الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ٩
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء التاسع من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(باب الكسوة)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف لا يشترى ثوبا ولا نية له فاشترى كساء خز أو طيلسانا
أو فروا أو قباء أو غير ذلك مما يلبس الناس حنث لان اسم الثوب حقيقة لهذا وينطلق
عليه عرفا وان اشترى مسحا أو بساطا لم يحنث لان اسم الثوب لا يطلق عليه عادة وإنما
يطلق على ملبوس بني آدم وفي الايمان للعادة عبرة ولو اشترى قلنسوة لم يحنث لأنه ليس
بثوب فالثوب ما يستر العورة وتجوز الصلاة فيه وكذلك لو اشترى خرقة لا تكون أي
لا تبلغ نصف ثوب لان هذا لا يستر العورة ولا يتأدى به الكسوة في الكفارة وان
اشترى أكثر من نصف الثوب حنث لان اسم الثوب ينطلق على أكثر الثوب ولأنه
يستر عورته وكذلك أن اشترى ثوبا صغيرا حنث ومراده ما يكون إزارا أو سراويل
يستر العورة وتجوز الصلاة فيه وكذلك لو حلف يلبس ثوبا فلو سمي ثوبا بعينه ولبس
منه طائفة يكون أكثر من نصفه حنث لأنه يسمى لابسا له ألا تري أن الانسان قد
يلبس الرداء وبعض جوانبه على الأرض وان حلف لا يلبس ثوبا بعينه فاتخذ منه جبة
وحشاها ولبسها حنث لأنه جعل شرط حنثه لبس العين وعقد اليمين باسم الثوب والثوب
باق بعدما اتخذ منه الجبة فأن لابس الجبة يسمى لابسا للثوب بخلاف ما لو حلف على قميص
لا يلبسه أبدا فجعل منه قباء فلبسه لم يحنث لأنه عقد اليمين باسم القميص ولا يبقى هذا الاسم
بعدما جعله قباء ألا ترى أن لابس القباء لا يسمى لابسا للقميص وان حلف لا يلبس من
غزل فلانة شيئا فلبس ثوبا من غزلها حنث لان لبس الغزل هكذا يكون في العادة وفي
القياس لا يحنث لان الثوب غير الغزل ألا ترى أن من غصب غزلا فنسجه كان الثوب له
ولكنه ترك هذا القياس للعرف فان أحدا لا يلف الغزل على نفسه هكذا ولو فعله لا يسمى
لابسا ثوبا وإنما يسمي لابسا للغزل وان نوى الغزل بعينه قبل أن ينسج لم يحنث إذا لبسه
2

يعنى ثوبا لأنه نوى حقيقة كلامه وان حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فلبس ثوبا من
غزلها وغزل أخرى لم يحنث لان الذي من غزلها بعض الثوب ويستوى ان نسج غزلهما
مختلطا أو غزل كل واحدة منهما في جانب على حدة وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا من
نسج فلان أو من شراء فلان وهذا إذا كان فلان ذلك يباشر الشراء والنسج بيده فإن كان
ممن لا يفعل ذلك وإنما ينسج له غلمانه واجراؤه فهو حانث إذا لبس ثوبا نسجوه له لان
مقصود الحالف معتبر في اليمين وان حلف لا يلبس خزا فلبس ثوبا من هذا الذي يسميه
الناس الخز حنث وإن لم يكن خالصا لان مطلق الاسم منصرف إلى ما هو المتعارف باعتبار
ان العرف اصطلاح حادث طرأ على أصل اللغة وهو مقصود المتكلم عند الاطلاق وان
حلف لا يلبس حريرا أو إبريسما فلبس ثوب خز سداه حرير وإبريسم لم يحنث لان
الثوب لا ينسب إلى سداه وإنما ينسب إلى لحمته فان اللحمة هي التي تظهر دون السدا
ألا ترى ان لبس الحرير حرام على الذكور ثم لا بأس بلبس العتابي والمصمت وإن كان
سداه حريرا لان لحمته غزل ولو لبس ثوبا لحمته إبريسم أو حرير حنث عندنا بمنزلة ما لو كان
حريرا كله ألا ترى أنه لا يحل للرجال لبسه والشافعي يعتبر اللون والبريق فيقول إن
كان الغالب عليه بريق الإبريسم ولينه حنث وإلا فلا وأشار إلى الفرق بين هذا وبين
الخز ولا معنى للفرق سوى العرف فان الناس يسمونه ثوب الخز وإن لم تكن لحمته خزا ولا
يسمونه ثوب الحرير إلا أن يكون حريرا كله أو يكون لحمته حريرا (قال) إلا أن يعني سدا
الثوب أو لحمته أو علمه فحينئذ يحنث إذا لبسه بتلك الصفة لأنه شدد الامر على نفسه بنيته
وان حلف لا يلبس قطنا فلبس ثوب قطن حنث لان القطن هكذا يلبس وان لبس قباء
لبس بقطن ولكنه محشو بقطن لم يحنث لان القباء ينسب إلى الظهارة لا إلى الحشو ولا
يسمى في الناس لابسا للحشو وإنما يسمى لابسا للقباء المحشو فلا يحنث لكون حشوه قطنا
إلا أن يعنيه وان حلف لا يلبس كتانا فلبس ثوبا من قطن وكتان حنث لأنه قد لبس
الكتان بخلاف ما لو كان حلف لا يلبس ثوب كتان لأنه إذا سمى الثوب فشرط حنثه أن
يكون جميعه كتانا ولم يوجد وإذا سمي الكتان فشرط حنثه وهو لبس الكتان قد وجد
لأنه يقال هذا ثوب قطن وكتان فان القطن والكتان يستويان في إضافة الثوب إليهما فلا
يصير منسوبا إلى أحدهما دون الآخر بخلاف الخز فإنه يغلب على الإبريسم في نسبة الثوب
3

إليه وبخلاف الإبريسم مع الغزل فان الإبريسم يغلب على الغزل في نسبة الثوب إليه حتى
يسمى ملحما وإن كان سداه قطنا وان حلف لا يلبس هذا القطن فجعله ثوبا فلبسه حنث لان
القطن هكذا يلبس والحاصل أنه بنى هذه المسائل على معاني كلام الناس فلا يشكل
على من يتأمل في كلام الناس وان حلف لا يلبس ثوبا قد سماه بعينه فاتزر به أو ارتدى
أو اشتمل به حنث والقميص وغيره فيه سواء بخلاف ما لو قال لا ألبس قميصا فاتزر
بقميص أو ارتدى به فإنه لا يحنث في القياس في الفصلين سواء ولكنه استحسن الفرق
بينهما بناء على الحرف الذي بينا أن الوصف في غير المعين معتبر وفي المعين لا يعتبر إنما
يصير معلوما بوصفه ثم لبس القميص بصفة مخصوصة متعارف والثابت بالعرف كالثابت
بالنص وإذا لم يعين القميص انصرفت يمينه إلى اللبس بالصفة المعروفة فإذا اتزر به أو
ارتدي به لم يحنث الا ترى أنه لو قال ما لبست اليوم قميصا كان صدقا واما في المعين لا يعتبر
الوصف فعلى أي وجه لبسه كان حانثا الا ترى أنه لو قال ما لبست هذا القميص وقد اتزر
به كان كاذبا وان لبس قميصا ليس له كمان حنث في يمينه لأنه يسمى قميصا وإن لم يكن له كم لان
القميص كالدرع وقد يشتري الرجل لدرعه كمين فعرفنا ان القميص والدرع ينسب إلى البدن
فلا ينعدم الاسم بعدم الكمين كالرجل يسمى رجلا وإن لم يكن له يدان وان حلف لا يلبس
ثوبا فوضعه على عاتقه يريد به الحمل لا يحنث لأنه حامل حافظ لا مستعمل لابس الا تري ان
الأمين إذا فعل ذلك بالأمانة لم يضمن وان نوى نوعا من الثياب دين فيما بينه وبين الله تعالى
ولم يدين في الحكم لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وان حلف لا يلبس من ثوب فلان
شيئا وهو ينوي ما عنده فاشترى فلان ثيابا فلبس منها لم يحنث لان المنوي من محتملات
لفظه فإنه عقد يمينه على فعل في ملك مضاف إلى فلان ونوى حقيقة الإضافة في الحال فتصح
نيته ويجعل مانوي كالملفوظ به ولو حلف لا يكسو فلانا شيئا ولا نية له فكساه قلنسوة أو
خفين أو نعلين أو جوربين حنث لان الكسوة عبارة عن التمليك وما ملكه شئ فيتم شرط
حنثه بخلاف ما لو حلف لا يكسوه ثوبا فان الثوب ما يكون ساترا لبدنه وذلك لا يوجد في
الخف والقلنسوة ولهذا لا تتأدى بهما الكسوة في الكفارة ولو حلف لا يكسوه ثوبا فأعطاه
دراهم فاشتري بها ثوبا لم يحنث لان ما كساه الثوب وإنما وهب له الدراهم وأشار عليه
بمشورة والموهوب له بالخياران شاء اشترى بها ثوبا وان شاء غيره فلو أرسل إليه بثوب كسوة
4

حنث لأنه قد كساه فان فعل رسوله كفعله فان نوى أن يعطيه من يده إلى يده لم يحنث
لأنه نوي حقيقة كلامه وان حلف لا يلبس سلاحا فتقلد سيفا أو تنكب قوسا أو ترسا
لم يحنث لأنه لا يسمى في الناس لابسا وإنما يسمى متقلدا للسيف أو حاملا للسلاح أو معلقا له
على نفسه ولو لبس درع حديد حنث لأنه يسمى به لابسا للسلاح ولو حلف لا يلبس درعا
فلبس درع حديد أو درع امرأة حنث لان اسم الدرع تناولهما حقيقة وعادة فان عني
أحدهما فقد نوي التخصيص في اللفظ العام وذلك صحيح فلا يحنث الا بلبس ما عنى وان
حلف لا يلبس شيئا فلبس درع حديد أودع امرأة أو خفين أو قلنسوة حنث في كل ذلك
لأنه عقد يمينه على فعل اللبس في محل هو شئ واسم الشئ يتناول هذا كله وفعل اللبس يوجد
في كلها فلهذا حنث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(باب القضاء في اليمين)
(قال) وإذا حلف ليعطين فلانا ماله رأس الشهر أو عند الهلال ولا نية له فله الليلة التي
يهل فيها الهلال ويومها كلها لان الشهر جزء من الزمان يشتمل على الليل والنهار ورأس كل
شهر أوله فأول الليلة وأول اليوم من الشهر يكون رأس الشهر ألا تري ان في العرف يقال
اليوم رأس الشهر وإنما أهل البارحة وعند عبارة عن القرب وذكره في المعنى وذكر الرأس
سواء وان حلف ليعطينه حقه صلاة الظهر فله وقت الظهر كله لان الصلاة تذكر بمعنى الوقت
قال عليه الصلاة والسلام ان للصلاة أولا وآخرا والمراد الوقت ولان الاعطاء إنما يكون
في الزمان لا في الصلاة فعرفنا ان مراده الوقت وان قال عند طلوع الشمس أو حين
تطلع الشمس فهو إلى أن تبيض لان صاحب الشرع نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس ثم النهى
يمتد إلى أن تبيض وان قال ضحوة فوقت الضحوة من حين تبيض الشمس إلى أن تزول وان
قال مساء فالمساء مساءان أحدهما بعد الزوال والآخر بعد غروب الشمس فأيهما نوي صحت
نيته وان قال سحرا فوقت السحر مما بعد ذهاب ثلثي الليل إلى طلوع الفجر الثاني فإن لم
يعطه حتى مضى الوقت الذي سماه حنث لفوات شرط البر وان قال يوم كذا فله ذلك اليوم
كله فإذا غابت الشمس قبل أن يعطيه حنث لان اليوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب
الشمس ألا ترى أن صوم اليوم يتأدى بوجود الامساك في هذا القدر وان أعطاه قبل
5

مجئ الوقت المسمى أو وهبه له أو أبرأه منه ثم جاء الوقت وليس عليه شئ لم يحنث في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لما بينا أن اليمين المؤقتة إنما تنعقد موجبا في آخر الوقت
المسمى وعند ذلك لاحق له عليه وفي مثله لا ينعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى ولو مات أحدهما قبل مضى الوقت لم يحنث لان
شرط حنثه ترك فعل الأداء في آخر ذلك الوقت إليه ولا يتحقق ذلك إذا مات أحدهما قبله
وكذلك لو قضي إلى وكيل الطالب بر لان دفعه إلى وكيل الطالب كدفعه إلى الطالب وان
حلف لا يعطيه حتى يأذن له فلان فمات فلان قبل أن يأذن له فأعطاه لم يحنث في قول أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويحنث في قول أبى يوسف رحمه الله لأنه عقد يمينه على فعل
الاعطاء وجعل لذلك غاية وهو اذن فلان فبموت فلان تفوت الغاية وذلك يوجب صيرورة
اليمين مطلقة لاطلاقها واذن فلان كان مانعا من الحنث فبفواته يتحقق اتحاد شرط الحنث
ولا ينعدم وهما يقولان المعقود عليه حرمة الدفع إلى غاية وهو اذن فلان وقد فات اذنه
بموته فيفوت المعقود عليه والعقد لا يبقي بعد فوات المعقود عليه توضيحه أنها لو بقيت
بقيت حرمة الدفع مطلقا لا مؤقتا وهذا المطلق لم يكن ثابتا بيمينه فلا يثبت من بعد ولأنه جعل
شرط حنثه ترك الاستئذان من فلان قبل الاعطاء وذلك لا يتحقق بعد موت فلان فمن
هذا الوجه يفوت شرط الحنث بموت فلان وان حلف ليقضين فلانا ماله وفلان قد مات
وهو لا يعلم به لم يكن عليه حنث في يمينه وإن كان يعلم بموته حين حلف حنث وكذلك لو
حلف ليضربنه أو ليكلمنه أو ليقتلنه وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رضوان
الله عليهم أجمعين يحنث علم أو لم يعلم لأنه أضاف اليمين إلى محلها فانعقدت ثم شرط البر
فات منه وفوات شرط البر يوجب الحنث كما لو كان عالما بموته أو كان حيا فمات قبل أن
يقتله وبيان الوصف أن محل اليمين خبر في المستقبل سواء كان الحالف قادرا عليه أو
عاجزا عنه ألا ترى أنه لو قال والله لأمسن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا انعقدت
يمينه لأنه عقدها على خبر في المستقبل وإن كان هو عاجزا عن ايجاده فهذا مثله وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله قالا محل اليمين المعقودة خبر فيه رجاء الصدق لأنها تعقد للحظر أو
للإيجاب أو لاظهار معني الصدق وذلك لا يتحقق فيما ليس فيه رجاء الصدق فلا تنعقد
أصلا كاليمين الغموس ثم إذا كأن لا يعلم بموته فمقصوده ازهاق روح موجودة فيه وقت
6

اليمين ولا تصور لهذا إذا كان ميتا وإذا كان يعلم بموته فمقصوده ازهاق روح يحدثه الله
تعالى فيه إذا أحياه وذلك متوهم فانعقدت يمينه ثم حنث لوقوع اليأس عما هو شرط البر
ظاهرا وعلى هذا والله لأشربن هذا الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء في الكوز لا تنعقد
يمينه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه عقد يمينه على خبر ليس فيه رجاء الصدق
إلا أنه لا فرق هنا بين ان يعلم أن الكوز لا ماء فيه أو لا يعلم لأنه عقد اليمين على شرب
الماء الموجود في الكوز والله تعالى وان أحدث في الكوز ماء فليس هو الماء الذي كان
موجودا في الكوز وقت اليمين بخلاف مسألة القتل إذا كان يعلم بموت فلأن لأنه عقد
يمينه على فعل القتل في فلان فإذا أحياه الله تعالى فهو فلان فكان ما عقد عليه اليمين متوهما
ووزان هذا في مسألة الكوز ان لو قال لأقتلن هذا الميت فان يمينه لا ينعقد لأنه لا تصور لما
حلف عليه فإنه إذا أحياه الله تعالى حتى يتحقق فيه فعل القتل لا يكون ميتا وفي مسألة القتل
رواية أبى يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى على ضد ما ذكره في الأصل أنه إذا كان
لا يعلم بموته ينعقد يمينه باعتبار ما يتوهمه بجعله كالموجود حقيقة في حقه وإن كان يعلم بموته لا
تنعقد يمينه ولكن الأول أصح فأما إذا حلف ليمسن السماء فهو آثم في هذه اليمين لان المقصود
باليمين تعظيم المقسم به وإنما يحصل بيمينه هتك حرمة الاسم باستعمال اليمين في هذا المحل ولكن
عليه الكفارة عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى فإنه يعتبر لعقد اليمين أن يكون ما يحلف عليه
في وسعه ايجاده وذلك غير موجود هنا ولكنا نقول انعقاد اليمين باعتبار توهم الصدق في
الخبر وذلك موجود فان السماء عين ممسوس والملائكة يصعدون السماء ولو أقدره الله تعالى
على صعود السماء يصعد وكذلك الحجر محل قابل للتحول لوجوده فانعقدت يمينه ثم حنث في
الحال لعجزه عن ايجاد شرط البر ظاهرا وذلك كاف للحنث ألا ترى ان في الفعل الذي
يقدر عليه يحنث إذا مات قبل أن يفعله لوجود العجز عن ايجاد شرط البر ظاهرا ولا فائدة
في انتظار الموت هنا لان ذلك العجز ثابت في الحال ولا يقال إعادة الزمان الماضي في قدرة
الله تعالى أيضا وقد فعله لسليمان صلوات الله عليه فكان ينبغي أن ينعقد اليمين الغموس
بالطريق الذي قلتم وهذا لان هناك أخبر عن فعل قد وجد منه وذلك لا كون له والله
تعالى وان أعاد الزمان الماضي لا يصير الفعل موجودا من الحالف حتى يفعله وفي مسألة
مس السماء لو وقت يمينه لم يحنث ما لم يمض ذلك الوقت لما بينا أن انعقاد اليمين المؤقتة
7

في آخر الوقت المسمى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى انه يحنث في الحال لأنه إنما يتوقت
انعقاد اليمين إذا كان ما حلف عليه في وسعه ايجاده ذلك فأما إذا لم يكن في وسعه
ايجاده كان توقيته لغوا فيحنث في الحال وهكذا على مذهبه في مسألة شرب الماء الذي
في الكوز إذا وقت يمينه فإن كان في الكوز ماء لم يحنث الا في آخر الوقت وإن لم يكن
في الكوز ماء حنث في الحال ولو حلف بطلاق امرأته ليأتين البصرة فمات قبل ذلك
طلقت عند الموت لان بموته فان شرط البر وهو اتيان البصرة ولا نقول إنه يحنث بعد موته
ولكنه كما أشرف على الموت وتحقق عجزه عن اتيان البصرة حنث حتى أن كأن لم
يدخل بها فلا ميراث لها ولا عدة عليها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث وعليها العدة
وتعتد إلى أبعد الأجلين بمنزلة امرأة الفار فان ماتت هي وهو حي لم تطلق لأنه قادر على
اتيان البصرة بعد موتها فلم يتحقق شرط الحنث بموتها ولو حلف بطلاق امرأته إن لم تأت
البصرة هي فماتت فلا ميراث للزوج لأنها لما أشرفت على الموت فقد تحقق عجزها عن
اتيان البصرة فتطلق ثلاثا قبل موتها ولو مات الزوج كان لها الميراث لأنها تقدر على
اتيان البصرة بعد موته ولو حلف بعتق كل مملوك له لا يكلم فلانا فإنما يتناول هذا اللفظ
الموجود في ملكه حين حلف فان بقي في ملكه حين حلف فان بقي في ملكه إلى وقت الكلام عتق وإلا فلا فإن لم
يكن في ملكه حين حلف مملوك لم ينعقد يمينه ولو قال إذا كلمت فلانا فكل مملوك لي
يوم أكلمه حر فهو كما قال إذا ملك مملوكا ثم كلمه عتق وان قال كل مملوك أشتريه حر يوم
أكلم فلانا فاشترى رقيقا ثم كلم فلانا ثم اشترى آخرين عتق الذين اشتراهم قبل الكلام ولم
يعتق الذين اشتراهم بعد الكلام لان قوله كل مملوك أشتريه شرط وقوله فهو حر يوم
أكلم فلانا جزاء لما بينا أن الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء فإنما جعل الجزاء عتقا معلقا
بالكلام وهذا يتحقق في الذين اشتراهم قبل الكلام ولو تناول كلامه الذين اشتراهم بعد
الكلام لعتقوا بنفس الشراء فلم يكن هذا هو الجزاء الذي علقه بالشراء وان حلف بعتق
عبده إن لم يكلم فلانا فمات الحالف عتق العبد من ثلثه لان شرط حنثه فوت الكلام في حياته
وذلك يتحقق عند موته فكان هذا بمنزلة العتق في المرض فيعتبر من ثلثه وان مات المحلوف
عليه وبقي الحالف عتق العبد لفوات شرط البر وهو الكلام مع فلان فان الميت لا يكلم فان
8

المقصود من الكلام الافهام وذلك لا يحصل بعد الموت وان حلف لا يطلق امرأته فأمر
رجلا فطلقها أو جعل أمرها بيدها فطلقت نفسها حنث لان الموقع للطلاق هو الزوج
ولكن بعبارة الوكيل أو بعبارتها وحقوق العقد في الطلاق لا تتعلق بالعاقد بل هو معبر
عن الآمر فكأنه طلقها بنفسه إلا أن يكون نوى أن يتكلم به بلسانه فحينئذ يدين فيما بينه
وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص ولان الظاهر أن مقصوده أن
لا يفارقها ويحتمل أن يكون مقصوده أن لا يتكلم بطلاقها ولكن القاضي مأمور باتباع
الظاهر والله تعالى مطلع على ما في ضميره ولهذا لو خلعها وقال أنت بائن حنث لان
ما منع نفسه منه وقصده بيمينه قد أتى به ولو آلى منها فمضت المدة بانت وحنث في يمينه في
قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لان الايلاء طلاق مؤجل فعند مضى المدة يقع الطلاق
ويكون مضافا إلى الزوج وعند زفر رحمه الله تعالى لا يحنث لان الطلاق إنما وقع حكما
باعتبار دفع الضرر عنها فلا يكون شرط الحنث به موجودا وعلى هذا لو كان الزوج عنينا
ففرق القاضي بينهما بعد مضى المدة لم يحنث في قول زفر رحمه الله تعالى وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى هنا روايتان في إحداهما سوى بين هذا وبين الايلاء لان القاضي
نائب عن الزوج في الطلاق شرعا بعد مضي المدة وفي الأخرى فرق بينهما فقال هنا
لم يوجد من الزوج معني يصير به مباشرا للطلاق وذلك شرط حنثه والعتق قياس الطلاق
لان الحقوق فيه تتعلق بمن وقع له دون من باشره فاما إذا حلف لا يبيع ولا يشتري فأمر
غيره ففعل ذلك لم يحنث لان حقوق العقد في البيع والشراء تتعلق بالعاقد والعاقد لغيره
بمنزلة العاقد لنفسه فيما يرجع إلى حقوق العقد فلا يصير الحالف بفعل الوكيل عاقدا إلا أن
يكون نوي أن لا يأمر غيره فحينئذ قد شدد الامر على نفسه بنيته وكذلك أن كان الحالف
ممن لا يباشر البيع والشراء بنفسه لان اليمين تتقيد بما عرف من مقصود الحالف وان
حلف لا يتزوج امرأة فأمر غيره فزوجه حنث لان حقوق العقد في النكاح تتعلق
بالآمر دون العاقد ولان الوكيل لا يضيف العقد إلى نفسه وإنما يضيف إلى الموكل فكان
بمنزلة الرسول وكذلك أن زوجه بغير أمره فأجازه بالقول حنث لان الإجازة في الانتهاء
كالاذن في الابتداء وعن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يحنث لان في أصل العقد العاقد ليس
9

بمعبر عنه إذا لم يكن مأمورا به من جهته والإجازة ليست بعقد ألا ترى أن ما هو شرط
النكاح وهو الشهود لا يشترط عند الإجازة فلهذا لا يحنث وفي الإجازة بالفعل اختلاف
المشايخ (قال) رضي الله عنه والأصح عندي أنه لا يحنث لان عقد النكاح يختص بالقول
حتى لا ينعقد بالفعل بحال ولا يمكن أن يجعل المجيز بالفعل عاقدا حقيقة ولا حكما أنما يكون
راضيا وشرط حنثه العقد دون الرضا وان قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق ان كلمت فلانا
فتزوج امرأة قبل الكلام وأخرى بعده تطلق التي تزوج قبل الكلام خاصة لما بينا أن
التزوج شرط والطلاق جزاء معلق بالكلام وذلك يتحقق في التي تزوجها قبل الكلام دون
التي يتزوجها بعد الكلام لأنها لو طلقت طلقت بنفس التزوج وذلك لم يكن جزاء شرطه وفيه
اختلاف زفر رحمه الله تعالى وقد بيناه في الجامع وبينا هناك الفرق بين ما إذا وقت يمينه
فقال إلى ثلثين سنة وبين ما إذا لم يوقت وبينما إذا قدم الشرط أو أخر وقال إن كلمت فلانا فكل
امرأة أتزوجها فهي طالق فإنما تطلق بهذا اللفظ التي تزوجها بعد الكلام وقت يمينه أولم
يوقت وإذا حلف لا يبيع لرجل شيئا قد سماه بعينه فباعه لآخر طلبه إليه لم يحنث وكذلك
الشراء لان معني قوله لا أبيع لفلان أي لأجل فلان وما باع لأجله حين أمره به غيره
وإنما؟ باعه لأجل من أمر به بخلاف ما لو قال لا أبيع ثوبا لفلان لان معني هذا الكلام لا
أبيع ثوبا هو مملوك لفلان وقد وجد ذلك وان أمره به غيره وايضاح هذا الفرق في الجامع
وان حلف لا يهب لفلان هبة فوهب ولم يقبل فلان أو قبل ولم يقبض فهو حانث عندنا
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يحنث لان الهبة عقد تمليك كالبيع وفي البيع لا يحنث ما لم يقبل
المشترى لان الملك لا يحصل قبل قبوله فكذلك في الهبة ولهذا قال زفر رحمه الله تعالى
في البيع لو باعه بيعا فاسدا لم يحنث حتى يقبضه المشترى ولكنا نقول الهبة تبرع وذلك يتم
في جانب المتبرع بفعله لأنه ايجاب لا يقابله استيجاب وذلك يتم بالموجب في حقه كالاقرار
بخلاف البيع فإنه معاوضة وايجاب يقابله استيجاب والدليل عليه العرف فان الرجل يقول
وهبت لفلان فرد على هبتي وأهديت إليه فرد على هديتي وكذلك كل عقد هو تبرع
كالصدقة والقرض حتى لو حلف لا يقرض فلانا شيئا فأقرضه ولم يقبل حنث الا في رواية
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في القرض لا يحنث كما في البيع فان القرض عقد ضمان
فإنه يوجب ضمان المثل على المستقرض وذلك لا يحصل الا بقبضه وعلى هذه الرواية يفرق
10

أبو يوسف رحمه الله تعالى بين هذا وبين ما إذا حلف لا يستقرض فإنه يحنث إذا طلب
القرض من آخر وإن لم يقرضه لان السين في قوله استقرضت لمعنى السؤال فإنما شرط
حنثه طلب القرض وقد وجد بخلاف ما لو حلف لا يقرض أو حلف لا يهب فأمر غيره
حتى فعل حنث وكذلك لو حلف لا يكسوه أو لا يحمله على دابة لان هذا من العقود
التي لا تتعلق الحقوق فيها بالعاقد ألا ترى أنه يقال كسا الأمير فلانا وإنما أمر غيره به وان
حلف ليضربن عبده أو ليخيطن ثوبه أو ليبنين داره فأمر غيره ففعل بر في يمينه لأنه هو
الفاعل لذلك وان أمر غيره به فان في العرف يقال بني فلان دارا أو خاط فلان ثوبا على
معنى أنه أمر غيره به وإن لم يكن هو بناء ولا خياطا إلا أن يكون عني ان يبينه بيده فحينئذ
المنوي حقيقة فعله وفيه تشديد عليه وكذلك كل شئ يحسن فيه أن يقول فعلته وقد فعل
وكيله ولو حلف على حر ليضربنه فأمر غيره فضربه لم يبر حتى يضربه بيده لأنه لا ولاية
له على الحر فلا يعتبر أمره فيه ألا ترى أنه لا يثبت للضارب حل الضرب باعتبار أمرة؟
بخلاف العبد فإنه مملوك له عليه ولاية فأمر غيره بضربه معتبر ألا ترى ان الضارب يستفيد
به حل الضرب ولان العادة الظاهرة ان الانسان يترفع من ضرب عبده بيده وإنما يأمر به
غيره فعرفنا ان ذلك مقصوده ولا يوجد مثله في حق الحر إلا أن يكون الحالف السلطان
أو القاضي فحينئذ يبر إذا أمر غيره بضربه لأنه لا يباشر الضرب بنفسه عادة وضرب الغير
بأمره يضاف إليه فيقال الأمير اليوم ضرب فلانا وضرب القاضي فلانا الحد إلا أن ينوى
ان يضربه بيده فحينئذ نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته ويدين في القضاء والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب
(باب اليمين في الخدمة)
(قال) رضى الله تعالى عنه وإذا حلف الرجل لا يستخدم خادما قد كانت تخدمه قبل ذلك
ولا نية له فجعلت الخادم تخدمه من غير أن يأمرها حنث لأنه يستخدمها باستدامة ملكه
فيها فإنه إنما اشتراها للخدمة فما دام مستديما للملك فيها فهو دليل استخدامها ولأنها كانت
تخدمه قبل اليمين باستخدام كان منه فإذا جعلت تخدمه على حالها ولم ينهها فهو مستخدم
لها بما سبق منه حتى لو نهاها ثم خدمته لم يحنث لأنه بالنهي قد انقطع حكم الاستخدام
11

السابق ولان إدامة الملك دليل الاستخدام ولا معتبر بالفعل بعد التصريح بخلافه ولو حلف
على خادم لا يملكها أن لا يستخدمها فخدمته بغير أمره لم يحنث لانعدام الاستخدام صريحا
ودلالة فإنه ليس بمالك ليكون طالبا خدمتها باستدامة ذلك الملك أو ليجعل الاستخدام السابق
باعتباره قائما وإن كان حلف أن لا تخدمه حنث لأنه عقد اليمين على فعل الخادم وقد تحقق
منه ذلك سواء كان بأمره أو بغير أمره بخلاف الأول فإنه عقد اليمين على فعل نفسه لان
الاستخدام طلب الخدمة وكل شئ من عمل بيته فإنه خدمته لان الانسان إنما يتخذ الخادم
لذلك وكذلك لو سألها وضوء أو شرابا أو أشار أو أومأ إليها بذلك فقد استخدمها لان
الاستخدام بالايماء والإشارة ظاهر ممن ترفع عن أن يخاطب خدمه بالكلام وكذلك لو
حلف أن لا يستعين بها فأشار إليها بشئ من ذلك حنث ان أعانته أولم تعنه لان الاستعانة
طلب الإعانة وقد تحقق منه إلا أن يكون نوى أن تفعله فلا يحنث حينئذ حتى تعينه
لان المقصود هو الإعانة دون الاستعانة فإذا ذكر السبب وعنى به ما هو المقصود عملت
نيته فإذا حلف لا يخدمه خادم فلان فجلس على مائدة مع قوم يطعمون وذلك الخادم يقوم
في طعامهم وشرابهم حنث لأنه قد خدم كل واحد منهم فوجد به شرط الحنث في حق
الحالف بدليل حديث أنس رضي الله عنه كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان
كاشفات الرؤس مضطربات الثدي وإن كان حلف أن لا يستخدمها لم يحنث لأنه عقد
اليمين على فعل نفسه ولم يوجد منه حقيقة ولا حكما لأنها غير مملوكة له وسواء في ذلك إذا
استخدم غلاما أو جارية صغيرا كان أو كبيرا لان اسم الخادم يتناولهما والاستخدام يتحقق
منهما وهو متعارف أيضا فلهذا حنث في ذلك كله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
واليه المرجع والمآب
(باب اليمين في الركوب)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف لا يركب دابة فركب حمارا أو فرسا أو برذونا أو بغلا
حنث وكذلك أن ركب غيرها من الدواب كالبعير والفيل لان اسم الدابة يتناوله حقيقة
وعرفا فان الدابة ما يدب على الأرض قال تعالى وما من دابة في الأرض الآية وفي الاستحسان
لا يحنث لعلمنا أنه لم يرد التعميم في كل ما يدب على الأرض وقد وقع يمينه على فعل الركوب
12

فيتناول ما يركب من الدواب في غالب البلدان وهو الخيل والبغال والحمير وقد تأيد ذلك بقوله
تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وإنما ذكر الركوب في هذه الأنواع الثلاثة
فأما في الانعام ذكر منفعة الأكل بقوله والانعام خلقها لكم وبأن كان يركب الفيل والبعير
في بعض الأوقات فذلك لا يدل على أن اليمين يتناوله ألا ترى أن البقر والجاموس يركب
في بعض المواضع ثم لا يفهم أحد من قول القائل فلان ركب دابة البقر إلا أن ينوى جميع
ذلك فيكون على ما نوى لأنه نوى حقيقة كلامه وفيه تشديد عليه وان عنى الخيل وحده
لم يدين في الحكم لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وان قال لا أركب وعنى الخيل
وحدها لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لان في لفظه فعل الركوب والخيل
ليس بمذكور ونية التخصيص تصح في الملفوظ دون مالا لفظ له وان حلف لا يركب
فرسا فركب برذونا لم يحنث وكذلك أن حلف لا يركب برذونا فركب فرسا لم يحنث لان
البرذون فرس العجم والفرس اسم العربي فهو كما لو حلف لا يكلم عربيا فكلم عجميا أو على
عكس هذا لم يحنث وان حلف لا يركب شيئا من الخيل فركب فرسا أو برذونا حنث لان
اسم الخيل يجمع الكل قال الله تعالى ومن رباط الخيل الآية وقال صلى الله عليه وسلم الخيل
معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ولهذا يستحق الغازي السهم بالبرذون والفرس
جميعا وان حلف لا يركب دابة فحمل عليها مكرها لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعله في الركوب
وهو ما ركبها بل حمل عليها مكرها ألا ترى أن الحمل يتحقق فيما يستحيل نسبة الفعل إليه
كالجمادات وان ركب دابة عريانا أو بسرج أو أكاف حنث لأنه ركبها والركوب بهذه
الأوصاف معتاد وان حلف لا يركب دابة لفلان فركب دابة لعبده ولا دين عليه لم يحنث
في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى إلا أن ينويها وفي قول محمد رحمه الله تعالى
هو حانث لأنه عقد يمينه على دابة هي مملوكة لفلان فان اللام دليل على الملك وكسب العبد
مملوك لمولاه فيكون حانثا به وكونها في يد عبده ككونها في يد أجيره وهما يقولان عقد
يمينه على دابة هي منسوبة إلى فلان وهذه منسوبة إلى العبد حقيقة من حيث أنه
اكتسبها وعرفا من حيث أنه يقال دابة عبد فلان وشرعا فان النبي صلى الله عليه وسلم
قال من باع عبدا وله مال فقد أضاف المال إلى العبد فلا يحنث به إلا أن ينويه وهو نظير
ما تقدم في قوله لا أدخل دارا لفلان ان المعتبر هو النسبة بالسكنى دون الملك فهذا مثله ثم على
13

قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كان على العبد دين يحيط بكسبه وبرقبته لم يحنث وان
نواها لان من أصله ان المولى لا يملك كسب عبده المديون بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين
فان هناك إذا نواها يحنث لأنه نوى إضافة الملك وهو مملوك له وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى سواء كان عليه دين أولم يكن عليه دين فإنه نواها يحنث لان عنده استغراق كسب
العبد بالدين لا يمنع ملك المولى وعند محمد يحنث على كل حال لان المعتبر عنده إضافة الملك
واستغراق كسب العبد بالدين يمنع ملك المولى وان ركب دابة لمكاتب فلإن لم يحنث
وكذلك الدار والثوب لأنه ان اعتبر إضافة الملك فكسب المكاتب غير مملوك ما بقي مكاتبا وان
اعتبر إضافة النسبة فهي منسوبة إلى المكاتب دون المولى وان حلف لا يركب مركبا ولا نية
له فركب سفينة أو محملا أو دابة حنث لأنه ذكر المركب هنا وكل هذا مركب والمركب
ما يركب ومن حيث العرف تسمى السفينة مركبا وكذلك شرعا قال الله تعالى بابني اركب
معنا وقال اركبوا فيها وان حلف لا يركب بهذا السرج فزاد فيه شيئا أو نقص منه حنث
لأنه ذلك السرج الذي عينه وقد ركب به والنقصان والزيادة في شئ لا يبدل أصله ولو بدل
السرج نفسه وترك اللبد والصفة لم يحنث لان اسم السرج للحنا أصل واللبد والصفة وصف
فيه والمعتبر هو الأصل دون الوصف وهذا لان الذي يدعوه إلى اليمين ضيق السرج
وسعته وذلك يتبدل بتبدل الحنا دون اللبد والصفة وإذا حلف بالله ماله مال وله دين على
مفلس أو على ملى وليس له غيره لم يحنث لان الدين ليس بمال حقيقة فالمال ما يتمول وتمول
ما في الذمة لا يتحقق والمال ما يتوصل به إلى قضاء الحوائج وما في الذمة باعتبار عينه غير صالح
لذلك بل باعتبار مآله وهو بالقبض والمقبوض عين وكذلك أن كان رجل قد غصبه مالا فاستهلكه
وأقربه أو جحده وهو قائم بعينه لم يحنث أما إذا استهلكه فقد صار دينا في ذمته واما إذا
كان قائما بعينه إذا كان جاحدا له فهو ناو في حق الحالف ألا ترى أنه لا يلزمه الزكاة باعتباره
ولا يحرم عليه الصدقة باعتباره والتاوي لا يمكن؟ تموله فلا يعد ذلك مالا له ولو كانت له
وديعة عند انسان حنث لان الوديعة عين ماله ويد مودعه كيده ألا ترى أنه يتمكن من
استردادها متى شاء وأنه تنفذ تصرفاته فيها مطلقا ولم يذكر المغصوب إذا كان قائما بعينه
والغاصب مقر به قيل هنا يحنث لأنه متمكن من استردادها بقوة السلطان لما كان الغاصب
مقرا به وتصرفه فيه ينفذ فهو كالوديعة وقيل لا يحنث لان الغاصب إذا كان قاهرا فالظاهر
14

أنه لا يتمكن من الاسترداد عنه وإن كان مقرا وفى العرف إذا صودر رجل يقال له قد افتقر
ولم يبق له مال وإن كان من صادره مقرا وفى باب الايمان العرف معتبر وان كانت عنده
فضة أو ذهب قليل أو كثير حنث لان النقد مال على كل حال ألا تري أن زكاة المال
تجب في النقود باعتبار العين إلا أن اعتبار النصاب هناك لاثبات صفة الغنى للمالك بها
أما هنا اسم المال يتناول القليل والكثير وكذلك مال التجارة والسائمة كان ذلك مالا حقيقة
وشرعا حتى تجب الزكاة فيها وان نوى الفضة والذهب خاصة لم يدين في القضاء لأنه نوى
التخصيص في اللفظ العام وإن كان له عروض أو حيوان غير السائمة لم يحنث وفى القياس
يحنث لان ذلك مال ألا ترى أن الوصية تتناول ذلك كله ولكنه استحسن فقال ليس ذلك
بمال شرعا وعرفا حتى لا تجب الزكاة فيها ولا يعد صاحبها متمولا بها والايمان مبنية على
العرف والعادة وإن لم يكن له مال وكان له عبد له مال لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبى
يوسف رحمهما الله تعالى ويحنث في قول محمد رحمه الله تعالى وهذا ومسألة الدابة سواء والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب الوقت في اليمين)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف الرجل ليعطين فلانا حقه إذا صلى الأولى فله وقت
الظهر إلى آخره لان المراد بذكر الصلاة الوقت والأولى هي الظهر في لسان الناس فلا يحنث
ما لم يخرج وقت الظهر قبل أن يعطيه وان حلف ليعطينه كل شهر درهما ولا نية له وقد حلف
في أول الشهر فهذا الشهر يدخل في يمينه وينبغي أن يعطيه فيه درهما قبل أن يخرج وكذلك
لو حلف في آخر الشهر ألا ترى أنه لو حلف ليعطينه في الشهر كان عليه أن يعطيه قبل أن يهل
الهلال سواء كان في أول الشهر أو آخره وكذلك لو قال في كل شهر لان الشهر الذي فيه
أقرب الشهور إليه ألا ترى أنه لو قال في كل يوم كان اليوم الذي حلف فيه داخلا في الجملة
فكذلك إذا قال في كل شهر وكذلك لو كان المال عليه نجوما عند انسلاخ كل شهر فحلف
ليعطينه النجوم في كل شهر كان له ذلك الشهر الذي حل فيه النجم فمتى أعطاه في آخر ذلك
الشهر فقد بر لأنه جعل شرط البر اعطاء كل نجم بعد حلوله في الشهر والشهر اسم لجزء
من الزمان من حين يهل الهلال إلى أن يهل الهلال فإذا أعطاه في ذلك أوفي آخره فقد
15

تم شرط بره ولو حلف ليعطينه عاجلا ولا نية له فالعاجل قبل أن يمضى الشهر لان الآجال
في العادة تقدر بالشهور وأدنى ذلك شهر فما دونه في حكم العاجل وكذلك لو حلف لا يكلم
فلانا عاجلا فإن كان يعنى شيئا فهو على ما نوى وإن لم يكن له نية فإذا كلمه بعد شهر لم
يحنث وكذلك إذا قال مليا فالمراد به البعيد قال تعالى واهجرني مليا وإن كان يعني شيئا
فهو على ما نوى والا كان على الشهر فصاعدا لان البعيد والأجل سواء وان حلف ليعطينه
في أول الشهر الداخل فيه فله أن يعطيه قبل أن يمضى منه نصفه وان مضى منه نصفه
قبل أن يعطيه حنث لان للشهر أولا وآخرا فأوله عند الاطلاق يتناول النصف الأول
والآخر منه يتناول النصف الآخر وعلى هذا روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه
لو قال والله لا أكلمه آخر يوم من أول الشهر وأول يوم من آخر الشهر أن يمينه يتناول
الخامس عشر والسادس عشر وان حلف لا يعطيه ماله عليه حينا فأعطاه قبل ستة أشهر
حنث لان الحين قد يذكر بمعنى الساعة قال الله تعالى فسبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون والمراد وقت الصلاة ويذكر بمعنى أربعين سنة قال الله تعالى هل أتي على
الانسان حين من الدهر ويذكر بمعنى ستة أشهر كل نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما في تأويل قوله تعالى تؤتى أكلها كل حين باذن ربها أنه ستة أشهر من حين يخرج
الطلع إلى أن يدرك التمر فعند الاطلاق يحمل على الوسط من ذلك فان خير الأمور
أوسطها ولأنا نعلم أنه لم يرد به الساعة فإنه إذا قصد المماطلة ساعة واحدة لا يحلف
على ذلك ويعلم أنه لم يرد أربعين سنة فإنه إذا أراد ذلك يقول ابدا فعرفنا ان المراد ستة أشهر
والزمان في هذا كالحين لأنهما يستعملان استعمالا واحدا فان الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ
حين لم ألقك منذ زمان ويستوى إن كان ذكره معرفا بالألف واللام أو منكرا لان ستة
أشهر لما صار معهودا في الحين والزمان فالمعرف ينصرف إلى المعهود وكذلك الدهر في قول
أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا أدري مالدهر من أصحابنا
من يقول هذا الاختلاف فيما إذا ذكره منكرا وقال دهرا فاما إذا ذكره معرفا فذلك على
جميع العمر قال الله تعالى حين من الدهر فقد جعل الحين من الدهر جزء فيبعدان يسوى بينهما
في التقدير ومنهم من قال إن الخلاف في الكل واحد وهما يقولان الدهر في العرف يستعمل
استعمال الحين والزمان فان الرجل يقول لغيره لم ألقك منذ دهر لم ألقك منذ حين وفى
16

ألفاظ اليمين المعتبر هو العرف وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول قد علمت بالنص ان الحين بعض
الدهر ولم أجد في تقدير الدهر شيئا نصا ونصب المقادير بالرأي لا يكون وإنما يعتبر العرف
فيما لم يرد نص بخلافه فلهذا توقف ولا عيب عليه في ذلك ألا ترى ان ابن عمر رضي الله عنه
لما سئل عن شئ فقال لا أدري حين لم يحضره جواب ثم قال طوبى لابن عمر سئل عما
لا يدرى فقال لا أدري وقيل إنما قال لا أدرى لأنه حفظ لسانه عن الكلام في معني الدهر
فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر
معناه أنه خالق الدهر وفي حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال فيما يؤثر عن ربه
استقرضت من عبدي فأبى ان يقرضني وهو يسبني ولا يدرى فسب الدهر ويقول وا دهراه
وإنما انا الدهر حديث فيه طول فلهذه الآثار الظاهرة حفظ لسانه وقال لا أدري ما الدهر
وهو كما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن خير البقاع فقال لا أدري حتى أسأل
جبريل فسأل جبريل فقال لا أدري حتى أسأل ربى فصعد إلى السماء ثم نزل وقال سألت
ربى عن ذلك فقال خير البقاع المساجد وخير أهلها من يكون أول الناس دخولا وآخرهم
خروجا فعرفنا ان التوقف في مثل هذا يكون من الكمال لا من النقصان وان حلف لا يكلمه
الأيام فهو على عشرة أيام في قول أبي حنيفة وفي قول أبي يوسف ومحمد رضوان الله عليهم
أجمعين على سبعة أيام لان الألف واللام للمعهود فيما فيه معهود والمعهود في الأيام السبعة
التي تدور عليها الشهور والسنين كلما دارت عادت وفي الشهور اثني عشر شهرا وليس في
السنين معهود فيستغرق العمر وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الألف واللام للكثرة فكأنه قال
أياما كثيرة وأكثر ما يتناوله اسم الأيام مقرونا بالعدد العشرة لأنه يقال بعده أحد عشر يوما
وكذلك في الشهور والسنين فينصرف يمينه إلى العشرة مما سمي وان قال أياما ولانيه له على قول أبى
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو على ثلاثة أيام لأنه ذكر لفظ الجمع وأدنى ما يطلق عليه
اسم الجمع المتفق عليه ثلاثة وكذلك قول أبي حنيفة على ما ذكره في الجامع الكبير وهو
الصحيح وذكر هنا أن على قوله يكون على عشرة أيام سواء قال أياما أو قال الأيام وأكثر
مشايخنا على أن هذا غلط والصحيح ما ذكره في الجامع وقد بيناه ثمة وان حلف ليعطينه غدا
في أول النهار فإذا أعطاه قبل أن ينتصف النهار بر لما بينا أن للنهار أولا وآخرا كما للشهر وان
حلف ليعطينه مع حل المال أو عند حله أو حين يحل المال أو حيث يحل ولا نية له فهذا يعطيه
17

ساعة يحل فان أخره أكثر من ذلك حنث لان مع للضم وعند للقرب وحين في مثل هذا
الموضع يراد به الساعة عادة فكأنه حلف ليعطينه ساعة يحل فإذا أخره من ذلك حنث وان
حلف لا يضرب عبده فوجأه أو خنقه أو قرصه أو مد شعره أو عضه حنث لان الضرب
فعل موجع على قصد الاستخفاف أو التأديب وهذا كله موجع موصل الألم إلى قلبه فكان
ضربا وكذلك من حيث العادة القاصد إلى ضرب عبده إنما يقصد ما يقدر عليه من هذه
الأفعال ويسمى فعله ضربا ومن يعاينه يفعل ذلك يسميه ضاربا عبده ولو حلف ليضربنه
مائة سوط فضربه مائة سوط وخفف بر لان شرط بره أصل الضرب دون نهايته والخفيف
كالضرب الشديد ومطلق الاسم لا يتناول نهاية الشئ وان جمعها جماعة ثم ضربه بها
لم يبر لأنه إنما يكون ضاربا له بما يصل إلى بدنه والواصل إلى بدنه بعض السياط حين جمع
الكل جمعا فلهذا لا يبر ولو ضربه بسوط واحد له شعبتان خمسين ووقعت عليه الشعبتان بر
لان كل شعبة سوط واقع على بدنه ضربا فيصير بكل ايقاع ضاربا له سوطين فإذا ضربه
خمسين فقد ضربه مائة سوط وهو شرط بره ألا ترى أن الامام يصير مقيما حد الزنا بهذا
المقدار فكذلك الحالف والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب البشارة)
(قال) رضي الله عنه وإذا قال أي غلماني بشرني بكذا فهو حر فبشره بذلك واحد ثم
آخر عتق الأول دون الثاني لان الأول بشير والآخر مخبر فان البشير من يخبره بما غاب
عنه علمه فتتغير عند سماعه بشرة وجهه وإنما وجد هذا من الأول دون الثاني وان بشروه
معا عتقوا لان كل واحد منهم أخبره بما غاب عنه علمه فالعلم بالمخبر به يتعقب الخبر ولا
يقترن به والدليل على أن البشارة تتحقق من الجماعة قوله تعالى وبشروه بغلام حليم ولو
بعث أحد غلمانه مع رجل بالبشارة فقال إن غلامك يبشرك بكذا عتق لان عبارة الرسول
كعبارة المرسل فالبشير هو المرسل والرسول مبلغ قال الله تعالى ان الله يبشرك بكلمة منه
اسمه المسيح وإنما سمعت من رسل الله صلوات الله عليهم وهم الملائكة ثم كان بشارة من
الله تعالى لها وكذلك لو كتب به إليه كتابا لان البيان بالكتاب كالبيان باللسان فان قال نويت
المشافهة لم يعتق لأنه نوى حقيقة كلامه فان البشارة إنما تكون حقيقة منه إذا سمعه بعبارته
18

وإذا قال أي غلماني أخبرني بكذا فالأول والثاني والكاتب والمرسل يعتقون جميعا لان الخبر
متحقق منهم فقد يخبر المرء بما هو معلوم له كما يخبر بما غاب عنه علمه إلا أن يعني المشافهة
فتعمل نيته لأنه حقيقة كلامه وقع في بعض نسخ الأصل التسوية بين الاخبار والاعلام
والمراد أن الاعلام يحصل بالكتاب والرسول كالاخبار فأما الاعلام لا يكون من الثاني بعد
الأول لان الاعلام ايقاع العلم بالخبر وذلك لا يتكرر بخلاف الاخبار ألا ترى أن الرجل
يقول أخبرني بهذا غير واحد ولا يقول أعلمني غير واحد وإذا قال أي غلماني حدثني فهو
على المشافهة بمنزلة قوله كلمني ألا ترى أنا نقول أخبرنا الله بكذا بكتابه أو على لسان رسوله
ولا نقول حدثنا الله ولا كلمنا الله وان حلف ان علم بمكان فلان ليخبرنك به ثم علما جميعا فلا
بد من أن يخبره ليبر لان الاخبار يتحقق وإن كان المخبر به معلوما له ولو قال ليعلمنك به
لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو حانث في قول أبى يوسف رحمه الله
لأنهما إذا علما جميعا به فما هو شرط بره وهو الاعلام فائت فهو بمنزلة قوله لأشربن الماء الذي
في الكوز ولا ماء فيه وان قال يوم أفعل كذا فعبده حر ففعله ليلا عتق لان اليوم يذكر
بمعنى الوقت قال الله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا والرجل يقول انتظر يوم فلان
ويذكر والمراد بياض النهار فقلنا إذا قرن به ما يمتد كالصوم علم أن المراد به بياض النهار وإذا
قرن به ما لا يمتد فالمراد به الوقت وإنما قرن بذكر اليوم هنا فعلا لا يمتد فكان بمعنى الوقت وان
قال نويت النهار دون الليل دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه وهي حقيقة مستعملة
وان قال ليلة أفعل كذا فهو على الليل خاصة لان الليل ضد النهار قال الله تعالى وهو الذي
جعل الليل والنهار خلفة وكما أن النهار مختص بزمان الضياء فالليل مختص بزمان الظلمة والسواد
وان حلف لا يبيت في مكان كذا فأقام فيه ولم ينم حنث لان البيتوتة هو المكث والقرار
بالليل في مكان ولهذا يسمى الموضع الذي يكون المرء فيه بالليل مبيتا واللفظ لا يدل على
النوم واليقظة فيحنث نام أولم ينم إلا أن يعنى النوم فيكون على ما نوى لأنه نوى التخصيص
في لفظه والعرف والاستعمال يشهد له وكذلك أن أقام فيه أكثر من نصف الليل وان
أقام فيه أقل من نصف الليل لم يحنث لان الانسان قد يكون في بعض الليل في غير منزله
ثم يرجع إلى منزله وإذا سئل أين بات قال في منزلي ولان الأكثر ينزل منزلة الكمال
والأقل تبع للا كثر فإذا أقام فيه أكثر من نصف الليل فكأنه أقام فيه جميع الليل فيحنث
19

وان حلف لا يظله ظل بيت فدخل بيتا حنث لان هذا للفظ عبارة عن الدخول في عرف
الناس فإنه إنما يظله ظل البيت إذا دخل تحت سقفه وان أقام في ظله خارجا لم يحنث الا ان
ينوى ذلك لان لفظه عبارة عن الدخول لغلبة الاستعمال ولم يوجد ذلك وان حلف لا يأويه
بيت فآواه بيت ساعة من الليل أو النهار ثم خرج لم يحنث حتى يكون فيه أكثر من نصف
الليل أو النهار في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الأول لان الايواء والبيتوتة تتقارب في
الاستعمال الا ان البيتوتة تستعمل في الليل خاصة يقال بات فلان يفعل كذا إذا فعل ليلا
وظل يفعل كذا إذا فعله نهارا فاما الايواء يستعمل فيهما ثم البيتوتة لا تكون الا في أكثر
من نصف الليل فكذلك الايواء لا يكون الا في أكثر من نصف الليل أو النهار ثم رجع
وقال إذا دخل ساعة حنث وهو قول محمد رحمه الله تعالى لان الايواء بالحصول في مكان قال
الله تعالى سآوي إلى جبل يعصمني أي التجئ إليه فأكون فيه وقال أبو سعيد الخدري لابن
عباس رضي الله عنهم لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول أي لا اجتمع معك
وقال عليه الصلاة والسلام ما آواه الحرز ففيه القطع فإذا آواه الحرز أي حصل فيه فإذا
دخل البيت ساعة فقد وجد الايواء فيحنث ولو أدخل احدى قدميه لم يحنث لأنه ما حصل
في البيت بادخال احدى القدمين وكذلك أن أدخل جسده وهو قائم ولم يدخل رجليه لم
يحنث لان اعتماد القائم على رجليه والجسد تبع للرجلين فإذا لم يدخلهما لم يكن حاصلا في
البيت فلا يحنث والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(باب اليمين في الكفالة)
(قال) وإذا حلف لا يكفل بكفالة فكفل بنفس حر أو عبد أو ثوب أو دابة أو بدرك
في بيع فهو حانث لان الكفالة التزام المطالبة بما على الغير من تسليم مال أو نفس وقد تحقق
ذلك منه ويسمى به في الناس كفيلا والمتحرز من الكفالة يكون ممتنعا من ذلك فيحنث
والضمان والقبالة قياس الكفالة لان الكل يستعمل استعمالا واحدا وإذا حلف لا يكفل عن
انسان بشئ فكفل بنفس رجل لم يحنث لان صلة عن لا تستعمل الا في الكفالة بالمال فأما
الصلة في الكفالة بالنفس الباء يقال كفل بنفس فلان وكفل عن فلان بكذا من المال وان
حلف لا يكفل عنه بشئ فاشترى له بأمره شيئا لم يحنث لان الكفالة التزام المطالبة بما على
20

الغير والثمن بالشراء هنا في ذمة الوكيل دون الموكل فلا يكون الوكيل كفيلا عن الموكل
بل يكون هو في حقه بمنزلة البائع ولهذا طالبه بالثمن وان أبرأه البائع عنه وحبس المبيع
عنه إلى أن يستوفي الثمن وان كفل بأمره عن انسان شيئا لم يحنث لأنه ما التزم عن الآمر
شيئا هو عليه وإنما التزم ما على المطلوب ولكن بمسألة الآمر فكان كفيلا عن المطلوب
دون الآمر ألا تري أنه يبرأ ببراءة المطلوب وأنه لا يرجع عند الأداء على الآمر بشئ
وإنما يرجع على المطلوب إذا كان ذلك بسؤاله ولو كان المال على فلان وبه كفيل فأمر فلان
الحالف فكفل بها عن كفيله لم يحنث لان الكفيل غير الأصيل وهو إنما كفل عن
الكفيل وشرط حنثه الكفالة عن الأصيل ألا ترى أنه لو برئ الكفيل الأول برئ
الكفيل الثاني وان بقي المال على الأصيل ولو حلف لا يكفل له فكفل لغيره والدراهم أصلها
له لم يحنث لان الكفالة له أن يلتزم مطالبة عليه ولم يوجد ذلك فان المطالبة إنما تتوجه
للمكفول له دون من يملك أصل المال وكذلك لو كفل لعبده لأنه ما التزام المطالبة للمولى
إنما التزمها للعبد وإن كان أصل المال للمولى ولا بد من مراعاة لفظ الحالف في بره وحنثه
وان كفل لفلان وأصل الدراهم لغيره حنث لأنه التزام المطالبة لفلان ومتى كان وجوب
المال بعقده ففي حكم المطالبة كان الواجب له وإن كان أصل الملك لغيره وان حلف لا يكفل
عنه فضمن عنه حنث لأن الضمان والكفالة تتقارب في الاستعمال كالهبة مع التخلي والعمرى
وإن كان عنى اسم الكفالة أن لا يكفل ولكن يضمن دين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى
حقيقة لفظه ولكنه نوى الفصل بين الضمان والكفالة وهذا خلاف الظاهر فلا يصدق في
القضاء ولو حلف لا يكفل عن فلان وأحال فلان عليه بماله لم يحنث إذا لم يكن للمحتال
له دين على المحيل لان الكفالة عند أن يلتزم المطالبة عنه لغيره بما لم يكن عليه قبل الكفالة
وذلك لم يوجد هنا إنما وكل فلان المحتال له بقبض دينه من الحالف وذلك لا يكون كفالة
عنه للمحتال له وكذلك أن ضمنه له ولو كان للمحتال له على المحيل مال ولم يكن للمحيل مال
على المحتال عليه حنث لأنه التزم المطالبة عنه للمحتال له بما لم يكن عليه من قبل والالتزام
بقبول الحوالة أبلغ من الالتزام بالكفالة والضمان فإذا كان يحنث هناك فكذلك يحنث هنا
لأنه لا فرق بينهما في حق الملتزم إنما الفرق في حق المضمون عنه أن الحوالة توجب
براءة الأصيل والكفالة لا توجب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
21

(باب اليمين في الكلام وغيره)
(قال) وإذا حلف لا يتكلم اليوم ثم صلى لم يحنث استحسانا وفى القياس يحنث وهو قول
الشافعي رحمه الله تعالى لأنه بالتسبيح والتهليل والتكبير وقراءة القرآن متكلم فان التكلم
ليس إلا تحريك اللسان وتصحيح الحروف على وجه يكون مفهوما من العباد وقد وجد ذلك
ألا ترى أنه لو أتي به في غير الصلاة كان حانثا فكذلك في الصلاة ووجه الاستحسان
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يحدث من أمره ما يشاء وان مما أحدث أن
لا يتكلم في الصلاة ولا يفهم أحد من هذا ترك القراءة وأذكار الصلاة وكذلك في العرف
يقال فلإن لم يتكلم في صلاته وإن كان قد أتى بأذكار الصلاة ويقال حرمة الصلاة تمنع
الكلام ولا يراد به الأذكار والعرف معتبر في الايمان فاما إذا قرأ في غير الصلاة أو سبح أو
هلل أو كبر يحنث لأنه قد تكلم ألا ترى أنه يقال القرآن كلام الله وان التكلم لا يتحقق من
الأخرس والقراءة والذكر باللسان لا يتحقق من الأخرس فكان كلاما وكذلك لو أنشد
شعرا أو تكلم بأي لسان كان فهو حانث لوجود الشرط ولو حلف لا يكلم فلانا فناداه من
بعيد فإن كان بحيث لا يسمع صوته لا يحنث وإن كان بحيث يسمع صوته فهو حانث لأنه
يكون مكلما فلانا بايقاع صوته في اذنه فإذا كان من البعد بحيث لا يسمع لم يوجد ذلك وإذا
كان بحيث يسمع فقد أوقع صوته في اذنه وإن لم يفهم لتغافله عنه واشتغاله بغيره فيحنث ألا
ترى أن الأول يسمى هاذيا والثاني يسمى مناديا له وكذلك لو ناداه وهو نائم فأيقظه حنث
وهذا ظاهر وقع في بعض نسخ الأصل فناداه أو أيقظه وهذا إشارة إلى أنه وإن لم ينتبه بندائه
فهو حانث لأنه أوقع صوته في اذنه ولكنه لم يفهم لمانع والأظهر أنه لا يحنث لان النائم
كالغائب وإن لم ينتبه كان بمنزلة ما لو ناداه من بعيد بحيث لا يسمع صوته فلا يكون حانثا وإذا
انتبه فقد علمنا أنه أسمعه صوته فيكون مكلما له وقيل هو على الخلاف عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى يحنث لأنه يجعل النائم كالمنتبه وعندهما لا يحنث بيانه فيمن رمي سهما إلى صيد
فوقع عند نائم حيا ثم لم يدرك ذكاته حتى مات على ما نبينه في كتاب الصيد وان مر على
قوم فسلم عليهم وهو فيهم حنث لأنه مخاطب كل واحد منهم بسلامه إلا أن ينوي القوم دونه
فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه لا يكون مكلما له إذا قصد بالخطاب غيره ولكنه لا يدين
22

في القضاء لأنه في الظاهر مخاطب لهم وان كتب إليه أو أرسل لم يحنث لما بينا ان الكلام
لا يكون الا مشافهة ألا ترى أن أحدا منا لا يستجيز أن يقول كلمني الله وقد أتانا كتابه
ورسوله وإنما يقال كلم الله موسى تكليما لأنه أسمعه كلامه بلا واسطة وكذلك لو أومي أو
أشار لم يحنث لان الكلام ما لا يتحقق من الأخرس والايماء والإشارة يتحقق منه فلا
يكون كلاما وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال سألني هارون عمن حلف لا يكتب
إلى فلان فأمر أن يكتب إليه بايماء أو إشارة هل يحنث فقلت نعم إذا كان مثلك يا أمير
المؤمنين وهذا صحيح لان السلطان لا يكتب بنفسه عادة إنما يأمر به غيره ومن عادتهم
الامر بالايماء والإشارة وعن ابن سماعة قال سألت محمدا عمن حلف لا يقرأ كتابا لفلان
فنظر فيه حتى فهمه ولم يقرأه فقال سأل هارون أبا يوسف رحمه الله تعالى عن هذا وكان قد
ابتلى بشئ منه فقال لا يحنث وأنا برئ من ذلك ثم ندم وقال اما انا فلا أقول فيه شيئا
وذكر هشام وابن رستم عن محمد رحمهم الله تعالى انه يحنث لان المقصود الوقوف على ما فيه
لا عين القراءة وفي الايمان يعتبر المقصود وجه قول أبى يوسف رحمه الله تعالى أن اللفظ
مراعى ولفظه القراءة والنظر والتفكر ليفهم لا يكون قراءة ألا ترى أنه لا يتأدى به فرض
القراءة في الصلاة وان قال لا أكلم مولاك وله موليان أعلى وأسفل ولا نية له حنث بأيهما
كلم وكذلك لو قال لا أكلم جدك وله جدان من قبل أبيه وأمه لان هذا اسم مشترك
والأسماء المشتركة في موضع النفي تعم لان معني النفي لا يتحقق بدون التعميم وهو بمنزلة النكرة
تعم في موضع النفي دون الاثبات وهذا إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الوصية لمولاه وقد
بينا تمام هذا الفرق في الجامع وان حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفى ماله عليه فلزمه ثم
فر منه الغريم لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه في المفارقة وهو ما فارق غريمه إنما الغريم
هو الذي فارقه وكذلك لو كابره حتى أنفلت منه لأنه يقصد بيمينه منع نفسه عما في وسعه
دون ما ليس في وسعه (قال) ولو أن المطلوب أحال بالمال على رجل وأبرأه الطالب
منه ثم فارقه لم يحنث عند محمد وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى وفى قول أبى يوسف رحمه الله
تعالى يحنث لان ما جعله غاية وهو استيفاء ماله عليه قد فات حين برئ المطلوب بالحوالة
وقد بينا أن فوت الغاية عندهما يسقط اليمين لا إلى حنث خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى
كما في قوله لا أكلمك حتى يأذن لي فلان فان توى المال على المحال عليه ورجع الطالب إلى
23

المطلوب لم يحنث أيضا لان الحوالة تنفسخ بالتوى ولا يتبين أنها لم تكن وإنما تنفسخ الحوالة
في حق حكم يحتمل الفسخ وسقوط اليمين لا يحتمل الفسخ فلهذا لا يعود اليمين بانفساخ
الحوالة وإن لم يحل بالمال ولكنه قضاه وفارقه ثم وجده زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا فإن كان
الغالب عليه الفضة لم يحنث وان رده لأنه مستوف بالقبض ألا ترى أنه لو تجوز بها في
الصرف والسلم جاز فتم شرط بره ثم انتقض قبضه بالرد فلا ينتقض به حكم البر لأنه لا يحتمل
الانتقاض وإن كان الغالب النحاس كالستوقة فهو حانث لأنه ما صار مستوفيا حقه بالقبض
ألا ترى أنه لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز وان استحق المقبوض من يده لم يحنث
لأنه مستوف ألا ترى أنه لو أجازه المستحق بعد الافتراق في الصرف والسلم جاز ثم انتقض
قبضه بالاستحقاق بعد حصول الاستيفاء وشرط البر لا يحتمل الانتقاض وان حلف ليعطينه
حقه عن قريب فهو وقوله عاجلا سواء وان نوى وقتا فهو على ما نوى لان الدنيا كلها قريب
عاجل وإن لم يكن له نية فهو على أقل من شهر استحسانا وقد بينا هذا وان حلف أن لا يحبس
عنه من حقه شيئا ولا نية له فينبغي أن يعطيه ساعة حلف لان الحبس عبارة عن التأخير
فإن لم يؤخره بعد الحلف لم يكن حابسا وان أخره كان حابسا ولكن الحبس قد يطول ويقصر
فان حاسبه فأعطاه كل شئ له عنده وأقر بذلك الطالب ثم أتاه بعد ذلك بأيام فقال بقي لي
عندك كذا من قبل كذا فذكر المطلوب ذلك وقد كان نسيا ذلك جميعا لم يحنث إذا أعطاه
ساعتئذ أو قال له خذه لان الحبس لا يتحقق فيما لا يكون معلوما لهما وبعد التذكر لم يحبسه
ولكنه أعطاه بالمناولة أو التخلية بينه وبينه فلهذا لم يحنث وان حلف لا يقعد على الأرض
ولا نية له فقعد على بساط أو غيره لم يحنث لان القاعد على الأرض من يباشر الأرض
من غير أن يكون بينه وبين الأرض ما هو منفصل عنه ولم يوجد ذلك وفى العرف الرجل
يقول لغيره اجلس على البساط ولا تجلس على الأرض ويقول فلان جالس على الأرض وفلان
على البساط والعرف معتبر في الايمان وان قعد على الأرض ولباسه بينه وبين الأرض
حنت لأنه يسمى في الناس قاعدا على الأرض ولان الملبوس تبع اللابس فلا يصير حائلا بينه وبين
الأرض ولان الانسان إنما يمتنع من الجلوس على الأرض لكيلا تضربه وهذا يوجد
وإن كان ذيله بينه وبين الأرض ولا يوجد إذا جلس على بساط وان حلف لا يمشي على
الأرض فمشى عليها بنعل أو خف حنث لان المشي على الأرض هكذا يكون في العرف
24

وان مشى على بساط لم يحنث لأنه غير ماش على الأرض ولو مشي على ظهر أجار حافيا
أو بنعلين حنث لان ظهر الأجار يسمى أرضا عرفا فان من أراد الجلوس عليه يقول
له غيره اجلس على البساط ولا تجلس على الأرض وان حلف لا يدخل في الفرات فمر علي الجسر
أو دخل سفينة لم يحنث وان دخل الماء حنث لان في العرف دخول الفرات بالشروع في
الماء والجسر والسفينة ما اتخذ للعاجزين عن الشروع في الفرات فعرفنا أن الحاصل على
الجسر أو السفينة لا يكون داخلا في الفرات عرفا وفي النوادر ولو حلف لا يدخل بغداد
فمر في الدجلة في السفينة فهو حانث في قول محمد رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله
لا يحنث ما لم يخرج إلى الحد (قال) ولو كان من أهل بغداد فجاء من الموصل في السفينة
في دجلة حتى دخل بغداد كان مقيما وإن لم يخرج إلى الحد ومحمد رحمه الله تعالى سوى بينهما
ويقول الموضع الذي حصل فيه من بغداد فيكون حانثا كما لو حلف لا يدخل الدار
فدخلها راكبا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول مراد الحالف دخول الموضع الذي يتوطن
فيه أهل بغداد ولا يوجد ذلك ما لم يخرج إلى الحد فان قهر الماء يمنع قهر غيره وان حلف
لا يكلم فلانا إلى كذا وكذا فان نوى شيئا فهو على ما نوى وإن لم يكن له نية ولم يسم شيئا
فله ان يكلمه بعد ذلك اليوم لان الكلام كان مطلقا له قبل اليمين فلا يمتنع الا القدر المتيقن
به والمتيقن ذلك اليوم لأنا نعلم أنه إذا كان مراده أقل من يوم لا يحلف على ذلك ولا يقين
فيما وراء ذلك فلا يحنث بالشك (فان قيل) أليس انه لو قال لفلان على كذا وكذا درهما
يلزمه أحد وعشرون درهما (قلنا) وهنا لو قال كذا وكذا يوما فالجواب كذلك فأما إذا
لم يقل يوما فيحتمل أن مراده الساعة واليوم والليلة يشتمل على ساعات كثيرة فلهذا له أن
يكلمه بعد ذلك اليوم وان حلف لا يكلم فلانا إلى قدوم الحاج أو إلى الحصاد فقدم أول قادم
كان له أن يكلمه لان مراده وقت القدوم ووقت الحصاد وقد علمنا بدخول ذلك الوقت فهو
كما لو حلف لا يكلمه إلى الغد فكلما طلع الفجر من الغد له أن يكلمه ولو حلف لا يؤم الناس فأم
بعضهم حنث لان الناس اسم جنس وقد علمنا أنه لم يرد استغراق الجنس لان ذلك لا يتحقق
فيتناول أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس وان حلف لا يكلمه حتى الشتاء فجاء أول الشتاء
سقطت اليمين وكذلك الصيف وقد بينا الفصول الأربعة في كتاب الطلاق وان حلف
لا يستعير من فلان فاستعار منه حائطا يضع عليه جذوعه حنث لان الاستعارة طلب العارية
25

وقد تحقق منه بما استعار من حائطه ليضع عليه جذوعه فهو كما لو استعار منه بيتا أو دارا
أو دابة ولو سار إليه ضيفا أو دخل عليه فاستقى من بئره لم يحنث لأنه لا يسمى مستعيرا
شيئا فان موضع جلوس الضيف وما جلس عليه في يد المضيف ومن استقي من بئر في دار
غيره لا تثبت يده على الرشا فلا يكون مستعيرا شيئا من ذلك ولو حلف لا يعرف هذا الرجل
وهو يعرفه بوجهه دون اسم لم يحنث لأنه يعرفه من وجه دون وجه فإنه يمكنه أن يشير
إليه إذا كان حاضرا ولا يمكنه احضاره إذا كان غائبا والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا
مطلقا والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا عن رجل فقال هل تعرفه
فقال نعم فقال هل تدرى ما اسمه قال لا قال فإنك إذا لا تعرفه إلا أن يعنى معرفة وجهه فان
عني ذلك فقد شدد الامر على نفسه واللفظ محتمل لما نوى وهذا إذا كان للمحلوف عليه
اسم فإن لم يكن له اسم بأن ولد من رجل فرأى الولد جاره ولكن لم يسم بعد فحلف الجار أنه
لا يعرف هذا الولد فهو حانث لأنه يعرف وجهه ويعرف نسبه وليس له اسم خاص ليشترط
معرفة ذلك فكان حانثا في يمينه والله أعلم بالصواب
(باب في الاستثناء)
(قال) وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إلا أن يقدم فلان فان قدم فلإن لم تطلق
وان مات قبل أن يقدم طلقت لان معنى كلامه أنت طالق إن لم يقدم فلان أي الا ان
يقدم فلان فلا تكون طالقا وإنما لا تكون طالقا عند قدوم فلان إذا كان الوقوع متعلقا بشرط
عدم القدوم سواء كان الشرط نفيا أو اثباتا فما لم يوجد لا ينزل الجزاء فان قدم فلان فشرط
الوقوع قد انعدم وإذا مات قبل أن يقدم فقد تحقق شرط الوقوع الآن وهذا بخلاف ما لو
قال أنت طالق ان كلمت فلانا إلا أن يقدم فلان فإنها ان كلمت فلانا قبل القدوم
طلقت وان سبق القدوم لم تطلق بعد ذلك وان كلمت فلانا يمين لوجود الشرط والجزاء
واليمين قابلة للتوقيت فكان قوله إلا أن يقدم فلان توقيت ليمينه بمعنى حتى وإذا كلمت قبل
القدوم فقد وجد الشرط واليمين باقية فتطلق وإذا قدم فلان فقد انتهت اليمين بوجود غايتها
وإذا كلمت بعد ذلك فقد وجد الشرط ولا يمين فاما في الأول قوله أنت طالق ايقاع لا يحتمل
التوقيت فلو جعلنا قوله إلا أن يقدم فلان بمعنى حتى كان لغوا وكلام العاقل مهما أمكن
26

تصحيحه لا يجوز الغاؤه فجعلناه قوله إلا أن يقدم فلان بمعنى الشرط لان الايقاع يحتمل
التعليق بالشرط ولو قال أنت طالق إلا أن يري فلان غير ذلك فهذا إليه على مجلسه الذي
يعلم فيه فان قام قبل أن يري غيره طلقت لان معنى كلامه إن لم ير فلان غير ذلك ولو قال إن
رأى فلان غير ذلك كان يتوقت بالمجلس عليه فكذلك إذا قال إن لم ير فلان غير ذلك
لأنه تمليك للامر من فلان وكذلك لو قال الا ان يشاء فلان غير ذلك أو إلا أن يبدو لفلان
غير ذلك وذلك كله بلسانه لأنا لا نقف على ما في ضميره وإنما يعبر عما في قلبه لسانه ولو قال
إلا أن أرى غير ذلك أو الا ان أشاء أو إلا أن يبدو لي فهو إلى الموت لان في حقه لا يمكن
أن يحمل على معنى تمليك الامر من نفسه فإنه كان مالكا لأمرها فيحمل على حقيقة الشرط
وعدم رؤيته غير ذلك بعد موتها يتحقق والحال بعد موتها في حقه كالحال قبله وكذلك قوله
أنت طالق ان شاء فلان أو أحب أو رضى أو هوى أو أراد ذلك كله على مجلس علمه به
ولو أضاف إلى نفسه فكان على الأبد لان في حق الغير يجعل تمليكا للامر منه فيختص
بالمجلس وفى حق نفسه لا يمكن ان يجعل تمليكا فيبقى حقيقة الشرط معتبرا ولو قال إن لم أشأ
ثم قال بعد ذلك لا أشاء لا يقع به الطلاق لان الشرط عدم مشيئة طلاقها في عمره ولم يوجد
ذلك بقوله لا أشاء فإنه متمكن من أن يشاء بعد ذلك ولو قال إن أبيت طلاقك أو كرهت
طلاقك ثم قال لست أشاء طلاقك وقد أبيته طلقت لأنه جعل الشرط هنا وجود فعل هو
إباء منه وقد وجد ذلك بقوله لا أشاء أو بقوله أبيت وفي الأول جعل الشرط عدم المشيئة
فكأنه قال إن سكت عن مشيئة طلاقك حتى أموت فلا يصير الشرط موجودا بقوله لا أشاء
فلهذا لا تطلق ولو قال إن لم يشأ فلان ذلك فقال فلأن لا أشاء طلقت لا بقوله لا أشاء
ولكن بخروج المشيئة عن يده فقوله لا أشاء بمنزلة ما لو قام عن المجلس أو أخذ في عمل آخر
حتى أنه لو وقت كلامه في حق فلان فقال إن لم يشأ فلان اليوم فقال فلأن لا أشاء لم تطلق
لان هذا يتوقت باليوم دون المجلس وبقوله لا أشاء لا تنعدم المشيئة منه في بقية اليوم فلهذا
لا تطلق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب
(باب اليمين في الأزهار والرياحين)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف لا يشترى بنفسجا فاشترى دهن بنفسج حنث عندنا
27

