الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ٢٦
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء السادس والعشرون من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(باب البيع على أنه إن لم ينقد الثمن فلا بيع بينهما)
(قال رحمه الله) وإذا اشترى المأذون جارية بألف درهم على أنه إن لم ينقد الثمن إلى
ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز منه بمنزلة اشتراط الخيار ثلاثة أيام كما يجوز من الحر وقد
بيناه في كتاب البيوع وبينا أنه لو كان الشرط إن لم ينقد الثمن إلى أربعة أيام فلا بيع بينهما كان
البيع فاسدا في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وفي قول محمد رحمه الله هو جائز على ما
اشترطا ووقع في بعض النسخ وقال أبو يوسف هو جائز علي ما اشترطا وهو غلط والصحيح
أن أبا يوسف فرق بين هذا وبين اشتراط الخيار أربعة أيام وبينا ذلك في البيوع وكذلك لو
اشتراها وقبضها ونقد الثمن علي أن البائع ان رد الثمن علي المشترى ما بينه وبين ثلاثة أيام فلا
بيع بينهما فهو جائز على ما اشترطا وهو بمنزلة اشتراط الخيار للبائع ولو اشتراها علي أنه إن لم
ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فقبضها وباعها نفذ بيعه لان خيار المشترى لا يمنعه من
التصرف فيها والبيع تام لازم من جانب البائع فان مضت الأيام الثلاثة قبل أن ينقده الثمن
فلا سبيل للبائع على الجارية ولكنه يتبع المشترى بالثمن لان من ضرورة نفوذ بيعه فيها سقوط
خياره ولان امتناعه من ايفاء الثمن في آخر جزء من الأيام الثلاثة بمنزلة فسخ البيع منه وفسخه
للبيع فيها بعد ما باعها باطل فإذا جاز البيع والجارية ملك المشتري الثاني علمنا أنه لا سبيل للبائع
عليها ولكنه يتبع المشترى منه بالثمن وكذلك لو قتلها المشترى أو ماتت في يده أو قتلها أجنبي
آخر حتى غرم قيمتها في الأيام الثلاثة لان حدوث هذه المعاني في يد المشترى في مدة خياره
يكون مسقطا خياره لما فيه من فوات محل الفسخ وهذا في الموت ظاهر وكذلك في قتل
الأجنبي لان القيمة الواجبة على القاتل لأجل ملك المشتري والعقد فيها فلا ينتهى بالقبض
فلا يتحول العقد إلى ملك القيمة (ألا ترى) أنه يجوز الفسخ بالتحالف والرد بالعيب باعتبار
القيمة الواجبة على القاتل بعد قبض المشترى فكذلك الفسخ بخيار الشرط فإن كان المشترى
2

وطئها وهي بكر أو ثيب في الأيام الثلاثة أو جنى عليها جناية أو أصابها عيب من غير فعل
أحد ثم مضت الأيام الثلاثة قبل أن ينقد الثمن فالبائع بالخيار ان شاء أخذها ولا شئ له غيرها
وان شاء سلمها للمشتري لان امتناع المشترى من نقض الثمن حتى مضت الأيام الثلاثة
فسخ منه للبيع ولو فسخ البيع قصدا تخير البائع لحدوث ما حدث فيها عند المشترى فكذلك
إذا لم ينقد الثمن حتى مضت الأيام ولو كان الواطئ أو الجاني أجنبيا فوجب العقر أو الأرش
لم يكن للبائع على الجارية سبيل لحدوث الزيادة المنفصلة المتولدة في يد المشترى فان ذلك بمنع
الفسخ بعد تمام البيع في جانب البائع حق للشرع وإنما له الثمن على المشترى ولو كان حدث
فيها عيب من فعل الجاني الأجنبي بعد مضى الأيام الثلاثة فالبائع بالخيار ان شاء أخذ الجارية
واتبع الجاني بموجب ما أحدثه فيها من وطئ أو جناية وان شاء سلمها للمشترى بالثمن فان
سلمها للمشترى بالثمن كان للمشترى أن يتبع الأجنبي بذلك لان بمضي الأيام الثلاثة قبل
نقد الثمن انفسخ البيع فبقيت الجارية في يد المشترى مضمونة بعد الفسخ فيكون بمنزلة الجارية
التي في يد البائع قبل التسليم إذا حدث فيها بفعل الأجنبي شئ من ذلك وهناك يتخير المشترى
بين أن يأخذها بالزيادة وبين أن ينقض البيع فيها فكذلك بعد الفسخ يتخير البائع وهذا
إذا كان الأجنبي وطئها وهي بكر حتى تمكن نقصان في ماليتها بالوطئ فإن كانت ثيبا لم ينقصها
الوطئ أخذها البائع وأخذ عقرها من الأجنبي ولا خيار له في تركها لان ثبوت الخيار باعتبار
النقصان في المالية في ضمان المشترى ولم يوجد وقد طعن عيسى رحمه الله في هذا الجواب
وقال للبائع أن لا يقبلها لان الوطئ كالجناية والمستوفى بالوطئ في حكم جزء من العين وقيل في
تخريجه ان قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أن المشترى لو كان هو الواطئ بعد مضى
الأيام لم يلزمه شئ ولم يتخير البائع فإذا كان الواطئ أجنبيا فوجب العقر وتمكن البائع من
أخذها مع العقد أولى أن لا يثبت له الخيار وأصل المسألة في المبيعة إذا وطئها البائع قبل
التسليم وهي ثيب لم يتخير المشترى عند أبي حنيفة وكذلك أن وطئها أجنبي أخذها المشترى
مع عقرها ولم يتخير فكذلك البائع في هذا الفصل ولو كان المشترى هو الذي قطع يد الجارية
أو افتضها وهي بكر بعد مضى الأيام الثلاثة فالبائع بالخيار ان شاء سلمها للمشترى بالثمن
وان شاء أخذها ونصف ثمنها في القطع لتغير الجارية في ضمان المشترى بعد الفسخ والأوصاف
تضمن بالتناول مقصودة فيتقرر على المشترى حصة اليد من الثمن وكذلك كل جناية جنى عليها
3

أخذ نقصانها من الثمن إذا اختار البائع أخذها وا ن كان افتضها لم ينظر إلى عقرها ولكن
ينظر إلى ما نقصها الوطئ من قيمتها فيكون على المشترى حصة ذلك من ثمنها في قول أبي حنيفة
وعندهما ينظر إلى الأكثر من عقرها ومما نقص الوطئ من قيمتها فيكون على المشترى
حصة ذلك من ثمنها وان كأن لم ينقصها الوطئ شيئا أخذها البائع ولا شئ على المشترى في
الوطئ في قول أبي حنيفة وعندهما يقسم الثمن على قيمتها وعلى عقرها فيأخذها البائع وحصة
العقر من ثمنها وأصل المسألة في البائع إذا وطئ الجارية المبيعة قبل القبض وقد بينا ذلك في
البيوع فحال المشترى ههنا بعد الفسخ كحال البائع قبل التسليم هناك لأنها في ضمان ملكه حتى
لو هلكت قبل الرد كان هلاكها على ملكه كما في المبيعة قبل القبض فيستوى تخريج الفصلين
على الاختلاف الذي بينا ولو كانت ولدت ولدا في الأيام الثلاثة ثم مضت الأيام وهما حيان
ولم ينقد الثمن فالجارية وولدها للمشترى بالثمن ولا خيار للبائع في ذلك لأجل الزيادة المنفصلة
المتولدة في يده قبل الفسخ ولو لم تلد ولكنها قد ازدادت في يده كان للبائع أن يأخذها
بزيادتها لان الزيادة المتصلة لا معتبر بها في البيع ولا يمنع الفسخ لأجلها كما في الفسخ بسبب
العيب وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة الزيادة المتصلة هنا كالزيادة المنفصلة وهو نظير ما بينا
من اعتبار الزيادة المتصلة في المنع من الفسخ بسبب التحالف وفي المنع من التصرف في
الصداق بالطلاق ولو كانت ولدت بعد مضي الأيام ونقصتها الولادة فالبائع بالخيار للنقصان
الحادث فيها من يد المشترى كما لو تعيبت بعيب آخر وهذا لان الزيادة المنفصلة بعد الفسخ
لا تمنع من استردادها وتأثير نقصان الولادة في اثبات الخيار للبائع لا في تعذر الرد به ولو ماتت
بعد مضى الأيام الثلاثة ولم تلد فعلى المشترى الثمن لأن العقد وان انفسخ فقد تعيب في ضمان
المشترى فإذا هلكت بطل ذلك الفسخ كما إذا هلكت المبيعة قبل القبض بطل البيع ولو كانت
ولدت بعد مضى الأيام الثلاثة ثم ماتت وبقي ولدها فالبائع بالخيار ان شاء سلم الولد للمشترى
وأخذ منه جميع الثمن وان شاء أخذ الولد ورجع على المشترى بحصة الأم من الثمن وهو
لان الولد لما صار مقصودا بالاسترداد كان له حصة من الثمن وهو بمنزلة المبيعة إذا ولدت
قبل القبض ثم ماتت الأم وبقي الولد فكما يتخير المشترى هناك يتخير البائع هنا ولو كان
اشترى الجارية بعرض بعينه على أنه إن لم يعط البائع ذلك إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهو جائز
بمنزلة شرط الخيار فان حدث بالجارية عيب في يد المشترى أو فقأ عينها أو وطئها وهي بكر
4

أو ثيب أو فعل ذلك أجنبي ثم مضت الأيام قبل أن يعطه البائع فهذا وما وصفنا من الدراهم
سواء لاستوائهما في المعنى ولو مضت الأيام قبل أن يعطى المشترى البائع ما شرطه ثم هلكت
الجارية في يد المشترى أو قتلها كان للبائع على المشترى قيمتها ولا سبيل له على ثمنها لان بمضي
الأيام الثلاثة انفسخ البيع وهلاك أحد العوضين في المقابضة بعد الفسخ لا يمنع بقاء الفسخ
لبقاء العرض الآخر وإذا بقي الفسخ تعذر علي المشترى رد عينها فيرد قيمتها بخلاف البيع
بالدراهم ولو ذهبت عينها أو فقأها المشترى أخذ البائع الجارية ونصف قيمتها ولا سبيل له
على الثمن لأن العين من الآدمي نصفه ففوات نصفها بعد الفسخ معتبر بفوات كلها ولو كان
أجنبي فقأ عينها أو قتلها كان البائع بالخيار ان شاء أخذ قيمتها في القتل من مال المشترى حالا
وان شاء رجع بها علي عاقلة القاتل في ثلاث سنين فان أخذها من المشترى رجع بها علي
عاقلة القاتل لأنها بعد الفسخ مملوكة للبائع مضمونة في يد المشترى بنفسها كالمغصوبة وأما في
فق ء العين فان البائع يأخذ الجارية ويتبع بأرش العين المشترى أو الجاني أيهما شاء حالا كما
في المغصوبة إذا فقأ انسان عينها في يد الغاصب فان أخذه من المشترى رجع به المشترى
على الجاني ولا سبيل للبائع في شئ من هذه الوجوه على الثمن لأنه لا يتمكن من أخذ ذلك
الا بفسخ ذلك العقد وبقاء أحد العوضين يمنعه من ذلك بخلاف ما إذا كان حدوث هذه
المعاني قبل مضي الثلاثة لان هناك العقد قائم بينهما حين حدث ما حدث ومضى الأيام
الثلاثة بمنزلة الفسخ من المشترى قصدا وفسخه بعد ما تعيب في يده لا يكون ملزما للبائع
فمن هذا الوجه وقع الفرق ولو باع المأذون أو الحر جارية بألف درهم فتقابضا على أن البائع
ان رد الثمن على المشترى إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما ثم إن المشترى وطئ الجارية أو فقأ
عينها في الأيام الثلاثة فان رد البائع الثمن على المشترى كان له أن يأخذ جاريته ويضمن
المشترى بالوطئ عقرها وفي الفق ء نصف قيمتها لان هذا الشرط بمنزلة خيار البائع والمبيعة قائمة
على ملك البائع في يده على خياره فإذا تقرر ملكه بفسخ البيع ظهران جناية المشترى ووطأه
حصلا في ملك الغير فعليه العقر والأرش وان مضت الأيام الثلاثة قبل أن يرد الثمن تم
البيع ولا شئ على المشترى من العقر والأرش لان خيار البائع إذا سقط ملكها المشترى
من وقت العقد بزيادتها فلا يلزمه العقر والأرش لان فعله حصل في ملكه حكما ولو كان
أجنبي فعل ذلك ثم رد البائع الثمن في الأيام الثلاثة أخذ جاريته ونصف قيمتها ففي فق ء العين
5

ان شاء من المشترى ويرجع به المشترى على الفاقئ وان شاء من الفاقئ لأنها كانت مملوكة
للبائع مضمونة بنفسها في يد المشترى كالمغصوبة وفي الوطئ ان كانت بكرا فكذلك الجواب
لان الوطئ ينقص ماليتها وهي مضمونة في يد المشترى بنفسها وان كانت ثيبا لم ينقصها
الوطئ أخذها البائع واتبع الواطئ بعقرها ولا سبيل له على المشترى لان المضمون على
المشترى ماليتها ولم يتمكن نقصان في ماليتها بهذا الوطئ وهي كالمغصوبة إذا وطئها أجنبي
في يد الغاصب وهي ثيب ولو لم يرد البائع الثمن حتى مضت الأيام الثلاثة تم البيع واتبع
المشترى الفاقئ أو الواطئ بالأرش والعقر لأنه عند سقوط الخيار للبائع ملكها من وقت
العقد بزوائدها المنفصلة ولو كان البائع هو الذي وطئها وفقأ عينها فقد انتقض البيع
رد الثمن بعد ذلك أولم يرد ويأخذ جاريته لان فعله ذلك تقرير لملكه حين عجز نفسه عن
تسليمها كما باعها ولو فعل ذلك بعد مضى الثلاث ولم يرد الثمن فعليه الأرش والعقر للمشترى
لان بمضي الثلاث تم البيع وتأكد ملك المشتري بكونها في يده ففعل البائع فيها كفعل أجنبي
آخر فيلزمه عقرها وأرشها للمشترى والله أعلم
(باب الشفعة في بيع المأذون وشرائه)
(قال رحمه الله) ولا شفعة للمولى فيما باع عبده المأذون أو اشتراه إذا لم يكن عليه دين
لأنه يبيع ملك المولى له ولا شفعة في البيع لمن وقع البيع له ولا فائدة في أخذ ما اشتراه
بالشفعة لأنه متمكن من أخذه لا بطريق الشفعة فإنه مالك لكسبه إذا لم يكن عليه دين
والاخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وشراؤه كسب عبده إذا لم يكن عليه دين باطل وكذلك
لا شفعة للعبد فيما باع مولاه أو اشتراه لأنه إذا لم يكن عليه دين فإنما يأخذ ما باعه المولى بالشفعة
له ولا شفعة للبائع ولا يفيد أخذه بما اشتراه المولى بالشفعة لان المولى متمكن من استرداد
ما في يده منه فيكون متمكنا من منعه من اثبات اليد عليه أيضا فإن كان على العبد دين فالشفعة
واجبة لكل واحد منهما في جميع هذه الوجوه لان كسبه حق غرمائه والمولى كالأجنبي
منه فيكون أخذ كل واحد منهما من صاحبه في هذه الحالة مفيدا بمنزلة شرائه ابتداءا لا في
وجه واحد وهو ما إذا باع العبد دارا بأقل من قيمتها بما يتغابن الناس أو بغير ذلك لم يكن للمولى
فيها الشفعة لأنه لو وجبت له الشفعة أخذها من العبد قبل التسليم إلى المشترى فيكون متملكا
6

عليه الدار بأقل من قيمتها ولو باع العبد منه بالغبن لم يجز لحق غرمائه ويستوى في حقهم
الغبن اليسير والفاحش كما في تصرف المريض في حق غرمائه ولا يمكن الاخذ بمثل القيمة
لان ما لم يكن ثمنا في حق المشترى لا يثبت ثمنا في حق الشفيع ولو باع العبد من مولاه
دارا ولا دين عليه والأجنبي شفيعها فلا شفعة له لان ما جرى بينهما ليس ببيع حقيقة فالبيع
والثمن كلاهما خالص ملك المولى ومبادلة ملكه بملكه لا تجوز وقد كان متمكنا من أخذها
بدون هذا البيع فلا يكون هذا البيع مفيدا والأسباب الشرعية تلغو إذا كانت خالية عن فائدة
فإذا كان عليه دين وكان البيع بمثل القيمة أو أكثر فله الشفعة لان هذا بيع صحيح بينهما فالدار
كانت حقا لغرمائه وكان المولى ممنوعا من أخذه قبل الشراء وبالشراء يصير هو أحق بها
وباعتبار البيع الصحيح تجب الشفعة للشفيع وان باعها بأقل من قيمتها فلا شفعة للشفيع فيها في
قول أبي حنيفة لان عنده بيع المأذون من مولاه بأقل من قيمته باطل كبيع المريض من وارثه
وهذا لان المولى يخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث فتتمكن التهمة بينهما في حق الغرماء
والشفعة لا تستحق بالبيع الباطل وعندهما للشفيع أن يأخذها بقيمتها أو يتركها لان من أصلهما
ان المحاباة لا تسلم للمولى ولكن لا يبطل أصل البيع بسبب المحاباة بل يتخير المولى بين أن يزيل
المحاباة فيأخذها بقيمتها وبين أن يتركها فكذلك الشفيع يتخير في ذلك وهذا لان الاستحقاق
بحكم هذا البيع ثابت للمولى بمثل القيمة إذا رضى به فيثبت ذلك للشفيع لان الشرع قدم الشفيع
على المشترى في الاستحقاق الثابت بالبيع فان تركها الشفيع أخذها المولى بتمام القيمة ان شاء
وإن كان المولى هو البائع من غيره بمثل قيمته ولا دين عليه فلا شفعة فيها لان ما جرى بينهما
ليس ببيع مفيد وإن كان عليه دين كان البيع صحيحا لكونه مفيدا والشفعة واجبة للشفيع وان
باعها منه بأكثر من قيمتها فعند أبي حنيفة البيع باطل لأجل الزيادة وكون العبد متهما في حق
مولاه (ألا ترى) ان اقراره لمولاه لا يجوز بشئ إذا كان عليه دين فكذلك المحاباة والزيادة
منه لمولاه وإذا بطل البيع لم تجب الشفعة للشفيع وعندهما المولى بالخياران شاء سلم الدار
للعبد بقدر القيمة وان شاء استردها لان التزام العبد الزيادة لمولاه لم تصح وأما أصل
البيع بمثل القيمة فصحيح فثبوت الخيار للمولى لانعدام الرضا منه بذلك فان سلمها له بالقيمة
أخذها الشفيع بذلك لان الاستحقاق ثابت بالقيمة عند رضاه بها وان أبى كان للشفيع أن
يأخذها من المولى بجميع الثمن ان شاء لان رهنا المولى قد تم بالبيع بجميع الثمن وذلك يكفي
7

لوجوب الشفعة كما لو أقر ببيعها وأنكر المشترى ثم عهدة الشفيع على المولى لأنه تملكها عليه
بالأخذ من يده فهو بمنزلة ما لو اشتراها منه ابتداء وإذا سلم المأذون شفعته وجبت له وعليه
دين أو لا دين عليه فتسليمه جائز لأنه يملك الاخذ بالشفعة فيملك تسليمها لان كل واحد
منهما من صنيع التجار كما أن الاخذ بالشفعة بمنزلة الشراء فتسليمها بمنزلة ترك الشراء والإقالة
بعد ذلك والمأذون مالك كذلك وان سلمها مولاه جاز تسليمها إن لم يكن عليه دين بمنزلة الإقالة
فيما اشتراه العبد لأنه لو باعها ابتداء من هذا الرجل أو من غيره بعدما أخذها العبد جاز فكذلك
إذا سلم شفيعها له وإن كان على العبد دين فتسليم المولى باطل بمنزلة اقالته وبيعه ابتداء وهذا
لان كسبه حق غرمائه والمولى جعل كالأجنبي بالتصرف فيه فكذلك في اسقاط حقه فإن لم
يأخذه العبد حتى استوفى الغرماء دينهم أو أبرأوا العبد من دينهم سلمت الدار للمشترى
بتسليم المولى الشفعة لان تسليم المولى الشفعة بمنزلة سائر تصرفاته في كسب العبد المديون
وذلك كله ينفذ بسقوط حق الغرماء التبرعات والمعاوضات فيه سواء ولو حجر المولى
عليه بعد وجوب الشفعة له وفى يده مال وعليه دين أولا دين عليه لم يكن له أن يأخذها
بالشفعة كما لا يكون له أن يشتريها ابتداء بما في يده من المال بعد الحجر عليه وإن لم يحجر عليه
وأراد المولى الاخذ بالشفعة فله ذلك إذا لم يكن علي العبد دين لان العبد إنما يأخذ للمولى
ولان الاخذ بالشفعة بمنزلة الشراء وللمولى أن يشترى بكسب عبده إذا لم يكن عليه دين كما
يكون ذلك للعبد فكذلك حكم الاخذ بالشفعة وإن كان عليه دين لم يكن له ذلك إلا أن يقضى
الغرماء دينهم فان قضاهم ديونهم كان له أن يأخذ بالشفعة لزوال المانع وإن كان عليه دين فأراد
الغرماء أن يأخذوا بالشفعة لم يكن لهم ذلك لان حق الاخذ بالشفعة باعتبار الجواز وذلك
ينبنى على ملك العين والغرماء من ملك عين الدار التي هي كسب العبد كالأجانب حتى
لا يكون للغرماء استخلاصها لهم وأما حقم في ماليتها فبمنزلة حق المرتهن ولا يستحقون
الشفعة بخلاف المولى فإنه مالك للعين إذا لم يكن على العبد دين فيكون له أن يأخذها بالشفعة
لتقرر السبب في حقهم ولو حجر عليه بعد وجوب الشفعة ثم أراد المولى أن يأخذها بالشفعة
ولا دين على العبد فله أن يأخذها ان سلم العبد بعد الحجر أو لم يسلم لان التسليم إنما يصح
ممن يملك الاخذ والعبد بعد الاخذ لا يملك الاخذ بالشفعة إلا أن يقضى الغرماء دينهم فان
فعل ذلك كان له أن يأخذها بالشفعة لزوال المانع سواء سلم العبد الشفعة بعد الحجر أو لم يسلم
8

وهذا على أصل أبي حنيفة ومحمد ظاهر لان عندهما المولى مالك لكسبه مع قيام الدين عليه
وإن كان هو ممنوعا منه وعند أبي حنيفة وإن لم يكن مالكا فهو أحق بكسبه إذا قضى الدين
والشفعة تستحق عليه كالتركة المستغرقة بالدين إذا بيعت دار بجنب منها كان للوارث أن
يأخذها بالشفعة بعد ما قضي الدين وإذا اشترى المأذون دارا ولها شفيع يريد أخذها فوكل
الشفيع مولى العبد يأخذها له وبالخصومة فيها وعلى العبد دين أو لا دين عليه فالوكالة باطلة
لأنه لو صح التوكيل ملك الوكيل التسليم في مجلس الحكم وفي ذلك منفعة للمولى وهذا
لا يصلح أن يكون وكيلا في استيفاء حق الغير من عبده فلهذا النوع من المنفعة له في ذلك
كما لو وكله غريم العبد باستيفاء دينه من العبد فإن كان عليه دين فسلمها العبد للمولى بالشفعة
صارت الدار للشفيع ولا يجوز قبض المولى الدار من العبد علي الشفيع حتى يقبضها الشفيع
من المولى والعهدة فيما بين العبد والشفيع ولا عهدة فيما بين المولى وعبده لان الوكالة لما لم
تصح صار المولى بمنزلة الرسول للشفيع فإذا سلمها العبد إليه ملكها الشفيع بمنزلة ما لو أخذها
الشفيع بنفسه وهو نظير ما لو وكله بقبض دين له على العبد فإنه لا يبرأ العبد بقبض المولى
حتى يدفع ذلك إلى الغريم فإذا دفعها إليه برئ العبد بمنزلة ما لو قبضها الغريم بنفسه وكذلك
لو كان الوكيل بعض غرمائه لان منفعة الغريم في ذلك أظهر من منفعة المولى فان حقه
في كسب العبد مقدم على حق المولى ولو كان العبد هو الشفيع فوكل مولاه ان يأخذه بالشفعة
له أو بعض غرمائه جازت الوكالة كان عليه دين أو لم يكن بمنزلة ما لو وكله العبد بقبض
دين له على أجنبي وهذا لان في تسليمه واقراره اضرار بالمولى والغريم ولا منفعة لهما فيه
فان سلم المولى الشفعة للمشترى عند القاضي جاز تسليمه وان سلمها عند غير القاضي جاز إن لم
يكن على العبد دين وإن كان على العبد دين فتسليمه باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله وليس
له أن يأخذ بالشفعة ولكن العبد هو الذي يأخذها وفي قول أبى يوسف الآخر تسليمه
جائز عند القاضي وعند غير القاضي وعند محمد تسليمه باطل عند القاضي وعند غير القاضي
إذا كان على العبد دين وأصل المسألة ما بينا في الشفعة ان عند أبي حنيفة وأبى يوسف من
ملك الاخذ بالشفعة ملك تسليمها وإن كان نائبا كالأب والوصي وعند محمد لا يملك ثم عند أبي
حنيفة رحمه الله اقرار الوكيل على موكله يجوز في مجلس القاضي ولا يجوز في غير مجلسه فكذلك
تسليمه وفي قول أبى يوسف الآخر كما يجوز اقراره عليه في غير مجلس القاضي فكذلك
9

يجوز تسليمه فإذا عرفنا هذا فنقول عند أبي حنيفة إذا سلمها في مجلس القاضي جاز لأنه مالك
للاخذ وإذا سلمها في غير مجلس القاضي فإن لم يكن عليه دين جاز باعتبار ان الحق واجب له
لا باعتبار الوكالة وإن كان عليه دين لا يجوز تسليمه في حق العبد والغرماء ولكن يخرج من
الخصومة بمنزلة ما لو أقر علي موكله في غير مجلس القاضي وإذا خرج من الخصومة كان العبد
على حقه يأخذها بالشفعة ان شاء وفي قول أبى يوسف الآخر يصح تسليمه على كل حال لأنه
بنفس التوكيل قام مقام الموكل في الاخذ فكذلك التسليم وعند محمد هو قائم مقام الموكل في
الاخذ بالشفعة والتسليم اسقاط وهو ضد ما وكله به فلا يصح منه الا إذا لم يكن عليه دين
فحينئذ يصح باعتبار ملكه ولو كان وكيل العبد بالأخذ بعض غرمائه فتسليمه في مجلس القاضي
جائز في قول أبي حنيفة وكذلك في غير مجلس القاضي عند أبي يوسف وفى قول محمد هو باطل
وان أقر عند القاضي أن العبد قد سلمها قبل أن يتقدم إليه فاقراره في مجلس القاضي جائز في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله اقراره بذلك جائز في مجلس
القاضي وفي غير مجلس القاضي بمنزلة اقرار وكيل المدعي عليه بوجوب الدين واقرار وكيل المدعى
بأنه مبطل في دعواه وانه قد أبرأه عن الدين * رجل مات وعليه دين فباع الوصي دارا للميت
لها شفيع فوكل الشفيع بعض غرماء الميت أن يأخذ له لم يكن وكيلا في ذلك لان الدار إنما
بيعت له وكما أن من بيعت له لا يأخذها لنفسه فكذلك لا يأخذها لغيره بوكالته وبهذا الطريق
قلنا فيما باعه العبد ان المولى أو الغريم لا يكون وكيلا للشفيع في الاخذ لان تصرفه لغرمائه من
وجه ولمولاه من وجه ولو كان الميت اشترى في حياته دارا وقبضها ثم مات وعليه دين
وطلب الشفيع شفعته ووكل في الخصومة فيها بعض غرماء الميت لم يكن وكيلا لأنه لو صح
التوكيل ملك التسليم والاقرار على موكله بالتسليم في مجلس الحاكم وفيه منفعة له فان سلمها
الوصي بغير خصومة كانت للشفيع ولم يكن للغريم أن يقبضها ولكن الشفيع هو الذي
يقبضها وتكون العهدة فيما بينه وبين الوصي لان الوكالة لما بطلت صار هو بمنزلة الرسول
للشفيع وكذلك لو وكل وارثا بذلك فان في التسليم أو الاقرار به على الموكل منفعة الوارث
بعد سقوط حق الغريم ولو باع المأذون دارا وسلمها ولها شفيع فوكل الشفيع بخصومة المشترى
مولي العبد وعليه دين أو لا دين عليه أو وكل بعض غرماء العبد فالوكالة باطلة لان العبد
بائع للدار لغرمائه من وجه فان ماليتها حقهم وللمولى من وجه فان كسبه ملك مولاه إذا
10

فرغ من الدين ومن بيع له لا يأخذ بالشفعة لغيره كما لا يأخذ لنفسه (ألا ترى) ان الوكيل
إذا باع دار الرجل بأمره فوكل الشفيع الآمر بخصومة المشترى في ذلك لم يكن وكيلا لأنها
بيعت له وكذلك المضارب إذا باع دارا من المضاربة فوكل شفيعها رب المال بالخصومة والاخذ
بالشفعة لم يكن وكيلا في ذلك فان سلمها المشترى له بغير خصومة جاز والشفيع هو الذي
قبضها والعهدة بينه وبين المشترى لان رب المال بمنزلة الرسول له حين يطلب الوكالة وعبارة
الرسول كعبارة المرسل فكان للشفيع أخذها بنفسه والله أعلم
(باب بيع المأذون المكيل أو الموزون من صنفين)
(قال رحمه الله) وإذا باع المأذون من رجل عشرة أقفزة حنطة وعشرة أقفزة شعير
فقال أبيعك هذه العشرة الأقفزة حنطة وهذه العشرة الأقفزة شعير كل قفيز بدرهم فالبيع
جائز لان جملة المبيع معلوم والثمن معلوم وكل متى أضيفت إلى ما يعلم منتهاه تتناول الجميع
فان تقابضا ثم وجد بالحنطة عيبا ردها بنصف الثمن علي حساب كل قفيز بدرهم لأنه كذلك اشترى
وعند الرد بالعيب إنما يرد المعيب بالثمن المسمى بمقابلته فإذا كان المسمى بمقابلة كل قفيز من
الحنطة درهما ردها بذلك أيضا وكذلك لو قال القفيز بدرهم لان الألف واللام للجنس إذا لم
يكن هناك معهود فيتناول كل قفيز من الحنطة وكل قفيز من الشعير بمنزلة قوله كل قفيز ولو
قال كل قفيز منهما بدرهم وتقابضا ثم وجد بالحنطة عيبا فإنه يردها علي حساب كل قفيز منهما
النصف من الحنطة والنصف من الشعير بدرهم وذلك بان يقسم جميع الثمن عشرين درهما
على قيمة الحنطة وقيمة الشعير فإن كانت قيمة الحنطة عشرين درهما وقيمة الشعير عشرة رد
الحنطة بثلثي الثمن لأنه أضاف القفيز الذي جعل الدرهم بمقابلته إليهما بقوله منهما ومطلق هذه
الإضافة يقتضى التسوية بينهما فيكون نصف كل قفيز بمقابلة الدرهم من الحنطة ونصف من
الشعير فلهذا يقسم جملة الثمن علي قيمتها بخلاف الأول فهناك ذكر القفيز مطلقا واطلاقه يقتضي
أن يكون بمقابلة كل قفيز من الحنطة درهم وبمقابلة كل قفيز من الشعير درهم وكذلك لو قال
القفيز منهما بدرهم فهذا وقوله كل قفيز منهما بدرهم سواء كما بينا ولو قال أبيعك هذه
الحنطة وهذا الشعير ولم يسم كيلهما كل قفيز بدرهم فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة رحمه الله
لان من أصله انه إذا لم تكن الجملة معلومة فان ما يتناول هذا اللفظ قفيزا واحدا وقد بينا له
11

هذا الأصل في البيوع ولا يعلم أن ذلك القفيز من الحنطة أو من الشعير ففسد البيع في ذلك
أيضا للجهالة حتى يعلم الكيل كله فان علمه فهو بالخيار ان شاء أخذ كل قفيز حنطة بدرهم
وكل قفيز شعير بدرهم وان شاء ترك وهكذا يكشف الحال عنده إذا صارت جملة الثمن معلومة
له الآن فيتخير بين الاخذ والترك وعندهما البيع جائز كل قفيز من الحنطة بدرهم وكل
قفيز من الشعير بدرهم لان جهالة الجملة لا تفضي إلى تمكن المنازعة ولو قال كل قفيز منهما
بدرهم كان البيع واقعا في قول أبي حنيفة رحمه الله علي قفيز واحد نصفه من الحنطة ونصفه
من الشعير بدرهم لان هذا معلوم وثمنه معلوم وفيما زاد على القفيز الواحد إذا علم بكيل ذلك
فهو بالخيار ان شاء أخذ كل قفيز منهما بدرهم وان شاء ترك وفى قول أبى يوسف ومحمد البيع
لازم له في جميع ذلك كل قفيز منهما بدرهم نصفه من الحنطة ونصفه من الشعير ولو قال
أبيعك هذه الحنطة على أنها أقل من كر فاشتراها على ذلك فوجدها أقل من كر فالبيع جائز
لان المعقود عليه صار معلوما بالإشارة إليه ووجده علي شرطه الذي سماه في العقد والثمن معلوم
بالتسمية فيجوز العقد وان وجدها كرا أو أكثر من كر فالبيع فاسد لأن العقد إنما يتناول
بعض الموجود وهو أقل من كر كما سمى وذلك مجهول لأنه لا يدرى ان المشترى أقل من
الكر بقفيز أو قفيزين وهذه الجهالة تقتضي المنازعة وكذلك لو قال على أنها أكثر من كر فان
وجدها أكثر من كر بقليل أو كثير فالبيع جائز لأنه وجدها على شرطه والبيع يتناول جميعها
وان وجدها أقل من كرا وكرا فالبيع فاسد لأنه لا يدري ما حصة ما نقص منها مما شرط له فإنه
لا بد من اسقاط حصة النقصان من الثمن وذلك مجهول جهالة تفضى إلى المنازعة ولو قال على أنها
كرا وأقل منه فان وجدها كرا أو أقل منه فهو جائز لأنه وجدها على شرطه وان وجدها
أكثر من كر لزم المشترى من ذلك كرا وليس للبائع أن ينقصه من ذلك شيئا لأنه لو وجدها
كرا كان الكل مستحقا للمشترى فان وجدها أكثر أولى أن يكون مقدار الكر مستحقا
للمشترى والزيادة على الكر للبائع لان البيع لا ينالها ولو قال على أنها كرا أو أكثر فوجدها
كذلك جاز البيع وان وجدها أقل فالمشترى بالخيار ان شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن إذا
قسم على كر وان شاء ترك لان استحقاقه إنما يثبت في مقدار الكر بدليل انه لو وجدها كرا
لزمه جميع الثمن ولا خيار له فإذا كان أنقص من كر فقد النقصان معلوم وحصته من الثمن
معلومة فيسقط ذلك عن المشترى و يتخير لتفرق الصفقة عليه والحاصل ان حرف أو للتخيير
12

فإنما يثبت الاستحقاق عند ذكر حرف أو في المقدار المعلوم في نفسه سواء ردد الكلام بين
ما هو معلوم في نفسه والزيادة عليه أو النقصان عنه إلا أن في ذكر النقصان للبائع فائدة وهو
أن لا يخاصمه ان وجده أقل فهو بمنزلة البراءة من العيب وفي ذكر الزيادة للمشترى فائدة
وهو أن لا يلزمه رد شئ إذا وجده أكثر ولو قال أبيعك هذه الدار على أنها أقل من ألف
ذراع فوجدها أقل من ذلك أو ألفا أو أكثر فالبيع جائز لان الذرعان في الدار صفة والثمن
بمقابلة العين لا بمقابلة الوصف فان وجدها أزيد مما قال وصفا لا يتغير حكم البيع ولو قال علي
انها أكثر من ألف ذراع فان وجدها أكثر من ألف بقليل أو كثير فالبيع لازم لأنه وجدها
على شرطه وان وجدها ألف ذراع أو أقل كان المشترى بالخيار ان أشاء أخذها بجميع الثمن
وان شاء ترك لأنه وجدها أنقص مما سمي البائع له من الوصف فيتخير لذلك فإذا اختار الاخذ
لزمه جميع الثمن لان الثمن بمقابلة العين درن الوصف ولو اشترى ثوبا من رجل بعشرة دراهم
على أنه عشرة أذرع فوجده ثمانية فقال البائع بعتك على أنه ثمانية فالقول قول البائع مع يمينه لان
المشترى يدعى زيادة وصف شرطه ليثبت له الخيار لنفسه عند فوته فان الذرعان في الثوب
صفة والبائع منكر لذلك والقول قوله مع يمينه وعلى المشترى البينة علي ما ادعاه من الشرط
كما لو قال اشتريت العبد علي أنه كاتب أو خباز ولو قال المشترى اشتريته بعشرة على أنه عشرة
أذرع كل ذراع بدرهم فوجده ثمانية أذرع فقال البائع بعتك علي أنه ثمانية أذرع بعشرة دراهم
ولم أشترط كل ذراع بدرهم تحالفا وترادا لان الاختلاف ههنا بينهما في مقدار الثمن فإنه إذا
لم يقل كل ذراع بدرهم كان الثمن عشرة دراهم سواء كان ذرعان الثوب عشرة أو ثمانية فإذا كان
كل ذراع بدرهم فالثمن ثمانية إذا كان ذرعان الثوب ثمانية فعرفنا أن الاختلاف بينهما في مقدار
الثمن والحكم فيه التحالف والتراد فأما في الأول فلم يختلفا في مقدار الثمن وإنما ادعى المشترى
اثبات الخيار لنفسه لفوت وصف شرطه فهو بمنزلة ما لو ادعى انه شرطه كابتا أو ادعى شرط
الخيار لنفسه ولا تحالف في ذلك بل يكون القول قول المنكر للشرط والله أعلم
(باب عتق المولى عبده المأذون ورقيقه)
(قال رحمه الله) وإذا أعتق المولى عبده المأذون وعليه دين أكثر من قيمته وهو
يعلم أو لا يعلم فعتقه نافذ لبقاء ملكه في رقبته بعد ما لحقه الدين والمولى ضامن لقيمته بالغة
13

ما بلغت وان كانت قيمته عشرين ألفا أو أكثر لأنه أتلف المالية بالاعتاق وهذه المالية حق
الغرماء فيضمنها لهم بالغة ما بلغت كالراهن إذا أعتق المرهون والدين مؤجل ولم يكن عليه
دين ولكنه قتل حرا أو عبدا خطأ فأعتقه المولى فإن كان يعلم بالجناية فهو مختار للفداء والفداء
الدية إن كان المقتول حرا وقيمة المقتول إن كان عبدا إلا أن يزيد على عشرة آلاف درهم
فينقص منها عشرة لان بدل نفس المملوك بالقتل لا يزيد على عشرة آلاف الا عشرة وإن لم
يعلم بالجناية غرم قيمة عبده إلا أن تبلغ قيمته عشرة آلاف فينقص منها عشرة لان المستحق
بالجناية نفس العبد بطريق الجزاء والمولى مخير بين الدفع والفداء فإذا أعتقه مع العلم بالجناية
صار مختارا للفداء بمنع الدفع وان كأن لا يعلم بالجناية فهو غير مختار للفداء ولكنه مستهلك للعبد
الذي استحقه جزاء على الجناية فيغرم قيمته ولا يزاد قيمته على عشرة آلاف الا عشرة لأن هذه
قيمة لزمته باعتبار الجناية من المملوك فيقاس بقيمة تلزمه بالجناية على المملوك فإذا كأن لا
يزاد على عشرة آلاف الا عشرة فكذلك القيمة التي تلزمه بالجناية من المملوك وهذا يخالف
فضل الدين من وجهين أحدهما أن هناك علم المولى وعدم علمه سواء لان المستحق مالية الرقبة
تبعا في الدين واعتاق المولى اتلاف لذلك فيلزمه قيمته سواء كان عالما به أو غير عالم به بمنزلة
اتلاف مال الغير وفي الجناية المستحق في حق المولى أحد شيئين وهو مخير بينهما وفي حكم
الاختيار يختلف العلم وعدم العلم والثاني أن هناك يغرم قيمته بالغة ما بلغت لان استحقاق تلك
القيمة عليه باعتبار سبب يستحق به المالية من غصب وشراء فيتقدر بقدر القيمة وهاهنا وجوب
القيمة باعتبار الجناية وقيمة العبد بالجناية لا تزيد على عشرة آلاف الا عشرة وإن كان المقتول
عبد أغرم المولى الأقل من قيمة عبده ومن قيمة المقتول إلا أن يبلغ عشرة آلاف فينقص
منها عشره لان الأقل هو المتيقن به فلا يلزم المولى أكثر منه ولا يزاد الواجب على عشرة
آلاف الا عشرة لان الواجب باعتبار الجناية على المملوك فان أعتقه وعليه دين وجنايات
أكثر من قيمته وهو لا يعلم بالجناية غرم لأصحاب الدين قيمته بالغة ما بلغت لاتلاف المالية
التي هي حقهم (ألا ترى) أن قبل العتق كان يدفع بالجنايات ثم يباع بالدين فيسلم المالية للغرماء
بكمالها ويغرم لا صحاب الجنايات الأقل من قيمته ومن عشرة آلاف الا عشرة لان المستحق
نفسه بالجنايات حر (ألا ترى) أن قبل العتق كان يتخلص المولى من جناياته بدفعه فإذا
تعذر الدفع باعتاقه لم يصر مختارا كان عليه قيمته وقيمته بسبب الجناية لا تزيد علي عشرة آلاف
14

الا عشرة ولا شركة بين الغرماء ولا بين أصحاب الجنايات لانعدام المشاركة بينهما في سبب
وجوب حقهما وفي المحل الذي ثبت فيه حق كل واحد منهما (ألا ترى) أن قبل العتق
لم يكن بينهما شركة ولكنه كان يدفع بالجنايات كلها أو لا ثم يباع للغرماء في ديونهم وان أعتقه
وهو يعلم بالجنايات صار مختار للفداء في الجنايات فيضمنها كلها وصار ضامنا القيمة للغرماء
باتلاف المالية ولا شركة لبعضهم مع البعض في ذلك ولو كان المأذون مدبرا أو أم ولد فأعتقه
المولى وعليه دين كبير لم يغرم للمولى شيئا لان حق الغرماء هاهنا ما تعلق بمالية الرقبة بل بالكسب
وبالاعتاق لم يثبت شئ من كل حقهم فلا يغرم المولى لهم شيئا لأنه ما أفسد عليهم شيئا بخلاف
القن وإن كان على المأذون دين كثير أو قليل فأعتق المولى أمة من رقيقه فعتقه باطل في قول
أبي حنيفة الأول وفى قول الآخر نافذ إلا أن يكون الدين محيطا برقبته وبجميع ما في يده
فحينئذ عتقه باطل ما لم يسقط الدين وفى قولهما عتقه نافذ على كل حال كما ينفذ في رقبته وهذا
بناء على اختلافهم في ملك المولى كسب عبده المديون وقد بيناه فيما سبق فإن كان في رقبته
وكسبه فضل على دينه حتى جاز عتق المولى لامته فالمولي ضامن قيمة الأمة للغرماء لان الدين
يشغل كل جزء من أجزاء الكسب والمولى يفسد عليهم مالية المعتقة فيضمن قيمتها لهم فإن كان
معسرا كانت القيمة دينا على الجارية المعتقة لان المالية التي هي حق الغرماء سلمت لها
واحتبست عندها بالعتق فعليها السعاية في قيمتها ويرجع بذلك على المولى لان السبب الموجب
للضمان وجد من المولى وكان الضمان دينا في ذمة المولى وإنما أخرت هي على قضاء دين المولى
ويرجع عليه بذلك كما لو أعتق الراهن المرهون وهو معسر والتدبير في ذلك بمنزلة الاعتاق
وذكر في المأذون الصغير ان المولى إذ أعتق جارية العبد المأذون بعد موت المأذون فهو
كاعتاقه إياها في حياته وهذا ظاهر في قول أبي حنيفة وعلى قول أبى يوسف ومحمد عتقه
وتدبيره جائز وإن كان الدين محيطا والمولى ضامن قيمة الأمة باتلاف ماليتها على الغرماء فإن كان
معسرا فللغرماء أن يضمنوها القيمة ويرجع بذلك على المولى كما هو مذهب أبي حنيفة
إذا لم يكن الدين محيطا وكذلك الوارث إذا أعتق جارية من التركة وفيها دين غير مستغرق لها
فان الوارث مالك للتركة هاهنا فينفذ عتقه ويكون التصريح في حكم الضمان على نحو ما بينا في
اعتاق المولى كسب عبده المأذون ولو وطئ المولى أمة المأذون فجاءت بولد فادعى نسبه ثبت
نسبه منه عدهم جميعا وصارت الأمة أم ولد له ويضمن قيمتها ولا يضمن عقرها لان حق
15

المولى في كسب عبده المديون أقوى من الأب في جارية ابنه (ألا ترى) ان المولى يملك
استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر والأب لا يملك ذلك في جارية ابنه ثم هناك
استيلاده صحيح ويجب عليه ضمان قيمتها دون العقر فكذلك هاهنا وبهذا فرق أبو حنيفة بين
الاستيلاد والاعتاق والتدبير وذكر في المأذون الصغير أن صحة دعوته استحسان يعنى على قول
أبي حنيفة وفى القياس لا يصح لأنه لا يملك كسب عبده المديون إذا كان الدين محيطا كما لا يملك
كسب مكاتبه ثم دعواه ولد أمة مكاتبه لا تصح الا بتصديق المكاتب فكذلك دعواه ولد
أمة عبده المديون ولكنه استحسن فقال هناك لا يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من
موضع آخر فيعتبر بالاستيلاد كأنه استخلصها لنفسه بالتزام قيمتها ولا اشكال على قول أبي حنيفة
في انتفاء العقر عنه لأنه ما كان يملكها ما دامت مشغولة بحق الغرماء فيقدم تمليكها منه
بضمان القيمة واسقاط حق الغرماء عنها علي الاستيلاد ليصح الاستيلاد كما يفعل ذلك في
استيلاد جارية الابن وعلى قولهما إنما لا يجب العقر لأنه يملكها حقيقة والوطئ في ملك نفسه
لا يلزمه العقر وإنما يكون ضامنا لحق الغرماء وحق الغرماء في المالية وقد ضمن لهم جميع قمية
المالية والمستوفى بالوطئ ليس بمال ولا حق للغرماء فيه فلهذا لا يغرم عقرها وكذلك لو كان الوطئ
بعد موت المأذون وان أعتق المولى جارية المأذون وعليه دين يحيط بقيمته وما في يده ثم قضى
الغرماء الدين أو أبرأه الغرماء أو بعضهم حتى صار في قيمته وفيما في يده فضل علي الدين جاز
عتق المولى الجارية لأنه حين أعتقها كان سبب الملك له فيها تاما وحق الغرماء كان مانعا فإذا
زال المانع بعد العتق كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة المستغرقة بالدين ثم سقط الدين نفذ
العتق لهذا المعنى ولو أعتق المولى جارية المأذون وعليه دين محيط فبطل العتق في قول أبي حنيفة
ثم وطئها المولى بعد ذلك فجاءت بولد فادعاه فدعواه جائزة وهو ضامن قيمتها للغرماء لما
بينا في الاستيلاد لامته إذا كان قبل الاعتاق ثم الجارية حرة لسقوط حق الغرماء عنها
والاستيلاد (ألا ترى) أنه لو سقط حقهم عنها بالابراء من الدين كانت حرة باعتاق المولى
إياها فكذلك ههنا وعلى المولى العقر للجارية لان الاعتاق من المولى كان سابقا على الوطئ إلا أن
قيام الدين كان مانعا من نفوذ ذلك العتق فإذا سقط حق الغرماء عنها زال المانع عنها بعد
العتق من ذلك الوقت فتبين أنه وطئها بالشبهة وهي حرة فيلزمه العقر لها لان الوطئ في غير
الملك لا يحلو عن حد أو عقر وقد سقط الحد للشبهة فيجب العقر فإذا ادعي المولى بعض رقيق
16

المأذون أنه ولده ولم يكن ولد في ملك المأذون فدعواه باطلة في قول أبي حنيفة وهي جائزة في
قول صاحبيه ويضمن قيمته للغرماء فإن كان معسرا ضمن الولد ورجع به على أبيه لان دعوته
دعوة التحرير فان أصل العلوق لم يكن في ملكه ودعوة التحرير كالا عتاق وقد بينا هذا
الحكم في الاعتاق وقال ابن زياد إذا أعتق المولى أمة من كسب عبده المديون ثم سقط الدين لم
ينفذ ذلك العتق وكذلك الوارث في التركة المستغرقة بالدين لان ملكه حدث بعد الاعتاق وهو
بمنزلة المضارب إذا أعتق عبد المضاربة ولا فضل فيه على رأس المال ثم ظهر الفضل فيه لا ينفذ
ذلك العتق وكذلك المولى إذا أعتق كسب مكاتبه ثم عجز المكاتب لا ينفذ ذلك العتق ولكنا
نقول هناك إنما أعتق قبل تمام السبب وهو الملك لان مال المضاربة مملوك لرب المال وإنما
بملك المضارب حصة من الربح والمكاتب بمنزلة الحر من وجه فيمنع ذلك تمام سبب الملك
للمولى في كسبه فأما سبب الملك فتام للوارث في التركة بعد موت المورث وللمولى في كسب
العبد فيتوقف عتقه على أن يتم بتمام الملك (ألا ترى) أنه لو مات نصراني وترك ابنين نصرانيين
وعليه دين مستغرق فأسلم أحد الابنين ثم سقط الدين كان الميراث للابنين جميعا ولو كان
تمام سبب الملك عند سقوط الدين كان الميراث كله للابن النصراني لان المسلم لا يرث الكافر
فبهذا الحرف يظهر الفرق والله أعلم
(باب جناية المأذون على عبده والجناية عليه)
(قال رحمه الله) وإذا جنى المأذون على حر أو عبد جناية خطأ وعليه دين قيل لمولاه
ادفعه بالجناية أو افده لأنه على ملك مولاه بعد ما لحقه الدين وفي البداءة بالدفع بالجناية
مراعاة الحقين وفى البداءة بالبيع بالدين ابطال حق الجناية فيجب المصير إلى ما فيه مراعاة
الحقين وإذا اختار الفداء فقد طهر العبد من الجناية فيبقي حق الغرماء فيه فيباع في دينهم وان
دفعه بالجناية اتبعه الغرماء في أيدي أصحاب الجناية فباعوه في دينهم إلا أن يفديه أولياء
الجناية لان أولياء الجناية إنما يستحقون ملك المولى فيه بطريق الجزاء إلا أن يثبت لهم فيه
سبب متجدد فهم بمنزلة الوارث يخلفونه في ملكه والعبد المديون إذا مات مولاه اتبعه
الغرماء في ملك الوارث فباعوه في دينهم إلا أن يقضى الوارث دينهم فكذلك يتبعونه في
يد صاحب الجناية فيباع في دينهم إلا أن يقضى صاحب الجناية ديونهم وإن كان للمأذون
17

جارية من تجارته فقتل قتيلا خطأ فإن شاء المأذون دفعها وان شاء فداها إن كان عليه دين أو لم
يكن لان التدبير في كسبه إليه وهو في التصرف بمنزلة الحر في التصرف في ملكه فيخاطب
بالدفع أو الفداء بخلاف جنايته بنفسه فالتدبير في رقبته ليس إليه (ألا ترى) أنه لا يملك بيع
رقبته ويملك بيع كسبه فإن كانت الجناية نفسا وقيمة الجارية ألف درهم ففداه المأذون بعشرة
آلاف فهو جائز في قياس قول أبي حنيفة ولا يجوز في قولهما لان من أصلهما أن المأذون
لا يملك الشراء بما لا يتغابن الناس في مثله وعند أبي حنيفة يملك ذلك فيطهرها من الجناية
باختيار الفداء بمنزلة شرائها بما يفديها به على القولين أو بمنزلة ما لو دفعها إلى أولياء الجناية ثم
اشتراها منهم بمقدار الفداء وان كانت الجناية عمدا فوجب القصاص عليها فصالح المأذون عنها
جاز وإن كان المأذون هو القاتل فصالح عن نفسه وعليه دين أوليس عليه دين لم يجز الصلح
لما بينا أنه في التدبير في كسبه بمنزلة الحر في ملكه وفي التدبير في نفسه هو بمنزلة المحجور عليه
فلا يجوز صلحه في حق المولى لأنه يلتزم المال بما ليس بمال وهو غير منفك الحجر عنه في ذلك
ولكن التزامه في حق نفسه صحيح فيسقط القود بهذا الصلح ويجب المال في ذمته ويؤاخذ
به بعد العتق بمنزلة مال التزمه بالكفالة أو بالنكاح ولو كان للمأذون دار من تجارته فوجد فيها
قتيل وعليه دين أو لا دين عليه فالدية على عاقلة المولى في قول أبى يوسف ومحمد لأنه مالك
لهذه الدار وإن كان على عبده دين ودية المقتول الموجود في الملك على عاقلة صاحب الملك باعتبار
أنه بمنزلة القاتل له بيده وعند أبي حنيفة رحمه الله إن لم يكن على العبد دين محيط فكذلك
وإن كان على العبد دين محيط ففي القياس لا شئ علي عاقلة المولى لأنه غير مالك للدار عنده
ولكن يخاطب بدفع العبد أو الفداء لان حق العبد في كسبه في حكم الجناية كملك المالك في
ملكه فبهذا الطريق يجعل كان العبد قتله بيده ولكنه استحسن وجعل الدية على عاقلة المولى
لان العبد ليس من أهل الملك والمولى أحق الناس بملك هذه الدار على معنى أنه يملكها إذا سقط
الدين ويملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فيكون بمنزلة القاتل بيده باعتبار
إقامة سبب الملك التام له فيها مقام الملك ونظيره التركة المستغرقة بالدين إذا وجد في دار
منها قتيل كانت الدية على عاقلة الوارث وهذا لان المانع من الملك بعد تمام السبب حق الغرماء
وفي حكم الجناية الغرماء كالأجانب ويجعل في القتيل الموجود فيها كأن المولى مالك لها لما
تعذر اعتبار جانب الغرماء في ذلك وعلى هذا لو شهد على المأذون في حائط من هذه الدار
18

مائل فلم ينقضه حتى وقع على انسان فقتله فالدية على عاقلة المولى وقالا هذا بمنزلة القتيل
يوجد في هذه الدار ولم يذكر فيه قول أبي حنيفة وقيل هو كذلك على جواب الاستحسان
عند أبي حنيفة لما قلنا وهو بخلاف ما إذا وقع على دابة فقتلها فان قيمتها في عتق العبد يباع
فيها أو يفديه لان حق صاحب الدين يتعلق بالمالية والمولى من ماليته أجنبي لحق غرمائه
فلهذا كان ذلك في عنق العبد بمنزلة جنايته على المال بيده وأما حق أولياء الجناية فلا يثبت في
المالية التي هي حق الغرماء ولهذا كان موجب جنايته بيده علي مولاه يخاطب بالدفع أو الفداء
ففي جناية يترك هدم الحائط المائل أو يترك صيانة داره حتى وجد فيها قتيل يستحق موجبه
علي المولى أيضا وإذا كان موجب الجناية على المولى صار المولى فيه كالمالك للدار وكان الاشهاد
وجد عليه بطريق أن جناية مملوكه كجنايته فتكون الدية على عاقلة المولى ولو كان على المأذون
دين فجنى جناية فباعه المولى من أصحاب الدين بدينهم ولا يعلم بالجناية فعليه قيمته لأصحاب
الجناية لان حق أولياء الجناية لا يمنع المولى من بيع الجاني فإذا نفذ بيعه كان مفوتا على أولياء
الجناية حقهم فإن كان عالما بالجناية فعليه الأرش وإن لم يكن عالما فعليه قيمته كما لو أعتقه ولو
لم يبعه من الغرماء ولم يحضروا ولكن حضر أصحاب الجناية فدفعه إليهم بغير قضاء قاض
فالقياس فيه أن يضمن قيمته للغرماء لأنه صار متلفا على الغرماء محل حقهم باخراجه عن ملكه
باختياره فيكون بمنزلة ما لو أعتقه وفى الاستحسان لا ضمان عليه لان حق أولياء الجناية ثابت
في عنقه والمولى فعل بدون قضاء القاضي غير ما يأمر به القاضي ان لو رفع الامر إليه فيستوى
فيه القضاء وغير القضاء بمنزلة الرجوع في الهبة ثم هو ما فوت على الغرماء محل حقهم فان العبد
محل للبيع في الدين في ملك أولياء الجناية كما لو كان الدفع إليهم بقضاء قاض وإنما يضمن
القيمة باعتبار تفويت محل حقهم فان جعلنا هذا تسليما لما هو المستحق بالجناية لا يفوت به محل
حقهم وان جعلناه تمليكا مبتدأ لا يفوت به محل حقهم أيضا لأنهم يتمكنون من بيعه كما لو باعه
أو وهبه ثم لا فائدة في هذا القبض لان بعد القبض يجب دفعه إليهم بالجناية ثم بيعه في الدين
فلهذا لم يضمن المولى شيئا بخلاف ما سبق من بيعه إياه في الدين ففيه تفويت محل حق أولياء
الجناية على معنى أن البيع تمليك مبتدأ ولا سبيل لأولياء الجناية على نقض ذلك ولو لم يدفع
بالجناية حتى طالبه الغرماء بدينهم ولم يحضر صاحب الجناية وقد أقر به المولى والغرماء عند القاضي
لم يبعه في الدين حتى يحضر صاحب الجناية فيدفعه إليه المولى أو يفديه ثم يبيعه الغرماء لان في بيعه
19

في الدين من القاضي ابطال حق أولياء الجناية أصلا فإنه يفوت به محل حقهم ولا يكون المولى
ضامنا شيئا إذا كان القاضي هو الذي يبيعه وفى التأخير إلى أن يحضر صاحب الجناية اضرار
بالغرماء من حيث تأخر حقهم للانتظار وضرر التأخير دون ضرر الانتظار فلهذا يصير إلى
الانتظار وان قضى القاضي أن يباع لهم وصاحب الجناية غائب فالبيع جائز لان حق الغريم
ثابت في ماليته وهو طالب بحقه ولا يدرى أن صاحب الجناية هل يحضر فيطلب حقه أولا
يحضر فلا يمتنع نفوذ قضاء القاضي يبيعه لهذا ثم لا شئ لأصحاب الجناية أيضا أما على المولى
فلان القاضي هو الذي باعه وببيع القاضي لا يصير المولى مفوتا محل حق صاحب الجناية
والقاضي فيما يقضى مجتهد فلا يكون ضامنا شيئا والعبد بعد العتق ليس عليه من موجب جنايته
شئ فان باعه القاضي من أصحاب الدين أو من غيرهم بأكثر من الدين كان الفضل عن الدين
لصاحب الجناية لان الثمن بدل العبد وكان حقهم ثابتا في العبد فيثبت في بدله (ألا ترى) أن العبد
الجاني إذا قتل ثبت حق أولياء الجناية في قيمته فكذلك يثبت حقهم في الثمن إلا أنه لا فائدة
في استرداد مقدار الدين من الغرماء لحقهم فيجعل الفضل على ذلك لهم وإن كان ذلك الفضل
أكثر من قيمة العبد إلا أن يكون أكثر من أرش الجناية فحينئذ حق أولياء الجناية في مقدار
الأرش وما فضل عن أرش الجناية فهو للمولى لأنه بدل ملكه وقد فرغ عن حق الغير
وكذلك أن باعه المولى بأمر القاضي فهذا وبيع القاضي سوا وان باعه بغير أمر القاضي بخمسة
آلاف درهم وهو لا يعلم بالجناية وقيمته ألف درهم ودينه ألف وجنايته قتل رجل خطأ
فإنه يدفع من الثمن إلى صاحب الدين مقدار دينه وهو ألف والي صاحب الجناية مقدار قيمته
وهو ألف درهم والباقي للمولى لأنه قد أوفى صاحب الدين كمال حقه ولم يلتزم لصاحب
الجناية الا قيمة العبد ليفوت محل حقه ببيعه بنفسه اختيارا فإذا دفع إليه مقدار قيمته كان
الباقي للمولى فإذا قتل المأذون عمدا وعليه دين أو لا دين عليه فعلي قاتله القصاص للمولى
لأنه باق على ملكه بعد ما لحقه الدين ووجوب القصاص له باعتبار ملكه ولا شئ للغرماء
لان حقهم في ماليته وقد فات ولم يخلف بدلا فالقصاص ليس ببدل عن المالية وحقهم في
محل تمكن ايفاء الدين منه وايفاء الدين من القصاص غير ممكن فان صالح المولى القاتل من
دمه على مال قليل أو كثير جاز وأخذه الغرماء بدينهم إن كان من جنسه وإن كان من غير
جنسه بيع لهم لان القصاص بدل العبد وقد كانوا أحق به وذلك يوجب كونهم أحق ببدله
20

الا انه لم يكن البدل محلا صالحا لايفاء حقهم منه فإذا وقع الصلح عنه علي مال صار محلا صالحا
لذلك فيثبت حقهم فيه بمنزلة الموصي له بالثلث والغريم لا يثبت حقه في القصاص فان وقع الصلح
عنه على مال ثبت حقه فيه ونفذ الصلح من المولى على أي قدر من البدل كأن لأنه لا ضرر
فيه على الغرماء بل فيه توفير المنفعة عليهم بتحصيل محل هو صالح لايفاء حقهم منه ولو لم يقتل
المأذون ولكن قتل عبدا له ولا دين على المأذون فعلى القاتل القصاص للمولى دون المأذون
لان كسبه خالص ملك المولى وولاية استيفاء القصاص باعتبار الملك ولأنه خرج بالقتل من
أن يكون كسبا للعبد لان كسبه مما يتمكن هو من التجارة فيه وذلك لا يتحقق في العبد
المقتول ولا في القصاص الواجب فكان المولى أخذه منه فيكون القصاص للمولى وإن كان
على المأذون دين كثير أو قليل فلا قصاص على القاتل وان اجتمع على ذلك المولى والغرماء
لان المولى ممنوع من استيفاء شئ من كسبه ما بقي الدين عليه قل الدين أو كثر فلا يتمكن
هو من استيفاء القصاص بدلا عن كسبه والغرماء لا يتمكنون من ذلك لان حقهم في المالية
والقصاص ليس بمال فلانعدام المستوفى لا يجب القصاص وإذا لم يجب القصاص بأصل القتل
لا يجب وان اجتمعا على استيفائه وهو نظير عبد المضاربة إذا قتل وفي قيمته فضل على رأس
المال لا يجب القصاص وان اجتمع المضارب ورب المال علي استيفائه لهذا المعنى وعلى القاتل
قيمة المقتول في ماله في ثلاث سنين لان القصاص لما لم يجب لاشتباه المستوفى وجب المال
ووجوبه بنفس القتل فيكون مؤجلا في ثلاث سنين ولكنه في مال الجاني لأنه وجب بعمد
محض فلا تعقله العاقلة إلا أن تبلغ القيمة عشرة آلاف فحينئذ ينقص منها عشرة لان بدل
نفس المملوك بالجناية لا يزيد على عشرة آلاف الا عشرة ويكون ذلك لغرماء العبد لأنه
بدل المقتول وهو محل صالح لايفاء حقهم منه وإذا جنى عبد لرجل جناية خطأ فأذن له في
التجارة وهو يعلم بالجناية أو لا يعلم فلحقه دين لم يصر المولى مختارا ويقال له ادفعه أو افده
لان بالاذن له في التجارة ولحوق الدين إياه لا يمنع دفعه بالجناية (ألا ترى) أنه لو أقر أن
ذلك بالجناية لم يمنع دفعه بها فكذلك إذا اعترض وإنما يصير المولى مختارا للفداء باكتساب
سبب يعجزه عن الدفع بالجناية بعد العلم بها ولم يوجد فان دفعه بالجناية اتبعه الغرماء فبيع لهم
إلا أن يفديه صاحب الجناية بالدين لان ماليته صارت حقا للغرماء فان فداه صاحب الجناية
بالدين أو بيع في الدين رجع صاحبا لجناية على المولى بقيمة العبد فسلمت له لأنهم استحقوا
21

بجنايتهم عبدا فارغا وإنما دفع إليهم عبدا هو مستحق المالية بالدين فإذا استحق من دينهم
بذلك السبب كان لهم حق الرجوع على المولى بقيمته بخلاف ما إذا كانت الجناية من العبد بعد
ما لحقه دين فان هناك ما استحقوا العبد الا وهو مشغول بالدين مستحق المالية وقد دفعه
إليهم كذلك وهو نظير من اغتصب عبدا مديونا ثم رده على المولى فبيع في الدين لم يرجع على
الغاصب ولو غصبه فارغا فلحقه دين عند الغاصب بان أفسد متاعا ثم رده فبيع في الدين رجع
المولى على الغاصب بقيمته * يوضحه ان استحقاق المالية بالدين كان بسبب باشره المولى بعد
تعلق حق أولياء الجناية به وهو الاذن له في التجارة فصار كأنه أتلف عليهم ذلك ولا يقال حق
أولياء الجناية في نفس العبد لا في ماليته فكيف يغرم المولى لهم باعتبار اكتساب سبب
استحقاق المالية وهذا لان استحقاق نفس العبد بالجناية لا يكون إلا باعتبار ماليته (ألا ترى)
أن الجاني الذي ليس بمال لا يستحق نفسه باعتبار المالية وكذلك إذا كان مدبرا أو أم ولد وإنما
يستحق نفس القن الذي هو محتمل للتمليك باعتبار المالية وكذلك أن كان المولى اذن له في
التجارة فلم يلحقه دين حتى جنى جناية ثم لحقه الدين لان استدامة الاذن بعد الجناية من المولى
بمنزلة انشائه وكذلك لو رآه يشترى ويبيع بعد الجناية فلم ينهه فسكوته عن النهى بمنزلة
التصريح بالاذن له في التجارة وكذلك لو كان الدين لحقه قبل الجناية لم يرجع ولى الجناية على
المولى بالقيمة لأنه ما استحقه بالجناية الا وهو مشغول بالدين وإن كان لحقه ألف درهم قبل
الجناية على المولى بالقيمة لأنه ما استحقه بالجناية الا وهو مشغول بالدين وإن كان لحقه ألف
درهم قبل الجناية وألف درهم بعد الجناية وقيمته ألف درهم ثم دفع العبد بالجناية بيع في
الدينين جميعا فان بيع أو فداه أصحاب الجناية بالدينين فإنهم يرجعون علي المولى بنصف القيمة
وهو حصة أصحاب الدين على الآخر اعتبارا لكل واحد من الدينين بما لو كان هو وحده وهذا
لان نصف الثمن الذي أخذه صاحب الدين الآخر إنما أخذه باستدامة الاذن من المولى بعد
الجناية لأنه كان متمكنا من الحجر عليه ولو حجر عليه لم يلحقه الدين الآخر في حال رقه
فلهذا صار المولى ضامنا لما وصل إلى صاحب الدين الآخر من مالية العبد * فان قيل كيف يستقيم
هذا ولو لم يلحقه الدين الآخر لم يسلم لأولياء الجناية شئ من ماليته أيضا لان الدين الأول
محيط بماليته فينبغي أن لا يضمن المولى لهم شيئا * قلنا نعم ولكن ما أخذه أصحاب الدين الآخر
لا يسلم لهم الا بعد سقوط حق صاحب الدين الأول عن ذلك وباعتبار سقوط حقه عنه هو
22

سالم لصاحب الجناية لولا استدامة المولى الاذن له حتى لحقه الدين الآخر فلهذا ضمن المولى
ذلك لصاحب الجناية وإذا قتل العبد المأذون أو المحجور رجلا خطأ ثم أقر عليه المولى بدين
يستغرق رقبته فليس هذا باختيار منه لان اقرار المولى عليه لا يمنعه من الدفع بالجناية فان هذا
الدين لا يكون أقوى من الدين الذي يلحقه بتصرفه فان دفعه بيع في الدين إلا أن يفديه ولي
الجناية لان الدين ثبت عليه باقرار المولى فاشتغلت ماليته بالدين كما لو رهن عبده الجاني ثم
يرجع ولى الجناية على المولى بقيمته لما بينا أنه أتلف عليه ماليته باكتسابه سبب اشتغاله بحق
المقر له بعدما ثبت فيه حق ولى الجناية ولو كان المولى أقر عليه بقتل رجل خطأ ثم أقر عليه
بقتل رجل خطأ وكذبه في ذلك أولياء الجناية الأولى فإنه يدفعه بالجنايتين أو يفديه لان
اقراره عليه بالجناية بمنزلة التصرف منه فيه وحق ولي الجناية فيه لا يمنع نفوذ تصرف المولى
فما ثبت باقراره من الجناية بمنزلة الثابت بالبينة أو بالمعاينة في حقه فيدفعه بالجنايتين فان دفعه
إليهما نصفين رجع أولياء الجناية الأولى علي المولى بنصف قيمته لأنهم كانوا استحقوا جميع
العبد بالجناية حين أقر لهم المولى بذلك ثم صار المولى متلفا عليهم نصف الرقبة باقراره بالجناية
الأخرى وقد تم ذلك الاتلاف بدفع النصف إلى المقر له فلهذا يغرم له نصف قيمته ولا يغرم
للمقر له الثاني شيئا لأنه ما ثبت حقه الا في النصف فإنه حين أقر له بالجناية كانت الجناية
الأولى ثابتة وهي مزاحمة للأخرى فيمنع ثبوت حق المقر له الثاني فيما زاد علي النصف وقد سلم نصف العبد وإن كان عليه دين يستغرق رقبته فأقر لمولى عليه بجناية لم
يجز اقراره لان استغراق
رقبته بالدين يمنع المولى من التصرف فيه والاقرار بالجناية تصرف فلا يصح إلا أن
يفديه من الدين فيزول المانع به ويصير كالمحدود لا قراره بعد ما سقط الدين فيؤمر بأن يدفعه
بالجناية أو يفديه ولو قتل العبد رجلا عمدا وعليه دين فصالح المولى صاحب الجناية منها على رقبة
العبد فان صلحه لا ينفذ على صاحب الدين لأنه يملك رقبته عوضا عما لا يتعلق به حق صاحب
الدين ولو ملكه عوضا عما يتعلق به حقهم لم ينفذ عليهم كالبيع فهذا أولى ولكن ليس لصاحب
الدم أن يقتله بعد ذلك لان صلحه كعفو وأكثر ما فيه أن البدل مستحق لصاحب الدين
ولكن استحقاق البدل في الصلح من دم العمد لا يمنع سقوط القود ثم يباع العبد في دينه
فان بقي من ثمنه شئ بعد الدين كأن لأصحاب الجناية لان حكم البدل حكم المبدل وهم قد استحقوا
نفس العبد بالصلح متى سقط صاحب الدين عنه (ألا ترى) أنه لو أبرأه عن الدين كان العبد
23

سالما لأصحاب الجناية فلذلك لم يسلم لهم ما يفرغ من بدله من حق صاحب الدين فإن لم يبق
من ثمنه شئ فلا شئ لصاحب الجناية علي المولى ولا على العبد في حال رقه ولا بعد العتق لان
المولى ما التزم لصاحب الجناية شيئا في ذمته بالصلح وإنما سلم للعبد القصاص بالعقد وهو
لا يضمن بالمال عند الاتلاف فكذلك لا يضمنه العبد باحتباسه عنده أو سلامته له ولو لم
يصالح ولكن عفا أحد أولياء الدم فان المولى يدفع نصفه إلى الآخر أو يفديه لان حق الذي
أسقط لم يظهر في حق الذي لم يعف فهذا وما لو كانت الجناية خطأ في الابتداء سواء فيدفع
المولى إليه نصيبه أو يفديه ثم يباع جميع العبد في الدين لان حق الغريم لا يسقط عن مالية العبد
بدفع جميعه بالجناية فكذلك بدفع نصفه ولو أقر العبد أنه قتل رجلا عمدا وعليه دين كان
مصدقا في ذلك صدقه المولى أو كذبه لان موجب اقراره استحقاقه دمه ودمه خالص حقه
فان العبد يبقى فيه على أصل الحرية ثم حق الغريم في ماليته لا يكون أقوى من ملك مولاه
وملك المولى لا يمنع استحقاق دمه باقراره علي نفسه بالقود فكذلك حق الغريم وان عفا
أحد أولياء الجناية بطلت الجناية كلها لان نصيب العافي قد سقط بالعقر ولو بقي نصيب
الذي لم يعف لكان موجبة الدفع بمنزلة جناية الخطأ واقرار العبد بالجناية خطأ باطل إذا
كذبه المولى فيه فيباع في الدين إلا أن يفديه المولى بجميع الدين فان فداه وقد صدق العبد
بالجناية قيل له ادفع النصف إلى الذي لم يعف وإن كان كذبه في ذلك كله فالعبد كله للمولى
إذا فداه بالدين لان حق الذي لم يعف غير ثابت في حق المولى إذا كذب العبد فيه وإذا
وجد المأذون في دار مولاه قتيلا ولا دين عليه فدمه هدر وإن كان عليه دين كان على المولى
في ماله حالا الأقل من قيمته ومن دينه بمنزلة ما لو قتل المولى القتيل بيده (ألا ترى) أنه
لو وجد عند الغير قتيلا في داره جعل كأنه قتله بيده فكذلك إذا وجد عنده قتيلا فيه ولو قتله
بيده عمدا أو خطأ كان عليه الأقل من قيمته ومن الدين في ماله حالا لان وجوب الضمان
عليه باعتبار حق الغريم في المالية ولو وجد عبدا من عبيد المأذون قتيلا في دار المولى ولا دين
على المأذون فدمه هدر لأنه مملوك للمولى بمنزلة رقبة المأذون ولأنه كالقاتل له بيده وإن كان
علي المأذون دين محيط بقيمته وكسبه فعلى المولى قيمته في ماله في ثلاث سنين في
قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفى قولهما عليه قيمته حالا وإن كان الدين لا يحيط
24

