الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ١٦
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء السادس عشر من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبيه) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(باب انتقاض الإجارة)
(قال رحمه الله ذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حين وضع رجله في
الغرز ان الناس قائلون غدا ماذا قال عمر وان البيع عن صفقة أو خيار والمسلحون عند شروطهم)
وفي هذا الحديث دليل أن الإجارة يتعلق بها اللزوم إذا لم يشترط فيها الخيار كالبيع بخلاف
ما يقوله شريح رحمه الله ان الإجارة من المواعيد لا تكون لازمة وقد بيناه وفيه دليل على أن
البيع نوعان لازم بنفسه وغير لازم إذا شرط فيه الخيار فان الصفقة هي اللازمة النافذة يقال
هذه صفقة لم يشهدها خاطب إذا أنفذ أمر دون رأى رجل فيكون حجة على الشافعي رحمه
الله لأنه يثبت خيار المجلس في كل بيع وفيه دليل وجوب الوفاء بالمشروط إذا كان الشرط
صحيحا شرعا فلا خلاف بيننا فالشافعي رحمه الله يقول عقد الإجارة إذا أطلقت فهي لازمة
كالبيع إلا أن عندنا قد يفسخ الإجارة بالعذر وعنده لا يفسخ الا بالعيب وهو بناء على أصله
ان المنافع كالأعيان الموجودة حكما فان العقد عليها كالعقد على العين فكما لا يفسخ البيع الا
بعيب فكذلك الإجارة وعندنا جواز هذا العقد للحاجة ولزومه لتوفير المنفعة على المتعاقدين
فإذا آل الامر إلى الضرر أخذنا فيه بالقياس وقلنا العقد في حكم المضاف في حق المعقود عليه
والإضافة في عقود التمليكات تمنع اللزوم في الحال كالوصية ثم الفسخ بسبب العيب لدفع
الضرر لا لعين العيب فإذا تحقق الضرر في ايفاء العقد يكون ذلك عذرا في الفسخ وإن لم يتحقق
العيب في المعقود عليه (ألا ترى) ان من استأجر أجيرا ليقلع درسه فسكن ما به من الوجع
كان ذلك عذرا في فسخ الإجارة أو استأجره ليقطع يده للآكلة ثم بدا له في ذلك أو استأجره
ليهدم بناء له ثم بدا له في ذلك لأنه لا يتمكن من ايفاء العقد الا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله من
حيث اتلاف شئ من بدنه أو اتلاف ماله وجواز الاستئجار للمنفعة لا للضرر وقد يرى
2

الانسان المنفعة في شئ ثم يتبين له للضرر في ذلك وكذلك لو استأجره ليتخذ له وليمة ثم بدا له في
ذلك فليس للأجير أن يلزمه اتحاد الوليمة شاء أو أبى لان في ذلك عليه من الضرر في اتلاف
ماله وجواز الاستئجار للمنفعة لا لضرر إذا عرف هذا فنقول من العذر في استئجار البيت
أن ينهدم البيت أو يهدم منه مالا يستطيع أن يسكن فيه وهذا من نوع العيب في المعقود عليه
وثبوت حق الفسخ به مجمع عليه لان تقبض الدار المنافع لا تدخل في ضمانه فحصول هذا
العارض في يد المستأجر كحصوله في يد الآجر فان أراد صاحب البيت أن يبيعه فليس هذا
بعذر لأنه لا ضرر عليه في ايفاء العقد الا قدر ما التزمه عند العقد هو الحجر على نفيه عن
التصرف في المستأجر إلى انتهاء المدة وان باعه فبيعه باطل لا يجوز لعجزه عن التسليم وقد بينا
في البيوع ان الصحيح من الرواية ان البيع موقوف على سقوط حق المستأجر وليس للمستأجر
أن يفسخ البيع وإن كان على المؤاجر دين فحبس في دينه فباعه فهذا عذر لان علته في ايفاء
العقد ضرر لم يلتزم ذلك بالعقد وهو الحبس على سقوط المستأجر عن العين فان بعقد
الإجارة لا يزول ملكه عن العين ولا يثبت للمستأجر حق في ماليته فيكون المديون مجبورا على
قضاء الدين من ماليته محبوسا لأجله إذا امتنع فلهذا كان ذلك عذرا له في الفسخ ثم ظاهر ما
يقول هنا يدل على أنه يبيعه بنفسه فيجوز وقد ذكر في الزيادات انه يرفع الامر إلى القاضي
ليكون هو الذي يفسخ الإجارة ويبيعه وهو الأصح لأنه هذا فصل مجتهد فيه فيتوقف على
امضاء القاضي كالرجوع في الهبة وان انهدم منزل المؤاجر ولم يكن له منزل آخر فأراد أن
يسكنه لم يكن له أن ينقض الإجارة لأنه لا ضرر عليه فوق ما التزمه بالعقد فإنه يتمكن من
أن يكترى منزلا آخر أو يشترى وكذلك أن أراد التحول من المصرف لأنه لا يخرج المنزل مع
نفسه فلا يلحقه ضرر فوق ما التزمه بالعقد وهو ترك المنزل في يد المستأجر إلى هذه المدة وإن كان
هذا بيتا في السوق يبيع فيه ويشترى فلحق المستأجر دين أو أفلس فقام من السوق فهذا
عذر وله أن ينقض الإجارة لأنه استأجره للانتفاع وهو يتضرر بإيفاء العقد بعد ما ترك تلك
التجارة أو أفلس ضررا لم يلزمه بنفس العقد وكذلك إذا أراد التحول من بلد إلى بلد لأنه
لو لزمه الامتناع من السفر تضرر به ضرر لم يلتزمه بالعقد وبعد خروجه لا يتمكن من الانتفاع
بالبيت فان قال رب البيت انه يتعلل ولا يريد الخروج حلف القاضي المستأجر على ذلك لأن الظاهر
شاهد له فالظاهر أنه لا يترك ما كان عزم عليه من التجارة في الحانوت الا إذا أراد
3

التحول من بلد إلى بلد فالقول قوله مع يمينه وقيل بحكم القاضي حاله في ذلك فان رآه قد
استعد للسفر قبل قوله. قال الله تعالى ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة وقيل يقول له
مع من يخرج فالانسان لا يسافر الا مع رفقة ثم يسأل رفقاءه عن ذلك وان فسخ العقد وخرج
الرجل ثم رجع وقال قد بدا لي في ذلك وخاصمه صاحب البيت فان القاضي يحلف المستأجر
بالله انه كان في خروجه قاصدا للسفر لان رب البيت يدعى بطلان الفسخ لعدم العذر
وذلك ينبنى وما في ضميره في ضمير المستأجر لا يعلمه غيره فكان القول قوله مع يمينه وكذلك
ان أراد التحول من تلك التجارة إلى تجارة أخرى فهذا عذر لان في ايفاء العقد ضررا لم يلتزمه
بالعقد وقد تروج نوع التجارة في وقت وتبور في وقت آخر وإن لم يكن هذا ولكن وجد بيتا
هو أرخص منه لم يكن عذرا. وكذلك لو اشترى منزلا وأراد التحول إليه لأنه لا يلحقه ضرر
الا ما التزمه بالعقد وهو التزام الاجر عند استيفاء المنفعة وإنما يقصد بالفسخ هنا الربح لا دفع
الضرر وان استأجر دابة بعينها لي بغداد فبدا للمستأجر أن لا يخرج فهذا عذر لان عليه ضررا
في ايفاء العقد وهو تحمل مشقة السفر وقال ابن عباس رضي الله عنهما لولا قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم السفر قطعة من العذاب لقلت العذاب قطعة من السفر ولو قال رب الدابة أنه
يتعلل فالسبيل للقاضي أن يقول له اصبر فان خرج فقاد الدابة معه لان المعقود عليه خطوات
الدابة فإذا قادها معه فقد تمكن من استيفاء المعقود عليه فيلزمه الاجر وإن لم يركب وكذلك
لو أراد الخروج في طلب غريم له أو عبد آبق فرجع وكذلك لو مرض أو لزمه غرم أو خاف
أمرا أو عثرت الدابة أو أصابها شئ لا يستطاع الركوب معه فبعض هذا عيب في المعقود عليه
وبعضه عذر للمستأجرين في التخلف عن الخروج ولا فائدة للمؤاجر في ايفاء العقد إذا لم يخرج
المستأجر وان عرض لصاحب الدابة مرض لا يستطيع الشخوص مع دابته لم يكن له أن
ينقض الإجارة لان بامتناعه من الخروج لا يتعذر تسليم المعقود عليه فيؤمر بتسليم الدابة وأنه
يرسل معه رسولا يتبع الدابة وكذلك لو حبسه غريمه وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله
قال إذا امتنع رب الدابة من الخروج فيكون هذا عذر وان مرض فهو عذر له لأنه
يقول غيري لا يشقق على دابتي ولا يقوم بتعاهدها كقيامي فإذا تعذر عليه الخروج لمرض
يلحقه في ايفاء العقد ضرر لم يلتزمه بالعقد وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله قال إذا
اكترت المرأة إبلا إلى مكة للذهاب والرجوع فلما كان في يوم النحر ولدت قبل أن تطوف
4

للزيادة فهذا عذر للمكارى لأنها تحبس إلى مضى مدة النفاس وهذا ضرر لم يلتزمه المكارى
بالعقد لأنه غير معتاد وان كانت قد ولدت قبل ذلك فإن كان الباقي مدة النفاس بعد يوم النحر
عشرة أيام أو أقل فهذا ليس بعذر للمكارى لان ما بقي مثل مدة الحيض وذلك معلوم وقوعه
عادة وكان المكارى ملتزما ضرر التأخير بقدره وان عطبت الدابة فهو عذر وهذا لان المعقود
عليه فات ولا سبب للفسخ أقوى من هلاك المعقود عليه وان كانت الدابة بغير عينها لم يكن
هذا عذر لان المكارى التزم العمل في ذمته وهو قادر على الوفاء به بدابة أخرى يحمله عليها
ولو مات المستأجر في بعض الطريق كان عليه من الاجر بحساب ما سار ويبطل عنه بحساب
ما بقي لانفساخ العقد بموت أحد المتكاريين وقد بينا ذلك وان مات رب الإبل في بعض
الطريق فللمستأجر أن يركبها على حالة حتى يأتي مكة وذكر في كتاب الشروط أن هذا إذا
كان في مفازة بحيث لا يقدر به على سلطان وخاف أن يقطع به وهو الصحيح لأنه كما يجوز
نقض الإجارة عند العذر لدفع الضرر يجوز ايفاؤها بعد ظهور سبب الانتقاض لدفع الضر
وإذا كان في المفازة لو قلنا بانتقاض العقد يتعذر عليه الركوب فيتضرر به لأنه عاجز عن
المشي ولا يقدر على دابة أخري فأما إذا كان في مصر فهو لا يتضرر بانتقاض العقد وموت
أحد المتكاريين موجب انتقاض العقد فإذا بقي العقد لم يضمن أن عطبت من ركوبه وعليه
الاجر المسمى وهو استحسان لأن العقد لما بقي للتعذر صار الحال بعد موت المكارى كالحال
قبله فإذا أتى مكلة دفع ذلك إلى القاضي لان ما به من العذر قد زال وبقيت الدابة في يده
ملكا للورثة وهو عيب فدفعها إلى القاضي فان سلم له القاضي الكراء إلى الكوفة فهو جائز
إما لأنه أمضى فصلا مجتهد فيه باجتهاده أو لأنه يرى النظر في ذلك لأنه لو أخذها منه أجرها
من غيره ليردها إلى الكوفة وصاحبها رضى بكونها في يده فالأولى له إذا كان المستأجر ثقة
أن ينفذ له الكراء إلى الكوفة وان رأى النظر في بيعها فهو جائز لان البعث بثمنها إلى الورثة
ربما يكون أنفع وأيسر لهم فان الثمن لا يحتاج إلى النفقة وإن كان أنفق المستأجر عليها شيئا
لم يحسب له ذلك لأنه متطوع في ذلك بالانفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون بأمر
القاضي فيسحب له إذا أقام البينة عليه لان للقاضي ولاية النظر في حق الغائب فالانفاق بأمره
كالانفاق بأمر صاحب الدابة ولكنه غير مقبول القول فيما يدعى من الانفاق فإذا قام البينة رد
ذلك عليه من الثمن وكذلك أن أقام البينة على توفية الكراء رد عليه بحساب ما بقي لأنه أثبت
5

دينه في تركة المبيت وهذا مال الميت ولان الإبل محبوسة في يده إلى أن يرد عليه ما أنفق بأمر
القاضي أو بما عجل من الكراء فلا يتمكن القاضي من أخذها وبيعها حتى يرد عليه ما بقي له فلهذا
قبل بينته على ذلك ونفذ قضاؤه على الورثة مع غيبتهم وان استأجر أرضا فغلب عليها الماء
أو أصابها نزلا تصلح معه الزراعة فهذا عذر لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه وكذلك أن أراد أن
يترك الزرع أو افتقر حتى لا يقدر على ما يزرع فهذا عذر لان الزارع في الحال متلف
لبذره ولا يدرى أيحصل الخارج أم لا وقد بينا أنه إذا كأن لا يتمكن من ايفاء العقد الا باتلاف
ماله فهو عذر له وان وجد أرضا أرخص منها أو أجود لم يكن هذا عذرا لأنه بالفسخ يقصد
هنا تحصيل الربح لا دفع الضرر وان مرض المستأجر فإن كان هو الذي يعمل بنفسه فهذا
عذر لأنه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه وإن كان إنما يعمل اجراؤه فليس هذا عذر البقاء يمكنه
من استيفاء المعقود عليه كما قصده بالعقد وان كانت الأرض ليتيم أجرها وصيه فكبر اليتيم لم
يكن له ان يفسخ الإجارة لان عقد الوصي على ماله كعقده على نفسه ولا ضرر عليه في ايفاء
الإجارة بعد بلوغه بخلاف ما إذا كان أجر نفسه فان ذلك كد وتعب وهو يتضرر بإيفاء العقد
بعد بلوغه وإذا استأجر عبدا لخدمة أو لعمل آخر فمرض العبد فهذا عذر في جانب المستأجر
ولأنه يتعذر عليه استيفاء المعقود عليه وان أراد رب العبد ذلك لم يكن له ذلك لأنه لا ضرر
عليه في ايفاء العقد فالمستأجر لا يكلفه من ايفاء العمل الا بقدر طاقته وهو يرضي بذلك
وإن كان ذلك دون حقه وإن لم يفسخها واحدا منهما حتى بدأ العبد فالإجارة جائزة لازمة
لزوال العذر ويطرح عنه من الاجر بحساب ذلك وهو ما يتعطل وكذلك أن أبق العبد أو كان
سارقا فللمستأجر أن يفسخ الإجارة اما لتعذر استيفاء المعقود عليه أو لضرر يلحقه في ذلك
وليس لمولى العبد فسخها لأنه لا ضرر عليه في ايفاء العقد فوق ما التزمه بالعقد ولو أراد المستأجر
أن يسافر ويترك ذلك العمل فهو عذر لأنه لا يتعذر عليه الخروج إلى السفر لحاجته ولا يمكنه
أن يستصحب العبد إذا خرج وان أراد رب العبد أن يسافر به لم يكن له هذا عذر لأنه لا يلحقه
من الضرر فوق ما التزمه بالعبد وهو ترك العبد في يد المستأجر إلى انتهاء المدة وان وجد
المستأجر أجيرا أرخص منه لم يكن هذا عذرا لان في هذا تحصيل الربح لا دفع الضرر وإن كان
العبد غير حاذق بذلك العمل لم يكن للمستأجر أن يفسخ الإجارة لان صفة الجودة
لا تستحق بمطلق العقد إلا أن يكون عمله فاسدا فله أن يفسخ حينئذ لان صفة السلامة عن
6

العيب تستحق بمطلق المعاوضة وان مات العبد انتقضت الإجارة لفوات المعقود عليه وإن كان
المستأجر رجلين فمات أحدهما انتقضت حصته وكذلك أن مات أحد المؤجرين اعتبار الموت
أحدهما بموتهما في حق الميت منهما وان ارتد الآجر والمستأجر والعياذ بالله ولحق بدار الحرب
انتقضت الإجارة لان القاضي بموته حكم حين يقضي بلحاقه فهو كما لو مات حقيقة وإن لم
يختصما في ذلك حتى رجع مسلما وقد بقي من المدة شئ فالإجارة لازمة فيما بقي منهما لان اللحاق
بدار الحرب إذا لم يتصل قضاء القاضي به بمنزلة الغيبة فلا يوجب انفساخ العقد ولكنه كان
بمنزلة العذر فإذا زال برجوعه كانت الإجارة لازمة فيما بقي من المدة والله أعلم
(باب الشهادة في الإجارة)
(قال رحمه الله وإذا اختلف شاهدا الإجارة في مبلغ الاجر المسمى في العقد والمدعى هو
المؤاجر أو المستأجر فشهد أحدهما بمثل ما ادعاه المدعى والآخر بأقل أو أكثر لا تقبل الشهادة
لان المدعي كذب أحد الشاهدين ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا قبل استيفاء المنفعة
لان الحاجة إلى القضاء بالعقد ومع اختلاف الشاهدين في البدل لا يتمكن القاضي من ذلك
فاما بعد استيفاء المنفعة فالحاجة إلى القضاء بالمال فينبغي أن تكون المسألة على الخلاف عند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تقضى بالأقل كما في دعوى الدين إذا ادعى المدعى ستة وشهد
بها أحد الشاهدين والآخر بخمسة (قال) رضي الله عنه والأصح عندي أن الشهادة لا تقبل
عندهم جميعا هنا لان الأجرة بدل في عقد المعاوضة كالثمن في البيع ولابد أن يكون المدعى مكذبا
أحد شاهديه فيمنع ذلك قبول شهادته له وإن لم يكن لهما بينة وقد تصادقا على الإجارة واختلفا
في الأجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا أو تراد الاحتمال العقد الفسخ وكذلك أن كانت دابة فقال
المستكرى من الكوفة إلى بغداد بخمسة وقال رب الدابة إلى الصراه والصراه المنصف تحالفا
وبعدما حلفا ان قامت البينة لأحدهما أخذت بينته لان البينة العادلة أحق بالعمل بها من اليمين
الفاجرة وان قامت لهما بينة أخذت بينة رب الدابة على الآجر وبينة المستأجر على فضل
المسير على قول أبي حنيفة رحمه الله وكأن يقول أولا إلى بغداد باثني عشر ونصف وهو قول
زفر رحمه الله وقد بينا نظيره وان اتفقا على المكان واختلفا في جنس الاجر فالبينة بينة رب
الدابة لأنه يثبت حقه بالبينة ولأنه يثبت دعواه بالبينة والأجر يثبت باقراره وإنما تثبت بالبينة
7

الدعوى دون الاقرار وإن كان قد ركبها إلى بغداد فقال قد أعرتني الدابة وقال صاحبها بل
اكتريتها منك بدرهم ونصف فالقول قول الراكب ولا ضمان عليه ولا أجر أما الضمان فلأنهما
تصادقا على أنه ركبها بأمر صاحبها وأما الاجر فلان المستأجر منكر لعقد الإجارة فالقول
في ذلك قوله مع يمينه فان أقام المؤاجر شاهدين فشهد أحدهما بدرهم والآخر بدرهم ونصف
فإنه يقضى له بدرهم لأنهما اجتمعا على الدرهم لفظا ومعنى والمقصود اثبات المال لأن العقد
منتهى فيقضى بما اتفق عليه الشاهدان وهذا يؤيد قول من يقول في مسألة أول الباب أنه
يقضى بالأقل عندهما ولكنا نقول هناك الشاهدان ما اتفق على شئ لفظا فالخمسة غير الستة
وعندهما القضاء بالأقل باعتبار الموافقة في المعنى وباعتبار المعنى المدعى مكذب أحدهما وهنا
اتفقا الشاهدان على الدرهم لفظا فالمدعى يدعى ذلك ولكنه يدعي شيئا آخر مع ذلك وهو
نصف درهم وأحد الشاهدين لم يسمع ذلك فلم يشهد به ولهذا لا يصير المدعي مكذبا له فلهذا
أقضينا له بالدرهم ولو ركب رجلا دابة رجل إلى الحيرة فقال رب الدابة اكتريتها إلى الجباية
بدرهم فجاوزت ذلك وقال الذي ركب أعرتنيها وحلف على ذلك فهو برئ من الاجر لأنه
منكر لعقد الإجارة فان أقام رب الدابة شاهدين أنه اكراه إلى الحيرة بدرهم لم يقبل ذلك
لان دعواه إكذاب منه لشهوده فإنه ادعى الاكراء إلى الجباية وان ادعي رب الدابة انه
أكراها إلى السالحين بدرهم ونصف وشهد له شاهد بذلك وآخر شهد انه أكراها إلى السالحين
بدرهم فإنه يقضي له عليه بدرهم إذا كان قد ركبها لان الشاهدين اتفقا على ذلك القدر لفظا
والمدعى يدعيه أيضا. ولو قال المستأجر تكاريتها منك إلى القادسية بدرهم وقال رب الدابة
بل إلى موضع كذا في السواد في غير ذلك الطريق بدرهم وقد ركبها إلى القادسية فلا كراء
عليه لأنه خالف فصار ضامنا معناه أن رب الدابة ينكر الاذن له في الركوب في طريق
القادسية وقد ركب فصار ضامنا وإنما ادعى رب الدابة العقد على الركوب في طريق آخر ولم
يركب المستأجر في ذلك الطريق فلا أجر عليه لذلك ولو ادعى أنه أكراه دابتين بأعيانهما إلى
بغداد بعشرة وقال رب الدابتين بل هذه منهما بعينها إلى بغداد بعشرة وأقام البينة ففي قول أبي حنيفة
الأول رحمه الله هما له إلى بغداد بخمسة عشر إذا كان أجر مثلهما سواء وفي قوله الآخر
هما له إلى بغداد بعشرة لان المستأجر هو المدعى والمثبت بينة الزيادة في حقه وكذلك أن
كان رب الدابتين ادعى أنه أكراه أحديهما بعينها بدينار وأقام البينة وأقام المستأجر البينة أنه
8

استكراهما جميعا بعشرة دراهم فله دابتان بدينار وخمسة دراهم لان جنس الاجر هنا مختلف
فكل واحد منهما يثبت ببينته حقه فلا بد من قبول بينة قول كل واحد منهما بخلاف الأول
فهناك جنس الاجر متحد وقد اتفق الشهود عليه فلا حاجة لرب الدابة إلى الاثبات ولكن
المستأجر هو المحتاج إلى اثبات العقد في الدابة الأخرى وبينته تثبت ذلك وبينة رب الدابة تنفى
فالمثبت أولى وان ادعى المستأجر دابة واحدة وان تكاراها إلى بغداد بدينار وأقام البينة وأقام
صاحبها البينة أنه اكراها إياه إلى البصرة بعشرين درهما وقد ركبها إلى بغداد قضيت عليه
بعشرين درهما ونصف دينار لان جنس الاجر لما اختلفا فلا بد من العمل بالبينتين وقد
أثبت رب الدابة ببينة إلى البصرة بعشرين درهما وأثبت المستأجر ببينة العقد من البصرة إلى
بغداد بنصف دينار فلهذا قضى بهما وان ادعى المستأجر الإجارة وجحدها صاحب الدابة
فشهد شاهد أنه استأجرها ليركبها إلى بغداد وشهد الآجر انه استأجرها ليركبها ويحمل عليها
هذا المتاع والمستأجر يدعى كذلك لم تجز الشهادة لاختلاف الشاهدين في مقدار المعقود عليه
وإكذاب المدعى أحد شاهديه فان (قيل) أليس أن الشاهدين اتفقا على الركوب لفظا ومعنى
ويفرد أحدهما بالزيادة وهو حمل المتاع فينبغي أن يقضى بما اتفق عليه الشاهدان قلنا المعقود
عليه منفعة الدابة لا عين الركوب فالركوب فعل الراكب وحمل المتاع كذلك فعله والمعقود
عليه ملك رب الدابة وذلك يختلف باختلاف الشاهدين فيما شهد به فلا تتحقق الموافقة بينهما
لفظا بخلاف الدرهم ونصف مع أن هذا إنما يكون قبل استيفاء المنفعة وقبل استيفاء المنفعة
الحاجة إلى القضاء بالعقد فلا يتمكن منه مع اختلافهما وكذلك أن اختلفا في حمولتين لان
المدعى يكون مكذبا أحدهما لا محالة ولو ادعى أنه سلم ثوبا إلى صباغ وجحد الصباغ ذلك فشهد
شاهد أنه دفع إليه ليصبغه أحمر بدرهم وقال الآخر ليصبغه أصفر فقد اختلفت الشهادة
لاختلاف الشاهدين في المعقود عليه هو الوصف الذي يحدثه في الثوب والأصفر منه غير
الأحمر فيكون المدعى مكذبا أحد الشاهدين والله أعلم بالصواب
(باب ما يضمن فيه الأجير)
(قال رحمه الله رجل سلم إلى قصار ثوبا فدقه بأجر مسمى فتخرق أو عصره فتخرق أو
جعل فيه النورة أو وسمه فاحترق فهو ضامن لذلك كله لان هذا من جناية يده وقد بينا أن
9

الأجير المشترك ضامن لما جنت يده فإن كان أجير المشترك القصار فعل ذلك غير متعمد
له فالضمان على القصار دون الأجير لان الأجير له أجير خاص فلا يضمن الا بالخلاف ولم يخالف
ثم عمله كعمل الأستاذ (ألا ترى) أن الأستاذ يستوجب به الاجر فيكون الضمان عليه وان
هلك الثوب عند القصار أو سرق فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد بينا
وروى عن محمد رحمه الله قال إذا وضع القصار السراج في الحانوت فاحترق به الثوب من غير فعله
فهو ضامن لان هذا مما يمكن التحرز عنه في الجملة وإنما الذي لا يضمن به الحرق الغالب الذي
لا يمكن التحرز عنه ولا يتمكن هو من اطفائه و (قال) في الصباغ يصبغ الثوب أحمر فيقول رب
الثوب أمرتك بأصفر فالقول قول رب الثوب لان الاذن يستفاد من قبله وله أن يضمنه قيمة
ثوبه أبيض وان شاء أخذ ثوبه وضمن للصباغ ما زاد على العصفر في ثوبه لأنه بمنزلة الغاصب
قيما صبغه به حين لم يثبت اذن صاحب الثوب له في ذلك وإن كان صبغه أسود فاختار أخذ
الثوب لم يكن للصباغ عليه شئ عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد بينا ذلك في الغصب
قال أبو حنيفة رحمه الله في الملاح إذا أخذ الأجر فان غرقت السفينة من ريح أو موج أو شئ
وقع عليها أو جبل صدمته فلا ضمان على الملاح لان التلف حصل من عمله وان غرقت من مده
أو معالجته أو جذفه فهو ضامن لان هذا من جناية يده والملاح أجير مشترك وإن كان على
الملاح الطعام وخلي بينه وبين الطعام فنقض فلا ضمان على الملاح عنده بعد أن يحلف لأنه أمين
فالقول قوله مع يمينه ولا يضمن ما تلف بغير فعله وان انكسرت السفينة فدخل الماء فيها
فاسده فإن كان ذلك من عمل الملاح فهو ضامن له وإلا فلا شئ عليه عند أبي حنيفة وإن كان
رب الطعام في السفينة أو وكيله فلا ضمان على الملاح في شئ من ذلك إلا أن يخالف ما أمر به ويصنع
شيئا مما يتعمد فيه الفساد لان المتاع في يد صاحبه والعمل يصير مسلما إليه بنفسه فيخرج من
ضمان الملاح بخلاف ما إذا لم يكن صاحب الطعام معه فالعمل يصير مسلما وعليه هذا
قالوا لورد الموج السفينة إلى الموضع الذي حمل الطعام منه فإن لم يكن رب الطعام معه فلا
أجر للملاح وإن كان رب الطعام معه في السفينة فله الاجر بقدر ما صار لان العمل قد صار
مسلما بنفسه ويقرر الاجر بحبسه فاما إذا خالف ما أمره به فهذا العمل لا يصير مسلما إلى
صاحب الطعام بل يكون العامل فيه متعديا خاصا فيكون ضامنا لذلك وإذا حجم الحجام بأجر
أو بزغ البيطار أو خقن الحاقن بأجر حرا أو عبدا بأمره أو بطأ قرحه فمات من ذلك فلا ضمان
10

عليه بخلاف القصار إذا دق فخرق لان المستحق عليه هناك العمل السليم عن العيب وذلك في
مقدور البشر يصح التزامه بالعقد وهنا المستحق عليه عمل معلوم بجده لا عمل غير ساري لان
ذلك ليس في مقدور البشر فالجرح فتح باب الروح والبرء بعده بقوة الطبيعة على دفع أثر الجراحة
وليس ذلك في مقدور البشر فلا يجوز التزامه بعقد المعاوضة وإنما الذي في وسعه إقامة العمل
بجده وقد أتى به فلا يضمن إلا أن يخالف لمجاوزة الحد أو يفعل بغير أمره فيكون ضامنا حينئذ *
توضيح الفرق أن الشراية لا تقترن بالجرح ولكنه يكون بعدها بزمان ضعف الطبيعة عن
دفع أثر الجراحة وتوالي الآلام على المجروح وهذا كله بعد أن يصير العمل مسلما إلى صاحبه
ويخرج من ضمان العمل فاما بخرق الثوب مقترنا بالدق قبل أن يخرج العمل من ضمان
القصار فلهذا كان ضمانا لما يتلف بعمله لان عمله مضمون بما يقابله من البدل ولو وطأ الأجير
الخاص للقصار على ثوب مما لا يوطأ عليه في دقه فكان الضمان عليه خاصة لأنه غير مأذون من
جهة الأستاذ في الوطئ على هذا الثوب فكان متعديا فيما صنع وإن كان مما يوطأ عليه فلا ضمان
عليه لأنه مأذون في الوطئ عليه فيكون فعله كفعل الأستاذ وإن كان الثوب وديعة عند
القصار فالأجير ضامن وإن كان ذلك مما يوطأ عليه لأنه غير مأذون في بسطه والوطئ عليه
من جهة الأستاذ فإنه إنما أذن له في العمل في بيان القصارة دون ودائع الناس عنده ولو حمل
الانسان حملا في بيت القصار من ثياب القصارة فعثر وسقط فتخرق بعضها كان ضمان ذلك
على القصار دون الأجير لأنه مأذون في هذا العمل من جهة الأستاذ ولو دخل بنار السراج
بأمر القصار فوقعت شرارة على ثوب من القصارة أو وقع السراج من يده فأصاب دهنه ثوبا
من القصارة فالضمان على الأستاذ دون الغلام لأنه مأذون من جهته في ادخال النار بالسراج
وكذلك أجير لرجل يخدمه ان وقع من يده شئ فتكسر وأفسد متاعا مما يختلف في خدمة
صاحبه فلا ضمان عليه إذا كان في ملك صاحبه لأنه استأجره لهذه الاعمال ولو أن غلام القصار
انفلتت منه المدقة فيما يدق من الثياب فوقعت على ثوب من القصارة فخرقته فالضمان على القصار
دون الغلام لأنه مأذون من جهة الأستاذ في دق الثوبين جميعا ولو وقع على ثوب انسان من
غير القصارة كان ضمان ذلك على الغلام دون القصار لأنه غير مأذون في دق ذلك الثوب فيكون
هو جانيا في ذلك الثوب وإن كان مخطئا وتعذر الخطأ لا يسقط عنه ضمان المحل وان وقعت
المدقة على موضعها ثم وقعت على شئ بعدها فلا ضمان على الأجير لأنها كما لو وقعت على المحل
11

المأذون فيه صار العمل مسلما وخرج من عهدة الأجير فلا ضمان عليه بعد ذلك وإنما الضمان على
الأستاذ وإذا أصاب انسانا فقتله كان الغلام ضامنا وقد بينا الفرق بين الجناية في بني آدم وما
سوى ذلك من الأموال فيما سبق وكذلك لو مر بشئ من متاعه فيما يحمله فوقع على انسان
في البيت فقتله كان الضمان على الغلام لان الجناية في بني آدم موجبة الأرش العاقلة فلا
يمكن اعتبار العقد فيه بخلاف ما سوى ذلك من الأموال وكذلك أن انكسر شئ من أدوات
القصار بيد الغلام مما يدق به أو يدق عليه فلا ضمان عليه لأنه مأذون من جهة الأستاذ وإن كان
مما لاحق به ولا يدق عليه فهو ضامن وعلى هذا لو دعا رجلا قوما إلى منزله فمشوا على
بساطه فتخرق أو جلسوا على وسادة فتخرقت وإن كان الضيف متقلدا سيفا فلما جلس شق
السيف بساطا أو وسادة فلا ضمان عليه لأنه مأذون فيما فعل من المشي والجلوس وتقلد السيف
ولو وطئ على آنية من أوانيه أو ثوبا لا يبسط مثله ولا يوطأ فه ضامن لأنه غير مأذون في
الوطئ والجلوس على مثله وان حمل الأجير شيئا في خدمة أستاذه فسقط ففسد لم يضمن ولو
سقط على وديعة عنده فأفسدها كان ضامنا لها وكذلك لو عثر فسقط عليها فإن كان بساطا أو
وسادة استعاره للبسط فلا ضمان في ذلك على رب البيت ولا على أجيره لأنه مأذون في بسطه
من جهة صاحبه وإذا جفف القصار ثوبا على حبل فمرت به حمولة في الطريق فخرقته فلا ضمان
على القصار لأنه متلف لا بعمله والضمان على سائق الحمولة لأنه مسبب وهو متعدي في ذلك
فسوق الدابة في الطريق يتقيد عليه بشرط السلامة فإذا لم يسلم كان ضامنا ولو تكارى دابة
ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها خمسة عشر مختوما فلما بلغ المقصد عطبت الدابة فعليه
الاجر كاملا لاستيفاء المعقود عليه بكماله وهو ضامن ثلث قيمتها بقدر ما زاد وقد بينا هذا في
العارية وذكرنا الفرق بينه وبين الجناية في بني آدم أن المعتبر هناك عدد الجناة في حق ضمان
النفس وأوضح الفرق بما ذكرنا فقال لو أن حائطا مائلا لرجل ثلثاه وللاخر ثلثه يقدم إليهما
فيه فوقع على رجل فجرحه وقتله كان على كل واحد منهما نصف الدية ولو لم يجرحه ولكنه
قتله ثقل الحائط كانت الدية عليهما بقدر المالك لان ثقل ملك صاحب الثلثين ضعف ثقل ملك
صاحب الثلث وفي الجرح المعتبر أصل الجراحة وكل واحد منهما خارج له بملكه فكان بمنزلة
الجارح بيده فكذلك في مسألة الدابة يضمن باعتبار ثقل الزيادة وفي مسألة الشجاج في العبد
يكون ضمان النفس على كل واحد منهما باعتبار أصل الجرح لا مقداره وعدده وعلى هذا لو أمر
12

رجلا أن يضرب عبده عشرة أسواط فضرب أحد عشر سوطا فهو متعدي في السوط الحادي
عشر فيضمن نقصان ذلك العبد من قيمته مضروبا عشرة أسواط ونصف ما بقي من قيمته
إذا مات من ذلك لأنه في ضرب عشرة أسواط عامل لصاحبه بأمره فكأنه فعل ذلك هذا
بنفسه وقد مات العبد من السياط كلها فتوزع بدل نفسه نصفين باعتبار عدد الحياة لا عدد
الجنايات وإذا سلم الرجل عبده أو أمته إلى مكتب أو عمل آخر فضربه الأستاذ فهو ضامن
لما أصابه من ذلك وان أذن له في ذلك ضمان عليه لان فعله باذنه كفعل الموتى بنفسه فلا
يكون تعديا منه وفعله بغير أمره يكون تعديا منه وفرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين
هذا وبينما إذا ضرب الدابة التي استأجرها ضربا معتاد فقالا الضرب معتاد هناك عند السير
متعارف فيجعل كالمأذون فيه وهنا الضرب عند التعليم غير متعارف وإنما الضرب عند سوء
الأدب يكون ذلك ليس من التعليم في شئ فالعقد المعقود على التعليم لا يثبت الاذن في الضرب
فلهذا يكون ضامنا إلا أن يأذن له فيه نصا وكذلك أن سلم ابنه في عمل إلى رجل فان
ضربه بغير إذن الأب فلا اشكال في أنه يكون ضامنا وان ضربه باذن الأب فلا ضمان عليه
في ذلك لأنه غير متعدي في ضربه باذن الأب ولو كان الأب هو الذي ضربه بنفسه فمات كان
ضامنا في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا ضمان عليه في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وهما
يدعيان المناقضة على أبي حقيقة رحمه الله في هذه المسألة فيقولان إذا كان الأستاذ لا يضمن
باعتبار اذن الأب فكيف يكون الأب ضامنا إذا ضربه بنفسه ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول
ضرب الأستاذ لمنفعة الصبي لا لمنفعة نفسه فلا يوجب الضمان عليه إذا كان يأذن وليه فاما
ضرب الأب إياه لمنفعة نفسه فإنه بغير سوء أدب ولده فيتقيد بشرط السلامة كضرب الزوج
زوجته لما كأن لمنفعة نفسه يقيد بشرط السلامة وإذا توهن راعى الرمكة رمكة منها فوقع الوهن
في عنقها فجذبها فعطبت فهو ضامن لأنه من جناية يده وإن كان صاحبها أمره بالتوهن فلا
ضمان عليه لان فعله بأمر صاحبها كفعل صاحبها وهذا لان التوهن ليس من عمل الراعي في
شئ ولا يدل في مقابلته فلا يتقيد على المأمور بشرط السلامة بخلاف الدق من القصار ولو
أمر رجلا أن يختن عبده أو ابنه فأخطأ فقطع الحشفة كان ضامنا لما بينا أن عمل الختان معلوم
بمحله فإذا جاوز ذلك كان ضامنا ولم يبين في الكتاب ماذا يضمن وهو مروى عن محمد رحمه
الله في النوادر قال إن برأ فعليه كمال بدل نفسه فان مات فعليه نصف بدل نفسه لأنه إذا برأ
13

فعليه ضمان الحشفة وهو عضو مقصود لا يتأتى له في البدن فيتقدر بدله ببدل النفس وإذا
مات فقد حصل تلف النفس بفعلين أحدهما مأذون فيه وهو قطع الجلدة والآخر غير
مأذون فيه وهو قطع الحشفة فكان ضامنا نصف بدل النفس ولو أمر رجلا أن يقطع أصبعه
لوجع أصابه فيها فقطعها فمات منها لم يكن على القاطع شئ الا في رواية الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله فإنه يقول يضمن الدية اعتبارا بما لو قال ذلك قتلني فقتله وجه ظاهر الرواية أن
الاذن صح هنا لان للآذان أن يفعل ذلك بنفسه فينتقل عمل المأذون إليه ويصير كأنه فعله
بنفسه بخلاف قوله اقتلني فالاذن هناك غير صحيح لان الآذن ليس له أن يفعل ذلك بنفسه
وكذلك لو أمر أن يفعل ذلك بابن له صغير أو بعبد له فهذا وما لو أمره بنفسه سواء ولو أمر
حجاما ليقطع سنا ففعل فقال أمرتك أن تقلع سنا غير هذا فالقول قوله والحجام ضامن لان
الاذن يستفاد من جهته ولو أنكره كان القول قوله فكذلك إذا أنكر الاذن في السن الذي
قلعه ولو تكارى دابة يحمل عليها عشرة مخاتيم فجعل في جوالق عشرين مختوما ثم أمر رب
الدابة فكان هو الذي وضعها على الدابة فلا ضمان عليه لان صاحب الدابة هو المباشر بحمل
الزيادة على دابته وأكثر ما فيه أنه مغرور من جهة المستأجر ولكن الغرور إذا لم يكن مشروطا
في عقد ضمان لا يكون مثبتا الرجوع للمغرور على الغار وان حملاها جميعا ووضعاها على الدابة
ضمن المستأجر ربع قيمة الدابة لان نصف المحمول مستحقا بالعقد ونصفه غير مستحق وفعل
كل واحد منهما في الحل شائع في النصفين فباعتبار النصف الذي حمله على الدابة لا ضمان على
أحد وباعتبار النصف الذي حمله المستأجر لا ضمان عليه في نصفه لأنه يستحق بالنصف وعليه الضمان
في النصف الآخر لأنه متعدي فيه فكان ضامنا ربع قيمتها وإن كان الحمل في عدلين فرفع كل
واحد منهما عدلا فوضعاهما جميعا على الدابة لم يضمن المستأجر شيئا لان المستأجر استحق
بالعقد حمل عشر مخاتيم حنطة وقد حمل هذا المقدار فيجعل حمله مما كان مستحقا بالعقد والزيادة
إنما حملها رب الدابة وذكر في النوادر لو أن القصار استعان بصاحب الثوب حتى دق الثوب
معه فتخرق ولا يدري من أي الفعلين تخرق فعلى قول أبى يوسف رحمه الله القصار ضامن
نصف القيمة باعتبار الاحتمال وعلى قول محمد رحمه الله هو ضامن جميع القيمة لان الثوب في
يده فباعتبار اليد هو ضامن ما لم يصل إلى صاحبه سواء تلف بعمله أو بغير عمله فما لم يعلم
أن التلف بعمل صاحب الثوب كان القصار ضامنا وإذا ساق الراعي الغنم أو البقر فتناطحت
14

فقتل بعضها بعضا أو وطئ بعضها بعضا من سياقته وهو غير مشترك وهي لإنسان واحد
فلا ضمان عليه لأنه مأذون في السوق وقد بينا أن الأجير الخاص لا يكون ضامنا فيما يتلف
بعمل المأذون فيه وان كانت لقوم شتى فهو ضامن مشتركا كان أو غير مشترك أما المشترك
فلان هذا من جناية يده وأما غير المشترك فلانه سائق الدابة التي وطئت والسائق ضامن
بالسبب وكل من وقع عليه الضمان فلا أجر له فيه لأنه ملك المضمون بالضمان فلا يكون مسلما
إلى صاحبه وإذا ساق الراعي الماشية فعطبت واحدة أو وقعت في نهر فعطبت فهو ضامن لأنه
أجير مشترك والتلف حصل بعمله ولو استأجر دابة ليركبها فلبس من الثياب أكثر مما كان
عليه حين استأجرها فان لبس من ذلك مثل ما يلبس الناس إذا ركبوا لم يضمن وإن كان أكثر
من ذلك ضمن بقدر ما زاد لان المستحق بمطلق العقد ما هو المتعارف وان تكارى ناقة ليحمل
عليها امرأة فولدت المرأة فحملها هي وولدها على الناقة بغير أمر صاحبها فعطبت الناقة فهو ضامن
بحساب ما زاد عليها للولد لان الولد مقصود بالحمل بعد الانفصال وهو في مقداره مخالف فيضمن
بحساب ما يخالف كما لو زاد متاعا معها ولو نتجت الناقة فحمل ولد الناقة مع المرأة فهو ضامن
أيضا لأنه مخالف لما قلنا وان تكاري بغير المحمل فحمل عليه زاملة فهو ضامن لأنه مخالف فيما
صنع فالزاملة أضر بالبعير من المحمل وان حمل عليه رجلا مكان المحمل فلا ضمان عليه فلا يكون
فعله ذلك خلافا وقد بينا نظيره في السرج مع الاكاف والله تعالى أعلم بالصواب
(باب إجارة رحا الماء)
(قال رحمه الله وإذا استأجر الرجل رحا ماء والبيت الذي هو فيه وهو متاعها كل شهر
بأجر مسمى فهو جائز) لأنه غير منتفع به واستئجاره متعارف فان انقطع الماء عنها فلم يعمل رفع
عنه الاجر بحساب ذلك لزوال تمكنه من الانتفاع على الوجه الذي استأجره فإنه إنما استأجره
ليطحن فيها بالماء دون الثور وبانقطاع المال زال تمكنه من ذلك وبدون التمكن من الانتفاع
لا يجب الاجر فله أن ينقض الإجارة لتغير شرط العقد عليه فإن لم ينقضها حتى عاد الماء لزمته
الإجارة فيما بقي من الشهر وإن كان قد بقي يوم واحد فلم يكن له أن ينقضها لزوال العذر وتمكنه
من الانتفاع فيما بقي من المدة ولأن هذه الإجارة في حكم عقود متفرقة لا يثبت الخيار لتفرق
الصفقة وان اختلفا في مقدار ما كان الماء منقطعا فالقول قول المستأجر لأنهما يتفقان أنه لم
15

يستوف جميع المعقود عليه وإنما اختلفا في مقدار ما استوف فرب الرحا يدعى زيادة في ذلك
والمستأجر منكر ذلك ولو قال المؤاجر لم ينقطع الماء فإنه بحكم الحال فيه فإن كان الماء منقطعا
في الحال فالقول قول المستأجر وإن كان جاريا فالقول قول المؤاجر مع يمينه على عمله لأنه إذا
كان منقطعا في الحال فالظاهر أنه كان منقطعا فيما مضى وإن كان جاريا في الحال فالظاهر أنه كان
جاريا فيما مضى وفي الخصومات القول قول من يشهد له الظاهر * توضيحه انا قد عرفنا الماء جاريا
عند العقد والبناء على الظاهر واستصحاب الحال أصل ما لم يعلم خلافه فإذا علمنا انقطاع الماء في
الحال بقدر استصحاب الحال فاعتبرنا الدعوى والانكار قرب الرحا يدعي تسليم المعقود عليه
والمستأجر منكر فالقول قوله فاما إذا كان جاريا في الحال فاستصحاب الحال ممكن فجعلنا رب
الرحا مسلما للمعقود عليه بهذا الطريق ولهذا كان القول قوله مع يمينه لي عمله لان الاستحلاف
على ما لم يكن في يده ولا من عمله فيكون على العلم وإن كان استأجر جميع ذلك بعشرة دراهم
كل شهر فطحن فيها في الشهر بثلاثين درهما فربح عشرين درهما فإن كان المستأجر هو الذي يقوم
على الرحا والطعام أو أجيره أو عبده فالربح له طيب لان الفضل بمقابلة منافعه وإن كان رب
الطعام هو الذي يلي ذلك لم يطلب الربح للمستأجر إلا أن يكون قد عمله فيها عملا تنتفع بها
الرحا من كرى النهر أو نقر الرحا وغير ذلك فحينئذ يجعل الفضل بمقابلة عمله فيطيب له فقد
جعل نقر الرحا معتبرا يجعل الفضل بمقابلته ولم يجعل كنس البيت فيما سبق معتبرا في ذلك لان
كنس البيت ليس بزيادة في البيت ولان التمكن من الانتفاع باعتباره فأما نقر الرحا وكرى
النهر بعد زيادة المستأجر وبه يتمكن من الانتفاع وإذا استأجر موضعا على نهر ليبنى عليه بناء
ويتخذ عليه رحا ماء على أن الحجارة والمتاع والحديد والبناء من عند المستأجر فهو جائز لأنه
استأجر الأرض لمنفعة معلومة فان انقطع ماء النهر فلم يطحن ولم يفسخ الإجارة فالاجر لازم
له لان المعقود عليه منفعة الأرض وهي باقية بعد انقطاع الماء والمستأجر مستوفى بما يشغل
الأرض بمتاعه بخلاف الأول فهناك المعقود عليه منفعة الرحا لعمل الطحن والتمكن منه يزول
بانقطاع الماء إلا أن هنا له أن يفسخ الإجارة للعذر فان مقصوده استيفاء منفعة لا يتم ذلك بدون
جريان الماء وفي إلزام العقد إياه بعد انقطاع الماء ضرر فيكون ذلك عذرا له في الفسخ ولو
استأجر رحا ماء بمتاعها فانقطع الماء شهرا فلا أجر عليه في ذلك الشهر لما قلنا وان قل الماء حتى
أضر به في الطحن وهو يطحن مع ذلك فإن كان ضررا فاحشا فهو عيب فيما هو المقصود فيتمكن
16

لأجله من فسخ العقد وإن لم يفسخ كان الاجر واجبا عليه لبقاء تمكنه من الانتفاع ورضاه
بالعيب وإن كان غير فاحش فالإجارة لازمة له لأنه لما استأجر الرحا في الابتداء مع علمه أن الماء
يزداد تارة وينتقص أخرى فقد صار راضيا بالنقصان اليسير ولان ما لم يمكن التحرز عنه
عفو وإذا خاف رب الرحا أن ينقطع الماء فتفسخ الإجارة فأكري البيت والحجرين والمتاع خاصة
فهو جائز لأنه عين منتفع به فان انقطع الماء فللمستأجر أن يترك الإجارة لان استئجار
هذا الأعيان كأن لمقصود معلوم وقد فات ذلك بانقطاع الماء وفي ايفاء العقد بعد
انقطاع الماء ضرر عليه وهذا ضرر لم يلتزمه بأصل العقد فيكون عذرا له في الفسخ كما لو استأجر
والرحى يطحن بجمله فينفق جمله ولم يكن عنده ما يشترى به جملا كان له أن يترك الإجارة ولو
استأجر رحا ماء فانكسر أحد الحجرين أو الدوارة أو البيت فله أن يفسخ الإجارة لزوال
تمكنه من الانتفاع فان أصلح ذلك رب الرحا قبل الفسخ لم يكن للمستأجر أن يفسخ بعد
ذلك لزوال العذر في بقية المدة ولكن يرفع عنه من الاجر بقدر ذلك لانعدام تمكنه من
الانتفاع به والقول قول المستأجر في مقدار العطلة لاتفاقهما على أنه لم يسلم جميع المعقود عليه
إلا أن ينكر المؤاجر البطالة أصلا فكان القول قوله باعتبار استصحاب الماء لأنا عرفنا تمكن
المستأجر من الانتفاع عند تسليم الرحا ثم يدعى هو رضا مانعا فلا يقبل قوله في ذلك الا بحجة
كما لو ادعى أن غاصبا حال بينه وبين الانتفاع بالرحا وان استأجر رحى ماء على أن يطحن فيها
الحنطة ولا يطحن غيرها فطحن فيها شعيرا أو شيئا من الحبوب سوى الحنطة فإن كان
ذلك لا يضر بالرحا فلا ضمان عليه وإن كان أضر عليها من الحنطة ضمنه ما نقصها لان التقيد
معتبر إذا كان مفيدا والخلاف إلى ما هو أضر عدوان منه فيلزمه ضمان النقصان ولا أجر عليه
في ذلك لوقت لأنه غاصب ضامن من النقصان ولا يجتمع الاجر والضمان وإذا استأجر الرجل
رحا وبيتا من أجير وبعيرا من آخر صفقة واحدة كل شهر باجر معلوم فهو جائز لان
استئجار كل عين من هذه الأعيان على الانفراد صحيح ثم يقتسمون الاجر بينهم على قدر ذلك
لان المسمى بمقابلة الكل فيتوزع عليها بالحصة ولو اشترك أرباب هذه الأشياء على أن يعملوا
للناس باجر فما طحنوا فالاجر بينهم أثلاثا فان أجروا الجمل بعينه فطحن فأجر ذلك لصاحب
الجمل لأنه سمى بمقابلته منفعة الجمل وللآخرين أجر مثلهما لنفسهما ومتاعهما على صاحب الجمل
لان سلامة الاجر له بذلك كله فيكون هو مستوفيا لمنافعهما وقد شرط بمقابلة ذلك أجر ولم
17

يسلم لهما ذلك الاجر فان قبلوا الطعام على أن يطحنوه باجر معلوم ولم يؤجر والا الجمل بعينه
فما اكتسبوه صار أثلاثا بينهم لأنهم اشتركوا في تقبل العمل وبذلك استوجبوا الاجر وإن كان
لرجل بيت على نهر قد كان فيه رحا ماء فذهب وجاء آخر برحا آخر ومتاعها فنصبها
في البيت واشتركا على أن يتقبلا من الناس الحنطة والشعير فطحناه فما كسبا فهو بينهما نصفان
فهو جائز وما طحناه وما تقبلاه فاجره بينهما نصفان لاستوائهما في تقبل العمل في ذمتها
وليس للرحى ولا للبيت أجرة لان كل واحد منهما ما ابتغى عن متاعه أجرا سوى ما قال
(ألا ترى) أن قصارين لو اشتركا على أن يعملا في بيت أحدهما باداه الآخر فما كسبا فهو
بينهما نصفان كان جائزا ولم يكن لواحد منهما أن يطالب صاحبه باجر دابته ولو أجر الرحا
باجر معلوم على طعام معلوم كان الاجر كله لصاحب الرحا لأنه مسمى بمقابلة منفعة ملكه
ولصاحب البيت أجر مثل بيته ونفسه على صاحب الرحا إذا كان قد عمل في ذلك لان
منفعة بيته ونفسه سلمت لصاحب الرحا ولم يسلم له بمقابلته ما شرط له من الاجر (قال) ولا
أجاوز به نصف أجر مثل الرحا في قول أبى يوسف رحمه الله وقد بينا نظيره في كتاب
الشركة ولو انكسر الحجر الأعلى من الرحا فنصب رجل مكانه حجرا بغير أمر صاحبه وجعل
يتقبل الطعام ويطحن فهو مسئ في ذلك ضامن لما أفسد من الحجر الأسفل ومتاعه لأنه
غاصب والأجر له لأنه وجب بعقده وإن كان وضع الحجر الا على برضاء صاحبه على أن
الكسب بينهما نصفان فهو كما شرط وهو نظير ما سبق إذا كان يتقبلان الطعام فالاجر بينهما
كما شرط ولو بنى على نهر بيتا ونصب فيها رحا ماء بغير رضى صاحب النهر ثم يقبل الطعام
فكسب في ذلك مالا كان له في الكسب وكان ضامنا لمناقص البيت وساحته وموضعه والنهر
لأنه متلف لذلك بفعله ولا يضمن شيئا من الماء لأن الماء غير مملوك ولأنه لم يفسد شيئا من
الماء بعمله ولو أن رجلا له نهر اشترك هو ورجلان على أن جاء أحدهما برحاء والاخر بمتاعها
على أن يبنوا البيت جميعا من أموالهم على أن ما كسبوا من شئ فهو بينهم فهو جائز وهذا
مثل المسألة الأولى إذا كانوا يتقبلون الطعام فالاجر بينهم أثلاثا والله أعلم بالصواب
(باب الكراء إلى مكة)
(قال رحمه الله وإذا استأجر بعيرين من الكوفة إلى مكة فحمل على أحدهما محملا فيه
18

رجلان وما يصلحهما من الوطئ والدثر وإحديهما زاملة يحمل عليه كذا مختوما والسويق وما
يصلحهما من الخل والزيت والمعاليق وقد رأى الرجلين ولم ير الوطاء والدثر ولم يبين ذلك وشرط
حمل ما يكفيه من الماء ولم يبين ذلك فهذا كله فاسد في القياس لجهالة وزن الوطاء والدثر وجهالة
مقدار الماء والخل والزيت والمعاليق وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة فان الضرر على الإبل
تختلف بقلة ذلك وكثرته وفي الاستحسان يجوز لأنه متعارف وفي اشتراط اعلام وزن كل شئ
من ذلك بعض الحرج ثم المقصود على أحد الحملين الرجلان وقد رآهما الحمال وعلى الحمال الآخر
الدقيق والسويق وما سوى ذلك تبع إذا صار ما هو الأصل معلوما فالجهل في البيع عفو ومقدار
البيع يصير معلوما أيضا بطريق العرف وعلى هذا لو اشترط عليه أن يحمل له من هدايا مكة من
صالح ما يحمل الناس فهو جائز أيضا لأنه متعارف معلوم المقدار عرفا ولو بين وزن المعاليق
والهدايا كان أحب الينا لأنه أبعد من المنازعة وإذا أرادا الاحتياط في ذلك فينبغي أن يسمى
لكل محمل قربتين من ماء أو إدواتين من أعظم ما يكون من ذلك ويكتب في الكتاب أن الحمال
قد رأى الوطاء والدثر والقربتين والإداوتين والخيمة والقبة فان ذلك أوثق وإنما يكتب الكتاب
على أوثق الوجوه وان اشترط عليه عقبة الأجير فهو جائز ويكتب وقد رأي الحمال الأجير
وفي تفسير عقبة الأجير قولان أحدهما أن المستأجر ينزل في كل يوم عند الصباح والمساء
فذلك معلوم فيركب أجيره في ذلك الوقت وسمى ذلك عقبة الأجير والثاني أن يركب أجيره
في كل مرحلة فرسخا أو نحوه مما هو متعارف على خشبة خلف المحمل ويسمى ذلك عقبة الأجير
وفي كتاب الشروط قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرى أن يشترط من هدايا مكة كذا
وكذا منا لان ذلك أبعد من المنازعة والمحمول من الهدايا يختلف في الضرر على الدابة باختلاف
مقدرا الوزن وان تكاري شق محمل أو شق زاملة فاختلفا فقال الحمال إنما عينت عيدان المحمل
وقال المستكري بل عينت الإبل فإن كان الكراء كما يتكارى به الإبل إلى مكة فهو على الإبل
وإن كان كما يتكارى به شق محمل خشب فالقول قول الحمال مع يمينه لأنه إذا كان كما يتكارى به
الأول فالظاهر يشهد للمستكرى وإن كان شيئا يسيرا كما يتكارى به الخشب فالظاهر يشهد
للحمال وعند المنازعة يجعل القول قول من يشهد له الظاهر كما لو اشترى قربة ماء بدانق فقال
إنما اشتريت القربة دون الماء لا يصدق ولو اشتراها بعشرين درهما قال السقاء بعت الماء دون القربة
وكذلك لو اشترى مبطخة ثم قال المشتري اشتريت الأرض وقال البائع إنما بعت البطيخ
19

فإنه بحكم الثمن في ذلك فيجعل القول قول من يشهد له الظاهر وإذا تكارى من الكوفة إلى
مكة إبلا مسماة بغير أعيانها فقال الحمال أخرجك في عشر ذي القعدة فقال المستكري أخرجني
في خمس مضين أو على عكس ذلك فإنه يخرجه في خمس مضين في الوجهين جميعا لأنه لا يخاف
الفوت إذا خرج بعد خمس مضين فان أراد الحمال أن يخرجه قبل ذلك فهو يريد أن يلزمه
ضرر السفر من غير حاجة إليه فيسقط عن نفسه مؤنة العلف فلا يمكن من ذلك وإذا طلب
المستكرى في عشر ذي القعدة وهو يريد أن يلزم الحمال ضرر السفر من غير حاجة ليكون هو
مترفها في نفسه فلهذا لا يمكن من ذلك ولان بمطلق العقد إنما يثبت المتعارف والمتعارف
الخروج من الكوفة بخمس مضين فإذا أراد الحمال أن يتأخر إلى نصف ذي القعدة وأبى ذلك
المستكرى فليس للحمال ذلك لأنه يخاف الفوت في هذا التأخير ويلحق المستكرى مشقة
عظيمة باستدامة السفر وان قال المستأجر أخرجني للنصف من ذي القعدة وقال الحمال أخرجك
بخمس مضين فإنه يرتكب مؤنة العلف فانى أؤخره لعشر مضين من ذي القعدة ولا تؤخره لأكثر
من ذلك لان الغالب ادراك الحج إذا خرج بعشر مضين والغالب هو الفوات إذا أخر الخروج
أكثر من ذلك والمستحق بمطلق العقد صفة السلامة لا نهاية الجودة وإن كان بينهما شرطا
حملهما على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم الشرط أملك: أي يوفى به ولا بأس بأن يسلف في
كراء مكة قبل الحج سنة أو بأشهر لان وقت الحج معلوم لا يجهل وهذا بناء على مذهبنا ان
الإجارة المضافة إلى وقت في المستقبل تصح (وعلى قول) الشافعي رحمه الله لا تصح الدار والحانوت
والدواب وغير ذلك فيه سواء وهذا بناء على أصله ان جواز العقد باعتبار ان المنافع جعلت
كالأعيان القائمة فإنما يتحقق ذلك إذا اتصل المعقود عليه بالعقد في الإجارة المضافة ولا يوجد
ذلك ثم الإضافة إلى وقت في المستقبل كالتعليق بالشرط حتى أن ما يحتمل التعليق بالشرط
يجوز اضافته إلى وقت في المستقبل كالطلاق والعتاق ومالا فلا كالإجارة والبيع ثم الإجارة لا
تحتمل التعليق بالشرط فلا تحتمل الإضافة إلى وقت في المستقبل والدليل عليه أنه لا يتعلق به
اللزوم ولا يملك الاجر بنفس العقد وان شرط التعجيل فلو انعقد العقد صحيحا لانعقد بصفة
اللزوم ويملك الاجر به إذا شرط التعجيل فان ذلك موجب العقد وحجتنا في ذلك أن جواز
عقد الإجارة لحاجة الناس وقد تمس الحاجة إلى الاستئجار مضافا إلى وقت في المستقبل لان
في وقت حاجته ربما لا يجد ذلك أولا يجده باجر المثل فيحتاج إلى أن يسلف فيه قبل ذلك
20

ثم قد بينا انه وان أطلق العقد فهو في معنى المضاف في حق المعقود عليه لأنه يتجدد انعقاده
بحسب ما يحدث من المنفعة أو تقام العين المنتفع بها مقام المعقود عليه في هذا العقد ولا فرق في
هذا بين المضاف إلى وقت في المستقبل وبين المعقود عليه في الحال وهذا لان ذكر المدة لبيان
مقدار المعقود عليه كالكيل فيما يكال وذلك لا يختلف به وبه فارق التعليق بالشرط فان التعليق
يمنع انعقاد العقد في الحال والإضافة لا تمنع من ذلك وفي لزوم الإجارة المضافة روايتان وأصح
الروايتين أنه يلزم وليس لأحدهما أن يفسخ الا بعذر فان الاجر لا يملك بشرط التعجيل وقد
بينا الفرق بين هذا وبينما إذا شرط التعجيل في عقد الإجارة في الحال لان هناك تأخر الملك
بقضية المساواة فيحتمل التغير بالشرط وهنا تأخر الملك لنصيبهما على التأخير بإضافة العقد إلى
وقت في المستقبل فلا يتغير ذلك بالشرط ولو تكارى إبلا إلى مكة بشئ من المكيل أو الموزون
معلوم القدر والصفة وجعل له أجلا مسمى فهو جائز وإن لم يسم الموضع الذي يوفيه فيه وقد
نص على الخلاف فيما تقدم أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا بد من بيان المكان فتبين بذلك
أن هذا الجواب قولهما وان حل الاجل بمكة وأراد أخذه هناك وأبى المستأجر فأن استوثق من
المستأجر على أن يوفيه بالكوفة حيث تكارى وقد ذكرنا على قولهما أن إجارة الدار يتعين
للايفاء موضع الدار وهنا ذلك غير ممكن لان الاجر يجب شيئا فشيئا بحسب سير الدابة
في الطريق فيتعذر تعيين موضع استيفاء المعقود عليه للايفاء وربما يتعين للتسليم موضع السبب
وهو العقد وإن كان الاجر شيئا بعينه مما له حمل ومؤنة فإنما يتعين لايفائه الموضع الذي فيه
ذلك العين لأنه ملك في ذلك الموضع بعينه كالمبيع بخلاف مالا حمل له ولا مؤنة فإنه يسلم
إليه بعد الوجوب حيث ما لقيه وقد بينا الفرق بينهما في البيوع ولو تكاري منه حملا وزاملة
وشرط حملا معلوما على الزاملة فما أكل من ذلك الحمل أو نقص من الكيل والوزن كان له
أن يتم ذلك في كل منزل ذاهبا وجائيا لأنه استحق بالعقد حملا مسمى على البعير في جميع
الطريق فيكون له أن يستوفى ما استحقه بالشرط وليس للحمال أن يمنعه من ذلك بخلاف
المحمل فإنه إذا شرط فيه انسانين معلومين فليس له أن يحمل غيرهما الا برضاء الحمال لان
الضرر على الدابة يختلف باختلاف الراكب وان خرج بالبعيرين يقودهما ولا يركبهما ولم
يحمل عليهما جائيا فعليه الاجر كاملا لتمكنه من استيفاء المعقود عليه وكذلك لو بعث بهما
مع عبده يقودهما لما بينا أن المعقود عليه خطوات الدابة في الطريق وقد صار مسلما إلى
21

المستأجر نقود الدابة معه في الطريق وإذا مات الرجل بعد ما قضي المناسك ورجع إلى مكة
فإنما عليه من الاجر بحساب ذلك لأن العقد فيما بقي قد بطل بموته فيسقط الاجر بحسابه ويجب
في تركته بحساب ما استوفى ثم بين فقال يلزمه من الكراء خمسة أعشار ونصف ويبطل عنه
أربعة أعشار ونصف وبيان تخريج هذه المسألة أن من الكوفة إلى مكة سبعا وعشرين مرحلة
فذلك للذهاب والرجوع كذلك وقضاء المناسك تكون في ستة أيام في يوم التروية يخرج
إلى منى وفي يوم عرفة يخرج إلى عرفات وفي يوم النحر يعود إلى مكة لطواف الزيادة وثلاثة
أيام بعده للرمي فيحسب لكل يوم مرحلة فإذا جمع ذلك كله كان ستين مرحلة كل سنة من ذلك
عشر فإذا مات بعد قضاء المناسك والرجوع إلى مكة فقد تقرر عليه ثلاثة وثلاثون جزأ من
ستين جزأ من الاجر سبعة وعشرين جزأ للذهاب إلى مكة وستة أجزاء لقضاء المناسك وذلك
خمسة أعشار ونصف عشر كل عشر ستة وربما يشترط الممر على المدينة فيزداد به ثلاثة مراحل
فان من الكوفة إلى مكة على طريق المدينة ثلاثين مرحلة فإن كان شرط ذلك في الذهاب
تكون القسمة على ثلاثة وستين جزأ ويتقرر عليه ستة وثلاثون جزأ من ثلاثة وستين جزأ من
الاجر ثلاثون للذهاب وستة لقضاء المناسك وإن كان الشرط الممر على المدينة في الرجوع فعليه
ثلاثة وثلاثون جزأ من ثلاثة وستين جزأ من الاجر سبعة وعشرين للذهاب ولقضاء المناسك
ستة أجزاء وإن كان الشرط بينهما أن الذهاب من طريق المدينة والرجوع كذلك فالقسمة
على ستة وستين جزأ وإنما يتقرر عليه ستة وثلاثين جزأ من ستة وستين للذهاب ثلاثون
ولقضاء المناسك ستة أجزاء فحاصل ما يتقرر عليه ستة أجزاء من احدى عشر جزأ من الاجر
وحرف هذه المسألة أنه لم يعتبر السهولة والوعورة في المراحل لقسمة الكراء عليها لان ذلك
لا يملك ضبطه والكراء لا يتفاوت باعتباره عادة وإنما يتفاوت بالقرب والبعد فلهذا قسمه على
المراحل بالسوية كما بينا وان تكارى قوم مشاة بعيرا إلى مكة واشترطوا على المكارى أن يحمل
من مرض منهم أو أعيا فهذا فاسد للجهالة وربما تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة ولو اشترطوا عليه
عقبة لكل واحد منهم كان جائزا لان ذلك معلوم لا تمكن بعده المنازعة وإذا أراد المستأجر
أن يبدل محمله ليحمل محملا غيره فإن لم يكن في ذلك ضرر فله ذلك لما بينا أن التعيين الذي ليس
بمفيد لا يكون معتبرا وان أراد أن ينصب على المحمل كنيسة أو قبة فليس له ذلك الا برضاء
من المكاري لما في ذلك من زيادة الضرر على البعير وذلك لا يستحق الا بالشرط وان اشترط
22

عليه كنيسة بعينها فأراد أن يحمل كنيسة أعظم منها أو قبة فليس له ذلك لان هذا تعيين مفيد
وفي التبديل زيادة ضرر على دابته وان أراد أن يحمل كنيسة دونها فله ذلك لأنها أخف
على البعير من المشروط وان أراد الحمال أن لا يخرج إلى مكة فليس له عذر لأنه يتمكن من
تسليم المعقود عليه من غير أن يخرج بأن يبعث بالإبل مع أجيره أو مع غلامه وان أراد
المستأجر أن لا يخرج من عامه ذلك فهذا عذر لأنه لا يتمكن من الاستيفاء الا بتحمل مشقة
السفر وفيه من الضرر مالا يخفى وذلك لو كان اكترى الإبل لحمل الطعام إلى مكة فبلغه
كساد أو خوف أو بدله ترك التجارة في الطعام فهذا عذر له لأنه لا يتمكن من استيفاء المعقود
عليه الا بضرر لم يلتزمه بأصل العقد وذلك عذر لفسخ الإجارة والله أعلم بالصواب
(باب من استأجر أجيرا يعمل له في بيته)
(قال رحمه الله وإذا استأجر أجيرا يعمل له في بيته عملا مسمى ففرغ الأجير من العمل
في بيت المستأجر ولم يضعه من يده حتى فسد العمل أو هلك وله الاجر) لان عمله صار مسلما
إلى المستأجر لان محمل العمل في يد المستأجر لأنه في بيته والبيت مع ما فيه في يد صاحب البيت
فكما صار مسلما تقرر الاجر في ذمته ولا ضمان على الاجر فيما هلك من غير فعله لان مال
صاحبه هلك في يده وكذلك لو استأجره يخيط له في بيت المستأجر قميصا وخاط بعضه ثم
سرق منه الثوب فله الاجر بقدر ما خاط فان كل جزء من العمل يصير مسلما إلى صاحب
الثوب بالفراغ منه ولا يتوقف التسليم في ذلك الجزء عند حصول كمال المقصود فلو كان
استأجره ليخيط في بيت الأجير لم يكن له شئ من الاجر لأنه لا يصير عمله مسلما إلى صاحب
الثوب فان الثوب في يد الأجير لأنه في بيته ولا يقال قد اتصل عمله بملك صاحب الثوب لان
اتصال العمل بملكه يوجب الملك له فيما اتصل به ولكن لما لم يكن أصل الثوب في يده فيده
لا تثبت على ما اتصل به أيضا وخروجه من ضمان العامل وتعذر الاجر على المستأجر باعتبار
ثبوت اليد له على المعول واستشهد بما قال إنه لو استأجره يبنى له حائطا فبنى بعضه أو كله ثم إن
هدم فله أجر ما بنى لأنه في ملك صاحب البناء وكذلك حفر البئر وكذلك الرجل يستأجر
الخباز ليخبز له في بيته دقيقا معلوما بأجر معلوم فخبزه ثم سرق فله الاجر تاما وان سرق قبل
أن يفرغ فله من الاجر بحساب ما عمل وإن كان يخبز في بيت الخباز لم يكن له من الاجر شئ
23

ولا ضمان عليه فيما سرق في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه أجير مشترك فلا يضمن ما هلك
في يده بغير فعله وان احترق الخبز في التنور قبل أن يخرجه فهو ضامن لان هذا من جناية يده
ويتخير صاحب الخبز إن شاء ضمنه قيمته مخبوزا وأعطاه الاجر وان شاء ضمنه دقيقا ولم يكن
له أجر وقد بينا نظيره في القصار وان استأجر رجلا يحمل له طعاما إلى موضع معلوم فسرق
منه في بعض الطريق فله الاجر بقدر ما تحمل لان المعقود عليه ههنا منافعه لاحداث وصف
في المحل فبقدر ما تحمل يصير المعقود عليه مسلما إلى صاحبه فكان له من الاجر بقدره بخلاف
ما تقدم فالمعقود عليه هناك الوصف الذي يحدث في المحل بعمله وثبوت اليد على الوصف
بثبوته على الموصوف فما لم تثبت يد المستأجر على محل العمل لا يصير مسلما العمل فلا يتقرر
الاجر وعلى هذا قلنا في كل موضع إذا هلك لم يكن له فيه أجر فله أن يحبسه حتى يأخذ الاجر
كالخياط والقصار في بيت نفسه وفي كل موضع لو هلك كان له الاجر فليس له أن يحبسه كالحمال
والخياط والخباز في بيت صاحب العمل فان حبسه وهلك عنده فهو ضامن من لأنه غاصب في
الحبس حين لم يكن له حق الحبس والعمال الذين يعملون في بيت المستأجر ضامنون لما جنت
أيديهم مثل ما يضمنون ما عملوا في بيوتهم لان العامل أجير مشترك سواء عمل في بيت نفسه
أو في بيت المستأجر فيكون المعقود عليه العمل وعقد المعاوضة تقتضي سلامة المعقود عليه
فالعمل المعيب لا يكون معقودا عليه وهذا بخلاف ما إذا استأجره يوما ليخيط له ثوبا في بيته
فإنه لا يضمن ما جنت يده لان المعقود عليه منافعه (ألا ترى) أنه ليس له أن يعمل ذلك في
غير يومه وأنه يستوجب الاجر بتسليم النفس وإن لم يستعمله ولو استأجر طباخا يصنع له طعاما
في وليمة فأفسد الطعام فأحرقه ولم ينضجه فهو ضامن لأنه أجير مشترك وهذا من جناية يده
ولو لم يفسد الطباخ ولكن رب الدار اشترى راوية من ماء فأمر صاحب البعير فأدخلها الدار
فساق البعير فعطب فخر على القدور فكسرها فأفسد الطعام فلا ضمان على صاحب البعير لأنه
ساقها بأمر رب الدار وفعله كفعل رب الدار وسوق الانسان الدابة في ملك نفسه لا يكون
تعديا موجبا للضمان كحفر البئر ووضع الحجر في ملك نفسه ولا ضمان على الطباخ فيما عمل من
الطعام لان التلف حصل بغير فعله بل بفعل مضاف إلى صاحب الدار حكما وكذلك ولو كان
البعير سقط على ابن رب الدار وهو صبي فقتله أو على عبده فلا ضمان عليه لان التسبب إذا لم
يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان على أحد ولو أدخل الطباخ النار ليطبخ بها فوقعت شرارة
24

واحترقت الدار فلا ضمان عليه لان له أن يدخل النار ويعمل بها فعمله لا يتأتى بدونها ولا
ضمان على رب الدار فيما احترق للسكان لأنه أدخل النار في ملكه ومن أوقد النار في ملكه
لا يكون متعديا فيه فكذلك إذا فعل غيره بأمره والله أعلم بالصواب
(باب إجارة الفسطاط)
(قال رحمه الله وإذا استأجر فسطاطا يخرج به إلى مكة ذاهبا وجائيا ويحج ويخرج
من الكوفة في هلال ذي القعدة فهو جائز) لأنه استأجر عينا منتفعا به وهو معتاد استئجاره
والفسطاط من المساكن فاستئجاره كاستئجار البيت وكذلك الخيمة والكنيسة والرواق
والسرادق والمحمل والجرب والجوالق والحبال والقرب والبسط فذلك كله منتفع به معتاد
استئجاره فان تكارى شيئا من ذلك ليخرج به إلى مكة ذاهبا وجائيا ولم يسم متى يخرج به
فهو فاسد في القياس لان وجوب التسليم إليه حين يخرج به وإذا لم يكن معلوما فربما تتمكن
بينهما منازعة فيه والناس يتفاوتون فيه بالخروج إلى مكة فمن بين مستعجل ومؤخر ولكنه
استحسن فقال وقت الخروج للحج من الكوفة معلوم بالعرف والمتعارف كالمشروط وهذا
لان المعتبر الوقت الذي تخرج فيه القافلة مع جماعة الناس ولا معتبر بالاقرار وذلك الوقت
معلوم وان تخرق الفسطاط من غير خلاف ولا عنف لم يضمن المستأجر لأن العين في يده
أمانة فان نقيضه يقرر حق صاحبه في الاجر وهو مأذون في استيفاء المنفعة على الوجه المعتاد
فلا يكون ضامنا لما يتخرق منه إذا لم يجاوز ذلك وان ذهب به ورجع فقال استغنيت عنه
فلم أستعمله فالاجر واجب عليه لأنه تمكن من الانتفاع به وذلك يقوم مقام الانتفاع به في تقرر
الاجر عليه ولو انقطعت أطنابه وانكسر عموده فلم يستطع نصبه لم يكن عليه أجر لأنه لم يكن
متمكنا من الانتفاع به والأجر لا يلزمه بدونه فالقول فيه قول المستأجر مع يمينه لأنهما اتفقا
أنه لم يتمكن من استيفاء جميع المعقود عليه وان الصفقة قد تفرقت عليه فالقول قول المستأجر
في مقدار ما استوفى وكذلك لو احترق فقال المستأجر لم أستعمله إلا يوما واحدا فالقول قوله
وليس عليه الكراء الا مقدار ذلك لأنه منكر للزيادة ولو أسرج المستأجر في الفسطاط أو في
الخيمة حتى اسود من الدخان أو احترق أو علق فيه قنديلا فإن كان صنع كما يصنع الناس فلا
ضمان عليه وإن كان تعدى فيه أو اتخذه مطبخا أو أوقد فيه نارا حتى صار بمنزلة المطبخ من
25

