الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغنى
تأليف الشيخ الإمام العلامة موفق الدين (أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة)
المتوفى سنة 620 ه‍
على مختصر * (الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي) *
المتوفى سنة 334 ه‍
(الجزء الثاني)
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
باب الإمامة
الجماعة واجبة للصلوات الخمس روي نحو ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى وبه قال عطاء والأوزاعي
وأبو ثور ولم يوجبها مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (تفضل صلاة
الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) متفق عليه ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على
اللذين قالا صلينا في رحالنا ولو كانت واجبة لأنكر عليهما ولأنها لو كانت واجبة في الصلاة لكانت
شرطا لها كالجمعة
ولنا قول الله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)
الآية ولو لم تكن واجبة لرخص
فيها حالة الخوف ولم يجز الاخلال بواجبات الصلاة من أجلها وروى أبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (والذي نفسي بيده لقد هممت ان آمر بحطب ليحتطب ثم آمر بالصلاة
فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم) متفق عليه

(1) للحديث عدة ألفاظ في روايات الصحيحين وغيرهما
2

وفيه ما يدل على أنه أراد الجماعة لأنه لو أراد الجمعة لما هم بالتخلف عنها وعن أبي هريرة قال أتى
النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأله أن يرخص
له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولي دعاه فقال (تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم قال فأجب رواه مسلم
وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائدا فغيره أولى وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (من سمع المنادي فلم يمنعه من أتباعه عذر) قالوا وما العذر؟ قال (خوف
أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى) أخرجه أبو داود
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال (ما من ثلاثة في قرية أو
بلد لا تقام فيهم الصلاة الا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية) أخرجه
أبو داود وحديثهم يدل على أن الجماعة غير مشترطة ولا نزاع بيننا فيه ولا يلزم من الوجوب الاشتراط
كواجبات الحج والاحداد في العدة
(فصل) وليست الجماعة شرطا لصحة الصلاة نص عليه أحمد وخرج ابن عقيل وجها في اشتراطها
قياسا على سائر واجبات الصلاة وهذا ليس بصحيح بدليل الحديثين اللذين احتجوا بهما والاجماع
فإننا لا نعلم قائلا بوجوب الإعادة على من صلى وحده إلا أنه روي عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود
وأبو موسى أنهم قالوا من سمع النداء من غير عذر (1) فلا صلاة له
(فصل) وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدا لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو موسى أن النبي صلى الله

(1) كذا والمراد فتخلف عن الجماعة من غير عذر
3

عليه وسلم قال (الاثنان فما فوقهما جماعة) رواه ابن ماجة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث
وصاحبه (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما) وأم النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة مرة
وابن مسعود مرة وابن عباس مرة، ولو أم الرجل عبده أو زوجته أدرك فضيلة الجماعة وان أم صبيا
جاز في التطوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أم فيه ابن عباس وهو صبي وان أمه في الفرض فقال
أحمد لا تنعقد به الجماعة لأنه لا يصلح أن يكون إماما لنقص حاله فأشبه من لا تصح صلاته وقال أبو
الحسن الآمدي فيه رواية أخرى أنه يصح أن يكون إماما لأنه متنفل فجاز أن يكون مأموما بالمفترض
كالبالغ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي فاتته الجماعة (من يتصدق على هذا فيصلي معه)
(فصل) ويجوز فعلها في البيت والصحراء وقيل فيه رواية أخرى أن حضور المسجد واجب إذا
كان قريبا منه لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (قال لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) (1)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: جعلت لي الأرض طيبة وطهورا
ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان) متفق عليه وقالت عائشة صلى النبي صلى

(1) رواه الدارقطني عن جابر وأبي هريرة بسند ضعيف
4

الله عليه وسلم في بيته وهو شاك (1) فصلى جالسا وصلى وراء قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا رواه
البخاري. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين (إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم
تكن لكما نافلة) وقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد لا نعرفه إلا من قول علي نفسه كذلك
رواه سعيد في سننه والظاهر أنه إنما أراد الجماعة وعبر بالمسجد عن الجماعة لأنه محلها ومعناه لا صلاة
لجار المسجد إلا مع الجماعة وقيل أراد به الكمال والفضيلة فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة
في غير المسجد صحيحة جائزة
(فصل) وفعل الصلاة فيما كثر فيه الجمع من المساجد أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم

(1) شاك بحذف الياء أي مريض
5

(صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى) رواه أحمد في المسند فإن تساويا في الجماعة ففعلها في المسجد العتيق
أفضل لأن العبادة فيه أكثر وإن كان في جواره أو غير جواره مسجد لا تنعقد الجماعة فيه إلا بحضوره
ففعلها فيه أولى لأنه يعمره بإقامة الجماعة فيه ويحصلها لمن يصلي فيه. وان كانت تقام فيه وكان في
قصده غيره كسر قلب إمامه أو جماعته فجبر قلوبهم أولى وإن لم يكن كذلك فهل الأفضل قصد الابعد
أو الأقرب؟ فيه روايتان إحداهما قصد الابعد لتكثر خطاه في طلب الثواب فتكثر حسناته (والثانية)
الأقرب لأن له جوارا فكان أحق بصلاته كما أن الجار أحق بهدية جاره ومعروفه من البعيد وإن كان
6

البلد ثغرا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد ليكون أعلى للكلمة وأوقع للهيبة وإذا جاءهم خبر
عن عدوهم سمعه جميعهم وان أرادوا التشاور في أمر حضر جميعهم وان جاء عين الكفار رآهم فأخبر
بكثرتهم. قال الأوزاعي لو كان الامر إلي لسمرت أبواب المساجد التي في الثغر أو نحو هذا
ليجتمع الناس في مسجد واحد
(فصل) ولا يكره إعادة الجماعة في المسجد ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي وحضر جماعة أخرى
استحب لهم أن يصلوا جماعة وهو قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي وقتادة واسحق وقال سالم
7

وأبو قلابة وأيوب. ابن عون والليث والبتي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي لا تعاد
الجماعة في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس
فمن فاتته الجماعة صلى منفردا لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والعداوة والتهاون في الصلاة مع
الإمام ولأنه مسجد له إمام راتب فكره فيه إعادة الجماعة كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولنا عموم
قوله عليه السلام (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة وفي رواية بسبع وعشرين
درجة) وروى أبو سعيد قال: جاء رجل وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أيكم يتجر على
هذا؟ فقام رجل فصلى معه) قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه الأثرم وأبو داود فقال (ألا رجل
يتصدق على هذا فيصلي معه)) وروى الأثرم باسناده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وزاد قال فلما صليا قال (وهذا جماعة) ولأنه قادر على الجماعة فاستحب له فعلها كما لو كان
المسجد في ممر الناس
(فصل) فاما إعادة الجماعة في المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد
8

الأقصى فقد روي عن أحمد كراهة إعادة الجماعة فيها وذكره أصحابنا لئلا يتوانى الناس في حضور
9

الجماعة مع الإمام الراتب فيها إذا أمكنتهم الصلاة في الجماعة مع غيره وظاهر خبر أبي سعيد وأبي أمامة
10

ان ذلك لا يكره لأن الظاهر أن هذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى يقتضيه أيضا فإن
11

فضيلة الجماعة تحصل فيها كحصولها في غيرها
12

(مسألة) قال (ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى)
لا خلاف في التقديم بالقراءة والفقه على غيرهما واختلف في أيهما يقدم على صاحبه فمذهب أحمد
رحمه الله تقديم القارئ وبهذا قال ابن سيرين والثوري وأصحاب الرأي وقال عطاء ومالك والأوزاعي
والشافعي وأبو ثور يؤمهم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكفي في الصلاة لأنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يدري
ما يفعل فيه الا بالفقه فيكون أولى كالإمامة الكبرى والحكم
ولنا ما روى أوس بن ضمعج عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يؤم القوم أقرؤهم
لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا
في الهجرة سواء فأقدمهم سنا) أو قال سلما (1) وروى أبو سعيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(إذا اجتمع ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) رواهما مسلم وعن ابن عمر قال لما قدم
المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء كان يؤمهم سالم مولى أبى حذيفة وكان أكثرهم
قرآنا رواه البخاري وأبو داود وكان فيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد وفي
حديث عمر بن سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليؤمكم أكثركم قرآنا) ولان القراءة ركن
في الصلاة فكان القادر عليها أولى كالقادر على القيام مع العاجز عنه فإن قيل إنما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ لأن أصحابه كان أقرؤهم أفقههم فإنهم كانوا إذا تعلموا القرآن

(1) أي اسلاما
17

تعلموا معه أحكامه قال ابن مسعود كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها
قلنا اللفظ عام فيجب الاخذ بعمومه دون خصوص السبب ولا يخص ما لم يقم دليل على تخصيصه على
أن في الحديث ما يبطل هذا التأويل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فإن استووا فأعلمهم بالسنة)
ففاضل ببينهم في العلم بالسنة مع تساويهم في القراءة ولو قدم القارئ لزيادة علم لما نقلهم عند التساوي
فيه إلى الأعلم بالسنة (1) ولو كان العلم بالفقه على قدر القراءة للزم من التساوي في القراءة ء التساوي فيه
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أقرؤكم أبي وأقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل
وأفرضكم زيد بن ثابت) (2) فقد فضل بالفقه من هو مفضول بالقراءة وفضل بالقراءة من هو مفضول
بالقضاء والفرائض وعلم الحلال والحرام
قيل لأبي عبد الله حديث النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر يصلي بالناس أهو خلاف حديث
أبي مسعود؟ قال لا إنما لقوله لأبي بكر عندي يصلي بالناس للخلافة يعني أن الخليفة أحق بالإمامة وإن كان
غيره اقرأ منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصلاة يدل على أنه إرادة استخلافه
(فصل) ويرجح أحد القارئين على الآخر بكثرة القرآن لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليؤمكم
أكثركم قرآنا) وان تساويا في قدر ما يحفظ كل واحد منهما وكان أحدهما أجود قراءة واعرابا فهو أولى
لأنه اقرأ فيدخل في عموم قوله (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وإن كان أحدهما أكثر حفظا والآخر أقل
لحنا وأجود قراءة فهو أولى لأنه أعظم أجرا في قراءته لقوله عليه السلام (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل
صرف عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

(1) المتبادر خلاف ما فهمه لأن العلم بالسنة يتلو العلم بالكتب كما في حديث معاذ في الحكم
(2) ان العلم بالقرآن أعم من هذه الفروع العلمية وأعلاه العلم بالله وصفاته وأمور الآخرة المؤثرة في كمال الصلاة بالتدبر والخشوع والفقه في لغة الكتاب والسنة غير الفقه العرفي، فالعلم بأصول الدين هو الفقه الحقيقي
18

(مسألة) قال (فإن استووا فأفقههم)
وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانوا في القراءة سواء فأعملهم بالسنة ولان الفقه يحتاج إليه في الصلاة للاتيان بواجباتها وسننها وجبرها ان عرض ما يحوج إليه فيها فإن اجتمع فقيهان
قارئان وأحدهما اقرأ والآخر أفقه قدم الأقرأ نص عليه للخبر وقال ابن عقيل الأفقه أولى لتميزه بما
لا يستغنى عنه في الصلاة وهذا يخالف عموم الخبر فلا يعول عليه وان اجتمع فقيهان أحدهما أعلم بأحكام
الصلاة والآخر أعرف بما سواها فالأعلم بأحكام الصلاة أولى لأن علمه يؤثر في تكميل الصلاة بخلاف الآخر
(مسألة) قال (فإن استووا فأسنهم)
يعني أكبرهم سنا يقدم عند استوائهم في القراءة والفقه وظاهر قول أحمد انه يقدم أقدمهما هجرة ثم أسنهما
لأنه ذهب إلى حديث أبي مسعود وهو مرتب هكذا قال الخطابي وعلى هذا الترتيب توجد أكثر أقاويل العلماء
ومعنى تقدم الهجرة أن يكون أحدهما أسبق هجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام لأن الهجرة قربة وطاعة فيقدم
السابق إليها لسبقه إلى الطاعة (1) فإذا استويا فيها اما لهجرتهما معا أو عدمها منهما فأسنهم لقول النبي صلى الله
عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه (ليؤمكما أكبركما) متفق عليه ولان الأسن أحق بالتوقير

(1) كان الأقدم في الهجرة أكثر علما وأقوى إيمانا وأكثر عبادة في الأغلب
19

والتقديم وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سهل لما تكلم في أخيه (كبر كبر) اي دع
الأكبر يتكلم وقال أبو عبد الله بن حامد أحقهم بعد القراءة والفقه أشرفهم ثم أقدمهم هجرة ثم أسنهم
والصحيح الاخذ بما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم السابق بالهجرة ثم الأسن
لتصريحه بالدلالة ولا دلالة في حديث مالك بن الحويرث على تقديم الأسن لأنه لم يثبت في حقهما
هجرة ولا تفاضلهما في شرف، ويرجح بتقديم الاسلام كالترجيح بتقديم الهجرة فإن في بعض ألفاظ
حديث أبي مسعود (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما)) ولان الاسلام أشرف من الهجرة
فإذا قدم بتقدمها فتقدمه أولى فإذا استووا في هذا كله قدم أشرفهم أي أعلاهم نسبا وأفضلهم في نفسه
وأعلاهم قدرا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (قدموا قريشا ولا تقدموها) (1)
(فصل) فإن استووا في هذه الخصال قدم أتقاهم وأورعهم لأنه أشرف في الدين وأفضل
وأقرب إلى الإجابة وقد جاء (إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال) ذكره الإمام أحمد
في رسالته ويحمل تقديم هذا على الأشرف لأن شرف الدين خير من شرف الدنيا وقد قال الله تعالى
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فإذا استووا في هذا كله أقرع بينهم نص عليه أحمد رحمه الله وذلك لأن
سعد بن أبي وقاص أقرع بينهم في الآذان فالإمامة أولى ولأنهم تساووا في الاستحقاق وتعذر الجمع
فأقرع بينهم كسائر الحقوق وإن كان أحدهما يقوم بعمارة المسجد وتعاهده فهو أحق به وكذلك أن
رضي الجيران أحدهما دون الآخر قدم بذلك ولا يقدم بحسن الوجه لأنه لا مدخل له في الإمامة
ولا اثر له فيها وهذا كله تقديم استحباب لا تقديم اشتراط ولا ايجاب لا نعلم فيه خلافا فلو قدم
المفضول كان ذلك جائزا لأن الامر بعد هذا أمر أدب واستحباب

(1) رواه الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا وابن عدي عن أبي هريرة والبزار عن علي والطبراني عن عبد الله بن السائب بأسانيد صحيحة كما في الجامع الصغير
20

(مسألة) قال (ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر أعاد)
الاعلان الاظهار وهو الاسرار وظاهر هذا أن من ائتم بمن يظهر بدعته ويتكلم بها ويدعو
إليها أو يناظر عليها فعليه الإعادة ومن لم يظهر بدعته فلا إعادة على المؤتم به وإن كان معتقدا لها قال
الأثرم قلت لأبي عبد الله: الرافضة الذين يتكلمون بما تعرف؟ فقال نعم آمره أن يعيد، قيل لأبي عبد الله
وهكذا أهل البدع كلهم قال لا، إن منهم من يسكت ومنهم من يقف ولا يتكلم، وقال لا تصل خلف
أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه، وقال لا تصل خلف المرجئ إذا كان داعية. وتخصيصه
الداعية ومن يتكلم بالإعادة دون من يقف ولا يتكلم يدل على ما قلناه وقال القاضي: المعلن بالبدعة
من يعتقدها بدليل وغير المعلن من يعتقدها تقليدا
ولنا أن حقيقة الاعلان هو الاظهار وهو ضد الاخفاء والاسرار قال الله تعالى (ويعلم ما تسرون
وما تعلنون) وقال تعالى مخبرا عن إبراهيم (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) ولان المظهر لبدعته
لا عذر للمصلي خلفه لظهور حاله والمخفي لها من يصلي خلفه معذور وهذا له أثر في صحة الصلاة ولهذا
لم تجب الإعادة خلف المحدث والنجس إذا لم يعلم حالهما لخفاء ذلك منهما ووجبت على المصلي خلف
21

الكافر والأمي لظهور حالهما غالبا وقد روي عن أحمد انه لا يصلى خلف مبتدع بحال قال في
رواية أبي الحارث لا يصلى خلف مرجي ولا رافضي ولا فاسق الا أن يخافهم فيصلى ثم يعيد. وقال
أبو داود قال أحمد متى ما صليت خلف من يقول القرآن مخلوق فأعد قلت وتعرفه قال نعم وعن مالك
انه لا يصلى خلف أهل البدع فحصل من هذا أن من صلى خلف مبتدع معلن ببدعته فعليه الإعادة
ومن لم يعلنها ففي الإعادة خلفه روايتان وأباح الحسن وأبو جعفر والشافعي الصلاة خلف أهل البدع
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلوا خلف من قال لا إله إلا الله) رواه الدارقطني ولأنه
رجل صلاته صحيحة فصح الائتمام به كغيره. وقال نافع كان ابن عمر يصلي مع الخشبية والخوارج
زمن ابن لزبير وهم يقتتلون فقيل له أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا؟ فقال من قال
حي على الصلاة أجبته، ومن قال حي على الفلاح أجبته، ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله
قلت لا، رواه سعيد. وقال ابن المنذر وبعض الشافعية من نكفره ببدعته كالذي يكذب الله أو رسوله
ببدعته لا يصلى خلفه ومن لا نكفره تصح الصلاة خلفه
ولنا ما روى جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره يقول (لا تؤمن امرأة
22

رجلا ولا فاجر مؤمنا الا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه) رواه ابن ماجة وهذا أخص
من حديثهم فتعين تقديمه وحديثهم نقول به في الجمع والأعياد وتعاد وهو مطلق فالعمل به في موضع
يحصل الوفاء بدلالتهم وقياسهم منقوض بالخنثى والأمي ويروى عن حبيب ابن عمر الأنصاري
عن أبيه قال سألت واثلة ابن الأسقع قلت أصلي خلف القدري؟ قال لا تصل خلفه. ثم قال أما أنا
لو صليت خلفه لأعدت صلاتي رواه الأثرم وأما قول الخرقي أو يسكر فإنه يعني من يشرب ما يسكره
من أي شراب كان فإنه لا يصلى خلفه لفسقه وإنما خصه بالذكر في ما يرى من سائر الفساق لنص
أحمد عليه قال أبو داود سألت أحمد وقيل له إذا كان الإمام يسكر قال لا تصل خلفه البتة وسأله
رجل قال صليت خلف رجل ثم علمت أنه يسكر أعيد؟ قال نعم أعد قال أيتهما صلاتي؟ قال التي
صليت وحدك؟ وسأله رجل. قال رأيت رجلا سكران أصلي خلفه؟ قال لا قال فأصلي وحدي؟ قال أين
أنت؟ في البادية؟ المساجد كثيرة قال أنا في حانوتي قال تخطاه إلى غيره من المساجد. فأما من يشرب
من النبيذ المختلف فيه ما لا يسكره معتقدا حله فلا بأس بالصلاة خلفه نص عليه أحمد فقال يصلى خلف
من يشرب المسكر على التأويل نحن نروي عنهم الحديث ولا نصلي خلف من يسكر وكلام الخرقي
بمفهومه يدل على ذلك لتخصيصه من سكر بالإعادة خلفه. وفي معنى شارب ما يسكر كل فاسق فلا
23

يصلى خلفه نص عليه أحمد فقال لا تصل خلف فاجر ولا فاسق وقال أبو داود سمعت أحمد رحمه الله
سئل عن إمام قال أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهما قال أسأل الله العافية من يصلي خلف هذا؟ وروي
عنه أنه قال لا تصلوا خلف من لا يؤدي الزكاة وقال لا تصل خلف من يشارط (1) ولا بأس أن يدفعوا إليه
من غير شرط وهذه النصوص تدل على أنه لا يصلى خلف فاسق وعنه رواية أخرى أن الصلاة جائزة
ذكرها أصحابنا وهذا مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا خلف من قال لا إله إلا الله)
وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، والحسين والحسن وغيرهما من الصحابة كانوا يصلون مع مروان
والذين كانوا في ولاية زياد وابنه كانوا يصلون معهما وصلوا وراء الوليد بن عقبة وقد شرب الخمر
وصلى الصبح أربعا وقال أزيدكم فصار هذا إجماعا، وروي عن أبي ذر قال قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم (كيف أنت إذا كانت عليك امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها) قال قلت فما تأمرني قال (صل

(1) أي على أجرة الإمامة
24

الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة) رواه مسلم وفي لفظ (فإن صليت لوقتها كانت
نافلة وإلا كنت قد أحرزت صلاتك) وفي لفظ (فإن أدركت الصلاة معهم فصل ولا تقل اني قد صليت فلا
أصلي) وفي لفظ (فإنها زيادة خير) وهذا فعل يقتضي فسقهم وقد أمره بالصلاة معهم وقول النبي صلى الله
عليه وسلم (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) (1) عام فيتناول محل النزاع ولأنه
رجل تصح صلاته لنفسه فصح الائتمام به كالعدل (ووجه الأولى) قوله عليه السلام (لا يؤمن فاجر
مؤمنا إلا أن يقهره بسلطانه أو سيفه) ولان الإمامة تتضمن حمل القراءة ولا يؤمن تركه لها ولا يؤمن
ترك بعض شرائطها كالطهارة وليس ثم أمارة ولا غلبة ظن يؤمنان ذلك والحديث أجبنا عنه وفعل
الصحابة محمول على أنهم خافوا الضرر بترك الصلاة معهم فقد روينا عن عطاء وسعيد ابن جبير انهما
كانا في المسجد والحجاج يخطب فصليا بالايماء وإنما فعلا ذلك لخوفهما على أنفسهما ان صليا على
وجه يعلم بهما وروينا عن قسامة بن زهير قال لما كان من شأن فلان ما كان قال له أبو بكر تنح عن
مصلانا فانا لا نصلي خلفك وحديث أبي ذر يدل على صحتها نافلة والنزاع في الفرض
(فصل) فاما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر وفاجر، وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة

(1) رواه أحمد والبخاري وابن ماجة بهذا اللفظ عن أبي سعيد ورواه مالك والجماعة الا أبا داود بلفظ (تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)
25

وكذلك العلماء الذين في عصره، وقد روينا أن رجلا جاء محمد بن النضر فقال له إن لي جيرانا من
أهل الأهواء لا يشهدون الجمعة، قال حسبك، ما تقول في من رد على أبي بكر وعمر؟ قال رجل سوء، قال
فإن رد على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال يكفر، قال فإن رد على العلي الاعلى؟ ثم غشي عليه ثم أفاق فقال
ردوا عليه والذي لا إله إلا هو فإنه قال (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله) وهو يعلم أن بني العباس سيلونها ولأن هذه الصلاة من شعائر الاسلام الظاهرة، وتليها
الأئمة دون غيرهم فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية إذا ثبت هذا فإنها تعاد خلف من يعاد خلفه
غيرها، قال أحمد أما الجمعة فينبغي شهودها فإن كان الذي يصلي منهم أعاد وروي عنه أنه قال من
أعادها فهو مبتدع وهذا يدل بعمومه على أنها لا تعاد خلف فاسق ولا مبتدع لأنها صلاة أمر بها فلم
تجب اعادتها كسائر الصلوات
(فصل) فإن كان المباشر لها عدلا والمولي له غير مرضي الحال لبدعته أو فسقه لم يعدها نص
عليه، وقيل له إنهم يقولون إذا كان الذي وضعه يقول بقولهم فسدت الصلاة، قال لست أقول بهذا
ولان صلاته إنما ترتبط بصلاة إمامه فلا يضر وجود معنى في غيره، كالحدث أو كونه أميا وعنه
تعاد والصحيح الأول.
(فصل) وان لم يعلم فسق إمامه ولا بدعته حتى صلى معه فإنه يعيد نص عليه. وقال ابن عقيل
لا إعادة عليه لأن ذلك مما يخفى فأشبه المحدث والنجس، والصحيح ان هذا ينظر فيه فإن كان ممن
26

يخفي بدعته وفسوقه صحت الصلاة خلفه لما ذكرنا في أول المسألة وإن كان ممن يظهر ذلك وجبت
الإعادة خلفه على الرواية التي تقول بوجوب اعادتها خلف المبتدع لأنه معنى يمنع الائتمام فاستوى فيه
العلم وعدمه كما لو كان أميا والحدث والنجاسة يشترط خفاؤهما على الإمام والمأموم معا ولا يخفى على
الفاسق فسق نفسه، ولان الإعادة إنما تجب خلف من يعلن ببدعته وليس ذلك في مظنة الخفاء
بخلاف الحدث والنجاسة.
(فصل) وان لم يعلم حاله ولم يظهر منه ما يمنع الائتمام به فصلاة المأموم صحيحة نص عليه أحمد
لأن الأصل في المسلمين السلامة ولو صلى خلف من يشك في إسلامه فصلاته صحيحة لأن الظاهر
أنه لا يتقدم للإمامة إلا مسلم. (1)
(فصل) فاما المخالفون في الفروع كأصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي فالصلاة خلفهم صحيحة
غير مكروهة نص عليه أحمد لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل بعضهم يأتم ببعض مع اختلافهم
في الفروع فكان ذلك اجماعا ولان المخالف اما أن يكون مصيبا في اجتهاده فله أجران أجر لاجتهاده
وأجر لإصابته أو مخطئا فله أجر على اجتهاده ولا اثم عليه في الخطاء لأنه محطوط عنه فإن علم أنه يترك
ركنا أو شرطا يعتقده المأموم دون الإمام فظاهر كلام أحمد صحة الائتمام به. قال الأثرم سمعت أبا
عبد الله يسأل عن رجل صلى بقوم وعليه جلود الثعالب فقال إن كان يلبسه وهو يتأول (أيما اهاب
دبغ فقد طهر) فيصلي خلفه قيل له أفتراه أنت جائزا؟ قال لا نحن لا نراه جائزا ولكن إذا كان هو يتأول
فلا بأس أن يصلى خلفه، ثم قال أبو عبد الله لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم لم يصل خلفه؟ ثم قال

(1) ليتأمل هذا بعض المتنطعين الذين يمتنعون من الصلاة خلف من يسيئون الظن في دينه
27

نحن نرى الوضوء من الدم فلا نصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك ومن سهل في الدم؟ اي بلى ورأيت
لبعض أصحاب الشافعي مسألة مفردة في الرد على من أنكر هذا واستدل بان الصحابة كان يصلي بعضهم
خلف بعض مع الاختلاف ولان كل مجتهد مصيب أو كالمصيب في حط المأثم عنه وحصول الثواب
وصحة الصلاة لنفسه فجائز الائتمام به كما لو لم يترك شيئا وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يصح
ائتمامه به لأنه يرتكب ما يعتقده المأموم مفسدا للصلاة فلم يصح ائتمامه به كما لو خالفه في القبلة حال الاجتهاد فيها
(فصل) وان فعل شيئا من المختلف فيه يعتقد تحريمه فإن كان يترك ما يعتقده شرطا للصلاة أو
واجبا فيها فصلاته فاسدة وصلاة من يأتم به، وإن كان المأموم يخالفه في اعتقاد ذلك لأنه ترك واجبا
في الصلاة ففسدت صلاته وصلاة من ائتم به كالمجمع عليه وإن كان يفعل ما يعتقد تحريمه في غير الصلاة
كالمتزوج بغير ولي ممن يري فساده وشارب يسير النبيذ ممن يعتقد تحريمه فهذا إن دام على ذلك فهو
فاسق حكمه حكم سائر الفساق فإن لم يدم عليه فلا بأس بالصلاة خلفه لأنه من الصغائر ومتى كان
الفاعل كذلك عاميا قلد من يعتقد جوازه فلا شئ عليه لأن فرض العامي سؤال العلماء وتقليدهم
لقول الله تعالى (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون)
(فصل) ولا تصح الصلاة خلف مجنون لأن صلاته لنفسه باطلة وإن كان يجن تارة ويفيق أخرى
فصلى وراءه حال افاقته صحت صلاته ويكره الائتمام به لئلا يكون قد احتلم حال جنونه ولم يعلم ولئلا
يعرض الصلاة للابطال في أثنائها لوجود الجنون فيها والصلاة صحيحة لأن الأصل السلامة
فلا تفسد بالاحتمال.
28

(فصل) وإذا أقيمت الصلاة والانسان في المسجد والإمام ممن لا يصلح للإمامة فإن شاء صلى
خلفه وأعاد وان نوى الصلاة وحده ووافق الإمام في الركوع والسجود والقيام والقعود فصلاته
صحيحة لأنه أتى بأفعال الصلاة وشروطها على الكمال فلا تفسد بموافقته غيره في الافعال كما لو لم يقصد
الموافقة وروي عن أحمد أنه يفيد، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يكون في المسجد فتقام
الصلاة ويكون الرجل الذي يصلي بهم لا يرى الصلاة خلفه ويكره الخروج من المسجد بعد النداء لقول
النبي عليه السلام، كيف يصنع؟ قال إن خرج كان في ذلك شنعة ولكن يصلي معه ويعيد وإن شاء أن
يصلي بصلاته ويكون يصلي لنفسه ثم يكبر لنفسه ويركع لنفسه ويسجد لنفسه ولا يبالي أن يكون
سجوده مع سجوده وتكبيره مع تكبيره، قلت فإن فعل هذا لنفسه أيعيد قال نعم قلت فكيف يعيد
وقد جاء أن الصلاة هي الأولى وحديث النبي صلى الله عليه وسلم (اجعلوا صلاتكم معهم سبحة) قال
إنما ذاك إذا صلى وحده فنوى الفرض، أما إذا صلى معه وهو ينوي أن لا يعتد بها فليس هذا مثل
هذا. فقد نص على الإعادة ولكن تعليله افسادها بكونه نوى أن لا يعتد بها يدل على صحتها واجزائها
إذا نوى الاعتداد بها وهو الصحيح لما ذكرنا أولا، وكذلك لو كان الذين لا يرضون الصلاة خلفه
جماعة فأمهم أحدهم ووافقوا الإمام في الركوع والسجود كان جائز والله أعلم
(مسألة) قال (وإمامة العبد والأعمى جائزة)
هذا قول أكثر أهل العلم وروي عن عائشة رضي الله عنها أن غلاما لها كان يؤمها، وصلى
ابن مسعود وحذيفة وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد وممن أجاز ذلك الحسن والشعبي
والنخعي والحكم والثوري والشافعي وإسحق وأصحاب الرأي وكره أبو مجلز إمامة العبد، وقال مالك
لا يؤمهم الا أن يكون قارئا وهم أميون
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى) وقال أبو ذر إن خليلي
أوصاني ان اسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف وأن اصلى الصلاة لوقتها فإن أدركت القوم
وقد صلوا كنت أحرزت صلاتك وإلا كانت لك نافلة رواه مسلم ولأنه اجماع الصحابة فعلت عائشة
ذلك وروى أن أبا سعيد مولى أبي أسيد قال تزوجت وأنا عبد فدعوت نفرا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأجابوني فكان فيهم أبو ذر وابن مسعود وحذيفة فحضرت الصلاة وهم في بيتي
فتقدم أبو ذر ليصلي بهم فقالوا له وراءك؟ فالتفت إلى ابن مسعود فقال أكذلك يا أبا عبد الرحمن قال
29

نعم فقدموني وانا عبد فصليت بهم رواه صالح في مسائله باسناده وهذه قصة مثلها ينتشر ولم ينكر ولا
عرف مخالف لها فكان ذلك اجماعا ولان الرق حق ثبت عليه فلم يمنع صحة إمامته كالدين ولأنه من
أهل الاذان للرجال يأتي بالصلاة على الكمال فكان له ان يؤمهم كالحر، واما الأعمى فلا نعلم في
صحة إمامته خلافا ألا ما حكي عن أنس أنه قال ما حاجتهم إليه وعن ابن عباس أنه قال كيف أؤمهم
وهم يعدلونني إلى القبلة؟ والصحيح عن ابن عباس انه كان يؤم وهو أعمى وعتبان بن مالك وقتادة وجابر
وقال إنس ان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى رواه أبو داود
وعن الشعبي أنه قال غزا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة كل ذلك يقدم ابن أم مكتوم
يصلي بالناس رواه أبو بكر ولان العمى فقد حاسة لا يخل بشئ من أفعال الصلاة ولا بشروطها
فأشبه فقد الشم إذا ثبت هذا فالحر أولى من العبد لأنه أكمل منه وأشرف ويصلي الجمعة والعيد أماما
بخلاف العبد وقال أبو الخطاب: والبصير أولى من الأعمى لأنه يستقبل القبلة بعلمه ويتوقى النجاسات
ببصره وقال القاضي هما سواء لأن الأعمى أخشع لأنه لا يشتغل في الصلاة بالنظر إلى ما يلهيه فيكون ذلك
في مقابله فضلة البصير عليه فيتساويان والأول أصح لأن البصير لو أغمض عينه كان مكروها ولو كان ذلك
فضيلة لكان مستحبا لأنه يحصل بتغميضه ما يحصله الأعمى ولان البصير إذا غض بصره مع إمكان النظر
كان له الاجر فيه لأنه يترك المكروه مع إمكانه اختيارا والأعمى يتركه اضطرارا فكان أدنى حالا وأقل فضلة
(فصل) ولا تصح إمامة الأخرس بمثله ولا غيره لأنه يترك ركنا وهو القراءة تركا مأيوسا من
زواله فلم تصح إمامته كالعاجز عن الركوع والسجود
(فصل) وتصح إمامة الأصم لأنه لا يخل بشئ من أفعال الصلاة ولا شروطها فأشبه الأعمى
فإن كان أصم أعمى صحت إمامته لذلك. وقال بعض أصحابنا: لا تصح إمامته لأنه إذا سها لا يمكن
تنبيهه بتسبيح ولا إشارة، والأولى صحتها فإنه لا يمنع من صحة الصلاة احتمال عارض لا يتيقن وجوده
كالمجنون حال افاقته
(فصل) فأما أقطع اليدين فقال احمد رحمه الله: لم أسمع فيه شيئا، وذكر الآمدي فيه روايتين
إحداهما تصح إمامته، اختارها القاضي لأنه عجز لا يخل بركن في الصلاة فلم يمنع صحة إمامته كأقطع
أحد الرجلين والأنف. والثانية لا تصح، اختارها أبو بكر لأنه يخل بالسجود على بعض أعضاء السجود
30

أشبه العاجز عن السجود على جبهته. وحكم أقطع اليد الواحدة كالحكم في قطعهما جميعا، واما اقطع
الرجلين فلا يصح الائتمام به لأنه مأيوس من قيامه فلم تصح إمامته كالزمن وإن كان مقطوع إحدى
الرجلين ويمكنه القيام صحت إمامته ويتخرج على قول أبي بكر أن لا تصح إمامته لاخلاله بالسجود
على عضو، والأول أصح لأنه يسجد على الباقي من رجله أو حائلها
(مسألة) قال (وأن أم أمي وقارئا أعاد القارئ وحده)
الأمي من لا يحسن الفاتحة أو بعضها أو يخل بحرف منها وإن كان يحسن غيرها فلا يجوز لمن
يحسنها أن يأتم به، ويصح لمثله أن يأتم به، ولذلك خص الخرقي القارئ بالإعادة فيما إذا أم أميا
وقارئا. وقال القاضي هذه المسألة محمولة على أن القارئ مع جماعة أميين حتى إذا فسدت صلاة
القارئ بقي خلف الإمام اثنان فصاعدا، فإن كان معه أمي واحد وكانا خلف الإمام أعادا جمعيا
لأن الأمي صار فذا. والظاهر أن الخرقي إنما قصد بيان من تفسد صلاته بالائتمام بالأمي وهذا يخص
القارئ دون الأمي، ويجوز أن تصح صلاة الأمي لكونه عن يمين الإمام أو كونهما جمعيا عن يمينه
أو معهم أمي آخر، وإن فسدت صلاته لكونه فذا فما فسدت لائتمامه بمثله إنما فسدت لمعنى آخر،
وبهذا قال مالك والشافعي في الجديد: وقيل عنه يصح أن يأتم القارئ بالأمي في صلاة الاسرار
دون صلاة الجهر، وقيل عنه يجوز أن يأتم به في الحالين لأنه عجز عن ركن فجاز للقادر عليه الائتمام
به كالقاعد بالقائم. وقال أبو حنيفة: تفسد صلاة الإمام أيضا لأنه لما أحرم معه القارئ لزمته القراءة
عنه لكون الإمام يحتمل القراءة عن المأموم فعجز عنها ففسدت صلاته
ولنا على الأول أنه ائتم بعاجز عن ركن سوى القيام يقدر عليه المأموم فلم تصح كالمأموم بالعاجز
عن الركوع والسجود، ولان الإمام يتحمل القراءة عن المأموم وهذا عاجز عن التحمل للقراءة
الواجبة على المأموم فلم يصح له الائتمام به لئلا يفضي إلى أن يصلي بغير قراءة وقياسهم يبطل بالأخرس
والعاجز عن الركوع والسجود والقيام، ولا مدخل للتحمل فيه بخلاف القراءة
ولنا على صحة صلاة الإمام أنه أم من لا يصح له الائتمام به فلم تبطل صلاته كما لو أمت امرأة
رجلا ونساء، وقولهم انه يلزم القراءة عن القارئ لا يصح لأن الله تعالى قال (لا يكلف الله نفسا ألا
وسعها) ومن لا تجب عليه القراءة عن نفسه فعن غيره أولى وإن أم الأمي قارئا واحدا لم تصح صلاة
واحد منهما لأن الأمي نوى الإمامة وقد صار فذا (1)
(فصل) وإن صلى القارئ خلف من لا يعلم حاله في صلاة الاسرار صحت صلاته لأن الظاهر

(1) القول ببطلان الصلاة بنية الإمامة غريب جدا وأبعد في القياس ما كان ينبغي لاها الأثر
31

أنه لا يتقدم إلا من يحسن القراءة ولم يتخرم الظاهر فإنه أسر في موضع الاسرار وإن كان يسر في
صلاة الجهر ففيه وجهان: أحدهما لا تصح صلاة القارئ ذكره القاضي لأن الظاهر أنه لو أحسن
القراءة لجهر. والثاني تصح لأن الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن القراءة وإسراره يحتمل أن
يكون نسيانا أو لجهله، أو لأنه لا يحسن أكثر من الفاتحة فلا تبطل الصلاة بالاحتمال، فإن قال قد
قرأت في الاسرار صحت الصلاة على الوجهين لأن الظاهر صدقه
ويستحب الإعادة احترازا من أن يكون كاذبا ولو أسر في صلاة الاسرار ثم قال: ما كنت
قرأت الفاتحة لزمه ومن وراءه الإعادة، وقد روي عن عمر رضي الله عنه انه صلى بهم المغرب فلما
سلم قال: أما سمعتموني قرأت: قالوا: لا، قال: فما قرأت في نفسي فأعاد بهم الصلاة
(فصل) ومن ترك حرفا من حروف الفاتحة لعجزه عنه أو أبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل
الراء غينا، والأرت الذي يدغم حرفا في حرف، أو يلحن لحنا يحيل المعنى كالذي يكسر الكاف
من إياك، أو يضم التاء من أنعمت ولا يقدر على اصلاحه فهو كالأمي لا يصح أن يأتم به قارئ
ويجوز لكل واحد منهم أن يؤم مثله لأنهما أميان فجاز لأحدهما الائتمام بالآخر كاللذين لا يحسنان
شيئا وإن كان يقدر على اصلاح شئ من ذلك فلم يفعل لم تصح صلاته ولا صلاة من يأتم به
(فصل) إذا كان رجلان لا يحسن واحد منهما الفاتحة وأحدهما يحسن سبع آيات من غيرها
والآخر لا يحسن شيئا من ذلك فهما أميان لكل واحد منهما الائتمام بالآخر، والمستحب أن لا يؤم
الذي يحسن الآيات لأنه قرأ، وعلى هذا كل من لا يحسن الفاتحة يجوز أن يؤم من لا يحسنها سواء
استويا في الجهل أو كانا متفاوتين فيه
(فصل) تكره إمامة اللحان الذي لا يحيل المعنى نص عليه احمد وتصح صلاته بمن لا يلحن
لأنه أتى بغرض القراءة، فإن أحال المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الائتمام به إلا
أن يتعمده فتبطل صلاتهما
(فصل) ومن لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف فقال القاضي تكره إمامته وتصح
أعجميا كان أو عربيا، وقيل فيمن قرأ ولا الضالين بالظاء لا تصح صلاته لأنه يحيل المعنى (1) يقال
ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا فحكمه حكم الألثغ، وتكره إمامة التمتام وهو من يكرر التاء والفأفاء
وهو من يكرر الفاء وتصح الصلاة خلفهما لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال ويزيدان زيادة هما
مغلوبان عليها فعفي عنها ويكره تقديمهما لهذه الزيادة

(1) قال ابن كثير في تفسير (ولا الضالين) والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الاخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما الخ (ص 55 و 56 ج 1 من طيعة المنار)
32

(مسألة) قال (وان صلى خلف مشرك أو امرأة أو خنثى مشكل أعاد الصلاة)
وجملته أن الكافر لا تصح الصلاة خلفه بحال سواء علم بكفره بعد فراغه من الصلاة أو قبل ذلك
وعلى من صلى وراءه الإعادة. وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور والمزني لا إعادة على
من صلى خلفه وهو لا يعلم لأنه ائتم بمن لا يعلم حاله فأشبه ما لو ائتم بمحدث
ولنا انه ائتم بمن ليس من أهل الصلاة فلم تصح صلاته كما لو ائتم بمجنون، وأما المحدث فيشترط
أن لا يعلم حدث نفسه والكافر يعلم حال نفسه، وأما المرأة فلا يصح يأتم بها الرجل بحال في
فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء، وقال أبو ثور: لا إعادة على من صلى خلفها وهو قياس قول
المزني، وقال بعض أصحابنا: يجوز أن تؤم الرجال في التراويح وتكون وراءهم لما روي عن أم ورقة
بنت عبد الله بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم
أهل دارها. رواه أبو داود وهذا عام في الرجال والنساء
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تؤمن امرأة رجلا) ولأنها لا تؤذن للرجال فلم يجز أن
تؤمهم كالمجنون. وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها كذلك رواه الدارقطني
وهذه زيادة يجب قبولها ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض
بدليل انه جعل لها مؤذنا والاذان إنما يشرع في الفرائض ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض
ولان تخصيص ذلك بالتراويح واشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل فلا يجوز المصير
إليه، ولو قدر ثبوت ذلك لام ورقة لكان خاصا بها بدليل انه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا
إقامة فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة
وأما الخنثى فلا يجوز أن يؤم رجلا لأنه يحتمل أن يكون امرأة ولا يؤم خنثى مثله لأنه يجوز
أن يكون الإمام امرأة والمأموم رجلا ولا يجوز أن تؤمه امرأة لاحتمال أن يكون رجلا قال القاضي
رأيت لأبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته في جماعة لأنه ان قام مع الرجال احتمل أن يكون
امرأة وان قام مع النساء أو وحده أو ائتم بامرأة احتمل أن يكون رجلا وان أم الرجال احتمل أن
يكون امرأة وان أم النساء فقام وسطهن احتمل أنه رجل وان قام بين أيديهن احتمل أنه امرأة ويحتمل
أن تصح صلاته في هذه الصورة وفي صورة أخرى وهو أن يقوم في صف الرجال مأموما فإن المرأة
إذا قامت في صف الرجال لم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها
(فصل) يكره أن يؤم الرجل نساء أجانب لا رجل معهن لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن
33

يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية ولا بأس ان يؤم ذوات محارمه وان يؤم النساء مع الرجال فإن النساء كن يصلين مع النبي
صلى الله عليه وسلم في المسجد وقد أم النبي صلى الله عليه وسلم نساء وقد أم النبي صلى الله عليه وسلم أنسا وأمه في بيتهم
(فصل) إذا صلى خلف من شك في إسلامه أو كونه خنثى فصلاته صحيحة ما لم يبن كفره وكونه
خنثى مشكلا لأن الظاهر من المصلين الاسلام سيما إذا كان إماما والظاهر السلامة من كونه خنثى
سيما من يؤم الرجال فإن تبين بعد الصلاة انه كان كافرا أو خنثى مشكلا فعليه الإعادة على ما بينا
وإن كان الإمام ممن يسلم تارة ويرتد أخرى لم يصل خلفه حتى يعلم على أي دين هو فإن صلى خلفه
وهو لم يعلم ما هو عليه نظرنا فإن كان قد علم قبل الصلاة اسلامه وشك في ردته فهو مسلم وان علم ردته
وشك في اسلامه لم تصح صلاته فإن كان علم اسلامه فصلى خلفه فقال بعد الصلاة ما كنت أسلمت
أو ارتددت لم تبطل الصلاة لأن صلاته كانت صحيحة حكما فلا يقبل قول هذا في إبطالها لأنه ممن
لا يقبل قوله. وان صلى خلف من علم ردته فقال بعد الصلاة قد كنت أسلمت قبل قوله لأنه ممن يقبل قوله
(فصل) قال أصحابنا يحكم باسلامه بالصلاة سواء كان في دار الحرب أو في دار الاسلام وسواء صلى جماعة
أو فرادي فإن أقام بعد ذلك على الاسلام فلا كلام وان لم يقم عليه فهو مرتد يجري عليه أحكام المرتدين وان مات
قبل ظهور ما ينافي الاسلام فهو مسلم يرثه ورثته المسلمون دون الكافرين وقال أبو حنيفة ان صلى جماعة أو
منفردا في المسجد كقولنا وان صلى فرادى في غير المسجد لم يحكم باسلامه وقال بعض الشافعية لا يحكم
باسلامه بحال لأن الصلاة من فروع الاسلام فلم يصر مسلما بفعلها كالحج والصيام ولان النبي صلى
الله عليه وسلم قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها) وقال بعضهم ان صلى في دار الاسلام فليس بمسلم لأنه قد يقصد الاستتار بالصلاة
واخفاء دينه وان صلى في دار الحرب فهو مسلم لأنه لا تهمة في حقه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم نهيت عن قتل المصلين وقال (بيننا وبينهم الصلاة) فجعل الصلاة
حدا بين الاسلام والكفر فمن صلى فقد دخل في حد الاسلام وقال في المملوك (فإذا صلى فهو أخوك)
ولأنها عبادة تختص بالمسلمين فالاتيان بها إسلام كالشهادتين واما الحج فإن الكفار كانوا يفعلونه
والصيام إمساك عن المفطرات وقد يفعله من ليس بصائم
34

(فصل) فاما صلاته في نفسه فأمر بينه وبين الله تعالى فإن علم أنه كان قد أسلم ثم توضأ وصلى
بنية صحيحة فصلاته صحيحة وان لم يكن كذلك فعليه الإعادة لأن الوضوء لا يصح من كافر وإذا لم
يسلم قبل الصلاة كان حال شروعه فيها غير مسلم ولا متطهر فلم يصح منه
(مسألة) قال (وان صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطا)
اختلفت الرواية هل يستحب أن تصلي المرأة بالنساء جماعة فروي أن ذلك مستحب وممن
روي عنه أن المرأة تؤم النساء عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي والشافعي واسحق وأبو ثور
وروي عن أحمد رحمه الله ان ذلك غير مستحب وكرهه أصحاب الرأي وان فعلت أجزأهن وقال
الشعبي والنخعي وقتادة لهن ذلك في التطوع دون المكتوبة وقال الحسن وسليمان بن يسار لا تؤم في
فريضة ولا نافلة وقال مالك لا ينبغي للمرأة ان تؤم أحدا لأنه يكره لها الاذان وهو دعاء إلى الجماعة
فكره لها ما يراد الاذان له
ولنا حديث أم ورقة ولأنهن من أهل الفرض فأشبهن الرجال وإنما كره لهن الاذان لما فيه
من رفع الصوت ولسن من أهله. إذا ثبت هذا فإنها إذا صلت بهن قامت في وسطهن لا نعلم فيه خلافا
بين من رأى لها أن تؤمهن ولأن المرأة يستحب لها التستر ولذلك لا يستحب لها التجافي وكونها في
وسط الصف أستر لها لأنها تستتر بهن من جانبيها فاستحب لها ذلك كالعريان فإن صلت بين أيديهن
احتمل أن يصح لأنه موقف في الجملة ولهذا كان موقفا للرجل واحتمل أن لا يصح لأنها خالفت
موقفها أشبه ما لو خالف الرجل موقفه
(فصل) وتجهر في صلاة الجهر وإن كان ثم رجال لا تجهر إلا أن يكونوا من محارمها فلا باس
(فصل) ويباح لهن حضور الجماعة مع الرجال لأن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم قالت عائشة كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفن متلفعات
بمروطهن ما يعرفن من الغلس متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا إماء الله مساجد
الله وليخرجن تفلات) يعنى غير متطيبات رواه أبو داود وصلاتها في بيتها خير لها وأفضل لما روى
ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه أبو داود
35

وقال عليه الصلاة والسلام (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها
أفضل من صلاتها في بيتها رواه أبو داود
(فصل) إذا أمت المرأة امرأة واحدة قامت المرأة عن يمينها كالمأموم مع الرجال، وان صلت
خلف رجل قامت خلفه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أخروهن من حيث أخرهن الله) وإن كان
معهما رجل قام عن يمين الإمام والمرأة خلفهما كما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه
أو خالته فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا رواه مسلم وإن كان مع الإمام رجل وصى وامرأة وكانوا
في تطوع قاما خلف الإمام والمرأة خلفهما كما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم
قال فصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف
متفق عليه وان كانت فرضا جعل الرجل عن يمينه والغلام عن يساره كما فعل عبد الله بن مسعود
بعلقمة والأسود ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك رواه أبو داود وان وقفا جميعا عن
يمينه فلا بأس وان وقفا وراءه فروى الأثرم أن أحمد توقف في هذه المسألة وقال ما أدري فذكر له
حديث أنس فقال ذاك في التطوع. واختلف أصحابنا فيه فقال بعضهم لا يصح لأن الصبي لا يصلح
إماما للرجال في الفرض فلم يصافهم كالمرأة وقال ابن عقيل يصح لأنه يصح ان يصاف الرجل في النفل
فصح في الفرض كالمتنفل يقف مع المفترض ولا يشترط في صحة مصافته صحة إمامته بدليل الفاسق
والعبد والمسافر في الجمعة والمفترض مع المتنفل ويفارق المرأة لأنه يصح أن يصاف الرجال في التطوع
ويؤمهم فيه في رواية بخلاف المرأة وقال الحسن في ثلاثة أحدهم امرأة يقومون متواترين
بعضهم خلف بعض
ولنا حديث أنس وهو قول أكثر أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه الا الحسن، واتباع السنة
أولى وقول الحسن يفضي إلى وقوف الرجل وحده فذا ويرده حديث وابصة وعلي بن شيبان وان
اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء لأن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى فصف الرجال ثم صف خلفهم الغلمان رواه أبو داود
36

(فصل) وان وقفت المرأة في صف الرجال كره ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها وهذا
مذهب الشافعي وقال أبو بكر تبطل صلاة من يليها ومن خلفها دونها وهذا قول أبي حنيفة لأنه
منهي عن الوقوف إلى جانبها أشبه ما لو وقف بين يدي الإمام
ولنا انها لو وقفت في غير صلاة لم تبطل صلاته فكذلك في الصلاة وقد ثبت ان عائشة كانت
تعترض بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمة وهو يصلي وقولهم إنه منهي قلنا هي المنهية عن
الوقوف مع الرجال ولم تفسد صلاتها فصلاة من يليها أولى
(مسألة) قال (وصاحب البيت أحق بالإمامة الا أن يكون بعضهم ذا سلطان)
وجملة ان الجماعة إذا أقيمت في بيت فصاحبه أولى بالإمامة من غيره وإن كان فيهم من هو اقرأ
منه وأفقه إذا كان ممن يمكنه إمامتهم وتصح صلاتهم وراءه فعل ذلك ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة
وقد ذكرنا حديثهم وبه قال عطاء والشافعي ولا نعلم فيه خلافا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه
وسلم (ولا يؤمن الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا باذنه) رواه مسلم وغيره
وروي مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه وسلم (من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل
منهم) رواه أبو داود وإن كان في البيت ذو سلطان فهو أحق من صاحب البيت لأن ولايته على البيت
وعلى صاحبه وغيره وقد أم النبي صلى الله عليه وسلم عتبان بن مالك وأنسا في بيوتهما
(فصل) وإمام المسجد الراتب أولى من غيره لأنه في معنى صاحب البيت والسلطان وقد روى
عن ابن عمر انه أتى أرضا له وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم فسألوه أن يصلي
بهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق ولأنه داخل في قوله (من زار قوما فلا يؤمهم)
(فصل) وإذا أذن المستحق من هؤلاء لرجل في الإمامة جاز وصار بمنزلة من أذن في استحقاق
التقدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم إلا باذنه ولان الإمامة حق له فله نقلها إلى من شاء قال أحمد
قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا باذنه)
أرجو أن يكون الاذن في الكل ولم ير بأسا إذا اذن له أن يصلي
(فصل) وان دخل السلطان بلدا له فيه خليفة فهو أحق من خليفته لأن ولايته على خليفته
وغيره ولو اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى لأنه المالك على الحقيقة وولايته على العبد
37

وان لم يكن سيده معهم فالعبد أولى لأنه صاحب البيت ولذلك لما اجتمع ابن مسعود وحذيفة وأبو
ذر في بيت أبي سعيد مولي أبى أسيد وهو عبد تقدم أبو ذر ليصلي بهم فقالوا له وراءك فالتفت إلى
أصحابه فقال أكذلك؟ قالوا نعم، فتأخر وقدموا أبا سعيد فصلى بهم وان اجتمع المؤجر والمستأجر في
الدار المؤجرة فالمستأجر أولى لأنه أحق بالسكنى والمنفعة
(فصل) والمقيم أولى من المسافر لأنه إذا كان إماما حصلت له الصلاة كلها في جماعة وان أمه
المسافر احتاج إلى اتمام الصلاة منفردا وان ائتم بالمسافر جاز ويتم الصلاة بعد سلام إمامه فإن أتم
المسافر الصلاة جازت صلاتهم وحكي عن أحمد في صلاة المقيمين رواية أخرى انها لا تجوز لأن الزيادة
نفل أم بها مفترضين والصحيح الأول لأن المسافر إذا نوى اتمام الصلاة أو لم ينو القصر لزمه الاتمام
فيصير الجميع فرضا
(مسألة) قال (ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف)
وجملته أنه يجوز أن يكون المأموم مساويا للإمام وأعلى منه كالذي على سطح المسجد أو على دكة
عالية أو رف فيه، روي عن أبي هريرة انه صلى بصلاة الإمام على سطح المسجد وفعله سالم وبه قال
الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك بعيد الجمعة إذا صلى فوق سطح المسجد بصلاة الإمام
ولنا انهما في المسجد ولم يعل الإمام فصح أن يأتم به كالمتساوين ولا يعتبر اتصال الصفوف
إذا كانا جمعيا في المسجد قال الآمدي لا خلاف في المذهب أنه إذا كان في أقصى المسجد وليس بينه
وبين الإمام ما يمنع الاستطراق والمشاهدة أنه يصح اقتداؤه به وان لم تتصل الصفوف وهذا مذهب
الشافعي وذلك لأن المسجد بني للجماعة فكل من حصل فيه فقد حصل في محل الجماعة وإن كان المأموم
في غير المسجد أو كانا جمعيا في غير مسجد صح ان يأتم به سواء كان مساويا للإمام أو أعلى منه، كثيرا
كان العلو أو قليلا بشرط كون الصفوف متصلة ويشاهد من وراء الإمام وسواء كان المأموم في رحبة الجامع
أو دار أو على سطح والإمام على سطح آخر أو كانا في صحراء أو في سفينتين وهذا مذهب الشافعي
إلا أنه يشترط ان لا يكون بينهما ما يمنع الاستطراق في أحد القولين
ولنا ان هذا لا تأثير له في المنع من الاقتداء بالإمام ولم يرد فيه نهي ولا هو في معنى ذلك فلم
يمنع صحة الائتمام به كالفصل اليسير إذا ثبت هذا فإن معنى اتصال الصفوف ان لا يكون بينهما بعد لم
38

تجر العادة به ولا يمنع امكان الاقتداء وحكي عن الشافعي انه حد الاتصال بما دون ثلاث مائة ذرع
والتحديدات بابها التوقيف والمرجع فيها إلى النصوص والاجماع ولا نعلم في هذا نصا نرجع إليه ولا
اجماعا نعتمد عليه فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالتفرق والاحراز والله علم
(فصل) فإن كان بين الإمام والمأموم حائل يمنع رؤية الإمام أو من وراءه فقال ابن حامد فيه
روايتان (إحداهما) لا يصح الائتمام به اختاره القاضي لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في
حجرتها لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب، ولأنه لا يمكنه الاقتداء به في الغالب (والثانية)
يصح قال احمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلفة أرجو ان لا يكون به
بأس، وسئل عن رجل يصلي يوم الجمعة وبينه وبين الإمام سترة قال إذا لم يقدر على غير ذلك (1) وقال
في المنبر إذا قطع الصف لا يضر ولأنه أمكنه الاقتداء بالإمام فيصح اقتداؤه به من غير مشاهدة
كالأعمى ولان المشاهدة تراد للعلم بحال الإمام والعلم يحصل بسماع التكبير فجرى مجرى الرؤية ولا
فرق بين أن يكون المأموم في المسجد أو في غيره واختار القاضي انه يصح إذا كانا في المسجد ولا
يصح في غيره لأن المسجد محل الجماعة وفى مظنة القرب ولا يصح في غيره لعدم هذا المعنى ولخبر
عائشة ولنا المعنى المجوز أو المانع قد استويا فيه فوجب استواؤهما في الحكم ولا بد لمن لا يشاهد
ان يسمع التكبير ليمكنه الاقتداء لم يسمع لم يصح إمامته ائتمامه به بحال لأنه لا يمكنه الاقتداء به
(فصل) وكل موضع اعتبرنا المشاهدة فإنه يكفيه مشاهدة من وراء الإمام سواء شاهده من
باب إمامه أو عن يمينه أو عن يساره شاهده طرف الصف الذي وراءه فإن ذلك يمكنه الاقتداء
به وان كانت المشاهدة تحصل في بعض أحوال الصلاة فالظاهر صحة الصلاة لما روي عن عائشة
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أناس يصلون بصلاته وأصبحوا يتحدثون (2) بذلك فقام الليلة الثانية
فقام معه أنا س يصلون بصلاة رواه البخاري والظاهر أنهم إنما كانوا يرونه في حال قيامه
(فصل) وإذا كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن أو كانا في سفينتين مفترقتين ففيه وجهان
(أحدهما) لا يصح أن يأتم به هو اختار أصحابنا ومذهب أبي حنيفة لأن الطريق لبست محلا

(1) أي تصح
(2) في نسخة فتحدثوا
39

للصلاة فأشبه ما يمنع الاتصال (والثاني) يصح وهو الصحيح عندي ومذهب مالك والشافعي لأنه
لا نص في منع ذلك ولا اجماع ولا هو في معنى ذلك لأنه لا يمنع الاقتداء فإن المؤثر في ذلك ما يمنع
الرؤية أو سماع الصوت وليس هذا بواحد منهما وقولهم ان بينهما ما ليس بمحل للصلاة فأشبه ما يمنع وان
سلمنا ذلك في الطريق فلا يصح في النهر فإنه تصح الصلاة عليه في السفينة وإذا كان جامدا ثم كونه ليس بمحل للصلاة إنما يمنع الصلاة فيه اما المنع من الاقتداء بالإمام فتحكم محض لا يلزم المصير إليه ولا
العمل به ولو كانت صلاة أو جمعة أو عيد لم يؤثر ذلك فيها لأنها تصح في الطريق وقد صلى
انس في موت حميد بن عبد الرحمن بصلاة الإمام وبينهما طريق
(مسألة) قال (ولا يكون الإمام أعلى من المأموم)
المشهور في المذهب أنه أن يكون الإمام أعلى من المأمومين سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم
يرد وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره فإن علي ابن
المديني قال سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد وقال إنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث، وقال الشافعي أختار للإمام
الذي يعلم من خليفة أن يصلي على الشئ المرتفع فيراه من خلفه فيقتدون به لما روى سهل بن سعد قال
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه يعني المنبر فكبر وكبر الناس وراءه ثم ركع
وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل
على الناس فقال (أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) متفق عليه
ولنا ما روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار فقام على دكان والناس
أسفل منه فتقدم حذيفة بيده فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة ألم
تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم) قال
عمار فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي، وعن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فاخذ
أبو مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال بلى فذكرت حين
مددتني رواهما أبو داود وعن ابن مسعود أن رجلا تقدم يؤم بقوم على مكان فقام على دكان فنهاه
40

ابن مسعود وقال للإمام استو مع أصحابك ولأنه يحتاج أن يقتدي بإمامه فينظر ركوعه وسجوده فإذا
كان أعلى منه احتاج أن يرفع بصره إليه ليشاهده وذلك منهي عنه في الصلاة، فاما حديث سهل
فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الدرجة السفلى لئلا يحتاج إلى عمل كبير في الصعود والنزول
فيكون ارتفاعا يسيرا فلا به جمعا بين الاخبار ويحتمل أن يختص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم
لأنه فعل شيئا ونهى عنه فيكون فعله له ونهيه لغيره ولذلك لا يستحب مثله لغير النبي صلى الله عليه
وسلم ولان النبي لم يتم الصلاة على المنبر فإن سجوده وجلوسه إنما كان على الأرض بخلاف ما اختلفنا فيه
(فصل) ولا بأس بالعلو اليسير لحديث سهل ولان النهي معلل بما يفضي إليه من رفع البصر في
الصلاة وهذا يخص الكثير فعلى هذا يكون اليسير مثل درجة المنبر ونحوها لما ذكرنا في
حديث سهل والله أعلم.
(فصل) فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد لا تصح صلاتهم وهو قول
الأوزاعي لأن النهى يقتضي فساد المنهي عنه وقال القاضي لا تبطل وهو قول أصحاب الرأي لأن
عمارا أتم صلاته ولو كانت فاسدة لاستأنفها ولان النهي معلل بما يفضي إليه من رفع البصر في الصلاة
وذلك لا يفسدها فسببه أولى.
(فصل) وإن كان مع الإمام من هو مساو له أو أعلى منه ومن هو أسفل منه اختصت الكراهة
بمن هو أسفل منه لأن المعنى وجد فيهم دون غيرهم ويحتمل أن يتناول النهي الإمام لكونه منهيا عن
القيام في مكان أعلى من مقامهم فعلى هذا الاحتمال تبطل صلاة الجمع عند من أبطل الصلاة بارتكاب النهي
(مسألة) قال (ومن صلى خلف الصف وحده أو قام بجنب الإمام عن
يساره أعاد الصلاة)
وجملته أن من صلى وحده ركعة كاملة لم تصح صلاته وهذا قول النخعي والحكم والحسن ابن
صالح وإسحق وابن المنذر واجازه الحسن ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لأن أبا بكر
ركع دون الصف فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ولأنه موقف للمرأة فكان موقفا
للرجل كما لو كان مع جماعة
41

ولنا ما روى وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده
فأمره أن يعيد. رواه أبو داود وغيره وقال أحمد حديث وابصة حسن. وقال ابن المنذر ثبت الحديث
أحمد وإسحق وفي لفظ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل صلى وراء الصفوف وحده قال (يعيد)
رواه تمام في الفوائد وعن علي بن شبان أنه صلى بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ورجل فرد
خلف الصف فوقف نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أنصرف الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم
(استقبل صلاتك ولا صلاة لفرد خلف الصف). رواه الأثرم وقالت لأبي عبد الله حديث ملازم
ابن عمرو يعني هذا الحديث في هذا أيضا حسن قال نعم ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته كما لو
وقف أمام الإمام. فاما حديث أبي بكرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاه فقال (لا تعد) والنهي
يقتضي الفساد وعذره فيها فعله لجهله بتحريمه وللجهل تأثير في العفو ولا يلزم من كونه موقفا للمرأة
كونه موقفا للرجل بدليل اختلافهما في كراهية الوقوف واستجابه، وأما إذا وقف عن يسار الإمام
فإن كان عن يمين الإمام أحد صحت صلاته لأن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود فلما فرغوا قال
هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. رواه أبو داود، ولان وسط الصف موقف للإمام
في حق النساء والعراة، وإن لم يكن عن يمينه أحد فصلاة من وقف عن يساره فاسدة سواء كان واحدا
أو جماعة وأكثر أهل العلم يرون للمأموم الواحد ان يقف عن يمين الإمام وانه إن وقف عن يساره
خالف السنة وحكي عن سعيد بن المسيب انه كان إذا لم يكن معه إلا مأموم واحد جعله عن يساره.
وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي ان وقف عن يسار الإمام صحت صلاته لأن ابن عباس لما
أحرم عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم أداره عن يمينه ولم تبطل تحريمته ولو لم يكن موقفا لاستأنف
التحريمة كأمام الإمام ولأنه موقف فيما إذا كان عن الجانب الآخر آخر فكان موقفا وان لم يكن
آخر كاليمين ولأنه أحد جانبي الإمام فأشبه اليمين
ولنا أن ابن عباس قال قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فجئت فقمت فوقفت عن يساره
فاخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه متفق عليه وروى جابر قال قام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجئت فوقفت عن
يساره فأدارني عن يمينه رواه أبو داود وقولهم انه لم يأمره بابتداء التحريمة، قلنا لأن ما فعله قبل الركوع لا يؤثر فإن
الإمام يحرم قبل المأمومين ولا يضر انفراده احرامهم وكذلك المأمومون يحرم أحدهم قبل الباقين
42

فلا يضر ولا يلزم من العفو عن ذلك العفو ركعة كاملة وقولهم انه موقف إذا كان عن يمين
الإمام آخر قلنا كونه موقفا في صورة لا يلزم منه كونه موقفا في أخرى كما خلف الصف فإنه موقف
لاثنين ولا يكون موقفا لواحد فإن منعوا هذا أثبتناه بالنص
(فصل) فإن وقف عن يسار إمامه وخلف الإمام صف احتمل ان تصح صلاته لأن النبي صلى
الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر وقد روي أن أبا بكر كان الإمام ولان مع الإمام من تنعقد
صلاته به نصح الوقوف عن يساره كما لو كان معه عن يمينه آخر واحتمل ان لا تصح لأنه ليس بموقف إذا
لم يكن صف فلم يكن موقفا مع الصف كإمام الإمام وفارق ما إذا كان عن يمينه آخر لأنه معه في الصف
فكان صفا واحدا كما لو كان وقف معه خلف الصف
(فصل) السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام فإن وقفوا قدامه لم تصح، وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وقال مالك واسحق تصح لأن ذلك لا يمنع الاقتداء به فأشبه من خلفه
ولنا قوله عليه السلام (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ولأنه يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات إلى ورائه
ولان ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو في معنى المنقول فلم يصح كما لو صلى في بيته بصلاة
الإمام ويفارق من خلف الإمام فإنه لا يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات إلى ورائه
(فصل) وإذا كان المأموم واحدا ذكرا فالسنة ان يقف عن يمين الإمام رجلا كان أو غلاما
لحديث ابن عباس وأنس، روى جابر بن عبد الله قال سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في غزوة فقام يصلي فتوضأت ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ
بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره فاخذنا بيديه جميعا
حتى أقامنا خلفه. رواه مسلم وأبو داود فإن كانوا ثلاثة تقدم الإمام ووقف المأمومان خلفه. وهذا
عمر وعلي وجابر بن زيد والحسن وعطاء والشافعي وأصحاب الرأي، وكان ابن مسعود يرى
أن يقفوا جميعا صفا
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج جبارا وجابرا فجعلهما خلفه ولما صلى بأنس واليتيم جعلهما خلفه وحديث
ابن مسعود يدل على جواز ذلك، وحديث جابر وجبار يدل على الفضل لأنه أخرهما إلى خلفه، ولا ينقلهما إلا إلى
43

الأكمل فإن كان أحد المأمومين صبيا وكانت الصلاة تطوعا جعلهما خلفه لخبر أنس وإن كانت فرضا جعل الرجل
عن يمينه والغلام عن يساره كما جاء في حديث ابن مسعود، وإن جعلهما جميعا عن يمينه جاز وإن وقفهما خلفه
فقال بعض أصحابنا لا تصح لأنه لا يؤمه فلم يصافه كالمرأة، ويحتمل أن تصح لأنه بمنزلة المتنفل
والمتنفل يصح أن يصاف المفترض كذا هاهنا
(فصل) وإن أم امرأة وقفت خلفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أخروهن من حيث
أخرهن الله) ولان أم انس وقفت خلفهما وحدها، فإن كان معهما رجل وقف عن يمينه ووقفت
المرأة خلفهما، وإن كان معهم رجلان وقفا خلفه ووقفت المرأة خلفهما، وإن كان أحدهما غلاما في
تطوع وقف الرجل والغلام وراءه والمرأة خلفهما لحديث أنس، وإن كانت فريضة فقد ذكرنا ذلك
وتقف المرأة خلفهما، وإن وقفت معهم في الصف في هذه المواضع صح ولم تبطل صلاتها ولا صلاتهم
على ما ذكرنا فيما تقدم، وان وقف الرجل الواحد والمرأة خلف الإمام، فقال ابن حامد: لا تصح
لأنها لا تؤمه فلا تكون معه صفا. وقال ابن عقيل: تصح على أصح الوجهين لأنه وقف معه مفترض
صلاته صحيحة فأشبه ما لو وقف معه الرجل، وليس من الشرط أن يكون ممن تصح إمامته بدليل
القارئ مع الأمي، والفاسق والمتنفل مع المفترض
(فصل) إذا كان المأموم واحدا فكبر عن يسار الإمام أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل تحريمته
كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس وجابر، وان كبر فذا خلف الإمام ثم تقدم عن يمينه
أو جاء آخر فوقف معه، أو تقدم إلى صف بين يديه، أو كانا اثنين فكبر أحدهما وتوسوس الآخر
ثم كبر قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو كبر واحد عن يمينه فأحس بآخر فتأخر معه قبل أن
يحرم الثاني، ثم أحرم معه أو أحرم عن يساره فجاء آخر فوقف عن يمينه قبل رفع الإمام رأسه من
الركوع صحت صلاتهم، وقد نص احمد في رواية الأثرم في الرجلين يقومان خلف الإمام ليس خلفه
غيرهما، فإن كبر أحدهما قبل صاحبه خاف أن يدخل في الصلاة خلف الصف، فقال ليس هذا
من ذاك، ذاك في الصلاة بكمالها أو صلى ركعة وما أشبه هذا، فأما هذا فأرجو أن لا يكون
به بأس، ولو أحرم رجل خلف الصف ثم خرج من الصف رجل فوقف معه صح لما ذكرنا
44

(فصل) وان كبر المأموم عن يمين الإمام، ثم جاء آخر فكبر عن يساره أخرجهما الإمام إلى
ورائه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بجابر وجبار، ولا يتقدم الإمام إلا أن يكون وراءه ضيق،
وإن تقدم جاز، وإن كبر الثاني مع الأول عن اليمين وخرجا جاز، وإن دخل الثالث وهما في التشهد
كبر وجلس عن يمين صاحبه أو عن يساره ولا يتأخران في التشهد فإن في ذلك مشقة
(فصل) فإن أحرم اثنان وراء الإمام فخرج أحدهما لعذر أو لغير عذر دخل الآخر في الصف
أو نبه رجلا فخرج معه أو دخل فوقف عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه شئ من ذلك نوى الانفراد
وأتم منفردا لأنه عذر حدث له فأشبه ما لو سبق أمامه الحدث
(فصل) إذا دخل المأموم فوجد في الصف فرجة دخل فيها، فإن لم يجد وقف عن يمين الإمام
ولا يستحب أن يجذب رجلا فيقوم معه، فإن لم يمكنه ذلك نبه رجلا فخرج فوقف معه، وبهذا قال
عطاء والنخعي قالا: يجذب رجلا فيقوم معه، وكره ذلك مالك والأوزاعي، واستقبحه احمد وإسحاق
قال ابن عقيل جوز أصحابنا جذب رجل يقوم معه صفا، واختار هو أن لا يفعل لما فيه من التصرف
فيه بغير اذنه والصحيح جواز ذلك لأن الحالة داعية إليه فجاز كالسجود على ظهره أو قدمه حال الزحام
وليس هذا تصرفا فيه إنما هو تنبيه له ليخرج معه، فجرى مجرى مسألته أن يصلي معه، وقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لينوا في أيدي اخوانكم) يريد ذلك، فإن امتنع من الخروج
معه لم يكرهه وصلى وحده
(فصل) قال احمد: يصلي الإمام برجل قائم وقاعد ويتقدمهما وقال: إذا أم برجلين أحدهما
غير طاهر ائتم (1) الطاهر معه، وهذا يحتمل انه أراد إذا علم المحدث بحدثه فخرج ائتم (2) الآخر إن كان
عن يمين الإمام، وإن لم يكن عن يمينه صار عن يمينه كما ذكرنا، فاما إن كانا خلفه وعلم المحدث فأنما
الصلاة لم تصح، وإن لم يعلم المحدث بحدثه حتى تمت الصلاة صحت لأنه لو كان إماما صح الائتمام به
فلان تصح مصافته أولى
(فصل) ومن وقف معه كافر أو من لا تصح صلاته غير من ذكرنا لم تصح مصافته لأن وجوده
وعدمه واحد، وإن وقف معه فاسق أو متنفل صارا صفا لأنهما رجلان صلاتهما صحيحة، وكذلك

(1) في ن أتم
(2) في ن أتم
45

لو وقف قارئ مع أمي، أو من به سلس البول مع صحيح، أو متيمم مع متوضئ كانا صفا لما
ذكرنا فإن وقف معه خنثى مشكل لم يكن صفا معه إلا من أجاز وقوف المرأة مع الرجل
لأنه يحتمل أن يكون امرأة
(فصل) ولو كان مع الإمام خنثى مشكل وحده فالصحيح أن يقفه عن يمينه لأنه إن كان رجلا
فقد وقف في موقفه، وإن كان امرأة لم تبطل صلاتها بوقوفها مع الإمام كما لا تبطل بوقوفها مع الرجال
ولا يجوز أن يقف وحده لأنه يحتمل أن يكون رجلا، فإن كان معهما رجل وقف الرجل عن يمين
الإمام والخنثى عن يساره أو عن يمين الرجل، ولا يقف خلفه لأنه يحتمل أن يكون امرأة الا عند
من أجاز مصافة المرأة، فإن كان معهم رجل آخر وقف الثلاثة خلفه صفا لما ذكرنا، فإن كان مع
الخنثى خنثى آخر فقال أصحابنا يقف الخنثيان صفا خلف الرجلين لأنه يحتمل أن يكونا امرأتين،
ويحتمل أن يقفا مع الرجلين لأنه يحتمل أن يكون أحدهما وحده رجلا فلا تصح صلاته، وإن كان
معهم نساء وقفن خلف الخناثى. قال أبو الخطاب: إذا اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء
تقدم الرجال، ثم الصبيان، ثم الخناثي، ثم النساء، وروى أبو مالك الأشعري عن أبيه أنه قال:
ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أقام الصلاة فصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان
ثم صلى بهم، ثم قال هكذا صلاته. قال عبد الاعلى: لا أحسبه الا قال صلاة أمتي. رواه أبو داود
(فصل) السنة أن يتقدم في الصف الأول أولوا الفضل والسن ويلي الإمام أكملهم وأفضلهم قال
احمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن وتؤخر الصبيان والغلمان، ولا يلون الإمام لما روى أبو مسعود
الأنصاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه مسلم (1) وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه. وقال أبو سعيد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى في أصحابه تأخرا فقال (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى
يؤخرهم الله عز وجل) رواه مسلم وأبو داود. وروى احمد في مسنده عن قيس بن عباد قال: اتيت
المدينة للقاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصلاة وخرج عمر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقمت في الصف الأول فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري فنحاني وقام في مكاني فما

(1) سقطت من النسخة الأخرى
46

عقلت صلاتي، فلما صلى قال: أي بني لا يسؤك الله فاني لم آتك الذي اتيت بجهالة، ولكن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لنا (كونوا في الصف الذي يليني) واني نظرت في وجوه القوم
فعرفتهم غيرك، وكان الرجل أبي بن كعب
(فصل) وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها
أولها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف
النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم (1) وأبو داود. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم الصف الأول على مثل صف الملائكة ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه) رواه أحمد
في المسند، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أتموا الصف المقدم، فما كان من نقص
فليكن في الصف المؤخر) وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الله وملائكته
يصلون على ميامن الصفوف) رواهما أبو داود
(فصل) ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(وسطوا الإمام وسدوا الخلل) رواه أبو داود، ويكره أن يدخل في طاق القبلة إلا أن يكون
المسجد ضيقا، وكرهه ابن معسود وعلقمة والحسن وإبراهيم وفعله سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن
السلمي وقيس بن أبي حازم
ولنا انه يستتر به عن بعض المأمومين فكره كما لو جعل بينه وبينهم حجابا
(فصل) ولا يكره للإمام أن يقف بين السواري ويكره للمأمومين لأنها تقطع صفوفهم وكرهه
ابن مسعود والنخعي، وروي عن حذيفة وابن عباس ورخص فيه ابن سيرين ومالك وأصحاب الرأي
وابن المنذر لأنه لا دليل على المنع منه
ولنا ما روي عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا رواه ابن ماجة، ولأنها تقطع الصف، فإن كان
الصف صغيرا قدر ما بين الساريتين لم يكره لأنه لا ينقطع بها
(مسألة) قال (وإذا صلى إمام الحي جالسا صلى من وراءه جلوسا)
المستحب للإمام إذا مرض وعجز عن القيام أن يستخلف لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته

(1) رواه الجماعة الا البخاري وسقط من نسخة دار الكتب ذكر مسلم
47

فيخرج من الخلاف، ولان صلاة القائم أكمل فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة، فإن قيل قد
صلى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بأصحابه ولم يستخلف قلنا صلى قاعدا ليبين الجواز واستخلف
مرة أخرى، ولان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا أفضل من صلاة غيره قائما، فإن صلى بهم
قاعدا جاز ويصلون من ورائه جلوسا فعل ذلك أربعة من الصحابة أسيد بن حضير وجابر وقيس
ابن فهد وأبو هريرة، وبه قال الأوزاعي وحماد بن زيد وإسحاق وابن المنذر. وقال مالك في إحدى
روايتيه: لا تصح صلاة القادر على القيام خلف القاعد وهو قول محمد بن الحسن لأن الشعبي روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يؤمن أحد بعدي جالسا) أخرجه الدارقطني. ولان القيام
ركن فلا يصح ائتمام القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان. وقال الثوري والشافعي وأصحاب
الرأي يصلون خلفه قياما لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر، ثم إن النبي
صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه خفة فخرج بين رجلين فأجلساه إلى جنب أبي بكر فجعل أبو بكر
يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه
وسلم قاعد، متفق عليه وهذا آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه ركن قدر عليه
فلم يجز له تركه كسائر الأركان
ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام
ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون) متفق عليه، وعن عائشة رضي
الله عنها قالت صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه
قوم قياما فأشار إليهم (أن اجلسوا) فلما انصرف قال (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا
وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسا فصلوا
جلوسا أجمعون) وروى أنس نحوه أخرجهما البخاري ومسلم. وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله. أخرجه مسلم ورواه أسيد بن حضير وعمل به، قال ابن عبد البر: روي هذا الحديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة من حديث انس وجابر وأبي هريرة وابن عمر وعائشة كلها
بأسانيد صحاح ولأنها حالة قعود الإمام فكان على المأمومين متابعته كحال التشهد. فاما حديث
الشعبي فمرسل يرويه جابر الجعفي وهو متروك وقد فعله أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
بعده. فأما حديث الآخرين فقال احمد: ليس في هذا حجة لأن أبا بكر كان ابتدأ الصلاة، فإذا
ابتدأ الصلاة قائما صلوا قياما، فأشار احمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ
48

الصلاة جالسا، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما، ثم اعتل فجلس، ومتى أمكن الجمع بين الحديثين
وجب ولم يحمل على النسخ، ثم يحتمل أن أبا بكر كان الإمام، قال ابن المنذر في بعض الأخبار:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، وفي بعضها أن أبا بكر كان الإمام، وقالت عائشة: صلى
النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدا، وقال إنس: صلى النبي صلى
الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعدا في ثوب متوشحا به. قال الترمذي: كلا الحديثين حسن
صحيح ولا يعرف للنبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر صلاة إلا في هذا الحديث. وروى مالك
عن ربيعة الحديث قال: وكان أبو بكر الإمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي
بكر وقال (ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته) قال مالك: العمل عندنا على حديث ربيعة هذا
وهو أحب إلي، فإن قيل لو كان أبو بكر الإمام لكان عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلنا يحتمل أنه فعل ذلك لأن وراءه صفا
(فصل) فإن صلوا وراءه قياما ففيه وجهان: أحدهما لا تصح صلاتهم أومأ إليه احمد، فإنه قال
إن صلى الإمام جالسا والذين خلفه قياما لم يقتدوا بالإمام، إنما اتباعهم له إذا صلى جالسا صلوا
جلوسا، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجلوس ونهاهم عن القيام، فقال في حديث جابر
(إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا، وإذا صلى قائما فصلوا قياما، ولا تقوموا والإمام جالس كما
يفعل أهل فارس بعظمائها) فقعدنا والامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنه
ترك اتباع إمامه مع قدرته عليه أشبه تارك القيام في حال قيام إمامه، والثاني تصح لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لما صلى وراءه قوم قياما لم يأمرهم بالإعادة، فعلى هذا يحمل الامر على الاستحباب ولأنه
يتكلف القيام في موضع يجوز له القعود أشبه المريض إذا تكلف القيام، ويحتمل أن تصح صلاة
49

الجاهل بوجوب القعود دون العالم بذلك كقولنا في الذي ركع دون الصف، فأما من وجب عليه
القيام فقعد فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركنا يقدر على الاتيان به
(فصل) ولا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين: أحدهما أن يكون إمام الحي نص
عليه احمد فقال: ذلك لإمام الحي لأنه لا حاجة بهم إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب
فلا يتحمل اسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة والنبي صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك كان هو
الإمام الراتب. الثاني أن يكون مرضه يرجي زواله لأن اتخاذ الزمن ومن لا يرجى قدرته على القيام
إماما راتبا يفضي إلى تركهم القيام على الدوام ولا حاجة إليه، ولان الأصل في هذا فعل النبي صلى
الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرجى برؤه
(مسألة) قال (فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياما)
إنما كان كذلك لأن أبا بكر حيث ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأتم
الصلاة بهم جالسا أتموا قياما ولم يجلسوا، ولان القيام هو الأصل فمن بدأ به في الصلاة لزمه في جميعها
إذا قدر عليه كالتنازع في صلاة المقيم يلزمه اتمامها وان حدث مبيح القصر في أثنائها
(فصل) فإن استخلف بعض الأئمة في زماننا ثم زال عذره فحضر فهل يجوز أن يفعل كفعل
النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر؟ فيه روايتان (أحدهما) ليس له ذلك قال أحمد في رواية أبي داود
ذلك خاص للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره لأن هذا أمر يخالف القياس فإن انتقال الإمام مأموما
وانتقال المأمومين من إمام إلى آخر لا يجوز الا لعذر يحوج إليه وليس في تقديم الإمام الراتب ما يحوج
إلى هذا أما النبي صلى الله عليه وسلم فكانت له من الفضيلة على غيره وعظم التقدم عليه ما ليس لغيره
ولهذا قال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، (والثانية)
يجوز ذلك لغيره، قال أحمد في رواية أبي الحارث من فعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكبر ويقعد إلى جنب الإمام يبتدئ القراءة من حيث بلغ الإمام ويصلي للناس قياما وذلك لأن
50

الأصل أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان جائزا لامته ما لم يقم دليل على اختصاصه به. وفيه رواية
ثالثة أن ذلك لا يجوز الا للخليفة دون بقية الأئمة، قال في رواية المروذي ليس هذا لاحد الا
للخليفة وذلك لأن رتبة الخلافة تفضل رتبة سائر الأئمة فلا يلحق بها غيرها وكان ذلك للخليفة
لأن خليفة النبي صلى الله عليه وسلم يقوم مقامه
(فصل) ويجوز للعاجز عن القيام أن يؤم مثله لأنه إذا أم القادرين على القيام فمثله أولى ولا يشترط
في اقتدائهم به أن يكون إماما راتبا ولامر جواز زوال مرضه لأنه ليس في إمامته لهم ترك ركن مقدور
عليه بخلاف إمامته للقادرين على القيام
(فصل) ولا يجوز لتارك ركن من الافعال إمامة أحد كالمضطجع والعاجز عن الركوع والسجود
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي يجوز لأنه فعل أجازه المرض فلم يغير حكم الائتمام كالقاعد بالقيام
ولنا أنه أخل بركن لا يسقط في النافلة فلم يجز للقادر عليه الائتمام به كالقارئ بالأمي وحكم القيام
حق بدليل سقوطه في النافلة وعن المقتدين بالعاجز ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر المصلين خلف
الجالس بالجلوس ولا خلاف في أن المصلي خلف المضطجع لا يضطجع. فاما ان أم مثله فقياس المذهب
صحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في المطر بالايماء والعراة يصلون جماعة بالايماء
وكذلك حال المسايفة.
(فصل) ويصح ائتمام المتوضئ بالمتيمم لا أعلم فيه خلافا لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه
متيمما وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره وأم ابن عباس أصحابه متيمما وفيهم عمار بن ياسر في
نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكروه ولأنه متطهر طهارة صحيحة فأشبه المتوضئ
ولا يصح إئتمام الصحيح بمن به سلس البول ولا غير المستحاضة بها لأنهما يصليان مع خروج الحدث
من غير طهارة له بخلاف المتيمم، فاما من كانت عليه نجاسة فإن كانت على بدنه فتيمم لها جاز للطاهر
51

الائتمام به عند القاضي لأنه كالمتيمم للحدث وعلى قياس قول أبي الخطاب لا يجوز الائتمام به لأنه أوجب
عليه الإعادة وإن كانت على ثوبه لم يصح الائتمام به لأنه تارك لشرط ولا يجوز ائتمام المتوضئ ولا
المتيمم بعادم الماء والتراب ولا اللابس بالعاري ولا القادر على الاستقبال بالعاجز عنه لأنه تارك
لشرط يقدر عليه المأموم فأشبه المعافى بمن به سلس البول ويصح ائتمام كل واحد من هؤلاء بمثله لأن
العراة يصلون جماعة وقد سبق هذا
(فصل) وفي صلاة المفترض خلف المتنفل روايتان أحداهما لا تصح نص عليها أحمد في رواية
أبي الحارث وحنبل واختارها أكثر أصحابنا وهذا قول الزهري ومالك وأصحاب الرأي لقول النبي
صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه متفق عليه ولان صلاة المأموم لا تتأدى
بنية الإمام أشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر والثانية يجوز، نقلها إسماعيل بن سعد ونقل أبو
داود قال سمعت أحمد سئل عن رجل صلى العصر ثم جاء فنسي فتقدم يصلي بقوم تلك الصلاة ثم
ذكر لما أن صلى ركعة فمضى في صلاته، قال لا بأس وهذا قول عطاء وطاوس وأبي رجاء والأوزاعي
والشافعي وسليمان بن حرب وأبي ثور وابن المنذر وأبي إسحاق الجوزجاني وهي أصح لما روى جابر
ابن عبد الله أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك
الصلاة متفق عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفة من أصحابه في الخوف ركعتين
ثم سلم ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم رواه أبو داود والأثرم، والثانية منهما تقع نافلة
وقد أم بها مفترضين
وروي عن أبي خلدة قال أتينا أبا رجاء لنصلي معه الأولى فوجدناه قد صلى فقلنا جئناك لنصلي
معك فقال قد صلينا ولكن لا أخيبكم فقام فصلى وصلينا معه رواه الأثرم ولأنهما صلاتان اتفقتا في
الافعال فجاز ائتمام المصلي في إحداهما بالمصلي في الأخرى كالمتنفل خلف المفترض فاما حديثهم فالمراد
به لا تختلفوا عليه في الافعال بدليل قوله (فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا
52

وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون) ولهذا يصح ائتمام المتنفل بالمفترض مع اختلاف نيتهما وقياسهم
ينتقض بالمسبوق في الجمعة يدرك أقل من ركعة ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة
(فصل) ولا يختلف المذهب في صحة صلاة المتنفل وراء المفترض ولا نعلم بين أهل العلم فيه
اختلافا وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (الا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) والأحاديث
التي في إعادة الجماعة ولان صلاة المأموم تتأدى بنية الإمام بدليل ما لو نوى مكتوبة فبان قبل وقتها
(فصل) فإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر ففيه أيضا روايتان نقل إسماعيل بن سعد جوازه
ونقل غيره المنع منه. ونقل إسماعيل بن سعد (1) قال قلت لأحمد فما ترى ان صلى في رمضان خلف إمام
يصلي بهم التراويح قال ويجوز ذلك من المكتوبة وقال في رواية المروذي لا يعجبنا أن يصلى مع قوم
التراويح ويأتم بها للعتمة وهذه فرع على ائتمام المفترض بالمتنفل وقد مضى الكلام فيها
فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى في الافعال كصلاة الكسوف أو الجمعة
خلف من يصلي غيرهما وراء من يصليهما لم تصح رواية واحدة لأنه يفضي إلى مخالفة
إمامه في الافعال وهو منهي عنه
(فصل) ومن صلى الفجر ثم شك هل طلع الفجر أو لا أو شك في صلاة صلاها هل فعلها في
وقتها أو قبله لزمته اعادتها وله أن يؤم في الإعادة من لم يصل وقال أصحابنا يخرج على الروايتين في
أمامة المتنفل مفترضا
ولنا أن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ووجوب فعلها فيصح أن يؤم فيها مفترضا كما لو شك هل
صلى أم لا ولو فاتت المأموم ركعة فصلى الإمام خمسا ساهيا فقال ابن عقيل لا يعتد للمأموم بالخامسة
بأنها سهو وغلط، وقال القاضي هذه الركعة نافلة له وفرض للمأموم فيخرج فيها الروايتان، وقد سئل
أحمد عن هذه المسائل فتوقف فيها والأولى أن يحتسب له بها لأنه لو لم يحتسب له بها للزمه أن يصلي
خمسا مع علمه بذلك، ولان الخامسة واجبة على الإمام عند من يوجب عليه البناء على اليقين وعند استواء

(1) في بعض النسخ: سعيد
53

الامرين عنده، ثم إن كانت نفلا فالصحيح صحة الائتمام به وقوله: انه غلط، قلنا لا يخرجه الغلط عن
أن يكون نفلا مثابا فيه فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (كانت الركعة والسجدتان نافلة له) وان
صلى بقوم الظهر يظنها العصر فقال العصر فقال أحمد يعيد ويعيدون وهذا على الرواية التي منع فيها ائتمام المفترض
بالمتنفل فإن ذكر الإمام وهو في الصلاة فأتمها عصرا كانت له نافلة وإن قلب نيته إلى الظهر بطلت
صلاته لما ذكرناه متقدما وقال ابن حامد يتمها والفرض باق في ذمته
(فصل) ولا يصح ائتمام البالغ بالصبي في الفرض نص عليه أحمد وهو قول ابن مسعود وابن
عباس وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي ومالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأجازه الحسن
والشافعي وإسحق وابن المنذر ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على إمامة المتنفل للمفترض ووجه ذلك
عموم قوله (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله تعالى) وهذا داخل في عمومه وروى عمرو بن سلمة الجرمي
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقومه (يؤمكم أقرؤكم) قال فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو
ثماني سنين رواه أبو داود وغيره ولأنه يؤذن للرجال فجاز أن يؤمهم كالبالغ
ولنا قول ابن مسعود وابن عباس، ولان الإمامة حال كمال والصبي ليس من أهل الكمال فلا
يؤم الرجال كالمرأة ولأنه لا يؤمن من الصبي الاخلال بشرط من شرائط الصلاة أو القراءة حال الاسرار
فأما حديث عمر بن سلمة الجرمي فقال الخطابي كان أحمد يضعف أمر عمرو بن سلمة وقال
54

مرة دعه ليس بشئ بين وقال أبو داود قيل لأحمد: حديث عمرو بن سلمة قال لا أدري أي
شئ هذا؟ ولعله إنما توقف عنه لأنه لم يتحقق بلوغ الامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان
بالبادية في حي من العرب بعيد من المدينة وقوى هذا الاحتمال قوله في الحديث وكنت إذا سجدت
خرجت استي، وهذا غير سائغ
(فصل) فأما إمامته في النفل ففيها روايتان إحداهما لا تصح لما ذكرنا في الفرض والثاني تصح
55

لأنه متنفل يؤم متنفلين ولان النافلة يدخلها التخفيف ولذلك تنعقد الجماعة به فيها إذا كان مأموما
56

(فصل) يكره أن يؤم قوما أكثرهم له كارهون لما روى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى
57

الله عليه وسلم (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها
ساخط وإمام قوم وهم له كارهون) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ثلاثة لا تقبل منهم صلاة من تقدم قوما هم له كارهون ورجل
يأتي الصلاة دبارا) والدبار أن يأتي بعد أن يفوته الوقت (ورجل اعتبد محررا رواه أبو داود وقال
علي لرجل أم قوما وهم له كارهون انك لخروط (1) قال أحمد رحمه الله إذا كرهه واحد أو اثنان أو ثلاثة
فلا بأس حتى يكرهه أكثر القوم وإن كان ذا دين وسنة فكرهه القوم لذلك لم تكره أمامتهم قال
منصور أما إنا سألنا أمر الإمامة فقيل لنا إنما عني بهذا الظلمة فأما من أقام السنة فإنما الاثم على من كرهه
(فصل) ولا تكره إمامة الاعرابي إذا كان يصلح لها نص عليه وهذا قول عطاء والثوري

(1) في مجاز الأساس رجل خروط مشهور يركب رأسه ثم ذكر أثر علي هذا
58

والشافعي واسحق وأصحاب الرأي وكره أبو مجاز إمامته وقال مالك لا يؤمهم وإن كان أقرأهم
لقول الله تعالى (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى) ولأنه مكلف من أهل
الإمامة أشبه المهاجر والمهاجر أولى منه لأنه يقدم على المسبوق بالهجرة فمن لا هجرة له أولى قال أبو
الخطاب: والحضري أولى من البدوي لأنه مختلف في إمامته ولان الغالب جفاؤهم وقلة معرفتهم بحدود الله
(فصل) ولا تكره إمامة ولد الزنا إذا سلم دينه قال عطاء له أن يؤم إذا كان مرضيا وبه
قال سليمان بن موسى والحسن والنخعي والزهري وعمرو بن دينار واسحق وقال أصحاب
الرأي لا تجزئ الصلاة خلفه وكره مالك أن يتخذ أماما راتبا وكره الشافعي إمامته لأن الإمامة
موضع فضيلة فكره تقديمه فيها كالعبد
ولنا قوله (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وقالت عائشة ليس عليه من وزر أبويه شئ وقد
قال تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقال (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والعبد لا تكره إمامته
وإنما الحر أولى منه ثم إن العبد ناقص في أحكامه لا يلي النكاح ولا المال ولا تقبل شهادته في بعض
الأشياء بخلاف هذا
(فصل) ولا تكره إمامة الجندي والخصي إذا سلم دينهما لما ذكرنا في العبد ولأنه عدل
من أهل الإمامة أشبه غيره
59

(فصل) من شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما فينوي الإمام انه إمام والمأموم
إنه مأموم فإن صلى رجلان ينوي كل واحد منهما انه إمام صاحبه أو مأموم له فصلاتهما فاسدة نص
عليهما لأنه ائتم بمن ليس بإمام في الصورة الأولى وأم من لم يأتم به في الثانية ولو رأى رجلين يصليان
فنوى الائتمام بالمأموم لم يصح لأنه ائتم بمن لم ينو إمامته وإن نوى الائتمام بأحدهما لا يعينه لم يصح
حتى يعين الإمام لأن تعيينه شرط وان نوى الائتمام بهما معالم يصح لأنه نوى الائتمام ممن ليس
بإمام ولأنه نوى الائتمام باثنين ولا يجوز الائتمام بأكثر من واحد ولو نوى الائتمام بإمامين لم يجز
لأنه لا يمكن اتباعهما معا
(فصل) ولو أحرم منفردا ثم جاء آخر فصلى معه فنوى إمامته صح في النفل نص عليه أحمد
واحتج بحديث ابن عباس وهو أن ابن عباس قال بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله
عليه وسلم متطوعا من الليل فقام إلى القربة فقام فصلى فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من
القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن
متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم فأما في الفريضة فإن كان ينتظر أحدا كإمام المسجد يحرم
وحده وينتظر من يأتي فيصلي معه فيجوز ذلك أيضا نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه
وسلم أحرم وحده ثم جاء جابر وجبارة فأحرما معه فصلى بهما ولم ينكر فعلهما والظاهر أنها كانت
60

صلاة مفروضة لأنهم كانوا مسافرين وان لم يكن كذلك فقد روي عن أحمد انه لا يصح هذا
قول الثوري (1) وأصحاب الرأي في الفرضي والنفل جميعا لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة فلم يصح
كما لو ائتم بمأموم وروي عن أحمد أنه قال في النفس منها شئ مع أن حديث ابن عباس يقويه وهذا
مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه قد ثبت في النفل بحديث ابن عباس وحديث
عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام ناس يصلون بصلاته وقد ذكرناه والأصل مساواة الفرض للنفل
في النية وقوى ذلك حديث جابر وجبار في الفرض ولان الجاجة تدعو إلى نقل النية إلى الإمامة
فصلى كحالة الاستخلاف وبيان الحاجة أن المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا وراءه فإن قطع الصلاة
وأخبر بحاله قبح وكان مرتكبا للنهي بقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) وان أتم الصلاة بهم ثم أخبرهم
بفساد صلاتهم كان أقبح وأشق ولان الانفراد أحد حالتي عدم الإمامة في الصلاة فجاز الانتقال منها
إلى الإمامة كما لو كان مأموما وقياسهم ينتقض بحالة الاستخلاف
(فصل) وإن أحرم مفردا ثم نوى جعل نفسه مأموما بأن يحضر جماعة فينوي الدخول معهم
في صلاتهم ففيه روايتان: إحداهما هو جائز سواء كان في أول الصلاة أو قد صلى ركعة فأكثر لأنه
نقل نفسه إلى الجماعة فجاز كما لو نوى الإمامة، والثانية لا يجوز لأنه نقل نفسه إلى جعله مأموما من
61

غير حاجة فلم يجز كالإمام وفارق نقله إلى الإمامة لأن الحاجة داعية إليه فعلى هذا يقطع صلاته
ويستأنف الصلاة معهم. قال احمد: في رجل دخل المسجد فصلى ركعتين أو ثلاث ينوي الظهر ثم جاء
المؤذن فأقام الصلاة سلم من هذه وتصير له تطوعا ويدخل معهم، قيل له فإن دخل في الصلاة مع القوم
واحتسب به قال لا يجز به حتى ينوي بها الصلاة مع الإمام في ابتداء الفرض
(فصل) وإن أحرم مأموما ثم نوى مفارقة الإمام واتمامها منفردا لعذر جاز لما روى جابر قال:
كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم فأخر النبي
صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء فصلى معه، ثم رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلى
وحده، فقيل له: نافقت يا فلان، قال: ما نافقت، ولكن لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال (أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟ مرتين
اقرأ سورة كذا وسورة كذا) قال (وسورة ذات البروج، والليل إذا يغشى، والسماء والطارق،
وهل أتاك حديث الغاشية) متفق عليه، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بالإعادة ولا أنكر
عليه فعله والاعذار التي يخرج لأجلها مثل المشقة بتطويل الإمام، أو المرض، أو خشية غلبة النعاس
أو شئ يفسد صلاته، أو خوف فوات مال أو تلفه، أو فوت رفقته، أو من يخرج من الصف لا يجد
من يقف معه وأشباه هذا، وإن فعل ذلك لغير عذر ففيه روايتان: إحداهما تفسد صلاته لأنه ترك
متابعة إمامه لغير عذر أشبه ما لو تركها من غير نية المفارقة، والثانية تصح لأنه لو نوى المنفرد كونه
62

مأموما لصح في رواية فنية الانفراد أولى فإن المأموم قد يصير منفردا بغير نية وهو المسبوق إذا سلم
إمامه وغيره لا يصير مأموما بغير نية بحال
(فصل) وإن أحرم مأموما ثم صار إماما أو نقل نفسه إلى الائتمام بإمام آخر جاز في موضع
واحد وهو إذا سبق الإمام الحدث فاستخلف من يتم بهم الصلاة، وقد ذكرنا هذا ولا يصح في غيره
إلا أن يدرك اثنان بعض الصلاة مع الإمام، فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقية الصلاة ففيه وجهان
وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه أو مأموم له فسدت صلاتهما لما ذكرناه من قبل، وإن نوى
الإمام الائتمام بغيره لم يصح إلا في موضع واحد وهو إذا استخلف الإمام من يصلي ثم جاء في أثناء
الصلاة فتقدم فصار إماما وبنى على صلاة خليفته ففي ذلك ثلاث روايات قد ذكرناها
(مسألة) قال (ومن أدرك الإمام راكعا فركع دون الصف ثم مشى حتى دخل في الصف وهو
لا يعلم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة (زادك الله حرصا ولا تعد) قيل له لا تعد وقد
أجزأته صلاته، فإن عاد بعد النهي لم تجزئه صلاته ونص أحمد رحمه الله على هذا في رواية أبي طالب)
وجملة ذلك أن من ركع دون الصف ثم دخل فيه لا يخلو من ثلاثة أحوال اما أن يصلي ركعة كاملة فلا تصح
صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لفرد خلف الصف) والثاني أن يدب راكعا حتى يدخل في الصف
قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو أن يأتي آخر فيقف معه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع فإن صلاته تصح
63

لأنه أدرك مع الإمام في الصف ما يدرك به الركعة، وممن رخص في ركوع الرجل دون الصف زيد
ابن ثابت وفعله ابن مسعود وزيد بن وهب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعروة وسعيد بن جبير وابن
جريح وجوزه الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي إذا كان قريبا من الصف. الحال الثالث إذا رفع
رأسه من الركوع ثم دخل في الصف أو جاء آخر فوقف معه قبل اتمام الركعة فهذه الحال التي يحمل
عليها قول الخرقي ونص الإمام أحمد. فمتى كان جاهلا بتحريم ذلك صحت صلاته وإن علم لم تصح
وروى أبو داود عن أحمد انه يصح ولم يفرق وهذا مذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن
أبا بكرة فعل ذلك وفعله من ذكرنا من الصحابة
ولنا ما روى أن أبا بكرة انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى
الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (زادك الله حرصا ولا تعد) رواه البخاري ورواه
أبو داود، ولفظه أن أبا بكرة جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع فركع دون الصف ثم مشى
إلى الصف فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال (أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى
الصف) فقال أبو بكرة: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (زادك الله حرصا ولا تعد) فلم يأمره
بإعادة الصلاة ونهاه عن العود والنهي يقتضي الفساد، فإن قيل إنما نهاه عن التهاون والتخلف عن
الصلاة قلنا إنما يعود النهي إلى المذكور، والمذكور دون الصف ولم ينسبه النبي صلى الله عليه
64

وسلم إلى التهاون وإنما نسبه إلى الحرص ودعا له بالزيادة فيه فكيف ينهاه عن التهاون وهو منسوب
إلى ضده؟ وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنها لا تصح صلاته عالما كان أو جاهلا لأنه لم
يدرك في الصف ما يدرك به الركعة أشبه ما لو صلى ركعة كاملة، وعلى هذا يحمل حديث أبي بكرة
على أنه دخل في الصف قبل رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه، وقد قال أبو هريرة: لا يركع
أحدكم حتى يأخذ مقامه من الصف. ولم يفرق القاضي في هذه المسألة بين من رفع رأسه من الركوع
ثم دخل وبين من دخل فيه راكعا، وكذلك كلام احمد والخرقي ولا تفريق فيه والدليل يقتضي
التفريق فيحمل كلامهم عليه وقد ذكره أبو الخطاب نحوا مما ذكرنا
(فصل) وإن فعل هذا لغير عذر ولا خشي الفوات ففيه وجهان: أحدهما يجزيه لأنه لو لم يجز
مطلقا لم يجز حال العذر كالركعة كلها، والثاني لا يجزيه لأن الأصل أن لا يجوز لكونه يفوته في الصف
ما تفوته الركعة بفواته، وإنما أبيح في المعذور لحديث أبي بكرة ففي غيره يبقي على الأصل
(فصل) إذا أحس بداخل وهو في الركوع يريد الصلاة معه وكانت الجماعة كثيرة كره انتظاره
لأنه يبعد أن يكون فيهم من لا يشق عليه، وان كانت الجماعة يسيرة وكان انتظاره يشق عليهم كره
أيضا لأن الذين معه أعظم حرمة من الداخل فلا يشق عليهم لنفعه، وان يشق لكونه يسيرا فقد
قال احمد: ينتظره ما لم يشق على من خلفه وهذا مذهب أبي مجلز والشعبي والنخعي وعبد الرحمن بن
65

أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور، وقال الأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة: لا ينتظره لأن انتظاره تشريك
في العبادة فلا يشرع كالرياء
ولنا أن انتظاره ينفع ولا يشق فشرع كتطويل الركعة وتخفيف الصلاة، وقد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم، وأطال السجود حين ركب
الحسن على ظهره وقال (ان ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله) وقال (اني لاسمع بكاء الصبي
وأنا في الصلاة فأخففها كراهة أن أشق على أمه) وقال (من أم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير
والضعيف وذا الحاجة) وشرع الانتظار في صلاة الخوف لتدركه الطائفة الثانية، ولان منتظر الصلاة
في صلاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الجماعة، فقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يصلي العشاء أحيانا، وأحيانا إذا رآهم قد اجتمعوا عجل، وإذا رآهم قد أبطأوا اخر، وبهذا كله يبطل
ما ذكروه من التشريك. قال القاضي: والانتظار جائز غير مستحب، وإنما ينتظر من كان ذا حرمة
كأهل العلم ونظرائهم من أهل الفضل
(مسألة) قال (وسترة الإمام سترة لمن خلفه)
وجملته أنه يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة فإن كان في مسجد أو بيت صلى إلى الحائط أو
سارية وإن كان في فضاء صلى إلى شئ شاخص بين يديه أو نصب بين يديه حربة أو عصى أو عرض
66

البعير فصلى إليه أو جعل رحله بين يديه وسئل أحمد يصلي الرجل إلى سترة في الحضر والسفر قال نعم
مثل اخرة الرحل ولا نعلم في استحباب ذلك خلافا والأصل فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان تركز
له الحربة فيصلي إليها ويعرض البعير فيصلي إليه وروى أبو جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركزت
له العنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع متفق عليه وعن طلحة ابن
عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل
ولا يبال من مر وراء ذلك) أخرجه مسلم، إذا ثبت هذا فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه نص على هذا
أحمد وهو قول أكثر أهل العلم كذلك قال ابن المنذر وقال الترمذي قال أهل العلم سترة الإمام سترة
لمن خلفه قال أبو الزناد كل من أدركت من فقهاء المدينة الذين ينتهى إلى قولهم سعيد بن المسيب
وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله
ابن عتبة وسلمان بن يسار وغيرهم يقولون سترة الإمام سترة لمن خلفه وروي ذلك عن ابن عمرو به
قال النخعي والأوزاعي ومالك والشافعي وغيرهم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى سترة
ولم يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى وفي حديث عن ابن عباس قال أقبلت راكبا على حمار أتان
والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض أهل الصف فنزلت
فأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر علي أحد متفق عليه ومعنى قولهم سترة الإمام سترة
67

لمن خلفه أنه متى لم يحل بين الإمام وسترته شئ يقطع الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة لا يضرها
مرور شئ بين أيديهم في بعض الصف ولا فيما بينهم وبين الإمام وان مر ما يقطع الصلاة بين الإمام
وسترته قطع صلاته وصلاتهم وقد دل على هذا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
هبطنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من ثنية إذا خر فحضرت الصلاة يعني إلى جدر فاتخذها قبلة ونحن
خلفه فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدرؤها حتى لصق بطنه بالجدر فمرت من ورائه رواه أبو داود
فلولا أن سترته لهم لم يكن بين مرورها بين يديه وخلفه فرق
(فصل) وقدر السترة في طولها ذراع أو نحوه قال الأثرم سئل أبو عبد الله عن آخرة الرحل (1)
كم مقدارها قال ذراع كذا قال عطاء ذراع وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي عن أحمد انها
قدر عظم الذراع وهذا قول مالك والشافعي والظاهر أن هذا على سبيل التقريب لا التحديد لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قدرها بآخرة الرحل وآخرة الرحل مختلف في الطول والقصر فتارة تكون
ذراعا وتارة تكون أقل منه فما قارب الذراع أجزأ الاستتار به والله أعلم
فأما قدرها في الغلظ والدقة فلا حد له نعلمه فإنه يجوز أن تكون دقيقة كالسهم والحربة وغليظة
كالحائط فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستتر بالعنزة وقال أبو سعيد كنا نستتر بالسهم والحجر
في الصلاة وروي عن سبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استتروا في الصلاة ولو بسهم) رواه
68

الأثرم وقال الأوزاعي يجزيه السهم والسوط قال أحمد وما كان أعرض فهو أعجب إلي وذلك لأن قوله
ولو بسهم يدل على أن غيره أولى منه
(فصل) ويستحب للمصلى أن يدنو من سترته لما روى سهل ابن أبي خيثمة يبلغ به النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته) رواه أبو داود
وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها)
رواه الأثرم وعن سهل بن سعد قال كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر الشاة رواه
البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ارهقوا القبلة) رواه
الأثرم وذكر الخطابي في معالم السنن ان مالك بن أنس كان يصلي يوما متنائيا عن السترة فمر به
رجل لا يعرفه فقال يا أيها المصلى أدن من سترتك. فجعل مالك يتقدم وهو يقرأ (وعلمك ما لم تكن
تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) ولان قربه من السترة أصون لصلاته وأبعد من أن يمر بينه وبينها
شئ يحول بينه وبينها. إذا ثبت هذا فإنه يجعل بينه وبين سترته ثلاثة أذرع فما دون قال مهنا سألت
أبا عبد الله عن الرجل يصلى كم ينبغي أن يكون بينه وبين القبلة قال يدنو من القبلة ما استطاع ثم
قال بعد: إن ابن عمر قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع
قال الميموني فقد رأيتك على نحو من أربعة قال بالسهو وكان عبد الله بن مغفل يجعل بينه وبين
69

سترته ستة أذرع قال عطاء أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع وبه قال الشافعي لخبر ابن عمر عن بلال أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى في مقدم البيت وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع وكلما دنا فهو أفضل لما
ذكرنا من الاخبار والمعنى
(فصل) ولا بأس ان يستتر ببعير أو حيوان وفعله ابن عمر وانس وحكي عن الشافعي أنه
لا يستتر بدابة
ولنا ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بعير رواه البخاري ومسلم (1) وفي لفظ
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض راحلته ويصلي إليها قال قلت فإذا ذهب الركاب قال
يعرض الرحل ويصلى إلى آخرته فإن استتر بانسان فلا بأس فإنه يقوم مقام غيره من السترة وقد روي
عن حميد بن هلال قال رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلى والناس يمرون بين يديه فولاه ظهره وقال
بثوبه هكذا وبسط يديه هكذا وقال صل ولا تعجل وعن نافع قال كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا
إلى سارية من سواري المسجد قال ولني ظهرك رواهما البخاري باسناده
(فصل) فإن لم يجد سترة خط وصلى إليه وقام ذلك مقام السترة نص عليه أحمد وبه قال
سعيد بن جبير والأوزاعي وأنكر مالك الخط والليث بن سعد وأبو حنيفة وقال الشافعي بالخط بالعراق
وقال بمصر لا يخط المصلي خطا الا أن يكون فيه سنة تتبع
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء

(1) سقطت لفظة مسلم من نسخة دار الكتب
70

وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ثم لا يضره من مر أمامه)
رواه أبو داود وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن تتبع
(فصل) وصفة الخط مثل الهلال قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول غير مرة وسئل
عن الخط فقال هكذا عرضا مثل الهلال قال وسمعت مسددا قال قال بن داود الخط بالطول وقال
في رواية الأثرم قالوا طولا وقالوا عرضا وقال أما أنا فاختار هذا ودور بإصبعه مثل القنطرة وكيف
ما خطه أجزأه فقد نقل حنبل إنه قال إن شاء معترضا وان شاء طولا وذلك لأن الحديث مطلق في
الخط فكيف ما أتى به فقد أتى بالخط فيجزيه ذلك والله أعلم
(فصل) وإن كان معه عصا فلم يمكنه نصبها فقال الأثرم قلت لأحمد الرجل يكون معه عصا
لم يقدر على غرزها فألقاها بين يديه أيلقيها طولا أم عرضا قال لا بل عرضا وكذلك قال سعيد
ابن جبير والأوزاعي وكرهه النخعي
ولنا ان هذا في معنى الخط فيقوم مقامه وقد ثبت استحباب الخط بالحديث الذي رويناه
(فصل) وإذا صلى إلى عود أو عمود أو شئ في معناهما استحب له أن ينحرف عنه ولا
يصمد له صمدا لما روى أبو داود عن المقداد بن الأسود قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلى إلى عود أو إلى عمود ولا شجرة الا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا أي
لا يستقبله فيجعله وسطا ومعنى الصمد القصد
71

(فصل) تكره الصلاة إلى المتحدثين لئلا يشتغل بحديثهم واختلف في الصلاة إلى النائم فروي
أنه يكره وروي ذلك عن ابن مسعود وسعيد بن جبير وعن أحمد ما يدل على أنه يكره في الفريضة
خاصة ولا يكره في التطوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى من الليل وعائشة معترضة
بين يديه كاعتراض الجنازة متفق عليه قال أحمد هذا في التطوع والفريضة أشد وقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى النائم والمتحدث رواه أبو داود فخرج التطوع من عمومه
لحديث عائشة بقي الفرض على مقتضى العموم وقيل لا يكره فيهما لأن حديث عائشة صحيح وحديث
النهي ضعيف قال الخطابي وقد قال أحمد لا فرق بين الفريضة والنافلة الا في صلاة الراكب وتقديم قياس
الخبر الصحيح أولى من الخبر الضعيف
(فصل) ويكره أن يصلى مستقبلا وجه انسان لأن عمر أدب على ذلك وفي حديث عائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى حذاء وسط السرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة تكون لي
الحاجة فأكره ان أقوم فاستقبله فانسل انسلالا. متفق عليه. ولأنه شبه السجود لذلك الشخص. ويكره
أن يصلى إلى نار قال أحمد إذا كان التنور في قبلته لا يصلى إليه وكره ابن سيرين ذلك وقال أحمد
في السراج والقنديل يكون في القبلة أكرهه وأكره كل شئ حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا شيئا في
القبلة حتى المصحف وإنما كره ذلك لأن النار تعبد من دون الله فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها (1) وقال
أحمد لا تصل إلى صورة منصوبة في وجهك وذلك لأن الصورة تعبد من دون الله وقد روي عن
عائشة قالت كان لنا ثوب فيه تصاوير فجعلته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو

(1) أنكرت وأنا بمكة المكرمة وضع الشمع بباب الكعبة ليلا وفاتني أن أذكر للسلطان وجوب منعه وقد أنكر بعض العلماء وضع مجامر البخور في الكعبة وقال إن البرامكة حسنوه لهارون الرشيد تأنيسا للمسلمين بوضع النار في مما بدهم. ولكن النار قلما تظهر في المجامر
72

يصلى فنهاني أو قالت كره ذلك رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم باسناده ولان التصاوير تشغل
المصلي بالنظر إليها وتذهله عن صلاته وقال أحمد يكره أن يكون في القبلة شئ معلق مصحف أو
غيره ولا بأس أن يكون موضوعا بالأرض وقد روى مجاهد قال لم يكن عبد الله ابن عمر يدع شيئا
بينه وبين القبلة الا نزعه لا سيفا ولا مصحفا رواه الخلال باسناده قال أحمد ولا يكتب في القبلة
شئ وذلك لأنه يشغل قلب المصلي وربما اشتغل بقراءته عن صلاته وكذلك يكره تزويقها وكل
ما يشغل المصلي عن صلاته فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام
فلما قضى صلاته قال (اذهبوا بهذه إلى أبي جهم بن حذيفة فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي وائتوني
بانبجانيته) متفق عليه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة (أميطي عنا قرامك فإنه
لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) (1) رواه البخاري وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع ما أيده
الله تعالى به من العصمة والخشوع شغله ذلك فغيره من الناس أولى
(فصل) ويكره ان يصلي وإمامه امرأة تصلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أخروهن من حيث
أخرهن الله) فأما في غير الصلاة فلا يكره لخبر عائشة وروى أبو حفص باسناده عن أم سلمة قالت كان
فراشي حيال مصلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عن يمينه أو يساره لم يكره وان كانت في
صلاة وكره أحمد ان يصلي وبين يديه كافر وروي ذلك عن إسحاق لأن المشركين نجس

(1) القرام ستر كانت علقته على باب بيتها وكان فيها تصاوير فأمرها صلى الله عليه وسلم فهتكته واتخذت منه وسادة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ عليها لأن التصاوير فيها ممتهنة لا تشبه المعبودة
73

(فصل) ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة وروي ذلك عن ابن الزبير وعطاء ومجاهد قال
الأثرم قيل لأحمد الرجل يصلى بمكة ولا يستتر بشئ فقال قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطواف سترة قال أحمد لأن مكة ليست كغيرها كأن مكة مخصوصة
وذلك لما روى كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده المطلب قال رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلى حيال الحجر والناس يمرون بين يديه رواه الخلال باسناده وروى الأثرم باسناده عن
المطلب قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي الركن
بينه وبين السقيفة فصلي ركعتيه في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطواف أحد وقال ابن
أبي عمار رأيت ابن الزبير جاء يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينظرها حتى تمر
ثم يضع جبهته في موضع قدمها رواه حنبل في كتاب المناسك وقال المعتمر قلت لطاوس الرجل يصلي
يعني بمكة فيمر بين يديه الرجل والمرأة فقال أو لا يرى الناس بعضهم بعضا وإذا هو يرى أن لهذا البلد
حالا ليس لغيره من البلدان وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم ويزدحمون فيها
ولذلك سميت (بكة) لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون ويدفع بعضهم بعضا فلو منع المصلي من
يجتاز بين يديه لضاق على الناس وحكم الحرم كله حكم مكة في هذا بدليل ما روى ابن عباس قال
أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الناس بمنى إلى غير جدار متفق عليه
ولان الحرم كله محل المشاعر والمناسك فجرى مجرى مكة في ما ذكرناه
74

(فصل) ولو صلي في غير مكة إلى غير سترة لم يكن به بأس لما روى ابن عباس قال صلى
النبي صلى الله عليه وسلم في فضاء ليس بين يديه شئ رواه البخاري وروى عن الفضل بن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في باديتهم فصلى إلى غير سترة ولان السترة ليست شرطا في الصلاة
وإنما هي مستحبة قال أحمد في الرجل يصلي في قضاء ليس بين يديه سترة ولا خط صلاته جائزة وقال
أحب أن يفعل فإن لم يفعل يجزيه
(مسألة) قال (ومن مر بين يدي المصلي فليردده)
وجملته أنه ليس لأحد أن يمر بين يدي المصلي إذا لم يكن بين يديه سترة فإن كانت بين يديه
سترة لم يمر أحد بينه وبينها لما روى أبو جهم الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الاثم (1) لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه)
متفق عليه (2) ولمسلم لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي) وقد سمى
النبي صلى الله عليه وسلم الذي يمر بين يدي المصلي شيطانا وأمر برده ومقاتلته وروي عن يزيد بن نمر أنه قال
رأيت رجلا بتبوك مقعدا فقال مررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار
وهو يصلي فقال (اللهم اقطع أثره) فما مشيت عليها بعد رواه أبو داود وفي لفظ قال (قطع صلاتنا قطع الله
أثره) وان أراد أحد المرور بين يدي المصلي فله منعه في قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن
عمر وسالم وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه خلافا والأصل فيه ما روى

(1) سقطت من نسخة دار الكتب
(2) بل رواه الجماعة كلهم
75

أبو سعيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا كان أحدكم يصلي إلى شئ يستره من الناس
فأراد أحد ان يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) متفق عليه ورواه أبو داود
ولفظ روايته (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبي فليقاتله
فإنما هو شيطان) ومعناه أي ليدفعه وهذا في أول الأمر لا يزيد على دفعه فإن أبي ولج فليقاتله أي
يعنفه في دفعه من المرور فإنما هو شيطان أي فعله فعل الشيطان أو الشيطان يحمله على ذلك وقيل
معناه أن معه شيطانا وأكثر الروايات عن أبي عبد الله أن المار بين يدي المصلي إذا لج في المرور
وأبي الرجوع أن المصلي يشتد عليه في الدفع ويجتهد في رده ما لم يخرجه ذلك إلى افساد صلاته بكثرة
العمل فيها وروي عنه أنه قال يدرأ ما استطاع وأكره القتال في الصلاة وذلك لما يفضي إليه من الفتنة
وفساد الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر برده ودفعه حفظا للصلاة عما ينقصها فيعلم أنه لم يرد
ما يفسدها ويقطعها بالكلية فيحمل لفظ المقاتلة على دفع أبلغ من الدفع الأول والله أعلم
وقد روت أم سلمة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجرة أم سلمة فمر بين يديه
عبد الله أو عمر بن أبي سلمة فقال بيده فرجع فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (هن أغلب) رواه ابن ماجة (1) وهذا يدل على أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يجتهد في الدفع
(فصل) ويستحب أن يرد ما مر بين يديه من كبير وصغير وانسان وبهيمة لما روينا من رد

(1) ورواه أحمد أيضا وفي اسناده قيس المدني وهو مجهول
76

النبي صلى الله عليه وسلم عمر وزينب وهما صغيران وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جد
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدر فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهيمة تمر بين يديه فما زال
يدرأ بها حتى لصق بطنه بالجدر فمرت من ورائه
(فصل) فإن مر بين يديه انسان فعبر لم يستحب رده من حيث جاء وهذا قول الشعبي
والثوري وإسحاق وابن المنذر وروي عن ابن مسعود انه يرده من حيث جاء وفعله سالم لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر برده فتناول العابر
ولنا ان هذا مرور ثان فينبغي ان لا ينسب إليه كالأول ولان المار لو أراد أن يعود من حيث
جاء لكان مأمورا بمنعه ولم يحل للعابر العود والحديث لم يتناول العابر إنما في الخبر (فأراد أحد أن
يجتاز بين يده فليدفعه) وبعد العبور فليس هذا مريدا للاجتياز
(فصل) والمرور بين يدي المصلي ينقص الصلاة ولا يقطعها قال أحمد يضع من صلاته ولكن
لا يقطعها وروي عن ابن مسعود ان ممر الرجل يضع نصف الصلاة وكان عبد الله إذا مر بين يديه
رجل التزمه حتى يرده رواه البخاري باسناده، قال القاضي ينبغي أن يحمل نقص الصلاة على من
أمكنه الرد فلم يفعله أما إذا رد فلم يمكنه الرد فصلاته تامة لأنه لم يوجد منه ما ينقص الصلاة
فلا يؤثر فيها ذنب غيره
77

(فصل) ولا بأس بالعمل اليسير في الصلاة للحاجة قال أحمد لا بأس أن يحمل الرجل ولده
في الصلاة الفريضة لحديث أبي قتادة وحديث عائشة انها استفتحت الباب فمشى النبي صلى الله عليه
وسلم وهو في الصلاة حتى فتح لها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأسودين في الصلاة (1) فإذا رأى
العقرب خطا إليها وأخذ النعل وقتلها ورد النعل إلى موضعها لأن ابن عمر نظر إلى ريشة فحسبها عقربا
فضربها بنعله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم انه التحف بإزاره وهو في الصلاة فلا بأس ان سقط
رداء الرجل ان يرفعه فإن انحل إزاره ان يشده. وإذا عتقت الأمة وهي تصلي اختمرت وبنت على
صلاتها وقال من فعل كفعل أبي برزة حين مشى إلى الدابة وقد أفلتت منه فصلاته جائزة وهذا
لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المشرع فما فعله أو أمر به فلا بأس به ومثل هذا ما روى سهل بن
سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على منبره فإذا أراد ان يسجد نزل عن المنبر فسجد بالأرض
ثم رجع إلى المنبر كذلك حتى قضى صلاته وحديث جابر في صلاة الكسوف قال ثم تأخر وتأخرت
الصفوف خلفه حتى أنهينا إلى النساء ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه متفق عليه وعن أبي بكرة
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فكان الحسن بن علي يجئ وهو صغير فكان كلما
سجد النبي صلى الله عليه وسلم وثب على ظهره ويرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه رفعا رفيقا حتى
يضعه بالأرض رواه الأثرم وحديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يدارئ

(1) حديث عائشة رواه أحمد وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجة، وحسنه الترمذي، وكانت الصلاة تطوعا. وحديث أمره صلى الله عليه وسلم يقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب. رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم
78

البهيمة حتى لصق بالجدر وحديث أبي سعيد بالامر بدفع المار بين يدي المصلي ومقاتلته إذا أبى
الرجوع فكل هذا وأشباهه لا بأس به في الصلاة ولا يبطلها ولو فعل هذا لغير حاجة كره ولا يبطلها
أيضا ولا يتقدر الجائز من هذا بثلاث ولا بغيرها من العدد لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر
منه زيادته على ثلاث كتأخره حتى تأخر الرجال فانتهوا إلى النساء وفي حمله أمامة ووضعها في كل
ركعة وهذا في الغالب يزيد على ثلاثة أفعال وكذلك مشي أبي برزة مع دابته ولان التقدير بابه
التوقيف وهذا لا توقيف فيه ولكن يرجع في الكثير واليسير إلى العرف فيما يعد كثيرا أو يسيرا
وكل ما شابه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو معدود يسيرا، وان فعل أفعالا متفرقة لو جمعت كانت
كثيرة وكل واحد منها بمفرده يسير فهي في حد اليسير بدليل حمل النبي صلى الله عليه وسلم
لإمامة في كل ركعة ووضعها وما كثر وزاد على فعل النبي صلى الله عليه وسلم أبطل الصلاة سواء كان
لحاجة أو غيرها الا أن يكون لضرورة فيكون حكمه حكم الخائف فلا تبطل صلاته به وان احتاج إلى
الفعل الكثير في الصلاة لغير ضرورة قطع الصلاة وفعله قال احمد إذا رأى صبيين قتلان يتخوف
ان يلقي أحدهما صاحبه في البئر فإنه يذهب إليهما فيخلصهما ويعود في صلاته وقال إذا لزم رجل
رجلا فدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فلما سجد الإمام خرج الملزوم فإن الذي كان يلزم يخرج في
طلبه يعني ويبتدئ الصلاة وهكذا لو رأى حريقا يريد اطفاءه أو غريقا يريد انقاذه خرج إليه وابتدأ
79

الصلاة ولو انتهى الحريق إليه أو السيل وهو في الصلاة ففر منه بنى على صلاته وأتمها صلاة خائف
لما ذكرنا من قبل والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يقطع الصلاة الا الكلب الأسود البهيم) (1)
يعني إذا مر بين يديه هذا المشهور عن أحمد رحمه الله نقله الجماعة عنه قال الأثرم سئل أبو عبد الله
ما يقطع الصلاة قال؟ لا يقطعها عندي شئ إلا الكلب الأسود البهيم. وهذا قول عائشة وحكي عن طاوس
وروي عن معاذ ومجاهد أنهما قالا الكلب الأسود البهيم شيطان وهو يقطع الصلاة ومعنى البهيم
الذي ليس في لونه شئ سوى السواد وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطعها الكلب الأسود والمرأة إذا
مرت والحمار، قال وحديث عائشة من الناس من قال ليس بحجة على هذا لأن المار غير اللابث وهو
في التطوع وهو أسهل، والفرض آكد وحديث ابن عباس مررت بين يدي بعض الصف ليس بحجة لأن سترة
الإمام سترة لمن خلفه. وروي هذا القول عن أنس وعكرمة والحسن وأبي الأحوص ووجه هذا القول ما روى
أبو هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل
مؤخرة الرحل) وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قام أحدكم يصلي فإنه
يستره مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب

(1) سقط: البهيم. من نسخة دار الكتب
80

الأسود) قال عبد الله بن الصامت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب
الأصفر قال يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان
رواهما مسلم وأبو داود وغيرهما (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي مربين يديه على حمار
(قطع صلاتنا) وقد ذكرنا هذا الحديث وكان ابن عباس وعطاء يقولان يقطع الصلاة الكلب والمرأة
الحائض ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود وابن ماجة قال أبو داود رفعه
شعبة ووقفه سعيد وهشام وهمام على ابن عباس. وقال عروة والشعبي والثوري ومالك والشافعي
وأصحاب الرأي لا يقطع الصلاة شئ لما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا يقطع الصلاة شئ) رواه أبو داود وعن الفضل بن عباس قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه فما بالى ذلك
رواه أبو داود وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة
بينه وبين القبلة، وحديث ابن عباس أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي
فمررت على بعض الصف ونزلت فأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر علي أحد متفق عليهما
وحديث زينب بنت أم سلمة حين مرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقطع صلاته

(1) حديث أبي هريرة عزاه صاحب المنتقي إلى أحمد ومسلم واللفظ له وابن ماجة، وحديث أبي ذر قال: رواه الجماعة الا البخاري يعني أحمد ومسلما وأصحاب السنن كلهم
81

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب حتى أخذتا
بركبتيه فقرع بينهما فما بالى ذلك (1)
ولنا حديث أبي هريرة وأبي ذر. وحديث أبي سعيد لا يقطع الصلاة شئ يرويه مجالد بن سعيد
وهو ضعيف فلا يعارض به الحديث الصحيح حديثنا أخص فيجب تقديمه لصحته وخصوصه وحديث
الفضل بن عباس في إسناده مقاتل ثم يحتمل أن لم يكن أسود ولا بهيما ويجوز أن يكونا بعيدين
ثم هذه الأحاديث كلها في المرأة والحمار يعارض حديث أبي هريرة وأبي ذر فيهما فيبقى الكلب
الأسود خاليا عن معارض، فيجب القول به لثبوته وخلوه عن معارض
(فصل) ولا يقطع الصلاة شئ سوى ما ذكرنا لا من الكلاب ولا من غيرها لأن النبي صلى الله
عليه وسلم خصها بالذكر وقيل له ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر قال
الكلب الأسود شيطان. الكلب الأسود إذا لم يكن بهيما لم يقطع الصلاة لتخصيصه البهيم
بالذكر ولقوله عليه السلام (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم
فإنه شيطان) فبين أن شيطان هو الأسود البهيم، قال ثعلب البهيم كل لون لم يخالطه لون آخر فهو
بهيم فمتى كان فيه لون آخر فليس ببهيم وإن كان بين عينيه نكتتان يخالفان لونه لم يخرج بهذا عن

(1) أي لم يبال
82

كونه بهيما يتعلق به أحكام الأسود البهيم من قطع الصلاة وتحريم صيده وإباحة قتله فإنه قد روي
في حديث (عليكم بالأسود البهيم ذي الغرتين فإنه شيطان)
(فصل) ولا فرق في بطلان الصلاة بين الفرض والتطوع لعموم الحديث في كل صلاة ولان
مبطلات الصلاة يتساوي فيها الفرض والتطوع في غير هذا فكذلك هذه وقد روي عن أحمد كلام
يدل على التسهيل في التطوع فالصحيح التسوية وقد قال أحمد يحتجون في حديث عائشة فإنه في التطوع
وما أعلم بين المتطوع والفريضة فرقا إلا أن التطوع يصلى على الدابة
(فصل) فإن الكلب الأسود البهيم واقفا بين يدي المصلي أو نائما ولم يمر بين يديه فعنه روايتان
أحدهما تبطل لأنه بين يديه أشبه المار، وقد قالت عائشة عدلتمونا بالكلاب والحمر وذكرت في معارضة
ذلك أنها كانت تكون معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي كاعتراض الجنازة
فيدل ذلك على التسوية بينهما ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ولم يذكر
مرورا والثانية لا تبطل الصلاة به لأن الوقوف والنوم مخالف لحكم المرور بدليل أن عائشة كانت تنام
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكرهه ولا ينكره، وقد قال في المار (لأن يقف أربعين
خير له أن يمر بين يديه) وكان يصلي إلى البعير ولو مر بين يديه لم يدعه ولهذا منع البهيمة من المرور
وكان ابن عمر يقول لنافع ولني ظهرك ليستتر به ممن بين يديه وقعد عمر بين يدي المصلي يستره
83

من مرور فدل على أن الوقوف ليس في حكم المرور فلا يقاس عليه وقول النبي صلى الله عليه وسلم
يقطع الصلاة لابد فيه من اظمار المرور غيره فيتعين حمله عليه
(فصل) ومن صلى إلى سترة فمر ورائها ما تنقطع وان مر من ورائها غير
ما يقطعها لم يكره مر من الأحاديث وان مر بينه وبينها قطعها إن كان مما يقطعها وان لم يكن بين
يديه سترة فمر بين يديه قريبا منه ما يقطعها قطعها وان كانت مما لا يقطعها كره وإن كان بعيدا لم
يتعلق به حكم ولا أعلم أحدا من أهل العلم حد البعيد من ذلك ولا القريب الا أن عكرمة قال إذا
كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة بحجر لم يقطع الصلاة
وقد روى عبد بن حميد في مسنده وأبو داود في سننه عن عكرمة عن ابن عباس قال أحسبه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب
والحمار والخنزير والمجوسي واليهودي والمرأة (1) ويجزى عنه إذا مروا بين يديه قذفه بحجر) هذا لفظ رواية
أبى داود وفي مسند عبد بن حميد والنصراني والمرأة الحائض وهذا الحديث لو ثبت لتعين المصير
إليه غير أنه لم يجزم برفعه وفيه ما هو متروك بالجماع وهو ما عدا الثلاثة المذكورة ولا يمكن تقيد ذلك
بموضح السجود فإن قوله عليه السلام إذا لم تكن بين يديه مثل آخرة الرحل قطع صلاته الكلب

(1) قال أبو داود ان زيادة الخنزير واليهودي والمجوسي في هذه الرواية فيها نكارة
84

الأسود يدل على أن ما هو أبعد من السترة تنقطع صلاته بمرور الكلب فيه والسترة تكون أبعد من
موضع السجود والصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه ودفع المار بين يديه لا تبطل صلاته لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بدفع المار بين يديه فتقيد لدلالة الاجماع بما يقرب منه بحيث إذا مشى إليه لم
تبطل صلاته واللفظ في الحديثين واحد وقد تعذر حملها على اطلاقهما وقد تقيد أحدهما بدلالة الاجماع
بقيد فتقيد الآخر به والله أعلم
(فصل) إذا صلى إلى سترة مغصوبة فاجتاز وراءها كلب اسود فهل تنقطع صلاته فيه وجهان
ذكرهما ابن حامد أحدهما تبطل صلاته لأنه ممنوع مز نصبها والصلاة إليها فوجدها كعدمها والثاني
لا تبطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم يقي ذلك مثل آخرة الرحل وهذا قد وجد. وأصل الوجهين إذا
صلى في ثوب مغصوب هل تصح صلاته؟ على روايتين
باب صلاة المسافر
الأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (وإذا ضربتم
في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) قال يعني ابن
أمية قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
85

وقد أمن الناس فقال عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق
الله بها فاقبلوا صدقته، أخرجه مسلم.
86

وأما السنة فقد تواترت الاخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره حاجا
ومعتمرا وغازيا وقال ابن عمر، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، يعني في السفر
87

وكان لا يزيد على ركعتين وأبا بكر حتى قبض وكان لا يزيد على ركعتين وعمر وعثمان كذلك، وقال.
ابن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم
88

تفرقت بكم الطريق وودت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين، وقال أنس خرجنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقمنا بمكة عشرا نقصر الصلاة حتى رجع متفق
89

عليهن، وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصير في مثله الصلاة في حج أو عمرة أو جهاد أن له
أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين.
(مسألة) قال (وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعين ميلا
بالهاشمي فله أن يقصر)
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله في كم تقصر الصلاة قال في أربعة برد، قيل له مسيرة يوم تام قال لا
90

أربعة برد ستة عشر فرسخا ومسيرة يومين فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر
فرسخا والفرسخ ثلاثة أميال فيكون ثمانية وأربعين ميلا قال القاضي والميل إثنا عشر الف قدم وذلك
مسيرة يومين قاصدين وقد قدره ابن عباس فقال من عفان إلى مكة ومن الطائف إلى مكة ومن
جدة إلى مكة وذكر صاحب المسالك أن من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلا ومن دمشق إلى
الكسوة اثنا عشر ميلا ومن الكسوة إلى حاسم أربعة وعشرين ميلا فعلى هذا تكون مسافة القصر
يومين قاصدين، وهذا قول ابن عباس وابن عمر واليه ذهب مالك والليث والشافعي واسحق
وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر في مسيرة عشرة فراسخ، قال ابن المنذر ثبت أن ابن عمر كان
يقصر إلى أرض له وهي ثلاثون ميلا.
91

وروي نحو لك عن ابن عباس فإنه قال يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه واليه ذهب الأوزاعي
وقال عامة العلماء يقولون مسيرة يوم تام وبه نأخذ ويروي عن ابن مسعود أنه يقصر في مسيرة ثلاثة
أيام وبه قال الثوري وأبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن وهذا
يقتضى أن كل مسافر له ذلك ولان الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق
وروي عن جماعة من السلف رحمة الله عليهم ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم، فقال
الأوزاعي كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ وكان قبيصة بن ذؤيب وهانئ بن كلثوم وابن
محيريز يقصرون فيما بين الرملة وبيت المقدس.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهر
92

والعصر ركعتين ثم رجع من يومه فقال، أردت أن أعلمكم سننكم، وعن جبير بن نفير قال خرجت
مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلا أو ثمانية عشر ميلا فصلى ركعتين فقلت
له فقال رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال إنما فعلت كما رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم يفعل رواه مسلم.
وروي أن دحية الكلى خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه
أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال، والله لقد رأيت اليوم أمرا
ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للذين
93

صاموا قبل رواه أبو داود. وروى سعيد ثنا هاشم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا قصر الصلاة وقال أنس كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين شعبة الشاك. رواه
مسلم وأبو داود واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر قال ابن عباس: يا أهل مكة لا تقصروا في
أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة، قال الخطابي وهو أصح الروايتين عن ابن عمرو لأنها مسافة
تجمع مشقة السفر من الحل والشد فجاز القصر فيها كمسافة الثلاث ولم يجز فيما دونها لأنه لم يثبت
دليل يوجب القصر فيه وقول أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة
أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين يحتمل أنه أراد به إذا سافر سفرا طويلا قصر إذا بلغ ثلاثة أميال
كما قال في لفظه الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين قال المصنف:
ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم
حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه
لوجهين (أحدهما) أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها ولظاهر القرآن لأن ظاهره
إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا
من الصلاة) وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولا كل
94

ضرب في الأرض وقول النبي صلى الله عليه وسلم (يمسح المسافر ثلاثة أيام) جاء لبيان أكثر مدة المسح
فلا يصح الاحتجاج به هاهنا وعلى أنه يمكنه قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام وقد سماه النبي صلى
الله عليه وسلم سفرا فقال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم الا مع ذي محرم
(والثاني) أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير
يقاس عليه والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر الا أن ينعقد الاجماع على خلافه
(فصل) وإذا كان في سفينة في البحر فهو كالبر ان كانت مسافة سفره تبلغ مسافة القصر أبيح
له والا فلا سواء قطعها في زمن طويل أو قصير اعتبارا بالمسافة وان شك هل السفر مبيح للقصر أو لا
لم يبح له لأن الأصل وجوب الاتمام فلا يزول بالشك وان قصر لم تصح صلاته وان تبين له بعدها
أنه طويل لأنه صلى شاكا في صحة صلاته فأشبه ما لو صلى شاكا في دخول الوقت
(فصل) والاعتبار بالنية لا بالفعل فيعتبر أن ينوي مسافة تبيح القصر فلو خرج يقصد سفرا بعيدا فقصر
الصلاة ثم بدا له فرجع كان ما صلاه ماضيا صحيحا ولا يقصر في رجوعه الا أن تكون مسافة الرجوع مبيحة بنفسها
نص أحمد على هذا ولو خرج طالبا لعبد آبق لا يعلم أين هو أو منتجعا غيثا أو كلا متى وجده أقام أو رجع أو
سائحا في الأرض لا يقصد مكانا لم يبح له القصر وان سار أياما وقال ابن عقيل يباح له القصر إذا بلغ
مسافة مبيحة له لأنه مسافر سفرا طويلا.
ولنا انه لم يقصد مسافة القصر فلم يبح له كابتداء سفره ولأنه لم يبح القصر في ابتدائه فلم يبحه
في أثنائه إذا لم يغير نيته كالسفر القصير وسفر المعصية ومتى رجع هذا يقصد بلده أو نوى مسافة
95

القصر فله القصر لوجود نيته المبيحة ولو قصد بلدا بعيدا أو في عزمه انه متى وجد طلبته دونه رجع
أو أقام لم يبح له القصر لأنه لم يجزم بسفر طويل وإن كان لا يرجع ولا يقيم بوجوده فله القصر
(فصل) ومتى كان لمقصده طريقان يباح القصر في أحدهما دون الآخر فسلك البعيد ليقصر الصلاة فيه
أبيح له لأنه مسافر سفرا بعيد أم مباحا فأبيح له القصر كما لو لم يجد سواه أو كان الآخر مخوفا أو شاقا.
(فصل) وان خرج الانسان إلى سفر مكرها كالأسير فله القصر إذا كان سفره بعيدا نص
عليه أحمد وقال الشافعي لا يقصر لأنه غيرنا وللسفر ولا جازم به فإن نيته أنه متى أفلت رجع
ولنا أنه مسافر سفرا بعيدا غير محرم فأبيح له القصر كالمرأة مع زوجها والعبد مع سيده إذا كان عزمهما أنه لو
مات أو زال ملكهما رجع وقياسهم منتقض بهذا إذا ثبت هذا فإنه يتم إذا صار في حصونهم، نص عليه أيضا
لأنه قد انقضى سفره ويحتمل أنه لا يلزمه الاتمام لأن في عزمه أنه متى أفلت رجع فأشبه المحبوس ظلما.
(مسألة) قال (إذا جاوز بيوت قريته)
وجملته أنه ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته ويجعلها وراء ظهره وبهذا قال
مالك والشافعي والأوزاعي واسحق وأبو ثور، وحكي ذلك عن جماعة من التابعين، وحكي عن عطاء
96