بجميع ذلك كانت القيمة حالة في قولهم جميعا بمنزلة ما لو قتله المولى بيده وهذا بناء علي
ما تقدم ان الدين إذا لم يكن محيطا فالمولى مالك لكسبه كما هو مالك لرقبته فيكون الضمان
عليه لحق الغريم في ماليته وإن كان الدين محيطا فكذلك عندهما وعند أبي حنيفة هو لا يملك
كسبه في هذه الحالة فقتله إياه بمنزلة قتله عند الأجنبي فتكون القيمة مؤجلة في ثلاث سنين
لان وجوبها باعتبار القتل ولكنها عليه في ماله لأنه من وجه كالمالك على معني انه يتمكن من
استخلاصه لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر فلا تعقله العاقلة لذلك وان قتل المولى مكاتبه
أو عبد مكاتبه عمدا أو خطأ أو وجد المكاتب قتيلا في دار مولاه يجب علي المولى قيمة القتيل
في ماله في ثلاث سنين لان وجوب القيمة هاهنا باعتبار القتل فان كسب المكاتب غير
مملوك للمولى رقبته من وجه كالزائلة عن ملك المولى على ما عرف أن المكاتب صار بمنزلة الحر
يدا فتجب علي المولى القيمة بنفس القتل فتكون مؤجلة ولكنها تجب في ماله لان رقبته
مملوكة له من وجه أن له في كسبه حق الملك علي معنى أنه يملكه حقيقة عند عجز المكاتب فلا
تعقله العاقلة كذلك وهذا إذا كان في القيمة وفي تركته وفاء لمكاتبه لأنه حينئذ يبقى عقد
الكتابة ويؤدى البدل من كسبه وبدل نفسه فيحكم بحريته فإن لم يكن وفاء فيهما فلا شئ
على المولى في قتل مكاتبه لان الكتابة انفسخت بموته عاجزا فتبين انه قتل عبده ولا دين
عليه ولو وجد المولى قتيلا في دار العبد المأذون كانت دية المولى على عاقلته في ثلاث سنين
لورثته في قياس قول أبي حنيفة وفى قولهما دمه هدر لأن هذه الدار في حكم القتيل الموجود
فيها بمنزلة دار أخرى للمولى حتى لو وجد فيها أجنبي قتيلا كانت ديته علي عاقلة المولى فإذا
وجد المولى قتيلا فيها فهذا رجل وجد قتيلا في دار نفسه وهذا الخلاف معروف فيما إذا
وجد قتيلا في دار نفسه وسنبينه في كتاب الديات ولو وجد العبد قتيلا في دار نفسه ولا
دين عليه فدمه هدر لان داره مملوكة للمولى فكأنه وجد قتيلا في دار المولى وإن كان عليه
دين فعلى المولى الأقل من قيمته ومن ديته حالا في ماله بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار أخرى
للمولى لان دار العبد في حكم القتيل الموجود فيها بمنزلة دار المولى فكذلك إذا وجد العبد
فيها قتيلا وذكر في المأذون الصغير ان هذا استحسان سواء كان عليه دين أولم يكن ولو
وجد الغريم الذي له الدين قتيلا في دار العبد المأذون كانت ديته علي عاقلة مولاه في ثلاث
سنين لأنه في ملك داره كغيره من الأجانب وإنما حقه في دين ذمته متعلق بمالية كسبه
25

وبذلك لا يختلف حكم جنايته عليه ثم لا يبطل دينه على العبد بمنزلة ما لو وجد قتيلا في دار
أخرى للمولى وكذلك لو كان القتيل عبدا للغريم كانت قيمته على عاقلة المولى في ثلاث سنين
عبده في ذلك كعبد غيره وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة فوجد في دار المأذون قتيل وعليه
دين أو لا دين عليه فعلي المكاتب قيمة رقبته لأولياء القتيل في ماله حالة بمنزلة ما لو وجد قتيلا
في دار أخرى من كسب المكاتب لان المكاتب في كسبه بمنزلة الحر في ملكه فيصير كالجاني
بيده وجناية المكاتب توجب الأقل من قيمته ومن أرش الجناية فهذا مثله ولو كان الذي
وجد قتيلا في دار العبد هو المكاتب كان دمه هدرا كما لو وجد قتيلا في دار أخرى له وهذا
لأنه يصير كالجاني على نفسه وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بين المكاتب والحر في ذلك لان
موجب جناية الحر على العاقلة وموجب جناية المكاتب على نفسه فلا يستقيم أن يجب له على
نفسه وسنقرر هذا الفرق في كتاب الديات إن شاء الله تعالى ولو كان المأذون هو الذي
وجد قتيلا في داره كان علي المكاتب الأقل من قيمته ومن قيمة المأذون في ماله حالا لغير
المأذون لأن هذه الدار في حكم القتيل الموجود فيها كدار أخرى للمكاتب ولو وجد العبد قتيلا
في دار أخرى للمكاتب كان المكاتب كالجاني عليه بيده فيلزمه أقل القيمتين في ماله حالا
لغرمائه فكذلك إذا وجد في هذه الدار قتيلا والله أعلم بالصواب
(باب ما يجوز للمأذون أن يفعله وما لا يجوز)
(قال رحمه الله) وليس للمأذون أن يكاتب عبده لأنه منفك الحجر عنه في التجارة
والكتابة ليست بتجارة ولكنها عقد ارقاق يقصد بها الاعتاق والمأذون فيما ليس بتجارة
كالمحجور كالتزويج ثم الفك بالكتابة فوق الفك الثابت بالاذن ولا يستفاد بالشئ ما هو
فوقه في محل فيه حق الغير فان كاتبه وأجاز مولاه الكتابة جاز إذا لم يكن عليه دين لان
هذا عقد له منجز حال وقوعه فيتوقف علي الإجازة فتكون الإجازة في الانتهاء كالاذن في
الابتداء وبيانه ان كسب المأذون خالص ملك المولى يملك فيه مباشرة الكتابة فيملك فيه
الإجازة ثم لا سبيل للعبد علي قبض البدل بل كل ذلك إلى المولى لان العبد نائب عنه كالوكيل
والكتابة من العقود التي يكون العاقد فيها معتبرا فيكون قبض البدل إلى من نفذ العقد من
جهته وان دفعها المكاتب إلى العبد لم يبرأ إلا أن يوكله المولى بقبضها لان العبد في حكم قبض
26

بدل الكتابة كأجنبي آخر وكذلك أن لحقه دين بعد إجازة المولى الكتابة لان بإجازته صار
المملوك مكاتبا له وخرج من أن يكون كسبا لعبده فالدين الذي يلحق العبد فيه ذلك لا يتعلق
برقبته ولا بكسبه كما لو أخذه المولى من يده وكاتبه أو لم يكاتبه ولو كان عليه دين كثير أو
قليل فمكاتبته باطلة وان أجازه المولى لان المولى بالإجازة يخرج المكاتب من أن يكون كسبا
للعبد وقيام الدين عليه يمنع المولى من ذلك قل الدين أو كثر كما لو أخذه من يده وعليه دين
فإن لم يرد الكتابة حتى أداها فإن كان المولى لم يجزها لم يعتق ورد رقيقا للمأذون فبيع في دينه
وصرف ما أخذه منه من المكاتبة في دينه لان الكتابة بدون إجازة المولى لغو وهو موقوف
علي اجازته فأداء بدل الكتابة في حال توقف العتق لا يوجب العتق له والعبد حين قبض
البدل منه يصير كالمعتق له واعتاقه لغو والمقبوض من اكسابه يصرف إلى دين المأذون مع
رقبته بطريق البيع فيه وإن كان المولى أجاز المكاتبة وأمر العبد بقبضها وعلى العبد دين يحيط
برقبته وبما في يده فادي المكاتب المكاتبة فهذا والأول سواء في قياس قول أبي حنيفة رحمه
الله لان المولى لا يملك كسبه حتى لا ينفذ منه مباشرة الكتابة والاعتاق فيه فلا يعمل اجازته
أيضا ولا يعتق بقبض البدل منه كما لو أعتقه قصدا وفى قولهما هو حر لان المولى يملك كسبه
وإن كان دينه محيطا حتى لو أعتقه ينفذ عتقه فكذلك إذا أجاز مكاتبته وقبض البدل هو أو
العبد بأمره يجعل كالمعتق له فيكون حرا والمولي ضامن لقيمته للغرماء لان ماليته كانت حقا
لهم وقد أتلفها المولى عليهم وكذلك المكاتبة التي قبضها المولى تؤخذ منه فتصرف إلى الغرماء
لأنه أدى المكاتبة من كسبه والغرماء أحق بكسبه من المولى فلا يسلم ذلك للمولى ما بقي
من دينهم ولو كان دين المأذون لا يحيط به وبماله عتق عندهم جميعا لان إجازة المولى الكتابة
كمباشرته ولو كاتبه وقبض البدل عتق فان الدين إذا لم يكن محيطا لا يمنع ملكه ولا اعتاقه
ثم يضمن قيمته للغرماء ويأخذ الغرماء المكاتبة التي قبضها المولى أو المأذون من دينهم لان
حقهم في كسبه ومالية رقبته مقدمة على حق المولى وقد أتلف المولى مالية رقبته بالاعتاق
وليس للمأذون أن يكفل بنفس ولا مال لان الكفالة من عقود التبرعات باعتبار أصل
الوضع والتبرع ضد التجارة وانفكاك الحجر عنه في التجارة خاصة وهذا بخلاف التوكيل
في الحجر بالشراء لأنه ليس بتبرع باعتبار أصل الوضع بل هو من عمل التجارة (ألا ترى)
ان التجار لا يتحرزون عن ذلك ويتحرزون عن الكفالة غاية التحرز وكذلك لا يهب ولا
27

يتصدق بالدرهم والثوب وما أشبه ذلك ولا يعوض ما وهب له بغير شرط لان هذا كله تبرع
باعتبار أصل الوضع ولا يقرض لأنه تبرع قال عليه السلام قرض مرتين صدقة مرة فان
أجاز المولى هذه التبرعات منه فإن لم يكن عليه دين فلا بأس به وإن كان عليه دين لم يجز
شئ من ذلك لان كسبه إذا لم يكن عليه دين فمالية رقبته ومنافعه كلها لمولاه فاجازته كمباشرته
وإن كان عليه دين فحق الغرماء في ذلك مقدم على حق المولى فلهذا لا يجوز شئ من ذلك
وإذا أهدى العبد المأذون هدية أو دعا رجلا إلى منزله فغذاه أو أعاره دابة يركبها أو ثوبا
يلبسه فلا بأس به ولا ضمان فيه على الرجل ان هلك شئ من ذلك عنده كان على العبد دين
أو لم يكن وفى القياس هذا كله باطل لأنه تبرع والعبد ليس من أهله ولكنه استحسن فقال
وهذا مما يصنعه التجار ولا يجدون منه بدا في التجارة فإنهم يحتاجون إلى استجلاب قلوب
المهاجرين إلي أنفسهم وإعارة موضع الجلوس والوسادة ممن يأتيهم ليعاملهم فلو لم نجوز ذلك
من المأذون لأدى إلى الحرج والحرج مدفوع وأيد هذا الاستحسان ما روينا أن النبي عليه
السلام كان يجيب دعوة المملوك وان سلمان رضي الله عنه أهدى إلى النبي عليه السلام
وهو مملوك فقبله وأكل أصحابه رضي الله عنهم وأتاه بصدقة فأمر أصحابه بأكلها ولم يأكل
منها وعن عمر رضي الله عنه انه سئل عن العبد يتصدق بشئ فقال بالرغيف ونحوه وبه
نأخذ فنقول يتصدق المأذون بالطعام ولا يتصدق بالدراهم والكسوة ونحو ذلك لان. أمر
الطعام مبيتي على التوسع ولهذا جاز للمرأة أن تتصدق بمثل ذلك من مال الزوج بدون
استطلاع رأى الزوج فان الناس لا يمتنعون من ذلك عادة والمكاتب في جميع ذلك كالعبد
لان الرق الحاجز له عن التبرعات قائم فيه إلا أن في حق المكاتب لا يجوز ذلك الا بإذن المولى
بخلاف المأذون إذا لم يكن عليه دين لان كسب المأذون خالص ملك المولى والمولى
ممنوع من كسب المأذون سواء كان عليه دين أو لم يكن ولو أعتق المأذون أمته على مال لم
يجز لان هذا التصرف ليس بتجارة فان أجازه المولى جاز إن لم يكن عليه دين كما لو باشره
بنفسه والمال دين للمولى عليها ولا يجوز قبض المأذون له منها لأنه في العقد كان معبرا عن
المولى فهو في قبض البدل كأجنبي آخر وان لحقه دين بعد إجازة المولى لم يكن للغريم في
ذلك المال حق لأنه كسب حر فلا يتعلق به حق غرماء المأذون وإن كان على المأذون دين
لا يحيط برقبته وبما في يده جاز العتق بإجازة المولى أيضا لكونه مالكا فيها وعليه قيمتها للغرماء
28

لان حقهم في ماليتها وقد تلفها المولى بالإجازة ثم المال عليها للمولى لاحق لغرماء المأذون في
ذلك بخلاف ما تقدم من الكتابة لان الأمة هاهنا تعتق بنفس القبول وما تكتسب بعد ذلك
خالص ملكها فإنما يؤدى بدل الكتابة من كسب اكتسبه في حال رقه وحق الغرماء فيه
مقدم على حق المولى وإن كان الدين يحيط بالمأذون وبما في يده فكذلك في قولهما وفي قول
أبي حنيفة لا تعتق لأنه لا حق للمولى في كسب المأذون في هذه الحالة ولو تزوج المأذون
امرأة حرة بغير إذن مولاه ودخل بها يفرق بينهما لان النكاح ليس بتجارة فالمأذون فيه
كالمحجور ولكن يلزمه المهر بالدخول بشبهة العقد الا انه لا يؤاخذ بالمهر حتى يعتق لان هذا
دين لزمه بسبب عقد هو غير مأذون فيه من جهة المولى فيؤخر إلي ما بعد العتق كدين الكفالة
وقد بينا في النكاح أن المأذون لا يزوج عبده وان في تزويجه أمته خلافا وللمأذون أن يدفع
المال مضاربة بالنصف لان له أن يستأجر أجيرا يعمل في ماله باجر مضمون في ذمته
والاستئجار للعمل ببعض الربح يكون أنفع له وهو من صنيع التجار وكذلك يأخذ مالا
مضاربة بالنصف لأنه يشترى بثمن في ذمته ولا يرجع به على غيره ليستفيد الربح فلان
يملك الشراء على وجه يرجع فيه بالعهد على غيره ويحصل الربح لنفسه كان أولي وإذا اشترك
العبد ان المأذون لهما في التجارة شركة عنان على أن يشتريا بالنقد والنسيئة بينهما لم يجز من
ذلك النسيئة وجاز النقد لان في النسيئة معنى الكفالة عن صاحبه والمأذون لا يملك الكفالة
فهو بمنزلة ما لو اشتركا شركة مفاوضة فان الشركة بينهما تكون عنانا لا مفاوضة لما فيها من
معنى الكفالة فان أذن لهما الموليان في الشركة على الشراء بالنقد والنسيئة ولا دين عليهما فهو
جائز كما لو أذن لكل واحد منهما مولاه بالكفالة أو التوكل بالشراء بالنسيئة وإذا اشترى
المأذون وعليه دين أو لا دين عليه ثوبا بعشرة وباعه من مولاه بخسمة عشر لم يبعه المولى
مرابحة الا على عشرة لتمكن تهمة المسامحة في المعاملة بينه وبين المولى ولو كان المولى اشتراه
بعشرة ثم باعه من العبد بخمسة عشر أو باعه من أمة لعبد مأذون لها في التجارة فتهمة المسامحة
بينهما متمكنة وكذلك لو كان المأذون اشتراه ثم باعه من مكاتب للمولى أو عبد آخر له أو
من عبد لمكاتب المولى أو من مضارب للمولى أو من مضارب المكاتب لم يبعه مرابحة الا على
أقل الثمنين ولو باعه من ابن المولى أو أبيه أو امرأته فكذلك في قول أبي حنيفة لتمكن التهمة
بينه وبين من لا تجوز شهادته له وفى قولهما يبيعه مرابحة على خمسة عشر لأنه ليس للمولى
29

في مال هؤلاء ملك ولا حق ملك وقد بينا هذا في البيوع والله أعلم
(باب الغرور في العبد المأذون له)
(قال رحمه الله) وإذا جاء الرجل بالعبد إلى السوق فقال هذا عبدي فبايعوه فقد
أذنت له في التجارة فبايعوه وبايعه أيضا من لم يحضر هذا القول ولم يعلم فلحقه دين ثم علم أنه
كان حرا أو استحقه رجل فعلى الذي أمرهم بمبايعته الأقل من قيمته ومن الدين للذين
أمرهم بمبايعته ولسائرهم لأنه بما صنع صار غارا لهم فان أمره إياهم بالمبايعة معه يكون تنصيصا
علي انه يصرف ماليته إلى ديونهم إذا لحقه دين ويصير الآمر بمنزلة الكفيل لهم بذلك
(ألا ترى) ان العبد لو كان مملوكا له كما قاله كان حقهم ثابتا في ماليته وكان المولى كالكفيل
لهم عن عبده بقدر مالية الرقبة فإذا تحقق معنى الغرور ثبت لهم حق الرجوع عليه بما وجد فيه
الغرور أو الكفالة وهو الأقل من قيمته ومن ديونه ومن خاطبه بكلامه ولم يحضر مقالته
ولم يعلم به في ذلك سواء لان هذا حكم ينبنى على ثبوت الاذن والاذن إذا كان عاما منتشرا
يكون ثابتا في حق من علم به وفى حق من لا يعلم فكذلك الاذن وما ينبنى عليه من الغرور
والكفالة ويستوى إن كان قال فقد أذنت له في التجارة أو لم يقل لأنه لما قال هذا عبدي
فبايعوه فالغرور والكفالة تثبت بإضافته إلى نفسه وأمره إياهم بمبايعته فمن ضرورة ذلك
الاذن له في التجارة ولا يضمن لم شيئا من مكسوبه لان الكسب لم يكن موجودا عند
مقالة المولى ولا يدرى أيحصل أم لا يحصل فلا يثبت فيه حكم الكفالة والغرور وان شاؤوا رجعوا
بدينهم على الذي ولى مبايعتهم إن كان حرا لأنه باشر سبب التزام الدين وهو من أهله وإن كان
عبدا لم يرجعوا عليه بشئ حتى يعتق لان مولاه لم يرض بصرفه وتعلق الدين بماليته
وان اختاروا ضمان المولى ثم توى ما عليه اتبعوا العبد بجميع دينهم إذا عتق لان التزامه في
ذمته صحيح والمولى كان كفيلا عنه بقدر مالية الرقبة فإذا لم يصل إليهم من جهة الكفيل
كان لهم أن يرجعوا على الأصيل بجميع دينهم إذا عتق ولو لم يكن هذا ولكن العبد أقام البينة ان
مولاه الذي أذن له كان دبره قبل أن يأذن أو كاتب أمه فان قامت البينة انها أم ولد له
فهذا بمنزلة المستحق لأنه تعذر عليهم استيفاء ديونهم من مالية الرقبة لثبوت حق عتقه لهم
عند مقالة المولى فنزل ذلك منزلة حق المستحق أو حقيقة الحرية إذا قامت البينة علي حريتهم
30

وإذا اختاروا أن يضمنوا المولى قيمة المدبر وأم الولد فلا سبيل لهم عليهما فيما بقي من
دينهم حتى يعتقا لان كسبهما ملك المولى وقد غرم المولى لهم مالية الرقبة فلا يبقى لهم سبيل
على كسب هو مملوك له ولو جاء به إلى السوق فقال عبدي هذا وقد أذنت له في التجارة ولم
يقل بايعوه والمسألة بحالها لم يكن هذا غرورا ولم يلزم هذا الآذن ضمان شئ لأنه أخبرهم
بخبر وما أمرهم بمباشرة عقد الضمان معه وحكم الغرور والكفالة لا يثبت بمجرد الخبر (ألا ترى)
أنه لو أخبر انسانا بحرية امرأة فتزوجها فاستولدها ثم استحقت لم يرجع المغرور علي الخبر
بشئ ولو زوجها منه على أنها حرة ثم استحقت رجع على المزوج بما غرم من قيمة أولادها
فالامر بالمبايعة ههنا في حكم الغرور نظير التزويج هناك والاخبار بالملك والاذن ها هنا نظير
الاخبار بالحرية هناك وان قال هذا عبدي فبايعوه في البز فان قال قد أذنت له في التجارة
فبايعوه في غير البز والمسألة بحالها كان الآمر ضامنا للغرماء الأقل من دينهم ومن قيمة العبد
لان التقييد بالبز في الامر بالمبايعة لغو علي ما بينا ان فك الحجر لا يقبل التخصيص بنوع
من التجارة فكان هذا والامر بالمبايعة مطلقا سواء بخلاف ما إذا قال لحر ما بايعت به من
البز فلانا فهو على فبايعه غيره في البز لا يجب على الكفيل منه شئ لان الكفالة تقبل التخصيص
وفك الحجر الثابت بالأمر بالمبايعة مع العبد لا يقبل التخصيص فلهذا كان ضامنا (أرأيت) لو
بايعوه في البز فاستقرض ثمن البز من رجل فقضى به الذين بايعوه أما كان للمقرض أن
يرجع بدينه علي الذي أمره بالمبايعة وهو مغرور في ذلك بمنزلة الذين بايعوه في البز (أرأيت)
لو اشترى بزا علي أن يضمن الثمن عنه رجل فادى الكفيل الذين بايعوه في البز أما كان للكفيل
أن يرجع عليه بذلك وإذا أذن لعبده في التجارة ولم يأمر بمبايعته ثم إن المولى أمر رجلا
بعينه أو قوما بأعيانهم بمبايعته فبايعوه مرة أخرى وقد علموا بأمر المولى فلحقه دين ثم
استحق أو وجد حرا أو مدبرا فللذين أمرهم المولى عليه بمبايعته الأقل من حصتهم من
قيمة العبد ومن دينهم وأما الآخرون فلا شئ لهم علي المولى من ذلك لان الغرور ثبت
باعتبار الامر بالمبايعة دون الاذن في التجارة والامر بالمبايعة كان لخاص فلا يتعدى حكمه
إلى غيره بخلاف الأول فالامر بالمبايعة هناك عام منتشر وهذا نظير الحجر بعد الاذن العام
فإنه إذا نهى واحدا أو اثنين عن مبايعته لا يثبت حكم ذلك النهى في حق سائر الناس وإذا
كان النهى عاما منتشرا يثبت حكمه في حق كل من علم به وفى حق من مل يعلم به إذا ثبت هذا
31

فنقول إنما يغرم الذين أمرهم بمبايعته مقدار ما كان يسلم لهم لو كان ما أخبر به حقا وذلك
الأقل من حصتهم من القيمة ومن ديونهم فإنما يتحقق الغرور في حقهم في ذلك القدر ولو
كان أمر قوما بأعيانهم بمبايعته في البز فبايعوه في غيره وفيه فهو سواء والضمان واجب
لهم علي الغار لان التقييد في حقهم في البز لغو فان الامر بالمبايعة في حقهم بمنزله الامر العام
في حق الجماعة وقد بينا أن هناك لا يعتبر التقييد بالبز فهذا مثله وان أتى به إلى السوق فقال
بايعوه ولم يقل هو عبدي فلحقه دين ثم استحق أو وجد حرا أو مدبرا لم يكن على الآمر
شئ لأن هذه مشتورة أشاره بها عليهم فلا يثبت بها الغرور وهذا لأنه لم يضفه إلى نفسه بالملك
والغرور والكفالة تنبنى على ذلك فإنه بالأمر بالمبايعة إنما يصير ضامنا لهم مالية مملوكة لهم وإنما
يكون مطمعا لهم في سلامة مالية مملوكة له وذلك لا يتحقق الا بإضافته إلى نفسه بالملكية ولو
كان أتى به إلى السوق وقال هذا عبدي فبايعوه ثم دبره ثم لحقه دين لم يضمن المولى شيئا
لأنه لم يغرهم في شئ فإنه كان عبدا له قنا كما أخبرهم به وبمجرد الاذن لا يتعلق حق أحد
بمالية رقبته ما لم يجب عليه دين فيكون هو بالتدبير متصرفا في خالص ملكه لاحق لغيره فيه
فلا يضمن شيئا ولكن الغلام يسعى في الدين وكذلك لو كان أعتقه بعد الاذن ثم لحقه الدين
لان اعتاقه لاقى خالص ملكه ولا حق لاحد فيه ولو باعه بعد الاذن ثم بايعوه فلحقه دين لم
يكن على الآمر منه شئ لأنه لم يغرهم في شئ ولكن ما أخبر به كان حقا فلا يضمن لأجل
الغرور ولا يضمن للتصرف لأنه حين تصرف لم يكن حقهم متعلقا بماليته ولو جاء به إلى السوق
فقال هذا عبدي فبايعوه وقد أذنت له في التجارة فبايعوه ثم استحق أو وجد حرا والذي
أمرهم بمبايعته عبد مأذون أو مكاتب أو صبي مأذون له في التجارة فلا ضمان على الآمر في
ذلك علم الذين بايعوه بحال الآمر أو لم يعلموا لان ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة وهو
في هذا الموضع أمين فالآمر يصير كالكفيل للغرماء عنه بقدر مالية الرقبة وكفالة الصبي
المأذون له في التجارة لا يلزمه شئ بحال علم المكفول له بحاله أو لم يعلم وكفالة العبد والمكاتب
لا تلزمهما شيها حتى يعتقا فإذا عتقا رجع عليهما غرماء العبد بالأقل من دينهم ومن قيمة الذي بايعهم
لان التزامهما بالكفالة صحيح في حقهما قال (ألا ترى) ان الذي اشترى المغرور منه لو كان فيه
ربح لم يكن للآمر من ذلك قليل ولا كثير وهذا إشارة بمنزلة الكفالة في حقه لا بمنزلة
32

الوكالة بالشراء فإن كان الآمر مكاتبا جاء بأمته إلى السوق فقال هذه أمتي فبايعوها فقد
أذنت لها في التجارة فلحقها دين ثم علم أنها قد ولدت في مكاتبته قبل أن يأذن لها فللغرماء أن
يضمنوا المكاتب الأقل من قيمتها أمة ومن دينهم لأنه صار غارا لهم بما أخبرهم به فصار
ضامنا لهم عنها بمقدار مالية رقبتها وضمان المكاتب عن أم ولده مالا يكون صحيحا لان
كسبها للمكاتب فيجوز ضمانه عنها بخلاف ما إذا استحقت أو وجدت حرة لان المكاتب
لا يكون مالكا لكسبها ولا يجوز ضمانه عنها وقد بينا ان ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة
وإذا أتى الرجل بالعبد إلى السوق فقال هذا عبدي فبايعوه فقد أذنت له في التجارة فبايعوه
فلحقه دين ثم استحقه رجل وقد كان المستحق أذن له في التجارة قبل أن يأتي به الآخر إلى
السوق فإنه يباع في الدين ولا ضمان علي الذي أمرهم بمبايعته لان بما ظهر من الاستحقاق
لم يمتنع سلامة شئ مما ضمن سلامته لهم فإنه إنما ضمن لهم سلامة مالية لرقبة وذلك سالم لهم
سواء كان مأذونا له في التجارة من جهة المستحق أو من جهة الآمر ولو كان مدبرا للمستحق
مأذونا له في التجارة ضمن له الغار والأقل من قيمته غير مدبر ومن دينهم لأنه لم يسلم لهم ما ضمن
الآمر سلامته لهم وهو مالية الرقبة (ألا ترى) انه لو ظهر انه كان مدبرا للآمر يضمن
لهم الأقل من قيمته غير مدبر ومن دينهم فإذا ظهر أنه كان مدبرا لغيره أولي ولو كان عبدا
محجورا عليه لغيره فأتى به هذا إلي السوق وقال هذا عبدي فبايعوه ثم أذن له مولاه في
التجارة فلحقه دين بعد ذلك لم يكن على الغار ضمان لان مالية الرقبة سلمت لهم بالاذن الصادر
من المالك بعد الامر بالمبايعة كما سلم لهم بالاذن الموجود منه وقت الامر بالمبايعة ولو كان
لحقه دين ألف درهم قبل اذن مولاه في التجارة وألف درهم بعد اذنه فان على الغار الأقل من
الدين الأول ومن نصف قمية العبد لان صاحب الدين الأول لا يسلم له شئ من مالية الرقبة
بالاذن الصادر من المولى بعد وجوب دينه ولو كان ما أخبر به الغار حقا كان سلم له نصف مالية
الرقبة فلهذا كان على الغار له الأقل من دينه ومن نصف قيمة العبد فإذا أتى الرجل بعبد إلى السوق
فقال هذا عبد فلان قد وكلني بان آذن له في التجارة وان آمركم بمبايعته وقد أذنت له في
التجارة فبايعوه فاشترى وباع فلحقه دين ثم حضر مولاه وأنكر التوكيل فالوكيل ضامن
الأقل من الدين ومن القيمة لان الغرور تحقق منه بما أخبرهم به فان في معنى الغرور عبده
وعبده غيره سواء لان ما أخبرهم به لو كان حقا كان يسلم لهم مالية الرقبة فيصير هو بالاخبار
33

ضامنا لهم سلامة مالية الرقبة ولم يسلم حين أنكر المولى التوكيل وحلف وكان لهم أن يضمنوا
المخبر قيمته (ألا ترى) ان مشترى الأرض إذا بنى فيها ثم استحقت رجع على البائع بقيمة
البناء للغرور سواء باعه لنفسه أو لغيره بوكالته إذا أنكر المالك التوكيل ولو وجد العبد حرا
أو استحقه رجل أو كان مدبرا لمولاه فالوكيل ضامن أيضا لأنه ضمن لهم سلامة ماليته ولم
تسلم ويرجع به علي الموكل إن كان أقر بالتوكيل الذي ادعاه لأنه كان عاملا للموكل فيما
باشره فيرجع عليه بما لحقه من العهدة وان أنكر التوكيل لم يرجع عليه بشئ إلا أن يثبتها
بالبينة وان قال هذا عبدا بنى وهو صغير في عيالي فبايعوه فلحقه دين ثم استحق أو وجد حرا
ضمن الأب الأقل من قيمة العبد ومن الدين لأنه بما أخبرهم به صار ضامنا لهم سلامة
ماليته (ألا ترى) ان ما أخبر به لو كان حقا كان يسلم لهم مالية الرقبة باعتبار كلامه وكذلك
وصى الأب والجد فأما الأم والأخ وما أشبههما فان فعلوا شيئا من ذلك لم يكن غرورا ولم
يلحقه ضمان لان ما أخبر به لو كان حقا لم تسلم لهم مالية الرقبة باعتبار كلامه فان هؤلاء
لا يملكون الاذن لعبد اليتيم فكذلك هو بالاخبار لا يصير ضامنا لهم شيئا وإذا أتى الرجل بصبي
إلى السوق فقال هذا ابن ابني فبايعوه فلحقه دين ثم أقام رجل البينة انه ابنه فان الدين يبطل
عن الصبي أبدا لأنه تبين انه كان صبيا محجورا عليه فلا يلزمه دين بالمبايعة أبدا وترجع الغرماء
على الذي غرهم بجميع الدين لان ما أخبرهم به لو كان حقا كان لهم حق مطالبة الصبي بجميع
دينهم في الحال أو بعد البلوغ وكان على الصبي أن يقضى ذلك من ملكه فيصير الآمر بمبايعته
ضامنا لهم سلامة ديونهم وان أخبرهم بحريته فإذا لم يسلموا رجعوا عليه بذلك كما لو زوج
رجلا امرأة علي انها حرة وكذلك وصى الأب والجد أب الأب وهذا إذا لم يكن أب ولا
وصى أب ولو أتى بعبده إلي السوق فقال هذا عبدي وهو مدبر فبايعوه فلحقه دين ثم أقام
رجل البينة انه مدبر له بطل عن المدبر الدين حتى يعتق لأنه ظهر انه كان محجورا عليه ولا
ضمان على الغار من قيمة رقبته ولا من كسبه لأنه ما ضمن لهم سلامة مالية الرقبة حين أخبرهم
انه مدبر والغرور لا يتحقق في الكسب لأنه لم يكن موجودا حين أخبرهم به ولم يدر أيحصل
أو لا يحصل ولو قتل المدبر في يد الذي استحقه ضمن الغار قيمته مدبرا للغرماء لأنه بإضافته
إلى نفسه بالملكية ضمن لهم سلامة بدل نفسه مدبرا إذا قتل (ألا ترى) ان ما أخبرهم به
لو كان حقا كان يسلم لهم ذلك وحكم البدل حكم الأصل فوجود الأصل عند الامر بالمبايعة
34

كوجود البدل فلهذا يثبت حكم الغرور فيه بخلاف الكسب ولو أتى بجارية إلى السوق فقال
هذه أمتي فبايعوها فلحقها دين يحيط برقبتها ثم ولدت ولدا فاستحقها رجل وأخذها وولدها
ضمن الغار قيمتها وقيمة ولدها لان الولد جزء متولد من عينها وهو يسلم للغرماء لو كان
ما أخبر به حقا كنفسها وهذا بخلاف الكسب فان الكسب غير متولد من عينها فلا يجعل
وجودها كوجود الكسب عند الامر بالمبايعة كوجود ما يتولد منها في ثبوت حكم الغرور
في ذلك فأما الولد فمتولد من عينها فوجودها عند الامر بالمبايعة كوجود ما يتولد منها في
ثبوت حكم الغرور في ذلك (ألا ترى) انها لو كانت مدبرة كان ولدها كنفسها لأنه لا يتعلق
حق الغرماء بماليته بخلاف كسبها فإن كانت قيمتها يوم استحقت أكثر من قيمتها يوم أمرهم
بمبايعتها أو أقل ضمن قيمتها يوم استحقت لأنه إنما امتنع سلامة المالية لهم حين استحقت وقد
صار الغار بالأمر بالمبايعة ضامنا لهم سلامة ذلك ولو أقام الغار البينة على أنه قد أذن لها في
التجارة قبل أن يغرهم أو بعد ما غرهم قبل أن يلحقه دين برئ من الضمان لان الثابت بالبينة
كالثابت باقرار الخصم (ألا ترى) ان مالية الرقبة تسلم للغرماء في الوجهين فكذلك الضمان
ينفى عن الغار في الوجهين والله أعلم
(باب الشهادة على المأذون)
(قال رحمه الله) وشهادة الشهود على العبد والصبي والمعتوه المأذون بغصب أو ببضاعة
مستهلكة أو باقراره بذلك أو ببيع أو شراء جائز وإن كان مولاه غائبا ويقضى القاضي
عليه بذلك لأنه بالاذن صار منفك الحجر عنه في التجارة وتوابعها فالتحق في ذلك بالحر
العاقل البالغ فيكون الخصم فيما يدعى أو يدعي قبله هو ولا حاجة إلى حضور مولاه إلى
القضاء بذلك استدلالا بالمكاتب ولو شهدوا على العبد المحجور عليه بغصب أو وديعة مستهلكة
والمولى غائب لم يقض على العبد بذلك حتى يحضر المولى لان المستحق به مالية رقبته والمولى
هو الخصم في استحقاق مالية الرقبة عليه فلا يقضى ما لم يكن حاضرا في الأول وإن كان
المستحق مالية رقبته أيضا ولكن المولى بالاذن قد صار راضيا بكونه خصما في استحقاق مالية
رقبته بجهة التجارة (ألا ترى) انه مستحق باقراره وبمباشرته التجارة وإن كان المولى غائبا
فكذلك يستحق ببينة تقوم عليه بالدين بخلاف ما نحن فيه وكما يشترط حضرة المولى هاهنا
35

يشترط حضرة العبد لان المدعي قبله والمستحق به دين في ذمته وكان يتعلق بمالية رقبته
فلا بد من حضوره فإذا حضر قضي على العبد بالقيمة فيباع فيه لان الحجر لا يؤثر في الأفعال
الموجبة للضمان وأما الوديعة وما أشبهها فلا يقضى عليه بها حتى يعتق وهذا في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف يقضى عليه بما استهلك من الأمانات في الحال فإن كان
وا شهدوا عليه باقراره بذلك ومولاه حاضر أو غائب لم يقض على العبد بشئ من ذلك حتى
يعتق فإذا عتق لزمه ما شهدوا به عليه لأنه محجور عن التزام الدين بالقول لحق مولاه والاقرار
الثابت عليه بالبينة كالثابت بالمعاينة فلا نلزمه شيئا ما لم يسقط حق المولى عنه بقبضه ولو
شهدوا عليه بقتل رجل عمدا أو قذف أو شرب خمر لم يقم عليه حد حتى يحضر مولاه في
قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضى عليه بذلك وإن لم يحضر مولاه وكذلك لو
شهدوا عليه باقراره بذلك ومولاه غائب ففيما يعمل فيه الرجوع عن الاقرار لا تقبل هذه
الشهادة وفيما لا يعمل فيه الرجوع عن الاقرار كالقصاص وحد القذف فهو علي الخلاف
الذي بينا ولا خلاف انه لو أقر به قضى القاضي به عليه فأبو يوسف يقول المستحق بهذه
الأسباب هو خالص حقه وهو دمه فان وجوب العقوبات عليه باعتبار معنى النفسية دون
المالية وهو في حكم النفسية مبقى على أصل الحرية ولهذا تقام عليه هذه العقوبات باقراره
وإن كان المولى غائبا أو مكذبا له ولا يقبل اقرار المولى بشئ من ذلك فلا يشترط حضور
المولى لقبول البينة عليه بذلك وهما يقولان في القضاء بهذه البينة مع غيبة المولى ابطال حقه
من أوجه أحدهما انه يستوفى هذه العقوبة فتفوت به مالية المولى أو تنتقص والثاني انه يخرج
من يد المولى إذا حضر مجلس الحكم لإقامة الحد عليه بذلك واليد مستحقة للمولى والثالث
أن له حق الطعن في الشهود لو كان حاضرا فبالقضاء عليه قبل حضوره يبطل حق الطعن
الثابت له وابطال حقه بالقضاء حال غيبته لا يجوز بخلاف الاقرار فان الاقرار موجب للحق
بنفسه وليس للمولى حق الطعن في اقراره فلا تفوت به يده ولا حقه في الطعن ثم لا تهمة
في اقراره على نفسه لان ما يلحقه بالضرر بذلك فوق ما يلحق مولاه وقد بينا هذه المعاني
في كتاب الآبق وأما الصبي والمعتوه المأذون لهما فلا يلزمهما شئ من ذلك في الاقرار ولا في
الشهادة على الفعل لأنهما غير مخاطبين والأهلية للعقوبة تنبنى على كون المباشر مخاطبا الا في
القتل خاصة إذا كان أب الصبي أو المعتوه أو وصيهم حاضرا فإنه يقضى بالدية على عاقلتهما
36

وفي حالة غيبة الولي لا يقضى بذلك ولو شهدوا عليهما بالاقرار بالقتل فالشهادة باطلة لان
القتل ليس من التجارة وفيما ليس من التجارة المأذون والمحجور سواء ولا قول له في ذلك
والخصم في اثبات البينة عليه الولي فبدون حضرة المولى لا يقضى بشئ وبعد حضوره الثابت
بالبينة كالثابت بالمعاينة وانه مما يوجب الدية على العاقلة ولو شهدوا على العبد المأذون بسرقة
عشرة دراهم أو أكثر فإن كان مولاه حاضرا قطع وإن كان غائبا فكذلك عند أبي يوسف
وفي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقطع ولكن يضمن السرقة لان المسروق منه يدعى
المال ولكنه متى ثبت السبب الموجب للعقوبة عند القاضي استوفى العقوبة في حال غيبة
المولى ولا يثبت السبب الموجب للعقوبة عليه بالبينة فتبقي دعوى المال والعبد خصم فيما يدعي
قبله من المال كما لو كانت الدعوى بسبب الغصب وشهدوا عليه ولو شهدوا عليه بسرقة أقل
من عشرة ضمن السرقة لان فيما دون النصاب الاخذ بجهة السرقة كالأخذ بجهة الغصب
ولو شهدوا على صبي أو معتوه مأذون لهما بسرقة عشرة دراهم أو أكثر قضى عليه بالضمان
وإن كان وليه غائبا لان جهة السرقة كجهة الغصب في حقهما إذ لا عقوبة عليهما بسبب
السرقة وقد بينا أن المأذون خصم فيما يتهم بذلك عليه من الاخذ الموجب للضمان وا ن كان
وليه غائبا وان شهدوا على اقرار واحد منهم بذلك قضى القاضي عليه بالضمان حضر مولاه
أو وليه أو لم يحضر لان الرجوع عامل في حق العقوبة فإذا كان هو جاحدا والشهود يشهدون
على اقراره بذلك كانت هذه شهادة على ما يوجب ضمان المال ولو شهدوا على عبد محجور
بسرقة عشرة أو أكثر ومولاه غائب لم يقض عليه بشئ حتى يحضر المولى لان دعوى السرقة
عليه كدعوى الغصب وقد بينا انه يشترط حضرة المولى فيما يدعى على المحجور من الغصب
فكذلك فيما يدعى قبله من السبب الموجب للعقوبة فإن كان مولاه حاضرا قطعت يده لان
السبب الموجب للعقوبة ظهر بشهادته وهو مخاطب وان شهدوا على اقرار العبد بذلك
وهو يجحد فالشهادة باطلة لان اقرار المحجور عليه في حق المال باطل حتى يعتق وفي حق
القطع الاقرار يبطل بالرجوع عنه ثم قد بينا أن اقرار المحجور بسرقة مال مستهلك أو قائم بعينه
في يده وما في ذلك من الاختلاف بينه أصحابنا في كتاب السرقة قال وإذا أذن المسلم
لعبده الكافر في التجارة فاشترى خمرا أو خنزيرا فهو جائز كان عليه دين أو لم يكن لأنه
يتصرف لنفسه بفك الحجر عنه فيراعى حاله في ذلك ثم المولى إنما يتملكه عليه بطريق
37

الخلافة كما يتملك الوارث مال مورثه والمسلم من أهل أن يتملك الخمر بالميراث ولو اشترى
ميتة أو دما أو بايع كافرا بربا فهو باطل لان انفكاك الحجر عنه بالاذن كانفكاك الحجر عنه
بالعتق وتصرف الحر الكافر في الميتة والدم باطل وهو في جميع بياعاته بمنزلة المسلم الا في الخمر
والخنزير فكذلك العبد المأذون ولو شهد عليه كافران بغصب أو وديعة مستهلكة أو بيع أو
إجارة أو شهدوا على اقراره بذلك وهو ومولاه ينكران ذلك فشهادتهما جائزة استحسانا
ذكره في كتاب المأذون الصغير وفي القياس لا تقبل هذه الشهادة لان المسلم يتضرر بها فان
الكسب ومالية الرقبة إنما يستحق على المولى بهذه الشهادة والمولى مسلم وشهادة الكافر فيما
يتضرر به المسلم لا تكون حجة * وجه الاستحسان أن المولى فك الحجر عنه بالاذن فيجعل
ذلك في إقامة الحجة عليه بمنزلة فك الحجر عنه بالعتق والمولى وإن كان يتضرر به ولكنه قد
صار راضيا بالتزام هذا الضرر حين أذن له في التجارة مع علمه ان شهادة الكفار حجة علي
الكافر (ألا ترى) ان العبد الكافر لو أقر بذلك صح اقراره وإن كان المولى يتضرر لوجود
الرضا منه بذلك فكذلك إذا شهد الشهود عليه بذلك وكذلك الصبي الكافر يأذن له وصيه
المسلم أو جده أب أبيه في التجارة لان انفكاك الحجر عنه بالاذن كانفكاك الحجر عنه
بالبلوغ فشهادة الكافر تكون حجة عليه وإن كان العبد المأذون مسلما ومولاه كافرا لم تجز
شهادة الكافرين على العبد بشئ من ذلك وإن لم يكن عليه دين لان العبد هو الخصم فيما يشهد
به الشهود عليه وهو مسلم جاحد لذلك فلا تقبل شهادة الكفار عليه وان شهد الكافران على
العبد المحجور الكافر بغصب ومولاه مسلم فشهادتهما باطلة لان الخصم فيما يدعي على العبد المحجور
مولاه (ألا ترى) ان الشهادة عليه لا تقبل الا بمحضر من مولاه فإذا كان المولى مسلما لم
تكن شهادة الكفار حجة عليه بخلاف المأذون فإن كان مولاه كافرا فشهادتهما جائزة قال
وإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران بجناية خطأ أو بقتل عمدا أو بشرب
خمر أو بقذف أو شهد عليه أربعة من الكفار بالزنا وهو ومولاه منكران لذلك فالشهادة
باطلة لان الخصم هاهنا المولى (ألا ترى) ان البينة لا تقبل على العبد بشئ من ذلك الا
بمحضر من المولى أما في جناية الخطأ فغير مشكل وفي الأسباب الموجبة للعقوبة كذلك عند
أبي حنيفة ومحمد وفي قول أبى يوسف المولى يتضرر بذلك ولم يوجد منه الرضا بالتزام هذا
الضرر بالاذن له في التجارة فلهذا لا تقبل شهادتهم عليه وكذلك لو كان العبد مسلما ومولاه
38

كافرا لان الثابت بهذه البينة فعل العبد وشهادة الكفار لا تكون حجة في اثبات فعل المسلمين
وإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران بسرقة عشرة دراهم أو أقل قضى
عليه بضمان السرقة وإن كان المولى حاضرا أو غائبا لم يقطع لأن هذه البينة لا تكون حجة في
اثبات العقوبة لاسلام المولى فكانت شهادتهما عليه بالأخذ بجهة السرقة بمنزلة الشهادة بجهة
الغصب ولو كان العبد مسلما والمولى كافرا كانت شهادتهما باطلة لأنها تقوم لاثبات فعل
المسلم فإذا أذن المسلم لعبده الكافر في التجارة فشهد عليه كافران لكافر أو لمسلم بدين ألف
درهم والعبد يجحد وعليه ألف درهم دين لمسلم أو كافر فشادتهما عليه جائزة وإن كان صاحب
الدين الأول مسلما لأن هذه البينة تقوم لاثبات الدين في ذمة الكافر وقد بينا ان انفكاك
الحجر عنه بالاذن كهو بالعتق والحر الكافر يثبت عليه الدين بشهادة الكافر وإن كان له عبد
مسلم فهذا مثله فإن كان صاحب الدين الأول كافرا بيع في الدينين وإن كان مسلما بيع العبد
وما في يده في الدين الأول حتى يستوفى جميع دينه فان فضل فهو للذي شهد له الكافران
الآن لان الأول استحق كسبه ومالية رقبته فلو قبلنا شهادة الكافر في اثبات المزاحمة للثاني
معه تضرر المسلم بشهادة الكافر وذلك لا يجوز * فان قيل حق الغريم المسلم في رقبته وكسبه
لا يكون أقوى من حق المولى المسلم وقد بينا ان شهادة الكفار عليه مقبولة في حق مولى
المسلم فكذلك في حق الغريم المسلم * قلنا المولى المسلم رضى بالتزام هذا الضرر حين أذن له في
التجارة فاما الغريم المسلم فلم يوجد منه الرضا بالتزام هذا الضرر وفي اثبات هذه المزاحمة عليه ضرر
ولو ادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألف درهم فشهد لأحدهما مسلمان وشهد للآخر بدينه
كافران فان القاضي يقضى بالدين كله عليه فيبدأ بالذي شهد له المسلمان فيقضى دينه فان بقي
شئ كان للذي شهد له الكافران لان الذي شهد له المسلمان أثبت دينه بما هو حجة علي العبد
خاصة وثبوت الحق بحسب السبب فكان دين الذي شهد له المسلمان ثابتا في حق الذي شهد
له الكافران ودين الذي شهد له الكافران غير ثابت في حق الذي شهد له المسلمان فلهذا يبدأ
من كسبه وثمنه بقضاء دينه الذي شهد له المسلمان فان بقي شئ فهو للذي شهد له الكافران ولو
صدق العبد الذي شهد له الكافران اشتركا في كسبه وثمن رقبته لان دينه ثبت باقرار العبد
والثابت باقرار المأذون من الدين كالثابت بالبينة فيظهر وجوبه في حق الغريم الذي شهد له
المسلمان ويتحاصان فيه ولو كان الذي شهد له الكافران مسلمان والذي شهد له المسلمان كافرا
39

والعبد يجحد ذلك كله بيع العبد واقتسما ثمنه نصفين لان كل واحد منهما أثبت دينه بما هو
حجة على العبد وعلى خصمه فاستوى الدينان في القوة ولو كان الغرماء ثلاثة كل واحد منهم
يدعى ألف درهم أحدهم مسلم شهد له كافران والثاني مسلم شهد له مسلمان فإنه يقضي عليه
بجميع الدين ويباع فيه لان البينات كلها حجة عليه ثم يقسم ثمنه بين المسلم الذي شهد له المسلمان
والكافر الذي شهد له المسلمان نصفين لان كل واحد منهما أثبت دينه بما هو حجة على العبد
وعلى الخصمين الآخرين فأمنا الثالث الذي شهد له كافران فقد أثبت دينه بما ليس بحجة على المسلم
الذي شهد له المسلمان فلا يستحق المزاحمة معه في ثمنه وإذا لم تثبت المزاحمة صار كالمعدوم
واستوى دين الآخرين في القوة فالثمن بينهما نصفان سلم للمسلم نصفه والنصف الذي صار للكافر
بينه وبين المسلم الذي شهد له الكافران نصفين لأنه أثبت دينه بما هو حجة على هذا الكافر
وإنما كان محجورا لحق المسلم ولم يبق في هذا النصف للمسلم حق وبينهما مساواة في قوة
دين كل واحد منهما في حق صاحبه فيقسم هذا النصف بينهما نصفين ثم لا يكون للمسلم أن
يأخذ من يد هذا الذي شهد له الكافران ما يأخذه من صاحبه لان ذلك لا يفيد شيئا إذا أخذ ذلك
أتاه الكافر الذي شهد له المسلمان فاسترد ذلك منه لأنه يساويه في الثمن فلهذا لا يشغل بذلك
ولو كان أحد الغرماء مسلما شهد كافران والآخران كافران شهد لكل واحد منهما كافران
بدئ بالمسلم لان دينه ثبت بما هو حجة على خصمه ودينهما ثبت بما ليس بحجة عليه فان بقي
بعد دينه كان بين الكافرين لاستوائهما في ثبوت دين كل واحد منهما في حق صاحبه ولو
كان العبد مسلما والمولي كافرا والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد له كافران والآخر كافر شهد
له مسلمان والعبد يجحد ذلك فان القاضي يبطل دعوى المسلم الذي شهد له كافران ويباع العبد
الآخر في دينه فيوفيه حقه فان بقي شئ من ثمنه فهو للمولى لان المسلم إنما أقام شهودا
كفارا على دينه وشهادة الكفار لا تكون حجة على العبد المسلم فما لم يثبت دينه على العبد
لا يستحق شيئا من ثمنه فلا يكون لهذا المسلم أن يزاحم الغريم الكافر فيما يأخذه ولا ان يأخذ
من المولى شيئا مما بقي من ثمنه في يده بخلاف ما سبق فهناك الديون كلها تثبت على العبد
وكذلك لو كان العبد محجورا عليه في هذا الفصل لان أصل الدين لا يثبت عليه بشهادة الكافر
وإن كان محجورا عليه وما لم يثبت عليه أصل الدين في ذمته لا يتعلق بمالية رقبته ولو كان العبد
كافرا محجورا ومولاه مسلما والغرماء رجلين أحدهما مسلم شهد له كافران والآخر كافرا
40

شهد له مسلمان بأنه غصب منه ألف درهم فإنه يقضى عليه بدين الكافر ولا يقضى عليه بدين
المسلم حتى يعتق لان مولاه مسلم وقد بينا ان شهادة الكفار على العبد الكافر المحجور عليه
بالغصب لا تكون حجة في حق المسلم فما لم يسقط حقه بالعتق لا يقضى عليه بدين المسلم ولكن
إذا أخذ الكافر دينه من ثمنه شاركه المسلم لان أصل دين المسلم ثابت على العبد بشهادة الكفار
هاهنا (ألا ترى) انه يؤخذ به بعد العتق وإنما لا يظهر ذلك في حق المولى وقد سقط حق
المولى عما أخذه الكافر من ثمن العبد وإنما بقي المعتبر فيه حق الكافر ودين المسلم ثابت بما هو
حجة علي الكافر وعلى العبد كدين الكافر ولهذا شاركه فيما أخذه وإذا أذن المسلم لعبده الكافر
فشهد عليه كافران بدين ألف درهم لمسلم أو كافر باقرار أو غصب وقضى القاضي بذلك فباع
العبد بألف درهم فقضاها الغريم ثم ادعي على العبد دينا ألف درهم كانت عليه قبل أن يباع فان
أقام على ذلك شاهدين مسلمين فان القاضي يأخذ الألف من الغريم الذي شهد له الكافران
فيدفعها إلى هذا الغريم الذي شهد له المسلمان ولو كان الثاني كافرا أخذ منه نصف ما أخذه الأول
لأنه أثبت دينه بتاريخ سابق على البيع فيلتحق بالدين الظاهر عليه بشهادة المسلمين قبل أن
يباع ولو قامت البينة قبل البيع كان الحكم فيه ما ذكرنا فكذلك هاهنا قال ولو كان الأول
كافرا وشاهداه مسلمين والثاني مسلما أو كافرا وشاهداه كافرين فإنه يأخذ من الأول نصف
ما أخذه لان دين الثاني ثبت بما هو حجة على العبد وعلي الغريم الأول ودين الأول كذلك
فلاستوائهما في القوة يجعل ثمنه بينهما نصفين (ألا ترى) ان الكافر لو هلك وترك ألف
درهم فأسلم وارثه وأقام كافر شاهدين مسلمين على الميت بألف درهم فقضي له القاضي ثم إن
مسلما أو كافرا أقام علي الميت شاهدين كافرين بدين ألف انه يأخذ من الأول نصف ما أخذ
للمعنى الذي بينا واستحقاق تركة الميت بدينه كاستحقاق كسب العبد وثمن رقبته بدينه قال وإذا
أذن الرجل لعبد الكافر في التجارة فباع واشترى ثم أسلم فادعى عليه رجلان دينا فجاء أحدهما
بشاهدين كافرين عليه بألف درهم دينا كانت عليه في حالة كفره وجاء الآخر بشاهدين
مسلمين عليه بمثل ذلك والمدعيان مسلمان أو كافران والمولى مسلم أو كافر فشهادة المسلمين
جائزة ولا شئ للذي شهد له الكافران لان العبد مسلم حين قامت البينة عليه وشهادة الكافر
على المسلم لا تقبل سواء أطلق الشهادة أو أرخ بتاريخ سابق علي اسلامه ولو كان العبد مسلما
ومولاه كافرا أو مسلما فارتد العبد عن الاسلام والعياذ بالله فشهد عليه مسلمان لكافر أو لمسلم
41

بمال وشهد عليه كافران لمسلم أو كافر بمال فشهادة المسلمين جائزة وشهادة الكافرين باطلة لان
المرتد مجبر على العود إلى الاسلام وحكم الاسلام باق في حقه ولهذا لا ينفذ تصرفه في الخمر والخنزير
فشهادة الكافر لا تكون حجة أصلا وإذا أذن الرجل لعبده الكافر في التجارة ومولاه مسلم
أو ذمي فشهد عليه مسلمان لمسلم بدين وشهد عليه ذميان لمسلم بدين وشهد عليه مستأمنان لمسلم
بدين فان القاضي يبطل شهادة المستأمنين لان العبد ذمي وشهادة المستأمن لا تكون حجة على
الذمي باعتبار ان الذمي من أهل دارنا ويقضى بشهادة الذميين والمسلمين لأنها حجة عليه ثم يبيع
العبد فيبدأ بدين الذي شهد له المسلمان لأنه أثبت دينه بما هو حجة على العبد وعلى خصمه
الآخر إنما أثبت دينه بما هو حجة على العبد لا على خصمه فإذا أخذ المسلم حقه وبقي شئ كان
للذي شهد له الذميان لان دينه كان ثابتا علي العبد ولكن كان محجورا لحق المسلم وقد زال
الحجر حين استوفى المسلم حقه فان بقي شئ بعد دينه كان للمولى لان دين الذي شهد له المستأمنان
غير ثابت في حق العبد وكذلك لو كان المولى حربيا لان الدين بشهادة الحربيين لا يثبت علي
العبد الذمي وما لم يثبت الدين على العبد لا يتعلق بماليته التي هي حق مولاه فلو كان المولى
وعبده حربيين والمسألة بحالها قضى بالدين كله على العبد وبيع فيه فيبدأ بالذي شهد له المسلمان
ثم بالذي شهد له الذميان لما قلنا ثم ما فضل يكون للذي شهد له الحربيان لان دينه ثابت في
حق العبد ههنا وإنما كان محجورا بحق الآخرين فإذا زال الحجر كان الباقي له فإن كان أصحاب
الدين كلهم أهل الذمة والمسألة بحالها يحاص في ثمنه الذي شهد له المسلمان والذي شهد له الذميان لان
دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة علي العبد وعلى الخصمين الآخرين ودين الثالث إنما ثبت
بما هو حجة على العبد خاصة فلا يزاحمهما في ثمنه ولكن يقدمان عليه ويتحاصان للمساواة بينهما
في القوة فان فضل شئ فهو للذي شهد له الحربيان ولو كان أصحاب الدين كلهم مستأمنين
تحاصوا جميعا في دينهم لان دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على العبد وعلى الخصمين
الآخرين ولو كان المولى مسلما أو ذميا والعبد حربيا دخل بأمان فاشتراه هذا المولى وأذن له في
التجارة والمسألة بحالها لم تجز شهادة الحربيين عليه بشئ لان العبد قد صار ذميا حين دخل في
ملك مسلم أو ذمي فلا تكون شهادة أهل الحرب بالدين عليه حجة وإذا دخل الحربي دارنا
بأمان ومعه عبد له فأذن له في التجارة جازت شهادة المستأمنين عليه بالدين كما تجوز علي مولاه
لأنه حربي مستأمن (ألا ترى) إن لمولاه أن يعيده إلى دار الحرب ولو كان الغرماء ثلاثة
42

مسلم شهد له حربيان بدين ألف درهم وذمي شهد له ذميان بدين ألف درهم وحربي شهد له
مسلمان بدين ألف درهم ثم بيع العبد بألف درهم فإنه يقسم الألف بين الذمي الذي شهد له
الذميان والحربي الذي شهد له المسلمان نصفين لان دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على
العبد وعلى صاحبه فأما المسلم فإنما يثبت دينه بما ليس بحجة علي الذمي وهو شهادة الحربيين فلهذا
لا يزاحمهما وإذا اقتسما ثمنه نصفين أخذ المسلم من الحربي نصف ما صار له لان دينه ثابت بما
هو حجة في حق الحربي وإنما كان ممنوعا لحق الذمي وقد سقط حق الذمي عن هذا النصف
فكان بينهما نصفين وقال عيسى بن أبان رحمه الله هذا خطأ وينبغي أن يكون الألف بينهم أثلاثا لان
المسلم الذي شهد له الحربيان والذمي الذي شهد له الذميان استويا من حيث إن دين كل واحد
منهما ثبت بما هو حجة على العبد دون صاحبه فليس جعل المسلم محجوبا عن المزاحمة لأجل
الذمي بأولى من جعل الذمي محجوبا عن المزاحمة لأجل المسلم وقد ثبت دين كل واحد منهما بما
هو حجة على الحربي ودين الحربي بما هو حجة عليهما فينبغي أن يكون بينهم أثلاثا وهذا ذكره
الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله وقيل في تصحيح جواب الكتاب انه وإن كان كذلك
فشهادة الذمي أقوى من شهادة الحربي لان شهادة أهل الحرب إنما تقبل بعقد الأمان والأمان
يثبت للحربي بهذا المسلم أو من يقوم مقامه من المسلمين أما عقد الذمة فليس يثبت من جهة
الذمي فكانت شهادة أهل الذمة للذمي أقوى وأبعد عن التهمة من شهادة المستأمنين للمسلم
فترجح جانبه لهذا ولو كانت شهود الذمي حربيين وشهود المسلم ذميين والمسألة بحالها كان الثمن
بين المسلم والحربي نصفين لان الذمي إنما أثبت دينه بما ليس بحجة على المسلم والمسلم أثبت دينه
بما هو حجة علي المسلم فكان الذمي محجوبا به بقي المسلم والحربي وقد أثبت كل واحد منهما
دينه بما هو حجة على العبد وعلى صاحبه فكان الثمن بينهما نصفين ثم يأخذ الذمي نصف ما أصاب
الحربي لان بينته حجة عليه وإنما كان محجوبا عن المسلم وقد سقط حق المسلم عن هذا النصف
ولو كان الذي شهد له المسلمان ذميا والذي شهد له الذميان حربيا والذي شهد له الحربيان
مسلما فان الثمن بين الحربي والذمي نصفين لان دين كل واحد منهما ثبت بما هو حجة على صاحبه
ودين المسلم ثبت بما ليس بحجة على الذمي فكان هو محجوبا وليس في هذا الفصل طعن فان
الدين ثبت بما هو حجة على المسلم لان شهود الذمي مسلمون فلهذا كان الثمن بين الحربي والذمي
نصفين ثم يأخذ المسلم نصف ما أخذ الحربي لما بينا انه كان محجوبا بالذمي وقد زالت مزاحمته
43

قال فإذا لحق العبد دين فقال مولاه هو محجور عليه وقال الغرماء هو مأذون له فالقول قول
المولى لأنه متمسك بالأصل وهو الحجر بسبب الرق ولان الغرماء يدعون عليه بسبب
استحقاق كسبه ومالية رقبته والمولى ينكر ذلك فعليهم اثبات هذا السبب بالبينة فان جاؤوا
بشاهدين على الاذن فشهد أحدهما أن مولاه أذن له في شراء البز وشهد آخر انه أذن له في
شراء الطعام فشهادتهما جائزة وإن كان الدين من غير هذين الصنفين لان المشهود به إنما هو
أصل الاذن فأما هذا التقيد بالبز و الطعام فلغو لان الاذن في التجارة لا يقبل التخصيص وقد
اتفقا على ما هو المقصود والمشهود به فان شهد أحدهما انه أذن له في شراء البز وشهد آخر
انه رآه يشترى البز فلم ينهه فشهادتهما باطلة لأنهما اختلفا في المشهود به فان أحدهما شهد بمعاينة
فعل والآخر شهد بقول ولو شهد أحدهما انه رآه يشترى البز فلم ينهه وشهد الآخر انه رآه
يشترى الطعام فلم ينهه فشهادتهما باطلة لان كل واحد منهما شهد بمعاينة فعل غير الفعل الذي
شهد الآخر بمعاينته فلم يثبت بما شهد بمعاينة كل فعل الا شاهد واحد ولو شهد انه رآه يشترى
البز فلم ينهه كان الشراء جائزا وكان العبد مأذونا له في التجارة لأنهما اتفقا على الشهادة بمعاينة
فعل واحد والثابت بشهادة شاهدين كالثابت بالمعاينة ولو عاينا المولى رآه يبيع البز فلم ينهه
كان مأذونا له في التجارة في الأشياء كلها فكذلك إذا شهد عليه الشاهدان بذلك والله أعلم
(باب الاختلاف بين المأذون ومولاه)
(قال رحمه الله) وإذا كان العبد المأذون في يده مال وعليه دين فقال هو مالي وقال
مولاه بل هو مالي فالقول قول العبد لان يده في كسبه معتبرة لحق الغرماء والمولى ممنوع
من أخذ ما في يده لحقهم فيكون المال في يده ككونه في يد غرمائه لان انفكاك الحجر عنه
بالاذن بمنزلة انفكاك الحجر عنه بالعتق أو بالكتابة إلا أن يده قبل أن يلحقه الدين ما كانت
لازمة وبلحوق الدين إياه صارت لازمة فالمنازعة بينه وبين المولى فيما في يده كالمنازعة بين
المولى ومكاتبه فيما في يده وإن كان المال في يد المولى وفى يد العبد فهو بينهما نصفان لان
المولى من كسب عبده في هذا الحالة كأجنبي آخر وقد استويا في دعوى اليد والعين ظهرت في
يديهما فكان بينهما نصفين فإن كان في يد المولى ويد العبد ويد أجنبي فادعاه كل واحد منهم
فهو بينهم أثلاثا لان يد العبد فيه كيد غريمه فتكون معارضة ليد المولى ويد الأجنبي في
44

المزاحمة وإن كان العبد لا دين عليه فالمال بين المولى والأجنبي نصفان ولا شئ للعبد فيه لان
ما في يد العبد ويد مولاه واحد إذا لم يكن عليه دين فان كسبه خالص ملك مولاه ويده
فيه كيد مولاه وفى حق الأجنبي لان الحق لا يعدو هما فهو بمنزلة ما لو تنازع اثنان في شئ
وأحدهما ممسك له بيديه والآخر بيد واحدة فإنه يقضى بذلك نصفان هذا ولو كان
ثوب في يد حر وعبد مأذون وكل واحد منهما يدعيه ومعظمه في يد أحدهما والآخر متعلق
بطرفه فهو بينهما نصفان لان الاستحقاق باعتبار اليد ويده علي جزء من الثوب كيده علي
جميعه (ألا ترى) انه لو كان في يده طرف من الثوب وليس في يد الآخر منه شئ فتنازعا
فيه كان ذو اليد أولى بجميعه سواء كان الطرف الذي في يده معظم الثوب أو شيئا يسيرا منه
فإن كان أحدهما متزرا به أو مرتديا أو لابسا والآخر متعلقا به أو كانت دابة أحدهما را كب عليها
والآخر متمسك باللجام فهي للراكب واللابس لأنه مستعمل للعين واليد بالاستعمال تثبت
حقيقة دون التعلق به (ألا ترى) انه لا يتمكن من الركوب واللبس في العادة الا صاحب
اليد ويتمكن الخارج من التعلق به لان الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب لان
قيامه به وكانت يده فيما هو تبع له من وجه أقوى من يد المتعلق به والضعيف لا يظهر في مقابلة
القوى ولو لم يكن هذا راكبها وكان الآخر متعلقا بها لا يستحق الترجيح بتعلقه بها ولو كان
هذا راكبها ولم يكن الآخر متعلقا بها كان الراكب أولى فإذا كأن لأحدهما سبب يستحق به
عند الانفراد وليس للآخر مثله كان هو أولى ولو أن حرا أو مأذونا أجر نفسه من رجل
يبيع معه البز أو يخيط معه ثم اختلفا في ثوب في يد الأجير فإن كان في حانوت الذي استأجره
فهو للمستأجر لان الآخر مع ما في يده في يده المستأجر فان حانوت المستأجر ويده ثابتة
عليه فما في الحانوت يكون في يده فالظاهر شاهد للمستأجر فان الأجير لا ينقل أمتعته إلى
حانوت المستأجر عادة خصوصا ما ليس من أداة عمله وإن كان في السكة أو في منزل الأجير
فهو للأجير لأنه لا يد للمستأجر على هذا الموضع حقيقة ولا حكما ويد الأجير ثابتة على
الثوب حقيقة وبعقد الإجارة لا يخرج من أن يكون له يد معتبرة في أمتعته والصغير والكبير
في هذا سواء لان كل واحد منهما له يد معتبرة دافعة لاستحقاق الغير ولو أن عبدا محجورا
عليه أجره مولاه لرجل وكان مع العبد ثوب فقال المستأجر هو لي وقال مولاه هو لي
كان للمستأجر سواء كان في السكة أو في السوق أو في حانوت المستأجر أو كانت المنازعة
45

في دابة والعبد راكبها لان مولاه حين آجره فقد حول يده فيه إلى المستأجر وصار المستأجر
بمنزلة المالك في ثبوت يده وعلى ما معه لأنه صار أحق بالانتفاع به فيكون القول في جميع ما في يده
قوله بخلاف الحر فان المستأجر وان صار أحق بمنافعه فقد بقيت له يد معتبرة في أمتعته لأنه
مالك للأمتعة بعد الإجارة كما كان قبله والعبد المحجور عليه مملوك ليست له يد معتبرة فكان
هو وما في يده لمولاه قبل الإجارة وقد حوله بالإجارة إلى يد المستأجر ولو كان علي العبد
قميص أو قباء فقال المستأجر هو لي وقال المولى هو لعبدي فالقول قول المولى لأن الظاهر يشهد
له لأن الظاهر أن العبد لا ينقل إلى يد المستأجر عريانا (ألا ترى) انه لو باعه من انسان
دخل في البيع ما عليه من لباسه وإن لم يذكر باعتبار الظاهر والعادة ولا يدخل في البيع متاع
آخر في يده الا ما يذكر فلا ينظر إلى قول العبد في شئ من ذلك لأنه محجور عليه وليس
للمحجور عليه قول ولا يد معتبرة فيما معه ولو كان العبد في منزل المولى وفي يده ثوب فقال
المستأجر هو لي وقال المولى هو لي فهو للمولى لان المنزل في يد المولى فما فيه يكون في يده
أيضا لأنه ليس للعبد يد معتبرة في معارضة يد المولى والمستأجر إذا كانت يده لا تظهر في
منزل المولى كان المتاع للمولى ولو كان العبد مأذونا له وعليه دين وهو في منزل المولى وفى
يده ثوب فقال المولى هو لي وقال العبد هو لي فإن كان الثوب من تجارة العبد فهو له لان
ما يكون من تجارته فهو كسبه والحق في كسبه لغرمائه فيده فيه كيد الغريم وإن لم يكن من
تجارته فهو للمولى لأنه في ملك المولى ويده ثابتة على ما في ملكه وحق الغرماء لا يثبت في شئ
من ذلك ما لم يثبت كونه كسبا للعبد ولو كان العبد راكبا على دابة أو لا بسا ثوبا فقال العبد
هو لي وقال المولى هو لي فهو للعبد يقضى به دينه كان ذلك من تجارته أو لم يكن لان
الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب وحق الغرماء يتعلق بمالية رقبته فيكون متعلقا
بما هو تبع له والله أعلم
(باب المأذون يأسره العدو أو يرتد)
(قال رحمه الله) قد بينا في السير ان العبد إذا أسره العدو فأحرزوه بدارهم ثم عاد
إلى قديم ملك المولى فإنه يعود ما كان فيه من الدين والجناية وإن لم يعد إلى قديم ملك المولى فإن لم
يأخذه من يد من وقع في سهمه أو من يد المشترى أو أسلم أهل الحرب عليه فان الدين
46

يعود عليه كما كان والجناية لا تعود لان المستحق بالجناية الملك القائم وقت الجناية (ألا ترى)
ان المولى لو أعتقه بعد الجناية لا يبقى حق ولى الجناية فكذلك إذا زال ذلك الملك ولم يعد إليه
بخلاف الدين فإنه ثابت في ذمته (ألا ترى) أنه يبقى عليه بعد العتق فسواء عاد ذلك الملك أولم
يعد بقي الدين في ذمته كما كان والدين في ذمة العبد لا يجب الا شاغلا مالية رقبته فلهذا بيع في
الدين في ملك من كان وان ارتد المأذون وعليه دين أو جناية خطأ ولحق بدار الحرب ثم
أسره المسلمون فمولاه أحق به قبل القسمة وبعدها بغير شئ في قول أبي حنيفة لأنه لم يحرزه
المشركون إنما هو أبق إليه فإذا بقي على ملك مولاه بقي الدين والجناية عليه بحالهما يدفع بالجناية
ثم يباع في الدين قال وإذا أدان المسلم دينا ثم ارتد ولحق بدار الحرب ثم أسر فان أبى أن يسلم
فقتل بطل الدين إلا أن يؤخذ ماله في دار الاسلام فيقضى به دينه لان ماله الذي خلفه في
دار الاسلام مصروف إلي حاجته وهو خلف عن ذمته في وجوب قضاء الدين كما بعد موته
وا ن لم يكن له مال في دار الاسلام فقد فات محل الدين حين قتل فبطل دينه وليس هذا بأول
مديون بملك مفلسا ولو كانت مرتدة فسبيت وأسلمت فهي أمة للذي استولدها وقد بطل
الدين عنها لان نفسها تبدلت بالأسر فصارت كالهالكة لا إلى خلف فان الحرية حياة والرق تلف
وهذا لان حكم الدين تغير بحدوث الرق فيها لأنه حين وجب الدين كان في ذمتها ولا تعلق
له بمحل آخر وبعد ما صارت أمة فالدين عليها يكون شاغلا مالية رقبتها ان لو بقي وهذه مالية
حادثة لا يمكن شغلها بالدين والدين لا يجب على المملوك الا شاغلا مالية رقبته فيسقط بهذه
المنافاة وكذلك كل حد وقصاص كان عليها فيما دون النفس قبل الردة لتغيير حكمه برقها فالرق
ينصف الحدود وينافى وجوب القصاص فيما دون النفس فأما القصاص في النفس فهو على حاله
عليها لان ذلك لا يتغير بالرق والأمة والحرة فيه سواء وكذلك الرجل الذمي أو المرأة الذمية
ينقض العهد ويلتحق بدار الحرب وعليه دين يوم يوسر فهو رقيق وقد بطل الدين وكل حد
أو قصاص دون النفس كان عليه يتغير حكمه برقه ويؤخذ بالقصاص في النفس لان الحر
والرقيق فيه سواء وإذا استدان الحر المستأمن في دار الاسلام ثم رجع إلى بلاده ثم عاد الينا
مسلما أو ذميا أو مستأمنا أخذ بذلك الدين لبقاء دينه على رجوعه إلى بلاده وبعد عوده الينا
ولم يصر محجورا متمكنا لما في ذمته لان الاحراز في الدين لا يتحقق ولو لم يرجع الينا حتى أسر
فصار عبدا بطل الدين لتبدل نفسه بالرق ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فأدان حربيا ثم
47

