الكتاب: بدائع الصنائع
المؤلف: أبو بكر الكاشاني
الجزء: ٧
الوفاة: ٥٨٧
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٩ - ١٩٨٩ م
المطبعة:
الناشر: المكتبة الحبيبية - باكستان
ردمك:
ملاحظات:

الجزء السابع من
كتاب
بدائع الصنائع
في
ترتيب الشرائع
تأليف
الامام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي
الملقب بملك العلماء المتوفى سنة 587 هجرية
* (الطبعة الأولى) *
1409 ه‍ - 1989 م‍
الناشر
المكتبة الحبيبية
كانسى رود حاجى غيبي چوك كوئته
باكستان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
* (كتاب آداب القاضي) *
الكلام في هذا الكتاب في مواضع في بيان فرضية نصب القاضي وفي بيان من يصلح للقضاء وفي بيان من يفترض
عليه قبول تقليد القضاء وفي بيان شرائط جواز القضاء وفي بيان آداب القضاء وفي بيان ما ينفذ من القضايا وما ينقض
منها إذا رفع إلى قاض آخر وفي بيان ما يحله القاضي وما لا يحله وفي بيان حكم خطأ القاضي في القضاء وفي بيان ما يخرج
به القاضي عن القضاء (أما) الأول فنصب القاضي فرض لأنه ينصب لإقامة أمر مفروض وهو القضاء قال الله
سبحانه وتعالى يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق وقال تبارك وتعالى لنبينا المكرم عليه
أفضل الصلاة والسلام فاحكم بينهم بما أنزل الله والقضاء هو الحكم بين الناس بالحق والحكم بما أنزل الله عز وجل
فكان نصب القاضي لإقامة الفرض فكان فرضا ضرورة ولان نصب الإمام الأعظم فرض بلا خلاف بين أهل
الحق ولا عبرة بخلاف بعض القدرية لاجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك ولمساس الحاجة إليه لتقيد الأحكام
وانصاف المظلوم من الظالم وقطع المنازعات التي هي مادة الفساد وغير ذلك من المصالح التي لا تقوم الا بامام لما علم
في أصول الكلام ومعلوم انه لا يمكنه القيام بما نصب له بنفسه فيحتاج إلى نائب يقوم مقامه في ذلك وهو القاضي
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى الآفاق قضاة فبعث سيدنا معاذا رضي الله عنه إلى اليمن
وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة فكان نصب القاضي من ضرورات نصب الإمام فكان فرضا وقد سماه محمد
فريضة محكمة لأنه لا يحتمل النسخ لكونه من الأحكام التي عرف وجوبها بالعقل والحكم العقلي لا يحتمل الانتساخ
والله تعالى أعلم
2

* (فصل) * وأما بيان من يصلح للقضاء فنقول الصلاحية للقضاء لها شرائط (منها) العقل (ومنها) البلوغ
(ومنها) الاسلام (ومنها) الحرية (ومنها) البصر (ومنها) النطق (ومنها) السلامة عن حد القذف لما قلنا في
الشهادة فلا يجوز تقليد المجنون والصبي والكافر والعبد والأعمى والأخرس والمحدود في القذف لان القضاء من باب
الولاية بل هو أعظم الولايات وهؤلاء ليست لهم أهلية أدنى الولايات وهي الشهادة فلان لا يكون لهم أهلية أعلاها
أولى وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة الا أنها لا تقضى
بالحدود والقصاص لأنه لا شهادة لها في ذلك وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة (وأما) العلم بالحلال والحرام
وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد عندنا ليس بشرط الجواز بل شرط الندب والاستحباب وعند أصحاب
الحديث كونه عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك شرط جواز التقليد كما قالوا في
الامام الأعظم وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الامام الأعظم لأنه يمكنه أن يقضى بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى
غيره من العلماء فكذا في القاضي لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام لان الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما
يصلح بل يقضى بالباطل من حيث لا يشعر به وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة
قاض في الجنة وقاضيان في النار رجل علم علما فقضى بما علم فهو في الجنة ورجل علم علما فقضى بغير ما علم فهو في النار
ورجل جهل فقضى بالجهل فهو في النار الا أنه لو قلد جاز عندنا لأنه يقدر على القضاء بالحق بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء
فكان تقليده جائزا في نفسه فاسدا لمعنى في غيره والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه
التي لم يجاوز فيها حد الشرع وهو كالبيع الفاسد انه مثل الجائز عندنا في الحكم كذا هذا وكذا العدالة عندنا
ليست بشرط لجواز التقليد لكنها شرط الكمال فيجوز تقليد الفاسق وتنفذ قضاياه إذا لم يجاوز فيها حد الشرع وعند
الشافعي رحمه الله شرط الجواز فلا يصلح الفاسق قاضيا عنده بناء على أن الفاسق ليس من أهل الشهادة عنده فلا
يكون من أهل القضاء وعندنا هو من أهل الشهادة فيكون من أهل القضاء لكن لا ينبغي أن يقلد الفاسق لان القضاء
أمانة عظيمة وهي أمانة الأموال والابضاع والنفوس فلا يقوم بوفائها الا من كمل ورعه وتم تقواه الا أنه مع هذا لو قلد
جاز التقليد في نفسه وصار قاضيا لان الفساد لمعنى في غيره فلا يمنع جواز تقليده القضاء في نفسه لما مر (وأما) ترك
الطلب فليس بشرط لجواز التقليد بالاجماع فيجوز تقليد الطالب بلا خلاف لأنه يقدر على القضاء بالحق لكن لا ينبغي
أن يقلد لان الطالب يكون متهما وروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال إنا لا نولي أمرنا هذا من كان له طالبا
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده وهذا إشارة
إلى أن الطالب لا يوفق لإصابة الحق والمجبر عليه يوفق وأما شرائط الفضيلة والكمال فهو أن يكون القاضي عالما بالحلال
والحرام وسائر الأحكام قد بلغ في علمه ذلك حد الاجتهاد عالما بمعاشرة الناس ومعاملتهم عدلا ورعا عفيفا عن
التهمة صائن النفس عن الطمع لان القضاء هو الحكم بين الناس بالحق فإذا كان المقلد بهذه الصفات فالظاهر أنه لا يقضى
الا بالحق ثم ما ذكرنا أنه شرط جواز التقليد فهو شرط جواز التحكيم لان التحكيم مشروع قال الله تعالى عز شأنه فابعثوا
حكما من أهله وحكما من أهلها فكان الحكم من الحكمين بمنزلة حكم القاضي المقلد الا انهما يفترقان في أشياء مخصوصة
(منها) أن الحكم في الحدود والقصاص لا يصح (ومنها) أنه ليس بلازم ما لم يتصل به الحكم حتى لو رجع أحد المتحاكمين
قبل الحكم يصح رجوعه وإذا حكم صار لازما (ومنها) أنه إذا حكم في فصل مجتهد فيه ثم رفع حكمه إلى القاضي ورأيه
يخالف رأى الحاكم المحكم له أن يفسخ حكمه والفرق بين هذه الجملة يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما بيان من يفترض عليه قبول تقليد القضاء فنقول إذا عرض القصاء على من يصلح له من أهل البلد
ينظر إن كان في البلد عدد يصلحون للقضاء لا يفترض عليه القبول بل هو في سعة من القبول والترك (اما) جواز القبول
فلان الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين قضوا بين الأمم بأنفسهم وقلدوا غيرهم وأمروا بذلك فقد بعث
3

رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا وبعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة قاضيا
وقلد النبي عليه الصلاة والسلام كثيرا من أصحابه رضى الله تعالى عنهم الاعمال وبعثهم إليها وكذا الخلفاء الراشدون
قضوا بأنفسهم وقلدوا غيرهم فقلد سيدنا عمر رضي الله عنه شريحا القضاء وقرره سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهما
(وأما) جواز الترك فلما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه إياك والامارة
وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا تتأمرن على اثنين وروى أن أبا حنيفة رضي الله عنه عرض عليه القضاء
فأبى حتى ضرب على ذلك ولم يقبل وكذا لم يقبله كثير من صالحي الأمة وهذا معنى ما ذكر في الكتاب دخل فيه قوم
صالحون وترك الدخول فيه قوم صالحون ثم إذا جاز الترك والقبول في هذا الوجه اختلفوا في أن القبول أفضل أم الترك
قال بعضهم الترك أفضل وقال بعضهم القبول أفضل احتج الفريق الأول بما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام
أنه قال من جعل القضاء فقد ذبح بغير سكين وهذا يجرى مجرى الزجر عن تقلد القضاء احتج الفريق الاخر
بصنع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين وصنع الخلفاء الراشدين لان لنا فيهم قدوة ولان القضاء بالحق
إذا أراد به وجه الله سبحانه وتعالى يكون عبادة خالصة بل هو من أفضل العبادات قال النبي المكرم عليه أفضل
التحية عدل ساعة خير من عباده ستين سنة والحديث محمول على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق أو الطالب الذي
لا يأمن على نفسه الرشوة فيخاف أن يميل إليها توفيقا بين الدلائل هذا إذا كان في البلد عدد يصلحون للقضاء فأما
إذا كان لم يصلح له الا رجل واحد فإنه يفترض عليه القبول إذا عرض عليه لأنه إذا لم يصلح له غيره تعين هو لإقامة هذه
العبادة فصار فرض عين عليه الا أنه لابد من التقليد فإذا قلد افترض عليه القبول على وجه لو امتنع من القبول يأثم كما في
سائر فروض الأعيان والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط القضاء فأنواع بعضها يرجع إلى القاضي وبعضها يرجع إلى نفس القضاء وبعضها يرجع
إلى المقضى له وبعضها يرجع إلى المقضى عليه (أما) الذي يرجع إلى القاضي فما ذكرنا من شرائط جواز تقليد القضاء
لان من لا يصلح قاضيا لا يجوز قضاؤه ضرورة (وأما) الذي يرجع إلى نفس القضاء فأنواع منها أن يكون بحق وهو
الثابت عند الله عز وجل من حكم الحادثة اما قطعا بان قام عليه دليل قطعي وهو النص المفسر من الكتاب الكريم أو
الخبر المشهور والمتواتر والاجماع واما ظاهرا بان قام عليه دليل ظاهر يوجب علم غالب الرأي وأكثر الظن من ظواهر
الكتاب الكريم والمتواتر والمشهور وخبر الواحد والقياس الشرعي وذلك في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها
الفقهاء رحمهم الله والتي لا رواية في جوابها عن السلف بان لم تكن واقعة حتى لو قضى بما قام الدليل القطعي على خلافه لم
يجز لأنه قضاء بالباطل قطعا وكذا لو قضى في موضع الخلاف بما كان خارجا عن أقاويل الفقهاء كلهم لم يجز لان الحق لا
يعد وأقاويلهم فالقضاء بما هو خارج عنها كلها يكون قضاء باطلا قطعا وكذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نص ظاهر
يخالفه من الكتاب الكريم والسنة لم يجز قضاؤه لان القياس في مقابلة النص باطل سواء كان النص قطعيا أو ظاهرا وأما
فيما لا نص فيه يخالفه ولا اجماع النقول لا يخلو (اما) إن كان القاضي من أهل الاجتهاد (واما) ان لم يكن من أهل الاجتهاد
فإن كان من أهل الاجتهاد وأفضى رأيه إلى شئ يجب عليه العمل به وان خالف رأى غيره ممن هو من أهل الاجتهاد
والرأي ولا يجوز له أن يتبع رأى غيره لان ما أدى إليه اجتهاده هو الحق عند الله عز وجل ظاهرا فكان غيره باطلا
ظاهرا لان الحق في المجتهدات واحد والمجتهد يخطئ ويصيب عند أهل السنة والجماعة في العقليات والشرعيات جميعا
ولو أفضى رأيه إلى شئ وهناك مجتهد آخر أفقه منه له رأى آخر فأراد أن يعمل برأيه من غير النظر فيه وترجح رأيه بكونه
أفقه منه هل يسعه ذلك ذكر في كتاب الحدود أن عند أبي حنيفة يسعه ذلك وعندهما لا يسعه الا أن يعمل برأي نفسه
وذكر في بعض الروايات هذا الاختلاف على العكس فقال على قول أبي حنيفة لا يسعه وعلى قولهما يسعه وهذا يرجع
لي أن كون أحد المجتهدين أفقه من غير النظر في رأيه هل يصلح مرجحا من قال يصلح مرجحا قال يسعه ومن قال
4

لا يصلح قال يسعه (وجه) قول من لا يرى الترجيح بكونه أفقه أن الترجيح يكون بالدليل وكونه أفقه ليس من
جنس الدليل فلا يقع به الترجيح وهذا لا يصلح دليل الحكم بنفسه (وجه) قول من يرى به الترجيح أن هذا من
جنس الدليل لان كونه أفقه يدل على أن اجتهاده اقرار إلى الصواب فكان من جنس الدليل فيصلح للترجيح ان لم
يصلح دليل الحكم بنفسه وأبدا يكون الترجيح بما لا يصلح دليل الحكم بنفسه ولهذا قيل في حده زيادة لا يسقط بها
التعارض حقيقة لما علم في أصول الفقه ولهذا أوجب أبو حنيفة رحمه الله تقليد الصحابة الكرام رضى الله تعالى
عنهم ورجحه على القياس لما أن قوله أقرب إلى إصابة الحق من قول القائس كذا هذا وان أشكل عليه حكم الحادثة
استعمل رأيه في ذلك وعمل به والأفضل أن يشاور أهل الفقه في ذلك فان اختلفوا في حكم الحادثة نظر في ذلك فأخذ
بما يؤدى إلى الحق ظاهرا وان اتفقوا على رأى يخالف رأيه عمل برأي نفسه أيضا لان المجتهد مأمور بالعمل بما
يؤدى إليه اجتهاده فحرم عليه تقليد غيره لكن لا ينبغي أن يعجل بالقضاء ما لم يقض حق التأمل والاجتهاد وينكشف
له وجه الحق فإذا ظهر له الحق باجتهاده قضى بما يؤدى إليه اجتهاده ولا يكونن خائفا في اجتهاده بعدما بذل مجهوده
لإصابة الحق فلا يقولن انى أرى وانى أخاف لان الخوف والشك والظن يمنع من إصابة الحق ويمنع من الاجتهاد
فينبغي أن يكون جريئا جسورا على الاجتهاد بعد ان لم يقصر في طلب الحق حتى لو قضى مجازفا لم يصح قضاؤه فيما بينه
وبين الله سبحانه وتعالى وإن كان من أهل الاجتهاد الا انه إذا كان لا يدرى حاله يحمل على أنه قضى برأيه ويحكم
بالصحة حملا لأمر المسلم على الصحة والسداد ما أمكن والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان القاضي من أهل
الاجتهاد فاما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فان عرف أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق عمل بقول من
يعتقد قوله حقا على التقليد وان لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا وان لم يكن في البلد الا فقيه
واحد من أصحابنا من قال يسعه أن يأخذ بقوله ونرجو أن لا يكون عليه شئ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه
وليس هناك سواه من أهل الفقه مست الضرورة إلى الاخذ بقوله قال الله تبارك وتعالى فسألوا أهل الذكر ان كنتم
لا تعلمون ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم ذلك لا ينفذ قضاؤه لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده فلا ينفذ
كما لو كان مجتهدا فترك رأى نفسه وقضى برأي مجتهد يرى رأيه باطلا فإنه لا ينفذ قضاؤه لأنه قضى بما هو باطل في
اجتهاده كذا هذا ولو نسي القاضي مذهبه فقضى بشئ على ظن أنه مذهب نفسه ثم تبين أنه مذهب خصمه ذكر في
شرح الطحاوي أن له أن يبطله ولم يذكر الخلاف لأنه إذا لم يكن مجتهدا تبين أنه قضى بما لا يعتقده حقا فتبين انه وقع
باطلا كما لو قضى وهو يعلم أن ذلك مذهب خصمه وذكر في أدب القاضي انه يصح قضاؤه عند أبي حنيفة وعندهما
لا يصح لهما أن القاضي مقصر لأنه يمكنه حفظ مذهب نفسه وإذا لم يحفظ فقد قصر والمقصر غير معذور ولأبي
حنيفة ان النسيان غالب خصوصا عند تزاحم الحوادث فكان معذورا هذا إذا لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد فاما
إذا كان من أهل الاجتهاد ينبغي أن يصح قضاؤه في الحكم بالاجماع ولا يكون لقاض آخر ان يبطله لأنه لا يصدق
على النسيان بل يحمل على أنه اجتهد فادى اجتهاده إلى مذهب خصمه فقضى به فيكون قضاؤه باجتهاده فيصح وان
قضى في حادثة وهي محل الاجتهاد برأيه ثم رفعت إليه ثانيا فتحول رأيه يعمل بالرأي الثاني ولا يوجب هذا نقض الحكم
بالرأي الأول لان القضاء بالرأي الأول قضاء مجمع على جوازه لاتفاق أهل الاجتهاد على أن للقاضي أن يقضى في محل
الاجتهاد وبما يؤدى إليه اجتهاده فكان هذا قضاء متفقا على صحته ولا اتفاق على صحة هذا الرأي الثاني فلا يجوز نقض
المجمع عليه بالمختلف ولهذا لا يجوز لقاضي آخر ان يبطل هذا القضاء كذا هذا وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه
قضى في حادثة ثم قضى فيها بخلاف تلك القضية فسئل فقال تلك كما قضينا وهذه كما نقضي ولو رفعت إليه ثالثا فتحول
رأيه إلى الأول يعمل به ولا يبطل قضاؤه بالرأي الثاني بالعمل بالرأي الأول كما لا يبطل قضاؤه الأول بالعمل بالرأي
الثاني لما قلنا ولو أن فقيها قال لامرأته أنت طالق البتة ومن رأيه انه بائن فأمضى رأيه فيما بينه فيما بينه وبين امرأته وعزم على
5

انها قد حرمت عليه ثم تحول رأيه إلى أنها تطليقة واحدة يملك الرجعة فإنه يعمل برأيه الأول في حق هذه المرأة وتحرم
عليه وإنما يعمل برأيه الثاني في المستقبل في حقها وفى حق غيرها لان الأول رأى أمضاه بالاجتهاد وما امضى بالاجتهاد
لا ينقض باجتهاد مثله وكذلك لو كان رأيه انها واحدة يملك الرجعة فعزم على أنها منكوحة ثم تحول رأيه إلى أنه بائن فإنه
يعمل برأيه الأول ولا تحرم عليه لما قلنا ولو لم يكن عزم على الحرمة في الفصل الأول حتى تحول رأيه إلى الحل لا تحرم
عليه وكذا في الفصل الثاني لو لم يكن عزم على الحل حتى تحول رأيه إلى الحرمة تحرم عليه لان نفس الاجتهاد محل
النقض ما لم يتصل به الامضاء واتصال الامضاء بمنزلة اتصال القضاء واتصال القضاء يمنع من النقض فكذا اتصال
الامضاء وكذلك الرجل إذا لم يكن فقيها فاستفتى فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ولو لم يكن عزم على ذلك حتى أفتاه فقيه
آخر بخلافه فأخذ بقوله وأمضاه في منكوحته لم يجز له ان يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه به الأول لان العمل
بما أمضى واجب لا يجوز نقضه مجتهدا كان أو مقلدا لان المقلد متعبد بالتقليد كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد ثم لم يجز
للمجتهد نقض ما أمضاه فكذا لا يجوز ذلك للمقلد ثم ما ذكرنا من نفاذ قضاء القاضي في محل الاجتهاد بما يؤدى إليه
اجتهاده إذا لم يكن المقضى عليه والمقضى له من أهل الرأي والاجتهاد أو كانا من أهل الرأي والاجتهاد ولكن لم يخالف
رأيهما رأى القاضي فاما إذا كانا من أهل الاجتهاد وخالف رأيهما رأى القاضي فجملة الكلام فيه ان قضاء القاضي
ينفذ على المقضى عليه في محل الاجتهاد سواء كان المقضى عليه عاميا مقلدا أو فقيها مجتهدا يخالف رأيه رأى القاضي
بلا خلاف اما إذا كان مقلدا فظاهر لان العامي يلزمه تقليد المفتى فتقليد القاضي أولى وكذا إذا كان مجتهدا لان القضاء
في محل الاجتهاد بما يؤدى إليه اجتهاد القاضي قضاء مجمع على صحته على ما مر ولا معنى للصحة الا النفاذ على المقضى
عليه وصورة المسألة إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق البتة ورأي الزوج انه واحدة يملك الرجعة ورأي القاضي انه
بائن فرافعته المرأة إلى القاضي فقضى بالبينونة ينفذ قضاؤه بالاتفاق لما قلنا واما قضاؤه للمقضى له بما يخالف رأيه هل ينفذ
قال أبو يوسف لا ينفذ وقال محمد ينفذ وصورة المسألة إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق البتة ورأي الزوج انه بائن
ورأي القاضي انه واحدة يملك الرجعة فرافعته إلى القاضي فقضى بتطليقة واحدة يملك الرجعة لا يحل له المقام معها عند أبي
يوسف وعند محمد يحل له (وجه) قول محمد ما ذكرنا ان هذا قضاء وقع الاتفاق على جوازه لوقوعه في فصل مجتهد فيه
فينفذ على المقضى عليه والمقضى له لان القضاء له تعلق بهما جميعا ألا ترى انه لا يصح الا بمطالبة المقضى له ولأبي يوسف
ان صحة القضاء انفاذه في محل الاجتهاد يظهر أثره في حق المقضى عليه لا في حق المقضى له لان المقضى عليه مجبور في
القضاء عليه فاما المقضى له فمختار في القضاء له فلو اتبع رأى القاضي إنما يتبعه تقليدا وكونه مجتهدا يمنع من التقليد فيجب
العمل برأي نفسه وعلى هذا كل تحليل أو تحريم أو اعتاق أو أخذ مال إذا قضى القاضي بما يخالف رأى المقضى عليه
أو له فهو على ما ذكرنا من الاتفاق والاختلاف وكذلك المقلد إذا أفتاه انسان في حادثة ثم رفعت إلى القاضي فقضى
بخلاف رأى المفتى فإنه يأخذ بقضاء القاضي ويترك رأى المفتى لان رأى المفتى يصير متروكا بقضاء القاضي فما ظنك
بالمقلد ولم يذكر القدوري رحمه الله الخلاف في هذا الفصل وذكره شيخنا رحمه الله وسننظر فيه فيما يأتي إن شاء الله
تعالى وعلى هذا يخرج القضاء بالبينة لان البينة العادلة مظهرة للمدعى فكان القضاء بالحق وعلى
هذا يخرج القضاء بالاقرار لان الانسان لا يقر على نفسه كاذبا هذا هو الظاهر فكان القضاء به قضاء بالحق
وكذا القضاء بالنكول عندنا فيما يقضى فيه بالنكول لان النكول على أصل أصحابنا بذل أو اقرار وكل ذلك
دليل صدق المدعى في دعواه لما علم فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق وعلى هذا يخرج قضاء القاضي بعلم نفسه في الجملة
فنقول تفصيل الكلام فيه انه لا يخلو اما ان قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه وهو الموضع الذي قلد قضاءه واما
ان قضى بعلم استفاده قبل زمان القضاء وفى غير مكانه واما ان قضى بعلم استفاده بعد زمان القضاء في غير مكانه فان قضى
بعلم استفاده في زمن القضاء وفى مكانه بان سمع رجلا أقر لرجل بمال أو سمعه يطلق امرأته أو يعتق عبده أو يقذف
6

رجلا أو رآه يقتل انسانا وهو قاض في البلد الذي قلد قضاءها جاز قضاؤه عندنا ولا يجوز قضاؤه به في الحدود الخالصة
بل خلاف بين أصحابنا الا ان في السرقة يقضى بالمال لا بالقطع وللشافعي فيه قولان في قول لا يجوز له ان يقضى به في
الكل وفى قول يجوز في الكل (وجه) قوله الأول ان القاضي مأمور بالقضاء بالبينة ولو جاز له القضاء بعلمه لم يبق
مأمورا بالقضاء بالبينة وهذا المعنى لا يفصل بين الحدود وغيرها (وجه) قوله الثاني أن المقصود من البينة العلم بحكم
الحادثة وقد علم وهذا لا يوجب الفصل بين الحدود وغيرها لان علمه لا يختلف (ولنا) انه جاز له القضاء بالبينة فيجوز
القضاء بعلمه بطريق الأولى وهذا لان المقصود من البينة ليس عينها بل حصول العلم بحكم الحادثة وعلمه الحاصل
بالمعاينة أقوى من علمه الحاصل بالشهادة لان الحاصل بالشهادة علم غالب الرأي وأكثر الظن والحاصل بالحس
والمشاهدة علم القطع واليقين فكان هذا أقوى فكان القضاء به أولى الا انه لا يقضى به في الحدود الخالصة لان الحدود
يحتاط في درئها وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم نفسه ولان الحجة في وضع الشئ هي البينة التي تتكلم بها ومعنى
البينة وان وجد فقد فاتت صورتها وفوات الصورة يورث شبهة والحدود تدرأ بالشبهات بخلاف القصاص فإنه
حق العبد وحقوق العباد لا يحتاط في اسقاطها وكذا حد القذف لان فيه حق العبد وكلاهما لا يسقطان بشبهة فوات
الصورة هذا إذا قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه فاما إذا قضى بعلم استفاده في غير زمن القضاء ومكانه أو في
زمان القضاء في غير مكانه وذلك قبل ان يصل إلى البلد الذي ولى قضاءه فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة أصلا وعندهما
يجوز فيما سوى الحدود الخالصة فاما في الحدود الخالصة فلا يجوز وجه قولهما انه لما جاز له ان يقضى بالعلم المستفاد في
زمن القضاء جاز له ان يقضى بالعلم المستفاد قبل زمن القضاء لان العلم في الحالين على حد واحد الا ان ههنا استدام
العلم الذي كان له قبل القضاء بتجدد أمثاله وهناك حدث له علم لم يكن وهما سواء في المعنى الا انه لم يقض به في الحدود
الخالصة لتمكن الشبهة فيه باعتبار التهمة والشبهة تؤثر في الحدود الخالصة ولا تؤثر في حقوق العباد على ما مر ولأبي
حنيفة الفرق بين العلمين وهو أن العلم الحادث له في زمن القضاء علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء فأشبه البينة القائمة
فيه والعلم الحاضر في غير زمان القضاء علم في وقت هو غير مكلف فيه بالقضاء فأشبه البينة القائمة فيه وهذا لان الأصل
في صحة القضاء هو البينة الا ان غيرها قد يلحق بها إذا كان في معناها والعلم الحادث في زمان القضاء في معنى البينة يكون
حادثا في وقت هو مكلف بالقضاء في معنى البينة والحاصل قبل زمان القضاء أو قبل الوصول إلى مكانه حاصل في
وقت هو غير مكلف بالقضاء فلم يكن في معنى البينة فلم يجز القضاء به فهو الفرق بين العلمين وعلى هذا يخرج القضاء
بكتاب القاضي فنقول لقبول الكتاب من القاضي شرائط منها البينة على أنه كتابه فتشهد الشهود على أن هذا كتاب
فلان القاضي ويذكروا اسمه ونسبه لأنه لا يعرف انه كتابه بدونه ومنها أن يكون الكتاب مختوما ويشهدوا على أن
هلذا ختمه لصيانته عن الخلل فيه ومنها ان يشهدوا بما في الكتاب بأن يقولوا انه قرأه عليهم مع الشهادة بالختم
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله إذا شهدوا بالكتاب والخاتم تقبل وان لم يشهدوا
بما في الكتاب وكذا إذا شهدوا بالكتاب وبما في جوفه تقبل وان لم يشهدوا بالخاتم بان قالوا لم يشهدنا على
الخاتم أو لم يكن الكتاب مختوما أصلا لأبي يوسف ان المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المكتوب إليه
بان هذا كتاب فلان القاضي وهذا يحصل بما ذكرنا ولهما ان العلم بأنه كتاب فلان لا يحصل الا بالعلم بما فيه ولابد
من الشهادة بما فيه لتكون شهادتهم على علم بالمشهود به ومنها أن يكون بين القاضي المكتوب إليه وبين القاضي
الكاتب مسيرة سفر فإن كان دونه لم تقبل لان القضاء بكتاب القاضي أمر جوز لحاجة الناس بطريق الرخصة لأنه
قضاء بالشهادة القائمة على غائب من غير أن يكون عند خصم حاضر لكن جوز للضرورة ولا ضرورة فيما دون مسيرة
السفر ومنها أن يكون في الدين والعين التي لا حاجة إلى الإشارة إليها عند الدعوى والشهادة كالدور والعقار واما في
الأعيان التي تقع الحاجة إلى الإشارة إليها كالمنقول من الحيوان والعروض لا تقبل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
7

وهو قول أبى يوسف الأول رحمه الله ثم رجع وقال تقبل في العبد خاصة إذا أبق وأخذ في بلد فأقام صاحبه البينة عند
قاضى بلده ان عبده أخذه فلان في بلد كذا فشهد الشهود على الملك أو على صفة العبد وحليته فإنه يكتب إلى قاضى البلد
الذي العبد فيه انه قد شهد الشهود عندي ان عبدا صفته وحليته كذا وكذا ملك فلان أخذه فلان بن فلان ينسب كل
واحد منهما إلى أبيه والى جده على رسم كتاب القاضي إلى القاضي وإذا وصل إلى القاضي المكتوب إليه وعلم أنه
كتابه بشهادة الشهود يسلم العبد إليه ويختم في عنقه ويأخذ منه كفيلا ثم يبعث به إلى القاضي الكاتب حتى يشهد
الشهود عليه عنده بعينه على الإشارة إليه ثم يكتب القاضي الكاتب له كتابا آخر إلى ذلك القاضي المكتوب إليه أول
مرة فإذا علم أنه كتابه قبله وقضى وسلم العبد إلى الذي جاء بالكتاب وأبرأ كفيله ولا يقبل في الجارية بالاجماع وجه
قول أبى يوسف رحمه الله ان الحاجة إلى قبول كتاب القاضي في العبد متحققة لعموم البلوى به فلو لم يقبل لضاق الا على
الناس ولضاعت أموالهم ولا حاجة إليه في الأمة لأنها لا تهرب عادة لعجزها وضعف بنيتها وقلبها ولهما أن الشهادة
لا تقبل الا على معلوم للآية الكريمة الا من شهد بالحق وهم يعلمون والمنقول لا يصير معلوما الا بالإشارة إليه والإشارة
إلى الغائب محال فلم تصح شهادة الشهود ولا دعوى المدعى لجهالة المدعى فلا يقبل الكتاب فيه ولهذا لم يقبل في
الجارية وفى سائر المنقولات بخلاف العقار لأنه يصير معلوما بالتحديد وبخلاف الدين لان الدين يصير معلوما
بالوصف وهذا الذي ذكرنا مذهب أصحابنا رضي الله عنهم وقال ابن أبي ليلى رحمه الله يقبل كتاب القاضي إلى
القاضي في الكل وقضاة زماننا يعملون بمذهبه لحاجة الناس وينبغي للقاضي المرسل إليه أن لا يفك الكتاب
الا بمحضر من الخصم ليكون أبعد من التهمة ومنها أن لا يكون في الحدود والقصاص لان كتاب القاضي إلى
القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة وانه لا تقبل فيهما كذا هذا ومنها أن يكون اسم المكتوب له وعليه واسم أبيه
وجده وفخذه مكتوبا في الكتاب حتى لو نسبه إلى أبيه ولم يذكر اسم جده أو نسبه إلى قبيلة كبني تميم ونحوه لا يقبل
لان التعريف لا يحصل به الا وأن يكون شيئا ظاهرا مشهورا أشهر من القبيلة فيقبل لحصول التعريف ومنها
ذكر الحدود في الدور والعقار لان التعريف في المحدود لا يصح الا بذكر الحد ولو ذكر في الكتاب ثلاثة حدود يقبل
عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر رحمه الله لا يقبل ما لم يشهدوا على الحدود الأربعة ولو شهدوا على حدين لا تقبل بالاجماع
وإذا كانت الدار مشهورة كدار الأمير وغيره لا تقبل عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما تقبل وهذه من
مسائل الشروط ومنها أن يكون القاضي الكاتب على قضائه عند وصول كتابه إلى القاضي المكتوب إليه حتى لو
مات أو عزل قبل الوصول إليه لم يعمل به ولو مات بعد وصول الكتاب إليه جاز له ان يقضى به ومنها أن يكون القاضي
المكتوب إليه على قضائه حتى لو مات أو عزل قبل وصول الكتاب إليه ثم وصل إلى القاضي الذي ولى مكانه لم
يعمل به لأنه لم يكتب إليه والله تعالى أعلم ومنها أن يكون القاضي الكاتب من أهل العدل فإن كان من أهل البغي لم
يعمل به قاضى أهل العدل بل يرده كبتا وغيظا لهم ومنها أن يكون لله سبحانه وتعالى خالصا لان القضاء عبادة والعبادة
اخلاص العمل بكليته لله عز وجل فلا يجوز قضاؤه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له لان القضاء له قضاء لنفسه من وجهه
فلم يخلص لله سبحانه وتعالى وكذا إذا قضى في حادثة برشوة لا ينفذ قضاؤه في تلك الحادثة وان قضى بالحق الثابت عند
الله جل وعلا من حكم الحادثة لأنه إذا أخذ على القضاء رشوة فقد قضى لنفسه لا لله عز اسمه فلم يصح (وأما) الذي
يرجع إلى المقضى له فأنواع منها أن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي فإن كان ممن لا تقبل شهادته له لا يجوز له قضاء القاضي له
لما قلنا والله تعالى الموفق ومنها أن يكون حاضرا وقت القضاء فإن كان غائبا لم يجز القضاء له الا إذا كان عنه خصم
حاضر لان القضاء على الغائب كما لا يجوز فالقضاء للغائب أيضا لا يجوز ومنها طلب القضاء من القاضي في حقوق
العباد لان القضاء وسيلة إلى حقه فكان حقه وحق الانسان لا يستوفى الا بطلبه (وأما) الذي يرجع إلى المقضى عليه
فحضرته لا يجوز القضاء على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضرا وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله ليس
8

