساءة ولهما ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات وكان أسامة بن زيد رضي الله عنه رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما بلغ الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال ثم جاء فصببت عليه الوضوء
فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت الصلاة يا رسول الله فقال الصلاة أمامك وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال المصلى امامك
فجاء مزدلفة فتوضأ فاسبغ الوضوء فدل الحديث على اختصاص جوازها في حال الاختيار والامكان بزمان ومكان
وهو وقت العشاء بمزدلفة ولم يوجد فلا يجوز ويؤمر بالإعادة في وقتها ومكانها ما دام الوقت قائما فإن لم يعد حتى طلع
الفجر أعاد إلى الجواز عندهما أيضا لان الكتاب الكريم والسنن المشهورة تقتضي الجواز لأنها تقتضي كون الوقت
وقتا لها وانها مطلقة عن المكان وحديث أسامة رضي الله عنه يقتضى عدم الجواز وانه من أخبار الآحاد ولا يجوز
العمل بخبر الواحد على وجه يتضمن بطلان العمل بالكتاب والسنن المشهورة فيجمع بينهما فيعمل بخبر الواحد فيما
قبل طلوع الفجر ويؤمر بالإعادة ويعمل بالكتاب العزيز والسنن المشهورة فيما بعد طلوعه فلا نأمره بالإعادة
عملا بالدلائل بقدر الامكان هذا إذا كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر فاما إذا خشي أن يطلع الفجر قبل
أن يصل إلى مزدلفة لأجل ضيق الوقت بأن كان في آخر الليل بحيث يطلع الفجر قبل أن يأتي مزدلفة فإنه يجوز بلا
خلاف هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة لان بطلوع الفجر يفوت وقت الجمع فكان في تقديم الصلاة صيانتها عن
الفوات فإن كان لا يخشى الفوات لأجل ضيق الوقت ولكنه ضل عن الطريق لا يصلى بل يؤخر إلى أن يخاف طلوع
الفجر لو لم يصل فعند ذلك يصلى لما ذكرنا والله الموفق ويبيت ليلة المزدلفة بمزدلفة لان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بات بها فان مر بها مارا بعد طلوع الفجر من غير أن يبيت بها فلا شئ عليه ويكون مسيئا وإنما لا يلزمه شئ لأنه
155

أتى بالركن وهو كينونته بمزدلفة بعد طلوع الفجر لكنه يكون مسيئا لتركه السنة وهي البيتوتة بها فإذا طلع الفجر صلى
الامام بهم صلاة الفجر بغلس لما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال ما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها الا صلاة العصر بعرفة وصلاة المغرب بجمع وصلاة الفجر يومئذ فإنه صلاها قبل
وقتها بغلس أي صلاها قبل وقتها المستحب بغلس ولان الفائت بالتغليس فضيلة الاسفار وانها ممكن الاستدراك في
كل يوم فاما فضيلة الوقوف فلا تستدرك في غير ذلك اليوم فإذا صلى الامام بهم وقف بالناس ووقفوا وراءه أو معه
والأفضل أن يكون موقفهم على الجبل الذي يقال له قزح وهو تأويل ابن عباس للمشعر الحرام أنه الجبل وما
حوله وعند عامة أهل التأويل المشعر الحرام هو مزدلفة فيقفون إلى أن يسفر جدا يدعون الله تعالى ويكبرون
ويهللون ويحمدون الله تعالى ويثنون عليه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون حوائجهم
ثم يدفع منها إلى منى قبل طلوع الشمس لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الجاهلية كانت
تنفر من هذا المقام والشمس على رؤس الجبال فخالفوهم فأفاض قبل طلوع الشمس وقد كانت الجاهلية تقول
بمزدلفة أشرق ثبير كما نغير وهو جبل عال تطلع عليه الشمس قبل كل موضع فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدفع قبل طلوع الشمس وان دفع بعد طلوع الشمس قبل إن يصلى الناس الفجر فقد أساء ولا شئ عليه أما الإساءة
فلان السنة ان يصلى الفجر ويقف ثم يفيض فإذا لم يفعل فقد ترك السنة فيكون مسيئا واما عدم لزوم شئ فلانه
وجد منه الركن وهو الوقوف ولو ساعة وإذا أفاض من جمع دفع على هينته لان النبي صلى الله عليه وسلم
كذا فعل ويأخذ حصى الجمار من مزدلفة أو من الطريق لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس
رضي الله عنهما ان يأخذ الحصى من مزدلفة وعليه فعل المسلمين وهو أحد نوعي الاجماع وان رمى بحصاة
أخذها من الجمرة أجزأه وقد أساء وقال مالك لا تجزئه لأنها حصى مستعملة ولنا قوله صلى الله عليه وسلم ارم ولا
حرج مطلقا وتعليل مالك لا يستقيم على أصله لأن الماء المستعمل عنده طاهر وطهور حتى يجوز الوضوء به
فالحجارة المستعملة أولى وإنما كره ذلك عندنا لما روى أنه سئل ابن عباس فقيل له ان من عهد إبراهيم إلى يومنا
هذا في الجاهلية والاسلام يرمى الناس وليس ههنا الا هذا القدر فقال كل حصاة تقبل فإنها ترفع وما لا يقبل فإنه
يبقى ومثل هذا لا يعرف الا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكره ان يرمى بحصاة لم تقبل فيأتي منى
فيرمى جمرة العقبة سبع حصيات لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى منى لم يعرج على شئ حتى
رمى جمرة العقبة سبع حصيات ويقطع التلبية مع أول حصاة يرمى بها جمرة العقبة لما روى أسامة بن زيد والفضل
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمر العقبة وكان أسامة رديف رسول الله
صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة والفضل كان رديفه من مزدلفة إلى منى وروى أن ابن عباس سئل عن
ذلك فقال أخبرني أخي لفضل ان النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة وكان
رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسواء كان في الحج الصحيح أو في الحج الفاسد انه يقطع التلبية مع أول حصاة
يرمى بها جمرة العقبة لان أعمالها لا تختلف فلا يختلف وقت قطع التلبية وسواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو متمتعا
لان القارن والمتمتع كل واحد منهما محرم بالحج فكان كالمفرد به ولا يقطع القارن التلبية إذا أخذ في طواف العمرة
لأنه محرم باحرام الحج وإنما يقطع عندما يقطع المفرد بالحجة لأنه بعد اتيانه بالعمرة كالمفرد بالحج فما المحرم
بالعمرة المفردة فإنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر وأخذ في طواف العمرة والفرق بين المحرم بالحج وبين المحرم
بالعمرة المفردة ذكرناه فيما تقدم وقال مالك في المفرد بالعمرة يقطع التلبية إذا رأى البيت وهذا غير سديد لان
قطع التلبية يتعلق بفعل هو نسك كالرمي في حق المحرم بالحج ورؤية البيت ليس بنسك فلا يقطع عندنا فاما استلام
الحجر فنسك كالرمي فيقطع عنده لا عند الرؤية قال محمد ان فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع التلبية حين يأخذ
في الطواف كذا هذا والقارن إذا فاته الحج يقطع التلبية في الطواف والثاني الذي يتحلل به من حجته لأن العمرة
156

ما فاتته إذ ليس لها وقت معين فيأتي بها فيطوف ويسعى كما كان يفعل لو لم يفته الحج وإنما فاته فيفعل ما يفعله
فائت الحج وهو ان يتحلل بأفعال العمرة وهي الطواف والسعي كالمقيم فيقطع التلبية إذا أخذ في طواف الحج والمحصر
يقطع التلبية إذا ذبح عنه هديه لأنه إذا ذبح هديه فقد تحلل ولا تلبية بعد التحلل فان حلق الحاج قبل إن يرمى جمرة
العقبة يقطع التلبية لأنه بالحلق تحلل من الاحرام لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن حلق قبل الرمي
ارم ولا حرج فثبت أن التحلل من الاحرام يحصل بالحلق قبل الرمي ولا تلبية بعد التحلل فان زار البيت قبل
ان يرمى ويحلق ويذبح قطع التلبية في قول أبي حنيفة وروى عن أبي يوسف انه يلبى ما لم يحلق أو تزول الشمس
من يوم النحر وعن محمد ثلاث روايات في رواية مثل قول أبي حنيفة وروى هشام عنه وروى ابن سماعة عنه أن
من لم يرم قطع التلبية إذا غربت الشمس من يوم النحر وروى هشام عنه رواية أخرى انه يقطع التلبية إذا مضت
أيام النحر فظاهر روايته مع أبي حنيفة وجه قول أبى يوسف انه وان طاف فاحرامه قائم لم يتحلل بهذا الطواف
إذا لم يحلق بدليل انه لا يباح له الطيب واللبس فالتحق الطواف بالعدم وصار كأنه لم يطف فلا يقطع التلبية الا إذا
زالت الشمس لان من أصله ان هذا الرمي مؤقت بالزوال فإذا زالت الشمس يفوت وقته ويفعل بعده قضاء فصار
فواته عن وقته بمنزلة فعله في وقته وعند فعله في وقته يقطع التلبية كذا عند فواته عن وقته بخلاف ما إذا حلق قبل
الرمي لأنه تحلل بالحق وخرج عن احرامه حتى يباح له الطيب واللبس لذلك افترقا ولهما أن الطواف وإن كان
قبل الرمي والحلق والذبح فقد وقع التحلل به في حق النساء بدليل انه لو جامع بعده لا يلزمه بدنة فكان التحلل
بالطواف كالتحلل بالحلق فيقطع التلبية به كما يقطع بالحلق وقد خرج الجواب عن قوله إن احرامه قائم بعد الطواف
لأنا نقول نعم لكن في حق الطيب واللبس لا في حق النساء فلم يكن قائما مطلقا والتلبية لم تشرع الا في الاحرام
المطلق ولو ذبح قبل الرمي يقطع التلبية في قول أبي حنيفة إذا كان قارنا أو متمتعا وهو احدى الروايتين عن
محمد وإن كان مفردا بالحج لا يقطع لان الذبح من القارن والمتمتع محلل كالحلق ولا تلبية بعد التحلل فاما المفرد
فتحلله لا يقف على ذبحه الا ترى انه ليس بواجب عليه فلا يقطع عنده التلبية وروى ابن سماعة عن محمد انه
لا يقطع التلبية والتحلل لا يقع بالذبح على هذه الرواية عنده وإنما يقع بالرمي أو بالحلق ويرمى سبع حصيات مثل
حصى الخزف لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ائتني بسبع
حصيات مثل حصى الخزف فاتاه بهن فجعل يقلبهن بيده ويقول مثلهن بمثلهن لا تغلوا فإنما هلك من كان قبلكم
بالغلو في الدين وقد قالوا لا يزيد على ذلك لما روى عن معاذ رضي الله عنه أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمنى وعلمنا المناسك وقال ارموا سبع حصيات مثل حصى الخزف ووضع احدى سبابتيه على الأخرى كأنه يخذف
ولأنه لو كان أكبر من ذلك فلا يؤمن أن يصيب غيره لازدحام الناس فيتأذى به ويرمى من بطن الوادي ويكبر مع
كل حصاة يرميها لما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه رمى جمرة العقبة سبع حصيات من بطن الوادي
يكبر مع كل حصاة يرميها فقيل له ان ناسا يرمون من فوقها فقال عبد الله رضي الله عنه هذا والذي لا اله غيره مقام
الذي أنزلت عليه سورة البقرة وكذا روى عن ابن عمر رضي الله عنهما انه كان يرمى جمرة العقبة بسبع حصيات يتبع
كل حصاة بتكبيرة ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك وعن ابنه سالم بن عبد الله انه استبطن
الوادي فرمى الجمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله أكبر الله أكبر اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا
مشكورا وقال حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمى جمرة العقبة من هذا المكان ويقول كلما رمى
بحصاة مثل ما قلت وان رمى من فوق العقبة أجزأه لكن السنة ما ذكرنا وكذا لو جعل بدل التكبير تسبيحا أو تهليلا
جاز ولا يكون مسيئا وقد قالوا إذا رمى للعقبة يجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه ويقوم فيها حيث يرى موقع
حصاه لما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل الكعبة عن
يساره ومنى عن يمينه وبأي شئ رمى أجزأه حجرا كان أو طينا أو غيرهما مما هو من جنس الأرض وهذا عندنا
157

وقال الشافعي لا يجوز الا بالحجر وجه قوله إن هذا أمر يعرف بالتوقيف والتوقيف ورد بالحصى والحصى هي
الأحجار الصغار ولنا ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ارم ولا حرج وروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من رمى وذبح
وحلق فقد حل له كل شئ الا النساء مطلقا عن صفة الرمي والرمي بالحصى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه
م محمول على الأفضلية لا الجواز توفيقا بين الدلائل لما صح من مذهب أصحابنا أن المطلق لا يحمل على
المقيد بل يجرى المطلق على اطلاقه والمقيد على تقييده ما أمكن وههنا أمكن بأن يحمل المطلق على أصل الجواز
والمقيد على الأفضلية ولا يقف عند هذه الجمرة للدعاء بل ينصرف إلى رحله والأصل أن كل رمى ليس بعده رمى
في ذلك اليوم لا يقف عنده وكل رمى بعده رمى في ذلك اليوم يقف عنده لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند
جمرة العقبة ووقف عند الجمرتين ثم الرمي ماشيا أفضل أو راكبا فقد روى عن أبي يوسف انه فصل في ذلك تفصيلا
فإنه حكى ان إبراهيم بن الجراح دخل على أبى يوسف وهو مريض في المرض الذي مات فيه فسأله أبو يوسف فقال
أيهما أفضل الرمي ماشيا أو راكبا فقال ماشيا فقال أخطأت ثم قال راكبا فقال أخطأت وقال كل رمى بعده رمى
فالماشي أفضل وكل رمى لا رمى بعده فالراكب أفضل قال فخرجت من عنده فسمعت الناعي بموته قبل إن أبلغ
الباب ذكرنا هذه الحكاية ليعلم أنه بلغ حرصه في التعليم حتى لم يسكت عنه في رقمه فيقتدى به في التحريض على
التعليم وهذا لما ذكرنا ان كل رمى بعده رمى فالسنة فيه هو الوقوف للدعاء والماشي أمكن للوقوف والدعاء وكل
رمى لا رمى بعده فالسنة فيه هو الانصراف لا الوقوف والراكب أمكن من الانصراف فان قيل أليس انه روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم انه رمى راكبا وقال صلى الله عليه وسلم خذوا عنى مناسككم لا أدرى لعلى لا أحج بعد
عامي هذا فالجواب ان ذلك محمول على رمى لا رمى بعده أو على التعليم ليراه الناس فيتعلموا منه مناسك الحج فان
رمى احدى الجمار بسبع حصيات جميعا دفعة واحدة فهي عن واحدة ويرمى ستة أخرى لان التوقيف ورد
بتفريق الرميات فوجب اعتباره وهذا بخلاف الاستنجاء انه إذا استنجى بحجر واحد وانقاه كفاه ولا يراعى
فيه العدد عندنا لان وجوب الاستنجاء ثبت معقولا بمعنى التطهير فإذا حصلت الطهارة بواحد اكتفى به فاما
الرمي فاما وجب تعبدا محضا فيراعى فيه مورد التعبد وانه ورد بالتفريق فيقتصر عليه فان رمى أكثر من سبع
حصيات لم تضره الزيادة لأنه أتى بالواجب وزيادة والسنة ان يرمى بعد طلوع الشمس من يوم النحر قبل الزوال
لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال ولو رمى
قبل طلوع الشمس بعد انفجار الصبح أجزأه خلافا لسفيان والمسألة ذكرناها فيما تقدم ولا يرمى يومئذ غيرها
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر الا جمرة العقبة فإذا فرغ من هذا الرمي لا يقف
وينصرف إلى رحله فإن كان منفردا بالحج يحلق أو يقصر والحلق أفضل لما ذكرنا فيما تقدم ولا ذبح عليه وإن كان
قارنا أو متمتعا يجب عليه ان يذبح ويحلق ويقدم الذبح على الحلق لقوله تعالى ليذكروا اسم الله على ما رزقهم
من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم رتب قضاء التفث وهو الحلق على الذبح وروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق وروى عنه صلى الله عليه وسلم
انه رمى ثم ذبح ثم دعا بالحلاق فان حلق قبل الذبح من غير احصار فعليه لحلقه قبل الذبح دم في قول أبي حنيفة وقال
أبو يوسف ومحمد وجماعة من أهل العلم أنه لا شئ عليه وأجمعوا على أن المحصر إذا حلق قبل الذبح أنه تجب عليه
الفدية احتج من خالفه بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن رجل حلق قبل إن يذبح فقال اذبح ولا
حرج ولو كان الترتيب واجبا لكان في تركه حرج ولأبي حنيفة الاستدلال بالمحصر إذا حلق قبل الذبح لأذى في
رأسه انه تلزمه الفدية بالنص فالذي يحلق رأسه بغير أذى به أولى ولهذا قال أبو حنيفة بزيادة التغليظ في حق من
حلق رأسه قبل الذبح بغير أذى حيث قال لا يجزئه غير الدم وصاحب الأذى مخير بين الدم والطعام والصيام كما خيره
158

الله تعالى وهذا هو المعقول لان الضرورة سبب لتخفيف الحكم وتيسيره فالمعقول ان يجب في حال الاختيار
بذلك السبب زيادة غلظ لم يكن في حال العذر فاما ان يسقط من الأصل في غير حالة العذر ويجب في حالة العذر
فممتنع ولا حجة لهم في الحديث لان قوله لا حرج المراد منه الاثم لا الكفارة وليس من ضرورة انتفاء الاثم انتفاء
الكفارة ألا ترى ان الكفارة تجب على من حلق رأسه لأذى به ولا اثم عليه وكذا يجب على الخاطئ فإذا حلق
الحاج أو قصر حل له كل شئ حظر عليه الاحرام الا النساء عند عامة العلماء لما ذكرنا فيما تقدم ثم يزور البيت
من يومه ذلك أو من الغد أو بعد الغد ولا يؤخرها عنها وأفضلها أولها لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف
في أول أيام النحر فيطوف أسبوعا لان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا طاف وعليه عمل المسلمين ولا يرمل في هذا
الطواف لأنه لا سعى عقيبه لأنه قد طاف طواف اللقاء وسعى عقيبه حتى لو لم يكن طاف طواف اللقاء ولا سعى
فإنه يرمل في طواف الزيارة ويسعى بين الصفا والمروة عقيب طواف الزيارة ولو أخره عن أيام النحر فعليه دم في
قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا شئ عليه والمسألة قد مضت فإذا طاف طواف الزيارة كله أو أكثره
حل له النساء أيضا لأنه قد خرج من العبادة وما بقي عليه شئ من أركانها والأصل ان في الحج احلالين الاحلال
الأول بالحق أو بالتقصير ويحل به كل شئ الا النساء والاحلال الثاني بطواف الزيارة ويحل به النساء أيضا ثم يرجع
إلى منى ولا يبيت بمكة ولا في الطريق هو السنة لان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل ويكره ان يبيت في غير منى
في أيام منى فان فعل لا شئ عليه ويكون مسيئا لان البيتوتة بها ليست بواجبة بل هي سنة وعند الشافعي يجب
عليه الدم لأنها واجبة عنده واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله على الوجوب في الأصل ولنا ما روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ارخص للعباس ان يبيت بمكة للسقاية ولو كان ذلك واجبا لم يكن العباس يترك الواجب
لأجل السقاية ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص له في ذلك وفعل النبي صلى الله عليه وسلم محمول على السنة
توفيقا بين الدليلين وإذا بات بمنى فإذا كان من الغد وهو اليوم الأول من أيام التشريق والثاني من أيام الرمي فإنه
يرمى الجمار الثلاث بعد الزوال في ثلاث مواضع أحدها المسمى بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف وهو
مسجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيرمى عندها سبع حصيات مثل حصى الخزف يكبر مع كل حصاة فإذا فرغ
منها يقف عندها فيكبر ويهلل ويحمد الله تعالى ويثنى عليه ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى
حوائجه ثم يأتي الجمرة الوسطى فيفعل بها مثل ما فعل بالأولى ويرفع يديه عند الجمرتين بسطا ثم يأتي جمرة العقبة
فيفعل مثل ما فعل بالجمرتين الأولتين الا انه لا يقف للدعاء بعد هذه الجمرة بل ينصرف إلى رحله لما روى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رمى الجمار الثلاث في أيام التشريق وابتدأ بالتي تلي مسجد الخيف ووقف عند الجمرتين ولم يقف
عند الثالثة واما رفع اليدين فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع الأيدي الا في سبع مواطن وذكر من جملتها
وعند المقامين عند الجمرتين فإذا كان اليوم الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثالث من أيام الرمي رمى الجمار
الثلاث بعد الزوال ففعل مثل ما فعل أمس فإذا رمى فان أراد ان ينفر من منى ويدخل مكة نفر قبل غروب الشمس
ولا شئ عليه لقوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه وان أقام ولم ينفر حتى غربت الشمس يكره له أن ينفر
حتى تطلع الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق وهو اليوم الرابع من أيام الرمي ويرمى الجمار الثلاث ولو
نفر قبل طلوع الفجر لا شئ عليه وقد أساء اما الجواز فلانه نفر في وقت لم يجب فيه الرمي بعد بدليل انه لو رمى
فيه عن اليوم الرابع لم يجز فجاز فيه النفر كما لو رمى الجمار في الأيام كلها ثم نفروا ما الإساءة فلانه ترك السنة فإذا طلع
الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق رمى الجمار الثلاث ثم ينفر فان نفر قبل الرمي فعليه دم لأنه ترك الواجب
وإذا أراد ان ينفر في النفر الأول أو في النفر الثاني فإنه يحمل ثقله معه ويكره تقديمه لما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال المرء من حيث رحله وروى المرء من حيث أهله ولأنه لو فعل ذلك يشتغل قلبه بذلك ولا يخلو من
ضرر وقد روى عن عمر رضي الله عنه انه كان يضرب على ذلك وحكى عن إبراهيم النخعي ان عمر رضي الله عنه
159

إنما كان يضرب على تقديم الثقل مخافة السرقة ثم يأتي الأبطح ويسمى المحصب وهو موضع بين منى وبين مكة
فينزل به ساعة فإنه سنة عندنا لما روى عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم نزلوا بالأبطح ثم يدخل مكة فيطوف طواف الصدر توديعا للبيت ولهذا
يسمى طواف الوداع وانه واجب على أهل الآفاق عندنا لما ذكرنا فيما تقدم فيطوف سبعة أشواط لا رمل فيها
لأنه طواف لا سعى بعده ويصلى ركعتين ثم يرجع إلى أهله لأنه لم يبق عليه شئ من الأركان والواجبات كذا ذكر في
الأصل وذكر الطحاوي في مختصره عن أبي حنيفة انه إذا فرغ من طواف الصدر يأتي المقام فيصلى عنده ركعتين
ثم يأتي زمزم فيشرب من مائها ويصب على وجهه ورأسه ثم يأتي الملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب فيضع
صدره وجبهته عليه ويتشبث بأستار الكعبة ويدعو ثم يرجع وذكر في العيون كذلك الا أنه قال في آخره ويستلم
الحجر ويكبر ثم يرجع وروى عن أبي حنيفة أنه قال إن دخل البيت فحسن وان لم يدخل لم يضره ويقول عند
رجوعه آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده والله الموفق
* (فصل) * وأما شرائط أركانه فمنها الاسلام فإنه كما هو شرط الوجوب فهو شرط جواز الأداء لان الحج عبادة
والكافر ليس من أهل أداء العبادة ومنها العقل فلا يجوز أداء الحج من المجنون والصبي الذي لا يعقل كما لا يجب
عليهما فاما البلوغ والحرية فليسا من شرائط الجواز فيجوز حج الصبي العاقل بإذن وليه والعبد الكبير بإذن مولاه
لكنه لا يقع عن حجة الاسلام لعدم الوجوب ومنها الاحرام عندنا والكلام في الاحرام يقع في مواضع في بيان
انه شرط وفي بيان ما يصير به محرما وفي بيان زمان الاحرام وفي بيان مكانه وفي بيان ما يحرم به وفي بيان حكم المحرم
إذا منع عن المضي في موجب الاحرام وفي بيان ما يحظره الاحرام وما لا يحظره وفي بيان ما يجب بفعل المحظور منه
اما الأول فالاحرام شرط جواز أداء أفعال الحج عندنا وعند الشافعي ركن وعنى به أنه جزء من أفعال الحج وهو
على الاختلاف في تحريمة الصلاة ويتضمن الكلام في هذا الفصل بيان زمان الاحرام انه جميع السنة عندنا
وعنده أشهر الحج حتى يجوز الاحرام قبل أشهر الحج عندنا لكنه يكره وعنده لا يجوز رأسا وينعقد احرامه
للعمرة لا للحجة عنده وعندنا ينعقد للحجة ووجه البناء على هذا الأصل ان الاحرام لما كان شرطا لجواز أداء
افعال الحج عندنا جاز وجوده قبل هجوم وقت أداء الافعال كما تجوز الطهارة قبل دخول وقت الصلاة ولما كان
ركنا عنده لم يجز سابقا على وقته لان أداء أفعال العبادة المؤقتة قبل وقتها لا يجوز كالصلاة وغيرها فنتكلم في
المسألة بناء وابتداء اما البناء فوجه قول الشافعي ان الذي أحرم بالحج يؤمر باتمامه وكذا المحرم للصلاة يؤمر
باتمامها لا بالابتداء فلو لم يكن الاحرام من أفعال الحج لأمر بالابتداء لا بالاتمام فدل انه ركن في نفسه وشرط
لجواز أداء ما بقي من الافعال ولنا ان ركن الشئ ما يأخذ الاسم منه ثم قد يكون بمعنى واحد كالامساك في باب
الصوم وقد يكون معاني مختلفة كالقيام والقراءة والركوع والسجود في باب الصلاة والايجاب والقبول في
باب البيع ونحو ذلك وشرطه ما يأخذ الاعتبار منه كالطهارة للصلاة والشهادة في النكاح وغير ذلك والحج يأخذ
الاسم من الوقوف بعرفة وطواف الزيارة لا من الاحرام قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا وحج البيت هو زيارة البيت وقال النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة أي الوقوف بعرفة ولم يطلق اسم
الحج على الاحرام وإنما به اعتبار الركنين فكان شرطا لا ركنا ولهذا جعله الشافعي شرطا لأداء ما بقي من الافعال
واما قوله إنه يؤمر بالاتمام بعد الاحرام ممنوع بل لا يؤمر به ما لم يؤد بعد الاحرام شيئا من أفعال الحج واما الابتداء
فالشافعي احتج بقوله تعالى الحج أشهر معلومات أي وقت الحج أشهر معلومات إذ الحج نفسه لا يكون أشهرا لأنه
فعل والأشهر أزمنة فقد عين الله أشهرا معلومة وقتا للحج والحج في عرف الشرع اسم لجملة من الافعال مع
شرائطها منها الاحرام فلا يجوز تقديمه على وقته ولنا قوله تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس
والحج ظاهر الآية يقتضى أن تكون الأشهر كلها وقتا للحج فيقتضى جواز الاحرام بأداء أفعال الحج في الأوقات
160

كلها الا انا عرفنا تعيين هذه الأشهر لأداء الافعال بدليل آخر وهو قوله الحج أشهر معلومات فيعمل بالنصين
فيحمل ما تلونا على الاحرام الذي هو شرط ويحمل ما تلوتم على نفس الاعمال عملا بالنص بالقدر الممكن ولان
الحج يختص بالمكان والزمان ثم يجوز الاحرام من غير مكان الحج بالاجماع فيجوز في غير زمان الحج الا انه يكره
لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال من سنة الحج ان لا يحرم بالحج الا في أشهر الحج ومخالفة السنة
مكروهة ثم اختلفوا في أن الكراهة لأجل الوقت أم لغيره منهم من قال الكراهة ليست لأجل الوقت بل لمخالفة
الوقوع في محظورات الاحرام حتى أن من أمن من ذلك لا يكره له ومنهم من قال إن الكراهة لنفس الوقت فان ابن
سماعة روى عن محمد أنه قال أكره الاحرام قبل الأشهر ويجوز احرامه وهو لابس أو جالس في خلوق أو طيب
وهذا الاطلاق يدل على أن الكراهة لنفس الوقت والله عز وجل أعلم
* (فصل) * واما بيان ما يصير به محرما فنقول وبالله التوفيق لا خلاف في أنه إذا نوى وقرن النية بقول وفعل هو من
خصائص الاحرام أو دلائله انه يصير محرما بان لبى ناويا به الحج ان أراد به الافراد بالحج أو العمرة ان أراد الافراد
بالعمرة أو العمرة والحج ان أراد القران لان التلبية من خصائص الاحرام وسواء تكلم بلسانه ما نوى بقلبه أو لا
لأن النية عمل القلب لا عمل اللسان لكن يستحب أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه فيقول اللهم إني أريد كذا فيسره لي
وتقبله منى لما ذكرنا في بيان سنن الحج وذكرنا التلبية المسنونة ولو ذكر مكان التلبية التهليل أو التسبيح أو التحميد أو
غير ذلك مما يقصد به تعظيم الله تعالى مقرونا بالنية يصير محرما وهذا على أصل أبي حنيفة ومحمد في باب الصلاة أنه
يصير شارعا في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف ههنا
وفرق بين الحج والصلاة وروى عنه أنه لا يصير محرما الا بلفظ التلبية كما لا يصير شارعا في الصلاة الا بلفظ التكبير فأبو
حنيفة ومحمد مرا على أصلهما أن الذكر الموضوع لافتتاح الصلاة لا يختص بلفظ دون لفظ ففي باب الحج أولى ووجه
الفرق لأبي يوسف على ظاهر الرواية عنه أن باب الحج أوسع من باب الصلاة فان أفعال الصلاة لا يقوم بعضها مقام
بعض وبعض الافعال يقوم مقام البعض كالهدي فإنه يقوم مقام كثير من أفعال الحج في حق المحصر وسواء كان
بالعربية أو غيرها وهو يحسن العربية أو لا يحسنها وهذا على أصل أبي حنيفة وأبى يوسف في الصلاة ظاهر وهو
ظاهر الرواية عن محمد في الحج وروى عنه أنه لا يصير محرما الا إذا كان لا يحسن العربية كما في باب الصلاة فهما مرا
على أصلهما ومحمد على ظاهر الرواية عنه فرق بين الصلاة والحج ووجه الفرق له على نحو ما ذكرنا لأبي يوسف في
المسألة الأولى وتجوز النيابة في التلبية عند العجز بنفسه بأمره بلا خلاف حتى لو توجه يريد حجة الاسلام
فأغمي عليه فلبى عنه أصحابه وقد كان أمرهم بذلك حتى لو عجز عنه بنفسه يجوز بالاجماع فإن لم يأمرهم بذلك نصا
فأهلوا عنه جاز أيضا في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز فلا خلاف في أنه تجوز النيابة في أفعال
الحج عند عجزه عنها بنفسه من الطواف والسعي والوقوف حتى لو طيف به وسعى ووقف جاز بالاجماع وجه
قولهما قوله تعالى وان ليس للانسان الا ما سعى ولم يوجد منه السعي في التلبية لان فعل غيره لا يكون فعله حقيقة
وإنما يجعل فعلا له تقديرا بأمره ولم يوجد بخلاف الطواف ونحوه فان الفعل هناك ليس بشرط بل الشرط حصوله
في ذلك الموضع على ما ذكرنا وقد حصل والشرط ههنا هو التلبية وقول غيره لا يصير قولا له الا بأمره ولم يوجد
ولأبي حنيفة أن الامر ههنا موجود دلالة وهي دلالة عقد المرافقة لان كل واحد من رفقائه المتوجهين إلى
الكعبة يكون آذنا للآخر باعانته فيما يعجز عنه من أمر الحج فكان الامر موجودا دلالة وسعى الانسان جاز أن
يجعل سعيا لغيره بأمره فقلنا بموجب الآية بحمد الله تعالى ولو قلد بدنة يريد به الاحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما
وتوجه معها يصير محرما لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ثم
ذكر تعالي بعده وإذا حللتم فاصطادوا والحل يكون بعد الاحرام ولم يذكر الاحرام في الأول وإنما ذكر التقليد بقوله
عز وجل ولا القلائد فدل أن التقليد منهم مع التوجه كان احراما الا انه زيد عليه النية بدليل آخر وعن جماعة
161

من الصحابة رضي الله عنهم منهم على وابن مسعود وابن عمر وجابر رضي الله عنهم انهم قالوا إذا قلد فقد أحرم
وكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إذا قلد وهو يريد الحج أو العمرة فقد أحرم ولان التقليد مع
التوجه من خصائص الاحرام فالنية اقترنت بما هو من خصائص الاحرام فأشبه التلبية فان قيل أليس أنه روى عن
عائشة رضي الله عنها انها قالت لا يحرم الا من أهل ولبى فهذا يقتضى أنه لا يصير محرما بالتقليد فالجواب ان ذلك
محمول على ما إذا قلد ولم يخرج معها توفيقا بين الدلائل وبه نقول إن بمجرد التقليد لا يصير محرما على ما روى عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بهديه ويقيم فلا يحرم عليه شئ والتقليد
هو تعليق القلادة على عنق البدنة من عروة مزادة أو شراك نعل من أدم أو غير ذلك من الجلود وان قلد ولم يتوجه
ولم يبعث على يد غيره لم يصر محرما وان بعث على يد غيره فكذلك عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه يصير محرما بنفس التوجيه من غير توجه والصحيح قول عامة العلماء لما روى
عن عائشة رضي الله عنها انها قالت انى كنت لأفتل قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعثها ويمكث عندنا
حلالا بالمدينة لا يجتنب ما يجتنبه المحرم ولان التوجيه من غير توجه ليس الا امر بالفعل فلا يصير به محرما كما لو أمر
غيره بالتلبية ولو توجه بنفسه بعدما قلد وبعث لا يصير محرما ما لم يلحقها ويتوجه معها فإذا لحقها وتوجه معها عند
ذلك يصير محرما الا في هدى المتعة فان هناك يصير محرما بنفس التوجه قبل أن يلحقه والقياس أن لا يصير محرما ثم
أيضا ما لم يلحق ويتوجه معه لان السير بنفسه بدون البدنة ليس من خصائص الاحرام ولا دليل أنه يريد الاحرام
فلا يصير به محرما الا انا تركنا القياس واستحسنا في هدى المتعة لما ان لهدى فضل تأثير في البقاء على الاحرام ما ليس
لغيره بدليل انه لو ساق الهدى لا يجوز له أن يتحلل وان لم يسق جاز له التحلل فإذا كان له فضل تأثير في البقاء على الاحرام
جاز أن يكون له تأثير في الابتداء وقد قالوا إنه يصير محرما بنفس التوجه في اثر هدى المتعة وان لم يلحق الهدى إذا كان في
أشهر الحج فاما في غير أشهر الحج فلا يصير محرما حتى يلحق الهدى لان أحكام التمتع لا تثبب قبل أشهر الحج فلا يصير
هذا الهدى للمتعة قبل أشهر الحج فكان هدى التطوع ولو جلل البدنة ونوى الحج لا يصير محرما وان توجه معها لان
التجليل ليس من خصائص الحج لأنه إنما يفعل ذلك لدفع الحر والبرد عن البدنة أو للتزيين ولو قلد الشاة ينوى به الحج
وتوجه معها لا يصير محرما وان نوى الاحرام لان تقليد الغنم ليس بسنة عندنا فلم يكن من دلائل الاحرام فضلا عن
أن يكون من خصائصه والدليل على أن الغنم لا تقلد قوله تعالى ولا الهدى ولا القلائد عطف القلائد على الهدى
والعطف يقتضى المغايرة في الأصل واسم الهدى يقع على الغنم والإبل والبقر جميعا فهذا يدل على أن الهدى نوعان ما
يقلد وما لا يقلد ثم الإبل والبقر يقلدان بالاجماع فتعين ان الغنم لا تقلد ليكون عطف القلائد على الهدى عطف الشئ
على غيره فيصح ولو أشعر بدنته وتوجه معها لا يصير محرما لان الاشعار مكروه عند أبي حنيفة لأنه مثلة وايلام
الحيوان من غير ضرورة لحصول المقصود بالتقليد وهو الاعلام بكون المشعر هديا لئلا يتعرض له لو ضل والاتيان
بفعل مكروه لا يصلح دليل الاحرام واختلف المشايخ على قول أبى يوسف ومحمد قال بعضهم ان أشعر وتوجه معها
يصير محرما عندهما لان الاشعار سنة عندهما كالتقليد فيصلح أن يكون دليل الاحرام كالتقليد وقال بعضهم لا يصير
محرما عندهما أيضا لان الاشعار ليس بسنة عندهما بل هو مباح فلم يكن قربة فلا يصلح دليل الاحرام وذكر في
الجامع الصغير أن الاشعار عندهما حسن ولم يسمه سنة لأنه من حيث إنه اكمال لما شرع له التقليد وهو اعلام المقلد
بأنه هدى لما ان تمام الاعلام تحصل به سنة ومن حيث إنه مثلة بدعة فتردد بين السنة البدعة فسماه حسنا وعند
الشافعي الاشعار سنة واحتج بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر والجواب أن ذلك كان في الابتداء
حين كانت المثلة مشروعة ثم لما نهى عن المثلة انتسخ بنسخ المثلة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك
قطعا لأيدي المشركين عن التعرض للهدايا لو ضلت لأنهم كانوا ما يتعرضون للهدايا والتقليد ما كان يدل دلالة تامة
انها هدى فكان يحتاج إلى الاشعار ليعلموا انها هدى وقد زال هذا المعنى في زماننا فانتسخ بانتساخ المثلة ثم الاشعار
162

هو الطعن في أسفل السنام وذلك من قبل اليسار عند أبي يوسف وعند الشافعي من قبل اليمين وكل ذلك مروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يدخل بين بعيرين من قبل الرؤس وكان يضرب أولا الذي عن يساره من قبل
يسار سنامه ثم يعطف على الآخر فيضربه من قبل يمينه اتفاقا للأول لا قصدا فصار الطعن علي الجانب الأيسر أصليا
والآخر اتفاقيا بل الاعتبار الأصلي أولى والله عز وجل أعلم هذا الذي ذكرنا في أن الاحرام لا يثبت بمجرد النية
ما لم يقترن بها قول أو فعل هو من خصائص الاحرام أو دلائله ظاهر مذهب أصحابنا وروى عن أبي يوسف أنه يصير
محرما بمجرد النية وبه أخذ الشافعي وهذا يناقض قوله إن الاحرام ركن لأنه جعل نية الاحرام احراما والنية ليست
بركن بل هي شرط لأنها عزم على الفعل والعزم على فعل ليس ذلك الفعل بل هو عقد على أدائه وهو أن تعقد قلبك
عليه انك فاعله لا محالة قال الله تعالى فإذا عزم الامر أي جد الامر وفى الحديث خير الأمور عوازمها أي ما وكدت
رأيك عليه وقطعت التردد عنه وكونه ركنا يشعر بكونه من أفعال الحج فكان تناقضا ثم جعل الاحرام عبارة عن
مجرد النية مخالف للغة فان الاحرام في اللغة هو الاهلال يقال احرم أي أهل بالحج وهو موافق لمذهبنا أي الاهلال
لابد منه اما بنفسه أو بما يقوم مقامه على ما بينا والدليل على أن الاهلال شرط ما روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها وقد رآها حزينة مالك فقالت انا قضيت عمرتي والقاني الحج عاركا فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ذاك شئ كتبه الله تعالى على بنات آدم حجى وقولي مثل ما يقول الناس في حجهم فدل قوله قولي
ما يقول الناس في حجهم على لزوم التلبية لان الناس يقولونها وفيه إشارة إلى أن اجماع المسلمين حجة يجب
اتباعها حيث أمرها باتباعهم بقوله قولي ما يقول الناس في حجهم وروينا عن عائشة رضي الله عنها انها قالت
لا يحرم الا من أهل ولبى ولم يرو عن غيرها خلافه فيكون اجماعا ولان مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع عرفنا
ذلك بالنص والمعقول أما النص ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت
به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يفعلوا وأما المعقول فهو أن النية وضعت لتعيين جهة الفعل في العبادة وتعيين
المعدوم محال ولو أحرم بالحج ولم يعين حجة الاسلام وعليه حجة الاسلام يقع عن حجة الاسلام
استحسانا والقياس أن لا يقع عن حجة الاسلام الا بتعيين النية وجه القياس أن الوقت يقبل الغرض
والنفل فلا بد من التعيين بالنية بخلاف صوم رمضان أنه يتأدى بمطلق النية لان الوقت هناك لا يقبل صوما
آخر فلا حاجة إلى التعيين بالنية والاستحسان ان الظاهر من حال من عليه حجة الاسلام انه لا يريد باحرام الحج
حجة للتطوع ويبقى نفسه في عهده الفرض فيحمل على حجة الاسلام بدلالة حاله فكان الاطلاق فيه تعيينا كما
في صوم رمضان ولو نوى التطوع يقع عن التطوع لأنا إنما أوقعناه عن الفرض عند اطلاق النية بدلالة حاله
والدلالة لا تعمل مع النص بخلافه ولو لبى ينوى الاحرام ولا نية له في حج ولا عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف
بالبيت شوطا فان طاف شوطا كان احرامه عن العمرة والأصل في انعقاد الاحرام بالمجهول ما روى أن عليا وأبا
موسى الأشعري رضي الله عنهما لما قدما من اليمن في حجة الوداع قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم بماذا
أهللتما فقالا باهلال كاهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار هذا أصلا في انعقاد الاحرام بالمجهول ولان
الاحرام شرط جواز الأداء عندنا وليس بأداء بل هو عقد على الأداء فجاز ان ينعقد مجملا ويقف على البيان وإذا انعقد
احرامه جاز له ان يؤدى به حجة أو عمرة وله الخيار في ذلك يصرفه إلى أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا واحدا فإذا
طاف بالبيت شوطا واحدا كان احرامه للعمرة لان الطواف ركن في العمرة وطواف اللقاء في الحج ليس بركن بل
هو سنة فايقاعه عن الركن أولى وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده قال الحاكم في الأصل وكذلك لو لم يطف حتى
جامع أو أحصر كانت عمرة لان القضاء قد لزمه فيجب عليه الأقل إذ الأقل متيقن به وهو العمرة والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان مكان الاحرام فمكان الاحرام هو المسمى بالميقات فنحتاج إلى بيان المواقيت وما يتعلق
بها من الأحكام فنقول وبالله التوفيق المواقيت تختلف باختلاف الناس والناس في حق المواقيت أصناف ثلاثة
163

صنف منهم يسمون أهل الآفاق وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهي خمسة كذا روى في الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل
الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق وقال صلى الله عليه وسلم هن لأهلهن
ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة وصنف منهم يسمون أهل الحل وهم الذين منازلهم داخل
المواقيت الخمسة خارج الحرم كاهل بستان بنى عامر وغيرهم وصنف منهم أهل الحرم وهم أهل مكة اما الصنف
الأول فميقاتهم ما وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لاحد منهم أن يجاوز ميقاته إذا أراد الحج أو
العمرة الا محرما لأنه لما وقت لهم ذلك فلا بد وأن يكون الوقت مقيدا وذلك اما المنع من تقديم الاحرام عليه واما
المنع من تأخيره عنه والأول ليس بمراد لاجماعنا على جواز تقديم الاحرام عليه فتعين الثاني وهو المنع من تأخير
الاحرام عنه وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ان رجلا سأله وقال إني أحرمت بعد الميقات فقال له ارجع إلى
الميقات فلب والا فلا حج لك فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يجاوز أحد الميقات الا محرما
وكذلك لو أراد بمجاوزة هذه المواقيت دخول مكة لا يجوز له ان يجاوزها الا محرما سواء أراد بدخول مكة النسك من
الحج أو العمرة أو التجارة أو حاجة أخرى عندنا وقال الشافعي ان دخلها للنسك وجب عليه الاحرام وان دخلها
لحاجة جاز دخوله من غير احرام وجه قوله إنه تجوز السكنى بمكة من غير احرام فالدخول أولي لأنه دون السكنى
ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا ان مكة حرام منذ خلقها الله تعالى لم تحل لاحد قبلي ولا تحل
لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة الحديث والاستدلال به من ثلاثة أوجه
أحدها بقوله صلى الله عليه وسلم ألا ان مكة حرام والثاني بقوله لا تحل لاحد بعدي والثالث بقوله ثم عادت حراما
إلى يوم القيامة مطلقا من غير فصل وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال لا يحل دخول مكة بغير احرام ولأن هذه بقعة شريفة لها قدر وخطر عند الله تعالى فالدخول فيها يقتضى
التزام عبادة اظهارا لشرفها على سائر البقاع وأهل مكة بسكناهم فيها جعلوا معظمين لها بقيامهم بعمارتها
وسدانتها وحفظها وحمايتها لذلك أبيح لهم السكنى وكلما قدم الاحرام على المواقيت هو أفضل وروى عن أبي حنيفة
ان ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه ان يمنعها ما يمنع منه الاحرام وقال الشافعي الاحرام من الميقات أفضل بناء على
أصله ان الاحرام ركن فيكون من أفعال الحج ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات لان أفعال الحج
لا يجوز تقديمها على أوقاتها وتقديم الاحرام على الميقات جائز بالاجماع إذا كان في أشهر الحج والخلاف في
الأفضلية دون الجواز ولنا قوله تعالي وأتموا الحج والعمرة لله وروى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما انهما
قالا اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وروى عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ووجبت له الجنة هذا إذا قصد مكة من هذه المواقيت فأما إذا قصدها من طريق غير مسلوك فإنه يحرم إذا بلغ
موضعا يحاذي ميقاتا من هذه المواقيت لأنه إذا حاذى ذلك الموضع ميقاتا من المواقيت صار في حكم الذي يحاذيه في
القرب من مكة ولو كان في البحر فصار في موضع لو كان مكان البحر بر لم يكن له ان يجاوزه الا باحرام فإنه يحرم كذا قال
أبو يوسف ولو حصل في شئ من هذه المواقيت من ليس من أهلها فأراد الحج أو العمرة أو دخول مكة فحكمه حكم
أهل ذلك الميقات الذي حصل فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم هن لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن
أراد الحج أو العمرة وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال من وقتنا له وقتا فهو له ولمن مر به من غير أهله ممن
أراد الحج أو العمرة ولأنه إذا مر به صار من أهله فكان حكمه في المجاوزة حكمهم ولو جاوز ميقاتا من هذه المواقيت
من غير احرام إلى ميقات آخر جاز له لان الميقات الذي صار إليه صار ميقاتا له لما روينا من الحديثين الا أن
المستحب أن يحرم من الميقات الأول هكذا روى عن أبي حنيفة أنه قال في غير أهل المدينة إذا مروا على المدينة
164

فجاوزوها إلى الجحفة فلا بأس بذلك وأحب إلى أن يحرموا من ذي الحليفة لأنهم إذا حصلوا في الميقات الأول لزمهم
محافظة حرمته فيكره لهم تركها ولو جاز ميقاتا من المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة فجاوزه بغير احرام ثم عاد
قبل أن يحرم وأحرم من الميقات وجاوزه محرما لا يجب عليه دم بالاجماع لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم
واحرم التحقت تلك المجاوزة بالعدم وصار هذا ابتداء احرام منه ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا
من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات ولبى سقط عنه الدم وان لم يلب لا يسقط وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف
ومحمد يسقط لبى أو لم يلب وقال زفر لا يسقط لبى أو لم يلب وجه قول زفر أن وجوب الدم بجنايته على الميقات
بمجاوزته إياه من غير احرام وجنايته لا تنعدم بعوده فلا يسقط الدم الذي وجب وجه قولهما أن حق الميقات
في مجاوزته إياه محرما لا في إنشاء الاحرام منه بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله وجاوز الميقات ولم يلب لا شئ عليه
فدل أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرما لا في إنشاء الاحرام منه وبعدما عاد إليه محرما فقد جاوزه محرما فلا يلزمه
الدم ولأبي حنيفة ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال للذي أحرم بعد الميقات ارجع إلى الميقات فلب
والا فلا حج لك أوجب التلبية من الميقات فلزم اعتبارها ولان الفائت بالمجاوزة هو التلبية فلا يقع تدارك الفائت
الا بالتلبية بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الاحرام لأنه إذا أحرم من دويرة
أهله صار ذلك ميقاتا له وقد لبى منه فلا يلزمه تلبية وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية
منه وهو الميقات المعهود وما قاله زفر ان الدم إنما وجب عليه بجنايته على الميقات مسلم لكن لما عاد قبل دخوله في
أفعال الحج فما جنى عليه بل ترك حقه في الحال فيحتاج إلى التدارك وقد تداركه بالعود إلى التلبية ولو جاوز الميقات
بغير احرام فاحرم ولم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين أو وقف بعرفة أو كان احرامه بالحج ثم عاد إلى
الميقات لا يسقط عنه الدم لأنه لما اتصل الاحرام بافعال الحج تأكد عليه الدم فلا يسقط بالعود ولو عاد إلى ميقات
آخر غير الذي جاوزه قبل إن يفعل شيئا من أفعال الحج سقط عنه الدم وعوده إلى هذا الميقات والى ميقات آخر
سواء وعلى قول زفر لا يسقط على ما ذكرنا وروى عن أبي يوسف انه فصل في ذلك تفصيلا فقال إن كان الميقات
الذي عاد إليه يحاذي الميقات الأول أو أبعد من الحرم يسقط عنه الدم والا فلا والصحيح جواب ظاهر الرواية لما
ذكرنا ان كل واحد من هذه المواقيت الخمسة ميقات لأهله ولغير أهله بالنص مطلقا عن اعتبار المحاذاة ولو لم يعد إلى
الميقات لكنه أفسد احرامه بالجماع قبل طواف العمرة إن كان احرامه بالعمرة أو قبل الوقوف بعرفة إن كان
احرامه بالحج سقط عنه ذلك الدم لأنه يجب عليه القضاء وانجبر ذلك كله بالفضاء كمن سها في صلاته ثم أفسدها
فقضاها انه لا يجب عليه سجود السهو وكذلك إذا فاته الحج فإنه يتحلل بالعمرة وعليه قضاء الحج وسقط عنه ذلك
الدم عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يسقط ولو جاوز الميقات يريد دخول مكة أو الحرم من غير احرام يلزمه اما
حجة واما عمرة لان مجاوزة الميقات على قصد دخول مكة أو الحرم بدون الاحرام لما كان حراما كانت المجاوزة
التزاما للاحرام دلالة كأنه قال لله تعالى على احرام ولو قال ذلك يلزمه حجة أو عمرة كذا إذا فعل ما يدل على الالتزام
كمن شرع في صلاة التطوع ثم أفسدها يلزمه قضاء ركعتين كما إذا قال لله تعالى على أن أصلى ركعتين فان أحرم
بالحج أو بالعمرة قضاء لما عليه من ذلك لمجاوزته الميقات ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم لأنه جنى على الميقات
لمجاوزته إياه من غير احرام ولم يتداركه فيلزمه الدم جبرا فان أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم أحرم يريد قضاء ما وجب
عليه بدخوله مكة بغير احرام أجزأه في ذلك ميقات أهل مكة في الحج بالحرم وفى العمرة بالحل لأنه لما أقام بمكة
صار في حكم أهل مكة فيجزئه احرامه من ميقاتهم فإن كان حين دخل مكة عاد في تلك السنة إلى الميقات فاحرم
بحجة عليه من حجة الاسلام أو حجة نذر أو عمرة نذر سقط ما وجب عليه لدخوله مكة بغير احرام استحسانا
والقياس ان لا يسقط الا ان ينوى ما وجب عليه لدخول مكة وهو قول زفر ولا خلاف في أنه تحولت السنة ثم عاد
إلى الميقات ثم أحرم بحجة الاسلام انه لا يجزئه عما لزمه الا بتعيين النية وجه القياس انه قد وجب عليه حجة أو
165

عمرة بسبب المجاورة فلا يسقط عنه بواجب آخر كما لو نذر بحجة انه لا تسقط عنه بحجة الاسلام وكذا لو فعل
ذلك بعدما تحولت السنة وجه الاستحسان أن لزوم الحجة أو العمرة ثبت تعظيما للبقعة والواجب عليه
تعظيمها بمطلق الاحرام لا باحرام على حدة بدليل أنه يجوز دخولها ابتداء باحرام حجة الاسلام فإنه لو أحرم من
الميقات ابتداء بحجة الاسلام أجزأه ذلك عن حجة الاسلام وعن حرمة الميقات وصار كمن دخل المسجد وأدى
فرض الوقت قام ذلك مقام تحية المسجد وكذا لو نذر أن يعتكف شهر رمضان فصام رمضان معتكفا جاز وقام
صوم رمضان مقام الصوم الذي هو شرط الاعتكاف بخلاف ما إذا تحولت السنة لأنه لما لم يقض حق البقعة حتى
تحولت السنة صار مفوتا حقها فصار ذلك دينا عليه وصار أصلا ومقصودا بنفسه فلا يتأدى بغيره كمن نذر أن
يعتكف شهر رمضان فلم يصم ولم يعتكف حتى قضى شهر رمضان مع الاعتكاف جاز فان صام رمضان ولم يعتكف
فيه حتى دخل شهر رمضان القابل فاعتكف فيه قضاء عما عليه لا يجوز لأن الصوم صار أصلا ومقصودا بنفسه
كذا هذا وكذلك لو أحرم بعمرة منذورة في السنة الثانية لم يجزه لأنه يكره تأخير العمرة إلى يوم النحر وأيام التشريق
فإذا صار إلى وقت يكره تأخير العمرة إليه صار تأخيرها كتفويتها فان دخل مكة بغير احرام ثم خرج فعاد إلى أهله ثم عاد
إلى مكة فدخلها بغير احرام وجب عليه لكل واحد من الدخولين حجة أو عمرة لان كل واحد من الدخولين سبب
الوجوب فان احرم بحجة الاسلام جاز عن الدخول الثاني إذا كان في سنته ولم يجز عن الدخول الأول لان
الواجب قبل الدخول الثاني صار دينا فلا يسقط الا بتعيين النية هذا إذا جاوز أحد هذه المواقيت الخمسة يريد الحج
أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم بغير احرام فاما إذا لم يرد ذلك وإنما أراد أن يأتي بستان بنى عامر أو غيره لحاجة فلا
شئ عليه لان لزوم الحج أو العمرة بالمجاوزة من غير احرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة وتمييزا لها من بين سائر
البقاع في الشرف والفضيلة فيصير ملتزما للاحرام منه فإذا لم يرد البيت لم يصير ملتزما للاحرام فلا يلزمه شئ فان
حصل في البستان أو ما وراءه من الحل ثم بدا له ان يدخل مكة لحاجة من غير احرام فله ذلك لأنه بوصوله إلى أهل
البستان صار كواحد من أهل البستان ولأهل البستان أن يدخلوا مكة لحاجة من غير احرام فكذا له وقيل إن هذا
هو الحيلة في اسقاط الاحرام عن نفسه وروى عن أبي يوسف أنه لا يسقط عنه الاحرام ولا يجوز له أن يدخل مكة
بغير احرام ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا لأنه لا يثبب للبستان حكم الوطن في
حقه الا بنية مدة الإقامة وأقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما وأما الصنف الثاني فميقاتهم للحج أو العمرة دويرة
أهلهم أو حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم لقوله عز وجل وأتموا الحج والعمرة لله روينا عن علي
وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا حين سئلا عن هذه الآية اتمامهما ان تحرم بهما من دويرة أهلك فلا
يجوز لهم ان يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة الا محرمين والحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشئ واحد فيجوز
احرامهم إلى آخر أجزاء الحل كما يجوز احرام الآفاقي من دويرة أهله إلى آخر أجزاء ميقاته فلو جاوز أحد منهم ميقاته
يريد الحج أو العمرة فدخل الحرم من غير احرام فعليه دم ولو عاد إلى الميقات قبل أن يحرم أو بعد ما أحرم فهو على
التفصيل والاتفاق والاختلاف الذي ذكرنا في الآفاقي إذا جاوز الميقات بغير احرام وكذلك الآفاقي إذا حصل
في البستان أو المكي إذا خرج إليه فأراد أن يحج أو يعتمر فحكمه حكم أهل البستان وكذلك البستاني أو المكي إذا
خرج إلى الآفاق صار حكمه حكم أهل الآفاق لا تجوز مجاوزته ميقات أهل الآفاق وهو يريد الحج أو العمرة
الا محرما لما روينا من الحديثين ويجوز لمن كان من أهل هذا الميقات وما بعده دخول مكة لغير الحج أو العمرة
بغير احرام عندنا ولا يجوز ذلك في أحد قولي الشافعي وذكر في قوله الثالث إذا تكرر دخولهم يجب عليهم الاحرام في
كل سنة مرة والصحيح قولنا لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص لحطابين أن يدخلوا مكة بغير
احرام وعادة الحطابين انهم لا يتجاوزن الميقات وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه خرج من مكة إلى قديد فبلغه
خبر فتنة بالمدينة فرجع ودخل مكة بغير احرام ولان البستان من توابع الحرم فيلحق به ولان مصالح أهل البستان
166

تتعلق بمكة فيحتاجون إلى الدخول في كل وقت فلو منعوا من الدخول الا باحرام لوقعوا في الحرج وانه منفى شرعا
وأما الصنف الثالث فميقاتهم للحج الحرم وللعمرة الحل فيحرم المكي من دويرة أهله للحج أو حيث شاء من الحرم
ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره أما الحج فلقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وروينا عن علي وابن
مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك الا أن العمرة صارت مخصوصة في حق
أهل الحرم فبقي الحج مرادا في حقهم وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ احرام
الحج بعمل العمرة أمرهم يوم التروية أن يحرموا بالحج من المسجد وفسخ احرام الحج بعمل العمرة وان نسخ
فالاحرام من المسجد لم ينسخ وان شاء أحرم من الأبطح أو حيث شاء من الحرم لكن من المسجد أولى لان الاحرام
عبادة واتيان العبادة في المسجد أولى كالصلاة وأما العمرة فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد
الإفاضة من مكة دخل على عائشة رضي الله عنها وهي تبكى فقالت أكل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك
واحد فامر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن يعتمر بها من التنعيم ولان من شأن الاحرام أن يجتمع في
أفعاله الحل والحرم فلو أحرم المكي بالعمرة من مكة وأفعال العمرة تؤدى بمكة لم يجتمع في أفعالها الحل والحرم بل
يجتمع كل أفعالها في الحرم وهذا خلاف عمل الاحرام في الشرع والأفضل أن يحرم من التنعيم لان رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحرم منه وكذا أصحابه رضي الله عنهم كانوا يحرمون لعمرتهم منه وكذلك من حصل في الحرم من
غير أهله فأراد الحج أو العمرة فحكمه حكم أهل الحرم لأنه صار منهم فإذا أراد أن يحرم للحج أحرم من دويرة أهله
أو حيث شاء من الحرم وإذا أراد أن يحرم بالعمرة يخرج إلى التنعيم ويهل بالعمرة في الحل ولو ترك المكي ميقاته
فاحرم للحج من الحل وللعمرة من الحرم يجب عليه الدم الا إذا عاد وجدد التلبية أو لم يجدد على التفصيل
والاختلاف الذي ذكرنا في الآفاقي ولو خرج من الحرم إلى الحل ولم يجاوز الميقات ثم أرد أن يعود إلى مكة له أن
يعود إليها من غير احرام لان أهل مكة يحتاجون إلى الخروج إلى الحل للاحتطاب والاحتشاش والعود إليها فلو
ألزمناهم الاحرام عند كل خروج لوقعوا في الحرج
* (فصل) * وأما بيان ما يحرم به فما يحرم به في الأصل ثلاثة أنواع الحج وحده والعمرة وحدها والعمرة مع الحج
وعلى حسب تنوع المحرم به يتنوع المحرمون وهم في الأصل أنواع ثلاثة مفرد بالحج ومفرد بالعمرة وجامع بينهما
فالمفرد بالحج هو الذي يحرم بالحج لا غير والمفرد بالعمرة هو الذي يحرم بالعمرة لا غير وأما الجامع بينهما فنوعان
قارن ومتمتع فلابد من بيان معنى القارن والمتمتع في عرف الشرع وبيان ما يجب عليهما بسبب القران والتمتع
وبيان الأفضل من أنواع ما يحرم به أنه الافراد أو القران أو التمتع أما القارن في عرف الشرع فهو اسم الآفاقي يجمع
بين احرام العمرة واحرام الحج قبل وجود ركن العمرة وهو الطواف كله أو أكثره فيأتي بالعمرة أولا ثم يأتي بالحج قبل
أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير سواء جمع بين الاحرامين بكلام موصول أو مفصول حتى لو أحرم بالعمرة
ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة أو أكثره كان قارنا لوجود معنى القران وهو الجمع بين الاحرامين
وشرطه ولو كان احرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارنا بل يكون متمتعا لوجود معنى التمتع
وهو أن يكون احرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله وهو الطواف سبعة أشواط أو أكثره وهو أربعة
أشواط على ما نذكر في تفسير المتمتع إن شاء الله تعالى وكذلك لو أحرم بالحجة أولا ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة يكون
قارنا لاتيانه بمعنى القران الا أنه يكره له ذلك لأنه مخالفة السنة إذ السنة تقديم احرام العمرة على احرام الحج ألا ترى
أنه يقدم العمرة على الحجة في الفعل فكذا في القول ثم إذا فعل ذلك ينظر ان أحرم بالعمرة قبل أن يطوف لحجته
عليه أن يطوف أولا لعمرته ويسعى لها ثم يطوف لحجته ويسعى لها مراعاة للترتيب في الفعل فإن لم يطف للعمرة
ومضى إلى عرفات ووقف بها صار رافضا لعمرته لأن العمرة تحتمل الارتفاض لأجل الحجة في الجملة لما روى عن
عائشة رضي الله عنها أنها قدمت مكة معتمرة فحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك وأهلي
167

بالحج واصنعي في حجتك ما يصنع الحاج وههنا وجد دليل الارتفاض وهو الوقوف بعرفة لأنه اشتغال بالركن
الأصلي للحج فيتضمن ارتفاض العمرة ضرورة لفوات الترتيب في الفعل وهل يرتفض بنفس التوجه إلى عرفات
ذكر في الجامع الصغير أنه لا يرتفض وذكر في كتاب المناسك فيه القياس والاستحسان فقال القياس أن يرتفض وفى
الاستحسان لا يرتفض عنى به القياس على أصل أبي حنيفة في باب الصلاة فيمن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله
ثم خرج إلى الجمعة أنه يرتفض ظهره عنده كذا ههنا ينبغي ان ترتفض عمرته بالقياس على ذلك الا انه استحسن وقال
لا يرتفض ما لم يقف بعرفات وفرق بين العمرة وبين الصلاة ووجه الفرق له أن السعي إلى الجمعة من ضرورات أداء
الجمعة وأداء الجمعة ينافي بقاء الظهر فكذا ما هو من ضروراته إذ الثابت ضرورة شئ ملحق به وههنا التوجه إلى
عرفات وإن كان من ضرورات الوقوف بها لكن الوقوف لا ينافي بقاء العمرة صحيحة فان عمرة القارن والمتمتع تبقى
صحيحة مع الوقوف بعرفة وإنما الحاجة ههنا إلى مراعاة الترتيب في الافعال فما لم توجد أركان الحج قبل أركان العمرة
لا يوجد فوات الترتيب وذلك هو الوقوف بعرفة فاما التوجه فليس بركن فلا يوجب فوات الترتيب في الافعال
وإن كان طاف للحج ثم أحرم بالعمرة فالمستحب له أن يرفض عمرته لمخالفته السنة في الفعل إذ السنة هي تقديم
أفعال العمرة على أفعال الحج فإذا ترك التقديم فقد تحققت البدعة فيستحب له أن يرفض لكن لا يؤمر بذلك
حتما لان المؤدى من أفعال الحج وهو طواف اللقاء ليس بركن ولو مضى عليها أجزأه لأنه اتى بأصل النسك وإنما
ترك السنة بترك الترتيب في الفعل وانه يوجب الإساءة دون الفساد وعليه دم القران لأنه قارن لجمعه بين احرام
الحجة والعمرة والقران جائز مشروع ولو رفضها يقضيها لأنها لزمته بالشروع فيها وعليه دم لرفضها لان
رفض العمرة فسخ للاحرام بها وانه أعظم من ادخال النقص في الاحرام وذا يوجب الدم فهذا أولى والله تعالى أعلم
وأما المتمتع في عرف الشرع فهو اسم لآفاقي يحرم بالعمرة ويأتي بافعالها من الطواف والسعي أو يأتي بأكثر
ركنها وهو الطواف أربعة أشواط أو أكثر في أشهر الحج ثم يحرم بالحج في أشهر الحج ويحج من عامة ذلك قبل
أن يلم بأهله فيما بين ذلك الماما صحيحا فيحصل له النسكان في سفر واحد سواء حل من احرام العمرة بالحلق أو
التقصير أو لم يحل إذا كان ساق الهدى لمتعته فإنه لا يجوز التحلل بينهما ويحرم بالحج قبل أن يحل من احرام
العمرة وهذا عندنا وقال الشافعي سوق الهدى لا يمنع من التحلل فصار المتمتع نوعين ممتنع لم يسق الهدى ومتمتع
ساق الهدى فالذي لم يسق الهدى يجوز له التحلل إذا فرغ من أفعال لعمرة بلا خلاف وإذا تحلل صار حلالا
كسائر المتحللين إلى أن يحرم بالحج لأنه إذا تحلل من العمرة فقد خرج منها ولم يبق عليه شئ فيقيم بمكة حلالا أي
لا يلم بأهله لان الالمام بالأهل يفسد التمتع وأما الذي ساق الهدى فإنه لا يحل له التحلل الا يوم النحر بعد الفراغ
من الحج عندنا وعند الشافعي يحل له التحلل وسوق الهدى لا يمنع من التحلل والصحيح قولنا لما روى عن
أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلقوا الا من كان معه الهدى وفى
حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان معه هدى فليقم على احرامه ومن لم يكن معه هدى
فليحلق وروى أنه لما أمر أصحابه ان يحلوا قالوا له انك لم تحل فقال إني سقت الهدى فلا أحل من احرامي إلى يوم
النحر وقال صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى وتحللت كما أحلوا فقد أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم ان الذي منعه من الحل سوق الهدى ولان لسوق الهدى أثرا في الاحرام حتى يصير به
داخلا في الاحرام فجاز أن يكون له أثر في حال البقاء حتى يمنع من التحلل وسواء كان احرامه للعمرة في أشهر الحج
أو قبلها عندنا بعد أن يأتي بأفعال العمرة أو ركنها أو بأكثر الركن في الأشهر أنه يكون متمتعا وعند الشافعي شرط
كونه متمتعا الاحرام بالعمرة في الأشهر حتى لو أحرم بها قبل الأشهر لا يكون متمتعا وان أتى بافعالها في الأشهر
والكلام فيه بناء على أصل قد ذكرناه فيما تقدم وهو ان الاحرام عنده ركن فكان من أفعال العمرة فلابد
من وجود أفعال العمرة في أشهر الحج ولم يوجد بل وجد بعضها في الأشهر وعندنا ليس بركن بل هو شرط فتوجد
168

أفعال العمرة في الأشهر فيكون متمتعا وليس لأهل مكة ولا لأهل داخل المواقيت التي بينها وبين مكة قران ولا
تمتع وقال الشافعي يصح قرانهم وتمتعهم وجه قوله قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى من غير
فصل بين أهل مكة وغيرهم ولنا قوله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام جعل التمتع لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام على الخصوص لان اللام للاختصاص ثم حاضر والمسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل
الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة وقال مالك هم أهل مكة خاصة لان معنى الحضور لهم وقال الشافعي هم أهل
مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة لأنه إذا كان كذلك كان من توابع مكة والا فلا والصحيح
قولنا لان الذين هم داخل المواقيت الخمسة منازلهم من توابع مكة بدليل أنه يحل لهم أن يدخلوا مكة لحاجة
بغير احرام فكانوا في حكم حاضري المسجد الحرام وروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال ليس لأهل مكة
تمتع ولا قران ولان دخول العمرة في أشهر الحج ثبت رخصة لقوله تعالى الحج أشهر معلومات قيل في بعض وجوه
التأويل أي للحج أشهر معلومات واللام للاختصاص فيقتضى اختصاص هذه الأشهر بالحج وذلك بان لا يدخل
فيها غيره الا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر انشاء السفر للعمرة نظرا له باسقاط أحد السفرين
وهذا المعنى لا يوجد في حق أهل مكة ومن بمعناهم فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم وكذا روى
عن ذلك الصحابي أنه قال كنا نعد العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر ثم رخص والثابت بطريق الرخصة يكون
ثابتا بطريق الضرورة في حق أهل الآفاق لا في حق أهل مكة على ما بينا فبقيت العمرة في أشهر الحج
في حقهم معصية ولان من شرط التمتع أن تحصل العمرة والحج للمتمتع في أشهر الحج من غير أن يلم بأهله فيما
بينهما وهذا لا يتحقق في حق المكي لأنه يلم بأهله فيما بينهما لا محالة فلم يوجد شرط التمتع في حقه ولو جمع المكي بين
العمرة والحج في أشهر الحج فعليه دم لكن دم كفارة الذنب لا دم نسك شكرا للنعمة عندنا حتى لا يباح له أن
يأكل منه ولا يقوم الصوم مقامه إذا كان معسرا وعنده هو دم نسك يجوز له أن يأكل منه ويقوم الصوم
مقامه إذا لم يجد الهدى ولو أحرم الآفاقي بالعمرة قبل أشهر الحج فدخل مكة محرما بالعمرة وهو يريد التمتع
فينبغي أن يقيم محرما حتى تدخل أشهر الحج فيأتي بأفعال العمرة ثم يحرم بالحج ويحج من عامه ذلك فيكون متمتعا
فان أتى بأفعال العمرة أو بأكثرها قبل أشهر الحج ثم دخل أشهر الحج فاحرم بالحج وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا
لأنه لم يتم له الحج والعمرة في أشهر الحج ولو أحرم بعمرة أخرى بعدما دخل أشهر الحج لم يكن متمتعا في قولهم جميعا
لأنه صار في حكم أهل مكة بدليل أنه صار ميقاتهم ميقاته فلا يصح له التمتع الا أن يعود إلى أهله ثم يعود إلى مكة
محرما بالعمرة في قول أبي حنيفة وفى قولهما الا أن يعود إلى أهله أو إلى موضع يكون لأهله التمتع والقران على
ما نذكر ولو أحرم من لا تمتع له من المكي ونحوه بعمرة ثم احرم بحجة يلزمه رفض أحدهما لان الجمع بينهما معصية
والنزوع عن المعصية لازم ثم ينظر ان أحرم بعمرة ثم احرم بحجة قبل أن يطوف لعمرته رأسا فإنه يرفض العمرة
لأنها أقل عملا والحج أكثر عملا فكانت العمرة أخف مؤنة من الحجة فكان رفضها أيسر ولان المعصية حصلت
بسببها لأنها هي التي دخلت في وقت الحج فكانت أولى بالرفض ويمضى على حجته وعليه لرفض عمرته دم وعليه
قضاء العمرة لما نذكر وإن كان طاف لعمرته جميع الطواف أو أكثره لا يرفض العمرة بل يرفض الحج لأن العمرة
مؤداة والحج غير مؤدى فكان رفض الحج امتناعا عن الأداء ورفض العمرة ابطالا للعمل والامتناع عن العمل دون
ابطال العمرة فكان أولى وإن كان طاف لها شوطا أو شوطين أو ثلاثة يرفض الحج في قول أبي حنيفة وفى قول أبى
يوسف ومحمد يرفض العمرة وجه قولهما ان رفض العمرة أدنى وأخف مؤنة الا ترى انها سميت الحجة الصغرى
فكانت أولى بالرفض ولا عبرة بالقدر المؤدى منها لأنه أقل والأكثر غير مؤدى والأقل بمقابلة الأكثر ملحق
بالعدم فكأنه لم يؤد شيئا منها والله أعلم ولأبي حنيفة أن رفض الحجة امتناع من العمل ورفض العمرة ابطال للعمل
والامتناع دون الابطال فكان أولى وبيان ذلك أنه لم يوجد للحج عمل لأنه لم يوجد له الا الاحرام وانه ليس من
169

الأداء في شئ لأنه شرط وليس بركن عندنا على ما بينا فيما تقدم فلا يكون رفض الحج ابطالا للعمل بل يكون امتناعا
فاما العمرة فقد أدى منها شيئا وان قل وكان رفضها ابطالا لذلك القدر من العمل فكان الامتناع أولى لما قلنا وإذا
رفض الحجة عنه فعليه لرفضها دم وقضاء حجة وعمرة وإذا رفض العمرة عندهما فعليه لرفضها دم وقضاء عمرة
والأصل في جنس هذه المسائل ان كل من لزمه رفض عمرة فرفضها فعليه لرفضها دم لأنه تحلل منها قبل وقت التحلل
فيلزمه الدم كالمحصر وعليه عمرة مكانها قضاء لأنها قد وجبت عليه بالشروع فإذا أفسدها يقضيها وكل من لزمه
رفض حجة فرفضها فعليه لرفضها دم وعليه حجة وعمرة أما لزوم الدم لرفضها فلما ذكرنا في العمرة وأما لزوم الحجة
والعمرة فاما الحجة فلوجوبها بالشروع وأما العمرة فلعدم اتيانه بافعال الحجة في السنة التي أحرم فيها فصار
كفائت الحج فيلزمه العمرة كما يلزم فائت الحج فان احرم بالحجة من سنته فلا عمرة عليه وكل من لزمه رفض
أحدهما فمضى فيها فعليه دم لان الجمع بينهما معصية فقد أدخل النقص في أحدهما فليزمه دم لكنه يكون دم
كفارة لا دم متعة حتى لا يجوز له أن يأكل منه ولا يجزئه الصوم إن كان معسرا ومما يتصل بهذه المسائل ما إذا
أحرم بحجتين معا أو بعمرتين معا قال أبو حنيفة وأبو يوسف لزمتاه جميعا وقال محمد لا يلزمه الا إحداهما وبه أخذ
الشافعي وجه قول محمد انه إذا أحرم بعبادتين لا يمكنه المضي فيهما جميعا فلا ينعقد احرامه بهما جميعا كما لو احرم
بصلاتين أو صومين بخلاف ما إذا أحرم بحجة وعمرة لان المضي فيهما ممكن فيصح احرامه بهما كما لو نوى صوما
وصلاة ولأبي حنيفة وأبى يوسف انه أحرم بما يقدر عليه في وقتين فيصح احرامه كما لو أحرم بحجة وعمرة معا
وثمرة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الجزاء إذا قتل صيدا عندهما يجب جزاءان لانعقاد الاحرام بهما جميعا
وعنده يجب جزاء واحد لانعقاد الاحرام بإحداهما ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في وقت ارتفاض إحداهما
عند أبي يوسف يرتفض عقيب الاحرام بلا فصل وعن أبي حنيفة روايتان في الرواية المشهورة عنه يرتفض إذا
قصد مكة وفى رواية لا يرتفض حتى يبتدئ بالطواف ولو أحرم الآفاقي بالعمرة فاداها في أشهر الحج وفرغ منها
وحل من عمرته ثم عاد إلى أهله حلالا ثم رجع إلى مكة وأحرم بالحج وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا حتى لا يلزمه
الهدى بل يكون مفردا بعمرة ومفردا بحجة لأنه ألم بأهله بين الاحرامين الماما صحيحا وهذا يمنع التمتع وقال
الشافعي لا أعرف الالمام ونحن نقول إن كنت لا تعرف معناه لغة فمعناه في اللغة القرب يقال ألم به أي قرب منه
وان كنت لا تعرف حكمه شرعا فحكمه أن يمنع التمتع لما روى عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما أن المتمتع إذا أقام
بمكة صح تمتعه وان عاد إلى أهله بطل تمتعه وكذا روى عن جماعة من التابعين مثل سعيد بن المسيب وسعيد بن
جبير وإبراهيم النخعي وطاوس وعطاء رضي الله عنهم انهم قالوا كذلك ومثل هذا لا يعرف رأيا واجتهادا فالظاهر
سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان التمتع في حق الآفاقي ثبت رخصة ليجمع بين النسكين
ويصل أحدهما بالآخر في سفر واحد من غير أن يتخلل بينهما ما ينافي النسك وهو الارتفاق ولما ألم بأهله فقد حصل
له مرافق الوطن فبطل الاتصال والله تعالى أعلم ولو رجع إلى مكة بعمرة أخرى وحج كان متمتعا لان حكم العمرة
الأولى قد سقط بالمامه بأهله فيتعلق الحكم بالثانية وقد جمع بينهما وبين الحجة في أشهر الحج من غير المام فكان
متمتعا ولو كان المامه بأهله بعدما طاف لعمرته قبل أن يحلق أو يقصر ثم حج من عامه ذلك قبل أن يحل من العمرة
في أهله فهو متمتع لان العود مستحق عليه لأجل الحلق لان من جعل الحرم شرطا لجواز الحق وهو أبو حنيفة
ومحمد لابد من العود وعند من لم يجعله شرطا وهو أبو يوسف كان العود مستحبا ان لم يكن مستحقا وأما الالمام
الفاسد الذي لا يمنع صحة التمتع فهو أن يسوق الهدى فإذا فرغ من العمرة عاد إلى وطنه فلا يبطل تمتعه في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف حتى لو عاد إلى مكة فاحرم بالحج وحج من عامه ذلك كان متمتعا في قولهما وعند محمد يبطل
تمتعه حتى لو حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا وجه قول محمد ان المانع من صحة التمتع وهو الالمام بالأهل قد
وجد والعود غير مستحق عليه بدليل أنه لو بدا له من التمتع جاز له ذبح الهدى ههنا وإذا لم يستحق عليه العود
170

صار كان لم يسق الهدى ولو لم يسق الهدى يبطل تمتعه كذا هذا ولهما أن العود مستحق عليه ما دام على نية
التمتع فيمنع صحة الالمام فلا يبطل تمتعه كالقارن إذا عاد إلى أهله ثم ما ذكرنا من بطلان التمتع بالالمام الصحيح
إذا عاد إلى أهله فاما إذا عاد إلى غير أهله بأن خرج من الميقات ولحق بموضع لأهله القران والتمتع كالبصرة مثلا
أو نحوها واتخذ هناك دارا أو لم يتخذ توطن بها أو لم يتوطن ثم عاد إلى مكة وحج من عامه ذلك فهل يكون متمتعا
ذكر في الجامع الصغير أنه يكون متمتعا ولم يذكر الخلاف وذكر القاضي أيضا أنه يكون متمتعا في قولهم وذكر
الطحاوي أنه يكون متمتعا في قول أبي حنيفة وهذا وما إذا أقام بمكة ولم يبرح منها سواء واما في قول أبى يوسف ومحمد
فلا يكون متمتعا ولحوقه بموضع لأهله التمتع والقران ولحوقه بأهله سواء وجه قولهما أنه لما جاوز الميقات ووصل
إلى موضع لأهله التمتع والقران فقد بطل حكم السفر الأول وخرج من أن يكون من أهل مكة لوجود انشاء
سفر آخر فلا يكون متمتعا كما لو رجع إلى أهله ولأبي حنيفة أن وصوله إلى موضع لأهله القران والتمتع لا يبطل
السفر الأول ما لم يعد إلى منزله لان المسافر ما دام يتردد في سفره يعد ذلك كله منه سفرا واحد ما لم يعد إلى منزلة ولم يعد
ههنا فكان السفر الأول قائما فصار كأنه لم يبرح من مكة فيكون متمتعا ويلزمه هدى المتعة ولو أحرم بالعمرة في
أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد وحل منها ثم أحرم بالحج وحج من عامه ذلك قبل أن يقضيها لم يكن متمتعا
لأنه لا يصير متمتعا الا بحصول العمرة والحجة ولما أفسد العمرة فلم تحصل له العمرة والحجة فلا يكون متمتعا ولو
قضى عمرته وحج من عامه ذلك فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه فان فرغ من عمرته الفاسدة وحل منها ورجع إلى
أهله ثم عاد إلى مكة وقضى عمرته وأحرم بالحج وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا بالاجماع لأنه لما لحق بأهله صار
من أهل التمتع وقد أتى به فكان متمتعا وإذا فرغ من عمرته الفاسدة وحل منها لكنه لم يخرج من الحرم أو خرج
منه لكنه لم يجاوز الميقات حتى قضى عمرته وأحرم بالحج لا يكون متمتعا بالاجماع لأنه لما حل من عمرته
الفاسدة صار كواحد من أهل مكة ولا تمتع لأهل مكة ويكون مسيئا وعليه لإساءته دم وان فرغ من عمرته الفاسدة
وحل منها وخرج من الحرم وجاوز الميقات حتى قضى عمرته ولحق بموضع لأهله التمتع والقران كالبصرة وغيرها ثم
رجع إلى مكة وقضى عمرته الفاسدة ثم أحرم بحج وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة كأنه لم يبرح
من مكة وفى قول أبى يوسف ومحمد يكون متمتعا كأنه لحق باهله وجه قولهما انه لما حصل في موضع لأهله التمتع
والقران صار من أهل ذلك الموضع وبطل حكم ذلك السفر ثم إذا قدم مكة كان هذا انشاء سفر وقد حصل له
نسكان في هذا السفر وهو عمرة وحجة فيكون متمتعا كما لو رجع إلى أهله ثم عاد إلى مكة وقضى عمرته في أشهر الحج
وأحرم بالحج وحج من عامه ذلك أنه يكون متمتعا كذا هذا بخلاف ما إذا اتخذ مكة دارا لأنه صار من أهل مكة
ولا تمتع لأهل مكة ولأبي حنيفة ان حكم السفر الأول باق لان الانسان إذا خرج من وطنه مسافرا فهو على حكم
السفر ما لم يعد إلى وطنه وإذا كان حكم السفر الأول باقيا فلا عبرة بقدومه البصرة واتخاذه دارا بها فصار كأنه أقام
بمكة لم يبرح منها حتى قضى عمرته الفاسدة وإذا كان كذلك لم يكن متمتعا ولم يلزمه الدم لأنه لما أفسد العمرة لزمه أن
يقضيها من مكة وهو ان يحرم بالعمرة من ميقات أهل مكة للعمرة وذلك دليل الحاقه باهل مكة فصارت عمرته
وحجته مكيتين لصيرورة ميقاته للحج والعمرة ميقات أهل مكة فلا يكون متمتعا لوجود الالمام بمكة كما فرغ
من عمرته وصار كالمكي إذا خرج إلى أقرب الآفاق وأحرم بالعمرة ثم عاد إلى مكة وأتى بالعمرة ثم أحرم بالحج
وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا كذا هذا بخلاف ما إذا رجع إلى وطنه لأنه إذا رجع إلى وطنه فقد قطع حكم السفر
الأول بابتداء سفر آخر فانقطع حكم كونه بمكة فبعد ذلك إذا أتى مكة وقضى العمرة وحج فقد حصل له النسكان
في سفر واحد فصار متمتعا هذا إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد فاما إذا أحرم بها قبل
أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد فإن لم يخرج من الميقات حتى دخل أشهر الحج وقضى عمرته في أشهر
الحج ثم أحرم بالحج وحج من عامه ذلك فإنه لا يكون متمتعا بالاجماع وحكمه كمكى تمتع لأنه صار كواحد من
171

أهل مكة لما ذكرنا ويكون مسيئا وعليه لإساءته دم وان عاد إلى أهله ثم عاد إلى مكة محرما باحرام العمرة وقضى
عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج وحج من عامه ذلك يكون متمتعا بالاجماع لما مر وان عاد إلى غير أهله ولحق
بموضع لأهله التمتع والقران ثم عاد إلى مكة محرما باحرام العمرة وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج وحج من
عامه ذلك فهذا على وجهين في قول أبي حنيفة في وجه يكون متمتعا وهو ما إذا رأى هلال شول خارج الميقات ثم
عاد إلى مكة محرما باحرام العمرة وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج وحج من عامه ذلك وفى وجه لا يكون
متمتعا وهو ما إذا رأى هلال شوال داخل الميقات وعند أبي يوسف ومحمد يكون متمتعا في الوجهين جميعا لهما
أن لحوقه بذلك الموضع بمنزلة لحوقه باهله ولو لحق باهله يكون متمتعا فكذا هذا ولأبي حنيفة ان في الوجه الأول
أدركته أشهر الحج وهو من أهل التمتع لأنها أدركته خارج الميقات وفى الوجه الثاني أدركته وهو ليس من
أهل التمتع لكونه ممنوعا شرعا عن التمتع ولا يزول المنع حتى يلحق باهله ولو اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى أهله
قبل إن يحل من عمرته وألم باهله وهو محرم ثم عاد إلى مكة بذلك الاحرام وأتم عمرته ثم حج من عامه ذلك فهذا على
ثلاثة أوجه فإن كان طاف لعمرته شوطا أو شوطين أو ثلاثة أشواط ثم عاد إلى أهله وهو محرم ثم رجع إلى مكة
بذلك الاحرام وأتم عمرته وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا بالاجماع وان اعتمر وحل من عمرته ثم عاد إلى
أهله حلالا ثم عاد إلى مكة وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا بالاجماع لان المامه باهله صحيح وانه يمنع التمتع
وان رجع إلى أهله بعدما طاف أكثر طواف عمرته أو كله ولم يحل بعد ذلك وألم باهله محرما ثم عاد وأتم بقية عمرته
وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وفى قول محمد لا يكون متمتعا وجه قوله إنه
أدى العمرة بسفرين وأكثرها حصل في السفر الأول وهذا يمنع التمتع ولهما ان المامه باهله لم يصح بدليل انه
يباح له العود إلى مكة بذلك الاحرام من غير أن يحتاج إلى احرام جديد فصار كأنه أقام بمكة وكذا لو اعتمر في أشهر
الحج ومن نيته التمتع وساق الهدى لأجل تمتعه فلما فرغ منها عاد إلى أهله محرما ثم عاد وحج من عامه ذلك فإنه
يكون متمتعا في قولهما لان المامه باهله لم يصح فصار كأنه أقام بمكة وعند محمد لا يكون متمتعا ولو خرج المكي إلى
الكوفة فاحرم بها للعمرة ثم دخل مكة فاحرم بها للحج لم يكن متمتعا لأنه حصل له الالمام بأهله بين الحجة والعمرة فمنع
التمتع كالكوفي إذا رجع إلى أهله وسواء ساق الهدى أو لم يسق يعنى إذا أحرم بالعمرة بعدما خرج إلى الكوفة
وساق الهدى لم يكن متمتعا وسوقه الهدى لا يمنع صحة المامه بخلاف الكوفي لان الكوفي إنما يمنع سوق الهدى
صحة المامه لان العود مستحق عليه فاما المكي فلا يستحق عليه العود فصح المامه مع السوق كما يصح مع عدمه
ولو خرج المكي إلى الكوفة فقرن صح قرانه لان القران يحصل بنفس الاحرام فلا يعتبر فيه الالمام فصار بعوده
إلى مكة كالكوفي إذا قرن ثم عاد إلى الكوفة وذكر ابن سماعة عن محمد أن قران المكي بعد خروجه إلى الكوفة
إنما يصح إذا كان خروجه من مكة قبل أشهر الحج فاما إذا دخلت عليه أشهر الحج وهو بمكة ثم خرج إلى الكوفة
فقرن لم يصح قرانه لأنه حين دخول الأشهر عليه كان على صفة لا يصح له التمتع ولا القران في هذه السنة لأنه
في أهله فلا يتغير ذلك بالخروج إلى الكوفة وفى نوادر ابن سماعة عن محمد فيمن أحرم بعمرة في رمضان وأقام على
احرامه إلى شوال من قابل ثم طاف لعمرته في العام القابل من شوال ثم حج في ذلك العام انه متمتع لأنه باق على
احرامه وقد أتى بأفعال العمرة والحج في أشهر الحج فصار كأنه ابتدأ الاحرام بالعمرة في أشهر الحج وحج من عامه
ذلك ولو فعل ذلك كان متمتعا كذا هذا وبمثله من وجب عليه ان يتحلل من الحج بعمرة فاخر إلى العام القابل
فتحلل بعمرة في شوال وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لأنه ما أتى بأفعال العمرة لها بل للتحلل عن احرام الحج فلم
تقع هذه الأفعال معتدا بها عن العمرة فلم يكن متمتعا بخلاف الفصل الأول
* (فصل) * وأما بيان ما يجب على المتمتع والقارن بسبب التمتع والقران اما المتمتع فيجب عليه الهدى بالاجماع
والكلام في الهدى في مواضع في تفسير الهدى وفي بيان وجوبه وفي بيان شرط الوجوب وفي بيان صفة الواجب
172

وفي بيان مكان اقامته وفي بيان زمان الإقامة أما الأول فالهدى المذكور في آية التمتع اختلف فيه الصحابة رضي الله عنه
م روى عن علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم انهم قالوا هو شاة وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنه
م انه بدنة أو بقرة والحاصل ان اسم الهدى يقع على الإبل والبقر والغنم لكن الشاة ههنا مرادة من الآية
الكريمة باجماع الفقهاء حتى أجمعوا على جوازها عن المتعة والدليل عليه أيضا ما روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه سئل عن الهدى فقال صلى الله عليه وسلم أدناه شاة الا أن البدنة أفضل من البقرة والبقرة أفضل
من الشاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الهدى أدناه شاة ففيه إشارة إلى أن أعلاه البدنة والبقرة وروى
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال المبكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم كالمهدى بقرة ثم كالمهدى شاة وكذا النبي صلى
الله عليه وسلم ساق البدن ومعلوم أنه كان يختار من الاعمال أفضلها ولان البدنة أكثر لحما وقيمة من البقرة
والبقرة أكثر لحما وقيمة من الشاة فكان انفع للفقراء فكان أفضل وأما وجوبه فإنه واجب بالاجماع وبقوله تعالى فمن
تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى أي فعليه ذبح ما استيسر من الهدى كما في قوله تعالى فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية أي فحلق فعليه فدية وقوله عز وجل فمن كان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر معناه فأفطر فليصم في عدة من أيام أخر وأما شرط وجوبه فالقدرة عليه لان الله تعالى أوجب
ما استيسر من الهدى ولا وجوب الا على القادر فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله لقوله عز
وجل فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة معناه فمن لم يجد الهدى فصيام ثلاثة أيام
في الحج وسبعة إذا رجعتم ولا يجوز له أن يصوم ثلاثة أيام في أشهر الحج قبل أن يحرم بالعمرة بلا خلاف وهل يجوز
له بعدما أحرم بالعمرة في أشهر الحج قبل أن يحرم بالحج قال أصحابنا يجوز سواء طاف لعمرته أو لم يطف بعد ان
أحرم بالعمرة وقال الشافعي لا يجوز حتى يحرم بالحج كذا ذكر الفقيه أبو الليث الخلاف وذكر امام الهدى الشيخ أبو
منصور الماتريدي رحمه الله القياس أن لا يجوز ما لم يشرع في الحج وهو قول زفز لقوله تعالى فمن لم يجد فصيام
ثلاثة أيام في الحج وإنما يكون في الحج بعد الشروع فيه وذلك بالاحرام ولان على أصل الشافعي دم المتعة دم كفارة
وجب جبرا للنقص وما لم يحرم بالحج لا يظهر النقص ولنا ان الاحرام بالعمرة سبب لوجود الاحرام بالحجة فكان
الصوم تعجيلا بعد وجود السبب فجاز وقبل وجود العمرة لم يوجد السبب فلم يجز ولان السنة في المتمتع ان يحرم
بالحج عشية التروية كذا روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك وإذا كانت السنة في حقه
الاحرام بالحج عشية التروية فلا يمكنه صيام الثلاثة الأيام بعد ذلك وإنما بقي له يوم واحد لان أيام النحر والتشريق
قد نهى عن الصيام فيها فلا بد من الحكم بجواز الصوم بعد احرام العمرة قبل الشروع في الحج واما الآية
فقد قيل في تأويلها ان المراد منها وقت الحج وهو الصحيح إذ الحج لا يصلح ظرفا للصوم والوقت يصلح ظرفا
له فصار تقدير الآية الشريفة فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج كما في قوله تعالى الحج أشهر معلومات
أي وقت الحج أشهر معلومات وعلى هذا صارت الآية الشريفة حجة لنا عليه لان الله تعالى أوجب على
المتمتع صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهر الحج وقد صام في أشهر الحج فجاز الا أن زمان ما قبل الاحرام صار
مخصوصا من النص والأفضل أن يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة بان يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية
ويوم عرفة لان الله تعالى جعل صيام ثلاثة أيام بدلا عن الهدى وأفضل أوقات البدل وقت اليأس عن الأصل
لما يحتمل القدرة على الأصل قبله ولهذا كان الأفضل تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة لاحتمال وجود الماء
قبله وهذه الأيام آخر وقت هذا الصوم عندنا فإذا مضت ولم يصم فيها فقد فات الصوم وسقط عنه وعاد الهدى فإن لم
يقدر عليه يتحلل وعليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدى وعند الشافعي لا يفوت بمضي هذه الأيام ثم له
قولان في قول يصومها في أيام التشريق وفى قول يصومها بعد أيام التشريق والصحيح قولنا لقوله تعالى فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام في الحج أي في وقت الحج لما بينا عين وقت الحج لصوم هذه الأيام الا أن يوم النحر خرج من أن
173

يكون وقتا لهذا الصوم بالاجماع وما رواه ليس وقت الحج فلا يكون محلا لهذا الصوم وعن ابن عباس رضي الله عنه
أنه قال المتمتع إنما يصوم قبل يوم النحر وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا أتاه يوم النحر وهو متمتع لم يصم
فقال له عمر رضي الله عنه اذبح شاة فقال الرجل ما أجدها فقال له عمر سل قومك فقال ليس ههنا منهم أحد فقال عمر
رضي الله عنه يا مغيث أعطه عنى ثمن شاة والظاهر أنه قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لان مثل
ذلك لا يعرف رأيا واجتهادا وأما صوم السبعة فلا يجوز قبل الفراغ من أفعال الحج بالاجماع وهل يجوز بعد الفراغ
من أفعال الحج بمكة قبل الرجوع إلى الأهل قال أصحابنا يجوز وقال الشافعي لا يجوز الا بعد الرجوع إلى الأهل الا
إذا نوى الإقامة بمكة فيصومها بمكة فيجوز واحتج بقوله تعالى وسبعة إذا رجعتم أي إذا رجعتم إلى أهليكم ولنا هذه
الآية بعينها لأنه قال عز وجل إذا رجعتم مطلقا فيقتضى أنه إذا رجع من منى إلى مكة وصامها يجوز وهكذا قال بعض
أهل التأويل إذا رجعتم من منى وقال بعضهم إذا فرغتم من أفعال الحج وقيل إذا أتى وقت الرجوع ولو وجد الهدى
قبل أن يشرع في صوم ثلاثة أيام أو في خلال الصوم أو بعدما صام فوجده في أيام النحر قبل أن يحلق أو يقصر
يلزمه الهدى ويسقط حكم الصوم عندنا وقال الشافعي لا يلزمه الهدى ولا يبطل حكم الصوم والصحيح قولنا لأن الصوم
بدل عن الهدى وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فبطل حكم البدل كما لو وجد الماء في
خلال التيمم ولو وجد الهدى في أيام الذبح أو بعدما حلق أو قصر فحل قبل أن يصوم السبعة صح صومه ولا يجب عليه
الهدى لان المقصود من البدل وهو التحلل قد حصل فالقدرة على الأصل بعد ذلك لا تبطل حكم البدل كما لو صلى
بالتيمم ثم وجد الماء واختلف أبو بكر الرازي وأبو عبد الله الجرجاني في صوم السبعة قال الجرجاني انه ليس ببدل
بدليل أنه يجوز مع وجود الهدى بالاجماع ولا جواز للبدل مع وجود الأصل كما في التراب مع الماء ونحو ذلك وقال
الرازي انه بدل لأنه لا يجب الا حال العجز عن الأصل وجوازه حال وجود الأصل لا يخرجه عن كونه بدلا ولو صام
ثلاثة أيام ولم يحل حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدى فصومه ماض ولا هدى عليه كذا روى الحسن بن زياد
عن أبي حنيفة ذكره الكرخي في مختصره لان الذبح يتوقت بأيام الذبح عندنا فإذا مضت فقد حصل المقصود وهو
إباحة التحلل فكأنه تحلل ثم وجد الهدى وأما صفة الواجب فقد اختلف فيها قال أصحابنا انه دم نسك وجب شكرا
لما وفق للجمع بين النسكين بسفر واحد فله أن يأكل منه ويطعم من شاء غنيا كان المطعم أو فقيرا ويستحب له أن
يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويهدى الثلث لأقربائه وجيرانه سواء كانوا فقراء أو أغنياء كدم الأضحية لقوله
عز وجل فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير وقال الشافعي انه دم كفارة وجب جبرا للنقص بترك احدى السفرتين
لان الافراد أفضل عنده لا يجوز للغنى أن يأكل منه وسبيله سبيل دماء الكفارات وأما القارن فحكمه حكم المتمتع
في وجوب الهدى عليه ان وجد والصوم ان لم يجد وإباحة الاكل من لحمه للغنى والفقير لأنه في معنى المتمتع فيما
لأجله وجب الدم وهو الجمع بين الحجة والعمرة في سفر واحد وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا
فنحر البدن وأمر عليا رضي الله عنه فأخذ من كل بدنة قطعة فطبخها وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحمها
وحسا من مرقها وأما مكان هذا الدم فالحرم لا يجوز في غيره لقوله تعالى والهدى معكوفا أن يبلغ محله ومحله الحرم
والمراد منه هدى المتعة لقوله تعالي فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى والهدى اسم لما يهدى إلى بيت
الله الحرام أي يبعث وينقل إليه وأما زمانه فأيام النحر حتى لو ذبح قبلها لم يجز لأنه دم نسك عندنا فيتوقت بأيام
النحر كالأضحية وأما بيان أفضل أنواع ما يحرم به فظاهر الرواية عن أصحابنا أن القران أفضل ثم التمتع ثم
الافراد وروى عن أبي حنيفة أن الافراد أفضل من التمتع وبه أخذ الشافعي وقال مالك التمتع أفضل وذكر محمد
في كتاب الرد على أهل المدينة أن حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل احتج الشافعي بما روى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أفرد بالحج عام حجة الوداع فدل أن الافراد أفضل إذ هو صلى الله عليه وسلم كان يختار من
الاعمال أفضلها ولنا أن المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة رواه عمر وعلى وابن عباس
174

وجابر وأنس رضي الله عنهم وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أتاني آت من ربى وأنا بالعقيق فقال قم فصل
في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بعمرة في حجة حتى روى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يصرخ بها صراخا ويقول لبيك بعمرة في حجة فدل أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وروى
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال تابعوا بين الحج والعمرة فان المتابعة بينهما تزيد في العمر وتنفى الفقر ولان القران
والتمتع جمع بين عبادتين باحرامين فكان أفضل من اتيان عبادة واحدة باحرام واحد وإنما كان القران أفضل
من التمتع لان القارن حجته وعمرته آفاقيتان لأنه يحرم بكل واحدة منهما من الآفاق والمتمتع عمرته آفاقية
وحجته مكية لأنه يحرم بالعمرة من الآفاق وبالحجة من مكة والحجة الآفاقية أفضل من الحجة المكية لقوله
تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وروينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما انهما قالا اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة
أهلك وما كان أتم فهو أفضل وأما ما رواه الشافعي فالمشهور ما روينا والعمل بالمشهور أولى مع ما أن فيما روينا زيادة
ليست في روايته والزيادة برواية العدل مقبولة على أنا نجمع بين الروايتين على ما هو الأصل عند تعارض الدليلين
أنه يعمل بهما بالقدر الممكن فنقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا لكنه كان يسمى العمرة والحجة
في التلبية بهما مرة وكان صلى الله عليه وسلم يلبى بهما لكنه كان يسمى بإحداهما مرة إذ تسمية ما يحرم به في التلبية
ليس بشرط لصحة التلبية فراوي الافراد سمعه يسمى الحجة في التلبية فبنى الامر على الظاهر فظنه مفردا فروى
الافراد وراوي القران وقف على حقيقة الحال فروى القران
* (فصل) * وأما بيان حكم المحرم إذا منع عن المضي في الاحرام وهو المسمى بالمحصر في عرف الشرع فالكلام في
الاحصار في الأصل في ثلاث مواضع في تفسير الاحصار انه ما هو ومم يكون وفي بيان حكم الاحصار وفي بيان حكم
زوال الاحصار أما الأول فالمحصر في اللغة هو الممنوع والاحصار هو المنع وفى عرف الشرع هو اسم لمن أحرم
ثم منع عن المضي في موجب الاحرام سواء كان المنع من العدو أو المرض أو الحبس أو الكسر أو العرج وغيرها من
الموانع من اتمام ما أحرم به حقيقة أو شرعا وهذا قول أصحابنا وقال الشافعي لا احصار الا من العدو ووجه قوله أن
آية الاحصار وهي قوله تعالى فان أحصرتم فما استيسر من الهدى نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين أحصروا من العدو وفى آخر الآية الشريفة دليل عليه وهو قوله عز وجل فإذا أمنتم والأمان
من العدو يكون وروى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انهما قالا لا حصر الا من عدو ولنا عموم قوله
تعالى فان أحصرتم فما استيسر من الهدى والاحصار هو المنع والمنع كما يكون من العدو يكون من المرض وغيره
والعبرة بعموم اللفظ عندنا لا بخصوص السبب إذ الحكم يتبع اللفظ لا السبب وعن الكسائي وأبى معاذ ان
الاحصار من المرض والحصر من العدو فعلى هكذا كانت الآية خاصة في الممنوع بسبب المرض وأما قوله عز وجل
فإذا أمنتم فالجواب عن التعلق به من وجهين أحدهما أن الامن كما يكون من العدو يكون من زوال المرض لأنه إذا
زال مرض الانسان أمن الموت منه أو أمن زيادة المرض وكذا بعض الأمراض قد تكون أمانا من البعض كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم الزكام أمان من الجذام والثاني أن هذا يدل على أن المحصر من العدو مراد من الآية الشريفة
وهذا لا ينفى كون المحصر من المرض مرادا منها وما روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انه ان ثبت فلا
يجوز ان ينسخ به مطلق الكتاب كيف وانه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل وقوله حال أي جاز له أن يحل بغير دم لأنه لم يؤذن له بذلك شرعا
وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ومعناه أي حل له
الافطار فكذا ههنا معناه حل له ان يحل ولأنه إنما صار محصرا من العدو ومن خصاله التحلل لمعنى هو موجود
في المرض وغيره وهو الحاجة إلى الترفيه والتيسير لما يلحقه من الضرر والحرج بابقائه على الاحرام مسدة مديدة
والحاجة إلى الترفيه والتيسير متحققة في المريض ونحوه فيتحقق الاحصار ويثبت موجبه بل أولى لأنه يملك دفع
175

شر العدو عن نفسه بالقتال فيدفع الاحصار عن نفسه ولا يمكنه دفع المرض عن نفسه فلما جعل ذلك عذرا فلان
يجعل هذا عذرا أولى والله أعلم وسواء كان العدو المانع كافرا أو مسلما لتحقق الاحصار منهما وهو المنع عن المضي في
موجب الاحرام فيدخل تحت عموم الآية وكذا ما ذكرنا من المعنى الموجب لثبوت حكم الاحصار وهو إباحة التحلل
وغيره لا يوجب الفصل بين الاحصار من المسلم ومن الكافر ولو سرقت نفقته أو هلكت راحلته فإن كان لا يقدر على
المشي فهو محصر لأنه منع من المضي في موجب الاحرام فكان محصرا كما لو منعه المرض وإن كان يقدر على المشي
فليس بمحصر لأنه قادر على المضي في موجب الاحرام فلا يجوز له التحلل ويجب عليه المشي إلى الحج إن كان محرما
بالحج ويجوز ان لا يجب على الانسان المشي إلى الحج ابتداء ويجب عليه بعد الشروع فيه كالفقير الذي لا زاد له ولا
راحلة شرع في الحج انه يجب عليه المشي وإن كان لا يجب عليه ابتداء قبل الشروع كذا هذا قال أبو يوسف فان قدر
على المشي في الحال وخاف ان يعجز جاز له التحلل لان المشي الذي لا يوصله إلى المناسك وجوده والعدم بمنزلة واحدة
فكان محصرا فيجوز له التحلل كما لو لم يقدر على المشي أصلا وعلى هذا يخرج المرأة إذا أحرمت ولا زوج لها ومعها محرم
فمات محرمها أو أحرمت ولا محرم معها ولكن معها زوجها فمات زوجها انها محصرة لأنها ممنوعة شرعا من المضي
في موجب الاحرام بلا زوج ولا محرم وعلى هذا يخرج ما إذا أحرمت بحجة التطوع ولها محرم وزوج فمنعها
زوجها انها محصرة لان للزوج أن يمنعها من حجة التطوع كما أن له أن يمنعها عن صوم التطوع فصارت ممنوعة
شرعا بمنع الزوج فصارت محصرة كالممنوع حقيقة بالعدو وغيره وان أحرمت ومعها محرم وليس لها زوج
فليس بمحصرة لأنها غير ممنوعة عن المضي في موجب الاحرام حقيقة وشرعا وكذلك إذا كان لها محرم ولها
زوج فأحرمت باذن الزوج انها لا تكون محصرة وتمضي في احرامها لان الزوج اسقط حق نفسه بالاذن وان
أحرمت وليس لها محرم فإن لم يكن لها زوج فهي محصرة لأنها ممنوعة عن المضي في موجب الاحرام بغير زوج
ولا محرم وإن كان لها زوج فان أحرمت بغير اذنه فكذلك لأنها ممنوعة من المضي بغير اذن الزوج وان أحرمت
باذنه لا تكون محصرة لأنها غير ممنوعة وان أحرمت بحجة الاسلام ولا محرم لها ولا زوج فهي محصرة لأنها
ممنوعة عن المضي في موجب الاحرام لحق الله تعالى وهذا المنع أقوى من منع العباد وإن كان لها محرم وزوج
ولها استطاعة عند خروج أهل بلدها فليست بمحصرة لأنه ليس للزوج ان يمنعها من الفرائض كالصلوات
المكتوبة وصوم رمضان وإن كان لها زوج ولا محرم معها فمنعها الزوج فهي محصرة في ظاهر الرواية لان الزوج
لا يجبر على الخروج ولا يجوز لها الخروج بنفسها ولا يجوز للزوج أن يأذن لها بالخروج ولو أذن لا يعمل اذنه
فكانت محصرة وهل للزوج أن يحللها روى عن أبي حنيفة أن له أن يحللها لأنها لما صارت محصرة ممنوعة عن
الخروج والمضي بمنع الزوج صار هذا كحج التطوع وهناك للزوج أن يحللها فكذا هذا ولو أجرم العبد والأمة
بغير اذن المولي فهو محصر لأنه ممنوع عن المضي بغير اذنه وللمولى أن يحلله وإن كان باذنه فللمولى أن يمنعه الا أنه
يكره له ذلك لأنه خلف في الوعد ولا يكون الحاج محصرا بعدما وقف بعرفة ويبقى محرما عن النساء إلى أن يطوف
طواف الزيارة وإنما قلنا إنه لا يكون محصرا لقوله تعالى فان أحصرتم فما استيسر من الهدى أي فان أحصرتم
عن اتمام الحج والعمرة لأنه مبنى على قوله وأتموا الحج والعمرة لله وقد تم حجة بالوقوف لقوله صلى الله عليه وسلم
الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه وبعد تمام الحج لا يتحقق الا حصار ولان المحصر اسم لفائت الحج وبعد
وجود الركن الأصلي وهو الوقوف لا يتصور الفوات فلا يكون محصرا ولكنه يبقى محرما عن النساء إلى أن يطوف
طواف الزيارة لان التحلل عن النساء لا يحصل بدون طواف الزيارة فان منع حتى مضى أيام النحر والتشريق ثم
خلى سبيله يسقط عنه الوقوف بمزدلفة ورمى الجار وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة ودم لترك الرمي لان كل
واحد منهما واجب وعليه أن يطوف طواف الزيارة وطواف الصدر وعليه لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر
دم عند أبي حنيفة وكذا عليه لتأخير الحلق عن أيام النحر دم عنده وعندهما لا شئ عليه والمسألة مضت في
176

موضعها ولا احصار بعدما قدم مكة أو الحرم إن كان لا يمنع من الطواف ولم يذكر في الأصل أنه ان منع من الطواف
ماذا حكمه وذكر الجصاص انه ان قدر على الوقوف والطواف جميعا أو قدر على أحدهما فليس بمحصر وان لم يقدر
على واحد منهما فهو محصر وروى عن أبي يوسف أنه لا يكون الرجل محصرا بعدما دخل الحرم الا أن يكون
بمكة عدو غالب يحول بينه وبين الدخول إلى مكة كما حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دخول
مكة فإذا كان كذلك فهو محصر وروى عن أبي يوسف أنه قال سألت أبا حنيفة هل على أهل مكة احصار فقال
لا فقلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية فقال كانت مكة إذ ذاك حربا وهي اليوم دار
اسلام وليس فيها احصار والصحيح ما ذكره الجصاص من التفصيل انه إن كان يقدر على الوقوف أو على
الطواف لا يكون محصرا وان لم يقدر على واحد منهما يكون محصرا أما إذا كان يقدر على الوقوف فلما ذكرنا
وأما إذا كان يصل إلى الطواف فلان التحلل بالدم إنما رخص للمحصر لتعذر الطواف قائما مقامه بدلا عنه
بمنزلة فائت الحج أنه يتحلل بعمل العمرة وهو الطواف فإذا قدر على الطواف فقد قدر على الأصل فلا يجوز التحلل
وأما إذا لم يقدر على الوصول إلى أحدهما فلانه في حكم المحصر في الحل فيجوز له أن يتحلل والله عز وجل أعلم ثم
الاحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة عند عامة العلماء وقال بعضهم لا احصار عن العمرة وجه قوله
أن الاحصار لخوف الفوت والعمرة لا تحتمل الفوت لان سائر الأوقات وقت لها فلا يخاف فوتها بخلاف الحج
فإنه يحتمل الفوت فيتحقق الاحصار عنه ولنا قوله تعالى فان أحصرتم فما استيسر من الهدى عقيب قوله
عز وجل وأتموا الحج والعمرة لله فكان المراد منه والله أعلم فان أحصرتم عن اتمامهما فما استيسر من الهدى
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حصروا بالحديبية فحال كفار قريش بينهم
وبين البيت وكانوا معتمرين فنحروا هديهم وحلقوا رؤسهم وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
عمرتهم في العام القابل حتى سميت عمرة القضاء ولان التحلل بالهدى في الحج لمعنى هو موجود في العمرة وهو
ما ذكرنا من التضرر بامتداد الاحرام والله أعلم
* (فصل) * وأما حكم الاحصار فالاحصار يتعلق به أحكام لكن الأصل فيه حكمان أحدهما جواز التحلل عن
الاحرام والثاني وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل أما جواز التحلل فالكلام فيه في مواضع في تفسير التحلل وفي بيان جوازه وفي بيان ما يتحلل به وفي بيان مكانه وفي بيان زمانه وفي بيان حكم التحلل اما الأول فالتحلل هو
فسخ الاحرام والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعا وأما دليل جوازه فقوله تعالى فان أحصرتم فما استيسر
من الهدى وفيه اضمار ومعناه والله أعلم فان أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة وأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما تيسر من
الهدى إذ الاحصار نفسه لا يوجب الهدى ألا ترى أن له أن لا يتحلل ويبقى محرما كما كان إلى أن يزول المانع
فيمضي في موجب الاحرام وهو كقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية معناه فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية والا فكون الأذى في رأسه لا يوجب الفدية وكذا قوله تعالى فمن كان
منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر معناه فأفطر فعدة من أيام أخر والا فنفس المرض والسفر لا يوجب
الصوم في عدة من أيام أخر وكذا قوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه معناه فأكل فلا اثم عليه والا فنفس
الاضطرار لا يوجب الاثم كذا ههنا ولان المحصر محتاج إلى التحلل لأنه منع عن المضي في موجب الاحرام على
وجه لا يمكنه الدفع فلو لم يجز له التحلل لبقي محرما لا يحل له ما حظره الاحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب
الاحرام وفيه من الضرر والحرج مالا يخفى فمست الحاجة إلى التحلل والخروج من الاحرام دفعا للضرر والحرج
وسواء كان الاحصار عن الحج أو عن العمرة أو عنهما عند عامة العلماء لما ذكرنا والله عز وجل أعلم وأما بيان
ما يتحلل به فالمحصر نوعان نوع لا يتحلل الا بالهدى ونوع يتحلل بغير الهدى أما الذي لا يتحلل الا بالهدى فكل
من منع من المضي في موجب الاحرام حقيقة أو منع منه شرعا حقا لله تعالى لا لحق العبد على ما ذكرنا فهذا لا يتحلل
177

الا بالهدى وهو أن يبعث بالهدى أو بثمنه ليشترى به هديا فيذبح عنه وما لم يذبح لا يحل وهذا قول عامة العلماء
سواء كان شرط عند الاحرام الاحلال بغير ذبح عند الاحصار أو لم يشترط وقال بعض الناس المحصر يحل بغير
هدى الا إذا كان معه هدى فيذبحه ويحل وقيل إنه قول مالك وقال بعضهم إن كان لم يشترط عند الاحرام الاحلال
عند الاحصار من غير هدى لا يحل الا بالهدى وإن كان شرط عند الاحرام الاحلال عند الاحصار من غير هدى
لا يحل الا بالهدى احتج من قال بالتحلل من غير هدى بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل
عام الحديبية عن احصاره بغير هدى لان الهدى الذي نحره كان هديا ساقه لعمرته لا لاحضاره فنحر هديه
على النية الأولى وحل من احصاره بغير دم فدل أن المحصر يحل بغير هدى يحقق ما قلنا إنه ليس في حديث صلح
الحديبية أنه نحر دمين وإنما نحر دما واحدا ولو كان المحصر لا يحل الا بدم لنحر دمين وانه غير منقول ولنا
قوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله معناه حتى يبلغ الهدى محله فيذبح نهى عز وجل عن حلق
الرأس قبل ذبح الهدى في محله وهو الحرم من غير فصل بين ما إذا كان معه هدى وقت الاحصار أم لا شرط المحصر
عند الاحرام الاحلال عند الاحصار أو لم يشرط فيجرى على اطلاقه ولان شرع التحلل ثبت بطريق الرخصة
لما فيه من فسخ الاحرام والخروج منه قبل أوانه فكان ثبوته بطريق الضرورة والضرورة تندفع بالتحلل
بالهدى فلا يثبت التحلل بدونه وأما الحديث فليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حل عام الحديبية
عن احصاره بغير هدى إذ لا يتوهم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حل من احصاره بغير هدى والله تعالى أمر
المحصر أن لا يحل حتى ينحر هديه بنص الكتاب العزيز ولكن وجه ذلك والله أعلم وهو معنى المروى في حديث صلح
الحديبية انه نحر دما واحدا ان الهدى الذي كان ساقه النبي صلى الله عليه وسلم كان هدى متعة أو قران فلما منع
عن البيت سقط عنه دم القران فجاز له ان يجعله من دم الاحصار فان قيل كيف قلتم ان النبي صلى الله عليه وسلم
صرف الهدى عن سبيله وأنتم تزعمون أن من باع هدية التطوع فهو مسئ لما انه صرفه عن سبيله فالجواب انه
لا مشابهة بين الفصلين لان الذي باعه صرفه عن سبيل التقرب به إلى الله تعالى رأسا فاما النبي صلى الله عليه وسلم
فلم يصرف الهدى عن سبيل التقرب أصلا ورأسا بل صرفه إلى ما هو أفضل وهو الواجب وهو دم الاحصار ومما
يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الهدى لاحصاره ما روى أنه لم يحلق حتى نحر هديه وقال أيها الناس
انحروا وحلوا والله عز وجل أعلم وإذا لم يتحلل الا بالهدى وأراد التحلل يجب ان يبعث الهدى أو ثمنه ليشترى به
الهدى فيذبح عنه ويجب أن يواعدهم يوما معلوما يذبح فيه فيحل بعد الذبح ولا يحل قبله بل يحرم عليه كما يحرم
على المحرم غير المحصر فلا يحلق رأسه ولا يفعل شيئا من محظورات الاحرام حتى يكون اليوم الذي واعدهم فيه
ويعلم أن هديه قد ذبح لقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله حتى لو فعل شيئا من محظورات الاحرام
قبل ذبح الهدى يجب عليه ما يجب على المحرم إذا لم يكن محصرا وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه حتى لو
حلق قبل الذبح تجب عليه الفدية سواء حلق لغير عذر أو لعذر لقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه
ففدية من صيام أو صدقة أو نسك أي فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية من صيام أو صدقة
أو نسك كقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر أي فأفطر فعدة من أيام أخر وعن كعب
ابن عجرة قال في نزلت الآية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي فقال صلى الله عليه
وسلم أيؤذيك هو أم رأسك فقلت نعم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم احلق واطعم ستة مساكين لكل مسكين
نصف صاع من حنطة أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة فنزلت الآية والنسك جمع نسيكة والنسيكة الذبيحة
والمراد منه الشاة لاجماع المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية وفى بعض الروايات ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لكعب بن عجرة انسك شاة وإذا وجبت الفدية عليه إذا حلق رأسه لأذى بالنص فيجب عليه إذا حلق
لا لأذى بدلالة النص لان العذر سبب تخفيف الحكم في الجملة فلما وجب في حال الضرورة ففي حال الاختيار
178