أسر المسلمون الحربي فصار عبدا بطل الدين عنه لان نفسه تبدلت بما حدث فيه من الرق
وخرج من أن يكون أهلا للمالكية والأسر لم يخلفه في ملك الدين فسقط عمن عليه لانعدام
المطالبة والمستوفى له فان الدين ليس إلا مجرد المطالبة هذا إذا كان الدين له على المسلم وإن كان
للمسلم عليه فقد سقط بفوات محله بتبدل نفسه بالرق فان جاء مستأمنا لم يؤخذ به إن كان الدين
عليه ولم يؤخذ به المسلم إن كان الدين على المسلم لأن هذه المعاملة جرت بينهما في دار الحرب
وهو بالخروج الينا بأمان لم يصر من أهل دار الاسلام فلا تسمع الخصومة في ذلك الدين
بينهما إلا أن يسلم أو يصير ذميا فحينئذ يؤخذ بذلك كل واحد منهما لأنه التزم أحكام الاسلام
وصار منا دارا ودينا والدين ببقاء ذمته على حاله وبقاء الطلب أهلا للمالكية فيؤخذ كل واحد
منهما به وقد بينا ما في هذه الفصول من الخلاف في كتاب الصلح والله أعلم
(باب اقرار المأذون في مرض مولاه)
(قال رحمه الله) وإذا أقر المأذون في مرض مولاه بدين أو غصب أو وديعة قائمة أو
مستهلكة أو غير ذلك من ديون التجارات فإن كان المولى لا دين عليه ومات من مرضه ذلك
فاقرار العبد جائز بمنزلة اقرار المولى به لان الدين على العبد يشغل كسبه ومالية رقبته وذلك
حق مولاه وصحة اقراره اعتبار اذن المولى به واستدامة الاذن بعد مرضه بمنزلة انشائه وإذا كان
صحة اقراره بسبب يضاف إلى المولى صار اقراره كاقرار المولى واقرار المولى في مرضه بدين
أو عين للأجنبي صحيح إذا لم يكن عليه دين وإن كان عليه دين في صحته بدئ بدين الصحة من
تركته ومن رقبة العبد وكسبه فان فضل من رقبته وكسبه شئ فهو للذي أقر به العبد لان
كسبه ورقبته ملك مولاه فاقراره فيه كاقرار المولى ولو أقر المولى بذلك كان دين الصحة
مقدما عليه وكان الباقي بعد قضاء دين الصحة مصروفا إليه فهذا مثله وإن كان مال المولى غائبا
فقضى القاضي دين المولى من ثمن العبد وما في يده ثم حضر مال المولى فان القاضي يأخذ منه
ثمن العبد وما كان في يده فيقضى به دين العبد وما أقر به لان حق غريم العبد كان متعلقا به
وقد قضي به دين المولى فيقوم غريم العبد مقام غريم المولى في الرجوع به في تركته إذا ظهر
ماله ليأخذه قضاء من دينه وإن كان دين العبد أكثر من ذلك فما زاد على ثمن العبد ومالية كسبه
من تركة المولى لوارثه لا حق فيه لغريم العبد لان دينه ما كان ثابتا في ذمة المولى وإنما كان في
48

كسب العبد ومالية رقبته وإن كان علي المولى دين الصحة وعلى العبد دين الصحة وأقر العبد
في مرض المولى كما وصفنا بدئ من كسب العبد ومالية رقبته بدين العبد الذي كان في
صحة المولى لان ذلك أسبق تعلقا به في حق غريم المولى وإنما يثبت فيه من جهة المولى
وقد كان حق غريم العبد فيه مقدما على حق المولى فكذلك يكون مقدما على حق غريم
المولى ثم يقضى منه دين المولى الذي كان في الصحة لان ذلك أسبق تعلقا به مما أقر العبد به
في مرض المولى لما بينا ان اقرار العبد فيه كاقرار المولى فان فضل شئ فهو للذي أقر له العبد
في مرض مولاه ولا يكون للذي أقر له العبد في مرض المولى مزاحمة غريم العبد في صحة
المولى فيما يستوفيه لان حقه يتأخر عن حق غريم المولى وغريم العبد في صحة المولى حقه
مقدم على حق غريم المولى فكيف يزاحمه من كان حقه متأخرا عن حق غريم المولى وهذا
لأنه لو زاحمه فاستوفى منه شيئا لم يسلم له ذلك بل يأخذه غريم المولى منه لكونه مقدما عليه
في ذلك ثم يأخذ ذلك منه غريم العبد في صحة المولى لان حقه مقدم على حقه فلخلوه عن الفائدة
لا يشتغل به ولو لم يكن على المولى دين يحاص غرماء العبد الأولين والآخرين فيما في يده
لان صحة اقرار العبد في حق غرمائه بكونه مأذونا له في التجارة وقد جمع الاقرارين حالة
واحدة وهي حالة الاذن فيجعل كل واحد منهما مزاحما لصاحبه في كسب العبد ورقبته
بمنزلة ما لو أقر لهما بالدين معا إلا أن يكون أقر بشئ بعينه لإنسان فإنه يبدأ فيسلم للمقر له
لان اقراره بذلك صحيح ما دام مأذونا له في التجارة وتبين باقراره أن تلك العين ليست من
كسبه وإنما يتعلق حق غرمائه بكسبه والحاصل انه إذا لم يكن علي المولى دين فجال مرضه
في أقارير العبد كحال صحته ولو لم يقر العبد بذلك في مرض مولاه ولكنه التزمه بسبب عاينه
الشهود لزمه ذلك مثل ما يلزمه في صحة مولاه لأنه مأذون على حاله ولا تهمة في السبب
الذي وجب به الدين (ألا ترى) أن المولى لو باشر هذا الدين كان الدين الواجب به مساويا
لدين الصحة فكذلك إذا باشره العبد ودين العبد في كسبه ومالية رقبته مقدم على دين المولى
فما لم يقضى ديونه لا يسلم لغريم المولى شئ من ذلك ولو مرض المولى ولا دين على واحد
منهما وقيمة العبد ألف درهم فأقر المولى على نفسه بدين ألف درهم ثم مات المولى فان العبد يباع
فيتحاص الغريمان في ثمنه لان ما أقر به العبد على نفسه بمنزلة ما لو أقر به المولى على نفسه ولو
أقر المولى في مرضه بدين ثم بدين يحاص الغريمان فيه لان الاقرارين جميعهما حالة واحدة
49

فهذا مثله ولو كان اقرار العبد أولا بدئ به لان حق المقر له بنفس الاقرار تعلق بمالية
رقبته فكان في حق المولى بمنزلة الاقرار بالعين ولو أقر المولى في مرضه بعين ثم بدين كان
المقر له أولى بالعين بخلاف ما إذا أقر بدين ثم بعين يتحاصان فيه فاقرار العبد مع اقرار المولى
بمنزلة ذلك في المعنى وهذا لأنه إذا سبق اقرار المولى فقد تعلق حق المقر له بمال المولى فلا
يصدق العبد على ابطال حق غريم المولى عنه بعد ذلك لان صحة اقراره نادر فكما لا يبطل
حق غريم المولى باقرار المولى برقبته لإنسان فكذلك لا يبطل باقرار العبد بخلاف ما إذا سبق
اقرار العبد لأنه حين أقر لم يكن لاحد حق في مالية رقبته وثبت فيه حق المقر له فلا يصدق
المولى بعد ذلك في اثبات المزاحمة لمن يقر له مع غريم العبد ولو بدأ المولى فأقر بدين ألف
ثم بألف اقرارا متصلا أو منقطعا ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فان الغرماء الثلاثة
يتحاصون في ثمنه فيكون الثمن بينهم أثلاثا لان اقرار المولى لما جمعهما حالة واحدة جعلا كأنهما
واحد معا ولا حق لغريم العبد حين وجد الاقرار من المولى ثم أقر العبد بعد ذلك وهو مأذون
فيكون اقراره كاقرار المولى بألف قدر ماليته فيتحاصون في ثمنه فكذلك لو كان العبد أقر بألف
ثم بألف اقرارا متصلا أو منقطعا ضربوا بجميع ذلك مع غرماء المولى لان أقارير العبد حصلت
وهو مأذون له فجعل في الحكم كأقارير المولى وقد جمع الكل حالة واحدة ولو أقر المولى بدين
ألف درهم ثم أقر العبد بدين ألف ثم أقر المولى بدين ألف يتحاصون جميعا لان اقرار المولى
لما سبق كان مانعا من سلامة مالية الرقبة للذي أقر له العبد فنزل اقراره بعد اقرار المولى
بمنزلة اقرار المولى وقد جمع الأقارير حالة واحدة فيتحاصون في ثمنه ولو كان العبد أقر بدين
ألف قبل اقرار المولى ثم أقر المولى على نفسه بدين ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فان
ثمن العبد لغريمه دون غريم المولى لان حق الغريم الأول للعبد لما تعلق بمالية رقبته كان ذلك
مانعا صحة اقرار المولى في حق مالية الرقبة بعد ذلك لأنه لا فضل في قيمته على ما أقر به العبد
أولا فكان اقرار المولى في حق مالية الرقبة وجوده كعدمه وإنما بقي الاقرار من العبد وقد
جمعهما حالة واحدة فكان ثمن العبد بينهما ولو كانت قيمته ألفي درهم فأقر العبد بدين ألف
درهم ثم أقر المولى بدين ألف درهم ثم مات فإنه يباع فيوفى غريم العبد حقه وغريم المولى حقه
لان في الثمن المقبوض وفاء بالدين وان نقصت قيمته فبيع بألف درهم فهي لغريم العبد خاصة لان
حقه في ماليته مقدم على حق غريم المولى لتقدم اقراره وإنما ثبت حق غريم المولى في الفضل ولم
50

يفضل شئ وان بيع بألف وخمسمائة كانت ألف منها لغريم العبد والباقي لغريم المولى لان حقه في
الفاضل وصار هذا نظير حق رب المال مع حق المضارب فان حق رب المال في رأس المال أصل
وحق المضارب في الربح تبع فإنما يثبت في الفضل فإذا لم يظهر الفضل فلا شئ له فان قل
الفضل كان حقه بقدر ذلك ولو كان أقر بدين ألف وقيمته ألفان ثم أقر المولى بدين ألف
ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فبيع العبد بالدين اقتسمه الغرماء أثلاثا لأنه كان في
مالية الرقبة عند اقرار المولى فضلا عن دين العبد بقدر ألف فيثبت حق الغريم فيه ثم الاقرار
من العبد صحيح لبقاء الاذن وان اشتغل جميع ماليته بالدين فإذا كانت الديون كلها ثابتة عليه
اقتسم الغرماء ثمنه أثلاثا وان بيع بألف وخمسمائة اقتسموه أخماسا لان حق غريم المولى إنما
ثبت فيه بقدر الفضل وقد ظهر أن الفضل كان بقدر خمسمائة حين أقر المولى بألف درهم
فإنما يثبت من دين غريمه في حق مزاحمة غريمي العبد مقدار خمسمائة فإذا ضرب هو
بخمسمائة وكل واحد من غريمي العبد بألف كان الثمن بينهم أخماسا لأنك تجعل كل خمسمائة
سهما وان بيع بألف كانت لغريمي العبد خاصة لان حق غريم المولى ثبت باعتبار الفاضل ولم
يفضل من ماليته شئ على الدين الأول الذي أقر به العبد حين بيع بألف وخمسمائة ولو بدأ
المولى فأقر عليه بدين ألف درهم وقيمة العبد ألفان ثم أقر العبد بدين ألف ثم أقر المولى
بدين ألف فان الثمن يقسم بين الغرماء بالحصص أثلاثا لان حق غريم المولى الأول ثبت
في ماليته وكذلك حق غريم العبد لان اقراره بعد اقرار المولى كاقرار المولى وكذلك حق
الذي أقر له المولى آخرا قد ثبت فيه لان الاقرارين جميعا من المولى جميعهما حالة واحدة
فيتحاصون في ثمنه ولو بدأ العبد فأقر بدين ألف درهم ثم أقر المولى بدين ألف ثم بألف
ثم بألف اقرارا متصلا أو منقطعا ثم أقر العبد بدين ألف ثم مات المولى فبيع بألفي درهم
ضرب فيه غرماء العبد كل واحد منهما بجميع دينه وضرب فيه غرماء المولى كلهم بألف
فقط لان مقدار الألف من ماليته قد اشتغل بدين الذي أقر له العبد أولا ثم الاقراران
من المولى جمعهما حالة واحدة فكأنهما وجدا معا والفاضل من المالية عند اقرار المولى مقدار
ألف فيثبت حق غرماء المولى في ذلك المقدار خاصة فلهذا ضرب غرماء المولى بألف درهم
وكل واحد من غريمي العبد بجميع دينه ولو بيع بألف وخمسمائة ضرب فيه غرماء العبد بجميع
دينهم وغرماء المولى كلهم بخمسمائة لان الفاضل عن أقارير المولى بقدر خمسمائة فيكون
51

الثمن مقسوما بينهم أخماسا لكل واحد من غريمي العبد خمساه ستمائة ولغريم المولى خمسه
ثلاثمائة فان اقتسموه على ذلك ثم خرج بعد ذلك دين كان للسيد على الناس فخرج منه ألف
أو ألفان وخمسمائة فغرماء المولى أحق بذلك لأنه قد بقي من دينهم ذلك القدر وزيادة ولا
حق لغرماء العبد في تركة المولى وهم ما ضربوا مع غرماء العبد في ثمنه بقدر ألفين وخمسمائة
فلهذا كانوا أحق بجميع ما خرج منه فان خرج منه ثلاثة آلاف أخذ غرماء المولى من ذلك
ألفين وسبعمائة وأخذ غرماء العبد من ذلك ثلاثمائة لأنه بقي من حق غرماء المولى ألفان
وسبعمائة فيأخذون ذلك وقد كان يقضى بقدر ثلاثمائة من ثمن العبد دين المولى فيكون ذلك
دينا لغرماء العبد في تركة المولى فيأخذون هذه الثلثمائة بحساب ذلك فإن كان الذي خرج
من ذلك ألفان وستمائة يأخذ غرماء المولى من ذلك ألفين وخمسمائة وخمسين وأخذ غرماء
العبد من ذلك خمسين لان ما تأخر خروجه من دين المولى معتبر بما لو تقدم خروجه على
قسمة ثمن العبد ولو تقدم خروج هذا المقدار كان كله لغرماء السيد ثم بقي من دينهم أربعمائة
ودين غريمي العبد ألفي درهم فيضرب كل واحد منهم في ثمن العبد وهو ألف وخمسمائة
بمقدار دينه وإذا ضرب غرماء العبد بألفين وغرماء المولى بما بقي من دينهم وهو أربعمائة
كان السبيل أن يجعل كل أربعمائة سهما فيصير حق غريمي العبد خمسة وحق غرماء المولى
سهما فتبين أن الذي سلم لهم سدس ثمن العبد وذلك مائتان وخمسون وقد استوفوا ثلاثمائة
فعليهم رد ما أخذوه زيادة على حقهم وذلك خمسون درهما ولو كان العبد لم يقر بالدين الأول
والمسألة بحالها أخذ غرماء السيد ما خرج من دين السيد وهو ألفان وستمائة ثم يباع العبد
فان بيع بألف ضرب فيه غرماء المولى بما بقي لهم وغريم العبد بجميع دينه وهو ألف فكان
الثمن بينهم أسباعا خمسة أسباعه لغريم العبد وسبعاه لغرماء المولى ولو كانت قيمة العبد ألفي
درهم فأقر العبد في مرض المولى بدين ألف درهم ثم أقر المولى بدين الف ثم اشترى العبد
عبدا يساوى ألفا بألف وقبضه بمعاينة الشهود فمات في يديه ثم مات السيد ولا مال له غير
العبد فبيع بألفي درهم اقتسمه غرماء العبد بينهم ولا شئ فيه لغريم المولى لان الذي وجب
على العبد بمعاينة الشهود بمنزلة دين الصحة وصاحبه أحق بمالية العبد ممن أقر له المولى في
مرضه وقد أقر له العبد أولا بدين ألف فظهر انه لا فضل في ثمنه على دين المعاينة وعلى الذي
أقر به العبد أولا وصحة اقرار المولى باعتبار الفضل فإذا لم يظهر بطل دين المولى فصار كالمعدوم
52

وكان ثمن العبد بين غرمائه ولو لم يشتر العبد المأذون ولكن المولى هو الذي اشترى عبدا
يساوى ألفا وقبضه بمعاينة الشهود فمات في يده ثم مات المولى من مرضه والمسألة بحالها
وبيع العبد بألف فإنه يبدأ بدين البائع لان ما وجب على المولى بمعاينة الشهود في مرضه بمنزلة
دين الصحة وقد بينا ان دين الصحة على المولى مقدم على ما أقر به العبد في مرض مولاه
لان صحة اقرار العبد باستدامة المولى الاذن له فلهذا بدئ بدين البائع وما بقي بعد ذلك فهو
بين غرماء العبد ويستوى إن كان الاذن في صحة المولى أو في مرضه لان استدامة الاذن
بعد المرض كاكتسابه (ألا ترى) انه لو أذن له في التجارة في صحته ثم مرض فأقر العبد
لبعض ورثة المولى بدين ثم مات المولى أن اقراره باطل سواء كان على المولى دين محيط أولم
يكن لاقرار العبد بقدر ما أذن له في مرضه واستدامة اذنه في مرضه بمنزلة اقرار المولى به ثم
اقرار المريض لوارثه باطل ولو مات المولى فصار العبد المأذون محجورا عليه بموته ثم أقر
بدين لم يجز اقراره لان الملك فيه أنتقل إلى الوارث فهو بمنزلة ما لو أنتقل الملك فيه إلي غيره
في حياته ببيع أو هبة فان أذن له الوارث في التجارة جاز اذنه لأنه علي ملكه فان أقر العبد
بعد اذنه بدين جاز اقراره وشارك المقر له أصحاب الدين الأولين لان ملك الوارث خلف عن
ملك المورث فيجعل بمنزلة ملك المورث في حياته ولو حجر عليه بعد ما لحقه ديون ثم أذن له
فأقر بدين آخر شارك المقر له أصحاب الدين الأولين لان الاقرار له حصل في حال انفكاك
الحجر عنه بخلاف من أقر له في حالة الحجر فهذا مثله ولو كان على المولى الميت دين لم يجز اذن
الوارث له في التجارة ولا اقرار العبد بالدين لان دين المولى يمنع ملك الوارث وتصرفه * فان
قيل في هذا الموضع مالية العبد مستحقة لغرماء العبد ولا حق فيه لغرماء المولى فيجعل دين
المولى كالمعدوم ودين العبد لا يمنع ملك الوارث فينبغي أن يصح اذنه في التجارة * قلنا دين المولى
لا يظهر في مزاحمة غرماء العبد فأما في حق وارث المولى فهذا ظاهر (ألا ترى) انه لو سقط
دين العبد كان مالية العبد لغرماء المولى دون ورثته فلهذا لا يصح تصرف الوارث بالاذن في
التجارة في هذه الحالة والله أعلم
(باب بيع المأذون وشرائه واقراره في مرض المولى)
(قال رحمه الله) وإذا أذن المولى لعبده في التجارة ثم مرض المولى فباع العبد بعض
53

ما كان في يده من تجارته واشترى شيئا فحابى في ذلك تم مات المولى ولا مال له غير العبد
وما في يده فجميع ما فعل من ذلك مما يتغابن الناس فيه أو ما لا يتغابن الناس فيه فهو جائز
في قول أبي حنيفة من ثلث مال المولى لان العبد بانفكاك الحجر عنه بالاذن صار مالكا للمحاباة
مطلقا في قول أبي حنيفة حتى لو باشره في صحة المولى كان ذلك صحيحا منه والمولى حين استدام
الاذن بعد مرضه جعل تصرف العبد باذنه كتصرفه بنفسه ولو باع المولى بنفسه وحابى
يعتبر من ثلث ماله المحاباة اليسيرة والفاحشة في ذلك سواء فكذلك إذا باشره العبد وفى
قول أبى يوسف ومحمد محاباته بما يتغابن الناس فيه كذلك فأما محاباته بما لا يتغابن الناس فيه
فباطلة وإن كان يخرج من ثلث المولى لان العبد عندهما لا يملك هذه المحاباة في الاذن في
التجارة حتى لو باشره في صحة المولى كان باطلا وكذلك أن كان على العبد دين لا يحيط برقبته
وبجميع ما في يده كان قولهم في امضاء محاباة العبد بعد الدين من ثلث مال المولى على ما بينا
لان قيام الدين على العبد لا يغير حكم انفكاك الحجر عنه بالاذن وإن كان على المولى دين محيط
برقبة العبد وبما في يده ولا مال له غيره لم يجز محاباة العبد بشئ لان مباشرته كمباشرة المولى
وقيل للمشترى إن شئت فانقض البيع وإن شئت فأد المحاباة كلها لأنه لزمه زيادة في الثمن لم
يرض هو بالتزامها فيتخير لذلك وإن لم يكن على المولى دين وكان على العبد دين يحيط برقبته
وبجميع ما في يده فمحاباة العبد جائزة على غرمائه من ثلث مال المولى لان حكم الاذن لم يتغير
بلحوق الدين إياه والمحاباة وان جازت على الغرماء فإنما هي من مال المولى ولو كان الذي حاباه
العبد بعض ورثة المولى كانت المحاباة باطلة في جميع هذه الوجوه لان مباشرة العبد كمباشرة
المولى والمريض لا يملك المحاباة في شئ مع وارثه ولو أن رجلا دفع إلى هذا العبد جارية يبيعها
له في مرض المولى فباعها من وارث المولى وحاباه فيها جاز ذلك لأن هذه المحاباة ليست من
مال المولى ولا شئ على ورثة المولى وهذا التصرف من العبد لم يكن نفوذه بإذن المولى بل
هو ثابت عن الموكل وإنما ينفذ بوكالته وكأنه باشره بنفسه ولو باع العبد في مرض مولاه
شيئا ولم يحاب فيه ولا دين على واحد منهما أو اشترى ولم يحاب فيه ثم أقر بقبض ما اشترى
أو بقبض ثمن ما باع ثم مات المولى فاقراره جائز بمنزلة ما لو كان المولى هو الذي باشر هذا
التصرف وأقر بقبض الثمن وكذلك أن كان على العبد دين كبير ولو كان على المولى دين كثير
يحيط برقبته وما في يده لم يصدق على القبض الا بالبينة لان اقراره بالقبض في المعنى اقرار
54

بالدين فإنه يقول وجوبه علي بالقبض مثل ما كان لي عليه ثم صار قصاصا ودين العبد يمنع صحة
اقراره علي نفسه بالدين في مرضه فكذلك يمنع صحة اقراره بالقبض وأما دين المولى في صحته
فيمنع اقرار العبد على نفسه بالدين في مرضه فكذلك يمنع صحة اقراره بالقبض ويقال للمشترى
إن شئت فأد الثمن مرة أخرى وإن شئت فانقض البيع لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها
واقرار العبد في اثبات الخيار للمشترى زيادة في الثمن صحيح وإن لم يكن صحيحا في وصول الثمن
إليه لتمكنه من إقالة العقد معه ولو كان الذي بايعه بعض ورثة المولى لم يجز اقرار العبد بالقبض
منه كان عليه أو على المولى دين أو لم يكن كما لا يجوز اقراره له بالدين وكما لا يجوز اقرار المولى
بالقبض منه في مرضه لو كان هو الذي عامله والله أعلم
(باب اقرار العبد في مرضه)
(قال رحمه الله) وإذا مرض العبد فأقر بوديعة أو بدين أو بشراء شئ أو غيره من
وجوه التجارات ثم مات من مرضه ولا دين عليه في الصحة فاقراره جائز وهو بمنزلة الحر
في ذلك لان انفكاك الحجر عنه بالاذن كانفكاك الحجر عنه بالعتق والمرض لا ينافيه وإن كان
عليه دين الصحة بدئ بدين الصحة لأنه لا يكون انفكاك الحجر عنه بالاذن فوق
انفكاك الحجر عنه بالعتق وفى حق الحر دين الصحة مقدم على ما أقر به في مرضه من دين
أو عين فكذلك في حق العبد * فان قيل في حق الحر الحكم يتغير بمرضه من حيث تعلق حق
الغرماء والورثة بماله وذلك لا يوجد في حق العبد فان الدين الذي في صحته كان متعلقا بكسبه
ومالية رقبته قبل مرضه والحق في كسبه ومالية رقبته بعد الدين لمولاه وهو المسلط له علي
الاقرار فينبغي أن يسوى بين ما أقر به في الصحة وبين ما أقربه في المرض قلنا نعم ولكن
انفكاك الحجر بالاذن فرع انفكاك الحجر عنه بالعتق والفرع يلتحق بالأصل في حكمه
وإن لم توجد فيه علته ولأنه منع ثبوت الحكم في البيع بثبوته في الأصل ثم لو أعتقه المولى بعد
ما مرض ثم أقر بدين كان حق غرماء الصحة مقدما في ماله علي ما أقر به في مرضه بعد العتق
فلا يكون مقدما على ما أقر به في مرضه قبل العتق كان أولى ولو كان الذي لحقه من الدين
ببينة شاركوا أصحاب دين الصحة لانتفاء التهمة فيما ثبت عليه بالبينة وهو في ذلك بمنزلة
الحر في العين والدين جميعا وكذلك في الاقرار بالدين والوديعة في تقديم أحدهما على الآخر
55

وفيما يلحقه من ذلك بينة وعليه دين الصحة هو كالحر وقد بينا هذه الفصول في الحر في كتاب
الاقرار فكذلك في العبد وإذا لم يكن عليه دين في الصحة فأقر في مرضه على نفسه بدين ألف
درهم وأقر باستيفاء ألف درهم ثمن مبيع وجب له في مرضه على رجل لم يصدق على قبضه
ولكن يقسم ما كان عليه بينه وبين الغريم الآخر نصفين لان اقراره بالقبض بمنزلة اقراره له
بالدين وذلك صحيح منه الا انه قضاه ذلك الدين بماله في ذمته فكأنه قضاه ذلك بعين في يده
والمريض المأذون لا يملك تخصيص أحد الغريمين بقضاء الدين وهو في ذلك بمنزلة الحر فلهذا
كان ما على الغريم بينه وبين الآخر نصفين وادا مرض المأذون وعليه دين الصحة فقضى بعض
غرمائه دون بعض لم يجز لأنه لو قضي بعضهم في صحته لم يجز وكان للآخرين حق المشاركة
معه لتعلق حق الكل بكسبه فإذا قضاه في مرضه أولى وهذا لان في ايثاره بعض الغرماء بقضاء
الدين اسقاط حق الباقين عن ذلك المال وهو لا يملك اسقاط حق الغرماء عن شئ من كسبه
ولو اشترى في مرضه شيئا بمعاينة الشهود وقبضه ثم نقد ثمنه وهلك الشئ في يده ثم مات العبد
لم يكن لغرمائه على البائع سبيل فيما قبض من الثمن لأنه في ذلك بمنزلة المولى وهذا التصرف
من الحر صحيح مطلقا فمن العبد كذلك (أرأيت) لو استقرض منه ألف درهم ثم ردها عليه بعينها
أكان للغرماء على ذلك سبيل فكذلك إذا رد مثلها وإذا ثبت هذا فيما إذا فعله العبد في مرضه
فهو أولى فيما إذا فعله في صحته ولو كان هذا أجر أجيرا أو مهر امرأة في صحة أو مرض كان
للغرماء أن يشاركوا المرأة والأجير فيما قبض وهذا فرق قد بيناه في الحر انه إذا لم يدخل في
ملك نفسه ظاهرا اما أن يكون مثلا لمال أخرجه من ملكه في حق الغرماء فلا يسلم للقابض
ما قبض لتحقق معنى ايثار بعض الغرماء فيه بخلاف ما إذا دخل في ملكه مثل ما أخرج من
ملكه فيما قبض يتعلق به حق الغرماء قال وإذا حابى العبد في مرضه ولا دين عليه ثم مات فالمحاباة
جائزة لان كسبه لمولاه والمولى راض بتصرفه وهو الذي سلطه على هذه المحاباة بخلاف الحرفان
ماله لورثته بعد موته ولم يوجد منهم الرضا بمحاباته وكان معتبرا من ثلث ماله وكذلك أن كان عليه
دين فوفى ماله في الدين ولم يف ماله بالدين لم تجز المحاباة لان كسبه حق غرمائه ولم يوجد منهم
الرضا بتصرفه ومحاباته فهو في حقهم بمنزلة الحر المرض وإذا مرض المأذون فوجب له على رجل
ألف درهم من ثمن بيع أو غيره فأقر باستيفائها له لزمته ولا دين على المأذون ولا مال له غير ذلك
الدين ثم أقر بعد ذلك على نفسه بدين ألف ثم مات فاقراره بالاستيفاء جائز لأنه حين أقر
56

بالاستيفاء لم يكن لاحد في تركته حق سوى مولاه والمولى هو المسلط له على هذا الاقرار
فيصح اقراره في حقه وترك ذلك بمنزلة ما لو أقر بدين ثم قضاه وذلك صحيح منه وان أقر
بالدين بعد ذلك لان ما قضاه يخرج من أن يكون كسبا له ودينه إنما يتعلق بكسبه ولو لم يقر
بالدين ولكنه لحقه دين بمعاينة الشهود بطل اقراره بالاستيفاء لان ما وجب عليه بالمعاينة بمنزلة
الدين الظاهر عليه حين أقر بالاستيفاء إذ لا تهمة في شهادة الشهود فلهذا يبطل اقراره بالاستيفاء
والله أعلم بالصواب (ومن كتاب المأذون الصغير)
(قال رحمه الله) ولو أن عبدين تاجرين كل واحد منهما لرجل اشتري كل واحد منهما
صاحبه من مولاه فان علم أيهما أول وليس عليه دين فشراء الأول لصاحبه جائز لان المولى
مالك لبيعه ولو باعه من أجنبي جاز بيعه فكذلك إذا باعه من عبد مأذون لغيره ثم قد صار
هذا المشترى ملكا لمولى المشترى وصار محجورا عليه فشراؤه الثاني من مولاه باطل لكونه
محجورا عليه ولأنه يشترى عبد مولاه من مولاه ولا دين عليه وهذا الشراء من المأذون لا يصح
لكونه غير مفيد وإن لم يعلم أي البيعين أول فالبيع مردود كله بمنزلة ما لو حصلا معا ولأن الصحيح
أحدهما وهو مجهول والبيع في المجهول لا يصح أبدا وإن كان علي واحد منهما دين
لم يجز شراء الأول إلا أن يجيز ذلك غرماؤه لان بيع مولاه إياه من عبد مأذون كبيعه من
حر وذلك لا يجوز بدون إجازة الغرماء لان ماليته حقهم ولو اشترى المأذون أمة فوطئها
فولدت له فادعى الولد وأنكر ذلك مولاه صحت دعواه وثبت نسبه منه لان الدعوى تصرف
منه وهو في التصرف في كسبه بمنزلة الحر وليس من شرط صحة الدعوى وثبوت النسب
كون الأمة حلالا له (ألا ترى) ان المكاتب لو ادعى نسب ولد جاريته ثبت النسب
وكذلك الحر لو ادعي نسب ولد جاريته وهي ممن لا تحل له ثبت نسبه منه فكذلك العبد
فإن كانت جارية لمولاه من غير تجارة العبد لم يثبت النسب منه بالدعوى لأنه لاحق له في
التصرف فيها ودعواه تصرف منه وهو في سائر أموال المولى كأجنبي آخر فلا تصح دعواه
ما لم يصدقه المولى فان أقر انه وطئها ولم تلد ثم استحقها رجل فلا مهر له علي العبد حتى يعتق
أما في جارية المولى فلانه لم يأذن له في جماعها ففعله بها يكون زنا والزنا لا يوجب المهر
57

وبالاستحقاق يتقرر معنى الزنا وأما في الجارية التي هي من كسبه فاقراره بوطئها صحيح وذلك
ليس بزنا يوجب الحد حتى يتعلق به ثبوت النسب إذا ادعاه فإذا استحقت أخذه بالعقر في
الحال بمنزلة ما لو باشر وطأها بمعاينة الشهود ولان وجوب المهر هاهنا باعتبار سبب هو تجارة
فيؤاخذ به في الحال وقد بينا الفرق بينه وبين النكاح وإذا أذن الراهن للعبد المرهون في
التجارة فتصرف ولحقه دين فهو مرهون علي حاله لان قيام حق المرتهن يمنع المولى من
اكتساب سبب يثبت الدين به عليه في مزاحمة المرتهن فكذلك إذا أذن له في التصرف
فلحقه دين فإذا استوفى المرتهن ماله بيع في الدين لان المانع حق المرتهن وقد سقط فان
فضل من دينه شئ فلا سبيل للغرماء حتى يعتق كما لو لم يكن العبد مرهونا وإن كان العبد
تاجرا وله علي رجل ألف درهم ثم إن مولى العبد وهب العبد للغريم وقبضه جازت الهبة والدين
لازم عليه لمولى العبد علي حاله لأنه وهب العبد دون المال والمال كسب العبد في ذمة
المديون فهو نظير مال هو عين في يده فلا تتناوله الهبة ولكنه سالم لمولاه بعد اخراجه
العبد من ملكه بالهبة ولو كان على العبد المأذون دين خمسمائة وقيمته ألف فكفل لرجل عن
رجل بألف درهم بإذن مولاه ثم استدان ألفا أخرى ثم كفل بألف أخرى ثم بيع العبد
بألف فيقول أما الكفالة الأولى فيبطل نصفها ويضرب صاحبها بنصفها في ذمته لان الفارغ
عن ماليته عند الكفالة الأولى كان بقدر خمسمائة وكفالته بإذن المولى إنما تصح فيما هو فارغ
عن ماليته عن حق غريمه وقت الكفالة فيثبت من دين المكفول له الأول مقدار خمسمائة
درهم والكفالة الثانية باطلة لأنه حين كفل بها لم يكن شئ من ماليته فارغا فيضرب صاحب
الدين الأول بخمسمائة وصاحب الدين الثاني بجميع دينه وهو ألف وصاحب الكفالة الأولى
بخمسمائة فيصير ثمن العبد وهو ألف درهم بينهم أرباعا غير انك تجعل كل خمسمائة سهما بقدر
مائتين وخمسين يسلم لصاحب الدين الأول ومثله لصاحب الكفالة الأولى ومقدار خمسمائة
لغريم العبد الآخر وعلى هذا جميع الأوجه وقياسه والله أعلم
(كتاب الديات)
(قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
رحمه الله) اعلم بان القتل بغير حق من أعظم الجنايات بعد الاشراك بالله تعالى قال الله تعالى
58

من أجل ذلك كتبنا علي بني إسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما
قتل الناس جميعا وقال النبي عليه السلام إلا أن أعباء الناس ثلاثة رجل قتل غير قاتل أبيه ورجل
قتل قبل أن يدخل الجاهلية ورجل قتل في الحرم وقال في خطبته بعرفات ألا إن دماء كم
ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومى هذا في شهري هذا في مقامي هذا ولما قتل محلم بن جنامة رجلا
من أهل الجاهلية قال النبي عليه السلام لا يرحم فدفن بعد موته فلفظته الأرض ثم دفن فلفظته
الأرض فقال أما انها تقبل من هو أعظم جرما منه ولكن الله أراكم حرمة القتل وفى قتل
النفس افساد العالم ونقض البنية ومثل هذا الفساد من أعظم الجنايات ومعلوم ان الجاني
مأخوذ عن الجناية الا انه لو وقع الاقتصار على الزجر بالوعيد في الآخرة ما انزجر الا أقل
القليل فان أكثر الناس إنما ينزجرون مخافة العاجلة بالعقوبة وذلك بما يكون متلفا للجاني أو
مجحفا به فشرع الله القصاص والدية لتحقق معنى الزجر وهذا الكتاب لبيان ذلك وقد سماه
محمد رحمه الله كتاب الديات لان وجوب الدية بالقتل أعم من وجوب القصاص فان الدية
تجب في الخطأ وفي شبه العمد وفي العمد عند تمكن الشبهة وكذلك الدية تتنوع أنواعا
والقصاص لا يتنوع فلهذا رجح جانب الدية في نسبة الكتاب إليها واشتقاق الدية من الأداء
لأنها مال مؤدى في مقابلة متلف ليس بمال وهو النفس والأرش الواجب في الجناية على ما
دون النفس مؤدى أيضا وكذلك القيمة الواجبة في سائر المتلفات إلا أن الدية اسم خاص في
بدل النفس لان أهل اللغة لا يطردون الاشتقاق في جميع مواضعه لقصد التخصيص بالتعريف
وسمى بدل النفس عقلا أيضا لأنهم كانوا اعتادوا ذلك من الإبل فكانوا يأتون بالإبل ليلا
إلى فناء أولياء المقتول فيعقلونها فتصبح أولياء القتيل والإبل معقولة بفنائهم فلهذا سموه
عقلا * ثم بدأ الكتاب فقال قال أبو حنيفة رحمه الله القتل علي ثلاثة أوجه عمد وخطأ وشبه
العمد والمراد به بيان أنواع القتل بغير حق فيما يتعلق به من الاحكام كان أبو بكر الرازي
يقول القتل على خمسة أوجه عمد وشبه عمد وخطأ وما أجرى مجرى الخطأ وما ليس بعمد
ولا خطأ ولا أجرى مجرى الخطأ أما العمد فهو ما تعمدت ضربه بسلاح لان العمد هو
القتل وقصد ازهاق الحياة وهي غير محسوسة لقصد أخذها فيكون القصد إلى ازهاق
الحياة بالضرب بالسلاح الذي هو جارح عامل في الظاهر والباطن جميعا ثم المتعلق بهذا الفعل
أحكام منها المأثم وذلك منصوص عليه في قوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
59

فيها الآية ومنها القصاص وهو ثابت في قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وما
أخبر الله تعالى أنه كتبه على من قبلنا فهو مكتوب علينا ما لم يقم دليل النسخ فيه وقد نص
على أنه مكتوب علينا فقال كتب عليكم القصاص في القتلى ثم بين وجه الحكمة فيه بقوله ولكم
في القصاص حياة وفيه معنيان أحدهما أنه حياة بطريق الزجر لان من قصد قتل عدوه فإذا
تفكر في عاقبة أمره انه إذا قتله قتل به انزجر عن قتله فكان حياة لهما والثاني أنه حياة
بطريق دفع سبب الهلاك فان القاتل بغير حق يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه
منهم فهو يقصد افناءهم لإزالة الخوف عن نفسه والشرع مكنهم من قتله قصاصا لدفع شره عن
أنفسهم واحياء الحي في دفع سبب الهلاك عنه وقال عليه الصلاة والسلام العمد قود أي
موجبه القود فان نفس العمد لا يكون قودا وقال صلوات الله عليه وسلامه كتاب الله القصاص
أي حكم الله والقصاص عبارة عن المساواة وفى حقيقة اللغة وهو اتباع الأثر قال الله تعالى
وقالت لأخته قصيه واتباع أثر الشئ في الاتيان بمثله فجعل عبارة عن المساواة لذلك ومن
حكمه حرمات الميراث ثبت ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام لا ميراث لقاتل عبد صاحب
البقرة وفي رواية لا شئ للقتل أي من الميراث ومن حكمه وجوب المال به عند التراضي أو
عند تعذر ايجاب القصاص للشبهة ثبت ذلك بقوله تعالى فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف
وأداء إليه باحسان أي فمن أعطى له من دم أخيه شئ لان العفو بمعنى الفضل قال الله تعالى
يسألونك ماذا ينفقون قل العفو والمراد به إذا رغب القاتل في أداء الدية فالمولى مندوب
إلى مساعدته على ذلك وعلى القاتل أداؤه إليه باحسان إذا ساعده الولي وهذه الدية تجب في
مال القاتل إذا كان بطريق الصلح والتراضي فكأنه هو الذي التزمه بالعقد وأما إذا كان عند
تعذر استيفاء القصاص فلان في الدية الواجبة عليه معنى الزجر ومعنى الزجر إنما يتحقق فيما
يكون أداؤه مجحفا به وهو الكثير من ماله ويختلفون في وجوب الدية بهذا لا فضل عند وجوب
القصاص به فالمذهب عندنا انه لم تجب الدية بالعمد الموجب للقصاص إلا أن يصالح الولي
القاتل على الدية وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان في أحد القولين موجب العمد أحد
شيئين القصاص أو الدية يتعين ذلك باختيار المولى وفى القول الآخر موجبه القصاص إلا أن
للولي أن يختار أخذ الدية من غير رضا القاتل واحتج في ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام
من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية فهذا تنصيص
60

علي ان كل واحد منهما موجب القتل وان الولي مخير بينهما ولما أتى بالقاتل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام للولي أتعفو فقال لا فقال أتأخذ الدية فقال لا فقال القتل
فقال نعم ففي هذا بيان أن الولي يستبد بأخذ الدية كما يستبد بالعفو والقتل والمعنى فيه أن هذا
اتلاف حيوان متقوم فيكون موجبا ضمان القيمة كاتلاف سائر الحيوانات وقيمة النفس الدية
وهذا لان الحيوان ليس من ذوات الأمثال واتلاف المقوم مما لا مثل له يوجب القيمة وقيمة
النفس الدية بدليل حالة الخطأ فان الدية إنما تجب بالاتلاف لا بصفة الخطأ لأنه عذر مسقط
والمتلف في حالة العمد ما هو المتلف في حالة الخطأ إلا أن الشرع أو جب القصاص بمعنى
الانتقام وشفاء الصدر للولي ودفع الغيظ عنه فكان ذلك بخلاف القياس لأنه اتلاف
والاتلاف لا يكون واجبا بمقابلة الاتلاف وهو ليس بمثل (ألا ترى) ان الجماعة يقتلون
بالواحد ولا مماثلة بين العشرة والواحد فعرفنا أنه ممنوع بمعنى زيادة النظر للولي وذلك
في أن لا يسقط حقه في الواجب الأصلي بل يكون متمكنا فيه كما لو قطع يد انسان ويد
القاطع شلاء أو ناقصة بإصبع فان القصاص واجب ولصاحب الحق أن يأخذ الأرش بغير
رضا الجاني لهذا المعنى ولان النفس محترمة بحرمتين وفى اتلافها هتك الحرمتين جميعا حرمة
حق الله تعالى وحرمة حق صاحب النفس وجزاء حرمة الله تعالى العقوبة زجرا وجزاء
هتك حرمة العبد الغرامة جبرا ولكن تعذر الجمع بينهما هاهنا لان كل واحد منهما يوجب حقا
للعبد حتى يعمل فيه اسقاطه ويورث عنه ويسقط باذنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد
بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجميع بينهما على سبيل التخيير وقلنا إن شاء مال إلى جانب هتك
حرمة حق الله تعالى واستوفى العقوبة وان شاء مال إلى جهة حرمة حق العباد فاستوفى
الدية ولا خلاف ان أحد الشريكين في الدم إذا عفا ان للاخر ان يستوفى المال ولو لم يكن
المال واجبا له بنفس القتل لما وجب بالعفو لان العفو مسقط ولو وجب بالعفو لوجب على
العافي وإن كان محسنا كضمان الاعتاق يجب على المعتق إذا كان موسرا ولما وجب المال
للآخر على القاتل عرفنا انه كان واجبا بنفس القتل ولما ظهر ذلك عند العفو في حق من لم
يعف فكذلك يظهر في حق العافي إذا عفا عن القصاص فقلنا يتمكن من أخذ المال ولان
القاتل في الامتناع من أداء الدية بعد ما استحقت نفسه قصاصا ملق نفسه في التهلكة فيكون
ممنوعا شرعا كالمضطر إذا وجد طعاما يشتريه ومعه ثمنه يفترض عليه شراؤه شرعا لهذا المعنى
61

فكذا هاهنا * وحجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام العمد قود فقد أدخل الألف واللام
في العمد وذلك للمعهود فإن لم يكن فللجنس وليس هاهنا معهود فكان للجنس وفيه
تنصيص على أن جنس العمد موجب للقود فمن جعل المال واجبا بالعمد مع القود فقد زاد
على النص وإلى هذا أشار ابن عباس رضي الله عنه في قوله العمد قود ولا مال له فيه وعن علي
وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في دم عمد بين شريكين عفا أحدهما انقلب نصيب
الآخر مالا فتخصيصهما غير العافي بوجوب المال له دليل على أن العافي لا شئ له فأما ما روى
من قوله فأهله بين خيرتين فقد اختلفت الرواية فيه فان في بعض الروايات ان أحبوا قتلوا
وان أحبوا فادوا والمفاداة على ميزان المفاعلة يقتضى وجود القتل بين اثنين بالتراضي وذلك
أخذ الدية بطريق الصلح وتأويل الرواية التي قال وان أحبوا أخذوا الدية من جهتين إحداهما
انه إنما لم يذكر رضا القاتل لان ذلك معلوم ببديهة العقل فان من أشرف على الهلاك إذا
تمكن من دفع الهلاك عن نفسه بأداء المال لا يمتنع من ذلك الا من سفهت نفسه لان امتناعه
لا بقاء منفعة المال سفه ولا يتصور ذلك بعد ما تلفت نفسه وهو نظير قوله عليه الصلاة
والسلام خذ سلمك أو رأس مالك وهو في أخذ رأس المال يحتاج إلي رضا المسلم إليه ولم
يذكره لا لأنه غير محتاج إليه بل لأنه معلوم بطريق الظاهر والثاني ان المراد أن لا يجبر الولي
على أخذ الدية شاء أو أبى لا ان له أن يجبر غيره على أداء الدية بدليل قصة الحديث فإنه روى أن
رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل يوم فتح مكة بعد ما أمر رسول الله صلى اله عليه
وسلم بالكف عن القتل فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أما أنتم يا معاشر خزاعة فقد
قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلته فوداه بمائة من الإبل من عند نفسه ثم قال فمن
قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين فقد أجبر الولي على أخذ الدية ثم تبين بهذا اللفظ
ان الحكم قد انتسخ وان الولي لا يجبر على أخذ الدية بعده وفي الحديث الآخر عرض الدية
على الولي وهذا لا ينفى كون رضا القاتل مشروطا فيه ولكنه اما أن يكون قصد التبرع
بأداء الدية من عنده ولم يعتبر رضا القاتل في هذه الحالة أو أراد أن يعلم رغبة المولى في أخذ
الدية ثم يشتغل باسترضاء القاتل كمن سعى بالصلح بين اثنين يسترضى أحدهما فإذا تم له ذلك
حينئذ استرضى الآخر والمعنى في المسألة انه أتلف شيئا مضمونا فيتقدر ضمانه بالمثل ما أمكن
كاتلاف المال وتفويت حقوق الله تعالى من الصوم والصلاة والزكاة يكون الواجب فيها
62

المثل إذا أمكن وهذا لان ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص قال الله تعالى فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ولان الزيادة على المثل ظلم على المتعدى وفى النقصان يحسن
بالمتعدى عليه والشرع إنما يأمر بالعدل وذلك بالمثل إذا ثبت هذا فنقول الدية ليست بمال
للمتلف والقصاص مثل أما بيان أن الدية ليست بمثل فلان المماثلة بين الشيئين تعرف صورة
أو معنى ولا مماثلة بين المال والآدمي صورة ولا معنى والنفس مخلوقة لإماتة الله تعالى
والاشتغال بطاعته ليكون خليفة في الأرض والمال مخلوق لإقامة مصالح الآدمي به ليكون
مبتذلا في حوائجه فاما القصاص من حيث الصورة فلانه قتل بإزاء قتل وازهاق حياة
بازهاق حياة ومن حيث المعنى فالمقصود بالقتل ليس إلا الانتقام والثاني في معنى الانتقام
كالأول وبهذا سمى قصاصا ثم المثل واجب بطريق الجبر ولا يجعل جبران الحياة بالمال وإنما
جبران الحياة بحياة مثلها وذلك في القصاص فان الله تعالى نص على أن في القصاص حياة فعلينا
أن نعتقد هذا المعنى في القصاص عقلناه أو لم نعقله ثم هو معقول من الوجه الذي ذكرنا أنه
حياة بطريق دفع سبب الهلاك ولكن للولي الذي هو قائم مقام المقتول كما أن المال في
الموضع الذي يجب إنما ينتفع به الذي هو قائم مقام المقتول ولا حاجة بنا إلي اثبات المماثلة
في القصاص لان ذلك واجب بالقصاص وهو محض حق العبد ولا حق للعبد الا في المثل
فاما أجزية الأفعال المحرمة فتجب حقا لله تعالى وإنما حاجتنا إلي أن يثبت ان المال ليس بمثل
للنفس وقد أثبتنا ذلك فقلنا لا يجب بمقابلة النفس المتلفة قتلا الا في الموضع الذي يجب
بتعذر ايجاب المثل فحينئذ يجب المال بالنص بخلاف القياس وهو في حالة الخطأ لان المثل
نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا والخاطئ معذور فتعذر ايجاب المثل عليه ونفس المقتول
محرمة لا يسقط جزء منها بعذر الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في
حالة الخطأ لصيانة النفس المحرمة عن الاهدار لا بطريق انه مثل كما أوجب الفدية علي الشيخ
الفاني عند وقوع اليأس به عن الصوم وذلك لا يدل على أن الاطعام مثل الصوم وإذا ثبت
أن وجوب المال بهذا الطريق ففي الموضع الذي يتمكن فيه من استيفاء مثل حقه لا معنى
لايجاب المال وكما ثبت هذا المعني في الخطأ قلنا في كل موضع من مواضع العمد بتحقق هذا
المعنى نوجب هذا المال أيضا لان المخصوص من القياس بالنص يلحق به ما يكون في معناه
من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر ايجاب القصاص لحرمة الأبوة وإذا
63

عفى أحد الشريكين يجب للآخر المال لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في القاتل وهو
انه حتى يقص نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للاخر ولا يجب
للعافي لأنه إنما تعذر استيفاء القصاص على العافي باسقاطه من جهته لا بمعنى في القاتل ثم اقدام العافي
علي العفو يكون تعيينا منه لحقه في القصاص لان العفو يعترف فيه بالاسقاط وذلك لا يكون
الا بعد تعيين حقه فيه ومع تعيين حقه في القصاص لا يجب له المال وإذا مات من عليه
القصاص إنما لا نوجب المال لان هذا ليس في معنى الخاطئ من كل وجه فان تعذر ايجاب
استيفاء القصاص بعد موته كان لفوات المحل فلو ألحقنا هذا بالخاطئ لمعني التعذر كان قياسا
والمخصوص من القياس لا يقاس عليه غيره وإذا كانت يد القاطع شلاء فالمجني عليه هاهنا
عاجز عن استيفاء مثل حقه بصفته لا لفوات المحل بل لمعنى في الجاني فإن شاء تجوز بدون
حقه وان شاء مال إلى استيفاء الأرش بمنزلة من أتلف على آخر كر حنطة ولم يجد عنده
الا كرا رديئا فإنه يتخير بين أن يتجوز بدون حقه وبين أن يطالب بالقيمة لتعذر استيفاء المثل
بصفته بخلاف ما إذا قطعت يد القاطع ظلما لان تعذر الاستيفاء هاهنا لفوات المحل فلم يكن
في المعنى الأول وهو بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة أو قصاص فإنه يجب الأرش لان
المحل هناك في معنى القائم حكما حين قضي به حقا مستحقا عليه فيكون كالسالم له حكما فمن
هذا الوجه هو في معنى الخطأ وما قال إن في النفس حرمتين فنقول في نفس القاتل حرمتان
كما في نفس المقتول فإذا أو جبنا القصاص بحصل به مراعاة الحرمتين جميعا ثم القصاص
لا يجب الا باعتبار الحرمتين جميعا وإذا اعتبرناهما لايجاب القصاص لا يبقي حرمة أخرى
تعتبر لايجاب المال ولو كان المعنى الذي قاله صحيحا لوجب ان يجمع بينهما استيفاء كمن قتل
صيدا مملوكا في الحرم يجمع بين وجوب الكفالة لحرمة حق الله تعالى ووجوب الضمان
لحق المالك وفيما قررنا جواب عما قال إن القصاص واجب بخلاف القياس فإنه لما كان المثل
صورة ومعنى هو القصاص علم أنه هو الموجب الأصلي والذي قال إنه بالامتناع من أداء الدية
يسلم نفسه في التهلكة ضعيف فان القاء النفس في التهلكة إنما كان بالقبيل السابق فأما بالامتناع
من أداء الدية يسلم نفسه لايفاء حق مستحق عليه ويمتنع من أداء ما ليس عليه فلا يكون به
ملقيا نفسه في التهلكة وأما شبه العمد فهو ما تعمدت ضربه بالعصاء أو السوط أو الحجر أو
اليد فان في هذا الفعل معنين العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب ومعنى الخطأ باعتبار
64

انعدام القصد منه إلى القتل لان الآلة التي استعملها آلة الضرب للتأديب دون القتل
والعاقل إنما يقصد كل فعل بآلته فاستعماله آلة التأديب دليل على أنه غير قاصد إلى القتل
فكان في ذلك خطأ لشبه العمد صورة من حيث إنه كان قاصدا إلى الضرب وإلى ارتكاب
ما هو محرم عليه وكان مالك رحمه الله يقول لا أدرى ما شبه العمد وإنما القتل نوعان عمد وخطأ
وهذا فاسد فان شبه العمد ورد الشرع به على ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال الا ان قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا وفيه مائة من الإبل أربعون
منها خلفة في بطونها أولادها والصحابة اتفقوا علي شبه العمد حيث أوجبوا الدية فيه مغلظة مع
اختلافهم في صفة التغليظ على ما نبينه وقال علي رضي الله عنه شبه العمد الضربة بالعصا والعزقة
بالحجر العظيم فاما بيان أحكام شبه العمد فنقول إنه لا قصاص فيه لتمكن الشبهة والخطأ من
حيث انعدام القصد إلى القتل والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وهي تعمد المساواة ولا مساواة
بين قتل مقصود وقتل غير مقصود ثم هذا القتل لما اجتمع فيه معنيان أحدهما يوجب القصاص
والآخر يمنع ترجح المانع على الموجب لان السعي في ابقاء النفس واجب ما أمكن فان الابقاء
حياة حقيقة وفي القصاص حياة حكما فلهذا لا يوجب القود في شبه العمد وإذا تعذر ايجاب
القود وجبت الدية وهي مغلظة كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله أربعون خلفة
في بطونها أولادها وهو مروى عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن
شعبة رضي الله عنهم انهم أوجبوا الدية مغلظة في شبه العمد وهذا التغليظ إنما يظهر في أسنان
الإبل إذا وجبت الدية منها لا في شئ ء آخر وهذه الدية على عاقلة القاتل بمنزلة الدية في الخطأ
وهو قول عامة العلماء وكان أبو بكر الأصم يقول لا تجب الدية علي العاقلة بحال لظاهر قوله
ولا تزر وازرة وزر أخرى ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حين دخل عليه
مع ابنه أما انه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه أي لا يؤخذ بجنايتك ولا تؤخذ بجنايته ولان
ضمان الاتلاف يجب علي المتلف دون غيره بمنزلة غرامات الأموال وهذا أولى لان جناية
المتلف في اتلاف النفس أعظم من جنايته في اتلاف الأموال ولكنا نستدل بما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم جعل عقل جناية كل بطن من الأنصار عليهم وفي حديث حمدان بن مالك
ابن نابغة قال كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما بطن صاحبتها بعمود فسطاط أو بمسطح
خيمة فألقت جنينا ميتا فاختصم أولياؤها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام
65

لأولياء الضاربة دوه فقال أخوها عمران بن عويمر الأسلمي أيدي من لا صاح ولا استهل
ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل فقال عليه الصلاة والسلام أسجع كسجع الكهان وفى
رواية دعني وأراجيز العرب قوموا فدوه الحديث ففيه تنصيص علي ايجاب الدية على القاتل
ثم هو معقول المعنى من أوجه أحدها ان مثل هذا الفعل إنما يقصده القاتل بزيادة قوة له
وذلك أنما يكون بالتناصر الظاهر بين الناس ولهذا التناصر أسباب منها ما يكون بين أهل
الديوان باجتماعهم في الديوان ومنها ما يكون بين العشائر وأهل المحال وأهل الحرف فإنما يكون
تمكن الفاعل من مباشرتهم بنصرتهم فيوجب المال عليهم ليكون زجرا لهم عن غلبة سفهائهم
وبعثا لهم على الاخذ على أيدي سفهائهم لكيلا تقع مثل هذه الحادثة هذا في شبه العمد وكذلك
في الخطأ لان مثل هذا الامر العظيم قلما يبتلى به المرء من غير قصد الا لضرب استهانة وقلة
مبالاة تكون منه وذلك بنصره من ينصره ثم الدية مال عظيم وفي ايجاب الكل على القاتل
إجحاف به فأوجب الشرع ذلك على العاقلة دفعا لضرر الاجحاف عن القاتل كما أوجب النفقة
على الأقارب بطريق الصلة لدفع ضرر الحاجة ولهذا أوجب عليهم مؤجلا على وجه يقل ما يؤديه
كل واحد منهم في كل نجم ليكون الاستيفاء في نهاية من التيسير عليهم ولان كل واحد منهم
يخاف على نفسه أن يبتلى بمثل ذلك فهذا يواسي ذلك إذا ابتلي به وذلك يواسى هذا فيدفع ضرر
الاجحاف من كل واحد منهم ويحصل معنى صيانة دم المقتول عن الهدر ومعنى الاعسار لورثته
بحسب الامكان وبهذا يتبين أنا لا نجعل وزر أحد على غيره وإنما نوجب ما نوجبه على العاقلة
بطريق الصلة في المواساة و بهذا لا نوجب ذلك أن كان المتلف مالا لان الواجب قل ما يعظم
هناك بل يتقدر بقدر المتلف فلا يؤدى إلى الاجحاف بالمتلف ان لو ضن به وهذا لا نوجب
القليل من الأرش وهو ما دون أرش الموضحة على العاقلة ومن موجب شبه العمد أيضا حرمان
الميراث لأنه جزاء أصل الفعل وهو مالا يندرئ بالشبهات ومن موجبه الكفارة أيضا باعتبار
هذا المعنى لأنه جزاء أصل الفعل وهو مما لا يندرى بالشبهات وبهذا ثبت في الخطأ المحض
ففي شبه العمد أولى وأما الخطأ فهو ما أصبت مما كنت تعمدت غيره والخطأ نوعان أحدهما أن
يقصد الرمي إلى صيد أو هدف أو كافر فيصيب مسلما فهذا خطأ من حيث إنه انعدم منه
القصد إلي المحل الذي أصاب والثاني أن يرمى شخصا يظنه حربيا فإذا هو مسلم أو يظنه صيدا
فإذا هو مسلم فهذا خطأ باعتبار ما في قصده وإن كان هو قاصدا إلي المحل الذي أصابه وحكم
66

الخطأ انه لا يجب فيه القصاص لان الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع قال الله تعالى وليس
عليكم جناح فيما أخطأتم به وقال ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا وقال عليه السلام رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا تعذر ايجاب القصاص وجبت الدية بالنص
قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبته مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وبينا المعنى فيه
لصيانة دم المقتول عن الهدر فاستحقاق صيانة نفسه لا يسقط بعذر الخاطئ ومن موجبه الكفارة
فإنها تثبت بهذا النص أيضا والمعنى فيه معقول فان القتل أمر عظيم قل ما يبتلى به المرء من غير
قصد ما لم يكن به تهاون في التحرز وعلى كل أحد المبالغة في التحرز لكيلا يبتلى بمثل هذا الامر
العظيم فإذا ترك ذلك كان هو ملتزما بترك التحرز فنوجب عليه الكفارة جزاء على ذلك ولان
مثل هذا الامر العظيم لا يبتلى به المرء الا بنوع خذلان وهذا الخذلان لا يكون إلا عن
ذنوب سبقت منه والحسنة تذهب السيئة قال الله تعالى ان الحسنات يذهبن السيئات فنوجب
عليه الكفارة لتكون ماحية للذنوب السابقة فلا يبتلي بمثل هذا الامر العظيم بعدها وفي سيئة
العمد معنى ايجاب الكفارة أظهر لما يلحقه من المأثم بالقصد إلى أصل الفعل وفيه حديث وأثلة
ابن الأسقع حيث قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لناقد أوجب النار بالقتل
فقال عليه السلام أعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو عضوا منه من النار وايجاب النار
لا يكون الا بالاقدام على قتل محرم وقد قامت الدلالة على أن الكفارة لا تجب في العمد المحض
فعرفنا ان المراد شبه العمد ثم قال الشافعي المعنى في وجوب الكفارة بالقتل انه نقص من عدد
المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمع والجماعات فعليه إقامة نفس مقام ما أتلف ولا يمكنه ذلك
احياء فعليه إقامة مقام النفس المتلفة تحريرا لان الحرية حياة والرق تلف وبهذا أوجب الكفارة
علي العامد وقلنا نحن إنما أوجب الكفارة عليه لان الشرع سلم له نفسه شكر لله حين أسقط
عنه القود بعذر الخطأ مع تحقق اتلاف النفس منه فعليه إقامة نفس مقام نفسه شكرا لله وذلك في
أن تحرز نفس منه لتشتغل بعبادة الله وان عجز عن ذلك فعليه صوم شهرين متتابعين شكرا
لله حيث سلم له نفسه وبهذا لا نوجب الكفارة علي العامد لان الشرع أوجب عليه القصاص
ونوجبها في شبه العمد لان الشرع سلم له نفسه تخفيفا عليه وترجيح أحد المعنيين على الآخر
يبين في مسألة كفارة العمد إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى وليس في هذه الكفارة اطعام
عندنا وفي أحد قولي الشافعي إذا عجز عن الصوم يطعم ستين مسكينا بالقياس على كفارة
67

الظهار وهو بناء علي أصله ان قياس المنصوص على المنصوص يجوز فان المطلق والمقيد في
حادثتين يحمل أحدهما على الآخر وذلك غير جائز عندنا وموضع بيانه أصول الفقه فاما ما أجرى
مجرى الخطأ على ما ذكره الرازي فهو النائم إذا انقلب على انسان فقتله وهذا ليس بعمد ولا
خطأ لأنه لا تصور للقصد من النائم حتى يتصور منه ترك القصد أو ترك التحرز ولكن
الانقلاب الموجب لتلف ما انقلب عليه يتحقق من النائم فيجرى هذا مجرى الخطأ حتى تجب الدية
على عاقلته والكفارة ويثبت به حرمان الميراث ليوهم أن يكون متهاونا ولم يكن نائما قصدا منه
إلى استعجال الميراث وأظهر من نفسه القصد إلى محل آخر فأما ما ليس بعمد ولا خطأ ولا
أجرى مجرى الخطأ فهو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق فليس بمباشر للقتل لان مباشرة
القتل بايصال فعل من القاتل بالمقتول ولم يوجد وإنما اتصل فعله بالأرض فعرفنا انه ليس
بقاتل عمد ولا شبه عمد ولا خطأ ولا ما أجرى مجرى الخطأ بل هو بسبب متعد فنوجب
الدية علي عاقلته للحاجة إلى صيانة النفس المتلفة عن الهدر ولا يجب عليه الكفارة ولا يحرم
الميراث على ما يأتيك بيانه في بابه قال وفي النفس الدية معناه بسبب اتلاف النفس فان حرف
في للظرف حقيقة والنفس لا تكون ظرفا للدية بل قتلها سبب لوجوب الدية كما يقال في
النكاح حل وفي الشراء ملك وهذا لقوله تعالى ودية مسلمة إلى أهله وقال عليه السلام في
النفس مائة من الإبل وقال علي رضي الله عنه في النفس الدية ومالا يعرف بالرأي والمنقول
عنه فيه كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الانف الدية والحاصل ان مالا
ثاني له في البدن من أعضاء أو معان مقصودة فاتلافها كاتلاف النفس في أنه يجب بها كمال
الدية والأعضاء التي هي افراد ثلاثة الانف واللسان والذكر وذلك مروي في حديث سعيد
ابن المسيب ان النبي عليه السلام قال في الانف الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية وهكذا
روى عن علي بن أبي طالب ثم قطع الأنف تفويت جمال كامل ومنفعة كاملة وامتياز الآدمي من
بين سائر الحيوانات فات بهما فتفويتهما في معنى تفويت النفس فكما تجب الدية بقطع جميع الانف
بحيث يقطع المارن لان تفويت الجمال به يحصل وكذلك تفويت المنفعة لان المنفعة في الانف
اجتماع الروائح في قصبة الانف لنقله منها إلى الدماغ وذلك تفويت بقطع المارن والمارن ما
دون قصبة الانف وهو مالان منه وكذلك في اللسان الدية لان الآدمي قد امتاز من بين
سائر الحيوانات باللسان وقد من الله تعالى به على عباده فقال تعالى خلق الانسان علمه البيان
68

وذلك يفوت بقطع اللسان ففيه تفويت أعظم المقاصد في الآدمي وكذلك في قطع بعض
اللسان إذا منع الكلام وإن كان بحيث يمنع بعض الكلام دون البعض فالجواب الظاهر أن
فيه حكومة عدل لأنه لم يتم تفويت المقصود بهذا القدر وإنما تمكن فيه نقصان فيجب باعتباره
حكومة عدل وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله ان الدية تقسم على الحروف فحصة ما يمكنه ان
يصححه من الحروف تسقط عنه وحصة مالا يمكنه ان يصححه من الحروف تجب عليه ولكن
على هذا القول لا يعتبر في القسمة الا الحروف التي تكون باللسان فاما الهاء والحاء والعين
لا عمل للسان فيها فلا يعتبر ذلك في القسمة وفي الكتاب روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى في اللسان بالدية وفي الانف بالدية قال وفي الذكر دية لان في الذكر تفويت منفعة
مقصودة من الآدمي وهي منفعة النسل ومنفعة استمساك البول والرمي به عند الحاجة
وكذلك في الحشفة الدية كاملة لان تفويت المقصود يحصل بقطع الحشفة كما يحصل بقطع جميع
الذكر ووجوب الدية الكاملة باعتباره والمعاني التي هي افراد في البدن العقل والسمع والبصر
والذوق والشم ففي كل واحد منها دية كاملة هكذا روى عن عمر رضي الله عنه انه قضى لرجل
على رجل بأربع ديات بضربة واحدة كان ضرب على رأسه فأذهب عقله وسمعه وبصره ومنفعة
ذكره وكان المعنى فيه أن العقل من أعظم ما يختص به الآدمي وبه ينتفع بنفسه في الدنيا
والآخرة وبه يمتاز من البهائم فالمفوت له كالمبدل لنفسه الملحق له بالبهائم وكذلك منفعة
السمع فإنها منفعة مقصودة بها ينتفع المرء بنفسه وكذلك منفعة البصر فإنها مقصودة (ألا ترى)
أن الناس يقولون للذي لا بصر له بمنزلة الميت الذي لم يدفن وكذلك منفعة الشم منفعة مقصودة
في البدن ومنفعة الذوق كذلك فتفويتها من وجه استهلاك باعتبار ان فيه منفعة مقصودة
فيوجب كمال الدية وكذلك في الصلب الدية كاملة إذا منع الجماع لما فيه من تفويت منفعة
مقصودة وهي منفعة النسل وكذلك إذا حدث فان فيه تفويت جمال كامل لان الجمال للآدمي
في كونه منتصب القامة قيل في معنى قوله تعالى لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم منتصب
القامة وذلك يفوت إذا حدب والجمال للآدمي مطلوب كالمنفعة فتفويت الجمال الكامل بوجب
دية كاملة فان عاد إلي حاله ولم ينقصه ذلك شيئا إلا أن فيه أثر الضربة ففيه حكومة عدل لأنه
نفى بعض الشيئين ببقاء أثر الضربة فيجب باعتباره حكم عدل ومن هذه الجملة الافضاء في
المرآة إذا كانت بحيث لا تستمسك البول فإنه يوجب كمال الدية لان فيه تفويت منفعة كاملة
69

لا ثاني لها في البدن وهي منفعة استمساك البول وذكر المبرد أن النبي عليه السلام قال في
الصعر الدية وفسر المبرد ذلك بتعويج الوجه وفيه تفويت جمال كامل وأما ما يكون زوجا
في البدن ففي قطعهما كمال الدية وفي أحدهما نصف الدية وأصل ذلك في حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام قال في العينين الدية وفي إحداهما نصف الدية
وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية وهكذا روى عن علي رضي الله عنه قال الأعضاء
التي هي أزواج في البدن العينان والأذنان الشاخصتان والحاجبان والشفتان واليدان وثديا
المرأة والأنثيان والرجلان أما في العينين إذا فقئتا الدية كاملة بتفويت الجمال والمنفعة المقصودة
وأما في الاذنين الشاخصتين فالدية كاملة لان في قطعهما تفويت الجمال الكامل وتفويت المنفعة
أيضا فان الأصوات تجتمع فيها وتنفذ إلى الدماغ وبهما تقى الأذى عن الدماغ ففيهما الدية وفي
إحداهما نصف الدية وكذلك في الحاجبين إذا حلقهما علي وجه أفسد المنبت أو نتفهما فأفسد
المنبت لان فيه تفويت جمال كامل فيجب فيهما الدية وفى إحداهما نصف الدية عندنا خلافا
للشافعي رضي الله عنه على ما نبينه في فصول الشعران شاء الله وفى الشفتين معنى الجمال الكامل
والمنفعة الكاملة فبقطعهما تجب الدية كاملة وبقطع إحداهما نصف الدية والعليا والسفلى في ذلك
سواء وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال في السفلى ثلثا دية وفي العليا ثلث الدية لان في العليا جمالا فقط وفي السفلى جمالا ومنفعة وهي استمساك الريق بها وكذلك في الدين فان منفعة البطش
في الادمي منفعة مقصودة ففي قطعهما تفويت هذه المنفعة وفي قطع إحداهما تنقيصه وكذلك في
ثديي المرأة منفعة مقصودة كاملة وهي منفعة رضاع الولد وكما تجب الدية بقطع ثدييها تجب بقطع
حلمتيها لان تفويت المنفعة يحصل بقطع الحلمة كما يحصل بقطع جميع الثدي فهو نظير ما ذكرنا
في الحشفة مع الذكر والمارن مع الانف وفي الأنثيين منفعة مقصودة وهي منفعة الامناء والنسل
ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية وفى الرجلين منفعة مقصودة وهي منفعة المشي وانتفاع
المرء بنفسه إنما يكون إذا تمكن المرء من المشي فقطع الرجلين بمنزلة استهلاكه حكما وأما ما
يكون أرباعا في البدن فهو أشفار العينين يجب في كل شفر ربع الدية ويستوى ان نتف
الأهداب فأفسد المنبت أو قطع الجفون كلها بالأشفار لان تفويت الجمال يتم بذلك وكذلك
تفويت المنفعة لان الأهداب والجفون تقى الأذى عن العينين وتفويت ذلك بنقص من
البصر ويكون آخره العمي فيجب فيها كمال الدية وهي أرباع في البدن فتوزع الدية عليها
70

في كل واحدة منها ربع الدية فأما ما يكون أعشارا في البدن كالأصابع يعنى أصابع اليدين أو
الرجلين فان قطع أصابع اليد يوجب كمال الدية لما فيها من تفويت منفعة البطش والبطش
بدون الأصابع لا يتحقق وفى كل أصبع عشر الدية هكذا روى في حديث سعيد بن المسيب
أن النبي عليه السلام قال وفي كل أصبع عشر من الإبل وجميع ما ذكرنا مذكور فيما كتب
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم وفيها وفى كل أصبع عشر من الإبل وفى كل
سن خمس من الإبل وهكذا رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان عمر رضي الله عنه في الابتداء يقول في الخنصر ست من الإبل وفى البنصر تسع
من الإبل وفي الوسطى عشر وفى السبابة والابهام خمس وعشرون ثم لما بلغه حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى الحديث فقال الأصابع كلها سواء والذي تبيناه في أصابع
اليد كذلك في أصابع الرجل لان في قطعها تفويت منفعة المشي ومنفعة المشي كمنفعة البطش
والصغير والكبير في جميع ما ذكرنا سواء لان في أعضائه عرضة لهذه المنافع ما لم يصبها آفة
ففي تفويتها تفويت المنفعة كما في حق الكبير وأما ما يزيد على ذلك في البدن فهي الأسنان
يجب في كل سن نصف عشر الدية لما روينا من الحديث ويستوى في ذلك الأنياب والنواجذ
والضواحك والطواحين ومن الناس من فضل الطواحين على الضواحك لما فيها من زيادة
المنفعة ولسنا نأخذ بذلك لان النبي عليه الصلاة والسلام قال في كل سن خمس من الإبل من
غير تفصيل ثم إن كان في بعضها زيادة منفعة ففي بعضها زيادة جمال والجمال في الادمي كالمنفعة
حتى قيل إذا قلع جميع أسنانه فعليه ستة عشر ألفا لان الأسنان اثنان وثلاثون سنا فإذا
الواجب في كل نصف عشر الدية خمسمائة بلغت الجملة ستة عشر ألفا وليس في البدن جنس
يجب بتفويته أكثر من مقدار الدية سوى الأسنان فان قلع جميع أسنان الكوسج فعليه أربعة
عشر ألفا لان أسنانه ثمانية وعشرون هكذا حكى أن امرأة قالت لزوجها يا كوسج فقال إن
كنت كوسجا فأنت طالق فسئل أبو حنيفة رحمه الله عن ذلك فقال تعد أسنانه فإن كانت
اثنين وثلاثين فليس بكوسج وان كانت ثمانية وعشرين فهو كوسج قال وبلغنا عن علي رضي الله عنه
قال في الرأس إذا حلق ولم ينبت الدية كاملة وبهذا أخذ علماؤنا رحمهم الله وقال إذا
حلق شعر رأس انسان حتى أفسد المنبت فعليه كمال الدية الرجل والمرأة في ذلك سواء وقال
الشافعي في شعر الرأس حكومة عدل وكذلك في اللحية إذا حلقت فلم تنبت كمال الدية عندنا
71

وقال الشافعي رضي الله عنه حكومة عدل لأنه شعر مستمد من البدن بعد كما الخلقة فلا يتعلق
بحلقه كما الدية كشعر الصدر والساق وهذا لأنه ليس في حلق الشعر تفويت منفعة كاملة
إنما فيه فقط تفويت بعض الجمال فإنه يلحقه نوع شين على الوجه الذي لغير الكوسج بقلة
شعره ووجوب كمال الدية يعتبر بتفويت منفعة كاملة والدليل عليه ان ما يوجب في الحر
كمال الدية يوجب في العبد كمال القيمة وبالاتفاق لو حلق لحية عبد انسان لا يلزمه كمال القيمة
وان أفسد المنبت وإنما يلزمه النقصان فكذلك في حق الحر * وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه
فان ما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لان
ذلك لا يستدرك بالرأي والمعنى فيه أنه فوت عليه جمالا كاملا فيلزمه كمال الدية كما لو قطع
الاذنين الشاخصتين وبيان ذلك أن في اللحية جمالا كاملا في أوانه وكذلك في شعر الرأس
جمال كامل (ألا ترى) ان من عدم ذلك خلقة تكلف لستره واخفائه ولا شك ان في شعر
الرأس جمالا كاملا وبعض المنفعة أيضا فما يحصل لها بالجمال من المنفعة أعظم وجوه المنفعة وكذلك
في اللحية والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله تعالى ملائكة
تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالقرون والذوائب تم تفويت المنفعة
يوجب كمال الدية كما إذا ضرب على ظهره حتى أنقطع ماؤه فكذلك تفويت الجمال الكامل
يوجب كمال الدية لان الغرض للعقلاء في الجمال أكثر مما هو في المنفعة بخلاف شعر الصدر
والساق فليس في حلقه تفويت جمال كامل فلهذا لم يؤثر ذلك في النقصان فلا يجب شئ فأما في
لحية العبد فروايتان روى الحسن عن أبي حنيفة انه يجب كمال القيمة وفى ظاهر الرواية يجب
نقصان القيمة وهو نظير الروايتين في قطع الاذنين الشاخصتين من العبد ففي رواية الحسن
قال القيمة في العبد كالدية في الحر فما يجب بتفويته كمال الدية في الحر يجب بتفويته كمال
القيمة في العبد وفي ظاهر الرواية قال الجمال غير مقصود للمولى من عبده وإنما المقصود منفعة
الاستخدام وبحلق لحيته أو قطع الاذنين الشاخصتين منه لا يفوت هذا المقصود فلهذا
لا يجب به كمال القيمة فأما الجمال فمقصود في الأحرار وبتفويته يجب كمال الدية وتكلموا في
حلق لحية الكوسج والأصح في ذلك ما فصله أبو جعفر الهندواني رحمه الله إن كان الثابت
على ذقنه شعرات معدودة فليس في حلق ذلك شئ لان وجود ذلك لا يزينه وربما يشينه وان
72