وسليمان بن موسى أنهما أباحا القصر في البلد لمن نوى السفر، وعن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا
فصلى بهم في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله وروى عبيد بن
جبير قال كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غذاؤه فلم
يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، ثم قال اقترب قلت الست ترى البيوت قال أبو بصرة أترغب عن
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكل رواه أبو داود
ولنا قول الله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) ولا
يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدئ القصر إذا
خرج من المدينة، قال أنس صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وبذي الحليفة
ركعتين متفق عليه، فاما أبو بصرة فإنه لم يأكل حتى دفع وقوله لم يجاوز البيوت معناه والله أعلم لم
يبعد منها بدليل قول عبيد له: ألست ترى البيوت؟ إذا ثبت هذا فإنه يجوز له القصر وإن كان قريبا من
البيوت، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة
إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها. وروى عن مجاهد أنه قال إذا خرجت مسافرا فلا تقصر
الصلاة يومك ذلك إلى الليل، وإذا رجعت ليلا فلا تقصر ليلتك حتى تصبح
ولنا قول الله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) وأن
97

النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها، وحديث أبي
بصرة، وقال عبد الرحمن الهمداني خرجنا مع علي رضي الله عنه مخرجه إلى صفين فرأيته صلى ركعتين
بين الجسر وقنطرة الكوفة، وقال البخاري خرج علي فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه
الكوفة قال لا حتى ندخلها ولأنه مسافر فأبيح له القصر كما لو بعد
(فصل) وإن خرج من البلد وصار بين حيطان بساتينه فله القصر لأنه قد ترك البيوت وراء
ظهره وإن كان حول البلد خراب قد تهدم وصار فضاء أبيح له القصر فيه لذلك وإن كانت حيطانه
قائمة فكذلك قاله الآمدي، وقال القاضي لا يباح وهو مذهب الشافعي لأن السكنى فيه ممكنة أشبه العامر
ولنا أنها غير معدة للسكنى أشبهت حيطان البساتين، وإن كان في وسط البلد نهر فاجتازه فليس
له القصر لأنه لم يخرج من البلد ولم يفارق البيان فأشبه الرحبة والميدان في وسط البلد وإن كان للبلد
محال كل محلة منفردة عن الأخرى كبغداد فمتى خرج من محلته أبيح له القصر إذا فارق محلته وإن كان
بعضها متصلا ببعض لم يقصر حتى يفارق جميعها ولو كانت قريتان متدانيتين فاتصل بناء إحداهما
بالأخرى فهما كالواحدة وان لم يتصل فلكل قرية حكم نفسها
(فصل) وإذا كان البدوي في حلة لم يقصر حتى يفارق حلته وان كانت حللا فلكل حلة حكم
نفسها كالقرى وإن كان بيته مفردا فحتى يفارق منزله ورحله ويجعله وراء ظهره كالحضري
98

(مسألة) قال (إذا كان سفره واجبا أو مباحا)
وجملته أن الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثا والصلاة على الراحلة
تطوعا يباح في السفر الواجب والمندوب والمباح كسفر التجارة ونحوه وهذا قول أكثر أهل العلم
وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الأوزاعي والشافعي واسحق وأهل المدينة
وأصحاب الرأي وعن ابن مسعود لا يقصر إلا في حج أو جهاد لأن الواجب لا يترك الا لواجب وعن
عطاء كقول الجماعة وعنه لا يقصر إلا في سبيل من سبيل الخير لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر
في سفر واجب أو مندوب.
ولنا قول الله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) وقوله
تعالى (وان كنتم مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر) وقالت عائشة إن الصلاة أول ما فرضت
99

ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر متفق عليه وعن ابن عباس (رض) قال فرض
الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، رواه مسلم وقال
عمر رضي الله عنه صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد
صلى الله عليه وسلم، وقد خاب من افترى، رواه سعيد وابن ماجة.
وروى عن إبراهيم أنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله اني أريد البحرين
في تجارة فكيف تأمرني في الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صل ركعتين رواه سعيد عن
أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم، وقال صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
كنا مسافرين سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، وهذه النصوص تدل على إباحة الرخص
في كل سفر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يترخص في عوده من سفره وهو مباح
100

(فصل) ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية كالإباق وقطع الطريق والتجارة في الخمر
والمحرمات نص عليه أحمد وهو مفهوم كلام الخرقي لتخصيصه الواجب والمباح، وهذا قول الشافعي وقال
الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة له ذلك احتجاجا بما ذكرنا من النصوص ولأنه مسافر فأبيح له الترخص كالمطيع
ولنا قول الله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) أباح الاكل لمن لم يكن عاديا ولا باغيا
فلا يباح لباغ ولا عاد قال ابن عباس غير باغ على المسلمين مفارق لجماعتهم يخيف السبيل ولا عاد عليهم
ولان الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة فلو شرع هاهنا لشرع
إعانة على المحرم تحصيلا للمفسدة والشرع منزه عن هذا والنصوص وردت في حق الصحابة وكانت
أسفارهم مباحة فلا يثبت الحكم في من سفره مخالف لسفرهم ويتعين حمله على ذلك جمعا بين النصين
وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما
101

(فصل) فإن عدم العاصي بسفره الماء فعليه أن يتيمم لأن الصلاة واجبة لا تسقط والطهارة لها
واجبة أيضا فيكون ذلك عزيمة وهل تلزمه الإعادة على وجهين أحدهما لا تلزمه، لأن التيمم عزيمة
بدليل وجوبه والرخص لا تجب والثاني عليه الإعادة لأنه حكم يتعلق بالسفر أشبه بقية الرخص
والأول أولى لأنه أتى بما أمر به من التيمم والصلاة فلم يلزمه اعادتها ويفارق بقية الرخص فإنه يمنع
منها وهذا يجب فعله ولان حكم بقية الرخص المنع من فعلها ولا يمكن تعدية هذا الحكم إلى التيمم
ولا إلى الصلاة لوجوب فعلهما ووجوب الإعادة ليس بحكم في بقية الرخص فكيف يمكن أخذه منها أو
تعديته عنها ويباح له المسح يوما وليلة لأن ذلك لا يختص السفر فأشبه الاستجمار والتيمم وغيرهما
من رخص الحضر وقيل لا يجوز لأنه رخصة فلم تبح له كرخص السفر والأول أولى وهذا ينتقض
بسائر رخص الحضر.
102

(فصل) إذا كان السفر مباحا فغير نيته إلى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه ولو سافر
لمعصية فغير نيته إلى مباح صار سفرا مباحا وأبيح له ما يباح في السفر المباح وتعتبر مسافة السفر من
حين غير النية ولو كان سفره مباحا فنوى المعصية بسفره ثم رجع إلى نية المباح اعتبرت مسافة القصر
من حين رجوعه إلى نية المباح لأن حكم سفره انقطع بنية المعصية فأشبه ما لو نوى الإقامة ثم عاد فنوى
السفر، فأما إن كان السفر مباحا لكنه يعصي فيه لم يمنع ذلك الترخص لأن السبب هو السفر المباح
وقد وجد فثبت حكمه ولم يمنعه وجود معصية، كما أن معصيته في الحضر لا تمنع الترخص فيه
(فصل) وفي سفر التنزه والتفرج روايتان إحداهما تبيح الترخص وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه
سفر مباح فدخل في عموم النصوص المذكورة وقياسا على سفر التجارة، والثانية لا يترخص فيه قال
أحمد إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا
تجارة فإنه لا يقصر الصلاة لأنه إنما شرع إعانة على تحصيل المصلحة ولا مصلحة في هذا والأول أولى
(فصل) فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد، فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن
103

السفر إليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) متفق عليه
والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وكان
يزور القبور وقال (زوروها تذكركم الآخرة) وأما قوله عليه السلام (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة
مساجد) فيحمل على نفي التفضيل لا على التحريم وليست الفضيلة شرطا في إباحة القصر فلا يضر انتفاؤها
(فصل) والملاح الذي يسير في سفينة وليس له بيت سرى سفينته فيها أهله وتنوره وحاجته
لا يباح له الترخص، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الملاح أيقصر ويفطر في السفينة قال
أما إذا كانت السفينة بيته فإنه يتم ويصوم، قيل له وكيف تكون بيته قال لا يكون له بيت غيرها معه فيها أهله
وهو فيها مقيم وهذا قول عطاء وقال الشافعي يقصر ويفطر لعموم النصوص وقول النبي صلى الله عليه وسلم
(ان الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة) رواه أبو داود ولان كون أهله معه لا يمنع الترخص كالجمال
ولنا أنه غير ظاعن عن منزله فلم يبح له الترخص كالمقيم في المدن، فاما النصوص فإن المراد بها
الظاعن عن منزله وليس هذا كذلك، وأما الجمال والمكاري فلهم الترخص وان سافروا بأهلهم
قال أبو داود سمعت أحمد يقول في المكاري الذي هو دهره في السفر لابد من أن يقدم فيقيم اليوم
104

قيل فيقيم اليوم واليومين والثلاثة في تهيئه للسفر قال هذا يقصر وذكر القاضي وأبو الخطاب أنه ليس
له القصر كالملاح وهذا غير صحيح لأنه مسافر مشفوق عليه فكان له القصر كغيره ولا يصح قياسه
على الملاح فإن الملاح في منزله سفرا وحضرا ومعه مصالحه وتنوره وأهله وهذا لا يوجد في غيره وان
سافر هذا بأهله كان أشق عليه وأبلغ في استحقاق الترخص وقد ذكرنا نص أحمد في الفرق
بينهما والنصوص متناولة لهذا بعمومها وليس هو في معنى المخصوص فوجب القول بثبوت حكم
النص فيه والله أعلم
(مسألة) قال (ومن لم ينو القصر في وقت دخوله إلى الصلاة لم يقصر)
وجملته أن نية القصر شرط في جوازه ويعتبر وجودها عند أول الصلاة كنية الصلاة وهذا قول
الخرقي واختاره القاضي وقال أبو بكر لا تشترط نيته لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد
الدخول فيها كالصوم، ولان القصر هو الأصل بدليل خبر عائشة وعمر وابن عباس فلا يحتاج إلى
نية كالاتمام في الحضر ووجه الأول أن الاتمام هو الأصل على ما سنذكره في مسألة (وللمسافر أن يقصر
وله أن يتم) واطلاق النية ينصرف إلى الأصل ولا ينصرف عنه إلا بتعيين ما يصرفه إليه كما لو نوى الصلاة
مطلقا ولم ينو إماما ولا مأموما فإنه ينصرف إلى الانفراد إذ هو الأصل، والتفريع يقع على هذا
القول فلو شك في أثناء صلاته هل نوى القصر في ابتدائها أو لا لزمه اتمامها احتياطا لأن الأصل عدمها
فإن ذكر بعد ذلك أنه كان قد نوى القصر لم يجز له القصر لأنه قد لزمه الاتمام فلم يزل ولو نوى الاتمام
105

أو ائتم بمقيم ففسدت الصلاة وأراد اعادتها لزمه الاتمام أيضا لأنها وجبت عليه تامة بتلبسه بها خلف
المقيم ونية الاتمام وهذا قول الشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة إذا فسدت صلاة الإمام عاد المسافر إلى حاله
ولنا أنها وجبت بالشروع فيها تامة فلم يجز له قصرها كما لو لم تفسد
(فصل) ومن نوى القصر ثم نوى الاتمام أو نوى ما يلزمه به الاتمام من الإقامة أو قلب نيته إلى
سفر معصية أو نوى الرجوع عن سفره ومسافة رجوعه لا يباح فيه القصر ونحو هذا لزمه الاتمام ولزم
من خلفه متابعته وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يحوز له الاتمام لأنه نوى عددا فإذا زاد عليه
حصلت الزيادة بغير نية
ولنا أن نية صلاة الوقت قد وجدت وهي أربع وإنما أبيح ترك ركعتين رخصة فإذا أسقط نية
الترخص صحت الصلاة بنيتهما ولزمه الاتمام ولان الاتمام الأصل وإنما أبيح تركه بشرط فإذا زال
الشرط عاد الأصل إلى حاله
(فصل) وإذا قصرا لمسافر معتقدا لتحريم القصر لم تصح صلاته لأنه فعل ما يعتقد تحريمه فلم يقع
مجزئا كمن صلى يعتقد أنه محدث ولان نية التقرب بالصلاة شرط وهذا يعتقد أنه عاص فلم تحصل نية التقرب
(مسألة) قال (والصبح والمغرب لا يقصران وهذا لا حلاف فيه)
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح وان القصر إنما هو في
106

لرباعية ولان الصبح ركعتان فلو قصرت صارت ركعة وليس في الصلاة ركعة الا الوتر والمغرب
وتر النهار فلو قصر منها ركعة لم تبق وترا وان قصرت اثنتان صارت ركعا فيكون اجحافا بها واسقاطا
لأكثرها، وقد روى علي بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عامر عن عائشة أم المؤمنين قالت
افترض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين الا صلاة المغرب فلما هاجر
إلى المدينة فأقام بها واتخذها دار هجرة زاد إلى كل ركعتين ركعتين الا صلاة الغداة لطول القراءة
فيها والا صلاة الجمعة للخطبة والا صلاه المغرب فإنها وتر النهار فافترضها الله على عباده الا هذه الصلاة
فإذا سافر صلى الصلاة التي كان افترضها الله عليه.
(مسألة) قال (وللمسافر ان يتم ويقصر كماله ان يصوم ويفطر)
المشهور عن أحمد أن المسافر ان شاء صلى ركعتين وان شاء أتم وروي عنه أنه توقف وقال
أنا أحب العافية من هذه المسألة وممن روي عنه الاتمام في السفر عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن
مسعود وابن عمرو عائشة رضي الله عنهم وبه قال الأوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك وقال
حماد بن أبي سليمان ليس له الاتمام في السفر وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأوجب حماد الإعادة على
من أتم وقال أصحاب الرأي إن كان جلس بعد الركعتين قدر التشهد فصلاته صحيحة والا لم تصح
وقال عمر بن عبد العزيز الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرهما، وروي عن ابن عباس أنه
107

قال من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين واحتجوا بأن صلاة السفر ركعتان
بدليل قول عمر وعائشة وابن عباس على ما ذكرناه، وروي عن صفوان بن محرز انه سأل ابن عمر
عن الصلاة في السفر فقال ركعتان فمن خالف السنة كفر ولان الركعتين الأخريين يجوز تركهما
إلى غير بدل فلم تجز زيادتهما على الركعتين المفروضتين كما لو زادهما على صلاة الفجر
ولنا قول الله تعالى (ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)
وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص وقال يعلى ن أمية قلت لعمر
ابن الخطاب (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فقال
عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا
صدقته) رواه مسلم وهذا يدل على أنه رخصة وليس بعزيمة وأنها مقصورة. وروى الأسود عن
عائشة أنها قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر
وأتممت فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال (أحسنت) رواه
أبو داود الطيالسي في مسنده وهذا صريح في الحكم ولأنه لو ائتم بمقيم صلى أربعا وصحت الصلاة
والصلاة لا تزيد بالائتمام قال ابن عبد البر وفي اجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في
صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة أن يلزمه أربع دليل واضح على أن القصر رخصة إذ لو كان فرضه
108

ركعتين لم يلزمه أربع بحال، وروى باسناده عن عطاء عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يتم في السفر ويقصر وعن أنس قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسافر فيتم بعضنا
ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد، ولان ذلك إجماع الصحابة رحمة
الله عليهم بدليل أن فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس وكانت عائشة
تتم الصلاة، رواه مسلم والبخاري وأتمها عثمان وابن مسعود وسعد قال عطاء كانت عائشة وسعد يوفيان
الصلاة في السفر ويصومان، وروى الأثرم بأسناده عن سعد أنه أقام بمعان شهرين فكان يصلي
ركعتين ويصلي أربعا، وعن المسور بن محرمة قال أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها
سعد ويتمها وسأل ابن عباس رجل فقال، كنت أتم الصلاة في السفر فلم يأمره بالإعادة، فأما قول
عائشة فرضت الصلاة ركعتين فإنما أرادت أن ابتداء فرضها كان ركعتين ثم أتمت بعد الهجرة فصارت
أربعا وقد صرحت بذلك حين شرحت ولذلك كانت تتم الصلاة ولو اعتقدت ما أراد هؤلاء لم تتم
وقول ابن عباس مثل قولها ولا يبعد أن يكون أخذه منها فإنه لم يكن في زمن فرض الصلاة في سن من
يعقل الأحكام ويعرف حقائقها ولعله لم يكن موجودا أو كان فرضها في السنة التي ولد فيها فإنها فرضت
بمكة ليلة الاسراء قبل الهجرة بثلاث سنين وكان ابن عباس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم ابن
ثلاث عشرة سنة، وفي حديثه ما اتفق على تركه وهو قوله والخوف ركعة والظاهر أنه أراد ما أرادت
109

عائشة من ابتداء الفرض فلذلك لم يأمر من أتم بالإعادة وقول عمر تمام غير قصر أراد بها تمام في فضلها
غير ناقصة الفضلية ولم يرد أنها غير مقصورة الركعات لأنه خلاف ما دلت عليه الآية والاجماع إذ
الخلاف إنما هو في القصر والاتمام وقد ثبت بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يعلي بن
أمية أنها مقصورة ويشبه هذا ما رواه مجاهد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني وصاحب لي كنا
في سفر وكان صاحبي يقصر وأنا أتم فقال له ابن عباس أنت كنت تقصر وصاحبك يتم رواه الأثرم
أراد أن فعله أفضل من فعلك ثم لو ثبت أن أصل الفرض ركعتان لم يمتنع جواز الزيادة عليها كما لو ائتم
بمقيم ويخالف زيادة ركعتين على صلاة الفجر فإنه لا يجوز زيادتهما بحال
(مسألة) قال والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبد الله رحمه الله)
أما القصر فهو أفضل من الاتمام في قول جمهور العلماء وقد ذكره جماعة منهم الاتمام قال أحمد
ما يعجبني وقال ابن عباس للذي قال له كنت أتم الصلاة وصاحبي يقصر أنت الذي كنت تقصر
وصاحبك يتم وشدد ابن عمر على من أتم الصلاة، فروي أن رجلا سأله عن صلاة السفر فقال ركعتان
فمن خالف السنة كفر وقال بشر بن حرب سألت ابن عمر كيف صلاة السفر يا أبا عبد الرحمن قال
اما أنتم لتتبعون سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم أخبرتكم وأما لا تتبعون سنة نبيكم فلا أخبركم؟ قلنا فخير ما اتبع
سنة نبينا يا أبا عبد الرحمن قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة لم يزد على
110

ركعتين حتى يرجع إليها، رواه سعيد قال ثنا. حماد بن زيد عن بشر ولما بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى
أربعا استرجع وقال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر
ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ووددت أن حظي من أربع ركعتان متقابلتان وهذا قول مالك ولا أعلم
فيه مخالفا من الأئمة الا الشافعي في أحد قوليه قال الاتمام أفضل لأنه أكثر عملا وعددا وهو الأصل
فكان أفضل كغسل الرجلين.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على القصر بدليل ما ذكرنا من الاخبار وقال ابن
عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت أبا
بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى متفق
عليه، وعن ابن مسعود وعمر ان بن حصين مثل ذلك وروى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال (خياركم من قصر في السفر وأفطر رواه الأثرم مع ما ذكرنا من أقوال الصحابة فيما مضى
ولأنه إذا قصر أدى الفرض بالاجماع وإذا أتم اختلف فيه، وأما الغسل فلا نسلم له أنه أفضل
من المسح والفطر نذكره في بابه
(فصل) واختلفت الرواية في الجمع فروي أنه أفضل من التفريق لأنه أكثر تخفيفا وسهوله فكان
أفضل كالقصر وعنه التفريق أفضل لأنه خروج من الخلاف فكان أفضل كالقصر ولأنه لم ينقل
عن النبي صلى الله عليه وسلم المداومة عليه ولو كان أفضل لأدامه كالقصر
111

(مسألة) قال (وإذا دخل وقت الظهر على مسافر وهو يريد أن يرتحل صلاها وارتحل
فإذا دخل وقت العصر صلاها وكذلك المغرب والعشاء الآخرة وأن كان سائرا فأحب أن
يؤخر الأولى إلى وقت الثانية فجائز)
جملة ذلك أن الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم وممن
روي عنه ذلك سعيد بن زيد وسعد وأسامة ومعاذ بن جبل وأبو موسى وابن عباس وابن عمر وبه قال
طاوس ومجاهد وعكرمة ومالك والثوري والشافعي واسحق وأبو ثور وابن المنذر.
وروي عن سليمان بن أخي زريق بن حكيم قال، قال مر بنا نائلة ربيعة وأبو الزناد ومحمد بن
المنكدر وصفوان بن سليم وأشياخ من أهل المدينة فاتيناهم في منزلهم وقد أخذوا في الرحيل فصلوا
الظهر والعصر جميعا حين زالت الشمس ثم أتينا المسجد فإذا زريق بن حكيم يصلي للناس الظهر وقال
الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة وليلة مزدلفة بها وهذا رواية
ابن القاسم عن مالك واختياره واحتجوا بان المواقيت تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد
112

ولنا ما روي نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جدبه السير جمع بين المغرب والعشاء ويقول إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جدبه السير جمع بينهما وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما وان زاغت
الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب متفق عليهما، ولمسلم عن النبي صلى يا لله عليه وسلم إذا عجل
عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء
حتى يغيب الشفق وروى الجمع معاذ بن جبل وابن عباس وسنذكر أحاديثهما فيما بعد وقولهم لا نترك
الأخبار المتواترة قلنا لا نتركها وإنما نخصصها وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالاجماع وقد
جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بالاجماع فتخصيص السنة بالسنة أولى وهذا ظاهر جدا فإن قيل
معنى الجمع في الاخبار أن يصلي الأولى في آخر وقتها والأخرى في أول وقتها قلنا هذا فاسد لوجهين أحدهما أنه
قد جاء الخبر صريحا في أنه كان يجمعهما في وقت أحداهما على ما سنذكره ولقول أنس أخر الظهر إلى
وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق فيبطل
التأويل (الثاني أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الاتيان بكل
113

صلاة في وقتها لأن الاتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت
الأولى إلا قدر فعلها ومن تدبر هذا وجده كما وصفنا ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب
والعشاء والصبح ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك والعمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه
أولى من هذا التكليف الذي يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمله عليه إذا ثبت هذا
فمفهوم قول الخرقي أن الجمع إنما يجوز إذا كان سائرا في وقت الأولى فيؤخر إلى وقت الثانية ثم يجمع
بينهما، ورواه الأثرم عن أحمد، وروي نحو هذا القول عن سعد وابن عمر وعكرمة أخذ بالخبرين
اللذين ذكرناهما، وروى عن أحمد جواز تقديم الصلاة الثانية إلى الأولى وهذا هو الصحيح وعليه
أكثر الأصحاب قال القاضي الأول هو الفضيلة والاستحباب وان أحب أن يجمع بين الصلاتين في
وقت الأولى منهما جاز نازلا كان أو سائرا أو مقيما في بلد إقامة لا تمنع القصر وهذا قول عطاء وجمهور
علماء المدينة والشافعي واسحق وابن المنذر لما روى معاذ بن جبل قال خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غزوة تبوك فكان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما
جميعا وإذا ارتحل قبل زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وإذا ارتحل قبل المغرب أخر
114

المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب رواه أبو داود
والترمذي وقال هذا حديث حسن وروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر
مثل ذلك وقيل إنه متفق عليه وهذا صريح في محل النزاع وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير عن
أبي الطفيل أن معاذا أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأخر الصلاة يوما ثم خرج
فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا قال ابن عبد البر هذا حديث
صحيح ثابت الاسناد وقال أهل السير أن غزوة تبوك كانت في سنة تسع وفى هذا الحديث أوضح
الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال لا يجمع بين الصلاتين الا إذا جدبه السير لأنه كان يجمع
وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جميعا ثم ينصرف إلى خبائه وروي هذا
الحديث مسلم في صحيحه قال فكان يصلي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا والاخذ بهذا
الحديث متعين لثبوته وكونه صريحا في الحكم ولا معارض له ولان الجمع رخصة من رخص السفر فلم
يختص بحالة السير كالقصر والمسح ولكن الأفضل التأخير لأنه أخذ بالاحتياط وخروج من خلاف
القائلين بالجمع وعمل بالأحاديث كلها.
115

(فصل) ولا يجوز الجمع الا في سفر يبيح القصر وقال مالك والشافعي في أحد قوليه يجوز في
السفر القصر لأن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة وهو سفر قصير
ولنا أنه رخصة تثبت لدفع المشقة في السفر فاختصت بالطويل كالقصير والمسح ثلاثا ولأنه تأخير
للعبادة عن وقتها فأشبه الفطر ولان دليل الجمع فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل لا صيغة له وإنما هو
قضية في عين فلا يثبت حكمها الا في مثلها ولم ينقل أنه جمع الا في سفر طويل
(فصل) ويجوز الجمع لأجل المطر بين المغرب والعشاء ويروي ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن
عثمان في أهل المدينة وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي واسحق وروي عن
مروان وعمر بن عبد العزيز ولم يجوزه أصحاب الرأي
116

ولنا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء
رواه الأثرم وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال نافع إن عبد الله بن عمر كان
يجمع إذا جمع الامراء بين المغرب والعشاء وقال هشام بن عروة رأيت أبان بن عثمان يجمع بين
الصلاتين في الليلة المطيرة المغرب والعشاء فيصليهما معه عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن
وأبو بكر بن عبد الرحمن لا ينكرونه ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان اجماعا رواه الأثرم
(فصل) فاما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز قال الأثرم قيل لأبي عبد الله الجمع بين الظهر
والعصر في المطر قال لا ما سمعت وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد وقول مالك وقال أبو الحسن التميمي
فيه قولان أحدهما أنه لا بأس به وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لما روى يحيى بن واضح عن
موسى بن عقبه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر في
المطر ولأنه معنى أباح الجمع فاباحه بين الظهر والعصر كالسفر
ولنا أن مستند الجمع ما ذكرناه من قول أبي سلمة والاجماع ولم يرد إلا في المغرب والعشاء وحديثهم
غير صحيح فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن وقول أحمد ما سمعت يدل على أنه ليس بشئ ولا
117

يصح القياس على المغرب والعشاء لما فيهما من المشقة لأجل الظلمة والمضرة ولا القياس على السفر لأن
مشقته لأجل السير وفوات الرفقة وهو غير موجود هاهنا
(فصل) والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه وأما الطل والمطر
الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح والثلج كالمطر في ذلك لأنه في معناه وكذلك البرد
(فصل) فاما الوحل بمجرده فقال القاضي قال أصحابنا هو عذر لأن المشقة تلحق بذلك في
النعال والثياب كما تلحق بالمطر وهو قول مالك وذكر أبو الخطاب فيه وجها ثانيا أنه لا يبيح وهو مذهب
الشافعي وأبي ثور لأن مشقته دون مشقة المطر فإن المطر يبل النعال والثياب والوحل لا يبلها فلم يصح
قياسه عليه، والأول أصح لأن الوحل يلوث الثياب والنعال ويتعرض الانسان للزلق فيتأذى نفسه
وثيابه وذلك أعظم من البلل وقد ساوى المطر في العذر في ترك الجمعة والجماعة فدل على تساويهما
في المشقة المرعية في الحكم.
(فصل) فاما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ففيها وجهان أحدهما يبيح الجمع قال الآمدي
وهو أصح وهو قول عمر بن عبد العزيز لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة بدليل ما روى محمد بن
الصباح حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه
في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح صلوا في رحالكم رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح
118

والثاني لا يبيحه لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر فلا يصح قياسه عليه ولان مشقتها من غير جنس
مشقة المطر ولا ضابط لذلك يجتمعان فيه فلم يصح إلحاقه به
(فصل) هل يجوز الجمع لمنفرد أو من كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع وصول المطر إليه أو
من كان مقامه في المسجد على وجهين أحدهما الجواز لأن العذر إذا وجد استوى فيه حال وجود
المشقة وعدمها كالسفر، ولان الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة
كالسلم وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق من لا يحتاج إليهما ولأنه قد روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شئ والثاني المنع لأن الجمع لأجل المشقة فيختص
بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه كالرخصة في التخلف عن الجمعة والجماعة يختص بمن تلحقه المشقة
دون من لا تلحقه كمن في الجامع والقريب منه
(فصل) ويجوز الجمع لأجل المرض وهو قول عطاء ومالك وقال أصحاب الرأي والشافعي لا يجوز
فإن أخبار التوقيت ثابتة فلا تترك بأمر محتمل
119

ولنا ما روى ابن عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب
والعشاء من غير خوف ولا مطر وفى رواية من غير خوف ولا سفر، رواهما مسلم وقد أجمعتا على أن
الجمع لا يجوز لغير عذر ثبت أنه كان لمرض، وقد روى عن أبي عبد الله أنه قال في حديث ابن عباس
هذا عندي رخصة للمريض والمرضع وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة
بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر والجمع بينهما بغسل واحد فأباح لهما
الجمع لأجل الاستحاضة وأخبار المواقيت مخصوصة بالصور التي أجمعنا على جواز الجمع فيها فيخص
منها محل النزاع بما ذكرنا.
(فصل) والمرض المبيح للجمع هو ما يلحقه بتأدية كل صلاة في وقتها مشقة وضعف قال الأثرم
قيل لأبي عبد الله المريض يجمع بين الصلاتين فقال إني لأرجو له ذلك إذا ضعف وكان لا يقدر الا
على ذلك وكذلك يجوز الجمع للمستحاضة ولمن به سلس البول ومن في معناهما لما روينا من الحديث والله أعلم
(فصل) والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر، فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى
لما ذكرنا في المسافر، فاما الجمع للمطر فإنما يجمع في وقت الأولى لأن السلف إنما كانوا يجمعون في
وقت الأولى ولان تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى المشقة والخروج في الظلمة أو طول
120

الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء ولان العادة اجتماع الناس للمغرب فإذا حبسهم في المسجد
ليجمع بين الصلاتين كان أشق من أن يصلي كل صلاة في وقتها وربما يزول العذر قبل خروج وقت
الأولى فيبطل الجمع ويمتنع وان اختاروا تأخير الجمع جاز والمستحب أن يؤخر الأولى عن أول وقتها
شيئا قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن الجمع بين الصلاتين في المطر قال نعم يجمع بينهما إذا اختلط
الظلام قبل أن يغيب الشفق كذا صنع ابن عمر قال الأثرم وحدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع
قال كان أمراؤنا إذا كانت الليلة المطيرة أبطؤا بالمغرب وعجلوا العشاء قبل أن يغيب الشفق فكان
ابن عمر يصلي معهم ولا يرى بذلك بأسا قال عبيد الله ورأيت القاسم وسالما يصليان معهم في مثل تلك
الليلة قيل لأبي عبد الله فكان سنة الجمع بين الصلاتين في المطر عندك أن يجمع قبل أن يغيب الشفق
وفي السفر يؤخر حتى يغيب الشفق قال نعم.
(فصل) ولا يجوز الجمع لغير من ذكرنا وقال ابن شبرمة يجوز إذا كانت حاجة أو شئ ما لم
يتخذه عادة لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء
من غير خوف ولا مطر فقيل لابن عباس لم فعل ذلك قال أراد أن لا يخرج أمته
ولنا عموم أخبار التوقيت وحديث ابن عباس حملناه على حالة المرض ويجوز أن يتناول من عليه
مشقة كالمرضع والشيخ الضعيف وأشباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع ويحتمل أنه صلى الأولى في
آخر وقتها والثانية في أول وقتها فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس
قال عمرو قلت لجابر أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال وأنا أظن ذلك.
(فصل) قال ومن شرط جواز الجمع نية الجمع في أحد الوجهين والآخر لا يشترط ذلك وهو
قول أبي بكر والتفريع على اشتراطه وموضع النية يختلف باختلاف الجمع فإن جمع في وقت الأولى
121

فموضعه عند الاحرام بالأولى في أحد الوجهين لأنها نية يفتقر إليها فاعتبرت عند الاحرام كنية القصر
والثاني موضعها من أول الصلاة الأولى إلى سلامها أي ذلك نوى فيه أجزأه لأن موضع الجمع حين
الفراغ من آخر الأولى إلى الشروع في الثانية فإذا لم تتأخر النية عنه أجزأه ذلك وأن جمع في وقت
الثانية فموضع النية في وقت الأولى من أوله إلى أن يبقى منه قدر ما يصليها لأنه متى أخرها عن ذلك
بغير نية صارت قضاء لا جمعا ويحتمل أن يكون وقت النية إلى أن يبقى منه قدر ما يدركها به وهو
ركعة أو تكبيرة الاحرام على ما قدمنا والذي ذكره أصحابنا أولى فإن تأخيرها من القدر الذي
يضيق عن فعلها حرام.
(فصل) فإن جمع في وقت الأولى اعتبرت المواصلة بينهما وهو أن لا يفرق بينهما إلا تفريقا
يسيرا فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع لأن معنى الجمع المتابعة أو المقاربة ولم تكن المتابعة فلم يبق
الا المقاربة فإن فرق بينهما تفريقا كثيرا بطل الجمع سواء فرق بينهما لنوم أو سهو أو شغل أو قصد
أو غير ذلك لأن الشرط لا يثبت المشروط بدونه وإن كان يسيرا لم يمنع لأنه لا يمكن التحرز منه
والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة لا حد له سوى ذلك وقدره بعض أصحابنا بقدر الإقامة
والوضوء والصحيح أنه لا حد له لأن ما لم يرد الشرع بتقديره لا سبيل إلى تقديره والمرجع فيه إلى العرف
كالاحراز والقبض ومتى احتاج إلى الوضوء والتيمم فعله إذا لم يطل الفصل وإن تكلم بكلام يسير
لم يبطل الجمع وإن صلى بينهما السنة بطل الجمع لأنه فرق بينهما بصلاة فبطل الجمع كما لو صلى بينهما
122

غيرها وعنه لا يبطل لأنه تفريق يسير أشبه ما لو توضأ وإن جمع في وقت الثانية جاز التفريق لأنه متى
صلى الأولى فالثانية في وقتها لا تخرج بتأخيرها عن كونها مؤداة وفيه وجه آخر أن المتابعة مشترطة
لأن الجمع حقيقة ضم الشئ ولا يحصل مع التفريق والأول أصح لأن الأولى بعد وقوعها
صحيحة لا تبطل بشئ يوجد بعدها والثانية لا تقع إلا في وقتها.
(فصل) ومتى جمع في وقت الأولى اعتبر وجود العذر المبيح حال افتتاح الأولى والفراغ منها
وافتتاح الثانية فمتى زال العذر في أحد هذه الثلاثة لم يبح الجمع وإن زال المطر في أثناء الأولى ثم عاد
قبل الفراغ منها أو انقطع بعد الاحرام بالثانية جاز الجمع ولم يؤثر انقطاعه لأن العذر وجد في وقت
النية وهو عند الاحرام بالأولى وفي وقت الجمع وهو آخر الأولى وأول الثانية فلم يضر عدمه في غير
ذلك، فأما المسافر إذا نوى الإقامة في أثناء الصلاة الأولى انقطع الجمع والقصر ولزمه الاتمام ولو عاد
فنوى السفر لم يبح له الترخص حتى يفارق البلد الذي هو فيه وان نوى الإقامة بعد الاحرام بالثانية
أو دخلت به السفينة بلده في أثنائها احتمل أن يتمها ويصح قياسا على انقطاع المطر قال بعض أصحاب
الشافعي هذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي ويحتمل أن ينقلب نفلا ويبطل الجمع لأنه أحد رخص
السفر فبطل بذلك كالقصر والمسح ولأنه زال شرطها في أثنائها أشبه بسائر شروطها ويفارق انقطاع
المطر من وجهين أحدهما أنه لا يتحقق انقطاعه لاحتمال عوده في أثناء الصلاة، والثاني أن يخلفه عذر
مبيح وهو الوحل بخلاف مسئلتنا وكذلك الحكم في المريض يبرأ ويزول عذره في أثناء الصلاة
123

الثانية، فأما ان جمع بينهما في وقت الثانية اعتبر بقاء العذر إلى حين دخول وقتها فإن زال في وقت
الأولى كالمريض يبرأ والمسافر يقدم والمطر ينقطع لم يبح الجمع لزوال سببه وان استمر إلى حين دخول
وقت الثانية جمع وان زال العذر لأنهما صارتا واجبتين في ذمته ولا بد له من فعلهما
(فصل) وان أتم الصلاتين في وقت الأولى ثم زال العذر بعد فراغه منهما قبل دخول وقت
الثانية أجزأته ولم تلزمه الثانية في وقتها لأن الصلاة وقعت صحيحة مجزية عن ما في ذمته وبرئت ذمته
منها فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك ولأنه أدى فرضه حال العذر فلم يبطل بزواله بعد ذلك كالمتيمم إذا
وجد الماء بعد فراغه من الصلاة.
124

(فصل) وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة الثانية منهما ويوتر قبل دخول وقت الثانية
لأن سنتها تابعة لها فيتبعها في فعلها ووقتها والوتر وقته ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح وقد
صلى العشاء فدخل وقته.
(فصل) وإذا صلى إحدى صلاتي الجمع مع إمام وصلى الثانية مع إمام آخر وصلى معه مأموم في
إحدى الصلاتين وصلى معه في الثانية مأموم ثان صح وقال ابن عقيل لا يصح لأن كل واحد من
الإمام والمأموم أحد من يتم به الجمع فلم يجز اختلافه وإذا اشترط دوامه كالعذر اشتراط دوامه في الصلاتين
ولنا أن لكل صلاة حكم نفسها وهي منفردة بنيتها فلم يشترط اتحاد الإمام ولا المأموم كغير
المجموعتين وقوله أن الإمام والمأموم أحد من يتم به الجمع لا يصح فإنه يجوز للمريض والمسافر الجمع
منفردا وفي المطر في أحد الوجهين وان قلنا أن الجمع في المطر لا يصح الا في الجماعة فالذي يتم به
الجمع الجماعة لا عين الإمام والمأموم ولم تختل الجماعة وعلى ما ذكرناه لو ائتم المأموم بإمام لا ينوي
الجمع فنواه المأموم فلما سلم الإمام صلى المأموم الثانية جاز لأننا أبحنا له مفارقة إمامه في الصلاة
الواحدة لعذر ففي الصلاتين أولى ولان نيتهما لم تختلف في الصلاة الأولى وإنما نوى أن يفعل فعلا
في غيرها فأشبه ما لو نوى المسافر في الصلاة الأولى اتمام الثانية وهكذا لو صلى المسافر بمقيمين فنوى
الجمع فلما صلى بهم الأولى قام فصلى الثانية جاز على هذا وكذلك لو صلى أحد صلاتي الجمع منفردا
125

ثم حضرت جماعة يصلون الثانية فأمهم فيها أو صلى معهم مأموما جاز وقول ابن عقيل يقتضي أن
لا يجوز شئ من ذلك
(مسألة) قال وإذا نسي صلاة حضر فذكرها في السفر أو صلاة سفر فذكرها
في الحضر صلى في الحالتين صلاة حضر
نص أحمد رحمه الله على هاتين المسئلتين في رواية أبي داود والأثرم قال في رواية الأثرم أما
المقيم إذا ذكرها في السفر فذاك بالاجماع يصلي أربعا وإذا نسيها في السفر فذكرها في الحضر صلى
أربعا بالاحتياط فإنما وجبت عليه الساعة فذهب أبو عبد الله إلى ظاهر الحديث فليصلها إذا ذكرها أما إذا
نسي صلاة الحضر فذكرها في السفر فعليه الاتمام اجماعا ذكره الإمام أحمد وابن المنذر لأن
الصلاة تعين عليه فعلها أربعا فلم يجز له النقصان من عددها كما لو سافر ولأنه إنما يقضي ما فاته وقد
فاته أربع واما أن نسي صلاة السفر فذكرها في الحضر فقال أحمد عليه الاتمام احتياطا وبه قال
الأوزاعي وداود والشافعي في أحد قوليه وقال مالك والثوري وأصحاب الرأي يصليها صلاة سفر
لأنه إنما يقضي ما فاته ولم يفته الا ركعتان
126

ولنا أن القصر رخصة من رخص السفر فيبطل بزواله كالمسح ثلاثا ولأنها وجبت عليه في الحضر
بدليل قوله عليه السلام فليصلها إذا ذكرها ولأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر فإذا وجد أحد طرفيها
في الحضر غلب فيها حكمه كما لو دخلت به السفينة البلد في أثناء الصلاة وكالمسح وقياسهم ينتقض بالجمعة
إذا فاتت وبالمتيمم إذا فاتته الصلاة فقضاها عند وجود الماء
(فصل) وان نسيها في سفر وذكرها فيه قضاها مقصورة لأنها وجبت في السفر وفعلت فيه
أشبه ما لو صلاها في وقتها وان ذكرها في سفر آخر فكذلك لما ذكرنا وسواء ذكرها في الحضر أو لم
يذكرها ويحتمل أنه ذكرها في الحضر لزمته تامة لأنه وجب عليه فعلها تامة بذكره إياها فبقيت في ذمته
والأول أولى لأن وجوبها وفعلها في السفر فكانت صلاة سفر كما لو لم يذكرها في الحضر وذكر بعض
أصحابنا أن من شرط القصر كون الصلاة مؤداة لأنها صلاة مقصورة فاشترطها الوقت كالجمعة. هذا
فاسد فإن هذا اشتراط بالرأي والتحكم لم يرد الشرع به والقياس على الجمعة غير صحيح فإن الجمعة
لا تقضي ويشترط لها الخطبتان والعدد والاستيطان فجاز اشتراط الوقت لها بخلاف صلاة السفر.
(فصل) وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة فقال ابن عقيل فيه روايتان إحداهما قصرها قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي
وأصحاب الرأي لأنه سافر قبل خروج وقتها أشبه ما لو سافر قبل وجوبها والثانية ليس له قصرها
127

لأنها وجبت عليه في الحضر فلزمه اتمامها كما لو سافر بعد خروج وقتها أو بعد احرامه بها وفارق
ما قبل الوقت لأن الصلاة لم تجب عليه
(مسألة) قال (وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر ائتم)
وجملة ذلك أن المسافر متى ائتم بمقيم لزمه الائتمام سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة أو أقل
قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن المسافر يدخل في تشهد المقيم قال يصلي أربعا وروي ذلك عن ابن
عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وبه قال الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
وقال اسحق للمسافر القصر لأنها صلاة يجوز فعلها ركعتين فلم تزد بالائتمام كالفجر وقال طاوس
والشعبي وتميم ابن حذلم في المسافر يدرك من صلاة المقيم ركعتين يجزيان وقال الحسن والنخعي
والزهري وقتادة ومالك ان أدرك ركعة أتم وان أدرك دونها قصر لقول النبي صلى الله عليه وسلم
من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ولان من أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة ومن أدرك
أقل من ذلك لا يلزمه فرضها
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قيل له ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعا
إذا أئتم بمقيم فقال تلك السنة رواه أحمد في المسند وقوله السنة ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولأنه فعل من سمينا من الصحابة ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا قال نافع كان ابن عمر إذا
128

صلى مع الإمام صلاها أربعا وإذا صلى وحده صلاها ركعتين رواه مسلم ولأن هذه صلاة مردودة من
أربع إلى ركعتين فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة وما ذكره اسحق لا يصح عندنا فإنه
لا تصح له صلاة الفجر خلف من يصلي الرباعية وادراك الجمعة يخالف ما نحن فيه فإنه لو أدرك ركعة
من الجمعة رجع إلى ركعتين وهذا بخلافه ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنما جعل الإمام ليؤتم
به فلا تختلفوا عليه) ومفارقة إمامه اختلاف عليه فلم يجز مع إمكان متابعته وإذا أحرم المسافرون خلف
مسافر فأحدث واستخلف مسافرا آخر فلهم القصر لأنهم لم يأتموا بمقيم وان استخلف مقيما لزمهم
الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم وللإمام الذي أحدث أن يصلي صلاة المسافر لأنه لم يأتم بمقيم ولو صلى
المسافرون خلف مقيم فأحدث واستخلف مسافرا أو مقيما لزمهم الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم فإن استخلف
مسافرا لم يكن معهم في الصلاة فله أن يصلي صلاة السفر لأنه لم يأتم بمقيم
(فصل) وإذا أحرم المسافر خلف مقيم أو من يغلب على ظنه أنه مقيم أو من يشك هل هو
مقيم أو مسافر لزم الاتمام وان قصر إمامه لأن الأصل وجوب الصلاة تامة فليس له نية قصرها مع
الشك في وجوب اتمامها ويلزمه اتمامها اعتبارا بالنية وهذا مذهب الشافعي وان غلب على ظنه أن
الإمام مسافر لرؤية حلية المسافرين عليه وآثار السفر فله ان ينوي القصر فإن قصر إمامه قصر معه
وان أتم لزمه متابعته وان نوى الاتمام لزمه الاتمام سواء قصر إمامه أو أتم اعتبارا بالنية وان نوى
129

القصر فأحدث إمامه قبل علمه بحاله فله القصر لأن الظاهر أن إمامه مسافر لوجود دليله وقد أبيحت
له نية القصر بناء على هذا الظاهر ويحتمل ان يلزمه الاتمام احتياطا (1)
(فصل) إذا صلى المسافر صلاة الخوف بمسافرين ففرقهم فرقتين فأحدث قبل مفارقة الطائفة الأولى واستخلف مقيما لزم الطائفتين الاتمام لوجود الائتمام بمقيم وإن كان ذلك بعد مفارقة الأولى
أتمت الثانية وحدها لاختصاصها بالائتمام بالمقيم وإن كان الإمام مقيما فاستخلف مسافرا ممن كان معه
في الصلاة فعلى الجميع الاتمام لأن المستخلف قد لزمه الاتمام باقتدائه بالمقيم فصار كالمقيم وان لم يكن
دخل معه في الصلاة وكان استخلافه قبل مفارقة الأولى فعليها الاتمام لائتمامها بمقيم ويقصر الإمام
والطائفة الثانية وان استخلف بعد دخول الثانية معه فعلى الجميع الاتمام وللمستخلف القصر
وحده لأنه لم يأتم بمقيم
(مسألة) قال (وإذا صلى مسافر ومقيم خلف مسافر أتم المقيم إذا سلم إمامه)
أجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتم بالمسافر وسلم المسافر من ركعتين أن على المقيم اتمام الصلاة
وقد روي عن عمران بن حصين قال شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ثماني
عشرة ليلة لا يصلي الا ركعتين ثم يقول لأهل البلد صلوا أربعا فانا سفر) رواه أبو داود ولان الصلاة
واجبة عليه أربعا فلم يكن له ترك شئ من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر

(1) كل ما ذكره المصنف وغيره من الأحكام المرتبة على وجوب نية القصر مبنية على رأي الخرقي ومن وافقه به وأحمد لم يقل بوجوب نية القصر كما حققه شيخ الاسلام ابن تيمية
130

(فصل) ويستحب للإمام إذا صلى بمقيمين أن يقول لهم عقيب تسليمه أتموا فانا سفر لما ذكرنا
من الحديث ولئلا يشتبه على الجاهل عدد ركعات الصلاة فيظن ان الرباعية ركعتان وقد روى الأثرم
عن الزهري ان عثمان إنما أتم الصلاة لأن الاعراب حجوا فأراد أن يعرفهم ان الصلاة أربع
(فصل) وإذا أم المسافر المقيمين فأتم بهم الصلاة فصلاتهم تامة صحيحة وبهذا قال الشافعي
واسحق وقال أبو حنيفة والثوري تفسد صلاة المقيمين وتصح صلاة الإمام والمسافرين معه وعن
أحمد نحو ذلك قل القاضي لأن الركعتين الأخريين نفل من الإمام فلا يؤم بها مفترضين
ولنا ان المسافر يلزمه الاتمام بنيته فيكون الجمع واجبا ولو كانت نفلا فائتمام المفترض بالمتنفل
جائز على ما مضى
(فصل) وان أم المسافر مسافرين فنسي فصلاها تامة صحت صلاته وصلاتهم ولا يلزم لذلك
سجود سهو لأنها زيادة لا يبطل الصلاة عمدها فلا يجب السجود لسهوها كزيادات الأقوال مثل القراءة
في السجود والقعود وهل يشرع السجود لها؟ يخرج على الروايتين في الزيادات المذكورة واختار ابن
عقيل أنه لا يحتاج إلى سجود لأنه اتى بالأصل فلم يحتج إلى جبران ووجه مشروعيته أن هذه زيادة
نقصت الفضيلة وأخلت بالكمال فأشبهت القراءة في غير محلها وقراءة السورة في الأخريين وإذا ذكر
الإمام بعد قيامه إلي الثالثة لم يلزمه الاتمام وله ان يجلس فإن الموجب للاتمام نيته أو الائتمام بمقيم ولم
131

يوجد واحد منهما وان علم المأموم ان قيامه لسهو لم يلزمه متابعته وسبحوا به لأنه سهو فلا يجب اتباعه
فيه ولهم مفارقته ان لم يرجع كما لو قام إلي ثالثة في الفجر وان تابعوه لم تبطل صلاة الإمام فلا تبطل
صلاة المأموم بمتابعته فيها كزيادات الأقوال ولأنهم لو فارقوا الإمام وأتموا صحت صلاتهم فمع موافقته
أولى وقال القاضي تفسد صلاتهم لأنهم زادوا ركعتين عمدا وان لم يعلموا هل قام سهوا أو عمدا لزمهم
متابعته ولم يكن لهم مفارقته لأن حكم وجوب المتابعة ثابت فلا يزول بالشك
(مسألة) قال (وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم)
المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي تلزم المسافر الاتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر
من أحدي وعشرين صلاة رواه الأثرم والمروذي وغيرهما وعنه أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وان
نوى دونها قصر وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور لأن الثلاث حد القلة بدليل قول النبي صلى الله
عليه وسلم (يقيم المهاجر بعد قضاء منسكه ثلاثا) ولما أخلى عمر رضي الله عنه أهل الذمة ضرب لمن
قدم منهم تاجرا ثلاثا فدل على أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة ويروى هذا القول
عن عثمان رضي الله عنه وقال الثوري وأصحاب الرأي ان أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه
أتم وان نوى دون ذلك قصر وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد لما روي
عن ابن عمر وابن عباس انهما قالا إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة
132

ولا يعرف لهم مخالف (1) وروي عن سعيد بن المسيب مثل هذا القول وروى عنه قتادة قال إذا أقمت
أربعا فصل أربعا وروي عن علي رضي الله عنه قال يتم الصلاة الذي يقيم عشرا ويقصر الصلاة الذي
يقول اخرج اليوم أخرج غدا شهرا وهذا قول محمد بن علي وابنه والحسن بن صالح وعن ابن عباس
قال إذا قدمت بلدة فلم تدر متى تخرج فأتم الصلاة وان قلت أخرج اليوم أخرج غدا فأتمت عشرا
فأتم الصلاة وعنه أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين
قال ابن عباس فنحن إذا قمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإذا زدنا على ذلك أتممنا رواه البخاري
وقال الحسن صل ركعتين ركعتين إلى أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم وقالت عائشة إذا وضعت
الزاد والمزاد فأتم الصلاة وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا
ولنا ما روى أنس قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى
رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة متفق عليه وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس
والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على اقامتها
قال فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم
قال الأثرم وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الاجماع على الإقامة للمسافر فقال هو كلام

(1) سيأتي رد هذا القول، وروى البيهقي بسند صحيح ان ابن عمر أقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة
133

ليس يفقهه كل أحد وقوله أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة فقال قدم النبي صلى
الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسادسة وسابعة ثم قال وثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة
فإنما وجه حديث أنس انه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له عندي
غير هذا فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر فهذا
يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر وهي تزيد على أربعة أيام وهذا صريح
في خلاف من حده أربعة أيام وقول أصحاب الرأي لم نعرف لهم مخالفا في الصحابة غير صحيح
فقد ذكرنا الخلاف فيه عنهم وذكرنا عن ابن عباس نفسه خلاف ما حكوه عنه رواه سعيد في
سننه ولم أجد ما حكوه عنه فيه وحديث ابن عباس في إقامة تسع عشرة وجهه أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يجمع الإقامة قال أحمد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثماني عشرة زمن الفتح لأنه أراد
حنينا ولم يكن تم اجماع المقام وهذه اقامته التي رواها ابن عباس والله أعلم.
(فصل) ومن قصد بلد بعيدة فوصله غير عازم على الإقامة به مدة ينقطع فيها حكم سفره فله
القصر فيه قال أحمد في من دخل مكة لم يجمع على إقامة تزيد على إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بها
وهو أن يقدم رابع ذي الحجة فله القصر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أسفاره يقصر
حتى يرجع وحين قدم مكة وأقام بها ما أقام كان يقصر فيها وهذا خلاف قول عائشة والحسن ولا
134

فرق بين أن يقصد الرجوع إلى بلده كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على ما في حديث
أنس وبين أن يريد بلدا آخر كما فعل عليه السلام في غزوة الفتح على ما في حديث ابن عباس
(فصل) وان مر في طريقة على بلد له فيه أهل أو مال فقال أحمد في موضع يتم وقال في موضع
يتم الا أن يكون مارا وهذا قول ابن عباس وقال الزهري إذا مر بمزرعة له أتم وقال مالك إذا مر
بقرية فيها أهله أو ماله أتم إذا أراد يقيم بها يوما وليلة وقال الشافعي وابن المنذر يقصر ما لم يجمع
على إقامة أربع لأنه مسافر لم يجمع على أربع.
ولنا ما روي عن عثمان أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال يا أيها الناس أني تأهلت
بمكة منذ قدمت وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم) (1)
رواه الإمام أحمد في المسند وقال ابن عباس إذا قدمت على أهل لك أو مال فصل صلاة المقيم ولأنه
مقيم ببلد فيه أهله فأشبه البلد الذي سافر منه.

(1) قال الحافظ في الفتح هذا الحديث لا يصح لأنه منقطع وفي رواته
من لا يحتج به، ومن المعلوم أن أساطين علماء الصحابة أنكروا على عثمان إتمامه
وذكر العلماء له أربعة أعذار أقواها أن مذهبه القصر خاص بالمسافر الذي يحمل
الزاد والمزاد أي وعاء الماء وممن كان في حضرة العدو وهو رأي خالفه فيه
الجمهور، وأضعفها كونه نوى الإقامة بمكة فإنها محرمة على المهاجرين
135

(فصل) قال أحمد من كان مقيما بمكة ثم خرج إلى الحج وهو يريد أن يرجع إلى مكة فلا يقيم
بها حتى ينصرف فهذا يصلي بعرفة ركعتين لأنه حين خرج من مكة أنشأ السفر فهو في سفر من
حين خرج من مكة ولو أن رجلا كان مقيما ببغداد فأراد الخروج إلى الكوفة فعرضت له حاجة
بالنهروان ثم رجع فمر ببغداد ذاهبا إلى الكوفة صلى ركعتين إذا كان يمر ببغداد مجتازا لا يريد الإقامة
بها وإن كان الذي خرج إلى عرفة في نيته الإقامة بمكة إذا رجع فإنه لا يقصر بعرفة ولذلك أهل مكة
لا يقصرون (1) وان صلى رجل مكي يقصر الصلاة بعرفة ركعتين ثم أقام بعد صلاة الإمام فأضاف إليها
ركعتين أخريين صحت الصلاة لأن المكي يقصر بتأويل فصحت صلاة من يأتم به.
(فصل) وإذا خرج المسافر فذكر حاجة فرجع إليها فله القصر في رجوعه الا أن يكون نوى أن
يقيم إذا رجع مدة تقطع القصر أو يكون أهله أو ماله في البلد الذي رجع إليه لما ذكرنا هكذا حكي عن

(1) هذا مبني على مذهبه بتحديد مسافة سفر القصر، والذي حققه شيخ الاسلام وغيره من فقهاء الحديث المستقلين انه لا يصح في تحديدها شئ وان ما بين مكة
وعرفة سفر وان أهل مكة صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومنى قصرا ولم يأمرهم بالاتمام بعد سلامه كما أمرهم بذلك في مكة عام الفتح
136

أحمد وقوله في الرواية الأخرى أتم الا أن يكون مارا يقتضي أنه إذا قصد أخذ حاجته والرجوع من
غير إقامة أنه يقصر والشافعي يرى له القصر ما لم ينو في رجوعه الإقامة في البلد أربعا قال ولو كان أتم
أحب إلى وقال مالك يتم حتى يخرج فاصلا للثانية ونحوه قول الثوري
ولنا أنه قد ثبت له حكم السفر بخروجه ولم يوجد إقامة تقطع حكمه فأشبه ما لو أتى قرية غير مخرجه
(مسألة) قال (وان قال اليوم اخرج غدا اخرج قصر وان أقام شهرا)
وجملة ذلك أن من لم يجمع الإقامة مدة تزيد على إحدى وعشرين صلاة فله القصر ولو أقام سنين
مثل أن يقيم لقضاء حاجة يرجو نجاحها أو لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض وسواء غلب على
ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو كثيرة بعد أن يحتمل انقضاؤها في المدة التي لا تقطع حكم السفر
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتي عليه سنون وقد روى
ابن عباس قال أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين رواه البخاري
137

وقال جابر أقام النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، رواه الإمام أحمد
في مسنده وفى حديث عمران ابن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي
إلا ركعتين، رواه أبو داود، وروي عن عبد الرحمن بن المسور عن أبيه قال أقمنا مع سعد بعمان
أو سلمان فكان يصلي ركعتين ويصلي أربعا فذكرنا ذلك له فقال نحن أعلم رواه الأثرم.
وروى سعيد باسناده عن المسور بن مخرمة قال أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة
يقصرها سعد ويتمها وقال نافع أقام ابن عمر بآذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه
وبين الدخول، وعن حفص بن عبد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنين يصلي صلاة المسافر وقال
أنس أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة وعن الحسن
عن عبد الرحمن بن سمرة قال أقمت معه سنتين بكابل يقصر الصلاة ولا يجمع، وقال إبراهيم كانوا
138

يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنتين لا يجمعون ولا يصومون، وقد ذكرنا عن
علي رضي الله عنه أنه قال: ويقصر إذا قال اليوم أخرج غدا أخرج شهرا وهذا مثل قول
الخرقي ولعل الخرقي رحمه الله إنما قال ذلك اقتداء به ولم يرد أن نهاية القصر إلى شهر وإنما أراد
أنه لا نهاية للقصر والله أعلم
(فصل) وان عزم على إقامة طويلة في رستاق يتنقل فيه من قرية إلى قرية لا يجمع على الإقامة
بواحدة منها مدة تبطل حكم السفر لم يبطل حكم سفره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام عشرا بمكة
وعرفة ومنى فكان يقصر في تلك الأيام كلها.
وروى الأثرم باسناده عن مورق قال سألت ابن عمر قلت إني رجل تاجر آتي الأهواز فانتقل في
قراها من قرية إلى قرية فأقيم الشهر وأكثر من ذلك قال تنوي الإقامة قلت لا قال لا أراك الا مسافرا
صل صلاة المسافرين، ولأنه لم ينو الإقامة في بلد بعينه فأشبه المتنقل في سفره من منزل إلى منزل
139

(فصل) وإذا دخل بلدا فقال إن لقيت فلان أقمت وان لم القه لم أقم لم يبطل حكم سفره
لأنه لم يجزم بالإقامة ولان المبطل لحكم السفر هو العزم على الإقامة ولم يوجد وإنما علقه على شرط
وليس ذلك بحرام.
(فصل) ولا باس بالتطوع نازلا وسائرا على الراحلة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى
عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله.
وروى نحو ذلك جابر وأنس متفق عليهن، وروت أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى الله
عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بيتها فصلى ثماني ركعات متفق عليه، وعن علي رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطوع في السفر، رواه سعيد ويصلي ركعتي الفجر والوتر لأن ابن عمر
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره ولما نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر
حتى طلعت الشمس صلى ركعتي الفجر قبلها متفق عليهما.
140

فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر
باس، وروي عن الحسن قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون
قبل المكتوبة وبعدها
وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر وجماعة من التابعين
كثير وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة
قبلها ولا بعدها الا من جوف الليل، ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين
لما روي أن ابن عمر رأى قوما يسبحون بعد الصلاة فقال لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي يا ابن أخي
صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت أبا بكر فلم يزد على
141

ركعتين حتى قبضه الله، وذكر عمر وعثمان وقال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) متفق
عليه، ووجه الأول ما روي عن ابن عباس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر فكنا
نصلي قبلها وبعدها وكنا نصلي في السفر قبلها وبعدها رواه ابن ماجة وعن أبي بصرة الغفاري عن
البراء بن عازب، قال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا فما رأيته ترك ركعتين
إذا زاغت الشمس قبل الظهر رواه أبو داود وحديث الحسن عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد ذكرناه فهذا يدل على أنه لا بأس بفعلها وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركها فيجمع
بين الأحاديث والله أعلم.
كتاب صلاة الجمعة
الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فأمر بالسعي ويقتضي الامر الوجوب
ولا يجب السعي الا إلى الواجب ونهى عن البيع لئلا يشتغل به عنها فلو لم تكن واجبة لما نهي عن
142

البيع من أجلها والمراد بالسعي ها هنا الذهاب إليها لا الاسراع فإن السعي في كتاب الله لم يرد به العدو
قال الله تعالى (وأما من جاءك يسعى) وقال (وسعى لها سعيها) وقال (سعى في الأرض ليفسد فيها) وقال
(ويسعون في الأرض فسادا) وأشباه هذا لم يرد بشئ من العدو، وقد روى عن عمر أنه كان
يقرأها (فامضوا إلى ذكر الله)
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله
على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) متفق عليه.
وعن أبي الجعد الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال (من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع
الله على قبله) وقال عليه السلام (الجمعة حق واجب على كل مسلم الا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو
صبي أو مريض) رواهما أبو داود وعن جابر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (واعلموا
أن الله تعالى قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا فمن
تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها وجحودا لها فلا جمع الله له شمله
ولا بارك له في أمره إلا ولا صلاة له إلا ولا زكاة له إلا ولا حج له إلا ولا صوم له ولا بر له حتى
يتوب فإن تاب تاب الله عليه) رواه ابن ماجة وأجمع المسلمون على وجوب الجمعة.
(مسألة) قال (وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام على المنبر)
المستحب إقامة الجمعة بعد الزوال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك قال مسلمة ابن
الأكوع كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتبع الفيئ متفق عليه وعن
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس أخرجه البخاري ولان في ذلك
خروجا ومن الخلاف فإن علماء الأمة اتفقوا على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة وإنما الخلاف فيما قبله
ولا فرق في استحباب اقامتها عقيب الزوال بين شدة الحر وبين غيره فإن الجمعة يجتمع لها الناس
143

فلو انتظروا الابراد شق عليهم وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها إذا زالت الشمس في
الشتاء والصيف على ميقات واحد فيستحب ان يصعد للخطبة على منبر ليسمع الناس وكان النبي صلى
الله عليه وسلم يخطب الناس على منبره وقال سهل بن سعد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
فلانة امرأة سماها سهل ان مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس متفق
عليه وقالت أم هشام بنت حارثة ابن النعمان ما أخذت قاف إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس وليس ذلك واجبا فلو خطب على الأرض أو على ربوة
أو وسادة أو على راحلته أو غير ذلك جاز فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قبل أن يصنع المنبر
يقوم على الأرض اه‍.
(فصل) ويستحب أن يكون المنبر على يمين القبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا صنع
(مسألة) قال (فإذا استقبل الناس سلم عليهم وردوا عليه وجلس)
يستحب للإمام إذا خرج أن يسلم على الناس ثم إذا صعد المنبر فاستقبل الحاضرين سلم عليهم
وجلس إلى أن يفرغ المؤذنون من آذانهم كان ابن الزبير إذا علا على المنبر سلم وفعله عمر بن عبد العزيز
وبه قال الأوزاعي والشافعي وقال مالك وأبو حنيفة لا يسن السلام عقيب الاستقبال لأنه قد سلم حال خروجه
ولنا ما روى جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم رواه ابن ماجة وعن
ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد يوم الجمعة سلم على من عند المنبر
جالسا فإذا صعد المنبر توجه الناس سلم عليهم رواه أبو بكر باسناده عن الشعبي قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام عليكم ورحمة الله ويحمد الله
تعالى ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه رواه الأثرم
144

ومتى سلم رد عليه الناس لأن رد السلام آكد من ابتدائه ثم يجلس حتى يفرغ المؤذنون ليستريح
وقد روى ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يجلس إذا صعد المنبر حتى
يفرغ المؤذنون ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب رواه أبو داود
(مسألة) قال (وأخذ المؤذنون في الاذان وهذا الاذان الذي يمنع البيع ويلزم
السعي إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة)
أما مشروعية الاذان عقيب صعود الإمام فلا خلاف فيه فقد كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم
قال السائب بن يزيد كان النداء إذا صعد الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان كثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء رواه البخاري، وأما قوله
هذا الاذان الذي يمنع البيع ويلزم السعي فلان الله تعالى أمر بالسعي ونهى عن البيع بعد النداء
بقوله سبحانه (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) والنداء الذي
كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر فتعلق الحكم
به دون غيره ولافرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده، وحكى القاضي رواية عن أحمد أن
البيع يحرم بزوال الشمس وان لم يجلس الإمام على المنبر ولا يصح هذا لأن الله تعالى علقه على
النداء لا على الوقت ولان المقصود بهذا أدرك الجمعة وهو يحصل بما ذكره ولو كان
تحريم البيع معلقا بالوقت لما اختص بالزوال فإن ما قبله وقت أيضا فاما من كان منزله بعيدا لا يدرك
الجمعة بالسعي وقت النداء فعليه السعي في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة لأن الجمعة واجبة
والسعي قبل النداء من ضرورة ادراكها وما لا يتم الواجب إلا به واجب كاستقاء الماء من البئر
للوضوء إذا لم يقدر على غيره وامساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ونحوهما
145

(فصل) وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة فاما غيرهم من النساء والصبيان
والمسافرين فلا يثبت في حقه ذلك وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين والصحيح ما ذكرنا
فإن الله تعالى إنما نهى عن المبيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي ولان تحريم
البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم فإن كان المسافر في غير المصر
أو كان أنسانا مقيما بقرية لا جمعة على أهلها لم يحرم البيع قولا واحدا ولم يكره وإن كان أحد المتبايعين مخاطبا والآخر غير مخاطب حرم في حق المخاطب وكره في
حق غيره لما فيه من الإعانة على
الاثم ويحتمل أن يحرم أيضا لقوله تعالى (ولات عانوا على الاثم والعدوان)
(فصل) ولا يحرم غير البيع من العقود كالإجارة والصلح والنكاح وقيل يحرم لأنه عقد معاوضة أشبه البيع
ولنا ان النهي مختص بالبيع وغيره لا يساويه في الشغل عن السعي لقلة وجوده فلا يصح قياسه على البيع
(فصل) وللسعي إلى الجمعة وقتان وقت وجوب ووقت فضيلة فاما وقت الوجوب فما ذكرناه
وأما وقت الفضيلة فمن أول النهار فكلما كان أبكر كان أولى وأفضل وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي
وابن المنذر وأصحاب الرأي وقال مالك لا يستحب التبكير قبل الزوال لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(من راح إلى الجمعة) والرواح بعد الزوال والغدو قبله قال النبي صلى الله عليه وسلم (غدوة في سبيل الله أو
روحة خير من الدنيا وما فيها) ويقال تروحت عند انتصاف النهار قال امرؤ القيس * تروح من الحي أم تبتكر *
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اغتسل يوم الجمعة غسل
الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة
ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة
146

ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)
متفق عليه وفي لفظ (إذا كان يوم الجمعة وقف على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول
فالأول فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون) متفق عليه وقال علقمة خرجت مع عبد الله
إلى الجمعة فوجدت ثلاثة قد سمعوه فقال رابع أربعة ببعيد اني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول (ان الناس يجلسون من الله عز وجل يوم القيامة على قدر رواحهم إلى
الجمعة) رواه ابن ماجة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر
وابتكر كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن رواه
ابن ماجة وزاد (ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ) قوله (بكر) أي خرج في بكرة النهار
وهي أوله (وابتكر) بالغ في التبكير أي جاء في أول البكرة على ما قال امرؤ القيس * تروح من الحي أم
تبتكر * وقيل معناه ابتكر العبادة مع بكورة وقيل ابتكر الخطبة أي حضر الخطبة مأخوذ من باكورة
التمرة وهي أولها وغير هذا أجود لأن من جاء في بكر النهار لزم أن يحضر أول الخطبة وقوله (غسل واغتسل)
أي جامع امرأته ثم اغتسل ولهذا قال في الحديث الآخر من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة قال أحمد
تفسير قوله (من غسل واغتسل) مشددة يريد يغسل الرجل أهله وغير واحد من التابعين عبد الرحمن بن الأسود
وهلال بن يساف يستحبون ان يغسل الرجل أهله يوم الجمعة وإنما هو على أن يطأ وإنما استحب
ذلك ليكون أسكن لنفسه وأغض لطرفه في طريقه. وروى ذلك عن وكيع أيضا وقيل المراد به غسل
رأسه واغتسل في بدنه حكى هذا عن ابن المبارك وقوله غسل الجنابة على هذا التفسير أي كغسل
الجنابة وأما قول مالك فمخالف للآثار لأن الجمعة يستحب فعلها عند الزوال وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يبكر بها ومتى خرج الإمام طويت الصحف فلم يكتب من أتي الجمعة بعد ذلك فأي فضيلة
لهذا وان أخر بعد ذلك شيئا دخل في النهى والذم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي جاء يتخطى
147

الناس (رأيتك أنيت وآذيت) أي أخرت المجئ وقال عمر لعثمان حين جاء وهو يخطب أي ساعة
هذه على سبيل الانكار عليه وان أخر أكثر من هذا فاتته الجمعة فكيف يكون لهؤلاء بدنة أو بقرة
أو فضل وهم من أهل الذم وقوله راح إلى الجمعة أي ذهب إليها لا يحتمل غير هذا
(فصل) والمستحب ان يمشي ولا يركب في طريقها لقوله (ومشى ولم يركب) وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه لم يركب في عيد ولا جنازة والجمعة في معناهما وإنما لم يذكرها لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان باب حجرته شارعا في المسجد يخرج منه إليه فلا يحتمل الركوب ولان الثواب
على الخطوات بدليل ما رويناه ويستحب أن يكون عليه السكينة والوقار في حال مشيه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا) ولان الماشي إلى
الصلاة في صلاة ولا يشبك بين أصابعه ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته، وقد روينا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه خرج مع زائد بن ثابت إلى الصلاة فقارب بين خطاه ثم قال إنما فعلت لتكثر خطانا
في طلب الصلاة، وروي عن عبد الله بن رواحة انه كان يبكر إلى الجمعة ويخلع نعليه ويمشي حافيا
تصر في مشيه رواه الأثرم ذكر الله في طريقه وبغض بصره ويقول ما ذكرناه في باب صفة
الصلاة ويقول أيضا: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك وأقرب من توسل إليك وأفضل من سألك
ورغب إليك. وروينا عن بعض الصحابة انه مشى إلى الجمعة حافيا فقيل له في ذلك فقال إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار)
(فصل) وتجب الجمعة والسعي إليها سواء كان من يقيمها سنيا أو مبتدعا أو عدلا أو فاسقا نص
عليه أحمد وروي عن العباس ابن عبد العظيم انه سأل أبا عبد الله عن الصلاة خلفهم يعني المعتزلة
يوم الجمعة قال أما الجمعة فينبغي شهودها فإن كان الذي يصلي منهم أعاد وإن كان لا يدري أنه منهم
فلا يعيد قلت فإن كان يقال أنه قد قال بقولهم قال حتى يستيقن ولا أعلم في هذا بين أهل العلم
148

خلافا والأصل في هذا عموم قول الله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله
وذروا البيع) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر
استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله له شمله) واجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عبد الله بن عمر
وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدونها مع الحجاج ونظرائه ولم يسمع
من أحد منهم التخلف عنها وقال
عبد الله بن أبي الهذيل تذاكرنا الجمعة أيام المختار فأجمع رأيهم على
أن يأتوه فإنما عليه كذبه ولان الجمعة من أعلام الدين الظاهرة ويتولاها الأئمة ومن ولوه فتركها
خلف من هذه صفته يؤدي إلى سقوطها وجاء رجل إلى محمد بن النضر الحارثي فقال إن لي جيرانا
من أهل الأهواء فكنت أعيبهم وأتنقصهم فجاءوني فقالوا ما تخرج تذكرنا قال وأي شئ يقولون
قال أول ما أقول لك انهم لا يرون الجمعة قال حسبك ما قولك في من رد على أبي بكر وعمر رحمهما
الله قال قلت رجل سوء قال فما قولك في من رد على النبي صلى الله عليه وسلم قال قلت كافر ثم
مكث ساعة ثم قال ما قولك في من رد على العلي الاعلى ثم غشي عليه فمكث ساعة ثم قال ردوا عليه
والله قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) قالها
والله وهو يعلم أن بني العباس سالونها إذا ثبت هذا فإنها لا تعاد خلف من يعاد خلفه بقية الصلوات
وحكي عن أبي عبد الله رواية أخرى انها لا تعاد وقد ذكرنا ذلك فيما مضى والظاهر من حال الصحابة
رحمه الله عليهم أنهم لم يكونوا يعيدونها فإنه لم ينقل عنهم ذلك
(مسألة) قال (فإذا فرغوا من الاذان خطبهم قائما)
وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها كذلك قال عطاء والنخعي وقتادة والثوري
والشافعي واسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا الا الحسن قال تجزئهم جميعهم خطب
الإمام أو لم يخطب لأنها صلاة عيد فلم تشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى
149

ولنا قول الله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله) والذكر هو الخطبة ولان النبي صلى الله عليه وسلم
ما ترك الخطبة للجمعة في حال وقد قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) وعن عمر رضي الله عنه أنه قال
قصرت الصلاة لأجل الخطبة وقول عائشة نحو من هذا وقال سعيد بن جبير كانت الجمعة أربعا فجعلت الخطبة مكان الركعتين وقوله خطبهم قائما يحتمل أنه أراد اشتراط القيام في الخطبة وأنه
متى خطب قاعدا لغير عذر لم تصح ويحتمله كلام أحمد رحمه الله قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل
عن الخطبة قاعدا أو يقعد في إحدى الخطبتين فلم يعجبه وقال قال الله تعالى (وتركوك قائما) وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما فقال له الهيثم بن خارجة كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته
فظهر منه انكار وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي يجزيه الخطبة قاعدا وقد نص عليه أحمد وهو
مذهب أبي حنيفة لأنه ذكر ليس من شرطه الاستقبال فلم يجب له القيام كالاذان ووجه الأول ما روى
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين وهو يفصل بينهما بجلوس متفق عليه
وقال جابر بن سمرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب
قائما فمن نبأك أنه يخطب جالسا فقد كذب والله صليت معه أكثر من الفي صلاة أخرجه مسلم
وأبو داود والنسائي فاما ان قعد لعذر من مرض أو عجز عن القيام فلا بأس فإن الصلاة تصح من
القاعد العاجز عن القيام، فالخطبة أولى ويستحب أن يشرع في الخطبة عند فراغ المؤذن من أذانه
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك
(فصل) ويستحب أن يستقبل الناس الخطيب إذا خطب قال الأثرم قلت لأبي عبد الله يكون
الإمام متباعدا فإذا أردت أن انحرف إليه حولت وجهي عن القبلة فقال نعم تنحرف إليه وممن
150

كان يستقبل الإمام ابن عمر وأنس وهو قول شريح وعطاء ومالك والثوري والأوزاعي وسعيد ابن
عبد العزيز وابن جابر ويزيد بن أبي مريم والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر هذا
كالاجماع وروي عن الحسن انه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام وعن سعيد بن المسيب انه كان
لا يستقبل هشام بن إسماعيل إذا خطب فوكل به هشام شرطيا يعطفه إليه والأول أولى لما روى عدي
ابن ثابت عن أبيه عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه
بوجوههم رواه ابن ماجة وعن مطيع بن يحيى المدني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا قام على المنبر أقبلنا بوجوهنا إليه أخرجه الأثرم ولان ذلك أبلغ في سماعهم فاستحب
كاستقبال الإمام إياهم
(مسألة) قال (فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس
وقام فأنى أيضا بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ ووعظ
وان أراد ان يدعو لانسان دعا)
وجملته أنه يشترط للجمعة خطبتان وهذا مذهب الشافعي وقال مالك والأوزاعي واسحق وأبو
ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي يجزيه خطبة واحدة وقد روي عن أحمد ما يدل عليه فإنه قال
لا تكون الخطبة الا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة ووجه الأول أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يخطب خطبتين كما روينا في حديث بن عمر وجابر بن سمرة وقد قال (صلوا كما رأيتموني
أصلي) ولان الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكل خطبة مكان ركعة فالاخلال بأحدهما كالاخلال
بإحدى الركعتين ويشترط لكل واحدة منهما حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر) وإذا وجب ذكر الله
151

تعالى وجب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لما روي في تفسير قوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك
ورفعنا لك ذكرك) قال لا أذكر الا ذكرت معي ولأنه موضع وجب فيه ذكر الله تعالى والثناء
عليه فوجب فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كالاذان والتشهد ويحتمل أن لا تجب الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في خطبة ذلك فاما القراءة فقال القاضي
يحتمل أن يشترط لكل واحدة من الخطبتين وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين
فكانت القراءة شرطا فيهما كالركعتين ويحتمل أن تشترط في إحداهما لما روى الشعبي قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام عليكم ويحمد الله
ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل وكان أبو بكر وعمر يفعلانه رواه الأثرم
فظاهر هذا انه إنما قرأ في الخطبة الأولى ووعظ في الخطبة الثانية وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة
إنما تكون في الخطبة الثانية لهذا الخبر وقال القاضي تجب في الخطبتين لأنها بيان المقصود من الخطبة
فلم يجز الاخلال بها وقال أبو حنيفة لو أتى بتسبيحة واحدة أجزأ لأن الله تعالى قال (فاسعوا إلى
ذكر الله) ولم يعين ذكرا فأجزأ ما يقع عليه اسم الذكر ويقع اسم الخطبة على دون ما ذكرتموه
بدليل أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال علمني عملا أدخل به الجنة فقال لأن أقصرت
في الخطبة لقد أعرضت في المسألة وعن مالك روايتان كالمذهبين
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم فسر الذكر بفعله فيجب الرجوع إلى تفسيره قال جابر بن سمرة
كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا وخطبته قصدا يقرأ آيات من القرآن يذكر الناس
وقال جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما أهله ثم يقول
(من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) وقال ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم يفعلون اليوم فاما التسبيح والتهليل فلا يسمى خطبة والمراد
152

بالذكر الخطبة ومما رووه مجاز فإن السؤال لا يسمى خطبة ولذلك لو القى مسألة على الحاضرين لم يكف
ذلك اتفاقا قال أصحابنا ولا يكفي في القراءة أقل من آية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على
أقل من ذلك ولان الحكم لا يتعلق بما دونها بدليل منع الجنب من قراءتها دون ما هو أقل من ذلك
وظاهر كلام أحمد أنه لا يشترط ذلك لأنه قال القراءة في الخطبة على المنبر ليس فيها شئ مؤقت ما شاء
قرأ وقال إن خطب بهم وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم فإنه يجزيه والجنب ممنوع من قراءة آية
والخرقي قال قرأ شيئا من القرآن ولم يعين المقروء ويحتمل أن لا يجب شئ سوى حمد الله والموعظة
لأن ذلك يسمى خطبة ويحصل به المقصود فأجزأ وما عداه ليس على اشتراطه دليل ولا يجب أن يخطب
على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق لأنه قد روي أنه كان يقرأ آيات ولا يجب قراءة
آيات ولكن يستحب ان يقرأ آيات كذلك ولما روت أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت
ما أخذت (ق والقران المجيد) الا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها في كل جمعة وعن
أخت لعمرة كانت أكبر منها مثل هذا رواهما مسلم وفي حديث الشعبي ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان يقرء سورة
(فصل) يستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفعل ذلك كما روينا في حديث ابن عمر وجابر بن سمرة وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم
وقال الشافعي هي واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسها
ولنا انها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تكن واجبة كالأولى وقد سرد الخطبة جماعة منهم
المغيرة بن شعبة وأبي بن كعب قاله أحمد وروي عن أبي إسحاق قال رأيت عليا يخطب على المنبر
فلم يجلس حتى فرغ وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان للاستراحة فلم تكن واجبة كالأولى ولكن
153

يستحب فإن خطب جالسا لعذر فصل بين الخطبتين بسكتة وكذلك أن خطب قائما فلم يجلس قال
ابن عبد البر ذهب مالك والعراقيون وسائر فقهاء الأمصار الا الشافعي ان الجلوس بين الخطبتين
لا شئ على من تركه
(فصل) والسنة ان يخطب متطهرا قال أبو الخطاب وعنه ان ذلك من شرائطها وللشافعي
قولان كالروايتين وقد قال أحمد في من خطب وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم يجزيه وهذا إنما يكون
إذا خطب في غير المسجد أو خطب في المسجد غير عالم بحال نفسه ثم علم بعد ذلك والأشبه بأصول المذهب اشتراط
الطهارة من الجنابة فإن أصحابنا قالوا يشترط قراءة آية فصاعدا وليس ذلك للجنب ولان الخرقي
اشترط للاذان الطهارة من الجنابة فالخطبة أولى فاما الطهارة الصغرى فلا يشترط لأنه ذكر يتقدم
الصلاة فلم تكن الطهارة فيه شرطا كالاذان لكن يستحب أن يكون متطهرا من الحدث والنجس
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عقيب الخطبة لا يفصل بينهما بطهارة فيدل على أنه كان متطهرا
والاقتداء به ان لم يكن واجبا فهو سنة ولأننا استحببنا ذلك للاذان فالخطبة أولى ولأنه لو لم يكن
متطهرا احتاج إلى الطهارة بين الصلاة والخطبة فيفصل بينهما وربما طول على الحاضرين
(فصل) والسنة أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولاهما
بنفسه وكذلك خلفاؤه من بعده وان خطب رجل وصلى آخر لعذر جاز نص عليه أحمد ولو خطب
أمير فعزل وولي غيره فصلى بهم فصلاتهم تامة نص عليه لأنه إذا جاز الاستخلاف في الصلاة الواحدة
للعذر ففي الخطبة مع الصلاة أولى وان لم يكن عذر فقال أحمد رحمه الله لا يعجبني من غير عذر
فيحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولاهما وقد قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولان الخطبة
أقيمت مقام ركعتين ويحتمل الجواز لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة فأشبهتا صلاتين وهل يشترط أن
يكون المصلي ممن حضر الخطبة فيه روايتان إحداهما يشترط ذلك وهو قول الثوري وأصحاب الرأي
154

وأبي ثور لأنه إمام في الجمعة فاشترط حضوره الخطبة كما لو لم يستخلف والثانية لا يشترط وهو قول
الأوزاعي والشافعي لأنه ممن تنعقد به الجمعة فجاز أن يؤم فيها كما لو حضر الخطبة وقد روي عن أحمد
رحمه الله أنه لا يجوز الاستخلاف لعذر ولا غيره قال في رواية حنبل في الإمام إذا أحدث بعد ما خطب
فقدم رجلا يصلي بهم لم يصل بهم إلا أربعا الا أن يعيد الخطبة ثم يصلي بهم ركعتين وذلك لأن هذا
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه والأول المذهب
(فصل) ومن سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل
ذلك ولأنه أبلغ في سماع الناس وأعدل بينهم فإنه لو التفت إلى أحد جانبيه لاعرض عن الجانب الآخر
ولو خالف هذا واستدبر الناس واستقبل القبلة صحت الخطبة لحصول المقصود بدونه فأشبه ما لو أذن
غير مستقبل القبلة ويستحب أن يرفع صوته ليسمع الناس، قال جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم
ويقول (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر
الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) ويستحب تقصير الخطبة لما روى عمار قال إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول (ان طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة
وأقصروا الخطبة) وقال جابر بن سمرة كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت
صلاته قصدا وخطبته قصدا روى هذه الأحاديث كلها مسلم وعن جابر بن سمرة قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات رواه أبو داود
ويستحب أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصى لما روى الحكم بن حزن الحلفي قال وفدت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمنا أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقام متوكئا على عصى أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات طيبات حفيفات مباركات رواه
155

أبو داود ولان ذلك أعون له فإن لم يفعل فيستحب ان يسكن أطرافه اما أن يضع يمينه على شماله أو
يرسلها ساكنتين مع جنبيه ويستحب أن يبدأ بالحمد قبل الموعظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفعل ذلك ولان كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ثم يثني بالصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم ثم يعظ فإن عكس ذلك صح لحصول المقصود منه ويستحب أن يكون في خطبته مترسلا
مبينا معربا لا يعجل فيها ولا يمططها وأن يكون متخشعا متعظا بما يعظ الناس به لأنه قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (عرض علي قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقيل لي هؤلاء
خطباء من أمتك يقولون ما لا يفعلون)
(فصل) سئل أحمد عن قراء سورة الحج على المنبر أيجزئه قال لا لم يزل الناس يخطبون
بالثناء على الله تعالى والصلاة وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وقال لا تكون الخطبة الا كما خطب النبي
صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة ولان هذا لا يسمى خطبة ولا يجمع شروطها وإن قرأ آيات فيها
حمد الله تعالى والموعظة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم صح لاجتماع الشروط.
(فصل) وإن قرأ السجدة في أثناء الخطبة فإن شاء نزل فسجد وان أمكن السجود على المنبر
سجد عليه وان ترك السجود فلا حرج فعله عمر وترك وبهذا قال الشافعي وترك عثمان وأبو موسى
وعمار والنعمان بن بشير وعقبة بن عامر وبه قال أصحاب الرأي لأن السجود عندهم واجب وقال مالك
لا ينزل لأنه صلاة تطوع فلا يشتغل بها في أثناء الخطبة كصلاة ركعتين.
ولنا فعل عمر وتركه وفعل من سينما من الصحابة رحمة الله عليهم ولأنه سنة وجد سببها لا يطول
الفصل بها فاستحب فعلها كحمد الله تعالى إذا عطس وتشميت العاطس ولا يجب ذلك لما قدمنا من
أن سجود التلاوة غير واجب ويفارق صلاة ركعتين لأن سببها لم يوجد ويطول الفصل بها.
156

(فصل) والموالاة شرط في صحة الخطبة فإن فصل بعضها من بعض بكلام طويل أو سكوت
طويل أو شئ غير ذلك يقطع الموالاة استأنفها والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة وكذلك
يشترط الموالاة بين الخطبة والصلاة وإن احتاج إلى الطهارة تطهر وبني على خطبته ما لم يطل الفصل
(فصل) ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ولنفسه والحاضرين وإن دعا لسلطان
المسلمين بالصلاح فحسن، وقد روى ضبة بن محصن أن أبا موسى كان إذا خطب فحمد الله وأثنى
عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لعمر وأبي بكر وأنكر عليه ضبة البداية بعمر قبل الدعاء لأبي بكر
ورفع ذلك إلى عمر فقال لضبة أنت أوثق منه وأرشد وقال القاضي لا يستحب ذلك لأن عطاء قال
هو محدث وقد ذكرنا فعل الصحابة له وهو مقدم على قول عطاء ولان سلطان المسلمين إذا صلح كان
فيه صلاح لهم ففي الدعاء له دعاء لهم وذلك مستحب غير مكروه.
(مسألة) قال (وينزل فيصلي بهم الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعة الحمد لله وسورة)
وجملة ذلك أن صلاة الجمة ركعتان عقيب الخطبة يقرأ في كل ركعة الحمد لله وسورة ويجهر بالقراءة
فيهما لا خلاف في ذلك كله قال ابن المنذر أجمع المسلمون على أن صلاة الجمعة ركعتان وجاء الحديث
عن عمر أنه قال صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد
وابن ماجة ويستحب أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة والثانية بسورة المنافقين وهذا مذهب
الشافعي وأبي ثور، لما روي عن عبيد الله بن أبي رافع قال صلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة
في الركعة الأولى وفي الركعة الآخرة إذا جاءك المنافقون فلما قضى أبو هريرة الصلاة أدركته فقلت
يا أبا هريرة انك قرأت سورتين كان علي يقرأ بهما بالكوفة، قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقرأ بهما في الجمعة أخرجه مسلم وان قرأ في الثانية بالغاشية فحسن فإن الضحاك بن قيس سأل
النعمان بن بشير ماذا كان يقرؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة فقال
157

كان يقرأ (بهل أتاك حديث الغاشية) أخرجه مسلم وان قرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية
فحسن فإن النعمان بن بشير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح
اسم ربك الاعلى وهل أتاك حديث الغاشية، فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما أيضا
في الصلاتين أخرجه مسلم.
وروى سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح
اسم ربك الاعلى وهل أتاك حديث الغاشية معا، رواه أبو داود والنسائي وقال مالك أما الذي جاء
به الحديث هل أتاك حديث الغاشية مع سورة الجمعة والذي أدركت عليه الناس بسبح اسم ربك الاعلى
وحكى عن أبي بكر عبد العزيز أنه كان يستحب أن يقرأ في الثانية سبح ولعله صار إلى ما حكاه مالك
أنه أدرك الناس عليه واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ومهما قرأ فهو جائز حسن الا أن
الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن، ولان سورة الجمعة تليق بالجمعة لما فيها من ذكرها
والامر بها والحث عليها.
(مسألة) قال (ومن أدرك مع الإمام منها ركعة بسجدتيها أضاف إليها أخرى
وكانت له جمعة)
أكثر أهل العلم يرون أن من أدركت ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها يضيف إليها
أخرى ويجزيه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود
وعروة والزهري والنخعي ومالك والثوري والشافعي واسحق وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء
وطاوس ومجاهد ومكحول من لم يدرك الخطبة صلى أربعا لأن الخطبة شرط للجمعة فلا تكون جمعة
في حق من لم بوجد في حق شرطها.
158

ولنا ما روى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أدرك
من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة) رواه الأثرم ورواه ابن ماجة ولفظه (فليصل إليها أخرى) وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) متفق عليه
ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم
(مسألة) قال (ومن أدرك معه أقل من ذلك بني عليها ظهرا إذا كان دخل بنية الظهر)
أما من أدرك أقل من ركعة فإنه لا يكون مدركا للجمعة ويصلي ظهرا أربعا وهو قول جميع
من ذكرنا في المسألة قبل هذه وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة يكون مدركا للجمعة بأي قدر أدرك
من الصلاة مع الإمام لأن من لزم أن يبنى على صلاة الإمام إذا أدرك ركعة لزمه إذا أدرك أقل
منها كالمسافر يدرك المقيم ولأنه أدرك جزأ من الصلاة فكان مدركا لها كالظهر
ولنا قوله عليه السلام (من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة) فمفهومه انه إذا أدرك
أقل من ذلك لم يكن مدركا لها ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا مخالف لهم في عصرهم
فيكون اجماعا وقد روى بشر بن معاذ الزيات عن الزهري عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال (من أدرك يوم الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن أدرك دونها صلاها أربعا)
ولأنه لم يدرك ركعة فلم تصح له الجمعة كالإمام إذا انفضوا قبل أن يسجد وأما المسافر فادراكه إدراك
إلزام وهذا إدراك اسقاط للعدد فافترقا وكذلك يتم المسافر خلف المقيم ولا يقصر المقيم خلف المسافر
وأما الظهر فليس من شرطها الجماعة بخلاف مسئلتنا
(فصل) فأما قوله بسجديتها فيحتمل انه للتأكيد كقوله تعالى (ولا طائر يطير بجناحيه)
ويحتمل انه للاحتراز من الذي أدرك الركوع ثم فاتته السجدتان أو إحداهما حتى سلم الإمام لزحام
159

أو نسيان أو نوم غفلة وقد اختلفت الرواية عن أحمد في من أحرم مع الإمام ثم زحم فلم يقدر على
الركوع والسجود حتى سلم الإمام فروى الأثرم والميموني وغيرهما أنه يكون مدركا للجمعة يصلي
ركعتين اختارها الخلال وهذا قول الحسن والأوزاعي وأصحاب الرأي لأنه أحرم بالصلاة مع
الإمام في أول ركعة أشبه ما لو ركع وسجد معه ونقل صالح وابن منصور وغيرهما انه يستقبل الصلاة
أربعا وهو ظاهر قول الخرقي وابن أبي موسى واختيار أبي بكر وقول قتادة وأيوب السختياني ويونس
ابن عبيد والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لأنه يدرك ركعة كاملة فلم يكن مدركا للجمعة كالتي قبلها
(فصل) ومتى قدر المزحوم على السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه ذلك وأجزاه قال
أحمد في رواية أحمد بن هاشم يسجد على ظهر الرجل والقدم ويمكن الجبهة والأنف في العيدين
والجمعة وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وقال عطاء والزهري ومالك
لا يفعل قال مالك وتبطل الصلاة أن فعل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (مكن جبهتك من الأرض)
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه رواه
سعيد في سننه وهذا قاله بمحضر من الصحابة وغيرهم في يوم جمعة ولم يظهر له محالف فكان إجماعا
ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح كالمريض يسجد على المرفقة والخبر لم يتناول العاجز لأن الله
لا يكلف نفسا الا وسعها ولا يأمر العاجز عن الشئ بفعله
(فصل) وإذا زحم في إحدى الركعتين لم يخل من أن يزحم في الأولى أو في الثانية فإن
زحم في الأولى ولم يتمكن من السجود على ظهر ولا قدم انتظر حتى يزول الزحام ثم يسجد ويتبع
إمامه مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف بعسفان سجد صف وبقي صف
لم يسجد معه فلما قام إلى الثانية سجدوا وجاز ذلك كذا هاهنا فإذا قضى ما عليه وأدرك الإمام
160

في القيام أو في الركوع اتبعه فيه وصحت له الركعة وكذا إذا تعذر عليه السجود مع إمامه لمرض
أو نوم أو نسيان لأنه معذور في ذلك فأشبه المزحوم فإن خاف انه إن تشاغل بالسجود فاته الركوع
مع الإمام في الثانية لزمه متابعته وتصير الثانية أولاه وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة يشتغل بقضاء
السجود لأنه قدر ركع مع الإمام فيجب عليه السجود بعده كما لو زال الزحام والإمام قائم وللشافعي كالمذهبين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا) فإن قيل فقد
قال (فإذا سجد فاسجدوا) قلنا قد سقط الامر بالتابعة في السجود عن هذا لعذره وبقي الامر
بالتابعين في الركوع متوجها لامكانه ولأنه خائف فوات الركوع فلزمه متابعة إمامه فيه كالمسبوق
فأما إذا كان الإمام قائما فليس هذا اختلافا مثيرا وقد فعل النبي صلى الله عليه سلم مثله بعسفان
إذا تقرر هذا فإنه ان اشتغل بالسجود معتقدا تحريمه لم تصح صلاته لأنه ترك واجبا عمدا وفعل
مالا يجوز له فعله وان اعتقد جواز ذلك فسجد لم يعتد بسجوده لأنه سجد في موضع الركوع جهلا
فأشبه الساهي ثم إن أدرك الإمام في الركوع ركع معه وصحت له الثانية دون الأولى وتصير
الثانية أولاه فإن فاته الركوع سجد معه فإن سجد السجدتين معه فقال الفاضي يتم بهما الركعة الأولى
وهذا مذهب الشافعي وقياس المذاهب انه متى قام إلى الثانية وشرع في ركوعها أو شئ من أفعالها
المقصودة أن الركعة الأولى تبطل على ما ذكر في سجود السهو ولكن ان لم يقم ولكن سجد السجدتين
من غير قيام تمت ركعته وقال أبو الخطاب إذا سجد معتقدا جواز ذلك اعتد له به وتصح له الركعة
كما لو سجد وإمامه قائم ثم إن أدرك الإمام في ركوع الثانية صحت له الركعتان وإن أدرك بعد رفع
رأسه من ركوعه فينبغي أن يركع ويتبعه لأن هذا سبق يسير ويحتمل أن تفوته الثانية بفوات الركوع
وان أدركه في التشهد تابعه وقضى ركعة بعد سلامه كالمسبوق وقال أبو الخطاب ويسجد للسهو ولا وجه
161

للسجود هاهنا لأن المأموم لا سجود عليه لسهو ولان هذا فعله عمدا ولا يشرع السجود للعمد وان زحم
عن سجدة واحدة أو عن الاعتدال بين السجدتين أو بين الركوع والسجود أو عن جميع ذلك
فالحكم فيه كالحكم في الزحام عن السجود فأما ان زحم عن السجود في الثانية فزال الزحام قبل
سلام الإمام سجدوا تبعه وصحت الركعة وإن لم يزل حتى سلم فلا يخلو من أن يكون أدرك
الركعة الأولى أو لم يدركها فإن أدركها فقد أدرك الجمعة بادراكها ويسجد الثانية بعد سلام
الإمام ويتشهد ويسلم وقد تمت جمعة وإن لم يكن أدرك الأولى فإنه يسجد بعد سلام إمامه وتصح
له الركعة وهل يكون مدركا للجمعة بذلك على روايتين
(فصل) وإذا ركع الإمام ركعة فلما قام ليقضي الأخرى ذكراه لم يسجد مع إمامه إلا
سجدة واحدة أو شك هل سجد واحدة أو اثنتين فإنه إن لم يكن شرع في قراءة الثانية رجع فسجد
للأولى فأتمها وقضى الثانية وتمت جمعته نص أحمد على هذا رواية الأثرم وإن كان شرع في
قراءة الثانية بطلت الأولى وصارت الثانية أولاه وعلى كلا الحالتين يتمها جمعة على ما نفله الأثرم
وقياس الرواية الأخرى في المزحوم أنه يتمها هاهنا ظهرا لأنه لم يدرك ركعة كاملة ولو قضى الركعة
الثانية ثم علم أنه ترك سجدة من إحداهما لا يدري من أي الركعتين تركها أو شك في تركها فالحكم
واحد ويجعلها من الأولى ويأتي بركعة مكانها وفي كونه مدركا للجمعة وجهان بناء على الروايتين فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، مثل ان كبر والإمام راكع فرفع أمامه رأسه فشك هل
أدرك المجزي من الركوع مع الإمام أو لا لم يعتد بتلك الركعة ويصلي ظهرا قولا واحدا لأن
الأصل أنه ما أتى بها معه.
162

(فصل) وكل من أدرك مع الإمام ما لا يتم به جمعة فإنه في قول الخرقي ينوي ظهرا فإن نوى
جمعة لم تصح في ظاهر كلامه لأنه اشترط للبناء على ما أدرك أن يكون قد دخل بنية الظهر فمفهومه أنه
إذا دخل بنية الجمعة لم بين عليها وكلام أحمد في رواية صالح وابن منصور يحتمل هذا لقوله في من
أحرم زحم عن الركوع والسجود حتى سلم إمامه قال تستقبل ظهرا أربعا فيحتمل أنه أراد أنه
يستأنف الصلاة، وذلك لأن الظهر لا تتأدى بنية الجمعة ابتداء وكذلك دواما كالظهر مع العصر وقال
أبو إسحق بن شاقلا ينوي جمعة لئلا يخالف نية إمامه ثم يبنى عليها ظهرا وهذا ظاهر قول قتادة وأيوب
ويونس والشافعي لأنهم قالوا في الذي أحرم مع الإمام بالجمعة ثم زحم عن السجود حتى سلم الإمام
أتمها أربعا فجوزوا له اتمامها ظهرا مع كونه إنما أحرم بالجمعة، وقال الشافعي من أدرك ركعة فلما سلم
الإمام علم أن عليه منها سجدة قال، يسجد سجدة ويأتي بثلاث ركعات لأنه يجوز أن يأتم بمن يصلي
الجمعة فجاز أن يبني صلاته على نيتها، كصلاة المقيم مع المسافر وكما ينوي أنه مأموم ويتم بعد سلام إمامه
منفردا ولا يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة في ابتدائها وكذلك في أثنائها
(فصل) وإذا صلى الإمام الجمعة قبل الزوال فأدرك المأموم معه دون الركعة لم يكن له الدخول
معه لأنها في حقه ظهر فلا يجوز قبل الزوال كعذر يوم الجمعة فإن دخل معه كانت نفلا في حقه ولم تجزئه عن الظهر
ولو أدرك منها ركعة ثم زحم عن سجودها وقلنا تصير ظهرا فإنها تنقلب نفلا لئلا تكون ظهرا قبل وقتها.
(فصل) ولو صلى مع الإمام ركعة ثم في الثانية وأخرج من الصف فصار فذا فنوى
الانفراد عن الإمام، فقياس المذهب أنه يتمها جمعة لأنه مدرك لركعة منها مع الإمام فيبنى عليها جمعة
كما لو أدرك الركعة الثانية وإن لم ينو الانفراد وأتمها مع الإمام، ففيه روايتان إحداهما لا تصح لأنه
فذ في ركعة كاملة أشبه ما لو فعل ذلك عمدا، والثانية تصح لأنه قد يعفى في البناء عن تكميل الشروط
كما لو خرج الوقت وقد صلوا ركعة، وكالمسبوق بركعة يقضي ركعة وحده.
163

(مسألة) قال (ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى
وأجزأتهم جمعة)
ظاهر كلام الخرقي أنه لا يدرك الجمعة إلا بادراك ركعة في وقتها ومتى دخل وقت العصر قبل
ركعة لم تكن جمعة وقال القاضي، متى دخل وقت العصر بعد إحرامه بها أتمها جمعة ونحو هذا قال
أبو الخطاب لأنه أحرم بها في وقتها أشبه ما لو أتمها فيه، والمنصوص عن أحمد أنه إذا دخل وقت
العصر بعد تشهد وقبل سلامه سلم وأجزأته، وهذا قول أبي يوسف ومحمد وظاهر هذا أنه متى دخل
الوقت قبل ذلك بطلت أو انقلبت ظهرا، وقال أبو حنيفة إذا خرج وقت الجمعة قبل فراغه منها بطلت
ولا يبنى عليها ظهرا لأنهما صلاتان مختلفان فلا يبني أحدهما على الأخرى كالظهر والعصر والظاهر
أن مذهب أبي حنيفة في هذا كما ذكرنا عن أحمد، لأن السلام عنده ليس من الصلاة وقال الشافعي
لا يتمها جمعة ويبنى عليها ظهرا لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء إحداهما على الأخرى كصلاة
الحضر والسفر واحتجوا على أنه لا يتمها جمعة بأن ما كان شرطا في بعضها كان شرطا في جميعها
كالطهارة وسائر الشروط.
ولنا قوله عليه السلام (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة) ولأنه أدرك ركعة من
الجمعة فكان مدركا لها كالمسبوق ولان الوقت شرط يختص الجمعة فاكتفى به في ركعة
كالجمعة وما ذكروه ينتقض بالجمعة فإنه يكتفي بادراكها ركعة فعلى هذا إن دخل وقت
العصر قبل ركعة فعلى قياس قول الخرقي تفسد ويستأنفها ظهرا كقول أبي حنيفة، وعلى قول أبي إسحاق
ابن شاقلا يتمها ظهرا كقول الشافعي وقد ذكرنا وجه القولين.
(فصل) إذا أدرك من الوقت ما يمكنه أن يخطب ثم يصلي ركعة فقياس قول الخرقي أن له
التلبس بها لأنه أدرك من الوقت ما يدركها فيه فإن شك هل أدرك من الوقت ما يدركها به أولا؟
صحت لأن الأصل بقاء الوقت وصحتها.
164

(مسألة) قال (ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يرجز فيهما)
وبهذا قال الحسن وابن عيينة ومكحول والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال شريح
وابن سيرين والنخعي وقتادة والثوري ومالك والليث وأبو حنيفة يجلس ويكره له أن يركع لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس (اجلس) فقد آذيت وأنيت رواه ابن ماجة
ولان الركوع يشغله عن اسماع الخطبة، فكره كركوع غير الداخل.
ولنا ما روى جابر قال جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فقال (صليت يا فلان؟)
قال لا قال (قم فاركع) وفي رواية (فصل ركعتين) متفق عليه.
ولمسلم قال، ثم قال (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)
وهذا نص ولأنه دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة فسن له الركوع لقول النبي صلى الله
عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) متفق عليه.
وحديثهم قضية في عين يحتمل أن يكون الموضع يضيق عن الصلاة أو يكون في آخر الخطبة بحيث
لو تشاغل بالصلاة فاتته تكبيرة الاحرام والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالجلوس
ليكف أذاه عن الناس لتخطيه إياهم، فإن كان دخوله في آخر الخطبة بحيث إذا تشاغل بالركوع
فاته أول الصلاة لم يستحب له التشاغل بالركوع.
(فصل) وينقطع التطوع بجلوس الإمام على المنبر فلا يصلي. أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد
ويتجوز فيها لما روى ثعلبة بن أبي مالك أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يوم الجمعة يصلون
حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت
المؤذن وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد وهذا يدل على شهرة الامر بينهم.
165

(فصل) ويجب الانصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لاحد من الحاضرين
وينهى عن ذلك عثمان وابن عمر وقال ابن مسعود إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصى
وكره ذلك عامة أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وعن أحمد رواية أخرى لا يحرم الكلام
وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وإبراهيم بن مهاجر وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب وقال
بعضهم إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا وللشافعي، قولان كالروايتين واحتج من أجاز ذلك بما روى أنس
قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذا قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع وهلك
الشاه فادع الله أن يسقينا - وذكر الحديث إلى أن قال - ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطع
النسل فادع الله يرفعها عنا متفق عليه وروي أن رجلا قام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم
الجمعة فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم
يقبل وأعاد الكلام فلما كان في الثالثة قال له النبي صلى الله عليه وسلم (ويحك ماذا أعددت لها؟) قال
حب الله ورسوله قال (انك مع من أحببت) ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم ولو حرم
عليهم لا نكره عليهم
ولنا ما روى أبو هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا قلت لصاحبك انصت
يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغو ت (متفق عليه وروي عن أبي كعب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قرأ يوم الجمعة (تبارك) فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني متى أنزلت هذه
السورة فانى لم أسمعها الا الآن فأشار إليه ان اسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه
فلم تخبرني قال أبي ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر
له وأخبره بما قال أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صدق أبي) رواه عبد الله بن أحمد في المسند
166

وابن ماجة وروى أبو بكر بن أبي شيبة باسناده عن أبي هريرة نحوه وعن ابن عباس قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا) رواه ابن
أبي خيثمة وما احتجوا به فيحتمل أنه مختص بمن كلم الإمام أو كلمه الإمام لأنه لا يشتغل بذلك عن
سماع خطبته ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل صلى فأجابه وسأل عمر عثمان حين دخل وهو
يخطب فأجابه فتعين حمل اخبارهم على هذا جميعا بين الاخبار وتوفيقا بينهما ولا يصح قياس غيره عليه
لأن كلام الإمام لا يكون في حال الخطبة خلاف غيره وان قدر التعارض فالأخذ بحديثنا أولى لأنه
قول النبي صلى الله عليه وسلم ونصه وذلك سكوته والنص أقوى من السكوت
(فصل) ولا فرق بين القريب والبعيد لعموم ما ذكرناه وقد روي عن عثمان رضي الله عنه
أنه قال من كان قريبا يسمع وينصف ومن كان بعيدا ينصف فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ
ما للسامع وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يحضر الجمعة ثلاثة نفر رجل
حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وان شاء منعه
ورجل حضرها بانصاف وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها
وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رواه أبو داود
(فصل) وللبعيد أن يذكر الله تعالى ويقرأ القرآن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرفع
صوته قال أحمد لا بأس أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين نفسه رخص له في القراءة
والذكر عطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشافعي وليس له ان يرفع صوته ولا يذاكر في الفقه ولا
يصلي ولا يجلس في حلقة وذكر ابن عقيل أن له المذاكرة في الفقه وصلاة النافلة
ولنا عموم ما رويناه وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة رواه أبو
داود ولأنه إذا رفع صوته منع من هو أقرب منه من السماع فيكون مؤذيا له فيكون إثم من آذى
167

المسلمين وصد عن ذكر الله تعالى وإذا ذكر الله فيما بينه وبين نفسه غير أن يسمع أحدا فلا بأس
وهل ذلك أفضل أو الانصات يحتمل وجهين (أحدهما) الانصات أفضل لحديث عبد الله بن عمر وقول
عثمان (والثاني) الذكر أفضل لأنه يحصل له ثوابه من غير ضرر فكان أفضل كما قبل الخطبة
(فصل) ولا يحرم الكلام على الخطيب ولا على من سأله الخطيب لأن النبي صلى الله عليه
وسلم سأل سليكا الداخل وهو يخطب (أصليت) قال لا وعن ابن عمر أن عمر بينا هو يخطب يوم الجمعة
إذ دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه عمر أية ساعة هذه قال إني شغلت
اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت قال عمر: الوضوء أيضا؟ وقد علمت
أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل متفق عليه ولان تحريم الكلام علته
الاشتغال به عن الانصات الواجب وسماع الخطبة ولا يحصل هاهنا وكذلك من كلم الإمام لحاجة
أو سأله عن مسألة بدليل الخبر الذي تقدم ذكره
(فصل) وإذا سمع الانسان متكلم لم ينهه بالكلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قلت
لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) ولكن يشير إليه نص عليه أحمد فيضع أصبعه على فيه
وممن رأى أن يشير ولا يتكلم زيد بن صوحان وعبد الرحمن بن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وابن
المنذر وكره الإشارة طاوس
ولنا أن الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ أومأ الناس إليه بحضرة رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالسكوت ولان الإشارة تجوز في الصلاة التي يبطلها الكلام ففي الخطبة أولى
(فصل) فأما الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر أو من يخاف عليه نارا أو حية أو حريقا
ونحو ذلك فله فعله لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع إفسادها فهاهنا أولى فاما تشميت العاطس
168

ورد السلام ففيه روايتان قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل يرد الرجل السلام يوم الجمعة؟ فقال نعم
ويشمت العاطس؟ فقال نعم والإمام يخطب، قال أبو عبد الله قد فعله غير واحد قال ذلك غير مرة
وممن رخص في ذلك الحسن والشعبي والنخعي والحكم وقتادة والثوري واسحق وذلك لأن هذا
واجب فوجب الاتيان به في الخطبة كتحذير الضرير، والرواية الثانية إن كان لا يسمع رد السلام
وتشميت العاطس وإن كان يسمع لم يفعل قال أحمد إذا سمعت الخطبة فاستمع
وانصت ولا تقرأ ولا تشمت وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمت ورد السلام وقال أبو داود قلت
لأحمد يرد السلام والإمام يخطب ويشمت العاطس؟ قال إذا كان ليس يسمع الخطبة فيرد وإذا كان
يسمع فلا. لقول الله تعالى (فاسمعوا له وأنصتوا) وقيل لأحمد الرجل يسمع نغمة الإمام بالخطبة
ولا يدري ما يقول يرد السلام؟ قال لا، إذا سمع شيئا وروي نحو ذلك عن عطاء وذلك لأن الانصات
واجب فلم يجز الكلام المانع منه من غير ضرورة كالأمر بالانصات بخلاف من لم يسمع وقال القاضي
لا يرد ولا يشمت وروي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي واختلف
قول الشافعي فيحتمل أن يكون هذا القول مختصا بمن يسمع دون من لم يسمع فيكون مثل الرواية الثانية
ويحتمل أن يكون عاما في كل حاضر يسمع أو لم يسمع لأن وجوب الانصات شامل لهم فيكون المنع
من رد السلام وتشميت العاطس ثابتا في حقهم كالسامعين
(فصل) لا يكره الكلام قبل شروعه في الخطبة وبعد فراغه منها وبهذا قال عطاء وطاوس
والزهري وبكر المزني والنخعي ومالك والشافعي واسحق ويعقوب ومحمد وروي ذلك عن ابن عمر
وكرهه الحكم وقال أبو حنيفة إذا خرج الإمام حرم الكلام قال ابن عبد البر إن عمر وابن عباس كانا
يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ولا مخالف لهما في الصحابة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب انصت فقد لغوت)
169

فحصة بوقت الخطبة وقال ثعلبة ابن أبي مالك إنهم كانوا في زمن عمر إذا خرج عمر وجلس على المنبر
وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذنون وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد وهذا يدل
على شهرة الامر بينهم ولان الكلام إنما حرم لأجل الانصات للخطبة فلا وجه لتحريمه مع عدمها
وقولهم لا مخالف لهما في الصحابة قد ذكرنا عن عمومهم خلاف هذا القول
(فصل) فاما الكلام في الجلسة بين الخطبتين فيحتمل أن يكون جائزا لأن الإمام غير خاطب
ولا متكلم فأشبه ما قبلها وبعدها وهذا قول الحسن ويحتمل أن يمنع منه وهو قول مالك والشافعي
والأوزاعي واسحق لأنه سكوت يسير في أثناء الخطبتين أشبه السكوت للتنفس
(فصل) إذا بلغ الخطبتين إلى الدعاء فهل يسوغ الكلام فيه وجهان (أحدهما) الجواز لأنه
فرغ من الخطبة وشرع في غيرها فأشبه ما لو نزل ويحتمل أن يجوز لأنه تابع للخطبة فيثبت له
ما ثبت لها كالتطويل في الموعظة ويحتمل أنه إن كان دعاء مشروعا كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات
وللإمام العادل أنصت له وان لغيره لم يلزم الانصات لأنه لا حرمة له
(فصل) ويكره العبث والإمام يخطب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ومن مس الحصى فقد
لغا) رواه مسلم قال الترمذي هذا حديث صحيح واللغو الاثم قال الله تعالى (والذين هم عن اللغو
معرضون) ولان العبث يمنع الخشوع والفهم ويكره أن يشرب والإمام يخطب إن كان ممن يسمع
وبه قال مالك والأوزاعي ورخص فيه مجاهد وطاوس والشافعي لأنه لا يشغل عن السماع
ولنا أنه فعل يشتغل به أشبه مس الحصى فاما إن كان لا يسمع فلا يكره نص عليه لأنه
لا يستمع فلا يشتغل به
(فصل) قال أحمد لا يتصدق على السؤال والإمام يخطب وذلك لأنهم فعلوا مالا يجوز فلا
يعينهم عليه قال أحمد وان حصبه كان أعجب إلي لأن ابن عمر رأى سائلا يسأل والإمام يخطب
يوم الجمعة فحصبه وقيل لأحمد فإن تصدق عليه انسان فناوله والإمام يخطب؟ قال لا يأخذ منه قيل فإن
170

سأل قبل خطبة الإمام ثم جلس فأعطاني رجل صدقة أناولها إياه؟ قال نعم هذا لم يسأل والإمام يخطب
(فصل) ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب روي ذلك عن ابن عمر وجماعة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه سلم واليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء وشريح
وعكرمة بن خالد وسالم ونافع ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، قال أبو داود
لم يبلغني أن أحدا كرهه الا عبادة ابن نسي لأن سهل ابن معاذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب رواه أبو داود
ولنا ما روي يعلي ابن شداد بن أوس قال شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا فنظرت
فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب وفعله
ابن عمر وأنس ولم نعرف لهم مخالفا فكان اجماعا والحديث في اسناده مقال قال ابن المنذر والأولى
تركه لأجل الخبر وإن كان ضعيفا ولأنه يكون متهيئا للنوم والوقوع وانتقاض الوضوء فيكون توكه
أولى والله أعلم ويحمل النهي في الحديث على الكراهة ويحمل أحوال الصحابة الذين فعلوا ذلك
على أنهم لم يبلغهم الخبر
(مسألة) قال (وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة)
وجملته ان الجمعة إنما تجب بسبعة شرائط (إحداها) أن تكون في قرية و (الثاني) ان يكونوا
أربعين و (الثالث) الذكورية و (الرابع) البلوغ و (الخامس) العقل و (السادس) الاسلام
و (السابع) الاستيطان وهذا قول أكثر أهل العلم، فاما القرية فيعتبر أن تكون مبنية بما جرت العادة
ببنائها به من حجر أو طين أو لبن أو قصب أو شجر ونحوه فأما أهل الخيام وبيوت الشعر والحركات
فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالبا وكذلك كانت قبائل العرب حول
المدينة فلم يقيموا جمعة ولا أمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك لم يخف ولم يترك نقله مع
كثرته وعموم البلوى به لكن إن كانوا مقيمين بموضع يسمعون النداء لزمهم السعي إليها، كاهل
القرية الصغيرة إلى جانب نصر ذكره القاضي، ويشترط في القرية أيضا أن تكون مجتمعة البناء بما
جرت العادة في القرية الواحدة فإن كانت متفرقة المنازل تفرقا لم تجر العادة به لم تجب عليهم الجمعة
الا أن يجتمع منها ما يسكنه أربعون فتجب الجمعة بهم ويتبعهم الباقون ولا يشترط اتصال البنيان بعضه
ببعض، وحكي عن الشافعي أنه شرط ولا يصح لأن القرية المتقاربة البنيان قرية مبنية على ما جرت به
171

عادة القرى فأشبهت المتصلة ومتى كانت القرية لا تجب الجمعة على أهلها بأنفسهم وكانوا بحيث يسمعون
النداء من المصر أو من قرية تقام فيها الجمعة لزمهم السعي إليها لعموم الآية
(فصل) فاما الاسلام والعقل والذكورية فلا خلاف في اشترطها لوجوب الجمعة وانعقادها
لأن الاسلام والعقل شرطان للتكليف وصحة العبادة المحضة والذكورية شرط لوجوب الجمعة وانعقادها
لأن الجمعة يجتمع لها الرجال، والمرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال ولكنها تصح منها
لصحة الجماعة منها فإن النساء كن يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجماعة.
وأما البلوغ فهو شرط أيضا لوجوب الجمعة وانعقادها في الصحيح من المذهب وقول أكثر أهل
العلم لأنه من شرائط التكليف بدليل قوله عليه السلام (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) وذكر
بعض أصحابنا في الصبي رواية أخرى أنها واجبة عليه بناء على تكليف ولا معول عليه
(فصل) فاما الأربعون فالمشهور في المذهب أنه شرط لوجوب الجمعة وصحتها
وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو مذهب مالك والشافعي
وروي عن أحمد أنها لا تنعقد إلا بخمسين، لما روى أبو بكر النجاد عن عبد الملك الرقاشي حدثنا
رجاء بن سلمة حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي إمامة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على ما دون ذلك) وباسناده عن الزهري
عن أبي سلمة قال قلت لأبي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال لما بلغ أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أحمد أنها تنعقد بثلاثة، وهو قول
الأوزاعي وأبي ثور لأنه يتناوله اسم الجمع فانعقدت به الجماعة كالأربعين ولان الله تعالى قال (إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وهذه صيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة وقال أبو حنيفة
تنعقد بأربعة لأنه عدد على أقل الجمع المطلق أشبه الأربعين وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلا
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى مصعب بن عمير بالمدينة فأمره أن يصلي الجمعة عند
الزوال ركعتين وان يخطب فيهما فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثني عشر رجلا وعن
جابر قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة فخرج الناس إليها فلم يبق إلا
172

اثنا عشر رجلا أنا فيهم فأنزل الله تعالى (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) إلى آخر
الآية رواه مسلم وما يشترط للابتداء يشترط للاستدامة.
ولنا ما روى كعب بن مالك قال أول من جمع بنا أسعد بن زرارة في هزم النبيت من حرة بني
بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ قال أربعون رواه أبو داود والأثرم
وروى خصيف عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال، مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها
جمعة رواه الدارقطني وضعفه ابن الجوزي وقول الصحابي مضت السنة ينصرف إلى سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فاما من روى أنهم كانوا اثنى عشر رجلا فلا يصح فإن ما رويناه أصح منه رواه
أصحاب السنن والخبر الآخر يحتمل أنهم عادوا فحضروا القدر الواجب ويحتمل أنهم عادوا قبل
طول الفصل، فأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل له فيه فإن التقديرات بابها التوقيف فلا
مدخل للرأي فيها ولا معنى لاشتراط كونه جمعا ولا للزيادة على الجمع إذ لا نص في هذا ولا معني
نص ولو كان الجمع كافيا فيه لاكتفى بالاثنين فإن الجماعة تنعقد بهما.
(فصل) فاما الاستيطان فهو شرط في قول أكثر أهل العلم الإقامة في قرية على الأوصاف
المذكورة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء ولا تجب على مسافر ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها
في الشتاء دون الصيف أو في بعض السنة فإن خربت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون بها عازمون على
اصلاحها فحكمها باق في إقامة الجمعة بها وان عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان
(فصل) واختلفت الرواية في شرطين آخرين أحدهما الحرية ونذكرها في موضعها إن شاء الله
تعالى، والثاني اذن الإمام والصحيح أنه ليس بشرط وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور والثانية هو
شرط روي ذلك عن الحسن والأوزاعي وحبيب بن أبي ثابت وأبي حنيفة لأنه لا يقيمها الا الأئمة في
كل عصر فصار ذلك اجماعا.
ولنا أن عليا صلى الجمعة بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد وصوب ذلك عثمان وأمر بالصلاة
معهم، فروى حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان وهو محصور
فقال إنه قد نزل بك ما ترى وأنت إمام العامة وهو يصلي بنا إمام فتنة وأنا أتحرج من الصلاة معه
فقال إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم
أخرجه البخاري والأثرم وهذا لفظ رواية الأثرم وقال أحمد وقعت الفتنة بالشام تسع سنين فكانوا يجمعون
173

وروى مالك في الموطأ عن أبي جعفر القاري أنه رأى صاحب المقصورة في الفتنة حين حضرت
الصلاة فخرج يتبع الناس يقول من يصلي بالناس حتى انتهى إلى عبد الله بن عمر فقال له عبد الله ابن
عمر تقدم أنت فصل بين يدي الناس ولأنها من فرائض الأعيان فلم يشترط لها اذن الإمام كالظهر
ولأنها صلاة أشبهت سائر الصلوات وما ذكروه اجماعا لا يصح فإن الناس يقيمون الجمعات في القرى
من غير استئذان أحد ثم لو صح انه لم يقع الا ذلك لكان اجماعا على جواز ما وقع لا على تحريم غيره
كالحج يتولاه الأئمة وليس بشرط فيه.
فإن قلنا هو شرط فلم يأذن الإمام فيه لم يجز أن يصلوا جمعة وصلوا ظهرا وان اذن في اقامتها ثم
مات بطل اذنه بموته فإن صلوا ثم بان أنه قد مات قبل ذلك فهل تجزيهم صلاتهم على روايتين أصحهما
انها تجزيهم لأن المسلمين في الأمصار النائية عن بلد الإمام لا يعيدون ما صلوا من الجمعات بعد موته
ولا نعلم أحدا أنكر ذلك عليهم فكان اجماعا ولان وجوب الإعادة يشق لعمومه في أكثر البلدان
وان تعذر اذن الإمام لفتنة، فقال القاضي ظاهر كلامه صحتها بغير اذن على كلتا الروايتين فعلى
هذا يكون الاذن معتبرا مع إمكانه ويسقط اعتباره بتعذره
(فصل) ولا يشترط للجمعة المصر روي نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي
والليث ومكحول وعكرمة والشافعي، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا
في مصر جامع، وبه قال الحسن وابن سيرين وإبراهيم وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، لأنه قد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع)
ولنا ما روى كعب بن مالك أنه قال أسعد ابن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة
بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات. رواه أبو داود، وقال ابن جريج: قلت لعطاء تعني إذا
174

كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من
المدينة. وعن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة المدينة لجمعة جمعت بجواثا من البحرين
من قرى عبد القيس. رواه البخاري، وروى أبو هريرة أنه كتب إلى عمر يسأله عن الجمعة بالبحرين
وكان عامله عليها فكتب إليه عمر جمعوا حيث كنتم. رواه الأثرم، قال احمد اسناد جيد، فأما خبرهم
فلم يصح. قال احمد: ليس هذا بحديث، وراه الأعمش عن أبي سعيد المقبري ولم يلقه قال احمد
الأعمش لم يسمع من أبي سعيد إنما هو عن علي وقول عمر يخالفه
(فصل) ولا يشترط لصحة الجمعة اقامتها في البنيان ويجوز اقامتها فيما قاربه من الصحراء،
وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا تجوز في غير البنيان لأنه موضع يجوز لأهل المصر قصر
الصلاة فيه فأشبه البعيد
ولنا أن مصعب ابن عمير جمع بالأنصار في هزم النبيت في نقيع الخضمات والنقيع بطن من الأرض
يستنقع فيه الماء مدة، فإذا نضب الماء نبت الكلأ، ولأنه موضع لصلاة العيد فجازت فيه الجمعة
كالجامع، ولان الجمعة صلاة عيد فجازت في المصلي كصلاة الأضحى، ولان الأصل عدم اشتراط ذلك
ولا نص في اشتراطه ولا معنى نص فلا يشترط
(مسألة) قال (وان صلوا أعادوها ظهرا)
وجملته أن ما كان شرطا لوجوب الجمعة فهو شرط لانعقادها فمتى صلوا جمعة مع اختلال بعض
175

شروطها لم يصح ولزمهم أن يصلوا ظهرا ولا يعد في الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة من لا تجب
عليه ولا يعتبر اجتماع الشروط للصحة، بل تصح ممن لا تجب عليه تبعا لمن وجبت عليه، ولا يعتبر
في وجوبها كونه ممن تنعقد به فإنها تجب على من يستمع النداء من غير أهل المصر ولا تنعقد به
(فصل) ويعتبر استدامة الشروط في القدر الواجب من الخطبتين. وقال أبو حنيفة في رواية:
عنه لا يشترط العدد فيهما لأنه ذكره يتقدم الصلاة فلم يشترط له العدد كالاذان
ولنا أنه ذكر من شرائط الجمعة فكان من شرطه العدد كتكبيرة الاحرام ويفارق الاذان فإنه
ليس بشرط، وإنما مقصوده الاعلام والاعلام للغائبين، والخطبة مقصودها التذكير والموعظة، وذلك أنما يكون للحاضرين وهي مشتقة من الخطاب والخطاب إنما يكون للحاضرين، فعلى هذا إن انفضوا
في أثناء الخطبة ثم عادوا فحضروا والقدر الواجب أجزأهم والا لم يجزئهم إلا أن يحضر والقدر الواجب
ثم ينفضوا ويعودوا قبل شروعه في الصلاة من غير طول الفصل، فإن طال الفعل لزمه إعادة الخطبة
إن كان الوقت متسعا لأنهم من أهل وجوب الجمعة والوقت متسع لها لتصح لهم الجمعة، وإن ضاق
الوقت صلوا ظهرا والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة
176

(فصل) ويعتبر استدامة الشروط في جميع الصلاة، فإن نقص العدد قبل كمالها فظاهر كلام
احمد أنه لا يتمها جمعة وهذا أحد قولي الشافعي لأنه فقد بعض شرائط الصلاة فأشبه فقد الطهارة
وقياس قول الخرقي أنهم ان انفضوا بعد ركعة أنه يتمها جمعة وهذا قول مالك، وقال المزني: هو
177

الأشبه عندي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى)
ولأنهم أدركوا ركعة فصحت لهم جمعة كالمسبوقين بركعة، ولان العدد شرط يختص الجمعة فلم
178

يفت بفواته في ركعة كما لو دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة، وقال أبو حنيفة: ان انفضوا بعد
ما صلى ركعة بسجدة واحدة أتمها جمعة لأنهم أدركوا معظم الركعة فأشبه ما لو أدركوها بسجدتيها
179

وقال إسحاق: إن بقي معه عشر رجلا أتمها جمعة لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انفضوا
عنه فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا فأتمها جمعة. وقال الشافعي في أحد أقواله: إن بقي معه اثنان
180

أتمها جمعة وهو الثوري لأنه أقل الجمع، وحكى عنه أبو ثور إن بقي معه واحد أتمها
جمعة لأن الاثنين جماعة
ولنا أنهم لم يدركوا ركعة كاملة بشروط الجمعة فأشبه ما لو انفض الجميع قبل الركوع في الأولى
181

وقولهم أدرك معظم الركعة يبطل بمن لم يفته من الركعة إلا السجدتان فإنه أدرك معظمها. وقول
الشافعي بقي معه تنعقد به الجماعة لا يصح لأن هذا لا يكفي في الابتداء فلا يكفي في الدوام إذا
ثبت هذا فكل موضع قلنا لا يتمها جمعة فقياس قول الخرقي أنها تبطل ويستأنف ظهرا إلا أن يمكنهم فعل
182

الجمعة مرة أخرى فيعيدونها. قال أبو بكر: لا أعلم خلافا عن أحمد إن لم يتم العدد في الصلاة والخطبة
أنهم يعيدون الصلاة، وقياس قول أبي إسحاق بن شاقلا أنهم يتمونها ظهرا وهذا قول القاضي
وقال قد نص عليها احمد في الذي زحم عن أفعال الجمعة حتى سلم الإمام يتمها ظهرا ووجه القولين قد تقدم
183

(مسألة) قال (وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعا جائزة)
وجملته أن البلد متى كان كبيرا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتبعد
184

أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت إقامة الجماعة
فيما يحتاج إليه من جوامعها وهذا قول عطاء، وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها لأن الحدود
تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود، ومقتضى قوله أنه لو وجد بلد أخر تقام فيه الحدود
185

في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد لأن النبي
186

صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع الا في المسجد واحد وكذلك الخلفاء بعده ولو جاز لم يعطلوا المساجد
حتى قال ابن عمر: لاتقاء الجمعة الا في المسجد الأكبر الذي يصلى فيه الإمام
ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد، وقد
187

ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود
البدري فيصلى بهم، فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم اقامه جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولان أصحابه
188

كانوا يرون سماع خطبة وشهود جمعته وان بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام
ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار اجماعا. وقول ابن عمر
يعنى أنها لا تقام في المسجد الصغار ويترك الكبير، وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له. قال
189

أبو داود سمعت احمد يقول: أي حد كان يقام بالمدينة، قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار
فجمع بهم وهم أربعون
(فصل) فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد وان حصل الغنى باثنين لم تجز
الثالثة وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفا الا أن عطاء قيل له إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد
الأكبر قال لكل قوم مسجد يجمعون فيه ويجزى ذلك من التجميع في المسجد الأكبر وما عليه
الجمهور أولى، إذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه انهم جمعوا أكثر من جمعة، إذا لم تدع
الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل، فإن صلوا جمعتين في مصر واحد
190

من غير حاجة وأحدهما جمعة الإمام فهي صحيحة تقدمت أو تأخرت والأخرى باطلة لأن في الحكم
ببطلان جمعة الإمام افتياتا عليه وتفويتا له الجمعة ولمن يصلي معه ويفضي إلى أنه متى شاء أربعون أن
يقصدوا صلاة أهل البلد أمكنهم ذلك بأن يجتمعوا في موضع وسبقوا أهل البلد بصلاة الجمعة. وقيل
السابقة هي الصحيحة لأنها لم يتقدمها ما يفسدها ولا تفسد بعد صحتها بما بعدها والأولى أصح لما ذكرنا
وإن كانت إحداهما في المسجد الجامع والأخرى في مكان صغير لا يسع المصلين أو ولا يمكنهم الصلاة
فيه لاختصاص السلطان وجنده به أو غير ذلك أو كان أحدهما في قصبة والآخر في أقصى المدينة
كان من وجدت فيه هذه المعاني صلاتهم صحيحة دون الأخرى وهذه قول مالك فإنه قال لا أرى الجمعة
الا لأهل القصبة وذلك لأن لهذه المعاني مزية تقتضي التقديم فقدم بها كجمعة الإمام. ويحتمل أن
تصح السابقة منهما دون الأخرى لأن اذن الإمام آكد ولذلك اشترط في إحدى الروايتين
وإن لم يكن لإحداهما مزية لكونهما جميعا مأذونا فيهما أو غير مأذون في واحدة منهما وتساوى المكانان
في إمكان إقامة الجمعة في كل واحد منهما فالسابقة هي الصحيحة لأنها وقعت بشروطها ولم
يزاحمها ما يبطلها ولا سبقها ما يغني عنها والثانية باطلة لكونها واقعة في مصر أقيمت فيه جمعة صحيحة
تغني عما سواها ويعتبر السبق بالاحرام لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الاحرام بغيرها للغنى عنها فإن
191

وقع الاحرام بهما معا فهما باطلتان معا لأنه لا يمكن صحتهما معا وليست إحداهما بالفساد أولى من
الأخرى فبطلتا كالمتزوج أختين أو إذا زوج الوليان رجلين وان لم تعلم الأولى منهما أو لم
يعلم كيفية وقوعهما بطلتا أيضا لأن إحداهما باطلة ولم تعلم بعينها وليست إحداهما بالابطال أولى
من الأخرى فبطلتا كالمسئلتين ثم إن علمنا فساد الجمعتين لوقوعهما معا وجب إعادة الجمعة ان أمكن
ذلك لبقاء الوقت لأنه مصر ما أقيمت فيه جمعة صحيحة والوقت متسع لاقامتها فلزمتهم كما لو لم
يصلوا شيئا وان تيقنا صحة إحداهما لا بعينها فليس لهم أن يصلوا الا ظهرا لأنه مصر تيقنا سقوط
فرض الجمعة فيه بالأولى منهما فلم يجز إقامة الجمعة فيه كما لو علمناها. وقال القاضي يحتمل ان لهم إقامة
جمعة أخرى لأننا حكمنا بفسادهما معا فكأن المصر ما صليت فيه جمعة صحيحة والصحيح الأول
لأن الصحيحة لم تفسد وإنما لم يمكن اثبات حكم الصحة لها بعينها لجهلها فيصبر هذا كما لو زوج
الوليان أحدهما قبل الآخر وجهل السابق منهما فإنه لا يثبت حكم الصحة بالنسبة إلى واحد بعينه
وثبت حكم النكاح في حق المرأة بحيث لا يحل لها أن تنكح زوجا آخر فأما ان جهلنا كيفية وقوعهما
فالأولى ان لا يجوز إقامة الجمعة أيضا لأن الظاهر صحة إحداهما لأن وقوعهما معا بحيث لا يسبق احرام أحداهما
الأخرى بعيد جدا وما كان في غاية الندرة فحكمه حكم المعدوم ولأننا شككنا في شرط إقامة الجمعة فلم
يجز اقامتها مع الشك في شرطها ويحتمل أن لهم اقامتها لأننا لم نتيقن المانع من صحتها والأول أولى
192

(فصل) وان أحرم بالجمعة فتبين في أثناء الصلاة أن الجمعة قد أقيمت في المصر بطلت
الجمعة ولزمهم استئناف الظهر لأننا تبينا انه أحرم بها في وقت لا يجوز الاحرام بالجمعة فلا تصح
فأشبه ما لو تبين انه أحرم بها بعد دخول وقت العصر. وقال القاضي يستحب أن يستأنف ظهرا وهذا
من قوله يدل على أن له اتمامها ظهرا قياسا على المسبوق الذي أدرك دون الركعة وكما لو أحرم بالجمعة
فانفض العدد قبل اتمامها والفرق ظاهر فإن هذا أحرم بها في وقت لا تصح الجمعة فيه ولا يجوز الاحرام
بها والأصل الذي قاس عليه بخلاف هذا
(فصل) وإذا كانت قرية إلى جانب مصر يسمعون النداء منه فأقاموا جمعة فيها لم تبطل جمعة أهل
المصر لأنهم في غير المصر ولان لجمعة المصر مزية بكونها فيه. ولو كان مصران متقاربان يسمع أهل كل
مصر نداء المصر الآخر كاهل مصر والقاهرة (1) لم تبطل جمعة أحدهما بجمعة الآخر وكذلك القريتان
المتقاربتان لأن لكل قوم منهم حكم أنفسهم بدليل أن جمعة أحد الفريقين لا يتم عددها بالفريق الاخر ولا
تلزمهم الجمعة بكمال العدة بالفريق الآخر وإنما يلزمهم السعي إذا لم يكن لهم جمعة فهم كاهل المحلة القريبة من المصر
(مسألة) قال (ولا جمعة على مسافر ولا عبد ولا امرأة)
وعن أبي عبد الله رحمه الله في العبد روايتان أحدهما أن الجمعة عليه واجبة والرواية الأخرى
ليست عليه بواجبة أما المرأة فلا خلاف في أنها لا جمعة عليها قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه
من أهل العلم أن لا جمعة على النساء ولأن المرأة ليس من أهل الحضور في مجامع الرجال ولذلك
لا تجب عليها جماعة. واما المسافر فأكثر أهل العلم يرون انه لا جمعة عليه كذلك قاله مالك في أهل
المدينة والثوري في أهل العراق والشافعي واسحق وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء وعمر بن عبد
العزيز والحسن والشعبي. وحكي عن الزهري والنخعي انها تجب عليه لأن الجماعة عليه فالجمعة أولى

(1) كان اسم مصر يطلق على الفسطاط وما صار يسمى مصر القديمة. وكانت القاهرة التي بناها الفاطميون منفصلة عنها ثم اتصلت فهما الآن مدينة واحدة
193

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره وكان في حجة الوداع
بعرفة يوم جمعة فصلى الظهر والعصر جمع بينهما ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم
كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم وقد قال إبراهيم كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك
وبسجستان السنين لا يجمعون ولا يشرقون، وعن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال أقمت معه سنين
بكابل يقصر الصلاة ولا يجمع رواهما سعيد، وأقام أنس بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يجمع
ذكره ابن المنذر وهذا إجماع مع السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته
(فصل) فأما العبد ففيه روايتان إحداهما لا تجب عليه الجمعة وهو قول من سمينا في حق المسافر
والثانية تجب عليه ولا يذهب من غير إذن سيده نقلها المروزي واختارها أبو بكر وبذلك قالت
طائفة إلا أن له تركها إذا منعه السيد، واحتجوا بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) ولان الجماعة تجب عليه والجمعة آكد منها فتكون أولى بالوجوب
وحكي عن الحسن وقتادة انها تجب على العبد الذي يؤدي الضريبة لأن حقه عليه قد تحول إلى المال
فأشبه من عليه الدين
ولنا ما روى طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الجمعة حق واجب على
كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض) رواه أبو داود وقال: طارق رأي النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه وهو من أصحابه، وعن جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا أو مسافرا أو امرأة أو
صبيا أو مملوكا) رواه الدارقطني. وعن تميم الداري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(الجمعة واجبة إلا على خمسة امرأة أو صبي أو مريض أو مسافر أو عبد) رواه رجاء بن مروجاء الغفاري
194

في سننه ولان الجمعة يجب السعي إليها من مكان بعيد فلم تجب عليه كالحج والجهاد ولأنه مملوك المنفعة
محبوس على السيد أشبه المحبوس بالدين ولأنها لو وجبت عليه لجاز له المضي إليها من غير إذن سيده
ولم يكن لسيده منعه منها كسائر الفرائض والآية مخصوصة بذوي الأعذار وهذا منهم
(فصل) والمكاتب والمدبر حكمهما في ذلك حكم القن لبقاء الرق فيهما، وكذلك من بعضه
حرفان حق سيده متعلق به وكذلك لا يجب عليه شئ مما يسقط عن العبد
(فصل) إذا أجمع المسافر إقامة تمنع القصر ولم يرد استيطان البلد كطلب العلم أو الرباط أو
التاجر الذي يقيم لبيع متاعه أو مشترى شئ لا ينجز إلا في مدة طويلة ففيه وجهان: أحدهما تلزمه
الجمعة لعموم الآية ودلالة الاخبار التي رويناها فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها إلا على الخمسة
الذين استثناهم وليس هذا منهم، والثاني لا تجب عليه لأنه ليس بمستوطن والاستيطان من شرط
الوجوب ولأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد على الدوام فأشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفا ويظعنون
عنها شتاء ولأنهم كانوا يقيمون السنة والسنتين لا يجمعون ولا يشرقون أي لا يصلون جمعة ولا عيدا
فإن قلنا تجب الجمعة عليه فالظاهر أنها لا تنعقد به لعدم الاستيطان الذي هو من شرط الانعقاد
(فصل) ولا تجب الجمعة علي من في طريقه إليها مطر يبل الثياب أو وحل يشق المشي إليها فيه
وحكي عن مالك انه كان لا يجعل المطر عذرا في التخلف عنها
ولنا ما روي عن ابن عباس انه أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمدا
رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم قال فكأن الناس استنكروا ذلك. فقال أتعجبون
من ذا؟ فعل ذا من هو خير مني ان الجمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم إليها فتمشوا في الطين
والدحض. أخرجه مسلم ولأنه عذر في الجماعة فكان عذرا في الجمعة كالمرض، وتسقط الجمعة بكل
عذر يسقط الجماعة، وقد ذكرنا الاعذار في آخر صفة الصلاة وإنما ذكرنا المطر ها هنا لوقوع الخلاف فيه
195

(فصل) تجب الجمعة على الأعمى وقال أبو حنيفة لا تجب عليه. ولنا عموم الآية والاخبار
وقوله (الجمعة إلا على أربعة) وما ذكرنا في وجوب الجماعة عليه
(مسألة) قال (وان حضروها أجزأتهم يعني تجزيهم الجمعة عن الظهر ولا نعلم في
هذا خلافا)
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا جمعة على النساء وأجمعوا على أنهن
إذا حضرن فصلين الجمعة أن ذلك يجزي عنهن لأن اسقاط الجمعة للتخفيف عنهن فإذا تحملوا المشقة
وصلوا أجزأهم (1) كالمريض
(فصل) والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أكمل. فأما العبد فإن أذن له سيده في حضورها
فهو أفضل لينال فضل الجمعة وثوابها ويخرج من الخلاف، وإن منعه سيده لم يكن له حضورها إلا
أن نقول بوجوبها عليه، وأما المرأة فإن كانت مسنة فلا بأس بحضورها وإن كانت شابة جاز حضورها
وصلاتهما في بيوتهما خير لهما كما روي في الخبر (وبيوتهن خير لهن) وقال أبو عمر والشيباني رأيت
ابن مسعود يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة يقول: اخرجن إلى بيوتكن خير لكن
(فصل) ولا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ولا يصح أن يكون إماما فيها، وقال أبو حنيفة
والشافعي يجوز أن يكون العبد والمسافر إماما فيها ووافقهم مالك في المسافر. وحكي عن أبي حنيفة ان
الجمعة تصح بالعبيد والمسافرين لأنهم رجال تصح منهم الجمعة
ولنا انهم من غير أهل فرض الجمعة فلم تنعقد الجمعة بهم ولم يجز أن يؤموا فيها كالنساء والصبيان
ولان الجمعة إنما تنعقد بهم تبعا لمن انعقدت به فلو انعقدت به فلو انعقدت بهم أو كانوا أئمة فيها صار التبع متبوعا
وعليه يخرج الحر المقيم (2) ولان الجمعة لو انعقدت بهم لانعقدت بهم منفردين كالاحرار المقيمين وقياسهم
منتقض بالنساء والصبيان

(1) كذا والصواب تحملن وصلين وأجزأهن فهو تحريف من النساخ غالبا
(2) هذه الجملة ساقطة من النسخة الأزهرية
196