ولم يحنث عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنه يعتبر حقيقة لفظه وما اشترى غير البنفسج لان
المنتقل إلى الدهن رائحة البنفسج لا عينه ولكنا نعتبر العرف فإنه إذا أطلق اسم البنفسج في
العرف يراد به الدهن ويسمى بائعه بائع البنفسج فيصير هو بشرائه مشتريا للبنفسج أيضا
ولو اشترى ورق البنفسج لم يحنث وذكر الكرخي في مختصره أنه يحنث أيضا وهذا شئ
ينبني على العرف وفى عرف أهل الكوفة بائع الورق لا يسمى بائع البنفسج وإنما
يسمى به بائع الدهن فبنى الجواب في الكتاب على ذلك ثم شاهد الكرخي عرف أهل
بغداد انهم يسمون بائع الورق بائع البنفسج أيضا فقال يحنث به وهكذا في ديارنا ولا يقول
اللفظ في أحدهما حقيقة وفى الآخر مجاز ولكن فيهما حقيقة أو يحنث فيهما باعتبار عموم
المجاز والخيري كالبنفسج فأما الحنا والورد فقال إني أستحسن أن أجعله على الورق والورد
إذا لم يكن له نية وان اشترى دهنهما لم يحنث والقياس في الكل واحد ولكنه بني
الاستحسان على العرف وان الورد والحنا تسمي به العين دون الدهن والبنفسج والخيري
يسمى بهما مطلقا و الياسمين قياس الورد يسمى به العين فان الدهن يسمي به زنبقا وان
حلف لا يشترى بزرا فاشترى دهن بزر حنث وان اشترى الحب لم يحنث لاعتبار العرف
الظاهر ولو حلف لا يشترى دهنا فهذا على الدهن الذي يدهن به الناس عادة حتى
لو اشترى زيتا أو بزرا لم يحنث ولو حلف لا يدهن فأدهن بزيت حنث ولو ادهن بسمن
أو بزر لم يحنث والزيت من حيث أنه يلقي فيه الأرايح ويطبخ ثم يدهن به يكون دهنا
ومن حيث أنه لا يدهن به كذلك لا يكون دهنا مطلقا فإن كانت يمينه على الشراء لم
يحنث وإذا كانت على الادهان يحنث به وأما السمن والبزر لا يدهن بهما في العادة
بحال ولو حلف لا يشتري بزا فاشترى فروا أو مسحا لم يحنث وكذلك الطيالسة
والا كيسة لان بائع هذه الأشياء لا يسمى بزازا ولا يباع في سوق البزازين أيضا فلا
يصير مشتريا البز بشرائها ولو حلف لا يشتري طعاما فاشترى تمرا أو فاكهة حنث في
القياس لان الطعام اسم لما يطعمه الناس والفاكهة والتمر بهذه الصفة ألا ترى أنه لو عقد
يمينه على الأكل حنث بهما فكذلك الشراء ولكنه استحسن فقال لا يحنث الا في الحنطة
والخبز والدقيق لأنه عقد يمينه على الشراء والشراء إنما يتم به وبالبائع وما يسمى بائعه بائع
الطعام أو يباع في سوق الطعام يصير هو بشرائه مشتريا للطعام وبائع الفاكهة واللحم لا
28

يسمى بائع الطعام فلا يصير هو بشرائها مشتريا للطعام أيضا بخلاف الأكل فإنه يتم بالآكل
وحد فيعتبر فيه حقيقة الاسم وان حلف لا يشترى سلاحا فاشترى حديدا غير معمول
لم يحنث لان بائعه لا يسمى بائع السلاح وإنما يسمى حدادا وكذلك يباع في سوق الحدادين
ولا يباع في سوق الأسلحة وان اشترى سكينا لم يحنث أيضا لان بائعه لا يسمى بائع السلاح
وإنما يسمى سكانا واما إذا اشترى سيفا أو درعا أو قوسا يحنث لأنه سلاح يباع في سوق
السلاح وبائعه يسمى بائع السلاح فيصير هو مشتريا السلاح بشرائه (قال) وإذا سأل
رجل رجلا عن حديث فقال أكان كذا وكذا فقال نعم وسعه أن يقول حدثني فلان بكذا
وان حلف على ذلك كان صادقا لأنه ذكر في جوابه نعم وهو غير مستقل بنفسه فيصير
ما تقدم كالمعاد فيه ألا تري ان من قرأ صكا على غيره وقال أشهد عليك بكذا وكذا فقال نعم
وسعه أن يشهد بجميع ذلك عليه وان حلف لا يشم طيبا فدهن به لحيته فوجد ريحه لم يحنث
لأنه عقد يمينه على فعل منه يسمي شم الطيب ولم يوجد وإنما وصلت رائحة الطيب إلى دماغه
فهو كما لو مر على سوق العطارين فدخل رائحة الطيب في أنفه ألا ترى أن المحرم بهذا
لا يلزمه شئ وأنه لو ادهن قبل احرامه ثم وجد ريحه بعد الاحرام لم يلزمه شئ وهو ممنوع
من شم الطيب في الاحرام وليس الدهن بطيب إذا لم يجعل فيه طيب إنما الطيب ما يجعل
فيه المسك والعنبر ونحوهما لان الطيب ماله رائحة مستلذة وليس للدهن ذلك إذا لم يكن
فيه طيب وإنما يستعمل الدهن لتليين الجلد ودفع اليبوسة لا للطيب إذا لم يكن متطيبا وان
حلف لا يشم دهنا أولا يدهن فالزيت فيه كغيره من الادهان وقد بينا الفرق بين هذا
والشراء وان حلف لا يشم ريحانا فشم آسا أو ما أشبه ذلك من الرياحين حنث وان شم
الياسمين أو الورد لم يحنث لأنهما من جملة الأشجار والريحان اسم لما ليس له شجر ألا تري
ان الله تعالى قال والنجم والشجر يسجدان والحب ذو العصف والريحان قد جعل الريحان
غير الشجر عرفنا أن ماله شجر فليس بريحان وإن كان له رائحة مستلذة وكذلك في العرف
لا يطلق اسم الريحان على الورد والياسمين وإنما يطلق على ما ينبت من بزره مما لا شجر له
وقيل الريحان ما يكون لعينه رائحة مستلذة وشجر الورد والياسمين ليس لعينه رائحة إنما الرائحة
للورد خاصة فلا يكون من جملة الرياحين (قال) ولو أن امرأة حلفت أن لا تلبس حليا
فلبست خاتم الفضة تحنث لان الرجل ممنوع من استعمال الحلي وله أن يلبس خاتم الفضة
29

فعرفنا أنه ليس بحلي وقيل هذا إذا كان مصوغا على هيئة خاتم الرجال فأما إذا كان على هيئة
خاتم النساء مما له فصوص فهو من الحلي لأنه يستعمل استعمال الحلي للتزين به والسوار
والخلخال والقلادة والقرط من الحلي لأنها تستعمل استعمال الحلي للتزين بها حتى يختص بلبسها
من يلبس الحلي والله تعالى وعد ذلك لأهل الجنة بقوله يحلون فيها من أساور من ذهب
فأما اللؤلؤ عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يكون حليا إلا أن يكون مرصعا بالذهب والفضة
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو حلى لقوله تعالى يحلون فيها من أساور من
ذهب ولؤلؤا ولقوله وتستخرجون منه حلية تلبسونها وكذلك من حيث العرف يستعمل
ذلك استعمال الحلي فالمرأة قد تلبس عقد لؤلؤ للتحلي بها ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى
شاهد العرف في عصره وأنهم يتحلون باللؤلؤ مرصعا بالذهب أو الفضة ولا يتحلون باللؤلؤ
وحده فبنى الجواب على ما شاهده وقد بينا أنه لا تبنى مسائل الايمان على ألفاظ القرآن
ولكن قولهما أظهر وأقرب إلى عرف ديارنا ولو حلف لا يقطع بهذا السكين فكسره
فجعل منه سكينا آخر ثم قطع لم يحنث لأنه حين كسره فقد زال الاسم الذي عقد به اليمين
فلهذا لا يحنث وقد بينا نظيره في الدار إذا جعلها بستانا ولو حلف لا يتزوج امرأة فتزوج
امرأة بغير شهود حنث في القياس لأنه منع نفسه عن أصل العقد والفساد والجواز صفة
لا ينعدم أصل العقد بانعدامها كالبيع ألا ترى أنه لو عقد يمينه على الماضي بأن قال ما تزوجت
كان على الفاسد والجائز فكذلك في المستقبل وجه الاستحسان أن المقصود بالنكاح ملك
الحل وذلك لا يحصل بالعقد الفاسد كيف وقد نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل
العقد بغير شهود حيث قال لا نكاح الا بشهود بخلاف البيع فالمقصود هناك وهو الملك
يحصل بالعقد الفاسد إذا تأكد بالقبض وبخلاف ما لو تدبر الكلام في النكاح لأنه في الخبر
عن الماضي من النكاح ليس مقصوده الحل والعفة وإنما يمينه في الماضي على مجرد الخبر
والخبر يتحقق عن العقد الفاسد والجائز ولو حلف لا يشترى عبدا فاشتراه شراء فاسدا
حنث عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يحنث الا بالقبض لان القبض في الشراء الفاسد
نظير القبول في الشراء الصحيح من حيث أن الملك لا يحصل الا به ولكنا نقول شرط حنثه العقد
وبالإيجاب والقبول ينعقد العقد فاسدا كان أو صحيحا والملك غير معتبر في تحقيق شرط
الحنث ألا ترى أنه لو اشتراه بشرط الخيار أو اشتراه لغيره حنث وإن لم يثبت الملك له قال
30

وهذا والنكاح سواء في القياس ولكني أستحسن في البيع وهذا الاستحسان يعود إلى
القياس في النكاح وأشار إلى الفرق فقال ألا ترى أنه لو أعتقه بعد القبض عتق وأنه لا يقع
الطلاق في النكاح الفاسد فدل أن العقد منعقد هنا غير منعقد هناك ولو حلف لا يصلى
ركعتين فصلاها بغير وضوء ففي القياس يحنث وفي الاستحسان لا يحنث وهذا والنكاح
سواء لان المقصود بالصلاة العبادة ونيل الثواب ولا يحصل ذلك بالصلاة بغير وضوء لقوله
صلى الله عليه وسلم لا صلاة الا بطهور (قال) ولو حلف لا يصلى فافتتح الصلاة لم يحنث
حتى يصلى ركعة وسجدة استحسانا وفي القياس يحنث لان شرط حنثه فعل يكون به مصليا
وقد حصل ذلك بالتكبير لأنه يسمى في العادة مصليا ويحرم عليه ما يحرم على المصلين
ولكنه استحسن فقال الصلاة تشتمل على أركان منها القيام والقراءة والسجود والركوع
لأنها عبادة بجميع البدن وكل ركن من هذه الأركان لا يتناوله اسم الصلاة فلا يكون مصليا
مطلقا ما لم يأت بأركان الصلاة وإنما يسمى مصليا بعد التكبير مجازا على اعتبار أنه اشتغل
بالأركان التي يصير بها مصليا فإذا قيد الركعة بسجدة فقد أتي بأركان الصلاة وما بعد ذلك يكون تكرارا ولا يشترط التكرار في اتمام شرط الحنث وقد بينا في كتاب الصلاة
أن القعدة من أسباب التحلل وان حلف لا يصوم فأصبح صائما ثم أفطر حنث لأن الصوم
ركن واحد وهو الامساك وشرطه النية فلما أصبح ناويا للصوم فقد أتى بما هو ركن الصوم
فيتم به شرط حنثه إلا أن يكون قال يوما فحينئذ إذا أفطر قبل الليل لم يحنث لان شرط
حنثه صوم يوم كامل ولا يحصل ذلك الا بامتداد الامساك إلى غروب الشمس وان حلف
ليفطرن عند فلان ولا نية له فأفطر على ماء وتعشى عند فلان حنث لأنه جعل شرط بره
الفطر عند فلان وقد تعشى عند فلان وما أفطر عنده فالفطر الحكمي بغروب الشمس
وحقيقته بوصول المفطر إلى جوفه وقد وجد ذلك قبل أن يأتي فلانا وإن كان نوى حين
حلف العشاء لم يحنث لان الفطر يذكر في العادة والمراد العشاء فان الرجل يقول أفطرت
عند فلان وفلان يفطر عنده جماعة والمراد التعشي وان حلف لا يتوضأ بكوز فلان فصب
فلان عليه الماء من كوزه فتوضأ حنث لان التوضئ بالماء الذي في الكوز لا يغير الكوز
وقد وجد ذلك وإن كان الذي يصب عليه الماء من ذلك الكوز غيره وكوز الصفر والادم
وغير ذلك فيه سواء وهذا إذا كان ذلك يسمى كوزا عادة فأما إذا توضأ باناء لفلان غير
31

الكوز لم يحنث ولو كان فلان هو الذي وضاه وغسل يديه ووجهه لم يحنث لأنه عقد اليمين
على فعل نفسه وهو التوضئ ولم يوجد وكذلك لو حلف لا يشرب بقدح فلان والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب اليمين في العتق)
(قال) رضي الله عنه رجل تزوج أمة ثم قال لها ان مات مولاك فأنت طالق اثنتين
فمات المولى والزوج وارثه وقع الطلاق عليها ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره في قول أبى
يوسف رحمه الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق لان موت المورث سبب
لانتقال المال إلى الوارث وذلك مفسد للنكاح وأو ان وقوع الطلاق بعد وجود الشرط
فيقترن الطلاق بحال فساد النكاح ولا يقع الطلاق في هذه الحالة كما إذا قال إذا باعك مني
فأنت طالق اثنتين ثم اشتراها لم تطلق توضيحه ان الطلاق لا يقع الا في النكاح المستقر
وهو غير مستقر في حال انتقال الملك إليه ولهذا قال محمد لو كان قال إذا مات مولاك فأنت
حرة فمات المولى وهو وارثه لا تعتق لان العتق لا ينزل الا في الملك المستقر وبنفس
موت المولى لا يستقر الملك للوارث ولكن أو ان استقرار ملكه بعده بخلاف ما لو قال
إذا مات مولاك فملكتك لان أو ان العتق هناك ما بعد استقرار الملك وأبو يوسف رحمه
الله تعالى يقول وجد شرط الطلاق وهي منكوحة بعد فيقع الطلاق كما لو لم يكن الزوج
وارثا له وبيان ذلك أن موت المولى سبب لزوال ملكه فإنما يزول ملكه بعد الموت ثم ينتقل
إلى الوارث بعد ذلك ثم يفسد النكاح بعدما يدخل في ملكه ووقوع الطلاق قبل هذا
بدرجتين لان وقوع الطلاق يقترن بزوال ملك المولى وزوال ملك المولى غير مؤثر في دفع
استقرار النكاح والدليل عليه أنه لو قال لها إذا مات مولاك فأنت حرة لم تعتق لان أوان
وقوع العتق مع زوال ملك المالك وملك الوارث كون بعد ذلك فإذا لم يعتبر الملك الذي
يتأخر للوارث في تصحيح عتقه فكذلك لا يعتبر في المنع من وقوع الطلاق ألا ترى أنه
لو شرط الملك بقوله إذا مات مولاك فملكتك وقع العتق دون الطلاق فإذا لم يشترط
الملك يقع الطلاق دون العتق لان الملك منفذ للعتق مانع وقوع الطلاق رجل قال لامته إذا
مات فلان فأنت حرة ثم باعها ثم تزوجها ثم قال لها إذا مات مولاك فأنت طالق اثنتين
32

ثم مات المولى وهو وارثه على قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لا تعتق ويقع الطلاق وعلى
قول زفر رحمه الله تعالى يقع العتاق ولا يقع الطلاق وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يقع
الطلاق ولا العتاق أما أبو يوسف رحمه الله تعالى مر على أصله ان الطلاق لا يمتنع وقوعه
الا بعد الملك كما أن العتق لا يقع الا بعد الملك وقد علقهما الحالف بموت فلان الذي ثبت
بموت فلان زوال ملكه ثم ثبوت الملك للوارث بعد ذلك فأوان العتق والطلاق قبل ثبوت
الملك له فيقع الطلاق ولا يقع العتق ومحمد رحمه الله تعالى مر على أصله ان وقوع الطلاق
مع وقوع الملك وحال وقوع الملك للزوج في رقبتها ليس بحال استقرار النكاح فلا يقع
الطلاق ولا يقع العتق لأنه يقترن بوقوع الملك وأوان نفوذ العتق ما بعد الملك واما زفر رحمه
الله تعالى فإنه يقول لا يقع الطلاق لما قال محمد رحمه الله تعالى لان ما بعد المولى ليس
بحال استقرار النكاح ويقع العتق باعتبار أنه حلف بالعتق في الملك والشرط تم في الملك
لان تمام الشرط بعد موت المولى المورث وكما مات المورث انتقل الملك إلى الوارث فيقع
العتق ولا يعتبر تخلل زوال الملك بعد ذلك كما لو قال لها ان دخلت الدار فأنت حرة ثم باعها
ثم اشتراها ثم دخلت الدار توضيحه ان العتق لما كان أو ان نزوله بعد الملك يصير تقدير
كلامه كأنه قال إذا مات مولاك فورثتك ولا يدرج مثل هذا في الطلاق لأنه يبطل الطلاق
والا دراج للتصحيح لا للابطال أو يدرج حتى لا يقع الطلاق ويقع العتق كما هو مذهب
زفر وإذا قال لامته إذا باعك فلان فأنت حرة فباعها من فلان ثم اشتراها منه لم تعتق لان
الشرط بيع فلان إياها وبيع فلان من الحالف سبب لزوال ملكه فأما وقوع الملك للحالف
بشرائه لا ببيع فلان فلهذا لا تعتق ألا ترى أنه لو قال إذا وهبك لي فلان فأنت حرة فباعها
من فلان وسلمها ثم استودعها البائع ثم قال للبائع هبها لي فقال هي لك انها له وهذا قبول
ولا تعتق لان العتق والهبة وقعا وهي في ملك غيره فإنه إنما يملكها بالهبة والشراء بعد
خروجها من ملك البائع والواهب فكان العتق متصلا بزوال ملك البائع والواهب أو
مقترنا بوقوع الملك للحالف ولا ينفذ العتق الا بعد تقدم الملك في المحل وان قال إذا وهبك
فلان مني فأنت حرة فوهبها منه وهو قابض لها عتقت وكذلك قوله إذا باعك فلان منى
فأنت حرة لأنه صرح بما هو السبب الملك في حقه وإضافة العتق إلى سبب الملك كإضافته
إلى نفس الملك رجل قال لآخر يا فلان والله لا أكلمك عشرة أيام والله لا أكلمك تسعة أيام والله
33

لا أكلمك ثمانية أيام فقد حنث مرتين لأنه باليمين الثانية صار مخاطبا له فيحنث في اليمين الأولى
وباليمين الثالثة صار مخاطبا فيحنث في اليمين الثانية وعليه اليمين الثالثة حتى أن كلمه في الثمانية
الأيام حنث أيضا وان قال والله لا أكلمك ثمانية أيام والله لا أكلمك تسعة أيام والله لا أكلمك
عشرة أيام فقد حنث مرتين وعليه اليمين الثالثة ان كلمه في العشرة الأيام حنث أيضا رجل
قال على المشي إلى بيت الله تعالى وكل مملوك له حر وكل امرأة له طلق ان دخل هذه
الدار وقال رجل آخر على مثل ما حلفت على يمينك من هذه الايمان ان دخلت الدار فدخل
الثاني الدار لزمه المشي إلى بيت الله تعالى ولم يلزمه عتق ولا طلاق لان الثاني صرح بكلمة
على وهي كلمة التزام فكانت عاملة فيما يصح التزامه في الذمة دون ما لا يصح التزامه في الذمة
والمشي إلى بيت الله تعالى يصح التزامه في الذمة فيتعلق بدخوله الدار وعند الدخول يصير
كالمنجز فأما الطلاق لا يصح التزامه في الذمة والعتق وإن كان يصح التزامه في الذمة
ولكن لا يتنجز في المحل بدون التنجيز فلهذا لا يعتق مملوكه ولا تطلق زوجته إذا دخل الدار
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى ان الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق
ان دخلت الدار وقال آخر على مثل ذلك في امرأتي من الطلاق ان دخلتها فدخل الثاني
الدار لم تطلق امرأته عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وطلقت عند زفر رحمه الله تعالى لأنه
ألزم نفسه عند دخول الدار في امرأته من الطلاق ما التزمه الأول والأول إنما الزم نفسه
وقوع الطلاق عليها عند الدخول لا لزوم الطلاق دينا في ذمته فيثبت ذلك في حق الثاني
(قال) في الكتاب ألا ترى أنه لو قال الله على طلاق امرأتي لا يلزمه شئ وهذا يصير
رواية في فصل وفيه اختلاف ان من قال لا مرأته طلاقك على واجب أو طلاقك لي لازم
فكان محمد بن سلمة رحمه الله تعالى يقول يقع الطلاق فيهما جميعا والعراقيون من مشايخنا كانوا
يقولون في قوله على واجب لا يقع وفى قوله لي لازم يقع والا صح ما ذكره محمد بن مقاتل
رضى الله تعالى عنه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يقع الطلاق فيهما جميعا لان الوجوب
واللزوم يكون في الذمة والطلاق لا يلتزم في الذمة وليس لالتزامه في الذمة عمل في الوقوع
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى في قوله لي لازم يقع لان معناه حكم الطلاق لي لازم وجعل
السبب كناية عن الحكم صحيح وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ينوى في ذلك لاحتمال
أن يكون المراد لزوم الحكم إياه فإذا نوى الوقوع وقع فاما العتق فقد جعل الثاني بهذا اللفظ
34

عليه عتق مماليكه فيؤمر بالوفاء بالنذر من غير أن يجبر عليه في القضاء كما لو قال لله على
أن أعتق عبدي هذا لم يعتق بهذا القول ولكن الأفضل له ان بقي به معناه ان يؤمر
بالوفاء فيما بينه وبين ربه كما هو موجب نذره ألا ترى ان رجلا لو قال عبده سالم حران
دخل الدار فقال رجل آخر على مثل ما جعلت على نفسك ان دخلت الدار فدخلها أنه لا شئ
عليه وهذا ظاهر لان الثاني يلتزم بالدخول عتق مالا يملكه ولا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فان
عنى به عتق عبد من عبيده الذي يملكه فالأحسن له أن يفي به وهو آثم إن لم يف به لترك
الوفاء بالمنذور وبيانه في قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله الآية واما المشي
إلى بيت الله تعالى والحج والعمرة والنذر والصيام وكل شئ يتقرب به العبد إلى ربه فإذا
قال رجل آخر على مثل ما حلفت به ان فعلت ففعله الثاني فإنه عليه
وكذلك لو قال الأول على عتق نسمة ان فعلت كذا
ففعل فعليه عتق نسمة لأنه قربة يصح التزامها
في الذمة بالنذر والوفاء بالنذور
يؤمر به الناذر بينه وبين
ربه والله أعلم
35

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الحدود)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الحد في اللغة هو المنع ومنه سمي البواب حدادا لمنعه الناس من
الدخول وسمى اللفظ الجامع المانع حدا لأنه يجمع معاني الشئ ويمنع دخول غيره فيه فسميت
العقوبات حدودا لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها وفي الشرع الحد اسم لعقوبة مقدرة
تجب حقا لله تعالى ولهذا لا يسمي به التعزير لأنه غير مقدر ولا يسمي به القصاص لأنه حق
العباد وهذا لان وجوب حق العباد في الأصل بطريق الجبران فأما ما يجب حقا لله تعالى
فالمنع من ارتكاب سببه لان الله تعالى عن أن يلحقه نقصان ليحتاج في حقه إلى الجبران وهي
أنواع فهذا الكتاب لبيان نوعين منها حد الزنا وحد النسبة إلى الزنا وسبب كل واحد منهما
ما يضاف إليه لان الواجبات تضاف إلى أسبابها والموجب هو الله تعالى ولكن الأسباب
لتيسير المعرفة على العباد لا أن تكون الأسباب هي الموجبة ثم الزنا نوعان رجم في حق
المحصن وجلد غير المحصن وقد كان الحكم في الابتداء الحبس في البيوت والتعيير
والأذى باللسان كما قال الله تعالى فامسكوهن في البيوت وقال فآذوهما ثم انتسخ ذلك
بحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة وقد كان هذا
قبل نزول سورة النور بدليل قوله خذوا عنى ولو كان بعد نزولها لقال خذوا عن الله تعالى
ثم انتسخ ذلك بقوله تعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة واستقر الحكم على الجلد في
حق غير المحصن والرجم في حق المحصن فأما الجلد فهو متفق عليه بين العلماء وأما الرجم
فهو حد مشروع في حق المحصن؟ ثابت بالسنة الا على قول الخوارج فإنهم ينكرون الرجم
لأنهم لا يقبلون الاخبار إذا لم تكن في حد التواتر والدليل على أن الرجم حد في حق المحصن
36

أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا بعد ما سأل عن احصانه ورجم الغامدية وحديث
العسيف حيث قال واغديا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها دليل على ذلك وقال
عمر رضي الله عنه على المنبر وان مما أنزل في القرآن أن الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما
البتة وسيأتي قوم ينكرون ذلك ولولا أن الناس يقولون زاد عمر في كتاب الله لكتبتها على
حاشية المصحف والجمع بين الجلد والرجم في حق المحصن غير مشروع حدا عندنا وعند
أصحاب الظواهر هما حد المحصن لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم والثيب بالثيب جلد
مائة ورجم بالحجارة ولحديث علي رضي الله عنه فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها ثم قال
جلدتها بكتاب الله ورجمتها بالسنة (وحجتنا) حديث ماعز والغامدية قد رجمهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلدهما وقال فان اعترفت فارجمها وقد بينا أن المقصود الزجر
عن ارتكاب السبب وأبلغ ما يكون من الزجر بعقوبة تأتي على النفس بأفحش الوجوه فلا
حاجة معها إلى الجلد والاشتغال به اشتغال بما لا يفيد وما لا فائدة فيه لا يكون مشروعا حدا
وقد بينا أن الجمع بينهما قد انتسخ وقيل تأويل قوله جلد مائة ورجم بالحجارة الجلد في حق
ثيب هو غير محصن والرجم في حق ثيب هو محصن وحديث علي رضي الله عنه تأويله ان
جلدها لأنه لم يعرف احصانها ثم علم احصانها فرجمها وهو القياس عندنا على ما بيناه في الجامع
ثم سبب هذا الحد يثبت عند الامام بالشهادة تارة وبالإقرار أخرى فبدأ الكتاب ببيان
ما يثبت بالشهادة فقال والزنا مختص من بين سائر الحقوق في أنه لا يثبت الا بشهادة أربعة
لقوله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقال تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقد تكلف
بعضهم فيه معنى وهو أن الزنا لا يتم الا باثنين وفعل كل واحد لا يثبت الا بشهادة شاهدين
ولكن هذا ضعيف فان شهادة شاهدين كما يثبت فعل الواحد يثبت فعل الاثنين ولكنا
نقول إن الله تعالى يحب الستر على عباده والى ذلك ندب وذم من أحب أن تشيع الفاحشة
فلتحقيق معني الستر شرط زيادة العدد في الشهود على هذه الفاحشة واليه أشار رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قوله لهلال بن أمية ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك
والا فحد في ظهرك واليه أشار عمر رضي الله عنه حين شهد عنده أبو بكرة وشبل بن
معبد ونافع بن الأزرق على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا فقال لزياد وهو الرابع بم
تشهد فقال أنا رأيت أقداما بادية وأنفاسا عالية وأمرا منكرا وفى رواية قال رأيتهما تحت
37

لحاف واحد ينخفضان ويرتفعان ويضطربان اضطراب الخيزران وفى رواية رأيت رجلا
أقعى وامرأة صرعى ورجلين مخضوبتين وانسانا يذهب ويجئ ولم أر ما سوى ذلك فقال
الله أكبر الحمد لله الذي لم يفضح واحد من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم ففي هذا
بيان اشتراط الأربعة لابقاء ستر العفة (قال) وإذا شهدت الأربعة بالزنا بين يدي
القاضي ينبغي له أن يسألهم عن الزنا ما هو وكيف هو ومتي زنا وأين زنا لأنهم شهدوا
بلفظ محتمل فلا بد من أن يستفسرهم أما السؤال عن ماهية الزنا لان من الناس من يعتقد
في كل وطئ حرام أنه زنا ولان الشرع سمى الفعل فيما دون الفرج زنا قال العينان تزنيان
وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي والفرج يصدق
ذلك كله أو يكذب والحد لا يجب الا بالجماع في الفرج ألا تري ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم استفسر ماعزا حتى فسر كالميل في المكحلة والرشا في البئر وقال له مع ذلك لعلك
قبلتها لعلك مسستها حتى إذا ذكر الكاف والنون قبل اقراره والزنا لغة مأخوذ من الزنا وهو
الضيق ولا يكون ذلك الا بالجماع في الفرج فلهذا سألهم عن ماهية الزنا وكيفية وأما السؤال
عن الوقت لجواز أن يكون العهد متقادما فان حد الزنا بحجة البينة لا يقام بعد تقادم العهد
عندنا والسؤال عن المكان لتوهم أن يكون فعل ذلك في دار الحرب حيث لم يكن تحت
ولاية الامام والسؤال عن المزني بها لان النبي صلى الله عليه وسلم سأل ماعزا عن ذلك بقوله
الآن أقررت أربعة فبمن زنيت ولان من الجائز أن يكون له نكاح أو شبهة نكاح في
المفعول بها وذلك غير معلوم للشهود فإذا فسروا تبين ذلك للقاضي والحاصل أن القاضي
مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد كما قال صلى الله عليه وسلم ادرؤا الحد بالشبهات ولقن
المقر الرجوع بقوله أسرق ما أخاله سرق وقال عمر رضي الله عنه اطردوا المعترفين يعني الذين يقرون
على أنفسهم بالسبب الموجب للحد ومن أسباب احتيال الدرء ان يستقصى مع الشهود ولان
المتعلق بهذه الشهادة ما إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيستقصى للتحرز عن ذلك فإذا بينوا
ذلك والقاضي لا يعرف عدالة الشهود فإنه يحبسه حتى يسأل عن الشهود وهذا لأنه لو خلى
سبيله هرب فلا يظفر به بعد ذلك ولا وجه إلى أخذ الكفيل منه لان أخذ الكفيل نوع
احتياط فلا يكون مشروعا فيما بنى على الدرء (فان قيل) الاحتياط في الحبس أظهر (قلنا)
حبسه ليس بطريق الاحتياط بل بطريق التعزير لأنه صار متهما بارتكاب الفاحشة
38

فيحبسه تعزيرا ولهذا لا يحبسه في الديون قبل ظهور عدالة الشهود ولان الحبس أقصى
العقوبة هناك فإنه بعد ما ثبت الحق لا يعاقبه الا بالحبس فلا يجوز أن يفعله قبل ثبوت الحق
بخلاف الحدود فإذا ظهرت عدالة الشهود نظر في أمر الرجل فإن كان محصنا رجمه وإن كان
غير محصن جلده والاحصان الذي يتعلق به الرجم له شرائط فالمتقدمون يقولون شرائطه
سبعة العقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح والدخول بالنكاح وأن يكون كل واحد من
الزوجين مثل الآخر في صفة الاحصان والإسلام والأصح ان نقول شرط الاحصان على
الخصوص اثنان الاسلام والدخول بالنكاح الصحيح بامرأة هي مثله فأما العقل والبلوغ
فهما شرط الأهلية للعقوبة لا شرط الا حصان على الخصوص لان غير المخاطب لا يكون أهلا
لالتزام شئ من العقوبات والحرية شرط تكميل العقوبة لا أن تكون شرط الاحصان على
الخصوص فأما الدخول شرط ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم الثيب بالثيب والثيوبة لا تكون
الا بالدخول وشرطنا أن يكون ذلك بالنكاح الصحيح لان الثيوبة على ما عليه أصل حال
الآدمي من الحرية لا يتصور بسبب مشروع سوى النكاح الصحيح وكان المقصود به
تغليظ الجريمة لان الرجم أفحش العقوبات فيستدعى أغلظ الجنايات والجناية في الاقدام
على الزنا بعد إصابة الحلال يكون أغلظ ولهذا لا تشترط العفة عن الزنا في هذا الاحصان
بخلاف احصان القذف لان الزنا بعد الزنا أغلظ في الجريمة من الزنا بعد العفة فاما الاسلام
شرط في قول علمائنا وعن أبي يوسف رحمه الله انه ليس بشرط وهو قول الشافعي رحمه
الله تعالى لحديث ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهما رجم يهوديين زنيا
وزاد في بعض الروايات وقد أحصنا والمعني فيه أن هذه عقوبة يعتقد الكافر حرمة سببها
فيقام عليه كما يقام على المسلم كالجلد والقطع والقتل في القصاص بخلاف حد الشرب فإنه
لا يعتقد حرمة سببه وتأثيره ما بينا ان ما اشترط في الاحصان إنما يشترط لمعنى تغلظ الجريمة
وغلظ الجريمة باعتبار الدين من حيث اعتقاد الحرمة فإذا كان هو في دينه معتقدا للحرمة كالمسلم
فقد حصل ما هو المقصود فكان به محصنا فان المحصن من يكون في حصن ومنع من
الزنا وهو باعتقاده ممنوع من الزنا وقد أنذر عليه بالعقوبة في دينه فكان محصنا ثم لا يجوز
اشتراط الاسلام لمعنى الفضيلة والكرامة والنعمة كما لا يشترط سائر الفضائل من العلم والشرف
ولا يجوز اشتراط الاسلام لمعنى التغليظ لان الكفر أليق بهذا من الاسلام فالاسلام
39

للتخفيف والعصمة والكفر من دواعي التغليظ فإذا كان تقام هذه العقوبة على المسلم بارتكاب
هذه الفاحشة فعلى الكافر أولى (وحجتنا) قوله صلى الله عليه وسلم من أشرك بالله فليس
بمحصن معناه ليس بكامل الحال فان المحصن من هو كامل الحال والرجم لا يقام الا على
من هو كامل الحال والاعتماد في المسألة على الاستدلال بالثيوبة فان الثيوبة بالنكاح الصحيح
شرط لايجاب الرجم ومعلوم أن المقصود انكسار شهوته بإصابة الحلال وهذا المقصود
يتم بالإصابة بملك اليمين كما يتم بالنكاح ثم شرط أن يكون بالنكاح فما كان ذلك الا
لاعتبار معنى النعمة ويتبين بهذا أن ما يشترط لإقامة الرجم يشترط بطريق هو نعمة فكذلك
اعتقاد الحرمة يشترط بطريق هو نعمة وذلك بالاسلام بل أولي لان أصل النعمة في الوطئ
بملك اليمين موجود إنما انعدم نهايتها وأصل النعمة منعدم هنا فيما يعتقده الكافر وتأثيره
أن الجريمة كما تتغلظ باجتماع الموانع تتغلظ باجتماع النعم ولهذا هدد الله تعالى نساء رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن بضعف ما هدد به غيرهن بقوله تعالى يضاعف
لها العذاب ضعفين لزيادة النعمة عليهن وعوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الزلات
بما لم يؤاخذ به غيرهم لزيادة النعمة عيهم والحر يقام الحد الكامل ولا يقام على العبد
لزيادة نعمة الحرية في حق الحر فبدن العبد أكثر احتمالا للحد من بدن الحر فعرفنا أن
بزيادة النعمة يزداد تغليظ الجريمة لما في ارتكاب الفاحشة من كفران النعمة فأما سائر
الفضائل إنما لا تشترط لان شرط الحد بالرأي لا يمكن اثباته ونحن قلنا ما يكون شرطا
بالاتفاق لا ينبغي أن يشترط بطريق هو نعمة استدلالا بالثيوبة فأما ما لم يعرف شرطا
لو أثبتناه لأثبتناه بالرأي ابتداء مع أنه إنما يشترط في الاحصان ما ينطلق عليه اسم
الاحصان وسائر الفضائل لا ينطلق عليه اسم الاحصان وأما الاسلام فيطلق عليه اسم
الاحصان في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات وقال تعالى فإذا أحصن فان أتين
بفاحشة فأما العفة وإن كان يطلق عليها اسم الاحصان ولكن العفة انزجار عن الزنا والانزجار
عن الزنا مع الاقدام على الزنا لا يتحقق فلا يمكن اشتراط العفة مقترنا بالزنا ولا سابقا على الزنا
لأنه لا تتغلظ به الجريمة كما بينا فان الاصرار على الزنا أفحش في الجريمة مع أن العفة الوقوف
على حدود الدين فإذا شرطنا أصل الدين بطريق هو نعمة حصل ما هو المقصود فأما
الحديث فإنها رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم التوراة ألا ترى أنه دعى بالتوراة
40

وبابن صوريا الا عور وناشده بالله حتى اعترف بأن حكم الزنا في كتابهم الرجم فرجمهما وقال
أنا أحق من أحيى سنة أماتوها وإحياء سنة أميتت إنما يكون بالعمل بها فدل انه إنما رجمهما
بحكم التوراة ولم يكن الاحصان شرطا في الرجم بحكم التوراة وقوله وقد أحصنا شاذ ولو
ثبت فمراده الاحصان من حيث الحرية كما في قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم وأما اشتراط احصان كل واحد منهما في الآخر فهو مذهبنا وفي رواية عن أبي
يوسف وهو قول الشافعي رحمهما الله تعالى ليس بشرط حتى أن المملوكين إذا كان بينهما
وطئ بنكاح صحيح في حالة الرق ثم عتقا لا يكونا محصنين عندنا وكذلك الكافران وفى رواية
أبى يوسف رحمه الله تعالى هما محصنان وكذلك الحر إذا تزوج أمة أو صغيرة أو مجنونة
ودخل بها وكذلك المسلم إذا تزوج كتابية ودخل بها أو أسلمت المرأة قبل أن يدخل بها
الزوج الكافر فدخل بها قبل أن يفرق بينهما فإنها لا تكون محصنة بهذا الدخول عندنا وعلى
قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى يثبت الاحصان لان ما هو المقصود قد تم وهو
انكسار الشهوة بإصابة الحلال وأن يكون بطريق هو نهاية في النعمة ولكنا نستدل بما روى أن
كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم دعها فإنها
لا تحصنك وان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أراد أن يتزوج يهودية فقال له عمر رضي الله عنه
دعها فإنها لا تحصنك وقال صلى الله عليه وسلم لا تحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا
الحرة العبد ولا الحر الأمة وفيه معنيان أحدهما أن الزوجية تنبئ عن المساواة فذلك المفهوم من
قولهم زوج نعل زوج خف وقد صارت الزوجية هنا شرطا فتشترط المساواة بينهما في
الصفة لان تمام الزوجية يكون به ثم بسبب الرق ينتقص ملك الحل وقد بينا ذلك في كتاب
الطلاق فلا بد من اعتبار حرية كل واحد منهما لتكون الثيوبة بعد كمال ملك الحل وإذا
ثبت اشتراط الحرية يثبت اشتراط البلوغ والعقل فيها بطريق الأولى لان بسبب الصغر
يدخل في هذا الفعل نقصان فان تمام ميل طبع المرء إلى البالغة العاقلة وكذلك يشترط الاسلام
لان الكافرة في حق المسلم ناقصة الحال لا يتم سكونه إليها وقد بينا ان الرجم أقصى العقوبات
وفى شرائطه يعتبر النهاية أيضا احتيالا لدرء هذه العقوبة فان أقر الزاني بأنه محصن فاقراره
عليه حجة تامة لأنه غير متهم فيما يقربه على نفسه ولكنه يستفسره الامام لان الاحصان
لفظ مبهم وهو يطلق على أشياء يسمى به كل واحد منها وان قال لست بمحصن فشهد عليه
41

شاهدان أنه محصن استفسرهما عن الاحصان ما هو وكيف هو فإذا بينا ذلك رجمه إن كان
الشاهد بالاحصان رجلين ولا يشترط في الاحصان عدد الأربعة لأنه ليس بسبب موجب
للعقوبة (قال) وكذلك لو شهد رجل وامرأتان بالاحصان وعلى قول زفر والشافعي رحمهما
الله تعالى لا يثبت الاحصان بشهادة رجل وامرأتين أما الكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى
ينبنى على ما بينا في النكاح أن النكاح في غير هذه الحالة عنده لا يثبت بشهادة الرجل مع
النساء لأنه ليس بمال ولا من حقوق ما هو مال وإنما يتحقق الكلام هنا بيننا وبين زفر فحجته
رحمه الله تعالى ان المقصود بالاحصان هنا تكميل العقوبة وباعتبار ما هو المقصود لا يكون
للنساء فيه شهادة لان المكمل للعقوبة بمنزلة الموجب لأصل العقوبة به فكما لا يثبت أصل
العقوبة بشهادة النساء فكذلك تكميلها ألا ترى أن هذا الزاني لو كان عبدا مسلما لذمي فشهد
ذميان ان مولاه كان أعتقه قبل الزنا وقد استجمع سائر شرائط الاحصان لا تقبل شهادتهما
ومعلوم ان في غير هذه الحالة شهادة أهل الذمة على العتق على الذمي مقبولة ولكن لما كان
المقصود هنا تكميل العقوبة على المسلم نظرنا إلى المقصود دون المشهود به يوضح ما قلنا إن
الاحصان شرط والحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فكما
لا يثبت سبب العقوبة بشهادة النساء فكذلك شرطها (وحجتنا) فيه أن الاحصان ليس
بسبب موجب للعقوبة فيثبت بشهادة الرجال مع النساء كسائر الحقوق وهذا لا اشكال فيه فان
الاحصان عبارة عن خصال حميدة بعضها مأمور به وبعضها مندوب إليه فيستحيل أن يكون
سببا لايجاب العقوبة ولا هو شرط أيضا لان الشرط ما يتوقف الحكم على وجوده بعد السبب
ولا يتوقف وجوب الرجم على وجود الاحصان بعد الزنا فإنه وان صار محصنا وبعد الزنا لم
يرجم ولكنه عبارة عن حال في الزاني يصير الزنا في تلك الحالة موجبا للرجم والحكم غير
مضاف إلى الحال ثبوتا به ولا وجودا عنده فعرفنا ان الشهادة بالنكاح في هذه الحالة وفي غير
هذه الحالة سواء واما شهادة أهل الذمة فنقول العتق هناك يثبت وإنما لا يثبت سبق التاريخ
لان هذا تاريخ ينكره المسلم وما ينكره المسلم لا يثبت بشهادة أهل الذمة ولان المسلم يتضرر
بهذه الشهادة من حيث إقامة العقوبة الكاملة عليه ولا يجوز ان يتضرر المسلم بشهادة الكفار
وتحقيقه ان شهادة أهل الذمة دخلها الخصوص في المشهود عليه لا في المشهود به فان شهادتهم
على المسلمين غير مقبولة وعلى أهل الذمة مقبولة في الحدود وغيرها فإذا كان الخصوص في
42

المشهود عليه ينظر إلى من يقام عليه الحكم بعد شهادتهم والذي يقام هنا الحد الكامل على
المسلم فلا تقبل شهادتهما فيه فأما شهادة الرجال مع النساء دخلها الخصوص في المشهود به
لا في المشهود عليه فإنما يمتنع قبولها إذا كان المشهود به سبب العقوبة أو شرطا مؤثرا
في العقوبة وقد بينا ان ذلك غير موجود في الاحصان فلهذا قبلت شهادة النساء مع
الرجال هنا (قال) فان قال شهود الاحصان حين استفسرهم القاضي إنه تزوج امرأة
فجامعها أو باضعها فذلك كاف لان مطلق الجماع يتناول الجماع في الفرج خاصة ولهذا
ما تعلق بالجماع من الاحكام شرعا إنما يتعلق بالجماع في الفرج والمباضعة مفاعلة من
ادخال البضع في البضع فأما إذا قالوا دخل بها فذلك يكفي لثبوت الاحصان في قول
أبي حنيفة ولا يكفي في قول محمد رحمهما الله تعالى ولم يذكر قول أبى يوسف وهو كقول
أبي حنيفة رحمهما الله تعالى محمد رحمه الله يقول الدخول مشترك قد يراد به الوطئ وقد
يراد به الملاقاة وكل لفظ مشترك أو مبهم يذكر الشهود فعلى القاضي أن يستفسرهم
ليكون اقدامه على الامر عن بصيرة ألا ترى أنهم لو قالوا أتاها أو قربها لا يكتفي بذلك
وأبو حنيفة رحمه الله قال إنهم ذكروا الدخول مضافا إليها والدخول مضافا إلى النساء
بحرف الباء يراد به الجماع قال الله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن وإذا قيل فلان دخل
بامرأته لا يفهم منه الا الجماع والاسم مشترك بدون الصلة وأما مع هذه الصلة والإضافة فلا
وهو كاسم الوطئ فقد يراد به الوطئ بالقدم ثم إذا قالوا وطئها كان ذلك كافيا لثبوت
الاحصان فهذا مثله ولكن محمد رحمه الله تعالى يقول قد يقال دخل بها والمراد مر بها أي
خلى بها إلا أن ذلك نوع مجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة (قال) وان شهدوا على التزويج
فقط غير أن له منها ولدا فهو احصان ولا يكون الاحصان بشئ أبين من هذا لأنا لما
حكمنا بثبوت النسب منه فقد حكمنا بالدخول بها وذلك أقوي من شهادة الشهود على أنه
جامعها ولان الذي يقع به العلم بالدخول بها إذا كان بينهما أولاد فوق ما يقع بشهادة
الشاهدين (قال) ولا يكون محصنا بالخلوة الموجبة للمهر والعدة لان المقصود انكسار الشهوة
بإصابة الحلال لاستغنائه عن الحرام وذلك لا يحصل بالخلوة وإنما تجعل الخلوة تسليما للمستحق
بالعقد في حكم المهر والعدة ألا ترى أن سائر الأحكام المتعلقة بالوطئ لا يثبت شئ منها
بالخلوة فكذلك الاحصان (قال) ولا يجمع بين الجلد والرجم ولا بين الجلد والنفي أما في حق
43

الجمع بين الجلد والرجم في حق المحصن فقد بيناه وأما في حق البكر فلا يجمع بين الجلد
والنفي عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجمع بينهما فيجلد مائة ويغرب سنة واحتج في
ذلك يحدث العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على ابنك جلد مائة وتغريب عام
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأبو بكر رضي الله عنه ضرب وغرب وعمر
رضي الله عنه ضرب وغرب واشتغل بعضهم بالقياس فقال النفي مما يقع به التعزير فكان من
جنسه حدا كالجلد ولكن هذا كلام الجهال فان اثبات الحدود وتكميلها بالقياس لا يكون
ولكن الحرف لهم أن الزنا ان تتخذه المرأة عادة تكتسب به إنما ينشأ من الصحبة والمؤالفة
والمؤانسة والفراغ والتغريب قاطع لهذا السبب والحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه فما يكون
قاطعا للسبب يحصل به المقصود فيكون حدا ألا ترى أن حد السرقة مشروع بقطع اليد
والرجل لان تمكنه من هذا الفعل بالمشي والبطش فقطع الآلة الماشية والباطشة مانع له من
ذلك ولا معنى لقولكم كيف تنفي مع المحرم أو بغير محرم لأن النفي هجرة واجبة فلا يعتبر فيه
المحرم كالهجرة في التي أسلمت في دار الحرب فلما كان حدا فعلى الامام ان يتكلف لما يحتاج
إليه في اقامته كالجلد (وحجتنا) فيه قوله تعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فقد جعل
الجلد جميع حد الزنا فلو أوجبنا معه التغريب كان الجلد بعض الحد فيكون زيادة على النص وذلك
يعدل النسخ وروى أن مخدجا سقيما وجد على بطن أمة من إماء الحي يفجر بها فأتي به رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال اضربوه مائة فقالوا أن بدنه لا يحتمل الضرب فقال صلى الله عليه
وسلم خذوا عثكالا عليه مائة شمراخ فاضربوه بها ولم يأمره بالتغريب ولو كان ذلك حدا لتكلف
له كما تكلف للحد وان عمر رضي الله عنه جلدا أبا بكرة رضي الله عنه في داره على
الزنا وأمر امرأته ان تكتم فلو كان التغريب متمما للحد لما أمرها بالكتمان لان ذلك
لا يتصور لما نفي شارب الخمر ارتد ولحق بالروم فقال والله لا أنفى أحدا بعد هذا أبدا فلو
كان مشروعا حدا لما حلف أن لا يقيمه قال علي رضي الله عنه كفي بالنفي فتنة والحد
مشروع لتسكين الفتنة فما يكون فتنة لا يكون حدا وعن إبراهيم رحمه الله تعالى ان عليا
وابن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في أم ولد زنت بعد موت مولاها قال علي رضي الله عنه
تجلد ولا تنفي وقال ابن مسعود رضي الله عنه تنفى وأخذنا بقول علي رضي الله عنه لأنه أقرب
إلى دفع الفتنة والفساد ومعني هذا ما ذكره في الكتاب قال أرأيت شابة زنت أكنت
44

أنفيها أي في نفيها تعريض لها لمثل ما ابتليت به فإنها عند أبويها تكون محفوظة ففي دار
الغربة تكون خليعة العذار والنساء لحم على وضم الا ما ذب عنهن وإنما تبقى المرأة محفوظة
بالحافظ والاستحياء وذلك ينعدم بالتغريب فيكون تعريضا لها للاقدام على هذه الفاحشة
برفع المانع وهذا أولى مما قاله الخصم لان ما ينشأ عن الصحبة والمؤانسة يكون مكتوما
وما ينشأ عن المواقحة يكون ظاهرا فان في هذا قطع لسبب ما ينشأ عن المحادثة وهو مكتوم
ففيه تعريض للزنا بطريق الوقاحة وهو أفحش ثم قال أرأيت أمة زنت أكنت أنفيها
فأحول بينها وبين مولاها وبين خدمتها وحق المولى في الخدمة مرعي وهو مقدم على
الشرع وإذا ثبت أن الأمة لا تنفي فكذلك الحرة لان الله قال فعليهن نصف ما على المحصنات
من العذاب وإذا ثبت أن نصف الحد خمسون جلدة ثبت ان كماله مائة جلدة ثم لا يجوز أن
تنفي الحرة مع المحرم لان المحرم لم يزن فكيف يقام عليه الحد وبدون المحرم هي ممنوعة عن
المسافرة شرعا فلا يجوز إقامة الحد بطريق فيه ابطال ما هو مستحق شرعا فأما المهاجرة
لا تقصد السفر بغير محرم وإنما تقصد التخليص من المشركين حتى لو وصلت إلى جيش لهم
منعة في دار الاسلام وأمنت لم يكن لها أن تسافر بغير محرم بعد ذلك فأما الحديث فقد بينا
أن الجمع بين الجلد والتغريب كان في الابتداء ثم انتسخ بنزول سورة النور والمراد بالتغريب
الحبس على سبيل التعزير قيل في تأويل قوله تعالى أو ينفوا من الأرض أنه الحبس وقال القائل
ومن يك أمسى بالمدينة رحله * فانى وقيار بها لغريب
أي محبوس ونحن نقول يحبس بطريق التعزير حتى تظهر توبته وان ثبت النفي على أحد
فذلك بطريق المصلحة لا بطريق الحد كما نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم هيت
المخنث من المدينة ونفي عمر رضي الله عنه نصر بن حجاج من المدينة حين سمع قائلة تقول
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فنفاه والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة فإنه قال وما ذنبي يا أمير المؤمنين قال
لا ذنب لك وإنما الذنب لي حيث لا أطهر دار الهجرة منك وقول ابن أبي ليلى رحمه الله
تعالى في النفي كقول الشافعي رحمه الله تعالى إلا أنه يقول ينفي إلى بلد غير البلد الذي فجر فيه
ولكن دون مسيرة سفر وعند الشافعي رحمه الله لا يكون النفي دون مسيرة سفر (قال)
ولا يكون محصنا بالجماع في النكاح الفاسد لأنه نوع من الوطئ الحرام فلا يتم به عليه النعمة
45

ولا يستفيد كمال الحال والاحصان عبارة عن ذلك ولا بالجماع في النكاح الصحيح إذا كان قال
لها ان تزوجتك فأنت طالق لان الدلالة قامت لنا على أنها تطلق بنفس العقد فجماعه إياها
بعد ذلك يكون زنا إلا أنه لا يحب به الحد لشبهة اختلاف العلماء ولكن لا يستفاد بهذا الفعل
كمال الحال وكذلك أن تزوج المسلم مجوسية أو مسلمة بغير شهود فدخل بها لان هذا من
أنواع النكاح الفاسد (قال) وإذا ثبت الزنا عند القاضي سأل الزاني أمحصن أنت لأنه
لو أقر بالاحصان استغنى القاضي عن طلب احصانه بالحجة فان أنكر احصانه وشهد الشهود
عليه فرجم ثم رجع شهود الاحصان لم يضمنوا شيئا لأنهم ما شهدوا بسبب العقوبة
ولا بشرطها ولان سبب العقوبة ثابت ببقاء شهود الزنا على شهادتهم فان رجع شهود
الزنا وشهود الاحصان فلا ضمان على شهود الاحصان عندنا وعلى قول زفر رحمه الله
تعالى يشتركون في الضمان بناء على أصل ان الاحصان شرط الرجم وان شهود الشرط
يضمنون عند الرجوع كشهود السبب عنده وعندنا لا ضمان على شهود الشرط ثم قد
بينا أن الاحصان ليس بشرط لان الشرط حقيقة ما يتوقف تمام السبب عليه ولكنه
حال في الزاني فلا يكون الاتلاف مضافا إليه بوجه وربما قال زفر رحمه الله تعالى الاحصان
يغلظ جريمته والرجم عقوبة جريمة مغلظة فإذا ثبت أن بشهود الاحصان تغلظت
جريمته كانوا بمنزلة من أثبت أصل الجريمة فصاروا في المعني كستة نفر شهدوا على
استحقاق القتل ولكن هذا بعيد فان الاسلام والنكاح يثبت بشهادتهما ولا يجوز أن
تضاف إليهما الجريمة ولا تغليظها ألا ترى أنه لو شهد رجلان بالزنا وآخر ان بالاحصان
لا تتم الحجة معلوم أن الرجم يستحق بشهادة شهود أربعة فلو كان شهود الاحصان كشهود
الزنا لتمت الحجة هنا فأما إذا رجع شهود بالزنا أو بعضهم فالمسألة على ثلاثة أوجه اما أن
يرجع أحدهم قبل القضاء أو بعد القضاء قبل إقامة الحد أو بعد إقامة الحد فان رجع أحدهم
قبل القضاء يحدون حد القذف عندنا كما لو رجعوا جميعا وقال زفر رحمه الله تعالى لا
يحد الا الراجع خاصة وجه قوله ان الحجة تمت باجتماع الأربعة على أداء الشهادة وتمام
الحجة يمنع من أن يكون كلامهم قذفا ثم الراجع فسخ معنى الشهادة من كلامه برجوعه فينقلب
كلامه قذفا ولكن له ولاية فسخ الشهادة على نفسه لا على غيره فيبقى كلام الباقين
46

شهادة وصار في حقهم كأنه لم يرجع فلا يلزمهم الحد بخلاف ما إذا أشهد ثلاثة وامتنع الرابع
لان الحجة لم تتم هناك والشهادة على الزنا في الحقيقة قذف ولكن باعتبار تمام الحجة يخرج
من أن يكون قذفا شرعا فلما لم تتم الحجة هناك بقي كلامهم قذفا فيلزمهم الحد ولما تمت الحجة
هنا لم يكن كلامهم قذفا ثم حكم فسخ الشهادة برجوع الرابع مقصور عليه فلا يتعدى إلى
الباقي (وحجتنا) فيه أن العارض بالشهود قبل القضاء كالمقترن بأصل الأداء بدليل عمى الشهود
وردتهم وبدليل المال فان رجوع الشهود هناك قبل القضاء يمنع القاضي من القضاء بالمال لعدم
تمام الحجة في الابتداء فإذا ثبت هذا فنقول لو امتنع الرابع من أداء الشهادة في الابتداء يقام
حد القذف على الثلاثة ولا يكون ذلك لسكوت الرابع بل بنسبتهم إياه إلى الزنا فكذلك إذا
رجع أحدهم قبل القضاء قوله ان الحجة تمت وكان كلامهم شهادة (قلنا) هذا موقوف
مراعى لان الشهادة لا تكون حجة موجبة ما لم يتصل بها القضاء فإذا لم يتصل القضاء هنا
بالشهادة حتى رجع أحدهم بقي كلامهم قذفا بالزنا إلا أن يكون حجة الحد على المشهود عليه
تامة ألا ترى ان كلام الراجع قذف بالزنا ومعلوم أنه لو شهد مع القاذف ثلاثة نفر يقام
عليهم الحد جميعا فكذلك هنا فأما إذا رجع أحدهم بعد القضاء قبل استيفاء الحد فإنه
لا يقام الحد على المشهود عليه لان العارض بعد القضاء فيما يندرئ بالشبهات كالعارض قبله
بدليل عمى الشهود وردتهم وهذا لان الامام لا يمكنه إقامة الحد الا بحجة كاملة ولم تبق بعد
رجوع أحدهم ثم على قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى الآخر يحدون جميعا
حد القذف استحسانا وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحد الراجع وحده وهو القياس
وهو قول أبى يوسف الأول رحمه الله تعالى لان الأصل ان رجوع الشاهد بعد القضاء قبل
الاستيفاء فيما يندرئ بالشبهات كالرجوع قبل القضاء وفيما يثبت مع الشبهات كالرجوع بعد
الاستيفاء بدليل المال فإنهم إذا رجعوا بعد القضاء لا يمتنع الاستيفاء على المقضي عليه إذا
ثبت هذا فنقول إقامة الحد على المشهود عليه تندرئ بالشبهات فرجوع أحدهم فيه بعد
القضاء كالرجوع قبله فأما سقوط حد القذف عنهم يثبت مع الشبهات فرجوع أحدهم فيه بعد
القضاء كرجوعه بعد الاستيفاء توضيحه ان الحجة تعتمد القضاء وبعد ما تمت الحجة لا يكون
كلامهم قذفا ثم برجوع أحدهم يبطل معنى الحجة في حقه فيصير كلامه قذفا ولكن لا ولاية له
على الباقين ولا على ابطال حكم الحاكم فيبقى كلام الباقين حجة غير قذف كما كان قبل
47

رجوعه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان رجوع أحدهم بعد القضاء
كرجوعه قبل القضاء بدليل سقوط الحد عن المشهود عليه ولا يكون ذلك الا بعد ابطال
الحكم وإذا ثبت بطلان الحكم بهذا الدليل كان هذا وما قبل القضاء سواء وتحقيقه أن فيما
يجب حقا الله تعالى تمام القضاء بالاستيفاء من تتمة القضاء ولهذا كان إلى الامام
وهذا لان القضاء اما أن يكون لاعلام من له الحق بحقه أو لتمكينه من الاستيفاء وذلك لا
يتصور في حقوق الله تعالى فكان المعتبر في حقوق الله تعالى النيابة في الاستيفاء ولا يتم ذلك
بالقضاء بل بحقيقة الاستيفاء فإذا رجع أحدهم قبل تمام القضاء بالاستيفاء كان بمنزلة رجوعه قبل
القضاء وكذلك أن أقيم بعض الحد ثم رجع أحدهم لان الحد لا يتجزى فاستيفاؤه لا يكون الا باتمامه
فأما إذا رجع أحدهم بعد إقامة الحد فهذا على وجهين اما أن يكون الحد جلدا أو رجما فإن كان
جلدا فإنه يحد هذا الراجع بالاتفاق ولا حد على الباقين لان الحجة تمت والحكم تأكد
بالاستيفاء فرجوع أحدهم يبطل معنى الشهادة في حقه لإقراره فيكون قاذفا له ويبطل به
معنى الشهادة المتأكدة في حق الباقين فلا حد عليهم فأما إذا كان الحد رجما فعندنا يحد
الراجع وحده وقال زفر رحمه الله تعالى لا يحد الراجع أيضا لان الراجع لا يكون قاذفا له
بالرجوع فإنه يثنى عليه خيرا فيقول كان عفيفا ولم يكن زانيا وإنما يكون قاذفا له بالشهادة
السابقة فتبين أنه قذف حيا ثم مات ومن قذف حيا ثم مات لا يقام عليه حد القذف لان حد
القذف لا يورث بخلاف ما إذا كان الحد جلدا لان المقذوف حي بعد إقامة الحد عليه والدليل
على الفرق أنه لو ظهر أن أحد الشهود كان عبدا فإن كان الحد جلدا يحدون حد القذف وإن كان
رجم المشهود عليه فلا رجم عليهم بالاتفاق وهذا مثله (وحجتنا) فيه أنه بالرجوع أقر
على نفسه بالتزام حد القذف واقراره على نفسه حجة وتحقيقه وهو ان الشاهد عند الرجوع
لا يصير قاذفا من وقت الشهادة بل يصير قاذفا في الحال لان اقتران معنى الشهادة بكلامه
يمنعه من أن يكون قذفا وإنما انتزع معنى الشهادة من كلامه عند رجوعه فيصير كلامه
السابق الآن قذفا كمن قال لامرأته ان دخلت الدار فأنت طالق عند دخول الدار يصير
ذلك الكلام طلاقا لا أن يتبين أنه كان طلاقا لان صيرورته طلاقا باعتبار وصوله إلى المحل
ووصوله إلى المحل مقصور على الحال فإذا ثبت أنه إنما يصير كلامه في الحال قذفا والمقذوف
في الحال ميت ومن قذف ميتا يلزمه الحد (فان قيل) هو في الحال مرجوم بحكم الحاكم لو
48

قذفه قاذف لا يحد قاذفه فكيف يحد هذا الراجع (قلنا) هو مرجوم بحكم الحاكم بشهادتهم
وهو يزعم أن شهادته ليست بحجة وزعمه معتبر في نفسه بخلاف القاذف فان قذفه لا يقدح
في الشهادة التي هي حجة (فان قيل) أكثر ما فيه أنه مقر بأنه كان عفيفا ولو قذفه انسان
بالزنا ثم أكذب نفسه وقال إنه كان عفيفا لا يقام عليه الحد أيضا (قلنا) نعم القاذف وان
أكذب نفسه فالحجة المسقطة للاحصان بقيت كاملة في حقه فأما إذا رجع واحد من الشهود
لا تبقى الحجة المسقطة للاحصان كاملة في حقه فلهذا يقام عليه الحد وهذا بخلاف ما إذا ظهر
أن أحدهم عبد لان العبد لا شهادة له فتبين أن كلامهم كان قذفا في حال حياته ومن قذف
حيا ثم مات لا يقام عليه الحد فأما حكم الضمان فعلى الراجع ربع الدية لأنه زعم أنه مقتول
ظلما بشهادتهم وكل شاهد على الزنا متلف ربع النفس كما قال عمر رضي الله عنه حين شهد
أحد الشهود على المغيرة رضي الله عنه أوه أودى ربع المغيرة ولأنه قد بقي على الشهادة من
يقوم بثلاثة أرباع الحق وإنما انعدمت الحجة في ربع الحق فلهذا كان على الراجع ربع الدية
عندنا (قال) ولو رجعوا جميعا حدوا حد القذف وغرم كل واحد منهم ربع الدية عندنا وقال
ابن أبي ليلى والحسن رحمهما الله تعالى يقتلون لأنهم قاتلون له فان ما يحصل بقضاء القاضي
يكون مضافا إلى شهادة الشهود ونحن نسلم أنهم بمنزلة القاتلين له ولكن قضاء القاضي
بإباحة دمه شبهة مانعة من وجوب القصاص مع أن الرجم يكون بالحجارة ومباشرة القتل
بالحجر لا يوجب القصاص عندنا والشهود متسببون عندنا ولا قصاص على المتسبب على مال
نبين في كتاب الديات في شهود القصاص (قال) وان قال أحد الشهود بعد الرجم كنت
يوم شهدت عليه كافرا أو مملوكا لم يصدق على أصحابه في ذلك لما بينا أن كلامهم حجة
متأكدة باعتبار الظاهر واقرار المرء حجة على نفسه لا على غيره فلا يتبين بقوله ان كلامهم
كان قذفا بخلاف ما إذا ظهر أن أحدهم كان كافرا أو عبدا فان هناك تبين أن كلامهم كان
قذفا فإن كان المقذوف حيا بأن كان الحد جلدا يحدون وإن كان المقذوف ميتا بأن كان الحد
رجما لا يحدون ثم إذا ظهر أن أحد الشهود كان أعمي أو محدودا في قذف فهو وما لو ظهر أنه
عبد سواء لان المحدود في القذف ليس له شهادة الأداء فان الشرع أبطل شهادته ولهذا لا
يلاعن امرأته والأعمى ليست له شهادة في الزنا لان الشهادة على الزنا لا تكون الا بعد الرؤية
كالمرود في المكحلة وليس للأعمى ذلك ومعتق البعض كالمكاتب عند أبي حنيفة رحمه الله
49

تعالى ولا شهادة للمكاتب فإذا كان ظهور هذا بعد الرجم فدية المرجوم في بيت المال لان
هذا خطأ من الامام في عمله لله تعالى فيكون ضمانه في مال الله وهو مال بيت المال والامام
في هذا عامل للمسلمين لان المقصود تطهير دار الاسلام عن ارتكاب الفواحش فيها فيكون
الضمان في مال المسلمين وهذا لأنه لا يمكن ايجاب الضمان على الامام لأنه لو ضمن كان خصما
وفيما هو خصم لا يكون قاضيا كما في حقوق نفسه فإذا تعذر ايجاب الضمان عليه قلنا يجب
الضمان على من وقع القضاء له ففي حقوق الله تعالى يكون على بيت المال وفى حقوق العباد
كالقصاص والمال يكون الضمان على المقضى له (قال) فان رجمه الامام بشهادتهم قبل
أن يسأل عن الشهود ثم سأل عنهم فأخبر أنهم غير عدول فلا ضمان على أحد لان
للفاسق شهادة الأداء عندنا ولكن يتوقف في شهادته لتمكن تهمة الكذب ولهذا يلاعن
امرأته فلا يتبين بظهور فسقهم أن القاضي قضى بغير حجة فلهذا لا يجب الضمان بخلاف
ما سبق وفي الكتاب قال إن هؤلاء قد تجوز شهادتهم إذا تابوا وهذا ضعيف فالكفار تجوز
شهادتهم إذا أسلموا والعبيد إذا أعتقوا والاعتماد على ما قلنا (قال) فان وجد الرجل مجبوبا بعد
ما رجم فعلى الشهود الدية لأنه ظهر كذبهم بيقين لان المجبوب ليس له آلة الزنا فكيف يزنى
وظهور كذبهم هنا فوق ظهور كذبهم فيما إذا رجعوا بخلاف ما إذا ظهر أنهم عبيد أو كفار
فان هناك لم يتيقن بكذبهم والعبد والكافر قد يصدق ولكن لا شهادة لهم فكان خطأ من
الامام فلهذا كان الضمان في بيت المال وان كانت امرأة فنظر النساء إليها بعد الرجم وقلن هي
عذراء أو رتقاء فلا ضمان على الشهود بقول النساء لان شهادة النساء لا تكون حجة تامة في
إلزام ضمان المال ولا مقصود هنا سوى ايجاب ضمان المال على الشهود بخلاف الجب فذلك معاين
يتيقن به لامن جهة قول النساء لكن ان نظر إليها النساء قبل إقامة الحد وقلن هي عذراء
أو رتقاء يدرأ عنها الحد لان الشبهة تتمكن بقول النساء ولا شبهة أبلغ من هذا فمع الرتق
لا يتصور الزنا الموجب للحد وبعد الزنا الموجب للحد لا يتصور بقاء العذرة (قال) وإذا
شهدوا بالزنا والاحصان وماتوا أو غابوا أو عموا أو ارتدوا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف
قبل إقامة الحد أو قبل أن يقضى بشهادتهم لم يرجم أماما يبطل الشهادة كالعمى والخرس والردة
وحد القذف لأن هذه العوارض لو اقترنت بالشهادة منعتها من أن تكون حجة فكذلك
إذا اعترضت بعد الشهادة قبل القضاء أو بعد القضاء قبل الاستيفاء لان موجبه مما يندرئ
50

بالشبهات ولكن لا حد على الشهود لأنهم جاؤوا مجئ الشهود والعدد متكامل وكذلك أن
أصاب ذلك أحد الشهود فهو وما لو أصابهم في الحكم سواء فاما في موت الشهود وغيبتهم
فنقول إن ذلك لا يقدح في الحجة ألا ترى أن في حقوق الناس لا يمتنع على القاضي القضاء
بها فكذلك في الزنا إذا كان الحد جلدا لان بالموت يتأكد عدالتهم إذ لا يتصور منهم بعد
الموت ما يبطل عدالتهم وكذلك غيبتهم لا تكون قدحا في عدالتهم فلا يمنع إقامة الحد على
القاضي فأما إذا كان الحد رجما فإنه لا يقام بعد غيبة الشهود وموتهم لان السنة في الرجم أن يبدأ
به الشهود ثم الامام ثم الناس وقد تعذر ذلك بموتهم وغيبتهم وهذا قولنا واما عند الشافعي
رحمه الله تعالى لا يعتبر في الرجم بداية الشهود ولكن الامام هو الذي يبدأ قال لان الشهود
فارقوا سائر الناس في أداء الشهادة وإقامة الرجم ليس من أداء الشهادة في شئ فهم في ذلك
كسائر الناس ألا ترى ان الحد لو كان جلدا لا يؤمر الشهود بالضرب فكذا الرجم ولكنا
نستدل بحديث علي رضي الله عنه فإنه لما أراد أن يرجم شراحة الهمدانية قال الرجم رجمان
رجم سر ورجم علانية فرجم العلانية ان يشهد على المرأة ما في بطنها وتعترف بذلك فيبدأ
فيه الامام ثم الناس ورجم السر ان يشهد أربعة على رجل بالزنا فيبدأ الشهود ثم الامام ثم الناس
ولان في الامر ببداية الشهود احتيالا لدرء الحد فالانسان قد يجترئ على أداء الشهادة كاذبا ثم
إذا آل الامر إلى مباشرة القتل يمتنع من ذلك وقد أمرنا في الحدود بالاحتيال للدرء بخلاف
الجلد فكل أحد لا يحسن الضرب فلو أمرنا الشهود بذلك ربما يقتلونه بخرقهم من غيران
يكون قتله مستحقا وذلك لا يوجد في الرجم فكل أحد يحسن الرمي وقد صار الاتلاف
مستحقا هنا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يؤمر الشهود بالبداية إذا كانوا حاضرين
حتى إذا امتنعوا لا يقام الرجم فإذا ماتوا أو غابوا يقام الرجم هنا لأنه قد تعذر بالبداية بهم
بسبب لا يلحقهم فيه تهمة فلا يمتنع إقامة الرجم كما لو كانوا مقطوعي الأيدي أو مرضى
أو عاجزين عن الحضور بخلاف ما لو امتنعوا لأنهم صاروا متهمين بذلك ولكنا نقول حين
كانوا مقطوعي الأيدي في الابتداء لم تستحق البداية بهم للتعذر فأما هنا فقد استحق البداية
بهم لتيسر ذلك عند الحكم فإذا تعذر بالموت أو الغيبة لا يقام الحد كما لو تعذر بامتناعهم
(قال) ولا يحفر للمرجوم ولا يربط بشئ ولا يمسك ولكن ينصب قائما للناس فيرجم لان
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يحفر له ولا ربطه فإنه روى لما مسه حر الحجارة
51

هرب فاستقبله رجل بلحى حمل فقتله ثم لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هلا
خليتم سبيله وفى رواية أبطأ عليه الموت فهرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة
الحجارة ولو كان مربوطا أوفى حفيرة لم يتمكن من الهرب وأما المرأة فان حفر لها فحسن وان
ترك لم يضر لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم الغامدية أمر بأن يحفر لها إلى قريب
من السرة فجعلت فيها فلما رجموها وماتت أمر باخراجها وصلى عليها وقال لقد تابت توبة لو تابها
صاحب مكس لغفر له وان عليا رضي الله عنه حفر لشراحة الهمدانية إلى قريب من السرة
ثم لفها في ثيابها وجعلها فيها ثم رماها وكان مصيب الرمية فأصاب أصل اذنها ولان مبنى
حال المرأة على الستر والحفر أستر لها لأنها تضطرب إذا مستها الحجارة فربما ينكشف شئ
من عورتها ولكن مع هذا الحفر ليس من الحد في شئ فلا يضر تركه فأما مبنى حال
الرجال على الظهور فينصب قائما عند الرجم ولا يشبه بالنساء في الحفر له وإذا شهد الشهود
على رجل وامرأة بالزنا فادعت المرأة أنه أكرهها ولم يشهد الشهود بذلك ولكنهم شهد وأنها
طاوعته فعليهما الحد لان انكارها صفة الطواعية لا يكون فوق انكارها أصل الفعل ولا ينفعها
ذلك بعد ما شهد الشهود به عليها ولكن ان قالت تزوجني وقال الرجل كذبت بل زنيت بها
فلا حد على واحد منهما لأنها تدعى عليه الصداق ولو ساعدها الزوج على ذلك لزمه الصداق
فإذا أنكر كان لها أن تحلفه عليه فإذا نكل لزمه الصداق وان حلف لم يلزمه الصداق ولا يحد
واحد منهما لأنه لو أقيم الحد إنما يقام بالحلف والحدود لا تقام بالايمان بخلاف الأول فإنها
بدعوى الاكراه لا تدعى الصداق لان الزنا بالمكرهة لا يوجب الصداق لها والشافعي
رحمه الله يخالفنا في الفصلين فيقول بمجرد دعواهما أو دعوى أحدهما النكاح لا يسقط
الحد لقوله صلى الله عليه وسلم لو أعطى الناس بدعواهم وهذا لان كل زأن لا يعجز عن دعوى
نكاح صحيح أو فاسد فلو أسقطنا الحد بمجرد الدعوى لانسد باب إقامة الحد ولكنا نقول
كما أمرنا بإقامة الحدود فقد أمرنا بدرئها بالشبهة قال صلى الله عليه وسلم ادرؤا الحدود
بالشبهات وتتمكن الشبهة عند دعوى أحدهما النكاح لاحتمال أن يكون صادقا ألا ترى أنه
تسمع بينته على ذلك ويستحلف خصمه على قول من يرى الاستحلاف في النكاح فإذا
سقط الحد يسقط عن الآخر للشركة ولا يؤدى هذا إلى سد باب الحد ألا ترى أن هذا
الحد يقام بالاقرار ثم لو رجع المقر عن اقراره لا يقام عليه ولا يؤدى ذلك إلى سد باب إقامة
52

الحد في الاقرار فأما إذا زنى بمكرهة يلزمه الحد دون المهر عندنا وعند الشافعي رحمه الله
تعالى يجب المهر لها وهي نظير مسألة القطع والضمان أنهما لا يجتمعان عندنا على ما نبينه في
السرقة إن شاء الله تعالى والشافعي رحمه الله تعالى يقول هنا المستوفى بالوطئ متقوم؟ لحقها
بدليل أنه متقوم بالعقد والشبهة فلا يجوز اسقاط حقها عنه بغير رضاها فإذا كانت مطاوعة
فقد رضيت بسقوط حقها فيجب المهر لها ولكنا نقول فعله بالمكرهة زنا والواجب
بالزنا الحد فلا يجوز الزيادة على ذلك بالرأي ثم لو كان بضعها يتقوم علي الزاني لم يسقط ذلك
برضاها ألا ترى أنه لما كان يتقوم بشبهة العقد لم يسقط برضاها بأن طاوعته والدليل
عليه أنه لو زنى بأمة وهي مطاوعة لم يجب المهر وتقوم بضعها الحق المولى فلا يسقط برضاها
ولكن إنما لم يجب لان البضع لا يتقوم بالمال بالزنا المحض وإنما يتقوم بالعقد أو بشبهته ولم
يوجد ثم إذا سقط الحد عنه بدعواها النكاح وجب الصداق لها لان الوطئ في غير الملك
لا ينفك عن عقوبة أو غرامة فإذا جعل ما ادعت من النكاح كالثابت في اسقاط الحد
فكذلك في ايجاب المهر يجعل كالثابت في ايراث الشبهة (قال) وكذلك الرجل يطأ جارية
امرأته وقال ظننتها تحل لي أو يطأ جارية أبيه أو أمه ويقول ظننت انها تحل لي لا حد
عليهما عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليهما الحد لان السبب وهو الزنا قد تقرر بدليل أنهما
لو قالا علمنا بالحرمة يلزمهما الحد ولو سقط إنما يسقط بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا
كمن وطئ جارية أخيه أو أخته وقال ظننتها تحل لي ولكنا نقول قد تمكنت بينهما شبهة
اشتباه لأنه اشتبه عليه ما يشتبه فان مال المرأة من وجه كأنه للزوج قيل في تأويل قوله تعالى
ووجدك عائلا فأغنى أي بمال خديجة ولما جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال إن عبدي
سرق مرآة امرأتي فقال مالك سرق بعضه بعضا ولأنها حلال له فربما يشتبه عليه ان حال
جاريتها كحالها وفى جارية الأب الأم كذلك قد يشتبه ذلك باعتبار ان الاملاك متصلة بين
الآباء والأولاد والمنافع دائرة ولان الولد جزء من أبيه فربما أشتبه عليه انها لما كانت حلالا
للأصل تكون حلالا للجزء أيضا وشبهة الاشتباه مؤثرة في حق من اشتبه عليه دون من لم
يشتبه عليه كالقوم على مائدة فسقوا خمرا على علم منهم انه خمر يلزمه الحد وبين لم يعلم لا يحد
والأصل في هذا حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رجلا تضيف أهل بيت باليمن
فأصبح يخبر الناس أنه زنى بربة البيت فكتب إلى عمر رضي الله عنه فقال عمران كان يعلم أن
53