أولى ولا يجزئ دم الفدية الا في الحرم كدم الاحصار ودم المتعة والقران وأما الصدقة والصوم فإنهما يجزيان
حيث شاء وقال الشافعي لا نجزئ الصدقة الا بمكة وجه قوله إن الهدى يختص بمكة فكذا الصدقة والجامع بينهما ان
أهل الحرم ينتفعون بذلك ولنا قوله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك مطلقا عن المكان الا أن النسك قيد
بالمكان بدليل فمن ادعى تقييد الصدقة فعليه الدليل وأما قوله إن الهدى إنما اختص بالحرم لينتفع به أهل الحرم
فكذا الصدقة فنقول هذا الاعتبار فاسد لأنه لا خلاف في أنه لو ذبح الهدى في غير الحرم وتصدق بلحمه في الحرم
انه لا يجوز ولو ذبح في الحرم وتصدق به على غير أهل الحرم يجوز والدليل على التفرقة بين الهدى والاطعام ان من
قال لله على أن أهدى ليس له أن يذبح الا بمكة ولو قال لله على اطعام عشرة مساكين أو لله على عشرة دراهم
صدقة له ان يطعم ويتصدق حيث شاء فدل على التفرقة بينهما ولو حل على ظن أنه ذبح عنه ثم تبين انه لم يذبح
فهو محرم كما كان لا يحل ما لم يذبح عنه لعدم شرط الحل وهو ذبح الهدى وعليه لاحلاله تناول محظور احرامه دم
لأنه جنى على احرامه فيلزمه الدم كفارة لذنبه ثم الهدى بدنة أو بقرة أو شاة وأدناه شاة لما روينا ولان الهدى في
اللغة اسم لما يهدى أي يبعث وينقل وفى الشرع اسم لما يهدى إلى الحرم وكل ذلك مما يهدى إلى الحرم والأفضل هو
البدنة ثم البقرة لما ذكرنا في المتمتع ولما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحصر بالحديبية نحر
البدن وكان يختار من الاعمال أفضلها وإن كان قارنا لا يحل الا بدمين عندنا وعند الشافعي يحل بدم واحد
بناء على أصل ذكرناه فيما تقدم ان القارن محرم باحرامين فلا يحل الا بهديين وعنده محرم باحرام واحد ويدخل
احرام العمرة في الحجة فيكفيه دم واحد ولو بعث القارن بهديين ولم يبين أيهما للحج وأيهما للعمرة لم يضره
لان الموجب لهما واحد فلا يشترط فيه تعيين النية كقضاء يومين من رمضان ولو بعث القارن بهدي واحد
ليتحلل من الحج ويبقى في احرام العمرة لم يتحلل من واحد منهما لان تحلل القارن من أحد الاحرامين متعلق
بتحلله من الآخر لان الهدى بدل عن الطواف ثم لا يتحلل بأحد الطوافين عن أحد الاحرامين فكذا بأحد
الهديين ولو كان احرم بشئ واحد لا ينوى حجة ولا عمرة ثم أحصر يحل بهدي واحد وعليه عمرة استحسانا لان
الاحرام بالمجهول صحيح لما ذكرنا فيما تقدم وكان البيان إليه ان شاء صرفه إلى الحج وان شاء إلى العمرة لأنه هو
المجمل فكان البيان إليه كما في الطلاق وغيره والقياس ان لا تتعين العمرة بالاحصار لعدم التعيين قولا ولا فعلا
لان ذلك ان يأخذ في عمل أحدهما ولم يوجد الا انهم استحسنوا وقالوا تتعين العمرة بالاحصار لأن العمرة
أقلهما وهو متيقن ولو كان أحرم بشئ واحد وسماه ثم نسيه وأحصر يحل بهدي واحد وعليه حجة وعمرة اما الحل
بهدي واحد فلانه محرم باحرام واحد وأيهما كان فإنه يقع التحلل منه بدم وحد واما لزوم حجة وعمرة فلانه
يحتمل انه كان قد أحرم بحجة ويحتمل بعمرة فإن كان احرامه بحجة فالعمرة لا تنوب منابها وإن كان بالعمرة
فالحجة لا تنوب منابها فيلزمه ان يجمع بينهما احتياطا ليسقط الفرض عن نفسه بيقين كمن نسي صلاة من الصلوات
الخمس انه يجب عليه إعادة خمس صلوات ليسقط الفرض عن نفسه بيقين كذا هذا وكذلك ان لم يحصر ووصل فعليه
حجة وعمرة ويكون عليه ما على القارن لأنه جمع بين الحج والعمرة على طريق النسك واما مكان ذبح الهدى
فالحرم عندنا وقال الشافعي له ان يذبح في الموضع الذي أحصر فيه احتج بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نحر الهدى عام الحديبية ولم يبلغنا انه نحر في الحرم ولان التحلل بالهدى ثبت رخصة وتيسيرا وذلك في الذبح في أي
موضع كان ولنا قوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله ولو كان كل موضع محلا له لم يكن لذكر المحل
فائدة ولأنه عز وجل قال ثم محلها إلى البيت العتيق أي إلى البقعة التي فيها البيت بخلاف قوله تعالى وليطوفوا
بالبيت العتيق ان المراد منه نفس البيت لان هناك ذكر بالبيت وههنا ذكر إلى البيت وأما ما روى من الحديث
فقد روى في رواية أخرى انه نحر هديه عام الحديبية في الحرم فتعارضت الروايات فلم يصح الاحتجاج به وعن ابن
عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الحديبية فحال المشركون بينه وبين دخول مكة فجاء
179

سهيل بن عمرو يعرض عليه الصلح وان يسوق البدن وينحر حيث شاء فصالحه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا يحتمل أن ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه في الحل مع امكان النحر في الحرم وهو بقرب
الحرم بل هو فيه وروى عن مروان والمسور بن مخرمة قالا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في
الحل وكان يصلى في الحرم فهذا يدل على أنه كان قادرا على أن ينحر بدنه في الحرم حيث كان يصلى في الحرم
ولا يحتمل أن يترك نحر البدن في الحرم وله سبيل النحر في الحرم ولان الحديبية مكان يجمع الحل والحرم جميعا
فلا يحتمل أن ينحر في الحل مع كونه قادرا على النحر في الحرم ولو حل من احرامه على ظن أنهم ذبحوا عنه في الحرم ثم
ظهر انهم ذبحوا في غير الحرم فهو على احرامه ولا يحل منه الا بذبح الهدى في الحرم لفقد شرط التحلل وهو الذبح
في الحرم فبقي محرما كما كان وعليه لاحلاله في تناوله محظورات احرامه دم لما قلنا وكذلك لو بعث الهدى وواعدهم
أن يذبحوا عنه في الحرم في يوم بعينه ثم حل من احرامه على ظن أنهم ذبحوا عنه فيه ثم تبين انهم لم يذبحوا فإنه يكون
محرما لما قلنا ولو بعث هديين وهو مفرد فإنه يحل من احرامه بذبح الأول منهما ويكون الآخر تطوعا لوجود
شرط الحل عند وجود ذبح الأول منهما ولو كان قارنا لا يحل الا بذبحهما ولا يحل بذبح الأول لان شرط الحل
في حقه الزمان فما لم يوجد الا يحل ولو أراد ان يتحلل بالهدى فلم يجد هديا يبعث ولا ثمنه هل يحل بالصوم ويكون
الصوم بدلا عنه قال أبو حنيفة ومحمد لا يحل بالصوم وليس الصوم بدلا عن هدى المحصر وهو ظاهر قول أبى
يوسف ويقيم حراما حتى يذبح الهدى عنه في الحرم أو يذهب إلى مكة فيحل من احرامه بأفعال العمرة وهو
الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر كما يفعله إذا فاته الحج وهو أحد قولي الشافعي وقال
عطاء بن أبي رباح في المحصر لا يجد الهدى قوم الهدى طعاما وتصدق به على المساكين فإن لم يكن عنده طعام صام
لكل نصف صاع يوما وهو مروى عن أبي يوسف وقال الشافعي في قول ان الهدى للاحصار بدلا واختلف
قوله في ماهية البدل فقال في قول البدل هو الصوم مثل صوم المتعة وفى قول البدل هو الاطعام وهل يقوم الصوم
مقامه له فيه قولان وجه قول من قال إن له بدلا ان هذا دم يقع به التحلل فجاز أن يكون له بدل كدم المتعة ولنا قوله
تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله أي حتى يبلغ الهدى محله فيذبح نهى الله عن حلق الرأس ممدود إلى
غاية ذبح الهدى والحكم الممدود إلى غاية لا ينتهى قبل وجود الغاية فيقتضى أن لا يتحلل ما لم يذبح الهدى سواء
صام أو أطعم أولا ولان التحلل بالدم قبل اتمام مواجب الاحرام عرف بالنص بخلاف القياس فلا يجوز إقامة
غيره مقامه بالرأي واما الحلق فليس بشرط للتحلل ويحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول أبي حنيفة ومحمد
وان حلق فحسن وقال أبو يوسف أرى عليه أن يحلق فإن لم يفعل فلا شئ عليه وروى عنه أنه قال هو واجب
لا يسعه تركه وذكر الجصاص وقال إنما لا يجب الحلق عندهما إذا أحصر في الحل لان الحلق يختص بالحرم فأما إذا
أحصر في الحرم يجب الحلق عندهما احتج أبو يوسف بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق عام
الحديبية وأمر أصحابه بالحق فدل أن الحلق واجب ولهما قوله تعالى فان أحصرتم فما استيسر من الهدى معناه فان
أحصرتم وأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدى جعل ذبح الهدى في حق المحصر إذا أراد الحل كل موجب
الاحصار فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب وهذا خلاف النص ولان الحلق للتحلل عن افعال الحج
والمحصر لا يأتي بافعال الحج فلا حلق عليه وأما الحديث فعلى ما ذكره الجصاص لا حجة فيه لان الحديبية بعضها
في الحل وبعضها في الحرم فيحتمل انه أحصر في الحرم فامر بالحلق واما على جواب المذكور في الأصل فهو محمول
على الندب والاستحباب واما زمان ذبح الهدى فمطلق الوقت لا يتوقت بيوم النحر سواء كان الاحصار عن الحج
أو عن العمرة وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ان المحصر عن الحج لا يذبح عنه الا في أيام النحر لا يجوز
في غيرها ولا خلاف في المحصر عن العمرة انه يذبح عنه في أي وقت كان وجه قولهما ان هذا الدم سبب للتحلل من
احرام الحج فيختص بزمان التحلل كالحلق بخلاف العمرة فان التحلل من احرامها بالحلق لا يختص بزمان فكذا
180

بالهدى ولأبي حنيفة ان التحلل من المحصر تحلل قبل أوان التحلل يباح لضرورة دفع الضرر ببقائه محرما رخصة
وتيسيرا فلا يختص بيوم النحر كالطواف الذي يتحلل به فائت الحج إذ المحصر فائت الحج والله أعلم واما حكم التحلل
فصيرورته حلالا يباح له تناول جميع ما حظره الاحرام لارتفاع الحاظر فيعود حلالا كما كان قبل الاحرام واما
الذي يتحلل به بغير ذبح الهدى فكل محصر منع عن المضي في موجب الاحرام شرعا لحق العبد كالمرأة والعبد
الممنوعين شرعا لحق الزوج والمولى بان أحرمت المرأة بغير اذن زوجها أو احرم العبد بغير اذن مولاه فللزوج
والمولى أن يحللهما في الحال من غير ذبح الهدى فيقع الكلام في هذا في موضعين أحدهما في جواز هذا النوع
من التحلل والثاني في بيان ما يتحلل به اما الجواز فلان منافع بضع المرأة حق الزوج وملكه عليها فيحتاج
إلى استيفاء حقه ولا يمكنه ذلك مع قيام الاحرام فيحتاج إلى التحلل ولا سبيل إلى توقيفه على ذبح الهدى في
الحرم لما فيه من ابطال حقه للحال فكان له ان يحللها للحال وعلى المرأة ان تبعث الهدى أو ثمنه إلى الحرم ليذبح
عنها لأنها تحللت بغير طواف وعليها حجة وعمرة كما على الرجل المحصر إذا تحلل بالهدى بخلاف ما إذا أحرمت
بحجة الاسلام ولا زوج لها ولا محرم أو كان لها زوج أو محرم فمات انها لا تتحلل الا بالهدى لان المنع هناك لحق الله
تعالى لا لحق العبد فكان تحللها جائز الا حقا مستحقا عليها لاحد ألا ترى ان لها ان تبقى على احرامها ما لم تجد
محرما أو زوجا فكان تحللها بما هو الموضوع للتحلل في الأصل وهو ذبح الهدى فهو الفرق وكذا العبد بمنافعه ملك
المولى فيحتاج إلى تصريفه في وجوه مصالحه ولا يمكنه ذلك مع قيام الاحرام فيحتاج إلى التحلل في الحال لما فيه من
التوقيف على ذبح الهدى في الحرم من تعطيل مصالحه فيحلله المولى للحال وعلى العبد إذا عتق هدى الاحصار
وقضاء حجة وعمرة لان الحج وجب عليه بالشروع لكونه مخاطبا أهلا الا أنه تعذر عليه المضي لحق المولى فإذا
عتق زال حقه وتجب عليه العمرة لفوات الحج في عامه ذلك ولو كان احرم العبد بإذن مولاه يكره للمولى أن يحلله
بعد ذلك لأنه رجوع عما وعد وخلف في الوعد فيكره ولو حلله جاز لان العبد بمنافعه ملك المولى وروى عن أبي
يوسف وزفر ان المولى إذا أذن للعبد في الحج ليس له أن يحلله لأنه لما أذن له فقد أسقط حقه بالاذن فأشبه الحر
والصحيح جواب ظاهر الرواية لان المحلل بعد الاذن قائم وهو الملك الا أنه يكره لما قلنا وإذا حلله لاهدى عليه
لان المولى لا يجب عليه لعبده شئ ولو أحصر العبد بعدما أحرم بإذن المولى ذكر القدوري في شرحه مختصر
الكرخي أنه لا يلزم المولى انفاذ هدى لأنه لو لزمه للزمه لحق العبد ولا يجب للعبد على مولاه حق فان أعتقه وجب
عليه أن يبعث الهدى لأنه إذا أعتق صار ممن يثبت له عليه حق فصار كالحر إذا حج عن غيره فاحصر أنه يجب
على المحجوج عنه أن يبعث الهدى وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن على المولى أن يذبح عنه هديا في
الحرم فيحل لان هذا الدم وجب لبلية ابتلى بها العبد بإذن المولى فصار بمنزلة النفقة والنفقة على المولى وكذا دم
الاحصار ولهذا كان دم الاحصار في مال الميت إذا أحصر الحاج عن الميت لا عليه كذا هذا ولو أحرم العبد أو
الأمة بإذن المولى ثم باعهما يجوز البيع وللمشتري أن يمنعهما ويحللهما في قول أصحابنا الثلاثة وفى قول زفر ليس له
ذلك وله أن يردهما بالعيب وعلى هذا الخلاف المرأة إذا أحرمت بحجة التطوع ثم تزوجت فللزوج أن يحللها وعند
زفر ليس له ذلك كذا حكى القاضي الخلاف في شرحه مختصر الطحاوي وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي
الخلاف بين أبى يوسف وزفر وجه قول زفر أن الذي انتقل إلى المشترى هو ما كان للبائع ولم يكن للبائع أن يحلله
عنده لما ذكرنا انه أسقط حق نفسه بالاذن كذا المشترى ولنا أن الاحرام لم يقع باذن المشترى فصار كأنه أحرم في
ملكه ابتداء بغير اذنه ولو كان كذلك كان له أن يحلله كذا هذا وقال محمد إذا أذن الرجل لعبده في الحج ثم باعه
لا أكره للمشترى أن يحلله لان الكراهة في حق البائع لما فيه من خلف الوعد ولم يوجد ذلك من المشترى وروى
ابن سماعة عن محمد في أمة لها زوج اذن لها مولاها في الحج فأحرمت ليس لزوجها أن يحللها لان التحلل إنما
ثبت للزوج بمنعها من السفر ليستوفى حقه منها ومنع الأمة من السفر إلى مولاها دون الزوج ألا ترى أن المولى
181

لو سافر بها لم يكن للزوج منعها فكذا إذ أذن لها في السفر وأما بيان ما يتحلل به فالتحلل عن هذا النوع من
الاحصار يقع بفعل الزوج والمولى أدنى محظورات الاحرام من قص ظفرهما أو تطييبهما أو بفعلهما ذلك بأمر
الزوج والمولى أو بامتشاط الزوجة رأسها بأمر الزوج أو تقبيلها أو معانقتها فتحل بذلك والأصل فيه ما روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت في العمرة امتشطى وارفضى عنك العمرة
ولان التحلل صار حقا عليهما للزوج والمولى فجاز بمباشرتهما أدنى ما يحظره الاحرام ولا يكون التحلل بقوله حللتك
لان هذا تحليل من الاحرام فلا يقع بالقول كالرجل الحر إذا أحصر فقال حللت نفسي وأما وجوب قضاء ما أحرم
به بعد التحلل فجملة الكلام فيه أن المحصر لا يخلوا ما إن كان أحرم بالحجة لا غير واما إن كان أحرم بالعمرة لا غير
واما كان أحرم بهما بأن كان قارنا فإن كان أحرم بالحجة لا غير فان بقي وقت الحج عند زوال الاحصار وأراد أن
يحج من عامه ذلك أحرم وحج وليس عليه نية القضاء ولا عمرة عليه كذا ذكره محمد في الأصل وذكر ابن أبي مالك عن أبي
يوسف عن أبي حنيفة وعليه دم لرفض الاحرام الأول وان تحولت السنة فعليه قضاء حجة وعمرة ولا تسقط عنه
تلك الحجة الا بنية القضاء وروى الحسن عن أبي حنيفة أن عليه قضاء حجة وعمرة في الوجهين جميعا وعليه نية
القضاء فيهما وهو قول زفر ذكره القاضي في شرحه مختصر الطحاوي وعلى هذا التفصيل والاختلاف ما إذا
أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير اذن زوجها فمنعها زوجها فحللها ثم أذن لها بالاحرام فأحرمت في عامها ذلك أو
تحولت السنة فأحرمت وجه قول زفر ان ما تحجه في هذا العام دخل في حد القضاء لأنه يؤدى باحرام جديد
لانفساخ الأول بالتحلل فيكون قضاء فلا يتأدى الا بنية القضاء وعليه حجة وعمرة كما لو تحولت السنة ولنا أن
القضاء اسم للفائت عن الوقت ووقت الحج باق فكان فعل الحج فيه أداء لا قضاء فلا يفتقر إلى نية القضاء ولا تلزمه
العمرة لان لزومها لفوات الحج في عامه ذلك ولم يفت وقال الشافعي عليه قضاء حجة لا غير وان تحولت السنة
واحتج بما روى عن ابن عباس أنه قال حجة بحجة وعمرة بعمرة وهو المعنى له في المسألة ان القضاء يكون مثل
الفائت والفائت هو الحجة لا غير فمثلها الحجة لا غير وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كسر
أو عرج حل وعليه الحج من قابل ولم يذكر العمرة ولو كانت واجبة لذكرها ولنا الأثر والنظر أما الأثر فما روى
عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا في المحصر بحجة يلزمه حجة وعمرة وأما النظر فلان الحج قد
وجب عليه بالشروع ولم يمض فيه بل فاته في عامه ذلك وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة فان قيل فائت الحج يتحلل
بالطواف لا بالدم والمحصر قد حل بالدم وقام الدم مقام الطواف من الذي يفوته الحج فكيف يلزمه طواف آخر
فالجواب أن الدم الذي حل به المحصر ما وجب بدلا عن الطواف ليقال إنه قام مقام الطواف فلا يجب عليه طواف
آخر وإنما وجب لتعجيل الاحلال لان المحصر لو لم يبعث هديا لبقي على احرامه مدة مديدة وفيه حرج وضرر
فجعل له أن يتعجل الخروج من احرامه ويؤخر الطواف الذي لزمه بدم يهريقه فحل بالدم ولم يبطل الطواف وإذا
لم يبطل الدم عنه الطواف ولم يجعل بدلا عنه فعليه أن يأتي به باحرام جديد فيكون ذلك عمرة والدليل على أن دم
الاحصار ما وجب بدلا عن الطواف الذي يتحلل به فائت لحج ان فائت الحج لو أراد أن يفسخ الطواف الذي لزمه
بدم يريقه بدلا عنه ليس له ذلك بالاجماع فثبت أن دم الاحصار لتعجيل الاحلال به لابد لا عن الطواف فاندفع
الاشكال بحمد الله تعالى ومنه وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما ان ثبت فهو تمسك بالمسكوت لان قوله
حجة بحجة وعمرة بعمرة يقتضى وجوب الحجة بالحجة والعمرة بالعمرة وهذا لا ينفى وجوب العمرة والحجة
بالحجة ولا يقتضى أيضا فكان مسكوتا عنه فيقف على قيام الدليل وقد قام دليل الوجوب وهو ما ذكرنا وهو
كقوله تعالى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى أنه لا ينفى قتل الحر بالعبد والأنثى بالذكر بالاجماع كذا هذا
ويحمل على فائت الحج وهو الذي لم يدرك الوقوف بعرفة بدليل أنه يتحلل بأفعال العمرة وعليه قضاء الحج من
قابل ولا عمرة عليه وإن كان احرامه بالعمرة لا غير قضاها لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء لأنه ليس لها وقت
182

معين وإن كان أحرم بالعمرة والحجة إن كان قارنا فعليه قضاء حجة وعمرتين أما قضاء حجة وعمرة فلوجوبهما
بالشروع وأما عمرة أخرى فلفوات الحج في عامه ذلك وهذا على أصلنا فاما على أصل الشافعي فليس عليه الا حجة
بناء على أصله أن القارن محرم باحرام واحد ويدخل احرام العمرة في الحجة فكان حكمه حكم المفرد بالحج
والمفرد بالحج إذا أحصر لا يجب عليه الا قضاء حجة عنده فكذا القارن والله أعلم وأما حكم زوال الاحصار
فالاحصار إذا زال لا يخلو من أحد وجهين اما ان زال قبل بعث الهدى أو بعدما بعث فان زال قبل أن يبعث الهدى
مضى على موجب احرامه وإن كان قد بعث الهدى ثم زال الاحصار فهذا لا يخلو من أربعة أوجه اما إن كان يقدر
على ادراك الهدى والحج أو لا يقدر على ادراكهما جميعا أو يقدر على ادراك الهدى دون الحج أو يقدر على ادراك
الحج دون الهدى فإن كان يقدر على ادراك الهدى والحج لم يجز له التحلل ويجب عليه المضي فان إباحة التحلل لعذر
الاحصار والعذر قد زال وإن كان لا يقدر على ادراك واحد منهما لم يلزمه المضي وجاز له التحلل لأنه لا فائدة في
المضي فتقرر الاحصار فيتقرر حكمه وإن كان يقدر على ادراك الهدى ولا يقدر على ادراك الحج لا يلزمه المضي
أيضا لعدم الفائدة في ادراك الهدى دون ادراك الحج إذ الذهاب لأجل ادراك الحج فإذا كان لا يدرك الحج فلا
فائدة في الذهاب فكانت قدرته على ادراك الهدى والعدم بمنزلة واحدة وإن كان يقدر على ادراك الحج ولا يقدر على
ادراك الهدى قيل إن هذا الوجه الرابع إنما يتصور على مذهب أبي حنيفة لان دم الاحصار عنده لا يتوقف
بأيام النحر بل يجوز قبلها فيتصور ادراك الحج دون ادراك الهدى فاما على مذهب أبي يوسف ومحمد فلا يتصور
هذا الوجه الا في المحصر عن العمرة لان دم الاحصار عندهما مؤقت بأيام النحر فإذا أدرك الحج فقد أدرك
الهدى ضرورة وإنما يتصو عندهما في المحصر عن العمرة لان الاحصار عنها لا يتوقت بأيام النحر بلا خلاف
وإذا عرف هذا فقياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أنه يلزمه المضي ولا يجوز له التحلل لأنه إذا قدر على ادراك
الحج لم يعجز عن المضي في الحج فلم يوجد عذر الاحصار فلا يجوز له التحلل ويلزمه المضي وفى الاستحسان لا يلزمه
المضي ويجوز له التحلل الا أنه إذا كان لا يقدر على ادراك الهدى صار كان الاحصار زال عنه بالذبح فيحل بالذبح
عنه ولان الهدى قد مضى في سبيله بدليل انه لا يجب الضمان بالذبح على من بعث على يده بدنة فصار كأنه قدر
على الذهاب بعدما ذبح عنه والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يحظره الاحرام وما لا يحظره وبيان ما يجب بفعل المحظور فجملة الكلام فيه أن محظورات
الاحرام في الأصل نوعان نوع لا يوجب فساد الحج ونوع يوجب فساده اما الذي لا يوجب فساد الحج فأنواع
بعضها يرجع إلى اللباس وبعضها يرجع إلى الطيب وما يجرى مجراه من إزالة الشعث وقضاء التفث وبعضها يرجع
إلى توابع الجماع وبعضها يرجع إلى الصيد أما الأول فالمحرم لا يلبس المخيط جملة ولا قميصا ولا قباء ولا جبة
ولا سراويل ولا عمامة ولا قلنسوة ولا يلبس خفين الا أن لا يجد نعلين فلا بأس أن يقطعهما أسفل الكعبين
فيلبسهما والأصل فيه ما روى عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما يلبس المحرم من
الثياب فقال لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف الا أحد لا يجد النعلين فليلبس
الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس ولا تنتقب المرأة ولا
تلبس القفازين فان قيل في هذا الحديث ضرب اشكال لان فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم
فقال لا يلبس كذا وكذا من المخيط فسئل عن شئ فعدل عن محل السؤال وأجاب عن شئ آخر لم يسئل عنه وهذا
محيد عن الجواب أو يوجب أن يكون اثبات الحكم في مذكور دليلا على أن الحكم في غيره بخلافه وهذا خلاف
المذهب فالجواب عنه من وجوه أحدها أنه يحتمل أن يكون السؤال عما لا يلبسه المحرم وأضمر لا في محل السؤال
لان لا تارة تزاد في الكلام وتارة تحذف عنه قال الله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا أي لا تضلوا فكان معنى الكلام أنه
سئل عمالا يلبسه المحرم فقال لا يلبس المحرم كذا وكذا فكان الجواب مطابقا للسؤال والثاني يحتمل أن النبي صلى
183

الله عليه وسلم علم غرض السائل ومراده انه طلب منه بيان ما لا يلبسه المحرم بعد احرامه اما بقرينة حاله أو بدليل
آخر أو بالوحي فأجاب عما في ضميره من غرضه ومقصوده ونظيره قوله تعالى خبرا عن إبراهيم عليه الصلاة
والسلام رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر فاجابه الله عز وجل
بقوله ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل أن يرزق من آمن أهل
مكة من الثمرات فاجابه تعالى أنه يرزق الكافر أيضا لما علم أن مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من سؤاله أن
يرزق ذلك المؤمن منهم دون الكافر فأجابه الله تعالى عما كان في ضميره كذا هذا والثالث أنه لما خص المخيط أنه
لا يلبسه المحرم بعد تقدم السؤال عما يلبسه دل أن الحكم في غير المخيط بخلافه والتنصيص على حكم في مذكور
إنما لا يدل على تخصيص ذلك الحكم به بشرائط ثلاثة أحدها ان لا يكون فيه حيد عن الجواب ممن لا يجوز عليه
الحيد فاما إذا كان فإنه يدل عليه صيانة لمنصب النبي صلى الله عليه وسلم عن الحيد عن الجواب عن السؤال والثاني
من المحتمل أن يكون حكم غير المذكور خلاف حكم المذكور وههنا لا يحتمل لأنه يقتضى أن لا يلبس المحرم أصلا
وفيه تعريضه للهلاك بالحر أو البرد والعقل يمنع من ذلك فكان المنع من أحد النوعين في مثله اطلاقا للنوع الآخر
ونظيره قوله تعالى الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه أن جعل الليل للسكون يدل على جعل النهار للكسب
وطلب المعاش إذ لا بد من الفوت للبقاء وكان جعل الليل للسكون تعيينا للنهار لطلب المعاش والثالث أن يكون
ذلك في غير الامر والنهى فاما في الامر والنهى فيدل عليه لما قد صح من مذهب أصحابنا أن الامر بالشئ نهى عن
ضده والنهى عن الشئ أمر بضده والتنصيص ههنا في محل النهى فكان ذلك دليلا على أن الحكم في غير المخيط
بخلافه والله عز وجل الموفق ولان لبس المخيط من باب الارتفاق بمرافق المقيمين والترفه في اللبس وحال المحرم
ينافيه ولان الحاج في حال احرامه يريد أن يتوسل بسوء حاله إلى مولاه يستعطف نظره ومرحمته بمنزلة العبد
المسخوط عليه في الشاهد أنه يتعرض بسوء حاله لعطف سيده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم المحرم الأشعث
الأغبر وإنما يمنع المحرم من لبس المخيط إذا لبسه على الوجه المعتاد فاما إذا لبسه لا على الوجه المعتاد فلا يمنع منه بان
اتشح بالقميص أو اتزر بالسراويل لان معنى الارتفاق بمرافق المقيمين والترفه في اللبس لا يحصل به ولان لبس
القميص والسراويل على هذا الوجه في معنى الارتداء والاتزار لأنه يحتاج في حفظه إلى تكلف كما يحتاج إلى
التكلف في حفظ الرداء والإزار وذا غير ممنوع عنه ولو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في كميه جاز له ذلك
في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر لا يجوز وجه قوله إن هذا لبس المخيط إذ اللبس هو التغطية وفيه تغطية أعضاء
كثيرة بالمخيط من المنكبين والظهر وغيرها فيمنع من ذلك كادخال اليدين في الكمين ولنا أن الممنوع عنه هو
اللبس المعتاد وذلك في القباء الالقاء على المنكبين مع ادخال اليدين في الكمين ولان الارتفاق بمرافق المقيمين والترفه
في اللبس لا يحصل الا به ولم يوجد فلا يمنع منه ولان القاء القباء على المنكبين دون ادخال اليدين في الكمين يشبه
الارتداء والاتزار لأنه يحتاج إلى حفظه عليه لئلا يسقط إلى تكلف كما يحتاج إلى ذلك في الرداء والإزار وهو لم يمنع من
ذلك كذا هذا بخلاف ما إذا أدخل يديه في كميه لان ذلك لبس معتاد يحصل به الارتفاق به والترفه في اللبس ويقع
به الامن عن السقوط ولو القاء على منكبيه وزره لا يجوز لأنه إذا زره فقد ترفه في لبس المخيط الا ترى انه لا يحتاج
في حفظه إلى تكلف ولو لم يجد رداء وله قميص فلا بأس بان يشق قميصه ويرتدى به لأنه لما شقه صار بمنزلة الرداء
وكذا إذا لم يجد إزارا وله سراويل فلا بأس ان يفتق سراويله خلا موضع التكة ويأتزر به لأنه لما فتقه صار بمنزلة
الإزار وكذا إذا لم يجد نعلين وله خفان فلا بأس ان يقطعهما أسفل الكعبين فيلبسهما لحديث ابن عمر رضي الله عنه
ورخص بعض مشايخنا المتأخرون لبس الصندلة قياسا على الخف المقطوع لأنه في معناه وكذا لبس الميثم لما قلنا ولا
يلبس الجوربين لأنهما في معنى الخفين ولا يغطى رأسه بالعمامة ولا غيرها مما يقصد به التغطية لان المحرم
ممنوع عن تغطية رأسه بما يقصد به التغطية والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في
184

المحرم الذي وقصت به ناقته في أحافيق حردان فمات لا تخمروا رأسه ولا تفربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة
ملبيا ولو حمل على رأسه شيئا فإن كان مما يقصد به التغطية من لباس الناس لا يجوز له ذلك لأنه كاللبس وإن كان
مما لا يقصد به التغطية كإجانة أو عدل بزوضعه على رأسه فلا بأس بذلك لأنه لا يعد ذلك لبسا ولا تغطية وكذا
لا يغطى الرجل وجهه عندنا وقال الشافعي يجوز له تغطية الوجه وأما المرأة فلا تغطي وجهها وكذا لا بأس أن تدل
على وجهها بثوب وتجافيه عن وجهها احتج الشافعي بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال احرام الرجل
في رأسه واحرام المرأة في وجهها جعل احرام كل واحد منهما في محل خاص ولا خصوص مع الشركة ولهذا لما خص
الوجه في المرأة بان احرامها فيه لم يكن في رأسها فكذا في الرجل ولان مبنى أحوال المحرم على خلاف العادة
وذلك فيما قلنا لان العادة هو الكشف في الرجال فكان الستر على خلاف العادة بخلاف النساء فان العادة
فيهن الستر فكان الكشف خلاف العادة ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال احرام الرجل في
رأسه ووجهه ولا حجة له فيما روى لان فيه أن احرام الرجل في رأسه وهذا لا ينفى أن يكون في وجهه ولا يوجب
أيضا فكان مسكونا عنه فيقف على قيام الدليل وقد قام الدليل وهو ما روينا وهكذا نقول في المرأة انا إنما عرفنا
ان احرامها ليس في رأسها لا بقوله واحرام المرأة في وجهها بل بدليل آخر نذكره إن شاء الله تعالى ولا يلبس ثوبا
اصبغ بورس أو زعفران وان لم يكن مخيطا لخبر ابن عمر رضي الله عنه ولان الورس والزعفران طيب والمحرم
ممنوع من استعمال الطيب في بدنه ولا يلبس المعصفر وهو المصبوغ بالعصفر عندنا وقال الشافعي يجوز واحتج
بما روى أن عائشة رضي الله عنها لبست الثياب المعصفرة وهي محرمة وروى أن عثمان رضي الله عنه أنكر على
عبد الله بن جعفر لبس المعصفر في الاحرام فقال علي رضي الله عنه ما أرى أن أحدا يعلمنا السنة ولنا ما روى
أن عمر رضي الله عنه أنكر على طلحة لبس المعصفر في الاحرام فقال طلحة رضي الله عنه إنما هو ممشق بمغرة
فقال عمر رضي الله عنه انكم أئمة يقتدى بكم فدل انكار عمر واعتذار طلحة رضي الله عنهما على أن المحرم ممنوع
من ذلك وفيه إشارة إلى أن الممشق مكروه أيضا لأنه قال إنكم أئمة يقتدى بكم أي من شاهد ذلك ربما يظن أنه
مصبوغ بغير المغرة فيعتقد الجواز فكان سببا للوقوع في الحرام عسى فيكره ولان المعصفر طيب لان له رائحة طيبة
فكان كالورس والزعفران وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد روى عنها انها كرهت المعصفر في الاحرام
أو يحمل على المصبوغ بمثل العصفر كالمغرة ونحوها وهو الجواب عن قول على عمر رضي الله عنه على أن قوله
معارض بقول عثمان رضي الله عنه وهو انكاره فسقط الاحتجاج به للتعارض هذا إذا لم يكن مغسولا فاما إذا كان
قد غسل حتى صار لا ينفض فلا بأس به لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال لا بأس أن يحرم الرجل في ثوب مصبوغ بورس أو زعفران قد غسل وليس له نفض ولا ردغ وقوله صلى الله
عليه وسلم لا ينفض له تفسيران منقولان عن محمد روى عنه لا يتناثر صبغه وروى لا يفوح ريحه والتعويل على
زوال الرائحة حتى لو كان لا يتناثر صبغه ولكن يفوح ريحه يمنع منه لان ذلك دليل بقاء الطيب إذ الطيب
ماله رائحة طيبة وكذا ما صبغ بلون الهروي لأنه صبغ خفيف فيه أدنى صفرة لا توجد منه رائحة وقال أبو يوسف
في الاملاء لا ينبغي للمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران ولا الورس ولا ينام عليه لأنه يصير مستعملا
للطيب فكان كاللبس ولا بأس بلبس الخز والصوف والقصب والبرد وإن كان مسلونا كالعدنى وغير لأنه ليس
فيه أكثر من الزينة والمحرم غير ممنوع من ذلك ولا بأس أن يلبس الطيلسان لان الطيلسان ليس بمخيط ولا يزره
كذا روى عن ابن عمر رضي الله عنه وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه لا بأس به والصحيح قول ابن عمر لان
الزرة مخيط في نفسها فإذا زره فقد اشتمل المخيط عليه فيمنع منه ولأنه إذا زره لا يحتاج في حفظه إلى تكلف فأشبه
لبس المخيط بخلاف الرداء والإزار ويكره أن يخلل الإزار بالخلال وان يعقد الإزار لما روى أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأى محرما قد عقد ثوبه بحبل فقال له انزع الحبل ويلك وروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره أن
185

يعقد المحرم الثوب عليه ولأنه يشبه المخيط في عدم الحاجة في حفظه إلى تكلف ولو فعل لا شئ عليه لأنه ليس
بمخيط ولا بأس أن يتحزم بعمامة يشتمل بها ولا يعقدها لان اشتمال العمامة عليه اشتمال غير المخيط فأشبه
الاتشاح بقميص فان عقدها كره له ذلك لأنه يشبه المخيط كعقد الإزار ولا بأس بالهميان والمنطقة للمحرم سواء كان
في الهميان نفقته أو نفقة غيره وسواء كان شد المنطقة بالابزيم أو بالسيور وعن أبي يوسف في المنطقة ان شده
بالابزيم يكره وان شده بالسيور لا يكره وقال مالك في الهميان إن كان فيه نفقته لا يكره وإن كان فيه نفقة غيره
يكره وجه قوله أن شد الهميان لمكان الضرورة وهي استيثاق النفقة ولا ضرورة في نفقة غيره وجه رواية أبى
يوسف أن الابزيم مخيط فالشد به يكون كزر الإزار بخلاف السير ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها انها
سئلت عن الهميان فقالت أوثق عليك نفقتك أطلقت القضية ولم تستفسر وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال
رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهميان يشده المحرم في وسطه إذا كانت فيه نفقته وعليه جماعة من التابعين
وروى عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه لا بأس بالهميان وهو قول سعيد بن جبير وعطاء وطاوس رضى الله
تعالى عنهم ولان اشتمال الهميان والمنطقة عليه كاشتمال الإزار فلا يمنع عنه ولا بأس أن يستظل المحرم
بالفسطاط عند عامة العلماء وقال مالك يكره واحتج بما روى عن ابن عمر رضي الله عنه انه كره ذلك ولنا ما روى عن
عمر رضي الله عنه انه كان يلقى على شجرة ثوبا أو نطعا فيستظل به ورى انه ضرب لعثمان رضي الله عنه فسطاط
بمنى فكان يستظل به ولان الاستظلال بما لا يماسه بمنزلة الاستظلال بالسقف وذا غير ممنوع عنه كذا هذا فان
دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فإن كان الستر يصيب وجهه ورأسه يكره له ذلك لأنه يشبه ستر وجهه ورأسه
بثوب وإن كان متجافيا فلا يكره لأنه بمنزلة الدخول تحت ظلة ولا بأس أن تغطي المرأة سائر جسدها وهي محرمة
بما شاءت من الثياب المخيطة وغيرها وان تلبس الخفين غير أنها لا تغطي وجهها اما ستر سائر بدنها فلان بدنها عورة
وستر العورة بما ليس بمخيط متعذر فدعت الضرورة إلى لبس المخيط وأما كشف وجهها فلما روينا عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال احرام المرأة في وجهها وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن
محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا
رفعنا فدل الحديث على أنه ليس للمرأة أن تغطي وجهها وانها لو أسدلت على وجهها شيئا وجافته عنه لا بأس بذلك
ولأنها إذا جافته عن وجهها صار كما لو جلست في قبة أو استترت بفسطاط ولا بأس لها ان تلبس الحرير والذهب
وتتحلى بأي حلية شاءت عند عامة العلماء وعن عطاء انه كره ذلك والصحيح قول العامة لما روى أن ابن عمر رضي الله عنه
كان يلبس نساءه الذهب والحرير في الاحرام ولان لبس هذه الأشياء من باب التزين والمحرم غير ممنوع من
الزينة ولا يلبس ثوبا مصبوغا لان المانع ما فيه من الصبغ من الطيب لا من الزينة والمرأة تساوى الرجل في
الطيب وأما لبس القفازين فلا يكره عندنا وهو قول على وعائشة رضي الله عنهما وقال الشافعي لا يجوز واحتج
بحديث ابن عمر رضي الله عنه فإنه ذكر في آخره ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ولان العادة في بدنها الستر فيجب
مخالفتها بالكشف كوجهها ولنا ما روى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين
ولان لبس القفازين ليس الا تغطية يديها بالمخيط وانها غير ممنوعة عن ذلك فان لها ان تغطيهما بقميصها وإن كان
مخيطا فكذا بمخيط آخر بخلاف وجهها وقوله ولا تلبس القفازين نهى ندب حملناه عليه جمعا بين الدلائل بقدر
الامكان وأما بيان ما يحب بفعل هذا المحظور وهو لبس المخيط فالواجب به يختلف في بعض المواضع يجب الدم عينا
وفى بعضها تجب الصدقة عينا وفى بعضها يجب أحد الأشياء الثلاثة غير عين الصيام أو الصدقة أو الدم وجهات
التعيين إلى من عليه كما في كفارة اليمين والأصل ان الارتفاق الكامل باللبس يوجب فداء كاملا فيتعين فيه الدم لا يجوز
غيره ان فعله من غير عذر وان فعله لعذر فعليه أحد الأشياء الثلاثة والارتفاق القاصر يوجب فداء قاصرا وهو
الصدقة اثباتا للحكم على قدر العلة وبيان هذه الجملة إذا لبس المخيط من قميص أو جبة أو سراويل أو عمامة أو قلنسوة
186

أو خفين أو جوربين من غير عذر وضرورة يوما كاملا فعليه الدم لا يجوز غيره لان لبس أحد هذه الأشياء يوما كاملا
ارتفاق كامل فيوجب كفارة كاملة وهي الدم لا يجوز غيره لأنه فعله من غير ضرورة وان لبس أقل من يوم لآدم عليه
وعليه الصدقة وكان أبو حنيفة يقول أولا ان لبس أكثر اليوم فعليه دم وكذا روى عن أبي يوسف ثم رجع
وقال لآدم عليه حتى يلبس يوما كاملا وروى عن محمد انه إذا لبس أقل من يوم يحكم عليه بمقدار ما لبس من قيمة
الشاة ان لبس نصف يوم فعليه قيمة نصف شاة على هذا القياس وهكذا روى عنه في الحلق وقال الشافعي يجب عليه
الدم وان لبس ساعة واحدة وجه قوله إن اللبس ولو ساعة ارتفاق كامل لوجود اشتمال المخيط على بدنه فيلزمه
جزاء كامل وجه رواية محمد اعتبار البعض بالكل وجه قول أبي حنيفة الأول بان الارتفاق باللبس في أكثر اليوم
بمنزلة الارتفاق في كله لأنه ارتفاق كامل فان الانسان قد يلبس أكثر اليوم ثم يعود إلى منزله قبل دخول الليل وجه
قوله الآخر ان اللبس أقل من يوم ارتفاق ناقص لان المقصود منه دفع الحر والبرد وذلك باللبس في كل اليوم ولهذا
اتخذ الناس في العادة للنهار لباسا ولليل لباسا ولا ينزعون لباس النهار الا في الليل فكان اللبس في بعض اليوم ارتفاقا
قاصرا فيوجب كفارة قاصرة وهي الصدقة كقص ظفر واحد ومقدار الصدقة نصف صاع من بر كذا روى ابن
سماعة عن أبي يوسف انه يطعم مسكينا نصف صاع من بر وكل صدقة تجب بفعل ما يحظره الاحرام فهي مقدرة
بنصف صاع الا ما يجب بقتل القملة والجرادة وروى ابن سماعة عن محمد ان من لبس ثوبا يوما الا ساعة فعليه
من الدم بمقدار ما لبس أي من قيمة الدم لما قلنا والصحيح قول أبى يوسف لان الصدقة المقدرة للمسكين في الشرع
لا تنقص عن نصف صاع كصدقة الفطر وكفارة اليمين والفطر والظهار وكذا لو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل
يديه في كميه لكنه زره عله أوزر عليه طيلسانا يوما كاملا فعليه دم لوجود الارتفاق الكامل بلبس المخيط إذ المزرر
مخيط وكذا لو غطى ربع رأسه يوما فصاعدا فعليه دم وإن كان أقل من الربع فعليه صدقة كذا ذكر في الأصل
وذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد انه لا دم عليه حتى يغطى الأكثر من رأسه ولا أقول حتى يغطى رأسه
كله وجه رواية ابن سماعة عن محمد ان تغطية الأقل ليس بارتفاق كامل فلا يجب به جزاء كامل وجه رواية
الأصل ان ربع الرأس له حكم الكل في هذا الباب كحلق ربع الرأس وعلى هذا إذا غطت المرأة ربع وجهها
وكذا لو غطى الرجل ربع وجهه عندنا وعند الشافعي لا شئ عليه لأنه غير ممنوع عن ذلك عنده والمسألة قد
تقدمت ولو عصب على رأسه أو وجهه يوما أو أكثر فلا شئ عليه لأنه لم يوجد ارتفاق كامل وعليه صدقة
لأنه ممنوع عن التغطية ولو عصب شيئا من جسده لعلة أو غير علة لا شئ عليه لأنه غير ممنوع عن تغطية بدنه
بغير المخيط ويكره ان يفعل ذلك بغير عذر لان الشد عليه يشبه لبس المخيط هذا إذا لبس المخيط يوما كاملا حالة
الاختيار فاما إذا لبسه لعذر وضرورة فعليه أي الكفارات شاء الصيام أو الصدقة أو الدم والأصل فيه قوله تعالى
في كفارة الحلق من مرض أو أذى في الرأس فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة
أو نسك وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب بن عجرة أيؤذيك هو أم رأسك قال نعم فقال احلق
واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر والنص وان ورد بالتخيير في الحلق
لكنه معلول بالتيسير والتسهيل للضرورة والعذر وقد وجد ههنا والنص الوارد هناك يكون واردا ههنا دلالة
وقيل إن عند الشافعي يتخير بين أحد الأشياء الثلاثة في حالة الاختيار أيضا وانه غير سديد لان التخيير في حال
الضرورة للتيسير والتخفيف والجاني لا يستحق التخفيف ويجوز في الطعام التمليك والتمكين وهو طعام الإباحة في
قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد لا يجوز فيه الا التمليك ونذكر المسألة في كتاب الكفارات إن شاء الله تعالى
ويجوز في الصيام التتابع والتفرق لاطلاق اسم الصوم في النص ولا يجوز الذبح الا في الحرم كذبح المتعة الا إذا ذبح
في غير الحرم وتصدق بلحمه على ستة مساكين على كل واحد منهم قدر قيمة نصف صاع من حنطة فيجوز على
طريق البدل عن الطعام ويجوز الصوم في الأماكن كلها بالاجماع وكذا الصدقة عندنا وعند الشافعي لا تجزيه
187

الا بمكة نظرا لأهل مكة لأنهم ينتفعون به ولهذا لم يجز الدم الا بمكة ولنا ان نص الصدقة مطلق عن المكان فيجرى على
اطلاقه والقياس على الدم بمعنى الانتفاع فاسد لما ذكرنا في الاحصار وإنما عرف اختصاص جواز الذبح بمكة
بالنص وهو قوله تعالى حتى يبلغ الهدى محله ولم يوجد مثله في الصدقة وقد ذكرنا ان المحرم إذا لم يجد الإزار
وأمكنه فتق السراويل والتستر به فتقه فان لبسه يوما ولم يفتقه فعليه دم في قول أصحابنا وقال الشافعي يلبسه
ولا شئ عليه وجه قوله إن الكفارة إنما تجب بلبس محظور ولبس السراويل في هذه الحالة ليس بمحظور لأنه
لا يمكنه لبس غير المخيط الا بالفتق وفى الفتق تنقيص ماله ولنا ان حظر لبس المخيط ثبت بعقد الاحرام ويمكنه
التستر بغير المخيط في هذه الحالة بالفتق فيجب عليه الفتق والستر بالمفتوق أولى فإذا لم يفعل فقد ارتكب محظور
احرامه يوما كاملا فيلزمه الدم وقوله في الفتق تنقيص ماله مسلم لكن لإقامة حق الله تعالى وانه جائز كالزكاة وقطع
الخفين أسفل من الكعبين إذا لم يجد النعلين ويستوى في وجوب الكفارة بلبس المخيط العمد والسهو والطوع
والكره عندنا وقال الشافعي لا شئ على الناسي والمكره ويستوى أيضا ما إذا لبس بنفسه أو ألبسه غيره وهو
لا يعلم به عندنا خلافا له وجه قوله إن الكفارة إنما تجب بارتكاب محظور الاحرام لكونه جناية ولا حظر مع
النسيان والاكراه فلا يوصف فعله بالجناية فلا تجب الكفارة ولهذا جعل النسيان عذرا في باب الصوم بالاجماع
والاكراه عندي ولنا ان الكفارة إنما تجب في حال الذكر والطوع لوجود ارتفاق كامل وهذا يوجد في حال الكره
والسهو وقوله فعل الناسي والمكره لا يوصف بالحظر ممنوع بل الحظر قائم حالة النسيان والاكراه وفعل الناسي
والمكره موصوف بكونه جناية وإنما أثر النسيان والاكراه في ارتفاع المؤاخذة في الآخرة لان فعل الناسي
والمكره جائز المؤاخذة عليه عقلا عندنا وإنما رفعت المؤاخذة شرعا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله
ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا وقوله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه والاعتبار بالصوم
غير سديد لان في الاحرام أحوالا مذكرة يندر النسيان معها غاية الندرة فكان ملحقا بالعدم ولا مذكر للصوم
فجعل عذرا دفعا للحرج ولهذا لم يجعل عذرا في باب الصلاة لان أحوال الصلاة مذكرة كذا هذا ولو جمع المحرم
اللباس كله القميص والعمامة والخفين لزمه دم واحد لأنه لبس واحد وقع على جهة واحدة فيكفيه كفارة واحدة
كالايلاجات في الجماع ولو اضطر المحرم إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فان لبسهما على موضع الضرورة فعليه
كفارة واحدة وهي كفارة الضرورة بان اضطر إلى قميص واحد فلبس قميصين أو قميصا وجبة أو اضطر إلى القلنسوة
فلبس قلنسوة وعمامة لان اللبس حصل على وجه واحد فيوجب كفارة واحدة كما إذا اضطر إلى لبس قميص فلبس
جبة وان لبسهما على موضعين مختلفين موضع الضرورة وغير موضع الضرورة كما إذا اضطر إلى لبس العمامة
أو القلنسوة فلبسهما مع القميص أو غير ذلك فعليه كفارتان كفارة الضرورة للبسه ما يحتاج إليه وكفارة الاختيار
للبسه مالا يحتاج إليه ولو لبس ثوبا للضرورة ثم زالت الضرورة فدام على ذلك يوما أو يومين فما دام في شك من
زوال الضرورة لا يجب عليه الا كفارة واحدة كفارة الضرورة وان تيقن بان الضرورة قد زالت فعليه كفارتان
كفارة ضرورة وكفارة اختيار لان الضرورة كانت ثابتة بيقين فلا يحكم بزوالها بالشك على الأصل المعهود ان
الثابت يقينا لا يزال بالشك وإذا كان كذلك فاللبس الثاني وقع على الوجه الذي وقع عليه الأول فكان لبسا واحدا
فيوجب كفارة واحدة وإذا استيقن بزوال الضرورة فاللبس الثاني حصل على غير الوجه الذي حصل عليه الأول
فيوجب عليه كفارة أخرى ونظير هذا ما إذا كان به قرح أو جرح اضطر إلى مداواته بالطيب انه ما دام باقيا فعليه
كفارة واحدة وإن كان تكرر عليه الدواء لان الضرورة باقية فوقع الكل على وجه واحد ولو برأ ذلك القرح
أو الجرح وحدث قرح آخر أو جراحة أخرى فداوها بالطيب يلزمه كفارة أخرى لان الضرورة قد زالت فوقع
الثاني على غير الوجه الأول وكذا المحرم إذا مرض أو أصابته الحمى وهو يحتاج إلى لبس الثوب في وقت ويستغنى
عنه في وقت الحمى فعليه كفارة واحدة ما لم تزل عنه تلك العلة لحصول اللبس على جهة واحدة ولو زالت عنه تلك
188

الحمى واصابته حمى أخرى عرف ذلك أو زال عنه ذلك المرض وجاءه مرض آخر فعليه كفارتان سواء كفر للأول
أو لم يكفر في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد عليه كفارة واحدة ما لم يكفر للأول فان كفر للأول فعليه كفارة
أخرى وسنذكر المسألة إن شاء الله في بيان المحظور الذي يفسد الحج وهو الجماع بان جامع في مجلسين مختلفين ولو
جرح له قرح أو أصابه جرح وهو يداويه بالطيب فخرجت قرحة أخرى أو أصابه جرح آخر والأول على حاله لم
يبرأ فداوى الثاني فعليه كفارة واحدة لان الأول لم يبرأ فالضرورة باقية فالمداواة الثانية حصلت على الجهة التي
حصلت عليها الأولى فيكفيه كفارة واحدة ولو حصره عدو فاحتلج إلى لبس الثياب فلبس ثم ذهب فنزع ثم عاد
فعاد أو كان العدو لم يبرح مكانه فكان يلبس السلاح فيقاتل بالنهار وينزع بالليل فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب هذا
العدو ويجئ عدو آخر لان العذر واحد والعذر الواحد لا يتعلق باللبس له الا كفارة واحدة والأصل في جنس هذه
المسائل انه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها لا إلى صورة اللبس فان لبس المخيط أياما فإن لم ينزع ليلا ولا نهارا يكفيه
دم واحد بلا خلاف لان اللبس على وجه واحد وكذلك إذا كان يلبسه بالنهار وينزعه بالليل للنوم من غير أن
يعزم على تركه لا يلزمه الا دم واحد بالاجماع لأنه إذا لم يعزم على الترك كان اللبس على وجه واحد فان لبس يوما
كاملا فأراق دما ثم دام على لبسه يوما كاملا فعليه دم آخر بلا خلاف لان الدوام على اللبس بمنزلة لبس مبتدأ
بدليل انه لو أحرم وهو مشتمل على المخيط فدام عليه بعد الاحرام يوما كاملا يلزمه دم ولو لبسه يوما كاملا ثم نزعه
وعزم على تركه ثم لبس بعد ذلك فإن كان كفر للأول فعليه كفارة أخرى بالاجماع لأنه لما كفر للأول فقد التحق
اللبس الأول بالعدم فيعتبر الثاني لبسا آخر مبتدأ وان لم يكفر للأول فعليه كفارتان في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
وفى قول محمد عليه كفارة واحدة وجه قول محمد انه ما لم يكفر للأول كان اللبس على حاله فإذا وجد الثاني فلا يتعلق
به الا كفارة واحدة وإذا كفر للأول بطل الأول فيعتبر الثاني لبسا ثانيا فيوجب كفارة أخرى كما إذا جامع في يومين
من شهر رمضان ولهما انه لما نزع على عزم الترك فقد انقطع حكم اللبس الأول فيعتبر الثاني لبسا مبتدأ فيتعلق
به كفارة أخرى والأصل عندهما أن النزع على عزم الترك يوجب اختلاف اللبستين في الحكم تخللهما التكفير
أولا وعنده لا يختلف الا إذا تخللهما التكفير ولو لبس ثوبا مصبوغا بالورس أو الزعفران فعليه دم لان الورس
والزعفران لهما رائحة طيبة فقد استعمل الطيب في بدنه فيلزمه الدم وكذا إذا لبس المعصفر عندنا لأنه محظور
الاحرام عندنا إذ المعصفر طيب لان له رائحة طيبة وعلى القارن في جميع ما يوجب الكفارة مثلا ما على المفرد
من الدم والصدقة عندنا لأنه محرم باحرامين فادخل النقص في كل واحد منهما فيلزمه كفارتان والله أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى الطيب وما يجرى مجراه من إزالة الشعث وقضاء التفث اما الطيب فنقول
لا يتطيب المحرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم المحرم الأشعث الأغبر والطيب ينافي الشعث وروى أن رجلا
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعان مضمخان بالخلوق فقال ما أصنع في حجتي يا رسول الله فسكت
النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فلما سرى عنه قال صلى الله عليه وسلم أين السائل فقال الرجل
أنا فقال اغسل هذا الطيب عنك واصنع في حجتك ما كنت صانعا في عمرتك وروينا ان محرما وقصت به ناقته
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا جعل كونه محرما
علة حرمة تخمير الرأس والتطيب في حقه فان طيب عضوا كاملا كالرأس والفخذ والساق ونحو ذلك فعليه دم
وان طيب أقل من عضو فعليه صدقة وقال محمد يقوم ما يجب فيه الدم فيتصدق بذلك القدر حتى لو طيب ربع
عضو فعليه من الصدقة قدر قيمة ربع شاة وان طيب نصف عضو تصدق بقدر قيمة نصف شاة هكذا وذكر
الحاكم في المنتقى في موضع إذا طيب مثل الشارب أو بقدره من اللحية فعليه صدقة وفى موضع إذا طيب مقدار
ربع الرأس فعليه دم أعطى الربع حكم الكل كما في الحلق وقال الشافعي في قليل الطيب وكثيره دم لوجود
الارتفاق ومحمد اعتبر البعض بالكل والصحيح ما ذكر في الأصل لان تطييب عضو كامل ارتفاق كامل فكان
189

جناية كاملة فيوجب كفارة كاملة وتطييب ما دونه ارتفاق قاصر فيوجب كفارة قاصرة إذ الحكم يثبت على
قدر السبب فان طيب مواضع متفرقة من كل عضو يجمع ذلك كله فإذا بلغ عضوا كاملا يجب عليه دم وان لم
يبلغ فعليه صدقة لما قلنا وان طيب الأعضاء كلها فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد لان جنس الجناية
واحد حظرها احرام واحد من جهة غير متقومة فيكفيه دم واحد وإن كان في مجلسين مختلفين بان طيب كل عضو
في مجلس على حدة فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة وأبى يوسف سواء ذبح للأول أو لم يذبح كفر للأول أو لم
يكفر وقال محمد ان ذبح للأول فكذلك وان لم يذبح فعليه دم واحد والاختلاف فيه كالاختلاف في الجماع بان
جامع قبل الوقوف بعرفة ثم جامع أنه إن كان ذلك في مجلس واحد يجب على كل واحد منهما دم واحد وإن كان في
مجلسين مختلفين يجب على كل واحد منهما دمان في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد ان ذبح للأول فعليه
دم آخر وان لم يذبح يكفي دم واحد قياسا على كفارة الافطار في شهر رمضان وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى
ولو ادهن بدهن فإن كان الدهن مطيبا كدهن البنفسج والورد والزئبق والبان والحرى وسائر الادهان التي فيها
الطيب فعليه دم إذا بلغ عضوا كاملا وحكى عن الشافعي ان البنفسج ليس بطيب وانه غير سديد لأنه دهن مطيب
فأشبه البان وغيره من الادهان المطيبة وإن كان غير مطيب بان ادهن بزيت أو بشيرج فعليه دم في قول أبي حنيفة
وعند أبي يوسف ومحمد عليه صدقة وقال الشافعي ان استعمله في شعره فعليه دم وان استعمله في بدنه فلا
شئ عليه احتجا بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت وهو محرم ولو كان ذلك موجبا للدم
لما فعل صلى الله عليه وسلم لأنه ما كان يفعل ما يوجب الدم ولان غير المطيب من الادهان يستعمل استعمال
الغذاء فأشبه اللحم والشحم والسمن الا انه يوجب الصدقة لأنه يقتل الهوام لا لكونه طيبا ولأبي حنيفة ما روى
عن أم حبيبة رضي الله عنها انه لما نعى إليها وفاة أخيها قعدت ثلاثة أيام ثم استدعت بزنة زيت وقالت مالي إلى
الطيب من حاجة لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام الا على زوجها أربعة أشهر وعشرا سمت الزيت طيبا ولأنه أصل
الطيب بدليل انه يطيب بالقاء الطيب فيه فإذا استعمله على وجه الطيب كان كسائر الادهان المطيبة ولأنه يزيل
الشعث الذي هو علم الاحرام وشعاره على ما نطق به الحديث فصار جارحا احرامه بإزالة علمه فتكاملت جنايته
فيجب الدم والحديث محمول على حال الضرورة لأنه صلى الله عليه وسلم كما كان لا يفعل ما يوجب الدم كان
لا يفعل ما يوجب الصدقة وعندهما تجب الصدقة فكان المراد منه حالة العذر والضرورة ثم إنه ليس فيه انه
لم يكفر فيحتمل انه فعل وكفر فلا يكون حجة ولو داوى بالزيت جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه لأنه ليس
بطيب بنفسه وإن كان أصل الطيب لكنه ما استعمله على وجه الطيب فلا تجب به الكفارة بخلاف ما إذا تداوى
بالطيب لا للتطيب انه تجب به الكفارة لأنه طيب في نفسه فيستوي فيه استعماله للتطيب أو لغيره وذكر محمد في
الأصل وان دهن شقاق رجليه طعن عليه في ذلك فقيل الصحيح شقوق رجليه وإنما قال محمد ذلك اقتداء بعمر بن
الخطاب رضي الله عنه فإنه قال هكذا في هذه المسألة ومن سيرة أصحابنا الاقتداء بألفاظ الصحابة ومعاني كلامهم
رضي الله عنهم وان ادهن بشحم أو سمن فلا شئ عليه لأنه ليس بطيب في نفسه ولا أصل للطيب بدليل انه لا يطيب
بالقاء الطيب فيه ولا يصير طيبا بوجه وقد قال أصحابنا ان الأشياء التي تستعمل في البدن على ثلاثة أنواع نوع
هو طيب محض معد للتطيب به كالمسك والكافور والعنبر وغير ذلك وتجب به الكفارة على أي وجه استعمل حتى
قالوا لو داوى عينه بطيب تجب عليه الكفارة لأن العين عضو كامل استعمل فيه الطيب فتجب الكفارة ونوع
ليس بطيب بنفسه ولا فيه معنى الطيب ولا يصير طيبا بوجه كالشحم فسواء أكل أو ادهن به أو جعل في شقاق الرجل
لا تجب الكفارة ونوع ليس بطيب بنفسه لكنه أصل الطيب يستعمل على وجه الطيب ويستعمل على وجه
الادام كالزيت والشيرج فيعتبر فيه الاستعمال فان استعمل استعمال الادهان في البدن يعطى له حكم الطيب وان
190

استعمل في مأكول أو شقاق رجل لا يعطى له حكم الطيب كالشحم ولو كان الطيب في طعام طبخ وتغير فلا شئ على
المحرم في أكله سواء كان يوجد ريحه أو لا لان الطيب صار مستهلكا في الطعام بالطبخ وإن كان لم يطبخ يكره إذا
كان ريحه يوجد منه ولا شئ عليه لان الطعام غالب عليه فكان الطيب مغمورا مستهلكا فيه وان أكل عين
الطيب غير مخلوط بالطعام فعليه الدم إذا كان كثيرا وقالوا في الملح يجعل فيه الزعفران أنه إن كان الزعفران غالبا
فعليه الكفارة لان الملح يصير تبعا له فلا يخرجه عن حكم الطيب وإن كان الملح غالبا فلا كفارة عليه لأنه ليس
فيه معنى الطيب وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنهما انه كان يأكل الخشكنابخ الأصفر وهو محرم ويقول لا بأس
بالخبيص الأصفر للمحرم فان تداوى المحرم بما لا يؤكل من الطيب لمرض أو علة أو اكتحل بطيب لعلة فعليه
أي الكفارات شاء لما ذكرنا ان ما يحظره الاحرام إذا فعله المحرم لضرورة وعذر فعليه احدى الكفارات الثلاث
ويكره للمحرم أن يشم الطيب والريحان كذا روى عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهما انهما كرها شم الريحان
للمحرم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا بأس به ولو شمه لا شئ عليه عندنا وقال الشافعي تجب عليه
الفدية وجه قوله أن الطيب ماله رائحة والريحان له رائحة طيبة فكان طيبا وانا نقول نعم انه طيب لكنه لم
يلتزق ببدنه ولا بثيابه شئ منه وإنما شم رائحته فقط وهذا لا يوجب الكفارة كما لو جلس عند العطارين فشم
رائحة العطر الا أنه كره لما فيه من الارتفاق وكذا كل نبات له رائحة طيبة وكل ثمرة لها رائحة طيبة لأنه ارتفاق
بالرائحة ولو فعل لا شئ عليه لأنه لم يلتزق ببدنه وثيابه شئ منه وحكى عن مالك أنه كان يأمر برفع العطارين بمكة
في أيام الحج وذلك غير سديد لان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا ذلك فان شم المحرم رائحة طيب
تطيب به قبل الاحرام لا بأس به لان استعمال الطيب حصل في وقت مباح فبقي شم نفس الرائحة فلا يمنع منه كما
لو مر بالعطارين وروى ابن سماعة عن محمد أن رجلا لو دخل بيتا قد أجمر وطال مكثه بالبيت فعلق في ثوبه
شئ يسير فلا شئ عليه لان الرائحة لم تتعلق بعين وبمجرد الرائحة لا يمنع منها فان استجمر بثوب فعلق بثوبه شئ كثير
فعليه دم لان الرائحة ههنا تعلقت بعين وقد استعملها في بدنه فصار كما لو تطيب وذكر ابن رستم عن محمد فيمن
اكتحل بكحل قد طيب مرة أو مرتين فعليه صدقة وإن كان كثيرا فعليه دم لان الطيب إذا غلب الكحل فلا
فرق بين استعماله على طريق التداوي أو التطيب فان مس طيبا فلزق بيده فهو بمنزلة التطيب لأنه طيب به يده
وان لم يقصد به التطيب لان القصد ليس بشرط لوجوب الكفارة وقالوا فيمن استلم الحجر فأصاب يده من طيبه
أن عليه الكفارة لأنه استعمل الطيب وان لم يقصد به التطيب ووجوب الكفارة لا يقف على القصد فان داوى
جرحا أو تطيب لعلة ثم حدث جرح آخر قبل أن يبرأ الأول فعليه كفارة واحدة لان العذر الأول باق فكان جهة
الاستعمال واحدة فتكفيه كفارة واحدة كما قلنا في لبس المخيط ولا بأس بان يحتجم المحرم ويفتصد ويبط القرحة
ويعصب عليه الخرقة ويجبر الكسر وينزع الضرس إذا اشتكى منه ويدخل الحمام ويغتسل لما روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالفاحة والفصد وبط القرحة والجرح في معنى الحجامة
ولأنه ليس في هذه الأشياء الا شق الجلدة والمحرم غير ممنوع عن ذلك ولأنها من باب التداوي والاحرام لا يمنع
من التداوي وكذا جبر الكسر من باب العلاج والمحرم لا يمنع منه وكذا قلع الضرس وهو أيضا من باب إزالة الضرر
فيشبه قطع اليد من الاكلة وذا لا يمنع منه المحرم كذا هذا وأما الاغتسال فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم اغتسل وهو محرم وقال ما نفعل بأوساخنا فان غسل رأسه ولحيته بالخطمي فعليه دم في قول أبي حنيفة
وعند أبي يوسف ومحمد عليه صدقة لهما أن الخطمي ليس بطيب وإنما يزيل الوسخ فأشبه الأشنان فلا يجب
به الدم وتجب الصدقة لأنه يقتل الهوام لا لأنه طيب ولأبي حنيفة أن الخطمي طيب لان له رائحة طيبة فيجب
به الدم كسائر أنواع الطيب ولأنه يزيل الشعث ويقتل الهوام فأشبه الحلق فان خضب رأسه ولحيته بالحناء فعليه
دم لان الحناء طيب لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة ان تختضب بالحناء وقال الحناء طيب
191

ولان الطيب ماله رائحة طيبة وللحناء رائحة طيبة فكان طيبا وان خضبت المحرمة يديها بالحناء فعليها دم وإن كان
قليلا فعليها صدقة لان الارتفاق الكامل لا يحصل الا بتطييب عضو كامل والقسط طيب لان له رائحة طيبة
ولهذا يتبخر به ويلتذ برائحته والوسمة ليس بطيب لأنه ليس لها رائحة طيبة بل كريهة وإنما تغير الشعر وذلك
ليس من باب الارتفاق بل من باب الزينة فان خاف ان يقتل دواب الرأس تصدق بشئ لأنه يزيل التفث وروى
عن أبي يوسف فيمن خضب رأسه بالوسمة ان عليه دما لا لأجل الخضاب بل لأجل تغطية الرأس والكحل ليس
بطيب وللمحرم أن يكتحل بكحل ليس فيه طيب وقال ابن أبي ليلى هو طيب وليس للمحرم ان يكتحل به وهذا غير
سديد لأنه ليس له رائحة طيبة فلا يكون طيبا ويستوى في وجوب الجزاء بالتطيب الذكر والنسيان والطوع والكره
عندنا كما في لبس المخيط خلافا للشافعي على ما مر والرجل والمرأة في الطيب سواء في الحظر ووجوب الجزاء لاستوائهما
في الحاظر والموجب للجزاء وكذا القارن والمفرد الا أن على القارن مثلي ما على المفرد عندنا لأنه محرم باحرامين
فادخل نقصا في احرامين فيؤاخذ بجزاءين ولا يحل للقارن والمفرد التطيب ما لم يحلقا أو يقصر البقاء الاحرام قبل
الحلق أو التقصير فكان الحاظر باقيا فيبقى الحظر وكذا المعتمر لما قلنا وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم والله أعلم
* (فصل) * وأما ما يجرى مجرى الطيب من إزالة الشعث وقضاء التفث فحلق الشعر وقلم الظفر أما الحلق فنقول
لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر لقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله وقول النبي
صلى الله عليه وسلم المحرم الأشعث الأغبر وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحاج فقال الشعث التفث
وحلق الرأس يزيل الشعث والتفث ولأنه من باب الارتفاق بمرافق المقيمين والمحرم ممنوع عن ذلك ولأنه نوع
نبات استفاد الامن بسبب الاحرام فيحرم التعرض له كالنبات الذي استفاد الامن بسبب الحرم وهو الشجر
والخلى وكذا لا يطلى رأسه بنورة لأنه في معنى الحلق وكذا لا يزيل شعرة من شعر رأسه ولا يطليها بالنورة لما قلنا
فان حلق رأسه فان حلقه من غير عذر فعليه دم لا يجزيه غيره لأنه ارتفاق كامل من غير ضرورة وان حلقه لعذر
فعليه أحد الأشياء الثلاثة لقوله عز وجل فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو
نسك ولما روينا من حديث كعب بن عجرة ولان الضرورة لها أثر في التخفيف فخير بين الأشياء الثلاثة تخفيفا وتيسيرا
وان حلق ثلثه أو ربعه فعليه دم وان حلق دون الربع فعليه صدقة كذا ذكر في ظاهر الرواية ولم يذكر الاختلاف
وحكى الطحاوي في مختصره الاختلاف فقال إذا حلق ربع رأسه يجب عليه الدم في قول أبي حنيفة وفى قول أبى
يوسف ومحمد لا يجب ما لم يحلق أكثر رأسه وذكر القدروي في شرحه مختصر الحاكم إذا حلق ربع رأسه يجب
عليه دم في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف إذا حلق أكثره يجب وعند محمد إذا حلق شعرة يجب وقال الشافعي
إذا حلق ثلاث شعرات يجب وقال مالك لا يجب الا بحلق الكل وعلى هذا إذا حلق لحيته أو ثلثها أو ربعها احتج
مالك بقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله والرأس اسم لكل هذا المحدود وجه قول الشافعي أن
الثلاث جمع صحيح فيقوم مقام الكل ولهذا قام مقام الكل في مسح الرأس ولان الشعر نبات استفاد الامن بسبب
الاحرام فيستوي فيه قليله وكثيره كالنبات الذي استفاد الامن بسبب الحرم من الشجر والخلى واما الكلام بين
أصحابنا فمبنى على أن حلق الكثير يوجب الدم والقليل يوجب الصدقة واختلفوا في الحد الفاصل بين القليل
والكثير فجعل أبو حنيفة ما دون الربع قليلا والربع وما فوقه كثيرا وهما على ما ذكر الطحاوي جعلا ما دون
النصف قليلا وما زاد على النصف كثيرا والوجه لهما ان القليل والكثير من أسماء المقابلة وإنما يعرف ذلك بمقابله
فإن كان مقابله قليلا فهو كثير وإن كان كثيرا فهو قليل فيلزم منه أن يكون الربع قليلا لان ما يقابله كثير فكان هو
قليلا والوجه لأبي حنيفة ان الربع في حلق الرأس بمنزلة الكل الا ترى ان من عادة كثير من الأجيال من العرب
والترك والكرد الاقتصار على حلق ربع الرأس ولذا يقول القائل رأيت فلانا يكون صادقا في مقالته وان لم ير
الا أحد جوانبه الأربع ولهذا أقيم مقام الكل في المسح وفى الخروج من الاحرام بان حلق ربع رأسه للتحلل
192

والخروج من الاحرام انه يتحلل ويخرج من الاحرام فكان حلق ربع الرأس ارتفاقا كاملا فكانت جناية كاملة
فيوجب كفارة كاملة وكذا حلق ربع اللحية لأهل بعض البلاد معتاد كالعراق ونحوها فكان حلق الربع منها
كحلق الكل ولا حجة لمالك في الآية لان فيها نهيا عن حلق الكل وذا لا ينفى النهى عن حلق البعض فكان تمسكا
بالمسكوت فلا يصح وما قاله الشافعي غير سديد لان آخذ ثلاث شعرات لا يسمى حالقا في العرف فلا يتناوله نص
الحلق كما لا يسمى ماسح ثلاث شعرات ماسحا في العرف حتى لم يتناوله نص المسح على أن وجوب الدم متعلق بارتفاق
كامل وحلق ثلاث شعرات ليس بارتفاق كامل فلا يوجب كفارة كاملة وقوله إنه نبات استفاد الامن بسبب الاحرام
مسلم لكن هذا يقتضى حرمة التعرض لقليله وكثيره ونحن به نقول ولا كلام فيه وإنما الكلام في وجوب الدم وذا
يقف على ارتفاق كامل ولم يوجد وقد خرج الجواب عن قولهما ان القليل والكثير يعرف بالمقابلة لما ذكرنا ان
الربع كثير من غير مقابلة في بعض المواضع فيعمل عليه في موضع الاحتياط ولو أخذ شيئا من رأسه أو لحيته أو لمس
شيئا من ذلك فانتثر منه شعرة فعليه صدقة لوجود الارتفاق بإزالة التفث هذا إذا حلق رأس نفسه فأما إذا حلق رأس
غيره فعلى الحالق صدقة عندنا وقال مالك والشافعي لا شئ على الحالق وجه قولهما ان وجوب الجزاء لوجود الارتفاق
ولم يوجد من الحالق ولنا أن المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره لقوله عز وجل ولا
تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله والانسان لا يحلق رأس نفسه عادة الا أنه لما حرم عليه حلق رأس غيره
يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى فتجب عليه الصدقة ولا يجب عليه الدم لعدم الارتفاق في حقه
وسواء كان المحلوق حلالا أو حراما لما قلنا غير أنه إن كان حلالا لا شئ عليه وإن كان حراما فعليه الدم لحصول
الارتفاق الكامل له وسواء كان الحلق بأمر المحلوق أو بغير أمره طائعا أو مكرها عندنا وقال الشافعي إن كان مكرها فلا
شئ عليه وان لم يكن مكرها لكنه سكت ففيه وجهان والصحيح قولنا لان الاكراه لا يسلب الحظر وكمال الارتفاق
موجود فيجب عليه كمال الجزاء وليس له ان يرجع به على الحالق وعن القاضي أبى حازم انه يرجع عليه بالكفارة لان
الحالق هو الذي أدخله في عهدة الضمان فكان له ان يرجع عليه كالمكره على اتلاف المال ولنا ان الارتفاق
الكامل حصل له فلا يرجع على أحد إذ لو رجع لسلم له العوض والمعوض وهذا لا يجوز كالمغرور إذا وطئ الجارية
وغرم العقر انه لا يرجع به على الغار لما قلنا كذا هذا وإن كان الحالق حلالا فلا شئ عليه وحكم المحلوق ما ذكرنا وان
حلق شاربه فعليه صدقة لان الشارب تبع للحية الا ترى انه ينبت تبعا للحية ويؤخذ تبعا للحية أيضا ولأنه قليل
فلا يتكامل معنى الجناية وذكر في الجامع الصغير محرم أخذ من شاربه فعليه حكومة عدل وهي ان ينظركم تكون
مقادير أدنى ما يجب في اللحية من الدم وهو الربع فتجب الصدقة بقدره حتى لو كان مثل ربع اللحية يجب
ربع قيمة الشاة لأنه تبع للحية وقوله أخذ من شاربه إشارة إلى القص وهو السنة في الشارب لا الحلق وذكر
الطحاوي في شرح الآثار ان السنة فيه الحلق ونسب ذلك إلى أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله والصحيح
ان السنة فيه القص لما ذكرنا انه تبع اللحية والسنة في اللحية القص لا الحلق كذا في الشارب ولان الحلق يشينه
ويصير بمعنى المثلة ولهذا لم يكن سنة في اللحية بل كان بدعة فكذا في الشارب ولو حلق الرقبة فعليه الدم لأنه عضو
كامل مقصود بالارتفاق بحلق شعره فتجب كفارة كاملة كما في حلق الرأس ولو نتف أحد الإبطين فعليه دم لما قلنا
ولو نتف الإبطين جميعا تكفيه كفارة واحدة لان جنس الجناية واحد والحاظر واحد والجهة غير متقومة فتكفيها
كفارة واحدة ولو نتف من أحد الإبطين أكثره فعليه صدقة لان الأكثر فيما له نظير في البدن لا يقام مقام كله بخلاف
الرأس واللحية والرقبة وما لا نظير له في البدن ثم ذكر في الإبط النتف في الأصل وهو إشارة إلى أن السنة فيه النتف
وهو كذلك وذكر في الجامع الصغير الحلق وهو إشارة إلى أنه ليس بحرام ولو حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول
أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد فيه صدقة وجه قولهما ان موضع الحجامة غير مقصود بالحلق بل هو تابع فلا
يتعلق بحلقه دم كحلق الشارب لأنه إذا لم يكن مقصودا بالحلق لا تتكامل الجناية بحلقه فلا تجب به كفارة كاملة
193

ولأنه إنما يحلق للحجامة لا لنفسه والحجامة لا توجب الدم لأنه ليس من محظورات الاحرام على ما بينا فكذا
ما يفعل لها ولان ما عليه من الشعر قليل فأشبه الصدر والساعد والساق ولا يجب بحلقها دم بل صدقة
كذا هذا ولأبي حنيفة ان هذا عضو مقصود بالحلق لمن يحتاج إلى حلقه لان الحجامة أمر مقصود لمن يحتاج إليها
لاستفراغ المادة الدموية ولهذا لا يحلق تبعا للرأس ولا للرقبة فأشبه حلق الإبط والعانة ويستوى في وجوب
الجزاء بالحلق العمد والسهو والطلوع والكره عندنا والرجل والمرأة والمفرد والقارن غير أن القارن يلزمه جزاءان
عندنا لكونه محرما باحرامين على ما بينا واما قلم الظفر فنقول لا يجوز للمحرم قلم أظفاره لقوله تعالى ثم ليقضوا
تفثهم وقلم الأظفار من قضاء النفث رتب الله تعالى قضاء التفث على الذبح لأنه ذكره بكلمة موضوعة للترتيب مع
التراخي بقوله عز وجل ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا
البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم فلا يجوز الذبح ولأنه ارتفاق بمرافق المقيمين والمحرم ممنوع عن ذلك ولأنه نوع
نبات استفاد الا من بسبب الاحرام فيحرم التعرض له كالنوع الآخر وهو النبات الذي استفاد الا من بسبب الحرم
فان قلم أظافير يد أو رجل من غير عذر وضرورة فعليه دم لأنه ارتفاق كامل فتكاملت الجناية فتجب كفارة
كاملة وان قلم أقل من يد أو رجل فعليه صدقة لكل ظفر نصف صاع وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر إذا قلم
ثلاثة أظفار فعليه دم وجه قوله إن ثلاثة أظافير من اليد أكثرها والأكثر يقوم مقام الكل في هذا الباب كما في حلق
الرأس ولأصحابنا الثلاثة ان قلم ما دون اليد ليس بارتفاق كامل فلا يوجب كفارة كاملة وأما قوله الأكثر يقوم مقام
الكل فنقول إن اليد الواحدة قد أقيمت مقام كل الأطراف في وجوب الدم وما أقيم مقام الكل لا يقوم أكثره
مقامه كما في الرأس أنه لما أقيم الربع فيه مقام الكل لا يقام أكثر الربع مقامه وهذا لأنه لو أقيم أكثر ما أقيم مقام
الكل مقامه لا قيم أكثر أكثره مقامه فيؤدى إلى ابطال التقدير أصلا ورأسا وهذا لا يجوز فان قلم خمسة أظافير من
الأعضاء الأربعة متفرقة اليدين والرجلين فعليه صدقة لكل ظفر نصف صاع في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
وقال محمد عليه دم وكذلك لو قلم من كل عضو من الأعضاء الأربعة أربعة أظافير فعليه صدقة عندهما وإن كان
يبلغ جملتها ستة عشر ظفرا ويجب في كل ظفر نصف صاع من بر الا إذا بلغت قيمة الطعام دما فينقص منه ما شاء
وعند محمد عليه دم فمحمد اعتبر عدد الخمسة لا غير ولم يعتبر التفرق والاجتماع وأبو حنيفة وأبو يوسف اعتبرا مع
عدد الخمسة صفة الاجتماع وهو أن يكون من محل واحد وجه قول محمد ان قلم أظافير يد واحدة أو رجل واحدة
إنما أوجب الدم لكونها ربع الأعضاء المتفرقة وهذا المعنى يستوى فيه المجتمع والمتفرق ألا ترى أنهما استويا في
الأرش بان قطع خمسة أظافير متفرقة فكذا هذا ولهما أن الدم إنما يجب بارتفاق كامل ولا يحصل ذلك بالقلم
متفرقا لان ذلك شين ويصير مثلة فلا تجب به كفارة كاملة ويجب في كل ظفر نصف صاع من حنطة الا أن تبلغ
قيمة الطعام دما فينقص منه ما شاء لأنا إنما لم نوجب عليه الدم لعدم تناهى الجناية لعدم ارتفاق كامل فلا يجب ان
يبلغ قيمة الدم فان اختار الدم فله ذلك وليس عليه غيره فان قلم خمسة أظافير من يد واحدة أو رجل واحدة ولم
يكفر ثم قلم أظافير يده الأخرى أو رجله الأخرى فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد استحسانا والقياس ان
يجب لكل واحد دم لما سنذكر إن شاء الله تعالى وإن كان في مجلسين فعليه دمان في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
وقال محمد عليه دم واحد ما لم يكفر للأول وأجمعوا على أنه لو قلم خمسة أظافير من يد واحدة أو رجل واحدة وحلق ربع
رأسه وطيب عضوا واحدا ان عليه لكل جنس دما على حدة سواء كان في مجلس واحد أو في مجالس مختلفة
وأجمعوا في كفارة الفطر على أنه إذا جامع في اليوم الأول وأكل في اليوم الثاني وشرب في اليوم الثالث انه ان كفر
للأول فعليه كفارة أخرى وان لم يكفر للأول فعليه كفارة واحدة فأبو حنيفة وأبو يوسف جعلا اختلاف المجلس
كاختلاف الجنس ومحمد جعل اختلاف المجلس كاتحاده عند اتفاق الجنس وعلى هذا إذا قطع أظافير اليدين
والرجلين انه إن كان في مجلس واحد يكفيه دم واحد استحسانا والقياس ان يجب عليه بقلم أظافير كل عضو من يد
194

أو رجل دم وإن كان في مجلس واحد وجه القياس ان الدم إنما يجب لحصول الارتفاق الكامل لان بذلك تتكامل
الجناية فتتكامل الكفارة وقلم أظافير كل عضو ارتفاق على حدة فيستدعى كفارة على حدة وجه الاستحسان
ان جنس الجناية واحد حظرها احرام واحد بجهة غير متقومة فلا يوجب الا دما واحدا كما في حلق الرأس انه إذا
حلق الربع يجب عليه دم ولو حلق الكل يجب عليه دم واحد لما قلنا كذا هذا وإن كان في مجالس مختلفة يجب
لكل من ذلك كفارة في قول أبي حنيفة وأبى يوسف سواء كفر للأول أو لا وعند محمد ان لم يكفر للأول فعليه كفارة
واحدة وجه قوله إن الكفارة تجب بهتك حرمة الاحرام وقد انهتك حرمته بقلم أظافير العضو الأول وهتك
المهتوك لا يتصور فلا يلزمه كفارة أخرى ولهذا لا يجب كفارة أخرى بالافطار في يومين من رمضان لان وجوبها
بهتك حرمة الشهر جبرا لها وقد انهتك بافساد الصوم في اليوم الأول فلا يتصور هتكا بالافساد في اليوم الثاني
والثالث كذا هذا بخلاف ما إذا كفر للأول لأنه انجبر الهتك بالكفارة وجعل كأنه لم يكن فعادت حرمة الاحرام فإذا
هتكها تحب كفارة أخرى جبرا لها كما في كفارة رمضان ولهما أن كفارة الاحرام تجب بالجناية على الاحرام
والاحرام قائم فكان كل فعل جناية على حدة على الاحرام فيستدعى كفارة على حدة الا أن عند اتحاد المجلس جعلت
الجنايات المتعددة حقيقة متحدة حكما لان المجلس جعل في الشرع جامعا للأفعال المختلفة كما في خيار المخيرة وسجدة
التلاوة والايجاب والقبول في البيع وغير ذلك فإذا اختلف المجلس أعطى لكل جناية حكم نفسها فيعتبر في الحكم
المتعلق بها بخلاف كفارة الافطار لأنها ما وجبت بالجناية على الصوم بل جبرا لهتك حرمة الشهر وحرمة الشهر
واحدة لا تتجزأ أو قد انتهكت حرمته بالافطار الأول فلا يحتمل الهتك ثانيا ولو قلم أظافير يد لأذى في كفه فعليه أي
الكفارات شاء لما ذكرنا أن ما حظره الاحرام إذا فعله المحرم عن ضرورة وعذر فكفارته أحد الأشياء الثلاثة
والله عز وجل أعلم ولو انكسر ظفر المحرم فانقطعت منه شظية فقلعها لم يكن عليه شئ إذا كان مما لا يثبت لأنها
كالزائدة ولأنها خرجت عن احتمال النماء فأشبهت شجر الحرم إذا يبس فقطعه انسان أنه لا ضمان عليه كذا هذا
وان قلم المحرم أظافير حلال أو محرم أو قلم الحلال أظافير محرم فحكمه حكم الحلق وقد ذكرنا ذلك كله والله أعلم
والذكر والنسيان والطوع والكره في وجوب الفدية بالقلم سواء عندنا خلافا للشافعي وكذا يستوى فيه الرجل
والمرأة والمفرد والقارن الا أن على القارن ضعف ما على المفرد لما ذكرنا والله أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى توابع الجماع فيجب على المحرم أن يجتنب الدواعي من التقبيل واللمس
بشهوة والمباشرة والجماع فيما دون الفرج لقوله عز وجل فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج قيل في بعض وجوه التأويل ان الرفث جميع حاجات الرجال إلى النساء وسئلت
عائشة رضى الله تعالى عنها عما يحل للمحرم من امرأته فقالت يحرم عليه كل شئ الا الكلام فان جامع
فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل أو قبل أو لمس بشهوة أو باشر فعليه دم لكن لا يفسد حجه اما عدم فساد
الحج فلان ذلك حكم متعلق بالجماع في الفرج على طريق التغليظ واما وجوب الدم فلحصول ارتفاق كامل
مقصود وقد روى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قال إذا باشر المحرم امرأته فعليه دم ولم يرو عن غيره
خلافه وسواء فعل ذاكرا أو ناسيا عندنا خلافا للشافعي ولو نظر إلى فرج امرأته عن شهوة فأمنى فلا شئ عليه بخلاف
المس عن شهوة انه يوجب الدم أمنى أو لم يمن ووجه الفرق ان اللمس استمتاع بالمرأة وقضاء للشهوة فكان
ارتفاقا كاملا فأما النظر فليس من باب الاستمتاع ولا قضاء الشهوة بل هو سبب لزرع الشهوة في القلب والمحرم
غير ممنوع عما يزرع الشهوة كالأكل وذكر في الجامع الصغير إذا لمس بشهوة فامنى فعليه دم وقوله أمنى ليس
على سبيل الشرط لأنه ذكر في الأصل ان عليه دما أنزل أو لم ينزل
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى الصيد فنقول لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول
عندنا الا المؤذى المبتدئ بالأذى غالبا والكلام في هذا الفصل يقع في مواضع في تفسير الصيد انه ما هو وفي بيان
195

أنواعه وفي بيان ما يحل اصطياده للمحرم وما يحرم عليه وفي بيان حكم ما يحرم عليه اصطياده إذا اصطاده اما الأول
فالصيد هو الممتنع المتوحش من الناس في أصل الخلقة اما بقوائمه أو بجناحه فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل والبقر
والغنم لأنها ليست بصيد لعدم الامتناع والتوحش من الناس وكذا الدجاج والبط الذي يكون في المنازل وهو
المسمى بالبط الكسكرى لانعدام معنى الصيد فيهما وهو الامتناع والتوحش فاما البط الذي يكون عند الناس
ويطير فهو صيد لوجود معنى الصيد فيه والحمام المسرول صيد وفيه الجزاء عند عامة العلماء وعند مالك ليس
بصيد وجه قوله إن الصيد اسم للمتوحش والحمام المسرول مستأنس فلا يكون صيدا كالدجاج والبط الذي يكون
في المنازل ولنا ان جنس الحمام متوحش في أصل الخلقة وإنما يستأنس البعض منه بالتولد والتأنيس مع بقائه
صيدا كالظبية المستأنسة والنعامة المستأنسة والطوطى ونحو ذلك حتى يجب فيه الجزاء وكذا المستأنس في
الخلقة قد يصير مستوحشا كالإبل إذا توحشت وليس له حكم الصيد حتى لا يجب فيه الجزاء فعلم أن العبرة
بالتوحش والاستئناس في أصل الخلقة وجنس الحمام متوحش في أصل الخلقة وإنما يستأنس البعض منه
لعارض فكان صيدا بخلاف البط الذي يكون عند الناس في المنازل فان ذلك ليس من جنس المتوحش بل هو
من جنس آخر والكلب ليس بصيد لأنه ليس بمتوحش بل هو مستأنس سواء كان أهليا أو وحشيا
لان الكلب أهلي في الأصل لكن ربما يتوحش لعارض فأشبه الإبل إذا توحشت وكذا السنور الأهلي ليس بصيد
لأنه مستأنس وأما البري ففيه روايتان روى هشام عن أبي حنيفة ان فيه الجزاء وروى الحسن عنه انه لا شئ فيه
كالأهلي وجه رواية هشام انه متوحش فأشبه الثعلب ونحوه وجه رواية الحسن ان جنس السنور مستأنس
في أصل الخلقة وإنما يتوحش البعض منه لعارض فأشبه البعير إذا توحش ولا بأس بقتل البرغوث والبعوض
والنملة والذباب والحلم والقراد والزنبور لأنها ليست بصيد لانعدام التوحش والامتناع الا ترى انها تطلب
الانسان مع امتناعه منها وقد روى عن عمر رضي الله عنه انه كان يقرد بعيره وهو محرم ولأن هذه الأشياء من
المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبا فالتحقت بالمؤذيات المنصوص عليها من الحية والعقرب وغيرهما ولا يقتل القملة لا
لأنها صيد بل لما فيها من إزالة التفت لأنه متولد من البدن كالشعر والمحرم منهى عن إزالة التفث من بدنه فان
قتلها تصدق بشئ كما لو أزال شعرة ولم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الصدقة وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال
إذا قتل المحرم قملة أو ألقاها أطعم كسرة وإن كانتا اثنتين أو ثلاثا أطعم قبضة من الطعام وإن كانت كبيرة أطعم
نصف صاع وكذا لا يقتل الجرادة لأنها صيد البر اما كونه صيدا فلانه متوحش في أصل الخلقة واما كونه صيد البر
فلان توالده في البر ولذا لا يعيش الا في البر حتى لو وقع في الماء يموت فان قتلها تصدق بشئ من الطعام وقد روى
عن عمر أنه قال تمرة خير من جرادة ولا بأس له بقتل هوام الأرض من الفأرة والحية والعقرب والخنافس
والجعلان وأم حنين وصياح الليل والصرصر ونحوها لأنها ليست بصيد بل من حشرات الأرض وكذا القنفذ
وابن عرس لأنهما من الهوام حتى قال أبو يوسف ابن عرس من سباع الهوام والهوام ليست بصيد لأنها
لا تتوحش من الناس وقال أبو يوسف في القنفذ الجزاء لأنه من جنس المتوحش ولا يبتدئ بالأذى
* (فصل) * وأما بيان أنواعه وبيان ما يحل للمحرم اصطياده وما يحرم عليه من كل نوع فنقول وبالله
التوفيق الصيد في الأصل نوعان برى وبحري فالبحري هو الذي توالده في البحر سواء كان لا يعيش الا في البحر أو
يعيش في البحر والبر والبري ما يكون توالدة في البر سواء كان لا يعيش الا في البر أو يعيش في البر والبحر فالعبرة
للتوالد اما صيد البحر فيحل اصطياده للحلال والمحرم جميعا مأكولا كان أو غير مأكول لقوله تعالى أحل لكم صيد
البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة والمراد منه اصطياد ما في البحر لان الصيد مصدر يقال صاد يصيد صيدا
واستعماله في المصيد مجاز والكلام بحقيقته إباحة اصطياد ما في البحر عاما وأما صيد البر فنوعان مأكول وغير
مأكول اما المأكول فلا يحل للمحرم اصطياده نحو الظبي والأرنب وحمار الوحش وبقر الوحش والطيور التي
196

يؤكل لحومها برية كانت أو بحرية لان الطيور كلها برية لان توالدها في البر وإنما يدخل بعضها في البحر لطلب
الرزق والأصل فيه قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وقوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ظاهر
الآيتين يقتضى تحريم صيد البر للمحرم عاما أو مطلقا الا ما خص أو قيد بدليل وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا
ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم والمراد منه الابتلاء بالنهي بقوله تعالى في سياق الآية فمن
اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم أي اعتدى بالاصطياد بعد تحريمه والمراد منه صيد البر لان صيد البحر مباح
بقوله تعالى أحل لكم صيد البحر وكذا لا يحل له الدلالة عليه والإشارة إليه بقوله صلى الله عليه وسلم الدال على
الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله ولان الدلالة والإشارة سبب إلى القتل وتحريم الشئ تحريم لأسبابه
وكذا لا يحل له الإعانة على قتله لان الإعانة فوق الدلالة والإشارة وتحريم الأدنى تحريم الاعلى من طريق الأولى
كالتأفيف مع الضرب والشتم وأما غير المأكول فنوعان نوع يكون مؤذيا طبعا مبتدئا بالأذى غالبا ونوع
لا يبتدئ بالأذى غالبا اما الذي يبتدئ بالأذى غالبا فللمحرم أن يقتله ولا شئ عليه وذلك نحو الأسد والذئب
والنمر والفهد لان دفع الأذى من غير سبب موجب للأذى واجب فضلا عن الإباحة ولهذا أباح رسول الله صلى
الله عليه وسلم قتل الخمس الفواسق للمحرم في الحل والحرم بقوله صلى الله عليه وسلم خمس من الفواسق يقتلهن
المحرم في الحل والحرم الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والغراب وروى والحدأة وروى عن ابن عمر رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خمس يقتلهن المحل والمحرم في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب
والفأرة والكلب العقور وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس
فواسق في الحل والحرم الحدأة والفأرة والغراب والعقرب والكلب العقور وعلة الإباحة فيها هي الابتداء
بالأذى والعدو على الناس غالبا فان من عادة الحدأة ان تغير على اللحم والكرش والعقرب تقصد من تلدغه
وتتبع حسه وكذا الحية والغراب يقع على دبر البعير وصاحبه قريب منه والفأرة تسرق أموال الناس والكلب
العقور من شأنه العدو على الناس وعقرهم ابتداء من حيث الغالب ولا يكاد يهرب من بني آدم وهذا المعنى
موجود في الأسد والذئب والفهد والنمر فكان ورود النص في تلك الأشياء ورودا في هذه دلالة قال أبو يوسف
الغراب المذكور في الحديث هو الغراب الذي يأكل الجيف أو يخلط مع الجيف إذ هذا النوع هو الذي يبتدئ
بالأذى والعقعق ليس في معناه لأنه لا يأكل الجيف ولا يبتدئ بالأذى وأما الذي لا يبتدئ بالأذى غالبا كالضبع
والثعلب وغيرهما فله أن يقتله ان عدى عليه ولا شئ عليه إذا قتله وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر يلزمه
الجزاء وجه قوله إن المحرم للقتل قائم وهو الاحرام فلو سقطت الحرمة إنما تسقط بفعله وفعل العجماء جبار فبقي
محرم القتل كما كان كالجمل الصؤل إذا قتله انسان انه يضمن لما قلنا كذا هذا ولنا انه لما عدا عليه وابتدأه
بالأذى التحق بالمؤذيات طبعا فسقطت عصمته وقد روى عن عمر رضي الله عنه انه ابتدأ قتل ضبع فادى
جزاءها وقال إنا ابتدأناها فتعليله بابتدائه قتله إشارة إلى أنها لو ابتدأت لا يلزمه الجزاء وقوله الاحرام قائم مسلم
لكن أثره في أن لا يتعرض للصيد لا في وجوب تحمل الأذى بل يجب عليه دفع الأذى لأنه من صيانة نفسه عن
الهلاك وانه واجب فسقطت عصمته في حال الأذى فلم يجب الجزاء بخلاف الجمل الصائل لان عصمته ثبتت حقا
لمالكه ولم يوجد منه ما يسقط العصمة فيضمن القاتل وان لم يعد عليه لا يباح له أن يبتدئه بالقتل وان قتله ابتداء
فعليه الجزاء عندنا وعند الشافعي يباح له قتله ابتداء ولا جزاء عليه إذا قتله وجه قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم
أباح للمحرم قتل خمس من الدواب وهي لا يؤكل لحمها والضبع والثعلب ما لا يؤكل لحمه فكان ورود النص هناك
ورودا ههنا ولنا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقوله وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما
وقوله يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم عاما أو مطلقا من غير فصل بين المأكول
وغيره واسم الصيد يقع على المأكول وغير المأكول لوجود حد الصيد فيهما جميعا والدليل عليه قول الشاعر
197

صيد الملوك أرانب وثعالب * وإذا ركبت فصيدى الابطال
أطلق اسم الصيد على الثعلب الا انه خص منها الصيد العادي المبتدئ بالأذى غالبا أو قيدت بدليل فمن ادعى
تخصيص غيره أو التقييد فعليه الدليل وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الضبع صيد وفيه شاة
إذا قتله المحرم وعن عمر وابن عباس رضي الله عنهما انهما أوجبا في قتل المحرم الضبع جزاء وعن علي رضي الله عنه
أنه قال في الضبع إذا عدا على المحرم فليقتله فان قتله قبل أن يعدو عليه فعليه شاة مسنة ولا حجة
للشافعي في حديث الخمس الفواسق لأنه ليس فيه أن إباحة قتلهن لأجل انه لا يؤكل لحمها بل فيه إشارة إلى أن علة
الإباحة فيها الابتداء بالأذى غالبا ولا يوجد ذلك في الضبع والثعلب بل من عادتهما الهرب من بني آدم ولا يؤذيان
أحدا حتى يبتدئهما بالأذى فلم توجد علة الإباحة فيهما فلم تثبت الإباحة وعلى هذا الخلاف الضب
واليربوع والسمور والدلف والقرد والفيل والخنزير لأنها صيد لوجود معنى الصيد فيها وهو الامتناع والتوحش
ولا تبتدئ بالأذى غالبا فتدخل تحت ما تلونا من الآيات الكريمة وقال زفر في الخنزير انه لا يجب الجزاء فيه
لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعثت بكسر المعازف وقتل الخنازير ندبنا صلى الله عليه وسلم
إلى قتله والندب فوق الإباحة فلا يتعلق به الجزاء والحديث محمول على غير حال الاحرام أو على حال العدو والابتداء
بالأذى حملا لخبر الواحد على موافقة الكتاب العزيز وعلى هذا الاختلاف سباع الطير والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم ما يحرم على المحرم اصطياده إذا اصطاده فالامر لا يخلو اما ان قتل الصيد واما ان جرحه
واما ان أخذه فلم يقتله ولم يجرحه فان قتله فالقتل لا يخلو اما أن يكون مباشرة أو تسيبا فإن كان مباشرة فعليه قيمة
الصيد المقتول يقومه ذوا عدل لهما بصارة بقيمة الصيود فيقومانه في المكان الذي أصابه إن كان موضعا تباع
فيه الصيود وإن كان في مفازة يقومانه في أقرب الأماكن من العمران إليه فان بلغت قيمته ثمن هدى فالقاتل
بالخيار ان شاء أهدى وان شاء أطعم وان شاء صام وان لم يبلغ قيمته ثمن هدى فهو بالخيار بين الطعام والصيام
سواء كان الصيد مما له نظير أو كان مما لا نظير له وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف وحكى الطحاوي قول محمد ان
الخيار للحكمين ان شاءا حكما عليه هديا وان شاءا طعاما وان شاءا صياما فان حكما عليه هديا نظر القاتل إلى نظيره من
النعم من حيث الخلقة والصورة إن كان الصيد مما له نظير سواء كان قيمة نظيره مثل قيمته أو أقل أو أكثر لا ينظر
إلى القيمة بل إلى الصورة والهيئة فيجب في الظبي شاة وفى الضبع شاة وفى حمار الوحش بقرة وفى النعامة بعير وفى
الأرنب عناق وفى اليربوع جفرة وان لم يكن له نظير مما في ذبحه قربة كالحمام والعصفور وسائر الطيور تعتبر قيمته كما
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وحكى الكرخي قول محمد ان الخيار للقاتل عنده أيضا غير أنه ان اختار الهدى لا
يجوز له الا اخراج النظير فيما له نظير وعند الشافعي يجب عليه بقتل ماله نظيرا لنظير ابتداء من غير اختيار أحد وله ان
يطعم ويكون الاطعام بدلا عن النظير لا عن الصيد فيقع الكلام في موجب قتل صيد له نظير في مواضع منها انه
يجب على القاتل قيمته في قول أبي حنيفة وأبى يوسف ولا يجب عند محمد والشافعي والأصل فيه قوله عز وجل
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم أي فعليه جزاء مثل ما قتل أوجب الله تعالى على القاتل جزاء
مثل ما قتل واختلف الفقهاء في المراد من المثل المذكور في الآية الشريفة قال أبو حنيفة وأبو يوسف المراد منه
المثل من حيث المعنى وهو القيمة وقال محمد والشافعي المراد منه المثل من حيث الصورة والهيئة وجه قولهما ان
الله تعالى أوجب على القاتل جزاء من النعم وهو مثل ما قتل من النعم لأنه ذكر المثل ثم فسره بالنعم بقوله عز وجل
من النعم ومن ههنا لتمييز الجنس فصار تقدير الآية الشريفة ومن قتله منكم متعمدا فجزاء من النعم وهو مثل
المقتول وهو أن يكون مثله في الخلقة والصورة وروى أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر رضي الله عنه
أوجبوا في النعامة بدنة وفى الظبية شاة وفى الأرنب عناقا وهم كانوا أعرف بمعاني كتاب الله تعالى ولأبي حنيفة
وأبى يوسف وجوه من الاستدلال بهذه الآية أولها ان الله عز وجل نهى المحرمين عن قتل الصيد عاما لأنه تعالى
198

ذكر الصيد بالألف واللام بقوله عز وجل لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم والألف واللام لاستغراق الجنس خصوصا
عند عدم المعهود ثم قال تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل والهاء كناية راجعة إلى الصيد الموجد من
اللفظ المعرف بلام التعريف فقد أوجب سبحانه وتعالى بقتل الصيد مثلا يعم ماله نظير وما لا نظير له وذلك هو المثل
من حيث المعنى وهو القيمة لا المثل من حيث الخلقة والصورة لان ذلك لا يجب في صيد لا نظير له بل الواجب فيه
المثل من حيث المعنى وهو القيمة بلا خلاف فكان صرف المثل المذكور بقتل الصيد على العموم إليه تخصيصا
لبعض ما تناوله عموم الآية والعمل بعموم اللفظ واجب ما أمكن ولا يجوز تخصيصه الا بدليل والثاني ان مطلق
اسم المثل ينصرف إلى ما عرف مثلا في أصول الشرع والمثل المتعارف في أصول الشرع هو المثل من حيث
الصورة والمعنى أو من حيث المعنى وهو القيمة كما في ضمان المتلفات فان من أتلف على آخر حنطة يلزمه حنطة
ومن أتلف عليه عرضا تلزمه القيمة فاما المثل من حيث الصورة والهيئة فلا نظير له في أصول الشرع فعند الاطلاق
ينصرف إلى المتعارف لا إلى غيره والثالث انه سبحانه وتعالى ذكر المثل منكرا في موضع الاثبات فيتناول واحدا وأنه
اسم مشترك يقع على المثل من حيث المعنى ويقع على المثل من حيث الصورة فالمثل من حيث المعنى براد من الآية
فيما لا نظير له فلا يكون الآخر مرادا إذ المشترك في موضع الاثبات لا عموم له والرابع ان الله تعالى ذكر عدالة
الحكمين ومعلوم ان العدالة إنما تشترط فيما يحتاج فيه إلى النظر والتأمل وذلك في المثل من حيث المعنى وهو
القيمة لان بها تحقق الصيانة عن الغلو والتقصر وتقرير الامر على الوسط فاما الصورة فمشابهة لا تفتقر إلى العدالة
واما قوله تعالى من النعم فلا نسلم ان قوله تعالى من النعم خرج تفسيرا للمثل وبيانه من وجهين أحدهما ان قوله
فجزاء مثل ما قتل كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصلة بغيره لكونه مبتدأ وخبرا وقوله من النعم يحكم به ذوا
عدل منكم هديا بالغ الكعبة يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد
المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدى الذي يوجد بذلك القدر من القيمة فلا يجعل قوله مثل ما قتل مربوطا بقوله
عز وجل من النعم مع استغناء الكلام عنه هذا هو الأصل الا إذا قام دليل زائد يوجب الربط بغيره والثاني أنه
وصل قوله من النعم بقوله يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقوله عز وجل أو كفارة طعام مساكين وقوله
عز وجل أو عدل ذلك صياما جعل الجزاء أحد الأشياء الثلاثة لأنه أدخل حرف التخيير بين الهدى والاطعام وبين
الطعام والصيام فلو كان قوله من النعم تفسيرا للمثل لكان الطعام والصيام مثلا لدخول حرف أو بينهما وبين
النعم إذ لا فرق بين التقديم والتأخير في الذكر بأن قال تعالى فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا لان
التقديم في التلاوة لا يوجب التقديم في المعنى ولما لم يكن الطعام والصيام مثلا للمقتول دل أن ذكر النعم لم يخرج
مخرج التفسير للمثل بل هو كلام مبتدأ غير موصول المراد بالأول وقول جماعة الصحابة رضي الله عنهم محمول على
الايجاب من حيث القيمة توفيقا بين الدلائل مع ما ان المسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روى عن ابن
عباس مثل مذهب أبي حنيفة وأبى يوسف فلا يحتج بقول البعض على البعض وعلى هذا ينبنى اعتبار مكان
الإصابة في التقويم عندهما لان الواجب على القائل القيمة وانها تختلف باختلاف المكان وعند محمد والشافعي
الواجب هو النظير اما بحكم الحكمين أو ابتداء فلا يعتبر فيه المكان وقال الشافعي يقوم بمكة أو بمنى وانه غير سديد
لان العبرة في قيم المستهلكات في أصول الشرع مواضع الاستهلاك كما في استهلاك سائر الأموال ومنها أن
الطعام بدل عن الصيد عندنا فيقوم الصيد بالدراهم ويشترى بالدراهم طعاما وهو مذهب ابن عباس وجماعة
من التابعين وعن ابن عباس رواية أخرى أن الطعام بدل عن الهدى فيقوى الهدى بالدراهم ثم يشترى بقيمة
الهدى طعاما وهو قول الشافعي والصحيح قولنا لان الله تعالى جعل جميع ذلك جزاء الصيد بقوله عز وجل فجزاء
مثل ما قتل من النعم إلى قوله أو كفارة طعام مساكين فلما كان الهدى من حيث كونه جزاء معتبرا بالصيد اما
في قيمته أو نظيره على اختلاف القولين كان الطعام مثله ولان فيما لا مثل له من النعم اعتبار الطعام بقيمة الصيد
199

بلا خلاف فكذا فيما له مثل لان الآية عامة منتظمة للامرين جميعا ومنها ان كفارة جزاء الصيد على التخيير كذا
روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مذهب جماعة من التابعين مثل عطاء والحسن وإبراهيم وهو قول
أصحابنا وعن ابن عباس رواية أخرى انه على ترتيب الهدى ثم الاطعام ثم الصيام حتى لو وجد الهدى لا يجوز
الطعام ولو وجد الهدى أو الطعام لا يجوز الصيام كما في كفارة الظهار والافطار انها على الترتيب دون التخيير واحتج
من اعتبر الترتيب بما روى أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حكموا في الضبع بشاة ولم يذكروا غيره فدل ان
الواجب على الترتيب ولنا ان الله تعالى ذكر حرف أو في ابتداء الايجاب وحرف أو إذا ذكر في ابتداء الايجاب يراد
به التخيير لا الترتيب كما في قوله عز وجل في كفارة اليمين فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون
أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة وقوله تعالى في كفارة الحلق ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وغير ذلك هذا هو
الحقيقة الا في موضع قام الدليل بخلافها كما في آية المحاربين انه ذكر فيها أو على إرادة الواو ومن ادعى خلاف
الحقيقة ههنا فعليها الدليل ثم إذا اختار الهدى فان بلغت قيمة الصيد بدنة نحرها وان لم تبلغ بدنة وبلغت بقرة
ذبحها وان لم تبلغ بقرة وبلغت شاة ذبحها وان اشترى بقيمة الصيد إذا بلغت بدنة أو بقرة سبع شياه وذبحها
أجزأه فان اختار شراء الهدى وفضل من قيمة الصيد فان بلغ هديين أو أكثر اشترى وإن كان لا يبلغ هديا فهو
بالخيار ان شاء صرف الفاضل إلى الطعام وان شاء صام كما في صيد الصغير الذي لا تبلغ قيمته هديا وقد اختلف في السن
الذي يجوز في جزاء الصيد قال أبو حنيفة لا يجوز الا ما يجوز في الأضحية وهدى المتعة والقران والاحصار وقال أبو
يوسف ومحمد تجوز الجفرة والعناق على قدر الصيد واحتجا بما روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم
أوجبوا في اليربوع جفرة وفى الأرنب عناقا ولأبي حنيفة أن اطلاق الهدى ينصرف إلى ما ينصرف إليه سائر
الهدايا المطلقة في القرآن فلا يجوز دون السن الذي يجزى في سائر الهدايا وما روى عن جماعة من الصحابة حكاية حال
لا عموم له فيحمل على أنه كان على طريق القيمة على أن ابن عباس رضي الله عنهما يخالفهم فلا يقبل قول بعضهم
على بعض الا عند قيام دليل الترجيح ثم اسم الهدى يقع على الإبل والبقر والغنم على ما بينا فيما تقدم ولا يجوز ذبح
الهدى الا في الحرم لقوله تعالى هديا بالغ الكعبة ولو جاز ذبحه في غير الحرم لم يكن لذكر بلوغه الكعبة معنى وليس
المراد منه بلوغ عين الكعبة بل بلوغ قربها وهو الحرم ودلت الآية الكريمة على أن من حلف
لا يمر على باب الكعبة أو المسجد الحرام فمر بقرب بابه حنث وهو كقوله تعالي فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا والمراد منه الحرم لأنهم منعوا بهذه الآية الكريمة عن دخول الحرم وعن ابن عباس رضي الله عنه
ما أنه قال الحرم كله مسجد ولان الهدى اسم لما يهدى إلى مكان الهدايا أي ينقل إليها ومكان الهدايا
الحرم لقوله تعالى ثم محلها إلى البيت العتيق والمراد منه الحرم وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال منى كلها
منحر وفجاج مكة كلها منحر ولو ذبح في الحل لا يسقط عنه الجزاء بالذبح الا أن يتصدق بلحمه على الفقراء على كل
فقير قيمة نصف صاع من بر فيجزئه على طريق البدل عن الطعام وإذا ذبح الهدى في الحرم سقط الجزاء عنه
بنفس الذبح حتى لو هلك أو سرق أو ضاع بوجه من الوجوه خرج عن العهدة لان الواجب هو إراقة الدم وان
اختار الطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك كما في كفارة
اليمين وفدية الأذى ويجوز الاطعام في الأماكن كلها عندنا وعند الشافعي لا يجوز الا في الحرم كما لا يجوز الذبح الا في
الحرم توسعة على أهل الحرم ولنا أن قوله تعالى أو كفارة طعام مساكين مطلق عن المكان وقياس الطعام على الذبح
بمعنى التوسعة على أهل الحرم قد أبطلناه فيما تقدم ولان الإراقة لم تعقل قربة بنفسها وإنما عرفت قربة
بالشرع والشرع ورد بها في مكان مخصوص أو زمان مخصوص فيتبع مورد الشرع فيتقيد كونها قربة بالمكان
الذي ورد الشرع بكونها قربة فيه وهو الحرم فاما الاطعام فيعقل قربة بنفسه لأنه من باب الاحسان إلى المحتاجين
فلا يتقيد كونه قربة بمكان كمالا يتقيد بزمان وتجوز فيه الإباحة والتمليك لما نذكره في كتاب الكفارات ولا
200

يجوز للقاتل أن يأكل شيئا من لحم الهدى ولو أكل شيئا منه فعليه قيمة ما أكل ولا يجوز دفعه ودفع الطعام إلى ولده
وولد ولده وان سفلوا ولا إلى والده ووالد والده وان علوا كما لا تجوز الزكاة ويجوز دفعه إلى أهل الذمة في قول أبي حنيفة
ومحمد ولا يجوز في قول أبى يوسف كما في صدقة الفطر والصدقة المنذور بها على ما ذكرنا في كتاب الزكاة
وان اختار الصيام اشترى بقيمة الصيد طعاما وصام لكل نصف صاع من بر يوما عندنا وهو قول ابن عباس
وجماعة من التابعين مثل إبراهيم وعطاء ومجاهد وقال الشافعي يصوم لكل مد يوما والصحيح قولنا لما روى عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يصوم عن كل نصف صاع يوما ومثل هذا لا يعرف بالاجتهاد فتعين السماع
من رسول الله صلى الله عليه وسلم فان فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو بالخيار ان شاء تصدق به وان
شاء صام عنه يوما لان صوم بعض يوم لا يجوز ويجوز الصوم في الأيام كلها بلا خلاف ويجوز متتابعا ومتفرقا
لقوله تعالى أو عدل ذلك صياما مطلقا عن المكان وصفة التتابع والتفرق وسواء كان الصيد مما يؤكل لحمه
أو مما لا يؤكل لحمه عندنا بعد إن كان محرما والاصطياد على المحرم كالضبع والثعلب وسباع الطير وينظر إلى قيمته
لو كان مأكول اللحم لعموم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء
مثل ما قتل من النعم غير أنه لا يجاوز به دما في ظاهر الرواية وذكر الكرخي أنه لا يبلغ دما بل ينقص من ذلك بخلاف
مأكول اللحم فإنه تجب قيمته بالغة ما بلغت وان بلغت قيمته هديين أو أكثر وقال زفر تجب قيمته بالغة ما بلغت
كما في مأكول اللحم وجه قوله أن هذا المصيد مضمون بالقيمة والمضمون بالقيمة يعتبر كمال قيمته كالمأكول ولنا
أن هذا المضمون إنما يجب بقتله من حيث إنه صيد ومن حيث إنه صيد لا تزيد قيمة لحمه على لحم الشاة بحال
بل لحم الشاة يكون خيرا منه بكثير فلا يجاوز به دما بل ينقص منه كما ذكره الكرخي ولأنه جزاء وجب باتلاف ما ليس
بمال فلا يجاوز به دما كحلق الشعر وقص الأظفار وقد خرج الجواب عما ذكره زفر ويستوى في وجوب الجزاء بقتل
الصيد المبتدئ والعائد وهو ان يقتل صيدا ثم يعود ويقتل آخر وثم وثم أنه يجب لكل صيد جزاء على حدة وهذا
قول عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عباس أنه لا جزاء على العائد وهو قول الحسن وشريح
وإبراهيم واحتجوا بقوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه جعل جزاء العائد الانتقام في الآخرة فتنتفي الكفارة في الدنيا
ولنا ان قوله تعالي ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من العم يتناول القتل في كل مرة فيقتضى وجوب الجزاء
في كل مرة كما في قوله تعالي ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ونحو ذلك وأما قوله
تعالى ومن عاد فينتقم الله منه فيه ان الله تعالى ينتقم من العائد وليس فيه ان ينتقم منه بماذا فيحتمل انه ينتقم
منه بالكفارة كذا قال بعض أهل التأويل فينتقم الله منه بالكفارة في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة على أن الوعيد
في الآخرة لا ينفى وجوب الجزاء في الدنيا كما أن الله تعالى جعل حد المحاربين لله ورسوله جزاء لهم في الدنيا بقوله إن
ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا الآية ثم قال عز وجل في
آخرها ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ومنهم من صرف تأويل الآية الكريمة إلى استحلال
الصيد فقال الله عز وجل عفا الله عما سلف في الجاهلية من استحلالهم الصيد إذا تاب ورجع عما استحل من
قتل الصيد ومن عاد إلى الاستحلال فينتقم الله منه بالنار في الآخرة وبه نقول هذا إذا لم يكن قتل الثاني والثالث
على وجه الرفض والاحلال فاما إذا كان على وجه الرفض والاحلال لاحرامه فعليه جزاء واحد استحسانا
والقياس ان يلزمه لكل واحد منهما دم لان الموجود ليس الا نية الرفض ونية الرفض لا يتعلق بها حكم لأنه
لا يصير حلالا بذلك فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة الا انهم استحسنوا وقالوا لا يجب الا جزاء واحد لان
الكل وقع على وجه واحد فأشبه الايلاجات في الجماع ويستوى فيه العمد والخطأ والذكر والنسيان عند عامة
العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما انه لا كفارة على الخاطئ وقال الشافعي
لا كفارة على الخاطئ والناسي والكلام في المسألة بناء وابتداء أما البناء فما ذكرنا فيما تقدم ان الكفارة إنما تجب
201