(فصل) فأما المريض ومن حبسه العذر من المطر والخوف فإذا تكلف حضورها وجبت عليه
وانعقدت به، ويصح أن يكون إماما فيها لأن سقوطها عنهم إنما كان لمشقة السعي فإذا تكلفوا وحصلوا
في الجامع زالت المشقة فوجبت عليهم كغير أهل الاعذار
(مسألة) قال (ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة
الإمام أعادها بعد صلاته ظهرا)
يعني من وجبت عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة لم يصح ويلزمه السعي إلى
الجمعة إن ظن أنه يدركها لأنها المفروضة عليه فإن أدركها معه صلاها وإن فاتته فعليه صلاة الظهر،
وإن ظن أنه لا يدركها انتظر حتى يتيقن ان الإمام قد صلى ثم يصلي الظهر وهذا قول مالك والثوري
والشافعي في الجديد، وقال أبو حنيفة والشافعي في القديم تصح ظهره قبل صلاة الإمام لأن الظهر فرض
الوقت بدليل سائر الأيام وإنما الجمعة بدل عنها وقائمة مقامها ولهذا إذا تعذرت الجمعة صلى ظهرا،
فمن صلى الظهر فقد أتى بالأصل فأجزاه كسائر الأيام، وقال أبو حنيفة ويلزم السعي إلى الجمعة فإن
سعي بطلت ظهره وإن لم يسع أجزأته
ولنا انه صلى ما لم يخاطب به وترك ما خوطب به فلم تصح كما لو صلى العصر مكان الظهر. ولا نزاع في أنه مخاطب
بالجمعة فسقطت عنه الظهر كما لو كان بعيدا وقد دل عليه النص والاجماع، ولا خلاف في أنه يأثم بتركها وترك
السعي إليها ويلزم من ذلك أن لا يخاطب بالظهر لأنه لا يخاطب في الوقت بصلاتين ولأنه يأثم بترك الجمعة وإن
صلى الظهر ولا يأثم بفعل الجمعة وترك الظهر بالاجماع، والواجب ما يأثم بتركه دون ما لم يأثم به.
وقولهم إن الظهر فرض الوقت لا يصح لأنها لو كانت الأصل لوجب عليه فعلها وأثم بتركها ولم تجزه
صلاة الجمعة مع امكانها فإن البدل لا يصار إليه إلا عند تعذر المبدل بدليل سائر الابدال مع مبدلاتها
197

ولان الظهر لو صحت لم تبطل بالسعي إلى غيرها كسائر الصلوات الصحيحة ولان الصلاة إذا صحت
برئت الذمة منها وأسقطت الفرض عمن صلاها فلا يجوز اشتغالها بها بعد ذلك، ولان الصلاة إذا
فرغ منها لم تبطل بشئ من مبطلاتها فكيف تبطل بما ليس من مبطلاتها ولا ورد الشرع به. فأما
إذا فاتته الجمعة فإنه يصير إلى الظهر لأن الجمعة لا يمكن قضاؤها لأنها لا تصح إلا بشروطها ولا يوجد
ذلك في قضائها فتعين المصير إلى الظهر عند عدمها وهذا حال البدل
(فصل) فإن صلى الظهر ثم شك هل صلى قبل صلاة الإمام أو بعدها لزمه اعادتها لأن الأصل
بقاء الصلاة في ذمته فلا يبرأ منها إلا بيقين ولأنه صلاها مع الشك في شرطها فلم تصح كما لو صلاها
مع الشك في طهارتها، وان صلاها مع صلاة الإمام لم تصح لأنه صلاها قبل فراغ الإمام منها أشبه
ما لو صلاها قبله في وقت يعلم أنه لا يدركها
(فصل) فأما من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر والعبد والمرأة والمريض وسائر المعذورين فله أن
يصلي الظهر قبل صلاة الإمام في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو بكر عبد العزيز لا تصح صلاته قبل
الإمام لأنه لا يتيقن بقاء العذر فلم تصح صلاته كغير المعذور
ولنا انه لم يخاطب بالجمعة فصحت منه الظهر كما لو كان بعيدا من موضع الجمعة، وقوله لا يتقين
بقاء العذر قلنا أما المرأة فمعلوم بقاء عذرها وأما غيرها فالظاهر بقاء عذره، والأصل استمراره
فأشبه المتيمم إذا صلى في أول الوقت والمريض إذا صلى جالسا. إذا ثبت هذا فإنه ان صلاها ثم سعى
إلى الجمعة لم تبطل ظهره وكانت الجمعة نفلا في حقه سواء زال عذره أو لم يزل، وقال أبو حنيفة تبطل
ظهره بالسعي إليها كالتي قبلها
ولنا ما روى أبو العالية قال سألت عبد الله بن الصامت فقلت نصلي يوم الجمعة خلف أمراء
فيؤخرون الصلاة فقال سألت أبا ذر عن ذلك فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال
198

(صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة) وفي لفظ (فإذا أدركتها معهم فصل فإنها لك
نافلة) ولأنها صلاة صحيحة أسقطت فرضه وأبرأت ذمته فأشبهت ما لو صلى الظهر منفردا ثم سعى إلى
الجماعة، والأفضل أن لا يصلوا إلا بعد صلاة الإمام ليخرجوا من الخلاف ولأنه يحتمل زوال
اعذارهم فيدركون الجمعة
(فصل) ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة إذا أمن
أن ينسب إلى مخالفة الإمام والرغبة عن الصلاة معه أو انه يرى الإعادة إذا صلى معه، فعل ذلك
ابن مسعود وأبو ذر والحسن بن عبيد الله وإياس بن معاوية وهو قول الأعمش والشافعي وإسحق وكرهه
الحسن وأبو قلابة ومالك وأبو حنيفة لأن زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخل من معذورين فلم
ينقل انهم صلوا جماعة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)
وروي عن ابن مسعود انه فاتته الجمعة فصلى بعلقمة والأسود واحتج به أحمد وفعله من ذكرنا من
قبل ومطرف وإبراهيم، قال أبو عبد الله ما أعجب الناس ينكرون هذا، فأما زمن النبي صلى الله عليه
وسلم فلم ينقل إلينا انه اجتمع جماعة معذورون يحتاجون إلى إقامة الجماعة. إذا ثبت هذا فإنه لا يستحب
اعادتها جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه وتكره أيضا
في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضي إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة أو انه لا يرى الصلاة
خلف الإمام أو يعيد الصلاة معه فيه، وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنة أو لخوف ضرر به
وبغيره وإنما يصليها في منزله أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه
(مسألة) قال (ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب)
لا خلاف في استحباب ذلك وفيه آثار كثيرة صحيحة منها ما روى سلمان الفارسي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من
199

دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم
الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري، وليس ذلك بواجب في قول أكثر
أهل العلم. قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن
بعدهم، وهو قول الأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقيل إن هذا
اجماع، قال ابن عبد البر أجمع علماء المسلمين قديما وحديثا على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب
وحكى عن أحمد رواية أخرى انه واجب، وروي ذلك عن أبي هريرة وعمرو بن سليم وقاول عمار
ابن ياسر رجلا فقال عمار أنا إذا شر ممن لا يغتسل يوم الجمعة، ووجهه قول النبي صلى الله عليه وسلم
(غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وقوله عليه السلام (من أتى منكم الجمعة فليغتسل) وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما
يغسل رأسه وجسده) متفق عليهن
ولنا ما روى سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من توضأ يوم الجمعة
فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) رواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت
غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا) متفق عليه، وأيضا فإنه
اجماع حيث قال عمر لعثمان أية ساعة هذه؟ فقال إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت
النداء فلم أزد على الوضوء. فقال له عمر: والوضوء أيضا - وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يأمر بالغسل؟ - ولو كان واجبا لرده، ولم يخفف على عثمان وعلى من حضر من الصحابة، وحديثهم
محمول على تأكيد الندب ولذلك ذكر في سياقه (وسواك وأن يمس طيبا) كذلك رواه مسلم، والسواك
ومس الطيب لا يجب ولما ذكرنا من الاخبار، وقالت عائشة: كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا يروحون
إلى الجمعة بهيئتهم فتظهر لهم رائحة فقيل لهم (لو اغتسلتم) رواه مسلم بنحو هذا المعنى (1)
(فصل) وقت الغسل بعد طلوع الفجر فمن اغتسل بعد ذلك أجزأه وإن اغتسل قبله لم يجزئه

(1) ما ضره لو نقل العبارة بنصها وهي: كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاة فكانوا يكون لهم نقل فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة
200

وهذا قول مجاهد والحسن والنخعي والثوري والشافعي وإسحق وحكي عن الأوزاعي انه يجزيه
الغسل قبل الفجر. وعن مالك انه لا يجزيه الغسل الا أن يتعقبه الرواح
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من اغتسل يوم الجمعة) واليوم من طلوع الفجر، وإن اغتسل
ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء وهذا قول مجاهد والحسن ومالك والأوزاعي والشافعي
واستحب طاوس والزهري وقتادة ويحيي بن أبي مثير إعادة الغسل.
ولنا أنه اغتسل يوم الجمعة فدخل في عموم الخبر وأشبه من يحدث، والحدث إنما يؤثر في الطهارة
الصغرى ولا يؤثر في المقصود من الغسل وهو التنظيف وإزالة الرائحة ولأنه غسل فلا يؤثر الحدث
في ابطاله كغسل الجنابة.
(فصل) ويفتقر الغسل إلى النية عبادة محضة فافتقر إلى النية كتجديد الوضوء فإن اغتسل
للجمعة والجنابة غسلا واحدا ونواهما أجزأه ولا نعلم فيه خلافا.
وروي ذلك عن ابن عمر ومجاهد ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور وقد
ذكرنا أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (من غسل واغتسل) أي جامع واغتسل ولأنهما غسلان
اجتمعا فاشبها غسل الحيض والجنابة وإن اغتسل للجنابة ولم ينو غسل الجمعة ففيه وجهان أحدهما لا يجزيه
وروي عن بعض بني أبي قتادة أنه دخل عليه يوم جمعة مغتسلا فقال للجمعة اغتسلت؟ فقال لا
ولكن للجنابة قال فأعد غسل الجمعة ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (وإنما لامرئ ما نوى))
201

والثاني يجزيه لأنه مغتسل فيدخل في عموم الحديث، ولان المقصود التنظيف وهو حاصل بهذا الغسل
وقد روي في بعض الحديث من اغتسل يوم الجمعة الجنابة.
(فصل) ومن لا يأتي الجمعة فلا غسل عليه قال أحمد: ليس على النساء غسل يوم الجمعة وعلى
قياسهن الصبيان والمسافر والمريض وكان ابن عمر وعلقمة لا يغتسلان في السفر وكان طلحة يغتسل
وروي عن مجاهد وطاوس ولعلهم أخذوا بعموم قوله (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وغيره
من الأخبار العامة،
ولنا قوله عليه السلام (من أتى الجمعة فليغتسل) ولان المقصود التنظيف وقطع الرائحة حتى
لا يتأذى غيره به وهذا مختص بمن أتى الجمعة والأخبار العامة يراد بها هذا ولهذا سماه غسل الجمعة
ومن لا يأتيها لا يكون غسله غسل الجمعة، وإن أتاها أحد ممن لا تجب عليه استحب له الغسل لعموم
الخبر ووجود المعنى فيه.
(فصل) ويستحب أن يلبس ثوبين نظيفين، لما روى عبد الله بن سلامه أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة يقول (ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعة سوى ثوبي مهنته)
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة، وجاء في حديث (من لبس أحسن ثيابه يوم الجمعة واغتسل) وذكر
الحديث. وأفضلها البياض لقوله عليه السلام (خير ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم)
ويستحب أن يعتم ويرتدي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك والإمام في هذا ونحوه آكد
من غير لأنه المنظور إليه من بين الناس.
(فصل) والتطيب إليه والسواك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (غسل الجمعة واجب
على كل محتلم وسواك وان يمس طيبا)
202

وروى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين
فمن جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك) ويستحب أن يدهن
ويتنظف بأخذ الشعر وقطع الرائحة لقوله عليه السلام (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع
من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كنت له
ثم ينصت إذا تكلم الإمام الا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)
(فصل) إذا أتى المسجد كره له أن يتخطى رقاب الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فلا
يفرق بين اثنين) وقوله ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا) وقوله في الذي جاء يتخطى رقاب الناس
(اجلس فقد آذيت وأنيت)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسر إلى
جهنم) رواه أبو داود والترمذي وقال لا نعرفه الا من حديث رشد ين بن سعد وقد ضعفه بعض
أهل العلم من قبل حفظه، فاما إذا لم يجد طريقا فلا يكره له التخطي لأنه موضع حاجة
203

(فصل) فإن رأى فرجة لا يصل إليها الا بالتخطي ففيه روايتان إحداهما له التخطي قال أحمد
يدخل الرجل ما استطاع ولا يدع بين يديه موضعا فارغا فإن جهل فترك بين يديه خاليا فليتخط الذي
يأتي بعده ويتجاوزه إلى الموضع الخالي فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خاليا وقعد في غيره، وقال الأوزاعي
يتخطاهم إلى السعة وقال قتادة يتخطاهم إلى مصلاه وقال الحسن: تخطوا رقاب الذين يجلسون على
أبواب المساجد فإنه لا حرمة لهم، وعن أحمد رواية أخرى إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا
أس لأنه يسير فعفي عنه وان كثر كرهناه وكذلك قال الشافعي الا أن لا يجد السبيل إلى مصلاه الا
بأن يتخطى فيسعه التخطي إن شاء الله تعالى.
ولعل قول أحمد ومن وافقه في الرواية الأولى فيما إذا تركوا مكانا واسعا مثل الذين يصفون في
آخر المسجد ويتركون بين أيديهم صفوفا خالية فهؤلاء لا حرمة لهم كما قال الحسن لأنهم خالفوا أمر
النبي صلى الله عليه وسلم ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف وجلسوا في شرها، ولان تخطيهم مما لابد
منه، وقوله الثاني في حق من لم يفرطوا وإنما جلسوا في مكانهم لامتلاء ما بين أيديهم لكن فيه سعة
يمكن الجلوس فيه لازدحامهم، ومتى كان لم يمكن الصلاة الا بالدخول وتخطيهم جاز لأنه موضع حاجة
204

(فصل) إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج إلى الوضوء فله الخروج، قال عقبة
صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى حجر
بعض نسائه فقال (ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته) رواه البخاري فإذا قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قام من مجلسه ثم رجع
إليه فهو أحق به) وحكمه في التخطي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة.
(فصل) وليس له أن يقيم انسانا ويجلس في موضعه سواء كان المكان راتبا لشخص يجلس
فيه أو موضع حلقة لمن يحدث فيها، أو حلقة الفقهاء يتذاكرون فيها، أو لم يكن لما روى ابن عمر قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل يعني أخاه من مقعده ويجلس فيه. متفق عليه،
ولان المسجد بيت الله والناس فيه سواء، قال الله تعالى (سواء العاكف فيه والباد) فمن سبق إلى
مكان فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق) به رواه أبو داود
وكمقاعد الأسواق ومشارع المياه والمعادن، فإن قدم صاحبا له فجلس في موضع حتى إذا جاء قام النائب
وأجلسه جاز لأن النائب يقوم باختياره، وقد روي أن محمد بن سيرين كان يرسل غلاما له يوم الجمعة
فيجلس فيه، فإذا جاء محمد قام الغلام وجلس محمد فيه، فإن لم يكن نائبا فقام ليجلس آخر في مكانه
فله الجلوس فيه لأنه قام باختيار نفسه فأشبه النائب، وأما القائم فإن انتقل إلى مثل مكانه الذي آثر
205

به في القرب وسماع الخطبة فلا بأس، وإن انتقل إلى ما دونه كره له لأنه يؤثر على نفسه في الذين. ويحتمل
أن لا يكره لأن تقديم أهل الفضل إلى ما يلي الإمام مشروع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم
(ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى) ولو آثر شخصا بمكانه لم يجز لغيره أن يسبقه إليه لأن الحق
للجالس آثر به غيره فقام مقامه في استحقاقه كما لو بحجر مواتا أو سبق إليه ثم آثر غيره به. وقال ابن
عقيل نحو ذلك لأن القائم أسقط حقه بالقيام فبقي على الأصل فكان السابق إليه أحق به كمن وسع
لرجل في طريق فمر غيره وما قلنا أصح، ويفارق التوسعة في الطريق لأنها إنما جعلت للمرور فيها،
فمن أنتقل من مكان فيها لم يبق له فيها حق يؤثر به، وليس كذلك المسجد فإنه للإقامة فيه ولا يسقط
حق المنتقل من مكانه إذا انتقل لحاجة، وهذا إنما انتقل مؤثرا لغيره فأشبه النائب الذي بعثه انسان
ليجلس في موضع يحفظ له، ولو كان الجالس مملوكا لم يكن لسيده أن يقيمه لعموم الخبر ولان هذا
ليس بمال وهو حق ديني فاستوى هو وسيده فيه كالحقوق الدينية كلها والله أعلم
(فصل) وإن فرش مصلى له في مكان ففيه وجهان: أحدهما يجوز رفعه والجلوس في موضعه لأنه لا حرمة
له، ولان السبق بالأجسام لا بالأوطئة والمصليات، ولان تركه يفضي إلى أن صاحبه يتأخر ثم يتخطى
رقاب المصلين ورفعه ينفي ذلك. والثاني لا يجوز لأن فيه افتياتا على صاحبه ربما أفضى إلى الخصومة
ولأنه سبق إليه فكان كمحتجر الموات
206

(فصل) ويستحب الدنو من الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من غسل واغتسل، وبكر
وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها
وقيامها) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وهذا لفظه
وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (احضروا الذكر وادنوا من الإمام، فإن الرجل
لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها) رواه أبو داود ولأنه أمكن له من السماع
(فصل) وتكره الصلاة في المقصورة التي تحمى نص عليه احمد، وروي عن ابن عمر أنه كان
إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج. وكرهه الأحنف وابن محيريز والشعبي واسحق ورخص
فيها أنس والحسن والحسين والقاسم وسالم ونافع لأنه مكان من الجامع فلم تكره الصلاة فيه كسائر
المسجد، ووجه الأول انه يمنع الناس من الصلاة فيه كالمغصوب فكره لذلك، فأما إن كانت لا تحمى
فيحتمل أن لا تكره الصلاة فيها لعدم شبه الغصب، ويحتمل أن تكره لأنها تقطع الصفوف فأشبهت
ما بين السواري، واختلفت الرواية عن أحمد في الصف الأول فقال في موضع هو الذي يلي المقصورة
لأن المقصورة تحمى، قال ما أدري هل الصف الأول الذي يقطعه المنبر أو الذي يليه، والصحيح أنه
الذي يقطعه المنبر لأنه هو الأول في الحقيقة، ولو كان الأول ما دونه أفضى إلى خلو ما يلي الإمام،
ولان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يليه فضلاؤهم ولو كان الصف الأول وراء المنبر لوقفوا فيه
(فصل) ويستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول عن موضعه لما روى ابن عمر قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره)
رواه أبو مسعود احمد ابن الفرات في سننه والإمام أحمد في مسنده، ولان تحوله عن
مجلسه يصرف عنه النوم
207

(فصل) ويستحب أن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة لما روي
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود
تشهده الملائكة) رواه ابن ماجة، وعن أوس بن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (أفضل
أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا على من الصلاة
فيه فإن صلاتكم معروضة علي) قالوا يا رسول الله؟ وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت (أي
بليت) قال (ان الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء عليهم السلام) رواه أبو داود
(فصل) ويستحب قراءة الكهف يوم الجمعة لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (من قرأ الكهف يوم الجعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، فإن
خرج الدجال عصم منه) رواه زيدون بن علي في كتابه باسناده، وعن أبي سعيد الخدري أنه
قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. وقال خالد بن
معدان: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة قبل أن يخرج الإمام كانت له كفارة ما بينه وبين الجمعة
وبلغ نورها البيت العتيق
(فصل) يستحب الاكثار من الدعاء يوم الجمعة لعله يوافق ساعة الإجابة لأن النبي صلى
الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه
إياه) وأشار بيده يقللها وفي لفظ وهو قائم يصلي متفق عليه واختلف في تلك الساعة فقال عبد الله
208

ابن سلام وطاوس هي آخر ساعة في يوم الجمعة وفسر ابن سلام الصلاة بانتظارها وروي مرفوعا عن
النبي صلى الله عليه وسلم فروي عن عبد الله بن سالم قال قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس
انا لجد في كتاب الله. في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئا الا قضى
حاجته قال عبد الله بن سلام (1) فأشار لي النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة فقلت صدقت أو
بعض ساعة قلت أي ساعة هي؟ قال (هي آخر ساعة من ساعات النهار - قلت إنها ليست ساعة صلاة
قال بلى - ان العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه الا الصلاة فهو في صلاة) رواه ابن ماجة (1) ويكون
القيام على هذا بمعنى الملازمة والإقامة كقول الله تعالى (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا
ما دمت عليه قائما) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (التمسوا الساعة التي ترجى في
يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس) أخرجه الترمذي (2) وقيل هي ما بين أن يجلس الإمام إلى
أن يقضي الصلاة لما روى أبو موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (هي ما بين أن
يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة) رواه مسلم (2) وعن عمرو بن عوف المزني قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول (في الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد فيها شيئا الا أعطي سؤله)
قيل أي ساعة هي؟ قال (حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها) قال الترمذي هذا حديث حسن
غريب (3) فعلى هذا التفسير تكون الساعة مختلفة فتكون في حق كل قوم في وقت صلاتهم، وقيل هي
ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر إلى غروبها، وقيل هي الساعة الثالثة من النهار، وقال
كعب: لو قسم الانسان جمعة في جمع اتى على تلك الساعة، وقيل هي متقلة في اليوم، وقال ابن
عمران طلب حاجة في يوم ليسير، وقيل أخفى الله تعالى هذه الساعة ليجتهد عباده في دعائه في جميع
اليوم طلبا لها كما أخفى ليلة القدر في ليالي رمضان وأولياه في الخلق ليحسن الظن بالصالحين كلهم

(1) اعتمد في الزوائد من وثقوا رجاله ولكن فيهم محمد بن إسماعيل
بن أبي فديك قال ابن سعد كان كثير الحديث وليس بحجة وشيخه الضحاك بن عثمان
أبو النضر، قال أبو زرعة ليس بقوي وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال
ابن عبد البر كان كثير الحديث ولا يحتج به. وقد رواه مالك وأصحاب السنن عنه
من قوله أي غير مرفوع وهو من طريق محمد بن إبراهيم ابن الحارث وثقوه ولكن قال
الإمام أحمد: في حديثه شئ يروي أحاديث مناكير أو منكرة على أنه روي عنه ترجيح هذا القول في الساعة
(2) قد أعلوه بالانقطاع والاضطراب
(3) في اسناده كثير ابن عبد الله بن عوف اتفقوا على ضعفه، وقال فيه الشافعي وأبو داود انه ركن من أركان الكذب. وعن أبوا الترمذي بتحسين حديثه
209

(مسألة) قال (وان صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم)
وفي بعض النسخ في الساعة الخامسة والصحيح في الساعة السادسة، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز
صلاتها فيما قبل السادسة. وروي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال.
وقال القاضي وأصحابه: يجوز فعلها في وقت صلاة العيد، وروى ذلك عبد الله عن أبيه قال: نذهب إلى
أنها كصلاة العيد. وقال مجاهد: ما كان للناس عيد الا في أول النهار. وقال عطاء: كل عيد حين
يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر لما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما كان عيد الا في أول النهار
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الجمعة في ظل الحطيم. رواه ابن البختري في أماليه
باسناده، وروي عن ابن مسعود ومعاوية أنهما صليا الجمعة ضحى وقالا: إنما عجلنا خشية الحر عليكم
وروى الأثرم حديث ابن مسعود، ولأنها عيد فجازت في وقت العيد كالفطر والأضحى، والدليل على
أنها عيد قول النبي صلى الله عليه وسلم (ان هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين) وقوله (قد اجتمع
لكم في يومكم هذا عيدان) وقال أكثر أهل العلم: وقتها وقت الظهر الا أنه يستحب تعجيلها في أول
وقتها لقول سلمة بن الأكوع كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتبع
الفئ. متفق عليه. وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس
رواه البخاري، ولأنهما صلاتا وقت فكان وقتها واحدا كالمقصورة والتامة ولان إحداهما
210

بدل عن الأخرى وقائمة مقامها فأشبه الأصل المذكور، ولان آخر وقتها واحد فكان أوله
واحدا كصلاة الحضر والسفر
ولنا على جوازها في السادسة السنة والاجماع، أما السنة فما روى جابر بن عبد الله قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يعنى الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس.
أخرجه مسلم، وعن سهل بن سعد قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى الا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم متفق عليه قال ابن قتيبة لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال وعن سلمة قال: كنا نصلي مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان في رواه أبو داود. وأما الاجماع
فروى الإمام أحمد عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله بن سيدان (1) قال: شهدت الخطبة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت
صلاته وخطبته إلى أن أقول قد ينتصف النهار ثم صليتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته
إلى أن أقول قد زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره قال وكذلك روي عن ابن سعود
وجابر وسعيد ومعوية أنهم صلوا قبل الزوال وأحاديثهم تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها
بعد الزوال في كثير من أقاته ولا خلاف في جوازه وأنه الأفضل والأولى وأحاديثنا تدل على جواز
فعلها قبل الزوال ولاتنا في بينهما (2) وأما في أول النهار فالصحيح أنها لا تجوز لما ذكره أكثر أهل العلم ولان

(1) هو تابعي كبير الا أنه غير معروف العدالة كما قال الحافظ ابن حجر قال البخاري لا يتابع على حديثه
(2) هذا هو الحق
211

التوقيت لا يثبت الا بدليل من نص أوما يقوم مقامه وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه
أنهم صلوها في أول النهار ولان مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر وإنما جاز تقديمها عليه بما ذكرنا
من الدليل وهو مختص بالساعة السادسة فلم يجز تقديمها عليها والله أعلم. ولأنها لو صليت في أول النهار
لفاتت أكثر المصلين فإن العادة اجتماعهم لها عند الزوال وإنما يأتيهما ضحى أحاد من الناس وعدد
يسير كما روي عن ابن مسعود أنه أتى الجمعة فوجد أربعة قد سبقوه فقال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد
إذا ثبت هذا فالأولى أن لا تصلى الا بعد الزوال ليخرج من الخلاف ويفعلها في الوقت الذي كان النبي صلى
الله عليه وسلم يفعلها فيه في أكثر أوقاته ويعجلها في أول وقتها في الشتاء والصيف لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يعجلها بدليل الاخبار التي رويناها، ولان الناس يجتمعون لها في أول وقتها ويبكرون إليها
قبل وقتها فلوا انتظر الابراد بها لشق على الحاضرين وإنما جعل الابراد بالظهر في شدة الحر دفعا للمشقة
التي يحصل أعظم منها بالابراد بالجمعة
(فصل) وان اتفق عيد في يوم جمعة سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد الا الإمام فإنها
لا تسقط عنه الا أن لا يجتمع له من يصلى به الجمعة وقيل في وجوبها على الإمام روايتان وممن قال بسقوطها
الشعبي والنخعي والأوزاعي، وقيل هذا مذهب عمر وعثمان وعلى وسعيد وابن عمر وابن عباس وابن
الزبير، وقال أكثر الفقهاء تجب الجمعة لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان
فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد
212

ولنا ما روى اياس بن أبي رملة الشامي (1) قال شهدت معاوية يسأل زيد بن أرقم هل شهدت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال نعم. قال فكيف صنع؟ قال صلى العيد ثم
رخص في الجمعة فقال (من شاء أن يصلي فليصل) رواه أبو داود والإمام أحمد ولفظه (من شاء أن
يجمع فليجمع) وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اجتمع في يومكم هذا
عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون رواه ابن ماجة وعن ابن عمر وابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، ولان الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة وقد حصل
سماعها في العيد فأجزأه عن سماعها ثانيا ولان وقتهما واحد بما بيناه فسقطت إحداهما بالأخرى
كالجمعة مع الظهر، وما احتجوا به مخصوص بما رويناه وقياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة. فأما الإمام
فلم تسقط عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإنا مجمعون) ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق
من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه بخلاف غيره من الناس
(فصل) وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد فقد روى عن أحمد قال تجزي الأولى منهما
فعلى هذا يجزيه عن العيد والظهر ولا يلزمه شئ إلى العصر عند من جواز الجمعة وقت العيد. وقد
روى أبو داود باسناده عن عطاء قال اجتمع يوم الجمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال عيدان قد

(1) هو مجهول ولكن الحديث صححه على ابن المديني
213

اجتمعا في يوم واحد فجمعها وصلاهما ركعتين بكرة فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وروي عن
ابن عباس انه بلغه فعل ابن الزبير فقال أصاب السنة (1). قال الخطابي وهذا لا يجوز أن يحمل إلا على
قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد
والظهر، ولان الجمعة إذا سقطت مع تأكدها فالعيد أولى أن يسقط بها. أما إذا قدم العيد فإنه يحتاج
إلى أن يصلي الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة
(مسألة) قال (وتجب الجمعة على من بينه وبين الجامع فرسخ)
هذا في حق غير أهل المصر، أما أهل المصر فيلزمهم كلهم الجمعة بعدوا أو قربوا، قال أحمد أما
أهل المصر فلا بد لهم من شهودها سمعوا النداء أو لم يسمعوا وذلك لأن البلد الواحد بني للجمعة
فلا فرق بين القريب والبعيد، ولان المصر لا يكاد يكون أكثر من فرسخ فهو في مظنة القرب فاعتبر
ذلك وهذا قول أصحاب الرأي ونحوه قول الشافعي. فأما غير أهل المصر فمن كان بينه وبين الجامع
فرسخ فما دون فعليه الجمعة، وإن كان أبعد فلا جمعة عليه، وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب
وهو قول مالك والليث، وروي عن عبد الله بن عمرو قال: الجمعة على من سمع النداء وهذا قول الشافعي
وإسحق لما روى عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الجمعة على من سمع النداء) رواه
أبو داود (2) والأشبه انه من كلام عبد الله بن عمرو ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعمى الذي قال

(1) رواه النسائي عن وهب بن كيسان وسنده صحيح كأثر عطاء
(2) سنده ضعيف
214

ليس لي قائد يقودني (أتسمع النداء؟ قال نعم. قال فأجب) ولان من سمع النداء داخل في عموم
قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وروي عن
ابن عمرو أبي هريرة وأنس والحسن ونافع وعكرمة والحكم وعطاء والأوزاعي انهم قالوا الجمعة على
من آواه الليل إلى أهله لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم (قال الجمعة على من آواه
الليل إلى أهله) وقال أصحاب الرأي لا جمعة على من كان خارج المصر لأن عثمان رضي الله عنه
صلى العيد في يوم جمعة ثم قال لأهل العوالي من أراد منكم أن ينصرف فلينصرف، ومن أراد أن
يقيم حتى يصلي الجمعة فليقم، ولأنهم خارج المصر فأشبه أهل الحلل
ولنا قول الله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وهذا يتناول غير أهل
المصر إذا سمعوا النداء وحديث عبد الله بن عمرو، ولان غير أهل المصر يسمعون النداء وهم من أهل
الجمعة فلزمهم السعي إليها كأهل المصر وحديث أبي هريرة غير صحيح يرويه عبد الله بن سعيد المقبري
وهو ضعيف، قال أحمد بن الحسن ذكرت هذا الحديث لأحمد بن حنبل فغضب وقال استغفر ربك
استغفر ربك، وإنما فعل أحمد هذا لأنه لم ير الحديث شيئا لحال اسناده قال ذلك الترمذي. وأما
ترخيص عثمان لأهل العوالي فلانه إذا اجتمع عيدان اجتزئ بالعيد وسقطت الجمعة عمن حضره
على ما قررناه فيما مضى. وأما اعتبار أهل القرى بأهل الحلل فلا يصح لأن أهل الحلل غير مستوطنين
215

ولاهم ساكنون بقرية ولا في موضع جعل للاستيطان، وأما اعتبار حقيقة النداء فلا يمكن لأنه قد
يكون من الناس الأصم وثقيل السمع، وقد يكون النداء بين يدي المنبر فلا يسمعه إلا من في الجامع
وقد يكون المؤذن خفى الصوت أو في يوم ذي ريح ويكون المستمع نائما أو مشغولا بما يمنع السماع فلا
يسمع ويسمع من هو أبعد منه فيفضي إلى وجوبها على البعيد دون القريب وما هذا سبيله ينبغي
أن يقدر بمقدار لا يختلف والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب إذا كان المنادي صيتا في موضع
عال والريح ساكنة والأصوات هادئة والمستمع سميع غير ساه ولا لاه - فرسخ أو ما قاربه فحد به والله أعلم
(فصل) وأهل القرية لا يخلون من حالين إما أن يكون بينهم وبين المصر أكثر من فرسخ أولا
فإن كان بينهم أكثر من فرسخ لم يجب عليهم السعي إليه وحالهم معتبر بأنفسهم، فإن كانوا أربعين
اجتمعت فيهم شرائط الجمعة فعليهم اقامتها وهم مخيرون بين السعي إلى المصر وبين اقامتها في قريتهم،
والأفضل اقامتها لأنه متى سعى بعضهم أخل على الباقين الجمعة، وإذا أقاموا حضرها جميعهم وفي
اقامتها بموضعهم تكثير جماعات المسلمين، وإن كانوا ممن لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم فهم مخيرون
بين السعي إليها وبين أن يصلوا ظهرا، والأفضل السعي إليها لينال فضل الساعي إلى الجمعة ويخرج
من الخلاف. والحال الثاني أن يكون بينهم وبين المصر فرسخ فما دون فينظر فيهم فإن كانوا أقل من
أربعين فعليهم السعي إلى الجمعة لما قدمنا، وان كانوا ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم وكان موضع
216

الجمعة القريب منهم قرية أخرى لم يلزمهم السعي إليها وصلوا في مكانهم إذ ليست إحدى القريتين
بأولى من الأخرى، وإن أحبوا السعي إليها جاز، والأفضل أن يصلوا في مكانهم كما ذكرنا من قبل
فإن سعى بعضهم فنقص عدد الباقين لزمهم السعي لئلا يؤدي إلى ترك الجمعة ممن تجب عليه، وإن
كان موضع الجمعة القريب مصرا فهم مخيرون أيضا بين السعي إلى المصر وبين إقامة الجمعة في مكانهم
كالتي قبلها ذكره ابن عقيل. وعن أحمد ان السعي يلزمهم إلا أن يكون لهم عذر فيصلون جمعة،
والأول أصح لأن أهل القرية لا تنعقد بهم جمعة أهل المصر فكان لهم إقامة الجمعة في مكانهم كما لو
سمعوا النداء من قرية أخرى ولان أهل القرى يقيمون الجمع في بلاد الاسلام وان كانوا قريبا من
المصر من غير نكير
(فصل) وإذا كان أهل المصر دون الأربعين فجاءهم أهل القرية فأقاموا الجمعة في المصر لم
يصح لأن أهل القرية غير مستوطنين في المصر وأهل المصر لا تنعقد بهم الجمعة لقلتهم، وإن كان
أهل القرية ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم لزم أهل المصر السعي إليهم لأنهم ممن بينه وبين موضع
الجمعة أقل من فرسخ فلزمهم السعي إليها كما يلزم أهل القرية السعي إلى المصر إذا أقيمت به وكان أهل
القرية دون الأربعين، وان في كل واحد منهما دون الأربعين لم يجز إقامة الجمعة في واحد منهما
(فصل) ومن تجب عليه الجمعة لا يجوز له السفر بعد دخول وقتها، وبه قال الشافعي واسحق
وابن المنذر. وقال أبو حنيفة يجوز، وسئل الأوزاعي عن مسافر يسمع أذان الجمعة وقد أسرج
دابته فقال ليمض في سفره لأن عمر رضي الله عنه قال: الجمعة لا تحبس عن سفر
217

ولنا ما روى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من سافر من دار إقامة يوم الجمعة
دعت عليه الملائكة لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته) رواه الدارقطني في الافراد، وهذا
وعيد لا يلحق بالمباح، ولان الجمعة قد وجبت عليه فلم يجز له الاشتغال بما يمنع منها كاللهو والتجارة،
وما روي عن عمر فقد روى عن ابنه وعائشة أخبار تدل على كراهية السفر يوم الجمعة فتعارض
قوله ثم نحمله على السفر قبل الوقت
(فصل) وان سافر قبل الوقت فذكر أبو الخطاب فيه ثلاث روايات: إحداها المنع لحديث
ابن عمر، والثانية الجواز وهو قول الحسن وابن سيرين وأكثر أهل العلم لقول عمر ولان الجمعة لم
تجب فلم يحرم السفر كالليل. والثالثة يباح للجهاد دون غيره وهذا الذي ذكره القاضي لما روى ابن
عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم وجه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في
جيش مؤتة فتخلف عبد الله فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ما خلفك؟) قال الجمعة فقال النبي
صلى الله عليه وسلم (لروحة في سبيل الله - أو قال غدوة - خير من الدنيا وما فيها) قال فراح منطلقا
رواه الإمام أحمد في المسند. والأولى الجواز مطلقا لأن ذمته بريئة من الجمعة فلم يمنعه امكان
وجوبها عليه كما قبل يومها. وذكر أبو الخطاب ان الوقت الذي يمنع السفر ويختلف فيما قبله زوال
الشمس، ولم يفرق القاضي بين ما قبل الزوال وما بعده، ولعله بنى على أن وقتها وقت العيد، ووجه
218

قول أبي الخطاب على أن تقديمها رخصة على خلاف الأصل فلم يتعلق به حكم المنع كتقديم الآخرة
من المجموعتين إلى وقت الأولى
(فصل) وإن خاف المسافر فوات رفقته جاز له ترك الجمعة لأن ذلك من الاعذار المسقطة للجمعة
والجماعة وسواء كان في بلده فأراد انشاء السفر أو في غيره
(فصل) قال احمد: ان شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا، وفي رواية إن شاء
ستا، وكان ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا لما روى أبو هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا) رواه مسلم
وعن علي وأبي موسى وعطاء ومجاهد وحميد بن عبد الرحمن والثوري أنه يصلى ستا لما روي عن ابن
عمر أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا، وإذا كان في المدينة صلى
الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفعل ذلك. رواه أبو داود
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك كله بدليل ما روي من الاخبار، وروي عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين متفق عليه، وفي لفظ لمسلم
219

وكان لا يصلي في المسجد حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته وهذا يدل على أنه مهما فعل من ذلك
كان حسنا. قال احمد في رواية عبد الله: ولو صلى مع الإمام ثم لم يصل شيئا صلى العصر كان
جائزا قد فعله عمران بن حصين. وقال في رواية أبي داود: يعجبني أن يصلي يعني بعد الجمعة
(فصل) فأما الصلاة قبل الجمعة فلا أعلم فيه إلا ما روي أن النبي صلى الله عليه عليه وسلم كان
يركع من قبل الجمعة أربعا. أخرجه ابن ماجة، وروى عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال:
كنت أبقي (1) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا. قال
أبو بكر: كنا نكون مع حبيب بن أبي ثابت في الجمعة فيقول: أزالت الشمس بعد؟ ويلتفت وينظر
فإذا زالت الشمس صلى الأربع التي قبل الجمعة، وعن أبي عبيدة عن عبيد الله بن مسعود أنه كان
يصلى قبل الجمعة أربع ركعات وبعدها أربع ركعات رواه سعيد
(فصل) ويستحب لمن أراد الركوع يوم الجمعة أن يفصل بينها وبينه بكلام أو انتقال من مكانه
أو خروج إلى منزله لما روى السائب بن يزيد ابن أخت النمر قال: صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة
فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي فقال: لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة

(1) أي أنتظر يقال فيه أبقي مثل أرمي، وأنقى مثل أعطى لأن ماضية يستعمل ثلاثيا أو رباعيا ذكره الجوهري
220

فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل
صلا حتى نتكلم أو نخرج. أخرجه مسلم، وعن نافع ان ابن عمر رأى رجلا يصلي يوم الجمعة ركعتين فدفعه وقال
أتصلي الجمعة أربعا؟ وكان عبد الله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته ويقول: هكذا فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم
(فصل) قال احمد: إذا كانوا يقرؤن الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب إلى أن
يسمع إذا كان فتحا من فتوح المسلمين، أو كان فيه شئ من أمور المسلمين فليستمع، وإن كان شيئا
إنما فيه ذكرهم فلا يستمع، وقال في الذين يصلون في الطرقات إذا لم يكن بينهم باب مغلق فلا بأس
وسئل عن رجل يصلي خارجا من المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة، قال: أرجو أن لا يكون
به بأس، وسئل عن الرجل يصلي يوم الجمعة وبينه وبين الإمام سترة، قال إذا لم يكن يقدر على غير
ذلك وقال: إذا دخلوا يوم الجمعة في دار في الرحبة فأغلقوا عليهم الباب فلم يقدروا أن يخرجوا وكانوا
يسمعون التكبير، فإن كان الباب مفتوحا يرون الناس كان جائزا، ويعيدون الصلاة إذا كان مغلقا
221

هؤلاء لم يكونوا مع صلاة الإمام. وهذا والله أعلم لأنهم إذا كانوا في دار ولم الإمام كانوا
متحيزين عن الجماعة، فإذا اتفق مع ذلك عدم الرؤية لم يصح، وأما إذا كانوا في الرحبة أو الطريق
فليس بينهم إلا باب المسجد ويسمعون حس الجماعة ولم يفت الا الرؤية فلم يمنع من الاقتداء
(فصل) ويستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم السجدة وهل أتى على الانسان. نص
عليه احمد لما روى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم
الجمعة ألم. تنزيل وهل أتى على الانسان حين من الدهر. رواهما مسلم، قال احمد رحمه الله: ولا أحب أن يداوم عليها لئلا يظن الناس أنها بسجدة، ويحتمل أن يستحب المداومة عليها لأن لفظ
الخبر يدل عليها وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل أثبته ودام عليه وكان عمله ديمة
222

باب صلاة العيدين
الأصل في صلاة العيد الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (فصل لربك
وانحر) المشهور في التفسير أن المراد بذلك صلاة العيد. وأما السنة فثبت أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالتواتر انه كان يصلى صلاة العيدين. قال ابن عباس: شهدت صلاة الفطر مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكلهم يصليها قبل الخطبة وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد
بغير أذان ولا إقامة متفق عليها. وأجمع المسلمون على الصلاة العيدين وصلاة العيد فرض على الكفاية في
ظاهر المذهب إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، وإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام وبه
قال بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة هي واجبة على الأعيان وليست فرضا لأنها صلاة شرعت
لها الخطبة فكانت واجبة على الأعيان وليست فرضا كالجمعة. وقال ابن أبي موسى وقيل إنها سنة
مؤكدة غير واجبة وبه قال مالك وأكثر أصحاب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعرابي
223

حين ذكر خمس صلوات قال هل على غيرهن؟ قال (لا إلا أن تطوع) وقوله عليه السلام (خمس صلوات
كتبهن الله على العبد) الحديث. ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود لم يشرع لها أذان فلم تجب ابتداء
بالشرع كصلاة الاستسقاء والكسوف. ثم اختلفوا فقال بعضهم إذا امتنع جميع الناس من فعلها قاتلهم
الإمام عليها وقال بعضهم لا يقاتلهم.
ولنا على أنها لا نجب على الأعيان انها لا يشرع لها الآذان فلم تجب على الأعيان كصلاة الجنازة
ولان الخبر الذي ذكره مالك ومن وافقه يقتضي نفي وجوب صلاة سوى الخمس وإنما خولف
بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه فيختص بمن كان مثلهم ولأنها لو وجبت على الأعيان
لوجبت خطبتها ووجب استماعها كالجمعة
ولنا على وجوبها في الجملة أمر الله تعالى بها يقوله (فصل لربك وانحر) والامر يقتضي الوجوب
ومداومة النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وهذا دليل الوجوب ولأنها من أعلام الدين الظاهرة
فكانت واجبة كالجمعة ولأنها لو لم تجب لم يجب قتال تاركيها كسائر السنن يحققه أن القتال عقوبة
لا تتوجه إلى تارك مندوب كالقتل والضرب فأما حديث الاعرابي فلا حجة لهم فيه لأن الاعراب
224

لا تلزمهم الجمعة لعدم الاستيطان فالعيد أولى، والحديث الآخر مخصوص بما ذكرناه على أنه إنما
صرح بوجوب الخمس وخصها بالذكر لتأكيدها ووجوبها على الأعيان ووجوبها على الدوام وتكررها
في كل يوم وليلة وغيرها يجب نادرا ولعارض كصلاة الجنازة والمنذورة والصلاة المختلف فيها فلم
يذكرها، وقياسهم لا يصح لأن كونها ذات ركوع وسجود لا أثر له بدليل أن النوافل كلها فيها ركوع
وسجود وهي غير واجبة فيجب حذف هذا الوصف لعدم أثره ثم ينقض قياسهم بصلاة الجنازة،
وينتقض على كل حال بالمنذورة
(مسألة) (قال ويظهرون التكبير في ليالي وهو في الفطر آكد لقول الله
تعالى (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
وجملته انه يستحب للناس اظهار التكبير في ليلتي العيدين في مساجدهم ومنازلهم وطرقهم
225

مسافرين كانوا أو مقيمين لظاهر الآية المذكورة قال بعض أهل العلم في تفسيرها لتكملوا عدة رمضان
ولتكبروا الله عند إكماله على ما هداكم ومعنى اظهار التكبير رفع الصوت به واستحب ذلك لما فيه
من اظهار شعائر الاسلام وتذكير الغير وكان ابن عمر يكبر في فتية بمنى يسمعه أهل المسجد فيكبرون
ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا قال أحمد كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعا ويعجبنا
ذلك واختص الفطر بمزيد تأكيد لورود النص فيه وليس التكبير واجبا وقال داود: هو واجب في
الفطر لظاهر الآية
ولنا انه تكبير في عيد فأشبه تكبير الأضحى ولان الأصل عدم الوجوب ولم يرد من الشرع
إيجابه فيبقى على الأصل والآية ليس فيها أمر إنما أخبر الله تعالى عن إرادته (1) فقال (يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر ولتكبروا الله على ما هداكم)

(1) قد يقال إنه عطف على اكمال العدة وهو واجب وعطف اكمال العدة على إرادة اليسر ضعيف متكلف والجمهور على أن التعليلين هما لما قبلهما من وجوب الصيام والرخصة فيه، وإرادة اليسر تشريعية وهي بيان إباحة الفطر للمريض والمسافر
226

(فصل) ويستحب أن يكبر في طريق العبد ويجهر بالتكبير قال ابن أبي موسى يكبر الناس
في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيدين جهرا حتى يأتي الإمام المصلى ويكبر الناس بتكبير الإمام في
خطبته وينصتون فيما سوى ذلك. قال سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله بن عمر عن
نافع عن ابن عمر انه كان إذا خرج من بيته إلى العيد كبر حتى يأتي المصلى وروي ذلك عن سعيد
ابن جبير و عبد الرحمن ابن أبي ليلى واختلف فيه عن إبراهيم
(فصل) قال القاضي التكبير في الأضحى مطلق ومقيد فالمقيد عقيب الصلوات والمطلق في
كل حال في الأسواق وفي كل وأما الفطر فمسنونه مطلق غير مقيد على ظاهر كلام أحمد وهو
ظاهر كلام الخرقي وقال أبو الخطاب يكبر من غروب الشمس من ليلة الفطر إلى خروج الإمام إلى
الصلاة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي، وفي الأخرى إلى فراغ الإمام من الصلاة
227

(مسألة) (قال فإذا أصبحوا تطهروا)
وجملته انه يستحب أن يتطهر بالغسل للعيد وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر وروي ذلك عن
علي رضي الله عنه وبه قال علقمة وعروة وعطاء والنخعي والشعبي وقتادة وأبو الزناد ومالك والشافعي
وابن المنذر لما روى ابن عباس والفاكه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم
الفطر والأضحى وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع (ان هذا يوم جعله الله
عيدا للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك) رواه ابن ماجة
فعلى هذه الأشياء تكون الجمعة عيدا ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة فاستحب الغسل فيه كيوم الجمعة
وان اقتصر على الوضوء أجزأه لأنه إذا لم يجب الغسل للجمعة مع الامر به فيها فغيرها أولى
(فصل) ويستحب أن يتنظف ويلبس أحسن ما يجد ويتطيب ويتسوك كما ذكرنا في الجمعة لما
ذكرنا من الحديث، وقال عبد الله بن عمر وجد عمر حلة من إستبرق في السوق فأخذها فاتى بها
النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ابتع هذه تتجمل بها في العيدين والوفد فقال النبي صلى الله
عليه وسلم (إنما هذه لباس من لا خلاق لهم) متفق عليه
وهذا يدل أن التجمل عندهم في هذه المواضع كان مشهورا وروى ابن الأحمر في العيدين
والجمعة باسناده عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين برد حبرة
وباسناده عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوبي
مهنته لجمعته وعيده) وقال مالك سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد والإمام بذلك
228

أحق لأنه المنظور إليه من بينهم إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر
العبادة والنسك، وقال أحمد في رواية المروذي: طاوس كان يأمر بزينة الثياب وعطاء قال هو يوم التخشع
واستحسنها جميعا وذكر استحباب خروجه في ثياب اعتكافه في غير هذا الموضع
(فصل) ووقت الغسل بعد طلوع الفجر في ظاهر كلام الخرقي لقوله فإذا أصبحوا تطهروا قال القاضي والآمدي ان اغتسل قبل الفجر لم يصب سنة الاغتسال لأنه غسل الصلاة في اليوم فلم يجز قبل
الفجر كغسل الجمعة وقال ابن عقيل المنصوص عن أحمد أنه قبل الفجر وبعده لأن زمن العيد أضيق
من وقت الجمعة فلو وقف على الفجر ربما فات ولان المقصود منه التنظيف وذلك يحصل بالغسل في
الليل لقربه من الصلاة والأفضل أن يكون بعد الفجر ليخرج من الخلاف ويكون أبلغ في النظافة
لقربه من الصلاة وقول الخرقي: تطهروا لم يخص به الغسل بل هو ظاهر في الوضوء وهو غير
مختص بما بعد الفجر.
(مسألة) قال (واكلوا إن كان فطرا)
السنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة ولا يأكل في الأضحى حتى يصلى وهذا قول أكثر أهل
العلم منهم علي وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم لا نعلم فيه خلافا قال أنس كان النبي صلى الله
عليه وسلم لا يغد ويوم الفطر حتى يأكل ثمرات رواه البخاري، وفي رواية استشهد بها ويأكلهن وترا
وروي عن بريدة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر ولا يطعم يوم
الأضحى حتى يصلي رواه الأثرم والترمذي ولفظ رواية الأثرم حتى يضحى ولان يوم الفطر حرم
فيه الصيام عقيب وجوبه فاستحب تعجيل الفطر لاظهار المبادرة إلى طاعة الله تعالى، وامتثال أمره في
الفطر على خلاف العادة والأضحى بخلافه ولان في الأضحى شرع الأضحية والاكل منها فاستحب
أن يكون فطره على شئ منها قال أحمد والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أكل من ذبيحته وإذا لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل
(فصل) والمستحب أن يفطر على التمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر عليه ويأكلهن
وترا لقول أنس ويأكلهن وترا ولان الله تعالى وتر يحب الوتر ولان الصائم يستحب له الفطر كذلك
(مسألة) قال (ثم غدوا إلى المصلي مظهرين للتكبير)
السنة أن يصلي العيد في المصلى أمر بذلك علي رضي الله عنه واستحسنه الأوزاعي وأصحاب
229

الرأي وهو قول ابن المنذر وحكي عن الشافعي إن كان مسجد البلد واسعا فالصلاة فيه أولى لأنه خير
البقاع وأطهرها ولذلك يصلي أهل مكة في المسجد الحرام
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده وكذلك الخلفاء بعده
ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه ويتكلف فعل الناقص مع بعده ولا يشرع لأمته
ترك الفضائل ولأننا أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ولا يجوز أن يكون المأمور
به هو الناقص والمنهى عنه هو الكامل ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العيد بمسجده
الامن عذر ولان هذا اجماع المسلمين فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى فيصلون
العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المصلى مع شرف
مسجده وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع المسجد مع شرفه، وروينا عن علي رضي الله عنه أنه
قيل له قد اجتمع في المسجد ضعفاء الناس وعميانهم فلو صليت بهم في المسجد فقال أخالف السنة إذا
ولكن نخرج إلى المصلى واستخلف من يصلى بهم في المسجد أربعا
(فصل) ويستحب للإمام إذا خرج أن يخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد كما فعل علي
رضي الله عنه فروى هزيل بن شرحبيل قال قيل لعلى رضي الله عنه لو أمرت رجلا يصلي بضعفة
الناس هو نافي المسجد الأكبر قال إن أمرت رجلا يصلي أمرته أن يصلي لهم أربعا رواه سعيد وروى
أنه استخلف أبا مسعود فصلى بهم في المسجد
(فصل) وإن كان عذر يمنع الخروج من مطر أو خوف أو غيره صلوا في الجامع كما روى
أبو هريرة أنه أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد
رواه أبو داود وابن ماجة
(فصل) يستحب التكبير إلى العيد بعد صلاة الصبح إلا الإمام، فإنه يتأخر إلى وقت الصلاة
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل كذلك قال أبو سعيد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج
يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شئ يبدأ به الصلاة رواه مسلم، ولان الإمام ينتظر ولا ينتظر
ولو جاء إلى المصلى وقعد في مكان مستتر عن الناس فلا بأس قال مالك مضت السنة أن يخرج الإمام
من منزله قدر ما يبلغ مصلاه وقد حلت الصلاة فأما غيره فيستحب له التكبير والدنو من الإمام ليحصل
له أجر التكبير وانتظار الصلاة والدنو من الإمام من غير تخطي رقاب الناس ولا أذى أحد قال عطاء
ابن السائب كان عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن مفعل يصليان الفجر يوم العيد وعليهما ثيابهما
ثم يتدافعان إلى الجبانة، أحدهما يكبر، والآخر يهلل، وروي عن ابن عمر انه كان لا يخرج حتى تخرج الشمس
230

(فصل) ويستحب أن يخرج إلى العيد ماشيا وعليه السكينة والوقار كما ذكرنا في الجمعة وممن
استحب المشي عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري والشافعي وغيرهم لما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يركب في عيد ولا جنازة وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج
إلى العيد ماشيا ويرجع ماشيا، رواه ابن ماجة وقال علي رضي الله عنه من السنة أن يأتي
العيد ماشيا رواه الترمذي وقال حديث حسن وإن كان له عذر وكان مكانه بعيدا فركب فلا
بأس قال أحمد رحمه الله نحن نمشي ومكاننا قريب وان بعد ذلك عليه فلا بأس أن يركب
قال حدثنا سعيد حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء بن زبير انه سمع عمر بن عبد العزيز على
المنبر يوم الجمعة يقول: إن الفطر غدا فامشوا إلى مصلاكم ذلك كان يفعل ومن كان من أهل
القرى فليركب فإذا جاء المدينة فليمش إلى المصلى
(فصل) ويكبر في طريق العيد ويرفع صوته وبالتكبير وهو معنى قول الخرقي: مظهرين للتكبير
قال احمد: يكبر جهرا إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى روي ذلك عن علي وابن عمر وأبي إمامة
وأبي رهم وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبان بن
عثمان وأبي بكر بن محمد، وفعله النخعي وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى وبه قال الحكم
وحماد ومالك وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: يكبر يوم الأضحى ولا يكبر يوم
الفطر لأن ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر فقال: ما شأن الناس؟ فقيل يكبرون فقال. أمجانين
الناس؟ وقال إبراهيم: إنما يفعل ذلك الحواكون (1)
ولنا أنه فعل من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وقولهم. قال نافع: كان ابن عمر يكبر يوم
العيد في الأضحى والفطر ويكبر ويرفع صوته. وقال أبو جميلة: رأيت عليا رضي الله عنه خرج يوم
العيد فلم يزل يكبر حتى انتهى إلى الجبابة، فأما ابن عباس فكان يقول: يكبرون مع الإمام ولا
يكبرون وحدهم وهذا خلاف مذهبهم. وإذا ثبت هذا فإنه يكبر حتى يأتي المصلى لما ذكرنا عن علي

(1) قول ابن عباس وإبراهيم النخعي محمول على سماع أصوات منكرة لشدة الصراخ كالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال لذويه (انكم لا تدعون أصم
ولا غائبا) الحديث. ولا يصح أن يكون انكارا لأصل التكبير مهما يكن رأيهما فيه فإنهما لا يجهلان رأى الجمهور، ولا يعبران عن إنكار الذكر بهذا التعبير
231

رضي الله عنه وغيره. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله في الجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، أو حتى
يخرج الإمام، قال حتى يأتي المصلى. وقال القاضي: فيه رواية أخرى حتى يخرج الإمام
(فصل) ولا بأس بخروج النساء يوم العيد إلى المصلى. وقال ابن حامد: يستحب ذلك وقد
روي عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين.
وكان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله في العيدين، وروت أم عطية قالت: أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن
الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال (لتلبسها
أختها من جلبابها) متفق عليه، وهذا لفظ رواية مسلم، ولفظ رواية البخاري. قالت: كنا نؤمر
أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى يخرج الحيض فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم
ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. وعن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جمع نساء الأنصار في بيت فأرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددنا عليه فقال: أنا
رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق ولا جمعة
علينا ونهانا عن اتباع الجنائز رواه أبو داود. وقال القاضي: ظاهر كلام احمد أن ذلك جائز غير
مستحب وكرهه النخعي ويحيي الأنصاري وقالا: لا نعرف خروج المرأة في العيدين عندنا وكرهه
سفيان وابن المبارك ورخص أهل الرأي للمرأة الكبيرة وكرهوه للشابة لما في خروجهن من الفتنة وقول
عائشة رضي الله عنها: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت
نساء بني إسرائيل. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، وقول عائشة مختص بمن
أحدث دون غيرها، ولا شك بأن تلك يكره لها الخروج، وإنما يستحب لهن الخروج غير متطيبات ولا
232

يلبسن ثوب شهرة ولا زينة، ويخرجن في ثياب البذلة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (وليخرجن
تفلات) ولا يخالطن الرجال بل يكن ناحية منهم
(مسألة) قال (فإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين)
لا خلاف بين أهل العلم في أن صلاة العيد مع الإمام ركعتان، وفيما تواتر عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه صلى العيد ركعتين وفعله الأئمة بعده إلى عصرنا لم نعلم أحد فعل غير ذلك ولا خالف
فيه، وقد قال عمر رضي الله عنه: صلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه
وسلم وقد خاب من افترى، وقوله حلت الصلاة يحتمل معنيين: أحدهما أن معناه إذا دخل وقتها
والصلاة ها هنا صلاة العيد، وحلت من الحلول كقولهم حل الدين إذا جاء أجله، والثاني معناه إذا
أبيحت الصلاة يعني النافلة ومعناه إذا خرج وقت النهي وهو إذا ارتفعت الشمس قيد رمح وحلت
من الحل وهو الإباحة كقول الله تعالى (ويحل لهم الطيبات) وهذا المعني أحسن لأن فيه تفسيرا
233

لوقتها، وتعريفا له بالوقت الذي عرف في مكان آخر. وعلى القول الأول ليس فيه بيان لوقتها، فعلى
هذا يكون وقتها من حين ترتفع الشمس قيد رمح إلى أن يقوم قائم الظهيرة وذلك ما بين وقتي النهي
عن صلاة النافلة. وقال أصحاب الشافعي: أول وقتها إذا طلعت الشمس لما روي يزيد بن خمير قال
خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر
إبطاء الإمام وقال: انا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين صلاة التسبيح (1) رواه أبو داود وابن ماجة
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن
نصلى فيهن وأن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، ولأنه وقت نهي عن الصلاة
فيه لم يكن وقتا للعيد كقبل طلوع الشمس، ولان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يصلوا حتى
ارتفعت الشمس بدليل الاجماع على أن الأفضل فعلها في ذلك الوقت ولم يكن النبي صلى الله عليه
وسلم يفعل إلا الأفضل والأولى ولو كان لها وقت قبل ذلك لكان تقييده بطلوع الشمس تحكما بغير
نص ولا معنى نص، ولا يجوز التوقيت بالتحكم

(1) الرواية: حين التسبيح، والمعنى وقت التسبيح
234

وأما حديث عبد الله بن بسر فإنه أنكر ابطاء الإمام عن وقتها المجمع عليه، فإنه لو حمل على
غير هذا لم يكن ذلك ابطاء ولا جاز انكاره، ولا يجوز أن يحمل ذلك على أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يفعل ذلك في وقت النهي لأنه مكروه بالانفاق على أن الأفضل خلافه ولم يكن النبي صلى
الله عليه وسلم ليداوم على المكروه ولا المفضول، ولو كان يداوم على الصلاة فيه لوجب أن يكون هو
الأفضل والأولى فتعين حمله على ما ذكرنا
(فصل) ويسن تقديم الأضحى ليتسع وقت التضحية، وتأخير الفطر ليتسع وقت اخراج صدقة
الفطر وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى
عمرو بن حزم (أن أخر صلاة الفطر وعجل صلاة الأضحى) (1) ولان لكل عيد وظيفة فوظيفة الفطر
اخراج المفطرة ووقتها قبل الصلاة، ووظيفة الأضحى التضحية ووقتها بعد الصلاة وفي تأخير الفطر
وتقديم الأضحى توسيع لوظيفة كل منهما
(مسألة) قال (بلا اذان ولا إقامة)
ولا نعلم في هذا خلافا ممن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام، وقيل أول

(1) رواه الشافعي من طريق شيخه إبراهيم ابن محمد وهو ضعيف
235

من أذن في العيد ابن زياد وهذا دليل على انعقاد الاجماع قبله على أنه لا يسن لها أذان ولا إقامة وبه
يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي
العيد بلا أذان ولا إقامة، فروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيدين بغير أذان ولا
إقامة، وعن جابر مثله متفق عليهما. وقال جابر بن سمرة: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة. رواه مسلم، وعن عطاء قال: أخبرني جابر أن لا أذان يوم
الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج الإمام، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شئ، لا نداء يومئذ ولا
إقامة رواه مسلم. وقال بعض أصحابنا: ينادى لها الصلاة جامعة وهو قول الشافعي وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع (1)
(مسألة) قال (ويقرأ في كل ركعة منها بالحمد لله وسورة ويجهر بالقراءة)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه يشرع قراءة الفاتحة وسورة في كل ركعة من صلاة العيد وانه
يسن الجهر إلا أنه روي عن علي رضي الله عنه انه كان إذا قرأ في العيدين أسمع من يليه ولم يجهر ذلك
الجهر. وقال ابن المنذر أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة، وفي اخبار من أخبر بقراءة النبي صلى
الله عليه وسلم دليل على أنه كان يجهر ولأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة
ويستحب أن يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية نص عليه احمد لأن النعمان بن بشير
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفى الجمعة بسبح اسم ربك الاعلى وهل أتاك
حديث الغاشية. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما، رواه مسلم. وقال الشافعي: يقرأ بقاف واقتربت
الساعة لما روي أن سأل أبا واقد الليثي ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ به في الفطر
والأضحى فقال: كان يقرأ بقاف والقرآن المجيد واقتربت الساعة وانشق القمر، رواه مسلم. وقال

(1) الشافعي لم يقله رأيا بل روي عن الزهري انه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في العيدين فيقول: (الصلاة جامعة) قال الحافظ بن حجر في شرح البخاري وهذا مرسل بعضده القياس على صلاة الكسوف ورواه البيهقي من طريق الشافعي
236

أبو حنيفة: ليس فيه شئ يوقت، وكان ابن مسعود يقرأ بالفاتحة وسورة من المفصل ومهما قرأ به
أجزأه وكان حسنا إلا أن الأول أحسن لأن عمر رضي الله عنه عمل به وكان ذلك مذهبه ولان في
(سبح) الحث على الصلاة وزكاة الفطر على ما قاله سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله
تعالى (قد أفلح من تزكى) فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها
(فصل) وتكون القراءة بعد التكبير في الركعتين نص عليه احمد، وروى ذلك عن أبي هريرة
وفقهاء المدينة السبعة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والشافعي والليث، وقد روي عن أحمد
انه يوالي بين القرائتين ومعناه أن يكبر في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها، اختارها أبو بكر
وروي ذلك عن ابن مسعود وحذيفة وأبي موسى وأبي مسعود البدري والحسن وابن سيرين والثوري
وهو قول أصحاب الرأي لما روي عن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر
تكبيره على الجنازة يوالي بين القرائتين. رواه أبو داود، وروى أبو عائشة جليس لأبي هريرة أن
سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى
والفطر، فقال أبو موسى: كان يكبر أربعا تكبيره على الجنازة. فقال حذيفة: صدق (1)
ولنا ما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في العيدين
في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة رواه الأثرم وابن ماجة والترمذي وقال
هو حديث حسن وهو أحسن حديث في الباب، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في
العيدين سبعا وخمسا قبل القراءة. رواه أحمد في المسند، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم (التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخيرة، والقراءة بعدهما كليهما) رواه أبو داود
والأثرم، ورواه ابن ماجة عن سعد مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وحديث أبي موسى

(1) قال البيهقي خولف راوية في رفعه وفي جواب أبي موسى والمشهور أنهم أسندوه
(2) اسمه عمرو ابن عوف المزني
237

ضعيف. قاله الخطابي: وليس في رواية أبي داود انه والى بين القرائتين، ثم نحمله على أنه والى بين
الفاتحة والسورة لأن قراءة الركعتين لا يمكن الموالاة بينهما لما بينهما من الركوع والسجود
(مسألة) قال (ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الافتتاح)
قال أبو عبد الله: يكبر في الأولى سبعا مع تكبيرة الاحرام ولا يعتد بتكبيرة الركوع لأن بينهما
قراءة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض، ثم يقرأ في الثانية ثم
يكبر ويركع وروى ذلك عن فقهاء المدينة السبعة وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والمزني،
وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وابن عمر ويحيي الأنصاري قالوا: يكبر في
الأولى سبعا وفي الثانية خمسا، وبه قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق إلا أنهم قالوا: يكبر سبعا في
الأولى سوى تكبيرة الافتتاح لقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين اثنتي
عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح، وروي عن ابن عباس وأنس والمغيرة بن شعبة وسعيد بن
238

المسيب والنخعي يكبر سبعا سبعا. وقال أبو حنيفة والثوري في الأولى والثانية ثلاثا ثلاثا واحتجوا
بحديثي أبي موسى اللذين ذكرناهما
ولنا أحاديث كثير وعبد الله بن عمرو وعائشة التي قدمناها. قال ابن عبد البر: قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة حسان أنه كبر في العيد سبعا في الأولى وخمسا في الثانية
من حديث عبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني ولم يرو عنه
من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا وهو أولى ما عمل به، وحديث عائشة المعروف عنها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كبر في الفطر والأضحى سبعا وخمسا سوى تكبيرتي الركوع. رواه أبو داود
وابن ماجة، وحديث أبي موسى ضعيف يرويه أبو عائشة جليس لأبي هريرة وهو غير معروف
(مسألة) قال (ويرفع يديه مع كل تكبيرة)
وجملته أنه يستحب أن يرفع يديه في حال تكبيره حسب رفعهما مع تكبيرة الاحرام، وبه
قال عطاء والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والثوري: لا يرفعهما فيما عدا تكبيرة الاحرام
لأنها تكبيرات في أثناء الصلاة فأشبهت تكبيرات السجود
239

ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير. قال احمد: أما أنا فأرى أن
هذا الحديث يدخل فيه هذا كله، وروي عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة وفي
العيد. رواه الأثرم ولا يعرف له مخالف في الصحابة ولا يشبه هذا تكبير السجود لأن هذه يقع
طرفاها في حال القيام فهي بمنزلة تكبيرة الافتتاح
(مسألة) قال (ويستفتح في أولها ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم بين كل تكبيرتين وان أحب قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله
بكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد النبي الأمي وعليه السلام، وان أحب قال غير ذلك
ويكبر في الثانية خمس تكبيرات سوى التكبيرة التي يقوم بها من السجود ويرفع
يديه مع كل تكبيرة)
قوله يستفتح يعني يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى ثم يكبر تكبيرات العيد، ثم
يتعوذ، ثم يقرأ. وهذا مذهب الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أن الاستفتاح بعد التكبيرات.
اختارها الخلال وصاحبه وهو قول الأوزاعي لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة وهي قبل القراءة. وقال
أبو يوسف: يتعوذ قبل التكبير لئلا يفصل بين الاستفتاح والاستعاذة
ولنا أن الاستفتاح شرع ليستفتح به الصلاة فكان في أولها كسائر الصلوات، والاستعاذة شرعت
للقراءة فهي تابعة لها فتكون عند الابتداء بها لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم) وقد روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ قبل القراءة وإنما جمع
بينهما في سائر الصلوات لأن القراءة تلي الاستفتاح من غير فاصل فلزم أن يليه ما يكون في أولها بخلاف
240

مسئلتنا وأيا ما فعل كان جائزا. وإذا فرغ من الاستفتاح حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه
وسلم ثم فعل هذا بين كل تكبيرتين فإن قال ما ذكره الخرقي فحسن لأنه يجمع ما ذكرناه، وان قال غيره
نحو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله الا والله أكبر، أو ما شاء من الذكر فجائز وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي يكبر متواليا لا ذكر بينه لأنه لو كان بينه ذكر مشروع
لنقل كما نقل التكبير ولأنه ذكر من جنس مسنون فكان متواليا كالتسبيح في الركوع والسجود
ولنا ما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل
العيد يوما فقال لهم إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه فقال عبد الله تبدأ فتكبر تكبيرة تفتح
بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر
وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل
ذلك ثم تقرأ ثم تكبر وتركع ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر
وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر مثل ذلك، ثم تركع فقال حذيفة وأبو موسى
241

صدق أبو عبد الرحمن رواه الأثرم في سننه ولأنها تكبيرات حال القيام فاستحب أن يتخللها ذكر
كتكبيرات الجنازة وتفارق التسبيح لأنه ذكر يخفى ولا يظهر بخلاف التكبير وقياسهم منتقض بتكبيرات
الجنازة، قال القاضي يقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة وهذا قول الشافعي
(فصل) والتكبيرات والذكر بينها سنة وليس بواجب ولا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا
ولا أعلم فيه خلافا فإن نسي التكبير وشرع في القراءة لم يعد إليه قاله ابن عقيل وهو أحد قولي الشافعي
لأنه سنة فلم يعد إليه بعد الشروع في القراءة كالاستفتاح، وقال القاضي فيها وجه آخر أنه يعود إلى
التكبير وهو قول مالك وأبي ثور والقول الثاني للشافعي لأنه ذكره في محله فيأتي به كما قبل الشروع في
القراءة وهذا لأن محله القيام وقد ذكره فيه، فعلى هذا يقطع القراءة ويكبر ثم يستأنف القراءة لأنه
قطعها متعمدا بذكر طويل، وإن كان المنسي شيئا يسيرا احتمل أن يبني لأنه لم يطل الفصل أشبه
ما لو قطعها بقول آمين، واحتمل أن يبتدي لأن محل التكبير قبل القراءة ومحل القراءة بعده
فيستأنفها ليأتي بها بعده وان ذكر التكبير بعد القراءة فأتى به لم يعد القراءة وجها واحدا لأنها وقعت
242

موقعها وان لم يذكره حتى ركع سقط وجها واحدا لأنه فات المحل وكذلك المسبوق إذا أدرك الركوع
لم يكبر فيه، وقال أبو حنيفة يكبر فيه لأنه بمنزلة القيام بدليل ادراك الركعة به
ولنا أنه ذكر مسنون حال القيام فلم يأت به في الركوع كالاستفتاح وقراءة السورة والقنوت
عنده وإنما أدرك الركعة بادراكه لأنه أدرك معظمها ولم يفته الا القيام وقد حصل منه ما يجزى في تكبيرة
الاحرام، فأما المسبوق إذا أدرك الإمام بعد تكبيره فقال ابن عقيل يكبر لأنه أدرك محله ويحتمل أن
لا يكبر لأنه مأمور بالانصات إلى قراءة الإمام ويحتمل أنه إن كان يسمع قراءة الإمام أنصت
وإن كان بعيدا كبر.
(فصل) وإذا شك في عدد التكبيرات بنى على اليقين فإن كبر ثم شك هل نوى الاحرام أولا ابتدأ
الصلاة هو ومن خلفه لأن الأصل عدم النية الا أن يكون وسواسا فلا يلتفت إليه وسائر المسألة
قد سبق شرحها،
(مسألة) قال (فإذا سلم خطب بهم خطبتين يجلس بينهما فإن كان فطرا حضهم على
الصدقة وبين لهم ما يخرجون، وإن كان أضحى يرغبهم في الأضحية ويبين لهم ما يضحى به)
وجملته أن خطبتي العيدين بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافا بين المسلمين الا عن بني أمية
وروي عن عثمان وابن الزبير أنهما فعلاه ولم يصح ذلك عنهما ولا يعتد بخلاف بني أمية لأنه
مسبوق بالاجماع الذي كان قبلهم ومخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة وقد أنكر
عليهم فعلهم وعد بدعة ومخالفا للسنة فإن ابن عمر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر
وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة متفق عليه
243

وروى ابن عباس مثله رواه مسلم، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، وروى طارق
ابن شهاب قال قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة
فقال ترك ذاك يا أبا فلان فقام أبو سعيد فقال أما هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فمن لم يستطع فلينكره بلسانه فمن لم يستطع فلينكره
بقلبه وذلك أضعف الايمان) رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق ورواه
مسلم في صحيحه ولفظه فليغيره فعلى هذا من خطب قبل الصلاة فهو كمن لم يخطب لأنه خطب في غير محل
الخطبة أشبه ما لو خطب في الجمعة بعد الصلاة. إذا ثبت هذا فإن صفة الخطبتين كصفة خطبتي الجمعة الا أنه
يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع متواليات، قال القاضي وان أدخل بينهما
تهليلا أو ذكرا فحسن، وقال سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله
ابن عتبة قال يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات ثم يخطب وفي الثانية سبع
تكبيرات ويستحب أن يكثر التكبير في اضعاف خطبته
وروى سعد مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر بين اضعاف
الخطبة يكثر التكبير في خطبتي العيدين، رواه ابن ماجة (1) فإذا كبر في أثناء الخطبة كبر الناس بتكبيره

(1) حديث ضعيف كما في الزوائد وكان لفظه محرفا فصححناه على سنن ابن ماجة
244

وقد روي عن أبي موسى أنه كان يكبر يوم العيد على المنبر اثنتين وأربعين تكبيرة ويجلس بين الخطبتين
لما روى ابن ماجة باسناده عن جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى
فخطب قائما ثم قعد قعدة ثم قام. ويجلس عقيب صعوده المنبر وقيل لا يجلس عقيب صعوده لأن الجلوس
في الجمعة للآذان ولا أذان هاهنا فإن كان في الفطر أمرهم بصدقة الفطر وبين لهم وجوبها وثوابها
وقدر المخرج وجنسه وعلى من تجب، والوقت الذي يخرج فيه. وفي الأضحى يذكر الأضحية وفضلها
وأنها سنة مؤكدة وما يجزى فيها ووقت ذبحها والعيون التي تمنع منها وكيفية تفرقتها وما يقوله عند
ذبحها لما روي عن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى
إلى المصلى فأول ما يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم
ويوصيهم ويأمرهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشئ أمر به ثم ينصرف. رواه البخاري
وروى مسلم نحوه وعن جابر قال، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ
بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فامر بتقوى الله وحث على طاعته
ووعظ الناس فذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن. متفق عليه وعنه قال، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو شاة لحم عجله لأهله ليس من النسك في شئ،
245

ومن ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وقد أصاب سنة المسلمين)
(فصل) والخطبتان سنة لا يجب حضورها ولا استماعها لما روى عبد الله بن السائب قال
شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال (انا نخطب فمن أحب أن يجلس
للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب رواه النسائي وابن ماجة ورواه أبو داود وقال هو
مرسل وإنما أخرت عن الصلاة والله أعلم لأنها لما كانت غير واجبة جعلت في وقت يتمكن من أراد
تركها من تركها بخلاف خطبة الجمعة، والاستماع لها أفضل وقد روي عن الحسن وابن سيرين انهما
كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب وقال إبراهيم يخطب الإمام يوم العيد قدر ما يرجع النساء
إلى بيوتهن وهذا يدل على أنه لا يستحب لهن الجلوس لاستماع الخطبة لئلا يختلطن بالرجال وحديث
النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته النساء بعد فراغه من خطبته دليل على أنهن لم ينصرفن قبل
فراغه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع
(فصل) ويستحب أن يخطب قائما لما روى جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم فطر أو أضحى فخطب قائما قعد ثم قام رواه ابن ماجة ولأنها خطبة عيد فأشبهت خطبة الجمعة
وإن خطب قاعدا فلا بأس لأنها غير واجبة فأشبهت صلاة النافلة، وإن خطب على راحلته فحسن
246

قال سعيد حدثنا هشيم حدثنا حصين حدثنا أبو جميلة قال رأيت صلى يوم فبدأ بالصلاة قبل
الخطبة ثم خطب على دابته، ورأيت عثمان بن عفان يخطب على راحلته ورأيت المغيرة بن شعبة
يخطب على راحلته
(مسألة) قال (ولا يتنفل قبل صلاة العيدين ولا بعدها)
وجملته أنه يكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة سواء كان في
المصلى أو المسجد وهو مذهب ابن عباس وابن عمر وروي ذلك عن علي وابن مسعود وحذيفة وبريدة
وسلمة بن الأكوع وجابر وابن أبي أوفى وقال به شريح وعبد الله بن مغفل والشعبي ومالك والضحاك
والقاسم وسالم ومعمر وابن جريح ومسوق وقال الزهري لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا
من سلف هذه الأمة كان يصلى قبل تلك الصلاة ولا بعدها يعني صلاة العيد، وقال ما صلى قبل
العيد بدري. ونهى عنه أبو مسعود البدري. وروي أن عليا رضي الله عنه رأى قوما يصلون قبلي العيد
فقال ما كان هذا يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد أهل المدينة لا يتطوعون
قبلها ولا بعدها وأهل البصرة يتطوعون قبلها وبعدها وأهل الكوفة لا يتطوعون قبلها ويتطوعون
بعدها وهذا قول علقمة والأسود ومجاهد وابن أبي ليلى، والنخعي، والثوري، والأوزاعي
وأصحاب الرأي وقال مالك لا يتطوع في المصلى قبلها ولا بعدها وله في المسجد روايتان إحداهما
يتطوع لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) وقال
247

الشافعي يكره التطوع للإمام دون المأموم لأن الإمام لا يستحب له التشاغل عن الصلاة ولم يكره
للمأموم لأنه وقت لم ينه عن الصلاة فيه أشبه ما بعد الزوال
ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل
قبلهما ولابعدهما متفق عليه وروى ابن عمر نحوه ولأنه اجماع كما ذكرناه عن الزهري وغيره ونهى
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ورووا الحديث وعملوا به ولأنه وقت نهى الإمام عن
التنفل فيه فكره للمأموم كسائر أوقات النهي وكما قبل الصلاة عند أبي حنيفة وكما لو كان في المصلى
عند مالك قال الأثرم قلت لأحمد قال سليمان بن حرب إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التطوع
لأنه كان إماما قال أحمد فالدين رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوعوا ثم قال: ابن عمر
وابن عباس هما راوياه وأخذا به يشير والله أعلم إلى أن عمل راوي الحديث به تفسير له وتفسيره
يقدم على تفسير غيره ولو كانت الكراهة للإمام كيلا يشتغل عن الصلاة لاختصت بما قبل الصلاة إذا لم
يبق بعدها ما يشتغل به ولأنه تنفل في المصلى وقت صلاة العيد فكره كالذي سلموه وقياسهم منتقض
بالإمام وقد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في صلاة
العيد سبعا وخمسا ويقول (لا صلاة قبلها ولا بعدها) حكى ابن عقيل ان الإمام ابن بطة رواه باسناده
(فصل) قيل لأحمد فإن كان رجل يصلي صلاة في ذلك الوقت قال أخاف أن يقتدي به
بعض من يراه يعني لا يصلي قال ابن عقيل وكره أحمد أن يتعمد لقضاء صلاة وقال أخاف أن يقتدوا به
248

(فصل) وإنما يكره التنفل في موضع الصلاة فأما في غيره فلا بأس به وكذلك لو خرج منه ثم
عاد إليه بعد الصلاة فلا بأس بالتطوع فيه قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول روي ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها. ورأيته يصلي بعدها ركعات في البيت وربما صلاها
في الطريق يدخل بعض المساجد وروي عن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يصلى قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين رواه ابن ماجة ولأنه إنما ترك الصلاة
في موضع الصلاة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولاشتغاله بالصلاة وانتظارها
وهذا معدوم في غير موضع الصلاة
(مسألة) قال (وإذا غدا من طريق رجع من غيره)
وجملته ان الرجوع في غير الطريق التي غدا منها سنة وبهذا قال مالك والشافعي والأصل فيه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله قال أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد
في طريق رجع في غيره قال الترمذي هذا حديث حسن وقال بعض أهل العلم إنما فعل هذا قصدا
لسلوك الابعد في الذهاب ليكثر ثوابه وخطواته إلى الصلاة ويعود في الأقرب لأنه أسهل وهو راجع
إلى منزله وقيل كان يحب أن يشهد له الطريقان وقيل كان يحب المساواة بين أهل الطريقين في التبرك
بمروره بهم وسرورهم برؤيته وينتفعون بمسئلته وقيل لتحصل الصدقة ممن صحبه على أهل الطريقين
من الفقراء وقيل لتبرك الطريقين بوطئه عليها وفي الجملة الاقتداء به سنة لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله
من أجله ولأنه قد يفعل الشئ لمعنى ويبقى في حق سنة مع زوال المعنى كالرمل والاضطباع في طواف
249

القدوم فعله هو وأصحابه لاظهار الجلد للكفار وبقي سنة بعد زوالهم ولهذا روي عن عمر رضي
الله عنه أنه قال فيهم الرملان الآن ولمن نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟ ثم قال ذلك لا ندع
شيئا فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(مسألة) قال (ومن فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات كصلاة التطوع وان
أحب فصل بسلام بين كل ركعتين)
وجملته ان من فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه لأنها فرض كفاية وقام بها من حصلت الكفاية
به فإن أحب قضاءها فهو مخير ان شاء صلاها أربعا اما بسلام واحد واما بسلامين روي هذا عن
ابن مسعود وهو قول الثوري وذلك لما روي عبد الله بن مسعود أنه قال من فاته العيد فليصل أربعا
ومن فاتته الجمعة فليصل أربعا وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ان أمرت رجلا أن يصلي بضعفة
الناس أمرته أن يصلي أربعا رواهما سعيد قال أحمد رحمه الله يقوي ذلك حديث علي انه أمر رجلا
يصلي بضعفة الناس أربعا ولا يخطب ولأنه قضاء صلاة عيد فكان أربعا كصلاة الجمعة وان شاء أن
250

يصلي ركعتين كصلاة التطوع وهذا قول الأوزاعي لأن ذلك تطوع وإن شاء صلاها على صفة
صلاة العيد بتكبير نقل عن أحمد إسماعيل بن سعد واختاره الجوزجاني وهذا قول النخعي
ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لما روي عن أنس انه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام
بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيها، ولأنه
قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات وهو مخير ان شاء صلاها وحده وإن شاء في جماعة
قيل لأبي عبد الله أين يصلى قال إن شاء مضى إلى المصلى وإن شاء حيث شاء
(فصل) وإن أدرك الإمام في التشهد جلس معه، فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين يأتي فيهما
بالتكبير لأنه أدرك بعض الصلاة التي ليست مبدلة من أربع فقضاها على صفتها كسائر الصلوات،
وإن أدركه في الخطبة فإن كان في المسجد صلى تحية المسجد لأنها إذا صليت في خطبة الجمعة التي يجب
الانصات لها ففي خطبة العيد أولى، ولا يكون حكمه في ترك التحية حكم من أدرك العيد. وقال
لقاضي: يجلس فيستمع الخطبة ولا يصلي لئلا يشتغل بالصلاة عن استماع الخطبة، وهذا التعليل يبطل
251

بالداخل في خطبة الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الداخل بالركوع مع أن خطبة الجمعة آكد،
فاما لم يكن في المسجد فإنه يجلس فيستمع، ثم إن أحب قضى صلاة العيد ما ذكرناه
(فصل) إذا لم يعلم بيوم العيد إلا بعد زوال الشمس خرج من الغد فصلى بهم العيد وهذا قول
الأوزاعي والثوري وإسحاق وابن المنذر وصوبه الخطابي، وحكي عن أبي حنيفة أنها لا تقضى. وقال
الشافعي: إن علم بعد غروب الشمس كقولنا، وإن علم بعد الزوال لم يصل لأنها صلاة شرع لها
الاجتماع والخطبة فلا تقضى بعد فوات وقتها كصلاة الجمعة، وإنما يصليها إذا علم بعد غروب الشمس
لأن العيد هو الغد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون،
وعرفتكم يوم تعرفون)
ولنا ما روى أبو عمير ابن أنس عن عمومة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ركبا
جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا
أن يغدوا إلى مصلاهم، رواه أبو داود. وقال الخطابي: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى،
وحديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب، ولأنها صلاة مؤقتة فلا تسقط بفوات الوقت كسائر
الفرائض، وقياسهم على الجمعة لا يصح لأنها معدول بها عن الظهر بشرائط منها الوقت، فإذا فات
واحد منها رجع إلى الأصل
252

(فصل) فأما الواحد إذا فاتته حتى تزول الشمس وأحب قضاءها متى أحب. وقال ابن
عقيل: لا يقضيها إلا من الغد قياسا على المسألة التي قبلها وهذا لا يصح لأن ما يفعله تطوع فمتى أحب
أتى به وفارق ما إذا لم يعلم الإمام والناس لأن الناس تفرقوا يومئذ على أن العيد في الغد فلا يجتمعون
إلا من الغد، ولا كذلك هاهنا فإنه لا يحتاج إلى اجتماع الجماعة، ولان صلاة الإمام هي الصلاة الواجبة
التي لها شروط العيد ومكانه وصفة صلاته فاعتبر لها الوقت وهذا بخلافه
(فصل) ويشترط الاستيطان لوجوبها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في سفره ولا
خلفاؤه وكذلك العدد المشترط للجمعة لأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة، وفي إذن الإمام روايتان
أصحها ليس بشرط، ولا يشترط شئ من ذلك لصحتها لأنها تصح من الواحد في القضاء. وقال
أبو الخطاب: في ذلك كله روايتان. وقال القاضي: كلام احمد يقتضي روايتين: إحداهما لا يقام
العيد إلا حيث تقام الجمعة وهذا مذهب أبي حنيفة إلا أنه لا يرى ذلك إلا في مصر لقوله: لا جمعة ولا
تشريق إلا في مصر جامع. والثانية يصليها المنفرد والمسافر والعبد والنساء على كل حال. وهذا
قول الحسن والشافعي لأنه ليس من شرطها الاستيطان فلم يكن من شرطها الجماعة كالنوافل إلا أن
الإمام إذا خطب مرة ثم أرادوا أن يصلوا لم يخطبوا وصلوا بغير خطبة كيلا يؤدي إلى تفريق الكلمة
والتفصيل الذي ذكرناه أولى ما قيل به إن شاء الله تعالى
253

(مسألة) قال (ويبتدئ التكبير يوم عرفة من صلاة الفجر)
لا خلاف بين العلماء رحمهم الله في أن التكبير مشروع في عيد النحر واختلفوا في مدته فذهب
إمامنا رضي الله عنه إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عمر
وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، واليه ذهب الثوري وابن عيينة وأبو يوسف ومحمد
وأبو ثور والشافعي في بعض أقواله، وعن ابن مسعود أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى العصر من
يوم النحر واليه ذهب علقمة والنخعي وأبو حنيفة لقوله (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) وهي
العشر، وأجمعنا على أنه لا يكبر قبل يوم عرفة، فينبغي أن يكبر يوم عرفة ويوم النحر. وعن ابن عمر
وعمر بن عبد العزيز أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال
مالك والشافعي في المشهور عنه لأن الناس تبع للحاج والحاج يقطعون التلبية مع أول حصاة ويكبرون
مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر فأول صلاة بعد ذلك الظهر، وآخر صلاة يصلون بمنى الفجر من
اليوم الثالث من أيام التشريق
ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة وأقبل علينا فقال (الله أكبر
الله أكبر) ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق أخرجه الدارقطني من طرق، وفي بعضها
(الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله، والله أكبر ولله الحمد) ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم،
254

روى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رواه سعيد عن عمر وعلي وابن عباس، وروى
باسناده عن محمد بن سعيد أن عبد الله كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر
فأتانا علي بعده فكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر
لا إلا الا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. قيل لأحمد رحمه الله: بأي حديث تذهب إلى أن
التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، قال: الاجماع عمر وعلي وابن عباس وابن
مسعود رضي الله عنهم، ولان الله تعالى قال (واذكروا الله في أيام معدودات) وهي أيام التشريق
فتعين الذكر في جميعها، ولأنها أيام يرمي فيها فكان التكبير فيها كيوم النحر وقوله تعالى (ويذكروا
اسم الله في أيام معلومات) والمراد به ذكر الله تعالى على الهدايا والأضاحي
255

ويستحب التكبير عند رؤية الانعام في جميع العشر وهذا أولى من قولهم وتفسيرهم لأنهم لم يعملوا
به في كل العشر ولا في أكثره، وإن صح قولهم فقد أمر الله تعالى بالذكر في أيام معدودات وهي أيام
التشريق فيعمل به أيضا، وأما المحرمون فإنهم يكبرون من صلاة الظهر يوم النحر لما ذكروه لأنهم كانوا
مشغولين قبل ذلك بالتلبية، وغيرهم يبتدئ من يوم عرفة لعدم المانع في حقهم مع وجود المقتضى وقولهم
إن الناس تبع لهم في هذا دعوى مجردة لا دليل عليها فلا تسمع
(فصل) وصفة التكبير الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد،
وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق وابن المبارك إلا أنه زاد
على ما هدانا: لقوله (ولتكبروا الله على ما هداكم) وقال مالك والشافعي يقول: الله أكبر الله أكبر
ثلاثا لأن جابرا صلى في أيام التشريق، فلما فرغ من صلاته قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
وهذا لا يقوله الا توقيفا، ولان التكبير شعار العيد فكان وترا كتكبير الصلاة والخطبة
ولنا خبر جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو نص في كيفية التكبير وأنه قول الخليفتين
الراشدين، وقول ابن مسعود. وقال جابر لا يسمع مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقدم
على قول أحد ممن ذكرنا فكيف قدموه على قول جميعهم، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعا
كتكبير الاذان، وقولهم إن جابرا لا يفعله الا توقيفا فاسد لوجوه أحدها أنه قد روى خلاف قوله
فكيف يترك ما صرح به لاحتمال وجود ضده، الثاني أنه إن كان قوله توقيفا كان قول من خالفه توقيفا
فكيف قدموا الضعيف على ما هو أقوى منه مع إمامة من خالفه وتفضلهم في العلم عليه وكثرتهم، الثالث
ان هذا ليس بمذهب لهم، فإن قول الصحابي لا يحمل على التوقيف عندهم، الرابع أنه إنما يحمل على
التوقيف ما خالف الأصول وذكر الله تعالى لا يخالف الأصل ولا سيما إذا كان وترا
(مسألة) قال (ثم لا يزال يكبر دبر كل صلاة مكتوبة صلاها في جماعة وعن أبي
عبد الله رحمه الله أنه يكبر لصلاة الفرض وإن كان وحده حتى يكبر لصلاة العصر من
آخر أيام التشريق ثم يقطع)
المشروع عند إمامنا رحمه الله التكبير عقيب الفرائض في الجماعات في المشهور عنه. قال الأثرم
256

قلت لأبي عبد الله اذهب إلى فعل ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال أحمد نعم. وقال
ابن مسعود إنما التكبير على من صلى في جماعة وهذا مذهب الثوري وأبي حنيفة، وقال مالك لا يكبر
عقيب النوافل، ويكبر عقيب الفرائض كلها وقال الشافعي يكبر عقيب كل صلاة فريضة كانت أو نافلة
منفردا صلاها أو في جماعة لأنها صلاة مفعولة فيكبر عقيبها كالفرض في جماعة
ولنا قول ابن مسعود وفعل ابن عمر ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة فكان اجماعا ولأنه ذكر
مختص بوقت العيد فاختص بالجماعة ولا يلزم من مشروعيته للفرائض مشروعيته للنوافل كالاذان
والإقامة وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه يكبر للفرض وإن كان منفردا وهو مذهب مالك لأنه
ذكر مستحب للمسبوق فاستحب للمنفرد كالسلام
(فصل) والمسافرون كالمقيمين فيما ذكرنا وكذلك النساء يكبرن في الجماعة، وفي تكبيرهن في
الانفراد روايتان كالرجال قال ابن منصور قلت لأحمد: قال سفيان لا يكبر النساء أيام التشريق إلا
في جماعة قال أحسن، وقال البخاري كان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي
التشريق مع الرجال في المسجد وينبغي لهن أن يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال، وعن أحمد
رواية أخرى أنهن لا يكبرن لأن التكبير ذكر يشرع فيه رفع الصوت فلم يشرع في حقهن كالاذان
(فصل) والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته نص عليه أحمد وهذا قول أكثر
أهل العلم، وقال الحسن يكبر ثم يقضي لأنه ذكر مشروع في آخر الصلاة فيأتي به المسبوق قبل القضاء
كالتشهد، وعن مجاهد ومكحول يكبر ثم يقضي ثم يكبر لذلك
ولنا أنه ذكر شرع بعد السلام فلم يأت به في أثناء الصلاة كالتسليمة الثانية والدعاء بعدها وإن كان
على المصلي سجود سهو بعد السلام سجده ثم يكبر، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق
وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأنه سجود مشروع للصلاة فكان التكبير بعده وبعد
تشهده كسجود صلب الصلاة. وآخر مدة التكبير العصر من آخر أيام التشريق لما ذكرناه في المسألة التي قبلها
257

(فصل) وإذا فاتته صلاة من أيام التشريق فقضاها فيها فحكمها حكم المؤداة في التكبير لأنها
صلاة في أيام التشريق، وكذلك إن فاتته من غير أيام التشريق فقضاها فيها كذلك وان فاتته من
أيام التشريق فقضاها في غيرها لم يكبر لأن التكبير مقيد بالوقت فلم يفعل في غيره كالتلبية
(فصل) ويكبر مستقبل القبلة حكاه أحمد عن إبراهيم قال أبو بكر وعليه العمل وذلك لأنه
ذكر مختص بالصلاة أشبه الأذان والإقامة ويحتمل أن يكبر كيفما شاء لما روى جابر أن النبي صلى
الله عليه وسلم أقبل عليهم فقال (الله أكبر الله أكبر) وان نسي التكبير حتى خرج من المسجد لم يكبر
وهذا قول أصحاب الرأي لأنه مختص بالصلاة من بعدها فأشبه سجود السهو ويحتمل أن يكبر لأنه
ذكر فاستحب وان خرج وبعد كالدعاء والذكر المشروع بعدها وان ذكره في المسجد عاد إلى
مكانه فجلس واستقبل القبلة فكبر وقال الشافعي يكبر ماشيا وهذا أقيس لأن التكبير ذكر مشروع
بعد الصلاة فأشبه سائر الذكر قال أصحابنا، وإذا أحدث قبل التكبير لم يكبر عامدا كان أو ساهيا
لأن الحدث يقطع الصلاة عمده وسهوه، وبالغ ابن عقيل فقال إن تركه حتى تكلم لم يكبر والأولى
إن شاء الله أن يكبر لأن ذلك ذكر منفرد بعد سلام الإمام فلا تشترط له الطهارة كسائر الذكر ولان
اشتراط الطهارة اما بنص أو معناه ولم يوجد ذلك وإذا نسي الإمام التكبير كبر المأموم وهذا قول
الثوري لأنه ذكر يتبع الصلاة أشبه سائر الذكر
(فصل) قال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يكبر عقيب صلاة العيد وهو قول أبي بكر لأنها
صلاة مفروضة في جماعة فأشبهت الفجر وقال أبو الخطاب لا يسن لأنها ليست من الصلوات الخمس
أشبهت النوافل والأول أولى لأن هذه الصلاة أخص بالعيد فكانت أحق بتكبيره
(فصل) ويشرع التكبير في غير ادبار الصلوات وكان ابن عمر يكبر بمنى في تلك الأيام خلف
الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاة تلك الأيام جمعيا وكان يكبر في قبته بما يسمعه
أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا وكذلك يستحب التكبير في أيام
العشر كلها لقول الله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) كما قال (واذكروا الله في أيام معدودات)
والأيام المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق قال البخاري، وكان ابن عمر وأبو هريرة
يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. ويستحب الاجتهاد في عمل الخير
258

في أيام العشر من الذكر والصلاة والصيام والصدقة وسائر أعمال البر، لما روى ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا
الجهاد الا رجل خرج يخاطر بنفسه وما له فلم يرجع بشئ) أخرجه البخاري
(فصل) قال أحمد رحمه الله ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبل الله منا ومنك،
وقال حرب، سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم قال لا بأس به يرويه أهل
الشام عن أبي أمامة قيل وواثلة بن الأسقع قال نعم قيل فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد قال لا وذكر
ابن عقيل في تهنئة العيد أحاديث منها أن محمد بن زياد، قال كنت مع أبي إمامة الباهلي وغيره من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك
وقال أحمد أسناد حديث أبي إمامة أسناد جيد وقال علي بن ثابت سألت مالك بن أنس منذ خمس
وثلاثين سنة وقال لم يزل يعرف هذا بالمدينة، وروي عن أحمد أنه قال لا ابتدي به أحدا وان
قاله أحد رددته عليه.
(فصل) قال القاضي ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالامصار وقال الأثرم سألت أبا عبد الله
عن التعريف في الأمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة قال أرجو أن لا يكون به بأس قد فعله غير
واحد، وروى الأثرم عن الحسن قال أول من عرف بالبصرة ابن عباس رحمه الله وقال أحمد أول
من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث وقال الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون
المسجد يوم عرفة قبل أحمد لا بأس به إنما هو دعاء وذكر لله فقيل له تفعله أنت قال أما أنا فلا وروى
عن يحيي بن معين أنه حضر مع الناس عشية عرفة
(كتاب صلاة الخوف)
صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة اما الكتاب فقول الله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم
259

الصلاة) الآية. واما السنة فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الخوف وجمهور العلماء
متفقون على أن حكمها باق بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو يوسف إنما كانت تختص بالنبي صلى الله
عليه وسلم لقوله تعالى (وإذا كنت فيهم) وليس بصحيح فإن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت
في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به فإن الله تعالى أمر باتباعه بقوله (فاتبعوه) وسئل عن القبلة
للصائم فأجاب بأنني أفعل ذلك فقال السائل لست مثلنا فغضب وقال (إني لأرجو أن أكون أخشاكم
لله تعالى وأعلمكم بما أتقي) ولو اختص بفعله لما كان الاخبار بفعله جوابا ولا غضب من قول السائل
لست مثلنا لأن قوله إذا يكون صوابا وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحتجون بأفعال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويرونها معارضة لقوله وناسخة له ولذلك لما أخبرت عائشة وأم سلمة بأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم تركوا به خبر
أبي هريرة (من أصبح جنبا فلا صوم له) ولما ذكروا ذلك لأبي هريرة قال هن أعلم إنما حدثني به الفضل
ابن عباس ورجع عن قوله ولو لم يكن فعله حجة لغيره لم يكن معارضا لقوله، وأيضا فإن الصحابة
رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف فروي أن عليا رضي الله عنه صلى صلاة الخوف ليلة الهدير
وصلى أبو موسى الأشعري صلاة الخوف بأصحابه
وروي أن سعيد بن العاص كان أميرا على الجيش بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقال حذيفة: أنا، فقدمه فصلى بهم. فأما تخصيص النبي صلى الله
عليه وسلم بالخطاب فلا يوجب تخصيصه بالحكم لما ذكرناه، ولان الصحابة رضي الله عنهم أنكروا
على مانعي الزكاة قولهم إن الله تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله (خذ من أموالهم صدقة). وقد قال
الله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) وهذا لا يختص به، فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم
أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل، قلنا هذا كان قبل نزول صلاة الخوف، وإنما يؤخذ بالآخر
فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون ناسخا لما قبله، ثم إن هذا الاعتراض باطل في نفسه
إذ لا خلاف في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يصلي صلاة الخوف وقد أمره الله تعالى بذلك
في كتابه فلا يجوز الاحتجاج بما يخالف الكتاب والاجماع، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر
الصلاة نسيانا، فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن صلاتها فقالوا ما صلينا، وروي أن
عمر قال ما صليت العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (والله ما صليتها) أو كما جاء ويدل على
صحة هذا أنه لم يكن ثم قتال يمنعه من الصلاة فدل على ما ذكرناه
(مسألة) قال (وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر صلى بطائفة
ركعة وأتمت لانفسها أخرى بالحمد لله وسورة ثم ذهبت تحرس وجاءت الطائفة الأخرى
260

التي بإزاء العدو فصلت معه ركعة وأتمت لانفسها أخرى بالحمد لله وسورة ويطيل التشهد
حتى يتموا التشهد ويسلم بهم)
وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا، فإذا كان في سفر
يبيح القصر صلى بهم ركعتين بكل طائفة ركعة وتتم لانفسها أخرى على الصفة المذكورة، وإنما
يجوز ذلك بشرائط منها أن يكون العدو مباح القتال وأن لا يؤمن هجومه. قال القاضي: ومن شرطها
كون العدو في غير جهة القبلة، ونص احمد على خلاف ذلك في رواية الأثرم فإنه قال: قلت له حديث
سهل نستعمله مستقبلين القبلة كانوا أو مستدبرين، قال نعم هو أنكى ولان العدو قد يكون في جهة
القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم، أو استتارهم، أوا لخوف من كمين فالمنع
من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها. قال أبو الخطاب: ومن شرطها أن يكون في المصلين كثرة يمكن
تفريقهم طائفتين كل طائفة ثلاثة فأكثر. وقال القاضي: إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه
لأن احمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ووجه قولهما أن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ
الجمع بقوله تعالى (فإذا سجدوا فليكونوا من وراءكم) وأقل لفظ الجمع ثلاثة، والأولى أن لا يشترط
هذا لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة فجاز أن يكونوا طائفة كالثلاثة، وأما فعل النبي صلى الله
عليه وسلم فإنه لا يشترك في صلاة الخوف أن يكون المصلون مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في
العدد وجها واحدا ولذلك اكتفينا بثلاثة ولم يكن كذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ويستحب أن يخفف بهم الصلاة لأن موضوع صلاة الخوف على التخفيف وكذلك الطائفة
التي تفارقه تصلي لنفسها تقرأ بسورة خفيفة ولا تفارقه حتى يستقل قائما لأن النهوض يشتركون فيه
جميعا فلا حاجة إلى مفارقتهم إياه قبله، والمفارقة إنما جازت للعذر. ويقرأ ويشهد ويطيل في حال
الانتظار حتى يدركوه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقرأ حال الانتظار، بل يؤخر القراءة ليقرأ
بالطائفة الثانية ليكون قد سوي بين الطائفتين
ولنا أن الصلاة ليس فيها حال سكوت والقيام محل للقراءة فينبغي أن يأتي بها فيه كما في التشهد
إذا انتظرهم فإنه يتشهد ولا يسكت كذا هاهنا والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين، والأولى
في موضع واحد. إذا ثبت هذا فقال القاضي: إن قرأ في انتظارهم قرأ بعد ما جاؤوا بقدر فاتحة الكتاب
وسورة خفيفة، وإن لم يقرأ في انتظارهم قرأ إذا جاؤوا بالفاتحة وسورة خفيفة وهذا على سبيل
الاستحباب، ولو قرأ قبل مجيئهم ثم ركع عند مجيئهم أو قبله فأدركوه راكعا ركعوا معه وصحت لهم
الركعة مع ترك السنة، وإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى وأطال التشهد بالدعاء والتوسل
261

حتى يدركوه ويتشهدوا ثم يسلم بهم. وقال مالك: يتشهدون معه، فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا
ما فاتهم كالمسبوق، وما ذكرناه أولى لقول الله تعالى (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك)
وهذا يدل على أن صلاتهم كلها معه
وفي حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة ثم سلم. رواه أبو
داود، وروي أنه سلم بالطائفة الثانية، ولان الأولى أدركت معه فضيلة الاحرام فينبغي أن يسلم
بالثانية ليسوي بينهم، وبهذا قال مالك والشافعي: إلا فيما ذكرنا من الاختلاف. وقال أبو حنيفة:
يصلي كما روى ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة
وسجدتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على
العدو وجاء أولئك ثم صلى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة.
متفق عليه: وقال أبو حنيفة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة للعدو، ثم تنصرف التي
صلت معه إلى وجه العدو وهي في صلاتها، ثم تجئ الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام الركعة الثانية
ثم يسلم الإمام وترجع الطائفة إلى وجه العدو وهي في الصلاة، ثم تأتي الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها
فتصلي ركعة منفردة ولا تقرأ فيها لأنها في حكم الائتمام ثم تنصرف إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة
الأخرى إلى موضع الصلاة فتصلي الركعة الثانية منفردة وتقرأ فيها لأنها قد فارقت الإمام بعد فراغه
من الصلاة فحكمها حكم المسبوق إذا فارق إمامه. قال: وهذا أولى لأنكم جوزتم للمأموم فراق إمامه
قبل فراغه من الصلاة وهي الطائفة الأولى، وللثانية فراقه في الافعال فيكون جالسا وهم قيام يأتون
بركعة وهم في إمامته
ولنا ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف
أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم
ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم
ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. رواه مسلم
وروى سهل بن أبي حثمة مثل ذلك والعمل بهذا أولى لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط
للصلاة والحرب، أما موافقة الكتاب فإن قول الله تعالى (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا
معك) يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعنده تصلي معه ركعة فقط، وعندنا جميع صلاتها معه
إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه، ومن
مفهوم قوله (لم يصلوا) أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها،
262

وأما الاحتياط للصلاة فإن كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية بعضها توافق الإمام فيها فعلا وبعضها تفارقه
وتأتي به وحدها كالمسبوق. وعنده تنصرف في الصلاة فاما أن تمشي واما أن تركب وهذا عمل كثير
وتستدبر القبلة وهذا ينافي الصلاة وتفرق بين الركعتين تفريقا كثيرا بما ينافيها، ثم جعلوا الطائفة
الأولى مؤتمة بالإمام بعد سلامه، ولا يجوز أن يكون المأموم مأموما في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه
وأما الاحتياط للحرب فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض، وإعلام غيره بما يراه مما خفي عليه
من أمر العدو وتحذيره وأعلام الذين مع الإمام بما يحدث ولا يمكن هذا على قولهم، ولان مبني صلاة
الخوف على التخفيف لأنهم في موضع الحاجة إليه، وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال
الامن لأن كل طائفة تحتاج إلى مضي إلي مكان الصلاة ورجوع إلى وجاه العدو، وانتظار لمضي
الطائفة الأخرى ورجوعها فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل تحتاج كل طائفة إلى مشي
ميل، وانتظار للأخرى قدر مشي ميل وهي في الصلاة، ثم تحتاج إلى تكليف الرجوع إلى موضع
الصلاة لاتمام الصلاة من غير حاجة إليه ولا مصلحة تتعلق به، فلوا احتاج الآمن إلى مثل
هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه فكيف يكلف الخائف هذا وهو في مظنة التخفيف والحاجة
إلى الرفق به، وأما مفارقة الإمام فجائزة للعذر ولابد منها على القولين، فإنهم جوزوا للطائفة
الأولى مفارقة الإمام والذهاب إلى وجه العدو وهذا أعظم مما ذكرناه فإنه لا نظير له في الشرع،
ولا يوجد مثله في موضع آخر
(فصل) وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز نص عليه احمد ولكن يكون تاركا للأولى
والأحسن، وبهذا قال ابن جرير وبعض أصحاب الشافعي
(فصل) ولا تجب التسوية بين الطائفتين لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس، ويجب أن تكون
الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى
معونتهم بالطائفة الأخرى فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه ويبنوا على ما مضى من صلاتهم
(فصل) فإن صلوا الجمعة صلاة الخوف جاز إذا كانت كل طائفة أربعين، فإن قيل فالعدد
شرط في الجمعة كلها، ومتى ذهبت الطائفة الأولى بقي الإمام منفردا فتبطل كما لو نقص العدد
فالجواب أن هذا جاز لأجل العذر ولأنه يترقب مجئ الطائفة الأخرى بخلاف الانفضاض،
ولا يجوز أن يخطب بإحدى الطائفتين ويصلي بالأخرى حتى يصلي معه من حضر الخطبة وبهذا قال الشافعي
(فصل) والطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقة الإمام، فإن سها لحقهم حكم سهوه
فيما قبل مفارقته، وإن سهوا لم يلزمهم حكم سهوهم لأنهم مأمومون، وأما بعد مفارقته فإن سها لم
263

يلزمهم حكم سهوه، فإن سهوا لحقهم حكم سهوهم لأنهم منفردون، وأما الطائفة الثانية فيلحقها حكم
سهو إمامها في جميع صلاته ما أدركت منها وما فاتها كالمسبوق يلحقه حكم سهو إمامه فيما لم يدركه ولا
يلحقها حكم سهوها في شئ من صلاتها لأنها إن فارقته فعلا لقضاء ما فاتها فهي في حكم المؤتم به لأنهم
يسلمون بسلامه، فإذا فرغت من قضاء ما فاتها سجد وسجدت معه، فإن سجد الإمام قبل اتمامها
سجدت لأنها مؤتمة به فيلزمها متابعته ولا تعيد السجود بعد فراغها من التشهد لأنها لم تنفرد عن
الإمام فلا يلزمها من السجود أكثر مما يلزمه بخلاف المسبوق. وقال القاضي: ينبني هذا على الروايتين
في المسبوق إذا سجد مع إمامه ثم قضى ما عليه وقد ذكرنا الفرق بينهما
(مسألة) قال (وان خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى
بالحمد لله في كل ركعة والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة
وجملة ذلك أن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريبا من
البلد، وبه قال الأوزاعي والشافعي، وحكي عن مالك أنها لا تجوز في الحضر لأن الآية إنما دلت
على صلاة ركعتين وصلاة الحضر أربعا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر
وخالفه أصحابه فقالوا كقولنا
ولنا قول الله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية، وهذا عام في كل حال وترك
النبي صلى الله عليه وسلم فعلها في الحضر إنما كان لغناه عن فعلها في الحضر، وقولهم إنما دلت الآية
على ركعتين قلنا وقد يكون في الحضر ركعتان الصبح والجمعة والمغرب ثلاث، ويجوز فعلها في الخوف
في السفر، ولأنها حالة خوف فجازت فيها صلاة الخوف كالسفر، فإذا صلى بهم الرباعية صلاة الخوف
فرقهم فرقتين فصلى بكل طائفة ركعتين، وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد الأول أو حين يقوم
إلى الثالثة على وجهين: أحدهما حين قيامه إلى الثالثة وهو قول مالك والأوزاعي لأنه يحتاج إلى
التطويل من أجل الانتظار، والتشهد يستحب تخفيفه ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس
للتشهد كان كأنه على الرضف حتى يقوم ولان ثواب القائم أكثر، ولأنه إذا انتظرهم جالسا فجاءت
الطائفة فإنه يقوم قبل احرامهم فلا يحصل اتباعهم له في القيام
(والثاني) في التشهد لتدرك الطائفة الثانية جميع الركعة الثالثة، ولان الانتظار في الجلوس أخف
على الإمام ولأنه متى انتظرهم قائما احتاج إلى قراءة السورة في الركعة الثالثة وهو خلاف السنة وأيا
ما فعل كان جائزا، وإذا جلس الإمام للتشهد الأخير جلست الطائفة معه فتشهدت التشهد الأول
وقامت وهو جالس فأتمت صلاتها وتقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة لأن ما تقضيه أول صلاتها
264

ولأنها لم يحصل لها مع الإمام قراءة السورة. ويطول الإمام التشهد والدعاء حتى تصلي الركعتين، ثم
يتشهد ويسلم بهم، فأما الطائفة الأولى فإنما تقرأ في الركعتين بعد مفارقة إمامها الفاتحة وحدها لأنها
آخر صلاتها وقد قرأ إمامها بها السورة في الركعتين الأوليين، وظاهر المذهب أن ما تقضيه الطائفة
الثانية أول صلاتها فعلى هذا تستفتح إذا فارقت إمامها وتستعيذ وتقرأ الفاتحة وسورة، وقد روي أنه
أخر صلاتها ومقتضاه ألا تستفتح ولا تستعيذ ولا تقرأ السورة، وعلى كل حال فينبغي لها أن
تخفف، وإن قرأت سورة فلتكن من أخف السور، أو تقرأ آية أو اثنتين من سورة، وينبغي للإمام
أن لا يعجل بالسلام حتى يفرغ أكثرهم من التشهد، فإن سلم قبل فراغ بعضهم أتم تشهده وسلم
(فصل) واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق فروي أنه أول صلاته وما يدركه مع الإمام
آخرها وهذا ظاهر المذهب كذلك قال ابن عمر ومجاهد وابن سيرين ومالك والثوري، وحكي عن
الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف والحسن بن حي. وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته، وبه
قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي واسحق
والمزني وأبو ثور وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وما فاتكم
فأتموا) متفق عليه، ولأنه آخر صلاته حقيقة فكان آخرها حكما كغير المسبوق، ولأنه يتشهد في
آخر ما يقضيه ويسلم، ولو كان أول صلاته لما تشهد وكان يكفيه تشهده مع الإمام، وللرواية الأولى
قوله (وما فاتكم فاقضوا) وهو صحيح، ولأنه يسمى قضاء والقضاء للفائت، والفائت أول الصلاة
ومعنى قوله (فأتموا) أي اقضوا لأن القضاء اتمام ولذلك سماه فائتا والفائت أول الصلاة، ولأنه
يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة فكان أول الصلاة كغير المسبوق. ولا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة
في قراءة الفاتحة وسورة. قال ابن عبد البر: كل هؤلاء القائلين بالقولين جميعا يقولون يقضي ما فاته
بالحمد لله وسورة على حسب ما قرأ إمامه إلا اسحق والمزني وداود قالوا: يقرأ بالحمد وحدها، وعلى
قول من قال: انه يقرأ في القضاء بالفاتحة وسورة لا تظهر فائدة الخلاف إلا أن يكون في الاستفتاح
والاستعاذة حال مفارقة الإمام وفي موضع الجلسة للتشهد الأول في حق من أدرك ركعة من
المغرب والرباعية والله أعلم
(فصل) واختلفت الرواية في موضع الجلسة والتشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب
أو الرباعية إذا قضي. فروي عن أحمد أنه إذا قام استفتح فصلى ركعتين متواليتين يقرأ في كل واحدة
بالحمد لله وسورة نص عليه في رواية حرب وفعل ذلك جندب وذلك لأنهما أول صلاته فلم يتشهد
بينهما كغير المسبوق، ولان القضاء على صفة الأداء والأداء لا جلوس فيه، ولأنهما ركعتان يقرأ في
كل واحدة منهما بالحمد لله وسورة فلم يجلس بينهما كالمؤداتين. والرواية الثانية أنه يقوم فيأتي بركعة
265

يقرأ فيها بالحمد لله وسورة ثم يجلس، ثم يقوم فيأتي بأخرى بالحمد لله وسورة في المغرب، أو بركعتين
متواليتين في الرباعية يقرأ في أولاها بالحمد لله وسورة، وفي الثانية بالحمد وحدها. نقلها صالح وأبو
داود والأثرم، وفعل ذلك مسروق. وقال عبد الله ابن مسعود كما فعل مسروق يفعل وهو قول
سعيد ابن المسيب فإنه روي عنه أنه قال للزهري: ما صلاة يجلس في كل ركعة منها. قال سعيد:
هي المغرب إذا أدركت منها ركعة ولان الثالثة آخر صلاته فعلا فيجب أن يجلس قبلها كغير المسبوق
وقد روى الأثرم باسناده عن إبراهيم قال: جاء جندب ومسروق إلى المسجد وقد صلوا ركعتين
من المغرب فدخلا في الصف فقرأ جندب في الركعة التي أدرك مع الإمام ولم يقرأ مسروق، فلما
سلم الإمام قاما في الركعة الثانية فقرأ جندب وقرأ مسروق، وجلس مسروق في الركعة الثانية
وقام جندب، وقرأ مسروق في الركعة الثالثة ولم يقرأ جندب، فلما قضيا الصلاة أتيا عبد الله فسألاه
عن ذلك وقصا عليه القصة فقال عبد الله: كما فعل مسروق يفعل. وقال عبد الله: إذا أدركت ركعة
من المغرب فأجلس فيهن كلهن، وأيا ما فعل من ذلك جاز إن شاء لله تعالى ولذلك لم ينكر عبد الله
على جندب فعله ولا أمره بإعادة صلاته
(فصل) إذا فرقهم في الرباعية فرقتين فصلى بالأولى ثلاث ركعات والثانية ركعة أو بالأولى
ركعة والثانية ثلاثا صحت الصلاة لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بمثلهما، وبهذا قال الشافعي
الا أنه قال يسجد للسهو ولا حاجة إليه لأن السجود للسهو ولا سهو هاهنا ولو قدر انه فعله ساهيا
لم يحتج إلى سجود لأنه مما لا يبطل عمده الصلاة فلا يسجد لسهوه كما لو رفع يديه في غير موضع الرفع
وترك رفعهما في موضعه. فأما أن فرقهم أربع فرق فصلى بكل طائفة ركعة، أو ثلاث فرق فصلى
بإحداهن ركعتين والباقين ركعة ركعة صحت صلاة الأولى والثانية لأنهما ائتما بمن صلاته صحيحة
ولم يوجد منهما ما يبطل صلاتهما وتبطل صلاة الإمام بالانتظار الثالث لأنه لم ينقل عن النبي صلى
الله عليه وسلم فزاد انتظارا لم يرد الشرع به فتبطل صلاته به كما لو فعله من غير خوف، ولا فرق بين
أن تكون به حاجة إلى ذلك أو لم يكن لأن الرخص إنما يصار فيها إلى ما ورد الشرع به ولا تصح
صلاة الثالثة والرابعة لائتمامها بمن صلاته باطلة فأشبه ما لو كانت صلاته باطلة من أولها فإن لم يعلما
ببطلان صلاة الإمام فقال ابن حامد لا تبطل صلاتهما لأن ذلك مما يخفى فلم تبطل صلاة المأموم كما
لو ائتم بمحدث وينبغي على هذا ان يخفى على الإمام والمأموم كما اعتبرنا في صحة صلاة من أئتم بمحدث
خفاءه على الإمام والمأموم ويحتمل أن لا تصح صلاتهما لأن الإمام والمأموم يعلمان وجود المبطل وإنما
خفي عليهم حكمه فلم يمنع ذلك البطلان كما لو علم الإمام والمأموم حدث الإمام ولم يعلما كونه مبطلا
وقال بعض أصحاب الشافعي كقول ابن حامد وقال بعضهم تصح صلاة الإمام والمأمومين جميعا لأن
266

الحاجة تدعو إلى ذلك فأشبه ما لو فرقهم فرقتين وقال بعضهم المنصوص أن صلاتهم تبطل بالانتظار
الأول لأنه زاد على انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة لم يرد الشرع بها
ولنا على الأول أن الرخص إنما تتلقى من الشرع ولم يرد الشرع بهذا، وعلى الثاني أن طول
الانتظار لا عبرة به كما لو أبطأت الثانية فيما إذا فرقهم فرقتين
(مسألة) قال (وإن كانت الصلاة مغربا صلى بالطائفة الأخرى ركعة وأتمت
لانفسها ركعتين تقرأ فيهما بالحمد لله ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة وأتمت لانفسها
ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة)
وبهذا قال مالك، والأوزاعي، وسفيان، والشافعي في أحد قوليه وقال في آخر يصلي بالأولى
ركعة والثانية ركعتين لأنه روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى ليلة الهدير هكذا ولان الأولى
أدركت معه فضيلة الاحرام والتقدم فينبغي أن تزيد الثانية في الركعات ليجبر نقصهم وتساوى الأولى
ولنا انه إذا لم يكن بد من التفضيل فالأولى أحق به ولأنه يجبر ما فات الثانية بادراكها
السلام مع الإمام، ولأنها تصلى جميع صلاتها في حكم الائتمام والأولى تفعل بعض صلاتها في حكم
الانفراد وأيا ما فعل فهو جائز على ما قدمنا. وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد أو حين يقوم إلى
الثالثة؟ فعلى وجهين وإذا صلى بالثانية الركعة الثالثة وجلس للتشهد فإن الطائفة تقوم ولا تتشهد معه
ذكره القاضي لأنه ليس بموضع لتشهدها بخلاف الرباعية ويحتمل أن تتشهد معه لأنها تقضى ركعتين
متواليتين على إحدى الروايتين فيفضي إلى أن تصلي ثلاث ركعات بتشهد واحد ولا نظير لهذا
في الصلوات فعلى هذا الاحتمال تتشهد معه التشهد الأول ثم تقوم كالصلاة الرباعية سواء
(فصل) ويستحب ان يحمل السلاح في صلاة الخوف لقول الله تعالى (وليأخذوا أسلحتهم
ولأنهم لا يأمنون أن يفجأهم عدوهم فيميلون عليهم كما قال الله تعالى (ود الذين كفروا لو تغفلون من
أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) والمستحب من ذلك ما يدفع به عن نفسه كالسيف،
والسكين ولا يثقله كالجوشن، ولا يمنع من اكمال السجود كالمغفر ولا ما يؤذى غيره كالرمح إذا كان
متوسطا فإن كان في الحاشية لم يكره ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن من أركان الصلاة إلا عند
الضرورة مثل أن يخاف وقوع الحجارة أو السهام به فيجوز له حمله للضرورة قال أصحابنا ولا يجب
حمل السلاح وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أهل العلم وأحد قولي الشافعي لأنه لو وجب لكان شرطا
في الصلاة كالسترة ولان الامر به للرفق بهم والصيانة لهم فلم يكن للايجاب كما أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما نهى عن الوصال رفقا بهم لم يكن للتحريم ويحتمل أن يكون واجبا وبه قال داود
267

والشافعي في القول الآخر والحجة معهم لأن ظاهر الامر الوجوب وقد اقترن به ما يدل على إرادة
الايجاب به وهو قوله تعالى (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا
أسلحتكم) ونفي الحرج مشروطا بالأذى دليل على لزومه عند عدمه فأما إن كان بهم أذى من
مطر أو مرض فلا يجب بغير خلاف بتصريح النص بنفي الحرج فيه
(فصل) ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أحمد كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز وقال: ستة أوجه أو سبعة يروى
فيها كلها جائز وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه أو تختار
واحدا منهما قال أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن. وأما حديث سهل فأنا اختاره. إذا تقرر هذا
فنذكر الوجوه التي بلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليها وقد ذكرنا منها وجهين أحدهما ما ذكره
الخرقي وهو حديث سهل، والثاني حديث ابن عمر وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة والثالث صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وهو ما روى أبو عياش الزرقي قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم
في الصلاة فنزلت آية القصر بين الظهر، والعصر فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصف خلف
ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف
الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا
خلفهم ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم
ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون
يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا
جميعا فسلم عليهم. فصلاها بعسفان وصلاها يوم بنى سليم. رواه أبو داود، وروى جابر عن النبي صلى
الله عليه وسلم نحو هذا المعني. أخرجه مسلم
وروي عن حذيفة أنه أمر سعيد بن العاص بطبرستان حين سالهم أيكم شهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقال حذيفة: أنا وأمره بنحو هذه الصلاة قال وتأمر أصحابك ان
هاجهم هيج فقد حل لهم القتال والكلام. رواه الأثرم باسناده، وإن حرس الصف الأول في الأولى
والثاني في الثانية، أو لم يتقدم الثاني إلى مقام الأول، أو حرس بعض الصف وسجد الباقون جاز
ذلك كله لأن المقصود يحصل، لكن الأولى فعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ومن شرط
هذه الصلاة أن يكون العدو في جهة القبلة لأنه لا يمكن حراستهم في الصلاة إلا كذلك وأن يكونوا
268

بحيث لا يخفى بعضهم على بعض ولا يخاف كمين لهم
(فصل) الوجه الرابع أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة ويسلم بها كما روى أبو بكرة قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى
ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم
ركعتين ثم سلم فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولأصحابه ركعتان. أخرجه أبو داود
والأثرم وهذه صفة حسنة قليلة الكافة لا يحتاج فيها إلى مفارقة الإمام، ولا إلى تعريف كيفية الصلاة
وهذا مذهب الحسن وليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين
(فصل) الوجه الخامس أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم، ثم تسلم الطائفة وتنصرف
ولا تقضي شيئا وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها ركعتين ويسلم بها ولا تقضي شيئا وهذا مثل الوجه
الذي قبله إلا أنه لا يسلم في الركعتين الأوليين لما روى جابر قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
حتى إذا كنا بذات الرقاع فذكر الحديث قال: فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا
وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين
ركعتين. متفق عليه، وتأول القاضي هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم كصلاة الحضر
وأن كل طائفة قضت ركعتين وهذا ظاهر الفساد جدا لأنه يخالف صفة الرواية وقول احمد ويحمله
على محمل فاسد، أما الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين ولم يذكر قضاء، ثم قال في آخرها
وللقوم ركعتين ركعتين. وأما قول احمد فإنه قال ستة أوجه أو سبعة يروى فيها كلها جائز، وعلى
هذا التأويل لا تكون ستة ولا خمسة، ولأنه قال كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فهو
جائز وهذا مخالف لهذا التأويل، وأما فساد المحمل فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها كما
قال الله تعالى (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وعلى
هذا التأويل يجعل مكان الركعتين أربعا ويتم الصلاة المقصورة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه أتم صلاة السفر فكيف يحمل هاهنا على أنه أتمها في موضع وجد فيه ما يقتضي التخفيف
(فصل) الوجه السادس أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئا لما روى ابن عباس قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة فصف صفا
خلفه وصفا موازي العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى
مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وكانت
لهم ركعة ركعة. رواه الأثرم
وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم
269

يقضوا شيئا. رواه أبو داود، وروى مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة. رواهن الأثرم، وكذلك
قال أبو داود في السنن وهو مذهب ابن عباس وجابر قال: إنما القصر ركعة عند القتال. وقال طاوس
ومجاهد والحسن وقتادة الحكم كذا يقولون: ركعة في شدة الخوف يومئ ايماء. وقال اسحق: يجزئك
عند الشدة ركعة تومئ ايماء، فإن لم يقدر فسجدة واحدة، فإن لم يقدر فتكبيرة لأنها ذكر لله تعالى
وعن الضحاك أنه قال ركعة، فإن لم يقدر كبر تكبيرة حيث كان وجهه، فهذه الصلاة يقتضي عموم
كلام احمد جوازها لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجها سادسا سواها وأصحابنا ينكرون ذلك. قال
القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر والنخعي
والثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه. وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون
ركعة، والذي قال منهم ركعة إنما جعلها عند شدة القتال، والذين روينا عنهم صلاة النبي صلى الله
عليه وسلم أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين وابن عباس لم يكن ممن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم
في غزواته ولا يعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره، فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع النبي
صلى الله عليه وسلم أولى
(فصل) ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف فصلاته وصلاتهم فاسدة لأنها لا تخلو من
مفارق إمامه لغير عذر وتارك متابعة إمامه في ثلاثة أركان أو قاصر للصلاة مع اتمامه وكل ذلك
يفسد الصلاة إلا مفارقة الإمام لغير عذر على اختلاف فيه، وإذا فسدت صلاتهم فسدت صلاة الإمام
لأنه صلى إماما بمن صلاته فاسدة إلا أن يصلي بهم صلاتين كاملتين فإنه تصح صلاته وصلاة الطائفة
الأولى، وصلاة الثانية تبني على ائتمام المفترض بالمتنفل وقد نصرنا جوازه
(مسألة) قال (وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة صلوا رجالا
وركبانا إلى القبلة والى غيرها يومئون ايماء يبتدئون تكبيرة الاحرام إلى القبلة إن
قدروا أو إلى غيرها)
أما إذا اشتد الخوف والتحم القتال فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالا وركبانا إلى القبلة إن
أمكنهم، وإلى غيرها إن لم يمكنهم يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويجعلون السجود أخفض
من الركوع ويتقدمون ويتأخرون، ويضربون ويطعنون، ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة
عن وقتها وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: لا يصلي مع المسايفة ولا مع
المشي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل يوم الخندق واخر الصلاة، ولان ما منع الصلاة في غير
شدة الخوف منعها معه كالحدث والصياح. وقال الشافعي: يصلي ولكن إن تابع الطعن، أو الضرب
أو المشي، أو فعل ما يطول بطلت صلاته لأن ذلك من مبطلات الصلاة أشبه الحدث
270

ولنا قول الله تعالى (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) قال ابن عمر: فإن كان خوف أشد من ذلك
صلوا رجالا قياما على أقدامهم ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. متفق عليه، وروي ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم صلبي بأصحابه في غير شدة الخوف فأمرهم بالمشي
إلى وجاه العدو، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم وهذا مشي كثير، وعمل طويل، واستدبار
للقبلة، وأجاز ذلك من أجل الخوف الذي ليس بشديد، فمع الخوف الشديد أولى، ومن العجب أن
أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل في أثناء الصلاة وسوغه مع
الغنى عنه وامكان الصلاة بدونه، ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه وكان العكس أولى، سيما مع نص
الله تعالى على الرخصة في هذه الحال، ولأنه مكلف تصح طهارته فلم يجز له اخلاء وقت الصلاة عن
فعلها كالمريض، ويخص الشافعي بأنه عمل أبيح من أجل الخوف فلم تبطل الصلاة به كاستدبار القبلة
والركوب والايماء، ولأنه لا يخلو عند الحاجة إلى العمل الكثير من أجل ثلاثة أمور: اما تأخير
الصلاة عن وقتها ولا خلاف بيننا في تحريمه أو ترك القتال وفيه هلاكه وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة) وأجمع المسلمون على أنه لا يلزمه هذه أو متابعة العمل للمتنازع فيه وهو جائز
بالاجماع فتعين فعله وصحة الصلاة معه، ثم ما ذكره يبطل المشي الكثير والعدو في الهرب وغيره.
وأما تأخير الصلاة يوم الخندق فروى أبو سعيد أنه كان قبل نزول صلاة الخوف، ويحتمل أنه شغله
المشركون فنسي الصلاة فقد نقل ما يدل على ذلك وقد ذكرناه فيما مضى وأكده أن النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه لم يكونوا في مسايفة توجب قطع الصلاة، وأما الصياح والحدث فلا حاجة بهم إليه
ويمكنهم التيمم ولا يلزم من كون الشئ مبطلا مع عدم العذر أن يبطل معه كخروج النجاسة من
المستحاضة ومن به سلس البول
وإن هرب من العدو هربا مباحا، أو من سيل، أو سبع أو حريق لا يمكنه التخلص منه بدون
الهرب فله أن يصلي صلاة شدة الخوف سواء خاف على نفسه، أو ماله، أو أهله. والأسير إذا خافهم
على نفسه إن صلى، والمختفي في موضع يصليان كيفما أمكنهما نص عليه احمد في الأسير، ولو كان
المختفي قاعدا لا يمكنه القيام أو مضطجعا لا يمكنه القعود ولا الحركة صلى على حسب حاله وهذا قول محمد
ابن الحسن. وقال الشافعي: يصلي ويعيد وليس بصحيح لأنه خائف صلى على حسب ما يمكنه فلم
تلزمه الإعادة كالهارب ولا فرق بين الحضر والسفر في هذا لأن المبيح خوف الهلاك وقد تساويا فيه
ومتى أمكن التخلص بدون ذلك كالهارب من السيل يصعد إلى ربوة، والخائف من العدو يمكنه دخول
حصن يأمن فيه صولة العدو ولحوق الضرر فيصلي فيه ثم يخرج لم يكن له أن يصلي صلاة شدة الخوف
لأنها إنما أبيحت للضرورة فاختصت بوجود الضرورة
(فصل) والعاصي بهربه كالذي يهرب من حق توجه عليه، وقاطع الطريق واللص والسارق
271

ليس له أن يصلي صلاة الخوف لأنها رخصة ثبتت للدفع عن نفسه في محل مباح فلا تثبت
بالمعصية كرخص السفر
(فصل) قال أصحابنا: يجوز أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة رجالا وركبانا، ويحتمل
أن لا يجوز ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنهم يحتاجون إلى التقدم والتأخر، وربما تقدموا الإمام وتعذر
عليهم الائتمام، واحتج أصحابنا بأنها حالة يجوز فيها الصلاة على الانفراد فجاز فيها صلاة الجماعة
كركوب السفينة، ويعفى عن تقدم الإمام للحاجة إليه كالعفو عن العمل الكثير ولمن نصر الأول أن
يقول العفو عن ذلك لا يثبت الا بنص أو معنى نص ولم يوجد واحد منهما وليس هذا في معنى العمل
الكثير لأن العمل الكثير لا يختص الإمامة، بل هو في حال الانفراد كحال الائتمام فلا يؤثر
الانفراد في نفيه بخلاف تقدم الإمام
(فصل) وإذا صلوا صلاة الخوف ظنا منهم ان ثم عدوا فبان أنه لا عدو أو بان عدو لكن
بينهم وبينه ما يمنع عبوره إليهم فعليهم الإعادة سواء صلوا صلاة شدة الخوف أو غيرها، وسواء كان
ظنهم مستندا إلى خبر ثقة أو غيره، أو رؤية سواد، أو نحوه لأنهم تركوا بعض واجبات الصلاة
ظنا منهم سقوطها فلزمتهم الإعادة كما لو ترك المتوضئ غسل رجليه ومسح على خفيه ظنا منه أن ذلك
يجزي عنه وصلى ثم تبين أن خفه كان مخرقا وكما لو ظن المحدث أنه متطهر فصلى، ويحتمل أن لا تلزم
الإعادة إذا كان عدوا بينهم وبينه ما يمنع العبور لأن السبب للخوف متحقق وإنما خفي المانع
(مسألة) قال (ومن أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن وكذلك أن كان آمنا
فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف)
وجملته أنه إذا صلى بعض الصلاة حال شدة الخوف مع الاخلال بشئ من واجباتها كالاستقبال
وغيره فأمن في أثناء الصلاة أتمها آتيا بواجباتها، فإذا كان راكبا إلى غير القبلة نزل مستقبل القبلة
وإن كان ماشيا وقف واستقبل القبلة وبنى على ما مضى لأن ما مضى كان صحيحا قبل الامن فجاز
البناء عليه كما لو لم يخل بشئ من الواجبات، وإن ترك الاستقبال حال نزوله أو أخل بشئ من
واجباتها بعد أمنه فسدت صلاته، وإن ابتدأ الصلاة آمنا بشروطها وواجباتها ثم حدث شدة خوف
أتمها على حسب ما يحتاج إليه مثل أن يكون قائما على الأرض مستقبلا فيحتاج أن يركب ويستدبر القبلة
أتمها على حسب ما يحتاج إليه ويطعن ويضرب ونحو ذلك فإنه يصير إليه ويبني على ما مضى من صلاته
وحكي عن الشافعي أنه إذا أمن نزل فبنى، وإذا خاف فركب ابتدأ لأن الركوب عمل كثير ولا يصح
لأن الركوب قد يكون يسيرا فمثله في حق الآمن لا يبطل ففي حق الخائف أولى كالنزول ولأنه عمل
أبيح للحاجة فلم يمنع صحة الصلاة كالهرب
272

كتاب صلاة الكسوف
الكسوف والخسوف شئ واحد وكلاهما قد وردت به الاخبار، وجاء القرآن بلفظ الخسوف
(مسألة) قال أبو القاسم (وإذا خسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة
ان أحبوا جماعة وان أحبوا فرادى)
صلاة الكسوف ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سنذكره ولا نعلم بين أهل العلم
في مشروعيتها لكسوف الشمس خلافا، وأكثر أهل العلم على أنها مشروعة لخسوف القمر: فعله ابن
عباس، وبه قال عطاء والحسن والنخعي والشافعي وإسحاق، وقال مالك: ليس لكسوف القمر سنة
وحكى ابن عبد البر عنه وعن أبي حنيفة أنهما قالا: يصلي الناس لخسوف القمر وحدانا ركعتين
ركعتين ولا يصلون جماعة لأن في خروجهم إليها مشقة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت
أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا) (1) متفق عليه، فأمر بالصلاة لهما أمرا واحدا. وعن ابن
عباس أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلي، ولأنه أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس ويسن فعلها جماعة وفرادى، وبهذا
قال مالك والشافعي وحكي عن الثوري أنه قال: ان صلاها الإمام صلوها معه وإلا فلا تصلوا

(1) فيه عدة روايات في الصحيحين وغيرهما منها الامر بالدعاء
وبالذكر وبالتكبير وبالصدقة أي مع الصلاة، والمراد أنهما من الآيات الدالة
على قدرة الله تعالى وحكمته في جعل سيرهما بحسبان. وحكمة الامر بالصلاة
والدعاء والذكر ان المؤمن يحصل له في هذه الحال من الخشوع والمراقبة لله تعالى
والخوف من عقابه ما لا يكون له مثله في غيرها لأن غير المألوف أشد تأثيرا في النفس من المألوف
273

ولنا قوله عليه الصلاة والسلام (فإذا رأيتموها فصلوا) ولأنها نافلة فجازت في الانفراد كسائر النوافل وإذا ثبت هذا فإن فعلها في الجماعة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في جماعة، والسنة
أن يصليها في المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها فيه. قالت عائشة: خسفت الشمس في حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه. رواه البخاري، ولان وقت
الكسوف يضيق، فلو خرج إلى المصلى احتمل التجلي قبل فعلها. وتشرع في الحضر والسفر باذن
الإمام وغير اذنه. وقال أبو بكر: هي كصلاة العيد فيها روايتان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإذا رأيتموها فصلوا) ولأنها نافلة أشبهت سائر
النوافل وتشرع في حق النساء لأن عائشة وأسماء صلتا مع رسول الله صلى عليه وسلم. رواه
البخاري. ويسن أن ينادى لها: الصلاة جامعة لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي بالصلاة جامعة. متفق عليه، ولا يسن لها أذان
ولا إقامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بغير أذان ولا إقامة، ولأنها من غير الصلوات
الخمس فأشبهت سائر النوافل
(مسألة) قال (يقرأ في الأولى بأم الكتاب وسورة طويلة يجهر بالقراءة ثم يركع
فيطيل الركوع ثم يرفع فيقرأ ويطيل القيام وهو دون القيام الأول ثم يركع فيطيل الركوع
274

وهو دون الركوع الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين فإذا قام فعل مثل ذلك فيكون أربع
ركعات وأربع سجدات ثم يتشهد ويسلم)
وجملته أن المستحب في صلاة الكسوف أن يصلي ركعتين يحرم بالأولى ويستفتح ويستعيذ
ويقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو قدرها في الطول، ثم يركع فيسبح الله تعالى قدر مائة ثم يرفع فيقول:
سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وآل عمران أو قدرها ثم يركع بقدر ثلثي ركوعه
الأول ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد فيطيل السجود فيهما، ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ الفاتحة
وسورة النساء ثم يركع فيسبح بقدر ثلثي تسبيحه في الثانية ثم يرفع فيقرأ الفاتحة والمائدة ثم يركع فيطيل
دون الذي قبله ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد فيطيل فيكون الجميع ركعتين في كل ركعة قيامان
وقراءتان وركوعان وسجودان ويجهر بالقراءة ليلا كان أو نهارا، وليس هذا التقدير في القراءة منقولا
عن أحمد، لكن قد نقل عنه أن الأولى أطول من الثانية، وجاء التقدير في حديث ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة. متفق عليه، وفي حديث لعائشة حزرت
قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت أنه قرأ في الركعة الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية
سورة آل عمران. وبهذا قال مالك والشافعي إلا أنهما قالا لا يطيل السجود. حكاه عنهما ابن المنذر
275

لأن ذلك لم ينقل وقالا: لا يجهر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر ووافقهم أبو حنيفة
لقول عائشة: حزرت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو جهر بالقراءة لم تحتج إلى الظن
والتخمين، وكذلك قال ابن عباس: قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة، وروى سمرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى في خسوف الشمس فلم أسمع له صوتا. قال الترمذي هذا حديث حسن
صحيح، ولأنها صلاة نهار فلم يجهر فيها كالظهر. وقال أبو حنيفة: يصلي ركعتين كصلاة التطوع لما
روى النعمان بن بشير قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكان
يصلي ركعتين ويسلم، ويصلي ركعتين ويسلم، حتى انجلت الشمس. رواه أحمد عن عبد الوهاب الثقفي
عن أيوب عن أبي قلابة عن النعمان، وروى قبيصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فإذا رأيتموها
فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)
ولنا أن عبد الله ابن عمرو قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف: ثم سجد فلم
يكد يرفع. رواه أبو داود، وفي حديث عائشة ثم رفع ثم سجد سجودا طويلا، ثم قام قياما طويلا
وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد سجودا طويلا وهو
دون السجود الأول. رواه البخاري وترك ذكره في حديث لا يمنع مشروعيته إذا ثبت عن النبي صلى
الله عليه وسلم. واما الجهر فقد روي عن علي رضي الله عنه وفعله عبد الله بن يزيد وبحضرته البراء بن
276

عازب وزيد بن أرقم، وبه قال أبو يوسف وإسحاق وابن المنذر، وروت عائشة أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى صلاة الكسوف وجهر فيها بالقراءة. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، ولأنها
نافلة شرعت لها الجماعة فكان من سنتها الجهر كصلاة الاستسقاء والعيد والتراويح، فأما قول عائشة
رضي الله عنها حزرت قراءته، ففي اسناده مقال لأنه من رواية ابن إسحاق: ويحتمل أن تكون سمعت
صوته ولم تفهم للبعد، أو قرأ من غير أول القرآن بقدر البقرة، ثم حديثنا صحيح صريح فكيف
يعارض بمثل هذا وحديث سمر يجوز أنه لم يسمع لبعده فإن في حديثه دفعت إلى المسجد وهو
بازر يعني مغتصا بالزحام قاله الخطابي، ومن هذا حاله لا يصل مكانا يسمع منه، ثم هذا نفي محتمل
لأمور كثيرة فكيف يترك من أجله الحديث الصحيح الصريح، وقياسهم منتقض بالجمعة والعيدين
والاستسقاء وقياس هذه الصلاة على هذه الصلوات أولى من قياسها على الظهر لبعدها منها وشبهها بهذه
وأما الدليل على صفة الصلاة فروت عائشة قالت: خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه فاقترأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم رفع رأسه فقال (سمع الله
لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع
ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد) ثم سجد
ثم فعل في الركعة الأولى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت
الشمس قبل أن ينصرف
277