الله حرم الزنا فحدوه وان كأن لا يعلم فعلموه فان عاد فحدوه فقد جعل ظن الحل في ذلك الوقت
شبهة لعدم اشتهار الاحكام فلأن يكون الظن في موضع الاشتباه مورثا شبهة أولى فأما إذا لم يجب
الحد وجب المهر لما بينا أن هذا الفعل في غير الملك لا ينفك عن عقوبة أو غرامة وإذا سقطت
العقوبة وجب المهر (قال) وإذا شهد الشهود على رجل أنه استكره هذه المرأة فزنى بها حد
الرجل دون المرأة لان وجوب الحد للزجر وهي منزجرة حين أبت التمكين حتى استكرهها
ولان الاكراه من جهتها يعتبر في نفي الاثم عنها على ما ذكرنا في كتاب الاكراه ان لها أن
تمكن إذا أكرهت بو عيد متلف والحد أقرب إلى السقوط من الاثم فإذا سقط الاثم عنها
فالحد أولى ويقام الحد على الرجل لان الزنا التام قد ثبت عليه وجنايته إذا استكرهها أغلظ
من جنايته إذا طاوعته ولا يقال قد سقط الحد عنها فينبغي أن يسقط عنه كما لو ادعت النكاح
وهذا لان الشبهة بدعوى النكاح تتمكن في الفعل والفعل مشترك بينهما فأما كونها مكرهة
لا يتمكن به شبهة في الفعل ولا يخرج فعل الرجل من أن يكون زنا محضا لأن المرأة محل
الفعل ولا تنعدم المحلية بكونها مكرهة وهو كما لو زنى بصبية أو مجنونة أو نائمة يقام عليه الحد
وإن لم يجب عليها (قال) ولو أن مجنونا اكره عاقلة حتى زنى بها لا حد على واحد منهما اما
المرأة فلأنها مكرهة غير ممكنة طوعا واما الرجل فلانه مجنون ليس من أهل التزام العقوبة
فإذا دعت العاقلة البالغة مجنونا أو صبيا إلى نفسها فزنى بها لا حد عليها عندنا وقال الشافعي رحمه
الله تعالى عليها الحد وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنها زانية فعليها الحد
بالنص وبيانه وهو ان الزنا ليس إلا وطئ متعر عن العقد والملك وشبههما وقد وجد ذلك
إلا أنه سقط الحد عن أحدهما لانعدام الأهلية لمعني فلا يمتنع اقامته على الآخر كما لو زنى
بصبية أو مجنونة هذا لان فعل كل واحد منهما كامل في نفسه وهي في التمكين زانية كالرجل
في الايلاج ألا ترى ان الله تعالى سماها زانية وبدأ بذكرها وان من نسبها إلى الزنا يلزمه
الحد ولو كأن لا يتصور منها مباشرة الزنا لم يحد قاذفها به كالمجبوب ولأنها بهذا التمكين تقضى
شهوتها كالرجل بالايلاج فإذا ثبت كمال الفعل من كل جانب يراعى حال كل واحد منهما
فيما يلزمه من العقوبة (وحجتنا) في ذلك أنها مكنت نفسها من فاعل لم يأثم ولم يحرج
فلا يلزمها الحد كما لو مكنت نفسها من زوجها وبيان الوصف ظاهر لان الاثم والحرج ينبني
على الخطاب وهما لا يخاطبان وتحقيقه ان المباشر للفعل هو الرجل والمرأة تابعة بدليل
54

تصور الفعل فيها وهي نائمة لا تشعر بذلك وإن لم يكن أصل الفعل زنا فهي لا تصير زانية
لان ثبوت التبع بثبوت الأصل وفعل الصبي والمجنون زنا لغة ولكن ليس بزنا شرعا لان
الزنا شرعا فعل وجب الكف عنه لخطاب الشرع فلا ينفك عن الاثم والحرج وفعل الصبي
والمجنون لا يوصف بذلك وإذا انعدم الزنا شرعا في جانبه فكذلك في جانبها والحد حكم
شرعي فيستدعي ثبوت سببه شرعا وإنما سماها الله تعالى زانية على معني انها مزني بها كما
قال تعالى في عيشة راضية أي مرضية وقال تعالى من ماء دافق أي مدفوق وإنما يجب الحد
على قاذفها لنسبتها إلى ما تتعير وتستوجب به الحد وتقضى به شهوتها وهو التمكين من الزنا وان
كانت تابعة في ذلك وأما الرجل إذا زني بصبية فهو المباشر لأصل الفعل وفعله زنا لغة وشرعا
فلهذا لزمه الحد بحقيقة ان المرأة محل والمحلية مشتهاة وذلك باللين والحرارة فلا يتمكن نقصان
فيه بجنونها وصغرها فقد تم فعله زنا لمصادفة محله فأما من جانب الرجل استعمال الآلة لا نفس
الآلة واستعمال الآلة لا يكون زنا شرعا الا إذا كان واجب الكف عند الخطاب وذا بصفة
الاثم والحرج وذلك ينعدم بالصبا والجنون وهذا فقه دقيق وفرق حسن وفى الكتاب علل
فقال ذكر الصبي كأصبعه معناه ما هو المقصود بالزنا معدوم في آلة الصبي فلا يكون فعله
بهذه الآلة زنا والمعتوه بمنزلة الصبي في الحكم فأما المحصنة إذا زني بها غير المحصن فعليها الرجم
لان فعل غير المحصن زنا فتصير هي زانية بالتمكين من الزنا ثم المعتبر حالها فيما يقام من العقوبة
بعد تقرر السبب وكل رجل يزني بامرأة لا يجب عليها الحد بشبهة مثل الخرساء التي لا تنطق
فلا حد عليه لان الشبهة تمكنت هنا والخرساء لو كانت تنطق ربما تدعي شبهة نكاح وقد
لا تقدر على إظهار ما في نفسها بالإشارة وقد بينا انها لو ادعت النكاح سقط عنها الحد
فكذلك إذا كانت خرساء والأصل فيه حديث عمر رضى الله تعالى عنه ادرؤا ما استطعتم
فان الامام لان يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم للمسلم مخرجا
فادرؤا عنه وهذا بخلاف ما إذا زني بصبية أو مجنونة لان سقوط الحد عنها ليس للشبهة
بل لانعدام الأهلية (قال) وإذا زنى الحربي المستأمن بالمسلمة أو الذمية فعليها الحد ولا حد
عليه في قول أبي حنيفة وقال محمد رحمهما الله تعالى لا حد على واحد منهما وهو قول أبى
يوسف رحمه الله الأول ثم رجع وقال يحدان جميعا أما المستأمن فعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله لا تقام عليه الحدود التي هي لله تعالى خالصا كحد الزنا والسرقة وقطع الطريق وفي قول
55

أبى يوسف الآخر والشافعي رحمهما الله تعالى يقام الحد عليه كما يقام على الذمي لأنه ما دام
في دارنا فهو ملتزم أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات كالذمي ألا ترى أنه يقام عليه القصاص
وحد القذف ويمنع من الربا ويجبر على بيع العبد المسلم والمصحف إذا اشتراه كما يجبر عليه الذمي
وهذا لأن هذه الحدود تقام صيانة لدار الاسلام فلو قلنا لا تقام على المستأمن يرجع ذلك إلى
الاستخفاف بالمسلمين وما أعطيناه الأمان ليستخف بالمسلمين بخلاف حد شرب الخمر فإنه
لا يقام على الذمي وهذا لأنهما يعتقدان إباحة شرب الخمر وإنما أعطيناهم الأمان على أن
نتركهم وما يدينون (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى ثم أبلغه مأمنه فتبليغ المستأمن مأمنه
واجب بهذا النص حقا لله تعالى وفى إقامة الحد عليه تفويت ذلك ولا يجوز استيفاء حقوق
الله تعالى على وجه يكون فيه تفويت ما هو حق الله والمعنى أن المستأمن ما التزام شيئا من حقوق
الله تعالى وإنما دخل تاجرا ليعاملنا ثم يرجع إلى داره ألا ترى أنه لا يمنع من الرجوع إلى
دار الحرب ولو كان ملتزما شيئا من حقوق الله تعالى يمنع من ذلك كالذمي وهذا الآن منعه من
أن يعود حربا للمسلمين بعد ما حصل في أيديهم حق الله تعالى بخلاف القصاص فإنه حق
العباد وهو قد التزم حقوق العباد في المعاملات وحد القذف فيه بعض حق العباد أيضا لان
المقصود رفع العار عن المقذوف والاجبار على بيع العبد المسلم من حق العبد وهو من حقوق
المسلمين أيضا لان في استخدام العبد المسلم نوع اذلال بالمسلمين وكذلك في استخفافه
بالمصحف وأما الربا فهو مستثنى من كل عهد قال صلى الله عليه وسلم الامن أربى فليس
بيننا وبينه عهد فأما في جانب المرأة المسلمة فمحمد رحمه الله تعالى يقول لا حد عليها أيضا
لأنها مكنت نفسها من فاعل لا يلزم الحد بفعله فهو كالتمكين من صبي أو مجنون وهذا لان
الكفار لا يخاطبون بالشرائع عندنا وما هو من خالص حق الله تعالى فالخطاب فيه قاصر عن
الكافر كما هو قاصر عن الصبي والمجنون وقاس هذا بما لو مكنت نفسها من مكرة فإنه لا يجب
الحد عليها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول فعل المستأمن زنا بدليل أنه لو قذفه قاذف به بعد
الاسلام لا يقام عليه الحد فصارت هي زانية بالتمكين من الزنا ويقام عليها الحد بخلاف الصبي
والمجنون فان فعلهما ليس بزنا شرعا حتى لو قذفهما قاذف بذلك الفعل بعد البلوغ والعقل
يجب عليه الحد وهذا لان معنى قولنا الكفار لا يخاطبون بالشرائع العبادات التي تنبنى على
الاسلام فأما الحرمات ثابتة في حقهم وكان فعل المستأمن واجب الكف عنه بخطاب الشرع
56

فيكون زنا إلا أنه لا يقام عليه الحد لوجوب تبليغه مأمنه وأما إذا مكنت نفسها من مكره
فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجب الحد عليها ان ضجع أبو يوسف رحمه الله تعالى الرواية
فيه بقوله لست أحفظ عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المكره شيئا وهذا لان المكره
ممنوع عن الاقدام على الزنا وفى الاقدام عليه يكون فعله زنا وتصير هي بالتمكين زانية تبعا
فيلزمها الحد (قال) وإذا زنى المسلم أو الذمي بالمستأمنة حد المسلم والذمي دون المستأمنة عند
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يحدان أما الكلام في
المستأمنة فقد بيناه وتعذر إقامة الحد عليها ليس للشبهة فلا يمنع اقامته على الرجل مسلما كان
أو ذميا لان حد الزنا يقام على أهل الذمة عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى لا يقام ولكنه
يدفع إلى أهل دينه ليقيموا عليه ما يعتقدون من العقوبة لما روى عن عمر وعلي رضي الله عنه
ما لما سئلا عن ذميين زنيا فقالا يدفعان إلى أهل دينهما ولكنا نقول قد أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم الرجم على اليهوديين وكانا ذميين ولنا فيه أسوة حسنة ولان الذمي
من أهل دارنا وملتزم أحكامنا فيما يرجع إلى المعاملات وهو يعتقد حرمة الزنا كما يعتقده
المسلم فيقام عليه كما يقام على المسلم لان المقصود من الحدود تطهير دار الاسلام عن ارتكاب
الفواحش توضيحه أن من كان من أهل دارنا فهو تحت يد الامام حقيقة وحكما حتى يمنعه
من الرجوع إلى دار الحرب فيقيم الحد عليه أيضا بخلاف المستأمن فإنه ليس تحت يد الامام
حكما حتى لا يمنعه من الرجوع إلى دار الحرب (قال) وإذا شهد الشهود على رجل أنه
زنى بامرأة فقال ظننت أنها تحل لي أو شبهتها بامرأتي أو جاريتي لم يدرأ عنه الحد لان فعل
الزنا قد تحقق عنه وظنه هذا ليس بصادر عن دليل فكان لغوا وكذلك لو أن بصيرا وجد
امرأة على فراشه فواقعها على ظن أنها امرأته وهي أجنبية فعليه الحد وكذلك الأعمى عندنا
وقال زفر رحمه الله يدرأ الحد عن الأعمى لأنه عدم آلة التمييز وهو البصر فبنى على ظاهر الحال
والظاهر أن لا يكون على فراشه الا زوجته أو أمته فيصير ذلك شبهة في حقه بخلاف البصير
ومذهبنا مروى عن عمر رضي الله عنه والمعنى فيه أن اعتمد مجرد الظن فان الموجودة على
فراشه قد تكون أمه أو أخته وقد تكون أجنبية وقد تكون زوجته فلا معتبر بذلك وهو
متمكن من أن يسألها كتمكن البصير من أن يراها فأما إذا ادعي الأعمى امرأته إلى فراشه
فأتته أجنبية فواقعها ان كانت قالت له أنا زوجتك فلا حد عليه وان أجابت أو أتته ساكتة
57

فكذلك الجواب عند أبي يوسف وعند محمد رحمهما الله تعالى يجب عليه الحد لأنها إذا
قالت أنا زوجتك فقد اعتمد خبر الواحد وذلك دليل شرعي ألا ترى أن البصير إذا تزوج
امرأة فأخبره رجل أن امرأته هذه كان له أن يعتمد خبره ويطأها فإذا تبين أنها غير
امرأته كان الثابت حكم الوطئ بشبهة فكذلك هي إذا أخبرته بذلك فأما إذا لم تخبره
فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول اجابتها أو اتيانها بعدما دعى زوجته بمنزلة اخبارها أنى
زوجتك ومحمد رحمه الله تعالى يقول إن اجابته إلى الفراش فهو كما لو وجدها نائمة على
فراشه وكما لا يسقط الحد هناك بظنه فكذلك هنا (قال) رجل استأجر امرأة
ليزني بها فزنى بها فلا حد عليهما في قول أبي حنيفة وقال وأبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم
الله تعالى عليهما الحد لتحقق فعل الزنا منهما فان الاستئجار ليس بطريق لاستباحة البضع
شرعا فكان لغوا بمنزلة ما لو استأجرها للطبخ أو الخبز ثم زنى بها وهذا لان محل الاستئجار
منفعة لها حكم المالية والمستوفي بالوطئ في حكم العتق وهو ليس بمال أصلا والعقد بدون
محله لا ينعقد أصلا فإذا لم ينعقد به كان وهو والاذن سواء ولو زنى بها باذنها يلزمه الحد
ولكن أبو حنيفة رحمه الله احتج بحديثين ذكرهما عن عمر رضي الله عنه أحدهما ما روى أن
امرأة استسقت راعيا فأبي ان يسقيها حتى تمكنه من نفسها فدرأ عمر رضي الله عنه الحد عنهما
والثاني ان امرأة سألت رجلا مالا فأبى ان يعطيها حتى تمكنه من نفسها فدرأ الحد وقال هذا
مهر ولا يجوز ان يقال إنما درأ الحد عنها لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش لان هذا
المعني لا يوجب سقوط الحد عنه وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالا كما ذكرنا في
الحديث الثاني مع أنه علل فقال إن هذا مهر ومعنى هذا أن المهر والأجر يتقاربان قال تعالى
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن سمى المهر أجرا ولو قال أمهرتك كذا لأزنى بك لم
يجب الحد فكذلك إذا قال استأجرتك توضيحه أن هذا الفعل ليس بزنا وأهل اللغة لا يسمون
الوطئ الذي يترتب على العقد زنا ولا يفصلون بين الزنا وغيره الا بالعقد فكذلك لا يفصلون
بين الاستئجار والنكاح لان الفرق بينهما شرعي وأهل اللغة لا يعرفون ذلك فعرفنا ان هذا
لفعل ليس بزنا لغة وذلك شبهة في المنع من وجوب الحد حقا لله تعالي كما لا يجب الحد على
المختلس لان فعله ليس بسرقة لغة يوضحه أن المستوفى بالوطئ وإن كان في حكم العتق فهو
في الحقيقة منفعة والاستئجار عقد مشروع لملك المنفعة وباعتبار هذه الحقيقة يصير شبهة
58

بخلاف الاستئجار للطبخ والخبز ولان العقد هناك غير مضاف إلى المستوفى بالوطئ ولا إلى
ما هو سبب له والعقد المضاف إلى محل يوجب الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر (قال)
رجل أكره حتى زنى بامرأة كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يلزمه الحد وهو قول
زفر رحمه الله تعالى لان الرجل لا يزني ما لم تنتشر آلته وذلك دليل الطواعية بخلاف المرأة
فان التمكين؟ يتحقق منها مع الاكراه فلا يكون تمكينها دليل الطواعية ثم رجع فقال إذا كان
المكره سلطانا فلا حد عليه لان الحد مشروع للزجر وهو منزجر؟ عن الزنا وإنما كان
قصده من الاقدام دفع الهلاك عن نفسه فلا يلزمه الحد كالمرأة وهذا لان انتشار الآلة
لا يدل على أنه كان طائعا لان انتشار الآلة قد يكون طبعا وقد يكون طوعا ألا ترى أن
النائم قد تنتشر آلته من غير قصد وفعل منه وإنما انتشار الآلة دليل الفحولية فأما إذا أكرهه
غير السلطان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يلزمه الحد إذا زنى وعندهما إذا جاء من إكراه غير
السلطان ما يشبه اكراه السلطان فلا حد عليه وقيل هذا اختلاف عصر فان السلطان كان
مطاعا في زمن أبي حنيفة ولم ير لغير السلطان من القوة ما يقوى به على الاكراه فقال لا يتحقق
الاكراه الا من السلطان ثم في عصر هما قد ظهرت القوة لكل متغلب فقالا يتحقق الاكراه
من غير السلطان وجه قولهما ان المعتبر خوف التلف على نفسه وذلك يتحقق إذا كان المكره
قادرا على ايقاع ما هدد به سلطانا كان أو غيره بل خوف التلف هنا أظهر لان المتغلب يكون
مستعجلا لما قصده لخوفه من العزل بقوة السلطان والسلطان ذو أناة بما يفعله فإذا تحقق
الاكراه من السلطان بالتهديد فمن المتغلب أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما يكون
مغيرا للحكم يختص بالسلطان كإقامة الجمعة ونحوها وتحقيقه أن الاكراه من غير السلطان
نادر لأنه مغلوب بقوة السلطان فالمبتلى به يستغيث بالسلطان ليدفع شره عنه فإذا عجر عن
ذلك فهو نادر ولا حكم للنادر فأما المبتلى بالسلطان لا يمكنه ان يستغيث بغيره ليدفع شره عنه
فيتحقق خوف التلف على نفسه فيكون ذلك مسقطا للحد عنه (قال) رجل زنى بأمة أو
حرة ثم قال اشتريتها درئ عنه الحد لأنه ادعى سببا مبيحا فان الشراء في الأمة يفيد ملك
المتعة وفى الحرة النكاح فإنه ينعقد بلفظ الشراء فكان دعواه الشراء كدعوى النكاح وقد
بينا أن مجرد دعوى النكاح يسقط الحد (قال) وإذا شهد الشهود على رجل بالزنا وزكاهم
المزكون وزعموا انهم أحرار مسلمون فرجمه الامام ثم تبين أنهم عبيد أو مجوس فان ثبت
59

المزكون على التزكية وزعموا أنهم أحرار فلا ضمان عليهم ولا على الشهود أما على الشهود فلانه
لم يتبين كذبهم ولم تقبل شهادتهم إذ لا شهادة على المسلمين للعبيد والكفار وأما على المزكين
فلأنهم اعتمدوا ما سمعوا من اسلامهم وحريتهم وإنما زكوهم بقول الناس فلم يتبين كذبهم
فيما أخبروا به القاضي من قول الناس انهم أحرار مسلمون فاما إذا رجعوا عن التزكية وقالوا
تعمدنا فعليهم ضمان الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى لا ضمان على المزكين ولكن الدية في بيت المال في الوجهين لان المزكين ما أثبتوا
سبب الاتلاف وهو الزنا وإنما أثنوا على الشهود خيرا فكانوا في المعنى كشهود الاحصان إلا أن
أولئك أثبتوا خصالا محمودة في الزاني لا يقام الرجم عليه الا بها وهؤلاء أثبتوا خصالا
في الشاهد لا يقام الرجم الا عندها فكما لا ضمان علي شهود الاحصان إذا رجعوا فكذلك
لا ضمان على المزكين وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المزكون جعلوا ما ليس بموجب موجبا
فكانوا بمنزلة من أثبت سبب الاتلاف وبيان ذلك أن الشهادة لا توجب شيئا بدون التزكية
وسبب الاتلاف الشهادة وإنما كانت الشهادة موجبة بالتزكية فكانت التزكية علة العلة
وهي بمنزلة العلة في إضافة الحكم إليه بخلاف شهود الاحصان فان الشهادة على الزنا بدون
الاحصان موجب للعقوبة وشهود الاحصان ما جعلوا ما ليس بموجب موجبا وأما الشهادة
لا توجب شيئا بدون التزكية فمن هذا الوجه تقع الفرقة بينهما ولهذا اشترط الذكورة في
المزكين كشهود الزنا ويثبت الاحصان بشهادة النساء مع الرجال وإن كان المزكون قالوا هم
عدول فلا شئ عليهم بالاتفاق لأنهم صادقون في ذلك والعبد قد يكون عدلا ويكون القاضي
جهل حين اكتفي منهم بهذا القدر فلهذا لا يضمن المزكون (قال) وإذا زنى بجارية
فقتلها ان قتلها بفعله فعليه الحد وضمان القيمة الحد للزنا والقيمة لاتلاف النفس وهو معنيان
كل واحد منهما منفصل عن الآخر وكذلك لو فعل ذلك بحرة فعليه الحد والدية وروى
بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمة يدرأ عنه الحد للشبهة لان ضمان القيمة سبب
لملك الأمة بخلاف الحرة وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إذا زني
بأمة فأذهب بصرها فعليه قيمتها وسقط عنه الحد لان الجثة العمياء تملك بالضمان فيصير
ذلك شبهة في اسقاط الحد فأما إذا قتلها فإنما لزمه ضمان القيمة بالجناية وضمان القيمة بالجناية
بدل النفس فلا يوجب الملك لان وجوبها بعد تقرر الجناية بالموت وهي ليست بمحل للملك
60

بعد الموت (قال) وإذا زني بأمة هي رهن عنده فان قال ظننت أنها تحل لي درئ عنه الحد
وان قال علمت أنها على حرام حد لان عقد الرهن يثبت ملك اليد حقا للمرتهن وبملك اليد
تثبت شبهة الاشتباه كما في المعتدة من خلع أو من تطليقات إذا وطئها وقال ظننت أنها
تحل لي لا يحد لبقاء ملك اليد له فيها بسبب العدة وذكر في كتاب الرهن أنه يحد على
كل حال لان حق المرتهن إنما يثبت في المالية وذلك ليس بسبب للحل بحال وهو نظير
الغريم إذا وطئ جارية من التركة يلزمه الحد وان كانت المالية حقا له فإنها تباع في دينه (قال)
ولو استأجر أمة لتخدمه أو استعارها فزنى بها فعليه الحد في الوجهين جميعا لانعدام شبهة
الاشتباه فان ملك المنفعة لا يتعدى إلى ملك الحل بحال (قال) وإذا شهد أربعة على رجل
بالزنا واختلفوا في المزني بها أو في المكان أو في الوقت بطلت شهادتهم وذلك لان الزنا فعل
يختلف باختلاف المحل والمكان والزمان وما لم يجتمع الشهود الأربعة على فعل واحد لا يثبت
ذلك عند الامام ولكن لا حد على الشهود عندنا وقال زفر رحمه الله عليهم حد القذف لان
كل اثنين نسباه إلى زنا آخر فكانا قاذفين له وشرط سقوط الحد عنهم اجتماعهم على
الشهادة بزنا واحد ألا ترى أنه لو شهد ثلاثة وسكت الرابع حد الثلاثة فكذلك
إذا شهد كل اثنين على زنا آخر لان الزنا لا يثبت بشهادة المثنى ولكنا نقول قد اجتمع الأربعة
على الشهادة عليه بالزنا وذلك منع من وجوب الحد عليهم كما لو شهد أربعة من الفساق بالزنا
على رجل توضيحه انا لو اعتبرنا اختلافهم في المزني بها أو في المكان أو في الزمان في ايراث
الشبهة وذلك مسقط للحد عن المشهود عليه غير موجب للحد عليهم ويجعل في الحكم كأنهم
امتنعوا من بيان ذلك أصلا ولو شهدوا عليه بالزنا وامتنعوا من بيان المزني بها والمكان والزمان
لا يقام الحد على المشهود عليه ولا عليهم فهذا مثله (قال) وإذا شهدوا على بيت واحد انه زنى
بها فيه فقال اثنان في مقدمه وقال اثنان في مؤخره في القياس لا حد على المشهود عليه وهو
قول زفر رحمه الله تعالى لان الفعل في مقدم البيت غير الفعل في مؤخر البيت وهو بمنزلة
الشهادة في بيتين أو قبيلتين وفي الاستحسان يقام الحد على المشهود عليه عندنا لأنهم اجتمعوا
على فعل واحد واختلفوا فيما لم يكلفوا نقله والتوفيق ممكن فوجب قبول شهادتهم كما لو
اختلفوا في ثيابها حين زنى بها وبيان الوصف أنهم لو شهدوا أنه زنى بها في هذا البيت لم
يسألهم القاضي إن كان في مقدمه أوفى مؤخره وبيان امكان التوفيق من وجهين (أحدهما)
61

أن ابتداء الفعل كان في مقدم البيت وانتهاءه كان في مؤخره لاضطرابهما أو كان في وسط
البيت فظن اثنان أن ذلك الموضع من مقدم البيت واثنان انه من مؤخره البيت فشهدوا علي
ما وقع عندهم بخلاف البيتين والقبيلتين فالتوفيق هناك غير ممكن ثم هذا الاستحسان
منا لتصحيح الشهادة لا لإقامة الحد فإنما يستحسن لدرء الحد ولم يذكر إذا تقارب اختلافهم
في الزمان والجواب فيه كالجواب في المكان إذا تقارب علي وجه يمكن التوفيق تقبل شهادتهم
استحسانا ولو اختلفوا في الثوب الذي كان عليه حين زنى بها لم تبطل شهادتهم لأنهم لو
امتنعوا من بيان ثوبه حين زنى لم يقدح ذلك في شهادتهم فعرفنا أنهم اختلفوا فيما لم يكلفوا
نقله والتوفيق ممكن لجواز أن يكون عليه ثوبان وقع بصر اثنان على أحدهما وبصر الآخرين
على الآخر (قال) وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا واحدهم والده أو ولده فالشهادة جائزة لأنه
لا تهمة في شهادة الولد على والده ثم يرث الولد من والده وان رجم بشهادته إلا أنه إذا أمره
الامام بالبداية ينبغي أن لا يتعمد قتله لان الولادة مانع للولد من أن يتعرض لوالده بالقتل
وإن كان مباح الدم على ما روى أن حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه استأذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه الشرك فلم يأذن له وقال يكفيك ذلك غيرك
وكذلك أن كان الشاهد أخا أوجدا أو واحدا من ذي الرحم المحرم لأنه اجتمع
حرمتان الاسلام والقرابة وذلك مانع من التعرض له بالقتل كما في العادل لا يحل له
أن يقتل أخاه الباغي بخلاف المسلم يحل له أن يقتل أخاه الكافر لان الموجود هناك
حرمة واحدة وهي القرابة فكان بمنزلة حرمة الاسلام فيما بين الأجانب (قال) فأما في حق
الوالدين من الكفار الموجود حرمتان الولاد يعني به الجزئية والقرابة فلو أنه أصاب مقتله لم
يحرم الميراث أيضا لأنه قتل بحق وحرمان الميراث جزاء على القتل المحظور عقوبة فلا يثبت
ذلك في القتل بحق (قال) ولو امتنع أحد الشهود من البداية بالرجم فذلك شبهة في اسقاط
الحد عن المشهود عليه ولكن لا يقام الحد على المشهود لأنهم ثابتون على الشهادة وإنما امتنع
بعضهم من مباشرة القتل وذلك لا يكون رجوعا عن الشهادة على الزنا وقد يمتنع الانسان
من مباشرة القتل بحق (قال) وإذا شهد الشهود على رجل بالزنا وعدلوا فلم يقض القاضي
بالرجم حتى قتله انسان بالسيف عمدا أو خطأ فعليه القصاص في العمد والدية على العاقلة في
الخطأ لان الشهادة لا توجب شيئا ما لم يتصل بها القضاء ألا ترى أنهم لو رجعوا بعد عدالتهم
62

لم يقض القاضي بشئ ولم يضمنوا للمشهود له شيئا ولو وجب حق المشهود له قبل القضاء
بظهور عدالتهم لصاروا متلفين ذلك عليه بالرجوع فينبغي أن يضمنوا له ولما ثبت ان الشهادة
لا توجب شيئا بدون القضاء فبقيت النفس معصومة علي ما كانت قبل الشهادة فيجب
القصاص على من قتله عمدا ولان الشهادة قد بطلت بالقتل فان القاضي لا يقضى بها بعد ذلك
لفوات المحل فهو كما لو بطلت الشهادة برجوعهم فان قضى القاضي برجمه ثم قتله انسان عمدا
أو خطأ أو قطع يده أو فقأ عينه لا شئ عليه لأنه قد صار مباح الدم بقضاء القاضي والفعل
في محل مباح لا يكون سبب وجوب الضمان وكذلك لو رجع الشهود عن شهادتهم فلا شئ
على الجاني لان رجوعهم ليس بحجة في حق الجاني فوجوده كعدمه وان وجد أحد الشهود
عبدا بعدما قتله الرجل عمدا ففي القياس عليه القصاص لأنه تبين أنه كان محقون الدم حين
ظهر أن عدد الشهود لم يتكامل فان العبد لا شهادة له ولان هذا في معني قتله إياه قبل قضاء
القاضي لأنه قد تبين أن قضاء القاضي كان باطلا ولكنه استحسن فأبطل عنه القصاص
وجعل عليه الدية في ماله في ثلاث سنين لان القاضي قضى بإباحة دمه وصورة قضاء
القاضي تكفي لايراث الشبهة فإنه لو كان حقا كان مبيحا للدم فصورته تمكن شبهة كالنكاح
الفاسد يجعل شبهة في اسقاط الحد ولهذا؟ لا يجب القصاص على المولى إذا جاء المشهود بقتله
حيا وإذا امتنع وجوب القصاص للشبهة وجبت الدية في ماله لان القتل عمد والعاقلة لا تعقل
العمد ولكن تجب الدية في ثلاث سنين لان وجوبها بنفس القتل فإن كان هذا الرجل
قتله رجما فلا شئ عليه لأنه ممتثل أمر القاضي فيكون فعله كفعل القاضي فلا يضمن شيئا
ولكن هذا خطأ من الامام فيما عمله لله تعالى فتجب الدية في بيت المال بخلاف الأول
لان هناك ما امتثل أمر القاضي في قتله إياه بالسيف ولهذا يؤدبه القاضي هناك على ما صنع
ولا يؤدبه هنا وإن لم يكونوا أجهزوا عليه حتى ظهر أن أحد الشهود عبد فأرش الجراحة
أيضا في بيت المال اعتبارا للبعض بالكل والمعنى الجامع أن الخطأ من الامام في الوجهين
(قال) أربعة شهدوا على رجل بالزنا وهو غير محصن وضربه الامام الحد ثم وجد أحدهم
عبدا وقد مات من ذلك الضرب أو لم يمت فلا شئ في بيت المال ولا على الامام في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وعندهما هو على بيت المال وعلى هذا لو رجع الشهود و قد جرحته
63

السياط فلا ضمان على الشهود في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يضمن الشهود
أرش الجراحات والدية ان مات من ذلك (وحجتنا) أن الجلدات أقيمت عليه بشهادتهم
فالشاهد يجعل كالمباشر لما أوجبه بشهادته في حكم الضمان كما لو كان الحد رجما وكما أن
شهود القصاص وشهود القتل إذا رجعوا ضمنوا ما أتلف بشهادتهم كأنهم باشروا ذلك فهذا
مثله فإذا ثبت أنهم كالمباشرين تلفا ومن ضرب انسانا بسوط فجرحه من ذلك فهو ضامن
أرش الجراحة ولو مات من ذلك كان ضامنا للدية فكذلك إذا رجعوا هنا وإذا ظهر أنهم
عبيد فقد ظهر الخطأ من الامام فذلك الضمان في بيت المال وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
إنما أوجبوا بشهادتهم ضربا مؤلما غير جارح ومتلف بدليل أنه لا يقام هذا الحد الشديد
على المريض كيلا يؤدى إلى الاتلاف وبدليل أنه يختار لإقامة الحد سوطا لا ثمرة له كيلا
يجرحه ويفرق على الأعضاء كيلا يؤدى إلى الجراحة ولأنه لو ضربه فلم يجرحه يتم إقامة
الحد حتى لا يعاد عليه فيثبت أنهم إذا أوجبوا بشهادتهم ضربا مؤلما غير جارح ولا متلف
ولكن الجراحة والاتلاف أفضت إليه الشهادة والشاهد عند الرجوع لا يضمن ما أفضى
إليه شهادته كالشهادة بالنسب في حال الحياة إذا رجع بعد ما مات المشهود عليه وورث
المشهود له بنسبه؟ وكما أن الجراحة والاتلاف ليس من موجب الشهادة فكذا ليس من
موجب القضاء لان القاضي إنما يقتضى بما شهد به المشهود فلا يمكن ايجاب الضمان على
القاضي ولا في بيت المال لأنه إنما يجب في بيت المال ما كان واجبا بقضاء القاضي إذا تبين
فيه الخطأ ولا شئ على الجلاد أيضا لأنه امتثل أمر القاضي وهو مجتهد فيما أقام من الحد
فلهذا لا يضمن أحد شيئا بخلاف ما إذا باشر الضرب بالسوط فإنما يحصل بضربه من
موجبات فعله وهو متعد في ذلك فكان مؤاخذا بضمانه (قال) أربعة شهدوا على رجل
بشئ يجب فيه التعزير فعزره الامام فمات من ذلك فلا شئ على الامام ولا في بيت المال
عندنا وهو مذهب عمر وعلي رضي الله عنهما وعلى قول الشافعي رحمه الله تجب الدية في بيت
المال وهو قول علي رضي الله عنه لان التعزير للتأديب لا للاتلاف فإذا أدى إلى الاتلاف
كان خطأ من الامام فيجب الضمان في بيت المال لأنه عمل فيه لله تعالى وكما نقول في الزوج
إذا عزر زوجته فماتت كان عليه ضمان الدية ولكنا نقول الامام محق فيما أقام وهو مستوف
حقا لله تعالى فيصير كأن من له الحق أماته بخلاف الزوج إذا عزر زوجته لأنه يستوفى ذلك
64

لمنفعة نفسه فما يتولد منه يكون مضافا إليه توضيحه ان إقامة التعزير مستحق على الامام
شرعا إذا علم أنه لا ينزجر الا به وما يكون مستحقا على المرء لا يتقيد بشرط ليس في
وسعه التحرز عنه وهو كما ولو قطع يد السارق فمات من ذلك فأما تعزير الزوج مباح له غير
مستحق عليه والمباحات تتقيد بشرط السلامة كالمشي في الطريق والرمي إلى الصيد (قال)
وإذا حكم الامام على رجل بالزنا والرجم بشهادة الشهود وقال للناس ارجموه وسعهم أن
يرجموه وإن لم يعاينوا أداء الشهادة وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى لا يسعهم
ذلك ما لم يشهد به عدل آخر عندهم أو يعاينوا أداء الشهادة والحكم لان القتل أمر عظيم
إذا وقع فيه الغلط لا يمكن التدارك والتلافي ومن يكون مجرد قوله ملزما الأنبياء المعصومون
عن الكذب فإنهم لا يقرون على الكذب والقاضي لا تبلغ درجته درجة الأنبياء بل هو غير
معصوم عن الخطأ والكذب فلا يسعهم الاقدام بمجرد قوله على ما إذا وقع الغلط لا يمكن
تداركه وجه ظاهر الرواية أن قضاء القاضي أولى من شهادة الشهود فلو عاينوا أداء الشهادة
وسعهم أن يرجموه وإن كان الشهود غير معصومين عن الكذب فكذلك إذا أخبرهم
القاضي بقضائه وهذا لان العادة الظاهرة هي الاكتفاء في كل بلدة بقاض واحد فلو لم
يكن مجرد حكمه حجة لكان يتخذ قاضيان في كل بلدة لحاجة الناس إلى ذلك وفى الاكتفاء
بقاض واحد دليل على أن مجرد قوله حجة يطلق لهم الاقدام على إقامة الحد رجما كان أو
قتلا حد قطاع الطريق أو قطعا في السرقة (قال) وإذا شهد عليه ثلاثة بالزنا وقال الرابع
لم أرما قالوا ولكني رأيتهما في لحاف واحد فشهادتهم باطلة لان الرابع ما شهد بشئ فلم يتكامل
عدد شهود الزنا فلا يجب الحد على المشهود عليه ويحد الثلاثة لأنهم قذفوه بالزنا حيث لم
يتكامل عدد الشهود ولا يحد الرابع لأنه ما نسبه إلى الزنا بقوله رأيتهما في لحاف واحد
والأصل فيه ما روينا من حديث المغيرة فان عمر رضى الله تعالى عنه أقام الحد على الثلاثة حين
امتنع زياد من الشهادة على صريح الزنا ولم يقم الحد على زياد وإن كان الرابع قال أشهد انه زان
ثم سئل عن صفته فلم يصف ذلك فعليه الحد بقوله انه زأن لأنه قد نسبه إلى الزنا بهذا وأكد
ذلك بلفظ الشهادة ولو لم يؤكد ذلك بلفظة الشهادة ولكن قال هذا زان كان قاذفا له بهذا
اللفظ مستوجبا الحد فهنا أولى وتأويل هذه المسألة أن الرابع إذا قال هذا في مجلس آخر سوى
المجلس الذي شهد فيه الثلاثة فأما إذا اجتمع الأربعة في مجلس وشهدوا عليه بالزنا وأبى بعضهم
65

أن يفسر ذلك فلا حد على ما فسره بعد هذا لان الأربعة إذا شهدوا عليه بالزنا فسئلوا عن
كيفيته وماهيته وقالوا لا نزيد لك على هذا لم تقبل شهادتهم لأنهم لم يبينوا مبهم كلامهم ولكن
لا حد عليهم لتكامل عددهم فان تكامل عدد الشهود مانع من وجوب الحد عليه كما لو شهد
عليه أربعة من الفساق بالزنا وكذلك أن وصف بعضهم دون بعض لان عددهم متكامل في
أصل الشهادة عليه بالزنا وامتناع بعضهم عن البيان لا يكون رجوعا عن الشهادة ولكن يصير ذلك
شبهة في حق المشهود عليه فلا يقام عليه الحد ولا يقام على الشهود أيضا كما في فسق الشهود (قال)
أربعة شهدوا على رجل بالزنا بامرأة فشهد أربعة على الشهود انهم هم الذين زنوا بهما لا تقبل شهادة
واحد منهم ولا يقام الحد للشبهة التي دخلت عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله يقام حد الزنا على الفريق الأول ولا شئ على المشهود عليه للأول لان الفريق الثاني
عدول شهدوا على الفريق الأول بالزنا فوجب قبول شهادتهم وقد ثبت فسقهم لظهور زناهم
بالحجة فتبطل شهادتهم على المشهود عليه الأول وبقيت الشبهة التي أشار إليها أبو حنيفة رحمهم
الله تعالى ان قصد الفريق الثاني بهذه الشهادة إبطال شهادة الفريق الأول لأنهم حين لم يشهدوا
إلى أن شهد الفريق الأول فاما أن يكونوا كاذبين قاصدين إلى ابطال شهادتهم أو كانوا صادقين
ولكنهم اختاروا الستر فلما شهد الفريق الأول حملتهم الضغينة على الشهادة عليهم دون الحسبة
ومثل هذه الشهادة لا تقبل كما لو شهدوا بالزنا بعد تقادم العهد ولان في لفظهم ما يدل على أن
قصدهم المجازاة دون الحسبة فان في الشهادة بطريق الحسبة يقولون زنوا وهم زناة واما قولهم
هم الذين زنوا يكون على طريق المجازاة ثم هذا يؤدى إلى التهاتر فربما يشهد فريق ثالث على
الفريق الثاني بمثل ذلك ومثل هذا لا يجوز إقامة الحد به (قال) وان شهد ثلاثة نفر وامرأتان
بالزنا لم تجز شهادتهم لحديث الزهري قال مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم
والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في حد الزنا فكانوا جميعا قذفة (قال) وان شهد
أربعة علي شهادة أربعة على رجل بالزنا لا تجوز شهادتهم لان الشهادة على الشهادة فيها ضرب
شبهة من حيث إن الكلام إذا تداولته الا لسنة تمكن فيه زيادة ونقصان ولان الشهادة على
الشهادة بدل والابدال منصوبة للحاجة ولا تقام الحدود بمثله لأنها مبنية علي الدرء ولا حد
على الفروع لأنهم ما نسبوا المشهود عليه إلى الزنا إنما حكوا شهادة الأصول بذلك والحاكي
للقذف عن غيره لا يكون قاذفا فان قدم الأصول فشهدوا على شهادة أنفسهم على هذا
66

الرجل بالزنا لا تقبل شهادتهم لوجهين أحدهما ان العهد قد تطاول والثاني ان الحاكم حكم
برد هذه الشهادة لان في الموضع الذي تقبل الشهادة على الشهادة تقبل شهادة الأصول
أيضا ففي الموضع الذي ترد أيضا يتعدى رده إلى شهادة الأصول من وجه وذلك شبهة
ولا حد على الشهود لتكامل عددهم ولأنا إنما لا نقيم الحد على المشهود عليه بنوع شبهة
والشبهة تصلح لدرء الحد بها لا لايجاب الحد (قال) وان قال الشهود للرجل والمرأة في
غير مجلس القاضي نشهد انكما زانيان وقدموهما إلى القاضي وشهدوا عليهما وقالا انهم قد
قالوا لنا هذه المقالة قبل أن يرفعونا إليك ولنا بذلك بينة لم تقبل شهادتهما على ذلك ولم تسقط
شهادتهم به وحد الرجل والمرأة لأنهم عدول (فان قيل) صاروا قاذفين لهما بالنسبة إلى الزنا
في غير مجلس القاضي فكانوا متهمين في الشهادة من حيث إنهم قصدوا بها اسقاط الحد
(قلنا) إنما كان كذلك لان تكامل العدد كما يمنع من أن يكون كلامهم قذفا في مجلس
القاضي فكذلك في غير مجلسه ولان المقصود من فعلهما الندم معناه ان مقصود الشهود
من هذه المقالة في غير مجلس القاضي انكما زانيان ليظهرا الندم ليستروا عليهما أو الاصرار
ليشهدوا عليهما والشاهد مندوب إلى ذلك ولان كلامهم الأول موقوف فإذا اتصل به
شهادتهم في مجلس القاضي لم يكن قذفا والا فحينئذ يكون قذفا (قال) وإذا شهدوا
عليهما بالزنا فقال اثنان طاوعته وقال آخران استكرهها درئ الحد عنهما في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحد الرجل وحده لهما ان الحجة
في جانب الرجل تمت موجبة للحد فإنما الاختلاف بينهم في حالها وذلك لا يغير حكم الفعل
في جانبه فان الكل لو اتفقوا انها كانت طائعة أو مكرهة يجب الحد على الرجل وهذا لان
الزنا فعلان من الرجل والمرأة وإنما يقام الحد على كل واحد منهما بفعله وقد اتفقوا على وجود
الفعل الموجب للحد على الرجل ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان أحدهما ان كل اثنين شهدا
بفعل آخر فما لم يتق الأربعة على الفعل الواحد لا يثبت الزنا كما لو اختلفوا في المكان
والزمان وبيانه ان شاهدي الطواعية شهدا بفعل مشترك بينهما فإنها إذا كانت طائعة كانت
شريكة له في الفعل حتى تشاركه في اثم الفعل وشاهدا الاكراه شهدا بفعل تفرد به الرجل
لأنه لا شركة للمرأة في الفعل إذا كانت مكرهة حتى لا تشاركه في اثم الفعل والفعل المشترك
غير الفعل الذي تفرد به الرجل وقولنا ان الزنا فعلان يعني من حيث الحكم فأما في الحقيقة
67

الفعل واحد ولهذا لو تمكنت الشبهة من أحد الجانبين يصير ذلك شبهة في اسقاط الحد
عن الآخر والطريق الثاني ما ذكره الطحاوي ان الذين شهدوا انها طاوعته صاروا قاذفين لها
ملتزمين حد القذف لولا شهادة الآخرين انه زنى بها وهي مكرهة فكانا خصمين ولا شهادة
للخصم وإنما لا يقام حد القذف عليهما بشهادة آخرين بمنزلة من قذف امرأة ثم أقام شاهدين
انها زنت وهي مكرهة سقط الحد عن القاذف ولان اعتبار عدد الأربعة في الشهادة على
الزنا الموجب للحد وهذه شهادة على سقوط احصانها لان زنا المكرهة لا يوجب حد الزنا
عليها بحال وسقوط الاحصان يثبت بشهادة شاهدين وبيان هذا الطريق فيما ذكره محمد في
الكيسانيات قال لو شهد ثلاثة انها طاوعته وواحد انها مكرهة فعند أبي حنيفة رحمه الله
لا يقام الحد على الشهود وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقام على الثلاثة حد القذف
بخصومتها لأنهم صاروا قاذفين لها والشاهد على سقوط احصانها واحد وبشهادة واحد لا يثبت
الاحصان وهذا لان المكرهة لا فعل لها فتكون هذه الشهادة في حقها بمنزلة ما لو امتنع
الرابع من أداء الشهادة (قال) ولو شهد ثلاثة أنه استكرهها وواحد انها طاوعته فليس
على هذا الواحد حد القذف لها بشهادة الباقي بسقوط احصانها هذا كله بناء على ظاهر
المذهب أن المكرهة على الزنا يسقط إحصانها وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه لا يسقط احصانها بفعلها ووجه ظاهر الرواية أنها ممكنة من وطئ حرام فان الاكراه
لا يعدم لها الفعل خصوصا فيما لا يصلح أن تكون المكرهة آلة للمكره ولأنها مضطرة إلى
ذلك وذلك لا يمنع سقوط احصانها (قال) وان شهد أربعة على رجل انه زنى بهذه المرأة
في موضع كذا في وقت كذا وشهد أربعة أنه زنى بهذه المرأة الأخرى في ذلك الوقت
بعينه في مكان آخر والبينتان بينهما بعد لم يحد واحد منهم لان القاضي تيقن بكذب أحد
الفريقين والشخصان في وقت واحد لا يتصور أن يكونا في مكانين مختلفين ولا يعرف
الصادق من الكاذب فيمتنع القضاء للتعارض أو لتمكن تهمة الكذب في شهادة كل فريق
أو لعدم ظهور رجحان جانب الصدق وان شهد كل فريق منهم على وقت غير الوقت
الآخر جازت الشهادة وحد الرجل والمرأتان لأنه ثبت على الرجل فعلان وعلى كل امرأة
فعل موجب للحد بحجة كاملة فيقيم القاضي الحد عليهم إذ الزنا بعد الزنا يتحقق في وقتين
ومكانين مختلفين بامرأة وامرأتين (قال) وان شهد أربعة أنه زني يوم النحر بمكة بفلانة
68

وشهد أربعة أنه قتل يوم النحر بالكوفة فلانا لم تقبل واحدة من الشهادتين لتيقن القاضي
بكذب أحد الفريقين ولا حد على شهود الزنا لتكامل عددهم وعلى هذا سائر الأحكام
من العتاق والطلاق ولا يقال لا تنكر كرامة الأولياء فيجوز أن يكون في يوم واحد بمكة
والكوفة لان مثل ذلك الولي لا يزني ولا يجحد ما فعله ولأنا أمرنا ببناء الاحكام على ما هو
الظاهر المعروف فان حضر أحد الفريقين وشهدوا فحكم الحاكم بشهادتهم ثم شهد الآخرون
فشهادة الآخرين باطلة لان رجحان جانب الصدق ثبت في شهادة الأولين حين اتصل
الحكم بها فيبقى الكذب في شهادة الفريق الثاني ولا يقام الحد على شهود الزنا وان كانوا
هم الفريق الثاني لتكامل عددهم (قال) وإذا ثبت حد الزنا على رجل بشهادة الشهود وهو
محصن أو غير محصن فلما أقيم عليه بعضه هرب فطلبه الشرط فأخذوه في فوره أقيم عليه
بقية الحد لان الهروب غير مسقط عنه ما لزمه من الحد وأصله ان حد الزنا لا يقام بحجة
البينة بعد تقادم العهد عندنا وكذلك كل حد هو محض حق الله تعالى وعند الشافعي رحمه الله
تعالى يقام واعتبره بسائر الحقوق من حيث إن تقادم العهد غير مسقط عنه ما لزمه فاعتبر البينة
بالاقرار فان هذه الحدود تقام بالاقرار بعد تقادم العهد فكذلك بالبينة لأنها احدى الحجتين
(وحجتنا) في ذلك حديث عمر رضي الله عنه حيث قال أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا
عند حضرته فإنما هم شهود ضغن قال الحسن رحمه الله تعالى في حديثه لا شهادة لهم والمعني ان
الشاهد على هذه الأسباب مخير في الابتداء بين ان يستر عليه أو يشهد فلما أخر الشهادة
عرفنا أنه مال إلى الستر ثم حملته العداوة علي أن يترك الستر ويشهد عليه فلا تكون هذه
شهادة بطريق الحسبة فلهذا لا تقبل بخلاف حد القذف فان الشهادة عليه لا تقبل الا بخصومة
المقذوف وطلبه الحد فإنما أخروا أداء الشهادة لعدم الخصومة من المقذوف ولان فيه بعض حق
العباد وهو دفع العار عن المقذوف فمتى أقام الحجة عليه وجب الحكم به لدفع الضرر عنه ولا
يدخل على هذا الكلام السرقة فان الشهادة عليها لا تقبل قبل الخصومة ولكن خصومة المسروق
منه هناك في المال لا في الحد وبعد تقادم العهد الشهادة مقبولة فيما فيه الخصومة له ولان الحد
هناك محض حق الله تعالى ولهذا صح الرجوع فيه عن الاقرار بخلاف حد القذف وحد
الله تعالى أقرب إلى الدرء لأنه يتعالى عن أن يلحقه خسران أو ضرر وهذا بخلاف الاقرار
فان معنى الضغينة لا يتحقق في الاقرار بعد التقادم إذ الانسان لا يعادي نفسه على وجه يحمله
69

ذلك على الاقرار ولم يبين في الكتاب حد التقادم وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله
تعالى أنه قال جهدت بابي حنيفة رحمه الله تعالى كل الجهد فأبى ان يؤقت في التقادم وقتا وهذا
لان ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في البعد من القاضي والقرب وباختلاف عادة
القاضي في الجلوس والتوقيت لا يكون بالرأي بل بالنص فلما لم يجد فيه نصا أبي ان يوقته
بشئ وجعله موكولا إلى رأى القاضي وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى انهم إذا شهدوا بعد سنة لا تقبل وأشار الطحاوي رحمه الله تعالى إلى ستة أشهر وهو
الحين والأصح ما نقل عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى انهما قدرا ذلك بشهر فقالا
ما دون الشهر قريب عاجل والشهر وما فوقه آجل كما بينا في الايمان فإذا شهدوا به بعد شهر
لا تقبل ولكن هذا إذا لم يكن بينهم وبين القاضي مسيرة شهر فإن كان ذلك وعلم أنه تأخر
الأداء لبعدهم من مجلسه لا يكون ذلك فدحا في شهادتهم ولا يمتنع إقامة الحد به لحديث المغيرة
رضي الله عنه فإنه كان واليا بالبصرة حين جاء الشهود إلى المدينة فشهدوا عليه بالزنا فكتب
إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سلم عملك إلى أبي موسى والحق بي ثم لما حضر قبل
الشهادة عليه حتى قال بعد شهادة الواحد أوه أودى ربع المغيرة فعرفنا ان التقادم إذا كان لعذر
ظاهر لا يكون قدحا بالشهادة إذا عرفنا هذا قلنا في مسألة الكتاب وهو ما إذا هرب فوجد
بعد أيام في القياس انه لا يمتنع إقامة بقية الحد عليه لأنه إنما تأخر لعذر وهو هربه فلا يكون
ذلك قدحا في الشهادة ولكنه استحسن فقال العارض في هذه الحدود بعد الشهادة قبل
الاتمام كالمقترن بالشهادة بدليل عمي الشهود وردتهم وهذا لان التفريط هنا كان من أعوان
الامام حتى تمكن من الهرب منهم فالظاهر أنهم مالوا إلى اكتساب سبب درء الحد عنه ثم
حملتهم العداوة على الجد في طلبه فكان هذا والضغينة في الشهود سواء (قال) ولا تسقط
شهادة القاذف ما لم يضرب تمام الحد إذا كان عدلا لان القذف خبر متردد بين الصدق والكذب فلا يكون مسقطا للشهادة وإنما المسقط للشهادة إقامة الحد عليه لان الحكم بكذبه
يتحقق والحد لا يتجزى فما دونه يكون تعزيرا لا حدا والتعزير غير مسقط للشهادة ففي هذه المسألة
عن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث روايات إحديها ما بينا وهو قولهما والثانية إذا أقيم عليه أكثر
الحد سقطت شهادته إقامة للأكثر مقام الكل والثالثة إذا ضرب سوطا واحدا تسقط
شهادته لان من ضرورة إقامة ذلك القدر من الحد الحكم بكذبه وكذلك هذه الروايات
70

الثلاثة في النصراني إذا أقيم عليه بعض الحد ثم أسلم على ما ذكر في الجامع الصغير (قال)
وإذا أقيم على القاذف تسعة وسبعون سوطا ثم قذف آخر لم يضرب الا ذلك السوط الواحد
لان مبني الحدود على التداخل والمغلب عندنا في حد القذف حق الله تعالى ولهذا لو قذف
جماعة لا يقام عليه الا حد واحد عندنا على ما نبينه وقد اجتمع الحدان هنا لان كمال الحد الأول
بالسوط الذي بقي فلهذا يدخل أحدهما في الآخر ولا يقام الا ذلك السوط توضيحه ان
المقصود إظهار كذبه ليندفع به العار عن المقذوف وذلك يحصل في حقهما بإقامة السوط لأنه؟
يصير محكوما بكذبه وتسقط شهادته (قال) وضرب التعزير أشد من ضرب الزنا وضرب
الزاني أشد من ضرب شارب الخمر وحد القذف أخف من جميع ذلك أما ضرب التعزير
أشد لان المقصود به الزجر وقد دخله التخفيف من حيث نقصان العدد فلو قلنا بتخفيف
الضرب أيضا فات ما هو المقصود لان الألم ما لم يخلص إليه لا ينزجر ولهذا قلنا يجرد في التعزير
عن ثيابه ويعذر في إزار واحد واختلفوا في مقدار التعزير ففي ظاهر المذهب لا يبلغ
التعزير أربعين سوطا وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يجوز أن يبلغ التعزير
خمسة وسبعين سوطا وهو قول ابن أبي ليلي رحمه الله تعالى والأصل فيه قوله صلى الله عليه
وسلم من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين قال أبو يوسف رحمه الله تعالى المراد الحد
الكامل وهو حد الأحرار وأدناه ثمانون جلدة فينقص التعزير من ذلك خمسة أسواط وقيل
كان ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يضرب بالخمسين مرة واحدة فنقص ضربة واحدة في
التعزير وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قال لا يزاد على تسعة وثلاثين سوطا لان الأربعين
في حق العبد في القذف والشرب حد فنقص التعزير عنه بضربة واحدة وهذا بيان أقصى
التعزيز فأما فيما دون ذلك الرأي إلى الامام يعزره بقدر ما يعلم أنه ينزجر به لان ذلك يختلف
باختلاف أحوال الناس وباختلاف جرائمهم وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى
قال أقرب كل شئ من بابه فالتعزير في اللمس والقبلة بشهوة أقربه من الزنا والتعزير في
الشبهة بغير الزنا أقربه من الشبهة بالزنا فاعتبر كل فرع بأصله فيما أقيم من التعزير ثم الضرب
في الزنا أشد من الضرب في الشرب لان حد الزنا يتلى في القرآن وقد سيماه؟؟ الله تعالى
عذابا بقوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقال تعالى لا تأخذكم بهما رأفة في
دين الله وحد الشرب لا يتلى في القرآن ولان المقصود هو الزجر ودعاء الطبع إلى الزنا عند
71

غلبة الشبق أكثر منه إلى الشرب ثم حد الشرب أشد من حد القذف لان جريمة الشارب متيقن
بها بخلاف جريمة القاذف فالقذف خبر متمثل بين الصدق والكذب وقد يعجز عن إقامة أربعة
من الشهداء مع صدقه فلهذا كان حد القذف أخف من حد الشرب حتى يضرب حد القذف
وعليه ثيابه إلا أنه ينزع عنه الحشو والفر وليخلص الألم إلى بدنه وسائر الحدود تقام على الرجل
في إزار إلا أنه روى ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى انه يقام عليه حد الشرب وعليه ثيابه
أيضا لان حد الشرب حد القذف كما قال علي رضي الله عنه إذا شرب هذي وإذا هذى افترى
وحد المفترين في كتاب الله تعالى ثمانون جلدة ولان حد الشرب كان بالجريد والنعال في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن أنفقت الصحابة على الجلد في عهد عمر رضي الله
عنه ولهذا قال علي رضي الله عنه ما من أحد أقيم عليه حد فيموت فأحب أن أديه الا حد
الشرب فإنه بآرائنا ولضعفه قال لا يجرد عن ثيابه ولكن في ظاهر الرواية لتحقق جريمته
يجرد كان في حد الزنا (قال) ولا يمد في شئ من الحدود والتعزير قيل مراده المد بين
العقابين وقيل مراده أن الجلاد لا يفصل عضده عن إبطه ولا يمد يده فوق رأسه وقيل
مراده أنه بعدما أوقع السوط على بدن المجلود لا يمده لأنه زيادة مبالغة لم يستحق عليه ذلك
لأنه ربما يؤدى إلى التلف والتحرز عن ذلك واجب شرعا في موضع لا يستحق الاتلاف
شرعا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحسم السارق بعد القطع للتحرز عن الاتلاف
ويعطى كل عضو حظه من الضرب لأنه قد نال اللذة في كل عضو ولان جميع الجلدات
في عضو واحد ربما يؤدى إلى الاتلاف والاتلاف غير مستحق فيفرق على الأعضاء كيلا
يؤدى إلى الاتلاف غير أنه لا يضرب الوجه والفرج أما الفرج فلا يحتمل الضرب والضرب
على الفرج متلف وأما الوجه فلان النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم برجم الغامدية أخذ
حصاة كالحمصة ورماها بها ثم قال للناس ارموها واتقوا الوجه فلما منع من ضرب الوجه في
موضع كل الاتلاف؟ مستحقا ففي موضع لم يستحق الاتلاف أولى ولان الوجه موضع
الحواس ففي الضرب عليه اذهاب بعض الحواس عنه وهو استهلاك حكما وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى لا يضرب الصدر والبطن أيضا لان الضرب عليهما متلف (قال) ولا
يضرب الرأس في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبى يوسف
رحمه الله تعالى الأول ثم رجع وقال يضرب الرأس أيضا ضربة واحدة وهو قول ابن أبي ليلى
72

لحديث أبي بكر رضي الله عنه فإنه قال اضربوا الرأس فان الشيطان في الرأس (وحجتنا)
في ذلك حديث عمر رضي الله عنه فإنه قال للجلاد إياك أن تضرب الرأس والفرج ولان
الرأس موضع الحواس ففي الضرب عليه تفويت بعض الحواس (قال) ولا تجرد المرأة
لإقامة الحد والتعزير عليها لأنها عورة مستورة وكشف العورة حرام إلا أنه ينزع عنها الحشو
والفرو ليخلص الألم إلى بدنها ولان ستر العورة يحصل بالملبوس عادة فلا حاجة إلى ابقاء
الحشو الفرو عليها (قال) وتضرب وهي قاعدة كأستر ما يكون ويضرب الرجل قائما وكان
ابن أبي ليلى رحمه الله يضرب المرأة الحد وهي قائمة كالرجل ولكنا نأخذ يقول عمر رضي الله عنه
حيث قال يضرب الرجل قائما والمرأة قاعدة ولان مبنى حال الرجل على الانكشاف والظهور
ومبنى حالهما؟ على الستر (قال) فإن كان حدها الرجم فان حفر لها فحسن وان ترك لم يضر وقد
بيناه (قال) وان كانت حبلى حبست حتى تلد لحديث الغامدية فإنها لها أقرت ان بها حبلا
من الزنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبي حتى تضعي حملك ولحديث معاذ رضي الله عنه
حين هم يرجم المغنية ان يكن لك عليها سبيل فلا لك على ما في بطنها وهو المعني
لان ما في بطنها نفس محترمة فان المخلوق من ماء الزنا له من الحرمة والعهد ما لغيره ولم يوجد
منه جناية ولو رجمت كان فيه اتلاف الولد ولو تركت هربت وليس للامام أن يضيع الحد
بعد ما ثبت عنده ببينة فيحبسها حتى تلد ثم إن كان حدها الرجم رجمها لان اتلافها مستحق وإنما
تؤخر لحق الولد وقد انفصل الولد عنها وإن كان حدها الجلد تؤخر إلى أن تتعافى من نفاسها لان النفساء في حكم المريضة والحدود فيما دون النفس لا تقام في حالة المرض ولأنه إذا انضم ألم الجلد إلى ألم الولادة ربما يؤدى إلى الاتلاف وهو غير مستحق في هذه الحالة فتؤخر إلى
أن تتعافى من نفاسها (قال) وان شهدوا عليها بالزنا فادعت أنها حبلت فمجرد قولها لا يكون
حجة فيما يؤخر الحد عنها كما لا يكون حجة في المسقط ولكن القاضي يريها النساء لان هذا
شئ يطلع عليه النساء وما بشكل على القاضي فإنما يرجع فيه إلى من له بصر في هذا الباب
كما في قيم المتلفات والأصل فيه قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فان قلن
هي حبلى حبسها إلى سنتين فإن لم تلد رجمها للتيقن بكذبهن فان الولد لا يبقي أكثر من
سنتين وان ادعت أنها عذر له أو رتقاء فنظر إليها النساء فقلن هي كذلك درئ الحد عنها
73

لان شهادتهن حجة فيما لا يطلع عليه الرجال ولكن لا يقام الحد على الشهود بقول النساء
وكذلك المجبوب إذا علم أنه مجبوب درئ الحد ولم يحد الشهود لان المجبوب لا يزني ولا
حد على قاذفه وهذا لان المقصود من إقامة الحد إظهار كذب القاذف ليندفع به العار عن
المقذوف وكذبه ظاهر هنا وإنما يلحق العار القاذف هنا دون عفة المقذوف وعند الشافعي
رحمه الله تعالى قذف المجبوب كقذف غيره يوجب الجلد على القاذف بناء على أصله أن
نفس القذف جريمة وفيما يرجع القاضي فيه إلى قول النساء يكتفي بقول امرأة واحدة
والمثنى أحوط وقد بينا هذا في الطلاق (قال) وإذا قال المسلم الزاني أنا عبد فشهد نصرانيان
أن مولاه أعتقه منذ سنة وهو نصراني عتق بشهادتهما ولكن يقام عليه حد العبيد لان
شهادة النصراني لا تكون حجة على المسلم فيجعل فيما يقام عليه وجود هذه الشهادة كعدمها
بخلاف ما إذا شهد على ذلك رجل وامرأتان فان هذه الشهادة حجة على المسلم فيكون
معتبرا في إقامة الحد الكامل عليه وهذا الفرق الذي قررناه في مسألة الاحصان (قال)
وان شهد أربعة نصارى على نصراني بالزنا فقضى عليه بالحد ثم أسلم قال أدرأ عنه الحد لان
القاضي لا يتمكن من إقامة الحد الا بحجة وشهادة النصراني ليست بحجة على المسلم وقد
بينا أن العارض من قبل إقامة الحد كالمقترن بالسبب وكذلك لو كان أقيم عليه بعضه وأسلم
لا يقام عليه ما بقي وكذلك الشهادة على السرقة والقطع والقتل وهذا استحسان في الحدود
والقصاص وأما في القياس فقد تم القضاء بما هو حجة ولا تأثير للاسلام بعد ذلك في اسقاط
ما لزمه من الحق عنه كالمال إذا قضى عليه بشهادة النصراني فأسلم يستوفى منه وفى
الاستحسان قال العقوبات تندرئ بالشبهات فيجعل المعترض قبل الاستيفاء شبهة مانعة
كالمقترن بأصل السبب بخلاف الأموال فإنها تثبت بالشبهات ثم المقصود في العقوبات
الاستيفاء ولهذا لو رجع الشهود قبل الاستيفاء امتنع الاستيفاء بخلاف المال وقد بينا أن
في الحدود التي هي حق الله تعالى تمام القضاء بالاستيفاء فما يعترض قبل الاستيفاء من اسلام
المقضى عليه يجعل كالموجود قبل القضاء ثم ذكر مسألة الشهادات أن شهادة الكفار بعضهم
على بعض جائزة وان اختلفت مللهم الأعلى ابن أبي ليلى قال لا نجيز شهادة أهل ملة
على أهل ملة أخرى (قال) ولا تجوز شهادة الكافر المحدود في القذف فان أسلم ثم شهد
جازت شهادته لأنه بالاسلام استفاد عدالة لم تكن موجودة قبل إقامة الحد وهذه العدالة لم
74

تصر مجروحة بخلاف العبد يقام عليه حد القذف ثم يعتق لأنه بالعتق لم يستفد عدالة لم تكن
موجودة وقت إقامة الحد فان العبد عدل في دينه وتمام بيان هذه الفصول في الشهادات (قال)
أربعة شهدوا على رجل بالزنا ثم أقروا عند القاضي أنهم شهدوا بالباطل فعليهم الحد لأنهم
أكذبوا أنفسهم بالرجوع عن الشهادة فإن لم يحدهم القاضي حتى شهد أربعة أخر غيرهم على
ذلك الرجل بالزنا جازت شهادتهم لظهور عدالتهم وأقيم الحد على المشهود عليه بشهادتهم لان
شهادة الفريق الأول ورجوعهم في حق الفريق الثاني كالمعدوم ويدرأ عن الفريق الأول حد
القذف لأنه تبين بشهادة الفريق الثاني ان المشهود عليه زان وانهم صادقون في قذفه بالزنا ولأنه
تبين انه غير محصن وقذف غير المحصن لا يوجب الحدو أكثر ما في الباب ان الفريق الأول
لم يعاينوا الزنا منه فحالهم كحال سائر الأجانب في قذفه والقاذف إنما يستوجب الحد إذا لم يكن
هناك أربعة يشهدون على المقذوف بالزنا (قال) وإذا ثبت الزنا والسرقة على الكافر بشهادة
المسلمين ثم أسلم أقيم عليه الحد لأنه لو كان مسلما عند أداء الشهادة كانت هذه الشهادة حجة
عليه فكذلك إذا اعترض اسلامه إلا أن يكون العهد قد تقادم فحينئذ يدرأ عند للشبهة كما
لو كان مسلما حين شهدوا عليه (قال) رجل زني بامرأة مستكرهة فأفضاها فعليه الحد
للزنا فإن كانت تستمسك البول فعليه ثلث الدية وان كانت لا تستمسك البول فعليه كمال الدية
لأنه أفسد عليها عضوا لا ثاني له في البدن وهو ما يستمسك به البول وفى ذلك كمال الدية
وما يجب بالجناية ليس بدل المستوفى بالوطئ حتى يقال لا يجمع بينه وبين الحد بل هو بدل
المتلف بالجناية وذلك غير المستوفى بالوطئ فالمستوفى بالوطئ ما يملك بالنكاح والافضاء لا يكون
مستحقا بالنكاح وان طاوعته فعليها الحد وليس عليه ضمان الجناية لوجود الرضي منها فان
اذنها؟ فيما دون النفس معتبر في اسقاط الأرش وكذلك أن كانت صبية يجامع مثلها إلا أن
رضاها هناك لا يعتبر في اسقاط الأرش لأنها ليست من أهل اسقاط حقها (قال) وان
زنى بصبية لا يجامع مثلها فأفضاها فلا حد عليه لان وجوب حد الزنا يعتمد كمال الفعل وكمال
الفعل لا يتحقق بدون كمال المحل فقد تبين ان المحل لم يكن محلا لهذا الفعل حين أفضاها
بخلاف ما إذا زنى بها ولم يفضها لأنه تبين انها كانت محلا لذلك الفعل حين احتملت الجماع
ولان الحد مشروع للزجر وإنما يشرع الزجر فيما يميل الطبع إليه وطبع العقلاء لا يميل إلى وطئ
الصغيرة التي لا تشتهي ولا تحتمل الجماع فلهذا لا حد عليه ولكنه يعزر لارتكابه مالا يحل
75

له شرعا ثم إن كانت تستمسك البول فعليه ثلث الدية والمهر اما ثلث الدية لجرح الجائفة والمهر
للوطئ فان الوطئ في ملك الغير لا ينفك عن عقوبة أو غرامة وقد سقطت العقوبة لشبهة
النقصان في الفعل فيجب المهر لأنه يثبت مع الشبهة والوطئ ليس إلا إيلاج الفرج في الفرج
وقد وجد ذلك منه ألا ترى أنه يجب المهر تارة بالعقد وتارة بالوطئ ثم العقد على الصغيرة
يوجب المهر فكذلك وطئها ان كانت لا تستمسك البول فعليه كمال الدية لافساد العضو
الذي كان استمساك البول به فإنه لا ثاني له في البدن ولا مهر عليه في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وفى قول محمد رحمه الله تعالى عليه مهر لوجود حقيقة الوطئ
منه فكما لا يدخل المهر في بعض الدية فكذا لا يدخل في جميع الدية لان وجوب الدية
بالجناية على العاقلة مؤجلا والمهر في مال الجاني حالا فكيف يدخل أحدهما في الآخر وهما
يقولان الفعل واحد فإذا وجب به كمال بدل النفس يدخل فيه ما دونه كما لو شج رجلا فذهب
عقله أو سقط جميع شعره حتى وجب عليه كمال الدية دخل فيه أرش الموضحة وهذا لان
المستوفى بالوطئ في حكم العتق وكذلك المتلف بالجناية وعند اتحاد المستوفى لا يجب أكثر
من بدل النفس بخلاف ما إذا كان البول يستمسك فان الواجب هناك بعض بدل النفس
فيجوز ان يجب المهر معه وهو نظير ما لو فقأ احدى عيني أمة انسان يضمن نصف
قيمتها ولا يملك شيئا من الجثة بخلاف ما إذا فقأ العينين وضمن كمال الدية فإنه يملك الجثة
(قال) وإذا جامع صبية فأفضاها ومثلها لا يجامع لم تحرم عليه أمها وابنتها في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وفى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يحرم استحسانا لوجود حقيقة
الوطئ بوجود إيلاج الفرج في الفرج والوطئ علة لايجاب حرمة المصاهرة والدليل على أن
الوطئ جعل حكما أنه يتعلق به الاغتسال بنفس الايلاج من غير أنزال ويجب به المهر وباب
الحل والحرمة مبنى على الاحتياط فللاحتياط استحسن أبو يوسف رحمه الله تعالى وجه قولهما
أن ثبوت حرمة المصاهرة بالوطئ ليس لعينه بل لأنه حرث للولد ولهذا لا يثبت بوطئ الميتة
وبالوطئ في الدبر وهذا الفعل ليس بحرث للولد لان الحرث لا يتحقق الا بمحل منبت بخلاف
الاغتسال فان وجوبه باستطلاق وكاء المنى وذلك يتم بمعنى الحرارة واللين في المحل وبخلاف
ما إذا كانت صغيرة يشتهى مثلها لان كون المحل منبتا حقيقة لا يمكن الوقوف عليه فيقام
السبب الظاهر وهو كونها مشتهاة مقامه ألا ترى أن هذا الفعل حلال شرعا لمعنى الحرث
76

ثم يحل وطئ الصغيرة التي تشتهى بالنكاح ولا يحل وطئ الصغيرة التي لا تشتهي ومن قذف
هذا الذي جامع هذه الصبية لا حد عليه لارتكابه وطئا حراما فان الوطئ الحرام في غير
الملك مسقط للاحصان والصورة في ايراث الشبهة بمنزلة الحقيقة في درء ما يندرئ بالشبهات
(قال) رجل زنى بامرأة فكسر فخذها فعليه الحد والأرش في ماله لأنه بمنزلة العمد ولا تعقل
العاقلة العمد وهو الجواب عن قول محمد رحمه الله في مسألة الافضاء بأن الواجب من الدية
في ماله هنا لان الفعل عمد فيستقيم ادخال المهر فيه (قال) وإذا قال الشهود تعمدنا النظر
إلى الزانيين لم تبطل شهادتهم به لأنهم قصدوا بهذا النظر صحة تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة
فإنه لا يحل لهم أداء الشهادة ما لم يروا كالمرود في المكحلة والنظر إلى العورة عند الحاجة
لا يوجب الفسق وان تعمد ذلك ألا ترى ان القابلة تنظر والختان والحافظة كذلك وكذلك
لو قالوا رأينا ذلك ولم نتعمد النظر (قال) وإذا ادعت المزني بها انها صارت مفضاة لم يقبل
قولها في ذلك ما لم يشهد الشهود على الافضاء وما لم يفسروا انهم؟ رأوا ذلك لأنها تدعى
الجناية الموجبة للأرش وذلك لا يثبت الا بشهادة الشهود (قال) ومن أتى امرأة أجنبية في
دبرها فعليه الحد في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى والتعزير في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وكذلك اللواط عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يوجب التعزير عليهما وعندهما
يحدان حد الزنا يرجمان ان كانا محصنين ويجلدان ان كانا غير محصنين وهو أحد قولي
الشافعي رحمه الله وفى قول آخر قال يقتلان على كل حال لما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به وفى رواية ارجموا الأعلى والأسفل وتأويل ذلك
عندنا في حق من استحل ذلك الفعل فإنه يصير مرتدا فيقتل لذلك وهو تأويل الحديث
الذي روى من أتى امرأته الحائض أو أتى امرأته في غير مأتاها فقد كفر بما أنزل على محمد
يعنى إذا استحل ذلك (وحجتهما) ان هذا الفعل زنا فيتعلق به حد الزنا بالنص فأما من حيث
الاسم فلان الزنا فاحشة وهذا الفعل فاحشة بالنص قال الله تعالى أتأتون الفاحشة ومن
حيث المعني ان الزنا فعل معنوي له غرض وهو إيلاج الفرج في الفرج على وجه محظور
لا شبهة فيه لقصد سفح الماء وقد وجد ذلك كله فان القبل والدبر كل واحد منهما فرج
يجب ستره شرعا وكل واحد منهما مشتهى طبعا حتى أن من لا يعرف الشرع لا يفصل بينهما
والمحل إنما يصير مشتهي طبعا لمعنى الحرارة واللين وذلك لا يختلف بالقبل والدبر ولهذا وجب
77

الاغتسال بنفس الايلاج في الموضعين ولا شبهة في تمحض الحرمة هنا لان المحل باعتبار
الملك ويتصور هذا الفعل مملوكا في القبل ولا يتصور في الدبر فكان تمحض الحرمة هنا أبين
ومعنى سفح الماء هنا أبلغ منه في القبل لان هناك المحل منبت فيتوهم أن يكون الفعل حرثا
وإن لم يقصد الزاني ذلك ولا توهم هنا فكان تضييع الماء هنا أبين وليس هذا الكلام على
سبيل القياس فالحد بالقياس لا يثبت ولكن هذا ايجاب الحد بالنص وما كان اختلاف اسم
المحل الا كاختلاف اسم الفاعل فان النص ورد بالحد في حق ماعز رضي الله عنه فايجاب الحد على
الغير بذلك الفعل لا يكون قياسا فكذلك هنا ورد النص بايجاب الحد على من باشر هذا
الفعل في محل هو قبل فايجابه على المباشر في محل هو دبر بعد ثبوت المساواة في جميع المعاني
لا يكون قياسا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا الفعل ليس بزنا لغة ألا ترى أنه
ينفي عنه هذا الاسم باثبات غيره فيقال لاط وما زني وكذلك أهل اللغة فصلوا بينهما
قال القائل
من كف ذات حرفي زي ذي ذكر * لها محبان لوطئ وزناء
فقد غاير بينهما في الاسم ولا بد من اعتبار اسم الفعل الموجب للحد ولهذا لا يجب القطع على
المختلس والمنتهب والذي ورد في الحديث إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان مجاز لا تثبت
حقيقة اللغة به والمراد في حق الاثم ألا ترى أنه قال وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان والمراد
في حق الاثم دون الحد كما أن الله تعالى سمى هذا الفعل فاحشة فقد سمى كل كبيرة فاحشة
فقال ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم هذا الفعل دون الفعل في القبل في المعني
الذي لأجله وجب حد الزنا من وجهين أحدهما أن الحد مشروع زجرا وطبع كل واحد
من الفاعلين يدعو إلى الفعل في القبل وإذا آل الامر إلى الدبر كان المفعول به ممتنعا من
ذلك بطبعه فيتمكن النقصان في دعاء الطبع إليه والثاني أن حد الزنا مشروع صيانة للفراش
فان الفعل في القبل مفسد للفراش ويتخلق الولد من ذلك الماء لا والد له ليؤدبه فيصير ذلك
جرما يفسد بسببه عالم واليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله وولد الزنا شر الثلاثة وإذا آل الامر
إلى الدبر ينعدم معني فساد الفراش ولا يجوز أن يجبر هذا النقصان بزيادة الحرمة من الوجه
الذي قالا لان ذلك يكون مقايسة ولا مدخل لها في الحدود ثم اختلف الصحابة رضي الله عنه
م في هذه المسألة فالمروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انهما يحرقان بالنار وبه
78