السواد فهو ضامن لما أفسد لان بمطلق العقد يثبت له حق استيفاء المنفعة على الوجه المتعارف
فإذا لم يجاوز ذلك لا يكون ضامنا وهذا لان الفسطاط من المساكن وادخال السراج والقنديل
وايقاد النار في المسكن متعارف لابد للساكن منه ولكن إذا جاوز الحد المتعارف فهو متعدي
فيما صنع فيكون ضامنا لما أفسد وكان عليه الكراء إذا كان ما بقي منه شيئا ينافي السكنى فيه فإن كان
دون ذلك فلا كراء عليه منذ يوم لزمه الضمان لانعدام تمكنه من الانتفاع به في بقية المدة
وان اشترط عليه صاحبه أن لا يوقد فيه ولا يسرج فليس له أن يوقد فيه ولا يسرج لان
هذا أضر من السكنى فيه من غير إسراج وقد استثناه صاحبه بالشرط والتقييد متى كان مفيدا
فهو معتبر فان فعل ذلك ضمن لأنه جاوز ما استحقه بالعقد وعليه الاجر لأنه استوفى المعقود
عليه وإنما ضمن باعتبار الزيادة فلا يمنع ذلك تقرر الاجر باستيفاء المعقود عليه كالمستأجر للدابة
إلى مكان إذا جاوز وإذا استأجر قبة تركية بالكوفة كل شهر بأجر معلوم ليستوقد فيها ويبيت
فهو جائز ولا ضمان عليه ان احترقت من الوقود لان الايقاد فيها معتاد فلا يكون هو
متعديا بالايقاد فيها فان بات فيها عبده أو ضيفه فلا ضمان لأنها من المساكن وقد بينا أن له
أن يسكن ضيفه وعبده فيما سكن فيه هو وهذا لأنه لا ضرر على القبة بكثرة من يسكنها وإذا
استأجر فسطاطا يخرج به إلى مكة فقعد وأعطاه أخاه فحج ونصب واستظل به فهو ضامن
ولا أجر عليه في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد لا ضمان عليه وعليه الاجر
لان الفسطاط من المساكن وفى المسكن لا يتعين سكناه بنفسه لان سكناه وسكنى غيره في
الضرر على الفسطاط سواء فهو كتسليم البيوت (ألا ترى) أنه لو أخرج الفسطاط فيه بنفسه ثم
أسكن فيه غيره لم يضمن فلذلك إذا دفعه إلى غيره حتى يخرج به وهو نظير ما لو استأجر
عبدا يخدمه في طريق مكة فاجره من غيره بخدمة لم يضمن وتفاوت الناس في الاستخدام
والاضرار على الغلام أبين من التفاوت في السكنى في الفسطاط ثم لما لم يتعين هناك المستأجر
للاستخدام فهذا أولى وجه قولهما أن الفسطاط يحول من موضع إلى موضع والضرر عليه
يتفاوت بتفاوت مواضع النصب فان نصبه في مهب الريح يخرقه ونصبه من موضع الندوة
والنز يفسده فإذا كان هذا مما يتفاوت فيه الناس وبحبسه يختلف الضرر فكان التعيين معتبرا
بمنزلة الدابة استأجرها ليركبها أو الثوب يستأجره ليلبسه هو فإذا دفعه إلى غيره صار مخالفا
ضامنا ولا أجر عليه لأنه لم يستوف المعقود عليه وهذا بخلاف المسكن فإنه لا يجول من
26

موضع إلى موضع بخلاف العبد لان الاستخدام له حد معلوم بالعرف فإذا كلفه فوق ذلك
امتنع العبد منه سواء كان المستأجر هو الذي يستخدمه أو غيره فلا فائدة في التعيين هناك
بخلاف ما إذا خرج بنفسه لأنه هو الذي يختار موضع النصب للفسطاط وإذا كان ذلك برأيه كما
أوجبه العقد فسكناه وسكنى غيره بعد ذلك سواء فاما إذا دفعه إلى غيره ليخرج به فاختيار
موضع نصب الفسطاط لا يكون برأيه بل يكون برأي الذي خرج به وذلك خلاف موجب العقد
وعلى هذا قالوا لو لم يبين عند الاستئجار من يخرج به فالعقد فاسد في قول أبى يوسف رحمه الله
كما لو لم يبين من يلبس الثوب عند الاستئجار وعند محمد رحمه الله العقد جائز كما في خدمة العبد
وسكنى الدار ولو انقطعت أطناب الفسطاط كلها فصنعها المستأجر من عنده ثم نصب الفسطاط
حتى يرجع فعليه الاجر كله لأنه استوفى المعقود عليه فالمعقود عليه منفعة الفسطاط لا منفعة
الاطناب فإذا تمكن من استيفاء المعقود عليه باطناب نفسه لزمه الاجر كما في استئجار الرحا
إذا انقطع الماء فطحن المستأجر بجمله وجب عليه الاجر ثم يمسك أطنابه لأنه ملكه فيمسكه
إذا رد الفسطاط ولو لم تعلق عليه الاطناب لم يكن عليه الكراء لأنه لم يكن متمكنا من استيفاء
المعقود عليه بملك صاحب الفسطاط ولا يعتبر تمكنه من الاستيفاء بملك نفسه لان ذلك
ليس مما أوجبه العقد وكذلك لو انكسر عمود الفسطاط فاما إذا انكسرت أوتاده فلم يضر
به حتى رجع كان عليه الكراء كاملا وليس الأوتاد مثل الاطناب والعمود لان الأوتاد من قبل
المستأجر والاطناب والعمود من قبل صاحب الفسطاط ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول
أنه بنى هذا الجواب على عرف ديارهم فاما في عرف ديارنا الأوتاد من قبل صاحب الفسطاط
والأصح أن يقول من الأوتاد ما يتيسر وجوده في كل موضع ولا يتكلف بحمل مثله من
موضع إلى موضع فهذا على المستأجر ومنه ما يكون متخذا من حديد وذلك لا يوجد في كل
موضع فمثله يكون على صاحب الفسطاط كالعمود فمراده مما قال الأوتاد التي توجد في كل
موضع فبانكسارها لا يزول تمكنه من استيفاء المعقود عليه فيكون الاجر عليه بخلاف العمود
والاطناب وان تكاري فسطاطا يخرجه إلى مكة فخلفه بالكوفة حتى رجع فهو ضامن لأنه
أمسكه في غير الموضع المأذون فيه فان صاحبه إنما أذن له في الامساك في الطريق ليقرر حقه
في الاجر ويفوت عليه هذا المقصود إذا أمسكه بالكوفة وامساك الغير بغير إذن مالكه
موجب الضمان عليه ولا كراء عليه لأنه ما تمكن من استيفاء المعقود عليه فالمعقود عليه نصبها
27

وسكناها في الطريق وذلك لا يتأتى إذا خلفها بالكوفة والقول قوله مع يمينه بالله ما أخرجه
لأنه ينكر التمكن من استيفاء المعقود عليه ووجوب الاجر عليه فهو كما لو أنكر قبض
الفسطاط أصلا وكذلك لو أقام بالكوفة ولم يخرج ولم يدفع الفسطاط إلى صاحبه فهو مثل
الأول لوجود الامساك لا على الوجه الذي أذن له فيه صاحبه وكذلك لو خرج ودفع الفسطاط
إلى غلامه فقال ادفعه إلى صاحبه فلم يدفعه حتى رجع المولى فهو مثل الأول لأنه لم يصل إلى
صاحبه وكونه في يد غلامه وما لو خلفه في بيته بالكوفة سواء وكذلك لو دفعه إلى آخر
وأمره أن يرده إلى صاحبه فلم يفعله لأنه مخالف بالامساك في غير الموضع المأذون فيه وبالتسليم
إلى الأجنبي أيضا ولو حمله الرجل إلى صاحب الفسطاط فأبى أن يقبله برئ المستأجر والرجل
من الضمان ولا أجر عليه لان صاحب الفسطاط تمكن من فسطاطه حين رد عليه وفعل مأمور
المستأجر كفعل المستأجر بنفسه ولو رده بنفسه لم يكن لصاحبه أن يمتنع من قبوله لان هذا عذر
له لأنه يحتاج إلى مؤنة في اخراج الفسطاط وله أن يلتزم تلك المؤنة فكذلك إذا رده ثانية لم
يكن له أن يمتنع من قبوله ولو هلك الفسطاط عند هذا الآخر قبل أن يحمله إلى صاحبه
فلصاحب الفسطاط أن يضمن أيهما شاء لان كل واحد منهما متعدي في حقه غاصب فان ضمن
الوكيل رجع به على المستأجر لأنه ضمن في عمل باشره له بأمره وان ضمن المستأجر لم يرجع به
على الوكيل لو رجع عليه رجع الوكيل به أيضا ولان يد الوكيل قائمة مقام يد المستأجر فهلاكه
في يد الوكيل كهلاكه في يد المستأجر وان ذهب بالفسطاط إلى مكة ورجع به فقال المؤاجر
للمستأجر أحمله إلى منزلي فليس له ذلك على المستأجر ولكنه على رب المتاع لما بينا أن منفعة
النقل حصل لرب المتاع من حيث أنه تقرر حقة في الاجر فكانت مؤنة الرد عليه بخلاف
المستعير وإن لم يخرج بالفسطاط وخلفه بالكوفة فضمنه وسقط عنه الاجر فالحمولة على المستأجر
لأنه بمنزلة الغاصب وهو الذي ينتفع بالرد من حيث أنه برأ نفسه عن الضمان وان استأجر دابة
إلى بلدة أخرى فقبضها وذهب صاحب الدابة فان حبسها بالكوفة على قدر ما يحبسها الناس إلى أن
يرتحل فلا ضمان عليه وان حبسها مما لا يحبس الناس مثله يومين أو ثلاثة فهو ضامن لها ولا كراء
عليه لأنه أمسكها في غير الموضع الذي أذن له صاحبها في الامساك وفي هذا الخلاف ضرر على
صاحبها فان حقه في الاجر لا يتقرر بامساكها في هذا الموضع فلهذا كان ضامنا إلا أن المقدار
المتعارف من الامساك يصير مستحقا له بالعرف فيجعل كالمشروط بالنص وإذا استأجر الرجلان
28

فسطاطا من الكوفة إلى مكة ذاهبا وجائيا فقال أحدهما انى أريد ان آتى بالبصرة وقال الآخر
انى أريد أن أرجع إلى الكوفة وأراد كل واحد منهما يأخذ الفسطاط من صاحبه فالمسألة على
ثلاثة أوجه اما أن يدفع الكوفي إلى البصري أو البصري إلي الكوفي أو يختصما فيه إلى
القاضي بمكة فاما إذا دفعه الكوفي إلى البصري فذهب به إلى البصرة واستعمله فلرب الفسطاط
أن يضمن البصري قيمته ان هلك لأنه غاصب مستعمل في غير الموضع الذي أذن له صاحبه
فيه وكذلك إن لم ينصبه فهو بالامساك في غير الموضع الذي أذن له صاحبه فيه يكون ضامنا
قيمته ان هلك وعليهما حصة الذهاب من الاجر ولا أجر على واحد منهما في الرجوع أما
البصري فلانه ما رجع من الكوفة وقد تقرر عليه ضمان القيمة وأما الكوفي فلانه لا يكون
متمكنا من استيفاء المعقود عليه في الرجوع حين ذهب البصري بالفسطاط وان أراد صاحبه
أن يضمن الكوفي فان أقر أنه أمره أن يذهب به إلى البصرة كان له أن يضمنه نصف قيمته لان
النصف كان أمانة في يده وقد تعدى بالتسليم إلى صاحبه ليمسكه على خلاف ما رضى به صاحبه
فكان له أن يضمنه ويضمن البصري نصف قيمته وان قال الكوفي لم آمره أن يذهب به إلى
البصرة ولكني دفعته إليه ليمسكه حتى يرتحل فلا ضمان عليه لان الفسطاط مما لا يحتمل القسمة
فلكل واحد من المستأجرين أن يتركه في يد صاحبه ولا يكون تسليمه إلى صاحبه ليمسكه في
الموضع الذي تناول الاذن موجع الضمان عليه والقول قوله في ذلك مع يمينه لأنه ينكر سبب
وجوب الضمان عليه وصاحب الفسطاط يدعي ذلك عليه وان دفعه البصري إلى الكوفي فرجع
به إلى الكوفة فالكراء عليهما جميعا على البصري نصفه وعلى الكوفي نصفه لان الكوفي استوفي
المعقود عليه في الرجوع في نصيب نفسه باعتبار ملكه وفي نصيب البصري بتسليطه إياه على ذلك
وذلك ينزل منزلة استيفائه بنفسه فيجب الكراء عليهما ولا ضمان على واحد منهما ان هلك قيل
هذا قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن يكون البصري ضامنا ولا كراء
عليه في الرجوع كما لو دفعه إلى أجنبي آخر وقد بيناه والأصح أنه قولهم جميعا لان صاحب
الفسطاط هنا قد رضي برأي كل واحد منهما في النصب واختيار الموضع لذلك بخلاف الأجنبي
فصاحب الفسطاط هناك لم يرض برأيه في اختيار موضع النصب وان غصبه الكوفي فعلى الكوفي
حصته من الاجر ذاهبا وجائيا لأنه استوفى المعقود عليه وعلى البصري أجره ذاهبا وليس عليه
أجر في الرجوع لان نصيبه كان في يد الغاصب ولم يكن هو متمكنا من استيفاء المعقود عليه
29

حين ذهب من طريق البصرة ويكون الكوفي ضامنا لنصف قيمته ان هلك لأنه غاصب للنصف
من البصري فيكون ضامنا وان ارتفعا لي القاضي بمكة فللقاضي في ذلك رأى فإن شاء لم ينظر فيما
يقولان حتى يقيما عنده البينة لان صاحب الفسطاط غائب وهما يدعيان على القاضي وجوب
النظر عليه في حق الغائب في ماله فلا يلتفت إلى ذلك إذا لم يعرف سببه فان فعل القاضي بذلك
ولم يجدا بينة فدفعه البصري إلى الكوفي فهو على الجواب الأول الذي قلنا إذا لم يرتفعا إلى
القاضي وإذا أقام البينة عنده على ما ادعيا قبلت البينة لأنهما أثبتا سبب وجوب ولايته في هذا
المال ووجوب النظر للغائب وهذه بينة تكشف الحال فتقبل من غير الخصم أو القاضي كأنه الخصم
في موجب هذه البينة ثم يحلف البصري على ما يريد من الرجعة إلى البصرة لأنه يدعى العذر
الذي به يفسخ الإجارة في نصيبه وذلك شئ في ضميره لا يقف عليه غيره فيقبل قوله فيه مع
يمينه وان شاء نظر في حالهما من غير إقامة البينة احتياطا في حق الغائب وإذا حلف البصري
فالقاضي يخرج الفسطاط من يده لأنها ليس من النظر للغائب ترك الفسطاط في يده ليذهب به
إلى البصرة ولكنه يؤاجر نصيبه من كوفي مع الكوفي الأول ليتوصل صاحب الفسطاط إلى
غير ملكه ويتوفر عليه الكراء بجميع الفسطاط في الرجوع وان أراد الكوفي أن يستأجر نصيب
البصري فهو أولى الوجوه لان صاحب الفسطاط كان راضيا بكون الفسطاط في يده ولان اجارته
منه تجوز بالاتفاق لأنه إجارة المشاع من الشريك وذلك جائز وفعل القاضي فيما يرجع إلى
النظر للغائب كفعل الغائب بنفسه وإن لم يرغب فيه حينئذ يؤاجره من كوفي آخر فيجوز
ذلك على قول من يجوز إجارة المشاع وعلى قول من لا يجوز ذلك فهذا فصل مجتهد فيه فإذا
أمضاه القاضي باجتهاده نفذ ذلك منه وإن لم يجد من يستأجره من أهل الكوفة يدفع الفسطاط
إلى الكوفي وقال نصفه معك بالإجارة الأولى ونصفه معك وديعة حتى يبلغ صاحبه فهو
جائز لما فيه من معنى النظر للغائب باتصال عين ملكه إليه وعلى الكوفي نصف الاجر في
الرجوع لأنه استوفي المعقود عليه والشيوع طارئ فلا يمنع بقاء الإجارة ولا أجر على
البصري في الرجعة لأنه استوفى المعقود عليه فسخ العقد بعذر عند القاضي ولا ضمان عليه
أيضا لان تسليمه إلى القاضي كتسليمه إلى صاحبه فالقاضي نائب عنه فيما يرجع عليه لذلك
وان تكار فسطاطا من الكوفة إلى مكة ذاهبا وجائيا وخرج إلى مكة فخلفه بمكة ورجع
إلى الكوفة فعليه الكراء ذاهبا وهو ضامن لقيمة الفسطاط يوم خلفه لأنه تركه في غير
30

الموضع الذي رضي صاحبه بتركه فيه وإن لم يختصما حتى حج من قابل فرجع بالفسطاط فلا
أجر عليه في الرجعة لأنه كان استأجره في العام الماضي وقد انتهى العقد بمضي ذلك الوقت
فيكون غاصبا ضامنا في استعماله في العام الثاني وكل من استأجر فسطاطا أو متاعا أو حيوانا
إذا فسد ذلك حتى لا ينتفع به أو غصبه غاصب فلا أجر على المستأجر منذ يوم كان ذلك لانعدام
تمكنه من استيفاء المعقود عليه وعليه أجر ما قبله والقول قول المستأجر إذا اختصما يوم اختصمنا
وهو على ما وصفنا من الفساد أو الغصب مع يمينه لان انعدام تمكنه من الاستيفاء في الحال
يمنع البناء على استصحاب الحال فيما مضى والبينة بينة المؤاجر لأنه يثبت حقه ببينته ولا تقبل
بينة المستأجر على خلاف ذلك لأنه ينفى بينته ما يثبته الآخر من الاجر. رجل تكارى دابتين
من رجل صفقة واحدة بعشرة دراهم ليحمل عليهما عشرين مختوما فحمل على كل واحدة
منهما عشرة مخاتيم فإنما يقسم الاجر على أجر مثل كل واحدة منهما وذلك لصاحبهما لان
المسمى بمقابلة منفعة دابتين ولو كان بمقابلة عينهما بان يتبعا وجب قيمته على قيمتها فكذلك
إذا كان بمقابلة منفعتهما وقيمة المنفعة أجر المثل فلهذا يقسم على ذلك ولا ينظر إلى ما حمل على
كل دابة (ألا ترى) أنه لو ساقهما ولم يحمل عليهما شيئا وجب الاجر عليه والله أعلم
(باب الإجارة الفاسدة)
(قال رحمه الله رجل استأجر من رجل ألف درهم بدرهم كل شهر يعمل بها فهو
فاسد وكذلك الدنانير وكل موزون أو مكيل) لان الانتفاع بها لا يكون الا باستهلاك عينها
ولا يجوز أن يستحق بالإجارة استهلاك العين ولا أجر عليه لأن العقد لم ينعقد أصلا لانعدام
محله فمحمل الإجارة منفعة تنفصل عن العين بالاستيفاء وليس لهذه الأموال منفعة مقصودة
تنفصل عن العين وبدون المحل لا ينعقد العقد وهو ضامن للمال لأن العقد لما صار لغوا بقي
مجرد الاذن فكأنه أعاره إياه وقد بينا أن العارية في المكيل والموزون قرض وإذا استأجر
ألف درهم ليزن بها يوما إلى الليل بأجرة مسماة فهو جائز وكذلك لو استأجر حنطة مسماة
يعبر بها مكاييل له يوما إلى الليل فهو جائز وذكر الكرخي رحمه الله في مختصره أنه لا يجوز
قبل ما رواه الكرخي رحمه الله محمول على ما إذا استأجرها ليعبر بها مكيا لا بغير عينها وما ذكر
في الكتاب محمول على ماذا استأجرها ليعبر بها مكيلا لا بعينه فيكون المعقود عليه معلوما
31

وقيل بل فيه روايتان وجه ما قال الكرخي رحمه الله ان هذا النوع من الانتفاع غير مقصود
بهذه الأعيان وإذا كأن لا يجوز استئجارها للمنفعة التي هي مقصودة منها فلأن لا يجوز
استئجارها للمنفعة التي هي غير مقصودة منها أولى وجه ظاهر الرواية ان ما سمى عملا يعمل
بالمستأجر مع بقاء عينه فان الوزن بالدراهم عمل مقصود كالوزن بالحجر ولو استأجر حجرا
ليزن به يوما جاز فكذلك الدراهم وهذا لان المنافع عند اطلاق العقد كونه متضمنا استهلاك
العين لو صح وقد انعدم ذلك بتسمية منفعة تستوفى مع بقاء العين وهو مقصود في الناس أو
كالإناء يستأجره ليعمل به أو الثوب ليلبسه وان استأجر نصيبا في أرض غير مسماة لم يجز
وكذلك العبد والدابة في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف
رحمه الله وقال هو جائز وهو بالخيار إذا علم النصيب وهو قول محمد رحمه الله وقد ذكر في آخر
الشفعة انه لو باع نصيبه من الدار والمشترى لا يعلم كم نصيبه لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وهو قول أبى يوسف الأول رحمه الله ثم رجع أبو يوسف وقال يجوز فأبو حنيفة استمر
على مذهبه في الفصلين حيث لم يجوز البيع والإجارة في النصيب المجهولة ومسألة الإجارة
له أيضا بناء على إجارة المشاع فإنه لا يجوز الإجارة في النصيب الشائع وإن كان معلوما فإذا
كان مجهولا أولى وأبو يوسف رحمه الله استمر على مذهبه أيضا فإنه جوز البيع والإجارة
في نصيب العاقد وإن لم يكن ذلك معلوما للأجير عند العقد لان اعلامه ممكن بالرجوع إلى
قول الموجب ومن أصله أيضا جواز الإجارة في الجزء الشائع ومحمد رحمه الله فرق بين البيع
والإجارة وقال في البيع الثمن يجب بنفس العقد فلو صح العقد وجب الثمن بمقابلة مجهول وفي
الإجارة لا يجب إلا عند استيفاء المنفعة وعند ذلك نصيب المؤاجر معلوم فإنما يجب البدل
بمقابلة المعلوم ومن أصله جواز الإجارة في المشاع وان استأجر مائة ذراع مكسرة من هذه
الدار أو أجر مائتين من هذه الأرض فإنه لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو جائز في
قولهما وهو بناء على ما ذكرنا في البيوع إذا باع مائة ذراع من هذه الدار عند أبي حنيفة رحمه الله
لا يجوز لان الذراع اسم لبقعة معلومة يقع عليها الذرع وذلك يتفاوت في الدار فكما لا ينعقد
البيع صحيحا بهذا اللفظ فكذلك الإجارة وعندهما ذكر الذراع كذكرك السهم حتى ينعقد
به البيع صحيحا فكذلك الإجارة وهو بناء على اختلافهم أيضا في إجارة المشاع ولا يجوز إجارة
الشجر والكرم بأجرة معلومة على أن تكون الثمرة للمستأجر لان الثمرة عين لا يجوز استحقاقها
32

بعقد الإجارة فإنه يجوز بيعه بعد الوجود وإنما يستحق بقدر الإجارة مما لا يجوز بيعه بعد
الوجود ولان محل الإجارة المنفعة وهي عرض لا يقوم بنفسه ولا يتصور بقاؤها والثمرة
تقوم بنفسها كالشجرة فكما لا يجوز أن يتملك الشجرة بعقد الإجارة فكذلك الثمرة ولان
المؤاجر يلتزم مالا يقدر على ابقائه فربما تصيب الثمرة آفة وليس وسع البشر اتخاذها وكذلك
ألبان الغنم وصوفها وسمنها وولدها كل ذلك عين يجوز بيعه فلا يتملك بعقد الإجارة وان
استأجر أرضا فيها زرع ورطبة أو شجرة أو قصب أو كرم أو ما يمنع من الزراعة فالإجارة فاسدة
لان استئجار الأرض لمنفعة الزراعة وهذه المنفعة لا يمكن استيفاؤها مع هذه الموانع فقد
التزم بالعقد تسليم مالا يقدر على تسليمه وإن كان مقصود المستأجر ما فيها فهو عين لا يجوز
استحقاقه بالإجارة ولا يجوز إجارة الآجام والأنهار للمسك ولا لغيره لان المقصود استحقاق
العين ولان السمك صيد مباح فكل من أخذه فهو أحق به وإنما يستحق على المؤاجر بالإجارة
ما كان مستحقا له ولان المؤاجر يلتزم مالا يقدر على ايفائه به فان أجرها للزراعة فهي ليست
بصالحة لذلك وان أجرها للسمك فربما يجده المستأجر وليس في وسع الاجر أن يمكنه من
تحصيل ذلك ولو استأجر بئرا شهرين ليسقى منها أرضه وغنمه لم يجز وكذلك النهر والعين
لان المقصود هو الماء وهو عين لا يجوز أن يتملك بعقد الإجارة ولأن الماء أصل الإباحة ما لم
يحرزه الانسان بانائه وهو مشترك بين الناس كافة قال صلى الله عليه وسلم الناس شركاء في
الثلاث في الماء والكلاء والنار فالمستأجر فيه والأجر سواء فلهذا لا يستوجب عليه أجر بسببه
وان استأجر نهر ليجرى فيه شربا له إلى أرضه روى عن أبي يوسف رحمه الله ان ذلك لا
يجوز قال أرأيت لو استأجر مسيل ماء على سطح ليسيل ما أسطحه فيه أكان يجوز ذلك فهذا
كله فاسد وهكذا ذكره محمد في ظاهر الرواية وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه ان استأجر
موضعا معينا معلوما لذلك فهو جائز لان الجهالة تزول بتعيين الموضع وهي منفعة مقصودة
فالاستئجار لأجله يصح وجه ظاهر الرواية انه مجهول في نفسه فان الضرر يتفاوت بقلة الماء
وكثرته واعلام مقدار الماء غير ممكن فربما لا يأخذ الماء جميع الموضع الذي عينه وربما يزداد
عليه فللجهالة قلنا لا يجوز الاستئجار ولو استأجر عبدا بأجر معلوم كل شهر بطعامه لم يجز لان
طعامه مجهول وهو على رب العبد فإذا شرطه على المستأجر كان فاسدا والمجهول متى ضمن إلى
المعلوم يصير الكل مجهولا به وكذلك استئجار الدابة بأجر مسمى وعلفها وكذلك كل إجارة
33

فيها رزق أو علف فهي فاسدة الا في استئجار الظئر بطعامها وكسوتها وان أبا حنيفة رحمه الله
قال أستحسن جواز ذلك وقد بيناه واشترط تطيين الدار ومرمتها أو غلق باب عليها أو ادخال
جذع في سقفها على المستأجر مفسد للإجارة لأنه مجهول فقد شرط الاجر لنفسه على المستأجر
وكذلك استئجار الأرض بأجر مسمى واشترط كرى نهرها أو ضرب مسناة عليها أو حفر
بئر فيها أو أن يسرقها المستأجر فهذا كله مفسد للإجارة لان أثر هذه الاعمال تبقى بعد انتهاء
مدة الإجارة ويسلم ذلك للأجر فيكون في معنى شرط أجرة مجهولة على المستأجر لنفسه
وكذلك لو اشترط عليه رب الأرض أنه يكون له ما فيها من ذرع إذا انقضت الإجارة وان
يردها عليه مكروبة فهذا كله مجهول ضمنه إلى المعلوم وشرطه لنفسه يفسد العقد به. رجل
دفع أرضه إلى رجل يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض
والغارس نصفين لم يجز ذلك لأنه يكون مشتريا نصف الغراس منه بنصف الأرض والغراس
مجهول فلا يصح ذلك هكذا ذكره بعض مشايخنا رحمهم الله فاما الحاكم رحمه الله في المختصر
يقول تأويل المسألة عندي أن جعل نصف الأرض عوضا عن جميع الغراس ونصف الخارج
عوضا لعمله فعلى هذا الطريق يقول اشترى العامل نصف الأرض بجميع الغراس وهي مجهولة
فكان العقد فاسدا فان فعل فالشجر لرب الأرض لأن العقد في الشجر كان فاسدا ومذرعته في
أرضه بأمره فكأن صاحب الأرض فعل ذلك بنفسه فيصير قابضا للغراس باتصاله بأرضه
مستهلكا بالعلوق فيجب عليه قيمة الشجر وأجر ما عمل لأنه ابتغى من عمله عوضا وهو نصف
الخارج ولم ينل ذلك فكان عليه أجر مثله فان (قيل) كان ينبغي على قول أبي حنيفة رحمه الله أن
يكون نصف الأرض للعامل لأنه اشترى نصف الأرض شراء فاسدا ومن اشترى نصف
الأرض شراء فاسدا غرس فيها أشجارا فإنه ينقطع فيها حق البائع في الاسترداد عند أبي حنيفة
رحمه الله (قلنا) هذا أنه لو غرس الأشجار لنفسه وهنا العامل في الغرس يقوم مقام رب الأرض
ويعمل له بالأجر فكأن رب الأرض عمل ذلك بنفسه فلهذا لا يملك العامل شيئا من الأرض
وإنما اختار هذا التأويل لامكان ايجاب أجر العمل فإنه لو جعل مشتريا نصف الغرس كان
عاملا فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الاجر فلذلك ألزمه قيمة الغرس حين علقت ولو كان
مشتريا للنصف لكان يلزمه نصف قيمة الغرس حين علقت ونصف قيمة الشجر وقت الخصومة
لأنها أشجار مشتركة بينهما في أرض أحدهما فإنما يتملك صاحب الأرض نصيب صاحبه عليه
34

بالقيمة في الحال ثم قال ولا آمره بقلع الأشجار لما يدخل به من الفساد عليهما وبظاهر هذا
يتمسك من يختار الطريقة لاولى أنه يكون مشتريا نصف الغرس لأنه أشار إلى أن الأشجار
تكون مشتركة ولكنه لا يقلع لما يدخل به من الفساد عليهما قال الحاكم رحمه الله تأويل هذا
اللفظ فساد القلع على رب الأرض وضياع عمل الأجير بالقلع وبطلان حقه في الاجر ولو
كان قد أكل الغلة على هذا حسب على الغارس ما أكل من أجره لان الشجرة ملك رب
الأرض وإنما يملك الثمر يملك الشجر فما أكله العامل من ذلك يكون محسوبا عليه من
أجره (قال) رضي الله عنه والأصح عندي أن يقال في تقليل هذه المسألة ان صاحب الأرض
استأجره ليجعل أرضه بستانا بآلات نفسه على أن يكون أجره بعض ما يحصل بعمله وهو
نصف البستان فهو كما لو استأجر صباغا ليصبغ ثوبه بصبغ نفسه على أن يكون نصف المصبوغ
للصباغ وذلك فاسد لأنه في معنى قصر الطحان ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا
لان الغرس آلة تصير الأرض بها بستانا كالصبغ للثوب فإذا فسد العقد بقيت الآلة متصلة
بملك صاحب الأرض وهي متقومة فيلزمه قيمتها كما يجب على صاحب الثوب قيمة ما زاد
الصبغ في ثوبه إلا أن الغراس أعيان تقوم بنفسها فلا يدخل أجر العمل في قيمتها فيلزمه مع
قيمة الأشجار أجر مثل عمله لأنه أبقى من عمله عوضا ولم يسلم له ذلك فيستوجب أجر المثل ولو
دفع الغزل إلى حائك لينسجه بالنصف فهو فاسد لأنه في معنى قفيز الطحان وقد بينا اختلاف
المشايخ رحمهم الله فيه وكذلك حمل الطعام في سفينة أو على دابة بنصفه غير جائز وهذا لأنه
لو جاز صار شريكا بأول جزء من العمل يقع على العامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الاجر
فإذا لم يصح العقد لم يملك شيئا من المعمول فيبقى عمله مسلما إلى صاحبه بعقد فاسد فله أجر مثله
لا يجاوز به نصف ذلك لتمام رضاه بذلك القدر ولو كان طعاما بين رجلين استأجر أحدهما
صاحبه ليحمله أو يطحنه لم يجز ذلك عندنا وهو جائز عند الشافعي رحمه الله لان هذا العمل
في نصيب شريكه غير مستحق عليه فاستئجاره على ذلك كاستئجاره أجنبيا آخر وشركته
في المحل لا تمنع صحة الاستئجار كما لو استأجر أحد الشريكين من صاحبه بيتا ليحفظ فيه الطعام
المشترك أو دابة لينقل عليها الطعام المشترك صح الاستئجار فهذا مثله (وحجتنا) الحديث المشهور
في النهى عن قفيز الطحان وقد بينا أن معنى النهى انه لو جاز صار شريكا فذلك دليل على أن
تقدم الشركة في المحل يمنع صحة الإجارة وهذا لأن العقد يلاقى العمل وهو عامل لنفسه
35

من وجه وبين كونه عاملا لنفسه وبين كونه عاملا لغيره منافاة والأجير من يكون عاملا لغيره
وفيما يكون عاملا لنفسه لا يصلح أن يكون أجيرا بخلاف البيت والدابة فالعقد هناك يرد على
المنفعة والبدل بمقابلتها ولا شركة له في ذلك (ألا ترى) انه لا يتعين عليه حفظ الطعام المشترك
في البيت ولو سلم البيت إليه في المدة استوجب الاجر وإن لم يحفظ فيه شيئا بخلاف ما نحن فيه
فالعقد هنا يرد على العمل في المشترك حتى لا يستوجب الاجر بدون العمل ولا يعمله في محل آخر
ثم هنا وان أقام العمل فلا أجر له بخلاف مذهب أبي حنيفة رحمه الله في إجارة المشاع فان هناك
باستيفاء المنفعة يجب أجر المثل وإن كان العقد فاسدا لان فساد العقد هناك للعجز عن استيفاء
المعقود عليه على الوجه الذي أوجبه العقد لا لانعدام الاستيفاء أصلا فإذا تحقق استيفاء المعقود
عليه وجب الاجر وهنا بطلان العقد لتعذر استيفاء المعقود عليه أصلا من حيث أنه في المحل
المشترك عامل لنفسه وهو في العمل الواحد لا يكون عاملا لنفسه ولغيره في حالة واحدة
وبدون الاستيفاء لا يجب الاجر في العقد الفاسد وعلى هذا نسج الغزل ورعى الغنم التي تكون
بينهما فكل من يستوجب الاجر بالعمل فهو داخل في هذا الخلاف ولو استأجر رحا ماء على أنه
ان انقطع الماء عنها فالاجر عليه لم يجز لان هذا الشرط مخالف موجب العقد فهو فاسد مفسد
للعقد لان موجب العقد أن لا يجب الاجر الا بالتمكن من استيفاء المعقود عليه وكل شرط
يخالف موجب العقد مفسد للعقد ولان عقد الإجارة لا يتناول وقت انقطاع الماء حتى لا يجب
الاجر فيه وإن لم يفسخ فكأنه جعل جميع المسمى بمقابلة منفعة الرحا في وقت جريان الماء ولا
يدرى في كم يكون الماء جاريا وجهالة المنع تمنع صحة الإجارة ولو استأجر كتبا ليقرأ فيها شعرا
أو فقها أو غير ذلك لم يجز لان المعقود عليه فعل القارى والنظر في الكتاب والتأمل فيه ليفهم
المكتوب فعله أيضا فلا يجوز أن يجب عليه أجر بمقابلة فعله ولان فهم ما في الكتاب ليس
في وسع صاحب الكتاب ولا يحصل ذلك بالكتاب ولكن لمعنى في الباطن من حدة
الخاطر ونحو ذلك وكأن صاحب الكتاب يوجب له مالا يقدر على ايفائه فليس في عين
الكتاب منفعة مقصودة ليوجب الاجر بمقابلة ذلك فكان العقد باطلا سمى المدة أو لم يسم
ولا أجر له وان قر أو كذلك إجارة المصحف والكلام فيه أبين فان قراءة القرآن من المصحف
والنظر فيه طاعة وكان هذا كله نظيره ما لو استأجر كرما ليفتح له بابه فينظر فيه للاستيفاء من
غير أن يدخله أو استأجر مليحا لينظر إلى وجهه فيستأنس بذلك أو استأجر جبا مملوءا من
36

الماء لينظر فيه إذا سوى عمامته فهذا كله باطل لا أجر عليه بحكم هذه العقود فكذلك فيما
سبق ولا يجوز أن يستأجر رجلا ليعلم ولده القرآن أو الفقه أو الفرائض عندنا وقال الشافعي
رحمه الله يجوز ذلك فالمذهب عندنا أن كل طاعة يختص بها المسلم فالاستئجار عليها باطل وعلى
قول الشافعي كل ما لا يتعين على الأجير اقامته فالاستئجار عليه صحيح وقد بينا الكلام فيه في
كتاب المناسك في الاستئجار على الحج والدليل على أنه لا يجوز الاستئجار على تعليم القرآن
حديث عبد الرحمن بن شبل الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقرؤا
القرآن ولا تأكلوا به وقال صلى الله عليه وسلم لمدرس العلم إياك والخبز الرقاق والشرط على
كتاب الله تعالى ولما أقرأ أبي بن كعب رضي الله عنه رجلا سورة من القرآن أعطاه على ذلك
قوسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار فقال لا قال صلى
الله عليه وسلم رد عليه قوسه ولان من يعلم غيره القرآن فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يعمل فإنه بعث معلما وهو ما كان يطمع في أجر على التعليم فكذلك من يخلفه وعمله
ذلك قربة ومنفعة عمل يحصل له فذلك يمنعه من التسليم إلى غيره وبدون التسليم لا يجب الاجر
وبعض أئمة بلخ رحمهم الله اختاروا قول أهل المدينة رحمهم الله وقال إن المتقدمين من أصحابنا
رحمهم الله بنوا هذا الجواب على ما شاهدوا من عصرهم من رغبة الناس في التعليم بطريق الحسبة
ومروءة المتعلمين في مجازات الاحسان بالاحسان من غير شرط فاما في زماننا فقد انعدم
المعنيين جميعا فنقول يجوز الاستئجار لئلا يتعطل هذا الباب ولا يبعد أن يختلف الحكم باختلاف
الأوقات (ألا ترى) أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبى بكر رضي الله عنه حين منعهن من ذلك عمر رضي الله عنه وكان ما رواه من ذلك صوابا
ولو استأجروا من يؤمهم في رمضان أو غيره لم يجز لان المصلى عامل لنفسه فلا يستوجب الاجر
على غيره وكذلك أن استأجروا من يؤذن لهم فالمؤذن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الدعاء إلى الله تعالى ومنفعة عمله تحصل له لان بكثرة الجماعة يزداد ثوابه على أداء الصلاة
والأصل فيه ما ذكر من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال كان من آخر ما عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قال صل بالقوم صلاة أضعفهم وان اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على
الأذان أجرا وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال إني أحبك فقال عمر رضي الله عنه انى
أبغضك في الله قال ولم يا أمير المؤمنين قال بلغني أنك تأخذ على الأذان أجرا ولا تجوز الإجارة
37

على شئ من الغناء والنوح والمزامير والطبل وشئ من اللهو لأنه معصية والاستئجار على
المعاصي باطل فان بعقد الإجارة يستحق تسليم المعقود عليه شرعا ولا يجوز أن يستحق على
المرء فعل به يكون عاصيا شرعا وكذلك الاستئجار على الحداء وكذلك الاستئجار لقراءة
الشعر لان هذا ليس من إجارة الناس والمعتبر في الإجارة عرف الناس ولان ما هو المقصود إنما
يحصل بمضي في المستأجر وهو السماع والتأمل والتفهم فلا يكون ذلك موجبا للأجر عليه وان
أعطى المستأجر شيئا من اللهو يلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه لأنه قبضه واستعمله
باذن صاحبه فان العقد وان بطل فالاذن في الاستعمال باق وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة
يصلى فيها لم يجز لأنه معصية وكذلك إذا استأجرها ذمي من ذمي وكذلك الكنيسة وبيت
النار فإنهم يعتقدون في هذه البقاع ما يعتقده في المساجد واستئجار المسلم من المسلم مسجدا
يصلى فيه مكتوبة أو نافلة لا يجوز فكذلك لا يمكن تصحيح هذا العقد فيما بينهم بناء على
اعتقادهم وفي اعتقادنا هذا منهم معصية وشرك فالاستئجار عليه باطل ثم استئجار المسجد
من المسلم للصلاة فيه كاستئجار مسلم يصلى له وقد بينا ان ذلك باطل لان استئجار على الطاعة
فهذا مثله وعلى هذا لو استأجر أهل الذمة ذميا ليصلى بهم أو ليضرب لهم الناقوس فهو باطل
لأنه معصية وإذا استأجر الذمي من المسلم بيتا ليبيع فيه الخمر لم يجز لأنه معصية فلا ينعقد العقد
عليه ولا أجر له عندهما وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز والشافعي رحمه الله يجوز هذا العقد
لأن العقد يرد على منفعة البيت ولا يتعين عليه بيع الخمر فيه فله أن يبيع فيه شيئا آخر يجوز
العقد لهذا ولكنا نقول تصريحهما بالمقصود لا يجوز اعتبار معنى آخر فيه وما صرحا به معصية
وكذلك لو أن ذميا استأجر مسلما يحمل له خمرا فهو على هذا عند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله لا يجوز ان العقد لان الممر يحمل للشرب وهو معصية والاستئجار على المعصية لا تجوز والأصل
فيه قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله في الخمر عشرا وذكر في الجملة حاملها والمحمولة إليه وأبو
حنيفة رحمه الله يقول يجوز الاستئجار وهو قول الشافعي رحمه الله لأنه لا يتعين عليه حمل الخمر
فلو كلفه بأن يحمل عليه مثل ذلك فلا يستوجب الاجر ولان حمل الخمر قد يكون للإراقة
وللصب في الخل ليتخلل فهو نظير ما لو استأجره ليحمل ميتة وذلك صحيح فهذا مثله إلا أنهما
يفرقان فيقولان الميتة تحمل عادة للطرح وإماطة الأذى فاما الخمر يحمل عادة للشرب والمعصية
وذكر هشام عن محمد رحمهما الله قال ابتلينا بمسألة وهو أن مسلما استؤجر على أن ينقل جيفة ميتة
38

من المشركين من بلد إلى بلد فكذلك قال أبو يوسف رحمه الله لا أجر له لأنه إنما يحمل حمل
الجيفة إلى المقبرة لإماطة الأذى فاما حملهما من بلد إلى بلد فهو معصية لا يجوز الاستئجار
عليه (وقلت) انا إن كان الأجير عالما بما أمر بحمله فلا أجر له أيضا وإن لم يعلم بذلك فله
الاجر لمعنى الغرور واستئجار الذمي الدابة من المسلم أو السفينة لينقل عليها خمرا على الخلاف
الذي بينا وان استأجر ذمي ذميا لشئ من ذلك فهو جائز وكذلك لو استأجره يرعى له خنازير
لان الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم بمنزلة الشاة والبعير في حقنا وان استأجره ليبيع له
ميتة أو دما لم يجز لان هذا ليس بمال في حق أحد فحكمهم فيها كحكم المسلمين ولا بأس بان
يؤاجر المسلم دارا من الذمي ليسكنها فان شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو دخل فيها
الخنازير لم يلحق المسلم اثم في شئ من ذلك لأنه لم يؤاجرها لذلك والمعصية في فعل المستأجر
وفعله دون قصد رب الدار فلا إثم على رب الدار في ذلك كمن باع غلاما ممن يقصد الفاحشة
به أو باع جارية ممن لا يشتريها أو يأتيها في غير المأتي لم يلحق البائع اثم في شئ من هذه الأفعال
التي يأتي بها المشتري وكذلك لو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو باع فيها الخمر بعد أن يكون
ذلك في السواد ويمنعون من احداث ذلك في الأمصار وقد بينا ذلك الكلام في هذا الفصل
فيما سبق واستدل بحديث ثوبة بن نمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا اخصاء
ولا كنيسة في الاسلام ولحديث مكحول أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه صالحهم بالشام
على أن يحصل عن كنائسهم القديمة وعلى أن لا يحدثوا كنيسة في مصر من أمصار المسلمين
وان استأجر المسلم من المسلم بيتا ليصلى فيه المكتوبة أو التروايح لم يجز ولا أجر له لما بينا أن
العقد إقامة الطاعة ثم يحق على كل مسلم دينا تمكين المسلم من موضع يصلى فيه عند الحاجة فلا
يجوز أن يأخذ على ذلك أجرا فلو استأجر رجلا ليقتل له رجلا أو يشجه أو يضربه ظالما
لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد إقامة الطاعة ثم يحق على كل لأنه استئجار على المعصية ولو
جاز العقد لصار إقامة العمل مستحقا عليه وفعل ما هو ظلم لا يكون مستحقا على أحد شرعا ولو
أعطاه سلاحا لذلك فضاع أو انكسر لم يضمن لأنه قبضه باذن صاحبه ولو أن قاضيا استأجر
رجلا ليضرب حدا قد لزمه أو ليقبض من رجل أو ليقطع يد رجل أو ليقوم عليه في مجلس
القضاء شهرا بأجر معلوم فالإجارة جائزة وله الاجر لان المعقود عليه منافعه في المدة حتى
يستوجب الاجر بتسلم النفس وهو معلوم ثم يحكم أنه ملك منافعه ليستعمله في إقامة الحدود غير
39

ذلك وان استأجره لإقامة الحدود أو القصاص خاصة لم يجز ذلك لأنه مجهول في نفسه وان فعل
شيئا من ذلك كان له أجر مثله لأنه استوفى منافعه بعقد فاسد فان (قيل) إقامة الحد طاعة فكيف
يستوجب الاجر على اقامته عند فساد العقد قلنا) معنى الطاعة فيه غير مقصود ولهذا صح من
الكافر والمسلم كبناء المسجد ونحوه ولو استصحبه على أن يجعل له رزقا كل شهر فهو جائز
أما ان بين مقدار ما يعطيه فالعقد جائز لان المعقود عليه منافعه وهو معلوم وإن لم يبين مقدار
ذلك فهو في هذا كالقاضي وللقاضي أن يأخذ رزقا بقدر كفايته من بيت المال وكذلك من
ينوب عن القاضي في شئ من عمله وكذلك قسام القاضي إذا استأجره ليقسم كل شهر
بأجر مسمى فهو جائز وفي حديث علي رضي الله عنه فإنه كان له قاسم يقسم بالأجر ولأنه لم
يتعين إقامة هذا العمل على أحد دينا فيجوز الاستئجار عليه ولو قضى لرجل بالقصاص في قتل
فاستأجر رجلا يقتل له لم أجعل له أجرا وفي السير الكبير قال إذا استأجر رجلا يقتل مرتدا
أو حربيا أسيرا لم يجز عند أصحابنا رحمهم الله ولو استأجره ليقطع طريقا جاز وأما أنا فلا أفرق
بينهما وأجوز العقد فيهما ومراده بقوله عند أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فالحاصل
أن عند محمد يجوز الاستئجار على ذلك كله لأنه عمل معلوم بمحله وإقامته جائز شرعا فيجوز
الاستئجار عليه كذبح الشاة وقطع الطرق وكسر الحطب وما أشبه ذلك ولأبي حنيفة وأبى
يوسف رحمهما الله (حرفان) أشار إلى أحدهما في الكتاب فقال ما قيل إن هذا ليس بعمل
يعنى ان القتل ازهاق الروح وذلك ليس بصنع العباد كما أن ادخال الروح ليس من صنع العباد
ولا يتصور الاستئجار عليه فكذلك الازهاق بخلاف الذبح فهو عبارة عن تسيل الدم النجس
ليتميز به الطاهر من النجس وذلك بقطع الحلقوم والأوداج وهو من صنع العباد والقطع
كذلك فإنه إبانة الجزء من الجملة وذلك يحصل بصنع العبد ولان القتل ايقاع الفعل في المحل
مع التجافي ومثله منه ما يحل شرعا ومنه ما يحرم كالمثلة ولا يدري كيف يكون منه ايقاع الفعل
والمقصود يتم بضربة أو بضربتين فللجهالة والتردد بين الحل والحرمة لم يجز الاستئجار عليه
بخلاف القطع والذبح فإنه يكون بامرار السلاح على المحل لا بصفة التجافي عنه وكسر الحطب
بايقاع الفعل على المحل بالتجافي ولكن الكل فيه سواء في صفة الحل شرعا فلهذا جاز الاستئجار
عليه ولو استأجر رجلا يغزو عنه لم يجز ذلك لان الغزو طاعة فهو سنام الدين ولما حضر
القتال افترض عليه الذب عن المسلمين وقتال المشركين فلا يجوز له أخذ الأجر على إقامة
40

ما هو فرض عليه قال صلى الله عليه وسلم مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون على ذلك
أجرا كمثل أم موسى عليه السلام كانت ترضع ولدها وتأخذ الاجر من فرعون ولو شارط
كحالا أن يكحل عينه شهرا بدرهم جاز ذلك وكذلك الدواء في كل داء لأنه عمل معلوم
عند أهل الصنعة والاستئجار عليه متعارف بين الناس وإذا استأجر فحلا لينزيه لم يجز للأثر
الذي جاء به النهى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيس ولان المقصود الماء ولا قيمة
له وصاحب الفحل يلتزم ايفاء مالا يقدر على تسليمه ولا تجوز الإجارة على تعليم الغناء والنوح
لان ذلك معصية وان سلم غلاما إلى معلم ليعلمه عملا وشرط عليه أن يحذقه فهذا فاسد لان
التحذيق مجهول إذ ليس لذلك غاية معلومة وهذه جهالة تفضى إلى المنازعة بينهما وكذلك لو
شرط في ذلك أشهرا مسماة لأنه يلتزم ايفاء مالا يقدر عليه فالتحذيق ليس في وسع المعلم بل
ذلك باعتبار شئ في خلقة المتعلم ثم فيما سمى من المدة لا يدري انه هل يقدر على أن يحذقه كما
شرط أم لا والتزام تسليم مالا يقدر عليه بعقد المعاوضة لا يجوز ولو أجر أرضه بدراهم وشرط
خراجها على المستأجر فهذا فاسد لان الخراج مجهول لا يعرف من أصحابنا رحمهم الله من يقول
مراده في الأراضي الصلحية فالمال في ذلك يقسم على الجماجم والأراضي فتزداد حصة الأراضي
إذا قلت الجماجم وتنقص بكثرة الجماجم فاما في جراح الوظيفة لا جهالة في المقدار وقيل إن مراده
من هذا ان ولاة الظلمة ألحقوا بالخراج روادف يزداد ذلك تارة وينتقص أخرى فيكون
مجهولا وقيل معناه ان الخراج بحسب الطاقة وريع الأرض كما أشار إليه عمر رضي الله عنه في
قوله لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق وكذلك أو أعطاه بغير اجر الا ان يشترط عليه أن
يؤدى خراجها فان الخراج على صاحب الأرض فإذا شرطه على المزارع يكون ذلك أجرة
وجهالة الإجارة تفسد الإجارة وهذا لان الواجب في كل جريب درهم وقفيز مما يخرجه
وذلك مجهول الجنس في الصفة ولو أجرها وشرط العشر على المستأجر فالعقد فاسد عند أبي حنيفة
رحمه الله لان العشر عنده على المؤاجر فإذا شرطه على المستأجر كأن أجره وهو
مجهول الجنس والقدر وعندهما العشر على المستأجر فلا يصير اشتراط ذلك عليه وخراج
المقاسمة نظير العشر فيما ذكرنا وإذا كان الاجر كذا درهما ودينارا أو فلسا فهو جائز وله نقد
البلد ووزنهم فإن كان وزنهم مختلفا فهو فاسد حتى يبين الوزن بمنزلة الثمن في البيع وقد بيناه
وان جعل الاجر دراهم مسماة عددا بغير وزن وبغير عينها فهو فاسد ومراده في الدراهم
41

الموزونة فإنها تتفاوت في الوزن فأما ما يعد ولا يوزن كالعطريفي فإذا سمى العدد فيه جاز كما في
الفلوس وان أشار إلى دراهم بعينها جازت الإجارة وإن لم تكن معلومة القدر كالثمن في البيع
بخلاف السلم عند أبي حنيفة رحمه الله وقد بينا الفرق في البيوع فان قال مائة درهم عددا مما
يدخل في المائة خمسة كان جائزا لأنه قد سمى الوزن بما ذكر معناه فيما يزن خمسة وتسعين
درهما فكأنه قال مائة الا خمسة. ولو استأجر رجلا يكتب له مصحفا أو فقها معلوما كان جائزا
لان الكتابة عمل معلوم وهو يتحقق من المسلم والكافر ثم الاستئجار عليه متعارف وقيل
الاستئجار على الكتابة كالاستئجار على الصياغة لان بعمله يحدث لون الحبر في البياض أو
كالاستئجار على النقش وذلك جائز إذا كان معلوما عند أهل الصنعة (قال) الشيخ الامام
رحمه الله الأصح عندي أن المقصود هنا يحصل بعمل الأجير وهي الكتابة بخلاف التعليم
فالمقصود هناك لا يجعل الا بمعنى في المتعلم وايجاد ذلك ليس في وسع المعلم بينهما ولو استأجر
رجلا يعمل عملا فلا أجر له في ذلك بخلاف ما لو استأجر نصيبه من دار بينهما وقد بينا هذا
ولو استأجر الوصي نفسه أو عبده يعمل لليتيم لم يجز أما عند محمد رحمه الله فلان الوصي لا
ينفر بالعقد لليتيم مع نفسه بحال كما في البيع وعند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لا يجوز
ذلك الا بمنفعة ظاهرة ولا منفعة هنا لان من جهة الوصي مما ليس بمتقوم لنفسه ويشترط على
اليتيم بمقابلته مالا متقوما فهذا لا يجوز ولم يذكر أنه لو استأجر اليتيم أو عبد اليتيم بمال نفسه
ليعمل له هل يجوز أم لا قالوا وينبغي أن يجوز ذلك عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لما
فيه من المنفعة الظاهرة لليتيم فإنه يدخل في ملكه مالا بإزاء ما ليس بمال والأب يستأجر نفسه
أو عبده لعمل يعمله لولده فيجوز ذلك ويستوجب الاجر لان شفقة الأبوة تمنعه من ترك النظر
له فيجوز عقده مع نفسه من غير اشتراط منفعة ظاهرة لولده فيه ولو استأجر الوصي من نفسه
عبدا لليتيم ليعمل ليتيم آخر في حجرة وهو وصيهما فهذا لا يجوز لأنه ان نفع أحدهما أضر
بالآخر وهو لا ينفرد بالتصرف الا بمنفعة ظاهرة ولا يجوز للصبي أن يؤاجر نفسه لأنه عقد
معاوضة كالبيع فلا يملكه المحجوز عليه وإنما ذلك إلى وليه وله الاجر ان عمل استحسانا وفي
القياس لا أجر له لأن العقد باطل ووجوب الاجر باعتباره فإذا بطل لم يجب الاجر وفي
الاستحسان يجب الاجر لان هذا العقد منه تمحض منفعة بعد إقامة العمل فانا لو اعتبرنا العقد
استوجب الاجر ولو لم يعتبره لم يجب له الاجر والصبي لا يكون محجورا عما يتمحض منفعة له
42

كقبول الهبة والصدقة وكذلك العبد المحجور عليه لا يؤاجر نفسه فان فعل وسلم من العمل
وجب له الاجر استحسانا لما قلنا فان مات من العمل تقرر الضمان على المستأجر لأنه غاصب
له ثم الاجر له لأنه ملكه بالضمان من حين وجب عليه الضمان بخلاف الصبي الحر فإنه وان
هلك في العمل فله الاجر بقدر ما أقام من العمل لان الحر لا يملك بالضمان وإذا أخذ العبد الاجر
فهو لمولاه لأنه كسب عبده فان أخذه الغاصب من يده فاستهلكه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة
رحمه الله لان اتلاف بدل منفعة كاتلاف منافعه وقد بينا هذا في الغصب. وإذا استأجر
نهرا يابسا ليجري فيه الماء بأرضه أو إلى رحا ماء فهذا فاسد لان موضع النهر لا يصلح للسكنى
واجراء الماء فيه ليس في وسعه ومقدار ما يجرى من الماء مجهول والضرر يختلف بقلته وكثرته
وكذلك لو استأجر بالوعة ليصب فيها وضوءه وبوله أو مسيل ماء ليسيل فيه ماء ميزابه فهذا
مجهول والضرر يختلف بقلته وكثرته وكذلك لو استأجر بئرا ليسقى منها غنمه وان أراد
الحيلة في ذلك فالوجه أن يؤاجره من حريم النهر والبئر موضعا معلوما ليكون عطنا لمواشيه
ويبيح له سقى المواشي من البئر وكذلك إجارة المرعى لا تجوز والحيلة فيه أن يؤاجره موضعا
معلوما ليضرب فيه خيمة فيسكن ويبيح له الانتفاع بالمرعى ولو أجره بكرة وحبلا ودلوا
يسقى بها غنمه فهو فاسد للجهالة إلا أن يسمى وقتا فيجوز لأن العقد يرد على منفعة العين في
المدة فان استأجر من رجل موضع جزع يضعه على حائطه لم يجز عندنا وجاز عند الشافعي رحمه
الله لأنه موضع استأجره لمنفعة معلومة ولو استعاره ذلك جاز فكذلك إذا استأجره ولكنا
أفسدناه للجهالة لان الضرر يتفاوت بثقل الجذع وخفته وكثرة ما يبنى وقلته وكذلك
لو استأجر حائطا ليبنى عليه سترة فهو فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله للجهالة وقد يفضى
إلى المنازعة وان استأجر طريقا في دار ليمر فيه كل شهر باجر مسمى فهو فاسد وفي قول
أبي حنيفة رحمه الله لجهالة الموضع الذي يتطرق فيه وللشيوع فان عنده استئجار جزء من
الدار شائعا لا يجوز فكذلك الطريق وعندهما استئجار جزء شائع صحيح فكذلك الطريق
وهو معلوم بالعرف على وجه لا يكون فيه منازعة ولو استأجر علو منزل ليبنى عليه لم يجز في
قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قولهما لان مقدار بناء العلو معلوم بالعرف وسطح السفل
حق صاحب السفل كالأرض ولو استأجر أرضا ليبنى عليه بيتا جاز فكذلك إذا استأجر سطح
السفل ليبنى عليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا استئجار الهواء والهواء ليس بمملوك لاحد
43

ثم مقدار ما يبنى مجهول والضرر على حيطان السفل يتفاوت بقلة ذلك وكثرته وربما تفضى هذه
الجهالة إلى المنازعة بخلاف الأرض فالضرر على الأرض لا يختلف بخفة البناء وثقله ولو
استأجر موضع كوة ينقبها في حائط له يدخل عليه منها الضوء لم يجز لان هذا ليس من إجارات
الناس ولان المقصود الانتفاع بما ليس من ملك المؤاجر وهو ضوء الشمس فكذلك لو استأجر
موضعا ليتدفي حائط يعلق عليه شيئا فإنه لا يجوز من قبل أنه ليس معه أرض وبهذا اللفظ يستدل
من لا يجوز من أصحابنا رحمهم الله استئجار البناء بدون الأرض ففي تأمله تنصيص على هذا ثم
الضرر على الحائط يختلف بخفة ما يعلقه على الوتد أو بثقله فهو مجهول على وجه لا يمكن اعلامه
وكذلك لو استأجر موضع ميزاب في حائط لان الضرر على الحائط يتفاوت بقلة الماء الذي
يسيل في الميزاب وكثرته فاما إذا استأجر ميزابا مدة معلومة لينصبه في حائط يسيل فيه ماؤه
فهذا جائز لأنه عين منتفع به استأجره لمنفعة معلومة وإذا استأجر رجلا ليعمل له عمل اليوم إلى
الليل بدرهم خياطة أو صباغة أو خبزا أو غير ذلك فالإجارة فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله
وفي قولهما يجوز استحسانا ويكون العقد على العمل دون اليوم حتى إذا فرغ منه نصف النهار
فله الاجر كاملا وإن لم يفرغ في اليوم فله أن يعمله في الغد لان المقصود العمل وهو معلوم مسمى
وذكر الوقت للاستعجال لا لتعليق العقد به فكأنه استأجره للعمل على أن يفرغ منه في أسرع
أوقات الامكان وهذا لان المستأجر إنما يلتزم البدل بمقابلة ما هو مقصود له وذلك العمل
دون المدة وأبو حنيفة رحمه الله يقول جمع في العقدتين تسمية العمل والمدة وحكمهما مخلف
فموجب تسمية المدة استحقاق منافعه في جميع المدة بالعقد وموجب تسمية العمل أن يكون
المعقود عليه الوصف الذي يحدثه في المعمول لا منافعه ويتعذر الجمع بينهما اعتبارا وليس أحدهما
بالاعتبار بأولى من الآخر فيفسد العقد بجهالة المعقود عليه وقد تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة
فإنه إذا فرغ من العمل قبل مضى اليوم فللمستأجر أن يقول منافعك في بقية اليوم حقي باعتبار
تسمية الوقت وأنا استعملك وإذا لم يفرغ من العمل في اليوم فللأجير أن يقول عند مضي
اليوم قد انتهى العقد بانتهاء المدة وإن كان العمل مقصود المستأجر فالمدة مقصود الأجير
فليس البناء على مقصود أحدهما بأولى من البناء على مقصود الاخر ولان الأجير يلتزم مالا
قدر عليه هو إقامة جميع العمل المسمى في الوقت المسمى وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما
الله أنه لو استأجره ليخيط له هذا القميص لا يجوز ولو قال في اليوم يجوز لان بحرف في
44

يظهر أن مراده من ذكر المدة الاستعجال لا تسمية المقدار المعقود عليه من المنفعة وحرف
في للظرف والمظروف وقد يشغل جزءا من الظرف لا جميعه وعلى هذا الخلاف لو استأجر دابة
من الكوفة إلى بغداد ثلاثة أيام بأجر مسمى فذكر المدة والمسافة والعمل وكذلك لو استأجره
ينقل له طعاما معلوما من موضع من اليوم إلى الليل فهو على الخلاف الذي بينا وان
استأجر عبدا شهرا بأجر مسمى على أنه ان مرض فعليه أن يعمل بقدر الأيام التي مرض فيها
من الشهر الداخل فهذا فاسد لجهالة مدة الإجارة فلا يدري في أي مقدار من الشهر يمرض
ليدخل في العقد بقدر ذلك من الشهر الداخل ثم هذا الشهر يخالف مقتضي العقد لان
مقتضى العقد انتهاؤه بمضي المدة تمكن من استيفاء المعقود عليه أو لم يتمكن وهذا الشرط
يخالف ذلك وان استأجر بيتا شهرا بعشرة دراهم على أنه ان سكنه يوما ثم خرج عليه
عشرة دراهم فهذا فاسد لان هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد لان مقتضى العقد انه متى خرج
بعذر لا يلزمه الاجر ثم مقدار أجر منفعة البيت في اليوم الأول مجهول أنه ثلاثة دراهم أو
عشرة دراهم وكذلك أن استأجر دابة بعشرة دراهم إلى بغداد على أنه ان بلغ قرية كذا ثم بدا
له أن يرجع فله الاجر كاملا فهذا فاسد لجهالة مقدار الاجر إلى الموضع الذي سمى ولان
الشرط يخالف مقتضى العقد وان استأجر دابة ليحمل عليها حمل كذا بأجر معلوم إلى موضع
كذا على أنه ان حمل عليها كذا من الحمل فحمل غير ذلك إلى ذلك المكان ولم يحمل الأول
فاجرها كذا فهو فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وهو قول أبى يوسف ومحمد
رحمهما الله وهو جائز في قوله الاخر على ما شرطا وكذلك لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة
بخمسين درهما وان زرعها سمسما فاجرها مائة درهم فهو على هذا الخلاف. وكذلك أن
استأجر بيتا على أنه ان أسكنه بزازا فاجره خمسة وان أسكنه قصارا فاجره عشرة وجه قوله الأول
أن المعقود عليه مجهول والبدل بمقابلته مجهول فالضرر يختلف بسكن القصار والبزاز وهما عقدان
في عقد ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعين في بيع أرأيت لو سلم إليه البيت فلم
يسكنه أصلا حتى مضت المدة فماذا يوجب عليه خمسة أو عشرة ووجه قوله الآخران كل
نوع من المنفعة معلوم بالتسمية والبدل بمقابلته معلوم فيصح العقد وهذا لان الاجر لا يجب
بنفس العقد وإنما يجب باستيفاء المنفعة وعند ذلك لا جهالة في المعقود عليه ولا في البدل فاما
إذا لم يسكنها فقال بعض مشايخنا رحمهم الله ينبغي على قياس قوله الاخر أن يلزمه نصف
45

كل واحد من التسميتين لان وجوب الاجر التمكن من الاستيفاء هنا وقد تمكن من
استيفاء المنفعتين جميعا وليس أحد البدلين بالايجاب عليه بأولى من الآخر فيلزمه نصف كل
واحد منهما والأصح أنه لا يلزمه الا خمسة لان أصل البدل بمقابلة منفعة البيت خمسة ثم التزم
زيادة البدل بزيادة الضرر إذا سكنه قصارا لان ذلك يوهن البناء فإذا لم يسكنها أحدا فقد
انعدم ذلك الضرر (ألا ترى) أنه لو أسكن بزازا لا يلزمه الا خمسة وقد كان متمكنا من أن
يسكنه قصارا فإذا لم يسكنه أصلا أولى أن لا يلزمه الا خمسة فرجل استأجر دارا سنة بمائة
درهم على أن لا يسكنها ولا ينزل فيها فالإجارة فاسدة لأنه نفى موجب العقد بالشرط وذلك
يضاد العقد وإن لم يسكنها فلا أجر عليه وفي هذا اللفظ تنصيص على أن الإجارة الفاسدة
بالتمكن من الاستيفاء لا يوجب الاجر ما لم يوجب الاستيفاء حقيقة كما في النكاح الفاسد
وإنما يتكلفون من الفرق بينهما غير معتمد وان سكنها فعليه بأجر مثلها لا ينقص مما سمى لأنه
إنما رضى بالمسمى بشرط أن لا يسكن فعند السكنى لا يكون راضيا به فيلزمه أجر مثلها بالغا
ما بلغت وان جعلت أجر الدار أن يؤذن لهم سنة أو يوما فالإجارة فاسدة وعليه أجر مثل
الدار ان سكنها لأنه استوفي منافعها بعقد فاسد فإنما سمى إذا كأن لا يصلح بدلا فهو في الحكم
كما لو أجرها ولم يسم الاجر ولا أجر له في الأذان والإمامة لان الإجارة لا تنعقد على هذا
العمل لا صحيحا ولا فاسدا ولأنه عامل لنفسه فلا يكون مسلما عمله إلى غيره. وان تكارى برذونا
ليتعرض عليه فان جاز فعليه عشرة دراهم وإن لم يجز فعليه خمسة فالإجارة فاسدة ومعنى المسألة
أن المستأجر من أصحاب الديوان اسمه في ديوان الفرسان وقد يفق فرسه فطلب السلطان العرض
فاستأجر الفرس على أنه إن لم يوقف على ضيعة فالاجر عشرة وان وقف على ذلك فالاجر
خمسة فهذا فاسد لجهالة الاجر فلا يدرى الجواز ولا يجوز وعليه أجر مثلها فيما استوفى من
المنفعة ولا ضمان عليه أن يفق في ركوبه أو أخذه السلطان لان المقبوض بحكم إجارة فاسدة
في حكم الضمان كالمقبوض بحكم إجارة صحيحة وان تكارى بغلا على أنه كلما ركب الأمير ركب
معه فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه وعليه من كل ركبة أجر مثله لان أجر المثل بعقد
فاسد بقدر المستوفى من المنفعة وان تكاري دابة إلى بغداد على أنه ان رزقه الله تعالى من
بغداد شيئا أو من فلان شيئا أعطاه نصف ذلك فهذا فاسد لجهالة الاجر والغرر المتمكن بسبب
الشرط في أصل الاجر وعليه أجر مثلها فيما يركب وان تكاراها إلى بغداد على أنها ان بلغته
46

إلى بغداد فله أجر عشرة دراهم وإلا فلا شئ له فالإجارة فاسدة وعليه أجر مثلها بقدر ما سار عليها
لمعنى المخاطرة والضمان وقد تقدم نظيره في مسألة الخياطة والله أعلم بالصواب
(باب إجارة حفر الآبار والقبور)
(قال رحمه الله وإذا استأجر حفارا ليحفر له بئرا في داره ولم يسم له موضعا ولم يصفها
فهو فاسد) لجهالة المعقود عليه فعمل الحفر يختلف باختلاف الموضع في الصلابة والرخاوة
والسهولة والصعوبة ويختلف باختلافه البئر في العرض والعمق ولو سمى عشرة أذرع في الأرض
ومما يدير هكذا ذراعا بأجر مسمى جاز لان العمل صار معلوما بتسمية الذرعان عند أهل
الصنعة والموضع معلوم بتسمية داره فان حفر ثلاثة أذرع ثم وجد جبلا أشد عملا وأشد مؤنة
فأراد ترك ذلك فليس له ترك ذلك ويجبر على الحفر إذا كان يطاق لأنه ان التزم العمل مع
عمله على أن أطباق الأرض تختلف فليس في ابقاء العقد عليه ضرر فوق ما التزم بالعقد فلا يكون
ذلك عذرا له في الفسخ وفي الكتاب (قال) إذا كان يطاق وما من موضع الا ويطاق فيه حفرا
ولكن مراده من هذا اللفظ إذا كان يطاق حفرا بآلة الحفارين ولا يحتاج الأجير إلى اتخاذ
آلة أخرى لذلك لأنه إنما التزم إقامة العمل بآلة الحفارين فإذا كان يحتاج إلى اتخاذ آلة أخرى
لذلك فهذا ضرر لم يلتزمه بالعقد فيكون عذرا له في الفسخ وان شرط عليه أن كل ذراع في
سهل أو طين بدرهم وكل ذراع في جبل أو ماء بدرهمين وسمى طول البئر خمسة عشر ذراعا فهو
جائز لأنه ذكر نوعين من العمل وسمى بمقابلة كل واحد منهما بدلا معلوما ولا يبقى بعد
ذلك للتسمية جهالة تفضى إلى المنازعة لان وجوب الاجر عند الحفر وعند ذلك ما يلزمه
من الاجر معلوم القدر. ولو استأجره ليحفر له بئرا عشرة أذرع في جبل مروة فحفر ذراعا
ثم استقبل جبلا صما صفا فإن كان يطاق حفره فهو عليه والمروة اللين من الحجر الذي يضرب
إلى الخضرة والصفاة ما يضرب إلى الحمرة وقد بينا أنه التزم الحفر بآلة الحفارين فإذا كان بحيث
يطاق الحفرة بتلك الآلة فلا عذر له في الترك وان كأن لا يطاق فله أن لا يترك الإجارة وله
من الاجر بحساب ما حفر وكذلك النهر والقناة والسرداب والبالوعة إذا ظهر الماء فيه قبل أن
يبلغ ما شرط عليه فإن كأن لا يستطاع الحفر معه فهذا عذر لان في ايفاء العقد يلحقه الضرر لم
يلتزمه بالعقد. ولو استأجره ليحفر له بئر في داره فحفرها ثم انهارت قبل أن يفرغ منها فله من
47

الاجر بحساب ما حفر لأنه يقيم العمل في ملك المستأجر فيصير عمله مسلما إليه بقدر ما يفرغ
منه ويتقرر حقه في الاجر فلا يسقط حقه بالتلف بعد ما يخرج من ضمانه ولو كانت بئر ماء
فشرط عليه مع حفرها طيها بالآجر والجص ففعل وفرغ منها ثم انهارت فله الاجر كاملا
وان انهارت قبل أن يطويها بالأجر فله الاجر بحساب ذلك لان بنفس العمل يجب له
الاجر ويصير العمل مسلما إلى صاحبه فيطالبه بالأجر بحساب ما أقام من العمل ولو استأجره
ليحفرها في الجبانة في غير ملكه ولا في فنائه فحفرها فانهارت فلا أجر له حتى يسلمها إلى صاحبها
بمنزلة العامل من الخياط والقصار في بيت نفسه وهذا لان عمله ما اتصل بملك المستأجر ليصير
المستأجر بذلك قابضا ولابد لدخول العمل في ضمانه من أن يثبت يده عليه وذلك لا يكون
إلا بالتسليم إليه وفي هذا اللفظ دليل على أن الفناء حق المرء ولكنه غير مملوك له (ألا ترى)
أنه قال في غير ملكه ولا في فنائه والفناء في يده لكونه أحق بالانتفاع به فإذا كان الحرف فيه
يصير العمل مسلما إليه بمنزلة الحفر في ملكه. وكذلك لو استأجره ليحفر له قبرا ثم دفن فيه انسان
قبل أن يأتي المستأجر بجنازته لم يكن على المستأجر أجر لأنه حفر القبر في غير ملك المستأجر
فما لم يسلم إليه لا يتقرر حقه في الاجر وان جاء المستأجر فحال الأجير بينه وبين القبر فأنهار
بعد ذلك أو دفنوا فيه أنسانا آخر فله الاجر كاملا لأنه قد سلم المعقود عليه إلى صاحبه وان
دفن فيه المستأجر ميتة ثم قال للأجير أحث التراب عليه فأبى الأجير في القياس لا يلزمه ذلك
لأنه التزم عمل الحفر وحثى التراب كنس وليس بحفر وهو ضد ما التزمه بعقد الإجارة
ولكني انظر إلى ما يضع أهل ملك البلاد فإن كان الأجير هو الذي يحثى التراب خيرته في ذلك
وذلك يعمل بالكوفة وإن كان الأجير لم يفعل ذلك في تلك البلدة لم أجبره عليه وهذا لان بمطلق
العقد يستحق ما هو المتعارف والمعروف في كل موضع يجعل كالمشروط. وان أراد أهل المبيت
أن يكون الأجير هو الذي يضع الميت في لحده وهو ينصب اللبن عليه لم يجبر الأجير على ذلك
لان هذا غير متعارف بل العرف ان أقرباء الميت وأصدقاءهم الذين يضعونه في لحده وترك ذلك
إلى الأجير يعد من الاستخفاف به فان وصف له موضع يحفر فيه فوافق فيه جبلا هو أشد
من وجه الأرض فحفره لم يزد على أجره لأنه قد التزم عمل الحفر مع عمله باختلاف أطباق
الأرض في الصلابة والرخاوة وان استأجره بالكوفة يحفر قبرا ولم يسم له في أي المقابر يحفر
فالعقد فاسد في القياس للجهالة التي تفضى إلى المنازعة ولكن أستحسن إذا حفر في الناحية
48