وعن ابن عباس مثل ذلك وفيه انه قام في الأولى قياما طويلا نحوا من سورة البقرة. متفق عليهما
ولأنها صلاة يشرع لها الاجتماع فخالفت سائر النوافل كصلاة العيدين والاستسقاء، فأما أحاديثهم
فمتروكة غير معمول بها باتفاقنا، فإنهم قالوا يصلي ركعتين، وحديث النعمان فيه انه يصلي ركعتين ثم
ركعتين حتى انجلت الشمس، وحديث قبيصة فيه انه يصلي كأحدث صلاة صليتموها وأحد الحديثين
يخالف الآخر ثم حديث قبيصة مرسل ثم يحتمل انه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين، ولو قدر
التعارض لكان الاخذ بأحاديثنا أولى لصحتها وشهرتها واتفاق الأئمة على صحتها والاخذ بها واشتمالها
على الزيادة، والزيادة من الثقة مقبولة ثم هي ناقلة عن العادة، وقد روي عن عروة انه قيل له ان أخاك
صلى ركعتين فقال إنه أخطأ السنة
(فصل) ومهما قرأ به جاز سواء كانت القراءة طويلة أو قصيرة وقد روي عن عائشة ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات وقرأ في
الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثانية بيس. أخرجه الدارقطني
(فصل) ولم يبلغنا عن أحمد رحمه الله ان لها خطبة، وأصحابنا على أنها لا خطبة لها وهذا مذهب
مالك وأصحاب الرأي وقال الشافعي يخطب كخطبتي الجمعة لما روت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى
الله عليه وسلم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال (ان الشمس والقمر
آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا
وتصدقوا ثم قال يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) متفق عليه
278

ولنا هذا الخبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة والدعاء والتكبير والصدقة ولم يأمرهم
بخطبة ولو كانت سنة لأمرهم بها ولأنها صلاة يفعلها المنفرد في بيته فلم يشرع لها خطبة وإنما خطب النبي
صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها وهذا مختص به، وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة
(فصل) ويستحب ذكر الله تعالى والدعاء والتكبير والاستغفار والصدقة والعتق والتقرب إلى
الله تعالى بما استطاع لخبر عائشة هذا، وفي خبر أبي موسى (فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره)
وروي عن أسماء أنها قالت: إن كنا لنؤمر بالعتق في الكسوف ولأنه تخويف من الله تعالى فينبغي أن يبادر
إلى طاعة الله تعالى ليكشفه عن عباده
(فصل) ومقتضى مذهب أحمد انه يجوز أن يصلي صلاة الكسوف على كل صفة رويت عن
النبي صلى الله عليه وسلم كقوله في صلاة الخوف الا أن اختياره من ذلك الصلاة على الصفة التي ذكرنا
قال أحمد رحمه الله: روى ابن عباس وعائشة في صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات،
وأما علي فيقول ست ركعات وأربع سجدات، فذهب إلى قول ابن عباس وعائشة، وروي عن ابن
عباس انه صلى ست ركعات وأربع سجدات وكذلك حذيفة، وهذا قول اسحق وابن المنذر. وبعض
أهل العلم قالوا تجوز صلاة الكسوف على كل صفة صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، وقد روي
عن عائشة وابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات وأربع سجدات. أخرجه مسلم
وروي عنه انه صلى أربع ركعات وسجدتين في كل ركعة. رواه مسلم والدارقطني باسناده عن طاوس
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر وروينا عن علي وابن عباس انهما صليا هذه
279

الصلاة، وحكي عن إسحاق أنه قال: وجه الجمع بين هذه الأحاديث ان النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان
يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد انجلت فإذا انجلت سجد فمن هاهنا صارت زيادة الركعات ولا
يجاوز أربع ركعات في كل ركعة لأنه لم يأتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك
(فصل) وصلاة الكسوف سنة مؤكدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها، ووقتها
من حين الكسوف إلى حين التجلي فإن فاتت لم تقض لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال (إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة حتى تنجلي) فجعل الانجلاء غاية للصلاة ولان الصلاة إنما سنت
رغبة إلى الله في ردها فإذا حصل ذلك حصل مقصود الصلاة، وان انجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها
وإن استترت الشمس والقمر بالسحاب وهما منكسفان صلى لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت
الشمس كاسفة أو طلعت على القمر وهو خاسف (1) لم يصل لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بنورهما وان
غاب القمر ليلا فقال القاضي يصلي لأنه لم يذهب وقت الانتفاع بنوره وضوئه ويحتمل أن لا يصلي لأن
ما يصلى له قد غاب أشبه ما لو غابت الشمس، وان فرغ من الصلاة والكسوف قائم لم يزد واشتغل بالذكر والدعاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على ركعتين
(فصل) وإذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو العيد أو صلاة مكتوبة أو الوتر
بدأ بأخوفهما فوتا فإن خيف فوتهما بدأ بالصلاة الواجبة وإن لم يكن فيهما واجبة كالكسوف والوتر أو

(1) طلوع الشمس على القمر وهو خاسف محال لأن خسوفه إنما سكون بحيلولة الأرض بينها وبينه قطعا لا ظنا وسواد خسوفه هو ظل الأرض عليه قطعا فهي لا تطلع عليه إلا بعد أن تزول الحيلولة التي يحصل بها خسوفه
280

التراويح بدأ بآكدهما كالكسوف والوتر بدأ بالكسوف لأنه آكد ولهذا تسن له الجماعة ولان الوتر
يقضى وصلاة الكسوف لا تقضى فإن اجتمعت التراويح والكسوف فبأيهما يبدأ؟ فيه وجهان هذا قول
أصحابنا والصحيح عندي أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة مقدمة على الكسوف بكل حال
لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة لالزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة عليهم
وانتظارهم للصلاة الواجبة مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بتخفيف الصلاة الواجبة كيلا يشق على المأمومين فالحاق المشقة بهذه الصلاة الطويلة الشاقة مع أنها غير
واجبة أولى وكذلك الحكم إذا اجتمعت مع التراويح قدمت التراويح لذلك وان اجتمعت مع الوتر
في أول وقت الوتر قدمت لأن الوتر لا يفوت وان خيف فوات الوتر قدم لأنه يسير يمكن فعله وادراك
وقت الكسوف وان لم يبق الا قدر الوتر فلا حاجة بالتلبس بصلاة الكسوف لأنها إنما تقع في وقت
النهي وإن اجتمع الكسوف وصلاة الجنازة قدمت الجنازة وجها واحدا لأن الميت يخاف عليه والله أعلم
(فصل) إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني احتمل أن تفوته الركعة، قال القاضي لأنه
قد فاته من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة ويحتمل أن صلاته تصح لأنه
يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد فاجتزئ به في حق المسبوق والله أعلم
281

(مسألة) قال (وإذا كان الكسوف في غير وقت الصلاة جعل مكان الصلاة تسبيحا
هذا ظاهر المذهب لأن النافلة لا تفعل في أوقات النهي سواء كان لها سبب أو لم يكن)
روي ذلك عن الحسن وعطاء وعكرمة بن خالد وابن أبي مليكة وعمرو بن شعيب وأبي بكر
ابن محمد بن عمر وبن حزم ومالك وأبي حنيفة خلافا للشافعي وقد مضى الكلام في هذا ونص عليه
أحمد قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الكسوف يكون في غير وقت الصلاة كيف يصنعون قال
يذكرون الله ولا يصلون إلا في وقت صلاة قيل له وكذلك بعد الفجر قال نعم لا يصلون
وروى عن قتادة قال: انكسفت الشمس بعد العصر ونحن بمكة فقاموا قياما يدعون فسألت عن
ذلك عطاء قال هكذا يصنعون فسألت عن ذلك الزهري قال هكذا يصنعون
وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنهم يصلون الكسوف في أوقات النهي قال أبو بكر عبد العزيز
وبالأول أقول وهو أظهر القولين عندي وقد تقدم الكلام في ذلك في بابه
(فصل) قال أصحابنا يصلي للزلزلة كصلاة الكسوف نص عليه وهو مذهب اسحق وأبي ثور
قال القاضي ولا يصلي للرجفة والريح الشديدة والظلمة ونحوها
282

وقال الآمدي يصلي لذلك، ولرمي الكواكب والصواعق وكثرة المطر، وحكاه عن أن أبي موسى
وقال أصحاب الرأي الصلاة لسائر الآيات حسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الكسوف بأنه
آية من آيات الله تعالى يخوف بها عباده وصلى ابن عباس للزلزلة بالبصرة، رواه سعيد وقال مالك
والشافعي لا يصلي لشئ من الآيات سوى الكسوف لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل لغيره، وقد
كان في عصره بعض هذه الآيات وكذلك خلفاؤه ووجه الصلاة للزلزلة فعل ابن عباس وغيرها
لا يصلي له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل لها ولا أحد من أصحابه والله أعلم
كتاب صلاة الاستسقاء
صلات الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا جدبت الأرض واحتبس القطر خرجوا
مع الإمام فكانوا في خروجهم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خرج للاستسقاء
خرج متواضعا متبذلا متخشعا متذللا متضرعا)
وجملة ذلك أن السنة الخروج لصلاة الاستسقاء على هذه الصفة المذكورة متواضعا لله تعالى متبذلا
أي في ثياب البذلة أي لا يلبس ثياب الزينة ولا يتطيب لأنه من كمال الزينة وهذا يوم تواضع واستكانة
ويكون متخشعا في مشيه وجلوسه في خضوع متضرعا لله تعالى متذللا له راغبا إليه قال ابن عباس
283

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم
يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ويستحب التنظيف بالماء واستعمال السواك وما يقطع الرائحة
ويستحب الخروج لكافة الناس وخروج من كان ذا دين وستر وصلاح، والشيوخ أشد استحبابا
لأنه أسرع للإجابة، فاما النساء فلا بأس بخروج العجائز ومن لا هيئة لها فاما الشواب وذوات الهيئة
فلا يستحب لهن الخروج لأن الضرر في خروجهن أكثر من النفع، ولا يستحب اخراج البهائم لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله. وإذا عزم الإمام على الخروج أستحب أن يعد الناس يوما يخرجون
فيه ويأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم والصيام والصدقة وترك التشاحن ليكون أقرب
لإجابتهم فإن المعاصي سبب الجدب والطاعة تكون سببا للبركات قال الله تعالى (ولو أن أهل
القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)
(مسألة) قال (فيصلي بهم ركعتين)
لا نعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلافا في أنها ركعتان واختلفت الرواية في صفتها فروي
أنه يكبر فيهما كتكبير العيد سبعا في الأولى وخمسا في الثانية وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن
عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وداود والشافعي وحكي عن ابن عباس وذلك لقول
ابن عباس في حديثه وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد
284

وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة
الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمسا، والرواية الثانية أنه يصلي ركعتين كصلاة التطوع وهو مذهب
مالك والأوزاعي وأبي ثور واسحق لأن عبد الله بن زيد قال استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
ركعتين وقلب رداءه متفق عليه
وروى أبو هريرة نحوه ولم يذكر التكبير وظاهره أنه لم يكبر وهذا ظاهر كلام الخرقي وكيفما
فعل كان جائزا حسنا. وقال أبو حنيفة لا تسن الصلاة للاستسقاء ولا الخروج لها لأن النبي صلى الله
عليه وسلم استسقى على المنبر يوم الجمعة ولم يصل لها، واستسقى عمر بالعباس ولم يصل، وليس هذا
بشئ فإنه قد ثبت بما رواه عبد الله بن زيد وابن عباس وأبو هريرة أنه خرج وصلى وما ذكروه
لا يعارض ما رووه لأنه يجوز الدعاء بغير صلاة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكروه لا يمنع فعل
ما ذكرناه بل قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الامرين قال ابن المنذر ثبت أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب وبه قال عوام أهل العلم إلا أبا حنيفة وخالفه أبو يوسف ومحمد بن
الحسن فوافقا سائر العلماء والسنة يستغنى بها عن كل قول. ويسن أن يجهر بالقراءة لما روى عبد الله
ابن زيد قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى
ركعتين جهر فيهما بالقراءة متفق عليه وان قرأ فيهما بسبح اسم ربك الاعلى وهل أتاك حديث الغاشية
فحسن لقول ابن عباس صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد
وروى ابن قتيبة في غريب الحديث باسناده عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للاستسقاء
فتقدم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين، والاستسقاء في الركعة الأولى
بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الاعلى، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية
(فصل) ولا يسن لها أذان ولا إقامة لا نعلم فيه خلافا، وقد روي أبو هريرة قال: خرج رسول
285

الله صلى الله عليه وسلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله تعالى
وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه وقلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن رواه
الأثرم ولأنها صلاة نافلة فلم يؤذن لها كسائر النوافل، قال أصحابنا وينادى لها الصلاة جامعة كقولهم
في صلاة العيد والكسوف
(فصل) وليس لصلاة الاستسقاء وقت معين الا انها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف لأن
وقتها متسع فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي والأولى فعلها في وقت العيد لما روت عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس رواه أبو داود ولأنها تشبهها في الموضع والصفة
286

فكذلك في الوقت لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس لأنها ليس لها يوم معين فلا يكون لها وقت
معين وقال ابن عبد البر الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء الا أبا بكر بن حزم وهذا
على سبيل الاختيار لا أنه يتعين فعلها فيه
(مسألة) قال (ثم يخطب ويستقبل القبلة)
اختلفت الرواية في الخطبة للاستسقاء وفي وقتها، والمشهور أن فيها خطبة بعد الصلاة قال أبو بكر
اتفقوا عن أبي عبد الله أن في صلاة الاستسقاء خطبة وصعودا على المنبر والصحيح أنها بعد الصلاة
287

وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن: قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء لقول أبي هريرة: صلى
ركعتين ثم خطبنا ولقول ابن عباس صنع في الاستسقاء كما صنع في العيدين ولأنها صلاة ذات تكبير
فأشبهت صلاة العيد، والرواية الثانية أنه يخطب قبل الصلاة، روي ذلك عن عمر وابن الزبير وأبان
ابن عثمان وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وذهب إليه الليث بن سعد وابن
المنذر لما روى أنس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وصلى. وعن عبد الله بن زيد قال رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي فحول ظهره إلى الناس واستقبل القبلة يدعو ثم حول
رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة متفق عليه
وروى الأثرم باسناده عن أبي الأسود قال أدركت أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وعمر بن عبد العزيز
وأبا بكر بن محمد بن عمر وبن حزم كانوا إذا أرادوا أن يستسقوا خرجوا للبراز فكانوا يخطبون ثم يدعون
الله ويحولون وجوههم إلى القبلة حين يدعون ثم يحول أحدهم رداءه من الجانب الأيمن على الأيسر
وما على الأيسر على الأيمن، وينزل أحدهم فيقرأ في الركعتين يجهر بهم، الرواية الثالثة هو مخير في
في الخطبة قبل الصلاة وبعدها لورود الاخبار بكلا الامرين ودلالتها على كلتا الصفتين فيحتمل أن
النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين، والرابعة أنه لا يخطب وإنما يدعو ويتضرع لقول ابن عباس
لم يخطب كخطبتكم هذه لكن لم يزل في الدعاء والتضرع وأيا ما فعل من ذلك فهو جائز لأن الخطبة
غير واجبة على الروايات كلها فإن شاء فعلها وان شاء تركها، والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة
واحدة لتكون كالعيد وليكونوا قد فرغوا من الصلاة ان أجيب دعاؤهم فأغيثوا فلا يحتاجون إلى
الصلاة في المطر: وقول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم نفي للصفة لا لأصل الخطبة، أي لم يخطب
كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير
288

(مسألة) قال (ويستقبل القبلة ويحول رداءه فيجعل اليمين يسارا واليسار يمينا
ويفعل الناس كذلك)
وجملته أنه يستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة لما روى عبد الله بن زيد ان النبي
صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو، رواه البخاري وفي لفظ فحول إلى الناس
ظهره واستقبل القبلة يدعو
ويستحب أن يدعو سرا حال استقباله فيقول: اللهم أمرتنا بدعائك ووعدتنا اجابتك فقد دعوناك
كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا اللهم فامنن علينا بمغفرة ذنوبنا وإجابتنا في سقيانا وسعة أرزاقنا ثم
يدعو بما شاء من أمر دين ودنيا وإنما يستحب الاسرار ليكون أقرب من الاخلاص وأبلغ في الخشوع
والخضوع والتضرع وأسرع في الإجابة قال الله تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفيه) واستحب
الجهر ببعضه ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه
ويستحب أن يحول رادءه في حال استقبال القبلة لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى
الله عليه وسلم خرج يستسقي فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة ثم حول رادءه متفق عليه وهذا
لفظ رواه البخاري، وفي لفظ رواه مسلم فحول رادءه حين استقبل القبلة، وفي لفظ، وقلب
رداءه متفق عليه.
ويستحب تحويل الرداء للإمام والمأموم في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة لا يسن لأنه
دعاء، فلا يستحب تحويل الرداء فيه كسائر الأدعية وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع
وحكي عن سعيد بن المسيب وعروة والثوري أن تحويل الرداء مختص بالإمام دون المأموم وهو قول
الليث وأبي يوسف ومحمد بن الحسن لأنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه
289

ولنا أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه به دليل كيف
وقد عقل المعنى في ذلك وهو التفاؤل بقلب الرداء ليقلب الله ما بهم من الجدب إلى الخصب وقد جاء
ذلك في بعض الحديث. وصفة تقليب الرداء أن يجعل ما على اليمين على اليسار وما على اليسار على اليمين
روي ذلك عن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم ومالك وكان الشافعي يقول به، ثم رجع فقال، يجعل أعلاه أسفله لأن النبي صلى الله عليه وسلم
استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها فلما ثقلت عليه جعل العطاف الذي على
الأيسر على عاتقه الأيمن والذي على الأيمن على عاتقه الأيسر رواه أبو داود. ودليلنا ما روى أبو داود
بأسناده عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم حول رداءه وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر
وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك والزيادة التي نقلوها
إن ثبتت فهي ظن الراوي لا يترك لها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد نقل تحويل الرداء جماعة لم
ينقل أحد منهم أنه جعل أعلاه أسفله ويبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك في جميع
الأوقات لثقل الرداء.
(فصل) ويستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء لما روى البخاري عن أنس قال كان النبي
صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شئ من دعائه الا الاستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه
وفى حديث أيضا لانس فرفع النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم
290

(مسألة) (قال ويدعو ويدعون ويكثرون في دعائهم الاستغفار)
وجملته أن الإمام إذا صعد المنبر جلس وأن شاء لم يجلس لأن الجلوس لم ينقل ولا هاهنا أذان
ليجلس في وقته ثم يخطب خطبة واحدة يفتتحها بالكبير وبهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وقال مالك
والشافعي يخطب خطبتين كخطبتي العيدين لقول ابن عباس صنع النبي صلى الله عليه وسلم كما صنع في
العيد ولأنها أشبهتها في التكبير وفي صفة الصلاة فتشبهها في الخطبتين
ولنا قول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والكبير. وهذا
يدل على أنه ما فصل بين ذلك بسكوت ولا جلوس ولان كل من نقل الخطبة لم ينقل خطبتين ولان
المقصود إنما هو دعاء لله تعالى ليغيثهم ولا أثر لكونها خطبتين في ذلك، والصحيح من حديث ابن
عباس أنه قال صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد ولو كان النقل كما ذكروه فهو محمول على
الصلاة بدليل أول الحديث
ويستحب أن يستفتح الخطبة بالتكبير كخطبة العيد ويكثر من الاستغفار والصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم ويقرأ كثيرا (استغفروا ربكم انه كان غفارا) وسائر الآيات التي فيها الامر به فإن الله
تعالى وعدهم بارسال الغيث إذا استغفروه.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار، وقال لقد استسقيت
بمجاديح السماء. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى ميمون بن مهران يقول: قد كتبت إلى البلدان
291

أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا وكذا وأمرتهم بالصدقة والصلاة قال الله تعالى (قد أفلح
من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر
لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ويقولوا كما قال نوح (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)
ويقولوا كما قال يونس (فنادى في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) ويقولوا
كما قال موسى (رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) ولان المعاصي سبب انقطاع
الغيث والاستغفار والتوبة تمحو المعاصي المانعة من الغيث فيأتي الله به. ويصلي على النبي صلى الله عليه
وسلم ويدعو بدعائه، فروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا
مريعا نافعا عير ضار عاجلا غير آجل) رواه أبو داود قال الخطابي مريعا يروي على وجهين بالياء والياء
فمن رواه بالياء جعله من المراعه يقال امرع المكان إذا أخصب، ومن رواه مربعا كان معناه منبتا
للربيع. وعن عائشة قالت شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فامر بمنبر فوضع
له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدأ حاجب
الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال (إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن ابان زمانة
عنكم وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم ثم قال (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم
مالك يوم الدين) لا إله إلا هو يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا
292

الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين) ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدأ بياض إبطيه
ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس فنزل فصلى ركعتين
وقال عبد الله بن عمرو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال (اللهم اسق عبادك وبهائمك
وانشر رحمتك واحي بلدك الميت) رواهما أبو داود
وروى ابن قتيبة باسناده في غريب الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج
للاستسقاء فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى
بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الاعلى، وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية
فلما قضي صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ثم قال
(اللهم اسقنا وأغثنا اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مونقا هنيئا مريئا مريعا
مربعا مرتعا سائلا مسيلا مجللا ديما درورا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث. اللهم تحيي به البلاد، وتغيث
به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد. اللهم أنزل في أرضنا زينتها وانزل علينا في أرضنا سكنها اللهم
أنزل علينا من السماء ماءا طهورا فأحيي به بلدة ميتا واسقه مما خلقت أنعاما وأناسي كثيرا) قال ابن
قتيبة المغيث المحيي بإذن الله تعالى والحيا الذي تحيا به الأرض والمال والجدا المطر العام ومنه أخذ
293

جدا العطية، والجدوى مقصور والطبق الذي يطبق الأرض والغدق والمغدق الكثير القطر والمونق
المعجب، والمريع ذو المراعة والخصب، والمربع من قولك ربعت مكان كذا إذا أقمت به وأربع على
نفسك أرفق، والمرتع من رتعت الإبل إذا ارعت والسابل من السبل وهو المطر يقال سبل سابل كما
يقال مطر ماطر والرائث البطئ والسكن القوة لأن الأرض تسكن به
وروي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال (اللهم اسقنا غيثا
مغيثا هنيئا مريعا غدقا مجللا طبقا سحا دائما اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد
والبلاد من اللاواء والضنك والجهد ما لا نشكوه الا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع
واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف
عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا
(فصل) وهل من شرط هذه الصلاة اذن الإمام على روايتين إحداهما لا يستحب الا بخروج
الإمام أو رجل من قبله قال أبو بكر فإذا خرجوا بغير اذن الإمام دعوا وانصرفوا بلا صلاة ولا خطبة
نص عليه أحمد وعنه أنهم يصلون لأنفسهم ويخطب بهم أحدهم فعلى هذه الرواية يكون الاستسقاء
294

مشروعا في حق كل أحد مقيم ومسافر وأهل القرى والاعراب لأنها صلاة نافلة فأشبهت صلاة
الكسوف. ووجه الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها وإنما فعلها على صفة فلا يتعدى
تلك الصفة وهو أنه صلاها بأصحابه وكذلك خلفاؤه ومن بعدهم فلا تشرع الا في مثل تلك الصفة
(فصل) ويستحب أن يستسقي بمن ظهر صلاحه لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء فإن عمر رضي الله
عنه استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر استسقى عمر عام الرمادة بالعباس فقال
اللهم إن هذا عم نبيك صلى الله عليه وسلم نتوجه إليك به فاسقنا فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل
وروي أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر قال أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فقام
يزيد فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه ثم قال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود
يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الله تعالى فثارت في الغرب سحابة مثل الترس وهب لها ريح
فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم واستسقى به الضحاك مرة أخرى
(مسألة) قال (فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث)
وبهذا قال مالك والشافعي. وقال إسحق لا يخرجون إلا مرة واحدة لأن النبي صلى الله عليه
295

وسلم لم يخرج إلا مرة واحدة ولكن يجتمعون في مساجدهم فإذا فرغوا من الصلاة ذكروا الله تعالى
ودعوا، ويدعو الإمام يوم الجمعة على المنبر ويؤمن الناس
ولنا أن هذا أبلغ في الدعاء والتضرع، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله
يحب الملحين في الدعاء) وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخرج ثانيا لاستغنائه عن الخروج بإجابته
أول مرة، والخروج في المرة الأولى آكد مما بعدها لورود السنة به
(فصل) وإن تأهبوا للخروج فسقوا قبل خروجهم لم يخرجوا وشكروا الله على نعمته وسألوه
المزيد من فضله، وان خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلوا شكرا لله تعالى وحمدوه ودعوه، ويستحب
الدعاء عند نزول الغيث لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلبوا استجابة الدعاء عند
ثلاث: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث) وعن عائشة رضي الله عنها ان النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال (صيبا نافعا) رواه البخاري
296

(فصل) ويستحب أن يقف في أول المطر ويخرج رحله ليصيبه المطر لما روى أنس ان النبي
صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر عن لحيته رواه البخاري. وعن ابن عباس
انه كان إذا أمطرت السماء قال لغلامه (اخرج رحلي وفراشي يصبه المطر) ويستحب أن يتوضأ
من ماء المطر إذا سال السيل، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان إذا سال السيل يقول:
(أخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر)
(فصل) ويستحب أن يستسقوا عقيب صلواتهم، ويوم الجمعة يدعو الإمام على المنبر ويؤمن
الناس. قال القاضي الاستسقاء ثلاثة أضرب، أكملها الخروج والصلاة على ما وصفنا، ويليه استسقاء
الإمام يوم الجمعة على المنبر، لما روي أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت
السبل فادع الله يغثنا. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال (اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا)
قال أنس ولا والله ما يرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شئ، ولا بيننا وبين سلع من بيت ولا
دار فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا
297

الشمس ستا. ثم دخل من ذلك الباب رجل في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب
فاستقبله قائما وقال يا رسول الله: هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا. قال فرفع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون
الأودية ومنابت الشجر) قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس متفق عليه
(والثالث) أن يدعو الله تعالى عقيب صلواتهم وفي خلواتهم
(فصل) وإذا كثر المطر بحيث يضرهم أو مياه العيون دعوا الله تعالى أن يخففه ويصرف
عنهم مضرته، ويجعله في أماكن تنفع ولا تضر كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الفصل الذي قبل
هذا، ولان الضرر بزيادة المطر أحد الضررين فيستحب الدعاء لازالته كانقطاعه
(مسألة) قال (وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا وأمروا ان يكونوا منفردين
عن المسلمين) وجملته انه لا يستحب أخراج أهل الذمة لأنهم أعداء الله الذين كفروا به وبدلوا نعمته كفرا
فهم بعيدون من الإجابة، وان أغيث المسلمون فربما قالوا هذا حصل بدعائنا وإجابتنا، وان خرجوا
لم يمنعوا. لأنهم يطلبون أرزاقهم من ربهم فلا يمنعون من ذلك، ولا يبعد أن يجيبهم الله تعالى لأنه قد
ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين، ويؤمروا بالانفراد عن المسلمين لأنه لا يؤمن أن
يصيبهم عذاب فيعم من حضرهم. فإن قود عاد استسقوا فأرسل الله عليهم ريحا صرصرا فأهلكتهم،
فإن قيل فينبغي أن يمنعوا الخروج يوم يخرج المسلمون لئلا يظنوا أن ما حصل من السقيا بدعائهم.
قلنا ولا يؤمن أن يتفق نزول الغيث يوم يخرجون وحدهم فيكون أعظم لفتنتهم وربما افتتن غيرهم بهم
باب الحكم فيمن ترك الصلاة
(مسألة) قال (ومن ترك الصلاة وهو بالغ عاقل جاحدا لها أو غير جاحد دعي
إليها في وقت كل صلاة ثلاثة أيام فإن صلى والا قتل)
وجملة ذلك أن تارك الصلاة لا يخلوا إما أن يكون جاحدا لوجوبها أو غير جاحد، فإن كان
جاحدا لوجوبها نظر فيه، فإن كان جاهلا به وهو ممن يجهل ذلك كالحديث الاسلام والناشئ ببادية
عرف وجوبها وعلم ذلك ولم يحكم بكفره لأنه معذور، فإن لم يكن ممن يجهل ذلك كالناشئ من
298

المسلمين في الأمصار والقرى، لم يعذر، ولم يقبل منه ادعاء الجهل، وحكم بكفره. لأن أدلة الوجوب
ظاهرة في الكتاب والسنة، والمسلمون يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، ولا
يجحدها الا تكذيبا لله تعالى ولرسوله واجماع الأمة. وهذا يصير مرتدا عن الاسلام، حكمه حكم
سائر المرتدين في الاستتابة والقتل، ولا أعلم في هذا خلافا، وان تركها لمرض أو عجز عن أركانها
وشروطها قيل له: ان ذلك لا يسقط الصلاة، وانه يجب عليه أن يصلي على حسب طاقته، وان تركها
تهاونا أو كسلا دعي إلى فعلها، وقيل له: ان صليت والا قتلناك، فإن صلى والا وجب قتله، ولا يقتل
حتى يحبس ثلاثا، ويضيق عليه فيها، ويدعى في وقت كل صلاة إلى فعلها، ويخوف بالقتل، فإن صلى والا
قتل بالسيف، وبهذا قال مالك وحماد بن زيد ووكيع والشافعي. وقال الزهري: يضرب ويسجن
وبه قال أبو حنيفة قال: ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل دم امرئ مسلم الا
بإحدى ثلاث: كفر بعد ايمان، أو زنا بعد احصان، أو قتل نفس بغير حق) متفق عليه، وهذا
لم يصدر منه أحد الثلاثة فلا يحل دمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا أله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) متفق عليه، ولأنه فرع من
فروع الدين فلا يقتل بتركه كالحج، ولان القتل لو شرع لشرع زجرا عن ترك الصلاة، ولا يجوز
شرع زاجر تحقق المزجور عنه، والقتل يمنع فعل الصلاة دائما فلا يشرع، ولان الأصل تحريم الدم
فلا تثبت الإباحة إلا بنص أو معنى نص، والأصل عدمه
ولنا قول الله تعالى (فاقتلوا المشركين) إلى قوله (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا
سبيلهم) فأباح قتلهم وشرط في تخلية سبيلهم التوبة وهي الاسلام، وأقام الصلاة وايتاء الزكاة، فمتى
ترك الصلاة متعمدا لم يأت بشرط تخليته فبقي على وجوب القتل، وقول النبي صلى الله عليه وسلم
(من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة) وهذا يدل على إباحة قتله، وقال عليه السلام (بين
العبد وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم، والكفر مبيح للقتل وقال عليه السلام (نهيت عن قتل
المصلين) وعن أنس قال: قال أبو بكر. إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا شهدوا أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) رواه الدارقطني، فمفهومه ان غير
المصلين يباح قتلهم، ولأنها ركن من أركان الاسلام لا تدخله النيابة بنفس ولا مال فوجب أن يقتل
تاركه كالشهادة، وحديثهم حجة لنا لأن الخبر الذي رويناه يدل على أن تركها كفر، والحديث الآخر
استثنى منه الا بحقها والصلاة من حقها، ثم إن أحاديثنا خاصة فنخص بها عموم ما ذكروه ولا يصح
قياسها على الحج لأن الحج مختلف في جواز تأخيره، ولا يجب القتل بفعل مختلف فيه. وقولهم ان هذا
يفضي إلى ترك الصلاة بالكلية، قلنا الظاهر أن من يعلم أنه يقتل ان ترك الصلاة لا يتركها سيما بعد
299

استتابته ثلاثة أيام، فإن تركها بعد هذا كان ميؤوسا من صلاته فلا فائدة في بقائه ولا يكون القتل هو
المفوت له، ثم لو فات به احتمال الصلاة لحصل به صلاة ألف انسان وتحصيل ذلك بتفويت احتمال
صلاة واحد لا يخالف الأصل، إذا ثبت هذا فظاهر كلام الخرقي انه يجب قتله بترك صلاة واحدة
وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأنه تارك للصلاة فلزم قتله كتارك ثلاث ولان الاخبار تتناول
تارك صلاة واحدة، لكن لا يثبت الوجوب حتى يضيق وقت التي بعدها لأن الأولى لا يعلم تركها
إلا بفوات وقتها فتصير فائتة لا يجب القتل بفواتها، فإذا ضاق وقتها علم أنه يريد تركها فوجب قتله،
والثانية لا يجب قتله حتى يترك ثلاث صلوات ويضيق وقت الرابعة عن فعلها لأنه قد يترك الصلاة
والصلاتين لشبهة، فإذا تكرر ذلك ثلاثا تحقق انه تاركها رغبة عنها ويعتبر أن يضيق وقت الرابعة
عن فعلها لما ذكرنا، وحكى ابن حامد عن أبي إسحاق ابن شاقلا انه ان ترك صلاة لا تجمع إلى
ما بعدها كصلاة الفجر والعصر وجب قتله، وان ترك الأولى من صلاتي الجمع لم يجب قتله لأن
الوقتين كالوقت الواحد عند بعض العلماء وهذا قول حسن، واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو
حدا، فروى أنه يقتل لكفره كالمرتد فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين ولا يرثه أحد
ولا يرث أحدا، اختارها أبو إسحق بن شاقلا وابن حامد وهو مذهب الحسن والشعبي وأيوب السختياني
والأوزاعي وابن المبارك وحماد بن زيد وإسحق ومحمد بن الحسن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) وفي لفظ عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول (ان بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة) وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (بيننا وبينهم ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) رواهن مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة) قال أحمد كل شئ ذهب آخره لم
يبق منه شئ. قال عمر رضي الله عنه: لاحظ في الاسلام لمن ترك الصلاة. وقال علي رضي الله عنه:
من لم يصل فهو كافر. وقال ابن مسعود: من لم يصل فلا دين له. وقال عبد الله ابن شقيق: لم يكن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ولأنها عبادة
يدخل بها في الاسلام فيخرج بتركها منه كالشهادة.
والرواية الثانية يقتل حدا مع الحكم باسلامه كالزاني المحصن وهذا اختيار أبي عبد الله بن بطة وأنكر قول من
قال إنه يكفر وذكر ان المذهب على هذا لم يجد في المذهب خلافا فيه وهذا قول أكثر الفقهاء وقول أبي حنيفة ومالك
والشافعي. وروي عن حذيفة أنه قال يأتي على الناس زمان لا يبقى معهم من الاسلام إلا قول لا إله إلا الله. فقيل له
ومن ينفعهم؟ قال تنجيهم من النار لا أبا لك. وعن والآن قال: انتهيت إلى داري فوجدت شاة مذبوحة
فقلت من ذبحها؟ قالوا غلامك. قلت والله ان غلامي لا يصلي، فقال النسوة نحن علمناه فسمى.
300

فرجعت إلى ابن مسعود فسألته عن ذلك فأمرني بأكلها. والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه
وسلم (ان الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله ينبغي بذلك وجه الله) وعن أبي ذر قال: أتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)
وعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من شهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا عبده ورسوله، وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن
الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل) وعن أنس ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة) متفق على
هذه الأحاديث كلها ومثلها كثير. وعن عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (خمس
صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له
عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وان شاء أدخله
الجنة) ولو كان كافرا لم يدخله في المشيئة وقال الخلال في جامعه: ثنا يحيى ثنا عبد الوهاب ثنا هشام
ابن حسان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي شميلة ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء
فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قالوا
مملوك لآن فلان كان من أمره. قال (أكان يشهد أن لا إله إلا الله) قالوا نعم. ولكنه كان وكان.
فقال (أما كان يصلي) فقالوا قد كان يصلي ويدع. فقال لهم (ارجعوا به فغسلوه وكفنوه وصلوا
عليه وادفنوه، والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه) وروي باسناده عن عطاء
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال لا إله إلا الله) ولان
ذلك إجماع المسلمين فإننا لا نعلم في عصر من الاعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة
عليه ودفنه في مقابر المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين
زوجين لترك الصلاة مع أحدهما لكثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافرا لثبتت هذه الأحكام كلها
ولا نعلم بين المسلمين خلافا في أن تارك يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتدا لم يجب عليه
قضاء صلاة ولا صيام.
وأما الأحاديث المتقدمة فهي على سبيل التغليظ والتشبيه له بالكفار لا على الحقيقة كقوله عليه
السلام (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وقوله (كفر بالله تبرؤ من نسب وان دق) وقوله (من
301

قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقوله (من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل
على محمد) قال (ومن قال مطرنا بنوء الكواكب فهو كافر بالله مؤمن بالكواكب) وقوله (من
حلف بغير الله فقد أشرك) وقوله (شار ب الخمر كعابد وثن) وأشباه هذا مما أريد به التشديد
في الوعيد وهو أصوب القولين والله أعلم
(فصل) ومن ترك شرطا مجمعا عليه أو ركنا كالطهارة والركوع والسجود فهو كتاركها حكمه
حكمه لأن الصلاة مع ذلك وجودها كعدمها، وان ترك مختلفا فيه كإزالة النجاسة وقراءة الفاتحة (1)
والطمأنينة والاعتدال بين الركوع والسجود أو بين السجدتين معتقدا جواز ذلك فلا شئ عليه،
وان تركه معتقدا تحريمه لزمته إعادة الصلاة، ولا يقتل من أجل ذلك بحال لأنه مختلف فيه فأشبه
المتزوج بغير ولي، وسارق مال له فيه شبهة والله أعلم
كتاب الجنائز
يستحب للانسان ذكر الموت والاستعداد له، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(أكثروا من ذكر هادم اللذات فما ذكر في كثير إلا قلله ولا في قليل إلا كثره) (2) روى البخاري
أوله (3) وإذا مرض استحب له أن يصبر، ويكره الأنين لما روي عن طاوس انه كرهه، ولا يتمنى الموت
لضر نزل به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل وليقل (4) اللهم أحيني
ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) (5) وقال الترمذي هذا حديث حسن

(1) قراءة الفاتحة مجمع على وجوبها وإنما قال أهل الرأي ان هذا الوجوب لا يسمى فرضا لاصطلاح لهم في ذلك معروف
(2) رواه البيهقي في سننه بلفظ (أجز له بدل كثره)
(3) لا نعرف هذا في البخاري
(4) هذا لفظ للترمذي ولفظ الصحيحين (فإن كان لابد متمنيا فليقل الخ
(5) لعله سقط من هنا: متفق عليه
302

صحيح ويحسن ظنه بربه تعالى. قال جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول موته بثلاث
(لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى) رواه مسلم وأبو داود. وقال معتمر عن أبيه أنه قال
له عند موته حدثني بالرخص
(فصل) يستحب عيادة المريض، قال البراء أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز
وعيادة المريض رواه البخاري ومسلم، وعن علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ما من رجل يعود مريضا ممسيا الا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح وكان له
خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف
في الجنة) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب (1) وإذا دخل على مريض دعا له ورقاه. قال ثابت
لانس يا أبا حمزة اشتكيت، قال أنس أفلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى.
قال (اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي شفاء لا يغادر سقما) وروى أبو سعيد قال
(أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت؟ قال نعم. قال (بسم الله أرقيك من كل
شئ يؤذيك، من شر كل نفس وعين حاسدة، الله يشفيك) وقال أبو زرعة كلا هذين الحديثين
صحيح. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الاجل فإنه

(1) ليس هذا لفظ رواية الترمذي بل لفظه (ما من مسلم يعود مسلما غدوة الا صلى عليه سبعون الف ملك حتى يمسي، وان عاده عشية الا صلى عليه سبعون الف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة)
303

لا يرد من قضاء الله شيئا، وإنه يطيب نفس المريض) رواه ابن ماجة، ويرغبه في التوبة والوصية
لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شئ
يوصي فيه الا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه
(فصل) ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به وأعلمهم بسياسته وأتقاهم لربه تعالى ليذكره
الله تعالى والتوبة من المعاصي والخروج من المظالم والوصية، وإذا رآه منزولا به تعهد بل حلقه بتقطير
ماء أو شراب فيه ويندي شفتيه بقطنة ويستقبل به القبلة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير
المجالس ما استقبل به القبلة) ويلقنه قول لا إله إلا الله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقنوا موتاكم
لا إله إلا الله) رواه مسلم. وقال الحسن سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال:
(أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله) رواه سعيد، ويكون ذلك في لطف ومداراة
ولا يكرر عليه ولا يضجره الا أن يتكلم بشئ فيعيد تلقينه لتكون لا إله إلا الله آخر كلامه نص على
هذا أحمد. وروي عن عبد الله بن المبارك انه لما حضره الموت جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله فأكثر
عليه. فقال له عبد الله إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم. قال الترمذي إنما أراد عبد الله ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود
304

باسناده، وروي سعيد باسناده عن معاذ بن جبل إنه لما حضرته الوفاة قال اجلسوني. فلما أجلسوه
قال: كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أخبؤها ولولا ما حضرني من الموت
ما أخبرتكم بها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من كان آخر قوله عند الموت لا إله إلا الله
وحده لا شريك له الا هدمت ما كان قبلها من الخطايا والذنوب فلقنوها موتاكم) فقيل يا رسول الله
فكيف هي للاحياء؟ قال (هي أهدم وأهدم) قال أحمد ويقرؤون عند الميت إذا حضر ليخفف
عنه بالقراءة يقرأ (يس) وأمر بقراءة فاتحة الكتاب، وروي سعيد ثنا فرج بن فضالة عن أسد بن
وداعة لما حضر غضيف بن حارث الموت حضره إخوانه فقال هل فيكم من يقرأ سورة (يس) قال
305

رجل من القوم نعم. قال اقرأ ورتل وانصتوا، فقرأ ورتل واسمع القوم، فلما بلغ (فسبحان الذي
بيده ملكوت كل شئ واليه ترجعون) خرجت نفسه. قال أسد بن وداعة فمن حضره منكم الموت
فشدد عليه الموت فليقرأ عنده سورة (يس) فإنه يخفف عنه الموت
(مسألة) قال أبو القاسم (وإذا تيقن الموت وجه إلى القبلة وغمضت عيناه وشد
لحياه لئلا يسترخي فكه وجعل على بطنه مرآة أو غيرها لئلا يعلو بطنه)
قوله إذ تيقن الموت يحتمل انه أراد حضور الموت لأن التوجيه إلى القبلة يستحب تقديمه على
الموت، واستحبه عطاء والنخعي ومالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام واسحق، وأنكره
سعيد بن المسيب فإنهم لما أرادوا أن يحولوه إلى القبلة قال ما لكم؟ قالوا نحولك إلى القبلة. قال ألم
أكن على القبلة إلى يومي هذا؟ والأول أولى لأن حذيفة قال وجهوني ولان فعلهم ذلك بسعيد دليل
على أنه كان مشهورا بينهم يفعله المسلمون كلهم بموتاهم، ولان خير المجالس ما استقبل به القبلة.
ويحتمل ان الخرقي أراد تيقن وجود الموت لأن سائر ما ذكر إنما يفعل بعد الموت وهو تغميض الميت
فإنه يسن عقيب الموت لما روي عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة
وقد شق بصره فأغمضه ثم قال (ان الروح إذا قبض تبعه البصر) فضج الناس من أهله فقال:
(لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) ثم قال (اللهم اغفر لأبي سلمة
وارفع درجته في المهديين المقربين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين،
306

وافسح له في قبره ونور له فيه) أخرجه مسلم. وروى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (إذا حضرتم موتاكم فاغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا فإنه يؤمن على
ما قال أهل الميت) رواه أحمد في المسند. وروي أن عمر رضي الله عنه قال لابنه حين حضرته الوفاة
ادن مني فإذا رأيت روحي قد بلغت لهاتي فضع كفك اليمني على جبهتي واليسرى تحت ذقني واغمضني.
ويستحب شد لحييه بعصابة عريضة يربطها من فوق رأسه لأن الميت إذا كان مفتوح العينين والفم فلم
يغمض حتى يبرد بقي مفتوحا فيقبح منظره ولا يؤمن دخول الهوام فيه والماء في وقت غسله. وقال
بكر بن عبد الله المزني ويقول الذي يغمضه بسم الله وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجعل
على بطنه شئ من الحديد كمرآة أو غيرها لئلا ينتفخ بطنه فإن لم يكن شئ من الحديد فطين مبلول
ويستحب أن يلي ذلك منه أرفق الناس به بأرفق ما يقدر عليه. قال أحمد تغمض المرأة عينه إذا كانت ذات
محرم له. وقال يكره للحائض والجنب تغميضه وأن تقرباه وكره ذلك علقمة. وروي نحوه عن الشافعي
وكره الحسن وابن سيرين وعطاء أن يغسل الحائض والجنب الميت وبه قال مالك، وقال إسحق
وابن المنذر يغسله الجنب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن ليس بنجس) ولا نعلم بينهم اختلافا
في صحة تغسيلهما وتغميضهما له، ولكن الأولى أن يكون المتولي لأموره في تغميضه وتغسيله طاهرا
لأنه أكمل وأحسن
(فصل) ويستحب المسارعة إلى تجهيزه إذا تيقن موته لأنه أصوب له وأحفظ من أن يتغير وتصعب معافاته، قال أحمد كرامة الميت تعجيله وفيما روى أبو داود أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال
307

(أنى لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني
أهله) ولا بأس أن ينتظر بها مقدار ما يجتمع لها جماعة لما يؤمل من الدعاء له إذا صلى عليه ما لم يخف عليه
أو يشق على الناس نص عليه أحمد، وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت من استرخاء
رجليه وانفصال كفيه وميل أنفه وامتداد جلدة وجهه وانخساف صدغيه، وإن مات فجأة كالمصعوق
أو خائفا من حرب أو سبع أو تردى من جبل انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته، قال الحسن
في المصعوق ينتظر به ثلاثا، قال أحمد رحمه الله إنه ربما تغير في الصيف في اليوم والليلة قيل فكيف
تقول قال يترك بقدر ما يعلم أنه ميت قيل له من غدوة إلى الليل قال نعم
(فصل) ويسارع في قضاء دينه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (نفس المؤمن
308

معلقة بدينه حتى يقضى عنه) قال الترمذي هذا حديث حسن وإن تعذر إيفاء دينه في الحال استحب
309

لوارثه أو غيره أن يتكفل به عنه كما فعل أبو قتادة لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فلم يصل عليها
310

قال أبو قتادة صل عليها يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه، رواه البخاري
311

ويستحب المسارعة إلى تفريق وصيته ليعجل له ثوابها بجريانها على الموصى له
312

(فصل) ويستحب خلع ثياب الميت لئلا يخرج منه شئ يفسد به ويتلوث بها إذا نزعت عنه
313

ويسجى بثوب يستر جميعه قالت عائشة سجي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة، متفق عليه
ولا يترك الميت على الأرض لأنه أسرع لفساده ولكن على سرير أو لوح ليكون أحفظ له
314

(مسألة) قال (فإذا أخذ في غسله ستر من سترته إلى ركبتيه)
وجملته أن المستحب تجريد الميت عند غسله ويستر عورته بمئزر، وهذا ظاهر قول الخرقي ورواه
الأثرم عن أحمد فقال يغطى ما بين سرته وركبتيه، وهذا اختيار أبى الخطاب وهو مذهب ابن سيرين ومالك
وأبي حنيفة. وروى المروذي عن أحمد أنه قال يعجبني أن يغسل الميت وعليه ثوب يدخل يده من تحت
الثوب قال وكان أبو قلابة إذا غسل ميتا جلله بثوب، قال القاضي السنة أن يغسل في قميص رقيق ينزل
الماء فيه ولا يمنع أن يصل إلى بدنه ويدخل يده في كم القميص فيمرها على بدنه والماء يصب فإن كان
القميص ضيقا فتق رأس الدخاريص وأدخل يده منه، وهذا مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله
عليه وسلم غسل في قميصه وقال سعد، اصنعوا بي كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد
غسل النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه وقد أرادوا خلعه فنودوا أن لا تخلعوه واستروا نبيكم
ولنا أن تجريده أمكن لتغسيله وأبلغ في تطهيره والحي يتجرد إذا اغتسل فكذا الميت، ولأنه
إذا اغتسل في ثوبه تنجس الثوب بما يخرج وقد لا يطهر بصب الماء عليه فيتنجس الميت به
315

فاما النبي صلى الله عليه وسلم فذاك خاص له ألا ترى أنهم قالوا نجرده كما نجرد موتانا، كذلك
روت عائشة، قال ابن عبد البر روي ذلك عنها من وجه صحيح، فالظاهر أن تجريد الميت فيما عدا
العورة كان مشهورا عندهم ولم يكن هذا ليخفي على النبي صلى الله عليه وسلم بل الظاهر أنه كان بأمره
لأنهم كانوا ينتهون إلى رأيه، ويصدرون عن أمره في الشرعيات واتباع أمره وفعله أولى من اتباع
غيره ولان ما يخشى من تنجيس قميصه بما يخرج منه كان مأمونا في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
طيب حيا وميتا بخلاف غيره وإنما قال سعد إلحدوا لي لحدا، وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول
الله صلى الله عليه وسلم ولو ثبت أنه أراد الغسل فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع
وأما ستر ما بين السرة والركبة فلا نعلم فيه خلافا فإن ذلك عورة، وستر العورة مأمور به وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت قال ابن عبد البر وروي (الناظر من
الرجال إلى فروج الرجال كالناظر منهم إلى فروج النساء والمتكشف ملعون)
(فصل) قال أبو داود قلت لأحمد: الصبي يستر كما يستر الكبير أعني الميت في الغسل
قال أي شي ء يستر منه وليست عورته ويغسله النساء
316

(مسألة) قال (ولاستحباب أن لا يغسل تحت السماء ولا يحضره الا من يعين في
أمره ما دام يغسل)
وجملة أن المستحب أن يغسل في بيت وكان ابن سيرين يستحب أن يكون البيت الذي
يغسل فيه مظلما ذكره أحمد فإن لم يكن جعل بينه وبين السماء سترا قال ابن المنذر كان النخعي يجب
أن يغسل وبينه وبين السماء ستره
وروى أبو داود باسناده قال أوصى الضحاك أخاه سالما قال إذا غسلتني فاجعل حولي سترا
واجعل بيني وبين السماء سترا، وذكر القاضي أن عائشة قالت أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونحن نغسل ابنته فجعلنا بينهما وبين السقف سترا، قال وإنما استحب ذلك خشية أن يستقبل السماء
بعورته وإنما كره أن يحضره من لا يعين في أمره لأنه يكره النظر إلى الميت إلا لحاجة، ويستحب
للحاضرين غض أبصارهم عنه إلا من حاجة وسبب ذلك أنه ربما كان بالميت عيب يكتمه، ويكره أن
يطلع عليه بعد موته وربما حدث منه أمر يكره الحي أن يطلع منه على مثله وربما ظهره فيه شئ هو في
الظاهر منكر فيحدث به فيكون فضيحة له، وربما بدت عورته فشاهدها ولهذا أحببنا أن يكون الغاسل
ثقة أمينا صالحا ليستر ما يطلع عليه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (قال ليغسل موتاكم
المأمونون) رواه ابن ماجة
317

وروي عنه عليه السلام أنه قال (من غسل ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
رواه ابن ماجة أيضا. وفي المسند عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غسل ميتا
فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وقال (ليله أقربكم
منه إن كان يعلم، فإن كان لا يعلم فمن ترون أن عنده حظا من ورع وأمانة) وقال القاضي لوليه أن
يدخله كيف شاء، وكلام الخرقي عام في المنع والعلة تقتضي والله أعلم
(فصل) وينبغي للغاسل ولمن حضر إذا رأى من الميت شيئا مما ذكرناه مما يجب الميت ستره
أن يستره ولا يحدث به لما رويناه، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ستر عورة مسلم ستره
الله في الدنيا والآخرة) وإن رأى حسنا مثل أمارات الخير من وضاءة الوجه والتبسم ونحو ذلك
استحب اظهاره ليكثر الترحم عليه ويحصل الحث على مثل طريقته والتشبه بجميل سيرته، قال ابن عقيل وإن كان
الميت مغموصا عليه في الدين والسنة مشهورا ببدعته فلا بأس باظهار الشر عليه لتحذر طريقته وعلى
هذا ينبغي أن يكتم ما يرى عليه من أمارات الخير لئلا يغتر مغتر بذلك فيقتدي به في بدعته
(مسألة) قال (وتلين مفاصله إن سهلت عليه والا تركها)
معنى تليين المفاصل هو أن يرد ذراعيه إلى عضديه وعضديه إلى جنبيه ثم يردهما ويرد ساقيه إلى
فخذيه وفخذيه إلى بطنه ثم يردهما ليكون ذلك أبقى للينه فيكون ذلك أمكن للغاسل من تكفينه وتمديد
وخلع ثيابه وتغسيله قال أصحابنا ويستحب ذلك في موضعين عقيب موته قبل قسوتها ببرودته وإذا
أخذ في غسله وان شق ذلك لقسوة الميت أو غيرها تركه لأنه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه ويصير به ذلك إلى المثلة
318

(مسألة) قال (ويلف على يده خرقة فينقى ما به من نجاسة ويعصر بطنه عصرا رفيقا
وجملته أنه يستحب أن يغسل الميت على سرير يترك عليه متوجها إلى القبلة منحدرا نحو رجليه
لينحدر الماء بما يخرج منه ولا يرجع إلى جهة رأسه ويبدأ الغاسل فيحني الميت حنيا ورفيقا لا يبلغ به قريبا
من الجلوس لأن في الجلوس أذية له ثم يمر يده على بطنه يعصره عصرا رفيقا ليخرج ما معه من نجاسة
لئلا يخرج بعد ذلك ويصب عليه الماء حين يمر يده صبا كثيرا ليخفي ما يخرج منه ويذهب به الماء
ويستحب أن يكون بقربه مجمر فيه بخور حتى لا يظهر منه ريح، وقال أحمد رحمه الله لا يعصر بطن
الميت في المرة الأولى ولكن في الثانية، وقال في موضع آخر يعصر بطنه في الثالثة يمسح مسحا رفيقا
مرة واحدة، وقال أيضا عصر بطن الميت في الثانية أمكن لأن الميت لا يلين حتى يصيبه الماء ويلف
الغاسل على يده خرقة خشنة يمسحه بها لئلا يمس عورته لأن النظر إلى العورة حرام فاللمس أولى ويزيل
ما على بدنه من نجاسة لأن الحي يبدأ بذلك في اغتساله من الجنابة
ويستحب أن لا يمس بقية بدنه الا بخرقة، قال القاضي يعد الغاسل خرقتين يغسل بإحداهما
السبيلين والأخرى سائر بدنه فإن كان الميت امرأة حاملا لم يعصر بطنها لئلا يؤذي الولد وقد جاء
في حديث رواه الخلال باسناده عن أم سليم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا توفيت المرأة
319

فأرادوا غسلها فليبدأ ببطنها فليمسح مسحا رفيقا ان لم تكن حبلى فإن كانت حبلى فلا يحركها)
(مسألة) قال (ويوضئه وضوءه للصلاة ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه فإن
كان فيهما أذى أزاله بخرقة)
وجملة ذلك أنه إذا أنجاه وأزال عنه النجاسة بدأ بعد ذلك فوضأه وضوء الصلاة فيغسل كفيه
ثم يأخذ خرقة خشنة فيبلها ويجعلها على أصبعه فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما ويكون ذلك في رفق
ثم يغسل وجهه ويتمم وضوءه، لأن الوضوء يبدأ به في غسل الحي وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) متفق عليه
وفي حديث أم سليم (فإذا فرغت من غسل سفلتها غسلا نقيا بماء وسدر فوضئيها وضوء الصلاة
ثم اغسليها) ولا يدخل الماء فاه ولا منخريه في قول أكثر أهل العلم، كذلك قال سعيد بن جبير والنخعي
والثوري وأبو حنيفة وقال الشافعي يمضمضه وينشقه كما يفعل الحي
ولنا أن إدخال الماء فاه وأنفه لا يؤمن معه وصوله إلى جوفه فيفضي إلى المثلة به ولا يؤمن
خروجه في أكفانه.
(مسألة) قال (ويصب عليه الماء فيبدأ بميامنه ويقلبه على جنبيه ليعم الماء سائر جسمه)
وجملة ذلك أنه إذا وضأه بدأ بغسل رأسه ثم لحيته نص عليه أحمد، فيضرب السدر فيغسلهما
برغوته ويغسل وجهه ويغسل اليد اليمنى من المنكب إلى الكفين وصفحة عنقه اليمنى وشق صدره وجنبيه
وفخذه وساقه يغسل الظاهر من ذلك وهو مستلق ثم يصنع ذلك بالجانب الأيسر ثم يرفعه من جانبه
الأيمن ولا يكبه لوجهه فيغسل الظهر وما هناك من وركه وفخذه وساقه ثم يعود فيحرقه على جنبه الأيمن
ويغسل شقه الأيسر كذلك هكذا ذكره إبراهيم النخعي والقاضي وهو أقرب إلى موافقة قوله عليه
السلام (ابدأن بميامنها) وهو أشبه بغسل الحي
320

(مسألة) قال (ويكون في كل المياه شئ من السدر، ويضرب السدر فيغسل
برغوته رأسه ولحيته)
هذا المنصوص عن أحمد قال صالح قال أبي: الميت يغسل بماء وسدر ثلاث غسلات قلت فينقى
عليه، فقال أي شئ يكون هو أنقى له وذكر عن عطاء أن ابن جريج قال له انه يبقى عليه السدر إذا
غسل به كل مرة فقال عطاء هو طهور، وفي رواية أبي داود عن أحمد قال، قلت يعني لأحمد أفلا
تصبون ماء قراحا ينظفه؟ قال إن صبوا فلا بأس، واحتج أحمد بحديث أم عطية أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين توفيت ابنته قال (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك أن رأيتن بماء وسدر
واجعلن في الآخرة كافورا) متفق عليه، وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اغسلوه
321

بماء سدر) متفق عليه، وفي حديث أم سليم (ثم اغسليها بعد ذلك ثلاث مرات بماء وسدر)
وذهب كثير من أصحابنا المتأخرين إلى أنه لا يترك مع الماء سدرا يغيره ثم اختلفوا، فقال ابن حامد
يطرح في كل المياه شئ يسير من السدر لا يغيره ليجمع بين العمل بالحديث، ويكون الماء باقيا على
طهوريته، وقال القاضي وأبو الخطاب يغسل أول مرة بالسدر ثم يغسل بعد ذلك بالماء القراح
فيكون الجميع غسلة واحدة ويكون الاعتداد بالآخر دون الأول لأن أحمد رحمه الله شبه غسله بغسل
الجنابة، ولان السدر ان غير الماء سلبه وصف الطهورية وان لم يغيره فلا فائدة في ترك يسير لا يؤثر
وظاهر كلام أحمد الأول ويكون هذا من قوله دالا على أن تغيير الماء بالسدر لا يخرجه عن طهوريته
قال بعض أصحابنا يتخذ الغاسل ثلاثة أواني: آنية كبيرة يجمع فيها الماء الذي يغسل به الميت يكون بالبعد منه
322

وإناءين صغيرين يطرح من أحدهما على الميت والثالث يغرف به من الكبير في الصغير الذي يغسل
به الميت ليكون الكبير مصونا فإذا فسد الماء الذي في الصغير وطارفيه من رشاش الماء كان ما بقي في
الكبير كافيا، ويضرب السدر فيغسل برغوته رأسه ولحيته ويبلغه سائر بدنه كما يفعل الحي إذا اغتسل
(فصل) فإن لم يجد السدر غسله بما يقوم مقامه ويقرب منه كالخطمي ونحوه لأن المقصود يحصل
منه وإن غسله بذلك مع وجود السدر جاز لأن الشرع ورد بهذا لمعنى معقول وهو التنظيف
فيتعدى إلى كل ما وجد فيه المعنى
(مسألة) قال (ويستعمل في كل أموره الرفق به)
ويستحب الرفق بالميت في تقليبه وعرك أعضائه وعصر بطنه وتليين مفاصله وسائر أموره احتراما
323

له فإنه مشبه بالحي في حرمته ولا يأمن إن عنف به أن ينفصل منه عضو فيكون مثلة به وقد قال عليه
الصلاة والسلام (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي) وقال (إن الله يحب الرفق في الامر كله)
(مسألة) قال (والماء الحار والأشنان والخلال يستعمل ان احتيج إليه)
هذه الثلاثة تستعمل عند الحاجة إليها مثل أن يحتاج إلى الماء الحار لشدة البرد أو لوسخ لا يزول
إلا به وكذا الأشنان يستعمل إذا كان على الميت وسخ.
قال أحمد إذا طال ضني المريض غسل بالأشنان يعني أنه يكثر وسخه فيحتاج الا الأشنان ليزيله
والخلال يحتاج إليه لاخراج شئ، والمستحب أن يكون من شجرة لينة كالصفصاف ونحوه مما ينقي
ولا يجرح وإن لف على رأسه قطنا فحسن ويتتبع ما تحت أظفاره حتى ينقيه فإن لم يحتج إلى شئ من
ذلك لم يستحب استعماله وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة المسخن أولى بكل حال لأنه ينقي ما لا ينقي البارد
ولنا أن البارد يمسكه والمسخن يرخيه ولهذا يطرح الكافور في الماء ليشده ويبرده، والانقاء
يحصل بالسدر إذا لم يكثر وسخه فإن كثر ولم يزل إلا بالحار صار مستحبا
324

(مسألة) قال (ويغسل الثالثة بماء فيه كافور وسدر ولا يكون فيه سدر صحاح)
الواجب في غسل الميت مرة واحدة لأنه غسل واجب عن غير نجاسة اصابته فكان مرة واحدة
كغسل الجنابة والحيض، ويستحب أن يغسل ثلاثا كل غسلة بالماء والسدر على ما وصفنا ويجعل في
الماء كافورا في الغسلة الثالثة ليشده ويبرده ويطيبه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي
غسلن ابنته (اغسلنها بالسدر وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك أن رأيتن واجعلن في الغسلة
الأخيرة كافورا) وفي حديث أم سليم (فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها فاجعلي ماء فيه شئ
من كافور وشئ من سدر ثم اجعلي ذلك في جرة جديدة فيه ثم أفرغيه عليها وابدئي برأسها حتى يبلغ
رجليها) ولا يجعل في الماء سدر صحيح لأنه لا فائدة فيه لأن السدر إنما أمر به للتنظيف والمعد للتنظيف
إنما هو المطحون، ولهذا لا يستعمله المغتسل به من الاحياء الا كذلك قال أبو داود قلت لأحمد إنهم
يأتون بسبع ورقات من سدر فيلقونها في الماء في الغسلة الأخيرة فأنكر ذلك ولم يعجبه. وإذا فرغ من
الغسلة الثالثة لم يمر يده على بطن الميت لئلا يخرج منه شئ ويقع في أكفانه، قال أحمد ويوضأ الميت
325

مرة واحدة في الغسلة الأولى وما سمعنا الا أنه يوضأ أول مرة وهذا والله أعلم ما لم يخرج منه شئ
ومتى خرج منه شئ أعاد وضوءه لأن ذلك ينقض الوضوء من الحي ويوجبه، وان رأى الغاسل أن
يزيد على ثلاث لكونه لم ينق بها أو غير ذلك غسله خمسا أو سبعا ولم يقطع الا على وتر. قال أحمد
ولا يزاد على سبع والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا)
لم يزد على ذلك وجعل جميع ما أمر به وترا وقال أيضا أغسلنها وترا وان لم ينق بسبع فالأولى غسله
حتى ينقى ولا يقطع الا على وتر لقوله عليه السلام (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك
إن رأيتن) ولان الزيادة على الثلاث إنما كان للانقاء أو للحاجة إليها وكذلك فيما بعد السبع ولم يذكر
أصحابنا أنه يزيد على سبع
(مسألة) قال (فإن خرج منه شئ غسله إلى خمس فإن زاد فإلى سبع)
يعنى إن خرجت نجاسة من قبله أو دبره وهو على مغتسله بعد الثلاث غسله إلى خمس فإن خرج
بعد الخامسة غسله إلى سبع ويوضيه في الغسلة التي تلي خروج النجاسة قال صالح قال أبي يوضأ
الميت مرة واحدة الا أن يخرج منه شئ فيعاد عليه الوضوء ويغسله إلى سبع وهو قول ابن سيرين
326

واسحق واختار أبو الخطاب أنه يغسل موضع النجاسة ويوضأ ولا يجب إعادة غسله وهو قول الثوري
ومالك وأبي حنيفة لأن خروج النجاسة من الحي بعد غسله لا يبطله فكذلك الميت. وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أن القصد من غسل الميت أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة ألا ترى أن الموت جرى
مجرى زوال العقل في حق الحي، وقد أوجب الغسل في حق الميت فكذلك هذا ولان النبي صلى الله
عليه وسلم قال (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا إن رأيتن ذلك بماء وسدر)
(فصل) وان خرجت منه نجاسة من غير السبيلين فقال أحمد فيما روى أبو داود الدم أسهل من
الحدث ومعناه أن الدم الذي يخرج من أنفه أسهل من الحدث في أن لا يعاد له الغسل لأن الحدث
ينقض الطهارة بالانفاق ويسوى بين كثيره وقليله ويحتمل أنه أراد أن الغسل لا يعاد من يسيره كما
لا ينقض الوضوء بخلاف الخارج من السبيلين
(مسألة) قال (فإن زاد حشاه بالقطن فإن لم يستمسك فبالطين الحر)
وجملة ذلك أنه إذا خرجت منه نجاسة بعد السبع لم يعد إلى الغسل قال أحمد من غسل ميتا لم
يغسله أكثر من سبع لا يجاوزه خرج منه شئ أو لم يخرج قيل له فنوضيه إذا خرج منه شئ بعد
السبع قال لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذا أمر ثلاثا أو خمسا أو سبعا في حديث أم عطية، ولان
زيادة الغسل وتكريره عند كل خارج يرخيه ويفضى إلى الحرج لكنه يغسل النجاسة ويحشو مخرجها
بالقطن وقيل يلجم بالقطن كما تفعل المستحاضة ومن به سلس البول فإن لم يمسكه ذلك حشي بالطين
327

الحر وهو الخالص الصلب الذي له قوة تمسك المحل وقد ذكر أحمد أنه لا يوضأ ويحتمل أنه يوضأ وضوء
الصلاة كالجنب إذا أحدث بعد غسله وهذا أحسن
(فصل) والحائض والجنب إذا ماتا كغيرهما في الغسل، قال ابن المنذر هذا قول من نحفظ عنه
من علماء الأمصار وقال الحسن وسعيد بن المسيب ما مات ميت الا جنب وقيل عن الحسن أنه يغسل
الجنب للجنابة والحائض للحيض ثم يغسلان للموت والأول أولى لأنهما خرجا من أحكام التكليف
ولم يبق عليهما عبادة واجبة وإنما الغسل للميت تعبد وليكون في حال خروجه من الدنيا على أكمل حال
من النظافة والنضارة وهذا يحصل بغسل واحد ولان الغسل الواحد يجزي من وجد في حقه موجبان
له كما لو اجتمع الحيض والجنابة
(فصل) والواجب في غسل الميت النية والتسمية في إحدى الروايتين وغسله مرة واحدة لأنه
غسل تعبد عن غير نجاسة أصابته شرط لصحة الصلاة فوجب ذلك فيه كغسل الجنابة وقد شبه أحمد
غسله بغسل الجنابة ولما تعذرت النية والتسمية من الميت اعتبرت في الغاسل لأنه المخاطب بالغسل
قال عطاء يجزيه غسلة واحدة أن انقوه وقال أحمد لا يعجبني أن يغسل واحدة لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (اغسلنها ثلاثا أو خمسا) وهذا على سبيل الكراهة دون الاجزاء لما ذكرناه ولان النبي
صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته (اغسلوه بماء وسدر) لم يذكر عددا، وقال ابن عقيل
يحتمل أن تعتبر النية لأن القصد التنظيف فأشبه غسل والنجاسة ولا يصح هذا لأنه لو كان كذلك لما
وجب غسل متنظف ولجاز غسله بماء الورد وسائر ما يحصل به التنظيف، وإنما هو غسل تعبد
أشبه غسل الجنابة
(مسألة) قال (وينشفه بثوب ويجمر أكفانه)
وجملته انه إذا فرغ الغاسل من غسل الميت نشفه بثوب لئلا يبل أكفانه، وفي حديث أم سليم
فإذا فرغت منها فألق عليها ثوبا نظيفا، وذكر القاضي في حديث ابن عباس في غسل النبي صلى
الله عليه وسلم قال فجففوه بثوب، ومعنى تجمير أكفانه تبخيرها بالعود وهو أن يترك العود على النار
في مجمر ثم يبخر به الكفن حتى تعبق رائحته ويطيب ويكون ذلك بعد أن يرش عليه ماء الورد لتعلق
الرائحة به، وقد روي عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جمرتم الميت فجمروه
ثلاثا) وأوصي أبو سعيد وابن عمر وابن عباس أن تجمر أكفانهم بالعود وقال أبو هريرة يجمر الميت
ولان هذا عادة الحي عند غسله وتجديد ثيابه أن يجمر بالطيب والعود فكذلك الميت
(مسألة) قال (ويكفن في ثلاثة أثواب بيض يدرج فيها ادراجا ويجعل الحنوط فيما بينها)
الأفضل عند إمامنا رحمه الله أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة
328

ولا يزيد عليها ولا ينقص منها، قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم وغيرهم وهو مذهب الشافعي، ويستحب كون الكفن أبيض لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألبسوا من ثيابكم البياض
فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيه موتاكم) رواه النسائي وحكي عن أبي حنيفة ان المستحب أن يكفن
في ازار ورداء وقميص، لما روي ابن الغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميصه ولان النبي
صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه وكفنه به رواه النسائي
ولنا قول عائشة رضي الله عنها كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها
قميص ولا عمامة. متفق عليه وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة أقرب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وأعرف بأحواله ولهذا لما ذكر لها قول الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في برد، قالت قد أتي بالبرد
ولكنهم لم يكفنوه فيه فحفظت ما أغفله غيرها وقالت أيضا أدرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة يمنية كانت لعبد
الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلة وقال أكفن فيها ثم قال لم يكفن فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكفن فيها فتصدق بها رواه مسلم، ولان حال الاحرام أكمل
أحوال الحي وهو لا يلبس المخيط وكذلك حالة الموت أشبه بها.
وأما إلباس النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي قميصه فإنما فعل ذلك تكرمة لابنه عبد الله بن عبد الله بن
أبي وإجابة لسؤاله حين سأله ذلك ليتبرك به أبوه ويندفع عنه العذاب ببركة قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيل إنما فعل ذلك جزاء لعبد الله بن أبي عن كسوته العباس قميصه يوم بدر والله أعلم
(فصل) والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها فيبسط أولا ليكون الظاهر للناس حسنها
فإن هذا عادة الحي يجعل الظاهر أفخر ثيابه. ويجعل عليها حنوطا ثم يبسط الثانية التي تليها في الحسن
والسعة عليها ويجعل فوقها حنوطا وكافورا ثم يبسط فوقهما الثالثة ويجعل فوقها حنوطا وكافورا ولا يجعل
على وجه العليا ولا على النعش شئ من الحنوط لأن الصديق رضي الله عنه قال: لا تجعلوا على أكفاني
حنوطا، ثم يحمل الميت مستورا بثوب فيوضع عليها مستلقيا لأنه أمكن لادراجه فيها ويجعل ما عند
رأسه أكثر مما عند رجليه ويجعل من الطيب على وجهه ومواضع سجوده ومغابنه لأن الحي يتطيب
هكذا ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن ويجعل منه بين أليتيه برفق ويكثر ذلك ليرد شيئا إن
خرج منه حين تحريكه ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف كالتبان، وهو السراويل بلا أكمام ويجعل
الباقي على منافد وجهه في فيه ومنخريه وعينيه لئلا يحدث منهن حادث، وكذلك الجراح النافذة ويترك
على مواضع السجود منه لأنها أعضاء شريفة ثم يثنى طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ثم يرد طرفها
الآخر على شقه الأيسر، وإنما استحب ذلك لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن إذا وضع علي يمينه في
329

القبر ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك ثم يجمع ما فضل عند رأسه ورجليه فيرد على وجهه ورجليه وإن
خاف انتشارها عقدها وإذا وضع في القبر حلها ولم يخرق الكفن
(فصل) وتكره الزيادة على ثلاثة أثواب في الكفن لما فيه من إضاعة المال وقد نهى عنه النبي
صلى الله عليه وسلم ويحرم ترك شئ مع الميت من ماله لغير حاجة لما ذكرنا إلا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك
تحته قطيفة في قبره فإن ترك نحو ذلك فلا بأس
(مسألة) قال (وان كفن في قميص ومئزر ولفاقة جعل المئزر مما يلي جلده ولم يزر
عليه القميص)
التكفين في القميص والمئزر واللفافة غير مكروه وإنما الأفضل الأولى وهذا جائز لا كراهة فيه فإن
النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات رواه البخاري فيؤزر بالمئزر ويلبس القميص
ثم يلف باللفافة بعد ذلك، وقال أحمد ان جعلوه قميصا فأحب إلي أن يكون مثل قميص الحي له كمان
ودخاريص وأزرار ولا يزر عليه القميص
(فصل) قال أبو داود قلت لأحمد يتخذ الرجل كفنه يصلي فيه إياه أو قلت يحرم فيه ثم يغسله
ويضعه لكفنه فرآه حسنا قال يعجبني أن يكون جديدا أو غسيلا وكره أن يلبسه حتى يدنسه
(فصل) ويجوز التكفين في ثوبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم والذي وقصته دابته (اغسلوه بماء
وسدر وكفنوه في ثوبين) رواه البخاري، وكان سويد بن غفلة يقول يكفن في ثوبين وقال الأوزاعي
يجزى ثوبين وأقل ما يجزي واحد يستر جميعه، قالت أم عطية لما فرغنا يعني من غسل بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ألقى إلينا حقوه فقال أشعرنها إياه ولم يزد على ذلك رواه البخاري وقال معنى أشعرنها إياه
الففنها فيه، قال ابن عقيل العورة المغلظة يسترها ثوب واحد فجسد الميت أولى وقال القاضي لا يجزي
أقل من ثلاثة أثواب لمن يقدر عليها، وروى مثل ذلك عن عائشة واحتج بأنه لو جاز أقل منها لم يجز
التكفين بها في حق من له أيتام احتياطا لهم، والصحيح الأول وما ذكره القاضي لا يصح فإنه يجوز
التكفين بالحسن مع حصول الاجزاء بما دونه.
(فصل) قال أحمد يكفن الصبي في خرقة وإن كفن في ثلاثة فلا بأس وكذلك قال اسحق
ونحوه قال سعيد بن المسيب والثوري وأصحاب الرأي وغيرهم لا خلاف في أن ثوبا يجزئه وان
كفن في ثلاثة فلا بأس لأنه ذكر فأشبه الرجل.
(فصل) فإن لم يجد الرجل ثوبا يستر جميعه ستر رأسه وجعل على رجليه حشيشا أو ورقا كما
روي عن خباب أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شئ يكفن فيه الا نمرة فكنا إذا
330

وضعناها على رأسه خرجت رجلاء وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي
رأسه ونجعل على رجليه من الذخر رواه البخاري فإن لم يجد إلا ما يستر العورة سترها لأنها أهم في
الستر بدليل حالة الحياة فإن كثر القتلى وقلت الأكفان كفن الرجلان والثلاثة في الثوب الواحد كما
صنع بقتلى أحد، قال أنس كثرت قتلى أحد وقلت الثياب قال فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في
الثوب الواحد ثم يدفنون في قبر واحد قال الترمذي حديث أنس حديث حسن غريب
(مسألة) قال (وتجعل الذريرة في مفاصله ويجعل الطيب في مواضع السجود
والمغابن ويفعل به كما يفعل بالعروس)
الذريرة هي الطيب المسحوق ويستحب أن يجعل في مفاصل الميت ومغابنه وهي الموضع التي تثني من الانسان
كطي الركبتين وتحت الإبطين وأصول الفخذين لأنها موضع الوسخ ويتبع بإزالة الوسخ والدرن منها من
الحي وينبع بالطيب من المسك والكافور موضع السجود لأنها أعضاء شريفة ويفعل به كما يفعل بالعروس
لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم) وكان ابن عمر يتبع مغابن الميت
ومرافقه بالمسك، قال أحمد يخلط الكافور بالذريرة وقيل له يذر المسك على الميت أو يطلى به قال
لا يبالي قد روي عن ابن عمر أنه ذر عليه
وروي عنه أنه مسحه بالمسك مسحا، وابن سيرين طلا انسانا بالمسك من قرنه إلى قدمه وقال
إبراهيم النخعي يوضع الحنوط على أعظم السجود الجبهة والراحتين والركبتين وصدور القدمين
(مسألة) قال (ولا يجعل في عينيه كافورا)
إنما كره هذا لأنه يفسد العضو ويتلفه ولا يصنع مثله بالحي قال أحمد ما سمعنا إلا في المساجد
وحكي له عن ابن عمر أنه كان يفعل فأنكر أن يكون ابن عمر فعله وكره ذلك
(مسألة) قال (وان خرج منه شئ يسير بعد وضعه في أكفانه لم يعد إلى الغسل وحمل)
لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا والوجه في ذلك أن إعادة الغسل فيها مشقة شديدة لأنه يحتاج
331

إلى اخراجه وإعادة غسله وغسل أكفانه وتجفيفها أو ابدالها ثم لا يؤمن مثل هذا في المرة الثانية والثالثة
332

فسقط لذلك، ولا يحتاج أيضا إلى إعادة وضوءه ولاغسل موضع النجاسة دفعا لهذه المشقة، ويحمل بحاله
ويروي عن الشعبي أن ابنة له لما لفت في أكفانها بدا منها شئ فقال الشعبي ارفعوا فاما إن كان
333

الخارج كثيرا فاحشا فمفهوم كلام الخرقي هاهنا أنه يعاد غسله إن كان قبل تمام السبعة لأن الكثير
يتفاحش ويؤمن مثله في المرة الثانية لتحفظهم بالشد والتلجم ونحوه.
334

ورواه إسحاق بن منصور عن أحمد قال الخلال وخالفه أصحاب أبي عبد الله كلهم رووا عنه: لا يعاد
335

إلى الغسل بحال قال: والعمل على ما اتفق عليه لما ذكرنا من المشقة فيه، ويحتمل أن تحمل الروايتان على
336

حالتين فالموضع الذي قال لا يعاد غسله إذا كان يسيرا، ويخفي على المشيعين، والموضع الذي أمر
بإعادته إذا كان يظهر لهم ويفحش
337

(مسألة) قال (وان أحب أهله ان يروه لم يمنعوا)
وذلك لما روي عن جابر قال لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي والنبي صلى الله عليه وسلم
338

لا ينهاني، وقالت عائشة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع
339

تسيل وقالت أقبل أبو بكر فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه
340

فقبله ثم بكى فقال (بابي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين) وهذه أحاديث صحاح
(مسألة) قال (والمرأة تكفن في خمسة أثواب قميص ومئزر ولفافة ومقنعة وخامسة
تشد بها فخذاها)
قال ابن المنذر أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب وإنما استحب
ذلك لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته فكذلك بعد الموت
ولما كانت تلبس المخيط في احرامها وهو أكمل أحوال الحياة استحب الباسها إياه بعد موتها والرجل
341

بخلاف ذلك فافترقا في اللبس بعد الموت لافتراقهما فيه في الحياة واستويا في الغسل بعد الموت لاستوائهما
فيه في الحياة، وقد روى أبو داود باسناده عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت كنت فيمن غسل أم كلثوم
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم
الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر قالت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الباب معه كفنها يناولناها
ثوبا ثوبا إلا أن الخرقي إنما ذكر لفافة واحدة فعلى هذا تشد الخرقة على فخذيها أولا ثم تؤزر بالمئزر ثم
يلبس القميص ثم تخمر بالمقنعة ثم تلف بلفافة واحدة وقد أشار إليه أحمد فقال تخمر ويترك قدر ذراع
يسدل على وجهها ويسدل على فخذيها الحقو وسئل عن الحقو فقال هو الإزار قيل الخامسة قال خرقة
تشد على فخذيها قيل له قميص المرأة قال يخيط قيل يكف ويزر قال يكف ولا يزر عليها والذي عليه
أكثر أصحابنا وغيرهم أن الأثواب الخمسة إزار ودرع وخمار ولفافتان وهو الصحيح لحديث ليلى
الذي ذكرناه ولما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها إزارا ودرعا وخمارا وثوبين.
(فصل) قال المروذي سألت أبا عبد الله في كم تكفن الجارية إذا لم تبلغ؟ قال في لفافتين وقميص
لا خمار فيه وكفن ابن سيرين بنتا له قد أعصرت في قميص ولفافتين، وروى في بقير ولفافتين قال
أحمد البقير القميص الذي ليس له كمان ولان غير البالغ لا يلزمها ستر رأسها في الصلاة واختلفت الرواية
عن أحمد في الحد الذي تصير به في حكم المرأة في الكفن فروى عنه إذا بلغت وهو ظاهر كلامه في
342

رواية المروذي لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار، مفهومه أن غيرها لا تحتاج إلى
خمار في صلاتها فكذلك في كفنها ولان ابن سيرين كفن ابنته وقد أعصرت أي قاربت المحيض بغير
خمار، وروى عن أحمد أكثر أصحابه إذا كانت بنت تسع يصنع بها ما يصنع بالمرأة واحتج بحديث
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بها وهي بنت تسع سنين. وروى عنها أنها قالت إذا بلغت
الجارية تسعا فهي امرأة.
(فصل) قال أحمد لا يعجبني أن تكفن في شئ من الحرير وكره ذلك الحسن وابن المبارك
343

واسحق قال ابن المنذر ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وفي جواز تكفين المرأة بالحرير حتما لأن
344

أقيسهما الجواز لأنه من لباسها في حياتها لكن كرهناه لها لأنها خرجت عن كونها محلا للزينة والشهوة
345

وكذلك يكره تكفينها بالمعصفر ونحوه لذلك قال الأوزاعي لا يكفن الميت في الثياب المصبغة الا ما كان
من العصب يعني ما صبغ بالعصب وهو نبت ينبت باليمن.
346

(مسألة) قال (ويضفر شعرها ثلاثة ترون ويسدل من خلفها)
347

وجملة ذلك أن شعر الميتة يغسل وإن كان معقوصا نقض ثم غسل ثم ضفر ثلاثة قرون قرنيها
348

وناصيتها ويلقى من خلفها وبهذا قال الشافعي واسحق وابن المنذر وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي
349

لا يضفر ولكن يرسل مع خديها من بين يديها من الجانبين ثم يرسل عليه الخمار لأن ضفره يحتاج إلى
تسريحها فينقطع شعرها وينتف.
350

ولنا ما روت أم عطية قالت ضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه خلفها يعني بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
351

متفق عليه، ولمسلم فضفرنا شعرها ثلاثة قرون قرنيها وناصيتها وللبخاري جعلن رأس بنت رسول الله
352

صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه ثم جعلنه ثلاثة قرون وإنما غسلنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه
353

وفي حديث أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم (وأضفرن شعرها ثلاثة قرون قصة وقرنين
354

ولا تشبهنها بالرجال. فاما التسريح فكرهه أحمد وقال قالت عائشة علام تنصون ميتكم؟ قال يعنى
355

لا تسرحوا رأسه بالمشط ولان ذلك يقطع شعره وينتفه، وقد روي عن أم عطية قالت مشطناها
356

ثلاثة قرون متفق عليه، قال أحمد إنما ضفرن وأنكر المشط فكأنه تأول قولها مشطناها على أنها أرادت
357

ضفرناها لما ذكرناه والله أعلم.
358

(مسألة) قال (والمشي بالجنازة الاسراع)
لا خلاف بين الأئمة رحمهم الله في استحباب الاسراع بالجنازة وبه ورد النص وهو قول النبي
359

صلى الله عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وان كانت غير ذلك فشر تضعونه عن
رقابكم) متفق عليه، وعن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تبع الجنازة قال انبسطوا بها
ولا تدبوا دبيب اليهود بجنائزها) رواه أحمد في المسند واختلفوا في الاسراع المستحب فقال القاضي
المستحب اسراع لا يخرج عن المشي المعتاد وهو قول الشافعي، وقال أصحاب الرأي يخب ويرمل
لما روى أبو داود عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه، قال كنا في جنازة عثمان بن أبي العاص فكنا
نمشي مشيا خفيفا فلحقنا أبو بكر فرفع سوطه فقال لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نرمل رملا
ولنا ما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضا فقال عليه السلام (عليكم
بالقصد في جنائزكم) من المسند. وعن ابن مسعود قال سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي بالجنازة فقال (ما دون
الخبب) رواه أبو داود والترمذي وقال يرويه أبو ماجد وهو مجهول وقول النبي صلى الله عليه وسلم (انبسطوا بها
ولا تدبوا دبيب اليهود) يدل على أن المراد اسراع يخرج به عن شبه مشي اليهود بجنائزهم لأن
الاسراف في الاسراع يمخضها ويؤذي حامليها ومتبعيها ولا يؤمن على الميت وقد قال ابن عباس في
جنازة ميمونة لا تزلزلوا وارفقوا فإنها أمكم.
(فصل) واتباع الجنائز سنة قال البراء أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وهو على ثلاثة
أضرب أحدها أن يصلي عليها ثم ينصرف، قال زيد بن ثابت إذا صليت فقد قضيت الذي عليك
وقال أبو داود رأيت أحمد مالا أحصي صلى على جنائز ولم يتبعها إلى القبر ولم يستأذن (الثاني) أن يتبعها
إلى القبر ثم يقف حتى تدفن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط ومن شهدها
360

حتى تدفن كان له قيراطان. قيل وما القيرطان؟ قال مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، الثالث أن يقف
بعد الدفن فيستغفر له ويسأل الله له التثبيت ويدعو له بالرحمة فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا
دفن ميتا وقف وقال (استغفروا له واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسئل) رواه أبو داود، وقد
روي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها
(فصل) يستحب لمتبع الجنازة أن يكون متخشعا متفكرا في مآله متعظا بالموت وبما يصير إليه
الميت ولا يتحدث بأحاديث الدنيا ولا يضحك قال سعد بن معاذ: ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير
ما هو مفعول بها، ورأي بعض السلف رجلا يضحك في جنازة فقال أتضحك وأنت تتبع الجنازة، لا كلمتك أبدا
(مسألة) قال (والمشي أمامها أفضل)
أكثر أهل العلم يرون الفضيلة للماشي أن يكون إمام الجنازة روي ذلك أبي بكر وعمر وعثمان
وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة وأبي أسيد وعبيد بن عمير وشريح
والقاسم بن محمد وسالم والزهري ومالك والشافعي. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي: المشي خلفها أفضل
لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منها من تقدمها) وقال علي
رضي الله عنه فضل الماشي خلف الجنازة على الماشي قدامها كفضل المكتوبة على التطوع سمعته من
361

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنها متبوعة فيجب أن تقدم كالإمام في الصلاة، ولهذا قال في
الحديث الصحيح (من تبع جنازة)
ولنا ما روى ابن عمر قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه أبو داود
والترمذي وعن أنس نحوه، رواه ابن ماجة قال ابن المنذر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا
يمشون أمام الجنازة، وعن ابن عمر قال السنة في الجنازة أن يمشي أمامها وقال أبو صالح كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون أمام الجنازة، ولأنهم شفعاء له بدليل قوله عليه السلام (ما من ميت تصلي عليه
أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له الا شفعوا فيه) رواه مسلم وقال عليه السلام (ما من
أربعين من مؤمن يشفعون لمؤمن إلا شفعهم الله عز وجل) رواه ابن ماجة ولهذا يقولون في الدعاء له: اللهم
إنا جئناك شفعاء له فشفعنا فيه. والشفيع يتقدم المشفوع له، وحديث ابن مسعود يرويه أبو ماجد
وهو مجهول قيل ليحيى من أبو ماجد هذا؟ قال طائر طار قال الترمذي سمعت محمد بن إسماعيل يضعف
هذا الحديث، والحديث الآخر لم يذكره أصحاب السنن وقالوا هو ضعيف ثم نحمله على من تقدمها إلى
موضع الصلاة أو الدفن ولم يكن معها وقياسهم يبطل بسنة الصبح والظهر فإنها تابعة لهما وتتقدمهما في الوجود
(فصل) ويكره الركوب في اتباع الجنائز، قال ثوبان خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأي
ناسا ركبانا فقال (ألا تستحون؟ أن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب) رواه الترمذي
فإن ركب في جنازة فالسنة أن يكون خلفها، قال الخطابي في الراكب لا أعلمهم اختلفوا في أنه يكون
362

خلفها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن
يسارها قريبا منها) رواه أبو داود، وروي الترمذي نحوه، ولفظه (الراكب خلف الجنازة والماشي
حيث شاء منها والطفل يصلى عليه) وقال هذا حديث صحيح ولان سير الراكب أمامها يؤذي المشاة
لأنه موضع مشيهم على ما قدمناه، فأما الركوب في الرجوع منها فلا بأس به قال جابر بن سمرة إن
النبي صلى الله عليه وسلم، اتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس، رواه مسلم قال
الترمذي هذا حديث حسن.
(فصل) ويكره رفع الصوت عند الجنازة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، أن تتبع الجنازة بصوت، قال ابن
المنذر روينا عن قيس بن عباد أنه قال، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع
الصوت عند ثلاث: عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال، وذكر الحسن عن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أنهم كانوا يستحبون خفض الصوت عند ثلاث فذكر نحوه. وكره سعيد بن المسيب
وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وإمامنا وإسحق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له، وقال
الأوزاعي بدعة وقال عطاء محدثة وقال سعيد بن المسيب في مرضه إياي وحاديهم هذا الذي يحدو
لهم يقول استغفروا له غفر الله لكم، وقال فضيل بن عمرو، بينا ابن عمر في جنازة إذ سمع قائلا يقول
استغفروا له غفر الله لكم، فقال ابن عمر لا غفر الله لك، رواهما سعيد قال أحمد: ولا يقول خلف الجنازة
سلم رحمك الله فإنه بدعة ولكن يقول بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر
الله إذا تناول السرير.
363

(فصل) ومس الجنازة بالأيدي والاكمام والمناديل محدث مكروه ولا يؤمن معه فساد الميت
وقد منع العلماء مس القبر فمس الجسد مع خوف الاذي أولى بالمنع.
(فصل) ويكره اتباع الميت بنار، قال ابن المنذر يكره ذلك كل من يحفظ عنه، روي عن
ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن مغفل ومعقل بن يسار وأبي سعيد وعائشة وسعيد بن المسيب أنهم
وصوا ان لا يتبعوا بنار، وروى ابن ماجة ان أبا موسى حين حضره الموت قال: لا تتبعوني بمجمر قالوا
له أو سمعت فيه شيئا؟ قال نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أبو داود باسناده عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار) فإن دفن ليلا فاحتاجوا إلى ضوء فلا بأس به
إنما كره المجامر فيها البخور، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له
سراج، قال الترمذي هذا حديث حسن
(فصل) ويكره اتباع النساء الجنائز لما روي عن أم عطية قالت: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم
علينا متفق عليه، وكره ذلك ابن مسعود وابن عمر وأبو إمامة وعائشة ومسروق والحسن والنخعي
والأوزاعي وإسحق، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فإذا نسوة جلوس قال (ما يجلسكن؟
قلن ننتظر الجنازة، قال (هل تغسلن) قلن: لا، قال (هل تحملن) قلن: لا، قال (هل تدلين
فيمن يدلي) قلن: لا، قال (فارجعن مأزورات غير مأجورات) رواه ابن ماجة
364

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي فاطمة فقال (ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟) قالت
يا رسول الله: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به، قال لها رسول الله صلى الله
وعليه وسلم (فلعلك بلغت معهم الكدى) قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال
(لو بلغت معهم الكدى) (1) فذكر تشديدا رواه أبو داود
(فصل) فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه، فإن قدر على إنكاره وازالته أزاله، وإن
لم يقدر على إزالته ففيه وجهان: أحدهما ينكره ويتبعها فيسقط فرضه بالانكار ولا يترك حقا لباطل
(والثاني) يرجع لأنه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك وأصل هذا في الغسل
فإن فيه روايتين فيخرج في اتباعها وجهان
(مسألة) قال (والتربيع أن يوضع على الكتف اليمنى إلى الرجل، ثم الكتف
اليسرى إلى الرجل)
التربيع هو الاخذ بجوانب السرير الأربع وهو سنة في حمل الجنازة لقول ابن مسعود: إذا اتبع
أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة. رواه سعيد في
سننه، وهذا يقضي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفة التربيع المسنون أن يبدأ فيضع قائمة السرير
اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم يضع القائمة اليسرى من عند الرجل على الكتف
اليمنى ثم يعود أيضا إلى القائمة اليمنى من عند رأس الميت فيضعها على كتفه اليسرى، ثم ينتقل إلى
اليمنى من عند رجليه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وعن أحمد رحمه الله أنه يدور عليها فيأخذ
بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة، ثم المقدمة وهو مذهب إسحاق وروي عن ابن مسعود
وابن عمر وسعيد بن جبير وأيوب ولأنه أخف، ووجه الأول أنه أحد الجانبين، فينبغي أن
يبدأ فيه بمقدمه كالأول. فأما الحمل بين العمودين فقال ابن المنذر: روينا عن عثمان وسعيد
ابن مالك وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير أنهم حملوا بنى عمودي السرير، وقال به
الشافعي واحمد وأبو ثور وابن المنذر، وكرهه النخعي والحسن وأبو حنيفة وإسحاق، والصحيح
الأول لأن الصحابة رحمة الله عليهم قد فعلوه وفيهم أسوة حسنة. وقال مالك: ليس في حمل الميت

(1) حذف أبو داود التشديد أدبا مع الزهراء عليها وذكره غيره للعبرة به وترجيح تبليغ الشرع بنصه وفيه مبالغة في حظر خروج النساء إلى الكدى وهي المقابر يجعل جزاءه كجراء الكفر وهو يدل على التحريم لا كراهة التنزيه
365

توقيت يحمل من حيث شاء، ونحوه قال الأوزاعي. واتباع الصحابة رضي الله عنهم فيما
فعلوه وقالوه أحسن وأولى
(فصل) إذا مرت به جنازة لم يستحب له القيام لها لقول علي رضي الله عنه: قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم قعد. رواه مسلم، وقال اسحق معنى قول علي يقول: كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا رأى جنازة قام ثم ترك ذلك بعد. قال احمد: إن قام لم أعبه وأن قعد فلا بأس. وذكر
ابن أبي موسى والقاضي أن القيام مستحب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا رأى أحدكم
الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه) رواه مسلم، وقد ذكرنا أن آخر الامرين من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ترك القيام لها والاخذ بالآخر من أمره أولى، وقد روي في حديث أن يهوديا رآى النبي
صلى الله عليه وسلم قام للجنازة، فقال يا محمد: هكذا نصنع فترك النبي صلى الله عليه وسلم القيام لها
(فصل) ومن يتبع الجنازة استحب له أن لا يجلس حتى توضع، وممن رأى أن لا يجلس حتى
توضع عن أعناق الرجال الحسن بن علي وابن عمر وأبو هريرة وابن الزبير والنخعي والشعبي والأوزاعي
واسحق، ووجه ذلك ما روى مسلم باسناده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع) ورأي الشافعي أن هذا منسوخ بحديث علي، ولا يصح
لأن قول علي يحتمل ما ذكره اسحق والسبب الذي ذكرناه فيه، وليس في اللفظ عموم فيعم الامرين
جميعا فلم يجز النسخ بأمر محتمل، ولان قول علي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد يدل على
ابتداء فعل القيام وهاهنا إنما وجدت منه الاستدامة، إذا ثبت هذا فأظهر الروايتين عن أحمد
أنه أريد بالوضع وضعها عن أعناق الرجال وهو قول من ذكرنا من قبل
وقد روى الثوري الحديث (إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع بالأرض) ورواه أبو
معاوية (حتى توضع في اللحد) وحديث سفيان أصح، فأما من تقدم الجنازة فلا بأس أن يجلس قبل
أن تنتهي إليه. قال الترمذي: روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم
كانوا يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم، فإذا جاءت الجنازة لم يقوموا لها لما تقدم
(مسألة) قال (وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى له أن يصلي عليه)
هذا مذهب أنس وزيد بن أرقم وأبي برزة وسعيد بن زيد وأم سلمة وابن سيرين. وقال
الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي: الولي أحق لأنها ولاية تترتب بترتب العصبات فالولي
فيها أولى كولاية النكاح
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم روي أن أبا بكر أوصي أن يصلي عليه عمر قاله احمد قال وعمر
366

أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة
أوصى أن يصلي عليه أبو برزة، وقال غيره عائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود
أوصى أن يصلي عليه الزبير، ويونس ابن جبير أوصى أن يصلى عليه أنس بن مالك، وأبو سريحة
أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم فيصلي عليه،
فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيدا. فهذه قضايا انتشرت
فلم يظهر مخالف فكان اجماعا (1) ولأنه حق للميت فإنها شفاعة له، فتقدم وصيته فيها كتفريق
ثلثه، وولاية النكاح يقدم فيها الوصي أيضا فهي كمسئلتنا وإن سلمت فليست حقا له إنما هي
حق للمولى عليه، ثم الفرق بينهما أن الأمير يقدم في الصلاة بخلاف ولاية النكاح، ولان الغرض في
الصلاة الدعاء والشفاعة إلى الله عز وجل فالميت يختار لذلك من هو أظهر صلاحا، وأقرب إجابة
في الظاهر بخلاف ولاية النكاح
(فصل) فإن كان الوصي فاسقا أو مبتدعا لم تقبل الوصية لأن الموصي جهل الشرع
فرددنا وصيته كما لو كان الوصي ذميا، فإن كان الأقرب إليه كذلك لم يقدم وصلى غيره كما يمنع من
التقديم في الصلوات الخمس
(مسألة) قال (ثم الأمير)
أكثر أهل العلم يرون تقديم الأمير على الأقارب في الصلاة على الميت: وقال الشافعي في أحد
قوليه: يقدم الولي قياسا على تقديمه في النكاح بجامع اعتبار ترتيب العصبات وهو خلاف قول النبي
صلى الله عليه وسلم (لا يؤم الرجل في سلطانه) وحكى أبو حازم قال: شهدت حسينا حين مات الحسن وهو
يدفع في قفا سعيد بن العاص ويقول: تقدم لولا السنة ما قدمتك وسعيد أمير المدينة، وهذا يقتضي سنة
النبي صلى الله عليه وسلم وروي الإمام أحمد باسناده عن عمار مولى بني هاشم قال: شهدت جنازة أم كلثوم بنت علي
وزيد بن عمر فصلى عليها سعيد بن العاص وكان أمير المدينة وخلفه يومئذ ثمانون من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر والحسن والحسين وسمي في موضع اخر زيد بن ثابت وأبا هريرة. وقال علي
رضي الله عنه: الإمام أحق من صلى على الجنازة، وعن ابن مسعود نحو ذلك وهذا اشتهر فلم ينكر
فكان اجماعا، ولأنها صلاة شرعت فيها الجماعة فكان الإمام أحق بالإمامة فيها كسائر الصلوات،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز مع حضور أقاربها والخلفاء بعده ولم ينقل إلينا
أنهم استأذنوا أولياء الميت في التقديم عليها

(1) أي اجماعا سكوتيا حمل الشافعية هذه الوقائع على إجازة أولياء الميت للوصية ولو يجيزوها لما صحت عندهم
367

(فصل) والأمير هاهنا الإمام، فإن لم يكن فالأمير من قبله، فإن لم يكن فالنائب من قبله في
الإمامة، فإن الحسين قدم سعيد بن العاص وإنما كان أميرا من قبل معاوية فإن لم يكن فالحاكم
(مسألة) قال (ثم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة)
الصحيح في المذهب ما ذكره الخرقي في أن أولى الناس بعد الأمير الأب، ثم الجد أبو الأب وإن
علا، ثم الابن ثم ابنه وإن نزل، ثم الأخ الذي هو عصبة ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، وقال
أبو بكر: إذا اجتمع جد وأخ ففيه قولان، وحكي عن مالك أن الابن أحق من الأب لأنه أقوى
تعصيبا منه بدليل الإرث، والأخ أولى من الجد لأنه يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة
ولنا أنهما استويا في الادلاء لأن كل واحد منهما يدلي بنفسه والأب أرأف وأشفق ودعاؤه
لابنه أقرب إلى الإجابة فكان أولى كالقريب مع البعيد إذا كان المقصود الدعاء للميت
والشفاعة له بخلاف الميراث
(فصل) وإن اجتمع زوج المرأة وعصباتها فظاهر كلام الخرقي تقديم العصبات وهو أكثر
الروايات عن أحمد، وقول سعيد بن المسيب والزهري وبكير بن الأشج ومذهب أبي حنيفة ومالك
والشافعي إلا أن أبا حنيفة يقدم زوج المرأة على ابنها منه، وروي عن أحمد تقديم الزوج على العصبات
لأن أبا بكرة صلى على امرأته ولم يستأذن إخوتها، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وعطاء وعمر
ابن عبد العزيز واسحق ولأنه أحق بالغسل فكان أحق بالصلاة كمحل الوفاق
ولنا أنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل امرأته: أنتم أحق بها. ولان الزوج قد
زالت زوجيته بالموت فصار أجنبيا والقرابة لم تزل، فعلى هذه الرواية إن لم يكن لها عصبات فالزوج
أولى لأن له سببا وشفقة فكان أولى من الأجنبي
(فصل) فإن اجتمع أخ من الأبوين وأخ من أب ففي تقديم الأخ من الأبوين أو التسوية وجهان
أخذا من الروايتين في ولاية النكاح والحكم في أولادهما وفي الأعمام وأولادهم كالحكم فيهما سواء،
فإن انقرض العصبة من النسب فالمولى المنعم، ثم أقرب عصباته، ثم الرجل من ذوي أرحامه
الأقرب فالأقرب ثم الأجانب
(فصل) فإن استوى وليان في درجة واحدة فأولاهما أحقهما بالإمامة في المكتوبات لعموم
قول النبي صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) قال القاضي: ويحتمل أن يقدم له
الاسن لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء وأعظم عند الله قدرا وهذا ظاهر مذهب الشافعي والأول أولى
وفضيلة السن معارضة بفضيلة العلم وقد رجحها الشارع في ساير الصلوات مع أنه يقصد فيها إجابة الدعاء
368

والحظ للمأمومين، وقد روي عنه عليه السلام أنه قال (أئمتكم شفعاؤكم) ولا نسلم أن الاسن
الجاهل أعظم قدرا من العالم ولا أقرب إجابة، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم كما في سائر الصلوات
(فصل) ومن قدمه الولي فهو بمنزلته لأنها ولاية تثبت له فكانت له الاستنابة فيها ويقدم نائبه
فيها على غيره كولاية النكاح
(فصل) والحر البعيد أولى من العبد القريب لأن العبد لا ولاية له ولهذا لا يلي في النكاح ولا
المال، فإن اجتمع صبي ومملوك ونساء فالمملوك أولى لأنه تصح إمامته بهما، فإن لم يكن إلا نساء
وصبيان فقياس المذهب أنه لا يصح أن يؤم أحد الجنسين الآخر ويصلي كل نوع لأنفسهم وإمامهم
منهم، ويصلي النساء جماعة إمامتهن في وسطهن نص عليه احمد، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي
يصلين منفردات لا يسبق بعضهن بعضا، وإن صلين جماعة جاز
ولنا أنهن من أهل الجماعة فيصلين جماعة كالرجال، وما ذكروه من كونهن منفردات لا يسبق
بعضهن بعضا تحكم لا يصار إليه إلا بنص أو اجماع، وقد صلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على
سعد بن أبي وقاص. رواه مسلم
(فصل) فإن اجتمع جنائز فتشاح أولياؤهم فيمن يتقدم للصلاة عليهم قدم أولاهم بالإمامة في
الفرائض. وقال القاضي: يقدم السابق يعني من سبق ميته
ولنا أنهم تساووا فأشبهوا لأولياء إذا تساووا في الدرجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم
لكتاب الله) وإن أراد ولي كل ميت أفراد ميته بصلاة جاز
(مسألة) قال (والصلاة عليه: يكبر ويقرأ الحمد)
وجملة ذلك أن سنة التكبير على الجنازة أربع لا تسن الزيادة عليها ولا يجوز النقص منها
فيكبر الأولى ثم يستعيذ ويقرأ الحمد يبدؤها ببسم الله الرحمن الرحيم ولا يسن الاستفتاح.
قال أبو داود سمعت احمد يسأل عن الرجل يستفتح الصلاة على الجنازة بسبحانك اللهم وبحمدك،
قال ما سمعت. قال ابن المنذر: كان الثوري يستحب أن يستفتح في صلاة الجنازة ولم نجده في
كتب سائر أهل العلم، وقد روي عن أحمد مثل قول الثوري لأن الاستعاذة فيها مشروعة فسن
فيها الاستفتاح كسائر الصلوات
ولنا أن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف ولهذا لا يقرأ فيها بعد الفاتحة بشئ وليس فيها
ركوع ولا سجود، والتعوذ سنة للقراءة مطلقا في الصلاة وغيرها لقول الله تعالى (فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) إذا ثبت هذا فإن قراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة،
369

وبهذا قال الشافعي واسحق وروي ذلك عن ابن عباس، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة:
لا يقرأ فيها بشئ من القرآن لأن ابن مسعود قال: ان النبي صلى الله عليه وسلم يوقت فيها قولا ولا قراءة، ولان
ما لا ركوع فيه لا قراءة فيه كسجود التلاوة
ولنا أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال إنه من السنة أو من تمام السنة
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروي ابن ماجة باسناده عن أم شريك قالت: أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وروي الشافعي في مسنده باسناده
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعا وقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى
ثم هو داخل في عموم قوله عليه السلام (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) ولأنها صلاة يجب فيها
القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصلوات، وإن صح ما رووه عن ابن مسعود فإنما قال لم يوقت أي
لم يقدر، ولا يدل هذا على نفي أصل القراءة، وقد روي ابن المنذر عنه أنه قرأ على جنازة بفاتحة
الكتاب، ثم لا يعارض ما رويناه لأنه نفي يقدم عليه الاثبات ويفارق سجود التلاوة فإنه لا قيام فيه
والقراءة إنما محلها القيام
(فصل) ويسر القراءة والدعاء في صلاة الجنازة لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافا ولا يقرأ بعد
أم القرآن شيئا، وقد روي عن ابن عباس أنه جهر بفاتحة الكتاب قال أحمد إنما جهر ليعلمهم
(مسألة) قال (ويكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي
عليه في التشهد)
هكذا وصف أحمد الصلاة على الميت كما ذكر الخرقي وهو مذهب الشافعي وروي عن ابن
عباس انه صلى على جنازة بمكة فكبر ثم قرأ وجهر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا لصاحبها. فأحسن
ثم انصرف. وقال هكذا ينبغي أن تكون الصلاة على الجنازة. وروي الشافعي في مسنده عن أبي
أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر
الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبير الأولى يقرأ في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص
الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شئ منهن ثم يسلم سرا في نفسه وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
كصفة الصلاة عليه في التشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه كيف نصلي عليك علمهم ذلك وإن أتى بها على
غير ما ذكر في التشهد فلا بأس لأن القصد مطلق الصلاة، قال القاضي يقول: اللهم صلى على ملائكتك
370

المقربين وأنبيائك المرسلين وأهل طاعتك أجمعين من أهل السماوات وأهل الأرضين، إنك على كل
شئ قدير. لأن أحمد قال في رواية عبد الله يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي على الملائكة المقربين.
(مسألة) قال (ويكبر الثالثة ويدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين ويدعو للميت)
وإن أحب أن يقول اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا
أنك تعلم منقلبنا ومثوانا. إنك على كل شئ قدير. اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته
فتوفه على الايمان. اللهم إنه عبدك ابن أمتك نزل بك وأنت خير منزول به ولا نعلم إلا خيرا. اللهم
إن كان محسنا فجازه باحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.
والواجب أدنى دعاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود
وهذا يحصل بأدنى دعاء ولان المقصود الشفاعة للميت والدعاء له فيجب أقل ذلك، ويستحب أن
يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين قال أحمد وليس على الميت دعاء موقت، والذي ذكره الخرقي حسن
يجمع ذلك، وقد روي أكثره في الحديث فمن ذلك ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال. اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا
وذكرنا وأنثانا) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي إبراهيم وزاد (اللهم من أحييته منا فأحيه على الايمان، ومن توفيته منا فتوفه على
الاسلام، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده) وفي حديث آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم (اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للاسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها
جئنا شفعاء فاغفر له) رواه أبو داود. وروي مسلم باسناده عن عوف بن مالك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأوسع
مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا
خيرا من داره وأهلا خيرا من أهل وزوجا خيرا من زوجه، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)
حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت
(فصل) زاد أبو الخطاب على ما ذكره الخرقي. اللهم جئناك شفعاء له فشفعنا فيه وقه فتنة القبر
وعذاب النار وأكرم مثواه وأبدله دارا خيرا من داره وجوارا خيرا من جواره وافعل بنا ذلك
وبجميع المسلمين. وزاد ابن أبي موسى: الحمد لله الذي أمات وأحيا، الحمد لله الذي يحيى الموتى له
العظمة والكبرياء، والملك والقدرة والثناء وهو على كل شئ قدير. اللهم إنه عبدك ابن عبدك ابن
أمتك أنت خلقته ورزقته وأنت أمته وأنت تحييه وأن تعلم سره جئناك شفعاء له فشفعنا فيه. اللهم إنا
371

نستجير بحبل جوارك له إنك ذو وفاء وذمة، اللهم وقه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم. اللهم إن كان
محسنا فجازه باحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه. اللهم قد نزل بك وأنت خير منزول به فقيرا إلى
رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم ثبت عند المسألة منطقه ولا تبتله في قبره. اللهم لا تحرمنا
أجره، ولا تفتنا بعده)
(فصل) وقوله لا نعلم إلا خيرا إنما يقوله لمن لم يعلم منه شرا لئلا يكون كاذبا، وقد روى
القاضي حديثا عن عبد الله بن الحارث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم الصلاة على الميت
(اللهم اغفر لاحيائنا وأمواتنا وصغيرنا وكبيرنا وشاهدنا وغائبنا. اللهم ان عبدك وابن عبدك نزل
بفنائك فاغفر له وارحمه ولا نعلم إلا خيرا) فقلت وأنا أصغر الجماعة يا رسول الله وان لم أعلم خيرا قال
(لا تقل الا ما تعلم) وإنما شرع هذا للخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما أثني عنده على جنازة بخير
قال وجبت، وأثنى على أخرى بشر فقال وجبت ثم قال (إن بعضكم على بعض شهيد) رواه أبو داود
متفق عليه. وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من عبد مسلم يموت يشهد له اثنان
من جيرانه الادنين بخير الا قال الله تعالى قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما أعلم)
رواه الإمام أحمد في المسند. وفي لفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من مسلم يموت فيقوم
رجلان من جيرانه الادنين فيقولان اللهم لا نعلم إلا خيرا الا قال الله تعالى قد قبلت شهادتهما لعبدي
وغفرت له ما لا يعلمان) أخرجه اللالكائي
(فصل) وإن كان الميت طفلا جعل مكان الاستغفار له: اللهم اجعله فرطا لوالديه وذخرا وسلفا
وأجرا، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما. اللهم اجعله في كفالة إبراهيم، وألحقه بصالح سلف
المؤمنين، وأجره برحمتك من عذاب الجحيم، وابدله دارا خيرا من داره، وأملا خيرا من أهله،
اللهم اغفر لاسلافنا وافراطنا ومن سبقنا بالايمان. ونحو ذلك وبأي شئ دعا مما ذكرنا أو نحوه
أجزأه وليس فيه شئ موقت.
(مسألة) قال (ويكبر الرابعة ويقف قليلا)
ظاهر كلام الخرقي انه لا يدعو بعد الرابعة شيئا ونقله عن أحمد جماعة من أصحابه وقال لا أعلم
فيه شيئا لأنه لو كان فيه دعاء مشروع لنقل، وروي عن أحمد انه يدعو ثم يسلم لأنه قيام في صلاة
فكان فيه ذكر مشروع كالذي قبل التكبيرة الرابعة. قال ابن أبي موسى وأبو الخطاب يقول: ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وقيل يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا
372

تفتنا بعده. وهذا الخلاف في استحبابه، ولا خلاف في المذهب انه غير واجب. وان الوقوف بعد
التكبير قليلا مشروع، وقد روى الجوزجاني باسناده عن زيد بن أرقم ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يكبر أربعا ثم يقول ما شاء الله ثم ينصرف. قال الجوزجاني وكنت أحسب ان هذه
الوقفة ليكبر آخر الصفوف، فإن الإمام إذا كبر ثم سلم خفت أن يكون تسليمه قبل أن يكبر آخر
الصفوف، فإن كان هكذا فالله عز وجل الموفق له، وإن غير ذلك فاني أبرأ إلى الله عز وجل من
أن أتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا لم يرده أو أراد خلافه
(مسألة) قال (ويرفع يديه في كل تكبيرة)
أجمع أهل العلم على أن المصلي على الجنائز يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها، وكان ابن عمر
يرفع يديه في كل تكبيرة وبه قال سالم وعمر بن عبد العزيز وعطاء وقيس بن أبي حازم والزهري
وإسحق وابن المنذر والأوزاعي والشافعي، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة لا يرفع يديه إلا في
الأولى لأن كل تكبيرة مقام ركعة، ولا ترفع الأيدي في جميع الركعات
ولنا ما روي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في كل تكبيرة رواه
ابن أبي موسى. وعن ابن عمر وأنس انهما كانا يفعلان ذلك ولأنها تكبيرة حال الاستقرار أشبهت الأولى، وما ذكروه غير مسلم، فإذا رفع يديه فإنه يحطهما عند انقضاء التكبير ويضع اليمنى على
اليسرى كما في بقية الصلوات. وفيما روى ابن أبي موسى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
على جنازة فوضع يمينه على شماله
(مسألة) قال (ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه)
السنة أن يسلم على الجنازة تسليمة واحدة. قال رحمه الله: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة
عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم، وروي تسليمة واحدة عن علي
وابن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة وأنس بن مالك وابن أبي أوفي وواثلة بن الأسقع وبه
قال سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وأبو أمامة بن سهل والقاسم بن محمد والحارث وإبراهيم
النخعي والثوري وابن عيينة وابن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وإسحق. وقال ابن المبارك: من
سلم على الجنازة تسليمتين فهو جاهل جاهل واختار القاضي ان المستحب تسليمتان وتسليمة واحدة
تجزى وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي قياسا على سائر الصلوات
ولنا ما روي عطاء بن السائب ان النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الجنازة تسليمة. رواه الجوزجاني
373

باسناده وانه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا. قال أحمد
ليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم، قال الجوزجاني: هذا عندنا لا اختلاف فيه لأن الاختلاف
إنما يكون بين الاقران والاشكال، أما إذا أجمع الناس واتفقت الرواية عن الصحابة والتابعين فشذ
عنهم رجل لم يقل لهذا اختلاف، واختيار القاضي في هذه المسألة مخالف لقول إمامه وأصحابه وإجماع
الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. إذا ثبت هذان فإن المستحب أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه،
وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس. قال أحمد يسلم تسليمة واحدة، وسئل يسلم تلقاء وجهه؟ قال كل هذا وأكثر ما روي فيه عن يمينه. قيل خفية؟ قال نعم. يعني أن الكل جائز، والتسليم عن يمينه أولى
لأنه أكثر ما روي وهو أشبه بالتسليم في سائر الصلوات. قال أحمد يقول: السلام عليكم ورحمة الله
وروي عنه علي بن سعيد أنه قال: إذا قال السلام عليكم أجزأه، وروي الخلال باسناده عن علي
ابن أبي طالب رضي الله عنه انه صلى على يزيد بن المكلف فسلم واحدة عن يمينه: السلام عليكم
(فصل) روي عن مجاهد أنه قال: إذا صليت فلا تبرح مصلاك حتى ترفع، قال ورأيت
عبد الله بن عمر لا يبرح مصلاه إذا صلى على جنازة حتى يراها على أيدي الرجال. قال الأوزاعي:
لا تنقض الصفوف حتى ترفع الجنازة
(فصل) والواجب في صلاة الجنازة النية والتكبيرات والقيام وقراءة الفاتحة والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم وأدنى دعاء للميت وتسليمة واحدة، ويشترط لها شرائط المكتوبة إلا الوقت،
وتسقط بعض واجباتها عن المسبوق على ما سنبين، ولا يجوز أن يصلى على الجنائز وهو راكب لأنه
يفوت القيام الواجب وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأبي ثور ولا أعلم فيه خلافا
(فصل) ويستحب أن يصف في الصلاة على الجنائز ثلاثة صفوف لما روي عن مالك بن هبيرة
حمصي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد
أوجب) قال فكان مالك بن هبيرة إذا استقل أهل الجنازة جزاهم ثلاثة أجزاء رواه الخلال باسناده
وقال الترمذي هذا حديث حسن. قال أحمد أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. قالوا
فإن كان وراءه أربعة كيف يجعلهم؟ قال يجعلهم صفين في كل صف رجلين. وكره أن يكونوا ثلاثة
فيكون في صف رجل واحد. وذكر ابن عقيل ان عطاء بن أبي رباح روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى على جنازة فكانوا سبعة فجعل الصف الأول ثلاثة والثاني اثنين والثالث واحدا، قال
ابن عقيل ويعايا بها فيقال أين تجدون فذا انفراده أفضل؟ ولا أحسب هذا الحديث صحيحا فإنني
374

لم أره في غير كتاب ابن عقيل، وأحمد قد صار إلى خلافه، وكره أن يكون الواحد صفا، ولو علم
أحمد في هذا حديثا لم يعده إلى غيره. والصحيح في هذا أن يجعل كل اثنين صفا
(فصل) ويستحب تسوية الصف في الصلاة على الجنازة نص عليه أحمد، وقيل لعطاء أخذ
على الناس أن يصفوا على الجنازة كما يصفون في الصلاة؟ قال لا، قوم يدعون ويستغفرون. ولم يعجب
أحمد قول عطاء هذا وقال يسوون صفوفهم فإنها صلاة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي
في اليوم الذي مات فيه وخرج إلى المصلي فصف بهم وكبر أربعا متفق عليه. وروي عن أبي المليح
أنه صلى على جنازة فالتفت فقال استووا لتحسن شفاعتكم
(فصل) ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إذا لم يخف تلويثه وبهذا قال الشافعي واسحق
وأبو ثور وداود وكره ذلك مالك وأبو حنيفة لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من صلى
على جنازة في المسجد فلا شئ له) من المسند
ولنا ما روى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، وقال سعيد حدثنا مالك عن سالم أبي النضر قال لما مات سعد بن
أبي وقاص قالت عائشة رضي الله عنها مروا به علي حتى ادعو له فأنكر الناس ذلك فقالت ما أسرع
ما نسي الناس! ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، وقال حدثنا
عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه قال صلى على أبي بكر في المسجد، وقال حدثنا مالك
عن نافع عن ابن عمر قال صلي على عمر في المسجد وهذا كان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم
ينكر فكان اجماعا ولأنها صلاة فلم يمنع منها كسائر الصلوات وحديثهم يرويه صالح مولى التوأمة قال
ابن عبد البر: من أهل العلم من لا يقبل من حديثه شيئا لضعفه لأنه اختلط ومنهم من يقبل منه ما رواه عن
ابن أبي ذئب خاصة. ثم يحمل على من خيف عليه الانفجار وتلويث المسجد
(فصل) فأما الصلاة على الجنازة في المقبرة فعن أحمد فيها روايتان إحداهما لا بأس بها لأن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وهو في المقبرة، قال ابن المنذر ذكر نافع أنه صلي على عائشة
وأم سلمة وسط قبور البقيع صلى على عائشة أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر وفعل ذلك عمر بن عبد العزيز
والرواية الثانية: يكره ذلك روي ذلك عن علي وعبد الله بن عمر وابن العاص وابن عباس وبه قال
عطاء والنخعي والشافعي وإسحق وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الأرض كلها مسجد
إلا المقبرة والحمام) ولأنه ليس بموضع للصلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمام
(مسألة) قال (ومن فاته شئ من التكبير قضاه متتابعا فإن سلم مع الإمام ولم
يقض فلا بأس)
375

وجملة ذلك أن المسبوق بتكبير الصلاة في الجنازة يسن له قضاء ما فاته منها، وممن قال يقضي
ما فاته سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين وقتادة ومالك والثوري والشافعي
وإسحق وأصحاب الرأي فإن سلم قبل القضاء فلا بأس هذا قول ابن عمر والحسن وأيوب السختياني
والأوزاعي قالوا لا يقض ما فات من تكبير الجنازة قال أحمد إذا لم يقض لم يبال. العمري عن نافع عن
ابن عمر أنه لا يقضي وإن كبر متتابعا فلا بأس كذا قال إبراهيم، وقال أيضا يبادر بالتكبير قبل أن
يرفع وقال أبو الخطاب إن سلم قبل أن يقضيه فهل تصح صلاته؟ على روايتين، إحداهما لا تصح وهو
مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لقوله عليه السلام (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) وفي
لفظ (فاقضوا) وقياسا على سائر الصلوات.
ولنا قول ابن عمر ولم يعرف له في الصحابة مخالف، وقد روي عن عائشة أنها قالت يا رسول
الله اني أصلي على الجنازة ويخفي علي بعض التكبير قال (ما سمعت فكبري وما فاتك فلا قضاء عليك)
وهذا صريح، ولأنها تكبيرات متواليات حال القيام فلم يجب قضاء ما فاته منها كتكبيرات العيد، وحديثهم
ورد في الصلوات الخمس بدليل قوله في صدر الحديث (ولا تأتوها وأنتم تسعون) وروي أنه سعى
في جنازة سعد حتى سقط رداؤه عن منكبيه فعلم أنه لم يرد بالحديث هذه الصلاة ثم الحديث الذي رويناه
أخص منه فيجب تقديمه والقياس على سائر الصلوات لا يصح لأنه لا يقضي في شئ من الصلوات
التكبير المنفرد، ثم يبطل بتكبيرات العيد، إذا ثبت هذا فإنه متى قضى أتى بالتكبير متواليا لا ذكر معه
كذلك قال أحمد وحكاه عن إبراهيم قال يبادر بالتكبير متتابعا وان لم يرفع قضى ما فاته، وإذا أدرك
الإمام في الدعاء على الميت تابعه فيه فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة ثم كبر وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم
وكبر وسلم، وقال الشافعي متى دخل المسبوق في الصلاة ابتدأ الفاتحة ثم أتى بالصلاة في الثانية. ووجه
الأول أن المسبوق في سائر الصلوات يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة على صفة ما فاته فينبغي أن يأتي
هاهنا بالقراءة على صفة ما فاته والله أعلم
(فصل) قال وإذا أدرك الإمام فيما بين تكبيرتين فعن أحمد أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه
وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحق لأن التكبيرات كالركعات، ثم لو فاتته ركعة لم يتشاغل بقضائها
كذلك إذا فاتته تكبيرة، والثانية يكبر ولا ينتظر وهو قول الشافعي لأنه في سائر الصلوات متى أدرك
الإمام كبر معه ولم ينتظر وليس هذا اشتغالا بقضاء ما فاته وإنما يصلي معه ما أدركه فيجزيه ذلك كالذي
يكبر عقيب تكبير الإمام أو يتأخر عن ذلك قليلا. وعن مالك كالروايتين، قال ابن المنذر سهل أحمد
في القولين جمعيا. ومتى أدرك الإمام في التكبيرة الأولى فكبر وشرع في القراءة ثم كبر الإمام قبل أن
يتمها فإنه يكبر ويتابعه ويقطع القراءة كالمسبوق في بقية الصلوات إذا ركع الإمام قبل اتمام القراءة
376

(مسألة) قال (ويدخل قبره من عند رجليه إن كان أسهل عليهم)
الضمير في قوله رجليه يعود إلى القبر أي من عند موضع الرجلين وذلك أن المستحب أن يوضع
رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل سلا إلى القبر، روي ذلك عن ابن عمر وأنس وعبد الله بن
يزيد الأنصاري والنخعي والشعبي والشافعي، وقال أبو حنيفة توضع الجنازة على جانب القبر مما يلي
القبلة ثم يدخل القبر معترضا لأنه يروي عن علي رضي الله عنه، ولان النخعي، قال حدثني من رأى
أهل المدينة في الزمن الأول يدخلون موتاهم من قبل القبلة وأن السل شئ أحدثه أهل المدينة
ولنا ما روى الإمام أحمد باسناده عن عبد الله بن يزيد الأنصاري أن الحارث أوصي أن يليه عند
موته فصلى عليه ثم دخل القبر فأدخله من رجلي القبر وقال هذا السنة، وهذا يقتضي سنة النبي صلى
الله عليه وسلم، وروي ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا وما ذكر عن
النخعي لا يصح لأن مذهبه بخلافه ولأنه لا يجوز على العدد الكثير أن يغيروا سنة ظاهرة في الدفن
إلا بسبب ظاهر أو سلطان قاهر، قال ولم ينقل من ذلك شئ، ولو ثبت فسنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة على فعل
أهل المدينة وإن كان الأسهل عليهم أخذه من قبل القبلة أو من رأس القبر فلا حرج فيه لأن استحباب
أخذه من رجلي القبر إنما كان طلبا للسهولة عليهم والرفق بهم فإن كان الأسهل غيره كان مستحبا قال
أحمد رحمه الله كل لا باس به
(فصل) قال أحمد رحمه الله يعمق القبر إلى الصدر الرجل والمرأة في ذلك سواء. كان الحسن
377

وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر، وقال سعيد حدثنا إسماعيل بن عياش عن
عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة ولا يعمقوا فإن
ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها، وذكر أبو الخطاب أنه يستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة
وهو قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (احفروا وأوسعوا وأعمقوا) رواه أبو داود، ولان ابن عمر
أوصى بذلك في قبره، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع وأبعد على من ينبشه والمنصوص عن أحمد أن
المستحب تعميقه إلى الصدر لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة وقول النبي صلى
الله عليه وسلم (أعمقوا) ليس فيه بيان لقدر التعميق ولم يصح عن ابن عمر أنه أوصى بذلك في قبره
ولو صح عند أبي عبد الله لم يعده إلى غيره. إذا ثبت هذا فإنه يستحب تحسينه وتعميقه وتوسيعه للخبر
وقد روي زيد بن أسلم قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي قبر فقال اصنعوا كذا اصنعوا كذا ثم قال
(ما بي أن يكون يغني عنه شيئا ولكن الله يحب إذا عمل العمل أن يحكم) قال معمر وبلغني أنه قال
(ولكنه أطيب لانفس أهله) رواه عبد الرزاق في كتاب الجنائز
378

(فصل) والسنة أن يلحد قبر الميت كما صنع بقبر النبي صلى الله عليه وسلم. قال سعد بن أبي وقاص:
ألحدوا لي لحد أو انصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم. ومعنى
اللحد انه إذا بلغ أرض القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكانا يوضع الميت فيه، فإن كانت الأرض رخوة
جعل له من الحجارة شبه اللحد. قال أحمد: ولا أحب الشق لما روى ابن عباس ان النبي صلى الله
عليه وسلم قال (اللحد لنا والشق لغيرنا) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هذا حديث غريب
فإن لم يمكن اللحد شق له في الأرض، ومعنى الشق أن يحفر في أرض القبر شقا يضع الميت فيه ويسقفه
عليه بشئ، ويضع الميت في اللحد علي جنيه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه، ويضع تحت رأسه لبنة أو
حجرا أو شيئا مرتفعا كما يصنع الحي، وقد روي عن عمر رضي الله عنه قال: إذا جعلتموني في اللحد
فأفضوا بخدي إلى الأرض، ويدنى من الحائط لئلا ينكب على وجهه، ويسند من ورائه بتراب لئلا
ينقلب. قال أحمد رحمه الله: ما أحب أن يجعل في القبر مضربة ولا مخدة، وقد جعل في قبر النبي
صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء فإن جعلوا قطيفة فلعلة، فإذا فرغوا نصبوا عليه اللبن نصبا ويسد خلله
بالطين لئلا يصل إليه التراب، وإن جعل مكان اللبن قصبا فحسن لأن الشعبي قال: جعل على لحد
النبي صلى الله عليه وسلم طن قصب (1) فاني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك: قال الخلال: كان أبو عبد الله
يميل إلى اللبن ويختاره على القصب ثم ترك ذلك ومال إلى استحباب القصب على اللبن. وأما الخشب
فكرهه على كل حال ورخص فيه عند الضرورة إذا لم يوجد غيره. وأكثر الروايات عن أبي عبد الله
استحباب اللبن وتقديمه على القصب لقول سعد: انصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقول سعد أولى من قول الشعبي فإن الشعبي لم ير ولم يحضر، وأيهما فعله كان حسنا.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله فإن لم يكن لبن؟ قال ينصب عليه القصب والحشيش وما أمكن من
ذلك ثم يهال عليه التراب
(فصل) روي عن أحمد انه حضر جنازة فلما ألقي عليها التراب قام إلى القبر فحثى عليه ثلاث
حثيات ثم رجع إلى مكانه وقال: قد جاء عن علي وصح انه حتى على قبر ابن مكفف، وروي عنه انه

(1) الطن من القصب ونحوه الحزمة وجمعه أطنان
379

قال: إن فعل فحسن وان لم يفعل فلا بأس. ووجه استحبابه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت من قبل رأسه فحثى عليه ثلاثا أخرجه ابن ماجة. وعن عامر بن ربيعة
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون فكبر عليه أربعا ثم أتى القبر فحثى عليه
ثلاث حثيات وهو قائم عند رأسه رواه الدارقطني. وعن جعفر بن محمد عن أبيه ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم حثى علي الميت ثلاث حثيات بيديه جمعيا أخرجه الشافعي في مسنده وفعله علي رضي الله عنه
وروي عن ابن عباس انه لما دفن زيد بن ثابت حثى في قبره ثلاثا وقال هكذا يذهب العلم
(فصل) ويقول حين يضعه في قبره ما روي ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل
الميت القبر قال (بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي
هذا حديث حسن غريب. وروى ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال حضرت ابن عمر في جنازة فلما
وضعها في اللحد قال بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله. فلما أخذ في تسوية اللبن علي اللحد
قال: اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جافي الأرض عن جنبيها وصعد روحها ولقها
منك رضوانا. قلت يا بن عمر أشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك قال أني إذا لقادر
على القول! بل سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن عمر رضي الله عنه انه كان إذا سوي على الميت
قال اللهم أسلمه إليك الأهل والمال والعشيرة وذنبه عظيم فاغفر له. رواه ابن المنذر
380

(فصل) إذا مات في سفينة في البحر فقال أحمد رحمه الله ينتظر به ان كانوا يرجون أن يجدوا
له موضعا يدفنونه فيه حبسوه يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد فإن لم يجدوا غسل وكفن وحنط
ويصلى عليه ويثقل بشئ ويلقى في الماء وهذا قول عطاء والحسن قال الحسن يترك في زنبيل ويلقي
في البحر. وقال الشافعي يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى الساحل فربما وقع إلى قوم يدفنونه، وان
ألقوه في البحر لم يأثموا والأول أولى لأنه يحصل به الستر المقصود من دفنه، والقاؤه بين لوحين
تعريض له للتغير والهتك وربما بقي على الساحل مهتوكا عريانا وربما وقع إلى قوم من المشركين
فكان ما ذكرناه أولى
(مسألة) قال (والمرأة يخمر قبرها بثوب)
لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافا وقد روي ابن سيرين ان عمر كان يغطي قبر
المرأة وروي عن علي أنه مر بقوم قد دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال إنما يصنع هذا
بالنساء. وشهد أنس بن مالك دفن أبي زيد الأنصاري فخمر القبر بثوب فقال عبد الله بن انس
ارفعوا الثوب إنما يخمر النساء وأنس شاهد على شفير القبر لا ينكر ولأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو
منها شئ فيراه الحاضرون فإن كان الميت رجلا كره ستر قبره لما ذكرنا وكرهه عبد الله بن يزيد
ولم يكرهه أصحاب الرأي وأبو ثور والأول أولى لأن فعل علي رضي الله عنه وانس يدل على كراهته
ولان كشفه أمكن وأبعد من التشبه بالنساء مع ما فيه من اتباع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
381

(مسألة) قال (ويدخلها محرمها فإن لم يكن فالنساء فإن لم يكن فالمشايخ)
لا خلاف بين أهل العلم في أن أولى الناس بادخال المرأة قبرها محرمها وهو من كان يحل له
النظر إليها في حياتها ولها السفر معه وقد روى الحلال باسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قام عند
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت زينب بنت جحش فقال الا اني أرسلت إلى النسوة من يدخلها
قبرها فأرسلن: من كان يحل له الدخول عليها في حياتها. فرأيت أن قد صدقن ولما توفيت امرأة عمر
قال لأهلها أنتم أحق بها ولان محرمها أولى الناس بولايتها في الحياة فكذلك بعد الموت وظاهر كلام
أحمد ان الأقارب يقدمون على الزوج قال الحلال استقامت الرواية عن أبي عبد الله أنه إذا حضر
الأولياء والزوج فالأولياء أحب إليه فإن لم يكن الأولياء فالزوج أحق من الغريب لما ذكرنا من خبر
عمر ولان الزوج قد زالت زوجيته بموتها والقرابة باقية. وقال القاضي الزوج أحق من الأولياء لأن
أبا بكر أدخل امرأته قبرها دون أقاربها ولأنه أحق بغسلها منهم فكان أولى بادخالها قبرها كمحل
الوفاق وأيهما قدم فالآخر بعده فإن لم يكن واحد منهما فقد روي عن أحمد أنه قال أحب إلي أن
يدخلها النساء لأنه مباح لهن النظر إليها وهن أحق بغسلها وعلى هذا يقدم الأقرب منهن فالأقرب
كما في حق الرجل وروي عنه أن النساء لا يستطعن أن يدخلن القبر ولا يدفن وهذا أصبح وأحسن لأن
النبي صلى الله عليه وسلم حين ماتت امرأته أمر أبا طلحة فنزل في قبرها وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيكم لم يقارف
الليلة) قال أبو طلحة أنا فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فنزل فأدخلها قبرها رواه البخاري ورأي النبي صلى الله عليه وسلم النساء
في جنازة فقال (هل تحملن؟ قلن لا، قال (هل تدلين في من يدلي؟ قلن لا، قال (فارجعن مأزورات غير
382

مأجورات) رواه ابن ماجة وهذا استفهام انكار فدل على أن ذلك غير مشروع لهن بحال وكيف يشرع
لهن وقد نهاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز، ولان ذلك لو كان مشروعا لفعل في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم أو خلفائه ولنقل عن بعض الأئمة ولان الجنازة يحضرها جموع الرجال وفي نزول النساء في
القبر بين أيديهم هتك لهن مع عجزهن عن الدفن وضعفهن عن حمل الميتة وتقليبها فلا يشرع لكن
ان عدم محرمها استحب ذلك للمشايخ لأنهم أقل شهوة وأبعد من الفتنة، وكذلك من يليهم من فضلاء
الناس وأهل الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنزل في قبر ابنته دون غيره
(فصل) فأما الرجل فأولى الناس بدفنه أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه لأن القصد طلب الحظ
للميت والرفق به قال علي رضي الله عنه إنما يلي الرجل أهله ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ألحده العباس وعلي
وأسامة رواه أبو داود ولا توقيت في عدد من يدخل القبر نص عليه أحمد فعلى هذا يكون عددهم على
حسب حال الميت وحاجته وما هو أسهل في أمره قال القاضي يستحب أن يكون وترا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ألحده ثلاثة ولعل هذا كان اتفاقا أو لحاجتهم إليه وقد روى أبو داود عن أبي مرحب ان عبد الرحمن
ابن عوف نزل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال كأني أنظر إليهم أربعة وإذا كان المتولي فقيها كان حسنا لأنه
محتاج إلى معرفة ما يصنعه في القبر
(مسألة) قال (ولا يشق الكفن في القبر وتحل العقد)
أما شق الكفن فغير جائز لأنه إتلاف مستغني عنه ولم يرد الشرع به وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا
كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم وتخريقه يتلفه ويذهب بحسنه وأما حل العقد من عند
رأسه ورجليه فمستحب لأن عقدها كان للخوف من انتشارها وقد أمن ذلك بدفنه وقد روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر نزع الأخلة بفيه وعن ابن
مسعود وسمرة بن جندب نحو ذلك
383

(مسألة) قال (ولا يدخل القبر آجرا ولا خشبا ولا شيئا مسته النار)
قد ذكرنا أن اللبن والقصب مستحب وكره أحمد الخشب وقال إبراهيم النخعي كانوا يستحبون
اللبن ويكرهون الخشب، ولا يستحب الدفن في تابوت لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه وفيه
تشبه بأهل الدنيا والأرض انشف لفضلاته، ويكره الآجر لأنه من بناء المترفين وسائر ما مسته النار
تفاؤلا بان لا تمسه النار.
(فصل) وإذا فرغ من اللحد أهال عليه التراب ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر ليعلم أنه قبر
فيوقى ويترحم على صاحبه، وروى الساجي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر
وروى القاسم بن محمد قال قلت لعائشة يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت
لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، رواه أبو داود ولا يستحب
رفعه بأكثر من ترابه نص عليه أحمد، وروى باسناده عن عقبة بن عامر أنه قال لا يجعل في القبر من
التراب أكثر مما خرج منه حين حفر، وروى الخلال باسناده عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يزاد على القبر على حفرته، ولا يستحب رفع القبر إلا شيئا يسيرا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله
عنه (لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرقا الا سويته) رواه مسلم وغيره والمشرف ما رفع كثيرا
بدليل قول القاسم في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لا مشرفة ولا لاطنة، ويستحب أن يرش على
القبر ماء ليلتزق ترابه، قال أبو رافع سل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا ورش على قبره ماء رواه ابن ماجة
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبره ماء رواهما الخلال جميعا
384

(فصل) ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة قال أحمد لا بأس أن يعلم الرجل القبر علامة يعرفه
بها، قد علم النبي صلى الله عليه وسلم قبر عثمان بن مظعون وروي أبو داود باسناده عن المطلب قال لما مات عثمان
ابن مظعون أخرج بجنازته فدفن، أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله فقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال (أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات
من أهله) ورواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أنس
(فصل) وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وقال الشافعي تسطيحه
أفضل قال وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم، وعن القاسم قال رأيت قبر النبي
صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر مسطحة.
ولنا ما روي سفيان التمار أنه قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما رواه البخاري باسناده، وعن الحسن
مثله، ولان التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا وهو أشبه بشعار أهل البدع فكان مكروها وحديثنا أثبت
من حديثهم وأصح فكان العمل به أولى.
(فصل) وسئل أحمد عن الوقوف على القبر بعد ما يدفن يدعى للميت قال لا بأس به قد وقف
علي والأحنف بن قيس، وروى أبو داود باسناده عن عثمان قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرجل وقف
عليه وقال (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسئل) وروى الخلال باسناده ومسلم
والبخاري عن (السري) قال لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر
جزور ويقسم فاني استأنس بكم.
(فصل) فاما التلقين بعد الدفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئا ولا أعلم فيه للأئمة قولا سوى ما رواه
الأثرم قال قلت لأبي عبد الله فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول يا فلان ابن فلان
385

أذكر ما فارقت عليه شهادة أن لا إله الا الله، فقال ما رأيت أحدا فعل هذا الا أهل الشام حين مات
أبو المغيرة جاء انسان فقال ذاك، قال وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم
أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يرويه. ثم قال فيه إنما لا ثبت عذاب القبر قال القاضي وأبو الخطاب
يستحب ذلك ورويا فيه عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا مات أحدكم فسويتم عليه
التراب فليقف أحدكم عند رأس قبره ثم ليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان
ابن فلانة الثانية فيستوي قاعدا ثم ليقل يا فلان ابن فلانة فإنه يقول أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تسمعون (1)
فيقول أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت
بالله ربا وبالاسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالقرآن إماما. فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول
انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته، ويكون (2) الله تعالى حجته دونهما) فقال رجل يا رسول الله
فإن لم يعرف اسم أمه قال (فلينسبه إلى حواء) رواه ابن شاهين في كتاب ذكر الموت باسناده (3)
(فصل) سئل أحمد عن تطيين القبور فقال أرجو أن لا يكون به بأس ورخص في ذلك الحسن والشافعي وروى أحمد باسناده عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتعاهد قبر عاصم بن عمر قال نافع وتوفي
ابن له وهو غائب فقدم فسألنا عنه فدللناه عليه فكان يتعاهد القبر ويأمر باصلاحه. وروي عن
الحسن عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الميت يسمع الاذان ما لم يطين قبره)
أو قال ما لم يطو قبره.