بشرط والمسألة ذكرت في كتاب الدعوى والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما آداب القضاء فكثيرة والأصل فيها كتاب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى أبو موسى الأشعري
رحمه الله سماه محمد رحمه الله كتاب السياسة وفيه أما بعد فان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك
فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس
ضعيف من عدلك وفى رواية ولا يخاف ضعيف جورك البينة على المدعى واليمين على من أنكر الصلح جائز بين
المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك
أن تراجع الحق فان الحق قديم لا يبطل ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك
مما لم يبلغك في القرآن العظيم والسنة ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك فاعمد إلى أحبها
وأقربها إلى الله تبارك وتعالى وأشبهها بالحق اجعل للمدعى أمدا ينتهى إليه فإذا أحضر بينة أخذ بحقه والا وجب
القضاء عليه وفى رواية وان عجز عنها استحللت عليه القضاء فان ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى المسلمون عدول
بعضهم على بعض الا محدودا في قذف أو ظنينا في ولاء أو قرابة أو مجربا عليه شهادة زور فان الله تعالى تولى منكم
السر وفى رواية السرائر ودرأ عنكم بالبينات إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس للخصوم في مواطن
الحق الذي يوجب الله سبحانه وتعالى به الاجر ويحسن به الذخر وأن من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو
على نفسه في الحق يكفه الله تعالى فيما بينه وبين الناس ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه شانه الله عز وجل فإنه
سبحانه وتعالى لا يقبل من العبادة الا ما كان خالصا فما ظنك بثواب عن الله سبحانه وتعالى من عاجل رزقه وخزائن
رحمته والسلام ومنها أن يكون القاضي فهما عند الخصومة فيجعل فهمه وسمعه وقلبه إلى كلام الخصمين لقول
سيدنا عمر رضي الله عنه في كتاب السياسة فافهم إذا أولى إليك ولان من الجائز أن يكون الحق مع أحد الخصمين فإذا
لم يفهم القاضي كلامهما يضيع الحق وذلك قوله رضي الله عنه فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ومنها أن لا يكون قلقا
وقت القضاء لقول سيدنا عمر رضي الله عنه إياك والقلق وهذا ندب إلى السكون والتثبيت ومنها أن لا يكون ضجرا
عند القضاء إذا اجتمع عليه الأمور فضاق صدره لقوله رضي الله عنه إياك والضجر ومنها أن لا يكون غضبان
وقت القضاء لقول سيدنا عمر رضي الله عنه إياك والغضب وقال عليه الصلاة والسلام لا يقضى القاضي وهو
غضبان ولأنه يدهشه عن التأمل ومنها أن لا يكون جائعا ولا عطشان ولا ممتلئا لأن هذه العوارض من القلق
والضجر والغضب والجوع والعطش والامتلاء مما يشغله عن الحق ومنها أن لا يقضى وهو يمشى على الأرض أو
يسير على الدابة لان المشي والسير يشغلانه عن النظر والتأمل في كلام الخصمين ولا بأس بأن يقضى وهو متكئ لان
الاتكاء لا يقدح في التأمل والنظر ومنها أن يسوى بين الخصمين في الجلوس فيجلسهما بين يديه لا عن يمينه ولا عن
يساره لأنه لو فعل ذلك فقد قرب أحدهما في مجلسه وكذا لا يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره لان لليمين
فضلا على اليسار وقد روى أن عمر وأبى كعب رضي الله عنهما اختصما في حادثة إلى زيد بن ثابت فألقى لسيدنا
عمر رضي الله عنه وسادة فقال سيدنا عمر رضي الله عنه هذا أول جورك وجلس بين يديه ومنها أن يسوى بينهما في
النظر والنطق والخلوة فلا ينطلق بوجهه إلى أحدهما ولا يسار أحدهما ولا يومئ إلى أحدهما بشئ دون خصمه ولا
يرتفع صوته على أحدهما ولا يكلم أحدهما بلسان لا يعرفه الآخر ولا يخلو بأحد في منزله ولا يضيف أحدهما فيعدل
بين الخصمين في هذا كله لما في ترك العدل فيه من كسر قلب الآخر ويتهم القاضي به أيضا ومنها أن لا يقبل الهدية من
أحدهما الا إذا كان لا يلحقه به تهمة وجملة الكلام فيه أن المهدى لا يخلو اما أن يكون رجلا كان يهدى إليه قبل تقليد
القضاء واما إن كان لا يهدى إليه فإن كان لا يهدى إليه فاما إن كان قريبا له أو أجنبيا فإن كان قريبا له ينظر إن كان له
خصومة في الحال فإنه لا يقبل لأنه يلحقه التهمة وإن كان لا خصومة له في الحال يقبل لأنه لا تهمة فيه وإن كان أجنبيا
9

لا يقبل سواء كان له خصومة في الحال أو لا لأنه إن كان له خصومة في الحال كان بمعنى الرشوة وان لم يكن فربما يكون
له خصومة في الحال يأتي بعد ذلك فلا يقبل ولو قبل يكون لبيت المال هذا إذا كان الرجل لا يهدى إليه قبل تقليد
القضاء فاما إذا كان يهدى إليه فإن كان له في الحال خصومة لا تقبل لأنه يتهم فيه وإن كان لا خصومة له في الحال
ينظر إن كان اهدى مثل ما كان يهدى أو أقل يقبل لأنه لا تهمة فيه وإن كان أكثر من ذلك يرد الزيادة عليه وان قبل
كان لبيت المال وان لم يقبل للحال حتى أنقضت الخصومة ثم قبلها لا بأس به ومنها أن لا يجيب الدعوة الخاصة بأن كانوا
خمسة أو عشرة لأنه لا يخلو من التهمة الا إذا كان صاحب الدعوة ممن كان يتخذ له الدعوة قبل القضاء أو كان بينه وبين
القاضي قرابة فلا بأس بأن يحضر إذا لم يكن له خصومة لانعدام التهمة فان عرف القاضي له خصومة لم يحضرها وأما
الدعوة العامة فإن كانت بدعة كدعوة المباراة ونحوها لا يحل له أن يحضرها لأنه لا يحل لغير القاضي اجابتها فالقاضي
أولى وإن كان سنة كوليمة العرس والختان فإنه يجيبها لأنه إجابة السنة ولا تهمة فيه ومنها أن لا يلقن أحد الخصمين
حجته لان فيه مكسرة قلب الاخر ولان فيه إعانة أحد الخصمين فيوجب التهمة غير أنه ان تكلم أحدهما أسكت
الآخر ليفهم كلامه ومنها أن لا يلقن الشاهد بل يتركه يشهد بما عنده فان أوجب الشرع قبوله قبل والا رده وهذا
قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبى يوسف الأول ثم رجع وقال لا بأس بتلقين الشاهد بأن يقول أتشهد بكذا وكذا
وجه قوله أن من الجائز أن الشاهد يلحقه الحصر لمهابة مجلس القضاء فيعجزه عن إقامة الحجة فكان التلقين تقويما لحجة
ثابتة فلا بأس به ولهما أن القاضي يتهم بتلقين الشاهد فيتحرج عنه ومنها أن لا يعبث بالشهود لان ذلك يشوش عليهم
عقولهم فلا يمكنهم أداء الشهادة على وجهها وإذا اتهم الشهود فلا بأس بأن يفرقهم عند أداء الشهادة فيسألهم أين
كان ومتى كان فان اختلفوا اختلافا يوجب رد الشهادة ردها والا فلا ويشهد القاضي الجنازة لان ذلك حق الميت على
المسلمين فلم يكن متهما في أداء سنة فيحضرها الا إذا اجتمعت الجنائز على وجه لو حضرها كلها لشغله ذلك عن أمور
المسلمين فلا بأس أن لا يشهد لان القضاء فرض عين وصلاة الجنازة فرض كفاية فكان إقامة فرض العين عند تعذر
الجمع بينهما أولى ويعود المريض أيضا لان ذلك حق المسلمين على المسلمين فلا يلحقه التهمة بإقامته ويسلم على
الخصوم إذا دخلوا المحكمة لان السلام من سنة الاسلام وكان شريح يسلم على الخصوم لكن لا يخص أحد الخصمين
بالتسليم عليه دون الآخر وهذا قبل جلوسه في مجلس الحكم فاما إذا جلس لا يسلم عليهم ولا هم يسلمون عليه اما هو فلا
يسلم عليهم لان السنة أن يسلم القائم على القاعد لا القاعد على القائم وهو قاعد وهم قيام وأما هم فلا يسلمون عليه لأنهم لو
سلموا عليه لا يلزمه الرد لأنه اشتغل بأمر هو أهم وأعظم من رد السلام فلا يلزمه الاشتغال كذا ذكر الفقيه أبو جعفر
الهندواني في رجل يقرأ القرآن فدخل عليه آخر انه لا ينبغي له أن يسلم عليه ولو سلم عليه لا يلزمه الجواب وكذا المدرس
إذا جلس للتدريس لا ينبغي لاحد أن يسلم عليه ولو سلم لا يلزمه الرد لما قلنا بخلاف الأمير إذا جلس فدخل عليه الناس
انهم يسلمون عليه وهو السنة وإن كان سلاطين زماننا يكرهون التسليم عليهم وهو خطأ منهم لأنهم جلسوا للزيارة ومن
سنة الزائر التسليم على من دخل عليه وأما القاضي فإنما جلس للعبادة لا للزيارة فلا يسن التسليم عليه ولا يلزمه
الجواب ان سلموا لكن لو أجاب جاز ومنها أن يسأل القاضي عن حال الشهود فيما سوى حدود القصاص وان لم
يطعن الخصم وهو من آداب القاضي عند أبي حنيفة رحمه الله لان القضاء بظاهر العدالة وإن كان جائزا عنده فلا شك ان
القضاء بالعدالة الحقيقية أفضل وأما عندهما فهو من واجبات القضاء وكذا إذا طعن الخصم عنده في غير الحدود
والقصاص وفى الحدود والقصاص طعن أو لم يطعن ثم القضاة من السلف كانوا يسألون بأنفسهم عن حال الشهود من
أهل محلتهم وأهل سوقهم وإن كان الشاهد سوقيا ممن هو أتقى الناس وأورعهم وأعظمهم أمانة وأعرفهم بأحوال
الناس ظاهرا وباطنا والقضاة في زماننا نصبوا للعدل تيسيرا للامر عليهم لما يتعذر على القاضي طلب المعدل في كل
شاهد فاستحسنوا نصب العدل ثم نقول للتعديل شرائط بعضها يرجع إلى نفس العدل وبعضها يرجع إلى فعل
10

التعديل أما الأول فأنواع منها العقل ومنها البلوغ ومنها الاسلام فلا يجوز تعديل المجنون والصبي والكافر لان
التزكية إن كانت تجرى مجرى الشهادة فهؤلاء ليسوا من أهل الشهادة فلا يكونون من أهل التزكية وإن كانت من باب
الاخبار عن الديانات فخبرهم في الديانات غير مقبول لأنه لابد فيه من العدالة ولا عدالة لهؤلاء ومنها العدالة لان من
لا يكون عدلا في نفسه كيف يعدل غيره وأما العدد فليس بشرط الجواز عند أبي حنيفة وأبى يوسف لكنه شرط
الفضيلة والكمال وعند محمد شرط الجواز وجه قوله أن التزكية في معنى الشهادة لأنه خبر عن أمر غاب عن
علم القاضي وهذا معنى الشهادة فيشترط لها نصاب الشهادة ولهما أن التزكية ليست بشهادة بدليل أنه لا يشترط
فيه لفظ الشهادة فلا يلزم فيها العدد على أن شرط العدد في الشهادات ثبت نصا غير معقول المعنى فيما يشترط فيه
لفظ الشهادة فلا يلزم مراعاة العدد فيما وراءه وعلى هذا الخلاف العدد في الترجمان وحامل المنشور أنه ليس بشرط
عندهما وعنده شرط وعلى هذا الخلاف حرية المعدل وبصره وسلامته عن حد القذف انه ليس بشرط عندهما
فتصح تزكية الأعمى والعبد والمحدود في القذف وعند محمد شرط فلا تصح تزكيتهم لان التزكية شهادة عنده
فيشترط لها ما يشترط لسائر الشهادات وعندهما ليست بشهادة فلا يراعى فيها شرائط الشهادة لما قلنا وأما الذكورة
فليست بشرط لجواز التزكية فتجوز تزكية المرأة إذا كانت امرأة تخرج لحوائجها وتخالط الناس فتعرف أحوالهم
وهذا ظاهر الرواية على أصلها لان هذا من باب الاخبار عن الديانات وهي من أهله وأما عند محمد فتقبل تزكيتها فيما
تقبل شهادتها فتصح تزكيتها فيما يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وتجوز تزكية الولد للوالد والوالد للولد وكل ذي رحم
محرم منه لأنه لا حق للعدل في التعديل إنما هو حق المدعى فلا يوجب تهمة فيه وهذا يشكل على أصل محمد لأنه
يجرى التعديل مجرى الشهادة وشهادة الوالد لولده وعكسه لا تقبل ومنها أن لا يكون المزكى مشهودا عليه فإن كان لم
تعتبر تزكيته ويجب السؤال وهذا تفريع على مذهب أبي يوسف ومحمد فيما سوى الحدود والقصاص بناء على
أن المسألة ما وجبت حقا للمشهود عليه عندهما وإنما وجبت حقا للشرع وحق الشرع لا يتأدى بتعديله لان في زعم
المدعى والشهود أنه كاذب في إنكاره فلا يصح تعديله وعند أبي حنيفة السؤال فيما سوى الحدود والقصاص حق
المشهود عليه وحق الانسان لا يطلب الا بطلبه فما لم يطعن لا يتحقق الطلب فلا تجب المسألة وذكر في كتاب التزكية
أن المشهود عليه إذا قال للشاهد هو عدل لا يكتفى به ما لم ينضم إليه آخر على قول محمد فصار عن محمد روايتان في رواية
لا تعتبر أصلا وفى رواية يقبل تعديله إذا انضم إليه غيره وأما الثاني الذي يرجع إلى فعل التعديل فهو أن يقول المعدل
في التعديل هو عدل جائز الشهادة حتى لو قال هو عدل ولم يقل جائز الشهادة لا يقبل تعديله لجواز أن يكون الانسان
عدلا في نفسه ولا تجوز شهادته كالمحدود في القذف إذا تاب وصلح والعبد الصالح وكذلك إذا قال في الرد هو ليس
بعدل لا يرد ما لم يقل هو غير جائز الشهادة لان غير العدل وهو الفاسق تجوز شهادته إذا تحرى القاضي الصدق في شهادته
ولو قضى به القاضي ينفذ ومنها أن يسأل المعدل في السر أولا فان وجده عدلا يعدله في العلانية أيضا ويجمع بين
المزكى والشهود وبين المدعى والمدعى عليه في تعديل العلانية وان لم يجده عدلا يقول المدعى زد في شهودك ولا
يكشف عن حال المجروح سترا على المسلم ولا يكتفى بتعديل السر خوفا من الاحتيال والتزوير بان يسمى غير العدل
باسم العدل فكان الأدب هو التزكية في العلانية بعد التزكية في السر ولو اختلف المعدلان فعدله أحدهما وجرحه
الآخر سأل القاضي غيرهما فان عدله آخر أخذ بالتزكية وان جرحه آخر أخذ بالجرح لان خبر الاثنين أولى من خبر
الواحد بالقبول لأنه حجة مطلقة وان انضم إلى كل واحد منهما رجل آخر فعدله اثنان وجرحه اثنان عمل بالجرح لان
الجارح يعتمد حقيقة الحال والمعدل يبنى الامر على الظاهر لأن الظاهر من حال الانسان ان يظهر الصلاح ويكتم
الفسق فكان قبول قول الجارح أولى كذلك لو جرحه اثنان وعدله ثلاثة أو أربعة أو أكثر يعمل بقول الجارح لان
الترجيح لا يقع بكثرة العدد في باب الشهادة ومنها أن يجلس معه جماعة من أهل الفقه يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله
11

من الأحكام وقد ندب الله سبحانه رسوله عليه الصلاة والسلام إلى المشاورة بقوله وشاورهم في الامر مع انفتاح
باب الوحي فغيره أولى وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ما رأيت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر
مشاورة لأصحابه منه وروى أنه عليه الصلاة والسلام كأن يقول لسيدنا أبى بكر وسيدنا عمر رضى الله تعالى عنهما
قولا فانى فيما لم يوح إلى مثلكما ولان المشاورة في طلب الحق من باب المجاهدة في الله عز وجل فيكون سببا للوصول
إلى سبيل الرشاد قال الله عز وجل والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وينبغي أن يجلس معه من يوثق بدينه وأمانته
لئلا يضن بما عنده من الحق والصواب بل بهديه إلى ذلك إذا رفع إليه ولا ينبغي ان يشاورهم بحضرة الناس لان
ذلك يذهب بمهابة المجلس والناس يتهمونه بالجهل ولكن يقيم الناس عن المجلس ثم يشاورهم أو يكتب في رقعة فيدفع
إليهم أو يكلمهم بلغة لا يفهمها الخصمان هذا إذا كان القاضي لا يدخله حصر باجلاسهم عنده ولا يعجز عن الكلام
بين أيديهم فإن كان لا يجلسهم فان أشكل عليه شئ من أحكام الحوادث بعث إليهم وسألهم ومنها أن يكون له
جلواز وهو المسمى بصاحب المجلس في عرف ديارنا يقوم على رأس القاضي لتهذيب المجلس وبيده سوط يؤدب به
المنافق وينذر به المؤمن وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسك بيده سوطا ينذر به المؤمن
ويؤدب به المنافق وكان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يمسك سوطا وسيدنا عمر رضي الله عنه اتخذ درة منها وأن
يكون له أعوان يستحضرون الخصوم ويقومون بين يديه اجلالا له ليكون مجلسا مهيبا ويذعن المتمرد للحق وهذا في
زماننا فاما في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فما كان تقع الحاجة إلى أمثال ذلك لأنهم كانوا ينظرون إلى الامراء
والقضاة بعين التبجيل والتعظيم ويخافونهم وينقادون للحق بدون ذلك فقد روى أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان
يقضى في المسجد فإذا فرغ استلقى على قفاه وتوسد بالحصى وما كان ينقص ذلك من حرمته وروى أنه لبس قميصا
فازدادت أكمامه عن أصابعه فدعا بالشفرة فقطعهما وكان لا يكفهما أياما وكانت الأطراف متعلقة منها والناس يهابونه
غاية المهابة فاما اليوم فقد فسد الزمان وتغير الناس فهان العلم وأهله فوقعت الحاجة إلى هذه التكليفات للتوسل إلى
احياء الحق وانصاف المظلوم من الظالم ومنها أن يكون له ترجمان لجواز ان يحضر مجلس القضاء من لا يعرف القاضي
لغته من المدعى والمدعى عليه والشهود والكلام في عدد الترجمان وصفاته على الاتفاق والاختلاف كالكلام في عدد
المزكى وصفاته كما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها أن يتخذ كاتبا لأنه يحتاج إلى محافظة الدعاوى والبينات
والاقرارات لا يمكنه حفظها فلابد من الكتابة وقد يشق عليه أن يكتب بنفسه فيحتاج إلى كاتب يستعين به وينبغي
أن يكون عفيفا صالحا من أهل الشهادة وله معرفة بالفقه أما العفة والصلاح فلان هذا من باب الأمانة والأمانة
لا يؤديها الا العفيف الصالح وأما أهلية الشهادة فلان القاضي قد يحتاج إلى شهادته وأما معرفته بالفقه فلانه يحتاج
إلى الاختصار والحذف من كلام الخصمين والنقل من لغة ولا يقدر على ذلك الا من له معرفة بالفقه فإن لم يكن فقيها
كتب كلام الخصمين كما سمعه ولا يتصرف فيه بالزيادة والنقصان لئلا يوجب حقا لم يجب ولا يسقط حقا واجبا
لان تصرف غير الفقيه بتفسير الكلام لا يخلو عن ذلك وينبغي ان يقعد الكاتب حيث يرى ما يكتب وما يصنع
فان ذلك أقرب إلى الاحتياط ثم في عرف بلادنا يقدم كتابة الدعوى على الدعوى فيكتب الدعوى المدعى ويترك
موضع التاريخ بياضا لجواز ان تتخلف الدعوى عن وقت الكتابة ويترك موضع الجواب أيضا بياضا لأنه
لا يدرى ان المدعى عليه يقرأ وينكر ويكتب أسماء الشهود إن كان للمدعى شهود ويترك بين كل شاهدين بياضا
ليكتب القاضي التاريخ وجواب الخصم وشهادة الشهود بنفسه ثم يطوى الكاتب الكتاب ويختمه ثم يكتب على
ظهره خصومة فلان ابن فلان مع فلان ابن فلان في شهر كذا في سنة كذا ويجعله في قمطرة وينبغي ان يجعل
لخصومات كل شهر قمطرا على حدة ليكون أبصر بذلك ثم يكتب القاضي في ذلك الشهر أسماء الشهود بنفسه على
بطاقة أو يستكتب الكتاب بين يديه فيبعثها إلى المعدل سرا وهي المسماة بالمستورة في عرف ديارنا والأفضل أن
12

يبعث على يدي عدلين وان بعث على يدي عدل فهو على الاختلاف الذي ذكرنا والله سبحانه أعلم (ومنها) أن يقدم
الخصوم على مراتبهم في الحضور الأول فالأول لقوله عليه الصلاة والسلام المباح لمن سبق إليه وان اشتبه عليه حالهم
استعمل القرعة فقدم من خرجت قرعته الا الغرباء إذا خاصموا بعض أهل المصر إليه أو خاصم بعضهم بعضا أو
خاصمهم بعض أهل المصر فإنه يقدمهم في الخصومة على أهل المصر لما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال
قدم الغريب فإنك إذا لم ترفع به رأسا ذهب وضاع حقه فتكون أنت الذي ضيعته ندب رضي الله عنه إلى تقديم
الغريب ونبه على المعنى لأنه لا يمكنه الانتظار فكان تأخيره في الخصومة تضييعا لحقه الا إذا كانوا كثيرا بحيث
يشتغل القاضي عن أهل المصر فيخلطهم باهل المصر لان تقديمهم يضر بأهل المصر وكذا تقديم صاحب الشهود على
غيره لان اكرام الشهود واجب قال عليه الصلاة والسلام أكرموا الشهود فان الله يحيى بهم الحقوق وليس من
الاكرام حبسهم على القاضي وهذا إذا كان واحد فإن كانوا كثيرا أقرع بينهم وينبغي أن يقدم الرجال على
حدة والنساء على حدة لما في الخلط من خوف الفتنة ولو رأى أن يجعل لهن يوما على حدة لكثرة الخصوم فعل لان
افرادهن بيوم استر لهن ومنها أن لا يتعب نفسه في طول الجلوس لأنه يحتاج إلى النظر في الحجج وبطول الجلوس
يختل النظر فيها فلا ينبغي ان يفعل ذلك ويكفى الجلوس طرفي النهار وقدر مالا يفتر عن النظر في الحجج وإذا تقدم إليه
الخصمان هل يسأل المدعى عن دعواه ذكر في أدب القاضي انه يسأل وذكر في الزيادات انه لا يسأل وكذا إذا
ادعى دعوى صحيحة هل يسأل المدعى عليه عن دعوى خصمه ذكر في آداب القاضي انه يسأل وذكر في الزيادات
انه لا يسأل حتى يقول له المدعى سله عن جواب دعواي وجه ما ذكر في الزيادات أن السؤال عن الدعوى انشاء
الخصومة والقاضي لا ينشئ الخصومة وجه ما ذكر في الكتاب ان من الجائز أحد الخصمين يلحقه مهابة مجلس
القضاء فيعجز عن البيان دون سؤال القاضي فيسأل عن دعواه ومنها ان المدعى إذا أقام البينة فادعى المدعى عليه
الدفع وقال لي بينة حاضرة أمهله زمانا لقول سيدنا عمر رضي الله عنه في كتاب السياسة اجعل للمدعى أمدا ينتهى
إليه وأراد به مدعى الدفع ألا ترى أنه قال وان عجز استحللت عليه القضاء ولأنه لو لم يمهله وقضى بينة المدعى ربما يحتاج
إلى نقض قضائه لجواز ان يأتي بالدفع مؤخرا فهو من صيانة القضاء عن النقض ثم ذلك مفوض إلى رأى القاضي
ان شاء أخر إلى آخر المجلس وان شاء إلى الغد وان شاء إلى بعد الغد ولا يزيد عليه لان الحق قد توجه عليه فلا يسعه
التأخير أكثر من ذلك وان أدى ببينة غائبة لا يلتفت إليه بل يقضى للمدعى ومنها أن يجلس للقضاء في أشهر المجالس
ليكون أرفق بالناس وهل يقضى في المسجد قال أصحابنا رحمهم الله يقضى وقال الشافعي رحمه الله لا يقضى بل
يقضى في بيته وجه قوله إن القاضي يأتيه المشرك والحائض والنفساء والجنب ويجرى بين الخصمين كلام اللغو
والرفث والكذب لان أحدهما كاذب وتنزيه المسجد عن هذا كله واجب (ولنا) الاقتداء برسول الله صلى
الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضى الله تعالى عنهم فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقضى في المسجد
وكذا الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون رضي الله عنهم كانوا يجلسون في المسجد للقضاء والاقتداء بهم واجب
ولا بأس للقاضي ان يرد الخصوم إلى الصلح ان طمع منهم ذلك قال الله تبارك وتعالى والصلح خير فكان الرد إلى
الصلح ردا إلى الخير وقال سيدنا عمر رضي الله عنه ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يورث بينهم
الضغائن فندب رضي الله عنه القضاة إلى رد الخصوم إلى الصلح ونبه على المعنى وهو حصول المقصود من غير ضغينة ولا
يزيد على مرة أو مرتين فان اصطلحا والا قضى بينهما بما يوجب الشرع وان لم يطمع منهم الصلح لا يردهم إليه بل
ينفذ القضية فيهم لأنه لا فائدة في الرد وهل للقاضي أن يأخذ الرزق فإن كان فقيرا له أن يأخذ لأنه يعمل
للمسلمين فلابد له من الكفاية ولا كفاية له فكانت كفايته في بيت المال الا أن يكون له ذلك أجرة عمله
وينبغي للامام ان يوسع عليه وعلى عياله كيلا يطمع في أموال الناس وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث
13

عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة ولاه أمرها رزقه أربعمائة درهم في كل عام وروى أن الصحابة الكرام رضى
الله تعالى عنهم أجروا لسيدنا أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه كل يوم درهما وثلثا أو ثلثين من بيت المال وكذا روى أنه
كان لسيدنا عمر رضي الله عنه مثل ذلك من بيت المال وكان لسيدنا علي رضي الله عنه كل يوم قصعة من ثريد ورزق
سيدنا عمر رضي الله عنه شريحا وروى أن سيدنا عليا فرض له خمسمائة درهم في كل شهر وإن كان غنيا اختلفوا فيه
قال بعضهم لا يحل له ان يأخذ لان الاخذ بحكم الحاجة ولا حاجة له إلى ذلك وقال بعضهم يحل له الاخذ والأفضل له
ان يأخذ اما الحل فلما بينا انه عامل للمسلمين فكانت كفايته عليهم لا من طريق الاجر واما الأفضلية فلانه وان لم يكن
محتاجا إلى ذلك فربما يجئ بعده قاض محتاج وقد صار ذلك سنة ورسما فتمتنع السلاطين عن ابطال رزق القضاة إليهم
خصوصا سلاطين زماننا فكان الامتناع من الاخذ شحا بحق الغير فكان الأفضل هو الاخذ وليس للقاضي ان
يستخلف الا إذا أذن له الامام بذلك لأنه يتصرف بالتفويض فيتقدر بقدر ما فوض إليه كالوكيل ولو استخلف
تتوقف قضايا خليفته على اجازته بمنزلة الوكيل الخاص إذا وكل غيره فتصرف ولو كان الامام أذن له بذلك كان له ذلك
كالوكيل العام وفى آداب القضاء وما ندب القاضي إلى فعله كثرة لها كتاب مفرد هناك إن شاء الله تعالى
* (فصل) * واما بيان ما ينفذ من القضايا وما ينقض منها إذا رفع إلى قاض آخر فنقول وبالله التوفيق قضاء القاضي
الأول لا يخلوا اما ان وقع في فصل فيه نص مفسر من الكتاب العزيز والسنة المتواترة والاجماع واما ان وقع في فصل
مجتهد فيه من ظواهر النصوص والقياس فان وقع في فصل فيه نص مفسر من الكتاب أو الخبر المتواتر أو الاجماع فان
وافق قضاؤه ذلك نفذ ولا يحل له النقض لأنه وقع صحيحا قطعا وان خالف شيئا من ذلك يرده لأنه وقع باطلا قطعا وان
وقع في فصل مجتهد فيه فلا يخلو اما إن كان مجمعا على كونه مجتهدا فيه واما إن كان مختلفا في كونه مجتهدا فيه فإن كان ذلك
مجمعا على كونه محل الاجتهاد فاما إن كان المجتهد فيه هو المقضى به واما إن كان نفس القضاء فإن كان المجتهد فيه هو المقضى
به فرفع قضاؤه إلى قاض آخر لم يرده الثاني بل ينفذه لكونه قضاء مجمعا على صحته لما علم أن الناس على اختلافهم في المسألة
اتفقوا على أن للقاضي ان يقضى بأي الأقوال الذي مال إليه اجتهاده فكان قضاء مجمعا على صحته فلو نقضه إنما ينقضه
بقوله وفى صحته اختلاف بين الناس فلا يجوز نقض ما صح بالاتفاق بقول مختلف في صحته ولأنه ليس مع الثاني دليل
قطعي بل اجتهادي وصحة قضاء القاضي الأول ثبت بدليل قطعي وهو اجماعهم على جواز القضاء بأي وجه اتضح له فلا
يجوز نقض ما مضى بدليل قاطع بما فيه شبهة ولان الضرورة توجب القول بلزوم القضاء المبنى على الاجتهاد وان
لا يجوز نقضه لأنه لو جاز نقضه يرفعه إلى قاض آخر يرى خلاف رأى الأول فينقضه ثم يرفعه المدعى إلى قاض آخر
يرى خلاف رأى القاضي الثاني فينقض نقضه ويقضى كما قضى الأول فيؤدى إلى أن لا تندفع الخصومة والمنازعة
أبدا والمنازعة سبب الفساد وما أدى إلى الفساد فساد فإن كان رده القاضي الثاني فرفعه إلى قاض ثالث نفذ قضاء
القاضي الأول وأبطل قضاء القاضي الثاني لان قضاء الأول صحيح وقضاء الثاني بالرد باطل هذا إذا كان القاضي الأول
قاضى أهل العدل فإن كان قاضى أهل البغي فرفعت قضاياه إلى قاضى أهل العدل بان ظهر أهل العدل على المصر الذي
كان في يد الخوارج فرفعت إلى قاضى أهل العدل قضايا قاضيهم لم ينفذ شيئا منها بل ينقضها كلها وإن كانوا من أهل
القضاء والشهادة في الجملة كبتا وغيظا لهم لينزجروا عن البغي وإن كان نفس القضاء مجتهدا فيه انه يجوز أم لا كما لو قضى
بالحجر على الحر أو قضى على الغائب انه يجوز للقاضي الثاني ان ينقض قضاء الأول إذا مال اجتهاده إلى خلاف اجتهاد
الأول لان قضاءه هنا لم يجز بقول الكل بل بقول البعض دون البعض فلم يكن جوازه متفقا عليه فكان محتملا للنقض
بمثله بخلاف الفصل الأول لأن جواز القضاء هناك ثبت بقول الكل فكان متفقا عليه فلا يحتمل النقض بقول البعض
ولان المسألة إذا كانت مختلفا فيها فالقاضي بالقضاء يقطع أحد الاختلافين ويجعله متفقا عليه في الحكم بالقضاء المتفق
على جوازه وإذا كان نفس القضاء مختلفا فيه يرفع الخلاف بالخلاف هذا إذا كان القضاء في محل أجمعوا على كونه
14