التي يدفن فيها أهل ذلك الموضع أجعل له الاجر وهذا بنماء على عادة أهل الكوفة فان لكل
درب فيهم مقبرة على حدة لأهلها فأما في ديارنا فلو انتقل من محلة إلى محلة فلا بد من
تسمية المقبرة بناء على عرف ديارنا وان سمى له موضعا معلوما فحفر في موضع آخر فلا أجر له
إلا أن يدفنوا في حفرته فان فعلوا ذلك فله الاجر حينئذ وكذلك أن أمروه بحفر القبر ولم
يسموا موضعا فحفر في غير مقبرة أهل تلك البلدة أو تلك الناحية فلا أجر له إلا أن يدفنوا
في حفرته فحينئذ يستوجب الاجر لوجود الرضاء منهم بعمله حين دفنوا المية فيه وان أرادوا
منه تطيين القبر أو تجصيصه فليس ذلك عليه لأنه التزم عمل الحفر والتجصيص ليس من ذلك
في شئ وفي العادة الذي يطين القبر غير الذي يحفره وان استأجروه ليحفر لهم القبر ولم يسموا
له طوله ولا عرضه ولا عمقه في الأرض فهو فاسد في القياس لان القبور تختلف في الطول
والعرف والعمق والعمل بحسبه يتفاوت ولكني أستحسن فأجبره فاقدره بوسط ما يعمل
الناس لان ذلك معلوم بالعرف فهو كالشروط بالنص وبمطلق العقد يستحق الوسط في
المعاوضات فإنه فوق الوكس ودون الشطط وخير الأمور أوسطها وان وصفوا له موضعا فوجد
وجه الأرض لينا فلما حفر ذراعا وجد جبلا أجبره على أن يحفر إن كان مما يحفر الناس
لأنه التزمه بمطلق العقد وإن لم يسموا له لحدا ولا شقا فهو على عادة أهل تلك الناحية فإن كان
بالكوفة فعظم عملهم على اللحد وإن كان في بلد عظم عملهم على الشق فهو على الشق لان
بمطلق العقد يستحق المتعارف والمتعارف ما عليه عظم العمل ولو استأجره ليكرى له نهرا أو
قناة فأراد مفتحها ومصبها وعرضها وسمى له كم يمكن في الأرض فهو جائز وان اشترط طيها
بالأجر والجص من عند الأجير فهو فاسد لأنه مشترى للأجر والجص فهذا بيع شرط في
الإجارة وذلك مفسد للعقد وان شرط الاجر والجص من عند المستأجر ولم يسم عدد الاجر
فهو في القياس فاسد لجهالة ما شرط عليه من العمل وذلك يتفاوت بتفاوت الآجر وفي
الاستحسان هو جائز على ما يعمل الناس لان عدد ما يحتاج الناس إليه لذلك العمل من
الآجر معلوم عند أهل الصنعة فيكون كالمشروط وان سمى عدد الآجر وكيل الجص
وعرض الطي وطوله في السماء فهو أوثق لأنه عن المنازعة أبعد وان استأجر قوما يحفرون
له سردابا لم يجز حتى يسمى طوله وعرضه وقعره في الأرض فالمعقود عليه لا يصير معلوما الا
بذلك وبعد الاعلام إذا عمل بعضهم أكثر من غيره فالاجر بينهم على عدد الرؤوس لان
49

استحقاق الاجر يقبل العمل وقد استووا في ذلك ولأنه اشتركوا مع عملهم أنه لا بد من
تفاوت في عملهم فكان ذلك رضاء منهم بترك اعتبار ذلك التفاوت وإن لم يعمل واحد منهم
لمرض أو عذر فإن كان بينهم شركة في الأصل فله الاجر معهم بعقد الشركة بينهم وإن لم يكن
بينهم شركة فلا أجر له لان استحقاق الاجر بالعمل لا يستحقه من لم يعمل سواء ترك العمل
بعذر أو بغير عذر ويرفع عنهم من الاجر بحساب حصته ويكون عملهم في حصته تطوعا لان
كل واحد منهم يستحق الاجر عند العمل بالتسمية فإنما يستحق بقدر ما سمى له وان زاد
عمله على ما التزم بالعقد فهو متطوع في تلك الزيادة. رجل تكارى رجلا يحفر له بئرا عشرة
أذرع طولا في عرض معلوم بعشرة دراهم وزعم الحفار أنه شرط أن يحفرها خمسة أذرع
طولا ولم يعمل شيئا بعد فإنهما يتحالفان لاختلافهما في مقدرا المعقود عليه في حال قيام العقد
واحتماله للفسخ وإن كان قد حفر خمسة أذرع فالقول قول المستأجر مع يمينه ويعطيه من الاجر
بحساب ما قال لان الأجير يدعى عليه الزيادة وهو منكر ويحلف الأجير على دعوى المستأجر
لأنه يدعى عليه حفر خمسة أذرع أخري مما التزمه بالعقد وهو منكر فيحلف على ذلك
ويتشاركان فيما بقي ولو قال احفر لي في هذا المكان فحفر فانتهى إلى جبل لا يطاق أي لا يطاق
بآلة الحفارين فالأجير بالخيار لما يلحقه من الضرر فوق ما التزمه بالعقد والله أعلم بالصواب
(باب إجارة البناء)
(قال رحمه الله وإذا استأجر الرجل رجلا يبنى له حائطا بالجص والأجر وأعلمه طوله وعرضه
وعمقه وارتفاعه في السماء فهو جائز) لأنه عمل معلوم يستأجر عليه عرفا ويقدر الاجر على ايفائه
وان سمى كذا كذا ألف آجرة من هذا الاجر وكذا كذا من الجص ولم يسم الطول والعرض
فهو في القياس فاسد لجهالة المعقود عليه لان المعقود عليه العمل دون الاجر والجص والعمل
يختلف باختلاف صفة الحائط في الطول والعرض وفي أسفل الحائط يكون العمل أسهل وكل
ما يرتفع من وجه الأرض كان العمل أشق ولكنه استحسن (فقال) هذه الجهالة لا تفضي إلى
المنازعة وبنيان مقدار الأجرة والجص يصير الطول والعرض في الحائط الذي يبنى عليه معلوم
عند أهل الصنعة فلو سمى مع ذلك الطول والعرض كان أجود لأنه عن الجهالة أبعد وان
سمى كذا كذا آجرا ولبنا ولم يسم الملبن ولم يره إياه فهو فاسد في القياس للجهالة ولكنه
50

استحسن فقال إن كان ملبن ذلك البلد الاجر واللبن واحد معلوم فالمعلوم بالعرف كالمشروط
بالنص وإن كان مختلف فحينئذ يفسد العقد إذا لم يبين فهو قياس النقد في ذلك وإذا استأجر
بناء ليبنى له دارا الأساس والسراديب والسفل والعلو بالطاقات والأساطين والحيطان على
مثل ما يبنى بالكوفة كل ألف آجرة وأربعة أكرار جص بكذا فهو في القياس فاسد لان
الأساس والسفل أهون من العلو والطاقات أشد من الحائط المستطيل فكان المعقود عليه مجهولا
وربما تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة فالبناء عند العقد لا يعرف مراد صاحب البناء ولكنه استحسن
(فقال) صفة البناء معلوم بطريق الظاهر والانسان إنما يبنى داره على عادة أهل بلده وأهل
محلته وإن كان يتكلف التفاوت فهو يسير لا تجزئ المنازعة باعتبار العادة (قال) واجعل الزنابيل
والدلاء وآنية الماء على رب الدار للعرف ولان البناء التزم بالعقد العمل وهذه الأشياء ليس من
العمل في شئ فيكون على رب الدار كالاجر والجص ولا طعام على رب الدار في هذه الإجارة
لأنه بالعقد التزم الاجر والطعام وراء الاجر ولأنه غير معتاد في تقبل العمل وإنما هو معتاد
في استئجار العامل يوما بيوم وان اشترط رب الدار الزنبيل وآنية الماء على المستقبل فهو عليه
لأنه التزمه وقد استأجره للعمل بأداة نفسه وذلك جائز كاستئجار الخياط ليخيط بإبرة نفسه
وأما الماء فهو على رب الدار بمنزلة الاجر والجص ولكن على المستقبل أن يسقيه ان كانت في
الدار بئر أو كانت البئر قريبة من الدار باعتبار العرف ولكن المرء على المستقبل ولا فرق بين
المرء والزنبيل من حيث المعنى ولكن العرف معتبر فيها والى ذلك أشار بقوله لان عمل الناس
بالكوفة على ذلك وان تكارى رجلا يعمل له يوما إلى الليل فهو جائز فيعمل له من حين يصلى
الغداة إلى غروب الشمس لأنه تكاراه يوما وأول اليوم من طلوع الفجر الثاني الا ان ما قبل
الفراغ من الصلاة صار مستثنى ولأنه يشتغل بالصلاة قبل أن يأخذ في العمل وآخر اليوم
غروب الشمس بدليل امتداد الصوم إليه (قال) والعمال بالكوفة يعملون إلى العصر وليس لهم
ذلك إلا أن يشترطوه لان العرف لا يعارض النص وقد نص عند العقد على يوم ولا يكون
له أن يترك العمل قبل غروب الشمس إلا عن شرط ولو اشترط رب الدار على وضع الجذوع
والهوادي وكنس السطوح وتطيينها وسمى ذلك فهو جائز لأنه معلوم عند أهل الصنعة وان
استأجره ليبنى له باللبن فعلى البناء بل الطين ونقله إلى الحائط إلا أن يكون مكانا بعيدا فيكون
بالخيار إذا علم ذلك لأنه يلحقه زيادة ضرر لم يلتزمه بالعقد فإن كان أراه المكان فلا خيار له
51

لالتزامه ذلك القدر من الضرر وان استأجره ليبنى له حائطا بالرهص وشرط عليه الطول
والعرض والارتفاع فهو جائز لان العمل بما سمى يصير معلوما عند أهل الصنعة على وجه
لا يتفاوت والله أعلم بالصواب
(باب إجارة الرقيق في الخدمة وغيرها)
(قال رحمه الله وإذ استأجر عبدا للخدمة كل شهر باجر مسمى فهو جائز) لأنه عقد
متعارف وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يباشروا ذلك فهو عمل مباح معلوم في نفسه
فيجوز الاستئجار عليه وله أن يستخدمه من السحر إلا أن تنام الناس بعد العشاء الأخيرة
لان بمطلق التسمية يستحق ما هو المتعارف وابتداء الاستخدام من وقت السحر متعارف
فمن يبتكر يحتاج إلى أن يسرج الخادم ويهيأ أمر طهوره ويرفع فراش نومه ويبسط ثوب
تعبده وكذلك إلى ما بعد العشاء الأخيرة قد يجلسون ساعة خصوصا في زمن طول الليالي
ثم يحتاج إلى خادم يبسط فراش نومه ويطوى ثيابه ويطفئ السراج فلهذا كان له أن يستخدمه
إلى هذا الوقت وإنما يخدمه كما يفعل الناس فما يكون اعمال الخدمة معلوم عند الناس يطلبون
ذلك من المماليك والخدم ولا يكلفونهم فوق ذلك فكذلك في وسط الليل الاستخدام غير
متعارف ولا يكون له أن يكلفه ذلك ويكره له أن يستأجر امرأة حرة أو أمة يستخدمها ويخلو
بها لقوله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فان ثالثهما الشيطان ولأنه
لا يأمن من الفتنة على نفسه أو عليها إذا خلا بها ولكن هذا النهى لمعنى في غير العقد فلا يمنع صحة
الإجارة ووجوب الاجر إذا عمل كالنهي عن البيع وقت النداء وإذا استأجر العبد كل شهر
بكذا ففي قوله أبي حنيفة رحمه الله الأول يطالبه بالأجر شهرا فشهرا وفي قوله الاخر يوما بيوم
وقد بينا نظيره وان دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهر مسماة في تعليم النسخ على أن يعطيه
المولى كل شهر شيئا مسمى فهو جائز لأنها استأجره ليتعلم عنده وتعليم الاعمال معلوم عند أهل
الصنعة فيصح الاستئجار عليه عند بيان المدة وإن كان الأستاذ هو الذي شرط للمولى أن
يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز لأنه يستخدم الغلام ويستعمله في حوائجه
واستأجره مدة معلومة بما سمى من البدل وتعليم العمل وكل واحد منهما يصلح عوضا عند
الانفراد فكذلك عند الجمع بينهما وكذلك تعليم سائر الأعمال وتعليم الخط والهجاء والحساب
52

فان شرط عليه أن يحذقه في ذلك فهو غير جائز لان التحذيق ليس في وسع المعلم فالمحاذقة لمعنى
في المتعلم دون المعلم وان أراد أن يدفع عبده إلى عامل باجر مسمى سنة فأراد رب العبد أن
يستوثق من الأستاذ فإنه يؤاجر الشهر الأول بجميع الاجر الا درهما وباقي السنة بنفسه
حتى إذا أراد الأستاذ فسخ العقد بعد مضى الشهر لا يتضرر مولى العبد بذلك ويمتنع الأستاذ
من ذلك لما لحقه من زيادة الاجر (قال) وان أراد الأستاذ أن يستوثق جعل السنة كلها الا
الشهر الأخير بدرهم والشهر الأخير ببقية الاجر وهذا العقد جائز لأنهما عقدا عقدين كل
واحد منهما في مدة معلومة ببدل معلوم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يخالف الأجرين
فيجعل أحدهما دنانير والاخر دراهم فهذا أقر إلى التوثق وإنما قصدا بهذا التحرز عن جهل
بعض الحكام كيلا يجعلوا عقدا واحدا لاتصال المدة بعضها ببعض واتحاد جنس الاجر وإذا
دفع غلامه إلى عامل يعلمه عملا ولم يشترط واحد منهما على صاحبه أجرا أو دفعه على وجه
الإجارة فلما علمه العمل قال الأستاذ لي الاجر وقال رب العبد لي الاجر فانى أنظر إلى ما تصنع
أهل تلك البلاد في ذلك العمل فإن كان المولي هو الذي يعطى الاجر جعلت عليه أجر مثله للأستاذ
وإن كان الأستاذ هو الذي يعطى الاجر جعلت على الأستاذ أجر مثله للمولى لأن العقد
كان مطلقا بينهما فيجب حملة على المتعارف ولان الظاهر شاهد لمن يوافق العرف قوله والبناء
على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه (قال) رضي الله عنه كان شيخنا الامام رحمه الله يقول
العمل الذي يشترط للأستاذ فيه الاجر في ديارنا عمل المغازل فإنه يفسد الحسب حتى يتعلم
وكذلك الذي ينقب الجواهر وما أشبه ذلك من الاعمال الذي يفسد المتعلم بعض ما هو متقوم
حتى يتعلم فإذا كان بهذه الصفة فالاجر للأستاذ ولو لم يكن الاجر مسمى عند العقد فيصار إلى
أجر المثل فإذا استأجر الرجل غلاما في عمل مسمى كل شهر بكذا فالعقد لازم على كل شهر
واحد لأنه أضاف كلمة كل إلى مالا يعرف منتهاه فيتناول أدناه وكل شهر يستعمله فيه بعد ذلك
فله الاجر فإذا دخل من الشهر الثاني يوم واحد واستعمله فيه فقد لزمته الإجارة في ذلك لوجود
الرضى منهما دلالة وبعد لزوم العقد لا يكون له أن يخرجه الا من عذر وإذا أبق العبد من المستأجر
فله أن يفسخ الإجارة لتعذر استيفاء المعقود عليه فإن لم يفسخها حتى رجع العبد فالإجارة
لازمة له فيما بقي من المدة لزوال العذر وقد بينا أن الإجارة في حكم عقود متفرقة فيما يفسخ
العقد في بعض المدة لفوات المعقود عليه فذلك لا يمنع لزومه فيما بقي من المدة. وإذا استأجر
53

عبدا شهرين شهرا بخمسة وشهرا بستة فهو جائز لان كل واحد من العقدين يتناول مدة
معلومة ببدل معلوم ثم الشهر الأول يجب فيه من البدل ما ذكر أولا إن كان ذكر الخمسة أولا
ففي الشهر الأول يجب خمسة لأنه لو اقتصر على المذكور أولا يتعين له الشهر الأول فلا بد من
أن يصرف المذكور آخرا إلى الشهر الثاني وان استأجر ثلاثة أشهر شهرين بدرهم وشهرا
بخمسة فالشهران الأولان بدرهم لان الكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير
وإنما بدأ بتفسيره بالشهرين الأولين بدرهم وان استأجره للخدمة بالكوفة فليس له أن يسافر
به لان خدمة السفر أشق من خدمة الحضر فليس له أن يكلفه فوق ما التزم لان السفر شقة
من العذاب فليس له أن يكلفه بمطلق العقد فان (قيل) هو في ملك منافعه ينزل منزلة المولى
في منافع عبده وللمولى أن يسافر لعبده فلماذا لا يكون له أن يسافر بأجيره للخدمة (قلنا) إنما
يسافر المولى في منافعه بعبده لأنه يملك رقبته وهو لا يملك رقبة أجيره وإنما يملك منافعه بالعقد
والمسمى في العقد استخدامه في الكوفة فلا يكون له أن يجاوز ذلك (ألا ترى) انه يزوج
عبده لملكه رقبته ولا يدل ذلك أن له أن يزوج أجيره وان سافر به فهو ضامن لمولاه لأنه
صار غاصبا له بالاخراج والاستخدام لا على الوجه المستحق بالعقد ولا أجر عليه لان الاجر
والضمان لا يجتمعان ولان المعقود عليه منافع العبد بالكوفة ولا يتصور وجود ذلك بعد
اخراجه من الكوفة وان استأجره بالكوفة ليستخدمه كل شهر بأجر مسمى ولم يشترط
الخدمة بالكوفة فهو على الخدمة بالكوفة أيضا وليس له أن يسافر به لان مطلق العقد ينصرف
إلى المتعارف ولأنه بالعقد يستحق الاستخدام فقط والسفر به وراء الاستخدام وهو يلزم
مولاه مؤنة الرد فلا يكون ذلك إلا عن شرط فان سافر به بغير إذن مولاه فهو ضامن ولا
أجر عليه لما قلنا وليس له أن يضرب العبد فان ضربه بغير إذن صاحبه فعطب فهو ضامن
ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله ظاهر فقد بيناه في الدابة ان استأجرها انه لو ضربها فعطبت ضمن
عنده ففي العبد أولى وهما يفرقان فيقولان العبد مخاطب يؤمر وينهى فيفهم ذلك ولا يحتاج
إلى ضربه عند الاستخدام عادة فلا يصير مأذونا فيه بمطلق العقد بخلاف الدابة فإنها لا تفهم
الامر والنهى ولا تتفاوت في السير الا بالضرب فيكون له أن يضربها ضربا متعارفا وان دفع
الاجر عند غرة الشهر الأول إلى العبد فإن كان المولى هو الذي أجره لم يبرأ من الاجر لان
حقوق العقد في الإجارة تتعلق بالعاقد والعبد ليس بعاقد ولا مالك للأجر فالدفع إليه كالدفع
54

إلى أجنبي آخر وإن كان العبد هو الذي أجر نفسه فهو برئ من الاجر لأنه هو العاقد واليه
قبض البدل بحكم العقد وله أن يكلفه كل شئ من خدمة البيت ويأمره أن يغسل ثوبه وان
يخيط ويخبز ويعجن إذا كان يحسن ذلك ويعلق على دابته وينزل بمتاعه من ظهر بيت أو يرقى
به إليه ويحلب شاته ويستقى له من ماء البئر فهذا كله يعد من الخدمة وما يكون من الخدمة
معلوم عند الناس باعتبار العادة وفي اشتراط تسمية كل ذلك عند العقد حرج والحرج مدفوع
وليس له أن يقعده خياطا ولا في صناعة من الصناعات وإن كان حاذقا في ذلك لأنه استأجره
للخدمة وهذا العمل من التجارة ليس من الخدمة في شئ وليس على المستأجر إطعامه إلا أن
يتطوع بذلك أو يكون فيه عرفا ظاهرا فله أن يأمره بخدمة أضيافه لان ذلك من خدمته
فالانسان يستأجر الخادم لينوب عنه فيما هو من حوائجه وخدمة أضيافه من جملة حوائجه وله
أن يؤاجره من غيره للخدمة لان هذا مما لا يتفاوت الناس فيه عادة كسكنى الدار ونحوه ولان
العبد عاقل لا ينقاد إذا كلف فوق طاقته وبعد الطاقة لا فرق بين أن يستخدمه المستأجر الأول
والثاني. وان تزوج المستأجر امرأة فقال لها أخدميني وعيالي فله ذلك لان خدمة العيال من حوائجه
وإنما يستأجر الخادم في العادة لذلك وكذلك المرأة ان كانت هي المستأجرة فتزوجت فقالت
أخدمني وزوجي فلها ذلك لأنه من حوائجها وهو أظهر فخدمة الزوج عليها فإنما استأجرته لينوب
عنها فيما يحق عليها وان استأجرت امرأة رجلا ليخدمها فهو جائز وأكره أن يخلو بها حرا كان أو
عبدا لما فيه من خوف الفتنة وإذا استأجر الرجل امرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لم يجز
لان خدمة البيت مستحقة عليها دينا ومطلوب منها بالنكاح عرفا على ما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما زوج فاطمة من علي رضي الله عنهما جعل أمور داخل البيت عليها وأمور خارج
البيت عليه ولان الشرع ألزمه نفقتها لتقوم بخدمة بيته فلا تستحق مع ذلك أجرا آخر وان
سمى وان استأجرها لترضع ولدا له من غيرها أو لترعى دوابه أو تعمل عملا سوى خدمة
البيت فهو جائز لان هذا العمل غير مستحق عليها ولا مطلوب بالنكاح منها وان استأجرت
المرأة زوجها ليخدمها فهو جائز لان خدمتها غير مستحقة على الزوج وقال في كتاب الآثار
له أن يمتنع من الخدمة لأنه يلحقه مذلة بأن يخدم زوجته وذلك عذر في فسخ الإجارة كالحرة
إذا أجرت نفسها للظؤرة ولم تكن معروفة بذلك ولو خدمها كان له الاجر عليها وكذلك لو
استأجرته يرعى غنمها أو يقوم على عمل لها فإنه في ذلك كأجنبي آخر وان استأجر الرجل ابنه
55

ليخدمه في بيته لم يجز ولا أجر عليه لان خدمة الأب مستحق على الابن دينا وهو
مطالب به عرفا فلا يأخذ عليه أجرا ويعد من العقوق أن يأخذ الولد الاجر على خدمة أبيه
والعقوق حرام وكذلك أن استأجرته الأم لان خدمتها أوجب عليه فإنها أحوج إلى ذلك
وأشفق عليه وإن كان أحدهما استأجره ليرعيه غنما أو يعمل غير الخدمة جاز فان ذلك غير
مستحق عليه ولا هو مطلوب في العرف وان استأجر الابن أباه أو أمه أو جده أو جدته
لخدمته لم يجز لأنه منهى عن استخدام هؤلاء لما فيه من الاذلال فلا يجوز أن يصير ذلك مستحقا
له قبلهم بعقد الإجارة وكيف يستحق هو ولا يترك هو ليستخدم والده ولا الوالدة تخدمه
ولكن ان عمل شيئا من ذلك فله الاجر لان بعد الاستخدام لو لم يوجب عليه الاجر كان معنى
الاذلال فيه أكبر ولأنا لم نحكم بصحة العقد في الابتداء لكن لا تصير خدمته مستحقة عليه
وقد زال هذا المعنى حتى أقام العمل وإن كان الابن مكاتبا فاستأجره أبوه لخدمته وأبوه حر غنى
عن خدمته أو محتاج إليها فهو جائز لان المملوك لا يلزمه خدمة أحد من أقاربه سوى مولاه
فهو في ذلك كأجنبي آخر ولان خدمته لمولاه ولا سبب بين المولى وبين المستأجر والمكاتب
بمنزلة العبد مملوك حتى لا تلزمه نفقة أبيه الحر وإن كان محتاجا فكذلك لا تلزمه خدمته وإن كان
الأب عبدا والابن حرا فاستأجره من مولاه ليخدمه بطل ذلك ولم يجز لان الابن ممنوع من
اذلال أبيه وإن كان عبدا ولهذا يعتق عليه إذا ملكه وفي استخدامه اذلاله ولا يلحقه الذل
في أن يخدم ابنه وليس للمرء أن يذل نفسه فان عمل جعلت له الاجر لما قلنا فإن كان الأب
كافرا والابن مسلما أو الابن كافرا والأب مسلما فاستأجره لخدمته لم يجز لان خدمة الأب
مستحقة على الابن دينا مع اختلاف الدين (ألا ترى) أنه يلزمه نفقته فهو كاستئجار ابنه للخدمة
إذا كان موافقا له في الدين ويجوز الاستئجار للخدمة بين الاخوة وسائر الأقارب كما يجوز
بين الأجانب بخلاف الاستخدام بملك اليمين فان ذلك يثبت بطريق القهر من غير أن يرضى
به الخادم والقرابة القريبة تصان عن مثله فاما هذا عقد يعتمد المراضاة والاستخدام عن تراض
لا يكون سببا لقطيعة الرحم بينهما فأن استأجر الذمي أو المستأمن مسلما لخدمته حرا أو عبدا فهو
جائز ولكن يكره للمسلم خدمة الكافر لما فيه من معنى الذي وليس للمؤمن أن يذل نفسه
ولكن هذا النهى لمعنى وراء ما به يتم العقد وان استأجر المسلم ذميا أو مستأمنا لخدمته كان
جائزا ولكن لا ينبغي أن يستخدمه في أمور دينه من أمر الطهور ونحوه فربما لا يؤدي الأمانة
56

فيه قال الله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في الافساد
من دينكم والله أعلم بالصواب
(باب الاستئجار على ضرب اللبن وغيره)
(قال رحمه الله وإذا استأجر الرجل رجلا ليضرب له لبنا في داره فإن كان الملبن معلوما
فهو جائز) لان العمل يتفاوت بحسب الملبن فإذا كان مجهولا فهذه الجهالة تفضى إلى المنازعة
وبعدما كان معلوما فلا منازعة بينهما فان أسد لبنه المطر قبل أن يرفعه أو انكسر فلا أجر
عليه لأنه لا يصير العمل مسلما إلى المستأجر ما لم يصر لبنا فما دام على الأرض فهو طين لم يصر
لبنا بعد (ألا ترى) أنه لو ترك كذلك فسد وصار وجه الأرض فان أقامه فهو برئ منه
اللبان في قول أبي حنيفة رحمه الله وله الاجر وان فسد بعد ذلك وعندهما لا حتى يجف فإذا
جف وأشرح فحينئذ له الاجر ومذهبهما استحسان اعتبرا فيه العرف واللبان هو الذي
يتكلف لذلك في العادة ومثل هذا يصير مستحقا بمطلق العقد كاخراج الخبز من التنور
وغرف القدور في القصاع يكون مستحقا على الطباخ عند الاستئجار في الوليمة وأبو حنيفة
رحمه الله أخذ بالقياس فقال المستحق عليه يصير الطين لبنا وقد فعل فإنه لما أقام من وجه
الأرض عرفنا أنه صار لبنا وخرج من أن يكون طينا فالطين ينتشر على وجه الأرض ولان
الإقامة لتسوية أطرافه وذلك من عمل اللبان فاما بعد ذلك الجفاف ليس من عمل اللبان
والتشريح كذلك فإنه جمع اللبن وليس بعمل ليخدمه في العين فهو كالنقل إلى موضع البناء وذلك
لا يستحق على اللبان * توضيحه أن المستأجر قد ينقل اللبن إلى موضع العمل قبل أن يشرحه فلم
يكن التشريح من المقاصد لا محالة بخلاف الإقامة فإنه لا ينقله إلى موضع العمل قبل الإقامة
فصار ذلك مستحقا له على اللبان لما عرف من مقصود المستأجر وهذا كله إذا كان يقيم العمل
في ملك المستأجر فاما في غير ملكه ما لم يشرحه ويسلمه إلى المستأجر لا يخرج من ضمانه حتى
إذا فسد قبل أن يسلمه إليه لم يكن له الاجر الا على قول زفر رحمه الله وقد بينا نظيره في
الخياط والفرق بينما إذا كان يعمل في بيت نفسه أو في بيت المستأجر. ولو تكاري خبازا
يخبز له لم يجب له الاجر حتى يخرجه من التنور وهذا على مذهبهما ظاهر وأبو حنيفة رحمه الله
يفرق بين هذا وبينما سبق فيقول لا بد من اخراج الخبز من التنور فالمستأجر لا يفعل ذلك
57

بنفسه عادة ولا يستأجر لأجله غيره بخلاف التشريح بعد إقامة العمل فليس ذلك بمطلوب
لا محالة لجواز أن ينقله إلى موضع العمل قبل التشريح * توضيحه أن الخبز لو ترك في التنور
يفسد وما يرجع إلى الاصلاح صار مستحقا على الخباز وذلك في الاخراج من التنور ووزانة
الإقامة في اللبن فأما اللبن بعد الإقامة لو ترك ولم يفسد فلا يستحق التشريح على اللبان الا
بالشرط وان استأجره يضرب له لبنا بملبن معلوم ويطبخ له اجرا على أن الحطب من عند رب
اللبن فهو جائز لأنه استأجره لعمل معلوم من عند العامل بآلات المستأجر وان أفسد اللبن
بعد ما أدخله الأتون وتكسر لم يكن له الاجر لأنه لم يفرغ منه بعد فإنه ما لم يخرجه من
الأتون لم يتم عمله في طبخ الآجر فما لم يفرغ من العمل لا يصير مسلما إلى صاحبه ولو طبخه
حتى يصح ثم كف النار عنه فاختلف هو وصاحبه في الاخراج فاخراجه على الأجير بمنزلة
اخراج الخبز من التنور لأنه لو تركه كذلك فسد وان انكسر قبل أن يخرجه فلا أجر له
لان العمل لا يخرجه من ضمانه ما لم يفرغ منه وان أخرجه من الأتون والأرض في ملك رب
اللبن وجب له الاجر ويبرأ من ضمانه لوقوع الفراغ من العمل وتحصيل مقصود المستأجر
بكماله وإن كان الأتون في ملك اللبان فلا أجر له حتى يدفعه إلى صاحبه لأنه ما اتصل عمله
بملك المستأجر فلا بد من التسليم إليه حقيقة ليخرج من ضمانه وإذا شق رجل راوية رجل
فهو ضامن لما شق منها ولما عطب بما سال منها لم يستوعبها صاحبها لان المائع لا يستمسك
الا بوعاء فشق الراوية بمنزلة صب ما فيها (ألا ترى) أن قطع حبل القنديل بمنزلة مباشرة الالقاء
والكسر في ايجاب الضمان ولو صب ما فيها كان متلفا ضامنا لها ولما عطب بما سال منها لأنه
تسبب هو فيه متعديا بمنزلة حفر البئر والقاء الحجر في الطريق وكذلك أن كان شيئا يحمله
رجل فشقه آخر فان حمله صاحبه وهو ينظر إليه فهذا رضاء بما صنع استحسانا لأنه بعد العلم به
لا يترك استئنافه الا راضيا بصنعه والرضاء بدلالة العرف يثبت كسكوت البكر عند العلم بالعقد
ومن باع مجهول الحال ثم قال له اذهب مع مولاك وهو ساكت والصغير والكبير في هذا سواء
لان وجوب هذا الضمان بمباشرة الاتلاف والصبي فيما يؤاخذ به من الأفعال كالبالغ وإذا شق
رواية رجل فلم يسل ما فيها ثم مال الجانب الآخر فوقع وانخرق أيضا فهو ضامن لهما جميعا
لأنه بمنزلة المباشر يصب ما في الرواية حين شقها وصب ما في احدى الراويتين يكون ايقاعا
للأخرى بطريق إزالة ما به كان الاستمساك وهو تسبب منه لالقاء الأخرى وهو متعدي
58

في هذا السبب فيكون ضامنا إلا أن يكون صاحبه قد مضى وساق بغيره مع ذلك فيكون ذلك
منه دليل الرضى بفعله فلا ضمان عليه فيما يحدث بعد ذلك كما لو أمره في الابتداء حين فعل (قال)
أرأيت لو شق فيه ثقبا صغيرا فقال صاحبها بئسما صنعت ثم مضى وساقهما فزلق رجل بما سال منه
أكان يكون على الأول ضمان ذلك فلا شئ عليه من ذلك لوجود الرضاء من صاحبها حين ساق
بعيره ولان فعل الأول قد انتسخ بما أخذ به الثاني من سوق البعير ونحوه وهذه المسألة ليست
من مسألة الإجارات ولعل محمدا رحمه الله عند فراغه من هذا الكتاب ذكر هذه المسألة
قياسا في هذا الموضع كيلا يفوت وقد جعل مثله في كتاب البحر حين ذكر بابا من الإجارات
في آخر التجزي وقد بينا شرح ذلك ثم ذكر في نسخ أبى حفص رحمه الله زيادة مثله هنا (قال)
إذا استأجر الرجل رجلا كل شهر بدرهم على أن يطحن له كل يوم قفيزا إلى الليل فهذا باطل
إلا أن يسمى له قفيزا ولكن يقول على أن يطحن لي يوما إلى الليل فحينئذ يجوز وأضاف هذا
الجواب إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا قبل هذا في الكتاب أنه متى جمع بين المدة
والعمل فالعقد فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله وجائز عندهما وقد جمع هنا بين المدة والعمل ثم
أجاب بفساد العقد عندهما فاستدلوا بهذا على رجوعهما إلى قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل بل
اختلف الجواب على قولهما باختلاف الموضوع فهناك ذكر ما هو المقصود من العمل بكماله فعرفنا
أن ذكر المدة للاستعجال لا لتعليق العقد به فيبقى العقد على العمل سواء فرغ من العمل في
تلك المدة أو لم يفرغ وهنا لم يذكر جميع مقصوده في العمل وإنما استأجره مدة معلومة وشرط
عليه في كل يوم من أيامه عملا لا يدرى أيقدر على الوفاء به أو لا يقدر فلا بد من اعتبار المدة
لتعليق العقد بها والعمل مقصود لا بد من اعتباره أيضا وعند اعتبارهما يصير المستحق بالعقد
مجهولا على ما قررنا لان باعتبار المدة المستحق هو الوصف الذي يجد به في المعمول وجهالة
المستحق بالعقد مفسد للعقد والله أعلم بالصواب
(كتاب أدب القاضي)
(قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله إملاءا اعلم بان القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الايمان بالله
تعالى وهو من أشرف العبادات لأجله أثبت الله تعالى لآدم عليه السلام اسم الخلافة فقال
59

جل جلاله انى جاعل في الأرض خليفة وأثبت ذلك لداود عليه السلام فقال عز وجل يا داود
انا جعلناك خليفة في الأرض وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال الله تعالى انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وقال الله تعالى وان
احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وهذا لان في القضاء بالحق إظهار العدل وبالعدل
قامت السماوات والأرض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل وانصاف المظلوم من
الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولأجله بعث الأنبياء
والرسل صلوات الله عليهم وبه اشتغل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم وقد دل على جميع
ما قلنا الحديث الذي بدأ به محمد رحمه الله الكتاب ورواه عن أبي بكر الهذلي عن أبي المليح
عن أسامة الهذلي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
أما بعد فان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وما كتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنه
ما عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على
الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب
إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى وآتيناه
الحكمة وفصل الخطاب الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد وقال قتادة الحكمة الفقه وفصل
الخطاب البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقوله فان القضاء فريضة محكمة أي مقطوع
بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير الحكم هذا بيانه في قوله تعالى
آيات محكمات هن أم الكتاب ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله
تعالى سورة أنزلناه وفرضناها وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على
كل حال فالسنة في اللغة الطريقة وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة (قال)
فأفهم إذا أدلى إليك الخصمان والادلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم إصابة الحق فمعناه عليك
ببذل المجهول في إصابة الحق إذا أدلي إليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين
وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاضي لأنه لا يتمكن من تمييز الحق من المبطل الا بذلك وربما يجرى
على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه اقرار بالحق لخصمه فإذا فهم القاضي ذلك أنفذه وإذا
لم يفهم ضاع واليه أشار في قوله فإنه لا ينفع تكلم بحق ولا نفاذ له وقيل المراد استمع إلى كلام
الشهود وأفهم مرادهم فإنهم يتكلمون بالحق بين يديك وإنما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضي
60

إياه ثم أس بين الناس معناه سو بين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم
- فلولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي
- وما يبكون مثل أخي ولكن * أعز النفس عنهم بالتأسي
وفيه دليل أن على القاضي أن يسوى بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت
فاسم الناس يتناول الكل وإنما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال في وجهك
ومجلسك وعدلك يعنى في النظر إلى الخصمين والاقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى
لا يقدم أحدهما على الآخر وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكى أن أبا يوسف رحمه الله قال في
مناجاته عند موته اللهم ان كنت تعلم أنى ما تركت العدل بين الخصمين الا في حادثة واحدة
فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن
آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط
بقدر ما أمكنني ثم سمعت الخصومة قبل أن أسوى بينهما في المجلس فهذا كان جوري ليعلم
أن هذا من أهم ما ينبغي للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار إليه في الحديث فقال
لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك والحيف هو الظلم قال الله تعالى
أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم
قلب خصمه الضعيف فيخاف الجوز وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز
الضعيف عن اثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك باقباله على أحدهما وتركه التسوية
بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحوز عن ذلك بأقصى ما يمكنه
(قال) البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه أوتيت جوامع الكلم
واختصر لي اختصارا وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى (قال) والصلح
جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما وهذا أيضا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيه دليل جواز الصلح وإشارة إلى أن القاضي مأمورا بدعاء الخصمين إلى الصلح قد وصف
الله تعالى الصلح بأنه خير فقال عز وجل والصلح خير وذلك دليل النهاية في الخيرية ويستدل
الشافعي رحمه الله بظاهر الاستثناء في ابطال الصلح مع الانكار (قال) هو صلح حرم حلالا
وأحل حراما لان المدعى إذا كان مبطلا فأخذ المال كان حرام عليه والصلح يحل له ذلك
61

وإن كان محقا فالصلح يكون على بعض الحق عادة وما زاد على ذلك إلى تمام حقه كان أخذه
حلالا قبل الصلح حرم عليه ذلك بالصلح وكان حراما على الخصم منعه قبل الصلح أحل له
ذلك بالصلح ولكنا نقول ليس المراد هذا ولكن المراد تحليل محرم العين أو تحريم ما هو
جلال العين بان وقع الصلح على خمر أو خنزير أو في الخصومة بين الزوجات صالح احدى
المرأتين على أن لا يطأ الأخرى أو صالح زوجته على أن يحرم أمته على نفسه فهذا هو الصلح
الذي حرم حلالا أو أحل حراما وهذا باطل عندنا (قال) ولا يمنعك قضاء قضية بالأمس
راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق فان الحق قديم ومراجعة الحق خير
من التمادي في الباطل وفيه دليل أن إذا تبين للقاضي الخطأ في قضائه بأن خالف قضاؤه
النص أو الاجماع فعليه أن ينقضه ولا ينبغي أن يمنعه الاستحياء من الناس من ذلك فان
مراقبة الله تعالى في ذلك خير له والى ذلك أشار عمر رضي الله عنه حين ابتلى بالحديث في
الصلاة الحديث إلى أن قال كدت ان أمضى في صلاتي استحياء منكم ثم قلت لان أراقب الله
تعالى خير من أن أراقبكم فمن ابتلى بشئ من ذلك فليراقب الله تعالى وهذا ليس في القاضي
خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ والمفتى والقاضي في ذلك
سواء إذا تبين له أنه زال فليظهر رجوعه عن ذلك فزلة العالم سبب لفتنة الناس كما قيل إن زل العالم
زل بزلته العالم ولكن هذا في حق القاضي أوجب لان القضاء ملزم وقوله الحق قديم يعنى
هو الأصل المطلوب ولأنه لا تنكتم زلة من زل بل يظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر
على نفسه كان أحسن حالا عند العقلاء من أن تظهر ذلك عليه مع اصراره على الباطل ثم
(قال) الفهم مما يتلجلج في صدرك وقد بينا تفسير هذه اللفظ وفي تكراره مرة بعد مرة بيان انه
ينبغي للقاضي أن يصرف العناية إلى ذلك خصوصا إذا تمكن الاستيفاء في قلبه فإنه عند ذلك
مأمور بالتثبت ممنوع عن المجازفة خصوصا فيما لا نص فيه من الحوادث واليه أشار في قوله ما لم
يبلغك في القرآن والحديث وفيه بيان أنه لا ينبغي للمرء أن يتقلد القضاء مختارا الا إذا كان مجتهدا
وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معاينه وعلم السنة
بطرقها ومتونها ووجوه معانيها وأن يكون مصيبا في القياس عالما بعرف الناس ومع هذا قد
ابتلى بحادثة لا يجد لها في الكتاب والسنة ذكرا فالنصوص معدودة والحوادث ممدودة فعند
ذلك لا يجد بدا من التأمل وطريق تأمله ما أشار إليه في الحديث فقال اعرف الأمثال والاشتباه
62

وقس الأمور عند ذلك فهو دليل جمهور الفقهاء رحمهم الله على أن القياس حجة فان الحوادث
كلها لا توجد في الكتاب والسنة بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر ثم (قال) وأعمد إلى أحبها إلى
الله وأشبهها بالحق فيما نرى وهذا هو طريق القياس أن ترد حكم الحادثة إلى أقرب الأشياء
معنى ولكن إنما يعتبر السنة في المعنى الذي هو صالح لاثبات ذلك الحكم به ثم (قال) أجعل للمدعى
أمدا ينتهى إليه فان أحضر بينة آخذ بحقه والا وجهت القضاء عليه فان ذلك أجلى للعمى وأبلغ
في العذر وفيه دليل على أن القاضي عليه أن يهمل كل واحد من الخصمين بقدر ما يتمكن من
إقامة الحجة فيه حتى إذا قال المدعى بينتي حاضرة أمهله ليأتي بهم فربما لم يأت بهم في المجلس الأول
بناء على أن الخصم لا ينكر حقه لوضوحه فيحتاج إلى مدة ليأتي بهم وبعد ما أقام البينة إذا
ادعى الخصم الدفع أمهله القاضي ليأتي بدفعه فإنه مأمور بالتسوية بينهما في عدله وليكن امهاله
على وجه لا يضر بخصمه فان الاستعجال اضرار بمدعي الدفع وفي تطويل مدة امهاله اضرار
بمن أثبت حقه وخير الأمور أوسطها وقوله فان أحضر بينته آخذ بحقه والا وجهت القضاء عليه
إن كان مراده دعوى الدفع فهو أوضح لأنه إذا عجز عن اثبات ما ادعي من الدفع وجه القاضي
إليه القضاء ببينة المدعى وما لم يظهر عجزه عن ذلك لا يوجه القضاء عليه لان الحجة إنما تقوم عليه
إذا ظهر عجزه عن الدفع بالطعن والمعارضة وإن كان مراده جانب المدعي فمعنى قوله وجهت
القضاء عليه ألزمته الكف عن أذى الناس والخصومة من غير حجة وقوله فان ذلك أجلى للعمى
لإزالة الاشتباه وأبلغ في العذر للقاضي عند من توجه القضاء عليه لأنه إذا وجه القضاء عليه بعد
ما أمهله حتى يظهر عجزه عن الدفع انصرف من مجلسه شاكرا له ساكتا وإذا لم يمهله انصرف
شاكيا منه يقول مال إلى خصمي ولم يستمع حجتي ولم يمكني من اثبات الدفع عنده ثم قال
والمسلمون عدول بعضهم على بعض وقد نقل هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله على جواز القضاء بشهادة المستور قبل السؤال عنه إذا لم يطعن
الخصم وصفة العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار اعتقاده فان دينه يمنعه من الاقدام على ما نعتقد
الحرمة فيه فيدل على أنه صادق في شهادته فالكذب في الشهادة محرم في اعتقاد كل مسلم قال
صلى الله عليه وسلم في خطبته عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله تعالى ثم قرأ فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور ثم قال الا مجلودا حدا قيل المراد من ظهر عليه ارتكاب
كبيرة بإقامة حد تلك الكبيرة عليه فالحدود مشروعة في ارتكاب الكبائر وبظهور ذلك عليه
63

تنعدم العدالة الثابتة ما لم تظهر توبته وانزجاره عنه وقيل المراد المحدود في القذف وقد ذكره
في بعض الروايات الا مجلودا حدا في قذف فهو دليل لنا على أن المحدود في القذف لا تقبل
شهادته وان تاب وان العدالة المعتبرة لأداء الشهادة تنعدم بإقامة حد القذف عليه كما أشار الله
تعالى إليه في قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ثم قال أو محرما عليه شهادة زور فإنه إذا عرف منه
شهادة الزور فقد ظهر منه الجناية في هذه الأمانة ومن ظهرت جنايته في شئ لا يؤتمن على
ذلك ولأنه ظهر منه ارتكاب الكبيرة على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أكبر الكبائر
الاشراك بالله تعالى وعقوق الوالدين ألا وقول الزور فما زال يقول ذلك حتى قلنا ليته سكت ثم
(قال) لو ظننا في ولاء أو قرابة أي منهما بسبب قرابة أو ولاء وهو الموالاة فهو دليل على
أن شهادة الوالد لولده لا تكون مقبولة وهو دليل لنا على أن شهادة أحد الزوجين لصاحبه لا
تقبل فالزوجية من أقوى أسباب الموالاة وهو مما يجعل كل واحد منهما مائلا إلى صاحبه
وقد أشار إلى نفس الولاء والقرابة انهما لا يقدحان في العدالة ولكن إذا تمكنت التهمة حينئذ يمتنع
العمل بالشهادة حتى قيل في معناه إذا ظهر منه الميل إلى مولاه وقرابته في كل حق وباطل
حتى يؤثره على غيره وهو تفسير القالع بأهل البيت كما ذكره في الحديث المرفوع ثم (قال) فان
الله تعالى تولى منكم السرائر يعنى أن المحق والمبطل ليس للقاضي طريق إلى معرفته حقيقة
فان ذلك غيب ولا يعلم الغيب الا الله تعالى ولكن الطريق للقاضي العمل بما يظهر عنده من
الحجة واليه أشار في قوله ودرأ عنكم بالبينات يعنى درأ عنكم اللوم في الدنيا والاثم والعقوبة
في الآخرة وهو معنى الحديث المروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القضاء جمرة فادفع
الجمر عنك بعودين يعنى شهادة الشاهدين ثم قال إياك والضجر والقلق وهما نوعان من إظهار
الغصب فالقلق الحدة والضجر رفع الصوت في الكلام فوق ما يحتاج إليه والقاضي منهى عن
ذلك لأنه يكسر قلب الخصم به ويمنعه من إقامة حجته ويشتبه على القاضي بسببه طريق
الإصابة وربما لا يفهم كلام أحد الخصمين عند ذلك (قال) والبادي بالناس يعنى إظهار البادين
بكثرة الخصوم بين يديه واظهار الملال منهم والمراد البادي بما يسمع من بعض الخصوم مما
لا حاجة به إليه فقد يطول أحد الخصمين كلامه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يظهر البادي بذلك
ما لم يجاوز الحد فإذا تكلم بما يرجع إلى الاستخفاف بالقاضي أو يذهب به حشمة مجلس القضاء
فحينئذ يمنعه عن ذلك ويؤديه عليه ثم (قال) والتنكر للخصوم وهو أن يقطب وجهه إذا تقدم إليه
64

خصمان فان فعل ذلك مع أحدهما فهو جوز منه وان فعله معهما ربما عجز المحق عن إظهار حقه
فذهب وترك حقه (ألا ترى) إلى قوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك
ثم قال في مواطن الحق التي يوجب الله تعالى بها الاجر ويحس بها على الذخر يعنى في مجلس الحكم
فالحلم وترك الضجر والقلق واظهار البشر مع الناس محمود في كل موضع وفي مجلس القضاء
البشر وطلاقة الوجه أولى بعد أن يكون فعله ذلك لوجه الله تعالى كما قال فإنه من يخلص نيته
فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس والى نحوه أشار صلى الله
عليه وسلم في قوله من أخلص سريرته أخلص الله علانيته ثم قال ومن يتزين للناس بما يعلم الله
منه خلافه يسبه يعنى إذا رائى بعمله والمرآة مذمومة حرام على كل أحد وهو في حق القاضي
آكد لأنه غير محتاج إلى ذلك وإنما يفعل المرء ذلك عند حاجته ولأنه يقلد القضاء ليكون خليفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكم به بين الناس فينبغي أن يكون أشبه برسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو كان أبعد الناس عن المراءاة والنفاق وقوله يسبه الله أي يفضحه الله تعالى
على رؤوس الاشهاد قال النبي صلى الله عليه وسلم من رائى رائى الله به ومن سمع سمع الله به ثم قال
فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته معناه أي ان المرائي بعمله يقصد
اكتساب محمد أو منال شئ مما في أيدي الناس وما يفوته به إذا ترك الاخلاص من ثواب الله
تعالى فالعاقل إذا قابل ما هو موعود له من الله تعالى عند التقوى والاخلاص بما يطمع فيه من
جهة الناس ترجح ما عند الله تعالى لا محالة وذلك عاجل الرزق كما قال الله تعالى ومن يتق
الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب والمغفرة والرحمة كما قال الله تعالى ان رحمة الله
قريب من المحسنين أي المتقين المخلصين فالحديث من أوله إلى آخره دليل على أن للقاضي
أن يستشعر التقوى فيما يفعل فهو ملاك الامر قال صلى الله عليه وسلم ملاك دينكم الورع
وقال التقى ملجم وعن عامر قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه
أما بعد فإنني كتبت كتابا في القضاء ما لم آلك ونفسي فيه خيرا وفيه دليل ان الامام ينبغي
له أن يكتب إلى عماله في كل وقت يوصيهم وقد كان معاوية رضي الله عنه عامله بالشام فكتب
إليه في القضاء بهذا الكتاب وبين أنه لم يقصر بل بالغ في اكتساب الخير لنفسه وله ثم إن عمر
رضي الله عنه قال الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بأفضل خطك إذا تقدم إليك
الخصمان فعليك بالبينة العادلة واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب فمن تمسك
65

به سلم له دينه ونال أفضل الحظ من المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمعنى اليمين القاطعة
للخصومة والمنازعة ثم قال وأدن الضعيف حتى يشتد قبله وينبسط لسانه ولم يرد بهذا الامر
تقديم الضعيف على القوي وإنما أراد الامر بالمساواة لان القوي يدنو بنفسه لقوته والضعيف
لا يتجاسر على ذلك والقوى يتكلم بحجته وربما يعجز الضعيف عن ذلك فعلى القاضي أن يدني
الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوي قلبه وينبسط لسانه فيتكلم بحجته ثم قال وتعاهد الغريب
فإنك إن لم تعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه قيل هذا أمر
بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء فان الغريب قلبه مع أهله فينبغي للقاضي أن يقدمه
في سماع الخصومة ليرجع إلى أهله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتعاهد الغرباء
وقيل مراده ان الغريب منكسر القلب فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن إظهار حجته فيترك
حقه ويرجع إلى أهله والقاضي هو المسبب لتضييع حقه حين لم يرفع به رأسه ثم قال وعليك
بالصلح بين الناس ما لم يستبن ذلك فصل القضاء وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو
الخصوم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الامر وبه كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيقول ردوا الخصوم كي يصطلحوا فان فصل القضاء يورث بينهم الضغائن وعن شريح رحمه الله
أن عمر رضي الله عنه كتب إليه أن لا يشار ولا يضار ولا يبيع ولا يبتاع في مجلس القضاء ولا
ترتشى ولا تقضى بين اثنين وأنت غضبان أما قوله لا يشار منهم من يروى بالشين قالوا المراد
المشورة أنه لا ينبغي للقاضي في مجلس القضاء أن يشتغل بالمشورة وليكن ذلك في مجلس
آخر فإنه إذا اشتغل بالمشورة في مجلس القضاء ربما يشتبه طريق الفصل عليه وربما يظن جاهل
أنه لا يعرف حتى يسأل غيره فيزدرى به وقد وقع مثل هذا لعمر رضي الله عنه في حادثة بيناها
في المناسك والأظهر بالشين لا يشار معناه لا يشار أحد الخصمين لان ذلك يقصر قلب الخصم
الاخر ويلحق به تهمة الميل من حيث إن خصمه يظن أنه فيما يشار بأصابعه على رشوة ولذلك
لا يشار غير الخصمين في مجلس القضاء لان مجلس القضاء يجمع الناس ومشارة الاثنين في مثل
هذا المجلس تؤدى إلى فتنة الآخرين قال صلى الله عليه وسلم إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى
اثنان دون الثالث فان ذلك يحرفه وقوله لا يضار من الضرر أي لا يقصد الاضرار بالخصوم
في تأخير الخروج ولا ينغص الخصوم في استعجاله ليعجز عن اقامته حجته وفي رفع الصوت
عليه أو في أخذه يسقط من كلامه ان زل فلمجالس القضاء من المهابة والحشمة ما يعجز كل
66

أحد عن مراعاة جميع الحدود في الكلام فإذا لم يعرض القاضي عن بعض ما يسمع كان ذلك
منه مضارة والقاضي منهى عن ذلك وفيه دليل على أنه لا يشتغل بالبيع والشراء في مجلس
القضاء لان بذلك ينقص حشمة مجلس القضاء ولأنه مجلس إظهار الحق وبيان أحكام الدين
فلا ينبغي أن يخلط به شيئا من عمل الدنيا وقوله لا يرتشى المراد الرشوة في الحكم وهو حرام
قال صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في النار ولما قيل لابن مسعود رضي الله عنه الرشوة
في الحكم سحت قال ذلك الكفر إنما السحت ان ترشو من تحتاج إليه امام حاجتك وفي قوله
ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان دليل على أن القاضي ينبغي أن لا يشتغل بالقضاء في حال
غضبه ولكنه يصبر حتى يسكن ما به فإنه مأمور بان يقضى عند اعتدال حاله ولهذا ينهى عن
القضاء إذا كان جائعا أو كظيظا من الطعام أو كان يدافع الأخبثين لأنه ينعدم به اعتدال الحال
فكذلك بالغضب ينعدم اعتدال الحال وربما يجري على لسانه في غضبه مالا ينبغي أن يسمع
الناس ذلك منه وربما يتغير لونه على وجه لا ينبغي أن يراه الناس على تلك الصفة أو إذا ظهر به
الغضب عجز صاحب الحق عن إظهار حقه بالحجة خوفا منه ولهذا قلنا يقوم أو ينحى الناس عن
قربه حتى يسكن ما به وهذا إذا كان يعتريه ذلك في بعض الأوقات فإن كان ذلك من عادته
وذلك نوع من الحدة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انها تعترى خيار أمتي فلا
يكف عند ذلك عن القضاء لأنه يلتبس به عقله ويشتبه عليه وجه القضاء بخلاف ما يعتريه من
الغضب في بعض الأوقات وعن عمر رضي الله عنه أنه دعا قاضيا كان بالشام حديث السن
فقال له بم تقضى قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال فإذا لم تجد في كتاب الله تعالى قال
أقضى بما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه دليل على أنه يجوز أن يقلد القضاء
من هو حديث السن إذا كان عالما فقد كان عمر رضي الله عنه أكثر الناس نظرا في ذلك ثم
قلده مع حداثة سنه وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى
مكة قاضيا وأميرا وكان حديث السن ويحكى أن المأمون قلد يحيى بن أكثر قضاء البصرة
وكان ابن ثمان عشرة سنة فطعن بعض الناس في ذلك لحداثة سنه فكتب إليه المأمون كم سن
القاضي فكتب في جوابه أنا على سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان عمر رضي الله عنه بلغه مثل هذا الطعن في مثل هذا القاضي لحداثة سنه فامتحنه بالعلم
فقال بم تقضى قال أقضى بما في كتاب الله تعالى وأصاب في ذلك لان كتاب الله تعالى امام
67

المتقين انزل للعمل به قال فإذا لم تجد في كتاب الله قال أقضى بما قضي به رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصاب في ذلك أيضا قلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وقد أمرنا
باتباعه والاقتداء به قال فإذا لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقضى
بما قضي به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد أصاب في ذلك أيضا فقد أمرنا بالاقتداء بهما
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر رضي الله عنهما
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها
بالنواجذ قال فإذا لم تجد ذلك في قضائهم قال اجتهد رأيي وأصاب في ذلك فالقاضي مأمور
بأن يجتهد رأيه فيما لا نص فيه وهو دليلنا على جواز العمل بالقياس فيما لا نص فيه فاجتهاد
الرأي هو القياس يرد حكم الحادثة إلى أشباهها مما هو منصوص وإذا جاز اجتهاد الرأي في
باب القبلة عند الاشتباه وانقطاع الأدلة وفي المعاملات من الحروب وغير ذلك فكذلك
في القضاء فلما أصاب في جميع ما أجاب قال له عمر رضي الله عنه أنت قاضيها أي أنى لا
أعز لك عن القضاء ما دمت على هذه الطريقة وفيه دليل أن الامام إذا علم من حال من قلده
انه صالح لذلك ينبغي أن يقرره على العمل ولا يعزله بطعن بعض المتعنتين ما لم يتبين له شئ
مما لا يحمد من السيرة منه وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال لقد أتي علينا زمان لسنا نسأل
ولسنا هنالك ثم قضى الله تعالى ان بلغنا من الامر ما يرون قيل هذا إشارة منه إلى زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الوحي ينزل وكان عليه الصلاة والسلام يبين لهم فكانوا
لا يحتاجون فيه إلى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره وقيل بل مراده الإشارة إلى زمن أبى
بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم متوافرين في ذلك الوقت
وما كان يحتاج إلى ابن مسعود رضي الله عنه وقيل هذا منه إشارة إلى حال صغره وجهله وإنما
قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه لأنه قال هذا
حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روى أنه لما قدم علي رضي الله عنه
بالكوفة وخرج إليه ابن مسعود رضي الله عنه مع أصحابه حتى سدوا الأفق فلما رآهم
علي رضي الله عنه قال ملأت هذه القرية علما وفقها قال فمن ابتلى منكم بقضاء فليقض بما
في كتاب الله تعالى وفي هذا إشارة إلى أن التحرز عن تقلد القضاء أولى فقد عده ابن مسعود
رضي الله عنه من البلوى نقوله فمن ابتلى منكم وهو اختيار أبي حنيفة رحمه الله فإنه تحرز
68

عن تقلد القضاء بعد ما حبس وضرب لأجله مرارا حتى قال بعض أصحابه رحمهم الله لو تقلدت
نفعت الناس فنظر إليه شبه المغضب وقال لو أمرت أن أقطع البحر سباحة أكنت أقدر على
ذلك وكأني بك قاضيا ومن اختار تقلد القضاء قال هذا اللفظ من البلاء الذي هو نعمة قال الله
تعالى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا وإنما أراد من أنعم الله تعالى عليه بهذه الدرجة فليقض بما
في كتاب الله تعالى وبذلك كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول إني تارك فيكم الثقلين
كتاب الله تعال وعترتي أهل بيته الأقربون والأبعدون فان تمسكتم بهما لم تضلوا
قال فإن لم يجد ذلك في كتاب الله تعالى فليقض بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك
كان يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي رواحة رضي الله عنه في حادثة أما
كان لك في أسوة فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها
فقال صلى الله عليه وسلم انى لا أرجو أن أكون أخشاكم لله قال فإن لم يجد ذلك فيما قضى
به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى الصالحون يعنى أبى بكر وعمر رضي الله عنه
ما كما جاء في الحديث إذا ذكر الصالحون فحيعلا بعمر قال فإن لم يجد فليجتهد رأيه ولا
يقولن انى أرى وأنى أخاف وفيه دليل على أن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه وانه لا ينبغي
أن لا يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ فان ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد
في غير موضعه فكما لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد
فيما لا نص فيه ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله فان الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور
مشتبهات فدع ما يريبك إلى مالا يريبك وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم رواه الحسن رحمه الله وفيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو
مؤدى لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده أو أخطاء وهو ما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله كل
مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أي مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء وقد يخطي انتهاء
فيما هو المطلوب بالاجتهاد ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه وذكر عن معاذ بن
جبل رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمين بم تقضي
يا معاذ قلت بما في كتاب الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام فإن لم تجد ذلك في كتاب الله
تعالى قلت أقضى بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد
ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أجتهد رأيي فقال صلوات الله عليه وسلامه
69

الحمد لله الذي وفق رسول رسوله وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يقلد الانسان القضاء
ينبغي له أن يجربه فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك بمعاذ رضي الله عنه مع أنه
كان معصوما فغيره بذلك أولى فكان هذا منه على وجه التعليم لامته ثم حمد الله تعالى حين ظهر
من التجربة كما تفرس فيه وهكذا ينبغي للامام إذا بلغه عن عامل له ما يرضى به ان يعد ذلك نعمة
من نعم الله تعالى عليه فليقابلها بالشكر وفيه دليل جواز اجتهاد الرأي والعمل بالقياس فيما لا نص
فيه من العلماء رحمهم الله من يقول جواز العمل بالقياس والاجتهاد بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما كان يجوز ذلك في حياته لان الوحي كان ينزل وهو كان يبين لهم ما كانوا يحتاجون
إلى الاستنباط في ذلك الوقت والحكم يثبت بالنص مقطوعا به فلا يصار إليه في غير موضع
الضرورة والصحيح عندنا إن كان ذلك جائز لهم في حياته صلى الله عليه وسلم كما بعده وحديث
معاذ رضي الله عنه يدل عليه فإن لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله بين يديه
اجتهد رأى ولما قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه أقض بين هذين قال أقضي وأنت حاضر
أو جالس قال صلى الله عليه وسلم نعم قال على ماذا أقضى قال صلى الله عليه وسلم على أنك إن
اجتهدت فأصبت فلك أجران وان أخطأت فلك أجر واحد فقد جوز له صلى الله عليه وسلم
الاجتهاد بحضرته وقد كان يشاورهم (ألا ترى) أنه شاورهم في أسارى بدر وأشار أبو بكر رضي الله عنه
بالفداء وأخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاور السعدين رضي الله عنهما يوم
الأحزاب في صلح بنى فزارة على بعض ثمار المدينة وأخذ بما أشارا به ولما أشار إليه أسيد بن
خطير في النزول عند الماء يوم بدر أخذ برأيه في ذلك وكان صوابا وينبنى على هذا الفصل
الاختلاف بين العلماء رحمهم الله في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه فمنهم
من يقول كان ينتظر الوحي وما كان يفصل بالاجتهاد والصحيح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم
كان يجتهد وما كان يقر على الخطأ بيانه أنه لما شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في حادثة قال
صلى الله عليه وسلم قولا فانى فيما لم يوح إلى مثلكما وقال صلى الله عليه وسلم للخثعمية أرأيت
لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه فقالت نعم قال صلى الله عليه وسلم فدين الله أحق وهذا قول
بالاجتهاد وقال عليه السلام لعمر رضي الله عنه في القبلة أرأيت لو تمضمضت بماء ثم بحجته أكان يضرك
وقال صلى الله عليه وسلم في بيان الصدقة على بني هاشم أرأيت لو تمضمضت بماء
أكنت شاربه فهذا ونحوه دليل أنه كان يقضي باجتهاده وما كان يقر على الخطأ فقضاؤه يكون
70

شريعة والخطأ لا يجوز أن يكون أصل الشريعة فعرفنا أنه ما كان يقر على الخطأ وبيان ذلك
في قوله تعالى عفى الله عنك لم أذنت لهم الآية وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال إذا كان
في القاض خمس خصال فقد كمل وإن كان فيه أربع ولم يكن فيه واحدة ففيه وصمة وإن كان
فيه ثلاث ولم يكن فيه اثنين ففيه وصمتان وهذا عبارة عن النقصان والوصم كسر يسير وفوقه
القصم ونظيره القنص بالأنامل وفوقه القبض باليد وفوقه الاخذ وهو التناول قال فقال
قائل ما هي يا أمير المؤمنين قال علم بما كان قبله وهو إشارة إلى ما بينا في حق المجتهد قال
ونزهة عن الطمع وهو مأخوذ من النزاهة فمن يتحرز عن شئ يقال هو يتنزه عن كذا
والأظهر وتزهد عن الطمع من الزهادة فكل الفتنة للقاضي في طمعه فيما في أيدي الناس ولما
امتحن عليا رضي الله عنه قاضيا قال له بم صلاح هذا الامر قال بالورع قال فيما فساده
قال بالطمع قال حق لك أن تقضى فينبغي للقاضي أن يكون منزها عن الطمع ليأمن الفتنة
ويخلص عمله لله تعالى قال وحكم عن الخصم يعنى ان يحكم في بعض ما يسمع من الخصوم مع
قدرته على منعه وهو معنى قوله عمر رضي الله عنه لا يصلح لهذا الامر الا اللبن من غير
ضعف القوى من غير عنف قال واستخفاف باللائمة معناه لا ينبغي للقاضي فيما يفصل من
القضاء أن يخاف اللائمة من الناس فإنه إذا خاب ذلك يتعذر عليه القضاء بالحق والى ذلك
أشار الله تعالى في قوله ولا يخافون لوم تلائم وهذا لأنه لابد أن ينصرف أحد الخصمين من
مجلسه شاكيا يلوم القاضي مع أصدقائه على ما كان منه واليه أشار شريح رحمه الله حيث
قيل له كيف أصبحت قال أصبحت وشطر الناس على غضبان فإذا تفكر القاضي واشتغل
بالتحرز عن اللائمة يتعذر عليه فصل القضاء قال ومشاورة أولى الرأي وفيه دليل على أن
القاضي وإن كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه رضي الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم قال
صلى الله عليه وسلم المشورة تلقح العقول وقال صلى الله عليه وسلم ما هلك قوم عن مشورة
قط وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت
إليه حادثة قال ادعوا إلى عليا وادعوا إلى زيد بن أبي كعب رضي الله عنهم فكان يستشيرهم
ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن لا يدع المشاورة وإن كان فقيها ولكن
في غير مجلس القضاء على ما بينا ان الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين
71

فصل القضاء ويكون سببا لازدراء بعض الجهال به وعن مسروق قال لان أقضى يوما بالحق
أحب إلى من أن أرابط سنة فان مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه وقد كان
السلف رحمهم الله في ذلك مختلفين وابتلي مسروق بالقضاء ومن دخل في شئ فإنما يروي محاسن
ذلك الشئ وقد بينا طريق أبي حنيفة رحمه الله في ايثار التحرز عن تقلد القضاء وإنما قال مسروق
ان القضاء يوما بالحق أحب إلى من أن أرابط سنة لما في إظهار الحق من المنفعة للناس ودفع
الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم واليه أشار النبي صلى الله عليه
وسلم في قوله عدل ساعة خير من عبادة سنة وقال صلى الله عليه وسلم لان يقام حد في أرض خير
من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا وعن علي رضي الله عنه قال القضاة ثلاثة فاثنان في النار
وواحد في الجنة فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم
وأما الاخر أتاه الله علما فقضي به فذلك في الجنة ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فإنه
أقدم على النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود وفيه نزل
قوله تعالى عز وجل ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات وقال الله تعالى وان فريقا منهم
ليكتمون الحق وهم يعلمون وأما الجاهل فما كان ينبغي له أن يتقلد القضاء ويلتزم أداء هذه
الأمانة لأنه لا يقدر على أدائها الا بالعلم ففي التزام مالا يقدر على القيام به ظلم نفسه وبعد
التقلد لا ضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم أو يسأل العلماء ويقضى بفتواهم
فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه وأنصف المظلوم
من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لا يعرف الا بالرأي فإنما يحمل على أن عليا رضي الله عنه
كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما
يرسلون وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك أخذ بقفاه ثم يلتفت
فإذا أقبل أدفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا وأهل الحديث يروون هذا الحديث يجاء بالقاضي
العدل يوم القيام ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجوز في
قوله وملك آخذ بقفاه إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيامة وإن كان عادلا في قضائه في الدنيا
فإنما يفهم من الاخذ بالقفاء في عرف الناس الاستخفاف والذل وقيل في تأويله أنه وإن كان
عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فلهذا له في الآخرة لما نال من الجاه
في الدنيا بطريق هو طريق العمل للآخرة ومعناه قوله أدفعه في مهواة أربعين خريفا أي
72

دفعه على وجه في النار كما قال الله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم وكان المراد
من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه
يلقى في النار على وجهه ولا يستقر الا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا
وهذا بيان في قوله تعالى ان المنافقين في الدرك الأسفل من النار قال وبلغنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكأنما يذبح نفسه بغير سكين والحصاف
رحمه الله يروى هذا من ابتلى بالقضاء فكأنما ذبح بغير سكين وفيه بيان التحريز عن طلب القضاء
والتحرز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه
عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي صلى الله عليه وسلم كان للتقريب من الفهم
(قال) رحمه وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول لا ينبغي أحد أن يزدرى بهذا اللفظ كيلا
يصيبه ما أصاب ذلك القاضي فقد حكى أن قاضيا روى له هذا الحديث فازدرى به وقال كيف
يكون هذا ثم دعا في مجلسه بمن يسوى شعره فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه
إذ عطس فأصابه الموسى فألقى رأسه بين يديه قال ومن ابتلى أن يقضى بين اثنين فلينصفهما في
الكلام والنظر ولا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما مالا يرفع على الآخر وقد بينا فائدة هذا
اللفظ وما يؤمر به للقاضي من التسوية وعن عامر أن أبي بن أبي كعب وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهما اختصما في شئ فحكما زيد ابن ثابت رضي الله عنه فأتياه في منزله قال زيد رضي الله عنه
هلا أرسلت إلى يا أمير المؤمنين قال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتى الحكم وفي هذا
بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل وإنما كان يقع
ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس
والانكار ولهذا كان القاضي يدعي مفتيا وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد ابن ثابت
رضي الله عنهما وإنما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روى أن ابن عباس
رضي الله عنهما كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب وقال هكذا أمرنا أن نصنع
بفقهائنا فقبل زيد رضي الله عنه يده وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا وفيه دليل على أن
الامام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر رضي الله عنه في خصومة حكم زيد ابن ثابت رضي الله عنه
وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغي له أن يأتي العالم في منزله وإن كان وجيها في
الناس ولا يدعوه إلى نفسه فان وجاهته بسبب الدين فيبقى ذلك له إذا عظم الدين والذهاب
73

إلى منزل العالم عند الحاجة إلى علمه من تعظيم الدين ولما استعظم ذلك زيد رضي الله عنه
قال هلا أرسلت إلى يا أمير المؤمنين قال في بيته يؤتى الحكم وتأويل استعظام زيد رضي الله عنه
أنه خاف فتنة على نفسه بسبب الوجاهة حين أتاه عمر رضي الله عنه في منزله وظن
أنه أتاه زائرا وما أتاه محكما له راغبا في علمه فلهذا استعظم ذلك (ألا ترى) ان عمر رضي الله عنه
بين له انه أتاه للتحكيم فقال في بيته يؤتى الحكم فأتى زيد لعمر رضي الله عنهما بوسادة وكان
هذا منه امتثالا لما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه
وقد بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدى بن حاتم رداءه حتى أتاه ولكن عمر رضي الله عنه
لم يستحسن ذلك منه في هذا الوقت فقال هذا أول جورك وفيه دليل وجوب التسوية
بين الخصمين في كل ما يتمكن القاضي منه وما كان ذلك يخفى على زيد رضي الله عنه ولكن
وقع عنده ان الحكم في هذا ليس كالقاضي وان الخليفة في هذا ليس كغيره فبين له عمر رضي الله عنه
ان الحكم في حق الخصمين كالقاضي (قال) وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه فقال لأبي
ابن كعبر رضي الله عنه لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر رضي الله عنه لا ولكن
احلف فترك له أبى رضي الله عنه ذلك وأهل الحديث يروون ان عمر رضي الله عنه قال لزيد
رضي الله عنه وهذا أيضا يبين ان على الحكم أن يتحرز عن الميل إلى أحد الخصمين صريحا ودلالة
وان مجلس الشفاعة غير مجلس الحكومة ثم فيه دليل على أنه لا بأس للمرء ان يحلف إذا كان صادقا
فقد رغب عمر رضي الله عنه في ذلك مع صلابته في الدين وان تحرز عن ذلك فهو واسع له أيضا
كما روى أن عثمان رضي الله عنه امتنع عن ذلك وقال أخشى أن يوافق قدر يميني فيقال أصبت
بذلك ففيه دليل ان اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه يستوفى بطلبه ويترك إذا ترك (ألا ترى)
أن أبيا رضي الله عنه ترك له ذلك وبيان هذا فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدعى ألك بينة
فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم ألك يمين وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال لا أحد الا في
اثنين رجل اتاه الله مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل أتاه علما فهو يعلمه ويقضى به ومعناه
الحسد يضر الا في الاثنين فيكون في ذلك بيان ان الحسد مذموم يضر الحاسد الا فيما استثناه
فهو محمود في ذلك وهذا ليس بحسد في الحقيقة بل هو غبطة والغبطة محمودة فمعنى الحسد هو
ان يتمنى الحاسد ان تذهب نعمة المحسود عنه ويتكلف لذلك ومعنى الغبطة ان يتمنى لنفسه مثل
ذلك من غير أن يتكلف ويتمنى ذهاب ذلك عنه وهذا في أمر الدنيا غير مذموم ففي أمر الدين
74