كان أكثر من ذلك فكان على الذقن والخد جميعا ولكنه غير متصل ففيه حكومة عدل لان
في هذا بعض الجمال ولكنه ليس بكامل فيجب بتفويته حكومة عدل وإن كان متصلا ففيه
كمال الدية لأنه ليس بكوسج وفي لحيته معنى الجمال الكامل وهذا كله إذا فسد المنبت فان
نبت حتى استوى كما كأن لا يجب فيه شئ لأنه لم يبق لفعل الجاني أثر فهو بمنزلة الضربة
التي لا يبقى أثرها في البدن ولكنه يؤدب علي ذلك لارتكاب ما لا يحل له وان نبتت
بيضاء فقد ذكر في النوادر ان عند أبي حنيفة لا يلزمه شئ لان الجمال يزداد ببياض شعر
اللحية وعندهما يجب حكومة عدل لان بياض الشعر جمال في أوانه فأما في غير أوانه فيشينه
فيجب حكومة العدل باعتباره وقد بينا ان في أحد العينين نصف الدية ويستوى الجواب ان
انخسفت أو ذهب بصرها وهي قائمة أو ابيضت حتى ذهب البصر لان المنفعة المقصودة من
العين تفوت في هذا كله وقيل ذهاب البصر بمنزلة فوات العين فلا معتبر ببقائها بعد ما
ذهب البصر (ألا ترى) أن من خنق انسانا حتى مات عليه كمال الدية وان كانت النفس باقية على
حالها وكذلك اليد إذا شلت حتى لا ينتفع بها ففيها أرشها كاملا أما لان الشلل دليل موتها أو
لان ما هو المقصود وهو منفعة البطش تحقق فواته بصفة الكمال فهو وما لو قطعت اليد سواء
في إيجاب الأرش قال وفي الموضحة نصف عشر الدية والكلام في معرفة الشجاج أن يقول
الشجاج الحارصة وهي التي تشق الجلد ومنه يقال حرص القصار الثوب ثم الدامغة وهي التي
يخرج منها قدر الدمع من الدم ثم الدامية وهي التي يخرج منها قدر الدمع من الدم ثم الباضعة
وهي التي تبضع بعض اللحم ثم المتلاحمة وهي التي تقطع أكثر اللحم وروى عن محمد رحمه الله
ان المتلاحمة قبل الباضعة وهو اختلاف في مأخذ الكلم لا في الحكم فمحمد رحمه الله ذهب إلى
أن المتلاحمة مأخوذة من قولك التحم الشيئان إذا اتصل أحدهما بالآخر والمتلاحمة ما تظهر اللحم
ولا تقطعه والباضعة بعدها وفى ظاهر الرواية المتلاحمة ما تعمل في قطع أكثر اللحم فهي بعد
الباضعة ثم السمحاق وهي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة بين اللحم والعظم فتلك الجلدة
تسمى سمحاقا ومنه سمى العظم الرقيق سماحيق ثم الموضحة وهي التي توضح العظم حتى يبدو
ثم الهاشمة وهي التي تكسر العظم ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظم أو تجعل العظم كالنقلة
وهي كالحصى ثم الآمة وهي التي تظهر الجلد بين العظم والدماغ وتسمى تلك الجلدة أم الرأس
ثم الدامغة وهي التي تجرح الدماغ إلا أن محمدا رحمه الله لم يذكر الدامغة لان النفس لا تبقى
73

بعدها عادة فيكون ذلك قتلا لا شجة ولم يذكر الحارصة والدامية لأن الظاهر أنه لا يبقى لهما
أثر وبدون بقاء الأثر لا يجب شئ فاما بيان الاحكام فنقول أما في الموضحة فيجب نصف عشر
الدية هكذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الموضحة خمس من الإبل وهكذا
روى في حديث عمرو بن حزم وفيما يرويه سعيد بن المسيب وهذا إذا كانت الموضحة خطأ فإن كان
ت عمدا ففيها القصاص لان اعتبار المساواة فيها ممكن فان عملها في اللحم دون العظم
والجنايات فيما دون النفس توجب القصاص إذا أمكن اعتبار المساواة فيها فأما قبل الموضحة
من الشجاج ففيها حكومة عدل إذا كانت خطأ وكذلك أن كانت عمدا في رواية الحسن عن
أبي حنيفة فإنه لا قصاص فيما دون الموضحة لأنه يتعذر اعتبار المساواة فيها من حيث المقدار
فربما يبقى من أثر فعل الثاني فوق ما يبقى من أثر فعل الأول وفي ظاهر الرواية يقول فيها
القصاص لان عملها في الجلد أعظم والمساواة فيها ممكنة بان يسبر فورها بالمسبار ثم يتخذ حديدة
بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع وايجاب حكومة العدل في هذه الشحاج مروى عن إبراهيم
النخعي وعمر بن عبد العزيز رحمهما الله قالا ما دون الموضحة من الشجاج بمنزلة الخدوش ففيها
حكومة عدل وقد جاء في الحديث ان عليا رضي الله عنه قضى في السمحاق بأربع من الإبل
فإنما يحمل على أن ذلك كان مقدار حكومة عدل ثم اختلف المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله
في معرفة حكومة العدل فقال الطحاوي السبيل في ذلك أن يقوم لو كان مملوكا بدون هذا
الأثر ويقوم مع هذا الأثر ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين كم هو فإن كان بقدر نصف
العشر يجب نصف عشر الدية وإن كان بقدر ربع العشر يجب ربع عشر الدية وكان الكرخي
يقول هذا غير صحيح فربما يكون نقصان القيمة بالشجاج التي قبل الموضحة أكثر من نصف
العشر فيؤدى هذا القول إلى أن يوجب في هذه الشجاج من الدية فوق ما أوجبه الشرع في
الموضحة وذلك لا يجوز ولكن الصحيح ان ينظر كم مقدار هذه الشجة من نصف عشر الدية
لان وجوب نصف فعشر الدية ثابت بالنص وما لا نص فيه يرد إلى المنصوص عليه باعتبار
المعني فيه فاما في الهاشمة عشر الدية وفي المنقلة عشر ونصف عشر الدية وفي الآمة ثلث الدية
وتسمى المأمومة أيضا وذلك فيما كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم قال في
الهاشمة عشر من الإبل وفى المنقلة خمسة عشر وفي الآمة ثلث الدية والجائفة كالأمة
يجب فيها ثلث الدية لان الجائفة واصلة إلى أحد الجوفين وهو جوف البطن فتكون كالواصلة
74

إلى جوف الرأس وهي الدماغ وان نفذت الجائفة ففيها ثلث الدية لأنها بمنزلة الجائفتين
إحداهما من جانب البطن والأخرى من جانب الظهر فيجب في كل واحدة منهما ثلث الدية
وفي كل مفصل من الأصابع ثلث دية الإصبع إذا كان فيها ثلاثة مفاصل وإن كان فيها مفصلان
ففي كل مفصل نصف دية الإصبع لان المفاصل للإصبع كالأصابع لليد فكما أن دية اليد تتوزع
على الأصابع على التساوي فكذلك دية الإصبع تتوزع على المفاصل على التساوي فالاصبع إذا
كانت ذات مفصلين كالابهام فإنه يجب في كل مفصل نصف دية الإصبع وإذا كانت ذات ثلاث
مفاصل ففي كل مفصل ثلث دية الا صبع وذلك مروى عن علي وابن عباس قالا لا يفضل شئ
منها على شئ وابن مسعود قال في دية الخطأ أخماسا عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون
بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض والكلام هاهنا في فصول أحدها انه
لا خلاف أن الدية من الإبل مائة على ما قال رسول الله عليه السلام في النفس المؤمنة مائة من
الإبل واختلفوا في أن الدراهم والدنانير في الدية أصل أم باعتبار قيمة الإبل فالمذهب عندنا
انهما أصل وفي قول الشافعي يدخلان على وجه قيمة الإبل وتتفاوت بتفاوت قيمة الإبل ويحكى
عن أبي بكر الرازي انه كأن يقول أولا وجوبهما على سبيل قيمة الإبل ولكنهما قيمة مقدرة
شرعا بالنص فلا يزاد عليها ولا ينقص عنها ثم رجع عن ذلك وقال هما أصلان في الدية واحتج
الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري قال كانت الدية على عهد رسول الله عليه السلام مائة
من الإبل قيمة كل بغير أوقية ثم غلب الإبل فصارت قيمة كل بغير أوقية ونصفا ثم غلبت
فصارت قيمة كل بعير أوقيتين فما زالت تعلوا حتى جعلها عمر عشرة آلاف درهم أو ألف
دينار وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام قضى في الدية بمائة
من الإبل قيمتها أربعة آلاف درهم أو أربعمائة دينار وحجتنا في ذلك حديث سعيد بن المسيب
أن النبي عليه السلام قال دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار وذكر الشعبي عن عبيدة
السلماني ان عمر بن الخطاب لما دون الدواوين جعل الدية علي أهل الإبل مائة من الإبل
وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلي أهل الورق عشرة آلاف درهم وقضاؤه ذلك كان بمحضر
من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فحل محل الاجماع منهم والمعنى فيه أن للقاضي أن يقضى
بالدية من الدراهم أو الدنانير مؤجلا في ثلاث سنين فلو كان الأصل في الدية الإبل وهي
دين والدراهم والدنانير بدل عنها كان هذا دينا بدين ونسيئة بنسيئة وذلك حرام شرعا
75

يوضحه ان الآدمي حيوان مضمون بالقيمة كسائر الحيوانات والأصل في القيمة الدراهم
والدنانير إلا أن القضاء بالإبل كان بطريق التيسير عليهم لأنهم كانوا أرباب الإبل وكانت
النقود تتعسر منهم ولا نهم كانوا يستوفون الدية علي أظهر الوجوه ليندفع بها بعض الشر عنهم
وذلك في الإبل أظهر منه في النقود فكانت بخلاف القياس بهذا المعنى ولكن لا يسقط
بها ما هو الأصل في قيمة المتلفات * ثم لا خلاف ان الدية في الخطأ من الإبل تجب أخماسا
كما ذكره ابن مسعود والسن الخامس عندنا ابن مخاض وعند الشافعي ابن لبون فمذهبنا مروى
عن عمر وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم واحتج الشافعي بما روى أن النبي عليه السلام قضى
في الدية بمائة من إبل الصدقة يعنى من الأسنان التي تؤخذ في الصدقة وابن مخاض لا مدخل
له في الصدقة ولابن اللبون مدخل قال عليه السلام في خمس وعشرين بنت مخاض فإن لم يكن
فابن لبون وحجتنا في ذلك حديث حذيفة بن مالك الطائي عن ابن مسعود رضي الله عنه ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال دية الخطأ أخماس عشرون جذعة وعشرون بنت لبون وعشرون
بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وقال عليه السلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل واسم
الإبل مطلقا يتناول أدنى ما يكون منه وابن المخاض أدنى من ابن اللبون ولان الشرع جعل
ابن اللبون بمنزلة بنت المخاض في الزكاة فايجاب ابن اللبون هاهنا في معنى ايجاب أربعين من
بنت المخاض وذلك لا يجوز بالاجماع فأما الحديث الذي رواه فالمراد اعطاء الدية من إبل
الصدقة على وجه التبرع عن عاقلة القاتل لحاجتهم لا أن يكون المراد من الأسنان التي توجد في الصدقة
ثم ابن المخاض يدخل في الصدقة عندنا على الوجه الذي يدخل ابن اللبون لان ابن اللبون
عندنا يستوفى باعتبار القيمة فكذلك ابن المخاض وأما في شبه العمد فعلى قول أبي حنيفة
وأبى يوسف تجب مائة من الإبل أرباعا خمسة وعشرون ابنة مخاض وخمس وعشرون بنت
ابن لبون وخمسة وعشرون حقة وخمسة وعشرون جذعة وهو قول ابن مسعود وقال الشافعي
ومحمد تجب أثلاثا ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل وكلها خلفة والخلفة
هي الحامل وهو قول عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وقال علي رضي الله عنه
تجب أثلاثا ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة
وقال عثمان رضي الله عنه تجب أثلاثا من هذه الأسنان من كل سن ثلاثة وثلاثون واحتج
محمد والشافعي لحديث النعمان بن بشير ان النبي عليه السلام قال في خطبة عام حجة الوداع
76

ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها
وعن عمر أنه قضى بذلك في شبه العمد وقضاؤه كان بمحضر من الصحابة وأبو حنيفة وأبو
يوسف احتجا بحديث السائب بن يزيد أن النبي عليه السلام قضى في الدية بمائة من الإبل
أرباعا ومعلوم انه لم يرد به الخطأ لأنها في الخطأ تجب أخماسا فعرفنا أن المراد به شبه العمد
وقال في النفس المؤمنة مائة من الإبل والمراد به أدنى ما يكون منه وما قلناه أدنى والمعنى فيه أنه
إنما تجب الدية عوضا عن المقتول والحامل لا يجوز أن تستحق في شئ من المعاوضات
فكذلك لا تستحق في الدية لوجهين أحدهما أن صفة الحمل لا يمكن الوقوف على حقيقتها
والثاني ان الجنين من وجه كالمنفصل فيكون هذا في معنى ايجاب الزيادة على المائة عددا
وبالاتفاق صفة التغليظ ليست من حيث العدد بل من حيث السن ثم الديات تعتبر بالصدقات
والشرع نهى عن أخذ الحوامل في الصدقات لأنها كرائم أموال الناس فكذلك في الديات
وهذا لان شبه العمد يجب على العاقلة بطريق الصلة منهم للقاتل بمنزلة الصدقات فأما الحديث
الذي روى فلا يكاد يصح لان ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع
كان بمحضر من جماعة من الصحابة ولم يرو هذا الحديث الا النعمان بن بشير وهو في ذلك
الوقت. كان في عداد الصبيان وقد خفى الحديث على كبار الصحابة حتى اختلفوا بينهم على
أقاويل كما بينا ولم تجر المحاجة بينهم بالحديث فلو كان صحيحا لما اختلفوا مع هذا النص ولا احتج
به بعضهم على بعض ومن أصل أبي حنيفة ان العام المتفق على قبوله أولى بالأخذ به من مثل
هذا الخاص ولا خلاف أن صفة التغليظ في الدية لا تثبت الا في أسنان الإبل وبه يستدل الشافعي
على أن الأصل في الدية الإبل فقط ولكنا نقول ما عرفنا صفة التغليظ الا بالنص فان الدية
بدل عن المتلف ولا يختلف التلف بالخطأ وشبه العمد وإنما تثبت صفة التغليظ بما ورد به
الشرع خاصة قال وبلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه جعل الدية على أهل الإبل مائة
وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلي أهل الشاة ألفي
شاة وعلي أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الحلل مائتي حلة والحلة اسم لثوبين وبه نأخذ
فنقول الدية من الدراهم تتقدر بعشرة آلاف درهم مما تكون الفضة فيها غالبة على الغش وقد
بينا ذلك في كتاب السرقة وقال مالك والشافعي من الدراهم اثنا عشر ألف درهم لحديث
أبي هريرة ان النبي عليه السلام قال من سبح في كل يوم وليلة مثل ديته اثنى عشر ألف تسبيحة
77

فكأنما حرر رقبة من ولد إسماعيل وفى كتاب عمرو بن حزم ان النبي عليه السلام جعل الدية
من الدراهم اثنى عشر ألفا ولأنه لا خلاف انها من الدنانير ألف دينار وكانت قيمة كل دينار
على عهد رسول الله عليه السلام اثنى عشر درهما بيانه في حديث السرقة فإنه قطع في مجن قيمته
ثلاثة دراهم بعدما قال القطع في ربع دينار وإنما يكون ثلاثة دراهم ربع دينار إذا كانت
قيمة كل درهم اثنى عشر درهما وحجتنا في ذلك حديث دحيم ان رجلا قطع يد رجل على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى عليه بنصف الدية خمسة آلاف درهم وقضى عمر
رضي الله عنه في تقدير الدية بعشرة آلاف وقد كان بمحضر من الصحابة ولم يحتج عليه أحد
منهم بحديث بخلاف ذلك فلو كان فيه حديث صحيح خلاف ما قضى به عمر لما خفى عليهم ولما
تركوا المحاجة به ثم المقادير لا تعرف بالرأي فما نقل عن عمر من التقدير بعشرة آلاف درهم
ومساعدة الصحابة معه على ذلك بمنزلة اتفاق جماعتهم على رواية هذا المقدار عن صاحب الشرع
عليه السلام ولان الدية من الدنانير ألف دينار وقد كانت قيمة كل دينار على عهد رسول الله
عليه السلام عشرة دراهم بدليل النص المروى في نصاب السرقة حيث قال لا قطع الا في
دينار أو عشرة دراهم وقال علي رضي الله عنه حين ضجر من أصحابه ليت لي بكل عشرة من
أهل العراق واحدا من أهل الشام صرف الدنانير بالدراهم ونصاب الزكاة منهما على أن قيمة
كل دينار كان عشرة دراهم ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا بظاهر حديث عمر وقالا
الدية من الأصناف الستة فان عمر رضي الله عنه جعلها من هذه الأصناف وقدر كل صنف
منه بمقدار ومعلوم انه ما كان يتفق القضاء بذلك كله في وقت واحد فعرفنا ان المراد بيان
المقدار من كل صنف وأبو حنيفة قال الدية من الإبل والدراهم والدنانير وقد اشتهرت
الآثار بذلك عن رسول الله عليه السلام وإنما أخذ عمر من البقر والغنم والحلل في الابتداء
لأنها كانت أموالهم فكان الأداء منها أيسر عليهم وأخذها بطريق التيسير عليهم فظن الراوي
ان ذلك كان منه على وجه بيان التقدير للدية في هذه الأصناف فلما صارت الدواوين والاعطاءات
جل أموالهم الدراهم والدنانير والإبل فقضي بالدية منها ثم لا مدخل للبقر والغنم في قيمة
المتلفات أصلا فهي بمنزلة الدور والعبيد والجواري وهكذا كان ينبغي أن لا تدخل الإبل إلا أن
الآثار اشتهرت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركنا القياس بذلك في الإبل
خاصة وقد ذكرنا في كتاب المعاقل ما يدل على أن قول أبي حنيفة كقولهما فإنه قال لو صالح
78

الولي من الدية علي أكثر من ألفي شاة أو علي أكثر من مائتي بقرة أو علي أكثر من مائتي
حلة لا يجوز الصلح فهذا دليل على أن هذه الأصناف في الدية أصول مقدرة عنده كما هي
عندهما قال وبلغنا عن علي أنه قال في دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وما
دونها وبه نأخذ وقال ابن مسعود هكذا الا في أرش الموضحة وأرش السن فإنها تستوى في
ذلك بالرجل وكان زيد بن ثابت يقول إنها تعادل الرجل إلى ثلث ديتها يعنى إذا كان الأرش
بقدر ثلث الدية أو دون ذلك فالرجل والمرأة فيه سواء فان زاد على الثلث فحينئذ حالها فيه
علي النصف من حال الرجل وبيانه فيما حكى عن ربيعة قال قلت لسعيد بن المسيب ما تقول
فيمن قطع أصبع امرأة قال عليه عشر من الإبل قلت فان قطع إصبعين منها قال عليه عشرون
من الإبل قلت فان قطع ثلاثة أصابع قال عليه ثلاثون من الإبل قلت فان قطع أربعة أصابع
منها قال عليه عشرون من الإبل قلت سبحان الله لما كثر ألمها واشتد مصابها قل أرشها قال
أأعرابي أنت فقلت لا بل جاهل مسترشد أو عاقل مستفت فقال إنه السنة فبهذا أخذ الشافعي
وقال السنة إذا أطلقت فالمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروون حديثا أن النبي
عليه السلام قال تعادل المرأة الرجل إلى ثلث الدية وحجتنا في ذلك ما ذكره ربيعة فإنه
لو وجب بقطع ثلاثة أصابع منها ثلاثون من الإبل ما سقط بقطع الإصبع الرابع عشر
من الواجب لان تأثير القطع في ايجاب الأرش لا في اسقاطه فهذا معنى يحيله العقل ثم بالاجماع
بدل نصفها على النصف من بدل نفس الرجل والأطراف تابعة للنفس وإنما تكون تابعة إذا
أخذنا حكمها من حكم النفس الا إذا أفردناها بحكم آخر وقول سعيد انه السنة يعنى سنة زيد
وقد أفتى كبار الصحابة بخلافه والحديث الذي رووا نادر ومثل هذا الحكم الذي يحيله عقل
كل عاقل لا يمكن اثباته بالشاذ النادر وأما ابن مسعود فكأن يقول في التسوية بينهما في أرش
السن والموضحة استدلالا بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين فإنه قضى بغرة
عبد أو أمة قيمتها خمسمائة ويسوى بين الذكر والأنثى في ذلك وبدل الجنين نصف عشر
الدية فلهذا سوى بينهما في مقدار نصف عشر الدية وذلك أرش السن والموضحة ولكنا
نقول في الجنين إنما قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يتعذر الوقوف على صفة
الذكورة والأنوثة في الجنين خصوصا إذا لم يتم خلقه ولان الوجوب هناك باعتبار قطع
السر فقط والذكر والأنثى في ذلك سواء وهاهنا الوجوب باعتبار صفة المالكية وحال
79

الأنثى فيه على النصف من حال الذكر فالذكر أهل لمالكية النكاح والمال جميعا والأنثى أهل
لمالكية المال دون النكاح على ما نبينه وفي هذا أرش الموضحة وما زاد على ذلك سواء قال
وفي ذكر الخصي ولسان الأخرس واليد الشلاء والرجل العرجاء والعين القائمة العور والسن
السوداء وذكر العنين حكم عدل بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لان ايجاب كمال الأرش في
هذه الأعضاء باعتبار تفويت المنفعة الكاملة وذلك لا يوجد لان منافع هذه الأعضاء كانت
فائتة قبل جنايته (ألا ترى) ان من ضرب على يد انسان حتى شلت أو على عينه حتى ذهب
بصره يجب عليه الأرش فلو لا تفويت المنفعة لما حل بها لما لزمه كمال الأرش فلو أوجبنا بالقطع
بعد ذلك أرش كاملا مرة أخرى أدى إلى ايجاب أرشين كاملين عن عضو واحد وقال مالك
رضي الله عنه يجب في هذه المواضع الأرش كاملا ونقول في قطعها تقويت الجمال الكامل
والجمال مطلوب من الآدمي كالمنفعة بل الجمل يرغب فيه العقلاء فوق رغبتهم في المنفعة ولكنا
نقول في الأعضاء التي يكون فيها المقصود المنفعة والجمال تبع فباعتباره لا تتكامل الجناية في
الأرش ثم في العين القائمة العوراء جمال عند من لا يعرف حقيقة الحال فأما عند من يعرف
ذلك فلا فعرفنا أن معنى الحال في هذه الأعضاء غير كاملة بعد فوات المنفعة فلوجود بعض
الجمال فيها أوجبنا حكم عدل فلانعدام الكمال فيها لا يوجب كمال الأرش وفي الضلع حكم عدل
وفي الساعد إذا كسر أو كسر أحد الزندين حكم عدل وفي الساق إذا انكسرت حكم عدل وفى
الترقوة حكم عدل على قدر الجراحة والحاصل انه لا قصاص في شئ من العظام إذا كسرت الا
في السن خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم لا قصاص في العظم لان القصاص ينبنى على المساواة
ولا تتحقق المساواة في كسر العظم لأنه لا ينكر من الموضع الذي يراد كسره وبدون اعتبار
المماثلة لا يجب القصاص فإذا تعذر ايجاب القصاص وليس فيها أرش مقدر كان الواجب فيها
حكم عدل فأما في السن فيجب القصاص وهو مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قضى في القصاص في السن وبين الأطباء كلام في السن انه عظم أو طرف عصب يابس فمنهم
من ينكر كون السن عظما لأنه يحدث وينمو بعد تمام الخلقة ويلين بالحل فعلى هذا لا حاجة إلى
الفرق بينه وبين سائر العظام متى ثبت انه ليس بعظم ولئن قلنا إنه عظم وفي سائر العظام لتعذر
اعتبار المساواة لا يجب القصاص وذلك لا يوجد هاهنا لأنه يمكن أن يبرد بالمبرد بقدر ما
كسر منه وكذلك أن كان قلع السن فإنه لا يقلع منه قصاصا لتعذر اعتبار المماثلة فيه فربما تفسد
80

به لهاته ولكن يبرد بالمبرد إلى موضع أصل السن فأما إذا كان خطأ فالواجب فيه الأرش
كما بينا وهو المعنى في الفرق بينه وبين سائر العظام لأنه ليس لسائر العظام أرش مقدر وإنما
يجب القصاص فيما يكون له أرش مقدر شرعا ولهذا قلنا في أصح الروايتين على ما ذكره الحسن
عن أبي حنيفة رضي الله عنهما انه لا قصاص فيما دون الموضحة لأنه ليس فيه أرش مقدر شرعا
ثم إن ضرب على سنه حتى اسودت أو احمرت أو اخضرت فعليه أرش السن كاملا لان الجمال
والمنفعة يفوت بذلك وقال السواد في السن دليل موتها فإذا اصفرت فقد روى أبو يوسف
عن أبي حنيفة رحمهما الله أن فيها حكم عدل وذكر هشام في نوادره عن محمد عن أبي حنيفة
رحمهما الله ان فيها حكم عدل وفي الحر لا شئ وفى المملوك حكم عدل وعن محمد رحمه الله فيها
حكم عدل وهو قول أبى يوسف لان الجمال على الكمال في بياض السن فبالصفرة ينقص
معنى الجمال فيها ولهذا يجب في المملوك حكم عدل فكذلك في الحر وأبو حنيفة رحمه الله
يقول الصفرة من ألوان السن فلا يكون دليل موت السن والمطلوب بالسن في الاحراز المنفعة
وهي قائمة بعدما اصفرت فأما حق المولى في المملوك فالمالية وقد تنتقص باصفرار السن وعلى
هذا لو قلع سن فنبتت صفراء أو نبتت كما كانت فلا شئ عليه في ظاهر الرواية لان وجوب
الأرش باعتبار فساد المنبت وحين نبتت كما كانت عرفنا انه ما فسد المنبت ثم وجوب الأرش
باعتبار بقاء الأثر ولم يبق أثر حين نبتت كما كانت وقد روى عن محمد في الجراحات التي
تندمل على وجه لا يبقي لها أثر تجب حكومة بقدر ما لحقه من الألم وعن أبي يوسف رحمه
الله يرجع على الجاني بقدر ما احتاج إليه من ثمن الدواء وأجرة الأطباء حتى اندملت وأبو
حنيفة رحمه الله قال لا يجب شئ لأنه لا قيمة لمجرد الألم (ألا ترى) ان من ضرب ضربة تألم
بها ولم يؤثر فيه شئ لا يجب شئ أرأيت لو شتمه شتيمة أكان عليه أرش باعتبار إيلام حل فيه
قال وفى اليد إذا قطعت من نصف الساعد دية اليد وحكم عدل فيما بين الكف إلى الساعد
وإن كان من المرفق كان في الذراع بعد دية اليد حكم عدل أكثر من ذلك وهذا قول
أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يجب فيه الا أرش اليد إذا قطعها من نصف الساعد وكذلك
روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيما إذا قطعها من المنكب انه لا يجب الا أرش اليد واحتج
في ذلك بقوله عليه السلام وفى اليدين الدية وفي أحدهما نصف الدية واليد اسم للجارحة من
رؤس الأصابع إلى الآباط وقد روينا في حديث عمران بن حارنة أن النبي عليه السلام قضي
81

على قاطع اليد بنصف الدية خمسة آلاف من غير تفصيل وقد روى في بعض الروايات انه
قطعها من نصف الساعد ولان الساعد ليس له أرش مقدر فيكون تبعا لماله أرش مقدر كالكف
فان بالاجماع يجب نصف الدية بقطع الأصابع ثم لو قطع الكف مع الأصابع لا يلزمه الا
نصف الدية وتجعل الكف تبعا للأصابع لهذا المعني فكذلك إذا قطع من نصف الساعد أو المرفق أو المنكب لأنه ليس من هذه الأعضاء بدل مقدر سوى الأصابع (ألا ترى) انه
لو قطع المارن أو الحشفة يلزمه الدية ولو قطع جميع الانف أو جميع الذكر لا يجب عليه أكثر
من دية واحدة وأبو حنيفة ومحمد قالا ما زاد علي الكف من الساعد اما أن يجعل تبعا للأصابع
أو الكف ولم يمكن جعلة تبعا للأصل لان الكف حائل بينه وبين الأصابع والتابع ما يكون
متصلا بالأصل ولا يمكن جعله تبعا للكف لان الكف في نفسه تبع للأصابع ولا تبع للتبع
فإذا تعذر جعله تبعا ولا يجوز اهداره عرفنا أنه أصل بنفسه وليس فيه أرش مقدر فيجب
حكم عدل كما لو قطع يده من المفصل أو لا فبرأت ثم عاد فقطع الساعد ولا حجة في الحديثين
لان اليد إذا ذكرت في موضع القطع فالمراد به من مفصل الزند بدليل آية السرقة والذي
روى أن القطع كان من نصف الساعد شاذ لا يعتمد على مثله في الاحكام فإذا كسر الانف
ففيه حكم عدل لما ان كسر الانف جناية ليس فيها أرش مقدر فيجب فيها حكم عدل ككسر
الساعد والساق فان قطع اليد وفيها ثلاثة أصابع فعليه ثلاثة أخماس دية اليد ويدخل أرش
الكف في أرش الأصابع هاهنا بالاتفاق لان أكثر الأصابع لما كانت قائمة جعل كقيام
جميعها فيكون الكف تابعا لها وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع فاما إذا كان على
الكف أصبعان أو أصبع فقطع الكف فعند أبي حنيفة رحمه الله يلزمه أرش ما كان قائما من
الأصابع ويدخل أرش الكف في ذلك وعند أبي يوسف ومحمد ينظر إلى أرش ما بقي من
الأصابع وإلى أرش الكف وهو حكومة عدل فأيهما كان أكثر يدخل الأقل فيه لان
أكثر الأصابع هاهنا فائتة فيجعل ذلك كفوات الكل ولو قطع الكف وليس عليها شئ من
الأصابع كان عليه حكم عدل فهذا مثله وهذا لان ببقاء أكثر الأصابع تبقي منفعة البطش
وإن كان يتمكن فيها نقصان فيعتبر تفويت ذلك في ايجاب الأرش وأما ببقاء أصبع واحد
فلا يبقى منفعة البطش ولا يمكن اعتبار ذلك في ايجاب الأرش فيجب حكم عدل الا انه لا بد من
اعتبار أرش الإصبع المقطوعة بالنقص ومن اعتبار حكومة العدل في الكف لما قلنا ولا
82

وجه إلى الجمع بينهما بالاتلاف فاعتبرنا الأكثر منهما فجعلنا الأقل تابعا للأكثر وهو أصل في
الشرع في باب الأرش وأبو حنيفة يقول أرش الإصبع مقدر شرعا وليس للكف أرش
مقدر شرعا وما ليس بمقدر شرعا يجعل تبعا لما هو مقدر شرعا ولهذا جعل الكف تبعا لجميع
الأصابع وهذا لمعنيين أحدهما ان المقدر شرعا ثابت بالنص وما ليس فيه تقدير فهو ثابت بالرأي
والرأي لا يعارض النص والمصير إلى الترجيح بالكثرة عند المساواة في القوة والثاني ان
المصير إلى الرأي والتقويم لا جل الضرورة وهذه الضرورة لا تتحقق عند امكان ايجاب
الأرش المقدر بالنص وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان إحداهما انه كأن يقول أولا عليه
أرش الإصبع وحكومة العدل في الكف يجمع بينهما لان جعل الكف تبعا للأصابع باعتبار
ان معنى البطش يكون بهما وذلك لا يوجد في الإصبع الواحد ولا يمكن جعل الإصبع تبعا
للكف لان للإصبع أرشا مقدرا شرعا فلا يجوز النقصان عن ذلك بالرأي فإذا لم يكن اتباع
أحدهما الآخر كان كل واحد منهما أصلا فيجب أرشهما وعنه في رواية أخرى انه يلزمه أرش
الإصبع القائمة وموضعها من الكف يكون تبعا له ويلزمه حكومة عدل فيما وراء ذلك من
الكف لان الأصابع لو كانت قائمة كان موضع كل أصبع من الكف تبعا لذلك الإصبع فعند
قيام البعض يعتبر البعض بالكل ثم في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة وإن لم يبق الا مفصل من
أصبع فإنه يجب أرش ذلك المفصل ويجعل الكف تبعا له لان أرش ذلك المفصل مقدر شرعا
وما بقي شئ من الأصل فان قل فلا حكم للتبع كما إذا بقي واحد من أصحاب الخطة من المحلة
لا يعتبر السكان وروى الحسن عن أبي حنيفة قال إذا كان الباقي دون أصبع فإنه يعتبر فيه الأقل
والا كثر فيدخل الأقل في الأكثر لان أرش الإصبع منصوص عليه فأما أرش كل مفصل
فغير منصوص عليه وإنما اعتبرنا ذلك بالمنصوص عليه بنوع رأى وكونه أصلا باعتبار النص
فإذا لم يرد النص في أرش مفصل واحد اعتبرنا فيه الأقل والأكثر لما بينا ولكن الأول
أصح قال وفى ثدي الرجل حكم عدل ويسمى الثندوة أيضا لأنه ليس فيه منفعة مقصودة ولا
جمال كامل فإنه مستور بالثياب عادة لكن فيه بعض الجمال وفيما يبقى من أثره بعد القطع بعض
الشين فيجب بحكم عدل باعتباره وفي الاذن إذا يبست أو انخسفت وربما تقول انخنست حكم
عدل لان المنفعة المقصودة لا تفوت به وهو ايصال الصوت إلى الصماخ وكذلك لا يفوت به
الجمال كله بل يتمكن فيه النقصان لأجله يجب حكم عدل قال وبلغنا عن إبراهيم انه لا تعقل العاقلة
83

الا خمسمائة درهم فصاعدا وبه نأخذ وكل شئ من الخطأ يبلغ نصف عشر دية الرجل خمسمائة
أو نصف عشر دية المرأة مائتين وخمسين فهذا على العاقلة في شبه العمد وما دون ذلك في مال
الجاني حالا لحديث ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة ولان ما دون
أرش الموضحة في معنى ضمان المال فإنه لا يجب الا باعتبار التقويم وهو غير مقدر شرعا وضمان
الجناية إنما يفارق ضمان المتلفات في كونه مقدر شرعا وأدنى ذلك أرش الموضحة فما دون ذلك
بمنزلة ضمان المتلفات فيكون عليه حالا في ماله وأرش الموضحة فما زاد عليه إلى ثلث الدية يكون
على العاقلة مؤجلا في سنة واحدة فان زاد على ذلك أخذ الفضل في سنة أخرى إلى تمام الثلثين
فان زاد علي الثلثين أخذ ذلك الفضل في السنة الثالثة إلى تمام الدية بلغنا عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه أول من فرض العطاء وجعل الدية في ثلاث سنين الثلث في سنة والنصف في
سنتين والثلثين في سنتين وقد ثبت باتفاق العلماء التأجيل في جميع الدية إلى ثلاث سنين وانه
يستوفى كل ثلث في سنة ولما ثبت التأجيل في ثلث الدية سنة واحدة ثبت في أبعاض ذلك الثلث
مما يكون في معناه اعتبار للبعض بالكل وكذلك الثلث الثاني لما ثبت التأجيل في جميعه السنة
الثانية فكذلك في أبعاضه قال ودية أهل الذمة من أهل الكتاب وغيرهم مثل دية المسلمين
رجالهم كرجالهم ونساؤهم كنسائهم وكذلك جراحاتهم وجناياتهم بينهم وما دون النفس في
ذلك سواء فإن كانت لهم معاقل يتعاقلون على عواقلهم وإن لم يكن لهم معاقل ففي مال الجاني
وهذا لأنهم بعقد الذمة التزموا أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت فيما بينهم من
الحكمة ما هو ثابت بين المسلمين وديتهم مثل دية أحرار المسلمين عندنا وقال مالك دية الكتابي
على النصف من دية المسلم وهو أحد قولي الشافعي وقال في قول آخر دية الكتابي على الثلث من
دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم استدلالا بالآيات الدالة علي نفى المساواة بين المسلمين
والكفار لقوله تعالى لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة ولقوله أفمن كان مؤمنا كمن كان
فاسقا لا يستوون وقال عليه السلام المسلمون تتكافأ دماؤهم فدل ان دماء غيرهم لا تكافئ
دماءهم وفي حديث سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام قضى في دية الكتابي بثلث دية
المسلم وفى رواية بنصف دية المسلم وعن عمر انه قضي في دية المجوسي بثمانمائة درهم ولان
نقصان الكفر فوق نقصان الأنوثة وإذا كانت الدية تنقص بصفة الأنوثة فبالكفر أولى وإنما
84

انتقصت بصفة الأنوثة لنقصان دين النساء كما وصفهن به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله
انهن ناقصات عقل ودين وتأثير عدم الدين فوق تأثير نقصان الدين يدل عليه ان بدل النفس
ينتقص بالرق والرق أثر من آثار الكفر وأثر الشئ دون أصله فلان ينتقص بأصل الكفر
كان أولى ويتفاحش النقصان إذا انضم إلى كفره عدم الكتاب نسبة فتناهى النقصان نسبة
حتى لا يوجب الا ما قضى به عمر رضي الله عنه وهو ثمانمائة درهم * وحجتنا في ذلك قوله
تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله والمراد منه ما هو المراد من
قوله في قتل المؤمن ودية مسلمة إلى أهله وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ودى العامر بين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكانا مستأمنين عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم بدية حرين مسلمين وقال عليه السلام دية كل ذي عمد في عمده ألف دينار
وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما انهما قالا دية الذمي مثل دية الحر المسلم وقال علي رضي الله عنه
إنما أعطيناهم الذمة وبذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا و أموالهم كأموالنا وما نقلوا فيه
من الآثار بخلاف هذا لا يكاد يصح فقد روى عن معمر رضي الله عنه قال سألت الزهري
عن دية الذمي فقال مثل دية المسلم فقلت ان سعيدا يروى بخلاف ذلك قال ارجع إلى قوله
تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فهذا بيان أن الرواية الشاذة
لا تقبل فيما يدل على نسخ الكتاب ثم تأويله انه قضى بثلث الدية في سنة واحدة فظن الراوي
أن ذلك جميع ما قضى به وعند تعارض الاخبار يترجح المثبت للزيادة وقوله المسلمون تتكافأ
دماؤهم لا يدل على أن دماء غيرهم لا تكافئهم فتخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفي ما عداه
والمراد بالآثار نفى المساواة بينهما في أحكام الآخرة دون أحكام الدنيا فانا نرى المساواة بيننا
وبينهم في بعض أحكام الدنيا ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الله تعالى والكلام من حيث
المعنى في المسألة من وجهين أحدهما ان أهل الذمة يستوون بالمسلمين في صفة المالكية فيستوون
بهم في الدية كالفساق مع العدول وهذا لان نقصان الدية باعتبار نقصان المالكية ولهذا
تنصفت بالأنوثة لتنصف المالكية فان المرأة أهل ملك المال دون ملك النكاح وانتقص عن
ذلك بصفة الاجتنان في البطن لأنه ليس بأهل للمالكية في الحال وإن كان فيه عرضية أن
يصير أهلا في الثاني وانتقص بنقصان الرق بخروجه من أن يكون أهلا لمالكية المال ومالكية
النكاح بنفسه وهذا لان وجوب الدية لاظهار خطر المحل وصيانته عن الهدر وهذا الخطر
85

باعتبار صفة المالكية وبصفة المملوكية يصير متبدلا إذا ثبت هذا فنقول لا تأثير للكفر وعدم
الكتاب في نقصان المالكية فتستوي دية الكافر بدية المسلم والثاني ان وجوب الدية باعتبار
معنى الاحراز والاحراز يكون بالدار لا بالدين والاحراز بالدين من حيث اعتقاد الحرمة
وإنما ظهر ذلك في حق من نعتقده دون مالا نعتقد فاما الاحراز بقوة أهل الدار فيظهر في حق
أهل الكتاب وأهل الذمة ساووا المسلمين في الاحراز بالدار ولهذا يستوى بينهم وبين المسلمين
في قيمة الأموال فكذلك في قيمة النفوس ولا يدخل عليه الإناث فإنهم في الاحراز يساوين
الذكور ولكن تنصف الدية في حقهن باعتبار نقصان المالكية ولأنهن تباع في معنى الاحراز
لان النصرة لا تقوم بهن وقصدنا بالتسوية بين أهل الذمة والمسلمين وقد سوينا في حق الرجال
والنساء جميعا وجنايات الصبي والمعتوه والمجنون عمدها وخطؤها كلها علي العاقلة إذا بلغت
خمسمائة فإن كانت أقل من خمسمائة ففي أموالهم لان ما دون الخمسمائة في معنى ضمان المال
والاتلاف الموجب للمال يتحقق من هؤلاء كما يتحقق من العقلاء البالغين فأما الخمسمائة فصاعدا
فهي على عاقلتهم العمد والخطأ في ذلك سواء بلغنا ان مجنونا سعي علي رجل بسيف فضربه فرفع
ذلك إلى علي رضي الله عنه فجعله على عاقلته وقال عمده وخطؤه وسواء وهو على أحد قولي
الشافعي وفي قوله الثاني قال عمده عمد حتى تجب الدية عليه في ماله لان العمد لغة القصد
لأنه ضد الخطأ فمن يتحقق منه الخطأ يتحقق منه العمد الا انه ينبنى على هذا القصد حكمان
أحدهما القود والآخر الدية في ماله حالا والصبي ليس من أهل أحد الحكمين وهو العقوبة
لان ذلك ينبنى على الخطاب وهو غير مخاطب وهو من أهل الحكم الآخر وهو وجوب
الضمان في ماله كما في غرامات الأموال فيلزمه ذلك بمنزلة فعل السرقة يتعلق به حكمان
أحدهما عقوبة وهي القطع والصبي ليس بأهل له والآخر غرامة وهو الضمان والصبي
أهل لذلك فيسوى بالبالغ * وحجتنا في ذلك أن العمد في باب القتل ما يكون محظورا محضا
ولهذا علق الشرع به ما هو عقوبة محضة لقوله عليه السلام العمد قود وفعل الصبي لا يوصف
بذلك لأنه ينبنى على الخطاب فلا يتحقق منه العمد شرعا في باب القتل والثاني ان العمد
عبارة عن قصد معتبر في الاحكام شرعا فأصل القصد يتحقق من البهيمة ولا يوصف فعلها
بالعمدية وقصد الصبي كذلك لأنه غير صالح لبناء أحكام الشرع عليه فاعتبار قصده شرعا فيما
ينفعه لا فيما يضره ولهذا كان عمده بمنزلة الخطأ دون خطأ البالغ لان البالغ انعدم منه القصد مع
86

قيام الأهلية للقصد المعتبر شرعا وفي حق الصبي والمجنون انعدمت الأهلية لذلك ثم خطأ
البالغ إنما كان على عاقلته لمعنى النظر والتخفيف علي القاتل بعذر الخطأ والصبي في ذلك أقوى
من صفة الخطأ ولكون فعل الصبي دون خطأ البالغ في الحكم قلنا لا يلزمه الكفارة بالقتل
ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه وإذا ضرب الرجل بطن المرأة فألقت جنينا ميتا فيه
غرة عبد أو أمة يعدل ذلك بخمسمائة والغرة عند بعض أهل اللغة المملوك الأبيض ومنه غرة
الفرس وهو البياض الذي على جبينه ومنه قوله عليه السلام أمتي غر محجلون يوم القيامة وعند
بعضهم الغرة الجيد يقال هو غرة القبيلة أي كبير أهلها ثم القياس في الجنين أحد شيئين إما أن لا
يجب فيه شئ لأنه لم تعرف حياته وفعل القتل لا يتحقق الا في محل هو حي والضمان بالشك
لا يجب ولا يقال الظاهر أنه حي أو معد للحياة لأن الظاهر حجة لدفع الاستحقاق دون
الاستحقاق به وبهذا لا يجب في جنين البهيمة الا نقصان الأم ان تمكن فيها نقصان وإن لم
يتمكن لا يجب شئ والقياس ان يجب كمال الدية لان الضارب منع حدوث منفعة الحياة فيه
فيكون كالمزهق للحياة فيما يلزمه من البدل كولد المغرور فإنه حر بالقيمة لهذا المعنى وهو
انه منع حدوث الرق فيه ثم الماء في الرحم ما لم يفسد فهو معد للحياة فيجعل كالحي في ايجاب
الضمان باتلافه كما يجعل بيض الصيد في حق المحرم كالصيد في ايجاب الجزاء عليه بكسره
ولكنا تركنا القياس بالسنة وهو حديث حمل بن مالك كما روينا وروى أن عمر رضي الله عنه
خوصم إليه في املاص المرأة فقال أنشدكم بالله هل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ذلك شيئا فقدم المغيرة بن شعبة وروى حديث الضرتين فقال عمر من يشهد معك فشهد
معه محمد بن سلمة بمثل ذلك فقال عمر رضي الله عنه لقد كدنا أن نقضي ما رأينا فيما فيه سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم قضى بالغرة وعن عبد الرحمن بن فليح ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة ثم هذه الآثار دليل لنا على أن الدية
تتقدر بعشرة آلاف لان بدل الجنين بالاتفاق نصف عشر الدية وقد قدر ذلك بخمسمائة
فعرفنا أن جميع الدية عشرة آلاف وفيه دليل على أن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة ثبوتا
صحيحا بل باعتبار صفة المالية لأنه كما أوجب في الجنين عبدا أو أمة نص على مقدار المالية وهو
خمسمائة وفيه دليل ان الواجب بدل نفس الجنين وان الأصل في الابدال المقدرة النفوس
وان ما يجب في بدل الجنين بمنزلة ما يجب في بدل المنفصل حيا لأنه قضى بذلك على العاقلة
87

ولهذا قال عامة العلماء ان بدل الجنين يكون موروثا عنه لورثته الا ان الضارب إن كان
أباه لم يرث شيئا لأنه قاتل وقال الليث بن سعد يكون لامه لأنه في حكم جزء من أجزائها
والدليل عليه أنه يكون مؤجلا في سنة وبدل الطرف هو الذي يتأجل في سنة وأما بدل النفس
فيكون في ثلاث سنين قل أو كثر كما لو اشترك عشرون رجلا في قتل رجل يجب على كل
واحد منهم نصف عشر الدية في ثلاث * سنين وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام دوه أي أدوا
ديته فقد جعله في حكم النفوس وسمي الواجب في بدله دية وهو اسم لبدل النفس والدليل
عليه أن بدل الجزء لا يجب بدون بقاء النقصان حتى لو قلع سنا فنبت مكانه سن أخرى لم يجب
شئ وهاهنا يجب بدل الجنين وإن لم يكن في الأم نقصان دل ان وجوبه باعتبار معنى النفسية
وبدل النفس يكون موروثا عن صاحبها وهي في الحقيقة نفس مودعة في الأم حتى تنفصل
عنها حية فالجناية عليها قبل الانفصال معتبرة بالجناية عليها بعد الانفصال الا انه من وجه نسبة
الجزء فلا يثبت من التأجيل فيه الا القدر المتيقن به وعلى هذا الأصل قلنا لا تجب الكفارة على
الضارب إلا أن يتبرع بها احتياطا هكذا نقل عن محمد رحمه الله وعند الشافعي تجب الكفارة
لأنه في حكم النفوس واتلاف النفس موجب الكفارة ولكنا نقول هو جزء من وجه واعتبار
صفة الجزئية يمنع وجوب الكفارة ومع الشك لا تجب الكفارة ولكن اعتبار معنى الجزئية لا يمنع
وجوب الضمان فأوجبنا الضمان وألحقناه في ذلك بالنفوس نم وجوب الكفارة بطريق السكر
حيث سلم الشرع نفسه له فلم يلزمه القود بعذر الخطأ كما بينا وذلك لا يوجد ها هنا فاتلاف
الجنين لا يوجب القصاص بحال فلهذا لا يلزمه الكفارة ومذهب الشافعي لا يستقر على شئ
في الجنين لأنه يجعله في حكم الكفارة كالنفوس ثم يقول البدل الواجب فيه معتبر بأمه لا
بنفسه حتى يكون الواجب عشر بدل الأم وعندنا هو معتبر بنفسه وإنما تبين ذلك في جنين
الأمة فالواجب عندنا نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته ان كانت أنثى وعند
الشافعي الواجب عشر قيمة الأم ذكرا كان أو أنثى قال لأنه إنما يجب البدل باعتبار معنى
الجزئية دون النفسية (ألا ترى) انه يتنصف بالأنوثة وهذا لان اعتبار النفسية في الجنين ليس
مبنى على سبب معلوم حقيقة فلا يجب المصير إليه عند الضرورة وذلك في حكم الكفارة لأنها
لا تجب باعتبار معنى الجزئية فأما في حكم البدل لا ضرورة فايجابه ممكن باعتبار الجزئية وهي
معلومة حقيقة فكان الواجب عشر دية الأم إذا ثبت هذا في جنين الحرة فكذلك في جنين
88

الأمة لان القيمة في حق المماليك كالدية في حق الأحرار وفيما ذهبتم إليه تفضل الأنثى على
الذكر في ضمان الجنايات ولكنا نقول الجنين في حكم البدل بمنزلة النفوس حتى يكون بدله
موروثا عنه وذلك يختص ببدل النفس وبدل النفس يعتبر بحال صاحب النفس والدليل عليه ان
جنين أم الولد من المولى يجب فيه الغرة ولو كان الوجوب باعتبار صفة الأم لم يجب لأنها
مملوكة وكذلك النصرانية إذا كانت في بطنها جنين من زوج مسلم فيضرب انسان بطنها
يلزمه الغرة ولو كان المعتبر حالها لم يجب على أصله لان دية النصرانية عنده على الثلث من
دية المسلم وكذلك لو كانت مجوسية وما في بطنها مسلم باسلام أبيه فثبت ان المعتبر حاله بنفسه
الا انه يسوى بين الذكور والإناث لأنه يتعذر في الجنين المتميز بين الذكر والأنثى خصوصا
قبل أن يتم خلقه فان وجوب البدل لا يختص بما بعد تمام الخلقة وكما لا يجوز تفضل الأنثى
على الذكر في ضمان الجنايات لا تجوز التسوية باعتبار الأصل ثم جازت التسوية هاهنا
بالاتفاق فكذلك التفضيل وهذا لان الوجوب قطع التسوية لا باعتبار صفة المالكية لأنه
لا مالكية في الجنين والأنثى في معنى النشوء يسوى بالذكر وربما يكون الأنثى أسرع نشوا
كما بعد الانفصال فلهذا جوزنا تفضيل الأنثى علي الذكر ثم وجوب البدل في جنين الأمة
قول أبي حنيفة ومحمد وهو الظاهر من قول أبى يوسف وعنه في رواية انه لا يجب ألا
نقصان الأم ان نمكن فيها نقص وإن لم يتمكن لا يجب فيها شئ كما في جنين البهيمة ولكنا
نقول وجوب بدل جنين الآدمية لتحقيق معنى الصيانة عن الهدر وجنين الأمة في ذلك
كجنين الحرة وهذا المسألة في الحقيقة تنبنى على اختلافهم في ضمان الجناية على المماليك فان عند أبي
يوسف هو بمنزلة ضمان المال يجب بالغا ما بلغ وعند أبي حنيفة ومحمد هو بدل عن النفس ولهذا
لا يزاد على مقدار الدية بحال على ما يأتيك بيانه وان خرج الجنين حيا بعد الضربة ثم مات ففيه
الدية كاملة لأنه لما انفصل حيا كان نفسا من كل وجه وقتل النفس المؤمنة يوجب الدية والكفارة
قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ولو قتلت
الأم ثم خرج الجنين بعد ذلك منها ميتا ففي الأم الدية ولا شئ في الجنين عندنا وعلي قول
الشافعي تجب الغرة في الجنين لان في اتلاف الجنين لا فرق بين أن ينفصل ميتا وهي حية
أو وهي ميتة وقد تبين ان الضارب أتلف بفعله نفسين فيلزمه بدل كل واحد منهما ولكنا إنما
أوجبنا البدل في الجنين بالنص بخلاف القياس وورود النص به فيما إذا انفصل منها وهي حية لأنه
89

قال فألقت جنينا ميتا وإنما أضاف الالقاء إليها إذا كانت حية فبقي ما إذا انفصل بعد موتها
علي أصل القياس ثم يتمكن الاشتباه في هلاكه إذا انفصل بعد موتها فربما كان ذلك بالضربة
وربما كان بانحباس نفسه بهلاكها ومع اشتباه السبب لا يجب الضمان بخلاف ما إذا كانت
حية حيى انفصل الجنين ميتا عنها ثم هذا علي أصل أبي حنيفة ظاهر لأنه لا يجعل ذكاة الأم
ذكاة الجنين فكذلك لا يجعل قتل الأم قتلا للجنين والشافعي جعل ذكاة الأم ذكاة الجنين
فكذلك يجعل قتل الأم قتلا للجنين وأبو يوسف ومحمد قالا القياس ما قاله أبو حنيفة ولكنا
تركنا ذلك في حكم الذكاة بالسنة ولان الذكاة تنبنى على الوسع فبقي القياس معتبرا في حكم
القتل فلا يكون قتل الأم قتلا للجنين وإن كان في بطنها جنينان فخرج أحدهما قبل موتها
وخرج الآخر بعد موتها وهما ميتان ففي الذي خرج قبل موتها خمسمائة درهم وليس في الذي
خرج بعد موتها شئ اعتبارا لكل واحد منهما بمال لو كان وحده وهذا لأنه لا سبب لموت
الذي خرج قبل موتها سوى الضربة واشتبه السبب في الذي خرج بعد موتها ومع اشتباه
السبب لا يجب الضمان ثم الذي خرج قبل موتها ميتا لا يرث من دية أمه لان شرط التوريث
بقاء الوارث حيا بعد موت المورث ولها ميراثها منه لأنها كانت حية بعد ما وجب بدل هذا
الجنين بانفصاله ميتا فلها ميراثها منه وإن كان الذي خرج بعد موتها خرج حيا ثم مات ففيه
الدية أيضا لان الاشتباه زال حين انفصل حيا وقد مات بالضربة بعد ما صار نفسا من كل
وجه فتجب فيه الدية كاملة وله ميراثه من دية أمه ومما ورثت أمه من أخيه وإن لم يكن
لأخيه أب حي فله ميراثه من أخيه أيضا لأنه كان حيا بعد موتهما فيكون له الميراث منهما
ولا قصاص على الأبوين والأجداد والجدات من قبل الآباء والأمهات عندنا وقال مالك
ان رمى الأب ولده بسيف أو سكين فقتله فلا قصاص عليه وان أخذه فذبحه فعليه القصاص
لان وجوبا لقصاص باعتبار تغليظ الجناية ولهذا اختص بالعمد وجناية الأب أغلظ من
جناية الأجنبي لأنها انضم إلى تعمده القتل بغير حق وارتكابه ما هو محظور مع قطيعة الرحم
فإذا وجب القصاص على الأجنبي باعتبار تغليظ جنايته فعلى الأب أولي وهو نظير من زنا بابنته
فإنه يلزمه من الحد ما يلزمه إذا زنا بالأجنبية لتغليظ جنايته هاهنا بكونها محرمة عليه على التأبيد
إلا أن مع شبهة الخطأ لا يجب القود وعند الرمي يتمكن شبهة الخطأ فالظاهر أنه قصد تأديبه
لا قتله لان شفقة الأبوة تمنعه من ذلك بخلاف الأجنبي فليس هناك بينهما ما يدل على الشفقة
90

فجلعنا الرمي من الأجنبي عمدا محضا فاما إذا أخذه فذبحه فليس هاهنا شبهة الخطأ بوجه
والدليل عليه ان القصاص يجب على الابن بقتل أبيه فكذلك على الأب بقتل ابنه لان في
القصاص معنى المساواة ومن ضرورة كون أحدهما مساويا للآخر أن يكون الآخر مساويا له
وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده وقضى عمر بن الخطاب
رضى الله في من قتل ابنه عمدا بالدية في ماله ومنهم من استدل بقوله عليه السلام أنت ومالك
لا بيك فظاهر هذه الإضافة يوجب كون الولد مملوكا لأبيه ثم حقيقة الملك تمنع وجوب
القصاص كالمولى إذا قتل عبده فكذلك شبهة الملك باعتبار الظاهر وكان ينبغي باعتبار هذا
الظاهر أن لا يلزمه الحد إذا زنا بها ولكن تركنا القياس في حكم الحد لان الحد محض حق
الله تعالى وهو جزاء على ارتكاب ما هو حرام محض وبإضافة الولد إلى الوالد تزداد معنى
الحرمة فلا يسقط الحد به ولهذا سقط الحد عنه إذا وطئ جارية الابن لان إضافة الجارية
إليه بالملكية وحقيقة الملك فيها توجب الحل بظاهر الإضافة ويوجب شبهة أيضا فاما حقيقة
الملك في محل الحرمة لا يورث الحل فالإضافة لا تورث الشبهة * يوضحه ان الملك كما يبيح
الوطئ يبيح الاقدام على القتل فان ولى الدم لما ملك نفس من عليه في حكم القصاص كان له
أن يستوفى فالإضافة إليه بالملكية توجب شبهة في الفصلين فأما الملك في محل الحرمة فلا
يوجب حل الوطئ فلا يصير شبهة في اسقاط الحد والمعنى في المسألة ان القصاص يجب
للمقتول أو لوليه علي سبيل الخلافة عنه والابن ليس من أهل أن يستوجب ذلك على أبيه
وبدون الأهلية لا يثبت الحكم وبيان ذلك أنه ليس للابن أن يقتل أباه شرعا بحال ابتداء سواء
كان مشركا أو مرتدا أو زانيا وهو محض لان الأب كان سبب ايجاد الولد فلا يجوز للولد أن
يكتسب سبب افنائه وفى وجوب القود عليه اتلاف حكما والمقصود منه الاستيفاء دون
الوجوب بعينه وهذا لأنه مأمور شرعا بالاحسان إليهما قال الله تعالى ووصينا الانسان
بوالديه حسنا وعليه أن يصاحبهما بالمعروف وان كانا مشركين لقوله تعالى وان جاهداك
علي أن تشرك بي وليس القتل من الاحسان والمصاحبة بالمعروف في شئ فكل ذلك ثبت
للوالد عليه شرعا ليعرف العاقل بحق الوالد عظيم حق الله تعالى فان الوالدين كانا سببين
لوجوده وتربيته والله تعالى هو الخالق الرازق على الحقيقة فيعرف العاقل بهذا ان مراعاة
حق الله أوجب عليه وإذا ثبت انه لا يجب القصاص علي الوالد بقتل الولد ثبت انه لا يجب
91

على الوالدة لان حقها أوجب فكذلك الأجداد والجدات من قبل الرجال والسناء لمعنى
الولادة والحرية بينهم وبين المقتول فإن كان بواسطة فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فعملت
الشبهة فيه عمل الحقيقة بخلاف الولد إذا قتل والده فالولد ما كان سببا لا يجاد والده والولد
يقابل ما عليه من مراعاة حرمة الوالد بضده فعليه القصاص وهو بمنزلة العبد إذا قتل مولاه
يلزمه القصاص والمولي إذا قتل عبده لا يلزمه القصاص وان منع مالك هذا بغير الكلام فيه
فنقول لو وجب القصاص إنما يجب له كما لو قتله غيره ولا يجوز أن يجب له علي نفسه (ألا ترى)
انه لو قتل عبده خطأ لم يجب عليه ضمان لأنه لو قتله غيره كان الضمان للمولى فإذا قتله المولى
لا يجوز أن يجب له على نفسه ثم على الآباء والأجداد الدية بقتل الابن عمدا في أموالهم في
ثلاث سنين وقال الشافعي تجب الدية حالة وإنما لا يعقله العاقلة لقوله عليه السلام لا تعقل
العاقلة عمدا يعنى الواجب بالعمد ثم قال الشافعي الأصل ان ضمان المتلف يكون على المتلف
في ماله حالا كسائر المتلفات إلا أن التأجيل في الدية عند الخطأ ثبت للتخفيف على الخاطئ
وعلى عاقلته والعامد لا يستحق ذلك التخفيف فيكون الواجب عليه حالا (ألا ترى) ان
الوجوب على العاقلة لما كان للتخفيف على القاتل بخلاف القياس لم يثبت ذلك في العمد وهذا
لان وجوب الضمان بمعنى الجبران وحق صاحب النفس في نفسه كان ثابتا حالا فلا جبران
في حقه الا ببدل هو حال ولان القود سقط شرعا إلى بدل فيكون ذلك البدل حالا كما لو
سقط بالصلح على مال وهذا على أصله مستقيم فإنه يجعل فعل الأب موجبا للقود علي ما نبينه
* وحجتنا في ذلك أن هذا ما وجب بنفس القتل فيكون مؤجلا كما لو وجب بقتل الخطأ وشبه
العمد وهذا لان المتلف ليس بمال وما ليس بمال لا يضمن بالمال أصلا وإنما عرفنا تقوم النفس
بالمال شرعا والشرع إنما قوم النفس بدية مؤجلة في ثلاث سنين والمؤجل أنقص من الحال
(ألا ترى) ان في العرف يشترى الشئ بالنسيئة بأكثر مما يشترى بالنقد فايجاب المال حالا
بالقتل يكون زيادة على ما أوجبه الشرع معنى وكما لا يجوز باعتبار صفة العمدية الزيادة في
الدية على قدر الحال فكذلك لا يجوز اثبات الزيادة فيه وصفا وبهذا تبين ان التأجيل ليس لمعنى
التخفيف على الخاطئ بل لان قيمة النفس شرعا دية مؤجلة بخلاف الايجاب على العاقلة لأنه
لا فرق في قيمة النفوس بين أن تكون مستوفاة من العاقلة أو من القاتل فكان الايجاب
على العاقلة لمعنى التخفيف على القاتل وهذا بخلاف المال الواجب بالصلح فان ذلك يجب بالعقد
92

ولهذا لا يتقدر بمقدار شرعا حتى لو وقع الصلح بأكثر من الدية قدرا جاز فكذلك إذا التزمه
بمطلق العقد يكون ذلك حالا بمنزلة الأعواض في سائر العقود وإن كان الوالد قتل ولده
خطا فالدية على عاقلته وعليه الكفارة في الخطأ ولا كفارة عليه في العمد عندنا لان فعله محظور
محض كفعل الأجنبي والمحظور المحض لا يصلح سببا لا يجاب الكفارة عندنا علي ما نبينه
فان قيل فأين ذهب قولكم ان وجوب الكفارة بطريق السكر لما سلم الشرع له نفسه
فأسقط القود عنه فقد وجد هذا المعنى هاهنا وقلتم بأنه لا تجب الكفارة قلنا اسقاط القود
عنه شرعا متى كان بطريق العذر له والتخفيف عليه كان موجبا للكفارة وهاهنا امتناع وجوب
القود عليه لانعدام الأهلية فيمن يجب له لا بطريق التخفيف والعذر للأب فبقي فعله حراما
محضا لا شبهة فيه فلا يكون موجبا للكفارة وكذلك أن كان المولى قتل مملوكه عمدا وكذلك
إن كان الولد مملوكا لإنسان فقتله أبوه عمدا فلا قصاص عليه لمولاه لان وجوب القصاص
للمولى بطريق الخلافة عن المقتول فإنه ينزل من المملوك منزلة وارث الحرمة فإذا اشترك
الرجلان في قتل رجل أحدهما بعصا والآخر بحديدة فلا قصاص على واحد منهما هكذا
نقل عن إبراهيم وهذا لان القتل بالعصا لا يصلح أن يكون موجبا للقصاص لان القصد
به التأديب والآلة آلة التأديب فهو بمنزلة فعل الخاطئ والخاطئ والعامد إذا اشتركا في القتل
لم يجب القصاص عليهما لأنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فقد انزهقت الروح عقيب
فعلين أحدهما ليس بسبب لوجوب العقوبة ولا يدرى انه بأي الفعلين أزهق الروح فيمكن الشبهة
من هذا الوجه فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وبعد سقوط القصاص يجب المال فيتوزع
عليهما نصفان وليس أحدهما بإضافة القتل إليه بأولي من الآخر ولا يقال ينبغي أن يضاف
القتل إلى فعل من استعمل السلاح فيه لان السلاح آلة للقتل دون العصا وهذا لان الانسان
قد يسلم من الجرح بالحديد ويتلف من الضرب بالعصا فهو بمنزلة ما لو جرحه رجلان أحدهما
جراحة واحدة والآخر عشرة جراحات فإنه يجعل القتل مضافا إليهما على السواء لهذا المعنى
ثم كل واحد منهما فيما لزمه من نصف الدية يجعل كالمنفرد به فنصف الدية على صاحب
الحديدة في ماله ونصفها على صاحب العصا علي عاقلته وكذلك لو قتلاه بسلاح وأحدهما
صبي أو معتوه فلا قصاص عليهما عندنا وهو أحد قولي الشافعي وفى قوله الآخر يجب
القود قياسا علي العاقل البالغ بناء علي قولين في عمد الصبي على ما بينا فاما الأب مع الأجنبي
93

أو المولى مع الأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد والمملوك فلا قصاص على واحد منهما عندنا
وقال الشافعي يجب القصاص على الأجنبي لأنهما قاتلاه عمدا محضا مضمون فيجعل كل واحد
منهما كالمنفرد به في حكم القصاص كالأجنبيين عفا عن أحدهما أو بسقوط القود عن أحدهما
لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كالأجنبيين إذا عفا عن أحدهما وتفسير العمد من
وجهين أحدهما انه عبارة عن فعل يترتب على قصد صحيح إليه وبالأبوة والملك لا ينعدم
القصد الصحيح إلى الفعل وهذا لان ضد العمد الخطأ فإذا كان الخطأ ما يكون عن غير قصد
من الفاعل إليه بعينه عرفنا ان العمد ما يكون عن قصد وعلى هذا نقول يجب القصاص على
شريك الصبي والمجنون لان للصبي والمجنون قصدا صحيحا فكان فعلهما عمدا وللعمد تفسير آخر
في القتل شرعا وهو أنه محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة لان المتعلق به شرعا العقوبة
قال عليه السلام العمد قود ولا تجب العقوبة الاجزاء على فعل هو محظور محض وفعل الأب
والمولى محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة لان في حق الأب قد انضم إلى ارتكاب الفعل
المحرم معنى قطيعة الرحم وفي حق المولى انضم إلي الفعل المحرم الاتيان بضد ما أمر به من
الاحسان إلى المماليك والقتل لا يحل بملك المالكية بحال فلا يتمكن بسببه شبهة فيه بمنزلة من
شرب خمر نفسه يلزمه الحد لأنه لا أثر للملك في إباحة شرب الخمر فلا يخرج الفعل باعتباره
من أن يكون محظورا محضا وعلى هذا الطريق لا يجب القود علي شريك الصبي والمعتوه
لان فعلهما لا يوصف بأنه محظور محض وفي الحقيقة الكلام ينبنى على أن فعل الأب موجب
للقود عنده ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الاخر لان عند
أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر والدليل على ذلك أن سبب القود شرعا هو
العمد وثبوت الحكم بثبوت السبب فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع
ثبوت الحكم أيضا وإنما لا يستوفى لكيلا يكون الولد سبب افناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب
ايجاده وهذا في حقيقة الاستيفاء دون الوجوب فيثبت الوجوب حكما للسبب ثم يتعذر
الاستيفاء لهذا المعنى فيسقط شرعا والدليل عليه ان عندكم لا تجب الكفارة علي الوالد ولو لم يكن
الفعل موجبا للقود لوجبت الكفارة به وان الأب لو قتل ابنه عمدا كان الولد شهيدا لا يغسل
وإنما لا يغسل إذا كان القتل غير موجب للمال بنفسه وهذا بخلاف الخاطئ مع العامد لان فعل
الخاطئ غير موجب فاختلط الموجب بغير الموجب في المحل فيمكن الشبهة لا تحاد المحل
94

يقرره ان الخطأ معنى في الفعل (ألا ترى) انه يوصف الفعل به فيقال قتل خطأ وقد اجتمع
الفعلان في محل واحد فاما الأبوة فمعنى في الفاعل (ألا ترى) ان الفاعل يوصف به فيقال
أب قاتل فأجد الفاعلين متميز عن الآخر * وحجتنا في ذلك أن هذا القتل ثم موجب للدية فلا
يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا وبيان الوصف أن الواجب على الأب
بهذا الفعل الدية لا غير فإنه هو الذي يستوفى منه وإنما يراد بالوجوب الاستيفاء فإذا كأن لا
يستوفى منه الا الدية عرفنا انه موجب للدية والدليل علي أن وجوب الدية هو الحكم
الأصلي في قتل الأب دون القصاص ان السبب لا ينعقد موجبا لحكمه الا في محل صالح له
وبعد صلاحية المحل لا يكون موجبا للحكم إلا باعتبار الأهلية فيمن يجب له وفيمن يجب عليه
(ألا ترى) ان الاتلاف كما لا يكون موجبا للضمان بدون محل صالح له وهو المال المتقوم
لا يكون موجبا بدون الأهلية فيمن يجب له وفيمن يجب عليه حتى أن المسلم إذا أتلف مال مسلم
لا أمان له أو الحربي إذا أتلف مال المسلم لا يجب الضمان والبيع كما لا ينعقد شرعا الا في محل
صالح لا ينعقد الا بعد وجوب الأهلية فيمن يباشره إذا عرفنا هذا فنقول العمد موجب للقود
بشرط الأهلية فيمن يجب له وعليه وذلك لا يوجد في قتل الصبي والمجنون لانعدام الأهلية
فيمن تجب عليه العقوبة ولا في قتل الأب لانعدام الأهلية فيمن تجب له على ما بينا ان الولد
لا يكون من أهل أن يجب له القتل على والده لان في الايجاب استحقاق نفسه شرعا وإذا لم
يكن هو أهلا لمباشرة اتلافه حقيقة بصفة الإباحة لا يكون أهلا لاستحقاق اتلافه شرعا فلا
يكون فعله موجبا للقصاص لانعدام الأهلية ولهذا كان موجبا الدية المغلظة في ماله لأنه خرج
من أن يكون موجبا للقود لانعدام الأهلية فيمن يجب له وذلك لا يوجد في الدية ولهذا لم
يكن موجبا للكفارة لان انعدام وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له الشبهة في
أصل الفعل فلا يخرج من أن يكون محظورا و في غسله روايتان في احدى الروايتين عن أبي
يوسف يغسل لان الغسل موجب للمال و في الرواية الأخرى لا يغسل لان امتناع وجوب
القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له وذلك لا يتعدى إلى حكم الغسل فان قيل هذا ممنوع
فان الولد يرث القصاص على أبيه حتى يسقط وبدون الأهلية لا يجب الحق للوارث قلنا هذا
فاسد لأنه إنما لم يكن أهلا لايجاب القود على الأب لما فيه من اتلافه حكما وهذا لا يوجد في
الوارثة لان الاتلاف الحكمي كان ثابتا قبل أن يرثه الولد بل في ثبوت الإرث للولد احياء
95

للأب حقيقة وحكما فإنه يسقط القود إذا ورثه الابن ولا يسقط إذا لم يرثه وهو نظير الولد
في أنه لا يسترق والده ثم يشترى والده المملوك فيعتق عليه والدليل عليه ان الأبوة لو طرت على
قصاص موجب أسقطته وإذا اقترنت بالسبب دفعت الوجوب بطريق الأولى لان تأثير
الشئ في الحكم مقترنا بالسبب أقوى من تأثيره طارئا على السبب وإذا ثبت أن فعل الأب
غير موجب عرفنا انه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فكان كالخاطئ مع العامد بخلاف
ما إذا عفا عن أحد القاتلين وقوله الأبوة معنى في الفاعل لا معتبر به فإنه وإن كان في الفاعل فقد
تعدى إلى الفعل حتى أخرجه من أن يكون موجبا فهو نظير الخطأ في الفاعل بان رمى إلى
انسان يظنه كافرا وهو مسلم فان الخطأ هاهنا باعتبار معنى في الفاعل ولكن لما تعدى إلى الفعل
صار ذلك شبهة في حق شريكه في الفعل فكذلك هاهنا والدليل عليه أن مسلمين لو رميا إلى
صيد أحدهما بسهم والآخر ببندقة لم يحل تناول الصيد وكذلك لو رمى مسلم ومجوسي إلى
الصيد وفي أحد الموضعين الحرمة باعتبار معنى في الفعل وفي الموضع الآخر باعتبار معنى في
الفاعل وهو كونه مجوسيا لكن لما تعدى إلى الفعل التحق بالمعنى الذي هو في الفعل في ايجاب
الحرمة فهذا مثله ولو اشترك عشرة رهط في قتل رجل خطأ كانت الدية على عاقلتهم في ثلاث
سنين لان وجوب الدية لصيانة المحل عن الهدر فالمحل واحد وبايجاب دية واحدة عليهم يتم معنى
الصيانة ثم الواجب على كل واحد منهم جزء مما هو مؤجل في ثلاث سنين وهو بد النفس
فهو بمنزلة ما لو اشترى عشرة نفر شيئا بثمن مؤجل إلى ثلاث سنين فإنه ثبت تمام الاجل في حق
كل واحد منهم وهذا لان كل ثلث من بدل النفس مؤجل في سنة والواجب على كل واحد
منهم عشر كل ثلث إلا أن يكون الواجب علي بعضهم من الثلث الذي هو مؤجل إلى سنة أو
من الثلث الثاني خاصة ولو أقر رجل بقتل خطا أو شبه عمد كانت الدية عليه في ماله في ثلاث
سنين لان العاقلة لا تعقل ما يجب بالاعتراف لقوله عليه السلام ولا اعترافا وهذا لان
الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإنما يحمل على الصدق في حق المقر خاصة لانتفاء
التهمة فاما في حق عاقلته فهو محمول على الكذب وله ولاية على نفسه في الالتزام قولا دون
عاقلته وكل جناية عمد فيما دون النفس لا يستطاع فيها القصاص أو شبه عمد فالأرش في مال
الجاني مغلظا أما في العمد فلا يشكل واما في شبه العمد فلان شبه العمد لا يتحقق فيما دون
النفس وإنما يتحقق في النفس خاصة فان ذلك حكم ثابت بالنص وإنما ورد النص به في
96