أمر في السبعة الذين وجدوا على اللواطة وكان علي رضي الله عنه يقول يجلدان ان كانا غير
محصنين ويرجمان ان كانا محصنين وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول يعلى أعلى الأماكن
من القرية ثم يلقى منكوسا فيتبع بالحجارة وهو قوله تعالى فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم
حجارة الآية وكان ابن الزبير رضي الله عنه يقول يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا نتنا
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى اتفقت الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسلم لهما أنفسهما
وإنما اختلفوا في كيفية تغليظ عقوبتهما فأخذنا بقولهم فيما اتفقوا عليه ورجحنا قول علي رضي الله عنه
بما يوجب عليهما من الحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول الصحابة اتفقوا على أن هذا الفعل
ليس بزنا لأنهم عرفوا نص الزنا ومع هذا اختلفوا في موجب هذا الفعل ولا يظن بهم الاجتهاد
في موضع النص فكان هذا اتفاقا منهم أن هذا الفعل غير الزنا ولا يمكن ايجاب حد الزنا
بغير الزنا بقيت هذه جريمة لا عقوبة لها في الشرع مقدرة فيجب التعزير فيه يقينا وما
وراء ذلك من السياسة موكول إلى رأى الامام ان رأى شيئا من ذلك في حق فله أن
يفعله شرعا (قال) والناس أحرار في كل شئ الا في أربعة في الشهادة والعقل والحدود
والقصاص يعني بالشهادة أن المشهود عليه إذا طعن في الشاهد أنه عبد فما لم يقم البينة على
حريته لا يقضى بشهادته وبالعقل ان عاقلة القاتل خطأ إذا زعموا أنه عبد فما لم تقم البينة على
حريته لا يعقلون جنايته وبالحدود إذا ادعى الزاني أنه عبد فما لم تقم البينة على حريته لا يقيم
عليه حد الأحرار وبالقصاص إذا قطع يد حر أو عبد وزعم أنه عبد لا قصاص عليه
فما لم تقم البينة علي حريته لا يقتضي عليه بالقصاص وهذا لان ثبوت الحرية لمجهول الحال
باعتبار الظاهر وهو أن الدار دار الاسلام فالظاهر من حال كل من هو فيه الحرية أو باعتبار
استصحاب الحال من حيث أن الناس أولاد آدم وحواء عليهما السلام وهما كانا حرين
وهذا يصلح حجة لدفع الاستحقاق لا لاثبات الاستحقاق وشهادة الشاهد تثبت الاستحقاق
وكذلك العاقلة تثبت استحقاق الدية عليهم وكذلك الحد والقصاص فالظاهر لهذا لا يكون
حجة حتى تقوم البينة عليه وهو نظير اليد فإنها حجة لدفع الاستحقاق لا لاثباته حتى أنه
باعتبار اليد في الجارية لا يستحق أولادها على الغير بخلاف ما إذا ثبت الملك فيها بالبينة فان
قامت البينة في هذه الفصول على أنه كان ملكا لفلان أعتقه وقضى القاضي بذلك ثم حضر المولى
الغائب فأنكر ذلك فلا حاجة إلى إعادة البينة عليه لأن هذه بينة قامت على خصم وهو المنكر
79

لحريته فإنه خصم عن الغائب لاتصال حقه بحق الغائب فالقضاء به عليه يكون قضاء على
الغائب (قال) وإذا قضى القاضي بحد أو قصاص أو مال وأمضاه ثم قال قضيت بالجور
وانا أعلم ذلك ضمنه في ماله وعزر وعزل عن القضاء لأنه فيما جار فيه ليس بقضاء بل هو
اتلاف بغير حق إنما قضاؤه على موافقة أمر الشرع والشرع لا يأمر بالجور وهو فيما يتلف
بغير حق كغيره في ايجاب الضمان عليه في ماله ويعزر لارتكابه مالا يحل له قصدا ويعزل عن
القضاء لظهور خيانته فيما جعل أمينا فيه وفى هذا اللفظ دليل أن الصحيح من مذهب علمائنا
أن القاضي لا ينعزل بالجور ولكن يستحق عزله لان الفسق عندنا لا يمنع صحة تقليده ابتداء
فلا يمنع البقاء بطريق الأولى بخلاف ما تقوله المعتزلة انه ينعزل بالجور وان تقليد الفاسق
ابتداء لا يصح بناء على أصلهم ان بالفسق يخرج من الايمان لان اسم الفسق اسم ذم واسم
الايمان اسم مدح فلا يجتمعان وهي معروفة من مذهبهم في القول بالمنزلة بين المنزلتين
والشافعي رحمه الله يوافقهم في أنه ينعزل بناء على أصله ان بالفسق ينتقص ايمانه وان التقليد
ممن قلده كان على ظن أداء الأمانة الأمانة فلا يبقى حكمه بعد الخيانة كما في الوديعة يقول بالخلاف
من طريق الفعل يبطل العقد وهذا كله عندنا باطل فان الولاة من الخلفاء والسلاطين
والقضاء بعد الخلفاء الراشدين قل ما يخلو واحد منهم عن فسق وجور ففي القول بما قالوا
يؤدي إلى أن يكون الناس سدى لا والى لهم وأي قول أفحش من هذا وان ظهر أنه
قضى بالجور وقد فعله خطأ لم يكن عليه غرمه لأنه غير معصوم عن الخطأ والخطأ موضوع
شرعا قال الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به فكان هو قاضيا على موافقة أمر
الشرع ظاهرا غير جان فيما فعل ولكن إذا تبين الخطأ أخذ المقضي له بغرم ذلك أن كان
قضاؤه بحق العباد وإن كان بحق الله تعالى فضمانه في بيت المال وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم
الله تعالى القاضي إذا أخبر عن قضائه بشئ وأمر الناس برجم أو قتل بناء على قضائه فإن كان
عالما ورعا وسعهم أن يأخذوا بقوله من غير أن يستفسروه وإن كان عالما غير ورع لم يسعهم
ذلك ما لم يستفسروا وكذلك لو كان ورعا غير عالم لان الورع الذي هو غير عالم يد يخطئ لجهله
والعالم الذي ليس بورع قد يتعمد الجور ويميل إلى الرشوة وأما إذا كان عالما ورعا فإنهم يأمنون
الخطأ لعلمه والجور لورعه فيسعهم الاخذ بقوله (قال) وليس للمولى أن يقيم الحد على مملوكه
ومملوكته عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى له ذلك في الحدود التي هي محض حق الله
80

تعالى إذا عاين سببه من العبد أو أقر به بين يديه وإذا ثبت بحجة البينة فله فيه قولان وفى
حد القذف والقصاص له فيه وجهان وهذا إذا كان المولى ممن يملك إقامة الحد بولاية
الإمامة إن كان اماما وإن كان مكاتبا أو ذميا أو امرأة فليس له ولاية إقامة الحد كما لا يثبت
له ولاية إقامة الحد بتقليد القضاء والإمامة واحتج بحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وحديث ابن عمر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها إلى أن قال بعد الثالثة فليبعها
ولو بظفير والجلد متى ذكر عند حكم الزنا يراد به الحد دون التعزير وقد ذكر في بعض
الروايات فليجلدها الحد والمعنى فيه أن هذه عقوبة مشروعة للزجر والتطهير فيملك المولى
اقامته بولاية الملك كالتعزير وتأثيره أنه اصلاح للملك لان ملكه يتعيب بارتكاب هذه
الفواحش فما شرع للزجر عنها يكون اصلاحا لملكه بمنزلة التزويج وفى التطهير اصلاح ملكه
أيضا ألا تري أن ما كان مشروعا للتطهير كالختان وصدقه الفطر يملكه المولى بولاية الملك
وهذا لأنه من مملوكه ينزل منزلة السلطان من رعيته أو هو أقوى حتى تنفذ فيه تصرفاته ولو
حلف لا يضربه فأمر غيره حتى ضربه حنث كالسلطان في حق الرعية ولهذا قلنا إذا كان
مكاتبا أو ذميا أو امرأة لا يقيم الحد لأنه بولاية السلطنة لا يقيم فكذلك بولاية الملك كما
في حق نفسه لما كأن لا يقيم الحد على نفسه بولايته السلطنة لا يقيم بملكه نفسه ولان في
القول بأنه يقيم التعزير عليه دون الحد جمعا بين التعزير والحد بسبب فعل واحد لأنه إذا علم
بزناه عزره ثم رفعه إلى الامام فيقيم عليه الحد ولا يجمع بينهما بسبب فعل واحد (وحجتنا)
فيه قوله فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب واستيفاء ما على المحصنات للامام خاصة
فكذلك ما على الإماء من نصف ما على المحصنات وعن ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير
رضي الله عنهم موقوفا عنهم موقوفا ومرفوعا ضمن الامام أربعة وفي رواية أربعة إلى الولاة الحدود
والصدقات والجمعات والفئ والمعنى فيه وهو أن هذا حق الله تعالى يستوفيه الامام بولاية
شرعية فلا يشاركه غيره في استيفائه كالخراج والجزية والصدقات وتأثيره ان بسبب الملك
يثبت للمولى الولاية في ما هو من حقوق ملكه فأما حقوق الله تعالى استيفاؤها وبطريق النيابة
ألا ترى أن حق العبد لا يستوفيه الا هو أو نائبه والامام متعين للنيابة عن الشرع فأما
المولى بولاية الملك لا يصير نائبا عن الشرع وهو كأجنبي آخر في استيفائه بخلاف التعزير
81

فإنه من حقوق الملك والمقصود به التأديب ألا ترى أنه قد يعزر من لا يخاطب بحقوق الله
كالصبيان وهو نظير التأديب في الدواب فإنه من حقوق الملك وكذلك الختان فإنه بمنزلة
الخصي في الدواب لاصلاح الملك وكذلك صدقة الفطر فإنها بمنزلة المؤن والنفقات فلما كان
معنى حق الملك مرجحا في هذه الأشياء ملك المولى اقامته ألا ترى أنه لو كان مكاتبا أو ذميا
أو امرأة كان له إقامة التعزير دون الحد يوضحه أن فيما يثبت للمولى الولاية بسبب الملك
هو مقدم على السلطان كالتزويج وبالاتفاق للامام ولاية إقامة هذا الحد شاء المولى أو أبى
عرفنا أنه لا يثبت ولاية اقامته بسبب الملك ووجه آخر أن وجوب هذه الحدود باعتبار
معني النفسية دون المالية إذ الحد لا يجب على المال بحال والعبد في معنى النفسية مبقى على
أصل الحرية ولهذا يصح اقراره على نفسه بهذه الأسباب ولا يصح اقرار المولى عليه
بشئ من هذه الأشياء وولاية المولى عليه فيما يتصل بالمالية فأما فيما يتصل بالبدن كأجنبي
آخر ألا تري أن في طلاق زوجته جعل المولى كأجنبي آخر بخلاف التعزير فذلك قد يستحق
باعتبار المالية على ما بينا أنه نظير الضرب في الدواب والدليل عليه أنه لا يملك سماع البينة
عليه ولو نزل منزلة السلطان لملك ذلك وإنما يحنث في اليمين بالضرب لاعتبار العرف وقوله
أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم خطاب للأئمة كقوله فاقطعوا خطاب للأئمة وفائدة
تخصيص المماليك أن لا تحملهم الشفقة على ملكهم على الامتناع عن إقامة الحد عليهم أو المراد
السبب والمرافعة إلى الامام وقد يضاف الشئ إلى المباشر تارة والى المسبب أخرى وهذا
تأويل الحديث الآخر ان المراد به التعزير لان الجلد وان ذكر عند الزنا وإنما أضيف إلى
من لم يتعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى فكان المراد التعزير ولا يبعد الجمع بين الحد
والتعزير بسبب فعل واحد كالزاني في نهار رمضان يعزر لتعمد الافطار ويحد للزنا وكما لو
كان المولى مكاتبا يعزر مملوكه على الزنا ثم يرفعه إلى الامام ليقيم عليه الحد (قال) وإذا
ادعى المشهود عليه بالزنا ان هذا الشاهد محدود في قذف وان عنده بينة بذلك أمهلته
ما بينه وبين أن يقوم القاضي من مجلسه من غير أن يخلى عنه لأنه أخبر بخبر متمثل فيتأنى في
ذلك ولكن على وجه لا يكون فيه تضييع الحد الذي ظهر سببه عنده فإنه منهى عن ذلك
شرعا مأمور بالإقامة والاحتيال للدرء فلهذا لا يخلى عنه ولكن يمهله إلى آخر المجلس لأنه
يتمكن من احضار شهود بيانه في هذا المقدار فان جاء بالبينة والا أقام عليه الحد فان اقران
82

شهوده ليس بحضور في المصر وسأله أن يؤجله أياما لم يؤجله لأن الظاهر أنه كاذب فيما
يقول ولو كان صادقا فليس على كل غائب يؤب والتأخير في المعنى كالتضييع فكما ليس له أن
يضيع الحد فكذلك لا يؤخر اقامته بعدما ظهر سببه من غير حجة بخلاف الأول فليس هناك
تأخير الحد لان المجلس الامام كحالة واحدة ولو لم يدع ذلك المشهود عليه كان للامام أن
يؤخر الحد إلى آخر المجلس لأنه يجلس في المسجد وهو ممنوع من إقامة الحد فيها لحديث
ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقام الحدود في المساجد ولحديث
حكيم بن حزام رضي الله عنه في حديث فيه طول فلا يقام فيها حدو لان تلويث المسجد
حرام واليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وإقامة
الحد في المسجد ربما يؤدي إلى التلويث فان أراد الامام ان يقام بين يديه فلا بد من أن
يؤخره إلى أن يقوم من مجلسه ويخرج من المسجد ليقام بين يديه فلهذا جوزنا له ذلك القدر
من التأخير وإن لم يدع المشهود عليه شيئا ولكن ان أقام رجل البينة على بعض الشهود أنه
قذفه فإنه يحبسه ويسأل عن شهود القذف فإذا زكوا وزكى شهود الزنا بدئ بحد القذف
ودرئ عنه حد الزنا لأنه اجتمع عليه حدان وفى البداية بأحدهما اسقاط الآخر فيبدأ بذلك
احتيالا للدرء وبيانه أنه إذا بدأ بحد القذف صار شاهد الزنا محدودا في القذف والمعترض
في الشهود قبل إقامة الحد كالمقترن بالسبب وفيه درء حد الزنا من هذا الوجه وكذلك لو
قذف رجل من شهود الزنا رجلا من المسلمين بين يدي القاضي فان حضر المقذوف
وطالب بحده أقيم عليه حد القذف وسقط عنه حد الزنا فإن لم يأت المقذوف ليطالب
بحده يقام حد الزنا لان مجرد القذف عندنا لا يقدح في شهادته لأنه خبر متمثل بين
الصدق والكذب ألا ترى أنه يتمكن من اثباته بالبينة وإنما الذي يبطل شهادته إقامة الحد
عليه ولا يكون الا بطلب المقذوف فإذا أقيم حد الزنا ثم جاء المقذوف وطلب حده يحد له
أيضا لأنه لم يوجد منه ما يسقط حقه فان تأخير الخصومة لا يسقط حد القذف وكذلك لو
كان مكان الزاني سارق أو كانت الشهادة بشئ آخر من حقوق العباد وهذا القذف من
الشاهد قبل قضاء القاضي بشهادته وما تقدم سواء يبدأ بإقامة حد القذف فان أقاموا بطلت
شهادته فلا يقضى بها فلو بدأ بقطع السارق أو بالقضاء بشهادته ثم أقام عليه حد القذف وسعه
وذلك أيضا لأنه اعتمد في قضائه الحجة (قال) وإذا ادعى الشهود عليه ان الشاهد آكل
83

ربا أو شارب خمر أو انه استؤجر على هذه الشهادة وجاء على ذلك ببينة لم تقبل بينته الأعلى
قول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى فإنه يقول هذا جرح في الشاهد فيمكن اثباته بالبينة كما لو
ادعي أنه عبد أو محدود في قذف والدليل عليه ان المشهود له لو أقر بهذا أو الشاهد أقربه
امتنع القضاء بشهادته فكذلك إذا أثبته الخصم بالبينة لان الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم
ولكنا نقول المشهود عليه بهذه البينة ليس يثبت شيئا إنما ينفي شهادته والشهادة علي النفي لا تقبل
كما لو قامت البينة على رجل بالغصب أو بالقتل في مكان في يوم فأقام البينة على أنه لم يحضر ذلك
المكان في ذلك اليوم لم تقبل هذه البينة وفي الكتاب أشار إلى التهاتر فقال لو قبلت هذا لم تجز
شهادة أحد فان المشهود عليه بذلك يأتي بالبينة على الذين شهدوا عليه انهم كذلك فهذا لا ينقطع
بخلاف ما لو أقام البينة على أنه عبد أو محدود في قذف فان ذلك اثبات وصف لازم فيه لان
كونه محدودا لازم مبطل لشهادته على التأبيد وقبول تلك البينة لا يؤدي إلى التهاتر لان القاضي
يسألهم من حده وما لم يثبتوا أن قاضي بلدة كذا حده لم تقبل شهادتهم ومثل هذا لا يجده
كل خصم وهذا مما يمكن أثباته بالبينة أيضا أن تكون الشهادة في مال فيجئ بالبينة أن
الشاهد شريك فيه قد ادعى شركته أو يقول أخذ مني كذا من المال رشوة لكيلا يشهد
على الباطل فإنه تقبل بينته على ذلك لأنه يدعى استرداد ذلك المال فتقبل بينته لذلك ثم يظهر به
فسق الشاهد (قال) فان أقام البينة أن الشاهد محدود في قذف حده فلان قاضي بلد كذا
وقال المشهود عليه أنا آتيك بالبينة على اقرار ذلك القاضي أنه لم يحدني أو على موته قبل
ذلك الوقت الذي شهد هؤلاء انه حدني فيه لا يقبل ذلك منه لأنه لا يثبت بهذا شيئا إنما
ينفي شهادة الذين شهدوا عليه وكذلك أن قال أنا آتى بالبينة أنى كنت غائبا ذلك اليوم في
أرض كذا لم يقبل ذلك منه إلا أن يجئ من ذلك بأمر مشهور فيقبل ذلك في الحدود
والقصاص والأموال وغير ذلك لأن الشهرة في النفي حجة كما في الاثبات وإذا كان ذلك
أمرا مشهورا فالقاضي عالم بكذب الشهود وإذا لم يجز له القضاء بشهادتهم عند تمكن تهمة
الكذب فعند العلم بكذبهم أولى (قال) أربعة شهدوا على رجل بالزنا فأراد الامام أن يحده
فافترى رجل من الشهود على بعضهم فخاف المقذوف ان طلب بحقه في القذف أن تبطل
شهادتهم فلم يطالب قال تجوز شهادتهم على الزنا ويحد المشهود عليه وليست هذه شبهة لان
القذف خبر فنفسه لا يكون جريمة وربما يكون حسنة إذا علم اصراره وله أربعة من الشهود
84

وإنما الجريمة في هتك ستر العفة وإشاعة الفاحشة من غير فائدة فلا يظهر ذلك الا بعجزه عن
إقامة أربعة من الشهداء وإنما يتم ذلك بإقامة الحد عليه فلهذا لا يكون مجرد القذف عندنا شبهة
مانعة من القضاء بشهادته (قال) وإذا حكم الحاكم بالرجم عليه ثم عزل قبل أن يرجمه وولى آخر
لم يحكم عليه بذلك لان الاستيفاء في الحدود من تتمة القضاء فهو كنفس القضاء في سائر
الحقوق وإذا عزل القاضي بعد سماع البينة قبل القضاء في سائر الحقوق فليس الذي ولى
بعده أن يفضى بتلك البينة قال وإنما هذا مثل قاض قضى على رجل بالرجم ثم إنه أتى به
قاض آخر فقامت عليه البينة عند ذلك القاضي أن فلانا قضى عليه بالرجم فان القاضي لا ينفذ
ذلك وكذلك كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود لا يكون حجة للعمل به فكذلك هنا
(قال) وان شهد الشهود على رجل فقالوا نشهد أنه وطئ هذه المرأة ولم يقولوا زني بها
فشهادتهم باطلة لان سبب الحد الزنا ولا يثبت بهذا اللفظ فالوطئ قد يكون حراما وقد
يكون حلالا بشبهة وغير شبهة والزنا نوع مخصوص من الوطئ وباللفظ العام لا يثبت ما
هو خاص وكذلك لو شهدوا أنه جامعها أو باضعها ولا حد على الشهود لتكامل عددهم
ولأنهم ما صرحوا بنسبته إلى الزنا (قال) وإذا زني الذمي فقال عندي هذا حلال لم يدرأ
عنه الحد لأنا علمنا بكذبه فالزنا حرام في الأديان كلها ولأنا ما أعطيناه الذمة على استحلال الزنا
بخلاف شرب الخمر فذلك معروف من أصل اعتقادهم فأما استحلال الزنا فسق منهم فيما
يعتقدون كاستحلال الربا وقد بينا أنهم يمنعون من الربا ولا يعتبر استحلالهم لذلك فكذلك
الزنا (قال) وإذا شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنى بهذه المسلمة فشهادتهم باطلة
لأنه لا شهادة للذمي على المسلمة فكانوا قاذفين لها فيحدون حد القذف وتبطل شهادتهم على
الرجل إما لإقامة حد القذف عليهم أو لان الزنا لا يتصور بدون المحل ولم يثبت بشهادتهم
كون المسلمة محلا لذلك (قال) رجل تزوج امرأة ممن لا يحل له نكاحها فدخل بها لا حد عليه
سواء كان عالما بذلك أو غير عالم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولكنه يوجع عقوبة إذا
كان عالما بذلك وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان عالما بذلك فعليه الحد في
ذوات المحارم وكل امرأة إذا كانت ذات زوج أو محرمة عليه على التأبيد (وحجتهما) في
ذلك أن فعله هذا زنا قال الله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وكما في قوله تعالى انه كان
فاحشة والفاحشة اسم الزنا وفي حديث البراء بن عازب مربى خالي أبو بردة بن نيار ومعه
85

لواء فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح منكوحة أبيه وأمرني أن أقتله
والدليل عليه أن العقد لا يتصور انعقاده بدون المحل ومحل النكاح هو الحل لأنه مشروع
لملك الحل فالمحرمية على التأبيد لا تكون محلا للحل وإذا لم ينعقد العقد لا تحل له لأنه لم
يصادف محله فكان لغوا كما يلغوا إضافة النكاح إلى الذكور والبيع إلى الميتة والدم والدليل
عليه أن العقد المنعقد لو ارتفع بالطلاق قبل الدخول لم يبق شبهة مسقطة للحد فالذي لم
ينعقد أصلا أولى وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فان دخل بها فلما المهر بما استحل من فرجها فمع الحكم
ببطلان النكاح أسقط الحد به فهو دليل على أن صورة العقد مسقطة للحد وإن كان باطلا
شرعا واختلف عمر وعلي رضي الله عنهما في المعتدة إذا تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج
فقال علي رضي الله عنه المهر لها وقال عمر رضي الله عنه بيت المال وهذا اتفاق منهما على
سقوط الحد ولان هذا الفعل ليس بزنا لغة لما بينا ان أهل اللغة لا يفصلون بين الزنا وغيره
الا بالعقد وهم لا يعرفون الحل والحرمة شرعا فعرفنا ان الوطئ المترتب على عقد لا يكون زنا
لغة فكذلك شرعا لان هذا الفعل كان حلالا في شريعة من قبلنا والزنا ما كان حلالا قط
وكذلك أهل الذمة يقرون على هذا ولا يقرون علي الزنا بل يحدون عليه وكذلك لا ينسب
أولادهم إلى أولاد الزنا فعرفنا ان هذا الفعل ليس بزنا وحد الزنا لا يجب بغير الزنا لأنه
لو وجب إنما يجب بالقياس ولا مدخل للقياس في الحد ثم هذا العقد مضاف إلى محله في الجملة
لأن المرأة بصفة الأنوثة محل للنكاح ولكن امتنع ثبوت حكمه في حقه لما بين الحل
والحرمة من المنافاة فيصير ذلك شبهة في اسقاط الحد كما لو اشترى جارية بخمر فان الخمر
ليس بمال عندنا ولكن لما كانت مالا في حق أهل الذمة جعل ذلك معتبرا في حق انعقاد
العقد به فهذه هي التي محل في حق غيره من المسلمين لان يعتبر ذلك في ايراث الشبهة في
حقه أولى والدليل عليه ملك اليمين فان من وطئ أمته التي هي أخته من الرضاع لا يلزمه
الحد والنكاح في كونه مشروعا للحل أقوى من ملك اليمين ثم ملك اليمين في محل لا يوجب
الحل بحال يصير شبهة في اسقاط الحد فعقد النكاح أولى وشبهة العقد إنما تعتبر بعد العقد
لا بعد الرفع والطلاق رافع للعقد وقد بينا ان اسم الفاحشة لا تختص بالزنا بل هو اسم لجميع
ما هو حرام قال تعالى ولا تقربوا الفواحش ما ظهر وما بطن وتأويل حديث أبي بردة
86

ابن نيار رحمه الله تعالى أن الرجل استحل ذلك الفعل فكان مرتدا ألا ترى أنه قال وأمرني
ان أخمس ماله (قال) رجل تزوج امرأة فزفت إليه أخرى فوطئها لا حد عليه لأنه
وطئ بشبهة وفيه قضى علي رضي الله عنه بسقوط الحد و وجوب المهر والعدة ولا حد على
قاذفة أيضا لأنه وطئ وطءا حراما غير مملوك له وذلك مسقط احصانه الا في رواية عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى فإنه يقول بني الحكم على الظاهر فقد كان هذا الوطئ حلالا له
في الظاهر فلا يسقط احصانه به ولكنا نقول لما تبين الامر بخلاف الظاهر فإنما يبقي اعتبار
الظاهر في إيراث الشبهة وبالشبهة يسقط الحد ولكن لا يقام الحد (قال) ولو فجر بامرأة
فقال حسبتها امرأتي فعليه الحد لان الحسبان والظن ليس بدليل شرعي له أن يعتمده في
الاقدام على الوطئ بخلاف الزفاف وخبر المخبر أنها امرأته فإنه دليل يجوز اعتماده في
الاقدام على الوطئ فيكون مورثا شبهة (قال) رجل زنى بأمة ثم قال اشتريتها شراءا
فاسدا أو على أن للبائع خيارا فيه أو ادعى صدقة أو هبة وكذبه صاحبها ولم يكن له بينة
درئ الحد عنه لان ما ادعاه لو كان ثابتا لكان مسقطا للحد عنه فكذلك إذا ادعى ذلك كما
لو ادعى نكاحا أو شراء صحيحا وهذا لأنه لو أقام علي ذلك شاهدا أو استحلف مولى الأمة
فأبى أن يحلف يدرأ الحد عنه لان انعقاد السبب مورث شبهة وان امتنع ثبوت الحكم لمانع
فكذلك إذا قال لا بينة لي لأنه متي آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف سقط حد الزنا
وكذلك لو شهد عليه الشهود بالزنا وشهدوا أنه أقر بذلك فقال لست أملك الجارية ثم ادعى
عند القاضي هبة أو بيعا درئ عنه الحد لما قلنا (قال) ومن وطئ جارية له شقص فيها لا حد
عليه وإن كان يعلم حرمتها عليه لان ملكه فيها كان مبيحا للوطئ فوجود جزء منها يكون
مسقطا للحد ألا ترى أنه لو جاءت بولد فادعي نسبه ثبت النسب منه وصارت هي أم ولد
له فكيف يلزمه الحد بمثل هذا الفعل ولكن عليه حصة شريكه من العقر إذا لم تلد (قال)
ومن أعتق أمة بينه وبين آخر وهو معسر فقضى عليها بالسعاية لشريكه فوطئها الشريك فلا
حد عليه لأنها بمنزلة المكاتبة وإن كان المعتق موسرا فوقع عليها الآخر قبل أن يضمن
شريكه فلا حد عليه لأنه يملك نصفها ولو ضمن شريكه ثم وطئها المعتق فلا حد عليه لأنه
يستسعيها فيما ضمن فتكون كالمكاتبة له وان وطئها الشريك يعد ما ضمن شريكه فعليه الحد
لأنها مكاتبة غيره وزعم بعض المتأخرين أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأما عندهما
87

يجب الحد على من وطئها المعتق والساكت فيه سواء بناء على أصلهما أن العتق لا يتجزى
ولكن الأصح أن هذا قولهم جميعا لان الاخبار متعارضة في تجزي العتق وبين الصحابة
فيه اختلاف ظاهر فيصير ذلك شبهة في اسقاط الحد ولكن يسقط به احصان الواطئ حتى
لا يحد قاذفه لأنه وطئ وطئ غير مملوك فان ثبوت ملك الواطئ باعتبار كمال ملك الرقبة وذلك
غير موجود (قال) رجل طلق امرأته ثلاثا أو خالعها ثم وقع عليها في عدتها فان ظننت أنها
تحل؟ لي فلا حد عليه وان قال علمت أنها على حرام فعليه الحد وفي الأصل أو طلقها واحدة بائنة
والمراد الخلع فاما ما يكون بلفظ البينونة قد ذكر بعد هذا انه لا حد عليه على كل حال والمعنى أن بعد الخلع والطلقات الثلاث هي معتدة وبسبب العدة له عليها ملك اليد وقد بينا أن ملك
اليد معتبر في الاشتباه فان اشتبه عليه سقط الحد وإلا فلا (فان قيل) بين الناس اختلاف
ان من طلق امرأته ثلاثا جملة هل يقع الثلاث أم لا فينبغي أن يصير شبهة في اسقاط الحد
(قلنا) هذا خلاف غير معتد به حتى لا يسع القاضي ان يقضى به ولو قضى لا ينفذ قضاؤه
أرأيت لو وطئها بعد انقضاء العدة أكنا نسقط الحد بقول من يقول إذا طلقها ثلاثا جملة لا يقع
شئ وكذلك لو أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة لأنها معتدته عن فراش صحيح بعد زوال الملك
كالمطلقة ثلاثا والمختلعة ولا حد على قاذفه في الوجهين لارتكابه وطءا حراما غير مملوك
(قال) وإذا حرمت المرأة على زوجها بردتها أو مطاوعتها لابنه أو جماعه مع أمها ثم جامعها
وهو يعلم أنها عليه حرام ففي القياس أنه يلزمه الحد لان ارتفاع النكاح بهذه الأسباب أبلغ
منه بالخلع ألا ترى أنها صارت محرمة على التأبيد ولكنه استحسن فدرأ عنه الحد لان العلماء
يختلفون في عدتها ومنهم من يقول يتوقف زوال الملك بالردة على انقضاء العدة وكذلك
يختلفون في ثبوت حرمة المصاهرة بالوطئ الحرام ومن لا يثبت ذلك يعتمد ظاهر قوله
صلى الله عليه وسلم لا يحرم الحلال الحرام وهذا خلاف ظاهر لو قضي به القاضي نفذ
قضاؤه فيصير شبهة في درء الحد وكذلك أن أبانها بقوله أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو
حرام وقال أردت بذلك ثلاث تطليقات ثم جامعها ثم قال علمت أنها على حرام فلا حد
عليه لان بين الصحابة وأهل العلم رضي الله عنهم في هذا اختلاف ظاهر وكان عمر رضي الله عنه
يقول هي واحدة رجعية فيصير ذلك شبهة حكمية في درء الحد وكذلك لو قال أمرك
بيدك فطلقت نفسها ثلاثا والزوج ينوي ذلك لان عمر وابن مسعود رضي الله عنهما قالا في
88

ذلك هي واحدة رجعية فيصير ذلك شبهة في اسقاط الحد عنهم والحاصل أن الشبهة الحكمية
مسقطة في حق من يعلم بالحرمة أولا يعلم كالأب إذا وطئ جارية ابنه وشبهة الاشتباه تكون
معتبرة في حق من اشتبه عليه دون من لم يشتبه عليه (قال) وان شهد الشهود عليه أنه زنى
بامرأة لم يعرفوها فلا حد عليه لان شهادتهم عليها غير معتبرة إذا لم يعرفوها والزنا من الرجل
بدون المحل لا يتحقق ولان من الجائز أن تلك المرأة التي رأوها يفعل بها زوجته أو أمته فإنهم
لا يفصلون بين زوجته وأمته الا بالمعرفة فإذا لم يعرفوها لا يمكن إقامة الحد بشهادتهم وان
قال المشهود عليه التي رأوها معي ليست لي بامرأة ولا خادم لم يحد أيضا لان الشهادة قد
بطلت حين لم يبينوا الشهادة فهذه اللفظة منه ليس باقرار بالزنا ولو كان إقرارا فحد الزنا لا يقام
بالاقرار مرة وان أقر؟ بالزنا بامرأة غير معروفة فعليه الحد إذا أقر أربع مرات لان الانسان
يعرف زوجته وأمته ويعلم أن فعله بها لا يكون زنا فلما أقر بالزنا فهذا تصريح منه بفعل
الزنا في محله وانه لا ملك له في تلك المرأة فيقام الحد عليه لذلك (قال) أربعة غير عدول شهدوا
على رجل بالزنا فلا حد عليه ولا عليهم أما عليه فلان ظهور الزنا لا يكون الا بعد قبول
شهادتهم وشهادة الفساق غير مقبولة لأنا أمرنا فيها بالتوقف بالنص وأما عليهم فلا يقام
الحد عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وهذا بناء على أن الفاسق له شهادة عندنا حتى
أن القاضي لو قضى بشهادته نفذ قضاؤه فيكون كلامهم شهادة مانعة من وجوب الحد
عليهم وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للفاسق شهادة وهي مسألة كتاب الشهادات
وعلى هذا لو أقام القاذف أربعة من الفساق على صدق مقالته يسقط به الحد عندنا لان الله
تعالى قال ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وهذا قد أتى بأربعة شهداء وإن لم تكن شهادتهم مقبولة
فلا يلزمه الحد لانعدام الشرط وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا شهادة لهم بل يجب الحد
عليهم وعلى القاذف بقذفه وان كانوا عميانا أو محدودين في قذف أو عبيدا حدوا جميعا لان
العبيد لا شهادة لهم فكان كلامهم قذفا في الأصل والمحدود في القذف ليس له شهادة الأداء
لان الشرع أبطل شهادته وحكم بكذبه والعميان لا شهادة لهم في الزنا لان الشهادة على الزنا
لا تكون الا بعد الرؤية كالميل في المكحلة وليس للأعمى هذه الآلة فكان كلامهم قذفا
من الأصل ولو كان الشهود أربعة أحدهم زوج المشهود عليها بالزنا فهذه الشهادة تقبل عندنا
خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بينا هذا في باب اللعان فإذا كانت الثلاثة كفارا؟ والزوج
89

مسلما فلا شهادة للكفار على المسلمة فيحدون حد القذف ويلاعن الزوج امرأته لأنه قذفها
بالزنا وقذف الزوج موجب للعان (قال) وان جاء شهود الزنا فشهدوا به متفرقين في
مجالس مختلفة لم تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى
تقبل شهادتهم ويقام الحد على المشهود عليه واعتبر هذا بالشهادة على سائر الحقوق فان
اختلاف المجالس لا يمنع العمل بالشهادة في شئ من الحقوق وما يندرئ بالشبهات ومالا
يندرئ بالشبهات فيه سواء فكذلك الزنا وهذا لان الثابت بالنص عدد الأربعة في الشهود
فاشتراط اتحاد المجلس يكون زيادة على النص (وحجتنا) في ذلك ما روينا أن الثلاثة لما
شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا بين يدي عمر رضي الله عنهما وامتنع زياد أقام الحد على الثلاثة
ولم ينتظر مجئ رابع ليشهد عليه بالزنا فلو كان اختلاف المجلس غير مؤثر في هذه الشهادة
لانتظر مجئ رابع ليدرأ به الحد عن الثلاثة وفي الكتاب ذكر عن الشعبي رحمه الله تعالى
قال لو جاء مثل ربيعة ومضر فرادى حددتهم والمعنى فيه أن الشهادة على الزنا قذف في
الحقيقة ولكن بتكامل العدد يتغير حكمها فيصير حجة للحد فيخرج من أن يكون قذفا به
وفي مثل هذا المغير يعتبر وجوده في المجلس كالقبول مع الايجاب فان الايجاب ليس بعقد
فإذا انضم إليه القبول يصير عقدا فيعتبر وجود القبول في المجلس ليصير الايجاب به عقدا
وهذا لان كلامهم من حيث أنه قذف مفترق ومن حيث أنه حجة كشئ واحد ولاتحاد
المجلس تأثير في جمع ما تفرق من الكلام فإذا كان المجلس واحدا جعل كلامهم كشئ واحد
بخلاف ما إذا تفرقت المجالس وان كانوا في مقعد واحد على باب القاضي فقام إلى القاضي
واحد بعد واحد وشهدوا عليه بالزنا ففي القياس لا تقبل شهادتهم أيضا وهو رواية عن محمد
رحمه الله تعالى لان اتحاد المجلس بهذا لا يحصل إنما يحصل بأن يجلسوا جميعا بين يدي القاضي
فيشهدوا واحدا بعد واحد ولكنه استحسن فقال تقبل الشهادة هنا لان الشهادات
اجتمعت في مجلس واحد وهذا من القاضي مبالغة في الاحتياط لينظر انهم هل يتفقون على
لفظ واحد إذا لم يسمع بعضهم كلام بعض فلا يوجب ذلك قدحا في شهادتهم فانا لو اعتبرنا
هذا القدر من التفرق وجب اعتبار تفرق الأداء وان جلسوا جميعا بين يدي القاضي ولا
يتصور أداؤهم جملة لان القاضي لا يتمكن من سماع كلام الجماعة وان قال اثنان زنى بها في
دار فلان آخر فقد بينا ان هذه الشهادة لا تقبل في ايجاب الحد على المشهود عليه ولكن لا حد
90

على الشهود لاجتماع الأربعة على الشهادة بالزنا عليهما (قال) وإذا شهد أربعة نصارى على
نصرانيين بالزنا فقضى القاضي بشهادتهم ثم أسلم الرجل أو المرأة قال يبطل الحد عنهما جميعا
لما بينا ان الطارئ من اسلام أحدهما بعد القضاء قبل الاستيفاء كالمقارن للسبب ولان
شهادة الكافر ليست بحجة على المسلم فيصير ذلك شبهة في حق الآخر فان أسلم الشهود
بعد ذلك لم ينفع أعادوا الشهادة أولم يعيدوها لان الحاكم أبطلها حين درأ الحد عنهما فلا
يعمل بها بعد ذلك (قال) وان كانوا شهدوا على رجلين وامرأتين بالزنا فلما حكم الحاكم
بذلك أسلم أحد الرجلين أو إحدى المرأتين درئ الحد عن الذي أسلم وعن صاحبه ولا
يدرأ عن الآخرين لأنهم شهدوا على كل رجل وامرأة كأنهم تفردوا بالشهادة عليهما
والله أعلم بالصواب
(باب الاقرار بالزنا)
(قال) رضي الله عنه حد الزنا لا يقام بالاقرار الا بالاقرار أربع مرات في أربعة مجالس
عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يقام بالاقرار مرة واحدة وقال ابن ليلي رحمه الله
تعالى يقام بالاقرار أربع مرات وإن كان في مجلس واحد واحتج الشافعي بقوله صلى الله
عليه وسلم أغديا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها وان الغامدية لما جاءت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت إن بي حبلا من الزنا قال اذهبي حتى تضعي حملك
ثم رجمها ولم يشترط الأقارير الأربعة واعتبر هذا الحق بسائر الحقوق فما يندرئ بالشبهات
وما لا يندرئ بالشبهات يثبت بالاقرار الواحد وبهذا تبين أن الاقرار غير معتبر
بالشهادة في العدد فان في سائر الحقوق العدد معتبر في الشهادة دون الاقرار وكذلك في
هذا الموضع العدالة تعتبر في الشهادة دون الاقرار وكذلك في هذا الموضع الذكورة
ولفظ الشهادة يعتبر في الشهادة دون الاقرار وهذا لان زيادة طمأنينة القلب تحصل بزيادة
العدد ولا يحصل ذلك بتكرار الكلام من واحد وفى أحد الحكمين وهو سقوط الحد
عن القاذف يعتبر عدد الأربعة في الشهادة دون الاقرار فكذلك في الحكم الآخر
وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى اعتبر الاقرار بالشهادة بعلة انه أحد حجتي الزنا ثم في
الشهادة المعتبر عدد الأربعة دون اختلاف المجالس فكذلك في الاقرار (وحجتنا) فيه
91

حديث ماعز بن مالك رحمه الله تعالى فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زنيت
فطهرني فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الآخر فقال مثل ذلك فأعرض عنه فجاء إلى الجانب
الثالث وقال مثل ذلك فأعرض عنه فجاء إلى الجانب الرابع وقال مثل ذلك وفي رواية قال
في كل مرة وأن هذا للآخر فلما كان في المرأة الرابعة قال صلى الله عليه وسلم الآن أقررت
أربعا فبمن زنيت وفي رواية الآن شهدت على نفسك أربعا فبمن زنيت قال بفلانة قال
لعلك قبلتها أو لمستها بشهوة لعلك باشرتها فأبى إلا أن يقر بصريح الزنا فقال أبك خبل أبك
جنون وفى رواية بعث إلى أهله هل ينكرون من عقله شيئا فقالوا لا فسأل عن احصانه
فوجده محصنا فأمر برجمه فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرأة الأولى والثانية
والثالثة وحكم بالرابعة ولو لم يكن العدد من شرطه لم يسعه الاعراض عنه على ما قاله صلى الله
عليه وسلم لا ينبغي لوال عنده حد من حدود الله الا يقيمه ألا ترى أنه في المرة الرابعة لما تمت
الحجة كيف لم يعرض عنه ولكنه قال الآن أقررت أربعا واشتغل بطلب ما يدرأ عنه الحد
فحين لم يجد ذلك اشتغل بالإقامة ولا يقال إنما أعرض عنه لأنه أحس به الجنون على ما روى
أنه جاء أشعث أغبر ثائر الرأس واليه أشار في قوله أبك خيل ثم لما رأى اصراره على كلام
واحد علم أنه ليس به جنون وهذا لأنه قال الآن أقررت أربعا وفي هذا تنصيص أن الاعراض
قبل هذا لعدم قيام الحجة وقد جاء نائبا مستسلما مؤثرا عقوبة الدنيا على الآخرة فكيف
يكون هذا دليل جنونه وإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب ما يدرأ به
عنه الحد كما لقن المقر الرجوع بقوله أسرقت ما أخاله سرق أسرقت قولي لا وإنما كان أشعث
أغبر لأنه جاء من البادية وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا علامة الأبرار فقال
رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى
يستدل بهذا الحديث أيضا ويقول المذكور عدد الأقادير دون اختلاف المجالس ولكنا نقول
قد وجد اختلاف مجالس المقر على ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرده في كل
مرة حتى توارى بحيطان المدينة ثم رجع وفي رواية قال اذهب ويلك فاستغفر الله فذهب
حتى غاب عن بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع فالمعتبر اختلاف مجالس المقر دون
القاضي حتى إذا غاب عن بصر القاضي في كل مرة يكفي هذا الاختلاف المجالس والذي
روى أنه أقر خمس مرات فإنما يحمل ذلك على اقرارين كانا منه في مجلس واحد فكانا
92

كاقرار واحد وروى أن أبا بكر رضي الله عنه قال له أقررت ثلاث مرات ان أقررت
الرابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى رواية قال إياك والرابعة فإنها موجبة وعن
بريدة الأسلمي فان كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث ان ماعزا لو جلس في
بيته بعدما أقر ثلاثا ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من يرجمه فدل على أن اشتراط
عدد الأقارير كان معروفا فيما بينهم وان المراد من قوله فان اعترفت فارجمها الاعتراف
المعروف في الزنا وهو أربع مرات والصحيح من حديث الغامدية انها أقرت أربع مرات
هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله تعالى الا ان الأقارير منها كانت في أوقات مختلفة قبل
الوضع وبعد الوضع وبعدما طهرت من نفاسها وبعد ما فطمت ولدها ولهذا لم تتفق الرواية
على نقل الأقارير الأربعة في حديثها والذي روى أنها قالت أتريد ان ترددني كما رددت
ماعزا لا يكاد يصح لان ترديد ماعز كان حكما شرعيا فلا يظن بها انها جاءت لطلب التطهير ثم
تعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو حكم شرعي واعتبار هذا الحق بسائر
الحقوق باطل فقد ظهر فيها من التغليظ ما لم يظهر في سائر الأشياء من ذلك أن النسبة إلى
هذا الفعل موجب للحد بخلاف سائر الأفعال وموجب للعان إذا حصل من الزوج في
زوجته بخلاف سائر الأفعال ويشترط في أحدي الحجتين من العدد مالا يشترط في سائرها
وكل ذلك للتغليظ فكذلك اعتبار عدد الاقرار الا ان العدد في الشهادة يثبت حقيقة وحكما
بدون اختلاف المجالس ولا يثبت في الاقرار حكما الا باختلاف المجالس لان الكلام إذا
تكرر من واحد في مجلس واحد بطريق الاخبار يجعل ككلام واحد وإنما يتحقق معنى
التغليظ باشتراط العدد في الاقرار الموجب للحد لا في الاقرار المسقط للحد عن القاذف
ألا ترى ان التصريح بلفظ الزنا يعتبر في الاقرار الموجب للحد دون المسقط وكذلك عدد
الأربعة بالشهود حتى إذا قذف امرأة بالزنا فشهد عليها شاهدان أنها أكرهت علي الزنا
سقط الحد عن القاذف إذا عرفنا هذا فنقول ينبغي للامام أن يرد المعترف بالزنا في المرة
الأولى والثانية والثالثة لحديث عمر رضي الله عنه قال اطردوا المعترفين بالزنا فإذا عاد الرابعة
فأقر عنده سأله عن الزنا ما هو وكيف هو وبمن زنى وأين زنى لما بينا في الشهادة الا ان في
الاقرار لا يسأله متى زنا لان حد الزنا يقام بالاقرار بعد التقادم وإنما لا يقام بالبينة فلهذا يسأل
الشهود متى زنى ولا يسأل المقر عن ذلك فإذا وصفه وأثبته قال له فلعلك تزوجتها أو وطئتها
93

بشبهة وهذا في؟ معنى تلقين الرجوع والامام مندوب إليه وهو نظير ما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لماعز لعلك قبلتها فان قال لأنظر في عقله وسأل أهله عن ذلك كما فعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ماعز وهذا لان الاقرار من المجنون والمعتوه هدر والعقل
ليس بمعاين فلا بد للامام من أن يتأمل في ذلك فإذا علم أنه صحيح العقل يسأل عن
الاحصان لان ما يلزمه من العقوبة يختلف باحصانه وعدم احصانه وسأله عن ذلك فعسى
يقربه ولا يطول الامر على القاضي في طلب البينة على احصانه فإذا قال أحصنت استفسره
في ذلك لان اسم الاحصان ينطلق على خصال وربما لا يعرف المقر بعضها فيسأله لهذا فإذا
فسره أمر برجمه فإذا رجم غسل وكفن وحنط وصلى عليه لأنه مقتول بحق فيصنع به
ما يصنع بالموتى وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غسل ماعز وتكفينه والصلاة
عليه فقال اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم زاد في رواية ولقد تاب توبة لو قسمت توبته على
أهل الحجاز لوسعتهم وفى رواية على أهل الأرض وقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة وروى
أن رجلين من الصحابة قالا فيما بينهما ما ركنت نفسه حتى جاء واعترف فقتل كما يقتل
الكلاب فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت حتى مروا بحمار ميت فقال
للرجلين انزلا فكلا فقالا انها ميتة فقال تناولكما من عرض أخيكما أعظم من ذلك (قال)
فان أمر برجمه فرجع عن قوله درئ الحد عنه عندنا وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا
يدرأ عنه الحد برجوعه وكذلك الخلاف في كل حد هو خالص حق الله تعالى واعتبر هذا
الاقرار بسائر الحقوق مما لا يندرئ بالشبهات أو يندرئ بالشبهات كالقصاص وحد القذف
فالرجوع عن الاقرار باطل في هذا كله (وحجتنا) فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن
المقر بالسرقة الرجوع فلو لم يصح رجوعه لما لقنه ذلك فقد روينا أن ماعزا رضي الله عنه لما
هرب انطلق المسلمون في أثره فرجموه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا خليتم سبيله ولان
الرجوع بعد الاقرار إنما لا يصح في حقوق العباد لوجود خصم يصدقه في الاقرار ويكذبه
في الرجوع وذلك غير موجود فيما هو خالص حق الله تعالى فيتعارض كلاماه الاقرار
والرجوع وكل واحد منهما متمثل بين الصدق والكذب والشبهة تثبت بالمعارضة (قال)
وإذا أقر أربع مرات في أربعة مجالس وأنكر الاحصان وشهد الشهود عليه بالاحصان يرجم
لان الثابت بالبينة أقوي من الثابت بالاقرار ولا يجعل انكاره للاحصان رجوعا منه عن
94

الاقرار بالزنا لأنه مصر على الاقرار بالزنا والتزام العقوبة مع انكار الاحصان وإنما أنكر
الاحصان وقد ثبت بالبينة ولو أقر بالاحصان بعد انكاره كان يرجم فكذلك إذا ثبت بالبينة
(قال) فإن كانت المرأة التي أقر أنه زنى بها غائبة فالقياس أن لا يحد الرجل لأنها لو حضرت
ربما ادعت شبهة نكاح مسقطة للحد عنها فلا يقام الحد في موضع الشبهة وقيل هذا قياس
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى على قياس مسألة السرقة إذا قال سرقت أنا وفلان مال فلان
وفى الاستحسان يقام عليه الحد لحديث ماعز رضى الله تعالى عنه فان رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يحضر المرأة التي أقرانه زنى بها ولكن أمر برجمه وفي حديث العسيف أوجب
الجلد على ابن الرجل ثم قال اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها فدل ان
حضور المرأة ليس بشرط وهذا لان ما من شبهة تدعيها إذا حضرت فالرجل متمكن من
أن يدعى ذلك وتوهم ان تحضر فتدعى الشبهة كتوهم ان يرجع المقر عن اقراره فكما لا يمتنع
إقامة الحد على المقر لتوهم ان يرجع عنه فكذلك هذا وان جاءت المرأة بعدما حد الرجل
فادعت النكاح وطلبت المهر لم يكن لها المهر لان القاضي حكم بان فعله كان زنا بها حين
أقام عليه الحد والزنا لا يوجب المهر وهي تدعى ابطال حكم الحاكم بقولها (قال) أربعة
فساق شهدوا على رجل بالزنا وأقر هو مرة واحدة فلا حد عليه لعدم الحجة فان الحجة
الأقارير الأربعة أو شهادة أربعة عدول ولا يقال اقراره مرة واحدة تعديل منه للشهود
وتصديق لهم فينبغي ان يلتحقوا بالعدول في هذه الحادثة لان القاضي لا يقضى بشهادة
الفساق وان رضى به الخصم فان التوقف في خبر الفاسق واجب بالنص فلا يتغير ذلك
باقراره ثم اقراره مانع من القضاء بالشهادة لان الشهادة تكون حجة على المنكر دون المقر
الا انه إذا كان الشهود عدولا يجعل الاقرار الواحد كالمعدوم لما لم يتبين به سبب الحد فيتبين
ذلك بالبينة وإن كان الشهود عدولا لم يذكر في الأصل وذكر في غير رواية الأصول انه
لا يحد عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لان الشهادة قد بطلت باقراره لكونه حجة على
المنكر لا على المقر وعند محمد رحمه الله تعالى يحد لان الشهود عدول فاستغني عن اقراره فبطل
الاقرار ولا يوجد ذلك في شهادة الفاسق (فان قيل) فبالاقرار الواحد إذا لم يثبت الحد
يثبت الوطئ الموجب للمهر فينبغي أن لا يعتبر ذلك وان كرر الاقرار لأنه قصد بذلك اسقاط
المهر عن نفسه فيكون متهما وهو نظير ما قلتم في الاستدلال على قول أبى يوسف في السرقة
95

أنه إذا لم يثبت الحد فبالاقرار الواحد يجب الضمان فلا يعتبر اقراره بعد ذلك في اسقاط
الضمان وهذا لان حكم اقراره بالزنا مراعى من حيث أن الزنا غير موجب للمهر فان تم عدد
الأربعة تبين أنه لم يكن موجبا للمهر وإن لم يتم كان موجبا للمهر كما أنه بعد تمام الاقرار ان رجع
تبين أن الواجب لم يكن عليه الحد بخلاف السرقة فان نفس الاخذ موجب للضمان وإنما سقط
الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى على ما نبينه (قال) وإذا وطئ الرجل جارية
ولده وقال علمت أنها علي حرام لا يحد للشبهة الحكمية التي تمكنت في الموطوءة بقوله صلى
الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك وكيف يجب الحد ولو جاءت بولد فادعاه ثبت النسب وصارت
أم ولد له وان وطئ جارية أحد أبويه أو امرأته فان اتفقا على أنهما كانا يعلمان بحرمة الفعل
فعليهما الحد لأنه لا شبهة هنا في المحل وإنما الشبهة من حيث الاشتباه فلا يكون معتبرا إذا لم
يشتبه فأما إذا قال الواطئ ظننت أنها تحل لي أو قالت الجارية ظننت أنه يحل لي لا حد على
واحد منهما لان شبهة الاشتباه عند الاشتباه معتبر بالشبهة الحكمية ودعوى الشبهة الحكمية
من أحدهما يسقط الحد عنهما فكذلك شبهة الاشتباه وحكى عن ابن أبي ليلى انه أقر
عنده رجل أنه وطئ جارية أمه فقال له أوطأتها؟ قال نعم حتى قال أربع مرات فأمر بضربه
الحد وخطأه أبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا القضاء من أوجه أحدها ان باقراره بلفظ
الوطئ لا يلزمه الحد ما لم يقر بصريح الزنا والثاني وهو ان القاضي ليس له أن يطلب الاقرار
في هذا الباب بقوله أفعلت بل هو مندوب إلى تلقين الرجوع والثالث أنه لم يسأله عن علمه
بحرمتها وينبغي له أن يسأله عن ذلك وليس له أن يقيم الحد ما لم يعلم علمه بحرمة ذلك الفعل
(قال) ولو وطئ جارية أخيه أو أخته وقال ظننت أنها تحل لي فعليه الحد لان هذا ليس
بموضع الاشتباه وان كل واحد منهما في حكم الملك كالأجنبي (قال) في الأصل ولم يجعل
هذا كالسرقة يعنى إذا سرق مال أخيه أو أخته لا يقطع ثم أجاب وقال ألا ترى أنه لو زنى
بأخته وعمته حددته ولو سرق من واحدة منهما لم أقطعه وإنما أشار بهذا إلى أن في حد
السرقة لا بد من هتك الحرز والاحراز لا يتم في حق ذي الرحم المحرم لان بعضهم يدخل
بيت يعض من غير استئذان وحشمة بخلاف حد الزنا (قال) وان وطئ جارية ولد ولده
فجاءت بولد فادعاه فإن كان الأب حيا لم تثبت دعوة الجد إذا كذبه ولد الولد لان صحة
الاستيلاد تنبنى على ولاية نقل الجارية إلى نفسه وليس للجد ولاية ذلك في حياة لأب ولكن
96

ان أقربه ولد الوالد عتق باقراره لأنه زعم أنه ثابت النسب من الجد وانه عمه فيعتق عليه بالقرابة
ولا شئ على الجد من قيمة الأمة لأنه لم يتملكها وعليه العقر لان الوطئ قد ثبت باقراره وسقط
الحد للشبهة الحكمية وهو البنوة فيجب العقر وكذلك أن كانت ولدته بعد موت الأب
لأقل من ستة أشهر لأنا علمنا أن العلوق كان في حياة الأب وانه لم يكن للجد عند ذلك
ولاية نقلها إلى نفسه وان كانت ولدته بعد موته لستة أشهر فهو مصدق في الدعوة صدقه ابن
الأب أو كذبه لان العلوق به إنما حصل بعد موت الأب والجد عند عدم الأب بمنزلة الأب
في الولاية فله أن ينقلها إلى نفسه بدعوة الاستيلاد (قال) وإذا شهد الشهود على زنا قديم لم
أحد بشهادتهم المشهود عليه وقد بينا هذا ولم أحدهم أيضا لان عددهم متكامل والأهلية
للشهادة موجودة وذلك يمنع أن يكون كلامهم قذفا وان أقر بزنا قديم أربع مرات أقيم
عليه الحد عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يقام اعتبارا لحجة الاقرار بحجه البينة فان الشهود
كما ندبوا إلى الستر فالمرتكب للفاحشة أيضا مندوب إلي الستر على نفسه قال صلى الله عليه
وسلم من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ولكنا نستدل بآخر الحديث
حيث قال ومن أبدي لنا صفحته أقمنا عليه حد الله وهذا قد أبدى صفحته باقراره وإن كان
تقادم العهد والمعنى فيه أن التهمة تنتفي عن اقراره وإن كان بعد تقادم العهد فان الانسان
لا يعادي نفسه على وجه يحمله ذلك على هتك ستره بل إنما يحمله على ذلك الندم وايثار
عقوبة الدنيا على الآخرة بخلاف الشهادة فبتقادم العهد هناك تتمكن التهمة من حيث أن
العداوة حملتهم على أداء الشهادة بعدما اختاروا الستر عليه وهنا كان اصراره يمنعه عن
الاقرار ثم الندم والتوبة حمله على الاقرار بعد تقادم العهد (قال) والذمي والعبد في الاقرار
بالزنا كالحر المسلم وأما الذمي فحرمة الزنا ثابت في حقه كما هو ثابت في حق المسلم واقراره
ملزم أيضا كاقرار المسلم فأما العبد فاقراره بالزنا يصح عندنا موجبا للحد عليه مأذونا كان
أو محجورا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يصح لان نفسه مملوكة للمولى وبهذا الاقرار يتضرر
المولى من حيث أنه تنتقص ماليته بإقامة الحد عليه ولهذا لا يصح اقراره على نفسه بالمال
إذا كان محجورا فكذلك بالحد ولكنا نقول ما لا يملكه المولى على عبده فالعبد فيه ينزل
منزلة الحر كطلاق زوجته بخلاف الاقرار بالمال فان المولى يملكه عليه ثم وجوب الحد على
العبد باعتبار أنه نفس مخاطبة وفيما يرجع إلى ذلك هو كالحر ولأنه غير متهم بالاقرار على
97

نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة ولان ما يلحقه من الضرر في ذلك فوق ما يلحق المولى
فلانتفاء التهمة حكمنا بصحة اقراره بخلاف الاقرار بالمال (قال) ولا يؤخذ الأخرس
بحد الزنا ولا بشئ من الحدود وان أقربه بإشارة أو كتابة أو شهدت به عليه شهود وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يؤخذ بذلك لأنه نفس مخاطبة فهو كالأعمى أو أقطع اليدين أو الرجلين
ولكنا نقول إذا أقربه بالإشارة فالإشارة بدل عن العبارة والحد لا يقام بالبدل ولأنه لا بد من التصريح بلفظة الزنا في الاقرار وذلك لا يوجد في إشارة الأخرس إنما الذي يفهم من إشارته
الوطئ فلو أقر الناطق بهذه العبارة لا يلزمه الحد فكذلك الأخرس وكذلك أن كتب به
لان الكتابة تتردد والكتابة قائمة مقام العبارة والحد لا يقام بمثله وكذلك أن شهدت الشهود
عليه بذلك لأنه لو كان ناطقا ربما يدعى شبهة تدرأ الحد وليس كل ما يكون في نفسه يقدر
على إظهاره بالإشارة فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة ولا يوجد مثله في الأعمى
والأقطع لتمكنه من إظهار دعوى الشبهة والذي يجن ويفيق في حال إفاقته كغيره من
الأصحاء يلزمه الحد بالزنا في هذه الحالة سواء أقربه أو شهد عليه الشهود وان قال زنيت
في حال جنوني لم يحد لأنه أضاف الاقرار إلى حالة معهودة وهو ليس بأهل لالتزام العقوبة
في تلك الحالة لكونه مرفوع القلم عنه فهو كالبالغ إذا قال زنيت وأنا صبي وكذلك الذي
أسلم إذا أقر أنه كان يزني في دار الحرب لأنه أضاف الاقرار إلى حالة تنافى التزام العقوبة
بالزنا في تلك الحالة فإنه لم يكن تحت ولاية الامام ولا كان ملتزما حكم الاسلام (قال) وان
أقر المجبوب بالزنا لا يحد لأنا نتيقن بكذبه فالمجبوب ليس له آلة الزنا فالتيقن بكذبه أكثر
تأثيرا من رجوعه عن الاقرار (قال) وان أقر الخصي بالزنا أو شهدت به عليه الشهود
حد لان للخصي آلة الزنا وإنما ينعدم بالخصى الانزال وذلك غير معتبر في اتمام فعل الزنا
فيلزمه من الحد ما يلزم الفحل وان قال العبد بعد عتقه زنيت وانا عبد لزمه حد العبيد لأنه
مصدق في إضافة الاقرار إلى حالة الرق لكونها حالة معهودة فيه ثم الثابت باقراره كالثابت
بالمعاينة ولو عايناه زنى في حالة رقه ثم عتق كان عليه حد العبيد فهذا مثله (قال) وإذا أقر
الرجل أربع مرات أنه زنى بفلانة وقالت كذب ما زنى بي ولا أعرفه لم يحد الرجل في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحد لحديث سهل بن
سعد ان رجلا أقر بالزنا بامرأة وأنكرت فحده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان الزنا
98

فعلان من الزانيين؟ وفعل كل واحد منهما يظهر باقراره موجبا للحد عليه فانكارها لا يؤثر
في اقراره وأكثر ما فيه أنه يمتنع بإنكارها ظهور الزنا في حقها وذلك لا يمنع وجوب الحد
على الرجل كما لو كانت حاضرة ساكتة أو غائبة وكما لو قالت زنا بي مستكرهة يجب الحد
عليه وإن لم يجب عليها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول فعل الزنا من الرجل لا يتصور بدون
المحل وبانكارها قد انتفي في جانبها فينتفي في جانبه أيضا ألا ترى أنه لو انتفي صفة الزنا في
جانبها بدعوى النكاح سقط الحد عنهما فإذا انتفي أصل الفعل أولى وهذا لان القاضي
لا يتمكن من القضاء عليه بالزنا بها مع انكارها ألا ترى أنها تبقى محصنة لا يتمكن من القضاء
عليه بالزنا بغيرها لأنه لم يقر بذلك وبدون القضاء بالزنا لا يتمكن من إقامة الحد وفي الغائبة
قياس استحسان والفصل المستحسن لا يدخل على طريقة القياس ثم بغيبتها واستكراهها
لا ينتفى الفعل في جانبها وبانكارها ينتفى ألا تري أن من أقر لإنسان بشئ وكذبه بطل
اقراره حتى لو صدقه بعد ذلك لم يصح ولو كان غائبا أو حاضرا ساكتا لم يبطل به الاقرار
حتى إذا صدقه عمل بتصديقه وهذا بخلاف ما إذا قالت زنى بي مستكرهة لان المحلية وأصل
الفعل هناك قد ظهر في حقها ولهذا سقط احصانها به وحديث سهل بن سعد قد ضعفه أهل
الحديث ثم تأويل الحديث أنها أنكرت وطالبته بحد القذف فحده رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقذفه إياها بالزنا لا باقراره بالزنا على نفسه وعلى هذا لو أقرت امرأة أنه زنى بها فلان أربع
مرات وأنكر الرجل فهو على الخلاف الذي بينا في إقامة الحد عليها وكلام أبي حنيفة رحمه
الله تعالى هنا أظهر لان المباشر للفعل هو الرجل فلا يثبت أصل الفعل مع انكاره وان قال
الرجل صدقت حدت المرأة ولم يحد الرجل لأنه بالتصديق صار مقرا بالزنا مرة واحدة وقد بينا
ان بالاقرار الواحد لا يقام الحد (قال) الحربي المستأمن في دارنا إذا أقر بالزنا أربع مرات
لا يقام عليه الحد وقد بينا الخلاف في هذا في البينة فكذلك في الاقرار وعلل في الأصل فقال
بأنه لا يؤخذ منه الخراج ومعناه ان الجزية تؤخذ من أهل الذمة حقا لله تعالى ثم لا تؤخذ
من المستأمن عرفنا انه لا يجرى عليه ما هو خالص حق الله تعالى (قال) وإذا دخل
المسلم دار الحرب بأمان فزنى هناك بمسلمة أو ذمية ثم خرج إلى دار الاسلام فأقر به لم يحد
وهذا عندنا وقال الشافعي يحد لان المسلم ملتزم لاحكام الاسلام حيث ما كان ومن أحكام
الاسلام وجوب الحد على الزان ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لا تقام الحدود
99

في دار الحرب والمعنى فيه أن الوجوب لايراد لعينه بل للاستيفاء وقد انعدم المستوفى لأنه
لا يملك إقامة الحد على نفسه وليس للامام ولاية على من في دار الحرب ليقيم عليه الحد
فامتنع الوجوب لانعدام المستوفى وإذا لم يجب عليه حين باشر السبب لا يجب بعد ذلك
وان خرج إلى دارنا (قال) وكذلك سرية من المسلمين دخلت في دار الحرب فزنى
رجل منهم هناك أو كانوا عسكرا لان أمير العسكر والسرية إنما فوض إليه تدبير الحرب
وما فوض إليه إقامة الحدود وأما إذا كان الخليفة غزا بنفسه أو كان أمير مصر يقيم الحدود
على أهله فإذا غزا بجنده فإنه يقيم الحدود والقصاص في دار الحرب لان أهل جنده تحت
ولايته فمن ارتكب منهم منكرا موجبا للعقوبة يقيم عليه العقوبة كما يقيمها في دار الاسلام
هذا إذا زنى في المعسكر وأما إذا دخل دار الحرب وفعل ذلك خارجا من المعسكر لا يقيم عليه
الحد بمنزلة المستأمن في دار الحرب (قال) ولا حد على من زنى أو شرب الخمر في معسكر
أهل البغي منهم ولا من كان تاجرا من أهل العدل وأسرائهم فيه لان يد امام أهل العدل
لا تصل إليهم لمنعة أهل البغي وولايته في الاستيفاء منقطعة لقصور يده وقد بينا أن الوجوب
للاستيفاء فإذا انعدم المستوفى امتنع الوجوب كما لو فعل ذلك في دار الحرب وإن كان
خروجه من دار الحرب أو من عسكر أهل البغي بعد تطاول المدة فلا اشكال في أنه يدرأ
العقوبة إذا تطاولت المدة في حد الشرب سواء ثبت بالاقرار أو بالبينة وفي حد الزنا إذا
ثبت بالبينة (قال) ويقام الحد على العبد إذا أقر بالزنا أو بغيره مما يوجب الحد وإن كان
مولاه غائبا وكذلك القطع والقصاص لان الوجوب عليه باعتبار النفسية في محل لاحق
للمولى فيه فان حق المولى في المالية وقد بينا أنه في حكم النفسية هو والحر سواء وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى يفرقان بين حجة البينة والاقرار باعتبار ان للمولى حق الطعن في
البينة دون الاقرار وان الاقرار موجب للحق بنفسه والبينة لا توجب الا بالقضاء وقد
قررناه في الآبق (قال) وإذا وجب على المريض حد من الحدود في زنا أو شرب أو سرقة
حبس حتى يبرأ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر عليا رضي الله عنه
بإقامة حد على أمة فرأى بها أثر الدم فرجع ولم يقم عليها ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم وإنما يحمل هذا على أن أثر الدم بها كان نفاسا لا حيضا لان الحائض بمنزلة الصحيحة
في إقامة الحد عليها والنفساء بمنزلة المريضة ولأنه لو أقام الحد على المريض ربما ينضم ألم الجلد
100

إلى ألم المرض فيؤدى إلى الاتلاف والحد إنما يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا والذي
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على مريض تأويله انه وقع اليأس عن برئه واستحكم
ذلك المرض على وجه يخاف منه التلف وعندنا في مثل هذا يقام عليه الحد تطهيرا وهذا إذا لم
يكن الحد رجما فاما الرجم يقام على المريض لان اتلاف نفسه هناك مستحق فلا يمتنع اقامته
بسبب المرض (قال) رجل ثبت عليه باقراره الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف وفق ء عين
رجل فإنه يبدأ بالقصاص في الفق ء لأنه محض حق العباد وحق العبد مقدم في الاستيفاء
لما يلحقه من الضرر بالتأخير لأنه يخاف الفوت والله تعالى يتعالى عن ذلك ثم إذا برئ من
ذلك أخرجه وأقام عليه حد القذف لأنه مشوب بحق العباد فيقدم في الاستيفاء على ما هو
محض حق الله تعالى وهذا لان المقصود من إقامة حد القذف دفع العار عن المقذوف فلهذا
يبدأ به قبل حد الزنا والشرب وإذا برئ من ذلك فهو بالخيار ان شاء بدأ بحد الزنا وان
شاء بدأ بحد السرقة لان كل واحد منهما محض حق الله تعالى وهو ثابت بنص يتلي ويجعل
حد شرب الخمر آخرها لأنه أضعف من حيث أنه لا يتلي في القرآن وقد بينا ذلك وكلما أقام
عليه حدا حبسه حتى يبرأ ثم أقام الآخر لأنه ان والى إقامة هذه الحدود ربما يؤدي إلى
الاتلاف وقد بينا أنه مأمور بإقامة الحد علي وجه يكون زاجرا لا متلفا ولكنه يحبس لأنه
لو خلى سبيله ربما يهرب فلا يتمكن من إقامة الحد الآخر عليه ويصير مضيعا للحد والامام
منهى عن تضييع الحد بعد ظهوره عنده وإن كان محصنا اقتص منه في العين وضربه حد
القذف لما فيهما من حق العباد ثم رجمه لان حد السرقة والشرب محض حق الله تعالى ومتى
اجتمعت الحدود لحق الله تعالى وفيها نفس قتل وترك ما سوى ذلك هكذا نقل عن ابن
مسعود وابن عباس رضي الله عنهم والمعنى فيه أن في الحدود الواجبة لله تعالى المقصود هو
الزجر وأتم ما يكون من الزجر باستيفاء النفس والاستيفاء بما دونه اشتغال بما لا يفيد
فلهذا رجمه ودرأ عنه ما سوى ذلك إلا أنه يضمنه السرقة لأن الضمان قد وجب عليه بالأخذ
وإنما يسقط لضرورة استيفاء القطع حقا لله ولم يوجد ذلك فلهذا يضمنه السرقة ويأمر
بايفائها من تركته (قال) ولا يقام حد في المسجد ولا قود ولا تعزير لما فيه من وهم تلويث
المسجد ولان المجلود قد يرفع صوته وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع
الصوت في المسجد بقوله صلى الله عليه وسلم جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع
101

أصواتكم ولكن القاضي يخرج من المسجد إذا أراد إقامة الحد بين يديه كما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حديث الغامدية أو يبعث أمينا ليقام بحضرته كما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ماعز (قال) وإذا زنى الرجل مرات أو قذف مرات أو سرق
مرات أو شرب مرات لا يقام عليه الا حد واحد لان مبنى الحدود على التداخل لما أن
المقصود بها الزجر وذلك يحصل بحد واحد ولان المقصود إظهار كذب القاذف لدفع
العار عن المقذوف وذلك يحصل بإقامة حد واحد ولان المغلب في حد القذف حق الله تعالى
عندنا على ما نبينه في بابه (قال) وليس على واطئ البهيمة حد عندنا ولكنه يعزر ومن الناس
من أوجب عليه الحد لحديث روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى بهيمة فاقتلوه
ولكن الحديث شاذ لا يثبت الحد بمثله ولو ثبت فتأويله في حق من استحل ذلك الفعل
ثم ليس لفرج البهيمة حكم الفرج حتى لا يجب ستره والايلاج فيه بمنزلة الايلاج في كوز
أو كوة ولهذا قلنا أنه لا تنتقض طهارته بنفس الايلاج من غير أنزال ولان الحد مشروع
للزجر ولا يميل طبع العقلاء إلى اتيان البهيمة فإنها ليست بمشتهاة في حق بني آدم وقضاء
الشهوة يكون من غلبة الشبق أو فرط السفه كما يحصل قضاء الشهوة بالكف والالية ولكنه
يعذر لارتكابه مالا يحل (قال) في الأصل بلغنا عن علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه
أنه أتى برجل أتى بهيمة فلم يحده وأمر بالبهيمة فذبحت وأحرقت بالنار وهذا ليس بواجب
عندنا وتأويله أنه فعل ذلك كيلا يعير الرجل به إذا كانت البهيمة باقية (قال) لو قذف
قاذف رجلا باتيان البهيمة فلا حد عليه لان القاذف إنما يستوجب الحد إذا نسبه إلى فعل
يلزمه الحد بمباشرته وذلك غير موجود هنا ألا ترى أنه لو قذفه بوطئ الميتة أو تقبيل الحرام
لا يجب الحد فكذلك إذا قذفه باتيان البهيمة (قال) وان قذفه بعمل قوم لوط لم يحد إلا أن
يفصح معناه إذا قال يا لوطي لا حد عليه بالاتفاق لأنه نسبه إلى نبي من أنبياء الله تعالى فلا
يكون هذا اللفظ صريحا في القذف فأما إذا أفصح بنسبته إلى ذلك الفعل فعند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى يعزر ولا يحد لأنه نسبه إلى فعل لا يلزمه الحد بذلك الفعل عنده وعندهما
يلزمه حد القذف لأنه نسبه إلى فعل يستوجب بمباشرته الحد عندهما (قال) ومن وطئ
امرأة في نكاح فاسد ثم قذفه رجل لا حد عليه لأنه ارتكب وطءا حراما غير مملوك
فيسقط به احصانه (قال) ولا ينبغي للقاضي أن يلقن الشهود ما تتم به شهادتهم في الحدود
102

لأنه مأمور بالاحتيال لدرء الحد لا لإقامته وفى هذا احتيال لإقامة الحد فلا يكون للقاضي
أن يشتغل به (قال) وينبغي للقاضي إذا أشكل عليه شئ أن يسأل من هو أفقه منه ولا
يسعه الا ذلك لقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وقال صلى الله عليه وسلم
هلا سألوه إذا لم يعرفوه وإنما شفاء العي السؤال ولأنه مأمور بالقضاء بحق ولا يتصل إلى
ذلك فيما أشكل عليه الا بالسؤال فلا يسعه الا ذلك فان أشار عليه ذلك الذي هو أفقه
منه في رأى نفسه بما هو خطأ عند القاضي فعليه أن يقضي بما هو الصواب عنده إذا
كان يبصر وجوه الكلام لأنه مأمور شرعا بالاجتهاد إذا كان مستجمعا شرائطه ولا يحل
للمجتهد أن يدع رأيه برأي غيره وإن كان أفقه منه فقد يسبق وجه الصواب في حادثة
لإنسان ويشتبه على غيره وإن كان أفقه منه وان ترك رأيه وعمل بقول ذلك الفقيه كان
موسعا عليه أيضا لان هذا نوع اجتهاد منه فان عند تعارض الأقاويل ترجيح قول من هو
أفقه منه نوع اجتهاد ألا ترى ان القاضي إذا لم يكن مجتهدا واختلف العلماء في حادثة كان
عليه ان يأخذ بقول من هو أفقه عنده ويكون ذلك اجتهاد مثله وهناك أيضا إذا قدم
رأى من هو أفقه منه على رأى نفسه كان ذلك نوع اجتهاد منه فكان موسعا عليه والله
أعلم بالصواب
(باب الرجوع عن الشهادات)
(قال) وإذا شهد ثمانية نفر على رجل بالزنا كل أربعة يشهدون على الزنا بامرأة على حدة
فرجمه القاضي ثم رجع أربعة منهم عن الشهادة لم يضمنوا ولم يحدوا لأنه قد بقي على الشهادة
أربعة منهم ولان ما يثبته عليه شهادة الأربعة والمعتبر في مسائل الرجوع بقاء من بقي على
الشهادة فان بقي على الشهادة من تتم به الحجة لم يضمن الراجعون شيئا ولا يحدون أيضا لأنه
غير محصن في حق أحد ما بقيت حجة تامة على زناه فان رجع واحد من الآخرين أيضا
فعلي الراجعين ربع الدية لأنه قد بقي علي الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة أرباع
النفس وإنما انعدمت الحجة في الربع فعلى الراجعين ذلك القدر وليس بعضهم بالوجوب
عليه بأولى من البعض لأنه قبل شهادتهم جميعا ويحدون حد القذف في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفى قول محمد رحمه الله تعالى لا يحدون وكذلك أن رجع
103