أولى أن يكون محمودا والذي ينفق ماله في طاعة الله تعالى يكتسب الآخرة بدنياه والذي
يعلم ويقضى به بالحق يكتسب المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمن يتمنى لنفسه مثل ذلك
يكون محمودا على هذا المعنى فاما الحسد المذموم فهو ما قيل الحاسد جاحد لقضاء الواحد فهو أن
يتكلف لذهاب ذلك عنه ويعتقد ان تلك نعمة في غير موضعها واليه أشار رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قوله لا ينجو أحدكم من الحسد والظن والطيرة قيل وما المخلص من ذلك فقال
صلى الله عليه وسلم إذا حسدت فلا تبغ أي لا تتكلف لإزالة النعمة عن المنعم عليه وإذا
ظننت فلا تحقق وإذا نظرت فلا ترجع وعن سوار بن سعيد قال شهدت أنا ورجل عند
شريح رحمه الله بشهادة ففيه صاحبي عن حجته أي عجز عن إظهار حجة وغفل عن ذلك
فقلت له أتفسد شهادتي ان أعربت عنه فقال لا فأعربت عنه فقضى له وإنما قال هذا لان من
يكون خصما في حادثة لا تقبل شهادته في تلك الحادثة فخاف إن أظهر حجته صاحبه أن يجعله
خصما ويفسد شهادته فبين له شريح رحمه الله انه لا يصير خصما بهذا القدر إذا لم يوكله صاحبه
به بل هو متبرع فيما يظهر من حجة صاحبه وليس فيه أكثر من أن يعين المدعى وما حضر
مجلس القاضي الا لتعيين المدعى وتوصله إلى حقه فلا يفسد به شهادته وعن سوار قال اختصم
قوم عند شريح رحمه الله فذكرت له ذلك فقال ما رآه فهم وسأذكر ذلك له الليلة فذكر ذلك
له فقال ما فهمت فمرهم أن يرجعوا لي فرجعوا إليه فقضي لهم وفيه دليل على أنه ينبغي لمن
وقف على خطأ القاضي في قضائه أن ينبهه ولا يجاهره بذلك مراعاة لحشمته ولكنه يأمر
أقرب الناس منه ليخبره بذلك في حال خلوته وفيه دليل ان القاضي إذا تبين له خطأ في قضائه
ينبغي له أن يظهر رجوعه عن ذلك ولا يمنعه الاستيحاء عن الناس من ذلك ولا الخوف فالله
تعالى يحفظه من الناس والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى وعن مكحول قال لان
أكون قاضيا أحب إلى من أن أكون خازنا يعنى أن خازن بيت المال عامل للمسلمين والقاضي
كذلك الا ان الخازن يحفظ على المسلمين مالهم والقاضي يحفظ عليهم دينهم وتمكن الخازن
من المال خوف الفتنة على نفسه بسببه أكثر من تمكن القاضي فلهذا آثر القضاء وقد بينا
ان المتقدمين فيه من كان يؤثر تقلب القضاء على الامتناع منه وعن شريح رحمه الله قال ما شددت
على لهواة خصم أي ما منعته من إظهار حجته وما قويت أحد الخصمين على الاخر بتلقين شئ
قط ولهذا بقي في القضاء مدة طويلة وعن علي رضي الله عنه أنه أضاف رجلا فلما مكث أياما
75

قرب إليه في خصومة فقال له علي رضي الله عنه أخصم أنت فقال نعم فقال علي رضي الله عنه ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا أن يكون خصموه معه وفيه دليل
أنه لا بأس للامام أن يخص بعض الناس بالضيافة إذا لم يكن له خصومة وانه لا ينبغي له أن يضيف
أحد الخصمين دون الآخر لان ذلك يكسر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل ولا
بأس بأن يضيفهما جميعا لان تهمة الميل تنتفى عنه إذا سوى بينهما وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه
ما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه اقض بين
هذين قال أأقضي وأنت حاضر أو جالس قال صلوات الله عليه وسلامه نعم قال على ماذا أقضى قال
سلام الله عليه على أنك ان اجتهدت فأصبت فلك عشر حسنات وان أخطأت فلك حسنة
وفيه دليل لأهل السنة رحمهم الله المجتهد يصيب ويخطئ وعليه دل قوله تعالى ففهمناها سليمان
والفهم هو إصابة الحق فقد خصه بذلك ففيه دليل على أنه معذور وان أخطأ وهذا إذا لم يكن
طريق الإصابة بينا هو مثاب على اجتهاده فان أصاب المطلوب بالاجتهاد فله ثواب الاجتهاد
وثواب إظهار الحق بجهده وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم فلك عشر حسنات وان أخطأ
فله حسنة على اجتهاده إذا كان مصيبا في طريق الاجتهاد وإن لم يصب المطلوب بالاجتهاد وعن
عمر ان بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى مع القاضي
ما لم يخف عملا يشدده للحق ما لم يرد غيره وهذا في كل عامل يبتغى بعمله وجه الله تعالى فالله تعالى
يعينه على ذلك ويوفقه قال الله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال صلى الله عليه وسلم
لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه لا تسأل الامارة فإنك ان تعطيها عن مسألة وكلت إليها
وإن أعطيتها عن غير مسألة أمنت عليها ثم هذا الوعد للقاضي ما لم يظلم عمدا فالحيف هو الظلم
فإذا اشتغل به كله الله إلى نفسه وكذلك إذا أراد بعمله غير الله تعالى قال صلى الله عليه
وسلم فيما يأثر عن الله عز وجل أنا أغنى الشركاء عن الشركة فمن عمل لي عملا وأشرك فيه
غيري فهو كل لذلك الشريك وانا منه برئ قال وينبغي للقاضي أن ينصف الخصمين في
مجلسهما وفي النظر إليهما وفي المنطق أي يسوى بينهما فالانصاف عبارة عن التسوية مأخوذ
من المناصفة ففي كل ما يتمكن من مراعاة التسوية فيه فعليه ان يسوى بينهما في ذلك الا مالا
يكون في وسعه الامتناع منه من النهى فعليه أن يظهر حجة أحدهما فهو غير مأخذ بذلك لما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستوى في القسم بين نسائه ثم يقول اللهم هذا في
76

ما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك يعنى من الميل بالقلب إلى عائشة رضي الله عنها ولا ينبغي
أن يرفع صوته على أحدهما مالا يرفعه على الآخر لان التسوية بينهما في ذلك ممكنة وتخصيص
أحدهما برفع الصوت عليه تجر تهمة إليه وهو مكسر القلب من يرفع صوته عليه ولا ينطلق
بوجهه إلى أحدهما في شئ من المنطق مالا يفعله بالآخر لأنه يزداد به قوة وجراءة على
الخصم ويطمع أن يميل بالرشوة إليه ولا ينبغي له أن يشد على عضد أحدهما ولا يلقنه حجته
فان ذلك نوع من الخصومة وبين كونه قاضيا وخصما منافاة وهو مكسر لقلب الخصم
وسبب لجر تهمة الميل إليه وهو انشاء الخصومة وإنما جلس لفصل الخصومة لا لانشائها وينبغي
له أن لا يشترى شيئا ولا يبتع في مجلس القضاء لنفسه لأنه جلس للقضاء فلا يخلط به ما ليس
من القضاء ومعاملته لنفسه في شئ ولان الانسان فيما يبيع ويشترى يماكس عادة وذلك يذهب
حشمة مجلس القضاء ويضع من جاهه بين الناس وفي قوله لنفسه إشارة إلى أنه لا بأس بأن يفعل
ذلك في مجلس القضاء ليتيم أو ميت مديون فان ذلك من عمل القضاء وإنما جلس لأجله ومباشرة
ذلك في مجلس القضاء يكون أبعد عن التهمة منه إذا باشره في غير مجلس القضاء ولا بأس
بأن يبيع ويشترى لنفسه في غير مجلس القضاء عندنا ومن العلماء رحمهم الله من كره ذلك للقاضي
ويروون في ذلك حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبيع القاضي ولا يبتاع ولان العادة أن
الناس يسامحون في المعاملة مع القضاء بين أيديهم خوفا منهم أو طعما فيهم فيكون من هذا الوجه
في معنى من يأكل بدينه والمقصود يحصل إذا فوض ذلك إلى غيره ليباشر على وجه لا يعلم
أنه يباشر ولكنا نقول نستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى سراويل بدرهمين
الحديث فقد باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشراء لنفسه وكان رؤساء القضاء والخلفاء
الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يباشرون ذلك بأنفسهم حتى أن أبا بكر رضي الله عنه
بعد ما استخلف حمل متاعا من متاع أهله إلى السوق ليبيعه ولأنه بعد تقلد القضاء يحتاج
لنفسه وعياله إلى ما كان محتاجا إليه قبل التقلد وبأن تقلد هذه الأمانة لا يمتنع عليه معنى النظر
لنفسه والقيام بمصالح عياله وتهمة المساحة موهونة أو هو نادر فلا يمتنع عليه التصرف لأجله
ولان ذلك إذا لم تكن مباشرة هذا التصرف من عادة القاضي في كل وقت فأما إذا كان
ذلك من عادته فقلما يسامح في ذلك فوق ما يسامح به غيره وتأويل النهي ان صح في مجلس
القضاء ولا يسار أحد الخصمين بشئ لان ذلك يجر إليه تهمة الميل وينكسر بسببه قلب الآخر
77

وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء فلا ينبغي أن يشتغل به وإذا تقدم إليه الخصمان فهو بالخيار ان
شاء ابتدأهما فقال مالكما وان شاء تركهما حتى يبتدآه بالمنطق وبعض القضاة يختار السكوت
ليكون الخصم هو الذي يبتدئ بالكلام لان القاضي إذا ابتدأهما كان ذلك منه تهيجا للخصومة
وإنما جلس لفصل الخصومة لا لتهيجها ولكنا نقول الرأي في ذلك إليه فحشمة مجلس القضاء
قد تمنعهما من الكلام ما لم يبتدئ القاضي بالكلام فإذا كان بهذه الصفة كان له أن يبتدئ فيقول
مالكما وما تقدم إليه الا بعد المنازعة والخصومة بينهما فلا يكون هذا اللفظ منه تهيجا للخصومة
ولكن لا يكلمهم بشئ آخر سوى ما تقدم لأجله فان ذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ولهذا
لا يسلمان عليه إذا تقدم بين يديه مع أن السلام سنة فان تكلم صاحب الدعوى أسكت الآخر
واستمع من صاحب الدعوى حتى يفهم حجته لأنه إذا تلكما معا لا يتمكن من أن يفهم كلام
كل واحد منهما قال الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ولان تكلمهما معا نوع
شغب وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء قال ثم يأمره بالسكوت بعد ذلك ويستنطق الاخر
وظاهر هذا اللفظ يدل على أنه يستنطق الاخر وإن لم يسأل المدعى ذلك واختياره بعض القضاء
انه لا يفعل ذلك إلا عند سؤال المدعى ولكنه إذا نظر في دعواه فإن لم تكن صحيحة يقول له قم
فصحح دعواك لان بالدعوى الفاسدة لا يستحق الجواب وان صحت الدعوى قال أخبرتني فماذا
أصنع فان قال أريد جوابه فسأله عن ذلك حينئذ يستنطق الاخر والأصح عندنا انه يستنطق
الاخر وإن لم يلتمس المدعى ذلك لأنه ما تقدم بين يديه وما أحضر خصمه إلا ملتمسا لذلك
فلا يحتاج بعد ذلك إلى التماس الاخر فان سأله فأقر بحقه أمره بالخروج من حقه وان أنكر
قال للمدعى سمعت انكاره أو هو منكر فما نقول فإذا قال حلفه يطلب المدعى بعد أن سأله
بينة ولا يسأله ذلك ما لم يطلب يمينه لأنه نوع تلقين ولا ينبغي للقاضي أن يلقن أحد الخصمين
حجته ولكن إذا طلب يمينه فحينئذ جاء أوان الاستحلاف إذا لم يكن للمدعى بينة حاضرة
فسأله عند ذلك أكل بينة ولا ينبغي للقاضي أن يقضي الا هو مقبل على الحجج مفرغ نفسه
لذلك لان القضاء أمر مهم فلا يتمكن من النظر فيه ومباشرته لما التزم ما لم يفرغ نفسه لذلك
عن سائر الاشغال فإذا دخله هم أو غضب أو نعاس كف عن ذلك حتى ذهب ذلك لان
اعتدال حاله زال بما دخله فالهم يغلب على القلب حتى لا يجد شيئا آخر معه فيه مساغا والغضب
كذلك والنعاس كذلك فالناس لا يفهم بعض ما يذكر عنده (ألا ترى) ان النبي صلى الله عليه
78

وسلم قال إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلا يدري لعله يريد أن يدعو فيسب نفسه ثم يقبل
على القضاء وهو متفرغ له مستمع غير معجل للخصوم عن حجتهم لان الاستعجال يضر
بالخصوم كما أن ترك النظر فيما يقيم من الحجة يضر به فكل واحد منهما من نوع الشر والاضرار
وقد روينا ان القاضي لا يشار ولا يضار قال ولا يخوفهم فان الخوف مما يقطع حجة الرجل يعنى
ان الخائف يعجز عن إظهار حجته وينبغي أن يكون القاضي مهيبا يحتشم منه ولكن لا ينبغي
أن يكون مخيفا للناس يخافونه فان ذلك يمنعهم من إظهار الحق بالحجة والأصل في ذلك
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الفجر بمسجد الحيف فرأى رجلين لم يصليا
معه فقال على بهما فأتى بهما وفرائصهما ترتعد فقال صلى الله عليه وسلم لا تخافا فإنما أنا ابن
امرأة من قريش كانت تأكل القديد الحديث فان (قيل) أليس انه ذكر في سيرة عمر رضي الله عنه
ان الناس كانوا يهابونه حتى قيل لابن عباس رضي الله عنهما لم لم يذكر قولك في القول
لعمر فقال كان رجلا مهيبا فهبته أو قال خفت درته (قلنا) هذا لا يكاد يصح فان عمر رضي الله
عنه كان ألين من غيره في قبول الحق وكان يشاورهم وربما كان يقدم قول ابن عباس رضي الله عنه
ما في الاخذ عند الشورى على قول بعض الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم ثم
كون القاضي مهيبا غير مذموم عندنا وإنما المذموم أن يتكلف لتخويف الخصوم إذا تقدموا
بين يديه ولم ينقل ذلك عن عمر رضي الله عنه ولا عن غيره وإن كان خير القاضي أن يقعد عنده
أهل الفقه فتعدوا عنده فربما يحتاج إلى أن يستشيرهم وقد روينا ان عمر رضي الله عنه كان
يفعل ذلك وربما يخفى عليه بعض ما يقف عليه غيره من أهل الفقه فينبهه عليه وربما يحتاج إلى أن
يشهدهم فيكون أهل الفقه والصلاح عنده من نوع الاحتياط فان دخله حصر في قعودهم
عنده أو شغله ذلك عن شئ من أمور المسلمين جلس وحده لان طباع الناس في هذا تختلف
فمنهم من يمنعه حشمة الفقهاء مما يريده من فصل القضاء ومنهم من يزداد قوة على ذلك والمقصود
هو النظر للمسلمين فإذا كان هو ممن يدخله حصر بحضرة الفقهاء جلس وحده ولكن إنما
يتمكن من ذلك إذا كانت معروفا بالفقه والعدالة فبالفقه يؤمن غلطه وبالعدالة يؤمن جوره ولا
ينبغي للقاضي ان يتعب نفسه في طول الجلوس لان بذلك يزول اعتدال الحال وقد بينا أنه
لا ينظر في الحجج إلا عند اعتدال الحال قال فانى أتخوف عليه ان يضر ذلك بنظره في الحجج
والخصوم يعنى إذا أتعب نفسه ربما لا يفهم بعض كلام الخصوم وربما يضجر بسببه على بعض
79

الخصوم وهذا أيضا في المدرس كذلك واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله أن
النفس تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها ظرائف الحكمة وان ابن عباس رضي الله عنهما كان
إذ أمل من بيان أنواع العلم قال لأصحابه اخصموا أي خوضوا في ديوان العرب فتذكرا شيئا
من الملح قال ولكنه يعقد في طرفي النهار أو ما أطاق من ذلك لان عمل القضاء عبادة فالأولى
أن يجلس له في طرفي النهار قال الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار ولان اعتدال حال المرء
يكون في طرفي النهار عادة أو ما أطاق من ذلك لان الطاعة بحسب الطاقة ولكن لا ينبغي
أن يتبكر للخصومة قبل طلوع الشمس فقد كان شريح رحمه الله إذا ابتكروا قبل حضوره
قال أتتظلمون بالليل فعرفنا أن ذلك غير محمود للقاضي (قال) وينبغي للقاضي أن يقدم النساء
على حدة والرجال على حدة لان الناس يزدحمون في مجلسه وفي اختلاف النساء مع الرجال
عند الزحمة من الفتنة والقبح مالا يخفى ولكن هذا في خصومة يكون بين النساء فاما لخصومة
التي تكون بين الرجال والنساء لا يجد بدا من أن يقدمهن مع الرجال وأن يجعل لكل
فريق يوما على قدر ما يرى من كثرة الخصوم فلا بأس بذلك لأنه إذا تركهم يزدحمون على ما به
وربما يقتتلون على ذلك وفيه من الفتنة مالا يخفى فيجعل ذلك مناوبة بينهم بالأيام ليعرف
كل واحد يوم نوبته فيحضر عند ذلك والحصاف رحمه الله ذكر في أدب القاضي أن الأولى
أن يجعل ذلك على الرقاع فيجزئ الخصوم اجزاء ويكتب باسم كل فريق رقعة ثم يخرج
الرقاق على الأيام للسبت والأحد إلى آخره وذلك حسن ولكن محمدا رحمه الله اختار في
الكتاب أن يقدم الناس على منازلهم الأول فالأول ولا يتبدئ بأحد جاء قبله غيره والى هذا
أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبقك بها عكاشة وهذا لان الذي جاء أولا استحق
النظر في حجته ان لو كان القاضي جالسا عند ذلك فتأخر جلوس القاضي لا يغير استحقاقه
ولا يبطل بحضور غيره فلهذا تقدمه عملا بقوله تعالى ويؤت كل ذي فضل فضله قال ويضع
على ذلك أمينا من قبله يقدمهم إليه لأنه لا يتمكن من يعرف ذلك بنفسه لكثرة أشغاله وفيما
يعجل القاضي عن مباشرته يستعين بأمين من أمنائه وينبغي أن يبتكر ذلك الأمين إلى باب مجلس
القاضي ليعلم منازل الناس في الحضور فلعلهم يكذبون في ذلك أو أن يلبسون عليه وإنما يجعل على
ذلك أمينا لا يطمع ولا يرتشى فان ذلك من عمل القضاة فكما لا يطمع هو فيما يقضى فكذلك
80

ينبغي أن يكون أمينه قال رحمه الله وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول قد جرى الرسم في زماننا
أن البواب على باب مجلس القضاء يأخذ من كل خصم قطعة ليمكنه من الدخول والقاضي
يعلم ذلك ولا يمنعه منه وفيه فساد عظيم فليس لأحد أن يمنع أحدا من دخول المسجد ولا من
أن يتقدم إلى القاضي في حاجته فهو يرتشى ليكف ظلمه عنه ويمكنه مما هو مستحق له
والقاضي يعلم ذلك ولا يمنع منه فهو بمنزلة ما لو علم أن أمينه يشرب الخمر أو يزنى على بابه
فلا يمنعه عن ذلك وان رأى أن يجعل الغرباء مع أهله المصرف فعل وان رأى أن يبدأ بهم
فلا يضره ذلك بعد أن تكون الغرباء غير كثير فان كثروا في كل يوم فشغلوه عن أهل
المصر قدمهم على منازلهم مع الناس وقد بينا أن الغريب على جناح السفر فربما يضر التأخير
به وقبله مع أهله فإذا لم يقدمه القاضي ربما ترك حقه ورجع إلى أهله وقد أمر بتعاهد الغريب
تعظيما لحق غربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا كان له أن يقدم الغرباء ولكن بشرط
أن لا يضر بأهل المصر ضررا فإنهم جيرانه وإنما يقلد القضاء لينظر في حوائجه فإذا كان تقديم
الغرباء يضر بأهل المصر قدمهم على منازلهم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار
في الاسلام ولا بأس بان يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض فقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعده يفعلون ذلك ولان هذا من حق المسلم على
المسلم قال صلى الله عليه وسلم للمسلم على المسلم ستة حقوق وذكر في الجملة أن يشيع جنازته
ويعوده إذا مرض ولا يمتنع عليه القيام بحقوق الناس عليه بسبب تقلده القضاء ولا بأس بأن
يجيب الدعوة الجامعة فذلك من السنة قال صلى الله عليه وسلم من لم يجب الدعوة فقد عصى
أبا القاسم قال ولا تجب الدعوة الخاصة الخمسة والعشرة في مكان لان ذلك يجر إليه تهمة الميل
بأن يقول أحد الخصمين ان فلانا في دعوة فلان كلم القاضي وهو نائب عن خصمي وصانعه
على رشوة ولان إجابة الدعوة الخاصة مما يطمع الناس به في القاضي فعليه أن يحترز عن ذلك
وأصح ما قيل في الفرق بين الدعوة الجامعة والخاصة ان كل ما يمتنع صاحب الدعوة من ايجاده إذا علم أن القاضي لا يجيبه فهو الدعوة الخاصة وان كأن لا يمتنع من ايجاده لذلك فهو
الدعوة العامة لأنه عند ذلك يعلم أن القاضي لم يكن مقصودا بتلك الدعوة وإنما يمتنع من
إجابة الدعوة الخاصة إذا لم يكن صاحب الدعوة ممن اعتاد ايجاد الدعوة له قبل أن يتقلد
القضاء فإن كان ذلك من عادته قبل هذا فلا بأس بأن يجيب دعوته واليه أشار في قوله
81

ولا بأس بأن يجيب دعوة ذي القرابة لان هذا بين القربات ليس من صوالب القضاء عادة
ولا صدق في ذلك كالأقارب إذا كان ذلك معروفا بينهم قبل تقلد القضاء ولا ينبغي له أن
يضيف أحد الخصمين إلا أن يكون خصمه معه لما روينا من نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن ذلك (قال) ولا يقبل الهدية وقبول الهدية في الشرع مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم
نعم الشئ الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الأسكفة وقال صلى الله عليه وسلم الهدية تذهب
وجر الصدر أو وعر الصدر وقال صلى الله عليه وسلم تهادوا تحابوا ولكن هذا في حق لم يتعين
لعمل من أعمال المسلمين فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة فعليه التحرز عن قبول الهدية
خصوصا ممن كأن لا يهدى إليه قبل ذلك لأنه من جوالب القضاء وهو نوع من الرشوة
والسحت والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ابن للثينة على الصدقات
فجاء بمال فقال هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته ما بال قوم
نستعملهم فيقدموا بمال ويقولون هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فهلا جلس أحدكم عند حمش
أمه فينظر أيهدى إليه أم لا واستعمل عمر رضي الله عنه أبا هريرة رضي الله عنه فقد بمال فقال
من أين لك هذا قال تناتجت الخيول وتلاحقت الهداية قال أي عدو الله هلا قعدت في بيتك
فنظر أيهدي إليك أم لا فأخذ ذلك منه وجعله في بيت المال فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة
إذا كان بهذه الصفة ومن جملة الأكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة ويطمع فيه الناس
فليتحرز من ذلك الا من ذي رحمه محرم منه فقد كان التهادي بينهم قبل ذلك عادة ولأنه من
جوالب القرابة وهو مندوب إلى صلة الرحم وفي الرد معنى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم من
الملاعن فأما في حق الأجانب قبول القاضي الهدية من جملة ما يقال إذا دخلت الهدية من
الباب خرجت الأمانة من الكوة ولا ينبغي له أن يخلو في منزله مع أحد الخصمين كما لا يسار
أحد الخصمين ولا بأس بأن يقضى في منزله وحيث أحب لان عمل القضاء لا يختص بمكان
ولأنه في كونه طاعة لا يكون فوق الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا فأحسن ذلك وأحب إلى أن يقضى حيث تقام جماعة الناس يعنى في المسجد
الجامع أو غيره من مساجد الجماعات لان ذلك يكون أبعد عن التهمة ولأنه يتمكن كل واحد
من أن يحضر مجلسه عند حاجته ولا يشتبه عليه موضعه ولا يحتاج إلى من يهديه إلى ذلك من
الغرباء كان أو من أهل المصر ولا يقضي وهو يمشي ويسير على الدابة فانى أتخوف عليه من
82

ذلك الزلل لأنه عند ذلك لا يكون معتدل الحال فيكون قبله مشغولا بما هو فيه من المشي أو
السير فلا يتفرغ بالنظر في الحجج ولأنه نوع من الاستخفاف وهو مأمور بان يصون قضاء عن
أسباب الاستخفاف ظاهرا وباطنا ولا بأس بأن يقضى وهو متكئ لان التكاءة نوع جلسة
كالتربع ونحوه وطباع الناس في الجلوس تختلف فمنهم من يكون اتكاؤه أروح له واعتدال
حاله عند ذلك أظهر والأصل فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في الرجلين الذين اختصما بين
يدي النبي صلى الله عليه وسلم الحديث إلى أن قال وكان متكئا فاستوى جالسا فقد نظر في
خصومتهما حين كان متكئا فعرفنا انه لا يأس بذلك وينبغي له أن يقضى بما في كتاب الله فان
أتاه شئ لم يجده فيه قضى فيه بما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجده فيه نظر فيما
أتاه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم فقضي وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل
انه إذا صح له قول عن واحد من المعروفين من الصحابة رضي الله عنهم قضى به وقدمه على القياس
لقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولان فيما يبلغه عن الصحابي
رضي الله عنه احتمال السماع فقد كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يفتون به
تارة ويرون أخرى وفيه أيضا احتمال ترجيح الإصابة في نفس الرأي فقد وقفوا لما لم يوقف غيرهم
بعدهم فإن كانوا اختلفوا فيه تخير مدة أقاويله أحسنها في نفسه وليس له أن يخالفهم جميعا
ويبتدع شيئا من رأيه لأنهم لو اجتمعوا على قول لم يجز لاحد أن يخالفهم فإذا اختلفوا على أقاويل
محصورة فذلك اجماع منهم على أن الحق لا يعد مما قالوا فلا يجوز لاحد أن يخالفهم ويبتدع
شيئا من رأيه ولكنه يختار أحسن الأقاويل في نفسه لأنهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بينهم
بالرواية فقد انقطع احتمال السماع وتعين القول بالرأي فتعارض أقاويلهم كتعارض الأقيسة
وعند ذلك على القاضي أن يصير إلى الترجيح ويعمل بما ظهر الرجحان فيه فكذلك عند
اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم يصير إلى الترجيح فإن لم يبين له وجه الترجيح فله أن
يعمل بأي الأقاويل شاء لان بالتعارض لا تنعدم الحجة في أقاويلهم فينبغي أن يعمل بأحسنها
في نفسه ويكون ذلك عملا منه بالحجة فإن لم يجده في ما جاءه عن أحد منهم اجتهد رأيه في ذلك
وقاسه بما جاء منه ثم قضي بالذي يجتمع رأيه عليه من ذلك ويرى أنه الحق لأنه مأمور بفصل
القضاء والتكليف بحسب الوسع والذي في وسعه اجتهاد الرأي عند انقطاع سائر الأدلة عنه
فيشغل به إذ كان من أهله كمن اشتبه عليه القبلة عند انقطاع الأدلة والأصل فيه قوله تعالى
83

اعتبروا يا أولى الابصار والاعتبار رد الشئ إلى نظيره فالعبرة هو البيان قال الله تعالى ان
كنتم للرؤيا تعبرون والبيان يرد الشئ إلى نظيره فان أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه
فيه وكذلك إن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يشاور الفقهاء لأنه يحتاج إلى معرفة الحكم
ليقضي به وقد عجز عن ادراكه بنفسه فليرجع إلى من يعرف ذلك كما إذا احتاج معرفة قيمة شئ
فان اختلفوا فيه نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به كما بينا عند اختلاف الصحابة
رضوان الله عليهم الا ان هنا ان رأى خلاف رأيهم فان استحسن وأشبه الحق قضى بذلك لان
اجماعهم لا ينعقد بدون رأيه وهو واحد منهم ولان رأيه أقوى في حقه من رأى غيره فلو
قضى برأيه كان قاضيا بما هو الصواب عنده وإذا قضى برأي غيره كان قاضيا بما عنده انه خطأ
وقضاؤه بما عنده انه هو الصواب أولى وإن لم يكن من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل
نظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه فهذا اجتهاد مثله ولا يعجل بالحكم إذا لم يبين له
الامر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق ولا يستدرك ذلك إلا
بالتأمل والمشورة وقال صلى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من الشيطان والأصل في
الباب حديث الشعبي رضي الله عنه قال كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه وربما يتأمل
في ذلك شهرا ويستشير أصحابه واليوم يفصل في المجلس ما به قضية وحديث ابن مسعود رضي الله عنه
في المفوضة معروف فإنه ردهم شهرا ثم قال أقول فيه برأيي فان يك صوابا فمن الله
ورسوله وان يك خطا فمنى ومن الشيطان الحديث فعرفنا انه ينبغي للقاضي أن يتأنى ويشاور
عند اشتباه الامر وإذا قضى بقضاء ثم بدا له أن يرجع عنه فإن كان الذي قضى به خطأ لا يختلف
فيه رده وأبطله يعنى إذا كان مخالفا لنص أو لاجماع فالقضاء بخلاف النص والاجماع باطل
وهو جهل من القاضي وفي الحديث ردوا الجهالات إلى السنة فإن كان خطأ مما يختلف فيه أمضاه
على حاله وقضي فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده ويرى أنه أفضل لان القضاء الأول
حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز ابطاله والأصل فيه ما روى أن عمر
رضي الله عنه كان يقضى في حادثة بقضية ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها فكان إذا
قيل له في ذلك قال تلك كما قضينا وهذه كما يقضى وقال الشعبي رحمه الله حفظت من عمر رضي الله عنه
في الحد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضا وبهذا يتبين ان الاجتهاد لا ينقص باجتهاد
مثله ولكنه فيما يستقبل يقضى بما أدى إليه اجتهاده وأصله في التحري للقبلة وذكر عن شريح
84

رحمه الله انه كان يقضى بالقضاء ثم يبدو له فيرجع عنه ولا يرجع فيما كان قضى به يعنى في
المجتهدات كان إذا تحول رأيه بنى فيما يستقبل على ما أدى إليه اجتهاده ولم ينقص ما كان قضى
به وفيه دليل أن التابعي إذا أدرك من الصحابة رضي الله عنهم وسوغوا له الاجتهاد معهم
فان رأيه يعارض رأيهم لان شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما ثم
كان يبنى القضاء على رأيه ولا يرجع إليهما فيما كان يبدو له وقد سوغوا له ذلك حتى كان
عليا رضي الله عنه يقول له قلى يا أيها العبد ألا تنظر وقد رجع ابن عباس رضي الله عنهما إلى
قول مسروق رحمه الله في مسألة نحر الولد وعن عامر قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقضي بالقضاء فينزل عليه القرآن بخلافه فيمضي ما قضى به ويستأنف القضاء وفي هذا
دليل على أنه كان يقضى باجتهاده في ما لم يوح إليه فيه وقد بينا انه كأن لا يعجل بذلك ولكن
كان ينتظر الوحي فإذا انقطع طمعه عن الوحي فيه قضى باجتهاده وصار ذلك شريعة ثم ينزل
القرآن بخلافه بعد ذلك فيكون ناسخا له ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا ونظيره أمر
القبلة فإنه صلى الله عليه وسلم بعد ما قدم المدينة كان يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا
ثم انتسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى الكعبة وكان يستأنف القضاء بالناسخ ولا يبطل ما قضى
به لان النسخ ينهى مدة الحكم ولا يبين أنه لم يكن حقا قبل نزول الناسخ واستدل بهذا
الحديث على ما تقدم من المجتهدات فإنه لا ينقض ما كان قضى به إلا أنهما يفترقان من حيث
أن الرأي لا ينسخ الرأي وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم
تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشئ من مال أخيه بغير
حق فإنما أقضى له بقطعة من النار معنى قول اللحن أفطن وأقدر على البيان فاللحن في اللغة
هو الفطنة وفيه دليل لمن يقول إن بقضاء القاضي لا يحل ما كان حراما فيكون حجة لمحمد
رحمه الله في مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ وأبو حنيفة رحمه الله يقول المراد الاملاك
المرسلة والمراد بيان الوعيد لمن يدعى الباطل ويقيم عليه شهود الزور فالوعيد يلحقه بذلك
عندنا وإن كان الملك يثبت له بقضاء القاضي بسببه قال وأكره للقاضي أن يفتى للخصوم في
القضاء كراهة أن تعلم الخصوم قوله فتحترز منه بالباطل لحديث شريح رحمه الله حين سأل عن
مسألة الحبس قال إنما أقضى ولست أفتى وقد كره بعض الناس للقاضي أن يفتى في المعاملات
أصلا وقالوا يفتي في العبادات وكره بعضهم أن يفتى في مجلس القضاء وقالوا لا بأس به في
85

غير مجلس القضاء لان كل واحد من الامرين مهم فإذا جمع بينهما في مجلس يخاف الخلل فيهما
والأصح انه لا بأس بان يفتى في المعاملات والعبادات في مجلس القضاء وفي غير مجلس
القضاء فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتى ويقضى والخلفاء رضي الله عنهم بعده
كذلك وللقضاء فتوى في الحقيقة إلا أنه ملزم وإنما الذي يكره له أن يفتى للخصم فيما خاصم
فيه إليه لما قيل إن الخصم إذا وقف على رأيه ربما اشتغل بالتلبيس للتحرز عن ذلك فلا يفتى
له في ذلك حتى تنقضي الخصومة وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال اختصم رجلان إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأحدهما عالم بالخصومة والاخر جاهل بها فلم يلبسه العالم ان قضى له
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المقضى له وقعد المقضي عليه فقال يا رسول الله عليك
السلام والله الذي لا اله غيره ان حقي لحق فقال صلى الله عليه وسلم علي بالرجل فأتى به
فأخبره بالذي حلف عليه فقال يا رسول الله إن شئت عاودته الخصومة فقال عليه الصلاة
والسلام عاوده فعاوده فلم يلبسه أن قضى له فقام المقضى له وقعد المقضى عليه فقال والله الذي
لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ان حقي لحق يعلم ذلك نفسه
فقال صلى الله عليه وسلم علي بالرجل فأتى به فأخبره فقال إن شئت عاودته فقال عليه السلام
لا ولكن اعلم أن من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فإنما يقتطع قطعة من نار
فقال الرجل ألحق حقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال من اقتطع بخصومته
وجد له حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار قال أبو هريرة رضي الله عنه فكانت هذه
أشد من الأولى وفيه دليل على أنه لا ينبغي للقاضي أن يكف عن القضاء مخافة تلبيس بعض
الخصوم عليه فقد كانوا يفعلون ذلك عند من كان ينزل عليه الوحي وهو معصوم وفيه دليل
أنه لا بأس للمرء أن يحلف مختار فقد حلف الرجل مرتين من غير أن طلب ذلك منه ولم
ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وفيه دليل على أن القاضي إذا ارتاب في شئ
من قضائه ينبغي له أن يتثبت في ذلك ويحتاط (ألا ترى) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمعاودة
حين حلف المقضى عليه أن حقه حق وكان ذلك احتياطا منه وفيه دليل ان مال الغير لا يحل
للغير بقضاء القاضي فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطين في الوعيد الثاني أشد من
الأول كما قاله أبو هريرة رضي الله عنه وهذا لان حرمة مال المسلم كحرمة نفسه قال صلى الله
عليه وسلم سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه فكما أن من قصد قتل
86

المسلم بغير حق فجزاؤه ما قال الله تعالى فجزاؤه جهنم خالدا فيها فكذلك إذا قصد أخذ ماله
بالباطل والتلبيس (قال) وينبغي للقاضي أن لا يلقن الشاهد ولكن يدعه حتى يشهد بما عنده فإن كان
ت شهادته جائزة قبلها وان كانت غير جائزة ردها ولا يقول له اشهد بكذا فان هذا تلقين
وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله لا رأى بأسا أن يقول أتشهدا
بكذا وكذا وإنما قال هذا حين ابتلي بالقضاء فرأى ما بالشهود من الخبر عند أداء الشهادة بالحق
فان المجلس القضاء هيبة وللقاضي حشمة ومن لم يعتاد التكلم في مثل هذا المجلس يتعذر عليه البيان
إذا لم يعينه القاضي على ذلك وأداء الشهادة بالحق من باب البر قال الله تعالى وتعاونوا على بالبر
والتقوى وأمرنا باكرام الشهود قال صلى الله عليه وسلم أكرموا الشهود فان الله تعالى يحيى بهم
الحقوق وهذا القدر من التلقين يرجع إلى اكرامه بأن يذكر ما يسمع منه فيقول أتشهد بكذا
لما لم يسمع منه فهو التلقين المكروه وفي مذهبه نوع رخصة والعزيمة فيما ذهب إليه أبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله لان القاضي منهى عن اكتساب ما يجر إليه تهمة الميل وما يكون فيه إعانة
أحد الخصمين إما صورة أو معنى وتلقين الشاهد لا يخلو من ذلك ورد لم يجز له أن يلقن المدعى
مع أن الدعوى لا تكون ملزمة فلأن لا يجوز له أن يلقن الشاهد أولى ولان عادة بعض الناس
أن المحتشم إذا لقن أحدهم شيئا ترك ما كان قصد التكلم به وتكلم بما لقنه تعظيما له فلا يأمر
القاضي أن يفعل الشاهد مثل ذلك فيدع ما كان عنده من الشهادة ويتكلم بما لقنه القاضي والتلقين
تعليم والقاضي إنما جلس لسماع الشهادة وفصل القضاء بالشهادة لا لتعليم الشاهد فلهذا أكره
له أن يلقنه ولا يضر القاضي أن يقدم الشهود جميعا أو واحدا واحدا لان الثابت بالنص اشتراط
العدد والعدالة في الشهود وبذلك يظهر جانب رجحان الصدق فالتفريق بينهم في المجلس يكون
زيادة والقاضي لا يتكلف لها إلا أن يرتاب في أثرهم فعند ذلك عليه أن يحتاط لقوله صلى الله
عليه وسلم دع ما يريبك إلى مالا يريبك ومن الاحتياط أن يفرق بينهما إلا أنه لا ينبغي له أن
يتعنت معهم فان التعنت يخلط على الرجل عقله وإن كان صحيحا في شهادته ولان الشاهد أمين
فيما يؤدى من الشهادة ولم يظهر خيانته للقاضي فلا يتعنت معهم وقد أمرنا باكرامهم إلا أنه إذا
اتهمهم وفرق بينهم فلا بأس أن يسأل كل واحد منهم أين كان هذا وكيف ومتى كان فهو من
باب الاحتياط ودفع الريبة لامن باب التعنت وان اختلفوا في ذلك اختلافا يفسد الشهادة
أبطلها وان كأن لا يفسدها أجازها ولا يطرحها بالتهمة والظن فان الظن لا يغنى من الحق شيئا
87

قال صلى الله عليه وسلم إذا ظنت فلا تحقق فما لم يعلم منهم سواء أو يسمع منهم عند السؤال
اختلافا مفسدا لشهادتهم لم يمنع من القضاء بالشهادة بمجرد الظن وإذا لم يطعن الخصم في الشاهد
فلا ينبغي أن يسأل عنه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولكنه يقضى بظاهر العدالة إلا أن يظعن
الخصم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم وقيل هذا اختلاف
عصر وزمان فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتى في القرن الثالث وقد شهد فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالصدق والخيرية بقوله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرني الحديث وكانت الغلبة
للعدول في ذلك الوقت فلهذا كان يكتفى بظاهر العدالة وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله بالكذب بقوله صلى الله عليه وسلم ثم يفشوا الكذب
حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول فقال لابد
للقاضي أن يسأل عن الشهود وحجتهما أن اشتراط العدالة في الشاهد للقضاء بشهادته ثابت
بالنص قال الله تعالى اثنان ذوي عدل منكم وقيل السؤال عنهما صفة العدالة محتملة فيهما
والشرط لا يثبت بما هو محتمل * توضيحه ان على القاضي أن يصون نفسه عن الفضاء بشهادة
الفاسق فقد أمر بالتثبت في خبر الفاسق فإنما يسأل عن الشهود صيانة لقضائه فلا يتوقف
على ذلك على طلب الخصم ولان كان ذلك لحق الخصم فليس لكل خصم يبصر حجته فربما
يهاب الخصم الشهود فلا يجاهر بالطعن فيهم والقاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر
لنفسه (ألا ترى) انا في الحدود يسأل عن الشهود وإن لم يطعن الخصم لهذا المعنى فكذلك في
الأموال وأبو حنيفة رحمه الله استدل بظاهر الحديث المسلمون عدول بعضهم على بعض
فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم فتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكى ثم
العدالة هي الاستقامة يقال للجادة طريق عدل وللبيان طريق عدل جائز وقد علم القاضي
منهم الاستقامة واعتقد وذلك يحمله على الاستقامة في التعاطي فعليه أن يتمسك به ما لم بظهر
خلافه فهذا دليل شرعي فوق خبر مزكى وإنما يعتمد هذا الدليل إذا لم يطعن الخصم فأما بعد
طعنه يقع التعارض لان الخصم مسلم ودينه يمنعه من أن يجازف بالطعن فيهم فللتعارض وجب
على القاضي أن يسأل حتى يظهر المرجح لاحد الجانبين بخبر المزكى فأما في الحدود يسأل وإن لم
يطعن الخصم احتيالا للدرء وقد أمر بدرء الحدود لان الحدود ان وقع فيها غلط لا يمكن تداركه
وبظاهر العدالة لا تنتفي الشبهة ففيما يندرئ بالشبهات لا يكتفي بذلك فأما المال مما يثبت مع
88

الشبهات وإذا وقع الغلط فيه أمكنه التدارك فيكتفى بظاهر العدالة في ذلك ما لم يطعن الخصم
وإذا سأل عن الشهود لم يقضى بشهادتهم حتى تأتي مسألته مزكاة يعنى ان المزكى ان كتب في
جوابه أنهم عدول لا يكتفي بذلك فالعدل قد لا يكون من أهل الشهادة كالعبد عدل في روايته
وكذلك أن كتب عدول أحرار فالمحدود في القذف بعد التوبة حر عدل وكذلك أن كتب
أنه نفذ فقد بطل هذا اللفظ على المستور الذي لا يعرف حاله فان كتب أنه مزكى فهو تنصيص
على وجوب العمل بشهادته ولان القاضي إنما طلب من المزكى التزكية فينبغي أن يجيبه إلى ما طلب
بلفظه كما أنه لما طلب من الشاهد أن يشهد فما لم يأت بلفظة الشهادة لا تقبل شهادته وإذا
اختصم إلى القاضي قوم يتكلمون بغير العربية وهو لا يفقه لسانهم فإنه ينبغي له أن يترجم
عنهم له رجل مسلم ثقة واتخاذ الترجمان للحاجة قد كان عليه الناس في الجاهلية وبعد الاسلام
ولما جاء سلمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم ترجم يهودي كلامه لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فخان في ذلك حتى نزل الوحي حديث فيه طول وأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم العبرانية وكان يترجم لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عمن كان يتكلم بين يديه بتلك اللغة ثم لا خلاف أنه يشترط في المترجم أن
يكون عدلا مسلما لان نفس الخبر محتمل للصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق بالعدالة
ويشترط الاسلام أيضا لان الكفار معادون للمسلمين فالظاهر أنهم يقصدون الجناية في مثل
هذا قال الله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في افساد
أموركم فلهذا لا يقبل القاضي الترجمة الا من مسلم عدل والواحد لذلك يكفي والمثنى أحوط
في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يشترط في المترجم لكلام الخصم
أو لشهود الشاهدين ما يشترط في الشهادة من العدد وذلك رجلان أو رجل وامرأتان
وكذلك الخلاف في التزكية عندهما تزكية الواحد يكفي والمثنى أحوط وعند محمد رحمه الله
لا بد من عدد الشهادة في ذلك وكذلك الخلاف في رسول القاضي إلى المزكى فمحمد رحمه الله
يقول ما لم يفهم القاضي فكأنه لم يسمعه ومعنى هذا وهو انه إنما يسمع من المترجم لأنه يفهم قول
المترجم وعليه ينبنى الحكم فكانت الترجمة في حقه بمنزلة الشهادة (ألا ترى) أنه يعتبر فيها ما يعتبر
في الشهادة من الحرية والإسلام والعدالة فكذلك العدد وهذا لأنه يلزم على القاضي القضاء
وهذا آكد ما يكون من الالزام فيشترط العدد فيه لطمأنينة القلب كالشهادة إلا أنه لا يشترط
89

لفظة الشهادة لان اشترط ذلك في الشهادة ليس لمعنى الالزام بل هو ثابت بالنص بخلاف
القياس أو لمعنى الزجر عن الشهادة بالباطل فقوله أشهد بمنزلة قوله أحلف ولهذا أعظم الوزر
في شهادة الزور كما في اليمين الغموس والمدعى هو الذي يأتي بالشهود فلمكان احتمال المواضعة
والتلبيس بينهم شرطنا لفظة الشهادة وأما المترجم بحيازة القاضي فينعدم في حقه مثل تلك
التهمة فلهذا لا يشترط في حقه لفظة الشهادة وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قال المترجم
مخير غير ملزم وخبر الواحد مقبول بشرط العدالة والإسلام وإن كان ملزما كما في رواية
الاخبار وكما في الشهادة على رؤية هلال رمضان والدليل عليه أنه لا يعتبر لفظة الشهادة فيه ولو
كان هذا في معنى الشهادة لاستوى فيما اختص به الشهادة كاختصاص الشهادة من بين سائر الأخبار
بلفظ الشهادة فإذا لم يجعل هذا الخبر بمنزلة الشهادة فيه ففي العدد أولى واشترط
الاسلام والعدالة هنا بمنزلة اشتراط ذلك في رواية الاخبار واشتراط الحرية لأنه يلزم الغير
ابتداء من غير أن يلتزم شيئا فكان من باب الولاية والرق تبقى الولاية على الغير بخلاف رواية
الاخبار والشهادة على هلال رمضان فإنه يلتزم ذلك بنفسه ثم يتعدى إلى غيره فلا تشترط
الحرية فيه لذلك ومع أن الواحد يكفي لذلك كما في رواية الاخبار ولكن رجل وامرأتان أوثق
لأنه في الاحتياط أقرب قال وينبغي للقاضي ان يتخذ كاتبا من أهل العفاف والصلاح لأنه
محتاج إلى أن يكتب ما جرى في مجلسه وربما يعجز عن مباشرة جميع ذلك بنفسه فيتخذ كاتبا
لذلك والكاتب نائبه فينبغي أن يشبهه في العفاف والصلاح والكتاب من أقوى ما يعتمد عليه
القاضي فلا يفوضه الا إلى من هو معروف بالصلاح والعفاف حتى لا يخدع بالرشوة ثم لم يقعده
حيث يرى ما يكتب وما يصنع اما لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى ما في يده من المكتوب في
كل حادثة فليكن بمرأى العين منه أو لأنه لا يأمن عليه من أن يخدعه بعض الخصوم بالرشوة إذا لم
يكن بمرأى العين من القاضي ثم يكتب خصومة كل خصمين وما بينهما من الشهادة في صحيفة
بيضاء وحدها ثم يطويها ويخرمها ويختمها بخاتمه للتوثق كيلا يزاد فيها ثم يكتب عليها خصومة
فلان بن فلان وفلان بن فلان في شهر كذا في سنة كذا حتى يتيسر عليه تمييزها من سائر
الصحائف إذا اختلفت بها ولا يحتاج في ذلك إلى فتح الخاتم فقد يشق عليه ذلك في كل وقت
ويجعل خصومة كل شهر في قطمر على حدة لا يخالطها شئ آخر والقطمر اسم لخريطة القاضي
وفيه لغتان قمطرة وقطمر وإنما يتخذ لخصومة كل شهر خريطة على حدة ليتيسر عليه وجودها
90

عند الحاجة إليها ويجدها بأدنى طلب ويكتب التاريخ لأنه قد يحتاج إليه عند منازعة الخصوم
والأصل في كتاب التاريخ ما روى أن عمر رضي الله عنه لما أراد أن يكتب إلى الآفاق قيل له ان
الملوك لا يقبلون الكتاب إذا لم يكن مؤخرا فجمع الصحابة وشاورهم في التاريخ ثم اتفقوا على أن
جعلوا التاريخ من وقت الهجرة وبقي ذلك إلى يومنا هذا قال وليباشر هو بنفسه مسائل
الشهود فيكتبها أو يكتب بين يديه ثم يبعث بها في السر إلى أهل الثقة عنده والعفاف والصلاح
فيبعث كل مسألة مع رجلين كل واحد منهما ثقة ولا يطلع واحد منهما على ما يبعث به مع صاحبه
لان قضاءه ينبنى على الشهادة فلا يدع في بابها أقصى ما في وسعه من الاحتياط والمباشرة بنفسه
وقد كانت التزكية في الابتداء علانية ثم أحدث شريح رحمه الله تزكية السر فقيل له أحدثت
يا أبى أمية فقال أحدثتم فأحدثنا فكان يجمع بين تزكية السر وتزكية العلانية فيسأل عن
حال الشهود في السر ثم يحضر الشهود والمزكون ليزكوهم علانية فيقول هؤلاء الذين زكيناهم
هو أتم ما يكون من الاحتياط غير أن القضاة تركوا بعد ذلك تزكية العلانية واكتفوا
بتزكية السر ابقاء للستر على الناس وتحرزا عن الغيبة التي تقع بين المزكين وبعض الشهود
في تزكية العلانية إذا ميزوا المجروح فلهذا يكتفى بتزكية السر في زماننا وإنما لا يطلع واحد
من الرسولين على ما يبعث به مع صاحبه كيلا يتواضعا بينهما على شئ وان استطاع أن
لا يعرف له صاحب مسألة فليفعل لأنه إذا كان معروفا فيرجع إليه بعض الخصوم فيخدعه
بالرشوة أو تخوفه بعض الشهود فيزكى المجروح لذلك ويلبس على القاضي فكان الاحتياط أن
لا يعرف له صاحب مسألة ولكن في زماننا اتخذوا التزكية عملا فيشتهر المزكى لذلك لا محالة
والاحتياط للقاضي أن يسأل عنه وعن غيره من العدول وأهل الصلاح ممن يقف عليه القاضي
ولا يعرفه الخصوم وإذا أتاه تزكية رجل من ثقة وأتاه من ثقة آخر انه غير عدل أعاد المسألة
لوقوع التعارض بين الخبرين فان النافي معارض للمثبت فيما طريقه الخبر وقد بينا في كتاب
الاستحسان وذكرنا هناك انه إذا اتفق رجلان على التزكية عمل بقولهما ولم يعمل بقول الواحد
الذي خرج لان المثنى حجة في الاحكام فلا يعارضه خبر الواحد وإذا اجتمع رهط على التزكية
ورجلان عدلان على الحرج أخذ بقولهما لان الذين زكوا اعتمدوا ظاهر الحال وخفى عليهم
ما عرفه اللذان جرحا من العارض الموجب للجرح فيه وقد ثبت ذلك بحجة كاملة فان خبر
المثنى حجة في اثبات الحكم (قال) وينبغي أن يكتب الشاهد اسمه ونسبه وحليته ومنزله في دار نفسه
91

أو في دار غيره لأنه ما لم يصر معلوما عند من يسأل عن حاله لا يمكنه ان يسأل وإنما يصير معلوما
بما ذكرنا وإنما يكتب منزله لان أعرف الناس بحال المرء جيرانه (ألا ترى) ان ذلك الرجل
لما قال يا رسول الله عليك السلام كيف أنا قال صلى الله عليه وسلم سل جيرانك وإنما يتمكن
من أن يسأل جيرانه عن حاله الأعرف منزله ولأنه قد يتسمى رجل باسم غيره للتلبيس على
القاضي فيتحرز عن ذلك بان يكتب منزله ويسأل عن التزكية في العلانية بعد التزكية في السر لأنه
ربما يشتبه على المزكى أو يلتبس عليه فيزكى غير من شهد وينعدم هذا الوهم عند تزكية العلانية
الا انه استحسن ترك ذلك في زماننا للتحرز عن الفتنة وإذا وجد القاضي في ديوانه صحيفة فيها
شهادة شهود لا يحفظ أنهم شهدوا عنده بذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله ان يتفكر في
ذلك حتى يتذكر وليس له أن يقضى بذلك إن لم يتذكر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
إذا وجد ذلك في قمطرة تحت خاتمه فعليه أن يقضى به وإن لم يتذكر وهذا منهما نوع رخصة
فالقاضي لكثرة اشتغاله يعجز أن يحفظ كل حادثة ولهذا يكتب وإنما يحصل المقصود بالكتاب
إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب عند النسيان فان الآدمي ليس في وسعه التحرز عند النسيان
(ألا ترى) إلى ما ذكر الله تعالى في حق من هو معصوم فقال الله تعالى سنقرئك فلا تنسى
الا ما شاء الله وفي تخصيصه بذلك بيان ان غيره ينسى وسمى الانسان انسانا لأنه ينسى قال
الله تعالى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما فلو لم يجز له الاعتماد على كتابه عند
نسيانه أدى إلى الحرج والحرج مدفوع ثم ما كان في قمطرة تحت خاتمه فالظاهر أنه حق وإن لم
يصل إليه يد معتبرة ولا زائدة فيه والقاضي مأمور باتباع الظاهر ومذهب أبي حنيفة رحمه الله
هو العزيمة فالمقصود من الكتاب ان يتذكر إذا نظر فيه لان الكتاب للقلب كالمرآة للعين وإنما
تعتبر المرآة ليحصل الادراك بالعين فإذا لم يحصل كان وجوده كعدمه فكذلك الكتاب للتذكر
بالقلب عند النظر فيه فإذا لم يتذكر كان وجوده كعدمه وهذا لان الكتاب قد يزور ويفتعل
به والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم وليس للقاضي ان يقضى الا بعلم وبوجود الكتاب
لا يستفيد العمل مع احتمال التزوير والافتعال فيه وهذه ثلاثة فصول أحدهما ما بينا والثاني في
الشاهد إذا وجد شهادته في صك وعلم أنه خطه وهو معروف ولكن لم يتذكر الحادثة والثالث
إذا سمع الحديث فوجده مكتوبا بخطه ووجد سماعه مكتوبا غره وهو خط معروف ولكنه لم
يذكر في الفصول الثلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله ليس له ان يعتمد الكتاب ولهذا قلت له
92

روايته لأنه كان يشترط في الرواية الحفظ من حين سمع إلى أن يروى واليه أشار رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قوله نصر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من
يسمعها ومحمد رحمه الله في الفصول الثلاثة اخذ بالرخصة للتيسير على الناس وقال يعتمد خطه
إذا كان معروفا وأبو يوسف رحمه الله في مسألة القاضي ورواية الحديث أخذ بالرخصة لان
المكتوب كان في يده وفي مسألة الشهادة أخذ بالعزيمة فقال الصك الذي فيه الشهادة كان
في يد الخصم فلا يأمن الشاهد التغيير والتبديل فيه فلا يعتمد خطه في الشهادة ما لم يتذكر الحادثة
وان وجد القاضي سجلا في خريطته ولم يتذكر الحاجة فهو على الخلاف الذي بينا وان نسي
قضاءه ولم يكن سجل فشهد عنده شاهد أنك قضيت بكذا لهذا على هذا فان تذكر أمضاه
وإن لم يتذكر فلا اشكال أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك وقيل على قول
أبى يوسف رحمه الله لا يعتمد ذلك وعند محمد رحمه الله يعتمد ذلك فيقضى به وعلى هذا من سمع
من غيره حديثا ثم نسي ذلك راوي الأصل فسمعه ممن يروى عنده فعند أبي يوسف رحمه الله
ليس له أن يعتمد رواية الغير عنه كما لا يفعل ذلك شاهد الأصلي إذا شهد عنده شاهد الفرع على
شهادته وعند محمد رحمه الله له أن يعتمد ذلك للتيسر من الوجه الذي قلنا وعلى هذه المسائل
التي اختلف فيها أبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الرواية في الجامع الصغير وهي ثلاثة مسائل
سمعها محمد من أبى يوسف رحمهما الله ثم نسي ذلك أبو يوسف رحمه الله فكأن لا يعتمد رواية
محمد رحمه الله بناء على مذهبه في ذلك ومحمد رحمه الله كأن لا يدع الرواية مع ذلك بناء على
مذهبه فحال القاضي كذلك وما وجد في ديوان القاضي بعد أن يعدل من شهادة أو قضاء
أو اقرار فهو غير مأخوذ به ولا مقبول إلا أن يقوم بينة أنه قضى به وأنفذه وهو قاضي يومئذ
لان القاضي الثاني لا يعلم حقيقة شئ من ذلك وولاية القاضي فوق ولاية الشهادة فإذا كان
لا يجوز للمرء أن يشهد بما لا يعلم فلا يجوز له أن يقضى بما لا يعلمه أولى والأصل فيه قوله
تعالى الا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال صلى الله عليه وسلم للشاهد إذا رأيت مثل هذه
الشمس فاشهد والا فدع ثم طريق اثباته عند القاضي إقامة البينة ويشترط أن يشهدوا أنه
كان قاضيا حين قضى بهذا فلعله أنفذه بعد العزل والقضاء منه بعد العزل لا يكون نافذا ولا
ينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا من أهل الذمة * بلغنا أن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنه
ما فسأله عن كاتبه فقال هو رجل من أهل الذمة فغضب عمر رضي الله عنه من ذلك
93

وقال لا تستعينوا بهم في شئ وأبعدوهم وأذلوهم فاتخذ أبو موسى كاتبا غيره ولان ما يقوم
به كاتب القاضي من أمر الدين وهم يخونون المسلمين في أمور الدين ليفسدوه عليهم (قال)
الله تعالى لا تتخذوا بطانة الآية وان عمر رضي الله عنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعي بحنس وقال
لو كنت على ديننا لاستعنا بك في شئ من أمورنا ولان كاتب القاضي يعظم في الناس وقد نهينا عن
تعظيمهم قال صلى الله عليه وسلم أذلوهم ولا تظلموهم ولا تتخذوا كاتبا مملوكا ولا محدودا في
قذف ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته لان الكاتب ينوب عن القاضي فيما هو من أهم أعماله
فلا يختار لذلك الا من يصلح للقضاء وربما يحتاج القاضي إلى الاعتماد على شهادته في بعض
الأمور أو يحتاج بعض الخصوم إلى شهادته فلا يختار الا من يصلح للشهادة ولا بأس بان
يكلف القاضي الطالب صحيفة يكتب فيها حجته وشهادة شهوده لان منفعة ذلك له والذي
يحق على القاضي مباشرة القضاء فاما الكتبة ليست عليه فلا يلزمه اتخاذ الصحائف لذلك من
مال نفسه ولكن لو كان في بيت المال سعة فرأى أن يجعل ذلك من بيت المال فلا بأس بذلك
لأنه يتصل بعمله وكفايته في مال بيت المال فما يتصل به لا بأس بأن يجعل في مال بيت المال
وعلى هذا أجر كاتب القاضي فإنه إن جعل كفايته في بيت المال لكفاية القاضي ليحتسب
في عمله فهو حسن وان رأى أن يجعل ذلك على الخصوم فلا بأس به لأنه يعمل لهم عملا لا يستحق
على القاضي مباشرته وكذلك أجير قاسم القاضي وإذا هلك ذكر شهادة الشهود من ديوان
القاضي فشهد عنده كاتبان له ان شهوده فلان وفلان وقد شهدوا عنده بكذا وكذا لم يقبل
ذلك لأنهما ما أشهد الكاتبين على شهادتهما ولا يقبل شهادة الانسان على شهادة غيره وإذا لم
يشهد على شهادته وينبغي للقاضي أن يكتب شهادة الشاهدين بمحضر المشهود عليه أو وكيله
حتى لا يغير شيئا من موضعه لان الشهود ان زادوا شيئا أو حرفوه طعن فيه وخاصم ورفع
ذلك إلى القاضي نائبه وكون الكاتب بمحضر منه أقرب إلى النظر له والى نفى التهمة عن
القاضي وان كتبها بغير محضر منه لم يضره ذلك لأنه يكتب ما سمع وهو أمين في ذلك ما لم
تظهر خيانته وينبغي للقاضي أن يعرض كتاب الشهادة بعد ما يكتبها على الشاهد حتى يعرف
هل زاد شيئا أو حرفه عن موضعه لان حجة القضاء شهادة الشهود فيستقصى في الاحتياط فيه
وذلك في العرض على الشاهد بعد ما يكتب ولهذا قيل إذا لم يكن ماهرا في العربية ينبغي له أن
يكتب شهادة الشهود بلفظه ولا يحوله إلى لغة مخافة الزيادة والنقصان والله أعلم بالصواب
94

(باب كتاب القاضي إلى القاضي)
(قال رحمه الله اعلم بأن القياس يأبى جواز العمل بكتاب القاضي إلى القاضي لان
كتابه لا يكون أقوى من عبارته ولو حضر بنفسه مجلس القضاء المكتوب إليه وعبر بلسانه
عما في الكتاب لم يعمل به القاضي فكذلك إذا كتب به إليه ولان الكتاب قد يزور ويفتعل
والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم فكان محتملا والمحتمل لا يصلح حجة للقضاء ولكنا
جوزنا العمل بكتاب القاضي إلى القاضي فيما يثبت مع الشبهات لحديث علي رضي الله عنه
أنه جوز ذلك ولحاجة الناس إلى ذلك فقد يكون الشاهد للمرء في حقه على بلدة وخصمه
في بلدة أخرى فيتعذر عليه الجمع بينهما وربما لا يتمكن من أن يشهد في شهادتهما وأكثر
الناس يعجزون عن أداء الشهادة على الشهادة على وجهها ثم يحتاج بعد ذلك إلى معرفة عدالة
الأصول ويتعذر معرفة ذلك في تلك البلدة فتقع الحاجة إلى نقل شهادتهم بالكتاب إلى
مجلس ذلك القاضي ليتعرف القاضي من الكتاب عدالتهم ويكتب ذلك إلى القاضي المكتوب
إليه فللتيسير جوزنا ذلك ولكن فيما يثبت مع الشبهات لأنه لا ينفك عن شبهته كما أشرنا إليه
في وجه القياس فلا يكون حجة فيما يندرئ بالشبهات ولان ذلك نادر لا تعم البلوى به
فلما جعل هذا حجة للحاجة اقتصر على ما تعم البلوى به لان الحاجة تمشي إلى ذلك فإذا أتى
القاضي كتاب قاضي سأل الذي جاء به البينة على أنه كتابه وخاتمه لأنه غاب عن القاضي
علمه فلا يثبت الا بشهادة شاهدين ثم يقرؤه عليهم ويشهدون على ما فيه فمن أصل أبي حنيفة
رحمه الله ان علم الشهود بما في الكتاب شرط لجواز القضاء بذلك وهو قول أبى يوسف
الأول ثم رجع فقال إذا شهدوا انه خاتمه وكتابه قبله وإن لم يعرف ما فيه وهو قول ابن أبي
ليلى رحمه الله لان كتاب القاضي إلى القاضي قد يستعمل على شئ لا يعجبهما أن يقف عليه
غيرهما ولهذا يختم الكتاب ومعنى الاحتياط يحصل إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه ولكنا نقول
ما هو المقصود لا بد من أن يكون معلوما للشاهد والمقصود ما في الكتاب لا عين الكتاب والختم
وكتب الخصومات لا يستعمل على شئ سوى الخصومة فللتيسير يطلب كتابا آخر على حدة
فاما ما يبعث على يد الخصم لا يشتمل الا على ذكر الخصومة ولفظ الشهادة (قال) ولا يفتح
الكتاب الا بمحضر من الخصم لان ذلك في معنى الشهادة على الشهادة فان الكاتب ينقل
95

ألفاظ الشهادة كتابة إلى القاضي المكتوب إليه كما أن شاهد الفرع ينقل شهادة شاهد
الأصل بعبارته ثم لا تسمع الشهادة على الشهادة الا بمحضر من الخصم فكذلك لا يفتح
الكتاب الا بمحضر من الخصم فإذا قرأه عليه وعلم ما فيه فإنه ينبغي له أن يخرمه ويختمه لكيلا
يغير شيئا منه ويكتب عليه اسم صاحبه ليتيسر عليه وجوده في قمطره عند الحاجة إليه وإذا
وصل الكتاب إلى هذا القاضي بعد ما مات الكاتب أو عزل لم يعمل به لأنه ما أتاه كتاب
القاضي لان الكاتب قد انعزل حين عزل أو مات فإنما أتاه كتاب واحد من الرعايا وذلك
لا يصلح حجة للقضاء وان مات ذلك أو عزل بعد ما وصل الكتاب إلى هذا القاضي وقرأ
ما فيه فإنه يعمل به لان الذي أتاه كتاب القاضي وقد بينا أن الكتاب في معنى الشهادة على
الشهادة والشاهد على الشهادة إذا مات بعد أداء الشهادة يجوز العمل بشهادته بخلاف ما إذا مات
قبل الأداء فكذلك كتاب القاضي إلى القاضي لان وصول الكتاب إليه وقراءته في معنى أداء
الشهادة في مجلسه وان مات المكتوب إليه أو عزل قبل أن يصل إليه الكتاب ثم وصل إلى الذي
ولى بعده لم يعمل به لان الكتاب إلى غيره فلا يكون حجة للقضاء في حقه وكذلك لو وصل إليه
وقرأه ثم مات قبل أن يقضى به لم يعمل به من بعده بمنزلة ما لو شهد الشهود في مجلسه فمات
قبل أن ينفذه إلا أن يكون الكتاب إلى كل من يصل إليه من حكام المسلمين فقد جوز
ذلك مع جهالة المكتوب إليه لحاجة الناس إلى ذلك استحسانا إلا أنه يكلف الخصم إعادة
البينة على الكتاب والختم بين يديه لان ما قام من البينة في المجلس الأول قد بطل بموته
قبل تنفيذه وان كتب القاضي إلى قاضي في حق لرجل شهادة شهود شهدوا عنده عليه فإنه
ينبغي له أن يسمى الشهود في الكتاب وينسبهم إلى آبائهم وقبائلهم والأصل أن الغائب عن مجلس
القضاء يجب تعريفه بأقصى ما يمكن (ألا ترى) انه لا يعرف المحدودات الا بذكر الحدود
فيعرف الادمي بالنسب والاسم لان ذلك أقصى ما يمكن في تعريفه إذا تعذر احضاره وتمام
ذلك بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده فالمقصود تميزه عن غيره والتميز يحصل بهذا فقل
ما ينفق رجلان في الاسم والنسب بهذه الصفة ولان كان فهو نادر ويذكر قبيلته أيضا ولو
اكتفى بذكر اسمه واسم أبيه واسم قبيلته جاز أيضا فقل ما ينفق رجلان في قبيلة واحدة باسمهما
واسم أبيهما ويقام ذكر القبيلة مقام ذكر الجد فهو الجد الأعلى وان ذكر اسمه واسم أبيه فقد
روى عن أبي يوسف رحمه الله ان ذلك يكفي إذا عرفه بصناعة وهو معروف بها وعند أبي
96

حنيفة رحمه الله لا يكفي لان ذكر الصناعة ليس بشئ فقد يتحول الانسان من صناعة إلى
صناعة فإن كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وإن لم يعرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لان
المقصود اعلام عدالتهم للقاضي المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وان
حلاهم فحسن وان ترك التحلية لم يضر لان المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم
والنسب إلا أنه إذا كان من رأى الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك مالا
يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فان أراد الذي جاء به من
المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لان شهادة الشهود تثبت عنده بالكتابة فكأنه
تثبت بسماعه منهم وكما جوزنا الكتاب من القاضي الأول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لان
الخصم قد يهرب إلى بلدة أخرى قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه وإذا سمع القاضي
شهادة الشهود وكتب بها إلى قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه
لم يحكم بذلك عليه لان سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع
إذا استقصى بعد ما شهد الأصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضى بذلك
وهذا لأن جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لا بينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا
يكون ذلك الا بمحضر من الخصم بعد انكاره أو سكوته القائم مقام انكاره فان أعاد المدعى
تلك البينة بمحضر من الخصم فالآن يقضي له بها لان شرط قبول البينة للقضاء انكار الخصم
وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الأداء وجوده كعدمه وإذا وصل الكتاب
إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف
فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه إلا أن يكون من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده على
شهادة الأصول وهذا بخلاف ما إذا كان الأول قد قضى به وأعطى الخصم سجلا فالثاني
ينفذ ذلك وإن لم يكن من رأيه لان قضاء القاضي في المجتهدات نافذ (ألا ترى) أنه ليس
للأول أن يبطل قضاءه وان تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب
الأول ما قضى بشئ (ألا ترى) أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى الثاني وان الخصم لو
حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيئا فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه إلا أن يكون ذلك من رأيه
ولا يقبل كتاب القاضي في شئ من الحدود والقصاص لان ذلك مما يندرئ بالشبهات
97

وللشافعي رحمه الله قول ان ذلك مقبول الا في الحدود التي هي لله تعالى خالصا وأصل
ذلك في الشهادة على الشهادة وسيأتيك بيانه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى ولا يقبل
كتاب قاضي رستاق ولا قرية ولا كتاب عاملها لان المعمول به كتاب القاضي والقاضي
الرستاق متوسط وليس بقاضي فالمصر من شرائط القضاء في ظاهر الرواية لان القضاء من
اعلام الدين كالجمع والأعياد فيكون مختصا بالمصر وذلك في بعض النوادر أن قاضي القرية
إذا قضى بشئ بعقد تقليد مطلق فقضاؤه نافذ فعلى هذا إذا كان قاضي الرستاق بهذه الصفة
يقبل كتابه وعلى هذا قالوا إذا خرج قاضي المصر إلى قرية وهي خارجة من فناء المصر فقضى
هناك بالحجة لا ينفذ قضاؤه في ظاهر الرواية لانعدام شرط القضاء وهو المصر وعلى رواية
النوادر ينفذ قضاؤه وكثير من المتأخرين رحمهم الله أخذوا بذلك قالوا أرأيت لو كانت
الخصومة في ضيعة في بعض القرى فرأي القاضي الأحوط أن يحضر ذلك الموضع ليسمع
الدعوى والشاهدة ويحكم عند الضيعة أما كان ينفذ حكمه بذلك ومن قال بهذا قال تأويل ما قال
في الكتاب أنه لا حاجة إلى قبول كتاب القاضي الرستاق فإنه يتيسر احضار الخصم مع
الشهود في مجلس القضاء في المصر ولكن هذا بعيد فقد ذكر بعده انه لا يقبل الا كتاب
قاضي مدينة فيها منبر وجماعة أو كتاب الأمير الذي استعمل القاضي لا له بما كفل
كتاب من تلك تنفيذ القضاء والأمير الذي استعمل القاضي لو نفذ القضاء بنفسه جاز ذلك منه
وكيف لا يجوز وإنما ينفذ قضاء القاضي بأمره فكذلك قاضي المدينة ينفذ قضاؤه لو قضى
بنفسه فيقبل كتابه بخلاف قاضي الرستاق ولا تجوز شهادة أهل الذمة على كتاب قاضي
المسلمين لذمي على ذمي ولا على قضائه لأنهم يشهدون على فعل المسلم وشهادة أهل الذمة لا
تكون حجة في اثبات فعل المسلم وهذا لان قبول شهادة بعضهم على بعض كان للحاجة
والضرورة فقل ما يحضر المسلمون معاملاتهم خصوصا الا نكحة والوصايا وهذا لا يتحقق
في قضاء قاضي المسلمين وكتابه وخاتمه لان الاشهاد على ذلك منه في مجلسه ومجلس قاضي
المسلمين يحضره المسلمون دون أهل الذمة وإذا جاء بكتاب القاضي ان لفلان على كذا وكذا
من الدين لم يجز حتى ينسبه إلى أبيه والى فخذه التي هو بها أو بنسبه إلى تجارة يعرف بها
مشهورة وقد بينا قول أبي حنيفة رحمه الله في النسبة إلى التجارة لأنها لا تقوم مقام النسبة إلى
الفخذ إلا أن يكون شيئا مشهورا لا يخفى على أحد وإن كان في تلك الفخذ أو إلى التجارة اثنان
98

كذلك لم يجز حتى ينسب إلى شئ يعرف به من الاخر لأنه لا بد من تميز المشهود عليه من
غيره (ألا ترى) انهما لو شهدا على أحد الرجلين بحضرتهما لم يقبل ذلك بدون التعيين فكذلك
في حق الغائب لا بد من تمييز المشهود عليه من الاخر على وجه لا يبقى فيه شبهة وإن لم يكن
كذلك الا واحدا فأقام الخصم البينة انه قد كان فيهم رجل على ذلك الاسم والنسب وانه
قد مات لم يقبل ذلك منه إذا كان موته قبل تاريخ الكتاب وإن كان بعده قبلته وأبطلت
الكتاب الذي جاء به المدعي لان الثابت بالبينة بمنزلة المعلوم للقاضي ولو كان معلوما عند القاضي
وجوده وموته قبل تاريخ الكتاب لم يمتنع لأجله من العمل بالكتاب لان في الكتاب ذكر
الاسم والنسب مطلقا فإنما ينصرف ذلك إلى الحي دون الميت لأنه إذا كان المقصود الميت يذكر
في الكتاب فلان الميت وأما إذا كان موته بعد تاريخ الكتاب فكل واحد منها كان حيا
حين كتب القاضي الكتاب وليس في الكتاب ما يميز أحدهما عن الاخر أرأيت لو ادعي هذه
الدعوى على ورثة الميت واحتج ورثة الميت بالحي أكان يتمكن القاضي من القضاء على ورثة
الميت بشئ وليس في الكتاب ما يميز مورثهم من الاخر إلا أن يكون في الكتاب فلان بن
فلان لفلان وقد مات فيعلم بذلك أن المشهود عليه الميت منهما دون الحي وإن كان نسبه في
ذلك الكتاب إلى أبيه والى بكر بن وائل أو إلى تميم أو همدان لم أجزه حتى ينسبه إلى فخذه التي
هو منها أدناها إليه بعد أن يقول قبيلته عليها العرافة لان المقصود التعريف وذلك لا يحصل
الا بنسبته إلى أدنى الأفخاذ أرأيت لو قالوا فلان بن فلان العربي أو نسبوه إلى آدم صلى الله
عليه وسلم أكان يحصل التعريف بذلك (قال) إلا أن يكون رجلا مشهورا أشهر من القبيلة فيقبل
ذلك إذا نسبه إلى تلك الشهرة فالتمييز بينه وبين غيره يحصل بالشهرة فتقوم ذلك مقام ذكر
الاسم والنسب ولو جاء بكتاب قاض بشهادة شهود على دار ليس فيها حدود لم يجز ذلك كما
لو شهدوا به في مجلسه وهذا لان المشهود به مجهول ففيما لا يمكن احضاره مجلس القاضي التعريف
بذكر الحدود فيبقى مجهولا بدونه وكذلك لو كانوا حدوها بحدين الا في رواية عن أبي يوسف
رحمه الله قال إذا ذكروا أحد حدى الطول وأحد حدى العرض يجوز للقاضي أن يقضى
ويكتفى به وهذا ليس بصحيح لان بذكر الحدين لا يصير مقدار المشهود به معلوما فان حدوها
بثلاثة حدود جاز ذلك عندنا استحسانا وعلى قول زفر رحمه الله لا يجوز لبقاء بعض الجهالة حين
لم يذكروا الحد الرابع وقياس هذا بما لو ذكروا الحدود الأربعة وغلطوا في أحدهما ولكنا نقول
99