بارتكاب محظور الاحرام والجناية عليه ثم زعم الشافعي ان فعل الخاطئ والناسي لا يوصف بالجناية والحظر لان فعل
الخطأ والنسيان مما لا يمكن التحرز عنه فكان عذرا وقلنا نحن ان فعل الخاطئ والناسي جناية وحرام لان فعلهما
جائز المؤاخذة عليه عقلا وإنما رفعت المؤاخذة عليه شرعا مع بقاء وصف الحظر والحرمة فأمكن القول بوجوب
الكفارة وكذا التحرز عنهما ممكن في الجملة إذ لا يقع الانسان في الخطأ والسهو الا لنوع تقصير منه فلم يكن عذرا منه
ولهذا لم يعذر الناسي في باب الصلاة الا أنه جعل عذرا في باب الصوم لأنه يغلب وجوده فكان في وجوب القضاء حرج
ولا يغلب في باب الحج لان أحوال الاحرام مذكرة فكان النسيان معها نادرا على أن العذر في هذا الباب لا يمنع
وجوب الجزاء كما في كفارة الحلق لمرض أو أذى بالرأس وكذا فوات الحج لا يختلف حكمه للعذر وعدم العذر وأما
الابتداء فاحتج بقوله عز وجل ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم خص المتعمد بايجاب الجزاء
عليه فلو شاركه الخاطئ والناسي في الوجوب لم يكن للتخصيص معنى ولنا وجوه من الاستدلال بالعمد أحدها أن
الكفارات وجبت رافعة للجناية ولهذا سماه الله تعالى كفارة بقوله عز وجل أو كفارة طعام مساكين وقد وجدت
الجناية على الاحرام في الخطأ الا ترى ان الله عز وجل سمى الكفارة في القتل الخطأ توبة بقوله تعالى في آخر الآية
توبة من الله ولا توبة الا من الجناية والحاجة إلى رفع الجناية موجودة والكفارة صالحة لرفعها لأنها ترفع أعلى
الجنايتين وهي العمد وما صلح رافعا لاعلى الذنبين يصلح رافعا لادناهما بخلاف قتل الآدمي عمدا أنه لا يوجب
الكفارة عندنا والخطأ يوجب لان النقص هناك وجب ورد بايجاب الكفارة في الخطأ وذنب الخطأ دون ذنب العمد
وما يصلح لرفع الأدنى لا يصلح لرفع الاعلى فامتنع الوجوب من طريق الاستدلال لانعدام طريقه والثاني أن
المحرم بالاحرام أمن الصيد عن التعرض والتزم ترك التعرض له فصار الصيد كالأمانة عنده وكل ذي أمانة إذا
اتعف الأمانة يلزمه الغرم عمدا كان أو خطأ بخلاف قتل النفس عمدا لان النفس محفوظة بصاحبها وليست بأمانة
عند القاتل حتى يستوى حكم العمد والخطأ في التعرض لها والثالث ان الله تعالى ذكر التخيير في حال العمد وموضوع
التخيير في حال الضرورة لأنه في التوسع وذا في حال الضرورة كالتخيير في الحلق لمن به مرض أو به أذى من رأسه
بقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ولا ضرورة في حال العمد فعلم
أن ذكر التخيير فيه لتقدير الحكم به في حال الضرورة لولاه لما ذكر التخيير فكان ايجاب الجزاء في حال العمد ايجابا
في حال الخطأ ولهذا كان ذكر التخيير الموضوع للتخفيف والتوسع في كفارة اليمين بين الأشياء الثلاثة حالة
العمد ذكرا في حالة الخطا والنوم والجنون دلالة وأما تخصيص العامد فقد عرف من أصلنا أنه ليس في ذكر حكمه
وبيانه في حال دليل نفيه في حال أخرى فكان تمسكا بالمسكوت فلا يصح ويحتمل أن يكون تخصيص العامد
لعظم ذنبه تنبيها على الايجاب على من قصر ذنبه عنه من الخاطئ والناسي من طريق الأولى لان الواجب لما رفع
أعلى الذنبين فلان يرفع الأدنى أولى وعلى هذا كانت الآية حجة عليه والله أعلم ويستوى في وجوب كمال الجزاء
بقتل الصيد حال الانفراد والاجتماع عندنا حتى لو اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد يجب على كل
واحد منهم جزاء كامل عند أصحابنا وعند الشافعي يجب عليهم جزاء واحد وجه قوله أن المقتول واحد فلا يضمن
الا بجزاء واحد كما إذا قتل جماعة رجلا واحدا خطا انه لا تجب عليهم الا دية واحدة وكذا جماعة من المحللين إذا قتلوا
صيدا واحدا في الحرم لا يجب عليهم الا قيمة واحدة كذا هذا ولنا قوله تعالي ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل
ما قتل من النعم وكلمة من تتناول كل واحد من القاتلين على حياله كما في قوله عز وجل ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم وقوله تعالى ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وقوله عز وجل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر وأقرب المواضع قوله عز وجل ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة حتى يجب على
كل واحد من القاتلين خطأ كفارة على حدة ولا تلزمه الدية انه لا يجب عليهم الا دية واحدة لان ظاهر اللفظ وعمومه
يقتضى وجوب الدية على كل واحد منهم وإنما عرفنا وجوب دية واحدة بالاجماع وقد ترك ظاهر اللفظ بدليل
202

والشافعي نظر إلى المحل فقال المحل وهو المقتول متحد فلا يجب الا ضمان واحد وأصحابنا نظروا إلى الفعل فقالوا
الفعل متعدد فيتعدد الجزاء ونظرنا أقوى لان الواجب جزاء الفعل لان الله تعالى سماه جزاء بقوله فجزاء مثل
ما قتل من النعم والجزاء يقابل الفعل لا المحل وكذا سمى الواجب كفارة بقوله عز وجل أو كفارة طعام مساكين
والكفارة جزاء الجناية بخلاف الدية فإنها بدل المحل فتتحد باتحاد المحل وتتعدد بتعدده وهو الجواب عن صيد الحرم
لان ضمانه يشبه ضمان الأموال لأنها تجب بالجناية على الحرم والحرم واحد فلا تجب الا قيمة واحدة ولو قتل صيدا
معلما كالبازي والشاهين والصقر والحمام الذي يجئ من مواضع بعيدة ونحو ذلك يجب عليه قيمتان قيمته معلما
لصاحبه بالغة ما بلغت وقيمته غير معلم حقا لله لأنه جنى على حقين حق الله تعالى وحق العبد والتعليم وصف مرغوب
فيه في حق العباد لأنهم ينتفعون بذلك والله عز وجل يتعالى عن أن ينتفع بشئ ولأن الضمان الذي هو حق الله
تعالى يتعلق بكونه صيدا وكونه معلما وصف زائد على كونه صيدا فلا يعتبر ذلك في وجوب الجزاء وقد قالوا في الحمامة
المصوتة انه يضمن قيمتها مصوتة في رواية وفى رواية غير مصوتة وجه الرواية الأولى ان كونها مصوتة من باب
الحسن والملاحة والصيد مضمون بذلك كما لو قتل صيدا حسنا مليحا له زيادة قيمة تجب قيمته على تلك الصفة
وكما لو قتل حمامة مطوقة أو فاختة مطوقة وجه الرواية الأخرى على نحو ما ذكرنا ان كونها مصوتة لا يرجع إلى
كونه صيدا فلا يلزم المحرم ضمان ذلك وهذا يشكل بالمطوقة والصيد الحسن المليح ولو أخذ بيض صيد فشواه
أو كسره فعليه قيمته يتصدق به لما روى عن الصحابة رضي الله عنهم انهم حكموا في بيض النعامة بقيمته ولأنه
أصل الصيد إذ الصيد يتولد منه فيعطى له حكم الصيد احتياطا فان شوى بيضا أو جرادا فضمنه لا يحرم أكله
ولو أكله أو غيره حلالا كان أو محرما لا يلزمه شئ بخلاف الصيد الذي قتله المحرم انه لا يحل أكله ولو أكل المحرم
الصائد منه بعدما أدى جزاءه يلزمه قيمة ما أكل في قول أبي حنيفة لان الحرمة هناك لكونه ميتة لعدم الذكاة
لخروجه عن أهلية الذكاة والحرمة ههنا ليست لمكان كونه ميتة لأنه لا يحتاج إلى الذكاة فصار كالمجوسي إذا
شوى بيضا أو جرادا انه يحل أكله كذا هذا فان كسر البيض فخرج منه فرخ ميت فعليه قيمته حيا يؤخذ
فيه بالثقة وقال مالك عليه نصف عشر قيمته واعتبره بالجنين لان ضمانه ضمان الجنايات وفى الجنين نصف عشر
قيمته كذا فيه ولنا ان الفرخ صيد لأنه يفرض أن يصير صيدا فيعطى له حكم الصيد ويحتمل انه مات بكسره
ويحتمل انه كان ميتا قبل ذلك وضمان الصيد يؤخذ فيه بالاحتياط لأنه وجب حقا لله تعالى وحقوق الله تعالى
يحتاط في ايجابها وكذلك إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ثم ماتت الظبية فعليه قيمتهما يؤخذ في ذلك كله
بالثقة اما قيمة الام فلانه قتلها وأما قيمة الجنين فلانه يحتمل انه مات بفعله ويحتمل انه كان ميتا فيحكم بالضمان
احتياطا فان قتل ظبية حاملا فعليه قيمتها حاملا لان الحمل يجرى مجرى صفاتها وحسنها وملاحتها وسمنها
والصيد مضمون بأوصافه ولو حلب صيدا فعليه ما نقصه الحلب لان اللبن جزء من أجزاء الصيد فإذا نقصه
الحلب يضمن كما لو أتلف جزأ من أجزائه كالصيد المملوك وأما إذا قتل الصيد تسببا فإن كان متعديا في التسبب
يضمن والا فلا بيان ذلك أنه إذا نصب شبكة فتعقل به صيد ومات أو حفر حفيرة للصيد فوقع فيها فعطب يضمن
لأنه متعد في التسبب ولو ضرب فسطاطا لنفسه فتعقل به صيد فمات أو حفر حفيرة للماء أو للخبز فوقع فيها صيد
فمات لا شئ عليه لان ذلك مباح له فلم يكن متعديا في التسبب وهذا كمن حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيها
انسان أو بهيمة ومات يضمن ولو كان الحفر في دار نفسه فوقع فيها انسان لا يضمن لأنه في الأول متعديا لتسبب وفى
الثاني لا كذا هذا ولو أعان محرم محرما أو حلالا على صيد ضمن لان الإعانة على الصيد تسبب إلى قتله وهو متعد
في هذا التسبب لأنه تعاون على الاثم والعدوان وقد قال الله تعالى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ولو دل عليه
أو أشار إليه فإن كان المدلول يرى الصيد أو يعلم به من غير دلالة أو إشارة فلا شئ على الدال لأنه إذا كان يراه
أو يعلم به من غير دلالته فلا أثر لدلالنه في تفويت الامن على الصيد فلم تقع الدلالة تسببا الا انه يكره ذلك فقتله
203

بدلالته لأنه نوع تحريض على اصطياده وان رآه المدلول بدلالته فقتله فعليه الجزاء عند أصحابنا وقال الشافعي
لا جزاء عليه وجه قوله إن وجوب الجزاء متعلق بقتل الصيد ولم يوجد ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال الدال على الشئ كفاعله وروى الدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله فظاهر الحديث يقتضى أن
يكون للدلالة حكم الفعل الا ما خص بدليل وروى أن أبا قتادة رضي الله عنه شد على حمار وحش وهو حلال فقتله
وأصحابه محرمون فمنهم من أكل ومنهم من أبى فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم
هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا فقال كلوا إذا فلولا ان الحكم يختلف بالإعانة والإشارة والا لم يكن للفحص عن ذلك
معنى ودل ذلك على حرمة الإعانة والإشارة وذا يدل على وجوب الجزاء وروى أن رجلا سأل عمر رضي الله عنه
فقال إني أشرت إلى ظبية فقتلها صاحبي فسأل عمر عبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنهما فقال ما ترى فقال
أرى عليه شاة فقال عمر رضى الله تعالى عنه وانا أرى مثل ذلك وروى أن رجلا أشار إلى بيضة نعامة فكسرها
صاحبه فسأل عن ذلك عليا وابن عباس رضي الله عنهما فحكما عليه بالقيمة وكذا حكم عمر وعبد الرحمن رضي الله عنه
ما محمول على القيمة ولان المحرم فدا من الصيد باحرامه والدلالة تزيل الامن لان أمن الصيد في حال
قدرته ويقظته يكون بتوحشه عن الناس وفى حال عجزه ونومه يكون باختفائه عن الناس والدلالة تزيل
الاختفاء فيزول الامن فكانت الدلالة في إزالة الامن كالاصطياد ولان الإعانة والدلالة والإشارة تسبب إلى القتل
وهو متعد في هذا التسبب لكونه مزيلا للأمن وانه محظور الاحرام فأشبه نصب الشبكة ونحو ذلك ولأنه لما
أمن الصيد عن التعرض بعقد الاحرام والتزم ذلك صار به الصيد كالأمانة في يده فأشبه المودع إذا دل سارقا على
سرقة الوديعة ولو استعار محرم من محرم سكينا ليذبح به صيدا فاعاره إياه فذبح به الصيد فلا جزاء على صاحب
السكين كذا ذكر محمد في الأصل من المشايخ من فصل في ذلك تفصيلا فقال إن كان المستعير يتوصل إلى قتل الصيد
بغيره لا يضمن وإن كان لا يتوصل إليه الا بذلك السكين يضمن المعير لأنه يصير كالدال ونظير هذا ما قالوا لو أن محرما
رأى صيدا وله قوس أو سلاح يقتل به ولم يعرف ان ذلك في أي موضع فدله محرم على سكينته أو على قوسه فأخذ
فقتله به انه إن كان يجد غير ما دله عليه مما يقتله به لا يضمن الدال وان لم يجد غيره يضمن ولا يحل للمحرم أكل
ما ذبحه من الصيد ولا لغيره من المحرم والحلال وهو بمنزلة الميتة لأنه بالاحرام خرج من أن يكون أهلا للذكاة
فلا تتصور منه الذكاة كالمجوسي إذا ذبح وكذا الصيد خرج من أن يكون محلا للذبح في حقه لقوله تعالى وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرما والتحريم المضاف إلى الأعيان يوجب خروجها عن محلية التصرف شرعا كتحريم
الميتة وتحريم الأمهات والتصرف الصادر من غير الأهل وفى غير محله يكون ملحقا بالعدم فان أكل المحرم الذابح
منه فعليه الجزاء وهو قيمته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى ليس عليه الا
التوبة والاستغفار ولا خلاف في أنه لو أكله غيره لا يلزمه الا التوبة والاستغفار وجه قولهم إنه أكل ميتة فلا
يلزمنه الا التوبة والاستغفار كما لو أكله غيره ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى انه تناول محظور احرامه فيلزمه
الجزاء وبيان ذلك ان كونه ميتة لعدم الأهلية والمحلية وعدم الأهلية والمحلية بسبب الاحرام فكانت
الحرمة بهذه الواسطة مضافة إلى الاحرام فإذا أكله فقد ارتكب محظور احرامه فيلزمه الجزاء بخلاف ما إذا أكله
محرم آخر انه لا يجب عليه جزاء ما أكل لان ما أكله ليس محظور احرامه بل محظور احرام غيره وكما لا يحل له لا يحل
لغيره محرما كان أو حلالا عندنا وقال الشافعي يحل لغيره أكله وجه قوله إن الحرمة لمكان انه صيد لقوله تعالى
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وهو صيده لا صيد غيره فيحرم عليه لا على غيره ولنا ان حرمته لكونه ميتة
لعدم أهلية الذكاة ومحليتها فيحرم عليه وعلى غيره كذبيحة المجوسي هذا إذا أدى الجزاء ثم أكل فأما إذا أكل
قبل أداء الجزاء فقد ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان عليه جزاء واحد أو يدخل ضمان ما أكل في
الجزاء وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي انه لا رواية في هذه المسألة فيجوز ان يقال يلزمه جزاء آخر
204

ويجوز أن يقال يتداخلان وسواء تولى صيده بنفسه أو بغيره من المحرمين بأمره أو رمى صيدا فقتله أو أرسل كلبه
أو بازيه المعلم أنه لا يحل له لان صيد غيره بأمره صيده معنى وكذا صيد البازي والكلب والسهم لان فعل
الاصطياد منه وإنما ذلك آلة الاصطياد والفعل المستعمل الآلة لا للآلة ويحل للمحرم أكل صيد اصطاده الحلال
لنفسه عند عامة العلماء وقال داود بن علي الأصفهاني لا يحل والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روى
عن طلحة وعبيد الله وقتادة وجابر وعثمان في رواية انه يحل وعن علي وابن عباس وعثمان في راوية انه لا يحل
واحتج هؤلاء بقوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما أخبر أن صيد البر محرم على المحرم مطلقا من غير
فصل بين أن يكون صيد المحرم أو الحلال وهكذا قال ابن عباس ان الآية مبهمة لا يحل لك ان تصيده ولا أن تأكله
وروى عن ابن عباس رضي الله عنه ان الصعب بن جثامة اهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار
وحش وهو بالابواء أو بودان فرده فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه كراهة فقال ليس بنا رد عليك ولكنا
حرم وفى رواية قال لولا انا حرم لقبلناه منك وعن زيد بن أرقم ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم عن لحم الصيد
مطلقا ولنا ما روى عن أبي قتادة رضي الله عنه انه كان حلالا وأصحابه محرمون فشد على حمار وحش فقتله
فأكل منه بعض أصحابه وأبى البعض فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إنما هي طعمة أطعمكموها الله هل معكم من لحمه شئ وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم وهذا نص في الباب ولا حجة لهم في الآية لان فيها
تحريم صيد البر لا تحريم لحم الصيد وهذا لحم الصيد وليس بصيد حقيقة لانعدام معنى الصيد وهو الامتناع
والتوحش على أن الصيد في الحقيقة مصدر وإنما يطلق على المصيد مجازا واما حديث الصعب بن جثامة فقد اختلفت
الروايات فيه عن ابن عباس رضي الله عنه روى في بعضها انه اهدى إليه حمارا وحشيا كذا روى مالك وسعيد بن
جبير وغيرهما عن ابن عباس فلا يكون حجة وحديث زيد بن أرقم محمول على صيد صاده بنفسه أو غيره بأمره
أو باعانته أو بدلالته أو بإشارته عملا بالدلائل كلها وسواء صاده الحلال لنفسه أو للمحرم بعد ان لا يكون بأمره عندنا
وقال الشافعي إذا صاده له لا يحل له أكله واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صيد البر حلال لكم وأنتم
حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ولا حجة له فيه لأنه لا يصير مصيدا له الا بأمره وبه نقول والله أعلم وأما حكم الصيد
إذا جرحه المحرم فان جرحه جرحا يخرجه عن حد الصيد وهو الممتنع المتوحش بأن قطع رجل ظبي أو جناح طائر
فعليه الجزاء لأنه اتلفه حيث أخرجه عن حد الصيد فيضمن قيمته وان جرحه جرحا لم يخرجه عن حد الصيد يضمن
ما نقصته الجراحة لوجود اتلاف ذلك القدر من الصيد فان اندملت الجراحة وبرئ الصيد لا يسقط الجزاء لان
الجزاء يجب باتلاف جزء من الصيد وبالاندمال لا يتبين ان الاتلاف لم يكن بخلاف ما إذا جرح آدميا فاندملت
جراحته ولم يبق لها أثر انه لا ضمان عليه لأن الضمان هناك إنما يجب لأجل الشين وقد ارتفع فان رمى صيدا
فجرحه فكفر عنه ثم رآه بعد ذلك فقتله فعليه كفارة أخرى لأنه لما كفر الجراحة ارتفع حكمها وجعلت كان لم تكن
وقتله الآن ابتداء فيجب عليه الضمان لكن ضمان صيد مجروح لان تلك الجراحة قد أخرج ضمانها مرة فلا تجب
مرة أخرى فان جرحه ولم يكفر ثم رآه بعد ذلك فقتله فعليه الكفارة وليس عليه في الجراحة شئ لأنه لما قتله قبل
أن يكفر عن الجراحة صار كأنه قتله دفعة واحدة وذكر الحاكم في مختصره الا ما نقصته الجراحة الأولى أي
يلزمه ضمان صيد مجروح لان ذلك النقصان قد وجب عليه ضمانه مرة فلا يجب مرة أخرى ولو جرح صيدا
فكفر عنه قبل أن يموت ثم مات أجزأته الكفارة التي أداها لأنه ان أدى الكفارة قبل وجوبها لكن بعد وجود
سبب الوجوب وانه جائز كما لو جرح انسانا خطأ فكفر عنه ثم مات المجروح انه يجوز لما قلنا كذا هذا وان نتف
ريش صيد أو قلع سن ظبي فنبت وعاد إلى ما كان أو ضرب على عين ظبي فابيضت ثم ارتفع بياضها قال أبو حنيفة
في سن الظبي انه لا شئ عليه إذا نبت ولم يحك عنه في غيره شئ وقال أبو يوسف عليه صدقة وجه قوله إن وجوب
205

الجزاء بالجناية على الاحرام وبالنبات والعود إلى ما كان لا يتبين ان الجناية لم تكن فلا تسقط الجزاء ولأبي حنيفة
ان وجوب الجزاء لمكان النقصان وقد زال فيزول الضمان كما لو قلع سن ظبي لم يثغر (وأما) حكم أخذ الصيد
فالمحرم إذا أخذ الصيد يجب عليه ارساله سواء كان في يده أو في قفص معه أو في بيته لان الصيد استحق الامن
باحرامه وقد فوت عليه الامن بالاخذ فيجب عليه اعادته إلى حالة الامن وذلك بالارسال فان أرسله محرم من
يده فلا شئ على المرسل لان الصائد ما ملك الصيد فلم يصر بالارسال متلفا ملكه وإنما وجب عليه الارسال
ليعود إلى حالة الامن فإذا أرسل فقد فعل ما وجب عليه وان قتله فعلى كل واحد منهما جزاء اما القاتل فلانه محرم
قتل صيدا واما الآخذ فلانه فوت الامن على الصيد بالاخذ وانه سبب لوجوب الضمان الا انه يسقط بالارسال
فإذا تعذر الارسال لم يسقط وللآخذ ان يرجع بما ضمن على القاتل عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر لا يرجع وجه
قوله إن المحرم لم يملك الصيد بالاخذ فكيف يملك بدله عند الاتلاف (ولنا) ان الملك له وان لم يثبت فقد وجد
سبب الثبوت في حقه وهو الاخذ قال النبي صلى الله عليه وسلم الصيد لمن أخذه الا انه تعذر جعله سببا لملك غير
الصيد فيجعل سببا لملك بدله فيملك بدله عند الاتلاف ويجعل كان الأصل كان ملكه كمن غصب مدبرا فجاء انسان
وقتله في يد الغاصب أو غصبه من يده فضمن المالك الغاصب فان للغاصب أن يرجع بالضمان على الغاصب
والقاتل وكذا هذا في غصب أم الولد وان لم يملك المدبر وأم الولد لما قلنا كذا هذا ولو أصاب الحلال صيدا ثم أحرم
فإن كان ممسكا إياه بيده فعليه ارساله ليعود به إلى الامن الذي استحقه بالاحرام فإن لم يرسله حتى هلك في يده يضمن
قيمته وان أرسله انسان من بده ضمن له قيمته في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يضمن وجه قولهما
ان الارسال كان واجبا على المحرم حقا لله فإذا أرسله الأجنبي فقد احتسب بالارسال فلا يضمن كما لو أخذه وهو
محرم فأرسله انسان من يده ولأبي حنيفة انه أتلف صيدا مملوكا له فيضمن كما لو أتلف قبل الاحرام والدليل على أن
الصيد ملكه انه أخذه وهو حلال وأخذ الصيد من الحلال سبب لثبوت الملك لقوله صلى الله عليه وسلم الصيد لمن
أخذه واللام للملك والعارض وهو الاحرام أثره في حرمة التعرض لا في زوال الملك بعد ثبوته واما قولهما ان المرسل
احتسب بالارسال لأنه واجب فنقول الواجب هو الارسال على وجه يفوت يده عن الصيد أصلا ورأسا أو على
وجه يزول يده الحقيقية عنه ان قالا على وجه يفوت يده أصلا ورأسا ممنوع وان قالا على وجه يزول يده الحقيقية
عنه فمسلم لكن ذلك يحصل بالارسال في بيته وان أرسله في بيته فلا شئ عليه بخلاف ما إذا اصطاده وهو محرم
فأرسله غيره من يده لان الواجب على الصائد هناك ارسال الصيد على وجه يعود إليه به الامن الذي استحقه
باحرامه وفى الامساك في القفص أو في البيت لا يعود الامن بخلاف المسألة الأولى لان الصيد هناك ما استحق
الامن وقد أخذه وصار ملكا له وإنما يحرم عليه التعرض في حال الاحرام فيجب إزالة التعرض وذلك يحصل
بزوال يده الحقيقية فلا يحرم عليه الارسال في البيت أو في القفص والدليل على التفرقة بينهما في الفصل الأول
لو أرسله ثم وجده بعدما حل من احرامه في يد آخر له ان يسترده منه وفى الفصل الثاني ليس له ان يسترده وإن كان
الصيد في قفص معه أو في بيته لا يجب ارساله عندنا وعند الشافعي يجب حتى أنه لو لم يرسله فمات لا يضمن عندنا
وعنده يضمن والكلام فيه مبنى على أن من احرم وفى ملكه صيد لا يزول ملكه عنه عندنا وعنده يزول والصحيح
قولنا لما بينا انه كان ملكا له والعارض وهو حرمة التعرض لا يوجب زوال الملك ويستوى فيما يوجب الجزاء
الرجل والمرأة والمفرد والقارن غير أن القارن يلزمه جزاءان عندنا لكونه محرما باحرامين فيصير جانيا عليهما
فيلزمه كفارتان وعند الشافعي لا يلزمه الا جزاء واحد لكونه محرما باحرام واحد (وأما) الذي يوجب فساد الحج
فالجماع لقوله عز وجل فلا رفث ولا فسوق عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انه الجماع وانه مفسد للحج لما
نذكر في بيان ما يفسد الحج وبيان حكمه إذا فسد إن شاء الله تعالى هذا الذي ذكرنا بيان ما يخص المحرم من المحظورات
وهي محظورات الاحرام والله أعلم
206

* (فصل) * ويتصل بهذا بيان ما يعم المحرم والحلال جميعا وهو محظورات الحرم فنذكرها فنقول وبالله التوفيق
محظورات الحرم نوعان نوع يرجع إلى الصيد ونوع يرجع إلى النبات اما الذي يرجع إلى الصيد فهو انه لا يحل
قتل صيد الحرم للمحرم والحلال جميعا الا المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبا وقد بينا ذلك في صيد الاحرام والأصل
فيه قوله تعالى أو لم يروا انا جعلنا حرما آمنا وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقوله تعالى
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وهذا يتناول صيد الاحرام والحرم جميعا لأنه يقال أحرم إذا دخل في الاحرام
وأحرم إذا دخل في الحرم كما يقال إنجد إذا دخل نجد واتهم إذا دخل تهامة وأعرق إذا دخل العراق وأحرم إذا دخل
في الشهر الحرام ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه
قتل ابن عفان الخليفة محرما * ودعا فلم أر مثله مخذولا
الخليفة محرما أي في الشهر الحرام واللفظ وإن كان مشتركا لكن المشترك في محل النفي يعم لعدم التنافي الا ان
الدخول في الشهر الحرام ليس بمراد بالاجماع لان أخذ الصيد في الشهر الحرم لم يكن محظورا ثم قد نسخت
الأشهر الحرم فبقي الدخول في الحرم والاحرام مرادا بالآيتين الا ما خص بدليل وقول النبي صلى الله عليه وسلم
الا ان مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض لم تحل لاحد قبلي ولا تحل لاحد بعدي وإنما
أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها
والاستدلال به من وجوه أحدها قوله مكة حرام والثاني قوله حرمها الله تعالى والثالث قوله ولا تحل لاحد
بعدي والرابع قوله ثم عادت حراما إلى يوم القيامة والخامس قوله لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر
صيدها فان قتل صيد الحرم فعليه الجزاء محرما كان القاتل أو حلالا لقوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء
مثل ما قتل وجزاؤه ما هو جزاء قاتل صيد الاحرام وهو ان تجب عليه قيمته فان بلغت هديا له ان يشترى بها هديا
أو طعاما الا انه لا يجوز الصوم هكذا ذكر في الأصل وهكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان حكمه حكم
صيد الاحرام الا انه لا يجوز فيه الصوم وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي ان الاطعام يجزئ في صيد
الحرم ولا يجزئ الصوم عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يجزئ وبه أخذ الشافعي وفى الهدى روايتان وجه قول
زفر الاعتبار بصيد الاحرام لان كل واحد من الضمانين يجب حقا لله تعالى ثم يجزئ الصوم في أحدهما كذا في
الآخر (ولنا) الفرق بين الصيدين والضمانين وهو ان ضمان صيد الاحرام وجب لمعنى يرجع إلى الفاعل
لأنه وجب جزاء على جنايته على الاحرام فاما ضمان صيد الحرم فإنما وجب لمعنى يرجع إلى المحل وهو تفويت
أمن الحرم رعاية لحرمة الحرم فكان بمنزلة ضمان سائر الأموال وضمان سائر الأموال لا يدخل فيه الصوم كذا
هذا واما الهدى فوجه رواية عدم الجواز ما ذكرنا ان هذا الضمان يشبه ضمان سائر الأموال لان وجوبه لمعنى
في المحل فلا يجوز فيه الهدى كما لا يجوز في سائر الأموال الا أن تكون قيمته مذبوحا مثل قيمة الصيد فيجزئ عن
الطعام وجه رواية الجواز ان ضمان صيد الحرم له شبه بأصلين ضمان الأموال وضمان الافعال اما شبهه بضمان
الأموال فلما ذكرنا واما شبهه بضمان الافعال وهو ضمان الاحرام فلانه يجب حقا لله تعالى فيعمل بالشبهين فنقول
انه لا يدخل فيه الصوم اعتبارا لشبه الأموال ويدخل فيه الهدى اعتبارا لشبه الافعال وهو الاحرام عملا بالشبهين
بالقدر الممكن إذ لا يمكن القول بالعكس ولان الهدى مال فكان بمنزلة الاطعام والصوم ليس بمال ولا فيه معنى المال
فافترقا ولو قتل المحرم صيدا في الحرم فعليه ما على المحرم إذا قتل صيدا في الحل وليس عليه لأجل الحرم شئ وهذا
استحسان والقياس ان يلزمه كفارتان لوجود الجناية على شيئين وهما الاحرام والحرم فأشبه القارن الا أنهم
استحسنوا وأوجبوا كفارة الاحرام لا غير لان حرمة الاحرام أقوى من حرمة الحرم فاستتبع الأقوى الأضعف
وبيان أن حرمة الاحرام أقوى من وجوه أحدها أن حرمه الاحرام ظهر أثرها في الحرم والحل جميعا حتى حرم
على المحرم الصيد في الحرم والحل جميعا وحرمة الاحرام لا يظهر أثرها الا في الحرم حتى يباح للحلال الاصطياد
207

لصيد الحرم إذا خرج إلى الحل والثاني أن الاحرام يحرم الصيد وغيره مما ذكرنا من محظورات الاحرام والحرم
لا يحرم الا الصيد وما يحتاج إليه الصيد من الخلي والشجر والثالث أن حرمة الاحرام تلازم حرمة الحرم وجودا
لان المحرم يدخل الحرم لا محالة وحرمة الحرم لا تلازم حرمة الاحرام وجودا فثبت أن حرمة الاحرام أقوى
فاستتبعت الأدنى بخلاف القارن لان ثمة كل واحدة من الحرمتين أعني حرمة احرام الحج وحرمة احرام
العمرة أصل الا ترى أنه يحرم احرام العمرة ما يحرمه احرام الحج فكان كل واحدة منهما أصلا بنفسها فلا تستتبع
إحداهما صاحبتها ولو اشترك حلالان في قتل صيد في الحرم فعلى كل واحد منهما نصف قيمته فإن كانوا أكثر من
ذلك يقسم الضمان بين عددهم لان ضمان صيد الحرم يجب لمعنى في المحل وهو حرمة الحرم فلا يتعدد بتعدد
الفاعل كضمان سائر الأموال بخلاف ضمان صيد الاحرام فان اشترك محرم وحلال فعلى المحرم جميع القيمة
وعلى الحلال النصف لان الواجب على المحرم ضمان الاحرام لما بينا وذلك لا يتجزأ والواجب على الحلال
ضمان المحل وأنه متجزئ وسواء كان شريك الحلال ممن يجب عليه الجزاء أو لا يجب كالكافر والصبي أنه يجب
على الحلال بقدر ما يخصه من القيمة لان الواجب بفعله ضمان المحل فيستوي في حقه الشريك الذي يكون من
أهل وجوب الجزاء ومن لا يكون من أهله فان قتل حلال وقارن صيدا في الحرم فعلى الحلال نصف الجزاء وعلى
القارن جزاءان لان الواجب على الحلال ضمان المحل والواجب على المحرم جزاء الجناية والقارن جنى على احرامين
فيلزمه جزاءان ولو اشترك حلال ومفرد وقارن في قتل صيد فعلى الحلال ثلث الجزاء وعلى المفرد جزاء كامل وعلى
القارن جزاءان لما قلنا وان صاد حلال صيدا في الحرم فقتله في يده حلال آخر فعلى الذي كان في يده جزاء كامل وعلى
القاتل جزاء كامل أما القاتل فلا شك فيه لأنه أتلف صيدا في الحرم حقيقة وأما الصائد فلأن الضمان قد وجب عليه
باصطياده وهو أخذه لتفويته الامن عليه بالاخذ وانه سبب لوجوب الضمان الا أنه يسقط بالارسال وقد تعذر
الارسال بالقتل فتقرر تفويت الامن فصار كأنه مات في يده وهذا بخلاف المغصوب إذا أتلفه انسان في يد الغاصب
انه لا يجب الا ضمان واحد يطالب المالك أيهما شاء لان ضمان الغصب ضمان المحل وليس فيه معنى الجزاء لأنه
يجب حقا للمالك والمحل الواحد لا يقابله الا ضمان واحد وضمان صيد الحرم وإن كان ضمان المحل لكن
فيه معنى الجزاء لأنه يجب حقا لله تعالى فجاز أن يجب على القاتل والآخذ وللآخذ أن يرجع على القاتل بالضمان
أما على أصل أبي حنيفة فلا يشكل لأنه يرجع عليه في صيد الاحرام عنده فكذا في صيد الحرم والجامع أن القاتل
فوت على الآخذ ضمانا كان يقدر على اسقاطه بالارسال وأما على أصلهما فيحتاج إلى الفرق بين صيد الحرم
والاحرام لأنهما قالا في صيد الاحرام انه لا يرجع ووجه الفرق أن الواجب في صيد الحرم ضمان يجب لمعنى يرجع
إلى المحل وضمان المحل يحتمل الرجوع كما في الغصب والواجب في صيد الاحرام جزاء فعله لا بدل المحل ألا ترى
أنه لا يملك الصيد بالضمان وإذا كان جزاء فعله لا يرجع به على غيره ولو دل حلال حلالا على صيد الحرم أو دل
محرما فلا شئ على الدال في قول أصحابنا الثلاثة وقد أساء وأثم وقال زفر على الدال الجزاء وروى عن أبي يوسف
مثل قول زفر وعلى هذا الاختلاف الآمر والمشير وجه قول زفر اعتبار الحرم بالاحرام وهو اعتبار صحيح لان
كل واحد منهما سبب لحرمة الاصطياد ثم الدلالة في الاحرام توجب الجزاء كذا في الحرم ولنا الفرق بينهما وهو
أن ضمان صيد الحرم يجرى مجرى ضمان الأموال لأنه يجب لمعنى يرجع إلى المحل وهو حرمة الحرم لا لمعنى يرجع
إلى القاتل والأموال لا تضمن بالدلالة من غير عقد وإنما صار مسيئا آثما لكون الدلالة والإشارة والامر حراما لأنه
من باب المعاونة على الاثم والعدوان وقد قال الله تعالى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ولو أدخل صيدا من الحل
إلى الحرم وجب ارساله وان ذبحه فعليه الجزاء ولا يجوز بيعه وقال الشافعي يجوز بيعه وجه قوله أن الصيد كان
ملكه في الحل وادخاله في الحرم لا يوجب زوال ملكه فكان ملكه قائما فكان محلا للبيع ولنا أنه لما حصل الصيد
في الحرم وجب ترك التعرض له رعاية لحرمة الحرم كما لو أحرم والصيد في يده وذكر محمد في الأصل وقال لا خير فيما
208

يترخص به أهل مكة من الحجل واليعاقيب ولا يدخل شئ منه في الحرم حيا لما ذكرنا أن الصيد إذا حصل في الحرم
وجب اظهار حرمة الحرم بترك التعرض له بالارسال فان قيل إن أهل مكة يبيعون الحجل واليعاقيب وهي كل
ذكر وأنثى من القبح من غير نكير ولو كان حراما لظهر النكير عليهم فالجواب ان ترك النكير عليهم ليس لكونه
حلالا بل لكونه محل الاجتهاد فان المسألة مختلفة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما والانكار لا يلزم في محل
الاجتهاد إذا كان الاختلاف في الفروع وأما وجوب الجزاء بذبحه فلانه ذبح صيدا مستحق الارسال وأما فساد
البيع فلان ارساله واجب والبيع ترك الارسال ولو باعه يجب عليه فسخ البيع واسترداد المبيع لأنه بيع فاسد
والبيع الفاسد مستحق الفسخ حقا للشرع فإن كان لا يقدر على فسخ البيع واسترداد المبيع فعليه الجزاء لأنه وجب
عليه ارساله فإذا باعه وتعذر عليه فسخ البيع واسترداد المبيع فكأنه أتلفه فيجب عليه الضمان وكذلك ان أدخل
صقرا أو بازيا فعليه ارساله لما ذكرنا في سائر الصيود فان أرسله فجعل يقتل حمام الحرم لم يكن عليه في ذلك شئ
لان الواجب عليه الارسال وقد أرسل فلا يلزمه شئ بعد ذلك كما لو أرسله في الحل ثم دخل الحرم فجعل يقتل صيد
الحرم ولو أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل فاتبعه الكلب فأخذه في الحرم فقتله فلا شئ على المرسل ولا يؤكل
الصيد أما عدم وجوب الجزاء فلان العبرة في وجوب الضمان بحالة الارسال إذ الارسال هو السبب الموجب
للضمان والارسال وقع مباحا لوجوده في الحل فلا يتعلق به الضمان وأما حرمة أكل الصيد فلان فعل
الكلب ذبح للصيد وانه حصل في الحرم فلا يحل أكله كما لو ذبحه آدمي إذ فعل الكلب لا يكون أعلى من فعل
الآدمي ولو رمى صيدا في الحل فنفر الصيد فوقع السهم به في الحرم فعليه الجزاء قال محمد في الأصل وهو قول أبي حنيفة
رحمه الله فيما أعلم وكان القياس فيه أن لا يجب عليه الجزاء كما لا يجب عليه في ارسال الكلب لان كل
واحد منهما مأذون فيه لحصوله في الحل والاخذ والإصابة كل واحد منهما يضاف إلى المرسل والرامي وخاصة على
أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه يعتبر حال الرمي في المسائل حتى قال فيمن رمى إلى مسلم فارتد المرمى إليه ثم أصابه
السهم مثلا أنه تجب عليه الدية اعتبارا بحالة الرمي الا انهم استحسنوا فأوجبوا الجزاء في الرمي ولم يوجبوا
في الارسال لان الرمي هو المؤثر في الإصابة بمجرى العادة إذا لم يتخلل بين الرمي والإصابة فعل اختياري يقطع نسبة
الأثر إليه شرعا فبقيت الإصابة مضافة إليه شرعا في الأحكام فصار كأنه ابتدأ الرمي بعدما حصل الصيد في
الحرم وههنا قد تخلل بين الارسال والاخذ فعل فاعل مختار وهو الكلب فمنع إضافة الاخذ إلى المرسل وصار كما لو
ارسل بازيا في الحرم فاخذ حمام الحرم وقتله أنه لا يضمن لما قلنا كذا هذا ولو أرسل كلبا على ذئب في الحرم أو نصب
له شركا فأصاب الكلب صيدا أو وقع في الشرك صيد فلا جزاء عليه لان الارسال على الذئب ونصب الشبكة له مباح
لان قتل الذئب مباح في الحل والحرم للمحرم والحلال جميعا لكونه من المؤذيان المبتدئة بالأذى عادة فلم يكن
متعديا في التسبب فيضمن ولو نصب شبكة أو حفر حفيرة في الحرم للصيد فأصاب صيدا فعليه جزاؤه لأنه غير
مأذون في نصب الشبكة والحفر لصيد الحرم فكان متعديا في التسبب فيضمن ولو نصب خيمة فتعقل به صيد أو
حفر للماء فوقع فيه صيد الحرم لا ضمان عليه لأنه غير متعد في التسبب وقالوا فيمن أخرج ظبية من الحرم فادى
جزاءها ثم ولدت ثم ماتت ومات أولادها لا شئ عليه لأنه متى أدى جزاءها ملكها فحدثت الأولاد على ملكه
وروى ابن سماعة عن محمد في رجل أخرج صيدا من الحرم إلى الحل ان ذبحه والانتفاع بلحمه ليس بحرام سواء
كان أدى جزاءه أو لم يؤد غير أنى أكره هذا الصنيع وأحب إلى أن يتنزه عن أكله أما حل الذبح فلانه صيد حل في
الحال فلا يكون ذبحه حراما وأما كراهة هذا الصنيع فلان الانتفاع به يؤدى إلى استئصال صيد الحرم لان كل من
احتاج إلى شئ من ذلك أخذه وأخرجه من الحرم وذبحه وانتفع بلحمه وأدى قيمته فان انتفع به فلا شئ عليه لأن الضمان
سبب لملك المضمون على أصلنا فإذا ضمن قيمته فقد ملكه فلا يضمن بالانتفاع به وان باعه واستعان
209

بثمنه في جزائه كان له ذلك لان الكراهة في حق الاكل خاصة وكذا إذا قطع شجر الحرم حتى ضمن قيمته يكره له
الانتفاع به لان الانتفاع به يؤدى إلى استئصال شجر الحرم على ما بينا في الصيد ولو اشتراه انسان من القاطع لا يكره
له الانتفاع به لأنه تناوله بعد انقطاع النماء عنه والله الموفق
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى النبات فكل ما ينبت بنفسه مما لا ينبته الناس عادة وهو رطب وجملة الكلام
فيه أن نبات الحرم لا يخلو اما أن يكون مما لا ينبته الناس عادة واما أن يكون مما ينبته الناس عادة فإن كان مما
لا ينبته الناس عادة إذا نبت بنفسه وهو رطب فهو محظور القطع والقلع على المحرم والحلال جميعا نحو الحشيش
الرطب والشجر الرطب الا ما فيه ضرورة وهو الإذخر فان قلعه انسان أو قطعه فعليه قيمته لله تعالى سواء كان
محرما أو حلالا بعد إن كان مخاطبا بالشرائع والأصل فيه قوله تعالى أو لم يروا انا جعلنا حرما آمنا أخبر الله تعالى
أنه جعل الحرم آمنا مطلقا فيجب العمل باطلاقه الا ما قيد بدليل وقول النبي صلى الله عليه وسلم الا ان
مكة حرام حرمها الله تعالى إلى قوله لا يختلى خلالها ولا يعضد شجرها نهى عن اختلاء كل خلى وعضد كل
شجر فيجرى على عمومه الا ما خص بدليل وهو الإذخر فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساق الحديث
إلى قوله لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس رضي الله عنه الا الإذخر يا رسول الله فإنه متاع لأهل مكة
لحيهم وميتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم الا الإذخر والمعنى فيه ما أشار إليه العباس رضي الله عنه وهو حاجة
أهل مكة إلى ذلك في حياتهم ومماتهم فان قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اختلاء خلى مكة عاما فكيف
استثنى الإذخر باستثناء العباس وكان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وقد قيل في الجواب عنه من وجهين
أحدهما يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قلبه هذا الاستثناء الا أن العباس رضي الله عنه سبقه به
فاظهر النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه ما كان في قلبه والثاني يحتمل ان الله تعالى أمره أن يخبر بتحريم كل خلى مكة
الا ما يستثنيه العباس وذلك غير ممنوع ويحتمل وجها ثالثا وهو ان النبي صلى الله عليه وسلم عم القضية بتحريم كل
خلى فسأله العباس الرخصة في الإذخر لحاجة أهل مكة ترفيها بهم فجاءه جبريل عليه السلام بالرخصة في الإذخر فقال
النبي صلى الله عليه وسلم الا الإذخر فان قيل من شرط صحة الاستثناء والتحاقه بالكلام الأول أن يكون متصلا به
ذكرا وهذا منفصل لأنه ذكر بعد انقطاع الكلام الأول وبعد سؤال العباس رضي الله عنه الاستثناء بقوله الا
الإذخر والاستثناء المنفصل لا يصح ولا يلحق المستثنى منه فالجواب ان هذا ليس باستثناء حقيقة وإن كانت صيغته
صيغة الاستثناء بل هو اما تخصيص والخصيص المتراخى عن العام جائز عند مشايخنا وهو النسخ والنسخ قبل
التمكن من الفعل بعد التمكن من الاعتقاد جائز عندنا والله الموفق وإنما يستوى فيه المحرم والحلال لأنه لا فصل
في النصوص المقتضية للأمن ولان حرمة التعرض لأجل الحرم فيستوي فيه المحرم والحلال وإذا وجب عليه قيمته
فسبيلها سبيل جزاء صيد الحرم انه ان شاء اشترى بها طعاما يتصدق به على الفقراء على كل فقير نصف صاع من بر
وان شاء اشترى بها هديا ان بلغت قيمته هديا على رواية الأصل والطحاوي فيذبح في الحرم ولا يجوز فيه الصوم
عندنا خلافا لزفر على ما مر في صيد الحرم وإذا أدى قيمته يكره له الانتفاع بالمقلوع والمقطوع لأنه وصل إليه بسبب
خبيث ولان الانتفاع به يؤدى إلى استئصال نبات الحرم لأنه إذا احتاج إلى شئ من ذلك يقلع ويقطع ويؤدى قيمته
على ما ذكرنا في الصيد فان باعه يجوز ويتصدق بثمنه لأنه ثمن مبيع حصل بسبب خبيث ولا بأس بقلع الشجر
اليابس والانتفاع به وكذا الحشيش اليابس لأنه قد مات وخرج عن حد النمو ولا يجوز رعى حشيش الحرم في قول
أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا بأس بالرعي وجه قوله إن الهدايا تحمل إلى الحرم ولا يمكن حفظها من الرعى
فكان فيه ضرورة ولهما انه لما منع من التعرض لحشيش الحرم استوى فيه التعرض بنفسه وبارسال البهيمة عليه
لان فعل البهيمة مضاف إليه كما في الصيد فإنه لما حرم عليه التعرض لصيده استوى فيه اصطياده بنفسه وبارسال
الكلب كذا هذا وإن كان مما ينبته الناس عادة من الزروع والأشجار التي ينبتونها فلا بأس بقطعه وقلعه لاجماع
210

الأمة على ذلك فان الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يزرعون في الحرم ويحصدونه من
غير تكبير من أحد وكذا ما لا ينبته الناس عادة إذا أنبته أحد مثل شجر أم غيلان وشجر الأراك ونحوهما فلا
بأس بقطعه وإذا قطعه فلا ضمان عليه لأجل الحرم لأنه ملكه بالانبات فلم يكن من شجر الحرم فصار كالذي ينبته
الناس عادة شجرة أصلها في الحرم وأغصانها في الحل فهي من شجر الحرم وإن كان أصلها في الحل وأغصانها في
الحرم فهي من شجر الحل ينظر في ذلك إلى الأصل لا إلى الأغصان لان الأغصان تابعة للأصل فيعتبر فيه موضع
الأصل لا التابع وإن كان بعض أصلها في الحرم والبعض في الحل فهي من شجر الحرم لأنه اجتمع فيه الحظر
والإباحة فيرجح الحاظر احتياطا وهذا بخلاف الصيد فان المعتبر فيه موضع قوائم الطير إذا كان مستقرا به فإن كان
الطير على غصن هو في الحرم لا يجوز له أن يرميه وإن كان أصل الشجر في الحل وإن كان على غصن هو في
الحل فلا بأس له أن يرميه وإن كان أصل الشجر في الحرم ينظر إلى مكان قوائم الصيد لا إلى أصل الشجر لان قوام
الصيد بقوائمه حتى لو رمى صيدا قوائمه في الحرم ورأسه في الحل فهو من صيد الحرم لا يجوز للمحرم والحلال أن يقتله
ولو رمى صيدا قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فهو من صيد الحل ولا بأس للحلال أن يقتله وكذا إذا كان بعض قوائمه
في الحرم وبعضها في الحل فهو صيد الحرم ترجيحا لجانب الحرمة احتياطا هذا إذا كان قائما فاما إذا نام فجعل قوائمه
في الحل ورأسه في الحرم فهو من صيد الحرم لان القوائم إنما تعتبر إذا كان مستقرا بها وهو غير مستقر بقوائمه بل
هو كالملقى على الأرض وإذا بطل اعتبار القوائم فاجتمع فيه الحاظر والمبيح فيترجح جانب الحاظر احتياطا ولا بأس
بأخذه كمأة الحرم لان الكمأة ليست من جنس النبات بل هي من ودائع الأرض وقال أبو حنيفة لا بأس باخراج حجارة
الحرم وترابه إلى الحل لان الناس يخرجون القدور من مكة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من
غير نكير ولأنه يجوز استهلاكه باستعماله في الحرم فيجوز اخراجه إلى الحل وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما
كراهة ذلك بقوله عز وجل أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا جعل الله تعالى نفس الحرم آمنا ولان الحرم لما أفاد الامن
لغيره فلان يفيد لنفسه أولى ثم إنما يجب على المحرم اجتناب محظورات الاحرام والحرم وتثبت أحكامها إذا فعل إذا
كان مخاطبا بالشرائع فاما إذا لم يكن مخاطبا كالصبي العاقل لا يجب ولا يثبت حتى لو فعل شيئا من محظورات الاحرام
والحرم فلا شئ عليه ولا على وليه لان الحرمة بسبب الاحرام والحرم يثبت حقا لله تعالى والصبي غير مؤاخذ بحقوق
الله تعالى ولكن ينبغي للولي أن يجنبه ما يجتنبه المحرم تأدبا وتعودا كما يأمره بالصلاة وأما العبد إذا أحرم بإذن مولاه
فإنه يجب عليه اجتناب لأنه من أهل الخطاب فان فعل شيئا من المحظورات فإن كان مما يجوز فيه الصوم يصوم
وإن كان مما لا يجوز فيه الا الفدية أو الاطعام لا يجب عليه ذلك في الحال وإنما يجب بعد العتق ولو فعل في حال الرق
لا يجوز لأنه لا ملك له وكذا لو فعل عنه مولاه أو غيره لأنه ليس من أهل الملك فلا يملك وان ملك وإذا فرغنا من
فصول الاحرام وما يتصل به فلنرجع إلى ما كنا فيه وهو بيان شرائط الأركان وقد ذكرنا جملة منها فمنها الاسلام
ومنها العقل ومنها النية ومنها الاحرام وقد ذكرناه بجميع فصوله وعلائقه وما اتصل به ومنها الوقت فلا يجوز
الوقوف بعرفة قبل يوم عرفة ولا طواف الزيارة قبل يوم النحر ولا أداء شئ من أفعال الحج قبل وقته لان الحج
عبادة مؤقتة قال الله تعالى الحج أشهر معلومات والعبادات المؤقتة لا يجوز أداؤها قبل أوقاتها كالصلاة والصوم
وكذا إذا فات الوقوف بعرفة عن وقته الذي ذكرناه فيما تقدم لا يجوز الوقوف في يوم آخر ويفوت الحج في تلك
السنة الا لضرورة الاشتباه استحسانا بان اشتبه عليهم هلال ذي الحجة فوقفوا ثم تبين انهم وقفوا يوم النحر على
ما ذكرنا فيما تقدم وأما طواف الزيارة إذا فات عن أيام النحر فإنه يجوز في غيرها لكن يلزمه الدم في قول أبي حنيفة
بالتأخير على ما مر وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة كذا روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنه
م منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وكذا روى عن جماعة من
التابعين مثل الشعبي ومجاهد وإبراهيم وينبنى أيضا على معرفة أشهر الحج الاحرام بالحج قبل أشهر الحج وقد ذكرنا
211

الاختلاف فيه فيما تقدم ومنها إذا أمن عليه بنفسه حال قدرته على الأداء بنفسه فلا يجوز استنابة غيره مع قدرته
على الحج بنفسه وجملة الكلام فيه ان العبادات في الشرع أنواع ثلاثة مالية محضة كالزكاة والصدقات والكفارات
والعشور وبدنية محضة كالصلاة والصوم والجهاد ومشتملة على البدن والمال كالحج فالمالية المحضة تجوز فيها النيابة
على الاطلاق وسواء كان من عليه قادرا على الأداء بنفسه أو لا لان الواجب فيها اخراج المال وانه يحصل بفعل
النائب والبدنية المحضة لا تجوز فيها النيابة على الاطلاق لقوله عز وجل وان ليس للانسان الا ما سعى الا ما خص
بدليل وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد عن أحد أي في حق الخروج عن العهدة
لا في حق الثواب فان من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الاحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند
أهل السنة والجماعة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه
والآخر عن أمته ممن آمن بوحدانية الله تعالى وبرسالته صلى الله عليه وسلم وروى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أمي كانت تحب الصدقة أفأتصدق عنها فقال النبي
صلى الله عليه وسلم تصدق وعليه عمل المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من زيارة القبور
وقراءة القرآن عليها والتكفين والصدقات والصوم والصلاة وجعل ثوابها للأموات ولا امتناع في العقل أيضا لان
اعطاء الثواب من الله تعالى افضال منه لا استحقاق عليه فله أن يتفضل على من عمل لا جعله بجعل الثواب له كما له
أن يتفضل باعطاء الثواب من غير عمل رأسا وأما المشتملة على البدن والمال وهي الحج فلا يجوز فيها النيابة عند
القدرة ويجوز عند العجز والكلام فيه يقع في مواضع في جواز النيابة في الحج في الجملة وفي بيان كيفية النيابة فيه
وفي بيان شرائط جواز النيابة وفي بيان ما يصير النائب به مخالفا وبيان حكمه إذا خالف اما الأول فالدليل على الجواز
حديث الخثعمية وهو ما روى أن امرأة جاءت من بنى خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله
ان فريضة الحج أدركت أبى وانه شيخ كبير لا يثبت على الراحلة وفى رواية لا يستمسك على الراحلة أفيجزيني أن
أحج عنه فقال صلى الله عليه وسلم حجى عن أبيك واعتمري وفى رواية قال لها أرأيت لو كان على أبيك
دين فقضيتيه اما كان يقبل منك قالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فدين الله تعالى أحق ولأنه عبادة
تؤدى بالبدن والمال فيجب اعتبارهما ولا يمكن اعتبارهما في حالة واحدة لتناف بين أحكامهما فنعتبرهما
في حالين فنقول لا تجوز النيابة فيه عند القدرة اعتبارا للبدن وتجوز عند العجز اعتبارا للمال عملا بالمعنيين في
الحالين وأما كيفية النيابة فيه فذكر في الأصل ان الحج يقع عن المحجوج عنه وروى عن محمد ان نفس الحج
يقع عن الحاج وإنما للمحجوج عنه ثواب النفقة وجه رواية محمد انه عبادة بدنية ومالية والبدن للحاج
والمال للمحجوج عنه فما كان من البدن لصاحب البدن وما كان بسبب المال يكون لصاحب المال
والدليل عليه انه لو ارتكب شيئا من محظورات الاحرام فكفارته في ماله لا في مال المحجوج عنه وكذا لو
أفسد الحج يجب عليه القضاء فدل ان نفس الحج يقع له الا ان الشرع أقام ثواب نفقة الحج في حق العاجز عن الحج
بنفسه مقام الحج بنفسه نظرا له ومرحمة عليه وجه رواية الأصل ما روينا من حديث الخثعمية حيث قال لها النبي
صلى الله عليه وسلم حجى عن أبيك أمرها بالحج عن أبيها ولولا أن حجها يقع عن أبيها لما أمرها بالحج عنه ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قاس دين الله تعالى بدين العباد بقوله أرأيت لو كان على أبيك دين وذلك تجزئ فيه
النيابة ويقوم فعل النائب مقام فعل المنوب عنه كذا هذا والدليل عليه ان الحاج يحتاج إلى نية المحجوج عنه كذا
الاحرام ولو لم يقع نفس الحج عنه لكان لا يحتاج إلى نيته والله أعلم وأما شرائط جواز النيابة فمنها أن يكون المحجوج
عنه عاجزا عن أداء الحج بنفسه وله مال فإن كان قادرا على الأداء بنفسه بأن كان صحيح البدن وله مال لا يجوز
حج غيره لأنه إذا كان قادرا على الأداء ببدنه وله مال فالغرض يتعلق ببدنه لا بماله بل المال يكون شرطا وإذا
تعلق الفرض ببدنه لا تجزئ فيه النيابة كالعبادات البدنية المحضة وكذا لو كان فقيرا صحيح البدن لا يجوز حج
212

غيره عنه لان المال من شرائط الوجوب فإذا لم يكن له مال لا يجب عليه أصلا فلا ينوب عنه غيره في أداء الواجب
ولا واجب ومنها العجز المستدام من وقت الاحجاج إلى وقت الموت فان زال قبل الموت لم يجز حج غيره عنه لأن جواز
حج الغير عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى زواله فيتقيد الجواز به وعلى هذا يخرج
المريض أو المحبوس إذا أحج عنه ان جوازه موقوف ان مات وهو مريض أو محبوس جاز وان زال المرض أو
الحبس قبل الموت لم يجز والاحجاج من الزمن والأعمى على أصل أبي حنيفة جائز لان الزمانة والعمى لا يرجى
زوالهما عادة فوجد الشرط وهو العجز المستدام إلى وقت الموت ومنها الامر بالحج فلا يجوز حج الغير عنه بغير
أمره لان جوازه بطريق النيابة عنه والنيابة لا تثبت الا بالامر الا الوارث يحج عن مورثه بغير أمره فإنه يجوز
إن شاء الله تعالى بالنص ولوجود الامر هناك دلالة على ما نذكر إن شاء الله تعالى ومنها نية المحجوج عنه عند
الاحرام لان النائب يحج عنه لا عن نفسه فلابد من نيته والأفضل أن يقول بلسانه لبيك عن فلان كما إذا حج عن
نفسه ومنها أن يكون حج المأمور بمال المحجوج عنه فان تطوع الحاج عنه بمال نفسه لم يجز عنه حتى يحج بماله
وكذا إذا كان أوصى أن يحج عنه بماله ومات فتطوع عنه وارثه بمال نفسه لان الفرض تعلق بماله فإذا لم يحج بماله
لم يسقط عنه الفرض ولان مذهب محمد ان نفس الحج يقع للحاج وإنما للمحجوج عنه ثواب النفقة فإذا لم
ينفق من ماله فلا شئ له رأسا ومنها الحج راكبا حتى لو أمره بالحج فحج ماشيا يضمن النفقة ويحج عنه راكبا لأن المفروض
عليه هو الحج راكبا فينصرف مطلق الامر بالحج إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن وسواء كان
الحاج قد حج عن نفسه أو كان صرورة انه يجوز في الحالين جميعا الا انه الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه وقال
الشافعي لا يجوز حج الصرورة عن غيره ويقع حجه عن نفسه ويضمن النفقة واحتج بما روى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلبى عن شبرمة فقال له صلى الله عليه وسلم ومن شبرمة فقال أخ لي أو صديق لي فقال
صلى الله عليه وسلم أحججت عن نفسك فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم حج عن نفسك ثم عن شبرمة فالاستدلال به
من وجهين أحدهما انه سأله عن حجه عن نفسه ولولا أن الحكم يختلف لم يكن لسؤاله معنى والثاني انه أمره بالحج
عن نفسه أولا ثم عن شبرمة فدل انه لا يجوز الحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه ولان حجه عن نفسه فرض
عليه وحجه عن غيره ليس بفرض فلا يجوز ترك الفرض بما ليس بفرض ولنا حديث الخثعمية ان النبي صلى الله
عليه وسلم قال لها حجى عن أبيك ولم يستفسر انها كانت حجت عن نفسها أو كانت صرورة ولو كان الحكم
يختلف لاستفسر ولان الأداء عن نفسه لم يجب في وقت معين فالوقت كما يصلح لحجه عن نفسه يصلح لحجه عن
غيره فإذا عينه لحجه عن غيره وقع عنه ولهذا قال أصحابنا ان الصرورة إذا حج بنية النفل انه يقع عن النفل لان
الوقت لم يتعين للفرض بل يقبل الفرض والنفل فإذا عينه للنفل تعين له الا ان عند اطلاق النية يقع عن الفرض
لوجود نية الفرض بدلالة حاله إذ الظاهر أنه لا يقصد النفل وعليه الفرض فانصرف المطلق إلى المقيد بدلالة حاله
لكن الدلالة إنما تعتبر عند عدم النص بخلافها فإذا نوى التطوع فقد وجد النص بخلافها فلا تعتبر الدلالة الا أن
الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه لأنه بالحج عن غيره يصير تاركا اسقاط الفرض عن نفسه فيتمكن في هذا
الاحجاج ضرب كراهة ولأنه إذا كان حج مرة كان أعرف بالمناسك وكذا هو أبعد عن محل الخلاف فكان أفضل
والحديث محمول على الأفضلية توفيقا بين الدلائل وسواء كان رجلا أو امرأة الا انه يكره احجاج المرأة لكنه يجوز
أما الجواز فلحديث الخثعمية وأما الكراهة فلانه يدخل في حجها ضرب نقصان لأن المرأة لا تستوفى سنن الحج
فإنها لا ترمل في الطواف وفى السعي بين الصفا والمروة ولا تحلق وسواء كان حرا أو عبدا بإذن المولى لكنه يكره
حجاج العبد أما الجواز فلانه يعمل بالنيابة وما تجوز فيه النيابة يستوى فيه الحر والعبد كالزكاة ونحوها وأما
الكراهة فلانه ليس من أهل أداء الفرض عن نفسه فيكره أداؤه عن غيره والله الموفق وأما بيان ما يصير به المأمور
بالحج مخالفا وبيان حكمه إذا خالف فنقول إذا أمر بحجة مفردة أو بعمرة مفردة فقرن فهو مخالف ضامن في قول
213

أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يجزى ذلك عن الامر نستحسن وندع القياس فيه ولا يضمن فيه دم القران على
الحاج وجه قولهما انه فعل المأمور به وزاد خيرا فكان مأذونا في الزيادة دلالة فلم يكن مخالفا كمن قال لرجل اشتر
لي هذا العبد بألف درهم فاشتراه بخمسمائة أو قال بع هذا العبد بألف درهم فباعه بألف وخمسمائة يجوز وينفذ
على الآمر لما قلنا كذا هذا وعليه دم القران لان الحاج إذا قرن باذن المحجوج عنه كان الدم على الحاج لما
نذكر ولأبي حنيفة انه لم يأت بالمأمور به لأنه أمر بسفر يصرفه إلى الحج لا غير ولم يأت به فقد خالف أمر الآمر
فضمن ولو أمره أن يحج عنه فاعتمر ضمن لأنه خالف ولو اعتمر ثم حج من مكة يضمن النفقة في قولهم جميعا
لامره له بالحج بسفر وقد أتى بالحج من غير سفر لأنه صرف سفره الأول إلى العمرة فكان مخالفا فيضمن النفقة ولو
أمره بالحج عنه فجمع بين احرام الحج والعمرة فاحرم بالحج عنه وأحرم بالعمرة عن نفسه فحج عنه واعتمر عن
نفسه صار مخالفا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف انه يقسم النفقة على الحج والعمرة ويطرح عن
الحج ما أصاب العمرة ويجوز ما أصاب الحج وجه رواية أبى يوسف ان المأمور فعل ما أمر به وهو الحج عن الآمر
وزاده احسانا حيث أسقط عنه بعض النفقة وجه ظاهر الرواية انه أمره بصرف كل السفر إلى الحج ولم يأت به لأنه
أدى بالسفر حجا عن الا آمر وعمرة عن نفسه فكان مخالفا وبه تبين انه فعل ما أمر به وقوله إنه أحسن إليه حيث
أسقط عنه بعض النفقة غير سديد لان غرض الا آمر في الحج عن الغير هو ثواب النفقة فاسقاطه لا يكون احسانا بل
يكون إساءة ولو أمره أن يعتمر فاحرم بالعمرة واعتمر ثم أحرم بالحج بعد ذلك وحج عن نفسه لم يكن مخالفا لأنه فعل
ما أمر به وهو أداء العمرة بالسفر وإنما فعل بعد ذلك الحج فاشتغاله به كاشتغاله بعمل آخر من التجارة وغيرها الا ان
النفقة مقدار مقامه للحج من ماله لأنه عمل لنفسه وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الرقيات إذا حج عن
الميت وطاف لحجه وسعى ثم أضاف إليه عمرة عن نفسه لم يكن مخالفا لأن هذه العمرة واجبة الرفض لوقوعها على
مخالفة السنة على ما ذكرنا في فصل القران فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة ولو كان جمع بينهما ثم أحرم بهما
ثم لم يطف حتى وقف بعرفة ورفض العمرة لم ينفعه ذلك وهو مع ذلك مخالف لأنه لما أحرم بهما جميعا فقد صار مخالفا
في ظاهر الرواية على ما ذكرنا فوقعت الحجة عن نفسه فلا يحتمل التغيير بعد ذلك برفض العمرة ولو أمره رجل أن
يحج عنه حجة وأمره رجل آخر أن يحج عنه فاحرم بحجة فهذا لا يخلو عن أحد وجهين اما ان أحرم بحجة عنهما
جميعا واما ان أحرم بحجة عن أحدهما فان أحرم بحجة عنهما جميعا فهو مخالف ويقع الحج عنه ويضمن النفقة
لهما إن كان أنفق من مالهما لان كل واحد منهما أمره بحج تام ولم يفعل فصار مخالفا لأمرهما فلم يقع حجه عنهما
فيضمن لهما لان كل واحد منهما لم يرض بانفاق ماله فيضمن وإنما وقع الحج عن الحاج لان الأصل أن يقع كل فعل
عن فاعله وإنما يقع لغيره بجعله فإذا خالف لم يصر لغيره فبقي فعله له ولو أراد أن يجعله لأحدهما لم يملك ذلك بخلاف
الابن إذا أحرم بحجة عن أبويه انه يجزئه ان يجعله عن أحدهما لان الابن غير مأمور بالحج عن الأبوين فلا
تتحقق مخالفة الآمر وإنما جعل ثواب الحج الواقع عن نفسه في الحقيقة لأبويه وكان من عزمه أن يجعل ثواب حجه
لهما ثم نقض عزمه وجعله لأحدهما وههنا بخلافه لان الحاج متصرف بحكم الا آمر وقد خالف أمرهما فلا يقع
حجه لهما ولا لأحدهما وان أحرم بحجة عن أحدهما فان أحرم لأحدهما عينا وقع الحج عن الذي عينه ويضمن
النفقة للآخر وهذا ظاهر وان أحرم بحجة عن أحدهما غير عين فله أن يجعلها عن أحدهما أيهما شاء ما لم يتصل
بها الأداء في قول أبي حنيفة ومحمد استحسانا والقياس أن لا يجوز له ذلك ويقع الحج عن نفسه ويضمن النفقة
لهما وجه القياس انه خالف الامر لأنه أمر بالحج لمعين وقد حج لمبهم والمبهم غير المعين فصار مخالفا ويضمن النفقة
ويقع الحج عن نفسه لما ذكرنا بخلاف ما إذا أحرم الابن بالحج عن أحد أبويه انه يصح وان لم يكن معينا لما ذكرنا ان
الابن في حجه لأبويه ليس متصرفا بحكم الآمر حتى يصير مخالفا للامر بل هو يحج عن نفسه ثم يجعل ثواب
حجه لأحدهما وذلك جائز وههنا بخلافه وجه الاستحسان انه قد صح من أصل أصحابنا ان الاحرام ليس
214

من الأداء بل هو شرط جواز أداء أفعال الحج فيقتضى تصور الأداء والأداء متصور بواسطة التعيين فإذا جعله
عن أحدهما قبل أن يتصل به شئ من أفعال الحج تعين له فيقع عنه فإن لم يجعلها عن أحدهما حتى طاف
شوطا ثم أراد أن يجعلها عن أحدهما لم تجز عن واحد منهما لأنه إذا اتصل به الأداء تعذر تعيين القدر المؤدى لان
المؤدى قد مضى وانقضى فلا يتصور تعيينه فيقع عن نفسه وصار احرامه واقعا له لاتصال الأداء به وان أمره
أحدهما بحجة وأمره الا آخر بعمرة فان أذنا له بالجمع وهو القران فجمع جاز لأنه أمر بسفر ينصرف بعضه إلى
الحج وبعضه إلى العمرة وقد فعل ذلك فلم يصر مخالفا وان لم يأذنا له بالجمع فجمع ذكر الكرخي انه يجوز وذكر القدوري
في شرحه مختصر الكرخي انه لا يجوز على قول أبي حنيفة لأنه خالف لأنه أمر بسفر ينصرف كله إلى الحج وقد
صرفه إلى الحج والعمرة فصار مخالفا وإنما يصح هذا على ما روى عن أبي يوسف ان من حج عن غيره واعتمر عن
نفسه جاز ولو أمره أن يحج عنه فحج عنه ماشيا يضمن لأنه خالف لان الامر بالحج ينصرف إلى الحج المتعارف
في الشرع وهو الحج راكبا لان الله تعالى أمر بذلك فعند الاطلاق ينصرف إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن
لما قلنا ولان الذي يحصل للآمر من الامر بالحج هو ثواب النفقة والنفقة في الركوب أكثر فكان الثواب فيه
أوفر ولهذا قال محمد ان حج على حمار كرهت له ذلك والجمل أفضل لان النفقة في ركوب الجمل أكثر فكان حصول
المقصود فيه أكمل فكان أولى وإذا فعل المأمور بالحج ما يوجب الدم أو غيره فهو عليه ولو قرن عن الآمر
بأمره فدم القران عليه والحاصل ان جميع الدماء المتعلقة بالاحرام في مال الحاج الا دم الاحصار خاصة فإنه في
مال المحجوج عنه كذا ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي دم الاحصار ولم يذكر الاختلاف وكذا ذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ولم يذكر الخلاف وذكر في بعض نسخ الجامع الصغير أنه على الحاج عند أبي
يوسف اما ما يجب بالجناية فلانه هو الذي جنى فكان عليه الجزاء ولأنه أمر بحج خال عن الجناية فإذا جنى فقد خالف
فعليه ضمان الخلاف واما دم القران فلانه دم نسك لأنه يجب شكرا وسائر افعال النسك على الحاج فكذا هذا
النسك واما دم الاحصار فلان المحجوج عنه هو الذي أدخله في هذه العهدة فكان من جنس النفقة والمؤنة وذلك
عليه كذا هذا فان جامع الحاج عن غيره قبل الوقوف بعرفة فسد حجه ويمضى فيه والنفقة في ماله ويضمن ما أنفق
من مال المحجوج عنه قبل ذلك وعليه القضاء من مال نفسه اما فساد الحج فلان الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد
للحج لما نذكر إن شاء الله تعالى في موضعه والحجة الفاسدة يجب المضي فيها ويضمن ما أنفق من مال المحجوج
عنه قبل ذلك وعليه القضاء من مال نفسه ويضمن ما أنفق من مال الآمر قبل ذلك لأنه خالف لأنه أمره بحجة
صحيحة وهي الخالية عن الجماع ولم يفعل ذلك فصار مخالفا فيضمن ما أتفق وما بقي ينفق فيه من ماله لان الحج وقع له
ويقضى لان من أفسد حجه يلزمه قضاؤه فان فاته الحج يصنع ما يصنع فائت الحج بعد شروعه فيه وسنذكره
في موضعه إن شاء الله ولا يضمن النفقة لأنه فاته بغير صنعه فلم يوجد منه الخلاف فلا يجب الضمان وعليه عن نفسه
الحج من قابل لان الحجة قد وجبت عليه بالشروع فإذا فاتت لزمه قضاؤها وهذا على قول محمد ظاهر لان الحج
عنده يقع عن الحاج وقالوا فيمن حج عن غيره فمرض في الطريق لم يجز له أن يدفع النفقة إلى من يحج عن الميت الا
أن يكون اذن له في ذلك لأنه مأمور بالحج لا بالاحجاج كان لم يبلغ المال المدفوع إليه النفقة فانفق من مال نفسه
ومال الآمر ينظر فان بلغ مال الآمر الكراء وعامة النفقة فالحج عن الميت لا يكون مخالفا والا فهو ضامن
ويكون الحج عن نفسه ويرد المال والأصل فيه أن يعتبر الأكثر ويجعل الأقل تبعا للأكثر وقليل الانفاق من مال
نفسه مما لا يمكن التحرز عنه من شربة ماء أو قليل زاد فلو اعتبر القليل مانعا من وقوع الحج عن الآمر يؤدى إلى
سد باب الاحجاج فلا يعتبر ويعتبر الكثير ولو أحج رجلا يؤدى الحج ويقيم بمكة جاز لان فرض الحج صار مؤديا
بالفراغ عن أفعاله والأفضل أن يحج ثم يعود إليه لان الحاصل للآمر ثواب النفقة فمهما كانت النفقة أكثر كان
الثواب أكثر وأوفر وإذا فرغ المأمور بالحج من الحج ونوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا أنفق من مال نفسه
215

لان نية الإقامة قد صحت فصار تاركا للسفر فلم يكن مأذونا بالانفاق من مال الآمر ولو أنفق ضمن لأنه أنفق مال
غيره بغير اذنه فان أقام بها أياما من غير نية الإقامة فقد قال أصحابنا انه ان أقام إقامة معتادة فالنفقة في مال المحجوج
عنه وان زاد على المعتاد فالنفقة من ماله حتى قالوا إذا أقام بعد الفراغ من الحج ثلاثة أيام ينفق من مال الآمر وان
زاد ينفق من مال نفسه وقالوا في الخراساني إذا جاء حاجا عن غيره فدخل بغداد فأقام بها إقامة معتادة مقدار ما يقيم
الناس بها عادة فالنفقة في مال المحجوج عنه وان أقام أكثر من ذلك فالنفقة في ماله وهذا كان في زمانهم لأنه
كان زمان أمن يتمكن الحاج من الخروج من مكة وحده أو مع نفر يسير فقد روا مدة الإقامة بها بعد الفراغ من الحج
كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة فاما في زماننا فلا يمكن الخروج للافراد والآحاد ولا لجماعة
قليلة من مكة الا مع القافلة فما دام منتظرا خروج القافلة فنفقته في مال المحجوج عنه وكذا هذا في اقامته ببغداد
انه ما دام منتظرا لخروج القافلة فالنفقة في مال الآمر لتعذر سبقه بالخروج لما فيه من تعريض المال والنفس
للهلاك فالتعويل في الذهاب والاياب على ذهاب القافلة وايابها فان نوى إقامة خمسة عشر يوما فصاعدا حتى
سقطت نفقته من مال الا آمر ثم رجع بعد ذلك هل تعود نفقته في مال الآمر ذكر القدوري في شرحه مختصر
الكرخي انه تعود ولم يذكر الخلاف وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان على قول محمد تعود وهو ظاهر
الرواية وعند أبي يوسف لا تعود وهذا إذا لم يكن اتخذ مكة دارا فاما إذا اتخذها دارا ثم عاد لا تعود النفقة في مال
الآمر بلا خلاف وجه قول أبى يوسف انه إذا نوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا فقد انقطع حكم السفر فلا
تعود بعد ذلك كما لو اتخذ مكة دارا وجه ظاهر الرواية ان الإقامة ترك السفر لا قطعها والمتروك يعود فاما اتخاذ مكة
دارا والتوطن بها هو قطع السفر والمنقطع لا يعود ولو تعجل المأمور بالحج ليكون شهر رمضان بمكة فدخل محرما
في شهر رمضان أو في ذي القعدة فنفقته في مال نفسه إلى عشر الأضحى فإذا جاء عشر الأضحى أنفق من مال
الآمر كذا روى هشام عن محمد لان المقام بمكة قبل الوقت الذي يدخلها الناس لا يحتاج إليه لأداء المناسك غالبا
فلا تكون هذه الإقامة مأذونا فيها كالإقامة بعد الفراغ من الحج أكثر من المعتاد ولا يكون بما عجل مخالفا لان
الا آمر ما عين له وقتا والتجارة والإجارة لا يمنعان جواز الحج ويجوز حج التاجر والأجير والمكاري لقوله عز وجل
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قيل الفضل التجارة وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من
التجارة في عشر ذي الحجة فلما كان الاسلام امتنع أهل الاسلام عن التجارة خوفا من أن يضر ذلك حجهم
فرخص الله سبحانه وتعالى لهم طلب الفضل في الحج بهذه الا آية وروى أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنه فقال إن
ا قوم نكرى ونزعم ان ليس لنا حج فقال ألستم تحرمون قالوا بلى قال فأنتم حجاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ هذه الآية ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ولان التجارة والإجارة
لا يمنعان من أركان الحج وشرائطها فلا يمنعان من الجواز والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يفسد الحج وبيان حكمه إذا فسد اما الأول فالذي يفسد الحج الجماع لكن عند وجود
شرطه فيقع الكلام فيه في موضعين في بيان ان الجماع يفسد الحج في الجملة وفي بيان شرط كونه مفسدا اما الأول
فالدليل عليه ما روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم انهم قالوا فيمن جامع امرأته وهما محرمان مضيا
في احرامهما وعليهما هدى ويقضيان من قابل ويفترقان ولان الجماع في نهاية الارتفاق بمرافق المقيمين فكان
في نهاية الجناية على الاحرام فكان مفسدا للاحرام (وأما) شرط كونه مفسدا فشيئان أحدهما أن يكون الجماع
في الفرج حتى لو جامع فيما دون الفرج أو لمس بشهوة أو عانق أو قبل أو باشر لا يفسد حجه لانعدام الارتفاق
البالغ لكن تلزمه الكفارة سواء أنزل أو لم ينزل لوجود استمتاع مقصود على ما بينا فيما تقدم وفرقنا بين اللمس
والنظر عن شهوة ولو وطئ بهيمة لا يفسد حجه لما قلنا ولا كفارة عليه الا إذا أنزل لأنه ليس باستمتاع مقصود
بخلاف الجماع فيما دون الفرج واما الوطئ في الموضع المكروه فاما على أصلهما يفسد الحج لأنه في معنى الجماع
216

في القبل عندهما حتى قالوا بوجوب الحد وعن أبي حنيفة فيه روايتان في رواية يفسد لأنه مثل الوطئ في القبل
في قضاء الشهوة ويوجب الاغتسال من غير أنزال وفى رواية لا يفسد لعدم كمال الارتفاق لقصور قضاء الشهوة
فيه لسوء المحل فأشبه الجماع فيما دون الفرج ولهذا قال محمد رحمه الله انه لا يجب الحد والثاني أن يكون قبل الوقوف
بعرفة فإن كان بعد الوقوف بها لا يفسد الحج عندنا وعند الشافعي هذا ليس بشرط ويفسد الحج قبل الوقوف
وبعده (وجه) قوله إن الجماع إنما عرف مفسدا للحج لكونه مفسدا للاحرام والاحرام بعد الوقوف باق لبقاء
ركن الحج وهو طواف الزيارة ولا يتصور بقاء الركن بدون الاحرام فصار الحال بعد الوقوف كالحال قبل
(ولنا) ان الركن الأصلي للحج هو الوقوف بعرفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة أي الوقوف بعرفة
فمن وقف بعرفة فقد تم حجه أخبر عن تمام الحج بالوقوف ومعلوم انه ليس المراد منه التمام الذي هو ضد
النقصان لان ذا لا يثبت بنفس الوقوف فعلم أن المراد منه خروجه عن احتمال الفساد والفوات ولان الوقوف
ركن مستقل بنفسه وجودا وصحة لا يقف وجوده وصحته على الركن الآخر وما وجد ومضى على الصحة
لا يبطل الا بالردة ولم توجد وإذا لم يفسد الماضي لا يفسد الباقي لان فساده بفساده ولكن يلزمه بدنة لما نذكره
ويستوى في فساد الحج بالجماع الرجل والمرأة لاستوائهما في المعنى الموجب للفساد وهو ما بينا ولما ذكرنا أن
جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أفتوا بفساد حجهما حيث أوجبوا القضاء عليهما ويستوى فيه العامد والخاطئ
والذاكر والناسي عند أصحابنا وقال الشافعي لا يفسده الخطأ والنسيان والكلام فيه بناء على أصل ذكرناه غير مرة
وهو ان فساد الحج لا يثبت الا بفعل محظور فزعم الشافعي أن الحظر لا يثبت مع الخطاء والنسيان وقلنا نحن يثبت
وإنما المرفوع هو المؤاخذة عليهما على ما ذكرنا فيما تقدم ويستوى فيه الطوع والاكراه لان الاكراه لا يزيل
الحظر ولو كانت المرأة مكرهة فإنها لا ترجع بما لزمها على المكره لأنه حصل لها استمتاع بالجماع فلا ترجع
على أحد كالمغرور إذا وطئ الجارية ولزمه الغرم انه لا يرجع به على الغار كذا هذا ويستوى فيه كون المرأة
المحرمة مستيقظة أو نائمة حتى يفسد حجها في الحالين سواء كان المجامع لها محرما أو حلالا لان النائمة في معنى
الناسية والنسيان لا يمنع فساد الحج كذا النوم ويستوى فيه كون المجامع عاقلا بالغا أو مجنونا أو صبيا بعد إن كانت
المرأة المحرمة عاقلة بالغة حتى يفسد حجها لان التمكين محظور عليها (وأما) بيان حكمه إذا فسد ففساد الحج يتعلق
به أحكام منها وجوب الشاة عندنا وقال الشافعي وجوب بدنة (وجه) قوله إن الجماع بعد الوقوف إنما أوجب
البدنة لتغليظ الجناية والجناية قبل الوقوف أغلظ لوجودها حال قيام الاحرام المطلق لبقاء ركني الحج وبعد الوقوف
لم يسبق لا أحدهما فلما وجبت البدنة بعد الوقوف فلان تجب قبله أولى ولنا ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه
قال البدنة في الحج في موضعين أحدهما إذا طاف للزيارة جنبا ورجع إلى أهله ولم يعد والثاني إذا جامع بعد الوقوف
وروينا عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم انهم قالوا وعليهما هدى واسم الهدى وإن كان يقع على الغنم
والإبل والبقر لكن الشاة أدنى والأدنى متيقن به فحمله على الغنم أولى على أنه روينا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم انه سئل عن الهدى فقال أدناه شاة ويجزى فيه شركة في جزور أو بقرة لما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أشرك بين أصحابه رضي الله عنهم في البدن عام الحديبية فذبحوا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة واعتباره
بما قبل الوقوف غير سديد لان الجناية قبل الوقوف أخف من الجناية بعده لان الجماع قبل الوقوف أوجب
القضاء لأنه أوجب فساد الحج والقضاء خلف عن الفائت فيجبر معنى الجناية فتخف الجناية فيوجب نقصان
الموجب وبعد الوقوف لا يفسد الحج عندنا لما ذكرنا فلم يجب القضاء فلم يوجد ما تجب به الجناية فبقيت متغلظة
فتغلظ الموجب ولو جامع قبل الوقوف بعرفة ثم جامع فإن كان في مجلس لا يجب عليه الا دم واحد استحسانا
والقياس ان يجب عليه لكل واحد دم على حدة لان سبب الوجوب قد تكرر فتكرر الواجب الا أنهم استحسنوا
217

فما أوجبوا الا دما واحدا لان أسباب الوجوب اجتمعت في مجلس واحد من جنس واحد فيكتفى بكفارة
واحدة لان المجلس الواحد يجمع الافعال المتفرقة كما يجمع الأقوال المتفرقة كايلاجات في جماع واحد انها
لا توجب الا كفارة واحدة وإن كان كل ايلاجة لو انفردت أوجبت الكفارة كذا هذا وإن كان في مجلسين
مختلفين يجب دمان في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وقال محمد يجب دم واحد الا إذا كان كفر للأول كما في كفارة
الافطار في شهر رمضان (وجه) قول محمد ان الكفارة إنما وجبت بالجماع الأول جزاء لهتك حرمة الاحرام
والحرمة حرمة واحدة إذا انهتكت مرة لا يتصور انهتاكها ثانيا كما في صوم شهر رمضان وكما إذا جامع ثم جامع
في مجلس واحد وإذا كفر فقد جبر الهتك فالتحق بالعدم وجعل كأنه لم يوجد فلم يتحقق الهتك ثانيا ولهما ان
الكفارة تجب بالجناية على الاحرام وقد تعددت الجناية فيتعدد الحكم وهو الأصل الا إذا قام دليل يوجب جعل
الجنايات المتعددة حقيقة متحدة حكما وهو اتحاد المجلس ولم يوجد ههنا بخلاف الكفارة للصوم فإنها لا تجب
بالجناية على الصوم بل جبر الهتك حرمة الشهر على ما ذكرناه فيما تقدم ولا يجب عليه في الجماع الثاني الا شاة واحدة
لان الأول لم يوجب الا شاة واحدة فالثاني أولى لان الأول صادف احراما صحيحا والثاني صادف احراما
مجروحا فلما لم يجب للأول الا شاة واحدة فالثاني أولى ولو جامع بعد الوقوف بعرفة ثم جامع إن كان في مجلس
واحد لا يجب عليه الا بدنة واحدة وإن كان في مجلسين يجب عليه بدنة للأول وللثاني شاة على قول أبي حنيفة
وأبى يوسف وعلى قول محمد إن كان ذبح للأول بدنه يجب للثاني شاة والا فلا يجب وهو على ما ذكرنا من الاختلاف
فيما قبل الوقوف هذا إذا لم يرد بالجماع بعد الجماع رفض الاحرام فاما إذا أراد به رفض الاحرام والاحلال فعليه
كفارة واحدة في قولهم جميعا سواء كان في مجلس واحد أو في مجالس مختلفة لان الكل مفعول على وجه واحد
فلا يجب بها الا كفارة واحدة كالايلاجات في الجماع الواحد ومنها وجوب المضي في الحجة الفاسدة
لقول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يمضيا في احرامهما ولان الاحرام عقد لازم لا يجوز التحلل عنه
الا بأداء أفعال الحج أو لضرورة الاحصار ولم يوجد أحدهما فيلزمه المضي فيه فيفعل جميع ما يفعله في الحجة
الصحيحة ويجتنب جميع ما يجتنبه في الحجة الصحيحة ومنها وجوب القضاء لقول الصحابة رضي الله عنهم
يقضيانه من قابل ولأنه لم يأت بالمأمور به على الوجه الذي أمر به لأنه أمر بحج خال عن الجماع ولم يأت به فبقي
الواجب في ذمته فيلزمه تفريغ ذمته عنه ولا يجب عليه العمرة لأنه ليس بفائت الحج ألا ترى انه لم تسقط عنه
أفعال الحج بخلاف المحصر إذا حل من احرامه بذبح الهدى انه يجب عليه قضاء الحجة والعمرة أما قضاء الحجة
فظاهر وأما قضاء العمرة فلفوات الحج في ذلك العام وهل يلزمهما الافتراق في القضاء قال أصحابنا الثلاثة لا يلزمهما
ذلك لكنهما ان خالفا المعاودة يستحب لهما ان يفترقا وقال زفر ومالك والشافعي يفترقان واحتجوا بما روينا من
قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يفترقان ولان الاجتماع فيه خوف الوقوع في الجماع ثانيا فيجب
التحرز عنه بالافتراق ثم اختلفوا في مكان الافتراق قال مالك إذا خرجا من بلدهما يفترقان حسما للمادة وقال
الشافعي إذا بلغا الموضع الذي جامعها فيه لأنهما يتذكران ذلك فربما يقعان فيه وقال زفر يفترقان عند الاحرام
لان الاحرام هو الذي حظر عليه الجماع فاما قبل ذلك فقد كان مباحا ولنا انهما زوجان والزوجية علة الاجتماع
لا الافتراق وأما ما ذكروا من خوف الوقوع يبطل بالابتداء فإنه لم يجب الافتراق في الابتداء مع خوف الوقوع
وقول الشافعي يتذكران ما فعلا فيه فاسد لأنهما قد يتذكران وقد لا يتذكران إذ ليس كل من يفعل فعلا في مكان
يتذكر ذلك الفعل إذا وصل إليه ثم إن كانا يتذكران ما فعلا فيه يتذكران ما لزمهما من وبال فعلهما فيه أيضا
فيمنعهما ذلك عن الفعل ثم يبطل هذا بلبس المخيط والتطيب فإنه إذا لبس المخيط أو تطيب حتى لزمه الدم يباح له
امساك الثوب المخيط والتطيب وإن كان ذلك يذكره لبس المخيط والتطيب فدل ان الافتراق ليس بلازم لكنه
218

مندوب إليه ومستحب عند خوف الوقوع فيما وقعا فيه وعلى هذا يحمل قول الصحابة رضي الله عنهم يفترقان
والله الموفق هذا إذا كان مفردا بالحج فاما إذا كان قارنا فالقارن إذا جامع فإن كان قبل الوقوف وقبل الطواف
للعمرة أو قبل الكثرة فسدت عمرته وحجته وعليه دمان لكل واحد منهما شاة وعليه المضي فيها واتمامهما على
الفساد وعليه قضاؤهما ويسقط عنه دم القران أما فساد العمرة فلوجود الجماع قبل الطواف وانه مفسد
للعمرة كما في حال الانفراد وأما فساد الحجة فلحصول الجماع قبل الوقوف بعرفة وانه مفسد للحج كما في حال
الانفراد وأما وجوب الدمين فلان القارن محرم باحرامين عندنا فالجماع حصل جناية على احرامين فأوجب
نقصا في العبادتين فيوجب كفارتين كالمقيم إذا جامع في رمضان واما لزوم المضي فيهما فلما ذكرنا ان وجوب
الاحرام عقد لازم واما وجوب قضائهما فلافسادهما فيقتضى عمرة مكان عمرة وحجة مكان حجة واما سقوط
دم القران عنه فلانه أفسدهما والأصل ان القارن إذا أفسد حجه وعمرته أو أفسد أحدهما يسقط عنه دم القران
لان وجوبه ثبت شكرا لنعمة الجمع بين القربتين وبالفساد بطل معنى القربة فسقط الشكر ولو جامع بعدما طاف
لعمرته أو طاف أكثره وهو أربعة أشواط أو بعدما طاف لها وسعى قبل الوقوف بعرفة فسدت حجته ولا تفسد
عمرته أما فساد حجته فلما ذكرنا وهو حصول الجماع قبل الوقوف بعرفة واما عدم فساد عمرته فلحصول الجماع
بعد وقوع الفراغ من ركنها فلا يوجب فسادها كما في حال الانفراد وعليه دمان أحدهما لفساد الحجة بالجماع
والآخر لوجود الجماع في احرام العمرة لان احرام العمرة باق عليه وعليه المضي فيهما واتمامهما لما ذكرنا
وعليه قضاء الحج دون العمرة لان الحجة هي التي فسدت دون العمرة ويسقط عنه دم القران لأنه فسد أحدهما
وهو الحج ولو جامع بعد طواف العمرة وبعد الوقوف بعرفة فلا يفسد حجه ولا عمرته أما عدم فساد الحج فلان
الجماع وجد بعد الوقوف بعرفة وانه لا يفسد الحج واما عدم فساد العمرة فلانه جامع بعد الفراغ من ركن العمرة
وعليه اتمامها لأنه لما وجب اتمامها على الفساد فعلى الصحة والجواز أولى وعليه بدنة وشاة البدنة لأجل الجماع
بعد الوقوف والشاة لان الاحرام للعمرة باق والجماع في احرام العمرة يوجب الشاة وههنا لا يسقط عنه دم القران
لأنه لم يوجد فساد الحج والعمرة ولا فساد أحدهما فأمكن ايجاب الدم شكرا فان جامع مرة بعد أخرى فهو على
ما ذكرنا من التفصيل في المفرد بالحج انه إن كان في مجلس واحد فلا يجب عليه غير ذلك وإن كان في مجلس آخر
فعليه دمان على الاختلاف الذي ذكرنا فان جامع أول مرة بعد الحلق قبل الطواف للزيارة فعليه بدنة وشاة لان
القارن يتحلل من الاحرامين معا ولم يحل له النساء بعد احرام الحجة فكذا في احرام العمرة كما يقع له التحلل من
غير النساء بالحلق فيهما جميعا ولو جامع بعدما طاف طواف الزيارة كله أو أكثره فلا شئ عليه لأنه قد حل له
النساء فلم يبق له الاحرام رأسا الا إذا طاف طواف الزيارة قبل الحلق والتقصير فعليه شاتان لبقاء الاحرام لهما
جميعا وروى ابن سماعة عن محمد في الرقيات فيمن طاف طواف الزيارة جنبا أو على غير وضوء وطاف أربعة
أشواط طاهرا ثم جامع النساء قبل أن يعيده قال محمد اما في القياس فلا شئ ولكن أبا حنيفة استحسن فيما إذا طاف
جنبا ثم جامع ثم أعاده طاهرا انه يوجب عليه دما وكذا قول أبى يوسف وقولنا (وجه) القياس انه قد صح من
مذهب أصحابنا ان الطهارة ليست بشرط لجواز الطواف وإذا لم تكن شرطا فقد وقع التحلل بطوافه والجماع
بعد التحلل من الاحرام لا يوجب الكفارة (وجه) الاستحسان انه إذا اعاده وهو طاهر فقد انفسخ الطواف الأول
على طريق بعض مشايخ العراق وصار طوافه المعتبر هو الثاني لان الجناية توجب نقصانا فاحشا فتبين ان الجماع
كان حاصلا قبل الطواف فيوجب الكفارة بخلاف ما إذا طاف على غير وضوء لان النقصان هناك يسير
فلم ينفسخ الأول فبقي جماعه بعد التحلل فلا يوجب الكفارة وذكر ابن سماعة عن محمد في الرقيات فيمن طاف
أربعة أشواط من طواف الزيارة في جوف الحجر أو فعل ذلك في طواف العمرة ثم جامع أنه تفسد العمرة وعليه
219

عمرة مكانها وعليه في الحج بدنة لان الركن في الطواف أكثر الأشواط وهو أربعة فإذا طاف في جوف الحجر فلم
يأت بأكثر الأشواط فحصل الجماع قبل الطواف وروى ابن سماعة عن محمد فيمن فاته الحج فجامع أنه يمضى
على احرامه وعليه دم للجماع والقضاء للفوات أما وجوب المضي فلبقاء الاحرام وأما وجوب الدم بالجماع
فلوجود الجماع في الاحرام وليس عليه قضاء العمرة لان هذا تحلل بمثل أفعال العمرة وليس بعمرة بل هو بقية
أفعال حج قد وجب قضاؤه بخلاف العمرة المبتدأة والله أعلم وأما المتمتع إذا جامع فحكمه حكم المفرد بالحج
والمفرد بالعمرة لأنه يحرم بعمرة أولا ثم يحرم بحجة وقد ذكرنا حكم المفرد بالحجة وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم
المفرد بالعمرة في موضعه
* (فصل) * وأما بيان ما يفوت الحج بعد الشروع فيه بفواته وبيان حكمه إذا فات بعد الشروع فيه فالحج
بعد الشروع فيه لا يفوت الا بفوات الوقوف بعرفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم الحج عرفة فمن وقف بعرفة
فقد تم حجه والاستدلال به من وجهين أحدهما انه جعل الحج الوقوف بعرفة فإذا وجد فقد وجد الحج والشئ
الواحد في زمان واحد لا يكون موجودا وفائتا والثاني انه جعل تمام الحج الوقوف بعرفة وليس المراد منه التمام
الذي هو ضد النقصان لان ذلك لا يثبت بالوقوف وحده فيدل أن المراد منه خروجه عن احتمال الفوات وقول
النبي صلى الله عليه وسلم من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج جعل مدرك
الوقوف بعرفة مدركا للحج والمدرك لا يكون فائتا وأما حكم فواته بعد الشروع فيه فيتعلق بفواته بعد الشروع
فيه أحكام منها انه يتحلل من احرامه بعمل العمرة وهو الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو
التقصير إن كان مفردا بالحج ويجب عليه ذلك لما روى الدارقطني باسناده عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن
عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة من غير دم
وعليه الحج من قابل وعن عمر وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم انهم قالوا فيمن فاته الحج يحل
بعمل العمرة من غير هدى وعليه الحج من قابل ثم اختلف أصحابنا فيما يتحلل به فائت الحج من الطواف انه يلزمه
ذلك باحرام الحج أو باحرام العمرة قال أبو حنيفة ومحمد باحرام الحج وقال أبو يوسف باحرام العمرة وينقلب
احرامه احرام عمرة واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدارقطني فليحل بعمرة سماه عمرة ولا عمرة
الا باحرام العمرة فدل ان احرامه ينقلب احرام عمرة ولان المؤدى أفعال العمرة فكانت عمرة ولهما قول
الصحابة رضي الله عنهم يحل بعمل العمرة أضاف العمل إلى العمرة والشئ لا يضاف إلى نفسه هو الأصل ولأنه
أحرم بالحج لا بالعمرة حقيقة لأنه مفرد بالحج واعتبارا لحقيقة أصل في الشرع فالقول بانقلاب احرام الحج
احرام العمرة تغيير الحقيقة من غير دليل مع أن الاحرام عقد لازم لا يحتمل الانفساخ وفى الانقلاب انفساخ
وهذا لا يجوز والدليل على صحة ما ذكرنا ان فائت الحج لو كان من أهل مكة يتحلل بالطواف كما يتحلل أهل
الآفاق ولا يلزمه الخروج إلى الحل ولو أنقلب احرامه احرام عمرة وصار معتمرا للزمه الخروج إلى الحل وهو
التنعيم أو غيره وكذا فائت الحج إذا جامع ليس عليه قضاء العمرة ولو كان عمرة لوجب عليه قضاؤه كالعمرة المبتدأة
فيثبت بما ذكرنا من الدلائل ان احرامه بالحج لم ينقلب احرام عمرة وبه تبين ان المؤدى ليس أفعال العمرة بل
مثل أفعال العمرة تؤدى باحرام الحجة والحديث محمول على عمل العمرة توفيقا بين الدليلين ومنها ان عليه
الحج من قابل لما روينا من الحديث وقول الصحابة رضي الله عنهم ولأنه إذا فاته الحج من هذه السنة بعد الشروع
فيه بقي الواجب عليه على حاله فيلزمه الاتيان به ولا دم على فائت الحج عندنا وقال الحسن بن زياد عليه دم وبه
أخذ الشافعي (وجه) قول الحسن انه يتحلل قبل وقت التحلل فيلزمه دم كالمحصر ولنا ما روى عن جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم انهم قالوا فيمن فاته الحج يحل بعمرة من غير هدى وكذا في حديث الدارقطني جعل
220

النبي صلى الله عليه وسلم التحلل والحج من قابل كل الحكم في فائت الحج بقوله من فاته الوقوف بعرفة بليل
فقد فاته الحج وليحل بعمرة وعليه الحج من قابل فمن ادعى زيادة الدم فقد جعل الكل بعضا وهو نسخ أو تغيير
فلابد له من دليل وقوله تحلل قبل الوقوف مسلم لكن بأفعال العمرة وهو فائت الحج والتحلل بأفعال العمرة من
فائت الحج كالهدى في حق المحصر وليس على فائت الحج طواف الصدر لأنه طواف عرف وجوبه في الشرع
بعد الفراغ من الحج على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف
وهذا لم يحج فلا يجب عليه وإن كان فائت الحج قارنا فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها ثم يطوف طوافا آخر لفوات
الحج ويسعى له ويحلق أو يقصر وقد بطل عنه دم القران أما الطواف للعمرة والسعي لها فلان القارن محرم
بعمرة وحجة والعمرة لا تفوت لان جميع الأوقات وقتها فيأتي بها كما يأتي المدرك للحج وأما الطواف والسعي
للحج فلان الحجة قد فاتته في هذه السنة بعد الشروع فيها وفائت الحج بعد الشروع فيه لا يتحلل بأفعال العمرة
فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر وأما سقوط دم القران يجب للجمع بين العمرة والحج ولم يوجد فلا يجب ويقطع
التلبية إذا أخذ في الطواف الذي يتجلل به على ما ذكرنا فيما تقدم وإن كان متمتعا ساق الهدى بطل تمتعه ويصنع
كما يصنع القارن لان دم المتعة يجب للجمع بين العمرة والحجة ولم يوجد الجمع لان الحجة فاتته
* (فصل) * وأما بيان حكم فوات الحج عن العمرة فنقول من عليه الحج إذا مات قبل أدائه فلا يخلوا ما ان مات
من غير وصية واما ان مات عن وصية فان مات من غير وصية يأثم بلا خلاف أما على قول من يقول بالوجوب
على الفور فلا يشكل وأما على قول من يقول بالوجوب على التراخي فلان الوجوب يضيق عليه في آخر العمر في
وقت يحتمل الحج وحرم عليه التأخير فيجب عليه أن يفعل بنفسه إن كان قادرا وإن كان عاجزا عن الفعل
بنفسه عجزا مقرر أو يمكنه الأداء بماله بإنابة غيره مناب نفسه بالوصية فيجب عليه أن يوصى به فإن لم يوص به حتى
مات اثم بتفويته الفرض عن وقته مع امكان الأداء في الجملة فيأثم لكن يسقط عنه في حق أحكام الدنيا عندنا
حتى لا يلزم الوارث الحج عنه من تركته لأنه عبادة والعبادات تسقط بموت من عليه سواء كانت بدنية أو مالية
في حق أحكام الدنيا عندنا وعند الشافعي لا تسقط ويؤخذ من تركته قدر ما يحج به ويعتبر ذلك من جميع المال
وهذا على الاختلاف في الزكاة والصوم والعشر والنذور والكفارات ونحو ذلك وقد ذكرنا المسألة في كتاب
الزكاة وان أحب الوارث أن يحج عنه حج وأرجو أن يجزيه ذلك إن شاء الله تعالى كذا ذكر أبو حنيفة أما الجواز
فلما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله ان أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها
فقال نعم فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم حج الرجل عن أمه ولم يستفسر أنها ماتت عن وصية أو لا عن وصية
ولو كان الحكم يختلف لاستفسر وأما قران الاستثناء بالاجزاء فلان الحج كان واجبا على الميت قطعا والواجب
على الانسان قطعا لا يسقط الا بدليل موجب للسقوط قطعا والموجب لسقوط الحج عن الميت بفعل الوارث
بغير أمره من أخبار الآحاد وخبر الواحد يوجب علم العمل لا علم الشهادة لاحتمال عدم الثبوت وإن كان احتمالا
مرجوحا لكن الاحتمال المرجوح يعتبر في علم الشهادة وإن كان لا يعتبر في علم العمل فعلق الاجزاء والسقوط
بمشيئة الله تعالى احترازا عن الشهادة على الله تعالى من غير علم قطعي وهذا من كمال الورع والاحتياط في دين
الله تعالى ولأن الظاهر من حال من عليه الحج إذا عجز عن الأداء بنفسه حتى أدركه الموت وله مال انه يأمر وارثه
بالحج عنه تفريغا لذمته عن عهدة الواجب فكانت الوصية موجودة دلالة والثابت دلالة كالثابت نصا لكن
الحق الاستثناء به لاحتمال العدم فان قيل لو كان الامر على ما ذكرتم هلا الحق الاستثناء بكل ما يثبت بخبر الواحد
فالجواب انك أبعدت في القياس إذ لا كل خبر يرد بمثل هذا الحكم وهو سقوط الفرض ومحل سقوط الاستثناء
هذا فان ثبت الاطلاق منه في مثله في موضع من غير تصريح بالاستثناء فذلك لوجود النية منه عليه في الحج فتقع
221

الغنية عن الافصاح به في كل موضع وان مات عن وصية لا يسقط الحج عنه ويجب أن يحج عنه لان الوصية
بالحج قد صحت وإذا حج عنه يجوز عند استجماع شرائط الجواز وهي نية الحج عنه وأن يكون الحج بمال الموصى
أو بأكثره الا تطوعا وأن يكون راكبا لا ماشيا لما ذكرنا فيما تقدم ويحج عنه من ثلث ماله سواء قيد الوصية
بالثلث بأن يحج عنه بثلث ماله أو أطلق بأن أوصى أن يحج عنه اما إذا قيد فظاهر وكذا إذا أطلق لان الوصية تنفذ
من الثلث ويحج عنه من بلده الذي يسكنه لان الحج مفروض عليه من بلده فمطلق الوصية ينصرف إليه ولهذا
قال محمد رحمه الله روى ابن رستم عنه في خراساني أدركه الموت بمكة فأوصى أن يحج عنه يحج عنه من خراسان
وروى هشام عن أبي يوسف في مكي قدم الري فحضره الموت فأوصى أن يحج عنه يحج عنه من مكة فان أوصى
أن يقرن عنه قرن عنه من الري لأنه لا قران لأهل مكة فتحمل الوصية على ما يصح وهو القران من حيث مات
هذا إذا كان ثلث المال يبلغ أن يحج عنه من بلده حج عنه فإن كان لا يبلغ يحج من حيث يبلغ استحسانا وكذا
إذا أوصى أن يحج عنه بمال سمى مبلغه إن كان يبلغ أن يحج عنه من بلده حج عنه والا فيحج عنه من حيث يبلغ
استحسانا والقياس أن تبطل الوصية لأنه تعذر تنفيذها على ما قصده الموصى وهذا يوجب بطلان الوصية كما إذا
أوصى بعتق نسمة فلم يبلغ ثلث المال ثمن النسمة (وجه) الاستحسان ان غرض الموصى من الوصية بالحج تفريغ
ذمته عن عهدة الواجب وذلك في التصحيح لا في الابطال ولو حمل ذلك على الوصية بالحج من بلده لبطلت ولو
حمل على الوصية من حيث يبلغ لصحت فيحمل عليه تصحيحا لها وفى الوصية بعتق النسمة تعذر التصحيح
أصلا ورأسا فبطلت فان خرج من بلده إلى بلد أقرب من مكة فإن كان خرج لغير الحج حج عنه من بلده في
قولهم جميعا وإن كان خرج للحج فمات في بعض الطريق وأوصى ان يحج عنه فكذلك في قول أبي حنيفة وقال
أبو يوسف ومحمد يحج عنه من حيث بلغ (وجه) قولهما ان قدر ما قطع من المسافة في سفره بنية الحج معتد به من
الحج لم يبطل بالموت لقوله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على
الله فسقط عنه ذلك القدر من فرض الحج وبقى عليه اتمامه ولأبي حنيفة ان القدر الموجود من السفر يعتبر لكن
في حق أحكام الآخرة وهو الثواب لا في حق أحكام الدنيا لان ذلك يتعلق بأداء الحج ولم يتصل به الأداء فبطل
بالموت في حق أحكام الدنيا ان لم يبطل في حق أحكام الآخرة وكلامنا في حق أحكام الدنيا ولو خرج للحج
فأقام في بعض البلاد حتى دارت السنة ثم مات وقد أوصى أن يحج عنه يحج عنه من بلده بلا خلاف أما عند أبي
حنيفة فظاهر وأما عندهما فلان ذلك السفر لم يتصل به عمل الحجة التي سافر لها فلم يعتد به عن الحج وإن كان
ثلث ماله لا يبلغ أن يحج به عنه الا ماشيا فقال رجل أنا أحج عنه من بلده ماشيا روى هشام عن محمد رحمه الله انه
لا يجزيه ولكن يحج عنه من حيث يبلغ راكبا وروى الحسن عن أبي حنيفة ان أحجوا عنه من بلده ماشيا جاز
وان أحجوا من حيث يبلغ راكبا جاز وأصل هذه المسألة أن الموصى بالحج إذا اتسعت نفقته للركوب فاحجوا
عنه ماشيا لم يجز لأن المفروض هو الحج راكبا فاطلاق الوصية ينصرف إلى ذلك كأنه أوصاه بذلك وقال أحجوا
عنى راكبا ولو كان كذلك لا يجوز ماشيا كذا هذا (وجه) رواية الحسن ان فرض الحج له تعلق بالركوب وله
تعلق ببلده ولا يمكن مراعاتهما جميعا وفى كل واحد منهما كمال من وجه ونقصان من وجه فيجوز أيهما كان
وإن كان ثلث ماله لا يبلغ أن يحج عنه من بلده فحج عنه من موضع يبلغ وفضل من الثلث وتبين انه كان بلغ من
موضع أبعد منه يضمنه الوصي ويحج عن الميت من حيث يبلغ لأنه تبين أنه خالف الا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا
من زاد أو كسوة فلا يكون مخالفا ولا ضامنا ويرد الفضل إلى الورثة لان ذلك ملكهم وإن كان للموصى وطنان
فأوصى أن يحج عنه من أقرب الوطنين لان الأقرب دخل في الوصية بيقين وفى دخول الابعد شك فيؤخذ باليقين
وفيما ذكرنا من المسائل التي وجب الحج من بلده إذا أحج الوصي من غير بلده يكون ضامنا ويكون الحج له ويحج
222

عن الميت ثانيا لأنه خالف الا إذا كان المكان الذي أحج عنه قريبا إلى وطنه بحيث يبلغ إليه ويرجع إلى الوطن
قبل الليل فحينئذ لا يكون مخالفا ولا ضامنا ويكون كاختلاف المحل ولو مات في محلة فاحجوا عنه من محلة أخرى
جاز كذا هذا فان قال الموصى أحجوا عنى بثلث مالي وثلث ماله يبلغ حججا حج عنه حججا كذا روى
القدوري في شرحه مختصر الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه إذا أوصى أن يحج عنه بثلث
ماله وثلث ماله يبلغ حججا يحج عنه حجة واحدة من وطنه وهي حجة الاسلام الا إذا أوصى أن يحج عنه بجميع
الثلث فيحج عنه حججا بجميع الثلث وما ذكره القاضي أثبت لان الوصية بالثلث وبجميع الثلث واحد لان
الثلث اسم لجميع هذا السهم ثم الوصي بالخيار ان شاء أحج عنه الحجج في سنة واحدة وان شاء أحج عنه في كل
سنة واحدة والأفضل أن يكون في سنة واحدة لان فيه تعجيل تنفيذ الوصية والتعجيل في هذا أفضل من
التأخير وان أوصى أن يحج عنه من موضع كذا من غير بلده يحج عنه من ثلث ماله من ذلك الموضع الذي بين
قرب من مكة أو بعد عنها لان الاحجاج لا يجوز الا بأمره فيتقدر بقدر أمره وما فضل في يد الحاج عن الميت بعد
النفقة في ذهابه ورجوعه فإنه يرده على الورثة لا يسعه ان يأخذ شيئا مما فضل لان النفقة لا تصير ملكا للحاج
بالاحجاج وإنما ينفق قدر ما يحتاج إليه في ذهابه وإيابه على حكم ملك الميت لأنه لو ملك إنما يملك بالاستئجار
والاستئجار على الطاعات لا يجوز عندنا فكان الفاضل ملك الورثة فيجب عليه رده إليهم ولو قاسم الورثة وعزل
قدر نفقة الحج ودفع بقية التركة إلى الورثة فهلك المعزول في يد الوصي أو في يد الحاج قبل الحج بطلت القسمة في
قول أبي حنيفة وهلك ذلك القدر من الجملة ولا تبطل الوصية ويحج له من ثلث المال الباقي حتى يحصل الحج
أو ينوى المال في قول أبي حنيفة وجعل أبو حنيفة الحج بمنزلة الموصى له الغائب وقسمة الوصي مع الورثة على
الموصى له الغائب لا يجوز حتى لو قاسم مع الورثة وعزل نصيب الموصى له ثم هلك في يده قبل أن يصل إلى الموصى
له الغائب يهلك من الجملة ويأخذ الموصى له ثلث الباقي كذلك الحج وعند أبي يوسف ان بقي من ثلث ماله شئ يحج
عنه مما بقي من ثلثه من حيث يبلغ وانه لم يبق من ثلثه شئ بطلت الوصية وقال محمد قسمة الوصية جائزة وتبطل
الوصية بهلاك المعزول سواء بقي من المعزول شئ أو لم يبق شئ فإن لم يهلك ذلك المال ولكن مات المجهز في بعض
طريق مكة فما أنفق المجاهز إلى وقت الموت نفقة مثله فلا ضمان عليه لأنه لم ينفق على الخلاف بل على الوفاق
وما بقي في يد المجهز القياس أن يضم إلى مال الموصى فيعزل ثلث ماله ويحج عنه من وطنه وهو قول أبي حنيفة وفى
الاستحسان يحج بالباقي من حيث تبلغ وهو قولهما
* (فصل) * ثم الحج كما هو واجب بايجاب الله تعالى ابتداء على من استجمع شرائط الوجوب وهو حجة
الاسلام فقد يجب بايجاب الله تعالى لكن بناؤه على وجود سبب الوجوب من العبد وهو النذر بأن يقول لله على
حجة لان النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر
أن يطيع الله فليطعه وكذا لو قال على حجة فهذا وقوله لله على حجة سواء لان الحج لا يكون الا لله تعالى وسواء
كان النذر مطلقا أو معلقا بشرط بأن قال إن فعلت كذا فلله على أن أحج حتى يلزمه الوفاء به إذا وجد الشرط ولا
يخرج عنه بالكفارة في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وسنذكر إن شاء الله تعالى المسألة في كتاب النذر ولو قال
لله على احرام أو قال على احرام صح وعليه حجة أو عمرة والتعيين إليه وكذا إذا كر لفظا يدل على التزام الاحرام
بأن قال لله على المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة جاز وعليه حجة أو عمرة ولو قال إلى الحرم أو إلى المسجد
الحرام لم يصح ولا يلزمه شئ في قول أبي حنيفة وعندهما يصح ويلزمه حجة أو عمرة ولو قال إلى الصفا والمروة
لا يصح في قولهم جميعا ولو قال على الذهاب إلى بيت الله أو الخروج أو السفر أو الاتيان لا يصح في قولهم ودلائل
هذه المسائل تذكر إن شاء الله تعالى في كتاب النذر فإنه كتاب مفرد وإنما نذكر ههنا بعض ما يختص بالحج فان
223