محل الاجتهاد فاما إذا كان في محل اختلفوا انه محل الاجتهاد أم لا كبيع أم الولد هل ينفذ فيه قضاء القاضي أم لا فعند
أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ينفذ لأنه محل الاجتهاد عندهما لاختلاف الصحابة في جواز بيعها وعند محمد لا
ينفذ لوقوع الاتفاق بعد ذلك من الصحابة وغيرهم على أنه لا يجوز بيعها فخرج عن محل الاجتهاد وهذا يرجع إلى أن
الاجماع المتأخر هل يرفع الخلاف المتقدم عندهما لا يرفع وعنده يرفع فكان هذا الفصل مختلفا في كونه مجتهدا فيه
فينظر إن كان من رأى القاضي الثاني انه يجتهد فيه ينفذ قضاءه ولا يرده لما ذكرنا في سائر المجتهدات المتفق عليها وإن كان
من رأيه انه خرج عن حد الاجتهاد وصار متفقا عليه لا ينفذ بل يرده لان عنده ان قضاء الأول وقع مخالفا للاجماع
فكان باطلا ومن مشايخنا من فصل في المجتهدات تفصيلا آخر فقال إن كان الاجتهاد شنيعا مستنكرا جاز للقاضي
الثاني ان ينقض قضاء الأول وهذا فيه نظر لأنه إذا صح كونه محل الاجتهاد فلا معنى للفصل بين مجتهد ومجتهد
لان ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بينهما فينبغي ان لا يجوز للثاني نقض قضاء الأول لان قضاءه صادف
محل الاجتهاد
* (فصل) * واما بيان ما يحله القضاء ومالا يحله فالأصل ان قضاء القاضي بشاهدي الزور فيما له ولاية انشائه في
الجملة يفيد الحل عند أبي حنيفة رحمه الله وقضاؤه بهما فيما ليس له ولاية انشائه أصلا لا يفيد الحل بالاجماع وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله والشافعي رحمه الله لا يفيد الحل فيهما جميعا فنقول جملة الكلام فيه ان القاضي إذا قضى
بشاهدين ثم ظهر انهما شاهدا زور فلا يخلو اما ان قضى بعقد أو فسخ عقد واما ان قضى بملك مرسل فان قضى بعقد
أو بفسخ عقد فقضاؤه يفيد الحل عنده وعندهم لا يفيد ولقب المسألة ان قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهود زور
هل ينفذ ظاهرا وباطنا فهو على الخلاف الذي ذكرنا وان قضى بملك مرسل لا ينفذ قضاؤه باطنا بالاجماع وبان هذه
الجملة في مسائل إذا ادعى رجل على امرأة انه تزوجها فأنكرت فأقام على ذلك شاهدي زور فقضى القاضي بالنكاح
بينهما وهما يعلمان انه لا نكاح بينهما حل للرجل وطؤها وحل لها التمكين عند أبي حنيفة وعندهم لا يحل وكذا إذا
شهد شاهدان على رجل انه طلق امرأته ثلاثا وهو منكر فقضى القاضي بالفرقة بينهما ثم تزوجها أحد الشاهدين حل
له وطؤها وإن كان يعلم أنه شهدا بزور عنده وعندهم لا يحل وعلى هذا الخلاف دعوى البيع والاعتاق وفى الهبة عن
أبي حنيفة رحمه الله روايتان وأجمعوا على أنه لو ادعى نكاح امرأة وهي تنكر وتقول أنا أخته من الرضاع أو أنا في عدة
من زوج آخر فشهد بالنكاح شاهدان وقضى القاضي بشهادتهما والمرأة تعلم أنها كما أخبرت لا يحل لها التمكين وأجمعوا
أيضا على أنه لو ادعى رجل أن هذه جاريته وهي تنكر فأقام على ذلك شاهدين وقضى القاضي بالجارية انه لا يحل له
وطؤها إذا كان يعلم أنه كاذب في دعواه ولا يحل لاحد الشاهدين أيضا ان يشتريها احتجوا بما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض وإنما أنا بشر فمن قضيت له من مال
أخيه شيئا بغير حق فإنما أقطع له قطعة من النار أخبر الشارع عليه الصلاة والسلام ان القضاء بما ليس للمدعى قضاء
له بقطعة من النار ولو نفذ قضاؤه باطنا لما كان القضاء به قضاء بقطعة من النار ولان القضاء إنما ينفذ بالحجة
وهي الشهادة الصادقة وهذه كاذبة بيقين فلا ينفذ حقيقة ولهذا لم ينفذ بالملك المرسل وكذا إذا كانت المرأة محرمة
بالعدة والردة أو الرضاع أو القرابة أو المصاهرة كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان قضاء القاضي بما يحتمل
الانشاء انشاء له فينفذ ظاهرا وباطنا كما لو أنشأ صريحا ودلالة الوصف ان القاضي مأمور بالقضاء بالحق ولا يقع
قضاؤه بالحق فما يحتمل الانشاء الا بالحمل على الانشاء لان البينة قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة فيجعل
انشاء والعقود والفسوخ مما تحتمل الانشاء من القاضي فان للقاضي ولاية انشائها في الجملة بخلاف الملك المرسل لان
نفس الملك مما لا يحتمل الانشاء ولهذا لو أنشأ القاضي أو غيره صريحا لا يصح وبخلاف ما إذا كانت المرأة
محرمة بأسباب لان هناك ليس للقاضي ولاية الانشاء ألا ترى انه لو أنشأ صريحا لا ينفذ واما الحديث فقد
15

قيل إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في أخوين اختصما إليه في مواريث درست بينهما فقال إلى آخره ولم يكن لهما
بينة الا دعواهما كذا ذكره أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنهما والميراث ومطلق الملك سواء في الدعوى وبه نقول
مع أنه ليس فيه ذكر السبب والكلام في القضاء بسبب على أنا نقول بموجبه لكن لم قلتم ان القضاء بسبب قضاء له
من مال آخر بغير حق بل هو قضا له من مال نفسه وبحق لان القضاء بسبب الملك صحيح عندنا فقد قلنا بموجب
الحديث والحمد لله وحده
* (فصل) * واما بيان حكم خطأ القاضي في القضاء فنقول الأصل ان القاضي إذا أخطأ في قضائه بان ظهر ان
الشهود كانوا عبيدا أو محدودين في قذف انه لا يؤاخذ بالضمان لأنه بالقضاء لم يعمل لنفسه بل لغيره فكان بمنزلة الرسول
فلا تلحقه العهدة ثم ينظر اما إن كان المقضى به من حقوق العباد واما إن كان من حقوق الله عز وجل خالصا كالقطع
في السرقة والرجم في زنا المحصن فإن كان في حقوق العباد كان مالا وهو قائم رده على المقضى عليه لان قضاءه وقع
باطلا ورد عين المقضى به ممكن فيلزمه رده لقول النبي عليه الصلاة والسلام على اليد ما أخذت حتى ترده ولأنه عين مال
المدعى عليه ومن وجد عين ماله فهو أحق به وإن كان هالكا فالضمان على المقضى له لان القاضي عمل له فكان خطؤه
عليه ليكون الخراج بالضمان ولأنه إذا عمل له فكان هو الذي فعل بنفسه وإن كان حقا ليس بمال كالطلاق والعتاق
بطل لأنه تبين ان قضاءه كان باطلا وانه أمر شرعي يحتمل الرد فيرد بخلاف الحدود والمال الهالك لأنه لا يحتمل الرد
بنفسه فيرد بالضمان هذا إذا كان المقضى به من حقوق العباد واما إذا كان من حق الله عز وجل خالصا فضمانه في بيت
المال لأنه عمل فيها لعامة المسلمين لعود منفعتها إليهم وهو الزجر فكان خطؤه عليهم لما قلنا فيؤدى من بيت مالهم ولا
يضمن القاضي لما قلنا ولا الجلاد أيضا لأنه عمل بأمر القاضي والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يخرج به القاضي عن القضاء فنقول وبالله التوفيق كل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج
به القاضي عن القضاء وما يخرج به الوكيل عن الوكالة أشياء ذكرناها في كتاب الوكالة لا يختلفان الا في شئ واحد وهو
ان الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته وولاته (ووجه) الفرق ان الوكيل
يعمل بولاية الموكل وفى خالص حقه أيضا وقد بطلت أهلية الولاية فينعزل الوكيل والقاضي لا يعمل بولاية الخليفة وفى
حقه بل بولاية المسلمين وفى حقوقهم وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عنهم لهذا لم تلحقه العهدة كالرسول في سائر العقود
والوكيل في النكاح وإذا كان رسولا كان فعله بمنزلة فعل عامة المسلمين وولايتهم بعد موت الخليفة باقية فيبقى القاضي
على ولايته وهذا بخلاف العزل فان الخليفة إذا عزل القاضي أو الوالي ينعزل بعزله ولا ينعزل بموته لأنه لا ينعزل بعزل
الخليفة أيضا حقيقة بل بعزل العامة لما ذكرنا ان توليته بتولية العامة والعامة ولوه الاستبدال دلالة لتعلق مصلحتهم بذلك
فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضا فهو الفرق بين العزل والموت ولو استخلف القاضي باذن الامام ثم مات
القاضي لا ينعزل خليفته لأنه نائب الامام في الحقيقة لا نائب القاضي ولا ينعزل بموت الخليفة أيضا كما لا ينعزل
القاضي لما قلنا ولا يملك القاضي عزل خليفته لأنه نائب الامام فلا ينعزل بعزله كالوكيل انه لا يملك عزل الوكيل
الثاني لان الثاني وكيل الموكل في الحقيقة لا وكيله كذا ههنا الا إذا اذن له الخليفة ان يستبدل من شاء
فيملك عزله ويكون ذلك أيضا عزلا من الخليفة لا من القاضي لان القاضي كالوكيل إذا قال له الموكل اعمل برأيك أنه
يملك التوكيل والعزل وإذا عزل كان العزل في الحقيقة من الموكل كذا هذا وعلم المعزول بالعزل شرط صحة العزل كما ذكر
في الوكالة وهل ينعزل بأخذ الرشوة في الحكم عندنا لا ينعزل لكنه يستحق العزل فيعزله الامام ويعزره كذا ذكر في
كتاب الحدود وقال مشايخ العراق من أصحابنا انه ينعزل وقالوا صحت الرواية عن أصحابنا رضي الله عنهم أنه ينعزل
واستدلوا بما ذكر في السير الكبير أنه يخرج من القضاء لكن رواية مشايخنا أنه لا يخرج من القضاء وهذه الرواية أولى
لأن هذه الرواية مشتبهة ورواية كتاب الحدود محكمة لأنه ذكر ان الامام يعزله ويعزره فكان فيما قلنا حمل المحتمل على
16

المحكم فكان عملا بالروايتين جميعا فكان أولى وهذا عندنا وقال الشافعي عليه الرحمة ينعزل وهو قول المعتزلة ولقب
المسألة ان القاضي إذا فسق هل ينعزل أولا فعندنا لا ينعزل وعند الشافعي ينعزل وبه قالت المعتزلة لكن بناء على
أصلين مختلفين فأصل المعتزلة ان الفسق يخرج صاحبه عن الايمان فيبطل أهلية القضاء وأصل الشافعي رحمه الله
ان العدالة شرط أهلية القضاء كما هي شرط أهلية للشهادة لان أهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة وقد زالت بالفسق
فتبطل الأهلية والأصل عندنا أن الكبيرة لا تخرج صاحبها من الايمان والعدالة ليست بشرط أهلية القضاء كما ليست
بشرط لأهلية الشهادة على ما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (كتاب القسمة) *
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان أنواع القسمة وفي بيان شرعية كل نوع وفي بيان معنى القسمة
لغة وشرعا وفي بيان شرائط القسمة وفي بيان صفات القسمة وفي بيان حكم القسمة وفي بيان ما يوجب نقض
القسمة بعد وجودها (أما) الأول فالقسمة في الاملاك المشتركة نوعان أحدهما قسمة الأعيان والثاني قسمة
المنافع وقسمة كل واحد من النوعين مشروعة أما قسمة الأعيان فقد عرفت شرعيتها بالسنة والاجماع (أما)
السنة فما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم غنائم خيبر بين الغانمين وأدنى درجات فعله عليه الصلاة والسلام
الشرعية (وأما) الاجماع فان الناس استعملوا القسمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير
نكير فكانت شرعيته متوارثة والمعقول يقتضيه توفيرا على كل واحد مصلحته بكمالها
* (فصل) * وأما بيان معنى القسمة لغة وشرعا أما في اللغة فهي عبارة عن افراز النصيب وفى الشريعة عبارة عن افراز
بغض الانصباء عن بعض ومبادلة بعض ببعض لان ما من جزأين من العين المشتركة لا يتجزءان قبل القسمة الا
وأحدهما ملك أحد الشريكين والآخر ملك صاحبه غير عين فكان نصف العين مملوكا لهذا والنصف مملوكا لذاك
على الشيوع فإذا قسمت بينهما نصفين والاجزاء المملوكة لكل واحد منهما شائعة غير معينة فتجتمع بالقسمة في
نصيبه دون نصيب صاحبه فلابد وأن يجتمع في نصيب كل واحد منهما أجزاء بعضها مملوكة له وبعضها مملوكة
لصاحبه على الشيوع فلو لم تقع القسمة مبادلة في بعض أجزاء المقسوم لم يكن المقسوم كله ملكا للمقسوم عليه بل يكون
بعضه ملك صاحبه فكانت القسمة منهما بالتراضي أو بطلبهما من القاضي رضا من كل واحد منهما بزوال ملكه عن
نصف نصيبه بعوض وهو نصف نصيب صاحبه وهو تفسير المبادلة فكانت القسمة في حق الاجزاء المملوكة له
افرازا وتمييزا أو تعيينا لها في الملك وفى حق الاجزاء المملوكة لصاحبه معاوضة وهي مبادلة بعض الاجزاء المجتمعة
في نصيبه ببعض الاجزاء المجتمعة في نصيب صاحبه فكانت افراز بعض الانصباء ومعاوضة البعض ضرورة وهذا
هو حقيقة القسمة المعقولة في الاملاك المشتركة فكان معنى المعاوضة لازما في كل قسمة شرعية الا أنه أعطى لها حكم
الافراز في ذوات الأمثال في بعض الأحكام لان المأخوذ من العوض مثل المتروك من المعوض فجعل كأنه يأخذ
عين حقه بمنزلة المقرض حتى كان لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه من غير رضا صاحبه فجعل افرازا حكا وهذا
المعنى لا يوجد في غير ذوات الأمثال فان قيل أليس انه يجبر على القسمة والمعاوضات مما لا يجرى فيها الجبر كالبيع
ونحوه (فالجواب) ان المعاوضة قد يجرى فيها الجبر ألا ترى ان الغريم يجبر على قضاء الدين وقضاء الدين لا يتحقق
الا بطريق المعاوضة على ما بينا في كتاب الوكالة دل ان الجبر لا ينفى المعاوضة فجاز أن يجبر على القسمة وإن كانت
معاوضة مع ما أن الجبر لا يجرى في المعاوضات المطلقة كالبيع ونحوه والقسمة ليست بمعاوضة مطلقة بل هي افراز من
وجه ومعاوضة من وجه فجاز أن يجرى فيها الجبر وعلى هذا الأصل تخرج قسمة المكيلات والموزونات والعدديات
المتقاربة انها لا تجوز مجازفة كما لا يجوز بيعها مجازفة لاعتبار معنى المبادلة وذكر في الكتاب في كر حنطة مشترك بين
17

رجلين ثلاثون منه رديئة وعشرة منه جيدة قيمتها سواء فأرادا أن يقتسماه فيأخذ أحدهما ثلاثين والآخر عشرة أنه
لا يجوز لتمكن الربا فيه لتحقق معنى المعاوضة ولو زاد صاحب الزيادة ثوبا أو شيئا آخر جاز لان الزيادة صارت مقابلة
بالثوب فزال معنى الربا وقال في زرع مشترك بين رجلين في أرض مملوكة لهما فأرادا قسمة الزرع دون الأرض وقد
سنبل الزرع انه لا تجوز قسمته لان قسمته بطريق المجازفة ولا تجوز المعاوضة بطريق المجازفة في الأموال الربوية
وكذا لو أوصى بصوف على ظهر غنم لرجلين أو أوصى باللبن في الضرع لهما لم تجز قسمته قبل الجز والحلب لان
الصوف واللبن من الأموال الربوية فلا يحتملان القسمة مجازفة كما لا يحتملان البيع مجازفة وكذا خيار العيب
يدخل في نوعي القسمة كما يدخل في البيع وخيار الرؤية والشرط يدخل في أحد النوعين دون الآخر لا لانعدام معنى
المبادلة بل لمعنى آخر نذكره في موضعه ولو اشترى رجلان من رجل كر حنطة بمائة درهم فاقتسماه فلكل واحد منهما أن
يبيع نصيبه مرابحة على خمسين درهما ولو اشتريا دارا بمائة درهم فاقتسماها ليس لواحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على
خمسين وإنما افترق النوعان في هذا الحكم لا لاعتبار معنى الافراز في أحدهما والمبادلة في الآخر بل لمعنى آخر وهو أن
المرابحة بيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شئ وإنما يجوز البيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شئ فما يحتمل
الزيادة واما فيما لا يحتمل الزيادة فلا كما إذا اشترى كر حنطة بكر حنطة لا يبيعه مرابحة على الكر كذا هنا بل أولى لان
ذلك معاوضة مقصودة والمعاوضة في القسمة ليست بمقصودة وإذا كان كذلك يسقط اعتبار هذا الثمن شرعا في هذا
الحكم لأنه لا يحتمل الزيادة فكان له أن يبيعه مرابحة على أول ثمن يحتمل الزيادة وهو الخمسون بخلاف قسمة الدار لان
هناك يمكن البيع بالثمن الأول وهو ثمن القسمة وزيادة شئ بان يبيع نصفه من شريكه بالنصف الذي في يده وربح درهم
مثلا كما إذا اشترى دارا بدار أو اشترى كر حنطة بثوب فأمكن بيعه مرابحة على الثمن الأول في الجملة فلم يجز بيعه
مرابحة على خمسين الا أنه إذا باعه مرابحة أو باعه من بائعه بالنصف الذي في يده بربح ده يازده لا يجوز لمعنى عرف في
كتاب البيوع والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط جواز القسمة فأنواع بعضها يرجع إلى القاسم وبعضها يرجع إلى المقسوم وبعضها يرجع إلى
المقسوم له (أما) الذي يرجع إلى القاسم فنوعان نوع وهو شرط الجواز ونوع هو شرط الاستحباب أما شرائط الجواز
فأنواع منها العقل فلا تجوز قسمة المجنون والصبي الذي لا يعقل لان العقل من شرائط أهلية التصرفات الشرعية
فاما البلوغ فليس بشرط لجواز القسمة حتى تجوز قسمة الصبي الذي يعقل القسمة بإذن وليه وكذلك الاسلام
والذكورة والحرية ليست بشرط لجواز القسمة فتجوز قسمة الذمي والمرأة والمكاتب والمأذون لان هؤلاء من أهل
البيع فكانوا من أهل القسمة والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) الملك والولاية فلا تجوز القسمة بدونهما أما الملك
فالمعنى به أن يكون القاسم مالكا فيقسم الشركاء بالتراضي وأما الولاية فنوعان ولاية قضاء وولاية قرابة الا أن شرط
ولاية القضاء الطلب فيقسم القاضي وأمينه على الصغير والكبير والذكر والأنثى والمسلم والذمي والحر والعبد والمأذون
والمكاتب عند طلب الشركاء كلهم أو بعضهم على ما نذكره ولا يشترط ذلك في ولاية القرابة فيقسم الأب ووصيه
والجد ووصيه على الصغير والمعتوه من غير طلب أحد والأصل فيه ان كل من له ولاية البيع فله ولاية القسمة ومن
لا فلا ولهؤلاء ولاية البيع فكانت لهم ولاية القسمة وكذا القاضي له ولاية بيع مال الصغير والكبير في الجملة فكان له
ولاية القسمة في الجملة (وأما) وصى الام ووصى الأخ والعم فيقسم المنقول دون العقار لان له ولاية بيع المنقول دون
العقار وفى وصى المكاتب إذا مات عن وفاء أنه هل يقسم فيه روايتان وهذا كله يقرر ما قلنا إن معنى المبادلة لازم في
القسمة حيث جعل سبيله سبيل البيع في الولاية ولا يقسم وصى الميت على الموصى له لانعدام ولايته عليه وكذا
لا يقسم الورثة عليه لانعدام ولايتهم عليه لان الموصى له كواحد من الورثة ولا يقسم بعض الورثة على بعض لانعدام
الولاية فلا يقسمون على الموصى له ولو اقتسموا وهو غائب نقضت قسمتهم لكن هذا إذا كانت القسمة بالتراضي فان
18

كانت بقضاء القاضي تنفذ ولا تنقض لما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وأما شرائط الاستحباب فأنواع (منها)
أن يكون عدلا أمينا عالما بالقسمة لأنه لو كان غير عدل خائنا أو جاهلا بأمور القسمة يخاف منه الجور في القسمة لا يجوز
(ومنها) أن يكون منصوب القاضي لان قسمة غيره لا تنفذ على الصغير والغائب ولأنه أجمع لشرائط الأمانة والأفضل
أن يرزقه من بيت المال ليقسم للناس من غير أجر عليهم لان ذلك أرفق بالمسلمين فإن لم يمكنه أن يرزقه من بيت المال يقسم
لهم باجر عليهم ولكن ينبغي للقاضي أن يقدر له أجرة معلومة كيلا يتحكم على الناس ولو أراد الناس أن يستأجروا قساما
آخر غير الذي نصبه القاضي لا يمنعهم القاضي عن ذلك ولا يجبرهم على أن يستأجروا قساما لأنه لو فعل ذلك لعله
لا يرضى الا بأجرة كثيرة فيتضرر الناس وكذا لا يترك القسامين يشتركون في القسم لما قلنا (ومنها) المبالغة في تعديل
الانصباء والتسوية بين السهام بأقصى الامكان لئلا يدخل قصور في سهم وينبغي أن لا يدع حقا بين شريكين غير
مقسوم من الطريق والمسيل والشرب الا إذا لم يمكن وينبغي أن لا يضم نصيب بعض الشركاء إلى بعض الا إذا
رضوا بالضم لأنه يحتاج إلى القسمة ثانيا وينبغي أن لا يدخل في قسمة الدار ونحوها الدراهم الا إذا كان لا يمكن القسمة
الا كذلك لان محل القسمة الملك المشترك ولا شركة في الدراهم فلا يدخلها في القسمة الا عند الضرورة والله سبحانه
وتعالى الموفق (ومنها) أن يقرع بينهم بعد الفراغ من القسمة ويشترط عليهم قبول من خرج سهمه أولا فله هذا
السهم من هذا الجانب من الدار ومن خرج سهمه بعده فله السهم الذي يليه هكذا ثم يقرع بينهم لا لان القرعة يتعلق
بها حكم بل لتطييب النفوس ولورود السنة بها ولان ذلك أنفى للتهمة فكان سنة والله سبحانه وتعالى أعلم وإذا قسم
بأجر فأجرة القسمة على عدد الرؤس عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما رحمهما الله على قدر الانصباء (وجه)
قولهما ان أجرة القسمة من مؤنات الملك فيتقدر بقدره كالنفقة (وجه) قول أبي حنيفة عليه الرحمة ان الأجرة
بمقابلة العمل وعمله في حق الكل على السواء فكانت الأجرة عليهم على السواء وهذا لان عمله تمييز الانصباء
والتمييز عمل واحد لان تمييز القليل من الكثير هو بعينه تمييز الكثير من القليل والتفاوت في شئ واحد محال وإذا لم
يتفاوت العمل لا تتفاوت الأجرة بخلاف النفقة لأنها بمقابلة الملك والملك يتفاوت فهو الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقسوم له فأنواع (منها) أن لا يلحقه ضرر في أحد نوعي القسمة دون النوع
الآخر وبيان ذلك ان القسمة نوعان قسمة جبر وهي التي يتولاها القاضي وقسمة رضا وهي التي يفعلها الشركاء بالتراضي
وكل واحد منهما على نوعين قسمة تفريق وقسمة جمع (أما) قسمة التفريق فنقول وبالله تعالى التوفيق ان الذي
تصادفه القسمة لا يخلو من أحد وجهين (اما) أن لا يكون مما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين أصلا بل لهما فيه منفعة (واما)
أن يكون مما في تبعيضه مضرة فإن كان مما لا مضرة في تبعيضه أصلا بل فيه منفعة للشريكين كالمكيل والموزون
والعددي المتقارب فتجوز قسمة التفريق فيها قسمة جبر كما تجوز فيها قسمة الرضا لتحقق ما شرع له القسمة وهو
تكميل منافع الملك وإن كان مما في تبعيضه ضرر فلا يخلو من أحد وجهين (اما) أن يكون فيه ضرر بكل واحد
منهما (واما) أن يكون فيه ضرر بأحدهما نفع في حق الآخر فإن كان في تبعيضه ضرر بكل واحد منهما فلا تجوز
قسمة الجبر فيه وذلك نحو اللؤلؤة الواحدة والياقوتة والزمردة والثوب الواحد والسرج والقوس والمصحف الكريم
والقباء والجبة والخيمة والحائط والحمام والبيت الصغير والحانوت الصغير والرحى والفرس والجمل والبقرة والشاة
لان القسمة في هذه الأشياء قسمة اضرار بالشريكين جميعا والقاضي لا يملك الجبر على الاضرار وكذلك النهر والقناة
والعين والبئر لما قلنا فإن كان مع ذلك أرض قسمت الأرض وتركت البئر والقناة على الشركة (فاما) إذا كانت أنهار
الأرضين متفرقة أو عيونا أو آبارا قسمت الآبار والعيون لأنه لا ضرر في القسمة وكذا الباب والساحة والخشبة إذا كان
في قطعهما ضرر فإن كانت الخشبة كبيرة يمكن تعديل القسمة فيها من غير ضرر جازت وتجوز قسمة الرضا في هذه
الأشياء بان يقتسماها بأنفسهما بتراضيهما لأنهما يملكان الاضرار بأنفسهما مع ما أن ذلك لا يخلو عن نوع نفع ومالا تجرى
19

فيه القسمة لا يجبر واحد منهما على بيع حصته من صاحبه عند عامة العلماء وقال مالك رحمه الله إذا اختصما فيه باع
القاضي وقسم الثمن بينهما والصحيح قول العامة لان الجبر على إزالة الملك غير مشروع وعلى هذا طريق بين رجلين
طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر فإن كان يستقيم لكل واحد منهما طريق نافذ بعد القسمة يجبر على القسمة لان
القسمة تقع تحصيلا لما شرعت له وهو تكميل منافع الملك فيجبر عليها وإن كان لا يستقيم لا يجبر على القسمة لأنها قسمة
اضرار بالشريكين فلا يليها القاضي الا إذا كان لكل واحد منهما في نصيبه من الدار مفتح من وجه آخر فيقسم أيضا لان
القسمة في هذه الصورة لا تقع اضرارا لو اقتسما بأنفسهما جازت لتراضيهما بالضرر وكذلك المسيل المشترك إذا
طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وإن كان بحال لو قسم يصيب كل واحد منهما بعد القسمة قدر ما يسيل ماؤه أو كان
له موضع آخر يمكنه التسييل فيه يقسم وان لم يمكن لم يقسم لما ذكرنا في الطريق وعلى هذا إذا طلب أحدهما مفتح الدار
من غير رفع الطريق وأبى الآخر الا برفع الطريق أنه إن كان لكل واحد منهما مفتح آخر يفتحه في نصيبه قسم بينهما
بغير رفع الطريق لان ما هو المطلوب من القسمة وهو تكميل منافع الملك في هذه القسمة أوفر وان لم يكن رفع بينهما
طريقا وقسم الباقي لأنه إذا لم يكن بينهما مفتح كانت القسمة بغير طريق تفويتا للمنفعة لا تكميلا لها فكانت اضرار بهما
وهذا لا يجوز الا إذا اقتسما بأنفسهما بغير طريق فيجوز لما قلنا ولو اختلفا في سعة الطريق وضيقه جعل الطريق على قدر
عرض باب الدار وطوله على أدنى ما يكفيها لان الطريق وضع للاستطراق والباب هو الموضوع مدخلا إلى أدنى
ما يكفي للاستطراق فيحكم فيه والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا إذا بنى رجلا في ارض رجل باذنه وطلب
أحدهما قسمة البناء وأبى الآخر وصاحب الأرض غائب لم تقسم لان الأرض المبنى عليها بينهما شائع بالإعارة أو
بالإجارة فلو قسم البناء بينهما لكان لكل واحد منهما سبيل في بعض نصيب صاحبه وفيه ضرر فلا يجبر على القسمة
ولو اقتسما بالتراضي جازت وكذا لو هدمها وكانت الآلة بينهما وعلى هذا زرع بين رجلين في ارض مملوكة لهما طلب
أحدهما قسمة الزرع دون الأرض فإن كان الزرع قد بلغ وسنبل لا يقسم لما ذكرنا من قبل ولو طلبا جميعا لا يقسم أيضا
لان المانع هو الربا وحرمة الربا لا تحتمل الارتفاع بالرضا وإن كان الزرع بقلا فطلب أحدهما لا يقسم أيضا لان الأرض
مملوكة لهما على الشركة فلو قسم لكان كل واحد منهما بسبيل من القطع وفيه ضرر ولا جبر على الضرر ولو اقتسما
بأنفسهما وشرطا القطع جازت لأنهما رضيا بالضرر ولو شرطا الترك لم يجز لان رقبة الأرض مشتركة بينهما فكان شرط
الترك منهما في القسمة شرطا لانتفاع كل واحد منهما بملك شريكه ومثل هذا الشرط مفسد للبيع مفسدا للقسمة
لان فيها معنى البيع وكذلك لو لم تكن الأرض مملوكة لهما وكانت في أيديهما بالإعارة أو بالإجارة والزرع بقل لا تقسم لما
ذكرنا ولو اقتسما بأنفسهما جازت بشرط القطع ولا تجوز بشرط الترك كالبيع على ذكرنا وكذلك طلع بين رجلين طلب
أحدهما قسمة الطلع دون النخل والأرض لم يقسم لما ذكرنا في الزرع ولو اقتسما بالتراضي فان شرطا القطع جاز وان شرطا
الترك لم يجز لما ذكرنا في الزرع ولو تركه بعد القسمة باذن صاحبه فأدرك وقلع فالفضل له طيب لأنه وان حصل في ملك
مشترك لكنه حصل باذن شريكه فلا يكون خبيثا وان لم يأذن له يتصدق بالفضل لتمكن الخبث فيه فكان سبيله
التصدق هذا إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر بكل واحد من الشريكين فاما إذا كان شيئا في تبعيضه ضرر
بأحدهما دون الآخر كالدار المشتركة بين رجلين ولأحدهما فيها شقص قليل فان طلب صاحب الكثير القسمة
قسمتا جماعا لان القسمة في حقه مفيدة لوقوعها محصلة لما شرعت له من تكميل منافع الملك وفى حق صاحب القليل
تقع منعا له من الانتفاع بنصيبه إذ لا يقدر صاحب القليل على الانتفاع بنصيبه الا بالانتفاع بنصيب صاحب الكثير
لقلة نصيبه فكانت القسمة في حقه منعا له من الانتفاع بنصيب شريكه فجازت وان طلب صاحب القليل القسمة
فقد ذكر الحاكم الجليل في مختصره انه يقسم وذكر القدوري رحمه الله انه لا يقسم (وجه) ما ذكره الحاكم انه لا ضرر
في هذه القسمة في حق صاحب الكثير بل له فيه منفعة فكان في الاباء متعنتا فلا يعتبر اباؤه وصاحب القليل قد
20