قد ذكروا أكثر الحدود وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر
الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد اعلام الطول يصير معلوما أيضا
وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفى بذكر
الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لان المشهود به بما ذكروا
صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعي شراء
شئ بثمن منقود فان الشهادة على ذلك تقبل وان سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن ولو
ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وإن لم يحدوها ونسبوها إلى اسم معروف
لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لان التعريف
بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب
في الآدمي ثم هناك الشهرة تغنى عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله
يقول بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فما مقدار المشهود به لا يصير معلوما الا بذكر
الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا ان الدار المشهودة قد يزاد فيها وينقص منها
ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيها ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى اعلام
أصله وبالشهرة يصير معلوما ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان بن
فلان الفلاني كذا كذا أجرته لان المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة
تتعطل بالرق وإنما ينسب إلى مالكه (ألا ترى) ان الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا
نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الاسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك أن
نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية
فكذلك في العبد وان جاء بالكتاب ان العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه
المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل (قال) وقال محمد رحمه الله لا
يجوز عندنا كتاب القضاة في شئ بعينه لا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فاما فيما سوى
ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لان الإشارة إلى عينه عند الدعوى
والشهادة شرط ولهذا لا بد من احضاره بمجلس القضاء وإذا أتى كتاب القاضي إلى القاضي
وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه لأنه لو
كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه وإنما يصير معلوما
100

بشهادة الشهود فكذلك إذا لم يكن عليه عنوان وقد ترك بعض القضاة كتبه العنوان على
ظاهر الكتاب لغرض له في ذلك وليس على عنوان الظاهر اعتماد فإنه ليس يجب الختم فان
فتح الكتاب فلم يكن في داخله اسم الكاتب والمكتوب إليه أو كان فيه اسمهما دون اسم
أبيهما لم يقبله لأنه إنما يقبل كتاب القاضي إليه ولا يصير ذلك معلوما الا بالعنوان في داخله على
وجه يحصل به تعريف الكاتب والمكتوب إليه فإذا لم يكن ذلك لا يقبله والحاصل أن العنوان
الداخل عليه الاعتماد لأنه تحت الختم يؤمن فيه تغيير ذلك فإذا كان فيه تعريفا تاما يقبل الكتاب
وإلا فلا وإن كان فيه أسماؤهما وأسماء آبائهما قبله إذا شهدت الشهود على ما في جوفه في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن كان فيه كنايتهما دون أسمائهما لم يقبله فالتعريف لا يحصل بذلك
على ما قيل المكنى بالكنى إلا أن يكون مشهورا كشهرة أبي حنيفة رحمه الله فحينئذ يقبل ذلك للشهرة
وإن كان فيه من فلان إلى ابن فلإن لم يجز لأن لا يصير معلوما بهذا فقد ينسب الفلان إلى الأب
الأدنى وقد ينسب إلى من فوقه وقد يكون لابنه بنون سواه فإن كان مشهورا مثل ابن أبي
ليلى وابن شبرمة رحمهما الله جاز ذلك لحصول المقصود بذكر ما هو مشهور ولو كتب اسم
القاضي ونسبه إلى جده ولم ينسبه إلى أبيه لم يجز لان التعريف يحصل بالنسبة إلى الأب الأدنى
فالنسبة إليه حقيقة والى الجد مجازا (ألا ترى) أنه ينفى عنه باثبات غيره ولو كان على عنوانه
أسمائهما وأسماء آبائهما لم يجز ذلك إلا أن يكون ذلك في داخله لان العنوان الظاهر ليس تحت
الختم فوجوده وعدمه سواء ولو كتب القاضي إلى الأمير الذي استعمله وهو في المصر معه
أصلح الله الأمير ثم اقتص القصة وجاء بكتابه معه فعرفه الأمير ففي القياس لا يقبل ذلك لان
كتاب القاضي لا يثبت عند الأمير موجبا للقضاء الا بشهادة شاهدين كالمكتوب من
مصر إلى مصر وكذا لا بد من ذكر اسم الكاتب واسم أبيه واسم المكتوب إليه واسم
أبيه ولم يوجد ذلك ولأنه لا حاجة في المصر إلى هذا فإنه يتيسر عليه أن يحضر بنفسه فيخبر
الأمير بما يريد اعلامه ولكن في الاستحسان يجوز للأمير أن يمضى هذا لأنه متعارف
ويشق على القاضي أن يأتي الأمير بنفسه في كل حادثة ليخبر بها ولأنه لو أرسل إليه بذلك
رسولا ثقة كان عبارة رسوله كعبارته في حق جواز العمل به فكذلك إذا كتب إليه بذلك
رقعة ولم يجز الرسم بمثله في الكتاب من مصر إلى مصر آخر فشرطنا هناك شرائط كتاب
القاضي إلى القاضي ويجوز على كتاب القاضي الشهادة على الشهادة وشهادة امرأتين مع رجل
101

لأنه مما يثبت مع الشبهات والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال حجة القضاء فيما
يثبت مع الشبهات وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه كان يرزق سليمان بن ربيعة
الباهلي عن القضاء كل شهر خمسمائة درهم وفيه دليل على أن الامام يعطى القاضي كفايته
من مال بيت المال وانه لابس للقاضي أن يأخذ ذلك لأنه فرغ نفسه لعمل المسلمين فيكون
كفايته وكفاية عياله في مال المسلمين وإن كان صاحب ثروة فإن لم يأخذ واحتسب في عمل
القضاء فهو خير له والأصل فيه قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف والآية في الوصي وهو يعمل لليتيم كما أن القاضي يعمل للمسلمين وان الصحابة
رضوان الله عليهم فرضوا لأبي بكر رضي الله عنه مقدار كفايته من مال المسلمين إلا أنه
أوصى إلى عائشة رضي الله عنها أن ترد جميع ذلك حتى قال عمر رضي الله عنه يرحمك الله
لقد أتعبت من بعدك وعمر رضي الله عنه كان يأخذ كفايته من مال بيت المال وعلي رضي الله عنه
كذلك كان يأخذ كما قال إن لي من مالكم كل يوم قصعة ثريد وعثمان رضي الله عنه كان
لا يأخذ لثروته ثم ذكر عن شريح رحمه الله أنه قال مالي لا أترزق وأستوفي منه وأوفيهم اصبر
لهم نفسي في المجلس وأعدل بينهم في القضاء وان شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي
رضي الله عنهما وعمر رضي الله عنه كان يرزقه كل شهر مائة درهم وعلي رضي الله عنه كان يرزقه
كل شهر خمسمائة درهم وذلك لقلة عياله في زمن عمر رضي الله عنه ورخص سعر الطعام وكثرة
عياله في زمن علي رضي الله عنه وغلاء سعر الطعام فان رزق القاضي لا يتقدر بشئ لان ذلك ليس
بأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز وإنما يعطى كفايته وكفاية عياله وكان بعض أصدقاء شريح
رحمه الله عاتبه في ذلك وقال لو احتسبت قال في جوابه ومالي لا أترزق فبين انه فرغ نفسه لعمل
القضاء ولابد له من الكفاية فإذا لم يرتزق احتاج إلى الرشوة ففيه بيان أن القاضي إذا كان
محتاجا ينبغي له أن يأخذ مقدار كفايته لكيلا يطمع في أموال الناس وذكر عبد الله بن يحيى
الكندي كان يقسم لعلي رضي الله عنه الدور والأرضين ويأخذ علي ذلك أجرا وفيه دليل أن
القاضي يتخذ قاسما لأنه يحتاج إلى ذلك فإنه في المواريث إذا بين الابصار بما يطالب بالقسمة ليتم
بها انقطاع المنازعة وهو لكثرة أشغاله لا يتفرغ لذلك فيتخذ قاسما يستعين به عند الحاجة كما
يتخذ كاتبا ثم الأولى أن يجعل كفاية فاسم القاضي في بيت المال ككفاية القاضي لان عمله من
تتمة ما انتصب القاضي له فإن لم يقدر على ذلك أمر الذين يريدون القسمة أن يستأجروه بأجر
102

معلوم وذلك صحيح لأنه يعمل لهم عملا معلوما وذلك العمل غير مستحق عليه ولا على القاضي
فالقضاء يتم ببيان نصيب كل واحد من الشركاء والقسمة عمل بعد ذلك فلا بأس بالاستئجار
عليه كالكتابة ولا ينبغي له أن يكره الناس على قسامة خاصة لان ذلك يلحق به تهمة المواضعة
مع قسامه ولأنه إذا أكره الناس على ذلك يتحكم قسامه على الناس في الاجر وفيه ضرر عليهم
وأيما قوم اصطلحوا على قسمة قاسم آخر جار بينهم بعد أن لا يكون فيهم صغير ولا غائب لان
الحق لهم وهم قادرون على النظر لأنفسهم فاصطلاحهم على قاسم آخر من جملة النظر منهم
لأنفسهم وإن كان فيهم صغير أو غائب فهم يحتاجون إلى رأى القاضي في ذلك لان الصغير
والغائب عاجزان عن النظر لأنفسهما والقاضي ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه فان أمرهم
بالقسمة وفيهم صغير أو غائب فاستأجروا قسما غير قاسمه بأرخص من ذلك بعد أن يكون
عدلا يعرفه القاضي جاز ويأمره أن يقسم بينهم لأنه إن لم يفعل هذا وألزمهم استئجار قاسمه
يحكم عليهم في الاجر ثم أجر القاسم على الصغير والكبير والذكر والأنثى وصاحب النصيب
القليل والكثير سواء في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما الاجر عليهم على قدر الأنصباء
وهذه مسألة كتاب القسمة وان اتخذ القاضي جماعة من القسامين فذلك حسن ولكن الأولى
أن لا يشرك بينهم فإنه أجدر أن لا يتحكموا على الناس لأنه إذا أشرك بينهم تواضعوا على شئ
فتحكموا على الناس ولأنه إذا لم يشرك بينهم يؤمن عليهم الميل إلى الرشوة لأنه ان فعل ذلك
أحدهم أظهره عليه صاحبه وإذا أشرك بينهم بفوت هذا المقصود وان قاطعوا رجلا منهم على
شئ بعينه لم يدخل بقسم معه في ذلك لأنه لا شركة بينهم وإذا شهد قاسمان على قسمة قسماها
بين قوم بأمره بأن كل انسان قد استوفى نصيبه جازت شهادتهما في قول أبي حنيفة وأبى
يوسف الاخر رحمهما الله وفي قوله الأول لا تجوز شهادتهما وهو قول محمد رحمه الله لأنهما
يشهدان على فعل أنفسهما ولأنهما في الحقيقة يدعيان ايفاء العمل الذي استؤجر عليه وأداء
الأمانة في ذلك بايصال نصيب كل واحد منهم إليه والدعوى غير الشهادة وجه قولهما أنهما
لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما شيئا لان الخصوم متفقون على أنهما قد وفيا العمل وان
العقد انتهى بينهم وبينهما ثم لا يشهدان على عمل أنفسهما لان عملهما التمييز والمشهود به استيفاء
كل انسان نصيبه وذلك فعل المستوفى ولو شهد قاسم واحد على القسمة لم يجز لان القاسم
ليس بقاضي والقاضي هو المخصوص بأن يكتفى بقوله في الالزام فاما القاسم فيما يشهد به
103

كغيره فلا تتم الحجة بقول الواحد وكذلك أمين القاضي إذا أمره القاضي أن يدفع مالا
فقال قد دفعته وأنكر المدفوع إليه فالأمين يتصدق في نزاهة نفسه لان يذكر وجوب الضمان
عليه ولا يصدق على الاخر انه قبض لأنه ليس بقاض فالحجة لا تتم بقوله وأيما رجل ادعى
غلطا في القسمة فإنه لا تعادله القسمة ولكنه يسأل البينة على ما يدعى من الغلط لان الأصل
هو المعادلة في القسمة والظاهر أن القاسم يؤدى الأمانة في ذلك فمن ادعى خلاف ذلك لم يصدق
الا بحجة ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ قاسما ذميا ولا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أعمى ولا
فاسقا ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته وقد بينا هذا في الكاتب فكذلك في القاسم لان كل واحد
منهما ينوب عن القاضي فيما يكون من تتمة عمله وقد تحتاج الخصوم إلى شهادة القاسم فلا
يختار لذلك الامر الامن يكون أهلا لأداء الشهادة لأنه إذا كان بخلاف ذلك ولم يرد القاضي
شهادته وجد الناس لذلك مقالا في القاضي يقولون لم اخترته إذا كنت لا تعتمد قوله وإذا رأى
القاضي وهو في مجلس القضاء أو غيره رجلا يزنى أو يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن
يقيم عليه الحد في القياس لأنه تيقن باكتسابه السبب الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده
بمعاينة السبب فوق العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود لان ذلك محتمل الصدق والكذب
وفي الاستحسان لا يقيم عليه الحد حتى لو شهد الشهود عنده بذلك عليه أو يقر بذلك لما روى أن
عمر رضي الله عنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لو رأيت رجلا على حد ثم وليت
هل تقيمه عليه قال لا حتى يشهد معي غيري فقال أصبت وعن الزهري عن أبي بكر رضي الله عنه
يجوز ذلك ولان الحدود التي هي من خالص حق الله تعالى يستوفيها الامام على
سبيل النيابة من غير أن يكون هناك خصم يطالب به من العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في
الإقامة ربما يتهمه بعض الناس بالجوز والإقامة بغير حق وهو مأمور بان يصون نفسه عن
ذلك وهذه بخلاف القصاص وحد القذف وغير ذلك من حقوق الناس لان هناك خصم
يطالب به من العباد وبوجوده تنتفى التهمة عن القاضي فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك
* توضيح الفرق ان المقر بالحدود التي هي من حقوق الله تعالى إذا رجع صح رجوعه ولم يكن
للقاضي ولاية الإقامة لوقوع التعارض بين خبريه فكذلك إذا أخبر القاضي أنه رأى ذلك
وأنكره الرجل لم يكن له أن يقيمه للتعارض بين الخبرين فكل مسلم أمين فيما يخبر به من حق
الله تعالى ولهذا ضمنه في السرقة لان ذلك حق المسروق منه ولا يعمل الرجوع فيه عن الاقرار
104

فاما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعد الاقرار باطل
وللقاضي أن يلزمه ذلك باقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لان معاينته السبب
أقوى في إفادة العلم من اقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذي هو قاض فيه بعد
ما قلد القضاء فأما إذا كان رأى ذلك قبل أن يتقلد القضاء ثم استقصى فليس له أن يقضى بعلمه
في ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يقضى بعلمه في ذلك
لان علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقصى وقبله وهو أقوى من العلم الذي يحصل
له بشهادة الشهود فان معاينة السبب تفيده علم اليقين وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز
له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلان يجوز له أن يقضى بعلم نفسه أولى ومذهب أبي حنيفة
رحمه الله مروى عن الشعبي وشريح رحمه الله سئل عن هذه المسألة فقال أتى شريح رحمه
الله مثلها وأنا شاهد فقال أنت الأمير حتى أشهد لك فقال أنشدك بالله أن يذهب حقي
وأنت تعلم فقال أنت الأمير حتى أشهد لك والمعنى فيه أنه حين عاين السبب فقد استفاد به علم
الشهادة وبان استقصى بعد ذلك لا يزداد علمه بذلك وعلم القضاء فوق علم الشهادة فان علم القضاء
ملزم والشهادة بدون القضاء لا تكون ملزمة بخلاف ما إذا رأى وهو قاضي لأنه استفاد علم
القضاء هناك بمعاينة السبب والدليل على الفرق أن ما يستفيد من العلم بمعاينة السبب وما يستفيده
بشهادة الشهود عنده في الحكم سواء ثم شهادة الشهود عنده بعد ما استقصى تفيده علم القضاء
وقبل أن يستقصى لا تفيد له ذلك حتى لو استقصى شاهد الفرع لم يكن له أن يقضى بما كان من
شهادة الأصول عنده ما لم يشهدوا بذلك بعد ما استقصى فكذلك عند معاينة السبب وعلى هذا
الخلاف لو عاين السبب بعد ما استقصى ولكن في غير مصره ثم لما انتهى إلى مصره خوصم في
ذلك لأنه حين عاين السبب لم يكن له أن يقضي به في ذلك الموضع فهو وما لو علم قبل أن
يستقصى سواء ولو عاين ذلك في مصره وهو قاض ثم عزل ثم أعيد على القضاء فلا شك أن
عندهما له أن يقضى بعلمه ومن أصحابنا رحمهم الله من قال عند أبي حنيفة رحمه الله أيضا له أن
يقضى بعلمه لأنه استفاد علم القضاء بمعاينة السبب حتى لو قضى به في ذلك الوقت جاز ذلك فكذلك
إذا قضى به بعد ما قلد ثانيا والأصح أنه على الخلاف لأنه بعد ما عزل لم يبق له في تلك الحادثة الا علم
الشهادة فهو وما لو علم به بعد ما عزل سواء * توضيحه أنه لو سمع شهادة الشهود فلم يقض بها
حتى عزل ثم أعيد على القضاء لم يقض بتلك الشهادة بخلاف ما قبل العزل فكذلك إذا عاين
105

السبب وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول إذا علم قبل أن يستقصى ثم استقصى فشهد عنده
رجل وأخذ بذلك قضى به وذلك مروى عن شريح رحمه الله أنه قضى بشهادة رجل
واحد وقد كان علم منها علما ولكنا نقول علمه بمعاينة السبب ليس من جنس ما يحصل له من
العلم بشهادة الشهود عنده واكمال أحدهما بالاخر لا يمكن والقاضي لا يتمكن من القضاء
الا بحجة فالطريق في ذلك أن يشهد مع الرجل الآخر لصاحب الحق عند الامام الذي
فوقه حتى يقض هو بذلك وإذا دفع القاضي مال اليتيم إلى تأجر فجحده التاجر فالقاضي
مصدق في ذلك على التاجر يقضى عليه بالمال لأنه قاض فيما يفعله في مال اليتيم وفيما يخبر به
من القضاء هو مصدق لأنه يخبر بما يملك الانسان وكذلك لو باع مال ميت في دينه فلا
عهدة على القاضي في ذلك لان فعله ذلك من القضاء وهو فيما يلحقه من العهدة يكون خصما
لا قاضيا وإذا انتفت التهمة عنه كانت العهدة على من وقع عمله لهم فان جحد المشترى منه
البيع قاضاه عليه وأخذ منه اليمين لأنه علم أنه كاذب في ذلك فهو الذي باشر السبب وكذلك
هو مصدق فيما ذكر أنه قضى به من قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق أو غير ذلك من
حقوق الناس سواء أقر بذلك عندي أو قامت به بينة ويسمع للذي سمع من القاضي ذلك أن
يعتمد قوله حتى في الرجم والنفس وما دونها وما يندرئ بالشبهات وما لا يندرئ بالشبهات في
ذلك سواء وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه رجع عن هذا القول وقال في الحدود التي
تندرئ بالشبهات لا يسع السامع إقامة ذلك بمجرد قول القاضي ما لم يخبره بذلك غيره لان
القاضي غير معصوم عن الكذب فان ذلك درجة الأنبياء صلوات الله عليهم ولا تبلغ درجة
القاضي درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحرمة النفس عظيمة والغلط فيها لا يمكن تداركه
فلا يسع الاقدام عليه بمجرد قول القاضي * وجه ظاهر الرواية أن مجرد قول القاضي ملزم
(ألا ترى) أن مباشرته القضاء قول ملزم فكذلك اخباره بالقضاء والدليل عليه أنه لا يستقصى
في كل بلدة أكثر من واحد فلو كانت الحجة لا تتم بمجرد خبر القاضي به لجرى الرسم بايجاد
القاضين في كل بلدة لصيانة الحقوق كما جرى الرسم به في الشهود وفي الاكتفاء بقاض واحد في
كل بلدة دليل الاجماع من المسلمين على أن مجرد قول القاضي حجة تامة ولو عزل عن القضاء
فخاصمه المقضى عليه في جميع ذلك فقال إنما قضيت به عليك كان مصدقا في ذلك غير مسؤول ببينة
ولا مستحلف يمينا لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافى تلك الحالة الخصومة والضمان عنه فيجب
106

قبول قوله في ذلك كما لو أخبر به قبل أن يعزل قال مشايخنا رحمهم الله وانا يجوز اعتماد قول القاضي
في ذلك من غير أن يستفسر إذا كان فقيها ورعا فالورع يؤمننا من جوره وميله إلى الرشوة وفقهه
يؤمننا من أن يغلط في ذلك فاما إذا لم يكن فقيها لا بد من أن يستفسر وإن كان ورعا لأنه ربما
يغلط لقلة فهمه وكذلك أن كان فقيها ولم يكن ورعا فلا بد من أن يستفسر لأنه لقلة ورعه
ربما جار في ذلك ولا ينبغي للقاضي أن يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا ولا يقتص لاحد
من أحد عندنا (وقال) الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك بشرط أن لا يلوث المسجد لان فعل
الإقامة قربة وطاعة والمساجد أعدت لذلك ثم هو من تتمة قضائه وإذا كان له أن يجلس في
المسجد للقضاء كان له أن يتم القضاء بإقامة الحدود فيها * وحجتنا في ذلك ما روى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لا تقام الحدود في المساجد وفي حديث مكحول أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وإقامة
حدودكم وسل سيوفكم وبيعكم وشرائكم وطهروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر
وروى أن عمر رضي الله عنه أمر بان يعذر رجل وقال للذي أمره بذلك أخرجه من المسجد
ثم اضربه ولم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة حد على أحد في المسجد بين
يديه وهذا لأنه لا يؤمن تلويث المسجد ورفع صوت المضروب بالأنين عند الضرب والمسجد
يتنحى عن ذلك فاما أن يخرج القاضي ليقام بين يديه أو يبعث نائبا أو يجلس عند باب المسجد
ويأمر بالإقامة بين يديه خارجا من المسجد وهو يرى ذلك ولو أن قاضيا باع لنفسه شيئا أو
اشترى لم يقبل قوله في شئ منه على خصمه وهو كغيره من الناس في هذا لأنه فيما يعمل لنفسه
لا يكون قاضيا وفيما يفعله على غير سبيل الحكم هو كسائر الرعايا (ألا ترى) أن النبي صلى الله
عليه وسلم حين أنكر الاعرابي استيفاء ثمن الناقة منه وقال هلم شاهدا قال لم يشهد لي حتى شهد
خزيمة رضي الله عنه الحديث إذا كان هذا في حق من هو معصوم عن الكذب فما ظنك في
القاضي ولا يجوز قضاؤه بشئ لنفسه ولا لولده ونوافله من قبل الرجال والنساء ولا لأبويه
وأجداده من قبلهما ولا لزوجته ولا لمكاتبه ومماليكه لأن ولاية القضاء فوق ولاية الشهادة
وإذا لم يجز شهادته لهؤلاء فلئلا يجوز قضاؤه لهم أولى وأما من سوى هؤلاء من القرابة
وغيره فقضاؤه لهم جائز كما تجوز شهادته لهم وإذا عزل عن القضاء ثم قال كنت قضيت لهذا
على هذا بكذا وكذا لم يقبل قوله في ذلك لأنه أخبر بما لا يملك استثناءه وهذا قول ملزم وهو
107

بعد العزل كغيره من الرعايا فلا يكون قولا ملزما وان شهد مع آخر لم تقبل شهادته في ذلك
لأنه يشهد على فعل نفسه ولا شهادة للانسان فيما يخبر به من فعل نفسه فلا بد من أن يشهد
على قضائه شاهدان سواه ليتمكن المولى بعده من امضائه وإذا رفع قضاء القاضي بعد موته
أو عزله إلى قاض يرى خلاف رأيه فإن كان مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه لاجماع الناس على
نفوذ قضاء القاضي في المجتهدات فلو أبطله القاضي الثاني كان هذا منه قضاء بخلاف الاجماع
وإن كان القضاء الأول خطأ لا يختلف فيه الفقهاء أبطله لأنه بخلاف الاجماع أو النص (ألا
ترى) أن الأول ولو وقف على ذلك من قضاء نفسه أبطله بخلاف ما إذا تحول رأيه في المجتهدات
فكذلك يفعله المولى بعد موته ولا ينبغي للقاضي أن يكون فظا غليظا جبارا عنيدا لأنه
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضاء بين الناس فينبغي أن يتحرز عن ما هو منتفى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى لم يجعلني
جبارا عنيدا وفي صفته في التوراة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق فصلوات الله
عليه ولأن هذه أوصاف مذمومة فعلى القاضي أن يتحرز عنها وهو سبب لنفرة الناس عنه
قال الله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب الآية والقاضي مندوب إلى اكتساب ما هو سبب
لميل القلوب إليه والاجماع إليه في حوائجهم وينبغي له أن يشتد حتى يستنطق الحق فلا يدع
من حق الله تعالى شيئا من غير جبر به وأن يلين حيث ينبغي ذلك في غير ضعف ولا يترك شيئا
من الحق لما روينا عن عمر رضي الله عنه قال لا يصلح لهذا الامر الا اللين من غير ضعف
القوي من غير عنف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلين في الأمور ويرفق حتى أنهيك
شئ من محارم الله فيكون من أشدهم في ذلك وينبغي له أن يتعذر إلى كل من يخاف أن
يقع في نفسه عليه شئ إذا قضى عليه وأنى يفسر للخصم ويبين له حتى يعلم أنه قد فهم عند حجته
وقضى عليه بعد ما فهم وبذلك تنتفى عنه تهمة الميل وينقطع عنه طمع الخصم والعالة فيه ولأنه
يصون بذلك الخصوم عن الفتنة والشكاية منه وهو مندوب إلا أن لا يترك جهده في ذلك
وان كأن لا يطمع في أمانته الا نادرا فيتقدم القاضي إلى أعوانه والقوام عليه في ترك الحق
والشدة على الناس ويأمرهم بالرفق واللين من غير أن يضعوا فيقصروا عن شئ مما ينبغي
لأنهم ينوبون عنه فيما فوض إليهم فكما يفعل ذلك في حق نفسه يأمر به أعوانه ليكون ذلك
سبب تأليف القلوب واجتماع الكلمة عليه ولا ينبغي أن يستعمل على القضاء الا الموثوق به في
108

عفافه وصلاحه وعقله وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه التي يأخذ منها الكلام فإنه
لا يستقيم أن يكون صاحب رأى ليس له علم بالسنة والأحاديث فمثله يضل الناس كما ورد به
الأثر * إياكم وأصحاب الرأي أعيتهم أن يحفظوها فيسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه فقد شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحب
الحديث ان يعي ما سمعه أولا يقوله قال صلوات الله عليه وسلامه نصر الله امرءا سمع منا مقالة
فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى
من هو أفقه منه فعرفنا أنه لا يستقيم واحد منهما الا بصاحبه والامام مأمور بأن لا يقلد أحدا
شيئا من عمل المسلمين الا إذا علم صلاحه لذلك قال صلى الله عليه وسلم من قلد غيره عملا وفى
رعيته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وخان جماعة المسلمين وعمل القضاء من أهم
أمور الدين واعمال المسلمين فلا يختار له الا من يعلم أنه صالح لذلك مؤدي الأمانة فيه وذلك
عند اجتماع الخصال المذكورة فيه وإذا كأن لا يؤتمن على شئ من المال من لا يعرف بالأمانة
أو يعجز عن أدائها فلئلا يؤتمن على أمر الدين أولى فكما لا يختار للقضاء الا من يجتمع فيه
هذه الشرائط فكذلك للفتوى فان القاضي يفتى وقد كان القاضي في الصدر الأول يسمى مفتيا
فلا ينبغي لاحد أن يفتى الا من كان هكذا إلا أن يفتي شيئا قد سمعه فيكون حاكيا ما سمع
من غيره بمنزلة الراوي لحديث سمعه يشترط فيه ما يشترط في الراوي من العقل والضبط
والعدالة والإسلام لان الخبر كلام فلا يتحقق بصورته ومعناه في الراوي من غير العاقل وما من
موجود في الدنيا الا وهو معتبر لصورته ومعناه فإذا كان المعنى المطلوب من الكلام البيان ولا
يحصل ذلك الا بالعقل عرفنا ان العقل في المخبر شرط والضبط كذلك لان قبول الخبر منه
باعتبار رجحان جانب الصدق فيه ولا يحصل ذلك الضبط والفهم والعدالة الا بذلك فرجحان
جانب الصدق بالعدالة يكون لأنه إذا لم ينزجر عما يعتقده حراما في دينه لا ينزجر عن الكذب
أيضا واشتراط الاسلام لان الكفر ينافي رجحان جانب الصدق في خبره لان هذا من باب
الدين وهم يعاودن الدين الحق ويسعون في هدمه بما يقدرون عليه فشرطنا الاسلام لذلك وبعد
ما استجمع في القاضي هذه الشرائط لا يولى القضاء ما لم يكن له علم بالقضاء والمراد من هذا
اللفظ العلم المتعارف بين الناس ولسانهم من استعمال الحقيقة والمجاز فالقاضي لا يستغنى عن ذلك
ويتعذر عليه تنفيذ بعض القضاء إذا لم يكن عالما بذلك ولا يولى القضاء أعمى ولا محدود في قذف
109

ولا مكاتب ولا عبد يسعى في شئ من قيمته لان شهادة هؤلاء لا تقبل والقضاء أعظم من الشهادة
ولا يولى أحد من أهل الذمة شيئا من أمر القضاء ولا مسائله لظهور الخيانة منهم في
أمور الدين والسعي في افساده على المسلمين ولا ينبغي للقاضي إذا سافر أو مرض أن يستخلف
الا بأمر الإمام الذي هو فوقه لان من قلده إنما رضى برأيه والناس يتفاوتون في الرأي والقضاء
لابد له من الرأي فلا يستخلف الا بأمر من قلده كالوكيل لا يوكل غيره الا بأمر الموكل
والفرق بين القاضي والمأمور بإقامة الجمعة في الاستخلاف قد بيناه في كتاب الصلاة فإذا
استخلف بغير أمر الامام لم يجز قضاء خليفته إلا أن ينفذ هو قضاء خليفته فحينئذ ينفذه كما
لو قضى به بنفسه لان نفوذه برأيه (ألا ترى) أن الوكيل إذا وكل غيره حتى باشر التصرف
ثم أجاز الوكيل الأول نفذ ذلك منه وجعل اجازته كانسائه وكذلك لو حكم حكما بين خصمين
فهذا والاستخلاف سواء وقيل هذا كله إذا فعله خليفته لا بحضرته فان فعله بحضرته جاز
استحسانا لان تمامه برأيه يكون بمنزلة الوكيل إذا وكل غيره حتى باع بحضرته وان التبس
عليه القضاء فاستشار فيه رجلا من أهل الصلاح والعفة وأخذ بقوله فأنفذه بين الخصمين
فهو جائز لما بينا أن القاضي فيما يعجز عنه يستعين بغيره ممن علم ذلك وان طمع القاضي في أن
يصلح الخصمين فلا بأس بأن يردهما ويؤخر تنفيذ الحكم بينهما لعلهما أن يصطلحا لحديث
عمر رضي الله عنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن
وفي رواية ردوا الخصوم من ذوي الأرحام ولا ينبغي له أن يردهم أكثر من مرة أو مرتين
ان طمع في الصلح لان في الزيادة على ذلك اضرار بصاحب الحق وإن لم يطمع في الصلح
أنفذ القضاء بينهم لأنه انتصب لذلك وان أنفذ القضاء بينهم من قبل أن يردهم فهو في سعة
من ذلك وليس بواجب عليهم ردهم إنما الواجب عليه ما قلد من العمل وهو القضاء بالحجة
وقد أتى بذلك وليس ينبغي للقاضي أن يسمع من رجل واحد حجتين أو أكثر من حجتين
في مجلس واحد لأنه مأمور بين الناس بالتسوية وإذا سمع في مجلس واحد من رجل واحد
حجتين أو ثلاثا أضر بذلك بسائر الناس إلا أن يكون الناس قليلا ولا يشغله ذلك عنهم وكان
يفرغ من حوائجهم قبل أن يقوم فلا بأس به حينئذ لأنه لا ضرر فيه على أحد ممن حضر
مجلسه ولا ينبغي للقاضي أن يقدم رجلا قد جاء رجل غيره قبله لفضل منزلته وسلطانه
ولكن يقدمهم على منازلهم لان الذي سبق بالحضور وقد استحق النظر في حاجته فلا
110

يبطل حقه بحضور غيره كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم من تواضع لغنى لغناه ذهب ثلثا
دينه ولان القاضي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أمر رسوله عليه الصلاة
والسلام بما قال واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الآية ونظر القاضي لهم بسبب الدين
وفي ذلك السلطان وغيره سواء فإنما يقدمهم على منازلهم بما ذكر في بعض النسخ من أصل
بعض مسائل التحكيم وتمام ذلك في كتاب الصلح فنذكر هنا مقدار ما ذكر فنقول الحكم
فيما بين الخصمين بمنزلة الحاكم المولي حتى يشترط فيه الأهلية للشهادة فإذا كان أعمى أو
محدودا في قذف أو عبد أو مكاتب لم يجز حكمه بين المسلمين وما يحكم به بمنزلة اصطلاح
الخصمين عليه لأنه بتراضيهما صار حكما حتى أن لكل واحد منهما أن يرجع فيها ما لم يمض
فيه الحكم والحكومة فإذا أمضاها فليس لواحد منهما أن يرجع فيها كما في الصلح ولو دفع
حكم الحاكم إلى القاضي فان وافق الحق ووافق رأيه أمضاه لأنه لو نقضه احتاج إلى اعادته
في الحال وان كأن لا يوافق الحق أبطل وكذلك أن كان رأيه لا يوافق رأيه في المجتهدات
فإنه يبطله بمنزلة اصلاح الخصمين لان رضاهما بحكمه لا يكون حجة الالزام في حق القاضي
وان حكما رجلين فحكم أحدهما دون الاخر فان ذلك لا يجوز لأنهما رضيا برأيهما ورأي
الواحد لا يكون كرأي المثنى ولا يصدقان على ذلك الحكم بعد القيام من مجلس الحكومة حتى
يشهد على ذلك غيرهما لأنهما كسائر الرعايا بعد القيام من مجلس الحكومة فلا تقبل شهادتهما
على فعل باشراه وليس ينبغي للحكم أن يقضى في إقامة حد أو تلاعن بين الزوجين لان
اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه وهذا لان
إقامة الحدود واللعان بين الزوجين في حق الشرع فلا يستحق فيه الامن يعين ثانيا وعليه
استيفاء حقوق الله تعالى وهم القضاة والأئمة (ألا ترى) أن من عليه الحد لا يقيمه على نفسه
فكذلك ليس للحكم ان يقيم شيئا من ذلك لأنه ما تعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى
والله تعالى أعلم بالصواب
(كتاب الشهادات)
(قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بان اشتقاق الشهادة من المشاهدة وهي المعاينة فمن حيث أن
111

السبب المطلق للأداء المعاينة سمى الأداء شهادة واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله للشاهد
إذا رأيت مثل هذا الشمس فاشهد والا فدع وقيل هي مشتقة من معنى الحضور يقول الرجل
شهدت مجلس فلان أي حضرت قال الله تعالى وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ومن حيث
أنه يحضر مجلس القاضي للأداء يسمى شاهدا وتسمى أداء شهادة ثم القياس يأبى كون الشهادة
حجة في الاحكام) لأنه خبر محتمل للصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة ملزمة ولان خبر
الواحد لا يوجب العلم والقضاء ملزم فيستدعي سببا موجبا للعمل وهو المعاينة فالقضاء أولى ولكنا
تركنا ذلك بالنصوص التي فيها أمر للاحكام بالعمل بالشهادة من ذلك قول الله تعالى واستشهدوا
شهيدين من رجالكم وقال الله تعالى اثنان ذوي عدل منكم وقال صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي
وفيه معنيان أحدهما حاجة الناس إلى ذلك لان المنازعات والخصومات تكثر بين
الناس وتتعذر إقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف بحسب الوسع والثاني معنى
إلزام الشهود حيث جعل الشرع شهادتهم حجة لايجاب القضاء مع احتمال الكذب إذا ظهر
رجحان جانب الصدق واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله أكرموا الشهود فان الله تعالى
يحيى الحقوق بهم ولما خص الله تعالى هذه الأمة بالكرامات وصفهم بكونهم شهداء على
الناس في القيامة قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وقد يجب
العمل بما لا يوجب علم اليقين كالقياس في الاحكام بغالب الرأي في موضع الاجتهاد ثم القياس
بعد هذا أن يكتفى بشهادة الواحد لان رجحان جانب الصدق يظهر في خبر الواحد بصفة
العدالة ولهذا كان خبر الواحد العدل موجبا للعمل وكما لا يثبت علم اليقين بخبر الواحد لا يثبت
بخبر العدد ما لم يبلغوا أحد التواتر فلا معنى لاشتراط العدد ولكن تركنا ذلك بالنصوص
ففيها بيان العدد في الشهادات المطلقة كما لو تلونا من الآيات قال الله تعالى واشهدوا ذوي عدل
منكم وقال الله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقال صلى الله عليه وسلم للمدعى ليس
لك الا شاهد شاهداك أو يمينه فان (قيل) هذه النصوص بيان جواز العمل بشهادة العدد وليس
فيها بيان نفى ذلك بدون العدد (قلنا) لا كذلك فالمقادير في الشرع اما لمنع الزيادة والنقصان دون
الزيادة كأقل مدة الحيض والسفر أو لمنع الزيادة دون النقصان كأكثر مدة الحيض وهنا
التقدير ليس لمنع الزيادة فلو لم يفد منع النقصان لم يبق لهذا التقدير فائدة وحاشا أن يكون
التقدير المنصوص خاليا عن الفائدة ثم فيه معنى طمأنينة القلب وذلك عند اخبار العدد أظهر
112

منه في خبر الواحد وفي الشهادة محض الالزام وخبر الواحد لا يكفي لذلك بخلاف الديانات
فان في الديانات التزام السامع باعتقاده والمخبر يلزم نفسه ثم يتعدى إلى غيره فلم يكن ذلك إلزاما
محضا فلهذا لا يشترط فيه العدد بخلاف الشهادة وفيه معنى التوكيد فالتزوير والتلبيس في
الخصومات يكثر فيشترط العدد في الشهادات صيانة للحقوق المعصومة ثم يشترط فيها
ما يشترط في الخبر من العقل والضبط والعدالة لان البيان لا يحصل الا باعتبار عقل المتكلم
والشهادة بينة. ومعرفة عقل المرء باختياره فيما يأتي. ويذر وحسن نظره في عاقبة أمره والمطلق
من الشئ ينصرف إلى الكامل منه إلا أنه لاحد يرجع إليه في كمال معرفة العقل سوى
ما جعله الشرع حدا وهو البلوغ والعقل تيسيرا للامر على الناس ولهذا لم يكن الصبي
والمعتوه أهلا للشهادة ومعنى الضبط حسن السماع والفهم والحفظ إلى وقت الأداء وتعتبر
صفة الكمال فيه أيضا لما في النقصان من شبهة العدم ولهذا لم يجعل من اشتدت غفلته أو
مجازفته فيما يقول ويسمع من أهل الشهادة إذا كان ذلك ظاهرا عند الناس وأما معرفة
العدالة فلرجحان جانب الصدق. فالحجة الخبر الذي هو صدق ولا طريق لمعرفة الصدق في
خبر من هو غير معصوم عن الكذب الا العدالة. والعدالة هي الاستقامة وليس لكمالها نهاية
فإنما يعتبر منه القدر الممكن وهو انزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولكن هذا شرط العمل
بالشهادة لا شرط الأهلية للشهادة وباعتبار هذا المعنى لا يجعل المحدود في القذف أهلا لأداء
الشهادة لأنه محكوم بكذبه شرعا فلا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره بعد الحكم بكذبه
شرعا ولم يشترط الاسلام في الأهلية للشهادة لان رجحان جانب الصدق يظهر في خبره مع كفره
إذا كان منزجرا عما يعتقده حراما في دينه غير أن خبره لا يقبل في أمر الدين لأنه متهم في
ذلك فإنه يعتقد السعي في هدمه ولهذا لا يجعل من أهل الشهادة في حق المسلمين لأنه يعتقد
عداوة المسلمين وينعدم فيما بينهم فيكون بعضهم أهلا للشهادة في حق البعض وسوى هذا
يشترط في الشهادة أهلية للولاية حتى لا يكون المملوك أهلا للشهادة وإن كان خبره في
الديانات مقبولا لما في الشهادات من محض الالزام والزام الغير لا يكون إلا عن ولاية
فشرطنا الأهلية للولاية في الشهادة كما شرطنا العدد وجعلنا النساء أحط رتبة في الشهادة من
الرجال لنقصان الولاية بسبب الأنوثة وبيان ذلك في الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن
شريح رحمه الله قال لا تجوز شهادة النساء في الحدود وذكر بعد هذا عن الزهري قال مضت
113

السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء
في الحدود وبه نأخذ لان في شهادة النساء ضرب من الشبهة فان الضلال والنسيان يغلب عليهن
ويقل معهن معنى الضبط والفهم بالأنوثة إلى ذلك أشار الله تعالى في قوله عز وجل أن تضل
إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان
العقل والدين والحدود تندرئ بالشبهات وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة
تيسيرا للتحرز عنها ولا يقال فالشبهة في شهادة الرجال قائمة ما لم يبلغوا أحد التواتر ولهذا
لا يثبت علم اليقين بخبرهم لان تلك الشبهة لا يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فسقط
اعتبارها ولا يجوز أقل من شاهدين في الحقوق بين الناس ولا في الجراحات يعنى عند امكان
اشتراط العدد من غير جرح وذلك فيما يطلع عليه الرجال للإناث التي بلونا في اشتراط العدد
في الشهود قال ولو كان يجوز شهادة رجل واحد لم يكن لخزيمة بن ثابت رضي الله عنه فضل
في شهادته وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين خصه بذلك وقصة
هذا الحديث ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه الثمن ثم
جحد الاعرابي استيفاء الثمن وجعل يقول واغدراه هلم به شهيدا فقال صلى الله عليه وسلم من
يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنا أشهد لك يا رسول الله انك أوفيت الاعرابي
ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم كيف تشهد لي ولم تحصرنا فقال يا رسول الله إنا نصدقك فيما
تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة فقال صلى الله عليه وسلم
من شهد له خزيمة فحسبه ثم هذا النوع من الشهادة ينقسم ثلاثة أقسام في اشتراط العدد فقسم
يشترط فيه عدد الأربعة في الشهود وهو الزنا الموجب للحد ثبت ذلك بقوله تعالى فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم وقوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ولا يشترط عدد الأربعة فيما سوى الزنا
العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء وليس في ذلك معنى سوى أن الله تعالى يحب الستر
على العباد ولا يرضى بإشاعة الفاحشة فلذلك شرط في الزنى زيادة العدد في الشهود ولهذا جعل
النسبة إلى هذه الفاحشة في الأجانب موجبا للحد وفي الزوجات موجبا للعان بخلاف سائر
الفواحش لستر العباد بعضهم على بعض وبيان ذلك في حديث ماعز رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لعمه هلا سترته بثوبك وفي بعض الروايات شين والى اليتيم أنت وفى
قسم يشترط فيه شهادة رجلين وهو القصاص والعقوبات التي تندرئ بالشبهات وقسم يشترط
114

فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وذلك فيما يثبت مع الشبهات بيانه في قوله تعالى فإن لم يكونا
رجلين فرجل وامرأتان معناه فإن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان شهيدان ليكون
تفسيرا لقوله تعالى واستشهدوا شهيدين والآية في المداينات ولكن ذلك مما لا يندرئ بالشبهات
فيكون ذلك دليلا على جواز العمل بشهادة رجل وامرأتين فيما لا يندرئ بالشبهات والنكاح
والطلاق والعتاق والنسب من هذه الجملة عندنا وقال الشافعي رحمه الله المعنى في المداينات
كثرة المعاملات فيما بين الناس فإنما يجعل شهادة النساء مع الرجال حجة في ذلك خاصة وهي
الأموال وحقوقها فاما فيما سوى ذلك فلا بد من شهادة رجلين وقد بينا المسألة في كتاب
النكاح. والشهادة على الشهادة جائزة في كل شئ ما خلا القصاص والحدود وذلك مروى عن
إبراهيم رحمه الله وهذا لان الشهادة على الشهادة فيها ضرر شبهة ينعدم ذلك بجنس الشهود
من حيث إن الخبر إذا تداولته الألسنة يمكن فيه زيادة ونقصان فهو بمنزلة شهادة الرجال مع
النساء تكون حجة فيما يثبت مع الشبهات دون ما يندرئ بالشبهات بل أولى فان الشهادة
على الشهادة خلف حقيقة حتى لا يصار إليها إلا عند العجز عن شهادة الأصول وشهادة النساء
مع الرجال في صورة الحلف قال الله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان وليس بحلف
حقيقة حتى يجوز العمل بشهادة رجل وامرأتين مع القدرة على استشهاد رجلين عرفنا أن ذلك
أقوى من الشهادة على الشهادة ولأنا نتيقن ان شاهد الفرع لم يعاين السبب ولا يتقين في ذلك
شهادة النساء إنما فيه تهمة الضلال والنسيان فإذا لم تكن شهادة النساء مع الرجال حجة في الحدود
والقصاص فالشهادة على الشهادة أولى والشافعي رحمه الله يجعل الشهادة على الشهادة حجة في
حقوق العباد أجمع. العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء لأنه حجة أصلية فيما هو المشهور
به وهو شهادة الأصول فاثبات ذلك بشهادتهم في مجلس القضاء كثبوته بأدائهم لو حضروا
بأنفسهم بخلاف شهادة النساء مع الرجال فشهادة النساء حجة ضرورية لأن النساء لا يحضرن
محافل الرجال عادة فلا تجعل حجة الا فيما تكثر فيه المعاملة لان الضرورة تتحقق في ذلك
وفي الحدود التي هي لله تعالى له قولان في أحد القولين يقول الشهادة على الشهادة لا تكون
حجة في ذلك لان شهادتهم على شهادة الأصول بمنزلة شهادتهم على اقرار المقر وذلك غير
مقبول في الحدود التي هي لله تعالى ومقبول في حقوق العباد فكذلك الشهادة على الشهادة
وهذا لتحقيق الحاجة والضرورة للعباد وذلك ينعدم فيما هو لله تعالى وفي قول آخر يقول
115

الشهادة على الشهادة حجة في ذلك الا في الرجم فالشاهد على الزنا في جملة من يرجم يشترط
حضوره لا محالة وفيما سوى ذلك من الحدود الامام هو الذي يقيم إذا ظهر السبب عنده
وظهر بالشهادة على الشهادة لأنها حجة أصلية وفيما ذكرنا جواب عن كلامه إذا تأملت ولا
يجوز في شئ شهادة من لم يعاين ولم يسمع لأنه لا علم له بالشهود به وبدون العلم لا يجوز له أن
يشهد قال الله تعالى الا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال الله تعالى وما شهدنا الا بما علمنا
وهذا لان الشاهد يعلم القاضي حقيقة الحال ويميز الصادق المخبر من الكاذب ولا يتحقق ذلك
منه إذا لم يعلم به وطريق العمل المعاينة إذا كان المشهود به مما يعاين والسماع إذا كان ذلك مما
يسمع كاقرار المقر والله أعلم بالصواب
(باب الاستحلاف)
(قال رحمه الله اعلم بأن المدعى عليه يستحلف في الخصومات ثبت ذلك بقوله صلى الله
عليه وسلم واليمين على ما أنكر إلا أنه لا يستحلف الا بطلب المدعى) لان اليمين حقه قال صلى الله
عليه وسلم للمدعى لك يمينه وكما لا يستحضر ولا يطلب الجواب الا بطلب المدعى فكذلك
لا يستحلف الا بطلبه ومعنى جعل الشرع اليمين حقا للمدعى قبل المدعى عليه أن الغموس
من اليمين مهلكة على ما روى في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال من اقتطع بيمينه وجد له مال امرء مسلم حرم الله تعالى عليه الجنة قيل فإن كان شيئا يسيرا
يا رسول الله قال صلوات الله عليه وإن كان قضيبا من أراك وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرء مسلم لقي الله تعالى وهو عليه
غضبان فعرفنا أنه يمين مهلكة والمدعى يزعم أن المنكر أتلف حقه بجحوده فجعل له الشرع
يمينه حتى تكون مهلكة له إن كان كما زعم المدعى فالاهلاك بمقابلة الاهلاك جزاء مشروع
كالقصاص وإن كان كما زعم المدعى عليه فلا يضره اليمين الصادقة فهذا تحقيق معنى العدل في
شرع اليمين حقا للمدعي قبل المدعى عليه ثم له رأى في تأخير الاستحلاف فربما يرجو أن يحضر
شهوده ولا يأمن أن تكون خصومته عند قاض لا يرى قبول البينة بعد الاستحلاف فيؤخر
استحلافه لذلك فلهذا لا يحلف الا بطلب المدعى ولان من أصل أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يحلف
الخصم إذا زعم المدعى أن شهوده حضور وعندهما إذا كان الشهود في مجلس القضاء والمدعى
116

هو الذي يعرف ذلك فلهذا لا يستحلف الا بطلبه ثم شرط أبو حنيفة رحمه الله للاستحلاف أن
لا يكون للمدعي شهود حضور لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي ألك بينة فقال لا فقال
صلى الله عليه وسلم إذن لك يمينه ولان المنكر إنما يكون متلفا حق المدعى بإنكاره إذا لم يكن
له شهود حضور ولو استحلف القاضي الخصم مع حضور الشهود لكان في ذلك افتضاح
المسلم إذا أقام المدعى البينة بعد ذلك وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا إذا كان الشهود في
مجلس الحكم فكذلك يتمكن من المدعى من اثبات حقه بالشهادة في الحال فاما إذا لم يكونوا في
مجلس الحكم فله غرض صحيح في الاستحلاف وهو أن يقصر المؤونة والمسافة عليه باقرار المدعى
عليه أو نكوله عن اليمين فيتوصل إلى حقه في الحال فكان له أن يطلب يمينه ثم قد بينا في كتاب
الدعوى أن المقصود نكول المدعى عليه وان الاستحلاف في كل ما يجوز فيه القضاء بالنكول
ولهذا لا يستحلف في الحدود لأنه لا يقضى فيها بالنكول والنكول قائم مقام الاقرار وفي الحدود
التي هي لله تعالى خالصا لا يجوز اقامتها بالاقرار بعد الرجوع فكيف يقام بالنكول والنكول
قائم مقام الاقرار وفي حد القذف النكول قائم مقام الاقرار ولا يجوز اقامته بما هو قائم مقام
الغير كما لا يقام بالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي إلا أنه يستحلف في السرقة
ليقضى عند النكول بالمال دون القطع وهذا لان المدعى يدعى أخذ المال بجهة السرقة فيستحلف
الخصم في الاخذ وعند نكوله يقضى بذلك لا بجهة السرقة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع وكما في
الشهادة على الشهادة وشهادة الرجال مع النساء في السرقة فإنه يثبت بها الاخذ الموجب للضمان
دون السرقة الموجبة للقطع فكذلك في النكول ولهذا لا يستحلف في النكاح والرجعة والفئ
في الاتلاف والرق والنسب والولاء في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا يجوز القضاء فيها
بالنكول والنكول عنده بمنزلة البدل وهما يقولان يستحلف في هذه الأشياء ويقضى بالنكول
فالنكول عندهما قائم مقام الاقرار وقد بينا هذا في الدعوى وفي دعوى القصاص يستحلف لا
للقضاء بالنكول بل لتعظيم حرمة النفوس (ألا ترى) أن الايمان في القسامة شرعت مكررة
لذلك وان كلمات اللعان أيمان مشروعة لتعظيم حرمة النسبة إلى الفاحشة ولهذا قال أبو حنيفة
رحمه الله إذا امتنع عن اليمين في دعوى النفس حبس حتى يحلف أو يقر وفينا دون النفس
يستحلف للقضاء بالنكول لان البدل عامل في الأطراف كهو في الأموال فإذا كان مفيدا يعمل
في الإباحة وإذا كان غير مفيد يعمل في اسقاط الضمان فعند النكول يقضى بالقصاص الذي
117

هو عين المدعا كما يقضى بالمال وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قال النفس وما دونها سواء إذا
نكل عن اليمين قضينا عليه بالأرش وهو قول أبو حنيفة الأول رحمه الله وقد بينا هذا في كتاب
الدعوى أيضا (قال) ولا يستحلف الرجل مع شهادة شاهدين لقوله صلى الله عليه وسلم واليمين
على من أنكر والألف واللام للجنس فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم جنس اليمين في جانب
المدعى عليه فلم يبق يمين في جانب المدعى ولان شرع اليمين في جانب المنكر لمعنى الاهلاك كما
بينا ولا يتحقق ذلك في جانب المدعى ولأنها مشروعة للحاجة إلى قطع المنازعة ولا حاجة إلى
ذلك بعد إقامة المدعي البينة ولأنها مشروعة في جانب المنكر للنفي والمدعى محتاج إلى الاثبات
والى هذا أشار في الأصل فقال لا نرد اليمين ولا نحوها عن موضعها وقد قررنا هذا المعنى في
كتاب الدعوى في مسألة رد اليمين ومسألة القضاء بشاهد ويمين وكان علي رضي الله عنه يرى
استحلاف المدعي مع شهادة شاهدين ويرى استحلاف الشاهد واستحلاف الراوي إذا روى
حديثا كما روى عنه أنه قال ما روى لي أحد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا حلفته غير
أبى بكر رضي الله عنه فإنه حدثني أبو بكر رضي الله عنه ولم أحلفه ولم نأخذ بقوله في هذا لما فيه
من الزيادة على النص ففي النصوص أمر الحكام بالتماس شاهدين من المدعى فاليمين بعد ذلك زيادة
على النص وذلك بمنزلة النسخ ثم الحق قد ثبت بما أقام من الحجة فالبينة سميت بينة لان البيان
يحصل بها ولو ثبت حقه باقرار الخصم لم يجز استحلافه مع ذلك فإذا ثبت بالبينة فهو مثل ذلك
أو أقوى فإن كانت اليمين على الرجل فان القاضي يحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وان اكتفى بالأول أجزأه
لان المشروع اليمين بالله تعالى فان الله تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم وقال الله تعالى يحلفون
بالله ما قالوا فعرفنا أن المشروع في بيعه نصرة الحق والانكارات اليمين بالله تعالى إلا أن
المقصود في المظالم والخصومات هو النكول وأحوال الناس تختلف فمنهم من يمتنع إذا غلظ
عليه اليمين ويتجاسر إذا حلف بالله فقط وإذا كان كذلك فالرأي في ذلك إلى القاضي ان شاء
اكتفى باليمين بالله وان شاء غلظ بذكر الصفات والأصل فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه
ان الذي حلف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله الذي لا إله إلا هو
الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب وقد بينا ذلك في آداب القاضي ولم ينكر عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا أن تغليظ اليمين بذكر الصفات حسن بعد أن لا يحلفه أكثر من
118

يمين واحدة ولهذا لم يذكر حرف العطف عند ذكر الصفات ولا يحلفه بغير الله تعالى لان
ذلك منهى عنه قال صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر وقال صلى الله عليه
وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك ولا يستقبل به القبلة ولا يدخله المسجد وحيثما يحلفه
فهو مستقيم لان المقصود تعظيم المقسم به وذلك حاصل سواء حلفه في المسجد أو في غير المسجد
استقبل به القبلة أو لم يستقبل والشافعي رحمه الله يقول في المال العظيم يستحلف بمكة عند البيت
وبالمدينة بين الروضة والمنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلاد في الجوامع لحديث
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فإنه رأى قوما يستحلفون عند البيت قال أعلى دم أم أمر عظيم
من المال لقد خفت ان يتهيأ الناس لهذا البيت وهذا نوع مبالغة للاحتياط فقد يمتنع الانسان
من اليمين في هذا الموضع مالا يمتنع منها في سائر المواضع ولسنا نأخذ بهذا لما فيه من الزيادة
على النصوص الظاهرة وهي تعدل النسخ عندنا وقد ظهر عمل الناس بخلافه من لدن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وفيه أيضا بعض الحرج على القاضي فان حلف المدعى
عليه فلقد انقطعت المنازعة لأنه لا حجة للمدعى فحجته البينة أو اقرار الخصم أو نكوله وقد
انعدم ذلك كله وليس له أن يخاصم بغير حجة يقول فان أبرأه القاضي أي منعه من أن يخاصمه
بغير حجة لا أن يسقط حق الطالب عنه بقضائه ثم إن أقام الطالب البينة عليه بالحق فإنه يأخذه
منه وبعض القضاة من السلف رحمهم الله كأن لا يسمعون البينة بعد يمين الخصم وكانوا يقولون
كما يترجح جانب الصدق في جانب المدعى بالبينة ويتعين ذلك حتى لا ينظر إلى يمين المنكر
بعده فكذلك يتعين الصدق في جانب المدعى عليه إذا حلف فلا يلتفت إلى بينة المدعى
بعد ذلك ولسنا نأخذ بذلك وإنما نأخذ فيه بقول عمر رضي الله عنه فقد جوز قبول البينة من
المدعى بعد يمين المدعى عليه ويقول عمر رضي الله عنه حيث قال اليمين الفاجرة أحق أن
يرد من البينة العادلة ولسنا نقول بيمين المدعى عليه يتعين معنى الصدق في انكاره ولكن
المدعى لا يخاصمه بعد ذلك لأنه لا حجة له فإذا وجد الحجة كان له أن يثبت حقه بها ولا يحلف
الشاهد الا بأمرنا لاكرام الشهود وليس من اكرامه استحلافه ثم الاستحلاف ينبنى على
الخصومة ولا خصم للشاهد وكما يستحلف المسلم في الخصومات تستحلف أهل الذمة لان
المقصود النكول وهم يمتنعون عن اليمين الكاذبة ويعتقدون حرمة ذلك كالمسلمين (قال) ويحلف
النصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام واليهود بالله الذي أنزل التوراة على
119

موسى عليه السلام والأصل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الرجم حيث
قال لابن صوريا الأعور أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ان حكم الزنا في كتابكم
هذا وهذا لأنه قد يمتنع من اليمين عند التغليظ بهذه الصفة مالا يمتنع بدونه وذكر عن محمد
رحمه الله انه يستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار لأنهم يعظمون النار وليس عن أبي
حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله خلاف ذلك في الظاهر الا انه روى عن أبي حنيفة رحمه الله
في النوادر قال لا يستحلف أحد الا بالله خالصا فلهذا قال بعض مشايخنا لا ينبغي أن يذكر
النار عند اليمين لان المقصود تعظيم المقسم به والنار كغيرها من المخلوقات فكما لا يستحلف
المسلم بالله الذي خلق الشمس فكذلك لا يستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار وكأنه وقع
عند محمد رحمه الله انهم يعظمون النار تعظيم العبادة فالمقصود النكول قال بذكر ذلك في اليمين
فأما المسلمون لا يعظمون شيئا من المخلوقات تعظيم العبادة فلهذا لا يذكر شئ من ذلك في
استحلاف المسلم وغير هؤلاء من أهل الشرك يحلفون بالله فإنهم يعظمون الله تعالى كما قال
عز وجل ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وإنما يعبدون الأصنام تقربا إلى الله تعالى بزعمهم
قال الله تعالى ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى فيمتنعون من الحلف بالله كاذبا ويحصل به
المقصود وهو النكول ولا يستحلف المجوسي في بيت النار لان الاستحلاف عند القاضي
والقاضي ممنوع من أن يدخل ذلك الموضع وفي ذلك معنى تعظيم النار وإذا كأن لا يدخله المسجد
مع أنا أمرنا بتعظيم هذه البقعة فلئلا يدخل المجوسي بيت النار عند الاستحلاف وقد نهينا
عن تعظيمها أولى والحر والمملوك والرجل والمرأة في اليمين سواء لان المقصود هو القضاء
بالنكول وهؤلاء في اعتقاد الحرمة في اليمين الكاذبة سواء وإذا أرادت المرأة أن تحلف زوجها
على الدخول بها لتؤاخذه بالمهر وقالت تزوجني وطلقني بعد الدخول أو قالت تزوجني وطلقني
قبل الدخول فعليه نصف المهر أستحلفه بالله على ذلك فان نكل عن اليمين لزمه المال ولا يثبت
النكاح في قول أبي حنيفة رحمه الله لأنها تدعى المال والعقد والبدل يعمل في المال ولا يعمل في
النكاح فيستحلف لدعوى المال وعند النكول يقضى بذلك دون النكاح وقد بينا نظيره في
دعوى السرقة والله أعلم بالصواب
(باب من لا تجوز شهادته)
(قال الشيخ الامام رحمه الله الأصل أن الشهادة ترد بالتهمة لقوله صلى الله عليه وسلم
120

لا شهادة لمتهم ولأنه خبر محتمل للصدق والكذب فإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق
فيه وعند ظهور سبب التهمة لا يترجح جانب الصدق ثم التهمة تارة تكون لمعنى في
الشاهد وهو الفسق لأنه لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاد حرمته متهم بأنه
لا ينزجر عن شهادة الزور وقد بينا أن العدالة شرط للعمل بالشهادة والعدالة هي الاستقامة
وذلك بالاسلام واعتدال العقل ولكن يعارضهما هوى يضله أو يصده وليس لهذا الاستقامة
حد يوقف على معرفته لأنه بمشيئة الله تعالى تتفاوت أحوال الناس فيها فجعل الحد في ذلك مالا
يلحق الحرج في الوقوف عليه وقيل كل من ارتكب كبيرة يستوجب بها عقوبة مقدرة فهو لا
يكون عدلا في شهادته ففي غير الكبائر إذا أصر على ارتكاب شئ مما هو حرام في دينه
يخرج من أن يكون عدلا وان ابتلى بشئ من غير الكبائر ولم يظهر منه الاصرار على ذلك
فهو عدل في الشهادة لأنه إذا أصر على ذلك فقد أظهر رجحان الهوى والشهوة على ما هو
المانع وهو عقله ودينه وإذا ابتلى بذلك من غير اصرار عليه فإنما ظهر رجحان دينه وعقله
على الهوى والشهوة وقد تكون التهمة لمعنى في المشهود له وهو وصله خاصة بينه وبين الشاهد
يدل على ايثاره على المشهود عليه وذلك شئ يعرف بالعادة فقد ظهر من عادة الناس العدول
منهم وغير العدول الميل إلى الأقارب وأبنائهم على الأجانب فتتمكن تهمة الكذب بهذا الطريق
في الشهادة وقد يكون ذلك في الشاهد لا يقدح في عدالته وولايته وهو العمى فليس
للأعمى آلة التمييز بين الناس حقيقة وذلك تمكن تهمة الغلط في الشهادة وتهمة الغلط وتهمة
الكذب سواء وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعي وهو في حق المحدود
في القذف بعد التوبة فقد جعل الله تعالى عجزه عن الاتيان بأربعة من الشهداء دليل كذبه
بقوله عز وجل فإذا لم يأتوا بالشهداء فاؤلئك عند الله هم الكاذبون * إذا عرفنا هذا فنقول
ذكر عن شريح رحمه الله قال لا تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده ولا المرأة لزوجها ولا
الزوج للمرأة ولا العبد لسيده وبذلك نأخذ ويخالفنا في الولد والوالد مالك رحمه الله فهو يجوز
شهادة كل واحد منهما لصاحبه بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه وهذا لان دليل
رجحان الصدق في خبره انزجاره عما يعتقد حرمته ولا فرق في هذا بين الأجانب والأقارب
وحرمة شهادة الزور بسبب الدين يتناول الموضعين ولهذا قبلت شهادة الأخ لأخيه فكذلك
شهادة الوالد لولده ولا معتبر بالميل إليه طبعا بعدما قام دليل الزجر شرعا ولكنا نستدل
121

بحديث هشام بن عروة عن أبي عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
قال لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمره على أخيه المسلم ولا شهادة الولد لوالده
ولا شهادة الوالد لولده وكذلك رواه عمر بن شعيب عن أخيه عن جده زاد فيه ولا شهادة المرأة
لزوجها ولا شهادة الزوج لامرأته وفي الحديثين ذكر ولا مجلود حد يعنى في القذف وروى
أن الحسن شهد لعلي رضي الله عنهما مع قنبر عند شريح رحمه الله بدرع له قال شريح رحمه الله
ائت بشاهد آخر فقال علي رضي الله عنه مكان الحسن أو مكان قنبر قال لا بل مكان الحسن
رضي الله عنه قال علي رضي الله عنه أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن والحسين هما
سيدا شباب أهل الجنة فقال قد سمعت ولكن إئت بشاهد آخر فعزله عن القضاء ثم أعاد عليه وزاد
في رزقه فدل أنه كان ظاهرا فيما بينهم أن شهادة الولد لوالده لا تقبل إلا أنه وقع لعلي رضي الله عنه
في الابتداء أن للحسن رضي الله عنه خصوصية في ذلك لما خصه به رسول الله صلى
الله عليه وسلم من السيادة ووقع عند شريح رحمه الله أن السبب المانع وهو الولاد قائم في حقه
ولا طريق لمعرفة الصدق والكذب حقيقة في حق من هو غير معصوم عن الكذب فيبنى
الحكم على السبب الظاهر وهو كما وقع عند شريح رحمه الله واليه رجع علي رضي الله عنه والمعنى
فيه تمكن تهمة الكذب فان العدالة تدل على رجحان جانب الصدق عند استواء الخصمين
في حقه ولا تدل على ذلك عند عدم الاستواء (ألا ترى) أن في شهادة المرء لنفسه أو فيما
له فيه منفعة لا يظهر رجحان جانب الصدق باعتبار العدالة لظهور ما يمنع من ذلك بطريق
العادة فكذلك في حق الاباء والأولاد إما لشبهة البعضية بينهما أو لمنفعة الشاهد في المشهود به
والمنافع بين الاباء والأولاد متصلة قال الله تعالى آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا
بخلاف الاخوة وسائر القرابات فدليل العادة هناك مشترك متعارض فقد تكون القرابة
سببا للتحاسد والعداوة وأول ما يقع من ذلك أنما يقع بين الاخوة بيانه في قوله تعالى قال
لأقتلنك وبيان ذلك في حال يوسف عليه السلام واخوته فمكان التعارض يظهر رجحان جانب
الصدق في الشهادة له بظهور عدالته ومثل هذه المعارضة لا توجد في الاباء والأولاد لا يشكل
هذا على من نظر في أحوال الناس عن انصاف فاما في شهادة أحد الزوجين لصاحبه
يخالفنا الشافعي رحمه الله فيقول تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه لأنه ليس بينهما بعضية
والزوجية قد تكون سببا للتنافر والعداوة وقد تكون سببا للميل والايثار فهي نظير الاخوة
122

أو دون الاخوة فإنها تحتمل القطع والاخوة لا تحتمل ودليل هذا الوصف جريان القصاص
بينهما في الطريقين في النفس وأن كل واحد منهما لا يعتق على صاحبه إذا ملكه ولأن هذه
وصلة بينهما باعتبار عقد لا يؤثر في المنع من قبول الشهادة كالصداق والاظهار والأختان وهذا
لان عقد النكاح يثبت أحكاما مشتركة بينهما ففيما وراء ذلك ينزل كل واحد منهما من صاحبه
منزلة الأجنبي كشريكي العنان * وحجتنا في ذلك أن ما بينهما من وصلة الزوجية تمكن تهمة في
شهادة كل واحد منهما لصاحبه. وبيان ذلك من وجوه أحدهما ان عقد النكاح مشروع لهذا
وهو أن يألف كل واحد منهما بصاحبه ويميل إليه ويؤثره على غيره واليه أشار الله تعالى في
قوله خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وهو مشروع لمعنى الاتحاد في القيام بمصالح
المعيشة ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور داخل البيت على فاطمة رضي الله عنه
ا وأمور خارج البيت على علي رضي الله عنه وبهما تقدم مصالح المعيشة فكان في ذلك
كشخص واحد ولا يقال هذا الاتحاد بينهما في حقوق النكاح خاصة لان معنى الاتحاد في
حقوق النكاح مستحق شرعا وفيما وراء ذلك ثابت عرفا فالظاهر ميل كل واحد منهما إلى
صاحبه وايثاره على غيره كما في الآباء والأولاد بل أظهر فان الانسان قد يعادى والديه لترضى
زوجته وقد تأخذ المرأة من مال أبيها فتدفعه إلى زوجها والدليل عليه ان كل واحد منهما يعد
منفعة صاحبه منفعته ويعد الزوج غنيا بمال الزوجة قيل في تأويل قوله تعالى ووجدك عائلا فأغنى
أي غنى بمال خديجة رضي الله عنها ولما جاء إلى عمر رضي الله عنه رجل فقال إن عبدي سرق
مرآة امرأتي فقال مالك سرق بعضه بعضا والدليل على أن الزوجة بمنزلة الولاد حكما استحقاق
الإرث بها من غير حجب بمن هو أقرب * توضيح الفرق ما قلنا أن الزوجة بمنزلة الأصل
للولاد فان الولاد تنشأ من الزوجية والحكم الثابت للفرع يثبت في الأصل وان انعدم ذلك
المعنى فيه (ألا ترى) أن المحرم إذا كسر بيض الصيد يلزمه الجزاء وليس في البيض معنى الصيدية
ولكنه أصل الصيد فيثبت فيه من الحكم ما يثبت في الصيد إلا أن هذا الأصل إنما يلحق
بالولاد في حكم يتصور قيام الزوجية عند ثبوت ذلك الحكم دون مالا يتصور كالقصاص فإنه
يجب بعد القتل ولا زوجية بعد قتل أحدهما صاحبه والعتق إنما يثبت بعد الملك ولا زوجية
بعد الملك فاما حكم الشهادة يكون في حال قيام الزوجية فيلحق الزوجية فيه بالولاد وكان سفيان
الثوري رحمه الله يقول شهادة الزوج لزوجته تقبل وشهادة المرأة لزوجها لا تقبل لأنها في
123

حكم المملوك له المقهور تحت يده فيتمكن تهمة الكذب في شهادتها له وذلك تنعدم في شهادته
لها واعتمد فيه حديث علي رضي الله عنه فإنه شهد لفاطمة رضي الله عنها في دعوى فدك مع
امرأة بين يدي أبى بكر رضي الله عنه فقال لها أبو بكر رضي الله عنه ضمي إلى الرجل رجلا
أو إلى المرأة امرأة فهذا اتفاق منهما على جواز شهادة الزوج لزوجته * ولكنا نقول دليل
التهمة تعم الجانبين من الوجه الذي قررنا فربما يكون ذلك في جانب الزوج أظهر لأنها لما كانت
في يده فما لها في يده من وجه أيضا فهو يثبت اليد لنفسه في المشهود به وكذلك بكثرة مالها تزداد
قيمة ملكه فان قيمة المملوك بالنكاح تختلف بقلة مالها وكثرة مالها. بيان ذلك في مهر المثل فمن
هذا الوجه يكون الزوج شاهدا لنفسه ولا حجة في حديث علي رضي الله عنه لان أبا بكر
رضي الله عنه لم يعمل بتلك الشهادة بل ردها وكان للرد طريقان الزوجية ونقصان العدد
فأشار إلى أبعد الوجهين تحرزا عن الوحشة وكذلك علي رضي الله عنه علم أن أبا بكر رضي الله عنه
لا يعمل بتلك الشهادة لنقصان العدد وكره انحسامها بالامتناع من أداء الشهادة فلهذا شهد
لها وقد قيل إن شهادة علي رضي الله عنه لها لم تشتهر وإنما المشهور أنه شهد لها رجل وامرأة
وأما قول شريح ولا العبد لسيده فهو مجمع عليه لان شهادة العبد لا تقبل لسيده ولا لغير سيده
وحكى عن محمد بن سلمة رضي الله عنه قال كان يحيى بن أكثم رحمه الله أعلم الناس باختلاف
العلماء رحمهم الله وكان إذا قال في شئ اتفق العلماء رحمهم الله على كذا نزل أهل العراق على قوله
وقد قال اتفق العلماء على أن العبد لا شهادة له وقد يروي أن عليا وزيدا رضي الله عنهما
اختلفا في المكاتب إذا أدى بعض بدل الكتابة فقال علي رضي الله عنه يعتق بقدر ما أدى
منه وقال زيد رضي الله عنه لا يعتق ما بقي عليه درهم فقال زيد لعلي رضي الله عنهما أرأيت
لو شهد أكان تقبل بعض شهادته دون البعض فهذا دليل الاتفاق منهما على أن لا شهادة للعبد
واختلف عمر وعثمان رضي الله عنهما في العبد إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعتق فأعادها
فقال عثمان رضي الله عنه لا تقبل وقال عمر رضي الله عنه تقبل فذلك اتفاق منهما على أنه لا شهادة
للعبد وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا شهادة للعبد وهذا لان في الشهادة معنى الولاية فإنه
قول ملزم على الغير ابتداء وليس معنى الولاية الا هذا والرق يبقي الولاية فالأصل ولاية المرء
على نفسه فإذا كان الرق يخرجه من أن يكون أهلا للولاية على نفسه فعلى غيره أولى وقد
استدلوا في الكتاب على أن العبد ليس من أهل الشهادة بقوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما
124

دعوا والعبد لا يدخل في هذا الخطاب لان خدمته ومنفعته لمولاه فلا يجب عليه الحضور لأداء
الشهادة وان دعى إلى ذلك بل لا يحل له ذلك لان منافعه في هذا الزمان غير مستثنى من حق
المولى وذكر عن شريح رحمه الله أنه قبل شهادة الأخ لأخيه وقد بينا الفرق بين هذا وبين
شهادة الولد لوالده واستدل في الكتاب بقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك فمطلق
هذه الإضافة يدل على أن الولد كالمملوك لوالده وان مال الولد لوالده وقد دل عليه قوله صلى
الله عليه وسلم ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ومثل ذلك لا يوجد
في الاخوة وسائر القرابات ويجوز شهادة الرجل لوالده من الرضاعة ووالدته لان الرضاع
تأثيره في الحرمة خاصة وفيما وراء ذلك كل واحد منهما من صاحبه كالأجنبي (ألا ترى) أنه لا
يتعلق به استحقاق الإرث واستحقاق النفقة حالة اليسار والعسرة وبه يفرق بين الاخوة والولاد
فالاخوة لا يتعلق بها استحقاق النفقة عند عدم اليسار بخلاف الولادة والزوجية فإنه يتعلق
بهما استحقاق حالتي اليسار والعسرة ويجوز شهادة الرجل لام امرأته ولزوج ابنته لان
المصاهرة التي بينهما تأثيرها في حرمة النكاح فقط فاما ما سوى ذلك لا تأثير للمصاهرة فهي
بمنزلة الرضاع أو دونه وعن إبراهيم رحمه الله قال لا تجوز شهادة المحدود في القذف وان
تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله تعالى وعن شريح رحمه الله مثله وبذلك يأخذ علماؤنا رحمهم
الله وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما فإنه كأن يقول إنما يؤتيه فيما بينه وبين الله تعالى فاما نحن
فلا تقبل شهادته وقال الشافعي رحمه الله تقبل شهادته بعد التوبة وهو قول عمر رضي الله عنه
وقد كأن يقول لأبي بكرة تب تقبل شهادتك واستدل الشافعي رحمه الله بظاهر الآية فان
الله تعالى قال إلا الذين تابوا والاستثناء متى يعقب كلمات منسوقة بعضها على البعض ينصرف
إلى جميع ما تقدم الا ما قام الدليل عليه كقول القائل امرأته طالق وعبده حر وعليه حجة إلا أن
يدخل الدار ثم قام الدليل من حيث الاجماع على أن الاستثناء لا ينصرف إلى الجلد فيبقى
ما سواه على هذا الظاهر مع أن عندنا الاستثناء ينصرف إلى الجلد أيضا إلا أن الجلد حق المقذوف
فتوبته في ذلك أن يستعفيه فلا جرم إذا استعفاه فعفى عنه سقط الجلد والمعنى فيه أن الموجب
لرد الشهادة فسقه وقد ارتفع بالتوبة وإنما قلنا لان الموجب لرد شهادته اما أن يكون نفس
القذف أو إقامة الحد عليه أو سمة الفسق لا جائز أن يكون الموجب لرد شهادته نفس القذف
لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب فباعتبار الصدق لا يكون موجبا رد الشهادة ولا ترد
125