حنيفة رحمه الله لا يكفي لان ذكر الصناعة ليس بشئ فقد يتحول الانسان من صناعة إلى
صناعة فإن كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وإن لم عرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لان
المقصود اعلام عدالتهم للقاضي المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وان
حلاهم فحسن وان ترك التحلية لم يضر لان المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم
والنسب إلا أنه إذا كان من رأى الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك مالا
يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فان أراد الذي جاء به من
المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لان شهادة الشهود تثبت عنده بالكتاب فكأنه
تثبت بسماعه منهم وكما جوزنا الكتاب من القاضي الأول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لان
الخصم قد يهرب إلي بلدة أخري قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه وإذا سمع القاضي
شهادة الشهود وكتب بها إلي قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه
لم يحكم بذلك عليه لان سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع
إذا استقصى بعد ما شهد الأصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضي بذلك
وهذا لأن جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لا بينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا
يكون ذلك الا بمحضر من الخصم بعد انكاره أو سكوته القائم مقام انكاره فان أعاد المدعى
تلك البينة بمحضر من الخصم فالآن يقضي له بها لان شرط قبول البينة للقضاء انكار الخصم
وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الأداء وجوده كعدمه وإذا وصل الكتاب
إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف
فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه إلا أن يكون من رأيه لان الأول لم يحكم به وإنما نقل
الشهادة بكتابه إلى مجلسه فلا يحكم به الا إذا كان ذلك من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده علي
شهادة الأصول وهذا بخلاف ما إذا كان الأول قد قضى به وأعطى الخصم سجلا فالثاني
ينفذ ذلك وإن لم يكن من رأيه لان قضاء القاضي في المجتهدات نافذ (ألا ترى) أنه ليس
للأول أن يبطل قضاءه وان تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب
الأول ما قضي بشئ (ألا ترى) أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى الثاني وان الخصم لو
حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيئا فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه إلا أن يكون ذلك من رأيه
ولا يقبل كتاب القاضي في شئ من الحدود والقصاص لان ذلك مما يندرئ بالشبهات
97

الشرع ما أمرنا بالانتظار اضرارا بالمضروب فلو لم يقبل قوله فيما يظهر في ذلك المحل انه حادث
بتلك الضربة لرجع ذلك إلى الاضرار به ولو شج رجلا موضحة فصارت منقلة فقال المضروب
صارت منقلة من ذلك وقال الضارب حدثت فيها من غير فعل أحد فالقول قول الضارب بخلاف
السن على طريقة الاستحسان لان هاهنا فعل المضارب إنما عمل في اللحم دون العظم والمنقلة
ما يكون عاملا في العظم فالضارب ينكر فعله في هذا المحل والظاهر يشهد له لان الفعل في
المحل لا يؤثر فعلا آخر الا نادرا فاما في الأول فإنما اسودت السن التي حلت الضربة بها
فالظاهر شاهد للمضروب هناك وإذا قلع الرجل سن رجل أو صبي ثم نبتت فلا شئ على القالع
لأنه لم يبق لفعله أثر وعن أبي يوسف رحمه الله قال يلزمه حكومة عدل باعتبار الألم الذي
لحقه وكذلك الظفر إذا قلعه فنبت فليس فيه حكومة عدل و لا أرش لأنه لم يبق فيه أثر وان
نبتت السن سوداء ففيها أرش كامل لان الثابتة قائمة مقام المقلوعة فكان الأولى باقية قد
اسودت وان نبت الظفر أغور ومتغيرا ففيه حكومة عدل بمنزلة الأول لو أغور بالضربة
أو تغير وهذا لأنه ليس في الظفر منفعة مقصودة وإنما يكون فيه مجرد الجمال فإذا اسود أو تغير
ينتقص معنى الجمال ولا يكون السواد في الظفر دليل موت الظفر (ألا ترى) أن في أنواع
بني آدم من يكون ظفرهم أسود خلقة حتى قالوا إذا كان المضروب من ذلك النوع ينبغي أن
لا يجب شئ لأنه لا ينتقص في حقه معنى الجمال قال وإذا قلع الرجل سن رجل خطأ فأخذ
المقلوع سنه فأثبتها مكانها فثبتت فعلى القالع أرشها لأنها وان ثبتت لا تصيرها كما كانت (ألا ترى)
انها لا تتصل بعروقها ولهذا جعل محمد رحمه الله تلك السن كالميتة حتى قال إذا كانت أكثر
من قدر الدرهم لا تجوز صلاته معها و فرق أبو يوسف رحمه الله بين ما إذا أثبت في موضعها
سن نفسه أو سن غيره في حكم جواز الصلاة وقال بينهما فرق ولا يحضرني وكذلك الاذن
إذا أعادها إلى مكانها لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل وان التصقت فأما إذا ابيضت
العين من ضربة رجل ثم ذهب البياض منها فأبصر فليس على الضارب شئ لأنه عاد إلي ما
كان عليه في الأصل ولم يبق الا الألم الذي لحقه بالضربة وباعتبارها لا يجب شئ وإنما يجب
باعتبار الأثر في المحل ولم يبق ولو شجه موضحة خطأ فسقط منها شعر رأسه كله فلم ينبت
فعلى عاقلته الدية تامة لافساد المنبت ويدخل أرش الشجة في ذلك عندنا وقال زفر رحمه الله
لا يدخل لان الشجة موجبة للضمان بنفسها وكذلك افساد منبت الشعر جناية على حدة ولا
98

تدخل في أرش الجنايات فيما دون النفس ولكنا نقول وجوب أرش الموضحة باعتبار ذهاب
الشعر دليل انه لو نبت الشعر علي ذلك الموضع واستوى كما كأن لا يجب شئ وإذا وجب كمال
بدل النفس باعتبار ذهاب الشعر لا يجب ما دونه باعتباره أيضا فإن كان ذهب من الشعر بعضه فعلى
الجاني الأكثر من أرش الشعر ومن أرش الشجة ويدخل الأقل في ذلك لان ايجاب الأكثر
يتحقق باعتبار السبب معنى كما بينا وكذلك أن كان في الحاجب فان الموضحة في الوجه
والرأس سواء والآمة لا تكون الا في الرأس أو الموضع الذي يتصل بالدماغ من الوجه والجائفة
لا تكون الا في الظهر والبطن والجنب أو في الموضع الذي يتصل بالجوف حتى لو جرحه
بين ذكره ودبره جراحة واصلة إلى جوفه تكون جائفة فأما في الفخذ والعضد فلا تتحقق
الجائفة وكذلك في العنق وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله قال إذا وصلت الجراحة إلى
موضع يحصل الفطر للصائم بوصول المفطر إليه تكون جائفة وان كأن لا يحصل له الفطر بوصول
المفطر إليه لا تكون جائفة ولو شجه فذهب من ذلك عقله فإنه يلزمه الدية باعتبار ذهاب
العقل ويدخل فيه أرش الموضحة عندنا وعلي قول الحسن رضي الله عنه لا يدخل لاختلاف
محل الجناية فان محل الموضحة غير محل العقل بخلاف الشعر مع الموضحة ولكنا نقول ذهاب
العقل في معنى تبديل النفس والحاقه بالبهائم فيكون بمنزلة الموت ولو شجه موضحة فمات من ذلك
لزمه كمال الدية ودخل فيه أرش الشجة فأما إذا ذهب من الشجة سمعه أو بصره أو كلامه
يلزمه الدية باعتبار هذه الأشياء ولا يدخل أرش الشجة في ذلك الا في رواية عن أبي يوسف
رحمه الله قال وفى السمع والكلام يدخل أرش الشجة في الدية وفي البصر لا يدخل لان البصر ظاهر
كالموضحة فقد يباين المحل حقيقة وحكما فأما السمع والكلام فمعنى باطن بمنزلة العقل فكما يدخل
أرش الموضحة في الدية الواجبة باذهاب العقل فكذلك فيما تجب باذهاب السمع والكلام ولكنا
نقول محل السمع غير محل الشجة وكذلك محل الكلام وبتفويتهما لا تتبدل النفس وإنما تجب
الدية لتفويت منفعة مقصودة منهما فيكون بمنزلة ذهاب البصر بالشجة فان ذهب بالشجة
العقل والسمع والكلام والبصر فإنه يجب عليه أربع ديات وقد روينا عن عمر رضي الله عنه
أنه قضى على رجل بأربع ديات والمجني عليه حي * فان قيل كيف يستقيم هذا ولو مات من
الشجة لا يلزمه الا دية واحدة وبموته فاتت هذه المنافع ثم لم يلزمه الا دية واحدة فبفوات هذه
99

قد ذكروا أكثر الحدود وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر
الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد اعلام الطول يصير معلوما أيضا
وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفى بذكر
الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لان المشهود به بما ذكروا
صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعي شراء
شئ بثمن منقود فان الشهادة على ذلك تقبل وان سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن ولو
ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وإن لم يحدوها ونسبوها إلى اسم معروف
لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لان التعريف
بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب
في الآدمي ثم هناك الشهرة تغنى عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله
يقول بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فاما مقدار المشهود به لا يصير معلوما الا بذكر
الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا ان الدار المشهودة قد يزاد فيها وينقص منها
ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيها ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى اعلام
أصله وبالشهرة يصر معلوما ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان بن
فلان الفلاني كذا كذا أجرته لان المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة
تتعطل بالرق وإنما ينسب إلى مالكه (ألا ترى) ان الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا
نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الاسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك أن
نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية
فكذلك في العبد وان جاء بالكتاب ان العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه
المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل (قال) وقال محمد رحمه الله لا
يجوز عندنا كتاب القضاة في شئ بعينه لا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فاما فيما سوى
ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لان الإشارة إلى عينه عند الدعوى
والشهادة شرط ولهذا لا بد من احضاره بمجلس القضاء وإذا أتى كتاب القاضي إلي القاضي
وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه لأنه لو
كان علي ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه وإنما يصير معلوما
100

المحلان من نفس واحدة في معنى نفسين فكما أنه إذا قطع يد انسان فأصاب السكين يد آخر فقطع
يده يجب الأرش للثاني والقصاص للأول فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذه جناية
وسرايتها وقد تعذر ايجاب القصاص باعتبار سرايتها فلا يجب القصاص باعتبار أصلها كما لو قطع
مفصلا فشلت الإصبع وهذا لان السراية أثر الجناية وهو مع أصل الجناية في حكم فعل واحد
فالدليل على أنه سرايتان أن فعله أثر في نفس واحدة والسراية عبارة عن آلام تتعاقب من
الجناية على البدن وذلك يتحقق في نفس واحدة في موضعين منها كما يتحقق في الطرف
مع أصل النفس إذا مات من الجناية بخلاف النفسين فان الفعل في النفس الثانية مباشرة على
حدة ليس بسراية الجناية الأولى إذ لا تتصور السراية من نفس إلى نفس فلا بد من أن
يجعل ذلك في حكم فعل على حدة وهو خطأ ثم يعتبر حكم كل فعل بنفسه والدليل عليه أن
منفعة كل أصبع تتصل بمنفعة الأخرى كما أن منفعة الأصابع تتصل بمنفعة الكف وكذلك
هذا في اليدين من نفس واحدة بخلاف النفسين فلا اتصال لمنفعة إحداهما بالأخرى وذكر
في الجامع الصغير أنه لو شجه موضحة عمدا فذهب من ذلك بصره فلا قصاص عليه في الموضحة
عند أبي حنيفة رحمه الله ولكن عليه الأرش فيهما ونقل عن أبي يوسف ومحمد أن عليه القصاص
في الموضحة والدية في البصر وهو نظير ما بينا وقد روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في
هذا الفصل أنه يجب القصاص فيهما لان اذهاب البصر عمدا يوجب القصاص وقد بينا ان
سراية الفعل لا تخالف أصل الفعل في الصفة بخلاف الشلل فان الشلل غير موجب للقصاص
فعلى هذه الرواية عن محمد لو قطع أصبعا منه عمدا فقطعت أصبع أخرى يجب القصاص فيها
أيضا بخلاف ما إذا شلت أخرى لان في تفويت أصل الإصبعين عمدا القصاص والسراية
بصفة أصل الفعل وليس في تفويت المنفعة بالشلل قصاص فمن هذا الوجه يقع الفرق ولو
شجه موضحة فصارت منقلة أو كسر بعض سنه فاسود ما بقي أو قطع الكف فشل الساعد
فلا قصاص في شئ من ذلك لان محل السراية هاهنا متصل بمحل الجناية فكان الفعل
واحدا حقيقة وحكما وباعتبار ماله يتعذر ايجاب القصاص إذ لا قصاص في كسر العظم
وسواد السن والشلل وقبل يلزمه الأرش في جميع ذلك وإذا شجه منقلة عمدا وهو من
أهل الإبل غلظ عليه في الأسنان فجعل عليه عشر من الإبل أرباعا في قول أبي حنيفة وأبى
يوسف وكذلك على هذا القياس في الآمة وغيرها اعتبار للجزء بالكل فان صفة التغليظ
101

ثابتة في جميع الدية باعتبار صفة العمدية فثبت في أبعاضها وإن كان ذلك خطأ وجب الأرش
أخماسا اعتبارا للبعض بالكل الا ان في العمد تجب في ماله وفي الخطأ يجب على عاقلته إذا بلغ
الواجب أرش الموضحة وكذلك ينبغي علي طريقة القياس منها دون أرش الموضحة أن يكون
على العاقلة وبالقياس أخذ الشافعي رضي الله عنه لأنه اعتبر الجزء بالكل واعتبر ضمان اتلاف النفس
بضمان اتلاف المال فإنه لا فرق فيه بين القليل والكثير في حق من يجب عليه ولكنا استحسنا
فجعلنا ما دون أرش الموضحة عليه في ماله لما روينا من الأثر فيه وإذا كان القاتل خطأ من
أهل الإبل فصالح على أكثر من عشرة آلاف درهم أو أكثر من ألف دينار نقدا أو نسيئة لم يجز
أن يعطى أكثر من الدية لان مقدار الواجب من الدية ثابت بالنص فلا تجوز الزيادة عليه لما في
الصلح على الزيادة من معنى الربا وبان كان القاتل من أهل الإبل لا تخرج الدراهم والدنانير
من أن تكون أصلا في الدية في حقه وعند الصلح على الدراهم يجعل كأنهما عينا الدراهم أولا
ثم صالحه علي أكثر من ذلك فيكون ربا وكذلك لو كان من أهل الورق فصالح على أكثر
من ألف دينار أو أكثر من مائة من الإبل فالصلح باطل لان عند الاتفاق على أحد
الأصناف يتعين ذلك الصنف الواجب منه مقدر شرعا فالزيادة عليه تكون ربا فأما في العمد
الموجب للقود إذا أوقع الصلح على أكثر من الدية يجوز عندنا وفى أحد قولي الشافعي لا يجوز
بناء على ما تقدم أن في أحد قوليه الواجب في العمد أحد شيئين يتعين ذلك باختيار الولي
وإذا اختار الدية وهي مقدرة شرعا لا تجوز الزيادة عليها بطريق الصلح وعندنا الواجب هو
القود لا غير فالمال الذي يلتزمه يكون عوضا عن القود ولا ربا بين ما ليس بمال وبين ما هو
مال والدليل على جواز هذا الصلح ما روى أن فارسا من فرسان المسلمين قتل رجلا فقضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فلما خرج ليقتل رأت الصحابة الكراهة في وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا وصالحوا أولياء القتيل على ديتين دية يعطيها القاتل
ودية يتبرع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدائها فسر بذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولو صالحه في الخطأ أو العمد علي خمسين من الإبل جاز أما في العمد فلا يشكل وفى
الخطأ لأنه أسقط بعض الواجب ولو أسقط الكل بالعفو لجاز فكذلك إذا أسقط البعض
وكذلك لو صالحه على خمسمائة دينار قبل أن يقضى عليه بالدراهم وقال إنما صالحتك عن الدية
علي ذلك فهو جائز بطريق الاسقاط كأنهما عينا الدنانير ثم أسقط عنه النصف ورضى بالنصف
102

ويكون الباقي مؤجلا في ثلاث سنين سواء ذكر الاجل أولم يذكره أما إذا لم يذكر الاجل
فلان هذا الصلح ابراء عن البعض وليس فيه تعرض لما بقي فيبقى ما بقي على الوجه الذي كان عليه
الكل في الابتداء وهو أنه مؤجل في ثلاث سنين وكذلك أن شرط الاجل فيما بقي من
ثلاث سنين لان هذا الشرط يقرر مقتضى مطلق العقد ولا يقال هذا في معنى نسيئة بنسيئة
لان ذلك عند تمكن المبادلة ولا مبادلة هاهنا إنما هو اسقاط نصف الواجب فقط فأما إذا
كان من أهل الإبل فقضى عليه بالإبل فصالحه من ذلك على شئ من العروض أو الحيوان
بعينه بعد أن لا يكون مما فرض عليه الدية كان جائزا وإن كان أكثر من الدية أضعافا
ويأخذه حالا لان هذا استبدال بدين لا يستحق قبضه في المجلس ولا هو في حكم المبيع فيكون
ذلك صحيحا وبنفس الاستبدال يملكه عينا والأجل في العين لا يتحقق وكذلك لو كان من
أهل الورق أو الذهب فقضى عليه بشئ من ذلك ثم صالحه على عين من جنس آخر جاز وان جعل
لما وقع عليه الصلح أجلا بان صالحه على طعام موصوف في الذمة مؤجل لا يجوز لأنه بدل عما
قضي عليه به من الدراهم أو الدنانير فيكون هذا شراء دين بدين وذلك حرام وكذلك
ان قضى عليه بدراهم ثم صالحه على دنانير بعينها أكثر من ألف دينار أو أقل من ألف دينار
يجوز بعد أن يقبض ذلك في المجلس وان صالحه على دنانير مؤجلة لا يجوز لأنه صرف ولأنه
دين بدين وإذا أقر الرجل أنه قتل رجلا خطأ وادعى وليه العمد فله الدية في ماله استحسانا
وفي القياس لا شئ له وهو قول زفر رحمه الله وجه القياس أن الولي ادعى عليه القود وهو
منكر وهو أقر له بالمال وقد كذبه الولي في ذلك فلا يجب شئ (ألا ترى) انه لو أقر بالعمد
وادعى الولي الخطأ لم يجب شئ فكذلك هاهنا وجه الاستحسان أن الولي يتمكن من أخذ المال
الذي أقر له به القاتل مع اصراره على دعواه بأن يقول حقي في القصاص ولكنه طلب منى
ان آخذ المال عوضا عن القصاص وذلك جائز فعرفنا أنه ما صار مكذبا له فيما أقر به فاما إذا
ادعي الولي الخطأ وأقر القاتل بالعمد فان الولي لا يمكنه أن يأخذ المال لان القاتل يجحد موجب
ذلك ولا يمكنه ان يأخذ القصاص مع اصراره على الدعوى لان استيفاء القصاص عوض عن
المال * يوضح الفرق ان الولي حين ادعى العمد فقد ادعى أصل القتل والصفة والمقر بالخطأ صدقه
فيما ادعي من أصل القتل وجحد ما ادعى من صفة العمدية فلا يعتبر تصديقه في أصل القتل بعد
ما كذبه في الصفة لان موجب الأصل الذي صدقه فيه يخالف موجب الأصل بالصفة التي
103

كذبه فيها وكذلك هذا الحكم فيما دون النفس مما يجب في العمد منه القصاص وإذا قتل النائم
انسانا بان سقط عليه أو كان بيده شئ فضربه وهو نائم فعلى عاقلته الدية وعليه الكفارة قال
وهذا خطأ وقد بينا أنه في معنى الخطأ في الحكم دون الخطأ حقيقة فان النائم ليس من أهل
القصد أصلا إلا أنه أوجب عليه الكفارة وجعله محروما من الميراث لتوهم أن يكون تناوم ولم
يكن نائما حقيقة وهذا معتبر في حرمان الإرث واما الكفارة فلتركه التحرز في موضع يتوهم أن
يصير قاتلا لإنسان في نومه بهذه الطريق وقد بينا ان الكفارة في الخطأ إنما وجبت لترك
التحرز والله أعلم بالصواب
(باب الشهادة في الديات)
(قال رحمه الله) وإذا شهد شاهدان على رجل بالقتل خطأ وشهد الآخر على اقرار
القاتل بذلك فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به فان أحدهما شهد بفعل والآخر بقول
والقول غير الفعل وواحد منهما لا يثبت عند القاضي الا باتفاق الشاهدين عليه وكذلك لو
شهدا على القتل واختلفا في الوقت أو المكان فان الشهادة لا تقبل لان الفعل لا يحتمل التكرار
خصوصا القتل في محل واحد فكل واحد منهما يشهد بفعل غير ما يشهد به صاحبه وذلك
يمنع قبول الشهادة كشهود الغصب إذا اختلفوا في المكان والزمان ثم هاهنا القاضي يوقن
بكذب أحدهما لأنه بعد ما قبل في يوم وفي مكان لا يتصور أن يقبله في مكان آخر في يوم
آخر وبعد ما تيقن القاضي بكذب الشاهد لا يجوز له أن يقضى بشهادته وكذلك لو اختلفا
فيما قتله به فقال أحدهما كان بحجر وقال الآخر بعصا لأنهما اختلفا في المشهود به فالقتل بالحجر
غير القتل بالعصا حقيقة وإن كان حكمهما واحدا وكذلك لو قال أحدهما قتله عمدا وقال الآخر
قتله خطأ فقد اختلفا في المشهود به لان الخطأ غير العمد وحكمهما مختلف وكذلك لو قال أحدهما
قتله بعصا وقال الآخر لا أحفظ الذي كان به القتل لان الذي قال لا أحفظ ضيع بعض
شهادته ولأنه شاهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه (ألا ترى) أنه يتمكن من أن
يبين أنه قتله بالسلاح ولا يكون هذا البيان منه مخالفا لأول كلامه ولو قال الآخر مثل ذلك
كان مناقضا في كلامه فعرفنا أنه شاهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه فلا تقبل الشهادة
وان قالا جميعا لا ندري بم قتله فهو مثل الأول في القياس لأنهما أقرا أنهما ضيعا شهادتهما
104

ولان شرط قبول الشهادة اتفاقهما على فعل واحد ولا يكون ذلك الا بان يتفقا على آلة واحدة
لان الفعل بدون الآلة لا يتحقق واتفاقهما على آلة واحدة لا يثبت بدون التنصيص فأما
إذا قالا لا ندري فبهذا اللفظ لا يثبت الاتفاق على آلة واحدة لجواز أنهما إذا بين كل
واحد منهما ولم يكن بيانه ذلك مخالفا لأول كلامه والمحتمل لا يثبت الا بحجة ولكنا نستحسن
أن نجيز شهادتهما ونوجب عليه الدية في ماله لان الشرط اتفاقهما فيما صرحا به في شهادتيهما
وذلك أصل القتل وقد ثبت بنص لا احتمال فيه وأصل القتل موجب للدية فاتفاقهما عليه يكون
اتفاقا على هذا الموجب فأما القصاص فإنما يجب باعتبار صفة العمدية ولم يتعرض الشهود لذلك
وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص فتوهم اختلاف الآلة إنما يعتبر في المنع من الحكم
بالقصاص لا في المنع من الحكم بالمال فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولكن الدية هنا
في ماله لان في تحمل العاقلة عنه معنى الشك والاحتمال فإنه إذا كان عمدا لا تتحملها العاقلة ومع
الشك يتعذر ايجابها على العاقلة فكانت في ماله * يوضحه ان الظاهر أن الشاهدين عرفا الآلة
وان الفعل كان عمدا بسلاح لأنهما شهدا بقتل مطلق والفعل المطلق يكون بآلته وآلة القتل
السلاح وكذلك الفعل المطلق يكون من العامد الا انهما سترا ذلك لدرء القود ويحمل الولي
على أن يكتفى بالدية وقد ندبا إلى ذلك بالشرع فلا يكون مبطلا شهادتهما بل يقضى بالدية في مال
القاتل كما هو موجب شهادتهما وشهادة امرأتين مع رجل جائزة في قتل الخطأ وفى كل ما
ليس فيه قصاص ولا تجوز فيما فيه قصاص وكذلك الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى
القاضي لان القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وفى شهادة النساء ضرب شبهة لان الضلالة
والنسيان يغلب عليهن وكذلك في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلي القاضي لأنهما
بدل وفى البدل القائم مقام الأصل ضرب شبهة فلا يثبت به ما يندرئ بالشبهات ويثبت به
مالا يندرئ بالشبهات وهو المال ثم بهذه الشهادة إذا تعذر القضاء بالقصاص لا يقضي بالمال
بخلاف مسألة الاقرار فان القاتل إذا أقر بالخطأ بعد ما ادعي الولي العمد يقضى بالمال لان هاهنا
تعذر القضاء بالقود لمعنى من جهة الولي وهو اشتغاله بإقامة حجة فيها شبهة والولي لا ينفرد بأخذ
المال بدون رضا القاتل وهناك تعذر القضاء بالقود لمعنى من جهة القاتل وهو اقراره بالخطأ فينزل
ذلك منزلة الرضا منه بأخذ المال وللولي أن يأخذ المال مكان القصاص برضا القاتل * يوضحه ان
الاقرار موجب للحق بنفسه من غير قضاء القاضي فيتمكن الولي من أخذ ما أقر به القاتل وهو
105

المال فاما الشهادة فلا توجب شيئا بدون قضاء القاضي والقاضي إنما يقضى بما شهد به الشهود وقد
تعذر عليه القضاء بذلك هاهنا لمكان الشبهة فلا يقضى بشئ وان شهد عليه رجلان بالعمد حبس
حتى يسأل عنهما لأنه صار متهما بالدم والسبيل في المتهم أن يحبس لما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم حبس رجلا في التهمة وروى أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يعدو عليه ويقول
أجرني يا أمير المؤمنين فقال من ماذا فقال من الدم فقال احبسوه الحديث وقد بينا في أول
كتاب الحدود ان أخذ الكفيل في العقوبات غير ممكن لما في ذلك من معنى التوثق والاحتياط
وانه يصار فيه إلى الحبس فان شهد عليه رجل واحد عدل حبسه أيضا أياما لأنه صار متهما
بالدم فان خبر الواحد وان كأن لا يتم بالحجة فتثبت به التهمة خصوصا إذا كان المخبر عدلا ولان
للشهادة شرطين العدد والعدالة وقد وجد أحد الشرطين هاهنا وهو العدالة فهو بمنزلة ما لو
تم عدد الشهود ولم تظهر عدالتهم فكما يحبس هناك فكذلك يحبس هاهنا فان جاء شاهد
آخر والا خلى سبيله والعمد في ذلك والخطأ وشبه العمد سواء وكان ينبغي في القياس أن
لا يحبس في الخطأ وشبه العمد لان الواجب فيهما المال وفي الديون التي هي غير المؤجلة
لا يحبس ما لم تتم الحجة لظهور عدالة الشهود ففيما يكون مؤجلا إلى العاقلة أولى ولكنه ترك
القياس لما ذكرنا أن المتهم بالدم يحبس فان القتل أمر عظيم إلي أن يتبين موجبه لظهور عذر القاتل
أو انتفاء عذره فإذا ادعى ولي القتل بينة حاضرة في المصر والقتل خطأ أخذ به من المدعى
عليه كفيلا إلى ثلاثة أيام بخلاف ما إذا زعم أن بينته غيب لان الدعوى دعوى الدين فالخطأ
موجب الدية دينا وأخذ الكفيل بالنفس في دعوى الديون صحيح إذا ادعى بينة حاضرة في
المصر فاما في العمد فلا يصار إلى أخذ الكفيل قبل إقامة البينة ولا بعدها ولكن قبل إقامة
البينة يلازمه المدعي وبعد إقامة البينة يحبسه علي سبيل التعزير فان ظهرت عدالة الشهود كان
القتل موجبا للقود وقضى عليه بالقود والله أعلم بالصواب
(باب القسامة)
(قال رحمه الله) وإذا وجد الرجل قتيلا في محلة قوم فعليهم أن يقسم منهم خمسون
رجلا بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم يغرمون الدية بلغنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي هذا أحاديث مشهورة منها حديث سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل وعبد الرحمن
106

ابن سهل وحويصة ومحيصة خرجوا في التجارة إلى خيبر وتفرقوا بحوائجهم فوجدوا عبد
الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر يتشحط في دمه فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليخبروه فأراد عبد الرحمن وهو أخو القتيل ان يتكلم فقال عليه الصلاة والسلام الكبر
الكبر فتكلم أحد عميه حويصة ومحيصة وهو الأكبر منهما وأخبره بذلك قال ومن قتله قالوا
ومن يقتله سوى اليهود قال تبركم اليهود بايمانها فقالوا لا نرضى بأيمان قوم كفار لا يبالون ما حلفوا
عليه قال عليه السلام أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم فقالوا كيف نحلف على أمر لم نعاين
ولم نشاهد فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة وذكر
الزهري عن سعيد بن المسيب ان القسامة كانت من أحكام الجاهلية فقررها رسول الله صلى
الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وجد في حي ليهود وذكر الحديث إلى أن قال فألزم
رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الدية والقسامة وفي رواية فكتب إليهم اما أن يدوه أو
يأذنوا بحرب من الله ورسوله وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أهل خيبر ان هذا قتيل وجد بين أظهركم فما لذي يخرجه
عنكم فكتبوا إليه ان مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل فأنزل الله على موسى عليه
السلام أمرا فان كنت نبيا فاسأل الله مثل ذلك فكتب إليهم ان الله تعالى أراني أن أختار
منكم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم يغرمون الدية قالوا لقد قضيت
فينا بالناموس يعنى بالوحي وروى حنيف عن زياد بن أبي مريم قال جاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال إني وجدت أخي قتيلا في بنى فلان فقال اختر من شيوخهم خمسين
رجلا فيحفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا قال وليس لي من أخي الا هذا قال نعم ومائة
من الإبل وفي الحديث ان رجلا وجد بين وادعة وأرحب وكان إلى وادعة أقرب فقضى
عليهم عمر رضي الله عنه بالقسامة والدية فقال حارث بن الإصبع الوادعي يا أمير المؤمنين
لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا فقال حقنتم دماء كم بايمانكم وأغرمكم
الدية لوجود القتيل بين أظهركم فهذه الآثار تدل على ثبوت حكم القسامة والدية في القتيل
الموجود في المحلة على أهلها ونوع من المعنى يدل عليه أيضا وهو ان الظاهر أن القاتل منهم
لان الانسان قلما يأتي من محلة إلى محلة ليقتل مختارا فيها وإنما تمكن القاتل منهم من هذا
الفعل بقوتهم ونصرتهم فكانوا كالعاقلة فأوجب الشرع الدية عليهم صيانة لدم المقتول عن
107

الهدر وأوجب القسامة عليهم لرجاء أن يظهر القاتل بهذا الطريق فيتخلص غير الجاني إذا ظهر
الجاني ولهذا يستحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ثم على أهل كل محلة حفظ محلهم عن
مثل هذه الفتنة لان التدبير في محلتهم إليهم فإنما وقعت هذه الحادثة لتفريط كان منهم في
الحفظ حين تغافلوا عن الاخذ على أيدي السفهاء منهم أو من غيرهم فأوجب الشرع القسامة
والدية عليهم لذلك ووجوب القسامة والدية على أهل المحلة مذهب علمائنا وقال مالك رضي
الله عنه إذا كان بين أهل القتيل وأهل المحلة عداوة ظاهرة ولوث وتأثيره وكان العهد قريبا
بدخوله في محلتهم إلى أن وجد قتيلا يؤمر الولي بان يعين القاتل منهم باعتبار اللوث وتفسير
اللوث أن يكون عليه علامة القاتلين أو يكون هو مشهورا بعداوته ثم يحلف الولي خمسين
يمينا بالله انه قتله فإذا حلف اقتص له من القاتل وهو قول الشافعي في القديم وقال في الجديد
فإذا حلف قضى له بالدية في ماله وإذا انعدمت هذه المعاني أو أبى الولي ان يحلف فالحكم فيه ما
هو الحكم في سائر الدعاوى واحتج مالك رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث
سهل بن أبي حثمة أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم وفى رواية تحلفون وتستحقون وهذا
تنصيص على أن اليمين على الولي وانه يستحق القصاص وفي الحديث ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضى بالقود في القسامة وقضى به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم وعن بعض الصحابة
قال قتلنا قاتل ولينا في القسامة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا حجة سوى
اللوث وفي الحديث المعروف ان النبي صلى الله عليه وسلم قال البينة على المدعي واليمين على من
أنكر الا في القسامة ففي هذا الاستثناء تنصيص على أن في القسامة اليمين علي المدعى فإذا حلف
ترجح معنى الصدق في جانبه فيستحق المدعى وهو القود ثم قال الشافعي رضي الله عنه نرجح
جانبه ولكن بحجة فيها ضرب شبهة والقصاص عقوبة يندرئ بالشبهة فيجب المال وهذا لان
اليمين حجة من يشهد له الظاهر كما في سائر الدعاوى فان الظاهر يشهد للمدعي عليه لان الأصل
براءة ذمته فاما في القسامة فالظاهر يشهد للمدعى عند قيام اللوث وقرب العهد فيكون اليمين
حجة له * وحجتنا ما روينا من الآثار المشهورة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أعطى الناس
بدعواهم الحديث وقد بينا في كتاب الدعوى ان اليمين ليست بحجة صالحة لاستحقاق فلس
بها فكيف تكون حجة لاستحقاق نفس خصوصا في موضع يتيقن بان الحالف مجازف يحلف
على ما لم يعاينه بحال محتمل في نفسه وهو اللوث وإنما اليمين مشروعة لا بقاء ما كان على ما كان فلا
108

يستحق بها ما لم يكن مستحقا فأما قوله أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم فلا تكاد تصح هذه
الزيادة وقد قال جماعة من أهل الحديث أو هم سهل بن أبي حثمة ما قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الانكار عليهم
لا على طريق الامر لهم بذلك فإنه لو كان على سبيل الامر لكأن يقول أتحلفون فتستحلون دم
صاحبكم فأما قوله أتحلفون وتستحقون فعلي سبيل الانكار كقوله تعالى أتأتون الذكران من
العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم الآية وكذلك قوله تحلفون معناه أتحلفون
كقوله تريدون عرض الدنيا معناه أتريدون وكان عليه الصلاة والسلام رأى منهم الرغبة في
حكم الجاهلية حين أبو أيمان اليهود وبقولهم لا نرضي بيمين قوم كفار فقال ذلك على سبيل
الزجر فلما عرفوا كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك رغبوا عنه بقولهم كيف نحلف على
أمر لم نعاين ولم يشاهد ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى
محلتهم فصاروا مدعى عليهم فلهذا عرض عليهم اليمين والحديث الآخر لا يكاد يصح لما روي
عن أيوب مولي أبى قلابة قال قلت عند عمر بن عبد العزيز وعنده رؤساء الناس فخوصم إليه
في قتيل وجد في محلة وأبو قلابة جالس عند السرير أو خلف السرير فقال الناس قضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالقود في القسامة وأبو بكر وعمر والخلفاء بعدهم فنظر إلى أبي قلابة
وهو ساكت فقال ما تقول قال عندك رؤساء الناس وأشراف العرب أرأيتم لو شهدتم رجلان
من أهل دمشق على رجل من أهل حمص انه سرق ولم يرياه أكنت تقطعه فقال لا قال أرأيتم
لو شهد أربعة من أهل حمص على رجل جن أهل دمشق انه زنى ولم يروه أكنت ترجمه فقال
لا فقال والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسا بغير نفس الا رجلا كفر بالله بعد
ايمانه أو زنا بعد احصانه أو قتل نفسا بغير نفس وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالقسامة والدية على أهل خيبر في قتيل وجد بين أظهرهم فانقاد عمر بن عبد العزيز لذلك وهذا
لان امراء بنى أمية كانوا يقضون بالقود في القسامة على ما روى عن الزهري قال القود في
القسامة من أمور الجاهلية أول من قضى به معاوية فلهذا بالغ أبو قلابة في انكار ذلك وقوله
أو عليه الصلاة والسلام الا في القسامة يعنى الايمان مكررة في القسامة بخلاف سائر الدعاوى
معناه لا تنقطع الخصومة باليمين في القسامة بل يقضى بالدية بعدها بخلاف سائر الدعاوى ثم إنما
يقضى بالدية على عاقلة أهل المحلة في ثلاث سنين لان حالهم هنا دون حال من باشر القتل خطأ
109

وإذا كانت الدية هناك على عاقلته في ثلاث سنين فها هنا أولي فإن لم يكمل العدد خمسون رجلا
كررت عليهم الايمان حتى يكملوا خمسين يمينا لما روى أن الذين جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه من
أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلا منهم فحلفهم ثم اختار منهم واحدا فكرر عليه اليمين وهذا
لان عدد اليمين في القسامة منصوص عليه ولا يجوز الاخلال بالعدد المنصوص عليه ويجوز تكرار
اليمين من واحد كما في كلمات اللعان ولأولياء القتيل ان يختاروا في القسامة صالحي العشيرة
من الذين وجد بين أظهرهم القتيل فيحلفونهم لان النبي عليه الصلاة والسلام قال لأخ
القتيل اختر منهم خمسين رجلا فدل أن الخيار إليه وهو حقه يستوفى بطلبه واليه تعيين من
يستوفى منه حقه وله أن يختار الشبان والفسقة منهم لان تهمة القتيل عليهم أظهر وله أن يختار
المشايخ والصلحاء منهم لأنهم يتحرزون عن اليمين الكاذبة أكثر مما يتحرز الفسقة فإذا علموا
القاتل منهم أظهروه ولم يحلفوا وفي ظاهر الرواية القسامة على أهل المحلة والدية علي عواقلهم
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب ان علي قول زفر القسامة والدية على عاقلة أهل المحلة قياسا
لاحد الموجبين علي الآخر وعلى قول أبى يوسف لا قسامة علي العاقلة لان التحمل يجري في
الدية ولا يجرى التحمل في اليمين ولو اختاروا في القسامة أعمى أو محدودا في قذف كان ذلك
لهم لأنهم أسوة غيرهم في الأهلية لليمين والنكول والخيار فيه إليهم دون الامام لان الحق
لهم وإنما أراد بهذا الفرق بين هذا وبين اللعان فان اللعان شهادة والمحدود في القذف والأعمى
ليس لهما شهادة الأداء فأما هذه فيمين محضة قال في الأصل وكل ما يلزم العاقلة يلزم أهل الديوان
والمعاقلة من أهل الديوان ولا يلزم النساء والذرية من ذلك شئ ولا يؤخذ من الرجل في كل
سنة الا ثلاثة دراهم أو أربعة لما روى أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين وفرض الأعطيات
جعل المعاقل عليهم في أعطياتهم على كل رجل في كل سنة ثلاثة دراهم أو أربعة وهذا عندنا
وعند الشافعي رضي الله عنه العاقلة هم العشيرة على ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم (ألا ترى) أنه قال في حديث الجنين لأولياء الضاربة قوموا فدوه ولكنا نقول
ما كانت الدواوين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يتناصرون بالقرابة بعد
الدين فلما دون عمر رضي الله عنه الدواوين جعل التعاقل بالديوان لأنه باعتبار التناصر والتناصر
بالديوان دون القبيلة فان أهل الديوان وان كانوا من قبائل شتى يقوم بعضهم بنصرة بعض
وربما تظهر العداوة مع من هو من قبيلته من أهل ديوان آخر أكثر مما تظهر مع غيره على ما
110

روى أنه في الجمل وصفين كان يقوم أهل كل قبيلة من أحد الصفين بمقاتلة تلك القبيلة من
الصف الآخر ثم الاخذ من العاقلة على وجه لا يؤدى إلى الاجحاف بهم وذلك في أن يؤخذ
منهم في كل سنة القدر الذي سمى فإن لم يسع ديوان أولئك القوم ضم إليهم أقرب القبائل
إليهم في النسب حتى لا يقع على كل واحد منهم الا ثلاثة دراهم أو أربعة ولا يدخل في ذلك
النساء والذراري لأنهم أتباع لا تقوم النصرة بهم وتمام بيان هذا الكلام في هذا الفصل في
كتاب المعاقل والقبائل والذي حلف في القسامة والذي لم يقبل ولم يشهد في ذلك كل سواء
الدية عليهم على أهل الديوان لأنها مأخوذة من أعطياتهم وقد استوى في الأعطيات من شهد
منهم ومن غاب وكذلك في ظاهر الرواية من كان غائبا و من كان حاضرا من أهل المحلة في
القسامة سواء وعن أبي يوسف رحمه الله قال من علمت أنه كان غائبا حين وقعت هذه
الحادثة لا أدخله في القسامة لأنه ليس عليه من تهمة القتل شئ ولم يكن قائما في حفظ المحلة
والتدبير فيها حين وقعت هذه الحادثة ووجه ظاهر الرواية أن السبب كونه من أهل المحلة
لا تهمة القتل فان الفقهاء والمشايخ وصالحي أهل المحلة يحلفون وليس عليهم من تهمة القتل شئ
وهذا السبب لا ينعدم بكونه غائبا عن المحلة وإذا وجد القتيل بين قريتين أو سكتين فإلى أيهما
كان أقرب كان عليهم القسامة والدية لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن قتيلا وجد
بين قريتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أن يمسح بينهما فوجد إلى احدى
القريتين أقرب بشبر فقضي عليهم بالقسامة والدية وعن عمر رضي الله عنه في القتيل الموجود
بين وادعة وأرحب أمر بان يقاس بين القبيلتين وكان إلى وادعة أقرب فجعلها عليهم ولان
من يقرب من موضع فهو أحق بحفظ ذلك الموضع والتدبير فيه ممن يكون أبعد من ذلك
الموضع فان نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا لان الايمان في القسامة حق مقصود لتعظيم
أمر الدم ومن لزمه حق مقصود لا تجرى النيابة في ايفائه فإذا امتنع منه فإنه يحبس ليوفى كما
كلمات اللعان وإذا وجد القتيل في قرية أصلها لقوم شتى فيهم المسلم والكافر فالقسامة على
أهل القرية المسلم منهم والكافر فيه سواء لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة
على أهل خيبر وكانوا من اليهود ثم يعرض عليهم الدية فما أصاب المسلمين من ذلك فعلى عواقلهم
وما أصاب أهل الذمة فإن كانت لهم معاقل فعليهم والا ففي أموالهم كما لو باشروا بأيديهم
القتل خطأ وإذا وجد القتيل في قبيلة بالكوفة وفيها سكان وفيها من قد اشترى من دورهم
111

فالقسامة والدية على أهل الخطة دون السكان والمشترين وهذه فصول أحدها أنه ما بقي في
المحلة أحد من أصحاب الخطة فليس على المشترين من ذلك شئ في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
وفي قول أبى يوسف وهو قول ابن أبي ليلي المشترون في ذلك كأصحاب الخطة لأنهم قاموا
مقام البائع ولأنهم ملاك لبعض المحلة كأصحاب الخطة وفيما يجب باعتبار الملك لا يختلف
باختلاف سبب الملك كاستحقاق الشفعة (ألا ترى) أن في القتيل الموجود في دار رجل لا فرق
بين أن يكون صاحب الدار مشتريا أو صاحب خطة فكذلك في القتيل الموجود في المحلة وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا صاحب الخطة أخص بتدبير المحلة من المشترين (ألا ترى) أن
المحلة تنسب إلى أصحاب الخطة دون المشتريين وان المشترين قل ما يزاحمون أهل الخطة في
التدبير والقيام بحفظ المحلة فكان صاحب الخطة أخص بحكم القسامة والدية من المشتريين أيضا
بمنزلة صاحب الدار في القتيل الموجود في داره مع أهل المحلة لما كان هو أخص بالتدبير في
داره كان موجب ذلك عليه ثم المشترون اتباع لأصحاب الخطة وما بقي شئ من الأصل يكون
الحكم له دون التبع وقيل إنما أجاب أبو حنيفة رحمه الله بهذا بناء على ما شاهد من عادة أهل
الكوفة في زمانه أن أصحاب الخطة في كل محلة هم الذين يقومون بتدبير المحلة ولا يشاركهم
المشترون في ذلك فاما إذا لم يبق من أصحاب الخطة أحد وفيها سكان ومشترون فهي عليهم
وهو قول ابن أبي ليلى لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها على أهل خيبر وقد كانوا
سكانا (ألا ترى) أن عمر رضي الله عنه أجلاهم منها إلى الشام وجه قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله أن التدبير في أهل المحلة إلى أصحاب الملك دون السكان لان السكان يتنقلون في
كل وقت من محلة إلى محلة دون أصحاب الملك والدليل عليه أن ما ينبنى من الغنم شرعا على
القرب يختص به أصحاب الملك دون السكان وهو الشفعة فكذلك ما يكون من الغرم شرعا
ولا حجة في حديث خيبر فإنهم كانوا ملاكا قد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه
استثنى بقوله أقركم ما أقركم الله فلهذا أجلاهم عمر رضي الله عنه وما وظف عليهم كان بطريق
الخراج إلا أن يقال يملك عليهم الأراضي وقد بينا هذا في المزارعة ومن فروع هذه المسألة إذا
وجد قتيل في السجن فعند أبي حنيفة ومحمد على بيت المال وعند أبي يوسف رحمه الله على أهل
السجن لأنهم بمنزلة السكان في ذلك الموضع وهم الذين يقومون بتدبير ذلك الموضع ما داموا فيه
ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا أهل السجن مقهورون في المقام في ذلك الموضع وهم قل
112

ما يقومون بحفظه والتدبير فيه الا بقدر حاجتهم ثم ذلك الموضع معد لمنفعة المسلمين فدية القتيل
الموجود فيه تكون على المسلمين في بيت مالهم ولو وجد القتيل في دار رجل قد اشتراها
وهو من غير أهل الخطة فأهل الخطة برآء من ذلك والقسامة علي صاحب الدار وعلى قومه
الدية لان التدبير في حفظ الملك الخاص إلي المالك دون أصحاب الخطة من أهل المحلة والقتيل
الموجود في ملك خاص يجعل كان صاحب الملك هو القاتل له في حكم القسامة والدية فلهذا
كانت القسامة عليه والدية علي عاقلته وإذا كانت الدار بين رجلين فوجد فيها قتيل وأحدهما
أكثر نصيبا من الآخر فالدية على عواقلهما نصفين لان القيام بحفظ المكان والتدبير فيه
يكون باعتبار أصل الملك لا باعتبار قدر الملك وقد استويا في أصل الملك (ألا ترى) أنه في المغنم
المستحق بسبب الملك يعتبر أصل الملك وهو الشفعة فكذلك في الغرم وإذا وجد الرجل
قتيلا في دار نفسه فعلى عاقلته الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد
لا شئ عليهم لأنه لو وجد غيره قتيلا في هذه الدار جعل هو كالمباشر لقتله في حكم الدية
فإذا وجد هو قتيلا فيها يجعل كأنه باشر قتل نفسه ومن قتل نفسه كان دمه هدرا والدليل
عليه أن المكاتب إذا وجد قتيلا في دار من كسبه لا يجب فيه شئ لهذا المعنى وكذا لو أن عبده وجد
قتيلا فيه كان موجبه عليه فإذا وجد هو فيها قتيلا لا يجب له علي نفسه شئ فكذلك في الحر ولا ينظر
إلي كون الدار في الحال لورثته لان الوجوب باعتبار أصل الجناية وعند الجناية كانت الدار مملوكة
(ألا ترى) أنه لا تجب القسامة هاهنا ولو كان المعتبر هو الحال لكانت الدية على عاقلة ورثته
وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله عليه الصلاة والسلام لا يترك في الاسلام مفرح أي مهدر
الدم والمعنى فيه أنه وجد قتيلا في موضع لو وجد غيره قتيلا في ذلك الموضع كانت الدية عليه
وعلى عواقله فإذا وجد هو قتيلا فيه كانت الدية على عواقله كما لو وجد واحد من أهل المحلة
قتيلا في المحلة تجب الدية والقسامة على أهل المحلة بهذا المعنى ولهذا لا تجب القسامة هاهنا لأنه
لو وجد غيره فيه قتيلا لكانت القسامة عليه دون عاقلته فإذا وجد هو قتيلا فيه يتعذر ايجاب
القسامة بخلاف الدية وحقيقة المعنى فيه أن السبب وجود القتيل في ذلك المكان كما نص عليه
عمر رضي الله عنه وإنما أغرمكم الدية بوجود القتيل بين أظهركم وحين وجد هو قتيلا الدار
مملوكة لورثته لا له لأنه ليس من أهل الملك فتكون الدية عليهم وإنما قال الدية على عاقلته
بناء على الظاهر وهو أن عاقلة الوارث والمورث تتحد فإن كان في موضع تختلف العاقلة فينبغي
113

على قياس هذه الطريقة أن تكون الدية على عاقلة الورثة وهو الأصح وعلي قياس الطريقة
الأولى على عاقلة القتيل ثم إذا وجد غيره قتيلا في داره إنما يجعل الدية والقسامة عليه باعتبار
الظاهر لأن الظاهر أن غيره لا يتمكن من ذلك في ملكه وهذا لا يوجد فيما إذا وجد هو قتيلا
فيها فالظاهر أن الانسان لا يقتل نفسه فلهذا يجعل كان غيره قتله وعند القتل كان التدبير في
حفظ ذلك الموضع إليه فإذا فرط في ذلك وجبت الدية على عاقلته لورثته * فان قيل إذا قلتم
تجب الدية علي عاقلة الورثة فكيف يستقيم أن تعقلوا عنهم * قلنا لان الدية تجب للمقتول
حتى أنه يقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه ثم يخلفه الوارث وهو نظير الصبي أو المعتوه إذا
قتل أباه فإنه تجب الدية على عاقلته ويكون ميراثا له وهذا بخلاف المكاتب يوجد قتيلا
في دار نفسه لان هناك إذا وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له باعتبار عقد الكتابة
وعقد الكتابة باق بعدما وجد هو فيه قتيلا فلهذا جعل كأنه قتل نفسه فأما هاهنا إذا
وجد غيره قتيلا إنما يجعل هو كالقاتل له لقيام ملكه في الدار حين وجد القتيل وذلك غير
موجود فيما إذا وجد هو قتيلا فيه فان الملك منتقل إلى ورثته فلهذا افترقا والقتيل عندنا
كل ميت به أثر فإن لم يكن به أثر فلا قسامة فيه ولادية إنما هذا ميت لان حكم القسامة ثبت
شرعا في المقتول والمقتول إنما مات حتف أنفه بالأثر فمن لا أثر به فهو ميت فلا حاجة بنا إلى
صيانة دمه عن الهدر بخلاف من به أثر وهو نظير من وجد في المعركة وبه أثر يكون شهيدا
لا يغسل فإن لم يكن به أثر غسل وكذلك أن كان الدم يخرج من موضع يخرج الدم منه
عادة من غير جرح في الباطن كالانف فلا قسامة فيه وان كأن لا يخرج الدم منه عادة
الا بجرح في الباطن كالاذن فهو قتل وقد بينا هذا في الشهيد وان ادعى أهل القتيل على بعض
أهل المحلة الذين وجد القتيل بين أظهرهم فقالوا قتله فلان عمدا أو خطأ لم يبطل هذا حقه وفيه
القسامة والدية لأنهم ذكروا ما كان معلوما لنا بطريق الظاهر وهو أن القاتل واحد من
أهل المحلة ولكنا لا نعلم ذلك حقيقة وكذلك بدعوى الأولياء على واحد منهم بعينه لا يصير
معلوما لنا حقيقة انه هو القاتل فإذا لم يستفد بهذه الدعوى شيئا لا يتغير به الحكم فتبقى القسامة
والدية على أهل المحلة كما كان وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله انه أسقط القسامة
عن أهل المحلة لان دعوى المولى على واحد منهم بعينه يكون ابراء لأهل المحلة عن القسامة
في قتيل لا يعرف قاتله فإذا زعم الولي انه يعرف القاتل منهم بعينه صار مبرئا لهم عن القسامة
114

وذلك صحيح منه فان أقام الولي شاهدين من غير أهل المحلة على ذلك الرجل فقد أثبت عليه
القتل بالحجة فيقضى عليه بموجبه وان أقام شاهدين من أهل المحلة عليه بذلك لا تقبل شهادتهما
لان أهل المحلة خصماء في هذه الحادثة ما بقيت القسامة والدية عليهم فكانوا متهمين في هذه
الشهادة وكانوا بمعنى الشاهدين لأنفسهم وإذا لم تقبل شهادتهما قال أبو يوسف رحمه الله ان
اختار الولي الشاهدين من جملة من يستحلفهم يحلفهما بالله ما قتلنا لأنهما زعما انهما يعلمان القاتل
فلا معنى لاستحلافهما علي العلم وإنما يستحلفان على البتات بالله ما قتلنا وقال محمد رحمه الله
يحلفان بالله ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا سوى فلأن لان ما هو المقصود يحصل بهذا الاستثناء فلا
يجوز اسقاط اليمين على العلم في حقهما كما لا يجوز في حق غيرهما وان ادعى الأولياء على غير
أهل المحلة فقد أبرؤا أهل المحلة من ذلك حتى لا تسمع دعواهم بعد ذلك على أهل المحلة للتناقض
فان أقاموا شاهدين بذلك على المدعى عليه من أهل المحلة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل
شهادتهما وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل شهادتهما على القاتل بذلك * وجه قولهما ان
أهل المحلة حين وجد القتيل بين أظهرهم بعرض أن يكونوا خصماء لو ادعى الولي عليهم فإذا ادعى
على غيرهم فقد زالت هذه العرضية وتبين انهم لم يكونوا خصماء في هذه الحادثة أصلا فوجب
قبول شهادتهم فيها كالشفيع إذا شهد بالبيع بعد ما سلم الشفعة فإنه تقبل شهادته والوكيل
بالخصومة إذا عزل قبل أن يخاصم ثم شهد في تلك الحادثة تقبل شهادته لهذا المعنى ولان
البراءة قد وقعت لأهل المحلة بدعوى الولي على غيرهم على البتات بدليل انهم لا يطالبون بشئ
بسبب هذه الحادثة بعد هذا الحال فكانوا بمنزلة غيرهم في الشهادة فيها ولأنا إنما كنا نحلفهم
علي العلم ليظهروا القاتل ان علموا فيستحيل ان يظهروا ذلك حسبة بالشهادة ولا يكون مقبولا
منهم بخلاف ما إذا كانت الدعوى على واحد منهم لان هناك لا يظهرونه حسبة بالشهادة بل
يسقطون به القسامة والدية عن أنفسهم فكانوا متهمين فيها وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول
أهل المحلة صاروا خصماء في حادثة لا تقبل شهادتهم فيها وان خرج من الخصومة كالوكيل
إذا خاصم في المجلس يعنى مجلس الحكم ثم عزل فشهد وإنما قلنا ذلك لان السبب الموجب
للدية والقسامة عليهم وجود القتيل بين أظهرهم كما قال عمر رضي الله عنه وإنما أغرمكم
الدية لوجود القتيل بين أظهركم وبدعوى الولي علي غير أهل المحلة لا يتبين ان هذا السبب
لم يكن ولكن خرجوا من الخصومة بعد أن كانوا خصماء لكون الولي مناقضا في الدعوى
115

عليهم بعد ذلك وتأثيره انه يحتمل انهم قصدوا بالشهادة تأكيد تلك البراءة وان الولي قصد
بتلك البراءة تصحيح شهادتهم له وكذلك تتمكن تهمة المواضعة بينهم وبين الولي فتواضعهم على
أن يدعى علي غيرهم ليشهدوا له فلتمكن التهمة من هذا الرجل امتنع قبول الشهادة لأنها ترد
بالتهمة وان ادعى أهل المحلة علي رجل من عندهم انه هو الذي قتله وأقاموا عليه بينة من
غيرهم قبلت بينتهم لأنهم يسقطون بهذه البينة الخصومة عن أنفسهم ومن ادعى نفى الخصومة
عن نفسه وأثبته بالبينة كان مقبولا منه كما لو أقام ذو اليد البينة ان العين وديعة في يده لفلان
ثم ادعاه الأولياء علي ذلك الرجل أخذوه بالدم وإن لم يدعوا عليه ذلك لم يكن عليه ولا علي
أهل المحلة شئ لان أهل المحلة خصماء في اسقاط القسامة والدية عن أنفسهم لا في اثبات موجب
القتل علي غيرهم إنما الخصم في ذلك الولي فلا بد من دعواه ليقضى بموجب القتل علي ذلك
الرجل وإذا وجد بدن القتيل أو أكثر من نصف البدن أو نصف البدن ومعه الرأس في
محلة فعلي أهلها القسامة والدية لان هذا قتيل وجد في محلتهم وللأكثر حكم الكمال وان وجد
نصفه مشقوقا بالطول أو وجد أقل من النصف ومعه الرأس أو وجدت رجله أو يده أو رأسه
فلا شئ عليهم فيه لان الموجود ليس بقتيل إذ الأقل لا يجعل بمنزلة الكل ثم هذا يؤدى
إلى تكرار القسامة والدية في قتيل واحد فانا لو أوجبنا بوجود النصف في هذه المحلة القسامة
والدية علي أهلها لم نجد بدا من أن نوجب إذا وجدنا النصف الآخر في محلة أخرى القسامة
والدية على أهلها وتكرار القسامة والدية في قتيل واحد غير مشروع وهذا نظير ما تقدم في
حكم الصلاة عليه وإذا وجد العبد أو المكاتب أو المدبر أو أم الولد قتيلا في محلة وجبت
القسامة والقيمة على عاقلتهم في ثلاث سنين لان القيمة في المماليك بمنزلة الدية في الأحرار
ولنفس المملوك من الحرمة ووجوب الصيانة عن الهدر ما لنفس الحر بدليل مباشرة القتل وأما
الدواب والبهائم والعروض فلا قسامة فيها ولا قيمة لأنه مال مبتذل ليس له من الحرمة ما للنفس
ولا تجب صيانته عن الاهدار لا محالة وفى الحكم الثابت شرعا بخلاف القياس إنما يلحق بالمنصوص
ما يكون في معناه من كل وجه فاما ما ليس في معناه من كل وجه فلا يلحق به وان وجد فيهم
جنين أو سقط فليس عليهم شئ لان هذا بمنزلة الجزء من وجه كاليد والرجل وإن كان تاما وبه
أثر فهو قتيل وفيه القسامة والدية لان لنفس الصغير من الحرمة ما لنفس الكبير فكان هذا في
معنى المنصوص عليه من كل وجه ولو وجد الحر قتيلا في دار أبيه أو أمه أو المرأة في دار زوجها
116

ففيه القسامة والدية على العاقلة ولا يحرم الميراث لان حرمان الميراث جزاء مباشرة القتل بصفة
الخطر وذلك لم يثبت على صاحب الدار لوجود القتيل في داره وإنما جعل وجود القتيل في داره
بمنزلة مباشرته في حكم القسامة والدية خاصة للصيانة عن الهدر فهو نظير التسبب الذي قام
مقام المباشرة في حكم الدية خاصة دون حرمان الميراث وان وجد العبد قتيلا في دار مولاه
فلا شئ فيه لأنه ماله فهو بمنزلة ما لو باشر قتله بيده إلا أن يكون عليه دين فحينئذ يجب
على المولى قيمته حالة في ماله لغرمائه كما لو قتله بيده لان ماليته حق الغرماء و إذا وجد
المكاتب قتيلا في دار مولاه فالقيمة علي مولاه في ماله كما لو باشر قتله بيده وهذا لان
المكاتب مملوك له فبدله من وجه مملوك له والعاقلة لا تتحمل عنه له فيكون في ماله ولكن
تجب القيمة بالقتل فيكون مؤجلا في ثلاث سنين ثم يستوفى منه ما بقي ما من مكاتبه ويحكم
بحريته وما بقي يكون ميراثا وإذا وجد الرجل قتيلا على دابة يسوقها رجل أو يقودها أو هو
راكبها فهو على الذي معه لأنه هو المختص بتدبير هذه الدابة وباليد عليها (ألا ترى) انها
لو وطأت انسانا كان ذلك عليه وكذلك إذا وجد عليها قتيلا فإن لم يكن مع الدابة أحد فهو
على أهل المحلة الذين وجد فيهم القتيل على الدابة لان وجوده على الدابة كوجوده في الموضع
الذي فيه الدابة موقوفة فإنهم أحق الناس بتدبير تلك البقعة وتدبير ما فيها ممالا يعرف في
غيرهم وكذلك الرجل يحمل قتيلا فهو عليه لان يده على نفسه أقوى من يده على داره وإذا
وجد في داره قتيلا كانت القسامة والدية عليه فإذا وجد القتيل على ظهره أو على رأسه أولى
وإذا وجد القتيل في سفينة فالقسامة على من في السفينة من الركاب وغيرهم من أهلها من
الذين هم فيها والدية عليهم أما عند أبي يوسف رحمه الله فلا يشكل لأنه يجعل السكان والملاك
في القتيل الموجود في المحلة سواء فكذلك في القتيل الموجود في السفينة واما عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله ففي المحلة السكان لا يشاركون الملاك لان التدبير في المحلة إلى الملاك دون
السكان وفى السفينة الظاهر أنهم في تدبيرها سواء إذا حزبهم أمر يوضحه ان السفينة تنقل
فيكون المعتبر فيها اليد دون الملك فإنها مركب كالدابة فكما أن المعتبر في القتيل الموجود علي
الدابة هو اليد دون الملك فكذلك في القتيل الموجود في السفينة وهم في اليد عليها سواء وإذ
وجد القتيل في نهر عظيم يجرى الماء به فلا شئ فيه لان مثل هذا النهر لا يد لاحد عليه فقهر
الماء يمنع قهر غيره عليه فهو كالقتيل الموجود في المغارة في موضع لاحق لاحد فيه إلا أن
117

يكون نهرا صغيرا لقوم معروفين فهو عليهم لأنه منسوب إليهم (ألا ترى) ان التدبير في
كريه واجراء الماء فيه إليهم وهم أحق الناس بالانتفاع بمائه سقيا لأراضيهم فكان بمنزلة
المحلة والفرق بين النهر العظيم والصغير ما بينا في الشفعة فهو نهر عظيم مثل الفرات
وجيحون فإن كان إلى جانب الشاطئ محبسا فهو علي أقرب القرى إليه والأرضين فعليهم
القسامة والدية لان الحبس إلى جانب الشاطئ كالملقي على الشاطئ والذين هم بقرب ذلك
الموضع أخص بالتدبير فيه لأنهم يسقون الماء منه ويسوقون دوابهم إلى ذلك الموضع للسقي
وإذا كانوا بالقرب من ذلك الموضع بحيث يسمعون صوت من وقف على ذلك الموضع
فإن كانوا لا يسمعون ذلك فلا شئ عليهم فيه هكذا فسره الكرخي وان وجد قتيلا
في فلاة فليس فيه شئ قال الكرخي رحمه الله وهذا إذا لم يكن ذلك الموضع قريبا من
العمران فإن كان قريبا من العمران بحيث يبلغ أعلي صوته أهل العمران في ذلك الموضع فهو
عليهم لأنه الموضع الذي ينتهى إليه صوته من العمران وهم أحق بالتدبير فيه لرعى
مواشيهم (ألا ترى) أنه ليس لأحد ان يبنى في ذلك الموضع بغير رضاهم فاما ما وراء ذلك
فهو من جملة الموات لاحق لاحد فيه فلا يجب فيه شئ وان وجد في سوق المسلمين أو مسجد
جماعتهم فهو على بيت المال والمراد سوق العامة والمسجد الجامع لان ذلك لجماعة المسلمين
وهم في التدبير في ذلك الموضع والقيام بحفظه سواء وما يجب على جماعة المسلمين يؤدي
من بيت مالهم لان مال بيت المال معد لذلك وليس فيه قسامة لان المقصود بالقسامة نفى
تهمة القتل وذلك لا يتحقق في جماعة من المسلمين فأما إذا كان في سوق خاص لأهل
صنعة ينسب ذلك السوق إليهم فهو بمنزلة المحلة المنسوبة إلى قوم مخصوصين وكذلك أن
كان في مسجد محلة فهو على أهل تلك المحلة لأنهم أحق الناس بالتدبير فيها من حيث فتح
الباب واغلاقه ونصب المؤذن والامام فيه بمنزلة الموجود في محلتهم وإن كان في دار رجل
خاص يملكها في السوق فعلى عاقلته القسامة والدية لان المالك هو المختص بتدبير ملكه
وبالأمر بحفظ ملكه لكيلا يقع فيه مثل هذه الحادثة وفي هذا المعنى لا فرق بين أن يكون
ملكه في السوق أو في المحلة وإذا جرح الرجل في محلة أو أصابه حجر لا يدرى من رماه فلم
يزل صاحب فراش حتى مات فعلى أهل تلك القبيلة القسامة والدية فإن كان صحيحا يجئ
ويذهب فلا شئ فيه وعلي قول ابن أبي ليلي لا شئ عليهم في الوجهين وهو قول أبى يوسف
118

الآخر لان القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة والجريح غير القتيل ولو جعل موته
محالا على تلك الجراحة لما افترق الحال بين ما إذا كان صاحب فراش أو كان يذهب ويجئ
بعد تلك الجراحة كما لو كان الجارح معلوما وجه قولنا انه إذا كان صاحب فراش فهو مريض
والمرض إذا اتصل به الموت يجعل كالميت من أول سببه (ألا ترى) أن في حكم التصرفات
جعلت هذه الحال كالحال بعد موته فكذلك في حكم القسامة والدية يجعل كأنه مات حين جرح
في ذلك الموضع فأما إذا كان صحيحا يذهب ويجئ فهو في حكم التصرفات لم يجعل كالميت
من حين جرح فكذلك في حكم القسامة والدية وعلى هذا الجريح إذا وجد على ظهر انسان
يحمله إلى بيته فمات بعد يوم أو يومين فإن كان صاحب فراش حتى مات فهو على الذي
كان يحمله كما لو مات على ظهره وإن كان يذهب ويجئ فلا شئ علي من حمله وفي قول
ابن أبي ليلى لا شئ في الوجهين وإذا وجد القتيل في العسكر والعسكر في أرض فلاة فهو
على القبيلة التي وجد في رحالهم لأنهم سكان في ذلك الموضع ما داموا نازلين وأهل كل قبيلة
ينزلون في موضع لا ينازعهم غيرهم في تدبير ذلك الموضع فكانوا كاهل المحلة والموضع
الذي لا ملك لا حد فيه المعتبر هو اليد وأهل القبيلة الذين وجد القيل في رحالهم هم
المختصون باليد في ذلك الموضع فإن كان العسكر في ملك رجل فعلى عاقلة صاحب الأرض
القسامة والدية لان المالك هو المختص بالتدبير في ملكه وولاية حفظ ملكه إليه وقد بينا
أن لا معتبر بالسكان مع الملاك وقيل في قياس قول أبى يوسف رحمه الله ينبغي أن يكون على
النازلين في ذلك الموضع لان عنده السكان كالملاك وإن كان العسكر بفلاة من الأرض
فوجد القتيل في فسطاط رجل فعليه القسامة وتكون عليه الايمان وعلى عاقلته الدية لأنه
مختص بحفظ الفسطاط والتدبير فيه بمنزلة صاحب الدار في داره ولم يذكر في الكتاب في
القتيل الموجود في المحلة إذا كان فيها خمسون رجلا أو أكثر وأراد أن يعين واحدا منهم
ليكون عليه اليمين خمسين مرة هل له ذلك أم لا وقد روى عن محمد رحمه الله انه ليس له ذلك
لان تكرار اليمين على واحد ليس فيه فائدة وإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة
هاهنا وإنما الضرورة في القتيل الموجود في دار رجل أو فسطاطه وان وجد القتيل بين
قبيلين من العسكر فعليهما جميعا القسامة والدية إذا كان القتيل إليهما سواء بمنزلة الموجود
بين المحلتين إذا كان إليهما سواء وإن كان أهل العسكر قد لقوا عدوهم فلا قسامة في
119

القتيل ولادية لأن الظاهر أنه قتيل الأعداء عندما التقي الصفان للقتال الظاهر أن الانسان
بعد اللقاء إنما يقتل من يعاديه لامن يوازره وإنما كنا نوجب القسامة والدية على أهل المحلة
باعتبار نوع من الظاهر وقد انعدام ها هنا فإن كان العسكر مختلطا فوجد في طائفة منهم قتيل
فهو على أقرب أهل الأخبية إليه على من في الخباء جميعا لان تدبير ذلك الموضع إليهم وقد
بينا أن القرب معتبر في حكم القسامة والدية وإذا وجد القتيل في قبيلة فإنه لا يقبل في القسامة
النساء والصبيان والمماليك من المكاتبين وغيرهم ومعتق البعض في قول أبي حنيفة رحمه الله
كالمكاتب لان هؤلاء اتباع في السكنى والظاهر أنهم لا يزاحمون أهل القبيلة في التدبير في
قتيلهم ولأنهم لا يقومون بحفظها دون الرجال البالغين ثم المعتبر في القسامة والدية النصرة
والنصرة لا تقوم بالنساء والصبيان وإذا وجد القتيل في دار امرأة في مصر ليس فيه من
عشيرتها أحد فان الايمان تتكرر على المرأة حتى تحلف خمسين يمينا ثم تفرض الدية على
أقرب القبائل منها وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبى يوسف ومحمد الأول
ثم رجع أبو يوسف وقال يضم إليها أقرب القبائل منها فيقسمون ويعقلون وجه قوله الآخر
ان المرأة في حكم القسامة كالصبي بدليل ان في القتيل الموجود في المحلة لا يدخل النساء
والصبيان ثم إذا وجد القتيل في دار الصبي فالقسامة والدية على عاقلته فكذلك في دار المرأة
وعاقلتها هم أقرب القبائل إليها لأنها ليست من أهل النصرة والديوان ووجه قوله الأول
ان وجوب القسامة في القتيل الموجود في الملك باعتبار الملك والمرأة في الملك كالرجل
(ألا ترى) انها تختص بالتدبير في ملكها وان الولاية في حفظ ملكها إليها فكانت كالرجل
في حكم القسامة بخلاف الصبي لأنه لا تدبير له في ملك نفسه ولا يقوم بحفظ ملكه بنفسه
ثم للمرأة قول ملزم في الجناية كالرجل حتى يصح منها الاقرار بالقتل وليس للصبي قول ملزم
في الجناية والقسامة في معنى قول ملزم فيثبت ذلك في حق المرأة دون الصبي بخلاف القتيل
الموجود في المحلة فالمرأة في المحلة مثل الصبي من حيث إنها لا نقوم بحفظ المحلة والدفع عنها
والتدبير فيها ثم ظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه ليس عليها شئ من الدية وإنما الدية
علي أقرب القبائل منها وهو اختيار الطحاوي في مباشرة القتل أيضا فإنه يقول إذا كان
القاتل من جملة العاقلة فعليه جز من الدية فإن كان القاتل غيره فلا شئ عليه من الدية
والمرأة تدخل في جملة العاقلة إذا كان القاتل غيرها ومن أصحابنا من يقول هي لا تدخل في
120

جملة العاقلة لان النصرة لا تقوم بها فأما إذا كانت هي المباشرة للقتل فعليها جزء من الدية لان
القاتل أحق من العواقل باعتبار مباشرته فإنه لما وجب علي غير المباشر فعلى المباشر
أولى أن يجب جزء منها فكذلك هاهنا وجوب جزء علي المالك باعتبار ان التدبير في ملكه
إليه وفى هذا الرجل والمرأة سواء وكذلك أن كانت القرية لرجل من أهل الذمة فإنه
تكرر عليه الايمان وعليه الدية لأنه في تدبير ملكه كالمسلم ولو كان الذمي نازلا في قبيلة من
القبائل فوجد فيها قتيلا لم يدخل الذمي في القسامة ولا في الغرامة لان أهل الذمة لا يزاحمون
المسلمين في التدبير في القبيلة والمحلة ولكنهم أتباع بمنزلة السكان مع الملاك أو بمنزلة النساء
مع الرجال وإذا كانت مدينة ليس فيها قبائل معروفة وجد في بعضها قتيل فعلى أهل المحلة
الذين وجد القتيل بين أظهرهم القسامة والدية لأنهم مختصون بتدبير المحلة والظاهر أن
تناصر هم بالمجاورة هاهنا لما لم تجمعهم قبيلة معروفة ولا ديوان والمعتبر هو معنى النصرة فلهذا
ألزمناهم الدية والقسامة وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا لان
القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والايمان مقصودة هاهنا فيحبسون
لايفائها وإذا وجد القتيل في دار عبد مأذون له في التجارة فالقسامة والدية على عاقلة المولى أما
إذا لم يكن على العبد دين فالدار مملوكة للمولى وإن كان عليه دين فالعبد إنما يقوم بالتدبير في
هذه الدار باستدامة المولى الاذن له في التجارة والمولى أخص بهذه الدار من الغرماء فان له أن
يقضى دينهم من مواضع أخر ويستخلص الدار منهم لنفسه وهذا مستحسن قد بيناه في المأذون
ولو وجد في دار المكاتب فعليه الأقل من قيمته ومن دية القتيل بمنزلة ما لو باشر القتيل بيده
وهذا لان المكاتب في حكم الجناية كالحر من حيث إن له فيه قولا ملزما بخلاف المأذون فإنه
ليس له قول ملزم في الجناية حتى لو أقر على نفسه بالجناية خطأ لم يعتبر اقراره وللمولى عليه
قول ملزم في ذلك فيجعل القتيل الموجود في داره كالموجود في كالموجود في دار المولى ولو وجد القتيل
في قرية ليتامى صغار وليس في تلك البلاد من عشيرتهم أحد فليس على اليتامى قسامة ولا دية
ولكن على عاقلتهم الدية والقسامة بمنزلة ما لو باشروا القتل بأيديهم فإن كان أحدهم مدركا فعليه
القسامة تكرر عليه اليمين لان له قولا ملزما في الجناية ثم علي أقرب القبائل منهم الدية في
الوجهين جميعا لأنهم عاقلة اليتامى فان اليتامى ليسوا من أهل الديوان والتناصر بالديوان فحالهم
في ذلك كحال النساء والله الموفق للصواب
121