الفريقان جميعا فعليهم ضمان الدية ويحدون عندهما ولا حد عليهم عند محمد لان كل أربعة أثبتوا
بشهادتهم زنا آخر فالزنا بزينب غير الزنا بعمرة ففي حق كل فريق يجعل كان الفريق الأول
ثابتون على الشهادة في حكم سقوط الاحصان ألا ترى ان شهود الزنا لو رجعوا وقذف
المرجوم انسان فلا حد على القاذف ويجعل في حقه كأنهم ثابتون على الشهادة وكذلك
لو شهد أربعة سواهم أنه كان زانيا بعد رجوعه لا يحدون الا ان هذا المعنى لا يعتبر في سقوط
ضمان يدل النفس لأنه يؤدى إلى اهدار الدم ويعتبر في امتناع وجوب الحد عليهم لان الحد
يندرئ بالشبهات وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا هم في حق الرجوع
كالشاهدين عليه بزنا واحد لان المقصود بهذه الشهادة إقامة الحد ولا يقام عليه الأحد
واحد وان تعدد فعل الزنا منه والدليل عليه ان في حكم الضمان جعلوا كالشاهدين بزنا واحد
وأنه لو رجع اثنان من كل فريق لا يضمنون شيئا أيضا ولو لم يجعلوا كذلك لضمنوا لان الباقي
على الشهادة شاهدان أنه زنى بامرأة وشاهدان أنه زنى بامرأة أخري والحجة لا تتم بهذا
فعرفنا أنهم جعلوا كالشاهدين عليه بزنا واحد (قال) ولو شهدوا بذلك ثم رجع خمسة حدوا
جميعا فهذا مثله وهذا لأنهم إذا رجعوا جميعا فقد حكمنا في حقهم بأنه محصن مقتول ظلما
حتى غرمناهم الدية فيبعدان يقال لا يقام عليه الحد ومن زعمهم أنه عفيف وانهم قذفوه بغير حق
(قال) وان شهد خمسة على رجل بالزنا والاحصان فرجم ثم رجع واحد فلا شئ عليه لبقاء
حجة تامة فان رجع آخر غرما ربع الدية لان الباقي على الشهادة من يستحق بشهادته ثلاثة
أرباع النفس ويحدان جميعا لأنه لم يبق على الشهادة من تتم به الحجة وقد انفسخت الشهادة
في حقهما بالرجوع فعليهما الحد (فان قيل) الأول منهما حين رجع لم يجب عليه حد
ولا ضمان فلو لزمه ذلك أنما يلزمه برجوع الثاني ورجوع غيره لا يكون ملزما إياه الحد
(قلنا) لم يجب لانعدام السبب بل لمانع وهو بقاء حجة تامة فإذا زال برجوع الثاني وجب
الحد على الأول بالسبب المتقرر في حقه لا بزوال المانع فلو اعتبرنا هذا المعني لوجب القول
بأنهم لو رجعوا معا لم يحد واحد منهم لان في حق كل واحد منهم لا يلزمه شئ برجوعه
وحده لو ثبت أصحابه على الشهادة وهذا بعيد (قال) وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا
فعل الامام الذي ليس فوقه امام شيئا مما هو إلى السلطان فليس فيه عليه حد الا القصاص
والأموال فإنه يؤخذ بها لان استيفاء الحد إلى الامام وهو الامام فلا يملك إقامة الحد على
104

نفسه لان الشرع ما جعل من عليه نائبا عنه في الاستيفاء من نفسه فان اقامته بطريق
الخزي والعقوبة فلا يفعل الانسان ذلك بنفسه ومن هو دونه نائبه لا يمكنه أن يقيم فانعدم
المستوفى وفائدة الوجوب الاستيفاء فإذا انعدم المستوفى قلنا إنه لا يجب والشافعي رحمه الله
تعالى يقول يلزمه الحد ويجتمع الصلحاء من المسلمين على رجل ليقيم عليه ذلك الحد وأهل
الزيغ يعللون في هذه المسألة ويقولون انه بالزنا قد انعزل فكان زناه في وقت لا امام فيه ولو
زنى في مكان لا امام فيه وهو دار الحرب لا يلزمه الحد فكذلك إذا زنى في زمان لا امام
فيه وهذا قول باطل عندنا لما قلنا أنه بالفسق لا ينعزل فأما القصاص والأموال محض حق
العبد واستيفاؤه إلى صاحب الحق فيستوفيه منه ان تمكن من ذلك (قال) وقال أبو حنيفة
رحمه الله تعالى السكر الذي يجب به الحد على صاحبه أن لا يعرف الرجل من المرأة وإنما أراد
به أن من شرب ما سوى الخمر من الأشربة فلا حد عليه ما لم يسكر وحد سكره عندهما أن
يختلط كلامه فلا يتميز جده من هزله لأنه إذا بلغ هذا الحد يسمى في الناس سكرانا واليه أشار
الله عز وجل في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال ما لم يبلغ نهاية السكر لا يلزمه الحد لان في الأسباب الموجبة
للحد يعتبر أقصى النهاية احتيالا لدرء الحد وذلك في أن لا يعرف الأرض من السماء والفرو
من القباء والذكر من الأنثى إلى هذا أشار في الأشربة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
واليه المرجع والمآب
(باب الشهادة في القذف)
(قال) رضي الله تعالى عنه وإذا ادعى رجل على رجل أنه قذفه ولا بينة له لم يستحلف على
ذلك ولا يمين في شئ من الحدود لان المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول والنكول
إنما يكون بدلا والبدل لا يعمل في الحدود أو يكون قائما مقام الاقرار والحد لا يقام بما هو قائم
مقام غيره إلا أن على قول الشافعي رحمه الله يستحلف في حد القذف بخلاف سائر الحدود
بناء على أصله أن حد القذف حق العبد فيستحلف فيه كالتعزير والقصاص ولان في سائر
الحدود رجوعه بعد الاقرار صحيح فلا يكون استحلافه مفيدا وفي حد القذف رجوعه
عن الاقرار باطل فالاستحلاف فيه يكون مفيدا كالأموال ولكنا نقول هذا حد يدرأ
105

بالشبهة فلا يستحلف فيه كسائر الحدود وهو بناء على أصلنا أن المغلب فيه حق الله تعالى على
ما نبينه (قال) إلا أنه يستحلف في السرقة لأجل المال فان أبى أن يحلف ضمن المال ولم يقطع
لان المال حق العبد وهو يثبت مع الشبهات وحقيقة المعنى فيه أن في السرقة أخذ المال فإنما
يستحلف على الاخذ لا على فعل السرقة وعند نكوله يقضى بموجب الاخذ وهو الضمان
كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة يثبت الاخذ الموجب للضمان ولا يثبت القطع الذي
ينبني على فعل السرقة فان جاء المقذوف بشاهدين فشهدا أنه قذفه سئلا عن ماهيته وكيفيته
لأنهم شهدوا بلفظ مبهم فالقذف قد يكون بالزنا وقد يكون بغير الزنا فإن لم يزيدوا على ذلك
لم تقبل شهادتهم لان المشهود به غير معلوم ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول فكذلك
يمتنع عن القضاء عند امتناعهما عن بيان ما شهدا به فان قالا نشهد أنه قال يا زاني قبلت
شهادتهما وحد القاذف ان كانا عدلين لأنهم شهدوا بالقذف بالزنا وهو موجب للحد
بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى والذين يرمون المحصنات واتفق أهل التفسير أن
المراد بالرمي الرمي بالزنا دل عليه قوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فان عدد الأربعة في
الشهود شرط في الزنا خاصة واما السنة فما روى أن هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن
سحماء قال صلى الله عليه وسلم ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك والا فحد في ظهرك
(قال) وإن لم يعرف القاضي شهود القذف بالعدالة حبسه حتى يسأل عنهم لأنه صار متهما
بارتكاب ما لا يحل من هتك الستر وأذى الناس بالقذف فيحبس لذلك ولا يكفله لان
التكفيل للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والاسقاط ثم ذكر أنه لا يكفل في شئ
من الحدود والقصاص في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى الأول ذكره في
كتابه الكفالة وفى قول أبى يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله تعالى يأخذ منه
الكفيل في دعوى حد القذف عليه وكذلك في دعوى القصاص ولا خلاف له أنه لا
تصح الكفالة بنفس الحد والقصاص لان النيابة لا تجري في ايفائهما والمقصود من الكفالة
إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في الايفاء وهذا لا يتحقق في شئ من الحدود فلا تصح
الكفالة بها فأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه فعند أبي حنيفة رحمه الله إذا زعم المقذوف
أن له بينة حاضرة في المصر فان القاضي لا يأخذ من المدعى عليه كفيلا بنفسه ولكن
يحبسه إلى آخر المجلس فان أحضر بينته والا خلى سبيله ومراده بهذا الحبس الملازمة أنه
106

يأمره بملازمته إلى آخر المجلس لا حقيقة الحبس لأنه عقوبة وبمجرد الدعوى لا تقام العقوبة
على أحد وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأخذ منه كفيلا بنفسه إلى ثلاثة أيام
ليأتي بالبينة وقالا ان حد القذف في الدعوى والخصومة بمنزلة حقوق العباد وفي أخذ الكفيل
نظر للمدعى من حيث أنه يتمكن من احضار الخصم بإقامة البينة عليه ولا ضرر فيه على
المدعي عليه فيأخذ القاضي كفيلا بنفس المدعي عليه كما في الأموال وهذا لان تسليم النفس
مستحق على المدعى عليه حقا للمدعى ولهذا يستوفى منه عند طلبه وهو مما يجرى فيه
النيابة فيجوز أخذ الكفيل فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المقصود من هذه الخصومة
اثبات الحد والكفالة للتوثق والاحتياط والحد مبني على الدرء والاسقاط فلا يحتاط فيه بأخذ
الكفيل كما في حد الزنا وكان أبو بكر الرازي رحمه الله يقول مراد أبي حنيفة ان القاضي
لا يجبر الخصم على اعطاء الكفيل ولكن ان سمحت نفسه فأعطى كفيلا بنفسه صح ذلك
لان تسليم النفس مستحق عليه كما قلنا وان أقام المدعى شاهدا واحدا فإن كان القاضي
لا يعرف هذا الشاهد بالعدالة فهو وما لم يقم الشاهد سواء لا يحبسه الا بطريق الملازمة إلى
آخر المجلس وإن كان يعرف هذا الشاهد بالعدالة فادعي ان شاهده الآخر حاضر حبسه
يومين أو ثلاثة استحسانا وفي القياس لا يفعل لان الحجة لا تتم بالشاهد الواحد حتى لا
يجوز القضاء به بحال ولكنه استحسن فقال قد تم أحد شرطي الشهادة فان للشهادة شرطين العدد
والعدالة فلو تم العدد حبسه قبل ظهور العدالة فكذلك إذا وجدت صفة العدالة قلنا أنه
يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ويمهله في ذلك يومين أو ثلاثة فيحبسه هذا المقدار
استحسانا وهذا كله عند أبي حنيفة لأنه لا يرى الكفالة بالنفس في الحد فاما عندهما يأخذ
كفيلا بنفسه ولا يحبسه والمقصود يحصل بذلك (قال) وإذا تزوج المجوسي أمه ودخل بها
ثم أسلما وفرق بينهما ثم قذفهما رجل فعليه الحد عند أبي حنيفة رحمه الله لان من أصله ان
نكاح المحارم فيما بينهم له حكم الصحة فلا يسقط به الاحصان (قال) وان مات المكاتب
وترك وفاء فأديت مكاتبته فقذفه رجل فلا حد عليه لشبهة الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنه
م أنه مات حرا أو عبدا وقد بينا هذا فيما سبق وبعد ثبوت القذف يسأله البينة أنه
حر يريد به أنه إذا زعم القاذف ان المقذوف عبد وقد بينا ان الحرية الثابتة بالظاهر لا تكفي
لثبوت الاحصان واستحقاق الحد على القاذف وكذلك إذا ادعى القاذف أنه عبد
107

وعليه حد العبيد فالقول قوله فما لم يقم المقذوف البينة على حريته لا يقام عليه حد الأحرار
فان عرف القاضي حريته اكتفي بمعرفته لان علم القاضي أقوى من الشهادة ولا
يقال كيف يقضى القاضي بالحد بعلمه لان في حد القذف له أن يقضى بعلمه ولأنه إنما
يقضى بالحرية هنا بعلمه والحرية ليست بسبب لوجوب الحد فان اختلف الشاهدان في الوقت
أو المكان لم تبطل شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما لا يحد القاذف
بهذه الشهادة فالحاصل ان ما يكون قولا محصنا كالبيوع والأقارير ونحوها فاختلاف الشهود في
المكان أو الزمان لا يمنع قبول الشهادة لأنه مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فلا
يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان وكذلك لو اختلفا في الانشاء والاقرار لان
حقيقة الانشاء والاقرار واحد في هذا الباب ومن هذه الجملة القرض لان تمام القرض وإن كان
بالتسليم ولكن تحمل الشهادة على قول المقرض أقرضتك وذلك قول فألحقه بالاقرار
لهذا فأما الجناية والغصب وما أشبههما من الأفعال اختلاف الشهود في المكان والزمان
والاقرار والانشاء يمنع قبول الشهادة لان الفعل مما لا يتكرر والاقرار بالفعل غير الفعل
وما لم يتفق الشاهدان على شئ واحد لا يتمكن القاضي من القضاء به والنكاح من هذا النوع
أيضا لأنه وإن كان قولا فلا يصح الا بمحضر من شاهدين وحضور الشهود فعل فالحق
بالأفعال لهذا وفى القول الذي لا يتم الا بالفعل كالهبة والصدقة والرهن اختلاف معروف
نذكره في الهبة والرهن فأما القذف فأبو يوسف ومحمد رحمها الله تعالى قالا اختلاف
الشهود فيه في المكان والزمان يمنع قبول الشهادة لأنه إنشاء سبب موجب للحد وما لم يتفق
الشاهدان علي سبب واحد لا يتمكن القاضي من القضاء ألا ترى أنهما لو اختلفا في الاقرار
والانشاء لم تقبل شهادتهما وألحق ذلك بالأفعال فكذلك لو اختلفا في الوقت والمكان
وهذا لان وجوب الحد بالتناول من عرض المقذوف فالشهادة عليه بمنزلة الشهادة على
التناول من نفسه بالجناية وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القذف قول قد تكرر فيكون
حكم الثاني حكم الأول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في المكان والزمان كالطلاق والعتاق
بخلاف الاقرار والأفعال وهذا هو القياس إذا اختلفا في الانشاء والاقرار قال إلا أنى
أستحسن هناك لان حكم الاقرار بالقذف مخالف لحكم الانشاء بالقذف ألا ترى أن من
تزوج امرأة ثم أقر أنه كان قذفها قبل أن يتزوجها فعليه الحد وان قذفها في الحال لا عنها
108

وكذلك لو أبان امرأته ثم أقر أنه كان قذفها قبل الإبانة فلا حد عليه ولا لعان ولو قذفها في
الحال حد فلما كان حكم الاقرار مخالفا لحكم الانشاء يتحقق الاختلاف بين الشاهدين إذا
اختلفا في الاقرار والانشاء فأما حكم القذف لا يختلف بالمكان والزمان فلا يتحقق الاختلاف
بينهما في المشهود به وان اختلفا في المكان والزمان (قال) وإذا قضى القاضي بحد
القذف على القاذف ثم عفي المقذوف عنه بعوض أو بغير عوض لم يسقط الحد بعفوه عندنا
وذكر ابن عمر ان عن بشر بن الوليد عن أبي الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى انه
يسقط وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى وأصل المسألة ان المغلب في حد القذف عندنا حق
الله تعالى وما فيه من حق العبد فهو في حكم التبع وعند الشافعي رحمه الله تعالى المغلب حق
العبد وحجته لاثبات هذا الأصل ان سبب الوجوب التناول عن عرضه وعرضه حقه بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبى ضمضم إذا أصبح قال اللهم إني
تصدقت بعرضي على عبادك وإنما يستحق المدح على التصدق بما هو من حقه والمقصود
دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه ومن حيث الحكم حد القذف يستوفى بالبينة بعد
تقادم العهد ولا يعمل فيه الرجوع عن الاقرار وذلك دليل ظاهر على أنه حق العبد ولذلك
لا يستوفي الا بخصومته وإنما يستوفى بخصومته ما هو حقه بخلاف السرقة فخصومته هناك
بالمال دون الحد ويقام هذا الحد على المستأمن بالاتفاق وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من
حقوق العباد إلا أن من له لا يتمكن من الاستيفاء بنفسه لان ألم الجلدات غير معلوم المقدار
فإذا فوض إلى من له ربما لا يقف على الحد لغيظه فجعل الاستيفاء إلى الامام مراعاة للنظر
من الجانبين بخلاف القصاص فإنه معلوم بجده فإذا جاوز من له الحق ذلك الحد يعلم ذلك
فيمنع منه (وحجتنا) في ذلك وهو ان هذا حد يعتبر فيه الاحصان فيكون حقا لله
تعالى كالرجم وتأثير هذا الكلام لان الحدود زواجر والزواجر مشروعة حقا لله تعالى
فاما ما يكون حقا للعبد فهو في الأصل جائز فما أوجب من العقوبات حقا للعبد وجب باسم
القصاص الذي ينبئ عن المساواة ليكون إشارة إلى معنى الجبر وما أوجب باسم الحد فهو
حق الله تعالى وفى هذا الاسم إشارة إلى معنى الزجر والدليل عليه ان في حقوق العباد
يعتبر المماثلة وبه ورد النص حيث قال تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ولا مناسبة بين
نسبة الزنا وبين ثمانين جلدة لا صورة ولا معنى والدليل عليه وهو أن الحد مشروع
109

لتعفية أثر الزنا وحرمة إشاعة الفاحشة من حقوق الله تعالى فكان هذا نظير الواجب
بمباشرة الزنا من حيث أن كل واحد منهما مشروع لابقاء الستر وتعفية أثر الزنا واعتبار
الاحصان لمعني النعمة وذلك فيما هو من حق الله تعالى وما ذكره الخصم لا ينفي معني حق
الله تعالى لان في عرضه حقه وحق الله تعالى وذلك في دفع عار الزنا عنه لان في ابقاء ستر
العفة معني حق الله تعالى فإذا دل بعض الأدلة على أنه محض حق الله تعالى وبعض الأدلة
على اجتماع الحقين فيه قلنا بأن المغلب حق الله تعالى مع اعتبار حق العبد فيه أيضا ليكون
عملا بالأدلة كلها والدليل عليه أن الاستيفاء إلى الامام والامام إنما يتعين نائبا في استيفاء
حق الله تعالى واما ما كأن حقا للعبد فاستيفاؤه إليه ولا معتبر بتوهم التفاوت فان للزوج
أن يعزر زوجته وإن كان ذلك يوهم التفاوت لكن التعزير لما كان للزوج حقا له لا ينظر إلى
توهم التفاوت من هذا الوجه وهذا لأن هذه المبالغة كما تتوهم من صاحب الحق تتوهم من
الجلاد ويمنع صاحب الحق من ذلك إذا ظهر أثره كما يمنع الجلاد منه مع أن توهم الزيادة
لا يمنع صاحب الحق عن استيفاء حقه كتوهم السراية في القصاص والدليل عليه أنه يتنصف
هذا الحد بالرق وإنما يتنصف بالرق لانعدام نعمة الحرية في حق العبد لا لان بدنه دون بدن
الحر في احتمال الضرب فاحتمال بدن العبد للمهانة والضرب أكثر وإنما يتكامل بتكامل النعم
ما كان حقا لله تعالى لان شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة حق للمنعم والدليل عليه ان
ما كان متمما لهذا الحد وهو سقوط الشهادة كان حقا لله تعالى فكذلك أصل الحد ولكن
قد بينا ان فيه معنى حق العبد أيضا فلهذا تعتبر خصومته وطلبه ولهذا لا يعمل فيه الرجوع عن
الاقرار لان الخصم مصدق له في الاقرار مكذب له في الرجوع بخلاف ما كان محض حق
الله تعالى فان هناك ليس من يكذبه ولهذا يقام بحجة البينة بعد التقادم لعدم تمكن الشهود
من أداء الشهادة قبل طلب المدعى فلا يصيرون متهمين بالضغينة ولهذا يقام على المستأمن لأنه لما
كان للعبد حق الخصومة والطلب به والمستأمن ملتزم لحقوق العباد فيقام عليه إذا ثبت هذا
الأصل فنقول بعفوه لا يسقط عندنا ولأنه إنما يملك اسقاط ما يتمحض حقا له فأما حق الله
تعالى لا يملك اسقاطه وإن كان للعبد فيه حق كالعدة فإنها لا تسقط باسقاط الزوج لما فيها
من حق الله تعالى وقد روى مثل مذهبنا عن علي رضي الله عنه ولكن الحد وإن لم يسقط
بعفوه فإذا ذهب العافي لا يكون للامام ان يستوفى لما بينا ان الاستيفاء عند طلبه وقد ترك
110

الطلب إلا أنه إذا عاد فطلب فحينئذ يقيم الحد لان عفوه كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن
ولو صدقه فيما قال أو قال شهودي شهدوا بالباطل فليس له ان يخاصم في شئ لأنه إذا
أكذب شهوده تبطل شهادتهم كالمسروق منه إذا أكذب شهوده وإذا صدقه فقد صار
مقرا بالزنا وانعدم به احصانه وقذف غير المحصن لا يوجب الحد فباقراره ينعدم السبب
الموجب للحد لا انه يسقط فاما بعفوه لا ينعدم السبب وما أسقطه حق الشرع فكان
اسقاطه لغوا لهذا (قال) ويستحسن للامام أن يقول للطالب قبل إقامة البينة أترك هذا
وانصرف لان الحد لم يثبت عنده بعد وهذا نوع احتيال منه لدرء الحد وهكذا في السرقة
يستحب له أن يقول للمسروق منه اترك دعوى السرقة قبل أن نثبت السرقة بالبينة (قال)
ولو قذف جماعة في كلمة واحدة أو في كلمات متفرقة لا يقام عليه الأحد واحد عندنا وعند
الشافعي ان قذفهم بكلام واحد فكذلك الجواب وان قذفهم بكلمات متفرقة يحد لكل واحد
منهم لأنه حق المقذوف عنده فلا يجرى فيه التداخل عند اختلاف السبب وعندنا المغلب فيه
حق الله تعالى وهو مشروع للزجر فيجرى فيه التداخل كسائر الحدود وكذلك أن حضر
بعضهم للخصومة ولم يحضر البعض فأقيم الحد بخصومة من حضر فعلى مذهبه إذا حضر
الغائب وخاصم يقام عليه الحد لأجله أيضا وعندنا لا يقام إذا علم أنه قذفه بالزنا قبل إقامة الحد
عليه لان حضور بعضهم للخصومة كحضور جماعتهم وما هو المقصود قد حصل وهو دفع
العار عن المقذوف بالحكم بكذب القاذف (قال) ولا يقبل في القذف كتاب القاضي إلى
القاضي ولا الشهادة على الشهادة ولا شهادة النساء مع الرجال لان موجبه حد يندرئ بالشبهات
وتجوز شهادة القاذف بعدما ضرب بعض الحد وإذا كان عدلا لان رد شهادته من تتمة الحد
فلو ثبت قبل كمال الجلد لم يكن متمما للحد ولان الله تعالى عطف رد الشهادة على الجلدات
والمعطوف لا يسبق المعطوف عليه (قال) رجل قال لامرأته زنيت مستكرهة أو قال جامعك
فلان جماعا حراما أو زنيت؟ وأنت؟ صغيرة لا حد عليه لأنه نسبها إلى فعل غير موجب للحد
عليها وقد بينا ان وجوب الحد على القاذف بنسبة المقذوف إلى فعل موجب للحد عليه ثم
المستكرهة لا فعل لها وقوله جامعك جماعا حراما ليس بصريح بالقذف بالزنا وقوله زنيت
وأنت صغيرة محال شرعا لان فعل الصغيرة لا يكون زنا شرعا الا ترى أنها لا تأثم به فهو كقوله
زنيت قبل أن تولدي وذلك غير موجب للحد لان الشين بهذا الكلام يلحق القاذف دون
111

المقذوف وإقامة الحد لدفع العار عن المقذوف وان قال زنيت وأنت كافرة وقد أسلمت أو
قال زنيت وأنت أمة وقد أعتقت فعليه الحد لدفع العار عن المقذوف لأنه نسبها إلى
فعل موجب للحد عليها فان فعل الذمية والأمة زنا ويحدان على ذلك ولو قال قذفتك بالزنا
وأنت كتابية أو أمة فلا حد عليه لأنه ما نسبها إلى الزنا بهذا الكلام بل أقر على نفسه
أنه قذفا في حال لو علمنا منه القذف في تلك الحالة لم يلزمه الحد فكان منكرا للحد لا
مقرا به ويضرب في حد القذف ضربا ليس بشديد مبرح وهكذا في سائر الحدود لان
المستحق فعل مؤلم لا متلف فالشديد المبرح متلف فعلى الجلاد أن يتحرز عن ذلك (قال)
رجل قذف ميتا بالزنا فعليه الحد لان وجوب الحد باعتبار احصان المقذوف والموت
يقرر احصانه ولا ينفيه ثم الخصومة في هذا القذف إلى من ينسب إلى الميت بالولاد أو
ينسب إليه الميت بالولاد ولأنه يلحقهم الشين بذلك وحق الخصومة لدفع العار فمن يلحقه
الشين به كان له أن يخاصم بإقامة الحد عليه (قال) وليس لأخيه أن يخاصم في ذلك عندنا
وعند ابن أبي ليلي له ذلك لان للأخ علقة في حقوقه بعد موته كالولد ألا ترى أنه في
القصاص يخلفه فكذا في حد القذف ولكنا نقول الخصومة هنا ليست بطريق الخلافة
فان حد القذف لا يورث ليخلف الوارث المورث فيه وإنما الخصومة لدفع الشين عن نفسه
والأخ لا يلحقه الشين بزنا أخيه لأنه لا ينسب أحد الأخوين إلى صاحبه وإنما نسبة زنا
الغير باعتبار نسبته إليه بخلاف الآباء والأولاد (قال) ولولد الولد أن يأخذ بذلك كما
للولد ذلك قال وفى كتاب الحدود الاختلاف فيمن يرث ويورث ولا معتبر بهذه الزيادة لان المطالبة
بالحد ليس بطريق الوراثة إلا أن محمدا رحمه الله تعالى روى عنه أنه ليس لولد الابنة حق
الخصومة في هذا الحد لأنه منسوب إلى أبيه لا إلى أمه فلا يلحقه الشين بزنا أبى أمه
وفي ظاهر الرواية النسب يثبت من الطرفين ويصير الولد به كريم الطرفين ولو قذف أمه
كان له أن يخاصم باعتبار نسبته إليها ليدفع به عن نفسه فكذلك إذا قذف أبا أمه وقال زفر
رحمه الله تعالى مع بقاء الولد ليس لولد الولد ان يخاصم لان الشين الذي يلحق الولد فوق ما
يلحق ولد الولد فصار ولد الولد مع بقاء الولد كالولد مع بقاء المقذوف واعتبر هذا بطلب
الكفاءة فإنه لا خصومة فيه للأبعد مع بقاء الأقرب ولكنا نقول حق الخصومة باعتبار ما لحقه
من الشين بنسبته إليه وذلك موجود في حق ولد الولد كموجوده في حق الولد فأيهما خاصم يقام؟
112

الحد بخصومته بخلاف المقذوف فان حق الخصومة له باعتبار تناول القاذف من عرضه
وذلك لا يوجد في حق ولده (قال) ولولد الكافر والمملوك ان يأخذ بالحد كما يأخذ به
الولد الحر المسلم وعند زفر ليس له ذلك لان الكافر والمملوك لو قذف في نفسه لم يجب الحد
على قاذفه فإذا قذف في أبيه وأمه أولى ولكنا نقول الحد وجب لحق الله تعالى وخصومة
الولد باعتبار الشين الذي لحقه وذلك موجود في حق الولد الكافر والمملوك لان النسبة
لا تنقطع بالرق والكفر وإنما تنعدم الخلافة إرثا بالكفر والرق فيما هو من حق الميت
وحد القذف ليس من ذلك في شئ وهذا بخلاف ما إذا قذف في نفسه لان الموجب للحد
قذف المحصن والعبد والكافر ليس بمحصن اما هنا تم سبب وجوب الحد وهو قذف المحصن
إذا لميت محصن فكل من يلحقه الشين بهذا القذف فهم خصم في المطالبة بالحد بعد تقرر سببه
(قال) وإن كان المقذوف حيا غائبا ليس لأحد من هؤلاء أن يأخذ بحده عندنا وقال ابن أبي
ليلى رحمه الله تعالى الغائب كالميت لان خصومة تتعذر لغيبته كما هو متعذر بعد موته
ولكنا نقول ينوب أو يبعث وكيلا ليخاصم والخصومة باعتبار تناول العرض أصل فما لم يقع
اليأس عنه لا يعتبر بالخصومة باعتبار الشين وفى الميت الخصومة باعتبار تناول العرض مأيوس
عنه فيقام الحد بخصومة من يلحقه الشين بخلاف الغائب فان مات هذا الغائب قبل أن يرجع
لم يأخذ وليه أيضا عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لان المغلب عنده حق العبد فيصير
موروثا عن المقذوف بعد موته لورثته وعندنا المغلب حق الله تعالى فلا يورث عملا بقوله
صلى الله عليه وسلم لا يجرى الإرث فيما هو من حق الله تعالى ولان الإرث خلافة الوارث
المورث بعد موته في حقه والله تعالى يتعالى عن ذلك (فان قيل) فحق لله تعالى لا يسقط
أيضا بموت المقذوف (قلنا) لا نقول سقط بموته ولكنه يتعذر استيفاؤه لانعدام شرطه
فالشرط خصومة المقذوف ولا يتحقق منه الخصومة بعد موته (فان قيل) كان ينبغي أن
يقوم الوارث مقامه في خصومته أو وصيه ان أوصى بذلك إلى انسان (قلنا) شرط الحد
معتبر بسببه فكما أن ما يقوم مقام الغير لا يثبت به سبب الحد فكذلك لا يثبت به شرط
الحد بخلاف ما إذا قذف بعد الموت لأنا لا نقول خصومة ولده تقوم مقام خصومته وكيف
يقال؟ ذلك ولا يورث ذلك ولا يثبت له حق الخصومة بعد موته ولكن الولد خصم عن نفسه
باعتبار ما لحقه من الشين فأما في حال الحياة لم يثبت للولد حق الخصومة فلو ثبت بعد الموت
113

كان بطريق القيام مقامه وذلك لا يكون في الحدود (قال) ولو وكل الغائب من يطلب
بحده صح التوكيل في قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبى يوسف الأول رحمهم الله تعالى
ثم رجع وقال لا أقبل الوكالة في حد ولا قصاص لان خصومة الوكيل تقوم مقام الموكل
وشرط الحد لا يثبت بمثله ولان بالاجماع لا يصح التوكيل باستيفاء الحد والقصاص لأنها
عقوبة تندرئ بالشبهات فكذلك في الاثبات كما في الحدود التي هي حق لله تعالى وهما
يقولان الاثبات من جملة ما إذا وقع الغلط فيه أمكن التدارك فيه وتلافيه والتوكيل في
مثله صحيح كالأموال بخلاف الاستيفاء فإنه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه ولو استوفاه
الوكيل في حال غيبة الموكل كان استيفاؤه مع تمكن الشبهة لجواز أن من له القصاص قد عفي
وان المقذوف قد صدق القاذف أو أكذب شهوده وهذا لا يستوفى بحضرة الوكيل
حال غيبة الموكل (قال) فان مات المقذوف بعد ما ضرب القاذف بعض الحد فإنه لا يقام
عليه ما بقي اعتبارا للبعض بالكل وكذلك أن غاب بعد ما ضرب بعض الحد لم يتم الا وهو
حاضر ألا ترى أنه لو عمى الشهود أو فسقوا بعدما ضرب بعض الحد درئ عنه ما بقي
(قال) والقذف بأي لسان كان بالفارسية أو العربية أو النبطية يوجب الحد بعد أن يكون
بصريح الزنا لان المقصود دفع الشين وذلك لا يختلف باختلاف الألسن رجل فان لرجل
يا زانية لاحد عليه في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وفى القياس
عليه الحد وهو قول محمد رحمه الله تعالى ورواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى ولو قال
لامرأة يا زاني فعليه الحد بالاتفاق لوجهين أحدهما أن الايجاز والترخيم معروف في لسان
العرب قال القائل * أصاح تري برقا أريك وميضه * معناه يا صاحب وقرئ ونادوا يا مال
أي مالك وهذا أيضا حذف آخر الكلام للترخيم فلا يخرج به من أن يكون قذفا لها ألا ترى
إلى قول امرئ القيس أفاطم مهلا أي يا فاطمة ولان الأصل في الكلام التذكير وإلحاق هاء
التأنيث للفصل والفصل هنا حاصل بالإشارة حاصل بالإشارة فلا يخرج باسقاط حرف التأنيث من أن يكون
قذفا لها واستدل في الأصل بقوله تعالى إذا جاءك المؤمنات وقال نسوة في المدينة فأما إذا
قال يا زانية فمحمد رحمه الله تعالى يقول صرح بنسبته إلى الزنا وزاد حرف الهاء فتلغو الزيادة
ويبقى قاذفا له ملتزما للحد ولان في لسان العرب إلحاق هاء التأنيث بآخر الكلام للمبالغة
في الوصف فإنهم يقولون نسابة وعلامة ورواية للشعر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله
114

تعالى يقولان هو كذلك ولكن المقصود هو المبالغة في الوصف بعلم ذلك الشئ فكأنه قال
أنت أكثر الناس علما بالزنا أو أعلم الناس بالزنا وهكذا لا يكون قذفا موجبا للحد ثم نسبه
إلى فعل لا يتحقق ذلك منه لان الزانية هي الموطوءة الممكنة من فعل الزنا والرجل ليس
بمحل لذلك فقذفه بهذا اللفظ نظير قذف المجبوب وذلك غير موجب للحد بخلاف ما إذا
قال لامرأته يا زاني لأنه نسبها إلى مباشرة فعل الزنا وذلك يتحقق منها بان تستدخل فرج
الرجل في فرجها (قال) وإذا ادعي القاذف أن له بينة على تحقيق قوله أجل ما بينه وبين
قيام القاضي من مجلسه من غير أن يطلق عنه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى يستأنى به
ويمهل إلى المجلس الثاني ليحضر شهوده لان القذف موجب للحد بشرط عجزه عن إقامة أربعة
من الشهداء والعجز لا يتحقق لا بالامهال ألا ترى أن المدعى عليه إذا ادعى دفعا أو طعنا
في الشهود يهمل إلى المجلس الثاني ليأتي به فهذا مثله وجه ظاهر الرواية ان سبب وجوب الحد
ظهر عند القاضي فلا يكون له أن يؤخر الإقامة لما فيه من الضرر على المقذوف بتأخير دفع
العار عنه ولكن إلى آخر المجلس لا يكون تأخير فلا يتضرر بذلك القدر ألا ترى أنه يؤخر
إلى أن يحضر الجلاد فلهذا جوزنا له أن يمهله إلى آخر المجلس من غير أن يطلق عنه ولكن يقول
له ابعث إلى شهودك وذكر ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا لم يكن له من يحضر شهوده
أطلق عنه وبعث معه بواحد من شرطه ليرده عليه وهذا لان كل واحد لا يجد نائبا والقاضي
مأمور بالنظر من كل جانب ولكن لم يعتبر هذا في ظاهر الرواية لأنه إذا لم يحضر الشهود بقي
ستر العفة على المقذوف وذلك أولى الوجهين (قال) ولا يقبل منه أقل من أربعة شهود
لقوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقال تعالى فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون فان جاء بهم فشهدوا على المقذوف بزنا متقادم درأت الحد عن القاذف استحسانا
والقياس ان الشهادة على الزنا بعد التقادم لا تكون مقبولة فوجودها كعدمها إلا أنه استحسن
فقال إنما لا تقبل الشهادة على الزنا بعد التقادم لتوهم الضغينة وذلك معتبر في منع وجوب الحد
على المشهود عليه لا في اسقاط الحد عن القاذف كما لو أقام أربعة من الفساق على صدق مقالته
وان جاء بثلاثة فشهدوا عليه بالزنا وقال القاذف انا رابعهم لم يلتفت إلى كلامه ويقام عليه
وعلي الثلاثة الحد لأنه خصم ملتزم للحد فلا يكون شاهدا وبالثلاثة لا تتم الحجة فكانوا قذفة
يحدون جميعا (قال) وان شهد رجلان أو رجل وامرأتان على اقرار المقذوف بالزنا يدرأ
115

الحد عن القاذف وعن الثلاثة لان الثابت من اقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وليس المقصود
من اثبات الاقرار هنا إقامة الحد على المقر لان الاقرار لا يثبت بحجة البينة موجبا للحد
وان كثر الشهود فإنه في الحال منكر ولو سمعنا اقراره ثم رجع عنه لم يقم عليه الحد فكيف
يثبت اقراره بالبينة ولكن المقصود اسقاط الحد وذلك يثبت مع الشبهات بخلاف ما إذا
شهد الشاهدان على زنا المقذوف لان موجب تلك الشهادة الحد على الزاني إذا تم عدد
الشهود فلهذا لا يكون للمثنى شهادة في ذلك (قال) ومن قذف الزاني بالزنا فلا حد عليه
عندنا سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنا آخر أو مبهما وحكى عن إبراهيم وابن أبي ليلي
رحمهما الله تعالى أنه ان قذفه بغير ذلك الزنا أو بالزنا مبهما فعليه الحد لان الرمي موجب
للحد إلا أن يكون الرامي صادقا وإنما يكون صادقا إذا نسبه إلى ذلك الزنا بعينه ففي ما سوى
ذلك فهو كاذب ملحق الشين به ولكنا نقول رمى المحصن موجب للحد بالنص قال تعالى
والذين يرمون المحصنات والمحصن لا يكون زانيا فقاذف الزاني بالزنا قاذف غير المحصن
وهو صادق في نسبته إلى أصل فعل الزنا فلا يكون ملتزما للحد (قال) وإذا وطئ
الرجل امرأة وطءا حراما فهو على وجهين اما أن يكون وطؤه هذا في الملك أو في غير الملك
اما في الملك فإن كانت الحرمة بعارض على شرف الزوال لم يسقط به احصانه كوطئ
امرأته الحائض والمجوسية أو التي ظاهر منها أو المحرمة أو أمته التي زوجها أوهى في عدة
من غيره لان ملك الحل قائم ببقاء سببه والمحرم هو الاستمتاع وهو نظيره وطئ امرأته المريضة
إذا كانت تستضر بالوطئ وهذا لان مع قيام الملك بالمحل لا يكون الفعل زنا ولا في معناه
فأما إذا كانت محرمة عليه على التأبيد كأمته التي هي أخته من الرضاع فإنه يسقط بوطئها
احصانه في ظاهر المذهب وذكر الكرخي رحمه الله تعالى انه لا يسقط به الاحصان لان
حرمة الفعل مع قيام الملك الذي هو مبيح وهو نظير ما سبق وجه ظاهر الرواية ان بين
الحل والحرمة في المحل منافاة ومن ضرورة ثبوت الحرمة المؤبدة انتفاء الحل فالسبب
لا يوجب الحكم الا في محل قابل له وإذا لم يكن المحل قابلا للحل في حقه لا يثبت ملك
الحل فكان فعله في معنى الزنا ولو وطئ مكاتبته لم يسقط به احصانه عندنا وعند زفر رحمه
الله وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى يسقط لان المكاتبة غير مملوكة له وطءا
بدليل أنه يلزمه العقر بوطئها والوطئ في غير الملك يسقط الاحصان ولان المكاتبة مملوكة
116

له رقا لا يدا فهي بمنزلة الأمة المشتركة ووطئ المشتركة مسقط للاحصان ولكنا نقول ملكه في
المكاتبة قائم والحرمة بعارض على شرف الزوال فهو نظير الأمة المزوجة وبأن يلزمه العقر
لا يدل على أنه يسقط به الاحصان كالزوجة (قال) فان وطئ أمته التي هي محرمة عليه
بوطئ أبيه إياها أو بوطئه أمها يسقط احصانه لان في المصاهرة حرمة مؤبدة فهو نظير حرمة
الرضاع فأما إذا نظر إلى فرج امرأة أو أمة بشهوة ثم اشترى أمها أو ابنتها أو تزوجها فوطئها
فقذفه رجل حد قاذفه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يحد في قولهما لأنها محرمة عليه على
التأبيد فان اللمس والتقبيل يثبت حرمة المصاهرة فلا معني لاعتبار اختلاف العلماء فيه
كالزنا فان أباه لو زنى بأمة ثم اشتراها هو فوطئها يسقط احصانه وثبوت حرمة المصاهرة
بالزنا مختلف فيه بين العلماء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كثير من الفقهاء لا يرون اللمس
والتقبيل موجبا للحرمة وليس في اثبات الحرمة نص ظاهر بل نوع احتياط أخذنا به من
حيث إقامة السبب الداعي إلى الوطئ مقام الوطئ وبمثل هذا الاحتياط لا يسقط الاحصان
الثابت بيقين بخلاف المزني بها فان في ثبوت حرمة المصاهرة بالوطئ نص وهو قوله تعالى
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فقد قامت الدلالة لنا أن النكاح حقيقة للوطئ ومع
وجود النص لا يعتبر اختلاف العلماء وأما الوطئ في غير الملك مسقط للاحصان على كل حال
وكذلك في الأب يطأ جارية ابنه (قال) وإذا تزوج امرأة بغير شهودا أو في عدة من زوج
أو تزوجها وهي مجوسية ووطئها سقط به احصانه لأن العقد الفاسد غير موجب للملك والوطئ
في غير الملك في معنى الزنا وكذلك إذا تزوج أمة على حرة أو تزوج أختين أو امرأة وعمتها
في عقد واحد فبالوطئ بحكم هذه العقود الفاسدة يسقط الاحصان وكذلك إذا تزوج امرأة
فوطئها ثم علم أنها كانت محرمة عليه بالمصاهرة وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
وأما عند أبي يوسف رحمه الله إذا كان عالما عند الوطئ بأنها غير مملوكة سقط احصانه وإن لم
يكن معلوما له لا يسقط احصانه وهو رواية عن محمد لان في الظاهر هذا الوطئ حلال بدليل
أنه لا يأثم به وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنه معذور لجهله من حيث الظاهر
فأما الوطئ فغير مملوك له في الحقيقة بل هو في معني الزنا فيكون مسقطا لاحصانه (قال)
وان ملك أختين فوطئهما حد قاذفه لان هذا وطئ في الملك والحرمة بعارض على شرف الزوال
ألا ترى أنه لو أخرج إحداهما عن ملكه حل له وطئ الأخرى وبمثل هذا الوطئ لا يسقط
117

الاحصان فان وطئ المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث لم يحد قاذفه لان هذا وطئ في غير الملك
وان وطئ امرأة مستكرهة لم يحد قاذفه ولا قاذفها لان هذا وطئ غير مملوك وعند الاكراه
وإن كان يسقط الاثم عنها فلا يخرج من أن يكون الفعل زنا فلهذا سقط احصانها وان وطئ
جارية ابنته أو أحد أبويه أو أخته ثم ادعي ان مولاها باعها منه ولم يكن له بينة فلا حد على
قاذفه وكذلك أن أقام شاهدا واحدا على الشراء لان سبب ملك الحل لا يثبت بالشاهد
الواحد فيكون وطؤه في غير الملك وهو مسقط للاحصان فان زنى في حال كفره في دار
الحرب أو في دار الاسلام ثم أسلم فقذفه انسان لم يحد قاذفه لان فعل الزنا يتحقق من الكافر
وان كأن لا يقام به الحد عليه فيكون قاذفه صادقا في مقالته وان باشر امرأة حراما وبلغ كل
شئ منها سوى الجماع فقذفه قاذف فعليه الحد لان سقوط الاحصان بالوطئ فان المسقط
للاحصان الزنا أو ما في معناه واللمس والتقبيل ليس في معني الزنا (قال) مجنون زنى بامرأة
مطاوعة أو مستكرهة ثم قذف المجنون أو المرأة قاذف فلا حد على قاذفه اما المرأة فلوجود
الوطئ منها في غير الملك واما المجنون فان قذفه بعد الإفاقة لم يحد لان الوطئ الذي هو غير
مملوك قد تحقق من المجنون وهو مسقط للاحصان وان قذفه في حال جنونه فقاذف الصبي
والمجنون لا يحد لان احصان المقذوف شرط والاحصان عبارة عن خصال حميدة فأول
ذلك كمال العقل وذلك ينعدم بالصغر والجنون ولان الحد لدفع الشين عن المقذوف والشين
بقذف الصبي والمجنون يلحق القاذف دون المقذوف وكذلك المملوك لا يكون محصنا لقوله
تعالى فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فهو بيان ان المملوك لا يكون محصنا وإن كان
المملوك هو القاذف فعليه نصف حد الحر للآية (قال) ولا حد على قاذف الكافر
لان الاسلام من شرائط الاحصان قال صلى الله عليه وسلم من أشرك بالله فليس بمحصن
وعلى الذمي في قذف المسلم حد كامل لان المسلم محصن يلحقه الشين بقذفه والقاذف مع كفره
حر فعليه حد الأحرار ثمانون جلدة والذي يجن ويفيق في حال إفاقته محصن ولا يحد قاذف
الأخرس لأنه لو كان ينطق ربما يقر بما يكون فيه من تصديق القاذف ولا يقام الحد مع
الشبهة ولا حد على قاذف المجبوب والرتقاء لأنه لا يحلقه الشين فان الزنا منهما لا يتحقق
ويلحق الشين القاذف في هذا القذف (قال) والقاذف من أهل البغي متي قذف رجلا
من أهل العدل في عسكرهم أوفى عسكر أهل الحرب أو قذف رجل من أهل الحرب رجلا
118

منهم لم يحدوا حد منهم لأنه ارتكب السبب وهو ليس تحت ولاية الامام وقد بينا ان ولاية
الاستيفاء إنما تثبت؟ للامام إذا ارتكب السبب وهو تحت ولايته وبدون المستوفى لا يجب الحد
(قال) ولو دخل حربي دارنا بأمان فقذف مسلما لم يحد في قول أبي حنيفة رحمه الله
الأول لان المغلب في هذا الحد حق الله تعالى ولأنه ليس للامام عليه ولاية الاستيفاء
حين لم يلتزم شيئا من أحكام الاسلام بدخوله دارنا بأمان ويحد في قوله الآخر وهو قولهما
فان في هذا الحد معنى حق العبد وهو ملتزم حقوق العباد ولأنه بقذف المسلم يستخف به
وما أعطى الأمان على أن يستخف بالمسلمين ولهذا يجبر على بيع العبد المسلم فكذلك يحد
بقذف المسلم (قال) وكل شئ أو جبنا فيه الحد على الأجنبي فإنه إذا قال ذلك لامرأته وهما
حران مسلمان فعليهما اللعان لان اللعان موجب قذف الزوج زوجته بالنص وقد بيناه في باب
اللعان (قال) وان قال لامرأته زنيت قبل أن أتزوجك لاعنها لأنه قاذف لها في الحال بخلاف
ما لو قال كنت قذفتك بالزنا قبل أن أتزوجك فإنه يحد لأنه ما صار قاذفا لها بكلامه بعد
النكاح وإنما ظهر بكلامه قذف كان قبل النكاح فكأنه ظهر ذلك بالبينة فعليه الحد (قال)
وان قال لأجنبية يا زانية فقالت زنيت بك لاحد على الرجل لها وتحد المرأة للرجل لأنها
صدقته بقولها زنيت فصارت قاذفة للرجل بقولها زنيت بك فعليها الحد له (قال) ولو قال ذلك
لامرأته فقالت زنيت بك فلا لعان ولا حد لأنها صدقته فسقط اللعان بتصديقها ولم تصر
قاذفة له لان فعل المرأة بزوجها لا يكون زنا (قال) ولو قالت المرأة لزوجها مبتدئة زنيت بك
ثم قذفها الزوج بعد ذلك لم يكن عليه حد ولا لعان لوجود الاقرار منها بقوله زنيت (قال)
رجل قال لآخر يا فاسق يا خبيث أو يا فاجر أو يا بن الفاجر أو يا بن القحبة فلا حد عليه
لأنه ما نسبه ولا أمه إلى صريح الزنا فالفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا والقحبة من يكون
منها ذلك الفعل فلا يكون هذا قذفا بصريح الزنا فلو أوجبنا به الحد إنما يوجب بالقياس ولا
مدخل للقياس في الحد ولو قال يا آكل الربا أو يا خائن أو يا شارب الخمر لاحد عليه في شئ
من ذلك ولكنه عليه التعزير لأنه ارتكب حراما وليس فيه حد مقدر ولأنه ألحقه نوع
شين بما نسبه إليه فيجب التعزير لدفع ذلك الشين عنه ولو قال يا حمار أو يا ثور أو يا خنزير لم
يعزر في شئ من ذلك لان من عادة العرب اطلاق هذه الألفاظ بمعنى البلادة أو الحرص
ولا يريدون به الشتيمة ألا ترى أنهم يسمون به فيقال عياض بن حمار وسفيان الثوري ولان
119

المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام وإنما يلحق القاذف فكل أحد يعلم أنه آدمي وليس
بحمار وان القاذف كاذب وكذلك لو قال يا كلب وحكي عن الهندواني أنه قال يعزر في
عرف ديارنا لان هذا اللفظ فينا يذكر للشتيمة والأصح انه لا يعزر لان من عادة العرب
اطلاق هذا الاسم لمعني المبالغة في الطلب وقلة الاستحياء فقد يسمون به كالكلبي ونحوه
ثم كل أحد يعلم أنه كاذب فالشين يلحقه دون المقذوف (قال) وإذا قال له فجرت بفلانة
وجامعتها أو فعلت بها فسمى الفحش لم يكن عليه في ذلك حد لأنه ما صرح بالقذف بالزنا
وفى الأسباب الموجبة للحد يعتبر عين النص فما لم يقذفه بصريح الزنا لا يتقرر السبب
(قال) وإذا عرض بالزنا فقال أما أنا فلست بزان فلا حد عليه عندنا وقال مالك رحمه الله
تعالى يحد والاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم فعمر رضي الله عنه كأن لا يوجب
الحد في مثل هذا ويقول في حال المخاصمة مع الغير مقصوده بهذا اللفظ نسبة صاحبه إلى الشين
وتزكيته لنفسه لا أن يكون قذفا للغير أخذنا بقوله لأنه ان تصور معنى القذف بهذا اللفظ
فهو بطريق المفهوم والمفهوم ليس بحجة (قال) فان قال قد أخبرت أنك زان فلا حد عليه
لأنه ما نسبه إلى الزنا إنما حكى خبر مخبر والخبر قد يكون صدقا وقد يكون كذبا فالمخبر
يكون حاكيا للقذف عن الغير لا قاذفا وان قال اذهب فقل لفلان انك زان فالمرسل
لا يكون قاذفا له بهذا لأنه أمر الغير أن يقذفه وبالأمر لا يصير قاذفا كما أنه بالأمر بالقتل
لا يكون قاتلا فان ذهب الرسول وحكي كلام المرسل على وجه تبليغ الرسالة لاحد عليه
لأنه حاك كلام الغير وان قال الرسول أنت زان فعليه الحد لأنه قاذف له بالزنا وكذلك
لو قال أشهدني رجل على شهادته بأنك زان فهو إنما ذكر شهادة الغير إياه فيكون قاذفا
(قال) وإذا قال للعبد يا زاني فقال لا بل أنت حد العبد لان قوله لا بل أنت معناه بل
أنت الزاني فان كلمة لا بل لاستدراك الغلط وهو غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من أن
يجعل ما تقدم معادا فيه فصار كل واحد منهما قاذفا لصاحبه ولكن الحد لا يجب على الحر
بقذف العبد ويجب على العبد يقذف الحر وان كانا حرين فعلى كل واحد منهما الحد لصاحبه
(قال) وان قال لرجل يا زاني فقال رجل آخر صدقت لم يحد المصدق لأنه ما صرح بنسبته
إلى الزنا وتصديقه إياه لفظ محتمل يجوز أن يكون المراد به في الزنا وفى غيره وإن كان باعتبار
الظاهر أنما يفهم منه التصديق في الزنا ولكن هذا الظاهر لا يكفي لايجاب الحد إلا أن يكون
120

قال صدقت هو كما قلت فحينئذ قد صرح بكلامه ان مراده التصديق في نسبته إلى الزنا
فيكون قاذفا له (قال) وان قال لرجل أشهد انك زان وقال الآخر وأنا أشهد أيضا لاحد
على الآخر لان قوله أشهد كلام محتمل فلا يتحقق به القذف إلا أن يقول أنا أشهد عليه
بمثل ما شهدت به فحينئذ يكون قاذفا له (قال) وان قال الرجل لرجل زني فرجك فعليه
الحد لان الفرج عبارة عن جميع البدن ولان الزنا يكون بالفرج بخلاف قوله زنى يدك أو
رجلك (قال) وان قال لامرأة يا زانية ثم قال بعدما قطع كلامه وأنت مستكرهة لم يسقط
الحد عنه بخلاف ما لو وصله بكلامه فقال زنيت وأنت مستكرهة لان هذا بيان مغير حكم
أول الكلام ومثله يصح موصولا لا مفصولا كالاستثناء (قال) وان قال الرجل لآخر
زنيت أنت وفلان معك فهو قاذف للثاني لأنه عطف الثاني على الأول والعطف للاشراك في
الخبر وقد أكد ذلك بقوله معك ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر وفلان معك عتقا جميعا
فان قال عنيت أن فلانا معك شاهد لم يصدق إلا أن يصرح بذلك لأنه أضمر خبرا آخر
للثاني وموجب العطف الاشتراك في الخبر الأول فلا يصدق في اضمار خبر آخر للثاني فلا
يسقط به الحد عنه (قال) وان قال لرجل يا ولد الزنا أو يا بن الزنا فعليه الحد لأنه قذف أمه
بهذا اللفظ فان ولد الزنا من تكون أمه زانية وقد بينا أن قذف الميتة يوجب الحد ولولدها أن
يطالب بجده إلا أنه يشترط اثبات احصان الأم وموتها لأنها إذا كانت غير محصنة فلا حد
على قاذفها وإذا كانت حية فلا خصومة للولد مع قاذفها (قال) وكذلك أن قال ليست لأبيك
فعليه الحد لأنه قذف أمه بهذا فان الولد من الزنا لا يكون ثابت النسب من أبيه فأما الوطئ
إذا لم يكن زنا يكون مثبتا للنسب فعرفنا أن بهذا اللفظ قذف أمه فإذا كانت حرة مسلمة فعليه
الحد وفى القياس لاحد عليه لأنه يجوز أن لا يكون ثابت النسب من أبيه؟ من غير أن تكون
الأم زانية بأن كانت موطوءة بشبهة ولدت في عدة الوطئ ولكنا تركنا هذا القياس
لحديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال لاحد الا في قذف محصنة أو نفي رجل عن
أبيه ولأنها إذا وطئت بالشبهة فولدها يكون ثابت النسب من انسان وإنما لا يكون الولد
ثابت النسب من الأب إذا كانت هي زانية فعرفنا أنه بهذا اللفظ قاذف لامه (قال)
وان قال إنك ابن فلان لغير أبيه فعليه الحد إذا كانت هذه اللفظة في حالة المسابة؟ لان
مقصوده نفي نسبه من أبيه ونسبة أمه إلى الزنا إذا لم يعرف بين أمه وبين فلان الذي نسبه
121

إليه سبب ذلك ولكن في حالة الرضا لا يجب الحد عليه لان مراده من هذا اللفظ في حالة الرضا
ان أخلاقك تشبه أخلاق فلان فكأنك ابنه فهذا لا يكون قذفا (قال) وان قال لست بابن
فلان يعنى جده لا يحد لأنه صادق في مقالته فإنه ابن ابنه الأدنى حقيقة ونسبته إلى الجد
بطريق المجاز ألا ترى أنه يستقيم نفي اسم الأبوة عن جده فيقال إنه جده وليس بأبيه فان
نسبه إلى جده فلا حد عليه لان الولد كما ينسب إلى أبيه حقيقة ينسب إلى جده مجازا ألا ترى
أنه يقال بنو آدم وآدم جدهم الأعلى عليه السلام وكذلك لو نسبه إلى عمه أو خاله فان العم
بمنزلة الأب قال تعالى قالوا نعبد إلهك واله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهو كان عما وقال
صلى الله عليه وسلم الرجل صنو أبيه وكذلك الخالة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما
فيكون الخال أبا أيضا قال القائل * وخال بني العباس والخال كالأب * وكذلك لو نسبه إلى
زوج أمه قال تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم وفي العادة زوج الأم يقول لولد
امرأته هو ولدى باعتبار أنى أربيه والناس يسمونه ابنا له أيضا وإن كان ذلك مجازا ولكنه
متى كان صادقا في كلامه مجازا أو حقيقة لم يكن قاذفا له وان قال لست لأبيك وأمه حرة
وأبوه عبد وقد ماتت فإنه قاذف لامه وهي محصنة فعليه الحد وكذلك أن قال لكافر قد مات
أبواه مسلمين أو لعبد وقد مات أبواه حرين لما بينا أن المقذوف بهذا اللفظ الأم والمعتبر احصان
المقذوف لا احصان من يطالب بالحد فان قال المولى ذلك لعبده لم يكن له أن يأخذه بحده
وان عتق لان العبد مملوك له فلا يجوز أن يكون مستوجبا عليه الحد ألا تري أنه لا يقتل
بقتله وعلى هذا إذا قذف الرجل امرأته بالزنا وهي ميتة فليس للابن أن يخاصم في الحد لان
الابن يضاف إلى أبيه كالعبد إلى سيده ألا ترى أنه لا يقتل بقتله ولا يحد في قذفه في نفسه
فكذلك في قذفه في أمه لان الأب كان سبب ايجاده فيستحيل أن يكون الولد مستوجبا
عليه العقوبة بهذه الأسباب (قال) وان قال لرجل لست من بني فلان لقبيلته لا يحد لأنه
صادق فان بنى فلان حقيقة أولاده لصلبه وهو ليس منهم ولأنه لو كان هذا قذفا فإنما يكون
قذفا لامرأة من تنسب إليه القبيلة وهي كانت كافرة غير محصنة وهو نظير ما لو قال له جدك
زان أو جدتك زانية فإنه لا يكون قاذفا بهذا لان في أجداده وجداته من هو كافر فإذا لم
يعين مسلما لا يكون قاذف محصن بخلاف ما لو قال أنت ابن ابن الزانية لأنه بهذا للفظ قاذف
لامه الأدنى وهي كانت محصنة فعليه الحد (قال) وان قال له يا بن مزيقيا أو يا بن ماء السماء
122

أو يا بن جلا فليس عليه في شئ من هذا حد لأنه كلام الناس وليس على سبيل القذف
ومعنى هذا ان من عادة العرب اطلاق هذا اللفظ على سبيل المدح والمعنى أنه يشبه هؤلاء
في حسن الخلق أو الجود أو الجلادة فقد كانوا معروفين بذلك فيهم فلذلك لا يكون؟ قاذفا
ملتزما للحد وإذا نسب رجل رجلا إلى غير أبيه في غير غضب فلا حد عليه وإن كان على
سبيل الغضب والسب فعليه الحد استحسانا وفي القياس لاحد عليه في الوجهين لأنه تكلم
بكلام مبهم محتمل وجوها إلا أنه استحسن فقال مطلق الكلام يجب تحصيله على قصد
المتكلم ففي حالة الرضا مقصوده المدح بنسبته إلى جواد أو مبارز أو متبحر في العلم ألا ترى
إلى ما روى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يأخذ الحسن ويقول يا شبيها بعله وفى حالة الغضب
يعلم أن مقصوده الحاق الشين به في ذكر نسبة أمه إلى الزنا فإذا كان يعتبر؟ الحال في كنايات
الطلاق فكذلك في لفظ القذف ألا ترى ان المصلى إذا قال يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد
القراءة لم يضره وان أراد خطاب انسان فسدت صلاته (قال) وان قال لعربي يا نبطي أو
قال لعربي لسب بعربي فلا حد عليه وقال ابن أبي ليلى إذا قال لعربي يا نبطي أو قال لست
من بنى فلان لقبيلته التي هو منها فعليه الحد لأنه نسبه إلى غير أبيه ولكنا نقول لايراد بهذا
اللفظ القذف ألا ترى أن الرجل يقول للآخر أنت رستاقي أو خراساني أو كوفي ولا يريد
بشئ من ذلك القذف ومذهبنا مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل
قال لرجل من قريش يا نبطي فقال لاحد عليه (قال) وإذا قذف الوالد ولده لاحد عليه
لأنه منسوب إليه بالولاد ولا يعاقب بجنايته على نفسه وأطرافه فكذلك لا يعاقب بالتناول
عن عرضه (قال) وان قذف أباه أو أمه أو أخاه أو عمه فعليه الحد لان المقذوف محصن
ولو قتله القاذف قتل به فيحد بالحاق الشين بقذفه (قال) رجل قال لابنه يا بن الزانية
وأمه ميتة ولها ابن من غيره فجاء يطلب الحد يضرب القاذف الحد لأنه قذف الأم وهي
محصنة ولكل واحد من الولدين حق الخصومة في الحد بنسبته إليها أن أحدهما ابن
القاذف والابن لا يخاصم أباه في إقامة العقوبة عليه فيكون كالمقذوف يبقى الآخر فله
المطالبة بالحد وكذلك أن كان للميت المقذوف ابنان فصدق أحدهما كان للآخر أن
يأخذه بالحد لان الحد واجب لحق الله تعالى والمعتبر الخصومة ممن يلحقه الشين وكل واحد
منهما أصل في هذه الخصومة كأنه ليس معه غيره فتصديق أحدهما لا يكون عاملا في
123

حق الآخر وهذا بخلاف ما إذا قتلت امرأة ولها ابنان فعفى أحدهما أو كان أحد الابنين
لها من القاتل حيث لا يكون للآخر استيفاء القصاص لان القصاص حق العبد
فكان ميراثا بين الاثنين فيسقط نصيب أحدهما اما باسقاطه أو لمعنى الأبوة ويتعذر على
الآخر الاستيفاء لأنه لا يحتمل التجزء فأما حد القذف حق الله تعالى ولم يصر ميراثا
للابنين بل المعتبر الخصومة من كل واحد منهما وحق الخصومة ثابت لكل واحد منهما
بكماله توضيحه أن المقذوف هنا منكر وجوب الحد لا مسقط له فإذا أثبت الآخر وجوب
الحد بالحجة استوفاه الامام بخلاف العفو في القصاص وإن لم يكن للمقذوف الا ابن واحد
فصدقه في القذف ثم أراد أن يأخذه بالحد ليس له ذلك لأنه مناقض في كلامه ومع
التناقض لا تصح الدعوى فلا يقام الحد الا بخصومة معتبرة ولو كان للمقذوف ابنان
أحدهما عبد أو كافر كان له أن يطالب بالحد حاضرا كان الآخر أو غائبا لما بينا أن خصومته
باعتبار أنه منسوب إليها وحال الابنين في ذلك سواء (قال) رجل قذف رجلا قدام القاضي
فله أن يضربه الحد وإن لم يشهد به غيره لان العلم الذي يقع له بمعاينة السبب فوق العلم
الذي يثبت له بشهادة الشاهدين وفى حد القذف معنى حق العبد فهو كالقصاص وسائر
حقوق العباد فالقاضي يقضي في ذلك بعلمه وان علمه قبل أن يستقضي ثم استقضى فليس له
أن يقيم الحد بعلمه حتى يشهد الشاهد عنده في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى له أن يقضى بعلمه لان علمه بمعاينة السبب لا يختلف بعدما قلد القضاء
وقبله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حين عاين السبب استفاد علم الشهادة فلا يتغير
ذلك بتقليد القضاء بخلاف ما إذا علم وهو قاض لأنه حين عاين السبب استفاد علم القضاء
توضيحه أن معاينة السبب بمنزلة شهادة الشهود في الفصلين عنده ولو شهد الشاهد ان عنده
قبل أن يستقضى ثم استقضى لم يكن له أن يقضى بذلك فكذلك إذا عاين السبب فأما في
الحدود التي هي خالص حق الله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر فان عاين السبب في
حالة القضاء فليس له أن يقضى بعلمه استحسانا وفي القياس له ذلك لان علمه بمعاينة السبب
أقوى من علمه بشهادة الشهود عنده ولكنه استحسن لما روى عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أرأيت لو لقيت رجلا على الزنا
ما كنت أصنع به فقال شهادتك عليه كشهادة واحد من المسلمين فقال صدقت وروى
124

نحو هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والمعني فيه أن الامام نائب في استيفاء ما وجب لحق الله تعالى فمن هذا الوجه يشبه الخصم ومجرد علم الخصم لا يكفي للقضاء فلا يتمكن
القاضي من الاستيفاء توضيحه أنه لو سمع اقراره بذلك ثم جحد لم يكن له أن يقيم عليه الحد
والمقر به في حق المقر كالمعاين بخلاف حد القذف والقصاص وروى ابن سماعة أن محمدا
رحمه الله تعالى رجع عن هذا فقال لا يقضى بعلم نفسه في شئ من الحدود لأنه هو المستوفى
لذلك كله وإذا اكتفي بعلم نفسه اتهمه الناس فعليه أن يتحرز عن موضع التهمة (قال)
رجل اشترى جارية شراء فاسدا فوطئها ثم قذفه انسان فعلى قاذفه الحد لأنه ملكها بالقبض
مع فساد السبب وملك الرقبة مبيح للوطئ والحرمة بعده بعارض؟ على شرف الزوال
وذلك لا يسقط احصانه بخلاف الوطئ في النكاح الفاسد لان النكاح الفاسد غير موجب
للملك فان موجب النكاح ملك الحل فلا يمكن اثباته بالسبب الفاسد فيكون وطؤه في
غير الملك (قال) رجل قال لرجل يا بن الزانيين فعليه حد واحد لأنه قذف أباه وأمه ولو
كانا حبين فخاصماه لم يكن عليه الأحد واحد فكذلك إذا كانا ميتين فخاصمه الابن (قال)
وان قال لست لفلان و لا لفلانة لاحد عليه لأنه نفي ولادة الأم إياه فان ثبوت النسب من الأم
بالولادة فنفي ولادتها لا يكون قذفا لها إنما يكون قذفا لها إذا ذكر أنها ولدته من زنا فإنما يندرج ذلك
في قوله لست لأبيك ولا لامك لا يندرج قذف الأم يوضحه ان ولادتها إياه معاين فكل أحد يعلم
بكذب القاذف في نفس ما هو معاين ولا يلحق الولد شين بهذا القذف بخلاف قوله لست
لأبيك فإنه يلحقه الشين بنفي نسبه عن أبيه وإذا قال لم يلدك فلأن لأبيه لاحد عليه لأنه
صادق في مقالته وإنما ولدته أمه لا أبوه (قال) رجل قال لامرأة زنيت ببعير أو بثور أو بحمار
لاحد عليه لأنه نسبها إلى التمكين من بهيمة وذلك غير موجب للحد عليها وقد بينا ان
نسبته إلى فعل لا يوجب الحد على فاعله لا يكون قذفا موجبا للحد ولو قال زنيت بناقة أو
ببقرة أو بثوب أو بدرهم فعليه الحد لان معنى كلامه زنيت بدرهم بدل لك وهذا أفحش ما يكون
من الزنا ان تكتسب المرأة بفرجها (فان قيل) بل معنى كلامه زنيت بدرهم استؤجرت عليه
فينبغي أن لا يحد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا لان حرف الباء يصحب الا عواض
(قلنا) هذا محتمل والبدل أيضا محتمل فتقابل المحتملان يبقي قوله زنيت فكأنه لم يزد على هذا
حتى لو قال استؤجرت على الزنا بدرهم فلا حد على القاذف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
125

فالحاصل أنه متى كان في آخر كلامه ما يحقق تمكينها منه جعل كلامه بمعنى التمكين وإذا
لم يكن فيه احتمال ذلك جعل بمعنى البدل (قال) وان قال لرجل زنيت ببعير أو بناقة أو
ما أشبه ذلك لاحد عليه لأنه نسبه إلى اتيان البهيمة فان قال بأمة فعليه الحد فان قال لرجل
يا بن الأقطع أو يا بن المقعد أو يا بن الحجام وأبوه ليس كذلك ليس عليه حد لأنه لايراد بمثل
هذه اللفظة نفيه عن أبيه وإنما يراد به وصف الأب بهذه الأوصاف كمن يقول لبصير يا أعمى
أو يشبه به في الحرفة وكذلك لو قال يا بن الأزرق يا بن الأصفر أو الأسود وأبوه ليس
كذلك ألا ترى أنه لو قال يا بن السندي أو يا بن الحبشي لا يكون قاذفا له بهذا فالمقصود
تحقيره لا قذفه بهذا اللفظ ولو قال لعربي يا عبد أو يا مولى لاحد عليه لأنه صادق في مقالته
فإنه عبد الله وليس بقاذف له بقوله يا مولى قال تعالى واني خفت الموالي من ورائي والمراد
الورثة وبنو الأعمام وكذلك لو قال لعربي يا دهقان لاحد عليه وهذا من أعجب المسائل فلفظ
الدهقان فينا؟ للمدح والتعظيم وقد ذكره من جملة القذف وهذا لان العرب كانوا يستنكفون
من هذا اللفظ ولا يسمون به الا العلوج فلازالة الاشكال ذكره وبين انه ليس بقذف
فان الدهقان اسم لمن له ضياع واملاك وذلك يتحقق للعرب والعجم (قال) ولو قال يا بنى
لاحد عليه لان هذا اللفظ يذكر على وجه اللطف دون القذف فهو كقوله يا أخي
وكذلك لو قال لرجل أنت عبدي أو مولاي فهذا دعوى الرق والولاء عليه فليس من
القذف في شئ وان قال يا يهودي يا نصراني أو يا مجوسي أو يا بن اليهودي لاحد عليه لان
القذف بالكفر ليس في معني القذف فإنه لا يشين المقذوف إذا كان اسلامه معلوما ولكنه
يعزر لان نسبة المسلم إلى الكفر حرام وبارتكاب المحرم يستوجب التعزير (قال) وان قال
يا زاني وأدخل فيه الهمزة وقال عنيت أنه يصعد على الجبل أو على شئ فعليه الحد ونيته باطلة
لان أصل الكلمة لغة بالهمزة فذكر الهمزة يقرره ولا يخرجه من أن يكون قذفا (قال) وان
قال زنأت في الجبل وقال عنيت الصعود فيه عليه الحد في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما
الله ولا حد عليه في قول محمد فمحمد رحمه الله يقول أهل اللغة يستعملون هذا اللفظ مهموزا
عند ذكر الجبل؟ ويريدون؟ به الصعود قال القائل
* وارق إلى الخيرات زنا في الجبل * وأكثر ما فيه أن تكون الكلمة مشتركه والحد
لا يجب بمثله ولكنا نقول مطلق اللفظ؟ محمول على ما يتفاهمه الناس في مخاطباتهم والعامة
126

لا يفهمون من هذا اللفظ الا الزنا فبهذا الطريق يلحق المقذوف الشين فيقام الحد على
القاذف لدفع الشين عنه ألا تري أنه لو لم يذكر الجبل كان قاذفا ملتزما للحد بأن قال زنأت
فلا يتغير بذكر الجبل كما لو قال زنيت لا يفصل بين قوله زنيت في الجبل وبين قوله
بدون ذكر الجبل وكذلك لو قال زنأت على الجبل يلزمه الحد فكذلك إذا قال زنأت في
الجبل إلا أن محمدا رحمه الله يقول أهل اللغة إذا استعملوا الكلمة لمعني الصعود يصلون
به حرف في لا حرف على ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما إذا كان المتكلم
بهذا اللفظ لغويا ومن أصحابنا من يقول هو يصدق في أنه أراد به الصعود والأصح أنه
لا فرق بين اللغوي وبين غيره لان اللفظ محمول على ما هو المتعارف في عادة العوام من
الناس وهو القذف بالزنا (قال) وإذا زنى المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف أو وطئ
وطءا حراما غير مملوك فقد سقط الحد عن القاذف لان احصان المقذوف شرط فلا بد من
وجوده عند إقامة الحد وقد زال احصانه بهذا الوطئ وكذلك إذا ارتد المقذوف وان أسلم
بعد ذلك فلا حد على القاذف لأنه قد سقط الحد لزوال احصانه بالردة وكذلك أن صار
معتوها ذاهب العقل أو أخرس وبقي كذلك وبالخرس لا يزول احصانه ولكن تتمكن
شبهة من حيث أنه إذا كان ناطقا ربما يصدقه ولهذا شرط بقاء الخرس حتى إذا زال الخرس
وطالب بالحد فله ذلك بمنزلة المريض يبرأ (قال) ومن قذف ولد ملاعنة أو ولد زنا في نفسه
فعليه الحد لأنه محصن عفيف وإنما الذنب لأبويه وفعلهما لا يسقط احصانه وان قذف أمه
فلا حد عليه أما ولد الزنا فلان قاذف أمه صادق لأنها زانية وأما ولد الملاعنة فان أمه ليست
بمحصنة لأنه كان في حجرها ولد لا يعرف له والد ومثله في صورة الزانيات لا يحد قاذفه
(قال) وان اختلفا شاهدا القذف في اللغة التي قذف بها من الفارسية والعربية والنبطية
فشهادتهما باطلة لان اللفظ معتبر في القذف ألا ترى أنه لا يجب الحد الا بصريح الزنا وعند
اختلافهما في اللغة يتمكن الاختلاف في المشهود به وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال
يا بن الزانية والآخر أنه قال لست لأبيك فقد اختلفا في اللفظ المشهود به وكذلك لو
تزوج مجوسي أمه ودخل بها ثم أسلما فقذفه انسان فعليه الحد في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ولا حد عليه عندهما إذا كان الدخول بحكم نكاح يتركان عليه بعد الاسلام وإن كان
بحيث لا يتركان عليه بعد الاسلام كالنكاح بغير شهود فعلى قاذفهم الحد وهو بناء؟ على أن عند
127

أبي حنيفة رحمه الله لأنكحتهم حكم الصحة ما لم يسلموا وعندهما كل نكاح لا يتركان
عليه بعد الاسلام فليس له حكم الصحة ولكن لا يتعرض لهم في ذلك لاعتقادهم ما لم يسلموا
واعتقادهم لا يكون حجة على القاذف (قال) أربعة شهدوا على عبد أن مولاه أعتقه وأنه قد
زني وهو محصن فرجم ثم رجعوا عن شهادة الزنا والعتق فعليهم ضمان القيمة للمولى لأنهم
أقروا عند الرجوع أنهم أتلفوا ماليته بشهادتهم عليه بالعتق وبالزنا بغير حق ويضربون الحد
لإقرارهم انه كان عفيفا وبطلان معنى الشهادة من كلامهم عند رجوعهم وان شهد اثنان منهم
على العتق فأعتقه ثم شهدا مع آخرين على الزنا عليه فرجم ثم رجع شاهدا العتق عن العتق ولم
يرجعا عن الزنا ورجع الآخران عن الزنا فعلى شاهدي العتق جميع القيمة للمولى لان تلف
المالية كان بشهادتهما عليه بالعتق وعلى الآخرين نصف الدية للورثة لأنه بقي على الشهادة بالزنا
من يستحق بشهادته نصف النفس فإنما انعدمت الحجة في النصف فلهذا ضمن الراجعان
نصف الدية وعليهما الحد وان شهد الرجلان على عتقه فأعتقه ثم شهد هو وآخر مع شاهدي
العتق على رجل بالزنا فرجمه ثم رجعا عن العتق جميعا ضمنا قيمته للمولى ولم يضمنا من دية
المرجوم شيئا لأنه قد بقي على الشهادة بالزنا حجة تامة (فان قيل) كيف يستقيم هذا وفي
زعمهما أنه عبد ولا شهادة له على الزنا (قلنا) ولو شهد أربعة على الزنا فرجم ثم ظهر أن أحد
الشهود عبد لا ضمان على الشهود ولا يمكن ايجاب ضمان النفس عليهما من أجل شهادتهما
بعتقه لأنه ما رجم لعتقه وإنما رجم لزناه وقيل على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي
أن يجب الضمان عليهما لأنه يقول المزكى للشهود إذا رجع ضمن وهما بشهادتهما بحرية
الشاهد صارا مزكيين له وقد رجعا عن التزكية فينبغي أن يجب عليهما الضمان ولكن الأصح
أن لا يجب لان الشاهد على الزنا لا يصح أن يكون مزكيا للشاهد معه فلا يمكن جعل
شهادتهما بالعتق تزكية للشاهد معهما على الزنا ولان قضاء القاضي بالعتق لا يبطل برجوعهما
فتبقى الحجة على الزنا تامة فلهذا لم يضمنا من دية المرجوم شيئا ولا حد عليهما (قال)
ولو أن صبيا زنى بصبية مطاوعة لاحد عليهما لانعدام الأهلية للعقوبة فيهما وعلى الصبي
المهر في ماله لأنه ضمان الفعل والصبي أسوة البالغ في المؤاخذة بضمان الفعل بحق العباد
إنما لا يؤخذ بضمان القول ولهذا لو كان أقر بالوطئ لا يلزمه شئ (قال) ولو زني الصبي
بامرأة فأذهب عذرتها وشهد عليه الشهود بذلك فعليه المهر إذا استكرهها وان كانت دعته
128