(1) وفي التخليص وغيره: ولكن لا تشعرون
(2) هذه الجملة لم يذكرها الحافظ في التخليص، ولا الشوكاني في نيل الأوطار
(3) عزاه في التخليص إلى الطبراني وقال بعد ايراده: واسناده صالح وقد قواه الضياء في أحكامه، وأخرجه عبد العزيز في الشافعي، والراوي عن أبي إمامة سعيد الأزدي بيض له ابن أبي حاتم ولكن له شواهد
386

(فصل) ويكره البناء على القبر وتجصيصه والكتابة عليه لما روى مسلم في صحيحه قال نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجصص القبر وأن يبنى عليه وان يقعد عليه زاد الترمذي وأن يكتب عليه وقال
هذا حديث حسن صحيح ولان ذلك من زينة الدنيا فالحاجة بالميت إليه، وفي هذا الحديث دليل
على الرخصة في طين القبر لتخصيصه التجصيص بالنهي، ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى على القبر
بآجر فأوصى بذلك، وأوصى الأسود بن يزيد ان لا تجعلوا علي قبري آجرا. وقال إبراهيم كانوا يكرهون
الآجر في قبورهم وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة
ان لا يضربوا عليه فسطاطا.
(فصل) ويكره الجلوس على القبر والاتكاء عليه والاستناد إليه والمشي عليه والتغوط بين القبور
لما تقدم من حديث جابر، وفي حديث أبي مرثد الغنوي (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) صحيح
وذكر لأحمد ان مالكا يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى ان يجلس على القبور: اي للخلاء فقال
ليس هذا بشئ ولم يعجبه رأي مالك، وروى الخلال باسناده عن عقبة بن عامر قال، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (لأن أطا على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط القبور قضيت
حاجتي أو وسط السوق) رواه ابن ماجة
(فصل) ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لقول النبي صلى الله عليه وسلم، (لعن الله زوارات القبور
والمتخذات عليهن المساجد والسرج) رواه أبو داود والنسائي (1) ولفظه لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أبيح

(1) لفظه في الجامع الصغير (لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها السرج)
387

لم يعلن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ولان فيه تضييعا للمال في غير فائدة، وافراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم
الأصنام، ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله اليهود اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد)) يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه، وقالت عائشة إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا
يتخذ مسجدا، ولان تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرب إليها
وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها (1)
(فصل) والدفن في مقابر المسلمين أعجب إلى أبي عبد الله من الدفن في البيوت لأنه أقل ضررا
على الاحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة
والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحاري فإن قيل فالنبي صلى الله عليه وسلم قبر في بيته وقبر صاحباه معه؟ قلنا
قالت عائشة إنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجدا رواه البخاري ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه
بالبقيع وفعله أولى من فعل غيره وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك ولأنه روي: يدفن الأنبياء حيث
يموتون وصيانة لهم عن كثرة الطراق، وتمييزا له عن غيره

(1) يشير إلى ما رواه البخاري عن ابن عباس (رض) من سبب
اتخاذ قوم نوح للأصنام: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وحاصله ان هذه أسماء رجال
صالحين اتخذوا الناس لهم صورا يعد موتهم ليتذكروا بها فيقتدى بهم فلما ذهب
العلم زين لهم الشيطان عبادة صورهم وتماثيلهم بتعظيمها والتمسح بها والتقرب
إليها كما قال المصنف، فقوله: ومسحها معناه امرار الا يدي عليها تبركا
وتوسلا بها، وكذلك فعل الناس بقبور الصالحين وسري ذلك من الوثنيين إلى أهل
الكتاب فالمسلمين، فالأصنام في ذلك سواء
388

(فصل) ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم وكذلك
في البقاع الشريفة، وقد روي البخاري ومسلم باسنادهما أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل
الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت ثم لأريتكم قبره
عند الكثيب الأحمر).
(فصل) وجمع الأقارب في الدفن حسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن عثمان بن مظعون (إدفن إليه
من مات من أهله) ولان ذلك أسهل لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم، ويسن تقديم الأب ثم من يليه
في السن والفضيلة إذا أمكن.
(فصل) ويستحب دفن الشهيد حيث قتل، قال أحمد أما القتلى فعلى حديث جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (ادفنو القتلى في مصارعهم) وروي ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن
يردوا إلى مصارعهم فاما غيرهم فلا ينقل الميت من بلده إلى بلد آخر الا لغرض صحيح، وهذا مذهب
389

الأوزاعي وابن المنذر قال عبد الله بن أبي مليكة توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشة فحمل إلى مكة
فدفن فلما قدمت عائشة أتت قبره ثم قالت والله لو حضرتك ما دفنت الا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك
ولان ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير. فاما إن كان فيه غرض صحيح جاز قال أحمد ما أعلم بنقل
الرجل يموت في بلده إلى بلد أخرى بأسا. وسئل الزهري عن ذلك فقال قد حمل سعد بن أبي وقاص
وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة، وقال ابن عيينة مات ابن عمر هنا فأوصى أن لا يدفن هاهنا
وأن يدفن بسرف (1).
(فصل) وإذا تنازع اثنان من الورثة فقال أحدهما يدفن في المقبرة المسبلة، وقال الآخر يدفن
في ملكه دفن في المسبلة لأنه لا منة فيه، وهو أقل ضررا على الوارث. فإن تشاحا في الكفن قدم قول
من قال نكفنه من ملكه لأن ضرره على الوارث بلحوق المنة وتكفينه من ماله قليل الضرر، وسئل
أحمد عن الرجل يوصي أن يدفن في داره قال يدفن في المقابر مع المسلمين فإن دفن في داره أضر
بالورثة. وقال لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره ويوصي أن يدفن فيه، فعل ذلك عثمان بن عفان
وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم.
(فصل) وإذا تنازع اثنان في الدفن في المقبرة المسبلة قدم أسبقهما كما لو تنازعا في مقاعد الأسواق
ورحاب المساجد فإن تساويا أقرع بينهما.

(1) هذان موضعان قريبان والنقل إلى مكان بعيد يتغير الميت في أثنائه غير جائز لنا تقدم من تحريم تعريضه للتغيير ولذلك أنكرت عائشة نقل أخيها من الحبشة
390

(فصل) وإن تيقن أن الميت قد بلي وصار رميما جاز نبش قبره ودفن غيره فيه، وان شك في
ذلك رجع إلى أهل الخبرة فإن حفر فوجد فيها عظاما دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه أحمد
واستدل بأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. وسئل أحمد عن الميت يخرج من قبره إلى غيره
فقال إذا كان شئ يؤذيه قد حول طلحة وحولت عائشة، وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع
رديئة فقال: قد نبش معاذ امرأته وقد كانت كفنت في خلقان فكفنها ولم ير أبو عبد الله بأسا أن يحولوا
(مسألة) قال (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر)
وجملة ذلك أن من فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فإن دفنت فله أن يصلي
على القبر إلى شهر هذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم روي ذلك عن أبي موسى
وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، واليه ذهب الأوزاعي والشافعي، وقال النخعي والثوري ومالك
وأبو حنيفة لا تعاد الصلاة على الميت الا للولي إذا كان غائبا ولا يصلى على القبر الا كذلك، ولو جاز ذلك
لكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليه في جميع الأعصار.
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا مات فقال (فدلوني على قبره فاتى قبره فصلى عليه)
متفق عليه، وعن ابن عباس أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه قال أحمد رحمه
الله: ومن شك في الصلاة على القبر يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان ولأنه من أهل
الصلاة فيسن له الصلاة على القبر كالولي (1) وقبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى عليه لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر
(فصل) ومن صلى مرة فلا يسن له إعادة الصلاة عليها وإذا صلى على الجنازة مرة لم توضع لاحد
يصلي عليها قال القاضي: لا يحسن بعد الصلاة عليه ويبادر بدفنه فإن رجي مجئ الولي أخر إلى أن
يجى إلا أن يخاف تغيره قال ابن عقيل لا ينتظر به أحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن البراء
(اعجلوا به فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) فأما من أدرك الجنازة ممن لم يصل
فله أن يصلي عليها، فعل ذلك علي وأنس وسلمان بن ربيعة وأبو حمزة ومعمر بن سمير
(فصل) ويصلى على القبر وتعاد الصلاة عليه قبل الدفن جماعة وفرادى نص عليهما أحمد وقال
وما بأس بذلك قد فعله عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث ابن عباس قال إنتهى النبي
صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصفوا خلفه وكبر أربعا متفق عليه.
(فصل) وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية فيستقبل القبلة ويصلي عليه كصلاته على
حاضر. وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن
وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز. وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما
لأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها بدليل ما لو كان في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غيبتها عنه

(1) أي ولي الميت
391

ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعى النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه وصلى بهم
بالمصلى فكبر عليه أربعا متفق عليه، فإن قيل فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض فأري الجنازة
قلنا هذا لم ينقل ولو كان لاخبر به
ولنا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولان الميت مع البعد لا تجوز الصلاة
عليه وإن رئي ثم لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لاختصت الصلاة به. وقد صف النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم فإن قيل
لم يكن بالحبشة من يصلي عليه قلنا ليس هذا مذهبكم فإنكم لا تجيزون الصلاة على الغريق والأسير ومن
مات بالبوادي وإن كان لم يصل عليه، ولان هذا بعيد لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر
إسلامه فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه
(فصل) فإن كان الميت في أحد جانبي البلد لم يصل عليه من الجانب الآخر، قال وهذا
اختيار أبي حفص البرمكي لأنه يمكنه الحضور للصلاة عليه أو على قبره، وصلى أبو عبد الله بن حامد على
ميت مات في أحد جانبي بغداد وهو في الجانب الآخر لأنه غائب فجازت الصلاة عليه كالغائب في
بلد آخر وهذا مختص بما إذا كان معه في هذا الجانب.
(فصل) وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر كالصلاة على القبر لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش
أكثر من ذلك وقال ابن عقيل في أكيل السبع والمحترق بالنار يحتمل أن لا يصلى عليه لذهابه بخلاف
الضائع والغريق فإنه قد بقي منه ما يصلى عليه، ويصلى عليه إذا عرف قبل الغسل كالغائب في بلد
بعيد لأن الغسل تعذر لمانع أشبه الحي إذا عجز عن الغسل والتيمم صلى على حسب حاله.
(مسألة) قال (وان كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره)
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا أنقص من أربع والأولى أربع لا يزاد
عليها واختلفت الرواية فيما بين ذلك، فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأموم ولا
يتابعه في زيادة عليها ورواه الأثرم عن أحمد، وروى حرب عن أحمد إذا كبر خمسا لا يكبر معه ولا
يسلم إلا مع الإمام. قال الخلال: وكل من روى عن أبي عبد الله يخالفه، وممن لم ير متابعة الإمام
في زيادة على أربع الثوري ومالك وأبو حنيفة والشافعي واختارها ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة
للإمام فلا يتابعه المأموم فيها كالقنوت في الركعة الأولى
ولنا ما روي عن زيد بن أرقم أنه كبر على جنازة خمسا وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها
أخرجه مسلم وسعيد ابن منصور وغيرهما، وفي رواية سعيد فسئل عن ذلك فقال: سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد: حدثنا خالد بن عبد الله عن يحيى الجابري عن عيسى مولى لحذيفة أنه كبر على
جنازة خمسا فقيل له، فقال مولاي وولي نعمتي صلى على جنازة وكبر عليها خمسا، وذكر حذيفة أن
392

النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وروى باسناده أن عليا صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه
خمسا، وكان أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمسا، وروى الخلال باسناده عن عمر بن الخطاب
قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا وأمر الناس بأربع. قال احمد في اسناد حديث زيد بن أرقم
اسناد جيد رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن أرقم ومعلوم أن
المصلين معه كانوا يتابعونه
وروى الأثرم عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أهل
بدر خمسا وعلى سائر الناس أربعا وهذا أولى مما ذكروه، فأما إن زاد الإمام على خمس فعن أحمد
أنه يكبر مع الإمام إلى سبع. قال الخلال: ثبت القول عن أبي عبد الله أنه يكبر مع الإمام إلى سبع
ثم لا يزاد على سبع ولا يسلم الا مع الإمام وهذا قول بكر بن عبد الله المزني. وقال عبد الله بن مسعود
كبر ما كبر إمامك فإنه لا وقت ولا عدد
ووجه ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على حمزة سبعا رواه ابن شاهين. وكبر علي على جنازة
أبي قتادة سبعا وعلى سهل بن حنيف ستا وقال إنه بدري، وروي أن عمر رضي الله عنه جمع الناس
فاستشارهم، فقال بعضهم: كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا، وقال بعضهم خمسا، وقال بعضهم أربعا، فجمع
عمر الناس على أربع تكبيرات وقال هو أطول الصلاة، وقال الحكم بن عتيبة إن عليا رضي الله عنه
صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا وكانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا، فإن زاد
على سبع لم يتابعه نص عليه احمد. وقال في رواية أبي داود: إن زاد على سبع ينبغي أن يسبح به ولا
أعلم أحدا قال بالزيادة على سبع إلا عبد الله بن مسعود، فإن علقمة روي أن أصحاب عبد الله قالوا له
إن أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمسا فلو وقت لنا وقتا، فقال إذا تقدمكم إمامكم فكبروا
ما يكبر فإنه لا وقت ولا عدد. رواه سعيد والأثرم، والصحيح أنه لا يزاد على سبع لأنه لم ينقل ذلك
من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولكن لا يسلم حتى يسلم إمامه. قال ابن عقيل: لا يختلف
قول احمد إذا كبر الإمام زيادة على أربع أنه لا يسلم قبل إمامه على الروايات الثلاث، بل يتبعه ويقف
فيسلم معه. قال الخلال: العمل في نص قوله وما ثبت عنه أنه يكبر ما كبر الإمام إلى سبع، وإن زاد
على سبع فلا، ولا يسلم إلا مع الإمام وهو مذهب الشافعي في أنه لا يسلم قبل إمامه. وقال الثوري وأبو
حنيفة: ينصرف كما لو قام الإمام إلى خامسة فارقه ولم ينتظر تسليمه. قال أبو عبد الله: ما أعجب حال
الكوفيين سفيان ينصرف إذا كبر الرابعة، والنبي صلى الله عليه وسلم كبر خمسا وفعله زيد بن أرقم وحذيفة. وقال ابن مسعود: كبر ما كبر إمامك، ولأن هذه زيادة قول مختلف فيه فلا يسلم قبل إمامه إذا
اشتغل به كما لو صلى خلف من يقنت في صلاة يخالفه الإمام في القنوت فيها، ويخالف ما قاسوا عليه
393

من وجهين: أحدهما أن الركعة الخامسة لا خلاف فيها (والثاني) أنها فعل والتكبيرة الزائدة بخلافها
وكل تكبيرة قلنا يتابع الإمام فيها فله فعلها ومالا فلا
(فصل) والأفضل أن لا يزيد على أربع لأن فيه خروجا من الخلاف، وأكثر أهل العلم يرون
التكبير أربعا منهم عمر وابنه وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب
وأبو هريرة وعقبة بن عامر وابن الحنفية وعطاء والأوزاعي وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري
والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعا. متفق عليه، وكبر على قبر بعد ما دفن أربعا،
وجمع عمر الناس على أربع، ولان أكثر الفرائض لا تزيد على أربع. ولا يجوز النقصان منها
وروي عن ابن عباس أنه كبر على الجنازة ثلاثا ولم يعجب ذلك أبا عبد الله وقال: قد كبر أنس
ثلاثا ناسيا فأعاد، ولأنه خلاف ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولان الصلاة الرباعية إذا نقص منها ركعة
بطلت كذلك هاهنا، فإن نقص منها تكبيرة عامدا بطلت كما لو ترك ركعة عمدا، وإن تركها سهوا
احتمل أن يعيدها كما فعل أنس، ويحتمل أن يكبرها ما لم يطل الفصل كما لو نسي ركعة، ولا يشرع
لها سجود سهو في الموضعين
(فصل) قال احمد رحمه الله: يكبر على الجنازة فيجيئون بأخرى يكبر إلى سبع ثم يقطع ولا
يزيد على ذلك حتى ترفع الأربع. قال أصحابنا: إذا كبر على جنازة ثم جئ برابعة كبر الثانية عليهما وينويهما، فإن جئ بثالثة كبر الثالثة عليهن ونواهن، فإن جئ برابعة كبر الرابعة عليهن، ثم يكمل
التكبير عليهن إلى سبع ليحصل للرابعة أربع تكبيرات، إذ لا يجوز النقصان منهن، ويحصل للأولى
سبع وهو أكثر ما ينتهي إليه التكبير، فإن جئ بخامسة لم ينوها بالتكبير، وان نواها لم يجز لأنه دائر
بين أن يزيد على سبع أو ينقص في تكبيرها عن أربع وكلاهما لا يجوز، وهكذا لو جئ بثانية بعد
تكبيرة الرابعة لم يجز أن يكبر عليها الخامسة لما بينا، فإن أراد أهل الجنازة الأولى رفعها قبل سلام
الإمام لم يجز لأن السلام ركن لا تتم الصلاة الا به. إذا تقرر هذا فإنه يقرأ في التكبيرة الخامسة الفاتحة
وفي السادسة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو في السابعة ليكمل لجميع الجنائز القراءة والأذكار كما كمل
لهن التكبيرات. وذكر ابن عقيل وجها ثانيا قال: ويحتمل أن يكبر ما زاد على الأربع متتابعا كما قلنا
في القضاء للمسبوق، ولان النبي صلى الله عليه وسلم كبر سبعا، ومعلوم أنه لم يرو أنه قرأ قراءتين والأول أصح
لأن الثانية وما بعدها جنائز فيعتبر في الصلاة عليهن شروط الصلاة وواجباتها كالأولى
(مسألة) قال (والإمام يقوم عند صدر الرجل ووسط المرأة)
لا يختلف المذهب في أن السنة أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة وعند صدر
الرجل أو عند منكبيه، وإن وقف في غير هذا الموضع خالف سنة الموقف وأجزأه. وهذا قول اسحق
394

ونحوه قول الشافعي إلا أن بعض أصحابه قال: يقوم عند رأس الرجل وهو مذهب أبي يوسف ومحمد
لما روي عن أنس أنه صلى على رجل فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير
فقال له العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل
مقامك منه؟ قال نعم، فلما فرغ قال احفظوا. قال الترمذي هذا حديث حسن. وقال أبو حنيفة:
يقوم عند صدر الرجل والمرأة لأنهما سواء، فإذا وقف عند صدر الرجل فكذا المرأة. وقال مالك
يقف من الرجل عند وسطه لأنه يروى هذا عن ابن مسعود ويقف من المرأة عند منكبها لأن الوقوف
عند أعاليها أمثل وأسلم
ولنا ما روى سمرة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة في نفاسها فقام وسطها متفق
عليه، وحديث أنس الذي ذكرناه. والمرأة تخالف الرجل في الموقف فجاز أن تخالفه هاهنا، ولان
قيامه عند وسط المرأة ستر لها من الناس فكان أولى. فأما قول من قال: يقف عند رأس الرجل فغير
مخالف لقول من قال بالوقوف عند الصدر لأنهما متقاربان، فالواقف عند أحدهما واقف عند الآخر والله أعلم
(فصل) فإن اجتمع جنائز رجال ونساء فعن أحمد روايتان (إحداهما) يسوي بين رؤسهم
وهذا اختيار القاضي وقول إبراهيم وأهل مكة ومذهب أبي حنيفة لأنه يروى عن ابن عمر أنه كان
يسوي بين رؤسهم، وروى سعيد باسناده عن الشعبي أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر
توفيا جميعا فأخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فسوى بين رؤسهما وأرجليهما حين صلى عليهما
وباسناده عن حبيب بن أبي مالك قال: قدم سعيد بن جبير على أهل مكة وهم يسوون بين
الرجل والمرأة إذا صلي عليهما فأرادهم على أن يجعلوا رأس المرأة عند وسط الرجل فأبوا عليه. والرواية
الثانية أن يقف الرجال صفا والنساء صفا، ويجعل وسط النساء عند صدور الرجال، وهذا اختيار
أبي الخطاب ليكون موقف الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. وقال سعيد: حدثني خالد بن
يزيد بن أبي مالك الدمشقي، قال حدثني أبي قال: رأيت واثلة بن الأسقع يصلي على جنائز الرجال
والنساء إذا اجتمعت فيصف الرجال صفا، ثم يصف النساء خلف الرجال رأس أول مرأة يضعها عند
ركبة آخر الرجال، ثم يصفهن، ثم يقوم وسط الرجال، وإذا كانوا رجالا كلهم صفهم ثم قام وسطهم
وهذا يشبه مذهب مالك وقول سعيد بن جبير، وما ذكرناه أولى لأنه مدلول عليه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
ولا حجة في قول أحد خالف فعله أو قوله والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يصلى على القبر بعد شهر)
وبهذا قال أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يصلي عليه أبدا، واختاره ابن عقيل لأن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنين. حديث صحيح متفق عليه، وقال بعضهم: يصلى عليه ما لم يبل
395

جسده، وقال أبو حنيفة يصلي عليه الولي إلى ثلاث ولا يصلي عليه غيره بحال. وقال إسحق: يصلي عليه
الغائب إلى شهر والحاضر إلى ثلاث:
ولنا ما روى سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد
مضى لذلك شهر أخرجه الترمذي، وقال أحمد أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد
ابن عبادة بعد شهر ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها فجازت الصلاة عليه فيها كما قبل الثلاث
وكالغائب، وتجويز الصلاة عليه مطلقا باطل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يصلي عليه الآن انفاقا وكذلك
التحديد ببلى الميت فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلى ولا يصلى على قبره فإن قيل فالخبر دل على
الجواز بعد شهر فكيف منعتموه، قلنا تحديده بالشهر يدل على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت عند رأسه
ليكون مقاربا للحد وتجوز الصلاة بعد الشهر قريبا منه لدلالة الخبر عليه ولا يجوز بعد ذلك لعدم وروده
(مسألة) قال (وإذا تشاح الورثة في الكفن جعل بثلاثين درهما فإن كان
موسرا فبخمسين)
وجملة ذلك أنه يستحب تحسين كفن الميت بدليل ما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلان من
أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل فقال (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) ويستحب
تكفينه في البياض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (البسوا من ثيابكم البياض فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيها
موتاكم) رواه النسائي وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية، وان تشاح الورثة في الكفن
جعل كفنه بحسب حاله إن كان موسرا كان كفنه رفيعا حسنا، ويجعل على حسب ما كان يلبس في
حال الحياة، وإن كان دون ذلك فعلى حسب حاله، وقول الخرقي جعل بثلاثين درهما وإن كان موسرا
فبخمسين ليس هو على سبيل التحديد إذ لم يرد به نص ولا فيه إجماع والتحديد إنما يكون بأحدهما
وإنما هو تقريب فلعله كان يحصل الجيد والمتوسط في وقته بالقدر الذي ذكره، وقد روى عن ابن
مسعود أنه أوصى أن يكفن بنحو من ثلاثين درهما، والمستحب أن يكفن في جديد الا أن يوصي
الميت بغير ذلك فتمتثل وصيته كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال، كفنوني في ثوبي
هذين فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما هما للمهنة والتراب، وذهب ابن عقيل إلى أن
التكفين في الخليع أولى لهذا الخبر والأول أولى لدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه عليه
(فصل) ويجب كفن الميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به ولان سترته واجبة في الحياة فكذلك
بعد الموت ويكون ذلك من رأس ماله مقدما على الدين والوصية والميراث لأن حمزة ومصعب بن
396

عمير رضي الله عنهما لم يوجد لكل واحد منهما الأثواب فكفن فيه، ولان لباس المفلس مقدم على
قضاء دينه فكذلك كفن الميت ولا ينتقل إلى الوارث من مال الميت الا ما فضل عن حاجته الأصلية
وكذلك مؤونة دفنه وتجهيزه وما لابد للميت منه فأما الحنوط والطيب فليس بواجب ذكره أبو عبد الله
ابن حامد لأنه لا يجب في الحياة فكذلك بعد الموت، وقال القاضي يتحمل أنه واجب لأنه مما جرت
العادة به وليس بصحيح فإن العادة جرت بتحسين الكفن وليس بواجب
(فصل) وكفن المرأة ومؤونة دفنها من مالها إن كان لها مال وهذا قول الشعبي وأبي حنيفة وبعض
أصحاب الشافعي وقال بعضهم يجب على الزوج واختلفوا عن مالك فيه واحتجوا بأن كسوتها ونفقتها
واجبة عليه فوجب عليه كفنها كسيد العبد والوالد
ولنا أن النفقة والكسوة تجب في النكاح للتمكن من الاستمتاع ولهذا تسقط بالنشوز والبينونة
وقد انقطع ذلك بالموت فأشبه مالوا انقطع بالفرقة في الحياة ولأنها بانت منه بالموت فأشبهت الأجنبية
وفارقت المملوك فإن تجب بحق الملك لا بالانقطاع ولهذا تجب نفقة الآبق وفطرته والوالد أحق
بدفنه وتوليه. إذا تقرر هذا فإنه ان لم يكن لها مال فعلى من تلزمه نفقتها من الأقارب فإن لم يكن
ففي بيت المال كمن لازوج لها.
(مسألة) قال (والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه)
السقط الولد تضعه المرأة ميتا أو لغير تمام، فاما إن خرج حيا واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه
بغير خلاف، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل يصلى عليه وإن
لم يستهل قال أحمد إذا اتى له أربعة أشهر غسل وصلي عليه وهذا قول سعيد بن المسيب وابن سيرين
وإسحق وصلى ابن عمر على ابن لابنته ولد ميتا، وقال الحسن وإبراهيم والحكم وحماد ومالك
والأوزاعي وأصحاب الرأي لا يصلى عليه حتى يستهل. وللشافعي قولان كالمذهبين لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل) رواه الترمذي ولأنه لم يثبت
له حكم الحياة ولا يرث ولا يورث فلا يصلى عليه كمن دون أربعة أشهر.
ولنا ما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (والسقط يصلى عليه) رواه أبو داود والترمذي وفي
لفظ رواية الترمذي (والطفل يصلى عليه) وقال هذا حديث حسن صحيح وذكره أحمد واحتج به
وبحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال (ما أحد أحق أن يصلى عليه من الطفل) ولأنه نسمة نفخ
فيه الروح فيصلى عليه كالمستهل فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في حديثه الصادق المصدوق أنه ينفخ فيه الروح
لأربعة أشهر وحديثهم قال الترمذي قد اضطرب الناس فيه فرواه بعضهم موقوفا، قال الترمذي كان
هذا أصح من المرفوع، وأما الإرث فلانه لاتعلم حياته حال موت موروثه وذلك من شروط الإرث
397

والصلاة من شرطها أن تصادف من كانت فيه حياة وقد علم ذلك بما ذكرنا من الحديث، ولان الصلاة
عليه دعاء له ولوالديه وخير فلا يحتاج فيها إلى الاحتياط واليقين لوجود الحياة بخلاف الميراث، فأما
من لم يأت له أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ويلف في خرقة ويدفن ولا نعلم فيه خلافا الا عن
ابن سيرين فإنه قال يصلى عليه إذا علم أنه نفخ فيه الروح، وحديث الصادق المصدوق يدل على
أنه لا ينفخ فيه الروح الا بعد أربعة أشهر وقبل ذلك فلا يكون نسمة فلا يصلى عليه كالجمادات والدم
(مسألة) قال (فإن لم يتبين أذكر هو أم أنثى سمي اسما يصلح للذكر والأنثى)
هذا على سبيل الاستحباب لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم)
رواه ابن السماك باسناده، قيل إنهم إنما يسمون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم فإذا لم يعلم هل السقط
ذكر أو أنثى سمي اسما يصلح لهما جمعيا كسلمة وقتادة وسعادة وهند وعتبة وهبة الله ونحو ذلك
(مسألة) قال (وتغسل المرأة زوجها)
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن المرأة تغسل زوجها إذا مات، قالت عائشة لو استقبلنا
من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الا نساؤه، رواه أبو داود وأوصى أبو بكر رضي الله
عنه أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس وكانت صائمة فعزم عليها أن تفطر فلما فرغت من غسله ذكرت
يمينه فقالت لا اتبعه اليوم حنثا فدعت بماء فشربت، وغسل أبا موسى امرأته أم عبد الله، وأوصى جابر
ابن زيد ان تغسله امرأته قال احمد ليس فيه اختلاف بين الناس.
(مسألة) قال (وان دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس)
المشهور عن أحمد ان للزوج غسل امرأته، وهو قول علقمة وعبد الرحمن بن يزيد بن الأسود
وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن وقتادة وحماد ومالك والأوزاعي والشافعي
وإسحق. وعن أحمد رواية ثانية ليس للزوج غسلها وهو قول أبي حنيفة والثوري لأن الموت فرقة
تبيح أختها وأربعا سواها فحرمت النظر واللمس كالطلاق.
ولنا ما روي ابن المنذر أن عليا رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها واشتهر ذلك في الصحابة
فلم ينكره فكان اجماعا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها (لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك)
رواه ابن ماجة، والأصل في إضافة الفعل إلى الشخص أن يكون للمباشرة وحمله على الامر يبطل
فائدة التخصيص ولأنه أحد الزوجين فأبيح له غسل صاحبه كالآخر، والمعنى فيه أن كل واحد من
الزوجين يسهل عليه اطلاع الآخر على عورته دون غيره لما كان بينهما في الحياة، ويأتي بالغسل على
أكمل ما يمكنه لما بينهما من المودة والرحمة، وما قاسوا عليه لا يصح لأنه يمنع الزوجة من النظر وهذا
398

بخلافه ولأنه لا فرق بين الزوجين الا بقاء العدة ولا أثر لها بدليل ما لو مات المطلق ثلاثا فإنه لا يجوز
لها غسله مع العدة ولأن المرأة لو وضعت حملها عقب موته كان لها غسله ولا عدة عليها وقول الخرقي
وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس يعني به أنه يكره له غسلها مع وجود من
يغسلها سواه لما فيه من الخلاف والشبهة ولم يرد أنه محرم، فإن غسلها لو كان محرما لم تبحه الضرورة
كغسل ذوات محارمه والأجنبيات
(فصل) فإن طلق امرأته ثم مات أحدهما في العدة وكان الطلاق رجعيا فحكمهما حكم الزوجين
قبل الطلاق لأنها زوجة تعتد للوفاة وترثه ويرثها، ويباح له وطؤها، وإن كان بائنا لم يجز لأن اللمس
والنظر محرم حال الحياة فبعد الموت أولى، وإن قلنا: إن الرجعية محرمة لم يبح لأحدهما غسل
صاحبه لما ذكرناه
(فصل) وحكم أم الولد حكم المرأة فيما ذكرنا وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يجوز لها غسل سيدها
لأن عتقها حصل بالموت ولم يبق علقمة من ميراث ولا غيره وهذا قول أبي حنيفة
ولنا أنها في معنى الزوجة في اللمس والنظر والاستمتاع فكذلك في الغسل، والميراث ليس من
المقتضى بدليل الزوجين إذا كان أحدهما رقيقا. والاستبراء هاهنا كالعدة، ولأنها إذا ماتت يلزمه كفنها
ودفنها ومؤنتها بخلاف الزوجة فاما غير أم الولد من الإماء فيحتمل أن لا يجوز لها غسل سيدها لأن
الملك انتقل فيها إلى غيره ولم يكن بينهما من الاستمتاع ما تصير به في معنى الزوجات. ولو مات قبل
الدخول بامرأته احتمل أن لا يباح لها غسله لذلك والله أعلم.
(فصل) وان كانت الزوجة ذمية فليس لها غسل زوجها لأن الكافر لا يغسل المسلم لأن النية
واجبة في الغسل والكافر ليس من أهلها وليس لزوجها غسلها لأن المسلم لا يغسل الكافر ولا يتولى
دفنه ولأنه لا ميراث بينهما ولا موالاة وقد انقطعت الزوجية بالموت، ويتخرج جواز ذلك بناء
على جواز غسل المسلم الكافر.
(فصل) وليس لغير من ذكرنا من الرجال غسل أحد من النساء ولا أحد من النساء غسل غير
من ذكرنا من الرجال وان كن ذوات رحم محرم وهذا قول أكثر أهل العلم، وحكي عن أبي قلابة
أنه غسل ابنته واستعظم أحمد هذا ولم يعجبه وقال أليس قد قيل استأذن على أمك وذلك لأنها محرمة
حال الحياة فلم يجز غسلها كالأجنيبة وأخته من الرضاع. فإن دعت الضرورة إلى ذلك بأن لا يوجد من
يغسل المرأة من النساء فقال منها: سألت أحمد عن الرجل يغسل أخته إذا لم يجد نساء قال: لا قلت
فكيف يصنع قال يغسلها وعليها ثيابها يصب عليها الماء صبا، قلت لأحمد وكذلك كل ذات محرم تغسل
وعليها ثيابها قال نعم، وقال الحسن ومحمد ومالك لا بأس بغسل ذات محرم عند الضرورة، فاما ان
399

مات رجل بين نسوة أجانب أو امرأة بين رجال أجانب أو مات خنثى مشكل فإنه ييمم وهذا قول
سعيد بن المسيب والنخعي وحماد ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر وحكى أبو الخطاب رواية ثانية
أنه يغسل من فوق القميص يصب عليه الماء من فوق القميص صبا ولا يمس وهو قول الحسن واسحق
ولنا ما روى تمام الرازي في فوائده باسناده عن مكحول عن واثلة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجال) ولان الغسل من غير
مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة بل ربما كثرت ولا يسلم من النظر فكان العدول إلى
التيمم أولى كما لو عدم الماء.
(فصل) وللنساء غسل الطفل بغير خلاف، قال ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم
على أن المرأة تغسل الصبي الصغير، قال أحمد لهن غسل من له دون سبع سنين وقال الحسن إذا كان
فطيما أو فوقه وقال الأوزاعي ابن أربع أو خمس وقال أصحاب الرأي الذي لم يتكلم.
ولنا أن من له دون السبع لم نؤمر بأمره بالصلاة ولا عورة له فأشبه ما سلموه فأما من بلغ السبع ولم
يبلغ فحكى أبو الخطاب فيه روايتين والصحيح أن من بلغ عشرا ليس للنساء غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (وفرقوا بينهم في المضاجع) وأمر بضربهم للصلاة لعشر يحتمل أن يلحق بمن دون السبع لأنه
في معناه ويحتمل أن يلحق به لأنه يفارقه في أمره بالصلاة وقربه من المراهق، فأما الطفلة الصغيرة
فلم ير أبو عبد الله أن يغسلها الرجل، وقال النساء أعجب إلي وذكر له أن الثوري يقول تغسل المرأة
الصبي والرجل الصبية قال لا بأس أن تغسل المرأة الصبي، وأما الرجل يغسل الصبية فلا اجترئ
عليه الا أن يغسل الرجل ابنته الصغيرة فإنه يروى عن أبي قلابة أنه غسل بنتا له صغيرة. والحسن قال
لا بأس أن يغسل الرجل ابنته إذا كانت صغيرة. وكره غسل الرجل الصغيرة سعيد الزهري قال الخلال
القياس التسوية بين الغلام والجارية لولا أن التابعين فرقوا بينهما فكرهه أحمد لذلك وسوى أبو الخطاب
بينهما فجعل فيهما روايتين جريا على موجب القياس والصحيح ما عليه السلف من أن الرجل لا يغسل
الجارية والتفرقة بين عورة الغلام والجارية لأن عورة الجارية أفحش ولان العادة معاناة المرأة للغلام
الصغير ومباشرة عورته في حال تربيته ولم تجر العادة بمباشرة الرجل عورة الجارية في الحياة فكذلك
حالة الموت والله أعلم.
فأما الصبي إذا غسل الميت فإن كان عاقلا صح غسله صغيرا كان أو كبيرا لأنه يصح طهارته
فصح أن يطهر غيره كالكبير.
(فصل) ويصح أن يغسل المحرم الحلال والحلال المحرم كل واحد منهما تصح طهارته وغسله
فكان له أن يغسل غيره.
400

(فصل) ولا يصح غسل الكافر المسلم لأنه عبادة وليس الكافر من أهلها. وقال مكحول في امرأة
توفيت في سفر ومعها ذو محرم ونساء نصارى يغسلها النساء، وقال سفيان في رجل مات مع نساء ليس
معهن رجل، قال إن وجدوا نصرانيا أو مجوسيا فلا بأس إذا توضأ أن يغسله ويصلي عليه النساء
وغسلت امرأة علقمة امرأة نصرانية ولم يعجب هذا أبا عبد الله وقال لا يغسله الا مسلم وييمم لأن الكافر
نجس فلا يطهر غسله المسلم (1) ولأنه ليس من أهل العبادة فلا يصح غسله للمسلم كالمجنون، وان مات
كافر مع مسلمين لم يغسلوه سواء كان قريبا منهم أو لم يكن ولا يتولوا دفنه الا ان لا يجدوا من يواريه
وهذا قول مالك، وقال أبو حفص العكبري يجوز له غسل قريبه الكافر ودفنه وحكاه قولا لأحمد
وهو مذهب الشافعي لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ان عمك الشيخ الضال
قد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اذهب فواره)
ولنا انه لا يصلي عليه ولا يدعو له فلم يكن له غسله وتولي أمره كالأجنبي، والحديث إن صح يدل
على مواراته وله ذلك إذا خاف من التعير به والضرر ببقائه قال أحمد رحمه الله في يهودي أو نصراني
مات وله ولد مسلم فليركب دابة وليسر إمام الجنازة، وإذا أراد ان يدفن رجع مثل قول
عمر رضي الله عنه.
(مسألة) قال (والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ولم يصل عليه)
يعني إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا
إلا عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا يغسل الشهيد ما مات ميت الا جنبا. والاقتداء بالنبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه في ترك غسلهم أولى.
فأما الصلاة عليه فالصحيح انه لا يصلى عليه، وهو قول مالك والشافعي واسحق، وعن أحمد
رواية أخرى انه يصلى عليه اختارها الخلال وهو قول الثوري وأبي حنيفة الا ان كلام احمد في هذه
الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه مستحبة غير واجبة، قال في موضع ان صلي عليه فلا بأس به، وفى
موضع آخر قال يصلى وأهل الحجاز لا يصلون عليه، وما تضره الصلاة لا بأس به، وصرح بذلك في
رواية المروذي، فقال الصلاة عليه أجود وان لم يصلوا عليه أجزأ فكان الروايتين في استحباب
الصلاة لا في وجوبها إحداهما يستحب لما روى عقبة ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد
صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر متفق عليه، وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد
ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم
متفق عليه، ولأنه لا يغسل مع امكان غسله فلم يصل عليه كسائر من لم يغسل، وحديث عقبة مخصوص
بشهداء أحد فإنه صلى عليهم في القبور بعد ثماني سنين وهم لا يصلون على القبر أصلا، ونحن لا نصلي عليه

(1) المراد بالنجاسة والطهر هنا المعنويان لا الحسيان كما تقول الشيعة. فالغسل طهارة تعبد، وأما النجاسة الحسية إذا كانت على بدن الميت أو الحي فتطهر بغسل الكافر لها قطعا
401

بعد شهر. وحديث ابن عباس يرويه الحسن بن عمارة وهو ضعيف وقد أنكر عليه شعبة رواية هذا
الحديث. وقال إن جرير بن حازم يكلمني في أن لا أتكلم في الحسن بن عمارة وكيف لا أتكلم فيه
وهو يروي هذا الحديث، ثم نحمله على الدعاء. إذا ثبت هذا فيحتمل أن ترك غسل الشهيد لما تضمنه
الغسل من إزالة أثر العبادة المستحسنة شرعا فإنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (والذي نفسي بيده
لا يكلم (1) أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم
والريح ريح مسك) رواه البخاري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس شئ أحب إلى الله من قطرتين وأثرين:
أما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة الله تعالى) رواه الترمذي وقال هو حديث حسن:
وقد جاء ذكر هذه العلة في الحديث، فإن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (زملوهم
بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا يأتي يوم القيامة يدمي لونه لون الدم وريحه ريح المسك) رواه
النسائي. ويحتمل أن الغسل لا يجب إلا من أجل الصلاة إلا أن الميت لا فعل له فأمرنا بغسله لنصلي
عليه، فمن لم تجب الصلاة عليه لم يجب غسله كالحي، ويحتمل أن الشهداء في المعركة يكثرون
فيشق غسلهم وربما يكون فيهم الجراح فيتضررون فعفي عن غسلهم لذلك، وأما سقوط الصلاة
عليهم فيحتمل أن تكون علته كونهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شرعت في حق الموتى،
ويحتمل أن ذلك لغناهم عن الشفاعة لهم، فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله فلا يحتاج إلى شفيع
والصلاة إنما شرعت للشفاعة
(فصل) فإن كان الشهيد جنبا غسل وحكمه في الصلاة عليه حكم غيره من الشهداء وبه قال أبو
حنيفة وقال مالك: لا يغسل لعموم الخبر، وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا ما روي أن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما شأن حنظلة فاني رأيت
الملائكة تغسله) فقالوا انه جامع ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال. رواه ابن إسحاق في المغازي،
ولأنه غسل واجب لغير الموت فسقط بالموت كغسل النجاسة وحديثهم لا عموم له فإنه قضية في عين
ورد في شهداء أحد وحديثنا خاص في حنظلة وهو من شهداء أحد فيجب تقديمه: إذا ثبت هذا
فمن وجب الغسل عليه بسبب سابق على الموت كالمرأة تطهر من حيض أو نفاس ثم تقتل فهي كالجنب
للعلة التي ذكرناها، ولو قتلت في حيضها أو نفاسها لم يجب الغسل لأن الطهر من الحيض شرط في
الغسل أو في السبب الموجب فلا يثبت الحكم بدونه، فأما ان أسلم ثم استشهد فلا غسل عليه لأنه
روي أن أصيرم بن عبد الأشهل أسلم يوم أحد ثم قتل فلم يؤمر بغسله
(فصل) والبالغ وغيره سواء، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة: لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ لأنه ليس من أهل القتال

(1) أي لا يجرح
402

ولنا أنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم أشبه البالغ، ولأنه أشبه البالغ في الصلاة عليه
والغسل إذا لم يقتله المشركون فيشبهه في سقوط ذلك عنه بالشهادة، وقد كان في شهداء أحد حارثة
ابن النعمان، وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وهما صغيران والحديث عام في الكل وما ذكره يبطل بالنساء
(مسألة) قال (ودفن في ثيابه وإن كان عليه شئ من الجلود والسلاح نحي عنه)
أما دفنه بثيابه فلا نعلم فيه خلافا وهو ثابت بقول النبي صلى الله عليه وسلم (ادفنوهم بثيابهم) وروى أبو
داود وابن ماجة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود
وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم، وليس هذا بحتم لكنه الأولى وللولي أن ينزع عنه ثيابه ويكفنه بغيرها
وقال أبو حنيفة: لا ينزع عنه شئ لظاهر الخبر
ولنا ما روي أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما، وكفن
في الاخر رجلا آخر. رواه يعقوب بن شيبة وقال هو صالح الاسناد فدل على أن الخيار إلى الولي
والحديث الآخر يحمل على الإباحة والاستحباب. إذا ثبت هذا فإنه ينزع عنه من لباسه ما لم يكن
من عامة لباس الناس من الجلود والفراء والحديد. قال احمد: لا يترك عليه فرو ولا خف ولا جلد،
وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال مالك: لا ينزع عنه فرو ولا خف ولا محشو لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(ادفنوهم بثيابهم) وهذا عام في الكل وما رويناه أخص فكان أولى
(مسألة) قال (وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه)
معني قوله رمق أي حياة مستقرة فهذا يغسل ويصلي عليه وإن كان شهيدا لأن النبي صلى الله
عليه وسلم غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدا رماه ابن العرقة يوم الخندق بسهم فقطع أكحله
فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما حتى حكم في بني قريظة ثم انفتح جرحه فمات. وظاهر كلام الخرقي
أنه متى طالت حياته بعد حمله غسل وصلي عليه، وان مات في المعترك أو عقب حمله لم يغسل ولم
يصل عليه، ونحو هذا قول مالك قال: إن أكل أو شرب أو بقي يومين أو ثلاثة غسل. وقال احمد
في موضع: ان تكلم أو أكل أو شرب صلي عليه وقول أصحاب أبي حنيفة نحو من هذا. وعن أحمد
أنه سئل عن المجروح إذا بقي في المعترك يوما إلى الليل ثم مات فرأى أن يصلى عليه. وقال أصحاب
الشافعي: ان مات حال الحرب لم يغسل ولم يصل عليه والا فلا، والصحيح التحديد بطول الفصل أو الاكل
لأن الاكل لا يكون الا من ذي حياة مستقرة، وطول الفصل يدل على ذلك، وقد ثبت اعتباره في
كثير من المواضع. وأما الكلام والشرب وحالة الحرب فلا يصح التحديد بشئ منها لأنه يروى أن
403

النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد (من ينظر ما فعل سعد بن الربيع؟) فقال رجل أنا أنظر لك يا رسول الله
فنظر فوجده جريحا به رمق فقال له: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن انظر في الاحياء أنت أم في الأموات قال:
فأنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام وذكر الحديث، قال ثم لم أبرح أن
مات. وروي أن أصيرم بن عبد الأشهل وجده صريعا يوم أحد فقيل له ما جاء بك؟ قال أسلمت ثم
جئت وهما من شهداء أحد دخلا في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (ادفنوهم بدمائهم وثيابهم)
ولم يغسلهم ولم يصل عليهم، وقد تكلما وماتا بعد انقضاء الحرب. وفي قصة أهل اليمامة عن ابن عمر
أنه طاف في القتلى فوجد أبا عقيل الأنفي قال فسقيته ماء وبه أربعة عشر جرحا كلها قد خلص إلى
مقتل فخرج الماء من جراحاته كلها فلم يغسل، وفي فتوح الشام أن رجلا قال: أخذت ماء لعلي أسقى
ابن عمى ان وجدت به حياة فوجدت الحارث بن هشام فأردت أن أسقيه فإذا رجل ينظر إليه فأومأ
أن أسقيه فذهبت إليه لأسقيه فإذا آخر ينظر إليه فأوما لي أن أسقيه فلم أصل إليه حتى ماتوا كلهم ولم
يفرد أحد منهم يغسل ولا صلاة وقد ماتوا بعد انقضاء الحرب
(فصل) فإن كان الشهيد عاد عليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو. وقال القاضي يغسل
ويصلى عليه لأنه مات بغير أيدي المشركين أشبه ما لو أصابه ذلك في غير المعترك
ولنا ما روى أبو داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أغرنا على حي من جهينة فطلب
رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطاه فأصاب نفسه بالسيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخوكم
يا معشر المسلمين) فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه
فقالوا يا رسول الله أشهيد هو؟ قال (نعم وأنا له شهيد). وعامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر
فذهب يسفل له (1) فرجع سيفه على نفسه فكانت فيها نفسه فلم يفرد عن الشهداء بحكم ولأنه شهيدا المعركة
فأشبه ما لو قتله الكفار وبهذا فارق ما لو كان في غير المعترك، فأما إن سقط من دابته أو وجد ميتا
ولا أثر به فإنه يغسل نص عليه احمد وتأول الحديث (ادفنوهم بكلومهم) فإذا كان به كلم لم يغسل
وهذا قول أبي حنيفة في الذي يوجد ميتا لا أثر به. وقال الشافعي لا يغسل بحال لاحتمال أنه مات
بسبب من أسباب القتل
ولنا أن الأصل وجوب الغسل فلا يسقط بالاحتمال، ولان سقوط الغسل في محل الوفاق مقرون
بمن كلم فلا يجوز حذف ذلك عن درجة الاعتبار
(فصل) ومن قتل من أهل العدل (2) في المعركة فحكمه في الغسل والصلاة حكم من قتل في معركة
المشركين لأن عليا رضي الله عنه لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى أن لا يغسل وقال: ادفنوني

(1) أي ليضربه من أسفل
(2) أهل العدل هم جماعة الإمام الحق أي من قتل منهم في قتال البغاة والخارجين على الإمام فهم شهداء
404

في ثيابي فاني مخاصم. قال احمد: قد أوصى أصحاب الجمل انا مستشهدون غدا فلا تنزعوا عنا ثوبا ولا
تغسلوا عنا دما، ولأنه شهيد المعركة أشبه قتيل الكفار وهذا قول أبي حنيفة. وقال الشافعي في أحد
قوليه: يغسلون لأن أسماء غسلت ابنها عبد الله بن الزبير والأول أولى لما ذكرناه، وأما عبد الله بن
الزبير فإنه أخذ وصلب فهو كالمقتول ظلما وليس بشهيد المعركة
وأما الباغي فقال الخرقي من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه، ويحتمل إلحاقه بأهل
العدل لأنه لم ينقل إلينا غسل أهل الجمل وصفين من الجانبين ولأنهم يكثرون في المعترك
فيشق غسلهم فأشبهوا أهل العدل، فأما الصلاة على أهل العدل فيحتمل أن لا يصلى عليهم لأننا
شبهناهم بشهداء معركة المشركين في الغسل فكذلك في الصلاة ويحتمل أن يصلي عليهم لأن عليا
رضي الله عنه صلى عليهم (1)
(فصل) فأما من قتل ظلما أو قتل دون ماله أو دون نفسه وأهله ففيه روايتان (إحداهما)
يغسل اختارها الحلال وهو قول الحسن ومذهب الشافعي ومالك لأن رتبته دون رتبة الشهيد في
المعترك فأشبه المبطون، ولان هذا لا يكثر القتل فيه فلم يجز الحاقه بشهيد المعترك، والثانية لا يغسل
ولا يصلى عليه وهو قول الشعبي والأوزاعي واسحق في الغسل لأنه قتل شهيدا أشبه شهيد المعترك
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد)
(فصل) فأما الشهيد بغير قتل كالمبطون والمطعون والغرق (2) وصاحب الهدم والنفساء فإنهم يغسلون
ويصلى عليهم لا نعلم فيه خلافا إلا ما يحكى عن الحسن: لا يصلى على النفساء لأنها شهيدة
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها. متفق عليه، وصلى على سعد
ابن معاذ وهو شهيد، وصلى المسلمون على عمر وعلي رضي الله عنهما وهما شهيدان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
(الشهداء خمسة المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله) قال
الترمذي هذا حديث صحيح متفق عليه
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الشهادة سبع سوى القتل) وزاد على ما ذكر في هذا الخبر صاحب
الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة تموت بجمع شهيدة، وكل هؤلاء يغسلون ويصلى عليهم
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك غسل الشهيد في المعركة لما يتضمنه من إزالة الدم المستطاب شرعا أو لمشقة
غسلهم لكثرتهم أو لما فيهم من الجراح ولا يوجد ذلك هاهنا
(فصل) فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فلم يميزوا صلى على جميعهم ينوي المسلمين
قال احمد ويجعلهم بينه وبين القبلة ثم يصلي عليهم وهذا قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إن
كان المسلمون أكثر صلى عليهم والا فلا لأن الاعتبار بالأكثر بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها

(1) تقدم في أول الفصل ان عليا لم يغسلهم فهل صلى عليهم بدون غسل؟
(2) الغريق: كتعب وفرح الغريق
405

الاسلام لكثرة المسلمين بها وعكسها دار الحرب لكثرة من بها من الكفار
ولنا أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر فوجب كما لو كانوا أكثر، ولأنه إذا جاز أن
يقصد بصلاته ودعائه الأكثر جاز قصد الأقل، ويبطل ما قالوه بما إذا اختلطت أخته بأجنبيات
أو ميتة بمذكيات ثبت الحكم للأقل دون الأكثر
(فصل) وإن وجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر نظر إلى العلامات من الختان والثياب
والخضاب، فإن لم يكن عليه علامة وكان في دار الاسلام غسل وصلي عليه، وإن كان في دار الكفر
لم يغسل ولم يصل عليه، نص عليه احمد لأن الأصل أن من كان في دار فهو من أهلها يثبت له حكمهم
ما لم يقم على خلافه دليل
(مسألة) قال (والمحرم يغسل بماء وسدر ولا يقرب طيبا ويكفن في ثوبيه
ولا يغطى رأسه ولا رجلاه)
إنما كان كذلك لأن المحرم لا يبطل حكم احرامه بموته فلذلك جنب ما يجنبه المحرم من الطيب
وتغطية الرأس ولبس المخيط وقطع الشعر، روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس، وبه قال عطاء
والثوري والشافعي واسحق، وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة: يبطل احرامه بالموت ويصنع به
كما يصنع بالحلال، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر وطاوس لأنها عبادة شرعية فبطلت
بالموت كالصلاة والصيام
ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اغسلوه
بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تسموه طيبا، ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبدا) وفي
رواية ملبيا. متفق عليه، فإن قيل هذا خاص له لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا قلنا حكم النبي صلى الله عليه وسلم في
واحد حكمه في مثله إلا أن يرد تخصيصه، ولهذا ثبت حكمه في شهداء أحد في سائر الشهداء، وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة) قال أبو داود: سمعت احمد
ابن حنبل يقول: في هذا الحديث خمس سنن كفنوه في ثوبه أي يكفن في ثوبين، وأن يكون في
الغسلات كلها سدر، ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبا ويكون الكفن من جميع المال. وقال احمد
في موضع: يصب عليه الماء صبا، ولا يغسل كما يغسل الحلال، وإنما كره عرك رأسه ومواضع الشعر
كيلا يتقطع شعره، واختلف عنه في تغطية رجليه، فروى حنبل عنه لا تغطي رجلاه وهو الذي ذكره
الخرقي. وقال الخلال: لا أعرف هذا في الأحاديث ولا رواه أحد عن أبي عبد الله غير حنبل وهو
عندي وهم من حنبل والعمل على أنه يغطى جميع المحرم الا رأسه لأن احرام الرجل في رأسه ولا يمنع
من تغطية رجليه في حياته فكذلك في مماته، واختلفوا عن أحمد في تغطية وجهه فنقل عنه إسماعيل
406

ابن سعيد لا يغطي وجهه لأن في بعض الحديث (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه) ونقل عنه سائر
أصحابه لا بأس بتغطية وجهه لحديث ابن عباس الذي رويناه وهو أصح ما روي فيه، وليس فيه
الا المنع من تغطية الرأس، ولان احرام الرجل في رأسه ولا يمنع من تغطية وجهه في الحياة فبعد الموت
أولى، ولم ير أن يلبس المحرم المخيط بعد موته كما لا يلبسه في حياته، وإن كان الميت امرأة محرمة
ألبست القميص وخمرت كما تفعل ذلك في حياتها ولم تقرب طيبا لأنه يحرم عليها في حياتها فكذلك بعد موتها
(مسألة) قال (وان سقط من الميت شئ غسل وجعل في أكفانه)
وجملته أنه إذا بان من الميت شئ وهو موجود غسل وجعل معه في أكفانه قاله ابن سيرين
ولا نعل فيه خلافا، وقد روي عن أسماء أنها غسلت ابنها فكانت تنزعه أعضاء كلما غسلت عضوا
طيبته وجعلته في كفنه، ولان في ذلك جمع أجزاء الميت في موضع واحد وهو أولى من تفريقها
(فصل) فإن لم يوجد إلا بعض الميت فالمذهب انه يغسل ويصلى عليه وهو قول الشافعي. ونقل
ابن منصور عن أحمد انه لا يصلى على الجوارح. قال الخلال ولعله قول قديم لأبي عبد الله والذي
استقر عليه قول أبي عبد الله انه يصلى على الأعضاء. وقال أبو حنيفة ومالك إن وجد الأكثر صلى
عليه وإلا فلا لأنه بعض لا يزيد على النصف فلم يصل عليه كالذي بان في حياة صاحبه والشعر والظفر
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم قال أحمد: صلى أبو أيوب على رجل وصلى عمر على عظام
بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤس بالشام رواهما عبد الله بن أحمد باسناده. وقال الشافعي ألقى
طائر يدا بمكة من وقعة الجمل فعرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصلى عليها أهل مكة وكان
ذلك بمحضر من الصحابة ولم نعرف من الصحابة مخالفا في ذلك ولأنه بعض من جملة تجب الصلاة عليها
فيصلى عليه كالأكثر وفارق ما بان في الحياة لأنه من جملة لا يصلى عليها والشعر والظفر لا حياة فيه
(فصل) وان وجد الجزء بعد دفن الميت غسل وصلى عليه ودفن إلى جانب القبر أو نبش بعض
القبر ودفن فيه، ولا حاجة إلى كشف الميت لأن ضرر نبش الميت وكشفه أعظم من الضرر بتفرقة أجزائه
(فصل) والمجدور والمحترق والغريق إذا أمكن غسله غسل، وإن خيف تقطعه بالغسل صب عليه الماء
صبا ولم يمس، فإن خيف تقطعه بالماء لم يغسل وييمم إن أمكن كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر
غسل الميت لعدم الماء يمم، وان تعذر غسل بعضه دون بعض غسل ما أمكن غسله ويمم الباقي كالحي سواء
(فصل) فإن مات في بئر ذات نفس فأمكن معالجة البئر بالأكسية المبلولة تدار في البئر حتى
تجتذب بخاره ثم ينزل من يطلعه أو أمكن اخراجه بكلاليب من غير مثلة لزم ذلك لأنه أمكن غسله
من غير ضرر فلزم كما لو كان على ظهر الأرض، وإذا شك في زوال بخاره أنزل إليه سراج أو نحوه
فإن انطفأ فالبخار باق وان لم ينطفئ فقد زال فإنه يقال لا تبقي النار إلا فيما يعيش فيه الحيوان،
407

وان لم يكن اخراجه إلا بمثلة ولم يكن إلى البئر حاجة طمت عليه فكانت قبره، وإن كان طمها
يضر بالمارة أخرج بالكلاليب سواء أفضى إلى المثلة أو لم يقض لأن فيه جمعا بين حقوق كثيرة
نفع المارة وغسل الميت، وربما كانت المثلة في بقائه أعظم لأنه يتقطع وينتن، فإن نزل على البئر
قوم فاحتاجوا إلى لماء وخافوا علي أنفسهم فلهم اخراجه وجها واحدا وان حصلت مثلة، لأن ذلك
أسهل من تاب نفوس الاحياء، ولهذا لو لم يجد من السترة الا كفن الميت واضطر الحي إليه قدم الحي،
ولان حرمة الحي وحفظ نفسه أولى من حفظ الميت عن المثلة لأن زوال الدنيا أهون على الله من قتل
مسلم، ولان الميت لو بلع مال غيره شق بطنه لحفظ مال الحي وحفظ النفس أولى من حفظ المال والله أعلم
(مسألة) قال (وإن كان شاربه طويلا أخذ وجعل معه)
وجملته ان شارب الميت إن كان طويلا استحب قصه وهذا قول الحسن وبكر بن عبد الله
وسعيد بن جبير واسحق. وقال أبو حنيفة ومالك لا يؤخذ من الميت شئ فإنه قطع شئ منه فلم
يستحب كالختان، واختلف أصحاب الشافعي كالقولين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم) والعروس يحسن، ويزال عنه
ما يستقبح من الشارب وغيره ولان تركه يقبح فشرعت ازالته كفتح عينيه وفمه شرع ما يزيله،
ولأنه فعل مسنون في الحياة لا مضرة فيه فشرع بعد الموت كالاغتسال، ويخرج على هذا الحتان
لما فيه من المضرة، فإذا أخذ الشعر جعل في أكفانه لأنه من الميت فيستحب جعله في أكفانه
كأعضائه، وكذلك كل ما أخذ من الميت من شعر أو ظفر أو غيرهما فإنه يغسل وبجعله معه في أكفانه كذلك
(فصل) فأما الأظفار إذا طالت ففيها روايتان: إحداهما لا تقلم، قال أحمد: لا تقلم أظفاره
وينقى وسخها وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله: والخلال يستعمل ان احتيج إليه، والخلال يزال به ما تحت
الأظفار لأن الظفر لا يظهر كظهور الشارب فلا حاجة إلى قصه. والثانية يقص إذا كان فاحشا
نص عليه لأنه من السنة ولا مضرة فيه فيشرع أخذه كالشارب، ويمكن أن تحمل الرواية الأولى
على ما إذا لم تكن فاحشة. وأما العانة فظاهر كلام الخرقي انها لا تؤخذ لتركه ذكرها وهو قول
ابن سيرين ومالك وأبي حنيفة لأنه يحتاج في أخذها إلى كشف العورة ولمسها وهتك الميت وذلك
محرم لا يفعل لغير واجب ولان العورة مستورة يستغنى بسترها عن ازالتها. وروي عن أحمد أن
أخذها مسنون وهو قول الحسن وبكر بن عبد الله وسعيد بن جبير واسحق لأن سعد بن أبي وقاص
جز عانة ميت ولأنه شعر ازالته من السنة فأشبه الشارب والأول أولى، ويفارق الشارب العانة لأنه
ظاهر يتفاحش لرؤيته ولا يحتاج في أخذه إلى كشف العورة ولا مسها. فإذا قلنا بأخذها فإن حنبلا
روى أن أحمد سئل ترى أن تستعمل النورة؟ قال الموسى أو مقراض يؤخذ به الشعر من عانته.
408

وقال القاضي تزال بالنورة لأنه أسهل ولا يمسها. ووجه قول أحمد انه فعل سعد، والنورة لا يؤمن
أن تتلف جلد الميت.
(فصل) فأما الختان فلا يشرع لأنه إبانة جزء من أعضائه وهذا قول أكثر أهل العلم. وحكي
عن بعض الناس انه يختن حكاه الإمام أحمد والأول أولى لما ذكرناه، ولا يحلق رأس الميت لأنه
ليس من السنة في الحياة وإنما يراد لزينة أو نسك، ولا يطلب شئ من ذلك هاهنا
(فصل) وان جبر عظمه بعظم فجبر ثم مات لم ينزع إن كان طاهرا، وإن كان نجسا فأمكن
ازالته من غير مثلة أزيل لأنه نجاسة مقدور على ازالتها من غير مضرة، وان أفضى إلى المثلة لم يقلع
وصار في حكم الباطن كما لو كان حيا، وإن كان على الميت جبيرة يفضي نزعها إلى مثله مسحت كمسح
جبيرة الحي، وان لم يفض إلى مثلة نزعت فغسل ما تحتها. قال أحمد: في الميت تكون أسنانه مربوطة
بذهب ان قدر على نزعه من غير أن يسقط بعض أسنانه نزعه، وان خاف أن يسقط بعضها تركه
(فصل) ومن كان مشنجا أو به حدب أو نحو ذلك فأمكن تمديده بالتليين والماء الحار فعل ذلك
وإن لم يمكن إلا بعنف تركه بحاله، فإن كان على صفة لا يمكن تركه على النعش إلا على وجه يشتهر
بالمثلة ترك في تابوت أو تحت مكبة مثل ما يصنع بالمرأة لأنه أصون وأستر لحاله
(فصل) ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شئ من الخشب أو الجريد مثل القبة يترك
فرقه ثوب ليكون أستر لها، وقد روى أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها
أول من صنع لها ذلك بأمرها
(مسألة) قال (ويستحب تعزية أهل الميت)
لا نعلم في هذه المسألة خلافا إلا أن الثوري قال لا تستحب التعزية بعد الدفن لأنه خاتمة أمره
ولنا عموم قوله عليه السلام (من عزى مصابا فله مثل أجره) رواه الترمذي وقال هو حديث
غريب. وروى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن
جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم
القيامة) وقال أبو برزة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة) قال الترمذي
هذا ليس اسناده بالقوي. والمقصود بالتعزية تسلية أهل المصيبة، وقضاء حقوقهم، والتقرب إليهم،
والحاجة إليها بعد الدفن كالحاجة إليها قبله
(فصل) ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة كبارهم وصغارهم، ويخص خيارهم والمنظور إليه من
بينهم ليستن به غيره، وذا الضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها، ولا يعزي الرجل الأجنبي
شواب النساء مخافة الفتنة
(فصل) ولا نعلم في التعزية شيئا محدودا إلا أنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلا فقال (رحمك
409

الله وآجرك) رواه الإمام أحمد وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال: أعظم الله أجركم
وأحسن عزاءكم. وقال بعض أصحابنا إذا عزى مسلما بمسلم قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، ورحم
ميتك. واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: لما توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: ان في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من
كل هالك، ودركا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. رواه
الشافعي في مسنده. وان عزى مسلما بكافر قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك
(فصل) وتوقف أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها روايتان
إحداهما لا نعودهم فكذلك لا نعزيهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تبدؤهم بالسلام) وهذا في معناه. والثانية
نعودهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى غلاما من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه فقال له (أسلم) فنظر
إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول (الحمد لله الذي
أنقذه بي من النار) رواه البخاري فعلى هذا نعزيهم فنقول في تعزيتهم بمسلم، أحسن الله عزاءك وغفر
لميتك، وعن كافر، أخلف الله عليك ولا نقص عددك، ويقصد زيادة عددهم لتكثر جزيتهم، وقال
أبو عبد الله بن بطة يقول، أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل دينك. فاما الرد من
المعزى فبلغنا عن أحمد بن الحسين قال، سمعت أبا عبد الله وهو يعزى في عبثر ابن عمه، وهو يقول
استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك.
(فصل) قال أبو الخطاب يكره الجلوس للتعزية، وقال ابن عقيل يكره بعد خروج الروح
لأن فيه تهييجا للحزن وقال أحمد أكره التعزية عند القبر الا لمن لم يعز فيعزي إذا دفن الميت، أو قبل
أن يدفن وقال إن شئت أخذت بيد الرجل في التعزية وإن شئت لم تأخذ، وإذا رأى الرجل قد
شق ثوبه على المصيبة عزاه ولم يترك حقا لباطل، وان نهاه فحسن.
(مسألة) قال (والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة)
أما البكاء بمجرده فلا يكره في حال وقال الشافعي يباح إلى أن تخرج الروح ويكره بعد ذلك
لما روى عبد الله بن عتيك قال جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن ثابت يعوده فوجده قد غلب
فصاح به فلم يجبه فاسترجع وقال. (غلبنا عليك أبا الربيع) فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك
يسكتهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية) يعني إذا مات.
ولنا ما روى أنس قال شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت
عينيه تدمعان. وقبل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت ورفع رأسه وعيناه تهراقان. وقال أنس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة
فأصيب وان عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان. وقالت عائشة دخل أبو بكر فكشف عن وجه
410

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله ثم بكى وكلها أحاديث صحاح، وروى الأموي في المغازي عن عائشة أن
سعد بن معاذ لما مات جعل أبو بكر وعمر ينتحبان حتى اختلطت علي أصواتهما. وروى أن النبي
صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن عبادة وهو في غاشيته فبكي وبكى أصحابه وقال (ألا تسمعون؟ ان الله
لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم) وعنه عليه السلام
انه دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن
ابن عوف وأنت يا رسول الله؟ فقال (يا ابن عوف انها رحمة) ثم اتبعها بأخرى فقال (ان العين
تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) متفق عليهما.
وحديثهم محمول على رفع الصوت والندب وشبههما بدليل ما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ابنه
فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن بن عوف أتبكي أولم تكن نهيت عن البكاء؟ قال (لا.
ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند مصيبة، وخمش وجوه جيوب، ورنة
شيطان) قال الترمذي هذا حديث حسن، وهذا يدل على أنه لم ينه عن مطلق البكاء وإنما نهى عنه
موصوفا بهذه الصفات. وقال عمر رضي الله عنه: ما على نساء بني المغيرة أن يبكين أبي سليمان
ما لم يكن نقع أو لقلقة. قال أبو عبد: اللقلقة رفع الصوت، والنقع التراب يوضع على الرأس
(فصل) وأما الندب فهو تعداد محاسن الميت وما يلقون بفقده بلفظ النداء لأنه يكون بالواو
مكان الياء وربما زيدت فيه الألف والهاء مثل قولهم وارجلاه واجبلاه وانقطاع ظهراه وأشباه هذا
والنياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب وضرب الخدود والدعاء بالويل والثبور، فقال بعض أصحابنا
هو مكروه، ونقل حرب عن أحمد كلاما فيه احتمال إباحة النوح والندب اختاره الخلال وصاحبه
لأن واثلة بن الأسقع وأبا وائل كانا يستمعان النوح ويبكيان، وقال احمد: إذا ذكرت المرأة مثل
ما حكي عن فاطمة في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح يعني لا بأس، به وروي عن فاطمة رضي الله
عنها انها قالت: يا أبتاه، من ربه ما أدناه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه أجاب ربا دعاه. وروي
عن علي رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها أخذت قبضة من تراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فوضعتها على عينها ثم قالت:
ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصيبة لو أنها * صبت على الأيام عدن لياليا
وظاهر الاخبار تدل على تحريم النوح وهذه الأشياء المذكورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها في
حديث جابر لقول الله تعالى (ولا يعصينك في معروف) قال أحمد هو النوح. ولعن النبي صلى الله عليه وسلم
النائحة والمستمعة، وقالت أم عطية: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح متفق عليهن
وعن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى
411

الجاهلية) متفق عليه، ولان ذلك يشبه الظلم والاستغاثة والسخط بقضاء الله، وفي بعض الآثار
ان أهل البيت إذا دعوا بالويل والثبور وقف ملك الموت في عتبة لباب وقال: إن كانت صيحتكم علي فانى
مأمور، وإن كانت على ميتكم فإنه مقبور، وإن كان على ربكم فالويل لكم والثبور، وان لي فيكم عودات
ثم عودات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا (حضرتم الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)
(فصل) وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان الميت يعذب في قبره بما يناح عليه) وفي لفظ
(ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وروي ذلك عن عمر وابنه والمغيرة، وهي أحاديث متفق عليها.
واختلف أهل العلم في معناها فحملها قوم على ظواهرها وقالوا يتصرف في خلقه بما شاء، وأيدوا ذلك
بما روى أبو موسى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واجبلاه واسنداه
ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكين يلهزانه أهكذا كنت؟) قال الترمذي هذا حديث حسن. وروى
النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وتقول: واجبلاه واكذا واكذا
تعدد عليه. فقال حين أفاق: ما قلت لي شيئا إلا قيل لي أنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه أخرجه
البخاري. وأنكرت عائشة رضي الله عنها حملها على ظاهرها ووافقها ابن عباس، قال ابن عباس:
ذكرت ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمر ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الله ليعذب المؤمن ببكاء
أهله عليه) ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه) وقالت: حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قال ابن عباس عند ذلك والله أضحك وأبكى وذكر ذلك
ابن عباس لابن عمر حين روى حديثه فما قال شيئا رواه مسلم، وحمله قوم على من كان النوح بسببه ولم ينه
أهله لقول الله تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته) وحمله آخرون على من أوصى بذلك في حياته كقول طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله * وشقي علي الجيب يا بنت معبد
وقال آخر:
من كان من أمهاتي باكيا أبدا * فاليوم أبى أراني اليوم مقبوضا
سمعتينه فاني غير سامعه * إذا جعلت على الأعناق معروضا
ولا بد من حمل البكاء في هذه الأحاديث على البكاء غير المشروع وهو الذي معه ندب ونياحة
ونحو هذا بدليل ما قدمناه من الأحاديث في صدر المسألة
(فصل) وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر
والصلاة ويتنجز ما وعد الله به الصابرين حيث يقول سبحانه (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم
مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)
وروى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما من
عبد تصيبه مصيبة فيقول (إنا لله وإنا إليه راجعون) اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها
412

إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها) قالت: فلما مات أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخلف لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليحذر أن يتكلم بشئ يحبط أجره ويسخط ربه مما
يشبه التظلم والاستغاثة فإن الله عدل لا يجور، وله ما أخذ وله ما أعطى وهو الفعال لما يريد، فلا يدعو
على نفسه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما مات أبو سلمة (لا تدعو على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ويحتسب ثواب الله وبحمده لما روى أبو موسى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا
مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم. فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم. فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك واسترجع. فيقول ابنوا لعبدي بيتا في الجنة
وسموه بيت الحمد) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب
(مسألة) قال (ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعاما يبعث به إليهم ولا يصلحون
هم طعاما يطعمون الناس)
وجملته انه يستحب اصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبرا لقلوبهم فإنهم
ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن اصلاح طعام لأنفسهم وقد روى أبو داود في سننه باسناده
عن عبد الله بن جعفر قال لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه
قد أتاهم أمر شغلهم) وروي عن عبد الله بن أبي أنه قال فما زالت السنة فينا حتى تركها من
تركها. فأما صنع أهل الميت طعاما للناس فمكروه لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلا لهم إلى شغلهم، وتشبها
بصنع أهل الجاهلية، ويروى أن جريرا وفد على عمر فقال: هل يناح على ميتكم؟ قال لا. قال: وهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون الطعام؟ قال نعم. قال ذاك النوح وان دعت الحاجة إلى ذلك جاز
فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه
(مسألة) قال (والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك فلا يشق بطنها ويسطو
عليه القوابل فيخرجنه)
معنى يسطو القوابل أن يدخلن أيديهن في فرجها فيخرجن الولد من مخرجه، والمذهب انه
لا يشق بطن الميتة لاخراج ولدها مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة،
وان لم يوجد نساء لم يسط الرجال عليه وتترك أمه حتى يتيقن موته ثم تدفن، ومذهب مالك وإسحاق
قريب من هذا، ويحتمل أن يشق بطن الام ان غلب على الظن ان الجنين يحيا وهو مذهب الشافعي (1)
لأنه اتلاف جزء من الميت لابقاء حي فجاز كما لو خرج بعضه حيا ولم يمكن خروج بقيته الا بشق
ولأنه يشق لاخراج المال منه فلا بقاء الحي أولى
ولنا ان هذا الولد لا يعيش عادة ولا يتحقق انه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم
وقد قال عليه السلام (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي) رواه أبو داود، وفيه مثله وقد نهى

(1) مذهب الشافعي في المسألة أظهر والعمدة في ترجيح حياة الجنين وعدمها قول ثقات الأطباء بل ثبت ذلك بالفعل فليس أمرا موهوما كما قال المصنف بناء على تجربة ناقصة
413

النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وفارق الأصل فإن حياته متيقنة وبقاءه مظنون، فعلى هذا إن
خرج بعض الولد حيا ولم يكن اخراجه إلا بشق شق المحل وأخرج لما ذكرنا، وان مات على تلك
الحال فأمكن اخراجه أخرج وغسل، وان تعذر غسله ترك وغسلت الام وما ظهر من الولد. وما بقي
ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله لأن الجميع كان في الباطن فظهر البعض فتعلق به
الحكم وما بقي فهو على ما كان عليه، ذكر هذا ابن عقيل وقال هي حادثة سئلت عنها فأفتيت فيها
(فصل) وإن بلع الميت مالا لم يخل من أن يكون له أو لغيره، فإن كان له لم يشق بطنه لأنه
استهلكه في حياته، ويحتمل انه إن كان يسيرا ترك وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج لأن فيه
حفظ المال عن الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بأذنه
فهو كما له لأن صاحبه أذن في اتلافه، وان بلعه غصبا ففيه وجهان: أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من
تركته لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى. والثاني يشق إن كان
كثيرا لأن فيه دفع الضرر عن الملك برد ماله إليه، وعن الميت بابراء ذمته وعن الورثة بحفظ التركة
لهم، ويفارق الجنين من وجهين: أحداهما انه لا يتحقق حياته، والثاني انه ما حصل بجنايته (1). فعلى
هذا الوجه إذا بلي جسده وغلب على الظن ظهور المال وتخلصه من أعضاء الميت جاز نبشه واخراجه
وقد روى أبو داود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان هذا قبر أبي رغال وآية ذلك أن معه
غصنا من ذهب ان أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه) فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن، ولو كان في
أذن الميت حلق أو في أصبعه خاتم أخذ، فإن صعب أخذه برد وأخذ لأن تركه تضييع للمال
(فصل) وان وقع في القبر ماله قيمة نبش وأخرج. قال أحمد إذا نسي الحفار مسحاته في القبر
جاز أن ينبش عنها، وقال في الشئ يسقط في القبر مثل الفأس والدراهم ينبش، قال إذا كان له قيمة

(1) كل من الفارقين ممنوع أما الأول فيما ذكرناه في لحاشية السابقة. واما الثاني فلان إخراج المال يجب ولو لم يكن جانيا بادخاله في جوفه كأن يدخله غيره فيه بعملية جراحية أو يفعله في حال غيبة عن الادراك. وجملة القول حياة انسان أعظم من حفظ المال
414

يعني ينبش. قيل فإن أعطاه أولياء الميت؟ قال إن أعطوه حقه أي شئ يريد، وقد روي أن المغيرة
ابن شعبة طرح خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال خاتمي ففتح موضع منه فأخذ المغيرة خاتمه
فكان يقول: أنا أقربكم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم
(فصل) وان دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة نبش وغسل ووجه إلا أن يخاف عليه أن يتفسخ
فيترك وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور. وقال أبو حنيفة لا ينبش لأن النبش مثله وقد نهي عنها
ولنا ان الصلاة تجب ولا تسقط بذلك كاخراج ماله قيمة، وقولهم ان النبش مثلة قلنا إنما هو
مثلة في حق من يقبر ولا ينبش
(فصل) وان دفن قبل الصلاة فعن أحمد انه ينبش ويصلى عليه، وعنه انه ان صلي على القبر
415

جاز، واختار القاضي انه يصلى على القبر ولا ينبش وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى على قبر المسكينة ولم ينبشها، ووجه الأول انه دفن قبل واجب فنبش كما لو دفن من
غير غسل، وإنما يصلى على القبر عند الضرورة. وأما المسكينة فقد كانت صلي عليها ولم تبق الصلاة
عليها واجبة فلم تنبش لذلك، فأما ان تغير الميت لم ينبش بحال
(فصل) وإن دفن بغير كفن ففيه وجهان (أحداهما) يترك لأن القصد بالكفن سترة وقد حصل
ستره بالتراب (والثاني) ينبش ويكفن لأن التكفين واجب فأشبه الغسل، وان كفن بثوب مغصوب
فقال القاضي يغرم قيمته من تركته ولا ينبش لما فيه من هتك حرمته مع امكان دفع الضرر بدونها
ويحتمل أن ينبش إذا كان الكفن باقيا بحال ليرد إلى مالكه عن ماله وإن كان باليا فقيمته من تركته
فإن دفن في أرض غصب أو أرض مشتركة بينه وبين غيره بغيره اذن شريكه نبش وأخرج لأن
القبر في الأرض يدوم ضرره ويكثر بخلاف الكفن، فإن أذن المالك في الدفن في أرضه ثم أراد
اخراجه لم يملك ذلك لأن في ذلك ضررا، وإن بلي الميت وعاد ترابا فلصاحب الأرض أخذها وكل
موضع أجزنا نبشه لحرمة ملك الآدمي فالمستحب تركه احتراما للميت
(مسألة) قال (وإذا حضرت الجنازة وصلاة الفجر بدئ بالجنازة، وإذا حضرت
صلاة المغرب بدئ بالمغرب)
وجملته أنه متى حضر ت الجنازة والمكتوبة بدئ بالمكتوبة إلا الفجر والعصر لأن ما بعدهما وقت
نهي عن الصلاة فيه نص عليه احمد نحو من هذا وهو قول ابن سيرين، ويروى عن مجاهد
والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة أنهم قالوا: يبدأ بالمكتوبة لأنها أهم وأيسر، والجنازة يتطاول أمرها والاشتغال بها، فإن قدم جميع أمرها على المكتوبة أفضى إلى
تفويتها، وإن صلى عليها ثم
انتظر فراغ المكتوبة لم يعد تقديمها إلا في الفجر والعصر، فإن تقديم الصلاة عليها بعيدا أن يقع
في غير وقت النهي عن الصلاة فيكون أولا
(فصل) قال احمد تكره الصلاة يعنى على الميت في ثلاثة أوقات عند طلوع الشمس ونصف
416

النهار وعند غروب الشمس، وذكر حديث عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا
أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى
يميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب. رواه المسلم، ومعنى تتضيف أي تجنح وتميل
للغروب من قولك تضيفت فلانا إذا ملت إليه. قال ابن المبارك: معنى أن نقبر فيهن موتانا يعنى
الصلاة على الجنازة، قيل لأحمد الشمس على الحيطان مصفرة قال: يصلى عليها ما لم للغروب فلا
وتجوز الصلاة على الميت في غير هذه الأوقات، روي ذلك عن ابن عمر وعطاء والنخعي والأوزاعي
والثوري واسحق وأصحاب الرأي وحكي عن أحمد أن ذلك جائز وهو قول للشافعي قياسا على ما بعد
الفجر والعصر والأول أصح لحديث عقبة بن عامر، ولا يصح القياس على الوقتين الأخيرين لأن
مدتهما تطول فيخاف على الميت فيهما ويشق انتظار خروجهما بخلاف هذه، وكره احمد أيضا دفن
الميت في هذه الأوقات لحديث عقبة، فأما الصلاة على القبر والغائب فلا يجوز في شئ من أوقات
النهي لأن علة تجويزها على الميت معللة بالخوف عليه، وقد أمن ذلك هاهنا فيبقى على أصل
المنع والعمل بعموم النهي
(فصل) فأما الدفن ليلا فقال احمد وما بأس بذلك وقال: أبو بكر دفن ليلا، وعلي دفن فاطمة
ليلا، وحديث عائشة: كنا سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وممن دفن
ليلا عثمان وأين مسعود، ورخص فيه عقبة بن عامر وسعيد بن المسيب وعطاء والثوري
والشافعي واسحق، وكرهه الحسن لما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا أن
أصحاب قبض وكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقد روي عن أحمد أنه قال: إليه أذهب
ولنا ما روى ابن مسعود قال: والله لكأني أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبر
ذي النجادين وأبو بكر وعمر وهو يقول (أدنيا مني أخاكما حتى أسنده في لحده) ثم قال لما فرغ من
دفنه وقام على قبره مستقبل القبلة (اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه) وكان ذلك ليلا قال فوالله
لقد رأيتني ولوددت اني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة، وأخذ من قبل القبلة. رواه الخلال
في جامعه، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة
وقال (رحمك الله إن كنت لاواها تلاء للقرآن) قال الترمذي هذا حديث حسن
417

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فقال (من هذا) قالوا: فلان دفن البارحة
فصلى عليه. أخرجه البخاري فلم ينكر عليهم، ولأنه أحد الآيتين فجاز الدفن فيه كالنهار وحديث
الزجر محمول على الكراهة والتأديب، فإن الدفن نهارا أولى لأنه أسهل على متبعها وأكثر للمصلين عليها
وأمكن لاتباع السنة في دفنه والحاده
(مسألة) قال (ولا يصلي الإمام على الغال ولا من قتل نفسه)
الغال هو الذي يكتم غنيمته أو بعضها ليأخذه لنفسه ويختص به فهذا لا يصلي عليه الإمام ولا
على من قتل نفسه متعمدا ويصلي عليه سائر الناس نص عليهما احمد. وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي
لا يصلى على قاتل نفسه بحال لأن من لا يصلي عليه الإمام لا يصلي عليه غيره كشهيد المعركة. وقال عطاء
والنخعي والشافعي: يصلي الإمام وغيره على كل مسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال
لا إله إلا الله) رواه الخلال باسناده
ولنا ما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه برجل قتل نفسها بمشاقص فلم
يصل عليه. رواه مسلم، وروى أبو داود أن رجلا انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره عن
رجل أنه قد مات، قال (وما يدريك؟) قال: رأيته ينحر نفسه، قال (أنت رأيته؟) قال نعم،
قال (إذا لا أصلي عليه) وروى زيد بن خالد الجهيني قال: توفى رجل من جهينة يوم خبير فذكر ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (صلوا على صاحبكم) فتغير ت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم قال (إن
صاحبكم غل من الغنيمة) احتج به احمد واختص هذا الامتناع بالإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لما امتنع من الصلاة على الغال قال (صلوا على صاحبكم) وروي أنه أمر بالصلاة على قاتل نفسه
وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام فألحق به من ساواه في ذلك، ولا يلزم من ترك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ترك صلاة
غيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بدء الاسلام لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له ويأمرهم بالصلاة عليه
فإن قيل هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن قلنا ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل، فإن قيل فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من عليه
دين قلنا ثم صلى عليه بعد، فروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفى
418

عليه الدين فيقول (هل ترك لدينه من وفاء؟) فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال للمسلمين
(صلوا على صاحبكم) فلما فتح الله الفتوح قام فقال (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من
المؤمنين وترك دينا علي قضاؤه، ومن ترك مالا فللورثة) قال الترمذي هذا حديث صحيح ولولا
النسخ كان كمسئلتنا، وهذه الأحاديث خاصة فيجب تقديمها على قوله (صلوا على من قال لا إله إلا
الله) على أنه تعارض بين الخبرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على هذين وأمر
بالصلاة عليهما، فلم يكن أمره بالصلاة علهما منافيا لتركه الصلاة عليهما كذلك أمره بالصلاة
على من قال لا إله إلا الله
(فصل) قال احمد: لا أشهد الجهمية ولا الرافضة ويشهده من شاء قد ترك النبي صلى الله عليه
وسلم الصلاة على أقل من هذا: الدين والغلول وقاتل نفسه. وقال لا يصلى على الرافضي وقال أبو بكر
ابن عياش: لا أصلي على رافضي ولا حروري. وقال الفاريابي: من شتم أبا بكر فهو كافر لا أصلي
عليه، قيل له فكيف تصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى
تواروه في حفرته. وقال احمد: أهل البدع لا يعادون إن مرضوا، ولا يشهد جنائزهم إن ماتوا وهذا
قول مالك: قال ابن عبد البر: وسائر العلماء يصلون على أهل البدع والخوارج وغيرهم لعموم قوله
عليه السلام (صلوا على من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله)
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة بأدون من هذا فأولى أن نترك الصلاة به،
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان لكل أمة مجوسا، وان مجوس أمتي الذين
يقولون لا قدر، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وان ماتوا فلا تشهدوهم) رواه الإمام أحمد
(فصل) ولا يصلى على أطفال المشركين لأن لهم حكم آبائهم الا من حكمنا باسلامه مثل أن يسلم
أحد أبويه أو يموت أو يسبى منفردا من أبويه أو من أحدهما فإنه يصلى عليه، قال أبو ثور من سبي من
أحد أبويه لا يصلى عليه حتى يختار الاسلام.
ولنا أنه محكوم له بالاسلام أشبه ما لو سبي منفردا منهما.
(فصل) ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم، قال أحمد من
استقبل قبلتنا وصلى بصلاتنا نصلي عليه وندفنه، ويصلى على ولد الزنا والزانية والذي يقاد منه بالقصاص
419

أو يقتل في حد، وسئل عمن لا يعطى زكاة ماله فقال يصلى عليه، ما يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك
الصلاة على أحد الا على قاتل نفسه والغال، وهذا قول عطاء والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن
أبا حنيفة قال لا يصلى على البغاة ولا المحاربين لأنهم باينوا أهل الاسلام وأشبهوا أهل دار الحرب وقال مالك
لا يصلى على من قتل في حد لأن أبا برزة الأسلمي قال: لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك
ولم ينه عن الصلاة عليه رواه أبو داود. (1)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال لا إله إلا الله) رواه الخلال باسناده، وروى الخلال
باسناده عن أبي شميلة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما هذا؟) قالوا مملوك لآل فلان قال (أكان يشهد أن لا إله إلا الله؟) قالوا نعم
ولكنه كان وكان فقال (أكان يصلي؟) قالوا قد كان يصلي ويدع فقال لهم (ارجعوا به فغسلوه وكفنوه
وصلوا عليه وادفنوه، والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه)
وأما أهل الحرب فلا يصلى عليهم لأنهم كفار ولا يقبل فيهم شفاعة ولا يستجاب فيهم دعاء وقد
نهينا عن الاستغفار لهم، وقال الله تعالى لنبيه (ولاتصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)
وقال (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) وأما ترك الصلاة على ماعز فيحتمل أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر من يصلى عليه لعذر بدليل أنه رجم الغامدية وصلى عليها فقال له ترجمها وتصلي عليها؟
فقال (لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) كذلك رواه الأوزاعي، وروى معمر
وهشام عن أبان أنه أمرهم بالصلاة عليها قال ابن عبد البر وهو الصحيح.
(مسألة) قال (وإذا حضرت جنازة رجل وامرأة وصبي جعل الرجل مما إلي الإمام
والمرأة خلفه والصبي خلفهما
لا خلاف في المذهب أنه إذا اجتمع مع الرجل غيرهم أنه يجعل الرجال مما يلي الإمام وهو مذهب
أكثر أهل العلم، فإن كان معهم نساء وصبيان، فنقل الخرقي هاهنا أن المرأة تقدم مما بلي الرجل ثم
يجعل الصبي خلفهما مما يلي القبلة لأن المرأة شخص مكلف فهي أحوج إلى الشفاعة ولأنه قد روي
عن عمار مولى الحارث بن نوفل أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي القبلة فأنكرت ذلك

(1) في اسناده مجاهيل وهو معارض برواية للبحاري: انه صلى عليه. لا يضرها انفراد واحد بها دون سائر رواة هذا الحديث
420

وفي القوم ابن عبا س وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فقالوا هذه السنة، والمنصوص عن أحمد في رواية جماعة من أصحابه أن الرجال مما يلي الإمام والصبيان أمامهم والنساء يلين القبلة وهذا مذهب أبي
حنيفة والشافعي لأنهم يقدمون عليهن في الصف في الصلاة المكتوبة فذلك يقدمون عليهن مما يلي
الإمام عند اجتماع الجنائز كالرجال.
وأما حديث عمارة فالصحيح فيه أنه جعلها مما يلي القبلة وجعل ابنها مما يليه كذلك رواه سعيد
وعمار مولى بني سليم عن عمار مولى بني هاشم وأخرجه كذلك أبو داود والنسائي وغيرهما ولفظه قال
شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ووضعت المرأة وراءه وفي القوم وأبو سعيد الخدري
وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة فقلنا لهم فقالوا السنة.
فأما الحديث الأول فلا يصح، فإن زيد بن عمر هو ابن أم كلثوم بنت علي الذي صلي عليه معها
وكان رجلا له أولاد كذلك قال الزبير بن بكار ولا خلاف في تقديم الرجل على المرأة ولان زيدا ضرب
في حرب كانت بين عدي في خلافة بعض بني أمية فصرع وحمل فمات والتفت صارختان عليه وعلى
أمه ولا يكون إلا رجلا
(فصل) ولا خلاف في تقديم الخنثى على المرأة لأنه يحتمل أن يكون رجلا وأدنى أحواله أن
يكون مساويا لها، ولا في تقديم الحر على العبد لشرفه وتقديمه عليه في الإمامة ولا في تقديم الكبير
على الصغير كذلك وقد روى الخلال باسناده عن علي رضي الله عنه في جنازة رجل وامرأة وحر وعبد
وصغير وكبير يجعل الرجل مما يلي الإمام والمرأة وأمام ذلك والكبير مما يلي الإمام والصغير أمام ذلك
والحر مما يلي الإمام والمملوك أمام ذلك، فإن اجتمع حر صغير وعبد كبير، قال أحمد في رواية الحسن
ابن محمد في غلام حر وشيخ عبد: يقدم الحر إلى الإمام، هذا اختيار الخلال وغلط من روى خلاف
ذلك واحتج بقول على: الحر مما يلي والمملوك وراء ذلك، ونقل أبو الحارث يقدم أكبرهما إلى
الإمام وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يقدم في الصف في الصلاة، وقول علي أراد به إذا تساويا في
الكبر والصغر بدليل أنه قال والكبير مما يلي الإمام والصغير أمام ذلك
(فصل) فإن كانوا واحدا قدم إلى الإمام أفضلهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم أحد يدفن الاثنين
والثلاثة في القبر الواحد ويقدم أكثرهم أخذا للقرآن ولان الأفضل يقدم في صف المكتوبة فيقدم هاهنا
421

كالرجل مع المرأة، وقد دل علي الأصل قوله عليه السلام (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)
وان تساووا في الفضل قدم الأكبر فالا كبر فإن تساووا قدم السابق وقال القاضي: يقدم السابق
وإن كان صبيا فلا المرأة وان كانت سابقة لموضع الذكورية فإن تساووا قدم الإمام من شاء
منهم، فإن تشاح الأولياء في ذلك أقرع بينهم
(فصل) ولا خلاف بين أهل العلم في جواز الصلاة على الجنائز دفعة واحدة، وان افراد كل
جنازة بصلاة جاز، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على حمزة مع غيره وقال حنبل صليت مع
أبي عبد الله على جنازة امرأة منفوسة فصلى أبو إسحاق على الام واستأمر أبا عبد الله وقال صل على ابنتها
المولودة أيضا، قال أبو عبد الله لو أنهما وضعا جميعا كانت صلاتها واحدة، تصيرا إذا كانت أنثى عن
يمين المرأة وإذا كان ذكرا عن يسارها، وقال بعض أصحابنا: افراد كل جنازة بصلاة أفضل ما لم يريدا
المبادرة وظاهر كلام أحمد في هذه الرواية التي ذكرناها أنه أفضل في الافراد وهو ظاهر حال السلف
فإنه لم ينقل عنهم ذلك.
(مسألة) قال (وان دفنوا في تبر يكون الرجل مما بلي القبلة والمرأة خلفه والصبي
خلفها ما ويجعل بين كل اثنين حاجزا من تراب
وجملته أنه إذا دفن الجماعة في القبر قدم الأفضل منهم إلى القبلة ثم يليه في الفضيلة على
حسب تقديمهم إلى الإمام في الصلاة سواء على ما ذكرنا في المسألة قبل هذه لما روى هشام بن عامر
قال شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يوم أحد فقال (احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين
والثلاثة في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرأنا) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فإذا ثبت
هذا فإنه يجعل بين كل اثنين حاجزا من التراب فيجعل كل واحد منهم في مثل القبر المنفرد لأن
الكفن حائل غير حصين قال أحمد: ولو جعل لهم شبه النهر وجعل رأس أحدهم عند رجل الآخر وجعل
بينهما شئ من التراب لم يكن به بأس أو كما قال.
(فصل) ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة، وسئل أحمد عن الاثنين والثلاثة يدفنون
في قبر واحد قال: أما في مصر فلا، وأما في بلاد الروم فتكثر القتلى فيحفر شبه النهر رأس هذا عند
رجل هذا ويجعل بينهما حاجزا لا يلتزق واحد بالآخر، وهذا قول الشافعي وذلك أنه لا يتعذر في
الغالب إفراد كل واحد بقبر في المصر ويتعذر ذلك غالبا في دار الحرب، وفي موضع المعترك وان
وجدت الضرورة جاز دفن الاثنين والثلاثة وأكثر في القبر الواحد، حيثما كان من مصر أو غيره
422

فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره وان استووا في ذلك بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات: فإن
استووا في القرب قدم أنسبهم وأفضلهم
(مسألة) قال (وإن ماتت نصرانية وهي حاملة من مسلم دفنت بين مقبرة
المسلمين ومقبرة النصاري)
اختار هذا أحمد لأنها كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها ولا في مقبرة الكفار لأن ولدها
مسلم فيتأذى بعذابهم وتدفن منفردة مع أنه روي عن واثلة بن الأسقع مثل هذا القول، وروي عن
عمر أنها تدفن في مقابر المسلمين، قال ابن المنذر لا يثبت ذلك قال أصحابنا ويجعل ظهرها إلى القبلة
على جانبها الأيسر ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جانبه الأيمن لأن وجه الجنين إلى ظهرها
(مسألة) قال (ويخلع النعال إذا دخل المقابر)
هذا مستحب لما روى بشير بن الخصاصية قال بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل يمشي
في القبور عليه نعلان، فقال (يا صاحب السبتيتين الق سبتيتيك) (1) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله
صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما رواه أبو داود، وقال أحمد: اسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد اذهب
إليه الا من علة وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا، قال جرير بن حاز رأيت الحسن وابن سيرين
يمشيان بين القبور في نعالهما، ومنهم من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا وضع في قبره
وتولى عنه أصحابه أنه يسمع قرع نعالهم رواه البخاري، وقال أبو الخطاب يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
إنما كره للرجل المشي في نعليه لما فيهما من الخيلاء، فإن نعال السبت من لباس أهل النعيم، قال عنتر
* يحذى نعال السبت ليس بتوأم *
ولنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي تقدم، وأقل أحواله الندب ولان خلع النعلين أقرب إلى
الخشوع، وزي أهل التواضع واحترام أموات المسلمين وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم بان الميت يسمع قرع
نعالهم لا ينفي الكراهة فإنه يدل على وقوع هذا منهم، ولا نزاع في وقوعه وفعلهم إياه مع كراهيته، فاما
إن كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه، مثل الشوك يخافه على قدميه أو نجاسة تمسهما لم يكره المشي
في النعلين، قال أحمد في الرجل يدخل المقابر وفيها شوك يخلع نعليه: هذا يضيق على الناس حتى يمشي
الرجل في الشوك وان فعله فحسن هو أحوط، وان لم يفعله رجل يعني لا بأس، وذلك لأن العذر يمنع
الوجوب في بعض الأحوال والاستحباب أولى ولا يدخل في الاستحباب نزع الخفاف لأن نزعها يشق
وقد روي عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج إلى الجنازة لبس خفيه مع أمره بخلع النعال وذكر

(1) نعال السبت والنعال السبتية بكسر السين هي التي لا شعر على جلدها لسقوطها بالدبغ كأنه مسبوت اي محلوق (8)
423

القاضي أن الكراهة لا تتعدى النعال إلى الشمشكات ولا غيرها لأن النهي غير معلل فلا يتعدى محله
(فصل) ويكره المشي على القبور، وقال الخطابي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور
وروى ابن ماجة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي
أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبور كذا قال قضيت حاجتي أو وسط السوق) (1)
لأنه كره المشي بينها بالنعلين فالمشي عليها أولى.
(فصل) ويكره الجلوس عليها والاتكاء عليها لما روى أبو يزيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لأن يجلس أحدكم على جمرة تحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) رواه
مسلم، قال الخطابي وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا قد اتكأ على قبر فقال (لا تؤذ صاحب القبر)
(مسألة) قال (ولا بأس ان يزور الرجال المقابر)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الرجال القبور، وقال علي بن سعيد سألت أحمد عن
زيارة القبور تركها أفضل عندك أو زيارتها؟ قال زيارتها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كنت
نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الموت) رواه مسلم (2) والترمذي بلفظ فإنها تذكر الآخرة
(فصل) وإذا مر بالقبور أو زارها استحب أن يقول ما روى مسلم عن بريدة قال، كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول، السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين
والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، وفي حديث عائشة (ويرحم الله
المستقدمين منا والمستأخرين) وفي حديث آخر (اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم) وان أراد قال
اللهم اغفر لنا ولهم كان حسنا.
(فصل) قال ولا بأس بالقراءة عند القبر وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا دخلتم المقابر
اقرأوا آية الكرسي وثلاث مرات (قل هو الله أحد) ثم قل اللهم ان فضله لأهل المقابر، وروي عنه
أنه قال: القراءة عند القبر بدعة وروي ذلك عن هشيم قال أبو بكر: نقل ذلك عن أحمد جماعة ثم رجع

(1) حديث ضعيف
(2) قوله رواه مسلم فيه ان مسلما رواه ان أبي بريدة بدون لفظ (فإنها تذكركم
الموت) وله تتمة أخرى. وروى هذا اللفظ من حديث أبي هريرة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم
لقبر أمه فقد قال فيه (فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت)
وقال النووي في شرحه: انه يوجد. في روايات المغاربة لصحيح مسلم ولا يوجد في
روايات بلادنا وانه صحيح رواه أصحاب الا الترمذي بأسانيد صحيحة. وأما حديث
الترمذي فلفظه (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور وقد اذن لمحمد في زيارة أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة
424

رجوعا ابان به نفسه، فروي جماعة ان احمد نهى ضريرا ان يقرأ عند القبر وقال له إن
القراءة عند القبر بدعة فقال له محمد بن قدامة الجوهري يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال ثقة
قال فأخبرني مبشر (1) عن أبيه أنه أوصى إذا دفن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال سمعت ابن
عمر يوصي بذلك، قال أحمد بن حنبل فارجع فقل للرجل يقرأ (2) وقال الخلال حدثني أبو علي الحسن
ابن الهيثم البزار شيخنا الثقة المأمون، قال رأيت أحمد بن حنبل يصلي خلف ضرير يقرأ على القبور
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من
فيها حسنات) وروي عنه عليه السلام (من زار قبر والديه فقرأ عنده أو عندهما يس غفر له) (3)
(فصل) وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله، أما الدعاء

(1) سقط هنا: عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج قطعاء. وقوله عن أبيه يعنى أبا عبد الرحمن وهو العلاء
(2) هذا الحديث شاذ بل منكر، رواه مبشر عن عبد الرحمن اللجاج وهو ليس من
رجال الصحاح ولا السنن الذين يعتد بهم في مثل هذه المعركة ولا يعرف له فيهما الا
حديث واحد عند الترمذي وقد قالوا إنه مقبول وإنما وثقه ابن حبان وتساهله في التعديل معروف. على أن مبشرا نفسه قد بعضهم ولكن لم يعتدوا به لأنه لم يبين
سببه. والحديث مع هذا ليس من موضوع الباب بل هو من قبيل التلقين عقب
الدفن فهو لا يعارض قول الإمام أحمد أن القراءة عند القبر بدعة وهو ما كان
استحدث في عصره من القراءة على القبور ولم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين
425

والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافا إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة وقد
قال الله تعالى (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) وقال
الله تعالى (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات، وللميت
الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك، ولكل ميت صلى عليه، وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله إن أمي ماتت فينفعها ان تصدقت عنها قال نعم، رواه أبو داود وروي ذلك عن سعد بن
عبادة، وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا
426

كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت
قاضيته) قالت نعم، قال (فدين الله أحق أن يقضى) وقال للذي سأله ان أمي ماتت وعليها صوم
شهر أفأصوم عنها (قال نعم) وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن
الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها
مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ يس وتخفيف الله تعالى عن أهل المقابر بقراءته، وروى
427

عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص (لو كان أبوك مسلما
فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك) وهذا عام في حج التطوع وغيره ولأنه عمل
بر وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصدقة والصيام والحج الواجب، وقال الشافعي ما عدا الواجب
والصدقة والدعاء والاستغفار لا يغفل عن الميت ولا يصل ثوابه إليه لقول الله تعالى (وان ليس للانسان
الا ما سعى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع
به من بعده أو ولد صالح يدعو له) ولان نفعه لا يتعدى فاعله فلا يتعدى ثوابه. وقال بعضهم إذا
428

قرئ القرآن عند الميت أو أهدي إليه ثوابه كان الثواب لقارئه ويكون الميت كأنه حاضرها وترجى له الرحمة.
ولنا ما ذكرناه وانه إجماع المسلمين فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرؤون القرآن ويهدون
ثوابه إلى موتاهم من غير نكير (1) ولان الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه)
والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة (2) ولان الموصل لثواب ما سلموه، قادر
على ايصال ثواب ما منعوه (3) والآية مخصوصة بما سلموه، وما اختلفنا فيه في معناه فنقيسه عليه (4) ولا

(1) سلك المصنف عفا الله هنا ملك أهل الجدل فاما دعواه
الاجماع في باطلة قطعا لم يعبأ بها أحد حتى أن المحقق ابن القيم الذي جاراه في
أصل المسألة لم يدعها بل صرح بما هو نص في بطلانها وهو انه لم يصح عن السيف
سئ فيها واعتذر عنه بأنهم كانوا يخفون أعمال البر، وانتقدنا ذلك في تفسيرنا
بأنه لو كان معروفا لكان عن اعتقاد مشروعيته وحينئذ يبلغونه ولا يكتمونه بل
لتوفرت الدواعي على نقله عنهم بالتواتر لأنه من رغائب جميع الناس
(2)
هذا الحديث اتفق العلماء على أنه لا يمكن أن يؤخذ على ظاهره لمخالفته لنصوص
القرآن والأحاديث ولنا فإنه سبق رحمة الله على غضبه وممن تأوله منهم المصنف
كغيره فكيف يجعله مع هذا أصلا يرد إليه نص القرآن وغيره ويقاس عليه وهو علي خلاف القياس
(3) انهم لم يمنعوا ذلك بان قدرة الله لا تتعلق به فيرد عليهم بهذا
(4) ان ما خصصوا به الآية
منصوص يرجع إلى أصل لا يشاركه فيه ما قاسه عليه فمسألة الصدقة والحج وكذا الصيام من الأولاد عن
الوالدين لا يعارض عموم قوله تعالى (وأن ليس للانسان الا ما سعى) لأن الكتاب والسنة ألحقا ذرية المؤمن
به فعد من كسبه وسعيه له من سعيه كما في سورة الطور وحديث (إذا مات ابن آدم) الخ وحديث (ولده
من كسبه) والمسألة من التعبديات واخبار عالم الغيب في الثواب والعقاب فلا يدخل فيها القياس مطلقا. وأما الدعاء
فثوابه للداعي لا للمدعو له وإذا استجيب فلا تكون استجابته من اعطائه ثواب عمل غيره بل هذا أصل
من نصوص الشرع التعبدية لا يقاس عليه مطلقا. وقد فصلنا المسألة في أخر تفسير سورة الأنعام
429

حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به فإنما دل على انقطاع علمه فلا دلالة فيه عليه، ثم لو دل عليه كان
مخصوصا بما سلموه وفي معناه ما منعوه فيتخصص به أيضا بالقياس عليه، وما ذكروه من المعنى غير
صحيح، فإن تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع ثم هو باطل بالصوم والدعاء والحج وليس له
أصل يعتبر به والله أعلم
(مسألة) قال (وتكره للنساء)
اختلفت الرواية عن أحمد في زيارة النساء القبور، فروي عنه كراهتها، لما روت أم عطية قالت:
نهينا عن زيارة القبور ولم يعزم علينا رواه مسلم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله زوارات القبور)
قال الترمذي هذا حديث صحيح، وهذا خاص في النساء، والنهي المنسوخ كان عاما للرجال والنساء
430

ويحتمل أنه كان خاصا للرجال، ويحتمل أيضا كون الخبر في لعن زوارات القبور بعد أمر
الرجال بزيارتها، فقد دار بين الخطر والإباحة فأقل أحواله الكراهة، ولأن المرأة قليلة الصبر كثيرة
الجزع وفي زيارتها للقبر تهييج لحزنها وتجديد لذكر مصابها، ولا يؤمن أن يفضي بها ذلك إلى فعل
مالا يجوز بخلاف الرجل، ولهذا اختصصن بالنوح والتعديد وخصصن بالنهي عن الحلق والصلق
ونحوهما. والرواية الثانية لا يكره لعموم قوله عليه السلام (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)
وهذا يدل على سبق النهي ونسخه فيدخل في عمومه الرجال والنساء. وروي عن ابن أبي مليكة
أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت لها: قد نهى
431

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت نعم. قد نهى ثم أمر بزيارتها. وروى الترمذي: أن
عائشة زارت قبر أخيها، وروي عنها انها قالت: لو شهدته ما زرته
(فصل) ويكره النعي وهو أن يبعث مناديا ينادي في الناس إن فلانا قد مات ليشهدوا جنازته
لما روى حذيفة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي، قال الترمذي هذا حديث حسن، واستحب
جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم منهم عبد الله بن مسعود وأصحابه علقمة والربيع بن خيثم
وعمر وبن شرحبيل. قال علقمة: لا تؤذنوا بي أحدا، وقال عمرو بن شرحبيل: إذا أنا مت فلا
أنعى إلى أحد. وقال كثير من أهل العلم: لا بأس أن يعلم بالرجل إخوانه ومعارفه وذوو الفضل من
غير نداء. قال إبراهيم النخعي لا بأس إذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه، وإنما كانوا
يكرهون أن يطاف في المجالس أنعي فلانا كفعل الجاهلية. وممن رخص في هذا أبو هريرة وابن عمرو
وابن سيرين، وروي عن ابن عمر انه نعى إليه رافع بن خديج، قال: كيف تريدون أن تصنعوا به؟
قال: نحبسه حتى نرسل إلى قباء والى من قد بات حول المدينة ليشهدوا جنازته. قال نعم ما رأيتم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي دفن ليلا (ألا أذنتموني) وقد صح عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات
متفق عليه، وفي لفظ (ان أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه
432

قال (لا يموت فيكم أحد إلا آذنتموني به) أو كما قال ولان في كثرة المصلين عليه أجرا لهم ونفعا
للميت فإنه يحصل لكل مصل منهم قيراط من الاجر، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من مسلم
يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب) وقد ذكرنا هذا، وروى الإمام أحمد باسناده
عن أبي المليح انه صلى على جنازة فالتفت فقال: استووا ولتحسن شفاعتكم، ألا وانه حدثني عبد الله
ابن سليط عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة وكان أخاها من الرضاعة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(ما من مسلم يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه) فسألت أبا المليح عن الأمة؟ فقال أربعون
كتاب الزكاة
قال أبو محمد بن قتيبة: الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه،
يقال زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت النفقة إذا بورك فيها، وهي في الشريعة حق يجب في المال
فعند اطلاق لفظها في موارد الشريعة ينصرف إلى ذلك. والزكاة أحد أركان الاسلام الخمسة، وهي
واجبة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله وإجماع أمته. أما الكتاب فقول الله تعالى (وآتوا الزكاة) وأما
433

السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال (اعلمهم ان الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
فترد في فقرائهم) متفق عليه في آي وأخبار سوى هذين كثيرة. وأجمع المسلمون في جميع الأعصار
على وجوبها، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعيها، فروي البخاري باسناده عن أبي هريرة
قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب. فقال عمر: كيف تقاتل الناس
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم
مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن
الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال
عمر: فوالله ما هو الا أن رأيت قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت انه الحق، ورواه أبو داود
وقال لو منعوني عقالا قال أبو عبيد: العقال صدقة العام. قال الشاعر:
سعى عقالا فلم يترك لنا سيدا * فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
434

وقيل: كانوا إذا أخذوا الفريضة أخذوا معها عقالها، ومن رواه عناقا ففي روايته دليل على
أخذ الصغيرة من الصغار
(فصل) فمن أنكر وجوبها جهلا به وكان ممن يجهل ذلك اما لحداثة عهده بالاسلام أو لأنه
نشأ ببادية نائية عن الأمصار عرف وجوبها ولا يحكم بكفره لأنه معذور، وإن كان مسلما ناشئا
ببلاد الاسلام بين أهل العلم فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثا، فإن تاب والا
قتل لأن أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة واجماع الأمة فلا تكاد تخفي على أحد ممن
هذه حاله، فإذا جحدها فلا يكون الا لتكذيبه الكتاب والسنة وكفره بهما
(فصل) وان منعها معتقدا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة
عليها في قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، وكذلك أن غل ماله وكتمه
حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه، وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر عبد العزيز يأخذها وشطر
435

ماله، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول (في كل سائمة الإبل في كل
أربعين بنت لبون لا تفرق عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أباها فأني آخذها
وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شئ) وذكر هذا الحديث لأحمد فقال:
ما أدري ما وجهه؟ وسئل عن اسناده؟ فقال هو عندي صالح الاسناد. رواه أبو داود والنسائي في
سننهما، ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس في المال حق سوى الزكاة) ولان منع الزكاة كان
في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم فلم ينقل أحد
عنهم زيادة ولا قولا بذلك، واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر فقيل كان في بدء الاسلام
حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه. وحكى الخطابي عن إبراهيم الحربي
انه يؤخذ منه السن الواجبة عليه من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد، لكن ينتقي من
خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه فيكون المراد بماله هاهنا الواجب
436

عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره والله أعلم. فأما إن كان مانع الزكاة خارجا عن قبضة الإمام
قاتله لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعيها. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو منعوني
عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، فإن ظفر به وبماله اخذها من
غير زيادة أيضا، ولم تسب ذريته لأن الجناية من غيرهم ولان المانع لا يسبى فذريته أولى، وان ظفر به
دون ماله دعاه إلى أدائها واستتابه ثلاثا، فإن تاب وأدى والا قتل ولم يحكم بكفره، وعن أحمد ما يدل
على أنه يكفر بقتاله عليها، فروى الميموني عنه: إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر وقاتلوا عليها لم
يورثوا ولم يصل عليهم، قال عبد الله بن مسعود: ما تارك الزكاة بمسلم، ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر
رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا نؤديها. قال: لا أقبلها حتى تشهدوا ان قتلانا في الجنة
وقتلاكم في النار. ولم ينقل انكار ذلك عن أحد من الصحابة فدل على كفرهم، ووجه الأول ان عمر
437

وغيره من الصحابة امتنعوا من القتال في بدء الامر، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه، ثم اتفقوا على
القتال وبقي الكفر على أصل النفي، ولان الزكاة فرع من فروع الدين فلم يكفر تاركه بمجرد تركه
كالحج، وإذا لم يكفر بتركه لم يكفر بالقتال عليه كأهل البغي. وأما الذين قال لهم أبو بكر هذا القول
فيحتمل انهم جحدوا وجوبها، فإنه نقل عنهم انهم قالوا إنما كنا نؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن
صلاته سكن لنا وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا فلا نؤدى إليه، وهذا يدل على أنهم جحدوا وجوب
الأداء إلى أبي بكر رضي الله عنه، ولأن هذه قضية في عين فلا يتحقق من الذين قال لهم أبو بكر
هذا القول فيحتمل انهم كانوا مرتدين، ويحتمل انهم جحدوا وجوب الزكاة ويحتمل غير ذلك فلا يجوز الحكم
به في محل النزاع، ويحتمل ان أبا بكر قال ذلك لأنهم ارتكبوا كبائر وماتوا من غير توبة فحكم لهم بالنار ظاهرا كما
حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرا والامر إلى الله تعالى في الجميع ولم يحكم عليهم بالتخليد، ولا يلزم من الحكم بالنار
الحكم بالتخليد بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان قوما من أمته يدخلون النار ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة
438

(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وليس فيما دون خمس من الإبل سائمة صدقة)
بدأ الخرقي رحمه الله بذكر صدقة الإبل لأنها أهم فإنها أعظم النعم قيمة وأجساما، وأكثر أموال
العرب فالاهتمام بها أولى، ووجوب زكاتها مما أجمع عليه علماء الاسلام، وصحت فيه السنة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ومن أحسن ما روي في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن
المثني الأنصاري قال حدثني أبي قال حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر الصديق
رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين (بسم الله الرحمن الرحيم) هذه فريضة الصدقة
التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن سئلها على وجهها
فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين فما دونها من الإبل في كل خمس شاة، فإذا بغلت خمسا
وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت
439

لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى
خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى
وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين
بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاري
بها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة وذكر تمام الحديث نذكره (إن شاء الله تعالى في أبوابه) ورواه
أبو داود في سننه وزاد، وإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين
فإن لم يكن فيها ابنة مخاض ففيها ابنة لبون ذكر. وهذا كله مجمع عليه إلى أن يبلغ عشرين ومائة ذكره
ابن المنذر قال: ولا يصح عن علي رضي الله عنه ما روي عنه في خمس وعشرين، يعنى ما حكي عنه
في خمس وعشرين خمس شياه، وقول الصديق رضي الله عنه: التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى
قدر والتقدير يسمى فرضا، ومنه فرض الحاكم للمرأة فرضا. وقوله: ومن سئل فوقها فلا يعط يعنى لا يعطي
440

فوق، وأجمع المسلمون على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا
الحديث (ومن لم يكن معه الا أربع من الإبل فليس عليه فيها صدقة الا أن يشاريها) وقال (ليس
فيما دون خمس ذود صدقة) متفق عليه. والسائمة الراعية، وقد سامت تسوم سوما إذا رعت وأسمتها
إذا رعيتها، وسومتها إذا جعلتها سائمة، ومنه قول الله تعالى (ومنه شجر فيه تسيمون) أي ترعون،
وفي ذكر السائمة احتراز من المعلوفة والعوامل فإنه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك
في الإبل النواضح والمعلوفة الزكاة لعموم قوله عليه السلام (في كل خمس شياه) قال احمد ليس في العوامل
زكاة، وأهل المدينة يرون فيها الزكاة وليس عندهم في هذا أصل
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون) في حديث بهز بن حكيم فقيده
بالسائمة فدل على أنه لا زكاة في غيرها، وحديثهم مطلق فيحمل على المقيد، ولان وصف النماء معتبر في
الزكاة، والمعلوفة يستغرق علفها نماءها إلا أن يعدها للتجارة فيكون فيها زكاة التجارة
441

(مسألة) قال (فإذا ملك خمسا من الإبل فاسامها أكثر السنة ففيها شاة وفي العشر
شاتان وفي الخمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه)
وهذا كله مجمع عليه وثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رويناه وغيره الا قوله: فأسامها أكثر
السنة، فإن مذهب إمامنا ومذهب أبي حنيفة أنها إذا كانت سائمة أكثر السنة ففيها الزكاة. وقال
الشافعي: ان لم تكن سائمة في جميع الحول فلا زكاة فيها لأن السوم شرط في الزكاة فاعتبر في جميع
الحول كالملك وكمال النصاب، ولان العلف يسقط والسوم يوجب، وإذا اجتمعا غلب الاسقاط كما
لو ملك نصابا بعضه سائمة وبعضه معلوفة
ولنا عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة في نصب الماشية واسم السوم لا يزول بالعلف
اليسير فلا يمنع دخولها في الخبر، ولأنه لا يمنع حقه للمؤنة فأشبهت السائمة في جميع الحول، ولان
442

العلف اليسير لا يمكن التحرز منه فاعتباره في جميع الحول يسقط الزكاة بالكلية سيما عند من يسوغ له
الفرار من الزكاة فإنه إذا أراد اسقاط الزكاة علفها يوما فأسقطها، ولان هذا وصف معتبر في رفع
الكلفة فاعتبر فيه الأكثر كالسقي بما لا كلفة فيه في الزرع والثمار. وقولهم السوم شرط يحتمل أن
يمنع، ونقول بل العلف إذا وجد في نصف الحول فما زاد مانع كما أن السقط بكلفة مانع من وجوب
العشر، ولا يكون مانعا حتى يوجد في النصف فصاعدا كذا في مسئلتنا، وأن سلمنا كونه شرطا فيجوز
أن يكون الشرط وجوده في أكثر الحول كالسقي بما لا كلفة فيه شرط في وجوب العشر ويكتفي
بوجوده في الأكثر، ويفارق ما إذا كان في بعض النصاب معلوف لأن النصاب سبب للوجوب فلابد من
وجود الشرط في جميعه، وأما الحول فإنه شرط الوجوب فجاز أن يعتبر الشرط في أكثره
(فصل) ولا يجزي في الغنم المخرجة في الزكاة الا الجذع من الضان والثني من المعز، وكذلك
شاة الجبران وأيهما أخرج أجزأه ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا جنس غنم البلد لأن الشاة مطلقة
443

في الخبر الذي ثبت به وجوبها، وليس غنمه ولا غنم البلد سببا لوجوبها فلم يتقيد بذلك كالشاة
الواجبة في الفدية، وتكون أنثى فإن أخرج ذكرا لم يجزئه لأن الغنم الواجبة في نصها إناث ويحتمل
أن يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ الشاة فدخل فيه الذكر والأنثى، ولان الشاة إذا تعلقت بالذمة دون
العين أجزأ فيها الذكر كالأضحية، فإن لم يكن له غنم لزمه شراء شاة وقال أبو بكر: يخرج عشرة
دراهم قياسا على شاة الجبران
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الشاة فيجب العمل بنصه، ولان هذا إخراج قيمة فلم يجز كما لو
كانت الشاة واجبة في نصابها، وشاة الجبران مختصة بالبدل بعشرة دراهم بدليل أنها لا تجوز بدلا
عن الشاة الواجبة في سائمة الغنم
(فصل) فإن أخرج عن الشاة بعيرا لم يجزئه سواء كانت قيمة أكثر من قيمة الشاة أو لم يكن،
وحكي ذلك عن مالك وداود. وقال الشافعي وأصحاب الرأي: يجزئه البعير عن العشرين فما دونها
444

ويخرج لنا مثل ذلك إذا كان المخرج مما يجزى عن خمس وعشرين لأنه يجزئ عن خمس وعشرين
والعشرون داخلة فيها، ولان ما أجزأ عن الكثير أجزأ عما دونه كابنتى لبون عما دون ست وسبعين
ولنا أنه أخرج غير المنصوص عليه من غير جنسه فلم يجزه كما لو أخرج بعيرا عن أربعين شاة
ولان النص ورد بالشاة فلم يجزئ البعير كالأصل أو كشاة الجبران، ولأنها فريضة وجبت فيها شاة
فلم يجزئ عنها البعير كنصاب الغنم. ويفارق ابنتي لبون عن الجذعة لأنها من الجنس
(فصل) وتكون الشاة المخرجة كحال الإبل في الجودة والرداءة فيخرج عن البل السمان سمينة
وعن الهزال هزيلة، وعن الكرائم كريمة، وعن اللئام لئيمة. فإن كانت مراضا أخرج شاة
صحيحة على قدر المال، فيقال له لو كانت الإبل صحاحاكم كانت قيمتها وقيمة الشاة؟ فيقال قيمة
الإبل مائة وقيمة الشاة خمسة فينقص من قيمتها قدر ما نقصت الإبل، فإذا نقصت الإبل خمس
قيمتها وجب شاة قيمتها أربعة، وقيل تجزئه شاة تجزى في الأضحية من غير نظر إلى القيمة. وعلى
القولين لا تجزئه مريضة، لأن المخرج من غير جنسها وليس كله مراضا فينزل منزلة اجتماع الصحاح
والمراض لا تجزئ فيه إلا الصحيحة
445

(مسألة) قال (فإذا صارت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين)
فإن لم يكن بنت مخاض وابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس
وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين
ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا بلغت
إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة وهذا كله مجمع عليه. والخبر الذي رويناه متناول له،
وابنة المخاض التي لها سنة وقد دخلت في الثانية سميت بذلك لأن أمها قد حملت غيرها، والماخض
الحامل وليس كون أمها ماخضا شرطا فيها، وإنما ذكر تعريفا لها بغالب حالها كتعريفه الربتبة
بالحجر، وكذلك بنت لبون وبنت المخاض أدنى سن يوجد في الزكاة، ولا تجب إلا في خمس
وعشرين إلى خمس وثلاثين خاصة، وبنت لبون التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة سميت بذلك
لأن أمها قد وضعت حملها ولها لبن. والحقة التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة لأنها قد استحقت
أن يطرقها الفحل، ولهذا قال طروقة الفحل، واستحقت أن أيحمل عليها وتركب. والجذعة التي لها
أربع سنين ودخلت في الخامسة، وقيل لها ذلك لأنها تجذع إذا سقطت سنها، وهي أعلا سن تجب
446

في الزكاة ولا تجب إلا في إحدى وستين إلى خمس وسبعين، وإن رضي رب المال أن يخرج
مكانها ثنية جاز وهي التي لها خمس سنين ودخلت في السادسة سميت ثنية لأنها قد ألفت ثنيتيها.
وهذا الذي ذكرنا في الأسنان ذكره أبو عبيد وحكاه عن الأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأبي زياد الهلالي
وغيرهم، وقول الخرقي: فإن لم يكن ابنة مخاض - أراد ان لم يكن في إبله مخاض أجزأه ابن لبون
ولا يجزئه مع وجود ابنة مخاض لقوله عليه السلام (فإن لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لبون ذكر) في
الحديث الذي رويناه شرط في اخراجه عدمها، فإن اشتراها وأخرجها جاز، وإن أراد اخراج
ابن لبون بعد شرائها لم تجز لأنه صار في إبله بنت مخاض، فإن لم يكن في إبله ابن لبون وأراد
الشراء لزمة شراء بنت مخاض وهذا قول مالك. وقال الشافعي يجزيه شراء ابن لبون لظاهر الخبر وعمومه
ولنا انهما استويا في العدم فلزمته مخاض كما لو استويا في الوجود، والحديث محمول على وجوده
لأن ذلك للرفق به اغناء له عن الشراء، ومع عدمه لا يستغنى عن الشراء فكان شراء الأصل أولى.
على أن في بعض ألفاظ الحديث (فمن لم يكن عنده ابنه مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه
447

وليس معه شئ) فشرط في قبوله وجوده وعدمها وهذا في حديث أبي بكر. وفي بعض الألفاظ:
(ومن بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليس عنده إلا ابن لبون) وهذا يفسد بتعين حمل المطلق عليه
وان لم يجد إلا ابنة مخاض معينة فله الانتقال إلى ابن لبون لقوله في الخبر: فإن لم يكن عنده بنت مخاض
على وجهها ولان وجودها كعدمها لكونها لا يجوز اخراجها فأشبه الذي لا يجد إلا مالا يجوز الوضوء
به في انتقاله إلى التيمم، وإن وجد ابنة مخاض أعلا من صفة الواجب لم يجزه ابن لبون لوجود
بنت مخاض على وجهها ويخير بين اخراجها وبين شراء بنت مخاض على صفة الواجب، ولا يخير
بعض الذكورية بزيادة سن في غير هذا الموضع، ولا يجزيه أن يخرج عن ابن لبون حقا ولا عن
الحقة جذعا لعدمها ولا وجودهما. وقال القاضي وابن عقيل: يجوز ذلك مع عدمها لأنهما أعلا
وأفضل، فيثبت الحكم فيها بطريق التنبيه
ولنا انه لا نص فيهما ولا يصح قياسهما على ابن لبون مكان بنت مخاض لأن زيادة سن ابن لبون
على بنت مخاض يمتنع بها صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه ويرد الماء، يوجد هذا في الحق
مع بنت لبون لأنهما يشتركان في هذا، فلم يبق إلا مجرد السن فلم يقال الا بتوجيه. وقولهما انه يدل
على ثبوت الحكم فيهما بطريق التنبيه، قلنا يدل على انتفاء الحكم فيهما بدليل خطابه، فإن تخصيصه
بالذكر دونهما دليل على اختصاصه بالحكم دونهما
448

(فصل) وإن أخرج عن الواجب سنا أعلا من جنسه مثل أن يخرج بنت لبون عن بنت مخاض
وحقة عن بنت لبون أو بنت مخاض، أو أخرج عن الجدعة ابنتي لبون أو حقتين جاز لا نعلم فيه خلافا
لأنه زاد على الواجب من جنسه ما يجزي عنه مع غيره فكان مجزيا عنه على انفراده كما لو كانت الزيادة
في العدد. وقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه باسنادهما عن أبي بن كعب قال:
بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض. فقلت
له: أد بنت مخاض فإنها صدقتك؟ فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولاظهر، ولكن هذه ناقة فتية عظيمة
سمينة فخذها. فقلت ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن
تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل. فإن قبله منك قبلته، وان رده عليك رددته. قال: فاني
فاعل، فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا بني الله
أتاني رسولك ليأخذ منى صدقة مالي، وأيم الله ما قام في مالي رسول الله ولا رسوله قط قبله، فجمعت
له مالي فزعم أن ما علي فيه بنت مخاض وذاك مالا لبن فيه ولاظهر، وقد عرضت عليه ناقة فتية سمينة
عظيمة ليأخذها فأبى وها هي ذه جئتك بها يا رسول الله خذها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذاك الذي
وجب عليك، فإن تطوعت بخير أجزل الله فيه وقبلناه منك) فقال فهاهي ذه يا رسول الله قد
جئتك بها. قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة. وهكذا الحكم إذا أخرج
أعلا من الواجب في الصفة مثل أن يخرج السمينة مكان الهزيلة، والصحيحة مكان المرضية، والكريمة
مكان اللئيمة، والحامل عن الحوابل، فإنها تقبل منه وتجزيه وله أجر الزيادة
449

(فصل) ويخرج عن ماشية من جنسها على صفتها، فيخرج عن البخاتي بختية، وعن العراب
عربية، وعن الكرام كريمة، وعن السمان سمينة، وعن اللئام والهزال لئيمة هزيلة. فإن أخرج عن
البخاتي عربية بقيمة البختية أو أخرج عن السماك هزيلة بقيمة السمينة جاز لأن القيمة مع اتحاد
الجنس هي المقصود، أجاز هذا أبو بكر وحكي عن القاضي وجه آخر انه لا يجوز لأن فيه تفويت صفة
مقصودة فلم كما لو أخرج من جنس آخر. والصحيح الأول ذكرنا وفارق خلاف الجنس فإن
الجنس مرعي في الزكاة، ولهذا لو أخرج البعير عن الشاة لم يجز ومع الجنس يجوز اخراج الجيد
عن الردئ، بغير خلاف
(مسألة) قال (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون
وفى كل خمسين حقة)
ظاهر هذا انها إذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون وهو إحدى
الروايتين عن أحمد ومذهب الأوزاعي والشافعي وإسحق، والرواية الثانية لا يتعدى الفرض إلى ثلاثين
450

ومائة فيكون فيها حقة وبنتا لبون وهذا مذهب محمد بن إسحاق بن يسار وأبي عبيد، ولمالك روايتان
لأن الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة بدليل سائر الفروض
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون) والواحدة
زيادة وقد جاء مصرحا به في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عند آل عمر بن
الخطاب رواه أبو داود والترمذي وقال هو حديث حسن. وقال ابن عبد البر: هو أحسن شئ روى
في أحاديث الصدقات، وفيه (فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون) وفي لفظ:
(إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة) أخرجه
الدارقطني، وأخرج حديث أنس من رواية إسحاق بن راهويه عن النضر بن إسماعيل عن حماد بن
سلمة قال: أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدث به عن أنس وفيه: فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة
ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ولان سائر ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم غاية للفرض إذا زاد
عليه واحدة تغير الفرض كذا هذا. وقولهم ان الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة قلنا وهذا ما تغير
بالواحدة وحدها وإنما تغير بها مع ما قبلها فأشبهت الواحدة الزائدة عن الستين والستين غيرهما.
وقال ابن مسعود والنخعي والثوري وأبو حنيفة إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفرضية
451

في كل خمس شاة إلى خمس وأربعين ومائة فيكون ومائة فيكون فيها حقتان وبنت مخاض إلى خمسين ومائة
ففيها ثلاث حقان وتستأنف الفرضية في كل خمس شاة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن
حزم كتابا ذكر فيه الصدقات والديات وذكر فيه مثل هذا
ولنا في حديثي الصدقات الذي كتبه أبو بكر لانس والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل
مذهبا وهما صحيحان، وقد رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: هذه فرضية الصدقة التي فرض
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين. وأما كتاب عمرو بن حزم فقد اختلف في صفته فرواه الأثرم في
سننه مثل مذهبنا والاخذ بذلك أولى لموافقته الأحاديث الصحاح وموافقته القياس فإن المال إذا
وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه كسائر بهيمة الأنعام ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه فلم
يجب من غير جنسه كالبقر والغنم، وإنما وجب في الابتداء من غير جنسه لأنه ما احتمل المواساة من
جنسه فلم يجب من غير جنسه فعد لنا إلى غير الجنس ضرورة، وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته ولأنه عندهم
ينقل من بنت مخاض إلى حقة بزيادة خمس من الإبل وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال إلى
حقة فانا لم ننقل في محل الوفاق من بنت مخاض إلى حقة إلا بزيادة إحدى وعشرين وإن زادت على
مائة وعشرين جزءا من بعير لم يتغير الفرض عند أحد من الناس لأن في بعض الروايات فإذا
452

زادت واحدة، وهذا يقيد مطلق الزيادة في الرواية الأخرى ولان سائر الفروض لا تتغير بزيادة
جزء وعلى كلا الروايتين متى بلغت الإبل مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون وفي مائة وأربعين حقتان
وبنتا لبون، وفى مائة وخمسين ثلاث حقان، وفي مائة وستين أربع بنات لبون ثم كلها زادت عشرا
أبدلت مكان بنت لبون حقة ففي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان
وابنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقان وبنت لبون. فإذا بلغت مائتين اجتمع الغرضان لأن فيهما
خمسين أربع مرات وأربعين خمس مرات فيجب عليه أربع حقان أو خمس بنات لبون أي الفرضين
شاء أخرج وإن كان الآخر أفضل منه وقد روي عن أحمد أن عليه أربع حقان وهذا محول على
أن عليه أربع حقان بصيغة التخيير اللهم إلا أن يكون المخرج وليا ليتيم أو مجنون فليس له أن يخرج
من ماله إلا أدنى الفرضين. وقال الشافعي الخيرة إلى الساعي ومقتضى قوله أن رب المال إذا أخرج
لزمه اخراج أعلا الفرضين واحتج بقول الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ولأنه وجد
سبب الفرضين فكانت الخيرة إلى مستحقه أو نائبه كقتل العمد الموجب للقصاص أو الدية
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات الذي كتبه وكان عند آل عمر بن الخطاب فإذا كانت
453

مائتين ففيها أربع حقان أو خمس بنات لبون أي البنتين وجدت وهذا نص لا يعرج معه
على شئ يخالفه، وقوله عليه السلام لمعاذ (إياك وكرائم أموالهم) ولأنها زكاة ثبت فيها الخيار فكان
ذلك لرب المال كالخيرة في الجبران بين مائتين أو عشرين درهما وبين النزول والصعود، وتعيين المخرج
ولا تتناول الآية ما نحن فيه لأنه إنما يأخذ الفرض بصفة المال فيأخذ من الكرام كرائم ومن غيرها من
وسطها فلا يكون خبيثا لأن الأدنى ليس بخبيث، وكذلك لو لم يوجد إلا سبب وجوبه وجب
اخراجه وقياسهم يبطل بشاة الجيران وقياسنا أولى منه لأن قياس الزكاة على الزكاة أولى من قياسها
على الديات إذا ثبت هذا فكان أحد الفرضين في ماله دون الآخر مخير بين إخراجه أو شراء الآخر
ولا يتعين عليه سوى اخراج الموجود لأن الزكاة لا تجب في عين المال وقال القاضي يتعين عليه اخراج
الموجود لأن الزكاة لا تجب في عين المال ولعله أراد إذا لم يقدر على شراء الآخر
(فصل) فإن أراد إخراج الفرض من النوعين نظرنا فإن لم يحتج إلى تشقيص كرجل عنده
454

أربعمائة يخرج منها أربع حقاق وخمس بنات لبون جاز، وإن احتاج إلى تشقيص كزكاة المائتين
لم يجز لأنه لا يمكنه ذلك الا بالتشقيص وقيل يحتمل أن يجوز على قياس قول أصحابنا يجوز أن يعتق
نصفي عبدين في الكفارة وهذا غير صحيح فإن الشرع لم يرد بالتشقيص في زكاة السائمة إلا من
حاجة ولذلك جعل لها أوقاصا دفعا للتشقيص عن الواجب فيها، وعدل فيها دون خمس وعشرين
من الإبل عن ايجاب الإبل إلى ايجاب الغنم ولا يجوز القول بتجويزه مع امكان العدول عنه إلى ايجاب
فرضية كاملة. وان وجد أحد الفرضين كاملا والآخر ناقصا لا يمكنه اخراجه الا بحيران معه مثل أن يجد في
المائتين خمس بنات لبون وثلاث حقان تعين أخذ الفريضة الكاملة لأن الجبران بدل يشترط له
عدم المبدل وان كانت كل واحدة تحتاج إلى جيران مثل أن يجد أربع بنات لبون وثلاث حقان
فهو مخير أيهما شاء أخرج مع الجبران ان شاء أخرج بنات اللبون وحقة وأخذ بالجيران، وان شاء
أخرج الحقان وبنت اللبون مع جيرانها فإن قال خذوا منى حقة وثلاث بنات لبون مع الجبران
لم يجز لأنه يعدل عن الفرض مع وجوده إلى الجبران، ويحتمل الجواز لأنه لابد من الجبران وان لم
يوجد إلا حقة وأربع بنات لبون أداها وأخذ الجبران ولم يكن له دفع ثلاث بنات لبون مع الجبران
في أصح الوجهين وإن كان الفرضان معدومين أو معيبين فله العدول عنهما مع الجبران فإن شاء أخرج
455

أربع جذعات وأخذ ثماني شياه أو ثمانين درهما، وان شاء دفع خمس بنات مخاض ومعها عشر شياه
أو مائة درهم وان أحب أن ينقل عن الحقان إلى بنات المخاض أو عن بنات اللبون إلى الجذاع لم
يجز لأن الحقان وبنات اللبون منصوص عليهن في هذا المال فلا يصعد إلى الحقاق بجبران ولا
يتزل إلى بنات اللبون بجبران:
(مسألة) قال (ومن وجبت عليه حقة وليست عنده وعنده ابنة لبون أخذت
منه ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن وجبت عليه ابنة لبون وليست عنده وعنده حقة
أخذت منه وأعطى الجبران شاتين أو عشرين درهما)
المذهب في هذا انه متى وجبت عليه سن وليست عنده فله أن يخرج سنا أعلى منها ويأخذ
شاتين أو عشرين درهما أو سنا أنزل منها ومعها شاتين أو عشرين درهما الا ابنة مخاض ليس له أن
يخرج أنزل منها لأنها أدنى سن تجب في الزكاة أو جذعة ولا يخرج أعلى منها الا أن يرضى رب المآب
456

باخراجها لاجبران معها فتقبل منه والاختيار في الصعود والنزول والشياه والدراهم إلى رب المال
وبهذا قال النخعي والشافعي وابن المنذر واختلف فيه عن إسحاق وقال الثوري يخرج شاتين أو
عشرة دراهم لأن الشاة في الشرع متقومة بخمسه دراهم بدليل أن نصابها أربعون ونصاب الدراهم
مائتان، وقال أصحاب الرأي يدفع قيمة ما وجب عليه أو دون السن الواجبة وفضل ما بينهما دراهم
ولنا قوله عليه السلام في الحديث الذي رويناه من طريق البخاري (ومن بلغت عنده من
الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن
استيسر تاله أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده الجذعة فإنها تقبل
منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الا بنت
لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده
حقة فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون
وليست عنده وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ابنة مخاض ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين) وهذا
نص ثابت صحيح لم يلتفت إلى ما سواه. إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز العدول إلى هذا الجبران مع وجود
الأصل لأنه مشروط في الخبر بعدم الأصل، وان يخرج في الجبران شاة وعشرة دراهم فقال
457

القاضي لا يمنع هذا كما قلنا في الكفارة فله إخراجها من جنسين لأن الشاة مقام عشرة دراهم فإذا اختار
اخراجها وعشرة جاز ويحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بين شاتين وعشرين درهما وهذا قسم ثالث
فتجويزه يخالف الخبر والله أعلم بالصواب
(فصل) فإن عدم السن الواجبة والتي تليها كمن وجبت عليه جذعة فعدمها وعدم الجذعة وابنة
اللبون فقال القاضي يجوز أن ينتقل إلى السن الثالث مع الجبران فيخرج ابنة اللبون في الصورة الأولى
ويخرج معها أربع شياه وأربعين درهما ويخرج ابنة مخاض في الثانية ويخرج معها مثل ذلك وذكر أن
أحمد أومأ إليه وهذا قول الشافعي، وقال أبو الخطاب لا ينتقل إلى سن تلي الواجب فأما إن انتقل
من حقة إلى بنت مخاض أو من جذعة إلى بنت لبون لم يجز لأن النص ورد بالعدول إلى سن
واحدة فيجب الاقتصار عليها كما اقتصرنا في أخذ الشياه عن الإبل على الموضع الذي ورد به النص.
هذا قول ابن المنذر ووجه الأول انه قد جوز الانتقال إلى للسن التي تليه مع الجبران وجوز
العدول عن ذلك أيضا إذا عدم مع الجبران إذا كان هو الفرض وهاهنا لو كان موجودا أجزأ فإن
عدم جاز العدول إلى ما يليه مع الجبران والنص إذا عقله عدي وعمل بمعناه، وعلى مقتضى هذا القول
458

يجوز العدول عن الجذعة إلى بنت المخاض مع ست شياه أو ستين درهما ويعدل عن ابنة المخاض إلى
الجذعة ويأخذ ست شياه أو ستين درهما وان أراد أن يخرج عن الأربع شياه شاتين وعشرين درهما
جاز لأنهما جبرانان فهما كالكفارتين وكذلك في الجبران الذي يخرجه عن فرض المائتين من الإبل
459

إذا أخرج عن خمس بنات لبون خمس بنات مخاض أو مكان أربع حقان أربع جذعات جاز أن يخرج
بعض الجبران دراهم وبعضا شياها. ومتى وجد سنا تلي الواجب لا يجوز العدول إلى سن لا تليه لأن الانتقال
عن السن التي تليه إلى السن الأخرى بدل ولا يجوز مع امكان الأصل فإن عدم الحقة وابنة اللبون ووجد
460

الجذعة وابنة المخاض وكان الواجب الحقة لم يجز العدول إلى بنت المخاض وإن كان الواجب ابنة
لبون لم يجز اخراج الجذعة والله أعلم
461

(فصل) فإن كان النصاب كله مرضا وفريضته معدومة فله أن يعدل إلى السن السفلى مع دفع
الجبران وليس له أن يصعد مع أخذ الجبران لأن الجبران أكثر من الفضل الذي بين الفرضين وقد
يكون الجبران جبرا من الأصل فإن قيمة الصحيحين أكثر من قيمة المريضتين وكذلك قيمة ما بينهما
فإذا كان كذلك لم يجز في الصعود وجاز في النزول لأنه متطوع بشئ من ماله ورب المال يقبل
462

منه الفضل ولا يجوز للساعي أن يعطي من المساكين فإن كان المخرج ولي اليتيم لم يجز له
أيضا النزول لأنه لا يجوز أن يعطى الفضل من مال اليتيم فيتعين شراء الفرض من غير المال اه‍
(فصل) ولا يدخل الجبران في غير الإبل لأن النص فيها ورد وليس غيرها في معناها لأنها
أكثر قيمة، ولان الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها وما بين الفريضتين في البقر يخالف ما بين
463

الفريضتين في الإبل فامتنع القياس، فمن عدم فريضة البقر أو الغنم ووجد دونها لم يجز له اخراجها،
فإن وجد أعلى، منها فأحب أن يدفعها متطوعا بغير جبران قبلت منه، وإن لم يفعل كف شرا ها من غير ماله
(فصل) قال الأثرم قلت لأبي عبد الله رحمه الله تفسير الأوقاص ما بين الفريضتين قلت له
464

كأنه ما بين الثلاثين إلى الأربعين في البقر وما أشبه هذا؟ قال نعم والسبق ما دون الفريضة قلت له
كأنه ما دون الثلاثين من البقر وما دون الفريضة فقال نعم وقال الشعبي والسبق ما بين الفريضتين أيضا
قال أصحابنا الزكاة تتعلق بالنصاب دون الوقص ومعناه انه إذا كان عنده أكثر من الفريضة مثل
465

أن يكون عنده ثلاثون من الإبل فالزكاة تتعلق بخمسة وعشرين دون الخمسة الزائدة عليها فعلى هذا لو
وجبت الزكاة فيها وتلفت الخمس الزائدة قبل التمكين من أدائها وقلنا إن تلف النصاب قبل التمكن
يسقط الزكاة لم يسقط هاهنا منها شئ لأن التالف لم تتعلق الزكاة به، وان تلف منها عشر سقط من
466

الزكاة خمسها لأن الاعتبار بتلف جزء من النصاب وإنما تلف من النصاب خمسة وأما من قال لا تأثير
لتلف النصاب في اسقاط الزكاة فلا فائدة في الخلاف عنده في هذه المسألة فيما أعلم والله تعالى أعلم
باب صدقة البقر
وهي واجبة بالسنة والاجماع أما السنة فما روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها الا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن
تنطحه بقرونها وتطؤه باخفافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس) متفق
عليه. وروى النسائي والترمذي عن مسروق ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمين وأمره أن يأخذ
من كل حالم دينارا ومن البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة. وروى الإمام أحمد
باسناده عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ
من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة قال فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين
وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين فأبيت ذلك وقلت لهم حتى أسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين
مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاثة اتباع
ومن المائة مسنة وتبعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو
أربعة أتباع، وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا آخذ فيها بين ذلك شيئا إلا إن بلغ مسنة أو جذعا
يعني تبيعا، وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها. واما الاجماع فلا أعلم اختلافا في وجوب الزكاة في
البقر. وقال أبو عبيد: لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم، ولأنها أحد أصناف بهيمة الأنعام فوجبت
الزكاة في سائمتها كالإبل والغنم
467

(مسألة) قال (وليس فيما دون ثلاثين من البقر سائمة صدقة)
وجملة ذلك أنه لا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر في قول جمهور العلماء. وحكي عن سعيد بن المسيب
والزهري أنهما قالا: في كل خمس شاة ولأنها عدلت بالإبل في الهدي والأضحية فكذلك في الزكاة
ولنا ما تقدم من الخبر ولان نصب الزكاة إنما ثبتت بالنص والتوقيف وليس فيما ذكراه نص ولا
توقيف فلا يثبت، وقياسهم فاسد فإن خمسا وثلاثين من الغنم تعدل خمسا من الإبل في الهدي ولا
زكاة فيها، إذا ثبت هذا فإنه لا زكاة في غير السائمة من البقر في قول الجمهور. وحكي عن مالك أن
في العوامل والمعلومة صدقة كقوله في الإبل تقدم الكلام معه، وروي عن علي رضي الله عنه
قال الراوي أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة البقر قال: وليس في العوامل شئ. رواه أبو داود،
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس في البقر العوامل صدقة)
وهذا مقيد يحتمل عليه المطلق، وروي عن علي ومعاذ وجابر أنهم قالوا: لا صدقة في البقر العوامل.
ولان صفة النماء معتبرة في الزكاة ولا يوجد إلا في السائمة
(مسألة) قال (وإذا ملك الثلاثين من البقر فأسامها أكثر السنة ففيها تبيع أو تبيعة
إلى تسع وثلاثين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة إلى تسع وخمسين، فإذا بلغت ستين ففيها
تبيعان إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، وإذا زادت ففي كل ثلاثين
تبيع وفي كل أربعين مسنة)
التبيع الذي له سنة ودخل في الثانية، وقيل له ذلك لأنه يتبع أمه، والمسنة التي لها سنتان وهي
الثنية ولا فرض في البقر غيرهما، وبما ذكر الخرقي هاهنا قال: أكثر أهل العلم منهم الشعبي
والنخعي والحسن ومالك والليث والثوري وابن اماجشون والشافعي واسحق وأبو عبيد وأبو يوسف
468