(باب القصاص)
(قال رحمه الله) بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا قود الا بالسيف
وهذا تنصيص على نفى وجوب القود واستيفاء القود بغير السيف والمراد بالسيف السلاح
هكذا فهمت الصحابة رضي الله عنهم من هذا اللفظ حتى قال علي رضي الله عنه العمد السلاح
وقال أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه لا قود الا بالسلاح وإنما كني بالسيف عن السلاح
لان المعد للقتال على الخصوص بين الأسلحة هو السيف فإنه لا يراد به شئ ء آخر سوى القتال
وقد يراد بسائر الأسلحة منفعة أخرى سوى القتال وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام
بعثت بالسيف بين يدي الساعة يعني السلاح الذي هو آلة القتال فيكون دليلا لأبي حنيفة
رحمه الله ان القود لا يجب الا بالسلاح حتى إذا قتل انسانا بحجر كبير أو خشبة عظيمة لم يلزمه
القصاص في قول أبي حنيفة رحمه الله وفى قول أبى يوسف ومحمد والشافعي رحمهم يلزمه
القصاص لقوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل والمراد
بالسلطان استيفاء القود بدليل انه عقبه بالنهي عن الاسراف في القتل فالتقييد بكون الآلة
جارحة زيادة على النص وفي الحديث ان يهوديا رضخ رأس جارية على أوضاح فأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بان يرضخ رأسه بين حجرين والمعنى فيه أنه عمد محض لأنه قصد قتله
بما لا يقصد به الا القتل ولا يعرف محض العمد الا بهذا والآلة الجارحة إذا حصل القتل
بها كان عمدا لان ذلك فعل مزهق للروح وما لا تلبث ولا تطيق النفس واحتماله في كونه
مرهقا للروح أبلغ من الفعل الجارح لان هذا مزهق للروح بنفسه والفعل الجارح مزهق
للروح بواسطة الجراحة والجرح وسيلة يتوسل بها إلى ازهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه
يكون أبلغ مما يكون عاملا بواسطة وكذلك من حيث العرف في قصد الناس إلى قتل أعدائهم
بالقاء الأسطوانة أو رفع حجر الرحاء عليهم يكون أبلغ من القصد إلى ذلك بالجرح في بعض
الأعضاء فإذا جعل ذلك موجبا للقصاص فهذا أولى ولا بي حنيفة رحمه الله ما روى أن
النبي صلى الله عليه عليه وسلم قال كل شئ خطأ الا السيف وفي كل خطأ الدية وفي حديث الحجاج
ابن أرطأة ان رجلا قتل رجلا علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة فقضى عليه
بالدية والمعنى فيه أن هذه الآلة لا تجرح ولا تقطع فالقتل بها لا يكون موجبا للقصاص
كالقتل بالعصا الصغيرة وتحقيقه من وجهين أحدهما ان وجوب القصاص يختص بقتل هو عمد
122

محض وصفة التمحض أن يباشر القتل بآلته في محله وآلة القتل هي الآلة الجارحة لان
الجرح يعمل في نقض البينة ظاهرا وباطنا وما سواها يدق بنقض البينة باطنا لا ظاهرا
وقوام البينة بالظاهر والباطن جميعا فالقتل الذي هو نقض البينة إذا كان مما يعمل في الظاهر
والباطن يكون قتلا من كل وجه وإن كان مما يعمل في الباطن دون الظاهر يكون قتلا
من وجه دون وجه والثابت من وجه دون وجه يكون قاصرا في نفسه فيصلح أن يجب
به ما يثبت مع الشبهات ولا يصلح أن يجب به ما يندرئ بالشبهات وما ادعوا من أن الجرح
وسيلة يتوسل به إلى ازهاق الروح غلط فان ازهاق الروح بنقض البينة وكمال الجناية مما ينقض
البينة من كل وجه ونقض البينة بجرح في الروح لا يتأنى لأنه لا يحس ويفعل في الجسم ما
لا يكون كاملا فإنما الكامل منه ما يكون بفعل في النفس التي بها قوام الآدمي ذلك الفعل الجارح
المؤثر في تسييل والدليل عليه حكم الذكاة فان الحل بالذكاة إنما يحصل بفعل جارح مسيل للدم
بهذا المعنى ولا يحصل بما يعمل في الجسم فلا يكون ناقضا للبينة ظاهرا وهو الفعل الذي يدق
ولا فرق بينهما لان الحل مبنى على الاحتياط فلا يثبت عند تمكن الشبهة كالقود ويخرج عليه
النار فإنها تعمل في الظاهر والباطن جميعا وقيل في الذكاة أيضا إذا قرب النار من مذبح الشاة
حتى أنقطع بها الأوداج وسال الدم تحل وإن لم يسل لا تحل لان ما هو المقصود بالذكاة وهو
تمييز الطاهر من النجس لم يحصل والوجه الأخير ان آلة القتل الحديد قال الله تعالى وأنزلنا
الحديد فيه بأس شديد والمراد القتل وكذلك خزائن أسلحة الملوك تكون من الحديد فاما الخشب
والأحجار فمعدة للأبنية والحديد هو المستعمل في القتال وإنما ينصب المنجنيق لتخريب الأبنية
(ألا ترى) ان الحديد إذا حصل القتل به وجب القصاص صغيرا كان أو كبيرا حتى أنه لو
غرزه بمسلة أو إبرة في مقتله يلزمه القصاص وما سوى الحديد الصغير منه لا يوجب القصاص
وان تحقق به القتل والفعل لا يتم الا بآلته فبقصور في الآلة تتمكن شبهة النقصان في
الفعل وذلك يمنع وجوب القصاص فعلى هذا الطريق يقول القتل بمثقل الحديد يوجب
القصاص نحو ما إذا ضربه بعمود حديد أو بصنجات الميزان لان الحديد في كونه آلة القتل
منصوص عليه وفى المنصوص عليه يعتبر عين النص فاما في غير المنصوص عليه فالحكم يتعلق
بالمعنى فيعتبر كونه محددا نحو سن العصا والمروة وليطة القصب ونحو ذلك وعلى الطريق
الأول يقول لا يجب القصاص الا بما هو محدد والحديد وغيره فيه سواء وهو رواية الطحاوي
123

في كتاب الشروط وتأويل الحديث انه أمر بذلك على طريق السياسة لكونه ساعيا في
الأرض بالفساد معروفا بذلك الفعل بيانه فيما روى أنهم أدركوها وبها رمق فقيل لها أقتلك
فلان فأشارت برأسها لا حتى ذكروا اليهودي فأشارت برأسها أن نعم وإنما يعد في مثل تلك
الحالة من يكون متهما بمثل ذلك الفعل معروفا به وعندنا إذا كان بهذه الصفة فللامام أن
يقتله بطريق السياسة فأما الدم العصا الصغيرة إذا والى بها في الضربات حتى مات لم يلزمه
القصاص عندنا وعلى قول الشافعي رضي الله عنه يجب عليه القصاص وكذلك الخلاف فيما
إذا ضربه جماعة كل واحد منهم بسوط أو عصا وهو يقول القصد بالعصا الصغيرة عند الموالاة
القتل فيكون الفعل بها عمدا محضا بمنزلة القتل بالسيف بخلاف العصا الصغيرة إذا ضربه بها مرة
أو مرتين لان القصد هناك التأديب والغالب معه السلامة ولا يكون القتل بها الا نادرا
فيكون في معنى الخطأ فأما مع الموالاة فالقصد منه القتل (ألا ترى) ان التهديد بالضرب
بالسوط مع الموالاة كالتهديد فالقتل في حكم الاكراه بخلاف التهديد بضرب سوط واحد
ويستوى في ذلك حصول الضربات من واحد أو من جماعة لان شرط القتل كون النفس
معمودة لا التيقن بكون فعل كل واحد منهم مزهقا للروح لان ذلك لا طريق إلى معرفته
والدليل على الفرق بين الضربة والضربات أن شرب القليل من المثلث لا يكون موجبا للحد
فان استكثر منه حتى سكر لزمه الحد باعتبار ان القليل منه ممرئ للطعام والكثير مسكر وإذا
حصل السكر بالكثير منه لا يميز بعض الفعل عن البعض بل يجعل الكل كفعل واحد حتى
يتعلق به ما يندرئ بالشبهات وهو الحد فهذا مثله وأصحابنا رحمهم الله استدلوا بحديث النعمان
ابن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه
مائة من الإبل فيكون نصبا على التفسير وبالرفع قتيل السوط والعصا فيكون خبرا للابتداء
وفى كليهما بيان أن قتيل السوط والعصا يكون قتيل خطأ العمد وان الواجب فيه الدية
والمعنى فيه أن القتل حصل بمجموع أفعال لو حصل بكل واحد منها على الانفراد لا بتعلق
به القصاص فكذلك إذا حصل بمجموعها كما لو جرح رجلا جراحات خطأ أو اشترك جماعة
في قتل رجل خطأ وهذا لان كل واحد من هذه الأفعال غير موجب للقصاص إذا انفرد فانضمام
ما ليس بموجب إلى ما ليس بموجب كيف يكون واجبا لما يندرئ بالشبهات ولو أنضم ما هو
موجب إلى ما ليس بموجب كالخاطئ مع العامد لا يجب القصاص فإذا انضم ما هو موجب
124

إلى ما ليس بموجب أولى بخلاف الأقداح فهناك لو حصل السكر بالقدح الأول يجب الحد
وإنما لم يجب الحد إذا لم يسكر به لانعدام السبب الموجب وهنا لو حصل القتل بالضربة الأولى
لا يجب القصاص فعرفنا ان هذا الفعل في نفسه غير موجب فلا يدخل على هذا شهادة
الشاهدين بالقتل العمد فإنها توجب القصاص وكل واحد منهما بانفراده لا يوجب لان شهادة
الشاهدين حجة واحدة وشهادة كل واحد منهما شطر الحجة وشطر الحجة لا يثبت به شئ من
الحكم فأما هاهنا فكل فعل صالح لكونه علة تامة وهو على أصله أظهر فان عنده لو حصل من كل
واحد من الجماعة ضربة واحدة يجب عليهم القصاص وما لم تتكامل العلة في حق كل واحد منهم
لا يلزمه القصاص وقوله بان الضربة الواحدة يقصد بها التأديب قلنا حقيقة القصد لا يمكن
الوقوف عليها وإنما ينبني الحكم على السبب الظاهر (ألا ترى) ان قطع اليد لا يقصد به القتل
أيضا ولهذا كان مشروعا في موضع كان القتل حراما وكذلك الجرح اليسير مشروع على
قصد الاستشفاء كالقصد والحجامة ومع ذلك إذا حصل القتل به وجب القصاص لان حقيقة
القصد يتعذر الوقوف عليها فيعتبر السبب الظاهر فكذلك هاهنا كان ينبغي أن يجب القصاص
إذا حصل القتل بالضربة والضربتين بالسوط وحيث لم يجب بان ان كل فعل من هذه الأفعال
بانفراده غير موجب وحقيقة الفقه فيه ما ذكرنا في المسألة الأولى ويمكن الاستدلال بهذا
الحرف أيضا فيقال العصا الكبير مجموع اجزاء لا يتعلق القصاص بكل جزء منها وان حصل
القتل فكذلك بمجموعها فاما بيان نفى استيفاء القود بغير السيف وبها يقول علماؤنا رحمهم الله
فان القصاص متى وجب فإنه يستوفى بطريق حز الرقبة بالسيف ولا ينظر إلى ما به حصل
القتل وقال الشافعي رضي الله عنه ينظر إلى القتل بماذا حصل فإن كان بطريق غير
مشروع بان سقاه الخمر حتى قتله أو لاط بصغير حتى قتله فكذلك الجواب يقتل بالسيف
وإن كان بطريق مشروع يفعل به مثل ذلك الفعل ويمهل مثل تلك المدة فان مات والا
تحز رقبته نحو ما إذا قطع يد انسان عمدا فمات من ذلك واستدل بما روينا ان النبي عليه الصلاة
والسلام أمر برضخ رأس اليهودي بين حجرين وكان ذلك بطريق القصاص (ألا ترى)
انه روى في بعض الروايات فاعترف اليهودي فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص
وأمر بان يرضخ رأسه بين حجرين ولان المعتبر في القصاص المساواة ولهذا سمى قصاصا
مأخوذ من قول القائل التقى الدينان فتقاصا أي تساويا أصلا ووصفا وما قلناه أقرب إلى
125

المساواة لما فيه من اعتبار المساواة في الفعل والمقصود بالفعل يجب اعتباره الا إذا تعذر وتعذره
أن يكون صورة الفعل بخلاف المشروع بأن يكون حراما أو أن لا يحصل القتل به فحينئذ
يجعل ما يكون متمما له فيما هو المقصود ويكون الثاني متمما للأول (ألا ترى) أن من قطع
يد انسان خطأ ثم قتله لم يلزمه الا دية واحدة وجعل الفعل الثاني تتميما للأول * وحجتنا في ذلك
ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لا قود الا بالسيف وهو تنصيص على نفى استيفاء القود بغير
السيف والمعنى فيه أنه قتل مستحق شرعا فيستوفى بالسيف كقتل المرتد وهذا لأنه إنما
يستوفى المستحق بالطريق الذي يتيقن انه طريق له وحز الرقبة يتيقن بأنه طريق استيفاء
القتل فاما قطع اليد فلا يكون طريقا لذلك الا بشرط وهو السراية وذلك لضعف الطبيعة عن
دفع أثر الجراحة ولا يعرف ذلك عند القتل وما يتعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل الشرط
فقبل السراية هذا الفعل غير القتل فلا يكون مشروعا فضلا عن أن يكون مستحقا وصورة
الفعل غير مقصودة وإنما المقصود ازهاق الروح عرفا لمعنى الانتقام واستحقاق القتل شرعا
فيجب مراعاة ذلك المقصود ولا يقال لا يقمع الناس في الابتداء من أن يكون هذا الفعل
مؤثرا في تحصيل المقصود ما لم يبرأ منه لأنه وان كأن لا يقمع الناس عن ذلك فإنه يؤدى إلى
تأخير تحصيل المقصود وكمالا يجوز ابطال مقصود صاحب الحق لا يجوز تأخيره ثم هذا
اعتبار معادلة توقعنا في الظلم في الانتهاء لأنه إذا تراخت يده تحز رقبته والفعل الثاني بعد البرء
لا يكون اتماما للأول بدليل الخطأ فيؤدى إلى الزيادة على ما كان منه وإلى المثلة وذلك حرام
فان قيل بأي طريق تسقط حرمة ذبح القاتل ولم يوجد مه فعل في مذبح المقتول قلنا
بالطريق الذي يسقط عندكم حرمة مذبحه إذا تراخت يده وهو استحقاق القتل عليه وذلك
موجود قبل قطع اليد وتأويل الحديث ما بينا والذي روى أنه قضى بالقصاص شاذ لا يعتمد عليه
أو قاله الراوي بناء علي ما وقع عنده انه كان بطريق القصاص وفي الحقيقة إنما كان ذلك
بطريق السياسة وان اجتمع رهط على قتل رجل بالسلاح فعليهم فيه القصاص بلغنا عن عمر
رضي الله عنه أنه قضى بذلك وهو استحسان والقياس أن لا يلزمهم القصاص وقد ذكر في
كتاب الاقرار لان المعتبر في القصاص المساواة لما في الزيادة من الظلم على المتعدى ولما في
النقصان من البخس بحق المتعدى عليه ولا مساواة بين العشرة والواحد وهذا شئ يعلم
ببداهة العقول فالواحد من العشرة يكون مثلا للواحد فيكف تكون العشرة مثلا للواحد
126

وأيد هذا القياس قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وذلك ينفى مقابلة النفوس بنفس
واحدة ولكنا تركنا هذا القياس لما روى أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي الله عنه
بالقصاص عليهم وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ولان شرع القصاص لحكمة الحياة
وذلك بطريق الزجر كما قررنا ومعلوم أن القتل بغير حق في العادة لا يكون الا بالتغالب
والاجتماع لان الواحد يقاوم الواحد فلو لم نوجب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لأدى إلى
سد باب القصاص وابطال الحكمة التي وقعت الإشارة إليها بالنص يوضحه أنه لا مقصود في
القتل سوى التشفي والانتقام وذلك حاصل لكل قاتل بكماله كأنه ليس معه غيره وعلى هذا قال
علماؤنا رحمهم الله الواحد إذا قتل جماعة فإنه يقتل بهم جميعا علي سبيل الكفاءة وقال الشافعي
رضي الله عنه ان قتلهم على التعاقب يقتل بأولهم ويقضي بالديات لمن بعد الأول في تركته وان
قتلهم معا يقرع بينهم ويقضي بالقود لمن خرجت قرعته وبالدية للباقين واستدل بقوله تعالي
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فقد جعل الله تعالى النفس بمقابلة النفس قصاصا فلا يجوز
أن يجعل النفس بمقابلة النفوس قصاصا بالرأي ولأنا قد بينا أنه لا مساواة بينهما إلا أنا أوجبنا
القصاص على العشرة بقتل الواحد لرد علية القتل بغير حق وهذا لا يوجد في القتل قصاصا
لان ذلك يكون بقوة السلطان فلا تقع الحاجة فيه إلى التعاون والتغالب ولان في ايجاب
القصاص هناك تحقق معنى الزجر وذلك لا يوجد هنا فإنه بعد ما قتل الواحد إذا علم أنه وان
قتل جميع أعدائه لا يلزمه القصاص أخذ يتجاسر على قتل الأعداء وإذا علم أنه يستوفى الديات
من تركته يتحرز من ذلك لا بقاء العناء لورثته فكان معنيا الزجر فيما قلنا وحقيقة المعنى في الفرق
أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قتل عشره فوجب عليه القصاص بقدر ما أتلف
إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك منه الا باسقاط ما بقي من حرمة نفسه فيسقط ذلك لضرورة
الحاجة إلي استيفاء القصاص كما إذا غصب ساحة وبنى عليها سقط حرمة بنائه لوجوب رد
الساحة وكذلك عندي في الساحة فأما هاهنا فكل واحد من المقتولين قد استحق علي القاتل
نفسا كاملة وليس في نفسه وفاء بالنفوس فلا يمكن أن يقتل بهم جميعا ولكن يترجح أولهم
بالسبق فان حقه ثبت في محل فارغ وإذا قتلهم معا رجح بالقرعة كما هو مذهبي في نظائره
والدليل علي أن كل واحد من القاتلين يستوفى الجزاءات في الخطأ يجب على كل واحد منهم
جزء من الدية وانه لو كان بعض الفاعلين مخطئا لم يجب القصاص على واحد منهم بخلاف
127

ما إذا قتل جماعة بعضهم عمدا وبعضهم خطأ فإنه يلزمه القصاص لمن قتله عمدا وإن كان واحدا
وحجتنا في ذلك أن العشرة إذا قتلوا واحدا يقتلون به وكانوا مثلا له جزاء لدمه فكذلك إذا
قتل واحدا يقتل بهم ويكون مثلا لهم لان المثل اسم مشترك فمن ضرورة كون أحد الشيئين
مثلا للآخر أن يكون الآخر مثل له كاسم الأخ فإنه من ضرورة كون أحد الشخصين أخا
للآخر أن يكون الآخر أخا له فلا يجوز أن يقال يلزمهم القصاص لرد غلة القتل بغير حق من غير
اعتبار المماثلة فان الزيادة في القدر أبلغ من الزيادة في الوصف وإذا كأن لا يقتل المسلم بالمستأمن
وعلي قوله بالذمي والحر بالعبد لانعدام المماثلة مع الحاجة إلى رد القتل عليه بغير حق فلأن لا يقتل
العشرة بالواحد أولي وكذلك في كل موضع يتعذر اعتبار المماثلة نحو كسر العظام لا يوجب
القصاص والحاجة ان رد عليه الجناية هاهنا بغير حق يتحقق هنا ومع ذلك يوهم الزيادة بمنع
القصاص فيتحقق الزيادة لان يمنع من ذلك كان أولى فعرفنا أنه إنما يقتل العشرة بالواحد بطريق
المماثلة وبيان ذلك وهو أن القتل ممالا يتجزأ وإذا اشترك الجماعة فيما لا يحتمل التجزء فاما
ان ينعدم أصلا أو يتكامل في حق كل واحد منهم والدليل عليه أن كل واحد منهم لو حلف أن
لا يقتله كان حانثا في يمينه بهذا الفعل ولا يجب الا بوجوب كمال الشرط وفي الخطأ يجب على
كل واحد منهم الكفارة كاملة ولا تجب الكفارة الا بقتل كامل فأما الدية بمقابلة المحل فلصيانته
عن الاهدار لا أن يكون ذلك جزاء الفعل والمحل واحد فلا يجب بمقابلته الا دية واحدة والدليل
عليه أن القتل يخرج ببعضه زهوق الروح لان الروح لا يمكن أخذه حسا فطريق أثرها فيه
قصدا هذا وقد تحقق من كل واحد منهم والحكم إذا حصل عقيب علل يضاف جميعه إلى كل
علة فيجعل زهوق الروح محالا به على فعل كل واحد منهم فكان كل واحد منهم قاتلا على سبيل
الكمال بمنزلة الأولياء في التزويج بتكامل الولاية لكل واحد منهم وفي هذا المعنى القتل
الذي هو عدوان والقتل الذي هو جزاء سواء فان الأولياء إذا اجتمعوا وقتلوا كان كل واحد
منهم قاتلا بكماله والدليل عليه إنما فيما هو المقصود بالقتل وهو التشفي والانتقام لا فرق بين
الجزاء والعدوان وهو يتكامل لكل واحد من الأولياء كما يتكامل لكل واحد من العبدين
فعرفنا ان كل واحد منهم مستوف حقه بكماله فلا حاجة إلى المصير إلى الدية وبه فارق النكاح
فان المرأة لو زوجت نفسها من جماعة لا يثبت النكاح لكل واحد منهم على هذه المرأة
لان المقصود الفراش والنسل وذلك ينعدم بالاشتراك فلا يتكامل لكل واحد منهم
128

ثم هناك لما لم يحتمل التجزء في المحل انعدم أصلا عند الاشتراك وهاهنا لم ينعدم القتل
فعرفنا أنه تكامل في حق كل واحد منهم وما قال بان الواجب علي كل منهم عشر القتيل كلام
غير معقول لان القصاص في نفس واحدة كما لا يحتمل التجزء استيفاء لا يحتمل التجزء
وجوبا فلا يجوز أن يستحق بعض نفسه قصاصا وكيف يستقيم هذا ولو عفى أحد الأولياء
حتى حيى جزء من المقتول سقط القصاص كله فإذا كان القصاص الواجب يسقط إذا لم يبق
مستحقا في بعض النفس بعد العفو فلأن لا يجب ابتداء في بعض النفس دون البعض أولي
وتبين بهذا التحقيق أنه لا طريق سوى ما قلنا إن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم
قاتل له على الكمال وكذلك الأولياء إذا اجتمعوا واستوفوا القصاص كان كل واحد منهم
قاتلا له على الكمال مقدار حقه ليحيوه بدفع شر قاتل أبيه عن نفسه وكان ليس معه غيره فلا
حاجة إلى القضاء بالدية ولا إلى الترجيح بالسبق أو إلى القرعة قال وإذا قتل الحر المملوك عمدا
فعليه القصاص عندنا وقال الشافعي لا قصاص عليه لقوله تعالى الحر بالحر والعبد بالعبد ومقابلة
الحر بالحر يقتضى نفى مقابلة الحر بالعبد وهذا علي وجه التفسير للقصاص المذكور في قوله تعالي
كتب عليكم القصاص في القتلى فيكون بيان أن المساواة التي هي معتبرة إنما تكون عند مقابلة
الحر بالحر لا عند مقابلة الحر بالعبد وعن ابن عمرو ابن الزبير رضى الله تعالى عنهم قالا السنة
أن لا يقتل لعبد بالحر والمعنى فيه أن هذا أحد نوعي القصاص فلا يجب علي الحر بسبب المملوك
كالقصاص في الأطراف بل أولى لان حرمة الطرف دون حرمة النفس فالأطراف تابعة
للنفس وإذا كان طرف الحر لا يقطع بطرف العبد مع خفة حرمة الطرف فلأن لا يقتل الحر
بالعبد مع عظم حرمة النفس كان ذلك أولى وتأثيره أن القصاص ينبنى على المساواة ولا مساواة
بين الأحرار والعبيد فان العبد مملوك مالا والحر مالك والمالكية في نهاية من العز والكمال
والمملوكية في نهاية من الذل والنقصان والدليل عليه أن المملوك قائم من وجه هالك من وجه
فان الحرية حياة والرق تلف ولهذا كان المعتق منسوبا بالولاء إلى المعتق لأنه أحياه بالاعتاق
حكما ولا مساواة بين القائم من كل وجه وبين القائم من وجه و الهالك من وجه والدليل
عليه أن التفاوت ظاهر بينهما في بدل النفس وهو المال وبه تبين أن الرق أثر في النفسية
ولهذا المعنى لا يجب القصاص على المولى بقتل عبده ولو لم يؤثر الرق في النفسية لكان المولى
كالأجنبي في قتل العبد فيلزمه القصاص ولان المقتول كان بعرض أن يصير من خول القاتل
129

بان يشتريه فيمنع ذلك القصاص المساواة بينهما في حكم القصاص كالمسلم مع المستأمن * وحجتنا
في ذلك قوله تعالى كتب عليهم القصاص في القتلى فهذا يقتضي وجوب القصاص بسبب كل
قتل الا ما قام عليه الدليل فأما قوله الحر بالحر فهو ذكر بعض ما شمله العموم على موافقة حكمه
فلا يجب تخصيص ما بقي (الا ترى) أنه كما قابل العبد بالعبد قابل الأنثى بالأنثى ثم لا يمنع
ذلك مقابلة الذكر بالأنثى وفي مقابلة الأنثى بالأنثى دليل على وجوب القصاص علي الحرة
بقتل الأمة وفائدة هذه المقابلة ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه قال كانت المقابلة بين
بني النضير وبين بني قريظة وكانت بنو النضير أشرف وكانوا يعدون بن قريظة على النصف
منهم فتواضعوا على أن العبد من بنى النضير بمقابلة الحر من بني قريظة والأنثى منهم بمقابلة
الذكر من بني قريظة فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم وبيانا أن الحر بمقابلة الحر والعبد بمقابلة
العبد والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا وعن علي بن أبي طالب قال يقتل الحر بالعبد
وما روى عن ابن عمر وابن الزبير محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك
فمنهم من كان يوجب القصاص ويستدل بقوله عليه السلام من قتل عبده قتلناه فإنما قال ذلك
ردا علي من يقول منهم لا يقتل السيد بعبده والمعنى فيه أن دم العمد مضمون بالقصاص فيستوى
أن يكون قاتله حرا أو عبدا كدم الحر وبيان الوصف أن العبد إذا قتل عبدا يلزمه القصاص
والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيستدعى وجوبها انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء
الشبهة الحر والعبد فيه سواء وسنقرر هذا الكلام في مسألة قتل المسلم الذمي والذي يختص
بهذه المسألة حرفان أحدهما أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الذمي وقد تحقق ذلك
فالرق والمملوكية لا يؤثر في الدم لان الرق إنما يؤثر فيما يتصور ورود القهر عليه وذلك أجزاء
الجسم فأما الحياة فلا تدخل تحت القهر والدليل عليه أن العبد فيه يبقي على أصل الحرية
حتى لا يملك المولى التصرف فيه اقرار عليه به ولا استيفاء منه إلا أن المولى إذا قتله لا يلزمه
القصاص لانعدام المستوفى لأنه لو كان القاتل غيره كان هو المستوفى بولاية الملك والقتل
لا يحرمه ذلك ولا يكون هو مستوفيا العقوبة من نفسه ونقصان بدل الدم كنقصان صفة
المملوكية في محله لا في غيره كنقصان بدل الدم بسبب الأنوثة إنما يكون للملوكية في محله
فأما الحياة فلا تحلها الأنوثة والثاني أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الاحراز والاحراز
إنما يكون بالدار أو بالدين والمملوك في ذلك مساو للحر والحكمة في شرع القصاص الحياة
130

وفى ذلك المعنى الحر والمملوك سواء وليست النفوس قياس الأطراف لان وجوب القصاص
هناك يعتمد المساواة في الجزء المبان ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء والرق ثابت في اجزاء
الجسم فتنعدم بسببه المساواة بينهما في الأطراف مع أن طرف العبد في حكم المال عندنا ولهذا
لا يكون مضمونا بالقصاص على أحد عبدا كان أو حرا بخلاف النفس فالمعتبر فيه المساواة في
الحياة ولهذا لا تقتل النفس الصحيحة بالنفس الزمنة وقد تحققت المساواة هاهنا وعلى هذا لو
قتل رجل صبيا فعليه القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة وكذلك لو قتل رجل امرأة
وروى عن علي رضي الله عنه يتخير أولياؤها بين أن يستوفوا ديتها وبين أن يعطوا القاتل
نصف ديته ثم يقتلونه قصاصا وهذا بعيد لا يصح عن علي رضي الله عنه وقد كان أفقه من أن
يقول القصاص لم يكن واجبا ثم يجب باعطاء المال وعلى هذا لو قتل العبد الحر عمدا والمرأة
الرجل فعليهما القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة والشافعي لا يخالفنا في هذا فإنه يرى
استيفاء الأنقص بالأكمل قصاصا وإنما يأبى استيفاء الأكمل بالأنقص فإذا تبين هذا في حالة
الانفراد فكذلك عند الاشتراك حتى إذا اشترك جماعة من الرجال في قتل حرة أو أمة فعليهم
القصاص كما لو اشتركوا في قتل رجل حر وكذلك لو قتل المسلم الذمي عمدا فعليه القصاص
عندنا وعند الشافعي لا قصاص عليه وأما الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل فعليه القصاص بالاتفاق
ويحكى أن أبا يوسف رحمه الله قضى بالقصاص على هاشمي بقتل ذمي فجعل أولياء القاتل يؤذونه
بألسنتهم ويقولون يا جائر يا قاتل مؤمن بكافر فشكاهم إلي الخليفة فقال ارفق بهم فلما علم مراد
الخليفة خرج وأمر باعادتهم إليه ثم قال لأولياء القتيل هاتوا بينة من المسلمين ان صاحبكم كان
يؤدى الجزية طوعا فان هؤلاء يدعون أنه كان ممتنعا من أداء الجزية فلهذا قتله ولا قتل عليهم
الا بينة من المسلمين فعجزوا عن ذلك فدرأ القود به ودخل على الخليفة فأخبره بذلك فضحك
وقال من يقاومكم يا أصحاب أبي حنيفة واستدل الشافعي بقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان
فاسقا لا يستوون فالقصاص يبنى على المساواة وبعدما انتفت المساواة بينهما بالنصوص الظاهرة
لا يجب عليه القصاص وقال عليه السلام المسلمون تتكافأ دماؤهم فهذا دليل على أن دماء غيرهم
لا يكافئ دماءهم ثم قال في آخر الحديث لا يقتل مؤمن بكافر وبالإجماع ليس المراد نفى
الاستيفاء فعرفنا ان المراد نفى الوجوب والمعنى فيه أن المقتول منقوص بنقص الكفر فلا يجب
القصاص على المسلم بقتله كالمستأمن وهذا لان الكفر من أعظم النقائص فالكافر كالميت من
131

وجه قال الله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه أي كافرا فرزقناه الهدى فلا مساواة بين من
هو ميت من وجه وبين من هو حي من كل وجه بخلاف الذمي إذا قتل ذميا فقد وجدت
المساواة هناك فوجب القصاص ثم الاسلام بعد ذلك زيادة حصلت على حق الأولياء فلا يمنعهم
من الاستيفاء كالمستأمن إذا قتل مستأمنا يلزمه القصاص منصوص عليه في السير الكبير في
النفس والطرف جميعا ثم لو أسلم القاتل بعد ذلك لا يسقط عنه القصاص ولان الكفر مهدر
للدم مؤثر في الإباحة فإذا وجد ولم يبح يصير شبهة كالملك فإنه مبيح فإذا وجد في الأخت من
الرضاعة ولم يبح فيصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات والدليل علي ان الكفر مهدر للدم ان
من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والذراري إذا قتلهم انسان لا يغرم شيئا لوجود المهدر
وما ذلك الا الكفر والدليل عليه انا أمرنا بقتل الكفار لكفرهم قال الله تعالى وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة يعنى فتنة الكفر وقال عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله وهذا الكفر قائم بعد عقد الذمة إلا أنه غير عامل في إباحة الدم بمعنى الدعاء إلى الدين
بأحسن الوجوه على ما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله فبقي باعتباره
شبهة ينتفى بها المساواة بينه وبين المسلم بمنزلة طهارة المستحاضة مع طهارة الأصحاء فان سيلان
الدم الذي هو ناقض للطهارة موجود مع طهارة المستحاضة ولكنه غير عامل في الوقت ومع
هذا لا تكون طهارتها طهارة الأصحاء حتى لا تصلح لامامة الأصحاء وهذا بخلاف المال فإنه يجب
القطع بسرقة مال الذمي لان المبيح وهو الكفر ليس في المال وإنما هو في النفس فهو نظير
حقيقة الإباحة بسبب القضاء بالرجم فإنه لا يكون مؤثرا في المال حتى يجب القطع بسرقة ماله
ولا يجب القصاص على أحد بقتله ولهذا أوجب القطع بسرقة مال المستأمن أيضا * يوضحه
أن القطع في السرقة خالص حق الله تعالى فوجوبه يعتمد الجناية على حق الله تعالى دون
المساواة ومعنى الجناية يتحقق في سرقة مال الذمي والمستأمن بثبوت الا من لهما حقا لله تعالى
فما كان القطع الا نظير الكفارة والكفارة تجب بقتل الذمي والمستأمن كما تجب بقتل المسلم * وحجتنا
في ذلك ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام أقاد مسلما بذمي وقال أنا أحق من وفى بذمته
وهذا التعليل تنصيص على وجوب القود علي المسلم بقتل الذمي واستيفاء القود منه وفي بعض
الروايات أن رجلا مسلما قتل ذميا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال أنا
أحق من وفى بذمته وعن عمر رضي اله عنه انه أمر بقتل رجل مسلم برجل من أهل الحيرة
132

ذمي ثم بلغه انه فارس من فرسان العرب فكتب فيه أن لا يقتل يعنى يسترضوا الأولياء
فيصالحوا على الدية وان عبيد الله بن عمر لما قتل هرمزان بتهمة دم أبيه استقر الامر على عثمان
فطلب منه علي رضي الله عنه أن يقتص من عبد الله وكان يدافع في ذلك أياما ثم قال هذا
رجل قتل أبوه بالأمس فأنا أستحي أن أقتله اليوم وان هرمزان رجل من أهل الأرض
أنا وليه أعفو عنه وأؤدي الدية فهذا اتفاق منهما علي وجوب القصاص وقضى علي رضي الله عنه
بالقصاص على مسلم بقتل ذمي ثم رأى الولي بعد ذلك فقال ماذا صنعت قال إني رأيت أن أقتل
أباه لا برد أخي وقد أعطوني المال فقال فلعلهم خوفوك فقال لا فقال علي رضي الله عنه إنما
أعطيناكم الدية وتبذلون الجزية لتكون دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا والمعنى فيه أن دم
الذمي مضمون بالقصاص حتى إذا كان القاتل ذميا يلزمه القصاص به بالاجماع وذلك دليل علي
انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة يستوى أن يكون القاتل مسلما أو ذميا ولا
يدخل عليه الأب إذا قتل ابنه لان امتناع وجوب القود عليه عندنا ليس لقيام الشبهة في دم
الابن بل لان فضيلة الأبوة تخرج الولد من أن يكون مستوجبا القود على والده كما يمنعه من
قتله شرعا وإن كان الأب مباح الدم بان كان مرتدا أو حربيا أو زانيا وهو محصن والدليل
على أن الأبوة إذا طرأت تمنع استيفاء القصاص والشبهة إنما تؤثر إذا اقترنت بالسبب الموجب
وحيث كان طريان الأبوة مانعا من الاستيفاء عرفنا ان المعنى فيه ما ذكرنا فاما المستأمن إذا
قتل مستأمنا ففي وجوب القصاص على المسلم بقتل المستأمن قياس أو استحسان في القياس يلزمه
القصاص ذكره في هذا الكتاب وهو رواية أحمد بن عمران أستاذ الطحاوي عن أصحابنا
ورواه ابن سماعة عن أبي يوسف فقالوا ما ذكره في السير بناء على جواب القياس ان الشبهة
المبيحة عن الدم تنفى بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن والمسلم جميعا فأما
على جواب الاستحسان فيقول بقيت الشبهة المبيحة في دمه وهو كونه حربيا لأنه ممكن من
الرجوع إلي دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب فلا يجب القصاص بقتله على أحد
سواء كان القاتل مستأمنا أو ذميا أو مسلما ولان الذمي محقون الدم علي التأبيد فيجب القصاص
بقتله على المسلم كالمسلم وتحقيقه أن القصاص يعتمد المساواة في الحياة لأنه ازهاق الحياة وهو
مشروع لحكمة الحياة وإنما تتحقق المساواة في ذلك شرعا لوجود التساوي في حقن الدم وقد
وجد ذلك بين المسلم والذمي فان حقن كل واحد منهما مؤبد بسبب مشروع وهو عقد الذمة
133

خلف عن الاسلام في معنى الحقن والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل وهذا الحقن
والتقوم إنما يثبت بالاحراز والاحراز بكون بالدار لا بالدين لان الاحراز بالدين إنما يكون
في حق من يعتقده فأما الاحراز بقوة أهل الدار فيكون في حق الكل والذمي في الاحراز
مساو للمسلم لأنه من أهل دارنا حقيقة وحكما والدليل عليه أن الاحراز يؤثر في المال والنفس
جميعا ثم في المال احراز الذمي كاحراز المسلم حتى يجب القطع بسرقة مال الذمي وحد السرقة
أقرب إلى السقوط عند تمكن الشبهة من القصاص ولا يدخل عليه المقضى عليه بالرجم لأنا
لا نقول يباح قتله لنقصان في احراز كل جزء على جريمته فأما الاحراز فقائم في المال والنفس
جميعا وهاهنا ان سلم لنا ان الاحراز في حق المسلم والذي سواء يتضح الكلام فإنه لا يمكنه أن
يدعى بعد ذلك بقاء الشبهة بسبب اصراره علي الكفر لان المبيح كان هو القتال دون الكفر كما
قال الله تعالى فان قاتلوكم فاقتلوهم ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال هاه ما
كانت هده تقاتل فلم قتلت والقتال ينعدم بالاحراز في حق الذمي أصلا كما ينعدم في حق المسلم
وقد قررنا هذا في السير وإذا ثبت انتفاء الشبهة والمساواة في الاحراز ثبتت المساواة بينهما في
حكم القصاص فلا يجوز أن تكون فضيلة الاسلام في القاتل مانعا لان طريان هذه الفضيلة
لا تمنع الاستيفاء فلو كان اقترانها بالسبب يمنع الوجوب لكان طريانها يمنع الاستيفاء كفضيلة
الأبوة وفضيلة الاسلام في المنكوحة فإنه لما كان يمنع ابتداء النكاح عليها للكافر يمنع الوطئ
إذا طرأ بعد النكاح فاما المسلم إذا قتل مستأمنا فلا قصاص عليه على طريق الاستحسان لانعدام
المساواة في الاحراز فالمستأمن غير محرز نفسه بدار الاسلام على التأبيد ولهذا لا يوجب القطع
بسرقة ماله لبقاء الشبهة المبيحة وهي المحاربة فإنه ممكن من أن يرجع إلى دار الحرب فيعود حربا
للمسلمين وبهذا الطريق نقول لا يقتل الذمي بالمستأمن أيضا خلافا للشافعي لان الذمي محرز
نفسه بدارنا علي التأبيد فلا تتحقق المساواة بينه وبين المستأمن فأما الآيات في نفى المساواة بين
الكفار والمؤمنين فالمراد بها في أحكام الآخرة وذلك مبين في آخر كل آية وأما قوله عليه السلام
المسلمون تتكافؤ دماؤهم فمن أصلنا أن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفى ما عداه فلا يكون
هذا بيان أن دماء غير المسلمين لا تكافئ دماء المسلمين وأما قوله عليه السلام لا يقتل مؤمن
بكافر فهو غير مجري على ظاهره بالاتفاق لان القاتل إذا أسلم يقتل قصاصا وفيه قتل مؤمن
بكافر ثم المراد به الحربي يعنى من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والصبيان فإنه لا يقتل
134

المؤمنون بهم بدليل قوله ولا ذو عهد في عهده أي ولا يقتل ذو العهد بالكافر وإنما لا يقتل
ذو العهد بالكافر الحربي فان قيل هذا ابتداء أي لا يقتل ذو العهد في مدة عهده قلنا ابتداء
الواو حقيقة للعطف خصوصا فيما لا يكون مستقلا بنفسه فان قيل قد روى ولا بذي عهد
فيفهم منه أن المؤمن لا يقتل بذي العهدة قلنا إن ثبتت هذه الرواية فهي محمولة على المستأمن
وبه نقول إن المسلم لا يقتل بالمستأمن وكذلك لو اجتمع نفر من المسلمين على قتل ذمي قتلوا
به لأنهم في حكم القصاص كالمسلمين وكل قطع من مفصل ففيه القصاص في ذلك الموضع لان
المعتبر في القصاص المساواة وفي القطع من المفاصل يمكن اعتبار المساواة فيجب القصاص فأما
كل قطع لا يكون من مفصل بل يكون بكسر العظم فإنه لا يجب القصاص فيه عندنا وفي
أحد قولي الشافعي يجب القصاص لان القصاص مشروع لمعنى الزجر والجناية بغير حق في
الغالب إنما تكون بهذه الصفة وقل ما يكون من المفصل فلو قلنا لا يجب القصاص في ذلك
أدى إلى ابطال الحكمة ولكنا نستدل بقوله عليه السلام لا قصاص في العظم ولأنه لا تتأتى
مراعاة المساواة في العظام لأنه لا ينكسر في الموضع الذي برئ كسره وبدون اعتبار
المساواة لا يجب القصاص ما خلا السن فالقصاص يجب فيه وقد بيناه ولا تقطع اليسار
باليمين ولا اليمين باليسار ولا اليد بالرجل ولا الابهام بغيرها من الأصابع ولا أصبع من يد
بإصبع من الرجل لانعدام المساواة بين هذه الأعضاء فان فيما هو المقصود بها لا مساواة
يعنى مقصود منفعة البطش في اليد والعمل بها وبين اليمين واليسرى في ذلك تفاوت وكذلك في
الخلقة والهيئة يظهر التفاوت بين الابهام وغيرها من الأصابع وبين اليد والرجل وأصابع اليد
وأصابع الرجل فيمتنع جريان القصاص بينهما ولا يقتص من عظم ما خلا السن والأصل في
جريان القصاص في الأسنان قوله تعالي والسن بالسن وروى أن الربيع عمة أنس بن مالك
كسرت سن جارية فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقاله أنس بن النضر
أو يكسر سن الربيع بسن جارية فرضوا بالأرش فقال عليه السلام ان لله عبادا لو أقسموا عليه
لأبرهم منهم أنس بن النضر والأصل في جريان القصاص فيما دون النفس اعتبار المماثلة في
الفعل وفى المحل اما المأخوذ بالفعل فلان المماثلة في ضمان العد وان منصوص عليها فيجب اعتبارها
في كل ما يتأتى والمتأتى اعتبار المماثلة في هذه الأشياء ويعنى بالمماثلة في المأخوذ بالفعل المساواة
في المنفعة والمساواة في البدل لان التفاوت في المنفعة المقصودة دليل اختلاف الجنس وان
135

اتحد الأصل فلان تنعدم المماثلة أولى ولهذا لا تقطع اليمين باليسار والتفاوت في البدل دليل ظاهر
على انعدام المساواة لان البدل بمقابلة المبدل وهو قيمته فالتفاوت فيه دليل على التفاوت
في المبدل وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله لا يجرى القصاص بين الرجال والنساء
في الأطراف وقال ابن أبي ليلى يجرى وهو قول الشافعي ويسلكون في الباب طريقا
سهلا وهو اعتبار الأطراف بالنفوس لأنها تابعة للنفس وثبوت الحكم في التبع بثبوته في
الأصل فكما يجرى القصاص بين الرجال والنساء في النفوس فكذلك في الأطراف ولكنا
نقول لا مماثلة بين طرف الرجل وطرف المرأة في المنفعة ولا في البدل والمماثلة معتبرة في
القصاص في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تستوفى بالشلاء للتفاوت بينهما في البدل والمنفعة
ولا معنى لقولهم إن الشلاء ميتة لا روح فيها لان استيفاءها في القصاص جائز وبقطعها يتألم
صاحبها ويجب حكومة العدل لقطعها فعرفنا ان الحياة فيها باقية ولكن التفاوت في البدل
فلا تقطع الصحيحة بها بخلاف النفوس فالمعتبر هناك المساواة في الفعل حتى تستوفى النفس
الصحيحة بالزمنة * فان قيل التفاوت في البدل يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص ولا يمنع استيفاء
الأنقص بالأكمل حتى أن الشلاء تقطع بالصحيحة وعندكم في هذا الموضع لا تقطع يد المرأة
بالرجل * قلنا نعم إذا كان التفاوت بسبب حسي كالشلل وفوات بعض الأصابع فهو كما قلنا
فأما إذا كان التفاوت بمعنى حكمي فإنه يمنع استيفاء كل واحد منهما لصاحبه كاليمين مع اليسار
وهذا المعنى وهو ان في التفاوت إذا كان بنقصان حسي فمن له الحق إذا رضى بالاستيفاء يجعل
هو بالبعض حقه مستوفيا لما بقي وذلك جائز ولهذا لا يستوفى الأكمل بالأنقص وان رضى به
القاطع لأنه بالرضا يكون باذلا للزيادة ولا يجوز استيفاء الظرف بالبدل فاما إذا كان التفاوت
لمعنى حكمي فلا وجه لتمكنه من الاستيفاء هاهنا بطريق اسقاط البعض ولا بطريق البدل
وعلى هذا قال الشافعي تقطع يد العبد بيد الحر كما يقتل العبد بالحر وكذلك تقطع يد العبد
بيد العبد كما يقتل أحدهما بالآخر قصاص ولا تقطع يد الحر بيد العبد كما لا يقتل الحر بالعبد
عنده وعندنا لا يجرى القصاص بين العبيد والأحرار ولا بين العبيد فيما دون النفس لانعدام
المساواة في البدل أما فيما بين العبيد والأحرار فظاهر وكذلك بين العبيد إذا اختلفت القيم فيهم
وكذلك إذا استوت لان طريق معرفة القيمة الحزر والمماثلة المشروطة شرعا لا تثبت بطريق
الحرز كالمماثلة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها ولا يقال نصاب السرقة يعرف بالتقويم
136

وإن كان يتعلق به ما يندرئ بالشبهات فكذلك المماثلة في القيمة هاهنا لأنا لا ننكر معرفة
القيمة بالحزر والظن وإنما ننكر ثبوت المساواة بالحزر قطعا وفي باب السرقة الحاجة إلى معرفة
القيمة لا إلى المساواة ولا يقال إذا كانت قيمة كل واحد من العبدين أكثر من عشرة آلاف
فهاهنا المساواة بينهما في البدل ثابتة شرعا ومع ذلك لا يجرى القصاص بينهما في الأطراف لان
التقدير في بدل نفس العبد فاما بدل طرفه فلا يدخله التقدير شرعا ولكن تجب قيمته بالغة ما
بلغت فيتحقق التفاوت بينهما فيه وبهذا تبين ان أطراف العبد يسلك بها مسلك الأموال ولا
مدخل للقصاص في الأموال وعلى هذا الأصل قلنا يجرى القصاص بين المسلم والذمي فيما دون
النفس للمساواة بينهما في البدل وعند الشافعي يقطع طرف الذمي بطرف المسلم ولا يقطع طرف
المسلم بطرف الذمي اعتبارا بالنفسية علي قوله وعلي هذا الأصل لا يقطع يدان بيد واحدة عندنا
للتفاوت في البدل والتفاوت في المقدار و تأثير التفاوت في المقدار فيما يعتبر فيه المماثلة أكثر
من تأثير التفاوت في الصفة (ألا ترى) ان في الأموال الربوية التفاوت في المقدار يمنع جواز
العقد والتفاوت في الصفة لا يمنع ثم التفاوت في الصفة هاهنا يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص
كالصحيحة بالشلاء فالتفاوت في المقدار أولى وعند الشافعي يقطع يدان بيد واحدة إذا وضعا
السكين من جانب واحدة اعتبار القصاص في الطرف بالقصاص في النفس إلا أن في الأطراف
إذا وضع أحدهما السكين من جانب والآخر من جانب وأمرا حتى التقى السكينان يجب
القصاص لان القتل ازهاق للحياة وهو لا يحتمل الوصف بالتجزء بحال فباختلاف محل الفعل
لا يثبت التجزئ بل كل واحد منهما قاتل على الكمال كما لو اتحد محل فعلهما فاما القطع فإنه
جزء محسوس وذلك يتنوع نوعين نوع منه يتجزأ وهو عند اختلاف محل الفعل لأنه لو لم
يوجد من كل واحد منهما امرار السلاح الا على بعض العضو ونوع منه لا يحتمل الوصف
بالتجزء وهو ما اتحد محل الفعل لان كل واحد منهما أمر السلاح على جميع العضو (ألا ترى)
أنه لا يمكن أن يشار إلى شئ من المحل فيقال القطع بفعل هذا دون فعل ذلك وعند اختلاف
محل الفعل يقال هذا الجانب انقطع بفعل هذا والجانب الآخر انقطع بفعل الآخر فإذا كان
غير متجزئ كان قياس النفس يجعل كل واحد منهما قاطعا بجميع اليد حكما فيلزمه القصاص
لاعتبار معنى الزجر كما يعتبر ذلك في النفس و الدليل على الفرق ان عند تميز محل الفعل يجب
على كل واحد منهما حكومة العدل وعند اتحاد محل يجب على كل واحد منهما عندكم
137

نصف دية اليد في ماله وكذلك قلتم لو أن محرمين قتلا صيدا بضربة واحدة فان على كل
واحد منهما قيمته صحيحا ولو جرحه كل واحد منهما في محل علي حدة ضمن كل واحد منهما
قيمته مجروحا بجراحة صاحبه فيه يتضح هذا الفرق ولكنا نقول كل واحد منهما قاطع بعض
اليد سواء اختلف محل الفعل أو اتحد لان القطع هو الفعل بين متصلين ولهذا يطلق هذا
الاسم على الخشب والنبات والجبال ونحن يتيقن ان ما انقطع بفعل أحدهما لم ينقطع بفعل
الآخر ولا معتبر بامرار كل واحد منهما السلاح على جميع العضو لان امرار السلاح من
غير حصول القطع به وجوده كعدمه وما انقطع بقوة أحدهما لم ينقطع بقوة الآخر هذا
شئ يعرفه كل عاقل فعرفنا ان كل واحد منهما قاطع بعض اليد ولا يجوز أن يقطع جميع
يده بقطعه بعض اليد لان المساواة في الفعل معتبرة لا محالة والدليل عليه أن القطع في الجملة
مما يحتمل الوصف بالتجزء وما يحتمل الوصف بالتجزء إذا اشترك فيه اثنان يضاف إلى
كل واحد منهما بعضه وان حصل على وجه غير متجزئ كما لو اشتركا في تمزيق ثوب أو
في استهلاك درة أو في جمل حبسه يضاف نصفه إلى كل واحد منهما وان حصل على وجه
غير متجزئ فاما النفس فالقياس فيها هكذا ولكن تركنا القياس بالأثر وهو حديث عمر
والمخصوص من القياس بالأثر لا يلحق به إلا أن يكون في معناه من كل وجه لان الفعل في
النفس لا يحتمل الوصف بالتجزء بحال والفعل في الطرف يحتمل الوصف بالتجزء (ألا ترى)
أنه يتحقق أن يقطع بعض اليد ويترك ما بقي وفي النفس لا يتحقق ازهاق بعض الحياة دون
البعض فلعدم احتمال التجزء هناك يجعل كاملا في حق كل واحد منهما ولاحتمال التجزء
هاهنا يجعل كل واحد منهما قاطعا للبعض * يوضح الفرق ان الفعل في النفس يكمل بسراية فعله
فإنه لو جرح فسرى إلى النفس كان مباشرا قتله والفعل في الطرف لا يكمل بسراية الفعل وانه
لو قطع فسرى إلى ما بقي حتى سقط لا يلزمه القصاص وسراية فعله أقرب إلى فعله من فعل
شريكه فإذا لم يجز تكميل فعله بسراية فعله في حكم القصاص فلأن لا يجوز تكميله بفعل شريكه
أولى ولا معنى لاعتبار الزجر فان معنى الزجر معتبر بعد وجود المماثلة بدليل انه لا تقطع يد
الحر بيد العبد ولا الصحيحة بالشلاء لانعدام المماثلة وان وقعت الحاجة إلى الزجر ولان المشتركين
في أدنى ما يتعلق به القطع لا يلزمهما القطع كما لو اشترك رجلان في سرقة نصاب واحد لا يقطع
واحد منهما وإن كان المسروق درة لا تحتمل التجزي وبه فارق النفس فان المشتركين في أدنى
138

ما يوجب القتل حقا لله تعالى يلزمهما القتل نحو ما إذا اشتركا في قتل رجل في قطع الطريق
فيعتبر حق العبد بحق الله تعالى في الفصلين جميعا وإذا ثبت أنه لا يجب القصاص عليهما قلنا
يجب علي كل واحد منهما نصف دية اليد في ماله لأنا نتيقن أن كل واحد منهما قاطع للنصف
والفعل عمد وكذلك إذا وضع كل واحد منهما السكين من جانب فانا ان علمنا أن كل واحد
منهما قطع نصف اليد يلزمه نصف الدية وإنما يصار إلى حكومة العدل إذا لم يعلم أن كل ما قطعه
كل واحد منهما قدر النصف ولو قطع رجل يد رجل من نصف الساعد أو رجله من نصف
الساق عمدا لم يكن عليه في ذلك قصاص لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة في الفعل والمحل فان فعله
كان في كسر العظم دون القطع من المفصل وفيما يلزمه من الدية وحكومة العدل اختلاف بين
أصحابنا وقد تقدم بيانه ولو قطع رجل يدي رجل اليمنى واليسرى قطعت يداه بهما وكذلك
ان قطعهما من واحد لان المماثلة المشروطة في الفعل والمحل والمأخوذ بالفعل موجود فان قيل
هو ما فوت على كل واحد منهما منفعة الجنس وإذا قطعنا يده كان فيه تفويت منفعة الجنس
فلا يتحقق المماثلة قلنا في حق كل واحد منهما يعتبر ما يستوفيه هو وليس في استيفائه منفعة
الجنس ثم هذا المعنى إنما يعتبر في السرقة لان تفويت منفعة الجنس استهلاك حكما والاستهلاك
الحقيقي في حد السرقة غير مشروع فكذلك الحكمي فأما في القصاص فالاستهلاك الحقيقي
مشروع إذا كانت المماثلة فيه فكذلك الاستهلاك الحكمي ولو قطع رجل يميني رجلين
قطعت يمينه بهما وغرم دية يد منهما عندنا سواء قطعهما معا أو على التعاقب وقال الشافعي ان
قطعهما على التعاقب يقطع بالأولى منهما وللثاني الأرش وان قطعهما معا يقرع بينهما ويكون
القصاص لمن خرجت قرعته والأرش للاخر لأنه حين قطع يد أحدهما فقد صارت مشغولة
بحقه مستحقة له قصاصا والمشغول لا يشغل كمن رهن عينا من انسان وسلمها إليه ثم رهنها من
آخر فإنه لا يصلح الثاني مع بقاء حق الأول وهنا حق الأول باق فمنع ذلك ثبوت حق الثاني
في اليد بخلاف ما إذا عفى الأول لان المانع قد زال إذ لم يبق له حق في المحل وكذلك إذا
بادر الثاني واستوفى لأنه لم يبق للأول حق في المحل لفواته فكان الثاني مستوفيا حقه فإذا
حضرا جميعا فحق الأول قائم فيترجح بالسبق والدليل عليه أنه ليس في عينه وفاء بحقهما بالاتفاق
حتى أن عندكم يقضى بأرش يد بينهما وان قطعا جميعا ولو كان في عينه وفاء بحقهما لم يجب لهما
شئ آخر بعد استيفائه كما قلتم في النفس إذا ثبت أن في عينه وفاء بحق أحدهما لم يكن بد
139

من ترجيح أحدهما على الآخر فرجحنا بالسبق أو بخروج القرعة إذا حصل الفعلان جميعا
كما هو أصل ثم فيما قلتم جمع بين القصاص والأرش لكل واحد منهما بسبب فعل واحد وذلك
لا يجوز أصلكم * وحجتنا في ذلك أن حق كل واحد منهما ثابت في جميع اليد لان السبب
تقرر في حق كل واحد منهما وهو القطع المحسوس وكونه مشغولا بحق الأول لما لم يمنع تقرر
السبب في حق الثاني لا يمنع ثبوت حكمه (ألا ترى) أن ملك المولى في عبده لا يمنع وجوب
القصاص عليه إذا تقرر سببه وهو القتل والحق دون الملك بخلاف الرهن فان ثبوت السبب
هناك بطرق الحكم واشتغال المحل بحق الأول يمنع ثبوت السبب في حق الثاني حكما والدليل
عليه أنه لو عفى الأول كان للثاني أن يستوفى القصاص وتأثير العفو في الاسقاط فلو لم يجب
له القصاص بأصل الفعل لم يجب بالعفو والدليل عليه أن الثاني لو بادر واستوفى كان مستوفيا
للقصاص فعرفنا أن حق كل واحد منهما ثابت في جميع اليد والمساواة في سبب الاستحقاق
توجب المساواة في الاستحقاق كالغريمين في التركة والشفيعين في الشقص المشفوع إلا أنه إذا
قطعت يده بهما فقد صار كل واحد منهما مستوفيا نصف حقه لما بينا أن القطع يقع متجزئا
فان القطع الذي هو ظلم يقع من اثنين بصفة التجزء فكذلك القطع الذي هو جزء بخلاف
النفس فان ما هو ظلم هناك لا يقع متجزيا فكذلك ما هو جزء وإذا صار كل واحد منهما
مستوفيا نصف اليد فقد قضى بنصف طرفه حق كل واحد منهما ومن عليه القصاص في الطرف
إذا قضى بطرفه حقا مستحقا عليه يقضى لمن له القصاص بالأرش كما لو قطعت يده في سرقة
وبهذا تبين أن المعنى الذي يجب به نصف الأرش لكل واحد منهما غير ما يجب به القصاص
فلا يكون هذا جمعا بين القصاص والأرش بسبب واحد وبه فارق النفس فان هناك لو قضى
بنفسه حقا مستحقا عليه بان قتل رحما لا يقضى لمن له القصاص بشئ إذا عرفنا هذا فنقول لو
عفى أحدهما عنه قبل القصاص اقتص منه للباقي ولا شئ للعافي لان المزاحمة بينهما في القطع
لثبوت حق كل واحد منهما في المحل وقد انعدم ذلك بعفو أحدهما فكان للآخر القصاص
فقط ولو حضر أحدهما دون صاحبه لم ينتظر الغائب ويقتص لهذا الحاضر لان حقه ثابت
في جميع اليد ومزاحمة الآخر معه في الاستيفاء موهوم عسى يحضر وعسى لا يحضر فلا يؤخر
استيفاء المعلوم لمكان الموهوم كأحد الشفيعين إذا حضر والآخر غائب يقضى له بجميع المبيع
بالشفعة لهذا المعنى ثم إذا قدم الغائب كان له الدية لأنه قضى بجميع طرفه حقا مستحقا عليه
140

فيقضى للآخر بالأرش بخلاف النفس فان هناك لو حضر أحدهما واستوفى القصاص ثم حضر
الآخر لا يقضى له بشئ لان هناك في نفسه وفاء بحقهما فإنما لم يستوف هذا المعنى من جهته
وإن لم يحضر وليس في الطرف الواحد وفاء بحقهما فإنما تعذر علي الثاني للاستيفاء بقضائه
بطرفه حقا مستحقا عليه * يوضحه أن في النفس وان قضى بها حقا مستحقا عليه فلا
يمكن جعلها سالمة بعد موته ولا يمكنه تقوم نفسه عليه بعد ما مات فأما في الطرف فيمكن أن
يجعل الطرف كالسالم له حين قضي به حقا مستحقا عليه وان يتقوم عليه ذلك لأنه كالحابس لطرفه
حكما فلهذا يقضى للثاني بالأرش وان اجتمعا فقضى لهما بالقصاص والدية فأخذ الدية ثم عفى
أحدهما عن القصاص جاز عفوه ولم يكن للآخر أن يستوفى القصاص وإنما له نصف الدية
لأنهما ملكا الأرش بالقبض وبعد تمام ملك كل واحد منهما في نصف اليد يستحيل أن يبقي
حق كل واحد منهما في جميع القصاص فعرفنا أن حق كل واحد منهما إنما بقي في نصف
القصاص والقصاص المشترك بين اثنين إذا سقط نصيب أحدهما بعفوه انقلب نصيب الآخر
مالا فأما إذا لم يستوفيا الدية حتى عفى أحدهما بعد ما قضي القاضي فعلى قول أبي حنيفة وأبى
يوسف للآخر أن يستوفى القصاص كما لو عفى أحدهما قبل قضاء القاضي وهو القياس وعند
محمد وزفر ليس للآخر أن يستوفى القصاص استحسانا كما لو عفي أحدهما بعد استيفاء الأرش
وذلك لان قضاء القاضي بالقصاص وبالأرش بينهما قد نفذ ومن ضرورته ضرورة القصاص
مشتركا بينهما فإذا أسقط أحدهما نصيبه يبقى حق الاخر في نصف القصاص ولا يتصور
استيفاء نصف اليد قصاصا والدليل عليه أن الأرش بقضاء القاضي صار مملوكا بينهما فهو كما
لو ملكا الأرش بالاستيفاء بخلاف ما قبل القضاء فإنهما لم يملكا الأرش بعد فيبقى حق كل
واحد منهما في جميع القصاص والدليل على الفرق بين ما قبل القصاص وبين ما بعده أن أحد
الشفيعين لو سلم قبل أن يقضى القاضي لهما بالدار كان للاخر أن يأخذ جميع الدار بالشفعة
ولو سلم أحدهما بعد قضاء القاضي لم يكن للاخر أن يأخذ الا النصف وكذلك لو ادعى رجلان
كل واحد منهما شراء عين من ذي اليد وأقاما البينة ثم أسقط أحدهما حقه قبل قضاء القاضي
فإنه يقضى للاخر بالبيع في جميع العين وبعد ما قضى القاضي لهما لو رد أحدهما البيع في نصيبه لم
يكن للاخر الا النصف وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا القاضي إنما قضى بما كان على ما كان
فنزل ذلك منزلة الفتوى ولو استفتيا فأفتى لهما القاضي أن القصاص بينكما أو أن الأرش
141

بينكما ثم عفى أحدهما كان للآخر استيفاء القصاص فكذلك إذا قضى به القاضي وهو نظير
من مات وترك ابنا وبنتا فقضى القاضي بينهما بالميراث أثلاثا كان هذا كفتوى المفتى ولو
تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا فقضى القاضي لها بمهر المثل كان هذا كفتوى المفتى حتى لو
طلقها قبل الدخول بها كان لها المتعة وفي تفسير هذا الوصف نوعان من الكلام أحدهما أن
حق كل واحد منهما كان في جميع القصاص على أن يستوفى كل واحد منهما النصف إذا
زاحمه الآخر وبقي كذلك بعد قضاء القاضي بدليل أنه لو حضر أحدهما واستوفى كان مستوفيا
للقصاص ويكون الأرش للآخر بخلاف ما بعد استيفاء الأرش فان هناك لو حضر أحدهما
لا يتمكن من استيفاء القصاص ما لم يحضر الآخر وهذا لان القضاء قول من القاضي والقصاص
الذي هو غير المشترك لا يصير مشتركا بقول بحال كما لو جعل نصف القصاص لغيره وقضي
القاضي بذلك كان ذلك لغوا بخلاف استيفاء الأرش فإنه فعل وبالفعل يصير القصاص مشتركا
والقاضي وان قضي بالأرش بينهما فالملك لكل واحد منهما لا يتم بالقضاء قبل الاستيفاء لان
الأرش في معنى الصلات فإنما يتم الملك فيها بالقبض لا بالقضاء كمنفعة الزوجة تصير بالقبض
لا بنفس القضاء والدليل عليه أن السبب الموجب للأرش لكل واحد منهما قضاؤه بطرفه
حقا مستحقا عليه وذلك لا يتم بالقضاء قبل استيفاء القصاص فأما إذا استوفيا الأرش فسبب
الملك في المقبوض هو القبض وقد تم ذلك وبهذا فارق فصل الشفعة والبيع فالقاضي بقضائه
هناك غير الامر عما كان عليه لأنه فسخ بيع كل واحد منهما في النصف وأبطل حق كل
واحد من الشفيعين في النصف الذي قضى به الآخر والوجه الآخر أن القصاص وجب
مشتركا بينهما والأرش كذلك أما إذا حصل الفعلان معا فهو ظاهر وكذلك أن حصلا علي
التعاقب لأنه يجعل في الحكم كأنهما كانا معا وهذا لأنا لو قلنا إن حق كل واحد منهما في
جميع القصاص لكان القاضي مسقطا حق كل واحد منهما عن نصف القصاص بولاية شرعية
والقصاص لا يحتمل الوصف بالتجزء اسقاطا (ألا ترى) أن صاحب الحق لو عفا عن النصف
سقط جميع حقه وهاهنا لما نفذ قضاء القاضي بالقصاص بينهما عرفنا أن القصاص كان مشتركا
بينهما بشرط مزاحمة كل واحد منهما مع صاحبه فتقرر ذلك بقضاء القاضي ثم بالعفو زالت
مزاحمته فيكون حق الاخر في القصاص لانعدام شرط الشركة كما لو زالت مزاحمته بالعفو
قبل قضاء القاضي والطريق الأول أصح ولو لم يكونا أخذا المال وأخذا به كفيلا ثم عفا أحدهما
142

فالمسألة على الخلاف أيضا لان تأثير الكفالة في توجه المطالبة بالأرش على الكفيل وذلك
لا يكون أقوى من توجه المطالبة لهما بالأرش على الأصيل بقضاء القاضي ثم هناك لو
عفا أحدهما كان للآخر القصاص فهذا مثله ولو كانا أخذا بالمال رهنا كان هذا بمنزلة قبض
المال إذا عفا أحدهما بعد ذلك لم يكن للآخر أن يستوفي القصاص وهذا استحسان وكان
ينبغي في القياس أن لا يقع بينهما شركة أبدا ما لم يقبضا ولم يذكر غير هذا في رواية أبى
حفص وفي رواية أبى سليمان قال كان ينبغي في القياس أن لا يقع بينهما شركة أبدا سواء
قبضا المال أو لم يقبضا في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وفي رواية أبى سليمان أشار إلى أن
القياس والاستحسان في فصل استيفاء الأرش والارتهان بالأرش جميعا وفى رواية
أبى حفص أشار إلى أن القياس والاستحسان في فصل الارتهان بالأرش وهذا هو
الأصح وجه القياس ان الرهن وثيقة بالأرش كالكفالة فكما أن عفو أحدهما بعد كفالة الكفيل
بالأرش لا يمنع الآخر من الاستيفاء أي استيفاء القصاص فكذلك بعد الرهن لان بالارتهان لم
يتم ملكهما في الأرش ولا في بدله وجه الاستحسان أن موجب عقد الرهن ثبوت يد
الاستيفاء لهما (ألا ترى) انه يتم استيفاؤهما بهلاك الرهن وانه يعتبر قيمة الرهن وقت
القبض فتقام يد الاستيفاء مقام حقيقة الاستيفاء في ايراث الشبهة بخلاف الكفالة فان بالكفالة
تزداد المطالبة ولا تثبت يد الاستيفاء فبقي كل حق واحد منهما بعد الكفالة في جميع القصاص
كما كان قبله وإذا قطع الرجل أصبع رجل من المفصل من يمناه ثم قطع يمينا أخرى وبدأ
باليد ثم قطع الإصبع ثم حضرا جميعا فإنه يقطع أصبعه أو لا بإصبع الآخر ثم يخير صاحب
اليد فإن شاء قطع ما بقي وان شاء أخذ دية يده لان في البداءة يحق صاحب اليد ايفاء
الحقين فإنه لا يفوت به محل حق صاحب الإصبع فمهما أمكن ايفاء الحقين لا يجوز ابطال
حق أحدهما ثم حق صاحب الإصبع في الإصبع مقصود وحق صاحب اليد في الإصبع
تبع بدليل انه لو أراد قطع الأصابع أو بعضها وترك الكف منع من ذلك ولا مساواة بين
التبع والمقصود فهو نظير ما لو قطع يد انسان وقتل آخر فإنه يبدأ بحق صاحب اليد فيقتص
له أولا ثم يقتل بالآخر وإذا قطع صاحب الإصبع أصبعه يخير صاحب اليد بمنزلة ما لو
كانت يد القاطع ناقصة بإصبع ومن قطع يد انسان ويد القاطع ناقصة بإصبع يتخير المقطوعة
يده لعجزه عن استيفاء حقه بصفة الكمال فإن شاء أخذ الأرش وان شاء قطع ما بقي ولا
143

شئ له سوى ذلك عندنا وعند الشافعي له أن يقطع ما بقي ويضمنه خمس دية اليد لان كل
أصبع خمس اليد بدليل ان أرش كل أصبع يكون خمس أرش اليد فهو إنما استوفى أربعة
أخماس حقه فيقضى له بالأرش فيما بقي كمن أتلف على آخر خمسة أقفزة حنطة فوجد عنده
أربعة أقفزة واستوفاها كان له أن يتسوفى قيمة القفيز الخامس ولكنا نقول استوفى محل
حقه بكماله فلا يرجع مع ذلك بشئ من الأرش كما لو قطع يدا صحيحة ويد القاطع شلاء
فاستوفى القصاص وهذا لان الأصابع صفة لليد (ألا ترى) أن المقصود باليد منفعة
البطش وبفوات الإصبع ينتقص معنى البطش ولا ينعدم والدليل عليه انه لو أراد صاحب
اليد استيفاء بعض الأصابع لم يكن له بعد ذلك ولكن اما ان يقطع من مفصل اليد أو
يترك فعرفنا أن الأصابع في حقه بمنزلة الوصف ومن تجوز بحقه مع نقصان الصفة لا يكون
له أن يرجع بشئ آخر كما لو أتلف عليه كرا جيدا فوجد عنده كرا رديئا وقبضه بخلاف
القفزان فإنه مقدار وليس بصفة (ألا ترى) ان له أن يبرئ عن بعض الأقفزة ويستوفى
البعض وهاهنا ليس له أن يعفو عن بعض الأصابع ويستوفى البعض فان جاء صاحب اليد أولا
قطعت له اليد لان حقه ثابت معلوم فلا يتأخر استيفاؤه لمكان حق موهوم لغائب لا يدرى
أيطلب أو يعفو ثم إذا حضر الآخر قضى له بالأرش لان من عليه الحق قضي بمحل حقه حقا
مستحقا عليه فيكون له الأرش فان قيل كيف يستقيم هذا مع قولكم ان الإصبع وصف وتبع
قلنا نعم ولكن باعتبار فوات هذا الوصف كان يتخير من له الحق وإنما لم يتخير هاهنا لبقاء
الإصبع فكان هو من هذا الوجه قاضيا بالإصبع حقا مستحقا عليه بخلاف النفس فان هناك
لو حضر من له القصاص في النفس أولا واستوفى لم يكن لمن له القصاص في الطرف شئ لان
هناك ما قضى بالطرف حقا مستحقا عليه (ألا ترى) ان فوات الطرف لا يثبت الخيار
لصاحب النفس ولو قطع من أصبع رجل مفصلا ومن أصبع رجل آخر مفصل ذلك الإصبع
ومن رجل ثالث الإصبع كلها تم اجتمعوا عند القاضي فإنه يقطع المفصل الأعلى لصاحب
الأعلى لأنه ليس في بدائته بحقه تفويت محل حق الآخرين وبالبداءة بأخذ حق الآخرين
تفويت محل حقه ولان حقه في المفصل الأعلى مقصود وحق الآخرين فيه تبع وإذا قطع
هذا لفصل تخير صاحب المفصلين فإن شاء قطع المفصل الأوسط بجميع حقه لأنه وجد محل
حقه ولكنه مع النقصان وان شاء أخذ ثلثي دية أصبعه من مال القاطع لعجزه عن استيفاء
144