رضى بالضرر حيث طلب القسمة فيجبر على القسمة كما إذا لم يكن في تبعيضه ضرر بأحدهما أصلا بخلاف الفصل
الأول لان هناك تقع القسمة اضرارا بكل واحد منهما ولم يوجد الرضا بالضرر والقاضي لا يملك الجبر على الاضرار
فهو الفرق (وجه) ما ذكره القدوري رحمه الله ان صاحب القليل متعنت في طلب القسمة لكون القسمة ضررا
محضا في حقه فلا يعتبر طلبه وقسمة الجبر لم تشرع بدون الطلب ولو اقتسما بأنفسهما جازت لما ذكرنا ان صاحب
القليل قد رضى بالضرر بنفسه ولا ضرر فيه لصاحب الكثير أصلا فجازت قسمتها وعلى هذا دار بين شريكين
قسمت بينهما فأصاب أحدهما موضع بغير طريق شرط له في القسمة فإن كان له فيما أصابه مفتح إلى الطريق جازت
القسمة لأنه لا مضرة له فيها إذ يمكنه الانتفاع بنصيبه بفتح طريق آخر وان لم يكن له فيما أصابه مفتح أصلا فان ذكر
الحقوق في القسمة فله حق الاختيار في نصيب صاحبه لان الطريق من الحقوق فصار مذكورا بذكر الحقوق وان
لم يذكر لم تجز القسمة لأنها قسمة اضرار في حق أحد الشريكين وكذلك إذا قسمت بغير مسيل شرط لأحدهما ووقع
المسيل في نصيب الآخر فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الطريق ولو اقتسما على أن لا طريق له ولا مسيل جازت لأنه
رضى بالضرر والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا الأصل تخرج قسمة الجمع أنه لا يجبر عليها في جنسين لأنها في الأجناس
المختلفة تقع اضرارا في حق أحدهما فلا يجبر عليها على ما سنذكر إن شاء الله تعالى هذا الذي ذكرنا قسمة التفريق وأما
قسمة الجمع فهي ان يجمع نصيب كل واحد من الشريكين في عين على حدة وانها جائزة في جنس واحد ولا تجوز في
جنسين لأنها عند اتحاد الجنس تقع وسيلة إلى ما شرعت له وهو تكميل منافع الملك وعند اختلاف الجنس تقع تفويتا
للمنفعة لا تكميلا لها إذا عرفت هذا فنقول لا خلاف في الأمثال المتساوية وهي المكيلات والموزونات والعدديات
المتقاربة من جنس واحد تقسم قسمة جمع لأنه يمكن استيفاء ما شرعت له القسمة فيها من غير ضرر لانعدام التفاوت
وكذلك تبر الذهب وتبر النحاس وتبر الحديد لما قلنا وكذلك الثياب إذا كانت من جنس واحد كالهروية وكذلك
الإبل والبقر والغنم لان التفات عند اتحاد الجنس والمطلوب لا يتفاحش بل يقل والتفاوت القليل ملحق بالعدام ويجبر
بالقيمة فيمكن تعديل القسمة فيه وكذلك اللآلي المنفردة وكذا اليواقيت المنفردة لما قلنا وكذا لا خلاف في أنه
لا يقسم في جنسين من المكيل والموزون والمذروع والعددي قسمة جمع كالحنطة والشعير والقطن والحديد والجوز
واللوز والثياب البردية والمروية وكذلك اللآلئ واليواقيت وكذا الخيل والإبل والبقر والغنم كذا إذا كان من كل
جنس فرد كبر ذون وجمل وبقرة وشاة وثوب وقباء وجبة وقميص ووسادة وبساط لأن هذه الأشياء لو قسمت
على الجمع كان لا يخلو من أحد وجهين اما ان تقسم باعتبار أعيانها واما ان تقسم باعتبار قيمتها بان يضم إلى بعضها دراهم
أو دنانير لا سبيل إلى الأول لان فيه ضررا بأحدهما لكثرة التفاوت عند اختلاف الجنس والقاضي لا يملك الجبر على
الضرر ولا سبيل إلى الثاني لان ذلك قسمة في غير محلها لان محلها الملك المشترك ولم يوجد في الدراهم ولو اقتسما بأنفسهما
أو تراضيا على ذلك جازت القسمة حتى لو اقتسما ثوبين مختلفي القيمة وزاد مع الأوكس دراهم مسماة جاز وكذا في سائر
المواضع ويكون ذلك قسمة الرضا لا قسمة القضاء وكذا الأواني سواء اختلفت أصولها أو اتحدت لأنها بالصناعة
أخذت حكم جنسين حتى جاز بيع الأواني الصغار واحدا باثنين وأما الرقيق فلا يقسم عند أبي حنيفة رحمه الله قسمة
جمع وعندهما يقسم (وجه) قولهما ان الرقيق على اختلاف أوصافها وقيمتها جنس واحد فاحتمل القسمة كسائر
الحيوانات من الإبل والبقر والغنم وما فيها من التفاوت يمكن تعديله بالقيمة (وجه) قول أبي حنيفة انه لم يوجد شرط
جواز القسمة وجواز التصرف بدون شرط جوازه محال وبيان ذلك على نحو ما ذكرنا انا لو قسمناها رقا باعتبار أعيانها
فقد اضررنا بأحدهما لتفاحش التفاوت بين عبد وعبد في المعاني المطلوبة من هذا الجنس فكانا في حكم جنسين مختلفين
ومن شرط جواز هذه القسمة ان لا تتضمن ضررا بالمقسوم عليه ولو قسمناها باعتبار القيمة لوقعت القسمة في غير محلها
لان محلها الملك المشترك ولا شركة في القيمة والمحلية من شرائط صحة التصرف فصح ما ذكرنا ولو اقتسما بأنفسهما جاز
21

لتراضيهما بالضرر وكذا لو كان مع الرقيق غيره قسم كذا ذكره في كتاب القسمة لأنه إن كان لا يحتمل القسمة مقصودا
فيجعل تبعا لما يحتملها فيقسم بطريق التبعية كالشرب والطريق انه لا يجوز بيعهما مقصودا ثم يدخلان في البيع تبعا
للنهر والأرض كذا هذا وذكر الجصاص ان المذكور في الأصل محمول على قسمة الرضا وأما قسمة القضاء فلا تجوز
وإن كان مع غيره لان غير المقسوم ليس تبعا للمقسوم بل هو أصل بنفسه بخلاف الشرب والطريق وكذلك الدور عند
أبي حنيفة لا تقسم قسمة جمع حتى لو كان بين رجلين داران تقسم كل واحدة على حدتها سواء كانتا منفصلتين أو
متلاصقتين وعندهما ينظر القاضي في ذلك إن كان الأعدل في الجمع جمع وإن كان الأعدل في التفريق فرق وكذا
لو كان بينهما أرضان أو كرمان فهو على الاختلاف وأما البيتان فيقسمان قسمة جمع اجماعا متصلين كانا أو منفصلين
وكذا المنزلان المتصلان وأما المنفصلان في دار واحدة فعلى الخلاف وجه قولهما ان الدور كلها جنس واحد
والتفاوت الذي بين الدارين يمكن تعديله بالقيمة فيفوض إلى رأى القاضي ان رأى الأعدل في التفريق فرق
وان رأى الأعدل في الجمع جمع (ولأبي) حنيفة رحمه الله على نحو ما ذكرنا في الرقيق ان القسمة فيها باعتبار أعيانها
ويقع ضرر التفاوت متفاحشا بين دار ودار لاختلاف الدور في أنفسها واختلافها باختلاف البناء والبقاع فكانا
في حكم جنسين مختلفين والقسمة فيها باعتبار القيمة تقع تصرفا في غير محله فلا يصح ولو اقتسما بأنفسهما أو بالقاضي
بتراضيهما جاز لما مر والله سبحانه وتعالى أعلم وأما دار وضيعة أو دار وحانوت فلا تجمع بالاجماع بل يقسم كل
واحد على حدة لاختلاف الجنس ومنها الطلب في أحد نوعي القسمة وهو قسمة الجبر حتى أنه لو لم يوجد الطلب
من أحد الشركاء أصلا لم تجز القسمة لان القسمة من القاضي تصرف في ملك الغير والتصرف في ملك الغير من
غير إذنه محظور في الأصل الا انه عند طلب البعض يرتفع الحظر لأنه إذا طلب علم أنه له في استيفاء هذه الشركة
ضررا إذ لو كان الطلب لتكميل المنفعة لطلب صاحبه وكان عليه ان يمتنع من الاضرار ديانة فإذا أبى القسمة علم أنه لا يمتنع
فيدفع القاضي ضرره بالقسمة فكانت القسمة في هذه الصورة من باب دفع الضرر والقاضي نصب له ونظيره الشفعة
فان الشفيع يتملك الدار على المشترى بالشفعة من غير رضا دفعا لضرره لأنه لما طلب الشفعة علم أنه يتضرر بجواره
فالشرع دفع ضرره عنه باثبات حق التمليك بالشفعة جبرا عليه كذا هذا (ومنها) الرضا في أحد نوعي
القسمة وهو رضا الشركاء فيما يقسمونه بأنفسهم إذا كانوا من أهل الرضا أو رضا من يقوم مقامهم إذا لم يكونوا
من أهل الرضا فإن لم يوجد لا يصح حتى لو كان في الورثة صغير لا وصى له أو كبير غائب فاقتسموا فالقسمة
باطلة لما ذكرنا ان القسمة فيها معنى البيع وقسمة الرضا أشبه بالبيع ثم لا يملكون البيع الا بالتراضي فكذا القسمة
الا إذا لم يكونوا من أهل الرضا كالصبيان والمجانين فيقسم الولي أو الوصي إذا كان في القسمة منفعة لهم لأنهما يملكان
البيع فيملكان القسمة وكذا إذا كان فيهم صغير وله ولى أو وصى يقتسمون برضا الولي أو الوصي فإن لم يكن نصب
القاضي عن الصغير وصيا واقتسموا برضاه فان أبى ترافعوا إلى القاضي حتى يقسم بينهم ومنها حضرة الشركاء أو من
يقوم مقامهم في نوعي القسمة حتى لو كان فيهم كبير غائب لا تجوز القسمة أصلا ولا يقسم القاضي أيضا إذا لم يكن عنه
خصم حاضر ولكنه لو قسم لا تنقص قسمته لأنه صادف محل الاجتهاد فلا ينقض ومنها البينة في قسمة القضاء في
الاقرار بميراث الاقرار عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما ليست بشرط ويقسم باقرارهم فنقول جملة الكلام
في بيان هذين الشرطين ان جماعة إذا جاؤوا إلى القاضي وهم عقلاء بالغون أصحاء في أيديهم مال فأقروا انه ملكهم
وطلبوا القسمة من القاضي فهذا لا يخلو في الأصل من أحد وجهين (اما) ان يقروا بالملك مطلقا عن ذكر سبب
واما ان يقروا بالملك بسبب ادعوا انتقال الملك به من أحد وكل وجه على وجهين (اما) أن يكون المال الذي
في أيديهم منقولا واما أن يكون عقارا فان أقروا بالملك مطلقا عن سبب الانتقال قسم باقرارهم ويذكر في الاشهاد
في كتاب الصك إني قسمت باقرارهم ولم أقض فيه على أحد ولا يطلب منهم البينة على أصل الملك منقولا
22

كان المال أو عقارا إذا لم يكن فيهم كبير غائب لأنه وجد دليل الملك وهو اليد والاقرار من غير منازع ولا دعوى
انتقال الملك من أحد إليه فإن كان فيهم كبير غائب لم يقسم لما ذكرنا ان حضرة الشركاء أو من يقوم مقامهم شرط
ولم يوجد لان الخصوم في هذا الموضع لا يصلحون خصما عن الغائب وان أقروا بالملك بسبب الميراث بأن قالوا هو
بيننا ميراث عن فلان فإن كان المال منقولا قسم بينهم باقرارهم بالاجماع ولا تطلب منهم البينة وإن كان فيهم كبير
غائب بعد إن كان الحاضران اثنين كبيرين أو أحدهما صغير قد نصب عنه وصى وإن كان المال عقارا فلا يقسم
عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يقيموا البينة على موت فلان وعلى عدد الورثة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
يقسم بينهم باقرارهم ويشهد على ذلك في الصك (وجه) قولهما أن محل قسمة الملك المشترك وقد وجد لوجود دليل
الملك وهو اليد والاقرار بالإرث من غير منازع فصادفت القسمة محلها فيقسم ويكتب انه قسم باقرارهم كما في المنقول
ولان البينة إنما تقام على منكر والكل مقرون فعلى من تقام البينة (وجه) قول أبي حنيفة ان هذه قسمة صادفت
حق الميت بالابطال فلا تصح الا بينة كدعوى الاستحقاق على الميت وبيان ذلك ان الدار قبل القسمة مبقاة
على حكم ملك الميت بدليل ان الزوائد الحادثة قبل القسمة تحدث على ملكه حتى لو كانت التركة شجرة فأثمرت كان
الثمر له حتى تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه فكانت القسمة تصرفا على ملكه بالابطال فلا يجوز الا ببينة بخلاف
المنقول لان القسمة ليس قطعا لحق الميت بل هي حفظ حق الميت لان المنقول محتاج إلى الحفظ والقسمة نوع حفظ
له وأما العقار فمستغن عن الحفظ فبقيت قسمته قطعا لحقه فلا يملك الا ببينة وأما قولهما لا منكر ههنا فعلى من تقام البينة
(قلنا) تقام على بعض الورثة من البعض وإن كانوا مقرين وذلك جائز كالأب أو الوصي إذا أقرا على الصغير لا يصح
اقراره الا بالبينة ولا منكر ههنا كذا هذا هذا إذا أقروا بالملك بسبب الإرث فان أقروا به بسبب الشراء من فلان
الغائب فإن كان المال منقولا قسم بينهم باقرارهم بلا خلاف وإن كان عقارا ذكر في ظاهر الرواية انه يقسم باقرارهم
ولا تطلب منهم البينة على الشراء من فلان وفرق بين الشراء وبين الميراث وروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه انه
لا يقسم الا بالبينة كالميراث (وجه) هذه الرواية انهم لما أقروا انهم ملكوه بالشراء من فلان فقد أقروا بالملك له
وادعوا الانتقال إليهم من جهته فاقرارهم مسلم ودعواهم ممنوعة ومحتاجة إلى الدليل وهو البينة (وجه) ظاهر الرواية
وهو الفرق بين الشراء وبين الميراث ان امتناع القسمة في المواريث بنفس الاقرار لما يتضمن من ابطال حق الميت
وذلك منعدم في باب البيع إذ لا حق باق للبائع في المبيع بعد البيع والتسليم فصادفت محلها فصحت هذا إذا لم يكن
في الورثة كبير غائب أو صغير حاضر فإن كان فأقروا بالميراث فلا يشكل عند أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقسم
باقرارهم لأنه لا يقسم بين الكبار الحضور فكيف يقسم ههنا وأما عندهما فينظر إن كانت الدار في يد الكبار الحضور
يقسم بينهم لما بينا ويضع حصة الغائب على يد عدل يحفظه لان بعض الورثة خصم من البعض وينصب عن الصغير
وصيا وإن كانت الدار في يد الغائب الكبير أو في يد الحاضر الصغير أو في أيديهما منها شئ لا يقسم حتى يتقوم البينة على
الميراث وعدد الورثة بالاجماع لأنه إذا كان في يده من الدار شئ فالحاجة إلى استحقاق ذلك من يده فلا يصح الا
ببينة هذا إذا لم تقم البينة على ميراث العقار فاما إذا قامت البينة عليه وطلبوا القسمة فإنه ينظر إن كان الحاضر اثنين
فصاعدا والغائب واحدا أو أكثر وفيهم صغير حاضر فإنه يقسم ويعزل نصيب كل كبير وصغير فيوكل وكيلا يحفظه
بخلاف الملك المطلق إذا حضر شريكان وشريك غائب أنه لا يقسم (ووجه) الفرق ما ذكرنا أن قسمة العقار تصرف
على الميت وقضاء عليه بقطع حقه عن التركة وكل واحد من الورثة قائم مقام الميت فيما له وعليه ولهذا يرد كل واحد منهم
بالعيب ويرد عليه فإذا كان الحاضر اثنين فصاعدا أمكن ان يجعل أحدهما خصما عن الميت في القضاء عليه والآخر مقضيا
له فتصح القسمة وإن كان الحاضر واحدا والباقون غيبا لم يقسم لأنه لا يمكن أن يجعل هو خصما عن الميت حتى تسمع
البينة عليه لاستحالة كون الشخص الواحد في زمان واحد بجهة واحدة مقضيا له وعليه وإن كان مع الحاضر وارث
23

صغير نصب القاضي عنه وصيا وقسم لان القسمة ههنا ممكنة لوجود متقاسمين حاضرين وإذا قسم المنقول بين الورثة
باقرارهم أو العقار بالبينة عند أبي حنيفة رحمه الله وفيهم كبير غائب فعزل نصيبه ووضعه على يدي عدل ثم حضر الغائب
فان أقر كما أقروا أولئك فقد مضى الامر وان أنكر ترد القسمة في المنقول بالاجماع وكذلك في العقار عند أبي يوسف
ومحمد وعند أبي حنيفة عليه الرحمة في العقار لا ترد القسمة لان القسمة المبنية قد تقدمت على الغائب فلا يعتبر
إنكاره ولو كانت الدار ميراثا وفيها وصية بالثلث وبعض الورثة غائب فطلب الموصى له بالثلث القسمة بعدما أقام
البينة على الميراث والثلث قسم لان الموصى له بمنزلة واحدة من الورثة فإذا كان معه وارث حاضر فكأنه حضر اثنان
من الورثة ولو كان كذلك قسم وإن كان الباقون غيبا كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها أن يكون المقسوم عليه
مالكا للمقسوم وقت القسمة وهو أن يكون له فيه ملك فإن لم يكن لم تجز القسمة لما سنذكره إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقسوم فواحد وهو أن يكون المقسوم مملوكا للمقسوم له وقت القسمة فإن لم يكن لا تجوز
القسمة لان القسمة افراز بعض الانصباء ومبادلة البعض وكل ذلك لا يصح الا في المملوك وعلى هذا إذا استحقت
العين المقسومة تبطل القسمة في الظاهر وفى الحقيقة تبين انها لم تصح ولو استحق شئ منها تبطل في القدر المستحق ثم قد
تستأنف القسمة وقد لا تستأنف ويثبت الخيار وقد لا يثبت وبيان هذه الجملة انه إذا ورد الاستحقاق على المقسوم
لا يخلو الامر فيه من أحد وجهين اما ان ورد على كله واما ان ورد على جزء فان ورد على كل المقسوم تبطل القسمة وفى
الحقيقة لم تصح من الأصل لانعدام شرط الصحة وهو الملك المشترك فتستأنف القسمة وان ورد على جزء من المقسوم
لا يخلو من أحد وجهين أيضا اما ان ورد على جزء شائع منه واما ان ورد على جزء معين من أحد النصيبين فان ورد على
جزء شائع لا يخلو من أحد وجهين أيضا اما ان ورد على جزء شائع من النصيبين جميعا واما ان ورد على جزء شائع من
أحد النصيبين دون الآخر فان ورد على جزء شائع من النصيبين جميعا كالدار المشتركة بين رجلين نصفين اقتسماها
فاخذ أحدهما ثلثا من مقدمها وأخذ الآخر ثلثين من مؤخرها وقيمتهما سواء بأن كانت قيمة كل واحد منهما ستمائة
درهم مثلا فاستحق نصف الدار فاستأنف القسمة بالاجماع لأنه بالاستحقاق تبين ان نصف الدار شائعا ملك
المستحق فتبين ان القسمة لم تصح في النصف الشائع وذلك غير معلوم فبطلت القسمة أصلا وان استحق نصف
نصيب صاحب المقدم شائعا تستأنف القسمة أيضا عند أبي يوسف رحمه الله لأنه ظهر ان المستحق شريكهما في الدار
فظهر ان قسمتهما لم تصح دونه فتستأنف القسمة كما إذا ورد الاستحقاق على نصف الدار شائعا وعند أبي حنيفة
ومحمد عليهم الرحمة له الخيار ان شاء أمسك ما في بيده ورجع بباقي حصته وهو مثل ما استحق في نصيب الآخر وان شاء
فسخ القسمة لان بالاستحقاق ظهر ان القسمة لم تصح في القدر المستحق لا فيما وراءه لان المانع من الصحة انعدام
الملك وذلك في القدر المستحق لا في ما وراءه وليس من ضرورة انعدام الصحة في القدر المستحق انعدامها في الباقي
لان معنى القسمة وهو الافراز والمبادلة لم ينعدم باستحقاق هذا القدر في الباقي فلا تبطل القسمة في الباقي بخلاف
ما إذا استحق نصف الدار شائعا لان هناك وان ورد الاستحقاق على النصف فأوجب بطلان القسمة فيه مقصودا
لكن من ضرورته بطلان القسمة في الباقي لانعدام معنى القسمة في الباقي أصلا وههنا لم ينعدم فلا تبطل لكن يثبت
الخيار ان شاء رجع بباقي حصته في نصيب شريكه وذلك مثل نصف المستحق لان القدر المستحق من النصيبين جميعا
فيرجع عليه بذلك وهو ربع نصيبه ان شاء وان شاء فسخ القسمة لاختلاف معناها ولدخول عيب الشركة إذ الشركة في
الأعيان المجتمعة عيب والعيب يثبت الخيار وذكر الطحاوي رحمه الله الخلاف في المسألة بين أبي حنيفة وصاحبيه
ولو كان صاحب المقدم باع نصف ما في يده واستحق النصف الباقي فإنه يرجع على صاحبه بربع
ما في يده عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يغرم نصف قيمة ما باع لشريكه ويضمه إلى ما في يد
شريكه ويقتسمان نصفين (وجه) قول أبى يوسف ما بينا ان بالاستحقاق ظهر ان القسمة لم تصح أصلا
24

وان البيع كان فاسدا فيضمن نصف قيمة ما باع شريكه ثم يقتسمان الباقي نصفين (وجه) قولهما ما ذكرنا
في المسألة المقدمة الا أن ههنا لا يثبت خيار الفسخ لمانع وهو البيع فيرجع على صاحبه بربع ما في يده ولو استحق نصف
معين من أحد النصيبين لا تبطل القسمة بالاجماع لما ذكرنا في المسائل المتقدمة بل أولى لان الاستحقاق ههنا ورد على
جزء معين فلا يظهر ان المستحق كان شريكا لهما فلا تبطل القسمة لكن يثبت الخيار والمستحق عليه ان شاء نقض
القسمة لان الاستحقاق أوجب انتقاض المعقود عليه والانتقاض في الأعيان المجتمعة عيب فيثبت الخيار وان شاء
رجع على صاحبه بربع ما في يده لما بينا أن القدر المستحق من النصيبين جميعا ولو استحق كل ما في يده لرجع عليه
بالنصف فإذا استحق النصف يرجع بالربع والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا مائة شاة بين رجلين اقتسماها فأخذ
أحدهما أربعين تساوى خمسمائة درهم وأخذ الآخر ستين تساوى خمسمائة درهم فاستحقت شاة من الأربعين
تساوى عشرة دراهم لم تبطل القسمة بالاجماع لأنه تبين أن القسمة صادفت المملوك فميا وراء القدر المستحق والمستحق
معين فلا تظهر الشركة هنا أصلا فلا تبطل القسمة ولكن يرجع على شريكه بحقه وهو خمسة دراهم لان المستحق من
النصيبين جميعا عشرة دراهم والله سبحانه وتعالى أعلم كر حنطة بين رجلين نصفان عشرة منه طعام جيد وثلاثون ردئ
فاقتسماه فأخذ أحدهما عشرة أقفزة جيدة وثوبا وأخذ الآخر ثلاثين رديئا حتى جازت القسمة فاستحق من الثلاثين
عشرة أقفزة يرجع على صاحبه بنصف الثوب استحسانا والقياس ما ذكره في الزيادات انه يرجع عليه بثلث الثوب
وثلث الطعام الجيد ووجهه أن الاستحقاق ورد على عشرة شائعة في الثلاثين فكان المستحق في الحقيقة من كل عشرة
ثلثها وذلك يوجب الرجوع بثلث الطعام الجيد وجه الاستحسان أن طريق جواز هذه القسمة أن تكون العشرة
بمقابلة العشرة والعشرون بمقابلة الثوب فإذا استحق منه عشرة وانه بمقابلة نصف الثوب فيرجع عليه بنصف الثوب
وقوله للمستحق عشرة شائعة في الثلاثين لا العشرة المعينة وهي التي من حصة الثوب فنعم هذا هو الحقيقة الا أنا لو عملنا
بهذه الحقيقة لاحتجنا إلى نقض القسمة واعادتها ولو صرفنا الاستحقاق إلى عشرة هي من حصة الثوب لم نحتج إلى ذلك
وتصرف العاقل تجب صيانته عن النقض والابطال ما أمكن وذلك فيما قلناه وعلى هذا أرض بين رجلين نصفين
قسمت ثم استحق أحد النصيبين وقد بنى صاحبه فيه بناء أو غرس غرسا فنقض البناء وقلع الغرس لم يرجع المستحق
عليه على صاحبه بشئ من قيمة البناء والغرس والأصل فيه أن كل قسمة وقعت باجبار القاضي أو باختيار الشريكين
على الوجه الذي يجبرهما القاضي لو ترافعا إليه ثم استحق أحد النصيبين وقد بنى صاحبه فيه بناء أو غرس غرسا
فنقض وقلع لا يرجع بشئ من ذلك على صاحبه لان صاحبه مجبور على القسمة من جهة القاضي فيكون مضافا إلى
القاضي أما إذا وقعت القسمة باجبار القاضي فلا شك فيه وكذا إذا اقتسما بأنفسهما لان ذلك قسمة جبر من حيث
المعنى لدخولها تحت جبر القاضي عند المرافعة إليه وإذا كان مجبورا عليه فلم يوجد منه ضمان السلامة فلا يؤاخذ بضمان
الاستحقاق إذ هو ضمان السلامة ونظير هذا الشفيع إذا أخذ العقار من المشترى بالشفعة وبنى فيه أو غرس ثم
استحق وقلع البناء لا يرجع بقيمة البناء على المشترى لأنه ما ملكه باختياره بل أخذ منه جبرا وكذلك قال محمد في الجارية
المأسورة إذا اشتراها رجل من أهل الحرب ثم أخذها المالك القديم فاستولدها ثم استحقها رجل لا يرجع بقيمة الولد
على الذي أخذها من يده لأنه لم يأخذها منه باختياره بل كرها وجبرا وكذلك الأب إذا وطئ جارية ابنه فأعلقها ثم
استحقها رجل لا يرجع بقيمة الولد على الابن لأنه تملكها من غير اختيار الابن وقال أبو يوسف إذا غصب جارية
فأبقت من يده فأدى ضمانها ثم عادت الجارية فاستولدها الغاصب ثم استحقت له أن يرجع بقيمة الولد على المولى
لأنه كان مختارا في أخذ القيمة من الغاصب فكان ضامنا السلامة فيرجع عليه بحكم الضمان وعلى هذا داران
أو أرضان بين رجلين اقتسما فأخذ كل واحد منهما إحداهما وبنى فيها ثم استحقت رجع بنصف قيمة البناء عند أبي
حنيفة لان القاضي لا يجبر على قسمة الجمع في الدور والعقارات عنده فإذا اقتسما بأنفسهما كانت القسمة منهما مبادلة
25