قال لله على هدى أو على هدى فله الخيار ان شاء ذبح شاة وان شاء نحر جزورا وان شاء ذبح بقرة لان اسم الهدى
يقع على كل واحد من الأشياء الثلاثة لقوله فما استيسر من الهدى قيل في التفسير ان المراد منه الشاة وإذا كانت
الشاة ما استيسر من الهدى فلا بد وأن يكون من الهدى ما لا يكون مستيسرا وهو الإبل والبقر وقد روينا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سئل عن الهدى أدناه شاة وإذا كانت الشاة أدنى الهدى كان
أعلاه الإبل والبقر ضرورة وقد روى عن علي رضي الله عنه أنه قال الهدى من ثلاثة والبدنة من اثنين ولان
مأخذ الاسم دليل عليه لان الهدى اسم لما يهدى أي ينقل ويحول وهذا المعنى يوجد في الغنم كما يوجد في الإبل
والبقر ويجوز سبع البدنة عن الشاة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال البدنة تجزى عن سبعة
والبقرة تجزى عن سبعة ولو قال لله على بدنة فان شاء نحر جزورا وان شاء ذبح بقرة عندنا وقال الشافعي لا يجوز
الا الجزور (وجه) قوله إن البدنة في اللغة اسم للجمل والدليل عليه قوله تعالى والبدن جعلناها لكم من شعائر الله
ثم فسرها بالإبل بقول عز وجل فاذكروا اسم الله عليها صواف أي قائمة مصطفة والإبل هي التي تنحر كذلك فاما
البقر فإنها تذبح مضجعة وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال البدنة تجزى عن سبعة والبقرة
تجزئ عن سبعة حتى قال جابر نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
ميز بين البدنة والبقرة فدل أنهما غيران (ولنا) ما روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال الهدى من ثلاثة والبدنة من
اثنين وهذا نص وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا سأله وقال إن رجلا صاحبا لنا أوجب على نفسه بدنة
أفتجزيه البقرة فقال له ابن عباس رضي الله عنه مم صاحبكم قال من بنى رباح فقال متى اقتنت بنو أرباح البقر
إنما البقر للأزد وإنما وهم صاحبكم الإبل ولو لم يقع اسم البدنة على البقر لم يكن لسؤاله معنى ولما سأله فقد أوقع الاسم
على الإبل والبقر لكن أوجب على الناذر الإبل لإرادته ذلك ظاهرا ولان البدنة مأخوذة من البدانة وهي
الضخامة وانها توجد فيهما ولهذا استويا في الجواز عن سبعة ولا حجة له في الآية لان فيها جواز اطلاق اسم
البدنة على الإبل ونحن لا ننكر ذلك وأما قوله إنه وقع التمييز بين البدنة والبقرة في الحديث فممنوع لان ذكر البقرة
ما خرج على التمييز بل على التأكيد كما في قوله عز وجل وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وكما في قول القائل جانى أهل قرية كذا فلان وفلان على أن ظاهر العطف
ان أول على التغيير والتسوية بينهما في جواز كل واحد منهما عن سبعة يدل على الاتحاد في المعنى ولا حجة مع
التعارض ولو قال لله على جزور فعليه أن ينحر بعيرا لان اسم الجزور لا يقع الا على الإبل ويجوز ايجاب الهدى
مطلقا ومعلقا بشرط بأن يقول إن فعلت كذا فلله على هدى ولو قال هذه الشاة هدى إلى بيت الله أو إلى الكعبة
أو إلى مكة أو إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام أو إلى الصفا والمروة فالجواب فيه كالجواب في قوله على المشي إلى
بيت الله تعالى أو إلى كذا وكذا على الاتفاق والاختلاف ولو أوجب على نفسه أن يهدى مالا بعينه من الثياب
وغيرها مما سوى النعم جاز وعليه أن يتصدق به أو بقيمته والأفضل أن يتصدق على فقراء مكة ولو تصدق
بالكوفة جاز واما في النعم من الإبل والبقر والغنم فلا يجوز ذبحه الا في الحرم فيذبح في الحرم ويتصدق بلحمه
على فقراء مكة هو الأفضل ولو تصدق على غير فقراء مكة جاز كذا ذكر في الأصل وإنما كان كذلك لان معنى
القربة في الثياب في عينها وهو التصدق بها والصدقة لا تختص بمكان كسائر الصدقات فاما معنى القربة في
الهدى من النعم في الإراقة شرعا والإراقة لم تعرف قربة في الشرع الا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص
والشرع أوجب الإراقة ههنا في الحرم بقوله تعالى هديا بالغ الكعبة حتى إذا ذبح الهدى جاز له أن يتصدق بلحمه
على فقراء غير أهل مكة لأنه لما صار لحما صار معنى القربة فيه في الصدقة كسائر الأموال ولو جعل شاة هديا
أجزأه أن يهدى قيمتها في رواية أبى سليمان وفى رواية أبى حفص لا يجوز (وجه) رواية أبى سليمان اعتبار البدنة
224

بالامر ثم فيها أمر الله تعالى من اخراج الزكاة من الغنم يجوز اخراج القيمة فيه كذا في النذور (وجه) رواية
أبى حفص ان القربة تعلقت بشيئين إراقة الدم والتصدق باللحم ولا يوجد في القيمة الا أحدهما وهو التصدق
ويجوز ذبح الهدايا في أي موضع شاء من الحرم ولا يختص بمنى ومن الناس من قال لا يجوز الا بمنى والصحيح
قولنا لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال منى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر وعن ابن عمر
رضي الله عنه أنه قال الحرم كله منحر وقد ذكرنا أن المراد من قوله عز وجل ثم محلها إلى البيت العتيق الحرم
وأما البدنة إذا أوجبها بالنذر فإنه ينحرها حيث شاء الا إذا نوى أن ينحر بمكة فلا يجوز نحرها الا بمكة وهذا
قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف أرى أن ينحر البدن بمكة لقوله عز وجل ثم محلها إلى البيت العتيق أي
الحرم (ولهما) أنه ليس في لفظ البدنة ما يدل على امتياز المكان لأنه مأخوذ من البدانة وهي الضخامة يقال بدن
الرجل أي ضخم وقد قيل في بعض وجوه التأويل لقوله تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله أن تعظيمها استسمانها
ولو أوجب جزأ فهو من الإبل خاصة ويجوز أن ينحر في الحرم وغيره ويتصدق بلحمه ويجوز ذبح الهدايا
قبل أيام النحر والجملة فيه أن دم النذر والكفارة وهدى التطوع يجوز قبل أيام النحر ولا يجوز دم المتعة والقران
والأضحية ويجوز دم الاحصار في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز وأدنى السن الذي يجوز في
الهدايا ما يجوز في الضحايا وهو الثنى من الإبل والبقر والمعز والجذع من الضأن إذا كان عظيما وبيان ما يجوز
في ذلك وما لا يجوز من بيان شرائط الجواز موضعه كتاب الأضحية ولا يحل الانتفاع بظهرها وصوفها ولبنها الا في
حال الاضطرار لقوله تعالى لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق قيل في بعض وجوه
التأويل لكم فيها منافع من ظهورها وألبانها وأصوافها إلى أجل مسمى أي إلى أن تقلد وتهدى ثم محلها إلى
البيت العتيق أي ثم محلها إذا قلدت وأهديت إلى البيت العتيق لأنها ما لم تبلغ محلها فالقربة في التصدق بها فإذا
بلغت محلها فحينئذ تتعين القربة فيها بالإرادة فان قيل روى أن رجلا كان يسوق بدنة فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم اركبها ويحك فقال إنها بدنة يا رسول الله فقال اركبها ويحك وقيل ويحك كلمة ترحم وويلك كلمة تهدد
فقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوب الهدى والجواب انه روى أن الرجل كان قد أجهده السير
فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم وعندنا يجوز الانتفاع بها في مثل تلك الحالة ببدل لأنه يجوز الانتفاع
بملك الغير في حالة الاضطرار ببدل وكذا في الهدايا إذا ركبها وحمل عليها للضرورة يضم ما نقصها الحمل والركوب
وينضح ضرعها لأنه إذا لم يجز له الانتفاع بلبنها فلبنها يؤذيها فينضح بالماء حتى يتقلص ويرقى لبنها وما حلب قبل
ذلك يتصدق به إن كان قائما وإن كان مستهلكا يتصدق بقيمته لان اللبن جزء من أجزائها فيجب صرفه إلى
القربة كما لو ولدت ولدا انها تذبح ويذبح ولدها كذا هذا فان عطب الهدى في الطريق قبل أن يبلغ محله فإن كان
واجبا نحره وهو لصاحبه يصنع به ما شاء وعليه هدى مكانه وإن كان تطوعا نحره وغمس نعله بدمه ثم ضرب
صفة سنامه وخلى بينه وبين الناس يأكلونه ولا يأكل هو بنفسه ولا يطعم أحدا من الأغنياء والفرق بين الواجب
والتطوع انه إذا كان واجبا فالمقصود منه اسقاط الواجب فإذا انصرف من تلك الجهة كان له ان يفعل به ما شاء
وعليه هدى آخر مكانه لان الأول لما لم يقع عن الواجب التحق بالعدم فبقي الواجب في ذمته بخلاف التطوع
ولان القربة قد تعينت فيه وليس عليه غير ذلك وإنما قلنا إنه ينحره ويفعل به ما ذكرنا لما ذكرنا ولما روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم انه بعث هديا على يد ناجية بن جندب الأسلمي فقال يا رسول الله ان أزحف منها
أي قامت من الاعياء وفى رواية قال ما أفعل بما يقوم على فقال النبي صلى الله عليه وسلم انحرها واصبغ نعلها
بدمها ثم اضرب به صفحة سنامها وخل بينها وبين الفقراء ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك وإنما لا يحل
له أن يأكل كل منها وله أن يطعم الأغنياء لان القربة كانت في ذبحه إذا بلغ محله فإذا لم يبلغ كانت القربة في التصدق
225

ولا يجب عليه مكانه آخر لأنه لم يكن واجبا عليه ويتصدق بجلالها وخطامها لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال لعلي رضي الله عنه تصدق بجلالها وخطامها ولا تعط الجزار منها شيئا ولا يجوز له أن يأكل من دم النذر
شيئا وجملة الكلام فيه ان الدماء نوعان نوع يجوز لصاحب الدم ان يأكل منه وهو دم المتعة والقران والأضحية
وهدى التطوع إذا بلغ محله ونوع لا يجوز له أن يأكل منه وهو دم النذر والكفارات وهدى الاحصار وهدى
التطوع إذا لم يبلغ محله لان الدم في النوع الأول دم شكر فكان نسكا فكان له أن يأكل منه ودم النذر دم صدقة
وكذا دم الكفارة في معناه لأنه وجب تكفير الذنب وكذا دم الاحصار لوجود التحلل والخروج من الاحرام
قبل أوانه وهدى التطوع إذا لم يبلغ محله بمعنى القربة في التصدق به فكان دم صدقة وكل دم يجوز له ان يأكل منه
لا يجب عليه التصدق بلحمه بعد الذبح لأنه لو وجب عليه التصدق به لما جاز أكله لما فيه من ابطال حق الفقراء
وكل ما لا يجوز له ان يأكل منه يجب عليه التصدق به بعد الذبح لأنه إذا لم يجز له أكله ولا يتصدق به يؤدى إلى
إضاعة المال وكذا لو هلك المذبوح بعد الذبح لا ضمان عليه في النوعين لأنه لا صنع له في الهلاك وان استهلكه
بعد الذبح فإن كان مما يجب عليه التصدق به يضمن قيمته فيتصدق بها لأنه تعلق به حق الفقراء فبالاستهلاك
تعدى على حقهم فيضمن قيمته ويتصدق بها لأنها بدل أصل مال واجب التصدق به وإن كان مما لا يجب
التصدق به لا يضمن شيئا لأنه لم يوجد منه التعدي باتلاف حق الفقراء لعدم تعلق حقهم به ولو باع اللحم يجوز بيعه
في النوعين جميعا لان ملكه قائم الا أن فيما لا يجوز له أكله ويجب عليه التصدق به يتصدق بثمنه لان ثمنه مبيع
واجب التصدق به لتعلق حق الفقراء به فيتمكن في ثمنه حنث فكان سبيله التصدق به والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما العمرة فالكلام فيها يقع في مواضع في بيان صفتها أنها واجبة أم لا وفي بيان شرائط وجوبها
إن كانت واجبة وفي بيان ركنها وفي بيان شرائط الركن وفي بيان واجباتها وفي بيان سننها وفي بيان ما يفسدها وفي بيان حكمها إذا فسدت (أما) الأول فقد اختلف فيها قال أصحابنا انها واجبة كصدقة الفطر والأضحية والوتر ومنهم
من أطلق اسم السنة وهذا الاطلاق لا ينافي الواجب وقال الشافعي انها فريضة وقال بعضهم هي تطوع واحتج
هؤلاء بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الحج مكتوب والعمرة تطوع وهذا نص وعن جابر
رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله العمرة أهي واجبة قال لا وان تعتمر خير لك واحتج الشافعي بقوله تعالى
وأتموا الحج والعمرة لله والامر للفرضية وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العمرة هي الحجة الصغرى
وقد ثبت فرضية الحج بنص الكتاب العزيز ولنا على الشافعي قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا ولم يذكر العمرة لان مطلق اسم الحج لا يقع على العمرة فمن قال إنها فريضة فقد زاد على النص فلا يجوز
الا بدليل وكذا حديث الاعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الايمان والشرائع فبين
له الايمان وبين له الشرائع ولم يذكر فيها العمرة فقال الاعرابي هل على شئ غير هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لا الا أن تطوع فظاهره يقتضى انتفاء فريضة العمرة وأما الآية الكريمة فلا دلالة فيها على فرضية العمرة لأنها
قرئت برفع العمرة والعمرة لله وانه كلام تام بنفسه غير معطوف على الامر بالحج أخبر الله تعالى ان العمرة لله ردا
لزعم الكفرة لأنهم كانوا يجعلون العمرة للأصنام على ما كانت عبادتهم من الاشراك وأما على قراءة العامة فلا
حجة له فيها أيضا لان فيها أمرا باتمام العمرة واتمام الشئ يكون بعد الشروع فيه وبه نقول إنها بالشروع تصير
فريضة مع ما أنه روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا في تأويل الآية اتمامهما أن تحرم بهما من
دويرة أهلك على أن هذا إن كان أمرا بانشاء العمرة فما الدليل على أن مطلق الامر يفيد الفرضية بل الفرضية
عندنا ثبتت بدليل زائد وراء نفس الامر وإنما يحمل على الوجوب احتياطا وبه نقول إن العمرة واجبة ولكنها
ليست بفريضة وتسميتها حجة صغرى في الحديث يحتمل أن يكون في حكم الثواب لأنها ليس بحجة حقيقة
226

ألا ترى أنها عطفت على الحجة في الآية والشئ لا يعطف على نفسه في الأصل ويقال حج فلان وما اعتمر على
أن وصفها بالصغر دليل انحطاط رتبتها عن الحج فإذا كان الحج فرضا فيجب أن تكون هي واجبة ليظهر الانحطاط
إذ الواجب دون الفرض واطلاق اسم التطوع عليها في الحديث يصلح حجة على الشافعي لا علينا لأنه يقول
بفرضية العمرة والتطوع لا يحتمل أن يكون فرضا ونحن نقول بوجوب العمرة والواجب ما يحتمل أن يكون فرضا
ويحتمل أن يكون تطوعا فكان اطلاق اسم التطوع صحيحا على أحد الاحتمالين وليس للفرض هذا الاحتمال فلا
يصح الاطلاق وقول السائل في الحديث السابق أهي واجبة محمول على الفرض إذ هو الواجب على الاطلاق
عملا واعتقادا عينا فقول النبي صلى الله عليه وسلم لا نفى له وبه نقول (وأما) شرائط وجوبها فهي شرائط وجوب
الحج لان الواجب ملحق بالفرض في حق الأحكام وقد ذكرنا ذلك في فصل الحج (وأما) ركنها فالطواف لقوله
عز وجل وليطوفوا بالبيت العتيق ولاجماع الأمة عليه (وأما) شرائط الركن فما ذكرنا في الحج الا الوقت فان
السنة كلها وقت العمرة وتجوز في غير أشهر الحج وفى أشهر الحج لكنه يكره فعلها في يوم عرفة ويوم النحر
وأيام التشريق أما الجواز في الأوقات كلها فلقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله مطلقا عن الوقت وقد روى
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة الا شهدتها وما اعتمر الا في
ذي القعدة وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر مع طائفة من أهله في
عشر ذي الحجة فدل الحديثان على أن جوازها في أشهر الحج وما روى عن عمر رضي الله عنه انه كان ينهى عنها
في أشهر الحج فهو محمول على نهى الشفقة على أهل الحرم لئلا يكون الموسم في وقت واحد من السنة بل في وقتين
لتوسع المعيشة على أهل الحرم الا أنه يكره في الأيام الخمسة عندنا في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف أنه لا يكره
يوم عرفة قبل الزوال وقال الشافعي لا يكره في هذه الأيام أيضا واحتج بما تلونا من هذه الآية وبما روينا من
الحديثين لأنه دخل يوم عرفة ويوم النحر فيها (وجه) رواية أبى يوسف ان ما قبل الزوال من يوم عرفة ليس وقت
الوقوف فلا يشغله عن الوقوف في وقته ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت وقت العمرة السنة كلها
الا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق والظاهر أنها قالت سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه باب
لا يدرك بالاجتهاد ولأن هذه الأيام أيام شغل الحاج بأداء الحج والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك وربما يقع الخلل فيه
فيكره ولا حجة له فيما ذكر لان ذلك يدل على الجواز وبه نقول وإنما الكلام في الكراهة والجواز لا ينفيها وقد
قام دليل الكراهة وهو ما ذكرنا وكذا يختلفان في الميقات في حق أهل مكة فميقاتهم للحج من دويرة أهلهم
وللعمرة من الحل التنعيم أو غيره ومحظورات العمرة ما هو محظورات الحج وحكم ارتكابها في العمرة ما هو الحكم
في الحج وقد مضى بيان ذلك كله في الحج (وأما) واجباتها فشيئان السعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير فاما
طواف الصدر فلا يجب على المعتمر وقال الحسن بن زياد يجب عليه كذا ذكر الكرخي وجه قوله إن طواف
الصدر طواف الوداع والمعتمر يحتاج إلى الوداع كالحاج ولنا أن الشرع علق طواف الصدر بالحج بقول النبي
صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (وأما) سننها فما ذكرنا في الحج غير أنه
إذا استلم الحجر يقطع التلبية عند أول شوط من الطواف عند عامة العلماء وقال مالك إن كان احرامه للعمرة
من المدينة يقطع التلبية إذا دخل الحرم وإن كان احرامه لها من مكة يقطع إذا وقع بصره على البيت والصحيح
قول العامة لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبى في العمرة حتى يستلم
الحجر وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر في
ذي القعدة وكان يلبى في ذلك حتى يستلم الحجر ولان استلام الحجر نسك ودخول الحرم ووقوع البصر على البيت
ليس بنسك فقطع التلبية عندما هو نسك أولى ولهذا يقطع التلبية في الحج عند الرمي لأنه نسك كذا هذا والله أعلم
227

(وأما) بيان ما يفسدها وبيان حكمها إذا فسدت فالذي يفسدها الجماع لكن عند وجود شرط كونه مفسدا وذلك
شيان أحدهما الجماع في الفرج لما ذكرنا في الحج والثاني أن يكون قبل الطواف كله أو أكثره وهو أربعة
أشواط لان ركنها الطواف فالجماع حصل قبل أداء الركن فيفسدها كما لو حصل قبل الوقوف بعرفة في الحج
وإذا فسدت يمضى فيها ويقضيها وعليه شاة لأجل الفساد عندنا وقال الشافعي بدنة كما في الحج فان جامع بعد
ما طاف أربعة أشواط أو بعدما طاف الطواف كله قبل السعي أو بعد الطواف والسعي قبل الحلق لا تفسد عمرته
لان الجماع حصل بعد أداء الركن وعليه دم لحصول الجماع في الاحرام وان جامع بعد الحلق لا شئ عليه لخروجه
عن الاحرام بالحلق فان جامع ثم جامع فهو على التفصيل والاتفاق والاختلاف الذي ذكرنا في الحج والله الموفق
* (كتاب النكاح) *
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في أربعة مواضع في بيان صفة النكاح المشروع وفي بيان ركن النكاح وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكم النكاح أما الأول فنقول لا خلاف أن النكاح فرض حالة التوقان حتى أن من
تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم واختلف فيما إذا لم
تتق نفسه إلى النساء على التفسير الذي ذكرنا قال نفاة القياس مثل داود بن علي الأصفهاني وغيره من أصحاب
الظواهر انه فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الأعيان حتى أن من تركه مع القدرة على
المهر والنفقة والوطئ يأثم وقال الشافعي انه مباح كالبيع والشراء واختلف أصحابنا فيه قال بعضهم انه مندوب
ومستحب واليه ذهب من أصحابنا الكرخي وقال بعضهم انه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين بمنزلة
الجهاد وصلاة الجنازة وقال بعضهم انه واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في كيفية الوجوب قال بعضهم
انه واجب على سبيل الكفاية كرد السلام وقال بعضهم انه واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين
كصدقة الفطر والأضحية والوتر احتج أصحاب الظواهر بظواهر النصوص من نحو قوله عز وجل فانكحوا
ما طاب لكم من النساء وقوله عز وجل وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وقول النبي صلى
الله عليه وسلم تزوجوا ولا تطلقوا فان الطلاق يهتز له عرش الرحمن وقوله صلى الله عليه وسلم تناكحوا تكثروا فانى أباهي
بكم الأمم يوم القيامة أمر الله عز وجل بالنكاح مطلقا والامر المطلق للفرضية والوجوب قطعا الا أن يقوم الدليل
بخلافه ولان الامتناع من الزنا واجب ولا يتوصل إليه الا بالنكاح وما لا يتوصل إلى الواجب الا به يكون واجبا
واحتج الشافعي بقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم أخبر عن احلال النكاح والمحلل
والمباح من الأسماء المترافة ولأنه قال وأحل لكم ولفظ لكم يستعمل في المباحات ولان النكاح سبب يتوصل
به إلى قضاء الشهوة فيكون مباحا كشراء الجارية للتسرى بها وهذا لان قضاء الشهوة ايصال النفع إلى نفسه
وليس يجب على الانسان ايصال النفع إلى نفسه بل هو مباح في الأصل كالأكل والشرب وإذا كان مباحا
لا يكون واجبا لما بينهما من التنافي والدليل على أن النكاح ليس بواجب قوله تعالى وسيدا وحصورا ونبيا من
الصالحين وهذا خرج مخرج المدح ليحيى عليه الصلاة والسلام بكونه حصورا والحصور الذي لا يأتي النساء
مع القدرة ولو كان واجبا لما استحق المدح بتركه لان ترك الواجب لان يذم عليه أولى من أن يمدح واحتج من
قال من أصحابنا انه مندوب إليه ومستحب بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من استطاع منكم الباءة
فليتزوج ومن لم يستطع فليصم فان الصوم له وجاء أقام الصوم مقام النكاح والصوم ليس بواجب فدل أن النكاح
ليس بواجب أيضا لان غير الواجب لا يقوم مقام الواجب ولان في الصحابة رضي الله عنهم من لم تكن له زوجة
ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه بذلك ولم ينكر عليه فدل أنه ليس بواجب ومن قال منهم انه
228

فرض أو واجب على سبيل الكفاية احتج بالأوامر الواردة في باب النكاح والامر المطلق للفرضية
والوجوب قطعا والنكاح لا يحتمل ذلك على طريق التعيين لان كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم فيحمل
على الفرضية والوجوب على طريق الكفاية فأشبه الجهاد وصلاة الجنازة ورد السلام ومن قال منهم انه
واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين يقول صيغة الامر المطلقة عن القرينة تحتمل الفرضية
وتحتمل الندب لان الامر دعاء وطلب ومعنى الدعاء والطلب موجود في كل واحد منهما فيؤتى بالفعل
لا محالة وهو تفسير وجوب العمل ويعتقد على الابهام على أن ما أراد الله تعالى بالصيغة من الوجوب القطعي
أو الندب فهو حق لأنه إن كان واجبا عند الله فخرج عن العهدة بالفعل فيأمن الضرر وإن كان مندوبا
يحصل له الثواب فكان القول بالوجوب على هذا الوجه أخذا بالثقة والاحتياط واحترازا عن الضرر بالقدر
الممكن وانه واجب شرعا وعقلا وعلى هذا الأصل بنى أصحابنا من قال منهم ان النكاح فرض أو واجب لان
الاشتغال به مع أداء الفرائض والسنن أولى من التخلي لنوافل العبادات مع ترك النكاح وهو قول أصحاب
الظواهر لان الاشتغال بالفرض والواجب كيف ما كان أولى من الاشتغال بالتطوع ومن قال منهم انه مندوب
ومستحب فإنه يرجحه على النوافل من وجوه أخر أحدها انه سنة قال النبي صلى الله عليه وسلم النكاح سنتي
والسنن مقدمة على النوافل بالاجماع ولأنه أوعد على ترك السنة بقوله فمن رغب عن سنتي فليس منى ولا وعيد
على ترك النوافل والثاني انه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه أي دوام وثبت عليه بحيث لم
يخل عنه بل كان يزيد عليه حتى تزوج عددا مما أبيح له من النساء ولو كان التخلي للنوافل أفضل لما فعل لأن الظاهر
أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتركون الأفضل فيما له حد معلوم لان ترك الأفضل فيما له حد معلوم
عدزلة منهم وإذا ثبت أفضلية النكاح في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق الأمة لان الأصل في
الشرائع هو العموم والخصوص بدليل والثالث انه سبب يتوصل به إلى مقصود هو مفضل على النوافل لأنه سبب
لصيانة النفس عن الفاحشة وسبب لصيانة نفسها عن الهلاك بالنفقة والسكنى واللباس لعجزها عن الكسب
وسبب لحصول الولد الموحد وكل واحد من هذه المقاصد مفضل على النوافل فكذا السبب الموصل إليه كالجهاد
والقضاء وعند الشافعي التخلي أولى وتخريج المسألة على أصله ظاهر لان النوافل مندوب إليها فكانت مقدمة
على المباح وما ذكره من دلائل الإباحة والحل فنحن نقول بموجبها ان النكاح مباح وحلال في نفسه لكنه
واجب لغيره أو مندوب ومستحب لغيره من حيث إنه صيانة للنفس من الزنا ونحو ذلك على ما بينا ويجوز أن يكون
الفعل الواحد حلالا بجهة واجبا أو مندوبا إليه بجهة إذ لا تنافى عند اختلاف الجهتين وأما قوله عز وجل
وسيد أو حصور أو نبيا من الصالحين فاحتمل أن التخلي للنوافل كان أفضل من النكاح في شريعته ثم نسخ ذلك
في شريعتنا بما ذكرنا من الدلائل والله أعلم
* (فصل) * وأما ركن النكاح فهو الايجاب والقبول وذلك بألفاظ مخصوصة أو ما يقوم مقام اللفظ فيقع
الكلام في هذا الفصل في أربعة مواضع أحدها في بيان اللفظ الذي ينعقد النكاح به بحروفه والثاني في بيان
صيغة ذلك اللفظ والثالث في بيان أن النكاح هل ينعقد بعاقد واحدا ولا ينعقد الا بعاقدين والرابع في بيان صفة
الايجاب والقبول أما بيان اللفظ الذي ينعقد به النكاح بحروفه فنقول وبالله التوفيق لا خلاف أن النكاح ينعقد
بلفظ الانكاح والتزويج وهل ينعقد بلفظ البيع والهبة والصدقة والتمليك قال أصحابنا رحمهم الله ينعقد وقال
الشافعي لا ينعقد الا بلفظ الانكاح والتزويج واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اتقوا الله
في النساء فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وكلمته التي أحل بها الفروج
في كتابه الكريم لفظ الانكاح والتزويج فقط قال الله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم وقال سبحانه وتعالى
229

زوجناكها ولان الحكم الأصلي للنكاح هو الازدواج والملك يثبت وسيلة إليه فوجب اختصاصه بلفظ يدل
على الازدواج وهو لفظ التزويج والانكاح لا غير ولنا أنه انعقد نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة
فينعقد به نكاح أمته ودلالة الوصف قوله تعالى وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبي أن يستنكحها
خالصة لك معطوفا على قوله يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك أخبر الله تعالى ان المرأة المؤمنة التي وهبت نفسها
للنبي صلى الله عليه وسلم عند استنكاحه إياها حلال له وما كان مشروعا في حق النبي صلى الله عليه وسلم
يكون مشروعا في حق أمته هو الأصل حتى يقوم دليل الخصوص فان قيل قد قام دليل الخصوص ههنا وهو قوله
تعالى خالصة لك من دون المؤمنين فالجواب أن المراد منه خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر فالخلوص يرجع
إلى الاجر لا إلى لفظ الهبة لوجوه أحدها ذكره عقيبه وهو قوله عز وجل قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم
فدل أن خلوص تلك المرأة له كان بالنكاح بلا فرض منه والثاني أنه قال تعالى لئلا يكون عليك حرج ومعلوم
أنه لا حرج كان يلحقه في نفس العبارة وإنما الحرج في اعطاء البدل والثالث أن هذا خرج مخرج الامتنان
عليه وعلى أمته في لفظ الهبة ليست تلك في لفظة التزويج فدل أن المنة فيما صارت له بلا مهر فانصرف الخلوص
إليه ولان الانعقاد بلفظ النكاح والتزويج لكونه لفظا موضوعا لحكم أصل النكاح شرعا وهو الازدواج وانه لم
يشرع بدون الملك فإذا أتى به يثبت الازدواج باللفظ ويثبت الملك الذي يلازمه شرعا ولفظ التمليك موضوع
لحكم آخر أصلى للنكاح وهو الملك وانه غير مشروع في النكاح بدون الازدواج فإذا أتى به وجب أن يثبت به
الملك ويثبت الازدواج الذي يلازمه شرعا استدلالا لاحد اللفظين بالآخر وهذا لأنهما حكمان متلازمان
شرعا ولم يشرع أحدهما بدون الآخر فإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر ضرورة ويكون الرضا بأحدهما رضا
بالآخر وأما الحديث فنقول بموجبه لكن لم قلتم ان استحلال الفروج بهذه الألفاظ استحلال بغير كلمة
الله فيرجع الكلام إلى تفسير الكلمة المذكورة فنقول كلمة الله تعالى تحتمل حكم الله عز وجل كقوله تعالى ولولا
كلمة سبقت من ربك فلم قلتم بأن جواز النكاح بهذه الألفاظ ليس حكم الله تعالى والدليل على أنه حكم الله تعالى
ما ذكرنا من الدلائل مع ما أن كل لفظ جعل علما على حكم شرعي فهو حكم الله تعالى وإضافة الكلمة إلى الله تعالى
باعتبار أن الشارع هو الله تعالى فهو الجاعل اللفظ سببا لثبوت الحكم شرعا فكان كلمة الله تعالى فمن هذا الوجه
على الاستحلال بكلمة الله لا ينفى الاستحلال لا بكلمة الله تعالى فكان مسكوتا عنه فلا يصح الاحتجاج به
ولا ينعقد النكاح بلفظ الإجارة عند عامة مشايخنا والأصل عندهم أن النكاح لا ينعقد الا بلفظ موضوع لتمليك
العين هكذا روى ابن رستم عن محمد أنه قال كل لفظ يكون في اللغة تمليكا للرقبة فهو في الحرة نكاح وحكى عن
الكرخي أنه ينعقد بلفظ الإجارة لقوله تعالى فآتوهن أجورهن سمى الله تعالى المهر أجرا ولا أجر الا بالإجارة
فلو لم تكن الإجارة نكاحا لم يكن المهر أجرا (وجه) قول العامة ان الإجارة عقد موقت بدليل أن التأبيد يبطلها
والنكاح عقد مؤبد أن التوقيت يبطله وانعقاد العقد بلفظ يتضمن المنع من الانعقاد ممتنع ولان الإجارة
تمليك المنفعة ومنافع البضع في حكم الاجزاء والأعيان فكيف يثبت ملك العين بتمليك المنفعة ولا ينعقد بلفظ
الإعارة لان الإعارة إن كانت إباحة المنفعة فالنكاح لا ينعقد بلفظ الإباحة لانعدام معنى التمليك أصلا وإن كانت
تمليك المتعة فالنكاح لا ينعقد الا بلفظ موضوع لتمليك الرقبة ولم يوجد واختلف المشايخ في لفظ القرض قال
بعضهم لا ينعقد لأنه في معنى الإعارة وقال بعضهم ينعقد لأنه يثبت به الملك في العين لان المستقرض يصير ملكا
للمستقرض وكذا اختلفوا في لفظ السلم قال بعضهم لا ينعقد لان السلم في الحيوان لا يصح وقال بعضهم ينعقد لأنه
يثبت به ملك الرقبة والسلم في الحيوان ينعقد عندنا حتى لو اتصل به القبض يعد الملك ملكا فاسدا لكن ليس كل
ما يفسد البيع يفسد النكاح واختلفوا أيضا في لفظ الصرف قال بعضهم لا ينعقد به لأنه وضع لاثبات الملك في
230

الدراهم والدنانير التي لا تتعين بالتعيين والمعقود عليه ههنا يتعين بالتعيين وقال بعضهم ينعقد لأنه يثبت به ملك
العين في الجملة وأما لفظ الوصية فلا ينعقد به عند عامة مشايخنا لان الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت
والنكاح المضاف إلى زمان في المستقبل لا يصح وحكى عن الطحاوي انه ينعقد لأنه يثبت به ملك الرقبة في الجملة
وحكى أبو عبد الله البصري عن الكرخي ان قيد الوصية بالحال بأن قال أوصيت لك يا بنتي هذه الآن ينعقد لأنه
إذا قيده بالحال صار مجازا عن التمليك ولا ينعقد بلفظ الاحلال والإباحة لأنه لا يدل على الملك أصلا ألا ترى أن
المباح له الطعام يتناوله على حكم ملك المبيح حتى كان له حق الحجر والمنع ولا ينعقد بلفظ المتعة لأنه لم يوضع للتمليك
ولان المتعة عقد مفسوخ لما نبين إن شاء الله في موضعه ولو أضاف الهبة إلى الأمة بأن قال رجل وهبت أمتي هذه
منك فإن كان الحال يدل على النكاح من احضار الشهود وتسمية المهر مؤجلا ومعجلا ونحو ذلك ينصرف إلى
النكاح وان لم يكن الحال دليلا على النكاح فان نوى النكاح فصدقه الموهوب له فكذلك وينصرف إلى النكاح
بقرينة النية وان لم ينو ينصرف إلى ملك الرقبة والله عز وجل اعلم ثم النكاح كما ينعقد بهذه الألفاظ بطريق
الأصالة ينعقد بها بطريق النيابة بالوكالة والرسالة لان تصرف الوكيل كتصرف الموكل وكلام الرسول كلام
المرسل والأصل في جواز الوكالة في باب النكاح ما روى أن النجاشي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
أم حبيبة رضي الله عنها فلا يخلو ذلك اما ان فعله بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا بأمره فان فعله بأمره فهو وكيله
وان فعله بغير أمره فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم عقده والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة وكما ينعقد
النكاح بالعبارة ينعقد بالإشارة من الأخرس إذا كانت إشارته معلومة وينعقد بالكتابة لان الكتاب من
الغائب خطابه والله تعالى أعلم وأما بيان صيغة اللفظ الذي ينعقد به النكاح فنقول لا خلاف في أن النكاح
ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي كقوله زوجت وتزوجت وما يجرى مجراه واما بلفظين يعبر بأحدهما عن
الماضي وبالآخر عن المستقبل كما إذا قال رجل لرجل زوجني بنتك أو قال جئتك خاطبا ابنتك أو قال جئتك
لتزوجني بنتك فقال الأب قد زوجتك أو قال لامرأة أتزوجك على ألف درهم فقالت قد تزوجتك على ذلك أو قال
لها زوجيني أو انكحيني نفسك فقالت زوجتك أو أنكحت ينعقد استحسانا والقياس أن لا ينعقد لان لفظ
الاستقبال عدة والامر من فروع الاستقبال فلم يوجد الاستقبال فلم يوجد الايجاب الا أنهم تركوا القياس لما
روى أن بلالا رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار فأبوا أن يزوجوه فقال لولا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمرني أن أخطب إليكم لما خطبت فقالوا له ملكت ولم ينقل ان بلالا أعاد القول ولو فعل لنقل ولأن الظاهر أنه
أراد الايجاب لان المساومة لا تتحقق في النكاح عادة فكان محمولا على الايجاب بخلاف البيع فان السوم
معتاد فيه فيحمل اللفظ عليه فلا بد من لفظ آخر يتأدى به الايجاب والله الموفق وأما بيان ان النكاح هل ينعقد
بعاقد واحد أو لا ينعقد الا بعاقدين فقد اختلف في هذا الفصل قال أصحابنا ينعقد بعاقد واحد إذا كانت له ولاية
من الجانبين سواء كانت ولايته أصلية كالولاية الثابتة بالملك والقرابة أو دخيلة كالولاية الثابتة بالوكالة بأن كان
العاقد مالكا من الجانبين كالمولى إذا زوج أمته من عبده أو كان وليا من الجانبين كالجد إذا زوج ابن ابنه
الصغير من بنت ابنه الصغيرة والأخ إذا زوج بنت أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير أو كان أصيلا ووليا كابن
العم إذا زوج بنت عمه من نفسه أو كان وكيلا من الجانبين أو رسولا من الجانبين أو كان وليا من جانب ووكيلا
من جانب آخر أو وكلت امرأة رجلا ليتزوجها من نفسه أو وكل رجل امرأة لتزوج نفسها منه وهذا مذهب
أصحابنا الثلاثة وقال زفر لا ينعقد النكاح بعاقد واحد أصلا وقال الشافعي لا ينعقد الا إذا كان وليا من الجانبين
ولقب المسألة أن الواحد هل يجوز أن يقوم بالنكاح من الجانبين أم لا (وجه) قول زفر والشافعي أن ركن النكاح
اسم لشطرين مختلفين وهو الايجاب والقبول فلا يقومان الا بعاقدين كشطري البيع الا أن الشافعي يقول في
231

الولي ضرورة لان النكاح لا ينعقد بلا ولى فإذا كان الولي متعينا فلو لم يجز نكاح المولية لامتنع نكاحها أصلا
وهذا لا يجوز وهذه الضرورة منعدمة في الوكيل ونحوه ولنا قوله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم
فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهم وترغبون أن تنكحوهن قيل
نزلت هذه الآية في يتيمة في حجر وليها وهي ذات مال (ووجه) الاستدلال بالآية الكريمة ان قوله تعالى
لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن خرج مخرج العتاب فيدل على أن الولي يقوم بنكاح وليته
وحده إذ لو لم يقم وحده به لم يكن للعتاب معنى لما فيه من الحاق العتاب بأمر لا يتحقق وقوله تعالى وأنكحوا
الأيامى منكم أمر سبحانه وتعالى بالانكاح مطلقا من غير فصل بين الانكاح من غيره أو من نفسه ولان الوكيل
في باب النكاح ليس بعاقد بل هو سفير عن العاقد ومعبر عنه بدليل أن حقوق النكاح والعقد لا ترجع إلى الوكيل
وإذا كان معبرا عنه وله ولاية على الزوجين فكانت عبارته كعبارة الموكل فصار كلامه ككلام شخصين فيعتبر
ايجابه كلاما للمرأة كأنها قالت زوجت نفسي من فلان وقبوله كلاما للزوج كأنه قال قبلت فيقوم العقد باثنين
حكما والثابت بالحكم ملحق بالثابت حقيقة وأما البيع فالواحد فيه إذا كان وليا يقوم بطرفي العقد كالأب يشترى
مال الصغير لنفسه أو يبيع مال نفسه من الصغير أو يبيع مال ابنه الصغير من ابنه الصغير أو يشترى الا أنه إذا كان
وكيلا لا يقوم بهما لان حقوق العقد مقتصرة على العاقد فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين ولان حقوق البيع
إذا كانت مقتصرة على العاقد وللبيع أحكام متضادة من التسليم والقبض والمطالبة فلو تولى طرفي العقد لصار
الشخص الواحد مطالبا ومطلوبا ومسلما ومتسلما وهذا ممتنع والله عز وجل اعلم (وأما) صفة الايجاب والقبول
فهي أن لا يكون أحدهما لازما قبل وجود الآخر حتى لو وجد الايجاب من أحد المتعاقدين كان له أن يرجع
قبل قبول الآخر كما في البيع لأنهما جميعا ركن واحد فكان أحدهما بعض الركن والمركب من شيئين
لا وجود له بأحدهما
* (فصل) * وأما شرائط الركن فأنواع بعضها شرط الانعقاد وبعضها شرط الجواز والنفاذ وبعضها شرط
اللزوم (أما) شرط الانعقاد فنوعان نوع يرجع إلى العاقد ونوع يرجع إلى مكان العقد بالفعل فلا ينعقد نكاح
المجنون والصبي الذي لا يعقل لان العقل من شرائط أهلية التصرف فأما البلوغ فشرط النفاذ عندنا لا شرط الانعقاد
على ما نذكر إن شاء الله تعالى وأما تعذر العاقد فليس بشرط لانعقاد النكاح خلافا لزفر على ما مر (وأما) الذي يرجع
إلى مكان العقد فهو اتحاد المجلس إذا كان العاقدان حاضرين وهو أن يكون الايجاب والقبول في مجلس واحد
حتى لو اختلف المجلس لا ينعقد النكاح بأن كانا حاضرين فأوجب أحدهما فقام الآخر عن المجلس قبل القبول
أو اشتغل بعمل يوجب اختلاف المجلس لا ينعقد لان انعقاده عبارة عن ارتباط أحد الشطرين بالآخر فكان
القياس وجودهما في مكان واحد الا ان اعتبار ذلك يؤدى إلى سد باب العقود فجعل المجلس جامعا للشطرين حكما
مع تفرقهما حقيقة للضرورة والضرورة تندفع عند اتحاد المجلس فإذا اختلف تفرق الشطران حقيقة وحكما فلا
ينتظم الركن (وأما) الفور فليس من شرائط الانعقاد عندنا وعند الشافعي هو شرط والمسألة ستأتي في كتاب البيوع
ونذكر الفرق هناك وعلى هذا يخرج ما إذا تناكحا وهما يمشيان أو يسيران على الدابة وهو على التفصيل الذي نذكر
إن شاء الله تعالى في كتاب البيوع ونذكر الفرق هناك بين المشي والسير على الدابة وبين جريان السفينة هذا إذا
كان العاقدان حاضرين فأما إذا كان أحدهما غائبا لم ينعقد حتى لو قالت امرأة بحضرة شاهدين زوجت نفسي
من فلان وهو غائب فبلغه الخبر فقال قبلت أو قال رجل بحضرة شاهدين تزوجت فلانة وهي غائبة فبلغها الخبر
فقالت زوجت نفسي منه لم يجز وإن كان القبول بحضرة ذينك الشاهدين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال
أبو يوسف ينعقد ويتوقف على إجازة الغائب (وجه) قول أبى يوسف ان كلام الواحد يصلح أن يكون عقدا في
232

باب النكاح لان الواحد في هذا الباب يقوم بالعقد من الجانبين وكما لو كان مالكا من الجانبين أو وليا أو وكيلا
فكان كلامه عقدا لا شطرا فكان محتملا للتوقف كما في الخلع والطلاق والاعتاق على مال (وجه) قولهما ان
هذا شطر العقد حقيقة لا كله لأنه لا يملك كله لانعدام الولاية وشطر العقد لا يقف على غائب عن المجلس كالبيع
وهذا لان الشطر لا يحتمل التوقف حقيقة لان التوقف في الأصل على خلاف الحقيقة لصدوره عن الولاء على
الجانبين فيصير كلامه بمنزلة كلامين وشخصه كشخصين حكما فإذا انعدمت الولاية ولا ضرورة إلى تعيين
الحقيقة فلا يقف بخلاف الخلع لأنه من جانب الزوج يمين لأنه تعليق الطلاق بقبول المرأة وانه يمين فكان عقدا
تاما ومن جانب المرأة معاوضة فلا يحتمل التوقف كالبيع وكذلك الطلاق والاعتاق على مال ولو أرسل إليها
رسولا وكتب إليها بذلك كتابا فقبلت بحضرة شاهدين سمعا كلام الرسول وقراءة الكتاب جاز ذلك لاتحاد
المجلس من حيث المعنى لان كلام الرسول كلام المرسل لأنه ينقل عبارة المرسل وكذا الكتاب بمنزلة الخطاب
من الكاتب فكان سماع قول الرسول وقراءة الكتاب سماع قول المرسل وكلام الكاتب معنى وان لم يسمعا
كلام الرسول وقراءة الكتاب لا يجوز عندهما وعند أبي يوسف إذا قالت زوجت نفسي يجوز وان لم يسمعا
كلام الرسول وقراءة الكتاب بناء على أن قولها زوجت نفسي شطر العقد عندهما والشهادة في شطرى العقد
شرط لأنه يصير عقدا بالشطرين فإذا لم يسمعا كلام الرسول وقراءة الكتاب فلم توجد الشهادة على العقد وقول
الزوج بانفراده عقد عنده وقد حضر الشاهدان وعلى هذا الخلاف الفضولي الواحد من الجانبين بأن قال الرجل
زوجت فلانة من فلان وهما غائبان لم ينعقد عندهما حتى لو بلغهما الخبر فأجازا لم يجز وعنده ينعقد ويجوز
بالإجازة ولو قال فضولي زوجت فلانة من فلان وهما غائبان فقبل فضولي آخر عن الزوج ينعقد بلا خلاف
بين أصحابنا حتى إذا بلغهما الخبر وأجازا جاز ولو فسخ الفضولي العقد قبل إجازة من وقف العقد على اجازته صح
الفسخ في قول أبى يوسف وعند محمد لا يصح (وجه) قوله إنه بالفسخ متصرف في حق غيره فلا يصح
ودلالة ذلك ان العقد قد انعقد في حق المتعاقدين وتعلق به حق توقف على اجازته لان الحكم عند الإجازة ثبت
بالعقد السابق فكان هو بالفسخ متصرفا في محل تعلق به حق الغير فلا يصح فسخه بخلاف الفضولي إذا باع
ثم فسخ قبل اتصال الإجازة به انه يجوز لان الفسخ هناك تصرف دفع الحقوق عن نفسه لأنه عند الإجازة تتعلق
حقوق العقد بالوكيل فكان هو بالفسخ دافعا الحقوق عن نفسه فيصح كالمالك إذا أوجب النكاح أو البيع
أنه يملك الرجوع قبل قبول الآخر لما قلنا كذا هذا (وجه) قول أبى يوسف ان العقد قبل الإجازة
غير منعقد في حق الحكم وإنما انعقد في حق المتعاقدين فقط فكان الفسخ منه قبل الإجازة تصرفا في كلام نفسه
بالنقض فجاز كما في البيع
* (فصل) * وأما بيان شرائط الجواز والنفاذ فأنواع منها أن يكون العاقد بالغا فان نكاح الصبي العاقل وإن كان
منعقدا على أصل أصحابنا فهو غير نافذ بل نفاذه يتوقف على إجازة وليه لان نفاذ التصرف لاشتماله على وجه
المصلحة والصبي لقلة تأمله لاشتغاله باللهو واللعب لا يقف على ذلك فلا ينفذ تصرفه بل يتوقف على إجازة وليه فلا
يتوقف على بلوغه حتى لو بلغ قبل أن يجيزه الولي لا ينفذ بالبلوغ لأن العقد انعقد موقوفا على إجازة الولي ورضاه
لسقوط اعتبار رضا الصبي شرعا وبالبلوغ زالت ولاية الولي فلا ينفذ ما لم يجزه بنفسه وعند الشافعي لا تنعقد
تصرفات الصبي أصلا بل هي باطلة وقد ذكرنا المسألة في كتاب المأذون ومنها أن يكون حرا فلا يجوز نكاح
مملوك بالغ عاقل الا باذن سيده والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم أيما عبد تزوج بغير اذن مولاه فهو عاهر
والكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان ان اذن المولى شرط جواز نكاح المملوك لا يجوز من غير اذنه
أو اجازته وفي بيان ما يكون إجازة له وفي بيان ما يملكه من النكاح بعد الاذن وفي بيان حكم المهر في نكاح المملوك
233

أما الأول فلا يجوز نكاح مملوك بغير اذن مولاه وإن كان عاقلا بالغا سواء كان قنا أو مدبرا أو مدبرة أو أم ولد
أو مكاتبة أو مكاتبا اما القن فإن كان أمة فلا يجوز نكاحها بغير اذن سيدها بلا خلاف لان منافع البضع مملوكة
لسيدها ولا يجوز التصرف في ملك الغير بغير اذنه وكذلك المدبرة وأم الولد لما قلنا وكذا المكاتبة لأنها ملك
المولى رقبة وملك المتعة يتبع ملك الرقبة الا أنه منع من الاستمتاع بها لزوال ملك اليد وفى الاستمتاع اثبات ملك
اليد ولان من الجائز انها تعجز فترد إلى الرق فتعود قنة كما كانت فتبين ان نكاحها صادف المولى فلا يصح وإن كان
عبدا فلا يجوز نكاحه أيضا عند عامة العلماء وقال مالك يجوز (وجه) قوله إن منافع بضع العبد لا تدخل تحت
ملك المولى فكان المولى فيها على أصل الحرية والمولى أجنبي عنها فيملك النكاح كالحر بخلاف الأمة لان منافع
بضعها ملك المولى فمنعت من التصرف بغير اذنه ولنا أن العبد بجميع أجزائه ملك المولى لقوله تعالى ضرب لكم مثلا
من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء أخبر سبحانه وتعالى ان العبيد
ليسوا شركاء فيما رزق السادات ولا هم بسواء في ذلك ومعلوم أنه ما أراد به نفى الشركة في المنافع لاشتراكهم فيها
دل أنه أراد به حقيقة الملك ولقوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ والعبد اسم لجميع أجزائه ولان
سبب الملك أضيف إلى كله فيثبت الملك في كله الا أنه منع من الانتفاع ببعض أجزائه بنفسه وهذا لا يمنع ثبوت
الملك له كالأمة المجوسية وغير ذلك وكذلك المأذون في التجارة لأنه عبد مملوك ولأنه كان محجورا قبل الاذن
بالتجارة والنكاح ليس من التجارة لان التجارة معاوضة المال بالمال والنكاح معاوضة البضع بالمال والدليل
عليه أن المرأة إذا زوجت نفسها على عبد تنوى أن يكون العبد للتجارة لم يكن للتجارة ولو كان النكاح من
التجارة لكان بدل البضع للتجارة كالبيع فكان هو بالنكاح متصرفا في ملك مولاه فلا يجوز كما لا يجوز نكاح
الأمة والدليل عليه قوله تعالى لا يقدر على شئ وصف العبد المملوك بأنه لا يقدر على شئ ومعلوم انه إنما أراد به
القدرة الحقيقية لأنها ثابتة له فتعين القدرة الشرعية وهي اذن الشرع واطلاقه فكان نفى القدرة الشرعية نفيا
للاذن والاطلاق ولا يجوز اثبات التصرف الشرعي بغير اذن الشرع وكذلك المدبر لأنه عبد مملوك وكذلك
المكاتب لان المكاتب عبدما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه كان محجورا عن
التزوج قبل الكتابة وعند الكتابة ما أفاد له الا الاذن بالتجارة والنكاح ليس من التجارة لان التجارة معاوضة
المال بالمال والنكاح معاوضة البضع بالمال والدليل عليه ان المرأة إذا زوجت نفسها على عبد تنوى ان العبد
يكون للتجارة لم يكن للتجارة ولو كان النكاح من التجارة لكان بدل البضع للتجارة كالبيع وأما معتق
البعض فلا يجوز نكاحه عند أبي حنيفة لأنه بمنزلة المكاتب عنده وعند أبي يوسف ومحمد يجوز لأنه بمنزلة حر عليه
دين عندهما ولو تزوج بغير اذن المولى واحد ممن ذكرنا أنه لا يجوز تزويجه الا بإذن المولى ثم إن أجاز المولى النكاح
جاز لأن العقد صدر من الأهل في المحل الا أنه امتنع النفاذ لحق المولى فإذا أجاز فقد زال المانع ولا يجوز للعبد أن
يتسرى وان أذن له مولاه لان حل الوطئ لا يثبت الا بأحد الملكين قال الله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون
الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ولم يوجد أحدهما وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال لا يتسرى العبد ولا يسريه مولاه ولا يملك العبد ولا المكاتب شيئا الا الطلاق وهذا نص وأما بيان ما يكون
إجازة فالإجازة قد ثبتت بالنص وقد ثبتت بالدلالة وقد ثبتت بالضرورة أما النص فهو الصريح بالإجازة وما يجرى
مجراها نحو أن يقول أجزت أو رضيت أو أذنت ونحو ذلك وأما الدلالة فهي قول أو فعل يدل على الإجازة مثل
أن يقول المولى إذا أخبر بالنكاح حسن أو صواب أو لا بأس به ونحو ذلك أو يسوق إلى المرأة المهر أو شيئا منه في
نكاح العبد ونحو ذلك مما يدل على الرضا ولو قال له المولى طلقها أو فارقها لم يكن إجازة لان قوله طلقها أو فارقها
يحتمل حقيقة الطلاق والمفارقة ويحتمل المتاركة لان النكاح الفاسد والنكاح الموقوف يسمى طلاقا ومفارقة
234

فوقع الشك والاحتمال في ثبوت الإجازة فلا يثبت بالشك والاحتمال ولو قال له طلقها تطليقة تملك الرجعة فهو إجازة
لارتفاع الترداد إذ لا رجعة في المتاركة للنكاح الموقوف وفسخه وأما الضرورة فنحو ان يعتق المولى العبد
أو الأمة فيكون الاعتاق إجازة ولو أذن بالنكاح لم يكن الاذن بالنكاح إجازة ووجه الفرق بينهما من وجهين
أحدهما انه لو لم يجعل الاعتاق إجازة لكان لا يخلو اما أن يبطل بالنكاح الموقوف واما أن يبقى موقوفا على الإجازة
ولا سبيل إلى الأول لان النكاح صدر من الأهل في المحل فلا يبطل الا بابطال من له ولاية الابطال ولا سبيل إلى
الثاني لأنه لو بقي موقوفا على الإجازة فاما ان بقي موقوفا على إجازة المولى أو على إجازة العبد لا وجه للأول لأن ولاية
الإجازة لا تثبت الا بالملك وقد زال بالاعتاق ولا وجه للثاني لأن العقد وجد من العبد فكيف يقف عقد الانسان
على اجازته وإذا بطلت هذه الاقسام وليس ههنا قسم آخر لزم أن يجعل الاعتاق إجازة ضرورة وهذه الضرورة لم
توجد في الاذن بالنكاح وللثاني ان امتناع النفاذ مع صدور التصرف من الأهل في المحل لقيام حق المولى وهو
الملك نظرا له دفعا للضرر عنه وقد زال ملكه بالاعتاق فزال المانع من النفوذ والاذن بالتزوج لا يوجب زوال
المانع وهو الملك لكنه بالاذن اقامه مقام نفسه في النكاح كأنه هو ثم ثبوت ولاية الإجازة له لم تكن إجازة ما لم
يجز فكذا العبد ثم إذا لم يكن نفس الاذن من المولى بالنكاح إجازة لذلك العقد فان أجازه العبد جاز استحسانا
والقياس أن لا يجوز وان أجازه وجه القياس انه مأذون بالعقد والإجازة مع العقد متغايران اسما وصورة وشرطا
أما الاسم والصورة فلا شك في تغايرهما وأما الشرط فان محل العقد عليه ومحل الإجازة نفس العقد وكذا
الشهادة شرط العقد لا شرط الإجازة والاذن بأحد المتغايرين لا يكون اذنا بالآخر وجه الاستحسان ان
العبد أتى ببعض ما هو مأذون فيه فكان متصرفا عن اذن فيجوز تصرفه ودلالة ذلك ان المولى اذن له بعقد نافذ فكان
مأذونا بتحصيل أصل العقد ووصفه وهو النفاذ وقد حصل النفاذ فيحصل ولهذا لو زوج فضولي هذا العبد
امرأة بغير اذن المولى فأجاز العبد نفذ العقد دل ان تنفيذ العقد بالإجازة مأذون فيه من قبل المولى فينفذ بإجازته ثم إذا
نفذ النكاح بالاعتاق وهي أمة فلا خيار لها لان النكاح نفذ بعد العتق فالاعتاق لم يصادفها وهي منكوحة والمهر
لها ان لم يكن الزوج دخل بها قبل الاعتاق وإن كان قد دخل بها قبل الاعتاق فالمهر للمولى هذا إذا أعتقها وهي كبيرة
فأما إذا كانت صغيرة فأعتقها فان الاعتاق لا يكون إجازة ويبطل العقد عند زفر وعندنا يبقى موقوفا على إجازة
المولى إذا لم يكن لها عصبة فإن كان لها عصبة يتوقف على إجازة العصبة ويجوز بإجازة العصبة ثم إن كان المجيز غير
الأب أو الجد فلها خيار الادراك لأن العقد نفذ عليها في حالة الصغر وهي حرة وإن كان المجيز أبوها أو جدها فلا خيار
لها ولو مات المولى قبل الإجازة فان ورثها من يحل له وطؤها بطل النكاح الموقوف لان الحل النافذ قد طرأ على
الموقوف لوجود سبب الحل وهو الملك قال الله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين ومن ضرورة ثبوت الحل له ارتفاع الموقوف وان ورثها من لا يحل له وطؤها بأن كان
الوارث ابن الميت وقد وطئها أبوه أو كانت الأمة أخته من الرضاع أو ورثها جماعة فللوارث الإجازة لأنه لم يوجد
طريان الحل فبقي الموقوف على حاله وكذلك إذا باعها المولى قبل الإجازة فهو على التفصيل الذي ذكرنا في
الوارث وعلى هذا قالوا فيمن تزوج جارية غيره بغير اذنه ووطئها ثم باعها المولى من رجل ان للمشترى الإجازة لان
وطئ الزوج يمنع حل الوطئ للمشترى وأما العبد إذا تزوج بغير اذن المولى فمات الولي أو باعه قبل الإجازة فللوارث
والمشترى الإجازة لأنه لا يتصور حل الوطئ ههنا فلم يوجد طريان حل الوطئ فبقي الموقوف بحاله وهذا الذي
ذكرنا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر لا يجوز بإجازة الوارث والمشترى بل يبطل والأصل فيه ان العقد الموقوف
على إجازة انسان يحتمل الإجازة من قبل غيره عندنا وعنده لا يحتمل وجه قوله إن الإجازة إنما تلحق الموقوف
لأنها تنفيذ الموقوف فإنما تلحقه على الوجه الذي وقف وإنما وقف على الأول لا على الثاني فلا يملك الثاني تنفيذه
235

(ولنا) أنه إنما وقف على إجازة الأول لان الملك له وقد صار الملك للثاني فتنتقل الإجازة إلى الثاني وهذا لان المالك
يملك انشاء النكاح بأصله ووصفه وهو النفاذ فلان يملك تنفيذ النكاح الموقوف وانه اثبات الوصف دون الأصل
أولى ولو زوجت المكاتبة نفسها بغير اذن المولى حتى وقف على اجازته فأعتقها نفذ العقد والاخبار فيه كما ذكرنا
في الأمة القنة وكذلك إذا أدت فعتقت وان عجزت فإن كان بضعها يحل للمولى يبطل العقد وإن كان لا يحل بأن
كانت أخته من الرضاع أو كانت مجوسية توقف على اجازته ولو كان المولى هو الذي عقد عليها بغير رضاها حتى
وقف على اجازتها فأجازت جاز العقد وان أدت فعتقت أو أعتقها المولى توقف العقد على اجازتها إن كانت
كبيرة وإن كانت صغيرة فهو على ما ذكرنا من الاختلاف في الأمة وتتوقف على إجازة المولى عندنا إذا لم يكن لها
عصبة غير المولى فإن كان فأجازوا جاز وإذا أدركت فلها خيار الادراك إذا كان المجبر غير الأب والجد على ما ذكرنا
وان لم يعتقها حتى عجزت بطل العقد وإن كان بضعها يحل للمولى وإن كان لا يحل له فلا يجوز الا بإجازته وأما بيان
ما يملكه من النكاح بعد الاذن فنقول إذا أذن المولى للعبد بالتزويج فلا يخلو اما ان خص الاذن بالتزويج أو عمه
فان خص بأن قال له تزوج لم يجز له ان يتزوج الا امرأة واحدة لان الامر المطلق بالفعل لا يقتضى التكرار وكذا
إذا قال له تزوج امرأة لان قوله امرأة اسم لواحدة من هذا الجنس وان عم بأن قال تزوج ما شئت من النساء جاز
له ان يتزوج ثنتين ولا يجوز له أن يتزوج أكثر من ذلك لأنه اذن له بنكاح ما شاء من النساء بلفظ الجمع فينصرف
إلى جميع ما يملكه العبيد من النساء وهو التزوج باثنتين قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتزوج العبد أكثر
من اثنتين وعليه اجماع الصحابة رضي الله عنهم وروى عن الحكم أنه قال اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين ولان مالكية النكاح تشعر بكمال الحال لأنها من باب
الولاية والعبد أنقص حالا من الحر فيظهر أثر النقصان في عدد المملوك له في النكاح كما ظهر أثره في القسم والطلاق
والعدة والحدود وغير ذلك وهل يدخل تحت الاذن بالتزوج النكاح الفاسد قال أبو حنيفة يدخل حتى لو تزوج
العبد امرأة نكاحا فاسدا أو دخل بها لزمه المهر في الحال وقال أبو يوسف ومحمد لا يدخل ويتبع بالمهر بعد العتق
(وجه) قولهما ان غرض المولى من الاذن بالنكاح وهو حل الاستمتاع ليحصل به عفة العبد عن الزنا وهذا
لا يحصل بالنكاح الفاسد لأنه لا يفيد الحل فلا يكون مرادا من الاذن بالتزوج ولهذا لو حلف لا يتزوج ينصرف
إلى النكاح الصحيح حتى لو نكح نكاحا فاسدا لا يحنث كذا هذا ولأبي حنيفة ان الاذن بالتزوج مطلق فينصرف
لي الصحيح والفاسد كالاذن بالبيع مطلقا وفى مسألة اليمين إنما لم ينصرف لفظ النكاح إلى الفاسد لقرينة
عرفية الا أن الايمان محمولة على العرف والعادة والمتعارف والمعتاد مما يقصد باليمين الامتناع عن الصحيح
لا الفاسد لان فساد المحلوف عليه يكفي مانعا من الاقدام عليه فلا حاجة إلى الامتناع باليمين والدليل على صحة هذا
التخريج أن يمين الحالف لو كانت على الفعل الماضي ينصرف إلى الصحيح والفاسد جميعا ويتفرع على هذا
أنه إذا تزوج امرأة نكاحا فاسدا ثم أراد أن يتزوج أخرى نكاحا صحيحا ليس له ذلك عند أبي حنيفة لان الاذن
انتهى بالنكاح وعندهما له ذلك لان الاذن قد بقي ولو أذن له بنكاح فاسد نصا ودخل بها يلزمه المهر في الحال في
قولهم جميعا اما على أصل أبي حنيفة فظاهر واما على أصلهما فلان الصرف إلى الصحيح لضرب دلالة أوجبت
إليه فإذا جاء النص بخلافه بطلت الدلالة والله عز وجل الموفق وأما بيان حكم المهر في نكاح المملوك فنقول
إذا كانت الإجازة قبل الدخول بالأمة لم يكن على الزوج الا مهر واحد وإن كان بعد الدخول بها فالقياس ان
يلزمه مهران مهر بالدخول قبل الإجازة ومهر بالإجازة (وجه) القياس انه وجد سبب وجوب مهرين
أحدهما الدخول لان الدخول في النكاح الموقوف دخول في نكاح فاسد وهو بمنزلة الدخول في نكاح فاسد
وذا يوجب المهر كذا هذا والثاني النكاح الصحيح لان النكاح قد صح بالإجازة وللاستحسان وجهان
236

أحدهما أن النكاح كان موقوفا على اذن المالك كنكاح الفضولي والعقد الموقوف إذا اتصلت به الإجازة
تستند الإجازة إلى وقت العقد وإذا استندت الإجازة إليه صار كأنه عقده باذنه إذ الإجازة اللاحقة كالاذن
السابق فلا يجب الا مهر واحد والثاني ان مهر المثل لو وجب لكان لوجوده تعلقا بالعقد لأنه لولاه لكان
الفعل زنا ولكان الواجب هو الحد لا المهر وقد وجب المسمى بالعقد فلو وجب به مهر المثل أيضا لوجب بعقد
واحد مهران وانه ممتنع ثم كل ما وجب من مهر الأمة فهو للمولى سواء وجب بالعقد أو بالدخول وسواء كان
المهر مسمى أو مهر المثل وسواء كانت الأمة قنة أو مدبرة أو أم ولد الا المكاتبة والمعتق بعضها فان المهر لهما
لان المهر وجب عوضا عن المتعة وهي منافع البضع ثم إن كانت منافع البضع ملحقة بالاجزاء والأعيان فعوضها
يكون للمولى كالأرش وإن كانت مبقاة على حقيقة المنفعة فبدلها يكون للمولى أيضا كالاجرة بخلاف المكاتبة
لان هناك الأرش والأجرة لها فكان المهر لها أيضا وكل مهر لزم العبد فإن كان قنا والنكاح بإذن المولى يتعلق
بكسبه ورقته تباع فيه ان لم يكن له كسب عندنا لأنه دين ثابت في حق العبد ظاهر في حق المولى ومثل هذا
الدين يتعلق برقبة العبد على أصل أصحابنا والمسألة ستأتي في كتاب المأذون وإن كان مدبرا أو مكاتبا فإنهما
يسعيان في المهر فيستوفى من كسبهما لتعذر الاستيفاء من رقبتهما بخروجهما عن احتمال البيع بالتدبير والكتابة
وما لزم العبيد من ذلك بغير اذن المولى اتبعوا به بعد العتق لأنه دين تعلق بسبب لم يظهر في حق المولى فأشبه الدين
الثابت باقرار العبد المحجور انه لا يلزمه للحال ويتبع به بعد العتاق لما قلنا كذا هذا والله أعلم ومنها الولاية
في النكاح فلا ينعقد انكاح من لا ولاية له والكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان أنواع الولاية وفي بيانه سبب ثبوت كل نوع وفي بيان شرط ثبوت كل نوع وما يتصل به أما الأول فالولاية في باب النكاح
أنواع أربعة ولاية الملك وولاية القرابة وولاية الولاء وولاية الإمامة أما ولاية الملك فسبب ثبوتها الملك لأن ولاية
الانكاح ولاية نظر والملك داعى إلى الشفقة والنظر في حق المملوك فكان سببا لثبوت الولاية ولا ولاية
للمملوك لعدم الملك له إذ هو مملوك في نفسه فلا يكون مالكا وأما شرائط ثبوت هذه الولاية فمنها عقل المالك ومنها
بلوغه فلا يجوز الانكاح من المجنون والصبي الذي لا يعقل ولا من الصبي العاقل لان هؤلاء ليسوا من أهل الولاية
لان أهلية الولاية بالقدرة على تحصيل النظر في حق المولى عليه وذلك بكمال الرأي والعقل ولم يوجد ألا ترى
انه لا ولاية لهم على أنفسهم فكيف يكون على غيرهم ومنها الملك المطلق وهو أن يكون المولى عليه مملوكا للمالك
رقبة ويدا وعلى هذا يخرج انكاح الرجل أمته أو مدبرته أو أم ولده أو عبده أو مدبره انه جائز سواء رضى به
المملوك أو لا ولا يجوز انكاح المكاتب والمكاتبة الا برضاهما أما انكاح الأمة والمدبرة وأم الولد فلا خلاف
في جوازه صغيرة كانت أو كبيرة وأما انكاح العبد فإن كان صغيرا يجوز وإن كان كبيرا فقد ذكر في ظاهر
الرواية انه يجوز من غير رضاه وروى عن أبي حنيفة أنه لا يجوز الا برضاه وبه أخذ الشافعي (وجه) هذه
الرواية ان منافع بضع العبد لم تدخل تحت ملك المولى بل هو أجنبي عنها والانسان لا يملك التصرف في ملك
غيره من غير رضاه ولهذا لا يملك انكاح المكاتب والمكاتبة بخلاف الأمة لان منافع بضعها مملوكة للمولى
ولان نكاح المكره لا ينفذ ما وضع له من المقاصد المطلوبة منه لان حصولها بالدوام على النكاح والقرار عليه
ونكاح المكره لا يدوم بل يزيله العبد بالطلاق فلا؟؟ يد فائدة (وجه) ظاهر الرواية قوله تعالى وأنكحوا
الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أمر الله سبحانه وتعالى الموالي بانكاح العبيد والإماء مطلقا
عن شرط الرضا فمن شرطه يحتاج إلى الدليل ولان انكاح المملوك من المولى تصرف لنفسه لان مقاصد النكاح
ترجع إليه فان الولد في إنكاح الأمة له وكذا في إنكاح أمته من عبده ومنفعة العقد عن الزنا الذي يوجب
نقصان مالية مملوكه حصل له أيضا فكان هذا الانكاح تصرفا لنفسه ومن تصرف في ملك نفسه لنفسه ينفذ
237

ولا يشترط فيه رضا المتصرف فيه كما في البيع والإجارة وسائر التصرفات ولان العبد ملكه بجميع أجزائه
مطلقا لما ذكرنا من الدلائل فيما تقدم ولكل مالك ولاية التصرف في ملكه إذا كان التصرف مصلحة وانكاح
العبد مصلحة في حقه لما فيه من صيانة ملكه عن النقصان بواسطة الصيانة عن الزنا وقوله منافع البضع غير مملوكة
لسيده ممنوع بل هي مملوكة الا أن مولاها إذا كانت أمة منعت من استيفائها لما فيه من الفساد وهذا لا يمنع
ثبوت الملك كالجارية المجوسية والأخت من الرضاعة انه يمنع المولى من الاستمتاع بهما مع قيام الملك كذا
هذا والملك المطلق لم يوجد في المكاتب لزوال ملك اليد بالكتابة حتى كان أحق بالكتابة ولهذا لم يدخل تحت
مطلق اسم المملوك في قوله كل مملوك لي فهو حر الا بالنية فقيام ملك الرقبة ان اقتضى ثبوت الولاية فانعدام ملك
اليد يمنع من الثبوت فلا تثبت الولاية بالشك ولان في التزويج من غير رضا المكاتب ضررا لان المولى بعقد
الكتابة جعله أحق بمكاسبه ليتوصل بها إلى شرف الحرية فالتزويج من غير رضاه يوجب تعلق المهر والنفقة
بكسبه فلا يصل إلى الحرية فيتضرر به بشرط رضاه دفعا للضرر عنه وقوله لا فائدة في هذا النكاح ممنوع فان
في طبع كل فحل التوقان إلى النساء فالظاهر هو قضاء الشهوة خصوصا عند عدم المانع وهو الحرمة وكذا
الظاهر من حال العبد الامتناع من بعض تصرف المولى احتراما له فيبقى النكاح فيفيد فائدة تامة والله الموفق
وأما ولاية القرابة فسبب ثبوتها هو أصل القرابة وذاتها لا كمال القربة وإنما الكمال شرط التقدم على ما نذكر
وهذا عند أصحابنا وعند الشافعي السبب هو القرابة القريبة وهي قرابة الولاد وعلى هذا يبنى أن لغير الأب والجد
كالأخ والعم ولاية الانكاح عندنا خلافا له واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر وحقيقة اسم اليتيمة للصغيرة لغة قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد الحلم نهى
صلى الله عليه وسلم عن إنكاح اليتيمة ومده إلى غاية الاستئمار ولا تصير أهلا للاستئمار الا بعد البلوغ فيتضمن
البلوغ كأنه قال صلى الله عليه وسلم حتى تبلغ وتستأمر ولان النكاح عقد اضرارا في جانب النساء لما ذكر
إن شاء الله تعالى في مثله انكاح البنت البالغة ومثل هذا التصرف لا يدخل تحت ولاية المولى كالطلاق
والعتاق والهبة وغيرهما الا انه تثبت الولاية للأب والجد بالنص والاجماع لكمال شفقتهما وشفقة غير الأب
والجد قاصرة وقد ظهر أثر القصور في سلب ولاية التصرف في الحال بالاجماع وسلب ولاية اللزوم عندكم فتعذر
الالحاق ولنا قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم هذا خطاب لعامة المؤمنين لأنه بنى على قوله تعالى وتوبوا
إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ثم خص منه الأجانب فبقيت الأقارب تحته الا من خص بدليل
ولان سبب ولاية التنفيذ في الأب والجد هو مطلق القرابة لا القرابة القريبة وإنما قرب القرابة سبب زيادة
الولاية وهي ولاية الالزام لان مطلق القرابة حاصل على أصل الشفقة أعني به شفقة زائدة على شفقة الجنس
وشفقة الاسلام وهي داعية إلى تحصيل النظر في حق المولى عليه وشرطها عجز المولى عليه عن تحصيل النظر بنفسه
مع حاجته إلى التحصيل لان مصالح النكاح مضمنة تحت الكفاءة والكلف ء عزيز الوجود فيحتاج إلى احرازه
للحال لاستيفاء مصالح النكاح بعد البلوغ وفائدتها وقوعها وسيلة إلى ما وضع النكاح له وكل ذلك موجود
في إنكاح الأخ والعم فينفذ الا أنه لم يلزم تصرفه لانعدام شرط اللزوم وهو قرب القرابة ولم تثبت له ولاية التصرف
في المال لعدم الفائدة لأنه لا سبيل إلى القول باللزوم لان قرابة غير الأب والجد ليست بملزمة ولا سبيل إلى
التولي بالنفاذ بدون اللزوم لأنه لا يفيد إذ المقصود من التصرف في المال وهو الربح لا يحصل الا بتكرار
التجارة ولا يحصل ذلك مع عدم اللزوم لأنه إذا اشترى شيئا يحتاج إلى أن يمسكه إلى وقت البلوغ فلا يحصل
المقصود فسقطت ولاية التصرف في المال بطريق الضرورة وهذه الضرورة منعدمة في ولاية الانكاح فثبتت
ولاية الانكاح وأما الحديث فالمراد منه اليتيمة البالغة بدلالة الاستئمار وهذا وإن كان مجازا لكن فيما ذكره
238

أيضا اضمار فوقعت المعارضة فسقط الاحتجاج به أو نحمله على ما قلنا توفيقا بين الدليلين صيانة لهما عن التناقض
ثم إذا زوج الصغير أو الصغيرة فلهما الخيار إذا بلغا عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا خيار لهما ونذكر
المسألة إن شاء الله تعالى في شرائط اللزوم واما شرائط ثبوت هذه الولاية فنوعان في الأصل نوع هو شرط
ثبوت أصل الولاية ونوع هو شرط التقدم أما شرط ثبوت أصل الولاية فأنواع بعضها يرجع إلى الولي
وبعضها يرجع إلى المولى عليه وبعضها يرجع إلى نفس التصرف أما الذي يرجع إلى الولي فأنواع منها عقل
الولي ومنها بلوغه فلا تثبت الولاية للمجنون والصبي لأنهما ليسا من أهل الولاية لما ذكرنا في ولاية لملك ولهذا
لم تثبت لهما الولاية على أنفسهما مع أنهما أقرب إليهما فلان تثبت على غيرهما أولى ومنها أن يكون ممن يرث
الخروج لان سبب ثبوت الولاية والوارثة واحد وهو القرابة وكل من يرثه يلي عليه ومن لا يرثه لا يلي عليه
وهذا يطرد على أصل أبي حنيفة خاصة وينعكس عند الكل فيخرج عليه مسائل فنقول لا ولاية للمملوك على
أحد لأنه لا يرث أحدا ولان المملوك ليس من أهل الولاية ألا ترى أنه لا ولاية له على نفسه ولان الولاية تنبئ عن
المالكية والشخص الواحد كيف يكون مالكا ومملوكا في زمان واحد لأن هذه ولاية نظر ومصلحة ومصالح
النكاح لا يتوقف عليها الا بالتأمل والتدبر والمملوك لاشتغاله بخدمة مولاه لا يتفرغ للتأمل والتدبر فلا يعرف
كون انكاحه مصلحة والله عز وجل الموفق ولا ولاية للمرتد على أحد لا على مسلم ولا على كافر ولا على
مرتد مثله لأنه لا يرث أحدا ولأنه لا ولاية له على نفسه حتى لا يجوز نكاحه أحد الا مسلما ولا كافرا ولا مرتدا
مثله فلا يكون له ولاية على غيره ولا ولاية للكافر على المسلم لأنه لا مراث بينهما قال النبي صلى الله عليه وسلم
لا يتوارث أهل ملتين شيئا ولان الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم لان الشرع قطع ولاية الكافر على
المسلمين قال الله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقال صلى الله عليه وسلم الاسلام يعلو
ولا يعلى ولان اثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر باذلال المسلم من جهة الكافر وهذا لا يجوز ولهذا صينت
المسلمة عن نكاح الكافر وكذلك إن كان الولي مسلما والمولى عليه كافرا فلا ولاية له عليه لان المسلم لا يرث
الكافر كما أن الكافر لا يرث المسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن الا أن
ولد المرتد إذا كان مؤمنا صار مخصوصا عن النص وأما اسلام الولي فليس بشرط لثبوت الولاية في الجملة فيلى
الكافر على الكافر لان الكفر لا يقدح في الشفقة الباعثة عن تحصيل النظر في حق المولى عليه ولا في الوراثة فان
الكافر يرث الكافر ولهذا كان من أهل الولاية على نفسه فكذا على غيره وقال عز وجل الذين كفروا بعضهم
أولياء بعض وكذا العدالة ليست بشرط لثبوت الولاية عند أصحابنا وللفاسق أن يزوج ابنه وابنته الصغيرين
وعند الشافعي شرط وليس للفاسق ولاية التزويج واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا نكاح الا بولي مرشد والمرشد بمعنى الرشيد كالمصلح بمعنى الصالح والفاسق ليس برشيد ولان الولاية من باب
لكرامة والفسق سبب الإهانة ولهذا لم أقبل شهادته ولنا عموم قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم وقوله صلى
الله عليه وسلم زوجوا بناتكم الأكفاء من غير فصل ولنا اجماع الأمة أيضا فان الناس عن آخرهم عامهم
وخاصهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يزوجون بناتهم من غير نكير من أحد خصوصا
الاعراب والأكراد والأتراك ولأن هذه ولاية نظر والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر ولا في الداعي
إليه وهو الشفقة وكذا لا يقدح في الوراثة فلا يقدح في الولاية كالعدل ولان الفاسق من أهل الولاية على نفسه
فيكون من أهل الولاية على غيره كالعدل ولهذا قبلنا شهادته ولأنه من أهل أحد نوعي الولاية وهو ولاية الملك حتى
يزوج أمته فيكون من أهل النوع الآخر وأما الحديث فقد قيل إنه لم يثبت بدون هذه الزيادة فكيف يثبت
مع الزيادة ولو ثبت فنقول بموجبه والفاسق مرشد لأنه يرشد غيره لوجود آلة الارشاد وهو العقل فكان هذا نفى
239

الولاية للمجنون وبه نقول إن المجنون لا يصلح وليا والمحدود في القدف إذا تاب فله ولاية الانكاح بلا خلاف
لأنه إذا تاب فقد صار عدلا وان لم يثبت فهو على الاختلاف لأنه فاسق والله الموفق واما كون المولى من
العصبات فهل هو شرط ثبوت الولاية أم لا فنقول وبالله التوفيق جملة الكلام فيه انه لا خلاف في أن للأب
والجد ولاية الانكاح الا شئ يحكى عن عثمان البنى وابن شبرمة انهما قالا ليس لهما ولاية التزويج (وجه) قولهما
ان حكم النكاح إذا ثبت لا يقتصر على حال الصغر بل يدوم ويبقى إلى ما بعد البلوغ إلى أن يوجد ما يبطله وفى هذا
ثبوت الولاية على البالغة ولأنه استبد أو كأنه أنشأ الانكاح بعد البلوغ وهذا لا يجوز ولنا قوله تعالى وأنكحوا
الأيامى منكم والأيم اسم لأنثى من بنات آدم عليه الصلاة والسلام كبيرة كانت أو صغيرة لا زوج لها وكلمة من
إن كانت للتبعيض يكون هذا خطابا للآباء وإن كانت للتجنيس يكون خطابا لجنس المؤمنين وعموم الخطاب
يتناول الأب والجد وأنكح الصديق رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين من رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج على ابنته أم كلثوم وهي صغيرة من
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزوج عبد الله بن عمر ابنته وهي صغيرة عروة بن الزبير رضي الله عنهم وبه
تبين أن قولهما خرج مخالفا لاجماع الصحابة وكان مردودا وأما قولهما ان حكم النكاح بقي بعد البلوغ
فنعم ولكن بالانكاح السابق لا بانكاح مبتدأ بعد البلوغ وهذا جائز كما في البيع فان لهما ولاية بيع
مال الصغير وإن كان حكم البيع وهو الملك يبقى بعد البلوغ لما قلنا كذا هذا وللأب قبض صداق ابنته
البكر صغيرة كانت أو بالغة ويبرأ الزوج بقبضه أما الصغيرة فلا شك فيه لان له ولاية التصرف في مالها
وأما البالغة فلأنها تستحى من المطالبة به بنفسها كما تستحى عن التكلم بالنكاح فجعل سكوتها رضا
بقبض الأب كما جعل رضا بالنكاح ولأن الظاهر أنها ترضى بقبض الأب لأنه يقبض مهرها فيضم
إليه أمثاله فيجهزها به هذا هو الظاهر فكان مأذونا بالقبض من جهتها دلالة حتى لو نهته عن القبض لا يتملك
القبض ولا يبرأ الزوج وكذا الجد يقوم مقامه عند عدمه وإن كانت ابنته عاقلة وهي ثيب فالقبض إليها
لا إلى الأب ويبرأ الزوج بدفعه إليها ولا يبرأ بالدفع إلى الأب وما سوى الأب والجد من الأولياء
ليس لهم ولاية القبض سواء كانت صغيرة أو كبيرة الا إذا كان الولي وهو الوصي فله حق القبض إذا كانت
صغيرة كما يقبض سائر ديونها وليس للوصي حق القبض الا إذا كانت صغيرة وإذا ضمن الولي المهر صح ضمانه
لان حقوق العقد لا تتعلق به فصار كالأجنبي بخلاف الوكيل بالبيع إذا ضمن عن المشترى الثمن وللمرأة الخيار في
مطالبة زوجها أو وليها لوجود ثبوت سبب حق المطالبة من كل واحد منهما وهو العقد من الزوج والضمان
من الولي ولا خلاف بين أصحابنا في أن لغير الأب والجد من العصبات ولاية الانكاح والأقرب فالأقرب على
ترتيب العصبات في الميراث واختلفوا في غير العصبات قال أبو يوسف ومحمد لا يجوز انكاحه حتى لم يتوارثا
بذلك النكاح ويقف على إجازة العصبة وعن أبي حنيفة فيه روايتان وهذا يرجع إلى ما ذكرنا ان عصوبة
الولي هل هي شرط لثبوت الولاية مع اتفاقهم على أنها شرط التقديم فعندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية وهي
رواية الحسن عن أبي حنيفة فإنه روى عنه أنه قال لا يزوج الصغيرة الا العصبة وروى أبو يوسف ومحمد عن
أبي حنيفة أنها ليست بشرط لثبوت أصل الولاية وإنما هي شرط التقدم على قرابة الرحم حتى أنه إذا كان هناك
عصبة لا تثبت لغير العصبة ولاية الانكاح وان لم يكن ثمة عصبة فلغير العصبة من القرابات من الرجال والنساء
نحو الام والأخت والخالة ولاية التزويج الأقرب فالأقرب إذا كان المزوج ممن يرث المزوج وهو الرواية
المشهورة عن أبي حنيفة (وجه) قولهما ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال النكاح إلى العصبات فوض
كل نكاح إلى كل عصبة لأنه قابل الجنس بالجنس أو بالجمع فيقتضى مقابلة الفرد بالفرد ولان الأصل في
240

الولاية هم العصبات فإن كان الرأي وتدبير القبيلة وصيانتها عما يوجب العار والشين إليهم فكانوا هم الذين
يحرزون عن ذلك بالنظر والتأمل في أمر النكاح فكانوا هم المحقين بالولاية ولهذا كانت قرابة التعصيب
مقدمة على قرابة الرحم بالاجماع ولأبي حنيفة عموم قوله تعالى وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من غير
فصل بين العصبات وغيرهم فتثبت ولاية الانكاح على العموم الا من خص بدليل ولان سبب ثبوت
الولاية هو مطلق القرابة وذاتها لما بينا أن القرابة حاملة على الشفقة في حق القريب داعية إليها وقد وجد ههنا
فوجد السبب ووجد شرط الثبوت أيضا وهو عجز المولى عليه عن المباشرة بنفسه وإنما العصوبة وقرب
القرابة شرط التقدم لا شرط ثبوت أصل الولاية فلا جرم العصبة تتقدم على ذي الرحم والأقرب من غير
العصبة يتقدم على الابعد ولأن ولاية الانكاح مرتبة على استحقاق الميراث لاتحاد سبب ثبوتها وهو
القرابة فكل من استحق من الميراث استحق الولاية ألا ترى أن الأب إذا كان عبدا لا ولاية له لان العبد
لا يرث أحدا وكذا إذا كان كافرا والمولى عليه مسلم لا ولاية له لأنه لا يرثه وكذا إذا كان مسلما والمولى
عليه كافر لا ولاية له لأنه لا ميراث له منه فثبت أن الولاية تدور مع استحقاق الميراث فثبت لكل
قريب يرث يزوج ولا يلزم على هذه القاعدة المولى انه يزوج ولا يرث وكذا الامام يزوج ولا يرث
لان هذا عكس العلة لان طرد ما قلنا إن كل من يرث يزوج وهذا مطرد على أصل أبي حنيفة وعكسه
ان كل من لا يرث لا يزوج والشرط في العلل الشرعية الاطراد دون الانعكاس لجواز اثبات الحكم
الشرعي بعلل ثم نقول ما قلناه منعكس أيضا ألا ترى أن للمولى الولاء في مملوكه وهو نوع ارث وأما الامام
فهو نائب عن جماعة المسلمين وهم يرثون من لا ولى له من جهة الملك والقرابة والولاء ألا ترى أن ميراثه
لبيت المال وبيت المال ما لهم فكانت الولاية في الحقيقة لهم وإنما الامام نائب عنهم فيتزوجون ويرثون
أيضا فاطرد هذا الأصل وانعكس بحمد الله تعالى وأما قول علي رضي الله عنه النكاح إلى العصبات
فالمراد منه حال وجود العصبة لاستحالة تفويض النكاح إلى العصبة ولا عصبة ونحن به نقول إن النكاح
إلى العصبات حال وجود العصبة ولا كلام فيه والله أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المولى عليه فنقول الولاية بالنسبة إلى المولى عليه نوعان ولاية حتم وايجاب
وولاية ندب واستحباب وهذا على أصل أبي حنيفة وأبى يوسف الأول وأما على أصل محمد فهي نوعان
أيضا ولاية استبداد وولاية شركة وهي قول أبى يوسف الآخر وكذا نقول الشافعي الا أن بينهما اختلاف في
كيفية الشركة على ما نذكر إن شاء الله وأما ولاية الحتم والايجاب والاستبداد فشرط ثبوتها على أصل
أصحابنا كون المولى عليه صغيرا أو صغيرة أو مجنونا كبيرا أو مجنونة كبيرة سواء كانت الصغيرة بكرا أو ثيبا
فلا تثبت هذه الولاية على البالغ العاقل ولا على العاقلة البالغة وعلى أصل الشافعي شرط ثبوت ولاية الاستبداد
في الغلام هو الصغر وفى الجارية البكارة سواء كانت صغيرة أو بالغة فلا تثبت هذه الولاية عنده على الثيب
سواء كانت بالغة أو صغيرة والأصل ان هذه الولاية على أصل أصحابنا تدور مع الصغر وجودا وعدما في
الصغير والصغيرة وعنده في الصغير كذلك اما في الصغيرة فإنها تدور مع البكارة وجودا وعدما وفى الكبير
والكبيرة تدور مع الجنون وجودا وعدما سواء كان الجنون أصليا بأن بلغ مجنونا أو عارضا بأن طرأ بعد
البلوغ عندنا وقال زفر إذا طرأ الجنون لم يجز للمولى التزويج وعلى هذا يبتنى أن الأب والجد لا يملكان انكاح
البكر البالغة بغير رضاها عندنا وقال الشافعي يملكانه ولا خلاف في أنهما لا يملكان انكاح الثيب البالغة بغير
رضاها (وجه) قوله إن البكر وإن كانت عاقلة بالغة فلا تعلم بمصالح النكاح لان العلم بها يقف على التجربة
241

والممارسة وذلك بالثيابة ولم توجد فالتحقت بالبكر الصغيرة فبقيت ولاية الاستبداد عليها ولهذا ملك الأب قبض
صداقها من غير رضاها بخلاف الثيب البالغة لأنها علمت بمصالح النكاح وبالممارسة ومصاحبة الرجال
فانقطعت ولاية الاستبداد عنها ولنا أن الثيب البالغة لا تزوج الا برضاها فكذا البكر البالغة والجامع بينهما
وجهان أحدهما طريق أبي حنيفة وأبى يوسف الأول والثاني طريق محمد وأبى يوسف الآخر أما
طريق أبي حنيفة فهو ان ولاية الحتم والايجاب في حالة الصغر إنما تثبت بطريق النيابة عن الصغيرة لعجزها
عن التصرف على وجه النظر والمصلحة بنفسها وبالبلوغ والعقل زال العجز وثبتت القدرة حقيقة
ولهذا صارت من أهل الخطاب في أحكام الشرع الا انها مع قدرتها حقيقة عاجزة عن مباشرة النكاح عجز
ندب واستحباب لأنها تحتاج إلى الخروج إلى محافل الرجال والمرأة مخدرة مستورة والخروج إلى محفل
الرجال من النساء عيب في العادة فكان عجزها عجز ندب واستحباب لا حقيقة فثبتت الولاية عليها على حسب
العجز وهي ولاية ندب واستحباب لا ولاية حتم وايجاب اثباتا للحكم على قدر العلة وأما طريق محمد فهو أن
الثابت بعد البلوغ ولاية الشركة لا ولاية الاستبداد فلابد من الرضا كما في الثيب البالغة على ما نذكره
إن شاء الله تعالى في مسألة النكاح بغير ولى وإنما ملك الأب قبض صداقها لوجود الرضا بذلك منها دلالة لان
العادة أن الأب يضم إلى الصداق من خالص ماله ويجهز بنته البكر حتى لو نهته عن القبض لا يملك بخلاف الثيب
فان العادة ما جرت بتكرار الجهاز وإذا كان الرضا في نكاح البالغة شرط الجواز فإذا زوجت بغير اذنها
توقف التزويج على رضاها فان رضيت جاز وان ردت بطل ثم إن كانت ثيبا فرضاها يعرف بالقول تارة وبالفعل
أخرى أما القول فهو التنصيص على الرضا وما يجرى مجراه نحو أن تقول رضيت أو أجزت ونحو ذلك والأصل
فيه قوله صلى الله عليه وسلم الثيب تشاور وقوله صلى الله عليه وسلم الثيب يعرب عنها لسانها وقوله صلى
الله عليه وسلم تستأمر النساء في ابضاعهن وقوله صلى الله عليه وسلم لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر والمراد
منه البالغة وأما الفعل فنحو التمكين من نفسها والمطالبة بالمهر والنفقة ونحو ذلك لان ذلك دليل الرضا والرضا
يثبت بالنص مرة وبالدليل أخرى والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لبريرة ان
وطئك زوجك فلا خيار لك وإن كانت بكرا فان رضاها يعرف بهذين الطريقين وبثالث وهو السكوت
وهذا استحسان والقياس أن لا يكون سكوتها رضا (وجه) القياس أن السكوت يحتمل الرضا
ويحتمل السخط فلا يصلح دليل الرضا مع الشك والاحتمال ولهذا لم يجعل دليلا إذا كان المزوج أجنبيا أو
وليا غيره أولى منه (ولنا) ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال تستأمر النساء في ابضاعهن فقالت
عائشة رضي الله عنها ان البكر تستحى يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم اذنها صماتها وروى سكوتها رضاها
وروى سكوتها اقرارها وكل ذلك نص في الباب وروى البكر تستأمر في نفسها فان سكتت فقد رضيت وهذا
أيضا نص ولان البكر تستحى عن النطق بالاذن في النكاح لما فيه من اظهار رغبتها في الرجال فتنسب إلى
الوقاحة فلو لم يجعل سكوتها اذنا ورضا بالنكاح دلالة وشرط استنطاقها وانها لا تنطق عادة لفاتت عليها مصالح
النكاح مع حاجتها إلى ذلك وهذا لا يجوز وقوله السكوت يحتمل مسلم لكن ترجح جانب الرضا على جانب
السخط لأنها لو لم تكن راضية لردت لأنها إن كانت تستحى عن الاذن فلا تستحى عن الرد فلما سكتت ولم
ترد دل انها راضية بخلاف ما إذا زوجها أجنبي أو ولى غيره أولى منه لان هناك ازداد احتمال السخط لأنها
يحتمل انها سكتت عن جوابه مع أنها قادرة على الرد تحقيرا له وعدم المبالاة بكلامه وهذا أمر معلوم بالعادة
فبطل رجحان دليل الرضا ولأنها إنما تستحى من الأولياء لا من الأجانب والابعد عند قيام الأقرب وحضوره
أجنبي فكانت في حق الأجانب كالثيب فلابد من فعل أو قول يدل عليه ولان المزوج إذا كان أجنبيا وإذا كان
242

الولي الابعد كان جواز النكاح من طريق الوكالة لا من طريق الولاية لانعدامها والوكالة لا تثبت الا بالقول
وإذا كان وليا فالجواز بطريق الولاية فلا يفتقر إلى القول ولو بلغها النكاح فضحكت كان إجازة لان
الانسان إنما يضحك مما يسره فكان دليل الرضا ولو بكت روى عن أبي يوسف أنه يكون إجازة وروى عنه
رواية أخرى انه لا يكون إجازة بل يكون ردا وهو قول محمد (وجه) الرواية الأولى ان البكاء قد يكون للحزن
وقد يكون لشدة الفرح فلا يجعل ردا ولا إجازة للتعارض فصار كأنها سكتت فكان رضا (وجه) الرواية
الأخرى وهو قول محمد ان البكاء لا يكون الا من حزن عادة فكان دليل السخط والكراهة لا دليل الاذن
والإجازة ولو زوجها وليان كل منهما رجلا فبلغها ذلك فان أجازت أحد العقدين جاز الذي أجازته
وبطل الآخر وان أجازتهما بطلا لان الإجازة منها بمنزلة الانشاء كأنها تزوجت بزوجين وذلك
باطل كذا هذا وان سكتت روى عن محمد ان ذلك لا يكون ردا ولا إجازة حتى تجيز أحدهما بالقول أو بفعل
يدل على الإجازة وروى عنه رواية أخرى انها إذا سكتت بطل العقدان جميعا (وجه) هذه الرواية ان
السكوت من البكر كالإجازة فكأنها أجازت العقدين جميعا (وجه) الرواية الأخرى ان هذا
السكوت لا يمكن أن يجعل إجازة لأنه لو جعل إجازة فاما أن يجعل إجازة للعقدين جميعا واما أن
يجعل إجازة لأحدهما لا سبيل إلى الأول لان انشاء العقدين جميعا ممتنع فامتنعت اجازتهما ولا سبيل إلى الثاني
لأنه ليس أحد العقدين بأولى بالإجازة من الآخر فالتحق السكوت بالعدم ووقف الامر على الإجازة بقول أو
بفعل يدل على الإجازة لأحدهما وكذلك إذا استؤمرت البكر فسكتت في الابتداء فهو اذن إذا كان المستأذن
وليا لما ذكرنا ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان إذا خطب احدى بناته دنا من خدرها
وقال إن فلانا يذكر فلانة ثم يزوجها فدل ان السكوت عند استئمار الولي اذن دلالة وقالوا في الولي إذا قال للبكر انى
أريد أن أزوجك فلانا فقالت غيره أولى منه لم يكن ذلك اذنا ولو زوجها ثم أخبرها فقالت قد كان غيره
أولى منه كان إجازة لان قولها في الفصل الأول اظهار عدم الرضا بالتزويج من فلان وقولها في الفصل
الثاني قبول أو سكوت عن الرد وسكوت البكر عن الرد يكون رضا ولو قال الولي أريد أن أزوجك من رجل
ولم يسمه فسكتت لم يكن رضا كذا روى عن محمد لان الرضا بالشئ بدون العلم به لا يتحقق ولو قال أزوجك
فلانا أو فلانا حتى عد جماعة فسكتت فمن أيهم زوجها جاز ولو سمى لها الجماعة مجملا بأن قال أريد أن أزوجك
من جيراني أو من بنى عمى فسكتت فإن كانوا يحصون فهو رضا وإن كانوا لا يحصون لم يكن رضا لأنهم إذا
كانوا يحصون يعلمون فيتعلق الرضا بهم وإذا لم يحصوا لم يعلموا فلا يتصور الرضا لان الرضا بغير المعلوم محال
والله تعالى الموفق وذكر في الفتاوى أن الولي إذا سمى الزوج ولم يسم المهر انه كم هو فسكتت فسكوتها لا يكون
رضا لان تمام الرضا لا يثبت الا بذكر الزوج والمهر ثم الإجازة من طريق الدلالة لا تثبت الا بعد العلم بالنكاح
لان الرضا بالنكاح قبل العلم به لا يتصور وإذا زوج الثيب البالغة ولى فقالت لم أرض ولم آذن وقال الزوج
قد أذنت فالقول قول المرأة لان الزوج يدعى عليها حدوث أمر لم يكن وهو الاذن والرضا وهي تنكر فكان
القول قولها (وأما) البكر إذا تزوجت فقال الزوج بلغك العقد فسكت فقالت رددت فالقول قولها عند
أصحابنا الثلاثة وقال زفر القول قول الزوج (وجه) قوله إن المرأة تدعى أمرا حادثا وهو الرد والزوج ينكر
القول فكان القول قول المنكر (ولنا) ان المرأة وإن كانت مدعية ظاهرا فهي منكرة في الحقيقة لان
الزوج يدعى عليها جواز العقد بالسكوت وهي تنكر فكان القول قولها كالمودع إذا قال رددت الوديعة كان
القول قوله وإن كان مدعيا لرد ظاهر لكونه منكرا للضمان حقيقة كذا هذا ثم في هذين الفصلين لا يمين عليها
في قول أبي حنيفة وفى قولهما عليها اليمين وهو الخلاف المعروف ان الاستحسان المعروف لا يجرى في الأشياء
243

الستة عنده وعندهما يجرى والمسألة تذكر إن شاء الله تعالى في كتاب الدعوى ثم إذا اختلف الحكم في البكر
البالغة والثيب البالغة في الجملة حتى جعل السكوت رضا من البكر دون العيب وللأب ولاية قبض صداق
البكر بغير اذنها الا إذا نهته نصا وليس له ولاية قبض مهر الثيب الا باذنها فلا بد من معرفة البكارة والثيابة
في الحكم لا في الحقيقة لان حقيقة البكارة بقاء العذرة وحقيقة الثيابة زوال العذرة وأما الحكم غير مبنى على
ذلك بالاجماع فنقول لا خلاف في أن كل من زالت عذرتها بوثبة أو طفرة أو حيضة أو طول التعنيس أنها في
حكم الابكار تزوج كما تزوج الابكار ولا خلاف أيضا ان من زالت عذرتها بوطئ يتعلق به ثبوت النسب
وهو الوطئ بعقد جائز أو فاسد أو شبهة عقد وجب لها مهر بذلك الوطئ انها تزوج كما تزوج الثيب (وأما)
إذا زالت عذرتها بالزنا فإنها تزوج كما تزوج الابكار في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي
تزوج كما تزوج الثيب احتجوا بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال البكر تستأمر في نفسها
والثيب تشاور وقال صلى الله عليه وسلم والثيب يعرب عنها لسانها وهذه ثيب حقيقة لان الثيب حقيقة
من زالت عذرتها وهذه كذلك فيجرى عليها أحكام الثيب ومن أحكامها أنه لا يجوز نكاحها بغير اذنها نصا
فلا يكتفى بسكوتها ولأبي حنيفة ان علة وضع النطق شرعا وإقامة السكوت مقامه في البكر هو الحياء وقد وجد
ودلالة ان العلة ما قلنا إشارة النص والمعقول أما الأول فلما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
تستأمر النساء في أبضاعهن فقالت عائشة رضي الله عنها لان البكر تستحيي يا رسول الله فقال صلى الله عليه
وسلم اذنها صماتها فالاستدلال به أن قوله صلى الله عليه وسلم اذنها صماتها خرج جوابا لقول عائشة
رضي الله عنها ان البكر تستحيي أي عن الاذن بالنكاح نطقا والجواب بمقتضى إعادة السؤال لان الجواب
لا يتم بدون السؤال كأنه قال صلى الله عليه وسلم إذا كانت البكر تستحيي عن الاذن بالنكاح نطقا فاذنها
صماتها فهذا إشارة إلى أن الحياء علة وضع النطق وقيام الصمات مقام الاذن علة منصوصة وعلة النص لا تتقيد
بمحل النص كالطواف في الهرة ونحو ذلك وأما المعقول فهو أن الحياء في البكر مانع من النطق بصريح الاذن
بالنكاح لما فيه من اظهار رغبتها في الرجال لان النكاح سبب الوطئ والناس يستقبحون ذلك منها ويذمونها
وينسبونها إلى الوقاحة وذلك مانع لها من النطق بالاذن الصريح وهي محتاجة إلى النكاح فلو شرط استنطاقها
وهي لا تنطق عادة لفات عليها النكاح مع حاجتها إليه وهذا لا يجوز والحياء موجود في حق هذه وإن كانت
ثيبا حقيقة لان زوال بكارتها لم تظهر للناس فيستقبحون منها الاذن بالنكاح صريحا ويعدونه من باب الوقاحة
ولا يزول ذلك ما لم يوجد النكاح ويشتهر الزنا فحينئذ لا يستقبح الاظهار بالاذن ولا يعد عيبا بل الامتناع عن
الاذن عند استئمار الولي يعد رعونة منها لحصول العلم للناس بظهور رغبتها في الرجال (وأما الحديث) فالمراد
منه الثيب التي تعارفها الناس ثيبا لان مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف بين الناس ولهذا لم تدخل البكر
التي زالت عذرتها بالطفرة والوثبة والحيضة ونحو ذلك في هذا الحديث وإن كانت ثيبا حقيقة والله أعلم وعلى
هذا يخرج انكاح الأب والجد والثيب الصغيرة انه جائز عند أصحابنا وعند الشافعي أنه لا يجوز انكاحها للحال
ويتأخر إلى ما بعد البلوغ فيزوجها الولي بعد البلوغ باذنها صريحا لا بالسكوت واحتج بما روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر واليتيمة اسم للصغيرة في اللغة ولان الثيابة
دليل العلم بمصالح النكاح ولان حدوثها يكون بعد العقل والتمييز عادة وقد حصل لها بالتجربة والممارسة
وهذا ان لم يصلح لاثبات الولاية لها يصلح دافعا ولاية الولي عنها للحال والتأخير إلى ما بعد البلوغ بخلاف البكر
البالغة لان البكارة دليل الجهل بمنافع النكاح ومضاره فالتحق عقلها بالعدم على ما مر ولان النكاح في جانب
النساء ضرر قطعا لما نذكر إن شاء الله تعالى فلا مصلحة الا عند الحاجة إلى قضاء الشهوة لان مصالح النكاح
244

يقف عليه ولم يوجد في الثيب الصغيرة والجواز في البكر ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم واجماع الصحابة
رضي الله عنهم على ما ذكرنا فيما تقدم (ولنا) قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والأيم اسم لأنثى لا زوج
لها كبيرة أو صغيرة فيقتضى ثبوت الولاية عاما الا من خص بدليل ولان الولاية كانت ثابتة قبل زوال البكارة
لوجود سبب ثبوت الولاية وهو القرابة الكاملة والشفقة الوافرة ووجود شرط الثبوت وهي حاجة الصغيرة إلى
النكاح لاستيفاء المصالح بعد البلوغ وعجزها عن ذلك بنفسها وقدرة الولي عليه والعارض ليس الا الثيابة
وأثرها في زيادة الحاجة إلى الانكاح لأنها مارست الرجال وصحبتهم وللصحبة أثر في الميل إلى من تعاشره معاشرة
جميلة فلما ثبتت الولاية على البكر الصغيرة فلان تبقى على الثيب الصغيرة أولى والمراد من الحديث البالغة لما مر
والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة تزوج كما يزوج الصغير والصغيرة عند أصحابنا الثلاثة أصليا كان الجنون
أو طارئا بعد البلوغ وقال زفر ليس للولي ان يزوج المجنون جنونا طارئا (وجه) قوله إن ولاية الولي قد زالت
بالبلوغ عن عقل فلا تعود بعد ذلك بطريان الجنون كما لو بلغ مغمى عليه ثم زال الاغماء (ولنا) انه وجد سبب
ثبوت الولاية وهو القرابة وشرطه وهو عجز المولى عليه وهو حاجته وفى ثبوت الولاء فائدة فتثبت ولهذا تثبت في
الجنون الأصلي كذا في الطارئ وتثبت ولاية التصرف في ماله كذا في نفسه والله أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى نفس التصرف فهو أن يكون التصرف نافعا في حق المولى عليه لا ضارا
في حقه فليس للأب والوصي والجد أن يزوج عبد الصغير والصغيرة حرة ولا أمة لغيرهما لان هذا التصرف
ضار في حق المولى عليه لان المهر والنفقة يتعلقان برقبة العبد من غير أن يحصل للصغير مال في مقابلته والاضرار
لا يدخل تحت ولاية الولي كالطلاق والعتاق والتبرعات وكذا كل من يتصرف على غيره بالاذن لا يملك انكاح
العبد كالمكاتب والشريك والمضارب والمأذون لأن اطلاق التصرف لهؤلاء مقيد بالنظر وأما تزويج الأمة
حرا أو عبدا لغيرها فيملكه الأب والجد والوصي والمكاتب والمفاوض والقاضي وأمين القاضي لأنه نفع
محض لكونه تحصيل مال من غير أن يقابله مال فيملكه هؤلاء ألا ترى انهم يملكون البيع مع أنه مقابلة المال
بالمال فهذا أولى فاما شريك العنان والمضارب والمأذون فلا يملكون تزويج الأمة في قول أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف يملكون (وجه) قول أبى يوسف أن هذا تصرف نافع لأنه تحصيل مال لا يقابله مال
فيملكونه كشريك المفاوضة (وجه) قولهما ان تصرف هؤلاء يختص بالتجارة والنكاح ليس من
التجارة بدليل ان المأذونة لا تزوج نفسها ولو كان النكاح تجارة لملكت لان التجارة معاوضة المال بالمال
والنكاح معاوضة البضع بالمال فلم يكن تجارة فلا يدخل تحت ولايتهم بخلاف المفاوض لان تصرفه مختص
بالنفع لا بالتجارة وهذا نافع ولو زوج أمته من عبد ابنه قال أبو يوسف يجوز وقال زفر لا يجوز (وجه) قول
زفر ان تزويج عبده الصغير لم يدخل تحت ولاية الأب فكان الأب فيه كالأجنبي واحتمال الضرر ثابت لجواز
أن يبيع الأمة فيتعلق المهر والنفقة برقبة العبد فيتضرر به الصغير فيصير كأنه زوجه أمة الغير (ولنا) ان ثبوت
الولاية موجود فلا يمتنع الثبوت الا لمكان الضرر وهذا نفع لا مضرة فيه لان الأولاد له ولا يتعلق المهر والنفقة
برقبة العبد فكان نفعا محضا فيملكه قوله يحتمل ان يبيعه قلنا ويحتمل أن لا يبيعه فلا يجوز تعطيل الولاية المخففة
للحال لاحر يحتمل الوجود والعدم وعلى هذا يخرج ما إذا زوج الأب أو الجد الصغيرة من كف ء بدون مهر
المثل أو زوج ابنه الصغير امرأة بأكثر من مهر مثلها انه إن كان ذلك مما يتغابن الناس في مثله لا يجوز بالاجماع
وإن كان مما لا يتغابن الناس في مثله يجوز في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف ومحمد لا يجوز وذكر هشام
عنهما ان النكاح باطل ولو زوج ابنته الصغيرة بمهر مثلها من غير كف ء فهو على هذا الخلاف ولو فعل غير الأب
والجد شيئا مما ذكرنا لا يجوز في قولهم جميعا (وجه) قولهما ان ولاية الانكاح تثبت نظرا في حق المولى عليه
245

ولا نظر في الحط على مهر المثل في إنكاح الصغيرة ولا في الزيادة على مهر المثل في إنكاح الصغير بل فيه ضرر بهما
والاضرار لا يدخل تحت ولاية الولي ولهذا لا يملك غير الأب والجد كذا هذا ولأبي حنيفة ما روى أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه زوج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسمائة
درهم وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ومعلوم ان مهر مثلها كان أضعاف ذلك ولان الأب
وافر الشفقة على ولده ينظر له مالا ينظر لنفسه والظاهر أنه لا يفعل ذلك الا لتوفير مقصود من مقاصد النكاح هو
أنفع وأجدى من كثير المال من موافقة الأخلاق وحسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف ونحو ذلك من
المعاني المقصودة بالنكاح فكان تصرفه والحالة هذه نظرا للصغير والصغيرة لا ضررا بهما بخلاف غير الأب
والجد لان وجه الضرر في تصرفهما ظاهر وليس ثمة دليل يدل على اشتماله على المصلحة الباطنة الخفية
التي تزيد على الضرر الظاهر لان ذلك إنما يعرف بوفور الشفقة ولم يوجد بخلاف ما إذا باع الأب أمة لهما
بأقل من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه أنه لا يجوز لان البيع معاوضة المال بالمال والمقصود من المعاوضات
المالية هو الوصول إلى العوض المالي ولم يوجد وبخلاف ما إذا زوج أمتهما بأقل من مهر مثلها أنه لا يجوز
لأنه أنفع لهما فيما يحصل للأمة من حظ الزوج وإنما منفعتهما في حصول عوض بضع الأمة لهما وهو مهر المثل ولم
يحصل وعلى هذا الخلاف التوكيل بأن وكل رجل رجلا بأن يزوجه امرأة فزوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها
مقدار ما لا يتغابن الناس فيمثله أو وكلت امرأة رجلا بأن يزوجها من رجل فزوجها من رجل بدون صداق
مثلها أو من غير كف ء فهو على اختلاف الوكيل بالبيع المطلق ونذكر المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الوكالة
وعلى هذا الوكيل بالتزويج من جانب الرجل أو المرأة إذا زوج الموكل من لا تقبل شهادة الوكيل له فهو على
الاختلاف في البيع ونذكر ذلك كله إن شاء الله تعالى في كتاب الوكالة وعلى هذا الخلاف الوكيل من جانب
الرجل بالتزويج إذا زوجه أمة لغيره أنه يجوز عند أبي حنيفة لاطلاق اللفظ ولسقوط اعتبار الكفاءة من جانب
النساء وعندهما لا يجوز لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف وتعتبر الكفاءة من جانبين عندهما في مثل هذا الموضع
لمكان العرف استحسانا على ما نذكر إن شاء الله تعالى في موضعه ولو أقر الأب على ابنته الصغيرة بالنكاح أو على
ابنه الصغير لا يصدق في اقراره حتى يشهد شاهدان على نفس النكاح في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد
يصدق من غير شهود وصورة المسألة في موضعين أحدهما ان تدعى امرأة نكاح الصغير أو يدعى رجل نكاح
الصغيرة والأب ينكر ذلك فيقيم المدعى بينة على اقرار الأب بالنكاح فعند أبي حنيفة لا تقبل هذه الشهادة حتى
يشهد شاهدان على نفس العقد وعندهما تقبل ويظهر النكاح والثاني أن يدعى رجل نكاح الصغيرة أو امرأة
نكاح الصغير بعد بلوغهما وهما منكران ذلك فأقام المدعى البينة على اقرار الأب بالنكاح في حال الصغر وعلى
هذا الخلاف الوكيل بالنكاح إذا أقر على موكله أو على موكلته بالنكاح والمولى إذا أقر على عبده بالنكاح
أنه لا يقبل عند أبي حنيفة وعندهما يقبل وأجمعوا على أن المولى إذا أقر على أمته بالنكاح أنه يصدق من غير
شهادة (وجه) قولهما أنه ان أقر بعقد يملك انشاءه فيصدق فيه من غير شهود كما لو أقر بتزويج أمته ولا شك
أنه أقر بعقد يملك انشاءه لأنه يملك انشاء النكاح على الصغير والصغيرة والعبد ونحو ذلك وإذا ملك انشاءه لم يكن
متهما في الاقرار فيصدق كالمولى إذا أقر بالفئ في مدة الايلاء وزوج المعتدة إذا قال في العدة راجعتك لما قلنا
كذا هذا ولأبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بشهود نفى النكاح بغير شهود من غير فصل
بين الانعقاد والظهور بل الحمل على الظهور أولى لان فيه عملا بحقيقة اسم الشاهد إذ هو اسم لفاعل الشهادة وهو
المؤدى لها والحاجة إلى الأداء عند الظهور لا عند الانعقاد ولأنه أقر على الغير فيما لا يملكه بعقد لا يتم به وحده
وإنما يتم به وبشهادة الآخرين فلا يصدق الا بمساعدة آخرين قياسا على الوكلاء الثلاثة في النكاح والبيع
246

ودلالة الوصف أنه أقر بالنكاح والاقرار بالنكاح اقرار بمنافع البضع وانها غير مملوكة ألا ترى أنها لو وطئت
بشبهة كان المهر لها لا للأب بخلاف الأمة فان منافع بضعها مملوكة فكان ذلك اقرارا بما ملك فأبو حنيفة اعتبر
ولاية العقد وملك المعقود عليه وهما اعتبرا ولاية العقد فقط والله عز وجل اعلم
* (فصل) * وأما ولاية الندب والاستحباب فهي الولاية على الحرة البالغة العاقلة بكرا كانت أو ثيبا في قول
أبي حنيفة وزفر وقول أبى يوسف الأول وفى قول محمد وأبى يوسف الآخر الولاية عليها ولاية مشتركة وعند
الشافعي هي ولاية مشتركة أيضا لا في العبادة فإنها للمولى خاصة وشرط ثبوت هذه الولاية على أصل أصحابنا هو
رضا المولى عليه لا غير وعند الشافعي هذا وعبارة الولي أيضا وعلى هذا يبنى الحرة البالغة العاقلة إذا زوجت
نفسها من رجل أو وكلت رجلا بالتزويج فتزوجها أو زوجها فضولي فأجازت جاز في قول أبي حنيفة وزفر وأبى
يوسف الأول سواء زوجت نفسها من كف ء أو غير كف ء بمهر وافر أو قاصر غير أنها إذا زوجت نفسها من غير
كف ء فللأولياء حق الاعتراض وكذا إذا زوجت بمهر قاصر عند أبي حنيفة خلافا لهما وستأتي المسألة إن شاء الله
في موضعها وفى قول محمد لا يجوز حتى يجيزه الولي والحاكم فلا يحل للزوج وطؤها قبل الإجازة ولو وطئها يكون
وطأ حراما ولا يقع عليها طلاقه وظهاره وايلاؤه ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر سواء زوجت نفسها من كف ء
أو غير كف ء وهو قول أبى يوسف الآخر روى الحسن بن زياد عنه وروى عن أبي يوسف رواية أخرى
انها إذا زوجت نفسها من كف ء ينفذ وتثبت سائر الأحكام وروى عن محمد انه إذا كان للمرأة ولى لا يجوز
نكاحها الا باذنه وان لم يكن لها ولى جاز انكاحها على نفسها وروى عن محمد انه رجع إلى قول أبي حنيفة
وقول الشافعي مثل قول محمد في ظاهر الرواية انه لا يجوز نكاحها بدون الولي الا انهما اختلفا فقال محمد ينعقد
لنكاح بعبارتها وينفذ بإذن الولي واجازته وينعقد بعبارة الولي وينفذ باذنها واجازتها فعند الشافعي لا عبارة
للنساء في باب النكاح أصلا حتى لو توكلت امرأة بنكاح امرأة من وليها فتزوجت لم يجز عنده وكذا إذا
زوجت ابنتها باذن القاضي لم يجز احتج الشافعي بقوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم هذا خطاب للأولياء
والأيم اسم لامرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا ومتى ثبتت الولاية عليها كانت هي موليا عليها ضرورة فلا
تكون والية وقوله صلى الله عليه وسلم لا يزوج النساء الا الأولياء وقوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي لان
النكاح من جانب النساء عقد اضرار بنفسه وحكمه وثمرته أما نفسه فإنه رق وأسر قال النبي صلى الله عليه وسلم
النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته وقال عليه الصلاة والسلام اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان
أي أسيرات والارقاق اضرار وأما حكمه فإنه ملك فالزوج يملك التصرف في منافع بضعها استيفاء بالوطئ
واسقاطا بالطلاق ويملك حجرها عن الخروج والبروز وعن التزوج بزوج وأما ثمرته فالاستفراش
كرها وجبرا ولا شك ان هذا اضرار الا أنه قد ينقلب مصلحة وينجبر ما فيه من الضرر إذا وقع وسيلة إلى المصالح
الظاهرة والباطنة ولا يستدرك ذلك الا بالرأي الكامل ورأيها ناقص لنقصان عقلها فبقي النكاح مضرة
فلا تملكه واحتج محمد رحمه الله بما روى عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال أيما امرأة تزوجت بغير اذن وليها فنكاحها باطل والباطل من التصرفات الشرعية ما لا حكم له شرعا كالبيع
الباطل ونحوه ولان للأولياء حقا في النكاح بدليل أن لهم حق الاعتراض والفسخ ومن لا حق له في عقد كيف
يملك فسخه والتصرف في حق الانسان يقف جوازه على جواز صاحب الحق كالأمة إذا زوجت نفسها بغير اذن
وليها (وجه) ما روى عن أبي يوسف انها إذا زوجت نفسها من كف ء ينفذ لان حق الأولياء في النكاح من حيث
صيانتهم عما يوجب لحوق العار والشين بهم بنسبة من لا يكافئهم بالصهرية إليهم وقد بطل هذا المعنى بالتزويج
من كف ء يحققه انها لو وجدت كفأ وطلبت من المولى الانكاح منه لا يحل له الامتناع ولو امتنع يصير عاضلا
247