ومحمد بن الحسن وأبو ثور. وقال أبو حنيفة في بعض الروايات عنه فيما زاد على الأربعين بحسابه
في كل بقرة ربع عشر مسنة فرارا من جعل الوقص تسعة عشر وهو مخالف لجميع أوقاصها، فإن
جميع أوقاصها عشرة عشرة
ولنا حديث يحيى بن الحكم الذي رويناه وهو صريح في محل النزاع وقول النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الآخر (في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة) يدل على أن الاعتبار بهذين العددين
ولان البقر أحد بهيمة الأنعام ولا يجوز في زكاتها كسر كسائر الأنواع، ولا ينقل من فرض فيها
إلى فرض بغير وقص كسائر الفروض، ولأن هذه زيادة لا يتم بها أحد العددين فلا يجب فيها شئ كما
بين الثلاثين والأربعين وما بين الستين والسبعين ومخالفة قولهم للأصول أشد من الوجوه التي ذكرناها
وعلى أن أوقاص الإبل والغنم مختلفة فجاز الاختلاف ههنا
(فصل) وإذا رضي رب المال باعطاء المسنة عن التبيع والتبيعين عن المسنة أو أخرج أكثر منها
سنا عنها جاز ولا مدخل للجبران فيها كما قدمناه في زكاة الإبل
(فصل) ولا يخرج الذكر في الزكاة أصلا إلا في البقر، فإن ابن اللبون ليس بأصل إنما هو بدل
عن ابنة مخاض ولهذا لا يجزئ مع وجودها، وإنما يجزئ الذكر في البقر عن الثلاثين وما تكرر منها
كالستين والسبعين وما تركب من الثلاثين وغيرها كالسبعين فيها تبيع ومسنة والمائة فيها مسنة وتبيعان
وإن شاء أخرج مكان الذكور إناثا لأن النص ورد بهما جمعيا، فأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين
فلا يجزئ في فرضها إلا الإناث إلا أن يخرج المسنة تبعين فيجوز، وإذا بلغت البقر مائة وعشرين
اتفق الفرضان جميعا فيخير رب المال بين اخراج ثلاث مسنات أو أربع أتبعة والواجب أحدهما أيهما
شاء على ما نطق به الخبر المذكور والخيرة في الاخراج إلى رب المال كما ذكرنا في زكاة الإبل، وهذا
التفصيل فيما إذا كان فيها إناث، فإن كانت كلها ذكورا أجزأ الذكر فيها بكل حال لأن الزكاة مواساة
فلا يكلف المواساة من غير ماله، ويحتمل أنه لا يجزئه إلا إناث في الأربعينيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم
469

نص على المسنات فيجب اتباع مورده فيكلف شراءها، فإذا لم تكن في ماشيته كما لو لم يجد إلا دونها
في السن، والأول أولى لأننا أخرنا الذكر في الغنم مع أنه لا مدخل له في زكاتها مع وجود الإناث،
فالبقر التي للذكر فيها مدخل أولى لأن للذكر فيها مدخلا
(مسألة) قال (والجواميس كغيرها من البقر)
لا خلاف في هذا نعلمه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على هذا، ولان
الجواميس من أنواع البقر كما أن البخاتي من أنواع الإبل، فإذا اتفق في المال جواميس وصنف آخر
من البقر، أو بخاتي وعراب، أو معز وضأن كمل نصاب أحدهما بالآخر وأخذ الفرض من أحدهما
على قدر المالين على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
(فصل) واختلفت الرواية في بقر الوحش فروي أن فيها الزكاة اختاره أبو بكر لأن اسم البقر
يشملها فيدخل في مطلق الخبر، وعنه لا زكاة فيها وهي أصح وهذا قول أكثر أهل العلم لأن اسم
البقر عند الاطلاق لا ينصرف إليها ولا يفهم منه إذ كانت لا تسمى بقرا بدون الإضافة فيقال بقر
الوحش، ولان وجود نصاب منها موصوفا بصفة السوم حولا لا وجود له ولأنها حيوان لا يجزئ نوعه
في الأضحية والهدي فلا تجب فيه الزكاة كالظباء، ولأنها ليست من بهيمة الأنعام فلا تجب فيها
الزكاة كسائر الوحوش، وسر ذلك أن الزكاة إنما وجبت في بهيمة الأنعام دون غيرها لكثرة النماء فيها
من درها ونسلها وكثرة الانتفاع بها لكثرتها وخفة مؤونتها، وهذا المعنى يختص بها فاختصت الزكاة
بها دون غيرها، ولا تجب الزكاة في الظباء رواية واحدة لعدم تناول اسم الغنم لها
(فصل) قال أصحابنا تجب الزكاة في المتولد بين الوحشي والأهلي سواء كانت الوحشية الفحول
أو الأمهات. وقال مالك وأبو حنيفة: إن كانت الأمهات أهلية وجبت الزكاة فيها والا فلا لأن ولد
البهيمة يتبع أمه. وقال الشافعي: لا زكاة فيها لأنها متولدة من وحشي أشبه المتولد من وحشيين، واحتج
أصحابنا بأنها متولدة بين ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب فيه فوجبت فيها الزكاة كالمتولدة بين سائمة
470

ومعلوفة، وزعم بعضهم أن غنم مكة متولدة من الظباء وفيها الزكاة بالاتفاق، فعلى هذا القول
تضم إلى جنسها من الأهلي في وجوب الزكاة وتكمل بها نصابه وتكون كأحد أنواعه، والقول بانتفاء
الزكاة فيها أصح لأن الأصل انتفاء الوجوب، وإنما ثبت بنص أو اجماع أو قياس، ولا نص في هذه
ولا إجماع إنما هو في بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية وليست هذه داخلة في أجناسها ولا حكمها
ولا حقيقتها ولا معناها، فإن المتولد بين شيئين ينفرد باسمه وجنسه وحكمه عنهما كالبغل المتولد بين
الفرس ولحمار، والسبع المتولد بين الذئب والضبع، والعسار المتولد بين الضبعان والذئبة، فكذلك
المتولد بين الظباء والمعز ليس بمعز ولا ظبي، ولا يتناوله نصوص الشارع، ولا يمكن قياسه عليها
لتباعد ما بينهما واختلاف حكمهما في كونه لا يجزئ في هدي ولا أضحية ولا دية، ولو أسلم في الغنم
لم يتناوله العقد، ولو وكل وكيلا في شراء شاة لم يدخل في الوكالة ولا يحصل منه ما يحصل من الشاة من
الدر وكثرة النسل، بل الظاهر أنه لا ينسل له أصلا، فإن المتولد بين ثنتين لا نسل له كالبغال، وما لا
نسل له لا در فيه، فامتنع القياس ولم يدخل في نص ولا اجماع فايجاب الزكاة فيها تحكم بالرأي، وإذا
قيل تجب الزكاة احتياطا وتغليبا للايجاب كما أثبتنا التحريم فبها في الحرم والاحرام احتياطا لم يصح
لأن الواجبات لا تثبت احتياطا بالشك، ولهذا لا تجب الطهارة على من تيقنها وشك في الحدث ولا
غيرها من الواجبات. وأما السوم والعلف فالاعتبار فيه بما تجب فيه الزكاة لا بأصله الذي تولد منه
بدليل أنه لو علف المتولد من السائمة لم تجب زكاته ولو أسام أولاد المعلوفة لوجبت زكاتها، وقول من
زعم أن غنم مكة متولدة من الغنم والظباء لا يصح لأنها لو كانت كذلك لحرمت في الحرم والاحرام
ووجب فيها الجزاء كسائر المتولد بين الوحشي والأهلي، ولأنها لو كانت كذلك متولدة من جنسين
لما كان لها نسل كالسبع والبغال
471

باب صدقة الغنم
وهي واجبة بالسنة والاجماع، أما السنة فما روى أنس في كتاب أبي بكر الذي ذكرنا أوله قال:
وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على مائتين إلى
ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة
من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاري بها، ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات
عوار، ولا تيسا إلا ما شاء المصدق، واختار سوى هذا كثير وأجمع العلماء على وجوب الزكاة فيها
(مسألة) قال أبو القاسم (وليس فيما دون أربعين من الغنم سائمة صدقة)
فإذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة
ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه وهذا كله مجمع عليه. قاله ابن المنذر
إلا المعلوفة في أقل من نصف الحول على ما ذكرنا من الخلاف فيه. وحكي عن معاذ رضي الله عنه
أن الفرض لا يتغير بعد المائة واحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين واثنين وأربعين ليكون مثلي مئة واحدى
وعشرين ولا يثبت عنه، وروى سعيد عن خالد بن مغيرة عن الشعبي عن معاذ قال: كان إذا بلغت
الشياه مائتين لم يغيرها حتى تبلغ أربعين ومائتين فيأخذ منها ثلاث شياة، فإذا بلغت ثلاثمائة لم يغيرها
حتى تبلغ أربعين وثلاثمائة فيأخذ منها أربعا، ولفظ الحديث الذي ذكرناه دليل عليه والاجماع على
خلاف هذا القول دليل على فساده والشعبي لم يلق معادا
(مسألة) قال (فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة)
ظاهر هذا القول أن الفرض لا يتغير بعد المائتين وواحدة حتى يبلغ أربعمائة فيجب في كل مائة
شاة ويكون الوقص ما بين المائتين وواحدة إلى أربعمائة وذلك مئة وتسعة وتسعون، وهذا إحدى
الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء. وعن أحمد رواية أخرى أنها إذا زادت على ثلاثمائة
472

وواحدة ففيها أربع شياه، ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمسمائة فيكون في كل مائة شاة ويكون
الوقص الكبير بين ثلاثمائة وواحدة إلى خمسمائة وهو أيضا مائة وتسعة وتسعون. وهذا اختيار
أبي بكر، وحكي عن النخعي والحسن بن صالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاثمائة حدا
للوقص وغاية لم فيجب أن يتعقبه تغير النصاب كالمائتين
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإذا زادت ففي كل مائة شاة) وهذا يقتضي أن لا يجب في
دون المائة شئ، وفي كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب: فإذا زادت على ثلاثمائة
وواحدة فليس فيها شئ حتى تبلغ أربعمائة شاة ففيها أربع شياه، وهذا نص لا يجوز خلافه إلا بمثله
أو أقوى منه، وتحديد النصاب لاستقرار الفريضة لا للغاية والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار)
ذات العوار المعيبة وهذه الثلاث لا يؤخذ لدناءتها فإن الله تعالى قال (ولا تيمموا الخبيث منه
تنفقون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا
ما شاء المصدق) وقد قيل: لا يؤخذ تيس الغنم وهو فحلها لفضيلته، وكان أبو عبيد يروي الحديث
إلا ما شاء المصدق ويفتح الدال يعني صاحب المال، فعلى هذا يكون الاستثناء في الحديث
راجعا إلى التيس وحده، وذكر الخطابي ان جميع الرواة يخالفونه في هذا فيروونه المصدق بكسر الدال
أي العامل وقال: التيس الذي لا يؤخذ لنقصه وفساد لحمه وكونه ذكرا، وعلى هذا لا يأخذ المصدق
وهو الساعي أحد هذه الثلاثة إلا أن يرى ذلك بان يكون جميع النصاب من جنسه فيكون له أن يأخذ
من جنس المال فيأخذ هرمة وهي الكبيرة من الهرمات، وذات عوار من أمثالها، وتيسا من التيوس
وقال مالك والشافعي: إن رأى المصدق أن أخذ هذه الثلاثة خير له وأنفع للفقراء فله أخذه لظاهر
الاستثناء، ولا يختلف المذهب أنه ليس له أخذ الذكر في شئ من الزكاة إذا كان في النصاب إناث
في غير أتبعة البقر وابن اللبون بدلا عن بنت مخاض إذا عدمها. وقال أبو حنيفة: يجوز اخراج الذكر
473

من الغنم الإناث لقوله عليه السلام (في أربعين شاة شاة) ولفظ الشاة يقع على الذكر والأنثى، ولان
الشاة إذا أمر بها مطلقا أجزأ فيها الذكر كالأضحية والهدي
ولنا أنه حيوان تجب الزكاة في عينه فكانت الأنوثة معتبرة في فرضه كالإبل والمطلق يتقيد
بالقياس على سائر النصب، والأضحية غير معتبرة بالمال بخلاف مسئلتنا، فإن قيل فما فائدة تخصيص
التيس بالنهي، إذا قلنا لأنه لا يؤخذ عن الذكور أيضا فلو ملك أربعين ذكرا وفيها تيس معد للضراب
لم يجز أخذه، اما لفضيلته فإنه لا يعد للضراب إلا أفضل الغنم وأعظمها، واما لذاته لفساد لحمه،
ويجوز أن يمنع من أخذه للمعنين جميعا، وإن كان النصاب كله ذكورا جاز اخراج الذكر في الغنم
وجها واحدا، وفي البقر في أصح الوجهين، وفي الإبل وجهان، والفرق بين النصب الثلاثة أن النبي
صلى الله عليه وسلم نص على الأنثى في فرائض الإبل والبقر وأطلق الشاة الواجبة. وقال في الإبل
(من لم يجد بنت مخاض أخرج ابن لبون ذكرا) ومن حيث المعنى أن الإبل يتغير فرضها بزيادة السن،
فإذا جوزنا اخراج الذكر أفضى إلى التسوية بين الفريضتين لأنه يخرج ابن لبون عن خمس وعشرين
ويخرجه عن ستة وثلاثين وهذا المعنى يختص الإبل، فإن قيل فالبقر أيضا يأخذ منها تبيعا عن ثلاثين
وتبيعا عن أربعين إذا كانت أتبعه كلها، وقلنا تؤخذ الصغيرة عن الصغار، قلنا هذا لا يلزم مثله في
اخراج الأنثى فلا فرق، ومن جوز اخراج الذكر في الكل قال: يأخذ ابن لبون من خمس وعشرين
قيمته دون قيمة ابن لبون يأخذ من ستة وثلاثين ويكون بينهما في القيمة كما بينهما في العدد ويكون
الفرض بصفة المال، وإذا اعتبرنا لقيمة لم يؤد إلى التسوية كما قلنا في الغنم
(فصل) ولا يجوز إخراج المعيبة عن الصحاح وإن كثرت قيمتها، لما نهي عن أخذها ولما فيه
من الاضرار بالفقراء ولهذا يستحق ردها في البيع وإن كثرت قيمتها، وإن كان في النصاب صحاح
ومراض أخرج صحيحة على قدر قيمة المالين، فإن كان النصاب كله مراضا إلا مقدار الفرض فهو
مخير بين إخراجه وبين شراء مريضة قليلة القيمة فيخرجها ولو كانت الصحيحة غير الفريضة بعدد
474

الفريضة مثل من وجب عليه ابنتا لبون، وعنده حواران صحيحا كان عليه شراء صحيحتين فيخرجهما، وإن
وجبت عليه حقتان وعنده ابنتا لبون صحيحتان خير بين إخراجهما مع الجبران وبين شراء حقتين صحيحتين
على قدر قيمة المال، وإن كان عنده جذعتان صحيحتان فله اخراجهما مع أخذ الجبران، وإن كانت عليه
حقتان ونصف ماله صحيح ونصفه مريض فقال ابن عقيل: له اخراج حقة صحيحة وحقة مريضة لأن النصف
الذي يجب فيه إحدى الحقتين مريض كله، والصحيح في المذهب خلاف هذا لأن في ماله صحيحا
ومريضا فلم يملك اخراج مريضة كما لو كان نصابا واحدا ولم يتغير النصف الذي وجبت فيه الحقة في
المراض، وكذلك لو كان لشريكين لم يتعين حق أحدهما في المراض دون الآخر، وإن كان النصاب
مراضا. كله فالصحيح في المذهب جواز اخراج الفرض منه ويكون وسطا في القيمة والاعتبار بقلة
العيب وكثرته لأن القيمة تأتي على ذلك وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد. وقال مالك: إن
كانت كلها جربا أخرج جرباء، وإن كانت كلها هتماء كلف شراء صحيحة. وقال أبو بكر: لا تجزئ
إلا صحيحة لأن احمد قال: لا يؤخذ إلا ما يجوز في الأضاحي، وللنهي عن أخذ ذات العوار، فعلى
هذا يكلف شراء صحيحة بقدر قيمة المريضة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إياك وكرائم أموالهم) وقال (إن الله تعالى لم يسألكم خيره ولم يأمركم
بشره) رواه أبو داود، ولان مبنى الزكاة على المواساة وتكليف الصحيحة عن المراض اخلال
بالمواساة، ولهذا يأخذ من الردى من الحبوب والثمار من جنسه ويأخذ من اللئام والهزال من المواشي
من جنسه كذا ههنا، وقد ذكرنا أن الاستثناء في الحديث يدل على جواز اخراج المعيبة في بعض
الأحوال أو نحمله على ما إذا كان فيه صحيح فإن الغالب الصحة، وإن كان جميع النصاب مريضا إلا
بعض الفريضة أخرج الصحيحة وتمم الفريضة من المراض على قدر المال ولا فرق في هذا بين الإبل
والبقر والغنم والحكم في الهرمة كالحكم في المعيبة سواء
475

(مسألة) قال (ولا الربا ولا الماخض ولا الأكولة)
قال احمد: الربا التي وضعت وهي تربي ولدها يعني قريبة العهد بالولادة، وتقول العرب في
ربابها كما تقول في نفاسها. قال الشاعر:
حنين أم البو في ربابها
قال احمد: والماخض التي قد حان ولادها، فإن كان في بطنها لم يحن ولادها فهي خلفة
وهذه الثلاث لا تؤخذ لحق رب المال. قال عمر لساعيه: لا تأخذ الربا ولا الماخض ولا الأكولة ولا
فحل الغنم، وإن تطوع رب المال باخراجها جاز أخذها وله ثواب الفضل على ما ذكرنا في حديث أبي
ابن كعب وإذا ثبت هذا، وأنه منع من أخذ الردئ من أجل الفقراء، ومن أخذ كرائم الأموال من
أجل أربابه ثبت أن الحق في الوسط من المال. قال الزهري: إذا جاء المصدق قسم الشياه أثلاثا:
ثلث خيار، وثلث أوساط، وثلث شرار، وأخذا المصدق من الوسط، وروي نحو هذا عن عمر رضي الله عنه
وقاله اما منا وذهب إليه، والأحاديث تدل على هذا، فروى أبو داود والنسائي باسنادهما عن سعد
ابن دليم قال: كنت في غنم لي فجاءني رجلان على بعير فقالا: انا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك
لتؤدي إلينا صدقة غنمك، قلت: وما على فيها؟ قالا. شاة فاعمد إلى شاة قد عرفت مكانها ممتلئة
مخضا وشحما فأخرجها إليها فقالا: هذه شافع قد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شاة شافعا
والشافع الحامل سميت بذلك لأن ولدها قد شفعها، والمخض اللبن. وقال سويد بن غفلة: سرت
أو أخبرني من سار مع مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نأخذ من
راضع لبن قال فكان يأتي المياه حين ترد الغنم فيقول (أدوا صدقات أموالكم، قال فعمد رجل
منهم إلى ناقة كوماء وهي العظيمة السنام فأبى أن يقبلها. رواه أبو داود والنسائي
وروى أبو داود باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الايمان من
476

عبد الله وحده وأنه لا إله الا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام، ولم يعط
الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم
خيره ولم يأمركم بشره) رافدة يعني معيبة، والدرنة الجرباء، والشرط رذالة المال
(مسألة) قال (وتعد عليهم السخلة ولا تؤخذ منهم)
السخلة بفتح السين وكسرها الصغيرة من أولاد المعز
وجملته أنه متى كان عنده نصاب كامل فنتجت منه سخال في أثناء الحول وجبت الزكاة في الجميع
عند تمام حول الأمهات في قول أكثر أهل العلم. وحكي عن الحسن والنخعي: لا زكاة في السخال حتى
يحول عليها الحول، ولقوله عليه السلام (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)
ولنا ما روي عن عمر أنه قال لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها
منهم وهو مذهب علي ولا نعرف لهما في عصرهما مخالفا فكان اجماعا، ولأنه نماء نصاب فيجب أن
يضم إليه في الحول كأموال التجارة والخبر مخصوص بمال التجارة فنقيس عليه، فأما إن لم يكمل
النصاب إلا بالسخال احتسب الحول من حين كمل النصاب في الصحيح من المذهب وهو قول
الشافعي واسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر حول الجميع من
حين ملك الأمهات وهو قول مالك لأن الاعتبار بحول الأمهات دون السخال فيها إذا كانت نصابا
وكذلك إذا لم تكن نصابا
ولنا أنه لم يحل الحول على نصاب فلم تجب الزكاة فيها كما لو كملت يغير سخالها، أو كمل التجارة
فإنه لا تختلف الرواية فيه، وإن نتجت السخال بعد الحول ضمت إلى أمهاتها في الحول الثاني وحده
والحكم في فصلان الإبل وعجول البقر كالحكم في السخال، إذا ثبت هذا فإن السخلة لا تؤخذ في
الزكاة لما قدمنا من قول عمر، ولما سنذكره في المسألة التي تلي هذه ولا نعلم فيه خلافا إلا أن يكون
477

النصاب كله صغارا فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، وإنما يتصور ذلك بأن يبدل
كبارا بصغار في أثناء الحول، أو يكون عنده نصاب من الكبار فتوالد نصاب من الصغار ثم تموت
الأمهات ويحول الحول على الصغار. وقال أبو بكر: لا يؤخذ أيضا إلا كبيرة تجزئ في الأضحية
وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما حقنا في الجذعة أو الثنية) ولان زيادة السن في
المال لا يزيد به الواجب كذلك نقصانه لا ينقص به.
ولنا قول الصديق رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقاتلهم عليها، فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق، ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته
فيجب أن يؤخذ من عينه كسائر الأموال، والحديث محمول على ما فيه كبار، وأما زيادة السن فليست
تمنع الرفق بالمالك في الموضعين كما أن ما دون النصاب عفو وما فوقه غفو، فظاهر قول أصحابنا أن
الحكم في الفصلان والعجول كالحكم في السخال لما ذكرنا في الغنم ويكون التعديل بالقيمة مكان زيادة
السن كما قلنا في اخراج الذكر من الذكور، ويحتمل أن لا يجوز اخراج الفصلان والعجول وهو قول
الشافعي كيلا يفضي إلى التسوية بين الفروض، قانه يفضي إلى اخراج ابنة المخاض عن خمس وعشرين
وست وثلاثين وست وأربعين واحدى وستين، ويخرج ابنتي اللبون عن ست وسبعين، واحدى
وتسعين ومائة وعشرين، ويفضي إلى الانتقال من ابنة اللبون الواحدة من إحدى وستين إلي اثنتين
في ست وسبعين مع تقارب الوقص بينهما، وبينهما في الأصل أربعون، والخبر ورد في السخال فيمتنع
قياس الفصلان والعجول عليهما لما بينهما من الفرق
(فصل) وإن ملك نصابا من الصغار انعقد عليه حول الزكاة من حين ملكه، وعن أحمد لا ينعقد
عليه الحول حتى يبلغ سنا يجزئ مثله في الزكاة وهو قول أبي حنيفة، وحكي ذلك عن الشعبي لأنه
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس في السخال زكاة) وقال (لا نأخذ من راضع لبن) ولان السن
معنى يتغير به الفرض فكان لنقصانه تأثير في الزكاة كالعدد
478

ولنا أن السخال تعد مع غيرها فتعد منفردة كالأمهات والخبر يرويه جابر الجعفي وهو
ضعيف عن الشعبي مرسلا، ثم هو محمول على أنه لا تجب فيها قبل حول الحول، والعدد تزيد الزكاة
بزيادته بخلاف السن، فإذا قلنا بهذه الرواية فإذا ماتت الأمهات الا واحدة لم ينقطع الحول،
وإن ماتت كلها انقطع الحول
(مسألة) قال (ويؤخذ من المعز الثني ومن الضان الجذع)
وجملته أنه لا يجزي في صدقة الغنم إلا الجذع من الضأن وهو ما له ستة أشهر والثني من المعز
وهو ماله سنة، فإن تطوع المالك بأفضل منها في السن جاز فإن كان الفرض في النصاب أخذه
وإن كان كله فوق الفرض خير المالك بين دفع واحدة منه وبين شراء الفرض فيخرجه وبهذا
قال الشافعي. وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه لا يجزي الا الثنية منهما جميعا لأنهما نوعا جنس
فكان الفرض منهما واحدا كأنواع الإبل والبقر وقال مالك تجزي الجذعة منهما لذلك ولقول النبي
صلى الله عليه وسلم (إنما حقنا في الجذعة والثنية)
ولنا على جواز اخراج الجذعة من الضان مع هذا الخبر قول سعد بن دليم أتاني رجلان على
بعير فقالا: انا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتؤدي صدقة غنمك قلت، وأي شئ تأخذان
قالا: عناق جذعة أو ثنية. أخرجه أبو داود
ولنا ما روى مالك عن سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أمرنا أن نأخذ
الجذعة من الضان والثنية من المعز وهذا صريح وفيه بيان المطلق في الحديثين قبله، ولان جذعة
الضان تجزئ في الأضحية بخلاف جذعة المعز بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة بن دينار في جذعة
المعز (تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك) قال إبراهيم الحربي. إنما أجزأ الجذع من الضأن لأنه
يلقح، والمعز لا يلقح الا إذا كان ثنيا
479

(مسألة) قال (فإن كانت عشرين ضأنا وعشرين معزا أخذ من أحدهما ما يكون
قيمته نصف شاة ضأن ونصف معز)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في ضم أنواع الأجناس بعضها إلى بعض في ايجاب الزكاة. وقال ابن
المنذر: أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على ضم الضأن إلى المعز، إذا ثبت هذا فإنه يخرج الزكاة
من أي الأنواع أحب سواء دعت الحاجة إلى ذلك بأن يكون الواجب واحدا أولا يكون أحد
النوعين موجبا لواحد أو لم يدع بأن يكون كل واحد من النوعين يجب فيه فريضة كاملة. وقال عكرمة
ومالك واسحق: يخرج من أكثر العددين، فإن استويا أخرج من أيهما شاء. وقال الشافعي:
القياس أن يؤخذ من كل نوع ما يخصه. اختاره ابن المنذر لأنها أنواع تجب فيها الزكاة فتجب زكاة
كل نوع منه كأنواع الثمرة والحبوب
ولنا أنهما نوعا جنس من الماشية فجاز الاخراج من أيهما شاء كما لو استوى العددان وكالسمان
والمهازيل، وما ذكره الشافعي يفضي إلى تشقيص الفرض وقد عدل إلى غير الجنس فيما دون خمس
وعشرين من أجله فالعدول إلى النوع أولى، فإذا ثبت هذا فإنه يخرج من أحد النوعين ما قيمته كقيمة
المخرج من النوعين، فإذا كان النوعان سواء وقيمته المخرج من أحدهما اثنا عشر، وقيمة المخرج من
الآخر خمسة عشر، أخرج من أحدهما ما قيمته ثلاثة عشر ونصف، وإن كان الثلث معزا والثلثان
ضأنا أخرج ما قيمته أربعة عشر، وإن كان الثلث ضأنا والثلثان معزا أخرج ما قيمته ثلاثة، وهكذا
لو كان في إبله عشر بخاتي وعشر مهرية وعشر عرابية، وقيمة ابنة المخاض البختية ثلاثون، وقيمة
المهرية أربعة وعشرون، وقيمة العرابية اثنا عشر، أخرج ابنة مخاض قيمتها ثلث قيمة ابنة مخاض
بختية وهو عشرة، وثلث قيمة مهرية ثمانية، وثلث قيمة أعرابية أربعة فصار الجمع اثنين وعشرين
480

وهذا الحكم في أنواع البقر، وكذلك الحكم في السمان مع المهازيل، والكرام مع اللئام، فأما الصحاح
مع المراض، والذكور مع الإناث، والكبار مع الصغار، فيتعين عليه صحيحة وكبيرة أنثى على قدر
قيمة المالين إلا أن يتطوع رب المال بالفضل وقد ذكر هذا
(فصل) فإن أخرج عن النصاب من غير نوعه مما ليس في ماله منه شئ ففيه وجهان (أحدهما)
يجزئ لأنه أخرج عنه من جنسه فجاز كما لو كان المال نوعين فأخرج من أحدهما عنهما (والثاني)
لا يجزئ لأنه أخرج من غير نوع ماله أشبه ما لو أخرج من غير الجنس، وفارق ما إذا أخرج من أحد
نوعي ماله لأنه جاز فرارا من تشقيص الفرض وقد جوز الشارع الاخراج من غير الجنس في قليل
الإبل وشاة الجبران لذلك بخلاف مسئلتنا
(مسألة) قال (وان اختلط جماعة في خمس من الإبل أو ثلاثين من البقر أو أربعين
من الغنم وكان مرعاهم ومسرحهم ومبيتهم ومحلهم وفحلهم واحدا أخذت منهم الصدقة)
وجملته أن الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجل الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة
أعيان وهي أن تكون الماشية مشتركة بينهما لكل واحد منهما منها نصيب مشاع مثل أن يرثا نصابا
أو يشترياه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله أو خلطة أو صاف، وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزا
فخلطاه واشتركا في الأوصاف التي نذكرها وسواء تساويا في الشركة أو اختلفا مثل أن يكون لرجل
شاة، ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلا أربعون شاة لكل واحد منهم شاة، نص
عليهما احمد وهذا قول عطاء والأوزاعي والشافعي والليث واسحق. وقال مالك: إنما تؤثر الخلطة
إذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب، وحكي ذلك عن الثوري وأبي ثور واختاره ابن المنذر.
وقال أبو حنيفة لا أثر لها بحال لأن ملك كل واحد دون النصاب فلم يجب عليه زكاة كما لو لم يختلط
بغيره، ولأبي حنيفة فيما إذا اختلطا في نصابين أن كل واحد منهما يملك أربعين من الغنم فوجبت عليه
شاة لقوله عليه السلام (في أربعين شاة شاة)
481

ولنا ما روى البخاري في حديث أنس الذي ذكرنا أوله (لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق
بين مجتمع خشية الصدقة) وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يجئ التراجع
إلا على قولنا في خلطة الأوصاف. وقوله: لا يجمع بين متفرق، إنما يكون هذا إذا كان لجماعة،
فإن الواحد يضم ماله بعضه إلى بعض وإن كان في أماكن وهذا لا يفرق بين مجتمع، ولان للخلطة
تأثيرا في تخفيف المؤنة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم والسقي، وقياسهم مع مخالفة النص غير مسموع
إذا ثبت هذا فإن خلطة الأوصاف يعتبر فيها اشتراكهم في خمسة أوصاف، المسرح والمبيت والمحلب
والمشرب والفحل. قال احمد: الخليطان أن يكون راعيهما واحدا، ومراحهما واحدا، وشربهما
واحدا، وقد ذكر احمد في كلامه شرطا سادسا وهو الراعي. قال الخرقي: وكان مرعاهم ومسرحهم
واحدا، فيحتمل أنه أراد بالمرعى الراعي ليكون موافقا لقول احمد ولكون المرعى هو المسرح:
قال ابن حامد: المرعى والمسرح شرط واحد، وإنما ذكر احمد المسرح ليكون فيه راع واحد والأصل
في هذا ما روى الدارقطني في سننه باسناده عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول (لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة والحيطان ما اجتمعا في الحوض
والفحل والراعي) وروي الرعي، وبنحو من هذا قال الشافعي وقال بعض مالك: لا يعتبر
في الخلطة الا شرطان: الراعي والمرعي لقوله عليه السلام (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين
متفرق) والاجتماع يحصل بذلك ويسمي خلطة فاكتفي به
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم (والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل) فإن قيل فلم اعتبرتم زيادة
على هذا؟ قلنا هذا تنبيه على بقية الشرائط والغاء لما ذكروه، ولان لكل واحد من هذه الأوصاف
تأثيرا فاعتبر كالمرعى. إذا ثبت هذا فالمبيت معروف وهو المراح الذي تروح إليه الماشية، قال الله
تعالى (حين تريحون وحين تسرحون) والمسرح والمرعى واحد وهو الذي ترعى فيه الماشية يقال
سرحت الغنم إذا مضت إلى المرعى، وسرحتها انا بالتخفيف والتثقيل ومنه قوله تعالى (وحين تسرحون)
482

والمحلب الموضع الذي تحلب فيه الماشية يشترط أن يكون واحدا ولا يفرد كل واحد منهما لحلب ماشيته
موضعا، وليس المراد منه خلط اللبن في إناء واحد لأن هذا ليس بمرفق، بل مشقة لما فيه من الحاجة
إلى قسمة اللبن، ومعنى كون الفحل واحدا أن لا تكون فحولة أحد المالين لا تطرق غيره، وكذلك
الراعي هو أن لا يكون لكل مال راع ينفرد برعايته دون الآخر. ويشترط أن يكون المختلطان من أهل
الزكاة فإن كان أحدهما ذميا أو مكاتبا لم يعتد بخلطته ولا تشترط نية الخلطة وحكي عن القاضي أنه اشترطها
ولنا قوله عليه السلام (والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل) ولان النية لا تؤثر
في الخلطة فلا تؤثر في حكمها، ولان المقصود بالخلطة من الارتفاق يحصل بدونها فلم يتغير
وجودها معه كما لا تتغير نية السوم في الاسامة ولانية السقي في الزرع والثمار ولانية مضي الحول
فيما يشترط الحول فيه
(فصل) فإن كان بعض مال الرجل مختلطا وبعضه منفردا أو مختلطا مع مال لرجل آخر. فقال
أصحابنا: يصير ماله كله كالمختلط بشرط أن يكون مال الخلطة نصابا، فإن كان دون النصاب لم يثبت
حكمها، فلو كان لرجل ستون شاء منها عشرون مختلطة مع عشرين لرجل آخر وجب عليهما شاة واحدة
ربعها على صاحب العشرين وباقيها على صاحب الستين لأننا لما ضممنا ملك صاحب الستين صار
صاحب العشرين كالمخالط لستين فيكون الجميع ثمانين عليها شاة بالحصص، ولو كان لصاحب الستين
ثلاثة خلطاء كل واحد منهم بعشرين بعشرين وجب على الجميع شاة نصفها على صاحب الستين
ونصفها على الخلطاء على كل واحد منهم سدس شاة، ولو كان رجلان لكل واحد منهما ستون فخالط
كل واحد منهما صاحبه بعشرين فقط وجب عليهما شاة واحدة بينهما نصفين، فإن اختلطا في أقل
من ذلك لم يثبت لهما حكم الخلطة ووجب على كل واحد منهما شاة كاملة، وإن اختلطا في أربعين لواحد
منهما عشرة وللآخر ثلاثون ثبت لهما حكم الخلطة لوجودها في نصاب كامل
483

(فصل) ويعتبر اختلاطهم في جميع الحول، وإن ثبت لهم حكم الانفراد في بعضه زكوا زكاة المنفردين
وبهذا قال الشافعي في الجديد وقال مالك: لا يعتبر اختلاطهم في أول الحول لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجمع
بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع) يعني في وقت أخذ الزكاة
ولنا أن هذا مال ثبت له حكم الانفراد فكانت زكاته زكاة المنفرد كما لو انفرد في آخر الحول
والحديث محمول على المجتمع في جميع الحول. إذا تقرر هذا فمتى كان لرجلين ثمانون شاة بينهما نصفين
وكانا منفردين فاختلطا في أثناء الحول فعلى كل واحد منهما عند تمام حوله شاة، وفيما بعد ذلك من
السنين يزكيان زكاة الخلطة، وإن اتفق حولاهما أخرجا شاة عند تمام حول على كل واحد منهما نصفها
وإن اختلف حولاهما فعلى الأول منهما عند تمام حوله نصف شاة، فإذا تم حول الثاني فإن كان
الأول أخرجها من غير المال فعلى الثاني نصف شاة أيضا، وإن أخرجها من النصاب نظرت، فإن أخرج
الشاة جميعها عن ملكه فعلى الثاني أربعون جزءا من تسعة وسبعين جزءا من شاة، وإن أخرج نصف
شاة فعلى الثاني أربعون جزءا من تسعة وسبعين ونصف جزء من شاة
(فصل) وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد دون صاحبه ويتصور ذلك بأن يملك رجلان نصابين
فيخلطاهما ثم يبيع أحدهما نصيبه أجنبيا، أو يكون لأحدهما نصاب منفرد فيشتري آخر نصابا يخلطه
به في الحال، إذا قلنا اليسير معفو عنه فإنه لابد أن تكون عقيب ملكها منفردة في جزء، وإن قل أو يكون
لأحدهما نصاب وللآخر دون النصاب فاختلطا في أثناء الحول، فإذا تم حول الأول فعليه شاة، فإذا
تم حول الثاني فعليه زكاة الخلطة على التفصيل الذي ذكرناه، ويزكيان فيما بعد ذلك زكاة الخلطة كلما تم
حول أحدهما فعليه من زكاة الجميع بقدر ماله منه، فإذا كان المالان جميعا ثمانين شاة فأخرج الأول منها
شاة زكاة الأربعين التي يملكها فعلى الثاني أربعون جزءا من تسعة وسبعين جزءا، فإن أخرج الشاة كلها
من ملكه وحال الحول الثاني فعلى الأول نصف شاة زكاة خلطة فإن أخرجه وحده فعلى الثاني تسعة
وثلاثون جزءا من سبعة وسبعين جزءا ونصف جزء من شاة وإن توالدت شيئا حسب معها
484

(فصل) وإن كان بينهما ثمانون شاة مختلطة مضى عليها بعض الحول فتبايعاها باع كل واحد
منهما غنمه صاحبه مختلطة لم يقطع حولهما ولم تزل خلطتهما وكذلك لو باع بعض
غنمه من غير إفراد قل المبيع أو كثر، فأما إن أفردها ثم تبايعاها ثم خلطاها وتطاول زمن الافراد
بطل حكم الخلطة، وإن خلطاها عقيب البيع ففيه وجهان (أحدهما) لا ينقطع لأن هذا زمن يسير
يعفى (والثاني) ينقطع لأن الانفراد قد وجد في بعض الحول فيزكيان زكاة المنفردين، وان أفرد كل
واحد منهما نصف نصاب وتبايعاه لم ينقطع حكم الخلطة لأن ملك الانسان يضم بعضه إلى بعض
فكأن الثمانين مختلطة بحالهما، كذلك إن تبايعا أقل من النصف، وان تبايعا أكثر من النصف منفردا
بطل حكم الخلطة لأن من شرطها كونها في نصاب، فمتى بقيت فيما دون النصاب صارا منفردين.
وقال القاضي تبطل الخلطة في جميع هذه المسائل في المبيع ويصير منفردا، وهذا مذهب الشافعي لأن
عنده أن المبيع بجنسه ينقطع حكم الحول فيه فتنقطع الخلطة ضرورة انقطاع الحول. وسنبين إن شاء الله
أن حكم الحول لا ينقطع في وجوب الزكاة فلا تنقطع الخلطة لأن الزكاة إنما تجب في المشتري ببنائه
على حول المبيع فيجب أن يبنى عليه في الصفة التي كان عليها
فأما إن كان مال كل واحد منهما منفردا فخلطاه ثم تبايعاه فعليهما في الحول زكاة الانفراد لأن
الزكاة تجب فيه ببنائه على حول الأول وهو منفرد فيه، ولو كان لرجل نصاب منفرد فباعه بنصاب
مختلط زكى كل واحد منهما زكاة الانفراد لأن الزكاة في الثاني تجب ببنائه على الأول فهما كالمال الواحد
الذي حصل الانفراد في أحد طرفيه، فإن كان لكل واحد منهما أربعون مختلطة مع مال آخر
فتبايعاها وبعثاها مختلطة لم يبطل حكم الخلطة، وان اشترى أحدهما بالأربعين المختلطة أربعين منفردة
وخلطها في الحال احتمل أن يزكي زكاة الخلطة لأنه يبني حولها على حول مختلطة، وزمن الانفراد يسير
فعفي عنه، واحتمل أن يزكي زكاة المنفرد لوجود الانفراد في بعض الحول
(فصل) وإن كان لرجل أربعون شاة ومضى عليها بعض الحول فباع بعضها مشاعا في بعض الحول
485

فقال أبو بكر: ينقطع الحول ويستأنفان حولا من حين البيع لأن النصف المشترى قد انقطع الحول
فيه فكأنه لم يجز في حول الزكاة أصلا فلزم انقطاع الحول في الآخر. وقال ابن حامد: لا ينقطع الحول
فيما بقي للبائع لأن حدوث الخلطة لا يمنع ابتداء الحول فلا يمنع استدامته، ولأنه لو خالط غيره في
جميع الحول وجبت الزكاة، فإذا خالط في بعضه نفسه وفي بعضه غيره كان أولى بالايجاب، وإنما
بطل حول المبيعة لانتقال الملك فيها والا فهذه العشرون لم تزل مخالطة لمال جار في الزكاة، وهكذا
الحكم فيما إذا علم على بعضها وباعه مختلطا، فأما ان أفرد بعضها وباعه فخلطه المشتري في الحال بغنم
الأول. فقال ابن حامد: ينقطع الحول لثبوت حكم الانفراد في البعض. وقال القاضي: يحتمل أن
يكون كما لو باعها مختلطة لأن هذا زمن يسير وهذا الحكم فيما إذا كانت الأربعون لرجلين فباع أحدهما
نصيبه أجنبيا، فعلى هذا إذا تم حول الأول فعليه نصف شاة، ثم إذا تم حول الثاني نظرنا في البائع
فإن كان أخرج الزكاة من غير المال فلا شئ على المشتري لأن النصاب نقص في بعض الحول الا
أن يكون الفقير مخالطا لهما بالنصف الذي صار له فلا ينقص النصاب إذا ويخرج الثاني نصف شاة
وإن كان الأول أخرج الزكاة من غير المال وقلنا الزكاة تتعلق بالذمة وجب على المشتري نصف شاة
وان قلنا تتعلق بالعين فقال القاضي: يجب نصف شاة أيضا لأن تعلق الزكاة بالعين لا بمعنى أن
الفقراء ملكوا جزءا من النصاب، بل بمعنى أنه تعلق حقهم به كتعلق أرش الجناية بالجاني فلم يمنع
وجوب الزكاة. وقال أبو الخطاب لا شئ على المشتري لأن تعلق الزكاة لأن تعلق الزكاة بالعين نقص النصاب وهذا
الصحيح فإن فائدة قولنا الزكاة تتعلق بالعين إنما تظهر في منع الزكاة، وقد ذكره القاضي في غير هذا
الموضع، وعلى قياس هذا لو كان لرجلين نصاب خلطة فباع أحدهما خليطه في بعض الحول فهي عكس
المسألة الأولى في الصورة ومثلها في المعنى لأنه كان في الأول خليط نفسه ثم صار خليط أجنبي وههنا
كان خليط أجنبي ثم صار خليط نفسه ومثله لو كان رجلان متوارثان لهما نصاب خلطة فمات أحدهما
في بعض الحول فورثه صاحبه على قياس قول أبي بكر لا يجب عليه شئ حتى يتم الحول على المالين
486

من حين ملكه لهما الا أن يكون أحدهما بمفردة يبلغ نصابا، وعلى قياس قول ابن حامد تجب الزكاة
في النصف الذي كان له خاصة
(فصل) إذا استأجر أجيرا يرعى له بشاة معينة من النصاب فحال الحول ولم يفردها فهما خليطان
تجب عليهما زكاة الخلطة وان أفردها قبل الحول فلا شئ عليهما لنقصان النصاب، وان استأجره
بشاة موصوفة في الذمة صح أيضا، فإذا حال الحول وليس له ما يقتضيه غير النصاب انبنى على الدين
هل يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة؟ وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (وتراجعوا فيما بينهم بالحصص)
قد ذكرنا أن الخلطاء تؤخذ الصدقة من أموالهم كما تؤخذ من مال الواحد فظاهر كلام احمد ان
الساعي يأخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء سواء دعت الحاجة إلى ذلك بأن تكون الفريضة
عينا واحدة لا يمكن أخذها من المالين جميعا أو لا يجد فرضهما جميعا الا في أحد المالين مثل أن يكون
مال أحدهما صحاحا كبارا ومال خليطه صغارا أو مراضا فإنه تجب صحيحة كبيرة، أو لم تدع الحاجة
إلى ذلك بأن يجد فرض كل واحد من المالين فيه. قال أحمد: إنما يجئ المصدق فيجد الماشية فيصدقها
ليس يجئ فيقول: أي شئ لك؟ وإنما يصدق ما يجده والخليط قد ينفع وقد يضر. قال الهيثم
ابن خارجة لأبي عبد الله: أنا رأيت مسكينا كان له في غنم شاتان فجاء المصدق فأخذ إحداهما
والوجه في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية) وقوله (لا يجمع بين
متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) وهما خشيتان: خشية رب المال من زيادة الصدقة،
وخشية الساعي من نقصانها، فليس لأرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم المتفرقة التي كان الواجب
في كل واحد منها شاة ليقل الواجب فيها، ولا أن يفرقوا أموالهم المجتمعة التي كان فيها باجتماعها
فرض ليسقط عنها بتفرقتها. وليس للساعي أن يفرق بين الخلطاء لتكثر الزكاة، ولا أن يجمعها إذا كانت
متفرقة لتجب الزكاة، ولان المالين قد صارا كالمال الواحد في وجوب الزكاة فكذلك في اخراجها
487

ومتى أخذ الساعي الفرض من مال أحدهما رجع على خليطه بقدر قيمة حصته من الفرض، فإذا كان
لأحدهما ثلث المال وللآخر ثلثاه فأخذ الفرض من مال صاحب الثلث رجع بثلثي قيمة المخرج على صاحبه
وان أخذه من الآخر رجع على صاحب الثلث بثلث قيمة المخرج والقول قول المرجوع عليه مع يمينه
إذا اختلفا وعدمت البينة لأنه غارم فكان القول قوله كالغاصب إذا اختلفا في قيمة المغصوب بعد تلفه
(فصل) إذا أخذ الساعي أكثر من الفرض بغير تأويل مثل أن يأخذ شاتين مكان شاة أو
يأخذ جذعة مكان حقة لم يكن للمأخوذ منه الرجوع إلا بقدر الواجب، وإن كان بتأويل سائغ مثل
أن يأخذ الصحيحة عن المراض والكبيرة عن الصغار فإنه يرجع بالحصة منها لأن ذلك إلى اجتهاد
الإمام فإذا أداه اجتهاده إلى أخذه وجب دفعه إليه وصار بمنزلة الفرض الواجب، وكذلك إذا أخذ القيمة
رجع بما يخض شريكه منها لأنه بتأويل
(فصل) إذا ملك رجل أربعين شاة في المحرم وأربعين في صفر وأربعين في ربيع فعليه في
الأول عند تمام حوله شاة فإذا تم حول الثاني فعلى وجهين أحدهما لا زكاة فيه لأن الجميع مالك واحد
فلم يزد فرضه على شاة واحدة كما لو اتفقت أحواله، والثاني فيه الزكاة لأن الأول استقل بشاة فيجب
الزكاة في الثاني وهي نصف شاة لاختلاطها بالأربعين الأولى من حين ملكها، وإذا تم حول الثالث
فعلى وجهين أحدهما لا زكاة فيه والثاني فيه الزكاة وهو ثلث شاة لأنه ملكه مختلطا بالثمانين المتقدمة
وذكر أبو الخطاب فيه وجها ثالثا وهو انه يجب في الثاني شاة كاملة، وفي الثالث شاة كاملة لأنه
نصاب كامل وجبت الزكاة فيه بنفسه فوجبت فيه شاة كاملة كما لو انفرد وهذا ضعيف لأنه لو كان
المالك للثاني والثالث أجنبيين ملكاهما مختلطين لم يكن عليهما الا زكاة خلطة فإذا كان لمالك الأول
كان أولى فإن ضم بعض ماله إلى بعض أولى من ضم ملك الخليط إلى خليط وان ملك في الشهر
الثاني ما يغير الفرض مثل أن ملك مائة شاة فعليه عند تمام حوله شاة ثانية على الوجه الأول
وكذلك الثالث لأننا نجعل ملكه في الايجاب كملكه للكل في حال واحدة فتصير كأنه ملك
488

مائتين وأربعين فيجب عليه ثلاث شياه عند تمام حول كل مال شاة وعلى الوجه الثاني يجب عليه في
الشهر الثاني حصة من فرض المالين معا وهو شاة وثلاثة أسباع شاة لأنه لو ملك المالين دفعة واحدة
كان عليه فيهما شاتان حصة المائة منها خمسة أسباعهما وهو شاة وثلاثة أسباع شاة وعليه في الثالث
شاة وربع لأنه لو ملك الجميع دفعة واحدة وهو مائتان وأربعون شاة لكان عليه ثلاث شياه حصة
الثالث منهن ربعهن وسدسهن وهو شاة وربع ولو كان المالك للأموال الثلاثة ثلاثة أشخاص وملك
الثاني سائمته مختلطة بسائمة الأول ثم ملك الثالث سائمته مختلطة بغنمهما لكان الواجب في الثاني
والثالث كالواجب على المالك في الوجه الثاني لا غير
(فصل) فإن ملك عشرين من الإبل في المحرم وخمسا في صفر فعليه في العشرين عند تمام حولها
أربع شياه وفي الخمس عند تمام حولها خمس بنات مخاض على الوجهين الأولين وعلي الوجه الثالث
عليه شاة. وان ملك في المحرم خمسا وعشرين وفي صفر خمسا فعليه في الأول عند تمام حوله بنت
مخاض ولا شئ عليه في الخمس في الوجه الأول وعلى الثاني عليه سدس بنت مخاض وعلى الثالث عليه
فيها شاة فإن ملك مع ذلك في ربيع شيئا ففي الوجه الأول عليه في الأول عند تمام حوله بنت مخاض
ولا شئ عليه في الخمس حتى يتم حول الست فيجب فيها ربع بنت لبون ونصف تسعها وفى الوجه
الثاني عليه في الخمس سدس بنت مخاض إذا تم حولها وفي الست سدس بنت لبون عند تمام حولها
وفي الوجه الثالث عليه في الخمس الثانية شاة عند تمام حولها وفي الست شاة عند تمام حولها
(فصل) فإن كانت سائمة الرجل في بلدان شتى وبينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة أو كانت
مجتمعة ضم بعضها إلى بعض وكانت زكاها كزكاة المختلطة بغير خلاف نعلمه، وإن كان بين البلدان
مسافة القصر فعن أحمد فيه روايتان إحداهما ان لكل مال حكم نفسه يعتبر على حدته إن كان نصابا
ففيه الزكاة والا فلا ولا يضم إلى المال الذي في البلد الاخر نص عليه قال ابن المنذر لا أعلم هذا
القول عن غير أحمد واحتج بظاهر قوله عليه السلام (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية
489

الصدقة) وهذا مفرق فلا يجمع، ولأنه لما أثر اجتماع مالين لرجلين في كونهما كالمال الواجب يجب أن
يؤثر افتراق مال الرجل الواحد حتى يجعله كالمالين، والرواية الثانية قال فيمن له مائة شاة في بلدان
متفرقة لا يأخذ المصدق منها شيئا لأنه لا يجمع بين متفرق، وصاحبها إذا ضبط ذلك وعرفه أخرج هو
بنفسه يضعها في الفقراء، روي هذا عن الميموني وحنبل، وهذا يدل على أن زكاتها تجب مع اختلاف
البلدان إلا أن الساعي لا يأخذها لكونه لا يجد نصابا كاملا مجتمعا ولا يعلم حقيقة الحال فيها، فاما المالك
العالم بملكه نصابا كاملا فعليه أداء الزكاة، وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب سائر الفقهاء قال مالك
أحسن ما سمعت فيمن كان له غنم على راعيين متفرقين ببلدان شتى أن ذلك يجمع على صاحبه فيؤدي
صدقته وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله عليه السلام (في أربعين شاة شاة) ولأنه ملك واحد
أشبه ما لو كان في بلدان متقاربة أو غير السائمة ونحمل كلام أحمد في الرواية الأولى على أن المصدق
لا يأخذها، وأما رب المال فيخرج فعلى هذا يخرج الفرض في أحد البلدين لأنه موضع حاجة
(مسألة) قال (وان اختلطوا في غير هذا أخذ من كل واحد منهم على انفراده
إذا كان ما يخصه تجب فيه الزكاة)
ومعناه أنهم إذا اختلطوا في غير السائمة، كالذهب والفضة وعروض التجارة والزروع والثمار
لم تؤثر خلطتهم شيئا وكان حكمهم حكم المنفردين، وهذا قول أكثر أهل العلم وعن أحمد رواية أخرى
أن شركة الأعيان تؤثر في غير الماشية فإذا كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة وهذا قول
اسحق والأوزاعي في الحب والثمر والمذهب الأول، قال أبو عبد الله: الأوزاعي يقول في الزرع إذا
كانوا شركاء فخرج لهم خمسة أوسق يقول فيه الزكاة قاسه على الغنم ولا يعجبني قول الأوزاعي واما
خلطة الأوصاف فلا مدخل لها في غير الماشية بحال، لأن الاختلاط لا يحصل، وخرج القاضي وجها
آخر أنها تؤثر لأن المؤونة تخف إذا كان الملقح واحدا والصعاد والناطور والجرين. وكذلك أموال
490

التجارة والدكان واحد والمخزن والميزان والبائع فأشبه الماشية، ومذهب الشافعي على نحو مما حكينا
من مذهبنا والصحيح أن الخلطة لا تؤثر في غير الماشية لقول النبي صلى الله عليه وسلم (والخليطان ما اشتركا في
الحوض والفحل والراعي) فدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطة مؤثرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم
(لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة) إنما يكون في الماشية لأن الزكاة تقل بجمعها تارة وتكثر أخرى
وسائر الأموال تجب فيها فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها، ولان الخلطة في الماشية تؤثر
في النفع تارة وفي الضرر أخرى، ولو اعتبرناها في غير الماشية أثرت ضررا محضا برب المال فلا
يجوز اعتبارها. إذا ثبت هذا فإن كان لجماعة وقف أو حائط مشترك بينهم فيه ثمرة أو زرع فلا زكاة
عليهم الا أن يحصل في يد بعضهم نصاب كامل فيجب عليه، وقد ذكر الخرقي هذا في باب الوقف
وعلى الرواية الأخرى إذا كان الخارج نصابا ففيه الزكاة، وإن كان الوقف نصابا من السائمة
فيحتمل أن عليهم الزكاة لاشتراكهم في ملك نصاب تؤثر الخلطة فيه، وينبغي أن تخرج الزكاة من غيره
لأن الوقف لا يجوز نقل الملك فيه، ويحتمل أن لا تجب الزكاة فيه لنقص الملك فيه وكماله معتبر في
ايجاب الزكاة بدليل مال المكاتب.
(فصل) ولا زكاة في غير بهيمة الأنعام من الماشية في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة في
الخيل الزكاة إذا كانت ذكورا وإناثا، وان كانت ذكورا مفردة أو إناثا منفردة ففيها روايتان وزكاتها
دينار عن كل فرس أو ربع عشر قيمتها والخيرة في ذلك إلى صاحبها أيهما شاء أخرج لما روى جابر
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في الخيل السائمة في كل فرس دينار) وروي عن عمر أنه كان يأخذ من الرأس
عشرة ومن الفرس عشرة، ومن البرذون خمسة ولأنه حيوان يطلب نماؤه من جهة السوم أشبه النعم
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم (ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة) متفق عليه، وفي لفظ (ليس
على الرجل في فرسه ولا في عبده صدقة) وعن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عفوت لكم عن صدقة الخيل
والرقيق) رواه الترمذي وهذا الصحيح، وروى أبو عبيد في الغريب عن النبي صلى الله عليه وسلم (ليس في
491

الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة) وفسر الجبهة بالخيل والنخة بالرقيق والكسعة بالحمير وقال
الكسائي النخة بضم النون البقر العوامل، ولان ما لا زكاة في ذكوره المفردة وإناثه المفردة لا زكاة
فيهما إذا اجتمعا كالحمير، ولان ما لا يخرج زكاة من جنسه من السائمة لا تجب فيه كسائر الدواب، ولان
الخيل دواب فلا تجب الزكاة فيها كسائر الدواب ولأنها ليست من بهيمة الأنعام فلم تجب زكاتها
كالوحوش وحديثهم يرويه عورك السعدي وهو ضعيف.
وأما عمر فإنما أخذ منهم شيئا تبرعوا به وسئلوه أخذه وعوضهم عنه يرزق عبيدهم، فروى الإمام أحمد
باسناده عن حارثة قال جاء ناس من أهل الشام إلى عمر فقالوا إنا قد أصبنا مالا وخيلا ورقيقا نحب
أن يكون لنا فيها زكاة وطهور قال ما فعل صاحباي قبلي فأفعله، فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيهم علي فقال هو حسن ان لم يكن جزية يؤخذون بها من بعدك، قال أحمد فكان عمر يأخذ منهم
ثم يرزق عبيدهم، فصار حديث عمر حجة عليهم من وجوه أحدهما قوله: ما فعله صاحباي، يعني النبي
صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ولو كان واجبا لما تركا فعله، الثاني أن عمر امتنع من أخذها ولا يجوز أن يمتنع من
الواجب الثالث قول علي هو حسن ان لم يكن جزية يؤخذون بها من بعدك فسمى جزية ان أخذوا
بها وجعل مشروطا بعدم أخذهم به فيدل على أن أخذهم بذلك غير جائز الرابع استشارة عمر
أصحابه في أخذه ولو كان واجبا لما احتاج إلى الاستشارة، الخامس أنه لم يشر عليه بأخذه أحد
سوى علي بهذا الشرط الذي ذكره ولو كان واجبا لاشاروا به، السادس أن عمر عوضهم عنه رزق
عبيدهم، والزكاة لا يؤخذ عنها عوض ولا يصح قياسها على النعم لأنها يكمل نماؤها وينتفع بدرها ولحمها
ويضحى بجنسها وتكون هديا وفدية عن محظورات الاحرام وتجب الزكاة من عينها ويعتبر كمل نصابها
ولا يعتبر قيمتها والخيل بخلاف ذلك.
(مسألة) قال (والصدقة لا تجب إلا على أحرار المسلمين)
وفي بعض النسخ الا على الأحرار المسلمين ومعناهما واحد، وهو أن الزكاة لا تجب إلا على حر
492

مسلم تام الملك، وهو قول أكثر أهل العلم، ولا نعلم فيه خلافا إلا عن عطاء وأبي ثور فإنهما قالا
على العبد زكاة ماله.
ولنا أن العبد ليس بنام الملك فلم تلزمه زكاة كالمكاتب، فاما الكافر فلا خلاف في أنه لا زكاة
عليه، ومتى صار أحد هؤلاء من أهل الزكاة وهو مالك للنصاب استقبل به حولا ثم زكاة، فاما الحر
المسلم إذا ملك نصابا خاليا عن دين فعليه الزكاة عند تمام حوله سواء كان كبيرا أو صغيرا أو عاقلا أو مجنونا
(مسألة) قال (والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما)
وجملة ذلك أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاث فيهما روي ذلك
عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم وبه قال جابر بن زيد وابن
سيرين وعطاء ومجاهد وربيعة ومالك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى والشافعي والعنبري وابن عيينة
وإسحق وأبو عبيد وأبو ثور، ويحكى عن ابن مسعود والثوري والأوزاعي أنهم قالوا تجب الزكاة
ولا تخرج حتى يبلغ الصبي، ويفيق المعتوه، قال ابن مسعود: أحصى ما يجب في مال اليتيم من الزكاة
فإذا بلغ أعلمه فإن شاء زكى وان شاء لم يزك، وروي نحو هذا عن إبراهيم وقال الحسن وسعيد بن
المسيب وسعيد بن جبير وأبو وائل والنخعي وأبو حنيفة لا تجب الزكاة في أموالهما، وقال أبو حنيفة يجب
العشر في زروعهما وثمرتهما، وتجب صدقة الفطر عليهما واحتج في نفى الزكاة بقوله عليه السلام (رفع
القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) وبأنها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. (من ولي يتيما له مال فيلتجر له ولا يتركه حتى تأكله
الصدقة) أخرجه الدارقطني، وفي رواية المثنى بن الصباح وفيه مقال وروي موقوفا على عمر (وإنما
تأكله الصدقة باخراجها) وإنما يجوز اخراجها إذا كانت واجبة لأنه ليس له أن يتبرع بمال اليتيم، ولان
من وجب العشر في زرعه وجب ربع العشر في ورقه كالبالغ العاقل ويخالف الصلاة والصوم فإنها
مختصة بالبدن، وبنية الصبي ضعيفة عنها، والمجنون لا يتحقق منه نيتها، والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه
493

نفقة الأقارب والزوجات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، والحديث أريد به رفع الاثم والعبادات
البدنية بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية ثم هو مخصوص بما ذكرناه، والزكاة في
المال في معناه فنقيسها عليه. إذا تقرر هذا فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة فوجب
اخراجها كزكاة البالغ العاقل والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون
فكان على الولي أداؤه عنهما كنفقة أقاربه وتعتبر نية الولي في الاخراج كما تعتبر النية من رب المال
(مسألة) قال (والسيد يزكي عما في يد عبده لأنه مالكه)
يعني أن السيد مالك لما في يد عبده وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في زكاة مال العبد
الذي ملكه إياه فروي عنه زكاته على سيده، هذا مذهب سفيان وإسحق وأصحاب الرأي، وروي
عنه لا زكاة في ماله لا على العبد ولا على سيده، قال ابن المنذر وهذا قول ابن عمر وجابر والزهري
وقتادة ومالك وأبي عبيد، وللشافعي قولان كالمذهبين، قال أبو بكر: المسألة مبنية على الروايتين في ملك
العبد إذا ملكه سيده أحداهما لا يملك قال أبو بكر وهو اختياري وهو ظاهر كلام الخرقي هاهنا لأنه
جعل السيد مالكا لمال عبده ولو كان مملوكا للعبد لم يكن مملوكا لسيده لأنه لا يتصور اجتماع ملكين
كاملين في مال واحد. ووجهه أن العبد مال فلا يملك المال، كالبهائم فعلى هذا تكون زكاته على سيد
العبد لأنه ملك له في يد عبده فكانت زكاته عليه كالمال الذي في يد المضارب والوكيل، والثانية
يملك لأنه آدمي يملك النكاح فملك المال كالحر وذلك لأنه بالآدمية يتمهد للملك من قبل إن الله تعالى
خلق المال لبني آدم ليستعينوا به على القيام بوظائف العبادات وأعباء التكليف فإن الله تعالى خلق لكم
ما في الأرض جميعا، فبالآدمية يتمهد للملك ويصلح له كما يتمهد للتكليف والعبادة فعلى هذا لا زكاة
على السيد في مال العبد لأنه لا يملكه ولا على العبد لأن ملكه ناقص والزكاة إنما تجب على تام الملك
(فصل) ومن بعضه حر عليه زكاة ماله لأنه يملك بجزئه الحر ويورث عنه وملكه كامل فيه
فكانت زكاته عليه كالحر الكامل. والمدبر وأم الولد كالقن لأنه لا حرية فيهما
494

(مسألة) قال (ولا زكاة على مكاتب)
فإن عجز استقبل سيده بما في يده مال المال حولا وزكاه إن كان نصابا، وإن أدى وبقي في
يده نصاب للزكاة استقبل به حولا لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا زكاة على المكاتب ولا على
سيده في ماله الا قول أبي ثور. ذكر ابن المنذر نحو هذا واحتج أبو ثور بان الحجر من السيد لا يمنع وجوب
الزكاة كالحجر على الصبي والمجنون والمرهون، وحكي عن أبي حنيفة أنه أوجب العشر في الخارج من
أرضه بناء على أصله في أن العشر مؤنة الأرض وليس بزكاة.
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا زكاة في مال المكاتب) رواه الفقهاء في كتبهم، ولان
الزكاة تجب على طريق المواساة فلم تجب في مال المكاتب كنفقة الأقارب، وفارق المحجور عليه فإنه
منع التصرف لنقص تصرفه لا لنقص ملكه والمرهون منع من التصرف فيه بعقدة فلم يسقط حق الله
تعالى، ومتى كان منع التصرف فيه لدين لا يمكن وفاؤه من غير. فلا زكاة عليه إذا ثبت هذا فمتى عجز
ورد في الرق صار ما كان في يديه ملكا لسيده فإن كان نصابا أو يبلغ بضمه إلى ما في يده نصابا استأنف
له حولا من حين ملكه وزكاه كالمستفاد سواء، ولا أعلم في هذا خلافا فإن أدى المكاتب نجوم كتابته
وبقي في يده نصاب فقد صار حرا كامل الملك، فيستأنف الحول من حين عتقه ويزكيه إذا تم
الحول والله أعلم.
(مسألة) (قال ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)
روى أبو عبد الله ابن ماجة في السنن باسناد عن عمر عن عائشة قالت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وهذا اللفظ غير مبقي على عمومه فإن الأموال الزكاتية
خمسة السائمة من بهيمة الأنعام والأثمان وهي الذهب والفضة وقيم عروض التجارة، وهذه الثلاثة
495

الحول شرط في وجوب زكاتها لا نعلم فيه خلافا سوى ما سنذكره في المستفاد، والرابع ما يكال ويدخر
من الزروع والثمار، والخامس المعدن وهذان لا يعتبر لهما حول. والفرق بين ما اعتبر له الحول وما لم يعتبر
له ان ما اعتبر له الحول مرصد للنماء فالماشية مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة مرصدة للربح
وكذا الأثمان فاعتبر له الحول لأنه مظنة النماء ليكون اخراج الزكاة من الربح فإنه أسهل وأيسر، ولان
الزكاة إنما وجبت مواساة ولم نعتبر حقيقة النماء لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ولان ما اعتبرت مظنته لم يلتفت
إلى حقيقته كالحكم مع الأسباب، ولان الزكاة تتكرر في هذه الأموال فلا بد لها من ضابط كيلا يفضي
إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات فينفد مال المالك، أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها
تتكامل عند اخراج الزكاة منها فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ثم تعود في النقص لافي النماء فلا تجب فيها
زكاة ثانية لعدم ارصادها للنماء، والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع والثمر الا
أنه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزكاة عند حول لأنه مظنة للنماء من حيث إن الأثمان قيم
الأموال ورأس مال التجارات وبهذا تحصل المضاربة والشركة وهي مخلوقة لذلك فكانت بأصلها وخلقتها
كمال التجارة المعد لها.
(فصل) فإن استفاد ما لا يعتبر له الحول ولا مال سواه وكان نصابا أو كان له مال من
جنسه لا يبلغ نصابا فبلغ بالمستفاد نصابا انعقد عليه حول الزكاة من حينئذ فإذا تم حول وجبت الزكاة
فيه، وإن كان عنده نصاب لم يخل المستفاد من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون المستفاد من نمائه
كربح مال التجارة ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله فيعتبر حوله بحوله لا نعلم فيه
خلافا لأنه تبع له من جنسه فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة ويشمل العبد والجارية
(الثاني) أن يكون المستفاد من غبر جنس ما عنده فهذا له حكم نفسه لا يضم إلى عنده في حول ولا
نصاب بل إن كان نصابا استقبل به حولا وزكاة وإلا فلا شئ فيه. وهذا قول جمهور العلماء
وروى عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية: ان الزكاة تجب فيه حين استفاده قال أحمد عن
496

غير واحد يزكيه حين يستفيده. وروى باسناده عن ابن مسعود قال: كان عبد الله يعطينا ويزكيه
وعن الأوزاعي فيمن باع عبده أو داره انه يزكي الثمن حين يقع في يده إلا أن يكون له شهر يعلم فيؤخره
حتى يزكيه مع مله. وجمهور العلماء على خلاف هذا القول منهم أبو بكر وعثمان وعمر وعلي رضي الله
عنهم. قال ابن عبد البر: على هذا جمهور العلماء والخلاف في ذلك شذوذ ولم يعرج عليه أحد من
العلماء ولا قال به أحد من أئمة الفتوى. وقد روي عن أحمد فيمن باع داره بعشرة آلاف درهم
إلى سنة إذا قبض المال يزكيه، وإنما نرى أن أحمد قال ذلك لأنه ملك الدراهم في أول الحول وصارت
دينا له على المشتري فإذا قبضه زكاه للحول الذي مر عليه في ملكه كسائر الديون وقد صرح بهذا المعنى في
رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال: إذا كرى دارا أو عبدا في سنة بألف فحصلت له الدراهم وقبضها
زكاها إذا حال عليها الحول من حين قبضها وان كانت على المكتري فمن يوم وجبت له فيها الزكاة
بمنزلة الدين إذا وجب له على صاحبه زكاه من يوم وجب له (القسم الثالث) أن يستفيد مالا من جنس
نصاب عنده قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها
بعض الحول فيشتري أو يتهب مائة فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول أيضا وبهذا قال
الشافعي، وقال أبو حنيفة: يضمه إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعا عند تمام حول المال الذي كان
عنده الا أن يكون عوضا عن مال مزكى لأنه يضم إلى جنسه في النصاب فوجب ضمه إليه في الحول
كالنتاج، ولأنه إذا ضم في النصاب وهو سبب فضمه إليه في الحول الذي هو شرط أولى، وبيان ذلك أنه
لو كان عنده مائتا درهم مضى عليها نصف الحول فوهب له مائة أخرى فإن الزكاة تجب فيها إذا
تم حولها بغير خلاف، ولولا المائتان ما وجب فيها شئ فإذا ضمت إلى المائتين في أصل الوجوب فكذلك
في وقته، ولان افراده بالحول يفضي إلى تشقيص الواجب في السائمة، واختلاف أوقات الواجب
والحاجة إلى ضبط مواقيت التملك، ومعرفة قدر الواجب في كل جرء ملكه وجوب القدر اليسير
الذي لا يتمكن من اخراجه ثم يتكرر ذلك في كل ووقت. وهذا حرج مدفوع بقوله تعالى (ما جعل
497

عليكم في الدين من حرج) وقد اعتبر الشرع ذلك بايجاب غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من
الإبل وجعل الأوقاص في السائمة وضم الأرباح والنتاج إلي حول أصلها مقرونا بدفع هذه المفسدة
فيدل على أنه علة لذلك فيجب تعدية الحكم إلى محل الزاع. وقال مالك كقوله في السائمة دفعا
للتشقيص الواجب وكقولنا في الأثمان لعدم ذلك فيها.
ولنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال يحول عليه الحول) وروى الترمذي
عن ابن عمر أنه قال: من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، وروي مرفوعا عن
النبي صلى الله عليه وسلم الا أن الترمذي قال: الموقوف أصح وإنما رفعه عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم
وهو ضعيف وقد روي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عمر وعائشة وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسالم
والنخعي أنه لا زكاة في المستفاد حتى يحول عليه الحول، ولأنه مملوك أصلا فيعتبر فيه الحول شرطا
كالمستفاد من غير الجنس ولا تشبه هذه الأموال الزروع والثمار لأنها تتكامل ثمارها دفعة واحدة
ولهذا لا تتكرر الزكاة فيها، وهذه نماؤها بنقلها فاحتاجت إلى الحول.
وأما الأرباح والنتاج فإنما ضمت إلى أصلها لأنها تبع له ومتولدة منه ولا يوجد ذلك في مسئلتنا
وان سلمنا أن علة ضمها ما ذكروه من الحرج فلا يوجد ذلك في مسئلتنا لأن الأرباح تكثر وتتكرر
في الأيام والساعات، وبعسر ضبطها وكذلك النتاج وقد يوجد ولا يشعر به فالمشقة فيه أتم لكثرة
تكرره بخلاف هذه الأسباب المستقلة فإن الميراث والاغتنام والانهاب ونحو ذلك يندر ولا يتكرر فلا
يشق ذلك فيه، فإن شق فهو دون المشقة في الأرباح والنتاج فيمتنع قياسه عليه، واليسر فيما ذكرنا أكثر
لأن الانسان يتخير بين التأخير والتعجيل وما ذكروه يتعين عليه التعجيل، ولا شك أن التخير بين
شيئين أيسر من تعيين أحدهما لأنه مع التخيير فيختار أيسرهما عليه وأحبهما إليه، ومع التعيين يفوته
ذلك وأما ضمه إليه في النصاب فلان النصاب معتبر لحصول الغنى، وقد حصل الغنى بالنصاب الأول
والحول معتبر لا سيما المال ليحصل أداء الزكاة من الربح ولا يحصل ذلك بمرور الحول على أصله فوجب
أن يعتبر الحول له.
498

(فصل) ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول فإن نقص الحول نقصا يسيرا، فقال أبو بكر ثبت
أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه وظاهر كلام القاضي أن النقص اليسير في أثناء الحول يمنع
لأنه قال فيمن له أربعون شاة فماتت منها شاة ونتجت أخرى إذا كان النتاج والموت حصلا في وقت
واحد لم تسقط الزكاة لأن النصاب لم ينقص وكذلك إن تقدم النتاج الموت، وإن تقدم الموت النتاج
سقطت الزكاة لأن حكم الحول سقط بنقصان النصاب، ويحتمل أن كلام أبي بكر أراد به النقص في
طرف الحول، ويحتمل أن القاضي أراد بالوقت الواحد الزمن المتقارب فلا يكون بين القولين اختلاف
وحكي عن أبي حنيفة أن النصاب إذا كمل في طرفي الحول لم يضر نقصه في وسطه
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) يقتضي مرور الحول على
جميعه ولان ما اعتبر في طرفي الحول اعتبر في وسطه كالملك والاسلام.
(فصل) وإذا ادعى رب المال أنه ما حال الحول على المال أو لم يتم النصاب الا منذ شهر أو أنه كان
في يدي وديعة وإنما اشتريته مر قريب، أو قال بعته في الحول ثم اشتريته أو رد علي ونحو هذا مما
ينفي وجوب الزكاة فالقول قوله من غير يمين، قال أحمد في رواية صالح لا يستحلف الناس على صدقاتهم
فظاهر هذا أنه لا يستحلف وجوبا ولا استحبابا وذلك لأن الزكاة عبادة فالقول قول من تجب عليه
بغير يمين كالصلاة والكفارات.
(مسألة) قال (ويجوز تقدمة الزكاة)
وجملته أنه متى وجد سبب وجوب الزكاة وهو النصاب الكامل جاز تقديم الزكاة وبهذا قال
الحسن وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وإسحق وأبو عبيد وحكي عن الحسن
أنه لا يجوز وبه قال ربيعة ومالك وداود لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تؤدى زكاة قبل حلول
الحول) ولان الحول أحد شرطي الزكاة فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب، ولان للزكاة وقتا فلم
يجز تقديمها عليه كالصلاة.
ولنا ما روى علي أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له
في ذلك رواه أبو داود، وقال يعقوب بن شيبة هو أثبتها أسنادا وروى الترمذي عن علي عن النبي
499

صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر (إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام) وفي لفظ قال (إنا كنا تعجلنا
صدقة العباس لعامنا هذا عام أول) رواه سعيد عن عطاء وابن أبي مليكة والحسن بن مسلم عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرسلا ولأنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه قبل وجوبه فجاز كتعجيل قضاء الدين قبل حلول
أجله وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث وكفارة القتل بعد الجرح قبل الزهوق. وقد سلم مالك
تعجيل الكفارة. وفارق تقديمها قبل النصاب، لأنه تقديم لها على سببها فأشبه تقديم الكفارة على
اليمين وكفارة القتل على الجرح ولأنه قد قدمها على الشرطين وهاهنا قدمها على أحدهما. وقولهم إن
للزكاة وقتا قلنا الوقت إذا دخل في الشئ رفقا بالانسان كان له أن يعجله ويترك الارفاق بنفسه
كالدين المؤجل وكمن أدى زكاة مال غائب وان لم يكن على يقين من وجوبها، ومن الجائز أن
يكون المال تالفا في ذلك الوقت. وأما الصلاة والصيام فتعبد محض والتوقيت فيهما غير معقول
فيجب أن يقتصر عليه
(فصل) ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل مالك النصاب بغير خلاف علمناه ول ملك بعض نصاب
فعجل زكاته أو زكاة نصاب لم يجز لأنه تعجل الحكم قبل سببه وان ملك نصابا فجعل زكاته
وزكاة ما يستفيده وما ينتج منه أو يربحه فيه أجزأه عن النصاب دون الزيادة، وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة يجزيه لأنه تابع لما هو مالكه
ولنا أنه عجل زكاة مال ليس في ملكه فلم يجز كالنصاب الأول ولان الزائد من الزكاة على
زكاة النصاب إنما سببها الزائد في الملك عجل الزكاة قبل وجود سببها فأشبه ما لو عجل الزكاة
قبل مالك النصاب وقوله إنه تابع قلنا إنما يتبع في الحول. فأما في الايجاب فإن الوجوب ثبت بالزيادة
لا بالأصل ولأنه إنما يصير له حكم بعد الوجود، فاما قبل ظهوره فلا حكم له في الزكاة
(فصل) وإن عجل زكاة نصاب من الماشية فتوالدت نصابا ثم ماتت الأمهات وحال الحول على النتاج
أجزأ المعجل عنها لأنها دخلت في حول الأمهات وقامت مقامها فأجزأت زكاتها عنها فإذا كان
عنده أربعون من الغنم فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وماتت الأمهات، وحال الحول على
500

السخال أجزأت المعجلة عنها لأنها كانت يجزيه عنها وعن أمهاتها لو بقيت، فلان تجزي عن إحداهما أولى
وإن كان عنده ثلاثون من البقر فعجل عنها تبيعا ثم توالدت ثلاثين عجلة وماتت الأمهات وحال
الحول على العجول احتمل أن يجزي عنها لأنها تابعه لها في الحول واحتمل أن يجزي عنها لأنه لو
عجل عنها تبيعا مع بقاء الأمهات لم يجز عنها فلئلا يجزي إذا كان التعجيل عن غيرها أولى وهكذا
الحكم في مائة شاء إذا عجل عنها شاة فتوالدت مئة ثم ماتت الأمهات وحال الحول على السخال وان
توالد نصفها ومات نصف الأمهات وحال الحول على الصغار ونصف الكبار، فإن قلنا بالوجه الأول
أجزأ المعجل عنهما جميعا، وإن قلنا بالثاني فعليه في الخمسين سخلة شاة لامها نصاب لم تؤد زكاته
وليس عليه في العجول إذا كانت خمسة عشر شئ لأنها لم تبلغ نصابا وإنما وجيت الزكاة فيها بناء على
أمهاتها التي عجلت زكاتها، وإن ملك ثلاثين من البقر فعجل مسنة زكاة لها ولنتاجها فنتجت عشرا
أجزأته عن الثلاثين دون العشر ووجب عليه في العشر ربع مسند، ويحتمل أن تجزئه المسنة المعجل عن
الجميع لأن العشر تابعة للثلاثين في الوجوب والحول فإنه لولا ملكه للثلاثين لما وجب عليه في العشر
شئ فصارت الزيادة على النصاب منقسمة أربعة أقسام، أحدها مالا يتبع في وجوب وحول وهو
المستفاد من غير الجنس ولا يجزي تعجيل زكاته قبل وجوده وكمال نصابه بغير خلاف، والثاني
ما يتبع في الوجوب دون الحول وهو المستفاد من الجنس بسبب مستقل، فلا يجزئ تعجيل زكاته
أيضا قبل وجوده مع الحلاف في ذلك، الثالث ما يتبع في الحول دون الوجوب كالنتاج والربح إذا
بلع نصابا فإنه يتبع أصله في الحول فلا يجزئ التعجيل عنه قبل وجوده كالذي قبله، الرابع ما يتبع في
الوجوب والحول وهو الربح والنتاج إذا لم يبلغ نصابا، فهذا يحتمل وجهين أحدهما لا يجزي تعجيل
زكاته قبل وجوده كالذي قبله والثاني يجزئ لأنه تابع في الوجوب والحول فأشبه الموجود.
(فصل) إذا عجل الزكاة لأكثر من حول ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لأن النص لم يرد
بتعجيلها لأكثر من حول والثانية يجوز
وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يخرج الرجل زكاة ماله قبل لثلاث سنين لأنه
تعجيل لها بعد وجود النصاب أشبه تقديمها على الحول الواحد، وما لم يرد به النص يقاس على المنصوص عليه
إذا كان في معناه، ولا نعلم معنى سوى أنه تقديم للمال الذي وجد سبب وجوبه على شرط وجوبه
501

وهذا متحقق في التقديم في الحولين كتحققه في الحول الواحد، فعلى هذا إذا كان عنده أكثر من النصاب
فعجل زكاته لحولين جاز وإن كان قدر النصاب مثل من عنده أربعون شاة فعجل شاتين لحولين
وكان المعجل من غيره جاز، وإن أخرج شاة منه من غيره جاز عن الحول الأول ولم يجز عن
الثاني لأن النصاب نقص، فإن كمل بعد ذلك وصار اخراج زكاته وتعجيله لها قبل كمل نصابها، وإن
أخرج الشاتين جميعا من النصاب لم تجز الزكاة في الحول إذا قلنا ليس له ارتجاع ما عجله لأنه
كالتالف فيكون النصاب ناقصا، فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين كمل النصاب وكان ما عجله
سابقا على كمال النصاب فلم يجز عنه
(فصل) وإن عجل زكاة ماله فحال الحول والنصاب ناقص مقدار ما عجله أجزأت عنه ويكون حكم
ما عجله حكم الموجود في ملكه يتم النصاب به، فلو زاد ماله حتى بلغ النصاب أو زاد عليه، وحال
الحول أجزأ المعجل عن زكاته لما ذكرنا فإن نقص أكثر مما عجله فقد خرج بذلك عن كونه سببا للزكاة
مثل من له أربعون شاة فعجل شاة ثم تلفت أخرى فقد خرج عن كونه سببا للزكاة، فإن زاد بعد ذلك
اما بنتاج أو شراء ما يتم به النصاب استؤنف الحول من حين كمل النصاب، ولم يجز عجله عنه لما ذكرنا،
وإن زاد بحيث بكون انضمامه إلى ما عجله يتغير به الفرض مثل من له مائة وعشرون فعجل زكاتها شاة،
ثم حال الحول وقد أنتجت سخلة فإنه يلزمه اخراج شاة ثانية، وبما ذكرناه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: ما عجله في حكم التالف فقال في المسألة الأولى: لا تجب الزكاة ولا يكون المخرج زكاة. وقال
في هذه المسألة: لا يجب عليه زيادة لأن ما عجله ملكه عنه فلم يحسب من ماله كما لو تصدق به تطوعا
ولنا أن هذا نصاب تجب فيه الزكاة بحول الحول فجاة تعجيلها منه كما لو كان أكثر من
أربعين ولان ما عجله بمنزلة الموجود في اجزائه عن ماله فكان بمنزلة الموجود في تعلق الزكاة به،
ولأنها لو لم تعجل كان عيه شاتان فكذلك إذا عجلت لأن التعجيل إنما كان رفقا بالمساكين فلا
يصير سببا لنقص حقوقهم والتبرع يخرج ما تبرع به عن حكم الموجود في ماله وهذا في حكم الموجود
في الجزاء عن الزكاة
(فصل) وكل موضع قلنا لا يجزئه ما عجله عن الزكاة، فإن كان دفعها إلى الفقراء مطلقا فليس له
الرجوع فيها، وإن كان دفعها بشرط أنها زكاة معجلة فهل له الرجوع على وجهين يأتي توجيههما
502

(فصل) فأما تعجيل العشر من الزرع والثمرة فظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز لأنه قال: كل
ما تتعلق الزكاة فيه بسببين: حول ونصاب، جاز تعجيل زكاته فمفهوم هذا أنه لا يجوز تعجيل زكاة
غيره لأن الزكاة معلقة بسبب واحد وهو ادراك الزرع والثمرة، فإذا قدهما قدهما قبل وجود سببها لكن
ان أداها بعد الادراك وقبل يبس الثمرة وتصفية الحب جاز. وقال أبو الخطاب: يجوز اخراجها بعد وجود
الطلع والحصرم، ونبات الزرع، ولا يجوز قبل ذلك لأن وجود الزرع وطلاع النخيل بمنزلة النصاب،
والادراك بمنزلة حلول الحول فجاز تقديمها عليه، وتعلق الزكاة بالادراك لا يمنع جواز التعجيل بدليل أن
زكاة الفطر يتعلق وجوبها بهلال شوال وهو زمن الوجوب، فإذا ثبت هذا فإنه لا يجوز تقديمها قبل ذلك
لأنه يكون قبل وجود سببها
(فصل) وإن عجل زكاة ماله ثم مات فأراد الوارث الاحتساب بها عن زكاة حوله لم يجز،
وذكر القاضي وجها في جوازه بناء على ما لو عجل زكاة عامين، ولا يصح لأنه تعجيل للزكاة قبل وجود
سببها أشبه ما لو عجل زكاة نصاب لغيره ثم اشتراه، وذلك لأن سبب الزكاة ملك النصاب وملك
الوارث حادث ولا يبني الوارث على حول الموروث ولأنه لم يخرج الزكاة، وإنما أخرجها غيره عن
نفسه، واخراج الغير عنه من غير ولاية ولا نيابة لا يجزي ولو نوى، فكيف إذا لم ينو، وقد قال أصحابنا
لو أخرج زكاته وقال إن كان مورثي قد مات فهذه زكاة ماله فبان أنه قد مات لم يقع الموقع وهذا أبلغ،
ولا يشبه هذا تعجيل زكاة العامين لأنه عجل بعد وجود السبب وأخرجها بنفسه بخلاف هذا،
فإن قيل فإنه لما مات المورث قبل الحول كان للوارث ارتجاعها، فإذا لم يرتجعها احتسب بها كالدين
قلنا فلو أراد أن يحسب الدين عن زكاته لم يصح، ولو كان له عند رجل شاة من غصب أو قرض فأراد
أن يحسبها عن زكاته لم تجزه
(مسألة) قال (ومن قدم زكاة ماله فأعطاها لمستحقها فمات المعطي قبل الحول أو
بلغ الحول وهو غني منها أو من غيرها أجزأت عنه)
وجملة ذلك أنه إذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها لم يخل من أربعة أقسام (أحدها) أن
لا يتغير الحال فإن المدفوع يقع موقعه ويجزئ عن المزكي ولا يلزمه بدله، ولاله استرجاعه كما لو
دفعها بعد وجوبها (الثاني) أن يتغير حال الآخذ لها بأن يموت قبل الحول، أو يستغني، أن يرتد
قبل الحول فهذا في حكى القسم الذي قبله، وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يجزئ لأن ما كان
شرطا للزكاة إذا عدم قبل الحول لم يجز كما لو تلف المال أو مات وبه
503

ولنا أنه إذا أدى الزكاة إلى مستحقها فلم يمنع الاجزاء تغير حاله كما لو استغنى بها ولأنه حق أداه
إلى مستحقه فبرئ منه كالدين يتعجله قبل أجله، وما ذكروه منتقض بما إذا استغنى بها، والحكم في
الأصل ممنوع ثم الفرق بينهما ظاهر، فإن المال إذا تلف تبين عدم الوجوب فأشبه ما لو أدى إلى غريمه
دراهم يظنها عليه فتبين أنها ليست عليه، وكما لو أدى الضامن الدين فبان أن المضمون عنه قد قضاه
وفى مسئلتنا الحق واجب وقد أخذه مستحقه (القسم الثالث) أن يتغير حال رب المال قبل الحول
بموته أو ردته، أو تلف النصاب، أو نقصه، أو بيعه، فقال أبو بكر: لا يرجع بها على الفقير سواء
أعلمه أنها زكاة معجلة أو لم يعلمه. وقال القاضي: وهو المذهب عندي لأنها وصلت إلى الفقير فلم يكن
له ارتجاعها كما لو لم يعلمه، ولأنها زكاة دفعت إلى مستحقا فلم يجز استرجاعها كما لو تغير حال الفقير
وحده. قال أبو عبد الله ابن حامد: إن كان الدافع لها الساعي استرجعها بكل حال، وإن كان
الدافع رب المال وأعلمه أنها زكاة معجلة رجع بها، وإن أطلق لم يرجع بها، وهذا مذهب الشافعي لأنه
مال دفعه عما يستحقه القابض في الثاني، فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده كالأجرة إذا
انهدمت الدار قبل السكنى، أما إذا لم يعلمه فيحتمل أن يكون تطوعا، ويحتمل أن يكون هبة فلم
يقبل قوله في الرجوع، فعلى قول ابن حامد إن كانت العين باقية لم تتغير أخذها، وإن زادت زيادة
متصلة أخذها بزيادتها لأنها تمنع في الفسوخ، وإن كانت منفصلة أخذها دون زيادتها لأنها حديث في
ملك الفقير، وإن كانت ناقصة رجع على الفقير بالنقص لأن الفقير قد ملكها بالنقص فكان نقصها
عليه كالبيع إذا نقص في يد المشترى ثم علم عيبه، وإن كانت تالفة أخذ قيمتها يوم القبض لأن ما زاد
بعد ذلك أو نقص فإنما هو في ملك الفقير فلم يضمنه كالصداق يتلف في يد المرأة (القسم الرابع)
أن يتغير حالها جميعا فحكمه حكم القسم الذي قبله سواء
(فصل) إذا قال رب المال: قد أعلمته أنها زكاة معجلة فلي الرجوع فأنكر الاخذ فالقول قول
الآخذ لأنه منكر والأصل عدم الاعلام وعليه اليمين، وإن مات الآخذ واختلف المخرج
ووارث الآخذ فالقول قول الوارث، ويخلف أنه لا يعلم أن مورثه أعلم بذلك، فأما من قال بعدم
الاسترجاع فلا يمين ولا غيرها
(فصل) إذا تسلف الإمام الزكاة فهلكت في يده ضمان عليه وكانت من ضمان الفقراء
504

ولا فرق بين ان يسأله ذلك رب المال أو الفقراء أو لم يسأله أحد لأن يده كيد الفقراء: وقال الشافعي
ان تسلفها من غير سؤال ضمنها لأن الفقراء رشد لا يولى عليهم فإذا قبض بغير اذنهم ضمن كالأب
إذا قبض لابنه الكبير وان بسؤالهم كان من ضمانهم لأنه وكيلهم فإذا كان بسؤال أرباب الأموال لم
يجزئهم الدفع وكان من ضمانهم لأنه وكيلهم وإن كان بسؤالهم ففيه وجهان أصحهما أنه من ضمان الفقراء
ولنا أن للإمام ولاية على الفقراء بدليل جواز قبض الصدقة لهم بغير اذنهم سلفا وغيره فإذا تلفت
في يده من غير تفريط يضمن كولي اليتيم إذا قبض له وما ذكروه يبطل بما إذا قبض الصدقة بعد
وجوبها وفارق الأب في حق ولده الكبير فإنه لا يجوز له القبض له لعدم ولايته عليه ولهذا بضمن
ما قبضه له من الحق بعد وجوبه
(مسألة) قال (ولا يجوز اخراج الزكاة إلا بنية)
الا أن يأخذها الإمام منه قهرا. مذهب عامة الفقهاء أن النية شرط في أداء الزكاة الا ما حكي عن
الأوزاعي أنه قال لا تجب لها النية لأنها دين فلا تجب لها النية كسائر الديون ولهذا يخرجها ولي
اليتيم ويأخذها السلطان من الممتنع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) وأداؤها عمل ولأنها عبادة فتتنوع إلى فرض
ونفل فافتقرت إلى النية كالصلاة وتفارق قضاء الدين فإنه ليس بعبادة ولهذا يسقط باسقاط مستحقه
وولي الصبي والسلطان ينوبان عند الحاجة فإذا ثبت هذا فإن النية أن يعتقد انها زكاته أو زكاة من
يخرج عنه كالصبي والمجنون ومحلها القلب لأن محل الاعتقادت كلها القلب
(فصل) ويجوز تقديم النية على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات، ولأن هذه تجوز النيابة
فيها فاعتبار مقارنة النية للاخراج يؤدي إلى التغرير بماله فإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوى هو دون الوكيل
جاز إذا لم تتقدم نية الدفع بزمن طويل وان تقدمت بزمن طويل لم يجز الا أن يكون قد نوى حال الدفع
إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الدفع إلى المستحق، ولو نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجز لأن الفرض يتعلق
505

به والاجزاء يقع عنه وإن دفعها إلى الإمام ناويا ولم ينو الإمام حال دفعها إلى الفقراء جاز، وإن طال لأنه
وكيل الفقراء ولو تصدق الانسان بجميع ماله تطوعا ولم ينو به الزكاة لم يجزئه وبهذا قال الشافعي وقال
أصحاب أبي حنيفة يجزئه استحبابا ولا يصح لأنه لم ينو به الفرض فلم يجزئه كما لو تصدق ببعضه وكما
لو صلى مائة ركعة ولم ينو الفرض بها
(فصل) ولو كان له مال غائب فشك في سلامته جاز له اخراج الزكاة عنه وكانت نية الاخراج
صحيحة لأن الأصل بقاء ه، فإن نوى إن كان مالي سالما فهذه زكاته وإن كان تالفا فهي تطوع فبان
سالما أجزأت نية لأنه أخلص النية للفرض ثم رتب عليها النفل، وهذا حكمها كما لو لم يقله فإذا قاله لم
لم يضر، ولو قال هذا زكاة مالي الغائب أو الحاضر صح لأن التعيين ليس بشرط بدليل أن من له
أربعون دينارا إذا أخرج نصف دينار عنها صح، وإن كان ذلك يقع عن عشرين غير معينة وان قال
هذا زكاة مالي الغائب أو تطوع لم يجزئه ذكره أبو بكر لأنه لم يخلص النية للفرض أشبه ما لو قال
أصلي فرضا أو تطوعا، وان قال هذا زكاة مالي الغائب إن كان سالما والا فهو زكاة مالي الحاضر أجزأه عن
السالم منهما وإن كانا سالمين فعن أحدهما لأن التعيين ليس بشرط وان قال زكاة مالي الغائب وأطلق فبان
تالفا لم يكن له أن يصرفه إلى زكاة غيره لأنه عينه فأشبه ما لو أعتق عبدا عن كفارة عينها فلم يقع عنها
لم يكن له صرفه إلى كفارة أخرى. هذا التفريع فيما إذا كانت العينة مما لا يمنع اخراج زكاته في بلد رب
المال إما لقربه أو يكون البلد لا يوجد فيه أهل السهمان أو على الرواية التي تقول باخراجها في بلد
بعيد من بلد المال وإن كان له مورث غائب فقال إن كان مورثي قد مات فهذه زكاة ماله الذي ورثته
منه فبان ميتا لم يجزئه ما أخرج لأنه يبني على غيرا أصل فهو كما لو قال ليلة الشك إن كان غدا من رمضان
فهو فرضي وان لم يكن فهو نفل
(مسألة) قال (الا أن يأخذها الإمام منه قهرا)
مقتضى كلام الخرقي ان الانسان متى دفع زكاته طوعا لم تجزئه الأبنية سواء دفعها إلى الإمام
أو غيره وإن أخذها الإمام منه قهرا أجزأت من غير نية لأن تعذر النية في حقه أسقط وجوبها عنه
506

كالصغير والمجنون وقال القاضي متى أخذها الإمام أجزأت من غير نية سواء أخذها طوعا أو كرها
وهذا قول للشافعي لأن أخذ الإمام بمنزلة القسم بين الشركاء فلم يحتج إلى نية ولان للإمام ولاية
في أخذها ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقا ولو لم يجزئه لما أخذها أو لأخذها ثانيا وثانيا حتى ينفد
ماله لأن أخذها إن كان لاجزائها فلا يحصل الاجزاء بدون النية، وإن كان لوجوبها فالوجوب باق
بعد أخذها واختار أبو الخطاب وابن عقيل أنها لا تجزئ فيما بينه وبين الله تعالى الأبنية رب المال
لأن الإمام إما وكيله وإما وكيل الفقراء أو وكيلهما معا وأي ذلك كان فلا تجزئ نيته عن نية رب
المال ولان الزكاة عبادة تجب لها النية فلا تجزئ عمن وجبت عليه بغير نية إن كان من أهل
النية كالصلاة وإنما أخذت منه مع عدم الاجزاء حراسة للعلم الظاهر كالصلاة يجبر عليها ليأتي بصورتها
ولو صلى بغير نية لم يجزئه عند الله تعالى قال ابن عقيل ومعنى قول الفقهاء يجزئ عنه أي في الظاهر
بمعنى انه لا يطالب بأدائها ثانيا كما قلنا في الاسلام فإن المرتد يطالب بالشهادة فمتى أتى بها حكم باسلامه
ظاهرا ومتى لم معتقدا صحة ما يلفظ به لم يصح اسلامه باطنا قال وقول أصحابنا لا تقبل توبة
الزنديق معناه لا يسقط عنه القتل الذي توجه عليه لعدم علمنا بحقيقة توبته لأن أكثر ما فيه أنه
أظهر ايمانه وقد كان دهره يظهر إيمانه وقد كان دهره يظهر إيمانه ويستر كفره فأما عند الله عز وجل فإنها تصح إذا علم منه حقيقة
الإنابة، وصدق التوبة، واعتقاد الحق. ومن نصر قول الخرقي قال إن للإمام ولاية على الممتنع فقامت
نية مقام نيته كولي اليتيم والمجنون وفارق الصلاة فإن النيابة فيها لا تصح فلا بد من نية فاعلها. وقوله
لا يخلو من كونه وكيلا له أو وكيلا للفقراء أو لهما - قلنا بل هو وال على المالك وأما الحاق الزكاة
بالقسمة فغير صحيح فإن القسمة ليست عبادة ولا يعتبر لها نية بخلاف الزكاة
(فصل) يستحب للانسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها
سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة قال الإمام أحمد أعجب إلي أن يخرجها وان دفعها
إلى السلطان فهو جائز وقال الحسن، ومكحول وسعيد بن جبير وميمون بن مهران يضعها رب المال
507

في موضعها وقال الثوري احلف لهم واكذبهم ولا تعطهم شيئا ولا تعطهم شيئا إذا لم يضعوها موضعها وقال لا تعطهم
وقال عطاء أعطهم إذا وضعوها مواضعها فمفهومه انه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك. وقال الشعبي
وأبو جعفر إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها. وقال إبراهيم ضعوها في موضعها
فإن أخذها السلطان أجزاك. وقال سعيد أنبأنا أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن قال أتيت أبا وائل وأبا
بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها ثم مرة أخرى فرأيت أبا وائل وحده فقال لي ردها
فضعها مواضعها وقد روي عن أحمد أنه قال أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى السلطان
واما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين فظاهر هذا انه استحب
دفع العشر خاصة إلى الأئمة وذلك لأن العشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض فهو كالمخراج
يتولاه الأئمة بخلاف سائر الزكاة والذي رأيت في الجامع قال: أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها إلى
السلطان ثم قال أبو عبد الله قيل لابن عمر إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور قال ادفعها
إليهم. وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل وهو قول أصحاب
الشافعي وممن قال يدفعها إلى الإمام الشعبي ومحمد بن علي وأبو رزين والأوزاعي لأن الإمام أعلم
بمصارفها ودفعها إليه يبرئه ظاهرا وباطنا ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنا لاحتمال أن يكون غير مستحق
لها ولأنه يخرج من الخلاف وتزول عنه التهمة وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة
ابن زبير أو نجدة الحروري وقد روي عن سهيل ابن أبي صالح قال أتيت سعد بن أبي وقاص
فقلت عندي مال وأريد أن أخرج زكاته وهؤلاء القوم على ما نرى فما تأمرني؟ قال ادفعها إليهم فأتيت
ابن عمر فقال مثل ذلك فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك وأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك ويروى
نحوه عن عائشة رضي الله عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وأبو عبيد لا يفرق الأموال الظاهرة إلا الإمام لقول الله
تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ولان أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها وقال أو
منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليها ووافقه الصحابة على هذا ولان
508

ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولى عليه كولى اليتيم وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا على جواز دفعها بنفسه انه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه فأجزأه كما لو دفع الدين
إلى غريمة وكزكاة الأموال الباطنة ولأنه أحد نوعي الزكاة فأشبه النوع الآخر والآية تدل على أن
للإمام أخذها ولا خلاف فيه ومطالبة أبي بكر لهم بها لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها ولو أدوها إلى
أهلها لم يقاتلهم عليها لأن ذلك مختلف في إجزائه فلا تجوز المقاتلة من أجله وإنما يطالب الإمام بحكم
الولاية والنيابة عن مستحقيها فإذا دفعها إليهم جاز لأنهم أهل رشد فجاز الدفع إليهم بخلاف اليتيم
واما وجه فضيلة دفعها بنفسه فلانه ايصال الحق إلى مستحقه مع توفير أجر العمالة وصيانة حقهم
عن خطر الخيانة ومباشرة تفريح كربة مستحقها وإغنائه بها مع أعطائها للأولى بها من محاويج
أقاربه وذوي رحمه وصلة رحمه بها فكان أفضل كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل فإن قيل فالكلام
في الإمام العادل إذا الخيانة مأمونة في حقه قلنا الإمام لا يتولى ذلك بنفسه وإنما يفوضه إلى سعاته ولا تؤمن
منهم الخيانة ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شئ منها وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته وقولهم ان أخذ الإمام يبرئه ظاهرا وباطنا قلنا يبطل هذا بدفعها إلى غير
العادل فإنه يبرئه أيضا وقد سلموا انه ليس بأفضل ثم إن البراءة الظاهرة تكفي وقولهم انه تزول
به التهمة قلنا متى أظهرها زالت التهمة سواء أخرجها بنفسه ولا يختلف المذهب ان دفعها إلى الإمام سواء كان
عادلا أو غير عادل وسواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة ويبرأ بدفعها سواء تلفت في الإمام أو
لم تتلف أو صرفها في مصارفها أولم يصرفها لما ذكرنا عن الصحابة ولان الإمام نائب عنهم شرعا
فبرئ بدفعها إليه كولي اليتيم إذا قبضها له ولا يختلف المذهب أيضا في أن صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه
(فصل) إذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها وحكى ابن المنذر عن أحمد والشافعي
وأبى ثور في الخوارج أنه يجزي وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها سواء عدل فيها أو
جار وسواء أخذها قهرا أو دفعها إليه اختيارا قال أبو صالح سألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر
509

وجابرا وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة فقلت هذا السلطان يصنع ما ترون أفأدفع إليهم زكاتي فقالوا
كلهم نعم. وقال إبراهيم يجزئ عنك ما أخذ منك العشارون. وعن سلمة بن الأكوع انه دفع صدقته
إلى نجدة وعن ابن عمر انه سئل عن مصدق ابن الزبير ومصدق نجدة فقال إلى أيهما دفعت أجزأ
عنك وبهذا قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه وقالوا إذا مر على الخوارج فعشروه لا يجزئ عن
زكاته وقال أبو عبيد في الخوارج يأخذون الزكاة على من أخذوا منه الإعادة لأنهم ليسوا بأئمة
فأشبهوا قطاع الطريق
ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه فيكون إجماعا ولأنه دفعها إلى أهل الولاية
فأشبه دفعها إلى أهل البغي
(فصل) وإذا دفع الزكاة استحب أن يقول: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما ويحمد
الله على التوفيق لأدائها فقد روى أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا
ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلنا مغنما ولا تجعلها مغرما) أخرجه ابن ماجة ويستحب للآخذ أن يدعو
لصاحبها فيقول آجرك الله فيما أعطيت وبارك فيما أنفقت وجعله لك طهورا. وإن كان الدفع إلى
الساعي أو الإمام شكره ودعا له قال الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم
إن صلاتك سكن لهم) قال عبد الله بن أبي أوفى كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا أتاه قوم بصدقتهم قال (اللهم صلى على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صلى على آل أبي أوفى) متفق
عليه والصلاة هاهنا الدعاء والتبريك وليس هذا بواجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن
قال (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) متفق عليه فلم يأمره بالدعاء ولان
ذلك لا يجب على الفقير المدفوع إليه فالنائب أولى
(فصل) ويجوز دفع الزكاة إلى الكبير والصغير سواء أكل الطعام أو لم يأكل قال أحمد يجوز
إن يعطي زكاته في أجر رضاع لقيط غيره فهو فقير من الفقراء وعنه لا يجوز دفعها الا إلى من أكل
510

الطعام قال المروذي كان أبو عبد الله لا يرى أن يعطي الصغير من الزكاة إلا أن يطعم الطعام والأول
أصح لأنه فقير فجاز الدفع إليه كالذي طعم ولأنه يحتاج إلى الزكاة لاجر رضاعه وكسوته وسائر
حوائجه فيدخل في عموم النصوص ويدفع الزكاة إلى وليه لأنه يقبض حقوقه وهذا من حقوقه فإن
لم يكن له ولي دفعها إلى من يعنى بأمره ويقوم به من أمه أو غيرها نص عليه أحمد وكذلك المجنون
قال هارون الحمال قلت لأحمد وكيف يصنع بالصغار قال يعطى أولياء فقلت ليس لهم ولي فيعطي
من يعنى بأمرهم من الكبار فرخص في ذلك وقال منها سألت أبا عبد الله: يعطى من الزكاة المجنون
والذاهب عقله؟ قال نعم، قلت من يقبضها له؟ قال وليه، قلت ليس له ولي؟ قال الذي يقوم عليه. وان
دفعها إلى الصبي العاقل فظاهر كلام أحمد انه يجزئه قال المروذي قلت لأحمد يعطي غلاما يتيما من
الزكاة؟ قال نعم قلت فاني أخاف أن يضيعه قال يدفعه إلى من يقوم بأمره. وقد روى الدارقطني
باسناده عن أبي جحيفة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا فأخذ الصدقة من اغنيائنا فردها في
فقرائنا وكنت غلاما يتيما لا مال لي فأعطاني قلوصا
(فصل) وإذا دفع الزكاة إلى من يظنه فقيرا لم يحتج إلى إعلامه انها زكاة قال الحسن أنريد أن
تفرعه لا تخبره وقال أحمد بن الحسين قلت لأحمد يدفع الرجل الزكاة إلى الرجل فيقول هذا من الزكاة
أو يسكت؟ قال ولم يبكته بهذا القول؟ يعطيه ويسكت ما حاجته إلى أن يقرعه
(مسألة) (قال ولا يعطي من الصدقة المفروضة للوالدين وأن علوا ولا للولد وان سفل)
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يجبر
الدافع إليهم على النفقة عليهم ولان دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفسه وتسقطها عنه ويعود نفعها إليه
فكأنه دفعها إلى نفسه فلم تجز كما لو قضى بها دينه وقول الخرقي الوالدين يعنى الا باب والام وقوله وان
511

علوا يعني آباءهما وأمهاتهما وان ارتفعت درجتهم من الدافع كأبوي الأب وأبوي الام وأبوي كل واحد
منهم وان علت درجتهم من يرث منهم ومن لا يرث وقوله والولد وان سفل يعني وان نزلت درجته من
أولاده البنين والبنات الوارث وغير الوارث نص عليه أحمد فقال لا يعطي الوالدين من الزكاة ولا
الولد ولا ولد الولد ولا الجد ولا الجدة ولا ولد البنت قال النبي صلى الله عليه وسلم (ان ابني هذا سيد) يعني الحسن
فجعله ابنه ولأنه من عمودي نسبه فأشبه الوارث ولان بينهما قرابة جزئية وبعضية بخلاف غيرها
(فصل) فأما سائر الا رقاب فمن لا يورث منهم يجوز دفع الزكاة إليه سواء كان انتفاء الإرث
لانتفاء سببه لكونه بعيد القرابة ممن لم يسم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم له ميراثا أو كان لمانع مثل
أن يكون محجوبا عن الميراث كالأخ المحجوب بالابن أو الأب، والعصم المحجوب بالأخ وابنه وإن نزل،
فيجوز دفع الزكاة إليه لأنه لا قرابة جزئية بينهما ولا ميراث فأشبها الأجانب، وإن كان بينهما ميراث
كالأخوين الذين يرث كل واحد منهما الآخر ففيه روايتان (إحداهما) يجوز لكل واحد منهما دفع
زكاته إلى الآخر وهي الظاهرة عنه. رواها عنه الجماعة، قال في رواية إسحاق بن إبراهيم واسحق
ابن منصور وقد سأله يعطي الأخ والأخت والخالة من الزكاة؟ قال يعطي كل القرابة إلا الأبوين
والولد، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال أبو عبيد: هو القول عندي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الصدقة على
المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) فلم يشترط نافلة ولا فريضة، ولم يفرق بين
الوارث وغيره، ولأنه ليس من عمودي نسبه فأشبه الأجنبي (والرواية الثانية) لا يجوز دفعها إلى
الموروث وهو ظاهر قول الخرقي لقوله ولا لمن تلزمه مؤنته، وعلى الوارث مؤنة الموروث لأنه يلزمه
مؤنته فيغنيه بزكاته عن مؤنته ويعود نفع زكاته إليه فلم يجز كدفعها إلى والدة أو قضاء دينه بها،
والحديث يحتمل صدقة التطوع فيحمل عليها، فعلى هذا إن كان أحدهما يرث الآخر ولا يرثه الآخر
كالعمة مع ابن أخيها، والعتيق مع معتقه، فعلى الوارث منهما نفقة مورثه وليس له دفع زكاته إليه،
وليس على موروث منهما نفقة وارثه، ولا يمنع من دفع زكاته إليه لانتفاء المقتضى للمنع، ولو كان
512

الاخوان لأحدهما ابن والآخر لا ولد له، فعلى أبي الابن نفقة أخيه وليس له دفع زكاته إليه، والذي
لا ولد له له دفع زكاته إلى أخيه ولا يلزمه نفقته لأنه محجوب عن ميراثه، ونحو هذا قول الثوري: فأما
ذوو الأرحام في الحال الذي يرثون فيها فيجوز دفعها إليهم في ظاهر المذهب لأن قرابتهم ضعيفة
لا يرث بها عصبة ولا ذي فرض غير أحد الزوجين فلم تمنع دفع الزكاة كقرابة سائر المسلمين فإن
ماله يصير إليهم إذا لم يكن له وارث
(مسألة) قال (ولا للمزوج ولا للزوجة)
أما الزوجة فلا يجوز دفع الزكاة إليها اجماعا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل
لا يعطي زوجته من الزكاة، وذلك لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن أخذ الزكاة فلم يجز دفعها
إليها كما لو دفعها إليها على سبيل الانفاق عليها، وأما الزوج ففيه روايتان (أحدهما) لا يجوز دفعها
إليه وهو اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأنه أحد الزوجين فلم يجز للآخر دفع زكاته إليه كالآخر
ولأنها تنتفع بدفعها إليه لأنه إن كان عاجزا عن الانفاق عليها تمكن بأخذ الزكاة من الانفاق فيلزمه، وإن لم يكن
عاجزا ولكنه أيسر بها لزمته نفقة الموسرين فتنتفع بها في الحالين فلم يجز لها ذلك كما لو دفعتها في
أجرة دار أو نفقة رقيقها أو بهائهما، فإن قيل فيلزم على هذا الغريم فإنه يجوز له دفع زكاته إلى غريمة
ويلزم الآخذ بذلك وفاء دينه فينتفع الدافع بدفعها إليه قلنا الفرق بينهما من وجهين (أحدهما) أن
حق الزوجة في النفقة آكد من حق الغريم بدليل أن نفقة المرأة مقدمة في مال المفلس على أداء دينه
وأنها تملك أخذها من ماله بغير علمه إذا امتنع من أدائها (والثاني) أن المرأة تنبسط في مال زوجها
بحكم العادة، وبعد مال كل واحد منهما مالا للآخر، ولهذا قال ابن مسعود في عبد سرق مرآة امرأة
سيده: عبدكم سرق مالكم، ولم يقطعه، وروي ذلك عن عمر، وكذلك لا تقبل شهادة كل واحد منها
لصاحبه بخلاف الغريم مع غريمه (والرواية الثانية) يجوز لها زكاتها إلى زوجها وهو مذهب الشافعي
وابن المنذر وطائفة من أهل العلم لأن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: يا نبي الله انك أمرت
513

اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه هو وولده أحق من
تصدقت عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من
تصدقت به عليهم) رواه البخاري، وروي أن امرأة عبد الله سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
بنى أخ لها أيتام لي في حجرها أفتعطيهم زكاتها؟ قال (نعم).
وروى الجوزجاني باسناده عن عطاء قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت يا رسول الله: إن علي
نذر أن أتصدق بعشرين درهما، وان لي زوجا فقيرا أفيجزئ عني أن أعطيه؟ قال (نعم لك كفلان
من الاجر) ولأنه لا تجب نفقته فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي ويفارق الزوجة فإن نفقتها واجبة
عليه، ولان الأصل جواز الدفع لدخول الزوج في عموم الأصناف للمسلمين في الزكاة، وليس في المنع
نص ولا اجماع وقياسه على من ثبت المنع في حقه غير صحيح لوضوح الفرق بينهما فيبقى جواز الدفع
ثابتا والاستدلال بهذا أقوى من الاستدلال بالنصوص لضعف دلالتها
فإن الحديث الأول في صدقة التطوع لقولها: أردت أن أتصدق بحلي ولا تجب الصدقة بالحلي
وقول النبي صلى الله عليه وسلم (زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) والولد لا تدفع إليه الزكاة
والحديث الثاني ليس فيه ذكر الزوج، وذكر الزكاة فيه غير محفوظ. قال احمد: من ذكر
الزكاة فهو عندي غير محفوظ ذلك صدقة الزكاة، كذا قال الأعمش: فأما الحديث
الآخر فهو مرسل وهو في النذر
(فصل) فإن كان في عائلته من لا يجب عليه الانفاق عليه كيتيم أجنبي فظاهر كلام احمد أنه
لا يجوز له دفع زكاته إليه لأنه ينتفع بدفعها إليه لاغنائه عن مؤنته والصحيح إن شاء الله جواز دفعها
إليه لأنه داخل في أصناف المستحق للزكاة ولم يرد في منعه نص ولا إجماع ولا قياس صحيح فلا
يجوز اخراجه من عموم النص بغير دليل، وإن توهم أنه ينتفع بدفعها إليه قلنا قد لا ينتفع به فإنه يصرفها
في مصالحه التي لا يقوم بها الدافع، وإن قدر الانتفاع فإنه نفع لا يسقط به واجب عليه، ولا يجتلب به
514

مال إليه، فلم يمنع ذلك الدفع كما لو كان يصله تبرعا من غير أن يكون من عائلته
(فصل) وليس لمخرج الزكاة شراؤها ممن صارت إليه، وروي ذلك عن الحسن وهو قول قتادة
ومالك، قال أصحاب مالك: فإن اشتراها لم ينقض البيع. وقال الشافعي وغيره: يجوز لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة رجل ابتاعها بماله) (1) وروى سعيد بن في سننه أن رجلا تصدق
على أمه بصدقة ثم ماتت فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال (قد قبل الله صدقتك وردها إليك الميراث) وهذا
في معنى شرائها، ولان ما صح أن يملك إرثا صح أن يملك ابتياعا كسائر الأموال
ولنا ما روى عمر أنه قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده وظننت أنه
بائعه يرخص فأردت أن أشتريه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ولو
أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) متفق عليه، فإن قيل يحتمل أنها كانت
حبسا في سبيل الله فمنعه لذلك، قلنا لو كانت حبسا لما باعها للذي هي في يده ولاهم عمر بشرائها، بل
كان ينكر على البائع ويمنعه، فإنه لم يكن يقر على منكر فكيف يفعله وبعين عليه، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
ما أنكر بيعها إنما أنكر على عمر الشراء معللا بكونه عائدا في الصدقة (الثاني) اننا نحتج بعموم اللفظ
من غير نظر إلى خصوص السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تعد في صدقتك) أي بالشراء، فإن
العائد في صدقته كالعائد في قيئه، والاخذ بعموم اللفظ أولى من التمسك بخصوص السبب، فإن قيل
فإن اللفظ لا يتناول الشراء، فإن العود في الصدقة استرجاعها بغير عوض وفسخ للعقد كالعود في الهبة
والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ولو وهب انسانا شيئا ثم اشتراه
منه جاز، قلنا النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك جوابا لعمر حين سأله عن شراء الفرس فلو لم يكن اللفظ متناولا
للشراء المسؤول عنه لم يكن مجيبا له ولا يجوز إخراج خصوص السبب من عموم لئلا يخلو
السؤال عن الجواب، وقد روي عن جابر أنه قال إذا جاء المصدق فادفع إليه صدقتك ولا تشترها فإنهم

(1) أخرجه أبو داود وسيأتي بتمامه معزوا إليه في ص 518
515

كانوا يقولون ابتعها فأقول إنما هي لله. وعن ابن عمرانه قال لا تشتر طهور مالك ولان في شرائه لها
وسيلة إلى استرجاع شئ منها لأن الفقير يستحي منه فلا بما كسه في ثمنها وربما رخصها له طمعه في
أن يدفع إليه صدقة أخرى وربما علم أنه ان لم يبعه إياها استرجعها منه أو توهم ذلك وما هذا سبيله
ينبغي أن يجتنب كما لو شرط عليه أن يبيعه إياها. وهو أيضا ذريعة إلى اخراج القيمة وهو ممنوع من
ذلك، أما حديثهم فنقول به، وانها ترجع إليه بالميراث وليس هذا محل النزاع. قال ابن عبد البر: كل
العلماء يقولون إذا رجعت إليه بالميراث طابت له الا ابن عمر والحسن بن حي وليس البيع في معنى
الميراث لأن الملك ثبت بالميراث حكما بغير اختياره وليس بوسيلة إلى شئ مما ذكرنا والحديث الاخر
مرسل وهو عام وحديثنا خاص صحيح فالعمل به أولى من كل وجه
(فصل) فإن دعت الحاجة إلى شراء صدقته مثل أن يكون الفرض جزءا من حيوان لا يمكن
الفقير الانتفاع معينه ولا يجد من يشتريه سوى الملك ولو اشتراه عيره لتضرر المالك بسوء
المشاركة أو إذا كان الواجب في ثمرة النخل والكرم عنبا ورطبا فاحتاج الساعي إلى بيعها قبل الجذاذ فقد
ذكر القاضي انه يجوز بيعها من رب المال في هذا الموضع وكذلك يجئ في الصورة الأولى وفى
كل موضع دعت الحاجة إلى شرائه لها لأن المنع من الشراء في محل الوفاق إنما كان لدفع الضرر
عن الفقير، والضرر عليه في منع البيع هاهنا أعظم فدفعه بجواز البيع أولى
(فصل) قال منها سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه
ولهذا الرجل زكاة مال أن يفرقها على المساكين فيدفع إليه رهنه ويقول له الدين الذي لي عليك
هو لك ويحسبه من زكاة ماله قال لا يجزيه ذلك فقلت له فيدفع إليه من زكاة فإن رده إليه قضاء من ماله
أخذه؟ فقال نعم وقال في موضع آخر وقيل له فإن أعطاه ثم رده إليه قال إذا كان بحيلة فلا يعجبني
516

قيل له فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة فقال إذا
أراد بها احياء ماله فلا يجوز فحصل من كلامه أن دفع الزكاة لي الغريم جائز سواء دفعها ابتداء أو
استوفى حقه دفع ما استوفاه إليه الا انه متى قصد بالدفع احياء ماله أو استيفاء دينه لم يجز لأن الزكاة
لحق الله تعالى فلا يجوز صرفها إلى نفعه ولا يجوز أن يحتسب الدين الذي له من الزكاة قبل قبضه
لأنه مأمور بأدائها وإيتائها وهذا اسقاط والله أعلم
(مسألة) قال (ولا لكافر لمملوك)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر ولا مملوك قال ابن المنذر
أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم أن الذي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال
لمعاذ (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم) فخصهم بصرفها إلى فقرائهم كما
خصهم بوجوبها على أغنيائهم
وأما المملوك فلا يملكها بدفعها إليه، وما يعطاه فهو لسيده فكأنه دفعها إلى سيده، ولان العبد
يجب على سيده نفقته فهو غني بغنائه
(مسألة) قال (الا أن يكونوا من العاملين عليها فيعطون بحق ما عملوا)
وجملته أنه يجوزه للعامل أن يأخذ عمالته من الزكاة سواء كان حرا أو عبدا وظاهر كلام الخرقي
انه يجوز أن يكون كافرا وهذه إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى قال والعاملين عليها وهذا
لفظ عام يدخل فيه كل عامل أي صفة كان، ولان ما يأخذ على العمالة أجرة عمله فلم يمنع من أخذه
كسائر الإجارات والرواية الأخرى لا يجوز أن يكون العامل كافرا لأن من شرط العامل أن
يكون أمينا والكفر ينافي الأمانة ويجوز أن يكون غنيا وذا قرابة لرب المال وقوله: بحق ما عملوا يعني
517

يعطيهم بقدر أجرتهم والإمام مخير إذا بعث عاملا ان شاء استأجره إجارة صحيحة ويدفع إليه ما سمى
له، وان شاء بعثه بغير إجارة ويدفع إليه أجر مثله، وهذا كان المعروف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم
يبلغنا انه قاطع أحدا من العمال على أجر وقد روى أبو داود باسناده عن ابن الساعدي قال استعملني
عمر على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي عمالة فقلت إنما عملت لله وأجري على الله قال
خذ ما أعطيت فانى قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله
صلى الله عليه سلم (إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأله فكل وتصدق)
(فصل) ويعطى منها أجر الحاسب والكاتب والحاشد والخازن والحافظ والراعي ونحوهم
فكلهم معدو دون من العالمين عليها، ويدفع إليهم من حصة العالمين عليها فأما أجر الوزان والكيال
ليقبض الساعي الزكاة فعلى رب المال لأنه من مؤنه دفع الزكاة
(فصل) ولا يعطى الكافر من الزكاة الا لكونه مؤلفا على ما سنذكره ويجوز أن يعطى لانسان
ذا قرابة من الزكاة لكونه غازيا أو غارما في اصلاح ذات البيت أو عاملا ولا يعطى لغير
ذلك وقد روى أبو داود باسناده عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تحل الصدقة لغني
الا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو رجل ابتاعها بماله أو لرجل كان له جار مسكين
فتصدق على المسكين فاهدى المسكين إلى الغني) ورواه أيضا عن عطاء عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) وإن اجتمع في واحد أسباب تقتضي الاخذ بها جاز أن يعطى بها، فالعمل الفقير له
أن يأخذ عمالته، فإن لم تغنه فله أن يأخذ ما يتم به غناه، فإن كان غازيا فله أخذ ما يكفيه لغزوه، وإن
كان غاز ما أخذ ما يقضي به غرمه لأن كل واحد من هذه الأسباب يثبت حكمه بانفراده فوجود غيره
لا يمنع ثبوت حكمه كما لم يمنع وجوده، وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا كان له مائتان وعليه مثلها
لا يعطى من الزكاة لأن المغني خمسون درهما وهذا يدل على أنه يعتبر أنه في الدفع إلى الغارم أن يكون فقيرا،
فإذا أعطي لأجل العزم وجب صرفه إلى قضاء الدين، وإن أعطي للفقير جاز أن يقضي به دينه
518

(مسألة) (قال ولا لبني هاشم)
لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الصدقة
لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من
تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كخ كخ) ليطرحها وقال (أما شعرت انا لا نأكل الصدقة) متفق عليه
(مسألة) (قال ولا لمواليهم)
يعنى أن موالي بني هاشم وهم من أعتقهم هاشمي لا يعطون من الزكاة وقال أكثر العلماء يجوز
لأنهم ليسوا بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس، ولأنهم لم يعوضوا عنها بخمس الخمس
فإنهم لا يعطون منه فلم يجز أن يحرموها كسائر الناس
ولنا ما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي
رافع أصحبني كيما تصيب منها فقال لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله
فقال إنا (لا تحل لنا الصدقة، وإن موالي القوم منهم) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال
حديث حسن صحيح، ولأنهم ممن يرثهم بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الصدقة إليهم كبني هاشم
وقولهم انهم ليسوا بقرابة قلناهم بمنزلة القرابة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم (الولاء لحمة كلحمة النسب)
وقوله (موالي القوم منهم) وثبت فيهم حكم القرابة من الإرث والعقل والنفقة فلا يمتنع ثبوت
حكم تحريم الصدقة فيهم
(فصل) فأما بنو المطلب فهل لهم الاخذ من الزكاة؟ على روايتين (إحداهما) ليس لهم ذلك نقلها
عبد الله بن أحمد وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم (انا وبنو المطلب لم نفرق في جاهلية ولا اسلام إنما نحن
وهم شئ واحد) وفي لفظ رواه الشافعي في مسنده (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) وشبك
519

بين أصابعه، ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فلم يكن لهم الاخذ كبني هاشم، وقد أكد ذلك
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعهم الصدقة باستغنائهم عنها بخمس الخمس فقال (أليس في خمس الخمس
ما يغنيكم؟) (والرواية الثانية) لهم الاخذ منها وهو قول أبي حنيفة لأنهم دخلوا في عموم قوله تعالى (إنما
الصدقات للفقراء والمساكين) الآية، لكن خرج بنو هاشم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد)
فيجب أن يختص المنع بهم، ولا يصح قياس بني المطلب على بني هاشم لأن بني هاشم أقرب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف وهم آل النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه
بمجرد القرابة بدليل أن بنى عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئا، وإنما
شاركوه بالنصرة أو بهما جميعا والنصرة لا تقتضي منع الزكاة
(فصل) وروى الخلال باسناده عن أبي مليكة أن خالد بن سعد بن العاص بعث إلى
عائشة سفرة من الصدقة فردتها وقالت: انا آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لنا الصدقة، وهذا يدل على تحريمها
على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) وظاهر قول الخرقي ههنا أن ذري القربى يمنعون الصدقة وإن كانوا عاملين، وذكر في
باب قسم الفئ والصدقة ما يدل على إباحة الاخذ لهم عمالة وهو قول أكثر أصحابنا لأن ما يأخذونه
أجر فجاز لهم أخذه كالمحال وصاحب المخزن إذا أجرهم مخزنه
ولنا حديث أبي رافع وقد ذكرناه وما روى مسلم باسناده أنه اجتمع ربيعة الحارث والعباس
ابن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه
الصدقات فأديا ما يؤدي الناس، وأصابا ما يصيب الناس، فبينما هما في ذلك إذ جاء علي بن أبي طالب
فوقف عليهما فذكرا له ذلك، قال علي: لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل، فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال:
والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا، قال فألقى علي رداءه ثم اضطجع ثم قال: أنا أبو الحسن
والله لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بخبر ما بعثتما به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث
520

- إلى أن قال - فأتيا رسول صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله: أنت أبر الناس وأصل الناس، وقد بلغنا
النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون،
فسكت طويلا ثم قال (إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) وفي لفظ أنه قال
(ان الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنما لا تحل لحمد ولا لآل محمد)
(فصل) ويجوز لذوي القربى الاخذ من صدقة التطوع. قال احمد في رواية ابن القاسم: إنما
لا يعطون من الصدقة المفروضة فأما التطوع فلا. وعن أحمد رواية أخرى أنهم يمنعون صدقة التطوع
أيضا لعموم قوله عليه السلام (انها لا تحل لنا الصدقة) والأول أظهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(المعروف كله صدقة) متفق عليه، وقال الله تعالى (فمن تصدق به فهو كفارة له) وقال تعالى
(فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) ولا خلاف في إباحة المعروف إلى
الهاشمي والعفو عنه وإنظاره. وقال اخوة يوسف: (وتصدق علينا) والخبر أريد به صدقة الفرض لأن
الطلب كان لها والألف والام تعود إلى المعهود (1)
وروى جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له
أتشرب من الصدقة، فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة، ويجوز أن يأخذوا من
الوصايا للفقراء ومن النذور، لأنهما تطوع فأشبه ما لو وصى لهم، وفي الكفارة وجهان (أحدهما)
يجوز لأنها ليست بزكاة، ولا هي أوساخ الناس فأشبهت صدقة التطوع (والثاني) لا يجوز
لأنها واجبة أشبهت الزكاة
(فصل) وكل من حرم صدقة الفرض من الأغنياء وقرابة المتصدق والكافر وغيرهم يجوز دفع
صدقة التطوع إليهم ولهم أخذها، قال الله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)
ولم يكن الأسير يومئذ الا كافرا (2)
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة فقلت يا رسول الله:

(1) بقي أن تعليل التحريم بأنها أوساخ الناس أظهر في صدقة التطوع لأن فيها من المنة ما ليس في الصدقة المفروضة لأنها اختيارية والسقايات
المسبلة في الطرق معنى الأوقاف العامة وهي للغني والفقير ولا منة فيها والاستعلاء كاستعلاء المتصدق على الفقير بأن يده العليا ويد الآخرة السفلى
(2) لكن الأغنياء لم يذكروا في الآية وما يعطي لهم لا يسمى صدقة لا لغة ولا عرفا
521

ان أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها، قال (نعم صلي أمك) وكسا عمر خاله حلة كان النبي صلى
الله عليه وسلم أعطاه إياها. وعن أبي مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا أنفق المسلم على أهله وهو
يحتسبها فهي له صدقة) متفق عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد (ان نفقتك على أهلك صدقة، وإن
ما تأكل امرأتك صدقه) متفق عليه
(فصل) فأما النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن الصدقة جميعا كانت محرمة عليه فرضها ونفلها لأن
اجتنابها كان من دلائل نبوته وعلاماتها فلم يكن ليخل بذلك، وفي حديث اسلام سلمان الفارسي
أن الذي أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه قال: انه يأكل الهداية ولا يأكل الصدقة
وقال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل صدقة قال لأصحابه
كلوا ولم يأكل وان قيل له هدية ضرب بيده فأكل معهم. أخرجه البخاري. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
في لحم تصدق به على بريرة (وهو عليها صدقة وهو لنا هدية) وقال عليه السلام (اني لانقلب إلى
أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) رواه
مسلم وقال (إنا لا تحل لنا الصدقة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان أشرف الخلق وكان له من المغانم خمس الخمس
والصفي فحرم نوعي الصدقة فرضها ونفلها، وسلم دونه في الشرف، ولهم خمس الخمس وحده فحرموا أحد
نوعيها وهو الفرض، وقد روي عن أحمد أن صدقة التطوع لم تكن محرمة عليه. قال الميموني سمعت
احمد يقول: الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته صدقة الفطرة وزكاة الأموال، والصدقة يصرفها
الرجل على محتاج يريد بها وجه الله تعالى، فأما غير ذلك فلا، أليس يقال كل معروف صدقة وقد
كان يهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ويستقرض فليس ذلك من جنس الصدقة على وجه الحاجة، والصحيح أن هذا
لا يدل على إباحة الصدقة له، إنما أراد أن ما ليس من صدقة الأموال على الحقيقة كالقرض والهدية
وفعل المعروف غير محرم عليه، لكن فيه دلالة على التسوية بينه وبين آله في تحريم صدقة التطوع
عليهم لقوله بأن الصدقة على المحتاج يريد بها وجه الله محرمة عليهما وهذا هو صدقة التطوع فصارت
الروايتان في تحريم صدقة التطوع على آله والله أعلم
522

(مسألة) قال (ولا لغني وهو الذي يملك خمسين دراهما أو قيمتها من الذهب)
يعني لا يعطل من سهم الفقراء والمساكين غني، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، وذلك لأن
الله تعالى جعلها للفقراء والمساكين والغنى غير داخل فيهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (اعلمهم أن
عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فنرد في فقرائهم) وقال (لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)
وقال (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
ولان أخذ الغني منها يمنع وصولها إلى أهلها، وبخل بحكمة وجوبها وهو اغناء الفقراء بها، واختلف
العلماء في الغنى المانع من أخذها. ونقل عن أحمد فيه روايتان: أظهر هما أنه ملك خمسين دراهما أو قيمتها
من الذهب أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب، أو تجارة، أو عقار، أو نحو ذلك
ولو ملك من العروض، أو الحبوب، أو السائمة، أو العقار مالا تحصل به الكفاية لم يكن عنيا،
وان ملك نصابا. هذا الظاهر من مذهبه وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك واسحق
وروي عن علي وعبد الله أنهما قالا: لا تحل الصدقة لمن له خمسون دراهما أو عدلها أو قيمتها
من الذهب وذلك لما روى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سأل وله ما يغنيه
جاءت مسألته يوم القيامة خموشا، أو خدوشا، أو كدوحا في وجهه) فقيل يا رسول الله صلى الله ما الغنى؟
قال (خمسون دراهما أو قيمتها من الذهب) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. فإن
قيل هذا يرويه حكيم بن جبير وكان شعبة لا يروي عنه وليس بقوي في الحديث، قلنا قد قال عبد الله
ابن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: وحدثناه زبيد عن
محمد بن عبد الرحمن، وقد قال علي وعبد الله مثل ذلك (والرواية الثانية) أن الغنى ما تحصل به الكناية
فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئا، وإن كان محتاجا حلت له الصدقة، وإن ملك نصابا، والأثمان وغيرها في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب، وابن شهاب العكبري وقول
مالك والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة ابن المخارق (لا تحل المسألة الا لاحد ثلاثة رجل أصابته
523

فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب
قواما من عيش أو سدادا من عيش) رواه مسلم فمدا باحة المسألة إلى وجود إصابة القوام أو السداد
ولان الحاجة هي الفقر والغنى ضدها، فمن كان محتاجا فهو فقير يدخل في عموم النص، ومن
استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة والحديث الأول فيه ضعف، ثم يجوز أن تحرم المسألة ولا يحرم
أخذ الصدقة إذا جاءته من غير مسألة، فإن المذكور فيه تحريم المسألة فنقتصر عليه. وقال الحسن
وأبو عبيد: الغنى ملك أوقية وهي أربعون دراهما لما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف) وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين
درهما. رواه أبو داود، وقال أصحاب الرأي: الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها وهو
ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان والعروض المعدة للتجارة أو السائمة أو غيرها لقول النبي
صلى الله عليه وسلم لمعاذ (اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) فجعل الأغنياء من تجب
عليهم الزكاة، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غنى، ومن لا تجب عليه ليس بغني فيكون فقيرا فتدفع
الزكاة إليه لقوله (فترد في فقرائهم) ولان الموجب للزكاة غنى والأصل عدم الاشتراك، ولان من
لا نصاب له لا تجب عليه الزكاة ولا يمنع منها كمن يملك دون الخمسين ولا له ما يكفيه فيحصل الخلاف
بيننا وبينهم في أمور ثلاثة (أحدها) أن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب عندنا، ودليل ذلك
حديث ابن مسعود وهو أخص من حديثهم فيجب تقديمه، ولان حديثهم دل على الغنى الموجب
وحديثنا دل على الغنى المانع ولا تعارض بينهما فيجب الجمع بينهما. وقولهم الأصل عدم الاشتراك،
قلنا قد قام دليلة بما ذكرناه فيجب الاخذ به (الثاني) أن من له ما يكفيه من مال غير زكائي، أو من
مكسبه، أو أجرة عقارات أو غيره، ليس له الاخذ من الزكاة، وبهذا قال الشافعي واسحق وأبو عبيدة
وابن المنذر. وقال أبو يوسف: ان دفع الزكاة إليه فهو قبيح وأرجو أن يجزئه. وقال أبو حنيفة وسائر
أصحابه: يجوز دفع الزكاة إليه لأنه ليس بغني لما ذكروه في حجتهم
524

ولنا ما روى الإمام أحمد حدثنا يحيي بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن
عدي بن الخيار عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه الصدقة فصعد
فيهما البصر فرأهما جلدين فقال (إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) قال
احمد: ما أجوده من حديث وقال هو أحسنها اسنادا وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
صحيح إلا أن احمد قال: لا أعلم فيه شيئا يصح، قيل فحديث سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال:
سالم يسمع من أبي هريرة. ولان له ما يغنيه عن الزكاة فلم يجز الدفع إليه كمالك النصاب
(الثالث) أن من ملك نصابا زكائيا لا تتم به الكفاية من غير الأثمان فله الاخذ من الزكاة. قال الميموني:
ذاكرت أبا عبد الله فقلت: قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير ويكون له أربعون شاة، وتكون
لهم الضعيفة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال نعم وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من لابل كذا وكذا،
قلت فهذا قدر من العدد أو الوقت، قال لم أسمعه. وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا كان له عقار يشغله
أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي. وقال أصحاب
الرأي: ليس له أن يأخذ منها إذا ملك نصابا زكاتيا لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجب له للخبر
ولنا أنه لا يملك ما يغنيه، ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الاخذ من الزكاة كما لو كان ما يملك
لا تجب فيه الزكاة، ولان الفقر عبارة عن الحاجة قال الله تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله)
أي المحتاجون إليه. وقال الشاعر:
فيارب اني مؤمن بك عابد * مقر بزلاتي إليك فقير
وقال آخر: * واني إلى معروفها لفقير *
وهذا محتاج فيكون فقيرا غير غني، ولأنه لو كان ما يملكه لا زكاة فيه لكان فقيرا ولا فرق في
دفع الحاجة بين المالين، وقد سمى الله تعالى الذين لهم سفينة في البحر مساكين فقال تعالى (أما
525

السفينة فكانت لمساكين يعلمون في البحر) وقد بينا بما ذكرناه من قبل أن الغنى يختلف مسماه فيقع على
ما يوجب الزكاة وعلى ما يمنع منها يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من عدمه عدمه، فمن
قال إن الغنى هو الكفاية سوى بين الأثمان وغيرها، وجوز الاخذ لكل من لا كفاية له وإن ملك
نصبا من جميع لأموال، ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها لخبر ابن مسعود،
ولان الأثمان آلة الانفاق المعدة له دون غيرها فجوز الاخذ لمن لا يملك خمسين دراهما أو قيمتها من
الذهب ولا تحصل به الكفاية من مكسب، أو أجرة، أو عقار، أو غيره، أو نماء سائمة، أغيرها
وإن كان له مال معد للانفاق من غير الأثمان فينبغي أن تعتبر الكفاية به في حول كامل لأن الحول
يتكرر وجوب الزكاة بتكرره فيأخذ منها كل حول ما يكفيه إلى مثله، ويعتبر وجود الكفاية له
ولعائلته ومن يمونه لأن كل واحد مكنهم مقصود دفع حاجته فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد، وإن
كان له خمسون درهما جاز أن يأخذ لعائلته حتى يصير لكل واحد منهم خمسون. قال احمد في
رواية أبي داود فيمن يعطي الزكاة وله عيال يعطي كل واحد من عياله خمسين خمسين وهذا لأن الدفع
إنما هو إلى العيال وهذا نائب عنهم في الاخذ
(فصل) وإن كان للمرأة الفقيرة زوج موسر ينفق عليها لم يجز الزكاة إليها لأن الكفاية حاصلة لها
بما يصلها من نفقتها الواجبة فأشبهت من له عقار يستغني بأجرته، وإن لم ينفق عليها وتعذر ذلك جاز
الدفع إليها كما لو تعطلت منفعة العقار وقد نص احمد على هذا
(مسألة) قال (ولا يعطى الا في الثمانية الأصناف التي سمى الله تعالى)
يعنى قول الله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب
والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) وقد ذكرهم الخرقي في موضع آخر فنؤخر شرحهم إليه
وقد روى زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، قال فأتاه رجل فقال:
أعطي من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يرض بحكم نبي ولاغيره في الصدقات
526

حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) رواه أبو داود
وأحكامهم كلها باقية، وبهذا قال الحسن والزهري وأبو جعفر محد بن علي، وقال الشعبي ومالك
والشافعي وأصحاب الرأي: انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعز الله تعالى
الاسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفا بحال، وقد روي هذا عن عمر
ولنا كتاب الله وسنة رسول، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم
والنبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء) وكان يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار
مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت
بالاحتمال، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص
بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ
كذلك ولا في السنة فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكيم، أو بقول صحابي أو غيره
على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك بها قياس فكيف يتركون به الكتاب والسنة. قال الزهري:
لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن
الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى اعطائهم
أعطوا، فكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن
خاصة، فإذا وجد عاد حكمه. كذا ههنا (1)
(فصل) ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايات
واصلاح الطرقات، وسد البثوق، وتكفين الموتى، والتوسعة على الضياف، وأشباه ذلك من القرب
التي لم يذكرها الله تعالى. وقال أنس والحسن: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية
والأول أصح لقوله سبحانه وتعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) وإنما للصحر والاثبات تثبت
المذكور وتنفي ما عداه، والخبر المذكور قال أبو داود: سمعت احمد وسئل يكفن الميت من الزكاة؟
قال لا، ولا يقضى من الزكاة دين الميت، وإنما لم يجز دفعها في قضاء دين الميت لأن الغارم هو الميت

(1) هذا هو الصواب على أن ما سقط في زمن الشافعي قد عاد بعده ولا سيما زماننا
527

ولا يمكن الدفع إليه، وإن دفعها إلى غريمة صار الدفع إلى الغريم لا إلى الغارم. وقال أيضا: يقضى
من الزكاة دين الحي، ولا يقضى منها دين الميت لأن الميت لا يكون غارما، قيل فإنما يعطى أهله
قال إن كانت على أهله فنعم
(فصل) وإذا أعطى من يظنه فقيرا فبان غنيا فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) يجزئه اختارها أبو بكر وهذا
قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الجلدين وقال (إن شئتما أعطيتكما منها ولاحظ
فيها لغني ولا لقوي مكتسب وقال للرجل الذي سأله الصدقة (إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) ولو
اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقولهم. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (قال رجل لاتصدقن بصدقة
فخرج بصدقته فوضعها في يد غنى فأصبحوا يتحدثون تصدق على غنى فأتى فقيل له أما صدقتك فقد قبلت لعل الغني
أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله) متفق عليه (والرواية الثانية) لا يجزئه لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج
من عهدته كما لو دفعها إلى كافر أو ذي قرابة كديون الآدميين وهذا قول الثوري والحسن والحسن بن صالح
وأبي يوسف وابن المنذر، وللشافعي قولان كالروايتين. فأما إن بان الآخذ عبدا، أو كافرا، أو
هاشميا، أو قرابة للمعطى ممن لا يجوز الدفع إليه لم يجزه رواية واحدة لأنه ليس بمستحق ولا تخفى حاله
غالبا فلم يجزه الدفع إليه كديون الآدميين، وفارق من بان غنيا بأن الفقر والغنى مما يعسر الاطلاع
عليه والمعرفة بحقيقته، قال الله تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم) فاكتفى
بظهور الفقر ودعواه بخلاف غيره
(مسألة) قال (إلا أن يتولى الرجل اخراجها بنفسه فيسقط العامل)
وجملته أن الرجل إذا تولى اخراج زكاته بنفسه سقط حق العامل منها لأنه يأخذ أجرا لعمله
فإذا لم يعمل فيها شيئا فلا حق له فيسقط وتبقى سبعة أصناف إن جميعهم أعطاهم، وإن وجد
بعضهم اكتفى بعطيته، وإن أعطى البعض مع امكان عطية الجميع جاز أيضا
528