الشهادة على التأييد وكذلك باعتبار الكذب فلا تأثير للكذب في رد الشهادة على التأييد ولان
هذا افتراء منه على عبد من عباد الله فلا يكون أعظم من افترائه على الله تعالى وهو الكفر
وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأييد ولأنه نسبة الغير إلى الزنا فلا يكون أقوى من
مباشرة فعل الزنا وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأييد وهذا على أصلكم أظهر فإنكم تقولون
قبل إقامة الحد عليه تقبل شهادته وإن لم يتب وبالاتفاق إذا تاب قبل إقامة الحد عليه تقبل
شهادته ولا جائز أن يكون الموجب لرد الشهادة إقامة الحد عليه فان ذلك فعل الغير به وتعتبر
إقامة هذا الحد بإقامة سائر الحدود وهذا لان الحد من وجه يقام تطهيرا قال صلى الله عليه
وسلم الحدود كفارات لأهلها فلا يصلح أن تكون سببا لرد شهادته على التأييد وحاله إذا
تاب بعد إقامة الحد عليه أحسن من حاله قبل إقامة الحد عليه فإذا بطل الوجهان صح أن
الموجب لرد شهادته سمة الفسق وقد ارتفع ذلك بالتوبة بدليل قبول خبره في الديانات ولهذا
قلت قبل إقامة الحد عليه لا تقبل شهادته عليه إذا لم يتب لان الفسق ثبت بنفس القذف لما
فيه من هتك ستر العفة على المسلم ولهذا لزمه الحد به والحد لا يجب الا بارتكاب جريمة
موجبة للفسق ولان هذا محدود في قذف حسنت توبته فتقبل شهادته كالذمي إذا أسلم بعد
إقامة الحد عليه * وحجتنا في ذلك من حيث الظاهر قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا والأبد
ما لا نهاية له فالتنصيص عليه في بيان رد شهادته دليل على أنه يتناول الشهادة على التأييد
ومعنى قوله لهم أي للمحدود في القذف وبالتوبة لا يخرج من أن يكون محدودا في قذف
بخلاف قوله تعالى ولا تصل على أحد منهما مات أبدا ومعناه من المنافقين وبالتوبة يخرج
من أن يكون منافقا والمراد بالآية شهادته في الحوادث لاما يأتي به من الشهود على صدق
مقالته فالصحيح من المذهب عندنا انه إذا أقام المحدود أربعة من الشهداء على صدق مقالته بعد إقامة
الحد عليه تقبل ويصير هو مقبول الشهادة وقوله تعالى لهم شهادة بمنزلة قوله شهادتهم كما
يقال هذه دارك وهذه دار لك وفي التنكير ما يدل على أن المراد ما قلنا دون أربعة يشهدون
له فإنه لو كان المراد ذاك لقال ولا تقبلوا لهم الشهادة فان المنكر إذا أعيد يعاد معرفا قال الله
تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ولا كلام في المسألة من طريق
القياس فان مقادير الحدود لا تعرف بالقياس ولكن الكلام على طريق الاستدلال بالمنصوص
فنقول ان رد الشهادة من تمام حده وأصل الحد لا يسقط بالتوبة فما هو متمم له لا يسقط
126

أيضا وبيان هذا أن نفس القذف لا يكون موجبا للحد كما قاله الخصم ولان القذف متمثل
بين الصدق والكذب وربما يكون حسبه من القاذف إذا علم اضراره ووجد أربعة من
الشهداء ليقيم عليه الحد ولهذا يتمكن من اثباته بالبينة ولكن وجوب الحد عليه بالقذف مع
عجزه عن الاتيان بأربعة من الشهداء واليه أشار الله تعالى في قوله عز وجل ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فالمعطوف على الشرط شرط ثم العجز عن ذلك يظهر بما يظهر به العجز عن الدفع في
سائر الحوادث فعند ذلك يصير القذف موجبا جلدا مؤلما محرما لقبول الشهادة وذلك
منصوص عليه في قوله تعالى فاجلدوهم والفاء للتعقيب وقوله تعالى ولا تقبلوا لهم معطوف
على الجلد والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه حدا
كان المعطوف من تمام الحد كما قال الشافعي رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم وتغريب عام
أنه من تمام حد البكر ولكن نقول هناك التغريب لا يصلح أن يكون حدا لما فيه من الاغراء
على ارتكاب الفاحشة دون الزجر وهنا رد الشهادة صالح لتتميم الحد لأنه مؤلم قلبه كما أن الجلد
مؤلم بدنه ففيه معنى الزجر ثم حرمة القاذف باللسان ورد شهادته حد في المحل الذي حصل
به الجريمة وذلك مشروع كحد السرقة والمقصود من هذا الحد دفع الشين عن المقذوف
وذلك في اهدار قوله أظهر منه في إقامة الجلد عليه فلهذا جعلنا رد الشهادة متمما للحد وهذا
بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم للسارق اقطعوه ثم احسموه فان الحسم لا يكون متمما للحد
لأنه دواء فلا يصلح أن يكون متمما للحد ثم حرف النفي في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة
لا يمنع العطف فقد يعطف النهي على الامر كما يقول لغيره اجلس ولا تتكلم وأما قوله تعالى
وأولئك هم الفاسقون ليس بعطف بل هو ابتداء بحرف الواو وقد يكون ذلك لحسن نظم
الكلام كقوله تعالى والراسخون في العلم وقوله تعالى ولباس التقوى وقوله تعالى ويمحوا الله
الباطل وبيان أنه ليس بعطف أن قوله تعالى فاجلدوهم أمر بفعل وهو خطاب الأمة وقوله
تعالى ولا تقبلوا لهم نهى عن فعل وهو خطاب الأمة أيضا وقوله تعالى وأولئك هم الفاسقون
اثبات وصف لهم فكيف تتحقق المشاركة بينه وبين ما تقدم ليكون عطفا ولان قوله تعالى
وأولئك هم الفاسقون بيان لجريمتهم وإزالة الاشكال أنهم لما أدي استوجبوا هذه العقوبة وما تقدم
بيان الواجب بالجريمة ولا يتحقق عطف الجريمة على الواجب بها والدليل عليه انه لو كان هذا
عطفا لكان من الحد أيضا فينبغي أن لا يرتفع بالتوبة كما لا يرتفع بالحد فلا تأثير للتوبة في الحد
127

وإنما يسقط عنده بعفو المقذوف ويستوى في ذلك أن تاب القاذف أو لم يتب وكان ينبغي أن
يقال إذا تاب حتى حرم بفسقة أن لا يقام عليه الحد لان الحد لا يحتمل الوصف بالتحري والذي
يوضح ما قلنا أن الثابت بالنص هو التوقف في خبر الفاسق كما قال الله تعالى فتبينوا والمنصوص
عليه هنا حكم آخر وهو الرد دون التوقف فعرفنا أنه ليس بسبب الفسق بل هو متمم للحد
كما قررنا ولو كان رد الشهادة بسبب الفسق لكان في الآية عطف العلة على الحكم وذلك لا
يحسن في البيان ولهذا الأصل قلنا بقبول شهادته قبل إقامة الحد عليه وإن لم يتب لأنه من تمام
حده أو أنه بعد إقامة الحد وهذا لان بإقامة الحد يصير محكوما بكذبه والمتهم بالكذب لا
شهادة له فالمحكوم بالكذب أولى ويستدل بهذا في تعيين المسألة فإنه بعد إقامة الحد عليه في
جميع الحوادث بمنزلة الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته فتلك الشهادة لا تقبل منه بعد
ذلك وان تاب لأنه صار محكوما بكذبه فيها فكذلك المحدود في جميع الشهادة وبيان ما قلنا
فيما روي أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سمحا قال المسلمون الآن يجلد هلال
فتبطل شهادته في المسلمين فذلك دليل على أنه لا تبطل شهادته قبل إقامة الحد وأن بطلان
الشهادة من تمام الحد وتأويل قول عمر رضي الله عنه لأبي بكرة تقبل شهادتك في الديانات
(ألا ترى) ان ما روى أن أبا بكرة كان إذا استشهد في شئ قال وكيف تشهدني وقد أبطل
المسلمون شهادتي وهو أعلم بحاله من غيره فاما الذمي إذا أقيم عليه حد القذف سقطت شهادته
وتم به حده لأنه كان من أهل الشهادة ثم بالاسلام استفاد شهادة لم تكن موجودة عند إقامة
الحد وهذه الشهادة لم تصر مردودة وبه فارق العبد إذا أقيم عليه الحد ثم عتق لان العبد لم يكن
أهلا للشهادة وتمام الحد يرد الشهادة فيتوقف على ما بعد العتق فان عتق الآن ثم حده ترد
شهادته وهذا الفرق على الرواية التي يقول إن خبر المحدود في القذف في الديانات تقبل وأما
على الرواية التي تقول لا يقبل خبره في الديانات وهو رواية المنتفى فوجه الفرق بينهما ان
الكافر بالاسلام استفاد عدلة لم تكن موجودة عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة
بخلاف العبد فهو بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن موجودة من قبل وقد صارت عدالته
مجروحة بإقامة الحد عليه فلا تقبل شهادته بحال فان (قال) القاذف عندي لا يكون أهلا للشهادة
عند إقامة الحد عليه لأنه فاسق وإنما يستفيد الأهلية بعد ذلك بالتوبة (قلنا) لا كذلك فقد
قامت الدلالة لنا على أن الفاسق من أهل الشهادة وفي قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة ما يدل
128

على ذلك ثم مذهبه هذا من أقوى دليل لنا عليه فان عنده قبل التوبة لا شهادة له فلا تتصور
رد شهادته ويتبين بهذا أن المراد من قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة رد لشهادته بعد وجودها
بالأهلية وذلك بعد التوبة وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه شهد عنده أعمى فقالت
أخت المشهود عليه أنه أعمى فذكر ذلك لعلي رضي الله عنه فرد شهادته وبه نأخذ وكان مالك
رحمه الله يقول إن شهادة الأعمى مقبولة لان الأعمى لا يقدح في الولاية والعدالة فباعتبارهما
يجب قبول الشهادة * بيانه أنه من أهل الولاية على نفسه فتتعدى ولايته إلى غيره عند وجود
سبب التعدي وهو أهل للعدالة لانزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولهذا قبلت رواية الأعمى
فقد كان في الصحابة رضوان الله عليهم من هو أعمى وقد كان في الأنبياء عليهم السلام من
ابتلى بذلك فدل أن الأعمى لا يقدح في العدالة وفوات العينين كفوات الرجلين واليدين فلا
يؤثر في المنع من قبول شهادته ونحن نسلم هذا كله ولكن نقول يحتاج في تحمل الشهادة
وأدائها إلى التمييز بين من له الحق وبين من عليه وقد عدم آلة التمييز حقيقة لان الأعمى لا يميز بين
الناس الا بالصوت والنغمة فتتمكن من شهادته شبهة يمكن التحرز عنها بجنس المشهود وذلك
مانع من قبول الشهادة وقال زفر رحمه الله فيما لا يجوز الشهادة عليه الا بالمعاينة لا شهادة للأعمى
فاما فيما تجوز الشهادة فيه بالتسامع تقبل شهادة الأعمى لأنه في السماع كالبصير وإنما عدم آلة
العينين ولكنا نقول في أداء الشهادة هو محتاج إلى الإشارة إلى المشهود له والمشهود عليه ولا
يتمكن من ذلك الا بدليل مشتبه وهو الصوت والنغمة وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف
والشافعي رحمهما الله إذا تحمل الشهادة وهو بصير ثم أداها وهو أعمى تقبل شهادته لان تحمله
قد صح بطريق ثبت له العلم به وبعد صحة العلم أنما يحتاج إلى الحفظ والأعمى في ذلك كالبصير
ويحتاج إلى الأداء باللسان والأعمى في ذلك كالبصير فتعريف المشهود له والمشهود عليه بذكر
الاسم والنسب والإشارة إليهما بالطريق الذي يعلم أنه مصيب في ذلك يكفي لأداء الشهادة
(ألا ترى) أن الأعمى يباح له وطئ زوجته وجاريته ولا يميزهما من غيرهما الا بالصوت
والنغمة وأن البصير إذا شهد على ميت أو غائب يقام ذكر الاسم والنسب مقام الإشارة إلى
العين في صحة أداء الشهادة فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا لا تقبل شهادته لحديث
علي رضي الله عنه فإنه لا يستفسر أنه وقت التحمل كان بصير أو أعمى وفي هذا الحديث
دليل أن ذلك معروفا بينهم حتى لم يخف على النساء ولكن أبو يوسف رحمه الله يقول يحتمل
129

أن ذلك كان في الحد وأنا أقول في الحدود إذا عمى قبل الأداء أو بعد الأداء قبل الامضاء فإنه
لا تعمل بشهادته لان الحدود تندرئ بالشبهات والصوت والنغمة في حق الأعمى تقام مقام
المعاينة في حق البصير والحدود لا تقام بما يقوم مقام الغير بخلاف الأموال والمعنى فيه أن في شهادة
الأعمى تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود وذلك يمنع قبول الشهادة كما في شهادة الأب لولده
وبيان الوصف أنه يحتاج عند أداء الشهادة إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه والإشارة
إليهما والى المشهود به فيما يجب احضاره وآلة هذا التمييز البصير وقد عدم الأعمى ذلك المعنى وإنما
يميز بالصوت والنغمة أو بخبر الغير فكما لا يجوز له ولا للبصير أن يشهد بخبر الغير فكذلك لا تقبل
شهادته إذا كان تمييزه بخبر الغير والأعمى في أداء الشهادة كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب
وهذا بخلاف الوطئ فإنه يجوز أن يعتمد فيه على خبر الواحد إذا أخبره ان هذه امرأته وقد زفت
إليه وهذا لان الضرورة تتحقق فيه فالأعمى يحتاج إلى قضاء الشهوة والنسل كالبصير ولا
ضرورة هنا ففي الشهود كثرة وهذا بخلاف الموت فان ذلك لا يمكن التحرز عنه بجنس الشهود
فالمدعى وان استكثر من الشهود يحتاج إلى إقامة الاسم والنسبة مقام الإشارة عند موت
المشهود عليه أو غيبته على أن هناك الإشارة تقع إلى وكيل الغائب ووصى الميت وهو في ذلك قائم
مقامه ولا يقال بأنه ما كان يعلم عند الاستشهاد ان الشاهد يبتلى بالعمى لان هذا المعنى يضعف
بما إذا فسق الشاهد بعد التحمل فان شهادته لا تقبل والمدعي ما كان يعلم أن الشاهد يفسق
بعد التحمل ثم هذا في القصاص والحدود التي فيها حق العباد موجود وكم يعتبر مع عظم حرمتها
فلأن لا يعتبر في الأموال مع خفة حرمتها أولى ثم بماذا يعرف انه كان بصيرا وقت التحمل
فان قول الشاهد في ذلك غير مقبول وقول المدعى كذلك والمدعى عليه منكر للمشهود به
أصلا (قال) ويتصور هذا فيما إذا جاء وهو بصير ليؤدي الشهادة فلم يتفرغ القاضي لسماع شهادته
حتى عمى أو كان القاضي يعرف الوقت الذي عمى هو فيه وتاريخ المدعى سابق على ذلك ولا
تجوز شهادة الأخرس لان أداء الشهادة يختص بلفظ الشهادة حتى إذا قال الشاهد أخبر
واعلم لا يقبل ذلك منه ولفظ الشهادة لا يتحقق من الأخرس ثم شهادة الأخرس مشتبهة فإنه
يستدل بإشارته على مراده بطريق غير موجب للعلم فتتمكن من شهادته تهمة يمكن التحرز عنها
بجنس الشهود ولا تكون إشارته أقوى من عبارة الناطق لو قال أخبر ولا تقبل شهادة الفاسق
لان الله تعالى أمر بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ
130

فتبينوا أن تصيبوا والامر بالتوقف يمنع العمل بالشهادة وهذا لان رجحان جانب الصدق لا
يظهر في شهادة الفاسق لان اعتبار اعتقاده يدل على صدقه واعتبار تعاطيه يدل انه كاذب في
شهادته فلتعارض الأدلة يجب التوقف ثم لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاده حرمته
فالظاهر أنه لا ينزجر عن شهادة الزور مع اعتقاد حرمته وعن أبي يوسف رحمه الله يقول إذا
كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في شهادته فلوجاهته لا
يتجاسر أحد من استئجاره لأداء الشهادة ولمروءته يمتنع من الكذب من غير منفعة له في ذلك
والأصح ان شهادته لا تقبل لان قبول الشهادة في العمل بها لاكرام الشهود كما قال صلى الله
عليه وسلم أكرموا الشهود فان الله تعالى يحيى الحقوق بهم وفي حق الفاسق أمر بخلاف ذلك قال
صلى الله عليه وسلم إذا لقيت الفاسق فالقه بوجهه مكفهر ومن يكون معلنا للفسق فلا مروءة
له شرعا فلهذا لا تقبل شهادته ولا شهادة آكل الربا المشهور بذلك والمعروف به المقيم عليه فإنه
فاسق محارب قال الله تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ولكنه شرط أن
يكون مشهورا به مقيما عليه لأن العقود الفاسدة كلها ربا قال الله تعالى وأحل الله البيع وحرم
الربا والانسان في العادة لا يمكنه أن يتحرز عن الأسباب المفسدة للعقد في جميع معاملاته
فقد لا يهتدى إلى بعض ذلك فلهذا لا تسقط عدالته إذا لم يكن مشهورا بأكل الربا مصرا عليه
ولا شهادة مدمن الخمر ولا مدمن السكر لأنه مرتكب للكبيرة مستوجب للحد على ذلك
وذلك تسقط عدالته وإنما شرط الادمان ليكون ذلك ظاهرا منه فان من يتهم بالشرب ولكن
لا يظهر ذلك لا يخرج من أن يكون عدلا وإنما تسقط عدالته إذا كان يظهر ذلك أو يخرج
سكرانا يسخر منه الصبيان فلا مروءة لمثله ولا يبالي من الكذب عادة ولا شهادة المحنث لأنه
فاسق ومراده إذا كان محنثا في الردي من أفعاله فأما إذا كان في كلامه لين وفي أعضائه تكسر
ولم يشتهر بشئ من الأفعال الردية فهذا عدل مقبول الشهادة (ألا ترى) ان هبت المحنث
كان يدخل بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن حتى سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم منه كلمة شنيعة أمر باخراجه ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرهن لشدة
غفلته فالظاهر أن يكون قبله مع ذلك في عامة أحواله وأنه يقل نظره في سائر الأمور ثم هو
مصر على نوع لعب وقال صلى الله عليه وسلم ما أنا من در ولا الدر منى والغالب أنه ينظر إلى
العورات في السطوح وغيرها وذلك فسق فاما إذا كان يمسك الحمام في بيته يستأنس بها ولا
131

يطيرها عادة فهو عدل مقبول الشهادة لان إمساك الحمام في البيوت مباح (ألا ترى) أن الناس
يتخذون بروج الحمامات ولم يمنع من ذلك أحد ولا شهادة صاحب الغناء الذي يخادن عليه
ويجمعهم والنائحة لأنه مصر على نوع فسق ويستخف به عند الصلحاء من الناس ولا يمتنع
من المجازفة والاقدام على الكذب عادة فلهذا لا تقبل شهادته وأما المحدود في الخمر والزنا
والسرقة إذا تابوا فان شهادتهم مقبولة لحديث شريح رحمه الله انه أجاز شهادة أقطع من بنى أسد
فقال أتجيز شهادتي فقال نعم وأراك لذلك أهلا وكان أقطع في سرقة وهذا لان التوقف في
شهادته كان لفسقه وقد زال ذلك بالتوبة والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وليس هذا كالمحدود
في القذف لان رد الشهادة هناك من تمام الحد فلو جعلنا رد الشهادة هنا من تمام الحد كان
بطريق القياس ولا مدخل للقياس في مقادير الحدود والزيادة على النص بالقياس لا تجوز مع
أن هذا الحد ليس في معنى ذلك الحد لان بإقامة حد القذف تتحقق جريمته وجريمة هؤلاء
تتحقق قبل إقامة الحد فإقامة الحد في حقهم تكون تطهيرا إذا انضم إليه التوبة وقد قال الله
تعالى فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح الآية وقد قال صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن
لا ذنب له وإذا أعمى الشاهد أو خرس أو ذهب عقله أو ارتد عن الاسلام والعياذ بالله بعد
ما شهد قبل أن يقضى القاضي بشهادته فان القاضي لا يقضي بشهادته لان اقتران هذه الحوادث
بأداء الشهادة تمنع العمل بها فكذلك اعتراضها بعد الأداء قبل القضاء لان الشهادة لا توجب
شيئا بدون القضاء والقاضي لا يقضى الا بحجة فاعتراض هذه المعاني قبل القضاء يخرج شهادته
من أن تكون حجة بخلاف الموت فان اقترانه بالأداء لا يمنع العمل بشهادته (ألا ترى) أن
شاهد الفرع إذا شهد بعد موت الأصول يقبل والقضاء يكون بشهادة الأصول فكذلك
اعتراض الموت لا يمنع القضاء بشهادته وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلي رحمهما الله شهادة أصحاب
الأهواء جائزة وهو مذهب جميع أصحابنا رحمهم الله وقال الشافعي رحمه الله لا تقبل شهادة
أهل الأهواء ومنه من يفصل بين من يكفر في هواه وبين من لا يكفر في هواه لأنهم
فسقة ولا شهادة للفاسق والفسق من حيث الاعتقاد أغلظ من الفسق من حيث التعاطي
(ألا ترى) أن أخبار أهل الأهواء في الديانات لا يقبل وهو أوسع من الشهادة فلأن لا
تقبل شهادتهم أولى وفي الكتاب استدل بما كان من الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم
فإنهم اختلفوا واقتتلوا وقتل بعضهم بعضا ولا شك أن شهادة بعضهم على بعض كانت جائزة
132

مقبولة وليس بين أصحاب الأهواء من الاختلاف أشد مما كان بينهم من القتال وفي موضع
آخر علل فقال إنهم للتعمق في الذين ضلوا عن سواء السبيل ووقعوا في الهوى وذلك لا يلحق
تهمة الكذب بهم في الشهادة فمن أهل الأهواء يعظم الذنب حتى يجعله كفرا فلا يتهم باعتبار
هذه الاعتقاد أن يشهد بالكذب ومنهم من يقول بالفسق يخرج من الايمان فاعتقاده هذا
يحمله على التحرز عن الكذب الموجب لفسقه وقد بينا أن شهادة الفاسق إنما لا تقبل لتهمة
الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل على ذلك فهو نظير شرط المثلث معتقدا
اباحته أو يتناول متروك التسمية عمدا معتقدا إباحة ذلك فإنه لا يصير به مردود الشهادة الا
الخطابية من أهل الأهواء وهم صنف من الروافض يستجيزون أن يشهدوا للمدعى إذا
حلف عندهم أنه محق ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا فاعتقاده هذا يمكن تهمة الكذب في
شهادته قالوا وكذلك من يعتقد أن الإلهام حجة موجبة للعلم لا تقبل شهادته لان اعتقاده
ذلك يمكن تهمة الكذب فربما أقدم على أداء الشهادة بهذا الطريق فاما رواية الاخبار عن
أهل الأهواء فقد اختلف فيه مشايخنا رحمهم الله والأصح عندي أنه لا تقبل لان المعتقد للهوى
يدعو الناس إلى اعتقاده ومتهم بالنقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتمام مراده فلا
تقبل روايته لهذا ولا يوجد مثل ذلك منه في الشهادة في المعاملات وعلى هذا شهادة العدو على
عدوه لا تقبل عند الشافعي رحمه الله لان العدواة بينهما تحمله على التقول عليه ولهذا لم يجوز
شهادة أهل الأهواء على أهل الحق فاما عندنا إذا كانت العدواة بينهما بسبب شئ من أمر
الدين فشهادة بعضهم على بعض تقبل لخلوها عن تهمة الكذب فأما من يعادى غيره لمجاوزته
حد الدين يمتنع من الشهادة بالزور وإن كان يعاديه بسبب شئ من أمر الدنيا فهو أمر موجب
فسقه فلا تقبل شهادته عليه إذا ظهر ذلك منه وشهادة أهل الاسلام جائزة على أهل الشرك
كلهم لان الله تعالى أثبت للمؤمنين شهادة على الناس بقوله عز وجل لتكونوا شهداء على
الناس ولما قبلت شهادة المسلم على المسلم فعلى الكافر أولى ومن عرف منهم بالخيانة لم تجز شهادته
أهل الأهواء وغير أهل الأهواء في ذلك سواء فالمجون نوع جنون قال القائل في هذا المعنى
ان شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا
ثم لما جن تشتد غفلته على وجه ينعدم به الضبط أو يقل وتظهر منه المجازفة فيما يقول ويفعل
فيتهم بالمجازفة في الشهادة أيضا وشهادة أهل الشرك بينهم جائزة بعضهم على بعض عندنا وقال
133

مالك والشافعي رحمهما الله لا شهادة لهم على أحد وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول إذا
اتفقت مللهم تقبل شهادة بعضهم على بعض وان اختلفت لا تقبل لقوله صلى الله عليه وسلم
لا شهادة لأهل ملة على ملة أخرى الا المسلمين فشهادتهم مقبولة على أهل الملل كلها ولان
عند اختلاف الملة يعادى بعضهم بعضا وذلك يمنع من قبول الشهادة كما لا تقبل شهادتهم على
المسلمين وعلى هذا كان ينبغي أن لا تقبل شهادة المسلمين عليهم إلا أنا تركنا ذلك لعلو حال
الاسلام قال صلى الله عليه وسلم الاسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأنهم يعادون أهل الشرك بسبب
المسلمون فيه محقون وهو اصرارهم على الشرك فلا يقدح ذلك في شهادتهم بخلاف أهل
الملل فاليهود يعادون النصارى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه غير محقين قال الله تعالى
وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وقال الشافعي
رحمه الله الكافر الفاسق ولا تقبل شهادته كالفاسق المسلم وبيان فسقه قوله تعالى أفمن كان مؤمنا
كمن كان فاسقا وقال الله تعالى والكافرون هم الفاسقون والفسق عبارة عن الخروج يقال فسقت
الرطبة إذا خرجت من قشرها وسميت الفأرة فوسيقة لخروجها من جحرها وسمى المسلم بذلك
لخروجه عن حد الدين تعاطيا والكافر لخروجه عن حد الدين اعتقادا فإذا ثبت أنه فاسق
وجب التوقف في خبره بالنص والشرط في الشاهد بالنص أن يكون مرضيا قال الله تعالى
ممن ترضون من الشهداء والكافر لا يكون مرضيا والدليل عليه ان شهادته على المسلمين لا
تقبل وكل من لا يكون من أهل الشهادة على المسلمين لا يكون من أهل الشهادة على أحد
كالعبيد والصبيان بل أولى فالعبد المسلم أحسن حالا من الكافر (ألا ترى) ان خبره في الديانات
يقبل ولا يقبل خبر الكافر ولان الرق من آثار الكفر فإذا كان أثر الكفر يخرجه من الأهلية
للشهادة فاصل الكفر أولى وقاس بالمرتد واستدل ببطلان شهادته على قضاء قاض المسلمين
وعلى شهادة المسلم فلو كان من أهل الشهادة لقبلت شهادته في هذا إذا كان الخصم كافرا * وحجتنا
في ذلك قوله تعالى أو آخر ان من غيركم أي من غير دينكم وهو بناء على قوله تعالى يا أيها
الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم إلى قوله أو آخر ان من غيركم ففيه تنصيص على
جواز شهادتهم على وصية المسلم ومن ضرورة جواز شهادتهم على وصية المسلم جوازها على وصية
الكافر وما يثبت بضرورة النص فهو كالمنصوص ثم انتسخ في لك في حق المسلم بانتساخ حكم
ولايتهم على المسلمين فبقي حكم الشهادة فيهما بينهم على ما ثبت بضرورة النص فليس من ضرورة
134

انتساخ شهادتهم على المسلمين انتساخ شهادة بعضهم على بعض كالولاية ورجم رسول الله صلى
الله عليه وسلم يهوديين دينا بشهادة أربعة منهم وعن أبي موسى رضي الله عنه ان النبي صلى الله
عليه وسلم أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض وعن عمر وعلي رضي الله عنهما في ذميين دينا
قالا يدفعان إلى أهل دينهما ليحكم بينهما ومن ضرورة جواز حكم بعضهم على بعض والسلف
رحمهم الله كانوا مجمعين على هذا حتى قال يحيى بن أكثم رحمه الله تتبعت أقاويل السلف فلم أجد
أحدا منهم لم يجوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إلا أنى رأيت لربيعة فيه قولين والمعنى فيه
أن الكافر من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة كالمسلم وبيان الوصف في قوله تعالى والذين
كفروا بعضهم أولياء بعض والمراد منه الولاية دون الموالاة فإنه معطوف على قوله تعالى
مالكم من ولايتهم من شئ والدليل عليه أنها تصح الأنكحة فيما بينهم ولا نكاح الا بولي
والمسلم إذا خطب إلى كتابي أبنته الصغيرة فزوجها منه جاز النكاح ولان الكافر من أهل
الولاية على نفسه وماله على الاطلاق فيكون من أهل الولاية على غيره عند وجود شرط
تعدى ولايته إلى الغير والشهادة نوع ولاية فإذا ثبتت الأهلية للولاية تثبتت الأهلية للشهادة
ثم المقبول يترجح جانب الصدق وذلك في انزجاره عما يعتقده حراما في دينه والكافر منزجر
عن ذلك فتقبل شهادته واسم العدالة والرضاء ثبت في حق الكافر في المعملات بصفة
الأمانة فقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله عز وجل ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار
ولا يقال إنهم أظهروا الكفر عنادا كما قال الله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا لان هذا كان في الأحبار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تواطئوا
على كتمان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته فلا شهادة لأولئك عندنا فاما من سواهم
يعتقدون الكفر لان عندهم أن الحق ما هم عليه قال الله تعالى ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
الا أماني وقال عز وجل وان فريقا منهم ليكتمون الحق وبهذا التحقيق يتبين أن فسقهم فسق
اعتقاد وقد بينا أن هذا لا يمكن تهمة الكذب في الشهادة وإنما لا تقبل شهادتهم على المسلمين
لانقطاع ولايتهم عن المسلمين وإنما لا تقبل شهادة العبد والصبي لانعدام الأهلية والولاية
وبه يتبين أن أثر الرق فوق تأثير الكفر في حكم الولاية ثم هم يعادون المسلمين بسبب باطل
فيحملهم ذلك على التقوى على المسلمين فلهذا لا تقبل شهادتهم على المسلمين وأما المرتد فلا ولاية
له على أحد ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول في قبول شهادة بعضهم على البعض ضرورة ولان
135

المسلمين قل ما يحضرون معاملات أهل الذمة خصوصا الأنكحة والوصايا فلو لم تجز شهادة
بعضهم على البعض في ذلك أدى إلى ابطال حقوقهم وقد أمرنا بمراعاة حقوقهم ودفع ظلم
بعضهم عن بعض فلهذا الضرورة قبلنا شهادة بعضهم على بعض كما قبلنا شهادة النساء فيما لا يطلع
عليه الرجال ولا تتحقق هذه الضرورة في شهادتهم على المسلمين ولا في شهادتهم على شهادة
المسلم أو على قضاء قاض مسلم وهذا على أصل مالك رحمه الله أظهر فإنه يجوز شهادة الصبيان في
الجراحات وتمزيق الثياب التي بينهم في الملاعب فقل أن يتفرقوا (قال) لان العدول لا يحضرون
ذلك الموضع وبعد التفرق لا تقبل لأن الظاهر أنهم يلقنون الكذب وقد أمرنا أن لا نمكنهم من
الاجتماع للعب فيحصل المقصود بالزجر عن ذلك فلا حاجة إلى قبول شهادة الصبيان في ذلك
وكذلك جراحات النساء في الحمامات لأنا أمرنا بمنعهن من الاجتماع لما في اجتماع النساء من
الفتنة وكذلك الفسقة من أصحاب السجون لأنهم حبسوا بأسباب منع الشرع من ذلك فيحصل
المقصود بالمنع فاما هنا فقد أمرنا بمراعاة حقوق أهل الذمة وان نجعل دماءهم كدمائنا وأموالهم
كأموالنا مع أن أصاحب السجون لا يخلون عن أمناء السلطان عادة وبناء الاحكام معلى عرف
الشريعة دون عادة الظلمة ولا حجة لابن أبي ليلى رحمه الله في الحديث لان عندنا الكفر كله
ملة واحدة قال الله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم وقال الله تعالى لكم دينكم ولى دين
فعابد الحجر وعابد الوثن أهل ملة واحدة وان اختلفت نحلهم كالمسلمين هم أهل ملة واحدة
وان اختلفت مذاهبم ثم اليهود يعادون النصارى بسبب هم فيه محقون وهو دعواهم الولد
لله تعالى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه محقون وهو انكارهم نبوة عيسى عليه السلام
والفريقان يعادون المجوس بسبب هم فيه محقون وهو انكارهم التوحيد ظاهرا ودعواهم
الاثنين فشهادة بعضهم على البعض كشهادة المسلمين على الكفار ولان كان بعضهم يعادى
البعض بسبب باطل فلم يصر بعضهم مقهور بعض ليحملهم ذلك على التقول بخلاف الكفار
فقد صاروا مقهورين من جهة المسلمين وذلك يحملهم على التقول عليهم فلهذا لا تقبل شهادتهم
على المسلمين فاما شهادة العبيد فقد بينا الاجماع فيها بين الفقهاء رحمهم الله وأما شهادة المكاتب
والمدبر وأم الولد لقيام الرق فيهم ومعتق البعض كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بمنزلة
المكاتب ولا يجوز شهادة المولى لاحد من هؤلاء لان شهادته لملكه كشهادته لنفسه باعتبار
قيام الملك والحق له في المشهود به وكذلك شهادة أبى المولى وابنه وامرأته لهؤلاء بمنزلة شهادته
136

للمولى وكذلك شهادة الزوج لامرأته الأمة وشهادة المرأة لزوجها المملوك لان وصلة الزوجة
كوصلة الولاد في المنع من قبول الشهادة وإذا شهد المكاتب أو العبد أو الصبي عند القاضي بشهادة
فردها ثم شهد بها بعد العتق والكبر جازت شهادته لان المردود لم يكن شهادة فالشهادة لا تتحقق
الا ممن هو أهل بخلاف الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة فإنها
لا تقبل لان المردود كان شهادة والفسق لا يخرجه من أن يكن أهلا للولاية فلا يخرجه من
أن يكون أهلا للشهادة وإنما لا تقبل شهادته لتهمة الكذب فإذا كان المردود شهادة فهي شهادة
حكم الحاكم ببطلانها بدليل شرعي فليس له أن يصحبها بعد ذلك وبعضهم يشير إلى فرق آخر فيقول
لعل الفاسق قصد بالتوبة ترويج شهادته فلا يوجد ذلك في الرقيق والصغير فإنه ليس إليه إزالة الرق
والصغر ولكن هذا ليس بقوي فالكافر إذا شهد على مسلم فردت شهادته ثم أعادها بعد الاسلام
تقبل وهذا المعنى موجود فيه فعرفنا أن الاعتماد على كون المؤدى شهادة كما قررنا وإذا تحمل
المملوك شهادة لمولاه فلم يؤدها حتى عتق ثم شهد بها جاز لان التحمل بالمعاينة والسماع والرق
لا ينافي ذلك وعند الأداء هو أهل لشهادته ولا تهمة في شهادته فهو نظير الصبي إذا تحمل
وشهد بعد البلوغ وكذلك الزوج إذا أبان امرأته ثم أدى الشهادة لها جازت شهادته لان
التحمل كان صحيحا مع قيام الزوجية وعند الأداء ليس بينهما سبب التهمة ولو شهد الحر
لامرأته بشهادة فردها القاضي ثم أبانها ونكحت غيره ثم شهد لها تلك الشهادة لم يجز لان
المردود شهادة فالزوج أهل الشهادة في حق زوجته وكذلك لو شهدت المرأة لزوجها ولو
شهد العبد لمولاه فرده القاضي ثم شهد له بها بعد العتق جازت شهادته لان المردود لم يكن
شهادة فالعبد ليس بأهل للشهادة في حق أحد وإذا شهد المولى لعبده بنكاح فردت شهادته
ثم شهد له بها بعد العتق لم يجز لان المردود كان شهادة فالمولى من أهل الشهادة ولو شهد
كافر على مسلم فردها القاضي بها ثم أسلم فشهد بها جازت شهادته لان المردود لم يكن شهادة
بخلاف ما إذا شهد كافر لكافر فردها القاضي لتهمة ثم أدعاها بعد ما أسلم لان هناك المردود
شهادة وإنما ردها لتهمة الكذب فبعد ما ترجح جانب الكذب في تلك الشهادة بحكم الحاكم لا
يجوز العمل بها قط كما في شهادة الفاسق من المسلمين والله أعلم بالصواب
(الشهادة على الشهادة)
(قال رحمه الله ولا يجوز على شهادة رجل أو امرأة أقل من شهادة رجلين أو رجل
137

وامرأتين عندنا وقال مالك رحمه الله تجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد) لان الفرع قائم
مقام الأصلي معبر عنه بمنزلة رسول في اتصال شهادته إلى مجلس القاضي وكأنه حضر وشهد
بنفسه واعتبر هذا برواية الاخبار فان رواية الواحد على الواحد مقبولة ومذهبنا مروى عن
علي رضي الله عنه والمعنى فيه أن شهادة الأصلي غابت عن مجلس القاضي فلا يثبت عنده الا
بشهادة شاهدين كاقرار المقر وهذا لأنها شهادة ملزمة فيما يجب على القاضي القضاء بشهادة
الأصول والعدد شرط في هذه الشهادة إذا كان متمكنا بخلاف رواية الاخبار وان شهد رجلان
على شهادة رجلين جاز عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا أن يشهد رجلان على شهادة
كل واحد منهما لان الفرعين يقوما مقام أصل واحد فلا تتم حجة القضاء بهما كالمرأتين لما
قامتا مقام رجل واحد لم تتم حجة القضاء بشهادتهما والدليل عليه أن أحد الفرعين لو كان
أصليا فشهد على شهادة نفسه وعلى شهادة صاحبه مع غيره لا تتم الحجة بالاتفاق فكذلك إذا
شهدا جميعا على شهادة الأصلين * وحجتنا في ذلك أنهما يشهدان جميعا على شهادة كل واحد
منهما وكما يثبت قول الواحد في مجلس القاضي بشهادة شاهدين يثبت قول الجماعة كالاقرار
وهذا لان الفرعين عدد تام لنصاب الشهادة وهما يشهدان على شهادة الأصول الا على أصل الحق
فإذا شهدا على شهادة أحدهما تثبت شهادته في مجلس القضاء كما لو حضر فشهد بنفسه ثم إذا
شهد على شهادة الاخر تثبت شهادته أيضا في مجلس القضاء إذا لا فرق بين شهادتهما على
شهادته وبين شهادة رجلين آخرين بذلك بخلاف شهادة المرأتين فذاك ليس بنصاب تام للشهادة
ولكن كل امرأة بمنزلة شطر العلة والمرأتان شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتم نصاب
الشهادة وليس هذا كما لو شهد أحدهما على شهادة نفسه لان الشاهد على شهادة نفسه
لا يصلح أن يكون شاهد الفرع في تلك الحادثة لمعنين أحدهما أنه عنده علم المعاينة في هذه
الحادثة فلا يستفيد شيئا باشهاد الاخر إياه على شهادته في الثاني أن شهادة الفرع في حكم البدل
ولهذا لا يصار إليه إلا عند العجز عن حضور الأصل بموته أو مرضه أو غيبته والشخص
الواحد في الشهادة لا يكون أصلا وبدلا في حادثة واحدة * توضيحه أن شاهده الأصلي
تثبت نصف الحق فلو جوزنا مع ذلك شهادته وشهادة الاخر لكان فيه اثبات ثلاثة أرباع
الحق بشهادة الواحد وذلك لا يجوز فاما إذا شهدا جميعا على شهادة الأصلين فلا يثبت في
الحاصل بشهادة كل واحد منهما الا نصف الحق وذلك جائز والشهادة على الشهادة في كتب
138

القضاة جائزة لان ذلك يثبت مع الشبهات وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال فكذلك
الشهادة على الشهادة وان شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلانا حدا
في قذف فهو جائز لان المشهود به فعل القاضي لا نفس الحد وفعل القاضي مما يثبت مع
الشبهات وإنما الذي يندرئ بالشبهات الأسباب الموجبة للعقوبة وإقامة القاضي حد القذف
ليست بسبب موجب للعقوبة فان (قيل) أليس أن إقامة الحد مسقطة لشهادته عندكم بطريق
العقوبة (قلنا) ولكن رد شهادته من تمام حده فيكون سببه هو السبب الموجب للحد
وهو القذف إلا أنه يترتب عليه ليكون متمما له فلا يظهر قبله فاما في الحقيقة القذف مع
العجز عن أربعة من الشهداء يوجب جلدا مؤلما ويبطل شهادته بناء عليه وإذا شهد شاهدان
على شهادة شاهد وقد خرس المشهود على شهادته أو عمى أو ارتد أو فسق أو ذهب عقله لم تجز
الشهادة على شهادته وإن كان الفرعيان عدلين لان القضاء إنما يكون بشهادة الأصول فاما
الفرعي ينقل إلى مجلس القاضي بعبارته شهادة الأصول فكأن الأصلي حضر بنفسه وشهد ثم
ابتلى بشئ من ذلك قبل قضاء القاضي فكما لا يجوز للقاضي أن يقضى بشهادته هناك لأنه لو
قضى بها كان قضاء بغير حجة فكذلك هنا وشهادة أهل الذمة على المستأمنين جائزة بخلاف
شهادة المستأمنين على أهل الذمة لان الذمي من أهل دارنا حتى لا يتمكن من الرجوع إلى دار
الحرب بخلاف المستأمن فشهادة الذمي على المستأمن كشهادة المسلم على الذمي وشهادة المستأمن
على الذمي كشهادة الذمي على المسلم وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض تقبل إذا كانوا من أهل
دار واحدة وان كانوا من أهل دارين كالرومي والتركي لا تقبل لان الولاية فيما بينهم تنقطع
بخلاف المنعتين ولهذا لا يجرى التوارث بينهم بخلاف دار الاسلام فإنها دار حكم فيه اختلاف
المنعة لا يختلف بالدار فاما دار الحرب ليس بدار أحكام فيه اختلاف المنعة تختلف بالدار وهذا
بخلاف أهل الذمة فإنهم صاروا من أهل دارنا فتقبل شهادة بعضهم على بعض وان كانوا من
منعاة مختلفة فاما المستأمون ما صاروا من أهل دارنا ولهذا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب
ولا يمكنون من إطالة المقام في دار الاسلام (قال) ومن ترك من المسلمين الصلوات في الجماعة
والجمع مجانة لم تقبل شهادته لأنه مرتكب لما يفسق به ولان الجماعة من أعلام الدين فتركها
ضلالة (ألا ترى) أن عمر رضي الله عنه قال يوما لأصحابه قد خرج من بيننا من كان ينزل
عليه الوحي وخلف فيما بيننا علامة يميز بها المخلص من المنافق وهي الجماعة فكل من لقيناه في
139

جماعة المسلمين شهدنا بايمانه ومن لقيناه يتخلف عن الجماعة شهدنا بأنه منافق وإن كان ترك
ذلك سهوا وهي لا تتم شهادته أجزت شهادته لان ترك الجماعة سهو لا يوجب فسقه لان
الساهي معذور في بعض الفرائض دونه أولى وإذا شهد كافران على شهادة مسلمين لكافر على
كافر بحق أو على قضاء قاضي المسلمين على كافر لمسلم أو كافر لم تجز شهادتهما لان المشهود به
فعل المسلم ولا حاجة إلى فعل بيان المسلم بشهادة الكافر لان فعل المسلم يتيسر اثباته بشهادة
المسلمين وشهادة العبد والأمة في هلال رمضان جائزة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله * وحجتنا
فيه حديث الاعرابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما اعتبر في ذلك الا الايمان حيث
قال أتشهد لا إله إلا الله الحديث وقد بينا في كتاب الصوم الفرق بين هذا وبين الشهادة
على هلال الفطر والأضحى وان الشهادة على هلال رمضان ليست بالزام للغير ابتداء بل هو
التزام والتزام المسلم الصوم في رمضان بايمانه فبهذه الشهادة تبين الوقت ولا يكون الالتزام
فيها ابتداء ولو شهد مسلمان على شهادة كافر جازت الشهادة لأنه إذا كانت يثبت بشهادة
المسلمين شهادة المسلم فلان يثبت بشهادتهما شهادة الكافر وهي دون شهادة المسلم أولى وإن كان
كافرا في يده أمة اشتراها من مسلم فشهد عليه كافران أنها لكافر أو مسلم لم تجز شهادتهما
وكذلك لو كانت في يده بهيمة من مسلم أو صدقة وهذا في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول
أبى يوسف الأول رحمهم الله ثم رجع فقال أقضى بها على الكافر خاصة ولا أقضي بها على
غيره وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله لان الملك في هذا للكافر في الحال وشهادة الكافر
حجة في استحقاق الملك عليه وليس من الضرورة استحقاق الملك عليه الاستحقاق على البائع
أو بطلان البيع كما لو أقر المشترى بها لإنسان فان الملك يستحق عليه باقراره ولا يبطل به البيع
ولا فرق بينهما فان القضاء بحسب الحجة والاقرار حجة على المقر دون غيره فكذلك شهادة
الكافر حجة على الكافر دون المسلم ولأبي حنيفة ومحمد رحمهم الله طريقان أحدهما ان الملك
بحجة البينة يستحق من الأصل فلهذا يستحق بزوائده ويرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين
وإذا كان أصل الملك للمسلم فهذه الشهادة إنما تقوم على استحقاق الملك على المسلم وشهادة
الكافر ليست بحجة في ذلك كما قيل التمليك من غيره وهذا لان القاضي لا يتمكن من القضاء
بملك حادث بعد شراء الكافر لأنه لابد للملك الحادث من سبب حادث ولم يثبت عنده ولا
يتمكن من القضاء بالملك من الأصل لأن هذه الشهادة ليست بحجة فيه بخلاف الاقرار فان
140

الاقرار يجعل في الحكم بمنزلة ايجاب الملك للمقر له ابتداء ولهذا لا تستحق به الزوائد المنفصلة
فيتمكن القاضي من القضاء بملك حادث بعد الشراء والثاني ان هذه البينة تقوم على ابطال
تصرف المسلم من البيع والهبة (ألا ترى) أن الشهود لو كانوا مسلمين بطل بها تصرف البائع
والواهب وشهادة الكفار على ابطال تصرف المسلم لا تقبل بخلاف الاقرار فإنه لا يتضمن
ابطال تصرف المالك ولكن المقر يصير مبلغا باقراره واتلافه لا يتضمن انتقاض قبضه وبطلان
تصرف البائع فأما هنا بهذه البينة تصير يد الكافر مستحقة من الأصل بهذا الاستحقاق
يفوت قبضه ضرورة وفوات القبض المستحق بالعقد يبطل التصرف ولو مات كافرا وترك
اثنين وألفى درهم فاقتسماها ثم أسلم أحدهما فشهد كافران على أبيهما بدين أخرت ذلك في
حصة الكافر خاصة لان شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم وبثبوت الدين على الميت
يستحق تركته وتركته مال الاثنين في الحال فيثبت الدين بهذه الحجة في استحقاق نصيب
الكافر من التركة دون نصيب المسلم كما لو أقر أحد الاثنين بالدين على الأب وجحد الآخر
ولو مات كافر فادعى مسلم وكافر دينا عليه وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر أخذت
ببينة المسلم وأعطيته حقه فان بقي شئ كان للكافر وروي الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما
الله ان التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما لان كل واحد منهما يثبت ببينته دينه على الميت
فان أقام كل واحد منهما حجة على الميت فكان الدينين يثبت باقرار الميت بخلاف ما تقدم
فان الوارث مستحق عليه باعتبار الحال فاما كل واحد من الفرعين لا يستحق على صاحبه شيئا
وإنما يستحق كل واحد منهما على الميت وعلى ورثته ووجه ظاهر الرواية ان دين المسلم ثبت
في حق الميت وفي حق غريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت ولم يثبت في حق الغريم
المسلم لان بينته ليست بحجة في حقه والمزاحمة بينهما لا تكون إلا عند المساواة ولا مساواة
بينهما إذا كان دين أحدهما ثابتا في حق الآخر ودين الآخر ليس بثابت في حقه فهو بمنزلة
الدين المقر به في الصحة مع الدين المقر به في المرض تقدم دين الصحة فان فضل شئ فهو للمقر
له في المرض فهذا مثله ولو مات الكافر فأوصى إلى رجل مسلم فادعى رجل على الميت دينا
وأقام شهودا من أهل الكفر جازت شهادتهم استحسانا وفي القياس لا تقبل لأنها لا تقوم على
المسلم في إلزام قضاء الدين فالوصي يلزمه قضاء الدين والتركة في يده في الحال فبهذه البينة
تستحق عليه يده وشهادة الكفار في ذلك ليست بحجة كما لو كان الوارث مسلما * ووجه
141

الاستحسان ان الثابت بهذه الشهادة تصرف وليه الكافر وشهادة الكفار حجة في ذلك
والوصي نائب عنه بعد موته فيكون بمنزلة الوكيل في حياته ولو وكل كافر مسلما بخصومة فشهد
عليه كافر ان بالدين قبلت البينة * يوضحه ان قضاء الدين من حق الميت وهو إنما نصب الصبي
ليتدارك به ما فرط في حياته وإنما يتم له هذا المقصود إذا اعتبرنا حاله فيما يقام عليه من الحجة
لا حال الوصي فكذلك تجوز شهادة الكافر على المكاتب الكافر والعبد المأذون الكافر وإن كان
مولاه مسلما يتصرفان لأنفسهما ولهذا لا يرجعان بعهدة التصرف على أحد فالاستحقاق
بهذه الشهادة يقتصر عليهما ثم المولى بالاذن وايجاب الكتابة فقد صار راضيا بالاستحقاق
عليهما بشهادة الكفار لما باشر العقد مع علمه بحالهما كما صار راضيا باستحقاق الكسب
باقرارهما ولو كان العبد المأذون له مسلما ومولاه كافرا لم تجز شهادة الكفار على العبد لأنه
يقوم الاستحقاق على المسلم ولو وكل كافرا مسلما بشراء أو بيع لم يجز على الوكيل في ذلك
شهادة الكفار لان الوكيل بالشراء والبيع في حقوق العقد كالعاقد لنفسه فإنما تقوم هذه
البينة على المسلم ولو وكل مسلم كافرا بذلك جازت شهادة الكفار على الوكيل لأنه بمنزلة
العاقد بنفسه ثم ايجابه العقد كلامه فيثبت بهذه الشهادة كاقراره ولو شهد على اقراره بذلك
قبلت الشهادة وجعلت بمنزلة ما لو ثبت اقراره بالمعاينة فكذلك إذا شهد على العقد والله
أعلم بالصواب
(باب شهادة النساء)
(قال رحمه الله ولا تجوز شهادة النساء وحدهن الا فيما ينظر إليه الرجال الولادة
والعيب يكون في موضع لا ينظر إليه الا النساء) لان الأصل أن لا شهادة له للنساء فإنهن
ناقصات العقل والدين كما وصفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالنقصان يثبت شبهة العدم ثم
الضلال والنسيان غلب عليهن وسرعة الانخداع والميل إلى الهوى ظاهر فيهن وذلك يمكن تهمة
في الشهادة وهي تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فلا تكون شهادتهن على الانفراد حجة
تامة لذلك ولكنا تركنا القياس فيما لا يطلع عليه الرجال بالأثر وهو حديث مجاهد وسعيد بن
المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس رضي الله عنهم قالوا قال يا رسول الله
صلى الله عليه وسلم شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه ولان الضرورة تتحقق
142

في هذا الموضع فإنه يتعلق به أحكام يحتاج إلى بيانه في مجلس القاضي ويتعذر اثباته بشهادة
الرجال لأنهم لا يطلعون عليه فلا بد من قبول شهادة النساء فيه لان الحجة لاثبات الحقوق
مشروعة بحسب الامكان ثم يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة إذا كانت حرة مسلمة عدلا
عندنا والمثنى والثلاث أحوط وعند الشافعي لا تثبت الا بشهادة أربع نسوة وعند ابن أبي
ليلى شهادة امرأتين فالشافعي يقول كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما
في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال * توضيحه أن حال
الرجال في الشهادة أقوى من حال النساء وإذا كأن لا يحوز اثبات شئ مما يطلع عليه الرجال
بشهادة رجل واحد لمعنى الالزام فلأن لا يجوز اثباته بشهادة امرأة واحدة أولى ولا معنى لقول
من يقول أن هذا خبر وليس بشهادة فان الحرية فيه شرط بالاتفاق قال في الكتاب لو شهدت
أمة أو كافرة لا تقبل وكذلك لفظ الشهادة لا بد منه فعرفنا أنه بمنزلة الشهادة في الحقوق
وبهذا يستدل ابن أبي ليلى رحمه الله أيضا إلا أنه يقول المعتبر في الشهادات شيئان العدد
والذكورة وقد تعذر اعتبار أحدهما وهو الذكورة هنا ولو لم يتعذر اعتبار العدد فيبقى معتبرا كما في
سائر الشهادات ولا معنى لقول من يقول إن نظر الواحدة أحق من نظر المثنى لأنه بالاتفاق
المثنى والثلاث أحوط فلو كان هذا معتبرا لما جاز النظر الا لامرأة واحدة * وحجتنا في ذلك
حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة على الولادة
وقال شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال والنساء اسم جنس فيدخل فيه أدنى ما يتناوله
الاسم والمعنى فيه أن هذه خبر لا يشترط في قبوله الذكورة ولا يشترط فيه العدد كرواية
الاخبار وحقيقة المعنى فيه أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع ولكن نظر
الجنس إلى الجنس أحق فإذا أمكن تحصيل المقصود بشهادة النساء سقط اعتبار صفة الذكورية
لهذا المعنى وهذا موجود في العدد فان نظر الواحدة أحق من نظر الجماعة فسقط اعتبار العدد
بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية فيه لان نظر المملوكة ليس
بأخف من نظر الحرة ولهذا لا يسقط اعتبار الاسلام فيه لان نظر الكافرة ليس بأخف من
نظر المسلمة فينعدم من الشرائط ما يمكن اعتباره ولا يعتبر مالا يمكن اعتباره فعلى هذا الحرف
نسلم أنه شهادة ولكن يدعي أن سقط اعتبار العدد فيه بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة وفى
الحاصل هذا أحد شبهها من الأصلين من الشهادة لمعنى الالزام ومعنى الاخبار لان صفة الذكورة
143

فيه لا تشترط فوفرنا خطه على الشبهين وقلنا لشبهه بالاخبار يسقط اعتبار العدد فيه شرطا ويبقى
معتبرا احتياطا كما في رواية الاخبار الواحد يكفي والمثنى والثلاث أحوط لزيادة طمأنينة القلب
ولاعتباره بالشهادات فيه شرطنا الحرية والإسلام ولفظ الشهادة وهذا لأنه مختص بمجلس
القاضي فلهذا يشترط فيه لفظ الشهادة ولم يذكر في الكتاب أنه لو شهد ذلك رجل بأن قال
فاجأتها فاتفق نظري إليها والجواب أنه لا يمنع قبول الشهادة إذا كان عدلا في هذا الموضع ثم
الصحيح أنه لا يشترط العدد لان شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة فإذا كان ثبت
المشهود به هنا بشهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله
أنه قال وان قال تعمدت النظر تقبل شهادته في ذلك كما في الزنا واستدلوا عليه بقول أبي حنيفة
رحمه الله أن النسب لا يثبت الا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين على الولادة إن لم
يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا اقرار الزوج بالحبل وقد بينا هذا في كتاب الطلاق
فاما الاستهلاك فانى لا أقبل فيه شهادة النساء عليه الا في الصلاة عليه فأما في الميراث فلا
أقبل في ذلك أقل من رجلين أو رجل وامرأتين في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهم الله تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة عدل لحديث علي رضي الله عنه
انه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال والمعنى فيه أن استهلال الصبي يكون عند الولادة
وتلك حالة لا يطلع عليها الرجال وفي صوته عند ذلك من الضعف مالا يسمعه الا من شهد
تلك الحالة وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل كشهادة الرجال فيما يطلعون عليه ولهذا
يصلى عليه بشهادة النساء فكذلك يرث وأبو حنيفة رحمه الله يقول الاستهلال صوت مسموع
وفي السماع من جال يشار كون النساء فإذا كان المشهود به مما يطلع عليه الرجال لا تكون شهادة
النساء فيه حجة تامة وان وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كالشهادات على جراحات النساء
في الحمامات بخلاف الولادة فهو انفصال الولد من الأم والرجال لا يشاركون النساء في
الاطلاع عليه وحديث علي رضي الله عنه محمول على قبول شهادة النساء في الصلاة وإنما قبلنا
ذلك في حق الصلاة عليه لان ذلك من أمر الدين وخبر المرأة الواحدة حجة تامة في ذلك
كشهادتهما على رؤية هلال رمضان بخلاف الميراث فإنه من حقوق العباد فلا يثبت بشهادة
النساء في موضع يكون المشهود به مما يطلع عليه الرجال والله أعلم
144

(باب شهادة الزور وغيرها)
(قال رحمه الله ذكر عن شريح رحمه الله انه كان إذا أخذ شاهد الزور بعث به إلى أهل
سوقه إن كان سوقيا والى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا فيقول إن شريحا
رحمه الله يقرئكم السلام ويقول إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس) وبهذا
أخذ أبو حنيفة رحمه الله فقال القاضي يكتفى في شهادة الزور بالتشهير ولا يعزره وقال أبو
يوسف ومحمد رحمهما الله يعاقبه بالتعزير والحبس على قدر ما يرى حتى يظهر توبته ولا يبلغ
بالتعزيرات سبعين سوطا وقال أبو يوسف بعد ذلك يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا وقد بينا
الكلام في مقدار التعزير في كتاب الحدود فأما الكلام في التعزير في حق شاهد الزور فهما
استدلا بحديث عمر رضي الله عنه حيث قال في شاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم
وجهه ويطاف به الا ان الدليل قد قام على انتساخ حكم التسخيم للوجه فان ذلك مثلة ونهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور فبقي حكم التعزير والتشهير بأن يطاف به
ثم التشهير لاعلام الناس حتى لا يعتمدوا اشهاده بعد ذلك والتعزير لارتكابه كبيرة فشهادة
الزور من أعظم الكبائر فإنها عدلت بالشرك بالله تعالى قال الله تعالى فاجتنبوا الرجس من
الأوثان واجتنبوا قول الزور وفيه إشارة إلى عظم حرمة المسلم فقد جعل الله تعالى الشهادة
عليه بالزور كالشهادة على نفسه بالزور وإذا ثبت أنه مرتكب للكبيرة قلنا يعذر على ذلك
وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بقول شريح رحمه الله فإنه كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنه
ما فما يشتهر من قضاياه كالمروي عنهما ثم التشهير لمعنى النظر للمسلمين وذلك من حقهم
فأما التعزير لحق الله تعالى وذلك يسقط بالتوبة وشاهد الزور من يقر على نفسه بذلك
واقراره على نفسه بذلك دليل توبته فلهذا لا يعزر ويكتفى بالتشهير ثم في التشهير نوع تعزير وهو
تعزير لائق بجريمته لان بالشهادة لا يحصل له سوى ماء الوجه وبالتشهير يذهب ماء وجهه
عند الناس فكان هذا تعزيرا لائقا بجريمته فيكتفى به وما نقل عن عمر رضي الله عنه محمول على
معنى السياسة إذا علم الإمام انه لا ينزجر الا به (ألا ترى) انه ذكر تسخيم الوجه وذلك
بالاتفاق بطريق السياسة إذا علم المصلحة فيه فكذلك التقرير (قال) وشاهد الزور عندنا المقر
على نفسه بذلك لأنه لا تتمكن تهمة الكذب في اقراره على نفسه فلا طريق إلى اثبات ذلك
بالبينة عليه لأنه نفس لشهادته والبينة حجة للاثبات دون النفي وكذلك من ردت شهادته
145

لتهمة أو للدفع عن نفسه أو بالاختلاف في الشهادة أو بتكذيب الذي شهد له فإنه لا يكون
شاهدا لزور فيما ذكرنا من الحكم لأني لا أدري أيهما الصادق المشهود له أو الشاهد فلعل
المشهود له أراد بالشاهد العقوبة والتهمة فقصر في دعواه عما شهد به شاهده وكذلك من
ردت شهادته للتهمة فلعله صادق في شهادته وإذا اختلف الشاهد ان في الشاهدة فلا يعرف
الكاذب منهما فلهذا لا يعزر واحد من هؤلاء والرجال والنساء وأهل الذمة في شهادة الزور
سواء لقيام الأهلية في حقهم جميعا فيما تعلق بشهادة الزور وإذا شهد أحد الشاهدين على
قتل أو جراحة عمدا أو خطا وشهد الاخر على الاقرار بذلك لم تجز شهادتهما لاختلاف
المشهود به فأحدهما يشهد بفعل معاين والاخر يقول مسموع والقول غير الفعل وكذلك
لو اختلفا في الوقت أو في المكان الذي كان به القتل فأما في البيع اختلاف الشهود في المكان
والزمان والانشاء والاقرار لا يمنع قبول الشهادة الا على قول زفر رحمه الله فإنه يقول لا تقبل
لاختلافهما في المشهود به فالموجود في مكان غير الموجود في مكان آخر كالأفعال ولكنا نقول
القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول في الحكم فبهذا الاختلاف لا يتحقق بينهما
اختلاف في المشهود به وكذلك صيغة الاقرار والانشاء في البيع واحدة بخلاف الأفعال
فإنها لا تحتمل التكرار ولو شهد أحدهما في قرض مائة درهم وشهد الاخر على الاقرار بذلك
جاز كما في البيع لان البيع والقرض كلام كله وقال بعضهم هنا الجواب في القرض غلط فان
الاقراض فعل فإنه لا يتحقق الا بتسليم المال والقبض بحكم القبض موجب ضمان المثل كالغصب
وكما أن اختلاف الشهود في الغصب في الاقرار والانشاء يمنع قبول الشهادة فكذلك في
القرض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لان حكم القرض إنما يثبت بقوله أقرضتك لا بتسليم
المال إليه فان تسليم المال إليه بدون هذا القول يكون ايداعا وقوله أقرضتك صيغة الاقرار
والانشاء فيه واحد كما في البيع ولو شهد أحدهما على مائة والاخر على خمسين لم تقبل هذه
الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله لاختلاف الشاهدين في المشهود به لفظا وعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تقبل على الأقل إذا كان المدعي يدعى الأكثر حتى لا يصير مكذبا أحد شاهديه
وقد بينا في كتاب الطلاق في التطليقة والتطليقتين ولا يجوز شهادة دافع عن نفسه مغرما
أو جار إليها مغنما لأنه متهم في شهادته وقال صلى الله عليه وسلم لا شهادة لمتهم ولأنه في معنى
الشاهد لنفسه وشهادة المرء لنفسه دعوى ولا تجوز شهادة المفاوض لشريكه في شئ ما خلا
146

الحدود والقصاص والنكاح فذلك ليس من شركة ما بينهما فنزل كل واحد منهما في المشهود
به من صاحبه منزلة الأجنبي وأما في الأموال هما بعقد المفاوضة صار في ذلك كشخص واحد
فكل واحد منهما فيما يشهد به لصاحبه بمنزلة الشاهد لنفسه وشهادة الشريك لشريكه وان كانا
غير متفاوضين لا تجوز في تجارتهما للتهمة لان فيما يكون من تجارتهما الشاهد يثبت الحق
لنفسه وصاحبه كالوكيل عنه فهو كشهادة الموكل لوكيله فيما وكله به فأما فيما ليس من تجارتهما
فهو كسائر الأجانب لان تهمة الميل بسبب عقد الشركة لا تتمكن عند ظهور العدالة فان بسبب
الشركة يحصل بينهما الصداقة والصديق إذا كان عدلا عاقلا يمنع صديقه من أكل الحرام
ولا يحمله على ذلك بالشهادة وكذلك شهادة أجير أحد الشريكين للشريك الاخر وشهادة
الأجير لأستاذه لا تجوز في شئ وإن كان عدلا أخذ في ذلك بالثقة واستحسن لما بلغنا في ذلك
عن شريح رحمه الله ولحالة الناس التي هم عليها اليوم والمراد الإشارة إلى التهمة فالأجير هنا
هو التلميذ الخاص وقد ظهر مثله إلى أستاذه وايثاره على غيره فكان بمنزلة الزوجية في المنع
من قبول الشهادة ولأنه هو الذي يقبض ما يجب لأستاذه فكأنه يثبت حق القبض لنفسه
بشهادته وقد ورد الحديث بأن لا شهادة للقانع بأهل بيته ومعنى ذلك أنه يعد خيرهم خير
نفسه وشرهم شر نفسه والأجير في حق أستاذه بهذه الصفة وقيل مراده أجيرا استأجره
مسانهة أو مشاهرة فإنما يستوجب الاجر بتسليم نفسه وفي الزمان الذي يسلم نفسه لأداء
الشهادة له يستوجب الاجر فكان بمنزلة من استؤجر على أداء الشهادة فلهذا لا تقبل شهادته
لأستاذه في شئ ولو أن رجلا كان عليه مال فشهد ابناه ان الطالب أبرأ أباهما واحتال به على
فلان والطالب منكر لم تجز شهادتهما لأنهما يسقطان بشهادتهما مطالبة الطالب عن أبيهما
فدفعهما عن أبيهما كدفعهما عن أنفسهما ولو كان المال على غير أبيهما فشهدا أن الطالب احتال
به على أبينهما والطالب ينكر والمطلوب يدعى الحوالة والبراءة جازت شهادتهما لأنهما يشهدان
على أبيهما بالمال ويلزمانه المطالبة بشهادتهما وإنما يسقطان بها مطالبة الطالب عن المطلوب
وهو أجنبي عنهما فلهذا قبلنا شهادتهما ولو شهد رجلان أن لهما ولفلان على فلان كذا لم تجز
شهادتهما لأنهما شاهدان لأنفسهما وهذا لأنهما يشهدان بدين مشترك أو ينصرف واحد يثبت
به المال لهما ولفلان فإذا لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما وكان مدعيين في ذلك فكذلك في
حق الثالث كما لو شهدا أنه قذف هذا وأمنا في كلمة واحدة وكذلك لو شهدا أن فلانا أبرأهما
147

وفلانا من مال كان له عليهما وعليه لان المشهود به كلام واحد وهو في حقهما دعوى لا شهادة
وبين الدعوى والشهادة مغايرة فإذا كان كلامهما دعوى في البعض لا تكون شهادة معتبرة
في الباقي وكذلك شهادة ولدهما لأنهما في البعض يشهدان لوالديهما ولا يجوز شهادة الأجير
لمعلمه يريد به التلميذ وقد بينا المعنى فيه وإذا ادعي رجل دابة في يد رجل فقال هي دابة فلان
دفعها إلى وديعة فردها عليه وجاء أحد الورثة فخاصمه في ذلك وقال هي دابتي تصدق بها
على أبي فجاء الذي كانت في يده أولا وشهد أنها دابته (قال) إن كان يعلم أن هذا أودعها أباه ثم
ردها عليه فشهادته جائزة وإلا فلا تجوز شهادته لان هذا دافع مغرم ومعنى هذا انه إذا علم
أنه هو الذي أودعها إياه وانه قد ردها عليه فقد خرج من ضمانها بيقين لان المستودع يستفيد
البراءة بالرد على من أودعه غاصبا كان أو مالكا فلا تتمكن تهمة في شهادته بالملك للمدعي بعد
ذلك وأما إذا لم يعلم ذلك فقد صار هو مقرا على نفسه بثبوت يده عليها وذلك موجب للضمان
عليه لمالكها ما لم تصل يده إليها فهو بهذه الشهادة يريد اتصالها إلى يده ليبرئ نفسه عن ضمانها
فتتمكن تهمة في شهادته (قال) وكذلك الدار قيل هذا على قول من يقول العقار يضمن بالغصب
وقيل بل هو قول الكل لأنه يخاف أن يرفع إلى قاض يرى العقار كالمنقول في ايجاب الضمان
على مثبت اليد عليها فيقضى عليه بالضمان فهو بهذه الشهادة يدفع المغرم على نفسه أيضا. رجل
معه شاة فمر رجل فقال اذبحها فذبحها ثم جاء رجل فأقام البينة ان هذا أغصبها منه وأقام
شاهدين أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح لأنه دافع المغرم عن نفسه فالمدعى إذا ثبت ملكه
يتمكن من تضمين الذابح والذابح بشهادته يصير مقرا بالضمان له عن نفسه فإنما يقصد باخراج
الكلام مخرج الشهادة دفع المغرم عن نفسه بان يتوصل صاحبها إلى حقه في تضمين الغاصب
ولان ضمان الغصب إذا تقرر أوجب الملك للغاصب فهو بهذه الشهادة يريد أن يقرر الضمان
على من أمره بالذبح ليثبت الملك له فيعتبر عند ذلك أمره في اسقاط الضمان عن الذابح فكان
دافع المغرم من هذا الوجه والثاني يحتمل ان المالك غيره وغيره يضمنه وهو لا يضمنه باعتبار
ان بينهما محبة ومودة فقد تمكنت التهمة في هذه الشهادة (قال) ومن التهاتر أن يشهد الشاهد ان
هذا الشئ لم يكن له لان هذا نفى والشهادة للاثبات دون النفي فان النفي مما لا يعرف لان
الانسان ما لم يصحب غيره إناء الليل وأطراف النهار لا يعلم أن هذا الشئ ليس له وهو وان
صحبه لا يعلم ذلك أيضا فقد لا يعرف الانسان ذلك من نفسه بأن يكون ورث شيئا فيكون
148

مملوكا له وهو لا يعلم بذلك فإذا كأن لا يعرف هذا من نفسه فكيف يعرف غيره منه وكذلك
لو شهد أنه لم يكن لفلان على فلان دين لأنه لا طريق إلى معرفة ما شهد به من نفى الدين
عن ذمته وكذلك كل شهادة هكذا أنها لم تكن وان فلانا لم يصنع كذا وانه لم يحضر مكان
كذا وإن كان بمكان كذا فهو كله باطل لان القاضي يعلم أنه مجازف في شهادته إذ لا طريق
له إلى معرفة ذلك حقيقة فإذا علم الحاكم ان الشاهد كاذب أو مجازف في شهادته لا تقبل شهادته
وكذلك قولهم انه لم يحضر يومئذ ذلك المكان فهذا نفى وكذلك قولهم انه كان يومئذ بمكان
كذا وكذا لان المقصود ليس هو اثبات كونه في ذلك المكان وإنما المقصود نفى كونه في
المكان الذي يدعيه المدعى يومئذ والمعتبر ما هو المقصود أو من التهاتر ان يقيم الرجل البينة
على حق فيقضى له به فيقول المقضي عليه أنا أقيم بينة أنه لي فهذا لا يقبل منه لأنه يقيم البينة
لابطال قضاء القاضي عليه ودعواه ذلك غير مسموع فكيف تقبل بينة عليه وهذه البينة
لو كانت قائمة له عند القضاء يمتنع القاضي من القضاء للمدعى فلأن لا يبطل القضاء بها أولى
(قال) ولو قبلت مثل هذا لقبلت من الاخر مثلها فيؤدى إلى مالا يتناهى وذكر في الأصل
المسألة التي بيناها في كتاب الحدود إذا شهد أربعة على شهود الزنا أنهم التزماه وقد بيناها ثمة
والله أعلم
(باب الشهادة في النسب وغيره)
(قال رحمه الله وإذا شهد شاهدان على رجل انه فلان ابن فلان الفلاني وان الميت فلان
ابن فلان ابن عمه وورثته لا يعلمون له وارثا غيره ولفلان ذلك الميت دار في يد رجل وهو مقر
أنها له غير أنه لا يعرف له وارثا فانا أجيز شهادة هؤلاء على النسب وأدفع إليه الدار وان كانوا
لم يذكروا أباه استحسانا) وهذه فصول أربعة النسب والنكاح والقضاء والموت وفي القياس
لا تجوز الشهادة في شئ منها بالتسامع لان الشهادة لا تجوز الا بعلم وإنما يستفيد العلم بمعاينة
السبب أو بالخبر المتواتر فاما بالتسامع لا يستفيد العلم وقال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به
علم وحكم المال أخف من حكم النكاح فإذا كانت الشهادة على المال بالتسامع لا تجوز ففي النكاح
أولى وفي التسامع القاضي والشاهد سواء ثم لا يجوز للقاضي أن يقضي بالتسامع فكذلك
لا يجوز للشاهد إلا أنا استحسنا جواز الشهادة على هذه الأشياء الأربعة لتعامل الناس في ذلك
149