فصار عقدها والحالة هذه بمنزلة عقده بنفسه (وجه) ما روى عن محمد من الفرق بين ما إذا كان لها ولى
وبين ما إذا لم يكن لها ولى أن وقوف العقد على اذن الولي كان لحق الولي لا لحقها فإذا لم يكن لها ولى فلا حق للولي
فكان الحق لها خاصة فإذا عقدت فقد تصرفت في خالص حقها فنفذ وأما إذا زوجت نفسها من كف ء وبلغ
الولي فامتنع من الإجازة فرفعت أمرها إلى الحاكم فإنه يجيزه في قول أبى يوسف وقال محمد يستأنف العقد (وجه)
قوله إن العقد كان موقوفا على إجازة الولي فإذا امتنع من الإجازة فقد رده فيرتد ويبطل من الأصل فلابد من
الاستئناف (وجه) قول أبى يوسف انه بالامتناع صار عاضلا إذ لا يحل له الامتناع من الإجازة إذا زوجت
نفسها من كف ء فإذا امتنع فقد عضلها فخرج من أن يكون وليا وانقلبت الولاية إلى الحاكم ولأبي حنيفة الكتاب
العزيز والسنة والاستدلال أما الكتاب فقوله تعالى وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبي ان أراد النبي أن
يستنكحها فالآية الشريفة نص على انعقاد النكاح بعبارتها وانعقادها بلفظ الهبة فكانت حجة على المخالف
في المسئلتين وقوله تعالى فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره والاستدلال به من وجهين
أحدهما انه أضاف النكاح إليها فيقتضى تصور النكاح منها والثاني انه جعل نكاح المرأة غاية الحرمة فيقتضى
انتهاء الحرمة عند نكاحها نفسها وعنده لا تنتهى وقوله عز وجل فلا جناح عليهما أن يتراجعا أي
يتناكحا أضاف النكاح إليهما من غير ذكر الولي وقوله عز وجل وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن الآية والاستدلال به من وجهين أحدهما انه أضاف النكاح إليهن فيدل
على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولي والثاني أنه نهى الأولياء عن المنع عن نكاحهن أنفسهن من
أزواجهن إذا تراضى الزوجان والنهى يقتضى تصوير المنهى عنه وأما السنة فما روى عن ابن عباس رضي الله عنه
ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس للولي مع الثيب أمر وهذا قطع ولاية الولي عنها
وروى عنه أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الأيم أحق بنفسها من وليها والأيم اسم
لامرأة لا زوج لها وأما الاستدلال فهو انها لما بلغت عن عقل وحرية فقد صارت ولية نفسها في النكاح فلا
تبقى موليا عليها كالصبي العاقل إذا بلغ والجامع أن ولاية الانكاح إنما ثبتت للأب على الصغيرة بطريق
النيابة عنها شرعا لكون النكاح تصرفا نافعا متضمنا مصلحة الدين والدنيا وحاجتها إليه حالا ومآلا وكونها
عاجزة عن احراز ذلك بنفسها وكون الأب قادرا عليه بالبلوغ عن عقل زال العجز حقيقة وقدرت على التصرف
في نفسها حقيقة فتزول ولاية الغير عنها وتثبت الولاية لها لان النيابة الشرعية إنما تثبت بطريق الضرورة نظرا
فتزول بزوال الضرورة مع أن الحرية منافية لثبوت الولاية للحر على الحر وثبوت الشئ مع المنافى لا يكون
الا بطريق الضرورة ولهذا المعنى زالت الولاية عن إنكاح الصغير العاقل إذا بلغ وتثبت الولاية له وهذا المعنى
موجود في الفرع ولهذا زالت ولاية الأب عن التصرف في مالها وتثبت الولاية لها كذا هذا وإذا صارت ولى
نفسها في النكاح لا تبقى موليا عليها بالضرورة لما فيه من الاستحالة وأما الآية فالخطاب للأولياء بالانكاح
ليس يدل على أن الولي شرط جواز الانكاح بل على وفاق العرف والعادة بين الناس فان النساء لا يتولين النكاح
بأنفسهن عادة لما فيه من الحاجة إلى الخروج إلى محافل الرجال وفيه نسبتهن إلى الوقاحة بل الأولياء هم الذين
يتولون ذلك عليهن برضاهن فخرج الخطاب بالامر بالانكاح مخرج العرف والعادة على الندب والاستحباب
دون الحتم والايجاب والدليل عليه ما ذكر سبحانه وتعالى عقيبه وهو قوله تعالى والصالحين من عبادكم
وإمائكم ثم لم يكن الصلاح شرط الجواز ونظيره قوله تعالى فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا أو تحمل الآية
الكريمة على إنكاح الصغار عملا بالدلائل كلها وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لا يزوج النساء الا
الأولياء ان ذلك على الندب والاستحباب وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي مع ما حكى عن
248

بعض النقلة ان ثلاثة أحاديث لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد من جملتها هذا ولهذا لم
يخرج في الصحيحين على أنا نقول بموجب الأحاديث لكن لما قلتم ان هذا انكاح بغير ولى بل المرأة ولية
نفسها لما ذكرنا من الدلائل والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم النكاح عقد ضرر فممنوع بل هو عقد
منفعة لاشتماله على مصالح الدين والدنيا من السكن والألف والمؤدة والتناسل والعفة عن الزنا واستيفاء
المرأة بالنفقة الا أن هذه المصالح لا تحصل الا بضرب ملك عليها إذ لو لم تكن لا تصير ممنوعة عن الخروج
والبروز والتزوج بزوج آخر وفى الخروج والبروز فساد السكن لان قلب الرجل لا يطمئن إليها وفى
التزوج بزوج آخر فساد الفراش لأنها إذا جاءت بولد يشتبه النسب ويضيع الولد فالشرع ضرب عليها
نوع ملك ضرورة حصول المصالح فكان الملك وسيلة إلى المصالح والوسيلة إلى المصلحة مصلحة وتسمية النكاح
رقا بطريق التمثيل لا بطريق التحقيق لانعدام حقيقة الرق وقوله عقلها ناقص قلنا هذا النوع من النقصان لا يمنع
العلم بمصالح النكاح فلا يسلب أهلية النكاح ولهذا لا يسلب أهلية سائر التصرفات من المعاملات والديانات
حتى يصح منها التصرف في المال على طريق الاستبداد وإن كانت تجرى في التصرفات المالية خيانات
خفية لا تدرك الا بالتأمل ويصح منها الاقرار بالحدود والقصاص ويؤخذ عليها الخطاب بالايمان وسائر
الشرائع فدل ان مالها من العقل كاف والدليل عليه انه اعتبر عقلها في اختيار الأزواج حتى لو طلبت من الولي
أن يزوجها من كف ء يفترض عليه التزويج حتى لو امتنع يصير عاضلا وينوب القاضي منابه في التزويج وأما
حديث عائشة رضي الله عنها فقد قيل إن مداره على الزهري فعرض عليه فأنكره وهذا يوجب ضعفا في
الثبوت يحقق الضعف ان راوي الحديث عائشة رضي الله عنها ومن مذهبها جواز النكاح بغير ولى والدليل
عليه ما روى أنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن من المنذر بن الزبير وإذا كان مذهبها في هذا الباب هذا
فكيف تروى حديثا لا تعمل به ولئن ثبت فنحمله على الأمة لأنه روى في بعض الروايات أيما امرأة نكحت
بغير اذن مواليها دل ذكر الموالي على أن المراد من المرأة الأمة فيكون عملا بالدلائل أجمع وأما قول محمد ان للولي
حقا في النكاح فنقول الحق في النكاح لها على الولي لا للولي عليها بدليل انها تزوج على الولي إذا غاب غيبة
منقطعة وإذا كان حاضرا يجبر على التزويج إذا أبى وعضل تزوج عليه والمرأة لا تجبر على النكاح إذا أبت
وأراد الولي فدل أن الحق لها عليه ومن ترك حق نفسه في عقد له قبل غيره لم يوجب ذلك فساده على أنه إن كان
للولي فيه ضرب حق لكن أثره في المنع من اللزوم إذا زوجت نفسها من غير كف ء لا في المنع من النفاذ والجواز
لان في حق الأولياء في النكاح من حيث صيانتهم عما يلحقهم من الشين والعار بنسبة عدا الكفء إليهم
بالصهرية فان زوجت نفسها من كف ء فقد حصلت الصيانة فزال المانع من اللزوم فيلزم وان تزوجت من
غير كف ء ففي النفاذ إن كان ضرر بالأولياء وفى عدم النفاذ ضرر بها بابطال أهليتها والأصل في الضررين إذا
اجتمعا أن يدفعا ما أمكن وههنا أمكن دفعهما بأن نقول بنفاذ النكاح دفعا للضرر عنها وبعدم اللزوم وثبوت
ولاية الاعتراض للأولياء دفعا للضرر عنهم ولهذا نظير في الشريعة فان العبد المشترك بين اثنين إذا كاتب أحدهما
نصيبه فقد دفع الضرر عنه حتى لو أدى بدل الكتابة يعتق ولكنه لم يلزمه حتى كان للشريك الآخر حق فسخ
الكتابة قبل أداء البدل دفعا للضرر وكذا العبد إذا أحرم بحجة أو بعمرة صح احرامه حتى لو أعتق يمضى في
احرامه لكنه لم يلزمه حتى أن للمولى أن يحلله دفعا للضرر عنه وكذا للشفيع حق تملك الدار بالشفعة دفعا للضرر
عن نفسه ثم لو وهب المشترى الدار نفذت هبته دفعا للضرر عنه لكنها لا تلزم حتى للشفيع حق قبض الهبة
والاخذ بالشفعة دفعا للضرر عن نفسه كذا هذا
* (فصل) * وأما شرط التقدم فشيئان أحدهما العصوبة عند أبي حنيفة فتقدم العصبة على ذوي الرحم
249

سواء كانت العصبة أقرب أو أبعد وعندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية على ما مر والثاني قرب القرابة يتقدم
الأقرب على الابعد سواء كان في العصبات أو في غيرها على أصل أبي حنيفة وعلى أصلهما هذا شرط التقدم
لكن في العصبات خاصة بناء على أن العصبات شرط ثبوت أصل الولاية عندهما وعنده هي شرط التقدم على
غيرهم من القرابات فما دام ثمة عصبة فالولاية لهم يتقدم الأقرب منهم على الابعد وعند عدم العصبات تثبت
الولاية لذوي الرحم الأقرب منهم يتقدم على الابعد وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب في الولاية لأن هذه ولاية
نظر وتصرف الأقرب انظر في حق المولى عليه لأنه أشفق فكان هو أولى من الابعد ولان القرابة إن كانت
استحقاقها بالتعصيب كما قالا فالأبعد لا يكون عصبة مع الأقرب فلا يلي معه ولئن كان استحقاقها بالوراثة
كما قال أبو حنيفة فالأبعد لا يرث مع الأقرب فلا يكون وليا معه وإذا عرف هذا فنقول إذا اجتمع الأب والجد
في الصغير والصغيرة والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة فالأب أولى من الجد أب الأب لوجود العصوبة
والقرب والجد أب الأب وان علا أولى من الأخ لأب وأم والأخ أولى من العم هكذا وعند أبي يوسف ومحمد الجد
والأخ سواء كما في الميراث فان الأخ لا يرث مع الجد عنده فكان بمنزلة الأجنبي وعندهما يشتركان في الميراث
فكانا كالأخوين وان اجتمع الأب والابن في المجنونة فالابن أولى عند أبي يوسف وذكر القاضي في شرحه
مختصر الطحاوي قول أبي حنيفة مع قول أبى يوسف وروى المعلى عن أبي يوسف أنه قال أيهما زوج جاز وان
اجتمعا قلت للأب زوج وقال محمد الأب أولى به (وجه) قوله إن هذه الولاية تثبت نظرا للمولى عليه وتصرف
الأب انظر لها لأنه أشفق عليها من الابن ولهذا كان هو أولى بالتصرف في مالها ولان الأب من قومها والابن
ليس منهم ألا ترى أنه ينسب إلى أبيه فكان اثبات الولاية عليها لقرابتها أولى (وجه) قول أبى يوسف ان
ولاية التزويج مبنية على العصوبة والأب مع الابن إذا اجتمعا فالابن هو العصبة والأب صاحب فرض فكان
كالأخ لام مع الأخ لأب وأم (وجه) رواية المعلى أنه وجد في كل واحد منهما ما هو سبب التقدم أما الأب
فلانه من قومها وهو أشفق عليها وأما الابن فلانة يرثها بالتعصيب وكل واحد من هذين سبب التقدم فأيهما
زوج جاز وعند الاجتماع يقدم الأب تعظيما واحتراما له وكذلك إذا اجتمع الأب وابن الابن وان سفل فهو على
هذا الخلاف والأفضل في المسئلتين ان يفوض الابن الانكاح إلى الأب احتراما للأب واحترازا عن موضع
الخلاف وعلى هذا الخلاف إذا اجتمع الجد والابن قال أبو يوسف الابن أولى وقال محمد الجد أولى والوجه
من الجانبين على نحو ما ذكرنا فاما الأخ والجد فهو على الخلاف الذي ذكرنا بين أبي حنيفة وصاحبيه وأما من
غير العصبات فكل من يرث يزوج عند أبي حنيفة ومن لا فلا وبيان من يرث منهم ومن لا يرث يعرف في
كتاب الفرائض ثم إنما يتقدم الأقرب على الابعد إذا كان الأقرب حاضرا أو غائبا غيبة غير منقطعة فاما إذا كان
غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوج في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا ولاية للأبعد مع قيام الأقرب بحال
وقال الشافعي يزوجها السلطان واختلف مشايخنا في ولاية الأقرب أنها تزول بالغيبة أو تبقى قال بعضهم
انها باقية الا أن حدثت للأبعد ولاية لغيبة الأقرب فيصير كان لها وليين مستويين في الدرجة كالأخوين
والعمين وقال بعضهم تزول ولايته وتنتقل إلى الابعد وهو الأصح (وجه) قول زفر ان ولاية الأقرب قائمة
لقيام سبب ثبوت الولاية وهو القرابة القريبة ولهذا لو زوجها حيث هو يجوز فقيام ولايته تمنع الانتقال إلى
غيره والشافعي يقول إن ولاية الأقرب باقية كما قال زفر الا أنه امتنع دفع حاجتها من قبل الأقرب مع قيام ولايته
عليها بسبب الغيبة فتثبت الولاية للسلطان كما إذا خطبها كف ء وامتنع الولي من تزويجها منه ان للقاضي ان
يزوجها والجامع بينهما دفع الضرر عن الصغيرة (ولنا) ان ثبوت الولاية للأبعد زيادة نظر في حق العاجز
فتثبت له الولاية كما في الأب مع الجد إذا كانا حاضرين ودلالة ما قلنا إن الابعد أقدر على تحصيل النظر للعاجز
250

لان مصالح النكاح مضمنة تحت الكفاءة والمهر ولا شك ان الابعد متمكن من احراز الكفء الحاضر بحيث
لا يفوته غالبا والأقرب الغائب غيبة منقطعة لا يقدر على احرازه غالبا لان الكفء الحاضر لا ينتظر حضوره
واستطلاع رأيه غالبا وكذا الكفء المطلق لأن المرأة تخطب حيث هي عادة فكان الابعد أقدر على احراز الكفء
من الأقرب فكان أقدر على احراز النظر فكان أولى بثبوت الولاية له إذ المرجوح في مقابلة الراجح ملحق
بالعدم في الأحكام كما في الأب مع الجد وأما قوله إن ولاية الأقرب قائمة فممنوع ولا نسلم أنه يجوز انكاحه بل
لا يجوز فولايته منقطعة بواحدة وقد روى عن أصحابنا ما يدل على هذا فإنهم قالوا إن الأقرب إذا كتب كتابا
إلى الابعد ليقدم رجلا في الصلاة على جنازة الصغير فان للأبعد ان يمتنع عن ذلك ولو كانت ولاية الأقرب قائمة
لما كان له الامتناع كما إذا كان الأقرب حاضرا فقدم رجلا ليس للأبعد ولاية المنع والمعقول يدل عليه وهو
أن ثبوت الولاية لحاجة المولى عليه ولا مدفع لحاجته برأي الأقرب لخروجه من أن يكون منتفعا به بالغيبة فكان
ملحقا بالعدم فصار كأنه جن أو مات إذ الموجود الذي لا ينتفع به والعدم الأصلي سواء ولان القول بثبوت الولاية
للأبعد مع ولاية الأقرب يؤدى إلى الفساد لان الأقرب ربما يزوجها من إنسان حيث هو ولا يعلم الابعد بذلك
فيزوجها من غيره فيطؤها الزوج الثاني ويجئ بالأولاد ثم يظهر أنها زوجة الأول وفيه من الفساد ما لا يخفى
ثم إن سلمنا على قول بعض المشايخ فلا تنافى بين الولايتين فأيهما زوج جاز كما إذا كان لها اخوان أو عمان في
درجة واحدة وفيه كمال النظر في حق العاجز لان الكفء ان اتفق حيث الابعد زوجها منه وان اتفق حيث
الأقرب زوجها منه فيكمل النظر الا أن في حال الحضرة يرجح الأقرب باعتبار زيادة الشفقة لزيادة القرابة
وبه تبين ان نقل الولاية إلى السلطان باطل لان السلطان ولى من لا ولى له وههنا لها ولى أو وليان فلا تثبت
الولاية للسلطان الا عند العضل من الولي ولم يوجد والله الموفق واختلفت الأقاويل في تحديد الغيبة المنقطعة
وعن أبي يوسف روايتان في رواية قال ما بين بغداد والري وفى رواية مسيرة شهر فصاعدا وما دونه ليس بغيبة
منقطعة وعن محمد روايتان أيضا روى عنه ما بين الكوفة إلى الري وروى عنه من الرقة إلى البصرة وذكر
ابن شجاع إذا كان غائبا في موضع لا تصل إليه القوافل والرسل في السنة الا مرة واحدة فهو غيبة منقطعة وإذا
كانت القوافل تصل إليه في السنة غير مرة فليست بمنقطعة وعن الشيخ الامام أبى بكر محمد بن الفضل البخاري
أنه قال إن كان الأقرب في موضع يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه فهو غيبة منقطعة وإن كان لا يفوت
فليست بمنقطعة وهذا أقرب إلى الفقه لان التعويل في الولاية على تحصيل النظر للمولى عليه ودفع الضرر عنه
وذلك فيما قاله هذا إذا اجتمع في الصغير والصغيرة والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة وليان أحدهما أقرب
والآخر أبعد فاما إذا كانا في الدرجة سواء كالأخوين والعمين ونحو ذلك فلكل واحد منهما على حياله ان
يزوج رضى الآخر أو سخط بعد إن كان التزويج من كف ء بمهر وافر وهذا قول عامة العلماء وقال مالك
ليس لأحد الأولياء ولاية الانكاح ما لم يجتمعوا بناء على أن هذه الولاية ولاية شركة عنده وعندنا وعند العامة
ولاية استبداد (وجه) قوله إن سبب هذه الولاية هو القرابة وانها مشتركة بينهم فكانت الولاية مشتركة لان
الحكم يثبت على وفق العلة وصار كولاية الملك فان الجارية بين اثنين إذا زوجها أحدهما لا يجوز من
غير رضا الآخر لما قلنا كذا هذا (ولنا) ان الولاية لا تتجزأ لأنها ثبتت بسبب لا يتجزأ وهو القرابة وما لا يتجزأ
إذا ثبت بجماعة سبب لا يتجزأ يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأنه ليس معه غيره كولاية الأمان بخلاف
ولاية الملك لان سببها الملك وأنه متجزئ فيتقدر بقدر الملك فان زوجها كل واحد من الوليين رجلا على حدة
فان وقع العقدان معا بطلا جميعا لأنه لا سبيل إلى الجمع بينهما وليس أحدهما أولى من الآخر وان وقعا مرتبا
فإن كان لا يدرى السابق فكذلك لما قلنا ولأنه لو جاز لجاز بالتجزئ ولا يجوز العمل بالتجزئ في الفروج
251

وان علم السابق منهما من اللاحق جاز الأول ولم يجز الآخر وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال إذا نكح الوليان فالأول أحق وأما إذا زوج أحد الأولياء الحرة البالغة العاقلة برضاها من غير كف ء
بغير رضا الباقين فحكمه يذكر إن شاء الله تعالى في شرائط اللزوم
* (فصل) * وأما ولاية الولاء فسبب ثبوتها الولاء قال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب
ثم النسب سبب لثبوت الولاية كذا الولاء والولاء نوعان ولاء عتاقة وولاء موالاة أما ولاء العتاقة فولاية ولاء
العتاقة نوعان ولاية حتم وايجاب وولاية ندب واستحباب عند أبي حنيفة وعند محمد ولاية استبداد وولاية
شركة على ما بينا في ولاية القرابة وشرط ثبوت هذه الولاية ما هو شرط ثبوت تلك الولاية الا أن هذه الولاية
اختصت بشرط وهو أن لا يكون للمعتق عصبة من جهة القرابة فإن كان فلا ولاية للمعتق لأنه لا ولاء له لان
مولى العتاقة آخر العصبات وان لم يكن ثمة عصبة من جهة القرابة فله أن يزوج سواء كان المعتق ذكرا أو
أنثى واما مولى الموالاة فله ولاية التزويج في قول أبي حنيفة عند استجماع سائر الشرائط وانعدام سائر الورثة
لأنه آخر الورثة وعند أبي يوسف ومحمد ليس له ولاية التزويج أصلا ورأسا لان العصوبة شرط
عندهما ولم توجد
* (فصل) * وأما ولاية الإمامة فسببها الإمامة وولاية الإمامة نوعان أيضا كولاية القرابة وشرطها ما هو
شرط تلك الولاية في النوعين جميعا ولها شرطان آخران أحدهما يعم النوعين جميعا وهو أن لا يكون هناك ولى
أصلا لقوله صلى الله عليه وسلم السلطان ولى من لا ولى له والثاني يخص أحدهما وهو ولاية الندب
والاستحباب أو ولاية الشركة على اختلاف الأصل وهو العضل من الولي لان الحرة البالغة العاقلة إذا طلبت
الانكاح من كف ء وجب عليه التزويج منه لأنه منهى عن العضل والنهى عن الشئ أمر بضده فإذا امتنع فقد
أضر بها والامام نصب لدفع الضرر فتنتقل الولاية إليه وليس للوصي ولاية الانكاح لأنه يتصرف بالامر فلا
يعد وموضع الامر كالوكيل وإن كان الميت أوصى إليه لا يملك أيضا لأنه أراد بالوصاية إليه نقل ولاية الانكاح
وأنها لا تحتمل النقل حال الحياة كذا بعد الموت وكذا الفضولي لانعدام سبب ثبوت الولاية في حقه أصلا ولو
أنكح ينعقد موقوفا على الإجازة عندنا وعند الشافعي لا ينعقد أصلا والمسألة ستأتي في كتاب البيوع
* (فصل) * ومنها الشهادة وهي حضور الشهود والكلام في هذا الشرط في ثلاث مواضع أحدها
في بيان أن أصل الشهادة شرط جواز النكاح أم لا والثاني في بيان صفات الشاهد الذي ينعقد النكاح
بحضوره والثالث في بيان وقت الشهادة أما الأول فقد اختلف أهل العلم فيه قال عامة العلماء ان الشهادة
شرط جواز النكاح وقال مالك ليست بشرط وإنما الشرط هو الاعلان حتى لو عقد النكاح وشرط الاعلان جاز
وان لم يحضره شهود ولو حضرته شهود وشرط عليهم الكتمان لم يجز ولا خلاف في أن الاشهاد في سائر العقود
ليس بشرط ولكنه مندوب إليه ومستحب قال الله تعالى في باب المداينة يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين
إلى أجل مسمى فاكتبوه والكتابة لا تكون لنفسها بل للاشهاد ونص عليه في قوله واستشهدوا شهيدين من
رجالكم وقال عز وجل في باب الرجعة وأشهدوا ذوي عدل منكم (وجه) قول مالك ان النكاح إنما يمتاز
عن السفاح بالاعلان فان الزنا يكون سرا فيجب أن يكون النكاح علانية وقد روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم انه نهى عن نكاح السر والنهى عن السر يكون أمر أبا بالاعلان لان النهى عن الشئ أمر بضده
وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أعلنوا النكاح ولو بالدف (ولنا) ما روى عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال لا نكاح الا بشهود وروى لا نكاح الا بشاهدين وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه
ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الزانية التي تنكح نفسها بغير بينة ولو لم تكن الشهادة شرطا لم
252

تكن زانية بدونها ولان الحاجة مست إلى دفع تهمة الرنا عنها ولا تندفع الا بالشهود لأنها لا؟ ندفع الا بظهور
النكاح واشتهاره ولا يشتهر الا بقول الشهود وبه تبين ان الشهادة في النكاح ما شرطت الا في النكاح للحاجة
إلى دفع الجحود والانكار لان ذلك يندفع بالظهور والاشتهار لكثرة الشهود على النكاح بالسماع من العاقدين
وبالتسامع وبهذا فارق سائر العقود فان الحاجة إلى الشهادة هناك لدفع احتمال الشهود النسيان أو الجحود
والانكار في الثاني إذ ليس بعدها ما يشهرها ليندفع به الجحود فتقع الحاجة إلى الدفع بالشهادة فندب عليها وما
روى أنه نهى عن نكاح السر فنقول بموجبه لكن نكاح السر ما لم يحضره شاهدان فاما ما حضره شاهدان فهو
نكاح علانية لا نكاح سر إذ السر إذا جاوز اثنين خرج من أن يكون سرا قال الشاعر
وسرك ما كان عند امرئ * وسر الثلاثة غير الخفي
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أعلنوا النكاح لأنهما إذا أحضراه شاهدين فقد أعلناه وقوله صلى الله عليه
وسلم ولو بالدف ندب إلى زيادة علانه وهو مندوب إليه والله عز وجل الموفق
* (فصل) * وأما صفات الشاهد الذي ينعقد به النكاح وهي شرائط تحمل الشهادة للنكاح فمنها العقل
ومنها البلوغ ومنها الحرية فلا ينعقد النكاح بحضرة المجانين والصبيان والمماليك قنا كان المملوك أو مدبرا
أو مكاتبا من مشايخنا من أصل في هذا أصلا فقال كل من صلح أن يكون وليا في النكاح بولاية نفسه يصلح شاهدا
فيه والا فلا وهذا الاعتبار صحيح لان الشهادة من باب الولاية لأنها تنفيذ القول على الغير والولاية هي نفاذ المشيئة
وهؤلاء ليس لهم ولاية الانكاح لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم فكيف يكون لهم ولاية على غيرهم الا المكاتب
فإنه يزوج أمته لكن لا بولاية نفسه بل بولاية مولاه بتسليطه على ذلك بعقد الكتابة وكان التزويج من
المولى من حيث المعنى فلا يصلح شاهدا ومنهم من قال كل من يملك قبول عقد بنفسه ينعقد ذلك العقد
بحضوره ومن لا فلا وهذا الاعتبار صحيح أيضا لان الشهادة من شرائط ركن العقد وركنه وهو الايجاب
والقبول ولا وجود للركن بدون القبول فكما لا وجود للركن بدون القبول حقيقة لا وجود له شرعا بدون الشهادة
وهؤلاء لا يملكون قبول العقد بأنفسهم فلا ينعقد النكاح بحضورهم والدليل على أنهم ليسوا من أهل الشهادة
ان قاضيا لو قضى بشهادتهم ينفسخ قضاؤه عليه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه أصل فيه أصلا وقال كل من جاز
الحكم بشهادته في قول بعض الفقهاء ينعقد النكاح بحضوره ومن لا يجوز الحكم بشهادته عند أحد لا يجوز
بحضوره وهذا الاعتبار صحيح أيضا لان الحضور لفائدة الحكم بها عند الأداء فإذا جاز الحكم بها في الجملة
كان الحضور مفيدا ولا يجوز الحكم بشهادة هؤلاء عند البعض من الفقهاء ألا ترى ان قاضيا لو قضى بشهادتهم
ينفسخ عليه قضاؤه
* (فصل) * ومنها الاسلام في نكاح المسلم المسلمة فلا ينعقد نكاح المسلم المسلمة بشهادة الكفار لان الكافر
ليس من أهل الولاية على المسلم قال الله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وكذا لا يملك الكافر
قبول نكاح المسلم ولو قضى قاض بشهادته على المسلم ينقض قضاؤه وأما المسلم إذا تزوج ذمية بشهادة ذميين
فإنه يجوز في قول أبي حنيفة وأبى يوسف سواء كانا موافقين لها في الملة أو مخالفين وقال محمد وزفر والشافعي
لا يجوز نكاح المسلم الذمية بشهادة الذميين أما الكلام مع الشافعي فهو مبنى على أن شهادة أهل الذمة بعضهم على
بعض مقبولة على أصلنا وعلى أصله غير مقبولة وأما الكلام مع محمد وزفر فإنهما احتجا بما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل والمراد منه عدالة الدين لا عدالة التعاطي
لاجماعنا على أن فسق التعاطي لا يمنع انعقاد النكاح ولان الاشهاد شرط جواز العقد والعقد يتعلق وجوده
بالطرفين طرف الزوج وطرف المرأة ولم يوجد الاشهاد على الطرفين لان شهادة الكافر حجة في حق
253

الكافر ليست بحجة في حق المسلم فكانت شهادته في حق ملحقة بالعدم فلم يوجد الاشهاد في جانب الزوج
فصار كأنهما سمعا كلام المرأة دون كلام الرجل ولو كان كذلك لم يكن النكاح كذا هذا ولهما
عمومات النكاح من الكتاب والسنة نحو قوله تعالى فانحكوا ما طاب لكم من النساء وقوله وأحل لكم
ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم وقول النبي صلى الله عليه وسلم تزوجوا ولا تطلقوا وقوله صلى الله عليه
وسلم تناكحوا وغير ذلك مطلقا عن غير شرط الا أن أهل الشهادة واسلام الشاهد صار شرطا في
نكاح الزوجين المسلمين بالاجماع فمن ادعى كونه شرطا في نكاح المسلم الذمية فعليه الدليل وروى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا نكاح الا بشهود وروى لا نكاح الا بشاهدين والاستثناء من
النفي اثبات ظاهر وهذا نكاح بشهود لان الشهادة في اللغة عبارة عن الاعلام والبيان والكافر من
أهل الاعلام والبيان لان ذلك يقف على العقل واللسان والعلم بالمشهود به وقد وجد الا أن شهادته على
المسلم خصت من عموم الحديث فبقيت شهادته للمسلم داخلة تحته ولان الشهادة من باب الولاية لما بينا
والكافر الشاهد يصلح وليا في هذا العقد بولاية نفسه ويصلح قابلا لهذا العقد بنفسه فيه صلح شاهدا
وكذا يجوز للقاضي الحكم بشهادته هذه للمسلم لأنه محل الاجتهاد على ما نذكر ولو قضى لا ينفذ قضاؤه
فينفذ النكاح بحضوره وأما الحديث فقد قيل إنه ضعيف ولئن ثبت فنحمله على نفى الندب والاستحباب
توفيقا بين الدلائل وأما قوله العقد خلا عن الاشهاد في جانب الزوج لان شهادة الكافر ليست بحجة في حق
المسلم فنقول شهادة الكافر ان لم تصلح حجة للكافر على المسلم فتصلح حجة للمسلم على الكافر لأنها إنما لا تصلح
حجة على المسلم لأنها من باب الولاية وفى جعلها حجة على المسلم اثبات الولاية للكافر على المسلم وهذا لا يجوز
وهذا المعنى لم يوجد ههنا لأنا إذا جعلناها حجة للمسلم ما كان فيه اثبات الولاية للكافر وهذا جائز على أنا ان
سلمنا قوله ليس بحجة في حق المسلم لكن حضوره على أن قوله حجة ليس بشرط لانعقاد النكاح فإنه ينعقد
بحضور من لا تقبل شهادته عليه على ما نذكر إن شاء الله تعالى وهل يظهر نكاح المسلم الذمية بشهادة
ذميين عند الدعوى ينظر في ذلك إن كانت المرأة هي المدعية للنكاح على المسلم والمسلم منكر لا يظهر بالاجماع
لأن هذه شهادة الكافر على المسلم وانها غير مقبولة وإن كان الزوج هو المدعى والمرأة منكرة فعلى أصل
أبي حنيفة وأبى يوسف يظهر سواء قال الشاهد إن كان معنا عند العقد رجلان مسلمان أو لم يقولا ذلك
واختلف المشايخ على أصل محمد قال بعضهم يظهر كما قالا وقال بعضهم لا يظهر سواء قالا كان معنا رجلان
مسلمان أو لم يقولا ذلك وهو الصحيح من مذهبه ووجهه ان هذه شهادة قامت على نكاح فاسد وعلى اثبات
فعل المسلم لأنهما ان شهدا على نكاح حضراه فقط لا تقبل شهادتهما لأن هذه شهادة على نكاح فاسد عنده
وان شهدا على أنهما حضراه ومعهما رجلان مسلمان لا تقبل أيضا لأن هذه إن كانت شهادة الكافر
على الكافر لكن فيها اثبات فعل المسلم فيكون شهادة على مسلم فلا تقبل كمسلم ادعى عبدا في يد ذمي فجحد
الذمي دعوى المسلم وزعم أن العبد عبده فأقام المسلم شاهدين ذميين على أن العبد عبده وقضى له به على هذا
الذمي قاض فلا تقبل شهادتهما وإن كان هذا شهادة الكافر على الكافر لكن لما كان فيها اثبات
فعل المسلم بشهادة الكافر وهو قضاء القاضي لم تقبل كذا هذا (وجه) الكلام لأبي حنيفة وأبى يوسف
على نحو ما ذكرنا في جانب الاعتقاد أن الشهادة من باب الولاية وللكافر ولاية على الكافر ولو كان الشاهدان
وقت التحمل كافرين ووقت الأداء مسلمين فشهدا للزوج فعلى أصلهما لا يشكل انه تقبل شهادتهما
لأنهما لو كانا في الوقتين جميعا كافرين تقبل فههنا أولى واختلف المشايخ على أصل محمد قال بعضهم تقبل
وقال بعضهم لا تقبل فمن قال تقبل نظر إلى وقت الأداء ومن قال لا تقبل نظر إلى وقت التحمل
254

* (فصل) * ومنها سماع الشاهدين كلام المتعاقدين جميعا حتى لو سمعا كلام أحدهما دون الآخر أو
سمع أحدهما كلام أحدهما والآخر كلام الآخر لا يجوز النكاح لان الشهادة أعنى حضور الشهود شرط
ركن العقد وركن العقد هو الايجاب والقبول فيما لم يسمعا كلامهما لا تتحقق الشهادة عند الركن فلا يوجد
شرط الركن والله أعلم
* (فصل) * ومنها العدد فلا ينعقد النكاح بشاهد واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بشهود
وقوله لا نكاح الا بشاهدين وأما عدالة الشاهد فليست بشرط لانعقاد النكاح عندنا فينعقد بحضور الفاسقين
وعند الشافعي شرط ولا ينعقد الا بحضور من ظاهره العدالة واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل ولان الشهادة خبر يرجح فيه جانب الصدق على جانب
الكذب والرجحان إنما يثبت بالعدالة ولنا أن عمومات النكاح مطلقة عن شرط ثم اشتراط أصل
الشهادة بصفاتها المجمع عليها ثبتت بالدليل فمن ادعى شرط العدالة فعليه البيان ولان الفسق لا يقدح في ولاية
الانكاح بنفسه لما ذكرنا في شرائط الولاية وكذا يجوز للحاكم الحكم بشهادته في الجملة ولو حكم لا ينقض
حكمه لأنه محل الاجتهاد فكان من أهل تحمل الشهادة والفسق لا يقدح في أهلية التحمل وإنما يقدح في الأداء
فيظهر أثره في الأداء لا في الانعقاد وقد ظهر حتى لا يجب على القاضي القضاء بشهادته ولا يجوز أيضا الا إذا تحرى
القاضي الصدق في شهادته وكذا كون الشاهد غير محدود في القذف ليس بشرط لانعقاد النكاح فينعقد
بحضور المحدود في القذف غير أنه إن كان قد تاب بعدما حد ينعقد النكاح بالاجماع وإن كان لم يتب لا تقبل
شهادته عندنا على التأبيد خلافا للشافعي لان كونه مردود الشهادة على التأبيد يقدح في الأداء لا في التحمل
ولأنه يصلح وليا في النكاح بولاية نفسه ويصح القبول منه بنفسه ويجوز القضاء بشهادته في الجملة فينعقد
النكاح بحضوره وان حد ولم يتب أو لم يتب ولم يحد ينعقد عندنا خلافا للشافعي وهي مسألة شهادة الفاسق وكذا
بصر الشاهد ليس بشرط فينعقد النكاح بحضور الأعمى لما ذكرنا ولان العمى لا يقدح الا في الأداء لتعذر التمييز
بين المشهود عليه وبين المشهود له ألا ترى انه لا يقدح في ولاية الانكاح ولا في قبول النكاح بنفسه ولا في
المنع من جواز القضاء بشهادته في الجملة فكان من أهل أن ينعقد النكاح بحضوره وكذا ذكورة الشاهدين
ليست بشرط عندنا وينعقد النكاح بحضور رجل وامرأتين عندنا وعند الشافعي شرط ولا ينعقد الا بحضور
رجلين ونذكر المسألة في كتاب الشهادات وكذا اسلام الشاهدين ليس بشرط في نكاح الكافرين فينعقد
نكاح الزوجين الكافرين بشهادة كافرين وكذا تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض سواء اتفقت
مللهم أو اختلفت وهذا عندنا وعند الشافعي اسلام الشاهد شرط لأنه ينعقد نكاح الكافر بشهادة الكافر
ولا تقبل شهادتهم أيضا والكلام في القبول نذكره في كتاب الشهادات ونتكلم ههنا في انعقاد النكاح
بشهادته واحتج الشافعي بالمروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل ولا
عدالة مع الكفر لان الكفر أعظم الظلم وأفحشه فلا يكون الكافر عدلا فلا ينعقد النكاح بحضوره ولنا قوله
عليه الصلاة والسلام لا نكاح الا بشهود وقوله لا نكاح الا بشاهدين والاستثناء من النفي اثبات من حيث
الظاهر والكفر لا يمنع كونه شاهدا لما ذكرنا وكذا لا يمنع أن يكون وليا في النكاح بولاية نفسه ولا قابلا
للعقد بنفسه ولا جواز للقضاء بشهادته في الجملة وكذا كون شاهد النكاح مقبول الشهادة عليه ليس بشرط
لانعقاد النكاح بحضوره وينعقد النكاح بحضور من لا تقبل شهادته عليه أصلا كما إذا تزوج امرأة بشهادة
ابنيه منها وهذا عندنا وعند الشافعي لا ينعقد (وجه) قوله إن الشهادة في باب النكاح للحاجة إلى صيانته
عن الجحود والانكار والصيانة لا تحصل الا بالقبول فإذا لم يكن مقبول الشهادة لا تحصل الصيانة ولنا أن
255

الاشتهار في النكاح لدفع تهمة الزنا لا لصيانة العقد عن الجحود ولانكار والتهمة تندفع بالحضور من غير قبول
على أن معنى الصيانة يحصل بسبب حضورهما وإن كان لا تقبل شهادتهما لان النكاح يظهر ويشتهر
بحضورهما فإذا ظهر واشتهر تقبل الشهادة فيه بالتسامع فتحصل الصيانة وكذا إذا تزوج امرأة بشهادة
ابنيه لا منها أو ابنيها لا منه يجوز لما قلنا ثم عند وقوع الحجر والانكار ينظر ان وقعت شهادتهما لواحد من الأبوين
لا تقبل وان وقعت عليه تقبل لان شهادة الابن لأبويه غير مقبولة وشهادتهما عليه مقبولة ولو زوج الأب
ابنته من رجل بشهادة ابنيه وهما أخوا المرأة فلا يشك انه يجوز النكاح وإذا وقع الجحود بين الزوجين فإن كان
الأب مع الجاحد منهما أيهما كان تقبل شهادتهما لأن هذه شهادة على الأب فتقبل وإن كان الأب مع المدعى
منهما أيهما كان لا تقبل شهادتهما عند أبي يوسف وعند محمد تقبل فأبو يوسف نظر إلى الدعوى والانكار
فقال إذا كان الأب مع المنكر فشهادتهما تقع على الأب فتقبل وإذا كان مع المدعى فشهادتهما تقع للأب لان
التزويج كان من الأب فلا تقبل ومحمد نظر إلى المنفعة وعدم المنفعة فقال إن كان للأب منفعة لا تقبل سواء كان
مدعيا أو منكرا وان لم يكن له منفعة تقبل وههنا لا منفعة للأب فتقبل والصحيح نظر محمد لان المانع من القبول
هو التهمة وانها تنشأ عن النفع وكذلك هذا الاختلاف فيما إذا قال رجل لعبده ان كلمك زيد فأنت حر ثم قال العبد
كلمني زيد وأنكر المولى فشهد للعبد ابنا زيد أباهما قد كلمه والمولى ينكر تقبل شهادتهما في قول محمد سواء
كان زيد يدعى الكلام أو لا يدعى لأنه لا منفعة لزيد في الكلام وعند أبي يوسف إن كان زيد يدعى الكلام
لا تقبل وإن كان لا يدعى تقبل وكذلك هذا الاختلاف فيمن توكل عن غيره في عقد ثم شهد ابنا الوكيل على
العقد فإن كان حقوق العقد لا ترجع إلى العاقد تقبل شهادتهما عند محمد سواء ادعى الوكيل أو لم يدع لأنه ليس
فيه منفعة وعند أبي يوسف إن كان يدعى لا تقبل وإن كان منكرا تقبل
* (فصل) * وأما بيان وقت هذه الشهادة وهي حضور الشهود فوقتها وقت وجود ركن العقد وهو الايجاب
والقبول لا وقت وجود الإجازة حتى لو كان العقد موقوفا على الإجازة فحضروا عقد الإجازة ولم يحضروا
عند العقد لم تجز لان الشهادة شرط ركن العقد فيشترط وجودها عند الركن والإجازة ليست بركن بل هي
شرط النفاذ في العقد الموقوف وعند وجود الإجازة يثبت الحكم بالعقد من حين وجوده فتعتبر الشهادة في
ذلك الوقت والله تعالى الموفق
* (فصل) * ومنها أن تكون المرأة محللة وهي أن لا تكون محرمة على التأبيد فإن كانت محرمة على التأبيد
فلا يجوز نكاحها لان الانكاح احلال واحلال المحرم على التأبيد محال والمحرمات على التأبيد ثلاثة أنواع
محرمات بالقرابة ومحرمات بالمصاهرة ومحرمات بالرضاع أما النوع الأول فالمحرمات بالقرابة سبع فرق
الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت قال الله تعالى حرمت
عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم الآية أخبر الله تعالى عن تحريم هذه المذكورات فاما أن يعمل بحقيقة هذا الكلام حقيقة ويقال
بحرمة الأعيان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وهي منع الله تعالى الأعيان عن تصرفنا فيها باخراجها من أن
تكون محلا لذلك شرعا وهو التصرف الذي يعتاد ايقاعه في جنسها وهو الاستمتاع والنكاح واما أن يضمر فيه
الفعل وهو الاستمتاع والنكاح في تحريم كل واحد منهما تحريم الآخر لأنه إذا حرم الاستمتاع وهو المقصود
بالنكاح لم يكن النكاح مفيدا لخلوه عن العاقبة الحميدة فكان تحريم الاستمتاع تحريما للنكاح وإذا حرم
النكاح وانه شرع وسيلة إلى الاستمتاع والاستمتاع هو المقصود فكان تحريم الوسيلة تحريما للمقصود
بالطريق الأولى وإذا عرف هذا فنقول يحرم على الرجل أمه بنص الكتاب وهو قوله تعالى حرمت عليكم
256

أمهاتكم وتحرم عليه جداته من قبل أبيه وأمه وان علون بدلالة النص لان الله تعالى حرم العمات
والخالات وهن أولاد الأجداد والجدات فكانت الجدات أقرب منهن فكان تحريمهن تحريما للجدات من
طريق الأولى كتحريم التأفيف نصا يكون تحريما للشتم والضرب دلالة وعليه اجماع الأمة أيضا وتحرم
عليه بناته بالنص وهو قوله تعالى وبناتكم سواء كانت بنته من النكاح أو من السفاح لعموم النص وقال
الشافعي لا تحرم عليه البنت من السفاح لان نسبها لم يثبت منه فلا تكون مضافة إليه شرعا فلا تدخل تحت نص
الإرث والنفقة في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وفى قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن كذا ههنا ولأنا نقول
بنت الانسان اسم لأنثى مخلوقة من مائه حقيقة والكلام فيه فكانت بنته حقيقة الا أنه لا تجوز الإضافة شرعا إليه
لما فيه من إشاعة الفاحشة وهذا لا ينفى النسبة الحقيقية لان الحقائق لا مرد لها وهكذا نقول في الإرث والنفقة
ان النسبة الحقيقية ثابتة الا أن الشرع اعتبر هناك ثبوت النسب شرعا لجريان الإرث والنفقة لمعنى ومن ادعى
ذلك ههنا فعليه البيان وتحرم بنات بناته وبنات أبنائه وان سفلن بدلالة النص لأنهن أقرب من بنات الأخ
وبنات الأخت ومن الأخوات أيضا لان الأخوات أولاد أبيه وهن أولاد أولاده فكان ذكر الحرمة
هناك ذكرا للحرمة ههنا دلالة وعليه اجماع الأمة أيضا وتحرم عليه أخواته وعماته وخالاته بالنص وهو قوله
عز وجل وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم سواء كن لأب وأم أو لأب أو لام لاطلاق اسم الأخت والعمة
والخالة ويحرم عليه عمة أبيه وخالته لأب وأم أو لأب أو لام وعمة أمه وخالته لأب وأم أو لأب أو لام بالاجماع
وكذا عمة جده وخالته وعمة خالته وخالتها لأب وأم أو لأب أو لام تحرم بالاجماع وتحرم عليه بنات الأخ
وبنات الأخت بالنص وهو قوله تعالى وبنات الأخ وبنات الأخت وبنات بنات الأخ والأخت وان
سفلن بالاجماع ومنهم من قال إن حرمة الجدات وبنات البنات ونحوهن ممن ذكرنا يثبت بالنص أيضا
لانطلاق الاسم عليهن فان جدة الانسان تسمى اما له وبنت بنته تسمى بنتا له فكانت حرمتهن ثابتة بعين النص
لكن هذا لا يصح الا على قول من يقول يجوز أن يراد الحقيقة والمجاز من لفظ واحد إذا لم يكن بين حكميهما منافاة
لأن اطلاق اسم الام على الجدة واطلاق اسم البنت على بنت البنت بطريق المجاز ألا ترى أن من نفى اسم الام والبنت
عنهما كان صادقا في النفي وهذا من العلامات التي يفرق بها بين الحقيقة والمجاز وقد ظهر أمر هذه التفرقة في
الشرع أيضا حتى أن من قال لرجل لست أنت بابن فلان لجده لا يصير قاذفا له حتى لا يؤخذ بالحد ولان نكاح
هؤلاء يفضى إلى قطع الرحم لان النكاح لا يخلو عن مباسطات تجرى بين الزوجين عادة وبسببها تجرى الخشونة
بينهما وذلك يفضى إلى قطع الرحم فكان النكاح سببا لقطع الرحم مفضيا إليه وقطع الرحم حرام والمفضى إلى
الحرام حرام وهذا المعنى يعم الفرق السبع لان قرابتهن محرمة القطع واجبة الوصل ويختص الأمهات بمعنى
آخر وهو ان احترام الام وتعظيمها واجب ولهذا أمر الولد بمصاحبة الوالدين بالمعروف وخفض الجناح لهما
والقول الكريم ونهى عن التأفيف لهما فلو جاز النكاح والمرأة تكون تحت أمر الزوج وطاعته وخدمته مستحقة
عليها للزمها ذلك وانه ينفى الاحترام فيؤدى إلى التناقض وتحل له بنت العمة والخالة وبنت العم والخال لان الله
تعالى ذكر المحرمات في آية التحريم ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه أحل ما وراء ذلك بقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم
وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات لم يذكرن في المحرمات فكن مما وراء ذلك فكن محللات وكذا
عمومات النكاح لا توجب الفصل ثم خص عنها المحرمات المذكورات في آية التحريم فبقي غيرهن تحت
العموم وقد ورد نص خاص في الباب وهو قوله تعالى يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك إلى قوله عز وجل
وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك الآية والأصل فيما يثبت
للنبي صلى الله عليه وسلم ان يثبت لامته والخصوص بدليل والله الموفق
257

* (فصل) * وأما النوع الثاني فالمحرمات بالمصاهرة أربع فرق الفرقة الأولى أم الزوجة وجداتها من قبل
أبيها وأمها وان علون فيحرم على الرجل أم زوجته بنص الكتاب العزيز وهو قوله عز وجل وأمهات نسائكم
معطوفا على قوله عز وجل حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم سواء كان دخل بزوجته أو كان لم يدخل بها عند عامة
العلماء وقال مالك وداود الأصفهاني ومحمد بن شجاع البلخي وبشر المريسي أن أم الزوجة لا تحرم على الزوج
بنفس العقد ما لم يدخل ببنتها حتى أن من تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها أو ماتت لا يجوز له ان يتزوج
أمها عند عامة العلماء وعندهم يجوز والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روى عن عمر وعلى وابن
عباس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين رضي الله عنهم مثل قول العامة وروى عن عبد الله بن مسعود
وجابر رضي الله عنهما مثل قولهم وهو احدى الروايتين عن علي وزيد بن ثابت وعن زيد بن ثابت انه فصل بين
الطلاق والموت قال في الطلاق مثل قولهما وفى الموت مثل قول العامة وجعل الموت كالدخول لأنه بمنزلة
الدخول في حق المهر وكذا في حق التحريم احتجوا بقوله تعالى وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم
من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ذكر أمهات النساء وعطف ربائب النساء عليهن في التحريم بحرف العطف
ثم عقب الجملتين بشرط الدخول والأصل ان الشرط المذكور والاستثناء بمشيئة الله تعالى عقيب جمل معطوف
بعضها على بعض بحرف العطف كل جملة مبتدأ وخبره ينصرف إلى الكل لا إلى ما يليه خاصة كمن قال عبده حر
وامرأته طالق وعليه حج بيت الله تعالى ان فعل كذا أو قال إن شاء الله تعالى فهذا كذلك فينصرف شرط الدخول
إلى الجملتين جميعا فلا تثبت الحرمة بدونه ولنا قوله تعالى وأمهات نسائكم كلام تام بنفسه منفصل عن المذكور
بعده لأنه مبتدأ وخبر إذ هو معطوف على ما تقدم ذكره من قوله حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى قوله
عز وجل وأمهات نسائكم والمعطوف يشارك المعطوف عليه في خبره ويكون خبر الأول خبرا للثاني كقوله
جاءني زيد وعمرو معناه جاءني عمرو فكان معنى قوله تعالى وأمهات نسائكم أي وحرمت عليكم أمهات
نسائكم وانه مطلق عن شرط الدخول فمن ادعى أن الدخول المذكور في آخر الكلمات منصرف إلى الكل
فعليه الدليل وروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا نكح
الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فله أن يتزوج ابنتها وليس له أن يتزوج الام وهذا نص في المسئلتين وعن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل تزوج
امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا بأس أن يتزوج بنتها وأيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن
يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحل له أن يتزوج أمها وهذا نص في المسئلتين وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
أنه قال في هذه الآية الكريمة أبهموا ما أبهم الله تعالى أي أطلقوا ما أطلق الله تعالى وكذا روى عن عمران
ابن حصين أنه قال الآية مبهمة أي مطلقة لا يفصل بين الدخول وعدمه وما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه
فقد روى الرجوع عنه فإنه روى أنه أفتى بذلك في الكوفة فلما أتى المدينة ولقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذاكرهم رجع إلى القول بالحرمة حتى روى أنه لما أتى الكوفة نهى من كان أفتاه بذلك فقيل إنها
ولدت أولادا فقال إنها وان ولدت ولان هذا النكاح يفضى إلى قطع الرحم لأنه إذا طلق بنتها وتزوج بأمها
حملها ذلك على الضغينة التي هي سبب القطيعة فيما بينهما وقطع الرحم حرام فما أفضى إليه يكون حراما لهذا المعنى
حرم الجمع بين المرأة وبنتها وبين المرأة وأمها وبين عمتها وخالتها على ما نذكر إن شاء الله تعالى بخلاف جانب
الام حيث لا تحرم بنتها بنفس العقد على الام لان إباحة النكاح هناك لا تؤدى إلى القطع لان الام في ظاهر
العادات تؤثر بنتها على نفسها في الحظوظ والحقوق والبنت لا تؤثر أمها على نفسها معلوم ذلك بالعادة وإذا جاء
الدخول تثبت الحرمة لأنه تأكدت مودتها لاستيفائها حظها فتلحقها الغضاضة فيؤدى إلى القطع ولان الحرمة
258

تثبت بالدخول بالاجماع والعقد على البنت سبب الدخول بها والسبب يقوم مقام المسبب في موضع الاحتياط
ولهذا تثبت الحرمة بنفس العقد في منكوحة الأب وحليلة الابن كان ينبغي ان تحرم الربيبة بنفس العقد على الام
الا أن شرط الدخول هناك عرفناه بالنص فبقي الحكم في الآية على أصل القياس (وأما) قولهم إن الشرط
المذكور في آخر كلمات معطوف بعضها على بعض والاستثناء بمشيئة الله تعالى ملحق بالكل فنقول هذا
الأصل مسلم في الاستثناء بمشيئة الله تعالى والشرط المصرح به فاما في الصفة الداخلة على المذكور في آخر
الكلام فممنوع بل يقتصر على ما يليه فإنك تقول جاءني زيد ومحمد العالم فتقتصر صفة العلم على الذي يليه دون زيد وقوله
عز وجل اللاتي دخلتم بهن وصف إياهن بالدخول بهن لا شرط من ادعى الحاق الوصف بالشرط فعليه الدليل
على أنه يحتمل أن يكون بمعنى الشرط فيلحق الكل ويحتمل أن لا يكون فيقتصر على ما يليه فلا يلحق بالشك
والاحتمال وإذا وقع الشك والشبهة فيه فالقول لما فيه الحرمة أولى احتياطا على أن هذه الصفة إن كانت في معنى
الشرط لكن اللفظ متى قرن به شرط أو صفة لاثبات حكم يقتضى وجوده عند وجوده اما لا يقتضى عدمه عند
عدمه بل عدمه ووجوده عند عدم الشرط والصفة يكون موقوفا على قيام الدليل وفى نفس هذه الآية الكريمة
ما يدل عليه فإنه قال عز وجل وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم
بهن فلا جناح عليكم ولو كان التقييد بالوصف نافيا الحكم في غير الموصوف لكان ذلك القدر كافيا ونحن نقول
بحرمة الام عند الدخول بالربيبة وبحرمة الربيبة عند الدخول بالأم بظاهر الآية الكريمة وليس فيها نفى الحرمة
عند عدم الدخول ولا اثباتها فيقف على قيام الدليل وقد قام الدليل على حرمة الام بدون الدخول ببنتها وهو
ما ذكرنا فتثبت الحرمة ولم يقم الدليل على حرمة الربيبة قبل الدخول بالأم فلا تثبت الحرمة والله عز وجل أعلم
وأما جدات الزوجة من قبل أبيها وأمها فإنها عرفت حرمتهن بالاجماع ولما ذكرنا من المعنى في الأمهات
لا بعين النص الا على قول من يجيز اشتمال اللفظ الواحد على الحقيقة والمجاز عند عدم التنافي بين حكميهما على
ما ذكرنا ثم إنما تحرم الزوجة وجداتها بنفس العقد إذا كان صحيحا فاما إذا كان فاسدا فلا تثبت الحرمة
بالعقد بل بالوطئ أو ما يقوم مقامه من المس عن شهوة والنظر إلى الفرج عن شهوة على ما نذكر لان الله
تعالى حرم على الزوج أم زوجته مضافا إليه والإضافة لا تنعقد الا بالعقد الصحيح فلا تثبت الحرمة
الا به والله الموفق
* (فصل) * وأما الفرقة الثانية فبنت الزوجة وبناتها وبنات بناتها وبنيها وان سفلن اما بنت زوجته فتحرم
عليه بنص الكتاب العزيز إذا كان دخل بزوجته فإن لم يكن دخل بها فلا تحرم لقوله وربائبكم اللاتي في
حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وسواء كانت بنت زوجته في
حجره أو لا عند عامة العلماء وقال بعض الناس لا تحرم عليه الا أن تكون في حجره ويروى ذلك عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه نصا لظاهر الآية قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم حرم الله عز وجل بنت الزوجة
وبوصف كونها في حجر زوج فيتقيد التحريم بهذا الوصف ألا ترى أنه لما أضافها إلى الزوجة يقيد التحريم
به حتى لا يحرم على ربيبته غير الزوجة كذا هذا ولنا أن التنصيص على حكم الموصوف لا يدل على أن الحكم في
غير الموصوف بخلافه إذ التنصيص لا يدل على التخصيص فتثبت حرمة بنت زوجة الرجل التي دخل بأمها
وهي في حجره بهذه الآية وإذا لم تكن في حجره تثبت حرمتها بدليل آخر وهو كون نكاحها مفضيا إلى قطيعة
الرحم سواء كانت في حجره أو لم تكن على ما بينا فيما تقدم الا أن الله تعالى ذكر الحجر بناء على أن عرف الناس
وعادتهم ان الربيبة تكون في حجر زوج أمها عادة فأخرج الكلام مخرج العادة كما في قوله عز وجل ولا
تقتلوا أولادكم خشية املاق وقوله عز وجل فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة ونحو ذلك وأما بنات بنات الربيبة
259

وبنات أبنائها وان سفلن فتثبت حرمتهن بالاجماع وبما ذكرنا من المعنى المعقول لا بعين النص الا على قول
من يرى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد عند امكان العمل بهما
* (فصل) * وأما الفرقة الثالثة فحليلة الابن من الصلب وابن الابن وابن البنت وان سفل فتحرم على الرجل
حليلة ابنه من صلبه بالنص وهو قوله عز وجل وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وذكر الصلب جاز أن
يكون لبيان الخاصية وان لم يكن الابن الا من الصلب لقوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه وإن كان الطائر
لا يطير الا بجناحيه وجاز أن يكون لبيان القسمة والتنويع لان الابن قد يكون من الصلب وقد يكون من الرضاع
وقد يكون بالتبني أيضا على ما ذكر في سبب نزول الآية لان النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج امرأة زيد
ابن حارثة بعد ما طلقها زيد وكان ابنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني فعابه المنافقون على ذلك وقالوا له
تزوج بحليلة ابنه فنزل قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وكذلك قوله تعالى فلما قضى زيد منها
وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ولان حليلة الابن لو لم
تحرم على الأب فإذا طلقها الابن ربما يندم على ذلك ويريد العود إليها فإذا تزوجها أبوه أورث ذلك الضغينة بينما
والضغينة تورث القطيعة وقطع الرحم حرام فيجب أن يحرم حتى لا يؤدى إلى الحرام ولهذا حرمت منكوحة
الأب على الابن كذا هذا سواء كان دخل بها الابن أو لم يدخل بها لان النص مطلق عن شرط الدخول والمعنى
لا يوجب الفصل أيضا على ما ذكرنا ولأن العقد سبب إلى الدخول والسبب يقام مقام المسبب في موضع الاحتياط
على ما مر وحليلة ابن الابن وابن البنت وان سفل تحرم بالاجماع أو بما ذكرنا من المعنى لا بعين النص لان ابن
الابن يسمى ابنا مجازا لا حقيقة فإذا صارت الحقيقة مرادة لم يبق المجاز مرادا لنا الا على قول من يقول إنه يجوز
أن يرادا من لفظ واحد والله الموفق
* (فصل) * وأما الفرقة الرابعة فمنكوحة الأب وأجداده من قبل أبيه وان علوا أما منكوحة الأب فتحرم
بالنص وهو قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء والنكاح يذكر ويراد به العقد وسواء كان الأب دخل
بها أو لا لان اسم النكاح يقع على العقد والوطئ فتحرم بكل واحد منهما على ما نذكر ولان نكاح منكوحة
الأب يفضى إلى قطيعة الرحم لأنه إذا فارقها أبوه لعله يندم فيريد أن يعيدها فإذا نكحها الابن أوحشه ذلك
وأورث الضغينة وذلك سبب التباعد بينهما وهو تفسير قطيعة الرحم وقطع الرحم حرام فكان النكاح سر سبب
الحرام وانه تناقض فيحرم دفعا للتناقض الذي هو أثر السفه والجهل جل الله تعالى عنهما وأما منكوحة أجداده
فتحرم بالاجماع وبما ذكرنا من المعنى لا بعين النص الا على قول من يرى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ
واحد عند عدم النافي ثم حرمة المصاهرة تثبت بالعقد الصحيح وتثبت بالوطئ الحلال بملك اليمين حتى أن
من وطئ جاريته تحرم عليها أمها وابنتها وجداتها وان علون وبنات بناتها وان سفلن وتحرم هي على أب الواطئ
وابنه وعلى أجداد أجداد الواطئ وان علوا وعلى أبناء أبنائه وان سفلوا وكذا تثبت بالوطئ في النكاح الفاسد
وكذا بالوطئ عن شبهة بالاجماع وتثبت باللمس فيهما عن شهوة وبالنظر إلى فرجها عن شهوة عندنا ولا تثبت
بالنظر إلى سائر الأعضاء بشهوة ولا بمس سائر الأعضاء الا عن شهوة بلا خلاف وتفسير الشهوة هي أن
يشتهى بقلبه ويعرف ذلك باقراره لأنه باطن لا وقوف عليه لغيره وتحرك الا آلة وانتشارها هل هو شرط تحقيق
الشهوة اختلف المشايخ فيه قال بعضهم شرط وقال بعضهم ليس بشرط هو الصحيح لان المس والنظر عن
شهوة يتحقق بدون ذلك كالعنين والمجبوب ونحو ذلك وقال الشافعي لا تثبت حرمة المصاهرة بالنظر وله
في المس قولان وتثبت حرمة المصاهرة بالزنا والمس والنظر بدون النكاح والملك وشبهته وعند الشافعي
لا تثبت الحرمة بالزنا فأولى أن لا تثبت بالمس والنظر بدون الملك احتج الشافعي بقوله تعالى وربائبكم
260

اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن حرم لربائب المضافة إلى نسائنا المدخولات وإنما
تكون المرأة مضافة الينا بالنكاح فكان الدخول بالنكاح شرط ثبوت الحرمة وهذا دخول
بلا نكاح فلا تثبت به الحرمة ولا تثبت بالنظر أيضا لأنه ليس بمعنى الدخول ألا ترى أنه لا يفسد به
الصوم ولا يجب به شئ في الاحرام وكذلك اللمس في قول وفى قول يثبت لأنه استمتاع بها من وجه
فكان بمعنى الوطئ ولهذا حرم بسبب الاحرام كما حرم الوطئ وروى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح ابنتها أو يتبع البنت حراما أينكح أمها فقال
لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان نكاحا حلالا والتحريم بالزنا تحريم الحرام لحلال ولنا قوله تعالى ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء والنكاح يستعمل في العقد والوطئ فلا يخلو اما أن يكون حقيقة لهما على
الاشتراك واما أن يكون حقيقة لأحدهما مجازا للاخر وكيف ما كان يجب القول بتحريمهما جميعا إذ لا تنافى
بينهما كأنه قال عز وجل ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء عقدا ووطأ وروى عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها وروى حرمت عليه أمها وابنتها وهذا نص
في الباب لأنه ليس فيه ذكر النكاح وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ملعون من نظر إلى فرج امرأة
وابنتها ولو لم يكن النظر الأول محرما للثاني وهو النظر إلى فرج ابنتها لم يلحقه اللعن لان النظر إلى فرج المرأة
المنكوحة نكاحا صحيحا مباحا فكيف يستحق اللعن فإذا ثبتت الحرمة بالنظر فبالدخول أولى وكذا باللمس لان
النظر دون اللمس في تعلق الأحكام بهما ألا ترى انه يفسد الصوم بالانزال عن المس ولا يفسد بالانزال عن النظر
إلى الفرج وفى الحج يلزمه بالمس عن شهوة الدم أنزل أو لم ينزل ولا يلزمه شئ بالنظر إلى الفرج عن شهوة أنزل
أو لم ينزل فلما ثبتت الحرمة بالنظر فبالمس أولى ولان الحرمة إنما تثبت بالنكاح لكونه سببا داعيا إلى الجماع إقامة
للسبب مقام المسبب في موضع الاحتياط كما أقيم النوم المفضى إلى الحدث مقام الحدث في انتقاض الطهارة
احتياطا لأمر الصلاة والقبلة والمباشرة في التسبب والدعوة أبلغ من النكاح فكان أولى باثبات الحرمة ولان
الوطئ الحلال إنما كان محرما للبنت بمعنى هو موجود هنا وهو انه يصير جامعا بين المرأة وبنتها في الوطئ من
حيث المعنى لان وطئ إحداهما يذكره وطئ الأخرى فيصير كأنه قاض وطره منهما جميعا ويجوز أن يكون
هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها وهذا المعنى موجود
في الوطئ الحرام وأما الآية الكريمة فلا حجة له فيها بل هي حجة عليه لأنها تقتضي حرمة ربيبته التي هي بنت
امرأته التي دخل بها مطلقا سواء دخل بها بعد النكاح أو قبله بالزنا واسم الدخول يقع على الحلال والحرام أو يحتمل
أن يكون المراد الدخول بعد النكاح ويحتمل أن يكون قبله فكان الاحتياط هو القول بالحرمة وإذا احتمل هذا
واحتمل هذا فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال على أن في هذه الآية اثبات الحرمة بالدخول في النكاح وهذا
ينفى الحرمة بالدخول بلا نكاح فكان هذا احتجاجا بالمسكوت عنه وانه لا يصح على أن في هذه الآية حجتنا على
اثبات الحرمة بالمس لأنه ذكر الدخول بهن وحقيقة الدخول بالشئ عبارة عن ادخاله في العورة إلى الحصن فكان
الدخول بها هو ادخالها في الحصن وذلك بأخذ يدها أو شئ منها ليكون هو الداخل بها فأما بدون ذلك فالمرأة
هي الداخلة بنفسها فدل أن المس موجب للحرمة أو يحتمل الوطئ ويحتمل المس فيجب القول بالحرمة احتياطا
وأما الحديث فقد قيل إنه ضعيف ثم هو خبر واحد مخالف للكتاب ولئن ثبت فنقول بموجبه لان المذكور
فيه هو الاتباع لا الوطئ واتباعها أن يراودها عن نفسها وذا لا يحرم عندنا إذ المحرم هو الوطئ ولا ذكر له في
الحديث والله عز وجل الموفق (وأما) النوع الثالث وهو المحرمات بالرضاعة فموضع بيانها كتاب الرضاع
فكل من حرم لقرابة من الفرق السبع الذين وصفهم الله تعالى يحرم بالرضاعة الا أن الله تعالى بين
261

المحرمات بالقرابة بيان ابلاغ وبين المحرمات بالرضاعة بيان كفاية حيث لم يذكر على التصريح والتنصيص
الا الأمهات والأخوات بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ليعلم حكم غير
المذكور بطريق الاجتهاد بالاستدلال ووجه الاستدلال نذكره في كتاب الرضاع إن شاء الله تعالى
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وعليه الاجماع أيضا وكذا كل من
يحرم ممن ذكرنا من الفرق الأربع بالمصاهرة يحرم بالرضاع فيحرم على الرجل أم زوجته وبنتها من الرضاع
الا أن الام تحرم بنفس العقد إذا كان صحيحا والبنت لا تحرم الا بالدخول بالاحرام وكذا جدات الزوجة
لأبيها وأمها وان علون وبنات بناتها وبنات أبنائها وان سفلن من الرضاع وكذا يحرم حليلة ابن الرضاع وابن
ابن الرضاع وان سفل على أبى الرضاع وأبى أبيه وتحرم منكوحة أبى الرضاع وأبى أبيه وان علا على ابن الرضاع
وابن ابنه وان سفل وكذا يحرم بالوطئ أم الموطوءة وبنتها من الرضاع على الواطئ وكذا جداتها وبنات بناتها
وتحرم الموطوءة على أبى الواطئ وابنه من الرضاع وكذا على أجداده وان علوا على أبناءه أبنائه وان سفلوا سواء
كان الوطئ حلالا بأن كان بملك اليمين أو كان الوطئ بنكاح فاسد أو شبهة النكاح أو كان زنا والأصل انه يحرم
بسبب الرضاع ما يحرم بسبب النسب وسبب المصاهرة الا في مسئلتين يختلف فيهما حكم المصاهرة والرضاع
نذكرهما في كتاب الرضاع إن شاء الله تعالى
* (فصل) * ومنها أن لا يقع نكاح المرأة التي يتزوجها جمعا بين ذوات الأرحام ولا بين أكثر من أربع
نسوة في الأجنبيات وجملة الكلام في الجمع أن الجمع في الأصل نوعان جمع بين ذوات الأرحام وجمع بين الأجنبيات
أما الجمع بين ذوات الأرحام فنوعان أيضا جمع في النكاح وجمع في الوطئ ودواعيه بملك اليمين أما الجمع بين
ذوات الأرحام في النكاح فنقول لا خلاف في أن الجمع بين الأختين في النكاح حرام لقوله تعالى وأن تجمعوا
بين الأختين معطوفا على قوله عز وجل حرمت عليكم أمهاتكم ولان الجمع بينهما يفضى إلى قطيعة الرحم لان
العداوة بين الضرتين ظاهرة وأنها تفضى إلى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم حرام فكذا المفضى وكذا الجمع بين
المرأة وبنتها لما قلنا بل أولى لان قرابة الولاد مفترضة الوصل بلا خلاف واختلف في الجمع بين ذواتي رحم
محرم سوى هذين الجمعين بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لا يجوز له نكاح الأخرى من الجانبين جميعا
أيتهما كانت غير عين كالجمع بين امرأة وعمتها والجمع بين امرأة وخالتها ونحو ذلك قال عامة العلماء لا يجوز وقال
عثمان البتي الجمع فيما سوى الأختين وسوى المرأة وبنتها ليس بحرام واحتج بقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم
ذكر المحرمات وذكر فيما حرم الجمع بين الأختين وأحل ما وراء ذلك والجمع فيما سوى الأختين لم يدخل في
التحريم فكان داخلا في الاحلال الا أن الجمع بين المرأة وبنتها حرم بدلالة النص لان قرابة الولاد أقوى فالنص
الوارد ثمة يكون واردا ههنا من طريق الأولى ولنا الحديث المشهور وهو ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على
ابنة أختها وزاد في بعض الروايات لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى الحديث أخبر أن
من تزوج عمة ثم بنت أخيها أو خالة ثم بنت أختها لا يجوز ثم أخبر أنه إذا تزوج بنت الأخ أولا ثم العمة أو بنت
الأخت أولا ثم الخالة لا يجوز أيضا لئلا يشكل ان حرمة الجمع يجوز أن تكون مختصة بأحد الطرفين دون
الآخر كنكاح الأمة على الحرة أنه لا يجوز ويجوز نكاح الحرة على الأمة ولان الجمع بين ذواتي محرم في
النكاح سبب لقطيعة الرحم لان الضرتين يتنازعان ويختلفان ولا يأتلفان هذا أمر معلوم بالعرف والعادة وذلك
يقضى إلى قطع الرحم وانه حرام والنكاح سبب فيحرم حتى لا يؤدى إليه والى هذا المعنى أشار النبي صلى الله
عليه وسلم في آخر الحديث فيما روى أنه قال إنكم لو فعلتم ذلك لقطعتم أرحامهن وروى في بعض الروايات
262

فإنهن يتقاطعن وفى بعضها أنه يوجب القطيعة وروى عن أنس رضي الله عنه أنه قال كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكرهون الجمع بين القرابة في النكاح وقالوا إنه يورث الضغائن وروى عن عبد الله
ابن مسعود رضي الله عنه أنه كره الجمع بين بنتي عمين وقال لا أحرم ذلك لكن أكرهه أما الكراهة فلمكان
القطيعة وأما عدم الحرمة فلان القرابة بينهما ليست بمفترضة الوصل أما الآية فيحتمل أن يكون معنى قوله
تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أي ما وراء ما حرمه الله تعالى والجمع بين المرأة وعمتها وبنتها وبين خالتها مما
قد حرمه الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحى غير متلو على أن حرمة الجمع
بين الأختين معلولة بقطع الرحم والجمع ههنا يفضى إلى قطع الرحم فكانت حرمة ثابتة بدلالة النص فلم يكن
ما وراء ما حرم في آية التحريم ويجوز الجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل أو بين امرأة وزوجة كانت
لأبيها وهما واحد لأنه لا رحم بينهما فلم يوجد الجمع بين ذواتي رحم وقال زفر وابن أبي ليلى لا يجوز لان البنت
لو كانت رجلا لكان لا يجوز له أن يتزوج الأخرى لأنها منكوحة أبيه فلا يجوز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع
بين الأختين وانا نقول الشرط أن تكون الحرمة ثابتة من الجانبين جميعا وهو أن يكون كل واحدة منهما أيتهما
كانت بحيث لو قدرت رجلا لكان لا يجوز له نكاح الأخرى ولم يوجد هذا الشرط لان الزوجة منهما لو كانت
رجلا لكان يجوز له أن يتزوج الأخرى لان الأخرى لا تكون بنت الزوج فلم تكن الحرمة ثابتة من الجانبين
فجاز الجمع بينهما كالجمع بين الأختين ولو تزوج الأختين معا فسد نكاحهما لان نكاحهما حصل جمعا
بينهما في النكاح وليست إحداهما بفساد النكاح بأولى من الأخرى فيفرق بينه وبينهما ثم إن كان
قبل الدخول فلا مهر لهما ولا عدة عليهما لان النكاح الفاسد لا حكم له قبل الدخول وإن كان قد
دخل بهما فلكل واحدة منهما العقر وعليهما العدة لان هذا حكم الدخول في النكاح الفاسد على
ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه وان تزوج إحداهما بعد الأخرى جاز نكاح الأولى وفسد نكاح
الثانية ولا يفسد نكاح الأولى لفساد نكاح الثانية لان الجمع حصل بنكاح الثانية فاقتصر الفساد عليه
ويفرق بينه وبين الثانية فإن كان لم يدخل بها فلا مهر ولا عدة وإن كان دخل بها فلها المهر وعليها
العدة لما بينا ولا يجوز له أن يطأ الأولى ما لم تنقض عدة الثانية لما نذكر إن شاء الله تعالى وان تزوج
أختين في عقدتين لا يدرى أيتهما أولى لا يجوز له التحري بل يفرق بينه وبينهما لان نكاح إحداهما
فاسد بيقين وهي مجهولة ولا يتصور حصول مقاصد النكاح من المجهولة فلا بد من التفريق ثم إن ادعت
كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا بينة لها يقضى لها بنصف المهر لان النكاح الصحيح أحدهما وقد
حصلت الفرقة قبل الدخول لا بصنع المرأة فكان الواجب نصف المهر ويكون بينهما لعدم الترجيح
إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى وروى عن أبي يوسف أنه لا يلزم الزوج شئ وروى عن محمد أنه
يجب عليه المهر كاملا وان قالتا لا ندري أيتنا الأولى لا يقضى لهما بشئ لكون المدعية منهما مجهولة الا إذا
اصطلحت على شئ فحينئذ يقضى لها وكذلك المرأة وعمتها وخالتها في جميع ما وصفنا وكما لا يجوز للرجل ان
يتزوج امرأة في نكاح أختها لا يجوز له ان يتزوجها في عدة أختها وكذلك التزوج بامرأة هي ذات رحم محرم من
امرأة بعقد منه والأصل ان ما يمنع صلب النكاح من الجمع بين ذواتي المحارم فالعدة تمنع منه وكذا لا يجوز
له ان يتزوج أربعا من الأجنبيات والخامسة تعتد منه سواء كانت العدة من طلاق رجعي أو بائن أو ثلاث
أو بالمحرمية الطارئة بعد الدخول أو بالدخول في نكاح فاسد أو بالوطئ في شبهة وهذا عندنا وقال الشافعي
رحمه الله يجوز الا في عدة من طلاق رجعي وروى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل قولنا نحو
263

على وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم (وجه) قوله إن المحرم هو الجمع بين الأختين
في النكاح والنكاح قد زال من كل وجه لوجود المزيل له وهو الطلاق الثلاث أو البائن ولهذا لو وطئها بعد
الطلاق الثلاث مع العلم بالحرمة لزمه الحد فلم يتحقق الجمع في النكاح فلا تثبت الحرمة ولنا ان ملك
الحبس والعبد قائم فان الزوج يملك منعها من الخروج والبروز وحرمة التزوج بزوج آخر ثابتة
والفراش قائم حتى لو جاءت بولد إلى سنتين من وقت الطلاق وقد كان قد دخل بها يثبت النسب فلو جاز
النكاح لكان النكاح جمعا بين الأختين في هذه الأحكام فيدخل تحت النص ولأن هذه أحكام النكاح لأنها
شرعت وسيلة إلى أحكام النكاح فكان النكاح قائما من وجه ببقاء بعض أحكامه والثابت من وجه ملحق
بالثابت من وجه في باب الحرمة احتياطا الا ترى انه ألحقت الام والبنت من وجه بالرضاعة بالأم والبنت من
كل وجه بالقرابة وألحقت المنكوحة من وجه وهي المعتدة بالمنكوحة من كل وجه في حرمة النكاح كذا
هذا ولان الجمع قبل الطلاق إنما حرم لكونه مفضيا إلى قطيعة الرحم لأنه يورث الضغينة وانها تفضى إلى
القطيعة والضغينة ههنا أشد لان معظم النعمة وهو ملك الحل الذي هو سبب اقتضاء الشهوة قد زال في حق
المعتدة وبنكاح الثانية يصير جميع ذلك لها وتقوم مقامها وتبقى هي محرومة الحظ للحال من الأزواج فكانت
الضغينة أشد فكانت أدعى إلى القطيعة بخلاف ما بعد انقضاء العدة لان هناك لم يبق شئ من علائق الزوج
الأول فكان لها سبيل الوصول إلى زوج آخر فتستوفي حظها من الثاني فتسلى به فلا تلحقها الضغينة أو كانت
أقل منه في حال قيام العدة فلا يستقيم الاستدلال ولو خلا بامرأته ثم طلقها لم يتزوج أختها حتى تنقضي عدتها
لأنه وجبت عليها العدة بالخلوة فيمنع نكاح الأخت كما لو وجبت بالدخول حقيقة
(فصل) وأما الجمع في الوطئ بملك اليمين فلا يجوز عند عامة الصحابة مثل عمر وعلى وعبد الله بن مسعود
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وروى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال كل شئ حرمه الله تعالى من الحرائر
حرمه الله تعالى من الإماء الا الجمع أي الجمع في الوطئ بملك اليمين وروى أن رجلا سأل عثمان رضي الله عنه
عن ذلك فقال ما إحسان أحله ولكن أحلتهما آية وحرمتهما آية وأما أنا فلا أفعله فخرج الرجل من عنده
فلقي عليا فذكر له ذلك فقال لو أن لي من الامر شئ لجعلت من فعل ذلك نكالا وقول عثمان رضي الله عنه أحلتهما
آية وحرمتهما آية عنى بآية التحليل قوله عز وجل الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين وبآية
التحريم قوله عز وجل وان تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف وذلك منه إشارة إلى تعارض دليلي الحل والحرمة
فلا تثبت الحرمة مع التعارض ولعامة الصحابة رضي الله عنهم الكتاب العزيز والسنة اما الكتاب فقوله عز
وجل وان تجمعوا بين الأختين والجمع بينهما في الوطئ جمع فيكون حراما وأما السنة فما روى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين واما قول
عثمان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية فالأخذ بالمحرم أولى عند التعارض احتياطا للحرمة لأنه
يلحقه المأثم بارتكاب المحرم ولا مأثم في ترك المباح ولان الأصل في الايضاع هو الحرمة والإباحة بدليل
فإذا تعارض دليل الحل والحرمة تدافعا فيجب العمل بالأصل وكما لا يجوز الجمع بينهما في الوطئ لا يجوز في
الدواعي من اللمس والتقبيل والنظر إلى الفرج عن شهوة لان الدواعي إلى الحرام حرام إذا عرف هذا فنقول إذا
ملك أختين فله أن يطأ إحداهما لان الأمة لا تصير فراشا بالملك وإذا وطئ إحداهما ليس له ان يطأ الأخرى
بعد ذلك لأنه لو وطئ لصار جامعا بينهما في الوطئ حقيقة وكذا إذا ملك جارية فوطئها ثم ملك أختها كان له
ان يطأ الأولى لما قلنا وليس له أن يطأ الأخرى بعد ذلك ما لم يحرم فرج الأولى على نفسه اما بالتزويج أو
بالاخراج عن ملكه بالاعتاق أو بالبيع أو بالهبة أو بالصدقة لأنه لو وطئ الأخرى لصار جامعا بينهما
264

في الوطئ حقيقة وهذا لا يجوز ولو كاتبها يحل له وطئ الأخرى في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف
أنه قال لا يحل لأنه بالكتابة لم يملك وطأها غيره وقال في هذه الرواية أيضا انه لو ملك فرج الأولى غيره لم يكن له
ان يطأ الأخرى حتى تحيض الأولى حيضة بعد وطئها لجواز أن تكون حاملا فيكون جامعا ماءه في رحم أختين
فيستبرئها بحيضة حتى يعلم أنها ليست بحامل (وجه) ظاهر الرواية انه حرم فرجها على المولى بالكتابة الا ترى انه
لو وطئها لزمه العقر ولو وطئت بشبهة أو نكاح كان المهر لها لا للمولى فلا يصير بوطئ الأخرى جامعا بينهما في الوطئ
ولو نزوج جارية ولم يطأها حتى ملك أختها فليس له أن يطأ المشتراة لأنه الفراش يثبت بنفس النكاح ولان ملك
النكاح يقصد به الوطئ والولد فصارت المنكوحة موطوءة حكما فلو وطئ المشتراة لصار جامعا بينهما في الوطئ
ولو كانت في ملكه جارية قد وطئها ثم تزوج أختها وتزوج أخت أم ولده جاز النكاح عند عامة العلماء ولكن
لا يطأ الزوجة ما لم يحرم فرج الأمة التي في ملكه أو أم ولده وقال مالك لا يجوز النكاح (وجه) قوله إن النكاح
بمنزلة الوطئ بدليل انه به النسب كالوطئ وبدليل أنه لا يجوز له أن يطأ المملوكة ههنا بعد نكاح أختها فلو لم يكن
بمنزلة الوطئ لجاز وإذا كان النكاح بمنزلة الوطئ يصير بالنكاح جامعا لما بينا في الوطئ وانه لا يجوز ولنا أن
النكاح ليس بوطئ حقيقة وليس بمنزلة الوطئ أيضا لان النكاح يلاقى الأجنبية ولا يجوز وطئ الأجنبية فلا
يكون نكاحها جامعا بينهما في الوطئ الا ان النكاح إذا انعقد يجعل الوطئ موجودا حكما بعد الانعقاد لما أن
الحكم المختص بالنكاح هو الوطئ وثمرته المطلوبة منه الولد ولا حصول له عادة بدون الوطئ فجعله الشارع حكما
واطئا بعد انعقاد النكاح والحق الولد بالفراش فلو وطئ المملوكة لصار جامعا بينهما وطأ ولان الأمة لا تصير
فراشا بنفس الوطئ عندنا حتى لا يثبت النسب بدون الدعوة فلا يكون نكاح أختها جمعا بينهما في الفراش فلا
يمنع منه وأم الولد فراشها ضعيف حتى ينتفى نسب ولده بمجرد قوله وهو مجرد النفي من غير لعان وكذا يحتمل النقل
إلى غيره فلا يتحقق النكاح جمعا بينهما في الفراش مطلقا فلا يمنع نسب ولده بمجرد قوله وهو مجرد النفي من غير
لعان والله عز وجل أعلم ولا يجوز أن يتزوج أخت أم ولده التي تعتد منه بأنه أعتقها ووجبت عليها العدة في قول
أبي حنيفة رحمه الله ويجوز أن تتزوج أربعا في عدتها وقال أبو يوسف ومحمد يجوز كلاهما وقال زفر لا يجوز
كلاهما (وجه) قوله إن هذه معتدة فلا يجوز التزوج بأختها وأربع سواها كالحرة المعتدة (وجه) قولهما ان الحرمة
في الحرة لمكان الجمع بينهما في النكاح من وجه ولم يوجد في أم الولد لانعدام النكاح أصلا ولأن العدة في أم الولد
أثر فراش الملك وحقيقة الفراش فيها لا يمنع النكاح حتى لو تزوج أخت أم ولده وأربع نسوة قبل أن يعتقها جاز
فإذا لم يكن فراش الملك حقيقة مانعا فاثره أولى ان لا يمنع ولأبي حنيفة انه إنما جاز نكاح أخت أم الولد قبل الاعتاق
لضعف فراشها على ما بينا فإذا أعتقها قوى فراشها فكان نكاح أختها جمعا بينهما في الفراش وهو استلحاق
نسب ولديها ولا يجوز استلحاق نسب ولد أختين في زمان واحد ولهذا لو تزوج أخت أم ولده لا يحل له وطئ
المنكوحة حتى يزيل فراش أم الولد ونكاح الأربع وإن كان جمعا بينهن وبينها في الفراش لكن الجمع ههنا في
الفراش جائز الا ترى انه جاز قبل الاعتاق فإنه إذا تزوج أربعا قبل الاعتاق يحل له وطؤهن ووطئ أم الولد فكذا
بعد الاعتاق والله عز وجل أعلم
* (فصل) * واما الجمع بين الأجنبيات فنوعان أيضا جمع في النكاح وجمع في الوطئ ودواعيه بملك اليمين اما
الجمع في النكاح فنقول لا يجوز للحر ان يتزوج أكثر من أربع زوجات من الحرائر والإماء عند عامة العلماء
وقال بعضهم يباح له الجمع بين التسع وقال بعضهم يباح له الجمع بين ثمانية عشر واحتجوا بظاهر قوله تعالى
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فالأولون قالوا إن الله تعالى ذكر هذه الاعداد بحرف الواو
وانه للجمع وجملتها تسعة فيقتضى إباحة نكاح تسع واستدلوا أيضا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم انه تزوج
265

تسع نسوة وهو قدوة الأمة والآخرون قالوا المثنى ضعف الاثنين والثلاث ضعف الثلاثة والرباع ضعف
الأربعة فجملتها ثمانية عشر ولنا ما روى أن رجلا أسلم وتحته ثمان نسوة فأسلمن فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم اختر منهن أربعا وفارق البواقي أمره صلى الله عليه وسلم بمفارقة البواقي ولو كانت الزيادة على الأربع حلالا
لما أمره فدل انه منتهى العدد المشروع وهو الأربع ولان في الزيادة على الأربع خوف الجور عليهن بالعجز عن
القيام بحقوقهن لأن الظاهر أنه لا يقدر على الوفاء بحقوقهن واليه وقعت الإشارة بقوله عز وجل فان خفتم أن لا تعدلوا
فواحدة أي لا تعدلوا في القسم والجماع والنفقة في نكاح المثنى والثلاث والرباع فواحدة بخلاف نكاح رسول الله
صلى الله عليه وسلم لان خوف الجور منه غير موهوم لكونه مؤيدا على القيام بحقوقهن بالتأييد الإلهي فكان ذلك
من الآيات الدالة على نبوته لأنه آثر الفقر على الغنى والضيق على السعة وتحمل الشدائد والمشاق على الهوينا من
العبادات والأمور الثقيلة وهذه الأشياء أسباب قطع الشهوات والحاجة إلى النساء ومع ذلك كان يقوم بحقوقهن
دل انه صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ذلك بالله تعالى واما الآية فلا يمكن العمل بظاهرها لان المثنى ليس عبارة عن
الاثنين ولا الثلاث عن الثلاث والرباع عن الأربع بل أدنى ما يراد بالمثنى مرتان من هذا العدد وأدنى ما يراد
بالثلاث ثلاث مرات من العدد وكذا الرباع وذلك يزيد على التسعة وثمانية عشر ولا قائل به دل ان العمل بظاهر
الآية متعذر فلا بد لها من تأويل ولها تأويلان أحدهما أن يكون على التخيير بين نكاح الاثنين والثلاث
والأربع كأنه قال عز وجل مثنى أو ثلاث أو رباع واستعمال الواو مكان أو جائز والثاني أن يكون ذكر
هذه الاعداد على التداخل وهو أن قوله وثلاث تدخل فيه المثنى وقوله عز وجل ورباع يدخل فيه الثلاث
كما في قوله ائنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم قال عز وجل وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك
فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام واليومان الأولان داخلان في الأربع لأنه لو لم يكن كذلك لكان خلق
هذه الجملة في ستة أيام ثم أخبر عز وجل أنه خلق السماوات في يومين بقوله عز وجل فقضاهن سبع سماوات في
يومين فيكون خلق الجميع في ثمانية أيام وقد أخبر الله تعالى انه خلق السماوات والأرض في ستة أيام فيؤدى
إلى الخلف في خبر من يستحيل عليه الخلف فكان على التداخل فكذا ههنا جاز أن يكون العدد الأول داخلا
في الثاني والثاني في الثالث فكان في الآية إباحة نكاح الأربع ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنين لما
روينا من الحديث وذكرنا من المعنى فيما تقدم
* (فصل) * وأما الجمع في الوطئ ودواعيه بملك اليمين فجائز وان كثرت الجواري لقوله تعالى فان خفتم
أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم أي ان خفتم أن لا تعدلوا في نكاح المثنى والثلاث والرباع بإيفاء
حقوقهن فانكحوا واحدة وان خفتم أن لا تعدلوا في واحدة فمما ملكت أيمانكم كأنه قال سبحانه وتعالى
هذا أو هذا أي الزيادة على الواحدة إلى الأربع عند القدرة على المعادلة وعند خوف الجور في ذلك الواحدة
من الحرائر وعند خوف الجور في نكاح الواحدة هو شراء الجواري والتسري بهن وذلك قوله عز وجل
أو ما ملكت أيمانكم ذكره مطلقا عن شرط العدد وقال تعالى الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانكم مطلقا ولان
حرمة الزيادة على الأربع في الزوجات لخوف الجور عليهن في القسم والجماع ولم يوجد هذا المعنى في الإماء لأنه
لا حق لهن قبل المولى في القسم والجماع
* (فصل) * ومنها أن لا يكون تحته حرة هو شرط جواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاح الأمة على الحرة
والأصل فيه ما روى عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تنكح الأمة على
الحرة وقال علي رضي الله عنه وتنكح الحرة على الأمة وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث ولان الحرية
266

تنبئ عن الشرف والعزة وكمال الحال فنكاح الأمة على الحرة ادخال على الحرة من لا يساويها في القسم وذلك
يشعر بالاستهانة والحاق الشين ونقصان الحال وهذا لا يجوز وسواء كان المتزوج حرا أو عبدا عندنا لان
ما روينا من الحديث وذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل وعند الشافعي يجوز للعبد أن يتزوج أمة على حرة بناء
على أن عدم الجواز للحر عنده لعدم شرط الجواز وهو عدم طول الحرة وهذا شرط جواز نكاح الأمة عنده
في حق الحر لا في حق العبد لما نذكر إن شاء الله تعالى وكذا خلو الحرة عن العدة شرط جواز نكاح الأمة عند
أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ان يتزوج أمة على حرة تعتد من طلاق بائن أو ثلاث (وجه) قولهما
ان المحرم ليس هو الجمع بين الحرة والأمة بدليل أنه لو تزوج أمة ثم تزوج حرة جاز وقد حصل الجمع وإنما
المحرم هو نكاح الأمة على الحرة وقال صلى الله عليه وسلم لا تنكح الأمة على الحرة ولا يتحقق النكاح عليها
بعد البينونة ألا ترى أنه لو حلف لا يتزوج على امرأته فتزوج بعد ما أبانها في عدتها لا يحنث ولأبي حنيفة
ان نكاح الأمة في عدة الحرة نكاح عليها من وجه لان بعض آثار النكاح قائم فكان النكاح قائما
من وجه فكان نكاحها عليها من وجه والثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في باب
الحرمات احتياطا فيحرم كنكاح الأخت في عدة الأخت ونحو ذلك مما بينا فيما تقدم وأما عدم طول
الحرة وهو القدرة على مهر الحرة وخشية العنت فليس من شرط جواز نكاح الأمة عند أصحابنا والحاصل ان
من شرائط جواز نكاح الأمة عند أبي حنيفة أن لا يكون في نكاح المتزوج حرة ولا في عدة حرة وعندهما خلو
الحرة عن عدة البينونة ليس بشرط لجواز نكاح الأمة وعند الشافعي من شرائط جواز نكاح الأمة أن لا يكون
في نكاحه حرة وأن لا يكون قادرا على مهر الحرة وأن يخشى العنت حتى إذا كان في ملكه أمة يطؤها بملك
اليمين جاز له أن يتزوج أمة عندنا وعنده لا يجوز لعدم خشية العنت وكذلك الحر يجوز له أن يتزوج أكثر من
أمة واحدة عندنا وعنده إذا تزوج أمة واحدة لا يجوز له أن يتزوج أمة أخرى لزوال خشية العنت بالواحدة
ولا خلاف في أن طول الحرة لا يمنع العبد من نكاح الأمة احتج الشافعي بقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا
أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ومن كلمة شرط فقد جعل الله
عز وجل العجز عن طول الحرة شرطا لجواز نكاح الأمة فيتعلق الجواز به كما في قوله تعالى فمن لم يستطع
فاطعام ستين مسكينا ونحو ذلك وقال تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم وهو الزنا شرط سبحانه وتعالى خشية
العنت لجواز نكاح الأمة فيتقيد الجواز بهذا الشرط أيضا ولأن جواز نكاح الإماء في الأصل ثبت بطريق
الضرورة لما يتضمن نكاحهن من ارقاق الحر لان ماء الحر حر تبعا له وكان في نكاح الحر الأمة ارقاق حر جزأ
والى هذا أشار عمر رضي الله عنه فيما روى عنه أنه قال أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه وأيما عبد تزوج
حرة فقد أعتق نصفه ولا يجوز ارقاق الجزء من غير ضرورة ولهذا إذا كان تحته حرة لا يجوز نكاح الأمة
وهذا لان الارقاق اهلاك لأنه يخرج به من أن يكون منتفعا به في حق نفسه ويصير ملحقا بالبهائم وهلاك
الجزء من غير ضرورة لا يجوز كقطع اليد ونحو ذلك ولا ضرورة حالة القدرة على طول الحرة فبقي الحكم فيها
على هذا الأصل ولهذا لم يجز إذا كانت حرة لارتفاع الضرورة بالحرة بخلاف ما إذا كان المتزوج عبدا
لان نكاحه ليس ارقاق الحر لان ماءه رقيق تبعا له وارقاق الرقيق لا يتصور ولنا عمومات النكاح نحو قوله
تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وقوله عز وجل فانكحوهن باذن أهلهن
وقوله عز وجل وأحل لكم ما وراء ذلكم من غير فضل بين حال القدرة على مهر الحرة وعدمها ولان النكاح
عقد مصلحة في الأصل لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية فكان الأصل فيه هو الجواز إذا صدر من الأهل
في المحل وقد وجدوا الآية ففيها إباحة نكاح الأمة عند عدم طول الحرة وهذا لا ينفى الإباحة عند وجود
267

لطول فالتعليق بالشرط عندنا يقتضى الوجود عند وجود الشرط اما لا يقتضى العدم عند عدمه قال الله
تعالى فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة ثم إذا تزوج واحدة جاز وإن كان لا يخاف الجور في نكاح المثنى والثلاث
والرباع وقال تعالى في الإماء فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب
وهذا لا يدل على نفى الحد عنهن عند عدم الاحصان وهو التزوج وهو الجواب عن قوله عز وجل ذلك لمن
خشي العنت منكم على أن العنت يذكر ويراد به الضيق كقوله عز وجل ولو شاء الله لأعنتكم أي لضيق
عليكم أي من يضيق عليه النفقة والاسكان لترك الحرة بالطلاق وتزوج الأمة فالطول المذكور يحتمل
أن يراد به القدرة على المهر ويحتمل أن يراد به القدرة على الوطئ لان النكاح يذكر ويراد به الوطئ بل حقيقة
الوطئ على ما عرف فكان معناه فمن لم يقدر منكم على وطئ المحصنات وهي الحرائر والقدرة على وطئ
الحرة إنما يكون في النكاح ونحن نقول به ان من لم يقدر على وطئ الحرة بأن لم يكن في نكاحه حرة يجوز له نكاح
الأمة ومن قدر على ذلك بأن كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة ونقل هذا التأويل عن علي رضي الله عنه
فلا يكون حجة مع الاحتمال على أن فيها إباحة نكاح الأمة عند عدم طول الحرة وهذا تقديم وتأخير
في الجواب عن التعليق بالآية وأما قوله نكاح الأمة يتضمن ارقاق الحر لان ماء الحر حر فنقول إن عنى به
اثبات حقيقة الرق فهذا لا يتصور لأن الماء جماد لا يوصف بالرق والحرية وان عنى به التسبب إلى حدوث رق
الولد فهذا مسلم لكن أثر هذا في الكراهة لا في الحرية فان نكاح الأمة في حال طول الحرة في حق العبد جائز
بالاجماع وإن كان نكاحها مباشرة سبب حدوث الرق عندنا فكره نكاح الأمة مع طول الحرة ولو تزوج أمة
وحرة في عقدة واحدة جاز نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة لان كل واحدة منهما على صاحبتها مدخولة عليها
فيعتبر حالة الاجتماع بحال الانفراد فيجوز نكاح الحرة لان نكاحها على الأمة حالة الانفراد جائز فكذا حالة
الاجتماع ويبطل نكاح الأمة لان نكاحها على الحرة وادخالها عليها لا يجوز حالة الانفراد فكذا عند الاجتماع
بخلاف ما إذا تزوج أختين في عقدة واحدة لان المحرم هناك هو الجمع بين الأختين والجمع حصل بهما فبطل
نكاحهما وههنا المحرم هو ادخال الأمة على الحرة لا الجمع ألا ترى أنه لو كان نكاح الأمة متقدما على نكاح
الحرة جاز نكاح الحرة وان وجد الجمع فكذلك إذا اقترن الأمران والله عز وجل اعلم وكذلك إذا جمع بين
أجنبية وذات محارمه جاز نكاح الأجنبية وبطل نكاح المحرم ويعتبر حالة الاجتماع بحالة الانفراد وهل ينقسم
المهر عليهما في قول أبي حنيفة لا ينقسم ويكون كله للأجنبية وعندهما ينقسم المسمى على قدر مهر مثلها
* (فصل) * ومنها أن لا تكون منكوحة الغير لقوله تعالى والمحصنات من النساء معطوفا على قوله عز وجل
حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله والمحصنات من النساء وهن ذوات الأزواج وسواء كان زوجها مسلما أو
كافرا الا المسبية التي هي ذات زوج سبيت وحدها لان قوله عز وجل والمحصنات من النساء عام في جميع
ذوات الأزواج ثم استثنى تعالى منها المملوكات بقوله تعالى الا ما ملكت أيمانكم والمراد منها المسبيات
اللاتي سبين وهن ذوات الأزواج ليكون المستثنى من جنس المستثنى منه فيقتضى حرمة نكاح كل ذات زوج
الا التي سبيت كذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية كل ذات زوج ابيانها زنا
الا ما سبيت والمراد منه التي سبيت وحدها وأخرجت إلى دار الاسلام لان الفرقة ثبتت بتباين الدارين عندنا
لا بنفس السبي على ما نذكر إن شاء الله تعالى وصارت هي في حكم الذمية ولان اجتماع رجلين على امرأة واحدة
يفسد الفراش لأنه يوجب اشتباه النسب وتضييع الولد وفوات السكن والألفة والمودة فيفوت ما وضع النكاح له
* (فصل) * ومنها أن لا تكون معتدة الغير لقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله
أي ما كتب عليها من التربص ولان بعض أحكام النكاح حالة العدم قائم فكان النكاح قائما من وجه والثابت
268

من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات ولأنه لا يجوز التصريح بالخطبة في حال قيام العدة ومعلوم ان
خطبتها بالنكاح دون حقيقة النكاح فما لم تجز الخطبة فلان لا يجوز العقد أولى وسواء كانت العدة عن طلاق
أو عن وفاة أو دخول في نكاح فاسد أو شبهة نكاح لما ذكرنا من الدلائل ويجوز لصاحب العدة أن يتزوجها
إذا لم يكن هناك مانع آخر غير العدة لأن العدة حقه قال الله سبحانه وتعالى فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
أضاف العدة إلى الأزواج فدل أنها حق الزوج وحق الانسان لا يجوز أن يمنعه من التصرف وإنما يظهر أثره
في حق الغير ويجوز نكاح المسبية بغير السابي إذا سبيت وحدها دون زوجها وأخرجت إلى دار الاسلام
بالاجماع لأنه وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها لقوله عز وجل والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم
والمراد منه المسبيات اللاتي هن ذوات الأزواج فقد أحل الله تعالى المسبية للمولى السابي إذ الاستثناء من التحريم
إباحة من حيث الظاهر وقد أحلها عز وجل مطلقا من غير شرط انقضاء العدة فدل أنه لا عدة عليها وكذلك
المهاجرة وهي المرأة خرجت الينا من دار الحرب مسلمة مراغمة لزوجها يجوز نكاحها ولا عدة عليها في قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد عليها العدة ولا يجوز نكاحها (وجه) قولهما ان الفرقة وقعت بتباين الدار
فتقع بعد دخولها دار الاسلام وهي بعد الدخول مسلمة وفى دار الاسلام فتجب عليها العدة كسائر المسلمات
ولأبي حنيفة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات إلى قوله عز وجل ولا جناح عليكم
أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أباح تعالى نكاح المهاجرة مطلقا من غير ذكر العدة وقوله تعالى ولا
تمسكوا بعصم الكوافر نهى الله تعالى المسلمين عن الامساك والامتناع عن نكاح المهاجرة لأجل عصمة الزوج
الكافر وحرمته فالامتناع عن نكاحها للعدة والعدة في حق الزوج يكون امساكا وتمسكا بعصمة زوجها
الكافر وهذا منهى عنه ولأن العدة حق من حقوق الزوج ولا يجوز أن يبقى للحربي على المسلمة الخارجة
إلى دار الاسلام حق والدليل عليه أن لا عدة على المسبية وإن كانت كافرة على الحقيقة لكنها ليست في حكم
الذمية تجرى عليها أحكام الاسلام ومع ذلك ينقطع عنها حق الزوج الكافر فالمهاجرة المسلمة حقيقة لان
ينقطع عنها حق الزوج الكافر أولى هذا إذا هاجرت الينا وهي حائل فاما إذا كانت حاملا ففيه اختلاف الرواية
عن أبي حنيفة وسنذكرها إن شاء الله تعالى
* (فصل) * ومنها أن لا يكون بها حمل ثابت النسب من الغير فإن كان لا يجوز نكاحها وان لم تكن معتدة
كمن تزوج أم ولد انسان وهي حامل من مولاها لا يجوز وان لم تكن معتدة لوجود حمل ثابت النسب وهذا
لان الحمل إذا كان ثابت النسب من الغير وماؤه محرم لزم حفظ حرمة مائه بالمنع من النكاح وعلى هذا يخرج
ما إذا تزوج امرأة حاملا من الزنا انه يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد ولكن لا يطؤها حتى تضع وقال أبو يوسف
لا يجوز وهو قول زفر (وجه) قول أبى يوسف ان هذا الحمل يمنع الوطئ فيمنع العقد أيضا كالحمل الثابت النسب
وهذا لان المقصود من النكاح هو حمل الوطئ فإذا لم يحل له وطؤها لم يكن النكاح مفيدا فلا يجوز ولهذا لم يجز
إذا كان الحمل ثابت النسب كذا هذا (ولهما) أن المنع من نكاح الحامل حملا ثابت النسب لحرمة ماء الوطئ ولا
حرمة لماء الزنا بدليل أنه لا يثبت به النسب قال النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر
فإذا لم يكن له حرمة لا يمنع جواز النكاح الا أنها لا توطأ حتى تضع لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال لا يحل لرجلين يؤمنا بالله واليوم الآخر ان يجتمعا على امرأة في طهر واحد وحرمة الوطئ بعارض
طارئ على المجبل لا ينافي النكاح لا بقاء ولا ابتداء كالحيض والنفاس وأما المهاجرة إذا كانت حاملا فعن
أبي حنيفة روايتان روى محمد عنه أنه لا يجوز نكاحها وهو احدى روايتي أبى يوسف عنه وعن أبي يوسف
269

رواية أخرى عن أبي حنيفة أنه يجوز نكاحها ولكنها لا توطأ حتى تضع (وجه) هذه الرواية ان ماء
الحربي لا حرمة له فكان بمنزلة ماء الزاني وذا لا يمنع جواز النكاح كذا هذا الا أنها لا توطأ حتى تضع لما روينا
(وجه) الرواية الأخرى ان هذا حمل ثابت النسب لان انساب أهل الحرب ثابتة فيمنع جواز النكاح كسائر
الأحمال الثابتة النسب والطحاوي اعتمد رواية أبى يوسف والكرخي رواية محمد وهي المعتمد عليها لان حرمة
نكاح الحامل ليست لمكان العدة لا محالة فإنها قد تثبت عند عدم العدة كأم الولد إذا كانت حاملا من مولاها
بل لثبوت نسب الحمل كما في أم الولد والحمل ههنا ثابت النسب فيمنع النكاح وعلى هذا نكاح المسبية دون الزوج
إذا كانت حاملا وأخرجت إلى دار الاسلام يجب أن يكون على اختلاف الرواية ولا خلاف في أنه لا يحل
وطؤها قبل الوضع ولا قبل الاستبراء بحيضة إذا كانت حاملا والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال في سبايا أو طاس الا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة
* (فصل) * ومنها أن يكون للزوجين ملة يقران عليها فإن لم يكن بأن كان أحدهما مرتدا لا يجوز نكاحه
أصلا لا بمسلم ولا بكافر غير مرتد والمرتد مثله لأنه ترك ملة الاسلام ولا يقر على الردة بل يجبر على الاسلام اما
بالقتل إن كان رجلا بالاجماع واما بالحبس والضرب إن كانت امرأة عندنا إلى أن تموت أو تسلم فكانت
الردة في معنى الموت لكونها سببا مفضيا إليه والميت لا يكون محلا للنكاح ولان ملك النكاح ملك معصوم
ولا عصمة مع المرتدة ولان نكاح المرتد لا يقع وسيلة إلى المقاصد المطلوبة منه لأنه يجبر على الاسلام على ما بينا
فلا يفيد فائدته فلا يجوز والدليل عليه أن الردة لو اعترضت على النكاح رفعته فإذا قارنته تمنعه من الوجود من
طريق الأولى كالرضاع لان المنع أسهل من الرفع
* (فصل) * ومنها أن لا تكون المرأة مشركة إذا كان الرجل مسلما فلا يجوز للمسلم أن ينكح المشركة
لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ويجوز أن ينكح الكتابية لقوله عز وجل والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والفرق ان الأصل أن لا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة لان ازدواج الكافرة
والمخالطة معها مع قيام العداوة الدينية لا يحصل السكن والمودة الذي هو قوام مقاصد النكاح الا أنه جوز نكاح
الكتابية لرجاء اسلامها لأنها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة وإنما نفضت الجملة بالتفصيل بناء
على أنها أخبرت عن الامر على خلاف حقيقته فالظاهر أنها متى نبهت على حقيقة الامر تنبهت وتأتي بالايمان
على التفصيل على حسب ما كانت أتت به على الجملة هذا هو الظاهر من حال التي بنى أمرها على الدليل دون
الهوى والطبع والزوج يدعوها إلى الاسلام وينبهها على حقيقة الامر فكان في نكاح المسلم إياها رجاء اسلامها
فجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة بخلاف المشركة فإنها في اختيارها الشرك ما ثبت أمرها على الحجة بل على التقليد
بوجود الاباء عن ذلك من غير أن ينتهى ذلك الخبر ممن يجب قبول قوله واتباعه وهو الرسول فالظاهر أنها لا تنظر
في الحجة ولا تلتفت إليها عند الدعوة فيبقى ازدواج الكافر مع قيام العداوة الدينية المانعة عن السكن والازدواج
والمودة خاليا عن العاقبة الحميدة فلم يجزا نكاحها وسواء كانت الكتابية حرة أو أمة عندنا وقال الشافعي لا يجوز
نكاح الأمة الكتابية ويحل وطؤها بملك اليمين واحتج بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن والكتابية
مشركة على الحقيقة لان المشرك من يشرك بالله تعالى في الألوهية وأهل الكتاب كذلك قال الله تعالى
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقالت النصارى ان الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى
عما يقولون فعموم النص يقتضى حرمة نكاح جميع المشركات الا أنه خص منه الحرائر من الكتابيات بقوله
تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهن الحرائر فبقيت الإماء منهن على ظاهر العموم ولأن جواز
نكاح الإماء في الأصل ثبت بطريق الضرورة لما ذكرنا فيما تقدم والضرورة تندفع بنكاح الأمة المؤمنة
270

ولنا عمومات النكاح نحو قوله عز وجل وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله عز وجل فانكحوهن باذن أهلهن
وقوله عز وجل فانكحوا ما طاب لكم من النساء وغير ذلك من غير فصل بين الأمة المؤمنة والأمة الكافرة
الكتابية الا ما خص بدليل وأما الآية فهي في غير الكتابيات من المشركات لان أهل الكتاب وإن كانوا
مشركين على الحقيقة لكن هذا الاسم في متعارف الناس يطلق على المشركين من غير أهل الكتاب قال الله
تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين وقال تعالى ان الذين كفروا من أهل الكتاب
والمشركين في نار جهنم فصل بين الفرقين في الاسم على أن الكتابيات وان دخلن تحت عموم اسم المشركات
بحكم ظاهر اللفظ لكنهن خصصن عن العموم بقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وأما
الكتابيات إذا كن عفائف يستحقن هذا الاسم لان الاحصان في كلام العرب عبارة عن المنع ومعنى المنع يحصل
بالعفة والصلاح كما يحصل بالحرية والاسلام والنكاح لان ذلك مانع المرأة عن ارتكاب الفاحشة فيتناولهن عموم
اسم المحصنات وقوله الأصل في نكاح الإماء الفساد ممنوع بل الأصل في النكاح هو الجواز حرة كانت المنكوحة أو أمة
مسلمة أو كتابية لما مر أن النكاح عقد مصلحة والأصل في المصالح اطلاق الاستيفاء والمنع عنه لمعنى في غيره على
ما عرف ولا يجوز للمسلم نكاح المجوسية لان المجوس ليسوا من أهل الكتاب قال الله تبارك وتعالى وهذا
كتاب أنزلنا مبارك إلى قوله أن يقولوا إنما انزل الكتاب على طائفتين من قبلنا معناه والله أعلم أي أنزلت
عليكم لئلا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ولو كان المجوس من أهل الكتاب لكان أهل
الكتاب ثلاث طوائف فيؤدى إلى الخلف في خبره عز وجل وذلك محال على أن هذا لو كان حكاية عن
قول المشركين لكان دليلا على ما قلنا لأنه حكى عنهم القول ولم يعقبه بالانكار عليهم والتكذيب إياهم
والحكيم إذا حكى عن منكر غيره والأصل فيه ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال سنوا بالمجوس
سنة أهل الكتاب غير أنكم ليسوا ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ودل قوله سنوا بالمجوس سنة أهل
الكتاب على أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولا يحل وطؤها بملك اليمين أيضا والأصل أن لا يحل وطئ
كافرة بنكاح ولا بملك يمين الا الكتابية خاصة لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن واسم النكاح
يقع على العقد والوطئ جميعا فيحرمان جميعا ومن كان أحد أبويه كتابيا والآخر مجوسيا كان حكمه حكم
أهل الكتاب لأنه لو كان أحد أبويه مسلما يعطى له حكم الاسلام لان الاسلام يعلو ولا يعلى فكذا إذا كان
كتابيا يعطى له حكم أهل الكتاب ولان الكتابي له بعض أحكام أهل الاسلام وهو المناكحة وجواز الذبيحة
والاسلام يعلو بنفسه وبأحكامه ولان رجاءه الاسلام من الكتابي أكثر فكان أولى بالاستتباع وأما الصابئات
فقد قال أبو حنيفة انه يجوز للمسلم نكاحهن وقال أبو يوسف ومحمد لا يجوز وقيل ليس هذا باختلاف في الحقيقة
وإنما الاختلاف لاشتباه مذهبهم فعند أبي حنيفة هم قوم يؤمنون بكتاب فإنهم يقرؤن الزبور ولا يعبدون
الكواكب ولكن يعظمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في الاستقبال إليها الا انهم يخالفون غيرهم من
أهل الكتاب في بعض دياناتهم وذا لا يمنع المناكحة كاليهود مع النصارى وعند أبي يوسف ومحمد انهم
قوم يعبدون الكواكب وعابد الكواكب كعابد الوثن فلا يجوز للمسلمين مناكحاتهم
* (فصل) * ومنها اسلام الرجل إذا كانت المرأة مسلمة فلا يجوز انكاح المؤمنة الكافر لقوله تعالى ولا
تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولان في إنكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر لان الزوج يدعوها
إلى دينه والنساء في العادات يتبعن الرجال فيما يؤثروا من الافعال ويقلدونهم في الدين إليه وقعت الإشارة في آخر
الآية بقوله عز وجل أولئك يدعون إلى النار لأنهم يدعون المؤمنات إلى الكفر والدعاء إلى الكفر دعاء إلى
النار لان الكفر يوجب النار فكان نكاح الكافر المسلمة سببا داعيا إلى الحرام فكان حراما والنص وان ورد
271

في المشركين لكن العلة وهي الدعاء إلى النار يعم الكفرة أجمع فيتعمم الحكم بعموم العلة فلا يجوز انكاح المسلمة
الكتابي كما لا يجوز انكاحها الوثني والمجوسي لان الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فلو جاز انكاح الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل وهذا لا يجوز وأما
أنكحة الكفار غير المرتدين بعضهم لبعض فجائز في الجملة عند عامة العلماء وقال مالك أنكحتهم فاسدة لان
للنكاح في الاسلام شرائط لا يراعونها فلا يحكم بصحة أنكحتهم وهذا غير سديد لقوله عز وجل وامرأته
حمالة الحطب سماها الله تعالى امرأته ولو كانت أنكحتهم فاسدة لم تكن امرأته حقيقة ولان النكاح سنة آدم
عليه الصلاة والسلام فهم على شريعته في ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح
وإن كان أبواه كافرين ولان القول بفساد أنكحتهم يؤدى إلى أمر قبيح وهو الطعن في نسب كثير من الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام لان كثيرا منهم ولدوا من أبوين كافرين والمذاهب تمتحن بعبادها فلما أفضى إلى قبيح
عرف فسادها ويجوز نكاح أهل الذمة بعضهم لبعض وان اختلفت شرائعهم لان الكفر كله كاملة واحدة
إذ هو تكذيب الرب سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبير فيما أنزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم وقال
الله عز وجل لكم دينكم ولى دين واختلافهم في شرائعهم بمنزلة اختلاف كل فريق منهم فيما بينهم في بعض
شرائعهم وذا لا يمنع جواز نكاح بعضهم لبعض كذا هذا
* (فصل) * ومنها أن لا يكون أحد الزوجين ملك صاحبه ولا ينتقص منه ملكه فلا يجوز للرجل أن يتزوج
بجاريته ولا بجارية مشتركة بينه وبين غيره وكذلك لا يجوز للمرأة أن تتزوج عبدها ولا العبد المشترك بينها
وبين غيرها لقوله تعالى والذين هم لفرجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم الا آية ثم أباح الله
عز وجل الوطئ الا بأحد أمرين لان كلمة تتناول أحد المذكورين فلا تجوز الاستباحة بهما جميعا ولان للنكاح
حقوقا تثبت على الشركة بين الزوجين منها مطالبة المرأة الزوج بالوطئ ومطالبة الزوج الزوجة بالتمكين وقيام ملك
الرقبة يمنع من الشركة وإذا لم تثبت الشركة في ثمرات النكاح لا يفيد النكاح فلا يجوز ولان الحقوق الثابتة بالنكاح
لا يجوز ان تثبت على المولى لامته ولا على الحرة لعبدها لان ملك الرقبة يقتضى أن تكون الولاية للمالك وكون
المملوك يولى عليه وملك النكاح يقتضى ثبوت الولاية للمملوك على المالك فيؤدى إلى أن يكون الشخص الواحد
في زمان واحد واليا وموليا عليه في شئ واحد وهذا محال ولان النكاح لا يجوز من غير مهر عندنا ولا يجب للمولى
على عبده دين ولا للعبد على مولاه وكذا لا يجوز أن يتزوج مدبرته ومكاتبته لان كل واحد منهما ملكه فكذا
إذا اعترض ملك اليمين على نكاح يبطل النكاح بأن ملك أحد الزوجين صاحبه أو شقصا منه لما نذكر إن شاء الله
تعالى في موضعه
* (فصل) * ومنها التأبيد فلا يجوز النكاح المؤقت وهو نكاح المتعة وانه نوعان أحدهما أن يكون بلفظ التمتع
والثاني أن يكون بلفظ النكاح والتزويج وما يقوم مقامهما أما الأول فهو أن يقول أعطيك كذا على أن أتمتع منك
يوما أو شهرا أو سنة ونحو ذلك وانه باطل عند عامة العلماء وقال بعض الناس هو جائز واحتجوا بظاهر قوله
تعالى فما استمعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة والاستدلال بها من ثلاثة أوجه أحدها انه ذكر الاستمتاع
ولم يذكر النكاح والاستمتاع والتمتع واحد والثاني انه تعالى أمر بايتاء الاجر وحقيقة الإجارة والمتعة عقد
الإجارة على منفعة البضع والثالث انه تعالى أمر بايتاء الاجر بعد الاستمتاع وذلك يكون في عقد الإجارة
والمتعة فأما المهر فإنما يجب في النكاح بنفس العقد ويؤخذ الزوج بالمهر أولا ثم يمكن من الاستمتاع فدلت الآية
الكريمة على جواز عقد المتعة ولنا الكتاب والسنة والاجماع والمعقول أما الكتاب الكريم فقوله عز وجل
والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم حرم تعالى الجماع الا بأحد شيئين والمتعة
272