فأشبهت البيع فكان كل واحد منهما ضامنا سلامة النصف لصاحبه فإذا لم يسلم يرجع عليه بحكم الضمان كما في البيع وأما
عندهما فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يرجع لان القاضي يجبر على هذه القسمة عندهما فأشبه استحقاق
النصف من دار واحدة وقال بعضهم يرجع وعليه اعتمد القدوري عليه الرحمة وهو الصحيح لان القاضي إنما يجبر
على قسمة الجمع ههنا عندهما إذا رأى الجمع أعدل ولا يعرف ذلك من رأى القاضي إذا فعلا بأنفسهما ولو كانتا
جاريتين فأخذ كل واحد منهما جارية فاستولدها ثم استحقت رجع على شريكه بالنصف عند أبي حنيفة لان
القاضي لا يجبر على قسمة الرقيق عنده فإذا اقتسما بتراضيهما أشبه البيع على ما ذكرنا وأما عندهما فينبغي أن لا يرجع
كذا ذكره القدوري عليه الرحمة وفرق بين الرقيق وبين الدور وبينهما فرق لان القاضي هناك لا يجبر على الجمع عينا
ولكنه يراعى الاعدل في ذلك من التفريق والجمع وههنا يجبر على الجمع لتعذر التفريق فلم يوجد ضمان السلامة من
صاحبه فلا يرجع عليه والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا الأصل إذا اقتسم قوم دارا وفيها كنيف شارع على
الطريق أو ظله فإن كان على طريق العامة لا يحسب ذرع الكنيف والظل من ذرع الدار لان رقبة الأرض ليست
بمملوكة لاحد بل هي حق العامة وإن كان على طريق غير نافذ بحسب ذلك من ذرع الدار لان له في السكة مسلكا
فأشبه علو البيت والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما صفات القسمة فأنواع منها أن تكون عادلة غير جائرة وهي أن تقع تعديلا للانصباء من غير زيادة
على القدر المستحق من النصيب ولا نقصان عنه لان القسمة افراز بعض الانصباء ومبادلة البعض ومبنى المبادلات
على المراضاة فإذا وقعت جائرة لم يوجد التراضي ولا افراز نصيبه بكماله لبقاء الشركة في البعض فلم تجز وتعاد وعلى هذا
إذا ظهر الغلط في القسمة المبادلة بالبينة أو بالاقرار تستأنف لأنه ظهر أنه لم يستوف حقه فظهر أن معنى القسمة لم يتحقق
بكماله ولو ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة فهذا لا يخلو من أحد وجهين اما إن كان المدعى أقر باستيفاء حقه واما
إن كان لم يقر بذلك فإن كان قد أقر باستيفاء حقه لا يسمع منه دعوى الغلط لكونه متناقضا في دعواه لان الاقرار
باستيفاء الحق اقرار بوصول حقه إليه بكماله ودعوى الغلط اخبار أنه لم يصل إليه حقه بكماله فيتناقض وإن كان لم يقر
باستيفاء حقه لا تعاد القسمة بمجرد الدعوى لان القسمة قد صحت من حيث الظاهر فلا يجوز نقضها الا بحجة فان أقام
البينة أعيدت القسمة لما قلنا وان لم تقم له بينة وانكر شريكه فأراد استحلافه حلفه على ما ادعى من الغلط لأنه يدعى
عليه حقا هو جائز الوجود والعدم وهو ينكر فيحلف وبيان ذلك دار بين رجلين اقتسما واستوفى كل واحد منهما حقه
ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة لا تعاد القسمة ولكن يسأل البينة على الغلط فان أقام البينة والا فيحلف شريكه
ان شاء لما قلنا فان حلف أحد الشريكين ونكل الآخر فإن كان الشركاء ثلاثة يجمع بين نصيب المدعى وبين نصيب
الناكل فيقسم بينهما على قدر نصيبهما لان نكوله دليل كون المدعى صادقا في دعواه في حقه فكان حجة في حقه لا في
حق الشريك الحالف فلم تصح القسمة في حقهما فتعاد في قدر نصيبهما وكذلك لو ادعى الغلط بعد القسمة والقبض
في المكيلات والموزونات والمذروعات ولو كان بين رجلين داران اقتسماها فأخذ كل واحد منهما دارا ثم ادعى
أحدهما الغلط في القسمة وأقام البينة على ذلك فالقسمة باطلة عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما لا تبطل ولكن
يقضى للمدعى بذلك الذرع من الدار الأخرى وبنوا هذه المسألة على بيع ذراع من دار انه لا يجوز عنده وعندهما
جائز ووجه البناء ان قسمة الجمع في الدور بالتراضي جائزة بلا خلاف ومعنى المبادلة وإن كان لازما في نوعي القسمة
لكن هذا النوع بالمبادلات أشبه وإذا تحققت المبادلة صح البناء والله سبحانه وتعالى أعلم ولو اقتسما دارا بينهما فأخذ
كل واحد منهما طائفة ثم ادعى أحدهما بيتا في يد صاحبه انه وقع في قسمته وأقام بينة سمعت بينته وان أقاما جميعا
البينة أخذت بينة المدعى لأنه خارج وإن كان قبل الاشهاد والقبض تحالفا وترادا وكذا لو اختلفا في الحدود فادعى
كل واحد منهما حدا في يد صاحبه أنه أصابه وأقام البينة قضى لكل واحد منهما بالحد الذي في يد صاحبه لان كل
26

واحد منهما عما في يد صاحبه خارج وان قامت لأحدهما بينة يقضى ببينته وان لم تقم لهما بينة تحالفا وهل ينفسح العقد
بنفس التحالف أم يحتاج فيه إلى فسخ القاضي اختلف المشايخ فيه على ما عرف في البيوع ولو اقتسم رجلان اقرحة
فأخذ أحدهما قراحين والآخر أربعة ثم ادعى صاحب القراحين أن أحد الأقرحة الأربعة أصابه في قسمته
وأقام البينة قضى له به لما قلنا وكذلك هذا في أثواب اقتسماها فأخذ كل واحد بعضها ثم ادعى أحدهما أن أحد
الأثواب الذي في يد صاحبه أصابه في قسمته وأقام البينة قضى له به ولو ادعى كل واحد منهما على صاحبه ثوبا مما في
يده أنه أصابه في قسمته وأقام البينة قضى لكل واحد منهما بما في يد الآخر لان كل واحد منهما عما في يد صاحبه
خارج ولو اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمسة وخمسين وأصاب الآخر خمسة وأربعين ثم ادعى صاحب
الأوكس الغلط في القسمة أو الخطأ في التقويم لم تقبل منه الا بينة ولو قال أخطأنا في العدد وأصاب كل واحد منا
خمسين وهذه الخمسة في قسمته وأنكر الآخر تحالفا وان أقام كل واحد منهما البينة ردت القسمة ولو قال أحدهما
لصاحبه أخذت أنت احدى وخمسين غلطا وأخذت أنا تسعة وأربعين وقال الآخر ما أخذت الا خمسين فالقول
قوله مع يمينه لأنه منكر لاستيفاء الزيادة على حقه والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا الأصل تخرج قسمة عرصة
الدار بالذرع أنه يحسب في القسمة كل ذراعين من العلو بذراع من السفل عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف بحسب
ذراع من السفل بذراع من العلو وعند محمد يحسب على القيمة دون الذرع زعم كل واحد منهم ان التعديل فيما يقوله
والخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة وبين أبى يوسف مبنى على الخلاف في مسألة أخرى وهي أن صاحب العلو
ليس له أن يبنى على العلو من غير رضا صاحب السفل وان لم يضر بصاحب السفل من حيث الظاهر عند أبي حنيفة
وعند أبي يوسف له أن يبنى ان لم يضر البناء به ووجه البناء أن صاحب العلو إذا لم يملك البناء على علوه عند أبي حنيفة
رحمه الله كان للعلو منفعة واحده وهي منفعة السكنى فحسب وللسفل منفعتان منفعة السكنى ومنفعة البناء عليه وكذا
السفل كما يصلح للسكنى يصلح لجعل الدواب فيه فأما العلو فلا يصح الا للسكنى خاصة فكان للسفل منفعتان وللعلو
منفعة واحدة فكانت القسمة عنده على الثلث والثلثين وعند أبي يوسف لما ملك صاحب العلو أن يبنى على علوه كانت
له منفعتان أيضا فاستوى العلو والسفل في المنفعة فوجب التعديل بالسوية بينهما في الذرع وأما محمد فإنما اعتبر القيمة
لان أحوال البلاد وأهلها في ذلك مختلفة فمنهم من يختار السفل على العلو ومنهم يختار العلو على السفل فكان التعديل
في اعتبار القيمة والعمل في المسألة على قول محمد رحمه الله وهو اختيار الطحاوي رحمه الله ويحتمل أن أبا حنيفة إنما فضل
السفل على العلو بناء على عادة أهل الكوفة من اختيارهم السفل على العلو وأبو يوسف إنما سوى بينهما على عادة أهل
بغداد لاستواء العلو والسفل عندهم فأخرج كل واحد منهما الفتوى على عادة أهل زمانه ومحمد بنى الفتوى على المعلوم
من اختلاف العادات باختلاف البلدان فكان الخلاف بينهم من حيث الصورة لا من حيث المعنى والله سبحانه
وتعالى أعلم وبيان ذلك في سفل بين رجلين وعلو من بيت آخر بينهما أرادا قسمتهما يقسم البناء على القيمة بلا
خلاف وأما العرصة فتقسم بالذرع عند أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد بالقيمة ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف
فيما بينهما في كيفية القسمة بالذرع فعند أبي حنيفة ذراع بذراعين على الثلث والثلثين وعند أبي يوسف ذراع بذراع
ولو كان بينهما بيت تام علو وسفل وعلو من بيت آخر فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من العلو والسفل
بثلاثة أذرع من العلو أرباعا عنده لما ذكرنا من الأصل فكانت القسمة أرباعا وعند أبي يوسف ذراع من السفل والعلو
بذراعين من العلو لاستواء السفل والعلو عنده فكانت القسمة أثلاثا ولو كان بينهما بيت تام سفل وعلو وسفل آخر
فعند أبي حنيفة يحسب في القسمة كل ذراع من السفل والعلو بذراع ونصف من السفل وذراع من سفل البيت
بذراع من السفل الآخر وذراع من علوه بنصف ذراع من السفل الآخر وعند أبي يوسف ذراع من التام بذراعين
من السفل والله تعالى أعلم وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا اقتسما دارا وفضلا بعضها على بعض بالدراهم أو الدنانير
27

لفضل قيمة البناء والموضع أن القسمة جائزة لأنها وقعت عادلة من حيث المعنى لان الدار قد يفضل بعضها على بعض
بالبناء والموضع فكان ذلك تفضيلا من حيث الصورة تعديلا من حيث المعنى ولوم يسميا قيمة فضل البناء وقت
القسمة جازت القسمة استحسانا وتجب قيمة فضل البناء وان لم يسمياها في القسمة والقياس أن لا تجوز القسمة لأن هذه
قسمة بعض الدار دون بعض لان العرصة مع البناء بمنزلة شئ واحد وقسمة البناء بالقيمة فإذا وجدت القسمة
مجهولة فوقعت القسمة للعرصة دون البناء بقيت وانها غير جائزة وجه الاستحسان أن قسمة العرصة قد صحت
بوقوعها في محلها وهو الملك ولا صحة لها الا بقسمة البناء وذلك بالقيمة فتجب على صاحب الفضل قيمة فضل البناء وان
لم يسم ضرورة صحة القسمة والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا الأصل تخرج أيضا قسمة الجمع في الأجناس المختلفة
انها غير جائزة جبرا بالاجماع لتعذر تعديل الانصباء الا بالقيمة وانها ليست محل القسمة على ما مر ولا يجوز في الرقيق
والدور عند أبي حنيفة رحمه الله لأنها في حكم الأجناس المختلفة ولا تقع القسمة فيها عادلة أو جائرة ولا تقسم الأولاد في
بطون الغنم لتعذر التعديل وعلى هذا يخرج رد المقسوم بالعيب في نوعي القسمة لأنه إذا ظهر به عيب فقد ظهر انها وقعت
جائرة لا عادلة فكان له حق الرد بالعيب كما في البيع ولو امتنع الرد بالعيب لوجود المانع منه يرجع بالنقصان كما في البيع الا
أن في البيع يرجع بتمام النقصان وفى القسمة يرجع بالنصف لان النقصان في القسمة يرجع بالنصيبين جميعا فيرجع
بنصف النقصان من نصيب شريكه وأما الرد بخيار الرؤية والشرط فيثبت في قسمة الرضا لان القسمة فيها معنى
المبادلة وهذا النوع أشبه بالمبادلات لوجود المراضاة من الجانبين فيثبت فيه خيار الرؤية كما في البيع ولا يثبت في
قسمة القضاء لا لخلوها عن المبادلة بل لعدم الفائدة لأنه لو ردها بخيار الرؤية والشرط لاجبره القاضي ثانيا فلا يفيد والله
سبحانه وتعالى أعلم ولا تجب الشفعة في القسمة لان حق الشفعة يتبع المبادلة المحضة لثبوتها على مخالفة القياس والقسمة
مبادلة من وجه فلا تحتمل الشفعة ولأنها لو وجبت لا يخلو اما أن تجب للشريك أو للجار لا سبيل إلى الأول لان الشفعة
تجب لغير البائع والمشترى ولا سبيل إلى الثاني لان الشريك أولى من الجار والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها الوجوب
عند الطلب حتى يجبر على القسمة فيما ينتفع كل واحد من الشريكين بقسمته وكذا فيما ينتفع بها أحدهما ويستضر
الآخر عند طلب المنتفع بالاجماع وعند طلب المستضر اختلاف روايتي الحاكم والقدوري رحمهما الله وقد ذكرناه
والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها اللزوم بعد تمامها في النوعين جميعا حتى لا يحتمل الرجوع عنها إذا تمت وأما قبل التمام
فكذلك في أحد نوعي القسمة وهو قسمة القضاء دون النوع الآخر وهو قسمة الشركاء بيان ذلك أن الدار إذا
كانت مشتركة بين قوم فقسمها القاضي أو الشركاء بالتراضي فخرجت السهام كلها بالقرعة لا يجوز لهم الرجوع وكذا
إذا خرج الكل الا سهم واحد لان ذلك خروج السهام كلها لكون ذلك السهم متعينا بمن بقي من الشركاء وان خرج
بعض السهام دون بعض فكذلك في قسمة القضاء لأنه لو رجع أحدهم لاجبره القاضي على القسمة ثانيا فلا يفيد
رجوعه وأما في قسمة التراضي فيجوز الرجوع لان قسمة التراضي لا تتم الا بعد خروج السهام كلها وكل عاقد سبيل
من الرجوع عن العقد قبل تمامه كما في البيع ونحوه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم القسمة فنقول وبالله التوفيق حكم القسمة ثبوت اختصاص بالمقسوم عينا تصرفا فيه
فيملك المقسوم له في المقسوم جميع التصرفات المختصة بالملك حتى لو وقع في نصيب أحد الشريكين ساحة لا بناء فيها
ووقع البناء في نصيب الآخر فلصاحب الساحة ان يبنى في ساحته وله ان يرفع بناءه وليس لصاحب البناء ان يمنعه
وإن كان يفسد عليه الريح والشمس لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا يمنع عنه وكذا له ان يبنى في ساحته مخرجا أو
تنورا أو حماما أو رحى لما قلنا وكذا له ان يقعد في بنائه حدادا أو قصارا وإن كان يتأذى به جاره لما قلنا وله ان يفتح بابا
أو كوة لما ذكرنا ألا ترى ان له أن يرفع الجدار أصلا ففتح الباب والكوة أولى وله ان يحفر في ملكه بئرا أو بالوعة أو
كرباسا وإن كان يهئ بذلك حائط جاره ولو طلب جاره تحويل ذلك لم يجبر على التحويل ولو سقط الحائط من ذلك
28

لا يضمن لأنه لا صنع منه في ملك الغير والأصل ان لا يمنع الانسان من التصرف في ملك نفسه الا ان الكف عما
يؤذى الجار أحسن قال الله تبارك وتعالى اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا إلى قوله تعالى والجار
الجنب خصه سبحانه وتعالى بالامر بالاحسان إليه فلئن لا يحسن إليه فلا أقل من أن يكف عنه أذاه وعلى هذا دار بين
رجلين ولرجل فيها طريق فأرادا ان يقتسماها ليس لصاحب الطريق منعهما عن القسمة لأنهما بالقسمة متصرفان
في ملك أنفسهما فلا يمنعان عنه فيقتسمان ما وراء الطريق ويتركان الطريق على حاله على سعة عرض باب الدار لما
ذكرنا من قبل ولو باعوا الدار والطريق فإن كانت رقبة الطريق مشتركة بينهم قسموا ممر الطريق بينهم أثلاثا وإن كان
ت الرقبة لشريكي الدار ولصاحب الطريق حق المرور حكى القدوري عن الكرخي رحمهما الله ان لا شئ
لصاحب الطريق من الثمن ويكون الثمن كله للشريكين وروى محمد ان كل واحد من الشريكين يضرب بحقه من
المنفعة ويضرب صاحب الطريق بحق المرور وطريق معرفة ذلك ان ينظر إلى قيمة العرصة بغير طريق وينظر إلى
قيمتها وفيها طريق فيكون لصاحب الطريق فضل ما بينهما ولكل واحد من الشريكين نصف قيمة المنفعة إذا كان
فيها طريق (وجه) ما حكى عن الكرخي رحمه الله ان حق المرور لا يحتمل البيع مقصودا بل يحتمله تبعا للرقبة ألا
ترى انه لو باعه وحده لم يجز فإذا بيع الطريق باذنه فقد أسقط حقه أصلا فلا يقابله ثمن (وجه) ما روى عن محمد ان
حق المرور لا يحتمل البيع مقصودا بل يحتمله تبعا للرقبة وههنا ما بيع مقصودا بل تبعا للرقبة فيقابله الثمن لكن ثمن
الحق لا ثمن الملك على ما ذكرنا وكذلك دار بين رجلين فيها مسيل الماء فأراد ان يقتسماها ليس لصاحب المسيل
منعهما من القسمة لما قلنا بل يقسم الدار ويترك المسيل على حاله كما في الطريق وكذلك لو كان في الدار منزل لرجل
وطريقه في الدار فأرادا ان يقتسما الدار لا يمنعان من القسمة ولكن يتركان طريق المنزل على حاله على سعة عرض
باب الدار لا على سعة باب المنزل على ما ذكرنا ولو أراد صاحب المنزل ان يفتح إلى هذا الطريق بابا آخر له ذلك لأنه
متصرف في ملك نفسه ألا ترى ان له ان يرفع الحائط كله فهذا أولى ولو اشترى صاحب المنزل دارا من وراء المنزل
وفتح بابه إلى المنزل فإن كان ساكن الدار والمنزل واحدا فله ان يمر من الدار إلى المنزل ومن المنزل إلى الطريق الذي في
الدار الأولى لان له حق المرور في هذا الطريق وإن كان ساكن الدار غير ساكن المنزل فليس لساكن الدار ان يمر في
الطريق الذي في الدار الأولى لأنه لا حق له في هذا الطريق فيمنع من المرور فيه دار بين رجلين في سكة غير نافذة
اقتسماها وأخذ كل واحد منهما طائفة منها فأراد كل واحد منهما ان يفتح بابا أو كوة إلى السكة له ذلك ولا يسع لأهل
السكة منعهما لان كل واحد منهما متصرف في ملك نفسه فيملكه ألا ترى ان له رفع الحائط أصلا فالباب والكوة
أولى وعلى هذا حائط بين قسيمين ولاحد القسيمين على جذوع الحائط الاخر فان شرطوا قطع الجذوع في القسمة
قطعت لقول النبي عليه الصلاة والسلام المسلمون عند شروطهم وان لم يشترطوا ترك على حالها لان الترك وإن كان
ضررا لكنهم لما لم يشترطوا القطع في القسمة فقد التزم الضرر وكذلك لو كان وقع على هذا الحائط درجة أو
أسطوانة جمع عليها جذوع لما قلنا وكذلك روشنا وقع لصاحب العلو شرفا على نصيب الآخر لم يكن لصاحب السفل
ان يقلع الروشن من غير شرط القلع لما قلنا ولو كان لأحدهما أطراف خشب على حائط صاحبه فإن كان مما يمكن ان
يجعل عليها سقف لم يكلف قلعها وإن كان لا يمكن كلف القلع لأنه إذا أمكن أن يجعل عليها سقف أمكنه الانتفاع به
فيلتحق بالحقوق فأشبه الروشن وإذا لم يكن تعذر الحاقها بالحقوق فبقي شاغلا هو لصاحبه بغير حق فيكلف قطعها ولو
كان لأحدهما شجرة أغصانها مظلة على نصيب الآخر فهل تقطع ذكر ابن سماعة رحمه الله انه لا تقطع لان في القطع
ضررا لصاحبها وذكر ابن رستم رحمه الله انه تقطع كما يقطع أطراف الخشب الذي لا يمكن تسقيفها ولو اختلف أهل طريق
في الطريق وادعى كل واحد منهم انه له فهو بينهم بالتسوية على عدد الرؤس لا على ذرعان الدور والمنازل لأنهم استووا
في اليد لاستوائهم في المرور فيه الا ان يقوم لأحدهم بينة فيسقط اعتبار اليد بالبينة دار لرجل وفيها طريق بينه وبين
29

رجل فمات صاحب الدار فاقتسمت الورثة الدار بينهم وتركوا الطريق كان الطريق بينه وبين الرجل نصفين لا على
عدد الرؤس حتى لو باعوا الدار يقسم الثمن بين الورثة وبينه نصفين لا على عدد الرؤس لان الورثة قاموا مقام المورث
وقد كان الطريق بينهما نصفين فكذا بينه وبينهم ولو لم يعرف ان الدار ميراث بينهم وجحدوا ذلك فالطريق بينهم
بالسوية على عدد الرؤس لاستوائهم في اليد على ما مر والله سبحانه وتعالى اعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يوجب نقض القسمة بعد وجودها فنقول وبالله التوفيق الذي يوجب نقض القسمة بعد
وجودها أنواع (منها) ظهور دين على الميت إذا طلب الغرماء ديونهم ولا مال للميت سواه ولا قضاه الورثة من مال
أنفسهم وبيان ذلك ان الورثة إذا اقتسموا التركة ثم ظهر على الميت دين فهذا لا يخلوا من أحد وجهين اما أن يكون
للميت مال آخر سواه واما ان لم يكن فإن لم يكن له مال سواه ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم تنقض القسمة سواء كان
الدين محيطا بالتركة أو لم يكن لان الدين مقدم على الإرث قليلا كان أو كثيرا قال الله تبارك وتعالى من بعد وصية
يوصى بها أو دين قدم سبحانه وتعالى الدين على الوصية من غير فصل بين القليل والكثير لان الدين إذا كان محيطا
بالتركة تبين انه لا ملك للورثة فيها الا من حيث الصورة بل هي ملك للميت يتعلق بها بحق الغرماء وقيام ملك الغير في المحل
يمنع صحة القسمة فقيام الملك والحق أولى وإذا لم يكن محيطا بالتركة فملك الميت وحق الغرماء وهو حق الاستيفاء ثابت
في قدر الدين من التركة على الشيوع فيمنع جواز القسمة فإن لم يكن للميت مال آخر سواه يجعل الدين فيه وتمضي
القسمة لان القسمة تصان عن النقض ما أمكن وقد أمكن صيانتها بجعل الدين فيه وكذا الورثة إذا قضوا الدين من
مال أنفسهم لا تنقض لان حق الورثة كان متعلقا بصورة التركة وحق الغرماء بمعناها وهو المالية فإذا قضوا الدين
من مال أنفسهم فقد استخلصوا التركة لأنفسهم صورة ومعنى فتبين انهم في الحقيقة اقتسموا مال أنفسهم صورة
ومعنى فتبين انها وقعت صحيحة فلا تنقض وكذلك إذا أبرأه الغرماء من ديونهم لا تنقض القسمة لان النقض لحقهم
وقد أسقطوه بالابراء وكذلك إذا ظهر لبعض المقتسمين دين على الميت بأن ادعى دينا على الميت وأقام البينة عليه فله
أن ينقض القسمة لما قلنا ولا تكون قسمته ابراء من الدين لان حق الغريم يتعلق بمعنى التركة وهو ماليتها لا بالصورة
ولهذا كان للورثة حق الاستخلاص وإذا كان كذلك فلا يكون اقدامه على القسمة اقرارا منه لأنه لا دين له على
الميت فلم يكن مناقضا في دعواه فسمعت (ومنها) ظهور الوصية حتى لو اقتسموا ثم أظهر ثم موصى له بالثلث نقضت
قسمتهم لان الموصى له شريك الورثة ألا ترى انه لو هلك من التركة شئ قبل القسمة يهلك من الورثة والموصى له جميعا
والباقي على الشركة بينهم ولو اقتسموا وثمة وارث آخر غائب تنقض فكذا هذا وهذا إذا كانت القسمة بالتراضي فإن كانت
بقضاء القاضي لا تنقض لان الموصى له وإن كان كواحد من الورثة لكن القاضي إذا قسم عند غيبة أحد الورثة
لا تنقض قسمته لان القسمة في هذا الموضع محل الاجتهاد وقضاء القاضي إذا صادف محل الاجتهاد ينفذ ولا ينقض
(ومنها) ظهور الوارث حتى لو اقتسموا ثم ظهر ان ثمة وارث آخر نقضت قسمتهم ولو كانت القسمة بقضاء القاضي
لا تنقض لما ذكرنا ولو ادعى وارث وصية لابن له صغير بعد القسمة لا تصح دعواه حتى لا تسمع منه البينة لكونه
مناقضا في الدعوى إذ لا تصح قسمتهم الميراث وثم موصى له فكان اقدامه على القسمة اقرارا منه بانعدام الوصية
فكان دعوى وجود الوصية مناقضة فلا تسمع ولكن لا يبطل حق الصغير بقسمة الأب لأنه لا يملك ابطال حقه
وكذلك لو ادعى بعض الورثة ان أخا له من أبيه وأمه ورث أباه معهم وانه مات بعد موت الأب وورثه هذا المدعى
جحد الباقون ذلك فأقام المدعى البينة لا تقبل بينته لأنه هنا قضى في دعواه لدلالة اقراره بانعدام وارث آخر باقدامه
على القسمة وكذلك كل ميراث يدعيه أو شراء أو هبة أو صدقة أو وصية بعد القسمة للتناقض بدلالة الاقدام على
القسمة والله تعالى أعلم دار بين رجلين أقر أحدهما ببيت منها لرجل وأنكر الآخر يصح اقراره لان اقرار الانسان
حجة على نفسه لان هذا الاقرار لم يوجب تعلق الحق بالعين لحق الشريك الآخر بل هو موقوف وإذا لم يتعلق بالعين
30

لا يمنع جواز القسمة فتقسم الدار ويجبر على القسمة ومتى قسمت فان وقع البيت المقر به في نصيب المقر دفعه إلى المقر له
لان الاقرار قد صح وتسليم عين المقر به ممكن فيؤمر بالتسليم وان وقع في نصيب شريكه يدفع إليه قدر ذرع المقر به من
نصيب نفسه فيقسم ما أصابه بينه وبين المقر له فيضرب المقر له بذرع البيت ويضرب المقر بنصف ذرع الدار بعد
البيت وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف عليهما الرحمة وقال محمد رحمه الله يضرب المقر بنصف ذرع الدار كما قالا
ولكن المقر له يضرب بنصف ذرع البيت لا بكله حتى لو كان ذرع الدار مائة وذرع البيت عشرة فتقسم الدار بينهما
نصفين يكون للمقر له عشرة أذرع عندهما لأنه جميع ذرع البيت والباقي وهو خمسة وأربعون للمقر لأنه نصف ذرع
الدار بعد ذرع البيت وعند محمد رحمه الله يكون للمقر له خمسة أذرع إذ هو نصف ذرع البيت المقر به (وجه) قول
محمد رحمه الله ان الاقرار صادف محلا معينا مشتركا بينه وبين غيره لان كل جزأين من الدار أحدهما له والآخر لصاحبه
على الشيوع فيبطل في نصيب صاحبه ويصح في نصيبه وذلك يوجب للمقر له نصف ذرع البيت (وجه) قولهما
ان الاقرار بالمشترك لا يتعلق بالعين قبل القسمة بل هو موقوف وإنما يتعلق بها بعد القسمة ألا ترى انه لم يمنع صحة
القسمة ولو تعلق بالعين لمنع فإذا قسمت الدار الآن يتعلق بالعين فان وقع المقر به في نصيب المقر يؤمر بالتسليم لأنه قادر
على تسليم العين وان وقع في نصيت صاحبه فقد عجز عن تسليم عينه فيؤمر بتسليم بدله من نصيبه وهو تمام ذرع المقر
به هذا إذا كان المقر به شيئا يحتمل القسمة فإن كان مما لا يحتمل القسمة كبيت من حمام مشتركة بينه وبين غيره أقر
انه لرجل وأنكر صاحبه فيصح اقراره ولكن يجبر على قسمته لان قسمة الاضرار فيما لا يحتمل الجبر على ما ذكرناه في
موضعه ويلزمه نصف قيمة البيت لأنه عجز عن تسليم العين والاقرار بعين معجوز التسليم يكون اقرارا ببدله تصحيحا
لتصرفه وصيانة لحق الغير بالقدر الممكن كالاقرار بجذع في الدار والله تعالى أعلم
* (فصل) * هذا الذي ذكرنا قسمة الأعيان (وأما) قسمة المنافع فهي المسماة بالمهايئات والكلام فيها في مواضع
في بيان أنواع المهايئات وما يجوز منها ومالا يجوز وفي بيان محل المهايئات وفي بيان صفة المهايئات وفي بيان ما يملك
كل واحد من الشريكين من التصرف بعد المهايئات ومالا يملك (أما) الأول فالمهايئات نوعان نوع يرجع إلى
المكان ونوع يرجع إلى الزمان (أما) النوع الأول فهو أن يتهايئا في دار واحدة على أن يأخذ كل واحد منهما
طائفة منها يسكنها وانه جائز لان المهايئات قسمة فتعتبر بقسمة العين وقسمة العين على هذا الوجه جائزة فكذا
قسمة المنافع وكذا لو تهايئا على أن يأخذ أحدهما السفل والآخر العلو جاز ذلك لما قلنا ولا يشترط بيان المدة في هذا
النوع لان قسمة المنافع ليست بمبادلة المنفعة لان مبادلة المنفعة بجنسها غير جائزة عندنا كإجازة السكنى بالسكنى
والخدمة بالخدمة وكذلك لو تهايئا في دارين وأخذ كل واحد منهما دارا يسكنها أو يستغلها فهو جائز بالاجماع (أما)
عند أبي يوسف ومحمد فلا شك فيه لان قسمة الجمع في عين الدور جائزة فكذا في المنافع (وأما) أبو حنيفة رحمه الله
فيحتاج إلى الفرق بين العين وبين المنفعة (وجه) الفرق له ان الدور في حكم أجناس مختلفة لتفاحش التفاوت بين
دار ودار في نفسها وبنائها وموضعها ولا تجوز قسمة الجمع في جنسين مختلفين على ما مر (وأما) التفاوت في المنافع
فقل ما يتفاحش بل يتقارب فلم تلتحق منافع الدارين بالأجناس المختلفة فجازت القسمة وكذلك لو تهايئا في عبدين
على الخدمة جاز بالاجماع (أما) عندهما فلان قسمة الجمع في أعيان الرقيق جائزة وكذا في منافعها (ووجه) الفرق
لأبي حنيفة رحمه الله على نحو ما ذكرنا في الدارين ولو تهايئا في عبدين فأخذ كل واحد منهما عبدا يخدمه وشرط كل
واحد منهما على نفسه طعام العبد الذي يخدمه جاز استحسانا والقياس أن لا يجوز (ووجهه) ان طعام كل واحد
من العبدين على الشريكين جميعا على المناصفة فاشتراط كل الطعام من كل واحد منهما على نفسه يخرج مخرج معاوضة
بعض الطعام بالبعض وانها غير جائزة للجهالة (ووجه) الاستحسان ان هذا النوع من الجهالة لا يفضى إلى المنازعة
لان مبنى الطعام على المسامحة في العرف والعادة دون المضايقة بخلاف ما إذا شرط كل واحد منهما على نفسه كسوة
31