إلى نفسها فلا مهر عليه لأنها رضيت بسقوط حقها ورضاها معتبر لكونها بالغة ولأنها
صارت مستعملة للصبي ومن استعمل صبيا في شئ لحقه فيه ضمان ثبت لوليه حق الرجوع
على المستعمل فلا فائدة في ايجاب المهر لها إذا طاوعته والمجنون في ذلك بمنزلة الصبي ولو كانت
صبية أو مجنونة دعته إلى نفسها فالمهر واجب لأنها ليست من أهل الرضي بسقوط حقها ولان
اشتغالها بالأمر غير مثبت حق الرجوع عليها لاهدار قولها (قال) رجل قال لرجل أنت
أزنى من فلان فلا حد عليه لان افعل يذكر بمعنى المبالغة في العلم فكان معني كلامه أنت
أعلم بالزنا من فلان أو أنت أقدر على الزنا من فلان وكذلك لو قال أنت أزني الناس أو أزنى
الزناة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنت أزنى من فلان الزاني أو أزنى الزناة فعليه الحد
لأنه بين بآخر كلامه أن المراد المبالغة في وصفه بفعل الزنا وكذلك قوله أزنى الناس لان
في الناس زان فهو كقوله أزني الزناة بخلاف قوله أنت أزنى من فلان (قال) رجل زني
بخرساء أو أخرس زنى بامرأة لاحد عليه لان الأخرس لو كان ناطقا ربما يدعي شبهة يسقط
به الحد عن نفسه وعن صاحبه والخرس يمنعه من إظهار تلك الشبهة ولا يجوز إقامة الحد مع
تمكن الشبهة بخلاف ما إذا زنى صحيح بمجنونة فعليه الحد لان المجنونة ليست من أهل أن
تدعى الشبهة وامتناع وجوب الحد لمعنى فيها وهو الجنون لا لشبهة في الفعل فهو نظير الزنا
بمستكرهة (قال) ولو سرق رجلان سرقة واحدة وأحدهما أخرس أو مجنون لا قطع على
واحد منهما لان الفعل هنا واحد فإذا لم يكن موجبا للقطع على أحدهما لا يكون موجبا على
الآخر فأما في الزنا كل واحد من الزانيين مباشر لفعل آخر إذ لا مجانسة بين الفعلين لان
فعله الايلاج وفعلها التمكين فجنونها لا يعدم التمكين فلا يتمكن فيه نقصان فيكون فعل الرجل
في الايلاج مخصوصا بكمال الزنا فلهذا لزمه الحد (قال) وإذا شهد الشاهدان على رجل بالزنا
وآخران على اقراره بالزنا لاحد عليه لان الشهادة على الاقرار لغو في ايجاب حكم الحد فان
المشهود عليه جاحد ومن ضرورة جحوده الرجوع عن اقراره ولأنهم اختلفوا في المشهود به
فشهد اثنان بالفعل والآخران بالقول ولا حد عليه لان الذين شهدوا على الاقرار ما نسباه إلى
الزنا والآخران وان نسباه إلى الزنا فشهادة الشاهدين على الاقرار يسقط الحد عنهما لأنهما
شهدا على تصديق المقذوف والتصديق يثبت بشهادة شاهدين (قال) وان شهد ثلاثة
بالزنا وواحد بالاقرار به فعلى الثلاثة الحد لأنهم قذفوه بالزنا وليس على التصديق الا شاهد
129

واحد وشهادة الواحد لا تثبت التصديق (قال) وإذا ضرب العبد حد القذف أربعين
سوطا ثم أعتق لم تجز شهادته أبدا لوجهين أحدهما أن الأربعين حد في حقه وإقامة الحد
عليه جرح في عدالته وحكم بكذبه فيسقط به شهادته على التأبيد كما في حق الحر ولان
العبد ليس من أهل الشهادة ورد الشهادة من تتمة الحد فيتوقف ذلك على صيرورته من
أهل الشهادة وبالعتق صار من أهل الشهادة الآن فيصير مردود الشهادة تتميما لحده وكذلك
إذا ارتد المحدود في قذف ثم أسلم لم تقبل شهادته لان الكفر لم يزده الا شرا وإذا صار
مردود الشهادة على التأبيد فبالردة لا يصير مقبول الشهادة فان ضرب الكافر حد القذف
ثم أسلم جازت شهادته لان الكافر محكوم بكذبه ولكن يزول ذلك باسلامه ويستفيد
بالاسلام عدالة لم تكن موجودة حين أقيم عليه الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة توضيحه
أن الكافر ليس من أهل الشهادة فيصير مردود الشهادة بإقامة الحد عليه ويتم به حده ثم
بالاسلام استفاد شهادة حادثة لم تكن موجودة عند إقامة الحد عليه فلهذا قبلت شهادته
(قال) أربعة كفار شهدوا على كافر انه زني بامرأتين كافرتين فلما قضي بالحد عليهم
أسلم الرجل والمرأتان بطل الحد عنهم جميعا لان الحجة لم تبق عليهم بعد الاسلام فشهادة
الكفار لا تكون حجة على المسلمين ولا يمكن إقامة الحد بغير حجة وان أسلمت احدى
المرأتين سقط عنها الحد وبقي الحد على الأخرى لبقاء الحجة في حقها وكذلك على الرجل
لان الحجة في الزنا بالتي هي باقية على الكفر باق وذلك كاف في إقامة الحد عليه وكذلك
ان شهدوا على كافرين بالزنا بامرأة واحدة فان أسلمت المرأة درئ الحد عنها وعن
الرجلين كما لو كانت مسلمة عند الشهادة وان أسلم أحد الرجلين درئ الحد عنه خاصة
ويقام الحد على الرجل الآخر والمرأة لبقاء الحجة الكاملة عليه في زناه بها (قال) وإذا جنت
الأمة جناية عمدا فيها القصاص فوطئها الولي ولم يدع شبهة فليس عليه الحد لوجهين
أحدهما ان من العلماء من يقول إن لولى الجناية حق التملك ان شاء وهذا قول معتبر فإنه
لا فرق في حق المولى بين ان يتلف ماليته باستيفاء القصاص وبين ان يتلف بتمليك الولي
إياها عليه وفيه منفعة للولي سواء استوفى القصاص أو تملكها فله أن يختار أي الوجهين
شاء فإذا ثبت له حق التملك فيها على قول بعض الفقهاء يصير ذلك شبهة في اسقاط الحد
عنه ولان الوطئ اتلاف جزء منها لان المستوفى بالوطئ في حكم الجزء من العين فإذا صار
130

اتلاف الكل حقا له شرعا يصير ذلك شبهة في اتلافه جزءا منها والحد يسقط بالشبهة ثم
يلزمه العقر لسيدها لأنه وطئ في غير الملك فلا يخلو عن حد أو عقر وقد سقط الحد بشبهة
فعليه العقر ويكون للسيد بمنزلة كسبها لان حق من له القصاص في استيفاء القصاص فلا
يثبت في المال والعقر والكسب مال فيكون لمولاها بملكه رقبتها وان كانت الجناية خطأ
فوطئها الولي ففي القياس عليه الحد وبه يأخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى سواء اختار
المولى الدفع أو الفداء وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ان اختار المولى الفداء فكذلك
الجواب وان اختار الدفع فلا حد عليه استحسانا لان بالجناية الخطأ لم يثبت للولي حق التملك
فيها وهذا لان موجب جناية الخطأ يكون على أقرب الناس من الجاني ألا ترى ان في
الحر موجب جنايته على العاقلة وفى المملوك موجب جنايته على المولى لأنه أقرب الناس
إليه ولهذا خير بين الدفع والفداء فان اختار الفداء فقد وصل إلى ولى الجناية حقه وبقيت
الجارية مملوكة للمولى كما كانت فتبين أنه وطئها ولا شبهة له فيها فكان عليه الحد فان اختار
الدفع فكذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان موجب الجناية كان على المولى
ولكنه كان متمكنا من اختيار الدفع بأن يقول هذا الشغل إنما لحقني بجنايتها على أن أدفعها
لأخلص نفسي من هذا الشغل فكان هذا ملكا حادثا للولي فيها بعد تقرر فعل الزنا فلا
يسقط به الحد وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى يسقط الحد استحسانا لان حق ولى
الجناية في رقبتها وإن كان المولى متمكنا من تحويل الحق عن الرقبة باختيار الفداء بدليل
انها لو هلكت يسقط حق ولى الجناية وإنما سقط لفوات محل حقه فإذا تقرر حقه في محله
باختيار المولى الدفع فإنما يملكها بسبب تلك الجناية وتبين انها وطئها وله فيها سبب ملك
فيسقط الحد كمن اشتري جارية على أن البائع بالخيار فوطئها المشترى ثم اختار البائع البيع
فلا حد على المشترى ولكن هذا ضعيف لأنه لو كان له فيها سبب ملك لم يلزمه الحد
وان اختار المولى الفداء كما في المشتراة بشرط الخيار للبائع فلا حد على المشتري وان فسخ
البيع فيها وحيث وجب الحد هنا عند اختيار الفداء عرفنا أنه ليس فيها سبب ملك ثم ذكر
في بعض النسخ فصلا وهو أنه زنى بجارية ثم اشتراها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى يحد ولا حد عليه في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى فإن كان جواب هذا الفصل هكذا
فلا حاجة إلى التكلف الذي قلنا في مسألة الدفع بالجناية لان الملك الحادث بعد وجوب الحد
131

قبل الاستيفاء عند أبي يوسف رحمه الله تعالى مسقط للحد وقد ثبت ذلك للولي بدفع
الجارية إليه وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يكون مسقطا للحد ولكن في هذا
الفصل اختلاف الرواية في النوادر فذكر أصحاب الاملاء عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى
أن من زني بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها لا حد عليه في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وعليه الحد في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وذكر ابن سماعة رحمه الله تعالى
في نوادره على عكس هذا قال على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى عليه الحد
في الوجهين جميعا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا حد عليه في الوجهين جميعا
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا زنى بأمة ثم اشتراها فلا حد عليه وان زنى بحرة ثم
تزوجها فعليه الحد فأما وجه الرواية التي قال لا حد عليه في الفصلين أن الملك في المحل لو
اقترن بالفعل كان مانعا وجوب الحد فإذا طرأ بعد الوجوب قبل الاستيفاء يكون مسقطا
للحد كملك السارق العين المسروقة بعدما وجب عليه القطع والعمى والفسق في المشهود
بعد وجوب الحد قبل الاستيفاء وهذا لأنه لو أقام الحد عليه إنما أقام بوطئه امرأة هي
زوجته في الحال وذلك لا يجوز وجه الرواية التي قال يقام الحد في الفصلين أن وجوب الحد
باعتبار المستوفى والمستوفى مثلا شئ فبالنكاح والشراء بعد الاستيفاء لا يثبت له الملك
في المستوفي فلا يسقط الحد بخلاف السرقة فان وجوب القطع على السارق باعتبار العين
وقد ملك تلك العين فسقط القطع عنه بالشبهة وجه رواية الحسن في الفرق
بين النكاح والشراء أنه بالشراء يملك عينها وملك العين في محل الحرث
سبب لملك الحل فيجعل الطارئ قبل الاستيفاء كالمقترن بالسبب
كما في باب السرقة فأما بالنكاح لا يملك عين المرأة وإنما يثبت
له ملك الاستيفاء ولهذا لو وطئت بالشبهة كان المهر لها
فلا يورث ذلك شبهة فيما تقدم استيفاؤه منها فلهذا
لا يسقط الحد عنه والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصدق والصواب واليه
المرجع والمآب
132

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب السرقة)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله تعالى السرقة لغة أخذ مال الغير على وجه الخفية سمى به لأنه
يسارق عين حافظه ويطلب غرته ليأخذه أو يسارق عين أعوانه على الحفظ بأن يسامره
ليلا لان الغوث بالليل قل ما يلحقه وهي نوعان صغرى وكبرى فالكبرى هي قطع الطريق
لأنه يأخذ المال في مكان لا يلحق صاحبه الغوث ويطلب غفلة من التزم حفظ ذلك المكان
وهو السلطان والعقوبة تستحق بكل واحد من الفعلين على حسب الجريمة
في الغلظ والخفة
فهذا الكتاب لبيان هذين الحدين وكل واحد منهما ثابت منهما بالنص اما في السرقة الصغرى
الواجب بالنص قطع اليد قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا
من الله والواجب بأخذ المال في السرقة الكبرى قطع يد ورجل قال الله تعالى إنما جزاء الذي
يحاربون الله ورسوله الآية وكل واحد من الحدين عقوبة فان الله عز وجل سمي أحدهما
نكالا والاخر خزيا بقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا وكل واحد منهما جميع موجب الفعل
فقد سمى كل واحد منهما جزاء وفيه إشارة إلى الكمال يقال خزى أي قضي وجزأ بالهمزة أي
كفي فعرفنا انه جميع موجب الفعل وإن كان كل واحد منهما مستحقا حقا لله تعالى لان الجزاء
علي الأفعال المحرمة من العباد يكون حقا لله تعالى وفيه إشارة إلى أن الفعل محرم العين وان
عصمة المال فيما يرجع إلى موجب الفعل لله تعالى خالصا واختلف العلماء بعد هذا في السرقة
الصغرى قال فقهاء الأمصار رضي الله عنهم المستحق قطع اليد اليمني من الرسغ وقال الخوارج
إلى المنكب لان اليد اسم للجارحة من رؤس الأصابع إلى الآباط وقال بعض الناس
المستحق قطع الأصابع فقط لان بطشه كان بالأصابع فتقطع أصابعه ليزول تمكنه من
البطش بها وهو مخالف للنص والمنصوص قطع اليد وقطع اليد قد يكون من الرسغ وقد
133

يكون من المرفق وقد يكون من المنكب ولكن هذا الابهام زال ببيان رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنه أمر بقطع يد السارق من الرسغ ولان هذا القدر متيقن به وفى العقوبات
إنما يؤخذ بالمتيقن فاما قوله جل وعلا إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فقد قيل المراد
يحاربون أولياء الله فان أحد الا يحارب الله تعالى ولكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه
مقامه وهو أصل في اللغة وقيل المراد بيان ان قاطع الطريق كأنه يحارب الله تعالى لان المسافر
في المفاوز في أمان الله تعالى وحفظه فالمتعرض له كأنه يحارب الله تعالى وهو نظير قوله
سبحانه وتعالى من يشاقق الله ورسوله فان أحدا لا يشاقق الله حقيقة ولكن راد أمر
الله تعالى كأنه يشاقق الله تعالى وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى ان نزول الآية في المرتدين
واستدلوا عليه بحديث أنس رضي الله عنه ان العرنيين لما ارتدوا وقتلوا الرعاة وساقوا إبل
الصدقة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم وجئ بهم فامر بقطع أيديهم وأرجلهم
وسمل أعينهم فنزلت الآية ولكن الأصح ان نزول الآية في الذين قطعوا الطريق من
غير المرتدين لان في الآية بيان عقوبة تستحق بقطع الطريق وقيل المرتد يستحق القتل
قطع الطريق أو لم يقطع وإنما سبب نزول هذه الآية الذين قطعوا الطريق وما بدأ به محمد
الكتاب ورواه عن أبي يوسف رحمه الله تعالى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه
م أجمعين (قال) وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن
عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الاسلام فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق فنزل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالحد فيهم ان من قتل وأخذ المال صلب
ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن
جاء مسلما هدم الاسلام ما كان في الشرك فقوله وادع يحتمل المؤقتة وهي الأمان ويحتمل
المؤبدة وهي الذمة فأجرى أبو يوسف رحمه الله تعالى الكلمة على ظاهرها وقال يقام حد قطاع
الطريق على المستأمنين وأهل الذمة بدليل الحديث وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا المراد
الموادعة المؤبدة وهي عقد الذمة لأنه قد ثبت بالنص وجوب تبليغ المستأمنين مأمنهم والآية
وان نزلت في الكفار فالحكم غير مقصور عليهم لان السبب الموجب للعقوبة قطع الطريق
بالنص ففي حق كل من تقرر السبب ثبت الحكم ولكن بعد أن يصير محاربا بقطع الطريق
والمستأمن محارب وإن لم يقطع الطريق لأنه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب
134

والمحارب بقطع الطريق يكون من أهل دارنا وقوله فجاء أناس يريدون الاسلام قيل
معناه قد أسلموا فجاؤوا يريدون الهجرة لتعلم أحكام الشرع وقيل بل جاؤوا على قصد أن يسلموا
ومن جاء من دار الحرب على هذا القصد فوصل إلى دار الاسلام فهو بمنزلة أهل الذمة
والحد يجب بقطع الطريق على أهل الذمة كما يجب بقطع الطريق على المسلمين بخلاف
المستأمنين على ما بيناه ثم في هذا الحديث دليل على أن هذا الحد مشروع على الترتيب
بخلاف ما يقوله مالك رضي الله عنه أنه على التخيير بظاهر حرف أو وهذا لان الجناية
تختلف منه بمباشرة القتل أو أخذ المال أو إخافة الناس والعقوبة بحسب الجناية فيستحيل
أن يقال عند غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها بأغلظ الأنواع فعرفنا أنها
مرتبة كما ذكر في الحديث فظاهر قوله من قتل وأخذ المال صلب دليل لأبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى في أن الامام لا يشتغل بقطع يده ورجله بهذه الحالة ولكن أبو حنيفة
رحمه الله يقول المراد بيان ما يختص به بهذه الحالة فأما قطع اليد والرجل عند أخذ المال مبين
في الحديث ألا ترى أنه لم يذكر القتل في هذه الحالة لأنه مبين في حق من قتل ولم يأخذ
المال فأقول الامام يتخير في هذه الحالة بين أن يقطع يده ورجله ثم يقتله ويصلبه أو يقتله
ويصلبه ثم يطعن تحت تندوته اليسرى فيقتله على خشبة ففي ظاهر المذهب يتخير بين ان
يصلبه حيا وبين ان يقتله ثم يصلبه وذكر الطحاوي انه لا يصلبه قبل القتل فان ذلك مثلة
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكن في هذا الحديث
دليل على أن له ذلك لتحقيق معني الخزي في حقه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى
يتركه على خشبته أبدا إلى أن يسقط لتحقيق معنى الخزي وليعتبر به غيره فأما قوله عز وجل
أو ينفوا من الأرض فهو غير مذكور في هذا الحديث والمراد عندنا الحبس في حق من
خوف الناس ولم يأخذ مالا ولم يقتل لأنه اما أن يكون المراد نفيه من جميع الأرض وذلك
لا يتحقق ما دام حيا أو المراد نفيه من بلدته إلى بلدة أخرى وبه لا يحصل المقصود وهو دفع
أذيته عن الناس أو يكون المراد نفيه عن دار الاسلام إلى دار الحرب وفيه تعريض له على
الردة فعرفنا أن المراد نفيه من جميع الأرض إلى موضع حبسه فان المحبوس يسمى خارجا
من الدنيا قال القائل
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الاحياء فيها ولا الموتى
135

إذا جاءنا السبحان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
والشافعي رحمه الله تعالى يقول المراد اتباعه حتى لا يتمكن من القرار في موضع فذلك نفيه
من الأرض فأما قوله من جاء مسلما هدم الاسلام ما كان في الشرك فهو معنى قوله جل
وعلا إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وفيه كلام نبينه في بابه ثم الاسلام يهدم
ما كان في الشرك من الجناية على خالص حق الله تعالى قال الله جل وعلا قل للذين
كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال صلى الله عليه وسلم الاسلام يجب ما قبله
والتوبة قبل قدرة الامام عليه مسقطة لهذه العقوبة بالنص على ما نبينه إن شاء الله تعالى
وذكر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تقطع اليد الا في
ثمن المجن وهو يومئذ يساوى عشرة دراهم وفيه دليل على أن النصاب في المسروق
معتبر لايجاب القطع على السارق وهو قول فقهاء الأمصار وأصحاب الظواهر يقولون لا يعتبر
النصاب فيه وقد نقل ذلك عن الحسن البصري رحمه الله تعالى واستدلوا بالآية فان الله
عز وجل قال والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يعني بالسرقة لان السارق اسم مشتق
من فعل والفعل الذي اشتق منه الاسم يكون علة للحكم ولكن السرقة لا تتحقق الا بصفة
المالية والمملوكية والحرز فان أخذ المال المباح يسمى اصطيادا أو احتطابا لا سرقة وكذلك
ما ليس بمحرز محفوظ فاخذه لا يكون سرقة لانعدام مسارقة عين الحافظ فشرطنا ما يقتضيه
اسم السرقة وليس في اسم السرقة ما يدل على النصاب فالسرقة تتحقق في القليل والكثير
فاشتراط النصاب يكون زيادة على النص وذلك يعدل النسخ وفي الحديث ان النبي صلي
قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده والبيضة قد
لا تساوي أكثر من فلس ولا يجوز ان يقال المراد بيضة الحديد وحبال السفن واللؤلؤ لان
المقصود بيان حقارة السارق وفي حمله على ما قلتم تفويت هذا المقصود ولكنا نقول لما كان في
اسم السرقة ما ينبئ عن صفة الاحراز صار كون المال محرزا شرطا بالنص وشرائط العقوبة
يراعى وجودها بصفة الكمال لما في النقصان من شبهة العدم والاحراز إنما يتم في المال
الخطير دون الحقير فالقليل لا يقصد الانسان احرازه عادة واليه أشارت عائشة رضي الله عنها
في قولها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشئ التافه فصار
ما يتم به الاحراز وهو كون المال خطيرا ثابتا بالنص والمراد من الحديث بيضة
136

الحديد إلا أن صاحب الشرع وان ذكره لاظهار حقارة السارق فقد أضمر في كلامه
هذا المعنى ليحصل المقصود ويكون كلامه حقا على ما روى أنه كان يمازح ولا يقول الا
حقا وقيل إن هذا كان في الابتداء لزيادة التغليظ والتشديد ثم انتسخ بالآثار المشهورة باعتبار
النصاب في المسروق ثم اختلفوا في مقدار النصاب فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى عشرة
دراهم أو دينار وقال الشافعي رحمه الله تعالى ربع دينار وقال مالك رحمه الله ثلاثة دراهم
وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى خمسة دراهم وقال عكرمة رحمه الله تعالى أربعة دراهم
وعن أبي هريرة وأبى سعيد الخدري رضى الله تعالى عنهما أربعون درهما واستدل الشافعي
رحمه الله تعالى بحديث الزهري عن عروة عن عائشة رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال القطع في ربع دينار فصاعدا ولأنهم اتفقوا على أن القطع على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما كان الا في ثمن المجن واختلف في ثمن المجن وعند الاختلاف
في القيمة يؤخذ بالأقل كما إذا اختلف المقومون في قيمة المسروق يؤخذ بالأقل في ذلك
فأقل ما نقل فيه ثلاثة دراهم فلهذا قدر مالك رحمه الله تعالى النصاب به وقد كانت قيمة
الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر درهما فثلاثة دراهم يكون ربع
دينار وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يستدل بحديث عثمان رضي الله عنه لا تقطع الخمس
الا بخمسة يعني اليد التي عليها خمسة أصابع لا تقطع الا بخمسة دراهم ومن اعتبر بأربعين
استدل بحديث عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الشئ التافه فكانت تقطع في ثمن المجن وهو كان يومئذ ذا ثمن وهذا منها إشارة إلى أنه
كان مالا خطيرا والخطير ما يكون مقدارا يعتبر لايجاب الزكاة فيه وأدنى ذلك الأربعون في
نصاب الشياه وعلماؤنا رحمهم الله استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا قطع الا في دينار أو عشرة دراهم وعن ابن مسعود
رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا لا تقطع اليد الا في دينار أو في عشرة دراهم وهكذا عن
علي رضي الله عنه وفى الحديث المعروف لا مهر أقل من عشرة ولا قطع في أقل من عشرة
دراهم وعن أيمن بن أبي أيمن وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن المجن الذي قطعت اليد
فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يساوى عشرة دراهم والرجوع إلى قولهم أولى
لأنهم من جلة الغزاة فكانوا أعرف بقيمة السلاح من غيرهم وليس هذا من جملة ما قال إن
137

الاخذ بالأقل أولي لان في قيمة المسروق إنما يؤخذ بالأقل لدرء الحد ذلك يوجب أن
يؤخذ بالأكثر ههنا لان معني درء الحد فيه وقد روى أن عمر رضى الله تعالى عنه أتي بسارق
سرق ثوبا فأمر بقطع يده قال عثمان رضي الله عنه ان سرقته لا تساوي عشرة دراهم فأمر
بتقويمه فقوم بثمانية دراهم فدرأ الحد عنه فدل أنه كان ظاهرا معروفا فيما بينهم ان النصاب
يتقدر بعشرة دراهم ويعتبر نصاب الحد بنصاب المهر وقد قامت الدلالة لنا على أن أدناه عشرة
دراهم والمستحق بكل واحد منهما ماله خطر وهو مصون عن الابتذال فلا يستحق الا بمال
خطير والحديث الذي رواه عن عائشة رضي الله عنها اضطرب أهل الحديث فيه وأكثرهم
على أنه غير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان القاسم بن عبد الرحمن رحمهما
الله تعالى إذا سمع من يروى هذا الحديث مرفوعا رماه بالحجارة والدليل عليه ما اشتهر من
قول عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع في الشئ التافه وكانت تقطع في ثمن المجن فلو
كان عندها نص لما اشتغلت بهذا الجواب المبهم ثم يحتمل أنه كان التقدير بربع دينار في
الابتداء ثم انتسخ ذلك بعشرة دراهم ليكون الناسخ أخف من المنسوخ قال الله جل وعلا
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ثم في ظاهر الرواية المعتبر عشرة دراهم من
النقرة المضروبة حتى روى ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا سرق نقرة لا تساوى
عشرة دراهم مضروبة فلا قطع عليه وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر
عشرة دراهم من النقد الغالب بعد أن تكون الفضة فيها غالبة على الغش وأما ما يغلب عليه
الغش فهو من الفلوس لامن الدراهم والأول أصح لما بينا أن شرط العقوبة يراعى وجوده
بصفة الكمال فإذا كانت الدراهم مغشوشة فالغش ليس من الفضة في شئ ولو أوجبنا القطع
عليه كان ايجاب القطع في موضع الشبهة وما يندرئ بالشبهات لا يستوفى مع الشبهة فلهذا
اعتبرنا عشرة دراهم من النقرة المضروبة ثم المعتبر عشرة دراهم من وزن سبعة فإنه هو
المعتبر في وزن الدراهم في غالب البلدان وقد بينا تفسير ذلك فيما أمليناه من شرح الافرار
وعن ابن مسعود وابن عباس وإبراهيم رضوان الله عليهم أجمعين قالوا إذا أصاب من الحدود
فيها القتل قتل وألغي ما سوى ذلك معناه ما سوى ذلك من الحدود التي حق لله تعالى فأما
ما فيه حق العباد كحد القذف والقصاص في الطرف فلا بد من استيفائه مقدما لمراعاة من له
الحق وفى حقوق الله تعالى القتل أهم وفى معنى الزجر أتم فيبدأ به ثم لا فائدة في الجلد
138

والقطع بعده بهذا استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في أن قاطع الطريق إذا استحق
قتله لا يشتغل بقطع يده ورجله وأبو حنيفة رحمه الله يقول إن المراد في الحدود لا في حد
واحد وحد قاطع الطريق واحد ولا تداخل في أجزاء حد واحد فللامام إن يقطع يده ورجله
ثم يقتله لتحقيق معنى التغليظ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال أيما قوم شهدوا على حد لم
يشهدوا بحضرته فإنما شهدوا على ضغن قال الحسن رحمه الله في حديثه ولا شهادة لهم
والمراد الحدود التي هي محض حق الله تعالى والشهادة عليها بطريق الحسبة من غير أن ينبني
على خصومة في الحد كالزنا والسرقة وشرب الخمر وأما حد القذف فالشهادة عليه تنبني على
الدعوى والخصومة في الحد فلا يمتنع قبولها بتقادم العهد وعن علي رضي الله عنه في رجل
أخذ وقد نقب البيت ولم يأخذ المتاع قال لا حد عليه وبه نأخذ فان سبب وجوب الحد
ما لم يتم لا يجب الحد وتمام السرقة باخراج المال من الحرز وهذا لان الحد يتعلق بما هو المقصود
من كل نوع ولهذا لم يجب حد الزنا الا بالايلاج في الفرج والمقصود في السرقة اخراج
المال دون هتك الحرز فان أخذ قبل اخراج المال فقد انعدم ما هو المقصود فلا حد عليه وعن
رافع بن خديج رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر
ولا في كثر وبه نقول فالثمر اسم الرطب المعلق على الأشجار وهو مما يتسارع إليه الفساد
ولا قطع عندنا في سرقة ما يتسارع إليه الفساد (فان قيل) المراد ثمار المدينة فإنها على رؤس
الأشجار وهي لا تكون محرزة لقصر الحيطان (قلنا) رسول الله صلى الله عليه وسلم نص
على المعنى المانع من وجوب الحد والقطع وهو كون المسروق ثمرا وفي الحمل على ما قلتم تعطيل
هذا السبب وإحالة الحكم إلى سبب آخر فأما الكثر فقد قبل المراد به الجمار هكذا قال يحيى
ابن سعيد وقال غيره هو الودي وهو النخل الصغار وقد حكي أن غلاما سرق وديا فغرسه
في أرض مولاه فأتي به مروان فأمر بقطعه فجاء مولاه إلى رافع بن خديج رضي الله عنه
فأخبره بذلك فقال لا قطع عليه فسأله أن يأتي معه مروان فقال إليه وقد روى الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لا قطع في ثمر ولا في كثر فدرأ الحد مروان وعن الحسن رحمه
الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع في الطعام المهيأ للأكل فان ذلك مما يتسارع إليه
الفساد ولا يمكن ادخاره وأما الحنطة ونحوها يتعلق بسرقتها القطع بعد تمام الاحراز
وقبل تمام الاحراز لا يتعلق بها القطع لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن جريسة
139

الجبل فقال هي ومثلها والنكال وإذا جمعها المراح ففيها القطع وفى رواية ففيها غرم مثله
وجلدات نكال وفي رواية فإذا آواها الجرين وبلغ ثمن المجن ففيها القطع وقيل المراد لا قطع
في عام السنة وهي زمان القحط لان الضرورة تبيح التناول من مال الغير بقدر الحاجة فيمنع
ذلك وجوب القطع لما روى عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا قطع في مجاعة مضطر وذكر عن الحسن عن رجل قال رأيت رجلين مكتوفين ولحما
فذهبت معهم إلى عمر رضي الله عنه فقال صاحب اللحم كانت لنا ناقة عشراء ننتظرها كما ينتظر
الربيع فوجدت هذين قد اجتزراها فقال عمر رضي الله عنه هل يرضيك من ناقتك ناقتان
عشراوان مربعتان فانا لانقطع في العذق ولا في عام السنة وكان ذلك في عام السنة والعشراء
هي الحامل التي أتى عليها عشرة أشهر وقرب ولادتها فهي أعز ما يكون عند أهلها ينتظرون
الخصب والسعة بلبنها كما ينتظرون الربيع وقوله فانا لانقطع في العذق منهم من يروى في
العرق وهو اللحم والأشهر العذق وهو الكباسة ومعناه لا قطع في عام السنة للضرورة والمخمصة
وقد كان عمر رضي الله عنه في عام السنة يضم إلى أهل كل بيت أهل بيت آخر ويقول لن يهلك
الناس على أنصاف بطونهم فكيف نأمر بالقطع في ذلك وعن علي رضى الله في الخلسة قال
تلك الدعارة المغالبة لا قطع فيها وفي رواية الغالبة فهذا منه منه إشارة إلى أن القطع إنما
يتعلق بفعل السرقة والخلسة لا تكون سرقة فان المختلس يستدير صاحب المتاع ولا يسارق
عينه وعن إبراهيم قال لا قطع على سارق الحر الصغير وان سرق مملوكا قطع وبه نأخذ
والحر ليس بمال بخلاف المملوك وفى الصغير يتحقق فعل السرفة؟ وفيه اختلاف لأبي يوسف
رحمه الله تعالى نبينه وعن علي رضي الله عنه في السارق تقطع يده اليمنى فان عاد قطعت رجله
اليسرى فان عاد استودعته السجن انى لأستحي من الله تعالى أن لا أدع له يدا يأكل بها
ورجلا يمشي عليها وذكر في الأصل أنه عرض السجون فأتي برجل قد قطعت يده
ورجله وقد سرق فقال ما ترون فيه قال بعضهم تقطع يده اليسرى فقال ليس ذلك عليه
فبأي شئ يستنجي ويرفع لقمته وقال بعضهم تقطع رجله اليمني فقال ما ذاك عليه فبأي شئ
يمشي إلى حاجته قال إبراهيم رحمه الله تعالى وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فمنهم من قال أقطعه حتى آتى على قوائمه كلها يريد به قول أبى بكر وعمر رضي الله عنهما
ومنهم من قال أقطع يده ورجله ثم أحبسه يريد به قول على وابن مسعود رضي الله عنهما قال
140

هذا أحب إلى وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى لان القطع شرع زاجرا لا متلفا وفى تفويت
منفعة الجنس اتلاف حكمي على ما أشار إليه علي رضي الله عنه وسيأتي بيان هذا الفصل
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أضاف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقطع اليد والرجل
فكان يصلى بالليل فقال له أبو بكر رضي الله عنه من قطعك فقال يعلي بن أمية باليمن قال أبو
بكر رضي الله عنه ما ليلك بليل سارق ثم أغار على حلي لأسماء فسرقه ثم أصبح يدعو مع القوم
على من سرق أهل البيت الصالح وفى رواية كأن يقول اللهم أظهر فلم يقم القوم حتى أتى
بصائغ بالمدينة عنده الحلي فقال أتاني به هذا الأقطع واعترف فقال أبو بكر رضي الله عنه
لعزته بالله أعز على من سرقته وفى رواية ما أجهلك بالله فقال عمر رضي الله عنه والله
لا أبرح حتى يقطع فقطعت يده اليسرى وقد ذكرنا في كتاب الاكراه أنه كان أقطع
اليد فقطع أبو بكر رضي الله عنه رجله اليسرى وليس لحكاية الحال عموم فعند اختلاف
الرواية فيه يضعف الاستدلال به والاشكال في الحديث انه كان ضيفا عند أبي بكر رضي الله عنه
والضيف إذا سرق من بيت المضيف لا يقطع لأنه مأذون بالدخول في الحرز ولكن
تأويله ان بيت الضيافة لأبي بكر رضي الله عنه كان منفصلا عن بيت العيال فلم يكن
الضيف مأذونا في بيت العيال فلهذا قطعه وفيه دليل على أنه لا يعتمد على ظاهر حال الرجل
في دعائه وصلاته وقد كان يصلى بالليل ثم كان مقصوده السرقة لا الصلاة وتمام فوائد الحديث
نبينه في الاكراه إن شاء الله تعالى وذكر عن يزيد بن خصيف رضي الله عنه قال أتى النبي
صلى الله عليه وسلم بسارق فقال أسرقت ما أخاله سرق فقال نعم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ففعلوا به ذلك فقال تب إلى الله فقال تبت
إلى الله تعالى فقال اللهم تب عليه وفيه دليل على أن الامام مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد
وتلقين المقر الرجوع ويدل عليه ما رواه عن أبي الدرداء أنه أتى بسارق أو بسارقه فقال
أسرقت قولي لا وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه أتى بسوداء يقال لها سلامة
فقال أسرقت قولي لا قالوا أتلقنها قال جئتموني بأعجمية لا تدري ما يراد بها حين تفسر
فاقطعها وفيه دليل على أن المقر بالسرقة إذا رجع درئ عنه الحد وان الرجل والمرأة في ذلك
سواء وان للامام أن ينيب غيره منابه ليستوفى الحد لا بحضرته فإنه عليه الصلاة والسلام قال
اذهبوا به فاقطعوه وفيه دليل على أن القطع للزجر لا للاتلاف لأنه أمر بالحسم بعد القطع
141

وهو دواء واصلاح يتحرز به عن الاتلاف وفيه دليل على أن التطهير لا يحصل بالحد إذا كان
مصرا على ذلك ولأنه خزى ونكال وإنما التطهير والتكفير به في حق التائب فإنه دعاه إلى
التوبة بقوله صلى الله عليه وسلم تب إلى الله وفيه دليل على أن التوبة لا تتم بقوله تبت فإنه
صلى الله عليه وسلم قال اللهم تب عليه وتمام التوبة بالندم على ما كان منه والعزم على أن لا يعود
إليه من بعد مع الوجل فيما بين ذلك (قال) وان شهد شاهدان على رجل بالسرقة
سئلا عن ماهيتها وكيفيتها لان مبهم الاسم محتمل فان من يستمع كلام الغير سرا يسمى
سارقا قال الله تعالى الامن استرق السمع ويقال سرق لسان الأمير ومن لا يعتدل في
الركوع والسجود يسمى سارقا قال صلى الله عليه وسلم ان أسوأ الناس سرقة من يسرق
من صلاته فيستفسرهما عن الماهية والكيفية لها ولان المسروق قد يكون مالا متقوما وقد
يكون غير مال وقد يكون محرزا أو غير محرز وقد يكون نصابا وما دونه فلا بد أن يسألهما
عن الماهية والكيفية وينبغي أن يسألهما متى سرق وأين سرق كما بيناه في الزنا لان حد
السرقة لا يقام بعد تقادم العهد ولا يقام على من باشر السبب في دار الحرب فيسألهما عن
ذلك ولم يذكر السؤال ممن سرق لان المسروق منه حاضر يخاصم والشهود يشهدون
بالسرقة منه ولا حاجة إلى السؤال عن ذلك فإذا بينوا جميع ذلك والقاضي لا يعرف
الشاهدين حبسه حتى يسأل عنهما لأنه صار متهما بارتكاب الحرام فيحبس ولا يمكن التوثق
بالكفيل لأنه لا كفالة في حقوق الله تعالى ولا يتمكن من القضاء قبل ظهور عدالتهما
لان القطع يتعذر تلافيه عند وقوع الغلط فيه فلهذا حبسه فان زكيا وقيمة المسروق نصاب
كامل والمسروق منه غائب لم يقطع الا بحضرته وكان ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول
لا حاجة إلى حضرة المسروق منه وتقبل الشهادة على السرقة وحبسه كالزنا لان المستحق
بكل واحد منهما حد هو خالص حق الله تعالى والشافعي رحمه الله يقول إذا أقر السارق
بالسرقة فلا حاجة إلى حضرة المسروق منه لقطعه فأما إذا قامت البينة عليه بذلك فلا بد من
حضوره عند الشهادة لان الشهادة تنبنى على الدعوى في المال فما لم يحضر هو أو نائبه
لا تقبل شهادته وان غاب بعد ذلك لا يتعذر استيفاء القطع وعندنا لا بد من حضرة
المسروق منه في الاقرار والشهادة جميعا عند الأداء وعند القطع لان ظهور فعل السرقة
لا يكون الا به فلا بد من أن يكون المسروق مملوكا لغير السارق فإذا قطع قبل حضوره
142

كان استيفاء الحد مع الشبهة لجواز أن يرد اقراره فيبقى المال مملوكا لمن في يده أو كان أقر له
بالملك بعد شهادة الشهود أو أنه كان ضيفا عنده ولا معتبر بحضور وكيله عند الاستيفاء
لان الوكيل قائم مقامه وشرط الحد لا يثبت بما هو قائم مقام الغير (قال) وإذا حضر
المسروق منه والشاهدان غائبان لم يقطع حتى يحضرا في قول أبي حنيفة الأول رحمه الله تعالى
وفى قوله الآخر وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقطع وكذلك بعد موت
الشهود وقد ذكر في كتاب الحدود أنه يقام الحد بعد غيبة الشهود وموتهم الا الرجم خاصة
وقد بينا ذلك الا ان هناك لم يذكر قول أبي حنيفة الأول رحمه الله تعالى وإنما ذكره ههنا
وهو القياس في كل عقوبة لان الاستيفاء مع غيبة الشهود استيفاء مع الشبهة لجواز ان
يكونا رجعا عن الشهادة أو ابتليا بما يسقط شهادتهما ورجوع الشاهد في العقوبات بعد
القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء ولكنه رجع عن هذا فقال الغيبة والموت لا تقدح
في عدالة الشاهد والشرط بعد الأداء عدالته فلهذا لا يمتنع الإقامة لغيبته وموته الا الرجم
فالمعتبر فيه البداية بالشهود وذلك ينعدم بعد موتهم ثم بين أن العارض في شهود السرقة بعد
القضاء قبل الاستيفاء مانع من استيفاء القطع وهو غير مانع من استرداد عين المسروق
لأنه محض حق العبد فتتأكد الشهادة فيه بنفس القضاء ولان المال يثبت بالشبهات بخلاف
الحد ولهذا قبلت شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة في السرقة بالمال دون القطع
(قال) وإذا سرق الرجل ثوبا يساوى عشرة من رجلين قطع لان المسروق نصاب كامل فلا
يختلف مقصود السارق بتعدد المسروق منه أو اتحاده (قال) وان سرق رجلان ثوبا
يساوى عشرة من رجل لم يقطعا لان سرقة كل واحد منهما نصف النصاب فان عند تعدد
السراق لا يصيب كل واحد منهم الا شئ يسير قل ما يرغب فيه ولا تقطع اليد في الشئ التافه
بخلاف الأول فان السارق واحد والنصاب كامل يرغب الواحد في أخذه سواء كان المالك
واحدا أو جماعة وان كانت قيمة الثوب بحيث يبلغ نصيب كل واحد من السارقين منه
عشرة درهم فإنه يقطع كل واحد منهما لان التعاون مما يزيد رغبة السارق في الاجتراء على
فعل السرقة فالحاجة إلى شرع الزاجر في هذه الحالة أظهر وهو نظير الصداق فإنه لو تزوج
امرأتين على ثوب يساوى نصيب كل واحدة منهما عشرة دراهم كانت التسمية صحيحة
في حقهما ولو كانت قيمة الثوب عشرة فلكل واحدة نصف الثوب وخمسة لان البضع لا يتملك
143

على واحدة منهما الا بنصاب كامل فكذلك ههنا لا يقطع اليد من كل واحد منهما ما لم تبلغ
سرقته نصابا كاملا (قال) ويقطع السارق من المستودع والمضارب والمستعير والغاصب
والمرتهن عندنا وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لا يقطع بخصومة هؤلاء ما لم
يحضر المالك والكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى ينبنى على أن لهؤلاء حق الخصومة في
الاسترداد عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس لهم ذلك عند جحود من في يده ما لم
يحضر المالك وقد بينا هذا في الوديعة فأما الكلام مع زفر رحمه الله تعالى يتحقق في هذه
المسألة هو يقول خصومة هؤلاء تقوم مقام خصومة المالك فلا يستوفى القطع بمثله
كما لا يستوفى بخصومة وكيل المسروق منه وهذا لأنه استوفى مع تمكن الشبهة فان
المالك إذا حضر ربما يقر بالملك له أو انه كان مأذونا في الاخذ من جهته وما يندرئ
بالشبهات لا يستوفى مع تمكن الشبهة ألا ترى أن القصاص في النفس لا يستوفى
بخصومة المستودع عند غيبة المالك لهذا المعنى فأما الأب أو الوصي فقد قيل على قول
زفر رحمه الله لا يستوفى القطع بخصومتهما أيضا لاعتبار معنى النيابة وقيل إنه يستوفى لأنه
ليس فيه تمكن الشبهة في الحال فان اقرار الصغير بالملك للسارق لغو ولهذا ملك الأب استيفاء
القصاص في الطرف والنفس جميعا وملك الوصي استيفاء القصاص في الطرف في أحدي
الروايتين توضيحه أن المال مضمون على السارق وفي استيفاء القطع اسقاط الضمان وصاحب
اليد إذا لم يكن مالكا لا يملك اسقاط الضمان فلا يستوفى القطع بخصومته (وحجتنا)
فيه أن السرقة تمت موجبة للقطع فيستوفي القطع بخصومة المسروق منه كالمالك والأب
والوصي ان سلم وبيانه أن المالك لو حضر وخاصم يستوفي القطع بالاتفاق وتأثيره ان بعد
تمام الفعل موجبا للقطع الشرط ظهوره عند الامام بلا شبهة وقد ظهر بخصومة هؤلاء
لان أيديهم صحيحة وصاحب اليد الصحيحة إذا أزيلت يده كان له حق الخصومة في الإعادة
لان اليد مقصود كالملك ألا ترى أن الغاصب يضمن بتفويت اليد ولان صاحب اليد وإن كان
أمينا فلا يتمكن من أداء الأمانة الا بيده وإن كان ضامنا فلا يتمكن من اسقاط الضمان
عن نفسه الا بيده فكانت اليد مقصودة له ولا شك في حق المرتهن أن اليد مقصودة
لان موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء حقا للمرتهن وكل من كان خصما في اثبات
إزالة يده يكون خصما في اثبات سبب الإزالة كمن ادعى عينا في يد انسان أنه له اشتراه
144

من فلان الغائب وأقام البينة على ذلك قبلت بينته حتى إذا حضر الغائب وأنكر البيع لم
يلتفت إلى ذلك لأنه لما كان خصما في اثبات الملك لنفسه كان خصما في اثبات سببه وسبب
الإزالة ههنا السرقة فيظهر بخصومته عند الامام بلا شبهة لأنه أصل في هذه الخصومة وإنما
يخاصم باعتبار حقه لا باعتبار ملك الغير ألا ترى أنه يستغنى عن إضافة الخصومة إلى غيره
فإنه يقول سرق مني وأزال يدي بخلاف الوكيل وإذا ظهرت السرقة بلا شبهة استوفي
الامام القطع حقا لله تعالى ولا يمتنع الاستيفاء لتوهم اعتراض اقرار من المالك إذا
حضر ألا ترى أن المالك إذا حضر وغاب المودع يستوفي القطع وإن كان يتوهم أن يحضر
المودع فيقر أنه كان ضيفا عنده وهذا لان المؤثر شبهة يتوهم وجودها في الحال فاما ما
يتوهم اعتراضها لا يعتبر ألا ترى أن القطع يستوفى بالاقرار وإن كان يتوهم اعتراض
الرجوع من المقر وصاحب اليد بهذه الخصومة إنما يقصد احياء حق المالك لا اسقاطه
ولكن الامام إذا استوفى القطع حقا لله تعالى فمن ضرورته سقوط الضمان على ما نبينه
فلا يصير به المودع مسقطا للضمان بل القطع مشروع بطريق الزجر فإذا علم السارق
أنه لا يقطع بخصومة المودع في حال غيبة المالك يجترئ على سرقة الوديعة فلتحقيق
الزجر يستوفي القطع بخصومته ويكون ذلك من الحفظ حكما كما أن الله تعالى وصف
القصاص بأنه حياة وهو أمانة في الحقيقة ولكن فيه حياة بطريق الزجر فأما القصاص
إنما لا يستوفى بخصومة المودع لتمكن شبهة عفو من المالك في الحال ولان اليد فيما
تناوله من الايداع له وهو المالية ووجوب القصاص باعتبار معنى النفسية وذلك لا يتناوله
الايداع بخلاف الخصومة في السرقة فإنه يكون في المال باعتبار معنى المالية فيكون المودع
أصلا بنفسه ولان الحرز الذي هو المودع لا أثر له في القصاص بخلاف القطع فإنه لا يجب الا
بهتك الحرز وأخذ المال وكل واحد منهما جناية تصلح سببا للعقوبة فكان المودع باعتبار
هذا المعنى كالمودع لأنه صاحب أحد وصفي السبب فكما أن المالك أصل في الخصومة
المظهرة للسرقة بلا شبهة فكذلك المودع وأما إذا سرق من السارق فإن كان الأول لم تقطع
يده فهو بمنزلة الغاصب يقطع الثاني بخصومة الأول وإن كان الأول قد قطعت يده فالسرقة
بعد لم تتم موجبة للقطع لأنه لا معتبر بيد السارق الأول بعدما قطعت يده فإنه ليس بيد أمانة
ولا يد ضمان ولا يد ملك ولهذا لا يكون له حق الخصومة في الاسترداد ولو حضر المالك
145

لم يكن له أن يستوفى القطع من الثاني بخلاف ما نحن فيه على ما بينا (قال) وإذا اشهد
كافران على مسلم وكافر بسرقة ثوب فشهادتهما باطلة في جميع ذلك إلا أنه يقضى على
الكافر بنصف الثوب للمدعى لأنهما شهدا بسرقة واحدة ولم تظهر شهادتهما في حق
المسلم لأنها ليست بحجة عليه فلا تظهر في حق الكافر أيضا لان شهادتهما حجة في فعل
يختص به الكافر لا في فعل يشاركه المسلم فيه وقد تقدم في الزنا نظيره وأما في حق
الثوب فنصفه في يد المسلم فشهادتهما ليست بحجة فيه ونصفه في يد الكافر فشهادتهما
حجة عليه فيقضي بشهادتهما على الكافر بنصف الثوب للمدعى فإن كان المشهود عليهما
كافرين فأسلم أحدهما قبل القضاء فكذلك الجواب وان أسلم أحدهما بعد القضاء فكذلك
الجواب في حق القطع فأما في حق الثوب فللمدعى أن يسترده كله لان شهادتهما في ملك
الثوب تأكدت بالقضاء (قال) ويستحب لشاهدي السرقة أن لا يشهدا عليه بذلك ليندرئ
به الحد عندنا لما جاء في الحديث ادرؤا الحدود ما استطعتم وهذا خطاب لكل من تمكن من
ذلك ولأنه بالامتناع من أداء الشهادة يقصد ابقاء الستر عليه وانه مندوب إليه ولكن هذا
إذا رد السارق المتاع فان أبى ذلك وقال صاحب المتاع إذا يذهب متاعي وسعهما أن يشهدا
أنه متاع هذا أخذه هذا من غير أن يذكر السرقة لأنهما ندبا إلى الستر عليه ونهيا عن
كتمان الشهادة التي تتضمن ابطال حق المسلم فالطريق الذي يعتدل فيه النظر من الجانبين
هذا وهو أن يشهدا بلفظ الاخذ دون السرقة ليكون الآخذ مجبرا على رد العين حال
قيامها وعلى رد القيمة عند هلاكها فيتوصل صاحب المتاع إلى حقه ولا ينهتك ستر الآخذ
وهما صادقان في هذه الشهادة فالسارق أخذ المتاع لا محالة وكل من كان في يده شئ أو في
بيته فأخذه انسان وسع الشاهدان أن يشهدا أنه لفلان الذي كان في يديه لأنه لا طريق
لمعرفة الملك الا اليد لأنه وان عاين الشراء فالمشترى لا يملك الا باعتبار ملك البائع ولا يعرف
ملكه الا باعتبار يده وكذلك الاحتطاب والاحتشاش وسائر الأسباب إنما يوجب الملك
باعتبار اليد وهذا لان إحراز الشئ يكون باليد وبالاحراز يثبت الملك وعلى قول الشافعي
رحمه الله تعالى لا يسعه أن يشهد له بالملك ولو رآه في يده إلا أن يراه يتصرف فيه ولا يمنعه
أحد منه لان الأيدي قد تتنوع قد تكون يد ملك وقد تكون يد أمانة وقد تكون يد غصب
ولكنا نقول لا معتبر بهذه الزيادة فاليد مع التصرف تتنوع أيضا ألا ترى أن الوكيل
146

والمضارب متصرف وفي الكتاب قال الشاهد يبنى على الظاهر فان ما وراءه غيب لا يعلمه
الا الله تعالى ألا ترى أنه لو تزوج امرأة بين يدي الشهود كان لهم أن يشهدوا بالنكاح
بينهما وإن كان من الجائز أنها كانت منكوحة الغير أو وقعت الفرقة بينهما بعد العقد
وشهود الدين يسعهم أن يشهدوا عليه بعد زمان ولعل البراءة وقعت عنه بالاستيفاء أو الابراء
(قال) ومن نقب البيت فأدخل يده وأخذ المتاع وذهب به لم يقطع وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى في الاملاء انه يقطع لأنه أخذ مالا محرزا على وجه السرقة وهو كما لو دخل
البيت وأخرج المتاع وهذا لان المقصود أخذ المال لا دخول الحرز وبناء الحكم على ما هو
المقصود ألا ترى أنه لو سرق من الجوالق وأدخل يده وأخرج المتاع قطعت يده فكذلك
في البيت وجه ظاهر الرواية ما روى عن علي رضي الله عنه اللص إذا كان ظريفا لا يقطع
قيل وكيف ذلك قال إن ينقب البيت فيدخل يده ويخرج المتاع من غير أن يدخله ولان
هتك الحرز معتبر لايجاب القطع وشرط الحد وسببه يراعي وجوده بأكمل الجهات وأكمل جهة
هتك الحرز في البيوت ان يدخلها فلا يلزمه القطع بدون ذلك بخلاف الجوالق فالدخول فيه
لا يتأتى وهو ليس بمعتاد أيضا فيتم هتك الحرز بادخال اليد واخراج المتاع منه وكمال أخذ
المال مقصود فدخول الحرز كذلك ألا ترى أن من الجهال من يقصد ذلك إظهارا للجلادة من
نفسه والاستخفاف بصاحب الحرز وإن لم يكن به قصد إلي أخذ ماله (قال) وان دخل الحرز
وجمع المتاع ولم يخرجه حتى أخذ لم يقطع لان تمام السرقة باخراج المال من الحرز فمقصود السارق
لا يتم الا به وقبل تتميم السبب لا يلزمه القطع وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقطع لان سرقته قد
تمت بأخذ المال المحرز والخروج بعد ذلك ليس تتميم فعل السرقة بل للنجاة من صاحبه
وهو كحد الزنا يجب بنفس الايلاج وان أخذ على ذلك قبل أن ينزع نفسه ولكنا نقول هناك
يحصل مقصوده في الايلاج وههنا يحصل مقصوده في صرف المسروق إلى شهواته وحاجاته
وذلك يكون بعد الاخراج فلا يقطع إذا أخذ قبل أن يخرج (قال) فان ناول صاحبا له على
الباب لم يقطع واحد منهما لان الذي وقف خارج البيت لم يدخل الحرز والآخر لم يخرج المال
ألا ترى أنه خرج من الحرز وليس معه في يده مال حقيقة ولا حكما إذ المال في يد الآخذ
منه فلا يقطع واحد منهما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن كان الخارج أدخل يده
حتى تناول المتاع فالقطع عليهما وإن كان الداخل أخرج يده مع المتاع حتى أخذ الخارج منه
147

فالقطع على الداخل دون الخارج لان الداخل قد تم منه هتك الحرز فصار المال مخرجا
بفعله ومعاونته فعليه القطع على كل حال فأما الخارج فان أدخل يده فقد وجد منه اخراج المال
من الحرز وذلك يوجب القطع عليه عنده وإن لم يدخل يده ولكن أخرج الآخر يده إليه
فإنما أخذ متاعا هو غير محرز فلا يقطع (قال) فان رمى بالثياب إلى الطريق ثم خرج
وأخذها من الطريق قطع عندنا وعند زفر رحمه الله لا يقطع لأنه خرج؟ من الحرز ولا مال
في يده فهو كما لو ناول صاحبا له من خارج فإنما فارق هذا الأول في الاخذ من السكة
وذلك غير موجب للقطع عليه ولكنا نقول خرج والمال في يده حكما فتتم سرقته كما لو كان
في يده حقيقة بيانه أن يده تثبت عليه بالأخذ ثم بالرمي إلى الطريق لم تزل يده حكما لعدم
اعتراض يد أخرى على يده ألا ترى أن من سقط منه مال فأخذه انسان ليرده على
صاحبه ثم رده إلى موضعه لم يضمن لأنه في ذلك الموضع في يد صاحبه حكما فرده إلى ذلك
الموضع بمنزلة رده على صاحه وإذا ثبت بقاؤه حكما وقد تقرر ذلك بالأخذ من الثاني فكان
مستوجبا القطع فهذه مبالغة في الحيلة من السارق ليكون مستعدا لدفع صاحب البيت في
بيته ان يدركه فلا يشغل يده بالمتاع وقد يحول ذلك بينه وبين الدفع واكتسابه زيادة حيلة
لا يكون مسقطا للقطع عنه فأما إذا ناول غيره فقد زالت يده حقيقة وحكما باعتراض
يد أخرى قبل خروجه من الحرز فلهذا لم يلزمه القطع (قال) ولو رمى به إلى السكة ثم لما
خرج لم يجده بأن كان أخذه غيره وذهب به لم يقطع لان فعله هذا كان تضييعا للمال لا تتميما
لفعل السرقة وكما ثبتت يد الغير عليه بالأخذ زالت يده حكما فقد خرج ولا مال في يده
(قال) ولو كان في البيت نهر جار ورمى بالمتاع في النهر حتى أخرجه الماء ثم خرج فأخذه
فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى لا قطع عليه لأنه ما أخرج المتاع وإنما خرج به الماء
بخلاف الأول فهناك هو الذي أخرجه بالرمي به إلى خارج والأصح أنه يلزمه القطع لان
جري الماء به كان بسبب القائه في النهر فيصير الاخراج مضافا إليه من هذا الوجه وهو
زيادة حيلة منه ليكون متمكنا من دفع صاحب البيت فلا يجوز أن يجعل مسقطا للحد عنه
(قال) ولو حمل المتاع على ظهر دابة وساق الدابة حتى أخرجها فعليه القطع لان فعل
الدابة مضاف إلى سائقها ألا تري أن ما وطئت دابته فضمانه على سائق الدابة فتتم سرقته
باخراج المال على ظهر الدابة (قال) وان دخل جماعة الدار فجمعوا المتاع وحملوه على ظهر رجل
148

منهم فكان هو الذي خرج به وقد خرجوا معه أو بعده في فوره أو خرجوا قبله ثم خرج
هو في فورهم ففي القياس يقطع الحمال وحده وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى وفى
الاستحسان عليهم القطع وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وجه القياس أن فعل
السرقة إنما يتم من الحمال باخراج المتاع فأما الآخرون لم يوجد اخراج المتاع منهم حقيقة
ولا حكما فلا يلزمهم القطع وبيان ذلك أنهم خرجوا ولا شئ في أيديهم حقيقة ومن طريق
الحكم المتاع في يد الحمال حتى لو نازعوه كان القول قوله ويده معتبرة في ايجاب القطع
عليه ولا يمكن اعتبار تلك اليد بعينها في ايجاب القطع على الآخرين بخلاف ما إذا حملوه
على ظهر الدابة لان فعل الدابة هدر فيبقي الاخراج مضافا إلى سوق الدابة فكانوا مخرجين
له ولأنه لا يد للدابة على المتاع فيبقى في يد الآخذين حكما إلى أن أخرجوه على ظهر الدابة
وجه الاستحسان انهم اشتركوا في هتك الحرز وصار المال مخرجا بمعاونتهم فيلزمهم القطع
كما لو أخرجوه على ظهر الدابة وهذا لأن هذه زيادة حيلة معروفة بين السراق أن يباشر
حمل المتاع واحد منهم وأصحابه يكونون مستعدين لدفع صاحب البيت عنه وعن أنفسهم
فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطا للحد عنهم والمسألة مع الشافعي رحمه الله تعالى إنما تنبني على
الردء في قطع الطريق أنه هل تلزمه العقوبة على ما نبينه فان الآخرين كالردء للحمال إلا أن
زفر رحمه الله تعالى قد يفرق بينهما فيقول حد قطاع الطريق بسبب المحاربة والردء مباشر
للمحاربة لان المحاربة في العادة هكذا تكون فإنهم لو اشتغلوا جميعا بالقتال فإذا وقعت الهزيمة
عليهم لا تستقر قدمهم وإذا كان بعضهم ردءا فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب
التجؤوا إلى الردء فلهذا كانت العقوبة عليهم بخلاف السرقة فالحد ههنا إنما يجب بمباشرة
فعل السرقة وذلك في اخراج المال من الحرز فإذا كان المخرج من يؤاخذ بحكم فعله لم يجب
القطع على غيره (قال) وان دخل البيت وأخرج المتاع بعضهم دون البعض فالقطع على من
دخل البيت وأخرج ان عرف بعينه وإن لم يعرف فعليهم التعزير ولا يقطع واحد منهم لان
فعل السرقة إنما تم من بعضهم وهو غير معروف بعينه فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنهم
(قال) وإذا شهد شاهدان على رجل بالسرقة فقال السارق هذا متاعي كنت استودعته
فجحدني أو اشتريته منه أو قال هو أمرني به درئ عنه القطع في جميع ذلك لان المسروق
منه قد صار خصما له فإنه ادعى عليه ما لو أقربه لزمه ويتمكن من اثباته عليه بالبينة وان طلب
149

يمينه كان له أن يستحلفه عليه وبعدما آل الامر إلى الخصومة لا يستوفى الحد الواجب لله
تعالى وقد بينا هذا في حد الزنا وهذا لأنه إذا امتنع عن اليمين يقضى عليه بالنكول ولو حلف
لو قلنا بأنه يقطع كان استيفاء الحد باليمين ولا يجوز استيفاء الحد باليمين والشافعي رحمه الله
تعالى يقول لا يجوز أن يسقط الحد بمجرد الدعوى لان ذلك لا يعجز عنه سارق فيؤدى
ذلك إلى سد باب هذا الحد ولكنا نقول قد أمرنا بدرء الحد عنه الشبهة والشبهة تتمكن
بمجرد دعواه بدليل تمكنه من الخصومة وهو نظير المقر إذا رجع يدرأ عنه الحد وما من
مقر الا ويتمكن من الرجوع ثم كان ذلك معتبرا في ايراث الشبهة (قال) وان سرق باب
دار أو مسجد لم يقطع لأنه ظاهر غير محرز ولا قطع في سرقة مال غير محرز ولان بالباب
يصير ما في البيت محرزا فسارق الباب يكون سارقا للحرز دون المحرز فهو كسرقة الحارس
وكذلك لو سرق ثوبا قد سقط على حائط إلى السكة فإنه غير محرز فان الحائط غير
محرز بل به يحرز ما في داخل البيت فما على ظاهر الحائط لا يكون محرزا أيضا وكذلك
ان سرق خشبة أو ساجة في السكة وكذلك لو سرق ثوبا من حمام أو بيت انسان أذن له
في دخوله أو حانوت تاجر في السوق قد أذن للناس في دخوله والأصل في جنس هذه
المسائل ان المال يكون محرزا بالمكان تارة وبالحائط أخرى وكل مكان هو معد لحفظ
الأمتعة فيه فهو حرز وما لم يكن معدا مبنيا لذلك لا يكون حرزا والاحراز بالحافظ إنما يعتبر
فيما ليس بمحرز بالمكان فأما فيما كان محرزا بالمكان لا يعتبر الاحراز بالحافظ لأنه بدونه محرز
فإنما يتحقق الاحراز فيما ليس محرزا إذا عرفنا هذا فنقول الحانوت حرز حتى لو سرق
منه ليلا استوجب القطع وإذا فتح التاجر باب الحانوت بالنهار وأذن للناس بالدخول فيه
والمعاملة معه فكل من دخل كان داخلا باذن صاحبه وذلك شبهة مانعة من وجوب القطع
لان كل داخل بحكم الاذن بمنزلة صاحب الدار والحانوت فينعدم هتك الحرز من هذا
الوجه ويستوى إن كان صاحب الحانوت هناك يحفظ متاعه أو لا يكون لان الحافظ غير معتبر
فيما هو محرز بالمكان وكذلك البيت المأذون بالدخول فيه أو الدار الواحدة إذا أذن له بالدخول
في بعض بيوتها ويستوى ان سرق من ذلك البيت أو من بيت آخر فيها أو من صندوق مقفل
لان الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق ما لم يخرج المسروق من الدار لا يستوجب
القطع بخلاف ما إذا كانت احدى الدارين تنفصل عن الأخرى لان كل واحدة منهما
150

حرز على حدة ألا تري أن المودع إذا أمر بحفظ الوديعة في دار فحفظها في دار أخرى
فهلكت كان ضامنا بخلاف ما إذا أمر بحفظها في بيت فحفظها في بيت آخر من تلك الدار
فإذا كان مأذونا في دخول بيت منها تنعدم الحرزية في حقه فلا يقطع سواء كان صاحب
الدار هناك أولم يكن وكذلك الحمام فإنه حرز في نفسه حتى لو سرق منه ليلا يقطع وبالنهار
هو مأذون بالدخول فيه فيمتنع وجوب القطع عليه سواء كان هناك حافظ أو لم يكن فأما
الصحراء فليس بحرز في نفسه وإنما يصير المال محرزا فيه بالحافظ فإذا كان هناك حافظ يجب
القطع على السارق وإلا فلا قطع عليه وكذلك المسجد فإنه ما بنى للاحراز وحفظ الأمتعة
به فإنما يكون المتاع فيه محرزا بالحافظ فإذا لم يكن مع المال حافظ فلا قطع عليه سرق منه
ليلا أو نهارا فإذا كان هناك حافظ فعليه القطع لحديث صفوان رضي الله عنه فإنه كان نائما
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدا بردائه فجاء سارق فسرقه فاتبعه حتى
أخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه (قال) ولو كابر انسانا ليلا حتى
سرق متاعه ليلا فعليه القطع لان سرقته قد تمت حين كابره ليلا فان الغوث بالليل قل
ما يلحق صاحب البيت وهو عاجز عن دفعه بنفسه فيكون تمكنه من ذلك بالناس والسارق
استخفي فعله من الناس بخلاف ما إذا كابره في المصر نهارا حتى أخذ منه مالا فإنه لا يلزمه
القطع استحسانا لان الغوث في المصر بالنهار يلحقه عادة فالآخذ مجاهر بفعله غير مستخف
له وذلك يمكن نقصانا في السرقة قال صلى الله عليه وسلم لا قطع على مختلس ولا منتهب ولا
خائن (قال) وإذا سرق رجلان من رجل ثوبا وأحدهما أب المسروق منه لم يقطع
واحد منهما أما الأب فللتأول له في مال ولده بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك
لأبيك ولأنه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة فلا يكون بيته حرزا في حقه والسرقة
فعل من السارق فإذا امتنع وجوب القطع على أحدهما للشبهة يمتنع وجوبه على الآخر
للشركة وهو نظير ما قلنا في الأب والأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد لم يجب القصاص على
واحد منهما (قال) ومن سرق من ذي رحم محرم منه لم يقطع عند علمائنا وقال الشافعي
رحمه الله في الوالدين والمولودين كذلك وفى غيرهم يجب القطع لأنه ليس بينهما ولاد
ولا جزئية فلا تتمكن الشبهة لأحدهما في مال صاحبه كبنى الأعمام والدليل عليه قبول
شهادة كل واحد منهما لصاحبه وجواز وضع الزكاة فيه ولان الثابت بهذه القرابة بينهما
151

حرمة النكاح وذلك لا يمنع وجوب القطع كما لو سرق من أخيه من الرضاعة وهذا على
أصله مستقيم فإنه يقول لا يتعلق بهذه القرابة استحقاق النفقة بحال ولا استحقاق العتق عليه
عند دخوله في ملكه (وحجتنا) فيه قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية
فالله تعالى رفع الجناح على الداخل في بيت الاخوة والأعمام والأكل منه فظاهر هذا يقتضى
الإباحة والظاهر وان ترك لقيام الدليل يبقى شبهة ألا ترى أنه عطف بيوت الاخوة
والأعمام على بيوت الآباء والأولاد وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه ولا يدخل عليه قوله
تعالي في آخر الآية أو صديقكم لان الصداقة لا تبقي مع السرقة فلانعدام السبب عند
السرقة تنتفي الشبهة هناك فأما الاخوة تبقي مع السرقة كالأبوة والمعنى فيه أن بينهما قرابة
محرمة للنكاح فكانت كالولاد وتأثيره أن البعض يدخل بيت البعض من غير استئذان
ولا حشمة ولهذا ثبت حل النظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة بهذه القرابة كما في
الولاد فينتقص معنى الحرزية في حقهم وهو على أصلنا مستقيم لأنه يتعلق استحقاق النفقة
بهذه القرابة والعتق عند دخوله في الملك فذلك دليل على ثبوت الحق لبعضهم في مال
البعض من وجه وأدنى الشبهة تكفي لدرء الحد وإن كان أحد السارقين ذا رحم محرم من
المسروق منه أو شريكا له يدرأ الحد عنه بالشبهة ويدرأ عن الآخر للشبهة للشركة لما بينا أنها
سرقة واحدة فلا يكون بعضها موجبا للعقوبة وبعضها غير موجب كالخاطئ مع العامد إذا
اشتركا في القتل (قال) ولا قطع على سارق المصحف عند علمائنا رحمهم الله تعالى وقال
الشافعي رحمه الله تعالى عليه القطع لأنه سرق مالا متقوما من حرز لا شبهة فيه فان الجلد
والبياض مال متقوم قبل أن يكتب فيه القرآن يجب القطع بسرقته فكذلك بعدما كتب
فيه ألا ترى أنه يجوز بيعه وشراؤه وانه لو كان المكتوب فيه شيئا آخر لم تنتقص ماليته فإذا
كتب فيه القرآن أولى وفي الكتاب علل وقال لان فيه القرآن فلا قطع فيه وفى هذا التعليل
إشارة إلى أن في المصاحف قرآنا كما هو مذهب أهل السنة وتأثيره أن لكل واحد تأويلا
في أخذ المصحف للقراءة فيه والنظر لإزالة اشكال وقع في كلمة فالقطع لا يجب مع تمكن
الشبهة توضيحه أن المقصود ما في المصحف لا عين الجلد والبياض ولا يمكن ايجاب القطع
عليه باعتبار هذا المقصود لان ذلك ليس بمال فيصير ذلك شبهة كمن سرق آنية من خمر
لا يلزمه القطع وان كانت الآنية تساوي نصابا لان المقصود ما فيه وهو ليس بمال وكذلك
152

إن كان المصحف مفضضا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يقطع في هذه الحالة
لان ما عليه من الفضة ليس من المصحف في شئ فهو كالمنفصل يتعلق القطع بسرقته ووجه
ظاهر الرواية أن المقصود ما في المصحف دون ما على جلده من الفضة وإذا لم يكن ايجاب
القطع باعتبار ما هو المقصود يعتبر ذلك شبهة في درء الحد كمن سرق ثوبا خلقا قد صر في
الثوب دينار ولم يعلم السارق لا يلزمه القطع لان ما هو المقصود ليس بنصاب فلا يلزمه القطع
باعتبار غيره (قال) ولا قطع على سارق الخبز واللحم والفاكهة والرمان والعنب والبقول
والرياحين والحناء والوسمة سواء سرق من شجره أو من غير شجره عندنا وقال الشافعي
رحمه الله تعالى يلزمه القطع في هذا كله وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه سرق
مالا متقوما من حرز لا شبهة فيه ودليل المالية والتقوم جواز البيع والشراء فيها ووجوب
ضمان القيمة على غاصبها ومتلفها ودليل الحرزية أنه لو سرق مالا آخر من هذا الموضع يقطع
وكل مكان هو حرز معتاد لمال فإنه يتم احرازه بذلك المكان على وجه لا يبقى فيه شبهة
(وحجتنا) ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا في كثير وبالإجماع المراد
بالثمار الرطبة لأنه يتسارع إليها الفساد ولان في مالية هذه الأشياء نقصانا لان المالية بالتمول
وذلك بالصيانة والادخار لوقت الحاجة ولا يتأتى ذلك فيما يتسارع إليه الفساد فيتمكن النقصان
في ماليتها وفى النقصان شبهة العدم ولأنه تافه جنسا ولان الناس يتساهلون به فيما بينهم
فيلتحق بالتافه قدرا وهو ما دون النصاب والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها كانت لا
تقطع الأيدي في الشئ التافه (قال) وكذلك لا قطع في الحرض والجص والنورة والزرنيخ
عندنا لأن هذه الأشياء توجد مباح الأصل في دار الاسلام غير مرغوب فيه فلا يتعلق
القطع بسرقته عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه يتعلق القطع بسرقة كل مال تبلغ قيمته نصابا
الا التراب والسرجين وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه سرق مالا متقوما من
حرز لا شبهة فيه وقررنا هذا في المسألة الأولى وبأن كان يوجد جنسه مباحا لا يتمكن فيه
شبهة بعد الاحراز كالذهب والفضة واللؤلؤ والفيروزج يتعلق القطع بسرقتها وإن كان
يوجد جنسه مباحا ولأنه لو سرق سريرا أو كرسيا يلزمه القطع والخشب غير مصنوع
يوجد مباحا ثم وجوب القطع باعتبار العين لا باعتبار الصنعة ولا يفترق الحال بينهما قبل
الصنعة وما بعده في حكم القطع (وحجتنا) فيه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم الناس
153

شركاء في ثلاثة في الكلأ والماء والنار وقد أثبت بين الناس شركة عامة في هذه الأشياء
وذلك شبهة في المنع من وجوب القطع بها وان انقطعت الشركة باحرازها وإذا علم الحكم
في هذه الأشياء وهي توجد مباح الأصل بصورتها غير مرغوب فيها فكذلك كل
ما يوجد مباح الأصل في دار الاسلام غير مرغوب فيه والمعني فيه أنه تافه جنسا ألا ترى أن
الانسان قد يتمكن من أخذه ولا يرغب فيه فيكون نظير التافه قدرا يقرره ان التافه لا يتم
احرازه ألا ترى أن الخشب تكون مطروحة في السكك عادة وكذلك الجص والزرنيخ
والنورة والناس لا يحرزونها كما يحرزون سائر الأموال لتفاهتها والنقصان في الحرزية
يمنع من وجوب القطع فأما الذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر فقد روى هشام عن محمد
رحمهما الله تعالى أنه إذا سرقها على الصورة التي توجد مباحا لا يقطع وهو المختلط بالحجر
والتراب وفى ظاهر المذهب يجب لأنه ليس بتافه جنسا فان كل من يتمكن من أخذه
لا يتركه عادة وكذلك احرازه يتم عادة فأما المصنوع من الخشب فهولا يوجد بصورته مباحا
فلم يكن تافها جنسا ولا يبعد أن لا يتعلق القطع بعين الشئ ثم يتعلق بالمصنوع منه كما قال هو
في التراب لا يقطع بسرقته ثم يتعلق بسرقة المصنوع منه من الطوابق والكيزان ونحوهما
(قال) ولا يقطع بسرقة النبيذ واللبن لان ذلك مما يتسارع إليه الفساد وكذلك في سرقة
الخمر والخنزير والسكر أما فيما بين المسلمين هذا حرام ولكل واحد تأول أخذه للإراقة
وأما في حق أهل الذمة وإن كان مالا متقوما ولكنه مما يتسارع إليه الفساد وانعدام المالية والتقوم
فيه في حق المسلم يصير شبهة والقطع يندرئ بالشبهات (قال) ولا قطع في الدف وما أشبهه
من الملاهي أما عندهما فلانه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن متلفه وعند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وإن كان يجب الضمان على المتلف باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو والمقصود التلهي
به ولا يمكن اعتبار القطع باعتبار المقصود ولان للآخذ تأويلا في أخذه لأنه يقصد به النهى
عن المنكر وهو استعماله للتلهي فيصير ذلك شبهة (قال) ولا قطع في البازي والصقر وسائر
الطيور ولا في الوحوش من الصيود لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لا قطع
في الطير ولان هذا يوجد مباح الأصل بصورته غير مرغوب فيه ولا يتم احرازه في الناس
عادة ولان فعله اصطياد من وجه والاصطياد مباح وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم الصيد
لمن أخذه يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة وكذلك الفهد والكلب فان الفهد من جنس
154