ليست بنكاح ولا بملك يمين فيبقى التحريم والدليل على أنها ليست بنكاح انها ترتفع من غير طلاق ولا فرقة ولا
يجرى التوارث بينهما فدل انها ليست بنكاح فلم تكن هي زوجة له وقوله تعالى في آخر الآية فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون سمى مبتغى ما وراء ذلك عاديا فدل على حرمة الوطئ بدون هذين الشيئين وقوله عز
وجل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وكان ذلك منهم إجازة الإماء نهى الله عز وجل عن ذلك وسماه بغاء
فدل على الحرمة وأما السنة فما روى عن علي رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء
يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية وعن سمرة الجهني رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
متعة النساء يوم فتح مكة وعن عبد الله بن عمر أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء
وعن لحوم الحمر الأهلية وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما بين الركن والمقام وهو يقول إني
كنت أذنت لكم في المتعة فمن كان عنده شئ فليفارقه ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فان الله قد حرمها إلى يوم
القيامة وأما الاجماع فان الأمة بأسرهم امتنعوا عن العمل بالمتعة مع ظهور الحاجة لهم إلى ذلك وأما المعقول
فهو أن النكاح ما شرع لاقتضاء الشهوة بل لأغراض ومقاصد يتوسل به إليها واقتضاء الشهوة بالمتعة لا يقع
وسيلة إلى المقاصد فلا يشرع وأما الآية الكريمة فمعنى قوله فما استمتعتم به منهن أي في النكاح لان المذكور
في أول الآية وآخرها هو النكاح فان الله تعالى ذكر أجناسا من المحرمات في أول الآية في النكاح وأباح
ما وراءها بالنكاح بقوله عز وجل وأحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم أي بالنكاح وقوله تعالى
محصنين غير مسافحين أي غير متناكحين غير زانين وقال تعالى في سياق الآية الكريمة ومن لم يستطع منكم
طولا أن ينكح المحصنات ذكر النكاح لا الإجارة والمتعة فيصرف قوله تعالى فما استمتعتم به إلى الاستمتاع
بالنكاح وأما قوله سمى الواجب أجرا فنعم المهر في النكاح يسمى أجرا قال الله عز وجل فانكحوهن باذن
أهلهن وآتوهن أجورهن أي مهورهن وقال سبحانه وتعالى يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت
أجورهن وقوله أمر تعالى بايتاء الاجر بعد الاستمتاع بهن والمهر يجب بنفس النكاح ويؤخذ قبل الاستمتاع
قلنا قد قيل في الآية الكريمة تقديم وتأخير كأنه تعالى قال فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم به منهن أي إذا أردتم
الاستمتاع بهن كقوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن أي إذا أردتم تطليق النساء على أنه إن كان
المراد من الآية الإجارة والمتعة فقد صارت منسوخة بما تلونا من الآيات وروينا من الأحاديث وعن
ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله فما استمتعتم به منهن نسخة قوله عز وجل يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وعن
ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال المتعة بالنساء منسوخة نسختها آية الطلاق والصداق والعدة والمواريث
والحقوق التي يجب فيها النكاح أي النكاح هو الذي تثبت به هذه الأشياء ولا يثبت شئ منها بالمتعة والله
أعلم وأما الثاني فهو أن يقول أتزوجك عشرة أيام ونحو ذلك وانه فاسد عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر النكاح
جائز وهو مؤبد والشرط باطل وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال إذا ذكرا من المدة مقدار ما يعيشان
إلى تلك المدة فالنكاح باطل وان ذكرا من المدة مقدار مالا يعيشان إلى تلك المدة في الغالب يجوز النكاح
كأنهما ذكرا الأبد (وجه) قوله إنه ذكر النكاح وشرط فيه شرطا فاسدا والنكاح لا تبطله الشروط
الفاسدة فبطل الشرط وبقى النكاح صحيحا كما إذا قال تزوجتك إلى أن أطلقك إلى عشرة أيام (ولنا) أنه
لو جاز هذا العقد لكان لا يخلو اما ان يجوز مؤقتا بالمدة المذكورة واما ان يجوز مؤبدا لا سبيل إلى الأول
لان هذا معنى المتعة الا أنه عبر عنها بلفظ النكاح والتزوج والمعتبر في العقود معانيها لا الألفاظ كالكفالة
بشرط براءة الأصيل انها حوالة معنى لوجود الحوالة وان لم يوجد لفظها والمتعة منسوخة ولا وجه للثاني لان
فيه استحقاق البضع عليها من غير رضاها وهذا لا يجوز وأما قوله أتى بالنكاح ثم أدخل عليه شرطا فاسدا
273

فممنوع بل أتى بنكاح مؤقت والنكاح المؤقت نكاح متعة والمتعة منسوخة وصار هذا كالنكاح المضاف أنه
لا يصح ولا يقال يصح النكاح وتبطل الإضافة لان المأتى به نكاح مضاف وأنه لا يصح كذا هذا بخلاف ما إذا
قال تزوجتك على أن أطلقك إلى عشرة أيام لان هناك أبد النكاح ثم شرط قطع التأبيد بذكر الطلاق في
النكاح المؤبد لأنه على أن ان كلمة شرط والنكاح المؤبد لا تبطله الشروط والله عز وجل أعلم
* (فصل) * ومنها المهر فلا جواز للنكاح بدون المهر عندنا والكلام في هذا الشرط في مواضع في بيان
أن المهر هل هو شرط جواز النكاح أم لا وفي بيان أدنى المقدار الذي يصلح مهر أو في بيان ما يصح تسميته مهرا
وما لا يصح وبيان حكم صحة التسمية وفسادها وفي بيان ما يجب به المهر وبيان وقت وجوبه وكيفية وجوبه وما
يتعلق بذلك من الأحكام وفي بيان ما يتأكد به كل المهر وفي بيان ما يسقط به الكل وفي بيان ما يسقط به النصف
وفي بيان حكم اختلاف الزوجين في المهر أما الأول فقد اختلف فيه قال أصحابنا ان المهر شرط جواز نكاح
المسلم وقال الشافعي ليس بشرط ويجوز النكاح بدون المهر حتى أن من تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا بأن
سكت عن ذكر المهر أو تزوجها على أن لا مهر لها ورضيت المرأة بذلك يجب مهر المثل بنفس العقد عندنا حتى
يثبت لها ولاية المطالبة بالتسليم ولو ماتت المرأة قبل الدخول يؤخذ مهر المثل من الزوج ولو مات الزوج قبل
الدخول تستحق مهر المثل من تركته وعنده لا يجب مهر المثل بنفس العقد وإنما يجب بالفرض على الزوج
أو بالدخول حتى لو دخل بها قبل الفرض يجب مهر المثل ولو طلقها قبل الدخول بها وقبل الفرض لا يجب مهر
المثل بلا خلاف وإنما تجب المتعة ولو مات الزوجان لا يقضى بشئ في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف ومحمد
يقضى لورثتها بمهر مثلها ويستوفى من تركة الزوج ولا خلاف في أن النكاح يصح من غير ذكر المهر ومع
نفيه لقوله تعالى لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة رفع سبحانه الجناح عمن
طلق في نكاح لا تسمية فيه والطلاق لا يكون الا بعد النكاح فدل على جواز النكاح بلا تسمية وقوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن والمراد منه الطلاق في نكاح لا تسمية
فيه بدليل أنه أوجب المتعة بقوله فمتعوهن والمتعة إنما تجب في نكاح لا تسمية فيه فدل على جواز النكاح من غير
تسمية ولأنه متى قام الدليل على أنه لا جواز للنكاح بدون المهر كان ذكره ذكرا للمهر ضرورة احتج الشافعي
بقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة سمى الصداق نحلة والنحلة هي العطية والعطية هي الصلة فدل أن المهر صلة
زائدة في باب النكاح فلا يجب بنفس العقد ولان النكاح عقد ازدواج لان اللفظ لا ينبئ الا عنه فيقتضى ثبوت
الزوجية بينهما وحل الاستمتاع لكل واحد منهما بصاحبه تحقيقا لمقاصد النكاح الا أنه ثبت عليها نوع ملك
في منافع البضع ضرورة تحقق المقاصد ولا ضرورة في اثبات ملك المهر لها عليه فكان المهر عهدة زائدة في
حق الزوج صلة لها فلا يصير عوضا الا بالتسمية والدليل على جواز النكاح من غير مهر ان المولى إذا زوج
أمته من عبده يصح النكاح ولا يجب المهر لأنه لو وجب عليه لوجب للمولى ولا يجب للمولى على عبده دين
وكذا الذمي إذا تزوج ذمية بغير مهر جاز النكاح ولا يجب المهر وكذا إذا ماتا في هذه المسألة قبل الفرض
لا يجب شئ عند أبي حنيفة (ولنا) قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم
أخبر سبحانه وتعالى انه أحل ما وراء ذلك بشرط الابتغاء بالمال دل انه لا جواز للنكاح بدون المال فان
قيل الاحلال بشرط ابتغاء المال لا ينفى الاحلال بدون هذا الشرط خصوصا على أصلكم ان تعليق الحكم
بشرط لا ينفى وجوده عند عدم الشرط فالجواب أن الأصل في الابضاع والنفوس هو الحرمة والإباحة تثبت
بهذا الشرط فعند عدم الشرط تبقى الحرمة على الأصل لا حكما للتعليق بالشرط فلم يتناقض أصلنا بحمد الله
تعالى وروى عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلا كان يختلف إليه شهرا يسأله عن
274

امرأة مات عنها زوجها ولم يكن فرض لها شيئا وكان يتردد في الجواب فلما تم الشهر قال للسائل لم أجد ذلك في
كتاب الله ولا فيما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اجتهد برأيي فان أصبت فمن الله وان
أخطأت فمن أم عبد وفى رواية فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان
أرى لها مثل نسائها لا وكس ولا شطط فقام رجل يقال له معقل بن سنان وقال إني أشهد أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية مثل قضائك هذا ثم قام أناس من أشجع وقالوا إنا
نشهد بمثل شهادته ففرح عبد الله رضي الله عنه فرحا لم يفرح مثله في الاسلام لموافقة قضائه قضاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولان ملك النكاح لم يشرع لعينه بل لمقاصد لا حصول لها الا بالدوام على النكاح
والقرار عليه ولا يدوم الا بوجوب المهر بنفس العقد لما يجرى بين الزوجين من الأسباب التي تحمل الزوج
على الطلاق من الوحشة والخشونة فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى
خشونة تحدث بينهما لأنه لا يشق عليه ازالته لما لم يخف لزوم المهر فلا تحصل المقاصد المطلوبة من النكاح ولان
مصالح النكاح ومقاصده لا تحصل الا بالموافقة ولا تحصل الموافقة الا إذا كانت المرأة عزيزة مكرمة عند الزوج
ولا عزة الا بانسداد طريق الوصول إليها الا بمال له خطر عنده لان ما ضاق طريق اصابته يعز في الأعين فيعز به
امساكه وما يتيسر طريق اصابته يهون في الأعين فيهون امساكه ومتى هانت في أعين الزوج تلحقها الوحشة
فلا تقع الموافقة فلا تحصل مقاصد النكاح ولان الملك ثابت في جانبها اما في نفسها واما في المتعة وأحكام الملك
في الحرة تشعر بالذل والهوان فلا بد وان يقابله مال له خطر لينجبر الذل من حيث المعنى والدليل على صحة ما قلنا
وفساد ما قال إنها إذا طلبت الفرض من الزوج يجب عليه الفرض حتى لو امتنع فالقاضي يجبره على ذلك
ولو لم يفعل ناب القاضي منابه في الفرض وهذا دليل الوجوب قبل الفرض لان الفرض تقدير ومن
المحال وجوب تقدير ما ليس بواجب وكذا لها ان تحبس نفسها حتى يفرض لها المهر ويسلم إليها بعد الفرض
وذلك كله دليل الوجوب بنفس العقد وأما الآية فالنحلة كما تذكر بمعنى العطية تذكر بمعنى الدين يقال
ما نحلتك أي ما دينك فكان معنى قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أي دينا أي انتحلوا ذلك وعلى هذا
كانت الآية حجة عليه لأنها تقتضي أن يكون وجوب المهر في النكاح دينا فيقع الاحتمال في المراد بالآية
فلا تكون حجة مع الاحتمال وأما قوله النكاح ينبئ عن الازدواج فقط فنعم لكنه شرع لمصالح لا تصلح الا بالمهر
فيجب المهر ألا ترى أنه لا ينبئ عن الملك أيضا لكن لما كان مصالح النكاح لا تحصل بدونه ثبت تحصيلا
للمصالح كذا المهر وأما المولى إذا زوج أمته من عبده فقد قيل إن المهر يجب ثم يسقط وفائدة الوجوب
هو جواز النكاح وأما الذمي إذا تزوج ذمية من غير مهر فعلى قولهما يجب المهر وأما على قول أبي حنيفة
فيجب أيضا الا انا لا نتعرض لهم لأنهم يدينون ذلك وقد أمرنا بتركهم وما يدينون حتى أنهما لو ترافعا إلى القاضي
فرض القاضي لها المهر وكذا إذا مات الزوجان يقضى بمهر المثل لورثة المرأة عندهما وعند أبي حنيفة إنما
لا يقضى لوجود الاستيفاء دلالة لان موتهما معا في زمان واحد نادر وإنما الغالب موتهما على التعاقب فإذا لم
تجز المطالبة بالمهر دل ذلك على الاستيفاء أو على استيفاء البعض والابراء عن البعض مع ما أنه قد قيل إن قول
أبي حنيفة محمول على ما إذا تقادم العهد حتى لم يبق من نسائها من يعتبر به مهر مثلها كذا ذكره أبو الحسن الكرخي
وأبو بكر الرازي وعند ذلك يتعذر القضاء بمهر المثل والى هذا أشار محمد لأبي حنيفة أرأيت لو أن ورثة على ادعوا
على ورثة عمر مهر أم كلثوم رضي الله عنهم أكنت أقضى به وهذا المعنى لم يوجد في موت أحدهما
فيجب مهر المثل
* (فصل) * وأما بيان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا فأدناه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم وهذا
275

عندنا وعند الشافعي المهر غير مقدر يستوى فيه القليل والكثير وتصلح الدانق والحبة مهرا واحتج بما
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أعطى في نكاح ملء كفيه طعاما أو دقيقا أو سويقا فقد
استحل وروى عن أنس رضي الله عنه أنه قال تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن نواة من ذهب وكان
ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فدل أن التقدير في المهر ليس بلازم ولان المهر ثبت حقا للعبد وهو حق
المرأة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء واسقاطا فكان التقدير فيه إلى العاقدين (ولنا) قوله تعالى
وأحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم شرط سبحانه وتعالى أن يكون المهر مالا والحبة والدانق ونحوهما
لا يعدان مالا فلا يصلح مهرا وروى عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا مهر دون عشرة دراهم وعن عمر وعلى وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم انهم قالوا لا يكون المهر أقل من عشرة
دراهم والظاهر أنهم قالوا ذلك توقيفا لأنه باب لا يوصل إليه بالاجتهاد والقياس ولأنه لما وقع الاختلاف في
المقدار يجب الاخذ بالمتيقن وهو العشرة وأما الحديث ففيه اثبات الاستحلال إذا ذكر فيه مال قليل لا تبلغ
قيمته عشرة وعندنا الاستحلال صحيح ثابت لان النكاح صحيح ثابت ألا ترى أنه يصح من غير تسمية شئ
أصلا فعند تسمية مال قليل أولى الا أن المسمى إذا كان دون العشرة تكمل عشرة وليس في الحديث نفى الزيادة
على القدر وعندنا قام دليل الزيادة إلى العشرة لما نذكر فيكمل عشرة ولا حجة له فيما روى من الأثر لان فيه
وزن نواة من ذهب وقد تكون مثل وزن دينار بل تكون أكثر في العادة فان قيل روى أن قيمة النواة كانت
ثلاثة دراهم فالجواب أن المقوم غير معلوم انه من كان فلا يصلح أن يجعل قول ذلك حجة على الغير حتى يعلم أنه من
هو مع ما أنه قد قال قوم ان النواة كان بلغ وزنها قيمة عشرة دراهم وبه قال إبراهيم النخعي على أن القدر المذكور
في الخبر والأثر كان يحتمل أن يكون معجلا في المهر لا أصل المهر على ما جرت العادة بتعجيل شئ من المهر قبل
الدخول ويحتمل أن يكون ذلك كله في حال جواز النكاح بغير مهر على ما قيل إن النكاح كان جائزا بغير مهر
إلى أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار وأما قوله إن المهر حق العبد فكان التقدير فيه إلى العبد
فنقول نعم هو في حالة البقاء حقها على الخلوص فاما في حالة الثبوت فحق الشرع متعلق به إبانة لخطر البضع صيانة
له عن شبهة الابتذال بايجاب مال له خطر في الشرع كما في نصاب السرقة فإن كان المسمى أقل من عشرة يكمل
عشرة عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر لها مهر المثل (وجه) قوله إن ما دون العشرة لا يصلح مهرا ففسدت
التسمية كما لو سمى خمرا أو خنزيرا فيجب مهر المثل (ولنا) أنه لما كان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا في
الشرع هو العشرة كان ذكر بعض العشرة ذكرا للكل لان العشرة في كونها مهرا لا يتجزأ وذكر البعض
فيما لا يتبعض يكون ذكرا لكله كما في الطلاق والعفو عن القصاص وأما قوله إن ما دون العشرة لا يصلح مهرا
فتفسد التسمية فنقول التسمية إنما تفسد إذا لم يكن المسمى مالا أو كان مجهولا وههنا المسمى مال وان قل فهو
معلوم الا أنه لا يصلح مهرا بنفسه الا بغيره فكان ذكره ذكرا لما هو الأدنى من المصلح بنفسه وفيه تصحيح
تصرفه بالقدر الممكن فكان أولى من الحاقه بالعدم وفيه أخذ باليقين أيضا فكان أحق بخلاف ما إذا ذكر
خمرا أو خنزيرا لان المسمى ليس بمال فلم يصلح مهرا بنفسه ولا بغيره ففسدت التسمية فوجب الموجب الأصلي
وهو مهر المثل ولو تزوجها على ثوب معين أو على موصوف أو على مكيل أو موزون معين فذلك مهرها إذا
بلغت قيمته عشرة وتعتبر قيمته يوم العقد لا يوم التسليم حتى لو كانت قيمته يوم العقد عشرة فلم يسلمه إليها حتى صارت
قيمته ثمانية فليس لها الا ذلك ولو كانت قيمته يوم العقد ثمانية فلم يسلمه إليها حتى صارت قيمته عشرة فلها ذلك
ودرهمان وذكر الحسين عن أبي حنيفة أنه فرق بين الثوب وبين المكيل والموزون فقال في الثوب تعتبر قيمته
يوم التسليم وفى المكيل والموزون يوم العقد وهذا الفرق لا يعقل له وجه في المعين لان الزوج يجبر على تسليم
276

المعين فيهما جميعا ووجه الفرق بينهما في الموصوف أن المكيل والموزون إذا كان موصوفا في الذمة فالزوج
مجبور على دفعه ولا يجوز دفع غيره من غير رضاها فكان مستقرا مهرا بنفسه في ذمته فتعتبر قيمته يوم الاستقرار
وهو يوم العقد فاما الثوب وان وصف فلم يتقرر مهرا في الذمة بنفسه بل الزوج مخير في تسليمه وتسليم قيمته في
احدى الروايتين على ما نذكر إن شاء الله تعالى وإنما يتقرر مهرا بالتسليم فتعتبر قيمته يوم التسليم (وجه) ظاهر الرواية ان ما جعل مهرا لم يتغير في نفسه وإنما التغير في رغبات الناس بحدوث فتور فيها ولهذا لو غصب
شيئا قيمته عشرة فيعتبر سعره وصار يساوى خمسة فرده على المالك لا يضمن شيئا ولأنه لما سمى ما هو أدنى مالية
من العشرة كان ذلك تسمية للعشرة لان ذكر البعض فيما لا يتجزأ ذكر لكله فصار كأنه سمى ذلك درهمين ثم
ازدادت قيمته والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يصح تسميته مهرا وما لا يصح وبيانه حكم صحة التسمية وفسادها فنقول لصحة التسمية
شرائط منها أن يكون المسمى مالا متقوما وهذا عندنا وعند الشافعي هذا ليس بشرط ويصح التسمية سواء
كان المسمى مالا أو لم يكن بعد أن يكون مما يجوز أخذ العوض عنه واحتج بما روى أن امرأة جاءت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله انى وهبت نفسي لك فقال عليه الصلاة والسلام ما بي في
النساء من حاجة فقام رجل وقال زوجنيها يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندك فقال
ما عندي شئ أعطيها فقال أعطها ولو خاتما من حديد فقال ما عندي فقال هل معك شئ من القرآن قال نعم سورة
كذا فقال زوجتكها بما معك من القرآن ومعلوم أن المسمى وهو السورة من القرآن لا يوصف بالمالية فدل
أن كون التسمية مالا ليس بشرط لصحة التسمية ولنا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم
شرط أن يكون المهر مالا فمالا يكون مالا لا يكون مهرا فلا تصح تسميته وقوله تعالى فنصف ما فرضتم أمر
بتنصيف المفروض في الطلاق قبل الدخول فيقتضى كون المفروض محتملا للتنصيف وهو المال وأما الحديث
فهو في حد الآحاد ولا يترك نص الكتاب بخبر الواحد مع ما ان ظاهره متروك لان السورة من القرآن
لا تكون مهرا بالاجماع وليس فيه ذكر تعليم القرآن ولا ما يدل عليه ثم تأويلها زوجتكها بسبب ما معك من
القرآن وبحرمته وبركته لا انه كان ذلك النكاح بغير تسمية مال وعلى هذا الأصل مسائل إذا تزوج على
تعليم القرآن أو على تعليم الحلال والحرام من الأحكام أو على الحج والعمرة ونحوها من الطاعات لا تصح التسمية
عندنا لان المسمى ليس بمال فلا يصبر شئ من ذلك مهرا ثم الأصل في التسمية انها إذا صحت وتقررت يجب
المسمى ثم ينظر إن كان المسمى عشرة فصاعدا فليس لها الا ذلك وإن كان دون العشرة تكمل العشرة عند
أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر والمسألة قد مرت وإذا فسدت التسمية أو تزلزلت يجب مهر المثل لان العوض الأصلي
في هذا الباب هو مهر المثل لأنه قيمة البضع وإنما يعدل عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية وكانت التسمية تقديرا
لتلك القيمة فإذا لم تصح التسمية أو تزلزلت لم يصح التقدير فإذا لم يصح التقدير فوجب المصير إلى الفرض الأصلي
ولهذا كان المبيع بيعا فاسدا مضمونا بالقيمة في ذوات القيم لا بالثمن كذا هذا والنكاح جائز لان جوازه
لا يقف على التسمية أصلا فإنه جائز عند عدم التسمية رأسا فعدم التسمية إذا لم يمنع جواز النكاح ففسادها
أولى أن لا يمنع ولان التسمية إذا فسدت التحقت بالعدم فصار كأنه تزوجها ولم يسم شيئا وهناك النكاح صحيح
كذا هذا ولان تسمية ما ليس بمال بشرط فاسد والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة بخلاف البيع والفرق
أن الفساد في باب البيع لمكان الربا والربا لا يتحقق في النكاح فيبطل الشرط ويبقى النكاح صحيحا وعنده
تصح التسمية ويصير المذكور مهرا لأنه يجوز أخذ العوض عنه بالاستئجار عليه عنده فتصح تسميته
مهرا وكذلك إذا تزوج امرأة على طلاق امرأة أخرى أو على العفو عن القصاص عندنا لان الطلاق ليس بمال
277

وكذا القصاص وعنده تصح التسمية لأنه يجوز أخذ العوض عن الطلاق والقصاص وكذلك إذا تزوجها
على أن لا يخرجها من بلدها أو على أن لا يتزوج عليها فان المذكور ليس بمال وكذا لو تزوج المسلم المسلمة على
ميتة أو دم أو خمر أو خنزير لم تصح التسمية لان الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد والخمر والخنزير ليسا بمال
متقوم في حق المسلم فلا تصح تسمية شئ من ذلك مهرا وعلى هذا يخرج نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل
أخته لآخر على أن يزوجه الآخر أخته أو يزوجه ابنته أو يزوجه أمته وهذه التسمية فاسدة لان كل
واحد منهما جعل بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى والبضع ليس بمال ففسدت التسمية ولكل واحدة
منهما مهر المثل لما قلنا والنكاح صحيح عندنا وعند الشافعي فاسد واحتج بما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم انه نهى عن نكاح الشغار والنهى يوجب فساد المنهى عنه ولان كل واحد منهما جعل بضع كل
واحدة من المرأتين نكاحا وصداقا وهذا لا يصح ولنا أن هذا النكاح مؤبد أدخل فيه شرطا فاسدا
حيث شرط فيه أن يكون بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى والبضع لا يصلح مهرا والنكاح لا تبطله الشروط
الفاسدة كما إذا تزوجها على أن يطلقها وعلى أن ينقلها من منزلها ونحو ذلك وبه تبين أنه لم يجتمع النكاح والصداق
في بضع واحد لان جعل البضع صداقا لم يصح فأما النهى عن نكاح الشغار فنكاح الشغار هو النكاح الخالي عن
العوض مأخوذ من قولهم شغر البلد إذا خلا عن السلطان وشغر الكلب إذا رفع احدى رجليه وعندنا هو نكاح
بعوض وهو مهر المثل فلا يكون شغارا على أن النهى ليس عن عين النكاح لأنه تصرف مشروع مشتمل على
مصالح الدين والدنيا فلا يحتمل النهى عن اخلاء النكاح عن تسمية المهر والدليل عليه ما روى عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنهما أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لواحدة منهما مهر وهو
إشارة إلى أن النهى لمكان تسمية المهر لا لعين النكاح فبقي النكاح صحيحا ولو تزوج حرا مرأة على أن يخدمها
سنة فالتسمية فاسدة ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد التسمية صحيحة ولها قيمة خدمة
سنة وعند الشافعي التسمية صحيحة ولها خدمة سنة وذكر ابن سماعة في نوادره انه إذا تزوجها على أن يرعى
غنمها سنة أن التسمية صحيحة ولها رعى غنمها سنة ولفظ رواية الأصل يدل على أنها لا تصح في رعى الغنم
كما لا تصح في الخدمة لان رعى غنمها خدمتها من مشايخنا من جعل في رعى غنمها روايتين ومنهم من قال يصح
في رعى الغنم بالاجماع وإنما الخلاف في خدمته لها ولا خلاف في أن العبد إذا تزوج بإذن المولى امرأة على أن
يخدمها سنة أن تصح التسمية ولها المسمى أما الشافعي فقد مر على أصله أن كل ما يجوز أخذ العوض عنه
يصح تسميته مهرا ومنافع الحر يجوز أخذ العوض عنها لان إجارة الحر جائزة بلا خلاف فتصح تسميتها كما
تصح تسمية منافع العبد وأما الكلام مع أصحابنا فوجه قول محمد أن منافع الحر مال لأنها مال في سائر العقود حتى
يجوز أخذ العوض عنها فكذا في النكاح وإذا كانت مالا صحت التسمية الا انه تعذر التسليم لما في التسليم من
استخدام الحرة زوجها وانه حرام لما نذكر فيجب الرجوع إلى قيمة الخدمة كما لو تزوجها على عبد فاستحق
العبد انه يجب عليه قيمة العبد لان تسمية العبد قد صحت لكونه مالا لكن تعذر تسليمه بالاستحقاق
فوجبت عليه قيمته لا مهر المثل لما قلنا كذا هذا وجه قولهما أن المنافع ليست بأموال متقومة على أصل
أصحابنا ولهذا لم تكن مضمونة بالغصب والاتلاف وإنما يثبت لها حكم التقوم في سائر العقود شرعا ضرورة
دفعا للحاجة بها ولا يمكن دفع الحاجة بها ههنا لان الحاجة لا تندفع الا بالتسليم وانه ممنوع عنه شرعا لان استخدام
الحرة زوجها الحر حرام لكونه استهانة واذلالا وهذا لا يجوز ولهذا لا يجوز للابن أن يستأجر أباه للخدمة فلا
تسلم خدمته لها شرعا فلا يمكن دفع الحاجة بها فلم يثبت لها التقوم فبقيت على الأصل فصار كما لو سمى ما لا قيمة
له كالخمر والخنزير وهناك لا تصح التسمية ويجب مهر المثل كذا ههنا حتى لو كان المسمى فعلا لا استهانة فيه
278

ولا مذلة على الرجل كرعي دوابها وزراعة أرضها والأعمال التي خارج البيت تصح بالتسمية لان ذلك من
باب القيام بأمرها لا من باب الخدمة بخلاف العبد لان استخدام زوجته إياه ليس بحرام لأنه عرضة للاستخدام
والابتذال لكونه مملوكا ملحقا بالبهائم ولان مبنى النكاح على الاشتراك في القيام بمصالح المعاش فكان لها
في خدمته حق فإذا جعل خدمته لها مهرها فكأنه جعل ما هو لها مهرها فلم يجز كالأب إذا استأجر ابنه بخدمته
أنه لا يجوز لان خدمة الأب مستحقة عليه كذا هذا بخلاف العبد لان خدمته خالص ملك المولى فصحت
التسمية ولو تزوجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وخدمة عبيده وركوب دابته والحمل عليها وزراعة
أرضه ونحو ذلك من منافع الأعيان مدة معلومة صحت التسمية لأن هذه المنافع أموال أو التحقت بالأموال
شرعا في سائر العقود لمكان الحاجة والحاجة في النكاح متحققة وامكان الدفع بالتسليم ثابت بتسليم محالها إذ ليس
فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالا والتحقت بالأعيان فصحت تسميتها وعلى هذا يخرج ما إذا قال
تزوجتك على هذا العبد فإذا هو حر وجملة الكلام فيه أن الامر لا يخلو اما ان سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى
ما لا يصلح مهرا واما ان سمى ما لا يصلح مهرا فأشار إلى ما يصلح مهرا فان سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى
ما لا يصلح مهرا بأن قال تزوجتك على هذا العبد فإذا هو حر أو على هذه الشاة الذكية فإذا هي ميتة أو على هذا
الزق الخل فإذا هو خمر فالتسمية فاسدة في جميع ذلك ولها مهر المثل في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف تصح
التسمية في الكل وعليه في الحر قيمة الحر لو كان عبدا وفى الشاة قيمة الشاة لو كانت ذكية وفى الخمر مثل ذلك
الدن من خل وسط ومحمد فرق فقال مثل قول أبي حنيفة في الحر والميتة ومثل قول أبى يوسف في الخمر (وجه)
قول أبى يوسف أن المسمى مال لان المسمى هو العبد والشاة الذكية والخل وكل ذلك مال فصحت التسمية الا
انه إذا ظهر أن المشار إليه خلاف جنس المسمى في صلاحية المهر تعذر التسليم فتجب القيمة في الحر والشاة
لأنهما ليسا من المثليات وفى الخمر يجب مثله خلا لأنه مثلي كما لو هلك المسمى أو استحق (وجه) قول محمد
في الفرق أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا في العقود فإن كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق العقد
بالمشار إليه وإن كان من خلاف جنسه يتعلق العقد بالمسمى هذا أصل مجمع عليه في البيع على ما نذكر في
البيوع والحر من جنس العبد لاتحاد جنس المنفعة وكذا الشاة الميتة من جنس الشاة الذكية فكانت العبرة
للإشارة والتحقت التسمية بالعدم والمشار إليه لا يصلح مهرا فصار كأنه اقتصر على الإشارة ولم يسم بأن قال
تزوجتك على هذا وسكت فأما الخل مع الخمر فجنسان مختلفان لاختلاف جنس المنفعة فتعلق العقد بالمسمى
لكن تعذر تسليمه وهو مثلي فيجب مثله خلا ولأبي حنيفة أن الإشارة والتسمية كل واحد منهما وضعت
للتعريف الا أن الإشارة أبلغ في التعريف لأنها تحضر العين وتقطع الشركة والتسمية لا توجب احضار العين
ولا تقطع الشركة فسقط اعتبار التسمية عند الإشارة وبقيت الإشارة والمشار إليه لا يصلح مهرا لأنه ليس بمال
فيجب مهر المثل كما لو أشار إلى الميتة والدم والخمر والخنزير ولم يسم وحقيقة الفقه لأبي حنيفة ان هذا حر سمى
عبدا وتسمية الحر عبدا باطل لأنه كذب فالتحقت التسمية بالعدم وبقيت الإشارة والمشار إليه لا يصلح
مهرا لأنه ليس بمال فالتحقت الإشارة بالعدم أيضا فصار كأنه تزوجها ولم يسم لها مهرا وهذا فقه واضح بحمد
الله تعالى هذا إذ سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى ما لا يصلح مهرا فأما إذا سمى ما لا يصلح مهرا وأشار إلى ما يصلح
مهرا بأن قال تزوجتك على هذا الحر فإذا هو عبدا وعلى هذه الميتة فإذا هي ذكية أو على هذا الدن الخمر فإذا هو خل
فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن التسمية فاسدة ولها المشار اليه وروى محمد عنه أن لها مهر المثل ورواية
أبى يوسف أصح الروايتين لان الأصل عند أبي حنيفة أن التسمية لا حكم لها مع الإشارة في باب النكاح
فكانت العبرة للإشارة والمشار إليه يصلح مهرا لأنه مال فكان لها المشار إليه (ووجه) ما روى محمد
279

عنه انه لما سمى ما لا يصلح مهرا وأشار إلى ما يصلح مهرا فقد هزل بالتسمية والهازل لا يتعلق بتسميته حكم
فبطل كلامه رأسا ولو تزوجها على هذا الدن الخمر وقيمة الظرف عشرة دراهم فصاعدا روى ابن سماعة
عن محمد في هذه المسألة روايتين روى عنه أن لها الدن لا غير وروى عنه أيضا ان لها مهر المثل
(وجه) الرواية الأولى انه سمى ما يصلح مهرا وهو الظرف وما لا يصلح مهرا وهو الخمر فيلغو ما لا يصلح
مهرا كما لو تزوجها على الخل والخمر وقيمة الخل عشرة أنه يكون لها الخل لا غير لما قلنا كذا هذا (وجه)
الرواية الأخرى أن الظرف لا يقصد بالعقد عادة بل هو تابع وإنما المقصود هو المظروف فإذا بطلت التسمية
في المقصود تبطل فيما هو تبع له والله أعلم ولو تزوجها على هذين العبدين فإذا أحدهما حر فليس لها الا العبد
الباقي إذا كانت قيمته عشرة دراهم في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف لها العبد وقيمة الحر لو كان عبدا وقال
محمد ينظر إلى العبد ان بلغت قيمته مهر مثلها فليس لها الا العبد وإن كانت قيمته أقل من مهر مثلها تبلغ إلى ثمن
مهر مثلها وهو قول زفر وهذا بناء على الأصول التي ذكرناها لهم فمن أصل أبى يوسف ان جعل الحر مهرا
صحيح إذا سمى عبدا ويتعلق بقيمته أن لو كان عبدا فيتعلق العقد بالمسميين جميعا بقدر ما يحتمل كل واحد
منهما التعليق به فيتعلق بالعبد بعينه لأنه ممكن ويتعلق بالحر بقيمته لو كان عبدا لأنه لا يحتمل التعليق بعينه ومن
أصل محمد أن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى فالعقد يتعلق بالمشار إليه والحر من جنس العبد لاتحاد جنس
المنفعة فيتعلق العقد بهما الا أنه لا سبيل إلى الجمع بين المسمى وبين مهر المثل فيجب مهر المثل ألا ترى انه لو كانا
حرين يجب مهر المثل عنده ومتى وجب مهر المثل امتنع وجوب المسمى ولأبي حنيفة أصلان أحدهما ما ذكرنا
ان الحر إذا جعل مهرا وسمى عبدا لا يتعلق بتسميته شئ وجعل ذكره والعدم بمنزلة واحدة والثاني أن العقد إذا
أضيف إلى ما لا يصلح يلغو ما لا يصلح ويستقر ما يصلح كمن جمع بين امرأة تحل له وامرأة لا تحل له وتزوجهما
في عقدة واحدة بمسمى يجب كل المسمى بمقابلة الحلال وانعقاد نكاحها صحيحا للعقد والتسمية بقدر الامكان
وتقريرا للعقد فيما أمكن تقريره والغاؤه فيما لا يمكن تصحيحه فيه والعبد هو الصالح لكونه مهرا فصحت
تسميته ويصير مهرا لها إذا بلغت قيمته عشرة فصاعدا وعلى هذا الخلاف إذا تزوجها على بيت وخادم والخادم
حر ولو تزوجها على هذين الدنين من الخل فإذا أحدهما خمر لها الباقي لا غير في قول أبي حنيفة إذا كان يساوى
عشرة دراهم كما في العبدين وعندهما لها الباقي ومثل هذا الدن من الخل وقد ذكرنا الأصل ولو سمى مالا
وضم إليه ما ليس بمال لكن لها فيه منفعة مثل طلاق امرأة أخرى وامساكها في بلدها أو العفو عن القصاص
فان وفى بالمنفعة فليس لها الا ما سمى إذا كان يساوى عشرة فصاعدا لأنه سمى ما يصلح مهرا بنفسه وشرط لها
منفعة وقد وفى بما شرط لها فصحت التسمية وصارت العشرة مهرا وان لم يف بالمنفعة فلها مهر مثلها ثم ينظر إن كان
ما سمى لها من المال مثل مهر مثلها أو أكثر فلا شئ لها الا ذلك وإن كان ما سمى لها أقل من مهر مثلها
تمم لها مهر مثلها عندنا وقال زفر إن كان المضموم مالا كما إذا شرط أن يهدى لها هدية فلم يف لها تمم
لها مهر المثل وإن كان غير مال كطلاق امرأة أخرى وأن لا يخرجها من بلدها فليس لها الا ما سمى (وجه)
قول زفر أن ما ليس بمال لا يتقوم فلا يكون فواته مضمونا بعوض وما هو مال يتقوم فإذا لم يسلم لها جاز لها الرجوع
إلى تمام العوض ولنا أن الموجب الأصلي في هذا الباب هو مهر المثل فلا يعدل عنه الا عند استحكام التسمية
فإذا وفى بالمنفعة فقد تقررت التسمية فوجب المسمى وإذا لم يف بها لم تتقرر لأنها ما رضيت بالمسمى من المال
عوضا بنفسه بل بمنفعة أخرى مضمومة إليه وهي منفعة أخرى مرغوب فيها خلال الاستيفاء شرعا فإذا لم يسلم لها
تتقرر التسمية فبقي حقها في العوض الأصلي وهو مهر المثل فإن كان أقل من مهر مثلها أو أكثر فليس لها الا
ذلك لأنه وصل إليها قدر حقها وإن كان أقل من مهر مثلها يكمل لها مهر مثلها أيضا لا إلى الحق المستحق فرق
280

بين هذا وبين ما إذا تزوجها على مهر صحيح وأرطال من خمر أن المهر ما يسمى لها إذا كان عشرة فصاعدا
ويبطل الحرام وليس لها تمام مهر مثلها أو أكثر فليس لها الا ذلك لأنه وصل إليها قدر حقها وإن كان أقل من
مهر مثلها يكمل لها مهر مثلها أيضا لان تسمية الخمر لم تصح في حق الانتفاع بها في حق المسلم إذ لا منفعة للمسلم
فيها لحرمة الانتفاع بها في حق المسلم فلا يجوز أن يجب بفواتها عوض فالتحقت تسميتها بالعدم وصار كأنه لم
يسم الا المهر الصحيح فلا يجب لها الا المهر الصحيح بخلاف المسألة الأولى وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق أمته
على أن تزوج نفسها منه فقبلت عتقت لأنه أعتقها بعوض فيزول ملكه بقبول العوض كما لو باعها وكما إذا
قال لها أنت حرة على ألف درهم بخلاف ما إذا قال لعبده ان أديت إلى ألفا فأنت حر انه لا يعتق بالقبول ما لم يؤد
لان ذلك ليس بمعاوضة بل هو تعليق وهو تعليق وهو تعليق الحرية بشرط الأداء إليه ولم يوجد الشرط ثم إذا أعتقت بالقبول
فبعد ذلك لا يخلو اما ان زوجت نفسها منه واما ان أبت التزويج فان زوجت نفسها منه ينظر إن كان قد سمى لها
مهرا آخر وهو مال سوى الاعتاق فلها المسمى إذا كان عشرة دراهم فصاعدا وإن كان دون العشرة تكمل
عشرة وان لم يسم لها سوى الاعتاق فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف صداقها اعتاقها ليس
لها غير ذلك (وجه) قوله إن العتق بمعنى المال وبدليل أنه يجوز أخذ العوض عنه بأن أعتق عبده
على مال فجاز أن يكون مهرا ولهما أن العتق ليس بمال حقيقة لان الاعتاق ابطال المالكية فكيف يكون
العتق مالا الا أنه يجوز أخذ عوض هو مال عنه وهذا لا يدل على كونه مالا بنفسه ألا ترى أن الطلاق ليس
بمال ولا يجوز أخذ العوض عنه وكذا القصاص وأخذ البدل عنه جائز ونفس الحر ليست بمال وان أبت
ان تزوج نفسها منه لا تجبر على ذلك لأنها حرة ملكت نفسها فلا تجبر على النكاح لكنها تسعى في قيمتها للمولى
عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر لا سعاية عليها (وجه) قوله إن السعاية إنما تجب لتخليص الرقبة وهذه
حرة خالصة فلا تلزمها السعاية (ولنا) أن المولى ما رضى بزوال ملكه عن رقبتها لا بنفع يقابله وهو تزويج
نفسها منه وهذه منفعة مرغوب فيها وقد تعذر عليه استيفاء هذه المنفعة بمعنى من جهتها وهو اباؤها فيقام بدل
قيمتها مقامها دفعا للضرر عنه وأما قوله السعاية إنما تجب لفكاك الرقبة وتخليصها وهي حرة خالصة فنقول
السعاية قد تكون لتخليص الرقبة وهذا المستسعى يكون في حكم المكاتب على أصل أبي حنيفة وقد تكون لحق
في الرقبة لا لفكاك الرقبة كالعبد المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر كما إذا قال لعبده أنت حر على قيمة
رقبتك فقبل حتى عتق كذا هذا ولو تزوج امرأة على عتق أبيها أو ذي رحم محرم منها أو على عتق عبد أجنبي
عنها فهذا لا يخلو اما ان ذكر فيه كلمة عنها بأن قال أتزوجك على عتق أبيك عنك أو على عتق هذا العبد عنك
وأشار إلى عبد أجنبي عنها واما ان لم يذكر فإن لم يذكر وقبلت عتق العبد والولاء للزوج لا لها لان المعتق
هو الزوج والولاء لمن أعتق على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها مهر مثلها ان لم يكن سمى لها مهرا
آخر هو مال وإن كان قد سمى فلها المسمى لأنه علق العتق بقبولها النكاح فإذا قبلت عتق والعبد لا يصلح مهرا
لأنه ليس بمال فإن كان هناك مال مسمى وجب ذلك لأنه صحت تسميته مهرا فوجب المسمى وان لم يكن
فتسميته العتق مهرا لم يصح لأنه ليس بمال فيجب مهر المثل هذا إذا لم يذكر عنها فاما إذا ذكرت فقبلت عتق
العبد عنها وثبت الولاء لها وصار ذلك مهرا لأنه لما ذكر العتق عنها ولا يكون العتق عنها الا بعد سبق الملك
لها فملكته أولا ثم عتق عنها كمن قال لآخر أعتق عبدك عنى عن كفارة يميني على ألف درهم يجوز ويقع العتق
عن الآمر وحال ما ملكته كان مالا فصلح أن يكون مهرا وهذا إذا تزوجها على العتق فاما إذا تزوجها على
الاعتاق بأن تزوجها على أن يعتق هذا العبد فهذا أيضا لا يخلو من أحد وجهين اما أن ذكر فيه عنها واما
ان لم يذكر فإن لم يذكر فقبلت صح النكاح ولا يعتق العبد ههنا بقبولها لأنه وعد ان يعتق والعتق لا يثبت بوعد
281

الاعتاق وإنما يثبت بالاعتاق فما لم يعتق لا يعتق بخلاف الفصل الأول لان الزواج هناك كان على العتق
لا على الاعتاق ثم إذا أعتقه فعتق فلا يخلو اما ان ذكر كلمة عنها أو لم يذكر فإن كان لم يذكر ثبت الولاء منه
لا منها لان الاعتاق منه لا منها والولاء للمعتق ولها مهر مثلها ان لم يكن هناك مهر آخر مسمى وهو مال وإن كان
فلها ذلك المسمى لان الاعتاق ليس بمال بل هو ابطال المالية سواء كان العبد أجنبيا أو ذا رحم محرم منها
وان ذكر كلمة عنها ثبت الولاء منها لان الاعتاق منها لأنه أعتق عنها ويصير العبد ملكا لها بمقتضى الاعتاق
ثم إن كان ذا رحم محرم منها عتق عليها كما ملكته فتملكه فيعتق عليها وإن كان أجنبيا يصير الزوج وكيلا عنها
في الاعتاق ومنها إذا أعتق كما وعد فان أبى لا يجبر على ذلك لأنه حر مالك الا أنه ينظر ان لم يكن ثمة مسمى هو
مال فلها مهر مثلها لما ذكرنا ان تسمية الاعتاق مهرا لم يصح ولم يوجد تسمية شئ آخر هو مال فتعين مهر المثل
موجبا وإن كان قد سمى لها شيئا آخر هو مال فإن كان المسمى مثل مهر المثل أو أكثر فلها ذلك المسمى لان الزوج
رضى بالزيادة وإن كان أقل من مهر مثلها فإن كان العبد أجنبيا فلها ذلك المسمى لا غير لأنه شرط لها شرطا
لا منفعة لها فيه فلا يكون غارا لها بترك الوفاء بما شرط لها وإن كان ذا رحم محرم منها يبلغ به تمام مهر مثلها
لأنها إنما رضيت بدون مهر مثلها بما شرط ولم تكن راضية فصار غارا لها وهذا إذا لم يقل عنها فاما إذا قال ذلك
بأن تزوجها على أن يعتق هذا العبد عنها فقبلت صح النكاح وصار العبد ملكا ثم إن كان ذا رحم محرم منها
عتق عليها لأنها ملكت ذا رحم محرم منها وكان ذلك مهرا لها لأنها تملكه ثم يعتق عليها وإن كان أجنبيا
يكون الزوج وكيلا عنها بالاعتاق فان أعتق قبل العزل فقد وقع العتق عنها وان عزلته في ذلك صح
العزل والله أعلم
(فصل) ومنها أن لا يكون مجهولا جهالة تزيد على جهالة مهر المثل وجملة الكلام فيه أن المهر في الأصل
لا يخلو اما أن يكون معينا مشارا إليه واما أن يكون مسمى غير معين مشارا إليه فإن كان معينا مشارا إليه
صحت تسميته سواء كان مما يتعين بالتعيين في عقود المعاوضات من العروض والعقار والحيوان وسائر المكيلات
والموزونات سوى الدراهم والدنانير أو كان مما لا يتعين بالتعيين في عقود المعاوضات كالدراهم لأنه مال لا جهالة
فيه الا أنه إن كان مما يتعين بالتعيين ليس للزوج ان يحبس العين ويدفع غيرها من غير رضا المرأة لان المشار
إليه قد تعين للعقد فتعلق حقها بالعين فوجب عليه تسليم عينه وإن كان مما لا يتعين له ان يحبسه ويدفع مثله جنسا
ونوعا وقدرا وصفة لان التعيين إذا لم يصح صار مجازا عوضا من الجنس والنوع والقدر والصفة وإن كان تبرا
مجهولا أو نقرة ذهبا وفضة يجبر على تسليم عينه في رواية لأنه يتعين بالتعيين كالعروض ولا يجبر في رواية لأنه
لا يتعين بالتعيين كالمضروب وإن كان المسمى غير عين فالمسمى لا يخلو اما أن يكون مجهول الجنس
والنوع والقدر والصفة واما أن يكون معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة فإن كان مجهولا كالحيوان
والدابة والثوب والدار بأن تزوج امرأة على حيوان أو دابة أو ثوب أو دار ولم يعين لم تصح التسمية وللمرأة
مهر مثلها بالغا ما بلغ لان جهالة الجنس متفاحشة لان الحيوان اسم جنس تحته أنواع مختلفة وتحت كل نوع
أشخاص مختلفة وكذا الدابة وكذا الثوب لان اسم الثوب يقع على ثوب القطن والكتان والحرير والخز والبز
وتحت كل واحد من ذلك أنواع كثيرة مختلفة وكذا الدار لأنها تختلف في الصغر والكبر والهيئة والتقطيع
وتختلف قيمتها باختلاف البلاد والمحال والسكك اختلافا فاحشا فتفاحشت الجهالة فالتحقت بجهالة الجنس
والأصل أن جهالة العوض تمنع صحة تسميته كما في البيع والإجارة لكونها مفضية إلى المنازعة الا أنه يتحمل
ضرب من الجهالة في المهر بالاجماع فان مهر المثل قد يجب في النكاح الصحيح ومعلوم أن مهر المثل مجهول
ضربا من الجهالة فكل جهالة في المسمى مهرا مثل جهالة مهر المثل أو أقل من ذلك يتحمل ولا يمنع صحة التسمية
282

استدلالا بمهر المثل وكل جهالة تزيد على جهالة مهر المثل يبقى الامر فيها على الأصل فيمنع صحة التسمية كما في سائر
الاعواض إذا ثبت هذا فنقول لا شك ان جهالة الحيوان والدابة والثواب والدار أكثر من جهالة مهر المثل لان
بعد اعتبار تساوى المرأتين في المال والجمال والسن والعقل والدين والبلد والعفة يقل التفاوت بينهما فتقل
الجهالة فاما جهالة الجنس والنوع فجهالة متفاحشة فكانت أكثر جهالة من مهر المثل فتمنع صحة التسمية وإن كان
المسمى معلوم الجنس والنوع مجهول الصفة والقدر كما إذا تزوجها على عبد أو أمة أو فرس أو جمل أو حمار أو ثوب
مروى أو هروى صحت التسمية ولها الوسط من ذلك وللزوج الخيار ان شاء أعطاها الوسط وان شاء أعطاها
قيمته وهذا عندنا وقال الشافعي لا تصح التسمية (وجه) قوله إن المسمى مجهول الوصف فلا تصح تسميته
كما في البيع وهذا لان جهالة الوصف تفضى إلى المنازعة كجهالة الجنس ثم جهالة الجنس تمنع صحة التسمية
فكذا جهالة الوصف (ولنا) أن النكاح معاوضة المال بما ليس بمال والحيوان الذي هو معلوم الجنس
والنوع مجهول الصفة يجوز ان يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال كما في الذمة قال النبي صلى الله عليه
وسلم في النفس المؤمنة مائة من الإبل والبضع ليس بمال فجاز أن يثبت الحيوان دينا في الذمة بدلا عنه ولان
جهالة الوسط من هذه الأصناف مثل جهالة مهر المثل أو أقل فتلك الجهالة لما لم تمنع صحة تسمية البدل فكذا هذه
الا أنه لا تصح تسميته ثمنا في البيع لان البيع لا يحتمل جهالة البدل أصلا قلت أو كثرت والنكاح يحتمل
الجهالة اليسيرة مثل جهالة مهر المثل وإنما كان كذلك لان مبنى البيع على المضايقة والمماكسة فالجهالة فيه
وان قلت تفضى إلى المنازعة ومبنى النكاح على المسامحة والمروءة فجهالة مهر المثل فيه لا تفضى إلى المنازعة
فهو الفرق وأما وجوب الوسط فلان الوسط هو العدل لما فيه من مراعاة الجانبين لان الزوج يتضرر بايجاب
الجيد والمرأة تتضرر بايجاب الردئ فكان العدل في ايجاب الوسط وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم
خير الأمور أوساطها والأصل في اعتبار الوسط في هذا الباب ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال أيما امرأة أنكحت نفسها بغير اذن مواليها فنكاحها باطل فان دخل بها فلها مهر مثل نسائها لا وكس ولا
شطط وكذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في المفوضة أرى لها مهر مثل نسائها لا وكس ولا شطط
والمعنى ما ذكرنا وأما ثبوت الخيار بين الوسط وبين قيمته فلان الحيوان لا يثبت في الذمة ثبوتا مطلقا ألا ترى أنه
لا يثبت دينا في الذمة في معاوضة المال بالمال ولا يثبت في الذمة في ضمان الاتلاف حتى لا يكون مضمونا بالمثل
في الاستهلاك بل بالقيمة فمن حيث إنه يثبت في الذمة في الجملة قلنا بوجوب الوسط منه ومن حيث إنه لا يثبت ثبوتا
مطلقا قلنا يثبت الخيار بين تسليمه وبين تسليم قيمته عملا بالشبهين جميعا ولان الوسط لا يعرف الا بواسطة القيمة
فكانت القيمة أصلا في الاستحقاق فكانت أصلا في التسليم وأما ثبوت الخيار للزوج لا للمرأة فلانه المستحق
عليه فكان الخيار له وكذلك ان تزوجها على بيت وخادم فلها بيت وسط مما يجهز به النساء وهو بيت الثوب
لا المبنى فينصرف إلى فرش البيت في أهل الأمصار وفى أهل البادية إلى بيت الشعر ولها خادم وسط لأن المطلق
من هذه الأصناف ينصرف إلى الوسط لان الوسط منها معلوم بالعادة وجهالته مثل جهالة مهر المثل أو أقل فلا
تمنع صحة التسمية كما لو نص على الوسط ولو وصف شيئا من ذلك بأن قال جيد أو وسط أو ردئ فلها الموصوف
ولو جاء بالقيمة تجبر على القبول لان القيمة هي الأصل ألا ترى أنه لا يعرف الجيد والوسط والردئ الا باعتبار
القيمة فكانت القيمة هي المعرفة بهذه الصفات فكانت أصلا في الوجوب فكانت أصلا في التسليم فإذا جاء بها
تجبر على قبولها ولو تزوجها على وصيف صحت التسمية ولها الوسط من ذلك ولو تزوجها على وصيف أبيض
لا شك أنه تصح التسمية لأنها تصح بدون الوصف فإذا وصف أولى ولها الوصيف الجيد لان الأبيض عندهم
اسم للجيد ثم الجيد عندهم هو الرومي والوسط السندي والردئ الهندي وأما عندنا فالجيد هو التركي والوسط
283

الرومي والردئ الهندي وقد قال أبو حنيفة قيمة الخادم الجيد خمسون دينارا وقيمة الوسط أربعون وقيمة الردئ
ثلاثون وقيمة البيت الوسط أربعون دينارا وقال أبو يوسف ومحمد ان زاد السعر أو نقص فبحسب الغلاء
والرخص وهذا ليس باختلاف في الحقيقة ففي زمن أبي حنيفة كانت القيم مسعرة وفى زمانهما تغيرت القيمة
فأجاب كل على عرف زمانه والمعتبر في ذكر القيمة بلا خلاف ولو تزوجها على بيت وخادم حتى وجب الوسط من
كل واحد منهما ثم صالحت من ذلك زوجها على أقل من قيمة الوسط ستين دينارا أو سبعين دينارا جاز الصلح
لأنها بهذا الصلح أسقطت بعض حقها لان الواجب فيهما ثمانون فإذا صالحت على أقل من ذلك فقد أسقطت
البعض ومن له الحق إذا أسقط بعض حقه واستوفى الباقي جاز ويجوز ذلك بالنقد والنسيئة لما ذكرنا أن الصلح
وقع على عين الحق باسقاط البعض فكان الباقي عين الواجب فجاز فيه التأجيل فان صالحت على مائة دينار
فالفضل باطل لان المسمى إذا لم يكن مسعرا فالقيمة واجبة بالعقد ومن وجب له حق فصالح على أكثر من حقه
لم يجز وإن كان المسمى معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة كما إذا تزوجها على مكيل موصوف أو موزون
موصوف سوى الدراهم والدنانير صحت التسمية لان المسمى مال معلوم لا جهالة فيه بوجه ألا ترى أنه ثبت دينا
في الذمة ثبوتا مطلقا فإنه يجوز البيع به والسلم فيه ويضمن بالمثل فيجبر الزوج على دفعه ولا يجوز دفع عوضه
الا برضا المرأة ولو تزوجها على مكيل أو موزون ولم يصف صحت التسمية لأنه مال معلوم الجنس والنوع فتصح
تسميته فان شاء الزوج أعطاها الوسط من ذلك وان شاء أعطاها قيمته كذا ذكر الكرخي في جامعه وذكر الحسن
عن أبي حنيفة أنه يجبر على تسليم الوسط (وجه) ما ذكره الكرخي أن القيمة أصل في ايجاب الوسط لان
بها يعرف كونه وسطا فكان أصلا في التسليم كما في العبد (وجه) رواية الحسن أن الشرع لما أوجب
الوسط فقد تعين الوسط بتعيين الشرع فصار كما لو عينه بالتسمية ولو سمى الوسط يجبر على تسليمه كذا هذا بخلاف
العبد فان هناك لو سمى الوسط ونص عليه لا يجبر على تسليمه فكذا إذا أوجبه الشرع والله أعلم وأما
الثياب فقد ذكر في الأصل انه إذا تزوجها على ثياب موصوفة انه بالخيار ان شاء سلمها وان شاء سلم قيمتها ولم
يفصل بين ما إذا سمى لها أجلا أو لم يسم وقال أبو يوسف ان أجلها يجبر على دفعها وان لم يؤجلها فلها القيمة
وروى عن أبي حنيفة أنه يجبر على تسليمها من غير هذا التفصيل وهو قول زفر (وجه) ما ذكر في الأصل
أن الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتا مطلقا لأنها ليست من ذوات الأمثال ألا ترى أنها مضمونة بالقيمة لا بالمثل
في ضمان العدوان ولا تثبت في الذمة بنفسها في عقود المعاوضات بل بواسطة الأجل فكانت كالعبيد وهناك
لا يجبر على دفع العبد وله أن يسلم القيمة كذا ههنا وأبو يوسف يقول إذا أجلها فقد صارت بحيث تثبت في
الذمة ثبوتا مطلقا ألا ترى أنها تثبت في الذمة في السلم فيجبر على الدفع بل أولى لان البدل في البيع لا يحتمل
الجهالة رأسا والمهر في النكاح يحتمل ضربا من الجهالة فلما ثبتت في الذمة في البيع فلان تثبت في النكاح أولى
(وجه) الرواية الأخرى لأبي حنيفة ان امتناع ثبوتها في الذمة لمكان الجهالة فإذا وصفت فقد زالت الجهالة
فيصح ثبوتها في الذمة مهرا في النكاح وإنما لا يصح السلم فيها الا مؤجلا لان العلم بها يقف على التأجيل بل لان
السلم لم يشرع الا مؤجلا والأجل ليس بشرط في المهر فكان ثبوتها في المهر غير مؤجلة كثبوتها في السلم مؤجلة
فيجبر على تسليمها ولو قال تزوجتك على هذا العبد أو على ألف أو على الفين فالتسمية فاسدة في قول أبي حنيفة
ويحكم مهر مثلها فإن كان مهر مثلها مثل الأدون أو أقل فلها الأدون الا ان يرضى الزوج بالأرفع وإن كان مهر
مثلها مثل الا رفع فلها الا رفع الا أن ترضى المرأة بالأدون وإن كان مهر مثلها فوق الأدون أو أقل من الا رفع
فلها مهر مثلها وقال أبو يوسف ومحمد التسمية صحيحة ولها الأدون على كل حال (وجه) قولهما ان المصير
إلى مهر المثل عند تعذر ايجاب المسمى ولا تعذر ههنا لأنه يمكن ايجاب الأقل لكونه متيقنا وفى الزيادة شك فيجب
284

المتيقن به وصار كما إذا أعتق عبده على ألف أو الفين أو خالع امرأته على ألف أو ألفين أنه تصح التسمية وتجب
الألف كذا هذا ولأبي حنيفة انه جعل المهر أحد المذكورين غير عين لان كلمة أو تتناول أحد المذكورين غير
عين وأحدهما غير عين مجهول فكان المسمى مجهولا وهذه الجهالة أكثر من جهالة مهر المثل ألا ترى أن كلمة أو
تدخل بين أقل الأشياء وأكثرها فتمنع صحة التسمية فيحكم مهر المثل لأنه الموجب الأصلي في هذا الباب فلا
يعدل عنه الا عند صحة التسمية ولا صحة الا بتعيين المسمى ولم يوجد فيجب مهر المثل لأنه لا ينقص عن الأدون
لان الزوج رضى بذلك القدر ولا يزاد على الا رفع لرضا المرأة بذلك القدر ولا يلزم على هذا ما إذا تزوجها على
هذا العبد أو على هذا العبد ان الزوج بالخيار في أن يدفع أيهما شاء أو على أن المرأة بالخيار في ذلك تأخذ أيهما
شاءت انه تصح التسمية وإن كان المسمى مجهولا لان تلك الجهالة يمكن رفعها ألا ترى أنها ترتفع باختيار من له
الخيار فقلت الجهالة فكانت كجهالة مهر المثل أو أقل من ذلك فلا تمنع صحة التسمية ههنا لا سبيل إلى إزالة هذه
الجهالة لأنه إذا لم يكن فيه خيار كان لكل واحد منهما ان يختار غير ما يختاره صاحبه ففحشت الجهالة فمنعت
صحة التسمية بخلاف الاعتاق والخلع لأنه ليس لهما موجب أصلى يصار إليه عند وقوع الشك في المسمى فوجب
المتيقن من المسمى لان ايجابه أولى من الايقاع مجانا بلا عوض أصلا لعدم رضا المولى والزوج بذلك وفيما
نحن فيه له موجب أصلى فلا يعدل عنه الا عند تعين المسمى ولا تعين مع الشك بادخال كلمة الشك فالتحقت التسمية
بالعدم فبقي الموجب الأصلي واجب المصير إليه ولو تزوج امرأة على ألف ان لم يكن له امرأة وعلى ألفين إن كانت
له امرأة أو تزوجها على ألف ان لم يخرجها من بلدها وعلى ألفين ان أخرجها من بلدها أو تزوجها على ألف إن كان
ت مولاة وعلى ألفين إن كانت عربية وما أشبه ذلك فلا شك أن النكاح جائز لان النكاح
المؤبد الذي لا توقيت فيه لا تبطله الشروط الفاسدة لما قلنا إن الشروط لو أثرت لأثرت في المهر
بفساد التسمية وفساد التسمية لا يكون فوق العدم ثم عدم التسمية رأسا لا يوجب فساد النكاح ففسادها
أولى وأما المهر فالشرط الأول جائز بلا خلاف فان وقع الوفاء به فلها ما سمى على ذلك الشرط وان لم يقع
الوفاء به فإن كان على خلاف ذلك أو فعل خلاف ما شرط لها فلها مهر مثلها لا ينقص من الأصل ولا يزاد
على الأكثر وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد الشرطان جائزان وقال زفر الشرطان فاسدان وهذه فريعة
مسألة مشهورة في الإجارات وهو أن يدفع رجل ثوبا إلى الخياط فيقول إن خيطته اليوم فلك درهم وان خيطته
غدا فلك نصف درهم (وجه) قول زفر ان كل واحد من الشرطين يخالف الآخر فأوجب ذلك جهالة
التسمية فتصح التسميتان كما إذا قال للخياط ان خيطته روميا فبدرهم وان خيطته فارسيا فبنصف درهم ولأبي
حنيفة أن الشرط الأول وقع صحيحا بالاجماع وموجبه رد مهر المثل ان لم يقع الوفاء به فكانت التسمية الأولى
صحيحة فلو صح الشرط الثاني لكان نافيا موجب الشرط الأول والتسمية الأولى والتسمية بعد ما صحت لا يجوز
نفى موجبها فبطل الشرط الثاني ضرورة وقال إن ما شرط الزوج من طلاق المرأة وترك الخروج من البلد
لا يلزمه في الحكم لان ذلك وعد وعد لها فلا يكلف به وعلى هذا يخرج ما إذا تزوجها على حكمه أو حكم أجنبي
أن التسمية فاسدة لان المحكوم به مجهول وجهالته أكثر من جهالة مهر المثل فيمنع صحة التسليم ثم إن كان التزوج
على حكم الزوج ينظر ان حكم بمهر مثلها أو أكثر فلها ذلك لأنه رضى ببذل الزيادة وان حكم بأقل من مهر مثلها
فلها مهر مثلها الا أن ترضى بالأقل وإن كان التزوج على حكمها فان حكمت بمهر مثلها أو أقل فلها ذلك لأنها
رضيت باسقاط حقها وان حكمت بأكثر من مهر مثلها لم تجز الزيادة لان المستحق هو مهر المثل الا إذا رضى
الزوج بالزيادة وإن كان التزوج على حكم أجنبي فان حكم بمهر المثل جاز وان حكم بأكثر من مهر المثل يتوقف
على رضا الزوج وان حكم بأقل من مهر المثل يتوقف على رضا المرأة لان المستحق هو مهر المثل والزوج لا يرضى
285

بالزيادة والمرأة لا ترضى بالنقصان فلذلك توقف الامر في الزيادة والنقصان على رضاهما فان تزوجها على
ما يكسب العام أو يرث فهذه تسمية فاسدة لان جهالة هذا أكثر من جهالة مهر المثل وقد انضم إلى الجهالة الخطر
لأنه قد يكسب وقد لا يكسب ثم الجهالة بنفسها تمنع صحة التسمية فمع الخطر أولى ولو تزوج امرأتين على صداق
واحد يجوز الا أن يقول تزوجتكما على ألف درهم فقبلتا فالنكاح جائز لا شك فيه ويقسم الألف بينهما على
قدر مهر مثليهما لأنه جعل الألف بدلا عن بضعيهما والبدل يقسم على قدر قيمة المبدل والمبدل هو البضع فيقسم
البدل على قدر قيمته وقيمته مهر المثل كما لو اشترى عبدين بألف درهم انه يقسم الثمن على قدر قيمتهما كذا هذا
فان قبلت أحدهما دون الأخرى جاز النكاح في التي قبلت بخلاف البيع فإنه إذا قال بعت هذا العبد منكما فقبل
أحدهما ولم يقبل الآخر لم يجز البيع أصلا والفرق انه لما قال تزوجتكما فقد جعل قبول كل واحدة منهما شرطا
لقبول الأخرى والنكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكان ادخال الشرط فيه فاسدا والنكاح لا يفسد بالشرط
الفاسد والبيع يفسد به وإذا جاز النكاح تقسم الألف على قدر مهر مثلهما لما قلنا فما أصاب حصة التي قبلت
فلها ذلك القدر والباقي يعود إلى الزوج وإن كانت إحداهما ذات زوج أو في عدة من زوج أو كانت ممن
لا يحل له نكاحها فان جميع الألف التي يصح نكاحها في قول أبي حنيفة وعندهما تقسم الألف على قدر مهر
مثليهما فما أصاب حصة التي صح نكاحها فلها ذلك والباقي يعود إلى الزوج (وجه) قولهما انه جعل
الألف مهرا لهما جميعا وكل واحدة منهما صالح للنكاح حقيقة لكونها قابلة للمقاصد المطلوبة منه حقيقة
الا أن المحرمة منهما لا تزاحم صاحبتها في الاستحقاق لخروجها من أن تكون محلا لذلك شرعا مع قيام المحلية حقيقة
فيجب اظهار أثر المحلية الحقيقية في الانقسام ولأبي حنيفة أن المهر يقابل ما يستوفى بالوطئ وهو منافع البضع وهذا
العقد في حق المحرمة لا يمكن من استيفاء المنافع لخروجها من أن تكون محلا للعقد شرعا والموجود الذي لا ينتفع
به والعدم الأصلي سواء فيجعل ذلك المهر بمقابلة الأجنبية كما إذا جمع بين المرأة والاتان وقال تزوجتكما على
ألف درهم فان دخل الزوج بالتي فسد نكاحها ففي قياس قول أبي حنيفة لها مهر مثلها بالغا ما بلغ لأنه لا تعتبر
التسمية في حقها فالتحقت التسمية بالعدم وفى قياس قول أبى يوسف ومحمد لها مهر مثلها لا يجاوز حصتها
من الألف لأنهما لا يعتبران التسمية في حقهما في حق الانقسام والله عز وجل اعلم وعلى هذا تخرج تسمية المهر
على السمعة والرياء انها تصح أو لا تصح وجملة الكلام فيه أن السمعة في المهر اما أن تكون في قدر المهر واما أن
تكون في جنسه فإن كانت في قدر المهر بأن تواضعا في السر والباطن واتفقا على أن يكون المهر ألف درهم لكنهما
يظهر ان في العقد ألفين لأمر حملهما على ذلك فإن لم يقولا ألف منهما سمعة فالمهر ما ذكراه في العلانية وذلك الفان
لان المهر ما يكون مذكورا في العقد والألفان مذكورتان في العقد فإذا لم يجعلا الألف منهما سمعة صحت
تسمية الألفين وان قالا الألف منهما سمعة فالمهر ما ذكراه في السر وهو الألف في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة
وهو قول أبى يوسف ومحمد وروى عن أبي حنيفة أن المهر ما أظهراه وهو الألفان (وجه) هذه الرواية أن
المهر هو المذكور في العقد لأنه اسم لما يملك به البضع والذي يملك به البضع هو المذكور في العقد وانه يصلح أن
يكون مهرا لأنه مال معلوم فتصح تسميته ويصير مهرا ولا تعتبر المواضعة السابقة (وجه) ظاهر الرواية
انهما لما قالا الألف منهما سمعة فقد هزلا بذلك قدر الألف حيث لم يقصدا به مهرا والمهر مما يدخله الجد والهزل
ففسدت تسميته قدر الألف والتحقت بالعدم فبقي العقد على ألف وإن كانت السمعة من جنس المهريات
تواضعا واتفقا في السر والباطن على أن يكون المهر ألف درهم ولكنهما يظهران في العقد مائة دينار فإن لم يقولا
رياء وسمعة فالمهر ما تعاقدا عليه لما قلنا وان قالا رياء وسمعة فتعاقدا على ذلك فلها مهر مثلها في ظاهر الرواية
عن أبي حنيفة ورواية عنه أن لها مهر العلانية مائة دينار (وجه) هذه الرواية على نحو ما ذكرنا أن المائة
286

دينار هي المذكورة في العقد والمهر اسم للمذكور في العقد لما بينا فيعتبر المذكور ولا تعتبر المواضعة السابقة (وجه)
ظاهر الرواية ان ما تواضعا عليه وهو الألف لم يذكراه في العقد وما ذكراه وهو المائة دينار ما تواضعا عليه فلم توجد
التسمية فيجب مهر المثل كما لو تزوجها ولم يسم لها مهر هذا الذي ذكرنا إذا لم يتعاقدا في السر والباطن على
أن يكون للمهر قدرا وجنس ثم يتعاقدا على ما تواضعا واتفقا عليه فأما إذا تعاقدا في السر على قدر من المهر أو جنس منه
ثم اتفقا وتواضعا في السر على أن يظهرا في عقد العلانية أكثر من ذلك أو جنسا آخر فإن لم يذكرا في المواضعة السابقة
ان ذلك سمعة فالمهر ما ذكراه في العلانية في قول أبي حنيفة ومحمد ويكون ذلك زيادة على المهر الأول سواء كان
من جنسه أو من خلاف جنسه فإن كان من خلاف جنسه فجميعه يكون زيادة على المهر الأول وإن كان من
جنسه فقدر الزيادة على المهر الأول يكون زيادة وروى عن أبي يوسف أنه قال المهر مهر السر (وجه)
قوله أن المهر ما يكون مذكورا في العقد والعقد هو الأول لان النكاح لا يحتمل الفسخ والإقالة فالثاني لا يرفع
الأول فلم يكن الثاني عقدا في الحقيقة فلا يعتبر المذكور عنده فكان المهر هو المذكور في العقد الأول (وجه)
قولهما انهما قصدا شيئين استئناف العقد وزيادة في المهر واستئناف العقد لا يصح لان النكاح لا يحتمل الفسخ
والزيادة صحيحة فصار كأنه زاد ألفا أخرى أو مائة دينار وان ذكرا في المواضعة السابقة أن الزيادة أو الجنس
الآخر سمعة فالمهر هو المذكور في العقد الأول والمذكور في العقد الثاني لغو لأنهما هزلا به حيث جعلاه
سمعة والهزل يعمل في المهر فيبطله والله أعلم
* (فصل) * ومنها أن يكون النكاح صحيحا فلا تصح التسمية في النكاح الفاسد حتى لا يلزم المسمى لان
ذلك ليس بنكاح لما نذكر إن شاء الله تعالى الا أنه إذا وجد الدخول يجب مهر المثل لكن بالوطئ لا بالعقد
على ما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى ولو تزوج امرأة على جارية بعينها واستثنى ما في بطنها فلها الجارية وما في
بطنها ذكره الكرخي والطحاوي من غير خلاف لان تسمية الجارية مهرا قد صحت لأنها مال معلوم واستثناء
ما في بطنها لم يصح لان الجنين في حكم جزء من أجزائها فاطلاق العقد على الام يتناوله فاستثناؤه يكون بمنزلة شرط
فاسد والنكاح لا يحتمل شرطا فاسدا فيلغو الاستثناء ويلتحق بالعدم كأنه لم يستثن رأسا وكذلك إذا وهب
جارية واستثنى ما في بطنها أو خالع أو صالح من دم العمد لأن هذه التصرفات لا تبطلها الشروط الفاسدة ولو تزوج
امرأة على جارية فاستحقت وهلكت قبل التسليم فلها قيمتها لان التسمية قد صحت لكون المسمى مالا متقوما
معلوما فالعقد انعقد موجب التسليم بالاستحقاق والهلاك لأنه عجز عن تسليمها فتجب قيمتها بخلاف البيع إذا
هلك المبيع قبل التسليم إلى المشترى أنه لا يغرم البائع قيمته وإنما يسقط الثمن لا غير لان هلاك المبيع يوجب
بطلان البيع وإذا بطل البيع لم يبق وجوب التسليم فلا تجب القيمة ثم تفسير مهر المثل هو أن يعتبر مهرها بمهر مثل
نسائها من أخواتها لأبيها وأمها أو لأبيها وعماتها وبنات أعمامها في بلدها وعصرها على مالها وجمالها وسنها
وعقلها ودينها لان الصداق يختلف باختلاف البلدان وكذا يختلف باختلاف المال والجمال والسن والعقل
والدين فيزداد مهر المرأة لزيادة مالها وجمالها وعقلها ودينها وحداثة سنها فلا بد من المماثلة بين المرأتين في هذه
الأشياء ليكون الواجب لها مهر مثل نسائها إذ لا يكون مهر المثل بدون المماثلة بينهما ولا يعتبر مهرها بمهر أمها
ولا بمهر خالتها الا أن تكون من قبيلتها من بنات أعمامها لان المهر يختلف بشرف النسب والنسب من الآباء
لا من الأمهات فإنما يحصل لها شرف النسب من قبيل أبيها أو قبيلته لا من قبل أمها وعشيرتها والله أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يجب به المهر وبيان وقت وجوبه وكيفية وجوبه وما يتعلق بذلك من الأحكام
فنقول وبالله التوفيق المهر في النكاح الصحيح يجب بالعقد لأنه احداث الملك والمهر يجب بمقابلة احداث
الملك ولأنه عقد معاوضة وهو معاوضة البضع بالمهر فيقتضى وجوب العوض كالبيع سواء كان المهر مفروضا
287

في العقد أو لم يكن عندنا وعند الشافعي إن كان مفروضا لا يجب بنفس العقد وإنما يجب بالفرض أو بالدخول
على ما ذكرنا فيما تقدم وفى النكاح الفاسد يجب المهر لكن لا بنفس العقد بل بواسطة الدخول لعدم حدوث الملك
قبل الدخول أصلا وعدم حدوثه بعد الدخول مطلقا ولانعدام المعاوضة قبل الدخول رأسا وانعدامها بعد
الدخول مطلقا لما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه ويجب عقيب العقد بلا فصل لما ذكرنا انه يجب باحداث
الملك والملك يحدث عقيب العقد بلا فصل ولان المعاوضة المطلقة تقتضي ثبوت الملك في العوضين في وقت واحد
وقد ثبت الملك في أحد العوضين وهو البضع عقيب العقد فيثبت في العوض الآخر عقيبه تحقيقا للمعاوضة المطلقة الا
أنه يجب بنفس العقد وجوبا موسعا وإنما يتضيق عند المطالبة كالثمن في باب البيع انه يجب بنفس البيع
وجوبا موسعا وإنما يتضيق عند مطالبة البائع وإذا طالبت المرأة بالمهر يجب على الزوج تسليمه أولا لان حق
الزوج في المرأة متعين وحق المرأة في المهر لم يتعين بالعقد وإنما يتعين بالقبض فوجب على الزوج التسليم عند
المطالبة ليتعين كما في البيع أن المشترى يسلم الثمن أولا ثم يسلم البائع المبيع الا أن الثمن في باب البيع إذا كان
دينا يقدم تسليمه على تسليم المبيع ليتعين وإن كان عينا يسلمان معا وههنا يقدم تسليم المهر على كل حال سواء
كان دينا أو عينا لان القبض والتسلم ههنا معا متعذر ولا تعذر في البيع وإذا ثبت هذا فنقول للمرأة قبل دخول
الزوج بها ان تمنع الزوج عن الدخول حتى يعطيها جميع المهر ثم تسلم نفسها إلى زوجها وإن كانت قد انتقلت
إلى بيت زوجها لما ذكرنا ان بذلك يتعين حقها فيكون تسليما بتسليم ولان المهر عوض عن بضعها كالثمن
عوض عن المبيع وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن فكان للمرأة حق حبس نفسها لاستيفاء المهر وليس
للزوج منعها عن السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها قبل ايفاء المهر لان حق الحبس إنما يثبت لاستيفاء
المستحق فإذا لم يجب عليها تسليم النفس قبل ايفاء المهر لم يثبت للزوج حق الاستيفاء فلا يثبت له حق الحبس وإذا
أوفاها المهر فله أن يمنعها من ذلك كله الا من سفر الحج إذا كان عليها حجة الاسلام ووجدت محرما وله أن
يدخل بها لأنه إذا أوفاها حقها يثبت له حق الحبس لاستيفاء المعقود عليه فان أعطاها المهر الا درهما واحدا فلها أن
تمنع نفسها وان تخرج من مصرها حتى تقبضه لان حق الحبس لا يتجزأ فلا يبطل الا بتسليم كل البدل كما في
لبيع ولو خرجت لم يكن للزوج ان يسترد منها ما قبضت لأنها قبضته بحق لكون المقبوض حقا لها والمقبوض
بحق لا يحتمل النقض هذا إذا كان المهر معجلا بأن تزوجها على صداق عاجل أو كان مسكوتا عن التعجيل
والتأجيل لان حكم المسكوت حكم المعجل لان هذا عقد معاوضة فيقتضى المساواة من الجانبين والمرأة عينت حق
الزوج فيجب أن يعين الزوج حقها وإنما يتعين بالتسليم فأما إذا كان مؤجلا بأن تزوجها على مهر آجل فإن لم
يذكر الوقت لشئ من المهر أصلا بأن قال تزوجتك على ألف مؤجلة أو ذكر وقتا مجهولا جهالة متفاحشة بأن
قال تزوجتك على ألف إلى وقت الميسرة أو هبوب الرياح أو إلى أن تمطر السماء فكذلك لان التأجيل لم يصح
لتفاحش الجهالة فلم يثبت الأجل ولو قال نصفه معجل ونصفه مؤجل كما جرت العادة في ديارنا ولم يذكر الوقت
للمؤجل اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يجوز الأجل ويجب حالا كما إذا قال تزوجتك على ألف مؤجلة وقال
بعضهم يجوز ويقع ذلك على وقت وقوع الفرقة بالطلاق أو الموت وروى عن أبي يوسف ما يؤيد هذا
القول وهو أن رجلا كفل لامرأة عن زوجها نفقة كل شهر ذكر في كتاب النكاح انه يلزمه نفقة شهر
واحد في الاستحسان وذكر عن أبي يوسف انه يلزمه نفقة كل شهر ما دام النكاح قائما بينهما فكذلك ههنا وان
ذكر وقتا معلوما للمهر فليس لها أن تمنع نفسها في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف أخيرا لها أن تمنع نفسها
سواء كانت المدة قصيرة أو طويلة بعد إن كانت معلومة أو مجهولة جهالة متقاربة كجهالة الحصاد
والدياس (وجه) قول أبى يوسف ان من حكم المهر أن يتقدم تسليمه على تسليم النفس بكل حال ألا ترى
288

انه لو كان معينا أو غير معين وجب تقديمه فلما قبل الزوج التأجيل كان ذلك رضا بتأخير حقه في القبض بخلاف
البائع إذا أجل الثمن أنه ليس له ان يحبس المبيع ويبطل حقه في الحبس بتأجيل الثمن لأنه ليس من حكم الثمن تقديم
تسليمه على تسليم المبيع لا محالة ألا ترى أن الثمن إذا كان عينا يسلمان معا فلم يكن قبول المشترى التأجيل رضا منه
باسقاط حقه في القبض وجه قولهما أن المرأة بالتأجيل رضيت باسقاط حق نفسها فلا يسقط حق الزوج كالبائع
إذا أجل الثمن أنه يسقط حق حبس المبيع بخلاف ما إذا كان التأجيل إلى مدة مجهولة جهالة متفاحشة لان التأجيل ثمة
لم يصح فلم يثبت الأجل فبقي المهر حالا وأما قوله من شأن المهر أن يتقدم تسليمه على تسليم النفس فنقول نعم إذا كان
معجلا أو مسكوتا عن الوقت فاما إذا كان مؤجلا تأجيلا صحيحا فمن حكمه ان يتأخر تسليمه عن تسليم النفس لان
تقديم تسليمه ثبت حقا لها لأنه ثبت تحقيقها للمعاوضة المقتضية للمساواة حقا لها فإذا أجلته فقد أسقطت حق نفسها فلا
يسقط حق زوجها لانعدام الاسقاط منه والرضا بالسقوط لهذا المعنى سقط حق البائع في الحبس بتأجيل الثمن
كذا هذا ولو كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا أجلا معلوما فله أن يدخل بها إذا أعطاها الحال بالاجماع أما عندهما
فلان الكل لو كان مؤجلا لكان له أن يدخل بها فإذا كان البعض معجلا وأعطاها ذلك أولى والفقه ما ذكرنا أن الزوج
ما رضى باسقاط حقه فلا يسقط حقه وأما عند أبي يوسف فلانه لما عجل البعض فلم يرض بتأخير حقه عن القبض
لأنه لو رضى بذلك لم يكن لشرط التعجيل فائدة بخلاف ما إذا كان الكل مؤجلا لأنه لما قبل التأجيل فقد رضى
بتأخير حقه ولو لم يدخل بها حتى حل أجل الباقي فله ان يدخل بها إذا أعطاها الحال لما قلنا ولو كان الكل مؤجلا أجلا
معلوما وشرط أن يدخل بها قبل أن يعطيها كله فله ذلك عند أبي يوسف أيضا لأنه لما شرط الدخول لم يرض بتأخير
حقه في الاستمتاع ولو كان المهر مؤجلا أجلا معلوما فحل الأجل ليس لها أن تمنع نفسها لتستوفى المهر على أصل أبي حنيفة
ومحمد لان حق الحبس قد سقط بالتأجيل والساقط لا يحتمل العود كالثمن في المبيع وعلى أصل أبى يوسف لها
أن تمنع نفسها لان لها أن تمنع قبل حلول الأجل فبعده أولى ولو كان المهر حالا فاخرته شهرا ليس لها أن تمنع عندهما
وعنده لها ذلك لان هذا تأجيل طارئ فكان حكمه حكم التأجيل المقارن وقد مر الكلام فيه ولو دخل الزوج بها
برضاها وهي مكلفة فلها أن تمنع نفسها حتى تأخذ المهر ولها أن تمنعه أن يخرجها من بلدها في قول أبي حنيفة وقال أبو
يوسف ومحمد ليس لها ذلك وعلى هذا الخلاف إذا خلا بها وجه قولهما انها بالوطئ مرة واحدة أو بالخلوة
الصحيحة سلمت جميع المعقود عليه برضاها وهي من أهل التسليم فبطل حقها في المنع كالبائع إذا سلم المبيع ولا
شك في الرضا وأهلية التسليم والدليل على أنها سلمت جميع المعقود عليه أن المعقود عليه في هذا الباب في حكم
العين ولهذا يتأكد جميع المهر بالوطئ مرة واحدة ومعلوم أن جميع البدل لا يتأكد بتسليم بعض المعقود
عليه وما يتكرر من الوطئات ملتحق بالاستخدام فلا يقابله شئ من المهر ولأبي حنيفة أن المهر مقابل بجميع
ما يستوفى من منافع البضع في جميع الوطئات التي توجد في هذا الملك لا بالمستوفى بالوطئة الأولى خاصة
لأنه لا يجوز اخلاء شئ من منافع البضع عن بدل يقابله احتراما للبضع وإبانة لخطره فكانت هي بالمنع ممتنعة عن تسليم
ما يقابله بدل فكان لها ذلك بالوطئ في المرة الأولى فكان لها أن تمنعه عن الأول حتى تأخذ مهرها فكذا عن
الثاني والثالث الا أن المهر يتأكد بالوطئ مرة واحدة لأنه موجود معلوم وما وراءه معدوم مجهول فلا يزاحمه في
الانقسام ثم عند الوجود يتعين قطعا فيصير مزاحما فيأخذ قسطا من البدل كالعبد إذا جنى جناية يجب دفعه بها فان
جنى جناية أخرى فالثانية تزاحم الأولى عند وجودها في وجوب الدفع بها وكذا الثالثة والرابعة إلى ما لا يتناهى
بخلاف البائع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن أو بعد ما قبض شيئا منه ثم أراد أن يسترد أنه ليس له ذلك لأنه سلم كل المبيع
فلا يملك الرجوع فيما سلم وههنا ما سلمت كل المعقود عليه بل البعض دون البعض لان المعقود عليه منافع البضع وما
سلمت كل المنافع بل بعضها دون البعض فهي بالمنع تمتنع عن تسليم ما لم يحصل مسلما بعد فكان لها ذلك كالبائع إذا
289

سلم بعض المبيع قبل استيفاء الثمن كان له حق حبس الباقي ليستوفى الثمن كذا هذا وكان أبو القاسم الصفار يفتى في منعها
نفسها بقول أبى يوسف ومحمد وفى السفر بقول أبي حنيفة وبعد ايفاء المهر كان له أن ينقلها حيث شاء وحكى الفقيه أبو
جعفر الهندواني عن محمد بن سلمة أنه كان يفتى أن بعد تسليم المهر ليس لزوجها أن يسافر بها قال أبو يوسف ولو وجدت
المرأة المهر زيوفا أو ستوقا فردت أو كان المقبوض عرضا اشترته من الزوج بالمهر فاستحق بعد القبض وقد كان دخل
بها فليس لها أن تمنع نفسها في جميع ذلك وهذا على أصلهما مستقيم لان من أصلهما أن التسليم من غير قبض المهر يبطل
حق المنع وهذا تسليم من غير قبض لان ذلك القبض بالرد والاستحقاق انتقض والتحق بالعدم فصار كأنها لم تقبضه
وقبل القبض الجواب هكذا عندهما وأما عند أبي حنيفة فينبغي أن يكون لها أن تمنع نفسها ثم فرق أبو يوسف بين هذا
وبين المنع أنه إذا استحق الثمن من يد البائع أو وجده زيوفا أو ستوقا فرده له أن يسترد المبيع فيحبسه لان البائع بعد
لاسترداد يمكنه الحبس على الوجه الذي كان قبل ذلك وأما ههنا لا يمكنه لأنه استوفى بعض منافع البضع فلا يكون
هذا الحبس مثل الأول فلا يعود حقها في الحبس ومما يلتحق بهذا الفصل أن للمرأة أن تهب مهرها للزوج دخل بها
أو لم يدخل لقوله عز وجل فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وليس لأحد من أوليائها الاعتراض
عليها سواء كان أبا أو غيره لأنها وهبت خالص ملكها وليس لأحد في عين المهر حق فيجوز ويلزم بخلاف ما إذا
زوجت نفسها وقصرت عن مهر مثلها أن للأولياء حق الاعتراض في قول أبي حنيفة لان الامهار حق الأولياء فقد
تصرفت في خالص حقهم ولأنها ألحقت الضرر بالأولياء بالحاق العار والشنار بهم فلهم دفع هذا الضرر بالاعتراض
والفسخ وليس للأب ان يهب مهر ابنته عند عامة العلماء وقال بعضهم له ذلك وتمسكوا بقوله تعالى أو يعفوالذي بيده
عقدة النكاح والأب بيده عقدة النكاح ولنا أن المهر ملك المرأة وحقها لأنه بدل بضعها وبضعها حقها وملكها والدليل
عليه قوله عز وجل وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أضاف المهر إليها فدل أن المهر حقها وملكها وقوله عز وجل فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقوله تعالى منه أي من الصداق لأنه هو المكنى السابق أباح للأزواج
التناول من مهور النساء إذا طابت أنفسهن بذلك ولذا علق سبحانه وتعالى الإباحة بطيب أنفسهن فدل ذلك كله على
أن مهرها ملكها وحقها وليس لأحد أن يهب ملك الانسان بغير اذنه ولهذا لا يملك الولي هبة غيره من أموالها فكذا
المهر وأما الآية الشريفة فقد قيل أن المراد من الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج كذا روى عن علي رضي الله عنه
وهو احدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ويجوز أن يحمل قول من صرف التأويل إلى الولي على بيان نزول
الآية على ما قيل أن حين النزول كان المهور للأولياء ودليله قول شعيب لموسى عليهما الصلاة والسلام انى أريد أن
أنكحك احدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج شرط المهر لنفسه لا لابنته ثم نسخ بما تلونا من الآيات وللمولى
أن يهب صداق أمته ومدبرته وأم ولده من زوجها لان المهر ملكه وليس له أن يهب مهر مكاتبته ولو وهب لا يبرأ الزوج
ولا يدفعه إلى المولى لان مهر المكاتبة لها لا للمولى لأنه من اكسابها وكسب المكاتب له لا لمولاه وتجوز الزيادة في المهر إذا
تراضيا بها والحط عنه إذا رضيت به لقوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة رفع الجناح فيما تراضيا به
الزوجان بعد الفريضة وهو التسمية وذلك هو الزيادة في المهر والحط عنه وأحق ما تصرف إليه الآية الزيادة لأنه ذكر
لفظة التراضي وأنه يكون بين اثنين ورضا المرأة كان في الحط ولان الزيادة تلحق العقد ويصير كأن العقد ورد على
الأصل والزيادة جميعا كالخيار في باب البيع والأجل فيه فان من اشترى من آخر عبدا بيعا باتا ثم إن أحدهما جعل
لصاحبه الخيار يوما جاز ذلك حتى لو نقض البيع جاز نقضه ويصير ذلك كالخيار المشروط في أصل البيع وكذا إذا
اشترى عبدا بألف درهم حالة ثم إن البائع أجل المشترى في الثمن شهرا جاز التأجيل ويصير كأنه كان مسمى في العقد كذا
ههنا ولا يثبت خيار الرؤية في المهر حتى لو تزوج امرأة على عبد بعينه أو جارية بعينها ولم تره ثم رأته ليس لها أن ترده بخيار
الرؤية لان النكاح لا ينفسخ برده فلو ردت لرجعت عليه بعبد آخر وثبت لها فيه خيار الرؤية فترده ثم ترجع عليه بآخر
290

إلى ما لا يتناهى فلم يكن الرد مفيد الخلوة عن العاقبة الحميدة فكان سفها فلا يثبت لها حق الرد وكذلك الخلع والاعتاق
على مال والصلح عن دم العمد لما قلنا بخلاف البيع انه يثبت فيه خيار الرؤية لان البيع ينفسخ برد المبيع ويرجع
بالثمن فكان الرد مفيدا لذلك افترقا وهل يثبت خيار العيب في المهر ينظر في ذلك إن كان العيب يسيرا لا يثبت وإن كان
فاحشا يثبت وكذلك هذا في بدل الخلع والاعتاق على مال والصلح عن دم العمد بخلاف البيع والإجارة وبدل
الصلح على مال انه يرد بالعيب اليسير والفاحش لان هناك ينفسخ العقد برده وههنا لا ينفسخ وإذا لم ينفسخ فيقبض
مثله فربما يجد فيه عيبا يسيرا أيضا لان الأعيان لا تخلو عن قليل عيب عادة فيرده ثم يقبض مثله فيؤدى إلى
ما لا يتناهى فلا يفيد الرد وهذا المعنى لا يوجد في البيع والإجارة لأنه ينفسخ العقد بالرد فكان الرد مفيدا ولان حق
الرد بالعيب إنما يثبت استدراكا للفائت وهو صفة السلامة المستحقة بالعقد والعيب إذا كان يسيرا لا يعرف
الفوات بيقين لان العيب اليسير يدخل تحت تقويم المقومين لا يخلو عنه فمن مقوم يقومه بدون العيب بألف ومن
مقوم يقومه مع العيب بألف أيضا فلا يعلم فوات صفة السلامة بيقين فلا حاجة إلى الاستدراك بالرد بخلاف
العيب الفاحش لأنه لا يختلف فيه المقومون فكان الفوات حاصلا بيقين فتقع الحاجة إلى استدراك الفائت بالرد
الا أن هذا المعنى الأخير يشكل بالبيع وأخواته فان العيب اليسير فيها يوجب حق الرد وإن كان هذا المعنى
موجودا فيها فالأصح هو الوجه الأول ولا شفعة في المهر لان من شرائط ثبوت حق الشفعة معاوضة المال بالمال
لما نذكره في كتاب الشفعة إن شاء الله تعالى والنكاح معاوضة البضع بالمال فلا يثبت فيه حق الشفعة
* (فصل) * (وأما) بيان ما يتأكد به المهر فالمهر يتأكد بأحد معان ثلاثة الدخول والخلوة الصحيحة وموت
أحد الزوجين سواء كان مسمى أو مهر المثل حتى لا يسقط شئ منه بعد ذلك الا بالابراء من صاحب الحق
أما التأكد بالدخول فمتفق عليه والوجه فيه أن المهر قد وجب بالعقد وصار دينا في ذمته والدخول لا يسقطه لأنه
استيفاء المعقود عليه واستيفاء المعقود عليه يقرر البدل لا أن يسقطه كما في الإجارة ولان المهر يتأكد بتسليم المبدل
من غير استيفائه لما نذكر فلان يتأكد بالتسليم مع الاستيفاء أولى (وأما) التأكد بالخلوة فمذهبنا وقال الشافعي
لا يتأكد المهر بالخلوة حتى لو خلا بها خلوة صحيحة ثم طلقها قبل الدخول بها في نكاح فيه تسمية يجب عليه كمال
المسمى عندنا وعنده نصف المسمى وان لم يكن في النكاح تسمية يجب عليه كمال مهر المثل عندنا وعنده يجب
عليه المتعة وعلى هذا الاختلاف وجوب العدة بعد الخلوة قبل الدخول عندنا تجب وعنده لا تجب واحتج بقوله
تعالى وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم أوجب الله تعالى نصف
المفروض في الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية لان المراد من المس هو الجماع ولم يفصل بين حال وجود
الخلوة وعدمها فمن أوجب كل المفروض فقد خالف النص وقوله تعالى لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن
أو تفرضوا لهن أي ولم تفرضوا لهن فريضة فمتعوهن أوجب تعالى لهن المتعة في الطلاق في نكاح لا تسمية فيه
مطلقا من غير فصل بين حال وجود الخلوة وعدمها وقوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن فدلت الآية الشريفة على نفى وجوب
العدة ووجوب المتعة قبل الدخول من غير فصل ولان تأكد المهر يتوقف على استيفاء المستحق بالعقد وهو
منافع البضع واستيفاؤها بالوطئ ولم يوجد ولا ضرورة لها في التوقف لان الزوج لا يخلو إما أن يستوفى أو يطلق فان
استوفى تأكد حقها وان طلق يفوت عليها نصف المهر لكن بعوض هو خير لها لان المعقود عليه يعود عليها سليما مع
سلامة نصف المهر لها بخلاف الإجارة انه تتأكد الأجرة فيها بنفس التخلية ولا يتوقف التأكد على
استيفاء المنافع لان في التوقف هناك ضرر بالآجر لان الإجارة مدة معلومة فمن الجائز أن يمنع المستأجر من استيفاء
المنافع مدة الإجارة بعد التخلية فلو توقف تأكد الأجرة على حقيقة الاستيفاء وربما لا يستوفى لفائت المنافع عليه مجانا
291

بلا عوض فيتضرر به الاجر فأقيم التمكن من الانتفاع مقام استيفاء المنفعة دفعا للضرر عن الآجر وههنا لا ضرر في
التوقف على ما بينا فتوقف التأكد على حقيقة الاستيفاء ولم يوجد فلا يتأكد ولنا قوله عز وجل وان أردتم استبدال
زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا واثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى
بعضكم إلى بعض نهى سبحانه وتعالى الزوج عن أخذ شئ مما ساق إليها من المهر عند الطلاق وأبان عن معنى النهى
لوجود الخلوة كذا قال القراء ان الافضاء هو الخلوة دخل بها أو لم يدخل ومأخذ اللفظ دليل على أن المراد منه الخلوة
الصحيحة لان الافضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض وهو الموضع الذي لا نبات فيه ولا بناء فيه ولا حاجز يمنع
عن ادراك ما فيه فكان المراد منه الخلوة على هذا الوجه وهي التي لا حائل فيها ولا مانع من الاستمتاع عملا بمقتضى اللفظ
فظاهر النص يقتضى أن لا يسقط شئ منه بالطلاق الا أن سقوط النصف بالطلاق قبل الدخول وقبل الخلوة في نكاح
فيه تسمية وإقامة المتعة مقام نصف مهر المثل في نكاح لا تسمية فيه ثبت بدليل آخر فبقي حال ما بعد الخلوة على ظاهر
النص وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كشف خمار امرأته ونظر إليها وجب الصداق دخل بها
أو لم يدخل وهذا نص في الباب وروى عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون انه إذا أرخى
الستور وأغلق الباب فلها الصداق كاملا وعليها العدة دخل بها أو لم يدخل بها وحكى الطحاوي في هذه المسألة اجماع
الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم ولان المهر قد وجب بنفس العقد أما في نكاح فيه تسمية فلا شك فيه واما في
نكاح لا تسمية فيه فلما ذكرنا في مسألة المفوضة الا أن الوجوب بنفس العقد ثبت موسعا ويتضيق عند المطالبة
والدين المضيق واجب القضاء قال النبي صلى الله عليه وسلم الدين مضيق ولان المهر متى صار ملكا لها بنفس العقد
فالملك الثابت لانسان لا يجوز أن يزول الا بإزالة المالك أو بعجزه عن الانتفاع بالمملوك حقيقة اما لمعنى يرجع إلى
المالك أو لمعنى يرجع إلى المحل ولم يوجد شئ من ذلك فلا يزول الا عند الطلاق قبل الدخول وقبل الخلوة سقط النصف
باسقاط الشرع غير معقول المعنى الا بالطلاق لان الطلاق فعل الزوج والمهر ملكها والانسان لا يملك اسقاط حق
الغير عن نفسه ولأنها سلمت المبدل إلى زوجها فيجب على زوجها تسليم البدل إليها كما في البيع والإجارة والدليل على أن
ها سلمت المبدل ان المبدل هو ما يستوفى بالوطئ وهو المنافع الا أن المنافع قبل الاستيفاء معدومة فلا يتصور تسليمها
لكن لها محل موجود وهو العين وانها متصور التسليم حقيقة فيقام تسليم العين مقام تسليم المنفعة كما في الإجارة وقد
وجد تسليم المحل لان التسليم هو جعل الشئ سالما للمسلم إليه وذلك برفع الموانع وقد وجد لان الكلام في الخلوة
الصحيحة وهي عبارة عن التمكن من الانتفاع ولا يتحقق التمكن الا بعد ارتفاع الموانع كلها فثبت انه وجد منها
تسليم المبدل فيجب على الزوج تسليم البدل لان هذا عقد معاوضة وانه يقتضى تسليما بإزاء التسليم كما يقتضى
ملكا بإزاء ملك تحقيقا بحكم المعاوضة كما في البيع والإجارة وأما الآية فقال بعض أهل التأويل ان المراد من المسيس
هو الخلوة فلا تكون حجة على أن فيها ايجاب نصف المفروض لا اسقاط النصف الباقي ألا ترى ان من كان في يده عبد
فقال نصف هذا العبد لفلان لا يكون ذلك نفيا للنصف الباقي فكان حكم النصف الباقي مسكوتا عنه فبقيت على قيام
الدليل وقد قام الدليل على البقاء وهو ما ذكرنا فيبقى وأما قوله التأكد إنما يثبت باستيفاء المستحق فممنوع بل كما يثبت
باستيفاء المستحق يثبت بتسليم المستحق كما في الإجارة وتسليمه بتسليم محله وقد حصل ذلك بالخلوة الصحيحة على
ما بينا ثم تفسير الخلوة الصحيحة هو أن لا يكون هناك مانع من الوطئ لا حقيقي ولا شرعي ولا طبعي اما المانع الحقيقي
فهو أن يكون أحدهما مريضا مرضا يمنع الجماع أو صغيرا لا يجامع مثله أو صغيرا لا يجامع مثلها أو كانت المرأة رتقاء
أو قرناء لان الرتق والقرن يمنعان من الوطئ وتصح خلوة الزوج إن كان الزوج عنينا أو خصيا لان العنة والخصاء
لا يمنعان من الوطئ فكانت خلوتهما كخلوة غيرهما وتصح خلوة المجبوب في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف
ومحمد لا تصح (وجه) قولهما ان الجب يمنع من الوطئ فيمنع صحة الخلوة كالقرن والرتق ولأبي حنيفة انه
292

يتصور منه السحق والايلاد بهذا الطريق ألا ترى لو جاءت امرأته بولد يثبت النسب منه بالاجماع واستحقت
كمال المهر ان طلقها وان لم يوجد منه الوطئ المطلق فيتصور في حقه ارتفاع المانع من وطئ مثله فتصح خلوته وعليها
العدة اما عنده فلا يشكل لان الخلوة إذا صحت أقيمت مقام الوطئ في حق تأكد المهر ففي حق العدة أولى لأنه يحتاط
في ايجابها وأما عندهما فقد ذكر الكرخي ان عليها العدة عندهما أيضا وقال أبو يوسف إن كان المجبوب ينزل فعليها
العدة لان المجبوب قد يقذف بالماء فيصل إلى الرحم ويثبت نسب ولده فتجب العدة احتياطا فان جاءت بولد ما بينها
وبين سنتين لزمه ووجب لها جميع الصداق لان الحكم بثبات النسب يكون حكما بالدخول فيتأكد المهر على قولهما
أيضا وإن كان لا ينزل فلا عدة عليها فان جاءت بولد لأقل ستة أشهر ثبت نسبه والا فلا يثبت كالمطلقة قبل الدخول
وكالمعتدة إذا أقرت بانقضاء العدة وأما المانع الشرعي فهو أن يكون أحدهما صائما صوم رمضان أو محرما بحجة فيضة
أو نفل أو بعمرة أو تكون المرأة حائضا أو نفساء لان كل ذلك محرم للوطئ فكان مانعا من الوطئ شرعا والحيض
والنفاس يمنعان منه طبعا أيضا لأنهما اذى والطبع السليم ينفر عن استعمال الأذى وأما في غير صوم رمضان فقد
روى بشر عن أبي يوسف ان صوم التطوع وقضاء رمضان والكفارات والنذور لا يمنع صحة الخلوة وذكر الحاكم
الجليل في مختصره ان نفل الصوم كفرضه فصار في المسألة روايتان (وجه) رواية المختصر ان صوم التطوع يحرم
الفطر من غير عذر فصار كحج التطوع وذا يمنع صحة الخلوة كذا هذا (وجه) رواية بشر ان صوم غير رمضان مضمون
بالقضاء لا غير فلم يكن قويا في معنى المنع بخلاف صوم رمضان فإنه يجب فيه القضاء والكفارة وكذا حج التطوع فقوى
المانع (ووجه) آخر من الفرق بين صوم التطوع وبين صوم رمضان ان تحريم الفطر في صوم التطوع من غير عذر
غير مقطوع به لكونه محل الاجتهاد وكذا لزوم القضاء بالافطار فلم يكن مانعا بيقين وحرمة الافطار في صوم رمضان
من غير عذر مقطوع بها وكذا لزوم القضاء فكان مانعا بيقين (وأما) المانع الطبعي فهو أن يكون معهما ثالث
لان الانسان يكره أن يجامع امرأته بحضرة ثالث ويستحي فينقبض عن الوطئ بمشهد منه وسواء كان الثالث
بصيرا أو أعمى يقظانا أو نائما بالغا أو صبيا بعد أن كان عاقلا رجلا أو امرأة أجنبية أو منكوحته لان الأعمى إن كان
لا يبصر فيحس والنائم يحتمل أن يستيقظ ساعة فساعة فينقبض الانسان عن الوطئ مع حضوره والصبي
العاقل بمنزلة الرجل يحتشم الانسان منه كما يحتشم من الرجل وإذا لم يكن عاقلا فهو ملحق بالبهائم لا يمتنع الانسان
عن الوطئ لمكانه ولا يلتفت إليه والانسان يحتشم من المرأة الأجنبية ويستحي وكذا لا يحل لها النظر إليهما
فينقبضان لمكانها وإذا كان هناك منكوحة له أخرى أو تزوج امرأتين فخلا بهما فلا يحل لها النظر إليهما فينقبض
عنها وقد قالوا إنه لا يحل لرجل أن يجامع امرأته بمشهد امرأة أخرى ولو كان الثالث جارية له فقد روى أن محمدا
كأن يقول أولا تصح خلوته ثم رجع وقال لا تصح (وجه) قوله الأول ان الأمة ليست لها حرمة الحرة فلا يحتشم
المولى منها ولذا يجوز لها النظر إليه فلا تمنعه عن الوطئ (وجه) قوله الأخير ان الأمة إن كان يجوز لها النظر إليه
لا يجوز لها النطر إليها فتنقبض المرأة لذلك وكذا قالوا لا يحل له الوطئ بمشهد منها كما لا يحل بمشهد امرأته الأخرى
ولا خلوة في المسجد والطريق والصحراء وعلى سطح لا حجاب عليه لان المسجد يجمع الناس للصلاة ولا يؤمن
من الدخول عليه ساعة فساعة وكذا الوطئ في المسجد حرام قال الله عز وجل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد والطريق ممر الناس لا تخلو عنهم عادة وذلك يوجب الانقباض فيمنع الوطئ وكذا الصحراء والسطح
من غير حجاب لان الانسان ينقبض عن الوطئ في مثله لاحتمال ان يحصل هناك ثالث أو ينظر إليه أحد معلوم ذلك
بالعادة ولو خلا بها في حجلة أو قبة فأرخى الستر عليه فهو خلوة صحيحة لان ذلك في معنى البيت ولا خلوة في النكاح
الفاسد لان الوطئ فيه حرام فكان المانع الشرعي قائما ولان الخلوة مما يتأكد به المهر وتأكده بعد وجوبه يكون ولا يجب
بالنكاح الفاسد شئ فلا يتصور التأكد والله عز وجل أعلم ثم في كل موضع صحت الخلوة وتأكد المهر وجبت العدة
293

لان الخلوة الصحيحة لما أوجبت كمال المهر فلان توجب العدة أولى لان المهر خالص حق العبد وفى العدة حق الله تعالى
فيحتاط فيها وفى كل موضع فسدت فيه الخلوة لا يجب كمال المهر وهل تجب العدة ينظر في ذلك إن كان الفساد لمانع
حقيقي لا تجب لأنه لا يتصور الوطئ مع وجود المانع الحقيقي منه وإن كان المانع شرعيا أو طبعيا تجب لان الوطئ مع
وجود هذا النوع من المانع ممكن فيتهمان في الوطئ فتجب العدة عند الطلاق احتياطا والله عز وجل الموفق وأما
التأكد بموت أحد الزوجين فنقول لا خلاف في أن أحد الزوجين إذا مات حتف أنفه قبل الدخول في نكاح فيه
تسمية انه يتأكد المسمى سواء كانت المرأة حرة أو أمة لان المهر كان واجبا بالعقد والعقد لم ينفسخ بالموت بل إنتهى
نهايته لأنه عقد للعمر فتنتهي نهايته عند انتهاء العمر وإذا انتهى يتأكد فيما مضى ويتقرر بمنزلة الصوم يتقرر بمجئ
الليل فيتقرر الواجب ولان كل المهر لما وجب بنفس العقد صار دينا عليه والموت لم يعرف مسقطا للدين في أصول
الشرع فلا يسقط شئ منه بالموت كسائر الديون وكذا إذا قتل أحدهما سواء كان قتله أجنبي أو قتل أحدهما صاحبه
أو قتل الزوج نفسه فاما إذا قتلت المرأة نفسها فإن كانت حرة لا يسقط عن الزوج شئ من المهر بل يتأكد المهر عندنا
وعند زفر والشافعي يسقط المهر (وجه) قولهما انها بالقتل فوتت على الزوج حقه في المبدل فيسقط حقها في
البدل كما إذا ارتدت قبل الدخول أو قبلت ابن زوجها أو أباه (ولنا) ان القتل إنما يصير تفويتا للحق عند زهوق
الروح لأنه إنما يصير قتلا في حق المحل عند ذلك والمهر في تلك الحالة ملك الورثة فلا يحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها
زوجها أو أجنبي بخلاف الردة والتقبيل لان المهر وقت التقبيل والردة كان ملكها فاحتمل السقوط بفعلها كما إذا
قتلها زوجها أو قتل المولى أمته سقط مهرها في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد لا يسقط بل يتأكد (وجه)
قولهما ان الموت مؤكد للمهر وقد وجد الموت لان المقتول ميت باجله فيتأكد بالموت كما إذا قتلها أجنبي أو قتلها
زوجها وكالحرة إذا قتلت نفسها ولان الموت إنما أكد المهر لأنه ينتهى به النكاح والشئ إذا انتهى نهايته يتقرر وهذا
المعنى موجود في القتل لأنه ينتهى به النكاح فيتقرر به المبدل وتقرر المبدل يوجب تقرر البدل ولأبي حنيفة ان من له
البدل فوت المبدل على صاحبه وتفويت المبدل على صاحبه يوجب سقوط البدل كالبائع إذا أتلف المبيع قبل
القبض انه يسقط الثمن لما قلنا كذا هذا ولا شك انه وجد تفويت المبدل ممن يستحق البدل لان المستحق للمبدل هو
المولى وقد أخرج المبدل عن كونه مملوكا للزوج والدليل على أن هذا يوجب سقوط البدل ان الزوج لا يرضى بملك
البدل عليه بعد فوات المبدل عن ملكه فكان ايفاء البدل عليه بعد زوال المبدل عن ملكه اضرارا به والأصل في
الضرر ان لا يكون فكان اقدام المولى على تفويت المبدل عن ملك الزوج والحالة هذه اسقاطا للبدل دلالة فصار كما لو
أسقطه نصا بالابراء بخلاف الحرة إذا قتلت نفسها لأنها وقت فوات المبدل لم تكن مستحقة للبدل لانتقاله
إلى الورثة على ما بينا والانسان لا يملك اسقاط حق غيره وههنا بخلافه ولان المهر وقت فوات المبدل على الزوج
ملك المولى وحقه والانسان يملك التصرف في ملك نفسه استيفاء واسقاطا فكان محتملا للسقوط بتفويت المبدل
دلالة كما كان محتملا للسقوط بالاسقاط نصا بالابراء وهو الجواب عما إذا قتلها زوجها أو أجنبي لأنه لا حق
للأجنبي ولا للزوج في مهرها فلا يحتمل السقوط باسقاطهما ولهذا لا يحتمل السقوط باسقاطهما نصا فكيف
يحتمل السقوط من طريق الدلالة والدليل على التفرقة بين هذه الفصول ان قتل الحرة نفسها لا يتعلق به حكم من
أحكام الدنيا فصار كموتها حتف أنفها حتى قال أبو حنيفة ومحمد انها تغسل ويصلى عليها كما لو ماتت حتف انفها
وقتل المولى أمته يتعلق به وجوب الكفارة وقتل الأجنبي إياها يتعلق به وجوب القصاص إن كان عمدا
والدية والكفارة إن كان خطأ فلم يكن قتلها بمنزلة الموت هذا إذا قتلها المولى فاما إذا قتلت نفسها فعن أبي حنيفة فيه
روايتان روى أبو يوسف عنه انه لا مهر لها وروى محمد عنه ان لها المهر وهو قولهما (وجه) الرواية الأولى ان قتلها
نفسها بمنزلة قتل المولى إياها بدليل ان جنايتها كجنايته في باب الضمان لأنها مضمونة بمال المولى ولو قتلها المولى يسقط المهر
294

عنده فكذا إذا قتلت نفسها (وجه) الرواية الأخرى ان البدل حق المولى وملكه فتفويت المبدل منها لا يوجب
بطلان حق المولى بخلاف جناية المولى والدليل على التفرقة بين الجنايتين ان جنايتها على نفسها هدر بدليل انه
لا يتعلق بها حكم من أحكام الدنيا فالتحقت بالعدم وصارت كأنها ماتت حتف أنفها بخلاف جناية المولى عليها فإنها
مضمونة بالكفارة وهي من أحكام الدنيا فكانت جنايته عليها معتبر فلا تجعل بمنزلة الموت والله عز وجل الموفق
وإذا تأكد المهر بأحد المعاني التي ذكرناها لا يسقط بعد ذلك وإن كانت الفرقة من قبلها لان البدل بعد تأكده
لا يحتمل السقوط الا بالابراء كالثمن إذا تأكد بقبض المبيع واما إذا مات أحد الزوجين في نكاح لا تسمية فيه فإنه
يتأكد مهر المثل عند أصحابنا وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وعن علي رضي الله عنه ان لها المتعة وبه
أخذ الشافعي الا أنه قال متعتها ما استحقت من الميراث لا غير احتج من قال بوجوب المتعة بقوله تعالى لا جناح
عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن وقوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم
المؤمنات إلى قوله عز وجل فمتعوهن أمر سبحانه وتعالى بالمتعة من غير فصل بين حال الموت وغيرها والنص
وان ورد في الطلاق لكنه يكون واردا في الموت ألا ترى ان النص ورد في صريح الطلاق ثم ثبت حكمه في الكنايات
من الإبانة والتسريح والتحريم ونحو ذلك كذا ههنا (ولنا) ما روينا عن معقل بن سنان ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات عنها زوجها قبل إن يدخل بها بمهر المثل ولان المعنى
الذي له وجب كل المسمى بعد موت أحد الزوجين في نكاح فيه تسمية موجود في نكاح لا تسمية فيه
وهو ما ذكرنا فيما تقدم ولا حجة له في الآية لان فيها ايجاب المتعة في الطلاق لا في الموت فمن ادعى الحاق الموت بالطلاق
فلا بد له من دليل آخر
* (فصل) * واما بيان ما يسقط به كل المهر فالمهر كله يسقط بأسباب أربعة منها الفرقة بغير طلاق قبل الدخول بالمرأة
وقبل الخلوة بها فكل فرقة حصلت بغير طلاق قبل الدخول وقبل الخلوة تسقط جميع المهر سواء كانت من قبل المرأة
أو من قبل الزوج وإنما كان كذلك لان الفرقة بغير طلاق تكون فسخا للعقد وفسخ العقد قبل الدخول يوجب
سقوط كل المهر لان فسخ العقد رفعه من الأصل وجعله كان لم يكن وسنبين الفرقة التي تكون بغير طلاق والتي
تكون بطلاق إن شاء الله تعالى في موضعها ومنها الابراء عن كل المهر قبل الدخول وبعده إذا كان المهر دينا لان
الابراء اسقاط والاسقاط ممن هو من أهل الاسقاط في محل قابل للسقوط يوجب السقوط ومنها الخلع على المهر
قبل الدخول وبعده ثم إن كان المهر غير مقبوض سقط عن الزوج وإن كان مقبوضا ردته على الزوج وإن كان
خالعها على مال سوى المهر يلزمها ذلك المال ويبرأ الزوج عن كل حق وجب لها عليه بالنكاح كالمهر والنفقة الماضية
في قول أبي حنيفة لأن الخلع وإن كان طلاقا بعوض عندنا لكن فيه معنى البراءة لما نذكره إن شاء الله تعالى في مسألة
المخالعة والمبارأة في كتاب الطلاق في بيان حكم الخلع وعمله إن شاء الله تعالى ومنها هبة كل المهر قبل القبض عينا كان
أو دينا وبعده إذا كان عينا وجملة الكلام في هبة المهر ان المهر لا يخلو اما أن يكون عينا وهو أن يكون معينا مشارا إليه
مما يصح تعيينه واما أن يكون دينا وهو أن يكون في الذمة كالدراهم والدنانير معينة كانت أو غير معينة والمكيلات
والموزونات في الذمة والحيوان في الذمة كالعبد والفرس والعرض في الذمة كالثوب الهروي والحال لا يخلو
اما أن يكون قبل القبض واما أن يكون بعد القبض وهبت كل المهر أو بعضه فان وهبته كل المهر قبل القبض ثم
طلقها قبل الدخول بها فلا شئ له عليها سواء كان المهر عينا أو دينا في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر يرجع عليها بنصف
المهر إن كان دينا وبه أخذ الشافعي (وجه) قول زفر انها بالهبة تصرفت في المهر بالاسقاط واسقاط
الدين استهلاكه والاستهلاك يتضمن القبض فصار كأنها قبضت ثم وهبت ولنا ان الذي يستحقه الزوج
بالطلاق قبل القبض عاد إليه من جهتها بسبب لا يوجب الضمان لأنه يستحق نصف المهر فقد عاد إليه بالهبة
295