العبد الذي يخدمه انه لا يجوز لأنه يجرى في الكسوة من المضايقة مالا يجرى في الطعام في العرف والعادة فكانت
الجهالة في الكسوة مفضية إلى المنازعة مع أن ما ان الجهالة في الكسوة تتفاحش بخلاف الطعام لذلك افترقا والله تعالى
أعلم (وأما) التهايؤ في الدواب بأن أخذ أحدهما دابة ليركبها والآخر دابة أخرى من جنسها يستغلها وشرط
الاستغلال فغير جائز عند أبي حنيفة وعندهما جائز (وجه) قولهما ظاهر لان قسمة الجمع في أعيان الدواب من
جنس واحد جائزة فكذا قسمة المنافع ولأبي حنيفة الفرق بين المنفعة وبين المنفعة انه جوز الجمع في أعيانها ولم
يجوز في منافعها (ووجه) الفرق انها باعتبار أعيانها جنس واحد لكنها في منفعة الركوب في حكم جنسين مختلفين بدليل
ان من استأجر دابة ليركبها لم يملك ان يؤاجرها للركوب ولو فعل لضمن فأشبه اختلاف جنس المنفعة اختلاف
جنس العين واختلاف جنس العين عنده مانع جواز قسمة الجمع كذا في المنفعة بخلاف المهايئات في الدارين والعبدين
انها جائزة لان هناك المنافع متقاربة غير متفاحشة بدليل ان المستأجر فيها يملك الإجارة من غيره فلم يختلف جنس
المنفعة فجازت المهايئات (وأما) النوع الثاني وهو المهايئات بالزمان فهو ان يتهايئا في بيت صغير على أن يسكنه هذا
يوما وهذا يوما أو في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما وهذا جائز لقوله تبارك وتعالى قال هذه ناقة لها شرب
ولكم شرب يوم معلوم أخبر سبحانه وتعالى عن نبيه سيدنا صالح عليه الصلاة والسلام المهايئات في الشرب ولم ينكره
سبحانه وتعالى والحكيم إذا حكى عن منكر غيره فدل على جواز المهايئات بالزمان بظاهر النص وثبت جواز النوع
الآخر من طريق الدلالة لأنها أشبه بالمقاسمة من النوع الأول ولأن جواز المهايئات بالزمان لمكان حاجات الناس
وحاجتهم إلى المهايئات بالمكان أشد لان الأعيان كلها في احتمال المهايئات بالزمان شرع سواء من الأعيان مالا
يحتمل المهايئات بالمكان كالعبد والبيت الصغير ونحوهما فلما جازت تلك فلان تجوز هذه أولى والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان محل المهايئات فنقول ولا قوة الا بالله تعالى جل شأنه ان محلها المنافع دون الأعيان لأنها قسمة
المنفعة دون العين فكان محلها المنفعة دون العين حتى أنهما لو تهايئا في نخل أو شجر بين شريكين على أن يأخذ كل واحد
منهما طائفة يستثمرها لا يجوز وكذلك إذا تهايئا في الغنم المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهم قطيعا وينتفع بألبانها
لا يجوز لما ذكرنا ان هذا عقد قسمة المنافع والثمر واللبن عين مال فلا تدخل تحت عقد المهايئات ولو تهايئا في الأراضي
المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهما نصفها ويذرع جاز لان ذلك قسمة المنافع وهو معنى المهايئات والله سبحانه
وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما صفة المهايئات فهي انها عقد غير لازم حتى لو طلب أحدهما قسمة العين بعد المهايئات قسم الحاكم
بينهما وفسخ المهايئات لأنها كالخلف عن قسمة العين وقسمة العين كالأصل فيما شرعت له القسمة لان القسمة
شرعت لتكميل منافع الملك وهذا المعنى في قسمة العين أكمل ولهذا لو طلب أحدهما القسمة قبل المهايئات أجبره الحاكم
على القسمة فكان عقدا جائزا فاحتمل الفسخ كسائر العقود الجائزة ولا يبطل بموت أحد الشريكين بخلاف
الإجارة لأنها لو بطلت لأعادها القاضي للحال ثانيا فلا يفيد
* (فصل) * وأما بيان ما يملك كل واحد منهما من التصرف بعد المهايئات اما في المهايئات بالمكان فلكل واحد منهما
ان يستغل ما اصابه بالمهايئات سواء شرط الاستغلال في العقد أو لا وسواء تهايئا في دار واحدة أو دارين لان المنافع
بعد المهايئات تحدث على ملك كل واحد منهما فيما أخذه فيملك التصرف فيه بالتمليك من غيره وبه تبين ان المهايئات في
هذا النوع ليست بإعارة لان العارية لا تؤاجر (وأما) المهايئات بالزمان فلكل واحد منهما ان يسكن أو يستخدم لما
ذكرنا لكن لابد من ذكر الوقت من اليوم والشهر ونحو ذلك بخلاف المهاياة بالمكان ان لكل واحد منهما ولاية السكنى
والاستغلال مطلقا لان الحاجة إلى ذكر الوقت لتصير المنافع معلومة والمهايئات بالمكان قسمة منافع مقدرة مجموعة
بالمكان ومكان المنفعة معلوم فصارت المنافع معلومة بالعلم بمكانها فجازت المهايأة (وأما) المهايأة بالزمان فقسمة مقدرة
32

بالزمان فلا تصير معلومة الا بذكر زمان معلوم فهو الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم وهل يملك كل واحد منهما
الاستغلال في نوبته لا خلاف في أنهما إذا لم يشترطا لم يملك فاما إذا شرطا ذكر القدوري عليه الرحمة انه لا يملك لان
هذا النوع من المهايأة في معنى الإعارة والعارية لا تؤجر وذكر الأصل ان التهايؤ في الدار الواحدة على السكنى والغلة
جائزة (منهم) من قال المذكور في الأصل ليس بمهايئات حقيقة لوجهين أحدهما انه أضاف التهايؤ إلى الغلة دون
الاستغلال والغلة لا تحتمل التهايؤ حقيقة إذ هي عين والتهايؤ قسمة النافع دون الأعيان والثاني انه ذكر فيه ان غلة
الدار إذا وصلت في يد أحدهما شاركه فيه صاحبه وليس ذلك حكم جواز المهايئات وكما أن المهايأة بالمكان في الدارين
إذا تهايئا ان يأخذ كل واحد منهما وأخذه يستغلها فاستغلها ففضل من الغلة في يد أحدهما ان الفاضل يكون له خاصة
ويكون المذكور في الأصل محمولا على ما إذا اصطلحا على أن يأخذ هذا غلة شهر وذلك غلة شهر وسمى ذلك مهايأة
مجازا وان لم يكن ذلك مهايأة حقيقة في هذه الصورة يكون فضل الغلة مشتركا بينهما وعلى هذا يرتفع اختلاف الروايتين
ويحتمل أن يكون المذكور في الأصل دليلا على شرط جواز الاستغلال إذ الغلة يجوز ان تذكر بمعنى الاستغلال في
الجملة وقد قام دليل إرادة الاستغلال ههنا وهو قرينة التهايؤ إذ هي عبارة عن قسمة المنافع دون الغلة التي هي عين ماله
وكذا التهايؤ يكون على شئ هو مقدور التهايؤ وهو فعل الاستغلال دون عين الغلة ولهذا قرن بها السكنى الذي هو
فعل الساكن ويكون قوله ما فضل من الغلة في يده يشاركه فيه صاحبه محمولا على ما إذا تهايئا بشرط الاستغلال ابتداء
ثم اصطلحا على أن يأخذ كل واحد منهما غلة شهر وفى هذه الصورة يكون فضل الغلة بينهما كما في الدارين فعلى هذا
ثبت اختلاف روايتي الحاكم وأحمد بن الحسين القدوري عليهم الرحمة والله سبحانه وتعالى أعلم
* (كتاب الحدود) *
جمع محمد رحمه الله بين مسائل الحدود وبين مسائل التعزير وبدأ بمسائل الحدود فبدأ بما بدأ به فنقول وبالله سبحانه
وتعالى التوفيق الكلام في الحدود يقع في مواضع في بيان معنى الحد لغة وشرعا وفي بيان أسباب وجوب الحدود
وشرائط وجوبها وفي بيان ما يظهر به وجوبها عند القاضي وفي بيان صفاتها وفي بيان مقدار الواجب منها وفي بيان
شرائط جواز اقامتها وفي بيان كيفية اقامتها وموضع الإقامة وفي بيان ما يسقطها بعد الوجوب وفي بيان حكمها إذا
اجتمعت وفي بيان حكم المحدود (أما) الأول لحد في اللغة عبارة عن المنع ومنه سمى البواب حدادا لمنعه الناس عن
الدخول وفى الشرع عبارة عن عقوبة مقدرة واجبة حقا لله تعالى عز شانه بخلاف التعزير فإنه ليس بمقدر قد يكون
بالضرب وقد يكون بالحبس وقد يكون بغيرهما وبخلاف القصاص فإنه وإن كان عقوبة مقدرة لكنه يجب حقا للعبد
حتى يجرى فيه العفو والصلح سمى هذا النوع من العقوبة حدا لأنه يمنع صاحبه إذا لم يكن ملتفا وغيره بالمشاهدة ويمنع
من يشاهد ذلك ويعاينه إذا لم يكن متلفا لأنه يتصور حلول تلك العقوبة بنفسه لو باشر تلك الجناية فيمنعه ذلك من المباشرة
والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان أسباب وجوبها فلا يمكن الوصول إليه الا بعد معرفة أنواعها لان سبب وجوب كل نوع
يختلف باختلاف النوع فنقول الحدود خمسة أنواع حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب وحد السكر وحد القذف
(أما) حد السرقة فسبب وجوبه السرقة وسنذكر ركن السرقة وشرائط الركن في كتاب السرقة (وأما) حد الزنا
فنوعان جلد ورجم وسبب وجوب كل واحد منهما وهو الزنا وإنما يختلفان في الشرط وهو الاحصان فالاحصان
شرط لوجوب الرجم وليس بشرط لوجوب الجلد فلابد من معرفة الزنا والاحصان في عرف الشرع أما الزنا فهو
اسم للوطئ الحرام في قبل المرأة الحية في حالة الاختيار في دار العدل ممن التزم أحكام الاسلام العاري عن حقيقة الملك
وعن شبهته وعن حق الملك وعن حقيقة النكاح وشبهته وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك والنكاح
33

جميعا والأصل في اعتبار الشبهة في هذا الباب الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود
بالشبهات ولان الحد عقوبة متكاملة فتستدعى جناية متكاملة والوطئ في القبل في غير ملك ولا نكاح لا يتكامل جناية
الا عند انتفاء الشبهة كلها إذا عرف الزنا في عرف الشرع فنخرج عليه بعض المسائل فنقول الصبي أو المجنون إذا وطئ
امرأة أجنبية لا حد عليه لان فعلهما لا يوصف بالحرمة فلا يكون الوطئ منهما زنا فلا حد على المرأة إذا طاوعته عند
أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وقال زفر والشافعي رضي الله عنهم عليها الحد ولا خلاف في أن العاقل البالغ إذا زنا بصبية
أو مجنونة أنه يجب عليه الحد ولا حد عليها لهما أن المانع من وقوع الفعل زنا خص أحد الجانبين فيختص به المنع
كالعاقل البالغ إذا زنا بصبية أو مجنونة أنه يجب عليه الحد وإن كان لا يجب عليها لما قلنا كذا هذا (ولنا) ان وجوب
الحد على المرأة في باب الزنا ليس لكونها زانية لان فعل الزنا لا يتحقق منها وهو الوطئ لأنها موطوءة وليست بواطئة
وتسميتها في الكتاب العزيز زانية مجاز لا حقيقة وإنما وجب عليها لكونها مزنيا بها وفعل الصبي والمجنون ليس
بزنا فلا تكون هي مزنيا بها فلا يجب عليها الحد وفعل الزنا يتحقق من العاقل البالغ فكانت الصبية أو المجنونة مزنيا بها
الا أن الحد لم يجب عليها العدم الأهلية والأهلية ثابتة في جانب الرجل فيجب وكذلك الوطئ في الدبر في الأنثى أو
الذكر لا يوجب الحد عند أبي حنيفة وإن كان حراما لعدم الوطئ في القبل فلم يكن زنا وعندهما والشافعي يوجب
الحد وهو الرجم إن كان محصنا والجلد إن كان غير محصن لا لأنه زنا بل لأنه في معنى الزنا لمشاركة الزنا في
المعنى المستدعى لوجوب الحد وهو الوطئ الحرام على وجه التمحض فكان في معنى الزنا فورود النص بايجاب
الحد هناك يكون ورودا ههنا دلالة ولأبي حنيفة ما ذكرنا ان اللواطة ليست بزنا لما ذكرنا ان الزنا اسم
للوطئ في قبل المرأة ألا ترى انه يستقيم ان يقال لاط وما زنا وزنا وما لاط ويقال فلان لوطي وفلان زاني فكذا
يختلفان اسما واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل ولهذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حد هذا
الفعل ولو كان هذا زنا لم يكن لاختلافهم معنى لان موجب الزنا كان معلوما لهم بالنص فثبت انه ليس بزنا ولا في معنى
الزنا أيضا لما في الزنا من اشتباه الأنساب وتضييع الولد ولم يوجد ذلك في هذا الفعل إنما فيه تضييع الماء المهين الذي
يباح مثله بالعزل وكذا ليس في معناه فيما شرع له الحد وهو الزجر لان الحاجة إلى شرع الزاجر فيما يغلب وجوده ولا
يغلب وجود هذا الفعل لان وجوده يتعلق باختيار شخصين ولا اختيار الا لداع يدعو إليه ولا داعى في جانب المحل
أصلا وفى الزنا وجد الداعي من الجانبين جميعا وهو الشهوة المركبة فيهما جميعا فلم يكن في معنى الزنا فورود النص هناك
ليس ورودا ههنا وكذا اختلاف اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم دليل على أن الواجب بهذا الفعل هو التعزير
لوجهين أحدهما ان التعزير هو الذي يحتمل الاختلاف في القدر والصفة لا الحد والثاني انه لا مجال للاجتهاد في الحد
بل لا يعرف الا بالتوقيف وللاجتهاد مجال في التعزير وكذا وطئ المرأة الميتة لا يوجب الحد ويوجب التعزير لعدم وطئ
المرأة الحية وكذا وطئ البهيمة وإن كان حراما لانعدام الوطئ في قبل المرأة فلم يكن زنا ثم إن كانت البهيمة ملك الواطئ
قيل إنها تذبح ولا تؤكل ولا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله لكن روى محمد عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه لم يحد
واطئ البهيمة وأمر بالبهيمة حتى أحرقت بالنار وكذلك الوطئ عن اكراه لا يوجب الحد وكذلك الوطئ في دار
الحرب وفى دار البغي لا يوجب الحد حتى أن من زنا في دار الحرب أو دار البغي ثم خرج الينا لا يقام عليه الحد لان الزنا
لم ينعقد سببا لوجوب الحد حين وجوده لعدم الولاية فلا يستوفى بعد ذلك وكذلك الحربي المستأمن إذا زنا بمسلمة
أو ذمية أو ذمي زنا بحربية مستأمنة لا حد على الحربي والحربية عندهما وعند أبي يوسف يحدان وجه قوله إنه لما دخل
دار الاسلام فقد التزم أحكام الاسلام مدة اقامته فيها فصار كالذمي ولهذا يقام عليه حد القذف كما يقام على الذمي ولهما
انه لم يدخل دار الاسلام على سبيل الإقامة والتوطن بل على سبيل العارية ليعاملنا ونعامله ثم يعود فلم يكن دخوله
دار الاسلام دلالة التزامه حق الله سبحانه وتعالى خالصا بخلاف حد القذف لأنه لما طلب الأمان من المسلمين فقد
34

التزم أمانهم عن الايذاء بنفسه وظهر حكم الاسلام في حقه ثم يحد المسلمة والذمية عند أبي حنيفة رحمه الله وعند محمد
رحمه الله لا يحد ويحد الذمي بلا خلاف (وجه) قول محمد رحمه الله ان الأصل فعل الرجل وفعلها يقع تبعا فلما لم يجب
على الأصل لا يجب على التبع كالمطاوعة للصبي والمجنون (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان فعل الحربي حرام محض
ألا ترى انه يؤاخذ فكان زنا فكانت هي مزنيا بها الا ان الحد لم يجب على الرجل لعدم التزامه أحكامنا وهذا أمر يخصه
ويحد الذمي لأنه بالذمة والعهد التزم أحكام الاسلام مطلقا الا في قدر ما وقع الاستثناء فيه ولم يوجد ههنا وكذلك
وطئ الحائض والنفساء والصائمة والمحرمة والمجنونة والموطوءة بشبهة والتي ظاهر منها أو آلى منها لا يوجب الحد وإن كان
حراما لقيام الملك والنكاح فلم يكن زنا وكذلك وطئ الجارية المشتركة والمجوسية والمرتدة والمكاتبة والمحرمة برضاع
أو صهرية أو جمع لقيام الملك وإن كان حراما وعلم بالحرمة وكذلك وطئ الأب جارية الابن لا يوجب الحد وان علم
بالحرمة لان له في مال ابنه شبهة الملك وهو الملك من وجه أو حق الملك لقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك
فظاهر إضافة مال الابن إلى الأب بحرف اللام يقتضى حقيقة الملك فلئن تقاعد عن إفادة الحقيقة فلا يتقاعد على ايراث
الشبهة أو حق الملك وكذلك وطئ جارية المكاتب لان المكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم فكان مملوك المولى رقبة
وملك الرقبة يقتضى ملك الكسب فإن لم يثبت مقتضاه حقيقة فلا أقل من الشبهة وكذلك وطئ جارية العبد المأذون
سواء كان عليه دين أو لم يكن اما إذا لم يكن عليه دين فظاهر لأنها ملك المولى وكذلك إن كان عليه دين لان رقبة المأذون
ملك المولى وملك الرقبة يقتضى ملك الكسب كما في جارية المكاتب وبل أولى لان كسب المأذون أقرب إلى المولى
من كسب المكاتب فلما لم يجب الحد هناك فههنا أولى ولان هذا الملك محل الاجتهاد لان العلماء اختلفوا فيه
واختلافهم يورث شبهة فأشبه وطأ حصل في نكاح وهو محل الاجتهاد وذا لا يوجب الحد كذا هذا وكذلك
وطئ الجد أب الأب وان علا عند عدم الأب بمنزلة وطئ الأب لان له ولادا فنزل منزلة الأب وكذلك الرجل من
الغانمين إذا وطئ جارية من المغنم قبل القسمة بعد الاحراز بدار الاسلام أو قبله لا حد عليه وان علم أن وطأها عليه
حرام لثبوت الحق له بالاستيلاء لانعقاد سبب الثبوت فإن لم يثبت فلا أقل من ثبوت الحق فيورث شبهة ولو جاءت
هذه الجارية بولد فادعاه لا يثبت نسبه منه لان ثبوت النسب يعتمد الملك في المحل اما من كل وجه أو من وجه ولم يوجد
قبل القسمة بل الموجود حق عام وانه يكفي لسقوط الحد ولا يكفي لثبوت النسب وكذلك وطئ امرأة تزوجها بغير
شهود أو بغير ولى عند من لا يجيزه لا يوجب الحد لان العلماء اختلفوا منهم من قال يجوز النكاح بدون الشهادة
والولاية فاختلافهم يورث شبهة وكذلك إذا تزوج معتدة الغير أو مجوسية أو مدبرة أو أمة على حرة أو أمة بغير اذن
مولاها أو العبد تزوج امرأة بغير اذن مولاه فوطئها لا حد عليه لوجود لفظ النكاح من الأهل في المحل وانه يوجب شبهة
وكذلك إذا نكح محارمه أو الخامسة أو أخت امرأته فوطئها لا حد عليه عند أبي حنيفة وان علم بالحرمة وعليه التعزير
وعندهما والشافعي رحمهم الله تعالى عليه الحد والأصل عند أبي حنيفة عليه الرحمة ان النكاح إذا وجد من الأهل
مضافا إلى محل قابل لمقاصد النكاح يمنع وجوب الحد سواء كان حلالا أو حراما وسواء كان التحريم مختلفا فيه أو مجمعا
عليه وسواء ظن الحل فادعى الاشتباه أو علم بالحرمة والأصل عندهما ان النكاح إذا كان محرما على التأبيد أو كان
تحريمه مجمعا عليه يجب الحد وان لم يكن محرما على التأبيد أو كان تحريمه مختلفا فيه لا يجب عليه (وجه) قولهم إن هذا
نكاح أضيف إلى غير محله فيلغو ودليل عدم المحلية ان محل النكاح هي المرأة المحللة لقوله سبحانه وتعالى وأحل لكم
ما وراء ذلكم والمحارم محرمات على التأبيد لقول الله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الآية الا انه إذا ادعى
الاشتباه وقال ظننت انها تحل لي سقط الحد لأنه ظن أن صيغة لفظ النكاح من الأهل في المحل دليل الحل فاعتبر هذا
الظن في حقه وان لم يكن معتبرا حقيقة اسقاطا لما يدرأ بالشبهات وإذا لم يدع خلاف الوطئ عن الشبهة فيجب الحد (وجه)
قول أبي حنيفة رحمه الله ان لفظ النكاح صدر من أهله مضافا إلى محله فيمنع وجوب الحد كالنكاح بغير شهود ونكاح
35

المتعة ونحو ذلك ولا شك في وجود لفظ النكاح والأهلية والدليل على المحلية ان محل النكاح هو الأنثى من بنات سيدنا
آدم عليه الصلاة والسلام النصوص والمعقول اما النصوص فقوله سبحانه وتعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء
وقوله سبحانه وتعالى هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وقوله سبحانه وتعالى وانه خلق الزوجين
الذكر والأنثى جعل الله سبحانه وتعالى النساء على العموم والاطلاق محل النكاح والزوجية واما المعقول فلان الأنثى
من بنات سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام محل صالح لمقاصد النكاح من السكنى والولد والتحصين وغيرها فكانت
محلا لحكم النكاح لان حكم التصرف وسيلة إلى ما هو المقصود من التصرف فلو لم يجعل محل المقصود محل الوسيلة لم
يثبت معنى التوسل الا ان الشرع أخرجها من أن تكون محلا للنكاح شرعا مع قيام المحلية حقيقة فقيام صورة العقد
والمحلية يورث شبهة إذ الشبهة اسم لما يشبه الثابت وليس بثابت أو نقول وجد ركن النكاح والأهلية والمحلية على ما بينا
الا انه فات شرط الصحة فكان نكاحا فاسدا والوطئ في النكاح الفاسد لا يكون زنا بالاجماع وعلى هذا ينبغي ان يعلل
فيقال هذا الوطئ ليس بزنا فلا يوجب حد الزنا قياسا على النكاح بغير شهود وسائر الأنكحة الفاسدة ولو وطئ
جارية الأب أو الام فان ادعى الاشتباه بان قال ظننت انها تحل لي لم يجب الحد وان لم يدع يجب وهو تفسير شبهة
الاشتباه وانها تعتبر في سبعة مواضع في جارية الأب وجارية الام وجارية المنكوحة وجارية المطلقة ثلاثا ما دامت
في العدة وأم الولد ما دامت تعتد منه والعبد إذا وطئ جارية مولاه والجارية المرهونة إذا وطئها المرتهن في رواية كتاب
الرهن وفى رواية كتاب الحدود يجب الحد ولا يعتبر ظنه اما إذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته فلان الرجل ينبسط
في مال أبويه وزوجته وينتفع به من غير استئذان وحشمة عادة الا ترى انه يستخدم جارية أبويه ومنكوحته من غير
استئذان فظن أن هذا النوع من الانتفاع مطلق له شرعا أيضا وهذا وان لم يصلح دليلا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلا
اعتبر في حقه لاسقاط ما يندرئ بالشبهات وإذا لم يدع ذلك فقد عرى الوطئ عن الشبهة فتمحض حراما فيجب
الحد ولا يثبت نسب الولد سواء ادعى الاشتباه أو لا لان ثبات النسب يعتمد قيام معنى في المحل وهو الملك من كل وجه
أو من وجه ولم يوجد ولو ادعى أحدهما الظن ولم يدع الآخر لا حد عليهما ما لم يقرا جميعا انهما قد علما بالحرمة لان
الوطئ يقوم بهما جميعا فإذا تمكنت فيه الشبهة من أحد الجانبين فقد تمكنت من الجانب الآخر ضرورة واما من سوى
الأب والام من سائر ذوي الرحم المحرم كالأخ والأخت ونحوهما إذا وطئ جاريته يجب الحد وان قال ظننت انها تحل
لي لان هذا دعوى الاشتباه في غير موضع الاشتباه لان الانسان لا ينبسط بالانتفاع بمال أخيه وأخته عادة فلم يكن هذا
ظنا مستندا إلى دليل فلا يعتبر وكذلك إذا وطئ جارية ذات رحم محرم من امرأته لما قلنا اما إذا وطئ المطلقة ثلاثا في العدة
فلان النكاح قد زال في حق الحل أصلا لوجود المبطل لحل المحلية وهو الطلقات الثلاث وإنما بقي في حق الفراش
والحرمة على الأزواج فقط فتمحض الوطئ حراما فكان زنا فيوجب الحد الا إذا ادعى الاشتباه وظن الحل لأنه
بنى ظنه على نوع دليل وهو بقاء النكاح في حق الفراش وحرمة الأزواج فظن أنه بقي في حق الحل أيضا وهذا وان لم
يصلح دليلا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلا اعتبر في حقه درأ لما يندرئ بالشبهات وإن كان طلاقها واحدة بائنة
لم يجب الحد وان قال علمت أنها على حرام لان زوال الملك بالإبانة وسائر الكنايات مجتهد فيه لاختلاف الصحابة
رضي الله عنهم فان مثل سيدنا عمر رضي الله عنه يقول في الكنايات انها رواجع وطلاق الرجعي لا يزيل الملك
فاختلافهم يورث شبهة ولو خالعها أو طلقها على مال فوطئها في العدة ذكر الكرخي انه ينبغي أن يكون الحكم فيه
كالحكم في المطلقة ثلاثا وهو الصحيح لان زوال الملك بالخلع والطلاق على مال مجمع عليه فلم تتحقق الشبهة فيجب
الحد الا إذا ادعى الاشتباه لما ذكرنا في المطلقة الثلاث وكذلك إذا وطئ أم ولده وهي تعتد منه بأن أعتقها لان زوال
الملك بالاعتاق مجمع عليه فلم تثبت الشبهة وأما العبد إذا وطئ جارية مولاه فان العبد ينبسط في مال مولاه عادة
بالانتفاع فكان وطؤه مستندا إلى ما هو دليل في حقه فاعتبر في حقه لاسقاط الحد وإذا لم يدع يحد لعراء الوطئ عن
36

الشبهة وأما المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة (فوجه) رواية كتاب الرهن أن يد المرتهن يد استيفاء الدين فصار المرتهن
مستوفيا الدين من الجارية يدا فقد وطئ جارية هي مملوكة له يدا فلا يجب الحد كالجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل
التسليم الا إذا ادعى الاشتباه وقال ظننت انها تحل لي لأنه استند ظنه إلى نوع دليل وهو ملك اليد فيعتبر في حقه درأ
للحد وإذا لم يدع فلا شبهة فلا يجب الحد (وجه) رواية كتاب الحدود ان الاستيفاء في باب الرهن إنما يتحقق من
مالية الرهن لا من عينه لان الاستيفاء لا يتحقق الا في الجنس ولا مجانسة بين التوثيق وبين عين الجارية فلا يتصور
الاستيفاء من عينها فلا يعتبر ظنه ولو وطئ البائع الجارية المبيعة قبل التسليم لا حد عليه وكذلك الزوج إذا وطئ الجارية
التي تزوج عليها قبل التسليم لان ملك الرقبة وان زال بالبيع والنكاح فملك اليد قائم فيورث شبهة ولو وطئ المستأجر
جارية الإجارة والمستعير جارية الإعارة والمستودع جارية الوديعة يحد وان قال ظننت انها تحل لي لان هذا ظن عرى
عن دليل فكان في غير موضعه فلا يعتبر ولو زفت إليه غير امرأته وقلن النساء ان هذه امرأتك فوطئها لا حد عليه منهم
من قال إنما لم يجب الحد لشبهة الاشتباه وهذا غير سديد فإنها إذا جاءت بولد يثبت النسب ولو كان امتناع الوجوب
لشبهة الاشتباه ينبغي أن لا يثبت لان النسب لا يثبت في شبهة الاشتباه كما فيما ذكرنا من المسائل وههنا يثبت النسب دل
أن الامتناع ليس لشبهة الاشتباه بل لمعنى آخر وهو ان وطأها بناء على دليل ظاهر يجوز بناء الوطئ عليه وهو الاخبار
بأنها امرأته بل لا دليل ههنا سواه فلئن تبين الامر بخلافه فقيام الدليل المبيح من حيث الظاهر يورث شبهة ولو وطئ
أجنبية وقال ظننت انها امرأتي أو جاريتي أو شبهتها بامرأتي أو جاريتي يجب الحد لان هذا الظن غير معتبر لعدم
استناده إلى دليل فكان ملحقا بالعدم فلا يحل الوطئ بناء على هذا الظن ما لم يعرف انها امرأته بدليل إما بكلامها أو
باخبار مخبر ولم يوجد مع ما أنا لو اعتبرنا هذا الظن في اسقاط الحد لم يقم حد الزنا في موضع ما إذا الزاني لا يعجز عن هذا
القدر فيؤدى إلى سد باب الحد وهكذا روى عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال لو قيل هذا لما أقيم الحد على أحد
وكذلك لو كان الرجل أعمى فوجد امرأة في بيته فوقع عليها وقال ظننتها امرأتي عليه الحد لان هذا ظن لم يستند إلى
دليل إذ قد يكون في البيت من لا يجوز وطؤها من المحارم والأجنبيات فلا يحل الوطئ بناء على هذا الظن فلم تثبت الشبهة
وروى عن محمد في رجل أعمى دعى امرأته فقال يا فلانة فأجابت غيرها فوقع عليها انه يحد ولو أجابته غيرها وقالت أنا
فلانة فوقع عليها لم يحد ويثبت النسب وهي كالمرأة المزفوفة إلى غير زوجها لأنه لا يحل له وطؤها بنفس الإجابة ما لم تقل أنا
فلانة لان الإجابة قد تكون من التي ناداها وقد تكون من غيرها فلا يجوز بناء الوطئ على نفس الإجابة فإذا فعل لم يعذر
بخلاف ما إذا قالت أنا فلانة فوطئها لأنه لا سبيل للأعمى إلى أن يعرف انها امرأته الا بذلك الطريق فكان معذورا
فأشبه المرأة المزفوفة حتى لو كان الرجل بصيرا لا يصدق على ذلك لامكان الوصول إلى أنها امرأته بالرؤية وروى
عن زفر في رجل أعمى وجد على فراشه أو مجلسه امرأة نائمة فوقع عليها وقال ظننت انها امرأتي يدرأ عنه الحد وعليه
العقر وقال أبو يوسف لا يدرأ (وجه) قول زفر انه ظن في موضع الظن إذ الظاهر أنه لا ينام على فراشه غير امرأته
فكان ظنه مستندا إلى دليل ظاهر فيوجب درأ الحد كما لو زفت إليه غير امرأته فوطئها (وجه) قال أبى يوسف ان
النوم على الفراش لا يدل على أنها امرأته لجواز أن ينام على فراشه غير امرأته فلا يجوز استحلال الوطئ بهذا القدر
فإذا استحل وظهر الامر بخلافه لم يكن معذورا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الاحصان فالاحصان نوعان احصان الرجم واحصان القذف أما احصان الرجم فهو عبارة في
الشرع عن اجتماع الصفات اعتبرها الشرع لوجوب الرجم وهي سبعة العقل والبلوغ والحرية والاسلام والنكاح
الصحيح وكون الزوجين جميعا على هذه الصفات وهو أن يكونا جميعا عاقلين بالغين حرين مسلمين فوجود هذه
الصفات جميعا فيهما شرط لكون كل واحد منهما محصنا والدخول في النكاح الصحيح بعد سائر الشرائط متأخرا
عنها فان تقدمها لم يعتبر ما لم يوجد دخول آخر بعدها فلا احصان للصبي والمجنون والعبد والكافر ولا بالنكاح الفاسد
37