كمال حقه ثم يخير صاحب الإصبع فإن شاء أخذ ما بقي من أصبعه لوجود محل حقه وإن كان
ناقصا وان شاء أخذ دية أصبعه من مال القاطع لعجزه عن استيفاء كمال حقه وكذلك لو قطع
كف رجل من مفصل ثم قطع يد آخر من المرفق ثم اجتمعا فان الكف يقطع لصاحب الكف
لأنه ليس في البداءة بحقه تفويت محل حق الآخر ثم يخير صاحب المرفق فإن شاء قطع ما
بقي بحقه لوجود محل حقه وان شاء أخذ الأرش لعجزه عن استيفاء حقه بكماله وفي جميع
هذه الوجوه لا يثبت للثاني الخيار قبل استيفاء الأول لان صفة الكمال قائمة في طرفه ولا تنعدم
بثبوت حق الأول فيه وإنما ينعدم ذلك باستيفائه فلهذا كان خياره بعد استيفاء الأول وإذا
شج الرجل الرجل موضحة فأخذت ما بين قرني المشجوج وهي لا تأخذ ما بين قرني الشاج
لكبر رأس الشاج فان المشجوج يخير فإن شاء أخذ الأرش وان شاء اقتص له يبدأ من أي
الجانبين أحب حتى يبلغ مقدارها في طولها إلى حيث تبلغ ثم يكف وليس له أن يشجه شجة
تأخذ ما بين قرنيه وذكر الطحاوي عن الرازي الكبير ان له ذلك ولا خيار له لان في القصاص
فيما دون النفس تعتبر المساواة في المحل ولا ينظر إلى الصغر والكبر (ألا ترى) ان من
قطع يد انسان ويد القاطع أكبر من يد المقطوع انه يجب القصاص فهذا مثله ولكنا نقول
الا صل في الشجاج انه تعتبر المساواة في المساحة والسبر لان البدل يختلف بحسب الاختلاف
في ذلك والمساواة في البدل معتبرة في القصاص فيما دون النفس فهاهنا لو شجه شجة تأخذ ما بين
قرني الشاج كان في المساحة أكثر من الأول وكذلك في الألم ولو شجه مثل الأول وفى
المساحة كان في السير دون الأول لان الشجة الأولى أخذت ما بين قرنيه وذلك القدر لا يأخذ
ما بين قرني الشاج فقد عجز عن استيفاء حقه بكماله فثبت له الخيار ان شاء استوفى الأرش
وان شاء استوفى القصاص بقدر الأولى في المساحة وتجوز بدون حقه في السبر بخلاف اليد
فان المعتبر هناك منفعة البطش فلعل هذه المنفعة في اليد الصغيرة أكثر من اليد الكبيرة
(ألا ترى) أن أرش اليد لا يختلف باختلاف اليد في الصغر والكبر بحال فإن لم يأخذ ما بين
قرني المشجوج لكبر رأسه وهي تأخذ ما بين قرني الشاج وتفضل فإنه يخير أيضا لأنه ان
استوفى مثل حقه في المساحة كان هذا أزيد في السير من الأول وان اقتصر علي ما يكون
مثل الأول في السبر كان دون حقه في المساحة فيتخير فإن شاء أخذ الأرش وان شاء اقتص
145

له ما ين القرنين من الشاج لا يزاد على ذلك وان كانت الشجة في طول رأس المشجوج وهي
تأخذ من رأس الشاج من جبهته إلى قفاه فإن شاء أخذ الأرش وان شاء اقتص له مقدار
شجته إلى مثل موضعها من رأسه لا أزيد علي ذلك لأنه لو شجه مثل شجته في الطول كان
هذا في معنى السبر أزيد من الأول ولا سبيل له إلي استيفاء الزيادة وان شجه إلى مثل ذلك
الموضع من رأسه كان دون حقه في الطول فيخير لذلك وان كانت أخذت من المشجوج
ما بين جبهته إلى قفاه ولا تبلغ من رأس الشاج الا إلى نصف ذلك فإن شاء أخذ الأرش
وان شاء اقتص له بمقدار شجته إلى حيث تبلغ ويبدأ من أي الجانبين أحب لما قلنا وقدمنا
فيما سبق حكم القصاص في الشجاج وما فيها من اختلاف الروايات وانه لا يقتص في شئ من
ذلك حتى يبرأ ولا قصاص في الهاشمة والمنقلة والآمة والجائفة لأن هذه الجراحات في العظم
فاعتبار المماثلة فيها غير ممكن وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا قصاص في عظم وعن ابن
عباس رضي الله عنه أنه قال ولا قصاص في آمة ولا جائفة ولا منقلة ولا عظم يخاف عليه تلف
وكل عظم كسر من ساعد أو ساق أو ضلع أو ترقوة أو غير ذلك ففيه حكم عدل ولا قصاص
فيه لتعذر اعتبار المساواة فيه وللتفاوت في الأرش فان حكم العدل إنما يظهر بتقويم المقومين
فلا يكون ذلك مقطوعا به وإذا قطع رجل يد رجل عمدا ويد القاطع شلاء أو ناقصة أصبعا
قيل له اقطع يده إن شئت والا فخذ الأرش لأنه وجد جنس حقه ولكنه ناقص في الصفة
فيتخير لذلك فان سقطت يده قبل أن يختار من له القصاص شيئا فلا شئ له عندنا وله الأرش
عند الشافعي وكذلك لو كانت يد القاطع صحيحة فسقطت لأكلة أو قطعت ظلما فلا شئ لمن له
القصاص وعند الشافعي له الأرش وكذلك في النفس لو مات من عليه القصاص أو قتل فهو
بناء على ما سبق ان عنده الواجب أحد شيئين إما القصاص أو الأرش وإذا تعذر استيفاء
أحدهما لفوات محله تعين الآخر وعندنا الواجب هو القصاص لا غير وقد سقط لفوات
محله حقيقة وحكما والحق الثابت في محل مقصور عليه لا يبقى بعد فواته بخلاف ما إذا قطعت
يده في سرقة لأنه لما قضي بيده حقا مستحقا عليه كان ذلك كالسالم له حكما إذا ثبت هذا فيما
إذا كانت يده صحيحة فكذلك إذا كانت يده شلاء لان حقه كان في القصاص وقد فات محله
حين سقطت يده فان قيل هو مخير بين استيفاء القصاص واستيفاء الأرش فإذا تعذر عليه
استيفاء أحدهما تعين الآخر قلنا لا كذلك بل كان حقه في القصاص لا غير الا انه كان له أن
146

يستوفى الأرش لعجزه عن استيفاء كمال حقه بدليل انه لو زال الشلل قبل أن يستوفى الأرش
لم يكن له الا القصاص وقد فات محل حقه فلم يبق له شئ ولو قطعت أصبع من أصابع القاطع
لغير قصاص لم يكن للمقطوعة يده الا انه يقطع ما بقي ولا أرش له بخلاف ما إذا قطعت أصبع
من أصابعه في قصاص لان الإصبع جزء من اليد فيعتبر الجزء بالكل في الفصلين جميعا وإذا
اقتص الرجل من الرجل في عضو أو شجة فمات المقتص منه من ذلك فديته على عاقلة المقتص
له في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شئ عليه والمسألة مختلفة بين الصحابة
رضي الله عنهم كان عمر وعلى يقولان الحق قبله ولا شئ علي أحد وكان ابن مسعود يقول
يضمن دية النفس ويسقط من ذلك أرش العضو الذي هو حقه وكان عبد الله بن عمرو بن
العاص يقول عليه الدية وكان يروى في ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه من استقاد
من انسان فمات المستقاد منه وبرئ المستقيد ضمن المستقيد ديته وجه قولهما أن هذا قطع بحق أو قطع
مستحق فالسراية المتولدة منه لا تكون مضمونة كالامام إذا قطع يد السارق فمات من ذلك
وتأثيره أن السراية أثر الفعل فلا تنفصل عن أصل الفعل ولما اتصل أصل الفعل بالخفية فكذلك
أثره ثم نفس من عليه القصاص صارت في حكم نفسه على معنى أن الفعل في محل حقه يكون
حقا مباحا وفيما وراء ذلك يكون عدوانا وان محل حقه صار مملوكا له في حكم الاستيفاء وما
وراء ذلك غير مملوك له والفعل في محل حقه جزاء وفيما سوى ذلك عدوان فإذا تميز أحد
المحلين عن الآخر حكما يجعل كالتمييز حسا ولا تنوب السراية من بدن إلي بدون فباعتبار هذا المعنى
يجعل عقيب القطع كأنه تم البرء فلا تعتبر السراية بعد ذلك ولان هذا فعل مأذون فيه فالسراية
المتولدة منه لا تكون مضمونة كمن قال لغيره اقطع يدي أو قال من عليه القصاص لمن له
القصاص اقطع يدي قصاصا فقطع وسرى فإنه لا يجب شئ وكذلك النزاع والفصاد والحجام
والختان لا يضمن واحد منهم بالسراية شيئا لهذا المعنى ولان هذا قطع لو اقتصر لم يكن مضمونا
فلا تكون السراية مضمونة كقطع يد المرتد وهذا لان الشرع أثبت له حق قطع اليد وليس
في وسعه التحرز عن السراية فلا يجوز أن يكون مؤاخذا به والسراية إنما تكون لعجز الطبيعة
عن دفع أثر الجراحة والبرء وبقوة الطبيعة عن دفع أثر ها وشئ من ذلك ليس في وسع المستوفى
لحقه * يوضحه ان طرفه كان سالما بلا خطر فلا يتميز الا بمثله وهو طرف يسلم له بالاستيفاء من
غير خطر ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما ان هذا قتل بغير حق فيكون مضمونا وبيانه
147

ان القتل اسم لجرح يعقبه زهوق الروح وقد وجد ذلك ولا شك ان القطع غير القتل فالقطع
اسم لفعل يكون مؤثرا في إباحة جزء من الجملة والقتل اسم لفعل يكون مؤثرا في ازهاق الروح
وإنما يتعين ذلك باعتبار المآل ولهذا يعتبر في الجنايات مآلها حتى إذا قطع يد امرأة أو يد رجل
من نصف الساعد لم يكن عليه القصاص فان سرى إلي النفس يجب القصاص فبهذا يتبين ان
عند السراية تبين ان أصل الفعل كان قتلا لا ان يقال كان قطعا فصار قتلا لان الفعل لا يتصور
أن يكون علي صفة ثم يصير على صفة أخرى إذ لا بقاء له ولا يتبين أنه كان قتلا في الأصل
وهو بمنزلة تحريك الخشبة إن لم يصب شيئا كان تحريكا وان ألقاها على ما انكسر بها كان كسرا
وان ألقاها على حيوان فمات بها كان قتلا وهاهنا لما انزهق الروح بهذا الفعل عرفنا انه كان
قتلا من الأصل ولا حق له في القتل فيكون هذا قتلا بغير حق بمنزلة ما لو حز رقبته ولهذا
كان القياس أن يلزمه القصاص عند أبي حنيفة الا انه أوجب عليه الدية استحسانا بمنزلة
الخطأ فإنه ما قصد قتله وإنما قصد استيفاء حقه بإقامة فعل هو حق فيكون بمنزلة ما لو رمى إلى
صيد أو حربي فأصاب مسلما * يوضحه ان الفعل من حيث الصورة حقه وباعتبار المآل كان غير
حقه والحكم وإن كان يبنى على ما يظهر في الحال فنسبة ذلك الفعل لصورته وصفة الحقية في
صورته تكون شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وما ادعوا من تمييز أحد المحلين حكما كلام
لا معنى له لان هذا التمييز في حكم القطع الذي هو قصاص فقط فأما فيما وراء ذلك فنفس من
عليه وأطرافه كشئ واحد وقد بينا ان هذا ليس باستيفاء لحقه وكذلك الفعل إنما يكون جزاء
إذا كان قطعا لا إذا كان قتلا وطرف من عليه غير مملوك لمن له القصاص حكما حتى إذا قطع
كان البدل لمن عليه لا لمن له القصاص ولكن في حق المتمكن من استيفاء حقه جعل كأنه له
واستيفاء حقه يكون بفعل هو قطع لا بفعل هو قتل قوله التحرز عن السراية ليس في وسعه
قلنا نعم ولكن العفو والترك في وسعه وهو مندوب إليه قال الله تعالى وأن تعفوا أقرب
للتقوى وإنما يتقيد بالوسع ما يكون مستحقا عليه فأما ما يكون مباحا له كالمشي في الطريق
والرمي إلى الصيد وتعزير الزوج زوجته فمقيد بشرط السلامة وإن لم يكن في وسعه ايجاد
ذلك لان ذلك غير مستحق عليه ثم عجزه لا يجوز أن يكون مسقطا حرمة صاحب النفس في
نفسه وأكثر ما في الباب ان يتقابل حقان حق هذا في طرف يسلم له بلا خطر وحق الآخر
في نفس محترمة متقومة فتترجح حرمة النفس على حرمة الطرف أو يعتبر الحرمتان فلحقه
148

في الطرف يتمكن من الاستيفاء ولمراعاة حق الآخر في النفس يتقيد عليه بشرط السلامة
وهو بمنزلة ما لو قلع سن انسان فاستؤني حولا فلم ينبت فإنه يمكن من استيفاء القصاص فان
استوفى القصاص ثم نبت السن المقلوع أولا وجب عليه أرش سن القالع لهذا المعنى وهذا
بخلاف قطع الامام يد السارق لان ذلك مستحق عليه اقامته فيتقيد بما في وسعه * يوضحه أن
المأمور به هناك قطع مطلق وفعله في الصورة قطع فيصير به ممتثلا للآمر ويخرج من عهدته
فيصير كالمسلم إلى من له القصاص عامل لنفسه الحق فإذا مات من ذلك فإنما قتله من له الحق بعد
ما خرج الامام من عهدة فعله فأما هنا فمن له القصاص عامل لنفسه فلا يخرج من عهدته قبل
البرء وإنما اذن له في قطع مقيد بكونه قصاصا والقصاص عبارة عن المساواة فإذا تبين أنه لم
يكن قصاصا كان مضمونا عليه ولهذا قلنا في قوله اقطع يدي فقطع فسرى لا يجب شئ لأنه
أنابه مناب نفسه في قطع مطلق فكما أن به تحول فعله إلى الآمر وخرج القاطع من عهدته
وكذلك النزاع والفصاد والحجام إنما أمروا بفعل مطلق وكما فرغوا من ذلك خرجوا من
عهدتهم وصار مسلما إلى من أمرهم بذلك فأما قول من عليه القصاص لمن له القصاص اقطع
يدي قصاصا غير معتبر لان من له القصاص عامل لنفسه بعد هذا القول وقبله كيف وقد قيد
الامر بقوله اقطع قصاصا فإذا سرى إلى النفس فهذا على الخلاف والحرف الآخر لأبي
حنيفة أن هذه سراية تولدت من قطع مضمون فيكون مضمونا كما لو قطع يد انسان ظلما وبيان
ذلك أن القصاص محض حق العباد فيكون واجبا بطريق الجبران وما يستوفى جبرا يكون
على المستوفى بما كان استوفى منه فان معنى الجبران لا يتحقق الا به كمن استهلك على انسان
مالا فاستوفى منه مثله كان المستوفى مضمونا على المستوفى وهذا مثله فإذا كان أصل الفعل
مضمونا والسراية أثره فتكون مضمونة أيضا وعليه يخرج قطع يد السارق لأنه أقامه حدا
فلا يكون مضمونا على الامام (ألا ترى) أن ذلك قضاء منه وفيما يكون مضمونا عليه لا
يكون نافذ القضاء وكذلك إذا قال لغيره اقطع يدي فإنه غير مضمون عليه لأنه عامل للآمر
لامره في محل مملوك له وكذلك قطع بد المرتد وأما فعل الفصاد والنزاع فإنه مضمون ضمان عقد
ولكن لا يتولد ضمان الجناية من ضمان العقد وقد قررنا هذا في مسألة الأجير المشترك ولو
لم يمت المقتص منه ومات المقتص له قتل به المقتص منه لأنه لما مات تبين أن الواجب له
القصاص في النفس ومن له القصاص في النفس إذا قطع بد من عليه القصاص لا يسقط به
149

حقه في النفس فلهذا قتل به قصاصا ولو قتل رجل رجلا فدفع إلى وليه فقطع يده عمدا أو
مثل به في غير ذلك الموضع لم يكن عليه في ذلك أرش لأنه كانت له نفس واليد من النفس
(ألا ترى) أن استيفاء النفس باق على ذلك كله ولكن تعذر لما باشره من المثلة فان المثلة حرام
بنهي النبي عليه السلام عن المثلة وما كان يمنع من هذا الفعل فذاك لا يدل على أنه مضمون
عليه كما لو حرقه بالنار فإنه لا يكون مضمونا عليه وإن كان هو ممنوعا منه والا طراف تابعة
للنفس فإذا كان فعله في النفس علي وجه يكون ممنوعا منه لا يوجب الضمان عليه فكذلك في
الطرف ولو أن الولي بعد ما قطع يده عمدا أو خطأ عفا عنه كان عليه دية اليد في قول أبي حنيفة
ولا شئ عليه في قول أبى يوسف ومحمد لأنه استوفى طرفا من نفس لو استوفاها لم
يضمن فكذلك إذا استوفى جزأ منها لم يضمن كما لو قطع يد مرتد وهذا لان الأطراف
تابعة للنفس فمن ضرورة ثبوت حقه في النفس ثبوت حقه في الأطراف لان الحق في التبع
إنما يثبت بثبوته في الأصل ولهذا لم يكن استيفاء الطرف موجبا للضمان عليه قبل العفو
فكذلك بعد العفو ولان العفو اسقاط فإنما ينصرف إلى الباقي لا إلى المستوفى كمن قطع يد
انسان ثم قطع من له القصاص أصبعا من أصابعه ثم عفا عن اليد لم يضمن أرش الإصبع
والأصابع للكف بمنزلة الأطراف للنفس والدليل عليه أنه لو أعقب القطع قتلا لم يضمن
شيئا وكان ذلك باعتبار ثبوت حقه في الطرف فكذلك إذا أعقبه عفوا لأنه في العفو محسن
واحسانه لا يكون موجبا عليه الضمان * يوضحه أنه بعد العفو لو سرى إلى النفس لم يضمن شيئا
والقطع الساري أفحش من المقتصر وإذا كأن لا يضمن بعد العفو إذا سرى شيئا فإذا اقتصر
أولي أن لا يضمن و أبو حنيفة يقول استوفى طرفا لا حق له في استيفائه من نفس متقومة
فيكون مضمونا عليه وبيانه أن نفس من عليه القصاص متقومة في حق سائر الناس فكذلك
في حق من له القصاص إلا أن تقومها سقط في حق الاستيفاء بما سبق ولا حق لمن له القصاص
في استيفاء الطرف لان استيفاء الطرف قطع وقد بينا أن حقه في القتل والقطع غير القتل
والدليل عليه أنه يمنع من الاستيفاء مع أن القطع طريق مشروع لاستيفاء القصاص في
النفس فإنما يمنع هناك لأنه مخطئ في الطريق وهاهنا غير مخطئ في الطريق ثم يمنع من
الاستيفاء فعرفنا أنه لاحق له في الطرف وهذا لان حقه في النفس والأطراف تابعة
للنفس فإنما يثبت له الحق في استيفائها تبعا لا مقصودا فإذا استوفى الطرف مقصودا كان مستوفيا
150

ما ليس بحق له الا انه قبل العفو متمكن من أن يجعله تبعا للنفس بان يقتله فيكون كل واحد من
الفعلين قتلا ويصير الطرف تبعا للنفس فلا يضمن شيئا فأما بعد العفو فقد سقط حقه في النفس
وبقي الطرف مقصودا بالاستيفاء ولا حق له فيه مقصودا فكان مضمونا عليه والدليل عليه أن
من وجب له القصاص علي امرأة فرمى بها يلزمه الحد والمستوفى بالوطئ في حكم جزء من العين
فلو ثبت من له الحق في أطرافها مقصودا لصار ذلك شبهة في اسقاط الحد ومن له القصاص على
عبد انسان إذا تصرف في ماليته كان هو في ذلك كأجنبي آخر وإن كان حقه ثبت في ماليته
تبعا علي معنى ان باستيفاء النفس يصير مستوفيا للمالية والدليل على أن من له القصاص في
النفس لاحق له في الطرف انه لو كان عليه قصاص في أطرافه لإنسان وفي نفسه لآخر
فجاء من له القصاص في النفس فقطع طرفه لم يضمن من عليه شيئا لصاحب الطرف ولو كان
حق من له القصاص في النفس ثابتا في الطرف لصار هو قاضيا بطرفه حقا مستحقا عليه
فيغرم الأرش لصاحب الطرف وهو بخلاف الإصبع مع الكف فان حق من له القصاص
ثابت في الأصابع هناك بدليل ان فوات بعض الأصابع يثبت له الخيار وأن الكف تابعة
للأصابع بدليل حكم الأرش فأما هنا ففوات الأطراف لا يثبت الخيار لصاحب النفس ولا
ينقص بدل النفس بفوات الأطراف فعرفنا أن الأطراف تابعة للنفس وقد قيل إن تلك المسألة
مذكورة في الزيادات والجواب قول محمد خاصة وهذا بخلاف ما لو سرى القطع إلى النفس بعد
العفو لان بالسراية يتبين ان أصل فعله كان قتلا وانه كان مستوفيا حقه وإنما أسقط بعد الاستيفاء
وهذا بخلاف ما إذا أعقب القطع قتلا لان الفعل الثاني يكون متمما للمقصود بالفعل الأول فيتبين
به ان كل واحد منهم قتل والقتل حقه فلا يكون مضمونا عليه ثم إذا قتله فقد تقرر حقه في النفس
وذلك يمنع وجوب ضمان الطرف عليه بخلاف ما إذا عفا ولا معنى لقولهم إن عفوه ينصرف إلى
ما بقي لأنه بقطع اليد ما صار مستوفيا شيئا من القتل حتى يقال ينصرف عفوه إلى ما بقي قال وفى
العين القصاص وفي السن القصاص إذا قلعت أو كسر بعضها ولم يسود ما بقي وقد بينا حكم القصاص
في السن وإنما بقي منه حرف وهو أنه إذا كسر بعض السن فاسود ما بقي لا يجب القصاص
فإنه عاجز عن فعل مثل الفعل الأول فإنه لا يمكنه أن يكسر بعض السن على وجه يسود ما بقي
فلهذا لا يلزمه القصاص * يوضحه أن الفعل كله في محل واحد وآخره موجب للأرش فيمنع
ذلك وجوب القصاص في جميعه وفرق أبو يوسف ومحمد بين هذا وبين ما إذا قطع أصبع
151

انسان فشلت بجنبها أخرى وهذا لان كل أصبع محل على حدة ووجوب الأرش بالفعل في
أحد المحلين لا يمنع وجوب القصاص بالفعل في المحل الآخر وهنا المحل كله واحد فإذا خرج
أخره من أن يكون موجبا للقصاص يخرج أوله من أن يكون موجبا فاما في العين إذا ذهب
نورها بالضربة ولم تخسف فعليه القصاص وصورته أن تحمى له مرآة ثم تقرب منها حتى يذهب
نورها ويربط على عينه الأخرى وعلي وجه قطن هكذا روى عن علي رضي الله عنه فان هذه
الحادثة وقعت في زمن عثمان رضي الله عنه فشاور الصحابة في ذلك فلم يجد عندهم شيئا حتى
قضى علي رضي الله عنه بالقصاص وبين طريق الاستيفاء بهذه الصفة فاتفقوا على قوله فأما إذا
انخسفت أو قلعت الحدقة فلا قصاص فيها لأنه لا يتأنى اعتبار المماثلة في السن والمحل فهو بمنزلة
كسر العظم وانه لا يتعلق به القصاص وإذا أحرق رجل رجلا بالنار فعليه القصاص لان النار تعمل
عمل السلاح في تفريق الاجزاء والتأثير في الظاهر والباطن ثم يقتله المولى بالسيف عندنا
وعند الشافعي يقتله بمثل ما قتله به والدليل على أنه لا يحرقه بالنار قوله عليه السلام لا يعذب
بالنار الا ربها وقال لا تعذبوا بعذاب الله أحدا وإذا طعنه برمح لا سنان له فأجافه فمات
فعليه القصاص لوجود الجرح في الظاهر والباطن وقد بينا أن غير الحديد إذا كان يعمل عمل
الحديد في القطع والجرح فالفعل به يكون عمدا محضا وكذلك لو شق بطنه بعود أو ذبحه
بقصبة فهو بمنزلة السلاح يجب القصاص به وفى مثقل الحديد والنحاس اختلاف الروايات
كما بينا والكلام في القتل بالحجر والعصا قد تقدم وإذا غرق رجل رجلا في ماء فلا قصاص
عليه وإن كان يعلم أنه لا ينقلب منه بلغنا ذلك عن عمر رضي الله عنه ومراده الحديث الذي روينا في
كتاب الاكراه وعلى قول أبى يوسف ومحمد يجب عليه القصاص إذا جاء من ذلك ما يعلم أنه
لا يعيش من مثله بمنزلة القتل بالحجر الكبير على قولهم ويعمدون فيه قول النبي عليه الصلاة
والسلام من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه ولكن أبو حنيفة قال هذا لا يثبت مرفوعا
وإنما هذا كلام زياد ذكره في خطبه ألا ترى أنه قال فيه ومن قتل عبده قتلناه وبالإجماع
من قتل عبده لا يقتل ثم الماء ليس في معنى السلاح (ألا ترى) انه لا يؤثر في تفريق الاجزاء
في الظاهر فهو بمنزلة الحجر والعصا على قولهم يوضحه ان الغريق يجتذب الماء بنفسه فيكون
كالمعين علي نفسه فيكون ذلك شبهة في اسقاط القود ولو خنق رجلا فمات أو طرحه في بئر
أو ألقاه على ظهر جبل أو سطح فمات لم يكن فيه قصاص عند أبي حنيفة وعندهما إذا كان
152

شئ من ذلك يعلم أنه لا يعيش من مثله فهو عمد محض يجب به القصاص وإن كان خناقا معروفا
قد خنق غير واحد فعليه القتل لأنه ساع في الأرض بالفساد والامام يقتل الساعي في الأرض
بالفساد حدا لا قصاص وذكر في النوادر انه لو حبسه في البيت فطبق عليه الباب حتى مات لم
يضمن شيئا عند أبي حنيفة ولكن يعزر على ما صنع وعندهما يضمن ديته لأنه مسبب لا تلافه
على وجه متعد فيه فيكون بمنزلة حافر البئر في الطريق وأبو حنيفة يقول حبسه وتطبيق
الباب عليه لا يوجب اتلافه وإنما يتلفه معنى آخر وهو الجوع الذي هاج من طبعه وبعد الطعام
عنه ولا صنع للجاني في ذلك فلو ضمن إنما يضمن بجنايته عليه بتأخير حبسه والحر لا يضمن باليد
ولو سقي رجلا سما أو أوجره ايجارا فقتله لم يكن عليه قصاص والدية على عاقلته وفي بعض
النسخ قال سقاه سما أو أوجره ايجارا فقد صار متلفا له وهذا هو الأصح لأنه إذا دفعه إليه
حتى شرب بنفسه لم يضمن شيئا لان الشارب مختار به في شربه فيكون قاتلا نفسه ومن أعطاه
غره حين لم يخبره بما فيه من السم ولكن بالغرور لا يجب عليه ضمان النفس والأصل فيه أن
اليهودية حين أتت بالشاة المسمومة هدية إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل من ذلك
بشر بن البراء فمات ثم لم يضمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته لان تناوله باختياره فاما
إذا أوجره ايجارا فقد صار متلفا له فيكون ضامنا ديته وقيل هذا إذا كان سما قد يقتل وقد
لا يقتل فيكون ذلك بمنزلة الخطأ فأما إذا كان سما ذعافا يعلم أنه يقتله لا محالة فإنه يجب عليه
القصاص عند أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما تقدم من الفعل الذي لا يلبث وإذا جرح الرجل
الرجل عمدا بالسيف فاشهد المجروح على نفسه أن فلانا لم يجرحه ثم مات المجروح من ذلك
فلا شئ علي فلان ولا تقبل البينة عليه بالجناية لان قبول البينة يبنى على دعوى صحيحة والوارث
في الدعوى قائم مقام المورث فكما لا تصح الدعوى من المورث بعد اقراره انه لم يجرح فكذلك
لا تصح من الوارث لأنه نفى أصل الجرح ومن ضرورته نفى القتل ولو لم يقر المجروح بذلك
ولكنه عفى عن الجارح قبل موته ثم مات ففي القياس عفوه باطل لان القصاص في النفس إنما
يجب بعد موته ويكون للوارث لا للمورث فالوارث هو الذي ينتفع به دون المورث فيكون
المورث بعفوه مسقطا حق الغير ومسقطا للحق قبل الوجوب وذلك باطل والدليل عليه ان عفو
الوارث قبل موت المورث عن القصاص صحيح ولو كان القصاص يجب للمورث لا يصح عفو
الوارث كالابراء عن الدين وجه الاستحسان ان الوراثة خلافة وإنما يجب القصاص للوارث
153

على وجه الخلافة عن المورث لا ابتداء ولهذا لو أنقلب مالا يقضى منه دين المورث وتنفذ
وصاياه فأصل الحق كأنه ثابت للمورث فيصح بعد ما وجد سبب وجوب الحق وإن لم يجب
بعد كما يجوز التكفير بعد الجرح قبل زهوق الروح ثم عفوه في الانتهاء كاذنه في الابتداء
واذنه في الابتداء مسقط للقود عن الجاني حتى إذا قال اقطع يدي فقطعه فسري لا يجب شئ
كذلك عفوه في الانتهاء ولو عفا الولي قبل موت المجروح ففي القياس لا يصح عفوه أيضا
لأنه لم يأن حقه بعد فان ثبوت حقه بطريق الخلافة وذلك بعد موت المورث وإذا أسقط
حقه قبل أوانه كان باطلا كما إذا أبرأ عن دين واجب لمورثه في حياته وجه الاستحسان
أن السبب يجعل قائما مقام حقيقة وجوب الحق في صحة العفو وهذا السبب انعقد موجبا للقصاص
للوارث وإن كان بطريق الخلافة عن المورث فيقام مقام حقيقة وجوب الحق في تصحيح عفوه
* يوضحه أن باعتبار أصل السبب الحق للمورث لان السبب جناية على حقه وهو من أهل
أن يجب له الحق بعد هذا السبب وباعتبار نفس الواجب الحق للوارث لان القصاص في النفس
لم يجب الا بعد الموت وبعد الموت المورث ليس بأهل أن يجب له الحق فيجب للوارث
وكل واحد من الجانبين مراعى فلمراعاة السبب صححنا عفو المورث استحسانا ولمراعاة
الواجب بالسبب صححنا عفو الوارث استحسانا وهذا لان العفو مندوب إليه قال الله تعالى
وأن تعفوا أقرب للتقوى وقال فمن تصدق به فهو كفارة له فيجب تصحيحه ما أمكن والله أعلم
(باب العفو عن القصاص)
(قال رحمه الله) العفو عن القطع والضربة والشجة والجراحة يكون عفوا عن السراية
وبيانه أن منقطع يد انسان أو شجه موضحة فقال المجني عليه عفوت عن القطع أو عن الشجة
فان اقتصر جاز العفو بالاتفاق وان سرى إلى النفس فالعفو باطل في قول أبي حنيفة وفى
القياس يلزمه النقصان وفي الاستحسان تلزمه الدية في ماله وقال أبو يوسف ومحمد العفو
صحيح ولا شئ عليه وأما إذا قال عفوتك عن الجناية أو الشجة وما يحدث منها أو عن القطع
وما يحدث منه صح العفو بالاتفاق وهما يقولان عفى عن حقه لأنا قد بينا أن بعد السراية
الحق ثابت في الطرف فقبل السراية أولى والدليل عليه أن العفو في الانتهاء كالاذن في
الابتداء بدليل أنه لو اقتصر فيهما جميعا لم يضمن شيئا ثم الاذن في الابتداء بهذه الألفاظ
154

يسقط ضمان السراية فكذلك العفو في الانتهاء وهو بمنزلة ما لو كان العفو بلفظ الجناية والدليل
عليه هو أن سبب ثبوت الحق الشجة ولو لاه لما صح العفو عن الجناية أو عن الجراحة وما
يحدث منها فإذا عفى عن الشجة صار أصل السبب هدرا فالسراية التي تنبنى عليه تكون هدرا
أيضا والدليل عليه أن معنى قوله عفوتك عن الشجة أي عن موجب هذه الشجة وموجبها
القصاص في الشجة إذا اقتصر وفي النفس إذا سرى فيصرف العفو إليهما كما لو قال المغصوب
منه للغاصب أبرأتك عن الغصب يكون ذلك ابراء عن الضمان الواجب بالغصب وهو رد
العين عند قيامها ورد القيمة بعد هلاكها وكذلك المشترى إذا أبرأ البائع عن العيب يكون
ذلك ابراء عن موجب العيب وهو الرد عند الامكان والرجوع بالنقصان عند تعذر الرد
والدليل عليه ما قال في الجامع الصغير لو أن عبدا قطع يد انسان فصالح مولاه عن القطع على
أن يدفع العبد إليه فأعتقه المجني عليه ثم مات قال العتق نافذ والعبد صلح بالجناية فإذا كان
الصلح علي القطع صلحا عن السراية فكذلك العفو وقال في الزيادات لو ادعى رجل شجة مع
السراية وشهد له شاهدان أحدهما بالشجة والآخر بها وبالسراية تقبل شهادتهم علي الشجة
ولو لم تكن الشجة حقه بعد السراية لما قبلت الشهادة لاختلاف الشاهدين في المشهود به وأبو
حنيفة يقول عفا عن غير حقه فلا يصح لان العفو اسقاط الحق فإذا صادف ما ليس بحقه كان
باطلا وبيانه أنه عفا عن اليد وحقه في النفس لما بينا أن بالسراية يتبين أن أصل الفعل كان قتلا
وموجب القتل القصاص في النفس دون اليد والدليل عليه ان المعتبر في الجنايات مآلها
لا حالها (ألا ترى) ان أصل الفعل قد يكون موجبا للقصاص وبالسراية يتبين انه كان غير
موجب كما لو قطع يده من المفصل فسرى إلى نصف الساعد فباعتبار المال هاهنا يتبين انه لم
يكن حقه في اليد قصاصا (ألا ترى) انه بعد السراية لو قال الولي عفوتك عن اليد لم يصح
فكذلك قبل السراية ولو قال المجني عليه عفوتك عن القتل ثم اقتصر لم يصح فكذلك إذا
قال عفوتك عن اليد فسرى ولا معنى لما قال إنه عفا عن موجب اليد لأنه لما قال عفوتك عن
القطع فمعناه عن قطع واجب مقابل هذا القطع لاعن هذا القطع الذي تحقق لان العفو عنه
لا يتحقق وقد تبين انه لم يكن قطع واجب بمقابلة هذا القطع وقوله بان هذا القطع سبب حقه
قلنا القطع سبب حقه في اليد لا سبب حقه في النفس بل حقه في النفس القتل لان القطع
الساري لا يقول إنه قطع ثم قتل أو قطع يصير قتلا بمنزلة قنص يصير صيدا ولكنه يتبين أنه
155

كان قتلا في الأصل لان القتل فعل مزهق للروح وإنما انزهق هذا الروح عقيب هذا الفعل
فعرفنا انه قتل ولهذا صح العفو بلفظ الجناية لان اسم الجناية يتناول القتل وما دون (ألا ترى)
انه لو قال لا جناية في قتل فلان ثم ادعى عليه النفس أو ما دون النفس لم تسمع بخلاف القطع
فهو اسم حائز لما دون النفس حتى لو قال لا قطع لي قبل فلان ثم ادعى عليه النفس صحت
الدعوى وكذلك إذا قال عفوتك عن القطع وما يحدث منه لان ذلك عبارة عن النفس وقد
تبين أن حقه كان في النفس فصح العفو وهذا بخلاف المأذون في الابتداء لان الاذن صادف
محلا هو حقه فيصير المأذون قائما مقام الاذن في إقامة الفعل فيه فكأنه فعل بنفسه وبخلاف
ما لو اقتصر لأنه تبين هناك ان فعله كان قطعا وان حقه في قطع واجب بمقابلة هذا القطع فاما
إذا دفع العبد باليد فالصلح هناك باطل عند أبي حنيفة إذا سرى قبل أن يعتقه الا ان عتقه إنما
ينفذ لأنه مقبوض بحكم صلح فاسد فيصير مملوكا فينفذ فيه العتق ثم من حيث الظاهر أنما دفع
العبد باليد ومن حيث المعنى قصد المولى دفعه بالجناية فإذا لم يتصل به مالا يمكن فسخه وهو
العتق اعتبرنا الظاهر وقلنا إذا سرى فالصلح باطل وإذا اتصل به مالا يمكن فسخه اعتبرنا
المقصود وهو الدفع بالجناية فقلنا العتق نافذ والعبد صلح بالجناية * يوضحه ان هناك نفذ العتق
لكونه مملوكا له وإن كان بسبب فاسد ويضمن قيمته لمولاه ثم المجني عليه يستوجب القيمة على
المولى أيضا لأنه دفعه على وجه لم يصر به مختارا فكان مستهلكا فيلزمه قيمته فتقع المقاصة بين
القيمتين فلهذا قال العتق نافذ والعبد صلح بالجناية وأما مسألة الجامع فقيل إنه قول محمد ثم
إنما يتبين ان الحق في النفس إذا ثبتت السراية ولم تثبت لان الشاهد بها واحد وبدون
السراية الحق في الشجة وقد اتفق الشاهدان عليه ولا يقال المدعى يتبرأ من الشجة لأنه إنما
يتبرأ منها إذا ثبت حقه في النفس ولم يثبت فهو بمنزلة ما لو ادعى بيع عين من انسان بثمن
وأنكر المشترى وحلف بنفي العين عن ملك المدعي لأنه إنما يتبرأ من ملك العين إذا ثبت حقه
في اليمين ولم يثبت ثم في القياس يجب القصاص عند أبي حنيفة لان العفو لما حصل من غير
حقه كان وجوده كعدمه ولكن في الاستحسان قال حقه في الصورة عند العفو ما أضاف إليه
العفو وان تبين في الأخيرة أنه غيره وكذلك ما أضاف إليه العفو هو السبب لثبوت حقه في
النفس ظاهرا ليصير ذلك شبهة في رد القود وقد قال في مسألة الجامع الصغير لو لم يعتق العبد
حتى سرى فالصلح باطل والقصاص واجب عند أبي حنيفة قيل ما ذكر هذا حق بسبب
156

القياس وقيل بل أبو حنيفة يفرق فيقول هناك الصلح مضاف إلي العبد والعبد ليس بسبب
لثبوت حقه في النفس فيصير ذلك شبهة في اسقاط القود ثم بنى على هذا الفصل مسألة
التزويج على الجراحة بالجناية وقد تقدم بيانها في كتاب الصلح والعفو عن دم العمد جائز في
المرض من جميع المال لان دم العمد ليس بمال وبالمرض إنما يلحقه الحجر عن التصرف في ماله
لحق ورثته ففيما ليس بمال المرض والصحة فيه سواء والقاتل وغير القاتل فيه سواء
(ألا ترى) أنه لو أعان انسانا بيديه لا يعتبر ذلك من ثلث ماله وإن كان ذلك الرجل قاتلا له وعلى قول
الشافعي عفوه في القصاص صحيح ولكن في حق المال باطل لان العمد عنده موجب للمال ولا
وصية للقاتل والعفو عن أحد القاتلين لا يبطل القود عن الآخر وكذلك الصلح مع أحدهما
لان القصاص لزمهما بالقتل ثم سقط أحدهما بالعفو ودم أحدهما متميز عن دم الآخر فسقوطه
عن أحدهما لا يورث شبهة في حق الآخر بخلاف ما لم إذا لم يجب القصاص على أحد القاتلين
لان هناك الفعلان اجتمعا في محل واحد وأحدهما موجب والآخر غير موجب ودم
المقتول لا يتميز بعضه عن بعض قال ولكل وارث في دم العمد نصيب بميراثه يجوز فيه عفوه
وصلحه أما الدية إذا وجبت بالقتل فلكل وارث فيها نصيب عندنا وقال مالك لا يرث الزوج
الزوجة من الدية شيئا لان وجوبها بعد الموت والزوجية نتقطع بالموت * وحجتنا في ذلك
حديث الضحاك بن سفيان الكلابي انه أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره
أن يورث امرأة اشيم الضبابي من عقل زوجها اشيم وقد كان عمر يقول لا ميراث للزوج والزوجة
من الدية ثم رجع إلى هذا الحديث وعن علي رضي الله عنه انه كان يقسم الدية علي من أحرز
الميراث وعنه قال إذا أوصى الرجل بثلثه دخلت ديته في تلك الوصية ولان بدل نفسه كسائر
أمواله حتى يقضي منه دينه فيرث منه جميع ورثته كسائر الأموال وكذلك يثبت حق الزوج
والزوجة في القصاص عندنا وعلى قول ابن أبي؟؟ لا يثبت حقهما في القصاص لان سبب
استحقاقهما العقد والقصاص لا يستحق بالعقد (ألا ترى) ان حق الموصي له لا يثبت في
القصاص وهذا لا قان المقصود في القصاص التشفي والانتقام وذلك يختص به الأقارب الذين
ينصر بعضهم بعضا * وحجتنا في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام من ترك مالا أو حقا
فلورثته والقصاص حقه لأنه بدل نفسه فيكون ميراثا لجميع ورثته كالدية والدليل عليه أن
استحقاق الإرث بالزوجية كاستحقاقه بالقرابة حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد وبه
157

فارق الوصية وبهذا تبين ان الاستحقاق ليس بالعقد وإذا كان دم العمد بين رجلين فعفى أحدهما
فلا قود على القاتل لما روي أن هذه الحادثة وقعت في زمن عمر رضي الله عنه فشاور فيها ابن
مسعود فقال أرى هذا قد أحيا بعض نفسه فليس للآخر أن يتلفه فأمضي عمر رضي الله عنه
القضاء على رأيه وهو المعني فان العافي أسقط حقه وهو من أهل الاسقاط فصح اسقاطه
وباسقاطه حق بعض نفس القاتل والآخر يعجز عن استيفاء حقه لان القتل لا يحتمل التجزء
في نفس واحدة استيفاء ثم القصاص في نفس واحدة كما لا يتجزأ وجوبا لا يتجزأ
سقوطا وإذا ثبت أن الآخر تعذر عليه استيفاء حقه قلنا إنما تعذر استيفاؤه لمعنى في القاتل
وهو مراعاة الحرمة لبعض نفسه فكان في معنى الخطأ فيجب المال للآخر ولا يجب للعافي
شئ لان تعذر استيفاء القصاص في حقه كان باسقاطه ثم للآخر نصف الدية في مال القاتل
لان سببه العمد المحض ويكون في ثلاث سنين عندنا وقال زفر في سنتين لأنه ما وجب
للآخر الا نصف الدية ونصف الدية يكون مؤجلا في سنتين كما لو قطع يد انسان ولكنا
نقول حقهما في بدل النفس وبدل النفس مؤجل في ثلاث سنين إذا وجب بالقتل كالأب
إذا قتل ابنه عمدا والذي وجب للآخر جزء من بدل النفس فكل جزء منه كذلك وإذا كان
دم العمد بين اثنين فشهد أحدهما علي الآخر أنه قد عفى فهذا على أربعة أوجه ان صدقه
في ذلك القاتل والمشهود عليه فللشاهد نصف الدية لان ثبوت العفو من الآخر بتصادقهما
عليه كثبوته بالمعاينة وان كذباه في ذلك فللمشهود عليه نصف الدية ولا شئ للشاهد لأنه
تعذر على المشهود عليه استيفاء نصيبه من القود لا لمعنى من جهته بل بشهادة الشريك عليه
بالعفو وهو فيما يشهد به عليه متهم فيكون كاذبا في حقه ويجعل ذلك بمنزلة انشاء العفو من
الشاهد فيسقط حق الشاهد ويجب نصف الدية للمشهود عليه وان صدقه القاتل وكذبه
المشهود عليه فلكل واحد منهما نصف الدية في مال القاتل اما المشهود عليه نصف الدية لما
قلنا فان القاتل والشاهد لا يصدقان عليه في اسقاط حقه وأما الشاهد فقد زعم أن نصيبه انقلب
مالا بعفو شريكه وصدقه القاتل بذلك وأما إذا كذبه القاتل وصدقه المشهود عليه ففي القياس
لا شئ لواحد منهما على القاتل لان حق الشاهد قد سقط بغير عوض فان شهادته بالعفو
في حق من كذبه وهو القاتل بمنزلة انشاء العفو وأما المشهود عليه فلانه قد أقر بالعفو المسقط
158

لحقه وفي الاستحسان يجب نصف الدية للشاهد لأنه لما كذب القاتل الشاهد فقد وجب
نصف الدية على القاتل للمشهود عليه بدليل ان المشهود عليه لو لم يصدق الشاهد كان له
من المشهود عليه على القاتل نصف الدية فالمشهود عليه بهذا التصديق حول ذلك النصف إلى
الشاهد وزعم أن نصف الدية للشاهد على القاتل لا له ومن أقر لإنسان بشئ فأقر المقر له لغيره
به لا يصير رد الاقرار الأول ولكن يخول الحق إلى الثاني باقراره أو كان شهد معه آخر لان
الشاهد من الوليين بشهادته على العفو متهم فإنه يقصد بشهادته أن يحول نصيبه إلى المال فلم يكن
مقبول الشهادة وبشهادة الواحد لا يثبت العفو على الشريك ولو شهد كل واحد منهما علي
صاحبه انه قد عفا والقاتل لا يدعى ذلك ولا ينكره فان شهدا علي التعاقب فالذي شهد أول
مرة قد بطل حقه لان شهادته بمنزلة عفوه ووجب لصاحبه نصف الدية فلا يبطل ذلك بشهادته
بعد ذلك على شريكه بالعفو وان شهدا معا فلا شئ لواحد منهما في هذا الفصل لان وكل واحد
منهما بمنزلة العافي فيسقط حقهما منه بغير عوض وكذلك لو كذبهما القاتل وان صدق القاتل
أحدهما وكذب الآخر أعطي الذي صدق نصف الدية وبطل حق الآخر لان كل واحد
منهما يدعي لنفسه نصف الدية عليه وقد صدق أحدهما فيلزمه نصف الدية له وكذب الآخر
وهو قد صار في حقه كالعافي وان صدقهما انهما قد عفوا ينبغي في قياس هذا القول أن يضمن
الدية لهما لأنه صار يقر لكل واحد منهما بنصف الدية علي نفسه كما إذا صدق أحدهما ولكن
في الاستحسان لا ضمان عليه لواحد منهما لان في تصديقه إياهما تكذيبهما فكل واحد منهما
يزعم أنه ما عفا وإنما عفا شريكه وهو إذا زعم أنهما عفوا فقد صار مكذبا لكل واحد منهما
وقد يثبتان انه لو كذبهما جميعا لم يكن لكل واحد منهما عليه شئ من الدية ولو كان الدم بين ثلاثة
نفر فشهد اثنان على الثالث أنه قد عفا فشهادتهما باطلة لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا بشهادتهما
فان نصيبهما من القصاص ينقلب مالا بها وقد سقط القود لاقرارهما بذلك فان كذبهما القاتل
أعطى المشهود عليه ثلث الدية ولم يكن للشاهدين شئ لما بين ان شهادتهما كانشاء العفو منهما
وان صدقهما أعطاهما الدية أثلاثا لإقراره للشاهدين بما ادعيا عليه من ثلثي الدية وإن لم يصدق
ولم يكذب فهو بمنزلة التكذيب والشهادة على الصلح بذلك كالشهادة على العفو فإن كان معهم
شريك رابع لم يشهد ولم يشهد عليه فله حصته من الدية لأنه تعذر عليه استيفاء القود لا بمعنى
من جهته بقاء المحل ثم العفو عن القود مما يثبت مع الشهادة فيثبت بالابذال مع الحجج كالمال
159

وان ادعى القاتل العفو على الورثة ولا بينة له حلف الوارث على ذلك لأنه يدعي عليه ما لو أقربه
لزمه فان حلف أحد بالقصاص لا يحلف بل بالقتل السابق ولكن يحلفه كما انتفى ما ادعاه من
العفو وان نكل عن اليمين بطل حقه لان نكوله كاقراره ولشركائه حصتهم من الدية كما لو
أقر الناكل العفو وأن شهد شاهدان للقاتل أنه صالح على الدية وانهما كفلا عنه بعد ذلك في غير
صلح والولي منكر لذلك لم تجز شهادتهما ان ذكرا أن الكفالة كانت في الصلح لان الصلح
المشروط فيه كفالة الكفيل بعينه لا يتم الا بقبوله فإنما يشهدان علي عقد تم بهما وهو الصلح
الذي تم بكفالتهما فيكون هذا شهادة علي فعل أنفسهما فلا تقبل وان ذكرا أنها بعد الصلح
فشهادتهما على الصلح جائزة لأنهما أجنبيان لا تهمة في شهادتهما ويؤخذان بالكفالة باقرارهما
على أنفسهما ولا يرجعان بذلك علي الذي كفلا عنه إلا أن يكون أمرهما بذلك لان الكفيل
بغير الامر متبرع فيما يلزم ويؤدى وان ادعى الولي شهادتهما وجحد ذلك القاتل جازت
شهادتهما علي أنفسهما لان القود قد سقط بدعوى الولي الصلح وقد أقر بوجوب المال عليهما
وعلي القاتل ويلزمهما ما أقرا به على أنفسهما ولا يرجعان على القاتل بشئ لان اقرارهما ليس
بحجة عليه وإذا شهد شاهدان على العفو وقضى القاضي ثم رجعا فلا ضمان عليهما لان القود ليس
بمال والشاهد عند الرجوع إنما يضمن ما أتلف من المال بشهادته فأما ما ليس بمال فيما هو مبتذل
لا يكون مضمونا بالمال عند الاتلاف وقد بينا هذا في الرجوع عن الشهادات وإن لم يقض
القاضي بشهادتهما حتى رجعا فالقصاص كما هو على حاله لان الشهادة لا توجب شيئا ما لم يتصل
بها القضاء فإذا لم يقض القاضي ها هنا لم يسقط القود فانعدم المانع من استيفاء القود واختلاف
شهود العفو في الوقت والمكان لا يمنع قبول الشهادة لان العفو قول بعاد ويكرر فيكون
الثاني هو الأول ولو شهدا على أحد الورثة بالعفو ولم يعرفوا انه هو فشهادتهما باطلة لان
المشهود عليه مجهول وجهالته تمنع القاضي من القضاء بالشهادة فيقي القصاص كما كان ولو شهد
أحدهما أنه عفا على ألف درهم وشهد الآخر انه عفا على غير جعل فالشهادة باطلة لاختلافهما
في المشهود به وهو نظير الطلاق والعتاق إذا اختلف الشاهدان فيه بهذه الصفة وكذلك أن شهد
أحدهما بالصلح بألف والآخر بخمسمائة لان القاتل لابد أن يدعي شهادة أحدهما وهو الذي
شهد بخمسمائة فيكون مكذبا شهادة الآخر وهو شهادة من شهد بألف وإن لم يدعه القاتل
وادعاه ولى الدم فقد حاز العفو باقرار الولي بسقوط حقه في القود ثم لا يقضي بشئ من المال
160

عند أبي حنيفة لما ذكرنا أن المدعى مكذب أحد الشاهدين وعندهما يقبل في الأقل لان مدعى
ألف مدع بخمسمائة ضرورة فهذا بمنزلة اختلافهم في دعوى المال مطلقا وكذلك أن شهد
أحدهما بالصلح على عبد والآخر بالصلح على ألف درهم لان كل واحد منهما شهد بعقد آخر
والمدعى لا بد أن يدعى أحد العقدين فيكون مكذبا شهادة الآخر وعفو الأب والوصي
عن قصاص واجب للصغير باطل لأنه فوض إليهما استيفاء حقه شرعا لا اسقاطه واسقاطه
القصاص كاسقاطه دينا واجبا للصبي فاما استيفاء القصاص فيؤول للأب أن يستوفى القصاص
الواجب للصغير في النفس وما دون النفس عندنا وقال الشافعي ليس له ذلك لان من أصله
أن الابن يتخير بين استيفاء القصاص واستيفاء الدية والأب بهذا الاستيفاء يقطع عليه خياره
وذلك لا يصلح منه ثم المقصود من القصاص التشفي والانتقام وذلك لا يحصل للصغير باستيفاء
أبيه والدليل عليه أن الصغير إذا بلغ ربما يميل إلى العفو فلو استوفاه الأب كان ذلك استيفاء
مع شبهة العفو وأصحابنا رحمهم الله يقولون ولاية الأب على ولده الصغير في استيفاء حقوقه
كولايته على نفسه (ألا ترى) انه يجمع المال والنفس جميعا وإنما تثبت له هذه الولاية نظرا للصبي
وفي استيفاء القود نظر له لأنه ربما يفوت بموت القاتل أو بهربه فالظاهر أنه إذا لم يستوف
القصاص على فور القتل فعل مالا يتمكن من استيفائه بعد ذلك ثم المقصود يحصل للصبي
باستيفاء أبيه إذا بلغ لأنه إذا لم ير قاتل وليه بعد البلوغ وعلم أنه قتل قصاصا حصل التشفي نظير
ما لو زوجه الأب فإنه يصح وإن كان المقصود يحصل له بعد البلوغ على أن المقصود أن يندفع
عنه شر القتل وذلك يحصل باستيفاء أبيه في الحال وشبهة عفو بتوهم وجوده في الحال تمنع
استيفاء القود فاما شبهة عفو بتوهم اعتراضه في الثاني فلا يمنع لأنه ما من ولى الا ويتوهم أن
يبدو له فيعفو ولا معنى لما قال إن فيه قطع خياره لان للأب أن يبيع مال ولده ولو بلغ الصبي
قبل البيع كان مخيرا بين استيفاء العين وبين ازالته بالبيع ثم لم يكن بيعه قطعا لخياره فهذا مثله
وليس للوصي أن يستوفى القصاص في النفس لان تصرف الولي مقصور على المال والقصاص
في النفس ليس بمال وفي استيفاء الوصي القصاص في الطرف روايتان أظهرهما ان له أن
يستوفى لان الطرف يسلك به مسلك الأموال بدليل أنه يعتبر فيه التساوي في البدل وفى
الرواية الأخرى ليس له أن يستوفى لان القصاص في الطرف ليس بمال كالقصاص في
النفس فان صالح الأب علي ابنه جاز صلحه لأنه يملك الاستيفاء وهو في ذلك كالقصاص
161

الواجب له فكذلك الصلح على الدية وان حط من الدية لم يجز حطه واليسير والفاحش في ذلك
سواء بخلاف البيع لان البدل هناك غير مقدر شرعا وهنا مقدر وهو الدية فالنقصان عنه
يكون اسقاطا فلا يصح منه قل أو كثر وصلح الوصي عن النقصان في النفس على الدية
يجوز في رواية هذا الكتاب ولا يجوز في رواية الصلح وقد بينا الروايتين وإذا لم يكن
للمقتول ولى سوى السلطان فقد بينا الكلام فيه في اللقيط وإن كان للدم وليان أحدهما
غائب فادعى القاتل ان الغائب عفا عنه وأقام البينة على ذلك وأبى قتله وأجيز العفو من الغائب
لان الحاضر خصم عن الغائب فانتصب هنا الحاضر خصما عن الغائب وإذا قضى بالعفو ثم حضر
الغائب لم يعد عليه لان القضاء اتصل بالبينة علي من هو خصم ويكون للحاضر حصته من
الدية وإذا ادعى عفو الغائب ولم يكن له بينة فأراد أن يستحلف فإنه يؤخر حتى يقدم الغائب
فيحلف لأنه لو استحلف الحاضر على ذلك كان بطريق النيابة والنيابة لا تجرى في الايمان
وليس للحاضر استيفاء القود ما لم يقدم الغائب قبل دعوى العفو فبعد دعوى العفو أولى فإذا
قدم فحلف اقتص منه فان ادعى بينة حاضرة على العفو أجله الحاكم ثلاثة أيام لأنه لا يتمكن
من إقامة الحجة الا بمهلة وإنما لم يحضر شهوده في المجلس الأول على ظن أن الخصم لا
ينكر العفو فلا بد من امهاله إلى المجلس الثاني وقد كان القاضي فيهم يجلس بنفسه في كل
ثلاثة أيام إذ الثلاثة مدة حسنة لايلاء الاعذار كما في شرط الخيار فان مضت الثلاثة ولم
يأت بهم وادعى بينة غائبة فهما سواء في القياس وينبغي في قياس قولنا أن يمضى القضاء عليه
بالقصاص كما في المال إذا ادعى بينة غائبة على الابراء وهذا لان السبب المطلق لاستيفاء القصاص
قد ظهر والمانع موهوم والموهوم لا يعارض المتحقق فليس كل غائب يؤوب قال ولكني أستعظم
ولا أعجل فيه بالقصاص حتى أثبت فيه واستأنى به ولا أعجله لان استيفاء القصاص إذا
وقع الغلط فيه لا يمكن التدارك والتلافي وعلى الامام أن يتثبت في مثله ثم القصاص لا يستوفى
مع الشبهة فباعتبار توهم حضور شهوده يتأنى فيه القاضي حتى لا يكون مستوفيا مع الشبهة
بخلاف المال وإذا شهد شاهدان على أحد الورثة بعينه بالعفو أو بأنه أقر ان فلانا لم يقتل فالشهادة
جائزة لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عايناه عفا أو أقر بذلك سقط القصاص
سواء أقر بذلك في صحته أو مرضه لان العفو عن القود ليس بمال وإذا كان الدم
بين اثنين فعفا أحدهما ثم قتله الآخر عمدا فإن لم يعلم بعفو الشريك أو علم بذلك ولم يعلم
162

ان يعفو أحدهما يسقط القود فعليه الدية كاملة في ماله عندنا وقال زفر عليه القصاص وإن كان
فقيها يعلم أن القود يسقط بعفو أحد الشريكين فعليه القصاص أما زفر فيقول القود
سقط بعفو أحدهما علم الآخر أولم يعلم اشتبه عليه حاله أو لم يشتبه فإنما بقي مجرد الظن
في حق الآخر والظن غير مانع من وجوب القصاص بعد ما تقرر سببه كما لو قتل رجلا
على ظن أنه قتل وليه ثم جاء وليه حيا كان عليه القصاص * وحجتنا في ذلك أنه قد علم وجوب
القصاص وما علم ثبوته فالأصل بقاؤه ما لم يعرف ما لم يعرف المسقط فإذا لم يعلم العفو كان القصاص
واجبا في حقه ظاهرا والظاهر يصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات وكذلك إذا علم
بالعفو ولم يعلم أن القود سقط به لأن الظاهر أن تصرف الغير في حقهم غير نافذ وسقوط
القود عند عفو أحدهما باعتبار معنى خفى وهو ان القصاص لا يحتمل التجزء فإنما اشتبه عليه
حكم قد يشتبه فيصير ذلك بمنزلة الظاهر في ايراث الشبهة بخلاف ما إذا علم بالعفو فان
هناك قد ظهر المسقط عنده وأقدم على القتل مع العلم بالحرمة وقد يجوز أن يسقط القود
باعتبار ظنه كما لو رمى إلى شخص ظنه كافرا فإذا هو مسلم وإذا سقط القود عنه بالشبهة لزمه
الدية في ماله لان فعله عمد ثم يحسب له منها نصف الدية لان بعفو الشريك وجب له نصف
الدية على هذا الذي قتله فيكون نصف الدية قصاصا بنصف الدية ويؤدى ما بقي وإذا وجب
القصاص على رجل فقتله ولى الدم بسيف أو عصا أو وقع في بئر حفرها في الطريق أو عثر
بحجر وضعه في الطريق لم يكن عليه في ذلك شئ لان دم من عليه القصاص في حق من
له القصاص كالمباح فان الدم لا يملك وإنما يتمكن من استيفاء القصاص بطريق الإباحة وذلك
يمنع وجوب الضمان عليه إذا صار قاتلا له بالمباشرة أو بالسبب يوضحه أن هذا بمنزلة استيفاء
القصاص منه وإن لم يكن بطريقه لان استيفاء القصاص بفعل يتصل به زهوق الروح وقد
وجد ذلك منه بطريق التسبب أو بطريق المباشرة فإن كان له وليان فعفا أحدهما ثم أصابه
هذا الأحد بعد العفو فعلى عاقلته الدية في جميع ذلك الا بالسيف فإنها في ماله لان القود سقط
بعفو أحدهما وصار في حكم القتل الموجب للمال عليه كان ما سبق لم يكن فإذا أخذ الدية أولياء
القتيل خطأ رجع هذا القاتل خطأ بنصف الدية التي أخذها أولياء المقتول خطأ لأنه بعفو
شريكه انقلب نصيبه مالا وكان ذلك في ذمة القاتل وبدل نفسه بمنزلة تركته فيستوفى منه
ما كان واجبا له في ذمته ولا مقاصة هاهنا لاختلاف المحل فان بدل نفسه على عاقلة ولى الدم
163

الذي لم يعف ولو قتله غير الولي بغير أمر الولي عمدا أو خطأ بطل دم الأول ولا شئ لوليه
ويكون على القاتل الآخر القصاص في العمد والدية على عاقلته في الخطأ لان حرمة نفسه في
حق غير الولي قائمة كما كانت وسقط حق المولى لفوات محله وقد بينا ان الثابت في حقه
إباحة الاستيفاء أو الملك في حق الاستيفاء خاصة وذلك لا يتحول إلى البدل كملك الزوج في
زوجته لا يثبت فيه البدل إذا وطئت بالشبهة وإذا قتله فقال الولي أنا كنت أمرته فان أقام
بينة على هذا فلا شئ على القاتل الثاني لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فإن لم يكن له بينة
فعليه القصاص في العمد والدية علي عاقلته في الخطأ لأنه أقر بما لا يملك استيفاءه لان حقه قد
سقط لفوات المحل فهو فيما يدعى بعد ذلك كأجنبي آخر وبدل نفس المقتول الثاني واجب
لورثته ولا قول لولى الأول في اسقاط حقهم قصاصا كان أو مالا والله أعلم بالصواب
(باب العفو في الخطأ وغير ذلك)
(قال رحمه الله) رجل قتل رجلا خطا فالدية بين جميع الورثة والموصي له بالثلث
كسائر التركة لان الدية مال هو بدل نفسه فيكون تركة له بعد موته كسائر أمواله وقد بينا
الاختلاف في الزوج والزوجة وقد كان في السلف من يقول لا شئ للاخوة للأم من الدية
وإنما الدية للعصبات خاصة وقيل هو قول عمر رضي الله عنه الأول ولهذا ذكر في الأصل
عن علي رضي الله عنه انه كان ينسب عمر رضي الله عنه إلى الظلم مع قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أينما دار عمر فالحق معه وفي رواية أينما دار الحق فعمر معه وقد صح رجوع عمر عن
هذا حيث روى له الضحاك بن سفيان الكلابي الحديث كما روينا ولا حق للموصى له بالثلث
في دم العمد لان موجبه القصاص وليس بمال ولا يحتمل التمليك بالعقد وكما لا يثبت له حق
الشركة في الاستيفاء فكذلك لا يعتبر عفوه فيه فان صولح القاتل علي مال دخل فيه الموصي
له لأنه الواجب بدل نفسه فيكون تركة له يقضى منه ديونه وينفذ وصاياه بمنزلة الواجب في
قتل الخطأ ثم هو شريك الورثة في التركة فيجوز عفوه بعد الصلح في نصيبه كما يجوز عفو الوارث
وليس للغرماء عفو في عمد ولا خطأ أما العمد فلان موجبه ليس بمال ولا حق للغرماء فيه
وأما الخطأ فلانه ليس في عفوهم عن الدية اسقاط شئ من ديتهم وإنما ولاية التصرف لهم في
محل حقهم فإذا لم يلاق هذا التصرف منهم محل حقهم كان باطلا وإذا عفا الرجل عن دمه وهو
164

خطأ ثلثه في مرضه الذي مات فيه جاز عفوه من ثلثه لان الواجب الدية على عاقلته فيكون عفوه
وصية منه للعاقلة وذلك صحيح من ثلثه وما فيه من الاشكال بيناه في الوصايا فإن كان أوصى
مع ذلك بوصايا تحاص أهل الوصايا والعاقلة في ثلثه فسقط عن العاقلة حصتهم وما سوى ذلك
من نصيب أصحاب الوصايا والورثة يكن مؤجلا على العاقلة في ثلاث سنين اعتبارا للبعض
بالكل وهذا تبيان ان الواجب على العاقلة لأنه لو كان علي القاتل لكان الاجل سقط بموته فان
أعتق عبدا بدئ به من الثلث لان العتق أقوى سببا من سائر الوصايا ومن العفو فإنه
اسقاط للرق بمنزلة الابراء عن دين آخر وإن لم يعف الميت ولكن عفا بعض الورثة بطلت
حصة العافي إلا أن يكون علي أميت دين مستغرق وهو بمنزلة الا براء عن دين آخر إذا شهد
شاهدان من الورثة على بعضهم أنه عفا عن حصته والقتل خطأ فشهادتهما جائزة لأنهما لا يجران
إلى أنفسهما شيئا بشهادتهما بخلاف العمد فهناك ينقلان حقهما من القصاص إلى الدية بشهادتهما
ولو كان الشاهدان أخذا طائفة من الدية ثم شهدا بذلك لم تجز شهادتهما لأنهما يدفعان حق
الثالث عن أنفسهما وقد كان للوارث الآخر حق المشاركة معهما فيما أخذا وإنما يسقطان
ذلك بشهادتهما لأنهما ولو لم يأخذا شيئا حتى شهدا على الثالث انه أخذ مالا وصالح عليه لم تجز
شهادتهما لأنها يجران بها إلي أنفسهما مغنما فإنه يثبت لهما حق المشاركة مع القابض في المقبوض
وشهادة جار المغنم أو دافع المغرم لا تقبل وان شهد وارثان على المقتول أنه عفا عند موته
عن القاتل فشهادتهما جائزة والعفو من ثلثه فإنه لا تهمة في شهادتهما فإذا شهد شاهدان
علي عفو الورثة وهم كبار فأجازه القاضي وأبرأ القاتل ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الدية لان
الواجب كان هو المال للورثة وقد أتلفا ذلك عليهم بشهادتهما فيضمنان عند الرجوع كما لو
شهدا بالابراء عن دين آخر ولو شهد شاهدان في دم العمد على أحد الورثة بعينه أنه أخر
القاتل اليوم إلى الليل علي ألف درهم لم يكن ذلك عفوا ولا مال له لان الثابت بالبينة كالثابت
بالمعاينة وليس في هذا التأخير اسقاط شئ من القود والقود الواجب له في حكم العين
فالتأجيل فيه يكون باطلا ولا مال له لان القاتل لم يستفد شيئا بهذا التأخير وان شهدا أنه أخذ
منه ألف درهم على أن يعفو عنه يوما إلى الليل فهذا عفو وهو صلح جائز لان العفو اسقاط
للقود وهو لا يقبل التوقيت فيلغو التوقيت منه ويصح العفو بالمال المسمى بمنزلة الطلاق وذكر
عن زيد بن وهب قال وجد رجل مع امرأته رجلا فقتلهما بالسيف فاستحيا بعض اخوتها
165

مما فعلت فعفا عنه فجعل عمر رضي الله عنه للذي لم يعف حصته من الدية ولو أن رجلا أخذ
السكين فوجأ به رأس انسان فأوضحه ثم جر السكين قبل أن يرفعها حتى شجه أخرى فهذه
موضحة واحدة وعليه فيها القصاص ان كانت عمدا وأرش موضحة واحدة ان كانت خطأ
لان الفعل واحد لاتحاد محله فالتوسع مبالغة منه في ذلك الفعل فلا يعطى له حكم فعل آخر
ولو رفع السكين ثم وجاء إلى جهة أخرى اتصل أولم يتصل فهذه موضحة أخرى اقتص منه
في العمد وعليه أرش موضحتين في الخطأ لأنهما فعلان مختلفان باختلاف المحل واختلاف
المباشرة فكأنهما حصلا من اثنين ثم اتصال إحداهما بالأخرى على وجهين فإن كان ذلك
بفعله فلا شك أن عليه القصاص فيهما وإن كان ذلك بان تأكل ما بينهما حتى اتصلت
إحداهما بالأخرى فعلى قول أبي حنيفة لا قصاص فيهما وعلى قول محمد يجب القصاص وهو
بناء على ما سبق فمن أصل أبي حنيفة ان باعتبار السراية فيما دون النفس يمتنع وجوب
القصاص في محل واحد وفى مجلس لان العمد المحض فيما دون النفس لا يتحقق بالسراية
وعلى قول محمد إذا كانت السراية بحيث يمكن ايجاب القصاص فيها لم يمتنع استيفاء القصاص
بسببها و قد بينا ذلك فيما إذا قطع أصبعا فشلت إلى جنبها أخرى أو سقطت وإذا فقأ الرجل
عين الرجل وفي عين الفاقئ فالمفقوءة عينه بالخيار لان نقصان البصر في العين بمنزلة الشلل
أو فوات الإصبع في اليد وقد بينا أن هناك أن كان النقصان في جانب الجاني فالمجني عليه
بالخيار بين استيفاء القصاص وبين استيفاء الدية وإن كان النقصان في جانب المجني عليه لم
يجب القصاص فهذا مثله وإذا لم يجب القصاص كان الواجب فيها حكم عدل لان كمال الأرش
باعتبار تفويت البصر الكامل ولم يوجد والقدر الباقي من البصر مع النقصان غير معلوم فيكون
الواجب فيها حكم عدل كمن قطع يدا شلاء ولو قطع يد رجل وفيها ظفر مسود لو خرج
لا ينقصها فعليه القصاص لان ما حدث في يده لم ينقص من منفعة البطش شيئا ومثله لا يمكن
نقصانا في بدله كالصغر وسواد اليد أصلا وإذا ثبتت المساواة في الأرش ثبت وجوب
القصاص وإذا قطع الرجل من كف الرجل أظفار يده ففيها حكم عدل لأن هذه الجناية لا
تفوت منفعة البطش ولكن يتمكن فيها نقصان فيجب باعتباره حكم عدل وإذا علم أن الواجب
حكم العدل ظهر أنه لا قصاص فيها لان القصاص ينبنى على معرفة المساواة في البدل حقيقة
ولو قطع من كف رجل أصبعا زائدة ففيها حكم عدل لان الإصبع الزائدة نقصان معنى فتفويتها
166

لا يمكن نقصانا في البطش وإنما يلحق به ألما وشينا في الظاهر باعتبار الأثر فيجب حكم عدل
باعتباره ولا قصاص فيها وإن كان للقاطع مثل تلك الإصبع لانعدام المساواة في البدل فبدل
اليد ينقسم علي الأصابع الخمس أخماسا ولا ينقسم على الإصبع الزائدة وإنما الإصبع الزائدة
كالثؤلول وان قطع الكف كله فإن كانت تلك الإصبع توهي الكف وتنقصها فلا قصاص
فيها وفيها حكم عدل لان هذا نوع شلل من حيث إنه يمكن نقصانا في منفعة البطش وان
كأن لا ينقصها ولا يوهيها ففيها القصاص وفي الخطأ الأرش كاملا لان مالا يمكن نقصانا في
منفعة البطش فهو بمنزلة الصغر والضعف بسبب المرض وإذا قطع الرجل يد الرجل من
المفصل وبرأت واقتص وبرأ المقتص منه ثم قطع أحدهما ذراع صاحبه من تلك اليد فلا
قصاص فيه وان كانا سواء الا في رواية عن أبي يوسف قال إذا استويا يجب القصاص لأنه
قطع من المفصل فيمكن اعتبار المساواة فيه ولكنا نقول الواجب في الذراع بعد قطع الكف
حكم عدل فطريق معرفته التقويم فلا يعلم به حقيقة المساواة بينهما في البدل وبدون ذلك
لا يجب القصاص والله أعلم بالصواب
(باب الشهادة في القصاص)
(قال رحمه الله) إذا شهد رجلان على رجل انه ضرب رجلا بالسيف فلم يزل صاحب فراش
حتى مات فعليه القصاص بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فقد
ظهر بموته هذا السبب ولم يعارضه سبب آخر فيجب إضافة الحكم إليه والروح لا يمكن أخذه
مشاهدة وإنما طريق الوصول إلي ازهاق الروح هذا وهو أن يجرحه فيموت قبل أن يبرأ *
يوضحه انه لا طريق لنا إلي حقيقة معرفة كون الموت من الضربة ومالا طريق لنا إلى معرفته
لا تبنى عليه الاحكام وإنما يبنى على الظاهر المعروف وهو انه يضربه ويكون صاحب فراش بعده
حتى يموت ولا ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود هل مات من ذلك أم لا لا في العمد ولا في الخطأ
لأنه لا طريق لهم إلى معرفة ذلك ولو شهدوا بذلك كانوا قد شهدوا بما يعلم القاضي أنهم فيه
كذبة فكيف يحملهم على الكذب بالسؤال عن ذلك ولكنهم ان شهدوا أنه مات من ذلك
لم تبطل شهادتهم وجازت ان كانوا عدولا لأنهم اعتمدوا في ذلك دليلا شرعيا وهو الظاهر
كما قررنا وإن كان بهذا الطريق يحصل علم القضاء للقاضي ويحصل له أيضا علم الشهادة الا
167

أنه لا حاجة بالقاضي أن يسألهم عن ذلك لأنه يعرف ذلك بدون شهادتهم فلا يسألهم عنه ولو
شهدوا به لم يبطل شهادتهم لان المشهود به الكلام الأول فهذا الزيادة لا تكون قدحا فيها
بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا ابنه ووارثه لا وارث له غيره وإذا شهدوا انه ضربه بالسيف
حتى مات ولم يزيدوا على ذلك فهذا عمد لان كل فاعل يكون قاصدا إلى فعله في المحل
الذي باشر الفعل فيه إلا أن القاضي إذا سألهما أتعمد ذلك فهو أوثق لان صفة العمدية وان
ثبتت بأول كلامهما من حيث الظاهر ولكن لم ينقطع احتمال الخطأ (ألا ترى) أن الشهود
لو بينوا أن ذلك كان خطأ كان ذلك بيانا موافقا لأول الكلام فسؤالهما عن العمدية لا زالة
هذا الاحتمال يكون أوثق وهكذا يوثق فيما إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه والقاضي
مندوب إليه وكذلك أن شهدا انه طعنه برمح أو رماه بسهم أو نشابة هذا كله عمد (أرأيت)
لو شهدا انه ذبحه أو شق بطنه بالسكين حتى مات أما كان ذلك عمدا فكذلك ما سبق
لان الأسلحة في كونها آلة القتل سواء وان شهد أحدهما انه قتله بسيف وشهد الآخر انه
طعنه برمح أو انه ذبحه بالسكين أو شهد أحدهما انه رماه بسهم والآخر انه رماه بنشابة أو
اختلفا في مكان القتل أو وقته أو موضع الجراحة من بدنه فالشهادة باطلة لان الفعل يختلف
باختلاف الآلة والمحل والوقت والمكان فإنه لا يحتمل التكرار ولم يوجد على كل فعل الا
شهادة شاهد واحد ولو شهد شاهدان انه قطع يده عمدا من مفصله وشهد شاهد انه قطع رجله
من المفصل ثم شهدوا جميعا انه لم يزل صاحب فراش حتى مات والولي يدعى ذلك كله عمدا
فانى اقضي على القاتل بنصف الدية في ماله لان قطع الرجل لم يثبت عند القاضي فان الشاهد
به واحد وقد ثبت قطع اليد من المفصل عند القاضي بشهادة الشاهدين ولكن قد أقر الولي
انه مات من ذلك الفعل ومن فعل آخر لم يعلم فاعله فيكون ذلك شبهه في اسقاط القود ويتوزع
بدل النفس نصفين فيلزمه نصف الدية في ماله لان فعله كان عمدا فلا يعقله العاقلة واقرار الولي
حجة عليه في حقه وكذلك لو شهد على الرجل شاهدان فلم يزكيا لان الحجة في الرجل لا تتم
بدون عدالة الشهود فهما وما لو كان الشاهد به واحدا سواء ولو زكى أحد شاهدي اليد واحد
شاهدي الرجل لم يؤخذ القاتل بشئ لان واحدا من الفعلين لم تثبت عند القاضي فان العدل
من الشهود بكل فعل واحد ولا يقال قد اتفق العدلان على الحكم وهو القصاص فينبغي أن
يقضى به لأنه لا يمكن القضاء بالحكم الا بعد القضاء بالسبب وقد تعذر القضاء بذلك (ألا ترى)
168