والهبة لا توجب الضمان فلا يكون له حق الرجوع عليها بالنصف كالنصف الآخر وان وهبت بعد القبض فإن كان
الموهوب عينا فقبضه ثم وهبه منها لم يرجع عليها بشئ لان ما تستحقه بالطلاق قبل الدخول هو نصف
الموهوب بعينه وقد رجع إليه بعقد لا يوجب الضمان فلم يكن له الرجوع عليها وإن كانت دينا في الذمة فإن كان حيوانا
أو عرضا فكذلك لا يرجع عليها شئ لان الذي تستحقه بالطلاق قبل الدخول نصف ذلك الشئ بعينه من العبد
والثوب فصار كأنه تعين بالعقد وإن كان دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة أو مكيلا أو موزونا سوى الدراهم والدنانير
فقبضته ثم وهبته منه ثم طلقها يرجع عليها بمثل نصفه لان المستحق بالطلاق ليس هو الذي وهبته بعينه بل مثله بدليل
انها كانت مخيرة في الدفع ان شاءت دفعت ذلك بعينه وان شاءت دفعت مثله كما كان الزوج مخيرا في الدفع إليها بالعقد
فلم يكن العائد إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول فصار كأنها وهبت مالا آخر ولو كان كذلك لرجع عليها بمثل
نصف الصداق كذا هذا وقال زفر في الدراهم والدنانير إذا كانت معينة فقبضتها ثم وهبتها ثم طلقها انه لا رجوع للزوج
عليها بشئ بناء على أن الدراهم والدنانير عنده تتعين بالعقد فتتعين بالفسخ أيضا كالعروض وعندنا لا تتعين بالعقد فلا
تتعين بالفسخ والمسألة ستأتي في كتاب البيوع وكذلك إذا كان المهر دينا فقبضت الكل ثم وهبت البعض فللزوج
ان يرجع عليها بنصف المقبوض لان له ان يرجع عليها إذا وهبت الكل فإذا وهبت البعض أولى وإذا قبضت النصف
ثم وهبت النصف الباقي أو وهبت الكل ثم طلقها قبل الدخول بها قال أبو حنيفة لا يرجع الزوج عليها بشئ وقال أبو
يوسف ومحمد يرجع عليها بربع المهر (وجه) قولهما ان المستحق للزوج بالطلاق قبل الدخول نصف المهر فإذا
قبضت النصف دون النصف فقد استحق النصف مشاعا فيما في ذمته وفيما قبضت فكان نصف النصف وهو ربع
الكل في ذمته ونصف النصف فيما قبضت الا انها إذا لم تكن وهبته حتى طلقها لم يرجع عليها بشئ لأنه صار ما في ذمته
قصاصا بما له عليها فإذا وهبت بقي حقه في نصف ما في يدها وهو الربع فيرجع عليها بذلك ولأبي حنيفة ان الذي
يستحقه الزوج بالطلاق قبل الدخول ما في ذمته بدليل انها لو لم تكن وهبت وطلقها لم يرجع عليها بشئ وقد عاد إليه
ما كان في ذمته بسبب لا يوجب الضمان وهو الهبة فلا يكون له الرجوع بشئ ولو كان المهر جارية فولدت بعد القبض
أو جنى عليها فوجب الأطرش أو كان شجرا فأثمرا ودخله عيب ثم وهبته منه ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها
بنصف القيمة لان حق الزوج ينقطع عن العين بهذه العوارض بدليل انه لا يجوز له أخذها مع الزيادة وإذا كان حقه
منقطعا عنها لم يعد إليه بالهبة ما استحقه بالطلاق فكان له قيمتها وإذا حدث به عيب فالحق وان لم ينقطع عن العين به
لكن يجوز له تركه مع العيب فلم يكن الحق متعلقا بالعين على سبيل اللزوم ولم يكن الواصل إلى الزوج عين ما يستحقه
بالطلاق ولو كانت الزيادة في بدنها فوهبتها له ثم طلقها كان له ان يضمنها في قول أبى يوسف وأبي حنيفة خلافا لمحمد
بناء على أن الزيادة المتصلة لا تمنع التنصيف عندهما وعنده تمنع وإذا باعته المهر أو وهبته على عوض ثم طلقها رجع
عليها بمثل نصفه فيما له مثل وبنصف القيمة فيما لا مثل له لان المهر عاد إلى الزوج بسبب يتعلق به الضمان فوجب
له الرجوع وإذا ثبت له الرجوع ضمنها كما لو باعته من أجنبي ثم اشتراه الزوج من الأجنبي ثم إن كانت باعت قبل
القبض فعليها نصف القيمة يوم البيع لأنه دخل في ضمانها بالبيع وإن كانت قبضت ثم باعت فعليها نصف القيمة يوم
القبض لأنه دخل في ضمانها بالقبض والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يسقط به نصف المهر فما يسقط به نصف المهر نوعان نوع يسقط نصف المهر صورة
ومعنى ونوع يسقط به نصف المهر معنى والكل صورة اما النوع الأول فهو الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه
تسمية المهر والمهر دين لم يقبض بعد وجملة الكلام فيه ان الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية قد يسقط به عن
الزوج نصف المهر وقد يعود به إليه النصف وقد يكون له به مثل النصف صورة ومعنى أو معنى لا صورة وبيان هذه
الجملة ان المهر المسمى اما أن يكون دينا واما أن يكون عينا وكل ذلك لا يخلو اما أن يكون مقبوضا واما أن يكون غير
296

مقبوض فإن كان دينا فلم يقبضه حتى طلقها قبل الدخول بها سقط نصف المسمى بالطلاق وبقى النصف هذا
طريق عامة المشايخ وقال بعضهم ان الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المسمى وإنما يجب نصف آخر ابتداء على طريقة
المتعة لا بالعقد الا ان هذه المتعة مقدرة بنصف المسمى والمتعة في الطلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه غير
مقدرة بنصف مهر المثل والى هذا الطريق ذهب الكرخي والرازي وكذا روى عن إبراهيم النخعي أنه قال في الذي
طلق قبل الدخول وقد سمى لها ان لها نصف المهر وذلك متعتها واحتجوا بقوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم
المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل إن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن أوجب الله تعالى
المتعة في الطلاق قبل الدخول من غير فصل بين ما إذا كان في النكاح تسمية أو لم يكن إلا أن هذه المتعة قدرت
بنصف المسمى بدليل آخر وهو قوله عز وجل فنصف ما فرضتم ولان النكاح انفسخ بالطلاق قبل الدخول لان
المعقود عليه عاد سليما إلى المرأة وسلامة المبدل لاحد المتعاقدين يقتضى سلامة البدل للآخر كما في الإقالة في باب البيع
قبل القبض وهذا لان المبدل إذا عاد سليما إلى المرأة فلو لم تسلم البدل إلى الزوج لاجتمع البدل والمبدل في ملك واحد في
عقد المعاوضة وهذا لا يجوز ولهذا المعنى سقط الثمن عن المشترى بالإقالة قبل القبض كذا المهر ولعامة المشايخ قوله
عز وجل وان طلقتموهن من قبل إن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم أوجب سبحانه وتعالى
نصف المفروض فايجاب نصف آخر على طريق المتعة ايجاب ما ليس بمفروض وهذا خلاف النص ولان
الطلاق تصرف في الملك بالابطال وضعا لأنه موضوع لرفع القيد وهو الملك فكان تصرفا في الملك ثم إذا بطل الملك
لا يبقى النكاح في المستقبل وينتهي لعدم فائدة البقاء ويتقرر فيما مضى بمنزلة الاعتاق لأنه إسقاط الملك فيكون تصرفا في
الملك ثم السبب ينتهى في المستقبل لعدم فائدة البقاء ويتقرر فيما مضى كذا الطلاق وكان ينبغي ان لا يسقط شئ من
المهر كما لا يسقط بالموت الا ان سقوط النصف ثبت بدليل ولان المهر يجب بأحداث ملك المتعة جبرا للذل بالقدر
الممكن وبالطلاق لا يتبين ان الملك لم يكن الا انه سقط بالنص وأما النص فقد قيل إنه منسوخ بالنص الذي في سورة
البقرة وهو قوله عز وجل وان طلقتموهن الآية أو يحمل الامر بالتمتع على الندب والاستحباب أو يحمل على الطلاق
في نكاح لا تسمية فيه عملا بالدلائل وقولهم الطلاق فسخ النكاح ممنوع بل هو تصرف في الملك بالقطع والابطال
فيظهر أثره في المستقبل كالاعتاق وبه تبين ان المعقود عليه ما عاد إلى المرأة لان المعقود عليه هو ملك المتعة وانه لا يعود إلى
المرأة بل يبطل ملك الزوج عن المتعة بالطلاق ويصير لها في المستقبل الا ان يعود أو يقال إن الطلاق قبل الدخول يشبه
الفسخ لما قالوا ويشبه الابطال لما قلنا وشبه الفسخ يقتضى سقوط كل البدل كما في الإقالة قبل القبض وشبه الابطال
يقتضى ان لا يسقط شئ من البدل كما في الاعتاق قبل القبض فيتنصف توفير الحكم على الشبهين عملا بهما بقدر
الامكان والدليل على صحة هذا الطريق ما ظهر من القول عن أصحابنا فيمن تزوج امرأة على خمس من الإبل السائمة
وسلمها إلى المرأة فحال عليها الحول ثم طلقها قبل الدخول بها انه يسقط عنها نصف الزكاة ولو سقط المسمى كله ثم وجب
نصفه بسبب آخر لسقط كل الزكاة ولان القول بسقوط كل المهر ثم يوجب نصفه غير مفيد والشرع لا يرد بما لا فائدة
فيه والله عز وجل أعلم ولو شرط مع المسمى الذي هو مال ما ليس بمال بان تزوجها على ألف درهم وعلى أن يطلق امرأته
الأخرى أو على أن لا يخرجها من بلدها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وسقط الشرط لان هذا شرط
إذا لم يقع الوفاء به يجب تمام مهر المثل ومهر المثل لا يثبت في الطلاق قبل الدخول فسقط اعتباره فلم يبق الا المسمى
فيتنصف وكذلك ان شرط مع المسمى شيئا مجهولا كما إذا تزوجها على ألف درهم وكرامتها أو على ألف درهم وان
يهدى إليها هدية ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى لأنه إذا لم يف بالكرامة والهدية يجب تمام مهر المثل
ومهر المثل لا مدخل له في الطلاق قبل الدخول فسقط اعتبار هذا الشرط وكذلك لو تزوجها على الف أو على الفين
حتى وجب مهر المثل في قول أبي حنيفة وفى قولهما الأقل ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الألف بالاجماع
297

أما عند أبي حنيفة فلان الواجب هو مهر المثل وانه لا يثبت في الطلاق قبل الدخول وأما عندهما فلان الواجب
هو الأقل فيتنصف وكذلك لو تزوجها على الف ان لم يكن له امرأة وعلى الفين إن كانت له امرأة حتى فسد الشرط التالي
عند أبي حنيفة فطلقها قبل الدخول فلها نصف الأقل لما قلنا وعندهما الشرطان جائزان فأيهما وجد فلها نصف ذلك
بالطلاق قبل الدخول ولو تزوجها على أقل من عشرة ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف ما سمى وتمام خمسة دراهم
لان تسمية ما دون العشرة تسمية للعشرة عندنا فكأنه تزوجها على ذلك الشئ وتمام عشرة دراهم وإن كان قد قبضته فإن كان
دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة أو كان مكيلا أو موزونا في الذمة فقبضته وهو قائم في يدها فطلقها فعليها رد نصف
المقبوض وليس عليها رد عين ما قبضت لان عين المقبوض لم يكن واجبا بالعقد فلا يكن واجبا بالفسخ وأما على أصل
زفر فالدراهم والدنانير تتعين بالعقد فتتعين بالفسخ فعليها رد نصف عين المقبوض إن كان قائما وإن كان عبدا وسطا أو
ثوبا وسطا فسلمه إليها ثم طلقها قبل الدخول بها فعليها رد نصف المقبوض لان العبد لا مثل له والأصل فيما لا مثل له انه
لا يجب في الذمة الا انه وجب الوسط منه في الذمة وتحملت الجهالة فيه لما ذكرنا فيما تقدم فإذا تعين بالقبض كان إيجاب
نصف العين أعدل من إيجاب المثل أو القيمة فوجب عليها رد نصف عين المقبوض كما لو كان معينا فقبضته ولا يملكه
الزوج بنفس الطلاق لما نذكر وهذا إذا كان المهر دينا فقبضته أو لم تقبضه حتى ورد الطلاق قبل الدخول فاما إذا كان
عينا بأن كان معينا مشارا إليه مما يحتمل التعيين كالعبد والجارية وسائر الأعيان فلا يخلو اما إن كان بحاله لم يزد ولم ينقص
واما ان زاد أو نقص فإن كان بحاله لم يزد ولم ينقص فإن كان غير مقبوض فطلقها قبل الدخول بها عاد الملك في النصف إليه
بنفس الطلاق ولا يحتاج للعود إليه إلى الفسخ والتسليم منها حتى لو كان المهر أمة فأعتقها الزوج قبل الفسخ والتسليم ينفذ
اعتاقه في نصفها بلا خلاف وإن كان مقبوضا لا يعود الملك في النصف إليه بنفس الطلاق ولا ينفسخ ملكها في
النصف حتى يفسخه الحاكم أو تسلمه المرأة وذكر ذلك في الزيادات وزاد عليه الفسخ من الزوج وهو أن يقول قد
فسخت هذا جواب ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف انه ينفسخ ملكها في النصف بنفس الطلاق وهو قول زفر
حتى لو كان المهر أمة فأعتقها قبل الفسخ والتسليم جاز اعتاقها في جميعها ولا يجوز اعتاق الزوج فيها وعلى قول أبى يوسف
لا يجوز اعتاقها الا في النصف ويجوز اعتاق الزوج في نصفها (وجه) قول أبى يوسف ان الموجب للعود هو الطلاق
وقد وجد فيعود ملك الزوج كالبيع إذا فسخ قبل القبض انه يعود ملك البائع بنفس الفسخ كذا هذا وجه قولهما ان
العقد وان انفسخ بالطلاق فقد بقي القبض بالتسليط الحاصل بالعقد وانه من أسباب الملك عندنا فكان سبب الملك
قائما فكان الملك قائما فلا يزول الا بالفسخ من القاضي لأنه فسخ سبب الملك أو بتسليمها لان تسليمها نقض
للقبض حقيقة أو بفسخ الزوج على رواية الزيادات لأنه بمنزلة المقبوض بحكم عقد فاسد وكل واحد من العاقدين
بسبيل من فسخ عقد البيع الفاسد وصار كما لو اشترى عبدا بجارية فقبض العبد ولم يسلم الجارية حتى هلكت
الجارية في يده انه ينفسخ العقد في الجارية ويبقى الملك في العبد المقبوض إلى أن يسترده كأنه مقبوض بحكم عقد فاسد
كذا هذا ولان المهر بدل يملك بالعقد ملكا مطلقا فلا ينفسخ الملك فيه بفعل أحد العاقدين كالثمن في باب البيع بخلاف
ما قبل القبض لان غير المقبوض ليس بمملوك ملكا مطلقا هذا إذا كان المهر بحاله لم يزد ولم ينقص فاما إذا زاد فالزيادة
لا تخلو اما إن كانت في المهر أو على المهر فإن كانت على المهر بان سمى الزوج لها ألفا ثم زادها بعد العقد مائة ثم طلقها قبل
الدخول بها فلها نصف الألف وبطلت الزيادة في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف ان لها نصف الألف ونصف
الزيادة أيضا (وجه) رواية أبى يوسف قوله عز وجل وان طلقتموهن من قبل إن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة
فنصف ما فرضتم والزيادة مفروضة فيجب تنصيفها في الطلاق قبل الدخول ولان الزيادة تلتحق بأصل العقد على
أصل أصحابنا كالزيادة في الثمن في باب البيع ويجعل كان العقد ورد على الأصل والزيادة جميعا فيتنصف بالطلاق قبل
الدخول كالأصل وجه ظاهر الرواية ان هذه الزيادة لم تكن مسماة في العقد حقيقة وما لم يكن مسمى في العقد فورود
298

الطلاق قبل الدخول يبطله كمهر المثل وأما قوله الزيادة تلتحق بأصل العقد قلنا الزيادة على المهر لا تلتحق بأصل العقد
لأنها وجدت متأخرة عن العقد حقيقة والحاق المتأخر عن العقد بالعقد خلاف الحقيقة فلا يصار إليه الا لحاجة
والحاجة إلى ذلك في باب البيع لكونه عقد معاينه ومبادلة المال بالمال فتقع الحاجة إلى الزيادة دفعا للخسران وليس
النكاح عقد معاينة ولا مبادلة المال بالمال ولا يحترز به عن الخسران فلا ضرورة إلى تغيير الحقيقة وأما النص فالمراد
منه الفرض في العقد لأنه هو المتعارف فينصرف المطلق إليه والدليل عليه قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم فدل
ان الزيادة ليست بفريضة وإن كانت في المهر فالمهر لا يخلو اما أن يكون في يد الزوج واما أن يكون في يد المرأة
فإن كان في يد الزوج فالزيادة لا تخلو اما إن كانت متصلة بالأصل واما إن كانت منفصلة عنه والمتصلة لا تخلو من أن
تكون متولدة من الأصل كالسمن والكبر والجمال والبصر والسمع والنطق كانجلاء بياض العين وزوال الخرس
والصمم والشجر إذا أثمر والأرض إذا زرعت أو غير متولدة منه كالثوب إذا صبغ والأرض إذا بنى فيها بناء وكذا
المنفصلة لا تخلو اما إن كانت متولدة من الأصل كالولد والوبر والصوف إذا جزوا الشعر إذا أزيل والثمر إذا جد
والزرع إذا حصد أو كانت في حكم المتولد منه كالأرش والعقر واما إن كانت غير متولدة منه ولا في حكم المتولد كالهبة
والكسب فإن كانت الزيادة متولدة من الأصل أو في حكم المتولد فهي مهر سواء كانت متصلة بالأصل أو منفصلة
عنه حتى لو طلقها قبل الدخول بها يتنصف الأصل والزيادة جميعا بالاجماع لان الزيادة تابعة للأصل لكونها نماء
الأصل والأرش بدل جزء هو مهر فليقوم مقامه والعقر بدل ما هو في حكم الجزء فكان بمنزلة المتولد من المهر فإذا حدثت
قبل القبض وللقبض شبه بالعقد فكان وجودها عند القبض كوجودها عند العقد فكانت محلا للفسخ وإن كان
ت غير متولدة من الأصل فإن كانت متصلة بالأصل فإنها تمنع التنصيف وعليها نصف قيمة الأصل
لأن هذه الزيادة ليست بمهر لا مقصودا ولا تبعا لأنها لم تتولد من المهر فلا تكون مهرا فلا تتنصف ولا يمكن
تنصيف الأصل بدون تنصيف الزيادة فامتنع التنصيف فيجب عليها نصف قيمة الأصل يوم الزيادة لأنها
بالزيادة صارت قابضة للأصل فتعتبر قيمته يوم حكم بالقبض وإن كانت منفصلة عن الأصل فالزيادة ليست
بمهر وهي كلها للمرأة في قول أبي حنيفة ولا تتنصف ويتنصف الأصل وعند أبي يوسف ومحمد هي مهر فتتنصف
مع الأصل (ووجه) قولهما أن هذه الزيادة تملك بملك الأصل فكانت تابعة للأصل فتتنصف مع الأصل
كالزيادة المتصلة والمنفصلة المتولدة من الأصل كالسمن والولد ولأبي حنيفة أن هذه الزيادة ليست بمهر
لا مقصودا ولا تبعا اما مقصودا فظاهر لأن العقد ما ورد عليها مقصودا وكذا هي غير مقصودة بملك الجارية لأنه
لا يقصد بتملك الجارية الهبة لها وأما تبعا فلأنها ليست بمتولدة من الأصل فدل انها ليست بمهر لا قصدا ولا تبعا
وإنما هي مال المرأة فأشبهت سائر أموالها بخلاف الزيادة المتصلة المتولدة والمنفصلة المتولدة لأنها نماء المهر فكانت
جزأ من أجزائه فتتنصف كما يتنصف الأصل ولو آجر الزوج المهر بغير اذن المرأة فالأجرة له لان المنافع ليست
بأموال متقومة بأنفسها عندنا وإنما تأخذ حكم المالية والتقوم بالعقد والعقد صدر من الزوج فكانت الأجرة له
كالغاصب إذا آجر المغصوب ويتصدق بالأجرة لأنها مال حصل بسبب محظور وهو التصرف في ملك الغير بغير
اذنه فيتمكن فيه الخبث فكان سبيله التصدق به هذا إذا كان المهر في يد الزوج فحدثت فيه الزيادة فاما إذا كان في يد
المرأة أي قبل الفرقة فإن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل فإنها تمنع التنصيف في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
وللزوج عليها نصف القيمة يوم سلمه إليها وقال محمد لا تمنع ويتنصف الأصل مع الزيادة واحتج بقوله تعالى وان
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم جعل سبحانه وتعالى في الطلاق قبل
الدخول في نكاح فيه فرض نصف المفروض فمن جعل فيه نصف قيمة المفروض فقد خالف النص وإذا وجب
تنصيف أصل المفروض ولا يمكن تنصيفه الا بتنصيف الزيادة فيجب تنصيف الزيادة ضرورة ولأن هذه الزيادة
299

تابعة للأصل من كل وجه لأنها قائمة به والأصل مهر فكذا الزيادة بخلاف الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل
لأنها ليست بتابعة محضة لان الولد بالانفصال صار أصلا بنفسه فلم يكن مهرا وبخلاف الزيادة المتصلة في الهبة انها
تمنع من الرجوع والاسترداد لان حق الرجوع في الهبة ليس بثابت بيقين لكونه محل الاجتهاد فلا يمكن الحاق
الزيادة بحالة العقد فتعذر ايراد الفسخ عليها فيمنع الرجوع وجه قولهما أن هذه الزيادة لم تكن موجودة عند العقد ولا
عندما له شبه بالعقد وهو القبض فلا يكون لها حكم المهر فلا يمكن فسخ العقد فيها بالطلاق قبل الدخول لان الفسخ إنما يزد
على ما ورد عليه العقد والعقد لم يرد عليه أصلا فلا يرد عليه الفسخ كالزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل ولأنه لو نقض
العقد فاما ان يرد نصف الأصل مع نصف الزيادة أو بدون الزيادة لا سبيل إلى الثاني لأنه لا يتصور رد الأصل بدون
رد الزيادة المتصلة ولا سبيل إلى الأول لأنه يؤدى إلى الربا لأنها إذا لم تكن محلا للفسخ لعدم ورود العقد عليها كان
أخذ الزيادة منها أخذ مال بلا عوض في عقد المعاوضة وهذا تفسير الربا ويجب نصف قيمة المفروض لا نصف
المفروض لأن المفروض صار بمنزلة الهالك وأما الآية الكريمة فلا حجة له فيها لان مطلق المفروض ينصرف إلى
المفروض المتعارف وهو الأثمان دون السلع والأثمان لا تحتمل الزيادة والنقصان وعلى هذا الاختلاف الزيادة
المتصلة في البيع إذا اختلفا انها تمنع التحالف عند أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد لا تمنع ولو هلكت هذه الزيادة
في يد الزوج ثم طلقها فلها نصف الأصل لان المانع من التنصيف قد ارتفع وإن كانت متصلة غير متولدة من
الأصل فإنها تمنع التنصيف وعليها نصف قيمة الأصل لما بينا فيما تقدم وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من
الأصل فإنها تمنع التنصيف في قول أصحابنا الثلاثة وعليها رد نصف قيمة الأصل إلى الزوج وقال زفر لا تمنع
ويتنصف الأصل مع الزيادة وإن كانت منفصلة غير متولدة من الأصل فهي لها خاصة والأصل بينهما نصفان
بالاجماع (وجه) قول زفر ان الزيادة تابعة للأصل لأنها متولدة منه فتتنصف مع الأصل كالزيادة الحادثة قبل القبض
(ولنا) أن هذه الزيادة لم تكن عند العقد ولا عند القبض فلم تكن مهرا والفسخ إنما يرد على ماله حكم المهر فلا تتنصف
وتبقى على ملك المرأة كما كانت قبل الطلاق ولا يمكن تنصيف الأصل بدون الزيادة وهو رد نصف الجارية بدون
الولد لأنها لا يصير لها فضل أصل فسخ العقد فيه ما لم يكن لها ذلك والأصل أن لا تبدل من غير بدل وذلك وصف الربا
وانه حرام فإذا تعذر تنصيف المفروض لمكان الربا يجعل المفروض كالهالك لأنه في حق كونه معجوز التسليم إلى
الزوج بمنزلة الهالك فيجب نصف القيمة ليزول معنى الربا والله عز وجل أعلم وكذلك لو ارتدت أو قبلت ابن زوجها
قبل الدخول بها بعد ما حدثت الزيادة في يد المرأة فذلك كله لها وعليها رد قيمة الأصل يوم قبضت كذا ذكر أبو
يوسف في الأصل وهو قول محمد وروى عن أبي يوسف انها ترد الأصل والزيادة ففرق بين الردة والتقبيل وبين
الطلاق فقال في الطلاق ترد نصف قيمة الأصل وفى الردة والتقبيل ترد الأصل والزيادة جميعا (ووجه) الفرق أن
الردة والتقبيل فسخ العقد من الأصل وجعل إياه كان لم يكن فصار كمن باع عبدا بجارية وقبض الجارية ولم يدفع العبد
حتى ولدت ثم مات العبد قبل أن يدفعه أنه يأخذ الجارية وولدها لانفساخ العقد من الأصل بموت العبد في يد بائعه
كذا هذا بخلاف الطلاق فإنه اطلاق وحل العقد وليس بفسخ فينحل العقد وتطلق أو يرتفع من حين الطلاق لا من
الأصل (وجه) ظاهر الرواية أن المعقود عليه في الفصلين جميعا أعني الطلاق والردة يعود سليما إلى المرأة كما كان الا ان
الطلاق قبل الدخول طلاق من وجه وفسخ من وجه فأوجب عود نصف البدل عملا بالشبهين والردة والتقبيل كل
واحد منهما فسخ من كل وجه فيوجب عود الكل إلى الزوج هذا كله إذا حدثت الزيادة قبل الطلاق فاما إذا حدثت
بعد الطلاق بأن طلقها ثم حدثت الزيادة فلا يخلو اما ان حدثت بعد القضاء بالنصف للزوج واما ان حدثت قبل
القضاء وكل ذلك قبل القبض أو بعده فان حدثت قبل القبض فالأصل والزيادة بينهما نصفان سواء وجد القضاء أو
لم يوجد لأنه كما وجد الطلاق عاد نصف المهر إلى الزوج بنفس الطلاق وصار بينهما نصفين فالزيادة حدثت على
300

ملكيهما فتكون بينهما وان حدثت بعد القبض فإن كانت بعد القضاء بالنصف للزوج فكذلك الجواب لأنه لما
قضى به فقد عاد نصف المهر إلى الزوج فحصلت الزيادة على الملكين فكانت بينهما وإن كان قبل القضاء بالنصف
للزوج فالمهر في يدها كالمقبوض بعقد فاسد لان الملك كان لها وقد فسخ ملكها في النصف بالطلاق حتى لو كان
المهر عبدا فاعتقه بعد الطلاق قبل القضاء بالنصف للزوج جاز اعتاقها ولو أعتقه الزوج لا ينفذ وان قضى القاضي له بعد
ذلك كالبائع إذا أعتق العبد المبيع بيعا فاسدا انه لا ينفذ عتقه وان رد عليه بعد ذلك كذا ههنا هذا الذي ذكرنا حكم
الزيادة (وأما) حكم النقصان فحدوث النقصان في المهر لا يخلو اما أن يكون في يد الزوج واما أن يكون في يد المرأة فإن كان
في يد الزوج فلا يخلو من خمسة أوجه اما أن يكون بفعل أجنبي واما أن يكون بآفة سماوية واما أن يكون بفعل الزوج
واما أن يكون بفعل المهر واما أن يكون بفعل المرأة وكل ذلك لا يخلو اما أن يكون قبل قبض المهر أو بعده والنقصان
فاحش أو غير فاحش فإن كان النقصان بفعل أجنبي وهو فاحش قبل القبض فالمرأة بالخيار ان شاءت أخذت
العبد الناقص واتبعت الجاني بالأرش وان شاءت تركت وأخذت من الزوج قيمة العبد يوم العقد ثم يرجع الزوج
على الأجنبي بضمان النقصان وهو الأرش أما ثبوت الخيار فلان المعقود عليه وهو المهر قد تغير قبل القبض لأنه صار
بعضه قيمة ويعتبر المعقود عليه قبل القبض فوجب الخيار كتغير المبيع قبل القبض فان اختارت أخذ العبد اتبعت
الجاني بالأرش لان الجناية حصلت على ملكها وان اختارت أخذ القيمة اتبع الزوج الجاني بالأرش لأنه يملك العين
بأداء الضمان فقام مقام المرأة فكان الأرش له وليس لها ان تأخذ العبد ناقصا وتضمن الزوج الأرش لأنها لما اختارت
أخذه فقد أبرأت الزوج من ضمانه وإن كان النقصان بآفة سماوية فالمرأة بالخيار ان شاءت أخذته ناقصا ولا شئ لها
غير ذلك وان شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد لان المهر مضمون على الزوج بالعقد والأوصاف لا تضمن
بالعقد لعدم ورود العقد عليها موصوفا فلا يظهر الضمان في حقها وإنما يظهر في حق الأصل لورود العقد عليه وإنما
ثبت لها الخيار لتغير المعقود عليه وهو المهر عما كان عليه وهذا يثبت الخيار كالمبيع إذا انتقص في يد البائع انه يتخير
المشترى فيه كذا هذا وإن كان النقصان بفعل الزوج ذكر في ظاهر الرواية ان المرأة بالخيار ان شاءت أخذته ناقصا
وأخذت معه أرش النقصان وان شاءت أخذت قيمته يوم العقد كذا ذكر في ظاهر الرواية وفرق بين هذا وبين
البائع إذا جنى على المبيع قبل القبض وروى عن أبي حنيفة ان الزوج إذا جنى على المهر فهي بالخيار ان شاءت أخذته
ناقصا ولا شئ لها غير ذلك وان شاءت أخذت القيمة وسوى بينه وبين المبيع (ووجه) التسوية بينهما ان المهر
مضمون على الزوج بالنكاح لم يستقر ملكها فيه كالمبيع في يد البائع ثم الحكم في البيع هذا كذا في النكاح (ووجه)
الفرق في ظاهر الرواية ان الأوصاف وهي الاتباع إن كانت لا تضمن بالعقد فإنها تضمن بالاتلاف لأنها تصير
مقصودة بالاتلاف فتصير مضمونة الا ان المبيع لا يمكن جعله مضمونا بالقيمة لأنه مضمون بضمان آخر وهو الثمن
والمحل الواحد لا يكون مضمونا بضمانين والمهر غير مضمون على الزوج بملك النكاح بل بالقيمة ألا ترى انه لو أتلف
المهر لا يبطل ملك النكاح ولكن تجب عليه القيمة فكذا إذا أتلف الجزء وإن كان النقصان بفعل المهر بأن جنى المهر
على نفسه ففيه روايتان في رواية حكم هذا النقصان ما هو حكم النقصان بآفة سماوية لان جناية الانسان على
نفسه هدر فالتحقت بالعدم فكانت كالآفة السماوية وفى رواية حكمه حكم جناية الزوج لان المهر مضمون
في يد الضامن وهو الزوج وجناية المضمون في يد الضامن كجناية الضامن كالعبد المغصوب إذا جنى على نفسه
في يد الغاصب وإن كان النقصان بفعل المرأة فقد صارت قابضة بالجناية فجعل كان النقصان حصل في يدها
كالمشترى إذا جنى على المبيع في يد البائع انه يصير قابضا له كذا ههنا هذا إذا كان النقصان فاحشا فاما إذا كان يسيرا
فلا خيار لها كما إذا كان هذا العيب به يوم العقد ثم إن كان هذا النقصان بآفة سماوية أو بفعل المرأة أو بفعل
المهر فلا شئ لها وإن كان بفعل الأجنبي تتبعه بنصف النقصان وكذا إن كان بفعل الزوج هذا إذا حدث النقصان
301

في يد الزوج فاما إذا حدث في يد المرأة فهذا أيضا لا يخلو من الاقسام التي وصفناها فان حدث بفعل أجنبي وهو
فاحش قبل الطلاق الأرش لها فان طلقها الزوج فله نصف القيمة يوم قبضت ولا سبيل له على العين لان
الأرش بمنزلة الولد فيمنع التنصيف كالولد وإن كانت جناية الأجنبي عليه بعد الطلاق فللزوجة نصف العبد وهو
بالخيار في الأرش ان شاء أخذ نصفه من المرأة واعتبرت القيمة يوم القبض وان شاء اتبع الجاني وأخذ منه نصفه لان
حق الفسخ وعود النصف إليه استقر بالطلاق وتوقف على قضاء القاضي أو التراضي فصار في يدها كالمقبوض ببيع
فاسد فصار مضمونا عليها وكذلك ان حدث بفعل الزوج فجنايته كجناية الأجنبي لأنه جنى على ملك غيره ولا يد له فيه
فصار كالأجنبي والحكم في الأجنبي ما وصفنا وان حدث بآفة سماوية قبل الطلاق فالزوج بالخيار ان شاء أخذ نصفه ناقصا ولا شئ له غير ذلك وان شاء أخذ نصف القيمة يوم القبض لان حقه معها عند الفسخ كحقه معها عند العقد ولو
حدث نقصان في يده بآفة سماوية كان لها الخيار بين ان تأخذه ناقصا أو قيمته فكذا حق الزوج معها عند الفسخ
وإن كان ذلك بعد الطلاق فللزوج أن يأخذ نصفه ونصف الأرش لما ذكرنا انه بعد الطلاق يبقى في يدها كالمقبوض
بحكم بيع فاسد لان الملك لها وحق الغير في الفسخ مستقر فصار بمنزلة المقبوض ببيع فاسد وان شاء أخذ قيمته
يوم قبضت وكذلك ان حدث بفعل المرأة فالزوج بالخيار ان شاء أخذ نصفه ولا شئ له من الأرش وان شاء أخذ
نصف قيمته عبدا عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر للزوج أن يضمنها الأرش (وجه) قوله إن المهر مضمون عليها
بالقبض والأوصاف وهي الاتباع فتضمن بالقبض ولا تضمن بالعقد وكذلك يقول زفر في النقصان الحادث بغير
فعلها لهذا المعنى (ولنا) ان المرأة جنت على ملك نفسها وجناية الانسان على ملك نفسه غير مضمونة عليه
بخلاف ما إذا حدث بفعل الزوج على الرواية المشهورة لان الزوج جنى على ملك غيره وجناية الانسان على ملك غيره
مضمونة عليه وقد خرج الجواب عما قال زفر لان قبضها صادف ملك نفسها وقبض الانسان ملك نفسه لا يوجب
الضمان عليه وإن كان ذلك بعد الطلاق فعليها نصف الأرش لما ذكرنا ان حق الفسخ قد استقر وكذلك ان
حدث بفعل المهر فالزوج بالخيار على الروايتين جميعا ان شاء أخذ نصفه ناقصا وان شاء أخذ نصف القيمة
لأنا ان جعلنا جناية المهر كالآفة السماوية لم تكن مضمونة وان جعلناها كجناية المرأة لم تكن مضمونة أيضا
فلم تكن مضمونة أيضا على الروايتين هذا إذا كان النقصان فاحشا فاما إن كان غير فاحش فإن كان بفعل الأجنبي
أو بفعل الزوج لا يتنصف لان الأرش يمنع التنصيف وإن كان بآفة سماوية أو بفعلها أو بفعل المهر أخذ النصف
ولا خيار له والله تعالى الموفق (وأما) النوع الثاني وهو ما يسقط به نصف المهر معنى والكل صورة فهو كل طلاق تجب
فيه المتعة فيقع الكلام في مواضع في بيان الطلاق الذي تجب فيه المتعة والذي تستحب فيه وفى تفسير المتعة وفي بيان
من تعتبر المتعة بحاله اما الأول فالطلاق الذي تجب فيه المتعة نوعان أحدهما أن يكون قبل الدخول في نكاح لا تسمية
فيه ولا فرض بعده أو كانت التسمية فيه فاسدة وهذا قول عامة العلماء وقال مالك لا تجب المتعة ولكن تستحب
فمالك لا يرى وجوب المتعة أصلا واحتج بان الله سبحانه وتعالى قيد المتعة بالمتقي والمحسن بقوله حقا على المحسنين حقا
على المتقين والواجب لا يختلف فيه المحسن والمتقي وغيرهما فدل انها ليست بواجبة (ولنا) قوله تعالى لا جناح عليكم ان
طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن ومطلق الامر لوجوب العمل والمراد من قوله عز
وجل أو تفرضوا أي ولم تفرضوا ألا ترى انه عطف عليه قوله تعالى وان طلقتموهن من قبل إن تمسوهن وقد فرضتم
لهن فريضة فنصف ما فرضتم ولو كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن وقد فرضوا لهن أو لم يفرضوا لما عطف عليه المفروض
وقد تكون أو بمعنى الواو قال الله عز وجل ولا تطع منهما آثما أو كفورا أي ولا كفورا وقوله تعالى على الموسع
قدره وعلى المقتر قدره وعلى كلمة ايجاب وقوله تعالى حقا على المحسنين وليس في ألفاظ الايجاب كلمة أوكد من قولنا
حق عليه لان الحقية تقتضي الثبوت وعلى كلمة الزام واثبات فالجمع بينهما يقتضى التأكيد وما ذكره مالك كما يلزمنا
302

يلزمه لان المندوب إليه أيضا لا يختلف فيه المتقى والمحسن وغيرهما ثم نقول الايجاب على المحسن والمتقي لا ينفى
الايجاب على غيرهما الا ترى انه سبحانه وتعالى أخبر ان القرآن هدى للمتقين ثم لم ينف أن يكون هدى للناس كلهم
كذا هذا والدليل على أن المتعة ههنا واجبة انها بدل الواجب وهو نصف مهر المثل وبدل الواجب واجب لأنه
يقوم مقام الواجب ويحكى حكايته الا ترى ان التيمم لما كان بدلا عن الوضوء والوضوء واجب كان التيمم واجبا
والدليل على أن المتعة تجب بدلا عن نصف المهر ان بدل الشئ ما يجب بسبب الأصل عند عدمه كالتيمم مع الوضوء
وغير ذلك والمتعة بالسبب الذي يجب به مهر المثل وهو النكاح لا الطلاق لان الطلاق مسقط للحقوق لا موجب لها لكن
عند الطلاق يسقط نصف مهر المثل فتجب المتعة بدلا عن نصفه وهذا طريق محمد فان الرهن بمهر المثل يكون رهنا
بالمتعة عنده حتى إذا هلك تهلك المتعة واما أبو يوسف فإنه لا يجعله رهنا بها حتى إذا هلك الرهن يهلك بغير شئ والمتعة باقية
عليه فلا يكون وجوبها بطريق البدل عنده بل يوجبها ابتداء بظواهر النصوص التي ذكرنا أو يوجبها بدلا عن البضع
بالاستدلال بنصف المسمى في نكاح فيه تسمية والثاني أن يكون قبل الدخول في نكاح لم يسم فيه المهر وإنما فرض
بعده وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبى يوسف الأخير وكأن يقول أو لا يجب نصف المفروض كما إذا كان
المهر مفروضا في العقد وهو قول مالك والشافعي واحتجوا بقوله عز وجل وان طلقتموهن من قبل إن تمسوهن وقد
فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم أوجب تعالى نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول مطلقا من غير فصل
بين ما إذا كان الفرض في العقد أو بعده ولان الفرض بعد العقد كالفرض في العقد ثم المفروض في العقد يتنصف فكذا
المفروض بعده ولهما قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل إن تمسوهن فما لكم عليهن
من عدة تعتدونها فمتعوهن أوجب المتعة في المطلقات قبل الدخول عاما ثم خصت منه المطلقة قبل الدخول في نكاح
فيه تسمية عند وجوده فبقيت المطلقة قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه عند وجوده على أصل العموم وقوله تعالى
لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن أي ولم تفرضوا لهن فريضة لما ذكرنا
فيما تقدم وهو منصرف إلى الفرض في العقد لان الخطاب ينصرف إلى المتعارف والمتعارف هو الفرض في العقد
لا متأخرا عنه وبه تبين ان الفرض المذكور في قوله تعالى وان طلقتموهن من قبل إن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة
منصرف إلى المفروض في العقد لأنه هو المتعارف وبه نقول إن المفروض في العقد يتنصف بالطلاق قبل الدخول ولان
مهر المثل قد وجب بنفس العقد لما ذكرنا فيما تقدم فكان الفرض بعده تقديرا لما وجب بالعقد وهو مهر المثل ومهر المثل
يسقط بالطلاق قبل الدخول وتجب المتعة فكذا ما هو بيان وتقدير له إذ هو تقدير لذلك الواجب وكذا الفرقة
بالايلاء واللعان والجب والعنة فكل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه فتوجب المتعة
لأنها توجب نصف المسمى في نكاح فيه تسمية والمتعة عوض عنه كردة الزوج واباية الاسلام وكل فرقة جاءت من
قبل المرأة فلا متعة لها لأنه لا يجب بها المهر أصلا فلا تجب بها المتعة والمخيرة إذا اختارت نفسها قبل الدخول في نكاح
لا تسمية فيه فلها المتعة لان الفرقة جاءت من قبل الزوج لان البينونة مضافة إلى الإبانة السابقة وهي فعل الزوج (واما)
الذي تستحب فيه المتعة فهو الطلاق بعد الدخول والطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية وهذا عندنا وقال
الشافعي المتعة في الطلاق بعد الدخول واجبة واحتج بقوله تعالى وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين جعل
سبحانه وتعالى للمطلقات متاعا بلام الملك عاما الا انه خصصت منه المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية فبقيت
المطلقة قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه والمطلقة بعد الدخول على ظاهر العموم ولنا ما ذكرنا ان المتعة وجبت
بالنكاح بدلا عن البضع اما بدلا عن نصف المهر أو ابتداء فإذا استحقت المسمى أو مهر المثل بعد الدخول فلو وجبت
المتعة لأدى إلى أن يكون لملك واحد بدلان والى الجمع بين البدل والأصل في حالة واحدة وهذا ممتنع ولأن المطلقة قبل
الدخول في نكاح فيه تسمية لا تجب لها المتعة بالاجماع فالمطلقة بعد الدخول أولى لان الأولى تستحق بعض المهر
303

والثانية تستحق الكل فاستحقاق بعض المهر لما منع عن استحقاق المتعة فاستحقاق الكل أولى واما الآية الكريمة
فيحمل ذكر المتاع فيها على الندب والاستحباب ونحن به نقول إنه يندب الزوج إلى ذلك كما يندب إلى أداء المهر على
الكمال في غير المدخول بها أو يحمل على النفقة والكسوة في حال قيام العدة ولان كل ذلك متاع إذ المتاع اسم لما ينتفع به
عملا بالدلائل كلها بقدر الامكان وكل فرقة جاءت من قبل الزوج بعد الدخول تستحب فيها المتعة الا ان يرتد أو يأبى
الاسلام لان الاستحباب طلب الفضيلة والكافر ليس من أهل الفضيلة (واما) تفسير المتعة الواجبة فقد قال أصحابنا
انها ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا روى عن الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وعن عبد الله بن
عباس رضي الله عنهما أنه قال أرفع المتعة الخادم ثم دون ذلك الكسوة ثم دون ذلك النفقة وقال الشافعي ثلاثون درهما
له ما روى عن أبي مجلز أنه قال قلت لابن عمر رضي الله عنهما أخبرني عن المتعة وأخبرني عن قدرها فانى موسر فقال
اكس كذا اكس كذا اكس كذا قال فحسبت ذلك فوجدته قدر ثلاثين درهما فدل انها مقدرة بثلاثين درهما
(ولنا) قوله تعالى في آية المتعة متاعا بالمعروف حقا على المحسنين والمتاع اسم للعروض في العرف ولان لايجاب
الأثواب نظيرا في أصول الشرع وهو الكسوة التي تجب لها حال قيام النكاح والعدة وأدنى ما تكتسي به المرأة
وتستتر به عند الخروج ثلاثة أثواب ولا نظير لايجاب الثلاثين فكان ايجاب ماله نظير أولى وقول عبد الله
ابن عمر دليلنا لأنه أمره بالكسوة لا بدراهم مقدرة الا انه اتفق ان قيمة الكسوة بلغت ثلاثين درهما
وهذا لا يدل على أن التقدير فيها بالثلاثين ولو أعطاها قيمة الأثواب دراهم أو دنانير تجبر على القبول لان
الأثواب ما وجبت لعينها بل من حيث إنها مال كالشاة في خمس من الإبل في باب الزكاة واما بيان
من تعتبر المتعة بحاله فقد اختلف العلماء فيه قال بعضهم قدر المتعة يعتبر بحال الرجل في يساره واعساره وهو
قول أبى يوسف وقال بعضهم تعتبر بحال المرأة في يسارها واعسارها وقال بعضهم تعتبر بحالهما جميعا وقال بعضهم
المتعة الواجبة تعتبر بحالها والمستحبة تعتبر بحاله (وجه) قول من اعتبر حال الرجل قوله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره
وعلى المقتر قدره جعل المتعة على قدر حال الرجل في يساره واعساره (وجه) قول من قال باعتبار حالها أن المتعة بدل
بضعها فيعتبر حالها وهذا أيضا وجه من يقول المتعة الواجبة تعتبر بحالها وقوله المتعة المستحبة تعتبر بحاله لا معنى له لان
التقدير في الواجب لا في المستحب (وجه) من اعتبر حالهما أن الله تعالى اعتبر في المتعة شيئين أحدهما حال الرجل في
يساره واعساره بقوله عز وجل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره والثاني أن يكون مع ذلك بالمعروف بقوله متاعا
بالمعروف فلو اعتبرنا فيها حال الرجل دون حالها عسى أن لا يكون بالمعروف لأنه يقتضى أنه لو تزوج رجل امرأتين
أحدهما شريفة والأخرى مولاة دنيئة ثم طلقهما قبل الدخول بهما ولم يسم لهما أن يستويا في المتعة باعتبار حال الرجل
وهذا منكر في عادات الناس لا معروف فيكون خلاف النص ثم المتعة الواجبة لا تزاد على نصف مهر المثل بل هو نهاية
المتعة لا مزيد عليه لان الحق عند التسمية آكد وأثبت منه عند عدم التسمية لان الله تعالى أوجب المتعة على قدر
احتمال ملك الزوج بقوله عز وجل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فأوجب نصف المسمى مطلقا احتمله وسع
الزوج وملكه أو لا وكذا في وجوب كمال مهر المثل وسقوطه ووجوب المتعة في نكاح لا تسمية فيه وعدم أحد
الزوجين اختلاف بين العلماء ولا خلاف في وجوب كمال المسمى من ذلك في نكاح فيه تسمية دل أن الحق أوكد
وأثبت عند التسمية ثم لا يزاد هناك على نصف المسمى فلان لا يزاد ههنا على نصف مهر المثل أولى ولان المتعة بدل
عن نصف مهر المثل ولا يزاد البدل على الأصل ولا ينقص من خمسة دراهم لأنها تجب على طريق العوض وأقل
عوض يثبت في النكاح نصف العشرة والله أعلم
* (فصل) * وأما حكم اختلاف الزوجين في المهر فجملة الكلام فيه أن الاختلاف في المهر اما أن يكون في حال حياة
الزوجين واما أن يكون بعد موت أحدهما بين الحي منهما وورثة الميت واما أن يكون بعد موتهما بين ورثتهما فإن كان
304

في حال حياة الزوجين فاما إن كان قبل الطلاق واما إن كان بعده فإن كان قبل الطلاق فإن كان الاختلاف في أصل
التسمية يجب مهر المثل لان الواجب الأصلي في باب النكاح هو مهر المثل لأنه قيمة البضع وقيمة الشئ مثله من كل
وجه فكان هو العدل وإنما التسمية تقدير لمهر المثل فإذا لم تثبت التسمية لوقوع الاختلاف فيها وجب المصير إلى
الموجب الأصلي وإن كان الاختلاف في قدر المسمى أو جنسه أو نوعه أو صفته فالمهر لا يخلو اما أن يكون دينا واما أن
يكون عينا فإن كان دينا فاما أن يكون من الأثمان المطلقة وهي الدراهم والدنانير واما إن كان من المكيلات والموزونات
والمذروعات الموصوفة في الذمة فإن كان من الأثمان المطلقة فاختلفا في قدره بان قال الزوج تزوجتك على ألف درهم
وقالت المرأة تزوجتني على الفين أو قال الزوج تزوجتك على مائة دينار وقالت المرأة على مائتي دينار تحالفا ويبدأ بيمين
الزوج فان نكل أعطاها الفين وان حلف تحلف المرأة فان نكلت أخذت ألفا وان حلفت يحكم لها بمهر المثل إن كان
مهر مثلها مثل ما قالت أو أكثر فلها ما قالت وإن كان مهر مثلها مثل ما قال الزوج أو أقل فلها ما قال وإن كان مهر مثلها أقل
مما قالت وأكثر مما قال فلها مهر مثلها وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يتحالفان والقول قول الزوج في
هذا كله الا أن يأتي بمستنكر جدا والحاصل أن أبا حنيفة ومحمدا يحكمان مهر المثل وينهيان الامر إليه وأبو يوسف
لا يحكمه بل يجعل القول قول الزوج مع يمينه الا أن يأتي بشئ مستنكر وقد اختلف في تفسير المستنكر قيل هو أن يدعى
انه تزوجها على أقل من عشرة دراهم وهذا التفسير يروى عن أبي يوسف رحمه الله لان هذا القدر مستنكر شرعا إذ
لا مهر في الشرع أقل من عشرة وقيل هو ان يدعى انه تزوجها على ما لا يزوج مثلها به عادة وهذا يحكى عن أبي الحسن
لان ذلك مستنكر عرفا وهو الصحيح من التفسير لأنهما اختلفا في مقدار المهر المسمى وذلك اتفاق منهما على أصل
المهر المسمى وما دون العشرة لم يعرف مهرا في الشرع بلا خلاف بين أصحابنا وقد روى عن أبي يوسف في المتبايعين
إذا اختلفا في مقدار الثمن والسلعة هالكة ان القول قول المشترى ما لم يأت بشئ مستنكر وجه قول أبى يوسف أن
القول قول المنكر في الشرع والمنكر هو الزوج لأن المرأة تدعى عليه زيادة مهر وهو ينكر ذلك فكان القول قوله مع
يمينه كما في سائر المواضع والدليل عليه أن المتعاقدين في باب الإجارة إذا اختلفا في مقدار المسمى لا يحكم أجر المثل بل
يكون القول قول المستأجر مع يمينه لما قلنا كذا هذا ولهما أن القول في الشرع والعقل قول من يشهد له الظاهر والظاهر
يشهد لمن يوافق قوله مهر المثل لان الناس في العادات الجارية يقدرون المسمى بمهر المثل ويبنونه عليه لا برضا الزوج
بالزيادة عليه والمرأة وأولياؤها لا يرضون بالنقصان عنه فكانت التسمية تقدير المهر المثل وبناء عليه فكان الظاهر
شاهدا لمن يشهد له مهر المثل فيحكم مهر المثل فإن كان الفين فلها ذلك لأن الظاهر شاهد لها وإن كان أكثر من الفين
لا يزاد عليه لأنها رضيت بالنقصان وإن كان مهر مثلها ألفا فلها الف لأن الظاهر شاهد للزوج وإن كان أقل من ذلك
لا ينقص عن الف لان الزوج رضى بالزيادة وإن كان مهر مثلها أكثر مما قال وأقل مما قالت فلها مهر المثل لأنه هو
الواجب الأصلي وإنما التسمية تقدير له لما قلنا فلا يعدل عنه الا عند ثبوت التسمية وصحتها فإذا لم يثبت لوقوع
الاختلاف وجب الرجوع إلى الموجب الأصلي وتحكيمه وإنما يتحالفان لان كل واحد منهما مدعى من وجه ومنكر
من وجه أما الزوج فلأن المرأة تدعى عليه زيادة الف وهو منكر وأما المرأة فلان الزوج يدعى عليها تسليم النفس عند
تسليم الألف إليها وهي تنكر فكان كل واحد منهما مدعيا من وجه ومنكرا من وجه فيتحالفان لقوله صلى الله عليه وسلم
واليمين على من أنكر ويبدأ بيمين الزوج لأنه أشد انكارا أو أسبق انكارا من المرأة لأنه منكر قبل تسليم النفس
وبعده ولا انكار من المرأة بعد تسليم النفس وقبل التسليم هو أسبق انكارا لأن المرأة تقبض المهر أو لا ثم تسلم
نفسها فتطالبه بأداء المهر إليها وهو ينكر فكان هو أسبق انكارا فكانت البداية بالتحليف منه أولى لما قلنا في
اختلاف المتبايعين ذكر الكرخي التحالف في هذه الفصول الثلاثة وأنكر الجصاص التحالف الا في فصل واحد
وهو ما إذا لم يشهد مهر المثل لدعواهما بأن كان مهر مثلها أكثر مما قال الزوج وأقل مما قالت المرأة وكذا في الجامع الصغير
305

لم يذكر التحالف الا في هذا الفصل وجهه ان الحاجة إلى التحالف فيما لا شهادة للظاهر فإذا كان مهر المثل مثل ما يدعيه
أحدهما كان الظاهر شاهدا له فلا حاجة إلى التحالف والظاهر لا يشهد لأحدهما في الثالث فتقع الحاجة إلى التحالف
وجه ما ذكره الكرخي ان مهر المثل لا يثبت الا بعد سقوط اعتبار التسمية والتسمية لا يسقط اعتبارها الا بالتحالف
لأن الظاهر لا يكون حجة على الغير فتقع الحاجة إلى التحالف ثم إذا وجب التحالف وبدئ بيمين الزوج فان نكل
يقضى عليه بألفين لان النكول حجة يقضى بها في باب الأموال بلا خلاف بين أصحابنا ولا خيار للزوج وهو ان يعطيها
مكان الدراهم دنانير لان تسمية الألفين قد تثبت بالنكول لأنه بمنزلة الاقرار ومن شأن المسمى أن لا يكون للزوج
العدول عنه إلى غيره الا برضا المرأة وان حلف تحلف المرأة فان نكلت لم يقض على الزوج الا بالألف ولا خيار له لما قلنا
في نكول الزوج وان حلفت يحكم مهر المثل فإن كان مهر مثلها ألفا قضى لها على الزوج بألف ولا خيار له لان تسمية
الألف قد تثبت بتصادقهما فيمنع الخيار وإن كان مهر مثلها الفين قضى لها بألفين وله الخيار في اخذ الألفين دون الآخر
لثبوت تسمية أحد الألفين بتصادقهما دون الاخر وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة قضى لها بألف وخمسمائة ولا خيار له
في قدر الألف بتصادقهما وله الخيار في قدر الخمسمائة لأنه لم تثبت تسمية هذا القدر فكان سبيلها سبيل مهر المثل فكان
له الخيار فيها ولا يفسخ العقد بعد التحالف في قول عامة العلماء وقال ابن أبي ليلى يفسخ كما في البيع لان كل واحد منهما
عقد لا يجوز بغير بدل ولنا الفرق بين البيع والنكاح وهو انه لما سقط اعتبار التسمية في باب البيع يبقى البيع بلا ثمن
والبيع بلا ثمن بيع فاسد واجب الرفع رفعا للفساد وذلك بالفسخ بخلاف النكاح فان ترك التسمية أصلا في النكاح
لا يوجب فساده فسقوط اعتباره بجهالة المسمى بالتعارض أولى فلا حاجة إلى الفسخ فهو الفرق هذا إذا لم يقم لأحدهما
بينة فاما إذا قامت لأحدهما بينة فإنه يقضى ببينته لأنها قامت على أمر جائز الوجود ولا معارض لها فتقبل ولا يحكم مهر
المثل لان تحكيمه ضروري ولا ضرورة عند قيام البينة ولا خيار للزوج لان التسمية تثبت بالبينة وانها تمنع الخيار وان
أقاما جميعا البينة فإن كان مهر مثلها ألف درهم يقضى ببينتها لأنها تظهر زيادة الف فكانت مظهرة وبينة الزوج لم تظهر
شيئا لأنها قامت على ألف والألف كان ظاهرا بتصادقهما أو نقول بينة المرأة أكثر اظهارا فكان القضاء بها أولى ولا
خيار للزوج في الألفين لان تسمية أحد الألفين تثبت بتصادقهما وتسمية الاخر تثبت بالبينة والتسمية تمنع الخيار
وإن كان مهر مثلها ألفين فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يقضى ببينتها أيضا لأنها تظهر زيادة الف لم تكن ظاهرة
بتصادقهما وإن كانت ظاهرة بشهادة مهر المثل لكن هذا الظاهر لا يكون حجة على الغير ألا ترى انه لا يقضى به بدون
اليمين أو البينة وتصادقهما حجة بنفسه فكانت بينتها هي المظهرة أو كانت أكثر اظهارا أو بينة الزوج ليست بمظهرة لان
الألف كان ظاهرا بتصادقهما أو هي أقل اظهارا فكان القضاء ببينتها أولى وقال بعضهم يقضى ببينة الزوج لان بينة
الزوج تظهر حط الألف عن مهر المثل وذلك الفان لثبوت الألفين بشهادة مهر المثل فيظهر حط عن مهر المثل بشهادته
وبينها لا تظهر شيئا لان أحد الألفين كان ظاهرا بتصادقهما والآخر كان ظاهرا بشهادة مهر المثل أو يظهر صفة
التعيين للألفين لان الثابت بشهادة مهر المثل أو يظهر صفة التعيين لهما وبينته مظهرة للأصل فكان القضاء ببينته
أولى وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة بطلت البينتان للتعارض لان مهر المثل لا يشهد لأحدهما فكانت كل واحدة
منهما مظهرة وليس القضاء بإحداهما أولى من الأخرى فبطلت فبقي الحكم بمهر المثل ولا خيار له في قدر الألف لان
البينتين التحقتا بالعدم للتعارض فبقي هذا القدر مسمى بتصادقهما وله خيار في قدر الخمسمائة لثبوته على وجه مهر المثل
وكذلك إن كان دينا موصوفا في الذمة بأن تزوجها على مكيل موصوف أو موزون موصوف أو مذروع موصوف
فاختلفا في قدر الكيل أو الوزن أو الذرع فالاختلاف فيه كالاختلاف في قدر الدراهم والدنانير ولهذا يتحالفان ويحكم
مهر المثل في قول أبي حنيفة ومحمد لان القدر في المكيل والموزون معقود عليه وكذا في المذروع إذا كان في الذمة وان لم
يكن معقودا عليه بل كان جاريا مجرى الصفة إذا كان عينا لان ما في الذمة غائب مذكور يختلف أصله باختلاف
306

وصفه فجرى الوصف فيما في الذمة مجرى الأصل ولهذا كان الاختلاف في صفة المسلم فيه موجبا للتحالف فكان
اختلافهما في الوصف بمنزلة اختلافهما في الأصل وذلك يوجب التحالف كذا هذا وعند أبي يوسف لا يتحالفان
والقول قول الزوج مع يمينه وإن كان الاختلاف في جنس المسمى بان قال الزوج تزوجتك على عبد فقالت على جارية
أو قال الزوج تزوجتك على كر شعير فقالت على كر حنطة أو على ثياب هروية أو قال على ألف درهم وقالت على مائة
دينار أو في نوعه كالتركي مع الرومي والدنانير المصرية مع الصورية أو في صفته من الجودة والرداءة فالاختلاف فيه
كالاختلاف في العينين الا الدراهم والدنانير فان الاختلاف فيهما كالاختلاف في الألف والألفين وإنما كان كذلك
لان كل واحد من الجنسين والنوعين والموصوفين لا يملك الا بالتراضي بخلاف الدراهم والدنانير فإنهما وإن كانا جنسين
مختلفين لكنهما في باب مهر المثل يقضى من جنس الدراهم والدنانير فجاز أن يستحق المائة دينار من غير تراض بخلاف
العبد لان مهر المثل لا يقضى من جنسه فلم يجز أن يملك من غير تراض فيقضى بقدر قيمته هذا إذا كان المهر دينا فاما إذا
كان عينا فان اختلفا في قدره فإن كان مما يتعلق العقد بقدره بان تزوجها على طعام بعينه فاختلفا في قدره فقال الزوج
تزوجتك على هذا الطعام بشرط أنه كر وقالت المرأة تزوجتني عليه بشرط انه كران فهي مثل الاختلاف في الألف
والألفين وإن كان مما لا يتعلق العقد بقدره بان تزوجها على ثوب بعينه كل ذراع منه يساوى عشرة دراهم فاختلفا فقال
الزوج تزوجتك على هذا الثوب بشرط أنه ثمانية أذرع فقالت بشرط أنه عشرة أذرع لا يتحالفان ولا يحكم مهر المثل
والقول قول الزوج بالاجماع ووجه الفرق بين الطعام والثوب أن القدر في باب الطعام معقود عليه حقيقة وشرعا أما
الحقيقة فلان المعقود عليه عين وذات حقيقة وأما الشرع فإنه إذا اشترى طعاما على أنه عشرة أقفزة فوجده أحد عشر
لا يطيب له الفضل والاختلاف في المعقود عليه يوجب التحالف فاما القدر في باب الثوب وإن كان من اجزاء الثوب
حقيقة لكنه جار مجرى الوصف وهو صفة الجودة شرعا لأنه يوجب صفة الجودة لغيره من الاجزاء ألا ترى ان من
اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع فوجده أحد عشر طاب له الفضل والاختلاف في صفة المعقود عليه إذا كان عينا
لا يوجب التحالف كما إذا اختلفا في صفة الجودة في العين والأصل ان ما يوجب فوات بعضه نقصانا في البقية
فهو جار مجرى الصفة وما لا يوجب فوات بعضه نقصانا في الباقي لا يكون جاريا مجرى الصفة وان اختلفا في
جنسه وعينه كالعبد والجارية بان قال الزوج تزوجتك على هذا العبد وقالت المرأة على هذه الجارية فهو مثل
الاختلاف في الألف والألفين الا في فصل واحد وهو ما إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر فلها قيمة
الجارية لا عينها لان تمليك الجارية لا يكون الا بالتراضي ولم يتفقا على تمليكها فلم يوجد الرضا من صاحب الجارية
بتمليكها فتعذر التسليم فيقضى بقيمتها بخلاف ما إذا اختلفا في الدراهم أو الدنانير فقال الزوج تزوجتك على ألف درهم
وقالت المرأة على مائة دينار ان الاختلاف فيه كالاختلاف في الألف والألفين على معنى أن مهر مثلها إن كان مثل
مائة دينار أو أكثر فلها المائة دينار لما مر أن مهر المثل يقضى من جنس الدراهم والدنانير فلا يشترط فيه التراضي بخلاف
العبد فان مهر المثل لا يقضى من جنسه فلا يجوز ان يملك من غير مراضاة ولا يكون لها أكثر من قيمتها وإن كان مهر مثلها
أكثر من قيمتها لأنها رضيت بهذا القدر وما كان القول فيه أي من العين قول الزوج فهلك فاختلفا في قدر قيمته
فالقول فيه قول الزوج أيضا لان المسمى مجمع عليه فكانت القيمة دينا عليه والاختلاف إذا وقع في قدر الدين فالقول
قول المديون كما في سائر الديون هذا كله إذا اختلفا قبل الطلاق ولو اختلفا بعد الطلاق فإن كان بعد الدخول أو قبل
الدخول بعد الخلوة فالجواب في الفصول كلها كالجواب فيما لو اختلفا حال قيام النكاح لان الطلاق بعد الدخول أو قبل
الدخول بعد الخلوة مما لا يوجب سقوط مهر المثل وإن كان قبل الدخول بها وقبل الخلوة فإن كان المهر دينا فاختلفا
في الألف والألفين فالقول قول الزوج ويتنصف ما يقول الزوج كذا ذكر في كتاب النكاح والطلاق ولم يذكر
الاختلاف كذا ذكر الطحاوي انه يتنصف ما يقول الزوج ولم يذكر الخلاف وذكر الكرخي وحكى الاجماع فقال
307

لها نصف الألف في قولهم وذكر محمد في الجامع الصغير وقال ينبغي أن يكون القول قول المرأة إلى متعة مثلها والقول
قول الزوج في الزيادة على قياس قول أبي حنيفة ووجهه ان المسمى لم يثبت لوقوع الاختلاف فيه والطلاق قبل
الدخول في نكاح لا تسمية فيه يوجب المتعة ويحكم متعة مثلها لأن المرأة ترضى بذلك والزوج لا يرضى بالزيادة
فكان القول قوله في الزيادة والصحيح هو الأول لأنه لا سبيل إلى تحكيم مهر المثل ههنا لان مهر المثل لا يثبت في
الطلاق قبل الدخول فتعذر تحكيمه فوجب اثبات المتيقن وهو نصف الألف ومتعة مثلها لا تبلغ ذلك عادة فلا معنى
لتحكيم المتعة على اقرار الزوج بالزيادة وقيل لا خلاف بين الروايتين في الحقيقة وإنما اختلف الجواب لاختلاف
وضع المسألة فوضع المسألة في كتاب النكاح في الألف والألفين ولا وجه لتحكيم المتعة لان الزوج أقر لها بخمسمائة
وهي تزيد على متعة مثلها عادة فقد أقر الزوج لها بمتعة مثلها وزيادة فكان لها ذلك ووضعها في الجامع الكبير في العشرة
والمائة بان قال الزوج تزوجتك على عشرة دراهم وقالت المرأة تزوجتني على مائة درهم ومتعة مثلها عشرون ففي هذه
الصورة يكون الزوج مقرا لها بخمسة دراهم وذلك أقل من متعة مثلها عادة فكان لها متعة مثلها وإن كان المهر عينا كما في
مسألة العبد والجارية فلها المتعة الا أن يرضى الزوج ان يأخذ نصف الجارية بخلاف ما إذا اختلفا في الألف والألفين
لان نصف الألف هناك ثابتة بيقين لاتفاقهما على تسمية الألف فكان القضاء بنصفها حكما بالمتيقن والملك في
نصف الجارية ليس بثابت بيقين لأنهما لم يتفقا على تسمية أحدهما فلم يمكن القضاء بنصف الجارية الا باختيارهما فإذا
لم يوجد سقط البدلان فوجب الرجوع إلى المتعة هذا إذا كان الاختلاف في حياة الزوجين فإن كان في حياة
أحدهما بعد موت الآخر بينه وبين ورثة الميت فكذلك الجواب ان القول قول المرأة إلى تمام مهر مثلها إن كانت
حية وقول ورثتها إن كانت ميتة والقول قول الزوج وورثته في الزيادة عندهما وعند أبي يوسف القول قول ورثة
الزوج الا أن يأتوا بشئ مستنكر وإن كان الاختلاف بين ورثة الزوجين فان اختلفوا في أصل التسمية وكونها فقد قال
أبو حنيفة لا أقضى بشئ حتى تقوم البينة على أصل التسمية وعندهما يقضى بمهر المثل كما في حال الحياة وجه قولهما ان
التسمية إذا لم تثبت لاختلافهما وجب مهر المثل بالعقد فيبقى بعد موتهما كالمسمى وصار كأنه تزوجها ولم يسم لها مهرا ثم
ماتا وجواب أبي حنيفة هناك أنه لا يقضى بشئ حتى تقوم البينة على التسمية أما قولهما ان مهر المثل يجب بالعقد عند
عدم التسمية فالجواب عنه من وجهين أحدهما أنه وجب لكنه لم يبق إذ المهر لا يبقى بعد موت الزوجين عادة وهذا
قول أبي حنيفة في المسألة بل الظاهر هو الاستيفاء والابراء هذا هو العادة بين الناس فلا يثبت البقاء الا بالبينة والثاني
لئن سلمنا انه بقي لكنه تعذر القضاء به لان موضوع المسألة عند التقادم وعند التقادم لا يدرى ما حالها ومهر المثل
يقدر بحالها فيتعذر التقدير على أن اعتبار مهرها بمهر مثل نساء عشيرتها فإذا ماتا فالظاهر موت نساء عشيرتها فلا يمكن
التقدير (وجه) قول أبي حنيفة في هذه المسألة مشكل ولو اختلفت الورثة في قدر المهر فالقول قول ورثة الزوج عند أبي
حنيفة وعند أبي يوسف القول قول ورثة الزوج الا أن يأتوا بشئ مستنكر جدا وعند محمد القول قول ورثة المرأة
إلى قدر مهر مثلها كما في حال الحياة ولو بعث الزوج إلى امرأته شيئا فاختلفا فقالت المرأة هو هدية وقال الزوج هو من
المهر فالقول قول الزوج الا في الطعام الذي يؤكل لان الزوج هو المملك فكان أعرف بجهة تمليكه فكان القول قوله الا
فيما يكذبه الظاهر وهو الطعام الذي يؤكل لأنه لا يبعث مهرا عادة
* (فصل) * ومما يتصل بهذا اختلاف الزوجين في متاع البيت ولا بينة لأحدهما وجملة الكلام فيه أن الاختلاف
في متاع البيت اما أن يكون بين الزوجين في حال حياتهما واما أن يكون بين ورثتهما بعد وفاتهما واما أن يكون في حال
حياة أحدهما وموت الآخر فإن كان في حال حياتهما فاما أن يكون في حال قيام النكاح واما أن يكون بعد زواله بالطلاق
فإن كان في حال قيام النكاح فما كان يصلح للرجال كالعمامة والقلنسوة والسلاح وغيرها فالقول فيه قول الزوج لأن الظاهر
شاهد له وما يصلح للنساء مثل الخمار والملحفة والمغزل ونحوها فالقول فيه قول الزوجة لأن الظاهر شاهد لها
308

وما يصلح لهما جميعا كالدراهم والدنانير والعروض والبسط والحبوب ونحوها فالقول فيه قول الزوج وهذا قول أبي حنيفة
ومحمد وقال أبو يوسف القول قول المرأة إلى قدر جهاز مثلها في الكل والقول قول الزوج في الباقي وقال زفر في
قول المشكل بينهما نصفان وفى قول آخر وهو قول مالك والشافعي الكل بينهما نصفان وقال ابن أبي ليلى القول قول
الزوج في الكل الا في ثياب بدن المرأة وقال الحسن القول قول المرأة في الكل الا في ثياب بدن الرجل (وجه) قول
الحسن أن يد المرأة على ما في داخل البيت أظهر منه في يد الرجل فكان الظاهر لها شاهدا الا في ثياب بدن الرجل
لأن الظاهر يكذبها في ذلك ويصدق الزوج (وجه) قول ابن أبي ليلى أن الزوج أخص بالتصرف فيما في البيت فكان
الظاهر شاهدا له الا في ثياب بدنها فان الظاهر يصدقها فيه ويكذب الرجل (وجه) قول زفر أن يد كل واحد من
الزوجين إذا كانا حرين ثابتة على ما في البيت فكان الكل بينهما نصفين وهو قياس قوله الا أنه خص المشكل بذلك
في قول لأن الظاهر يشهد لأحدهما في المشكل (وجه) قول أبى يوسف أن الظاهر يشهد للمرأة إلى قدر جهاز مثلها
لأن المرأة لا تخلو عن الجهاز عادة فكان الظاهر شاهدا لها في ذلك القدر فكان القول في هذا القدر قولها والظاهر يشهد
للرجل في الباقي فكان القول قوله في الباقي (وجه) قولهما أن يد الزوج على ما في البيت أقوى من يد المرأة لان يده يد
متصرفة ويدها يد حافظة ويد التصرف أقوى من يد الحفظ كاثنين يتنازعان في دابة وأحدهما راكبها والآخر متعلق
بلجامها أن الراكب أولى الا أن فيما يصلح لها عارض هذا الظاهر ما هو أظهر منه فسقط اعتباره وان اختلفا بعد ما طلقها
ثلاثا أو بائنا فالقول قول الزوج لأنها صارت أجنبية بالطلاق فزالت يدها والتحقت بسائر الأجانب هذا إذا اختلف
الزوجان قبل الطلاق أو بعده (فاما) إذا ماتا فاختلف ورثتهما فالقول قول ورثة الزوج في قول أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف القول قول ورثة المرأة إلى قدر جهاز مثلها وقول ورثة الزوج في الباقي لان الوارث يقوم مقام المورث
فصار كان المورثين اختلفا بأنفسهما وهما حيان وان مات أحدهما واختلف الحي وورثة الميت فإن كان الميت هو المرأة
فالقول قول الزوج عند أبي حنيفة ومحمد لأنها لو كانت حية لكان القول قوله فبعد الموت أولى وعند أبي يوسف القول
قول ورثتها إلى قدر جهاز مثلها وإن كان الميت هو الزوج فالقول قولها عند أبي حنيفة في المشكل وعند أبي يوسف
في قدر جهاز مثلها وعند محمد القول قول ورثة الزوج (وجه) قولهما ظاهر لان الوارث قائم مقام المورث ولأبي حنيفة
أن المتاع كان في يدهما في حياتهما لان الحرة من أهل الملك واليد فينبغي أن يكون بينهما نصفين كما قال زفر لان يد
الزوج كانت أقوى فسقطت يدها بيد الزوج فإذا مات الزوج فقد زال المانع فظهرت يدها على المتاع ولو طلقها في
مرضه ثلاثا أو بائنا فمات ثم اختلفت هي وورثة الزوج فان مات بعد انقضاء العدة فالقول قول ورثة الزوج لان القول
قول الزوج في المشكل بعد الطلاق فكان القول قول ورثته بعده أيضا وان مات قبل انقضاء العدة فالقول قولها عند
أبي حنيفة في المشكل وعند أبي يوسف في قدر جهاز مثلها وعند محمد القول قول ورثة الزوج لأن العدة إذا كانت
قائمة كان النكاح قائما من وجه فصار كما لو مات الزوج قبل الطلاق وبقيت المرأة وهناك القول قولها عند أبي حنيفة
في المشكل وعند أبي يوسف في قدر جهاز مثلها وعند محمد القول قول ورثة الزوج كذا ههنا هذا كله إذا كان الزوجان
حرين أو مملوكين أو مكاتبين فاما إذا كان أحدهما حرا والآخر مملوكا أو مكاتبا فعند أبي حنيفة القول قول الحر
وعندهما إن كان المملوك محجورا فكذلك وأما إذا كان مأذونا أو مكاتبا فالجواب فيه وفيما إذا كانا حرين سواء
(وجه) قولهما ان المكاتب في ملك اليد بمنزلة الحر بل هو حر يدا ولهذا كان أحق بمكاسبه وكذا المأذون المديون
فصار كما لو اختلفا وهما حران ولأبي حنيفة ان كل واحد منهما مملوك أما المأذون فلا شك فيه وكذا المكاتب لأنه عبد
ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والعبد اسم للمملوك والمملوك لا يكون من أهل الملك فلا
تصلح يده دليلا على الملك فلا تصلح معارضة ليد الحر فبقيت يده دليل الملك من غير معارض بخلاف الحرين ولو كان
الزوج حرا والمرأة أمة أو مكاتبة أو أم ولد فأعتقت ثم اختلفا في متاع البيت فما أحدثا من الملك قبل العتق فهو
309

للزوج لأنه حدث في وقت لم تكن المرأة فيه من أهل الملك وما أحدثا من الملك بعد العتق فالجواب فيه وفى الحرين
سواء ولو كان الزوج مسلما والمرأة ذمية فالجواب فيه كالجواب في الزوجين المسلمين لان الكفر لا ينافي أهلية الملك
بخلاف الرق وكذا لو كان البيت ملكا لأحدهما لا يختلف الجواب لان العبرة لليد لا للملك هذا كله إذا لم تقر المرأة أن
هذا المتاع اشتراه لي زوجي فان أقرت بذلك سقط قولها لأنها أقرت بالملك لزوجها ثم ادعت الانتقال فلا يثبت
الانتقال الا بدليل وقد مرت المسألة
* (فصل) * ومنها الكفاءة في إنكاح غير الأب والجد من الأخ والعم ونحوهما الصغير والصغيرة وفى انكاح الأب
والجد اختلاف أبي حنيفة مع صاحبيه وأما الطوع فليس بشرط لجواز النكاح عندنا خلافا للشافعي فيجوز نكاح
المكره عندنا وعنده لا يجوز وهذه من مسائل كتاب الاكراه وكذلك الجد ليس من شرائط جواز النكاح حتى
يجوز نكاح الهازل لان الشرع جعل الجد والهزل في باب النكاح سواء قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن
جد وهز لهن جد الطلاق والعتاق والنكاح وكذلك العمد عندنا حتى يجوز نكاح الخاطئ وهو الذي يسبق على لسانه
كلمة النكاح من غير قصده وعند الشافعي شرط والصحيح قولنا لان الثابت بالخطأ ليس الا القصد وانه ليس بشرط
لجواز النكاح بدليل نكاح الهازل وكذلك الحل أعني كونه حلالا غير محرم أو كونها حلالا غير محرمة ليس بشرط
لجواز النكاح عندنا وعند الشافعي شرط حتى يجوز نكاح المحرم والمحرمة عندنا لكن لا يحل وطؤها في حال
الاحرام وعنده لا يجوز (وجه) قوله أن الجماع من محظورات الاحرام فكذا النكاح لأنه سبب داع إلى الجماع
ولهذا حرمت الدواعي على المحرم كما حرم عليه الجماع ولنا ما روى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو حرام وأدنى ما يستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم هو
الجواز ولا يعارض هذا ما روى زيد بن الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال بسرف
وأجمعوا على أنه ما تزوجها الا مرة واحدة فيقع التعارض لان الاخذ برواية ابن عباس رضي الله عنهما أولى لوجهين
أحدهما أنه يثبت أمرا عارضا وهو الاحرام إذ الحل أصل والاحرام عارض فتحمل رواية زيد على أنه بنى الامر على
الأصل وهو الحل تحسينا للظن بالروايتين فكان راوي الاحرام معتمدا على حقيقة الحال وروى الحل بانيا الامر
على الظاهر فكانت رواية من اعتمد حقيقة الحال أولى ولهذا رجحنا قول الجارح على المزكى كذا هذا والثاني أن عبد
الله بن عباس رضي الله عنهما أفقه وأتقن من زيد والترجيح بفقه الراوي واتقانه ترجيح صحيح على ما عرف في أصول
الفقه ولان المعاني التي لها حسن النكاح في غير حال الاحرام موجودة في حال الاحرام فكان الفرق بين الحالين في
الحكم مع وجود المعنى الجامع بينهما مناقضة وما ذكره من المعنى يبطل بنكاح الحائض والنفساء فإنه جائز بالاجماع
وإن كان النكاح سببا داعيا إلى الجماع والله عز وجل أعلم
* (فصل) * ثم كل نكاح جاز بين المسلمين وهو الذي استجمع شرائط الجواز التي وصفناها فهو جائز بين أهل
الذمة وأما ما فسد بين المسلمين من الأنكحة فإنها منقسمة في حقهم منها ما يصح ومنها ما يفسد وهذا قول أصحابنا الثلاثة
وقال زفر كل نكاح فسد في حق المسلمين فسد في حق أهل الذمة حتى لو أظهروا النكاح بغير شهود يعترض عليهم
ويحملون على أحكامنا وان لم يرفعوا الينا وكذا إذا أسلموا يفرق بينهما عنده وعندنا لا يفرق بينهما وان تحاكما الينا
أو أسلما بل يقران عليه (وجه) قولهم إنهم لما قبلوا عقد الذمة فقد التزموا أحكامنا ورضوا بها ومن أحكامنا أنه
لا يجوز النكاح بغير شهود ولهذا لم يجز نكاحهم المحارم في حكم الاسلام ولان تحريم النكاح بغير شهود في شريعتنا
ثبت بخطاب الشرع على سبيل العموم بقوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بشهود والكفار مخاطبون بشرائع هي
حرمات في الصحيح من الأقوال فكانت حرمة النكاح بغير شهود ثابتة في حقهم (ولنا) انهم كانوا يتدينون
النكاح بغير شهود والكلام فيه ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون الا ما استثنى من عقودهم كالزنا وهذا غير مستثنى منها
310

فيصح في حقهم كما يصح منهم تملك الخمر والخنزير وتمليكهما فلا يعترض عليهم كما لا يعترض في الخمر والخنزير ولان
الشهادة ليست بشرط بقاء النكاح على الصحة بدليل انه لا يبطل بموت الشهود فلا يجوز أن يكون شرط ابتداء العقد في
حق الكافر لان في الشهادة معنى العبادة قال الله تعالى وأقيموا الشهادة لله فلا يؤاخذ الكافر بمراعاة هذا الشرط في العقد
ولان نصوص الكتاب العزيز مطلقة عن شرط الشهادة والتقييد بالشهادة في نكاح المسلم ثبت بدليل فمن ادعى التقييد
بها في حق الكافر يحتاج إلى الدليل (وأما) قوله إنهم بالذمة التزموا أحكام الاسلام فنعم لكن جواز أنكحتهم بغير شهود
من أحكام الاسلام وقوله تحريم النكاح بغير شهود عام ممنوع بل هو خاص في حق المسلمين لوجود المخصص لأهل
الذمة وهو عمومات الكتاب ولو تزوج ذمي ذمية في عدة من ذمي جاز النكاح في قول أبي حنيفة وهذا والنكاح بغير
شهود سواء عندنا حتى لا يعترض عليهما بالتفريق وان ترافعا الينا ولو أسلما يقران على ذلك وقال أبو يوسف ومحمد
وزفر والشافعي النكاح فاسد يفرق بينهما (وجه) قولهم على نحو ما ذكرنا لزفر في النكاح بغير شهود وهو أنهم بقبول الذمة
التزموا أحكامنا ومن أحكامنا المجمع عليها فساد نكاح المعتدة ولان الخطاب بتحريم نكاح المعتدة عام قال تعالى ولا
تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله والكفار مخاطبون بالحرمات وكلام أبي حنيفة على نحو ما تقدم أيضا لان
في ديانتهم عدم وجوب العدة والكلام فيه فلم يكن هذا نكاح المعتدة في اعتقادهم ونحن أمرنا بان نتركهم وما يدينون
وكذا عمومات النكاح من الكتاب العزيز والسنة مطلقة عن هذه الشريطة أعني الخلو عن العدة وإنما عرف شرطا في
نكاح المسلمين بالاجماع وقوله عز وجل ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله خطاب للمسلمين أو يحمل
عليه عملا بالدلائل كلها صيانة لها عن التناقض ولأن العدة فيها معنى العبادة وهي حق الزوج أيضا من وجه قال الله تعالى
فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمن حيث هي عبادة لا يمكن إيجابها على الكافرة لان الكفار لا يخاطبون
بشرائع هي عبادات أو قربات وكذا من حيث هي حق الزوج لان الكافر لا يعتقده حقا لنفسه بخلاف المسلم إذا تزوج
كتابية في عدة من مسلم أنه لا يجوز لان المسلم يعتقد العدة حقا واجبا فيمكن الايجاب لحقه إن كان لا يمكن لحق الله
تعالى من حيث هي عبادة ولهذا قلنا إنه ليس للزوج المسلم أن يجبر امرأته الكافرة على الغسل من الجنابة والحيض
والنفاس لان الغسل من باب القربة وهي ليست مخاطبة بالقربات وله أن يمنعها من الخروج من البيت لان الاسكان
حقه وأما نكاح المحارم والجمع بين خمس نسوة والجمع بين الأختين فقد ذكر الكرخي ان ذلك كله فاسد في حكم الاسلام
بالاجماع لان فساد هذه الأنكحة في حق المسلمين ثبت لفساد قطيعة الرحم وخوف الجور في قضاء الحقوق من النفقة
والسكنى والكسوة وغير ذلك وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم والكافر الا أنه مع الحرمة والفساد لا يتعرض
لهم قبل المرافعة وقبل الاسلام ولأنهم دانوا ذلك ونحن أمرنا ان نتركهم وما يدينون كما لا يتعرض لهم في عبادة غير الله
تعالى وإن كانت محرمة وإذا ترافعا إلى القاضي فالقاضي يفرق بينهما كما يفرق بينهما بعد الاسلام لأنهما إذا ترافعا
فقد تركا ما داناه ورضيا بحكم الاسلام ولقوله تعالى فان جاؤوك فاحكم بينهم وأما إذا لم يترافعا ولم يوجد الاسلام أيضا فقد
قال أبو حنيفة ومحمد انهما يقران على نكاحهما ولا يعترض عليهما بالتفريق وقال أبو يوسف يفرق بينهما الحاكم إذا
علم ذلك سواء ترافعا الينا أو لم يترافعا ولو رفع أحدهما دون الآخر قال أبو حنيفة لا يعترض عليهما ما لم يترافعا جميعا وقال
محمد إذا رفع أحدهما يفرق بينهما أما الكلام في المسألة الأولى فوجه قول أبى يوسف ظاهر قوله تعالى وأن احكم بينهم بما
أنزل الله ولا تتبع أهواءهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزله مطلقا عن شرط المرافعة وقد أنزل
سبحانه وتعالى حرمة هذه الأنكحة فيلزم الحكم بها مطلقا ولان الأصل في الشرائع هو العموم في حق الناس كافة الا
أنه تعذر تنفيذها في دار الحرب لعدم الولاية وأمكن في دار الاسلام فلزم التنفيذ فيها وكان النكاح فاسدا والنكاح
الفاسد زنا من وجه فلا يمكنون منه كما لا يمكنون من الزنا في دار الاسلام ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى فان جاؤوك
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم والآية حجة له في المسئلتين جميعا أما في المسألة الأولى فلانه شرط المجئ للحكم عليهم وأثبت
311

سبحانه وتعالى التخيير بين الحكم والاعراض الا انه قام الدليل على نسخ التخيير ولا دليل على نسخ شرط المجئ فكان
حكم الشرط باقيا ويحمل المطلق على المقيد لتعزر العمل بهما وامكان جعل المقيد بيانا للمطلق وأما في المسألة الثانية فلانه
سبحانه وتعالى شرط مجيئهم للحكم عليهم فإذا جاء أحدهما دون الآخر فلم يوجد الشرط وهو مجيئهم فلا يحكم بينهم
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر اما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله ولم
يكتب إليهم في أنكحتهم شيئا ولو كان التفريق مستحقا قبل المرافعة لكتب به كما كتب بترك الربا وروى أن
المسلمين لما فتحوا بلاد فارس لم يتعرضوا لأنكحتهم وما روى أن عمر رضي الله عنه كتب أن يفرق بينهم وبين
أمهاتهم لا يكاد يثبت لأنه لو ثبت لنقل على طريق الاستفاضة لتوفر الدواعي إلى نقلها فلما لم ينقل دل أنه لم يثبت أو
يحمل على أنه كتب ثم رجع عنه ولم يعمل به ولان ترك التعرض والاعراض ثبت حقا لهما فإذا رفع أحدهما فقد أسقط
حق نفسه فبقي حق الآخر (وجه) قول محمد أنه لما رفع أحدهما فقد رضى بحكم الاسلام فيلزم اجراء حكم الاسلام في
حقه فيتعدى إلى الآخر كما إذا أسلم أحدهما الا أن أبا حنيفة يقول الرضا بالحكم ليس نظير الاسلام بدليل أنه لو رضى ثم
رجع عنه قبل الحكم عليه لم يلزمه بحكم الاسلام وبعد ما أسلم لا يمكنه أن يأبى الرضا بأحكام الاسلام وإذا لم يكن
ذلك أمرا لازما ضروريا فلا يتعدى إلى غيره وجعل رضاه في حق الغير كالعدم بخلاف الاسلام وذكر القاضي الإمام أبو
زيد ان نكاح المحارم صحيح فيما بينهم في قول أبي حنيفة بدليل ان الذمي إذا تزوج بمحارمه ودخل بها لم يسقط
احصانه عنده حتى لو قذفه انسان بالزنا بعد ما أسلم يحد قاذفه عنده ولو كان النكاح سدا لسقط احصانه لان الدخول
في النكاح الفاسد يسقط الاحصان كما في سائر الأنكحة الفاسدة وكذلك لو ترافعا الينا فطلبت المرأة النفقة فان
القاضي يقضى بالنفقة في قول أبي حنيفة فدل ان نكاح المحارم وقع صحيحا فيما بينهم في حكم الاسلام واتفقوا على أنه لو
تزوج حر بي أختين في عقدة واحدة أو على التعاقب ثم فارق إحداهما قبل الاسلام ثم أسلم ان نكاح الباقية صحيح
ومعلوم ان الباقي غير الثابت ولو وقع نكاحها فاسدا حال وقوعه لما أقر عليه بعد الاسلام وكذلك لو تزوج خمسا في عقد
متفرقة ثم فارق الأولى منهن ثم أسلم بقي نكاح الأربع على الصحة ولو وقع فاسدا من الأصل لما انقلب صحيحا بالاسلام
بل كان يتأكد الفساد فثبت ان هذه الأنكحة وقعت صحيحة في حقهم في حكم الاسلام ثم يفرق بينهما بعد الاسلام
لأنه لا صحة لها في حق المسلمين ولو طلق الذمي امرأته ثلاثا أو خالعها ثم قام عليها كقيامه عليها قبل الطلاق يفرق
بينهما وان لم يترافعا لأن العقد قد بطل بالطلقات الثلاث وبالخلع لأنه يدين بذلك فكان اقراره على قيامه عليها اقرارا
على الزنا وهذا لا يجوز ولو تزوج ذمي ذمية على أن لا مهر لها وذلك في دينهم جائز صح ذلك ولا شئ لها في قول أبي حنيفة
سواء دخل بها أو لم يدخل بها طلقها أو مات عنها أسلما أو أسلم أحدهما وعند أبي يوسف ومحمد لها مهر مثلها
ثم إن طلقها بعد الدخول أو بعد الخلوة بها أو مات عنها تأكد ذلك وان طلقها قبل الدخول بها أو قبل الخلوة سقط مهر
المثل ولها المتعة كالمسلمة ولو تزوج حربي حربية في دار الحرب على أن لا مهر لها جاز ذلك ولا شئ لها في قولهم
جميعا والكلام في الجانبين على نحو ما ذكرنا في المسائل المتقدمة هما يقولان ان حكم الاسلام قد لزم الزوجين الذميين
لالتزامهما أحكامنا ومن أحكامنا انه لا يجوز النكاح من غير مال بخلاف الحربيين لأنهما ما التزما أحكامنا وأبو حنيفة
يقول إن في ديانتهم جواز النكاح بلا مهر ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون الا فيما وقع الاستثناء في عقودهم كالربا
وهذا لم يقع الاستثناء عنه فلا نتعرض لهم ويكون جائزا في حقهم في حكم الاسلام كما يجوز لهم في حكم الاسلام تملك
الخمور والخنازير وتمليكها هذا إذا تزوجها وبقى المهر فأما إذا تزوجها وسكت عن تسميته بأن تزوجها ولم يسم لها مهرا
فلها مهر المثل في ظاهر رواية الأصل فإنه ذكر في الأصل ان الذمي إذا تزوج ذمية بميته أو دم أو بغير شئ ان النكاح جائز
ولها مهر مثلها فظاهر قوله أو بغير شئ يشعر بالسكوت عن التسمية لا بالنفي فيدل على وجوب مهر المثل حال
السكوت عن التسمية ففرق أبو حنيفة بين السكوت وبين النفي وحكى عن الكرخي أنه قال قياس قول أبي حنيفة انه
312

لا فرق بين حالة السكوت وبين النفي وجهه انه لما جاز النكاح في ديانتهم بمهر وبغير مهر لم يكن في نفس العقد ما يدل على
التزام المهر فلا بد لوجوبه من دليل وهو التسمية ولم توجد فلا يجب بخلاف نكاح المسلمين لأنه لا جواز له بدون المهر
فكان ذلك العقد التزاما للمهر (ووجه) الفرق بين السكوت وبين النفي على ظاهر الرواية انه لما سكت عن تسمية
المهر لم تعرف ديانته النكاح بلا مهر فيجعل اقدامه على النكاح التزاما للمهر كما في حق المسلمين وإذا نفى المهر نصا دل
انه يدين النكاح ويعتقده جائزا بلا مهر فلا يلزمه حكم نكاح أهل الاسلام بل يترك وما يدينه فهو الفرق ثم ما صلح مهرا
في نكاح المسلمين فإنه يصلح مهرا في نكاح أهل الذمة لا شك فيه لأنه لما جاز نكاحنا عليه كان نكاحهم عليه أجوز وما
لا يصلح مهرا في نكاح المسلمين لا يصلح مهرا في نكاحهم أيضا الا الخمر والخنزير لان ذلك مال متقوم في حقهم بمنزلة
الشاة والخل في حق المسلمين فيجوز أن يكون مهرا في حقهم في حكم الاسلام فان تزوج ذمي ذمية على خمر أو خنزير
ثم أسلما أو أسلم أحدهما فإن كان الخمر والخنزير بعينه ولم يقبض فليس لها الا العين وإن كان بغير عينه بأن كان في
الذمة فلها في الخمر القيمة وفى الخنزير مهر مثلها وهو قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف لها مهر مثلها سوا كان بعينه أو
بغير عينه وقال محمد لها القيمة سواء كان بعينه أو بغير عينه ولا خلاف في أن الخمر والخنزير إذا كان دينا في الذمة ليس
لها غير ذلك (وجه) قولهما في أنه لا يجوز أن يكون لها العين ان الملك في العين وان ثبت لها قبل الاسلام لكن
في القبض معنى التمليك لأنه مؤكد للملك لان ملكها قبل القبض واه غير مؤكد ألا ترى انه لو هلك عند التزوج كان
الهلاك عليه وكذا لو تعيب وبعد القبض كان ذلك كله عليها فثبت ان الملك قبل القبض غير متأكد فكان القبض
مؤكد للملك والتأكيد اثبات من وجه فكان القبض تمليكا من وجه والمسلم منهى عن ذلك ولهذا لو اشترى ذمي من
ذمي خمرا ثم أسلما أو أسلم أحدهما قبل القبض ينتقض البيع ولأبي حنيفة ان المرأة تملك المهر قبل القبض ملكا تاما
إذ الملك نوعان ملك رقبة وملك يد وهو ملك التصرف ولا شك ان ملك الرقبة ثابت لها قبل القبض وكذلك ملك
التصرف لأنها تملك التصرف في المهر قبل القبض من كل وجه فلم يبق الا صورة القبض والمسلم غير منهى عن صورة
قبض الخمر والخنزير واقباضهما كما إذا غصب مسلم من مسلم خمرا ان الغاصب يكون مأمورا بالتسليم والمغصوب
منه يكون مأذونا له في القبض وكذا الذمي إذا غصب منه الخمر ثم أسلم وكمسلم أودعه الذمي خمرا ثم أسلم الذمي ان له أن
يأخذ الخمر من المودع يبقى هذا القدر وهو انه دخل المهر في ضمانها بالقبض لكن هذا لا يوجب ثبوت ملك لها لما
ذكرنا ان ملكها تام قبل القبض مع ما ان دخوله في ضمانها أمر عليها فكيف يكون ملكا لها بخلاف المبيع فان ملك
الرقبة وإن كان ثابتا قبل القبض فملك التصرف لم يثبت وإنما يثبت بالقبض وفيه معنى التمليك والتملك والاسلام يمنع
من ذلك هذا إذا كانا عينين فإن كانا دينين فليس لها الا العين بالاجماع لان الملك في هذه العين التي تأخذها ما كان ثابتا
لها بالعقد بل كان ثابتا في الدين في الذمة وإنما يثبت الملك في هذا المعين بالقبض والقبض تملك من وجه والمسلم ممنوع
من ذلك (وجه) قول أبى يوسف ان الاسلام لما منع القبض والقبض حكم العقد جعل كأن المنع كان ثابتا وقت
العقد فيصار إلى مهر المثل كما لو كانا عند العقد مسلمين وجه قول محمد ان العقد وقع صحيحا والتسمية في العقد قد صحت الا
أنه تعذر التسليم بسبب الاسلام لما في التسليم من التمليك من وجه على ما بينا والمسلم ممنوع من ذلك فيوجب القيمة كما
لو هلك المسمى قبل القبض وأبو حنيفة يوجب القيمة في الخمر لما قاله محمد وهو القياس في الخنزير أيضا الا أنه استحسن
في الخنزير أيضا وأوجب مهر المثل لان الخنزير حيوان ومن تزوج امرأة على حيوان في الذمة يخير بين تسليمه وبين
تسليم قيمة الوسط منه بل القيمة هي الأصل في التسليم لان الوسط يعرف بها على ما ذكرنا فيما تقدم فكان ايفاء قيمة
الخنزير بعد الاسلام حكم ايفاء الخنزير من وجه ولا سبيل إلى ايفاء العين بعد الاسلام فلا سبيل إلى ايفاء القيمة
بخلاف الخمر لان قيمتها لم تكن واجبة قبل الاسلام ألا ترى انه لو جاء الزوج بالقيمة لا تجبر المرأة على القبول فلم يكن
لبقائها حكم بقاء الخمر من وجه لذلك افترقا هذا كله إذا لم يكن المهر مقبوضا قبل الاسلام فإن كان مقبوضا فلا شئ
313

للمرأة لان الاسلام متى ورد والحرام مقبوض يلاقيه بالعفو لان الملك قد ثبت على سبيل الكمان بالعقد والقبض في
حال الكفر فلا يثبت بعد الاسلام ملك وإنما يوجد دوام الملك والاسلام لا ينافيه كمسلم تخمر عصيره أنه لا يؤمر
بابطال ملكه فيها وكما في نزول تحريم الربا وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أبطل من الربا ما لم
يقبض ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لما قبض بالفسخ وهو أحد تأويلات قوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين أمر سبحانه بترك ما بقي من الربا والامر بترك ما بقي من الربا هو النهى عن قبضه
والله عز وجل الموفق ولو تزوجها على ميتة أو دم ذكر في الأصل ان لها مهر مثلها وذكر في الجامع الصغير أنه لا شئ لها
منهم ووفق بين الروايتين فحمل ما ذكره في الأصل على الذميين وما ذكره في الجامع على الحربيين ومنهم من جعل في
المسألة روايتين (وجه) رواية الأصل انه لما تزوجها على الميتة والدم فلم يرض باستحقاق بضعها الا ببدل وقد تعذر
استحقاق المسمى لأنه ليس بمال في حق أحد فكان لها مهر المثل كالمسلمة (وجه) رواية الجامع الصغير أنها لما
رضيت بالميتة مع أنها ليست بمال كان ذلك منها دلالة الرضا باستحقاق بضعها بغير عوض أصلا كما إذا تزوجها على
أن لا مهر لها والله عز وجل أعلم
* (فصل) * ثم كل عقد إذا عقده الذمي كان فاسدا فإذا عقده الحربي كان فاسدا أيضا لان المعنى المفسد لا يوجب
الفصل بينهما وهو ما ذكرنا فيما تقدم ولو تزوج كافر بخمس نسوة أو بأختين ثم أسلم فإن كان تزوجهن في عقدة
واحدة فرق بينه وبينهن وإن كان تزوجهن في عقد متفرقة صح نكاح الأربع وبطل نكاح الخامسة وكذا في
الأختين يصح نكاح الأولى وبطل نكاح الثانية وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف وقال محمد يختار من الخمس
أربعا ومن الأختين واحدة سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقد استحسانا وبه أخذ الشافعي احتج محمد بما
روى أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا منهن وروى أن قيس
ابن الحارث أسلم وتحته ثمان نسوة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا وروى أن فيروز
الديلمي أسلم وتحته أختان فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستفسر ان نكاحهن كان دفعة واحدة أو على
الترتيب ولو كان الحكم يختلف لاستفسر فدل ان حكم الشرع فيه هو التخيير مطلقا ولأبي حنيفة وأبى يوسف ان الجمع
محرم على المسلم والكافر جميعا لان حرمته ثبتت لمعنى معقول وهو خوف الجور في ايفاء حقوقهن والافضاء إلى قطع
الرحم على ما ذكرنا فيما تقدم وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم والكافر الا أنه لا يتعرض لأهل الذمة مع قيام
الحرمة لان ذلك ديانتهم وهو غير مستثنى من عهودهم وقد نهينا عن التعرض لهم عن مثله بعد اعطاء الذمة وليس لنا
ولاية التعرض لأهل الحرب فإذا أسلم فقد زال المانع فلا يمكن من استيفاء الجمع بعد الاسلام فإذا كان تزوج الخمس
في عقدة واحدة فقد حصل نكاح كل واحدة منهن جميعا إذ ليست إحداهن بأولى من الأخرى والجمع محرم وقد زال
المانع من التعرض فلا بد من الاعتراض بالتفريق وكذلك إذا تزوج الأختين في عقدة واحدة لان نكاح واحدة
منهما جعل جمعا إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى والاسلام يمنع من ذلك ولا مانع من التفريق فيفرق فأما إذا
كان تزوجهن على الترتيب في عقد متفرقة فنكاح الأربع منهن وقع صحيحا لان الحر يملك التزوج بأربع نسوة مسلما
كان أو كافرا ولم يصح نكاح الخامسة لحصوله جمعا فيفرق بينهما بعد الاسلام وكذلك إذا كان تزوج الأختين في
عقدتين فنكاح الأولى وقع صحيحا إذ لا مانع من الصحة وبطل نكاح الثانية لحصوله جمعا فلا بد من التفريق بعد
الاسلام وأما الأحاديث ففيها اثبات الاختيار للزوج المسلم لكن ليس فيها ان له أن يختار ذلك بالنكاح الأول أو
بنكاح جديد فاحتمل انه أثبت له الاختيار لتجدد العقد عليهن ويحتمل انه أثبت له الاختيار ليمسكهن بالعقد الأول
فلا يكون حجة مع الاحتمال مع ما أنه قد روى أن ذلك قبل تحريم الجمع فإنه روى في الخبر أن غيلان أسلم وقد كان تزوج
في الجاهلية وروى عن مكحول أنه قال كان ذلك قبل نزول الفرائض وتحريم الجمع ثبت بسورة النساء الكبرى وهي
314

مدنية وروى أن فيروز لما هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له ان تحتي أختين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ارجع فطلق إحداهما ومعلوم أن الطلاق إنما يكون في النكاح الصحيح فدل ان ذلك العقد وقع صحيحا في الأصل
فدل انه كان قبل تحريم الجمع ولا كلام فيه وعلى هذا الخلاف إذا تزوج الحربي بأربع نسوة ثم سبى هو وسبين معه
أن عند أبي حنيفة وأبى يوسف يفرق بينه وبين الكل سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقد متفرقة لان نكاح
الأربع وقع صحيحا لأنه كان حرا وقت النكاح والحر يملك التزوج بأربع نسوة مسلما كان أو كافرا الا أنه تعذر
الاستيفاء بعد الاسترقاق لحصول الجمع من العبد في حال البقاء بين أكثر من اثنتين والعبد لا يملك الاستيفاء فيقع
جمعا بين الكل ففرق بينه وبين الكل ولا يخير فيه كما إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة بطل نكاحهما ولا يخير
كذا هذا وعند محمد يخير فيه فيختار اثنتين منهن كما يخير الحر في أربع نسوة من نسائه ولو كان الحربي تزوج أما وبنتا
ثم أسلم فإن كان تزوجهما في عقدة واحدة فنكاحهما باطل وإن كان تزوجهما متفرقا فنكاح الأولى جائز ونكاح
الأخرى باطل في قول أبي حنيفة وأبى يوسف كما قالا في الجمع بين الخمس والجمع بين الأختين وقال محمد نكاح البنت
هو الجائز سواء تزوجهما في عقدة واحدة أو في عقدتين ونكاح الام باطل لان مجرد عقد الام لا يحرم البنت وهذا
إذا لم يكن دخل بواحدة منهما ولو أنه كان دخل بهما جميعا فنكاحهما جميعا باطل بالاجماع لان مجرد الدخول يوجب
التحريم سواء دخل بالأم أو بالبنت ولو لم يدخل بالأولى ولكن دخل بالثانية فإن كانت الأولى بنتا والثانية أما
فنكاحهما جميعا باطل بالاجماع لان نكاح البنت يحرم الام والدخول بالأم يحرم البنت ولو كان دخل بإحداهما فإن كان
دخل بالأولى ثم تزوج الثانية فنكاح الأولى جائز ونكاح الثانية باطل بالاجماع ولو تزوج الام أولا ولم يدخل
بها ثم تزوج البنت ودخل بها فنكاحهما جميعا باطل في قول أبي حنيفة وأبى يوسف الا أنه يحل له أن يتزوج بالبنت
ولا يحل له ان يتزوج بالأم وعند محمد نكاح البنت هو الجائز وقد دخل بها وهي امرأته ونكاح الام باطل
* (فصل) * وأما شرائط اللزوم فنوعان في الأصل نوع هو شرط وقوع النكاح لازما ونوع هو شرط بقائه على
اللزوم (أما) الأول فأنواع منها أن يكون الولي في إنكاح الصغير والصغيرة هو الأب أو الجد فإن كان غير الأب والجد
من الأولياء كالأخ والعم لا يلزم النكاح حتى يثبت لهما الخيار بعد البلوغ وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف
هذا ليس بشرط ويلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء حتى لا يثبت لهما الخيار (وجه) قول أبى يوسف أن
هذا النكاح صدر من ولى فيلزم كما إذا صدر عن الأب والجد وهذا لأن ولاية الانكاح ولاية نظر في حق المولى عليه
فيدل ثبوتها على حصول النظر وهذا يمنع ثبوت الخيار لان الخيار لو ثبت إنما يثبت لنفى الضرر ولا ضرر فلا يثبت
الخيار ولهذا لم يثبت في نكاح الأب والجد كذا هذا ولهما ما روى أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن
مظعون من عبد الله بن عمر رضي الله عنه فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البلوغ فاختارت نفسها حتى روى
أن ابن عمر قال إنها انتزعت منى بعدما ملكتها وهذا نص في الباب ولان أصل القرابة إن كان يدل على أصل النظر
لكونه دليلا على أصل الشفقة فقصورها يدل على قصور النظر لقصور الشفقة بسبب بعد القرابة فيجب اعتبار أصل
القرابة باثبات أصل الولاية واعتبار القصور باثبات الخيار تكميلا للنظر وتوفيرا في حق الصغير بتلافي التقصير لو وقع
ولا يتوهم التقصير في إنكاح الأب والجد لوفور شفقتهما لذلك لزم انكاحهما ولم يلزم انكاح الأخ والعم على أن
القياس في إنكاح الأب والجد أن لا يلزم الا انهم استحسنوا في ذلك لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج
عائشة رضي الله عنها وبلغت لم يعلمها بالخيار بعد البلوغ ولو كان الخيار ثابتا لها وذلك حقها لا علمها به وهل يلزم إذا
زوجها الحاكم ذكر في الأصل ما يدل على أنه لا يلزم فإنه قال إذا زوجها غير الأب والجد فلها الخيار والحاكم غير الأب
والجد هكذا قول محمد أن لها الخيار وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة أنه لا خيار لها (وجه) هذه
الرواية أن ولاية الحاكم أعم من ولاية الأخ والعم لأنه يملك التصرف في النفس والمال جميعا فكانت ولايته شبيهة بولاية
315

الأب والجد وولايتهما ملزمة كذلك ولاية الحاكم (وجه) رواية الأصل أن ولاية الأخ والعم أقوى من ولاية
الحاكم بدليل انهما يتقدمان عليه حتى لا يزوج الحاكم مع وجودهما ثم ولايتهما غير ملزمة فولاية الحاكم أولى وإذا ثبت
الخيار لكل واحد منهما وهو اختيار النكاح أو الفرقة فيقع الكلام بعد هذا في موضعين أحدهما في بيان وقت ثبوت
الخيار والثاني في بيان ما يبطل به الخيار أما الأول فالخيار يثبت بعد البلوغ لا قبله حتى لو رضيت بالنكاح قبل البلوغ
لا يعتبر ويثبت الخيار بعد البلوغ لان أهلية الرضا تثبت بعد البلوغ لا قبله فيثبت الخيار بعد البلوغ لا قبله وأما
الثاني فما يبطل به الخيار نوعان نص ودلالة أما النص فهو صريح الرضا بالنكاح نحو أن تقول رضيت بالنكاح
واخترت النكاح أو أجزته وما يجرى هذا المجرى فيبطل خيار الفرقة ويلزم النكاح وأما الدلالة فنحو السكوت
من البكر عقيب البلوغ لان سكوت البكر دليل الرضا بالنكاح لما ذكرنا فيما تقدم أن البكر لغلبة حيائها تستحى عن
اظهار الرضا بالنكاح فاما سكوت الثيب فإن كان وطئها قبل البلوغ فبلغت وهي ثيب فسكتت عقيب البلوغ فلا يبطل
به الخيار لأنها لا تستحى عن اظهار الرضا بالنكاح عادة لان بالثيابة قل حياؤها فلا يصح سكوتها دليلا على الرضا
بالنكاح فلا يبطل خيارها الا بصريح الرضا بالنكاح أو بفعل أو بقول يدل على الرضا نحو التمكين من الوطئ
وطلب المهر والنفقة وغير ذلك وكذا سكوت الغلام بعد البلوغ لان الغلام لا يستحى عن اظهار الرضا بالنكاح إذ
ذاك دليل الرجولية فلا يسقط خياره الا بنص كلامه أو بما يدل على الرضا بالنكاح من الدخول بها وطلب التمكن
منها وادرار النفقة عليها ونحو ذلك ثم العلم بالنكاح شرط بطلان الخيار من طريق الدلة حتى لو لم تكن عالمة بالنكاح
لا يبطل الخيار لان بطلان الخيار لوجود الرضا منها دلالة والرضا بالشئ قبل العلم به لا يتصور إذ هو استحسان
الشئ ومن لم يعلم بشئ كيف يستحسنه فإذا كانت عالمة بالنكاح ووجد منها دليل الرضا بالنكاح بطل خيارها
ولا يمتد هذا الخيار إلى آخر المجلس بل يبطل بالسكوت من البكر بخلاف خيار العتق وخيار المخيرة لان التخيير
هناك وجد من العبد وهو الزوج أو المولى أما في الزوج فظاهر وكذا في المولى لان الخيار يثبت بالعتق والعتق
حصل باعتاقه والتخيير من العبد تمليك فيقتضى جوابا في المجلس فيمتد إلى آخر المجلس كخيار القبول في البيع
بخلاف خيار البلوغ لأنه ما ثبت بصنع العبد بل باثبات الشرع فلم يكن تمليكا فلا يمتد إلى آخر المجلس وان لم تكن عالمة
بالنكاح فلها الخيار حين تعلم بالنكاح ثم خيار البلوغ يثبت للذكر والأنثى وخيار العتق لا يثبت الا للمعتقة لان
خيار البلوغ يثبت لقصور الولاية وذا لا يختلف بالذكورة والأنوثة وخيار العتق ثبت لزيادة الملك عليها بالعتق
وذا يختص بها وكذا خيار البلوغ للذكر والأنثى إذا كانت الأنثى ثيبا لا يبطل بالقيام عن المجلس وخيار العتق والمخيرة
يبطل والفرق على نحو ما ذكرنا من خيار البكر وخيار العتق وخيار المخيرة أن الأول يبطل بالسكوت والثاني لا يبطل
وأما العلم بالخيار فليس بشرط والجهل به ليس بعذر لان دار الاسلام دار العلم بالشرائع فيمكن الوصول إليها بالتعلم
فكان الجهل بالخيار في غير موضعه فلا يعتبر ولهذا لا يعذر العوام في دار الاسلام بجهلهم بالشرائع بخلاف خيار
العتق فان العلم بالخيار هناك شرط والجهل به عذر وإن كان دار الاسلام دار العلم بالشرائع والأحكام لان
الوصول إليها ليس من طريق الضرورة بل بواسطة التعلم والأمة لا تتمكن من التعلم لأنها لا تتفرغ لذلك لاشتغالها
بخدمة مولاها بخلاف الحرة ثم إذا اختار أحدهما الفرقة فهذه الفرقة لا تثبت الا بقضاء القاضي بخلاف خيار العتق
فان المعتقة إذا اختارت نفسها تثبت الفرقة بغير قضاء القاضي (وجه) الفرق ان أصل النكاح ههنا ثابت
وحكمه نافذ وإنما الغائب وصف الكمال وهو صفة اللزوم فكان الفسخ من أحد الزوجين رفع الأصل بفوات
الوصف وفوات الوصف لا يوجب رفع الأصل لما فيه من جعل الأصل تبعا للوصف وليس له هذه الولاية وبه
حاجة إلى ذلك فلا بد من رفعه إلى من له الولاية العامة وهو القاضي ليرفع النكاح دفعا لحاجة الصغير الذي بلغ ونظرا
له بخلاف خيار العتق لان الملك ازداد عليها بالعتق ولها أن لا ترضى بالزيادة فكان لها أن تدفع الزيادة ولا يمكن دفعها الا
316

باندفاع ما كان ثابتا فيندفع الثابت ضرورة دفع الزيادة وهذا يمكن إذ ليس بعض الملك تابعا لبعض فلا تقع الحاجة إلى
قضاء القاضي ونظير الفصلين الرد بالعيب قبل القبض وبعده ان الأول يثبت بدون قضاء القاضي والثاني لا يثبت عند
عدم التراضي منهما الا بقضاء القاضي والله عز وجل أعلم ولو زوج ابنته ابن أخيه فلا خيار لها بالاجماع لان النكاح
صدر عن الأب وأما ابن الأخ فله الخيار في قول أبي حنيفة ومحمد لصدور النكاح عن العم وعند أبي يوسف لا خيار له
والمسألة قد مرت ولو أعتق أمته ثم زوجها وهي صغيرة فلها خيار البلوغ لأن ولاية الولاء دون ولاية القرابة فلما ثبت
الخيار ثمة فلان يثبت ههنا أولى ولو زوجها ثم أعتقها وهي صغيرة فلها إذا بلغت خيار العتق لا خيار البلوغ لان النكاح
صادفها وهي رقيقة
* (فصل) * ومنها كفاءة الزوج في إنكاح المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها من غير رضا الأولياء بمهر مثلها فيقع
الكلام في هذا الشرط في أربعة مواضع أحدها في بيان ان الكفاءة في باب النكاح هل هي شرط لزوم النكاح في
الجملة أم لا والثاني في بيان النكاح الذي الكفاءة من شرط لزومه والثالث في بيان ما تعتبر فيه الكفاءة والرابع في
بيان من يعتبر له الكفاءة أما الأول فقد قال عامة العلماء انها شرط وقال الكرخي ليست بشرط أصلا وهو قول
مالك وسفيان الثوري والحسن البصري واحتجوا بما روى أن أبا طيبة خطب إلى بنى بياضة فأبوا ان يزوجوه فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم انكحوا أبا طيبة ان لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وروى أن بلالا رضي الله عنه
خطب إلى قوم من الأنصار فأبوا ان يزوجوه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لهم ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة ولو كانت معتبرة
لما أمر لان التزويج من غير كف ء غير مأمور به وقال صلى الله عليه وسلم ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى وهذا
نص ولان الكفاءة لو كانت معتبرة في الشرع لكان أولى الأبواب بالاعتبار بها باب الدماء لأنه يحتاط فيه ما لا يحتاط
في سائر الأبواب ومع هذا لم يعتبر حتى يقتل الشريف بالوضيع فههنا أولى والدليل عليه انها لم تعتبر في جانب المرأة فكذا
في جانب الزوج (ولنا) ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يزوج النساء الا الأولياء ولا يزوجن الا
من الأكفاء ولا مهر أقل من عشرة دراهم ولان مصالح النكاح تختل عند عدم الكفاءة لأنها لا تحصل الا بالاستفراش
والمرأة تستنكف عن استفراش غير الكفء وتعير بذلك فتختل المصالح ولان الزوجين يجرى بينهما مباسطات في
النكاح لا يبقى النكاح بدون تحملها عادة والتحمل من غير الكفء أمر صعب يثقل على الطباع السليمة فلا يدوم
النكاح مع عدم الكفاءة فلزم اعتبارها ولا حجة لهم في الحديثين لان الامر بالتزويج يحتمل أنه كان ندبا لهم إلى
الأفضل وهو اختيار الدين وترك الكفاءة فيما سواه والاقتصار عليه وهذا لا يمنع جواز الامتناع وعندنا الأفضل
اعتبار الدين والاقتصار عليه ويحتمل أنه كان أمر ايجاب أمرهم بالتزويج منهما مع عدم الكفاءة تخصيصا لهم
بذلك كما خص أبا طيبة بالتمكين من شرب دمه صلى الله عليه وسلم وخص خزيمة بقبول شهادته وحده ونحو ذلك
ولا شركة في موضع الخصوصية حملنا الحديثين على ما قلنا توفيقا بين الدلائل وأما الحديث الثالث فالمراد به أحكام
الآخرة إذ لا يمكن حمله على أحكام الدنيا لظهور فضل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدنيا فيحمل على
أحكام الآخرة وبه نقول والقياس على القصاص غير سديد لان القصاص شرع لمصلحة الحياة واعتبار الكفاءة
فيه يؤدى إلى تفويت هذه المصلحة لان كل أحد يقصد قتل عدوه الذي لا يكافئه فتفوت المصلحة المطلوبة من
القصاص وفى اعتبار الكفاءة في باب النكاح تحقيق المصلحة المطلوبة من النكاح من الوجه الذي بينا فبطل الاعتبار
وكذا الاعتبار بجانب المرأة لا يصح أيضا لان الرجل لا يستنكف عن استفراش المرأة الدنيئة لان الاستنكاف
عن المستفرش لا عن المستفرش والزوج مستفرش فيستفرش الوطئ والخشن
* (فصل) * وأما الثاني فالنكاح الذي الكفاءة فيه شرط لزومه هو انكاح المرأة نفسها من غير رضا الأولياء لا يلزم
317