واستحسانهم (ألا ترى) انا نشهد ان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا
ولم ندرك شيئا من ذلك ونشهد أن فاطمة رضي الله عنها زوجة علي رضي الله عنه وان أسماء
بنت أبي بكر رضي الله عنه ونشهد ان شريحا رضي الله عنه كان قاضيا ونشهد أنهم قد ماتوا
ولم ندرك شيئا من ذلك ثم هذه أسباب يقضون بها على ما يشتهر فان النسب يشتهر فيها بالتهنئة
والموت بالتعزية والنكاح بالشهود والوليمة والقضاء بقراءة المنشور فنزلت الشهرة منزلة
العيان في إفادة العلم بخلاف الأموال وغيرها * يوضحه ان هذه الأمور قل ما يعاين سببها حقيقة
فسبب النسب الولاة ولا يحضرها الا القابلة وسبب القضاء تقليد السلطان ولا يعاين ذلك الا
الخواص من الناس والميت أيضا قل ما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك أنما يحضره الخواص
من الناس فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع أدى إلى الحرج بخلاف البيوع وغيرها فإنه كلام
يسمعه كل واحد وسبب الملك هو اليد وهو مما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك أنما يحضره
الخواص فلهذا لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع ثم الاحكام التي تتعلق بهذه الأشياء الأربعة
تبقى بعد انقضاء قرون فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع لتعطلت تلك الأحكام بانقضاء تلك
القرون ولهذا قلنا في الصحيح من الجواب ان الشهادة على أصل الوقف بالتسامع جائزة
ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشهادة بالتسامع لان أصل الوقف يشتهر فأما شرائطه
لا تشتهر ولابد للشاهد من نوع علم ليشهد فإن كان الشاهد لا يعرف الرجل إلا أن المدعي
أخبره بذلك أو شهد به عنده رجل ما ينبغي له أن يشهد حتى يكون النسب مشهورا أو شهد
به عنده رجلان عدلان لئلا يقول المدعى بشهادة رجل واحد عنده لا يحصل الاشتهار ولا
يتم شرعا وإنما ثبت له العلم هنا بالاشتهار عرفا أو شرعا فالاشتهار عرفا بأن يعلمه أكثر الناس
والاشتهار شرعا بشاة رجلين (ألا ترى) ان الاعلام في النكاح شرط ويكون ذلك شرعا
بشهادة رجلين الا ان فيما يتردد بين الصدق والكذب لا بد من عدالة الرجلين كما في الشهادة
عند القاضي فإذا شهد بذلك عنده رجلان فقد وجد الاشهاد عنده شرعا وولاية الشهادة
دون ولاية القضاء فإذا كان يجوز للقاضي أن يقضى بشهادة رجلين عنده فلأن لا يجوز له إذا
شهد عنده به رجلان عدلان أولى ولو قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب له وأقام معه
دهرا لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يلقى من أهل بلده رجلين عدلين ممن يعرفه يشهدان
له على ذلك ثم يسعه الشهادة عليه لأنه يحصل له بذلك نوع علم وذلك كاف فيما لا يشترط
150

عليه معاينة السبب ولو نظر إلى رجل مشهود باسمه ونسبه غير أنه لم يخالطه ولم يتكلم معه
وسعه أن يشهد انه فلان ابن فلان لحصول نوع علم له بالاشتهار وكذلك إذا رأى انسانا في
مجلس القضاء يقضى بين المسلمين فهو في سعة من الشهادة على أنه قاضيا لحصول العلم له بذلك
الاشهاد والشهادة إنما تجب عليه بالعلم لا بالتكلم والمخالطة فإذا حصل العلم له بالاشهاد حل له
أداء الشهادة ولو مات رجل فأقام آخر البينة أن الميت فلان ابن فلان وانه فلان ابن فلان
حتى يلتقوا إلى أب واحد وهو عصبته وأقاربه لا يعلمون له وارثا غيره قضيت له بالميراث
لأنه أثبت سبب الوراثة مفسرا بالحجة فان جاء آخر وأقام البينة أن الميت ابنه ولد على
فراشه وان هذا أبوه لا وارث له غيره جعلت الميراث لهذا وأبطلت القضاء للأول لان
البينة الثابتة طاعنة في البينة الأولى دافعة لها فإنه يتبين بها أن الأول لم يكن خصما في اثبات
نسب الميت وانه كان محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه ولا تقبل البينة من غير خصم
فلهذا يبطل القضاء الأول وان أقام الثاني البينة ان الميت فلان ابن فلان ونسبه إلى أب آخر
وقبيلة أخرى وانه فلان ابن فلان ابن عمه إلى أب واحد لا وارث له غيره لم أحول النسب بعد
أن يثبت من فخذ ومن أب إلى أن يجئ من هو أقرب من الذي جعلت له الميراث لان البينة
الثانية ليست بطاعنة في الأولى ولكنها معارضة للأولى وعند المعارضة الأولى ترجح الأولى
لاتصال القضاء بها فلا تقبل البينة الثانية لان الجمع بينهما متعذر والقضاء النافذ لا يجوز ابطاله
بدليل مشتبه وهو كمن ادعى دابة في يد انسان أنها له ثم أقام البينة فقضي القاضي بها له ثم أقام
ذو اليد البينة أنها لو لم يقبل ذلك منه ولو أقام البينة على النتاج قبل ذلك منه لأن هذه البينة
طاعنة في البينة الأولى دافعة لها وكذلك أن أقام رجل البينة على نكاح امرأة بتاريخ وقضى
القاضي له بذلك ثم أقام آخر البينة على نكاحه بذلك التاريخ أيضا لم تقبل ولو أقام البينة على
النكاح بتاريخ سابق قبلت بينته لأنها طاعنة في البينة الأولى وإذا شهد شاهد أن هذا أعتق
فلانا وانه مولاه وعصبته لا وارث له غيره فإن كان قد أدرك المعتق وسمع العتق به فشهادتهما
جائزة وان كأن لم يدركاه ولم يسمعا العتق منه لم تجز شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي
رواية أبى حفص رحمه الله فلا وهذا قول محمد وهو قول أبى يوسف الأول رحمهما الله ثم رجع
أبو يوسف رحمه الله فقال إذا شهدوا على ولاء مشهور فهو كشهادتهم بالنسب وإن لم يسمعوا
ذلك منه ولم يدركوه لان الولاء كالنسب ثم الشهادة على النسب بطريق التسامع والشهرة
151

جائزة فكذلك على الولاء لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بينهما فقال الولاء لحمه كلحمة
النسب (ألا ترى) انا نشهد ان قنبر مولى علي رضي الله عنه وعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه
ما وإن لم ندرك ذلك ثم الحكم المتعلق بالولاء يبقى بعد مضى قرن كالحكم المتعلق بالنسب
فلو لم تجز الشهادة عليه بالتسامح تعطلت الاحكام المتعلقة بالولاء والشرع جعل الولاء
كالنسب في حق وجوب الانتماء فقال صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى
إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا * وجه
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ان العتق إزالة ملك اليمين بالقول فلا تجوز الشهادة عليه بالتسامع
كالبيع وبيانه فيما قررنا ان العتق كلام يسمعه الناس كالبيع وليس كالولادة فلا حاجة إلى إقامة
التسامع فيه مقام البينة ثم لا يقترن لسبب الولاء ما يشتهر به فالانسان يعتق عبده ولا يعلم به
غيره فكان هذا دون البيع لان البيع لا ينعقد ما لم يعلم به المشترى والعتق نافذ وإن لم يعلم المعتق
بخلاف الطلاق وما تقدم لأنه مقترن بأسبابها ما يشتهر من الوجه الذي قررنا وكذلك لو شهدوا
ان فلانا أعتق أبا فلان وان فلان ابن فلان عصبة فلان الذي أعتق وعصبة فلان المعتق فانى
لا أجيز شهادتهما حتى ينسبا الذي أعتق وعصبته إلى أب واحد يلتقيان إليه وإن لم يدركا ذلك لم
يضرهما بعد أن يشهدا على سماع العتق من المعتق ثم إن المعتق مات وترك ابنه ثم مات ابنه ولا
يعلمان له وارثا غيره وانه لا ينسب له ولا ولاء سواه فحينئذ تقبل شهادتهم لان القاضي لا
يقضى بالميراث ما لم يفسروا بنسب الوراثة وإنما يسير مفسرا معلوما عنده بما ذكر غير أن في
النسب شهادتهم بالتسامع مقبولة وفي الولاء لا تقبل شهادتهم ما لم يسمعوا العتق من المعتق الا
عند أبي يوسف رحمه الله كما بينا قال ولست أكلفهم في المواريث انه لا وارث له غيره وقال
ابن أبي ليلى رحمه الله ما لم يشهدوا بذلك لا يقضى القاضي بالميراث له لان سبب استحقاقه
لا يصير معلوما للقاضي الا به لجواز أن يكون هناك من يزاحم أو يترجح عليه فلا يكون
هو وارثا مع ثبوت ما فسر الشهود من السبب ولكنا نقول قولهم لا وراث له غيره نفى
لا طريق لهم إلى معرفة ذلك فلو كلفهم القاضي أن يشهدوا بذلك لكلفهم على ذلك شططا
وحملهم على الكذب واليه أشار في الكتاب (فقال) من قبل أن هذا عيب يحملهم القاضي عليه أو
قال عنت يحملهم القاضي عليه وهو يعلم أنهم يشهدون بما لا يعلمون وان قالوا لا نعلم له وارثا
غيره فهذا يكفي وعلى قول ابن أبي ليلى رحمه الله لا يكفي لان هذا ليس من الشهادة في
152

شئ فإنهم يشهدون بما يعلمون لا بما لا يعلمون وكما أنهم لا يعلمون ذلك فالقاضي لا يعلم ونحن
نسلم ان المشهود به لا يثبت بهذا اللفظ ولكن استحقاق الميراث له بالسبب الذي أثبته الشهود
مفسرا الا انهم إذا لم يذكروا هذه الزيادة كان على القاضي أن يتلوم فربما يظهر وارث آخر
مزاحم له أو مقدم عليه فهم بهذا اللفظ كفوا القاضي مؤنة التلوم ونظرا في ذلك لأنفسهم
فتحرزوا عن الكذب والمجازفة لأنهم لو قالوا لا وراث له غيره كانوا مجازفين في ذلك فتحرزوا
بقولهم لا نعلم له وارثا غيره وفي الحقيقة مرادهم هو الأول فما يكون من سباب التحرز عن
الكذب لا يكون قدحا في شهادتهم ولو شهدوا انهم لا يعلمون له وارثا بأرض كذا وكذا غير
فلان جاز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يجز ذلك في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله
حتى يقولوا مبهمة لا نعلم له وارثا غيره لان في تخصيصهم مكانا ايهاما انهم يعلمون له وارثا في غير
ذلك المكان أرأيت لو قالوا لا نعلم له وارثا سواه في هذا المجلس أكان يقتضي بالميراث لهم
وأبو حنيفة يقول هذا اللفظ مبهم للمبالغة في بيان انه لا وارث له غيره ومعناه ان بلده كذا
ومولده كذا ومسقط رأسه كذا ولا نعلم له بها وارث غيره فأحرى أن لا يكون له وارثا آخر في
مكان آخر ثم تخصيصهم هذا المكان بالذكر في هذا اللفظ لغو لان مالا يعلم المرء لا يختص
بمكان دون مكان فهو وما لو أطلقوا سواء وقولهما ان هذا ايهام فلان كان كذلك فهو مفهوم
والمفهوم لا يقابل المنطوق والأصل في ذلك ما روي أن ثابت بن الدحداح لما مات قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأهل قبيلته هل تعرفون له فيكم نسبا قالوا لا الا ان ابن أخت له فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه لابن أخته ابن لبانة بن عبد المنذر رضي الله عنه فقد
ذكروا انهم لا يعرفون له فيهم وارثا ونسبا ولم نكلفهم أكثر من ذلك ولو ادعى رجلان ولاء
رجل واحد فأقام كل واحد منهما بينة انه أعتقه وهو يملكه ولا يعلمون له وارثا غيره جعلت
الولاء بينهما والميراث لأنهما استويا في سبب الاستحقاق والولاء إما أن يعتبر بالنسب ولو
أقاما البينة على نسبه كان الميراث بينهما لاستهوائهما في النسب أو يجعل الولاء كالملك لأنه
أثر من آثار الملك وإذا استويا في إقامة البينة على الملك يقضى بالملك بينهما نصفان فان أقام
أحدهما بينة قبل صاحبه وقضيت له ثم أقام الاخر بعد ذلك بينة لم نقبل منه ولم يشارك
الأول لان الولاء كالنسب من حيث إنه لا يحتمل النقض والفسخ ولا يحتمل النقل من شخص
إلى شخص ثم في النسب إذا ترجحت البينة الأولى بالقضاء لم تقبل بعد ذلك فكذلك
153

في الولاء ولو شهد رجل على رجل ان مولاه أعتق أمه ثم ولدت بعد العتق لستة أشهر من
فلان وهو عبد لفلان فقضى القاضي له بالولاء ثم جاء مولى العبد وأقام البينة انه كان أعتق
أباه فلانا قبل موته وهو لا وارث له غيره جعلت له الميراث والولاء لان الثابت بالبينة
كالثابت بالمعاينة ولو عاينا ذلك حكمنا بجر الولاء إلى قوم الأب فكذلك إذا ثبت بالبينة
وهذا لأنه ليس في هذه البينة ابطال القضاء الأول فان القضاء الأول كان قضاء بالولاء
لمعتق الأم لأنه لا ولاء له من قبل الأب وهو صحيح ثم بقي ذلك الولاء عند الموت لعدم
الدليل المحول لا لوجود الدليل المنفى فإذا ثبت الثاني الدليل المحول ببينته وجب القضاء بالولاء
والميراث له بخلاف الأول فهناك البينة الثانية تقوم لابطال القضاء الأول بطريق المعارضة
وقد بينا ان عند المعارضة الأولى يترجح بالقضاء فان نقض القضاء بدليل محتمل لا يجوز
وإذا شهدا على موت رجل وأقر أنها لم يعاينا ذلك لم تجز إلا أن يكون مشهور الموت لأنه
إذ لم يكن مشهورا وأقر انهما لم يعاينا فقد أقر انهما يشهدان بغير علم وإذا كان مشهور الموت
فإنما يشهدان بما يعلمانه بالشهرة وان قالا نشهد بأنه مات أجزت ذلك والا استفسرهما لان
مطلق الشهادة يجب حملها على سبب صحيح كما لو شهد بمطلق الملك قبلت شهادتهما ولا
يستفسران أنهما يشهدان بذلك بظاهر اليد أو غيره وكذلك أن قال نحن دفناه أو شهدنا
جنازته فهذا منهما شهادة بموته لان الحي لا يدفن ولا يصلى على جنازته وإذا أخبر الرجل المديون
به أو المرأة انه عاين موت فلان فالذي انتهى إليه الخبر في سعة من يشهد على موته قيل معنى
هذا إذا اشتهر عند الناس حتى سمعه الشاهد من واحد بعد واحد فأما إذا لم يسمعه إلا من
هذا الواحد فإنه لا يجوز له أن يشهد بموته كما في النسب والنكاح وقد بينا وقيل بل في الموت
يسعه ذلك إذا كان المخبر ثقة موثوقا به لان أمر الناس هكذا يكون فالميت إنما يعاينه من
يغسله ثم يخبر الناس بذلك فيعتمدون خبره ويعلمون انه صادق في مقالته فيجوز له أن يعتمد
هذا الخبر في الشهادة على موته وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى فصنع أهله ما يصنعون
على الميت فإنه لا يسع أحد أن يشهد على موته حتى يخبر به من شهده ممن يثق به لان
مثل هذا الخبر قد يكون حقا وقد يكون باطلا والغالب عند بعد المسافة أنه باطل فلا يعتمده
حتى يخبره من يثق به عن معاينة فإذا أخبره بذلك وسعه أن يشهد (ألا ترى) انه لو مات ميت
فأخرجت جنازته حتى يدفن وسع الجيران أن يشهدوا بموته وإن لم يعاينوا ذلك لأنهم سمعوا
154

ذلك مما عاين وإذا تزوج امرأة نكاحا ظاهرا ودخل بها علانية وأقام معها أياما ثم ماتت فإنه
يسع الجيران ان يشهدوا على أنها امرأته وإن لم يشهدوا النكاح لأنه اقترن بالنكاح ما أوجب
تشهيره أرأيت لو كان بينهما ولد أما كان يسعهم أن يشهدوا انه ولدهما وإن لم يعاينوا الولادة
فإذا كان يجوز هذا فيما ينبنى على النكاح فكذلك في النكاح وإذا شهد شاهدان أن فلانا مات
وترك هذه الدار ميراثا لفلان ابنه هذا لا يعلمون له وارثا غيره لم يدركوا فلانا الميت
فشهادتهم باطلة لأنهم يشهدون بالملك للميت فان الوراثة خلافة فما لم يثبت الملك للميت لا
يخلفه وارثه فيه ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع وإذا كان القاضي يعلم أنهم لم يدركوا فلانا
الميت فقد علم أنهم جازفوا في هذه الشهادة وبهذا يستدل أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في مسألة
الولاء فيقولان ان الولاء بالعتق لا يثبت للعتق إلا أن يكون مالكا فهم يشهدون بالملك له أو
لا ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع ولهذا قال كثير من مشايخنا رحمهم الله في الوقف
ان الشهادة عليه بالتسامع ممن لا يدرك الواقف لا تقبل لأنه ما لم يثبت الملك للواقف لا يثبت
الوقف من جهته والشهادة على الملك بالتسامع لا تجوز الا ان أكثرهم على جواز ذلك في الوقف
استحسانا للضرورة الداعية إلى ذلك وتحقيق مقصود الواقف وهو التأييد في صدقته ولو شهدوا
على دار في يدي رجل أنها دار جد هذا المدعى وخطته وقد أدركوا الحد لم تجز شهادتهما حتى
يجيزوا المواريث لان المدعى يحتاج إلى اثبات سبب انتقال الملك إليه من الجد وبثبوت الملك
للجد لا يحصل هذا المقصود ولا يتمكن القاضي من القضاء له حتى يجيزوا المواريث ولو شهد
على اقرار الذي في يديه انها دار جد هذا أجزت ذلك وجعلتها له إن لم يكن له وارث غيره
لان الثابت من اقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وهذا لان الاقرار موجب بنفسه قبل أن يتصل
به القضاء بخلاف الشهادة فإنها لا توجب شيئا الا بقضاء القاضي ولا يتمكن القاضي من القضاء
الا بسبب ثابت عنده ونظير هذه المسألة ما بينا في كتاب الدعوى أنهم إذا شهدوا أنها
كانت لابنه وقد مات أبوه لا يقضى له بشئ الا في قول أبى يوسف الاخر بخلاف
ما إذا شهدوا على اقرار ذي اليد بأنها كانت لابنه وكذلك لو شهدوا انها كانت من يد المدعى
لا يستحق بهذا شيئا بخلاف ما إذا شهدوا على اقرار ذي اليد انها كانت في يد المدعى وفى
الكتاب أشار إلى الفرق وقال إذا أقر ذو اليد بهذا فقد أخرجها من نصيبه فيخرجها من
يده إلا أن يأتي ببينة بحق له فيها وإذا أخرجناها من يده فلا مستحق لها سوى المدعي فتدفع
155

إليه وإذا شهد الشهود بغير اقرار فهم لم يثبتوا للمدعى شيئا إذا لم يجيزوا المواريث إليه وهذا
في الحقيقة إشارة إلى ما ذكرنا أن الاقرار موجب بنفسه والشهادة لا توجب شيئا بدون
قضاء القاضي وإذا كانت الدار في يد رجل فأقام ابن أخيه البينة أنها دار جده مات وتركها
ميراثا لابن الابن وعمه ولا يعلمون له وارثا غيرهما وان أباه مات وترك نصيبه منها ميراثا له لا
يعلمون له وارثا غيره وان أقام الاخر البينة ان أخاه مات قبل أبيه وان أباه قد ورث منه السدس
ثم مات أبوه فورثه هذا فانى أقبل شهادة شهود ابن الأخ لأنه هو المدعى ومعنى هذا انه هو
يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينته وذو اليد لا يثبت لنفسه شيئا عليه ولكن يبقي ببينته
ما أثبت هو من نصف الدار لنفسه والبينات للاثبات لا للنفي * يوضحه انا إذا قبلنا بينة ابن
الأخ صار ذو اليد بها مقضيا عليه في نصف الدار وإذا قبلنا بينة ذي اليد لا يصير ابن الأخ
مقضيا في شئ والقضاء يستدعى مقضيا عليه وكانت بينة ابن الأخ أولى بذلك فإن كان
لأب الغلام ميراث من تركة سوى الدار لم أقبل بينة واحد منهما على صاحبه لان كل واحد
منهما هنا يثبت لنفسه ببينته شيئا في يد ابن الأخ وهو نصف الدار والاخر سدس تركة أخيه
التي كانت في يد أبيه بطريق الميراث له من أبيه وكل واحد منهما يصير مقضيا عليه لو قبلنا بينة
صاحبه عليه فاستويا من هذا الوجه والأصل ان كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما
يجعل كأنهما وقعا معا (ألا ترى) ان الأب والابن إذا غرقا جميعا في سفينة أو وقع عليهما بيت
ولا يعلم أيهما مات أولا لم يرث واحد منهما صاحبه فكذلك هنا لما تحققت المساواة بينهما في
التاريخ جعلا كأنهما ماتا معا فيكون ميراث كل واحد منهما لابنه فلا يرث كل واحد منهما من
صاحبه ولو أقام رجل البينة على ميراث رجل انه مات يوم كذا وهو ابنه لا وارث له غيره
وأقامت امرأة البينة انه تزوجها يوم كذا بعد ذلك اليوم ثم مات بعد ذلك فانى آخذ ببينة المرأة
لأنها تثبت المهر والميراث فلا بد من قبول بينتها على ذلك ثم بينتها طاعنة في بينة الابن على
تاريخ الموت فمن ضرورة الحكم بصحة النكاح منه بعد ذلك الحكم بحياته ولو أقامت امرأة
أخرى البينة بعد ما قضيت بموته في يوم وورثت امرأته انه تزوجها بعد ذلك الوقت الذي
ذكروا فيه موته قبلت ذلك أيضا لأن هذه الأخرى مدعية مثبتة المهر والميراث لنفسها ثم
بينتها طاعنة في البينة الأخرى على تاريخ الموت ولو كان الوارث أقام البينة ان فلانا قتل أباه
يوم كذا قضيت بذلك ثم أقامت المرأة البينة انه تزوجها بعد ذلك اليوم ثم التفت إلى بينتها
156

قال لان القتل حق لازم والموت ليس فيه حق لازم ومعنى هذا الكلام ان الابن باثبات فعل
القتل على القاتل يثبت لنفسه موجبه من قصاص أو دية فكانت بينته مثبتة وبينه المرأة على
النكاح أيضا مثبتة للمهر والميراث لها فلما استويا في الاثبات وترجحت بينة الابن باتصال
القضاء بها لم تقبل بينة المرأة بعد ذلك لان القضاء النافذ لا يجوز ابطاله بطريق المعارضة فاما
في الموت الابن لا يثبت لنفسه في إقامة البينة على تاريخ الموت حقا فان الميراث مستحق له
بالموت لا بالتاريخ فإنما بقي هو بتلك البينة النكاح بعده وبينة المرأة تثبت وقد بينا ان النافي
من البينتين لا يعارض المثبت فيترجح بينتها ويتبين به بطلان الطلاق الأول كما إذا أثبت سبب
إرث مقدم على ما قضى القاضي به * يوضح الفرق ان القتل فعل يتعلق به حكم شرعا والفعل
لا يتحقق من العبد الا في زمان فكان الابن متمكنا من اثبات الفعل عليه في ذلك الزمان
بالبينة لاثبات حكمه فأما الموت ليس بفعل من العبد يتعلق به حكم ليتمكن الابن من اثباته في
زمان بالبينة وإنما يمكنه من اثبات الخلافة لنفسه بعد موته وفي ذلك لا فرق بين موته في وقت
دون وقت ثم الأصل ان بعد المساواة في الاثبات إذا تيقن القاضي بالكذب في احدى البينتين
وقد اتصل القضاء بأحدهما فإنه يعين الكذب في الأخرى (ألا ترى) انه لو قامت عليه بينة
انه تزوج هذه المرأة يوم النحر بملكة فقضى القاضي بها ثم شهد شاهدان آخران انه تزوج
هذه الأخرى يوم النحر في ذلك اليوم بخراسان لم تجز الشهادة الثانية لأنا نتيقن بكذب
أحد الفريقين وقد ترجح جانب الصدق في البينة الأولى باتصال القضاء بها فيتعين الكذب
في البينة الثانية فكذلك فيما تقدم من مسألة القتل والله أعلم
(باب طعن الخصم في الشاهد)
(قال رحمه الله وإذا شهد شاهد ان لرجل حقا من الحقوق فقال المشهود عليهما هما عبدان
فانى لا أقبل شهادتهما حتى أعلم أنهما حران) لان الناس أحرار الا في أربعة الشهادة والحدود
والقصاص والعقل كذا مروى عن علي رضي الله عنه وتفسيره في الشهادة هذا وفي الحد إذا قذف
انسان ثم زعم القاذف ان المقذوف عبد فإنه لا يحد القاذف حتى يثبت المقذوف حريته بالحجة
وفي القصاص إذا قطع يد انسان ثم زعم القاطع ان المقطوعة يد عبد فإنه لا يقضى بالقصاص
حتى يثبت حريته بالحجة وفي القتل إذا قتل انسان خطأ وزعمت العاقلة انه عبد فلان فإنه لا
157

تقضى عليهم بالدية حتى تقوم البينة على حريته وهذا لان ثبوت الحرية لكل أحد باعتبار
الظاهر إما لان الدار دار حرية أو لان الأصل في الناس الحرية فإنهم أولاد آدم وحواء
عليهما السلام وقد كان حرين الا ان الظاهر يدفع به الاستحقاق ولكن لا يثبت به
الاستحقاق لان الاستحقاق لا يثبت الا بدليل موجب له ويقال ما عرف ثبوته ليس بدليل
منفى بل لعدم الدليل المزيل والدليل عليه ان ظاهر اليد يدفع به استحقاق المدعى ولا يستحق
به حتى إذا كانت في يده جارية ولها ولد في يد غيره لا يستحق ولدها باعتبار يده فيها إذا عرفنا
هذا فنقول في الشهادة اثبات الاستحقاق على المشهود عليه بقول الشاهد الظاهر ولا يكفي
لذلك وكذلك في القذف إلزام الحد على القاذف في القصاص وايجاب العقوبة على القاطع
وفي العقل ايجاب الدية على العاقلة وذلك لا يكون الا باعتبار الحرية فما لم تثبت الحرية بالحجة
لا يجوز القضاء بشئ من ذلك فان قال الشهود نحن أحرار لم نملك قط لم يقبل قولهما حتى
يأتيا بالبينة على ذلك وإنما أراد به انه لا تقبل شهادتهما فأما في قولهما انا أحرار لم نملك مصدقان
في حقهما بطريق الظاهر ولكن لا نقضي بشهادتهما حتى يقيم البينة على حريتهما وان سأل
القاضي عنهما فأخبر انهما حران فقبل ذلك وأجاز شهادتهما كان حسنا لان حريتهما من الأسباب
التي يعمل شهادتهما الا بها بمنزلة العدالة فكما أن العدالة تصير معلومة عند القاضي بهذا الطريق
فكذلك الحرية قال والباب الأول أحب إلى وأحسن يعنى الاثبات بالبينة لان الأهلية للشهادة
لا تثبت بدون الحرية وتثبت بدون العدالة ولان الحرية والرق من حقوق العباد تجرى فيهما
الخصومة وطريق الاثبات في مثله البينة فأما العدالة لا تجرى فيها الخصومة فيمكن معرفتها
بالسؤال عن حاله والحاصل ان الحرية في هذه الحالة أخذت شبهين من أصلين من العدالة لأنها
من أسباب قبول الشهادة ومن الملك لأنها لا تجرى فيها الخصومة وفيها حق العباد فيوفر حظه
عليهما فلشبهها بالعدالة تصير معلومة بالسؤال ولشبهها بالملك تصير معلومة بالبينة وهذا الوجه
أقوى وأحسن لان الحرية تصير مقضيا بها ولو قالا قد كنا عبدين فأعتقنا المولى لم نصدقهما
الا ببينة لان الملك يثبت للمولى عليهما باقرارهما وإزالة الملك الثابت لا يكون الا بحجة البينة
فان جاء بالبينة على ذلك قبلت ذلك وأعتقهما وإن كان المولى غائبا لان المشهود عليه انتصب
خصما عن المولى فإنه لا يتمكن من دفع المشهود به عن نفسه الا بإنكار حريتهما والأصل
ان حق الحاضر متى كان متصلا بحق الغائب فان الحاضر ينتصب خصما عن الغائب ومتى
158

قضي القاضي بالبينة على خصم حاضر فذلك قضاء على من أنتصب لهذا الحاضر خصما عنه فإذا
جاء المولى وأنكر ذلك لم يلتفت إلى انكاره وكان من القضاء بالعتق ماضيا لان الحاضر بمنزلة
الوكيل عن الغائب وهذا عندنا وقال زفر رحمه الله لا يقضى بالعتق حتى يحضر المولى ويقام
عليه البينة لان المعتق مدعى عليه واستدل على زفر رحمه الله بما قال أرأيت لو ادعى قتل رجل
أنه قطع يده عمدا أو ادعى عليه قذفا وميراثا وأقام البينة أن مولاه أعتقه وان هذا قطع
يده بعد ذلك أو قدمه ألم أحكم عليه بما حكم به الحر على الحر فيكون ذلك قضاء على مولاه
وإن كان غائبا وكذلك لو أقام رجل البينة على عبد أن مولاه أعتقه وانه قطع يده بعد
ذلك لو استدان منه دينا أو باعه أجزت ذلك وان جاء المولى فأنكر عتقه لم أكلفه إعادة
البينة وزفر رحمه الله في هذا كله مخالف إلا أن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف
على المختلف لايضاح الكلام والله أعلم بالصواب
(باب الشهادة في الشراء والبيع)
(قال رحمه الله وإذا ادعى رجل شراء دار في يد رجل وشهد شاهدان وإن لم يسميا
الثمن والبائع ينكر ذلك فشهادتهما باطلة) لان الدعوى ان كانت بصفة الشهادة فهي فاسدة
وان كانت مع تسمية الثمن فالشهود لم تشهد بما ادعاه المدعى ثم القاضي يحتاج إلى القضاء
بالعقد ويتعذر عليه القضاء بالعقد إذا لم يكن الثمن مسمى لأنه كما لا يصح البيع ابتداء بدون
تسمية الثمن فكذلك لا يظهر بالقضاء بدون تسمية الثمن ولا يمكنه أن يقضى بالثمن حين لم
تشهد به الشهود وكذلك لو سمى الثمن واختلفا في جنسه أو في مقداره لان المدعى يكذب
أحدهما لا محالة ولان كل واحد منهما يشهد بعقد غير ما يشهد به صاحبه فالبيع بالدنانير غير
البيع بالدراهم ولا يتمكن القاضي من القضاء بواحد من العقدين لانعدام شهادة شاهدين
عليه وكذلك إذا شهد أحدهما بالبيع بألف والاخر بالبيع بألف وخمسمائة ويستوى إن كان
البائع هو المدعى للبيع أو الشراء وفي الخلع ان كانت المرأة هي التي تدعى فكذلك الجواب
لأنها تكذب أحد الشاهدين وإن كان الزوج هنا المدعى في الخلع فشهد أحد الشاهدين
على الف والاخر على الف وخمسمائة فشهادتهما مقبولة في مقدار الألف لان الفرقة وقعت
باقرار الزوج وهذا منه دعوى الدين عليها في الحاصل وقد اتفق الشاهدان على الألف لفظا
159

ومعنى وفي النكاح لو كان الزوج هو المدعى للعقد فالشهادة لا تقبل لان النكاح بألف غير
النكاح بألف وخمسمائة والزوج يكذب أحد شاهديه وان كانت المرأة هي التي تدعى النكاح
بألف وخمسمائة فعند أبي حنيفة رحمه الله تقبل شهادتهما على مقدار الألف لان دعواها دعوى
المال وقد اتفق الشاهدان على الألف لفظا ومعنى كما في الخلع وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله لا تقبل الشهادة لان عقد النكاح معاوضة المرأة بالمال كالبيع فكما أن اختلاف الشاهدين
في مقدار البدل في البيع يمنع قبول الشهادة فكذلك في النكاح وفرق أبو حنيفة رحمه الله
بينهما وهو أن صحة النكاح تستغنى عن تسمية المهر بخلاف البيع فن هذا الوجه المال كالزائد
في النكاح ودعواها فيه دعوى الدين وتمام بيان هذا الفصل في الجامع الصغير وان اتفق
في جميع ذلك غير أنهما اختلفا في المكان والوقت في البيع أو في الاقرار والانشاء فشهادتهما
جائزة وقد بينا هذا وان شهدا على اقرار البائع بالبيع ولم يسميا ثمنا ولم يشهدا بقبض الثمن
فالشهادة باطلة لان حاجة القاضي إلى القضاء بالعقد ولا يتمكن من ذلك إذا لم يكن الثمن
مسمى وان قال أقر عندنا انه باعها منه واستوفى الثمن ولم يسم الثمن فهو جائز لان الحاجة إلى
القضاء بالعقد بالملك للمدعى دون القضاء فقد انتهى حكم العقد باستيفاء الثمن ولان الجهالة إنما
تؤثر لأنها تقضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم (ألا ترى) أن مالا يحتاج إلى قبضه
فجهالته لا تضر وهو المصالح عنه بخلاف ما يحتاج إلى قبضه وهو المصالح عليه فإذا أقر باستيفاء
الثمن فلا حاجة هنا إلى تسليم الثمن فجهالته لا تمنع القاضي من القضاء بحكم الاقرار وإذا لم يقبض
الثمن لا يجب على البائع تسليم البيع ما لم يصل إليه الثمن فجهالة الثمن في هذه الحالة تمنع القضاء
بموجب اقراره وفي الموضعين جميعا الثابت من الاقرار بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو قال بعتها
منه ولم استوف الثمن لم يؤمر بتسليمها إليه ولو قال بعتها منه واستوفيت الثمن أمر بتسليمها
إليه فكذلك إذا ثبت بالبينة وإذا ادعى شراء دار وأقام شاهدين عليها غير أنهما لا يعرفان
الدار والحدود ولم يسميا شيأ من ذلك فهو باطل لان المشهود به مجهول ولان المدعى غير
المشهود به فالمدعى شراء دار معينة معلومة والمشهود به شراء دار مجهولة فان قالا قد سمى البائع
والمشترى موضع الدار وحدودها ثم وصفوا ذلك وسموه فهو جائز لأنهم شهدوا بمعلوم
وهو الشراء في دار معلومة بذكر الحدود والموضع غير أنى أسأل المدعي البينة على ما سمى
الشهود من موضع الدار والحدود لان القاضي يقول للمدعي قد يثبت عندي انك اشتريت
160

منه دارا حدودها ما سمى الشهود ولكن لا أدري أن هذه الدار المعينة التي يدعيها هي تلك
الدار وان حدودها ما سمى الشهود فثبت ذلك عندي بالبينة فإذا أقام البينة على ذلك حينئذ
يتمكن القاضي من القضاء له بالمدعى بالبينة السابقة وكذلك لو حدودها بثلاثة حدود فقد
بينا في أدب القاضي ان ذكر أكثر الحدود وذكر الجميع عندنا سواء استحسانا وان الشهرة
لا تقوم مقام ذكر الحدود في العقار عند أبي حنيفة رحمه الله وكذلك لو ادعي البائع وجحد
المشترى في جميع هذه الوجوه لان الحاجة إلى القضاء بالعقد لا فرق بين أن يكون المدعى
هو البائع أو المشتري. دار في يد رجل فأقام رجل عليها شاهدين انها داره اشتراها من فلان
وأقام ذو اليد البينة انها داره اشتراها من فلان ذلك أيضا فهي للذي في يده لأنهما تصادقا
على أن أصل الملك فيهما كان للبائع وادعى كل واحد منهما سبب انتقال الملك إليه وسبب
ذي اليد أقوى لأن الشراء مع القبض أقوى من الشراء بدون القبض ولان تمكنه من القبض
دليل سبق عقده فهو أولى إلا أن يؤرخا وتاريخ الخارج أسبق فحينئذ يقضى بها له لأنه أثبت
الشراء في وقت لا ينازعه الاخر فيه ولو أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من رجل
آخر قضيت بها للمدعى لان كل واحد منهما هنا يحتاج إلى اثبات الملك لبائعه أو لا فكأن
البائعين حضرا وادعيا الملك المطلق وبينة الخارج في ذلك أولى عندنا فاما في الأول الملك
ثابت للبائع بتصادقهما وإنما يحتاج كل واحد منهما إلى اثبات سبب الانتقال إليه * يوضح الفرق
أن هناك الخارج محتاج إلى اثبات الاستحقاق على البائع وعلى ذي اليد في تثبته ما يثبت له
الاستحقاق على البائع وليس فيها مال يثبت الاستحقاق على ذي اليد من غير المالك حادث لجواز
أن يكون شراء ذي اليد سابقا وحاجة ذي اليد إلى اثبات الاستحقاق على البائع خاصة ولا
حاجة له إلى اثبات الاستحقاق على صاحبه لان صاحبه غير مستحق لها بيد له فيها وفي بينته
ما يثبت له ذلك فاما هنا كل واحد منهما يحتاج إلى اثبات الاستحقاق لبائعه أولا ليترتب
عليه استحقاقه بالشراء وفيما هو المقصود بينة الخارج أولى من بينة ذي اليد. دار في يد رجل
ادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة انه اشتراها منه بألف درهم فان وقت أخذ بأول
الوقتان لان صاحب أسبق التاريخين أثبت الملك لنفسه بالشراء في وقت لا ينازعه فيه غيره
والاخر بينة إنما أثبت الشراء من غير المالك وان وقت أحد البينتين دون الأخرى فهي لصاحب
الوقت لأن الشراء من غير المالك حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات حتى يثبت سبق
161

التاريخ فالذي لم توقت شهوده إنما أثبت شراءه في الحال وصاحبه أثبت الشراء من حين أرخت
شهوده فهو أولى إلا أن تكون الدار في يد الآخر فهي لصاحب اليد حينئذ لان تمكن ذي اليد
من القبض دليل سبق عقده وهذا دليل معاين وفي حق الاخر التاريخ مخبر به وليس
الخبر كالمعاينة ولان حاجة الخارج إلى اثبات الاستحقاق على ذي اليد وليس في بينته ما يوجب
ذلك وان أرخت شهوده لجواز أن يكون شراء ذي اليد سابقا فإن لم يوقتا فكل واحد منهما
بالخيار ان شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وان شاء ترك لان استواء الحجتين الحكم هو
القضاء بها بينهما نصفان فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما وببعض الملك قبل البعض
والتبعيض في الاملاك المجتمعة عيب فيخبر كل واحد منهما ان شاء أخذ نصفها بنصف الثمن
وان شاء ترك وكذلك لو كان أحدهما ابن البائع أو مكاتبة لأنه في حكم الشراء منه هو كأجنبي
آخر فكذلك في دعوى الشراء عليه. دار في يد رجل فأقام رجل البينة انه اشتراها من ذي اليد
وأقام ذو اليد البينة انه اشتراها من المدعي ولا يدرى أي ذلك أول فإنه يقضى بها لذي اليد
وتبطل البينتان جميعا لان كل واحد منهما أثبت اقرار صاحبه بالملك له فكل مشترى مقر بالملك
لبائعه وكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري فيجعل هذا بمنزلة إقامة كل واحد منهما البينة على
اقرار صاحبه بالملك له وهنا تتهاتر البينتان كما لو سمعنا الاقرار منهما معا ولم يذكر في المسألة
اختلافا هنا وقد ذكر في الجامع أن هذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهم الله فان عند محمد
رحمه الله يقضى بالبينتين جميعا فيجعل كأن ذي اليد اشتراها أولا وقبضها ثم باعها فيؤمر بتسليمها
إلى الخارج لان القضاء بالعقدين ممكن بهذا الطريق وقد بينا المسألة بفروعها في الجامع قال
(ألا ترى) ان كل واحد منهما لو أقام البينة ان القاضي قضى له بهذه الدار على صاحبه انه يترك
في يد ذي اليد وتتهاتر البينتان إلا أن محمدا رحمه الله يفرق بينهما فيقول في الشراء اثبات الترتيب
بين العقدين ممكن باعتبار اليد لأني إن جعلت شراء ذي اليد سابق جاز بيعه بعد القبض وان
جعلت شراء الخارج سابقا لم يجز بيعه من البائع قبل القبض ومثل هذا الترتيب في القضاء غير
ممكن ولان الشراء يتأكد بالقبض ولهذا يستفاد به ملك التصرف العقار في ذلك والمنقول
عندي سواء فيستقيم ان يجعل قبض ذي اليد صادرا عند عقده أو يجعل ذلك دليل سبق
عقده فاما القضاء لا يتأكد بالقبض بل متأكد بنفسه فتتحقق فيه المعارضة بين البينتين. دار
في يد رجل فأقام البينة انه باعها من فلان بألف درهم في رمضان وأقام فلان البينة انه اشتراها
162

منه في شوال بخمسمائة درهم لان القضاء بالعقدين ممكن والبينات حجج فعند امكان العمل
بهما لا يجوز إلغاء أحدهما فيجعل كأنه باعها في رمضان بألف ثم باعهما في شوال بخمسمائة فيكون
العقد الثاني فاسخا للعقد الأول ولو عاينا الشرائين كان الشراء الثاني فاسخا للأول والدار له
بالثمن الثاني وكذلك لو أقام فلان البينة انه وهبها له في شوال على أن يعوضه خمسمائة وقبضها
جميعا لان الهبة بشرط العوض بعد التقاض بمنزلة البيع فهذا وإقامة البينة على الشراء في شوال
بخمسمائة أمضيت البيع بألف في رمضان وقضيت له من ذلك بخمسمائة سواء الذي أثبت
انه أعطاه في شوال وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله بينة
المرتهن أثبت ببينته اقرار الراهن بالرهن منه في شوال فكأنا سمعنا منه هذا الاقرار لان
الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أقر هو بذلك لم يصح منه بعد ذلك دعوى البيع في رمضان
للتناقض فالبائع لا يرهن المبيع من المشترى وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا البيع
أقوى من الرهن لان البيع يوجب الملك في البدلين والرهن لا يوجب ذلك فعند تعذر العمل
بالبينتين يترجح الأقوى وهو البيع وكما أن المرتهن أثبت اقرار الرهن بالرهن فالبائع أثبت
اقرار المشترى بالشراء منه في رمضان وذلك يمنعه من دعوى الرهن في شوال فلما وقع التعارض
في هذا رجحنا أقوى الحجتين وهو حجة البيع وفي الكتاب (قال) ليس الرهن كالهبة بالعوض
لان الهبة بالعوض بيع والرهن ليس ببيع فقد يرهنك الرجل دارك ولا يبيعك دارك ومعنى
هذا ان الرهن دون البيع فلا يكون ناقضا للبيع (ألا ترى) أنا لو عاينا العقدين لم ينتقض
البيع بالرهن وهو معنى قوله قد يرهنك دارك ولو عاينا البيعين انتقض الأول بالثاني فبانتقاض
الأول الدار تعود إلى البائع فهذا معنى قوله لا يبيعك. دارك دار في يد رجل فادعاها رجلان
كل واحد منهما يقيم البينة أنه اشتراها بألف وكفل عنه صاحبه المدعى معه فان علم الأول
منهما قضى له بها وإن لم يعلم فلكل واحد منهما أن يأخذ نصفها بنصف الألف ان شاء
لاستواء الحجتين فان أخذاها فالكفالة لازمة لكل واحد منهما على صاحبه من قبل أنهما
ليسا بشريكين ومعنى هذا أنه يقضى لكل واحد منهما بنصف الدار بشراء يفرد هو به بلا شركة
بينهما في العقد ولو عاينا الشرائين بهذه الصفة بشرط الكفالة من كل واحد منهما على صاحبه
163

وكفالة صاحبه له بذلك كانت الكفالة لازمة فكذلك إذا قضى بذلك بالبينة. وإذا أقام رجل
البينة انه اشترى دارا في يد رجل بألف درهم وقال ذو اليد لم أبع ثم أقام البائع البينة على
أنه قد رد عليه الدار فانى أقبل ذلك منه وانقض البيع ولا يبطل انكاره البيع ببينة لان انكاره
ليس باكذاب منه لشهوده وانه في الانكار يقول لا بيع بيننا فيها وبعد مارد عليه الدار لا بيع
بينهما فيها ولو قال لم يجر بيننا بيع فهو متمكن من دعوى الدار مع اصراره على الكلام الأول
بأن يقول لم يكن بيننا بيع ولكنه ادعى هذه الدعوى مرة ثم بدا له فيها فرد الدار على فعرفنا
أن هذا الانكار ليس باكذاب منه لشهوده. وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل وأقام البينة ان
أباه اشتراها منه بألف وقد مات أبوه والبائع ينكر فاني لا أكلفه البينة انه مات وتركها ميراثا
ولكن أسأله البينة انه لا يعلم لابنه وارثا غيره فإذا أقام على ذلك بينة أمرته أن ينقد الألف
ويقبض الدار لان الابن قائم مقام الأب بعد موته ولو حضر الأب في حياته وأقام البينة
انه اشتراها منه بألف درهم أمر بتسليم الثمن وقبض الدار وكذلك الابن إذا ثبت ذلك بعد
موت أبيه إلا أن من الجائز أن معه من يزاحمه في الميراث فيؤمر بإقامة البينة على أنه لا يعلم
له وارثا غيره وإن لم يقم البينة على ذلك تلوم القاضي فيه زمانا فقد بينا هذا في كتاب الدعوى
ولو كانت الدار في يد رجل غير البائع سأله البينة أن أباه مات وتركها ميراثا لان هنا
لو حضر الأب في حياته وأقام البينة على ذي اليد انه اشترى هذه الدار من فلان بألف
وذو اليد غير البائع لا يستحق به شيأ ما لم يثبت الملك لمورثه وذلك بان يشهد الشهود أنه
تركها ميراثا كما لو أقام الأب البينة انها ملكه اشتراها من فلان (قال) في الكتاب وليس هذا
كالأولى لان الأولى هي في يده رهن بالثمن بمنزلة رجل أقام البينة ان أباه رهن هذه الدار
عند هذا بألف درهم وقد مات الأب ولا وارث له غيره وجاء بالألف ينقدها ومعنى هذا
ان الدار إذا كانت في يد البائع فالوارث بإقامة البينة على الشراء أثبت اقرار ذي اليد بالملك
لمورثه ولكنها محبوسة في يده بالثمن كالمرهونة فيؤمر بأداء الثمن وقبضها وإذا كانت في يد غير
البائع فالوارث بإقامة البينة على الشراء ما أثبت اقرار ذي اليد بالملك المورثة إنما أثبت اقرار
البائع بذلك والملك للبائع غير ثابت فيها حتى يثبت باقراره الملك لمورثه فلا بد له من إقامة
البينة على ملك مورثه عند موته وذلك بان يشهد الشهود أنه تركها ميراثا. وإذا ادعى رجل
دارا في يد رجلين فأقام البينة أن أحدهما باعه الدار وسلم الاخر ولا يعرف الشهود الذي
164

باع من الذي سلم فشهادتهم باطلة لان المشهود عليه بالبيع مجهول والمشهود عليه بالتسليم
كذلك وما لم يبين الشاهد المشهود عليه بالبيع فهو مجهول والمشهود عليه بالتسليم كذلك وما
لم يبين الشاهد المشهود عليه في شهادته لا تكون شهادته حجة ولأنهم تحملوا الشهادة على معين
منهما ثم منعوا تلك الشهادة حين لم يعرفوا البائع بعينه. وكذلك دار في يد رجل أقام البينة
انه باعها من أحد هذين الرجلين ولا يعرفونه بعينه فشهادتهم باطلة لجهالة المشهود عليه. دار في
يد رجل فادعى رجل انه اشتراها كلها بألف وادعي آخر انه اشترى نصفها بخمسمائة وادعى
آخر انه اشترى ثلثها بستمائة درهم وأقاموا البينة فهم بالخيار ان شاؤوا أخذوها وان شاؤوا
تركوها لان عند تعارض البينات لا بد من أن تتفرق الصفقة على كل واحد منهم فيما أثبت
شراءهم فيه فالخيار كذلك فان أخذوها كان لصاحب الجميع المثلث خاصة وكان السدس بينه
وبين صاحب الثلثين نصفين وكان النصف بينهم أثلاثا ولزم كل واحد منهما حصة ما أخذ
من الثمن في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وأصل هذه المسألة أن القسمة في هذا الفصل
على طريق المنازعة عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على طريق العول
وقد بينا هذا الفصل في شرك كتاب الدعوى وجمعنا فيها نظائر هذه المسألة وأضدادها فنقول
في تخريج قول أبى حنفية رحمه الله لا منازعة في الثلث لمدعي النصف ومدعي الثلثين ومدعى الجميع
يدعى ذلك فيسلم له الثلث ثم ما زاد على النصف إلى تمام الثلثين وهو السدس لا منازعة
فيه لصاحب الثلث وقد استوى فيه حجة صاحب الثلثين وصاحب الجميع فيقضى بينهما
نصفان وفي النصف استوى حجة صاحب الكل والثلثين والنصف فيقضى به بينهم أثلاثا وسهام
الدار في الحاصل اثنى عشر لحاجتنا إلى سدس يقسم نصفين فصاحب الجميع اخذ مرة أربعة ومرة
سهما ومرة سهمين فإنه ما يسلم له سبعة أسهم من اثنى عشر سهما ولذلك نصف الدار ونصف
سدسهما فيلزمه ذلك القدر من الثمن وصاحب الثلثين اخذ مرة سهما ومرة سهمين وذلك ثلاثة
وهو ربع الدار وصاحب النصف ما أخذ إلا سهمين وهو سدس الدار فاما عندهما القسمة على
طريق العول واصل سهام الدار ستة فصاحب الجميع يضرب بستة وصاحب الثلثين بأربعة
وصاحب النصف بثلاثة فتكون جملة هذه السهام ثلاثة عشر ويقسم الدار بينهم على ذلك فان
ادعاها رجلان وأقام أحدهما البينة على شراء الجميع والاخر البينة على شراء النصف ولصاحب
الجميع ثلاثة أرباع الدار لان النصف سالم له بلا منازعة ونصف النصف الآخر بالمنازعة ولصاحب
165

النصف ربعها في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما القسمة على طريق العول فتكون الدار بينهما
أثلاثا وان ادعى أحدهما الرهن والقبض والاخر الشراء بألف والقبض وأقام البينة فان
عرف الأول فهي للأول لان مدعى الرهن إذا أثبت حقه في وقت لا ينازعه الاخر فيه فشراء
الاخر بعد لا يجوز بدون اجازته وإن لم يعلم فصاحب الشراء أولى لأن الشراء أقوى من الرهن
لأن الشراء موجب الملك في البدلين والرهن لا يوجب لأن الشراء يلزم بنفسه وإن لم يتصل
به القبض والرهن لا يتم الا بالقبض والشراء يلزم من الجانبين والرهن لا يلزم في جانب
المرتهن لتمكنه من الرد متى شاء والضعف لا يظهر في مقابلة القوى فان أقام أحدهما البينة على
الشراء والاخر على الهبة والصدقة فصاحب الشراء أولى لأن الشراء عقد معارضه يلزم
بنفسه وموجب الملك في البدلين فيكون أقوى من التبرع الذي لا يتم بالقبض فان أثبت صاحب
التبرع قبضه سابقا فهو أولى لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه الاخر فيه وكذلك أن كانت
الدار في يد صاحب الصدقة ولا يدري أيهما أول فصاحب الصدقة أولى لان تمكنه من
القبض دليل سبق عقده فيكون هو أولى إلا أن يقيم صاحب الشراء البينة انه أولى وان أقام
كل واحد منهما البينة انه ارتهنها بألف ففي القياس لا يكون رهنا لواحد منهما وبهذا نأخذ
وفي الاستحسان يكون لكل واحد منهما نصفها رهنا لان كل واحد منهما أثبت الرهن منه
بالبينة والقضاء بالبينتين ممكن فان رهن الدار الواحدة من رجلين بدين لهما عليه صحيح ووجه القياس
أن الحجتين لما استوتا فلا بد من القضاء لكل واحد منهما بالنصف واثبات حكم الرهن لكل
واحد منهما في النصف شائعا غير ممكن فتبطل البينتان كما لو أقام رجلان كل واحد منهما
البينة على نكاح امرأة واحدة وأخذنا بالقياس لان وجه القياس أقوى فان في الرهن من رجلين
العقد واحد وكل واحد منهما راضي بثبوت حق صاحبه في الحبس فأمكن اثبات ملك اليد
الذي هو موجب الرهن لهما في المحل من غير شيوع بأن يجعل كأن العين كلها محبوسة بدين
كل واحد منهما ولا يتأتى ذلك هنا لان كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه بعقد على حدة
ولا يرضى كل واحد منهما بثبوت حق صاحبه معه فلا بد من القضاء لكل واحد منهما بالنصف
وان رهنها من رجلين النصف من هذا بدينه والنصف من هذا بدينه لم يجز فلهذا نأخذ
بالقياس فان ادعى أحدهما الرهن والقبض وادعى الاخر الهبة على عوض والتقابض فأقام
البينة فإنه يقضي بهذا للذي يدعى الهبة على عوض لان الهبة بشرط العوض بعد التقابض
166

بمنزلة البيع وقد بينا انه يترجح دعوى الشراء على دعوى الرهن عند تعارض الحجج ولو كانت
هبة بغير عوض قضيت بها لصاحب الرهن من قبل أنه قد نفذ ماله فيه وقد كان ينبغي في
قياس القول الذي قلنا قبل هذا أن يكون لصاحب الهبة ومعنى هذا أن صاحب الهبة في القياس
أولى لأنه يثبت ببينته مالك العين لنفسه والمرتهن لا يثبت ذلك ببينته وكل واحد من العقدين
لا يتم الا بالقبض فيترجح الموجب للملك في العين منهما وفي الاستحسان الرهن أولى لأنه
عقد ضمان فالمقبوض بحكم الرهن بما يقابله من الدين والمقبوض بحكم الهبة لا يكون مضمونا
أقوى من عقد التبرع فلهذا كانت بينة صاحب الرهن أولى وللقياس وجه آخر وهو ان
الرهن لا يرد على الهبة والهبة ترد على الرهن فإنه بعد الهبة منه لو رهنه كان باطلاق وبعد الرهن
لو وهبه من المرتهن كان صحيحا فعند التعارض يترجح الوارد لكن في الاستحسان قال لا بد من
اثبات حق المرتهن فثبوت الملك للمرهون له لا يمنع ثبوت حق المرتهن فيها فان الواهب
إذا رهن الموهوب بدينه برضاء الموهوب له حاز ولا يمكن اثبات الهبة مع ثبوت حق المرتهن
فإنه بعد الرهن لو وهب برضاء المرتهن وسلم يبطل حق المرتهن فلهذا جعلنا الرهن أولى من
الهبة وان أقام كل واحد منهما البينة أنه تصدق بها عليه وقبضها لم يقض لواحد منهما لأنه إنما
يقضي لكل واحد منهما بنصفها والهبة لا تتم في المشاع الذي يحتمل القسمة وزعم بعض أصحابنا
رحمهم الله ان هذا قول أبي حنيفة رحمه الله فاما عندهما ينبغي أن يقضى بها بينهما نصفان بمنزلة
هبة الدار من رجلين والأصح ان هذا قولهم جميعا لأنهما إنما يجوز ان ذلك عند اتحاد العقد
والاتحاد في جانب الواهب فاما إذا وهب النصف من كل واحد منهما في عقد على حدة لا يجوز
وهنا كل واحد منهما أثبت ببينته الهبة منه في عقد على حدة فلهذا لا يقضى لكل واحد منهما
بنصفها فان شهدت أحدهما انه أول فهي له لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه الاخر فيه وإن لم
يشهدوا بذلك وهي في يد أحدهما فهي لذي اليد لان تمكنه من القبض دليل سبق عقده وإذا
كانت الدار في يد ثلاثة رهط فادعى أحدهم الجميع والاخر النصف وادعى الثالث الثلثين
وليست لهم بينة فلكل واحد منهم ما في يده لان في يد كل واحد منهم ثلث الدار فدعوى كل
واحد منهم ينصرف إلى ما في يده ولان قوله مقدم فيه على قول الخارج لأنه مستحق لما في
يده باعتبار ظاهر اليد ويحلف كل واحد منهما على دعوى الاخر لان صاحب الجميع يدعى
لنفسه جميع ما في يد صاحبيه وهما ينكران ذلك وصاحب الثلثين يدعي نصف ما في يد كل
167

واحد من صاحبيه وهما ينكران ذلك فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبيه فان حلفوا
فلكل واحد منهما الثلث باعتبار يده وان نكلوا عن اليمين في دعوى صاحب الجميع وحلف
صاحب الجميع لهما فالدار كلها له لان نكولهما كاقرارهما له بذلك أو كبد لهما له ما في أيديهما
ولكن هذا إذا حلف صاحب الجميع لهما وحلف كل واحد منهما لصاحبه أيضا وان نكلوا
عن اليمين لصاحب الثلثين وحلفوا لصاحب الجميع والنصف كان لصاحب الثلثين الذي في
يده ويأخذ نصف ما في يد كل واحد من صاحبه لأنه يدعى ثلثي الدار ونصف ذلك وهو
الثلث في يده ونصفه في يد كل واحد منهما سدس الجميع وذلك نصف ما في يد كل واحد
منهما ونكولهما بمنزلة الاقرار وان نكلوا عن اليمين لصاحب النصف وحلفوا لصاحب الثلثين
وصاحب الجميع فصاحب النصف يأخذ ربع ما في يد كل واحد من صاحبيه لأنه يدعى نصف
الدار فثلثا ذلك النصف في يده والثلث في يد صاحبيه وذلك السدس في يد كل واحد منهما
نصف سدس الجميع وهو ربع الثلث الذي في يده فكل واحد منهما بالنكول صار مقرا له
بذلك وان نكل صاحب الجميع عن اليمين لصاحب النصف وحده وحلف بعضهم لبعض فصاحب
النصف يأخذ مما في يد صاحب الجميع ربع ما في يده وهو نصف سدس جميع الدار لأنه
بالنكول صار مقرا له بالقدر الذي ادعاه في يده نصف سدس جميع الدار وان قامت لهم جميعا
البينة فلصاحب النصف الثمن ولصاحب الثلثين الربع ولصاحب الجميع خمسة عشر وسهما من
أربعة وعشرين سهما في قول أبي حنيفة رحمه الله لان بينة كل واحد منهم لم تقبل فيما في يده
وتقبل فيه بينة الاخر ثم القسمة عنده على طريق المنازعة في الثلث الذي في يد صاحب النصف
تقبل فيه بينة صاحب الجميع وصاحب الثلثين ثم نصف ذلك الثلث يسلم لصاحب الجميع بلا
منازعة والنصف الآخر بينهما نصفان للمنازعة فيحتاج إلى حساب ينقسم ثلاثة أرباع وذلك اثنا
عشر فصارت سهام الدار على اثنى عشر سهما ففي يد صاحب الجميع ثلث الدار وصاحب الثلثين يدعى
نصف ذلك وصاحب النصف يدعى ربع ذلك فيقضى لكل واحد منهما بمقدار ما ادعى من
ذلك وفي يد صاحب الثلثين أربعة صاحب الجميع يدعى جميع ذلك وصاحب النصف ربع
ذلك وثلاثة أرباعه يسلم لصاحب الجميع والربع وهو سهم واحد استوت منازعتهما فيه فكان
بينهما نصفان فانكسر بالانصاف فأضعف السهام فلهذا صارت الدار سهام أربعة وعشرين في
يد كل واحد منهم ثمانية ثم سلم لصاحب الجميع ما في يد صاحب النصف ستة وما في يد صاحب
168

الثلثين سبعة وبقي له مما كان في يده سهمان فجملة ذلك خمسة عشر سهما وصاحب الثلثين أخذ
من يد صاحب النصف سهمين ومن يد صاحب الجميع أربعة فذلك ستة وهو ربع جميع
الدار وصاحب النصف أخذ من يد صاحب الجميع سهمين ومن يد صاحب الثلثين سهما فذلك
ثلاثة وهو ثمن الدار وقد بينا تخريج المسألة على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله في
كتاب الدعوى في اعتبار القسمة على طريق العول فان السهام عندهما ترتفع إلى مائة وثمانين
فلم يعد هنا كراهة التطويل وكذلك إذا لم يكن بينة ونكلوا عن اليمين فهو وما لو أقام البينة
في حكم الاستحقاق والتخريج سواء. وإذا كانت الدار في يد رجلين وعبد أحدهما والعبد
مأذون عليه دين وكل واحد منهم يدعى الدار كلها فهي بينهم أثلاثا لان المولي من كسب
عبده المديون كالأجنبي فان حق غرمائه في كسبة مقدم على حق المولى فتظهر يده في
معارضة يد المولى كيد المكاتب فإن لم يكن على العبد دين فالدار بين الحرين نصفان لان كسب
العبد هنا حق مولاه ويده من وجه كيد مولاه فلا معتبر بيده في معارضة يد المولى وإنما
يبقى المعتبر في الدار يد المولى ويد الأجنبي فهي بينهما نصفان بمنزلة ثوب ينازع فيه رجلان
وفي يد أحدهما عامة الثوب وفي يد الآخر طرف الثوب فإنه يقضى به بينهما نصفان. دار
في يد رجل يدعى رجل انه اشتراها من آخر وهو يملكها يوم باعها وأقام البينة وذو اليد
يقول ليست لي فانى أقضى بالدار للمدعى لأنه أثبت الملك لنفسه باثباته الشراء ممن كان مالكها
وذو اليد لم يخرج من خصومته بقوله ليست لي فإنه كان خصما له باعتبار يده فيها وبهذا اللفظ
لا يتبين أن يده فيها ليست بيد خصومة فقضى بالدار للمدعى إلا أن يقيم ذو اليد البينة انها عارية
في يده أو بإجارة أو بوكالة بالقيام عليها من رجل غير البائع فان أقام على ذلك بينة فلا خصومة
بينهما لأنه أثبت بان يده فيها يد حفظ لا يد خصومة وهذه مخمسة كتاب الدعوى فان جاء
المشترى ببينة ان ذلك الرجل سلطه على قبضها من هذا الساكن قبضها وقضى له بذلك لأنه
أثبت ببينته انه أحق بحفظها منه وانه ثبت له حق نقلها من يد ذي اليد إلى يد نفسه بأمر صاحبها
إياه بذلك ولو عاين ما أثبته البينة كان له حق قبضها فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة والله أعلم
(باب ما يكون بين الرجلين فيه خصومة)
(قال رحمه الله دار في يد رجل رهن والراهن غائب فادعاها رجل وأقام البينة فان أقام
169

المرتهن البينة انها رهن في يده فلا خصومة بينهما) لأنه أثبت ببينته أن يده فيها يد حفظ لا يد
خصومة فالمرهون عينه أمانة في يد المرتهن بمنزلة الوديعة ولئن كان مضمونا فهو ضمان لا
يوجب الملك له في العين بحال ولو كان مضمونا ضمانا يوجب الملك له إذا تقرر كالمغصوب لم
يكن خصما فيه لمدعى الملك فإذا كان دون ذلك أولى وكذلك لو كان المرتهن الذي الدار في يده
غائبا والراهن حاضرا فلا خصومة بينه وبين المدعى لان دعوى الملك لا تسمع في العين الأعلى
ذي اليد واليد فيها مستحقة للمرتهن وهو غائب والإجارة والعارية في ذلك كالرهن وإن لم
يقيم ذو اليد البينة على ذلك فهو خصم لظهوره يده فيها ومنفعة المدعى منها بيده فلا يخرج
من خصومته بمجرد قوله وكذلك لو قال إنها ليست لي ولم ينسبها إلى أحد فهو خصم فيها
لان بينته على هذا لا تقبل وبدون البينة لا يخرج من خصومته * يوضحه انه إنما يخرج ذو اليد
من الخصومة إذا أحال المدعى على رجل معروف يتمكن من الخصومة معه حتى لو قال هو لرجل
عارية عندي وأقام البينة على ذلك لم تندفع الخصومة عنه فلأن لا تندفع بقوله ليست لي أولى
وان أقر المدعى انها في يده بإجارة أو عارية أو رهن فلا خصومة بينهما فيها لان اقراره
ملزم إياه وقد أقر أنه ليس بخصم له وإن كان المدعى ادعى انه اشتراها من فلان وادعى ذو اليد
أن فلانا ذلك أسكنها إياه ولم يقم البينة على ذلك فلا خصومة بينهما لأنهما تصادقا على أن أصل
الملك فيها لفلان فتكون أصولها إلى يد ذي اليد من جهة فلان وفلان ذلك لو حضر لم يكن
بينه وبين ذي اليد خصومة لاقرار ذي اليد له بها عليه فكذلك لا خصومة بينه وبين من يدعى تلقى
الملك من جهة فلان إلا أن يقيم المدعى البينة أن البائع وكله بقبضها منه فإذا أقام البينة على ذلك
يجب على ذي اليد دفعها إليه لأنه أثبت البينة انه أحق بامساكها واثبات اليد عليها من ذي اليد
والعروض في جميع ما ذكر كالعقار وإذا كانت الدار بين شريكين فغاب أحدهما فادعى رجل
أنه اشترى من الغائب نصيبه لم يكن الشريك خصما له في ذلك لأنه ادعى سبب ملك جديد
بينه وبين الغائب في نصيبه والحاضر ليس بخصم عن الغائب فيما يدعى قبله ولان ذا اليد مقر أن
يده في نصيب الغائب من جهته فلا يكون خصما لمن يدعى بملكه عليه وان ادعى انه اشتراها
أو بعضها من الميت الذي ورثوها منه كان الحاضر خصما عن نفسه وعن الغائب لأنه يدعى سبب
الاستحقاق على الميت وأحد الورثة خصم عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعى على الميت
كدعوى الدين ويستوى ان كانوا قسموا الدار أو لم يقسموا لان قسمتهم في حق المدعى إذا
170

ثبت فشراؤه باطل. دار في يد رجل بشراء فاسد فادعاها آخر فالمشتري خصم فيها لان المشترى
يملك رقبتها وكل من يملك الرقبة أو يدعيها خصم له وهذا بناء على أصلنا أن الشراء الفاسد
موجب للملك بعد القبض وإنما نص على حكم الملك هنا. دار في يد رجل فادعاها آخر
وأقام كل واحد منهم البينة أنه اشتراها من يد رجل واحد والمدعى هو الأول ولم ينقد الثمن
والبائع غائب فانى أقضي بها للمدعي لان ذي اليد زعم أنها ملكه فيكون خصما فيها للمدعى
وإنما يزعم أنه يملكها من جهة البائع فيكون خصما عنه في اثبات سبب الملك عليه وقد أثبت المدعى
تقدم شرائه بالبينة فيقضى بالدار له ويستوفى منه الثمن فإن كان ذو اليد قد نقد الثمن أعطيته
الثمن قصاصا لأنه استحق الرجوع على البائع بما أدي إليه من الثمن وقد ظفر بماله من جنس
حقه فيأخذ مقدار حقه من ذلك وللقاضي أن يعينه عليه لما يثبت حق الاخذ وإن كان فيه
فضل أمسكه على البائع لأنه مال الغائب فيحفظه عليه وهذا إذا كان البائع أقر عند القاضي
بقبض الثمن من ذي اليد قبل غيبته فإن لم يكن كذلك وأقام ذو اليد البينة على أنه كان أعطاه
الثمن لم يقض القاضي بشئ لأنه يقيم البينة على الغائب ولا يقضى القاضي على الغائب بالبينة إذا
لم يحضر عنه خصم وإن كان ذو اليد لم ينقد للبائع الثمن أو كانت الدار في يده بهبة أو صدقة
دفعتها إلى المدعى لاثباته سبب الملك فيها بتاريخ سابق وأخذت الثمن منه للبائع لأنه مال
الغائب فيحفظ عليه والحاصل أن المشترى يحتاج إلى اثبات الملك على البيع ينتفع به ويتصرف
فيه ولا يتمكن من ذلك الا بنقد الثمن فالقاضي ينظر لهما فيستوفي الثمن منه لمراعاة حق الغائب
ويسلم الدار إليه ليتوصل الانتفاع بملكه. رجل باع جارية من رجل ثم غاب المشترى ولا
يدري أين هو فأقام البائع على ذلك بينة فان القاضي يسمع بينته لأنه يزعم أنه قد وجب على
القاضي النظر إليه وللمفقود في ماله فإذا أثبت ذلك بالحجة قبل القاضي ذلك منه وباع الجارية
على المشترى بطريق حفظ ملكه عليه لان عين الملك لا تبقى له بدون النفقة وحفظ الثمن أيسر
عليه من حفظ العين فإذا باعها نقد البائع الثمن لأنه ظفر بجنس حقه من مال غريمه واستوثق
منه بكفيل نظرا منه للغائب لجواز أن يكون قد استوفى الثمن وابراء المشتري من ذلك فإن كان
فيه فضل أمسك الفضل للمشتري وإن كان وضيعه فذلك على المشتري لان قبض القاضي له
الجارية كقبض المشترى إياها بنفسه فيه يتقرر عليه جميع الثمن ويطالبه البائع بمقدار الوضيعة
إذا حضر وإن كان أبرأه المشتري لم يبع القاضي الجارية لان ثبوت الولاية للقاضي بطريق
171

النظر منه لهما وذلك عند الضرورة إذا كأن لا يوقف على موضع المشترى فاما إذا كان
يعرف ذلك فالبائع متمكن من أن يبيعه ويطالبه بالثمن وملكه مضمون على البائع بالثمن فليس
للقاضي ان يبطل عليه عين ملكه لاتصال البائع إلى حقه والله أعلم بالصواب
(باب اختلاف الشهادة)
(قال رحمه الله شاهدان شهدا ان فلانا طلق امرأته فشهد أحدهما انه طلقها يوم الجمعة
بالبصرة والاخر انه طلقها في ذلك اليوم بعينه بالكوفة لم تقبل شهادتهما لأنا تيقن بكذب
أحدهما) فان الانسان في يوم واحد لا يكون بالبصرة والكوفة (ألا ترى) انه لو شهد بكل واحد
من اللفظين رجلان لم تقبل الشهادة لهذا فإذا شهد لكل واحد منهما رجل واحد أولى بخلاف
ما إذا شهد أحدهما انه طلقها بالكوفة والاخر انه طلقها بالبصرة ولم يوقتا وقتا فهناك الشهادة
تقبل لان الطلاق كلام يتكرر فلا يختلف المشهود به باختلاف الشاهدين في المكان. رجل
يدعى دارا في يد رجل انها له وشهد له بها شاهدان أحدهما بالشراء والاخر بالهبة فالشهادة
باطلة لان المدعى لابد أن يدعى أحد السببين وبه يكون مكذبا أحد الشاهدين لا محالة
ولان الهبة غير البيع وليس على واحد من السببين حجة تامة وكذلك لو شهد أحدهما بالهبة
والاخر بالصدقة أو الرهن أو الميراث أو الوصية فهو باطل للمعينين وكذلك لو شهد
أحدهما بالميراث والاخر بالوصية فهو باطل للمعينين وإذا ادعى دارا في يد رجل أنه
وهبها له وانه لم يتصدق بها عليه وأقام شاهدين على الصدقة وقال لم يهبها لي قط وقد
ادعى الهبة عند القاضي فهذا اكذاب منه لشاهديه وهو تناقض منه في الكلام فقد زعم
مرة انه لم يتصدق بها عليه ثم ادعى الصدقة بعد ذلك وزعم مرة انه وهبها له ثم قال لم
يهبها لي قط ولا تناقض أظهر من هذا ومع التناقض لا يسمع دعواه والبينة لا تقبل الا بعد
دعوى صحيحة ثم اكذاب المدعى شاهدة تخرج شهادته من أن تكون حجة له وكذلك لو
ادعى انها ميراث لم يشترها قط ثم جاء بعد ذلك فقال هي بشراء ولم ارثها قط وجاء بشاهدين
على الشراء منذ سنة فهو باطل لمعنى التناقض والا كذاب فان ادعاها هبة ولم يقل لم يتصدق
بها على قط ثم جاء بعد ذلك بشهود على الصدقة وقال لما جحدني الهبة سألته ان يتصدق بها على
ففعل أجزت هذا لأنه وفق بين كلامية بتوفيق صحيح فينعدم له الا كذاب والتناقض
172

(ألا ترى) انا لو عاينا ما أخبر به كان الملك ثابتا له بجهة الصدقة فكذلك إذا أخبر به وأثبته بالبينة
وكذلك لو قال ورثتها ثم قال جحدني الميراث فاشتريتها منه وجاء بشاهدين على الشراء لان
معنى التناقض والا كذاب انعدم بتوفيقه وهذا بخلاف ما لو كان ادعى الشراء أولا ثم جاء
بشاهدين يشهدان على أنه ورثه من أبيه لان هذا في هذا المواضع لا وجه للتوفيق لأنه لا يمكنه
أن يقول اشتريتها منه كما ادعيت ثم جحدني الشراء فورثتها من أبى وإذا اختلف شاهدا الرهن
في جنس الدين أو مقداره فالشهادة لا تقبل لا كذاب المدعى أحد الشاهدين ولان الدين مع
الرهن يتحاذيان محاذاة الثمن للمبيع ثم اختلاف الشاهدين في الثمن يمنع قبول شهادتهما على البيع
فكذلك في الرهن فان اتفقا على ذلك واختلفا في الأيام والبلدان وهما يشهدان على معاينة
القبض فالشهادة جائزة في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله استحسانا وفي القياس لا تقبل
وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وعلى الخلاف الهبة والصدقة وان شهدوا على اقرار الرهن
والواهب والمتصدق بالقبض جازت الشهادة بالاتفاق وجه القياس ان تمام هذه العقود
بالقبض والقبض فعل واختلاف الشاهدين في الوقت والزمان في الأفعال يمنع قبول الشهادة
كالغصب والقتل وهذا لان المشهود به مختف فالفعل الموجود في مكان غير الموجود في مكان
آخر بخلاف ما إذا شهدوا على الاقرار فالاقرار كلام مكرر * يوضحه انه لو شهد أحدهما بمعاينة
القبض والاخر باقرار الراهن به لم تقبل الشهادة وجعل الرهن في هذا كالغصب ولم يجعل
كالبيع فكذلك إذا اختلفا في المكان والزمان وللاستحسان وجهان أشار إلى أحد الوجهين
هنا (فقال) لان القبض قد يكون غيره مرة وأشار إلى الوجه الآخر في كتاب الرهن (فقال)
لأنه لا يكون رهنا ولا قبضا إلا باقرار الراهن ومعنى ما ذكر هنا ان القبض بحكم الرهن
فعل صورة ولكنه بمنزلة القول حكما لأنه يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول (ألا ترى) أن
المرتهن إذا قبض الرهن ثم استرده الراهن منه غصبا أو أعاره المرتهن إياه ثم قبضه منه
ثانية فهذا يكون هو القبض الأول حتى يكون مضمونا باعتبار قيمته عند القبض الأول فعرفنا
أنه مما يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلاف الشاهدين في وقته بخلاف الغصب والقتل
ولما أخذ شبها من أصلين توفر حظه عليهما (فنقول) لشبهه بالأفعال صورة إذا اختلف الشاهدان
في الانشاء والاقرار لا تقبل الشهادة ولشبهه بالأقوال حكما لا يمتنع قبول الشهادة باختلاف
الشاهدين فيه في الوقت والمكان ومعنى ما ذكر في كتاب الرهن ان حكم ضمان الرهن
173