الصيود والكلب صياد فلما لم يجب القطع بسرقة الصيد فكذلك بسرقة الصياد وبين العلماء
رحمهم الله تعالى اختلاف ظاهر في مالية الكلب وجواز بيعه وظاهر نهي رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ثمن الكلب يورث الشبهة (قال) فان سرق التمر من رؤس النخل في حائط
محرز أو حنطة في سنبلها لم تحصد فلا قطع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا
كثر ولان الثمار ما دامت في رؤس الأشجار فإنه يتسارع إليها الفساد ألا ترى أنها لو تركت
كذلك فسدت ولا يتم معني الاحراز فيها ولا في الحنطة في سنبلها فإنها زرعت في ذلك الموضع
لمقصود آخر سوى الاحراز والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم فما آواه الجرين ففيه القطع
وفى هذا بيان أن الثمار ما لم تجذ والزرع ما لم يحصد لا يجب القطع بسرقته وكذلك أن
كان سرق النخلة بأصولها لقوله صلى الله عليه وسلم ولا كثير والمراد صغار النخل فإذا لم
يجب القطع في الصغار من الأشجار فكذلك في الكبار وهذا لأنه بالانبات في موضع
لا يقصد احرازه فان معنى الحرز لا يتم فيه عادة فان احراز الثمر في حظيرة عليها باب أو
حصدت الحنطة وجعلت في حظيرة فسرق منها قطع للحديث ولان الاحراز قد تم فإنه إنما
جمعه صاحبه في هذا الموضع ليكون محرزا محفوظا وكذلك أن كانت في الصحراء وصاحبها
يحفظها لان الصحراء ليس يحرز بنفسه فيتم الاحراز بالحافظ ويستوى إن كان الحافظ منتبها
أو نائما عندهما لان حفظ المال في الصحراء كذلك يكون عادة والآخذ يسارق عين الحافظ
وكذلك المسافر ينزل في الصحراء فيجمع متاعه ويبيت عليه فيسرق منه قطع ومن أصحابنا
رحمهم الله تعالى من قال في هذا اللفظ إشارة إلى أنه إنما يكون محرزا به في حال نومه إذا
كان موضوعا بين يديه والا لا يكون محرزا به في حال نومه لان النائم كالغائب لا يتأتى منه
الحرز والأصح انه يلزمه القطع على كل حال لان المعتبر هو الاحراز المعتاد لا أقصى
ما يتأتى والاحراز المعتاد يتأتى بهذا المقدار فان الناس يعدون النائم عند متاعه حافظا له ألا
تري أن المودع والمستعير لا يضمن بمثله وهما يضمنان بالتضييع وما لا يكون محرزا يكون
مضيعا (قال) وكذلك أن كان في فسطاط قد جمع متاعه فيه لان نصب الفسطاط في
الصحارى كبناء البيوت في الأمصار ويكون ما في الفسطاط محرزا بالفسطاط وبالحافظ عنده
(قال) وان سرق الفسطاط بعينه لم أقطعه لأنه ظاهر ولم يحرزه صاحبه إنما أحرز صاحبه
الأمتعة به ووجوب القطع بسرقة المحرز لا بسرقة الحرز وهذا لو كان الفسطاط منصوبا فان
155

كان ملفوفا بين يديه يجب القطع بسرقته لأنه متاع محرز بالحافظ كسائر الأمتعة وكذلك
ان سرق الجوالق من ظهر الدابة مع ما في الجوالق لم يقطع لأنه ظاهر غير محرز فان صاحب
الجوالق يحرز بالجوالق ما فيه ولا يقصد احراز الجوالق فان شق الجوالق وسرق ما فيه
قطع لأنه سرق مالا محرزا وقد بينا أن المعتبر في الاحراز ما هو المعتاد فإذا اعتاد احراز
المتاع بالجوالق كان الجوالق حرزا له فإذا شقه وأدخل يده فيه وأخرج المتاع فقد تم منه هتك
الحرز وأخذ المال فيلزم القطع ثم في كل موضع كان المال محرزا بالحافظ فإذا أخذ السارق كما
أخذ يلزمه القطع وفى كل موضع كان محرزا بالمكان فإذا أخذ قبل أن يخرجه من ذلك المكان
لم يقطع لان فعله في المحرز بالحافظ يتم بنفس الاخذ وهو إزالة اليد باثبات اليد لنفسه على
وجه السرقة فأما المحرز بالمكان فلا تتم سرقته فيه الا باخراج المال من الحرز وقد بينا أن
الدار كلها حرز واحد فما لم يخرج المتاع منها لا يلزمه القطع (قال) وإذا قطع السارق ردت
السرقة إلى صاحبها لان المسروق منه واجد عين ماله ومن وجد عين ماله فهو أحق به فإن لم
يقد وعليها فلا ضمان على السارق عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو ضامن لقيمتها
وقال مالك إن كان السارق صاحب مال يؤمر بأداء الضمان في الحال وإن لم يكن له شئ فلا
ضمان عليه في الحال ولا بعد ذلك واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بقول النبي صلى الله عليه
وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد فقد أوجب على الآخذ ضمان المأخوذ إلى غاية الرد وقد
وجد منه الاخذ ههنا فيكون ضامنا وهو المعني في المسألة فإنه أخذ مال الغير بغير حق
فيكون ضامنا له كالغاصب ولا شك أنه بالأخذ ضامن حتى إذا سقط الحد بشبهة كان ضامنا
للمال فلو سقط الضمان إنما يسقط باستيفاء القطع والقطع حد واجب لله تعالى فاستيفاؤه
لا يسقط الضمان الواجب الحق العبد ولان وجوب الضمان عليه بنفس الاخذ ووجوب
القطع باتمام فعل السرقة بالاخراج والحقان إذا وجبا بسببين فاستيفاء أحدهما لا يسقط
الآخر كما لو قتل انسانا ومزق عليه ثيابه لا يسقط عنه ضمان الثياب باستيفاء القصاص
ولأنهما حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا لان محل القطع اليد ومستحقه هو الله تعالى وسببه
السرقة ومحل الضمان الذمة ومستحقه المسروق منه وسببه ادخال النقصان عليه بأخذ ماله
فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدية مع الكفارة في القتل والجزاء مع القيمة في
الصيد المملوك في الحرم وشرب خمر الذمي على أصلكم فإنه يوجب الحد حقا لله تعالى
156

والضمان للذمي (وحجتنا) فيه قوله تبارك وتعالى جزاء بما كسبا فقد نص على أن القطع جميع
موجب فعله لما بينا أن في لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال فلو أجبنا الضمان معه لم يكن القطع
جميع موجب الفعل فكان نسخا لما هو ثابت بالنص وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا غرم على السارق بعدما قطعت يده وفى رواية لا غرم
على السارق فيما قطعت يمينه فيه وفي رواية إذا قطعت يد السارق لم يغرم والمعني فيه أن القطع
عقوبة تندرئ بالشبهات والضمان غرامة تثبت مع الشبهات فلا يجمع بينهما بسبب فعل
واحد كالقصاص مع الدية وتأثيره وهو أن الفعل الواحد صار بكماله معتبرا في حق ما يندرئ
بالشبهات فلا يبقي شئ منه ليعتبر في حكم الضمان وبدون الفعل لا يجب الضمان ولا معني لما
قال الموجود منه فعلان الاخذ والاخراج لان الاخراج تتميم لما هو المقصود
بالأخذ فلا يأخذ حكم فعل آخر والاخراج بدون الاخذ لا يتحقق والخلاف ثابت فيما إذا
سرق الثوب من تحت رأس نائم والاخذ والاخراج هنا حصل بفعل واحد ثم الفعل وان
تعدد صورة فالوجوب باعتبار حرمة المحل وهو بالسرقة ما هتك الا حرمة واحدة هي من
خالص حق الله تعالى وبيان ذلك أن القطع لا يجب الا بسرقة مال متقوم محرز والقطع
خالص حق الله تعالى فلا يجب الا باعتبار جعل ما يجب به القطع لله تعالى لان ما يجب
باعتبار ما هو حق العبد يكون للعبد عقوبة كانت أو غرامة كالقصاص ولما وجب القطع
لله تعالى عرفنا انه يجب باعتبار انه صار الله تعالى وإذا صارت المالية والتقوم في هذا المحل
لله تعالى لم يبق للعبد فالتحق في حق العبد بما لا قيمة له ولكن هذا لا يتصور الا باستيفاء
القطع لان ما يجب الله تعالى فتمامه بالاستيفاء فكان حكم الاخذ مراعي ان استوفى به القطع
تبين ان حرمة المحل في ذلك الفعل كان لله تعالى فلا يجب الضمان للعبد وان تعذر استيفاء
القطع تبين ان حرمة المالية والتقوم كان للعبد فيجب الضمان له توضيحه ان العقوبة التي
تندرئ بالشبهات لا تجب الا بفعل حرام لعينه وإنما يكون فعل السارق حراما لعينه إذا لم
يبق المحل محترما لحق العبد فأما إذا كانت حرمة المالية والتقوم لحق العبد فأخذه حرام
لغيره وهو حق المالك ومثل هذا الفعل لا يوجب العقوبة كشرب عصير الغير أنما الموجب
للعقوبة فعل هو حرام لعينه كشرب الخمر ولا يتحقق ذلك الا بجعل المالية والتقوم في هذا المحل لله
تعالي خالصا وإذا صار لله تعالى لم يبق للعبد كالعصير إذا تخمر لم يبق فيه المالية والتقوم لحق
157

العبد ولا يدخل عليه الدية مع الكفارة لان الكفارة ليست بعقوبة تندرئ بالشبهات ولأنها
جزاء الفعل من غير اعتبار وصف المحل فيبقى المحل محترما لحق العبد ووجوب الكفارة لا
يستدعى فعلا هو حرام العين ألا تري أنها تجب في الخطأ وكذلك الجزاء مع القيمة في
الصيد المملوك فإنه لا معتبر بالمالية والتقوم في ايجاب الجزاء ولهذا يجب الجزاء بقتل صيد
نفسه والكفارة بقتل عبد نفسه وكذلك في شرب الخمر لا معتبر بالمالية والتقوم في ايجاب
الحد ولهذا يجب الحد على من شرب خمر نفسه فبقيت المالية والتقوم في المحل حقا للذمي
لان مع بقائه الفعل محرم العين بما حدث من صفة الخمر في المحل ولا يدخل على هذا الملك
فإنه يبقي للمسروق منه حتى يرد عليه لان وجوب القطع باعتبار المالية والتقوم في المحل فأما
الملك صفة المالك والفعل يكون محرم العين مع بقاء الملك ألا ترى أن فعله في شرب خمر
نفسه يكون محرم العين مع بقاء الملك وليس من ضرورة انعدام المالية والتقوم في حقه
انعدام الملك كالشاة إذا ماتت بقي ملك صاحبها في جلدها وإن لم تبق المالية والتقوم وإذا ثبت
أن المالية والتقوم صار حقا لله تعالى خالصا فلو وجب الضمان إنما يجب لله تعالى وقد وجب
القطع لله تعالى ولا يجمع بين الحقين لمستحق واحد كالقصاص مع الدية ثم روى أبو يوسف
عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجب الضمان على السارق إذا تلف المال في يده أو
أتلفه وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يضمن إذا أتلفه لان انعدام المالية
والتقوم حقا للعبد إنما كان في فعل السرقة لا فيما سواه ألا ترى ان بيع المسروق منه وهبته
العين من السارق أو من غيره صحيح والاتلاف فعل آخر فلا يظهر حكم المالية والتقوم حقا
لله تعالى في هذا الفعل حتى يجب الضمان على المتلف كما لو أتلفه غيره وهذا لأن العين باق
على ملك صاحبه بعد القطع فاما أن يكون أمانة أو مضمونا وكيف ما كان فهو مضمون
بالاتلاف وجه رواية أبى يوسف رحمه الله تعالى أن الاتلاف اتمام للمقصود بالسرقة فكما
لا تبقى المالية والتقوم حقا للعبد في أصل السرقة بعد القطع فكذلك فيما يكون اتماما للمقصود
به بخلاف بيع المسروق منه وهبته فإنه ليس باتمام للمقصود بالسرقة بل هو تصرف آخر
ابتداء وروى هشام عن محمد رحمهما الله تعالى أن السارق لا يضمن في الحكم فأما فيما بينه
وبين الله تعالى يفتى بأداء الضمان لان المسروق منه قد لحقه النقصان والخسران من جهته
بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضي القضاء بالضمان لما اعتبر المالية والتقوم في
158

حق استيفاء القطع فلا يقضى بالضمان ولكنه يفتى برفع النقصان والخسران الذي الحق به فيما
بينه وبين الله تعال (قال) ولا قطع على النباش في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو
يوسف والشافعي رحمهما الله يقطع والاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فعمر وعائشة وابن
مسعود وابن الزبير رضوان عليهم أجمعين قالوا بوجوب القطع وابن عباس رضي الله عنه
كأن يقول لا قطع عليه وعليه اتفق من بقي في عهد مروان من الصحابة على ما روى أن نباشا
أتى به مروان فسأل الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك فلم يبينوا له فيه شيئا فعزره أسواطا ولم
يقطعه وبهذا تبين فساد استدلال من يستدل بالآية لايجاب القطع عليه فان اسم السرقة لو
كان يتناوله مطلقا لما احتاج مروان إلى مشاورة الصحابة رضي الله عنهم مع النص وما اتفقوا
على خلاف النص فأما من أوجب القطع استدل بقوله صلى الله عليه وسلم من نبش قطعناه
والمعنى فيه أنه سرق مالا كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه فيقطع كما لو سرق لباس الحي
وهذا لان الآدمي محترم حيا وميتا وبيان هذه الأوصاف فاما السرقة فهو أخذ المال على وجه
الخفية وذلك يتحقق من النباش وهذا الثوب كان مالا قبل أن يلبسه الميت فلا تختل صفة المالية
فيه بلبس الميت فاما الحرز فلان الناس تعارفوا منذ ولدوا احراز الأكفان بالقبور ولا يحرزونه
بأحصن من ذلك الموضع فكان حرزا متعينا له باتفاق جميع الناس ولا يبقي في احرازه شبهة
لما كأن لا يحرز بأحصن منه عادة والدليل عليه أنه ليس بمضيع حتى لا يضمن الأب
والوصي إذا كفنا الصبي من مال الصبي وما لا يكون محرزا يكون مضيعا (وحجتنا) فيه
قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع على المختفى وهو النباش بلغة أهل المدينة كما جاء في حديث
آخر من اختفى ميتا فكأنما قتله وقوله صلى الله عليه وسلم من نبش قطعناه لا يصح مرفوعا
بل هو من كلام زياد ألا ترى أنه قال في ذلك الحديث من قتل عبده قتلناه ومن جدع
أنفه جدعناه ولئن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نباشا أو أحدا من الصحابة رضي الله عنه
م أجمعين فإنه يحمل على أنه كان ذلك بطريق السياسة وللامام رأى في ذلك والمعنى
فيه أن وجوب القطع بسرقة مال محرز مملوك وجميع هذه الأوصاف اختلف في الكفن
فأما السرقة فهو اسم أخذ المال على وجه يسارق عين صاحبه ولا تتصور مسارقة عين الميت
وإنما يختفى النباش باعتبار أنه يرتكب الكبيرة كالزاني وشارب الخمر والدليل عليه
أنه ينفي هذا الاسم عنه باثبات غيره فيقال نبش وما سرق فأما المالية فإنها عبارة عن
159

التمول والادخار لوقت الحاجة وهذا المقصود يفوت في الكفن فان الكفن مع
الميت يوضع في القبر للبلى ولهذا يوضع في أقرب الأماكن من البلاء واليه أشار الصديق
رضي الله تعالى عنه فقال اغسلوا ثوبي هذين فكفنوني فيهما فإنهما للمهل والصديد والحي من
الميت أحوج إلى الجديد فأما انعدام صفة المملوكية فلان المملوك لا يكون الا لمالك والكفن
ليس بملك لاحد لأنه مقدم على حق الوارث ولا يصير مملوكا ألا ترى أن القدر المشغول
بحاجة الميت بعد الكفن وهو الدين لا يصير ملكا للوارث فالكفن أولى وليس بملك للميت
لان الموت مناف للمالكية فان المالكية عبارة عن القدرة وأدنى درجاته باعتبار صفة الحياة فعرفنا أن
الوصف مختل أيضا فأما الحرزية فنقول الكفن غير محرز لان الاحراز بالحافظ والميت
لا يحرز نفسه فكيف يحرز غيره والمكان حفرة في الصحراء فلا يكون حرزا ألا ترى أنه
لا يجعل حرزا لثوب آخر من جنس الكفن ومن ضرورة كونه حرز الثوب أن يكون
حرز الثوب آخر من جنسه وكذلك لا يكون حرزا قبل وضع الميت فيه وقوله ان الناس
تعارفوا أحراز الكفن في القبر فليس كذلك بل إنما يدفنون الميت للمواراة عن أعين الناس
وما يخاف عليه من السباع لا للاحراز ألا ترى أن الدفن يكون في ملا من الناس ومن دفن
مالا على قصد الاحراز فإنه يخفيه عن الناس وإذا فعله في ملا منهم على قصد الاحراز
ينسب إلى الجنون ولا نقول إنه مضيع ولكنه مصروف إلى حاجته وصرف الشئ إلى الحاجة
لا يكون تضييعا ولا احرازا كتناول الطعام والقاء البذر في الأرض لا يكون تضييعا ولا احرازا
واختلف مشايخنا رحمهم الله فيما إذا كان القبر في بيت مقفل قال رحمه الله والأصح عندي
انه لا يجب القطع سواء نبش الكفن أو سرق مالا آخر من ذلك البيت لان بوضع القبر فيه
اختلت صفة الحرزية في ذلك البيت فان لكل واحد من الناس تأويلا للدخول فيه لزيارة
القبر فلا يجب القطع على من سرق منه شيئا لان صفة الكمال في شرائط القطع معتبر
وكذلك يختلفون في قاطع الطريق إذا أخذ الكفن من تابوت في القافلة ولم يأخذ شيئا
آخر فمنهم من قال يقام عليه الحد لأنه محرز بالقافلة قال رحمه الله تعالى والأصح عندي انه
لا يجب القطع لاختلاف صفة المالكية والمملوكية في الكفن من الوجه الذي قررنا (وقال)
ولا قطع على المخلس؟ لانعدام فعل السرقة لأنه مجاهر بفعله ولا يسارق عين صاحبه واما
الطرار فهو على وجهين فاما أن تكون الدارهم مصرورة في داخل الكم أو في ظاهر الكم
160

فإن كانت مصرورة في داخله فان طر الصرة يقطع لأنه بعد القطع يبقى المال في الكم حتى
يخرجه وان حل الرباط لم يقطع لأنه إذا حل الرباط يبقى المال خارجا من الكم فلم يوجد
اخراج المال من الكم والحرز وإن كان مصرورا ظاهرا فان طر لم يقطع لانعدام الاخراج
من الحرز وان حل الرباط يقطع لان الدراهم يبقى في الكم بعد حل الرباط حتى يدخل يده
فيخرجه وتمام السرقة باخراج المال من الحرز وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال استحسن
أن أقطعه في الأحوال كلها لان المال محرز بصاحبه والكم تبع له وفرق أبو حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى بين الطرار والنباش فقالا اختصاص الطرار بهذا الاسم لمبالغة في سرقته لان
السارق يسارق عين حافظه في حال نومه وغفلته عن الحفظ والطرار يسارق عين المنتبه في
حال اقباله على الحفظ فهو زيادة حذق منه في فعله فعرفنا أن فعله أتم ما يكون من السرقة
فيلزمه القطع فأما النباش لا يسارق عين المقبل على حفظ المال أو القاصد لذلك بل يسارق
عين من يهجم عليه من غير أن يكون له قصد إلى حفظ الكفن وذلك دليل ظاهر على
النقصان في فعل السرقة فهذا لا يلزمه القطع (قال) وان سرق صبيا حرا لم يقطع لأنه
ليس بمال ووجوب القطع يختص بسرقة مال متقوم وكذلك لو كان عليه حلى كثير وقال
أبو يوسف رحمه الله يقطع لان قيمة الحلي نصاب كامل لو سرقه وحده يلزمه القطع فكذا
مع الصبي ولان المقصود الحلي دون الصبي وجه ظاهر الرواية أن الحلي تبع للصبي والأصل
يقطع بسرقته فالتبع مثله ولا أن له تأويلا في أخذه فإنه يقول كان يبكى فأخذته لأسكنه أو
أحمله إلى موضع أهله قال ألا ترى أنه لو سرق ثوبا لا يساوي عشرة دراهم ووجد في جيبه
عشرة دراهم مصرورة لم يعلم بها لم أقطعه وإن كان يعلم بها فعليه القطع وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أن عليه القطع في الأحوال كلها لان سرقته قد تمت في نصاب كامل ولكنا
نقول السارق إنما قصد اخراج ما يعلم به دون مالا يعلم به وإذا كان قصده أخذ الثوب نظر
إلى قيمة الثوب وهو ليس بنصاب كامل وإذا كان عالما بالدراهم فقصده أخذ الدراهم (قال)
ولو سرق جرابا فيه مال أو جوالقا فيه مال أو كيسا فيه مال قطع لأنه وعاء يوضع فيه المال
فمقصود السارق المال دون الوعاء فأما القميص ونحوه من الثياب ليس بوعاء للمال فكان
قصده سرقة الثوب إلا أن يكون عالما بالمال المصرور فيه فحينئذ يعلم أن قصده المال دون
الثوب لما اختاره من بين سائر الثياب مع العلم (قال) وان سرق عبدا فإن كان بالغا أو
161

صبيا يعقل ويتكلم لا يقطع لان هذا خداع لا سرقة ولان من يعبر عن نفسه له يد على
نفسه وذلك مانع من تقرير يد السارق عليه وان كأن لا يعبر عن نفسه ويتكلم قطع فيه
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه
استحسن أن لا أقطعه لان المملوك من جنس الحر فان الجنسية لا تتبدل بالرق وإذا كأن لا
يقطع بسرقة جنسه من الأحرار يصير ذلك شبهة ولان احرازه لم يتم فان الصغير الذي لا
يعقل يخرج إلى السكة وقد يوضع في السكة ويترك حرا كان أو مملوكا وما لا يتم احرازه
عادة فهو تافه في حكم القطع وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا هو مال متقوم لا يد له في
نفسه فهو بمنزلة الدابة والكارة يتعلق القطع بسرقته والتافه ما يوجد جنسه مباح الأصل في دار
الاسلام غير مرغوب وذلك لا يوجد في المماليك خصوصا في الصغار منهم (قال) فان سرق
شاة من مرعاها لم يقطع لأنها غير محرزة والمقصود من تركها من المرعى الرعي دون الاحراز
وان سرقها من دار قطع لأنها محرزة بالدار كسائر الأموال وكذلك الإبل والبقر والفرس
والحمار والبغل فإن كانت تأوي بالليل إلى حائط قد بنى لها عليه باب يغلق عليها ومعها من يحفظها
أوليس معها حافظ فكسر الباب ودخل وسرق منه بقرة فآواها أو ساقها أو ركبها حتى
أخرجها قال يقطع لما روينا انه صلى الله عليه وسلم قال إذا جمعها المراح ففيها القطع ولأنها بالليل
تجمع في المراح للاحراز والحفظ ثم المذهب عندنا أن المكان الذي هو حرز لمال يكون حرزا
لما آخر حتى لو سرق ثياب الراعي من هذا الموضع يقطع وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى
المراح حرز للدواب دون غيرها من الأموال لان المعتبر في احراز كل مال ما هو المعتاد ومعتاد
احراز الدواب بالمراح دون سائر الأموال الا ترى أنه بابه قد يكون بحيث يمنع خروج
الدواب ولا يمنع دخول الناس فيه فلهذا لا يقطع إذا سرق منه مالا آخر (قال) وإذا شهد
شاهدان انه سرق بقرة واختلفا في لونها فقال أحدهما بيضاء وقال الآخر سوداء فعلى قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقبل هذه الشهادة وعندهما لا تقبل قال الكرخي رحمه الله في لونين
متشابهين كالحمرة والصفرة تقبل عنده فأما فيما لا يتشابه كالسواد والبياض لا تقبل الشهادة
بالاتفاق والأصح ان الكل على الخلاف فهما يقولان اختلفا في المشهود به على وجه لا يمكن
التوفيق فلا تقبل الشهادة كما لو شهد أحدهما انه سرق ثورا والآخر انه سرق أنثى أو شهد
أحدهما انه سرق بقرة والآخر أنه سرق بعيرا والدليل عليه ان في الغصب لو اختلف الشهود
162

في لون البقرة لم تقبل مع أن الثابت به مما لا يندرئ بالشبهات وهو الضمان ففي السرقة التي
يتعلق بها ما يندرئ بالشبهات أولى ولا معني لقول من يقول لعله كان أحد شقى البقرة أبيض
والآخر اسود لان تلك بلقاء لا سوداء ولا بيضاء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول اختلفا فيما لم يكلفا
نقله والتوفيق ممكن فتقبل الشهادة كما لو اختلف شهود الزنا في الزانيين في بيت واحد وبيان
الوصف انهما لو سكتا عن بيان لون البقرة لم يكلفهما القاضي بيان ذلك ولهذا تبين انه ليس
من صلب الشهادة والاختلاف فيما ليس من صلب الشهادة إذا كان علي وجه يمكن التوفيق
لا يمنع قبول الشهادة وههنا التوفيق ممكن بأن كان أحد جانبيها ابيض والآخر اسود وقوله
هذه تسمى بلقاء نعم ولكن في حق من يعرف اللونين اما في حق من لا يعرف الا أحدهما
فهو علي ذلك اللون وشهود السرقة يتحملون الشهادة من بعيد في ظلمة الليل فلا يتمكنون
من أن يقتربوا من السارق ليتأملوا في جانب البقرة وبه فارق الغصب فان الغاصب مجاهر بما
يصنع فالشاهد يتمكن من التأمل ليقف على صفة المغصوب فلهذا لا يشتغل بالتوفيق هناك
وهذا بخلاف البقرة والبعير فان الاختلاف هناك في صلب الشهادة وبخلاف الذكر والأنثى
فإنه لا يوقف على هذه الصفة الا بعد القرب منها وعند ذلك لا يشتبه ولا حاجة إلى التوفيق
(قال) ولو شهدا أنه سرق ثوبا فقال أحدهما هروي وقال الآخر مروى فقد ذكر هذه
المسألة في نسخ أبي سليمان على الخلاف أيضا وفى نسخ أبى حفص قال لا تقبل هذه الشهادة
عندهم جميعا ووجه الفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن الهروي والمروى جنسان مختلفان وبيان
الجنس من صلب الشهادة فكان هذا اختلافا في صلب الشهادة وذلك مانع من قبول
شهادتهما وان اختلفا في الوقت لم تجز الشهادة عندهم جميعا لان السرقة فعل والفعل
الموجود في وقت غير الموجود في وقت آخر فإذا اختلفا في الزمان والمكان يمتنع قبول
شهادتهما كما في الغصب والقتل (قال) وإذا سرق ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه
فإن كأن لا يساوي عشرة دراهم بعدما شقه لم يقطع بالاتفاق لان المعتبر كمال النصاب عند
تمام السرقة وتمامه بالاخراج من الحرز فإذا لم تكن قيمته نصابا عند الاخراج لم يلزمه
القطع بخلاف ما لو شقه بعد الاخراج فانتقصت قيمته من النصاب وذلك لان سرقته
تمت في نصاب كامل ثم التعيب تفويت جزء من الثوب ولو استهلك الكل بعدما
أخرجه من الحرز لم يسقط القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه بخلاف ما قبل الاخراج
163

فإنه لو استهلكه في الحرز لم يلزمه القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه وهذا لان ما
استهلك مضمون عليه في ذمته ولا يتصور اتمام فعل السرقة فيما هو دين لان اتمام فعل
السرقة بالاخراج وذلك في الدين لا يتحقق فاما إذا لم تنتقص العين بفوات شئ منه بعد
الاخراج وإنما انتقصت قيمته من النصاب بنقصان السعر فلا قطع عليه عندنا وروى هشام
عن محمد رحمهما الله تعالى أنه يقطع وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لان السرقة
تمت في نصاب كامل فالنقصان بعد ذلك لا يمنع استيفاء القطع كالنقصان في العين ولكنا
نقول كما أن النصاب يشترط لايجاب القطع فيشترط بقاؤه إلى وقت الاستيفاء كالثبات على
الاقرار والشهادة وقد انعدم ذلك لان نقصان السعر فتور رغائب الناس فيه وذلك لا يكون
مضمونا على أحد فإنما يقطع باعتبار هذا العين فقط وقيمته دون النصاب خلاف ما إذا كان
النقصان في العين لأنه يتقرر الضمان عليه بقدر ما فات من العين فإنما يقطع باعتبار هذا العين
فيما صار دينا في ذمته وهو نصاب كامل فاما إذا شق الثوب في الحرز ثم أخرجه وهو
يساوى عشرة فإن كان هذا العيب يمكن نقصانا يسيرا فعليه القطع بالاتفاق ولان حق
صاحب الثوب في تضمين النقصان وليس له ان يضمنه القيمة إذا كان العيب يسيرا فأما
إذا كان النقصان فاحشا فان اختار أخذ الثوب وبتضمين النقصان فعليه القطع وان
اختار أن يضمنه قيمة الثوب وسلم له الثوب فلا قطع عليه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يقطع في الوجهين جميعا وذكر ابن سماعة رحمه
الله تعالى هذا الخلاف على قلب هذا ولكن ما ذكر في الأصل أصح وجه قول أبى يوسف
رحمه الله تعالى ان سبب الملك قد انعقد له في الثوب قبل اتمام فعل السرقة وانعقاد سبب
الملك يمكن شبهة كما لو اشترى ثوبا على أن البائع بالخيار ثم سرقته منه وبيان ذلك أنه ثبت
للمالك خيار تضمين القيمة إياه والمضمونات تملك بالضمان فعرفنا ان سبب الملك انعقد له
قبل الاخراج وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان تمت سرقته في نصاب كامل فعليه
القطع كما لو كان النقصان يسيرا وبيان ذلك أن شق الثوب من السارق عدوان محض فلا
يصلح سببا للملك إنما يكون سبب الملك ما هو مشروع وهو يقرر الضمان عليه وهذا الملك
يثبت شرطا لتقرر الضمان كيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد فاما أن يكون
العدوان سبب المملك فلا إذا ثبت هذا فإذا اختار المالك تضمينه قبل أن يقطع فقد صار
164

مملكا للثوب منه وذلك مسقط للقطع كما لو ملكه بالبيع أو الهبة وان اختار استرداد الثوب
فلم يحدث السارق فيه ملكا ولا سبب ملك فيبقى القطع عليه (قال) وإذا سرق شاة
فذبحها في الدار وأخرجها فلا قطع عليه لأنها صارت لحما واللحم مما يتسارع إليه الفساد
واتمام فعل السرقة فيما يتسارع إليه الفساد غير موجب للقطع وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى لهذه العلة ولثبوت حق التضمين للمالك فان له أن يضمنه قيمة الشاة ويملكه ذلك اللحم
فكان ذلك شبهة في اسقاط القطع عنه (قال) وإذا قطعت يد السارق ورد المتاع على
صاحبه ثم سرقه مرة أخرى لم يقطع عندنا استحسانا وعن أبي يوسف انه يقطع وهو
القياس وهو قول الشافعي لأنه سرق مالا كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه وبهذه
الأوصاف قد لزمه القطع في المرة الأولى فكذلك في المرة الثانية وهذا لأنه تعذر رد المتاع
على المسروق منه وهذه العين في حق السارق كعين أخرى في حكم الضمان حتى لو غصبه
أو أتلفه كان ضامنا وكذلك في حكم القطع ألا ترى أنه لو باعه المسروق منه من انسان
فسرقه من المشترى أو باعه ثم اشتراه ثم منه ثانيا يقطع فكذلك قبل البيع والشراء
والدليل عليه انه لو سرق غزلا فقطعت يده ثم نسجه المالك ثم سرقه ثانيا يقطع وكذلك الحنطة
إذا طحنها كذلك لو كانت بقرة فولدت عند المسروق منه ثم سرق ولدها يقطع والولد
جزء منها فإذا كان يقطع بسرقة جزء منها فكذلك بسرقتها والدليل عليه أنه لو سرق من
حرز فقطعت يده فخرب ثم أعيد ذلك الحرز فسرق منه مرة أخرى قطع فكذلك المال
ولان هذا حد لله تعالى خالصا فيتكرر بتكرر الفعل في محل واحد كحد الزنا فان من زنى
بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى لزمه الحد بخلاف حد القذف فإنه حق المقذوف عندي
وخصومته في الحد غير مسموعة في المرة الثانية لان المقصود إظهار كذب القاذف ودفع
العار عن المقذوف وقد حصل ذلك بالمرة الأولى (وحجتنا) فيه نوعان من الكلام
أحدهما ما بينا أن صفة المالية والتقوم لم يبق في هذا العين حقا للمسروق منه بعدما
قطعت يد السارق بدليل أنه لو تلف في يده أو أتلفه لم يضمن فبعد ذلك وان ظهرت المالية
والتقوم في حقه بالاسترداد يبقي ما سبق مورثا شبهة والقطع يندرئ بالشبهات وهو نظير
ما يوجد مباح الأصل في دار الاسلام إذا أحرزه انسان صار مالا متقوما له ومع ذلك لم
يقطع السارق فيه باعتبار الأصل فهذا مثله فأما باعه ثم اشتراه فقد قيل لا يلزمه القطع أيضا
165

ولئن سلمنا فان الملك هناك يتجدد بتجدد السبب والمالية والتقوم باعتبار الملك فجعل متجددا
أيضا بخلاف ما قبل البيع والشراء هذا لان اختلاف أسباب الملك كاختلاف الأعيان ألا
ترى أن بريرة كان يتصدق عليها وهي تهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو لها
صدقة ولنا هدية والمشترى إذا باع من غيره ثم اشتراه ثم وجد به عيبا لم يرده على البائع
الأول فدل أن تبدل سبب الملك كتبدل العين فأما الغزل إذا نسجه فهو في حكم عين آخر
فلهذا لو فعله الغاصب كان الثوب مملوكا له فإنما سرق في المرة الثانية عينا أخرى وعلى هذا
الحرز فإنه إذا أعيد الحرز كان هذا حرزا متجددا غير الأول لان الحرز ليس بعبارة عن
عين الجدار بل هو عبارة عن التحفظ والتحصن وكذلك حد الزنا فإنه يجب باعتبار المستوفى
فالمستوفي مثلا شئ والمستوفى في المرة الثانية غير المستوفي في المرة الأولى فلهذا لزمه الحد
مع أن هناك حرمة المحل لا تسقط في حقه باستيفاء الحد منه في المرة الأولى بخلاف المالية
والتقوم الذي هو حق المالك في العين فإنه يسقط اعتباره باستيفاء القطع من السارق ولان
هذا حد لا يستوفى الا بخصومة فلا يتكرر بتكرر الخصومة من واحد في محل واحد
كحد القذف وبيانه أن الشهود لو شهدوا بالسرقة من غير خصم لا يثبت القطع بالاتفاق
وتأثيره أن في خصومته في المرة الثانية نوع شبهة لأنه قد استوفي بخصومته مرة ما هو جزاء
سرقة هذا العين فيمكن شبهة في خصومته في المرة الثانية وذلك مانع من
القطع الذي يندرئ بالشبهات غير مانع من الضمان الذي يثبت مع الشبهات بخلاف حد
الزنا فإنه لا تعتبر الخصومة فيه (قال) والسارق تقطع في المرة الأولى يده اليمني فان سرق
ثانيا قطعت رجله اليسرى فان سرق بعد ذلك لم يقطع عندنا استحسانا ولكن يعزر ويحبس
حتى تظهر توبته وعند الشافعي رحمه الله تعالى في المرة الثالثة تقطع يده اليسرى وفى المرة
الرابعة تقطع رجله اليمني ثم يحبس بعد ذلك وعند أصحاب الظواهر في المرة الخامسة يقتل وحجته
قوله تبارك وتعالى فاقطعوا أيديهما واسم اليد يتناول اليسرى كما يتناول اليمنى بدليل آية الطهارة
ولا معنى لاستدلالكم بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وهو قوله تعالي فاقطعوا أيديهما
لان بهذه القراءة ينبغي ان تقطع رجله اليمني ثم عندكم إذا سرق وهو مقطوع اليد اليسرى
أو مقطوع الابهام من اليد اليسرى لم تقطع يده اليمني وبالقراءتين وبالإجماع صار قطع
اليمني مستحقا من السارق فلا يجوز تركه بالرأي وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان
166

النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سرق السارق فاقطعوه فان عاد فاقطعوه إلى أن قال
في الخامسة فان عاد فاقتلوه وفى رواية مفسرا في المرة الأولى ذكر اليد اليمني وفى الثانية
الرجل اليسرى وفى الثالثة اليد اليسرى وفى الرابعة الرجل اليمنى وروى المعلى أنه قطع من
السارق هكذا وقد بينا حديث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والمعني فيه أن اليد اليسرى
يد باطشة فتقطع في السرقة كاليمني وهذا لان سرقته بالبطش والمشي يتأتى فقطعت هذه
الأعضاء للزجر لتفويت ما به تتأتى السرقة وذلك موجود في اليد اليسرى والرجل اليمني
وربما يقولون المتناول للسرقة متناول فيها كاليد اليمنى والرجل اليسرى وكل عقوبة تتعلق
باليد اليمنى تتعلق باليد اليسرى كالقصاص والدليل عليه أنه إذا أخطأ الحداد فقطع اليسرى
مكان اليمنى لم يضمن وكان مستوفيا للحد حتى لا يضمن السارق المسروق واستيفاء الحد من
غير محله لا يتحقق فتبين ان اليسري محل إلا أنه لا يصار إليها في المرة الثانية مراعاة للترتيب
المشروع وكان المعنى في شرع هذا الترتيب أن يكون الحد زاجرا له بالتنقيص له من بطشه
ومشيه فإن لم يحصل الانزجار به فالزجر بالتفويت يتحقق به الانزجار (وحجتنا) فيه قراءة ابن
مسعود رضي الله عنه فاقطعوا ايمانهما قال إبراهيم النخعي ان من قراءتنا والسارقون والسارقات
فاقطعوا ايمانهما وهذه القراءة من القراءة المشهورة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كأنه قال
فاقطعوا ايمانهما من الأيدي فلا يتناول الرجل أصلا ولا يتناول اليسرى والدليل عليه أنه في
المرة الثانية لا تقطع يده اليسرى ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره فلو كان النص
متناولا لليد اليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد والأيدي وان ذكرت بلفظ الجمع فالأصل
ان ما يوجد من خلق الانسان تذكر تثنيته بعبارة الجمع قال الله سبحانه وتعالى فقد صفت
قلوبكما يقال ملأت بطونهما ولان الجمع المضاف إلى الجماعة يتناول الفرد من كل واحد يقال
ركب القوم دوابهم فيصير معني الآية فاقطعوا يدا من كل سارق وسارقة وكان ينبغي
باعتبار هذا الظاهر أن لا يقطع الرجل اليسرى منهما ولكن ثبت ذلك بدليل الاجماع ولا
يجوز الاعتماد على الآثار المروية فقد قال الطحاوي تتبعنا هذا الآثار فلم نجد لشئ
منها أصلا ثم يحتمل انه كان هذا في الابتداء فقد كان في الحدود تغليظا في الابتداء ألا
ترى أنه قطع الأيدي والأرجل من العرنيين وسمل أعينهم ثم انتسخ ذلك باستقرار الحدود
وقيل كان ذلك الرجل مرتدا على ما قال جابر رضي الله عنه في حديثه أتى رسول الله صلى
167

الله عليه وسلم بسارق فقال اقتلوه فقيل إنما سرق يا رسول الله اقطعوه ثم ذكر هكذا
في كل مرة إلى أن قال في المرة الخامسة ألم أقل لكم اقتلوه فقد عرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم بطريق الوحي وجوب القتل عليه ولما خاف أن يظن ظان أن موجب السرقة
القتل أمر بقطعه حتى تبين لهم ذلك في المرة الخامسة فأمر بقتله فلما كان مستوجبا للقتل
يباح قطع الأعضاء منه وقد بينا أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة اختلافا
ظاهرا واختلافهم يورث شبهة ثم أخذنا بقول علي رضي الله عنه لأنه حاجهم بالمعنى حيث
قال إني لأستحيي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ورجلا يمشي عليها وفي هذا بيان
أن القطع إنما شرع زاجرا لا متلفا وفى استيفاء الأعضاء الأربعة اتلاف حكما أو شبهة
الاتلاف والشبهة تعمل عمل اتلاف فيما يندرئ بالشبهات وبيان الوصف أن الامام
مأمور بالتحرز عن الاتلاف عند إقامة الحد بحسب الامكان ألا تري أنه لا يقيم في
الحر الشديد والبرد الشديد ولا في حالة المرض كيلا يؤدي إلى الاتلاف وانه مأمور
بالحسم بعد القطع كيلا يؤدي إلى الاتلاف وأنه يقطع في المرة الثانية الرجل اليسري
واليد إلى اليد أقرب ألا تري أن في باب الطهارة لا يتحول إلى الرجل الا بعد الفراغ
من اليدين وإنما شرع الترتيب هكذا للتحرز عن الاتلاف الحكمي فدل أنه شرع
زاجرا لا متلفا وفي قطع الأعضاء الأربعة اتلاف للشخص حكما فان فيه تفويت منفعة
الجنس على الكمال وبقاء الشخص حكما ببقاء منافعه فلهذا يتعلق بقطع اليدين من العبد
كل قيمة النفس ولهذا لا يجوز اعتاق مقطوع اليدين في الكفارة فعرفنا أنه استهلاك حكما
وفيه شبهة الاتلاف والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات وهذا بخلاف القصاص فالمستحق
هناك اعتبار المساواة دون التحرز عن الاتلاف الا تري ان الاتلاف الحقيقي يستحق به
إذا كان المساواة فيه بخلاف ما نحن فيه فاما الحداد إنما لا يضمن إذا قطع اليسرى لأنه عوضه
من جنس ما فوت عليه ما هو خير له منه والاتلاف بعوض لا يكون سببا لوجوب الضمان
وإنما أسقطنا ضمان المسروق لتحقيق معنى التعويض ولان الحداد مجتهد فاعتمد ظاهر النص
فيما صنع فنفذ اجتهاده ولم يكن ضامنا وهذا هو الجواب عما قاله انه إذا كان مقطوع اليد
اليسرى في الابتداء عندكم لا تقطع يده اليمني قلنا اليد اليمني محل بالنص ولكن للاستيفاء
شرط وهو أن لا يكون على وجه يفوت منفعة الجنس وقد انعدم هذا الشرط إذا كان
168

مقطوع اليد اليسرى فلانعدام الشرط لا تقطع اليمني في هذه الحالة كما إذا كان مريضا
لا تقطع يده اليمنى مع وجود المحل لانعدام الشرط فربما ينضم ألم القطع إلى ألم المرض فيؤدى
إلى الاتلاف وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد فهذا مثله (قال) وان شهد شاهدان
على رجل بالسرقة فقطعت يده ثم أتيا بانسان آخر وقالا هذا السارق الذي شهدنا عليه
ولكنا أخطأنا بذلك لم تجز شهادتهما على هذا وضمنا دية يد الأول هكذا روى عن علي
رضي الله عنه أنه أتى برجل شهد عليه رجلان بالسرقة فقطع يده ثم أتيا بآخر فقالا
وهمنا يا أمير المؤمنين إنما السارق هذا فقال لا أصدقكما على الثاني وأغرمكما دية اليد ولو
علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وبه يستدل الشافعي رحمه الله تعالى في وجوب
القصاص على الشهود وقطع اليدين بيد واحدة ولكنا نقول إنما ذكر هذا اللفظ على سبيل؟
التهديد ولم يكن كذبا منه لأنه عقله بشرط لا سبيل إلى معرفته وقد صح عن علي رضي الله عنه
أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة ذكره محمد في كتاب الرجوع والمعنى أنهما شهدا
على أنفسهما بالغفلة وتناقص كلامهما في الشهادة على الثاني فقد رجعا عن الشهادة على الأول
فكانا ضامنين لما استوفى بشهادتهما وإن لم يرجعا ولكنهما وجدا عبدين كانت دية اليد على
بيت المال لان هذا خطأ من الامام لما استوفاه لله تعالي فان رجعا عن شهادتهما بعد الحكم
بالسرقة قبل أن تقطع يده أو قالا شككنا في شهادتنا درئ الحد ولكن السرقة تسلم
للمشهود له لان رجوعهما بعد القضاء مبطل للقضاء فيما كان عقوبة لتمكن الشبهة أو فيما
كان حقا لله تعالى لان تمامه بالاستيفاء فأما فيما هو حق العبد فالشهادة تتأكد بنفس
القضاء والرجوع لا يبطل حق المقضى له والمال حق المسروق منه ولهذا لا يبطل حقه
برجوعهما بعد القضاء وإن لم يرجعا عند الحاكم ولكن شاهدين شهدا عليهما بالرجوع
قبل القطع أو بعده فلا معتبر بهذه الشهادة وتقطع يد السارق لان الرجوع عن الشهادة
معتبر بالشهادة والشهادة في غير مجلس الحكم لا توجب شيئا فكذلك الرجوع فإنما شهد هذين
على رجوع باطل (قال) وإذا شهد رجلان وامرأتان على رجل بسرقة مال لم يقطع وأخذ
بالمال وكذلك الشهادة على الشهادة لان في شهادة النساء ضرب شبهة من حيث إن الغالب
عليهن الضلال والنسيان واليه أشار الله تعالى تبارك وتعالى في قوله ان تضل إحداهما فتذكر
إحداهما الأخرى فلا يثبت بشهادتهما ما كان يندرئ بالشبهات وهو السرقة الموجبة للقطع
169

ولكن يثبت به أخذ المال لان الثابت به رد العين ووجوب الضمان وهو مما يثبت مع الشبهات
وكذلك في الشهادة على الشهادة ضرب شبهة من حيث إن الكلام إذا تداولته الألسن
يتمكن فيه زيادة ونقصان (قال) وإذا شهد شاهدان على رجلين انهما سرقا من هذا الرجل
ألف درهم واحد الرجلين غائب قطع الحاضر وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر
وهو قولهما وفى قوله الأول لا يقطع ذكر القولين بعد هذا في الاقرار إذا أقر أنه سرق مع
فلان الغائب لم يقطع في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول وهو قول زفر رحمه الله
تعالى ويقطع المقر في قوله الآخر وهو قولهما وقد بينا نظيره في الحدود إذا أقر أنه زني بغائبة
وجه قوله الأول ان الغائب لو حضر ربما يدعي شبهة يدرأ بها القطع عن نفسه وعن الحاضر
فلو قطعنا الحاضر قطعناه مع الشبهة وذا لا يجوز كقصاص مشترك بين حاضر وغائب
لا يكون للحاضر ان يستوفيه حتى يحضر الغائب وجه قوله الآخر ان السرقة ظهرت على الحاضر
بالبينة أو بالاقرار فيستوفى الامام حقا لله تعالى وهذا لان السراق يحضرون وقل ما يحضرون
بل في العادة يهربون وبعضهم يوجد وبعضهم لا يوجد فلو لم يقطع الحاضر أدى إلى سد
باب هذا الحد وما من شبهة يدعيها الغائب الا والحاضر يتمكن من أن يدعى ذلك وقد بينا
أن بالشبهة التي يتوهم اعتراضها لا يمتنع الاستيفاء بخلاف القصاص فالشبهة هناك توهم عفو
موجود من الغائب في الحال فان جاء الغائب بعد ذلك لم يقطع بالشهادة الأولى حتى تعاد
تلك البينة عليه أو غيرها فيقطع حينئذ لان تلك البينة في حق الغائب قامت بغير محضر من
الخصم فان الحاضر لا ينتصب خصما عنه إما لان النيابة في الخصومة في الحد لا تجري أو لأنه
ليس من ضرورة ثبوت السرقة على الحاضر ثبوتها على الغائب فلهذا يشترط إعادة البينة على
الغائب ليقطع (قال) وإن كان القاضي يعرف شهود الحدود والقصاص انهم أحرار مسلمون
غير أنه لا يعرف عدالتهم ولا يطعن فيهم السارق حبسه حتى يسأل عنهم لأنه صار متهما
بارتكاب الكبيرة فيحبس ولا تقطع يده قبل السؤال عن الشهود لان هذا شئ لو وقع فيه
الغلط لا يمكن تداركه وتلافيه فعلى الحاكم أن يسأل عن الشهود صيانة لقضاء نفسه طعن الخصم
فيه أو لم يطعن وهذا لان الشبهة متمكنة في شهادتهم قبل التزكية ومع تمكن الشبهة لا يقدم
على استيفاء ما يندرئ بالشبهات فأما في غير الحدود والقصاص مما لا يندرئ بالشبهات
فالقاضي يقضى عند أبي حنيفة رحمه الله قبل أن يسأل عنهم إلا أن يطعن الخصم فيهم أو
170

يستريب فيهم وعندهما لا يقضي ما لم يسأل عنهم على كل حال لأنه مأمور بالقضاء بالشهادة
العادلة فما لم تظهر العدالة عنده لا يجوز له أن يقضى شرعا كما في الحدود وهذا لأنه مأمور
بالتوقف في خبر الفاسق منهي عن العمل به فإنما ينتفي الفسق عنهم بالتزكية فما لم يظهر ذلك
عنده بالسؤال لا يحل له أن يقضى لان قبل السؤال ثبوت عدالتهم بالظاهر
والظاهر حجة لدفع الاستحقاق لا لاثبات الاستحقاق به وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل
بقوله صلى الله عليه وسلم المسلمون عدول بعضهم على بعض وهكذا روى عن عمر رضي الله
عنه فيما كتب به إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقد عدل رسول الله صلى الله
عليه وسلم كل مسلم باسلامه فتعديل صاحب الشرع إياه لا يختلف عن تعديل المزكى فيتمكن
القاضي من القضاء إلا أن يطعن الخصم فهو أيضا معدل باسلامه على لسان صاحب الشرع
فللتعارض احتاج الامام إلى السؤال ولهذا يتبين ان هذا ليس بقضاء بالظاهر بل بدليل
موجب له وهو اسلامه فالمسلم يكون منزجرا عن ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه حتى يظهر
خلافه ثم المستحق بشهادتهما مال إذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه بالرد فلا يجب على
القاضي الاستقصاء فيه للقضاء بخلاف الحدود وبهذا تبين ان السؤال عن الشهود هناك
لحق المدعى فإنما يشتغل به عند طلبه فاما قبل الطلب لو اشتغل القاضي به كان ذلك منه انشاء
لخصومة وهو مأمور بفصل الخصومة لا بانشائها فكان ذلك إعانة منه لاحد الخصمين وهو
منهى عن ذلك (قال) وإذا شهد الشهود على رجل بحد هو خالص حق الله تعالى بعد تقادم
العهد لم تقبل شهادتهم وقد بينا هذا في كتاب الحدود وذكرنا حد التقادم في حد الزنا
والسرقة فاما في شرب الخمر فكذلك الجواب عند محمد وعند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما
الله تعالى حد التقادم زوال رائحة الخمر حتى لا يقام عليه إذا شهدوا بعد زوال رائحة الخمر أو
أقر هو بذلك فمحمد رحمه الله تعالى يقول هذا حد ظهر سببه عند الامام فلا يشترط لا قامته
بقاء أثر الفعل كحد الزنا والسرقة وهذا لان وجود الرائحة لا يمكن ان يجعل دليلا فقد يتكلف
لزوال الرائحة مع بقاء أثر الخمر في بطن الشارب وقد توجد رائحة الخمر من غير الخمر فان
من استكثر من أكل السفرجل والتفاح يوجد منه رائحة الخمر قال القائل
يقولون لي انكه شربت مدامة * فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
فكان هذا شاهد زور ألا ترى أنه لا يقام الحد لوجود الرائحة ما لم يشهد الشهود عليه بالشرب
171

أو يقر به وهما احتجا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه أتى؟ بشارب الخمر قال مزمزوه
وترتروه واستنكهوه فان وجدتم رائحة الخمر فحدوه فقد شرط لإقامة الحد وجود الرائحة
والمعنى فيه أن حد الخمر ضعيف من الوجه الذي بينا أنه لا نص فيه فلا يقام الا على الوجه
الذي ورد الأثر به وإنما ورد الأثر بإقامة الحد على من كان الخمر في بطنه ولوجود الخمر في بطنه
علامة وهو وجود الرائحة منه فلا يقضي الا بظهور تلك العلامة كالمرأة إذا ادعت الولادة
ما لم تشهد القابلة بذلك لا يقضي القاضي به ثم زوال رائحة الخمر بعد الشرب لا يكون الا
بمضي زمان وقد بينا أنه لا نص في حق التقادم ففيما أمكن اعتبار التقادم لمعنى في الفعل
كان المصير إليه أولى من المصير إلى غيره ووجود رائحة الخمر من غير الخمر نادر ولا يكون
مستداما أيضا فلا يعتبر ذلك ولكن هذا إذا كان بحضرة الامام فأما إذا كانوا بالبعد منه فجاؤوا
به بعد زوال الرائحة لبعد المسافة فالصحيح انه لا يمتنع استيفاء الحد بشهادتهم لأنه لم يوجد
منهم تفريط وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ألا تري أن الامام إذا علم أن الشارب تكلف
لإزالة الرائحة لا يمتنع من إقامة الحد عليه فهذا مثله (قال) وإذا قطعت يد السارق وقد
قطع الثوب قميصا ولم يخطه أو صبغه اسود أو باعه من رجل أو وهبه منه وهو بعيبه في يده
فإنه يرد على المسروق منه لان القطع نقصان وكذلك السواد في الثوب نقص والبيع والهبة
من السارق باطل لأنه حصل في ملك الغير بغير أمر صاحبه فكما يكون للمسروق منه أن
يأخذه إذا وجده في يد السارق فكذلك إذا وجده في يد المشترى منه فإن كان خاط الثوب
فلا سبيل للمسروق منه عليه لما اتصل بالثوب من وصف متقوم هو حق السارق ألا تري
أن الغاصب لو قطع الثوب وخاطه لم يتمكن المغصوب منه من أخذ الثوب منه بعد ذلك فهذا
مثله إلا أن هناك يكون الغاصب ضامنا للثوب بمنزلة ما لو أتلفه أو أتلف في يده وههنا
لا يكون ضامنا لأنه لو تلف في يده أو أتلفه بعد القطع لا يضمن فكذلك إذا احتبس عنده
بما اتصل به من الوصف حقا له فأما إذا صبغه أحمر أو أصفر فعلى قول أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله ينقطع حق المسروق منه في الاسترداد وعند محمد رحمه الله لا ينقطع
ولكنه يأخذ الثوب ويعطى السارق ما زاد الصبغ فيه لان عين الثوب قائم بعد الصبغ ومن
وجد عين ماله فهو أحق به بالنص ثم الصبغ لو حصل من الغاصب لم ينقطع به حق المغصوب
منه في الاسترداد فكذلك من السارق إلا أن ما اتصل به من الصبغ مال متقوم من الصباغ
172

وهو وصف والثوب أصل والوصف تبع للأصل فكان لصاحب الأصل أن يأخذه فيعطيه
ما زاد الصبغ فيه كما في الغاصب ولو أراد أن يسلم له الثوب ويضمنه قيمة ثوبه أبيض لم
يكن له ذلك بخلاف الغصب لان عند تسليم الثوب له يجعله في حكم المستهلك ولو استهلك
المغصوب حقيقة كان ضامنا له ولو استهلك المسروق حقيقة لم يكن ضامنا فباعتبار هذا
المعنى يقع الفرق بينهما في هذا الجانب فأما عند اختيار الاخذ فلا فرق بين الغاصب
والسارق ومن حيث أن كل واحد منها جان وان مراعاة حقه بأداء قيمة الصبغ إليه
ممكن فلا ضرورة في قطع حق صاحب الثوب عن الثوب وجه قولهما أن الوصف الذي
اتصل بالثوب متقوم حقا للسارق فينقطع به حق المسروق منه في الاسترداد كالخياطة
وهذا لان هذا حق ضعيف له مقصور على العين ألا تري أنه لا يتعدى إلى بدل العين عند
الاستهلاك ومثل هذا الحق يبطل بالصبغ كحق الواهب في الرجوع وترجيح الأصل عند
مساواة الحقين في القوة فأما الضعيف لا يظهر في مقابلة القوى بخلاف الغاصب فان حق
المغصوب منه قوى يسري إلى بدل العين فيستقيم الترجيح هناك باعتبار الأصل والتبع
واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي بحرف آخر فقال لو بقي الثوب على ملك
المسروق منه بعد الصبغ تعذر استيفاء القطع من السارق لأنه يصير شريكا في العين بملكه
في الصبغ واقتران الشركة بالسرقة يمنع وجوب القطع فاعتراضها بعد السرقة يمنع الاستيفاء
وبالإجماع يستوفى القطع من السارق فعرفنا أنه لم يبق حق المسروق منه في الثوب (فان
قيل) هذا فاسد فإنه إذا جعل السارق متملكا للثوب يمنع استيفاء القطع منه أيضا (قلنا)
نعم ولكن يجعل الثوب في حكم المستهلك فإنما يقطع بسرقة ما قد صار مستهلكا لا باعتبار
ما هو مملوك له في الحال كما إذا خاط الثوب فأما مع بقاء حق الاخذ له لا يمكن جعله
مستهلكا فيتقرر معنى الشركة وعلى هذا الطريق نقول لو صبغه بعدما قطعت يده لا يتعذر على
المسروق منه الاسترداد لأنه لا تأثير للشركة بعد استيفاء القطع والدليل على اعتبار معني
الشركة أن في المغصوب لو اختار المغصوب منه بيع الثوب استقام ذلك وضرب صاحب
الثوب في الثمن بقيمة الثوب أبيض والآخر بقيمة الصبغ وهذا لا يكون الا بعد ثبوت
الشركة بينهما في المبيع وعلى هذا الخلاف لو كان المغصوب سويقا قلته بسمن لان السمن
زيادة في السويق من غير أن يكون مبدلا للعين حتى لا ينقطع به حق المغصوب منه فهو
173

كالصبغ في الثوب في جميع ما ذكرنا وإن كان المسروق دراهم فسبكها أو صاغها قلنا
كان للمسروق منه أن يأخذها لان الصنعة بانفرادها لا تتقوم في الذهب والفضة فلا تثبت
الشركة باعتبارها بينهما وقد ذكر الخلاف في الجامع الصغير في الغصب أنه عند أبي حنيفة
رحمه الله لا ينقطع به حق المغصوب منه عن استرداد العين وعندهما ينقطع فكذلك في
السرقة والأصح أنه على ذلك الخلاف ومنهم من يفرق لأبي يوسف رحمه الله تعالى فيقول هناك
لو اعتبرنا حق الغاصب في الصنعة لم يبطل به حق المغصوب منه أصلا ولكنه يضمنه مثل
المغصوب وههنا لو اعتبرنا ذلك بطل به حق المسروق منه لأنه لا يتمكن من تضمين السارق
والعين متقوم من كل وجه والصنعة تتقوم تبعا للأصل وان كانت لا تتقوم منفردة عن
الأصل فكان ابقاء حق المسروق منه في العين أولى فإن كانت السرقة صفرا فجعلها قمقمة أو
حديدا فجعله درعا لم يأخذه لان للصنعة قيمة في هذه الأعيان ولهذا يخرج بالصنعة من
أن يكون مال الربا فلا بد من اعتبارها حقا للسارق ثم هذه الصنعة لو وجدت من الغاصب
انقطع بها حق المغصوب منه عن استرداد العين فكذلك إذا وجدت من السارق وكذلك
كل شئ من العروض وغيرها إذا كان قد غيره عن حاله فإن كان التغيير بالنقصان
فللمسروق منه أن يأخذ كما للمغصوب منه الا ان المغصوب منه يضمن الغاصب النقصان
والمسروق منه لا يضمنه النقصان اعتبارا الاتلاف الجزء باتلاف الكل وإن كان التغيير زيادة
فيه فإن كان على وجه لو حصل من الغاصب لا يتمكن المغصوب منه من أخذ العين بعد ذلك
فكذلك المسروق منه لا يتمكن من أخذه وإن كان على وجه لا يتعذر على المغصوب منه
استرداد العين فهو على الخلاف الذي بينا (قال) وان كانت السرقة شاة فولدت أخذهما
جميعا المسروق منه لان الولد زيادة متولدة من العين وكما يتمكن من استرداد العين قبل
انفصال هذه الزيادة فكذلك بعدهما ألا ترى أن المغصوب منه يتمكن من الاسترداد
بعد الولادة وان حق الواهب لا ينقطع في الرجوع بالولادة وهذا بخلاف السمن والصبغ
فالزيادة هناك في ملك السارق يثبت باعتبارها معنى الشركة وههنا الزيادة في ملك المسروق
منه فلا يثبت باعتبارها للسارق شركة (قال) وإذا قطع في صوف أو كتان أو قطن فرده
على صاحبه فصنع منه ثوبا ثم سرقه فعليه القطع لأن العين تتبدل بالصنعة والثوب في حكم
الحادث بالنسج ألا ترى أنه لو وجد هذا من الغاصب كان الثوب مملوكا له فسرقته لذلك بعد
174

صنعته بمنزلة سرقته مالا آخر (قال) فإن كان السارق أشل اليد اليمنى واليد اليسرى صحيحة
قطعت اليمني لان اليمنى لو كانت صحيحة وجب قطعها بسبب السرقة فإذا كانت شلاء أولى
وهذا بخلاف ما إذا كانت يده اليسرى شلاء فإنه لا تقطع يده اليمنى لان شرط استيفاء القطع
أن لا يكون مفوتا منفعة الجنس وفى قطع اليمنى إذا كانت اليسري شلاء تفويت منفعة
البطش وإذا كانت اليسري صحيحة فليس في قطع اليمنى تفويت منفعة البطش ولا تقطع
الرجل اليسرى أيضا لان فيه تفويت منفعة المشي فان اليد اليسرى إذا كانت شلاء
فقطعت رجله اليسرى لا يمكنه المشي بعصى بخلاف ما إذا كانت يده اليسرى صحيحة
(فان قيل) التفويت لا يكون باستيفاء اليد اليمنى بل بالشلل في اليسرى (قلنا) لا
كذلك فالحكم إذا كان ثابتا بعلة ذات وصفين يحال به على آخرهما وجودا وآخرهما
قطع اليد اليمنى ههنا فكان التفويت مضافا إليه وكذلك إذا كانت رجله اليمنى شلاء لم
تقطع يده اليمني ولا رجله اليسرى لان فيه تفويت منفعة الجنس وهو المشي فإنه لا يمكنه
المشي بعده بعصى فإن كانت رجله اليسرى شلاء قطعت يده اليمني لأنه ليس فيه
تفويت فإنه يتمكن من المشي بعصى إذا كانت يده اليسرى صحيحة (قال) وإذا حبس
السارق ليسأل عن الشهود فقطع رجل يده اليمنى عمدا فعليه القصاص لان بمجرد
الشهادة قبل اتصال القضاء بها لا تسقط حرمة يده فالقاطع استوفي يدا متقومة من نفس
محترمة فعليه القصاص وقد بطل الحد عن السارق لفوات المحل وهو ضامن قيمة المسروق
لان سقوط ذلك لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى ولم يوجد ذلك وكذلك إذا كان
قطع يده اليسرى لأنه يتعذر استيفاء الحد بعده لما فيه من تفويت منفعة البطش (قال)
فان حكم عليه بالقطع في السرقة فقطع رجل يده اليمني من غير اذن الامام فلا شئ عليه
لأنه سقطت قيمة يده بقضاء الامام عليه بالقطع فالقاطع استوفى يدا لا قيمة لها فلم يكن
ضامنا ولكن الامام يؤدبه على ذلك لأنه أساء الأدب حين قطعه قبل أن يأمر الامام به
وان أمر القاضي الحداد بقطع يده اليمني فأخطأ وقطع يده اليسرى فهو ضامن في القياس
لان بالقضاء بالقطع في اليد اليمنى لم تخرج اليد اليسرى من أن تكون محترمة متقومة فقطعها
خطأ قبل القضاء وبعده سواء وفى الاستحسان لا شئ عليه لان فعله حصل في موضع
الاجتهاد فان المنصوص عليه قطع اليد من السارق وقد قطع اليد واجتهد وان أخطأ فلا
175

ضمان عليه إذا كان فعله في موضع الاجتهاد يوضحه انه وان فوت عليه اليسرى فقد عوض
اليمني لأنه لا تقطع يده اليمنى بعد هذا وما عوضه من جنس ما فوت عليه فهو خير له مما
فوت عليه لان منفعة البطش في اليد اليمنى أظهر والاتلاف بعوض لا يوجب الضمان وان
تعمد ذلك فإن كان السارق أخرج يده اليسرى فقال اقطعها فلا ضمان عليه بالاتفاق لأنه
قطعها باذن صاحب اليد ألا تري أن من قطع يد الغير بإذنه من غير أن يكون قطعه مستحقا
بالسرقة لم يكن ضامنا شيئا فهذا أولي وإن لم يكن أمره فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى أخذا بالقياس ههنا وقالا يضمن الحداد لأنه جان فيما صنع متعد فيكون ضامنا كما
لو قطع رجله أو أنفه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالاستحسان لما بينا أن الحداد مجتهد
وفعله حصل في موضع الاجتهاد بخلاف ما لو قطع رجله أو أنفه ولأنه عوضه من جنس
ما فوت عليه ما هو خير منه والاتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتعدى كالشهود
إذا شهدوا عليه ببيع مال بمثل قيمته فأما إذا قطع أنفه فلم يعوضه مما أتلف عليه شيئا لان
القطع في اليد لا يسقط عنه بذلك وان قطع رجله اليسرى فلم يعوضه شيئا لان القطع
لا يسقط عنه بهذا وان قطع رجله اليمنى فلم يعوضه من جنس ما فوت عليه لان منفعة البطش
ليست من جنس منفعة المشي (قال) وإذا حكم عليه بالقطع بشهود في السرقة ثم انفلت
ولم يكن حكم عليه حتى أنفلت فأخذ بعد زمان لم يقطع لما بينا أن حد السرقة لا يقام؟ بحجة
البينة بعد تقادم العهد والعارض في الحدود بعد القضاء قبل الاستيفاء كالعارض قبل القضاء
وان اتبعه الشرط وأخذوه من ساعته قطعت يده لان مجرد الهرب ليس بمسقط للحد
عنه ولأنه لم يتمكن ههنا تهمة التهاون والتقصير في الطلب من أحد (قال) وإذا ردت
السرقة إلى صاحبها قبل أن يرفع السارق إلى الامام رفع إليه لم يقطع لان توبته قد
تحققت برد المال وقد نص الله تعالى في السرقة الكبرى على سقوط الحد بالتوبة قبل
قدرة الامام عليه ففي الصغرى أولى ولان الامام لا يتمكن من إقامة الحد عليه الا بعد ظهور
السرقة عنده ولا تظهر إذا رد المال قبل أن يرفع إليه لان السرقة لا تظهر عنده الا بالخصومة
في المال ولا خصومة بعد استرداد المال ولأنا قد بينا أن الخصومة شرط وانعدام الشرط
قبل القضاء يمنع القاضي من القضاء بالقطع وإذا كانت إصبعان من اليسرى مقطوعة لم تقطع
يده اليمنى في السرقة لان قطع الإصبعين ينقص من البطش باليد اليسرى أو يفوت بمنزلة
176

الشلل فقطع اليد اليمنى بعد ذلك يكون تفويتا لمنفعة الجنس وكذلك أن كانت الابهام
وحدها مقطوعة لان منفعة البطش منها تفوت بقطعها كما تفوت بالشلل وإذا كانت أصبع
واحدة سواها مقطوعة قطعت اليد اليمنى لان قطع الإصبع الواحدة سوي الابهام لا يفوت
منفعة البطش من اليسري فقطع اليد اليمنى في هذه الحالة لا يفوت عليه منفعة البطش وان
كانت رجله اليمني مقطوعة الأصابع فإن كأن لا يستطيع القيام والمشي عليها قطعت يده وان
كأن لا يستطيع أن يمشي عليها لم تقطع وكذلك أن كان المقطوع من رجله اليسرى إصبعين
لان فيه تفويت منفعة المشي عليه (قال) وكل شئ درأت فيه الحد ضمنته السرقة ان كانت
مستهلكة وإذا قطعت لم أضمنه وان كانت قائمة رددتها لبقاء الملك فيها لصاحبها (قال)
وإذا سرق سرقات لم يقطع بها الا يد واحدة لان مبني الحدود على التداخل ومعنى الزجر يتم
بقطع يد واحدة فان حضروا جميعا قطعت يده بخصومتهم ولم يضمن شيئا من السرقات
المستهلكة لان في حق كل واحد منهم قد استوفى الحد بخصومته بعدما ظهرت السرقة
فكأنه ليس معه غيره وان حضر أحدهم قطعت يده بخصومته على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ولا يضمن شيئا من سرقاته المستهلكة وعندهما هو ضامن للسرقات كلها الا السرقة التي
قطعت يده بالخصومة فيها وذكر ابن سماعة رحمه الله تعالى في نوادره هذا الخلاف على
عكس هذا وما ذكره في الأصل أصح وجه قولهما ان الاخذ الموجب للضمان متقرر في
حق كل واحد منهم حتى لو سقط الحد بشبهة كان ضامنا لكل واحد منهم ماله فإنما سقط
الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى وإنما وجد ذلك في حق الذي خاصم خاصة
لان القطع في سرقته دون غيره من السرقات فان الشرط الخصومة المظهرة للسرقة ولم يوجد
ذلك في حق الباقين لان الحاضر ليس بخصم عنهم ولأنه ما خاصم الا في سرقته فيجعل في
حقهم كأنه تعذر إقامة الحد للشبهة فبقي الضمان واجبا لهم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في
حق السارق حضور أحدهم كحضورهم فإنه لا يقطع به الأيد واحدة في الأحوال كلها وكما
لا يضمن شيئا لو حضروا فكذلك إذا حضر بعضهم وهذا لان الحد هو المستحق عليه بكل
شئ سرقه والمقام عليه حد واحد بالاتفاق فيكون مسقطا ضمان السرقات كلها ألا ترى أنه لو
أقر بالسرقة والمسروق منه غائب فاجتهد الامام وقطع يده لم يضمن للمسروق منه شيئا وان
حضر فصدقه (قال) وان شهد شاهد أنه نقب بيت هذا وأخرج منه كارة لا يدريان
177

ما فيها لم يقطع لان المشهود به مجهول وشرائط وجوب الحد بمثل هذه الشهادة المجهولة لا تثبت
ولم يشهدوا للمسروق منه بالملك في شئ أيضا فالمخرج من بيته قد يكون ماله وقد يكون مال
لمخرج وان قالوا نشهد أنه سرق منه هذا المتاع فإذا هو ثياب مختلفة تساوى مالا عظيما قطع
لأنهم شهدوا بفعل السرقة في معلوم فان الاعلام بالإشارة إلى العين أبلغ من الاعلام
بالتسمية ولان الشاهد لا يتمكن عند تحمل الشهادة من أن يقتص ما سرقه ليتأمل كل
ثوب منه ولا يكلف أداء الشهادة بما ليس في وسعه (قال) وإن كان للسارق دين على
المسروق منه لم يبطل القطع عنه بخلاف ما يقوله بعض الناس أن قيام الدين عليه له سبب
لاستحقاق ماله ألا ترى أن مال المديون لا يكون نصاب الزكاة بطريق انه كالمستحق
لصاحب الدين بدينه وسبب الاستحقاق يورث شبهة في درء الحد عنه ولكنا نقول محل
الدين الذمة ولا تعلق له بالمال خصوصا في حال صحة المديون حتى يملك التصرف في ماله
كيف شاء ومع من شاء ببدل وبغير بدل وإنما تعلق الدين بالمال من حيث أن قضاء الدين
يكون به فأما قبل القضاء فلا حق لصاحب الدين في مال المديون إلا أنه إذا كان الدين من
جنس ما أخذه كان فعله استيفاء ولصاحب الدين أن يستوفى جنس حقه إذا ظفر به فلا
يلزمه القطع لذلك فأما إذا كان من خلاف جنس حقه ففعله ليس باستيفاء ولكنه سرقة
موجبة للحد عليه فان قال إنما أردت أن آخده رهنا بحقي أو قضاء لحقي درئ عنه الحد لشبهة
اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى فان ابن أبي ليلى رحمه الله كأن يقول وان ظفر بخلاف جنس
حقه كان له أخذه لوجود المجانسة باعتبار صفة المالية ومن العلماء من يقول يأخذه رهنا بحقه
والاختلاف المعتبر يمكن شبهة وهذا لان فعله كان في موضع الاجتهاد لا ينفك عن شبهة
وإن كان هو مخطئا في ذلك التأويل عندنا (قال) وان سرق الحربي المستأمن في دار الاسلام
لم يقطع وهو ضامن الا على قول أبى يوسف وابن أبي ليلي رحمه الله تعالى فإنهما يقولان
يقطع ولا ضمان عليه وقد بينا نظيره في كتاب الحدود (قال) وإذا أشكل على الامام قيمة
المسروق واختلف أهل العلم فقال بعضهم قيمتها عشرة دراهم وقال بعضهم أدنى لم يقطع لان
كمال النصاب شرط يراعى وجوده حقيقة وذلك ينعدم عند اختلاف المقومين فيه وقد بينا
حديث عمر حين قضى بالقطع على السارق فقال عثمان رضي الله عنه سرقته لا تساوي
الا ثمانية دراهم فدرأ القطع عنه (قال) وإن كان أراها واحدا منهم فقال هي تساوى عشرة
178

دراهم لم يقطعها حتى يريها لآخر منهم لان الحجة الحكمية لا تتم بقول واحد وشرط القطع
يعتبر ثبوته بالحجة الحكمية فلهذا لا يكتفي بقول الواحد حتى يراها غيره فان اجتمع اثنان
على ذلك ولم يرها أحد بعد ذلك قطعه لان سبب الحد يثبت بشهادة اثنين فكذلك شرطه
يثبت بقولهما في الحكم فيستوفى القطع إلا أن يقول آخر لا يساوي ذلك فحينئذ للمعارضة
تتمكن الشبهة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع (قال) فان سرق دينارا أو مثقال ذهب لا يساوي
عشرة دراهم لم يقطع لقيام الدليل على أن نصاب السرقة يتقدر بعشرة دراهم وغير المنصوص
يقام مقام المنصوص عليه باعتبار القيمة فإذا لم تبلغ قيمته نصابا لم يتم شرط القطع ولا يقال
الدينار كان مقوما بعشرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لان ذلك شئ يختلف
باختلاف الأوقات والأمكنة في قلة الوجود وكثرة الوجود وليس هذا الحكم شرعيا ليصار
في معرفته إلى ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال) ولو شهدوا ان هذا
سرق ولم يعرفوا اسمه قطع ولو يضرهم أن كانوا لا يعرفون اسمه لأنهم عرفوه بالإشارة إليه
فهو أبلغ من ذكر الاسم والنسبة ولأنه إنما يحتاج إلى ذكر الاسم والنسبة لتعريف الغائب
به وهو حاضر فلا يقدح في شهادتهم أن لا يعرفوا اسمه (قال) وان قال السارق صاحب
البيت اذن لي في دخولي أو قال كنت ضيفا عنه درئ عنه القطع لأنه لو ثبت ما ادعاه لم يكن
فعله موجبا للقطع فبمجرد دعواه تتمكن الشبهة كما لو ادعى ملك العين لنفسه وهذا لأنه إذا
آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف فلا يستحسن إقامة القطع معه (قال) وإن كان القوم
في دار واحدة كل رجل في مقصورة وباب عليه مغلق دون مقصورة صاحبه فنقب رجل
منهم على صاحبه فسرق منه قال لا يقطع إلا أن تكون دارا عظيمة فيقطع وقد بينا ان الدار
العظيمة كالمحلة فكل مقصورة منها حرز على حدة ومن يسكن بعض المقاصير يتم منه فعل
السرقة في مقصورة صاحبه فاما إذا كانت دارا صغيرة فبيوت هذه الدار كلها حرز واحد
وإن كان يغلق على كل بيت منها باب فمن يسكن بعض هذه البيوت فهو متمكن من الدخول
في الحرز شرعا فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنه ولهذا قلنا في الدار الصغيرة لو أخذ مع
المتاع في صحن الدار لا يقطع ما لم يخرجه إلى السكة بخلاف الدار العظيمة فان السارق إذا أخذ من
مقصورة منها إذا أخذ في صحن الدار يقطع (قال) وإذا أجر الرجل منزله من رجل وهو
في منزل آخر فسرق المؤاجر من المستأجر متاعه من ذلك الموضع قطع في قول أبي حنيفة رحمه الله
179

وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا قطع لقيام ملكه في الحرز ووجوب القطع
باعتبار هتك الحرز وأخذ المال ثم لو سرق العين الذي أجره من المستأجر لم يقطع لقيام ملكه
في العين فكذلك إذا سرق من البيت الذي أجره وهذا لان له نوع تأويل في الدخول لينظر
هل استرم شئ منه فيرم ذلك أهل خرب المستأجر شيئا منه فيمنعه من ذلك وأبو حنيفة
رحمه الله يقول سرق ملك الغير من حرز صاحب الملك فيلزمه القطع كما لو باع منزله ثم سرق
منه متاع المشترى وهذا لان الحرز ليس بعبارة عن عين الجدار ولكنه عبارة عن التحفظ
بها وذلك صار للمستأجر خالصا لاحق للآجر فيه في مدة الإجازة بخلاف المال الذي آجره
لان وجوب القطع باعتبار العين والعين باق على ملكه والدليل عليه انه لو حدث الملك للسارق
في المال بعد تمام فعل السرقة يسقط القطع عنه ولو حدث له الملك في الحرز لم يسقط القطع
عنه فكذلك إذا اقترن بالسبب ولم يذكر في الكتاب أن المستأجر إذا سرق متاع الآجر
من منزله ففي بعض النوادر ذكر أنه على الخلاف أيضا والأصح أنه إذ؟ كان المنزل المؤاجر
حرزا على حدة والمنزل الذي يسكنه المؤاجر حرزا على حدة فإنه يلزمه القطع عندهم لأنه
لا تأويل للمستأجر في منزل المؤاجر ولا شبهة وقد ذكر الخلاف في بعض نسخ الأصل
وتأويل ذلك فيما إذا كانت صغيرة أجر منزلا منها من انسان حتى يكون الكل في حكم حرز
واحد فحينئذ لا يلزمه القطع عندهما ولكن إذا كان التأويل هذا فكذلك ينبغي على قول أبي حنيفة
رحمه الله كما لو باع منزلا منها من انسان فهذا فصل مشتبه ولكن الجواب الصحيح فيه
ما بينا ثم ذكر في الأصل ما يقطع فيه ومالا يقطع من الأعيان وذكر في الجملة أنه يقطع
في الحناء والوسمة وقد ذكر قبل هذا أنه لا يقطع فيهما فتأويل ما ذكر قبل هذا في الرطب
منه قبل أن يحرزه صاحبه احرازا تاما وتأويل ما ذكر ههنا في اليابس منه فهو نظير الثمار
لا يقطع في الرطب ويقطع في الفواكه اليابسة الا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
قال مالا يقطع في رطبه لا يقطع في يابسه لأن العين على حاله بعد اليبس فيصير ذلك شبهة
وقد بينا أنه يقطع في اللؤلؤ والياقوت والزمرذ والفيروزج الا في رواية عن محمد رحمه الله
تعالى فإنه يقول هذا من الأحجار ولا قطع في الحجر ولكنا نقول إنما لا يقطع في الحجر لمعنى
التفاهة وما يكون من أعز الأموال يرغب فيه من يتمكن منه لا يكون تافها (قال) ولا
يقطع في الزجاج أما جوهر الزجاج فلانه يوجد مباح الأصل بصورته في دار الاسلام غير
180