انه لو شهد عليه رجل انه قطع أصبعا له وشهد الآخر انه استهلك له ألف درهم لم يقض القاضي
على بشئ فان اتفقا على وجوب الألف له في ماله فان نكلوا جميعا قضيت عليه بالقصاص لان
الفعلين ظهرا بالحجر عند القاضي فان طلب الولي أن يقتص من اليد والرجل لم يكن له ذلك لأنه
لما اتصلت بفعله السراية كان ذلك قتلا فيكون حقه في القصاص في النفس مقصودا دون
الأطراف وقد بينا خلاف الشافعي في هذا ولو شهد الشاهدان عليه انه قطع يده من المفصل
عمدا ثم قتله عمدا كان لوارثه أن يقتص من يده ثم يقتله فان قال القاضي له اقتله ولا تقتص من
يده فذلك حسن أيضا وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يأمره بقتله ولا يجعل له
القصاص في يده لان الجنايتين تواليا من واحد وهما من جنس واحد فيكونان كجناية واحدة
(ألا ترى) ان في الخطأ لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب الا دية واحدة لهذا المعنى وهذا
لان قبل البرء الجناية الأولى كانت موقوفة في حق الحكم علي السراية فالفعل الثاني يكون
اتماما لما يوقف عليه الجناية الأولى فيجعلان كجناية واحدة بخلاف ما إذا تخلل بين الجنايتين
برء فان هناك الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبرء فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو
جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين لان الفعل من الأول ما توقف على
أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص آخر فلا يمكن جعل الثاني اتماما للأول وبخلاف
ما إذا كان أحد الفعلين عمدا والآخر خطأ لان باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا
يمكن جعل الثاني اتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل * وايضاح جميع ما ذكرنا
في فصل الخطأ انه لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب الا دية واحدة كذا هنا وأبو حنيفة
يقول إن القصاص يبنى على المساواة في الفعل والمقصود بالفعل في القتل والقطع جميعا مراعاة
المساواة في صورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما إلى أن يقطع الامام عليه هذا الخيار بأن يأمره
باعتبار المقصود وهو القتل وأن يترك الاستيفاء بمراعاة الصورة وهذا منه اجتهاد في موضعه
فعليه أمره به وبه فارق الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الاهدار لا صورة الفعل لان
الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا ثم مبنى العمد على التغليظ والتشديد ولهذا يقتل
العشرة بالواحد وفيه مراعاة صورة الفعل مع التغليظ أيضا فيجوز اعتبار ذلك في العمد
بخلاف الخطأ فإنه مبنى على التخفيف (ألا ترى) ان الدية لا تتعدد بتعدد القاتلين وفي العمد
المقصود هو التشفي والانتقام وفي التمكن من القطع والقتل جميعا زيادة تحقيق في هذا
169

المقصود وكما أن القتل بعد القطع يكون اتماما للفعل الأول من وجه فقد يكون قطعا لموجب
الفعل الأول بمنزلة البرء من حيث إن المحل يفوت به ولا تصور للسراية بعد فوت المحل
فيجعل كالبرء من هذا الوجه فللاحتمال أثبتنا الجناية للأول تغليظا لحكم العمد ولا يعتبر ذلك
في الخطأ لأنه مبنى على التخفيف ولو كانت احدى الجنايتين خطأ والأخرى عمدا أخذ بهما
جميعا فإن كانت الأولى خطأ فإنه يجب دية اليد على عاقلته ويقتل قصاصا وان كانت الثانية
خطأ فعليه القصاص في اليد والدية على عاقلته في النفس لأنه لا احتمال لجعل الثاني اتماما للأول
عند اختلاف صفة الفعل وموجبه فيجعل بمنزلة ما لو تخلل بالجنايتين برء ولو كان لكل واحدة
من الجنايتين جان علي حدة وهما جميعا عمد أو خطأ أو إحداهما عمد والأخرى خطأ أخذ كل
واحد منهما بجنايته لما بينا أن الفعل الثاني من غير الفاعل الأول لا يمكن أن يجعل اتماما للأول
فكأنه تخلل بين الفعلين برء فيؤخذ كل واحد منهما بجنايته ولو شهد شاهدان ان هذا قطع يده
من مفصل الكف وشهد آخر على آخر أنه قطع تلك اليد من المرفق ثم مات من ذلك كله
والقطع عمد فعلى قاطع الكف القصاص في اليد وعلى الآخر القصاص في النفس عندنا وقال
زفر والشافعي القصاص في النفس عليهما جميعا لأنه صار مقتولا بفعلين كل واحد منهما عمد مخض
فيلزمهما القصاص كما لو قطع أحدهما يده عمدا والآخر رجله ومات من ذلك وهذا لان بقطع
يده حدث في البدن آلام وبقطع الآخر اليد من المرفق لا تنعدم تلك الآلام بل تزداد
وإنما حصلت السراية لضعف الطبيعة عن دفع الآلام التي توالت عليه وفي هذا لا فرق بين
ان يقطع الثاني تلك اليد أو يقطع عضوا آخر وأصحابنا قالوا فعل الثاني بمنزلة البرء في حق
الأول تنقطع به سراية الفعل الأول فكأنه انقطع بالبرء وإنما قلنا ذلك لان السراية أثر الفعل
ولا يتصور بقاؤها بدون بقاء محل الفعل إذ الأثر لا يقوم بنفسه وبفعل الثاني فات محل الفعل
الأول وانقطاع السراية بفوات المحل أقوى من انقطاعها بالبرء لان البرء يحتمل النقص
وفوات المحل لا يحتمل النقص وبه فارق ما إذا كان فعل كل واحد منهما في محل آخر لان
الفعل من الثاني في محل آخر لا يفوت محل لفعل الأول فلا يمكن أن يجعل كالبرء في حق
الأول وكذلك لو كان الفعلان خطأ كانت دية اليد على الأول ودية النفس على الثاني عندنا
والعمد والخطأ في هذا سواء بمنزلة البرء وكذلك علي هذا الخلاف لو قطع أحدهما يده عمدا ثم
حز الآخر رقبته بالسيف يجب القصاص في النفس على الثاني والقصاص في اليد على الأول
170

وعند زفر والشافعي يجب عليهما القصاص في النفس لان الروح انزهقت عقيب فعلهما فيكون
مضافا إلى فعل كل واحد كل واحد منهما ولا معتبر بالتفاوت في صفة الفعل ولا في مقداره
كما لو قطع أحدهما أصبعا من أصابعه وجرحه الآخر عشر جراحات نحو قطع اليد والرجل
وما أشبه ذلك فإنه يجب القصاص عليهما إذا مات من ذلك للمعنى الذي قلنا وأصحابنا قالوا
حز الرقبة قتل بيقين لأنه لا توهم للحياة معه فاما قطع اليد فقيل يشترط أن تتصل السراية به
(ألا ترى) ان الغالب فيه السلامة فان القطع مشروع في موضع كان القتل حراما وهو
القصاص والتعارض لا يقع بين فعلين بهذه الصفة فيجعل القتل مضافا إلى ما هو مشروع له
بيقين وهو حز الرقبة ويكون هذا في حق اليد بمنزلة البرء لتفويت المحل به فلهذا كان القصاص
في اليد على الأول والقصاص في النفس على الثاني وكذلك لو كان الأول خطأ والثاني عمدا كان
على الأول دية اليد وعلى الثاني القصاص ولو شهدا على رجلين أنهما قتلا رجلا أحدهما بسيف
والآخر بعصا ولا يدريان أيهما صاحب العصا لم تجز شهادتهما لأنهما لم يثبتا بشهادتهما سببا
يمكن القاضي من القضاء به (ألا ترى) ان على صاحب العصا نصف الدية على عاقلته وعلى
صاحب السيف نصف الدية في ماله فلا يتمكن القاضي من القضاء بشئ علي واحد منهما بعينه
في ماله أو على عاقلته وكذلك لو شهدا على رجل واحد بقطع أصبع وعلى آخر بقطع أخرى
من تلك اليد ولا يميز ان قاطع هذه الإصبع من قاطع الأخرى لان القاضي لا يتمكن من
القضاء بفعل معين على واحد منهما فان ذلك لا يكون بدون تعيين محل فعله وكذلك لو
شهدا عليهما بالخطأ لا يتمكن القاضي من القضاء بالحكم بدون السبب ولو شهدا على رجل انه
قطع ابهام هذا عمدا وشهدا على صاحب الابهام أنه قطع كف القاطع ذلك عمدا ثم برأ فإنه
يخير صاحب الكف فإن شاء قطع ما بقي من يد القاطع بيده وان شاء أخذ دية يده وبطلت
الإصبع أما بطلان الإصبع فلفوات محلها بالفعل الثاني وأما ثبوت الخيار للثاني فلان مقطوع
الابهام قطع يده الصحيحة ويد المقطوعة الابهام ناقصة بإصبع وفي هذا يثبت له الخيار للمقطوعة
يده ولو شهدا على رجل انه قطع يد رجل من المفصل وشهد آخران انه جرحه سبع أو
سبعان أو جرح نفسه أو جرحه عبد له أو عثر فانكسرت رجله فمات من ذلك كله فلا
قصاص على قاطع اليد وعليه نصف دية اليد والأصل أن النفس تتوزع على عدد الجناة لا على عدد
الجنايات لان الانسان قد يتلف بجراحة واحدة وقد يسلم من جراحات ثم ما اتحد حكمه
171

من الجراحات في كونه هدرا يجعل في حكم فعل واحد لان حكم الكل واحد وهو الاهدار
وإذا صار بعض النفس هدرا امتنع وجوب القصاص في شئ منه فيجب فيما هو معتبر حصته
من الدية وعلى هذا يخرج ما ذكرنا من المسائل وكذلك لو قطع رجل يد رجل خطأ وجرحه
سبع وجرحه عبد له وجرح نفسه فمات من ذلك فعلى قاطع اليد ربع دية اليد لان النفس تلفت
من أفعال أربعة مختلفة الحكم فان جراحة السبع هدر غير معتبرة في حق الاثم والحكم جميعا
وجرحه نفسه معتبر في حق الاثم غير معتبر في حق الحكم لأنه ليس بسبب الحكم وجرح
عبده له معتبر في الاثم والحكم جميعا إذا كان عمدا حتى يجب القصاص فلهذا توزع بدل نفسه
أرباعا فيكون ربعه علي قاطع اليد خطأ ولو جرحه سبع وخرجت به قرحة ونهشته حية وقطع
رجل يده وآخر رجله فمات من ذلك كله فعلي الرجلين ثلثا الدية لان فعل السبع والحية وما
خرج به من القرحة كشئ واحد فكل ذلك هدر في حق الاثم والحكم وإنما تتوزع النفس
أثلاثا فيهدر الثلث من ذلك وعلى الرجلين ثلث الدية وكذلك لو أصابه حجر وضعه رجل أو
حائط تقدم إلى أهله فيه مع جراحة الرجل والسبع فعلي الرجل ثلث الدية وعلي صاحب الحجر
ثلث الدية والثلث هدر لان النفس تلفت بمعان ثلاثة جراحة الرجل وحكمه معتبر وإصابة
الحجر أو الحائط وحكم ذلك معتبر أيضا وفعل السبع وهو هدر فيتوزع بدل النفس علي ذلك
أثلاثا والله أعلم
(باب الوكالة في الدم)
(قال رحمه الله) وتقبل الوكالة في اثبات دم العمد من جانب المدعى والمدعى عليه
في قول أبي حنيفة رحمه الله وفى قول أبى يوسف الآخر لا تقبل وقول محمد رحمه الله
مضطرب فيه ذكره مع أبي يوسف رحمه الله هاهنا وفى بعض المواضع مع أبي حنيفة وجه
قول أبى يوسف ان الوكيل نائب عن الموكل ولا مدخل للنايب في اثبات دم العمد حتى
لا يثبت بكتاب القاضي إلي القاضي والشهادة علي الشهادة وشهادة النساء مع الرجال والدليل
عليه ان المقصود هو الاستيفاء ثم التوكيل بما هو المقصود لا يجوز هنا مع أنه يجزى فيه النساء
فكذلك لا يصح التوكيل إنما يتوصل به إلى المقصود وأبو حنيفة يقول هذا أحد بدلي النفس
فيجوز التوكيل باثباته كالدية وهذا لان كل واحد منهما محض حق العباد والنساء تجزى بين العباد
172

في حقوقهم لحاجة صاحب الحق إلى ذلك فقد يكون عاجزا عن اثبات حقه بنفسه والغلط متى
وقع في الاثبات أمكن تداركه سواء كان الثابت القصاص أو المال وبه فارق الاستيفاء فان
هناك إذا وقع الغلط فيه لا يمكن تداركه وتلافيه ولهذا لم يجز التوكيل فيه حال غيبة الموكل فأما
إذا وكل باستيفاء القود فليس للوكيل أن يستوفى الا بمحضر من الموكل عندنا وقال الشافعي
له أن يستوفى بغير محضر منه لأنه محض حقه ويدخله النيابة في الاستيفاء فيكون بمنزلة المال ولكنا
نقول القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فلا يجوز استيفاؤها مع الشبهة ويجوز في استيفاء الوكيل
مع غيبة الموكل وقد تتمكن شبهة العفو لجواز أن يكون الموكل عفا والوكيل لا يعلمه بذلك ومتى
وقع الغلط في الاستيفاء لا يمكن تداركه فاما إذا كان الموكل حاضرا فشبهة العفو تنعدم بحضوره
وقد تمس الحاجة إلى ذلك فمن الناس من لا يهتدى إلي القتل ومنهم من لا يتجاسر عليه فللحاجة
جوزنا التوكيل بالاستيفاء عند حضرة الموكل والقصاص فيما دون النفس كالقصاص في النفس
في ذلك وإذا أقر وكيل الطالب عند القاضي ان صاحبه يطلب باطلا أو انه قد عفا صح اقراره بأنه
قد عفا لان الوكيل في مجلس الحكم قام مقام الموكل في الاقرار بعد صحة الوكالة وكذلك وكيل
المطلوب لو أقر بوجوب القصاص علي صاحبه ففي القياس يصح اقراره لقيامه مقام موكله في
الاقرار في مجلس الحكم ولكنا نستحسن فلا نوجب القود على الموكل باقرار الوكيل لان الاقرار
في الحقيقة صد الخصومة ونحن وان حملنا مطلق التوكيل على الجواب الذي هو خصومته
مجازا فتبقي الحقيقة شبهة والقصاص يسقط به ففي اقرار وكيل الطالب اسقاط القود وذلك
لا يندرئ بالشبهات وفي اقرار وكيل المطلوب ايجاب القود وذلك يندرئ بالشبهات ولا
ينبغي للقاضي أن يمضى القضاء بالقود الا بحضرة الورثة كلهم إذا كانوا بالغين لتمكن شبهة العفو
والصلح لمن هو غائب منهم فان مات أحد الورثة والقاتل وارثه بطل القود عليه لأنه تحول
إليه نصيب مورثه من القود فيسقط عنه إذ الانسان كما لا يجب له القصاص على نفسه لا ينفى
وعليه حصة سائر الورثة من الدية لأنه تعذر عليهم استيفاء حقهم لمعنى في القاتل وهو أنه
حيى بعض نفسه فهو كما لو عفا أحد الشركاء وإن كان ورثه ابن القاتل بطل القود أيضا لان
الابن كما لا يستوجب القصاص على أبيه ابتداء لا يبقى له علي أبيه قصاص لأنه لا يتمكن من
استيفائه بحال ولكن عليه الدية لجميع الورثة فان نصيب الابن هاهنا يتحول إلى الدية
كنصيب سائر الورثة لأنه من أهل أن يستوجب المال على أبيه ويستوفيه والوكالة في
173

دم الخطأ وفي العمد من الجراح التي لا قصاص فيها بمنزلة الوكالة بالمال لان المستحق هاهنا
هو المال وهو مما يثبت مع الشبهة وإذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه والأسباب مطلوبة
لا حكامها وعند اعتبار الحكم هذا دين كسائر الديون فيجوز التوكيل باثباته واستيفائه
ويكون اقرار الوكيل به في مجلس الحكم نافذا علي موكله وإذا قتل الرجل عمدا وله ورثة
صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا القاتل قصاصا في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال ابن أبي ليلي
ليس لهم أن يقتلوه حتى يكبر الصغار وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعي وقول مالك كقول
أبي حنيفة بناء على مذهبه وهو أن استيفاء القصاص باعتبار الولاية دون الوراثة والولاية للكبير
دون الصغير ولهذا لم يجعل للزوج والزوجة والاخوة لام حق استيفاء القصاص فأما عند
أصحابنا فاستيفاء القصاص بطريق الخلافة إرثا ثم وجه قولهم ان القصاص أحد بدلي الدم فلا
ينفرد الكبير باستيفائه كالدية بل أولى لان المال يجرى فيه من المساهلة في الاثبات والاستيفاء
مالا يجرى في العقوبات ولان هذا قصاص مشترك بين الكبير والصغير ولا ولاية للكبير
على الصغير فلا يملك استيفاءه كما لو قتل عبدا مشتركا بينهما والدليل عليه انهما لو كانا كبيرين
وأحدهما غائب لم يكن للحاضر أن ينفرد بالاستيفاء لانعدام ولايته على الغائب فكذلك أن
كان أحدهما صغيرا وهذا لان الواجب قصاص واحد فان المقتول نفس واحدة فيجب بمقابلتها
قصاص واحد ويكون ذلك واجبا للمقتول بمنزلة الدية ولهذا إذا انقلب مالا فإنه يقضى منه
ديونه وتنفذ وصاياه ثم الورثة يخلفونه في استيفاء ما وجب له فكل واحد منهم في ذلك بمنزلة
الشطر للعلة أو كل واحد منهما إنما يرث جزأ منه لان استحقاق الميراث سهام منصوص
عليها يسقط كالنصف والثلث والربع وبملك بعض القصاص لا يتمكن من استيفاء الكل
والدليل عليه أنه لو عفا أحدهم يسقط القصاص ولو كان الواجب لكل واحد منهم قصاصا
كاملا لما تعذر الاستيفاء على أحدهم بعد عفو الآخر وبالعفو ينقلب نصيب الآخر مالا
وهذا الكلام يصح فيما إذا كان القصاص واجبا للمورث فمات وورثه جماعة والخلاف ثابت
في الفصلين ولا اشكال ان هاهنا إنما يرث كل واحد بعض القصاص وأبو حنيفة استدل بما
روى أن عبد الرحمن بن ملجم لما قتل عليا رضي الله عنه قتله الحسن رضي الله عنه به قصاصا
وقد كان في أولاد علي صغار ولم ينتظر بلوغهم وإنما فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه على
ما روى أنه لما بلغه ان ابن ملجم أخذ قال للحسن ان عشت رأيت فيه رأيي وان مت فاقتله
174

إن شئت وقال واضربه ضربة كما ضربني وفي رواية وإياك والمثلة فقد نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولا يقال إنما قتله لأنه كان مريدا مستحلا لقتله امام
المسلمين على ما روى أنه قتله وهو يتلو قوله تعالى ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات
الله لأنه وإن كان امام المسلمين وكان قتله ذنبا عظيما فلا يصير به القاتل مرتدا إنما ذلك
للأنبياء خاصة واستحلاله كان بالتأويل فإنه كان من جملة أهل البغي وهم يستحلون دماء أهل
العدل وأموالهم (ألا ترى) أنه علقه عتبة فقال اقتله إن شئت أخره إلى ما بعد موته ولو كان
مرتدا لما أخر على قتله ولا يقال قتله حد السعي في الأرض بالفساد حتى قتل امام المسلمين
لان الساعي بالفساد بقتل الامام لا يقتل قصاصا (ألا ترى) أنه اعتبر المماثلة بقوله فاضربه
ضربة كما ضربني وقد ذكر المزني عن الشافعي قال قتل ابن ملجم عليا متأولا فأقيد به فدل أنه
قتل قصاصا ولا يقال قتله بغير رضا الكبار من ورثته فقد قال له الحسين لا تقتله بيننا فانا
لا نجعله سواء بيننا وبالاتفاق عند إباء بعض الكبار ولى للبعض حق الاستيفاء وروى أنه
مثل به مع نهى على إياه عن المثلة فبه تبين أنه ما قتله قصاصا وهذا لان الحسين رضي الله عنه
إنما قال ما قال على وجه الإهانة والاستخفاف به لا على وجه كراهة قتله قصاصا والمثلة ما
كانت عن قصد من الحسن ولكنه لما رفع السيف ليضربه أبقاه بيده فأصاب السيف أصابعه
وبهذا لا يخرج من أن يكون قتله إياه استيفاء للقصاص والمعنى فيه أن حق الكبير ثابت في
استيفاء جميع القصاص وليس في استيفائه شبهة عفو متحقق فيتمكن منه كما لو كان الوارث
واحدا وإنما قلنا ذلك لان القصاص يجب للورثة على سبيل الخلافة عن المورث فان وجوبه
بعد موت المقتول وقد خرج المقتول من أن يكون أهلا لوجوب الحق له بعد موته الا
ان ما يحصل فيه مقصوده من قضاء الدين و تنفيذ الوصية يجعل كالواجب له حكما وهو الدية
فأما ما لم يحصل به مقصود المقتول فيجعل واجبا للوارث الذي هو قائم مقامه والمقصود بالقود
تشفى الغيظ ودفع سبب الهلاك عن نفسه وذلك يحصل للوارث فعرفنا أنه يجب له ولكن على
سبيل الخلافة لان السبب انعقد على حق الميت وقد خرج عن ثبوت الحكم من أن يكون
أهلا للوجوب له فيجب للولي القائم مقامه كما يثبت الملك للمولى في كسب العبد اثباتا على
سبيل الخلافة عن العبد ولهذا قلنا إذا انقلب مالا ثبت فيه حق الميت لان قضاء حوائجه
يحصل به وهو بمنزلة الموصي له بالثلث لا حق له في القصاص فإذا انقلب مالا يثبت حقه فيه
175

وأيد ما قلنا قوله تعالي فقد جعلنا لوليه سلطانا بين أن القصاص للولي القائم مقام المقتول إذا
ثبت هذا فنقول القصاص لا يحتمل التجزء وقد ثبت سبب لا يحتمل التجزء فاما أن يتكامل
فيه حق كل واحد منهم أو ينعدم لأنه لا يمكن اثباته متجزئا ولم ينعدم باتفاق فعرفنا أنه تكامل
فيه حق كل واحد منهم لا على أنه تعدد القصاص في المحل ولكن بطريق أنه يجعل كل واحد
منهم كأنه ليس معه غيره بمنزلة الأولياء في النكاح ينفرد كل واحد منهم بالتزويج كأنه ليس
معه غيره والدليل عليه انه لو استوفى من أحدهم القصاص فإنه لم يضمن للباقين شيئا ولا للقاتل
ولو لم يكن جميع القصاص واجبا له لكان ضامنا باستيفاء الكل وهذا بخلاف ما إذا عفا أحدهم
لان الواجب بعد العفو المال للباقين والمال يحتمل التجزئ فيظهر حكم التجزئ عند وجوب
المال وهذا لأنا لو أثبتنا القصاص لا حدهما بعد عفو الآخر كان من ضرورته تعدد القصاص
الواجب في المحل وهو غير متعدد في المحل فاما قبل العفو لو قلنا كل واحد منهم يكون
متمكنا من استيفائه لا يكون من ضرورته مقدر القصاص في المحل وهذا بخلاف ما إذا كان
أحدهما غائبا لان هناك جميع القصاص واجب للحاضر ولكن في استيفائه شبهة عفو موجود
لجواز أن يكون الغائب عفا والحاضر لا يشعر به وعفو الغائب صحيح سواء علم بوجوبه أو
لم يعلم ويحتمل أن يكون الغائب مات وورثه القاتل لسبب بينهما وان كنا لا نعرفه فلأجل
الشبهة يمتنع الاستيفاء وهذا المعنى لا يوجد عند صغر بعض الورثة لان الصغير ليس من أهل
العفو فإنما يتوهم عفوه بعد ما يبلغ وشبهة عفوه بتوهم اعتراضه لا تمنع استيفاء القصاص وهذا
بخلاف ما إذا قتل عبدا مشتركا بين الصغير والكبير لان السبب هناك الملك وهو غير
متكامل لكل واحد منهما فان ملك الرقبة يحتمل التجزئ ولهذا لم يكن لاحد الموليين في
الأمة ولاية تزويجها بانفراده بخلاف ما نحن فيه فالسبب هناك القرابة وهو مما لا يحتمل
التجزئ وكذلك هذا في قصاص كان واجبا للمورث لان كل واحد استحق جزء منه بعد
موته بالنص وذكر الجزء فيما لا يحتمل الوصف بالتجزء كذكر الكل فيثبت لكل واحد
منهم الكل باعتبار ان السبب لكل واحد منهم وهو القرابة كامل وهذا بخلاف المال فإنه
لا يحتمل الوصف بالتجزء (ألا ترى) ان الكبير هناك يملك استيفاء نصيبه خاصة وفي هذا
الموضع لا يتمكن من استيفاء بعض القصاص ثم عندهما الامام هو الولي في نصيب الصغير
لأنه لا ولاية للأخ الكبير علي الصغير في نصيبه من المال فكذلك في القصاص وإنما الولاية
176

للامام فإن شاء صالح على الدية وان شاء انتظر وليس له أن يقتص وقد بينا هذا في وصى الأب
فكذلك في حق القاضي ولو كان مكان الصغير معتوه أو مجنون فهو على الخلاف أيضا بخلاف
ما إذا كان مغمى عليه لان المغمى عليه بمنزلة الغائب وهو من أهل العفو ولو كان الوصي
وصى الأب كان له أن يأخذ في حق الصغير مع الكبار في القول الأول أراد به قول أبي حنيفة
لان عنده للكبير أن يقتص وإن لم يكن معه وصي فإن كان معه وصى فهو أولى أما على
قولهما فليس للكبير ولاية استيفاء القصاص قبل بلوغ الصغير إذا لم يكن له وصى فكذلك
مع الوصي لأنه ليس للوصي حق استيفاء القصاص في النفس وان قطعت يد الصغير عمدا كان
للوصي أن يقتص وان يصالح على أرش اليد وليس له أن يعفو ولو كان القصاص في النفس
ليس له أن يقتص في الروايات كلها ولا ان يعفو وفى الصلح روايتان وكذا لو قتل عبد
الصغير لم يكن للوصي أن يقي وأما الأب فان له أن يستوفى القصاص الثابت للصغير في
النفس وفيما دون النفس وله أن يصالح وليس له أن يعفو ولو صالح علي أقل من قيمته لم يجز
وكان للصبي أن يرجع بتمام القيمة لأنه أمر بقربان ماله بالتي هي أحسن ولهذا لا يجوز بيع الأب
ماله بأقل من قيمته لان الأب استوفى بعض القيمة فكان له أن يستوفى تمام القيمة بعد البلوغ
حتى يصل إليه تمام حقه وقد ذكرناه في كتاب الصلح فإذا قتل الرجل عمدا فأقام أخوه البينة
انه وارثه لا وارث له غيره وأقام القاتل البينة ان له ابنا فانى لا أعجل بقتله حتى أنظر فيما جاء
به القاتل وأبلوا فيه عذرا لا علم مصداقه لان القصاص أمر مستعظم إذا نفذ لا يمكن تداركه
فان أقام القاتل البينة ان له ابنا وانه صالحه على الدية وانه قبضها منه درأت القصاص حتى
أنظر فيما قال لأنه ادعى الصلح وأقام البينة فتقبل بينته في حق سقوط القصاص لان الأخ
بنى القصاص وأنكر ان له ابنا فيقبل في حق سقوط القصاص فان جاء الابن وأنكر الصلح
كلفت القاتل إقامة البينة علي الصلح ولا أجبر البينة التي قامت علي الأخ لان الأخ ليس
بخصم عن الابن في حق الصلح فلم تقبل في حق الصلح وقبلت في حق سقوط القصاص
وبمثله لو كانا أخوين فأقام القاتل البينة على أحدهما انه قد صالح أخاه الغائب على خمسمائة درهم
أجزت ذلك ولا أكلفه إعادة البينة لان كل واحد منهما خصم في اثبات القصاص فالبينة
قامت على خصم حاضر فيتضمن النفاذ علي الغائب وللغائب نصف الدية لان الصلح لم يثبت
في حقه أما الأخ فلانه ليس بخصم مع قيام الابن. وإذا دعى بعض الورثة دم أبيه على رجل
177

وأخوه غائب وأقام البينة انه قتل أباه عمدا فانى أقبل ذلك وأحبس القاتل فإذا قدم أخوه
كلفهم جميعا أن يعيدوا البينة في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد لا يكلفهم إعادة البينة
ولو كان هذا في دم خطأ لم يكلفوا إعادة البينة في قولهم جميعا وأجمعوا أن الحاضر لا يستوفى
القصاص لتوهم العفو منه لهما إذ كل واحد منهما من الورثة خصم عن نفسه وعن أصحابه
فيما يدعي للميت ويدعى عليه كما في الخطأ وغيره من الحقوق ولان القصاص حق الميت
بدليل انه لو عفا عن الجارح صح وانقلب مالا تقضى منه ديونه وتنفذ وصاياه ويورث عنه
ولهذا لو أقام القاتل البينة على صلح الغائب أو عفوه تقبل بينته ولو لم يكن الحق للميت
لما قبلت لما فيه من القضاء على الغائب وإذا كان حق الميت فأقام الواحد مقام الجميع فكانت
البينة قائمة على الخصم فلا يكلف اعادتها ولأبي حنيفة ان القصاص حق الميت من وجه وحق
الورثة من وجه ولو كان كله حق الورثة يكلف إعادة البينة لان بعض الورثة لا يقوم مقام الكل
فيما هو من خالص حقهم ولو كان حق الميت من كل وجه لا يكلف إعادة البينة فلما كان لكل
واحد منهما حق كان المصير إلى الاحتياط استعظاما لامر الدم واجبا ولان القصاص معدول
به عن سائر الأحكام للاستقصاء (ألا ترى) ان القاتل إذا ادعى العفو وقال لي بينة على ذلك
وأجله القاضي أياما ولم يقدر على اقامتها فإنه لا يعجل بالقصاص ويتأنى بعد ذلك أياما هكذا ذكره
محمد رحمه الله في الأصل بخلاف سائر الحقوق ولهذا لا يجوز اقرار وكيل القاتل على موكله
بالقصاص بخلاف سائر المواضع والاحتياط أن يلحق هذا بالحقوق التي هي للورثة حتى أنه
يؤمر بإقامة البينة فربما يعجز عن اقامتها فيسقط القصاص وإنما قلنا إنه يشبه حق الميت لما ذكر
وبيان انه يشبه حق الروثة انهم لو عفوا عن الجارح في حياة المورث جاز عفوهم ولو لم يكن
لهم حق لا يجوز كما لو أبرأ عن الدين في حياته بخلاف الصلح والعفو لأنه يثبت مع الشبهات
والقصاص من وجه كالمورث لان ثبوته للوارث على سبيل الخلافة ومن وجه هو ثابت للوارث
ابتداء وما ترد بين أصلين يوفر حظه عليهما ففيما يثبت مع الشبهات يجعله كالموروث وفيما
يندرئ بالشبهات نجعله كالواجب لكل واحد منهما ابتداء فلا يكون أحد منهما خصما عن
الآخر في إقامة البينة عليه وهذا بخلاف الخطأ فان موجبه المال وهو موروث للورثة عن الميت
بعد ما تفرغ عن حاجته فكان بمنزلة سائر الورثة ينتصب كل وارث خصما عن الميت وعن
سائر الورثة في اثباته على أن الخطأ ليس مبناه على التغليظ بدليل قبول شهادة النساء مع الرجال
178

والشهادة على الشهادة ولو حضر الورثة جميعا وأقاموا البينة بالقتل العمد على رجلين أحدهما
غائب قبلت البينة علي الحاضر وقضيت عليه بالقود فإذا حضر الغائب كلفهم إعادة البينة عليه
لان الحاضر ليس بخصم عن الغائب وليس من ضرورة ثبوت القتل عليه ثبوته على الغائب
وان امتنع القضاء به على الغائب فذلك لا يمنع استيفاء القود من الحاضر كما لو عفا الورثة عن
أحد القاتلين أو صالحوه على مال كان لهم أن يقتلوا الحاضر وهذا لان القاتلين يهربون عادة
فقل ما يظفر بهم جميعا فلو قلنا بأنه يمتنع استيفاء القصاص من واحد منهم بسبب غيبة من غاب
أدى ذلك إلى سد باب القصاص والاضرار بصاحب الحق (أرأيت) لو مات الغائب أو فقد فلم
يوقف على أثره أكان يمتنع استيفاء القصاص من هذا الحاضر ولا يقال في هذا استيفاء مع
الشبهة لجواز أن يكون للغائب حجة يدرأ بها القتل عن نفسه وعن صاحبه لأنه ما من حجة
تقبل من الغائب إذا حضر الا وهي مقبولة من الحاضر لو أقامها ولو أن أخوين أقاما شاهدين
علي رجل انه قتل أباهما عمدا فقضى القاضي بذلك وقتلاه ثم إن أحدهما قال قد شهدت الشهود
بالزور وأبونا حي غرمته نصف الدية وهذا عندنا وقال الشافعي عليه القصاص لأنهما أقرا أنهما
تعمدا قتلا بغير حق واقرارهما حجة عليهما فيلزمهما القصاص بذلك وكذلك إذا أقر به أحدهما
لان المقر يعامل في حقه كأنما أقر به حق وان كأن لا يصدق على غيره فلا يجوز أن يجعل
قضاء القاضي شبهة في اسقاط القود عنهما لان قضاء القاضي إنما يكون شبهة في حق من
لا يعلم الامر بخلاف ما قضي به فأما في حق من يعلم ذلك فلا يعتبر قضاء القاضي كما لو رجع
أحد شهود الزنا بعد ما رجم المشهود عليه فإنه يلزمه حد القذف ولا يصير قضاء القاضي
بالرجم شبهة في حقه لهذا المعنى وأصحابنا قالوا إنهما قتلاه بشبهة والقتل بشبهة يوجب المال دون
القصاص وبيان ذلك أنهما قتلاه بناء على قضاء القاضي لهما بالقود وهذا قضاء لو كان حقا لكان
مبيحا لهما القتل فظاهره يوجب شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات كالنكاح الفاسد يكون
مسقطا للحد لأنه لو كان صحيحا كان مبيحا للوطئ فظاهره يورث شبهة وهذا الظاهر يورث
شبهة في حق من يعلم حقيقة الامر وفي حق من لا يعلم كما في النكاح الفاسد وهذا لان
القصاء لما كان حقيقة مبيحا فظاهره يمكن شبهة في المحل والشبهة في المحل تؤثر في حق من
يعلم وفي حق من لا يعلم كمن وطئ جارية أبيه لا يلزمه الحد وإن كان يعلم حرمتها عليه وهذا
بخلاف حد القذف فان حقيقة القضاء بالزنا هناك لا تبيح شبهة من غير فائدة فكذلك ظاهره
179

لا يورث شبهة ثم الفرق ما بيناه في كتاب الصوم ان هناك إنما يلزمه الحد بسبب سابق
على القضاء وهو الشهادة على الزنا لأنه نسبه إلى الزنا لما انتزع معنى الشهادة من كلامه
برجوعه وقد كان ذلك سابقا على القضاء هناك فأما هنا فالسبب الموجب للقود مباشرة القتل
وذلك وجد منهما بعد القضاء فيكون صورة القضاء شبهة ويتضح كلامنا فيما إذا أقر بذلك أحد
الاثنين وجحد الآخر لأنهما باشر القتل والجاحد منهما محق حتى لا يلزمه قصاص ولا دية
فيكون هذا أقوى في التأثير من الخاطئ إذا شارك العامد في القتل وهناك لا يجب القود علي
واحد منهما فهنا أولى وإذا سقط القود وجب علي الراجع منهما نصف الدية في ماله لإقراره
بالقتل بغير حق وما يجب بالاقرار لا تتحمله العاقلة ولو كان أحد الأخوين قتل القاتل
قبل القضاء لهما عليه بالقتل أو قبل أن تقوم لهما بينة علي ذلك ثم أقر هو أنه قتله بغير حق وأن
الأب حي فعليه القصاص لأنه لم يقترن بالسبب الموجب للقصاص عليه شبهة قضاء مانع وإن لم
يقل هو شيئا ولكن الآخر قال قد كنت عفوت أو كنت أريد أن أعفو أو كنت صالحت
ولا بينة له علي ذلك فإنه لا يصدق علي أخيه لان اقراره بذلك حينئذ متمثل بين الصدق
والكذب فيجعل في حق غيره كذبا إذ لا ولاية له علي غيره في أنه يلزمه شيئا بقول قاله ولا
شئ علي أخيه وإن كان أخذ غير حقه من قبل الشركة يعني انه إذا كان هذا بعد ما قامت
البينة لهما علي القتل وقضي القاضي بذلك ثم هو ظاهر علي أصل أبي حنيفة لان عنده قد
وجب حق كل واحد منهما في جميع القود كأنه ليس معه غيره فيكون مستوفيا حقه وعندهما
الواجب لكل واحد منهما بعض القود الا انه لا يلزمه شئ لا جل الشركة وهو انه لا يتمكن
من استيفاء نصيبه الا باستيفاء ما بقي وفعله في نصيبه استيفاء غير موجب للضمان عليه فإذا
خرج بعض فعله من أن يكون واجبا موجبا للضمان عليه خرج جميع من أن يكون موجبا
للضمان عليه لأن لا يحتمل الوصف بالتجزء وبعد ما لم يكن أصل فعله موجبا للضمان عليه
لا يصير موجبا باقرار أخيه فان أقام ورثة المقتول بينة علي هذا انه قد كان صالح على كذا قبل
أن يقتل الآخر أو كان عفا أجزت ذلك لان الثابت بالبينة التي يقيمها من هو خصم كالثابت
باتفاق الخصوم ثم القاتل يكون ضامنا للدية لأنه تبين انه باشر القتل بغير الحق وقد سقط القود
عنه للشبهة حين لم يكن عالما بصلح أخيه وعفوه ويجب له من ذلك نصف الدية لان بعفو
أخيه انقلب نصيبه مالا على القاتل وقد استوجب القاتل عليه كمال الدية في ماله أيضا فيكون
180

النصف قصاصا فإن كان قتل بعد عفو أخيه أو صلح وبعد ما علم بان الدم قد حرم عليه فعليه
القصاص لانتفاء الشبهة وله نصف الدية في مال القاتل لان نصيبه كان انقلب مالا لو مات
القاتل فيستوفى من تركته فكذلك إذا قتله والله أعلم
(باب رجوع الشهود عن القتل)
(قال رحمه الله) وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل عمدا وقبلت شهادتهما ثم رجعا فعليهما
الدية في مالهما في قول علمائنا رحمهم الله وقال الشافعي عليهما القصاص وكذلك إذا رجع أحدهما
واحتج الشافعي بحديث علي رضي الله عنه حيث قال لشاهدي السرقة حين رجعا لو علمت
أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما والمعنى فيه أنهما باشرا قتلا بغير حق لأنهما ألجئا القاضي إلى
القضاء بالقتل فإنه يخاف العقوبة إذا امتنع من ذلك والملجئ مباشر حكما في وجوب القود عليه
كالمكره والدليل عليه أن الدية تجب مغلظة في مالهما عندكم وذلك لا يكون الا بمباشرة القتل
* وحجتنا في ذلك أن الشاهد سبب للقتل والسبب لا يوجب القصاص كحفر البئر وهذا
لأنه يعتبر في القصاص المساواة ولا مساواة بين السبب والمباشرة. وبيان الوصف أن المباشر
هو الولي وهو طائع مختار في هذه المباشرة فعرفنا أن الشاهد غير مباشر حقيقة ولا حكما ولا
معنى لما ذكره من الالجاء لان القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة وبه لا يصير ملجأ إلى
ذلك بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا نسلم ان الدية تجب مغلظة على الشهود فكل واحد
يقيم الطاعة خوفا من العقوبة على تركها ولا يصير به مكرها ثم إن وجد هذا الالجاء في حق
القاضي فبمجرد القضاء ما صار المقضى عليه مقتولا وإنما صار مقتولا باستيفاء الولي وهو غير
ملجأ إلى ذلك بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا يسلم أن الدية تجب مغلظة علي الشهود بل
إنما تجب مخففة بمنزلة الواجب على حافر البئر الا انها تجب على الحافر البئر في ماله لأنها
وجبت باقراره واقراره غير مقبول في حق العاقلة ولم يثبت لهم ان الشاهد مباشر حكما فقد
بينا ان المباشر حقيقة هاهنا لا يلزمه القصاص وهو الولي لشبهة قضاء القاضي فالمباشر حكما
أولي أن لا يلزمه شئ من ذلك وإنما قال علي رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد فقد صح
من مذهب على أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة وقد تقدم بيان هذا في كتاب الرجوع
فإذا لم يجب القود عليهما كان عليهما الدية ان رجعا وان رجع أحدهما فعليه نصف الدية لان
181

كل واحد منهما سبب لاتلاف نصف النفس فان رجع الولي معهما أو جاء المشهود بقتله حيا
فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشاهدين الدية وبين أن يضمن القاتل لان القاتل متلف
للنفس حقيقة والشهود متلفون له حكما والاتلاف الحكمي في حكم الضمان كالاتلاف الحقيقي
فكان له أن يضمن أيهما شاء فان ضمن الولي الدية لم يرجع على الشاهدين بشئ لأنه يضمن
بفعل باشره لنفسه باختياره وان ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي أيضا في قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد ثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا لأنهما ضمنا بشهادتهما وقد
كانا عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان كما لو شهدا بالقتل الخطأ أو بالمال
فقضى القاضي واستوفى المشهود له ثم رجعوا جميعا وضمن المشهود عليه الشاهدين كان لهما
أن يرجعا على المشهود له ولا يقال هناك قد ملك المقبوض بالضمان وهاهنا لم يملكاه لان
القصاص لا يملك بالضمان والمشهود به هو القصاص وهذا لأنهما وإن لم يملكا بعد فقد قام مقام
من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه آخر منه ثم ضمن المالك
الغاصب الأول فإنه يرجع بالضمان على الثاني وإن لم يملك المدبر بالضمان ولكنه قام مقام من
ضمنه وهذا لان القصاص مما يملك في الجملة وله بدل متقوم محتمل التمليك فيكون السبب معتبرا
على أن يعمل في بدله عندنا لتعذر اعماله في الأصل كاليمين على أن تعمل في بلده حتى يرجع
بالضمان من أن يكون معتقدا في ايجاب الكفارة التي هي خلف عن البر لما كان الأصل وهو البر
متوهم الوجود في الجملة وعلى هذا غاصب المدبر فان المدبر متقوم مملوك في الجملة فينعقد السبب
للغاصب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى يرجع بالضمان على الغاصب الثاني وكذا شهود
الكتابة إذا رجعوا وضمنهم الولي القيمة كان له أن يرجعوا على المكاتب ببدل الكتابة ولم يملكوا
رقبة المكاتب ولكن لما كان المكاتب مملوكا رقبة للمكاتب انعقد السبب في حقهم علي أن يكون عاملا
في بدل وهو بدل الكتابة بذلك وإن لم يملكوا رقبة المكاتب فهذا مثله وأبو حنيفة يقول الشهود
ضمنوا لاتلافهم المشهود عليه حكما والمتلف لا يرجع بما يضمن بسببه على غيره كالولي وهذا
لأنهم لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع مباشرة الاتلاف لان مجرد السبب يسقط
اعتباره في مقابلة المباشرة (ألا ترى) أنه لو وقع انسان في بئر حفرها غيره في الطريق كان
الضمان على الحافر ولو دفعه غيره حتى وقع فيه كان الضمان علي الدافع دون الحافر وهاهنا
لما ضمن الشهود عرفنا انهم جناة متلفون للنفس حكما وإن كان تمام ذلك الاتلاف عند استيفاء
182

الولي فان استيفاء الولي بمنزلة شرط بقدر جنايته ومن ضمن بجنايته على النفس لا
يرجع على غيره فاما في الخطأ فإنما رجع لأنه ملك المقبوض هو الدية وقد أتلفه المستوفى
بصرفه إلى حاجته وهذا سبب آخر موجب للضمان عليه للشاهد وكذلك الشاهد بالمال
قولهما ان في هذا الموضع يجعل هو قائما مقام من ضمنه قلنا هذا أن لو بقي حق من ضمنه قبل
الولي واختياره فتضمين الشاهد ابراء منه للولي فكيف يقوم الشاهد مقامه في الرجوع عليه
وقوله بأنه ينعقد السبب موجبا للملك له أن يعمل في بدله قلنا هذا ان لو كنا في الأصل نتوهم الملك
في الضمان وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال فلا ينعقد السبب باعتبار الحلف كيمين
الغموس ثم لو كان القصاص ملكا لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولي بالعفو وقتل
من عليه القصاص انسان آخر فليس له القصاص قبل الضمان وانعقاد السبب لا يكون أقوى من
ثبوت الملك حقيقة وإذا كان المتلف للقصاص لا يضمنه للمالك فكيف يضمنه لمن انعقد له
السبب وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة فان هناك لو كان مالكا حقيقة لم يضمنه المتلف
عليه فكذلك إذا جعل كالمالك حكما باعتبار انعقاد السبب فيكون له أن يرجع بالبدل لذلك
ولو رجع الشاهدان دون الولي فقال الولي أنا أجئ بشاهدين آخرين يشهدان على ذلك وقد
قتل القاتل لم التفت إلى ذلك لان الولي لا يثبت لنفسه شيئا بهذه البينة فإنه قد استوفى
القصاص ولا سبيل لا حد عليه إذا كان مصرا على دعواه ولم يظهر القتيل فلو قبلت هذه
البينة إنما تقبل لاسقاط ضمان الدية على الراجعين وهما لا يدعيان ذلك بل يكذبان الشاهدين
و يقران على أنفسهما بالدية لنسبتهم للقتل بغير حق فلا فائدة في قبول هذه البينة و لو شهد
أحد شاهدي الدم مع آخر على صاحبه انه كان محدودا في قذف أو عبدا فشهادتهما باطلة لأن هذه
الشهادة تقوم لابطال قضاء القاضي لا لاثبات ملك أو حق لا حد بعينه والشهادة
على ابطال قضاء القاضي لا تقبل ولا شئ على واحد منهما لان الشاهد بهذا لا يصير راجعا
فقد يكون هو محقا في شهادته وإن كان صاحبه عبدا أو محدودا في قذف وأما المشهود عليه فهو
ثابت على شهادته منكر لما شهد به صاحبه عليه ولو شهد أنه عبد لهذا المدعي فيصير به عبدا له لأن هذه
البينة تقوم لاثبات الملك للمدعى فإذا قبلت تبين بطلان القضاء الأول وأن القاضي أخطأ
في قضائه بغير حجة فيكون ضمان ذلك على من وقع الضمان له وهو الولي وتجب الدية على
عاقلته لأنه ظهر انه كان مخطئا في القتل وإنما ظهر بما هو حجة عليه وعلي عاقلته وبهذا الفصل تبين
183

انه إذا لم يرجع الشهود والولي ولكن جاء المشهود بقتله حيا فان الدية تجب على
عاقلة الولي والشهود ويتخير ولى القتيل في ذلك وهكذا ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة
وإنما تجب في مالهم إذا رجعوا لان وجوب ذلك بالاعتراف وإذا قضى القاضي بالدم بشهادة
الشاهدين فلم يقتل حتى رجعا استحسنت ان ادرأ القصاص عنه وهو قول أبي حنيفة
الآخر وكأن يقول أولا يستوفى القصاص وهو القياس لان القصاص محض حق العبد
فيتم القضاء بنفسه والرجوع بعد القضاء لا يمنع الاستيفاء كالمال والنكاح فان القاضي إذا قضى
بالنكاح ثم رجع الشهود لا يمنع استيفاء الوطئ على الزوج وإن كان في القصاص يحتاط في
الاستيفاء فكذلك في الوطئ وجه قوله الآخر ان القصاص عقوبة تندرئ بالشبهات والغلط فيه
لا يمكن تداركه فيكون بمنزلة الحدود فكما أن في الحدود لا يتم القضاء بنفسه ويجعل رجوع
الشهود مع القضاء قبل الاستيفاء بمنزلة الرجوع قبل القضاء فكذلك في القصاص بخلاف
المال فإنه يثبت مع الشبهات وبخلاف النكاح لأن العقد هناك ينعقد بقضاء القاضي ظاهرا
وباطنا وهاهنا ما لم يكن واجبا من القصاص لا يصير واجبا بقضاء القاضي ولا بد من قيام
الحجة عند الاستيفاء وأصل شهادة الشهود فإذا لم يبق حجة بعد رجوعهم يمتنع الاستيفاء
وكل دية وجبت بغير صلح فهي في ثلاث سنين لأنها وجبت بالقتل وتقوم الدم بالمال ثابت
شرعا بخلاف القياس وإنما قومه الشرع بمال مؤجل فكما لا يزاد في قدر ذلك بحال فكذلك
لا يزاد في صفته بأن يجعل حالا وإذا شهد شاهدان بالدم فاقتص من القاتل ثم قالا أخطأنا
إنما القاتل هذا لم يصدقا على الثاني لأنهما شهدا على أنفسهما بالقتل وغرما الدية للأول لأنهما
رجعا عن الشهادة عليه ونحو ذلك مروى عن علي بن إبراهيم يعنى في السرقة ولو شهدا
بدم على رجلين فقتلا بشهادتهما ثم رجع أحدهما في أحد الرجلين فعليه نصف دية هذا الرجل
الواحد في ثلاث سنين ولا يضمن من دية الآخر شيئا لأنه لم يرجع عن شهادته فيه وقد بقي
على الشهادة في حق الآخر من يقوم به نصف الحق فيجب على الراجع نصف ديته ولو لم يرجع
وادعى عليه أولياء المقتص منه انه رجع وسألوا يمينه على ذلك فليس عليه يمين لأنهم لو أقاموا
البينة عليه بالرجوع لم تقبل فكيف يستحلف عليه وهذا لان الرجوع في غير مجلس الحكم
لا يتعلق به حكم فكانت هذه دعوى باطلة منهم وان رجع الشاهد فلزمه نصف الدية في ماله
في ثلاث سنين فمات أخذ ذلك من ماله حالا لوقوع الاستغناء له عن الاجل بالموت وان
184

كان الرجوع منه في المرض وعليه دين في الصحة بين بدئ بدين الصحة لان رجوعه اقرار
على نفسه بالدية والمريض إذا أقر على نفسه وعليه دين في صحته بدئ بدين الصحة ولو شهد
شاهدان على دم عمد ولهما على المقتول دين أجزت شهادتهما لأنهما يثبتان القود بشهادتهما
ولا منفعة لهما في ذلك الدم فان رجعا عن شهادتهما بعد القتل ضمنا الدية ويقبضان دينهما من
الثلث فإن كان على الميت دين سوى ذلك خاصهم فيه قال الحاكم رحمه الله ولا تصح هذه
المسألة أن يحمل علي ان الدين على المقتول قصاصا وهو كما قال فان الدين إذا كان لهما على الأول
والدية عند الرجوع تجب عليهما للمقتول قصاصا فيكف يستوفيان دينهما من هذه الدية وإن كان
دينهما على المقتول قصاصا فبدل نفسه واجب عليهما عند الرجوع ودينه يقضى من بدل
نفسه و الله أعلم بالصواب
(باب جناية الصبي والمعتوه)
(قال رحمه الله) وإذا أمر الصبي الحر الصبي الحر ان يقتل انسانا فقتله فالدية على عاقلة
القاتل و ليس علي الآمر شئ لان قول الصبي هدر فيما يلزمه الغرم فيكون وجوده كعدمه
فبقي مباشرة القتل من الصبي القاتل ولو أمر رجل صبيا فقتل رجلا كانت الدية على عاقلة الصبي
كمباشرته القتل باختياره يرجعون بها على عاقلة الآمر لان الآمر جان في استعماله الصبي
وأمره إياه بالقتل وهو الذي تسبب لوجوب الضمان على عاقلة الصبي فثبت لهم حق الرجوع
بها على عاقلته فان قيل أمره قول وما يجب على المرء بقوله من ضمان الجناية لا تعقله العاقلة قلت
متمثلا نعم إذا كان ذلك القول خبرا محتملا الصدق والكذب ليكون محمولا على الكذب في
حق العاقلة فأما إذا كان ذلك أمرا فلا تردد في كونه تسببا واستعمالا وإذا ثبت السبب في
حق العاقلة ثبت الحكم وإذا أعطي الرجل صبيا عصا أو سلاحا يمسكه له ولم يأمره فيه بشئ
فعطب الصبي بذلك بان سقط من يده فوقع على رجله فمات فضمانه علي عاقلة الرجل لأنه جان
في استعمال الصبي في إمساك ما دفع إليه وهو سبب لهلاكه متعد في ذلك السبب وان
قتل الصبي نفسه بذلك أو قتل رجلا لم يضمن الدافع شيئا لأنه أمره بإمساكه لا باستعماله
وإنما وجب الضمان على عاقلته لاستعماله وهو مختار في ذلك غير مأمور به من جهة الدافع
فكذلك إذا قتل به نفسه فإنما تلف باستعماله لا بإمساكه بخلاف ما إذا وقع على رجله لأنه ثمة
185

حصل الهلاك لا بمباشرته بل بإمساكه الذي هو حكم دفع الدافع وهو متعد في الدفع
فيضمن بخلاف ما إذا حصل التلف بمباشرته وحدث من جهة الصبي باختياره لأنه طرأت
المباشرة على التسبيب فينقطع حكم التسبيب وهذه المباشرة ليست حكم ذلك التسبيب فلا يثبت
الرجوع بخلاف ما إذا أمره بالقتل حكما وإذا غصب الرجل الصبي الحر فذهب به فهو
ضامن له ان قتل أو أصابه حجرا وأكله سبع أو تردى من حائط عندنا استحسانا وفي القياس
لا شئ عليه وهو قول زفر والشافعي وجه القياس أن ضمان الغصب يختص بما هو مال متقوم
والصبي الحر ليس بمال متقوم فلا يضمن بالغصب كالميتة والدم والدليل عليه أنه لو مات حتف
أنفه أو أصابته حمى فمات أو مرض فمات أو خرجت به قرحة فمات لم يضمن الغاصب شيئا
بالاتفاق والدليل عليه انه لو غصب مكاتبا صغيرا فمات في يده ببعض هذه الأسباب لم يضمن
الغاصب شيئا فالحر أولى وكذلك لا يضمن أم الولد بالغصب وان تلفت بهذه الأسباب
لأنه لم يبق لرقها قيمة فلأن لا يضمن الحر بهذه الأسباب كان أولى * وحجتنا في ذلك أنه
سبب لاتلافه بغير حق والمسبب إذا كان متعديا في سبب فهو ضامن والدية على عاقلته كحافر
البئر وواضع الحجر في الطريق وبيان الوصف أنه أزال يد حافظه عنه في حال حاجته إلى
الحفظ ولم يقم بحفظه بنفسه فكان مسببا لاتلافه وهو متعد في ذلك لأنه ممنوع شرعا من
إزالة يد حافظه ومعنى قولنا إن لم يقم بحفظه بنفسه لأنه تلف بأمر يمكن التحرز عنه بخلاف
ما إذا مات لان ذلك لا يستطاع الامتناع عنه فلا يكون دليلا على تركه الحفظ أو على أنه
كان سببا لإزالة حافظه عنه فأما التردي من الحائط ونهش الحية وإصابة الحجر فإنه يمكن التحرز
عنه في الجملة وبهذا تبين أن هذا الضمان ضمان جناية لا ضمان غصب والحر يضمن بالجناية تسبيبا
كان أو مباشرة وهذا بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه صغيرا كان أو كبيرا فهو بفعله ما حال
بينه وبين نفسه وبخلاف أم الولد فإنها تقوم بحفظ نفسها فلا يكون هو جانيا بإزالة الحفظ
عنها فلهذا لا يضمن نقصها ولو قتل الصبي في يد الغاصب رجلا فليس على الغاصب في ذلك
شئ لأنه لم يأمره بالقتل ولكنه أنشأ القتل باختياره فلو ثبت للعاقلة حق الرجوع على الغاصب
كان ذلك باعتبار يده على الصبي والحر لا يضمن باليد وكذلك لو قتل الصبي نفسه
في يد الغاصب فلا شئ على الغاصب كما لو قتل غيره وعلى قول أبى يوسف تجب ديته علي عاقلة
الغاصب لأنه تلف بسبب يمكن حفظه من ذلك السبب عادة فهو كما لو نهشته حية وإذا حمل
186

الرجل الصبي الحر على دابة فقال له أمسكها لي وليس بيده حبل فسقط عن الدابة فمات فالدية
على عاقلة الرجل لأنه سبب لاتلافه حين حمله على الدابة فكان متعديا في تسبيبه فإذا تلف
بذلك السبب كان ضامنا لديته ويستوي إن كان الصبي ممن يركب أو لا يركب فان سار الصبي
على الدابة فأوطأ انسانا فقتله فإن كان هو ممن يستمسك عليها فديته علي عاقلة الصبي لأنه متلف
للرجل بدابته حين أوطأها إياه ولا شئ على عاقلة الذي حمله عليها لأنه أحدث السير باختياره
فهو كما لو قتل رجلا في يد الغاصب باختياره وإن كان مما لا يسير على الدابة لصغره ولا
يستمسك عليها فدم القتيل هدر لأن هذه الدابة بمنزلة المنفلتة فإنها سارت من غير أن يسيرها
أحد والدابة المنفلتة إذا وطأت انسانا فدمه هدر وهذا الذي حمل الصبي علي الدابة لم يسيرها
فلا يكون هو قائد الدابة ولا سائقا والصبي الذي لا يستمسك على الدابة بمنزلة متاع موضوع
عليها فلا يكون هو مسيرا للدابة بخلاف ما إذا كان يستمسك عليها وإذا حمل الرجل معه الصبي
على الدابة ومثله لا يصرفها ولا يستمسك عليها فوطئت الدابة انسانا فقتلته فالدية على عاقلة
الرجل خاصة لأنه هو المسير للدابة والصبي الذي لا يستمسك بمنزلة المتاع معه على الدابة فالدية
على عاقلته وعليه الكفارة لان الراكب يجعل متلفا لما أوطأ بدابته مباشرة فإنه إنما تلف بفعله
والكفارة جزاء مباشرة القتل وسيأتي بيان هذا في الباب الذي يلي هذا ولو كان الصبي
يصرف الدابة ويسير عليها فالدية على عاقلتهما جميعا لان كل واحد منهما مسير للدابة ها هنا
فكانا جانبين على الرجل فتجب الدية علي عاقلتهما ولا ترجع عاقلة الصبي على عاقلة الرجل بشئ
لان هذا بمنزلة جناية الصبي بيده والرجل لم يأمره بذلك ولو سقط الصبي فمات فديته على عاقلة
الرجل لأنه هو الذي حمله عليها وقد بينا ان حامل الصبي على الدابة ضامن لديته إذا سقط
سواء كان سقوطه بعدما سير الدابة أو قبل أن يسيرها وكان هو ممن يستمسك عليها أو لا
يستمسك عليها وإذا حمل العبد صبيا حرا على دابة فوقع الصبي عنها فمات فديته في عنق العبد
يدفع به أو يفدى لأنه صار مسببا لهلاك والعبد يضمن بالجناية تسببا كان أو مباشرة وموجب
جناية العبد الدفع أو الفداء وإن كان معه على الدابة فسارا عليها فوطئت انسانا فمات فعلى عاقلة
الصبي نصف الدية وفي عنق العبد نصفها يدفع به أو يفدى لأنهما جانيان علي المقتول فعلى كل
واحد منهما موجب جنايته ويجعل في ذلك الحكم كأنه تفرد به وإذا حمل الحر الكبير العبد
الصغير على الدابة ومثله يصرفها ويستمسك عليها ثم أمره أن يسير عليها فأوطأ انسانا فذلك
187

في عنق العبد يدفعه به مولاه أو يفديه بمنزلة جنايته بيده ويرجع مولاه بالأقل من قيمته ومن
الأرش على الغاصب لأنه حين حمله على دابته فقد صار غاصبا له ويبقى حكم غصبه ما بقي على
الدابة والعبد المغصوب إذا جنى في يد الغاصب كان للمولى أن يرجع على الغاصب بالأقل من
قيمته ومن أرش الجناية لأنه غصبه فارغا ورده مشغولا بالجناية بخلاف ما تقدم فالمحمول علي
الدابة هناك حر والحر لا يضمن بالغصب ولو حمله عليها وهو لا لصرف الدابة ولا يستمسك
عليهما فسارت الدابة فأوطأت انسانا فدمه هدر لان الذي حمله عليها ليس بقائد للدابة ولا سائق
لها وإنما هذه دابة منفلتة وان كانت واقفة حيث أوقفها ولم تسر حتى ضربت رجلا بيدها أو
رجلها أو بذنبها أو كدمته فلا شئ علي الصبي لان الصبي بمنزلة المتاع حين كأن لا يستمسك
علي الدابة وعلي الذي أوقفها الضمان علي عاقلته لأنه متعد في هذا التسبب فإنه ممنوع من ايقاف
الدابة في الطريق إلا أن يكون أوقفها في ملكه فحينئذ لا ضمان عليه لأنه غير متعد في ايقافها
في ملكه والمتسبب إذا لم يكن متعديا في تسببه لا يضمن شيئا كمن حفر بئرا أو وضع حجرا
في ملكه والله أعلم
(باب جناية الراكب)
(قال رحمه الله) وإذا سار الرجل علي دابة أي الدواب كانت في طريق المسلمين فوطئت
انسانا بيد أو رجل وهي تسير فقتلته فديته على عاقلة الراكب والأصل في هذا ان السير على
الدابة في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي فان الحق في الطريق لجماعة
المسلمين وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة لان حقه في ذلك
يمكنه من الاستيفاء ودفع الضرر عن الغير واجب عليه فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر
من الجانبين ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه لان
ما يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع ولأنا لو شرطنا على السلامة عما لا يمكن التحرز
عنه تعذر عليه استيفاء حقه لأنه لا يمتنع من المشي والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن
التحرز عنه فاما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صفة السلامة من ذلك لا يمتنع عليه
استيفاء حقه وإنما يلزمه به نوع احتياط في الاستيفاء إذا عرفنا هذا فنقول التحرز عن الوطئ على
شئ في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك فإذا لم يسلم كان جانيا وهذه جناية منه بطريق
188

المباشرة لان القتل إنما حصل بفعله حين كان هو على الدابة التي وطئت فتجب عليه الكفارة
وعلى عاقلته الدية وان نفحته برجلها وهي تسير فلا ضمان على الراكب لقوله عليه السلام الرجل
جبار أي هدر والمراد نفحة الدابة بالرجل وهي تسير وهذا لأنه ليس في وسعه التحرز من
ذلك لان وجه الراكب أمام الدابة لا خلفها وكذلك النفحة بالذنب ليس في وسعه التحرز
عن ذلك وقال ابن أبي ليلى هو ضامن لجميع ذلك وقاس الذي يسير على الدابة بالذي
أوقف دابته في الطريق فنفحت برجلها أو يدها فكما أن هناك يجب ضمان الدية على عاقلته
فكذلك هنا ولكنا نقول في الفرق بينهما هو ممنوع من ايقاف الدابة على الطريق لان ذلك
مضر بالمارة ولان الطريق ما أعد لايقاف الدواب فيه فيكون هو في شغل الطريق بما لم يعد
الطريق له متعديا والمتعدي في التسبب يكون ضامنا فلهذا يسوى فيه بين ما يمكن التحرز
عنه وبين مالا يمكن وهذا لأنه ان كأن لا يمكن التحرز عن النفحة بالرجل والذنب فهو يمكنه
التحرز عن ايقاف الدابة بخلاف الأول فان السير على الدابة في الطريق مباح له لان الطريق
معد لذلك ولأنه لا يضر بغيره وهو محتاج إلى ذلك فربما لا يقدر على المشي فيستعين بالسير
على الدابة وإذا لم يكن نفس السير جناية قلنا لا يلزمه ضمان مالا يستطاع الامتناع منه (ألا ترى)
ان الماشي في الطريق لا يكون ضامنا لما ليس في وسعه الامتناع منه بخلاف الجالس والنائم في
الطريق ولو كدمت أو صدمت أو خبطت أو ضربت بيدها انسانا وهو يسير عليها فذلك
كله مما يمكن التحرز عنه فيكون موجبا للدية على عاقلته بمنزلة ما لو وطئت إلا أن هذه
الأسباب لا تلزمه الكفارة عندنا لان الكفارة جزاء مباشرة القتل فلا تجب بالتسبب علي
ما نبينه وان ضربت بحافرها حصاة أو نواة أو حجرا أو شبه ذلك فأصاب انسانا وهي تسير
فلا ضمان عليه لان هذا لا يمكن التحرز عنه فهو بمنزلة التراب والغبار المنبعث من سنابكها
إذا فقأ عين انسان إلا أن يكون حجرا كبيرا فيضمن لان ذلك مما يستطاع الامتناع منه
وإنما ينبعث الحجر الكبير بخرق منه في السير ولو راثت أو بالت في السير فعطب انسان
بذلك لم يكن عليه ضمان لأنه لا يمكن التحرز عن ذلك قالوا وكذلك إذا وقفت لتبول أو
لتروث لان من الدواب مالا يفعل ذلك حتى يقف فهذا مما لا يستطاع الامتناع عنه وكذلك
اللعاب يخرج من فيها ولو وقع سرجها أو لجامها أو شئ محمول عليها من أداتها أو متاع الرجل
الذي معه يحمله فأصاب انسانا في السير كان ضامنا لان هذا مما يمكن التحرز عنه وإنما سقط
189

لأنه لم يشد عليها أو لم يحكم ذلك فكأنه ألقاه بيده على الطريق وكذلك من عطب به بعدما
وقع علي الأرض فان عثر به أو تعقل فهو ضامن له بمنزلة ما لو وضعه بيده علي الطريق
والراكب والرديف والسائق والقائد في الضمان سواء لان الدابة في أيديهم وهم يسيرونها
ويصرفونها كيف شاؤوا وذلك مروى عن شريح رحمه الله إلا أنه لا كفارة على السائق
والقائد فيما وطئت لأنهما مسببان للقتل والكفارة جزاء مباشرة القتل فأما الراكب والمرتدف
فمباشر ان القتل بفعلهما فعليهما الكفارة كالنائم إذا انقلب علي انسان فقتله وإذا أوقف دابته
في طريق المسلمين أو في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فما أصابت بيد أو رجل أو ذنب أو
كدمت أو سال من عرقها أو لعابها علي الطريق فزلق به انسان فضمان ذلك على عاقلته لأنه
متعد في هذا التسبيب فإنه ممنوع من ايقاف الدابة في ملك غيره بغير إذنه وكذلك في
طريق المسلمين هو ممنوع من ايقاف الدابة خصوصا إذا كان يضر بالمار ولكن لا كفارة
عليه لانعدام مباشرة القتل منه وإذا أرسل الرجل دابته في الطريق فما أصابت في وجهها
فهو ضامن له كما يضمن الذي سار به ولا كفارة عليه لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن
إرساله فإذا عدت يمينا أو شمالا فلا ضمان عليه لأنها تغيرت عن حالتها أنشأت سير آخر
باختيارها فكانت كالمنفلتة إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أحدثت فيه فحينئذ يكون
ضامنا على حاله لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنه أن يسير فيه وإنما سارت في ذلك الطريق
فكان هو سائقا لها ووقفت ثم سارت فيه برئ الرجل من الضمان إذا لأنها لما وقفت فقد
انقطع حكم إرساله ثم أنشأت بعد ذلك سيرا باختيارها في كالمنفلتة فان ردها فالذي ردها
ضامن لما أصابت في فورها ذلك لأنه سائق لها في الطريق الذي ردها فيه وإذا حل عنها
وأوقفها ثم سارت هي فلا ضمان عليه لان حكم فعله قد انقطع بما أنشأت من السير باختيارها
قال وإذا اصطدم الفارسان فوقعا جميعا فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه عندنا
استحسانا وفي القياس على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه وهو قول زفر والشافعي
وجه القياس ان كل واحد منهما إنما مات بفعله وفعل صاحبه لان الاصطدام فعل منهما جميعا فإنما
وقع كل واحد منهما بقوته وقوة صاحبه فيكون هذا بمنزلة ما لو جرح نفسه وجرحه غيره
ولكنا استحسنا لما روى عن علي رضي الله عنه انه جعل دية كل واحد من المصطدمين علي
عاقلة صاحبه والمعنى فيه أن كل واحد منهما موقع لصاحبه فكأنه أوقعه عن الدابة بيده وهذا
190

لان دفع صاحبه إياه علة معتبرة لاتلافه في الحكم فاما قوة المصطدم فلا تصلح أن تكون علة
معارضة لدفع الصادم فهو بمنزلة من وقع في بئر حفرها رجل في الطريق يجب الضمان علي الحافر
وإن كان لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر وكذلك لو دفع انسان غيره في بئر حفرها
رجل في الطريق فالضمان علي الدافع دون الحافر وإن كان لولا حفره لذلك الموضع لما أتلفه
بدفعه وعلى هذا الأصل قالوا لو أن رجلين تجاذبا حبلا فانقطع الحبل فماتا جميعا فان مات كل
واحد منهما بفعل صاحبه بأن وقع على وجهه فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه لأنه إنما وقع
علي وجهه بجذب صاحبه إياه وان وقع كل واحد منهما علي قناه فلا شئ على واحد منهما لان
سقوطه على قفاه بقوة نفسه لا بجذب صاحبه إياه وان سقط واحد منهما على وجهه والآخر
على قفاه فدية الساقط على وجهه على عاقلة صاحبه ولو قطع انسان الحبل بينهما فسقط كل
واحد منهما على قفاه ومات فديتهما علي عاقلة القاطع للحبل لأنه كالدافع لكل واحد منهما
ولو كان الصبي في يد أبيه فجذبه رجل من يده فمات فديته على عاقلة الجاذب لان الأب محق
في إمساكه والجاذب متعد في تسبيبه وكذلك لو تجاذبا صبيا يدعي أحدهما انه ابنه
والآخر يدعي أنه عبده فالدية علي عاقلة الذي يدعى أنه عبده لان الشرع جعل القول قول
من يدعيه ابنه فيكون هو محقا في إمساكه والآخر متعديا في جذبه ولو جذب ثوبا من يد
انسان وهو يدعى أنه ملكه فتخرق الثوب من جذبهما ثم أقام المدعى البينة انه كان له فله
نصف قيمة الثوب على صاحبه لأنه كان يكفيه الامساك باليد وما كان يحتاج إلي الجذب فيجعل
التخريق محالا به علي فعلهما جميعا ولو عض ذراع انسان فنزع ذراعه من فيه فسقطت انسان
العاض فهو هدر ولو أنقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك علي العاض لأنه محتاج إلى جذب
الذراع من فيه فان العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر
متعديا في العض ولو أخذ بيد انسان فجذب صاحب اليد يده فعطبت يده فإن كان أخذ بيده
ليصافحه فلا ضمان على الذي أخذ لان الجاذب ما كان يحتاج إلى ما صنع فيكون هو الجاني على
يد نفسه وإن كان أخذ يده ليعصره فالضمان على الآخذ لان الجاذب محتاج إلى الجذب لدفع الألم
عن نفسه ولو جلس على ثوب انسان فقام صاحبة فتخرق الثوب من جذبه فالضمان على
الجالس عليه لأنه متعد في الجلوس على ذيل الغير بغير إذنه والذي بينا في اصطدام الفارسين
فكذلك الجواب في اصطدام الماشيين فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فقيمة العبد على
191

عاقلة الحر ثم يأخذها ورثة الحر لان كل واحد منهما صار قاتلا لصاحبه فيجب على عاقلة الحر
قيمة العبد ثم إن تلف العبد الجاني وأخلف بدلا فيكون بدله لورثة المجني عليه وهو الحر وإذا
أوقف الرجل دابته في ملكه فما أصابت بيد أو رجل أو غير ذلك فلا ضمان عليه فيه لأنه
غير متعد في ايقافها في ملكه وكذلك أن كان الملك له ولغيره لان لكل واحد من الشريكين
أن يوقف دابته في الملك المشترك ويستوى ان قل نصيبه فيها أو كثر (أرأيت) لو قعد في الملك
المشترك أو توضأ فعطب انسان بوضوئه أكنت أضمنه ذلك لا أضمنه شيئا من هذا وإذا
سار الرجل على دابته فضربها أو كبحها باللجام فنفحت برجلها أو بذيلها لم يكن عليه شئ ء لأنه
يحتاج إلى ضربها أو كبحها باللجام في تسييرها ولا يمكنه التحرز عن النفحة بالرجل والذنب
ولو خبطت بيد أو رجل أو كدمت أو صدمت فقتلت انسانا فالضمان على الراكب سواء
كان يملكها أو لا يملكها لان التحرز عن هذا كله ممكن ولو سقط عنها ثم ذهبت على وجهها
فقتلت انسانا لم يكن عليه شئ لأنها منفلتة فالذي سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق
والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال العجماء جبار
وهي المنفلتة عندنا ذكره في الأصل والله أعلم
(تم الجزء السادس والعشرون من كتاب المبسوط السرخسي الحنفي رحمه الله)
(ويليه الجزء السابع والعشرون وأوله كتاب الناخس)
192