لا يثبت الا باقرار الراهن أنه مرهون عندك بالدين فان بدون هذا القول إذا قبضه المرتهن
بغير إذن الراهن فهو غاصب وإذا سلمه الراهن إليه فهو مودع فعرفنا أن حكمه لا يثبت
الا باقرار الراهن فباعتبار حكمه جعلناه كالأقوال وجعل شهادة الشاهدين على المعاينة فيه
وشهادتهما على الاقرار به سواء فكما أن في الشهادة على الاقرار اختلافهما في الوقت والزمان
لا يمنع العمل بشهادتهما فكذلك في الشهادة على المعاينة. وإذا طلب الرجل شفعة في دار وأقام
شاهدين على الشراء واختلفا في الثمن أو في البائع فشهادتهما باطلة لاختلافهما في المشهود به
لان المدعى مكذب أحدهما لا محالة ولو اتفقا على الاقرار بالشراء من واحد بمال واختلفا
فقال إحداهما كنا جميعا في مكان كذا وقال الآخر كنا فرادى أو قال أحدهما كنا في البيت
وقال الآخر في المسجد أو قال أحدهما كان ذلك بالغداة وقال الآخر كان بالعشي فشهادتهما
جائزة لأنهما اتفقا في المشهود به وهو الاقرار واختلفا فيما لم يكلما حفظه وفعله في الوقت
والمكان فلا يقدح ذلك في شهادتهما كما لو اختلفا في الثياب التي كانت عليهما أو المراكب أو
فيمن حضرهما وبيان الوصف انهما لو سكتا عن بيان الوقت والمكان والوصف لم يسألهما القاضي
عن ذلك ولو سألهما فقالا لا نحفظ ذلك لا تبطل شهادتهما ثم ذكر بعض مسائل أدب القاضي
وروي فيه حديث الشعبي رحمه الله في كتاب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما في القضاء
وقد تقدم بيان ذلك في آداب القاضي وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من الحزم
أن يستشير أولى الرأي ثم يطيعهم وفيه دليل أنه لا ينبغي للقاضي أن يترك الاستشارة
وكذلك غير القاضي إذا حزبه أمر فالمشورة تلقيح للعقول وقد قال صلى الله عليه وسلم ما هلك
امرؤ عن مشورة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه رضي الله عنهم في
كل شئ حتى في قوت أهله وإدامهم وفيه دليل على أنه إنما استشار أولي الرأي الكامل
ويتحرز عن مشورة ناقصات العقل من النسوان وان من استشار أولى الرأي الكامل من
الرجال فعليه أن يطيعهم إذا لم يتهمهم فيما أشاروا عليه لان فائدة المشهورة لا تظهر الا بالطاعة
وإذا شهد شاهدان أن فلانا أقر أن هذا الثوب ثوب فلان وهو في يده وشهد آخر أن فلانا
الذي شهدا له أقر بها لفلان الذي شهد عليه فهو لذي اليد لان البينتين تعارضتا في الاقرار
فيها رأيا كما لو عاين الاقرارين ويبقى الثوب في يد ذي اليد مستحقا له بيده وإن كان في يدهما
فهو بينهما نصفان لاستوائهما في استحقاقه باليد. دار بين رجلين فأقام كل واحد منهما البينة
174

أن فلانا أقر له بها ووقتا فهي لصاحب الوقت الاخر ولا نسبة لهذا البيع يعنى إذا أقام كل
واحد منهما البينة أن فلانا باعها منه ووقتا فهي لصاحب الوقت الأول والفرق بينهما أن
كل واحد منهما يدعى أن وصولها إليه من جهة فلان ففي مسألة الاقرار الذي أقام البينة على
الوقت الاخر أثبت اقرار فلان بها له منذ شهر وذلك يمنع دعوى فلان الملك لنفسه فيها منذ
سنة فكذلك يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه ببينته منذ سنة باقرار فلان له بها منذ سنة
وذلك يمنع فلانا من أن يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر باقرار فلان له بها فلهذا رجحنا صاحب
الوقت الاخر وفي البيع ثبوت الشراء منذ شهر لا يمنع فلانا من دعوى الملك فيها لنفسه منذ
سنة فكذلك لا يمنع من يدعي تملكها من جهته من أن يثبت بيعها منه منذ سنة وإذا وجب
قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الاخر فيه فإنما أثبت الاخر بعد ذلك
الشراء من غير المالك وعلى هذا لو أقام البينة أنه باع هذه الدار من فلان منذ سنة وأقام
الاخر البينة منذ سنتين فهي للذي أقام البينة على سنتين لان كل واحد منهما مثبت الملك
لنفسه بإقامته البينة على تمليكها من فلان بالبيع فيترجح أسبق التاريخين لانعدام منازعة الاخر
معه في ذلك الوقت وإذا لم يوقتا فهي لذي اليد لانفاقهما على أنها مملوكة مسلمة إليه وإنما
يدعى كل واحد منهما الثمن في ذمته لنفسه وقد أثبته بالبينة وفي الذمة سعة وإذا ادعى على
رجل ألفي درهم أو ألفا وخمسمائة وشهد له شاهد بالألف والاخر بألف وخمسمائة قضى له بالألف
لاتفاق الشاهدين على الألف لفظا ومعنى فالألف وخمسمائة جملتان أحدهما معطوفة على
الأخرى فبعطف أحدهما الخمسمائة على الألف لا يخرج من أن يكون شاهدا له بألف لفظا
بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله فيما إذا شهد أحدهما بعشرة والاخر بخمسة عشر لان هناك
اختلفا في المشهود به لفظا فخمسة عشر اسم واحد لعدد (ألا ترى) أنه ليس فيه حرف العطف
فهو نظير الألف والالفين فإن كان المدعي يدعى ألفا فقد أ كذب الذي شهد على الف وخمسمائة
فلا تقبل شهادتهما له إلا أن يوفق فيقول كان أصل حقي ألفا وخمسمائة لكني استوفيت
خمسمائة أو أبرأته منها ولم يعلم به هذا الشاهد فحينئذ تقبل شهادتهما على الألف لأنه وفق
بتوفيق صحيح محتمل وان اختلفا في جنس المال فشهادتهما باطلة لان المدعى يكذب أحدهما
ولان المشهود به مختلف وليس على واحد من المالين شهادة شاهدين ولو شهدا على قتل
أو قطع أو غصب أو عمل واختلفا في الوقت أو المكان أو فيما وقع به القتل كانت الشهادة باطلة
175

لاختلافهما في المشهود به وكذلك أن شهدا أحدهما على الفعل والاخر على الاقرار به فهذا
اختلاف في المشهود به وان شهد على اقرار القائل به في وقتين مختلفين أو في مكانين مختلفين
قبلت الشهادة لان الاقرار قول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في الوقت والمكان به ولو
ادعى ثوبا في يد رجل انه رهنه منه منذ عشرة أيام فجاء بشاهدين فشهد أحدهما انه وهبه منه
منذ عشرة أيام والاخر منذ خمسة عشر يوما فالشهادة باطلة لان المدعى مكذب أحد شاهديه
وقد أقر بأنه كان مملوكا للواهب قبل عشرة أيام وذلك يمنع دعواه ما شهد به هذا من هبته منذ
خمسة عشر يوما ولو لم يوقت المدعى جازت الشهادة لأنه غير مكذب واحدا منهما والمشهود
به قول أو ما هو كالقول حكما فاختلاف الشاهدين في الوقت لا يمنع قبول الشهادة فيه. وإذا
شهد الوصي على الميت بدين أو على رجل بدين للميت فشهادته بالدين على الميت صحيحة وبالدين
للميت مردودة لأنه فيما شهد به للميت يثبت حق القبض لنفسه فيكون متهما ولا تهمة فيما
شهد به على الميت إلا أن يكون قد قضاه من التركة فحينئذ هو متهم في شهادته من حيث إنه
يقصد به اسقاط الضمان عن نفسه وإذا شهد الوصي على الميت بدين لبعض الورثة فان ذلك
جائز للكبار لخلوها عن التهمة ولا يجوز للصغار لتمكن التهمة في شهادته فحق القبض في ذلك
إليه وكذلك لو شهد لبعض الورثة على البعض بحق في شهادته للكبار جائزة وللصغار مردودة
لأنه لا يقبض للكبار شيئا وهو يقبض ما يجب للصغار فيكون في معنى الشاهد لنفسه وإذا قضى
القاضي على رجل بأرض أو دار في يديه ببينة قامت عليه بذلك ودفعها إلى المقضى له ببنائها ثم إن
المقضي له أقر ببنائها للمقضى عليه فإنه يدفع ذلك إليه باقراره ولا يكون هذا الاقرار اكذابا
منه لشهوده في الأرض لان المشهد به الأرض والبناء إنما يدخل تبعا كما يدخل في البيع تبعا
من غير ذكر وليس من ضرورة كون البناء للمشهود عليه إلا أن يكون الأرض للمدعى
كما شهد به الشهود وكذلك إن أقام المقضى عليه البينة انه قد بنى فيها هذا البناء فهو له لما بينا أنه
إنما صار مقضيا عليه بالأصل والبناء تبع في ذلك فكذلك القضاء لا يمنعه من اثبات حق نفسه
في البناء وإن كان المدعى حين أقام البينة شهد الشهود ان هذه الدار لهذا المدعي ببنائهما فأقر
هو بالبناء للمقضى عليه أبطلت الشهادة لأنه أكذب شهوده لأنهم صرحوا في شهادتهم بملك
البناء له مقصودا وقد كذبهم في ذلك والمدعي متى أكذب شاهدة في بعض ما شهد له به بطلت
شهادته في الكل كما إذا ادعى ألفا وشهد له بألف وخمسمائة وإذا وكلت امرأة رجلين بأن تزوجاها
176

ثم شهد ان الزوج طلقها ثلاثا وهي تدعى أو تنكر جازت الشهادة لخلوها عن التهمة وكذلك أن
كان عمين فزوجا ابنت أخ لهما وهي صغيرة ثم شهدا على الطلاق أو كانا أخوين لها زوجاها ثم
شهدا بالطلاق قبلت الشهادة لأنهما يثبتان الحرمة حقا لله تعالى ولا يجران إلى أنفسهما شيئا
فوجب العمل بشهادتهما والله أعلم
(كتاب الرجوع عن الشهادة)
(قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بأن أداء الشهادة بالحق مأمور به شرعا) قال الله تعالى وأقيموا
الشهادة لله أمروا به للوجوب وقال الله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا والنهى عن الاباء عند
الدعاء أمر بالحضور للأداء وقال الله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمهما فإنه آثم قلبه
واستحقاق الوعيد بترك الواجب وقال صلى الله عليه وسلم كاتم الشهادة بالحق كشاهد الزور
وشهادة الزور من الكبائر قال صلى الله عليه وسلم في خطبته أيها الناس عدلت شهادة الزور
بالاشراك بالله تعالى ثم تلا قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور
وفي هذا بيان كرامة المؤمن فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بما لا أصل له بمنزلة شهادة الكافر
على ذاته بما لا أصل له من شريك أو صاحب أو ولد وقال صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر
الكبائر قالوا نعم قال الاشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاستوى جالسا ثم قال ألا
وقول الزور فجعل يكررها حتى قلنا ليته يسكت وفي رواية سأله رجل عن الكبائر فقال صلى
الله عليه وسلم الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس بغير حق وقول الزور وفي حديث
سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشاهد بالزور لا يرفع قدميه من
مكانهما حتى تلعنه الملائكة في السماوات والأرض فيحق على كل مسلم الاجتناب عنها بجهده
والتوبة عنها متى وقع فيها خطأ أو عمدا وذلك بأن يرجع عن الشهادة وليكن رجوعه في مجلس
القضاء لأنه فسخ للشهادة التي أداها وقد اختصت الشهادة بمجلس القضاء فالرجوع عنها كذلك
وهذا لان التوبة بحسب الجريمة قال صلى الله عليه وسلم السر بالسر والعلانية بالعلانية فإذا
كانت جريمته في مجلس القضاء جهرا فلتكن توبته بالرجوع كذلك ولا يمنعه الاستحياء من
الناس وخوف اللائمة من إظهار الرجوع في مجلس القضاء فلا أن يراقب الله تعالى خيرا له من
177

أن يراقب الناس ورجوعه صحيح مقبول في حقه وإن كان مردودا فيما يرجع إلى حق غيره
حتى إذا رجع قبل القضاء لم يقض القاضي بشهادته لبطلانها بالرجوع وإذا رجع بعد القضاء لم
يبطل برجوعه حق المقضى له والأصل فيه الحديث الذي بدأ الكتاب به ورواه عن الشعبي
رحمه الله أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده
ثم آتيا بعد ذلك بآخر فقال أوهمنا إنما السارق هذا فقال علي رضي الله عنه لهما لا أصدقكما
على هذا الآخر وأضمنكما دية يد الأول ولو أتى أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما ففيه
دليل أن الرجوع عن الشهادة صحيح في حقه وانه عند الرجوع ضامن ما استحق بشهادته وانه
غير مصدق في حق غيره للتناقض في كلامه والمناقض لا قول له في حق غيره ولكن
التناقض لا يمنع إلزامه حكم كلامه ثم الشافعي رحمه الله يستدل بالحديث في فصلين أحدهما
في وجوب القصاص على الشهود إذا رجعوا بعد ما استوفى العقوبة بشهادتهم وزعموا أنهم
تعمدوا ذلك في شهادتهم وفي أن اليدين يقطعان بيد واحدة فقد قال ولو أنى أعلمكما فعلتما ذلك
عمدا قطعت أيديكما فإذا جاز قطع اليدين يقطعان بيد واحدة بطريق الشهادة فبالمباشرة أولي ولكنا
نقول هذا اللفظ منه على سبيل التهديد بدون التحقيق وقد تهدد الامام بما لا يتحقق قال
عمر رضي الله عنه ولو تقدمت في المتعة لرجمت والمتعة لا توجب الرجم بالانفاق ثم لم يكن من
علي رضي الله عنه هكذا كذبا لأنه علق بما لا طريق إليه وهو العلم بأنهما فعلا ذلك عمدا فلم يكن
هذا كذاب بهذا التعليق ويحصل المقصود وهو الزجر وهو نظير قوله تعالى بل فعله كبيرهم
هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون ثم لم يكن هذا الكلام من إبراهيم صلوات الله عليه كذبا لأنه
علقه بما لا يكون ومعناه ان كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم والدليل عليه أن من مذهب علي
رضي الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة فقد روى ذلك عنه في الكتاب فبهذا تبين أن
مراده التهديد وذكر عن حماد رحمه الله أنه كأن يقول في الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة بعد
قضاء القاضي فإنه ينظر إلى حالهما يوم رجعا فإن كان حالهما أحسن منه يوم شهدا صدقهما القاضي
في الرجوع ورد القضاء وأبطله وإن كان حالهما يوم رجعا مثل حالهما يوم شهدا دون ذلك لم
يصدقهما القاضي ولم يقبل رجوعهما ولم يضمنها شيأ وكان القضاء الأول ماضيا وبهذا كان أبو حنيفة
رحمه الله يقول أولا ثم رجع فقال لا أبطل القضاء بقولهما لاخر وإن كان أعدل منهم يوم شهدا
ولكن أضمنهما المال الذي شهدا به وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وجه قوله الأول
178

أن كل واحد من الخبرين متردد بين الصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق فيه بالعدالة
وحسن حال المخبر فإذا كانت عدالته عند الرجوع أظهر وحاله عند ذلك أحسن فرجحان
جانب الصدق في هذين الخبرين بين والظاهر أن رجوعه توبة واستدراك لما كان منه من
التفريط والقاضي يتبع الظاهر لأنه ما وراء ذلك غيب عنه وإذا كان حاله عند الرجوع دون
حاله عنه الشهادة فرجحان جانب الكذب في الرجوع أبين والظاهر أنه بالرجوع قاصد إلى
الاضرار بالمقضى له وإن كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند أداء الشهادة فعند المساواة يترجح
الأول بالسبق واتصال القضاء به فان الشئ لا ينقضه ما هو مثله أو دونه وينقضه ما هو فوقه
ولا ضمان عليه لأنه ما يتناول شيأ إنما أخبر بخبر وذلك لم يكن موجبا للاتلاف بدون القضاء
والقاضي يختار في قضائه فذلك يمنع إضافة الاتلاف إلى الشهادة فلهذا لا يضمن الشاهد شيأ
* وجه قوله الاخر أن ظاهر العدالة ترجح جانب الصدق في الخبر ولكن لا ينعدم به معنى
التناقض في الكلام وهو بالرجوع مناقض في كلامه فعدالته عند الرجوع لا تعدم التناقض
وكما أن القاضي لا يقضى بالكلام المتناقض فكذلك لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض ثم
جانب الصدق يعين في الشهادة وتأكد ذلك بقضاء القاضي في حق المقضى له فيه بتعين جانب
الكذب في الرجوع وإذا كان تهمة الكذب عند الرجوع لفسقه يمنع القاضي من ابطال
القضاء فتعين الكذب فيه بدليل شرعي لأنه يمنعه من ابطال القضاء أولى فلو أبطل القضاء
باعتبار هذا المعنى أدى إلى مالا يتناهى لأنه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع فيجب إعادة
القضاء الأول ولكن يجب الضمان عليه لإقراره عند الرجوع انه أتلف المال على المشهود
عليه بشهادته بغير حق والتناقض لا يمنع ثبوت حكم اقراره على نفسه والاتلاف وإن كان
يحصل بقضاء القاضي فسبب القضاء شهادة للشهود وإنما يحال بالحكم على أصل السبب وهذا
لان القاضي بمنزلة الملجأ من جهتهم فان بعد ظهور عدالتهم يحق عليه القضاء شرعا ثم السبب إذا
كان تعديا بمنزلة المباشرة في ايجاب ضمان المال وقد أقر بالتعدي في السبب الذي كان منهما
وبهذا السبب سلط المشهود له على مال المشهود عليه ولو تسلطا عليه باثبات اليد لأنفسهما ضمنا
فكذلك إذا سلطا الغير عليه لان وجوب الضمان للحاجة إلى الجيران ودفع الضرر والخسران
عن المتلف عليه وقد تحققت الحاجة إلى ذلك ولا يمكن ايجاب الضمان على القاضي لأنه غير متعدي
في القضاء بل هو مباشر لما فرض عليه ظاهرا فتعين الشهود لايجاب الضمان عليهم وعن إبراهيم
179

رحمه الله قال إذا شهد شاهدان على قطع يد فقضي القاضي بذلك ثم رجعا عن الشهادة فعليهما
الدية وان رجع أحدهما فعليه نصف الدية وبه نأخذ لأنهما سببا لقطع اليد بطريق هو تعدى
منهما وهو سبب معتاد في الناس فقد يقصد المرء الاضرار بغيره في نفسه أو ماله بالشهادة الباطلة
عند عجزه عن تحصيل مقصوده بالمباشرة والتسبب بهذه الصفة موجب ضمان الدية كحفر البئر
ووضع الحجر في الطريق إلا أن ضمان الدية في مالهما لان وجوبه بقولهما وهو اقرارهما على أن
فسهما عند الرجوع وقولهما ليس بحجة على العاقلة وإذا كان ضامنين للدية إذا رجعا كان
أحدهما ضامنا لنصف الدية إذا رجع لان بشهادة كل واحد منهما يقوم بنصف الحجة فببقاء
أحدهما على الشهادة تبقى الحجة في النصف أيضا فيجب على الراجح من الضمان بقدر ما
انعدمت الحجة فيه وذلك النصف وكذلك لو شهد بمال فقضى القاضي به ثم رجع أحدهما
فعليه نصف المال فان رجعا جميعا فعليهما المالك كله وهذا بخلاف ماذا رجع قبل قضاء القاضي
حتى امتنع القاضي من القضاء للمشهود له لأنهما لم يتلفا عليه شيئا مستحقا له فالشهادة قبل القضاء
لا توجب شيئا للمشهود له فاما بعد القضاء فقد اتلفا على المشهود عليه ما كان مستحقا له من
المال فيضمنان له ذلك وعن الشعبي رحمه الله ان رجلين شهدا على رجل انه طلق امرأته ثلاثا
وفرق القاضي بينهما ثم تزوجها أحد الشاهدين ثم رجع عن شهادته فلم يفرق بينهما الشعبي وبه
كان يأخذ أبو حنيفة رحمه الله وكأن يقول فرقة القاضي جائزة ظاهرا وباطنا ولا يرد القاضي
المرأة إلى زوجها برجوع الشاهدين ولا يفرق بينهما وبين الزوج الثاني إن كان هو الشاهد
وقال محمد رحمه الله لا يصدق الشاهد على ابطال شهادته الأولى ولكنه يصدق على نفسه فيفرق
بينه وبينها إن كان هو تزوجها والى هذا رجع أبو يوسف رحمه الله وأصل المسألة أن قضاء
القاضي بالمعقود والفسوخ والنكاح والطلاق والعتاق بشهادة الزور تنفذ ظاهرا وباطنا في
قول أبي حنيفة وأبى يوسف الأول رحمهما الله وفي قول أبى يوسف الاخر وهو قول محمد
والشافعي رحمهم الله ينفذ قضاؤه ظاهرا لا باطنا حتى إذا ادعى نكاح امرأة وأقام شاهدي زور
فقضي القاضي له بالنكاح وسعه أن يطأها في قول أبي حنيفة وأبى يوسف الأول رحمهما الله
ولا يحل له ذلك في قول أبى يوسف الاخر وهو قول محمد والشافعي رحمهم الله وحجتهم في
ذلك قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام فقد نهى الله تعالى
عن أكل مال الغير بالباطل محتجا بحكم الحاكم فهو تنصيص على أنه وان قضي القاضي له بالشراء
180

بشهادة الزور لا يحل له تناوله ويكون ذلك منه أكلا باطلا وقال النبي صلى الله عليه وسلم
انكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فإنما
أقضي له بقطعة من نار والمعنى فيه أن قضاءه اعتمد سببا باطلا فلا ينفذ باطنا كما إذا قضى
بشهادة العبيد أو الكفار أو المحدودين في القذف وبيان الوصف أن قضاءه اعتمد شهادة
الزور وهو سبب باطل فإنه كبير وحجة القضاء مشروعة والكبيرة ضدها وإذا كانت تهمة
الكذب تخرج الشهادة من أن تكون حجة للقضاء فحقيقة الكذب أولى ولان ما قضى به
لا كون له فيكون قضاؤه باطلا كما لو قضى بنكاح منكوحة الغير لإنسان بشهادة الزور
وبيان الوصف انه أظهر بقضائه نكاحا كان قد تقدم وإذا لم يكن بينهما نكاح فلا يتصور إظهاره
بالقضاء عرفنا أنه قضى بما لا كون له ولا يجوز أن يجعل قضاؤه ان شاء لأن ولاية الانشاء
لم تثبت له فان سبب ولايته دعوى المدعى وشهادة شهوده وهو إنما ادعى عقدا سابقا وبذلك
شهد شهوده فلا يتمكن القاضي من القضاء بما لم يدعه المدعى ولا يشهد به الشهود ولان
القاضي لم يقصد ان شاء العقد بينهما وإنما ينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده (ألا ترى)
أن قضاءه في الاملاك المرسلة لا ينفذ باطنا لهذا المعنى ولا يجعل ذلك انشاء تمليك منه وبه
فارق قضاء القاضي بالفرقة بين المتلاعنين وبيعة التركة في الدين الثابت بشهادة الزور لأنه
قصد الانشاء هنا وما ظهر عنده من الحجة يصلح للانشاء أيضا وكذلك في المجتهدات يثبت
له ولاية الانشاء بما لاح عنده من الدليل وقضاؤه ان شاء أيضا بطريق القصد منه إلى ذلك
فاما هنا إنما قصد الامضاء فلا يمكن أن يجعل منشئا (ألا ترى) ان رجلا وامرأة لو أقرا
بالنكاح وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما لم يثبت النكاح بينهما باطنا بهذا الاقرار وهما يملكان
الانشاء ولكنهما بالاقرار أظهر عقدا قد كان بينهما فلا يجعل ذلك انشاء منهما ولان المدعى
متيقن بما لو تبين القاضي به امتنع من القضاء فلا ينفذ قضاؤه في حقه وإن كان القاضي معذورا
لخفاء هذه الحقيقة عليه كما لو كانت امرأة مجوسية أو مرتدة أو منكوحة الغير أو أخته من
الرضاعة والدليل على أن قضاءه ليس بانشاء أنه لا يستدعى شرائط الانشاء من الشهود
والمهر والولي وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روى أن رجلا ادعي على امرأة نكاحا بين يدي
علي رضي الله عنه وأقام شاهدين فقضى علي رضي الله عنه بالنكاح بينهما فقالت المرأة إن لم
يكن بدا يا أمير المؤمنين فزوجني منه فإنه لا نكاح بيننا فقال علي رضي الله عنه شاهداك
181

زوجاك فقد طلبت منه أن يعفها عن الزنا بل يعقد النكاح بينهما فلم يجبها إلى ذلك ولا يقال
إنما يجبها إلى ذلك لان الزوج لم يرض بذلك لأنا نقول ليس كذلك بل الزوج راض لأنه
يدعى النكاح والمرأة رضيت أيضا حيث قالت فزوجني منه وكان يتيسر عليه ذلك فقد كان
الزوج راغبا فيها ثم لم يشتغل به وبين أن مقصودهما قد حصل بقضائه فقال شاهداك زوجاك
أي الزماني القضاء بالنكاح بينكما فثبت النكاح بقضاء وما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة بالرأي ويتبين بهذا ان
ما استدلوا به من الآية والحديث في الاملاك المرسلة وبه يقول والمعنى فيه أنه قضى بأمر
الله تعالى فيما له فيه ولاية الانشاء وقضاؤه بأمر الله تعالى يكون نافذا حقيقة لاستحالة القول
بأن يأمر الله تعالى بالقضاء ثم لا ينفذ ذلك القضاء منه وبيان الوصف انه لما تفحص عن أحوال
الشهود وزكوا عنده سرا وعلانية وجب عليه القضاء بشهادتهم حتى لو امتنع من ذلك يأثم
ويخرج ويعزل ويعذر فعرفنا أنه صار مأمورا بالقضاء وهذا لأنه لا طريق له إلى معرفة حقيقة
الصدق والكذب من الشهادة لان الله تعالى لم يجعل لنا طريقا إلى معرفة حقيقة الصدق من
خبر من هو غير معصوم عن الكذب ولا يتوجه عليه شرعا لوقوف على مالا طريق له إلى
معرفته لان التكليف بحسب الوسع والذي في وسعه التعرف عن أحوال الشهود فان استقصى
ذلك غاية الاستقصاء فقد أتى بما في وسعه وصار مأمورا بالقضاء لان ما وراء هذا ساقط عنه
باعتبار أنه ليس في وسعه ثم إنما يتوجه عليه الامر بحسب الامكان والمأمور به أن يجعلها بقضائه
زوجته فلذلك طريقان إظهار نكاح إن كان وان شاء عقد بينهما فإذا لم يسبق منهما عقد تعذر
إظهاره بالقضاء فيتعين الانشاء إذا ليس هنا طريق آخر فيثبت له ولاية الانشاء بهذا النوع
من الدليل الشرعي ويجعل انشاءه كانشاء الخصمين فيثبت الحل به بينهما حقيقة بل قضاؤه أولي
وأقوى من انشاء الخصمين عن اتفاق (ألا ترى) أن في المجتهدات صفة اللزوم يثبت بانشاء
القاضي ولا يثبت بانشاء الخصمين فعرفنا ان قضاءه أقوى من انشاء الخصمين وشرط صحة
الانشاء الشهادة والمحل القابل له ولا شك ان المحل شرط حتى إذا كانت المرأة منكوحة الغير
أو محرمة عليه بسبب لا ينفذ قضاؤه لانعدام المحل فكذلك الشهادة شرطه إلا أن مجلس
القضاء لا يخلو عن شاهدين فلهذا لم يذكر الشهادة فاما الولي ليس بشرط عندنا ولا حاجة إلى
ذكر المهر ويجب هذا التحقيق حكمه بالغة وهو أن لا يجتمع رجلان على امرأة واحدة أحدهما
182

بنكاح ظاهر له والاخر بنكاح باطن له ففي ذلك من القبح مالا يخفى والدين مصون عن
مثل هذا القبح ولا يكون القاضي بقضائه ممكنا من الزنا ففيه من الفساد مالا يخفى وإذا كان
يثبت له ولاية إنشاء التفريق بين المتلاعنين وبين امرأته لنفيها به عن الزنا ويثبت له ولاية
تزويج الصغير والصغيرة لمعنى النظر لهما فلان يثبت له ولاية انعقاد العقد هنا لنفيها به عن
الزنا ويصون قضاؤه به عن التمكين من الزنا أولى وكذلك يثبت له ولاية انشاء التفريق بين
المتلاعنين لقطع المنازعة مع يقينه بكذب أحدهما كما قال صلى الله عليه وسلم الله يعلم أن أحدكما
لكاذب فكذلك يثبت له ولاية الانشاء مع كذب الشهود لتوجه الامر بالقضاء عليه شرعا
وأمر القبلة على هذا فإنه لما توجه عليه الامر بالصلاة إلى جهة القبلة وأتى بما في وسعه في طلب
القبلة يثبت له ولاية نسب القبلة حتى أن الجهة التي أدى إليها اجتهاده تنتصب قبلة في حقه
فتجوز صلاته إليها وان تبين له الخطاء بعد ذلك وبهذا يتبين فساد ما قالوا إن المدعى عالم بما
لو علمه القاضي امتنع من القضاء ففي اللعان الكاذب منهما عالم بما لو علمه القاضي امتنع من
التفريق ومع ذلك نفذ القضاء في حقه لتوجه الامر على القاضي وتوجه الامر بالانقياد واتباع
أمر القاضي في حق الناس وهذا بخلاف ما إذا ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون
في قذف فان هذه أسباب يمكن الوقوف عليها عند الاستقصاء ولكن ربما يلحقه الحرج في ذلك
فللحرج تعذر بترك الاستقصاء ولكن لم يسقط الخطاب بإصابتها حقيقة فلا يتوجه الامر
بالقضاء بدونها حقيقة فاما حقيقة الصدق فلا طريق إلى الوقوف عليه والامر بالقضاء يتوجه
بدونه وهو بمنزلة ما لو توضأ بماء أو صلى في ثوب لم يتبين أنه كان نجسا فإنه يلزمه الإعادة لهذا
المعنى أو هو بمنزلة ما لو قضى باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه فاما الاملاك المرسلة فليس للقاضي
هناك ولاية الانشاء لان تمليك المال من الغير بغير سبب ليس فيه ولاية القاضي ولا لصاحب
المال أيضا وفي أسباب تمليك المال كثرة فلا يمكن تعيين شئ منها فعرفنا انه ليس له في ذلك
الموضع إلا ولاية إظهار الملك فإذا لم يكن هناك ملك سابق فلا تصور لاظهاره بالقضاء
والتكليف بحسب الوسع فبهذا تبين انه لم يكن مأمورا بالقضاء باطنا فاما هنا له ولاية الانشاء
وطريقه متعين من الوجه الذي قلنا فباعتبار * يصير مأمورا بالقضاء بالنكاح بينهما حقيقة *
يوضحه ان هناك القاضي لا يقول للمدعى ملكتك هذا المال وإنما يقصر يد المدعى عليه عن
المال ويأمره بالتسليم إليه ليأخذه على أنه ملكه كما يدعيه وقضاؤه بهذا نافذ فأما هنا نقول قضيت
183

بالنكاح بينكما وجعلتها زوجة لك فينبغي ان يثبت النكاح بينهما بقضائه إذا عرفنا هذا فنقول
إذا ادعت المرأة ان زوجها طلقها ثلاثا وأقامت على ذلك شاهدي زور فقضى القاضي بالفرقة
بينهما فتزوجها أحد الشاهدين بعد انقضاء العدة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحل للثاني أن
يطأها ولا يحل للأول ذلك لان الفرقة وقعت بينهما وبين الأول حقيقة وصح النكاح بينهما
وبين الثاني بعد انقضاء العدة وعلى قول أبى يوسف رحمه الله ليس للأول ان يطأها لقضاء القاضي
بالفرقة بينهما وكيف يطؤها ولو فعل ذلك كان زانيا عند القاضي وعند الناس فلا يجوز للمرء أن
يعرض نفسه لهذه التهمة ولا يحل للثاني ان يطأها لأنه يعلم أنها منكوحة الغير وانه كان كاذبا
فيما يشهد به من الطلاق وذلك كان كبيرة منه فلا يحل له ما كان حراما عليه وقال محمد رحمه
الله ليس للثاني ان يطأها لهذا ويحل للأول ان يطأها ما لم يدخل بها الثاني فإذا دخل بها الثاني
لا يحل للأول ان يطأها بعد ذلك لوجوب العدة عليها من الثاني بالوطئ بالشبهة والمنكوحة إذا
وجبت عليها العدة من غير الزوج حرم على الزوج وطؤها وقال الشافعي رحمه الله لا يجب
عليها العدة من الثاني لأنهما زانيان في هذا الوطئ يعلمان حقيقة الامر فهو يقول يطؤها الأول
سرا بنكاح باطن له والثاني علانية بنكاح ظاهر له وهذا قبيح فإنه يودي إلى اجتماع رجلين على
امرأة واحدة في طهر واحد وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلا أنهم يقولون
معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ونحن ننهى كل واحد عن مثل هذا التلبيس وهو نظير
ما يقولون فيما إذا كان ادعى جارية في يد رجل أنها له وقضى القاضي له بشهادة شاهدي زور فإنها
في الباطن مملوكة للأول يطؤها سرا وفي الظاهر مملوكة للثاني يطؤها علانية وهذا القبح يتقرر
فيه ولكن معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ثم التمكن من هذا الظاهر يلتبس والناس
أطور وقليل منهم الشكور وما ذهب إليه أبو يوسف فيه نوع ضرر أيضا فان المرأة تبقى معلقة
لا ذات بعل ولا مطلقة إذ هي لا يحل للأول ولا للثاني وليس لها أن تتزوج بزوج آخر
ولدفع هذا الضرر أمر الشرع بالتفريق بين العنين وامرأته فعرفنا أن الوجه بطريق الفقه
ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله واتبع فيه عليا رضي الله عنه وان قضاء القاضي ينفذ وأنها
تحل بالنكاح للثاني رجل ادعى على رجل أنه باع منه جاريته هذه بألف درهم والمشترى
يجحد ذلك فاقا عليه شاهدين فالزمه القاضي البيع والمشترى يعلم أنه لم يشترها منه ثم رجعا
عن شهادتهما لم يصدقا على نقض البيع لان شهادتهما ما تأذت بحكم الحاكم وتناقض كلامهما
184

في الرجوع ولا ضمان عليهما لأنهما أتلفا على المشترى الثمن بعوض يعدله وهو الجارية فان
ماليتها مثل مالية الثمن والاتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتلف لان وجوب الضمان
للجبران والنقصان هنا منجبر بعوض يعدله المشترى في حل من وطئها في قول أبي حنيفة
رحمه الله لان القاضي له ولاية الانشاء في البيوع فإنه يبيع التركة في الدين ويبيع مال اليتيم
والغائب لمعنى النظر فيكون قضاؤه كانشاء البيع لمعنى النظر للخصمين في ذلك وفي قول أبى
يوسف الاخر وهو قول محمد رحمه الله لا يحل له أن يطأها لا ن قضاءه امضاء لبيع كان
فإذا لم يكن بينهما بيع كان باطلا في الباطن. وإذا شهد شاهدان على رجل انه قذف امرأته
بالزنا والرجل يعلم أنهما شهدا بباطل فأمره القاضي بان يلتعن هو وامرأته وفرق بينهما لم يسع
للزوج أن يطأها ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك أما عند أبي حنيفة رحمه الله
ظاهر وعندهما لان للقاضي هنا انشاء التفريق بينهما فينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده
وقد بينا نظيره في بيع التركة في دين ثبت بشهادة الزور قال (ألا ترى) أن الزوج لو
قذفها وهو يعلم أنه كاذب فكره أن يكذب نفسه فلا عن القاضي بينهما وفرق لم يسع الزوج
أن يطأها وإن كان يعلم أنها لم تزن ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك وان كانت تعلم
أن الزوج كاذب فيما رماها به لما أن للقاضي انشاء التفريق وهو قضاء منه في موضعه لولاية
التفريق له بسبب اللعان عند اشتباه الحال حتى إذا كان الحال معلوما لا يفرق بينهما فالاشتباه
لا يؤثر في المنع من نفوذ قضائه على الوجه الذي قصده في اللعان وأبو حنيفة رحمه الله يقول
في هذا كله بعد قضائه لأنه مأمور باتباع الظاهر وما سوى ذلك مما لا طريق له إلى معرفته
ساقط عنه (ألا ترى) أنه لو خلا بامرأته ولم يدخل بها ثم طلقها وأقرت هي بذلك أن لها المهر
كاملا يسعها أن تأخذه وان كانت قد علمت أن الزوج لم يقربها ولكن لما سقط عنها ما ليس
في وسعها وأتت بما عليها من التسليم تقرر حقها في المهر ولزمها العقد فلا يسعها أن تتزوج
قبل انقضاء عدتها ولا يسع الزوج أن يتزوج أختها في عدتها فيه يتضح مما سبق من فصول
اللعان والشهادة. وكذلك لو قذف امرأته بالزنا وهو صادق فجحدته المرأة ولا عن القاضي
بينهما وفرق وانقضت عدتها فهي في سعة من أن تتزوج غيره وله أن يتزوج أختها
وان كانا يعلمان من زناها ما لو علمه القاضي لم يفرق بينهما. وإذا شهد شاهدان على رجل انه
أعتق أمته هذه فأجاز القاضي ذلك وأعتقها وتزوجت ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمتها للمولى
185

لان ملك المولى فيها كان مالا متقوما وقد أبطلا ذلك بشهادتهما فإذا زعما بالرجوع أنهما أتلفاه
بغير حق صدقا على أنفسهما وضمنا قيمتها للمولى ولم يسع المولى وطؤها لأنها عتقت بحكم الحاكم
ومن ضرورة سلامة الضمان للمولى أن لا تبقى هي على ملكه وبدون ملك الرقبة لا يثبت له عليها
ملك الحل بغير سبب. ولو أن صبيا وصبية سبيا وكبرا وعتقا وتزوج أحدهما الأخرى ثم
جاء حربي مسلما وأقام بينة أنهما ولداه فقضى القاضي بذلك وفرق بينهما ثم رجعا عن شهادتهما
لم يقبل رجوعهما ولا يسع الزوج ان يطأها وان علم أنهما شهدا بزور وكيف يطؤها وقد جعلها
القاضي أخته ولم يضمن الشاهدان شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يضمنان له مهر مثلها
وهذا بناء على أصل نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وهو ان البضع عند خروجه من ملك
الزوج لا يتقوم عندنا فلم يتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وعند الشافعي رحمه الله يتقوم بمهر
المثل عند خروجه من ملكه كما يتقوم عند دخوله في ملكه. ولو كانت صبية في يدي رجل
يزعم أنها أمته فشهد شاهدان أنه أقر أنها ابنته فقضى بذلك القاضي لم يسع المولي ان يطأها
وان علم أنهما شهدا زور لان القاضي حكم بأنها ابنته فان رجعا ضمنا قيمتها لأنهما أقرا بالرجوع
انهما أتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وهو ملكه في رقبتهما ولو ماتت وتركت ميراثا وسعه أن
يأكل ميراثها. وكذلك لو مات الأب كانت في سعة من أكل ميراثه أما في جانبها فهو واضح
لأنه لا علم لها بحقيقة الامر فحالة العلوق غيب عنها وفي مثله عليها اتباع قضاء القاضي فيسعها أن
تأكل ميراثه وأما في جانبه فهو مشكل لان الميراث والنسب مما ليس للقاضي فيه ولاية الانشاء
وهو يعلم أنها ليست بابنته حقيقة فينبغي أن لا يسعه أن يأكل ميراثها حتى قيل تأويله أنه يأكل
ميراثها بسبب الولاء لان القاضي قضى بالعتق وله فيه ولاية الانشاء فيثبت الولاء له والأصح
أن يقال لما كان للقاضي ولاية الانشاء في قطع النسب باللعان فكذلك له ولاية الانشاء في القضاء
بالنسب إذا صادف محله فقد صادف محله وهنا فإنه ليس لها نسب معروف فلهذا يسعه أن يأكل
ميراثها ولو شهدا على مال فقضى به القاضي فقبضه أو لم يقبضه ثم رجعا ضمنا المال إذا أخذه
المقضى له من المقضي عليه وقبل الاخذ لا يضمنها المقضى عليه شيئا لان تحقق النقصان عند
تسليم المال إلى المقضى له فاما ما بقيت يده على ماله فلا يتحقق الخسران في حقه ولأن الضمان
مقدر بالمثل وهما أتلفا عليه دينا حين ألزماه ذلك بشهادتهما فلو ضمنها عينا قبل الأداء كان
قد استوفى منهما عينا مماثلة الدين ولا مماثلة بين العين والدين وفي الأعيان يثبت الملك للمقضى
186

له بقضاء القاضي ولكن المقضى عليه يزعم أن ذلك باطل لان الملك في يده ملكه فلا يكون له
أن يضمن الشاهدين شيأ ما لم يخرج المال من يده بقضاء القاضي وكذلك هذا في العقار فان
بالشهادة الباطلة يضمن العقار كالمنقول لان فيها اتلاف الملك واليد على المقضى عليه والعقار
يضمن بمثل هذا السبب فان اتلاف الملك يتحقق فيها بخلاف الغصب على قول من يقول
العقار لا يضمن بالغصب ولو شهد ثلاثة نفر على رجل بمال وقضي به القاضي ثم رجع أحدهم
لم يضمن شيأ لان الأصل في ضمان الرجوع انه يعتبر بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من
رجع وقد بقي على الشهادة حجة تامة فلا يضمن الراجع شيأ وهذا لان الراجع وان زعم أنه
متلف بشهادته عليه فما أتلفه يستحق عليه بشهادة غيره واستحقاق ذلك عليه بالحجة يمنعه من
الرجوع على على المتلف بالضمان كمن مال انسان أو أتلفه ثم استحق رجل ذلك المال
بالبينة فلا ضمان للمتلف عليه إذا لم يضمنه المستحق شيأ. ولو رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال لأنه
لقي على الشهادة لم يثبت نصف المال بشهادته وإنما انعدمت الحجة في النصف خاصة فيضمن
الراجحان ذلك. ولو شهد رجل وامرأتان ثم رجعت امرأة فعليها ربع المال لان الثابت
بشهادتها ربع المال ولأنه قد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المال فعلى الراجع
ربع المال وان رجعت المرأتان فعليهما النصف وان رجع الرجل وحده فعليه نصف المال
وان رجع رجل وامرأة فعليهما ثلاثة أرباع المال على الرجل النصف وعلى المرأة الربع وان
رجعوا جميعا فعلي الرجل نصف المال وعلى المرأتين النصف لان الثابت بشهادة الرجل مثل
ما ثبت بشهادة المرأتين فقد قامتا في الشهادة مقام رجل واحد كما قال صلى الله عليه وسلم في
نقصان عقل النساء عدلت شهادة اثنتين منهن شهادة رجل. فان شهد رجل وعشر نسوة فقضي
القاضي ثم رجعوا جميعا فعلى الرجل سدس المال وعلى النساء خمسة أسداس المال في قول أبي حنيفة
رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على الرجل النصف وعلى النساء النصف
لأن النساء وان كثرن في الشهادة لا يقمن الا مقام رجل واحد (ألا ترى) أن الحجة لا تتم
ما لم يشهد معهم رجل فكان الثابت بشهادته نصف المال وبشهادتهن نصف المال * يوضحه
أن الرجل متعين في هذه الشهادة للقيام بنصف الحجة ولهذا لا تتم الحجة الا بوجوده فلا
يتغير هذا الحكم بكثرة النساء وإذا ثبت نصف الحق بشهادته ضمن ذلك عند الرجوع
والنصف الآخر يثبت بشهادة النساء فعليهن ضمانه عند الرجوع وأبو حنيفة رحمه الله يقول كل
187

امرأتين في الشهادة يقومان مقام الرجل الواحد فعشر نسوة بخمسة من الرجال وهذه المسألة
بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجعوا فيكون الضمان عليهم أسداسا ودليل صحة هذا
الكلام أن حكم الشهادة كحكم الميراث وفي الميراث عند كثرة البنات مع الابن يجعل كل
اثنتين كابن واحد ولم يجعل حالة الاختلاط كحالة انفراد البنات فعند الانفراد لا يزاد لهن
على الثلثين ثم عند الاختلاط يجعل كل اثنتين كابن فكذلك في الشهادة وهذا لان النقصان على
أدنى العدد في الشهادة يمنع القضاء فاما الزيادة على النصاب معتبر في أن القضاء يكون بشهادة
الكل فبكثرة النساء عند. وجود الرجل يزداد النصاب ويكون القضاء بشهادة الكل على أن
كل امرأتين كرجل واحد فعند الرجوع كذلك يقضى بالضمان ولو رجع ثمان نسوة لم يكن
عليهم شئ لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت الاستحقاق بشهادته وهو رجل وامرأتان
فان رجعت امرأة بعد ذلك كان عليها وعلى الثمان ربع المال لان الحجة إنما بقيت في ثلاثة أرباع
الحق فيجب الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وليس البعض بأولى من البعض في وجوب
ذلك عليه فلهذا ضمن التسع ربع المال عليهن بالسوية وان رجعت العاشرة فعليها وعلى التسع
نصف المال أما عندهما ظاهر لان الثابت بشهادتهن نصف المال وعند أبي حنيفة رحمه الله لأنه
بقي على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته بمنزلة ما لو شهد ستة من الرجال ثم رجع خمسة
ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا كان الضمان على الرجلين دون المرأة لأن المرأة
الواحدة لا تكون شاهدة فان المرأتين شاهد واحد فالمرأة الواحدة شطر العلة في كونها
شاهدا وبشطر العلة لا يثبت شئ من الحكم فكان القضاء بشهادة رجلين دون المرأة فلا
يضمن عند الرجوع شيأ. ولو شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع رجل وامرأة ضمن الرجل
نصف المال لان الحجة بقيت في نصف المال فقد بقي امرأتان على الشهادة ثم هذا النصف
عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على الرجل خاصة لما بينا أن عندهما نصف المال متعين في
أنه ثابت بشهادة الرجل ونصف ثابت بشهادة النساء وقد بقي من النساء على الشهادة من
يثبت نصف المال بشهادته فعرفنا أن الحجة انعدمت في النصف الذي هو ثابت بشهادة
الرجل خاصة فيكون الضمان عليه دون المرأة وينبغي في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله
أن يكون النصف أثلاثا على الرجل والمرأة لان القضاء هنا بشهادة الكل فكل امرأة منهن
إذا ضمتها إلى الأخرى كانتا شاهدا فلا يكون القضاء محالا به على شهادة البعض دون البعض
188

وقد بقيت الحجة في نصنف الحق فيجب ضمان نصف الحق على الراجعين أثلاثا لان الثابت
بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة ولو رجعوا جميعا كان على الرجل النصف وعلى
النسوة النصف في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وفي قول أبي حنيفة رحمه الله على الرجل
خمسا المال وعلى النسوة ثلاثة أخماسه كما ذكرنا في الفصل الأول. وإذا شهد رجلان وامرأتان
ثم رجعوا فالضمان أثلاث لان المرأتين قامتا مقام رجل واحد فكأنه شهد ثلاثة بالمال ثم رجعوا
وإذا شهد شاهدان بمال قضى به القاضي ثم ادعى المشهود عليه أنهما رجعا وأراد يمينها فلا
يمين عليهما في ذلك ولا تقبل عليهما به بينة لأنه ادعى عليهما رجوعا باطلا لما بينا أن الرجوع
فسخ للشهادة فيختص بمجلس الحكم كالشهادة فلما ان شهادتهما في غير مجلس القاضي باطلة
فكذلك رجوعهما والحدود والقصاص في هذا كالأموال. وإذا رجعا عن شهادتهما وأشهدا
بالمال على أنفسهما من قبل الرجوع ثم جحدا ذلك فشهدت عليهما شهود بالمال عليهما قبل الرجوع
والضمان لم يقبل ذلك لان الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فإنما أشهدا على أنفسهما بالمال
بسبب باطل وذلك لا يلزمهما شئ وكذلك لو شهدوا على زنا واحصان فرجمه القاضي بذلك
ثم أشهد الشهود عليهم بالرجوع لم يكن عليهم بالرجوع حد ولا ضمان لأنهم بالرجوع ما صاروا
قاذفين له ولكن الشهادة تنفسخ بالرجوع فيصير كلام الشاهدين قذفا عند ذلك وفسخ الشهادة
بالرجوع مختص بمجلس الحكم (قال) ولو أوجبت عليهما الحد لأوجبت عليهما الضمان وقد بينا
أنهم لا يضمنون بالرجوع في غير مجلس الحكم فلا يجدون أيضا وإذا لم يقض القاضي بشهادة
شاهدين حتى رجعا عنها لم يقض بها لان القضاء يستدعى قيام الحجة عنده ولم تبق الحجة حين رجعا
ولان شهادتهما تتأكد بالقضاء فبالرجوع قبل التأكد يبطل بحيث لا يبقى له أثر ولا ضمان عليهما
لأنهما لم يتلفا شيئا على أحد أما المشهود عليه فقد بقي المال على ملكه وأما المشهود له فلم يثبت
له استحقاق قبل القضاء. ولو اشترى رجل دارا بألف درهم وهي قيمتها ونقده الثمن فشهد
شاهدان أن هذا الرجل شفيعها وان هذه الدار التي هي في يديه ملزقة بداره فقضى القاضي له
بالشفعة ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما أتلفا على المشترى ملكه فيها بعوض يعد له وهو
الثمن الذي أخذه من الشفيع فإن كان المشترى قد بنا فيها بناء فأمره القاضي بنقضه ضمن الشاهدان
له قيمة بنائه لأنه كان مستحقا لقرار البناء بملكه الدار وقد شهد أن الشفيع أحق بملكها منه
فكانا متلفين للبناء عليه فيضمنان له قيمة البناء مبنيا ويكون النقض لهما بالضمان بمنزلة ما لم
189

هدماه بأيديهما وإذا رجع الشاهدان عن شهادة شهدا بها عند غير القاضي الذي شهدا عنده
فإنه يقضي عليهما بالضمان لان شرط صحة الرجوع مجلس القاضي لا مجلس ذلك القاضي الذي
شهدا عنده فرجوعهما في مجلس القاضي الاخر كرجوعهم في مجلس القاضي الذي شهدا
عنده أرأيت لو مات الأول أو عزل فرجع في مجلس القاضي الذي قام مقامه أليس يقضى عليهما
بالضمان فكذلك إذا رجعا في مجلس القاضي الاخر فان قضى بذلك عليهما فلم يؤديا حتى
تخاصمها إلى القاضي الذي شهدا عنده أول مرة وجحدا الرجوع فقامت عليهما البينة بالرجوع
وبقضاء القاضي عليهما بالضمان فإنه ينفذ ذلك عليهما ويضمنها المال لان المدعى أثبت المال
عليهما بالحجة بسبب صحيح فيضمنهما المال به وكذلك لو رجعا عند القاضي الذي شهدا عنده
فيضمنهما ذلك ثم اختصموا إلى غيره وكذلك لو شهد عليهما شاهدان باقرارهما انهما رجعا عند
قاضي من القضاة وانه ضمنهما ذلك فالثابت من اقرارهما بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو سمع القاضي
اقرارهما بذلك ضمنها المال فكذلك إذا أثبت المدعى ذلك بالحجة ولو رجع عند غير قاض
وضمنهما المال وكتابه على أنفسهما صكا وبسبب المال إلى الوجه الذي هو له منه ثم جحدا
ذلك عند القاضي لم يقض بذلك عليهما لأنهما كتاب على أنفسهما الصك بمال بسبب باطل وهو
رجوعهما عند غير القاضي وكذلك لو أقر بذلك ضمنهما المال فكذلك إذا أثبت المدعي ذلك
بالحجة ولو رجعا عند غير قاض وضمنهما المال على الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند
القاضي لم يقض بذلك عليهما لأنهما كتبا على أنفسهما الصك بسبب باطل وهو رجوعهما
عند غير القاضي وكذلك لو أقر بذلك عند صاحب الشرط أو عامل كورة ليس القضاء إليه
لان الرجوع معتبر بالشهادة فكما أن الشهادة عند هؤلاء كالشهادة عند غيرهم من الرعايا
فكذلك الرجوع. وإذا شهدا على رجل انه باع عبده هذا من فلان بألف درهم والبائع يجحد
والمشترى يدعى ثم رجعا عن الشهادة فإن كانت قيمة العبد ألف درهم أو أقل فلا ضمان على
الشاهدين لأنهما أدخلا في ملك البائع ما يعدل ما أخرجاه عن ملكه أو يزيد عليه وهو الثمن
الذي استوفاه من المشترى وان كانت قيمة العبد أكثر من ألف ضمنا الفضل لأنهما أتلفا
الفضل عليه بغير عوض يعد له والبعض معتبر بالكل وكذلك كل بيع أو صرف شهدا
به وان اخر المقضى عليه الضمان عنهما جاز لان هذا تأجيل دين واجب في الذمة وهو وسائر
الديون سواء ثم إذا أجل رب الدين للمدين صح هذا التأجيل فكذا هنا ولان الواجب عليهما
190

ليس ببدل الصرف وإنما هو بدل الغصب أو مال مستهلك وقد تقدم بيان صحة التأجيل به
وإذا كان لرجل على رجل دين فشهد شاهدان أنه وهبه أو تصدق به عليه أو أبرأه منه أو
حلله أو أوفاه ثم رجع ضمنا المال لأنهما أتلفا عليه المال بشهادتهما فان (قيل) قد أتلفا عليه الدين
فكيف يضمنا له العين (قلنا) قد أتلفا عليه دينا يتعين بالقبض فيضمنان له مثل ذلك دينا في
ذمتهما يتعين بالقبض منهما. وان شهدا أنه أجله سنة فقضى بذلك ثم رجع قبل الحل أو بعده
ضمنا المال للطالب لأنهما فوتا عليه حق القبض بالشهادة بالتأجيل إلى انقضاء الأجل وذلك
موجب للضمان عليهما وهذا لان التأجيل في الحكم كالابراء (ألا ترى) أن المريض إذا أجل في
دين له يعتبر خروجه من الثلث كما لو أبرأ ثم هذا يتضح في رجوعهما قبل حل الاجل وكذلك
لو رجعا بعد حل الاجل لأن الضمان عليهما عند الرجوع بالشهادة لا بالرجوع فالاتلاف بالشهادة
يحصل وإذا صار ضامنين بها لا يسقط الضمان عنهما بحلول الاجل كالوكيل بالبيع بثمن حال إذا
باع ثمن حال ثم أجل عن المشترى كان ضامنا للموكل قبل حلول الأجل وبعده لهذا المعنى ولان
الضامن كان ضامنا للموكل قبل حلول الأجل وبعده ولأن الضمان إنما وجب عليهما بسبب
الاتلاف لما بينا أنهما بشهادتهما فوتا عليه حق القبض وبحلول الاجل لم يتبين أن ذلك لم
يكن اتلافا فلهذا كان له حق الرجوع عليهما وكان الخيار له ان شاء أخذ المطلوب وان شاء
أخذ الشاهد فإذا أخذ الشاهد كان لهما حق الرجوع به على المطلوب إلى أجله لأنهما ملكا
ذلك المال بالضمان في ذمة المطلوب ولان الطالب حين ضمنهما فقد أقامهما مقام نفسه في
الرجوع على المطلوب فان لوى على المطلوب برئ من الشاهدين لأنهما قاما في ذلك مقام
الطالب لو اختار الرجوع على المطلوب ولا يكون لهما حق الرجوع على الطالب لأنهما قاما
مقامه ثم إذا أدي للطالب لا يكون له حق الرجوع على أحد فكذلك للذي قام مقامه بخلاف
الحوالة فإنه إذا نوى المال على المحتال عليه يرجع به على المحيل لان تحول الحق إلى ذمة المحتال
عليه كان بشرط سلامة المال للطالب من المحتال عليه فإذا لم يسلم عاد إلى ذمة المحيل وهنا أصل
المال صار للشاهدين بالضمان مطلقا فان خرجا كانا لهما وان نوى كانا عليهما لأنهما قاما في ذلك
مقام الطالب. ولو شهدا على رجل انه وهب عبده لهذا الرجل وقبضه وقضى القاضي بشهادتهما
ثم رجعا ضمنا قيمة العبد لأنهما أتلفا ملكه بغير عوض ولا رجوع للمولى في الهبة إذا أخذ
القيمة اما لان القيمة عوض له من هبته أو لان يزعم أنه ملك العبد من الشاهدين بما أخذ
191

منهما من الضمان فلا سبيل له على الموهوب له ولا للشاهدين لان رجوعهما فيما يرجع إلى
ابطال قضاء القاضي باطل والقاضي بقضائه جعل العبد هبة للموهوب له من جهة المقضي
عليه لامن جهة الشاهدين وليس لغير الواهب حق الرجوع في الهبة ولو لم يضمن المقضى عليه
للشاهدين فله الرجوع في العبد بقضاء القاضي لأنه هو الواهب للعبد بحكم القاضي وللواهب
ان يرجع في الهبة ما لم يصل إليه العوض فان (قيل) فإذا ضمن الشاهدان القيمة ينبغي أن يكون لهما
حق الرجوع في الهبة باعتبار أنهما قاما مقام الواهب في ذلك كما في مسألة الدين (قلنا) الدين في
الذمة مال وهو يحتمل التمليك بعوض ولهذا جاز الاستبدال بالدين مع من عليه الدين فيمكن ان
يجعل مملكا ولك من الشاهدين بما استوفي فاما في حق الرجوع في الهبة ليس بمال متحمل
للاعتياض فيه فلا يكون مملكا ذلك من الشهود بالرجوع عليهما بالضمان ولا يمكن اثبات حق
الرجوع لهما باعتبار أنهما يقومان مقامه لأنه بعد ما وصل إليه العوض لا يكون له حق الرجوع
في الهبة فلا يكون ذلك لمن قام مقامه أيضا ولو شهدا على عبد في يد رجل انه لهذا الرجل فقضى
له به وهو أبيض العين ثم ذهب البياض عنه وازداد خيرا أو مات عند المقضي له ثم رجعا عن
شهادتهما ضمنا قيمته ثم قضى به ولا يلتفت إلى ما كان فيه بعد ذلك من زيادة أو نقصان لان
وجوب الضمان عليهما بالاتلاف بسبب الشهادة ففي القضاء بالضمان يعتبر القيمة وقت الشهادة
كما في المغصوب والمستهلك والقول قولهما في القيمة لأن الضمان يجب عليهما فالقول في مقداره
قولهما ولو شهدا على رجل انه وكل هذا الرجل بقبض دينه الذي على فلان وفلان مقر بالدين
فقضى القاضي به للوكيل وقبضه واستهلكه ثم قدم صاحب الدين فأنكر الوكالة ثم رجعا عن
شهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما لم يتلفا المال بشهادتهما إنما بصناعته ثانيا بقبض المال فيحفظ له
والوكيل ضامن لما استهلكه من ذلك لان المال بقضاء القاضي حصل في يده أمانة للموكل وقد
تعدى بالاستهلاك وكذلك هذا في قبض كل وديعة وغلة وميراث وغير ذلك. ولو شهد رجل
وامرأتان على ألف درهم ورجل وامرأتان عليهما وعلى مائة دينار فقضى القاضي بذلك ثم رجع
رجل وامرأتان عن شهادتهم على الدراهم دون الدنانير لم يضمنوا شيئا لأنه قد بقي على الدراهم
من تتم الحجة بشهادته ورجوع هؤلاء في حق الدراهم لا يكون رجوعا منهم عن الشهادة في
الدنانير فلهذا لا يضمنون شرعا ولو رجعوا جميعا عن الدراهم والدنانير فضمان الدنانير على
الذين شهدوا بها خاصة وضمان الدراهم جميعا عند أبي حنيفة أرباع على كل امرأتين ربع
192

وعلى كل رجل ربع وعندهما ثلاث على كل رجل الثلث وعلى النسوة الثلث وإن كان رجوع
الشهود عن الشهادة في مرض الموت فذلك منهما بمنزلة الاقرار بالدين على أنفسهما في مرضهما
فيبدآن بدين الصحة وإذا شهد شاهدان على رجل أنه باع عبده هذا بألف درهم وهو يساوى
ألفين على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقضى القاضي ثم مضت الثلاثة فوجب البيع ثم رجعا
عن شهادتهما ضمنا فضل ما بين القيمة والثمن لأنهما أتلفاه بشهادتهما بغير عوض (فان قيل)
لا كذلك فالبيع بشرط خيار البائع لا يزيل ملكه عن المبيع وقد كان متمكنا من دفع الضرر
عن نفسه بفسخ البيع في المدة فإذا لم يفعل كان راضيا بهذا البيع فينبغي أن لا يضمن
الشاهدان شيئا (قلنا) زوال الملك وإن كان يتأخر إلى سقوط الخيار فالسبب هو البيع المشهود
به ولهذا استحق المشترى المبيع بزوائده فكان الاتلاف حاصلا بشهادتهم والبائع كان
منكرا لأصل البيع فمع انكاره لا يمكن أن يتصرف بحكم الخيار لأنه إذا تصرف بحكم
الخيار يصير مقرا بالبيع ويتبين للناس كذبه والعاقل يتحرز عن ذلك بجهده فلهذا لا يعتبر
تمكنه من الفسخ في اسقاط الضمان عن الشهود ولو أوجب البيع في الثلاثة لم يضمن له
الشاهدان شيئا لأنه صار مقرا بالبيع مزيلا ملكه باختياره فلا يكون الشاهد متلفا عليه
بشهادته. وكذلك لو كان شرط الخيار للمشترى وهو منكر للشراء وفي قيمة العبد نقصان
عن الثمن فان سكت المشترى حتى مضت المدة ضمن المشهود له النقصان عند الرجوع وان
اختار البيع قبل الثلاثة لم يضمنا له شيئا لما بينا في جانب البيع ولو شهدا برهن عبده والراهن
مقر بالدين جاحد للرهن فقضي القاضي بالعبد رهنا ثم رجعا فإن لم يكن في قيمة العبد فضل
على الدين فلا ضمان عليهما لأنهما شهدا بثبوت يد الاستيفاء للمرتهن ولو شهد على المطلوب
بحقيقة ايفاء الدين بمال في يده هو مثل الدين لم يضمنا عند الرجوع. فكذلك إذا شهدا بثبوت
يد الاستيفاء للمرتهن في ماله وإن كان في قيمته فضل على الدين لم يضمنا أيضا ما دام العبد
حيا لأنه باق على ملك المطلوب وهو متمكن من أخذه بقضاء الدين وهو مقر بالدين فإذا
مات عند المرتهن ضمنا ذلك الفضل لأنهما أتلفا الفضل عليه بغير عوض حين أثبتا حق
الحبس فيه للمرتهن ولم يسقط شئ من الدين عنه باعتباره ولو كان الراهن هو الذي ادعى
الرهن وجحد المرتهن ذلك فقضى القاضي بشهادتهما فلا ضمان عليهما لأنهما ما أتلفا على المرتهن
شيئا فان حقه في المطالبة بالدين بعد الرهن كما كان من قبل وهو متمكن من رد الرهن لان
193

عقد الرهن لا يتعلق به اللزوم في جانب المرتهن (فان قيل) فلماذا تقبل البينة عليه بذلك
وهي لا تلزم شيئا (قلنا) اثبات السبب بالبينة صحيح وان كأن لا يتعلق به اللزوم في الحال
كما في البيع بشرط الخيار للبائع أو للمشترى إلا أن يكونا شهدا عليه برهن هالك في يده
فحينئذ هذا بمنزلة شهادتهما عليه باستيفاء الدين لان الاستيفاء يتم بملك الرهن فيكونان
متلفين للمال عليه فيضمنان له ذلك عند الرجوع وإذا عمل المضارب بالمال وربح فادعي انه
أخذه مضاربة بالنصف وشهد له شاهدان ورب المال يقول بالثلث واخذ المضارب نصف
الربح ورد الباقي ثم رجع الشاهدان ضمنا السدس الذي شهدا به لان القول قول رب المال
لولا شهادتهما فما زاد على الثلث إلى اتمام النصف إنما استحقه المضارب على رب المال بشهادتهما
وقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق ولو كان الربح كله دينا لم يضمنا شيئا حتى
يقبض فما قبض منه اقتسماه نصفين ويضمن الشاهدان سدسه لرب المال لان وجوب الضمان
عليهما بتفويت اليد على نفس المال ولا يتحقق ذلك ما لم يخرج الدين وتصل إلى المضارب
حصته فعند ذلك يتم التفويت عليه بسبب شهادتهما ولو شهدا انه أعطاه الثلث فلا ضمان
عليهما في هذا الوجه إذا رجعا لان القول قول رب المال بغير شهود فلم يتلفا على المضارب
شيئا بشهادتهما إذ الاستحقاق لم يثبت له بمجرد دعواه النصف بخلاف الأول فرب المال
هناك ما يستحق للربح باعتبار انه ماله فهما اتلفا عليه بشهادتهما ما كان مستحقا له فيضمنان إذا رجعا
ولو نوى رأس المال في الوجهين لم يضمنا شيأ لأنهما ما شهدا في رأس المال بشئ إنما شهادتهما
في الربح ولم يظهر الربح ولو شهدا أنهما اشتركا ورأس مالك كل واحد منهما ألف درهم على أن
الربح بينهما أثلاثا وصاحب الثلث يدعى النصف وقد ربحا قبل الشهادة فقسمه القاضي بينهما
أثلاثا ثم رجعا ضمنا لصاحب الثلث ما بين الثلث والنصف في كل ربح كان قبل الشهادة لان كل
واحد منهما مستحق لنصف الربح عند تساويهما في رأس المال والقول قول مدعي النصف
لولا شهادتهما فما زاد على الثلث إلى النصف أتلفاه بشهادتهما على من أخذ الثلث بغير حق وما
ربحا فيما اشتريا بعد الشهادة فلا ضمان عليهما فيه لان كل واحد منهما متمكن من فسخ الشركة
بغير رضا صاحبه فاقدامها على التصرف بعد قضاء القاضي بان الربح أثلاث يكون رضا منهما
بذلك ورضا المتلف عليه يمنع وجوب الضمان على المتلف بطريق المباشرة فبالشهادة أولى ولو كان
في يدي رجل مال فشهد شاهدان لرجل أنه شريكه شركة مفاوضة فقضى القاضي له بنصف
194

ما في يده ثم رجعا ضمنا ذلك النصف للمشهود عليه لان القول قول المنكر للشركة وهو ذو اليد
لولا شهادتهما فإنما صار نصف ما في يده مستحقا عليه بشهادتهما وقد أقر أنهما أتلفاه بغير حق
ولو شهدا على رجل بوديعة فجحدها أو عارية أو بضاعة فضمنه القاضي ذلك رجعا ضمنا له ما غرم
من ذلك لأنهما شهدا عليه بدين فالوديعة المجحودة دين على المودع وقد أقرا بالرجوع أنهما
ألزماه بغير حق فيضمنان له ما استوفي منه بذلك السبب. ولو ركب رجل بعير رجل إلى مكة
فعطب فقال رب البعير غصبني وقال الراكب استأجرته منك بكذا وأقام عليه شاهدين
فأبرأه القاضي من الضمان وأنفذ عليه ما وجب من الاجر ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة
البعير الا مقدار ما أخذ صاحبه من الاجر لان ركوب بعير الغير موجب للضمان على الراكب
لولا شهادتهما لكان ضمان القيمة دينا على الراكب بما ظهر منه فهما بشهادتهما أثبتا له سبب
البراءة وقد أقر عند الرجوع أنهما أتلفا ذلك على رب البعير فكانا ضامنين له إلا أنهما عوضاه
مقدار ما شهدا له من الاجر فيطرح عليهما ذلك ولان صاحب البعير مقر أن الراكب غاصب
لا أجر له عليه وأن ما استوفى منه استوفاه بحساب ضمان القيمة وزعمه معتبر في حقه فلا
يرجع على الشاهدين الا بالفضل ولو كان البعير أول يوم ركبه يساوى مائتي درهم وآخر
يوم عطب فيه يساوى ثلاثمائة درهم لزيادة في يده والأجر خمسون فإنهما يضمنان مائتين وخمسين
درهما بحساب يوم عطب. من أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا في قولهما فأما عند أبي حنيفة
رحمه الله إنما يضمنان بحساب قيمته يوم ركب وقالوا هذا نظير الجارية المغصوبة إذا ازدادت في
بدنها ثم باعها الغاصب وسلمها إليه فإنه كما لم يذكر الخلاف هنا لم يذكر هناك وإنما ذكر قول
أبي حنيفة رحمه الله في تلك المسألة في النوادر وحكم هذه وحكم تلك سواء والأصح ان هذا
قولهم جميعا وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما فيقول ضمان البيع والتسليم ضمان غصب ولهذا
لا يضمن به الا ما يضمن بالغصب والغصب بعد الغصب في الأصل لا يتحقق من واحد
والزيادة المتصلة لا تفرد عن الأصل فاما ضمان الركوب إذا عطبت الدابة ضمان اتلاف
(ألا ترى) ان الحر يضمن به والاتلاف الحقيقي بعد الغصب يتحقق في الأصل مع الزيادة فكان
الراكب ضامنا قيمتها حين عطبت لولا شهادتهما فيضمنان عند الرجوع قيمتها باعتبار تلك
الحال. رجل له على رجل ألف درهم وهو مقر بها وفي يد الطالب ثوب يساوى مائة درهم
يدعى أنه له فأقام المطلوب شاهدين أنه رهنه إياه بالمال وقضي به ثم هلك الثوب فذهب بمائة
195

درهم ثم رجعا ضمنا مائة درهم للطالب لان القول قوله في الثوب انه ملكه باعتبار يده فهما
أتلفا عليه ملك الثوب بشهادتهما انه للمطلوب فيضمنان له عند الرجوع (فان قيل) كيف يضمنان
ولم يخرج الثوب من يده حتى هلك (قلنا) عين الرهن أمانة في يد المرتهن فيده في ذلك كيد
الراهن ثم أثبتا بشهادتهما يد الاستيفاء للمرتهن في مقدار المائة وقد تم ذلك بهلاك الرهن
فكأنهما شهدا عليه انه استوفاه مائة ثم رجعا ولو كان ذو اليد مقرا بالثوب للراهن غير أنه يقول
هو عندي وديعة وقال الراهن بل هو رهن عندك وأقام شاهدين عليه فقضى به ثم هلك ثم
رجعا فلا ضمان عليهما لأنهما لم يتلفا على ذي اليد عين الثوب لأنه لا يدعى ملكه لنفسه وقد
كان متمكنا من رده على الراهن بعد قضاء القاضي فالرهن لا يكون لازما في جانب المرتهن
فيجعل إمساكه الثوب بعد قضاء القاضي بأنه رهن عنده رضا منه بما شهدا عليه فلا يضمنان
له عند الرجوع شيئا بخلاف الأول فقد أتلفا عليه ملكه في الثوب هناك ولو شهد شاهدان
على رجل أنه أسلم عشرة دراهم في كر حنطة إلى رجل يجحد ذلك ولم يعترفا فقضى القاضي
به وأمر بدفع العشرة إليه وأوجب الكر عليه ثم رجعا فلا ضمان عليهما حتى يقبض الكر
لأنهما الزما المسلم إليه الكر دينا فلو ضمنا له يضمنان العين والعين فوق الدين في المالية وضمان
الاتلاف يتقدر بالمثل فإذا قبضه منهما فهما ضامنان لطعام مثله الا عشرة دراهم ينقص من ذلك
الكر لان مقدار العشرة حصل الاتلاف فيه بعوض فلا يجب ضمانه عليهما عند الرجوع وما
زاد على ذلك أتلفاه بغير عوض فإن كان رأس المال مثل الكر لم يضمنا شيئا لأنهما عوضاه
مثل ما أتلفا عليه والاتلاف بعوض يعدل المتلف ولا يوجب الضمان على المتلف. ولو شهدا على
رجل أنه أكرى شق محمل إلى مكة بمائة درهم فقضى له القاضي وحمله وقبض الاجر ثم رجعا
عن شهادتهما فلا ضمان عليهما إذا كان المستأجر هو المدعى وإن كان الاجر ضعف ذلك لأنهما
أتلفا المنفعة على رب الإبل والمنفعة ليست بمال يضمن بالاستهلاك عندنا ولو أتلفاه مباشرة بان
ركبا لم يضمنا فإذا أتلفاه بشهادتهما أولى وإن كان ادعاه صاحب الإبل وجحده المستأجر ضمنا
له مما أدى ما زاد على أجر مثل البعير لأنهما أتلفا عليه ما التزماه بشهادتهما من الاجر وعوضاه
من ذلك منفعة البعير والمنافع تتقوم بالعقد وتأخذ حكم المالية ولهذا لا يثبت الحيوان دينا في
الذمة بمقابلته فلا يضمنان مقدار ما أتلفاه بعوض ويضمنان ما سوى ذلك لأنه لولا شهادتهما
لكان القول قول الراكب ولم يضمن شيأ فإنما لزمه الاجر بشهادتهما ولو أقر عند الرجوع
196

أنهما أتلفا ذلك بغير حق فيضمنان له مالا يقابله من ذلك عوض يعدله. ولو ادعى رجل على
رجل ألف درهم وأقام بما عليه شاهدين وأقام المشهود عليه بالألف شاهدين انه أبرأه منها
أو شهدوا أنه أبرأه من كل قليل وكثير يدعى ذلك فعدلوا واجتمعت البينتان عند القاضي
فإنه لا ينبغي له أن لا يسمع من الشهود الذين شهدوا على المال لان هنا من يشهد على البراءة
والبراءة مسقطة مفرغة للذمة فكيف يقضى باشغال الذمة بالمال وقد ظهر عنده ما يفرغ الذمة
ثم الابراء في معنى الناسخ بحكم وجوب الدين والقضاء بالمنسوخ بعد ظهور الناسخ لا يجوز
فان أخذ بشهادة شهود البراءة فقضى بها ثم رجعوا فان القاضي يكلف المشهود له بالألف
بالبينة المثبتة ولا يلتفت إلى ما مضى لأنه لم يقض بشهادتهم على أصل المال والشهادة التي لم يتصل
القضاء بها لا تكون موجبة شيأ فلا بد من اعادتهم إذا أراد تضمين شهود البراءة لأنهم
يضمنون باتلافهم عليه ما كان مستحقا له وإنما يثبت هذا الاستحقاق بإعادة البينة وان أعادهم
فخصمهم في ذلك شهود البراءة الذين رجعوا لأنه يدعي عليهم الضمان فهم خصماؤه في ذلك ولا
يتمكن من أن يلزم المدين شيأ بهذه الشهادة لان رجوع شهود البراءة بعد قضاء القاضي بشهادتهم
لا يكون معتبرا في حقه فلهذا لا تقوم شهود البراءة مقام المدين في إعادة هذه البينة عليهم فان
شهد الشهود على الألف أنها على المدعى عليه في الأصل فقضي بها على شهود البراءة لأنه
يتحقق اتلافهم ذلك المال على الطالب بشهادتهم عليه بالبراءة فيضمنان له ولا يرجعان بها على
المشهود له بالبراءة لأنهما يضمنان عند الرجوع ورجوعهما ليس بحجة في حق المشهود له بالبراءة
وقال وإنما يأمر القاضي مدعى المال بإعادة شهوده بعد رجوع شاهدي البراءة بمحضر منهما
لان المال إنما وجب عليهما ساعة رجعا وهو مال حادث وجب عليهما فلا يجبرا بشهادة الشهود
الذين شهدوا به قبل وجوب المال عليهما لأنهما كأنهما غصبا المال ساعة يقضى القاضي له
ورجعا والله أعلم
(تم الجزء السادس عشر ويليه السابع عشر)
(أوله باب الرجوع عن الشهادة في الطلاق والنكاح)
197