ولا بنفس النكاح ما لم يوجد الدخول وما لم يكن الزوجان جميعا وقت الدخول على صفة الاحصان حتى أن الزوج
العاقل البالغ الحر المسلم إذا دخل بزوجته وهي صبية أو مجنونة أو أمة أو كتابية ثم أدركت الصبية وأفاقت المجنونة
وأعتقت الأمة وأسلمت الكافرة لا يصير محصنا ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض حتى لو زنى
قبل دخول آخر لا يرجم فإذا وجدت هذه الصفات صار الشخص محصنا لان الاحصان في اللغة عبارة عن الدخول
في الحصن يقال أحصن أي دخل الحصن كما يقال أعرق أي دخل العراق وأشأم أي دخل الشأم وأحصن أي
دخل في الحصن ومعناه دخل حصنا عن الزنا إذا دخل فيه وإنما يصير الانسان داخلا في الحصن عن الزنا عند توفر
الموانع وكل واحد من هذه الجملة مانع عن الزنا فعند اجتماعها تتوفر الموانع أما العقل فلان للزنا عاقبة ذميمة والعقل
يمنع عن ارتكاب ماله عاقبة ذميمة وأما البلوغ فان الصبي لنقصان عقله ولقلة تأمله لاشتغاله باللهو واللعب لا يقف
على عواقب الأمور فلا يعرف الحميدة منها والذميمة وأما الحرية فلان الحر يستنكف عن الزنا وكذا الحرة ولهذا
لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آية المبايعة على النساء وبلغ إلى قول الله تعالى ولا يزنين قالت هند امرأة أبي سفيان
أو تزني الحرة يا رسول الله وأما الاسلام فلانه نعمة كاملة موجبة للشكر فيمنع من الزنا الذي هو وضع
الكفر في موضع الشكر وأما اعتبار اجتماع هذه الصفات في الزوجين جميعا فلان اجتماعها فيهما يشعر بكمال حالهما
وذا يشعر بكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين لان اقتضاء الشهوة بالصبية والمجنونة قاصر وكذا بالرقيق لكون الرق
من نتائج الكفر فينفر عنه الطبع وكذا بالكافرة لان طبع المسلم ينفر عن الاستمتاع بالكافرة ولهذا قال النبي
عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج يهودية دعها فإنها الا تحصنك وأما الدخول بالنكاح
الصحيح فلانه اقتضاء الشهوة بطريق حلال فيقع به الاستغناء عن الحرام والنكاح الفاسد لا يفيد فلا يقع به
الاستغناء وأما كون الدخول آخر الشرائط فلان الدخول قبل استيفاء سائر الشرائط لا يقع اقتضاء الشهوة على
سبيل الكمال فلا تقع الغنية به عن الحرام على التمام وبعد استيفائها تقع به الغنية على الكمال والتمام فثبت أن هذه الجملة
موانع عن الزنا فيحصل بها معنى الاحصان وهو الدخول في الحصن عن الزنا ولا خلاف في هذه الجملة الا في الاسلام
فإنه روى عن أبي يوسف أنه ليس من شرائط الاحصان حتى لا يصير المسلم محصنا بنكاح الكتابية والدخول بها
في ظاهر الرواية وكذلك الذمي العاقل البالغ الحر الثيب إذا زنا لا يرجم في ظاهر الرواية بل يجلد وعلى ما روى عن أبي
يوسف يصير المسلم محصنا بنكاح الكتابية ويرجم الذمي به وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى واحتجا بما روى أنه
عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين ولو كان الاسلام شرطا لما رجم ولان اشتراط الاسلام للزجر عن الزنا والدين
المطلق يصلح للزجر عن الزنا لان الزنا حرام في الأديان كلها (ولنا) في زنا الذمي قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة أوجب سبحانه وتعالى الجلد على كل زان وزانية أو على مطلق الزاني والزانية من غير فصل بين
المؤمن والكافر ومتى وجب الجلد انتفى وجوب الرجم ضرورة ولان زنا الكافر لا يساوى زنا المسلم في كونه جناية فلا
يساويه في استدعاء العقوبة كزنا البكر مع زنا الثيب وبيان ذلك ان زنا المسلم اختص بمزيد قبح انتفى ذلك في زنا
الكافر وهو كون زنا موضع الكفر ان في موضع الشكر لان دين الاسلام نعمة ودين الكفر ليس بنعمة وفى زنا المسلم
بالكتابية قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج يهودية دعها فإنها لا تحصنك وقوله
عليه الصلاة والسلام من أشرك بالله فليس بمحصن والذمي مشرك على الحقيقة فلم يكن محصنا وما ذكرنا أن في اقتضاء
الشهوة بالكافرة قصورا فلا يتكامل معنى النعمة فلا يتكامل الزاجر وقوله الزجر يحصل بأصل الدين قلنا نعم لكنه
لا يتكامل الا بدين الاسلام لأنه نعمة فيكون الزنا من المسلم وضع الكفر ان في موضع الشكر ودين الكفر ليس بنعمة
فلا يكون في كونه زاجرا مثله وأما حديث رجم اليهوديين فيحتمل انه كان قبل نزول آية الجلد فانتسخ بها ويحتمل انه
كان بعد نزولها ونسخ خبر الواحد أهون من نسخ الكتاب العزيز واحصان كل واحد من الزانيين ليس بشرط
38

لوجوب الرجم على أحدهما حتى لو كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن فالمحصن منهما يرجم وغير المحصن يجلد ثم
إذا ظهر احصان الزاني بالبينة أو بالاقرار يرجم بالنص والمعقول أما النص فالحديث المشهور وهو قوله عليه
الصلاة والسلام لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى معان ثلاث كفر بعد ايمان وزنا بعد احصان وقتل نفس بغير
حق وروى أنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وكان محصنا وأما المعقول فهو أن المحصن إذا توفرت عليه الموانع من
الزنا فإذا أقدم عليه مع توفر الموانع صار زناه غاية في القبح فيجازى بما هو غاية في العقوبات الدنيوية وهو الرجم
لان الجزاء على قدر الجناية ألا ترى ان الله سبحانه وتعالى توعد نساء النبي عليه الصلاة والسلام بمضاعفة العذاب إذا
أتين بفاحشة لعظم جنايتهن لحصولها مع توفر الموانع فيهن لعظم نعم الله سبحانه وتعالى عليهن لنيلهن صحبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومضاجعته فكانت جنايتهن على تقدير الاتيان غاية في القبح فأوعدن بالغاية من الجزاء كذا ههنا
ولا يجمع بين الجلد والرجم عند عامة العلماء وقال بعض الناس يجمع بينهما لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام والثيب
بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة (ولنا) أنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا ولم يجلده ولو وجب الجمع بينهما لجمع
ولان الزنا جناية واحدة فلا يوجب الا عقوبة واحدة والجلد والرجم كل واحد منهما عقوبة على حدة فلا يجبان
لجناية واحدة والحديث محمول على الجمع بينهما في الجلد والرجم لكن في حالين فيكون عملا بالحديث وإذا فقد شرط
من شرائط الاحصان لا يرجم بل يجلد لان الواجب بنفس الزنا هو الجلد بآية الجلد ولان زنا غير المحصن لا يبلغ غاية في
القبح فلا تبلغ عقوبته النهاية فيكتفى بالجلد وهل يجمع بين الجلد والتغريب اختلف فيه قال أصحابنا لا يجمع الا إذا
رأى الامام المصلحة في الجمع بينهما فيجمع وقال الشافعي رحمه الله يجمع بينهما احتج بما روى أنه عليه الصلاة
والسلام قال البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وروى عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه جلد وغرب وكذا روى
عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه فعل كذا ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة فيكون اجماعا (ولنا) قوله عز وجل الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة والاستدلال به من وجهين أحدهما أنه عز وجل أمر بجلد الزانية والزاني
ولم يذكر التغريب فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله عز وجل والزيادة عليه نسخ ولا يجوز نسخ النص بخبر الواحد
والثاني أنه سبحانه وتعالى جعل الجلد جزاء والجزاء اسم لما تقع به الكفاية مأخوذ من الاجتزاء وهو الاكتفاء فلو
أوجبنا التغريب لا تقع الكفاية بالجلد وهذا خلاف النص ولان التغريب تعريض للمغرب على الزنا لأنه ما دام في
بلده يمتنع عن العشائر والمعارف حياء منهم وبالتغريب يزول هذا المعنى فيعرى الداعي عن الموانع فيقدم عليه والزنا
قبيح فما أفضى إليه مثله وفعل الصحابة محمول على أنهم رأوا ذلك مصلحة على طريق العزير ألا يرى أنه روى
عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه نفى رجلا فلحق بالروم فقال لا أنفى بعدها أبدا وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال
كفى بالنفي فتنة فدل ان فعلهم كان على طريق التعزير ونحن به نقول أن للامام أن ينفى ان رأى المصلحة في التغريب
ويكون النفي تعزيرا لا حدا والله سبحانه وتعالى أعلم وأما احصان القذف فنذكره في حد القذف إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما حد الشرب فسبب وجوبه الشرب وهو شرب الخمر خاصة حتى يجب الحد بالشرب قليلها وكثيرها
ولا يتوقف الوجوب على حصول السكر منها وحد السكر سبب وجوبه السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من
الأشربة المعهودة المسكرة كالسكر ونقيع الزبيب والمطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب أو التمر والزبيب والمثلث
ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط وجوبها فمنها العقل ومنها البلوغ فلا حد على المجنون والصبي الذي لا يعقل ومنها
الاسلام فلا حد على الذمي والحربي المستأمن بالشرب ولا بالسكر في ظاهر الرواية ومنها عدم الضرورة في شرب
الخمر فلا حد على من أكره على شرب خمر ولا على من أصابته مخمصة وإنما كان كذلك لان الحد عقوبة محضة
فتستدى جناية محضة وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بالجناية وكذا الشرب لضرورة المخمصة والاكراه حلال فلم
39

يكن جناية وشرب الخمر مباح لأهل الذمة عند أكثر مشايخنا فلا يكون جناية وعند بعضهم وإن كان حراما لكنا
نهينا على التعرض لهم وما يدينون وفى إقامة الحد عليهم تعرض لهم من حيث المعنى لأنها تمنعهم من الشرب وعن
الحسن بن زياد انهم إذا شربوا وسكروا يحدون لأجل السكر لا لأجل الشرب لان السكر حرام في الأديان كلها وما قاله
الحسن حسن ومنها بقاء اسم الخمر للمشروب وقت الشرب في حد الشرب لان وجوب الحد بالشرب تعلق به حتى لو
خلط الخمر بالماء ثم شرب نظر فيه إن كانت الغلبة للماء لا حد عليه لان اسم الخمرية يزول عند غلبة الماء وإن كان
ت الغلبة للخمر أو كانا سواء يحد لان اسم الخمر باق وهي عادة بعض الشربة انهم يشربونها ممزوجة بالماء وكذلك
من شرب دردى الخمر لا حد عليه لان دردى الخمر لا يسمى خمرا وإن كان لا يخلوا عن أجزاء الخمر (فاما) الذكورة
فليست بشرط حتى يجب الحد على الذكر والأنثى وأما الحرية فكذلك الا أن حد الرقيق يكون على النصف من
حد الحر ولا حد على من توجد منه رائحة الخمر لان وجود رائحة الخمر لا يدل على شرب الخمر لجواز انه تمضمض بها ولم
يشربها أو شربها عن اكراه أو مخمصة وكذلك من تقيأ خمرا لا حد عليه لما قلنا والله سبحانه وتعالى أعلم وأما
الأشربة التي تتخذ من الأطعمة كالحنطة والشعير والدخن والذرة والعسل والتين والسكر ونحوها فلا يجب الحد
بشربها لان شربها حلال عندهما وعند محمد وإن كان حراما لكن هي حرمة محل الاجتهاد فلم يمكن شربها جناية محضة
فلا تتعلق بها عقوبة محضة ولا بالسكر منها وهو الصحيح لان الشرب إذا لم يكن حراما أصلا فلا عبرة بنفس السكر
كشرب البنج ونحوه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حد القذف فسبب وجوبه القذف بالزنا لأنه نسبه إلى الزنا وفيها الحاق العار بالمقذوف فيجب الحد
دفعا للعار عنه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط وجوبه فأنواع بعضها يرجع إلى القاذف وبعضها يرجع إلى المقذوف وبعضها يرجع
إليهما جميعا وبعضها إلى المقذوف به وبعضها يرجع إلى المقذوف فيه وبعضها يرجع إلى نفس القذف أما الذي
يرجع إلى القاذف فأنواع ثلاثة أحدها العقل والثاني البلوغ حتى لو كان القاذف صبيا أو مجنونا لا حد عليه لان
الحد عقوبة فيستدعى كون القذف جناية وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية والثالث عدم اثباته بأربعة
شهداء فان أتى بهم لا حد عليه لقوله سبحانه وتعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلده علق سبحانه وتعالى وجوب إقامة الحد بعد الاثبات بأربعة شهود وليس المراد منه عدم الاتيان في جميع
العمر بل عند القذف والخصومة إذ لو حمل على الأبد لما أقيم حد أصلا إذ لا يقام بعد الموت ولان الحد إنما وجب لدفع عار
الزنا عن المقذوف وإذا ظهر زناه بشهادة الأربعة لا يحتمل الاندفاع بالحد ولان هذا شرط يزجر عن قذف المحصنات
وأما حرية القاذف واسلامه وعفته عن فعل الزنا فليس بشرط فيحد الرقيق والكافر ومن لا عفة له عن الزنا والشرط
احصان المقذوف لا احصان القاذف والله سبحانه وتعالى الموفق
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقذوف فشيئان أحدهما أن يكون محصنا رجلا كان أو امرأة وشرائط احصان
القذف خمسة العقل والبلوغ والحرية والاسلام والعفة عن الزنا فلا يجب الحد بقذف الصبي والمجنون والرقيق
والكافر ومن لا عفة له عن الزنا أما العقل والبلوغ فلان الزنا لا يتصور من الصبي والمجنون فكان قذفهما بالزنا كذبا
محضا فيوجب التعزير لا الحد وأما الحرية فلان الله سبحانه وتعالى شرط الاحصان في آية القذف وهي قوله تبارك
وتعالى والذين يرمون المحصنات والمراد من المحصنات ههنا الحرائر لا العفائف عن الزنا فدل أن الحرية شرط ولأنا لو
أوجبنا على قاذف المملوك الجلد لأوجبنا ثمانين وهو لو أتى بحقيقة الزنا لا يجلد الا خمسين وهذا لا يجوز لان القذف
نسبة إلى الزنا وأنه دون حقيقة الزنا وأما الاسلام والعفة عن الزنا فلقوله تعالى والذين يرمون المحصنات الغافلات
المؤمنات والمحصنات الحرائر والغافلات العفائف عن الزنا والمؤمنات معلومة فدل أن الايمان والعفة عن
40

عن الزنا والحرية شرط ودلت هذه الآية على أن المراد من المحصنات في هذه الآية الحرائر لا العفائف لأنه سبحانه وتعالى
جمع في هذه الآية بين المحصنات والغافلات في الذكر والغافلات العفائف فلو أريد بالمحصنات العفائف لكان تكرارا
ولان الحد إنما يجب لدفع العار عن المقذوف ومن لا عفة له عن الزنا لا يلحقه العار بالقذف بالزنا وكذا قوله عليه الصلاة
والسلام من أشرك بالله فليس بمحصن يدل على أن الاسلام شرط ولان الحد إنما وجب بالقذف دفعا لعار الزنا عن
المقذوف وما في الكافر من عار الكفر أعظم والله سبحانه وتعالى أعلم ثم تفسير العفة عن الزنا هو ان لم يكن المقذوف
وطئ في عمره وطأ حراما في غير ملك ولا نكاح أصلا ولا في نكاح فاسد فسادا مجمعا عليه في السلف فإن كان فعل
سقطت عفته سواء كان الوطئ زنا موجبا للحد أو لم يكن بعد أن يكون على الوصف الذي ذكرنا وإن كان وطئ وطأ
حراما لكن في الملك أو النكاح حقيقة أو في نكاح فاسد لكن فسادا هو محل الاجتهاد لا تسقط عفته وبيان هذه
الجملة في مسائل إذا وطئ امرأة بشبهة بان زفت إليه غير امرأته فوطئها سقطت عفته لوجود الوطئ الحرام في غير ملك
ولا نكاح أصلا الا أنه لم يجب الحد لقيام الدليل المبيح من حيث الظاهر على ما ذكرنا فيما تقدم وكذلك إذا وطئ
جارية مشتركة بينه وبين غيره لان الوطئ يصادف كل الجارية وكلها ليس ملكه فيصادف ملك الغير لا محالة فكان
الفعل زنا من وجه لكن درئ الحد للشبهة وكذلك إذا وطئ جارية أبويه أو زوجته أو جارية اشتراها وهو يعلم أنها
لغير البائع ثم استحقت لما قلنا وكذلك لو وطئ جارية ابنه فاعلقها أو لم يعلقها لوجود الوطئ المحرم في غير ملك حقيقة
ولو وطئ الحائض أو النفساء أو الصائمة أو المحرمة أو الحرة التي ظاهر منها أو الأمة المزوجة لم تسقط عفته لقيام الملك أو
النكاح حقيقة وانه محلل الا انه منع من الوطئ لغيره وكذا إذا وطئ مكاتبته في قولهما واحدى الروايتين عن أبي
يوسف وفى رواية أخرى عنه وهو قول زفر تسقط عفته (وجه) قولهما ان هذا وطئ حصل في غير الملك لان عقد
الكتابة أوجب زوال الملك في حق الوطئ ألا ترى أنه لا يباح له أن يطأها وكذا المهر يكون لها لا للمولى وهذا دليل
زوال الملك في حق الوطئ ولنا ان الوطئ يصادف الذات وملك الذات قائم بعد الكتابة فكان الملك المحلل قائما وإنما
الزائل ملك اليد فمنع من الوطئ لما فيه من استرداد يدها على نفسها فأشبهت الجارية المزوجة ولو تزوج معتدة الغير أو
منكوحة الغير أو مجوسية أو أخته من الرضاع سقطت عفته سواء علم أو لم يعلم في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما
إذا كان لا يعلم لا تسقط (وجه) قولهما أنه إذا لم يعلم لا يكون الوطئ حراما بدليل انه لا يأثم ولو كان حراما لاثم وإذا لم
يكن حراما لم تسقط العفة ولأبي حنيفة رحمه الله ان حرمة الوطئ ههنا ثابتة بالاجماع الا ان الاثم منتف والاثم ليس من
لوازم الحرمة على ما عرف وإذا كانت الحرمة ثابتة بيقين سقطت العفة ولو قبل امرأة بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة
ثم تزوج بابنتها فوطئها أو تزوج بأمها فوطئها لا تسقط عفته في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تسقط (وجه) قولهما
ان التقبيل أو النظر أوجب حرمة المصاهرة وانها حرمة مؤبدة فتسقط العصمة كحرمة الرحم المحرم ولأبي حنيفة رحمه
الله ان هذه الحرمة ليست مجمعا عليها بل هي محل الاجتهاد في السلف فلا تسقط العفة فاما إذا تزوج امرأة فوطئها ثم
تزوج ابنتها أو أمها فوطئها سقطت عفته بالاجماع لان هذا النكاح مجمع على فساده فلم يكن محل الاجتهاد ولو تزوج
امرأة بغير شهوة فوطئها سقطت عفته لان فساد هذا النكاح مجمع عليه لا اختلاف فيه في السلف إذ لا يعرف الخلاف
فيه بين الصحابة فلا يعتد بخلاف مالك فيه ولو تزوج أمة وحرة في عقدة واحدة فوطئهما أو تزوج أمة على حرة
فوطئهما لم تسقط عفته لان فساد هذا النكاح ليس مجمعا عليه في السلف بل هو محل الاجتهاد فالوطئ فيه لا يوجب
سقوط العفة ولو تزوج ذمي امرأة ذات رحم محرم منه ثم أسلم فقذفه رجل إن كان قد دخل بها بعد الاسلام سقطت
عفته بالاجماع وإن كان الدخول في حال الكفر لم تسقط في قول أبي حنيفة وعندهما تسقط هكذا ذكر الكرخي وذكر
محمد رحمه الله في الأصل انه يشترط احصانه ولم يذكر الخلاف وهو الصحيح لان هذا النكاح مجمع على فساده وإنما
سقط الحد على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة لنوع شبهة والله سبحانه وتعالى أعلم ولا حد على من قذف امرأة محدودة
41

في الزنا أو معها ولد لا يعرف له أب أو لاعنت بولد لان امارة الزنا معها ظاهرة فلم تكن عفيفة فان لاعنت بغير الولد أو مع
الولد لكنه لم يقطع النسب أو قطع لكن الزوج عاد وأكذب نفسه والحق النسب بالأب حد لأنه لم يظهر منها علامة
الزنا فكانت عفيفة والثاني أن يكون المقذوف معلوما فإن كان مجهولا لا يجب الحد كما إذا قال لجماعة كلكم زان الا واحد
أو قال ليس فيكم زان الا واحد أو قال لرجلين أحدكما زان لان المقذوف مجهول ولو قال لرجلين أحدكما زان فقال له
رجل أحدهما هذا فقال لا لا حد للآخر لأنه لم يقذف بصريح الزنا ولا بما هو في معنى الصريح ولو قال لرجل جدك زان
لا حد عليه لان اسم الجد ينطلق على الأسفل وعلى الاعلى فكان المقذوف مجهولا ولو قال لرجل أخوك زان فإن كان
له أخوة أو أخوان سواه لا حد على القاذف لان المقذوف مجهول وان لم يكن له الا أخ واحد فعليه الحد إذا حضر
وطالب لان المقذوف معلوم وليس لهذا الأخ ولاية المطالبة لما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى (وأما) حياة
المقذوف وقت القذف فليس بشرط لوجوب الحد على القاذف حتى يجب الحد بقذف الميت لما نذكر في موضعه إن شاء الله
تعالى
* (فصل) * وأما الذي يرجع إليهما جميعا فواحد وهو أن لا يكون القاذف أب المقذوف ولا جده وان علا ولا أمه ولا
جدته وان علت فإن كان لا حد عليه لقول الله تعالى ولا تقل لهما أف والنهى عن التأفيف نصا نهى عن الضرب
دلالة ولهذا لا يقتل به قصاصا ولقوله تبارك وتعالى وبالوالدين احسانا والمطالب بالقذف ليس من الاحسان في شئ
فكان منفيا بالنص ولان توقير الأب واحترامه واجب شرعا وعقلا والمطالبة بالقذف للجد ترك التعظيم والاحترام
فكان حراما والله سبحانه وتعالى الموفق
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقذوف به فنوعان أحدهما أن يكون القذف بصريح الزنا وما يجرى مجرى الصريح
وهو نفى النسب فإن كان بالكناية لا يوجب الحد لان الكناية محتملة والحد لا يجب مع الشبهة فمع الاحتمال أولى
وبيان هذه الجملة في مسائل إذا قال لرجل يا زاني أو قال زنيت أو قال أنت زاني يحد لأنه أتى بصريح القذف بالزنا ولو
قال يا زانئ بالهمز أو زنأت بالهمز يحد ولو قال عنيت به الصعود في الجبل لا يصدق لان العامة لا تفرق بين المهموز
والملين وكذا من العرب من يهمز الملين فبقي مجرد النية فلا يعتبر ولو قال زنأت في الجبل يحد ولو قال عنيت به الصعود
في الجبل لا يصدق في قولهما وعند محمد رحمه الله يصدق ولو قال زنأت على الجبل وقال عنيت به الصعود لا يصدق
بالاجماع (وجه) قول محمد رحمه الله ان الزنا الذي هو فاحشة ملين يقال زنا يزنى زنا والزنا الذي هو صعود مهموز يقال
زنأ يزنأ زنأ وقال الشاعر * وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل * وأراد به الصعود الا أنه إذا لم يقل عنيت به الصعود حمل
على الزنا المعروف لان اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفا وعادة وإذا قال عنيت به الصعود فقد عنى به ما هو موجب
اللفظ لغة فلزم اعتباره (وجه) قولهما أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفا وعادة والعامة لا تفصل بين المهموز والملين
بل تستعمل المهموز ملينا والملين مهموزا فلا يصدق في الصرف عن المتعارف كما إذا قال زنيت في الجبل وقال عنيت به
الصعود أو زنأت ولم يذكر الجبل الا أنه استعمل كلمة في مكان كلمة على وأنه جائز قال الله سبحانه وتعالى
ولأصلبنكم في جذوع النخل أي على جذوع النخل ومن مشايخنا من علل لهما بان المهموز منه يحتمل معنى الملين
وهو الزنا المعروف لان من العرب من يهمز الملين فيتعين معنى الملين بدلالة الحال وهي حال الغضب لان المسألة
مقصورة فيها وإذا قال زنأت على الجبل وقال عنيت به الصعود لم يصدق لأنه لا تستعمل كلمة على في الصعود فلا يقال
صعد على الجبل وإنما يقال صعد في الجبل ولو قال لرجل يا ابن الزاني فهو قاذف لأبيه كأنه قال أبوك زاني ولو قال يا ابن
الزانية فهو قاذف لامه كأنه قال أمك زانية ولو قال يا ابن الزاني والزانية فهو قاذف لأبيه وأمه كأنه قال أبواك زانيان
ولو قال يا ابن الزنا أو يا ولد الزنا كان قذفا لان معناه في عرف الناس وعادتهم انك مخلوق من ماء الزنا ولو قال يا ابن
الزانيتين يكون قذفا ويعتبر احصان أمه التي ولدته لا احصان جدته حتى لو كانت أمه مسلمة فعليه الحد وإن كانت
42

جدته كافرة وإن كانت أمه كافرة فلا حد عليه وإن كانت جدته مسلمة لان أمه في الحقيقة والدته والجدة تسمى أما
مجازا وكذلك لو قال يا ابن مائة زانية أو يا ابن ألف زانية يكون قاذفا لامه ويعتبر في الاحصان حال الام لما قلنا
ويكون المراد من العدد المذكور عدد المرات لا عدد الأشخاص أي أمك زنت مائة مرة أو ألف مرة ولو قال يا ابن
القحبة لم يكن قاذفا لان هذا الاسم كما يطلق على الزانية يستعمل على المهيأة المستعدة للزنا وان لم تزن فلا يجعل قذفا
مع الاحتمال وكذلك لو قال يا ابن الدعية لان الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة لا نسب لها منهم وهذا لا يدل
على كونها زانية لجواز ثبوت نسبها من غيرهم ولو قال لرجل يا زاني فقال الرجل لا بل أنت الزاني أو قال لا بل
أنت يحدان جميعا لان كل واحد منهما قذف صاحبه صريحا ولو قال لامرأة يا زانية فقالت زنيت بك لا حد
على الرجل لأن المرأة صدقته في القذف فخرج قذفه من أن يكون موجبا للحد وتحد المرأة لأنها قذفته بالزنا نصا
ولم يوجد منه التصديق ولو قال لامرأة يا زانية فقالت زنيت معك لا حد على الرجل ولا على المرأة أما على الرجل
فلوجود التصديق منها إياه وأما على المرأة فلان قولها زنيت معك يحتمل أن يكون المراد منه زنيت بك ويحتمل
أن يكون معناه زنيت بحضرتك فلا يجعل قذفا مع الاحتمال ولو قال لامرأته يا زانية فقالت لا بل أنت حدت المرأة
حد القذف ولا لعان على الرجل لان كل واحد من الزوجين قذف صاحبه وقذف المرأة يوجب حد القذف
وقذف الزوج امرأته يوجب اللعان وكل واحد منهما حد وفى البداية بحد المرأة إسقاط الحد عن الرجل لان اللعان
شهادات مؤكدة بالايمان والمحدود في القذف لا شهادة له ونظير هذا ما قالوا فيمن قال لامرأته يا زانية بنت الزانية
فخاصمت الام أولا فحد الزوج حد القذف سقط اللعان لأنه بطلت شهادته ولو خاصمت المرأة أولا فلاعن
القاضي بينهما ثم خاصمت الام يحد الرجل حد القذف ولو قال لامرأته يا زانية فقالت زنيت بك لا حد ولا لعان لأنه
يحتمل انها أرادت بقولها زنيت بك أي قبل النكاح ويحتمل انها أرادت أي ما مكنت من الوطئ غيرك فإن كان
ذلك زنا فهو زنا لان هذا متعارف فان أرادت الأول لا يجب اللعان ويجب الحد لأنها أقرت بالزنا وان أرادت به الثاني
يجب اللعان لان الزوج قذفها بالزنا وهي لم تصدقه فيما قذفها به ولا حد عليها فوقع الاحتمال في ثبوت كل واحد منهما فلا
يثبت ولو قال لامرأة أنت زانية فقالت المرأة أنت ازنى منى يحد الرجل ولا تحد المرأة اما الرجل فلانه قذفها بصريح
الزنا ولم يوجد منها التصديق واما المرأة فلان قولها أنت ازنى منى يحتمل انها أرادت به النسبة إلى الزنا على الترجيح
ويحتمل انها أرادت أنت أقدر على الزنا واعلم به منى فلا يحمل على القذف مع الاحتمال وكذلك إذا قال الانسان
أنت ازنى أو ازنى الزناة أو ازنى من فلان لا حد عليه لما قلنا وروى عن أبي يوسف انه فرق بين قوله ازنى الناس
وبين قوله ازنى منى أو من فلان فقال في الأول يحد وفى الثاني لا يحد (ووجه) الفرق له ان قوله أنت ازنى الناس أمكن
حمله على ما يقتضبه ظاهر الصيغة وهو الترجيح في وجود فعل الزنا منه لتحقق الزنا من الناس في الجملة فيحمل عليه
وقوله أنت ازنى منى أو من فلان لا يمكن حمله على الترجيح في وجود الزنا لجواز انه لم يوجد الزنا منه أو من فلان فيحمل
على الترجيح في القدرة أو العلم فلا يكون قذفا بالزنا ولو قال لرجل زنيت وفلان معك كان قاذفا لهما لأنه قذف أحدهما
وعطف الآخر عليه بحرف الواو وانها للجمع المطلق فكان مخبرا عن وجود الزنا من كل واحد منهما رجلان استبا
فقال أحدهما لصاحبه ما أبى بزان ولا أمي بزانية لم يكن هذا قذفا لان ظاهره نفى الزنا عن أبيه وعن أمه الا انه قد يكنى بهذا
الكلام عن نسبة أب صاحبه وأمه إلى الزنا لكن القذف على سبيل الكناية والتعريض لا يوجب الحد ولو قال
لرجل أنت تزني لا حد عليه لان هذا اللفظ يستعمل للاستقبال ويستعمل للحال فلا يجعل قذفا مع الاحتمال وكذلك
لو قال أنت تزني وانا اضرب الحد لان مثل هذا الكلام في عرف الناس لا يدل على فصد القذف وإنما يدل على طريق
ضرب المثل على الاستعجاب ان كيف تكون العقوبة على إنسان والجناية من غيره كما قال الله تبارك وتعالى ولا تزر
وازرة وزر أخرى ولو قال لامرأة ما رأيت زانية خيرا منك أو قال لرجل ما رأيت زانيا خيرا منك لم يكن قذفا لأنه ما جعل
43