(مسألة) قال (وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه إذا لم يخرجه إلى الغنى)
وجملته أنه يجوز أن يقتصر على صنف واحد من الأصناف الثمانية ويجوز أن يعطيها شخصا
واحدا وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وعطاء واليه
ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي
وروي عن النخعي أنه قال: إن كان المال كثيرا يحتمل الأصناف قسمه عليهم، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى،
وقال عكرمة والشافعي: يجب أن يقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجود من الأصناف الستة
الذين سهمانهم ثابته قسمة على السواء، ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم
وان وجد منهم ثلاثة أو أكثر، فإن لم يجد الا واحدا صدف حصة ذلك الصنف إليه
وروى الأثرم عن أحمد كذلك وهو اختيار أبي بكر لأن الله تعالى جعل الصدقة لجميعهم وشرك
بينهم فيها فلا يجوز الاقتصار على بعضهم كأهل الخمس
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)
فأخبر أنه مأمور يرد جملتها في الفقراء وهم صنف واحد ولم يذكر سواهم، ثم أتاه بعد ذلك مال فجعله
في صنف ثان سوى الفقراء وهم المؤلفة الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة وزيد
الخيل قسم فيهم الذهيبة التي بعث بها إليه علي من اليمن، وإنما يؤخذ من أهل اليمين الصدقة، ثم أتاه
مال آخر فجعله في صنف آخر لقوله لقبيصة بن المخارق حين تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال
(أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) وفي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه أمر له
بصدقة قومه، ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز دفعها إلى واحد، ولأنها لا يجب صرفها
إلى جميع الأصناف إذا أخذها الساعي، فلم يجب دفعها إليهم إذا فرقها المالك، كما لو لم يجد إلا
صنفا واحدا ولأنه لا يجب عليه تعميم أهل كل صنف بها فجاز الاقتصار علي واحد كما لو وصى لجماعة
لا يمكن حصرهم ويخرج على هذين المعنيين الخمس، فإنه يجب على الإمام تفريقه على جميع مستحقيه
واستيعاب جميعهم به بخلاف الزكاة والآية أريد بها بيان الأصناف الذين يجوز الدفع إليهم دون
529

غيرهم. إذا ثبت هذا فإن المستحب صرفا إلى جميع الأصناف أو إلى من أمكن منهم لأنه يخرج بذلك
عن الخلاف ويحصل الاجزاء يقينا فكان أولى
(فصل) قول الخرقي إذا لم يخرجه إلى الغنى يعني به الغنى المانع من أخذ الزكاة وقد ذكرناه
وظاهر قول الخرقي أنه لا يدفع إليه ما يحصل به الغنى والمذهب أنه يجوز أن يدفع إليه ما يغنيه من غير
زيادة نص عليه احمد في مواضع وذكره أصحابه فتعين حمل كلام الخرقي على أنه لا يدفع إليه زيادة
على ما حصل به الغنى وهذا قول الثوري ومالك والشافعي وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي: يعطى
ألفا وأكثر إذا كان محتاجا إليها ويكره أن يزاد على المئتين
ولنا أن الغنى لو كان سابقا منع فيمنع إذا قارن كالجمع بين الأختين في النكاح
(فصل) وكل صنف من الأصناف يدفع إليه ما تندفع به حاجته من غير زيادة فالغارم والمكاتب
يعطى كل واحد منهما ما يقضي به دينه وان كثر، وابن السبيل يعطى ما يبلغه إلى بلده والغازي يعطى
ما يكفيه لغزوه والعامل يعطى بقدر أجره. قال أبو داود سمعت أحمد قيل له يحتمل في السبيل بألف
من الزكاة؟ قال ما أعطي فهو جائز ولا يعطى أحد من هؤلاء زيادة على ما تندفع به الحاجة لأن الدفع لها
فلا يزاد على ما تقتضيه
(فصل) وأربعة أصناف يأخذون أخذا مستقرا ولا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء ومساكين
والعاملون والمؤلفة فمتى أخذوها ملكوها ملكا دائما مستقرا لا يجب عليهم ردها بحال، وأربعة منهم
وهم الغارمون وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل فإنهم يأخذون أخذا مراعى فإن صرفوه في الجهة
التي استحقوا الاخذ لأجلها وإلا استرجع منهم، والفرق بين هذه الأصناف والتي قبلها أن هؤلاء
أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم للزكاة والأولون حصل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء والمساكين
وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين، وان قضى هؤلاء حاجتهم بها وفضل معهم فضل ردوا الفضل إلا
الغازي فإن ما فضل له بعد غزوه فهو له، ذكره الخرقي في غير هذا الموضع. وظاهر قوله في المكاتب
انه لا يرد ما فضل في يده لأنه قال: وإذا أعجز المكاتب ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشئ فهو
530

لسيده. ونص عليه أحمد أيضا في رواية المروذي والكوسج. ونقل عنه حنبل إذا عجز يرد ما في يديه
في المكاتبين، وقال أبو بكر عبد العزيز: إن كان باقيا بعينه استرجع منه لأنه إنما دفع إليه ليعتق به
ولم يقع. وقال القاضي: كلام الخرقي محمول على أن الذي بقي في يده لم يكن عين الزكاة وإنما تصرف
فيها وحصل عوضها وفائدتها ولو تلف المال الذي في يد هؤلاء بغير تفريط لم يرجع عليهم بشئ
(مسألة) قال (ولا يجوز نقل الصدقة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة)
المذهب على أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلدها إلى مسافة القصر. قال أبو داود: سمعت أحمد
سئل عن الزكاة يبعث بها من بلد إلى بلد؟ قال لا. قيل وإن كان قرابته بها؟ قال لا. واستحب
أكثر أهل العلم أن تنفل من بلدها. وقال سعيد حدثنا سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال
في كتاب معاذ بن جبل: من أخرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره ترد إلى مخلافه. وروي
عن عمر بن عبد العزيز انه رد زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام إلى خراسان، وروي عن الحسن
والنخعي أنهما كرها نقل الزكاة من بلد إلى بلد إلا لذي قرابة، وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (أخبرهم ان عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)
وهذا يختص بفقراء بلدهم، ولما بعث معاذ الصدقة من اليمن إلى عمر أنكر عليه ذلك عمر وقال لم أبعثك
جابيا ولا آخذ جزية ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم فقال معاذ: انا ما بعثت
إليك بشئ وأنا أجد أحدا يأخذ منى، رواه أبو عبيد في الأموال، وروي أيضا عن إبراهيم بن عطاء مولى
عمران بن حصين ان زيادا أو بعض الامراء بعث عمران على الصدقة فلما رجع قال: أين المال؟ قال: أللمال بعثتني؟
أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث كنا نضعها عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم. ولان المقصود اغناء الفقراء بها فإذا أبحنا نقلها أفضى إلى بقاء فقرا ذلك البلد محتاجين.
(فصل) فإن خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر العلم. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد
يقتضي ذلك ولم أجد عنه نصا في هذا المسألة، وذكر أبو الخطاب فيها روايتين (إحداهما) يجزيه،
واختارها لأنه دفع الحق إلى مستحقه فبرئ منه كالدين وكما لو فرقها في بلدها (والأخرى) لا تجزئه
اختارها ابن حامد لأنه دفع الزكاة إلى غير من أمر بدفعها إليه أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف
(فصل) فإن استغنى عنها فقراء أهل بلدها جاز نقلها. نص عليه أحمد فقال: قد تحمل الصدقة
531

إلى الإمام إذا لم يكن فقراء أو كان فيها فضل عن حاجتهم، وقال أيضا: لا تخرج صدقة قوم عنهم من
بلد إلى بلد الا أن يكون فيها فضل عنهم، لأن الذي كان يجئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر من الصدقة
إنما كان عن فضل عنهم يعطون ما يكفيهم ويخرج الفضل عنهم. وروى أبو عبيد في كتاب الأموال
باسناده عن عمرو بن شعيب ان معاذ بن جبل لم يزل بالجند إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات النبي
صلى الله عليه وسلم ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال:
لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية لكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم، فقال
معاذ: ما بعثت إليك بشئ وأنا أجدا أحدا يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة
فتراجعا بمثل ذلك فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها فراجعه عمر بمثل ما راجعه فقال معاذ: ما وجدت
أحدا يأخذ مني شيئا، وكذا إذا كان ببادية ولم يجد من يدفعها إليه فرقها على فقراء أقرب البلاد إليه
(فصل) قال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إذا كان الرجل في بلد وماله في بلد فأحب إلي أن
تؤدى حيث كان المال، فإن كان بعضه حيث هو وبعضه في مصر يؤدي زكاة كل مال حيث هو فإن
كان غالبا عن مصره وأهله والمال معه فأسهل أن يعطي بعضه في هذا البلد وبعضه في البلد الآخر،
فاما إذا كان المال في البلد الذي هو فيه حتى يمكث فيه حولا تاما فلا يبعث بزكاته إلى بلد آخر، فإن كان
المال تجارة يسافر به فقال القاضي: يفرق زكاته حيث حال حوله في أي موضع كان، ومفهوم كلام
أحمد في اعتباره الحول التام انه يسهل في أن يفرقها في ذلك البلد وغيره من البلد ان التي أقام بها في
ذلك الحول، وقال في الرجل يغيب عن أهله الزكاة يزكيه في الموضع الذي كثر مقامه فيه
فأما زكاة الفطر فإنه يفرقها في البلد الذي وجبت عليه فيه سواء كان ماله أو لم يكن لأنه سبب
وجوب الزكاة ففرقت في البلد الذي سببها فيه
(فصل) والمستحب تفرقة الصدقة في بلدها ثم الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان. قال احمد
في رواية صالح: لا بأس أن يعطي زكاته في القرى التي حوله ما لم نقصر الصلاة في أثنائها ويبدأ
بالأقرب فالأقرب، وإن نقلها إلى البعيد لتحري قرابة أو من كان أشد حاجة فلا بأس
ما لم يجاوز مسافة القصر.
532

(فصل) وإذا أخذ الساعي الصدقة فاحتاج إلى بيعها لمصلحة من كلفة في نقلها أو مرضها أو نحوهما فله
ذلك لما روى قيس بن أبي حازم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فسأل عنها فقال
المصدق: إني ارتجعتها بابل فسكت. رواه أبو عبيد في الأموال وقال الرجعة أن يبيعها ويشترى بثمنها
مثلها أو غيرها، فإن لم يكن حاجة إلى بيعها فقال القاضي لا يجوز والبيع باطل وعليه الضمان، ويحتمل
الجواز لحديث قيس فإن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حين أخبره المصدق بارتجاعها ولم يستفصل
(مسألة) قال (وإن باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها إذا تم حول من
وقت ملكه الأول)
وجملته أنه إذا باع نصابا للزكاة مما يعتبر فيه الحول بجنسه كالإبل بالإبل، أو البقر بالقبر، أو
الغنم بالغنم، أو الذهب بالذهب، أو الفظة بالفضة، لم ينقع الحول وبني حول الثاني على حول
الأول، وبهذا قال مالك والشافعي: لا ينبنى حول نصاب على حول غيره بحال لقوله: (لا زكاة
في مال حتى يحول عليه الحول) ولأنه أصل بنفسه فلم ينبن علي حول غيره كما لو اختلف الجنسان
ووافقنا أبو حنيفة في الأثمان، ووافق الشافعي فيما سواها لأن الزكاة إنما وجبت في الأثمان لكونها
ثمنا وهذا المعنى يشملها بخلاف غيرها
ولنا أنه نصاب يضم إليه نماؤه في الحول فبني حول بدله من جنسه على حوله كالعروض والحديث
مخصوص بالنماء والربح والعروض فنقيس عليه محل النزاع والجنسان لا يضم أحدهما إلى الآخر مع
وجودهما فأولى أن لا يبنى حول أحدهما على الآخر
(فصل) قال أحمد بن سعيد: سألت احمد عن الرجل يكون عنده غنم سائمة فيبيعها بضعفها
من الغنم أيزكيها كلها أم يعطي زكاة الأصل؟ قال: بل يزكيها كلها على حديث عمر في السخلة يروح
بها الراعي لأن نماءها معها، قلت فإن كانت للتجارة قال: يزكيها كلها على حديث حماس، فأما ان باع
النصاب بدون النصاب انقطع الحول، وإن كان عنده مئتان فباعهما فعليه زكاة مائة وحدها
533

(مسألة) قال (وكذلك إن أبدل عشرين دينارا بمائتي درهم أو مئتي درهم بعشرين
دينارا لم تبطل الزكاة بانتقالها)
وجملة ذلك أنه متى أبدل نصابا من غير جنسه انقطع حول الزكاة واستأنف حولا الا الذهب
بالفضة أو عروض التجارة لكون الذهب والفضة كالمال الواحد إذ هما أروش الجنايات وقيم المتلفات
ويضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة، وكذلك إذا اشترى عرضا للتجارة بنصاب من الأثمان أو باع عرضا بنصاب لم ينقطع الحول لأن الزكاة تجب في قيمة العروض لا في نفسها والقيمة هي الأثمان فكانا
جنسا واحدا، وإذا قلنا إن لذهب والفضة لا يضم أحدهما إلى صاحبه لم بين حول أحدهما على حول
الآخر لأنهما مالان لا يضم أحدهما إلى الاخر فلم بين حوله على حوله كالجنسين من الماشية، وأما
عروض التجارة فإن حولها يبنى على حول الأثمان بكل حال
(مسألة) قال (ومن كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم فرارا من
الزكاة لم تسقط الزكاة عنه)
قد ذكرنا أن ابدال النصاب بغير جنسه يقطع الحول ويستأنف حولا آخر، فإن فعل هذا فرارا
من الزكاة لم تسقط عنه سواء كان المبدل ماشية أو غيرها من النصب، وكذا لو أتلف جزءا من
النصاب قصدا للتنقيص لتسقط عنه الزكاة لم تسقط وتؤخذ الزكاة منه في آخر الحول إذا كان ابداله
واتلافه عند قرب الوجوب، ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة لأن ذلك ليس بمظنة للفرار
وبما ذكرناه قال مالك والأوزاعي وابن الماجشون واسحق وأبو عبيد، وقال أبو حنيفة والشافعي:
تسقط عنه الزكاة لأنه نقص قبل تمام حوله فلم تجب فيه الزكاة كما لو أتلف لحاجته
ولنا قول الله تعالى (انا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا
534

يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم) فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرار هم
من الصدقة، ولأنه قصد اسقاط نصيب من أنعقد سبب استحقاقه فلم يسقط كما لو طلق امرأته في مرض موته، ولأنه لما قصد قصدا فاسدا اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل مورثه لاستعجال
ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان، وإذا أتلفه لحاجته لم يقصدا فاسدا
(فصل) وإذا حال الحول أخرج الزكاة من جنس المال المبيع دون الموجود لأنه الذي وجبت
الزكاة بسببه ولولاه لم تجب في هذا زكاة
(فصل) فإن لم يقصد بالبيع ولا بالتنقيص الفرار انقطع الحول واستأنف بما استبدل به حولا
إن كان محلا للزكاة، فإن وجد بالثاني عيبا فرده أو باعه بشرط الخيار، ثم استرده استأنف أيضا حولا
لزوال ملكه بالبيع قل الزمان أو كثر، وقد ذكرا الخرقي هذا في موضع آخر فقال والماشية إذا بيعت
بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولا سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري لأنه
تجديد ملك، وإن حال الحول على النصاب الذي اشتراه وجبت فيه الزكاة فإن وجد به عيبا قبل
اخراج زكاته فله الرد سواء قلنا الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة لما بينا من أن الزكاة لا تجب في العين
بمعنى استحقاق الفقراء جزاء منه، بل بمعنى تعلق حق به كتعلق الأرش بالجاني فيرد النصاب وعليه
اخراج زكاته من مال آخر، فإن أخرج الزكاة منه ثم أراد رده انبنى على المعين إذا حدث به عيب
آخر عند المشتري هل له رده؟ على روايتين: وانبنى أيضا على تفريق الصفقة، فإن قلنا يجوز جاز
الرد ههنا وإلا لم يجز، ومتى رده فعليه عوض الشاة المخرجة تحسب عليه بالحصة من الثمن والقول
قوله في قيمتها مع يمينه إذا لم تكن بينه إذا لم تكن بينة لأنها تلفت في يده فهو أعرف بقيمتها، ولان القيمة مدعاة
عليه فهو غارم والقول في الأصول قول الغارم، وفيه وجه آخر أن القول قول البائع لأنه يغرم
535

الثمن فيرده والأول أصح لأن الغارم لثمن الشاة المدعاة هو المشتري، فإن أخرج الزكاة من غير
النصاب فله الرد وجها واحدا
(فصل) فإن البيع فاسدا لم ينقطع حول الزكاة في النصاب وبنى على حوله الأول لأن الملك
ما انتقل فيه إلا أن يتعذر رده فيصير كالمغصوب على ما مضى
(فصل) ويجوز التصرف في النصاب الذي وجبت الزكاة فيه بالبيع والهبة وأنواع التصرفات
وليس للساعي فسخ البيع. وقال أبو حنيفة: تصح إلا أنه إذا امتنع من أداء الزكاة نقض البيع في
فدرها. وقال الشافعي: في صحة البيع قولان (أحدهما) لا يصح لأننا إن قلنا إن الزكاة تتعلق بالعين
فقد باع مالا يملكه، وإن قلنا تتعلق بالذمة الزكاة مرتهن بها، وبيع الرهن غير جائز
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمار حتى يبدو صلاحها. متفق عليه، ومفهومه صحة بيعها
إذا بدا صلاحها وهو عام فيها وجبت فيه الزكاة وغيره، ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وبيع العنب
حتى يسود، وهما مما تجب الزكاة فيه، ولان الزكاة وجبت في الذمة والمال خال عنها فصح بيعه كما لو باع
ماله وعليه دين آدمي أو زكاة فطر، وإن تعلقت بالعين فهو تعلق لا يمنع التصرف في جزء من النصاب
فلم يمنع بيع جميعة كأرش الجناية، وقولهم: باع مالا يملكه لا يصح فإن الملك لم يثبت للفقراء في النصاب
بدليل أن له أداء الزكاة من غيره، ولا يتمكن الفقراء من الزامه أداء الزكاة منه وليس برهن، فإن
أحكام الرهن غير ثابتة فيه، فإذا تصرف في النصاب أخرج الزكاة من غيره وإلا كلف اخراجها
وإن لم يكن له كلف تحصيلها، فإن عجز بقيت الزكاة في ذمته كسائر الديون ولا يؤخذ من النصاب،
ويحتمل أن يفسخ البيع في قدر الزكاة وتؤخذ منه ويرجع البائع عليه بقدرها لأن على الفقراء ضررا
في اتمام البيع وتفويتا لحقوقهم فوجب فسخه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وهذا أصح
536

(مسألة) قال (والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول وان تلف المال فرط أو لم يفرط)
هذه المسألة تشتمل على أحكام ثلاثة (أحدها) أن الزكاة تجب في الذمة وهو إحدى الروايتين
عن أحمد، وأحد قولي الشافعي لأن اخراجها من غير النصاب جائز فلم تكن واجبة فيه كزكاة الفطر
ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف المالك فيه ولتمكن المستحقون من الزامه أداء الزكاة من عينه أو
ظهر شئ من أحكام ثبوته فيها ولسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط أرش الجناية بتلف
الجاني (والثانية) أنها تجب في العين: وهذا القول الثاني للشافعي، وهذه الرواية هي الظاهرة عند
بعض أصحابنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (في أربعين شاة شاة) وقوله (فيما سقت السماء العشر وفيما سقى
بدالية أو نضح نصف العشر) وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف في وهي للظرفية، وإنما جاز
الاخراج من غير النصاب رخصة، وفائدة الخلاف أنها إذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم
يؤد زكاتها وجب عليه أداؤها لما مضى ولا تقص عنه الزكاة في الحول الثاني وكذلك إن كان أكثر
من نصاب لم تنقص الزكاة وان مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة
أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه، وان كانت مائة دينار فعليه سبعة دنانير ونصف لأن
الزكاة وجبت في ذمته يؤثر في تنقيص النصاب، لكن ان لم يكن له مال آخر يؤدى الزكاة منه
احتمل أن تسقط الزكاة في قدرها لأن الدين يمنع وجوب الزكاة
وقال ابن عقيل: لا تسقط الزكاة بهذا بحال لأن الشئ لا يسقط نفسه وقد يسقط غيره بدليل
أن تغير الماء بالنجاسة في محلها لا يمنع صحة طهارتها وازالتها به، ويمنع إزالة نجاسة غيرها والأول أولى
لأن الزكاة الثانية غير الأولى، وان قلنا الزكاة تتعلق بالعين وكان النصاب مما تجب الزكاة في عينه
فحالت عليه أحوال لم تؤد زكاتها تعلقت الزكاة في الحول الأول من النصاب بقدرها، فإن كان نصابا
لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأول لأن النصاب نقص فيه، وإن كان أكثر من نصاب
537

عزل قدر فرض الحول الأول وعليه زكاة ما بقي وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية جماعة وقال
في رواية محمد بن الحكم إذا كانت الغنم أربعين فلم يأته المصدق عامين، فإذا أخذ المصدق شاة فليس
عليه شئ في الباقي وفيه خلاف. وقال في رواية صالح: إذا كان عند الرجل مائتا درهم فلم يزكها حتى
حال عليها حول آخر يزكيها للعام الأول لأن هذه تصير مائتين غير خمسة دراهم. وقال في رجل له
ألف درهم فلم يزكها سنين يزكي في أول سنة خمسة وعشرين، ثم في كل سنة بحساب ما بقي، وهذا
قول مالك والشافعي وأبي عبيد، فإن كان أربعون من الغنم نتجت سخلة في كل حول وجب
عليه في كل سنة شاة لأن النصاب كمل بالسخلة الحادثة، فإن كان نتاج السخلة بعد وجوب الزكاة
عليه بمدة استؤنف الحول الثاني من حين نتجت لأنه حينئذ كمل
(فصل) فإن ملك خمسا من الإبل فلم يؤد زكاتها أحوالا فعليه في كل سنة شاة نص عليه في
رواية الأثرم. قال في رواية الأثرم: المال غير الإبل إذا أدي من الإبل لم ينقص والخمس بحالها،
وكذلك ما دون خمس وعشرين من الإبل لا تنقص زكاتها فيما بعد الحول الأول لأن الفرض يجب
من غيرهم فلا يمكن تعلقه بالعين، للشافعي قولان (أحدهما) أن زكاتها تنقص كسائر الأموال،
فإذا كان عنده خمس من الإبل فمضى عليها أحوال لم تجب عليه فيها إلا شاة واحدة لأنها نقصت بوجوب
الزكاة فيها في الحول الأول عن خمس كاملة فلم يجب عليه فيها شئ كما لو ملك أربعا وجزء ا من بعير
ولنا أن الواجب من غير النصاب فلم ينقص به النصاب كما لو أداه وفارق سائر الأموال، فإن
الزكاة يتعلق وجوبها يعينه فينقصه كما لو أداه من النصاب، فعلى هذا لو ملك خمسا وعشرين فحالت
عليه أحوال فعليه في الحول الأول بنت مخاض وعليه لكل حول بعده أربع شياه، وان بلغت قيمة
الشاة الواجبة أكثر من خمس من الإبل. فإن قيل فإذا لم يكن في خمس وعشرين بنت مخاض فالواجب
538

فيها من غير عينها فيجب أن لا تنقص زكاتها أيضا في الأحوال كلها، قلنا إذا أدى عن خمس وعشرين
أكبر من بنت مخاض جاز فقد أمكن تعلق الزكاة بعينها لامكان الأداء بخلاف عشرين من
الإبل فإنه لا يقبل منه واحدة منها فافترقا
(فصل) الحكم الثاني أن الزكاة تجب بحلول الحول سواء تمكن من الأداء أو لم يتمكن وبهذا قال
أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر التمكن من الأداء شرط فيشترط للوجوب ثلاثة أشياء
الحول والنصاب والتمكن من الأداء، وهذا قول مالك حتى لو أتلف الماشية بعد الحول قبل إمكان الأداء
لا زكاة عليه إذا لم يقصد الفرار من الزكاة لأنها عبادة فيشترط لوجوبها امكان أدائها كسائر العبادات
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) فمفهومه وجوبها عليه إذا
حال الحول ولأنه لو لم يتمكن من الأداء حتى حال عليه حولان وجبت عليه زكاة الحولين ولا يجوز وجوب
فرضين في نصاب واحد في حال واحد، وقياسهم ينقلب عليهم فإننا نقول هذه عبادة فلا يشترط لوجوبها
امكان أدائها كسائر العبادات فإن الصوم يجب على الحائض والمريض العاجز عن أدائه والصلاة تجب
على المغمى عليه والنائم ومن أدرك من أول الوقت جزءا ثم جن أو حاضت المرأة والحج يجب على من
أيسر في وقت لا يتمكن من الحج فيه أو منعه من المضي مانع ثم الفرق بينهما أن تلك عبادات بدنية
يكلف فعلها ببدنه فأسقطها تعذر فعلها، وهذه عبادة مالية يمكن ثبوت الشركة للمساكين في ماله
والوجوب في ذمته مع عجزه عن الأداء كثبوت الديون في ذمته المفلس وتعلقها بماله بجنايته
(فصل) الثالث أن الزكاة لا تسقط بتلف المال فرط أو لم يفرط هذا المشهور عن أحمد وحكى عنه
الميموني انه ان تلف النصاب قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة عنه وان تلف بعده لم تسقط وحكاه
ابن المنذر مذهبا لأحمد وهو قول الشافعي والحسن بن صالح وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر وبه قال
مالك إلا في الماشية فإنه قال لا شئ فيها حتى يجئ المصدق فإن هلكت قبل مجيئه فلا شئ عليه
539

وقال أبو حنيفة تسقط الزكاة بتلف النصاب على كل حال الا أن يكون الإمام قد طالبه بها فمنعها لأنه
تلف قبل محل الاستحقاق فسقطت الزكاة كما لو تلفت الثمرة قبل الجذاذ ولأنه حق يتعلق بالعين فسقط
بتلفها كأرش الجناية في العبد الجاني، ومن اشترط التمكن قال هذه عبادة يتعلق وجوبها بالمال فيسقط فرضها
بتلفه قبل إمكان أدائها كالحج، ومن نصر الأول قال مال وجب في الذمة فلم يسقط بتلف النصاب كالدين
أو لم يشترط في ضمانه امكان الأداء كثمن المبيع والثمرة لا تجب زكاتها في الذمة حتى تحرز لأنها
في حكم غير المقبوض ولهذا لو تلفت بجائحة كانت في ضمان البائع على ما دل عليه الخبر وإذا قلنا
بوجوب الزكاة في العين فليس هو بمعنى استحقاق جزء منه ولهذا لا يمنع التصرف فيه، والحج لا يجب
حتى يتمكن من الأداء فإذا وجب لم يسقط بتلف المال بخلاف الزكاة فإن التمكن ليس بشرط لوجوبها
على ما قدمناه والصحيح إن شاء الله أن الزكاة تسقط بتلف المال إذا لم يفرط في الأداء لأنها تجب
على سبيل المواساة فلا تجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال وفقر من تجب عليه ومعنى التفريط
أن يتمكن من اخراجها، فلا يخرجها وان لم يتمكن من اخراجها فليس بمفرط سواء كان ذلك لعدم
المستحق أو لبعد المال عنه أو لكون الفرض لا يوجد في المال ويحتاج إلى شرائه فلم يجد ما يشتريه
أو كان في طلب الشراء أو نحو ذلك وان قلنا بوجوبها بعد تلف المال فأمكن المالك أداؤها أداها وإلا
أنظر بها إلى ميسرته وتمكنه من أدائها من غير مضرة عليه لأنه إذا لزم انظاره بدين الآدمي المتعين
فبالزكاة التي هي حق الله تعالى أولى
(فصل) ولا تسقط الزكاة بموت رب المال وتخرج من ماله وان لم يوص بها هذا قول عطاء
والحسن والزهري وقتادة ومالك والشافعي وإسحق وأبي ثور وابن المنذر، وقال الأوزاعي
والليث تؤخذ من الثلث مقدمة على الوصايا ولا يجاوز الثلث وقال ابن سيرين والشعبي والنخعي وحماد
540

ابن سليمان وداود بن أبي هند وحميد الطويل والمثنى والثوري لا تخرج الا أن يكون أوصى بها وكذلك
قال أصحاب الرأي وجعلوها إذا أوصى بها وصية تخرج من الثلث ويزاحم بها أصحاب الوصايا وإذا لم يوص
بها سقطت لأنها عبادة من شرطها النية فسقطت بموت من هي عليه كالصوم
ولنا انها حق واجب تصح الوصية به فلم تسقط بالموت كدين الآدمي ولأنها حق مالي واجب
فلم يسقط بموت من هو عليه كالدين ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية
بهما ولا النيابة فيهما اه‍
(فصل) وتجب الزكاة على الفور يجوز تأخير إخراجها مع القدرة عليه والتمكن منه إذا لم
يخش ضررا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له التأخير ما لم يطالب لأن الامر بأدائها مطلق فلا
يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره كما لا يتعين لذلك مكان دون مكان
ولنا أن الامر المطلق يقتضي الفور على ما يذكر في موضعه ولذلك يستحق المؤخر للامتثال العقاب
ولذلك أخرج الله تعالى إبليس وسخط عليه ووبخه بامتناعه عن السجود ولو أن رجلا أمر عبده
أن يسقيه فأخر ذلك استحق العقوبة، ولأن جواز التأخير ينافي الوجوب لكون الواجب ما يعاقب
على تركه ولو جاز التأخير لجاز إلى غير غاية فتنبغي العقوبة بالترك ولو سلمنا أن مطلق الامر لا يقتضي
الفور لاقتضاه في مسئلتنا إذ لو جاز التأخير هاهنا لاخره بمقتضي طبعه ثقة منه بأنه لا يأثم بالتأخير
فيسقط عنه بالموت أو بتلف ماله أو بعجزه عن الأداء فتضرر الفقراء ولان هاهنا قرينة تقتضي
الفور وهو أن الزكاة وجبت لحاجة الفقراء وهي ناجزة فيجب أن يكون الوجوب ناجزا ولأنها عبادة
تتكرر فلم يجز تأخيرها إلى وقت وجوب مثلها كالصلاة والصوم قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل
عن الرجل يحول الحول على ماله فيؤخر عن وقت الزكاة فقال لا ولم يؤخر اخراجها؟ وشدد في ذلك
قيل فابتدأ في اخراجها فجعل يخرج أو لا فأولا، فقال لابل يخرجها كلها إذا حال الحول. فأما إذا كانت عليه مضرة
541

في تعجيل الاخراج مثل من يحول حوله قبل مجئ الساعي ويخشى إن أخرجها بنفسه أخذها
الساعي منه مرة أخرى فله تأخيرها نص عليه أحمد وكذلك إن خشي في إخراجها ضررا في نفسه
أو مال له سواها فله تأخيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) ولأنه إذا جاز تأخير قضاء
دين الآدمي لذلك فتأخير الزكاة أولى
(فصل) فإن أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها من ذي قرابة أو ذي حاجة شديدة فإن
كان شيئا يسيرا فلا بأس وإن كان كثيرا لم يجز قال أحمد لا يجزي على أقاربه من الزكاة في كل شهر
يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئا فأما إن عجلها فدفعها إليهم أو إلى
غيرهم متفرقة أو مجموعة جاز لأنه لم يؤخرها عن وقتها وكذلك أن كان عنده مالان أو أموال زكاتها
واحدة وتختلف أحوالها مثل أن يكون عنده نصاب وقد استفاد في أثناء الحول من جنسه دون
النصاب لم يجز تأخير الزكاة ليجمعها كلها لأنه يمكنه جمعها بتعجيلها في أول واجب منها
(فصل) فإن أخر الزكاة فلم يدفعها إلى الفقير حتى ضاعت لم تسقط عنه كذلك قال الزهري
والحكم وحماد والثوري وأبو عبيد وبه قال الشافعي إلا أنه قال إن لم يكن فرط في إخراج الزكاة وفي
حفظ ذلك المخرج رجع إلى ماله فإن كان فيما بقي زكاة أخرجها وإلا فلا وقال أصحاب الرأي يزكي
542

ما بقي الا أن ينقص عن النصاب فتسقط الزكاة فرط أو لم يفرط وقال مالك أراها تجزئه إذا أخرجها
في محلها، وان أخرجها بعد ذلك ضمنها وقال مالك يزكي ما بقي بقسطه وان بقي عشرة دراهم
ولنا أنه حق متعين على رب المال تلف قبل وصوله إلى مستحقه فلم يبرأ منه بذلك كدين الآدمي
قال أحمد: ولو دفع إلى أحد زكاته خمسة دراهم فقيل أن يقبضها منه قال اشتري لي بها ثوبا أو طعاما
فذهبت الدراهم أو اشترى بها ما قال فضاع منه فعليه أن يعطي مكانها لأنه لم يقبضها منه ولو
قبضها منه ثم ردها إليه وقال اشتر لي لها فضاعت أوضاع ما اشترى بها فلا ضمان عليه إذا لم يكن فرط وإنما
قال ذلك لأن الزكاة لا يملكها الفقير الا بقبضها فإذا وكله في الشراء بها كان التوكيل فاسدا لأنه
وكله في الشراء بما ليس له وبقيت على ملك رب المال فإذا تلفت كانت في ضمانه
(فصل) ولو عزل قدر الزكاة فنوى انه زكاة فتلف فهو في ضمان رب المال ولا تسقط الزكاة
عنه بذلك سواء قدر على أن يدفعها إليه أو لم يقدر والحكم فيه كالمسألة التي قبلها اه‍
543

(مسألة) قال (ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها إذا لم يكن له ما يؤدي
عنها والباقي رهن)
وجملة ذلك أنه إذا رهن ماشية فحال الحول وهي في يد المرتهن وجبت زكاتها على الراهن لأن
ملكه فيها تام فإن أمكنه أداؤها من غيرها وجبت لأن الزكاة من مؤنة الرهن ومؤنة الرهن تلزم الراهن
كنفقة النصاب ولا يخرجها من النصاب لأن حق المرتهن متعلق به تعلقا يمنع تصرف الراهن فيه
والزكاة لا يتعين اخراجها منه فلم يملك اخراجها منه كزكاة مال سواه وان لم يكن له ما يؤدي منه سوى
هذا الرهن فلا يخلو من أن يكون له مال يمكن قضاء الدين منه ويبقى بعد قضائه نصاب كامل مثل أن
تكون الماشية زائدة على النصاب قدرا يمكن قضاء الدين منه ويبقى النصاب فإنه يخرج الزكاة من الماشية
ويقدم حق الزكاة على حق المرتهن لأن المرتهن يرجع إلى بدل وهو استيفاء الدين وحقوق الفقراء في الزكاة
لا بدل لها وان لم يكن له مال يقضي به الدين ويبقى بعد قضائه نصاب ففيه روايتان إحداهما تجب
الزكاة أيضا ولا يمنع وجوب الدين الزكاة في الأموال الظاهرة وهي المواشي والحبوب قاله في رواية
544

الأثرم قال لأن المصدق لو جاء فوجد إبلا وغنما لم يسأل صاحبها أي شئ عليك من الدين ولكنه
يزكيها والمال ليس كذلك وهذا ظاهر كلام الخرقي هاهنا لأن كلامه عام في كل ماشية وذلك لأن
وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها لرؤيتهم إياها ولان
الحاجة إلى حفظها أشد ولان الساعي يتولى أخذ الزكاة منها ولا يسأل عن دين صاحبها والرواية
الثانية لا تجب الزكاة فيها ويمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال كلها من الظاهرة والباطنة قال ابن
أبي موسى الصحيح من مذهبه أن الدين يمنع وجوب الزكاة على كل حال وهو مذهب أبي حنيفة وروي
ذلك عن ابن عباس ومكحول والثوري وحكى ذلك ابن المنذر عنهم في الزرع إذا استدان عليه
صاحبه لأنه أحد نوعي الزكاة فيمنع الدين وجوبها كالنوع الآخر ولان المدين محتاج والصدقة إنما
تجب على الأغنياء لقوله عليه السلام (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم فأردها في فقرائهم) وقوله
عليه السلام (لا صدقة الا عن ظهر غنى) وروي أبو عبيد في كتاب الأموال عن السائب بن يزيد قال
545

سمعت عثمان بن عفان يقول هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم
ومن لم يكن عنده زكاة لم يطب منه حتى يأتي تطوعا قال إبراهيم النخعي أراه يعني شهر رمضان
(فصل) ولو أسلم في دار الحرب وأقام بها سنين لم يؤد زكاة أو غلب الخوارج على بلده
فأقام أهله سنين لا يؤدون الزكاة ثم غلب عليهم الإمام أدوا الماضي وهذا مذهب مالك والشافعي
وقال أصحاب الرأي لا زكاة عليهم لما مضى في المسئلين
ولنا أن الزكاة من أركان الاسلام فلم تسقط عمن هو في غير قبضة الإمام كالصلاة والصيام (1)
(فصل) إذا تولى الرجل اخراج زكاته فالمستحب أن يبدأ بأقاربه الذين يجوز دفع الزكاة
إليهم فإن زينب سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيجزي عني من الصدقة النفقة على زوجي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة رواه البخاري وابن ماجة وفي لفظ يسعني أن أضع صدقتي في
زوجي وبني أخي لي أيتام؟ فقال (نعم لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة) رواه النسائي ولما تصدق
أبو طلحة بحائطه قال النبي صلى الله عليه وسلم (اجعله في قرابتك) رواه أبو داود. ويستحب أن يبدأ بالأقرب

(1) لكنهم يفرقون بين الزكاة وبينها بأنهما عبادتان شخصيتان قاصرتان والزكاة عبادة تتعلق بمرافق الأمة الاجتماعية العامة التي يكفلها الإمام الأعظم وينفق منها في المصالح العامة كالجهاد وتأليف القلوب والغرامات
546

فالأقرب إلا أن يكون منهم من هو أشد حاجة فيقدمه ولو كان غير القرابة أحوج أعطاه. قال احمد
إن كانت القرابة محتاجة أعطاها، وإن كان غيرهم أحوج أعطاهم ويعطي الجيران، وقال إن كان قد
عود قوما برا فيجعله في ماله ولا يجعله من الزكاة، ولا يعطي الزكاة من يمون ولا من تجري عليه نفقته
وإن أعطاهم لم يجز، وهذا والله أعلم إذا عودهم برا من غير الزكاة، وإذا أعطى من تجري عليه نفقته
شيئا يصرفه في نفقته، فأما إن عودهم دفع زكاته إليهم، أو أعطى من تجري عليه نفقته تطوعا شيئا
من الزكاة يصرفه في غير النفقة وحوائجه فلا بأس. وقال أبو داود: قلت لأحمد يعطي أخاه وأخته
من الزكاة قال نعم، إذا لم يبق به ماله، أو يدفع به مذمة. قيل لأحمد: فإذا استوى فقراء قراباتي
والمساكين قال فهم كذلك أولى، فأما إن كان غيرهم أحوج فإنما يريد يغنيهم ويدع غيرهم فلا. قيل له
فيعطى امرأة ابنه من الزكاة. قال إن كان لا يريد به كذا (شيئا ذكره) فلا بأس به كأنه أراد منفعة
ابنه. قال احمد: كان العلماء يقولون في الزكاة لا ندفع بها مذمة، ولا يحابى بها قريب، ولا يقي بها
547

مالا. وسئل احمد عن رجل له قرابة يجري عليها من الزكاة. قال: إن كان عدها من عياله فلا يعطيها
قيل له إنما يجري عليها شيئا معلوما في كل شهر، قال إذا كفاها ذلك
وفي الجملة من لا يجب عليه الانفاق عليه، فله دفع الزكاة إليه ويقدم الأحوج فالأحوج، فإن شاؤوا
قدم من هو أقرب إليه، ثم من كان أقرب في الجوار وأكثر دينا وكيف فرقها بعد ما يضعها في الأصناف
الذين سماهم الله تعالى جاز والله أعلم
باب زكاة الزروع والثمار
والأصل فيها الكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات
ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من من الأرض) والزكاة تسمى نفقة بدليل قوله تعالى (والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) وقال الله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) قال ابن عباس
حقه الزكاة المفروضة. وقال مرة: العشر ونصف العشر. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما
دون خمسة أوسق صدقة) متفق عليه وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فيما سقت السماء والعيون
وكان عثريا (1) العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي
وعن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية
نصف العشر) أخرجه مسلم وأبو داود. وأجمع أهل العلم على أن الصدقة واجبة في الحنطة والشعير
والتمر والزبيب. قاله ابن المنذر وابن عبد البر

(1) العثري بفتح العين المهملة والثاء المثلثة ما يسقيه المطر أو السيح
548

(مسألة) قال أبو القاسم (وكل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما ييبس ويبقى
مما يكال ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا ففيه العشر إن كان سقيه من السماء والسوح، وإن كان
يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر)
هذه المسألة تشتمل على أحكام: منها أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف الكيل والبقاء واليبس
من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت
والأرز والذرة والدخن، أو من القطنيات كالباقلى (1) والعدس والماش والحمص، أو من الابازير كالكسفرة
والكمون والكراويا، أو البزور كبزر الكتان والقثاء والخيار، أو حب البقول كالرشاد، وحب الفجل
والقرطم والترمس والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار كالتمر
والزبيب والمشمش واللوز والفستق والبندق. ولا زكاة في سائر الفواكه كالخوخ والإجاص والكمثرى
والتفاح والمشمش والتين والجوز، ولا في الخضر كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر، وبهذا
قال عطاء في الحبوب كلها، ونحوه قول أبي يوسف ومحمد فإنهما قالا: لا شئ فيما تخرجه الأرض إلا
ما كانت له ثمرة باقية يبلغ مكيلها خمسة أوسق
وقال أبو عبد الله ابن حامد: لا شئ في الابازير ولا البزور، ولا حب البقول، ولعله لا يوجب
الزكاة إلا فيما كان قوتا أو أدما لأن ما عداه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه فيبقى على
النفي الأصلي. وقال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب، ولا في حب إلا ما كان قوتا

(1) بالمد والقصر الفول
549

في حالة الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف، وحكي عن أحمد إلا في الحنطة والشعير والتمر
والزبيب وهذا قول ابن عمر وموسى بن طلحة والحسن وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح
وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد. والسلت نوع من الشعير، ووافقهم إبراهيم وزاد الذرة،
ووافقهم ابن عباس وزاد الزيتون، لأن ما عدا هذا لا نص فيه ولا اجماع، ولا هو في معنى المنصوص
عليه، ولا المجمع عليه فيبقى على الأصل
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الزكاة في الحنطة والشعير، والتمر والزبيب. وفي رواية عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير) وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال: إنما سن رسول
الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة: الحنطة والشعير، والتمر والزبيب). وعن أبي بردة عن أبي
موسى ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فأمرهم أن لا يأخذوا
الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير، والتمر والزبيب. رواهن كلهن الدارقطني، ولان
غير هذه الأربعة لا نص فيها ولا اجماع، ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها وكثرة نفعها
ووجودها فلم يصح قياسه عليها، ولا إلحاقه بها فيبقى على الأصل. وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في
كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض الا الحطب والقصب والحشيش لقوله عليه السلام (فيما سقت السماء
العشر) وهذا عام، ولان هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب،
ووجه قول الخرقي أن عموم قوله عليه السلام (فيما سقت السماء العشر) وقوله عليه السلام لمعاذ
550

(خذ الحب من الحب) يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب بمفهوم
قوله عليه السلام (ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق) رواه مسلم والنسائي، فدل هذا
الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال، ففيما هو مكيل يبقى على العموم (1) والدليل على أن
تفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكرنا من اعتبار التوسيق
وروي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس في الخضراوات صدقة) وعن عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس فيما أنبتت الأرض من الخضر صدقة) وعن موسى بن طلحة عن أبيه،
وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله رواهن الدارقطني وروى الترمذي باسناده عن معاذ أنه
كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال (ليس فيها شئ) وقال يرويه
الحسن بن عمارة وهو ضعيف، والصحيح أنه عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل: وقال
موسى بن طلحة: جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أشياء: الشعير، والحنطة، والسلت،
والزبيب، والتمر، وما سوى ذلك مما أخرجت الأرض فلا عشر فيه وقال: ان معاذا لم يأخذ من الخضر صدقة
وروى الأثرم باسناده أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر
غلة من الكروم أضعافا، فكتب عمر إنه ليس عليها عشر هي من العضاة
(فصل) ولا شئ فيما ينبت من المباح الذي لا يملك الا بأخذه كالبطم والعفص والزعبل
وهو شعير الجبل، وبزر قطونا، وبزر البقلة، وحب الثمام، وألقت وهو بزر الأشنان إذا أدرك وتناهى

(1) هذا العموم قد خصصه الشارع بالأحاديث الواردة بصيغة الحصر في الأقوات الأربعة في الروايات التي أوردها هنا أو الخمسة في حديث موسى بن طلحة فإن صح أن
يقاس عليها شئ فالأرز ولا سيما عند من هو قوتهم الغالب على قوله (خذا الحب من الحب) لا يظهر إرادة العموم بل المتبادر منه الجنس
551

نضحه حصلت فيه مرورة وملوحة، وأشباه هذا ذكره ابن حامد لأنه إنما يملك بحيازته، وأخذ الزكاة
إنما تجب فيه إذا بدا صلاحه، وفى تلك الحال لم يكن مملوكا له فلا يتعلق به الوجوب كالذي يلتقطه
اللقاط من السنبل فإنه لا زكاة فيه نص عليه احمد، وذكر القاضي في المباح أن فيه الزكاة إذا نبت في
أرضه ولعله بنى هذا على أن ما نبت في أرضه من الكلأ يكون ملكا له والصحيح خلافه. فأما إن
نبت في أرضه ما يزرعه الآدميون مثل أن سقط في أرض انسان حب من الحنطة أو الشعير فنبت
ففيه الزكاة لأنه يملكه، ولو اشترى زرعا بعد بدو الصلاح فيه، أو ثمرة قد بدا صلاحها، أو ملكها
بجهة من جهات الملك لم تجب فيه الزكاة لما ذكرنا
(فصل) ولا تجب فيما تجب فيما ليس بحب ولا ثمر سواء وجد فيه الكيل والادخار أو لم يوجد، فلا
تجب في ورق مثل ورق السدر والخطمي والأشنان والصعتر والآس ونحوه لأنه ليس بمنصوص
عليه ولا في معنى المنصوص، ومفهوم قوله عليه السلام (لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة
أوسق) ان الزكاة لا تجب في غيرهما (1). قال ابن عقيل في ثمر السدر: فورقه أولى، ولان الزكاة
لا تجب في الحب المباح ففي الورق أولى ولا زكاة في الأزهار كالزعفران والعصفر والقطن لأنه ليس
بحب ولا ثمر، ولا هو بمكيل فلم تجب فيه زكاة كالخضراوات. قال احمد: ليس في القطن شئ،
وقال ليس في الزعفران زكاة، وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر

(1)) المتبادران هذا بيان للنصاب فيهما لا لحصر الزكاة فيهما وإنما الدليل ما تقدم من روايات الحصر في الأجناس الأربعة أو الخمسة. والأصل النفي والبراءة
552

وروي عن علي في الفاكهة والبقل والتوابل والزعفران زكاة وعن عمر أنه قال: إنما سن رسول
الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وكذلك عبد الله بن عمر. وحكي عن أحمد أن في
القطن والزعفران زكاة، وخرج أبو الخطاب في العصفر والورس وجها قياسا على الزعفران. والأولى
ما ذكرناه وهذا مخالف لأصول احمد. قال: المروي عنه روايتان (إحداهما) أنه لا زكاة الا في الأربعة
(والثانية) أنها إنما تجب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة والسلت والأرز والعدس وكل شئ
يقوم مقام هذه حتى يدخر ويجرى فيه القفيز مثل اللوبيا والحمص والسماسم والقطنيات ففيه الزكاة
هذا لا يجري فيه القفيز ولا هو في معنى ما سماه
(فصل) واختلفت الرواية في الزيتون فقال أحمد في رواية ابنه صالح فيه العشر إذا بلغ يعني
خمسة أوسق وان عصر قوم ثمنه لأن الزيت له بقاء وهذا قول الزهري والأوزاعي ومالك والليث
والثوري وأبي ثور وأصحاب الرأي وروي عن ابن عباس لقول الله تعالى (وأتوا حقه يوم حصاده)
في سياق قوله (والزيتون والرمان) ولأنه يمكن ادخار غلته أشبه التمر والزبيب وعن أحمد لا زكاة فيه وهو
اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي وهذا قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي عبيدة واحد
قولي الشافعي لأنه لا يدخر يابسا فهو كالخضروات والآية لم يرد بها الزكاة لأنها مكية والزكاة إنما
فرضت بالمدينة ولهذا ذكر الرمان ولا عشر فيه. وقال مجاهد إذا حصد زرعه ألقى لهم من السنبل
وإذا جد نخله ألقى لهم من الشماريخ وقال النخعي وأبو جعفر هذه الآية منسوخة على أنها محمولة على
ما يتأتى حصاده بدليل أن الرمان مذكور بعده ولا زكاة فيه اه‍
(فصل) الحكم الثاني أن الزكاة لا تجب في شئ من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق
هذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وجابر وأبو إمامة بن سهل وعمر بن عبد العزيز وجابر بن
زيد والحسن وعطاء ومكحول والحكم والنخعي ومالك وأهل المدينة والثوري والأوزاعي وابن أبي
553

ليلى والشافعي وأبو يوسف ومحمد وسائر أهل العلم لا نعلم أحدا خالفهم الا مجاهدا وأبا حنيفة ومن
تابعه قالوا تجب الزكاة في قليل ذلك وكثيره لعموم قوله عليه السلام (فيما سقت السماء العشر) ولأنه
لا يعتبر له حول فلا يعتبر له نصاب
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) متفق عليه وهذ خاص يجب تقديمه
وتخصيص عموم ما رووه به كما خصصنا قوله (في سائمة الإبل الزكاة) بقوله (ليس فيما دون خمس ذود
صدقة) وقوله (في الرقة ربع العشر) بقوله (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولأنه مال تجب فيه الصدقة
فلم تجب في يسيره كسائر الأموال الزكاتية وإنما لم يعتبر الحول لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه
واعتبر الحول في غيره لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال والنصاب اعتبر ليبلغ حدا يحتمل
المواساة منه فلهذا اعتبر فيه، يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء بما قد ذكرنا فيما تقدم ولا يحصل
الغني بدون النصاب كسائر الأموال الزكاتية اه‍
(فصل) وتعتبر خمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار فلو كان له عشرة
أوسق عنبا لا يجئ منه خمسة أوسق زبيبا لم يجب عليه شئ لأنه حال وجوب الاخراج منه فاعتبر
554

النصاب بحاله وروى الأثرم عنه أنه يعتبر نصاب النخل والكرم عنبا ورطبا ويؤخذ منه مثل عشر
الرطب تمرا اختاره أبو بكر وهذا محمول على أنه أراد يؤخذ عشر ما يجئ به منه من التمر إذا بلغ
555

رطبا خمسة أوسق لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر ايجاب لأكثر من العشر وذلك يخالف
النص والاجماع فلا يجوز أن يحمل عليه كلام أحمد ولاقول إمام اه‍
556

(فصل) والعلس نوع من الحنطة يدخر في قشره ويزعم أهله انه إذا أخرج من قشره لا يبقى بقاء
غيره من الحنطة ويزعمون أنه يخرج على النصف فيعتبر نصابه في قشره للضرر في إخراجه فإذا بلغ
بقشره عشرة أوسق ففيه العشر لأن فيه خمسة أوسق وان شككنا في بلوغه نصابا خير صاحبه بين
اخراج عشره وبين اخراجه من قشره لنقدره بخمسة أوسق كقولنا في مغشوش الذهب والفضة إذا شككنا
في بلوغ ما فيها نصابا ولا يجوز تقدير غيره من الحنطة في قشره ولا اخراجه قبل تصفيته لأن الحاجة
لا تدعو إلى بقائه في قشره ولا العادة جارية به ولا يعلم قدر ما يخرج منه
(فصل) وذكر أبو الخطاب أن نصب الأرز مع قشره عشرة أوسق لأنه يدخر مع قشره
فإذا أخرج من قشره لم يبق بقاء ما في القشر فهو كالعلس سواء فيما ذكرنا وقال غيره لا يعتبر نصابه بذلك
الا أن يقول ثقات من أهل الخبرة انه يخرج على النصف فيكون كالعلس ومتى لم يوجد ثقات يخبرون
بهذا أو شككنا في بلوغه نصابا خيرنا ربه بين اخراج عشرة في قشره وبين تصفيته ليعلم قدره مصفى
فإن بلغ نصابا أخذ منه والا فلا لأن اليقين لا يحصل الا بذلك فاعتبرناه كمغشوش الأثمان اه‍
(فصل) ونصاب الزيتون خمسة أوسق نص عليه أحمد في رواية صالح ونصاب الزعفران والقطن
وما ألحق بهما من الموزونات ألف وستمائة رطل بالعراقي لأنه ليس بمكيل فيقوم وزنه مقام كيله ذكره
القاضي في المجرد وحكي عنه إذا بلغت قيمته نصابا من أدني ما تخرجه الأرض مما فيه الزكاة ففيه الزكاة
وهذا قول أبي يوسف في الزعفران لأنه لم يمكن اعتباره بنفسه فاعتبر بغيره كالعروض تقوم بأدنى
النصابين من الأثمان. وقال أصحاب الشافعي في الزعفران تجب الزكاة في قليله وكثيره، ولا أعلم لهذه
557

الأقوال دليلا ولا أصلا يعتمد عليه ويردها قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)
وايجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة، واعتباره بغيره مخالف لجميع ما يجب عشره
واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لا نظير له أصلا، وقياسه على العروض لا يصح لأن العروض لا تجب
الزكاة في عينها وإنما تجب في قيمتها ويؤدي من القيمة التي اعتبرت بها والقيمة يرد إليها كل الأموال
المتقومات فلا يلزم من الرد إليها الرد إلى ما لم يرد إليه شئ أصلا، ولا تخرج الزكاة منه ولان هذا مال
تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العشر أو نصفه
فأشبه سائر ما يجب فيه ذلك ولأنه مال تجب فيه الزكاة فلم يجب في قليله وكثيره كسائر الأموال ولأنه
لا نص فيما ذكروه ولا اجماع ولا هو في معناهما فوجب أن لا يقال به لعدم دليله اه‍
(فصل) الحكم الثالث أن العشر يجب فيما سقي بغير مؤنة كالذي يشرب من السماء والأنهار
وما يشرب بعروقه وهو الذي يغرس في أرض ماؤها قريب من وجهها تصل إليه عروق الشجر
فيستغني عن سقى، وكذلك ما كانت عروقه تصل إلى نهر أو ساقية. ونصف العشر فيما سقي بالمؤن
كالدوالي النواضح لا نعلم في هذا خلافا وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وغيرهم والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح
نصف العشر) رواه البخاري قال أبو عبيد العثري ما تسقيه السماء وتسميه العامة العدي وقال
القاضي هو الماء المستنقع في بركة أو نحوها يصب إليه ماء المطر في سواقي تشق له فإذا اجتمع سقي منه
558

واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأنها يعثر بها من يمر بها، وفي رواية مسلم
(وفيما يسقى بالسانية نصف الشعر) والسواني هي النواضح وهي الإبل يستقى بها لشرب الأرض. وعن
معاذ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماء أو سقي بعلا العشر
وما سقي بدالية نصف العشر. قال أبو عبيد البعل ما شرب بعروقه من غير سقي. وفي الجملة كل ما سقي
بكلفة ومؤنة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعورا أو غير ذلك ففيه نصف العشر وما سقي بغير
مؤنة ففيه العشر لما روينا من الخبر ولان للكلفة تأثيرا في اسقاط الزكاة جملة بدليل العلوفة فبأن
يؤثر في تخفيفها أولى ولان الزكاة إنما تجب في المال النامي وللكلفة تأثير في تعليل النماء فأثرت
في تقليل الواجب فيها ولا يؤثر حفر الأنهار والسواقي في نقصان الزكاة لأن المؤنة تقل لأنها تكون
من جملة إحياء الأرض ولا تتكرر كل عام وكذلك لا يؤثر احتياجها إلى ساق يسقيها، ويحول الماء في نواحيها لأن
ذلك لابد منه في كل سقي يكلفه فهو زيادة على المؤنة في التنقيص يجري مجرى حرث الأرض وتحسينها وإن كان
الماء يجري من النهر في ساقية إلى الأرض ويستقر في مكان قريب من وجهها لا يصعد الا بغرف أو دولاب فهو
من الكلفة المسقطة لنصف الزكاة على ما مر لأن مقدار الكلفة وقرب الماء وبعده لا يعتبر والضابط
لذلك هو أن يحتاج في ترقية الماء إلى الأرض بآلة من غرف أو نضح أو دالية ونحو ذلك وقد وجد اه‍
(فصل) فإن سقي نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة ففيه ثلاثة أرباع العشر وهذا قول
مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا لأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة
559

لا وجب مقتضاه فإذا وجد في نصفها أوجب نصفه، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر
أكثرهما فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر نص عليه وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة واحد
قولي الشافعي وقال ابن حامد يؤخذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة
فكذلك إذا كان أحداهما أكثر كما لو كانت الثمرة نوعين ووجه الأول أن اعتبار مقدار السقي وعدد
مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق ويتعذر فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية
وان جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر احتياطا نص عليه أحمد في رواية عبد الله لأن الأصل وجوب
العشر وإنما يسقط بوجود الكلفة فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل ولان الأصل عدم الكلفة
في الأكثر فلا يثبت وجودها مع الشك فيه، وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر
فالقول قول رب المال بغير يمين فإن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم اه‍
(فصل) وإذا كان لرجل حائطان سقى أحداهما بمؤنة والآخر بغير مؤنة ضم غلة أحدهما إلى الآخر
في تكميل النصاب أو أخرج من الذي سقي بغير مؤنة عشره ومن الآخر نصف عشره كما يضم أحد
النوعين إلى الاخر ويخرج من كل واحد منهما ما وجب فيه
(مسألة) قال (والوسق ستون صاغا والصاغ خمسة أرطال وثلث بالعراقي)
أما كون الوسق ستين صاعا فلا خلاف فيه قال ابن المنذر هو قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم
وقد روى الأثرم عن سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الوسق ستون صاعا) وروى أبو سعيد
وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه ابن ماجة
560

وأما كون الصاع خمسة أرطال وثلثا ففيه اختلاف ذكرناه في باب الطهارة وبينا انه خمسة أرطال
وثلث بالعراقي فيكون مبلغ الخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع وهو ألف وستمائة رطل بالعراقي والرطل العراقي مائة
وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ووزنه بالمثاقيل سبعون مثقالا ثم زيد في الرطل مثقال آخر وهو درهم
وثلاثة أسباع فصار أحد وتسعين مثقالا وكملت زنته بالدراهم مائة وثلاثين درهما والاعتبار بالأول قبل
الزيادة فيكون الصاع بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم رطلا وسبعا وذلك أوقية وخمسة أسباع
أوقية ومبلغ الخمسة الأوسق بالرطل الدمشقي ثلاثمائة رطل واثنان وأربعون رطلا وعشر أواقي وسبع
أوقية وذلك ستة أسباع رطل
(فصل) والنصاب معتبر بالكيل فإن الأوساق مكيلة وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتخفظ
وتنقل ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات. والمكيلات تختلف في الوزن فمنها
الثقيل كالحنطة والعدس ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط وقد نص أحمد على أن الصاع
خمسة أرطال وثلث من الحنطة وروى جماعة عنه أنه قال الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي
رطل حنطة وقال حنبل قال أحمد أخذت الصاع من أبي النضر وقال أبو النضر أخذته من ابن أبي
ذئب وقال هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة قال أبو عبد الله فأخذنا العدس فعيرنا به وهو
أصلح ما يكال به لأنه لا يتجافى عن مواضعه فكلنا به ووزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث وهذا أصح
ما وقفا عليه وما بين لنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض أهل العلم أجمع أهل الحرمين على أن مد النبي صلى الله عليه وسلم رطل
وثلث قمحا من أوسط القمح فمتى بلغ القمح ألفا وستمائة رطل ففيه الزكاة وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل
فأما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وان لم يبلغه ومتى شك في وجوب الزكاة فيه ولم يوجد مكيال يقدر
به فالاحتياط الاخراج وان لم يخرج فلا حرج لأن الأصل عدم وجوب الزكاة فلا تجب بالشك
561

(فصل) قال القاضي وهذا النصاب معتبر تحديدا فمتى نقص شيئا لم تجب الزكاة لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق) صدقة والناقص عنها لم يبلغها الا أن يكون نقصا يسيرا
يدخل في المكاييل كالأوقية ونحوها فلا عبرة به لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل فلا
ينضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين
(فصل) ولا وقص في نصاب الحبوب والثمار بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب
فيخرج عشر جميع ما عنده فإنه لا ضرر في تبعيضه بخلاف الماشية فإن فيها ضررا على ما تقدم
(فصل) وإذا وجب عليه عشر مرة لم يجب عليه عشر آخر وان حال عنده أحوالا لأن هذه الأموال
غير مرصدة للنماء في المستقبل بل هي إلى النقص أقرب والزكاة إنما تجب في الأشياء النامية ليخرج من
النماء فيكون أسهل فإن اشترى شيئا من ذلك للتجارة صار عرضا تجب فيه زكاة التجارة إذا حال
عليه الحول والله أعلم
562

(فصل) ووقت وجوب الزكاة في الحب إذا اشتد، وفي الثمرة إذا بدا صلاحها. وقال ابن أبي موسى: تجب
زكاة الحب يوم حصاده (1) لقول الله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده) وفائدة الخلاف انه لو تصرف في الثمرة أو
الحب قبل الوجوب لا شئ عليه لأنه تصرف فيه قبل الوجوب فأشبه ما لو أكل السائمة أو باعها قبل الحول،
وان تصرف فيها بعد الوجوب لم تسقط الزكاة عنه كما لو فعل ذلك في السائمة ولا يستقر الوجوب على كلا القولين

(1) فيه أن الآية مكية والزكاة فرضت في المدينة فهذا الحق في غيرها. والزكاة المفروضة يتعذر أداؤها يوم الحصاد والفقهاء لا يقولون بأدائها فيه
563

حتى تصير الثمرة في الجريب والزرع في البيدر ولو تلف قبل ذلك بغير اتلافه أو تفريط منه فيه فلا زكاة عليه،
قال أحمد: إذا خرص وترك في رؤس النخل فعليهم حفظه، فإن أصابته جائحة فذهبت الثمرة سقط
عنهم الخرص ولم يؤخذوا به ولا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الخارص
إذا خرص الثمرة ثم أصابته جائحة فلا شئ عليه إذا كان قبل الجداد، ولأنه قبل الجداد في حكم ما
لا تثبت اليد عليه بدليل انه لو اشترى ثمرة فتلفت بجائحة رجع بها على البايع وان تلف بعض الثمرة
فقال القاضي: إن كان الباقي نصابا ففيه الزكاة وإلا فلا. وهذا القول يوافق قول من قال: لا تجب
الزكاة فيه الا يوم حصاده لأن وجوب النصاب شرط في الوجوب، فمتى لم يوجد وقت الوجوب لم
يجب، وأما من قال إن الوجوب ثبت إذا بدا الصلاح واشتد الحب فقياس قوله ان تلف البعض إن كان
قبل الوجوب فهو كما قال القاضي وإن كان بعده وجب في الباقي بقدره سواء كان نصابا أو لم يكن
نصابا لأن المسقط اختص بالبعض فاختص السقوط به كما لو تلف بعض نصاب السائمة بعد وجوب
الزكاة فيها، وهذا فيما إذا تلف بغير تفريطه وعدوانه، فأما ان أتلفها أو تلفت بتفريطه أو عدوانه بعد الوجوب
لم تسقط عنه الزكاة، وإن كان قبل الوجوب سقطت الا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة فيضمنها
ولا تسقط عنه، ومتى ادعى رب المال تلفها بغير تفريطه قبل قوله من غير يمين سواء كان ذلك قبل
564

الخرص أو بعده، ويقبل قوله أيضا في قدرها بغير يمين وكذلك في سائر الدعاوي. قال أحمد:
لا يستحلف الناس على صدقاتهم. وذلك لأنه حق الله تعالى فلا يستحلف فيه كالصلاة والحد
(فصل) وان جذها وجعلها في الجرين أو جعل الزرع في البيدر استقر وجوب الزكاة عليه عند من لم
يرى التمكن من الأداء شرطا في استقرار الوجوب، وان تلفت بعد ذلك لم تسقط الزكاة عنه وعليه
ضمانها كما لو تلف نصاب السائمة أو الأثمان بعد الحول، وعلى الرواية الأخرى في كون التمكن من
الأداء معتبر الا يستقر الوجوب فيها حتى تجف الثمرة ويصفى الحب ويتمكن من أداء حقه فلا يفعل
وان تلف قبل ذلك فلا شئ عليه على ما ذكرنا في غير هذا
(فصل) ويصح تصرف المالك في النصاب قبل الخرص وبعده بالبيع والهبة وغيرهما فإن باعه أو وهبه بعد
بدو صلاحه فصدقته على البائع والواهب، وبهذا قال الحسن ومالك والثوري والأوزاعي وبه قال الليث
الا أن يشترطها على المبتاع وإنما وجبت على البائع لأنها كانت واجبة عليه قبل البيع فبقي على ما كان عليه وعليه
اخراج الزكاة من جنس المبيع والموهوب وعن أحمد انه مخير بين أن يخرج ثمرا أو من الثمن قال القاضي
الصحيح أن عليه عشر الثمرة فإنه لا يجوز إخراج القيمة في الزكاة على صحيح المذهب ولان عليه
القيام بالثمرة حتى يؤدي الواجب منها ثمرا فلا يسقط ذلك عنه ببيعها ولا هبتها ويتخرج أن
565

تجب الزكاة على المشترى على قول من قال إن الزكاة إنما تجب يوم حصاده لأن الوجوب إنما تعلق بها في
ملك المشتري فكان عليه، ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم بدا صلاحها في يد المشترى على وجه
صحيح مثل أن يشتري نخلة مثمرة ويشترط ثمرتها أو وهبت له ثمرة قبل بدو صلاحها
فبدا صلاحها في يد المشتري أو المتهب أو وصى له بثمرة فقبلها بعد موت الموصي ثم بدا صلاحها
فالصدقة عليه لأن سبب الوجوب وجد في ملكه فكان عليه كما لو اشتري سائمة أو اتهبها فحل
الحول عليها عنده اه‍
(فصل) وإذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، فتركها حتى بدأ صلاحها فإن لم يكن شرط القطع فالبيع باطل
وهي باقية على ملك البائع زكاتها عليه وان شرط القطع فقد روي أن البيع باطل أيضا ويكون الحكم فيها كما لو
لم يشترط القطع وروي أن البيع صحيح ويشتركان في الزيادة فعلى هذا يكون على المشتري زكاة حصته
منها إن بلغت نصابا فإن لم يكن المشتري من أهل الزكاة كالمكاتب والذمي فلا زكاة فيها وإن عاد
566

البائع فاشتراها بعد بدو الصلاح أو غيره فلا زكاة فيها إلا أن يكون قصد ببيعها الفرار من الزكاة فلا تسقط
(فصل) وان تلفت الثمرة قبل بدو الصلاح أو الزرع قبل اشتداد الحب فلا زكاة فيه وكذلك
ان أتلفه المالك الا أن يقصد الفرار من الزكاة وسواء قطعها للاكل أو للتخفيف عن النخيل لتحسين
بقية الثمرة أو حفظ الأموال إذا خاف عليها العطش أو ضعف الجمار فقطع الثمرة أو بعضها بحيث نقص
النصاب أو قطعها لغير غرض فلا زكاة عليه لأنها تلفت قبل وجوب الزكاة، وتعلق حق الفقراء بها فأشبه
ما لو هلكت السائمة قبل الحول وان قصد قطعها الفرار من الزكاة تسقط عنه لأنه قصد قطع حق
من أنعقد سبب استحقاقه فلم تسقط كما لو طلق امرأته في مرض موته
(فصل) وينبغي أن يبعث الإمام ساعيه إذا بدا صلاح الثمار ليخرصها ويعرف قدر الزكاة
567

ويعرف المالك ذلك وممن كان يرى الخرص عمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة ومروان والقاسم
ابن محمد والحسن وعطاء والزهري وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق ومالك والشافعي
وأبو عبيد وأبو ثور وأكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي أن الخرص بدعة وقال أهل الرأي الخرص
ظن وتخمين لا يلزم به حكم وإنما كان الخرص تخويفا للأكرة لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا
ولنا ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على
الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي. وفي لفظ عن عتاب قال
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل
تمرا وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم فخرص على امرأة بوادي القرى حديقة لها رواه الإمام أحمد في مسنده
وعمل به أبو بكر بعده والخلفاء وقالت عائشة وهي تذكر شأن خيبر كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله
ابن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين بطيب قبل أن يؤكل منه متفق عليه رواه أبو داود. قولهم هو ظن
قلنا بل هو اجتهاد في معرفة قدر الثمرة وإداركه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير
فهو كتقويم المتلفات. ووقت الخرص حين يبدو صلاحه لقول عائشة رضي الله عنها: يبعث عبد الله
ابن رواحة فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ولان فائدة الخرص معرفة الزكاة واطلاق
أرباب الثمار في التصرف فيها والحاجة إنما تدعو إلى ذلك حين يبدو الصلاح وتجب الزكاة
(فصل) ويجزئ خارص واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث ابن رواحة فيخرص ولم يذكر
568

معه غيره ولان الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاده إليه فهو كالحاكم والقائف ويعتبر في الخارص أن
يكون أمينا غير متهم
(فصل) وصفة الخرص تختلف باختلاف الثمرة فإن كان نوعا واحدا فإنه يطيف بكل نخلة أو
شجرة وينظركم في الجميع رطبا أو عنبا ثم يقدر ما يجئ منها تمرا وإن كان أنواع خرص كل نوع على
حدته لأن الأنواع تختلف فمنها ما يكثر رطبه ويقل ثمره ومنها ما يكون بالعكس وهكذا العنب، ولأنه
يحتاج إلى معرفة قدر كل نوع حتى يخرج عشره فإذا خرص على المالك وعرفه قدر الزكاة خيره بين
أن يضمن قدر الزكاة ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره وبين حفظها إلى وقت الجداد والجفاف
فإن اختار حفظها ثم أتلفها أو تلفت بتفريطه فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص وان أتلفها أجنبي
فعليه قيمة ما أتلف والفرق بينهما أن رب المال وجبت عليه تجفيف هذا الرطب بخلاف الأجنبي ولهذا
قلنا فيمن أتلف أضحيته المتعينة، عليه أضحية مكانها وان أتلفها أجنبي فعليه قيمتها. وان تلفت بجائحة
من السماء سقط عنهم الخرص نص عليه أحمد لأنها تلفت قبل استقرار زكاتها وان ادعى تلفها بغير
تفريطه فالقول قوله بغير يمين كما تقدم وان حفظها إلى وقت الاخراج فعليه زكاة الموجود لا غير سواء
اختار الضمان أو حفظها على سبيل الأمانة وسواء كانت أكثر مما خرصه الخارص أو أقل وبهذا قال
الشافعي وقال مالك يلزمه ما قال الخارص زاد أو نقص إذا كانت الزكاة متقاربة لأن الحكم انتقل إلى
ما قال الساعي بدليل وجوب ما قال عند تلف المال
ولنا أن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة بالشرط كالوديعة ولا نسلم أن الحكم انتقل إلى ما قاله الساعي
وإنما يعمل بقوله إذا تصرف في التمرة ولم يعلم قدرها لأن الظاهر إصابته قال أحمد إذا خرص على
569

الرجل فإذا فيه فصل كثير مثل الضعف تصدق بالفصل لأنه يخرص بالسوية وهذه الرواية تدل
على مثل قول مالك وقال إذا تجافى السلطان عن شئ من العشر يخرجه فيؤديه وقال إذا حط من الخرص
عن الأرض يتصدق بقدر ما نقصوه من الخرص وان أخذ منهم أكثر من الواجب عليهم فقال أحمد
يحتسب لهم من الزكاة لسنة أخرى ونقل عنه أبو داود لا يحتسب بالزيادة لأن هذا غاصب وقال أبو بكر
وبهذا أقول ويحتمل أن يجمع بين الروايتين فيحتسب به إذا نوى صاحبه به التعجيل ولا يحتسب به إذا لم ينو ذلك
(فصل) وان ادعى رب المال غلط الخارص وكان ما ادعاه محتملا قبل قوله بغير يمين وإن لم
يكن محتملا مثل أن يدعي غلط النصف ونحوه لم يقبل منه لأنه لا يحتمل فيعلم كذبه وان قال لم يحصل
في يدي غير هذا قبل منه بغير يمين لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها (1)
(فصل) وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال لأنهم
يحتاجون إلى الاكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم ويكون في الثمرة السقاطة
وينتابها الطير وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضربهم، وبهذا قال إسحاق ونحوه قال الليث
وأبو عبيد، والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده، فإن رأى الاكلة كثيرا ترك الثلث، وإن كانوا
قليلا ترك الربع لما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (إذا خرصتم فخذوا أو دعوا الثلث،
فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه أبو عبيد وأبو داود والنسائي والترمذي وروي أبو عبيد
باسناده عن مكحول قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال (خفضوا على الناس فإن في
المال العرية والواطئة والآكلة) قال أبو عبيد: الواطئة السابلة سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين والآكلة

(1) هذا ما يليق بحال المؤمنين الصادقين وقد قل عددهم في أكثر الأمصار فلو قبل السلطان قولهم لكذب أكثرهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله
570

أرباب الثمار وأهلوهم، ومن لصق بهم، ومنه حديث سهل في مال سعد بن أبي سعد حين قال: لولا
أني وجدت فيه أربعين عريشا لخرصته تسعمائة وسق، وكانت تلك العرش لهؤلاء الاكلة، والعرية النخلة
أو النخلات يهب انسانا ثمرتها فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس في العريا صدقة)
وروى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لسهل بن حثمة: إذا أتيت على نخل قد حضرها
قوم فدع لهم ما يأكلون. والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء، فإن لم يترك لهم الخارص شيئا
فلهم الاكل قدر ذلك ولا يحتسب عليهم به نص عليه لأنه حق لهم فإن لم يخرج الإمام خارصا فاحتاج
رب المال إلى التصرف في الثمرة فأخرج خارصا جاز أن يأخذ بقدر ذلك ذكره القاضي وان خرص هو
وأخذ بقدر ذلك جاز ويحتاط في أن لا يأخذ أكثر مما له أخذه
(فصل) ويخرص النخل والكرم لما روينا من الأثر فيهما ولم يسمع بالخرص في غيرهما فلا يخرص
الزرع بسنبله، وبهذا قال عطاء والزهري ومالك لأن الشرع لم يرد بالخرص فيه ولا هو في معنى
المنصوص عليه لأن ثمرة النخل والكرم تؤكل رطبا فيخرص على أهله للتوسعة عليهم ليخلي بينهم
وبين أكل الثمرة والتصرف فيها ثم يؤدون الزكاة منها على ما خرص، ولان ثمرة الكرم والنخل ظاهرة
مجتمعة فخرصها أسهل من خرص غيرها وما عداهما فلا يخرص، وإنما على أهله فيه الأمانة إذا صار
مصفى يابسا ولا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم
وسئل احمد عما يأكل أرباب الزروع من الفريك قال: لا بأس به أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج
إليه، وذلك لأن العادة جارية به فأشبه ما يأكله أرباب الثمار من ثمارهم، فإذا صفى الحب أخرج زكاة الموجود كله
571

ولم يترك منه شئ لأنه إنما ترك لهم في الثمرة شئ لكون النفوس تتوق إلى أكلها رطبة والعادة جارية
به، وفي الزرع إنما يؤكل شئ يسير لا وقع له
(فصل) ولا يخرص الزيتون ولا غير النخل والكرم لأن حبه متفرق في شجرة مستور بورقة
ولا حاجة بأهله إلى أكله بخلاف النخل والكرم، فإن ثمرة النخل مجتمعة في عذوقه والعنب في عناقيده
فيمكن أن يأتي الخرص عليه، والحاجة داعية إلى أكلهما في حال رطوبتهما، وبهذا قال مالك، وقال
الزهري والأوزاعي والليث: يخرص لأنه ثمر تجب فيه الزكاة فيخرص كالرطب والعنب
ولنا أنه لا نص في خرصه ولا هو في معنى المنصوص فيبقى على الأصل
(فصل) ووقت الاخراج للزكاة بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار لأنه أوان الكمال
وحال الادخار والمؤنة التي تلزم الثمرة إلى حين الاخراج على رب المال لأن الثمرة كالماشية ومؤنة
الماشية وحفظها ورعيها، والقيام عليها إلى حين الاخراج على ربها كذا ههنا، فإن أخذ الساعي
الزكاة قبل التجفيف فقد أساء ويرده إن كان رطبا بحاله، وإن تلف رد مثله وإن جففه وكان قدر
الزكاة فقد استوفى الواجب وإن كان دونه أخذ الباقي، وإن كان زائدا رد الفضل، وإن كان المخرج
لهارب المال لم يجزه ولزمه اخراج الفضل بعد التجفيف لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه كما لو أخرج
الصغيرة من الماشية عن الكبار
(فصل) وإن احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها خوفا من العطش أو لضعف الجمار جاز قطعها لأن
حق الفقراء إنما يجب على طريق المواساة فلا يكلف الانسان من ذلك ما يهلك أصل ماله، ولان
572

حفظ الأصل أحفظ للفقراء من حفظ الثمرة لأن حقهم يتكرر بحفظها في كل سنة فهم شركاء في النخل
ثم إن كان يكفي تجفيف الثمرة دون قطع جميعها جففها، وإن لم يكف إلا قطع جميعها جاز، وكذلك إن أراد قطع الثمرة لتحسين الباقي منها جاز، وإذا أراد ذلك فقال القاضي: يخير الساعي بين أن يقاسم
رب المال الثمرة قبل الجداد بالخرص ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة ويأخذ ثمرتها، وبين أن يجدها ويقاسمه
إياها بالكيل ويقسم الثمرة في الفقراء، وبين أن يبيعها من رب المال أو من غيره قبل الجداد أو بعده
ويقسم ثمنها في الفقراء. وقال أبو بكر: عليه الزكاة فيه يابسا، وذكر أن احمد نص عليه وكذلك الحكم
في العنب الذي لا يجئ منه زبيب كالخمري والرطب الذي لا يجئ منه تمر جيد كالبرنبا والهلياث، فإن
قيل فهلا قلتم لا زكاة فيه لأنه لا يدخر فهو كالخضراوات وطلع الفحال، قلنا لأنه يدخر في الجملة، وإنما
لم يدخرها هنا لأن أخذه رطبا أنفع فلم تسقط منه الزكاة بذلك ولا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ حدا يكون
منه خمسة أوسق تمرا أو زبيبا إلا على الرواية الأخرى، وإذا أتلف رب المال هذه الثمر فقال القاضي
عليه قيمتها كما لو أتلفها غير رب المال، وعلى قول أبي بكر يجب في ذمته العشر تمرا أو زبيبا كما
في غير هذه الثمرة قال فإن لم يجد التمر ففيه قولان (أحدهما) يؤخذ منه قيمته (والثاني) يكون
في ذمته وعليه أن يأتي به
(فصل) فأما كيفية الاخراج فإن كان المال الذي فيه الزكاة نوعا واحدا أخذ منه جيدا كان أو
رديئا لأن حق الفقراء يجب على طريق المواساة فهم بمنزلة الشركاء، لا نعلم في هذا خلافا، وإن كان
أنواعا أخذ من كل نوع ما يخصه، هذا قول أكثر أهل العلم. وقال مالك والشافعي: يؤخذ من الوسط
وكذلك قال أبو الخطاب: إذا شق عليه اخراج زكاة كل نوع منه. قال ابن المنذر وقال غيرهما:
يؤخذ عشر ذلك من كل بقدره وهو أولى لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فينبغي أن يتساووا في كل نوع
573

منه ولا في مشقة ذلك بخلاف الماشية إذا كانت أنواعا، فإن اخراج حصة كل نوع منه يفضى إلى تشقيص
الواجب وفيه مشقة بخلاف الثمار، ولهذا وجب في الزائد بحسابه، ولا يجوز اخراج الردئ لقوله
تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) قال أبو أمامة سهل بن حنيف في هذه الآية، هو
الجعرور ولون الحبيق (1) فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. رواه النسائي وأبو عبيد قال
وهما ضربان من التمر (أحدهما) إنما يصير قشرا على نوى، والآخر إذا أثمر صار حشفا، ولا
يجوز أخذ الجيد عن الردئ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إياك وكرائم أموالهم) فإن تطوع رب المال بذلك
جاز وله ثواب الفضل على ما ذكرنا في فضل الماشية
(فصل) فأما الزيتون فإن كان مما لا زيت له فإنه يخرج منه عشرة حبا إذا بلغ نصابا لأنه حال
كماله وادخاره فإنه يخرج منه كما يخرص الرطب في حال رطوبته، وإن كان له زيت أخرج منه زيتا

(1) الجعرور بضم الجيم والحبيق بضم المهملة نوعان من الدقل وهو بالتحريك التمر الردئ اليابس
574

إذا بلغ الحب خمسة أوسق وهذا قول الزهري والأوزاعي ومالك والليث قالوا يخرص الزيتون ويؤخذ
زيتا صافيا وقال مالك إذا بلغ خمسة أوسق أخذا العشر من بعد زيته بعد أن يعصر. وقال الثوري وأبو حنيفة: يخرج
من حبه كسائر الثمار، ولأنه الحالة التي تعتبر فيها الأوساق فكان اخراجه فيها كسائر الثمار وهذا
575

جائز والأول أولى لأنه يكفي الفقراء مؤنته فيكون أفضل كتجفيف التمر ولأنه حال كماله وادخاره
فيخرج منه كما يخرص الرطب في حال رطوبته ويخرج منه إذا يبس
576

(فصل) ومذهب احمد أن في العسل العشر. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله أنت تذهب إلى أن
في العسل زكاة؟ قال نعم اذهب إلى أن في العسل زكاة العشر قد أخذ عمر منهم الزكاة، قلت ذلك على أنهم
تطوعوا به. قال لا: بل أخذ منهم، ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري وسليمان
ابن موسى والأوزاعي وإسحاق. وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر:
لا زكاة فيه لأنه مائع خارج من حيوان أشيه اللبن. قال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في
العسل خبر يثبت ولا اجماع فلا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة: إن كان في أرض العشر ففيه
الزكاة وإلا فلا زكاة فيه،
ووجه الأول ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ
في زمانه من قرب العسل من كل قربة من أوسطها. رواه أبو عبيد والأثرم وابن ماجة وعن سليمان
ابن موسى أن أبا سيارة المتعي قال: قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال (أد عشرها) قال فاحم إذا
جبلها فحماه رواه أبو عبيد وابن ماجة وروى الأثرم عن ابن أبي ذبابة عن أبيه عن جده أن عمر
رضي الله عنه أمره في العسل بالعشر أما اللبن فإن الزكاة وجبت في أصله وهي السائمة بخلاف العسل،
وقول أبي حنيفة يبنى على أن العشر والخراج لا يجتمعان وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
(فصل) ونصاب العسل عشرة أفراق وهذا قول الزهري. وقال أبو يوسف ومحمد خمسة أوساق
577

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وقال أبو حنيفة: تجب في قليله وكثيره
بناء على أصله في الحبوب والثمار، ووجه الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه أن ناسا سألوه فقالوا:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع لنا واديا باليمن فيه خلايا من نحل وانا نجد ناسا يسرقونها، فقال عمر رضي
الله عنه: إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا حميناها لكم. رواه الجوز جاني، وهذا تقدير
من عمر رضي الله عنه فيتعين المصير إليه. إذا ثبت هذا فإن الفرق ستة عشر رطلا بالعراقي فيكون
نصابه مائة وستون رطلا وقال أحمد في رواية أبي داود قال الزهري في عشرة أفراق فرق. والفرق
ستة عشر رطلا قال ابن حامد: الفرق ستون رطلا فيكون النصاب ستمائة رطل، فإنه يروى أن
الخليل بن أحمد قال: الفرق باسكان الراء ضخم من مكاييل أهل العراق وقيل هو مائة وعشرون
رطلا ويحتمل أن يكون نصابا ألف رطل لحديث عمرو بن شعيب أن كان يؤخذ في زمان رسول
الله صلى الله عليه وسلم من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها، والقربة عند الاطلاق مائة رطل
بدليل أن القلتين خمس قرب وهي خمسمائة رطل
وروى سعيد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئاب عن
أبيه عن جده أنه لقومه: إنه لا خير في مال لا زكاة فيه. قال فأخذ من كل عشر قرب قربة فجئت بها
إلى عمر بن الخطاب فأخذها فجعلها في صدقات المسلمين، ووجه الأول قول عمر: من كل عشرة أفراق
فرقا) والفرق بتحريك إزاء ستة عشر رطلا. قال أبو عبيد: لا خلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق
ثلاثة آصع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة (أطعم ستة مساكين فرقا من طعام) فقد بين أنه ثلاثة
578

آصع. وقالت عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء هوا الفرق هو المشهور فينصرف
الاطلاق إليه. والفرق هو مكيان ضخم لا يصح حمله لوجوه (أحدها) أنه غير مشهور في كلامهم
فلا يحمل عليه المطلق من كلامهم. قال ثعلب: قل فرق ولا تقل فرق. قال خداش بن زهير: يأخذون الأرش في اخوتهم فرق السمن وشاة في الغنم (الثاني) أن عمر قال: من كل عشرة أفراق فرق، والافراق جمع فرق بفتح الراء وجمع الراء وجمع فرق باسكان الراء فروق، وفي القلة أفرق لأن ما كان
على وزن فعل ساكن العين غير معتل فجمعه في القلة أفعل، وفي الكثيرة فعال أو فعول (والثالث)
أن الفرق الذي هو مكيال ضخم من مكاييل أهل العراق لا يحمل عليه كلام عمر رضي الله عنه، وإنما يحمل
كلام عمر رضي الله عنه على مكاييل أهل الحجاز لأنه بها ومن أهلها، ويؤكد ما ذكرنا تفسير الزهري له في
نصاب العسل بما قلناه، والإمام أحمد ذكره في معرض الاحتياج به فيدل على أنه ذهب إليه والله أعلم
(مسألة) قال (والأرض أرضان أرض صلح وعنوة)
وجملته أن الأرض قسمان: صلح وعنوة. فأما الصلح فهو كل أرض صالح أهلها عليه لتكون لهم ويؤدون
خراجا معلوما فهذه الأرض ملك لأربابها، وهذا الخراج في حكم الجزية متى أسلموا سقط عنهم ولهم
بيعها وهبتها ورهنها لأنها ملك لهم، وكذلك إن صالحوا على أداء شئ غير موظف على الأرض،
وكذلك كل أرض أسلم عليها أهلها كأرض المدينة وشبهها فهذه ملك لأربابها لاخراج عليها ولهم
التصرف فيها كيف شاؤوا، وأما الثاني وهو ما فتح عنوة فهي ما أجلي عنها بالسيف ولم تقسم بين الغانمين
579

فهذه تصير وقفا للمسلمين يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام يكون أجرة لها وتقر في
أيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها وسواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة ولا يسقط خراجها باسلام أربابها
ولا بانتقالها إلى مسلم لأنه بمنزلة أجرتها ولم نعلم أن شيئا مما فتح عنوة قسم بين المسلمين إلا خيبر فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصفها فصار ذلك لأهله لاخراج عليه وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم يقسم منه شئ، فروى أبو عبيد
في الأموال أن عمر رضي الله عنه قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين فقال له معاذ: والله إذا
ليكونن ما تكره إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى
الرجل الواحد والمرأة، ثم يأتي بعدهم قوم أخر يسدون من الاسلام مسدا وهم لا يجدون شيئا فانظر
أمرا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ. وروى أيضا قال: الماجشون: قال بلال لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه في القرى التي افتتحوها عنوة: اقسمها بيننا وخذ خمسها، فقال عمر لا هذا
عين المال ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه لعمر أقسمها بيننا،
فقال عمر اللهم اكفني بلالا وذويه، قال فما حال الحول ومنهم عين تطرف
وروى باسناده عن سفيان بن وهب الخولاني قال: لما افتتح عمرو بن العاص مصر قام ابن الزبير
فقال: يا عمرو بن العاص اقسمها، فقال عمرو: لا أقسمها، فقال ابن الزبير: لتقسمها كما قسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر أن
580

دعها حتى يعروا منها حبل الحبلة. قال القاضي: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة
أنه قسم أرضا عنوة إلا خيبر
(فصل) قال احمد: ومن يقوم على أرض الصلح وأرض العنوة ومن أين هي وإلى أين هي؟
وقال أرض الشام عنوة إلا حمص وموضعا آخر، وقال ما دون النهر صلح وما وراء عنوة. وقال فتح
المسلمون السواد عنوة إلا ما كان منه صلح وهي أرض الحيرة وأرض مانقيا. وقال أرض الثرى خلطوا
في أمرها، فأما ما فتح عنوة من نهاوند إلى طبرستان خراج. وقال أبو عبيد: أرض الشام عنوة ما خلا
مدنها فإنها نتحت صلحا إلا قيسارية افتتحت عنوة وأرض السواد والحل ونهاوند والأهواز ومصر
والمغرب. قال موسى بن علي بن رباح عن أبيه: المغرب كله عنوة فأما أرض الصلح فأرض هجر
والبحرين وأيلة ودومة الجندل وأذرح فهذه القرى التي أدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية ومدن
الشام ما خلا أرضا إلا قيسارية وبلاد الجزيرة كلها، وبلاد خراسان كلها أو أكثرها صلح وكل موضع
فتح عنوة فإنه وقف على المسلمين
(فصل) وما استأنف المسلمون فتحه، فإن فتح عنوة ففيه ثلاث روايات (إحداهن) أن الإمام
مخير بين قسمتها على الغانمين، وبين وقفيتها على جميع المسلمين، ولان كلا الامرين قد ثبت فيه حجة عن
581

النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه، ووقف عمر الشام والعراق
ومصر وسائر ما فتحه وأقره على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه به، وكذلك فعل من بعده من
الخلفاء ولم يعلم أحد منهم قسم شيئا من الأرض التي افتتحوها
(والثانية) أنها تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة عليه، وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم
خيبر كان في بدء الاسلام وشدة الحاجة فكانت المصلحة فيه، وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في
وقف الأرض فكان ذلك هو الواجب
(والثالثة) أن الواجب قسمتها وهو قول مالك وأبي ثور لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وفعله أولى
من فعل غيره مع عموم قوله تعالى (واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) الآية يفهم منها أن أربعة
أخماسها للغانمين. والرواية الأولى أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين جميعا في خيبر، ولان عمر
قال: لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فقد وقف الأرض مع علمه بفعل
النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أن فعله ذلك لم يكن متعينا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد وقف نصف خيبر، ولو كانت
للغانمين لم يكن له وقفها. قال أبو عبيد: تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين حكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر حين قسمها وبه أشار بلال وأصحابه على عمر في أرض الشام؟ وأشار به
الزبير في أرض مصر، وحكم عمر في أرض السواد وغيره حين وقفه، وبه أشار علي ومعاذ على عمر
582

في أرض الشام، وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم رادا لفعل عمر لأن كل واحد منهما اتبع آية محكمة، قال الله
تعالى (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) وقال (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى)
الآية. وكان واحد من الامرين جائزا، والنظر في ذلك إلى الإمام فما رأى من ذلك فعله وهذا
قول الثوري وأبي عبيد: إذا ثبت هذا فإن الاختيار المفوض إلى الإمام اختيار مصلحة لا اختيار تشه.
فيلزمه فعل ما يرى المصلحة فيه، ولا يجوز له العدول عنه كالخيرة بين القتل والاسترقاق والفداء والمن
في الاسرى، ولا يحتاج إلى النطق بالوقف بل تركه له من غير قسمة هو وقفه لها كما أن قسمها بين
الغانمين لا يحتاج معه إلى لفظ، وإن عمر وغيره لم ينقل عنهم في وقف الأرض لفظ الوقف، ولان
معنى وقفها ههنا أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ خراجها ويصرف في مصالحهم ولا يخص أحد بملك
شئ منها وهذا حاصل بتركها
(فصل) فأما ما جلى عنها أهلها خوفا من المسلمين فهذه تصير وقفا بنفس الظهور عليها لأن ذلك
متعين فيها إذا لم يكن لها غانم فكان حكمها حكم الفئ يكون للمسلمين كلهم وقد روي أنها لا تصير وقفا
حتى يقفها الإمام وحكمها حكم العنوة إذا وقفت وما صالح عليه الكفار من أرضهم على أن الأرض
لنا ونقرهم فيها بخراج معلوم فهو وقف أيضا حكمه حكم ما ذكرناه لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر وصالح
أهلها على أن يعمروا أرضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين منهم، وصالح بنى النضير على أن يجليهم
583

من المدينة ولهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فكانت مما أفاء الله على
رسوله فأما ما صولحوا عليه على أن الأرض لهم ونقرهم فيها بخراج معلوم فهذا الخراج في حكم الجزية
تسقط باسلامهم والأرض لهم لا خراج عليها لأن الخراج الذي ضرب عليهم إنما كان من أجل كفرهم
بمنزلة الجزية المضروبة على رؤسهم فإذا أسلموا سقط كما تسقط الجزية وتبقى الأرض ملكا لهم
لا خراج عليها ولو انتقلت الأرض إلى مسلم لم يجب عليها خراج لذلك
(فصل) ولا يجوز شراء شئ من الأرض الموقوفة ولا بيعه في قول أكثر أهل العلم منهم
عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وروي ذلك عن عبد الله بن مغفل وقبيصة
ابن ذؤيب ومسلم بن مسلم وميمون بن مهران والأوزاعي ومالك وأبي إسحق الفزاري وقال الأوزاعي
لم يزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية ويكرهه علماؤهم وقال الأوزاعي أجمع رأي عمر
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهروا على الشام على اقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من
أرضهم يعمرونها ويؤدون خراجها إلى المسلمين ويرون انه لا يصلح لاحد من المسلمين شراء ما في
أيديهم من الأرض طوعا ولا كرها وكرهوا ذلك مما كان من اتفاق عمر وأصحابه في الأرضين
المحبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين لا تباع ولا تورث قوة على جهاد من لم نظهر عليه بعد من
المشركين وقال الثوري إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها وروي نحو هذا
584

عن ابن سيرين والقرظي لما روى عبد الرحمن بن يزيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضا على
أن يكفيها جزيتها وروي عنه أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السفر في الأهل والمال ثم قال
عبد الله وكيف بمال بزاذان وبكذا وبكذا وهذا يدل على أن له مالا بزاذان ولأنها أرض لهم فجاز بيعها
وقد روي عن أحمد أنه قال إن كان الشراء أسهل يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه عن الناس هو رجل
من المسلمين وكره البيع في أرض السواد وإنما رخص في الشراء والله أعلم لأن بعض الصحابة اشترى
ولم يسمع عنهم البيع ولان الشراء استخلاص للأرض فيقوم فيها مقام من كانت في يده والبيع أخذ
عوض عما لا يملكه ولا يستحقه فلا يجوز
ولنا اجماع الصحابة (1) رضي الله عنهم فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا تشتروا رقيق أهل
الذمة ولا أرضهم وقال الشعبي اشتري عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قصبا
فذكر ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها قال من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار قال هؤلاء
أربابها فهل اشتريت منهم شيئا قال لا قال فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك وهذا قول عمر
في المهاجرين والأنصار بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم فلم ينكر فكان اجماعا ولا سبيل إلى وجود
اجماع أقوى من هذا وشبهه إذ لا سبيل إلى نقل قول جميع الصحابة في مسألة ولا إلى نقل قول العشرة
ولا يوجد الاجماع الا القول المنتشر فإن قيل فقد خالفه ابن مسعود بما ذكرناه عنه قلنا لا نسلم المخالفة
وقولهم اشترى قلنا المراد به أكثري كذلك قال أبو عبيد والدليل عليه قوله على أن يكفيه جزيتها ولا
يكون مشتريا لها وجزيتها على غيره روى عنه القاسم أنه قال من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار والذل

(1) فيه ان اجماع الصحابة ان قلنا بامكانه بعد انتشارهم في
أقطار الأرض فلا نقول بأنه دين يجب اتباعه في أمور المعاش والبيع والشراء
وإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا فيه المصلحة في زمنهم وما دام الأئمة يرون ذلك
يلتزمونه فإن رأوا المصلحة في غيره داروا معها على قائدة الإمام مالك رحمه الله تعالى
585

وهذا يدل على أن الشراء هاهنا الاكتراء وكذلك كل من رويت عنه الرخصة في الشراء فمحمول على ذلك وقوله
فكيف بمال بزاذان فليس فيه ذكر الشراء ولان المال أرض فيحتمل انه أراد مالا من السائمة أو التجارة
أو الزرع أو غيره ويحتمل انه أرض اكتراها ويحتمل انه أراد بذلك غيره وقد يعيب الانسان الفعل
المعيب من غيره جواب ثان أنه يتناول الشراء وبقي قول عمر في النهي عن البيع غير معارض
وأما المعنى فلأنها موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الأحباس والوقوف والدليل على وقفها النقل والمعنى
أما النقل فما نقل من الاخبار ان عمر لم يقسم الأرض التي افتتحها وتركها لتكون مادة لاجناد المسلمين
الذين يقاتلون في سبيل الله إلى يوم القيامة وقد نقلنا بعض ذلك وهو مشهور تغني شهرته عن نقله
وأما المعنى فلأنها لو قسمت لكانت للذين افتتحوها ثم لورثتهم أو لمن انتقلت إليه عنهم ولم تكن
مشتركة بين المسلمين ولأنها لو قسمت لم تخف بالكلية فإن قيل فليس في هذا ما يلزم منه الوقف
لأنه يحتمل انه تركها للمسلمين عامة فيكون فيئا للمسلمين والإمام نائبهم فيفعل ما يرى فيه المصلحة
من بيع أو غيره ويحتمل انه تركها لأربابها كفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قلنا أما الأول فلا يصح لأن عمر
إنما ترك قسمتها لتكون مادة للمسلمين كلهم ينتفعون بها مع بقاء أصلها وهذا معنى الوقف ولو جاز
تخصيص قوم بأصلها لكان الذي افتتحوها أحق بها فلا يجوز أن يمنعها أهلها المفسدة ثم يخص بها
586

غيرهم مع وجود المفسدة المانعة والثاني أظهر فسادا من الأول (1) فإنه إذا منعها المسلمين المستحقين
كيف يخص بها أهل الذمة المشركين الذين لا حق لهم ولا نصيب؟
(فصل) وإذا قلنا بصحة الشراء فإنها تكون في يد المشتري على ما كانت في يد البائع يؤدي
خراجها ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع إلى المشتري بعوض وان شرط الخراج على البائع
كما فعل ابن مسعود فيكون اكتراء لا شراء وينبغي أن يشترط بيان مدته كسائر الإجارات
(فصل) وإذا بيعت هذه الأرض فحكم بصحة البيع حاكم صح لأنه مختلف فيه فصح بحكم الحاكم
كسائر المجتهدات وان باع الإمام شيئا لمصلحة رآها مثل أن يكون في الأرض ما يحتاج إلى عمارة
لا يعمرها الا من يشتر بها صح أيضا لأن فعل الإمام كحكم الحاكم وقد ذكر بن عائذ في كتاب فتوح الشام
قال قال غير واحد من مشيختنا إن الناس سألوا عبد الملك والوليد وسليمان ان يأذنوا لهم في شراء الأرض من
أهل الذمة فأذنوا لهم على ادخال أنمائها في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أعرض عن تلك الأشربة لاختلاط
الأمور فيها لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولم يقدر على تخليصه ولا معرفة ذلك وكتب كتابا
قرئ على الناس سنة المائة (أن من اشترى شيئا بعد سنة مائة فإن بيعه مردود وسمي سنة مائة مائة سنة المدة) (2)
فتناهى الناس عن شرائها ثم اشتروا أشرية كثيرة كانت بأيدي أهلها تؤدي العشر ولا جزية عليها، فلما أفضى
الامر إلى المنصور وقعت تلك الأشربة إليه وأن ذلك أضر بالخراج، فأراد ردها إلى أهلها فقيل له قد وقعت في

(1) سبحان الله قد تغير حال الزمان الذي روعيت فيه تلك المصلحة من قبل زمن المؤلف فلم تعد تلك الأراضي الواسعة مادة لا جناد المسلمين بل صار أكثرها ملكا للمسلمين ثم تغير بعده آخر حتى صار أكثر المسلمين الكفار أو المنافقين الذين لا يقيمون الشرع في تلك الأرض ولا غيرها
(2) ما بين القوسين منقول عن نسخة دار الكتب وفي العبارة ركاكة وابهام
587

المواريث والمهور واختلط أمرها فبعث المعدلين منهم عبد الله بن يزيد إلى حمص، وإسماعيل بن عياش إلى
بلعبك، وهضاب بن طوق ومحمد بن زريق إلى الغوطة، وأمرهم أن لا يضعوا على القطائع والأشرية
العظيمة القديمة خراجا ووضعوا الخراج على ما بقي بأيدي الأنباط، وعلى الأشرية المحدثة من بعد سنة
مائة إلى السنة التي عدل فيها فينبغي أن يجزي ما باعه إمام أو بيع باذنه أو تعذر رد بيعه هذا المجرى في أن
يضرب عليه خراج بقدر ما يحتمل ويترك في يد مشتريه أو من التنقل إليه إلا ما بيع المائة السنة
فإنه لاخراج عليه كما نقل في هذا الخبر
(فصل) وحكم اقطاع هذه الأرض حكم بيعها في أن ما كان من عمر أو مما كان قبل مائة سنة فهو
لأهله وما كان بعدها ضرب عليه كما فعل المنصور (1) إلا أن يكون بغير اذن الإمام فيكون باطلا، وذكر ابن
عائذ في كتابه باسناده عن سليمان بن عتبة أن أمير المؤمنين عبد الله بن محمد أظنه المنصور سأله في مقدمه
الشام سنة ثلاث أو أربع وخمسين عن سبب الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة يذكرون أنها قطائع
لآبائهم قديمة، فقلت يا أمير المؤمنين: إن الله تعالى لما أظهر المسلمين على بلاد الشام وصالحوا أهل
دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم واثخانهم في عدو الله فعسكروا في مرج
بردى بين الزة إلى مرج شعبان جنبتي بردى مروج كانت مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها ليست
لاحد منهم فأقاموا بها حتى أوطأ الله بهم المشركين قهرا وذلا فأحيا كل قوم محلتهم وهيئوا بها بناء

(1) إذا لم يكن فعل عمر دينا يجب التزامه فهل يك. ن فعل المنصور دينا؟ الحق ان إمام كل عصر ينفذ ما يرى أهل الشورى من أهل الحل والعقد مصلحة الأمة فيه
588

فبلغ ذلك عمر فأمضاه لهم وأمضاه عثمان من بعده إلى أمير المؤمنين قال: وقد أمضيناه لهم. وعن الأحوص
ابن حكيم أن المسلمين الذين فتحوا حمص لم يدخلوها بل عسكروا على نهر الأربد فأحيوه فأمضاه
لهم عمر وعثمان، وقد كان منهم تعدوا إذ ذاك إلى جسر الأربد الذي على باب الرستين فعسكروا في مرجه
مسلحة لمن خلفهم من المسلمين، فلما بلغهم ما أمضاه عمر للعسكرين على نهر الأربد سألوا أن يشركوهم
في تلك القطائع وكتبوا إلى عمر فيه، فكتب أن يعرضوا مثله من المروج التي كانوا عسكروا فيها على
باب الرستين، فلم تزل تلك القطائع على شاطئ الأربد وعلى باب حمص وعلى باب الرستن ماضية
لأهلها لاخراج عليها تؤدى العشر
(فصل) وهذا الذي ذكرناه في الأرض المغلة، فأما المساكين فلا بأس بحيازتها وبيعها وشرائها
وسكناها. قال أبو عبيد: ما علمنا أحدا كره ذلك، وقد اقتسمت الكوفة خططا في زمن عمر رضي
الله عنه باذنه والبصرة وسكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الشام ومصر وغيرهما
من البلدان فما عاب ذلك أحد ولا أنكره
(مسألة) قال (فما من الصلح ففيه الصدقة)
يعني ما صولحوا عليه على أن ملكه لأهله ولنا عليهم خراج معلوم فهذا الخرج في حكم الجزية فمتى
أسلموا سقط عنهم، وإن انتقلت إلى مسلم لم يكن عليها خراج، وفي مثله جاء عن العلاء بن الحضرمي
قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحرين وإلى هجر فكنت آتي الحائط تكون بين الاخوة يسلم أحدهم
589

فآخذ من المسلم العشر، ومن المشرك الخراج. رواه ابن ماجة، فهذا في أحد هذين البلدين لأنهما
فتحا صلحا، وكذلك كل أرض أسلم أهلها عليها كأرض المدينة فهي ملك لهم ليس عليها خراج ولا شئ
أما الزكاة فهي واجبة على كل مسلم، ولا خلاف في وجوب العشر في الخارج من هذه الأرض. قال
ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن كل أرض أسلم أهلها عليها قبل قهرهم عليها
أنها لهم وأن أحكامهم أحكام المسلمين وأن عليهم فيما زرعوا فيها الزكاة
(مسألة) قال (وما كان عنوة أدي عنها الخراج وزكي ما بقي إذا كان خمسة أوسق وكان لمسلم)
يعنى ما فتح عنوة ووقف على المسلمين وضرب عليهم خراج معلوم فإنه يؤدي الخراج من غلته
وينظر في باقيها، فإن كان نصابا ففيه الزكاة إذا كان لمسلم، وإن لم يبلغ نصابا ولم يكن لمسلم
فلا زكاة فيه فإن الزكاة لا تجب على غير المسلمين وكذلك الحكم في كل أرض خراجية، وهذا قول عمر
ابن عبد العزيز والزهري ويحيي الأنصاري وربيعة والأوزاعي ومالك والثوري ومغيرة والليث والحسن
ابن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد. وقال أصحاب الرأي: لا عشر
في الأرض الخراجية لقوله عليه السلام (لا يجتمع العشر والخراج في أرض مسلم) ولأنهما حقان سبباهما
متنافيان فلا يجتمعان كزكاة السوم والتجارة، والعشر وزكاة القيمة. وبيان تنافيهما أن الخراج وجب
عقوبة لأنه جزية الأرض والزكاة وجبت طهرة وشكرا
590

ولنا قول الله تعالى (ومما أخرجنا لكم من الأرض) وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر)
وغيره من عمومات الأخبار. قال ابن المبارك: يقول الله (ومما أخرجنا لكم من الأرض) ثم قال نترك
القرآن لقول أبي حنيفة؟ ولأنهما حقان يجبان لمستحقين يجوز وجوب كل واحد منهما على المسلم فجاز
اجتماعهما كالكفارة والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم يرويه يحيى بن عبسة وهو ضعيف
عن أبي حنيفة ثم نحمله على الخراج الذي هو جزية، وقول الخرقي وكان لمسلم يعني أن الزكاة لا تجب على
صاحب الأرض إذا لم يكن مسلما، وليس عليه في أرضه سوى الخراج. قال احمد رحمه الله: ليس
في أرض أهل الذمة صدقة، إنما قال الله تعالى (صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فأي طهرة للمشركين، وقولهم
ان سببيهما يتنافيان غير صحيح، فإن الخراج أجرة الأرض والعشر زكاة الزرع، ولا يتنافيان كما لو
استأجر أرضا فزرعها، ولو كان الخراج عقوبة لما وجب على مسلم كالجزية
(فصل) فإن كان في غلة الأرض ما لا عشر فيه كالثمار التي لا زكاة فيها والخضروات وفيها
زرع فيه الزكاة جعل ما لا زكاة فيه في مقابلة الخراج وزكى ما فيه الزكاة إذا كان ما لا زكاة فيه وافيا بالخراج وان لم
يكن لها عليه الا ما تجب فيه الزكاة أدى الخراج من غلتها وزكى ما بقي، وهذا قول عمر بن عبد العزيز إذا كان
ما لا زكاة فيه وافيا بخراج، وإن لم يكن لهما غلة إلا ما تجب فيه الزكاة أدى الخراج من غلتها
روى أبو عبيد عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن أبي عوف
عامله على فلسطين فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أن يقبض منها جزيتها ثم يأخذ منها
زكاة ما بقي بعد الجزية. قال ابن أبي عبلة: أنا ابتليت بذلك، ومني أخذوا ذلك لأن الخراج من
مؤنة الأرض فيمنع وجوب الزكاة في قدره كما قال احمد: من استدان ما أنفق على زرعه، واستدان
ما أنفق على أهله، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله لأنه من مؤنة الزرع، وبهذا قال
ابن عباس وقال عبد الله بن عمر: يحتسب بالدينين جميعا ثم يخرج مما بعدهما، وحكي عن أحمد أن
الدين كله يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة، فعلى هذه الرواية يحسب كل دين عليه ثم يخرج العشر مما
591

بقي إن بلغ نصابا وان لم يبلغ نصابا فلا عشر فيه، وذلك لأن الواجب زكاة فمنع الدين وجوبها كزكاة
الأموال الباطنة ولأنه دين فمنع وجوب العشر كالخراج وما أنفقه على زرعه والفرق بينهما على الرواية
الأولى أن ما كان من مؤنة الزرع فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره فكأنه لم يحصل
(فصل) ومن استأجر أرضا فزرعها فالعشر عليه دون مالك الأرض، وبهذا قال مالك والثوري وشريك
وابن المبارك والشافعي وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: هو على مالك الأرض لأنه من مؤنتها أشبه الخراج
ولنا أنه واجب في الزرع فكان على مالكه كزكاة القيمة فيما إذا أعده للتجارة وكعشر زرعه
في ملكه، ولا يصح قولهم إنه من مؤنة الأرض لأنه لو كان من مؤنتها لوجب فيها وان لم تزرع
كالخراج ولوجب على الذمي كالخراج ولتقدر بقدر الأرض لا بقدر الزرع، ولوجب صرفه إلى
مصارف الفئ دون مصرف الزكاة، ولو استعار أرضا فزرعها فالزكاة على صاحب الزرع لأنه مالكه
وإن غصبها فزرعها وأخذ الزرع فالعشر عليه أيضا لأنه ثبت على ملكه، وإن أخذه مالكها قبل اشتداد حبه فالعشر عليه وإن أخذه بعد ذلك احتمل أن يجب عليه أيضا لأن
أخذه إياه استند إلى أول زرعه
فكأنه أخذه من تلك الحال، ويحتمل أن تكون زكاته على الغاصب لأنه كان ملكا له حين وجوب
عشره وهو حين اشتداد حبه، وإن زارع رجلا مزارعة فاسدة فالعشر على من يجب الزرع له،
وإن كانت صحيحة فعلى كل واحد منهما عشر حصته إن بلغت خمسة أوسق أو كان له من الزرع
ما يبلغ بضمه إليها خمسة أوسق وإلا فلا عشر عليه، وإن بلغت حصة أحدهما دون صاحبه النصاب فعلى
من بلغت حصته النصاب عشرها ولا شئ على الآخر لأن الخلطة لا تؤثر في غير السائمة في الصحيح
ونقل عن أحمد أنها تؤثر فيلزمهما العشر إذا بلغ الزرع جميعه خمسة أوسق ويخرج كل واحد منهما
عشر نصيبه إلا أن يكون أحدهما ممن لا عشر عليه كالمكاتب والذمي فلا يلزم شريكه عشرا إلا أن
تبلغ حصته نصابا وكذلك الحكم في المساقاة
(فصل) ويكره لمسلم بيع أرضه من ذمي واجارتها منه لافضائه إلى اسقاط عشر الخارج منها
قال محمد بن موسى سألت أبا عبد الله عن المسلم يؤجر أرض الخراج من الذمي قال لا يؤجر من الذمي
إنما عليه الجزية وهذا ضرر وقال في موضع آخر لأنهم لا يؤدن الزكاة فإن آجرها منه ذمي أو باع
أرضه التي لا خراج عليها ذميا صح البيع والإجارة وهذا مذهب الثوري والشافعي وشريك وأبي عبيد
592

وليس عليهم فيها عشر ولا خراج قال حرب سألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر قال لا أعلم عليه
شيئا إنما الصدقة كهيئة مال الرجل وهذا المشتري ليس عليه وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا
يقولون لا تترك الذمي يشتري أرض العشر وأهل البصرة يقولون قولا عجيبا يقولون يضاعف عليهم
وقد روي عن أحمد انهم يمنعون من شرائها اختارها الخلال وصاحبه وهو قول مالك وصاحبه فإن
اشتروها ضوعف عليهم العشر وأخذ منهم الخمس لأن في اسقاط العشر من غلة هذه الأرض
أضرارا بالفقراء وتقليلا لحقهم فإذا تعرضوا لذلك ضوعف عليهم العشر كما لو اتجروا بأموالهم إلى غير
بلدهم ضوعفت عليهم الزكاة فأخذ منهم نصف العشر وهذا قول أهل البصرة وأبي يوسف ويروى ذلك عن الحسن، عبيد الله بن الحسن العنبري، وقال محمد بن الحسن: العشر بحاله، وقال أبو
حنيفة تصير أرض خراج
ولنا أن هذه أرض لا خراج عليها فلا يلزم فيها الخراج ببيعها كما لو باعها مسلما ولأنها مال مسلم
يجب الحق فيه للفقراء عليه فلم يمنع من بيعه للذمي كالسائمة وإذا ملكها الذمي فلا عشر عليه فيما يخرج
منها لأنها زكاة فلا تجب على الذمي كزكاة السائمة وما ذكره يبطل بالسائمة فإن الذمي يصح أن يشتريها
وتسقط الزكاة منها وما ذكروه من تضعيف العشر فتحكم لا نص فيه ولا قياس
(مسألة) قال (وتضم الحنطة إلى الشعير وتزكى إذا كانت خمسة أوسق وكذلك
القطنيات، وكذلك الذهب والفضة)
وعن أبي عبد الله رواية أخرى انها لا تضم وتخرج من كل صنف إن كان منصبا للزكاة. القطنيات
بكسر القاف جمع قطنية ويجمع أيضا قطاني قال أبو عبيد هي صنوف الحبوب من العدس، والحمص
والأرز، والجلبان، والجلجلان يغمي السمسم، وزاد غيره الدخن واللوبيا والفول والماش وسميت
قطنية فعلية من قطن يقطن في البيت أي يمكث فيه. ولا خلاف بين أهل العلم في غير الحبوب والثمار
انه لا يضم جنس إلى جنس آخر في تكميل النصاب فالماشية ثلاثة أجناس الإبل والبقر والغنم لا يضم جنس
منها إلى آخر والثمار لا يضم جنس إلى غيره فلا يضم التمر إلى الزبيب، ولا إلى اللوز، والفستق، والبندق، ولا يضم
شئ من هذه إلى غيره ولا تضم الأثمار إلى شئ من السائمة ولا من الحبوب والثمار ولا خلاف بينهم في
أن أنواع الأجناس يضم بعضها إلى بعض في اكمال النصاب ولا خلاف بينهم أيضا في أن العروض تضم
593

إلى الأثمان وتضم الأثمان إليها إلا أن الشافعي لا يضمها إلا إلى جنس ما اشتريت به لأن نصابها معتبر به
واختلفوا في ضم الحبوب بعضها إلى بعض وفي ضم أحد النقدين إلى الآخر فروي عن أحمد في
في الحبوب ثلاث روايات إحداهن لا يضم جنس منها إلى غيره ويعتبر النصاب في كل جنس منها
منفردا هذا قول عطاء ومكحول وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح وشريك
والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنها أجناس فاعتبر النصاب في كل جنس منها
منفردا كالثمار أيضا والمواشي
والرواية الثانية أن الحبوب كلها تضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب اختارها أبو بكر وهذا
قول عكرمة وحكاه ابن المنذر عن طاوس وقال أبو عبيد لا نعلم أحدا من الماضين جمع بينهما الا عكرمة وذلك
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق) ومفهومه وجوب الزكاة فيه إذا
بلغ خمسة أوسق ولأنها تتفق في النصاب وقدر المخرج والمنبت والحصاد فوجب ضم بعضها إلى بعض
كأنواع الجنس وهذا الدليل منتقض بالثمار
والثالثة أن الحنطة تضم إلى الشعير وتضم القطنيات بعضها إلى نقلها أبو الحارث عن أحمد
وحكاها الخرقي قال القاضي وهذا هو الصحيح وهو مذهب مالك والليث إلا أنه زاد فقال السلت
والذرة والدخن والأرز والقمح والشعير صنف واحد ولعله يحتج بأن هذا كله مقتات فيضم بعضه إلى
بعض كأنواع الحنطة وقال الحسن والزهري تضم الحنطة إلى الشعير لأنها تتفق في الاقتيات والمنبت
والحصاد والمنافع فوجب كما يضم العلس إلى الحنطة وأنواع الجنس بعضها إلى بعض، والرواية
الأولى أولى إن شاء الله تعالى لأنها أجناس يجوز التفاضل فيها فلم يضم بعضها إلى بعض كالثمار ولا يصح
القياس على العلس مع الحنطة لأنه نوع منها ولا على أنواع الجنس لأن الأنواع كلها جنس واحد يحرم
التفاضل فيها وثبت حكم الجنس في جميعها الأجناس وإذا انقطع القياس لم يجز إيجاب الزكاة
بالتحكم ولا بوصف غير معتبر ثم هو باطل بالثمار فإنها تتفق فيما ذكروه ولا يضم بعضها إلى بعض ولان
الأصل عدم الوجوب فما لم يرد بالايجاب نص أو إجماع أو معناهما لا يثبت إيجابه والله أعلم ولا خلاف
فيما نعلمه في ضم الحنطة إلى العلس لأنه نوع منها وعلى قياسه السلت يضم إلى الشعير لأنه منه
(فصل) ولا تفريع على الروايتين الأولين لوضوحهما
فأما الثالثة هي ضم الحنطة إلى الشعير والقطنيات بعضها إلى بعض فإن الذرة تضم إلى الدخن
594

لتقاربهما في المقصد فإنهما يتخذان خبزا وأدما وقد ذكرا من جملة القطنيات أيضا فيضمان إليها وأما
البزور فلا تضم إلى القطنيات ولكن الابازير يضم بعضها إلى بعض لتقاربها في المقصد فأشبهت
القطنيات وحبوب البقول لا تضم إلى القطنيات ولا إلى البزور فما تقارب منها ضم بعضه إلى بعض
ومالا فلا وما شككنا فيه لا يضم لأن الأصل عدم الوجوب فلا يجب بالشك والله أعلم
(فصل) وذكر الخرقي في ضم الذهب إلى الفضة روايتين وقد ذكرناهما فيما مضى واختار
أبو بكر أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر مع اختياره الضم في الحبوب لاختلاف نصابهما واتفاق نصاب الحبوب
(فصل) ومتى قلنا بالضم فإن الزكاة تؤخذ من كل جنس على قدر ما يخصه، ولا يؤخذ من
جنس عن غيره، فإننا إذا قلنا في أنواع الجنس يؤخذ من كل نوع ما يخصه فأولى أن يعتد ذلك في
الأجناس المختلفة مع تفاوت مقاصدها إلا الذهب والفضة، فإن في اخراج أحدهما عن الآخر روايتين
(فصل) ويضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب سواء اتفق وقت زرعه
وادراكه أو اختلف، ولو كان منه صيفي وربيعي ضم الصيفي إلى الربيعي، ولو حصدت الذرة والدخن
ثم نبت أصولهما يصم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب لأن الجميع زرع عام واحد فضم بعضه
إلى بعض كما لو تقارت زرعه وادراكه.
(فصل) وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض سواء اتفق وقت اطلاعها وادراكها أو اختلف
فيقدم بعضها على بعض في ذلك، ولو أن الثمرة جدت ثم أطلعت لاخرى وجدت ضمت إحداهما إلى
الأخرى فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين ضم أحدهما إلى الآخر، وقال القاضي لا يضم وهو
قول الشافعي لأنه ينفصل عن الأول فكان حكمه حمل عام آخر، وإن كان له نخل يحمل مرة ونخل
يحمل مرتين ضممنا الحمل الأول إلى الحمل المنفرد ولم يجب في الثاني شئ إلا أن يبلغ بمفرده نصابا والصحيح
أن أحد الحملين يضم إلى الآخر ذكره أبو الخطاب وابن عقيل لأنهما ثمرة عام واحد فيضم بعضها إلى
بعض كزرع العام الواحد وكالذرة التي تنبت مرتين ولان الحمل الثاني يضم إلى المنفرد لو لم يكن
حمل أول فكذا إذا كان، فإن وجود الحمل الأول لا يصح أن يكون مانعا بدليل حمل الذرة الأول
وما ذكره من الانفصال يبطل بالذرة والله أعلم بالصواب
595

باب زكاة الذهب والفضة
وهي واجبة بالكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم) الآية. ولا يتوعد بهذه العقوبة إلا على ترك واجب.
وأما السنة فما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي
منها حقها الا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فاحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه
وجبهته وظهره كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضي الله بين العباد)
أخرجه مسلم، وروى البخاري وغيره في كتاب أنس (وفي الرقة ربع العشر فإن لم يكن إلا تسعين ومائة
فليس فيها شئ الا أن يشاربها) والرقة هي الدراهم المضروبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس
أواق صدقة) متفق عليه وأجمع أهل العم على أن في مائتي درهم خمسة دراهم وعلى أن الذهب إذا
كان عشرين مثقالا وقيمته مائتا درهم أن الزكاة تجب فيه الا ما اختلف فيه عن الحسن
(مسألة) قال أبو القاسم (ولا زكاة فيما دون المائتين الا أن يكون في ملكه ذهب
أو عروض للتجارة فيتم به)
وجملة ذلك أن نصاب الفضة مائتا درهم لا خلاف في ذلك بين علماء الاسلام وقد بينته السنة التي
رويناها بحمد الله، والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعه مثاقيل
بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسه، وهي الدراهم الاسلامية التي تقدر بها نصب الزكاة
ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك وكانت الدراهم في صدر الاسلام صنفين
596

سودا وطبرية وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق فجمعا في الاسلام وجعلا درهمين
متساويين في كل درهم ستة دوانيق فعل ذلك بنو أمية فاجتمعت فيها ثلاثة أوجه أحدها أن كل عشرة
وزن سبعة، والثاني انه عدل بين الصغير والكبير، والثالث أنه موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرهمه
الذي قدر به المقادير الشرعية، ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب ومتى نقص النصاب عن ذلك
فلا زكاة فيه سواء كان كثيرا أو يسيرا هذا ظاهر كلام الخرقي ومذهب الشافعي وإسحاق وابن المنذر
لظاهر قوله عليه السلام (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) والأوقية أربعون درهما بغير خلاف
فيكون ذلك مائتي درهم وقال غير الخرقي من أصحابنا إن كان النقص يسيرا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة
لأنه لا يضبط غالبا فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين، وإن كان بينا كالدانق والدانقين فلا زكاة
فيه وعن أحمد أن نصاب الذهب إذا نقص ثلث مثقال زكاة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسفيان
وان نقص نصفا لا زكاة فيه، وقال أحمد في موضع آخر ان نقص ثمنا لا زكاة فيه اختاره أبو بكر وقال
مالك إذا نقصت نقصا يسيرا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة، لأنها تجوز جواز الوازنة أشبهت
الوازنة، والأول ظاهر الخبر
فينبغي أن لا يعدل عنه فاما قوله: الا أن يكون في ملك ذهب أو عروض
للتجارة فيتم به فلا عروض التجارة تضم إلى كل واحد من الذهب والفضة ويكمل به نصابه لا نعلم
ففيه اختلافا الخطابي ولا أعلم عامتهم اختلفوا فيه وذلك لأن الزكاة إنما تجب في قيمتها فتقوم بكل
واحد منهما فتضم إلى كل واحد منها ولو كان له ذهب وفضة وعروض وجب ضم الجميع بعضه إلى
بعض في تكميل النصاب لأن العرض مضموم إلى كل واحد منهما فيجب ضمهما إليه وجمع الثلاثة فاما
إن كان له من كل واحد من الذهب والفضة مالا يبلغ نصابا بمفرده أو كان له نصاب من أحدهما وأقل
من نصاب من الآخر فقد توقف أحمد عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم وجماعة وقطع في رواية حنبل
انه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابا وذكر الخرقي فيه روايتين في الباب قبله إحداهما لا يضم
597

وهو قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور واختاره أبو بكر
عبد العزيز لقوله عليه السلام (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولأنهما مالان يختلف نصابهما فلا يضم
أحدهما إلى الآخر كأجناس الماشية، والثانية يضم أحدهما إلى الاخر في تكميل النصاب وهو قول
الحسن وقتادة ومالك والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي لأن أحدهما يضم إلى ما يضم إليه الآخر
فيضم إلى الاخر كانوا الجنس ولان نفعهما واحد والأصول فيهما متحدة فإنهما قيم المتلقات وأروش
الجنايات وأثمان البياعات وحلي لمن يريدهما لذلك فأشبه النوعين والحديث مخصوص بعرض التجارة
فنقيس عليه، فإذا قلنا بالضم فإن أحدهما يضم إلى الآخر بالاجزاء يعني أن كل واحد منهما يحتسب
من نصابه فإذا كملت أجزاؤهما نصابا وجبت الزكاة مثل أن يكون عنده نصف نصاب من أحدهما ونصف
نصاب أو أكثر من الاخر أو ثلث من أحدهما وثلثان أو أكثر من الآخر فلو ملك مائة درهم وعشرة
دنانير أو مائة وخمسين درهما وخمسة دنانير أو مائة وعشرين درهما وثمانية دنانير وجبت الزكاة فيهما وإن
نقصت أجزاؤهما عن نصاب فلا زكاة فيهما سئل احمد عن رجل عنده ثمانية دنانير ومائة درهم فقال: إنما قال من
قال فيها الزكاة إذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم وهذا قول مالك وأبي يوسف ومحمد والأوزاعي لأن كل
واحد منهما لا تعتبر قيمته في وجوب الزكاة إذا كان منفردا فلا تعتبر إذا كان عنده عشرة دنانير مضمومة كالحبوب
والثمار وأنواع الأجناس كلها، وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد في روايتين المروذي أنها تضم بالأحوط من
الاجزاء والقيمة ومعناه أنه يقوم الغالي منهما بقيمة الرخيص، فإذا بلغت قيمتها بالرخيص منهما نصابا
وجبت الزكاة فيهما، فلو ملك مائة درهم وسبعة دنانير قيمتها مئة درهم أو عشرة دنانير وسبعين درهما قيمتها عشرة
دنانير وجبت الزكاة فيهما، وهذا قول أبي حنيفة في تقويم الدنانير بالفضة لأن كل نصاب وجب فيه ضم الذهب إلى
الفضة ضم بالقيمة كنصاب القطع في السرقة ولان أصل الضم لتحصيل حظ الفقراء فكذلك صفة الضم، والأول
أصح لأن الأثمان تجب الزكاة في أعيانها فلا تعتبر قيمتها كما لو انفردت، ويخالف نصاب القطع فإن نصاب القطع
فيه الورق خاصة في إحدى الروايتين، وفي الأخرى أنه لا يجب في الذهب حتى يبلغ ربع دينار والله أعلم
598

(مسألة) قال (وكذلك دون العشرين مثقالا)
يعني أن ما دون العشرين لا زكاة فيه إلا أن يتم بورق أو عروض تجارة. قال المنذر: أجمع
أهل العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا قيمتها مئتا درهم أن الزكاة تجب فيها إلا ما حكي عن
الحسن أنه قال: لا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين، وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالا ولا
يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه. وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها
إلا ما حكي عن عطاء وطاوس والزهري وسليمان بن حرب وأيوب السختياني أنهم قالوا: هو معتبر
بالفضة فما كان قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصابه
فثبت أنه حمل على الفضة. ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة) رواه أبو عبيد
وروى ابن ماجة عن عمرو عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا فصاعدا
نصف دينار، ومن الأربعين دينارا. وروى سعيد والأثرم عن علي على كل أربعين دينارا دينار،
وفي كل عشرين دينارا نصف دينار، ورواه غيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه مال تجب الزكاة في
عينه فلم يعتبر بغيره كسائر الأموال الزكوية
(فصل) ومن ملك ذهبا أو فضة مغشوشة أو مختلطا بغيره فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب
والفضة نصابا لقوله عليه السلام (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) فإن لم يعلم قدر ما فيه
منهما وشك هل بلغ نصابا أو لا - خير بين سبكهما لعلم قدر ما فيه منهما وبين أن يستظهر ويخرج
ليسقط الفرض بيقين فإن أحب ان يخرج استظهارا فأراد إخراج الزكاة من المغشوشة نظرت فإن
كان الغش لا يختلف مثل أن يكون الغش في كل دينار سدسه وعلم ذلك جاز ان يخرج منها
599

لأنه يكون مخرجا لربع العشر، وإن اختلف قدر ما فيها أولم يعلم لم يجزه الاخراج منها إلا أن
يستظهره بحيث يقين أن ما أخرجه من الذهب محيط بقدر الزكاة، وإن أخرج عنها ذهبا لا غش فيه
فهو أفضل، وإن أراد اسقاط الغش واخراج الزكاة عن قدر ما فيه من الذهب كمن معه أربعة وعشرون
دينارا سدسها غش فأسقط السدس أربعة وأخرج نصف دينار عن عشرين جاز لأنه لو سبكها لم يلزمه
إلا ذلك، ولان غشها لا زكاة فيه إلا أن يكون فضة وله من الفضة ما يتم به النصاب، أوله نصاب
سواء فيكون عليه زكاة الغش حينئذ، وكذلك إن قلنا بضم أحد النقدين إلى الآخر، وإذا ادعى رب
المال أنه يعلم الغش أو أنه استظهره وأخرج الفرض قبل منه يمين، وإن زادت قيمة المغشوش
بالغش فصارت قيمة العشرين تساوي اثنين وعشرين فعليه اخراج ربع عشرها مما قيمته كقيمتها لأن عليه
اخراج زكاة المال الجيد من جنسه بحيث لا ينقص عن قيمته والله أعلم
(مسألة) قال (فإذا تمت ففيها ربع العشر)
يعني إذا تمت الفضة والدنانير عشر بن فالواجب فيها ربع عشرها ولا نعلم خلافا بين أهل
العلم في أن زكاة الذهب والفضة ربع عشرها فقد ثبت ذلك بقوله عليه السلام (في الرقة ربع العشر)
600

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شئ) قال الترمذي
قال البخاري في هذا الحديث هو صحيح عندي ورواه سعيد ولفظه (فهاتوا صدقة الرقة من كل
أربعين درهما درهما) وأجمع أهل العلم على أن في مائتي درهم خمسة دراهم، وروى ابن عمر وعائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا فصاعدا نصف دينار ومن الأربعين دينارا دينارا
(مسألة) قال (وفي زيادتها وان قلت)
روي هذا عن علي وابن عمر رضي الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي ومالك
والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر. وقال سعيد
ابن المسيب وعطاء وطاوس والحسن والشعبي ومكحول والزهري وعمرو بن دينار وأبو حنيفة: لا شئ
في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير لقوله عليه السلام (من
كل أربعين درهما درهما) وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا بلغ الورق مائتين ففيه خمسة
دراهم، ثم لا شئ فيه حتى يبلغ إلى أربعين درهما) وهذا نص، ولان له عفوا في الابتداء فكان
له عفو بعد النصاب كالماشية
ولنا ما روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهما
وليس عليكم شئ حتى يتم مائتين، فإذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فما زاد بحساب
601

ذلك) رواه الأثرم والدارقطني، ورواه أبو داود باسناده عن عاصم بن ضمرة والحارث عن علي
الا أنه قال أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن علي وابن عمر موقوفا عليهم ولم نعرف لهما مخالفا
من الصحابة فيكون اجماعا، ولأنه مال متجر فلم يكن له عفو بعد النصاب كالحبوب وما احتجوا به
من الخبر الأول فهو احتجاج بدليل الخطاب والمنطوق مقدم عليه والحديث الآخر يرويه أبو العطوف
الجراح بن منهال وهو متروك الحديث. قال الدارقطني وقال مالك: هو دجال من الدجاجلة، ويرويه
عن عبادة بن نسي عن معاذ ولم يلق عبادة معاذا فيكون مرسلا، والماشية يشق تشقيصها بخلاف الأثمان
(فصل) ويخرج الزكاة من جنس ماله فإن كان أنواعا متساوية القيم جاز أن يخرج الزكاة من
أحدها كما تخرج من أحد نوعي الغنم، وإن كانت مختلفة القيم أخذ من كل نوع ما يخصه، وإن أخرج
من أوسطها ما يفي بقدر الواجب وقيمته جاز، وإن أخرج الفرض من أجودها بقدر الواجب جاز
وله ثواب الزيادة، وإن أخرجه بالقيمة مثل أن يخرج عن نصف دينار ثلث دينار جيد لم يجز لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نص على نصف دينار فلم يجز النقص منه، وإن أخرج من الدنى وزاد في المخرج ما يفي
بقيمة الواجب مثل أن يخرج عن دينار دينارا ونصفا بقيمته جاز، وكذلك لو أخرج عن الصحاح
602

مكسرة وزاد بقدر ما بينهما من الفضل جاز لأنه أدى الواجب عليه قيمة وقدرا، وإن أخرج عن
كثير القيمة قليل القيمة فكذلك، فإن أخرج بهرجا عن الجيد وزاد بقدر ما يساوي قيمة الجيد فقال
أبو الخطاب يجوز، وقال القاضي يلزمه اخراج جيد ولا يرجع فيما أخرجه من العيب لأنه أخرج معيبا
في حق الله تعالى فأشبه ما لو أخرج مريضة عن صحاح، وبهذا قال الشافعي إلا أن أصحابه قالوا: له
الرجوع فيما أخرج من العيب في أحد الوجهين. وقال أبو حنيفة: يجوز اخراج الرديئة عن الجيدة والمكسورة
عن الصحيحة من غير جبران لأن الجودة إذا لاقت جنسها فيما فيه الربا لا قيمة لها
ولنا أن الجودة متقومة بدليل ما لو أتلف جيدا لم يجزئه أن يدفع عنه رديئا، ولأنه إذا لم يجبره
بما يتم به قيمة الواجب عليه دخل في عموم قوله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ولأنه أخرج
رديئا عن جيد بقدره فلم يجز كما في الماشية، ولان المستحق معلوم القدر والصفة فلم يجز النقص في الصفة
كما لا يجوز في القدر، وأما الربا فلا يجزى همنا لأن المخرج حق الله ولا ربا بين العبد وسيده، ولان
المساواة في المعيار الشرعي إنما اعتبرت في المعاوضات والقصد من الزكاة المواساة واغناء الفقير
وشكر نعمة الله تعالى فلا يدخل الربا فيها، فإن قيل فلو أخرج في الماشية رديئتين عن جيدة، أو
أخرج قفيزين رديئتين عن قفيز جيد لم يجز فلم أجزتم أن يخرج عن الصحيح أكثر منه مكسرا؟ قلنا يجوز
ذلك إذا لم يكن في إخراجه عيب سوى نقص القيمة، وإن سلمناه فالفرق بينهما أن القصد من
603

الأثمان القيمة لاغير، فإذا تساوى الواجب والمخرج في القيمة والقدر جاز وسائر الأموال يقصد
الانتفاع بعينها فلا يلزم من التساوي في الامرين الاجزاء لجواز أن يفوت بعض المقصود
(فصل) وهل يجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر؟ فيه روايتان نص عليهما (إحداهما)
لا يجوز وهو اختيار أبي بكر لأن أنواع الجنس لا يجوز اخراج أحدهما عن الآخر إذا كان أقل في
المقدار فمع اختلاف الجنس أولى (والثانية) يجوز وهو أصح إن شاء الله لأن المقصود من أحدهما
يحصل باخراج الآخر فيجزئ كأنواع الجنس وذلك لأن المقصود منهما جميعا الثمنية والمتوسل بها إلى
المقاصد وهما يشتركان فيه على السواء فأشبه إخراج المكسرة عن الصحاح بخلاف سائر الأجناس
والأنواع مما تجب فيه الزكاة، فإن لكل جنس مقصودا مختصا به لا يحصل من الجنس الآخر وكذلك
أنواعها فلا يحصل باخراج غير الواجب من الحكمة ما يحصل باخراج الواجب وهمنا المقصود حاصل
فوجب إجزاؤه إذ لا فائدة باختصاص الاجزاء بعين مع مساواة غيرها لها في الحكمة وكون ذلك أرفق
بالمعطي والآخذ وأنفع لهما ويندفع به الضرر عنهما، فإنه لو تعين اخراج زكاة الدنانير منها شق على من
يملك أقل من أربعين دينارا اخراج جزء من دينار، ويحتاج إلى التشقيص ومشاركة الفقير له في دينار
من ماله أو بيع أحدهما نصيبه فيستضر المالك والفقير، وإذا جاز اخراج الدراهم عنها دفع إلى الفقير
من الدراهم بقدر الواجب فيسهل ذلك عليه وينتفع الفقير من غير كلفة ولا مضرة، ولأنه إذا دفع إلى
604

الفقير قطعة من الذهب في موضع لا يتعامل بها فيه أو قطعة من درهم في مكان لا يتعامل بها فيه لم يقدر
على قضاء حاجته بها وان أراد بيعها بحسب ما يتعامل بها احتاج إلى كلفة البيع، وربما لا يقدر عليه
ولا يفيده شيئا، وإن أمكن بيعها احتاج إلى كلفة البيع، والظاهر أنها تنقص عوضها عن قيمتها فقد
دار بين ضررين، وفي جواز اخراج أحدهما عن الآخر نفع محض ودفع لهذا الضرر، وتحصل لحكمة
الزكاة على التمام والكمال فلا حاجة ولا وجه لمنعه، وإن توهمت هنا منفعة تفوت بذلك فهي يسيرة
مغمورة فيها يحصل من النفع الظاهر ويندفع من الضرر والمشقة من الجانبين فلا يعتبر والله أعلم
وعلى هذا لا يجوز الابدال في موضع يلحق الفقير ضرر مثل أن يدفع إليه مالا ينفق عوضا عما
ينفق لأنه إذا لم يجز اخراج أحد النوعين عن الآخر مع الضرر فمع غيره أولى، وإن اختار الدفع من
الجنس واختار الفقير الاخذ من غيره لضرر يلحقه في أخذ الجنس لم يلزم المالك اجابته لأنه إذا أدى
ما فرض عليه لم يكلف سواه والله أعلم
(مسألة) قال (وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره)
هذا ظاهر المذهب وروي ذلك عن ابن عمر وجابر وأنس وأسماء رضي الله عنهم، وبه قال
القاسم والشعبي وقتادة ومحمد بن علي وعمرة ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور، وذكر بن
أبي موسى رواية أخرى أنه فيه الزكاة، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن
605

عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وعبد الله بن شداد وجابر بن زيد
وابن سيرين وميمون بن مهران والزهري والثوري وأصحاب الرأي لعموم قوله عليه السلام (في الرقة
ربع العشر، وليس فيما دون أواق صدقة) مفهومه أن فيها صدقة إذا بلغت خمس أواق
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أتت امرأة من أهل اليمن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعها ابنة لها في يديها مسكتان من ذهب فقال (هل تعطين زكاة هذا؟) قالت: لا، قال
(أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار) رواه أبو داود، ولأنه من جنس الأثمان أشبه التبر.
وقال مالك يزكى عاما واحدا. وقال الحسن وعبد الله بن عتبة وقتادة: زكاته عاريته. قال احمد:
خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ليس في الحلي زكاة ويقولون زكاته عاريته. ووجه
الأول ما روى عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(ليس في الحلى زكاة) ولأنه مرصد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل وثياب القنية
وأما الأحاديث الصحيحة التي احتجوا بها فلا تتناول محل النزاع لأن الرقة هي الدراهم
المضروبة. قال أبو عبيد: لا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب إلا على الدراهم المنقوشة
ذات السكة السائرة في الناس، وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم كل أوقية أربعون درهما.
وأما حديث المسكتين فقال أبو عبيد: لا نعلمه إلا من وجد قد تكلم الناس فيه قديما وحديثا، وقال
606

الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شئ، ويحتمل أنه أراد بالزكاة اعارته كما فسره به بعض العلماء
وذهب إليه جماعة من الصحابة وغيرهم والتبر غير معد للاستعمال بخلاف الحلي، وقول الخرقي إذا
كان مما تلبسه أو تعيره يعني أنه إنما تسقط عنه الزكاة إذا كان كذلك أو معدا له، فأما المعد للكرى
والنفقة إذا احتيج إليه ففيه الزكاة لأنها إنما تسقط عما أعد للاستعمال لصرفه عن جهة النماء ففيها عداه
يبقى على الأصل، وكذلك ما اتخذ حلية فرارا من الزكاة لا يسقط عنه ولا فرق بين كون الحلي المباح
مملوكا لامرأة تلبسه أو تعيره أو لرجل يحلي به أهله ويعيره أو يعده لذلك لأنه مصروف عن جهة النماء
إلى استعمال مباح أشبه حلي المرأة
(فصل) وقليل الحلي وكثيره سواء في الإباحة والزكاة. وقال ابن حامد يباح ما لم يبلغ ألف مثقال
فإن بلغها حرم وفيه الزكاة لما روى أبو عبيد والأثرم عن عمرو بن دينار قال: سئل جابر عن الحلي
هل فيه زكاة؟ قال لا، فقيل له الف دينارا؟ فقال: إن ذلك لكثير. ولأنه يخرج إلى السرف
والخيلاء ولا يحتاج إليه في الاستعمال والأول أصح لأن الشرع أباح التحلي مطلقا من غير تقييد فلا
يجوز تقييده بالرأي والتحكم، وحديث جابر ليس بصريح في نفي الوجوب وإنما يدل على
التوقف، ثم قد روي عنه خلافه فروى الجوز جاني باسناده عن أبي الزبير قال: سألت جابر بن عبد الله
عن الحلي فيه زكاة؟ قال: لا، قلت إن الحلي يكون فيه ألف دينار. قال: وإن كان فيه يعار ويلبس
ثم إن قول جابر قول صحابي خالفه غيره ممن أباحه مطلقا بغير تقييد فلا يبقى قوله حجة، والتقييد
بالرأي المطلق والتحكم غير جائز
(فصل) وإذا انكسر الحلي كسرا لا يمنع الاستعمال واللبس فهو كالصحيح لا زكاة فيه إلا أن ينوي
كسره وسبكه ففيه الزكاة حينئذ لأنه نوى صرفه عن الاستعمال، وإن كان الكسر يمنع الاستعمال
فقال القاضي: عندي أن فيه الزكاة لأنه كان بمنزلة النقرة والتبر
607