حتى لو زوجت نفسها من غير كف ء من غير رضا الأولياء لا يلزم وللأولياء حق الاعتراض لان في الكفاءة حقا
للأولياء لأنهم ينتفعون بذلك ألا ترى أنهم يتفاخرون بعلو نسب الختن ويتعيرون بدناءة نسبه فيتضررون بذلك
فكان لهم أن يدفعوا الضرر عن أنفسهم بالاعتراض كالمشترى إذا باع الشقص المشفوع ثم جاء الشفيع كان له أن
يفسخ البيع ويأخذ المبيع بالشفعة دفعا للضرر عن نفسه كذا هذا ولو كان التزويج برضاهم يلزم حتى لا يكون لهم حق
الاعتراض لان التزويج من المرأة تصرف من الأهل في محل هو خالص حقها وهو نفسها وامتناع اللزوم كان لحقهم
المتعلق بالكفاءة فإذا رضوا فقد أسقطوا حق أنفسهم وهم من أهل الاسقاط والمحل قابل للسقوط فيسقط ولو رضى
به بعض الأولياء سقط حق الباقين في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يسقط وجه قوله أن حقهم في الكفاءة
ثبت مشتركا بين الكل فإذا رضى به أحدهم فقد أسقط حق نفسه فلا يسقط حق الباقين كالدين إذا وجب لجماعة
فابرأ بعضهم لا يسقط حق الباقين لما قلنا كذا هذا ولان رضا أحدهم لا يكون أكثر من رضاها فان زوجت نفسها
من غير كف ء بغير رضاهم لا يسقط حق الأولياء برضاها فلان لا يسقط برضا أحدهم أولى ولهما أن هذا حق
واحد لا يتجزأ ثبت بسبب لا يتجزأ وهو القرابة واسقاط بعض ما لا يتجزأ اسقاط لكله لأنه لا بعض له فإذا
اسقط واحد منهم لا يتصور بقاؤه في حق الباقين كالقصاص إذا وجب لجماعة فعفا أحدهم عنه أنه يسقط حق
الباقين كذا هذا ولان حقهم في الكفاءة ما ثبت لعينه بل لدفع الضرر والتزويج من غير كف ء وقع اضرارا بالأولياء من
حيث الظاهر وهو ضرر عدم الكفاءة فالظاهر أنه لا يرضى به أحدهم الا بعد علمه بمصلحة حقيقية هي أعظم من
مصلحة الكفاءة وقف هو عليها وغفل عنها الباقون لولاها لما رضى وهي دفع ضرر الوقوع في الزنا على تقدير الفسخ
وأما قوله الحق ثبت مشتركا بينهم فنقول على الوجه الأول ممنوع بل ثبت لكل واحد منهم على الكمال كان ليس معه
غيره لان ما لا يتجزأ لا يتصور فيه الشركة كحق القصاص والأمان بخلاف الدين فإنه يتجزأ فتتصور فيه الشركة
وبخلاف ما إذا زوجت نفسها من غير كف ء بغير رضا الأولياء لان هناك الحق متعدد فحقها خلاف جنس حقهم
لان حقها في نفسها وفى نفس العقد ولا حق لهم في نفسها ولا في نفس العقد وإنما حقهم في دفع الشين عن أنفسهم وإذا
اختلف جنس الحق فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر وأما على الوجه الثاني فمسلم لكن هذا الحق
ما ثبت لعينه بل لدفع الضرر وفى بقائه لزوم أعلى الضررين فسقط ضرورة وكذلك الأولياء لو زوجوها من غير
كف ء برضاها يلزم النكاح لما قلنا ولو زوجها أحد الأولياء من غير كف ء برضاها من غير رضا الباقين يجوز عند عامة
العلماء خلافا لمالك بناء على أن ولاية الانكاح ولاية مستقلة لكل واحد منهم عندنا وعند ولاية مشتركة وقد
ذكرنا المسألة في شرائط الجواز وهل يلزم قال أبو حنيفة ومحمد يلزم وقال أبو يوسف وزفر والشافعي لا يلزم وجه
قولهم على نحو ما ذكرنا فيما تقدم ان الكفاءة حق ثبت للكل على الشركة واحد الشريكين إذا اسقط حق نفسه
لا يسقط حق صاحبه كالدين المشترك وجه قولهما ان هذا حق واحد لا يتجزأ ثبت بسبب لا يتجزأ ومثل هذا الحق
إذا ثبت لجماعة يثبت لكل واحد منهم على الكمال كان ليس معه غيره كالقصاص والأمان ولان اقدامه على النكاح
مع كمال الرأي برضاها مع التزام ضرر ظاهر بالقبيلة وبنفسه وهو ضرر عدم الكفاءة بلحوق العار والشين دليل كونه
مصلحة في الباطن وهو اشتماله على دفع ضرر أعظم من ضرر عدم الكفاءة وهو ضرر عار الزنا أو غيره لولاه لما فعل وأما
انكاح الأب والجد الصغير الصغيرة فالكفاءة فيه ليست بشرط للزومه عند أبي حنيفة كما أنها ليست بشرط
الجواز عنده فيجوز ذلك ويلزم لصدوره ممن له كمال نظر لكمال الشفقة بخلاف انكاح الأخ والعم من غير الكفء
انه لا يجوز بالاجماع لأنه ضرر محض على ما بينا في شرائط الجواز واما انكاحهما من الكفء فجائز عندنا خلافا
للشافعي لكنه غير لازم في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لازم والمسألة قد مرت
* (فصل) * وأما الثالث في بيان ما تعتبر فيه الكفاءة فما تعتبر فيه الكفاءة أشياء منها النسب والأصل فيه قول النبي
318

صلى الله عليه وسلم قريش بعضهم أكفاء لبعض والعرب بعضهم أكفاء لبعض حي بحي وقبيلة بقبيلة والموالي
بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل لان التفاخر والتعيير يقعان بالأنساب فتلحق النقيصة بدناءة النسب فتعتبر فيه
الكفاءة فقريش بعضهم أكفاء لبعض على اختلاف قبائلهم حتى يكون القرشي الذي ليس بهاشمي كالتيمي
والأموي والعدوي ونحو ذلك كفأ للهاشمي لقوله صلى الله عليه وسلم قريش بعضهم أكفاء لبعض وقريش
تشتمل على بني هاشم والعرب بعضهم أكفاء لبعض بالنص ولا تكون العرب كفأ لقريش لفضيلة قريش على
سائر العرب ولذلك اختصت الإمامة بهم قال النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش بخلاف القرشي انه
يصلح كفأ للهاشمي وإن كان للهاشمي من الفضيلة ما ليس للقرشي لكن الشرع أسقط اعتبار تلك الفضيلة في باب
النكاح عرفنا ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم زوج ابنته من عثمان رضي الله عنه وكان أمويا لا هاشميا وزوج علي رضي الله عنه ابنته من عمر رضي الله عنه
ولم يكن هاشميا بل عدويا فدل ان الكفاءة في قريش لا تختص ببطن دون بطن واستثنى محمد رضي الله عنه
بيت الخلافة فلم يجعل القرشي الذي ليس بهاشمي كفأ له ولا تكون الموالي أكفاء للعرب لفضل العرب على العجم
والموالي بعضهم أكفاء لبعض بالنص وموالي العرب أكفاء لموالي قريش لعموم قوله والموالي بعضهم أكفاء لبعض
رجل برجل ثم مفاخرة العجم بالاسلام لا بالنسب ومن له أب واحد في الاسلام لا يكون كفأ لمن له آباء كثيرة في
الاسلام لان تمام التعريف بالجد والزيادة على ذلك لا نهاية لها وقيل هذا إذا كان في موضع قد طال عهد الاسلام
وامتد فاما إذا كان في موضع كان عهد الاسلام قريبا بحيث لا يعير بذلك ولا يعد عيبا يكون بعضهم كفأ لبعضهم لان
التعيير إذا لم يجبر بذلك ولم يعد عيبا لم يلحق الشين والنقيصة فلا يتحقق الضرر
* (فصل) * ومنها الحرية لان النقص والشين بالرق فوق النقص والشين بدناءة النسب فلا يكون القن والمدبر
والمكاتب كفأ للحرة بحال ولا يكون مولى العتاقة كفأ لحرة الأصل ويكون كفأ لمثله لان التفاخر يقع بالحرة
الأصلية والتعيير يجرى في الحرية العارضة المستفادة بالاعتاق وكذا من له أب واحد في الحرية لا يكون كفأ لمن له
أبوان فصاعدا في الحرية ومن له أبوان في الحرية لا يكون كفأ لمن له آباء كثيرة في الحرية كما في اسلام الآباء لان أصل
التعريف بالأب وتمامه بالجد وليس وراء التمام شئ وكذا مولى الوضيع لا يكون كفأ لمولاة الشريف حتى لا يكون
مولى العرب كفأ لمولاة بني هاشم حتى لو زوجت مولاة بني هاشم نفسها من مولى العرب كان لمعتقها حق الاعتراض
لان الولاء بمنزلة النسب قال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب
* (فصل) * ومنها المال فلا يكون الفقير كفأ للغنية لان التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة وخصوصا في
زماننا هذا ولان للنكاح تعلقا بالمهر والنفقة تعلقا لازما فإنه لا يجوز بدون المهر والنفقة لازمة ولا تعلق له بالنسب
والحرية فلما اعتبرت الكفاءة ثمة فلان تعتبر ههنا أولى والمعتبر فيه القدرة على مهر مثلها والنفقة ولا تعتبر الزيادة على
ذلك حتى أن الزوج إذا كان قادرا على مهر مثلها ونفقتها يكون كفأ لها وإن كان لا يساويها في المال هكذا روى عن
أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد في ظاهر الروايات وذكر في غير رواية الأصول ان تساويهما في الغنا شرط تحقق
الكفاءة في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف لان التفاخر يقع في الغنا عادة والصحيح هو الأول لان الغنا لا
ثبات له لان المال غاد ورائح فلا تعتبر المساواة في الغنا ومن لا يملك مهرا ولا نفقة لا يكون كفأ لان المهر عوض
ما يملك بهذا العقد فلا بد من القدرة عليه وقيام الازدواج بالنفقة فلا بد من القدرة عليها ولان من لا قدرة له على المهر
والنفقة يستحقر ويستهان في العادة كمن له نسب دنئ فتختل به المصالح كما تختل عند دناءة النسب وقيل المراد من
المهر قدر المعجل عرفا وعادة دون ما في الذمة لان ما في الذمة يسامح فيه بالتأخير إلى وقت اليسار فلا يطلب به للحال عادة
والمال غاد ورائح وروى عن أبي يوسف انه إذا ملك النفقة يكون كفأ أو ان أم يملك المهر هكذا روى الحسن بن أبي
319

مالك عنه فإنه روى عنه أنه قال سألت أبا يوسف عن الكفء فقال الذي يملك المهر والنفقة فقلت وإن كان يملك المهر
دون النفقة فقال لا يكون كفأ فقلت فان ملك النفقة دون المهر فقال يكون كفأ وإنما كان كذلك لان المرء يعد قادرا
على المهر بقدرة أبيه عادة ولهذا لم يجز دفع الزكاة إلى ولد الغنى إذا كان صغيرا وإن كان فقيرا في نفسه لأنه يعد غنيا بمال
أبيه ولا يعد قادرا على النفقة بغنى أبيه لان الأب يتحمل المهر الذي على ابنه ولا يتحمل نفقة زوجته عادة وقال بعضهم
إذا كان الرجل ذا جاه كالسلطان والعالم فإنه يكون كفأ وإن كان لا يملك من المال الا قدر النفقة لما ذكرنا ان المهر
تجرى فيه المسامحة بالتأخير إلى وقت اليسار والمال يغدو ويروح وحاجة المعيشة تندفع بالنفقة
* (فصل) * ومنها الدين في قول أبي حنيفة وأبى يوسف حتى لو أن امرأة من بنات الصالحين إذا زوجت نفسها من
فاسق كان للأولياء حق الاعتراض عندهما لان التفاخر بالدين أحق من التفاخر بالنسب والحرية والمال والتعيير
بالفسق أشد وجوه التعيير وقال محمد لا تعتبر الكفاءة في الدين لان هذا من أمور الآخرة والكفاءة من أحكام الدنيا
فلا يقدح فيها الفسق الا إذا كان شيئا فاحشا بأن كان الفاسق ممن يسخر منه ويضحك عليه ويصفع فإن كان ممن
يهاب منه بأن كان أميرا قتالا يكون كفأ لان هذا الفسق لا يعد شينا في العادة فلا يقدح في الكفاءة وعن أبي يوسف
ان الفاسق إذا كان معلنا لا يكون كفأ وإن كان مستترا يكون كفأ
* (فصل) * وأما الحرفة فقد ذكر الكرخي ان الكفاءة في الحرف والصناعات معتبرة عند أبي يوسف فلا يكون
الحائك كفأ للجوهري والصيرفي وذكر ان أبا حنيفة بنى الامر فيها على عادة العرب ان مواليهم يعملون هذه الاعمال
لا يقصدون بها الحرف فلا يعيرون بها وأجاب أبو يوسف على عادة أهل البلاد انهم يتخذون ذلك حرفة فيعيرون
بالدنئ من الصنائع فلا يكون بينهم خلاف في الحقيقة وكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي اعتبار الكفاءة
في الحرفة ولم يذكر الخلاف فتثبت الكفاءة بين الحرفتين في جنس واحد كالبزاز مع البزاز والحائك مع الحائك وتثبت
عند اختلاف جنس الحرف إذا كان يقارب بعضها بعضا كالبزاز مع الصائغ والصائغ مع العطار والحائك مع الحجام
والحجام مع الدباغ ولا تثبت فيما لا مقاربة بينهما كالعطار مع البيطار والبزاز مع الخراز وذكر في بعض نسخ الجامع
الصغير أن الكفاءة في الحرف معتبرة في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف غير معتبره الا أن تكون فاحشة كالحياكة
والحجامة والدباغة ونحو ذلك لأنها ليست بأمر لازم واجب الوجود ألا ترى انه يقدر على تركها وهذا يشكل بالحياكة
وأخواتها فإنه قادر على تركها ومع هذا يقدح في الكفاءة والله تعالى الموفق وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض لان
اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة ولا نقيصة أعظم من الكفر
* (فصل) * وأما بيان من تعتبر له الكفاءة فالكفاءة تعتبر للنساء لا للرجال على معنى انه تعتبر الكفاءة في جانب الرجال
للنساء ولا تعتبر في جانب النساء للرجال لان النصوص وردت بالاعتبار في جانب الرجال خاصة وكذا المعنى الذي
شرعت له الكفاءة يوجب اختصاص اعتبارها بجانبهم لأن المرأة هي التي تستنكف لا الرجل لأنه هي المستفرشة
فاما الزوج فهو المستفرش فلا تلحقه الأنفة من قبلها ومن مشايخنا من قال إن الكفاءة في جانب النساء معتبرة أيضا عند أبي
يوسف ومحمد استدلالا بمسألة ذكرها في الجامع الصغير في باب الوكالة وهي أن أميرا أمر رجلا ان يزوجه امرأة
فزوجه أمة لغيره قال جاز عند أبي جنيفة وعندهما لا يجوز ولا دلالة في هذه المسألة على ما زعموا لأن عدم الجواز
عندهما يحتمل أن يكون لمعنى آخر وهو ان من أصلهما أن التوكيل المطلق يتقيد بالعرف والعادة فينصرف
إلى المتعارف كما في الوكيل بالبيع المطلق ومن أصل أبي حنيفة انه يجرى على اطلاقه في غير موضع الضرورة والتهمة
ويحتمل أن يكون عدم الجواز عندهما لاعتبار الكفاءة في تلك المسألة خاصة حملا للمطلق على المتعارف كما هو
أصلهما إذ المتعارف هو التزويج بالكفء فاستحسنا اعتبار الكفاءة في جانبهن في مثل تلك الصورة لمكان العرف
والعادة وقد نص محمد رحمه الله على القياس والاستحسان في تلك المسألة في وكالة الأصل فلم تكن هذه المسألة دليلا
320

على اعتبار الكفاءة في جانبهن أصلا عندهما ولا تكون دليلا على ذلك على الاطلاق بل في تلك الصورة خاصة
استحسانا للعرف ولو أظهر رجل نسبه لامرأة فزوجت نفسها منه ثم ظهر نسبه على على خلاف ما أظهره فالامر
لا يخلو اما أن يكون المكتوم مثل المظهر واما أن يكون أعلى منه واما أن يكون أدون فإن كان مثله بان أظهر انه تيمي ثم
ظهر أنه عدوى فلا خيار لها لان الرضا بالشئ يكون رضا بمثله وإن كان أعلى منه بان أظهر انه عربي فظهر انه قرشي
فلا خيار لها أيضا لان الرضا بالأدنى يكون رضا بالأعلى من طريق الأولى وعن الحسن بن زياد ان لها الخيار
لان الاعلى لا يحتمل منها ما يحتمل الأدنى فلا يكون الرضا منها بالمظهر رضا بالأعلى منه وهذا غير سديد لأن الظاهر
أنها ترضى بالكفء وإن كان الكفء لا يحتمل منها ما يحتمل غير الكفء لان غير الكفء ضرره أكثر من
نفعه فكان الرضا بالمظهر رضا بالأعلى منه من طريق الأولى وإن كان أدون منه بان أظهر انه قرشي ثم ظهر انه عربي فلها
الخيار وإن كان كفأ لها بأن كانت المرأة عربية لأنها إنما رضيت بشرط الزيادة وهي زيادة مرغوب فيها ولم تحصل
فلا تكون راضية بدونها فكان لها الخيار وروى أنه لا خيار لها لان الخيار لدفع النقص ولا نقيصه لأنه كف ء لها هذا
إذا فعل الرجل ذلك فاما إذا فعلت المرأة بان أظهرت امرأة نسبها لرجل فتزوجها ثم ظهر بخلاف ما أظهرت فلا خيار
للزوج سواء تبين انها حرة أو أمة لان الكفاءة في جانب النساء غير معتبرة ويتصل بهذا ما إذا تزوج رجل امرأة
على أنها حرة فولدت منه ثم أقام رجل البينة على أنها أمته فان المولى بالخيار ان شاء أجاز النكاح وان شاء أبطله لان
النكاح حصل بغير اذن المولى فوقف على اجازته ويغرم العقر لأنه وطئ جارية غير مملوكة له حقيقة فلا يخلو عن عقوبة
أو غرامة ولا سبيل إلى ايجاب العقوبة للشبهة فتجب الغرامة وأما الولد فإن كان المغرور حرا فالولد حر بالقيمة لاجماع
الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإنه روى عن عمر رضي الله عنه انه قضى بذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم
ولم ينقل انه أنكر عليه أحد فيكون اجماعا ولان الاستيلاد حصل بناء على ظاهر النكاح إذ لا علم للمستولد بحقيقة الحال
فكان المستولد مستحقا للنظر والمستحق مستحق للنظر أيضا لأنه ظهر كون الجارية ملكا له فتجب مراعاة الحقين
بقدر الامكان فراعينا حق المستولد في صورة الأولاد وحق المستحق في معنى الأولاد رعاية للجانبين بقدر الامكان
وتعتبر قيمته يوم الخصومة لأنه وقت سبب وجوب الضمان وهو منع الولد عن المستحق له لأنه علق عبدا في حقه ومنع
عنه يوم الخصومة ولو مات الولد قبل الخصومة لا يغرم قيمته لأن الضمان يجب بالمنع ولم يوجد المنع من المغرور ولأنه
لا صنع له في موته وإن كان الابن ترك مالا فهو ميراث لأبيه لأنه ابنه وقد مات حرا فيرثه ولا يغرم للمستحق شيئا لان
الميراث ليس ببدل عن الميت وإن كان الابن قتله رجل وأخذ الأب الدية فإنه يغرم قيمته للمستحق لان الدية بدل
عن المقتول فتقوم مقامه كأنه حي وإن كان رجل ضرب بطن الجارية فألقت جنينا ميتا يغرم الضارب الغرة خمسمائة ثم
يغرم المستولد للمستحق فإن كان الولد ذكرا فنصف عشر قيمته وإن كان أنثى فعشر قيمتها وإن كان المغرور عبدا
فالأولاد يكونون أرقاء للمستحق في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد يكونون أحرارا ويكونون أولاد المغرور
(وجه) قول محمد ان هذا ولد المغرور حقيقة لا نخلاقه من مائه وولد المغرور حر بالقيمة باجماع الصحابة رضي الله عنه
عنهم ولهما ان القياس أن يكون الولد ملك المستحق لان الجارية تبين لها ملكه فيتبين ان الولد حدث على ملكه لان
الولد يتبع الام في الحرية والرق الا أنا تركنا القياس باجماع الصحابة رضي الله عنهم وهم إنما قضوا بحرية الولد في المغرور
الحر فبقي الامر في غيره مردود إلى أصل القياس ثم المغرور هل يرجع بما غرم على الغار والغار لا يخلو اما أن يكون
أجنبيا واما أن يكون مولى الجارية واما أن يكون هي الجارية فإن كان أجنبيا فإن كان حرا فغره بأن قال تزوج بها فإنها
حرة أو لم يأمره بالتزويج لكنه زوجها على أنها حرة أو قال هي حرة وزوجها منه فإنه يرجع على الغار بقيمة الأولاد
لأنه صار ضامنا له ما يلحقه من الغرامة في ذلك النكاح فيرجع عليه بحكم الضمان ولا يرجع عليه بالعقر لأنه ضمنه
بفعل نفسه فلا يرجع على أحد ولو قال هي حرة ولم يأمره بالتزويج ولم يزوجها منه لا يرجع على المخبر شئ لان
321

معنى الضمان والالتزام لا يتحقق بهذا القدر وإن كان الغار عبد الرجل فإن كان مولاه لم يأمره بذلك يرجع عليه
بعد العتاق وإن كان أمره بذلك رجع عليه للحال الا إذا كان مكاتبا أو مكاتبة فإنه يرجع عليه بعد العتاق لان أمر المولى
بذلك لا يصح وإن كان المولى هو الذي غره فلا يضمن المغرور من قيمة الأولاد شيئا لأنه لو ضمن للمولى لكان له ان
يرجع على المولى بما ضمن فلا يفيد وجوب الضمان وإن كانت الأمة هي التي غرته فإن كان المولى لم يأمرها بذلك فان
المغرور يرجع على الأمة بعد العتاق لا للحال لأنه دين لم يظهر في حق المولى وإن كان أمرها بذلك يرجع على الأمة للحال
لأنه ظهر وجوبه في حق المولى هذا إذا غره أحد اما إذا لم يغره أحد ولكنه ظن أنها حرة فتزوجها فإذا هي أمة فإنه
لا يرجع بالعقر على أحد لما قلنا والأولاد أرقاء لمولى الأمة لان الجارية ملكه والله أعلم
* (فصل) * ومنها كمال مهر المثل في إنكاح الحرة العاقلة البالغة نفسها من غير كف ء بغير رضا الأولياء في قول أبي حنيفة
حتى لو زوجت نفسها من كف ء بأقل من مهر مثلها مقدار ما لا يتغابن فيه الناس بغير رضا الأولياء فللأولياء حق
الاعتراض عنده فاما ان يبلغ الزوج إلى مهر مثلها أو يفرق بينهما وعند أبي يوسف ومحمد هذا ليس بشرط ويلزم
النكاح بدونه حتى يثبت للأولياء حق الاعتراض وهاتان المسئلتان أعني هذه المسألة والمسألة المتقدمة عليها وهي ما إذا
زوجت نفسها من غير كف ء وبغير رضا الأولياء لا شك انهما يتفرعان على أصل أبي حنيفة وزفر واحدى الروايتين
عن أبي يوسف ورواية الرجوع عن محمد لان النكاح جائز واما على أصل محمد في ظاهر الرواية عنه واحدى
الروايتين عن أبي يوسف فلا يجوز هذا النكاح فيشكل التفريع فتصور المسألة فيما إذا أذن الولي لها بالتزويج فزوجت
نفسها من غير كف ء أو من كف ء بأقل من مهر مثلها وذكر في الأصل صورة أخرى وهي ما إذا أكره الولي والمرأة على
النكاح من غير كف ء أو من كف ء بأقل من مهر مثلها ثم زال الاكراه ففي المسألة الأولى لكل واحد منهما أعني الولي
والمرأة حق الاعتراض وان رضى أحدهما لا يبطل حق الآخر وفى المسألة الثانية لها حق الاعتراض فان رضيت
بالنكاح والمهر فللولي ان يفسخ في قول أبي حنيفة وفى قول محمد وأبى يوسف الأخير ليس له ان يفسخ وتصور
المسألة على أصل الشافعي فيما إذا أمر الولي رجلا بالتزويج فزوجها من غير كف ء برضاها أو من كف ء بمهر قاصر
برضاها (وجه) قول أبى يوسف ومحمد ان المهر حقها على الخلوص كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة فكانت هي
بالنقص متصرفة في خالص حقها فيصح ويلزم كما إذا أبرأت زوجها عن المهر ولهذا جاز الابراء عن الثمن في باب البيع
والبيع بثمن بخس كذا هذا ولأبي حنيفة ان للأولياء حقا في المهر لأنهم يفتخرون بغلاء المهر ويتعيرون ببخسه
فيلحقهم الضرر بالبخس وهو ضرر التعيير فكان لهم دفع الضرر عن أنفسهم بالاعتراض ولهذا يثبت لهم حق الاعتراض
بسبب عدم الكفاءة كذا هذا ولأنها بالبخس عن مهر مثلها أضرت بنساء قبيلتها لان مهور مثلها عند تقادم العهد تعتبر
بها فكانت بالنقص ملحقة الضرر بالقبيلة فكان لهم دفع هذا الضرر عن أنفسهم بالفسخ والله أعلم
* (فصل) * ومنها خلو الزوج عن عيب الجب والعنة عند عدم الرضا من الزوجة بهما عند عامة العلماء وقال بعضهم
عيب العنة لا يمنع لزوم النكاح واحتجوا بما روى أن امرأة رفاعة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول
الله انى كنت تحت رفاعة فطلقني آخر التطليقات الثلاث وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير فوالله ما وجدت معه الا
مثل الهدية فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعلك تريدين ان ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق
عسيلتك فوجه الاستدلال ان تلك المرأة ادعت العنة على زوجها ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الخيار ولو
لم يقع النكاح لازما لا ثبت ولان هذا العيب لا يوجب فوات المستحق بالعقد بيقين فلا يوجب الخيار كسائر أنواع
العيوب بخلاف الجب فإنه يفوت المستحق بالعقد بيقين (ولنا) اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى عن عمر
رضي الله عنه انه قضى في العنين انه يؤجل سنة فان قدر عليها والا أخذت منه الصداق كاملا وفرق بينهما وعليها العدة
وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه مثله وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال يؤجل سنة فان وصل إليها والا فرق
322

بينهما وكان قضاؤهم بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل انه أنكر عليهم أحد منهم فيكون اجماعا ولان الوطئ
مرة واحدة مستحق على الزوج للمرأة بالعقد وفى الزام العقد عند تقرر العجز عن الوصول تفويت المستحق بالعقد
عليها وهذا ضرر بها وظلم في حقها وقد قال الله تعالى ولا يظلم ربك أحدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا
اضرار في الاسلام فيؤدى إلى التناقض وذلك محال لان الله تعالى أوجب على الزوج الامساك بالمعروف أو التسريح
بالاحسان بقوله تعالى عز وجل فامساك بمعروف أو تسريح باحسان ومعلوم ان استيفاء النكاح عليها مع كونها
محرومة الحظ من الزوج ليس من الامساك بالمعروف في شئ فتعين عليه التسريح بالاحسان فان سرح بنفسه والا
ناب القاضي منابه في التسريح ولان المهر عوض في عقد النكاح والعجز عن الوصول يوجب عيبا في العوض لأنه يمنع
من تأكده بيقين لجواز ان يختصما إلى قاض لا يرى تأكد المهر بالخلوة فيطلقها ويعطيها نصف المهر فيتمكن في المهر
عيب وهو عدم التأكد بيقين والعيب في العوض يوجب الخيار كما في البيع ولا حجة لهم في الحديث لان تلك المقالة منها
لم تكن دعوى العنة بل كانت كناية عن معنى اخر وهو دقة القضيب والاعتبار بسائر العيوب لا يصح لأنها لا توجب
فوات المستحق بالعقد لما نذكر في تلك المسألة إن شاء الله تعالى وهذا يوجب ظاهرا وغالبا لان العجز يتقرر بعدم
الوصول في مدة السنة ظاهرا فيفوت المستحق بالعقد ظاهرا فبطل الاعتبار وإذا عرف هذا فإذا رفعت المرأة زوجها
وادعت انه عنين وطلبت الفرقة فان القاضي يسأله هل وصل إليها أو لم يصل فان أقر انه لم يصل أجله سنة سواء كانت
المرأة بكرا أو ثيبا وان أنكر وادعى الوصول إليها فإن كانت المرأة ثيبا فالقول قوله مع يمينه انه وصل إليها لان الثيابة دليل
الوصول في الجملة والمانع من الوصول من جهته عارض إذ الأصل هو السلامة عن العيب فكان الظاهر شاهدا له الا
انه يستحلف دفعا للتهمة وان قالت أنا بكر نظر إليها النساء وامرأة واحدة تجزى لان البكارة باب لا يطلع عليه الرجال
وشهادة النساء بانفرادهن في هذا الباب مقبولة للضرورة وتقبل فيه شهادة الواحدة كشهادة القابلة على الولادة ولان
الأصل حرمة النظر إلى العورة وهو العزيمة لقوله تعالى وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن وحق الرخصة يصير
مقضيا بالواحدة ولان الأصل ان ما قبل قول النساء فيه بانفرادهن لا يشترط فيه العدد كرواية الاخبار عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم والثنتان أوثق لان غلبة الظن بخبر العدد أقوى فان قلن هي ثيب فالقول قول الزوج مع يمينه لما
قلنا وان قلن هي بكر فالقول قولها وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان القول قولها من غير يمين لان البكارة فيها
أصل وقد تفوت شهادتهن بشهادة الأصل وإذا ثبت انه لم يضل إليها اما باقراره أو بظهور البكارة أجله القاضي حولا
لأنه ثبت عنته والعنين يؤجل سنة لاجماع الصحابة على ذلك ولأن عدم الوصول قبل التأجيل يحتمل أن يكون للعجز
عن الوصول ويحتمل أن يكون لبغضه إياها مع القدرة على الوصول فيؤجل حتى لو كان عدم الوصول للبغض يطؤها في
المدة ظاهرا وغالبا دفعا للعار والشين عن نفسه وان لم يطأها حتى مضت المدة يعلم أن عدم الوصول كان للعجز واما
التأجيل سنة فلان العجز عن الوصول يحتمل أن يكون خلقة ويحتمل أن يكون من داء أو طبيعة غالبة من الحرارة أو
البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة والسنة مشتملة على الفصول الأربعة والفصول الأربعة مشتملة على الطبائع الأربع
فيؤجل سنة لما عسى ان يوافقه بعض فصول السنة فيزول المانع ويقدر على الوصول وروى عن عبد الله بن نوفل
أنه قال يؤجل عشرة أشهر وهذا القول مخالف لاجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجلوا العنين سنة وقد اختلف
الناس في عبد الله بن نوفل انه صحابي أو تابعي فلا يقدح خلافه في الاجماع مع الاحتمال ولان التأجيل سنة لرجاء
الوصول في الفصول الأربعة ولا تكمل الفصول الا في سنة تامة ثم يؤجل سنة شمسية بالأيام أو قمرية بالأهلة ذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان في ظاهر الرواية يؤجل سنة قمرية بالأهلة قال وروى الحسن عن أبي حنيفة
انه يؤجل سنة شمسية وحكى الكرخي عن أصحابنا انهم قالوا يؤجل سنة شمسية ولم يذكر الخلاف (وجه) هذا
القول وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة ان الفصول الأربعة لا تكمل الا بالسنة الشمسية لأنها تزيد على القمرية
323

بأيام فيحتمل زوال العارض في المدة التي بين الشمسية والقمرية فكان التأجيل بالسنة الشمسية أولى ولظاهر الرواية
الكتاب والسنة اما الكتاب فقوله تعالى يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج جعل الله عز وجل
بفضله ورحمته الهلال معرفا للخلق الأجل والأوقات والمدد ومعرفا وقت الحج لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام
لاشتد حساب ذلك عليهم ولتعذر عليهم معرفة السنين والشهور والأيام واما السنة فما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم خطب في الموسم وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته الا ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات
والأرض السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مصر الذي بين
جمادى وشعبان ثلاثة سرد وواحد فرد والشهر في اللغة اسم للهلال يقال رأيت الشهر أي رأيت الهلال وقيل سمى
الشهر شهرا لشهرته والشهرة للهلال فكان تأجيل الصحابة رضي الله عنهم العنين سنة والسنة اثنا عشر شهرا والشهر
اسم للهلال تأجيلا للهلالية وهي السنة القمرية ضرورة وأول السنة حين يترافعان ولا يحسب على الزوج ما قبل
ذلك لما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح ان يؤجل العنين سنة من يوم يرتفع إليه لما ذكرنا ان عدم الوصول
قبل التأجيل يحتمل أن يكون للعجز ويحتمل أن يكون لكراهته إياها مع القدرة على الوصول فإذا أجله الحاكم فالظاهر أنه
لا يمتنع عن وطئها الا لعجزه خشية العار والشين فإذا أجل سنة فشهر رمضان وأيام الحيض تحسب عليه ولا يجعل
له مكانها لان الصحابة رضي الله عنهم أجلوا العنين سنة واحدة مع علمهم بان السنة لا تخلو عن شهر رمضان ومن زمان
الحيض فلو لم يكن ذلك محسوبا من المدة لأجلوا زيادة على السنة ولو مرض الزوج في المدة مرضا لا يستطيع معه الجماع
أو مرضت هي فان استوعب المرض السنة كلها يستأنف له سنة أخرى وان لم يستوعب فقد روى ابن سماعة
عن أبي يوسف ان المرض إن كان نصف شهر أو أقل احتسب عليه وإن كان أكثر من نصف شهر لم يحتسب عليه
بهذه الأيام وجعل له مكانها وكذلك الغيبة وروى ابن سماعة عنه رواية أخرى انه إذا صح في السنة يوما أو يومين
أو صحت هي احتسب عليه بالسنة وروى ابن سماعة عن محمد ان المرض إذا كان أقل من شهر يحتسب عليه وإن كان
شهرا فصاعدا لا يحتسب عليه بأيام المرض ويجعل له مكانها والأصل في هذا ان قليل المرض مما لا يمكن اعتباره لان
الانسان لا يخلو عن ذلك عادة ويمكن اعتبار الكثير فجعل أبو يوسف على احدى الروايتين وهي الرواية الصحيحة
عنه نصف الشهر وما دونه قليلا والأكثر من النصف كثيرا استدلالا بشهر رمضان فإنه محسوب عليه ومعلوم انه
إنما يقدر على الوطئ في الليالي دون النهار والليالي دون النهار تكون نصف شهر وكان ذلك دليلا على أن المانع إذا
كان نصف شهر فما دونه يعتد به وهذا الاستدلال يوجب الاعتداد بالنصف فما دونه اما لا ينفى الاعتداد بما فوقه
واما على الرواية الأخرى فنقول إنه لما صح زمانا يمكن الوطئ فيه فإذا لم يطأها فالتقصير جاء من قبله فيجعل كأنه صح
جميع السنة بخلاف ما إذا مرض جميع السنة لأنه لم يجد زمانا يتمكن من الوطئ فيه فتعذر الاعتداد بالسنة في حقه ومحمد
جعل ما دون الشهر قليلا والشهر فصاعدا كثيرا لان الشهر أدنى الأجل وأقصى العاجل فكان في حكم الكثير وما
دونه في حكم القليل وقال أبو يوسف ان حجت المرأة حجة الاسلام بعد التأجيل لم يحتسب على الزوج مدة الحج لأنه
لا يقدر على منعها من حجة الاسلام شرعا فلم يتمكن من الوطئ فيها شرعا وان حج الزوج احتسبت المدة عليه لأنه يقدر
على أن يخرجها مع نفسه أو يؤخر الحج لان جميع العمر وقته وقال محمد ان خاصمته وهو محرم يؤجل سنة بعد الاحلال
لأنه لا يتمكن من الوطئ شرعا مع الاحرام فتبتدأ المدة من وقت يمكنه الوطئ فيه شرعا وهو ما بعد الاحلال وان خاصمته
وهو مظاهر فإن كان يقدر على الاعتاق أجل سنة من حين الخصومة الا انه إذا كان قادرا على الاعتاق كان قادرا على
الوطئ بتقديم الاعتاق كالمحدث قادر على الصلاة بتقديم الطهارة وإن كان لا يقدر على ذلك أجل أربعة عشر شهرا
لأنه يحتاج إلى تقديم صوم شهرين ولا يمكنه الوطئ فيهما فلا يعتد بهما من الأجل ثم يمكنه الوطئ بعدهما فان أجل
سنة وليس بمظاهر ثم ظاهر في السنة لم يزد على المدة بشئ لأنه كان يقدر على ترك الظهار فلما ظاهر فقد منع نفسه عن
324

الوطئ باختياره فلا يجوز اسقاط حق المرأة وإن كانت امرأة العنين رتقاء أو قرناء لا يؤجل لأنه لا حق للمرأة في الوطئ
لوجود المانع من الوطئ فلا معنى للتأجيل وإن كان الزوج صغيرا لا يجامع مثله والمرأة كبيرة ولم تعلم المرأة فطالبت
بالتأجيل لا يؤجل بل ينتظر إلى أن يدرك فإذا أدرك يؤجل سنة لأنه إذا كان لا يجامع لا يفيد التأجيل ولان حكم
التأجيل إذا لم يصل إليها في المدة هو ثبوت خيار الفرقة وفرقة العنين طلاق والصبي لا يملك الطلاق ولان للصبي زمانا
يوجد منه الوطئ فيه ظاهرا وغالبا وهو ما بعد البلوغ فلا يؤجل للحال وإن كان الزوج كبيرا مجنونا فوجدته عنينا قالوا إنه
لا يؤجل كذا ذكر الكرخي لان التأجيل للتفريق عند عدم الدخول وفرقة العنين طلاق والمجنون لا يملك الطلاق
وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه ينتظر حولا ولا ينتظر إلى افاقته بخلاف الصبي لان الصغر مانع من
الوصول فيستأنى إلى أن يزول الصغر ثم يؤجل سنة فاما المجنون فلا يمنع الوصول لان المجنون يجامع فيؤجل للحال
والصحيح ما ذكره الكرخي انه لا يؤجل أصلا لما ذكرنا وإذا مضى أجل العنين فسأل القاضي ان يؤجله سنة أخرى
لم يفعل الا برضا المرأة لأنه قد ثبت لها حق التفريق وفى التأجيل تأخير حقها فلا يجوز زمن غير رضاها ثم إذا أجل
العنين سنة وتمت المدة فان اتفقا على أنه قد وصل إليها فهي زوجته ولا خيار لها وان اختلفا وادعت المرأة انه لم يصل إليها
وادعى الزوج الوصول فإن كانت المرأة ثيبا فالقول قوله مع يمينه لما قلنا وإن كانت بكرا نظر إليها النساء فان قلن هي بكر
فالقول قولها وان قلن هي ثيب فالقول قوله لما ذكرنا وان وقع للنساء شك في أمرها فإنها تمتحن واختلف المشايخ في
طريق الامتحان قال بعضهم تؤمر بان تبول على الجدار فان أمكنها بان ترمى ببولها على الجدار فهي بكر والا فهي ثيب
وقال بعضهم تمتحن ببيضة الديك فان وسعت فيها فهي ثيب وان لم تسع فيها فهي بكر وإذا ثبت انه لم يطأها اما باعترافه
واما بظهور البكارة فان القاضي يخيرها فان الصحابة رضي الله عنهم خيروا امرأة العنين ولنا فيهم قدوة فان شاءت
اختارت الفرقة وان شاءت اختارت الزوج إذا استجمعت شرائط ثبوت الخيار فيقع الكلام في الخيار في مواضع
في بيان شرائط ثبوت الخيار وفي بيان حكم الخيار وفي بيان ما يبطله
* (فصل) * اما شرائط الخيار فمنها عدم الوصول إلى هذه المرأة أصلا ورأسا في هذا النكاح حتى لو وصل إليها
مرة واحدة فلا خيار لها لأنه وصل إليها حقها بالوطئ مرة واحدة والخيار لتفويت الحق المستحق ولم يوجد فان وصل
إلى غير امرأته التي أجل لها وكان وصل إلى غيرها قبل إن ترافعه فوصوله إلى غيرها لا يبطل حقها في التأجيل والخيار لأنه
لم يصل إليها حقها فكان لها التأجيل والخيار ومنها ان لا تكون عالمة بالعيب وقت النكاح حتى لو تزوجت وهي تعلم أنه
عنين فلا خيار لها لأنها إذا كانت عالمة بالعيب لدى التزويج فقد رضيت بالعيب كالمشترى إذا كان عالما بالعيب عند
البيع والرضا بالعيب يمنع الرد كما في البيع وغيره فان تزوجت وهي لا تعلم فوصل إليها مرة ثم عن ففارقته ثم تزوجته
بعد ذلك فلم يصل إليها فلها الخيار لان العجز لم يتحقق فلم تكن راضية بالعيب والوصول في أحد العقدين لا يبطل حقها
في العقد الثاني فان أجله القاضي فلم يصل ففرق بينهما ثم تزوجها فلا خيار لها لان العيب قد تقرر بعدم الوصول في المدة
فتقرر العجز فكان التزوج بعد استقرار العيب والعلم به دليل الرضا بالعيب
* (فصل) * واما حكم الخيار فهو تخيير المرأة بين الفرقة وبين النكاح فان شاءت اختارت الفرقة وان شاءت
اختارت الزوج فان اختارت المقام مع الزوج بطل حقها ولم يكن لها خصومة في هذا النكاح أبدا لما ذكرنا انها رضيت
بالعيب فسقط خيارها وان اختارت الفرقة فرق القاضي بينهما كذا ذكره الكرخي ولم يذكر الخلاف وظاهر هذا
الكلام يقتضى انه لا تقع الفرقة بنفس الاختيار وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي انه تقع الفرقة بنفس
الاختيار في ظاهر الرواية ولا يحتاج إلى القضاء كخيار المعتقة وخيار المخيرة وروى الحسن عن أبي حنيفة انه لا تقع
الفرقة ما لم يقل القاضي فرقت بينكما وجعله بمنزلة خيار البلوغ هكذا ذكر وذكر في بعض المواضع ان في قول أبي حنيفة
ما روى الحسن عنه وما ذكره الحسن عنه وما ذكر في ظاهر الرواية قولهما (وجه) رواية الحسن ان هذه الفرقة فرقة
325

بطلان بلا خلاف بين أصحابنا وإنما المخالف فيه الشافعي فإنها فسخ عنده والمسألة إن شاء الله تعالى تأتى في موضعها
من هذا الكتاب والمرأة لا تملك الطلاق وإنما يملكه الزوج الا ان القاضي يقوم مقام الزوج ولأن هذه الفرقة يختص
بسببها القاضي وهو التأجيل لان التأجيل لا يكون الا من القاضي فكذا الفرقة المتعلقة به كفرقة اللعان (وجه)
المذكور في ظاهر الرواية ان تخيير المرأة من القاضي تفويض الطلاق إليها فكان اختيارها الفرقة تفريقا من القاضي من
حيث المعنى لا منها والقاضي يملك ذلك لقيامه مقام الزوج وهذه الفرقة تطليقة بائنة لان الغرض من هذا التفريق
تخليصها من زوج لا يتوقع منه ايفاء حقها دفعا للظلم والضرر عنها وذا لا يحصل الا بالبائن لأنه لو كان رجعيا يراجعها
الزوج من غير رضاها فيحتاج إلى التفريق ثانيا وثالثا فلا يفيد التفريق فائدته ولها المهر كاملا وعليها العدة بالاجماع
إن كان الزوج قد خلا بها وإن كان لم يخل بها فلا عدة عليها ولها نصف المهر إن كان مسمى والمتعة ان لم يكن مسمى وإذا
فرق القاضي بالعنة ووجبت العدة فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه الولد لان المعتدة إذا جاءت بولد من وقت
الطلاق إلى سنتين ثبت النسب لان الحكم بوجوب العدة حكم بشغل الرحم وشغل الرحم يمتد إلى سنتين عندنا فيثبت
النسب إلى سنتين فان قال الزوج كنت قد وصلت إليها فان أبا يوسف قال يبطل الحاكم الفرقة وكفى بالولد شاهدا
ومعنى هذا الكلام انه لما ثبت النسب فقد ثبت الدخول وانه يوجب ابطال الفرقة ولأنه لو شهد شاهدان بالدخول
بعد تفريق القاضي لا يبطل الفرقة وكذا هذا وكذا إذا ثبت النسب لان شهادة النسب على الدخول أقوى من شهادة
شاهدين عليه وكذلك لو فرق القاضي بينها وبين المجبوب فجاءت بولد بينها وبين سنتين ثبت نسبه لان خلوة
المجبوب توجب العدة والنسب يثبت من المجبوب الا انه لا تبطل الفرقة ههنا لان ثبوت النسب من المجبوب لا يدل
على الدخول لأنه لا يتصور منه حقيقة وإنما يقذف بالماء فكان العلوق بقذف الماء فإذا لم يثبت الدخول لم تثبت الفرقة
فان فرق بالعنة فان أقام الزوج البينة على اقرار المرأة قبل الفرقة انه قد وصل إليها أبطل الفرقة لان الشهادة على اقرارها
بمنزلة اقرارها عند القاضي ولو كانت أقرت قبل التفريق لم يثبت حكم الفرقة وكذا إذا شهد على اقرارها بان أقرت بعد
الفرقة انه كان وصل إليها قبل الفرقة لم تبطل الفرقة لان اقرارها تضمن ابطال قضاء القاضي فلا تصدق على القاضي في
ابطال قضائه فلا تقبل وإن كان زوج الأمة عنينا فالخيار في ذلك إلى المولى عند أبي حنيفة وأبى يوسف وقال محمد
الخيار إلى الأمة (وجه) قوله إن الخيار إنما يثبت لفوات الوطئ وذلك حق الأمة فكان الخيار إليها كالحرة ولها ان
المقصود من الوطئ هو الولد والولد ملك المولى وحده ولان اختيار الفرقة والمقام مع الزوج تصرف منها على نفسها
ونفسها بجميع أجزائها ملك المولى فكان ولاية التصرف له
* (فصل) * واما بيان ما يبطل به الخيار فما يبطل به الخيار نوعان نص ودلالة فالنص هو التصريح باسقاط الخيار
وما يجرى مجراه نحو أن يقول أسقطت الخيار أو رضيت بالنكاح أو اخترت الزوج ونحو ذلك سواء كان ذلك بعد
تخيير القاضي أو قبله والدلالة هي ان تفعل ما يدل على الرضا بالمقام مع الزوج بان خيرها القاضي فأقامت مع الزوج مطاوعة
له في المضجع وغير ذلك لان ذلك دليل الرضا بالنكاح والمقام مع الزوج ولو فعلت ذلك بعد مضى الأجل قبل تخيير
القاضي لم يكن ذلك رضا لان اقامتها معه بعد المدة قد تكون لاختياره وقد تكون للاختيار بحاله فلا تكون دليل الرضا
مع الاحتمال وهل يبطل خيارها بالقيام عن المجلس ذكر الكرخي ان ابن سماعة وبشرا قالا عن أبي يوسف إذا خيرها
الحاكم فأقامت معه أو قامت من مجلسها قبل إن تختار أو قام الحاكم أو أقامها عن مجلسها بعض أعوان القاضي ولم تقل شيئا
فلا خيار لها وهذا يدل على أن خيارها يتقيد بالمجلس وهو مجلس التخيير ولم يذكر الخلاف وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي انه لا يقتصر على المجلس في ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف ومحمد انهما قالا يقتصر على المجلس كخيار
المخيرة (وجه) ما روى عن أبي يوسف ومحمد ان تخيير القاضي ههنا قائم مقام تخيير الزوج ثم خيار المخيرة بتخيير الزوج
يبطل بقيامها عن المجلس فكذا خيار هذه وكذا إذا قام الحاكم عن المجلس قبل إن تختار لان مجلس التخيير قد بطل بقيام
326

الحاكم كذا إذا أقامها عن مجلسها بعض أعوان القاضي قبل الاختيار لأنها كانت قادرة على الاختيار قبل الإقامة فدل
امتناعها مع القدرة على الرضا بالنكاح وجه ظاهر الرواية وهو الفرق بين هذا الخيار وبين خيار المخيرة ان خيار
المخيرة إنما اقتصر على المجلس لان الزوج بالتخيير ملكها بالطلاق إذ المالك للشئ هو الذي يتصرف فيه باختياره
ومشيئته فكان التخيير من الزوج تمليكا للطلاق وجواب التمليك يقتصر على المجلس لان المملك يطلب جواب
التمليك في المجلس عادة ولهذا يقتصر القبول على المجلس في البيع كذا ههنا والتخيير من القاضي تفويض الطلاق وليس
بتمليك لأنه لا يملك الطلاق بنفسه لان الزوج ما ملكه الطلاق وإنما فوض إليه التطليق وولاه ذلك فيلي التفويض لا
التمليك وإذا لم يملك بنفسه فكيف يملكه من غيره فهو الفرق بين التخييرين والله أعلم والمؤخذ والخصي في جميع
ما وصفنا مثل العنين لوجود الآلة في حقهما فكانا كالعنين وكذلك الخنثى وأما المجبوب فإنه إذا عرف انه مجبوب اما
باقراره أو بالمس فوق الإزار فإن كانت المرأة عالمة بذلك وقت النكاح فلا خيار لها لرضاها بذلك وان لم تكن عالمة
به فإنها تخير للحال ولا يؤجل حولا لان التأجيل لرجاء الوصول ولا يرجئ منه الوصول فلم يكن التأجيل مفيدا فلا يؤجل
وان اختارت الفرقة وفرق القاضي بينهما أو لم يفرق على الاختلاف الذي ذكرنا فلها كمال المهر وعليها كمال العدة إن كان
قد خلى بها في قول أبي حنيفة وعندهما لها نصف المهر وعليها كمال العدة وإن كان لم يخل بها فلها نصف المهر ولا
عدة عليها بالاجماع وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم
* (فصل) * وأما خلو الزوج عما سوى هذه العيوب الخمسة من الجب والعنة والتأخذ والخصاء والخنوثة فهل هو
شرط لزوم النكاح قال أبو حنيفة وأبو يوسف ليس بشرط ولا يفسخ النكاح به وقال محمد خلوه من كل عيب
لا يمكنها المقام معه الا بضرر كالجنون والجذام والبرص شرط لزوم النكاح حتى يفسخ به النكاح وخلوه عما سوى
ذلك ليس بشرط وهو مذهب الشافعي (وجه) قول محمد ان الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن
المرأة وهذه العيوب في الحاق الضرر بها فوق تلك لأنها من الأدواء المتعدية عادة فلما ثبت الخيار بتلك فلان يثبت
بهذه أولى بخلاف ما إذا كانت هذه العيوب في جانب المرأة لان الزوج وإن كان يتضرر بها لكن يمكنه دفع الضرر
عن نفسه بالطلاق فان الطلاق بيده والمرأة لا يمكنها ذلك لأنها لا تملك الطلاق فتعين الفسخ طريقا لدفع الضرر ولهما
ان الخيار في تلك العيوب ثبت لدفع ضرر فوات حقها المستحق بالعقد وهو الوطئ مرة واحدة وهذا الحق لم يفت بهذه
العيوب لان الوطئ يتحقق من الزوج مع هذه العيوب فلا يثبت الخيار هذا في جانب الزوج (وأما) في جانب
المرأة فخلوها عن العيب ليس بشرط للزوم النكاح بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يفسخ النكاح بشئ من العيوب
الموجودة فيها وقال الشافعي خلو المرأة عن خمسة عيوب بها شرط اللزوم ويفسخ النكاح بها وهي الجنون والجذام
والبرص والرتق والقرن واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فر من المجذوم فرارك من الأسد
والفسخ طريق الفرار ولو لزم النكاح لما أمر بالفرار وروى أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة فوجد بياضا في
كشحها فردها وقال لها الحقي بأهلك ولو وقع النكاح لازما لما رد ولان مصالح النكاح لا تقوم مع هذه العيوب أو
تختل بها لان بعضها مما ينفر عنها الطباع السليمة وهو الجذام والجنون والبرص فلا تحصل الموافقة فلا تقوم المصالح أو
تختل وبعضها مما يمنع من الوطئ وهو الرتق والقرن وعامة مصالح النكاح يقف حصولها على الوطئ فان العفة عن
الزنا والسكن والولد لا يحصل الا بالوطئ ولهذا يثبت الخيار في العيوب الأربعة كذا ههنا (ولنا) ان النكاح
لا يفسخ بسائر العيوب فلا يفسخ بهذه العيوب أيضا لان المعنى يجمعها وهو ان العيب لا يفوت ما هو حكم هذا العقد
من جانب المرأة وهو الازدواج الحكمي وملك الاستمتاع وإنما يختل ويفوت به بعض ثمرات العقد وفوات جميع
ثمرات هذا العقد لا يوجب حق الفسخ بان مات أحد الزوجين عقيب العقد حتى يجب عليه كمال المهر ففوات بعضها
أولى وهذا لان الحكم الأصلي للنكاح هو الازدواج الحكمي وملك الاستمتاع شرع مؤكدا له والمهر يقابل
327

احداث هذا الملك وبالفسخ لا يظهر أن احداث الملك لم يكن فلا يرتفع ما يقابل وهو المهر فلا يجوز الفسخ ولا شك
ان هذه العيوب لا تمنع من الاستمتاع اما الجنون والجذام والبرص فلا يشكل وكذلك الرتق والقرن لان اللحم يقطع
والقرن يكسر فيمكن الاستمتاع بواسطة لهذا المعنى لم يفسخ سائر العيوب كذا هذا واما الحديث الأول فنقول بموجبه
انه يجب الاجتناب عنه والفرار يمكن بالطلاق لا بالفسخ وليس فيه تعيين طريق الاجتناب والفرار وأما الثاني
فالصحيح من الرواية أنه قال لها الحقي باهلك وهذا من كنايات الطلاق عندنا والكلام في الفسخ والرد المذكور فيه
قول الراوي فلا يكون حجة أو نحمله على الرد بالطلاق عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض والله تعالى الموفق وخلو
النكاح من خيار الرؤية ليس بشرط للزوم النكاح حتى لو تزوج امرأة ولم يرها لا خيار له إذا رآها بخلاف البيع
وكذا خلوه عن خيار الشرط سواء جعل الخيار للزوج أو للمرأة أو لهما ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر حتى لو تزوج بشرط
الخيار بطل الشرط وجاز النكاح
* (فصل) * وأما الثاني فشرط بقاء النكاح لازما نوعان نوع يتعلق بالزوج في نكاح زوجته ونوع يتعلق بالمولى في
نكاح أمته أما الذي يتعلق بالزوج في نكاح زوجته فعدم تمليكه الطلاق منها أو من غيرها بأن يقول لامرأته اختاري
أو امرك بيدك ينوى الطلاق أو طلقي نفسك أو أنت طالق ان شئت أو يقول لرجل طلق امرأتي ان شئت كذا
عدم التطليق بشرط والإضافة إلى وقت لأنه بالتمليك جعل النكاح بحال لا يتوقف زواله على اختياره بعد الجعل
وكذا بالتعليق والإضافة وهذا معنى عدم بقاء النكاح لازما (وأما) الذي يتعلق بالمولى في نكاح أمته فهو ان لا يعتق
أمته المنكوحة حتى لو أعتقها لا يبقى العقد لازما وكان لها الخيار وهو المسمى بخيار العتاقة والكلام فيه في مواضع في
بيان شرط ثبوت هذا الخيار وفي بيان وقت ثبوته وفي بيان ما يبطل به أما الأول فلثبوت هذا الخيار شرائط منها
وجود النكاح وقت الاعتاق حتى لو أعتقها ثم زوجها من إنسان فلا خيار لها لانعدام النكاح وقت الاعتاق ولو
أعتقها ثم زوجها وهي صغيرة فلها خيار البلوغ لا خيار العتق لما قلنا ومنها أن يكون التزويج نافذا حتى لو زوجت
الأمة نفسها من إنسان بغير اذن مولاها ثم أعتقها المولى فلا خيار لها واما كون الزوج رقيقا وقت الاعتاق فهل هو
شرط ثبوت الخيار لها قال أصحابنا ليس بشرط ويثبت الخيار لها سواء كان زوجها حرا أو عبدا وقال الشافعي
شرط ولا خيار لها إذا كان زوجها حرا واحتج بما روى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت زوج بريرة كان عبدا
فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حرا ما خيرها وهذا نص في الباب والظاهر أنها إنما قالت ذلك سماعا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان الخيار في العبد إنما ثبت لدفع الضرر وهو ضرر عدم الكفاءة وضرر لزوم نفقة الأولاد
وضرر نقصان المعاشرة لكون العبد مشغولا بخدمة المولى وشئ من ذلك لم يوجد في الحر فلا يثبت الخيار (ولنا) ما روى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لبريرة حين أعتقت ملكت بضعك فاختاري وروى ملكت أمرك وروى
ملك نفسك والاستدلال به من وجهين أحدهما بنصه والآخر بعلة النص أما الأول فهو انه خيرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أعتقت وقد روى أن زوجها كان حرا فان قيل روينا عن عائشة رضي الله عنها ان زوجها
كان عبدا فتعارضت الروايتان فسقط الاحتجاج بهما فالجواب ان ما روينا مثبت للحرية وما رويتم مبق للرق
والمثبت أولى لان البقاء قد يكون باستصحاب الحال والثبوت يكون بناء على الدليل لا محالة فمن قال كان عبدا احتمل
انه اعتمد استصحاب الحال ومن قال كان حرا بنى الامر على الدليل لا محالة فصار كالمزكيين جرح أحدهما شاهدا
والآخر زكاه أنه يؤخذ بقول الجارح لما قلنا كذا هذا ولان ما روينا موافق للقياس وما رويتم مخالف له لما نذكره
إن شاء الله تعالى فالموافق للقياس أولى (وأما) الثاني فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ملكها بضعها أو أمرها
أو نفسها علة لثبوت الخيار لها لأنه أخبر انها ملكت بضعها ثم أعقبه باثبات الخيار لها بحرف التعقيب وملكها نفسها
مؤثر في رفع الولاية في الجملة لان الملك اختصاص ولا اختصاص مع ولاية الغير والحكم إذا ذكر عقيب وصف له أثر
328

في الجملة في جنس ذلك الحكم في الشرع كان ذلك تعليقا لذلك الحكم بذلك الوصف في أصول الشرع كما في قوله تعالى
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله عز وجل الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وكما روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سها فسجد وروى أن ماعزا زنا فرجم ونحو ذلك والحكم يتعمم بعموم العلة ولا
يتخصص بخصوص المحل كما في سائر العلل الشرعية والعقلية وزوج بريرة وإن كان عبدا لكن النبي صلى الله عليه
وسلم لما بنى الخيار فيه على معنى عام وهو ملك البضع يعتبر عموم المعنى لا خصوص المحل والله الموفق ولان بالاعتاق
يزداد ملك النكاح عليها لأنه يملك عليها عقدة زائدة لم يكن يملكها قبل الاعتاق بناء على أن الطلاق بالبناء على أصل أصحابنا
والمسألة فريعة ذلك الأصل ولها ان لا ترضى بالزيادة لأنها تتضرر بها ولها ولاية رفع الضرر عن نفسها ولا يمكنها رفع
الزيادة الا برفع أصل النكاح فبقيت لها ولاية رفع النكاح وفسخه ضرورة رفع الزيادة وقد خرج الجواب عن قوله إن
ه لا ضرر فيه لما بينا من وجه الضرر ولأنه لو لم يثبت لها الخيار وبقى النكاح لازما لأدى ذلك إلى أن يستوفى الزوج
منافع بضع حرة جبرا ببدل استحقه غيرها بالعقد وهذا لا يجوز كما لو كان الزوج عبدا ولان القول ببقاء هذا النكاح
لازما يؤدى إلى استيفاء منافع بضع الحرة من غير بدل تستحقه الحرة وهذا لا يجوز لأنها لا ترضى باستيفاء منافع بضعها
الا ببدل تستحقه هي فلو لم يثبت الخيار لها لصار الزوج مستوفيا منافع بضعها وهي حرة جبرا عليها من غير رضاها ببدل
استحقه مولاها وهذا لا يجوز لهذا المعنى ثبت لها الخيار إذا كان زوجها عبدا كذا إذا كان حرا وكذا اختلف في أن
كونها رقيقة وقت النكاح هل هو شرط أم لا قال أبو يوسف ليس بشرط ويثبت لها الخيار سواء كانت رقيقة وقت
النكاح أعتقها المولى أو كانت حرة وقت النكاح ثم طرأ عليها الرق فأعتقها حتى أن الحربية إذا تزوجت في دار الحرب
ثم سبيا معا ثم أعتقت فلها الخيار عنده وقال محمد هو شرط ولا خيار لها وكذا المسلمة إذا تزوجت مسلما ثم ارتدا ولحقا
بدار الحرب ثم سبيت وزوجها معها فأسلما ثم أعتقت الأمة فهو على هذا الاختلاف فمحمد فرق بين الرق الطارئ على
النكاح وبين المقارن إياه وأبو يوسف سوى بينهما وجه الفرق لمحمد انها إذا كانت رقيقة وقت النكاح فالنكاح
ينعقد موجبا للخيار عند الاعتاق وإذا كانت حرة فنكاح الحرة لا ينعقد موجبا للخيار فلا يثبت الخيار بطريان الرق
بعد ذلك لأنه لا يوجب خللا في الرضا ولأبي يوسف ان الخيار يثبت بالاعتاق لان زيادة الملك تثبت به لأنها توجب
العتق والعتق موجب الاعتاق ولا يثبت بالنكاح لان النكاح السابق ما انعقد للزيادة لأنه صادف الأمة ونكاح
الأمة لا يوجب زيادة الملك فالحاصل أن أبا يوسف يجعل زيادة الملك حكم الاعتاق ومحمد يجعلها حكم العقد السابق
عند وجود الاعتاق وعلى هذا الأصل يخرج قول أبى يوسف ان خيار العتق يثبت مرة بعد أخرى وقول محمد انه
لا يثبت الا مرة واحدة حتى لو أعتقت الأمة فاختارت زوجها ثم ارتد الزوجان معا ثم سبيت وزوجها معها فأعتقت
فلها ان تختار نفسها عند أبي يوسف وعند محمد ليس لها ذلك لان عند أبي يوسف الخيار ثبت بالاعتاق وقد تكرر
الاعتاق فيتكرر الخيار وعند محمد يثبت بالعقد وانه لم يتكرر فلا يثبت الا خيار واحد
* (فصل) * وأما وقت ثبوته فوقت علمها بالعتق وبالخيار وأهلية الاختيار فيثبت لها الخيار في المجلس الذي تعلم فيه
بالعتق وبان لها الخيار وهي من أهل الاختيار حتى لو أعتقها ولم تعلم بالعتق أو علمت بالعتق ولم تعلم بان لها الخيار فلم
تختر لم يبطل خيارها ولها بمجلس العلم إذا علمت بهما بخلاف خيار البلوغ فان العلم بالخيار فيه ليس بشرط وقد بينا
الفرق بينهما فيما تقدم وكذلك إذا أعتقها وهي صغيرة فلها خيار العتق إذا بلغت لأنها وقت الاعتاق لم تكن من أهل
الاختيار وليس لها خيار البلوغ لان النكاح وجد في حالة الرق والله عز وجل أعلم ولو تزوجت مكاتبة بإذن المولى
فأعتقت فلها الخيار فعند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا خيار لها (وجه) قوله إنه لا ضرر عليها لان النكاح وقع لها
والمهر مسلم لها (ولنا) ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة وكانت مكاتبة ولأن علة النص عامة على
ما بينا وكذا الملك يزداد عليها كما يزداد على القنة
329

* (فصل) * وأما ما يبطل به فهذا الخيار يبطل بالابطال نصا ودلالة من قول أو فعل يدل على الرضا بالنكاح على
ما بينا في خيار الادراك ويبطل بالقيام عن المجلس لأنه دليل الاعراض كخيار المخيرة ولا يبطل بالسكوت بل يمتد إلى
آخر المجلس إذا لم يوجد منها دليل الاعراض كخيار المخيرة لان السكوت يحتمل أن يكون لرضاها بالمقام معه ويحتمل
أن يكون للتأمل لان بالعتق ازداد الملك عليها فتحتاج إلى التأمل ولابد للتأمل من زمان فقدر ذلك بالمجلس كما في خيار
المخيرة وخيار القبول في البيع بخلاف خيار البلوغ انه يبطل بالسكوت من البكر لان بالبلوغ ما ازداد الملك فلا حاجة
إلى التأمل فلم يكن سكوتها للتأمل فكان دليل الرضا وفى خيار المخيرة ثبت المجلس باجماع الصحابة رضي الله عنهم
غير معقول ولأنه لما ازداد الملك عليها جعلها العقد السابق في حق الزيادة بمنزلة انشاء النكاح فيتقيد بالمجلس وإذا اختارت
نفسها حتى وقعت الفرقة كانت فرقة بغير طلاق لما نذكر إن شاء الله تعالى فلا تفتقر هذه الفرقة إلى قضاء القاضي بخلاف
الفرقة بخيار البلوغ ووجه الفرق بينهما قد ذكرناه فيما تقدم والله عز وجل أعلم وأما بقاء الزوج قادرا على النفقة فليس
بشرط لبقاء النكاح لازما حتى لو عجز عن النفقة لا يثبت لها حق المطالبة بالتفريق وهذا عندنا وعند الشافعي شرط ويثبت
لها حق المطالبة بالتفريق احتج بقوله عز وجل فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان أمر عز وجل بالامساك بالمعروف
وقد عجز عن الامساك بالمعروف لان ذلك بإيفاء حقها في الوطئ والنفقة فتعين عليه التسريح بالاحسان فان فعل والا ناب
القاضي منابه في التسريح وهو التفريق ولان النفقة عوض عن ملك النكاح وقد فات العوض بالعجز فلا يبقى النكاح
لازما كالمشترى إذا وجد المبيع معيبا والدليل عليه أن فوات العوض بالجب والعنة يمنع بقاءه لازما فكذا فوات
المعوض لان النكاح عقد معاوضة (ولنا) أن التفريق ابطال ملك النكاح على الزوج من غير رضاه وهذا في الضرر
فوق ضرر المرأة بعجز الزوج عن النفقة لان القاضي يفرض النفقة على الزوج إذا طلبت المرأة الفرض ويأمرها
بالانفاق من مال نفسها إن كان لها مال وبالاستدانة ان لم يكن إلى وقت اليسار فتصير النفقة دينا في ذمته بقضاء
القاضي فترجع المرأة عليه بما أنفقت إذا أيسر الزوج فيتأخر حقها إلى يسار الزوج ولا يبطل وضرر الابطال فوق
ضرر التأخير بخلاف التفريق بالجب والعنة ولان هناك الضرر من الجانبين جميعا ضرر ابطال الحق لان حق المرأة
يفوت عن الوطئ وضررها أقوى لان الزوج لا يتضرر بالتفريق كثير ضرر لعجزه عن الوطئ فاما المرأة فإنها محل
صالح للوطئ فلا يمكنها استيفاء حظها من هذا الزوج ولا من زوج آخر لمكان هذا الزوج فكان الرجحان لضررها
فكان أولى بالدفع وأما الآية الكريمة فقد قيل في التفسير ان الامساك بالمعروف هو الرجعة وهو ان يراجعها على
قصد الامساك والتسريح بالاحسان هو ان يتركها حتى تنقضي عدتها مع ما ان الامساك بالمعروف يختلف باختلاف
حال الزوج الا ترى إلى قوله عز وجل على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فالامساك بالمعروف في حق العاجز عن
النفقة بالتزام النفقة على أنه إن كان عاجزا عن الامساك بالمعروف فإنما يجب عليه التسريح بالاحسان إذا كان قادرا
ولا قدرة له على ذلك لان ذلك بالتطليق مع ايفاء حقها في نفقة العدة وهو عاجز عن نفقة الحال فكيف يقدر على نفقة
العدة على أن لفظ التسريح محتمل يحتمل أن يكون المراد منه التفريق بابطال النكاح ويحتمل أن يكون المراد منه
التفريق والتبعيد من حيث المكان وهو تخلية السبيل وإزالة اليد إذ حقيقة التسريح هي التخلية وذلك قد يكون بإزالة اليد
والحبس وعندنا لا يبقى له ولاية الحبس فلا يكون حجة مع الاحتمال وأما قوله النفقة عوض عن ملك النكاح فممنوع
فان العوض ما يكون مذكورا في العقد نصا والنفقة غير منصوص عليها فلا تكون عوضا بل هي بمقابلة الاحتباس
وعندنا ولاية الاحتباس تزول عند العجز ثم إن سلمنا أنه عوض لكن بقاء المعوض مستحقا يقف على استحقاق
العوض في الجملة لا على وصول العوض للحال والنفقة ههنا مستحقة في الجملة وإن كانت لا تصل إليها للحال فيبقى
العوض حقا للزوج والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم النكاح فنقول وبالله التوفيق الكلام في هذا الفصل في موضعين في الأصل أحدهما
330

في بيان حكم النكاح والثاني في بيان ما يرفع حكمه أما الأول فالنكاح لا يخلو (اما) أن يكون صحيحا (واما) أن يكون
فاسدا ويتعلق بكل واحد منهما أحكام (أما) النكاح الصحيح فله أحكام بعضها أصلى وبعضها من التوابع
أما الأصلية منها فحل الوطئ الا في حالة الحيض والنفاس والاحرام وفى الظهار قبل التكفير لقوله سبحانه وتعالى
والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين نفى اللوم عمن لا يحفظ فرجه على
زوجته فدل على حل الوطئ الا أن الوطئ في حالة الحيض خص بقوله عز وجل ويسئلونك عن المحيض قل هو اذى
فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن والنفاس أخو الحيض وقوله عز وجل نساؤكم حرث لكم
فأتوا حرثكم انى شئتم والانسان بسبيل من التصرف في حرثه مع ما انه قد أباح اتيان الحرث بقوله عز وجل فأتوا حرثكم
انى شئتم وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن شيئا اتخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وكلمة الله المذكورة في كتابه العزيز لفظة الانكاح والتزويج فدل الحديث
على حل الاستمتاع بالنساء بلفظة الانكاح والتزويج وغيرهما في معناهما فكان الحل ثابتا ولان النكاح ضم وتزويج
لغة فيقتضى الانضمام والازدواج ولا يتحقق ذلك الا بحل الوطئ والاستمتاع لان الحرية تمنع من ذلك وهذا الحكم
وهو حل الاستمتاع مشترك بين الزوجين فان المرأة كما تحل لزوجها فزوجها يحل لها قال عز وجل لا هن حل لهم ولا هم
يخلون لهن وللزوج أن يطالبها بالوطئ متى شاء الا عند اعتراض أسباب مانعة من الوطئ كالحيض والنفاس والظهار
والاحرام وغير ذلك وللزوجة أن تطالب زوجها بالوطئ لان حله لها حقها كما أن حلها له حقه وإذا طالبته يجب على
الزوج ويجبر عليه في الحكم مرة واحدة والزيادة على ذلك تجب فيما بينه وبين الله تعالى من باب حسن المعاشرة
واستدامة النكاح فلا يجب عليه في الحكم عند بعض أصحابنا وعند بعضهم يجب عليه في الحكم
* (فصل) * ومنها حل النظر والمس من رأسها إلى قدميها في حالة الحياة لان الوطئ فوق النظر والمس فكان احلاله
احلالا للمس والنظر من طريق الأولى وهل يحل الاستمتاع بها بما دون الفرج في حالة الحيض والنفاس فيه خلاف
ذكرناه في كتاب الاستحسان وأما بعد الموت فلا يحل له المس والنظر عندنا خلافا للشافعي والمسألة ذكرناها
في كتاب الصلاة
* (فصل) * ومنها ملك المتعة وهو اختصاص الزوج بمنافع بضعها وسائر أعضائها استمتاعا أو ملك الذات
والنفس في حق التمتع على اختلاف مشايخنا في ذلك لان مقاصد النكاح لا تحصل بدونه الا ترى أنه لولا الاختصاص
الحاجز عن التزويج بزوج آخر لا يحصل السكن لان قلب الزوج لا يطمئن إليها ونفسه لا تسكن معها ويفسد الفراش
لاشتباه النسب ولان المهر لازم في النكاح وأنه عوض عن الملك لما ذكرنا فيما تقدم فيدل على لزوم الملك في النكاح
أيضا تحقيقا للمعاوضة وهذا الحكم على الزوجة للزوج خاصة لأنه عوض عن المهر والمهر على الرجل وقيل في تأويل
قوله عز وجل وللرجال عليهن درجة ان الدرجة هي الملك
* (فصل) * ومنها ملك الحبس والقيد وهو صيرورتها ممنوعة عن الخروج والبروز لقوله تعالى أسكتوهن والامر
بالاسكان نهى عن الخروج والبروز والاخراج إذ الامر بالفعل نهى عن ضده وقوله عز وجل وقرن في بيوتكن
وقوله عز وجل ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ولأنها لو لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن
والنسب لان ذلك مما يريب الزوج ويحمله على نفى النسب
* (فصل) * ومنها وجوب المهر على الزوج وانه حكم أصلى للنكاح عندنا لا وجود له بدونه شرعا وقد ذكرنا
المسألة فيما تقدم ولان المهر عوض عن الملك لأنه يجب بمقابلة احداث الملك على ما مر وثبوت العوض يدل على
ثبوت المعوض
* (فصل) * ومنها ثبوت النسب وإن كان ذلك حكم الدخول حقيقة لكن سببه الظاهر هو النكاح لكون
331

الدخول أمرا باطنا فيقام النكاح مقامه في اثبات النسب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر
الحجر وكذا لو تزوج المشرقي بمغربية فجاءت بولد يثبت النسب وان لم يوجد الدخول حقيقة لوجود سببه وهو النكاح
* (فصل) * ومنها وجوب النفقة والسكنى لقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقوله تعالى
لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله وقوله أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم والامر
بالاسكان أمر بالانفاق لأنها لا تمكن من الخروج للكسب لكونها عاجزة بأصل الخلقة لضعف بنيتها والكلام
في سبب وجوب هذه النفقة وشرط وجوبها ومقدار الواجب منها نذكره إن شاء الله تعالى في كتاب النفقة
* (فصل) * ومنها حرمة المصاحرة وهي حرمة أنكحة فرق معلومة ذكرناهم فيما تقدم وذكرنا دليل الحرمة الا أن
في بعضها تثبت الحرمة بنفس النكاح وفى بعضها يشترط الدخول وقد بينا جملة في مواضعها
* (فصل) * ومنها الإرث من الجانبين جميعا لقوله عز وجل ولكم نصف ما ترك أزواجكم إلى قوله عز وجل ولهن
الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين
* (فصل) * ومنها وجوب العدل بين النساء في حقوقهن وجملة الكلام فيه ان الرجل لا يخلو اما أن يكون له أكثر من
امرأة واحدة واما إن كانت له امرأة واحدة فإن كان له أكثر من امرأة فعليه العدل بينهن في حقوقهن من القسم والنفقة
والكسوة وهو التسوية بينهن في ذلك حتى لو كانت تحته امرأتان حرتان أو أمتان يجب عليه أن يعدل بينهما في المأكول
والمشروب والملبوس والسكنى والبيتوتة والأصل فيه قوله عز وجل فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة عقيب قوله تعالى
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع أي ان خفتم أن لا تعدلوا في القسم والنفقة في نكاح المثنى والثلاث
والرباع فواحدة ندب سبحانه وتعالى إلى نكاح الواحدة عند خوف ترك العدل في الزيادة وإنما يخاف على ترك
الواجب فدل ان العدل بينهن في القسم والنفقة واجب واليه أشار في آخر الآية بقوله دلك أدنى أن لا تعولوا أي
تجوروا والجور حرام فكان العدل واجب ضرورة ولان العدل مأمور به لقوله عز وجل ان الله يأمر بالعدل والاحسان
على العموم والاطلاق الا ما خص أو قيد بدليل وروى عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه
في القسمة ويقول اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك أنت ولا أملك وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل
ويستوى في القسم البكر والثيب والشابة والعجوز والقديمة والحديثة والمسلمة والكتابية لما ذكرنا من الدلائل
من غير فصل ولأنهما يستويان في سبب وجوب القسم وهو النكاح فيستويان في وجوب القسم ولا قسم للمملوكات
بملك اليمين أي لا ليلة لهن وان كثرن لقوله عز وجل فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم قصر الإباحة
في النكاح على عدد لتحقق الجور في الزيادة ثم ندب سبحانه وتعالى إلى النكاح الواحدة عند خوف الجور في الزيادة
وأباح من ملك اليمين من غير عدد فدل أنه ليس فيه خوف الجور وإنما لا يكون إذا لم يكن لهن قسم إذ لو كان لكان فيه
خوف الجور كما في المنكوحة ولان سبب الوجوب هو النكاح ولم يوجد ولو كانت إحداهما حرة والأخرى أمة
فللحرة يومان وللأمة يوم لما روى عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
للحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث ولأنهما ما استويا في سبب الوجوب وهو النكاح فإنه لا يجوز نكاح الأمة بعد
نكاح الحرة ولا مع نكاحها وكذا لا يجوز للعبد أن يتزوج بأكثر من اثنتين وللحر ان يتزوج بأربع نسوة فلم يتساويا
في السبب فلا يتساويان في الحكم بخلاف المسلمة مع الكتابية لان الكتابية يجوز نكاحها قبل المسلمة وبعدها
ومعها وكذا للذمي أن يجمع بين أربع نسوة كالحر المسلم فتساويا في سبب الوجوب فيتساويان في الحكم ولان الحرية
تنبئ عن الكمال والرق يشعر بنقصان الحال وقد ظهر أثر النقصان في الشرع في المالكية وحل المحلية والعدة والحد
وغير ذلك فكذا في القسم وهذا التفاوت في السكنى والبيتوتة يسكن عند الحرة ليلتين وعند الأمة ليلة فاما في المأكول
332

والمشروب والملبوس فإنه يسوى بينهما لان ذلك من الحاجات اللازمة فيستوي فيه الحرة والأمة والمريض في
وجوب القسم عليه كالصحيح لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه في مرض موته أن يكون في
بيت عائشة رضي الله عنها فلو سقط القسم بالمرض لم يكن للاستئذان معنى ولا قسم على الزوج إذا سافر حتى لو سافر
بإحداهما وقدم من السفر وطلبت الأخرى أن يسكن عندها مدة السفر فليس لها ذلك لان مدة السفر ضائعة بدليل
أن له أن يسافر وحده دونهن لكن الأفضل أن يقرع بينهن فيخرج بمن خرجت قرعتها تطيبا لقلوبهن دفعا لتهمة
الميل عن نفسه هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه وقال الشافعي ان سافر
بها بقرعة فكذلك فاما إذا سافر بها بغير قرعة فإنه يقسم للباقيات وهذا غير سديد لان بالقرعة لا يعرف أن لها حقا في
حالة السفر أو لا فإنها لا تصلح لاظهار الحق أبدا لاختلاف عملها في نفسها فإنها لا تخرج على وجه واحد بل مرة هكذا
ومرة هكذا والمختلف فيه لا يصلح دليلا على شئ ولو وهبت إحداهما قسمها لصاحبتها أو رضيت بترك قسمها جاز
لأنه حق ثبت لها فلها أن تستوفى ولها ان تترك وقد روى أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما كبرت وخشيت أن
يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت يومها لعائشة رضي الله عنها وقيل فيها نزل قوله تعالى وان امرأة خافت من
بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير والمراد من الصلح هو الذي جرى
بينهما كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما فان رجعت عن ذلك وطلبت قسمها فلها ذلك لان ذلك كله كان إباحة
منها والإباحة لا تكون لازمة كالمباح له الطعام أنه يملك المبيح منعه والرجوع عن ذلك ولو بذلت واحدة منهن مالا
للزوج ليجعل لها في القسم أكثر مما تستحقه لا يحل للزوج أن يفعل ويرد ما أخذه منها لأنه رشوة لأنه أخذ المال
لمنع الحق عن المستحق وكذلك لو بذل الزوج لواحدة منهن مالا لتجعل نوبتها لصاحبتها أو بذلت هي لصاحبتها مالا
لتترك نوبتها لها لا يجوز شئ من ذلك ويسترد المال لان هذا معاوضة القسم بالمال فيكون في معنى البيع وانه لا يجوز
كذا هذا هذا إذا كان له امرأتان أو أكثر من ذلك فاما إذا كانت له امرأة واحدة فطالبته بالواجب لها ذكر القدوري
رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه قال إذا تشاغل الرجل عن زوجته بالصيام أو بالصلاة أو بأمة اشتراها قسم لامرأته
من كل أربعة أيام يوما ومن كل أربع ليال ليلة وقيل له تشاغل ثلاثة أيام وثلاث ليالي بالصوم أو بالأمة وهكذا كان
الطحاوي يقول إنه يجعل لها يوما واحدا يسكن عندها وثلاثة أيام ولياليها يتفرغ للعبادة وأشغاله (وجه) هذا القول
ما ذكره محمد في كتاب النكاح أن امرأة رفعت زوجها إلى عمر رضي الله عنه وذكرت أنه يصوم النهار ويقوم الليل فقال
عمر رضي الله عنه ما أحسنك ثناء على بعلك فقال كعب يا أمير المؤمنين انها تشكو إليك زوجها فقال عمر رضي الله عنه
وكيف ذلك فقال كعب انه إذا صام النهار وقام الليل فكيف يتفرغ لها فقال عمر رضي الله عنه لكعب احكم بينهما فقال
أراها احدى نسائه الأربع يفطر لها يوما ويصوم ثلاثة أيام فاستحسن ذلك منه عمر رضي الله عنه وولاه قضاء البصرة
ذكر محمد هذا في كتاب النكاح ولم يذكر أنه يأخذ بهذا القول وذكر الجصاص أن هذا ليس مذهبنا لان المزاحمة في القسم
إنما تحصل بمشاركات الزوجات فإذا لم يكن له زوجة غيرها لم تتحقق المشاركة فلا يقسم لها وإنما يقال له لا تداوم على
الصوم ووف المرأة حقها كذا قاله الجصاص وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي ان أبا حنيفة كأن يقول أولا كما
روى الحسن عنه لما أشار إليه كعب وهو أن للزوج أن يسقط حقها عن ثلاثة أيام بأن يتزوج ثلاثا أخر سواها فلما
لم يتزوج فقد جعل ذلك لنفسه فكان الخيار له في ذلك فان شاء صرف ذلك إلى الزوجات وان شاء صرفه إلى صيامه
وصلاته وأشغاله ثم رجع عن ذلك وقال هذا ليس بشئ لأنه لو تزوج أربعا فطالبن بالواجب منه يكون لكل واحدة
منهن ليلة من الأربع فلو جعلنا هذا حقا لكل واحدة منهن لا يتفرغ لاعماله فلم يوقت في هذا وقتا وإن كانت المرأة أمة
فعلى قول أبي حنيفة أخيرا ان صح الرجوع لا شك أنه لا يقسم لها كما لا يقسم للحرة من طريق الأولى وعلى قوله الأول
وهو قول الطحاوي يجعل لها ليلة من كل سبع ليال لان للزوج حق اسقاط حقها عن ستة أيام والاقتصار على يوم
333

واحد بأن يتزوج عليها ثلاث حرائر لان للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة فلما لم يتزوج فقد جعل ذلك لنفسه فكان
بالخيار ان شاء صرف ذلك إلى الزوجات وان شاء صرفه إلى الصوم والصلاة والى أشغال نفسه والاشكال عليه
ما نقل عن أبي حنيفة وما ذكره الجصاص أيضا والله عز وجل الموفق
* (فصل) * ومنها وجوب طاعة الزوج على الزوجة إذا دعاها إلى الفراش لقوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن
بالمعروف قيل لها المهر والنفقة وعليها أن تطيعه في نفسها وتحفظ غيبته ولان الله عز وجل أمر بتأديبهن بالهجر والضرب
عند عدم طاعتهن ونهى عن طاعتهن بقوله عز وجل فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا فدل ان التأديب كان لترك
الطاعة فيدل على لزوم طاعتهن الأزواج
* (فصل) * ومنها ولاية التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب
فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب ولا تكوني من كذا
وكذا فلعل تقبل الموعظة فتترك النشوز فان نجعت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش والا هجرها وقيل يخوفها بالهجر
أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة فان تركت والا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر ثم اختلف في كيفية
الهجر قيل يهجرها بأن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه وقيل يهجرها بان لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا ان
يترك جماعها ومضاجعتها لان ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر
بنفسه ويبطل حقه وقيل يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها لان حقها عليه في القسم
في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع وقيل يهجرها بترك مضاجعتها
وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها لان هذا للتأديب والزجر فينبغي أن يؤدبها لا ان يؤدب
نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها فإذا هجرها فان تركت النشوز والا ضربها عند ذلك ضربا غير مبرح
ولا شائن والأصل فيه قوله عز وجل واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فظاهر
الآية وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب والواو تحتمل ذلك فان
نفع الضرب والا رفع الامر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها كما قال الله تعالى وان خفتم
شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما وسبيل هذا سبيل الامر
بالمعروف والنهى عن المنكر في حق سائر الناس ان الآمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول فان
قبلت والا غلظ القول به فان قبلت والا بسط يده فيه وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد
مقدر فللزوج أن يؤدبها تعزيزا لها لان للزوج ان يعزر زوجته كما للمولى أن يعزر مملوكه
* (فصل) * ومنها المعاشرة بالمعروف وانه مندوب إليه ومستحب قال الله تعالى وعاشروهن بالمعروف قيل هي
المعاشرة بالفضل والاحسان قولا وفعلا وخلقا قال النبي صلى الله عليه وسلم خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي وقيل
المعاشرة بالمعروف هي ان يعاملها بما لو فعل بك مثل ذلك لم تنكره بل تعرفه وتقبله وترضى به وكذلك من جانبها هي
مندوبة إلى المعاشرة الجميلة مع زوجها بالاحسان باللسان واللطف في الكلام والقول المعروف الذي يطيب به نفس
الزوج وقيل في قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ان الذي عليهن من حيث الفضل والاحسان هو ان
يحسن إلى أزواجهن بالبر باللسان والقول بالمعروف والله عز وجل أعلم ويكره للزوج أن يعزل عن امرأته الحرة بغير
رضاها لان الوطئ عن أنزال سبب لحصول الولد ولها في الولد حق وبالعزل يفوت الولد فكأنه سببا لفوات حقها وإن كان
العزل برضاها لا يكره لأنها رضيت بفوات حقها ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال اعزلوهن
أو لا تعزلوهن ان الله تعالى إذا أراد خلق نسمة فهو خالقها الا ان العزل حال عدم الرضا صار مخصوصا وكذلك إذا
كانت المرأة أمة الغير أنه يكره العزل عنها من غير رضا لكن يحتاج إلى رضاها أو رضا مولاها قال أبو حنيفة الاذن في
334

ذلك إلى المولى وقال أبو يوسف ومحمد إليها (وجه) قولهما أن قضاء الشهوة حقها والعزل يوجب نقصانا في ذلك
ولأبي حنيفة ان كراهة العزل لصيانة الولد والولد له لا لها والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما النكاح الفاسد فلا حكم له قبل الدخول وأما بعد الدخول فيتعلق به أحكام منها ثبوت النسب
ومنها وجوب العدة وهو حكم الدخول في الحقيقة ومنها وجوب المهر والأصل فيه ان النكاح الفاسد ليس بنكاح
حقيقة لانعدام محله أعني محل حكمه وهو الملك لان الملك يثبت في المنافع ومنافع البضع ملحقة بالاجزاء والحر بجميع
أجزائه ليس محلا للملك لان الحرية خلوص والملك ينافي الخلوص ولان الملك في الآدمي لا يثبت الا بالرق والحرية
تنافى الرق الا ان الشرع أسقط اعتبار المنافى في النكاح الصحيح لحاجة الناس إلى ذلك وفى النكاح الفاسد بعد
الدخول لحاجة الناكح إلى درء الحد وصيانة مائه عن الضياع بثبات النسب ووجوب العدة وصيانة البضع المحترم عن
الاستعمال من غير غرامة ولا عقوبة توجب المهر فجعل منعقدا في حق المنافع المستوفاة لهذه الضرورة ولا ضرورة
قبل استيفاء المنافع وهو ما قبل الدخول فلا يجعل منعقدا قبله ثم الدليل على وجوب مهر المثل بعد الدخول ما روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرأة أنكحت نفسها بغير اذن مواليها فنكاحها باطل فان دخل بها فلها مهر
مثلها جعل صلى الله عليه وسلم لها مهر المثل فيما له حكم النكاح الفاسد وعلقه بالدخول فدل ان وجوبه متعلق به ثم
اختلف في تقدير هذا المهر وهو المسمى بالعقر قال أصحابنا الثلاثة يجب الأقل من مهر مثلها ومن المسمى وقال زفر يجب
مهر المثل بالغا ما بلغ وكذا هذا الخلاف في الإجارة الفاسدة (وجه) قول زفر ان المنافع تتقوم بالعقد الصحيح
والفاسد جميعا كالأعيان فيلزم اظهار أثر التقوم وذلك بايجاب مهر المثل بالغا ما بلغ لأنه قيمة منافع البضع وإنما العدول
إلى المسمى عند صحة التسمية ولم تصح لهذا المعنى أو جنبا كمال القيمة في العقد الفاسد كذا ههنا (ولنا) ان العاقدين
ما قوما المنافع بأكثر من المسمى فلا تتقوم بأكثر من المسمى فحصلت الزيادة مستوفاة من غير عقد فلم تكن لها قيمة الا
ان مهر المثل إذا كان أقل من المسمى لا يبلغ به المسمى لأنها رضيت بذلك القدر لرضاها بمهر مثلها واختلف أيضا في
وقت وجوب العدة أنها من أي وقت تعتبر قال أصحابنا الثلاثة انها تجب من حين يفرق بينهما وقال زفر من آخر وطئ
وطئها حتى لو كانت قد حاضت ثلاث حيض بعد آخر وطئ وطئها قبل التفريق فقد انقضت عدتها عنده (وجه)
قوله إن العدة تجب بالوطئ لأنها تجب لاستبراء الرحم وذلك حكم الوطئ ألا ترى انها لا تجب قبل الوطئ وإذا كان
وجوبها بالوطئ تجب عقيب الوطئ بلا فصل كأحكام سائر العلل (ولنا) أن النكاح الفاسد بعد الوطئ منعقد
في حق الفراش لما بينا والفراش لا يزول قبل التفريق بدليل انه لو وطئها قبل التفريق لا حد عليه ولا يجب عليه
بتكرار الوطئ الا مهر واحد ولو وطئها بعد التفريق يلزمه الحد ولو دخلته شبهة حتى امتنع وجوب الحد يلزمه مهر
آخر فكان التفريق في النكاح الفاسد بمنزلة الطلاق في النكاح الصحيح فيعتبر ابتداء العدة منه كما تعتبر من وقت
الطلاق في النكاح الصحيح والخلوة في النكاح الفاسد لا توجب العدة لأنه ليس بنكاح حقيقة الا أنه الحق بالنكاح
في حق المنافع المستوفاة حقيقة مع قيام المنافع لحاجة الناكح إلى ذلك فيبقى في حق غير المستوفى على أصل العدم ولم
يوجد استيفاء المنافع حقيقة بالخلوة ولان الموجب للعدة في الحقيقة هو الوطئ لأنها تجب لتعرف براءة الرحم ولم يوجد
حقيقة الا انا أقمنا التمكين من الوطئ في النكاح الصحيح مقامه في حق حكم يحتاط فيه لوجود دليل التمكن وهو
الملك المطلق ولم يوجد ههنا بخلاف الخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح انها توجب العدة إذا كان متمكنا من الوطئ
حقيقة وإن كان ممنوعا عنه شرعا بسبب الحيض أو الاحرام أو الصوم أو نحو ذلك لان هناك دليل الاطلاق شرعا
موجود وهو الملك المطلق الا أنه منع منه لغيره فكان التمكن ثابتا ودليله موجود فيقام مقام المدلول في موضع الاحتياط
وههنا بخلافه ولا يوجب المهر أيضا لأنه لما لم يجب بها العدة فالمهر أولى لأن العدة يحتاط في وجوبها ولا يحتاط في
وجوب المهر
335

* (فصل) * (وأما) بيان ما يرفع حكم النكاح فبيانه بيان ما تقع به الفرقة بين الزوجين ولوقوع الفرقة بين الزوجين
أسباب لكن الواقع ببعضها فرقة بطلاق وبعضها فرقة بغير طلاق وفى بعضها يقع فرقة بغير قضاء القاضي
وفى بعضها لا يقع الا بقضاء القاضي فنذكر جملة ذلك بتوفيق الله عز وجل منها الطلاق بصريحه وكناياته وله
كتاب مفرد ومنها اللعان ولا تقع الفرقة الا بتفريق القاضي عند أصحابنا وكذا في كيفية هذه الفرقة خلاف بين أصحابنا
نذكره إن شاء الله تعالى في كتاب اللعان ومنها اختيار الصغير أو الصغيرة بعد البلوغ في خيار البلوغ وهذه الفرقة لا تقع
الا بتفريق القاضي بخلاف الفرقة باختيار المرأة نفسها في خيار العتق انها تثبت بنفس الاختيار وقد بينا وجه الفرق
فيما تقدم والفرقة في الخيارين جميعا تكون فرقة بغير طلاق بل تكون فسخا حتى لو كان الزوج لم يدخل بها فلا مهر لها اما
في خيار العتق فلا شك فيه لان الفرقة وقعت بسبب وجد منها وهو اختيارها نفسها واختيارها نفسها لا يجوز أن يكون
طلاقا لأنها لا تملك الطلاق الا إذا ملكت كالمخيرة فكان فسخا وفسخ العقد رفعه من الأصل وجعله كان لم يكن ولو لم
يكن حقيقة لم يكن لها مهر فكذا إذا التحق بالعدم من الأصل وكذا في خيار البلوغ إذا كان من له الخيار هو المرأة فاختارت
نفسها قبل الدخول بها لما قلنا واما إذا كان من له الخيار هو الغلام فاختار نفسه قبل الدخول بها فلا مهر لها أيضا وهذا
فيه نوع اشكال لان الفرقة جاءت من قبل الزوج فيجب أن تكون فرقة بطلاق ويتعلق بها نصف المهر والانفصال
ان الشرع أثبت له الخيار فلابد أن يكون مفيدا ولو كان ذلك طلاقا ووجب عليه المهر لم يكن لاثبات الخيار معنى لأنه
يملك الطلاق فإذا لا فائدة في الخيار الا سقوط المهر وإن كان قد دخل بها لا يسقط المهر لان المهر قد تأكد بالدخول
فلا يحتمل السقوط بالفرقة كمالا يحتمل السقوط بالموت ولان الدخول استيفاء منافع البضع وانه أمر خفى فلا
يحتمل الارتفاع من الأصل بالفسخ بخلاف العقد فإنه أمر شرعي فكان محتملا للفسخ ولأنه لو فسخ النكاح بعد
الدخول لوجب عليه رد المنافع المستوفاة لأنه عاد البدل إليه فوجب ان يعود المبدل إليها وهو لا يقدر على ردها فلا
يفسخ وإذا لم يقدر على ردها يغرم قيمتها وقيمتها هو المهر المسمى فلا يفيد ولأنه لما استوفى المنافع فقد استوفى المعقود
عليه وهو المبدل فلا يسقط البدل ومنها اختيار المرأة نفسها لعيب الجب والعنة والخصاء والخنوثة والتأخذ بتفريق
القاضي أو بنفس الاختيار على ما بينا وانه فرقة بطلان لان سبب ثبوتها حصل من الزوج وهو المنع من ايفاء حقها
المستحق بالنكاح وانه ظلم وضرر في حقها الا أن القاضي قام مقامه في دفع الظلم والأصل أن الفرقة إذا حصلت بسبب
من جهة الزوج مختص بالنكاح أن تكون فرقة بطلان حتى لو كان ذلك قبل الدخول بها وقبل الخلوة فلها نصف
المسمى إن كان في النكاح تسمية وان لم يكن فيه تسمية فلها المتعة ومنها التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر
والفرقة به فرقة بغير طلاق لأنها فرقة حصلت لا من جهة الزوج فلا يمكن ان يجعل ذلك طلاقا لأنه ليس لغير الزوج
ولاية الطلاق فيجعل فسخا ولا تكون هذه الفرقة الا عند القاضي لما ذكرنا في الفرقة بخيار البلوغ ومنها اباء الزوج
الاسلام بعدما أسلمت زوجته في دار الاسلام ومنها اباء الزوجة الاسلام بعدما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي
في دار الاسلام وجملة الكلام فيه أن الزوجين الكافرين إذا أسلم أحدهما في دار الاسلام فإن كانا كتابيين
فأسلم الزوج فالنكاح بحاله لان الكتابية محل لنكاح المسلم ابتداء فكذا بقاء وان أسلمت المرأة لا تقع الفرقة
بنفس الاسلام عندنا ولكن يعرض الاسلام على زوجها فان أسلم بقيا على النكاح وان أبى الاسلام فرق
القاضي بينهما لأنه لا يجوز أن تكون المسلمة تحت نكاح الكافر ولهذا لم يجز نكاح الكافر المسلمة ابتداء فكذا
في البقاء عليه وإن كانا مشركين أو مجوسيين فأسلم أحدهما أيهما كان يعرض الاسلام على الآخر ولا تقع الفرقة
بنفس الاسلام عندنا فان أسلم فهما على النكاح وان أبى الاسلام فرق القاضي بينهما لان المشركة لا تصلح لنكاح
المسلم غير أن الاباء إن كان من المرأة يكون فرقة بغير طلاق لان الفرقة جاءت من قبلها وهو الاباء من الاسلام
والفرقة من قبل المرأة لا تصلح طلاقا لأنها لا تلي الطلاق فيجعل فسخا وإن كان الاباء من الزوج يكون فرقة بطلاق
336

في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يكون فرقة بغير طلاق وهذا كله مذهب أصحابنا وقال الشافعي إذا أسلم أحد
الزوجين وقعت الفرقة بنفس الاسلام غير أنه إن كان ذلك قبل الدخول تقع الفرقة للحال فاما بعد الدخول فلا تقع
الفرقة حتى تمضي ثلاث حيض فان أسلم الآخر قبل مضيها فالنكاح بحاله وان لم يسلم بانت بمضيها أما الكلام مع
الشافعي فوجه قوله إن كفر الزوج يمنع من نكاح المسلمة ابتداء حتى لا يجوز للكافر ان ينكح المسلمة وكذلك شرك
المرأة وتمجسها مانع من نكاح المسلم ابتداء بدليل أنه لا يجوز للمسلم نكاح المشركة والمجوسية فإذا طرأ على النكاح
يبطله فأشبه الطلاق (ولنا) اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى أن رجلا من بنى تغلب أسلمت امرأته فعرض
عمر رضي الله عنه عليه الاسلام فامتنع ففرق بينهما وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون اجماعا ولو
وقعت الفرقة بنفس الاسلام لما وقعت الحاجة إلى التفريق ولان الاسلام لا يجوز أن يكون مبطلا للنكاح لأنه
عرف عاصما للاملاك فكيف يكون مبطلا لها ولا يجوز ان يبطل بالكفر أيضا لان الكفر كان موجودا منهما ولم
يمنع ابتداء النكاح فلان لا يمنع البقاء وانه أسهل أولى الا انا لو بقينا النكاح بينهما لا تحصل المقاصد لان مقاصد
النكاح لا تحصل الا بالاستفراش والكافر لا يمكن من استفراش المسلمة والمسلم لا يحل له استفراش المشركة والمجوسية
لخبثهما فلم يكن في بقاء هذا النكاح فائدة فيفرق القاضي بينهما عند اباء الاسلام لان اليأس عن حصول المقاصد
يحصل عنده وأما الكلام مع أصحابنا في كيفية الفرقة عند اباء الزوج الاسلام بعدما أسلمت امرأته المشركة أو المجوسية
أو الكتابية فوجه قول أبى يوسف ان هذه فرقة يشترك في سببها الزوجان ويستويان فيه فان الاباء من كل واحد
منهما سبب الفرقة ثم الفرقة الحاصلة بابائها فرقة بغير طلاق فكذا بابائه لاستوائهما في السببية كما إذا ملك أحدهما
صاحبه ولهما ان الحاجة إلى التفريق عند الاباء لفوات مقاصد النكاح ولان مقاصد النكاح إذا لم تحصل لم يكن في بقاء
النكاح فائدة فتقع الحاجة إلى التفريق والأصل في التفريق هو الزوج لان الملك له والقاضي ينوب منابه كما في الفرقة
بالجب والعنة فكان الأصل في الفرقة هو فرقة الطلاق فيجعل طلاقا ما أمكن وفى اباء المرأة لا يمكن لأنها لا تملك
الطلاق فيجعل فسخا ومنها ردة أحد الزوجين لان الردة بمنزلة الموت لأنها سبب مفض إليه والميت لا يكون محلا
للنكاح ولهذا لم يجز نكاح المرتد لاحد في الابتداء فكذا في حال البقاء ولأنه لا عصمة مع الردة وملك النكاح
لا يبقى مع زوال العصمة غير أن ردة المرأة تكون فرقة بغير طلاق بلا خلاف وأما ردة الرجل فهي فرقة بغير طلاق في
قول أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد فرقة بطلاق (وجه) قوله ظاهر لان الأصل ان الفرقة إذا حصلت بمعنى من
قبل الزوج وأمكن ان تجعل طلاقا تجعل طلاقا لان الأصل في الفرقة هو فرقة الطلاق وأصل أبى يوسف ما ذكرنا
انه فرقة حصلت بسبب يشترك فيه الزوجان لان الردة من كل واحد منهما سبب لثبوت الفرقة ثم الثابت بردتها
فرقة بغير طلاق كذا بردته ولأبي حنيفة ان هذه الفرقة وإن كانت بسبب وجد من الرجل وهو ردته الا انه لا يمكن ان
تجعل الردة طلاقا لأنها بمنزلة الموت وفرقة الموت لا تكون طلاقا لان الطلاق تصرف يختص بما يستفاد بالنكاح
والفرقة الحاصلة بالردة فرقة واقعة بطريق التنافي لان الردة تنافى عصمة الملك وما كان طريقه التنافي لا يستفاد بملك
النكاح فلا يكون طلاقا بخلاف الفرقة الحاصلة باباء الزوج لأنها تثبت بفوات مقاصد النكاح وثمراته وذلك مضاف
إلى الزوج فيلزمه الامساك بالمعروف والا التسريح بالاحسان فإذا امتنع عنه ألزمه القاضي الطلاق الذي يحصل
به التسريح بالاحسان كأنه طلق بنفسه والدليل على التفرقة بينهما ان فرقة الاباء لا تحصل الا بالقضاء وفرقة الردة تثبت
بنفس الردة ليعلم أن ثبوتها بطريق التنافي ثم الفرقة بردة أحد الزوجين تثبت بنفس الردة فتثبت في الحال عندنا وعند
الشافعي إن كان قبل الدخول فكذلك وإن كان بعد الدخول تتأجل الفرقة إلى مضى ثلاث حيض وهو على
الاختلاف في اسلام أحد الزوجين هذا إذا ارتد أحد الزوجين فاما إذا ارتدا معا لا تقع الفرقة بينهما استحسانا حتى
لو أسلما معا فهما على نكاحهما والقياس ان تقع الفرقة وهو قول زفر وجه القياس انه لو ارتد أحدهما لوقعت الفرقة
337

فكذا إذا ارتدا لان في ردتهما ردة أحدهما وزيادة وللاستحسان اجماع الصحابة رضي الله عنهم فان العرب لما
ارتدت في زمن أبى بكر الصديق رضي الله عنه ثم أسلموا لم يفرق بينهم وبين نسائهم وكان ذلك بمحضر من الصحابة
رضي الله عنهم فان قيل بم يعلم هناك انهم ارتدوا وأسلموا معا فالجواب انه لما لم يفرق بينهم وبين نسائهم فيما لم يعلم القران
بل احتمل التقدم والتأخر في الردة والاسلام ففيما علم أولى ان لا يفرق ثم نقول الأصل في كل أمرين حادثين إذا لم
يعلم تاريخ ما بينهما ان يحكم بوقوعهما معا كالغرقى والحرقى والهدمى ولو تزوج مسلم كتابية يهودية أو نصرانية
فتمجست تثبت الفرقة لان المجوسية لا تصلح لنكاح المسلم ألا ترى انه لا يجوز له نكاحها ابتداء ثم إن كان ذلك
قبل الدخول بها فلا مهر لها ولا نفقة لأنها فرقة بغير طلاق فكانت فسخا وإن كان بعد الدخول بها فلها المهر لما بينا فيما
تقدم ولا نفقة لها لان الفرقة جاءت من قبلها والأصل ان الفرقة إذا جاءت من قبلها فإن كان قبل الدخول بها فلا نفقة لها
ولا مهر وان جاءت من قبله قبل الدخول يجب نصف المسمى إن كان المهر سمى وان لم يكن تجب المتعة وبعد الدخول
يجب كل المهر والنفقة ولو كانت يهودية فتنصرت أو نصرانية فتهودت لم تثبت الفرقة ولم يعترض عليه عندنا وقال
الشافعي لا يمكن من القرار عليه ولكن تجبر على أن تسلم أو تعود إلى دينها الأول فإن لم تفعل حتى مضت ثلاث حيض
وقعت الفرقة كما في المرتد وجه قوله إنها كانت مقرة بان الدين الذي انتقلت إليه باطل فكان ترك الاعتراض تقريرا
على الباطل وانه لا يجوز (ولنا) انها انتقلت من باطل إلى باطل والجبر على العود إلى الباطل باطل ولو كانت يهودية أو
نصرانية فصبأت لم تثبت الفرقة في قول أبي حنيفة وفى قول أبى يوسف ومحمد تثبت الفرقة بناء على أنه يجوز للمسلم نكاح
الصابئية عنده وعندهما لا يجوز والمسألة مرت في موضعها ومنها اسلام أحد الزوجين في دار الحرب لكن لا تقع
الفرقة في الحال بل تقف على مضى ثلاث حيض إن كانت ممن تحيض وإن كانت ممن لا تحيض ثلاثة أشهر فان أسلم
الباقي منهما في هذه المدة فهما على النكاح وان لم يسلم حتى مضت المدة وقعت الفرقة لان الاسلام لا يصلح سببا
لثبوت الفرقة بينهما ونفس الكفر أيضا لا يصلح سببا لما ذكرنا من المعنى فيما تقدم ولكن يعرض الاسلام على الآخر
فإذا أبى حينئذ يفرق وكانت الفرقة حاصلة بالاباء ولا يعرف الاباء الا بالعرض وقد امتنع العرض لانعدام الولاية وقد
مست الحاجة إلى التفريق إذ المشرك لا يصلح لنكاح المسلم فيقام شرط البينونة وهو مضى ثلاث حيض إذ هو شرط
البينونة في الطلاق الرجعي مقام العلة وإقامة الشرط مقام العلة عند تعذر اعتبار العلة جائز في أصول الشرع فإذا
مضت مدة العدة وهي ثلاث حيض صار مضى هذه المدة بمنزلة تفريق القاضي وتكون فرقة بطلاق على قياس قول أبي حنيفة
ومحمد وعلى قياس قول أبى يوسف بغير طلاق لأنه فرقة بسبب الاباء حكما وتقديرا وإذا وقعت الفرقة بعد مضى
هذه المدة هل تجب العدة بعد مضيها بأن كانت المرأة هي المسلمة فخرجت إلى دار الاسلام فتمت الحيض في دار
الاسلام لا عدة عليها عند أبي حنيفة وعندهما عليها العدة والمسألة مذكورة فيما تقدم وإن كان المسلم هو الزوج فلا عدة
عليها بالاجماع لأنها حربية ومنها اختلاف الدارين عندنا بان خرج أحد الزوجين إلى دار الاسلام مسلما أو ذميا
وترك الآخر كافرا في دار الحرب ولو خرج أحدهما مستأمنا وبقى الآخر كافرا في دار الحرب لا تقع الفرقة بالاجماع
وقال الشافعي لا تقع الفرقة باختلاف الدارين وهذا بناء على أصل وهو ان اختلاف الدارين علة لثبوت الفرقة عندنا
وعنده ليس بعلة وإنما العلة هي السبي واحتج بما روى أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت من
مكة إلى المدينة وخلفت زوجها أبا العاص كافرا بمكة فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول ولو
ثبتت الفرقة باختلاف الدارين لما رد بل جدد النكاح ولان تأثير اختلاف الدارين في انقطاع الولاية وانقطاع
الولاية لا يوجب انقطاع النكاح فان النكاح يبقى بين أهل العدل والبغي والولاية منقطعة (ولنا) ان عند اختلاف
الدارين يخرج الملك من أن يكون منتفعا به لعدم التمكن من الانتفاع عادة فلم يكن في بقائه فائدة فيزول كالمسلم إذا ارتد
عن الاسلام ولحق بدار الحرب انه يزول ملكه عن أمواله وتعتق أمهات أولاده ومدبروه لما قلنا كذا هذا بخلاف
338

أهل البغي مع أهل العدل لان أهل البغي من أهل الاسلام ولأنهم مسلمون فيخالطون أهل العدل فكان امكان
الانتفاع ثابتا فيبقى النكاح وههنا بخلافه وأما الحديث فقد روى أنه ردها عليه بنكاح جديد فتعارضت الروايتان
فسقط الاحتجاج به مع أن العمل بهذه الرواية أولى لأنها تثبت أمرا لم يكن فكان راوي الرد بالنكاح الأول
استصحب الحال فظن أنه ردها عليه بذلك النكاح الذي كان وراوي النكاح الجديد اعتمد حقيقة الحال وصار
كاحتمال الجرح والتعديل ثم إن كان الزوج هو الذي خرج فلا عدة على المرأة بلا خلاف لما ذكرنا انه حربية وإن كان
ت المرأة هي التي خرجت فلا عدة عليها في قول أبي حنيفة خلافا لهما وكذلك إذا خرج أحدهما ذميا وقعت
الفرقة لأنه صار من أهل دار الاسلام فصار كما لو خرج مسلما بخلاف ما إذا خرج أحدهما بأمان لان الحربي المستأمن
من أهل دار الحرب وإنما دخل دار الاسلام على سبيل العارية لقضاء بعض حاجاته لا للتوطن فلا يبطل حكم دار
الحرب في حقه كالمسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لأنه لا يصير بالدخول من أهل دار الحرب لما قلنا كذا هذا ولو أسلما
معا في دار الحرب أو صارا ذميين معا أو خرجا مستأمنين فالنكاح على حاله لانعدام اختلاف الدارين عندنا وانعدام
السبي عنده وعلى هذا يخرج ما إذا سبى أحدهما وأحرز بدار الاسلام انه تقع الفرقة بالاجماع لكن على اختلاف
الأصلين عندنا باختلاف الدارين وعنده بالسبي وعندنا لا تثبت الفرقة قبل الاحراز بدار الاسلام ولو سببا معا لا تقع
الفرقة عندنا لعدم اختلاف الدارين وعنده تقع لوجود السبي واحتج بقوله تعالى والمحصنات من النساء الا ما ملكت
أيمانكم حرم المحصنات وهن ذوات الأزواج إذ هو معطوف على قوله عز وجل حرمت عليكم أمهاتكم واستثنى
المملوكات والاستثناء من الحظر إباحة ولم يفصل بين ما إذا سبيت وحدها أو مع زوجها ولان السبي سبب لثبوت ملك
المتعة للسابي لأنه استيلاء ورد على محل غير معصوم وانه سبب لثبوت الملك في الرقبة ولهذا يثبت الملك في المسبية
بالاجماع وملك الرقبة يوجب ملك المتعة ومتى ثبت ملك المتعة للسابي يزول ملك الزوج ضرورة بخلاف ما إذا اشترى
أمة هي منكوحة الغير أنه لا يثبت للمشترى ملك المتعة وان ثبت له ملك الرقبة بالشراء لان ملك الزوج في الأمة ملك
معصوم واثبات اليد على محل معصوم لا يكون سببا لثبوت الملك (ولنا) ان ملك النكاح للزوج كان ثابتا بدليله مطلقا
وملك النكاح لا يجوز ان يزول الا بإزالته أو لعدم فائدة البقاء اما لفوات المحل حقيقة بالهلاك أو تقديرا لخروجه من أن
يكون منتفعا به في حق المالك واما لفوات حاجة المالك بالموت لان الحكم بالزوال حينئذ يكون تناقضا والشرع منزه عن
التناقض ولم توجد الإزالة من الزوج والمحل صالح والمالك صالح حي محتاج إلى الملك وامكان الاستمتاع ثابت ظاهرا
وغالبا إذا سبيا معا ولا يكون نادرا وكذا إذا سبى أحدهما والمسبي في دار الحرب لان احتمال الاسترداد من الكفرة أو
استنقاذ الاسراء من الغزاة ليس بنادر وان لم يكن غالبا بخلاف ما إذا سبى أحدهما وأخرج إلى دار الاسلام لان هناك
لا فائدة في بقاء الملك لعدم التمكن من إقامة المصالح بالملك ظاهرا وغالبا لاختلاف الدارين وأما قوله السبي ورد على
محل غير معصوم فنعم لكن الاستيلاء الوارد على محل غير معصوم إنما يكون سببا لثبوت الملك إذا لم يكن مملوكا لغيره وملك
الزوج ههنا قائم لما بينا فلم يكن السبي سببا لثبوت الملك للسابي فلا يوجب زوال ملك الزوج والآية محمولة على ما إذا
سبيت وحدها لما ذكرنا من الدلائل ومنها الملك الطارئ لاحد الزوجين على صاحبه بان ملك أحدهما صاحبه بعد
النكاح أو ملك شقصا منه لان الملك المقارن يمنع من انعقاد النكاح فالطارئ عليه يبطله والفرقة الواقعة به فرقة بغير
طلاق لأنها فرقة حصلت بسبب لا من قبل الزوج فلا يمكن ان تجعل طلاقا فتجعل فسخا ولا يحتاج إلى تفريق
القاضي لأنها فرقة حصلت بطريق التنافي لما بينا في المسائل المتقدمة ان الحقوق الثابتة بالنكاح لا يصح اثباتها بين المالك
والمملوك فلا تفتقر إلى القضاء كالفرقة الحاصلة بردة أحد الزوجين وعلى هذا قالوا في القن والمدبر والمأذون
إذا اشتريا زوجتهما لم يبطل النكاح لأن الشراء لا يفيد لهما ملك المتعة فلا يوجب بطلان النكاح وقالوا أيضا في
المكاتب إذا اشترى زوجته لا يبطل نكاحها لأنه لا يملكها وإنما يثبت له فيها حق الملك وحق الملك يمنع ابتداء
339

النكاح ولا يمنع البقاء كالعدة وهذا لان حق الملك هو الملك من وجه فكان ملكه فيها ثابتا من وجه دون وجه فالنكاح
إذا لم يكن منعقدا يقع الشك في انعقاده فلا ينعقد بالشك وإذا كان منعقدا يقع الشك في زواله فلا يزول بالشك على
الأصل المعهود ان غير الثابت بيقين لا يثبت بالشك والثابت بيقين لا يزول بالشك لهذا المعنى منعت العدة من ابتداء
النكاح ولم تمنع البقاء كذا هذا وقالوا فيمن زوج ابنته من مكاتبه ثم مات لا يبطل النكاح بينهما حتى يعجز عن أداء بدل
الكتابة وقال الشافعي ينفسخ النكاح بناء على أن المكاتب لا يورث عندنا فلا يثبت الملك للوارث في المكاتب
حقيقة وإنما يثبت له حق الملك وانه لا يمنع بقاء النكاح وعنده يورث فيثبت الملك لها في زوجها فيبطل النكاح (وجه)
قوله إن الوارث يقوم مقام المورث في أملاكه فيثبت له ما كان ثابتا للمورث وملكه في المكاتب كان ثابتا له فينتقل إلى
الوارث فيصير مملوكا له فينفسخ النكاح (ولنا) ان الحاجة مست إلى ابقاء ملك الميت في المكاتب لان عقد الكتابة
أوجب له حق الحرية للحال على وجه يصير ذلك الحق حقيقة عند الأداء ولهذا يثبت الولاء من قبله فلو نقلنا الملك من
الميت إلى الوارث لتعذر اثبات حقيقة الحرية عند الأداء لانعدام تعليق الحرية منه بالأداء فمست الحاجة إلى
استيفاء ملك الميت فيه لأجل الحق المستحق للمكاتب فيمنع ثبوت الملك حقيقة للوارث ويثبت له حق الملك لوجود
سبب الثبوت وهو القرابة وشرطه وهو الموت وحق الملك يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع البقاء لما ذكرنا الا إذا عجز
عن أداء بدل الكتابة لأنه إذا عجز ثبت الملك حقيقة للوارث فيرتفع النكاح واما معتق البعض إذا اشترى
زوجته لا يبطل النكاح في قول أبي حنيفة وعندهما يبطل بناء على أن معتق البعض بمنزلة المكاتب
عنده وعندهما حر عليه دين والله أعلم ومنها الرضاع الطارئ على النكاح كمن تزوج صغيرة
فأرضعتها أمه بانت منه لأنها صارت أختا له من جهة الرضاع وكذا إذا تزوج صبيتين
رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما بانتا منه لأنهما صارتا أختين وحرمة
الأخت من الرضاع يستوى فيها السابق والطارئ وكذا حرمة الجمع بين
الأختين من الرضاعة ونذكر إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالرضاع المقارن
والطارئ من المسائل في كتاب الرضاع ومنها المصاهرة الطارئة
بان وطئ أم امرأته أو ابنتها والفرقة بها فرقة بغير طلاق لأنها
حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع والفرق في هذه الوجوه
كلها بائنة لان المقصود في بعضها الخلاص
وانه لا يحصل الا بالبائن وفى بعضها
المحل ليس بقابل لبقاء النكاح فافهم
والله الموفق
* (تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله كتاب الايمان) *
340