مرغوب فيه فأما المعمول منه فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول يجب فيه القطع بمنزلة
المعمول من الخشب لان هذا لا يوجد بصورته مباحا والأصل فيه أنه لا يجب لان هذا مما
يتسارع إليه الكسر فهو في معنى ما يتسارع إليه الفساد ولان الصنعة فيه لا تغلب على الأصل
عادة وعلى هذا الأصل قال لا يقطع في البواري والقصب لان القصب يوجد مباح الأصل
غير مرغوب فيه ثم الصنعة لا تغلب على الأصل من حيث أنه لا يتضاعف قيمته بالصنعة
ويكون نافها بعد الصنعة في الاستعمال والبسط في المواضع المحرزة وغير المحرزة بخلاف
المعمول من الخشب فالصنعة هناك تغلب على الأصل ألا ترى أن القيمة تزداد بالصنعة
أضعافا وذكر أن في العاج يجب القطع وكذلك في الأبنوس لان هذا مما لا يوجد مباح
الأصل في دار الاسلام ولأنه لا يكون تافها فان من يتمكن من أخذه لا يتركه عادة وعلى
هذا يجب القطع في الصندل والعنبر وما أشبهه لأنه لا يوجد مباح الأصل في دار الاسلام
غير مرغوب فيه وإنما يوجد ذلك في دار الحرب وذلك لا يمكن شبهة في الأموال لان الأموال
كلها في دار الحرب على الإباحة (قال) وإذا شهد شاهدان أنه سرق من هذا العبد كذا
وكذا يقطع وكذلك السارق من أهل الذمة ومن مال اليتيم لأنه لا تأويل له في مال هؤلاء
ولا شبهة والسرقة تظهر بخصومة العبد والذمي ووصى اليتيم عند الامام بلا شبهة (قال) ولا
يقطع السارق من مال الحربي المستأمن عندنا استحسانا وفى القياس يقطع وهو قول زفر
رحمه الله لان ماله محرز بدارنا فإنه معصوم كمال الذمي وجه الاستحسان أن العصمة بالاحراز
بالدار واحراز المستأمن لا يتم ألا ترى أن احراز المال تبع لاحراز النفس ولا يتم احراز نفسه
بدار الاسلام حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فكذلك لا يتم احراز ماله ولأنه بقي
حربيا حكما حتى يبقى النكاح بينه وبين زوجته في دار الحرب ومال الحربي مباح الاخذ إلا أن
ه يتأخر إباحة الاخذ بسبب الأمان إلى أن يرجع إلى دار الحرب فيصير ذلك شبهة في
اسقاط القطع عن السارق بخلاف الذمي فإنه يتم احراز نفسه بعقد الذمة ويخرج به من أن
يكون حربيا من كل وجه (قال) رجل من أهل العدل أغار في عسكر أهل البغي ليلا فسرق
من رجل منهم مالا فجاء به إلى الإمام العدل قال لا يقطعه لأن لأهل العدل أن يأخذوا أموال
أهل البغي علي أي وجه يقدرون على ذلك ويمسكوه إلى أن يتوبوا أو يموتوا فيرد على ورثتهم
فتتمكن الشبهة في أخذه بهذا الطريق وكذلك لو أغار رجل من أهل البغي في عسكر أهل
181

العدل لم يقطع أيضا لان أهل البغي يستحلون أموال أهل العدل وتأويلهم وإن كان فاسدا
فإذا انضم إليه المنعة كان بمنزلة التأويل الصحيح ألا ترى أنه لا يضمن الباغي ما أتلف من
مال العادل بهذا الطريق فكذا لا يلزمه القطع (قال) ولو أن رجلا من أهل دار العدل
سرق مالا من آخر وهو ممن يشهد عليه بالكفر ويستحل ماله ودمه قطعته لان التأويل ههنا
تجرد عن المنعة ولا معتبر بالتأويل بدون المنعة ولهذا لا يسقط الضمان به فكذلك القطع
وهذا لأنه تحت حكم أهل العدل فيتمكن امام أهل العدل من استيفاء القطع منه بخلاف
الذي هو في عسكر أهل البغي فان يد امام أهل العدل لا تصل إليه فلهذا افترقا (قال) وإذا
أقر السارق بالسرقة مرة واحدة قطعت يده وفى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال
أبو يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى لا يقطع ما لم يقر مرتين وكذلك الخلاف في
الاقرار بشرب الخمر وذكر بشر رجوع أبى يوسف إلى قول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
وحجتهما ما روى عن علي رضي الله عنه ان رجلا أقر بالسرقة عنده مرتين فقطع يده وهذا
لأنه حد لله تعالى خالصا فيعتبر عدد الاقرار فيه بعدد الشهادة كحد الزنا ولهذا روى عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى انه شرط اقرارين في مجلسين مختلفين وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى استدلا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بسارق فقال أسرقت ما أخاله
سرق فقال سرقته فأمر بقطعه ولم يشترط عدد الاقرار فيه ولان ما ثبت بشهادة شاهدين
من العقوبات يثبت باقرار واحد كالقصاص وقد بينا ان الزنا مخصوص من بين نظائره وفى
الكتاب علل فقال لو لم أقطعه في المرة الأولى لم أقطعه في المرة الثانية لان المال صار دينا
عليه بالاقرار الأول فهو بالاقرار الثاني يريد اسقاط الضمان عن نفسه بقطع يده فيكون
متهما في ذلك وإن كان المال قائما بعينه رددته بعد الاقرار الأول قبل الاقرار الثاني فكيف
يلزمه القطع بالاقرار بعد رد المال ألا ترى ان بالشهادة لا يلزمه القطع بعد رد المال فبالاقرار
أولى وان رجع قبل أن يقطع درئ القطع لأنه ليس ههنا من يرد جحوده إذ القطع من
حق الله تعالى فيتحقق التعارض بين الخبرين فأما في حق المال لا يصح رجوعه لان المسروق
منه يكذبه في الرجوع والمال حقه (قال) فان شهد شاهدان على اقراره وهو منكر أو هو
ساكت لا يقر ولا ينكر لم أقطعه لان الاقرار غير ملزم إياه حتى يتمكن من الرجوع عنه
فلا يمكن اثباته بالبينة وسكوته كانكاره فان البينة لا تقبل الأعلى المنكر وانكاره بمنزلة
182

الرجوع أو أقوى منه ولكن عليه الضمان لان رجوعه في حق الضمان باطل فكذلك انكاره
(قال) وإذا أقر العبد بسرقة مال فهو على وجهين اما أن يكون مأذونا له أو محجورا عليه
وكل وجه على وجهين اما أن يكون المال مستهلكا أو قائما بعينه في يده فإن كان العبد مأذونا
أقر بسرقة مال مستهلك فعليه القطع في قول علمائنا الثلاثة وقال زفر رحمه الله تعالى لا قطع
عليه ولكن يضمن المال وإن كان المال قائما بعينه في يده تقطع يده ويرد المال على المسروق
منه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يرد المال ولا يقطع يده لان اقراره في حق المال يلاقى حقه
فإنه يلاقى كسبه أو ذمته وهو منفك الحجر عنه في ذلك فأما في حق القطع يلاقى نفسه والفك
بحكم الاذن لم يتناوله ألا ترى أنه لو أقر برقبته لإنسان كان اقراره باطلا فكذلك اقراره بما يوجب
استحقاق نفسه أو جزء منه يكون باطلا وجه قول علمائنا رحمهم الله تعالى ان وجوب الحد
باعتبار أنه آدمي مخاطب لا باعتبار أنه مال مملوك والعبد في هذا كالحر فاقراره فيما يرجع إلى استحقاق
الحر كاقرار الحر فلهذا لا يملك المولى الاقرار عليه بذلك وما لا يملك المولى على عبده فالعبد
فيه ينزل منزلة الحر كالطلاق يوضحه أنه لا تهمة في اقراره لان ما يلحقه من الضرر باستيفاء
العقوبة منه فوق ما يلحق المولى والاقرار حجة عند انتفاء التهمة عنه (قال) فإن كان
العبد محجورا عليه فأقر بسرقة مستهلك قطعت يده الأعلى قول زفر رحمه الله تعالى
لان فيما كان العبد مبقى على أصل الحرية المأذون والمحجور عليه فيه سواء وان أقر بسرقة
مال قائم بعينه في يده فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقطع يده ويرد المال إلى
المسروق منه وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى تقطع يده والمال للمولى وعند محمد
وزفر رحمهما الله تعالى لا تقطع يده والمال للمولى اما محمد رحمه الله تعالى يقول اقرار
المحجور عليه بالمال باطل لان كسبه ملك مولاه وما في يده كأنه في يد المولى ألا ترى أنه لو
أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة وإذا لم يصح اقراره في حق المال بقي المال على
ملك مولاه ولا يمكن أن يقطع في هذا المال لأنه ملك لمولاه ولا في مال آخر لأنه لم يقر
بالسرقة فيه والمال أصل ألا ترى أن المسروق منه لو قال أبغي المال تسمع خصومته ولو قال
أبغي القطع ولا أبغي المال لا تسمع خصومته وكذلك قد يثبت المال ولا يثبت القطع ولا
يتصور أن يثبت القطع قبل أن يثبت المال فإذا لم يصح اقراره فيما هو الأصل لم يصح فيما
ينبني عليه أيضا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أقر بشيئين بالقطع والمال للمسروق منه
183

واقراره حجة في حق القطع دون المال ما كان اقراره فيه حجة لان أحد الحكمين
ينفصل عن الآخر ألا ترى أنه قد يثبت المال دون القطع وهو ما إذا شهد به رجل وامرأتان
فكذلك يجوز أن يثبت القطع دون المال كما إذا أقر بسرقة مال مستهلك وهذا لأنا لا نقبل
اقراره في تعيين هذا المال فيبقي المسروق مستهلكا ويجوز أن تقطع يده وإن لم يقبل اقراره
في تعيين المال كالحر إذا قال الثوب الذي في يد زيد أنا سرقته من عمرو فقال زيد هو ثوبي
فإنه تقطع يد المقر وإن لم يقبل اقراره في ملك ذلك العين للمسروق منه وأبو حنيفة رحمه
الله تعالى يقول لا بد من قبول اقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقى على أصل
الحرية ولان القطع هو الأصل ألا ترى أن القاضي يقضى بالقطع إذا ثبتت السرقة عنده
بالبينة ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون المال مملوكا لغير مولاه لاستحالة أن
يقطع العبد في مال هو مملوك لمولاه وبثبوت الشئ يثبت ما كان من ضرورته كما لو باع أحد
ولدى التوأم فأعتقه المشترى ثم ادعى البائع نسب الذي عنده يثبت نسب الآخر منه
ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة فهذا مثله بخلاف الحر فان المال هناك لغير السارق
وهو ذو اليد ولا يستحيل أن يقطع في مال الغير فأما ههنا يستحيل أن يقطع العبد في مال
هو مملوك لمولاه فوزان هذا من ذاك أنه لو أقر بسرقة مال من انسان فقال المقر له هو
مالك لاحق لي فيه أو قال المقر له هذا المال لمولاك لاحق لي فيه ولو قال ذلك لا تقطع
يده بالاتفاق ولا بد من القضاء عليه بالقطع لما قلنا فيقضى برد المال على المقر له بالسرقة
(قال) واقرار الصبي بالسرقة باطل ثم؟ بلوغه قد يكون بالعلامة وقد يكون بالسن فأما
البلوغ بالعلامة فالغلام بالاحتلام أو بالاحبال وأقل المدة في ذلك اثنى عشرة سنة وفى
الجارية بالحيض أو بالحبل أو الاحتلام وأدنى المدة في ذلك تسع سنين وعند عدم ذلك
فعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يحكم ببلوغهما إذا بلغا خمس عشرة
سنة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى التقدير في الجارية بسبع عشرة سنة وفى الغلام في احدى
الروايتين بثمان عشرة سنة وفى الرواية الأخرى بتسع عشرة سنة وهو الأصح باعتبار أنه
زاد على أدني المدة سبع سنين وأدنى المدة التي اعتبرها الشرع بقوله صلى الله عليه وسلم
مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا وقد بينا المسألة فيما أمليناه من شرح الوكالة (قال) وإذا أقر
بالسرقة عند العذاب أو عند الضرب أو عند التهديد بالحبس فاقراره باطل لحديث ابن عمر
184

رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمين ان جوعت أو خوفت أو أوثقت وقال شريح
رحمه الله تعالى القيد كره والسجن كرة والوعيد والضرب كره وهذا لان الاقرار
إنما يكون حجة لترجيح جانب الصدق فيه فلما امتنع من الاقرار حتى هدد بشئ من ذلك
فالظاهر أنه كاذب في اقراره وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله تعالى أفتوا بصحة اقرار
السارق بالسرقة مع الاكراه لأن الظاهر أن السراق لا يقرون في زماننا طائعين وسئل
الحسن بن زياد رحمه الله تعالى أيحل ضرب السارق حتى يقر فقال ما لم يقطع اللحم ولا يتبين
العظم وأفتى مرة بجواز ضربه ثم ندم واتبع السائل إلى باب الأمير فوجده قد ضرب
السارق وأقر بالمال وجاء به فقال ما رأيت جورا أشبه بالحق من هذا وان أقر طائعا ثم قال
المتاع متاعي أو قال استودعينه أو قال أخذته رهنا بدين لي عليه درأت القطع عنه لان
ما ادعاه محتمل فقد آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف وقد بينا ان صاحب الدين إذا
سرق خلاف جنس حقه على سبيل الرهن بحقه لا يلزمه القطع ويستوى إن كان دينه حالا
أو مؤجلا وكذلك إذا أخذ جنس حقه والدين مؤجل وهذا استحسان وكان ينبغي في
القياس ان يقطع لأنه لاحق له في أخذ المال قبل حلول الأجل ولكنه استحسن فقال
التأجيل لا ينفي وجوب أصل المال إنما يؤخر حق الاستيفاء فيكون وجوب الدين عليه شبهة
(قال) ويستحب للامام ان يلقن السارق حتى لا يقر بالسرقة لما روينا ان النبي صلى الله عليه
وسلم أتى بسارق فقال أسرقت ما أخاله سرق وهذا لان هذا احتيال من الامام لدرء الحد
عنه وهو مندوب إليه وإذا ثبتت السرقة في البرد الشديد والحر الشديد الذي يتخوف عليه الموت
ان قطعه حبسه حتى ينكشف الحر والبرد لان القطع يستوفي على وجه يكون القطع زاجرا
لا متلفا وإذا كأن لا يتخوف عليه الموت ان قطع لم يؤخر لقوله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي
لوال ثبت عنده الحد أن لا يقيمه وان حبس إلى فتور الحر والبرد فمات في السجن فضمان
المسروق دين في تركته لأنه تعذر استيفاء القطع (قال) وإذا اجتمع في يده قطع في
السرقة والقصاص بدئ بالقصاص وضمن السرقة لأنه إن كان القصاص في النفس فقد بينا
أنه إذا اجتمع في النفس وما دونه يقتل ويترك ما سوى ذلك وإن كان القصاص في اليد اليمنى
فقد اجتمع في اليد حقان أحدهما لله تعالى والآخر للعبد فيقدم حق العبد لحاجته إلى ذلك
وكذلك أن كان القصاص في اليد اليسرى أوفى الرجل اليمنى أوفى الرجل اليسرى يبدأ
185

باستيفاء القصاص وإذا استوفى تعذر استيفاء القطع فيضمن المسروق فان قضى بالقصاص
فعفي عنه صاحبه أو صالحه قطعت يده في السرقة لان القطع في السرقة كان مستحقا وقد سقط
ما كان مقدما عليه وهو القصاص وإن لم يصالحه حتى مضى زمان وهما يتراضيان فيه على
الصلح ثم صالحه درأت القطع في السرقة لتقادم العهد فان ذلك مانع من استيفاء القطع
بحجة البينة وإن كان القصاص في الرجل اليسرى بدئ بالقصاص ثم يحبس حتى يبرأ ثم
تقطع يده في السرقة وكذلك أن كان القصاص في شجة في رأسه لان الامام لو والي في
الاستيفاء بالضرب ربما يموت لتضاعف الآلام عليه فليتحرز عن ذلك بجهده ولهذا قلنا بأنه
يحبس حتى يبرأ ثم يقام عليه الحد (قال) وإذا حكم على السارق بالقطع ببينة أو باقرار ثم
قال المسروق منه هذا متاعه أو قال لم يسرقه مني إنما كنت أودعته أو قال شهد شهودي
بزور أو قال أقر هو بالباطل بطل القطع عنه لانقطاع خصومته وقد بينا أن بقاء الخصومة
إلى وقت استيفاء القطع شرط وان المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في الحد كالمقترن
بأصل السبب وهذا بخلاف رد المال بعد القضاء لان رد المال منه للخصومة فالمقصود
بالخصومة استرداد المال والمنتهى يكون متقررا في نفسه فكانت خصومته قائمة باعتبار قيام
يده في المال وان قال قد عفوت لم يبطل القطع لان العفو اسقاط فإنما يصح من صاحب
الحق والقطع حق لله تعالى لاحق للمسروق منه فيه والأصل فيه ما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تجافوا العقوبة بينكم فإذا انتهي بها إلى الامام فلا عفي الله عنه ان عفي عنه
فأما إذا وهب المسروق منه المال من السارق أو باعه منه فإن كان قبل قضاء القاضي بالقطع
سقط القطع عنه لانقطاع خصومته وإن كان بعد القضاء فكذلك عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى إنه لا يسقط القطع عنه وهو قول
الشافعي رحمه الله وحجتهما حديث صفوان رضي الله عنه فإنه كان نائما في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدا بردائه فجاء سارق وسرق رداءه فاتبعه حتى أخذه
فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقال أتقطعه بسبب ردائي وهبتها له
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا قبل أن تأتيني فهذا يدل على أن الهبة بعد القضاء
لا تسقط القطع ولان هذا حد لله تعالى خالصا فإذا وجب بتقرر سببه لا يمتنع استيفاؤه
لملك عارض في المحل كحد الزنا فان من زنى بامرأة ثم تزوجها لم يسقط الحد عنه وهذا لان
186

وجوب القطع باعتبار الملك والعصمة وقت السرقة والهبة توجب ملكا حادثا ولا أثر لها
فيما وجب القطع باعتباره بخلاف ما إذا أقر بالملك للسارق لان في اقراره احتمال الصدق
وبهذا الاحتمال تبين أن الملك كان للسارق عند السرقة وذلك مانع تقرر فعل السرقة بخلاف
ما إذا كانت الهبة قبل المرافعة لان هناك لا يظهر عند الامام لانقطاع حق المسروق منه
فأما الآن فقد ظهرت السرقة عنده وتمكن من استيفاء القطع حقا لله تعالى فلا يمتنع
الاستيفاء باعتراض الملك في المحل كما لا يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في الحرز أو برد المال
بعد القضاء (وحجتنا) فيه أن انتفاء ملك السارق عن المسروق شرط لوجوب القطع عليه
وما يكون شرطا لوجوب القطع عليه يراعى قيامه إلى وقت الاستيفاء لان المعترض بعد
القضاء قبل الاستيفاء كالمقترن بأصل السبب بدليل العمى والخرس والردة والفسق في
الشهود والدليل عليه أن انتفاء الأبوة لما كان شرطا لوجوب القصاص يشترط بقاؤه إلى
وقت الاستيفاء حتى أن المعترض من الأبوة بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء
كالمقترن بأصل السبب وهذا لان وجوب القطع باعتبار العين والملك وإن كان حادثا ههنا
فالعين الذي وجد فعل السرقة فيه عين ذلك ولو اتحد الملك بأن أقر المسروق منه له بالملك
أو أثبت السارق ملكه بالبينة لم يقطع فكذلك إذا اتحدت العين واختلف الملك لأنه
تتمكن شبهة باعتبار اتحاد العين وقد بينا اختلاف الروايات في حد الزنا وبعد التسليم العذر
واضح فان وجوب الحد باعتبار ما استوفي من العين وذلك المستوفي مثلا شئ
وههنا وجوب القطع باعتبار العين وملكه حدث في ذلك العين وبخلاف الحرز فإنه عبارة
عن التحرز والتحصن وقد فات ذلك فإنما حدث الملك له في حرز آخر وبخلاف رد
المال لان الرد منه للخصومة فان ما هو المقصود يحصل بالرد والمنتهى في حكم
المتقرر فأما الهبة تقطع الخصومة لأنه ما كان يخاصم ليهب منه وما يفوت المقصود بالشئ
لا يكون منهيا له فأما حديث صفوان رضي الله عنه فقد ذكر في بعض الروايات عفوت
عنه والحديث حكاية حال لا عموم له ثم معنى قوله صلى الله عليه وسلم هلا قبل أن تأتيني به
كيلا ينهتك ستره ألا ترى أن ما روى أن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير فقال
صفوان رضي الله عنه كأنه شق عليك ذلك يا رسول الله قال وكيف لا يشق على وكأنكم
أعوان الشياطين على أخيكم المسلم فعرفنا أنه كره هتك الستر عليه ولم يرو مشهورا انه قطع
187

يده بعد هبته وان روى ذلك فيحتمل أن السارق لم يقبل الهبة ولما انهتك ستره استحب
أن يطهره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فلم يقبل الهبة لذلك وعندنا إذا
لم يقبل الهبة السارق لا يسقط القطع (قال) فان أقر بالسرقة والمسروق منه غائب ففي
القياس يقطع وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه أقر بوجوب الحد عليه حقا لله
تعالى فيستوفيه الامام منه وفي الاستحسان لا بقطع للشبهة فان المسروق منه إذا حضر ربما
يكذبه في الاقرار وقد بينا (قال) ولا يقطع السارق من بيت المال حرا كان أو عبدا
لان له فيه شركة أو شبهة شركة فان مال بيت المال مال المسلمين وهو أحدهم فإنه إذا
احتاج يثبت له الحق فيه بقدر حاجته وفى الكتاب روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أنه أتى برجل قد سرق من المغنم فدرأ عنه الحد وقال إن له فيه نصيبا ولأنه ليس لهذا
المال مالك متعين ووجوب القطع على السارق لصيانة الملك على المالك ولهذا لا يقطع بسرقة
مال لا مالك له (قال) ولا يقطع السارق من امرأة ابنه أو زوج ابنته أو زوج أمه أو
امرأة أبيه إذا سرق من المنزل المضاف إليه لان له أن يدخل منزل أبيه وأمه ومنزل ابنه
وابنته من غير استئذان ولا حشمة فلا يتم معنى الحرزية في حقه في منازلهم فلهذا لا
يلزمهم القطع فأما إذا سرق مال هؤلاء من غير منزل ولده أو والده أو سرق من ابن امرأته
أو من أبويها فلا قطع عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا وفى قولهما يقطع
وهو القياس وهو الخلاف في الأختان والاصهار كلهم سواء على ما ذكرنا هما يقولان
لا شبهة للبعض في ملك البعض ولا تأويل ولا في حرزه فكانوا بمنزلة الأجانب إلا أن بينهما
محرمية ثابتة بالمصاهرة ولا تأثير للمحرمية في المنع من وجوب القطع كالمحرمية الثابتة
بالرضاع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول بين الأختان والاصهار مباسطة في دخول بعضهم
في منزل البعض من غير استئذان فتتمكن شبهة في الحرزية وأدنى الشبهة تكفى في المنع من
وجوب القطع كما لو سرق من منزل أبيه مال امرأته يوضحه أن إقامة المضاف مقام المضاف
إليه أصل في الشرع وامرأة الابن مضاف إليه ولو سرق الأب من المضاف إليه لا يقطع
فكذلك إذا سرق من المضاف باعتبار إقامة المضاف إليه يوضحه أن الابن
جزء من أبيه ولو سرق الابن مال هذه المرأة من منزلها لم يقطع فكذلك أبوه وهذا بناء
على أصل علمائنا رحمهم الله تعالى أن أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر لم يقطع والشافعي
188

رحمه الله تعالى يقول إن سرق من بيت يسكنان فيه فكذلك الجواب وان سرق من
حرز آخر لصاحبه يقطع بناء على أصله أن فيما وراء حقوق النكاح هما كالأجانب حتى تقبل
شهادة أحدهما لصاحبه وعندنا بسبب الزوجية يثبت معنى الاتحاد بينهما ولهذا لا تقبل
شهادة أحدهما لصاحبه وتباسط كل واحد منهما في مال صاحبه كتباسط الولد في مال والده
فكما أن ذاك مانع من وجوب القطع عليه فكذلك هذا (قال) وان أقر بسرقة مع صبي أو
معتوه لم يقطع وكذلك لو شهدت عليه الشهود بذلك لأنها سرقة واحدة فإذا لم يوجب القطع
على أحدهما للشبهة لا يوجب على الآخر للشركة بخلاف ما إذا زنى بصبية لان فعله هناك
ليس من جنس فعلها لتحقق الشركة في الفعل بل هو الفاعل وهي محل الفعل وعن أبي
يوسف رحمه الله قال إن كان الصبي هو الذي حمل المتاع فلا قطع على واحد منهما لأنه مقصود
بالفعل وإن كان الحامل للمتاع هو البالغ فعليه القطع ولا معتبر بفعل الصبي فاني أستقبح
أن أدرأ القطع لهذا فيتطرق السراق به إلى اسقاط القطع لان كل سارق لا يعجز عن أن
يستصحب صبيا أو معتوها مع نفسه وكذلك أن كان مع أخرس لا قطع على واحد منهما
أما الأخرس فلتمكن الشبهة في حقه لأنه لو كان ناطقا ربما يدعى شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه
وأما الناطق فلأجل الشركة (قال) ولو سرق خمرا في ظرف وقيمة الظرف نصاب لا قطع
عليه لان المقصود الخمر وهي حرام إلا أن يشرب الخمر في الحرز ثم يخرج الظرف وهو مما
يقطع في جنسه فحينئذ يلزمه القطع وهذه المسألة ذكرها في الأصل لايضاح الفصل الأول ان
وجوب القطع باعتبار العين والفعل ثم إذا كان أحد العينين مما لا يقطع بسرقته يصير ذلك
شبهة في اسقاط الحد فكذلك إذا كان أحد الفاعلين ممن لا يجب عليه القطع (قال) وقد بينا
أن القطع يستوفي بخصومة الغائب والمودع والمستعير وإن كان المالك هو الذي حضر فقد
ذكر في الجامع الصغير أنه يقطع السارق وذكر ابن سماعة رحمه الله في نوادره إذا حضر
المالك وغاب المسروق منه لم يقطع بخصومته حتى يحضر المسروق منه فعلى هذا قيل مراده
مما ذكر في الجامع الصغير إذا حضرا جميعا وقيل بل فيه روايتان وجه رواية الجامع أن المالك
هو الأصل في هذه الخصومة لان بها يحيي ملكه وحقه فلا معتبر بغيبة غيره مع حضوره
وجه رواية النوادر ان المسروق منه غيره والشرط حضور المسروق منه ألا ترى أنه
لا يستوفى بخصومة وكيله لأنه غير المسروق منه فكذلك المالك ههنا وهذا لان المسروق منه
189

إذا حضر ربما يدعى أنه كان ضيفا عنده فلهذا النوع من الشبهة لا يستوفى القطع وكاسب
الربا يقطع السارق منه بخصومته لأنه مالك للمكسوب وهو ملك معصوم وإن كان حراما
وقد بينا الكلام في السارق من السارق فإن كان السارق من المودع ذا رحم محرم منه لم يقطع
بخصومته ولا بخصومة المالك كما لو سرق مال المودع وهذا لان المسقط للحد عن ذي الرحم
المحرم الشبهة في الحرز من حيث إن بعضهم يدخل على البعض من غير حشمة ولا استئذان
وفي هذا لا يفترق بين أن يسرق ماله أو مال أجنبي وديعة عنده (قال) ولا يقطع السارق
من امرأة المبتوتة المعتدة منه في منزل على حدة لأن العدة حق من حقوق النكاح فتعمل
عمل حقيقة النكاح في ايراث الشبهة ولأنه قد يدخل عليها إذا أتاها بالنفقة والسكنى عليها فمن
هذا الوجه تصير السكني كالمضاف إليه وان سرق بعد انقضاء العدة قطع لأنه لم يبق بينهما حق
ولا علاقة فصارت في حقه كما قبل أن يتزوجها وكما يقطع بعد انقضاء العدة إذا سرق منها فكذلك
من أبويها لان المانع في حال قيام النكاح دخول بعضهم على بعض من غير استئذان عادة
وقد زال ذلك بارتفاع النكاح بجميع علائقه (قال) ولا يقطع السارق من امرأة قد تزوجها
بعد سرقته لان العارض بعد وجوب الحد قبل استيفائه كالمقترن بأصل السبب ولو كان
النكاح قائما بينهما وقت السرقة لم يقطع وإن لم تزف إليه فكذلك إذا اعترض النكاح وعن أبي
يوسف قال إذا تزوجها قبل القضاء بالقطع فكذلك الجواب لان القاضي لا يسمع
خصومتها في حكم الحد وهي منكوحته فأما إذا تزوجها بعد القضاء بالقطع لا يمنع استيفاء
القطع لان الزوجية عينها لا تمنع القطع بل معنى الشبهة من حيث أنه يدخل عليها من غير
استئذان وهذا لا يوجد في زوجية معترضة بعد القضاء بالقطع (قال) ولو سرق من
امرأته ثم أبانها ولم يدخل بها فلا قطع عليه لان الشبهة في الحرزية كانت موجودة وقت
السرقة فلم يكن أصل فعله موجبا للقطع ثم لا يصير موجبا بعد ذلك وإذا سرق من أمه من
الرضاعة أو من أخته فعليه القطع لأنه لا سبب بينهما سوى المحرمية ولا تأثير للمحرمية في المنع
من وجوب القطع كالمحرمية بسبب المصاهرة بعد ارتفاع النكاح أو بسبب المصاهرة
الثابتة بالزنا أو بالتقبيل من شهوة لا تؤثر في اسقاط القطع وعن أبي يوسف رحمه الله قال
إذا سرق من أمه من الرضاعة فلا قطع عليه لأنه يدخل عليها من غير استئذان عادة بخلاف
أخته من الرضاعة وغيرها وهذا بعيد فان الأمية من الرضاعة لو كانت مؤثرة في اسقاط
190

القطع لكانت الأختية مؤثرة فيه كما لو كانت بالنسب (قال) وان أقر الرجل بالسرقة ثم
هرب لم يطلب وإن كان في فوره ذلك لان هربه دليل رجوعه ولو رجع عن الاقرار لم
يقطع فكذلك إذا هرب والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز حين أخبر
بالهرب فقال هلا خليتم سبيله ولكنه إذا أتى به بعد ذلك كان ضامنا للمال كما لو رجع عن
اقراره فإنه يسقط القطع به دون الضمان (قال) وإذا أقر أنه سرق من هذا مائة ثم قال
وهمت إنما سرقت من هذا الآخر لم يقطع لأنه رجع عن اقراره بالسرقة من الأول
وتناقض كلامه في اقراره بالسرقة من الآخر والتناقض كالرجوع في ايراث الشبهة ويقضى
لكل واحد منهما بمائة لان بالرجوع والتناقض يبطل اقراره في حق الحد دون المال وقد
أقر بسرقة مائة درهم من كل واحد منهما وصدقه كل واحد منهما في ذلك فكان ضامنا له
وان قال ذلك الشهود قبل القضاء للأول لم يقض عليه بقطع ولا مال لأنهم رجعوا عن
شهادتهم بالسرقة من الأول وتناقض كلامهم بالسرقة من الثاني حين شهدوا أولا بسرقة
هذه المائة بعينها من الأول والرجوع عن الشهادة قبل القضاء والتناقض فيها مانع من
القضاء بالمال والحد جميعا (قال) وان كانت الشهود أربعة فثبت اثنان على الشهادة
للأول به ورجع اثنان فشهدوا على هذا الآخر لا قطع عليه لواحد منهما للشبهة التي
دخلت من حيث أن الراجعين شهدوا بسرقة ذلك المال بعينه من الآخر فيكون
ذلك معارضا لشهادة الثابتين على السرقة من الأول فيمتنع وجوب القطع عليه بشهادة
الثابتين للمعارضة وبشهادة الراجعين للتناقض ويقضي بالمال للأول لبقاء حجة كاملة على
الشهادة في حق المال وتأثير المعارضة في ايراث الشبهة ولكن المال يثبت مع الشبهات
ولا يقضي للآخر بشئ للتناقض من الشهود في حق الآخر لان ذلك مانع من القضاء
بالمال (قال) رجل أقرانه سرق من هذا مائة درهم ثم جاء آخر فقال لم يسرقها هذا
ولكني أنا سرقتها فقال المسروق منه كذبت فإنه يقطع الأول بخصومته لأنه صدقه في
اقراره بالسرقة منه فأما اقرار الثاني فقد بطل بتكذيب المسروق منه إياه فصار
كالمعدوم فان قال المسروق منه لم يسرقها الأول فقد علمت وذكرت أن هذا الآخر
هو الذي سرقه لم يقطع الآخر ولا الأول لان دعواه على الأول براءة منه للآخر
191

ودعواه على الآخر براءة منه للأول ولأنه قد تناقض كلامه والخصومة من المناقض غير
مسموعة وشرط القطع الخصومة فلهذا لا يقطع واحد منهما ولا يضمن الأول السرقة أيضا
لأنه قد أبرأه منها بالدعوى على الآخر فصار مكذبا له في اقراره وقد كذب الآخر في
اقراره قبل هذا فلا ضمان له على واحد منهما ألا تري أنه لو أقر بأنه سرق منه فقال المقر له
كذبت ثم قال له صدقت أنت سرقتها لم يكن له أن يضمنه شيئا وإن لم يقل كذبت ولكنه
قال صدقت ثم قال آخر أنا سرقتها فقال له صدقت لم يقطع واحد منهما لمعنى التناقض ويضمن
الآخر دون الأول لأنه بتصديق الآخر صار مكذبا للأول مبرئا له عما أقر به (فان قيل)
فكذلك هو بتصديق الأول صار مكذبا للآخر قلنا نعم لكن وجد من الآخر الاقرار له بعد ذلك التكذيب فيصح تصديقه في ذلك كمن أقر لإنسان بمال ثم فكذبه أقر له ثانيا به
فصدقه كان له أن يأخذ المال وإن كان ذلك في شهادة لم يضمن واحد منهما شيئا لان
الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء ولا يقضى القاضي بها الا إذا ترتبت على خصومة صحيحة
وقد سقط اعتبار خصومته للتناقض ولأنه صار مكذبا كل فريق بتصديق الآخر كالمدعى إذا
أكذب شاهده لم تقبل شهادته له (قال) رجل قال لآخر سرقت منك كذا وكذا فقال
كذبت لم تسرق منى ولكنك غصبته غصبا وإنما أردت بذكر السرقة أن تبرأ من الضمان
ففي القياس لا شئ عليه لأنه كذبه ثم ادعى عليه غصبا مبتدأ فبطل اقراره بالتكذيب ولم
يثبت ما ادعاه بغير حجة ولكنه استحسن فقال له أن يضمنه لان كلامه موصول وفي آخره
بيان ان مراده التكذيب في جهة السرقة لا في أصل المال المضمون عليه والبيان المغير صحيح إذا
كان موصولا بالكلام ثم المقر له انتدب بما صنع إلى ما ندب إليه في الشرع من ابقاء الستر على
المسلم والاحتيال لدرء العقوبة عنه فلا يكون ذلك مسقطا حقه في المال وان قال سرقت منك
كذا فقال الطالب غصبته غصبا فهو مستهلك فعليه ضمانه لأنه كما صدقه في الاقرار بملك
أصل المال له فقد صدقه في ايجاب الضمان في ذمته لأن الغصب والسرقة كل واحد منهما
سبب للضمان والأسباب مطلوبة لاحكامها لا لأعيانها فمع التصديق في الحكم لا يعتبر
التكذيب في السبب وان قال غصبتك كذا فقال سرقته منى فله أن يضمنه لأنه صدقه فيما
أقر له به وادعى زيادة جهة السرقة ولم يثبت له تلك الزيادة بدعواه فعليه ضمان القيمة والقول
في مقدار القيمة قول الضامن مع يمينه لانكاره الزيادة التي يدعيها الطالب وان قال سرقت
192

من فلان وفلان ثوبا وأحدهما غائب لم يكن للحاضران يقطعه ولكن يقضي له بنصف الثوب
إن كان قائما وبنصف قيمته إن كان مستهلكا لان التصديق من الغائب لم يعرف فإذا حضر
ربما يكذبه فيبقى نصف الثوب على ملكه فلو قطعناه لقطعناه فيما هو شريك فيه وذلك
لا يجوز وهذا بخلاف ما لو قال زنيت بفلانة وفلانة فكذبته إحداهما وصدقته الأخرى
يقام عليه الحد لان فعله بكل واحدة منهما متميز عن فعله بالأخرى وهنا إنما أقر بفعل
واحد في ثوب بينهما ولم يثبت باقراره السرقة في نصيب الغائب قبل تصديقه فلا يمكن
القضاء بالسرقة في نصيب الحاضر خاصة لان فعل السرقة في نصف الثوب شائعا لا يتحقق
منفردا عن النصف الآخر فلهذا لم يقطع فإذا تعذر استيفاء القطع ظهر حكم المال فيقضى
للحاضر بما أقر له به وذلك نصف الثوب إن كان قائما ونصف قيمته إن كان مستهلكا
فإن كانا حاضرين فقال أحدهما كذبت لم تسرقه ولكنك غصبته أو استودعنا كه
أو أعرناكه أو قال هو ثوبك لاحق لنا فيه لم يقطع في شئ من ذلك اما للشركة له في
الثوب باقرار أحدهما له بالملك أو الانتفاء فعل السرقة عن نصيب أحدهما بتكذيبه
لأنه لا يتحقق فعل السرقة في نصيب الآخر من الثوب منفردا ولكن يقضى بنصف
الآخر أو بنصف قيمته إن كان مستهلكا لما بينا أن في حق الثاني ينبنى القضاء على ما أقر له
وإن كان ذلك ببينة وأحدهما غائب فقضي للحاضر بنصف الثوب أو بنصف قيمته ثم جاء
الغائب وادعي السرقة يقضى له بمثل ذلك لان أحد الشريكين في اثبات الملك قائم مقام
صاحبه ولكن لا يقطع السارق لان القاضي حين قضى بنصف الثوب للأول أو بنصف قيمته
فقد درأ القطع عنه في نصيبه إذا؟ القاضي لا يشتغل بالضمان الا بعد درء الحد ولأنه بالضمان
ملك ذلك النصف واعتراض الملك في البعض كاعتراضه في الجميع في اسقاط الحد عنه وإن كان
الآخر حاضرا وقت الخصومة فقال الثوب وديعة أو عارية لنا عندك لم يقض له بشئ
لأنه أكذب شهوده فإنهم شهدوا بالسرقة واكذاب المدعى شاهده يبطل الشهادة في
حقه وليس للآخر أن يشاركه في تلك الخصومة لأنه أبطل حق نفسه باكذابه شهوده
وصار كما لو أبرأه عن نصيبه من الضمان وبعد الابراء لا يبقى له حق مشاركة الآخر فيما
يقبض (قال) رجلان أقرا أنهما سرقا هذا الثوب من هذا الرجل والرجل يدعى ذلك
فلما أمر الحاكم بقطعهما قال أحدهما الثوب ثوبنا لم نسرقه قال يدرأ القطع عنهما لان المعترض
193

من دعوى الملك من أحدهما كالمقترن بالسبب ألا تري انها؟ لو ادعيا جميعا الملك بعد القضاء
كان شبهة في درء الحد بمنزلة المقترن بالسبب فكذلك إذا ادعى ذلك أحدهما وهذا لان
الحد وجب عليهما في شئ واحد وقد آل الامر إلى الخصومة والاستحلاف في ذلك الشئ
ولو كان أحدهما قال سرقنا هذا الثوب من هذا الرجل وقال الآخر كذبت لم نسرقه ولكنه
لفلان قال يقطع المقر بالسرقة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف
رحمهم الله أحب إلى أن لا يقطع واحد منهما وكذلك لو قال أحدهما سرقناه وقال الآخر لم
أسرق معك ولا أعرفك ولا أعرف هذا الثوب فهو على الخلاف وقد كان أبو يوسف
رحمه الله تعالى أو لا يقول كقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ثم رجع وجه قول أبى
يوسف رحمه الله تعالى أن المقر منهما أقر بسرقة شئ واحد وقد تعذر ايجاب القطع على
واحد منهما لانكاره فصار كما لو تعذر ايجاب الحد عليه لدعواه الملك لنفسه فيكون شبهة
في درء الحد عنهما وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن المقر أقر بالفعل الموجب
للعقوبة على نفسه وعلى غيره وقد انعدم أصل الفعل في حق الآخر لتكذيبه فلا يوجب
ذلك شبهة في الفعل الثابت في حق المقر باقراره ولا في موجبه كما لو قال قتلت أنا وفلان
فلانا وقال الآخر أنا ما قتلت فالقصاص واجب على المقر وكذلك لو قال زنيت أنا وفلان بفلانة
وكذبه الآخر كان على المقر الحد بخلاف ما لو ادعى الآخر الملك فان أصل الفعل ثبت هناك
مشتركا لاتفاقهما ثم امتنع وجوب القصاص على أحدهما للشبهة فيمتنع وجوبه على الآخر
للشركة كما في المقرين بالقتل إذا زعم أحدهما أنه كان مخطئا وقد ذكر في الحدود أنه إذا أقر
أنه زنى بامرأة وكذبته انه لا حد عليه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يقام عليه الحد
فمحمد رحمه الله تعالى يسوى بين الفصلين ويقول تكذيب المكذب لا يؤثر في حق المقر
وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول هناك يقام الحد عليه وههنا لا يقام لان
فعلها في الزنا ليس من جنس فعله فان فعله إيلاج وفعلها تمكين وهي في الحقيقة محل الفعل
والمباشر هو الرجل فانتفاؤه في جانبها بتكذيبها؟ لا يمكن شبهة في الرجل وههنا الفعل من
السارقين واحد والمشاركة بينهما تتحقق فانتفاؤه عن أحدهما بإنكاره يمكن شبهة في حق
الآخر كما في القتل إذا اشترك الخاطئ مع العامد وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما أيضا
فيقول هناك لا يقام عليه الحد وهنا يقام على المقر منهما لان فعل الزنا من الرجل لا يتصور
194

بدون المحل وقد انعدم المحل بتكذيبها فأما فعل السرقة من المقر يتحقق بدون الآخر فانتفاء
الفعل في حق الآخر بإنكاره لا يمنع تقرر الفعل في حق المقر موجبا للقطع والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب قطاع الطريق)
(قال) رضي الله عنه وإذا قطع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة على قوم من المسلمين
أو من أهل الذمة الطريق فقتلوا وأخذوا المال قال يقطع الامام أيديهم اليمنى وأرجلهم
اليسرى من خلاف أو يصلبهم ان شاء وإنما شرطنا أن يكونوا قوما لان قطاع الطريق
محاربون بالنص والمحاربة عادة من قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على
غيرهم بقوتهم ولان السبب هنا قطع الطريق ولا ينقطع الطريق الا بقوم لهم منعة وشرط
أن يكونوا من المسلمين أو من أهل الذمة ليكونوا من أهل دارنا على التأبيد فإنهم إذا
كانوا من أهل الحرب مستأمنين في دارنا ففي إقامة الحد عليهم خلاف وقد بيناه وشرط
ان يقطعوا الطريق على قوم من المسلمين أو من أهل الذمة لتكون العصمة المؤبدة ثابتة في
مالهم فإنهم إذا قطعوا الطريق على المستأمنين لا يقام عليهم الحد لانعدام العصمة المؤبدة في
مالهم وقد بينا ذلك في السرقة الصغرى فهو مثله في السرقة الكبرى ثم قد بينا في أول
الكتاب ان حد قطع الطريق على الترتيب بحسب جنايتهم عندنا وهو قول ابن عباس
وإبراهيم رضي الله عنهما وعند مالك رحمه الله تعالى هو على التخيير وهو قول سعيد بن
المسيب رحمه الله تعالى ولم نأخذ بذلك لان الذي أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا
قدهم بالمعصية والقتل والقطع أغلظ العقوبات فلا يجوز اقامته على من هم بالمعصية ولم
يباشر والقطع جزاء أخذ المال كما في السرقة الصغرى الا ان ذاك دخله نوع تخفيف من
حيث أنه يخفى فعله وهذا يغلظ بالمجاهرة ولهذا وجب قطع عضوين منه من أعضائه ثم من هم
بالسرقة الصغرى ولم يأخذ المال لا يقام عليه القطع فكذلك من هم بأخذ المال ههنا ولم
يأخذ فان قتلوا وأخذوا المال فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الامام فيهم بالخيار ان شاء قطع
أيديهم وأرجلهم ثم قتلهم وان شاء قتلهم من غير قطع وان شاء صلبهم وعند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى الامام يصلبهم أخذا فيه بقول ابن عباس رضي الله عنهما ولأنه اجتمع عليه
195

العقوبة في النفس وما دونه حقا لله تعالى فيكون الحكم فيه أن يدخل ما دون النفس في
النفس كما إذا اجتمع حد السرقة والشرب والرجم وهذا لان المقصود الزجر وذلك يتم
باستيفاء النفس فلا فائدة بالاشتغال بما دونه ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان أحدهما ان
مبنى هذا الحد على التغليظ لغلظ جريمتهم والقطع ثم القتل أقرب إلى التغليظ فكان للامام
أن يختار ذلك لكونه أقرب إلى ما لأجله شرع هذا الحد والثاني ان السبب الموجب
للقطع هو أخذ المال وقد وجد منهم والسبب الموجب للقتل وهو قتل النفس قد وجد منهم
وإنما يثبت الحكم بثبوت السبب والكل حد واحد ولا تداخل في الحد الواحد كالجلدات
في الزنا إنما التداخل في الحدود (فان قيل) هذا فاسد لان للامام ان يقتلهم ويدع
القطع (قلنا) لا بطريق التداخل بل لأنه ليس عليه مراعاة الترتيب في أجزاء حد واحد
فكان له أن يبدأ بالقتل لذلك ثم إذا قتله فلا فائدة في اشتغاله بالقطع بعده فلا يشتغل
كالزاني إذا ضرب خمسين جلدة فمات فإنه يترك ما بقي لأنه لا فائدة في اقامته ثم في ظاهر
الرواية هو مخير في الصلب ان شاء فعله وان شاء لم يفعله واكتفي بالقتل وعن أبي يوسف
رحمه الله قال ليس للامام أن يدع الصلب لان المقصود به الاشهار ليعتبر غيره فينزجر
فلا يتركه وجه ظاهر الرواية أن معنى الزجر يتم بالقتل ولم ينقل في شئ من الآثار أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلب أحدا ألا ترى أنه لم يفعله بالعرنيين مع المبالغة والاستقصاء
في عقوبتهم حتى سمل أعينهم (قال) وإذا أراد أن يصلب ففي ظاهر الرواية يصلبهم
أحياء ثم يطعن تحت ثندؤتهم؟ الأيسر ليموتوا فان المقصود الزجر وذلك أنما يحصل إذا صلبهم
أحياء لا بعد موتهم وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه لا يصلبهم أحياء لأنه مثلة ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكنه يقتلهم فيه يتم معنى
الزجر والعقوبة في قتلهم ثم يصلبهم بعد ذلك للاشتهار حتى يعتبر بهم غيرهم وفى الصحيح
من المذهب يتركهم على الخشب ثلاثة أيام ثم يخلى بينهم وبين أهاليهم لأنه لو تركهم كذلك
تغيروا وتأذى بهم المارة فيخلى بينهم وبين أهاليهم بعد ثلاثة أيام لينزلوهم فيدفنوهم (قال)
وإذا وجد منهم القتل وأخذ المال فلا معتبر بالجراحات في تعلق الأرش والقصاص بها لأنهم
استوجبوا أتم ما يكون من الحد فيسقط اعتبار ما دون ذلك من الجراحات وعفو الأولياء
في ذلك باطل لان هذا حد يقام لحق الله تعالى واسقاط الأولياء إنما يعمل فيما هو حقهم
196

ويكون استيفاؤه إليهم أو يستوفي بطلبهم فاما ما يستوفيه الامام لله تعالى فلا عفو فيه للأولياء
ولا للامام أيضا لأنه ليس بصاحب الحق بل هو نائب في الاستيفاء فهو في العفو كغيره
والأصل فيه ما روينا لا ينبغي لوالى حد ثبت عنده حق الله تعالى الا أقامه ثم المذهب
عندنا أن الواجب عليهم الحد وعند الشافعي رحمه الله تعالى القتل الواجب عليهم القصاص
متحم لا يعمل فيه عفو الولي لان هذا قتل لا يستحق الا بالقتل والقتل المستحق بالقتل
يكون قصاصا إلا أنه تأكد بانضمام حق الشرع إليه فلا يعمل فيه الاسقاط كالعدة ولكنا
نقول القطع والقتل المستحق بالقتل في قطع الطريق كله حد واحد ثم القطع حق الله تعالى
فكذلك القتل ألا ترى أن الله تعالى سماه جزاء والجزاء المطلق ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة
الفعل فاما القصاص واجب بطريق المساواة وفيه معنى المقابلة بالمحل والدليل عليه أن الله تعالى
جعل سبب هذا القتل ما قال في قوله تعالى يحاربون الله ورسوله وما يجب بمثل هذا السبب
يكون لله تعالى وسماه خزيا بقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا فعرفنا أنه حد واحد لله
تعالى (قال) فإن كان فيهم عبد أو امرأة فالحكم فيه كالحكم في الرجال الأحرار أما العبد
فلانه مخاطب محارب وهو في السرقة الصغرى يستوى بالحر فكذلك في الكبرى والمرأة
كذلك في ظاهر الرواية وهو اختيار الطحاوي رحمه الله فإنه قال في كتابه الرجال والنساء
في حق قطاع الطريق سواء كما يستويان في سائر الحدود وهذا لان الواجب قتل وقطع وفي
القطع الواجب جزاء الرجل والمرأة سواء كالسرقة وفي القتل الواجب جزاء الرجل المرأة
سواء كالرجم وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن حد قطع الطريق لا يجب على النساء لان
السبب هو المحاربة وانقطاع الطريق بهم والمرأة بأصل الخلقة ليست بمحاربة كالصبي ألا ترى
أن في استحقاق ما يستحق بالمحاربة وهو السهم من الغنيمة لا يسوى بين الرجل والمرأة
فكذلك في العقوبة المستحقة بالمحاربة ولكن يدخل على هذا العبد فإنه لا يساوي الحر في
استحقاق السهم ثم يساويه في حق هذا الحد وفي الصبيان والمجانين لانعدام الأهلية للعقوبة
بعدم التكليف لا يثبت الحكم وذلك لا يوجد في حق النساء وذكر هشام في نوادره عن أبي
يوسف رحمهما الله تعالى أنه إذا قطع قوم من الرجال الطريق وفيهم امرأة فباشرت المرأة
القتل وأخذت المال دون الرجال فإنه يقام الحد عليهم ولا يقام عليها وقال محمد رحمه الله تعالى
يقام عليها ولا يقام عليهم وذكر ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه يدرأ
197

عنهم جميعا لكون المرأة فيهم وجعل المرأة فيهم كالصبي ولو كان معهم صبي أو مجنون لا يقام
على واحد منهم فكذلك المرأة ومحمد رحمه الله تعالى يقول الردء تبع للمباشر في المحاربة والرجال
لا يصلحون تبعا للنساء في التناصر والمحاربة وإنما يقام عليها جزاء المباشرة ولا يقام على الرجال
وأبو يوسف رحمه الله يقول إنما يتأتى هذا الفعل منها بقوتهم فان بنيتها لا تصلح للمحاربة
بدون الرجال فكأنهم فعلوا ذلك فيقام الحد عليهم لا عليها لان المانع من الإقامة عليها معنى
فيها لا في فعلها وهو ان بنيتها لا تصلح للمحاربة بخلاف الصبي فان المانع معنى في فعله وهو ان
فعله لا يصح موجبا للعقوبة وقد تحقق الاشتراك في الفعل بينهم وبينه فلا يقام الحد على
واحد منهم (قال) والمباشر وغير المباشر في حد قطاع الطريق سواء عندنا وعند الشافعي
رحمه الله تعالى لا يقام الحد الا على من باشر القتل وأحد المال لأنه جزاء الفعل فلا يجب
الأعلى من باشر الفعل كحد الزنا ألا ترى أنهم لو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا لم يقم الحد على
واحد منهم ففي حق الذين لم يأخذوا يجعل كأنهم جميعا لم يأخذوا (وحجتنا) فيه أن هذا حكم
متعلق بالمحاربة فيستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق السهم في الغنيمة وتأثيره أنهم جميعا
مباشرون السبب وهو المحاربة وقطع الطريق هكذا يكون في العادة لأنهم لو اشتغلوا جميعا
بالقتال خفي عليهم طريق الإصابة لكثرة الزحمة ولا يستقرون ان زلت قدمهم فانهزموا
فإذا كان البعض ردءا لهم التجؤوا إليهم وتنكسر شوكة الخصوم برؤيتهم وكذلك في العادة
إنما يتولى أخذ المال الا صاغر منهم والأكابر يترفعون عن ذلك وانقطاع الطريق يكون بهم
جميعا فعرفنا أنهم مباشرون للسبب فأما أخذ المال والقتل شرط فيه وإذا صار الشرط موجودا
بقوتهم وباشروا السبب بأجمعهم قلنا يقام الحد عليهم (قال) وان أصابوا المال ولم يقتلوا قطعت
أيديهم وأرجلهم من خلاف ولم يقتلوا لأنهم باشروا أخذ المال فيقام عليهم جزاؤه وقد بينا
ان القتل شرط لوجوب القطع عليهم والحكم بعد وجود السبب لا يثبت قبل وجود الشرط
(قال) فإن لم يوجدوا؟ طلبوا إلى أن يوجدوا أو ينقطع إذا هم ويأمن المسافرون منهم في طرقهم
وذلك نفيهم من الأرض في تأويل بعضهم فان قتلوا ولم يصيبوا مالا قتلوا ولم تقطع أيديهم
وأرجلهم لان جزاء أخذ المال لا يتم الا بأخذ المال (قال) فان قتلوا وأخذوا المال ثم تابوا
فردوا المال إلى أهله ثم أتى بهم الامام لم يقطعهم ولم يقتلهم لقوله تعالى إلا الذين تابوا من
قبل أن تقدروا عليهم وقد بينا ان تمام توبته في رد المال لينقطع به خصومة صاحب المال
198

فان الامام لا يقيم الحد الا بخصومة صاحب المال في ماله وقد انقطعت خصومته بوصول
المال إليه قبل ظهور الجريمة عند الامام فيسقط الحد ولكنه يدفعهم إلى أولياء القتلى فيقتلونهم
أو يصالحونهم وهذا لان في التوبة إنما يسقط ما كان حقا لله تعالى فأما ما كان حقا للعبد
فلأوليائه واليه أشار الله تعالى في قوله ان الله غفور رحيم وقد كان السبب الموجب للقتل
متقررا ممن باشر القتل منهم وهو تعمده قتل نفس بغير حق إلا أن استحقاق القتل عليهم
حدا كان مانعا من ظهور القود فإذا سقط ذلك زال المانع فظهر حكم القود والقود إنما
يجب على من باشر القتل دون الردء (قال) وللولي الخيار ان شاء عفي وان شاء صالح على
مال وان شاء استوفى القتل لقوله صلى الله عليه وسلم من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين
ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية وقال صلى الله عليه وسلم لولى القتل أتعفو
فقال لا فقال أتأخذ الدية فقال لا فقال أتقتل فقال نعم فعرفنا أنه يتخير بين هذه الأشياء
ومن باشر منهم الجراحات ففيما يمكن اعتبار المساواة فيها يجب القصاص وفيما لا يمكن
يجب الأرش كما لو كانت الجراحات منهم من غير قطع الطريق وهذا لان سقوط
اعتبار حكم الجراحات بوجود إقامة الحد فإذا زال ذلك ظهر حكم الجراحات كما إذا
استهلك السارق المال سقط حكم التضمين لوجود إقامة القطع فإذا سقط القطع ظهر
حكم التضمين (قال) وإذا قطعوا الطريق وأخافوا السبيل ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا
مالا حبسوا حتى يتوبوا بعدما يعزرون وفى الكتاب يقول عوقبوا فكأنه كره اطلاق
لفظ التعزير على ما يقام عليهم قبل التوبة لما في التعزير من معنى التطهير وهو المراد
من قوله تعالى أو ينفوا من الأرض يعنى يحبسون وقد بينا ذلك وهذا أولى مما قاله الشافعي
رحمه الله تعالى أن المراد الطلب ليهربوا من كل موضع لان العقوبة بالحبس مشروع فالأخذ
بما يوجد له نظير في الشرع أولى من الاخذ بما لا نظير له وفى هذا الموضع يطالبون
بموجب الجراحات التي كانت منهم من قصاص أو أرش لأنه لا يقام عليهم الحد وسقوط
اعتبار حكم الجراحات لوجود إقامة الحد فإذا انعدم ذلك وجب اعتبار الجراحات في حق
العبد فان تابوا وفيهم عبد قد قطع يد حر دفعه مولاه أو فداه كما لو فعله في غير قطع
الطريق وهذا لأنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فيبقي؟ حكم الدفع أو
الفداء فإن كانت فيهم امرأة فعلت ذلك فعليها دية اليد في مالها لأنه لا قصاص بين الرجال
199

والنساء في الأطراف فعليها الدية والفعل منها عمدا لا تعقله العاقلة فكان في مالها (قال) وإذا أخذهم
الامام قبل أن يتوبوا وقد أصابوا المال فإن كان يصيب كل واحد منهم من المال المصاب
عشرة دراهم فصاعدا فعليهم الحد عندنا وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى الشرط أن
يكون نصيب كل واحد منهم عشرين درهما فصاعدا لان التقدير بالعشرة في موضع يكون
المستحق بأخذ المال قطع عضو واحد وههنا المستحق قطع عضوين ولا يقطع عضوان في
السرقة الا باعتبار عشرين درهما ولكنا نقول هذا حد هو جزاء على أخذ المال فيستدعي
مالا خطيرا وقد بينا أن العشرة مال خطير فيستحق به إقامة الحد كما يستحق به القطع بالسرقة
ثم تغلظ الحد ههنا باعتبار تغلظ فعلهم باعتبار المحاربة وقطع الطريق لا باعتبار كثرة المال
المأخوذ ففي النصاب هذا الحد وحد السرقة سواء وان كأن لا يصيب كل واحد منهم عشرة
دراهم درئ الحد عنهم الا على قول مالك رحمه الله وهكذا مذهبه في الصغرى فإنه يعتبر أن
يكون المأخوذ في نفسه نصابا كاملا سواء أخذه الواحد أو الجماعة ولكنا نقول إقامة الحد
على كل واحد منهم باعتبار ما يصيبه من المال فلا بد من أن يكون خطيرا في نفسه وما دون
النصاب حقير تافه وإذا كان نصيب كل واحد منهم تافها لا يقام عليهم الحد كما لو كان
المأخوذ في نفسه نافها ثم يضمنون المال إذا درئ الحد عنهم والامر في القصاص في النفس
وغيرها إلى الأولياء ان شاؤوا استوفوا وان شاؤوا عفوا وقد طعن عيسى رحمه الله تعالى في
هذه المسألة فقال يقتلهم الامام حدا لأنهم لو قتلوا ولم يأخذوا شيئا من المال قتلهم الامام
حدا لا قصاصا والردء والمباشر فيه سواء فكذلك إذا أخذوا مع القتل مالا يبلغ نصيب كل
واحد منهم نصابا اما لان ما دون النصاب لما لم يتعلق به حكم فوجوده كعدمه أو لأنه
تتغلظ جنايتهم بأخذ شئ من المال وما يغلظ الجناية لا يكون مسقطا للحد ولكن ما ذكر
في الكتاب أصح لان وجوب الحد عليهم باعتبار ما هو المقصود والظاهر أنهم يقصدون
بقطع الطريق أخذ المال وإنما يقدمون على القتل ليتمكنوا من أخذ المال فإذا لم يأخذوا المال
عرفنا أن مقصودهم لم يكن المال وإنما كان القتل فأوجبنا عليهم الحد قتلا بالقتل الموجود
منهم وان أخذوا المال عرفنا أن مقصودهم كان أخذ المال وان اقدامهم على القتل كان للتمكن
من أخذ المال فباعتبار ما هو المقصود لا يمكن ايجاب الحد عليهم إذا كان ما يصيب كل
واحد منهم ما دون النصاب فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى يدرأ الحد عنهم ويبقى حكم القصاص
200

(قال) وإذا قطعوا الطريق في المصر أو ما بين الكوفة والحيرة أو ما بين قريتين على
قوم مسافرين لم يلزمهم حد قطاع الطريق وأخذوا برد المال وأديروا وحبسوا والامر في
قتل من قتل منهم أو جرح إلى الأولياء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يقام عليهم حد
قطاع الطريق وهو قول الشافعي رحمه الله لان السبب قد تقرر وهو أخذ المال والقتل
على وجه المحاربة والمجاهرة وجريمتهم بمباشرة ذلك في المصر أغلظ من جريمتهم بمباشرة
ذلك في المفازة لان تغلظ الجريمة باعتبار المجاهرة والاعتماد على مالهم من المنعة وهذا في
المصر أظهر واعتبر هذا الحد بحد السرقة فإنه لا فرق هناك بين مباشرة السبب في المصر
وفى المفازة فهذا مثله (وحجتنا) فيه أن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه وهو قطع
الطريق وإنما ينقطع بفعلهم ذلك في المفازة لا في جوف المصر ولا فيما بين القري فالناس
لا يمتنعون من التطرق في ذلك الموضع بعد فعلهم وبدون السبب لا يثبت الحكم ولان السبب
محاربة الله ورسوله وذلك أنما يتحقق في المفازة لان المسافر في المفازة لا يلحقه الغوث عادة
وإنما يسير في حفظ الله تعالى متعمدا على ذلك فمن يتعرض له يكون محاربا لله تعالى فاما في
المصر وفيما بين القرى يلحقه الغوث من السلطان والناس عادة وهو يعتمد ذلك بالتطرق في
هذه المواضع فيتمكن باعتباره معنى النقصان في فعل من يتعرض له من حيث محاربة الله
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقام عليه الحد وهو نظير المختلس من السارق في أنه
لا يقام عليه حد السرقة لأنه بقدر ما جاهر يتمكن النقصان في فعل السرقة وقد قال بعض
المتأخرين ان أبا حنيفة رحمه الله تعالى أجاب بذلك بناء على عادة أهل زمانه فان الناس في
المصر وفيما بين القرى كانوا يحملون السلاح مع أنفسهم فثبت مع ذلك تمكن دفع القاصد
من قطع الطريق وأخذ المال والحكم لا ينبني على نادر وكذلك فيما بين الحيرة والكوفة كان
يندر ذلك لكثرة العمران واتصال عمران أحد الموضعين بالموضع الآخر فاما اليوم فقد ترك
الناس هذه العادة وهي حمل السلاح في الأمصار فيتحقق قطع الطريق في الأمصار وفيما بين
القرى موجبا للحد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن قصده في جوف المصر أو بين
القرى بالسلاح يقام عليه حد قطاع الطريق وان قصده بالحجر والخشب فإن كان ذلك
بالنهار لا يقام عليه حد قطاع الطريق وإن كان بالليل يقام عليه ذلك لان السلاح لا يلبث
والظاهر أنه يأتي عليه قبل أن يلحقه الغوث فاما الخشب والحجر لا يكون مثل السلاح في
201

ذلك والظاهر أن الغوث يلحقه بالنهار في المصر قبل أن يأتي عليه ذلك فأما في الليل الغوث
يبطئ فإلى أن ينتبه الناس ويخرجوا قد أتى عليه فلهذا ثبت في حقه حكم قطع الطريق
(قال) وان بيتوا على مسافرين في منازلهم في غير مصر ولا في مدينة فكابروهم وأخذوا
المال فالحكم فيهم كالحكم في الذين قطعوا الطريق لان السبب قد تحقق منهم وهو المحاربة
وقطع الطريق إذ لا فرق في ذلك بين ان يفعلوا في مشيهم أو في حال نزولهم لأنهم في
حفظ الله تعالى في الحالين فإنما يتمكن هؤلاء منهم لمنعتهم وشوكتهم في الحالين فان نزل
المسافرون منزلا في قرية ففعلوا ذلك بهم لم يلزمهم حد قطاع الطريق لان الذين نزلوا القرية بمنزله
أهل القرية في أن بعضهم يغيث البعض فلا يتحقق قطع الطريق بما فعل بهم وكذلك أن أغار بعض
النازلين في القرية على البعض فقتلوا وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذي فعل ذلك في
جوف المصر قال نزل رجل في بيت أوفى فسطاط فأغلق عليه بابه وضم إليه متاعه فجاء رجل
وسرق من فسطاطه أو بيته شيئا فالحكم فيه ما هو الحكم في السارق في المصر (قال)
وما قتل به قطاع الطريق من حديد أو حجر أو عصى أو سوط فهذا كله سواء لان هذا
حكم ينبنى على المحاربة فيكون بمنزلة استحقاق السهم بالغنيمة وثبوت صفة الشهادة فلا
يفترق الحال في ذلك بين القتل بالسلاح وغيره فهذا مثله بخلاف القصاص فإنه يعتمد
العمدية والمماثلة وذلك يختلف بالسلاح وغيره (قال) وإذا أخذ قاطع الطريق ويده
اليسرى شلاء أو مقطوعة لم يقطع منه شئ وقتل أو صلب لما بينا في السرقة الصغرى أنه
لا يستوفى القطع على وجه يؤدى إلى تفويت منفعة الجنس وقد طعن عيسى في هذا الفصل
وقال اعتبار ذلك المعني في السرقة للتحرز عن الاستهلاك الحكمي أو شبهة الاستهلاك ولا
معني لذلك ههنا فان اتلافه حقيقة قد صار مستحقا لأنه يقتل ويصلب بعد القطع فكيف
يمنع استيفاء القطع لشلل في يده اليسرى ولكنا نقول مع هذا القطع جزاء أخذ المال فلا
يستوفى على وجه يكون متلفا له حكما ألا تري أنه لم يشرع قطع عضوين منه من شق واحد
للتحرز عن الاتلاف الحكمي وإنما يشرع قطع اليد والرجل من خلاف لكيلا يؤدى
إلى الاتلاف حكما وهذا لأنه لا يستحق اتلافه مرتين فإذا كانت تفويت منفعة الجنس
اتلافا ثم قتله كان اتلافا مرتين وان كانت اليمنى منه مقطوعة قطعت الرجل اليسرى وقتل
أو صلب وإن كان أشل اليمني قطعها مع الرجل اليسرى وقد بينا نظيره في السرقة فكذلك
202

في قطع الطريق (قال) وإن كان في المقطوع عليهم الطريق ذو رحم محرم من القطاع أو
شريك له مفاوض لم يلزمهم حكم القطع لأنه امتنع وجوب القطع على ذي الرحم المحرم
للشبهة فيمتنع وجوبه على الباقين للشركة وقد بينا ذلك في السرقة فكذلك في قطع الطريق
وكان الشيخ أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول تأويل المسألة إذا كان في المال المأخوذ
لذي الرحم المحرم شركة للجميع وللشريك المفاوض لان مال ذي الرحم المحرم في حكم
العقوبة كما له فشركته بمنزلة شركة أحد قطاع الطريق في المال المأخوذ فأما إذا أخذوا مع
ذلك مالا كثيرا لا شركة فيه لذي الرحم المحرم منه يلزمهم القطاع باعتبار ذلك المال كما لو
سرقوا من حرز ذي الرحم المحرم من أحدهم مالا ومن حرز أجنبي آخر مالا بخلاف ما إذا
سرقوا من حرز ذي الرحم المحرم من أحدهم ماله ومال غيره لان الشبهة هناك في
الحرز ولا معتبر بالحرز في قطع الطريق فكل واحد حافظ لماله محرز له والأصح أن الجواب
في الكل واحد لان مال جميع القافلة في حق قطاع الطريق كشئ واحد فإنهم قصدوا
أخذ ذلك كله بفعل واحد فإذا تمكنت الشبهة في بعض ذلك المال في حقهم فقد تمكنت
الشبهة في جميعه بخلاف السرقة من حرز ثم من حرز لان كل واحد من الفعلين هناك
منفصل عن الآخر حقيقة وحكما ووزان هذا من ذلك أن لو قطعوا الطريق على قوم فيهم
ذو الرحم المحرم من أحدهم ثم قطعوا الطريق على قوم أجانب وأخذوا المال وهذا في حكم
القطع دون القتل حتى لو قتلوا أحدهم يقتلون لان المحرم كالأجنبي في القتل (قال) وإذا
شهد أحد الشاهدين عليهم بمعاينة قطع الطريق وشهد الآخر على اقرارهم بالقطع لم تجز
الشهادة لاختلاف المشهود به لان الفعل غير القول وان قال الشاهدان قطع الطريق علينا
وعلى أصحابنا هو وأصحابه وأخذوا المال منا لم يجز شهادتهما لأنهما يشهدان لأنفسهما وشهادة
المرء لنفسه دعوى وكذلك أن شهدا أنه قطع الطريق على والدهما أو ولدهما لم تجز شهادتهما
لأنهما يشهدان لأبيهما وهذا لان الحد وإن كان استيفاؤه إلى الامام فلا بد من خصومة
صاحب المال وفيما كان الخصم أب الشاهد أو ابن الشاهد لا شهادة له ولان شهادته لأبيه
كشهادته لنفسه وان شهدوا أنه قطع الطريق على رجل من عرض الناس له ولى يعرف أوليس
له ولى يعرف لم يقم الامام عليهم الحد الا بمحضر من الخصم لما بينا ان السبب لا يثبت بالشهادة
عنده الا إذا ترتبت على خصومة الخصم (قال) فان قطعوا الطريق في دار الحرب على تجار
203

مستأمنين أو في دار الاسلام في موضع قد غلب عليه عسكر أهل البغي ثم أتى بهم إلى
الامام لم يمض عليهم الحد لأنهم باشروا السبب حين لم يكونوا تحت يد الامام وفى موضع
لا يجرى فيه حكمة وقد بينا ان ذلك مانع من وجوب الحد حقا لله تعالى لانعدام المستوفى
فان استيفاء ذلك إلى الامام ولا يتمكن من الاستيفاء إذا كانوا في موضع لا تصل إليهم يده
(قال) وإذا رفع قوم من قطاع الطريق إلى القاضي فرأى تضمينهم المال وسلمهم إلى أولياء
القود فصالحوهم علي الديات ثم رفعوا بعد زمان إلى قاض اخر لم يقم عليهم الحد اما لتقادم
العهد أو لانعدام الخصم وقد سقطت خصومتهم بما وصل إليهم أو لقضاء الأول فيهم بما قضى
فان ذلك نافذ لحصوله في موضع الاجتهاد ومن العلماء من يقول يتقرر الضمان عليهم ووجوب
القود بالقتل وإن كان متحتما وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ (قال) وإذا قضى القاضي
على قطاع الطريق بقطع الأيدي والأرجل والقتل وحبسوا لذلك فذهب رجل بغير إذن الإمام
فقتل منهم رجلا لم يكن عليه شئ لان الامام أحل دمهم حين قضى عليهم بالقتل
ومن قتل حلال الدم لا شئ عليه كمن قتل مرتدا أو مقضيا عليه بالرجم وكذلك لو قطع يده
لأنه لما سقطت حرمة نفسه اقتضى ذلك سقوط حرمة أطرافه ضرورة ويتم بقية الحد لان
ما فعله ذلك الرجل من إقامة الحد وان افتات فيه على رأى الامام ففعله في ذلك كفعل
الامام لأنه رجل من المسلمين والامام بمنزلة جماعة من المسلمين في استيفاء هذا الحد وان
أخطأ الامام حين قدم إليه فقطع يده اليسرى فلا شئ عليه لان دمه حلال فإنه يقتله
بعد القطع فلا عصمة في طرفه ولأنه مجتهد فيما صنع وقد بينا نظيره في الحداد (قال)
وإذا أقر القاطع بقطع الطريق مرة واحدة أخذ بالحد الأعلى قول أبى يوسف رحمه الله
تعالى كما في السرقة وان أنكره بعد ذلك درئ عنه الحد لرجوعه عن الاقرار وأخذ بالمال
والقود لان رجوعه عن الاقرار فيما هو حق العبد باطل (قال) وإذا قطع الطريق وأخذ
المال ثم ترك ذلك وأقام في أهله زمانا لم يقم الامام عليه الحد استحسانا وفي القياس يقام
عليه لان الحد لزمه بارتكاب سببه ولكن استحسن لتوبته وتحوله عن تلك الحالة قبل
أن يقدر عليه والأصل فيه ما روى أن الحارث بن زيد قطع الطريق ثم ترك ذلك وتاب
فكتب علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه إلى؟ عامله بالبصرة أن الحارث بن زيد
كان من قطاع الطريق؟ وقد ترك وتحول عنه فلا تعرض له الا بخير (قال) وإذا قطعوا
204

الطريق على قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الاسلام لم يلزمهم الحد لما بينا أن
السبب المبيح في مال المستأمن قائم وهو كون مالكه حربيا وان تأخر ذلك إلى رجوعه إلى
دار الحرب ولكنهم يضمنون المال ودية القتلى لبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنا
من الرجوع إلى دار الحرب وهذا مسقط للعقوبة ولكنه غير مانع من وجوب الضمان الذي
يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال ولكن يوجعون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع
الطريق كما إذا لم يصيبوا مالا ولا نفسا (قال) وإذا قطعوا الطريق على قافلة عظيمة فيها
مسلمون ومستأمنون أقيم عليهم الحد إلا أن يكون القتل وأخذ المال وقع على أهل الحرب
خاصة فحينئذ لا يجب الحد كما لو لم يكن معهم غيرهم فأما إذا وقع القتل وأخذ المال على المسلمين
وأهل الحرب يقام عليهم الحد كما لو لم يكن أهل الحرب معهم وهذا بخلاف ما إذا كان في
القافلة ذو رحم محرم من أحدهم لما بينا أن مال ذي الرحم في حقه في حكم الحد كماله فيمكن
ذلك شبهة في فعلهم فأما مال المستأمنين ليس كماله وإنما لم يكن أخذ مال المستأمنين موجبا
للعقوبة عليه لبقاء شبهة الإباحة في ماله وذلك غير موجود في حق المسلمين وأهل الذمة
فيقام عليهم الحد باعتبار نفوس المسلمين ومالهم ويجعل كأنهم لم يتعرضوا للمستأمنين بشئ
(قال) وإذا حرم قاطع الطريق حين يأتي به الامام لم يدرأ عنه الحد بذلك لان احرامه
لو اقترن بالسبب لم يمنع وجوب الحد عليه فكذلك إذا اعترض وكذلك لو كان ذميا فأسلم
وهذا الحد معتبر بسائر الحدود حكما وكما أن احرامه واسلامه لا يمنع إقامة سائر الحدود
فكذلك هذا الحد (قال) وإذا قتله رجل في حبس الامام قبل أن يثبت عليه شئ ثم
قامت البينة بما صنع فعلى قاتله القود لان العصمة والتقوم لا يرتفع بمجرد التهمة ما لم يقض
القاضي بحل دمه فإنما قتل نفسا محقونة فعليه القود ثم القاضي لا يقضي عليه بحل دمه بعد
ما قتل لفوات المحل فوجود هذه البينة كعدمها إلا أن يكون القاتل هو ولي المقتول الذي
قتله هذا في قطع الطريق فحينئذ لا يلزمه شئ لأنه استوفى حق نفسه على ما بينا ان السبب
الموجب للقود قد تقرر وإنما يمتنع ظهوره إذا ظهر استحقاق نفسه حدا ولم يظهر ذلك قبل
إقامة البينة عليه فكان الولي مستوفيا حقه فلا يلزمه شئ والله أعلم
* * * تم الجزء التاسع
205