(فصل) وإذا كان الحلي للبس فنوت به المرأة التجارة انعقد عليه حوله الزكاة من حين نوت لأن
الوجوب هو الأصل، وإنما انصرف عنه لعارض الاستعمال فعاد إلى الأصل بمجرد النية من غير
استعمال فهو كما لو نوى بعرض التجارة القنية انصرف إليه من غير استعمال
(فصل) ويعتبر في النصاب في الحلي الذي تجب فيه الزكاة بالوزن، فلو ملك حليا قيمته مائتا درهم
ووزنه دون المئتين لم يكن عليه زكاة، وإن بلغ مائتين وزنا ففيه الزكاة، وإن نقص في القيمة لقوله
عليه السلام (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) اللهم إلا أن يكون الحلي للتجارة فيقوم
فإذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصابا ففيه الزكاة لأن الزكاة متعلقة بالقيمة، وما لم يكن للتجارة فالزكاة
في عينه فيعتبر أن يبلغ بقيمته ووزنه نصابا وهو مخير بين اخراج ربع عشر حلية مشاعا أو دفع ما يساوي
ربع عشرها من جنسها، وإن زاد في الوزن على ربع العشر لما بينا أن الربا لا يجزي ههنا، ولو أراد
كسرها ودفع ربع عشرها لم يكن منه لأنه ينقص قيمتها وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك. الاعتبار
بالوزن، وإذ ا كان وزن الحلي عشرين وقيمته ثلاثون فعليه نصف مثقالا لا تزيد قيمته شيئا لأنه نصاب
من جنس الأثمان فتعلقت الزكاة بوزنه لا بصفته كالدراهم المضروبة
ولنا أن الصناعة صارت صفة للنصاب لها قيمة مقصودة فوجب اعتبارها كالجودة في سائر أموال
الزكاة ودليلهم نقول به، وأن الزكاة تتعلق بوزنه وصفته جميعا من الذهب والفضة والمواشي
والحبوب والثمار، فإنه لا يجزئه اخراج ردئ، عن جيد كذاك ههنا، وإن أراد اخراج الفضة عن
حلي الذهب، أو الذهب عن الفضة أخرج على الوجهين كما قدمنا في اخراج أحد النقدين عن الآخر، وذكر
ابن عقيل أن الاعتبار في قدر النصاب أيضا بالقيمة، فلو ملك حليا وزنه تسعة عشر وقيمته عشرون
لأجل الصناعة ففيه الزكاة، وظاهر كلام احمد اعتبار الوزن وهو ظاهر نصه عليه لقوله (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولأنه مال تجب الزكاة في عينه فلا تعتبر قيمة الدنانير المضروبة لأن زيادة
القيمة بالصناعة كزيادتها بنفاسة جوهره فكما لا تجب الزيادة فيما نفيس الجوهر كذلك الآخر
608

(فصل) فإن كان في الحلى جوهر ولآلئ مرصعة فالزكاة في الحلي من الذهب والفضة دون
الجوهر لأنها لا زكاة فيها عند أحد من أهل العلم، فإن كان الحلي للتجارة قومه بما فيه من الجواهر لأن
الجواهر لو كانت مفردة وهي للتجارة لقومت وزكيت فكذلك إذا كانت في حلي التجارة
(فصل) وإذا اتخذ المرأة حليا ليس لها اتخاذه كما إذا اتخذت حلية الرجال كحيلة السيف والمنطقة
فهو محرم وعليها الزكاة كما لو اتخذ الرجل حلي المرأة
(فصل) ويباح للنساء من حلي الذهب والفضة والجواهر كل ما جرت عادتهن بلبسه مثل السوار
والخلخال والقرط والخاتم وما يلبسنه على وجوههن وفي أعناقهن وأيديهن وأرجلهن وآذانهن وغيره، فأما
ما لم تجر عادتهن بلبسه كالمنطقة وشبهها من حلي الرجال فهو محرم وعليها زكاته كما لو اتخذ الرجل لنفسه حلي المرأة
(مسألة) قال (وليس في حلية سيف الرجل ومنطقته وخاتمه زكاة)
وجملة ذلك أن ما كان مباحا من الحلي فلا زكاة فيه إذا كان معدا للاستعمال سواء كان لرجل أو امرأة
لأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية، ويباح للرجال من
الفضة الخاتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم اخذ خاتما من ورق. متفق عليه، وحلية السيف بأن تعجل قبيعته فضة
أو تحليتها بفضة، فإن أنسا قال: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة. وقال هشام بن عروة:
كان سيف الزبير محلى بالفضة. رواهما الأثرم باسناده، والمنطقة تباح تحليتها تباح تحليتها بالفضة لأنها حلية
معتادة للرجل فهي كالخاتم، وقد نقل كراهة ذلك لما فيه من الفخر والخيلاء فهو كالطوق والأول
أولى لأن الطوق ليس معتادا في حق الرجل بخلاف المنطقة وعلى قياس المنطقة الجوشن والخوذة
والخف والران والحمائل، وتباح الضبة في الاناء وما أشبهما للحاجة ونعني بالحاجة أنه ينتفع بها في
ذلك وإن قام غيرها مقامها
وفي صحيح البخاري أنس أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة ممن فضة
وقال القاضي: يباح اليسير وإن لم يكن لحاجة، وإنما كره احمد الحلقة في الاناء لأنها تستعمل، وأما
الذهب فيباح منه ما دعت الضرورة إليه كالأنف في حق من قطع أنفه لما روي عن عبد الرحمن بن
609

طرفة أن جده عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم
فاتخذ أنفا من ذهب. رواه أبو داود وقال الإمام أحمد ربط الأسنان بالذهب إذا خشي عليها أن
تسقط قد فعله الناس فلا بأس به عند الضرورة
وروى الأثرم عن موسى بن طلحة وأبي حمزة الضبعي وأبي رافع وثابت البناني وإسماعيل بن
زيد بن ثابت والمغيرة بن عبد الله أنهم شدوا أسنانهم بالذهب، وعن الحسن والزهري والنخعي أنهم
رخصوا فيه، وما عدا ذلك من الذهب فقد روي عن أحمد الرخصة فيه في السيف. قال الأثرم قال
احمد روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب، قال أبو عبد الله: فذاك الآن في
السيف وقال: انه كان لعمر سيف سبائكه من ذهب من حديث إسماعيل بن أمية عن نافع
وروى الترمذي باسناده عن مزيدة العصري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى سيفه ذهب وفضة
وروى عن أحمد رواية أخرى تدل على تحريم ذلك. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله يخاف عليه أن
يسقط يجعل فيه مسمارا من ذهب قال: إنما رخص في الأسنان، وذلك أنما هو على الضرورة فأما
المسمار، فقد روي (من تحلى بخريصيصة كوي بها يوم القيامة) قلت أي شئ خريصيصة؟ قال
شئ صغير مثل الشعير وروى الأثرم أيضا باسناده عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن
غنم قال: من حلي أو تحلى بخريصيصة كوي بها بوم القيامة مغفورا له أو معذبا، وحكي عن أبي
بكر من أصحابنا أنه أباح يسير الذهب ولعله يحتج بما رويناه من الاخبار ويقال الذهب على
الفضة، ولأنه أحد الثلاثة المحرمة على الذكور دون الإناث فلم يحرم يسيرة كسائرها وكل ما أبيح من
الحلي فلا زكاة فيه إذا كان معدا للاستعمال
(مسألة) قال (والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص وفيها الزكاة)
وجملته أن اتخاذ آنية الذهب والفضة حرام على النساء والرجال جميعا وكذلك استعماله. وقال الشافعي
في أحد قوليه: لا يحرم اتخاذها لأن النص إنما ورد في تحريم الاستعمال فيبقى إباحة الاتخاذ على
مقتضى الأصل في الإباحة
610

ولنا أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالملاهي ويستوي في ذلك الرجال
والنساء. لأن المغنى المقتضي للتحريم يعمهما وهو الافضاء إلى السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء فيستويان
في التحريم، وإنما أحل للنساء التحلي لحاجتهن إليه للتزين الأزواج، وليس هذا بموجود في الآنية فيبقى
على التحريم. إذا ثبت هذا فإن فيها الزكاة بغير خلاف بين أهل العلم ولا زكاة فيها حتى تبلغ نصابا
بالوزن أو يكون عنده ما يبلغ نصابا بضمها إليه، وإن زادت قيمة لصناعته فلا عبرة بها لأنها محرمة
فلا قيمة لها في الشرع وله أن يخرج عنها قدر ربع عشرها بقيمته غير مصوغ وإن أحب كسرها أخرج
ربع عشرها مكسورا، وإن أخرج ربع عشرها مصوغا جاز لأن الصناعة لم تنقصها عن قيمة المكسور،
وذكر أبو الخطاب وجها في اعتبار قيمتها والأول أصح إن شاء الله تعالى
(فصل) وكل ما كان اتخاذ محرما من الأثمان لم تسقط زكاته باتخاذه لأن الأصل وجوب الزكاة
فيها لكونها مخلوقة للتجارة والتوسل بها إلى غيرها ولم يوجد ما يمنع ذلك فبقيت على أصلها. قال
احمد: ما كان على سرج أو لجام ففيه الزكاة، ونص على حلية الثفر والركاب واللجام أنه محرم وقال
في رواية الأثرم أكره رأس المكحلة فضة، ثم قال وهذا شئ تأولته، وعلى قياس ما ذكره حلية الدواة
والمقلمة والسرج ونحوه مما على الدابة. ولو موه سقفه بذهب أو فضة فهو محرم وفيه الزكاة. وقال الزكاة. وقال أصحاب
الرأي: يباح لأنه تابع للمباح فيتبعه في الإباحة
ولنا أن هذا اسراف ويفضي فعله إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء فحرم كاتخاذ الآنية، وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم بخاتم الذهب للرجل فتمويه السقف أولى، وإن صار التمويه الذي في
السقف مستهلكا لا يجتمع منه شئ لم تحرى استدامته لأنه لا فائدة في اتلافه وإزالته ولا زكاة فيه
لأن ماليته ذهبت، وإن لم تذهب ماليته ولم يكن مستهلكا حرمت استدامته، وقد بلغنا أن عمر بن
عبد العزيز لما ولي أراد جمع ما في مسجد دمشق مما موه به من الذهب فقيل له إنه لا يجتمع منه شئ
فتركه، ولا يجوز تحلية المصاحف ولا المحاريب، ولا اتخاذ قناديل من الذهب والفضة لأنها بمنزلة الآنية
611

وإن وقفها على مسجد أو نحوه لم يصح لأنه ليس ببر ولا معروف ويكون ذلك بمنزلة الصدقة
فيكسر ويصرف في مصلحة المسجد وعمارته، وكذلك إن حبس الرجل فرساله لجام مفضض، وقد
قال احمد في الرجل يقف فرسا في سبيل الله ومعه لجام مفضض فهو على ما وقفه، وإن بيعت الفضة
من السرج واللجام جعلت في وقف أحب إلي لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشتري بذلك
سرجا ولجاما فيكون أنفع للمسلمين قيل فتباع الفضة وينفق على الفرس؟ قال نعم، وهذا يدل على
إباحة حلية السرج واللجام بالفضة لولا ذلك لما قال هو على ما وقف، وهذا لأن العادة جارية به فأشبه
حلية المنطقة، وإذا قلنا بتحريمها فصار بحيث لا يجتمع منه شئ لم يحرم استدامته كقولنا في تمويه
السقف، وأباح القاضي علاقة المصحف ذهبا أو فضة للنساء خاصة وليس بجيد لأن حلية المرأة ما لبسته
وتحلت به في بدنها أو ثيابها وما عداه فحكمه حكم الأواني لا يباح للنساء منه إلا ما أبيح للرجال ولو
أبيح لها ذلك لأبيح علاقة الأواني والادراج ونحوها ذكره ابن عقيل
(فصل) وكل ما يحرم اتخاذه ففيه الزكاة إذا كان نصابا أو بلغ بضمه إلى ما عنده نصابا على ما ذكرناه
(مسألة) قال (وما كان من الركاز وهو دفن الجاهلية قل أو كثر ففيه الخمس
لأهل الصدقات وباقيه له)
الدفن بكسر الدال المدفون والركاز المدفون في الأرض واشتقاقه من ركز يركز مثل غرز يغرز
إذا خفي يقال ركز الرمح إذا غرز أسفله في الأرض ومنه الركز وهو الصوت الخفي، قال الله تعالى
(أو تسمع لهم ركزا) والأصل في صدقة الركاز ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
(العجماء جبار وفي الركاز الخمس) متفق عليه، وهو أيضا مجمع عليه. قال أبا المنذر، لا نعلم أحدا
خالف هذا الحديث الا الحسن فإنه فرق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب فقال فيما يوجد
في أرض الحرب الخمس وفيها يوجد في أرض العرب الزكاة
612

(فصل) وأوجب الخمس في الجميع الزهري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وابن المنذر
وغيرهم. وهذه المسألة تشتمل على خمسة فصول (الأول) أن الركاز الذي يتعلق به وجوب الخمس
ما كان من دفن الجاهلية هذا قول الحسن والشعبي ومالك والشافعي وأبي ثور ويعتبر ذلك بأن ترى
عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك، فإن كان عليه علامة
الاسلام أو اسم النبي صلى الله عليه وسلم أو من خلفاء المسلمين أو وال لهم أو آية من قرآن أو نحو ذلك فهو
لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه وإن كان على بعضه علامة الاسلام وعلى بعضه علامة الكفر
فكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن منصور لأن الظاهر أنه صار إلى مسلم ولم يعلم زواله عن ملك
المسلمين فأشبه ما على علامة المسلمين
(الفصل الثاني) في موضعه ولا يخلو من أربعة أقسام (أحدهما) أن يجده في موات أو ما لا يعلم له
مالك مثل الأرض التي يوجد فيها آثار الملك كالا بنية القديمة والتلول وجدران الجاهلية وقبورهم فهذا
فيه الخمس بغير خلاف سوى ما ذكرناه ولو وجده في هذه الأرض على وجهه أو في طريق غير مسلوك
أو قرية خراب فهو كذلك في الحكم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال (ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا
فلك، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس) رواه النسائي
(القسم الثاني) أن يجده في ملكه المنتقل إليه فهو أحد الوجهين لأنه مال كافر مظهور
عليه في الاسلام فكان لمن ظهر عليه كالغنائم ولان الركاز لا يملك بملك الأرض لأنه مودع فيها
وإنما يملك بالظهور عليه وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه. والرواية الثانية هو للمالك قبله إن
اعترف به وان لم يعترف به فهو للذي قبله كذلك إلى أول مالك وهذا مذهب الشافعي لأنه كانت
يده على الدار فكانت على ما فيها، وإن انتقلت الدار بالميراث حكم بأنه ميراث، فإنه اتفق الورثة
على أنه لم لمورثهم فهو لأول مالك، فإن لم يعرف أول مالك فهو كالمال الضائع الذي لا يعرف
613

له مالك والأول أصح إن شاء الله تعالى لأن الركاز لا يملك بملك الدار لأنه ليس من أجزائها وإنما
هو مودع فيها فينزل منزلة المباحات من الحشيش والحطب والصيد يجده في أرض غيره فيأخذه فيكون
أحق به لكن إن ادعى المالك الذي انتقل الملك عنه انه له فالقول قوله لأن يده كانت عليه لكونها على
محله وإن لم يدعه فهو لواجده، وان اختلف الورثة فأنكر بعضهم أن يكون لمورثهم ولم ينكره الباقون
فحكم من أنكر في نصيبه حكم المالك الذي لم يعترف به، وحكم المعترفين حكم المالك المعترف
(القسم الثالث) أن يجده في ملك آدمي مسلم معصوم أو ذمي فعن أحمد ما يدل على أنه لصاحب
الدار فإنه قال فيمن استأجر حفارا ليحفر في داره فأصاب في الدار كنزا عاديا فهو لصاحب الدار
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، ونقل عن أحمد ما يدل على أنه لواجده لأنه قال في مسألة
من استأجر أجيرا ليحفر له في داره فأصاب في الدار كنزا فهو للأجير نقل ذلك عنه محمد بن يحيى
الكحال قال القاضي هو الصحيح، وهذا يدل على أن الركاز لواجده وهو قول الحسن
ابن صالح وأبي ثور واستحسنه أبو يوسف وذلك لأن الكنز لا يملك بملك الدار على ما ذكرنا في القسم
الذي قبله فيكون لمن وجده لكن إن ادعاه المالك فالقول قوله لأن يده عليه بكونها على محله، وان لم
يدعه فهو لواجده. وقال الشافعي هو لمالك الدار إن اعترف به وان لم يعترف فهو لأول مالك لأنه
في يده ويخرج لنا مثل ذلك لما ذكرنا من الرواية في القسم الذي قبله، وإن استأجر حفارا ليحفر
له طلبا لكنز يجده فوجده فلا شئ للأجير ويكون الواجد له هو المستأجر لأنه استأجره لذلك فأشبه ما لو
استأجره ليحتش له أو يصطاد فإن الحاصل من ذلك للمستأجر دون الأجير وان استأجره لأمر غير طلب
الركاز فالواجد له هو الأجير وهكذا، قال الأوزاعي إذا استأجرت أجيرا ليحفر لي في داري فوجد
كنزا فهو له وان قلت استأجرتك لتحفر لي ههنا رجاء أن أجد كنزا فسميت له فله أجره ولي ما يوجد
(فصل) وإن اكترى دارا فوجد فيها ركازا فهو لواجده في أحد الوجهين والآخر هو للمالك
بناء على الروايتين فيمن وجد ركازا في ملك انتقل إليه، وان اختلفا فقال كل واحد منهما هذا لي
فعلى وجهين، أحدهما القول المالك لأن الدفن تابع للأرض. والثاني القول قول المكتري لأن
هذا مودع في الأرض وليس منها فكان القول قول من يده عليها كالقماش
614

القسم الرابع: أن يجده في أرض الحرب فإن لم يقدر إلا بجماعة من المسلمين فهو غنيمة له، وإن
قدر عليه بنفسه فهو لواجده حكمه ما لو وجده في موات في أرض المسلمين. وقال أبو حنيفة والشافعي
إن عرف مالك الأرض وكان حربيا فهو غنيمة أيضا لأنه في حرز مالك معين فأشبه ما لو أخذه من بيت أو خزانة
ولنا انه ليس لموضعه مالك محترم أشبه ما لو لم يعرف مالكه، ويخرج لنا مثل قولهم بناء على
قولنا إن الركاز في دابر الاسلام يكون لمالك الأرض
(الفصل الثالث) في صفة الركاز الذي فيه الخمس وهو كل ما كان مالا على اختلاف أنواعه
من الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر والنحاس والآنية وغير ذلك وهو قول إسحق
وأبي عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي وإحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي، والقول
الآخر لا تجب إلا في الأثمان
ولنا عموم قوله عليه السلام (وفي الركاز الخمس) ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب
فيه الخمس مع اختلاف أنواعه كالغنيمة. إذا ثبت هذا فإن الخمس يجب في قليله وكثيره في قول إمامنا
ومالك واسحق وأصحاب الرأي والشافعي في القديم. وقال في الجديد يعتبر النصاب فيه لأنه حق
مال يجب فيما استخرج من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع
ولنا عموم الحديث ولأنه مخموس فلا يعتبر له نصاب كالغنيمة ولأنه مال كافر مظهور عليه
في الاسلام فأشبه الغنيمة والمعدن والزرع يحتاج إلى عمل ونوائب فاعتبر فيه النصاب تخفيفا بخلاف
الركاز ولان الواجب فيهما مواساة فاعتبر النصاب ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه بخلاف مسألتنا
(الفصل الرابع) في قدر الواجب في الركاز ومصرفه أما قدره فهو الخمس لما قدمنا من الحديث
والاجماع، وأما مصرفه فاختلاف الرواية عن أحمد فيه مع ما فيه من اختلاف أهل العلم فقال الخرقي:
هو لأهل الصدقات ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال: يعطي الخمس من الركاز على مكانه،
وان تصدق به على المساكين أجزأه وهذا قول الشافعي لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر
صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين حكاه الإمام أحمد وقال: حدثنا سعيد ثنا سفيان عن
عبد الله بن بشر الخثعمي عن رجل من قومه يقال له ابن حممة قال: سقطت على جزة من دير قديم بالكوفة
615

عند جبانة بشر فيها أربعة آلاف درهم فذهب بها إلى علي رضي الله عنه فقال: اقسمها خمسة أخماس
فقسمتها فأخذ علي منها خمسا وأعطاني أربعة أخماس فلما أدبرت دعاني فقال: في جيرانك فقراء
ومساكين؟ قلت نعم. قال فخذها فاقسمها بينهم، ولأنه مستفاد من الأرض أشبه المعدن والزرع.
والرواية الثانية مصرف الفئ نقله محمد بن الحكم عن أحمد وهذه الرواية أصح وأقيس على
مذهبه وبه قال أبو حنيفة والمزني لما روى أبو عبيد عن هشيم عن مجالد عن الشعبي أن رجلا وجد
ألف دينار مدفونة خارجا من المدينة فأتى عمر بن الخطاب فأخذ منها الخمس مائتي دينار ودفع
إلى الرجل بقيتها وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة فقال
أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك. ولو كانت زكاة خص بها أهلها
ولم يرد على واجده ولأنه يجب على الذمي والزكاة لا تجب عليه ولأنه مال مخموس زالت عنه يد
الكافر أشبه خمس الغنيمة
(الفصل الخامس) فيمن يجب عليه الخمس وهو كل من وجده من مسلم وذمي وحر وعبد
ومكاتب وكبير وصغير وعاقل ومجنون إلا أن الواجد له إذا كان عبدا فهو لسيده لأنه كسب مالا
فأشبه الاحتشاش والاصطياد، وإن كان مكاتبا ملكه وعليه خمسه لأنه بمنزلة كسبه، وإن كان
صبيا أو مجنونا فهو لهما ويخرج عنهما وليهما وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع
كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على الذي في الركاز يجده الخمس قاله مالك وأهل المدينة
والثوري والأوزاعي وأهل العراق وأصحاب الرأي وغيرهم. وقال الشافعي لا يجب الخمس إلا على
من تجب عليه الركاز لأنه زكاة. وحكي عنه في الصبي والمرأة انهما لا يملكان الركاز. وقال الثوري
والأوزاعي وأبو عبيد إذا كان الواجد له عبدا يرضع له منه ولا يعطاه كله
ولنا عموم قوله عليه السلام (وفي الركاز الخمس) فإنه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز
يوجد وبمفهومه على أن باقيه لواجده من كان ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان فيه الخمس على من وجده وباقيه
لواجده كالغنيمة ولأنه اكتساب مال فكان لمكتسبه إن كان حرا أو لسيده إن كان عبدا كالاحتشاش
والاصطياد، ويتخرج لنا أن لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة بناء على قولنا انه زكاة والأول أصح
616

(فصل) ويجوز أن يتولى الانسان تفرقة الخمس بنفسه وبه قال أصحاب الرأي وابن المنذر
لأن عليا أمر واجد الكنز بتفرقته على المساكين قاله الإمام أحمد ولأنه أدى الحق إلى مستحقه
فبرئ منه كما لو فرق الزكاة وأدى الدين إلى ربه، ويتخرج أن لا يجوز ذلك لأن الصحيح انه فيئ
فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة وبهذا قال أبو ثور قال: وان فعل ضمنه الإمام. قال القاضي
وليس الإمام رد خمس الركاز لأنه حق مال فلم يجز رده على من وجب كالزكاة وخمس الغنيمة
وقال ابن عقيل يجوز لأنه روى عن عمر انه رد بعضه على واجده ولأنه فيئ فجاز رده أو رد بعضه
على واجده كخراج الأرض وهذا قول أبي حنيفة
(مسألة) قال (وإذا أخرج من المعادن من الذهب عشرين مثقالا أو من الورق
مائتي درهم أو قيمة ذلك من الزئبق والرصاص والصفر أو غير ذلك مما يستخرج من
الأرض فعليه الزكاة من وقته)
اشتقاق المعدن من عدن في المكان يعدن إذا أقام به ومنه سميت جنة عدن لأنها دار إقامة
وخلود. قال أحمد المعادن هي التي تستنبط ليس هو شئ دفن والكلام في هذه المسألة في فصول أربعة:
(أحدها) في صفة المعدن الذي يتعلق به وجوب الزكاة وهو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها
من غيرها مما له قيمة كالذي ذكره الخرقي ونحوه من الحديد والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق
والسبج والكحل والزاج والزرنيخ والمغرة وكذلك المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت ونحو
ذلك. وقال مالك والشافعي لا تتعلق الزكاة إلا بالمذهب والفضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في حجر)
ولأنه مال يقوم بالذهب والفضة مستفاد من الأرض أشبه الطين الأحمر. وقال أبو حنيفة في إحدى
الروايتين عنه تتعلق الزكاة بكل ما ينطبع كالرصاص والحديد والنحاس دون غيره
ولنا عموم قوله تعالى (ومما أخرجنا لكم من الأرض) ولأنه معدن فتعلقت الزكاة بالخارج منه
كالأثمان ولأنه مال لو غنمه وجب عليه خمسة، فإذا أخرجه من معدن وجبت الزكاة كالذهب.
وأما الطين فليس بمعدن لأنه تراب والمعدن ما كان في الأرض من غير جنسها
617

(الفصل الثاني) في قدر الواجب وصفته وقدر الواجب فيه ربع العشر وصفته انه زكاة وهذا قول
عمر بن عبد العزيز ومالك. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه الخمس وهو فيئ واختاره أبو عبيد. وقال
الشافعي هو زكاة واختلف قوله في قدره كالمذهبين، واحتج من أوجب الخمس بقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما لم
يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس) رواه النسائي والجوزجاني وغيرهما
وفي رواية (ما كان في الخراب ففيها وفي الركاز الخمس) وروى سعيد والجوزجاني باسنادهما عن
عبد الله ابن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الركاز هو الذهب
الذي ينبت من الأرض) وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (وفي الركاز الخمس) قيل يا رسول الله
وما الركاز؟ قال (هو الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض) وهذا
نص، وفي حديث عنه عليه السلام أنه قال (وفي السيوب الخمس) قال والسيوب عروق الذهب
والفضة التي تحت الأرض ولأنه مال مظهور عليه في الاسلام أشبه الركاز
ولنا ما روى أبو عبيد باسناده عن ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية في ناحية الفرع قال: فتلك المعادن لا يؤخذ منها
إلا الزكاة إلى اليوم وقد أسنده عبد الله بن كثير بن عوف إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن جده ورواه
الدراوردي عن ربيعة بن الحارث بن بلال بن الحارث المزني ان النبي صلى الله عليه وسلم أخذت منه زكاة المعادن
القبيلة، قال أبو عبيد: القبيلة بلاد معروفة بالحجاز ولأنه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى فكان
زكاة كالواجب في الأثمان التي كانت مملوكة له وحديثهم الأول لا يتناول محل النزاع لأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما ذكر ذلك في جواب سؤاله عن اللقطة وهذا ليس بلقطة ولا يتناوله اسمها فلا يكون متناولا لمحل
النزاع، والحديث الثاني يرويه عبد الله بن سعد وهو ضعيف وسائر أحاديثهم لا يعرف صحتها ولا
هي مذكورة في المسانيد والدواوين ثم هي متروكة الظاهر فإن هذا ليس هو المسى بالركاز،
والسيوب هو الركاز لأنه مشتق من السيب وهو العطاء الجزيل
(الفصل الثالث) في نصاب المعادن: وهو ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالا ومن الفضة مائتي
618

درهم أو قيمة ذلك من غيرهما وهذا مذهب الشافعي، وأوجب أبو حنيفة الخمس في قليله وكثيره من
غير اعتبار نصاب بناء على أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها عليه ولأنه لا يعتبر له حول
فلم يعتبر له نصاب كالركاز
ولنا عموم قوله عليه السلام (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) وقوله (ليس في تسعين
ومائة شئ) وقوله عليه السلام (ليس عليكم في الذهب شئ حتى يبلغ عشرين مثقالا) وقد بينا
ان هذا ليس بركاز وانه مفارق لركاز من حيث إن الركاز مال كافر أخذ في الاسلام فأشبه الغنيمة
وهذا وجب مواساة وشكرا لنعمة الغني فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات وإنما لم يعتبر له الحول
لحصوله دفعة واحدة فأشبه الزرع والثمار. إذا ثبت هذا فإنه يعتبر إخراج النصاب دفعه واحدة أو
دفعات لا يترك العمل بينهن ترك اهمال، فإن خرج دون النصاب ثم ترك العمل مهملا له ثم أخرج
دون النصاب فلا زكاة فيهما وإن بلغا بمجموعهما نصابا، وإن بلغ أحدهما نصابا دون الآخر زكى
النصاب ولا زكاة في الآخر، وفيما زاد على النصاب بحسابه. فأما ترك العمل ليلا أو للاستراحة
أو لعذر من مرض أو لاصلاح الأداة أو إباق عبيده ونحوه فلا يقطع حكم العمل وبضم ما خرج في
العملين بعضه إلى بعض في اكمال النصاب، وكذلك أن كان مشتغلا بالعمل فخرج بين المعدنين تراب لا شئ فيه
وان اشتمل المعدن على أجناس كمعدن فيه الذهب والفضة فذكر القاضي انه لا يضم أحدهما إلى الآخر
في تكميل النصاب وانه يعتبر النصاب في الجنس بانفراده لأنه أجناس فلا يكمل نصاب أحدهما بالآخر
كغير المعدن، والصواب إن شاء الله انه إن كان المعدن يشتمل على ذهب وفضة ففي ضم أحدهما إلى
الآخر وجهان بناء على الروايتين في ضم أحدهما إلى الآخر في غير المعدن، وإن كان فيه أجناس
من غير الذهب والفضة ضم بعضها إلى بعض لأن الواجب في قيمتها والقيمة واحدة فأشبهت عروض
التجارة، وإن كان فيها أحد النقدين وجنس آخر ضم أحدهما إلى الآخر كما تضم العروض إلى الأثمان،
فإن استخرج نصابا من معدنين وجبت الزكاة فيه لأنه مال رجل واحد فأشبه الزرع في مكانين
(الفصل الرابع) في وقت الوجوب وتجب الزكاة فيه حين يتناوله ويكمل نصابا ولا يعتبر له
حول وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال إسحاق وابن المنذر: لا شئ في المعدن
حتى يحول عليه الحول لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))
619

ولنا أنه مال مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حول كالزرع والثمار والركاز، ولان
الحول إنما يعتبر في غير هذا لتكميل النماء وهو يتكامل نماؤه دفعة واحدة فلا يعتبر له حول كالزروع
والخبر مخصوص بالزرع والثمر فيخص محل النزاع بالقياس عليه. إذا ثبت هذا فلا يجوز اخراج زكاته
إلا بعد سبكه وتصفيته كعشر الحب، فإن أخرج ربع عشر ترابه قبل تصفيته وجب رده إن كان
باقيا أو قيمته إن كان تالفا والقول في قدر المقبوض قول الآخذ لأنه غارم فإن صفاه الآخذ وكان
قدر الزكاة أجزأ، وإن زاد رد الزيادة إلا أن يسمح له المخرج وإن نقص فعلى المخرج، وما أنفقه
الآخذ على تصفيته فهو من ماله لا يرجع به على المالك، ولا يحتسب المالك ما أنفقه على المعدن في
استخراجه من المعدن ولا في تصفيته. وقال أبو حنيفة: لا تلزمه المؤنة من حقه وشبهه بالغنيمة
وبناه على أصله أن هذا ركاز فيه الخمس، وقد مضى الكلام في ذلك وقد ذكرنا أن الواجب في هذا
زكاة فلا يحتسب بمؤنة استخراجه فتصفيته كالحب، وإن كان ذلك دينا عليه احتسب به كما يحتسب
بما أنفق على الزرع
(فصل) ولا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه في ظاهر قول الخرقي
واختيار أبي بكر، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء ومالك
والثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والشافعي وأبو حنيفة ومحمد وأبو ثور وأبو عبيد، وعن أحمد
رواية أخرى أن فيه الزكاة لأنه خارج من معدن فأشبه الخارج من معدن البر ويحكى عن عمر بن العزيز
أنه أخذ من العنبر الخمس وهو قول الحسن والزهري وزاد الزهري في اللؤلؤ يخرج من البحر
ولنا أن ابن عباس قال: ليس في العنبر شئ ألقاه البحر، وعن جابر نحوه
رواهما أبو عبيد، ولأنه قد كان يخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم يأت فيه سنة عنه ولا
عن أحد من خلفائه من وجه يصح، ولان الأصل عدم الوجوب فيه، ولا يصح قياسه على معدن
البر لأن العنبر إنما يلقيه البحر فيوجد ملقى في البر على الأرض من غير تعب فأشبه المباحات المأخوذة
من البر كالمن والزنجبيل وغيرهما، وأما السمك فلا شئ فيه بحال في قول أهل العلم كافة إلا شئ
يروى عن عمر بن عبد العزيز. رواه أبو عبيد عنه وقال: ليس الناس على هذا ولا نعلم أحدا يعمل
به، وقد روي ذلك عن أحمد أيضا
والصحيح أن هذا لا شئ فيه لأنه صيد فلم يجب فيه زكاة كصيد البر، ولأنه لا نص ولا اجماع
على الوجوب فيه، ولا يصح قياسه على ما فيه الزكاة فلا وجه لايجابها فيه
(فصل) والمعادن الجامدة تملك بملك الأرض التي هي فيها لأنها جزء من أجزاء الأرض فهي
كالتراب والأحجار النابتة بخلاف الركاز فإنه ليس من أجزاء الأرض، وإنما هو مودع فيها، وقد
620

روى أبو عبيد باسناده عن عكرمة مولى بلال بن الحارث المزني قال: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال
أرض كذا من مكان كذا إلى كذا وما كان فيها من جبل أو معدن قال: فباع بنو بلال من عمر بن
عبد العزيز أرضا فخرج فيها معدنان فقالا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعدن وجاؤا بكتاب
القطيعة التي قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيهم في جريدة، قال فجعل عمر يمسحها على عينه وقال لقيمة:
انظر ما استخرجت منها، وما أنفقت عليها فقاصهم بالنفقة، ورد عليهم الفضل، فعلى هذا ما يجده
في ملك، أو في موات فهو أحق به، وإن سبق اثنان إلى معدن في موات فالسابق أولى به ما دام
يعمل، فإذا تركه جاز لغيره العمل فيه وما يجده في مملوك ماله فهو لمالك المكان، فأما
المعادن الجارية فهي مباحة على كل حال إلا أنه يكره له دخول ملك غيره إلا باذنه، وقد
روي أنها تملك بملك الأرض التي هي فيها لأنها من نمائها وتوبعها فكانت لمالك الأرض
كفروع الشجر المملوك وثمرته
(فصل) ويجوز بيع تراب المعدن والصاغة بغير جنسه ولا يجوز بجنسه إن كان مما يجري فيه
الربا لأنه يؤدي إلى الربا والزكاة على البائع لأنها وجبت في يده كما لو باع الثمرة بعد بدو صلاحها، وقد
روي أبو عبيد في الأموال أن أبا الحارث المزني اشترى تراب معدن بمائة شاة متبع فاستخرج منه ثمن
ألف شاة، فقال له البائع رد علي البيع، فقال لا أفعل، فقال لآتين عليا فلآتين عليك يعني أسعى بك
فأتى علي بن أبي طالب فقال: ان أبا الحارث أصاب معدنا فأتاه علي فقال: أين الركاز الذي أصبت
فقال ما أصبت ركازا، إنما أصابه هذا فاشتريته منه بمائة متبع فقال له علي ما أرى الخمس الا عليك قال
فخمس المائة شاة. إذا ثبت هذا فالواجب عليه زكاة المعدن لا زكاة الثمن لأن الزكاة إنما تعلقت بعين
المعدن أو بقيمته إن لم يكن من جنس الأثمان فأشبه ما لو باع السائمة بعد حولها، أو الزرع والثمرة بعد بدو صلاحها
(فصل) ومن أجر داره فقبض كراها فلا زكاة عليه فيه حتى يحول عليه الحول، وعن أحمد أنه
يزكيه إذا استفاده والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)
ولأنه مال مستفاد بعقد معاوضة فأشبه ثمن المبيع، وكلام احمد في الرواية الأخرى محمول على من
أجر داره سنة وقبض أجرتها في آخرها فأوجب عليه زكاتها لأنه قد ملكها من أول الحول فصارت
كسائر الديون إذا قبضها بعد حول زكاها حين يقبضها فإنه قد صرح بذلك في بعض الروايات عنه
فيحمل مطلق كلامه على مقيده
621

باب زكاة التجارة
تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن
في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول، روي ذلك عن عمر وابنه وابن
عباس وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري
والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وإسحق وأصحاب الرأي. وحكي عن مالك وداود انه لا زكاة فيها
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق)
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن
نخرج الزكاة مما نعده للبيع، وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته) قاله بالزاي ولا خلاف انها لا تجب في عينه
وثبت انها في قيمته، وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: امرني عمر فقال: أد زكاة مالك؟
فقلت مالي مال إلا جعاب وأدم، فقال قومها ثم أد زكاتها. رواه الإمام أحمد وأبو عبيد، وهذه قصة
يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا، وخبرهم المراد به زكاة العين لا زكاة القيمة بدليل ما ذكرنا، على أن
خبرهم عام وخبرنا خاص فيجب تقديمه
622

(مسألة) قال (والعروض إذا كانت لتجارة قومها إذا حال عليها الحول وزكاها)
العروض جمع عرض وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان
والعقار وسائر المال، فمن ملك عرضا للتجارة فحال عليه حول وهو نصاب قومه في آخر الحول، فما
بلغ أخرج زكاته وهو ربع عشر قيمته، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول، وقد دل عليه
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه
في كل حول. وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحق وأبو عبيد وأصحاب الرأي. وقال مالك لا يزكيه
إلا لحول واحد إلا أن يكون مدبرا لأن الحول الثاني لم يكن المال علينا في أحد طرفيه فلم تجب فيه
الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عينا
ولنا أنه مال تجب الزكاة فيه في الحول الأول لم ينقص عن النصاب ولم تتبدل صفته فوجبت
زكاته في الحول الثاني كما لو نص في أوله. ولا نسلم انه إذا لم يكن في أوله عينا لا تجب الزكاة فيه، وإذا
اشترى عرضا للتجارة تعرض للقنية جرى في حول الزكاة من حين اشتراه
(فصل) ويخرج الزكاة من قيمة العروض دون عينها وهذا أحد قولي الشافعي. وقال في آخر
هو مخير بين الاخراج من قيمتها وبين الاخراج من عينها، وهذا قول أبي حنيفة لأنها مال تجب فيه
الزكاة فجاز إخراجها من عينه كسائر الأموال
ولنا أن النصاب معتبر بالقيمة فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال ولا نسلم أن الزكاة
تجب في المال وإنما وجبت في قيمته
(فصل) ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين أحدهما أن يملكه بفعله كالبيع والنكاح والخلع
وقبول الهبة والوصية والغنيمة واكتساب المباحات لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه
623

لا يثبت بمجرد النية كالصوم، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض، ذكر ذلك أبو الخطاب
وابن عقيل لأنه ملكه بفعله أشبه الموروث. والثاني أن ينوي عند تملكه انه للتجارة فإن لم ينو عند
تملكه انه للتجارة لم يصر للتجارة وإن نواه بعد ذلك، وإن ملكه بإرث وقصد انه للتجارة لم يصر
للتجارة لأن الأصل القنية والتجارة عارض فلم يصر إليها بمجرد النية، كما لو نوى الحاضر السفر لم
يثبت له حكم بدون الفعل. وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية لقول
سمرة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع. فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله
ولا أن يكون في مقابلة عوض بل متى نوى به التجارة صار للتجارة
(مسألة) قال (ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها وقيمتها دون مائتي
درهم فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول من يوم ساوت مائتي درهم)
وجملة ذلك أنه يعتبر الحول في وجوب الزكاة في مال التجارة ولا ينعقد الحول حتى يبلغ نصابا
فلو ملك سلعة قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول وهي كذلك ثم زادت قيمة النماء بها أو تغيرت
الأسعار فبلغت نصابا أو باعها بنصاب أو ملك في أثناء الحول عرضا آخر أو أثمانا تم بها النصاب
ابتدأ الحول من حينئذ فلا يحتسب بما مضى، هذا قول الثوري وأهل العراق والشافعي وإسحق
وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر، ولو ملك للتجارة نصابا فنقص عن النصاب في أثناء الحول ثم زاد
حتى بلغ نصابا استأنف الحول عليه لكونه انقطع بنقصه في أثنائه. وقال مالك ينعقد الحول على
ما دون النصاب فإذا كان في آخره نصابا زكاة، وقال أبو حنيفة يعتبر في طرفي الحول دون وسطه
624

لأن التقويم يسبق في جميع الحول فعفي عنه إلا في آخره فصار الاعتبار به، ولأنه يحتاج إلى أن تعرف
قيمته في كل وقت ليعلم ان قيمته فيه تبلغ نصابا وذلك يشق
ولنا انه مال يعتبر له الحول والنصاب فوجب اعتبار كمال النصاب في جميع الحول كسائر الأموال
التي يعتبر لها ذلك وقولهم يشق التقويم لا يصح فإن غير المقارب للنصاب لا يحتاج إلى تقويم لظهور
معرفته، والمقارب للنصاب إن سهل عليه التقويم وإلا فله الأداء والاخذ بالاحتياط كالمستفاد في
ثناء الحول إن سهل عليه ضبط مواقيت التملك وإلا فله تعجيل زكاته مع الأصل
(فصل) وإذا ملك نصبا للتجارة في أوقات متفرقة لم يضم بعضها إلى بعض لما بينا من أن المستفاد
625

لا يضم إلى ما عنده في الحول، وإن كان العرض الأول ليس بنصاب وكمل بالثاني نصابا فحولهما من
حين ملك الثاني ونماؤهما تابع لهما ولا يضم الثالث إليهما بل ابتداء الحول من حين ملكه، وتجب فيه الزكاة
وإن كان دون النصاب لأن قبله نصابا ولهذا يخرج عنه بالحصة ونماؤه تابع له
626

(مسألة) قال (وتقوم السلع إذا حال الحول بالاحظ للمساكين من عين أو ورق
ولا يعتبر ما اشتريت به)
يعني إذا حال الحول على العروض وقيمتها بالفضة نصاب ولا تبلغ نصابا بالذهب قومناها بالفضة
ليحصل للفقراء منها حظ، ولو كانت قيمتها بالفضة دون النصاب وبالذهب تبلغ نصابا قومناها بالذهب
لتجب الزكاة فيها، ولا فرق بين أن يكون اشتراؤها بذهب أو فضة أو عروض، وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي تقوم بما اشتراه من ذهب أو فضة لأن نصاب العروض مبني على ما اشتراه به فيجب أن تجب
الزكاة فيه، وتعتبر به كما لو لم يشتر به شيئا. ولنا أن قيمته بلغت نصابا فتجب الزكاة فيه كما لو اشتراه
بعرض وفي البلد نقدان مستعملان تبلغ قيمة العروض بأحدهما نصابا، ولان تقويمه لحظ المساكين
فيعتبر ما لهم فيه الحظ كالأصل، وأما إذا لم يشتر بالنقد شيئا فإن الزكاة في عينه لا في قيمته بخلاف
العرض إلا أن يكون النقد معدا للتجارة فينبغي أن تجب الزكاة فيه إذا بلغت قيمته بالنقد الآخر نصابا، وإن لم تبلغ بعينه نصابا لأنه مال تجارة بلغت قيمته نصابا فوجبت زكاته كالعروض، فأما إذا بلغت
قيمة العروض نصابا بكل واحد من الثمنين قومه بما شاء منهما وأخرج ربع عشر قيمته من أي النقدين
شاء، لكن الأولى أن يخرج من النقد المستعمل في البلد لأنه أحظ للمساكين. وإن كانا مستعملين
627

أخرج من الغالب في الاستعمال لذلك، فإن تساويا أخرج من أيهما شاء، وإذا باع العروض بنقد
وحال الحول عليه قوم النقد دون العروض لأنه إنما يقوم ما حال عليه الحول دون غيره
(فصل) وإذا اشترى عرضا للتجارة بنصاب من الأثمان أو بما قيمته نصاب من عروض التجارة
بنى حول الثاني على الحول الأول لأن مال التجارة إنما تتعلق الزكاة بقيمته وقيمته هي الأثمان نفسها،
وكما إذا كانت ظاهرة فخفيت فأشبه ما لو كان له نصاب فأفرضه لم ينقطع حوله بذلك، وهكذا الحكم إذا
باع العروض بنصاب أو بعرض قيمته نصاب لأن القيمة كانت خفية فظهرت أو بقيت على خفائها
فأشبه ما لو كان له قرض فاستوفاه أو أقرضه انسانا آخر، ولان النماء في الغالب في التجارة إنما يحصل
بالتقليب، ولو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب الذي وجبت فيه الزكاة لأجله يمنعها لأن الزكاة
لا تجب إلا في مال نام، وإن قصد بالأثمان غير التجارة لم ينقطع الحول أيضا. وقال الشافعي ينقطع
قولا واحدا لأنه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع به كالسائمة
ولنا انه من جنس القيمة التي تتعلق الزكاة بها فلم ينقطع الحول ببيعها به كما لو قصد به التجارة
وفارق السائمة فإنها من غير جنس القيمة. فأما إن أبدل عرض التجارة بما تجب الزكاة في عينه كالسائمة
ولم ينو به التجارة لم يبن حول أحدهما على الآخر لأنهما مختلفان، وإن أبدله بعرض للقنية بطل الحول،
وان اشترى عرض التجارة بعرض القنية انعقد عليه الحول من حين ملكه إن كان نصابا لأنه اشتراه بما لا زكاة
فيه فلم يكن بناء الحول عليه، وإن اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن علي حوله لأنهما مختلفان، وان اشتراه
بما دون النصاب من الأثمان أو من عروض التجارة انعقد عليه الحول من حين تصير قيمته نصابا
628

لأن مضي الحول على نصاب كامل شرط لوجوب الزكاة
(فصل) وإذا اشترى للتجارة نصابا من السائمة فحال الحول والصوم ونية التجارة موجود ان
زكاه زكاة التجارة وبهذا قال أبو حنيفة والثوري، وقال مالك والشافعي في الجديد يزكيها زكاة لسوم
لأنها أقوى لانعقاد الاجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى
ولنا ان زكاة التجارة أحظ للمساكين لأنها تجب فيما زاد بالحساب، ولان الزائد عن النصاب
قد وجد سبب وجوب زكاة فيجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصابا، وإن سبق وقت وجوب زكاة
السوم وقت وجوب زكاة التجارة مثل أن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم ثم صارت
قيمتها في نصف الحول مائتي درهم: فقال القاضي يتأخر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة لأنه أنفع
للفقراء وإلا يفضي التأخير إلى سقوطها لأن الزكاة تجب فيها إذا تم حول التجارة، ويحتمل أن
تجب زكاة العين عند تمام حولها لوجود مقتضيها من غير معارض فإذا تم حول التجارة وجبت زكاة
الزائد عن النصاب لوجود مقتضيها لأن هذا مال للتجارة وحال الحول عليه وهو نصاب ولا يمكن
إيجاب الزكاتين بكمالهما لأنه يفضي إلى ايجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد فلم يجز ذلك
629

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تثني في الصدقة) وفارق هذا زكاة التجارة وزكاة الفطر فإنهما يجتمعان
لأنهما بسببين، فإن زكاة الفطر تجب عن بدن الانسان المسلم طهرة له، وزكاة التجارة تجب عن
قيمته شكرا لنعمة الغنى ومواساة للفقراء. فأما إن وجد نصاب السوم دون نصاب التجارة مثل أن
يملك ثلاثين من البقر قيمتها مائة وخمسون درهما وحال الحول عليها كذلك فإن زكاة العين تجب بغير
خلاف لأنه لم يوجد لها معارض فوجبت كما لو لم تكن للتجارة
(فصل) وإن اشترى نخلا أو أرضا للتجارة فزرعت الأرض وأثمرت النخل فاتفق حولاهما
بأن يكون بدو الصلاح في الثمرة واشتداد الحب عند تمام الحول وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردها
نصابا للتجارة فإنه يزكي الثمرة والحب زكاة العشر ويزكي الأصل زكاة القيمة وهذا قول أبي حنيفة وأبي
ثور. وقال القاضي وأصحابه: يزكي الجميع زكاة القيمة، وذكر أن احمد أومأ إليه لأنه مال تجارة
فتجب فيه زكاة التجارة كالسائمة
ولنا أن زكاة العشر أحظ للفقراء فإن العشر أحظ من ربع العشر فيجب تقديم ما فيه الحظ،
ولان الزيادة على ربع العشر قد وجد سبب وجوبها فتجب وفارق السائمة المعدة للتجارة فإن زكاة
السوم أقل من زكاة التجارة
(مسألة) قال (وإذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء ثم نواها للتجارة فلا زكاة
فيها حتى يبيعها ويستقبل بثمنها حولا)
630

لا يختلف المذهب في أنه إذا نوى بعرض التجارة القنية أنه يصير للقنية وتسقط الزكاة منه،
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك في إحدى الروايتين عنه: لا يسقط حكم التجارة بمجرد
النية كما لو نوى بالسائمة العلف
ولنا أن القنية الأصل ويكفي في الرد إلى الأصل مجرد النية كما لو نوى بالحلي التجارة، أو نوى المسافر
الإقامة، ولان نية التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض، فإذا نوى القنية زالت نية التجارة
ففات شرط الوجوب وفارق السائمة إذا نوى علفها لأن الشرط فيها الاسامة دون نيتها فلا ينتفي الوجوب إلا
بانتفاء السوم، وإذا صار العرض للقنية بنيتها فنوى به التجارة لم يصر للتجارة بمجرد النية على ما أسلفناه
وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري، وذهب ابن عقيل وأبو بكر إلى أنه يصير للتجارة
بمجرد النية وحكوه رواية عن أحمد لقوله فيمن أخرجت أرضه خمسة أوسق فمكثت عنده سنين لا يريد
بها التجارة فليس عليه زكاة، وإن كان يريد التجارة فأعجب إلي أن يزكيه. قال بعض أصحابنا: هذا
على أصح الروايتين لأن نية القنية بمجردها كافية فكذلك نية التجارة بل أولى، لأن الايجاب يغلب
على الاسقاط احتياطا ولأنه أحظ للمساكين فاعتبر كالتقويم، ولان سمرة قال: أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يخرج الصدقة مما نعده للبيع وهذا دخل في عمومه، ولأنه نوى به التجارة
فوجبت فيه الزكاة كما لو نوى حال البيع
ولنا أن كل مالا يثبت له الحكم بدخلوه في ملكه لا يثبت بمجرد النية كما لو نوى بالمعلوفة السوم
ولان القنية الأصل والتجارة فرع عليها فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية كالمقيم ينوي السفر
وبالعكس من ذلك ما لو نوى القنية فإنه يردها إلى الأصل فانصرف إليه بمجرد النية كما لو نوى المسافر
الإقامة، فكذلك إذا نوى بمال التجارة القنية انقطع حوله، ثم إذا نوى به التجارة فلا شئ فيه
حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا
631

(فصل) فإن كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الاسامة وقطع نية التجارة انقطع
حول التجارة واستأنف حولا كذلك. قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي: لأن حول التجارة
انقطع بنية الاقتناء وحول السوم لا ينبني على حول التجارة والأشبه بالدليل أنها متى كانت سائمة
من أول الحول وجبت الزكاة فيها عند تمامه، وهذا يروى نحوه عن إسحاق لأن السوم سبب
لوجوب الزكاة وجد في جميع الحول خاليا عن معارض فوجبت به الزكاة كما لو لم ينو التجارة، أو كما
لو كانت السائمة لا تبلغ نصابا بالقيمة
(مسألة) قال (وإذا كان في ملكه نصاب للزكاة فاتجر فيه فنمى أدى زكاة الأصل
مع النماء إذا حال الحول)
وجملته أن حول النماء مبني على حول الأصل لأنه تابع له في الملك فتبعه في الحول كالسخال
والنتاج، وبهذا قال مالك وإسحاق وأبو يوسف، وأما أبو حنيفة فإنه بنى حول كل مستفاد على حول
جنسه نماء كان أو غيره. وقال الشافعي: إن نضت الفائدة قبل الحول لم يبن حولها على حول النصاب
واستأنف لها حولا لقوله عليه السلام (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) ولأنها فائدة تامة لم
تتولد مما عنده فلم يبن علي حوله كما لو استفاد من غير الربح، وإن اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها
عند رأس الحول، فإنه يضم الفائدة ويزكي عن الجميع بخلاف ما إذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من
نصاب فإنه يزكي عند رأس الحول عن النصاب ويستأنف للزيادة حولا
ولنا أنه نماء جار في الحول تابع لاصله في الملك فكان مضموما إليه في الحول كالنتاج وكما لو لم
ينض، ولأنه ثمن عرض تجب زكاة بعضه ويضم إلى ذلك البعض قبل البيع فيضم إليه بعده كبعض
النصاب ولأنه لو بقي عرضا زكى جميع القمية، فإذا نض كان أولى لأنه يصير متحققا، ولان هذا الربح
632

كان تابعا للأصل في الحول كما لو لم ينض فبنضه لا يتغير حوله، والحديث فيه مقال وهو مخصوص
بالنتاج وبما لم ينض فنقيس عليه
(فصل) وإن اشترى للتجارة ما ليس بنصاب فنمى حتى صار نصابا انعقد عليه الحول من حين
صار نصابا في قول أكثر أهل العلم. وقال مالك. إذا كانت له خمسة دنانير فاتجر فيها فحال عليها
الحول وقد بلغت ما تجب فيه الزكاة يزكيها
ولنا أنه لم يحل الحول على نصاب فلم تجب فيه الزكاة كما لو نقص في آخره
(فصل) وإذا اشترى للتجارة شقصا بألف فحال عليه الحول وهو يساوي ألفين فعليه زكاة
ألفين، فإن جاء الشفيع أخذه بألف لأن الشفيع إنما يأخذ بالثمن لا بالقيمة والزكاة على المشتري لأنها
وجبت وهو في ملكه، ولو لم يأخذه الشفيع لكن وجد به عيبا فرده فإنه يأخذ من البائع ألفا، ولو
انعكست المسألة فاشتراه بألفين وحال الحول وقيمته ألف فعليه زكاة ألف فيأخذ الشفيع إن أخذه
ويرده بالعيب بألفين لأنهما الثمن الذي وقع البيع به
(فصل) وإن دفع إلى رجل ألفا مضاربة على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صار ثلاثة
آلاف فعلى رب المال زكاة ألفين لأن ربح التجارة حوله حول أصله. وقال الشافعي في أحد قوليه:
عليه زكاة الجميع لأن الأصل له والربح نماء ماله ولا يصح لأن حصة المضارب له وليست ملكا لرب
المال بدليل أن للمضارب المطالبة بها ولو أراد رب المال دفع حصته إليه من غير هذا المال لم يلزمه
قبوله، ولا تجب على الانسان زكاة ملك غيره، ولان رب المال يقول: حصتك أيها العامل مترددة
بين أن تسلم فتكون لك أو تتلف فلا تكون لي ولا لك فكيف يكون علي زكاة ما ليس لي بوجه ما،
وقوله: إنه نماء ماله قلنا لكنه لغيره فلم تجب عليه زكاة كما لو وهب نتاج سائمته لغيره. إذا ثبت هذا
633

فإنه يخرج الزكاة من المال لأنه من مؤنته فكان منه كمؤنة حمله ويحسب من الربح لأنه وقاية لرأس المال
وأما العامل فليس عليه زكاة في حصته حتى يقتسما ويستأنف حولا من حينئذ. نص عليه احمد
في رواية صالح وابن منصور فقال: فإذا احتسبا يزكي المضارب إذا حال الحول من حين احتسب لأنه
علم ماله في المال، ولأنه إذا اتضع بعد ذلك كانت الوضيعة على رب المال، يعني إذا اقتسما لأن
القسمة في الغالب تكون عند المحاسبة ألا تراه يقول: ان اتضع بعد ذلك كانت الوضيعة على رب
المال وإنما يكون هذا بعد القسمة. وقال أبو الخطاب: يحتسب حوله من حين ظهور الربح، يعني إذا
كمل نصابا إلا على قول من قال: إن الشركة تؤثر في غير الماشية، قال ولا يجب اخراج زكاته حتى يقبض
المال لأن العامل يملك الربح بظهوره، فإذا ملكه جرى في حول الزكاة، ولان من أصلنا أن في المال
الضال والمغصوب والدين على مماطل الزكاة وإن كان رجوعه إلى ملك يده مظنونا كذا ههنا
ولنا أن ملك المضارب غير تام لأنه بعرض أن تنقص قيمة الأصل أو يخسر فيه وهذا وقاية له
ولهذا منع من الاختصاص به والتصرف فيه بحق نفسه فلم يكن فيه زكاة كمال المكاتب ويؤكد هذا
أنه لو كان ملكا تاما لاختص بربحه، فلو كان رأس المال عشرة فاتجر فيه فربح عشرين، ثم أتجر
فربح ثلاثين لكانت الخمسون التي ربحها بينهما نصفين، ولو تم ملكه بمجرد ظهور الربح لملك من
العشرين الأولى عشرة واختص بربحها وهي عشرة من الثلاثين وكانت العشرون الباقية بينهما نصفين
فيملك المضارب ثلاثين ولرب المال ثلاثون كما لو اقتسما العشرين ثم خلطاها، وفارق المغصوب والضال
فإن الملك فيه ثابت تام إنما حيل بينه وبينه بخلاف مسألتنا، ومن أوجب الزكاة على المضارب فإنما
يوجبها عليه إذا حال الحول من حين تبلغ حصته نصابا بمفردها أو بضمها إلى ما عنده من جنس المال
أو من الأثمان إلا على الرواية التي تقول إن للشركة تأثيرا في غير السائمة وليس عليه اخراجها قبل
القسمة كالدين لا يجب الاخراج منه قبل قبضه، وإن اخراجها منه قبل القسمة لم يجز لأن
الربح وقاية لرأس المال، ويحتمل أن يجوز لأنهما دخلا على حكم الاسلام ومن حكمه وجوب
الزكاة واخراجها من المال
634

(فصل) وإذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في إخراج زكاته أو أذن رجلان غير
شريكين كل واحد منهما للآخر في اخراج زكاته فأخرج كل واحد منهما زكاته وزكاة صاحبه معا
في حال واحدة ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه لأن كل واحد منهما انعزل من طريق الحكم عن
الوكالة لاخراج من عليه الزكاة زكاته بنفسه، ويحتمل أن لا يضمن إذا لم يعلم باخراج صاحبه إذا قلنا إن الوكيل
ينعزل قبل الحكم بعزل الموكل أو بموته ويحتمل أن لا يضمن وإن قلنا إنه ينعزل لأنه غره بتسليطه
على الاخراج وأمره به ولم يعلمه باخراجه فكان خطر التغرير عليه كما لو غره بحرية أمة وهذا أحسن إن شاء الله
تعالى. وعلى هذا إن علم أحدهما دون الآخر فعلى العالم الضمان دون الآخر. فأما، إن أخرجها أحدهما
قبل الآخر فعلى هذا الوجه لا ضمان على واحد منهما إذا لم يعلم، وعلى الأول على الثاني الضمان دون الأول
(باب زكاة الدين والصدقة)
الصدقة هي الصداق وجمعها صدقات قال الله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) وهي من
جملة الديون وحكمها حكمها، وإنما أفردها بالذكر لاشتهارها باسم خاص
(مسألة) قال (وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه)
وجملة ذلك أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة وهي الأثمان وعروض
التجارة، وبه قال عطاء وسليمان بن يسار وميمون بن مهران والحسن والنخعي والليث ومالك والثوري
والأوزاعي وإسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال ربيعة وحماد بن أبي سليمان والشافعي في جديد
قوليه لا يمنع الزكاة لأنه حر مسلم ملك نصابا حولا فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه
ولنا ما روي أبو عبيد في الأموال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد
قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة
أموالكم. وفي رواية فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله، قال ذلك بمحضر من الصحابة
فلم ينكروه فدل على اتفاقهم عليه، وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه)
وهذا نص ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم) فدل
على أنها إنما تجب على الأغنياء ولا تدفع إلا إلى الفقراء وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا
635

تجب عليه الزكاة لأنها لا تجب إلا على الأغنياء للخبر ولقوله عليه السلام (لا صدقة إلا عن ظهر غنى)
ويخالف من لا دين له عليه فإنه غنى يملك نصابا، يحقق هذا أن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء وشكرا
لنعمة الغني، والمدين محتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لحاجة
غيره ولا حصل له من الغنى ما يقتضي الشكر بالاخراج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)
(فصل) فأما الأموال الظاهرة وهي السائمة والحبوب والثمار فروي عن أحمد أن الدين يمنع
الزكاة أيضا فيها لما ذكرناه في الأموال الباطنة. قال أحمد في رواية إسحق بن إبراهيم يبتدئ بالدين
فيقضيه ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة فيزكي ما بقي ولا يكون على أحد دينه أكثر من ماله
صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع ولا زكاة وهذا قول عطاء والحسن وسليمان وميمون بن مهران
والنخعي والثوري والليث وإسحق لعموم ما ذكرنا وروي أنه لا يمنع الزكاة فيها وهو قول مالك والأوزاعي
والشافعي، وروي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن عمر وابن عباس فقال ابن عمر يخرج ما استدان
أو أنفق على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي. وقال الآخر يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي واليه
أذهب أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي، لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا
أو غنما لم يسأل أي شئ على صاحبها من الدين وليس المال هكذا. فعلى هذه الرواية لا يمنع الدين
الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للانفاق عليها خاصة وهذا ظاهر قول
الخرقي لأنه قال في الخراج: يخرجه ثم يزكي ما بقي جعله كالدين على الزرع. وقال في الماشية المرهونة
يؤدي منها إذا لم يكن له مال يؤدي عنها فأوجب الزكاة فيها مع الدين. وقال أبو حنيفة: الدين الذي
تتوجه فيه المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزرع والثمار بناء منه على أن الواجب فيها ليس بصدقة
والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء
بها ولهذا يشرع ارسال من يأخذ صدقتها من أربابها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة فيأخذون الصدقة
من أربابها وكذلك الخلفاء بعده وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يأت عنه انهم
استكرهوا أحدا على صدقة الصامت ولا طالبوه بها إلا أن يأتي بها طوعا ولان السعاة يأخذون
زكاة ما يجدون ولا يسألون عما على صاحبها من الدين فدل على أنه لا يمنع زكاتها ولان تعلق أطماع
الفقراء بها أكثر، والحاجة إلى حفظها أوفر، فتكون الزكاة فيها أوكد
(فصل) وإنما يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى
النصاب أو ما لا يستغني عنه مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به
النصاب إذا قضاه به ولا يجد له قضاء من غير النصاب، فإن كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة
فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه، وإن كان عليه خمسة فعليه
636

زكاة خمسة وعشرين، ولو أن له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين فإن كان عليه
ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه لأنه ينقص النصاب، وإن كان له مالان من جنسين وعليه دين
جعله في مقابلة ما يقضي منه، فلو كان له خمس من الإبل ومائتا درهم فإن كانت عليه سلما أو دية ونحو
ذلك مما يقضى بالإبل جعلت الدين في مقابلتها ووجبت عليه زكاة الدراهم، وإن كان أتلفها أو غصبها
جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم لأنها تقضى منها، وان كانت قرضا خرج على الوجهين فيما يقضى منه
فإن كانت إذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة تنقص النصاب الآخر، وإذا جعلناها
في مقابلة الآخر لم يفضل منها شئ كرجل له خمس من الإبل ومائتا درهم وعليه ست من الإبل
قيمتها مائتا درهم فإذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يفضل من الدين شئ ينقص نصاب السائمة،
وإذا جعلناها في مقابلة الإبل فضل منها بعير نقص نصاب الدراهم أو كانت بالعكس مثل أن يكون
عليه مائتان وخمسون داهما وله من الإبل خمس أو أكثر تساوي الدين أو تفضل عليه جعلنا الدين
في مقابلة الإبل هاهنا ولي مقابلة لدراهم في الصورة الأولى لأن له من المال ما يقضى به الدين سوى
النصاب، وكذلك لو كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم وتسع من الإبل، فإذا جعلناها في مقابلة
الإبل لم ينقص نصابها لكون الأربع لزائدة عنه تساوي المائة وأكثر منها، وان جعلناه في مقابلة
الدراهم سقطت الزكاة منها فجعلناها في مقابلة الإبل كما ذكرنا في التي قبلها ولان ذلك أحظ للفقراء.
وذكر القاضي نحو هذا فإنه قال: إذا كان النصابان زكويين جعلت الدين في مقابلة ما الحظ للمساكين
في جعله في مقابلته وإن كان من غير جنس الدين. فإن كان أحد المالين لا زكاة فيه والآخر فيه
الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين فقال القاضي يجعل الدين
في مقابلة العروض وهذا مذهب مالك وأبي عبيد. قال أصحاب الشافعي وهو مقتضى قوله لأنه مالك
لمائتين زائدة عن مبلغ دينه فوجبت عليه زكاتها كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا، وظاهر كلام
أحمد رحمه الله انه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه فإنه قال في رجل عنده ألف وعليه ألف وله
عروض بألف إن كانت العروض للتجارة زكاها وإن كانت لغير التجارة فليس عليه شئ وهذا مذهب
أبي حنيفة ويحكى عن الليث بن سعد. لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح فجعل الدين في مقابلته
أولى كما لو كان النصابان زكويين، ويحتمل أن يحمل كلام أحمد ها هنا على ما إذا كان العرض تتعلق
به حاجته الأصلية ولم يكن فاضلا عن حاجته فلا يلزمه صرفه في وفاء الدين لأن الحاجة أهم ولذلك لم
تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته
وهذا أحسن لأنه في هذه الجال مالك لنصاب فاضل عن حاجته وقضاء دينه فلزمته زكاته كما لو لم
يكن عليه دين. فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من أحدهما
637

فإنك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته
(فصل) فأما دين الله كالكفارة والنذر ففيه وجهان: أحدهما يمنع الزكاة كدين الآدمي لأنه
دين يجب قضاؤه فهو كدين الآدمي يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم (دين الله أحق أن يقضى) والآخر
لا يمنع لأن الزكاة آكد منه لتعلقها بالعين فهو كأرش الجناية ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه
المطالبة به، فإن نذر الصدقة بمعين فقال لله علي أن أتصدق بهذه المأتي درهم إذا حال الحول. فقال
ابن عقيل يخرجها في النذر ولا زكاة عليه لأن النذر آكد لتعلقه بالعين والزكاة مختلف فيها، ويحتمل
أن تلزمه زكاتها وتجزئه الصدقة بها إلا أن ينوي الزكاة بقدرها ويكون ذلك صدقة تجزئه عن
الزكاة لكون الزكاة صدقة وسائرها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة، وان نذر الصدقة ببعضها
وكان ذلك البعض قدر الزكاة أو أكثر فعلى هذ الاحتمال يخرج المنذور وينوي الزكاة بقدرها
منه. وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن تجب الزكاة عليه لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب
الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب لكون المحل متسعا لهما جميعا، وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة
وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في أحد الوجهين، وفي الآخر يجب اخراجهما جميعا
(فصل) إذا قلنا لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة فحجر الحاكم عليه بعد وجوب
الزكاة لم يملك اخراجها لأنه قد انقطع تصرفه في ماله، وإن أقربها بعد الحجر لم يقبل اقراره وكانت
عليه في ذمته كدين الآدمي، ويحتمل أن تسقط إذا حجر عليه قبل امكان أدائها كما لو تلف ماله،
فإن أقر الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة، أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه وجب اخراجها
من المال فإن لم يخرجوها فعليهم اثمها
(فصل) وإذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق أرضها برقبته منع وجوب الزكاة فيه إن كان
ينقص النصاب لأنه دين، وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش
(مسألة) قال (وإذا كان له دين على ملئ فليس عليه زكاة حتى يقبضه ويؤدي لما مضى)
وجملة ذلك أن الدين على ضربين (أحدهما) دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته إلا
أنه لا يلزمه اخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى، روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبهذا قال
الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال عثمان وابن عمر رضي الله عنهما، وجابر وطاوس والنخعي
وجابر بن زيد والحسن وميمون بن مهران والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان والشافعي وإسحاق
وأبو عبيد: عليه اخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه اخراج
زكاته كالوديعة. وقال عكرمة: ليس في الدين زكاة، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله
عنهما لأنه غير نام فلم تجب زكاة كعروض القنية
638

وروي عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وأبي الزناد يزكيه
إذا قبضه لسنة واحدة
ولنا أنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الاخراج قبل قبضه كما لو كان على معسر، ولان الزكاة
تجب على طريق المواساة وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، وأما الوديعة فهي بمنزلة
ما في يده لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده، وإنما يزكيه لما مضى لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع
به فلزمته زكاته كسائر أمواله
(الضرب الثاني) أن يكون على معسر، أو جاحد، أو مماطل به فهذا هل تجب فيه الزكاة؟ على
روايتين (إحداهما) لا بحب وهو قول قتادة وإسحاق وأبي ثور وأهل العراق لأنه غير مقدور على
الانتفاع به أشبه مال المكاتب (والرواية الثانية) يزكيه إذا قبضه لما مضى وهو قول الثوري وأبي
عبيد لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون، قال إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى
وروي نحوه عن ابن عباس. رواهما أبو عبيد، ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما
مضى كالدين على الملئ، وللشافعي قولان كالروايتين، وعن عمر بن عبد العزيز والحسن والليث
والأوزاعي ومالك يزكيه إذا قبضه لعام واحد
ولنا أن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد فوجب أن يتساوى في وجرب الزكاة أو
سقوطها كسائر الأموال ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما
(فصل) وظاهر كلام احمد أنه لا فرق بين الحال والمؤجل لأن البراءة تصح من المؤجل ولولا
أنه مملوك لم تصح البراءة منه لكن يكون في حكم الدين على المعسر لأنه يمكن قبضه في الحال
(فصل) ولو أجر داره سنتين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة جميعها
إذا حال عليه الحول لأن ملك المكرى عليه تام بدليل جواز التصرف فيها بأنواع التصرفات، ولو
كانت جارية كان له وطؤها وكونها بعرض الرجوع لانفساخ العقد لا يمنع وجوب الزكاة كالصداق قبل
الدخول، ثم إن كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها، وإن كانت دينا فهي كالدين معجلا كان
أو مؤجلا. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يزكيها حيت يقبضها ويحول عليه الحول بناء على أن الأجرة
لا تستحق بالعقد، وإنما تستحق بالعقد، وإنما تستحق بانقضاء مدة الإجارة وهذا يذكر في موضعه إن شا الله تعالى، وعن أحمد
رحمه الله رواية أخرى فيمن قبض من أجر عقار نصابا يزكيه في الحال وقد ذكرناه في غير هذا
الموضع وحملناه على أنه حال عليه الحول قبل قبضه
(فصل) ولو اشترى شيئا بعشرين دينارا، أو أسلم نصابا في شئ فحال أحوال قبل أن يقبض
639

المشتري المبيع، أو يقبض المسلم فيه والعقد باق فعلى البائع والمسلم إليه زكاة الثمن لأن ملكه ثابت فيه
فإن انفسخ العقد لتلف المبيع أو تعذر المسلم فيه وجب رد الثمن وزكاته على البائع
(فصل) والغنيمة يملك الغانمون أربعة أخماسها بانقضاء الحرب، فإن كانت جنسا واحدا تجب
فيه الزكاة كالأثمان والسائمة ونصيب كل واحد منهم منها نصاب فعليه زكاته إذا انقضى أحول ولا
يلزمه اخراج زكاته قبل قبضه لما ذكرنا في الدين على الملئ، وإذا كانت دون النصاب فلا زكاة فيه إلا
أن تكون سائمة أربعة أخماسها تبلغ النصاب فتكون خلطة ولا تضم إلى الخمس لأنه لا زكاة فيه، فإن
كانت الغنيمة أجناسا كابل وبقر وغنم فلا زكاة على واحد منهم لأن للإمام أن يقسم بينهم قسمة بحكم
فيعطي كل واحد منهم من أي أصناف المال شاء فما تم ملكه على شئ معين بخلاف الميراث
(مسألة) قال (وإذا غصب مالا زكاه إذا قبضه لما مضى في إحدى الروايتين عن
أبي عبد الله والرواية الأخرى قال ليس هو كالدين الذي متى قبضه زكاه، وأحب إلي أن يزكيه)
(قوله) إذا غصب مالا أي إذا غصب الرجل مالا فالمفعول الأول المرفوع مستتر في الفعل والمال
هو المفعول الثاني فكذلك نصيبه، وفي بعض النسخ وإذا غصب ماله وكلاهما صحيح والحكم في المغصوب
والمسروق والمجحود والضال واحد، وفي جميعه روايتان (إحداهما) لا زكاة فيه نقلها الأثرم
والميموني ومتى عاد صار كالمستفاد يستقبل به حولا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في قديم قوليه:
لأنه مال خرج عن يده وتصرفه وصار ممنوعا منه فمل يلزمه زكاته كمال المكاتب (والثانية) عليه
زكاته لأن ملكه عليه تام لزمته زكاته كما لو نسي عند من أودعه، أو كما لو أسر، أو حبس،
وحيل بينه وبين ماله، وعلى كلتا الروايتين لا يلزمه اخراج زكاته قبل قبضه. وقال مالك: إذا قبضه
زكاه لحول واحد لأنه كان في ابتداء الحول في يده، ثم حصل بعد ذلك في يده فوجب أن لا تسقط
الزكاة عن حول واحد، وليس هذا بصحيح لأن المانع من وجوب الزكاة إذا وجد في بعض
الحول يمنع كنقص النصاب
(فصل) وإن كان المغصوب سائمة معلوفة عند صاحبها وغاصبها فلا زكاة فيها لفقدان الشرط
وإن كانت سائمة عندهما ففيها الزكاة على الرواية التي تقول بوجوبها في المغصوب، وإن كانت معلوفة
عند صاحبها سائمة غاصبها ففيها وجهان (أحدهما) لا زكاة عليه لأن صاحبها لم يرض باسامتها فلم
تجب عليه الزكاة بفعل الغاصب كما لو رعت من غير أن يسيمها (والثاني) عليه الزكاة لأن السوم يوجب
الزكاة من المالك فأوجبها من الغاصب كما لو كانت سائمة عندهما، وكما لو غصب بذرا فزرعه وجب
العشر فيما خرج منه، وإن كانت سائمة عند مالكها معلوفة عند غاصبها فلا زكاة فيها لفقدان الشرط
640

وقال القاضي: فيه وجه آخر أن الزكاة بحب فيها لأن العلف محرم فلم يؤثر في الزكاة كما لو غصب أثمانا
فصاغها حليا لم تسقط الزكاة عنها بصياغته. قال أبو الحسن الآمدي: هذا هو الصحيح لأن العلف إنما
أسقط الزكاة لما فيه من المؤنة وههنا لا مؤنة عليه
ولنا أن السموم شرط لوجوب الزكاة ولم يوجد فلم تجب الزكاة كنقص النصاب والملك (وقوله)
إن العلف محرم غير صحيح وإنما المحرم والغصب، وإنما العلف تصرف منه في ماله باطعامها إياه ولا
تحريم ولهذا لو علفها عند مالكها لم يحرم عليه وما ذكر الآمدي من خفة المؤنة غير صحيح فإن الخفة
لا تعتبر بنفسها وإنما تعتبر بمظنتها وهي السوم، ثم يبطل ما ذكراه بما إذا كانت معلوفة عندهما جميعا
ويبطل ما ذكره القاضي بما إذا علفها مالكها عنفا محرما أو أتلف شاة من النصاب فإنه محرم وتسقط به
الزكاة، وأما إذا غصب ذهبا فصاغه حليا فلا يشبه ما اختلفنا فيه، فإن العلف فات به شرط الوجوب
والصياغة لم يفت بها شئ، وإنما اختلف في كونها مسقطة بشرط كونها مباحة، فإذا كانت محرمة لم
يوجد شرط الاسقاط ولان المالك لو علفها علفا محرما لسقطت الزكاة ولو صاغها صياغة محرمة لم تسقط
فافترقا، ولو غصب حليا مباحا فكسره، أو ضربه دراهم، أو دنانير وجبت فيه الزكاة، لأن المسقط
للزكاة زال فوجبت الزكاة ويحتمل أن لا تجب كما لو غصب معلوفة فأسامها. ولو غصب عروضا فاتجر
فيها لم تجب فيها الزكاة لأن نية التجارة شرط وتوجد من المالك، سواء كانت للتجارة عند مالكها أو لم تكن
لأن بقاء النية شرط ولم ينو التجارة بها عند الغاصب، ويحتمل أن تجب الزكاة إذا كانت للتجارة عند
مالكها واستدام النية لأنها لم تخرج عن ملكه بغصبها، وإن نوى بها الغاصب القنية. وكل موضع أوجبنا
الزكاة، فعلى الغاصب ضمانها لأنه نقص حصل في يده فوجب عليه ضمانه كتلفه
(فصل) إذا ضلت واحدة من النصاب أو أكثر أو غصبت فنقص النصاب فالحكم فيه كما لو
ضل جميعه أو غصب، لكن إن قلنا بوجوب الزكاة فعليه الاخراج عن الموجود عنده، وإذا رجع
الضال أو المغصوب أخرج عنه كما لو رجع جميعه
(فصل) وإن أسر المالك لم تسقط عنه الزكاة سواء حيل بينه وبين ماله، أو لم يحل لأن تصرفه
في ماله نافذ يصح بيعه وهبته وتوكيله فيه
(فصل) وإن ارتد قبل مضي الحول وحال الحول وهو مرتد فلا زكاة عليه نص عليه لأن الاسلام شرط
لوجوب الزكاة فعدمه في بعض الحول يسقط الزكاة كالملك والنصاب، وإن رجع إلى الاسلام قبل
مضي الحول استأنف حولا لما ذكرنا. قال احمد: إذا أسلم المرتد وقد حال على ماله الحول فإن المال له، ولا
يزكيه حتى يستأنف به الحول لأنه كان ممنوعا منه، فأما إن ارتد بعد الحول لم تسقط الزكاة عنه، وبهذا
641

قال الشافعي وقال أبو حنيفة: تسقط لأن من شرطها النية فسقطت بالردة كالصلاة
ولنا أنه حق مال فلا يسقط بالردة كالدين، وأما الصلاة فلا تسقط أيضا، لكن لا يطالب بفعلها
لأنها لا تصح منه ولا تدخلها النيابة فإذا عاد وجبت عليه، والزكاة تدخلها النيابة ولا تسقط بالردة كالدين
ويأخذها الإمام من الممتنع، وكذا ههنا بأخذها الإمام من ماله كما يأخذها من المسلم الممتنع، فإن
أسلم بعد أخذها لم يلزمه أداؤها لأنها سقطت عنه بأخذها كما تسقط بأخذها من المسلم الممتنع،
ويحتمل أن لا تسقط لأن الزكاة عبادة فلا تحصل من غير نية، وأصل هذا ما لو أخذها الإمام من المسلم
الممتنع وقد ذكر في غير هذا، وإن أخذها غير الإمام أو نائبه لم يسقط عنه لأنه لا ولاية له عليه فلا يقوم
مقامه بخلاف نائب الإمام، وإن أداها في حال ردته لم تجزه لأنه كافر فلا تصح منه كالصلاة
(مسألة) قال (واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا
ثم زكاها فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها)
ظاهر المذهب أن اللقطة تملك بمضي حول التعريف واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها حتى يختار
وهو مذهب الشافعي ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى، ومتى ملكها تستأنف حولا، فذا مضى
وجبت عليه زكاتها، وحكى القاضي في موضع أنه إذا ملكها وجب عليه مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها
إن لم تكن مثلية، هذا مذهب الشافعي ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى، ومقتضى هذا أن
لا تجب عليه زكاتها لأنه دين فمنع الزكاة كسائر الديون. وقال ابن عقيل: يحتمل أن لا تجب الزكاة
فيها لمعنى آخر وهو أن ملكه غير مستقر عليها ولصاحبها أخذها منه متى وجدها والمذهب ما ذكره
الخرقي وما ذكره القاضي يفضي إلى ثبوت معاوضة في حق من لا ولاية عليه بغير فعله، ولا اختياره
ويقتضي ذلك أن يمنع الدين الذي عليه الميراث والوصية كسائر الديون والامر بخلافه وما ذكره ابن
عقيل يبطل بما وهبه الأب لولده وبنصف الصداق فإن لهما استرجاعه، ولا يمنع وجوب الزكاة فأما
ربها إذا جاء فأخذها فذكر الخرقي أنه يزكيها للحول الذي كان الملقط ممنوعا منها وهو حول التعريف
وقد ذكرنا في الضال روايتين وهذا من جملته، وعلى مقتضى قول الخرقي أن الملتقط لو لم يملكها مثل
من لم يعرفها فإنه لا زكاة على ملتقطها، وإذا جاء ربها زكاها للزمان كله، وإنما تجب عليه زكاتها إذا كانت
ماشية بشرط كونها سائمة عند الملتقط، فإن علمها فلا زكاة عليه على ما ذكرنا في المغصوب
(مسألة) قال (والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى)
وجملة ذلك أن المصداق في الذمة دين للمرأة حكمه حكم الديون على ما مضى، إن كان على ملئ به
642

فالزكاة واجبة فيه إذا قبضته أدت لما مضى، وإن كان على معسر أو جاحد فعلى الروايتين، واختار
الخرقي وجوب الزكاة فيه ولا فرق بين ما قبل الدخول أو بعده لأنه دين في الذمة فهو كثمن مبيعها
فإن سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول، وأخذت النصف فعليها زكاة ما قبضته دون ما لم تقبضه لأنه
دين لم تتعوض عنه ولم تقبضه فأشبه ما تعذر قبضه لفلس أو جحد، وكذلك لو سقط كل الصداق
قبل قبضه لانفساخ النكاح بأمر من جهتها فليس عليها زكاته لما ذكرنا، وكذلك القول في كل دين
يسقط قبل قبضه من غير اسقاط صاحبه، أو يئس صاحبه من استيفائه، والمال الضال إذا يئس منه
فلا زكاة على صاحبه، فإن الزكاة مواساة فلا تلزم المواساة إلا مما حصل له، وإن كان الصداق
نصابا فحال عليه الحول ثم سقط نصفه وقبضت النصف فعليها زكاة النصف المقبوض لأن الزكاة
وجبت فيه ثم سقطت من نصفه لمعنى اختص به فاختص السقوط به، وإن مضى عليه حول قبل قبضه
ثم قبضته كله زكته لذلك الحول، وإن مضت عليه أحوال قبل قبضه ثم قبضته زكته لما مضى كله
ما لم ينقص عن النصاب. وقال أبو حنيفة: لا تجب عليها الزكاة ما لم تقبضه لأنه بدل عما ليس بمال
فلا تجب الزكاة فيه قبل قبضه كدين الكتابة
ولنا أنه دين يستحق قبضه ويجبر المدين على أدائه فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع ويفارق دين
الكتابة فإنه لا يستحق قبضه، وللمكاتب الامتناع من أدائه، ولا يصح قياسهم عليه فإنه عوض عن مال
(فصل) فإن قبضت صداقها قبل الدخول ومضى عليه حول فزكته ثم طلقها الزوج قبل الدخول
رجع فيها بنصفه وكانت الزكاة من النصف الباقي لها. وقال الشافعي في أحد أقواله: يرجع الزوج
بنصف الموجود ونصف قيمة المخرج لأنه لو تلف الكل رجع عليها بنصف قيمته فكذلك إذا تلف البعض
ولنا قول الله تعالى (فنصف ما فرضتم) ولأنه يمكنه الرجوع في العين فلم يكن له الرجوع إلى القيمة
كما لو لم يتلف منه شئ ويخرج على هذا ما لو تلف كله فإنه ما أمكنه الرجوع في العين وإن طلقها بعد
الحول قبل الاخراج لم يكن له الاخراج من النصاب لأن حق الزوج تعلق به على وجه الشركة ولزكاة
لم تتعلق به على وجه الشركة لكن تخرج الزكاة من غيره أو يقسمانه ثم تخرج الزكاة من حصتها، فإن
طلقها قبل الحول ملك النصف مشاعا وكان حكم ذلك كما لو باع نصفه قبل الحول مشاعا وقد بينا حكمه
(فصل) فإن كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول ففيه روايتان (إحداهما)
عليها الزكاة لأنها تصرفت فيه فأشبه ما لو قبضته (والرواية الثانية) زكاته على الزوج لأنه ملك ما ملك
عليه فكأنه لم يزل ملكه عنه والأول أصح، وما ذكرنا لهذه الرواية لا يصح لأن الزوج لم يملك شيئا
وإنما سقط الدين عنه، ثم لو ملك في الحال لم يقتض هذا وجوب زكاة ما مضى، ويحتمل أن لا تجب الزكاة
على واحد منهما لما ذكرنا في الزوج والمرأة لم تقبض الدين فلم تلزمها زكاته كما لو سقط بغير اسقاطها وهذا
643

إذا كان الدين مما تجب فيه الزكاة إذا قبضه فاما إن كان مما لا زكاة فيه فلا زكاة عليها بحال وكل دين
على انسان أبرأه صاحبه منه بعد مضي الحول عليه فحكمه حكم الصداق فيما ذكرنا. قال احمد:
إذا وهبت المرأة مهرها لزوجها وقد مضى له عشر سنين، فإن زكاته على المرأة لأن المال كان لها،
وإذا وهب رجل لرجل مالا فحال الحول ثم ارتجعه الواهب فليس له أن يرتجعه، فإن ارتجعه فالزكاة
على الذي كان عنده، وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره فلم يعطه شيئا، فلما كان بعد سنة
قال: ليس عندي دراهم فأقلني فأقاله قال: عليه أن يزكي لأنه قد ملكه حولا
(مسألة) قال (والماشية إذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل بها
البائع حولا سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري لأنه تجديد مالك)
ظاهر المذهب أن البيع بشرط الخيار ينقل الملك إلى المشتري عقيبه ولا يقف على انقضاء الخيار
سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، وعن أحمد أنه لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك. وقال
أبو حنيفة: لا ينتقل إن كان للبائع، وإن كان للمشتري خرج عن البائع ولم يدخل في ملك المشتري
وعن الشافعي ثلاثة أقوال: قولان كالروايتين، وقول ثالث أنه مراعى، فإن فسخا تبينا أنه لم ينتقل
وإن أمضياه تبينا أنه انتقل
ولنا أنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كما لو لم يشترط الخيار، فإن كان المال زكائيا انقطع الحول
ببيعه لزوال ملكه عنه، فإن استرده أو رد عليه استأنف حولا لأنه ملك متجدد حدث بعد زواله
فوجب أن يستأنف له حولا كما لو كان البيع مطلقا من غير خيار، وهكذا الحكم لو فسخا البيع في
مدة المجلس بخياره لا يمنع نقل الملك أيضا فهو كخيار الشرط، ولو مضى الحول في مدة الخيار ثم فسخا
البيع كانت زكاته على المشتري لأنه ملكه، وإن قلنا بالرواية الأخرى لم ينقطع الحول ببيعه لأن ملك
البائع لم يزل عنه ولو حال الحول عليه في مدة الخيار كانت زكاته على البائع، فإن أخرجها من غيره
فالبيع بحاله، وإن أخرجها منه بطل البيع في المخرج، وهل يبطل في الباقي على وجهين بناء على تفريق
الصفقة، وإن لم يخرجها حتى سلمه إلى المشتري وانقضت مدة الخيار لزم البيع فيه، وكان عليه الاخراج
من غيره كما لو باع ما وجبت الزكاة فيه، ولو اشترى عبدا فهل هلال شوال ففطرته على المشتري،
وإن كان في مدة الخيار لأنه ملكه، وعلى الرواية الأخرى هي على البائع إن كان في مدة الخيار، لأنه
ملكه ولأنه في مدة الخيار
644

باب صدقة الفطر
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. وقال إسحاق
هو كالاجماع من أهل العلم، وزعم ابن عبد البر أن بعض المتأخرين من أصحاب مالك وداود يقولون
هي سنة مؤكدة، وسائر العلماء على أنها واجبة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة
الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير على كل حر وعبد
ذكر وأنثى من المسلمين. متفق عليه، وللبخاري والصغير والكبير من المسلمين، وعنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. وعن أبي سعيد الخدري قال:
كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط،
أو صاعا من زبيب، متفق عليهما. قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى (قد
أفلح من تزكى) هو زكاة الفطر، وأضيفت هذه الزكاة إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان.
وقال ابن قتيبة: وقيل لها فطرة لأن الفطرة الخلقة، قال الله تعالى (فطرة الله التي فطر الناس
عليها) أي جبلته التي جبل الناس عليها، وهذه يراد بها الصدقة عن البدن والنفس كما كانت الأولى
صدقة عن المال وقال بعض أصحابنا: وهل تسمى فرضا مع القول بوجوبها على روايتين،
والصحيح أنها فرض لقول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، ولاجماع العلماء على أنها
فرض، ولان الفرض إن كان الواجب فهي واجبة، وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة مجمع عليها
645

(مسألة) قال (وزكاة الفطر على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين)
وجملته أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم مع الصغير والكبير والذكورية والأنوثية في قول أهل
العلم عامة، وتجب على اليتيم ويخرج عنه وليه من ماله، لا نعلم أحدا خالف في هذا إلا محمد بن الحسن
قال: ليس في مال الصغير من المسلمين صدقة. وقال الحسن والشعبي: صدقة الفطر على من
صام من الأحرار وعلى الرقيق، وعموم قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على كل حر وعبد
والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين يقتضي وجوبها على اليتيم، ولأنه مسلم فوجبت
فطرته كما لو كان له أب
(فصل) ولا تجب على كافر حرا كان أو عبدا ولا نعلم بينهم خلافا في الحر البالغ. وقال إمامنا
ومالك والشافعي وأبو ثور: لا تجب على العبد أيضا ولا على الصغير، ويروي عن عمر بن عبد العزيز وعطاء
ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي أن على السيد المسلم أن يخرج الفطرة
عن عبده الذمي. وقال أبو حنيفة: يخرج عن ابنه الصغير إذا ارتد
646

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أدوا عن كل حر وعبد، صغير أو كبير، يهودي أو نصراني،
أو مجوسي نصف صاع من بر) ولان كل زكاة وجبت بسبب عبده المسلم، وجبت بسب عبده
الكافر كزكاة التجارة.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر (من المسلمين) وروى أبو داود عن ابن عباس قال
فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمه للمساكين من أداها قبل
الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. اسناده حسن وحديثهم
لا نعرفه، ولم يذكره أصحاب الدواوين وجامعو السنن، وهذا قول ابن عباس يخالفه وهو راوي حديثهم
وزكاة التجارة تجب عن القيمة ولذلك تجب في سائر الحيوانات وسائر الأموال وهذه طهرة للبدن،
ولهذا اختص بها الآدميون بخلاف زكاة التجارة
(فصل) فإن كان لكافر عبد مسلم وهل هلال شوال وهو في ملكه فحكي عن أحمد أن على
الكافر اخراج صدقة الفطر عنه، واختاره القاضي. وقال ابن عقيل: يحتمل أن لا تجب وهذا قول أكثرهم
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا صدقة على الذمي في عبده المسلم لقوله عليه
السلام (من المسلمين) ولأنه كافر فلا تجب عليه الفطرة كسائر الكفار لأن الفطرة زكاة فلا تجب على
الكافر كزكاة المال. ولنا أن العبد من أهل الطهرة فوجب أن تؤدى عنه الفطرة كما لو كان سيده
مسلما وقوله (من المسلمين) يحتمل أن يراد به المؤدى عنه بدليل أنه لو كان للمسلم عبد كافر لم تجب
647

فطرته، ولأنه ذكر في الحديث (كل عبد وصغير) وهذا يدل على أنه أراد المؤدى عنه لا المؤدي،
ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كالمذهبين
(مسألة) قال (صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خمسة أرطال وثلث)
وجملته أن الواجب في صدقة الفطر صاع عن كل انسان لا يجزي أقل من ذلك من جميع أجناس
المخرج، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق، وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري والحسن وأبي العالية
وروي عن عثمان بن عفان وابن المنذر ومعاوية أنه يجزي نصف صاع من البر خاصة وهو مذهب سعيد بن
المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن
وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي، واختلفت الرواية عن علي وابن عباس والشعبي فروي صاع،
وروي نصف صاع. وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان إحداهما صاع والأخرى نصف صاع واحتجوا
بما روى ثعلبة بن صعير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (صاع من قمح بين كل اثنين) رواه أبو داود
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فجاج مكة ألا إن صدقة
الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغيرا أو كبير مدان من قمح، أو سواها صاعا
من طعام. قال الترمذي هذا حديث صحيح حسن غريب. وقال سعيد: حدثنا هشم عن عبد الخالق
الشيباني قال سمعت سعيد بن المسيب يقول. كانت الصدقة تدفع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
نصف صاع بر، وقال هشيم: أخبرني سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: خطب
648

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر صدقة الفطر وحض عليها وقال (نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو
شعير عن كل حر وعبد، ذكر وأنثى)
ولنا ما روى أبو سعيد الخدري قال: كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا
من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط، فلم نزل نخرجه
فلم نزل نخرجه
حتى قدم معاوية المدينة فتكلم فكان مما كلم الناس اني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل
صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه وروي ابن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير فعدل الناس إلى نصف
صاع من بر. متفق عليهما، ولأنه جنس يخرج في صدقة الفطر فكان قدره صاعا كسائر الأجناس.
وأحاديثهم لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قاله ابن المنذر، وحديث ثعلبة تفرد به النعمان بن راشد.
قال البخاري: هويهم كثيرا وهو صدوق في الأصل وقال: منها ذكرت لأحمد حديث ثعلبة
649

ابن أبي صعير في صدقة الفطر نصف صاع من بر فقال: ليس بصحيح إنما هو مرسل يرويه معمر
ابن جريح عن الزهري مرسلا قلت من قبل من هذا؟ قال من قبل النعمان بن راشد ليس هو بقوي في
الحديث وضعف حديث ابن أبي صعير، وسألته عن ابن أبي صعير أمعروف هو، قال من يعرف ابن أبي
صعير ليس هو معروف: وذكر احمد وعلي بن المديني ابن أبي صعير فضعفا جميعا وقال ابن عبد البر: ليس دون
الزهري من يقوم به حجة. ورواه أبو إسحاق الجوزجاني حدثنا سلمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد
عن النعمان عن الزهري عن ثعلبة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أدوا صدقة الفطر صاعا من
قمح أو قال برعن كل انسان صغير أو كبير) وهذا حجة لنا واسناده حسن. قال الجوزجاني:
والنصف صاع ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وروايته ليس تثبت، ولان فيما ذكرناه
احتياطا للفرض ومعاضدة للقياس
(فصل) وقد دللنا على أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي فيما مضى والأصل فيه الكيل
650

وإنما قدره العلماء بالوزن ليحفظ وينقل. وقد روى جماعة عن أحمد أنه قال: الصاع وزنته فوجدته خمسة
أرطال وثلثا حنطة. وقال حنبل قال احمد: أخذت الصاع من أبي النضر. وقال أبو النضر: أخذته
عن ابن أبي ذؤيب وقال: هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة. قال أبو عبد الله: فأخذنا
العدس فعيرنا به وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به لأنه لا يتجافى عن موضعه فكلنا به، ثم وزناه فإذا
هو خمسة أرطال وثلث. وقال هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا
كان الصاع خمسة أرطال وثلثا من البر والعدس وهما من أثقل الحبوب فما عداهما من أجناس الفطرة
أخف منهما، فإذا أخرج منهما خمسة أرطال وثلثا فهي أكثر من صاع. وقال محمد بن الحسن: إن
أخرج خمسة أرطال وثلثا برا لم يجزه لأن البر يختلف فيكون فيه الثقيل والخفيف. وقال الطحاوي:
يخرج خمسة أرطال مما سواء كيله ووزنه وهو الزبيب والماش، ومقتضى كلامه أنه إذا أخرج ثمانية
651

أرطال مما هو أثقل منها لم يجزئه حتى يزيد شيئا يعلم أنه قد بلغ صاعا، والأولى لمن أخرج من الثقيل
بالوزن أن يحتاط فيزيد شيئا يعلم به أنه لمن أخرج صاعا بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم مد
وسبع، والسبع أوقية وخمسة أسباع أوقية، وقدر ذلك بالدراهم ستمائة درهم ويجزئ اخراج رطل
بالدمشقي من جميع الأجناس لأنه أكبر من الصاع، وقد رأيت مدا ذكر لنا أنه مد النبي صلى الله عليه وسلم فقدر
المد الدمشقي به فكان المد الدمشقي قريبا من خمسة أمداد
(مسألة) قال (من كل حبة وثمرة تقتات)
يعني عند عدم الأجناس المنصوص عليها يجزئه كل مقتات من الحبوب والثمار. وظاهر هذا أنه
لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن. وقال أبو بكر: يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها
عند عدمها. وقال ابن حامد: يجزئه عند عدمها الاخراج مما يقتاته كالذرة والدخن، ولحوم الحيتان
والانعام، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار
652

(مسألة) قال (وإن أعطى أهل البادية الاقط صاعا أجزأ إذا كان قوتهم)
أكثر أهل العلم يوجبون صدقة الفطر على أهل البادية، روي ذلك عن ابن الزبير، وبه قال
سعيد بن المسيب والحسن ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقال عطاء والزهري
وربيعة: لا صدقة عليهم
ولنا عموم الحديث، ولأنها زكاة فوجبت عليهم كزكاة المال، ولأنهم مسلمون فيجب عليهم صدقة
الفطر كغيرهم. إذا ثبت هذا فإنه يجزئ أهل البادية إخراج الاقط إذا كان قوتهم، وكذلك من لم يجد
من الأصناف المنصوص عليها سواه، فأما من وجد سواه فهل يجزئ؟ على روايتين (إحداهما) يجزئه
أيضا لحديث أبي سعيد الذي ذكرناه، وفي بعض ألفاظه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر
صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أخرجه النسائي (والثانية) لا يجزئه لأنه
جنس لا تجب الزكاة فيه فلا يجزئ اخراجه لمن يقدر على غيره من الأجناس المنصوص عليها كاللحم، ويحمل
653

الحديث على من هو قوت له، أولم يقدر على غيره فإن قدر على غيره مع كونه قوتا له فظاهر كلام
الخرقي جواز اخراجه وإن قدر على غيره سواء كان من أهل البادية أولم يكن لأن الحديث لم يفرق
وقول أبي سعيد: كنا تخرج صاعا من أقط وهم من أهل الأمصار، وإنما خص أهل البادية بالذكر لأن
الغالب أنه لا يقتاته غيرهم. وقال أبو الخطاب: لا يجزئ إخراج الاقط مع القدرة على ما سواه في
أحدي الروايتين، وظاهر الحديث يدل على خلافه، وذكر القاضي أنه إذا عدم الاقط وقلنا له اخراجه
جاز اخراج اللبن لأنه أكمل من الاقط لأنه يجئ منه الاقط وغيره، وحكاه أبو ثور عن الشافعي.
وقال الحسن: إن لم يكن بر ولا شعير أخرج صاعا من لبن، وظاهر قول الخرقي يقتضي أنه لا يجزي اللبن
بحال لقوله: من كل حبة أو ثمرة تقتات، وقد حملنا ذلك على حالة العدم، ولا يصح ما ذكروه لأنه لو
كان أكمل من الاقط لجاز اخراجه مع وجوده، ولان الاقط أكمل من اللبن من وجه لأنه بلغ حالة
الادخار وهو جامد بخلاف اللبن، لكن يكون حكم اللبن حكم اللحم يجزئ اخراجه عند عدم الأصناف
المنصوص عليها على قول ابن حامد ومن وافقه وكذلك الجبن وما أشبهه
654

(مسألة) قال (واختيار أبي عبد الله إخراج الثمر)
وبهذا قال مالك، قال ابن المنذر: واستحب مالك اخراج العجوة منه، واختار الشافعي وأبو عبيد
اخراج البر. وقال بعض أصحاب الشافعي يحتمل أن يكون الشافعي قال ذلك لأن البركان أغلى في
وقته ومكانه لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمنا وأنفسها لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أفضل الرقاب
فقال (أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها) وإنما اختار أحمد إخراج التمر اقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا له
وروى باسناده عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله قد
أوسع والبر أفضل من التمر) قال إن أصحابي سلكوا طريقا وأنا أحب أن أسلكه. وظاهر هذا
أن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر فأحب ابن عمر موافقتهم وسلوك طريقتهم، وأحب احمد
أيضا الاقتداء بهم واتباعهم
وروي البخاري عن ابن عمر أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر، أو
655

صاعا من شعير، فعدل الناس به صاعا من بر وكان ابن عمر يخرج التمر فأعوز أهل المدينة من التمر
فأعطى شعيرا ولأن التمر فيه قوة وحلاوة وهو أقرب تناولا وأقل كلفة فكان أولى
(فصل) والأفضل بعد التمر البر. وقال بعض أصحابنا: الأفضل بعده الزبيب لأنه أقرب
تناولا وأقل كلفة فأشبه التمر ولنا أن البر أنفع في الاقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير، وكذلك قال
أبو مجلز لابن عمر: البر أفضل من التمر، يعني أنفع وأكثر قيمة ولم ينكره ابن عمر، وإنما عدل
عنه اتباعا لأصحابه وسلوكا لطريقتهم ولهذا عدل نصف صاع منه بصاع من غيره. وقال معاوية: اني
لأرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من التمر فأخذ الناس به، وتفضيل التمر إنما كان لاتباع الصحابة
ففيما عداه يبقى على مقتضى الدليل في تفضيل البر، ويحتمل أن يكون الأفضل بعد التمر ما كان أعلا قيمة وأكثر نفعا
656

(مسألة) قال (ومن قدر على التمر، أو الزبيب، أو البر، أو الشعير، أو الاقط
فأخرج غيره لم يجزه)
ظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها سواء كان المعدول إليه
قوت بلده أولم يكن. وقال أبو بكر: يتوجه قول آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث
صاعا من طعام والطعام قد يكون البر والشعير وما دخل في الكيل، قال وكلا القولين محتمل وأقيسهما
أنه لا يجوز غير الخمسة إلا أن يعدمها فيعطي ما قام مقامها. وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد.
وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى الرجل زكاة الفطر منه، واختلف أصحابه
فمنهم من قال بقول مالك، ومنهم من قال الاعتبار بغالب قوت المخرج، ثم إن عدل عز الواجب إلى أعلا
منه جاز، وإن عدل إلى دونه ففيه قولان (أحدهما) يجوز لقوله عليه السلام (اغنوهم عن الطلب)
657

والغنى يحصل بالقوت (والثاني) لا يجوز لأنه عدل عن الواجب إلى أدنى منه فلم يجزئه كما لو عدل عن
الواجب في زكاة المال إلى أدنى منه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر أجناسا معدودة فلم يجز العدول عنها كما لو
أخرج القيمة وذلك لأن ذكر الأجناس بعد ذكره الفرض تفسير للمفروض فما أضيف إلى المفسر
يتعلق بالتفسير فتكون هذه الأجناس مفروضة فيتعين الاخراج منها، ولأنه إذا أخرج غيرها عدل
عن المنصوص عليه فلم يجز كاخراج القيمة، وكما لو أخرج عن زكاة المال من غير جنسه، والاغناء
يحصل بالاخراج من المنصوص عليه فلا منافاة بين الخبرين لكونهما جميعا يدلان على وجوب الاغناء
بأداء أحد الأجناس المفروضة
(فصل) والسلت نوع من الشعير فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه، وقد صرح بذكره
في بعض ألفاظ حديث ابن عمر قال: كان الناس يخرجون صدقة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا
658

من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من سلت وعن أبي سعيد قال: لم نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من دقيق أو صاعا من أقط أو صاعا
من سلت، قال ثم شك فيه سفيان بعد فقال دقيق أو سلت. رواهما النسائي
(فصل) ويجوز اخراج الدقيق نص عليه احمد، وكذلك السويق. قال احمد: وقد روي عن
ابن سيرين سويق أو دقيق. وقال مالك والشافعي: لا يجزي اخراجهما لحديث ابن عمر ولأن
منافعه نقصت فهو كالخبز
ولنا حديث أبي سعيد وقوله فيه: أو صاعا من دقيق، ولان الدقيق والسويق أجزاء الحب بحتا
يمكن كيله وادخاره فجاز اخراجه كما قبل الطحن وذلك لأن الطحن إنما فرق اجزاءه وكفى الفقير
مؤنته فأشبه ما لو نزع نوى التمر ثم أخرجه، ويفارق الخبز والهريسة والكبولا لأن مع أجزاء الحب
فيها من غيره، وقد خرج عن حال الادخار والكيل والمأمور به صاع وهو مكيل وحديث ابن عمر
لم يقتض ما ذكروه ولم يعملوا به
659

(فصل) ولا يجوز إخراج الخبز لأنه خرج عن الكيل والادخار (1) ولا الهريسة والكبولا وأشباههما
لذلك، ولا الخل ولا الدبس لأنهما ليسا قوتا، ولا يجوز أن يخرج حبا معيبا كالمسوس والمبلول، ولا
قديما تغير طعمه لقول الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) فإن كان القديم لم يتغير طعمه إلا أن
الحديث أكثر قمية منه جاز إخراجه لعدم العيب فيه والأفضل إخراج الأجود. قال احمد: كان ابن
سيرين يحب أن ينقي الطعام وهو أحب إلي ليكون على الكمال ويسلم مما يخالطه من غيره، فإن كان
المخالط له يأخذ حظا من المكيال وكان كثيرا بحيث يعد عيبا فيه لم يجزئه، وإن لم يكثر جاز اخراجه
إذا زاد على الصاع قدرا يزيد على ما فيه من غيره حتى يكون المخرج صاعا كاملا
(فصل) ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز وإن لم يكن قوتا له. وقال مالك:
يخرج من غالب قوت البلد وذكرنا قول الشافعي
ولنا أن خبر الصدقة ورد بحرف التخيير بين هذه الأصناف فوجب التخيير فيه، ولأنه عدل

(1) فيه أن الكيل والادخار يظهر اعتباره في زكاة الزرع دون الفطرة لأن الفطرة لاغناء الفقراء عن الشحاذة يوم العيد والخبز والطبيخ أغنى لهم من الحبوب والأنواع المنصوصة كانت معظم الأقوات المعروفة وان قل الزبيب في الحجاز والأقط في حضره
660

إلى منصوص عليه فجاز كما لو عدل إلى الأعلا والغنى يحصل بدفع قوت من الأجناس ويدل على ما ذكرنا
أنه خير بين التمر والزبيب والأقط، ولم يكن الزبيب والأقط قوتا لأهل المدينة فدل على أنه
لا يعتبر أن يكون قوتا للمخرج
(مسألة) قال (ومن أعطى القيمة لم تجزئه)
قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع أعطى دراهم يعني في صدقة الفطر قال أخاف أن لا يجزئه
خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو طالب قال لي احمد: لا يعطي قيمته، قيل له قوم يقولون عمر ابن
عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة، قال يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان؟ قال ابن عمر:
فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقال قوم يردون السنن:
قال فلان قال فلان، وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه اخراج القيمة في شئ من الزكوات، وبه قال مالك
661

والشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة، يجوز وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن، وقد
روي عن أحمد مثل قولهم فيما عد الفطرة. وقال أبو داود: سئل احمد عن رجل باع ثمرة نخلة قال
عشره على الذي باعه، قيل له فيخرج ثمرا أو ثمنه، قال إن شاء أخرج ثمرا وإن شاء أخرج من الثمن،
وهذا دليل على جواز اخراج القيم ووجهه قول معاذ لأهل اليمن إئتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم فإنه
أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة. وقال سعيد: حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس قال: لما
قدم معاذ اليمن قال: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير
للمهاجرين بالمدينة قال: وحدثنا جرير عن ليث عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب يأخذ
العروض في الصدقة من الدراهم، ولان المقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر
المالية باختلاف صور الأموال
662

ولنا قول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر وصاعا من شعير، فإذا
عدل عن ذلك فقد ترك المفروض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (في أربعين شاة شاة، وفي مائتي درهم خمسة
دراهم) وهو وارد بيانا لمجمل قوله تعالى (وآتوا الزكاة) فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها،
والامر يقتضي الوجوب، ولان النبي صلى الله عليه وسلم فرض الصدقة على هذا الوجه وأمر بها أن تؤدي،
ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال: هذه الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر
بها أن تؤدى. وكان فيه: في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون
ذكر. وهذا يدل على أنه أراد عينها لتسميته إياها وقوله فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر.
663

ولو أراد المالية أو القيمة لم يجزلان خمسا وعشرين لا تخلو عن مالية بنت مخاض، وكذلك قوله
فابن لبون ذكر فإنه لو أراد المالية للزمه مالية بنت مخاض دون مالية ابن لبون. وقد روى أبو داود
وابن ماجة باسنادهما عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال (خذ الحب من الحب والشاة من
الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر) ولان الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكر النعمة المال،
والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تندفع به حاجته، ويحصل
شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به، ولان مخرج القمية قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه
كما لو أخرج الردئ مكان الجيد وحديث معاذ الذي رووه في الجزية بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم أمره
بتفريق الصدقة في فقرائهم ولم يأمره بحملها إلى المدينة وفى حديثه هذا فإنه أنفع للمهاجرين بالمدينة
664

(مسألة) قال (ويخرجها إذا خرج إلى المصلى)
المستحب إخراج صدقة الفطر يوم الفطر قبل الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل
خروج الناس إلى الصلاة في حديث ابن عمر وفي حديث ابن عباس (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة
مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) فإن أخرها عن الصلاة ترك الأفضل لما
ذكرنا من السنة ولان المقصود منها الاغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم، فمتى أخرها لم يحصل
إغناؤهم في جميعه لا سيما في وقت الصلاة، ومال إلى هذا القول عطاء ومالك وموسى بن وردان وإسحق
وأصحاب الرأي. وقال القاضي إذا أخرج في بقية اليوم لم يكن فعل مكروها لحصول الغناء
بها في
اليوم. قال سعيد حدثنا أبو معسر عن نافع عن ابن عمر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج
665

وذكر الحديث، قال فكان يؤمر أن يخرج قبل أن يصلي فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه بينهم
وقال أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم. وقد ذكرنا من الخبر والمعنى ما يقتضي الكراهة، فإن أخرها
عن يوم العيد أثم ولزمه القضاء. وحكي عن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العبد
وروى محمد بن يحيى الكحال قال: قلت لأبي عبد الله فإن أخرج الزكاة ولم يعطها. قال نعم إذا
أعدها لقوم، حكاه ابن المنذر عن أحمد، واتباع السنة أولى
(فصل) فأما وقت الوجوب فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فإنها تجب بغروب
الشمس من آخر شهر رمضان فمن تزوج أو ملك عبدا أو ولد له ولدا وأسلم قبل غروب الشمس فعليه
الفطرة، وإن كان بعد الغروب لم تلزمه، ولو كان حين الوجوب معسرا ثم أيسر في ليلة تلك أوفي
666

يومه لم يجب عليه شئ، ولو كان في وقت الوجوب موسرا ثم أعسر لم تسقط عنه اعتبارا بحالة الوجوب،
ومن مات بعد غروب الشمس ليلة فعليه صدقة الفطر نص عليه أحمد وبما ذكرنا في وقت
الوجوب قال الثوري وإسحق ومالك في إحدى الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه. وقال الليث
وأبو ثور وأصحاب الرأي تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك لأنها قربة تتعلق بالعيد
فلم يتقدم وجوبها يوم العيد وهو رواية عن مالك كالأضحية
ولنا قول ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ولأنها
تضاف إلى الفطر فكانت واجبة به كزكاة المال، وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص والسبب أخص
بحكمه من غيره والأضحية لا تعلق لها بطلوع الفجر ولاهي واجبة ولا تشبه ما نحن فيه، فعلى هذا إذا
غربت الشمس والعبد المبيع في مدة الخيار أو وهب له عبد فقبله ولم يقبضه أو اشتراه ولم يقبضه
667

فالفطرة على المشتري والمنهب لأن الملك له والفطرة على المالك، ولو أوصي له بعبد ومات الموصي قبل
غروب الشمس فلم يقبل الموصى له حتى غبت فالفطرة عليه في أحد الوجهين والآخر على ورثة الموصي
بناء على الوجهين في الموصى به هل ينتقل بالموت أو من حين القبول؟ ولو مات، فإن كان موته بعد
هلال شوال ففطرة العبد في تركته لأن الورثة إنما قبلوه له، وإن كان موته قبل هلال شوال ففطرته
على الورثة، ولو أوصي لرجل برقبة عبد ولآخر بمنفعته فقبلا كانت الفطرة على مالك الرقبة لأن الفطرة
تجب بالرقبة لا بالمنفعة، ولهذا تجب على من لانفع فيه، ويحتمل أن يكون حكمها حكم نفقته وفيها
ثلاثة أوجه (أحدها) أنها على مالك نفعه (والثاني) وعلى مالك رقبته (والثالث) في كسبه
(مسألة) قال (وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه)
وجملته أنه يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك. وقال ابن عمر كانوا
يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين. وقال بعض أصحابنا: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز
تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل. وقال أبو حنيفة ويجوز تعجيلها من أول
668

الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال. وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة
الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب
ولنا ما روى الجوزجاني ثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا أو معشر عن نافع عن ابن عمر قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر به فيقسم، قال يزيد أظن هذا يوم الفطر ويقول (أغنوهم عن الطواف
في هذا اليوم) والامر للوجوب، ومتى قدمها بالزمان لكثير لم يحصل اغناؤهم بها يوم العيد، وسبب
وجوبها الفطر بدليل اضافتها إليه، وزكاة المال سببها ملك النصاب والمقصود اغناء الفقير بها في الحول
كله فجاز اخراجها في جميعه، وهذه المقصود منها الاغناء في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت فأما
تقديمها بيوم أو يومين فجائز لما روى البخاري باسناده عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة
الفطر من رمضان وقال في آخره وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين، وهذا إشارة إلى جميعهم
669

فيكون اجماعا، ولان تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها، فإن الظاهر أنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد
فيستغنى بها عن الطواف والطلب فيه، ولأنها زكاة فجاز تعجيلها قبل وجوبها كزكاة المال والله أعلم
(مسألة) قال (ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله إذا كان عنده فضل
عن قوت يومه وليلته)
عيال الانسان من يعوله أي يمونه فتلزمه فطرتهم كما تلزمه مؤنتهم إذا وجد ما يؤدي عنهم، لحديث
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر عن كل صغير وكبير، حر وعبد ممن تمونون،
والذي يلزم الانسان نفقتهم وفطرتهم ثلاثة أصناف الزوجات والعبيد والأقارب، فأما الزوجات
فعليه فطرتهن، وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة والثوري وابن المنذر: لا تجب
670

عليه فطرة امرأته وعلى المرأة فطرة نفسها لقول النبي صلى الله عليه وسلم (صدقة الفطر على كل ذكر
وأنثى) ولأنها زكاة فوجبت عليها كزكاة مالها
ولنا الخبر، ولان النكاح سبب تجب به النفقة فوجبت به الفطرة كالملك والقرابة بخلاف زكاة
المال فإنها لا تتحمل بالملك والقرابة، فإن كان لامرأته من يخدمها بأجرة فليس عى الزوج فطرته لأن
الواجب الاجر دون النفقة وإن كان لها نظرت، فإن كانت ممن لا يجب لها خادم فليس عليه نفقة
خادمها ولا فطرته، وإن كانت ممن يخدم مثلها فعلى الزوج أن يخدمها، ثم هو مخير بين أن يشتري
لها خادما أو يستأجر أو ينفق على خادمها، فإن اشترى لها خادما أو اختار الانفاق على خادمها فعليه
فطرته، وإن استأجر لها خادما فليس عليه نفقته ولا فطرته سواء شرط عليه مؤنته أولم يشترط لأن
المؤنة إذا كانت أجرة فهي من مال المستأجر وإن تبرع بالانفاق على من لا تلزمه نفقته فحكمه حكم من
671

تبرع بالانفاق على أجنبي وسنذكره إن شاء الله تعالى. وإن نشزت المرأة في وقت الوجوب ففطرتها
على نفسها دون زوجها لأن نفقتها لا تلزمه، واختار أبو الخطاب أن عليه فطرتها لأن الزوجية ثابتة
عليها فلزمته فطرتها كالمريضة التي لا تحتاج إلى نفقة والأول أصح لأن هذه ممن تلزمه مؤنته فلا تلزمه
فطرته كالأجنبية وفارق المريضة لأن عدم الانفاق عليها لعدم الحاجة لا لخلل في المقتضي لها فلا يمنع
ذلك من ثبوت تبعها بخلاف الناشز، وكذلك كل امرأة لا يلزمه نفقتها كغير المدخول بها إذا لم تسلم
إليه، والصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها فإنه لا تلزمه نفقتها ولا فطرتها لأنها ليست ممن يمون
(فصل) وأما العبيد فإن كانوا لغير التجارة فعلى سيدهم فطرتهم لا نعلم فيه خلافا، وإن كانوا للتجارة
فعليه أيضا فطرتهم، وبهذا قال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال عطاء
والنخعي والثوري وأصحاب الرأي لا تلزمه فطرتهم لأنها زكاة، ولا تجب في مال واحد زكاتان وقد
وجبت فيهم زكاة التجارة فيمتنع وجوب الزكاة الأخرى كالسائمة إذا كانت للتجارة
672

ولنا عموم الأحاديث وقول ابن عمر فرض رسول صلى الله عليه وسلم (زكاة الفطر على الحر والعبد)
وفي حديث عمرو بن شعيب (ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى، حر أو عبد
صغير أو كبير) ولان نفقتهم واجبة فوجبت فطرتهم كعبيد القنية أو نقول مسلم تجب مؤنته فوجبت
فطرته كالأصل وزكاة الفطرة تجب على البدن، ولهذا تجب على الأحرار وزكاة التجارة تجب عن القيمة
وهي المال بخلاف السوم والتجارة فإنهما يجبان بسبب مال واحد متى كان عبيد التجارة في يد المضارب
وجبت فطرتهم من مال المضاربة لأن مؤنتهم منها، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنها على رب المال
ولنا أن فطرتهم تابعة للنفقة وهي من مال المضاربة فكذلك الفطرة
(فصل) وتجب فطرة العبد الحاضر والغائب الذي تعلم حياته والآبق والصغير والكبير والمرهون
والمغصوب. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن على المرء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر غير
673

المكاتب والمغصوب والآبق وعبيد التجارة، فأما الغائب فعليه فطرته إذا علم أنه حي سواء رجي
رجعته أو أيس منها، وسواء كان مطلقا أو محبوسا كالأسير وغيره. قال ابن المنذر: أكثر أهل العلم
يرون أن تؤدي زكاة الفطر عن الرقيق غائبهم وحاضرهم لأنه مالك لهم فوجبت فطرتهم عليه كالحاضرين،
وممن أوجب فطرة الآبق الشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وأوجبها الزهري إذا علم مكانه، والأوزاعي
إن كان في دار الاسلام، ومالك إن كانت غيبته قريبة، ولم يوجبها عطاء والثوري وأصحاب الرأي لأنه
لا يلزمه الانفاق عليه فلا تجب فطرته كالمرأة الناشز
ولنا أنه مال له فوجبت زكاته في حال غيبته كمال التجارة، ويحتمل أن لا يلزمه اخراج زكاته
حتى يرجع إلي يده كزكاة الدين والمغصوب ذكره ابن عقيل ووجه القول الأول أن زكاة الفطر تجب
تابعة للنفقة، تجب مع الغيبة بدليل أن من رد الآبق رجع بنفقته، وأما من شك في حياته منهم
674

وانقطعت أخباره لم تجب فطرته نص عليه في رواية صالح لأنه لا يعلم بقاء ملكه عليه، ولو أعتقه في
كفارته لم يجزئه فلم تجب فطرته كالميت، فإن مضت عليه سنون ثم علم حياته لزمه الاخراج لما مضى
لأنه بان له وجود سبب الوجوب في الزمان الماضي فوجب عليه الاخراج لما مضى كما لو سمع بهلاك ماله
الغائب ثم بان انه كان سالما، والحكم في القريب الغائب كالحكم في البعيد لأنهم ممن تجب فطرتهم
مع الحضور فكذلك مع الغيبة كالعبيد، ويحتمل أن لا تجب فطرتهم مع الغيبة لأنه لا يلزمه بعث نفقتهم
إليهم، ولا يرجعون بالنفقة الماضية
(فصل) فأما عبيد عبيده فإن قلنا إن العبد لا يملكهم بالتمليك فالفطرة على السيد لأنهم ملكه، وهذا
ظاهر كلام الخرقي وقول أبي الزناد ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وان قلنا يملك بالتمليك فقد
قبل لا تجب فطرتهم على أحد لأن السيد لا يملكهم وملك العبد ناقص والصحيح وجوب فطرتهم لأن
675

فطرتهم تتبع النفقة ونفقتهم واجبة فكذلك فطرتهم، ولا يعتبر في وجوبها كمال الملك بدليل وجوبها
على المكاتب عن نفسه وعبيده مع نقص ملكه
(فصل) وأما زوجة العبد فذكر أصحابنا المتأخرون أن فطرتها على نفسها ان كانت حرة،
وعلى سيدها ان كانت أمة، وقياس المذهب عندي وجوب فطرتها على سيد العبد لوجوب نفقتها
عليه، ألا ترى انه تجب عليه فطرة خادم امرأته مع أنه لا يملكها لوجوب نفقتها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
(أدوا صدقة الفطر عمن تمونون) وهذه ممن يمونون، وقد ذكر أصحابنا انه لو تبرع بمؤنة شخص
لزمته فطرته فمن تجب عليه أولى، وهكذا لو زوج الابن أباه وكان ممن تجب عليه نفقته ونفقته امرأته
فعليه فطرتهما والله أعلم.
676

(فصل) وان تبرع بمؤنة انسان في شهر رمضان فأكثر أصحابنا يختارون وجوب الفطرة عليه وقد نص
عليه أحمد في رواية أبي داود فيمن ضم إلى نفسه يتيمة يؤدي عنها وذلك لقوله عليه السلام (أدوا
صدقة الفطرة عمن تمونون) وهذا ممن يمونون ولأنه شخص ينفق عليه فلزمته فطرته كعبده، واختار
أبو الخطاب لا تلزمه فطرته لأنه لا تلزمه مؤنته فلم تلزمه فطرته كما لو يمنه وهذا قول أكثر أهل العلم
وهو الصحيح إن شاء الله. وكلام أحمد في هذا محمول على الاستحباب لاعلى الايجاب. والحديث
محمول على من تلزمه مؤنته لا على حقيقة المؤنة بدليل انه تلزمه فطرة الآبق ولم يمنه، ولو ملك عبدا
عند غروب الشمس أو تزوج أو ولد له ولد لزمته فطرتهم لوجوب مؤنتهم عليه وان لم يمنهم، ولو باع
عبده أو طلق امرأته أو ماتا أو مات ولده لم تلزمه فطرتهم وان مانهم ولان قوله (ممن يمونون) فعل
677

مضارع فيقتضي الحال أو الاستقبال دون الماضي، ومن مانه في رمضان إنما وجدت مؤنته في الماضي
فلا يدخل في الخبر ولو دخل فيه لاقتضى وجوب الفطرة على من مانه ليلة واحدة وليس في الخبر
ما يقيده بالشهر ولا بغيره فالتقييد بمؤنة الشهر تحكم، فعلى هذا القول تكون فطرة هذا المختلف فيه
على نفسه كما لو لم يمنه. وعلى قول أصحابنا المعتبر الانفاق في جميع الشهر، وقال ابن عقيل: قياس
مذهبنا انه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته قياسا على من ملك عبدا عند غروب الشمس، وإذا مانه
جماعة في الشهر كله أو مانه إنسان بعض الشهر، فعلى قياس قول ابن عقيل هذا تكون فطرته على من
مانه آخر ليلة، وعلى قول غيره يحتمل أن لا تجب فطرته على أحد ممن مانه لأن سبب الوجوب
المؤنة في جميع الشهر ولم يوجد، ويحتمل ان تجب على الجميع فطرة واحدة بالحصص لأنهم اشتركوا في
سبب الوجوب فأشبه ما لو اشتركوا في ملك عبد
678

(مسألة) قال (وإذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته)
وجملة ذلك أن صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها ولا يعتبر في وجوبها نصاب، وبهذا قال
أبو هريرة وأبو العالية والشعبي وعطاء وابن سيرين والزهري ومالك وابن المبارك والشافعي وأبو ثور
وقال أصحاب الرأي: لا تجب الا على من يملك مائتي درهم أو ما قيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) والفقير لا غنى له فلا تجب عليه ولأنه تحل له الصدقة
فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها
ولنا ما روي ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أدوا صدقة الفطر صاعا
من قمح أو قال بر عن كل انسان صغير أو كبير حر أو مملوك غني أو فقير ذكر أو أنثى، أما غنيكم
فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى) وفي رواية أبي داود (صاع من بر أو قمح
679

عن كل اثنين) ولأنه حق مال لا يزيد بزيادة المال فلا يعتبر وجوب النصاب فيه كالكفارة ولا يمتنع
أن يؤخذ منه ويعطي لمن وجب عليه العشر، والذي قاسوا عليه عاجز، فلا يصح القياس عليه،
وحديثهم محمول على زكاة المال
(فصل) وإذا لم يفضل إلا صاع أخرجه عن نفسه لقوله عليه السلام (ابدأ بنفسك ثم بمن
تعول) ولان الفطرة تنبني على النفقة فكما يبدأ بنفسه في النفقة فكذلك في الفطرة، فإن فضل آخر
أخرجه عن امرأته لأن نفقتها آكد فإن نفقتها تجب على سبيل المعاوضة مع اليسار والاعسار ونفقة
الأقارب صلة تجب مع اليسار دون الاعسار فإن فضل آخر أخرجه عن رقيقه لوجوب نفقتهم في
الاعسار، وقال ابن عقيل: يحتمل تقديم الرقيق على الزوجة لأن فطرته متفق عليها وفطرتها مختلف
680

فيها، وان فضل آخر أخرجه عن ولده الصغير لأن نفقته منصوص عليها ومجمع عليها، وفي الوالد
والولد الكبير وجهان (أحدهما) يقدم الولد لأنه كبعضه (والثاني) الوالد لأنه كبعض والده، وتقدم
فطرة الإمام على فطرة الأب لأنها مقدمة في البر بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي لما سأله: من أبر؟
قال (أمك) قال ثم من قال (أمك) قال ثم من قال أمك) قال ثم من قال (أمك) ولأنها
ضعيفة عن الكسب، ويحتمل تقديم فطرة الأب لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) ثم بالجد
ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات في الميراث، ويحتمل تقديم فطرة الولد على فطرة المرأة
لما روى أبو هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقام رجل فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي دينار
قال (تصدق به على نفسك) قال عندي آخر قال (تصدق به على ولدك) قال عندي آخر قال
(تصدق به على زوجتك) قال عندي آخر قال (تصدق به على خادمك) قال عندي آخر قال
(أنت أبصر) فقدم الولد في الصدقة عليه فكذلك في الصدقة عنه، ولان الولد كبعضه فيقدم كتقديم
681

نفسه، ولأنه إذا ضيع ولده لم يجد من ينفق عليه فيضيع، والزوجة إذا لم ينفق عليها فرق بينهما وكان
لها من يمونها من زوج أوذي رحم ولان نفقة الزوجة على سبيل المعاوضة فكانت أضعف في استتباع
الفطرة من النفقة الواجبة على سبيل الصلة لأن وجوب العوض المقدر لا يقتضي وجوب زيادة عليه يتصدق
بها عمن له العوض ولهذا لم تجب فطرة الأخير المشروط له مؤنته بخلاف القرابة فإنها كما اقتضت
صلته بالانفاق عليه اقتضت صلته بتطهيره باخراج الفطرة عنه.
(فصل) فإن لم يفضل الا بعض صاع فهل يلزمه اخراجه؟ على روايتين (إحداهما) لا يلزمه
اختارها ابن عقيل لأنها طهرة فلا تجب على من لا يملك جميعها كالكفارة (والثانية) يلزمه إخراجه
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولأنها طهرة فوجب منها ما قدر عليه
كالطهارة بالماء ولان الجزء من الصاع يخرج عن العبد المشترك فجاز أن يخرج عن غيره كالصاع
682

(فصل) فإن أعسر بفطرة زوجته فعليها فطرة نفسها أو على سيدها ان كانت مملوكة لأنها
تتحمل إذا كان ثم محتمل، فإذا لم يكن عاد إليها كالنفقة، ويحتمل أن لا يجب عليها شئ لأنها لم
تجب على من وجد سبب الوجوب في حقه لعسرته فلم تجب على غيره كفطرة نفسه، وتفارق النفقة فإن
وجوبها آكد لأنها مما لابد منه وتجب على المعسر والعاجز ويرجع عليه بها عند يساره والفطرة بخلافها
(فصل) ومن وجبت فطرته على غيره كالمرأة والنسيب الفقير إذا أخرج عن نفسه باذن من
تجب عليه صح بغير خلاف نعلمه لأنه نائب عنه، وان أخرج بغير اذنه ففيه وجهان (أحدهما)
يجزئه لأنه أخرج فطرته فأجزأه كالتي وجبت عليه (والثاني) لا يجزئه لأنه أدي ما وجب على غيره
بغير اذنه فلم يصح كما لو أدى عن غيره
683

(فصل) ومن له دار يحتاج إليها لسكناها أو إلى أجرها لنفقته أو ثياب بذلة له أو لمن تلزمه مؤنته
أو رقيق يحتاج إلى خدمتهم هو أو من يمونه أو بهائم يحتاجون إلى ركوبها والانتفاع بها في حوائجهم
الأصلية أو سائمة يحتاج إلى نمائها كذلك أو بضاعة يختل ربحها الذي يحتاج إليه باخراج الفطرة منها
فلا فطرة عليه كذلك، لأن هذا مما تتعلق به حاجته الأصلية فلم يلزمه بيعه كمؤنة نفسه. ومن له
كتب يحتاج إليها للنظر فيها والحفظ منها لا يلزمه بيعها، والمرأة إذا كان لها حلي للبس أو لكراء
يحتاج إليه لم يلزمها بيعه في الفطرة. وما فضل من ذلك عن حوائجه الأصلية وأمكن بيعه وصرفه
في الفطرة وجبت الفطرة به لأنه أمكن أداؤها من غير ضرر أصلي أشبه ما لو ملك من الطعام
ما يؤديه فاضلا عن حاجته.
684

(مسألة) قال (وليس عليه في مكاتبه زكاة)
وعلى المكاتب ان يخرج عن نفسه زكاة الفطر، وممن قال لا تجب فطرة المكاتب على سيده
أو سلمة بن عبد الرحمن والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وأوجبها على السيد عطاء ومالك وابن المنذر
لأنه عبد فأشبه سائر عبيده
ولنا قوله عليه السلام (ممن تمونون) وهذا لا يمونه ولأنه لا تلزمه مؤنته فلم تلزمه فطرته كالأجنبي
وبهذا فارق سائر عبيده. إذا ثبت هذا فإن على المكاتب فطرة نفسه وفطرة من تلزمه مؤنته كزوجته
ورقيقه وقال أبو حنيفة والشافعي لا تجب عليه لأنه ناقص الملك فلم تجب عليه الفطرة كالقن ولأنها زكاة
فلم تجب عليه كزكاة المال
685

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى وهذا عبد ولا يخلو من
كونه ذكرا أو أنثى، ولأنه يلزمه نفقة نفسه فلزمته فطرتها كالحر الموسر ويفارق زكاة المال لأنها
يعتبر لها الغني والنصاب والحول ولا يحملها أحد عن غيره بخلاف الفطرة
(فصل) وتلزم لمكاتب فطرة من يمونه كالحر لدخولهم في عموم قوله عليه السلام (أدوا صدقة
الفطر عمن تمونون)
(مسألة) قال (وإذا ملك جماعة عبدا أخرج كل واحد منهم صاعا، وعن أبي عبد الله
رواية أخرى صاعا عن الجميع)
وجملة ذلك أن فطرة العبد المشترك واجبة على مواليه وبهذا قال مالك ومحمد بن سلمة وعبد الملك
686

والشافعي ومحمد بن الحسن وأبو ثور، وقال الحسن وعكرمة والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف: لا فطرة
على واحد منهم لأنه ليس عليه لاحد منهم ولاية تامة أشبه المكاتب
ولنا عموم الأحاديث ولأنه عبد مسلم مملوك لمن يقدر على الفطرة وهو من أهلها فلزمته لمملوك
الواحد وفارق المكاتب فإنه لا تلزم سيد مؤنته، ولان المكاتب يخرج عن نفسه زكاة الفطر بخلاف
القن، والولاية غير معتبرة في وجوب الفطرة بدليل عبد الصبي ثم إن ولايته للجميع فتكون فطرته
عليهم، واختلفت الرواية في قدر الواجب على كل واحد منهم ففي إحداهما على كل واحد صاع لأنها
طهرة فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء ككفارة القتل (والثانية) على الجميع صاع واحد على
كل واحد منهم بقدر ملكه فيه وهذا الظاهر عن أحمد قال فوران رجع احمد عن هذه المسألة وقال يعطي كل
687

واحد منهم نصف صاع يعني رجع عن إيجاب صاع كامل على كل واحد وهذا قول سائر من أوجب فطرته على
سادته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب صاعا على كل واحد وهذا عام في المشترك وغيره ولان نفقته تقسم عليهم
فكذلك فطرته التابعة لها ولأنه شخص واحد فلم تجب عنه صيعان كسائر الناس ولأنها طهرة فوجبت
على سادته بالحصص كماء الغسل من الجنابة إذا احتيج إليه وبهذا ينتقض ما ذكرناه للرواية الأولى
(فصل) ومن بعضه حر ففطرته عليه وعلى سيده وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال مالك على الحر
بحصته وليس على العبد شئ
ولنا انه عبد مسلم تلزم فطرته شخصين من أهل الفطرة فكانت فطرته عليهما كالمشترك ثم هل
688

يلزم كل واحد منهما صاع أو بالحصص ينبني على ما ذكرنا في العبد المشترك فإن كان أحدهما معسرا فلا شئ
عليه وعلى الآخر بقدر الواجب عليه ولو كان بين العبد وبين السيد مهايأة أو كان المشتركون في العبد قد
تهايؤا عليه لم تدخل الفطرة في المهايأة لأن المهايأة معاوضة كسب بكسب، والفطرة حق الله تعالى فلا
تدخل في ذلك كالصلاة
(فصل) ولو ألحقت القافة ولدا برجلين أو أكثر فالحكم في فطرته كالحكم في العبد المشترك ولو أن
شخصا حرا له قريبان فأكثر عليهم نفقته بينهم كانت فطرته عليهم كالعبد المشترك على ما ذكر فيه
689

(مسألة) قال (ويعطي صدقة لمن يجوز أن يعطى صدقة الأموال)
إنما كانت كذلك لأن صدقة الفطر زكاة فكان مصرفها مصرف سائر الزكاوات، ولأنها صدقة
فتدخل في عموم قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع
زكاة المال إليه، ولا يجوز دفعها إلى ذمي وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة
يجوز، وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمذاني انهم كانوا يعطون منها الرهبان
ولنا انها زكاة فلم يجز دفعها إلى غير المسلمين كزكاة المال، ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز
690

دفعها إلى غير المسلمين، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن لا يجزئ أن يعطى من زكاة المال
أحد من أهل الذمة
(فصل) ويجوز أن يعطي أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله ولا يعطي منها غنيا ولا ذا قربى
ولا أحدا ممن منع أخذ زكاة المال ويجوز صرفها في الأصناف الثمانية لأنها صدقة فأشبهت صدقة المال
(فصل) فإن دفعها إلى مستحقها فاخرجها آخذها إلى دافعها أو جمعت الصدقة عند الإمام ففرقها
على أهل السهمان فعادت إلى انسان صدقته فاختار القاضي جواز ذلك، قال لأن أحمد قد نص فيمن
691

له نصاب من الماشية والزرع ان الصدقة تؤخذ منه وترد عليه إذا لم يكن له قدر كفايته وهو مذهب
الشافعي، ولان قبض الإمام أو المستحق أزال ملك المخرج وعادت إليه بسبب آخر فجاز كما لو عادت
بميراث. وقال أبو بكر: مذهب أحمد أنه لا يحل له أخذها لأنها طهرة له فلم يجزله أخذها كشرائها
ولان عمر رضي إلى عنه أراد أن يشتري الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
(لا تشترها ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه) فأما ان اشتراها لم يجزله
ذلك للخبر، فإن ورثها فله أخذها لأنها رجعت إليه بغير فعل منه
692

(مسألة) قال (ويجوز أن يعطي الواحد ما يلزم الجماعة والجماعة ما يلزم الواحد)
اعطاء الجماعة ما يلزم الواحد لا نعلم فيه خلافا لأنه صرف صدقة إلى مستحقها فبري منها كما لو دفعها
إلى واحد وأما اعطاء الواحد صدقة الجماعة فإن الشافعي ومن وافقه أوجبوا تفرقة الصدقة على ستة أصناف
ودفع حصة كل صنف إلى ثلاثة منهم على ما ذكرناه قبل هذا وقد ذكرنا الدليل عليه، ولأنها صدقة
لغير معين فجاز صرفها إلى واحد كالتطوع. وبهذا قال مالك وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي
693

(مسألة) قال (ومن أخرج عن الجنين فحسن وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه
يخرج عن الجنين)
المذهب أن الفطرة غير واجبة وهو قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: كل من
694

نحفظ عنه من علماء الأمصار لا يوجبون على الرجل زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمه، وعن أحمد
رواية أخرى انها تجب عليه لأنه آدمي تصح الوصية له وبه ويرث فيدخل في عموم الاخبار ويقاس على المولود
ولنا انه جنين فلم تتعلق الزكاة به كأجنة البهائم، ولأنه لم تثبت له أحكام الدنيا الا في
الإرث والوصية بشرط أن يخرج حيا
695

إذا ثبت هذا فإنه يستحب اخراجها عنه لأن عثمان كان يخرجها عنه ولأنها صدقة عمن لا تجب عليه
فكانت مستحبة كسائر صدقات التطوع
(مسألة) قال (ومن كان في يده ما يخرجه عن صدقة الفطر وعليه دين مثله لزمه
ان يخرج الا أن يكون مطالبا بالدين فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه)
إنما لم يمنع الدين الفطرة لأنها آكد وجوبا بدليل وجوبها على الفقير وشمولها لكل مسلم قدر على اخراجها
696

ووجوب تحملها عمن وجبت نفقته على غيره ولا تتعلق بقدر من المال فجرت مجرى النفقة، ولان زكاة
المال تجب بالملك والدين يؤثر في الملك فأثر فيها، وهذه تجب على البدن والدين لا يؤثر فيه. وتسقط
الفطرة عند المطالبة بالدين لوجوب أدائه عند المطالبة وتأكده بكونه حق آدمي معين لا يسقط بالاعسار
وكونه أسبق سببا وأقدم وجوبا يأثم بتأخيره فإنه يسقط غير الفطرة وان لم يطالب به لأن تأثير
المطالبة إنما هو في إلزام الأداء وتحريم التأخير
697

(فصل) وإن مات من وجبت عليه الفطرة قبل أدائها أخرجت من تركته، فإن كان عليه دين
وله مال يفي بهما قضيا جميعا، وإن لم يف بهما قسم بين الدين والصدقة بالحصص، نص عليه احمد في
زكاة المال أن التركة تقسم بينهما وكذا ههنا، فإن كان عليه زكاة مال وصدقة فطر ودين فزكاة الفطر
والمال كالشئ الواحد لاتحاد مصرفهما فيحاصان الدين، وأصل هذا أن حق الله سبحانه وحق الآدمي
إذا تعلقا بمحل واحد فكانا في الذمة أو كانا في العين تساويا في الاستيفاء
698

(فصل) وإذا مات المفلس وله عبيد فهل شوال قبل قسمتهم بين الغرماء ففطرتهم على الورثة لأن
الدين لا يمنع نقل التركة، بل غايته أن يكون رهنا بالدين وفطرة الرهن على مالكه
(فصل) ولو مات عبيده أو من يمونه بعد وجوب الفطرة لم تسقط لأنها دين ثبت في ذمته
بسبب عبده فلم تسقط بموته كما لو استدان العبد باذنه دينا وجب في ذمته، ولان زكاة المال لا تسقط
بتلفه فالفطرة أولى فإن زكاة المال تتعلق بالعين في إحدى الروايتين وزكاة الفطر بخلافه
699

(فصول في صدقة التطوع)
وهي مستحبة في جميع الأوقات لقوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له
أضعافا كثيرة) وأمر بالصدقة في آيات كثيرة وحث عليها ورغب فيها، وروي أبو صالح عن أبي هريرة
700

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله الا الطيب
فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل) متفق عليه
وصدقة السر أفضل من صدقة العلانية لقول تعالى (ان تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيأتكم)
701

وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله
وذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه) متفق عليه
702

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (ان صدقة السر تطفئ غضب الرب) ويستحب الاكثار منها في أوقات
الحاجات لقول الله تعالى (أو اطعام في يوم ذي مسغبة) وفي شهر رمضان لأن الحسنات تضاعف
703

فيه، ولان فيه إعانة أداء الصوم المفروض، ومن فطر صائما كان له مثل أجره
وتستحب الصدقة على ذي القرابة لقول الله تعالى (يتيما ذا مقربة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (الصدقة
704

على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) وهذا حديث حسن
وسألت زينب امرأة عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ينفعها أن تضع صدقتها في زوجها
وبني أخ لها يتامى؟ قال (نعم لها أجران: أجر القرابة وأجز الصدقة) رواه النسائي
705

وتستحب الصدقة على من اشتدت حاجته لقول الله تعالى (مسكينا ذا متربة)
(فصل) والأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام لقول النبي
706

صلى الله عليه وسلم (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول) متفق عليه، وان تصدق بما ينقص عن كفاية
من تلزمه مؤنته ولا كسب له أثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون) (1) ولان نفقة

(1) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي في سننه بسند صحيح وفي رواية (يقوت) بدل (يمون)
707

من يمونه واجبة والتطوع نافلة، وتقديم النفل على الفرض غير جائز، فإن كان الرجل وحده أو كان
لمن يمون كفايتهم فأراد الصدقة بجميع ماله وكان ذا مكسب أو كان واثقا من نفسه بحسن التوكل
708

والصبر على الفقر والتعفف عن المسألة فحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال (جهد
من مقل إلى فقير في السر) وروي عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق
709

فوافق ذلك مالا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته يوما، فجئته بنصف مالي فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ما أبقيت لأهلك؟) قلت: أبقيت لهم مثله، فأتاه أبو بكر بكل ما عنده فقال له (ما أبقيت
710

لأهلك؟) قال الله ورسوله، فقلت لا أسابقك إلى شئ بعده أبدا، فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر
الصديق رضي الله عنه لقوة يقينه وكمال ايمانه وكان أيضا تاجرا إذا مكسب فإنه قال حين ولي: قد علم
711

الناس أن كسي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي. أو كما قال رضي الله عنه: فإن لم يوجد في المتصدق أحد
هذين كره لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل بمثل
712

بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر
713

فقال مثل ذلك فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته
أو لعقرته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يأتي أحدكم بما يملك ويقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس،
714

خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الذي كره من أجله الصدقة بجميع
ماله وهو أن يستكف الناس أي يتعرض لهم للصدقة، أي يأخذها ببطن كفه يقال تكفف واستكف
إذا فعل ذلك. وروى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة ثم حث على الصدقة
715

فطرح الرجل أحد ثوبيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ألم تروا إلى هذا دخل بهيئة بذة فأعطيته ثوبين ثم قلت
تصدقوا فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك) وانتهره، ولان الانسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر
716

وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس، ويكره لمن
لا صبر له على الإضافة أن ينقص نفسه من الكفاية التامة
والله أعلم
(تم طبع الجزء الثاني)
من كتاب المغني وهو الذي في أعلى الصحائف وكتاب الشرح الكبير للمقنع
وهو الذي في أدناها وكان ذلك في أواخر شهر رجب من سنة 1345 ه‍
ويليه الجزء الثالث
وأوله في الكتابين (كتاب الصيام)
717