هذا المذكور خير الزناة وإنما جعله خيرا من الزناة وهذا لا يقتضى وجود الزنا منه ولو قال لامرأة زنا بك زوجك قبل
ان يتزوجك فهو قاذف فإنه نسب زوجها إلى زنا حصل منه قبل التزوج في كلام موصول فيكون قذفا ولو قال لامرأة
وطئك فلان وطأ حراما أو جامعك حراما أو فجر بك أو قال لرجل وطئت فلانة حراما أو باضعتها أو جامعتها حراما
فلا حد عليه لأنه لم يوجد منه القذف بالزنا بل بالوطئ الحرام ويجوز أن يكون الوطئ حراما ولا يكون زنا كالوطئ بشبهة
ونحو ذلك ولو قال لغيره اذهب إلى فلان فقل له يا زاني أو يا ابن الزانية لم يكن المرسل قاذفا لأنه امر بالقذف ولم يقذف
واما الرسول فان ابتدأ فقال لا على وجه الرسالة يا زاني أو يا ابن الزانية فهو قاذف وعليه الحد وان بلغه على وجه الرسالة
بان قال أرسلني فلان إليك وأمرني ان أقول لك يا زاني أو يا ابن الزانية لا حد عليه لأنه لم يقذف بل أخبر عن قذف غيره
ولو قال لآخر أخبرت انك زاني أو أشهدت على ذلك لم يكن قاذفا لأنه حكى خبر غيره بالقذف واشهاد غيره بذلك فلم يكن
قاذفا ولو قال لرجل يا لوطي لم يكن قاذفا بالاجماع لان هذا نسبه إلى قوم لوط فقط وهذا لا يقتضى انه يعمل عملهم وهو
اللواط ولو أفصح وقال أنت تعمل عمل قوم لوط وسمى ذلك لم يكن قاذفا عند أبي حنيفة أيضا وعندهما هو قاذف
بناء على أن هذا الفعل ليس بزنا عند أبي حنيفة وعندهما هو في معنى الزنا والمسألة مرت في موضعها ولو قال لرجل
يا زاني فقال له آخر صدقت يحد القاذف ولا حد على المصدق أما الأول فلوجود القذف الصريح منه وأما المصدق
فلان قوله صدقت قذف بطريق الكناية ولو قال صدقت هو كما قلت يحد لان هذا في معنى الصريح ولو قال لرجل
أخوك زان فقال الرجل لا بل أنت يحد الرجل لان كلمة لا بل لتأكيد الاثبات فقد قذف الأول بالزنا على سبيل
التأكيد وأما الأول فينظر إن كان للرجل إخوة أو اخوان سواه فلا حد عليه وان لم يكن له الا أخ فله ان يطالبه
بالحد وليس لهذا الأخ المخاطب ان يطالبه لما ذكرنا فيما تقدم ولو قال لست لأبيك فهو قاذف لامه سواء قال في غضب
أو رضا لان هذا الكلام لا يذكر الا لنفى النسب عن الأب فكان قذفا لامه ولو قال ليس هذا أبوك أو قال لست أنت
ابن فلان لأبيه أو قال أنت ابن فلان لأجنبي إن كان في حال الغضب فهو قذف وإن كان في غير حال الغضب فليس
بقذف لان هذا الكلام قذ يذكر لنفى النسب وقد يذكر لنفى التشبه في الأخلاق أي أخلاقك لا تشبه أخلاق أبيك
أو أخلاقك تشبهه أخلاق فلان الأجنبي فلا يجعل قذفا مع الشك والاحتمال وكذلك إذا قال لرجل يا ابن مزيقيا أو
يا ابن ماء السماء أنه يكون قذفا في حالة الغضب لا في حالة الرضا لأنه يحتمل انه أراد به نفى النسب ويحتمل انه أراد به
المدح بالتشبيه برجلين من سادات العرب فعامر بن حارثة كان يسمى ماء السماء لصفائه وسخائه وعمرو بن عامر كان
يسمى المزيقيا لمزقه الثياب إذ كان ذا ثروة ونخوة كان يلبس كل يوم ثوبا جدا فإذا أمسى خلعه ومزقه لئلا يلبسه غيره
فيساويه فيحكم الحال في ذلك فإن كان في حال الغضب فالظاهر أنه أراد به نفى النسب فيكون قذفا وإن كان في حال الرضا
فالظاهر أنه أراد به المدح فلم يكن قذفا ولو قال لرجل أنت ابن فلان لعمه أو لخاله أو لزوج أمه لم يكن قذفا لان العم يسمى
أبا وكذلك الخال وزوج الام قال الله سبحانه وتعالى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسماعيل كان عم
يعقوب عليه الصلاة والسلام وقد سماه أباه وقال سبحانه وتعالى ورفع أبويه على العرش وقيل إنهما أبوه وخالته وإذا
كانت الخالة أما كان الخال أبا وقال الله تعالى ان ابني من أهلي قيل في التفسير انه كان ابن امرأته من غيره ولو قال لست
بابن لفلان لجده لم يكن قاذفا لأنه صادق في كلامه حقيقة لان الجد لا يسمى أبا حقيقة بل مجازا ولو قال للعربي يا نبطي
لم يكن قذفا وكذلك إذا قال لست من بنى فلان للقبيلة التي هو منها لم يكن قاذفا عند عامة العلماء وقال ابن أبي ليلى يكون
قذفا والصحيح قول العامة لان بقوله يا نبطي لم يقذفه ولكنه نسبه إلى غير بلده كمن قال للبلدي يا رستاقي
وكذلك إذا قال يا ابن الخياط أو يا ابن الأصفر أو الأسود وأبوه ليس كذلك لم يكن قاذفا بل يكون كاذبا وكذلك
إذا قال يا ابن الأقطع أو يا ابن الأعور وأبوه ليس كذلك يكون كاذبا لا قاذفا كما إذا قال للبصير يا أعمى ثم القذف بلسان
العرب وغيره سواء ويجب الحد لان معنى القذف هو النسبة إلى الزنا وهذا يتحقق بكل لسان والله تعالى أعلم والثاني
44

أن يكون المقذوف به متصور الوجود من المقذوف فإن كان لا يتصور لم يكن قاذفا وعلى هذا يخرج ما إذا قال لآخر
زنى فخذك أو ظهرك انه لا حد عليه لان الزنا لا يتصور من هذه الأعضاء حقيقة فكان المراد منه المجاز من طريق
النسب كما قال عليه الصلاة والسلام العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يصدق ذلك كله أو
يكذبه وكذلك لو قال زنيت بإصبعك لان الزنا بالإصبع لا يتصور حقيقة ولو قال زنى فرجك يحد لان الزنا بالفرج
يتحقق كأنه قال زنيت بفرجك ولو قال لامرأة زنيت بفرس أو حمار أو بعير أو ثور لا حد عليه لأنه يحتمل انه أراد به
تمكينها من هذه الحيوانات لان ذلك متصور حقيقة ويحتمل انه أراد به جعل هذه الحيوانات عوضا وأجرة على
الزنا فان أراد به الأول لا يكون قذفا لأنها بالتمكين منها لا تصير مزنيا بها لعدم تصور الزنا من البهيمة وان أراد به الثاني
يكون قذفا كما إذا قال زنيت بالدراهم أو بالدنانير أو بشئ من الأمتعة فلا يجعل قذفا مع الاحتمال ولو قال لها زنيت بناقة
أو ببقرة أو أتان أو رمكة فعليه الحد لأنه تعذر حمله على التمكين فيحمل على العوض لان حرف الباء قد يستعمل
في الاعواض ولو قال ذلك لرجل لم يكن قذفا في جميع ذلك سواء كان ذكرا أو أنثى لأنه يمكن حمله على حقيقة الوطئ
ووطؤها لا يتصور أن يكون زنا فلا يكون قذفا ويمكن حمله على العوض فيكون قذفا فوقع الاحتمال في كونه قذفا فلا يجعل
قذفا مع الاحتمال ومن مشايخنا من فصل بين الذكر والأنثى فقال يكون قذفا في الذكر لا في الأنثى لان فعل الوطئ من
الرجل يوجد في الأنثى فلا يحمل على العوض ولا يوجد في الذكر فيحمل على العوض والصحيح انه لا فرق بين
الذكر والأنثى لان الوطئ يتصور في الصنفين في الجملة ول وقال لامرأة زنيت وأنت مكرهة أو معتوهة أو مجنونة أو
نائمة لم يكن قذفا لأنه نسبها إلى الزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها فكان كلامه كذبا لا قذفا وبمثله لو قال لامة
أعتقت زنيت وأنت أمة أو قال لكافرة أسلمت زنيت وأنت كافرة يكون قذفا وعليه الحد لان في المسألة الأولى قذفها
للحال بالزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها فكان كلامه كذبا لا قذفا وفى المسألة الثانية قذفها للحال لوجود الزنا
منها في حال يتصور منها الزنا وهي حال الرق والكفر لأنهما لا يمنعان وقوع الفعل زنا وإنما يمنعان الاحصان
والاحصان يشترط وجوده وقت القذف لأنه السبب الموجب للحد وقد وجد ولو قال لانسان لست لأمك لا حد
عليه كذب محض لأنه نفى النسب من الام ونفى النسب من الام لا يتصور ألا ترى ان أمه ولدته حقيقة وكذلك
لو قال له لست لأبويك لأنه نفى نسبه عنهما ولا ينتفى عن الام لأنها ولدته فيكون كذبا بخلاف قوله لست لأبيك لان
ذلك ليس بنفي لولادة الام بل هو نفى النسب عن الأب ونفى النسب عن الأب يكون قذفا فاللام وكذلك لو قال له
لست لأبيك ولست لأمك في كلام موصول لم يكن قذفا لان هذا وقوله لست لأبويك سواء ولو قال له لست لآدم أو
لست لرجل أو لست لانسان لا حد عليه لأنه كذب محض لان نسبه لا يحتمل الانقطاع عن هؤلاء فكان كذبا
محضا لا قذفا فلا يجب الحد وعلى هذا يخرج ما إذا قال لرجل يا زانية انه لا يكون قذفا عندهما وعند محمد يكون قذفا
(وجه) قوله إن الهاء قد تدخل صلة زائدة في الكلام قال الله تعالى عز شأنه خبرا عن الكفار ما أغنى عنى ماليه هلك
عنى سلطانيه ومعناه مالي وسلطاني والهاء زائدة فيحذف الزائد فيبقى قوله يا زاني وقد تدخل في الكلام للمبالغة
في الصفة كما يقال علامة ونسابة ونحو ذلك فلا يختل به معنى القذف يدل عليه ان حذفه في نعت المرأة لا يخل بمعنى
القذف حتى لو قال لامرأة يا زاني يجب الحد بالاجماع فكذلك الزيادة في نعت الرجل ولهما انه قذفه بما لا يتصور
فيلغو ودليل عدم التصور انه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين لان الهاء في الزانية هاء التأنيث كالضاربة والقاتلة
والسارقة ونحوها وذلك لا يتصور من الرجل بخلاف ما إذا قال لامرأة يا زاني لأنه أتى بمعنى الاسم وحذف الهاء
وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحو ذلك والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقذوف فيه وهو المكان فهو أن يكون القذف في دار العدل فإن كان في دار الحرب
أو في دار البغي فلا يوجب الحد لان المقيم للحدود هم الأئمة ولا ولاية لامام أهل العدل على دار الحرب ولا على دار البغي
45

فلا يقدر على الإقامة فيهما فالقذف فيهما لا ينعقد موجبا للحد حين وجوده فلا يحتمل الاستيفاء بعد ذلك لان
الاستيفاء للواجب والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى نفس القذف فهو أن يكون مطلقا عن الشرط والإضافة إلى وقت فإن كان معلقا
بشرط أو مضافا إلى وقت لا يوجب الحد لان ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفا للحال وعند وجود الشرط أو الوقت
يجعل كأنه نجز القذف كما في سائر التعليقات والإضافات فكان قاذفا تقديرا مع انعدام القذف حقيقة فلا يجب الحد
وعلى هذا يخرج ما إذا قال رجل من قال كذا وكذا فهو زان أو ابن الزانية فقال رجل أنا قلت أنه لا حد على المبتدى
لأنه علق القذف بشرط القول وكذلك إذا قال لرجل ان دخلت هذه الدار فأنت زان أو ابن الزانية فدخل لا حد على
القائل لما قلنا وكذا من قال لغيره أنت زان أو ابن الزانية غدا أو رأس شهر كذا فجاء الغد والشهر لا حد عليه لان
إضافة القذف إلى وقت يمنع تحقق القذف في الحال وفى المآل على ما بينا والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما تظهر به الحدود عند القاضي فنقول وبالله التوفيق الحدود كلها تظهر بالبينة والاقرار لكن
عند استجماع شرائطها أما شرائط البينة القائمة على الحد (فمنها) ما يعم الحدود كلها (ومنها) ما يخص البعض دون
البعض أما الذي يعم الكل فالذكورة والأصالة فلا تقبل شهادة النساء ولا الشهادة على الشهادة ولا كتاب القاضي
إلى القاضي في الحدود كلها لتمكن زيادة شبهة فيها ذكرناها في كتاب الشهادات والحدود لا تثبت مع الشبهات
ولو ادعى القاذف أن المقذوف صدقه وأقام على ذلك رجلا وامرأتين جاز وكذلك الشهادة على الشهادة وكتاب
القاضي إلى القاضي لان الشهادة ههنا قامت على اسقاط الحد لا على اثباته والشبهة تمنع من اثبات الحد لا من اسقاطه
(وأما) الذي يخص البعض دون البعض (فمنها) عدم التقادم وانه شرط في حد الزنا والسرقة وشربي الخمر وليس
بشرط في حد القذف والفرق ان الشاهد إذا عاين الجريمة فهو مخير بين أداء الشهادة حسبة لله تعالى لقوله تعالى عز
وجل وأقيموا الشهادة لله وبين التستر على أخيه المسلم لقوله عليه الصلاة والسلام من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه
في الآخرة فلما لم يشهد على فور المعاينة حتى تقادم العهد دل ذلك على اختيار جهة الستر فإذا شهد بعد ذلك دل على أن
الضغينة حملته على ذلك فلا تقبل شهادته لما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال أيما قوم شهدوا على حد لم
يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم ولم ينقل انه أنكر عليه منكر فيكون اجماعا فدل قول سيدنا
عمر رضي الله عنه على أن مثل هذه الشهادة شهادة ضغبنة وانها غير مقبولة ولان التأخير والحالة هذه يورث تهمة ولا
شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف حد القذف لان التأخير ثمة لا يدل على الضغينة والتهمة
لان الدعوى هناك شرط فاحتمل ان التأخير كان لتأخير الدعوى من المدعى والدعوى ليست بشرط في الحدود
الثلاثة فكان التأخير لما قلنا ويشكل على هذا فصل السرقة فان الدعوى هناك شرط ومع هذا التقادم مانع واختلفت
عبارات مشايخنا في الجواب عن هذا الاشكال فقال بعضهم ان معنى الضغينة والتهمة حكمة المنع من قبول الشهادة
والسبب الظاهر هو كون الحد خالص حق الله تعالى والحكم يدار على السبب الظاهر لا على الحكمة وقد وجد السبب
الظاهر في السرقة فيوجب المنع من قبول الشهادة وهذا ليس بسديد لان الأصل تعليق الحكم بالحكمة الا إذا كان
وجه الحكمة خفيا لا يوقف عليه الا يحرج فيقام السبب الظاهر مقامه وتجعل الحكمة موجودة تقديرا وههنا يمكن
الوقوف عليه من غير حرج ولم توجد في السرقة لما بينا فيجب أن تقبل الشهادة بعد التقادم وقال بعضهم إنما لا تقبل
الشهادة في السرقة لان دعوى السرقة بعد التقادم لم تصح لان المدعى في الابتداء مخير بين أن يدعى السرقة ويقطع
طمعه عن ماله احتسابا لإقامة الحد وبين أن يدعى أخذ المال سترا على أخيه المسلم فلما أخر دل تأخيره على اختيار
جهة الستر والاعراض عن جهة الحسبة فلما شهد بعد ذلك فقد قصد الاعراض عن جهة الستر فلا يصح اعراضه
ولم يجعل قاصدا جهة الحسبة لأنه قد كان أعرض عنها عند اختياره جهة الستر فلم تصح دعواه السرقة فلم تقبل
46

الشهادة على السرقة لان قبول الشهادة يقف على دعوى صحيحة فيما تشترط فيه الدعوى فبقي مدعيا أخذ المال لا غير
فتقبل الشهادة حسبة إذ التقادم لا يمنع قبول الشهادة على الأموال بخلاف حد القذف لان المقذوف ليس
بمخير بين بدل النفس وبين إقامة الحد بالدعوى بل الواجب عليه دفع العار عن نفسه ودعوى القذف فلا يتهم
بالتأخير فكانت الدعوى صحيحة منه والشيخ منصور الماتريدي رحمه الله أشار إلى معنى آخر في شرح الجامع
الصغير حكيته بلفظه وهو أن عادة السراق الاقدام على السرقة في حال الغفلة وانتهاز الفرصة في موضع الخفية
وصاحب الحق لا يطلع على من شهد ذلك ولا يعرفهم الا بهم وبخبرهم فإذا كتموا أثموا وقد يعلم المدعى شهوده في غير
ذلك من الحقوق ويطلبها إذا احتاج إليها فكانوا في سعة من تأخيرها وإذا بطلت الشهادة على السرقة بالتقادم قبلت في
حق المال لان بطلانها في حق الحد لتمكن الشبهة فيها والحد لا يثبت مع الشبهة وأما المال فيثبت معها ثم التقادم إنما
يمنع قبول الشهادة في الحدود الثلاثة إذا كان التقادم في التأخير من غير عذر ظاهر فأما إذا كان لعذر ظاهر بأن كان
المشهود عليه في موضع ليس فيه حاكم فحمل إلى بلد فيه حاكم فشهدوا عليه جازت شهادتهم وان تأخرت لان هذا
موضع العذر فلا يكون التقادم فيه مانعا ثم لم يقدر أبو حنيفة رحمه الله للتقادم تقديرا وفوض ذلك إلى اجتهاد كل حاكم
في زمانه فإنه روى عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال كان أبو حنيفة رحمه الله لا يوقت في التقادم شيئا وجهدنا به أن يوقت
فأبى وأبو يسف ومحمد رحمهما الله قد رآه بشهر فإن كان شهرا أو أكثر فهو متقادم وإن كان دون شهر فليس بمتقادم
لان الشهر أدنى الأجل فكان ما دونه في حكم العاجل ولأبي حنيفة رحمه الله أن التأخير قد يكون لعذر والاعذار في
اقتضاء التأخير مختلفة فتعذر التوقيت فيه ففوض إلى اجتهاد القاضي فيما يعد ابطاء ومالا يعد وإذا لم تقبل شهادة
الشهود بزنا متقادم هل يحدون حد القذف حكى الحسن بن زياد أنهم يحدون وتأخيرهم محمول على اختيار جهة الستر
فخرج كلامهم عن كونه شهادة فبقي قذفا فيوجب الحد وقال الكرخي رحمه الله الظاهر أنه لا يجب عليهم الحد وهكذا
ذكر القاضي في شرحه أنه لا حد عليهم لان تأخيرهم وان أورث تهمة وشبهة في الشهادة فاصل الشهادة باق فلما اعتبرت
الشبهة في اسقاط حد الزنا عن المشهود عليه فلان تعتبر حقيقة الشهادة لاسقاط حد القذف عن الشهود أولى (ومنها)
قيام الرامحة وقت أداء الشهادة في حد الشرب في قولهما وعند محمد ليس بشرط والحجج ستأتي في موضعها (ومنها)
عدد الأربع في الشهود في حد الزنا لقوله عز اسمه واللاتي يأتين بفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم
وقوله سبحانه وتعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقوله تبارك وتعالى لولا جاؤوا عليه بأربعة
شهداء ولان الشهادة أحد نوعي الحجة فيعتبر بالنوع الآخر وهو الاقرار وهناك عدد الأربع شرط كذا ههنا بخلاف
سائر الحدود فان عدد الأقارير الأربع لم يشترط فيها فكذا عدد الأربع من الشهود ولان اشتراط عدد الأربع في
الشهادة يثبت معدولا به عن القياس بالنص والنص ورد في الزنا خاصة فان شهد على الزنا أقل من أربعة لم تقبل
شهادتهم لنقصان العدد المشروط وهل يحدون حد القذف قال أصحابنا يحدون وقال الشافعي رحمه الله إذا جاؤوا مجئ
الشهود لم يحدوا وعلى هذا الخلاف إذا شهد ثلاثة وقال الرابع رأيتهما في لحاف واحد ولم يزد عليه أنه يحد الثلاثة
عندنا ولا حد على الرابع لأنه لم يقذف الا إذا كان قال في الابتداء أشهد أنه قد زنى فسر الزنا بما ذكر فحينئذ يحد
(وجه) قول الشافعي رحمه الله أنهم إذا جاؤوا مجئ الشهود كان قصدهم إقامة الشهادة حسبة لله تعالى لا القذف فلم يكن
جناية فلم يكن قذفا (ولنا) ما روى أن ثلاثة شهدوا على مغيرة بالزنا فقام الرابع وقال رأيت أقداما بادية ونفسا عاليا
وأمرا منكرا ولا أعلم ما وراء ذلك فقال سيدنا عمر رضي الله عنه له الحمد لله الذي لم يفضح رجلا من أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم وحد الثلاثة وكان ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر
فيكون اجماعا ولان الموجود من الشهود كلام قذف حقيقة إذ القذف هو النسبة إلى الزنا وقد وجد من الشهود حقيقة
فيدخلون تحت آية القذف الا أنا اعتبرنا تمام عدد الأربع إذا جاؤوا مجئ الشهود فقد قصدوا إقامة الحسبة واجبا حقا لله
47

تعالى فخرج كلامهم عن كونه قذفا وصار شهادة شرعا فعند النقصان بقي قذفا حقيقة فيوجب الحد ولو شهد ثلاثة على
الزنا وشهد رابع على شهادة غيره تحد الثلاثة لان شهادتهم صارت قذفا لنقصان العدد ولا حد على الرابع لأنه لم يقذف
بل حكى قذف غيره ولو علم أن أحد الأربع عبد أو مكاتب أو صبي أو أعمى أو محدود في قذف حدوا جميعا لان الصبي
والعبد ليست لهما أهلية الشهادة أصلا ورأسا فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا والأعمى والمحدود في القذف ليست
لهم أهلية الشهادة أو إن كانت لهم أهلية الشهادة تحملا وسماعا فقصرت أهليتهما للشهادة فانتقص العدد فصار كلامهم
قذفا وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعد القضاء قبل الامضاء وان علم ذلك بعد الامضاء فإن كان الحد جلدا فكذلك
يحدون ولا يضمنون أرش الضرب في قول أبي حنيفة وعندهما يجب في بيت المال على ما ذكرنا في كتاب الرجوع
عن الشهادات وإن كان رجما لا يحدون لأنه تبين ان كلامهم وقع قذفا ومن قذف حيا ثم مات المقذوف سقط
الحد وتكون الدية في بيت المال لان الخطأ حصل من القاضي وخطأ القاضي على بيت المال لأنه عامل لعامة المسلمين
وبيت المال مال المسلمين ولو شهد الزوج وثلاثة نفر حد الثلاثة ولا عن الزوج امرأته لان قذف الزوج يوجب
اللعان لا الحد فانتفض العدد في حق الباقين فصار كلامهم قذفا فيحدون حد القذف ولو علم أن الشهود الأربعة عبيد
أو كفار أو محدودون في قذف أو عميان يحدون حد القذف وان علم أنهم فساق لا يحدون والفرق ما ذكرنا أن العبد
والكافر لا شهادة لهما أصلا والأعمى والمحدود في القذف لهما شهادة سماعا وتحملا لا أداء فكان كلامهم قذفا والفاسق
له شهادة على أصل أصحابنا سماعا وإذا كان كلام الفاسق شهادة لا قذفا فلا يحدون حد القذف والله تعالى أعلم ولو
ادعى المشهود عليه أن أحد الشهود الأربعة عبد فالقول قوله حتى يقيم البينة أنه حر لما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه
أنه قال الناس أحرار الا في أربع الشهادة والقصاص والعقل والحدود والمعنى فيه ما ذكرنا في غير موضع (ومنها)
اتحاد المجلس وهو أن يكون الشهود مجتمعين في مجلس واحد عند أداء الشهادة فان جاؤوا متفرقين يشهدون واحدا بعد
واحد لا تقبل شهادتهم ويحدون وان كثروا لما ذكرنا أن كلامهم قذف حقيقة وإنما يخرج عن كونه قذفا شرعا بشرط
أن يكونوا مجتمعين في مجلس واحد وقت أداء الشهادة فإذا انعدمت هذه الشريطة بقي قذفا فيوجب الحد حتى لو جاؤوا
مجتمعين أو متفرقين وقعدوا في موضع الشهود في ناحية من المسجد ثم جاؤوا واحدا بعد واحد وشهدوا جازت
شهادتهم لوجود اجتماعهم في مجلس واحد وقت الشهادة إذ المسجد كله مجلس واحد وإن كانوا خارجين من المسجد
فجاء واحد منهم ودخل المسجد وشهد ثم جاء الثاني والثالث والرابع يضربون الحد وإن كانوا مثل ربيعه ومضر هكذا
روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال لو جاء ربيعة ومضر فرادى لحددتهم عن آخرهم وإنما قال ذلك بمحضر
من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد منهم فيكون اجماعا منهم والله تعالى أعلم (ومنها) أن يكون المشهود
عليه بالزنا ممن يتصور منه الوطئ فإن كان ممن لا يتصور منه كالمجبوب لا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف ولو
كان المشهود عليه خصيا أو عنينا قبلت شهادتهم ويحد لتصور الزنا منهما لقيام الآلة بخلاف المجبوب (ومنها) أن
يكون المشهود عليه بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة فإن كان ممن لا يقدر كالأخرس لا تقبل شهادتهم لان من الجائز
أنه لو كان قادرا لادعى شبهة ولو كان المشهود عليه بالزنا أعمى قبلت شهادتهم لان الأعمى قادر على دعوى الشبهة لو
كانت عنده شبهة ولو شهدوا بالزنا ثم قالوا تعمدنا النظر إلى فرجها لا تبطل شهادتهم لان أداء الشهادة لا بد له من
التحمل ولا بد للتحمل من النظر إلى عين الفرج ويباح لهم النظر إليها لقصد إقامة الحسبة كما يباح للطبيب لقصد
المعالجة ولو قالوا نظرنا مكررا بطلب شهادتهم لأنه سقطت عدالتهم والله تعالى أعلم (ومنها) اتحاد المشهود وهو أن يجمع
الشهود الأربعة على فعل واحد فان اختلفوا لا تقبل شهادتهم وعلى هذا يخرج ما إذا شهد اثنان أنه زنى في مكان
كذا وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر والمكانان متباينان بحيث يمتنع أن يقع فيهما فعل واحد عادة كالبلدين
والدارين والبيتين لا تقبل شهادتهم ولا حد على المشهود عليه لأنهم شهدوا بفعلين مختلفين لاختلاف المكانين وليس
48

على أحدهما شهادة الأربع ولا حد على الشهود أيضا عند أصحابنا وعند زفر يحدون (وجه) قوله إن عدد الشهود
قد انتقص لان كل فريق شهد بفعل غير الذي شهد به الفريق الآخر ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة
قذفا كما لو شهد ثلاثة بالزنا (ولنا) ان المشهود به لم يختلف عند الشهود لان عندهم ان هذا زنا واحد وإنما وقع
اختلافهم في المكان فثبت بشهادتهم شبهة اتحاد الفعل فيسقط الحد وعلى هذا إذا اختلفوا في الزمان فشهد اثنان
انه زنى بها في يوم كذا واثنان في يوم آخر ولو شهد اثنان انه زنى في هذه الزاوية من البيت وشهد اثنان انه زنى في هذه
الزاوية الأخرى منه يحد المشهود عليه لجواز ان ابتداء الفعل وقع في هذه الزاوية من البيت وانتهاؤه في زاوية أخرى
منه لانتقالهما منه واضطرابهما فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهم حتى لو كان البيت كبيرا لا تقبل لأنه يكون
بمنزلة البيتين ولو شهد أربعة بالزنا بامرأة فشهد اثنان أنه استكرهها واثنان انها طاوعته لا حد على المرأة بالاجماع لان
الحد لا يجب الا بالزنا طوعا ولم تثبت الطواعية في حقها (وأما) الرجل فلا حد عليه أيضا عند أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما يحد (وجه) قولهما ان زنا الرجل عن طوع ثبت بشهادة الأربع الا أنه تفرد اثنان منهم باثبات
زيادة الاكراه منه وانه لا يمنع وجوب الحد كما لو زنا بها مستكرهة ولأبي حنيفة عليه الرحمة ان المشهود
قد اختلف لان فعل المكره غير فعل من ليس بمكره فقد شهدوا بفعلين مختلفين وليس على أحدهما شهادة الأربع
فلا يحد المشهود عليه ولا الشهود عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر وقد مر الكلام فيه في اختلافهم في المكان والزمان
والله تعالى أعلم ثم الشهود إذا استجمعوا شرائط صحة الشهادة وشهدوا عند القاضي سألهم القاضي عن الزنا ما هو
وكيف هو ومتى زنا وأين زنا وبمن زنا اما السؤال عن ماهية الزنا فلانه يحتمل انهم أرادوا به غير الزنا المعروف لان
اسم الزنا يقع على أنواع لا توجب الحد قال عليه الصلاة والسلام العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان
والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه وأما السؤال عن الكيفية فلانه يحتمل انهم أرادوا به الجماع فيما دون الفرج لان ذلك
يسمى جماعا حقيقة أو مجازا فإنه لا يوجب الحد واما السؤال عن الزمان فلانه يحتمل انهم شهدوا بزنا متقادم والتقادم
يمنع قبول الشهادة بالزنا واما السؤال عن المكان فلانه يحتمل انه زنا في دار الحرب أو في دار البغي وانه لا يوجب الحد
واما السؤال عن المزني بها فلانه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن وغير ذلك فإذا سألهم
القاضي عن هذه الجملة فوصفوا سأل المشهود عليه أهو محصن أم لا فان أنكر الاحصان وشهد على الاحصان رجلان
أو رجل وامرأتان على الاختلاف سأل الشهود عن الاحصان ما هو لان له شرائط يجوز ان تخفى على الشهود فإذا
وصفوا قضى بالرجم ولو شهدت بينة الاحصان انه جامعها أو باضعها صار محصنا لان هذا اللفظ في العرف مستعمل
في الوطئ في الفرج ولو شهدوا انه دخل بها صار محصنا وهذا وقوله جامعها سواء في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يصير محصنا (وجه) قوله إن هذا اللفظ يستعمل في الوطئ ويستعمل في الزفاف
فلا يثبت الاحصان مع الاحتمال ولهما ان الدخول بالمرأة في عرف اللغة والشرع يراد به الوطئ قال الله تعالى عز شأنه
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن حرم سبحانه وتعالى الربيبة بشرط الدخول بأمها فعلم أن
المراد من الدخول هو الوطئ لأنها تحرم بمجرد نكاح الام من غير وطئ وذكر القاضي في شرحه الاختلاف على القلب
فقال على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصير محصنا ما لم يصرح بالوطئ وعلى قول محمد رحمه الله يصير محصنا ولو شهدوا
على الدخول وكان له منها ولد هو محصن بالاجماع وكفى بالولد شاهدا والله تعالى أعلم (وأما) شرائط الاقرار بالحد فمنها
ما يعم الحدود كلها ومنها ما يخص البعض دون البعض اما الذي يعم الحدود كلها فمنها البلوغ فلا يصح اقرار الصبي في
شئ من الحدود لان سبب وجوب الحد لابد وأن يكون جناية وفعل الصبي لا يوصف بكونه جناية فكان اقراره كذبا
محضا ومنها النطق وهو أن يكون الاقرار بالخطاب والعبارة دون الكتاب والإشارة حتى أن الأخرس لو كتب
الاقرار في كتاب أو أشار إليه إشارة معلومة لا حد عليه لان الشرع علق وجوب الحد بالبيان المتناهي ألا ترى انه لو أقر
49

بالوطئ الحرام لا يقام عليه الحد ما لم يصرح بالزنا والبيان لا يتناهى الا بالصريح والكتابة والإشارة بمنزلة الكتابة فلا
يوجب الحد واما البصر فليس بشرط لصحة الاقرار فيصح اقرار الأعمى في الحدود كلها كالبصير لان الأعمى لا يمنع
مباشرة سبب وجوبها وكذا الحرية والاسلام والذكورة ليست بشرط حتى يصح اقرار الرقيق والذمي والمرأة في
جميع الحدود وعند زفر رحمه الله لا يصح اقرار العبد بشئ من أسباب الحدود من غير تصديق المولى والكلام في
التصديق على نحو ما ذكرنا في كتاب السرقة والله سبحانه وتعالى أعلم (واما) الذي يخص البعض دون البعض فمنها عدد
الأربع في حد الزنا خاصة وهو ان يقر أربع مرات وهذا عندنا وعند الشافعي عليه الرحمة ليس بشرط ويكتفى
باقراره مرة واحدة (وجه) قوله إن الاقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب
وهذا المعنى عند التكرار والتوحد سواء لان الاقرار اخبار والخبر لا يزيد رجحانا بالتكرار ولهذا لم يشترط في سائر
الحدود بخلاف عدد المثنى في الشهادة لان ذلك يوجب زيادة ظن عليه فيها الا ان شرط العدد الأربع في باب الزنا
تعبدا فيقتصر على موضع التعبد (ولنا) ان القياس ما قاله الا انا تركنا القياس بالنص وهو ما روى أن ماعزا جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقر بالزنا فاعرض عنه عليه الصلاة والسلام بوجهه الكريم هكذا إلى الأربع فلو
كان الاقرار مرة مظهرا للحد لما أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأربع لان الحد بعد ما ظهر وجوبه للامام
لا يحتمل التأخير (واما) العدد في الاقرار بالقذف فليس بشرط الاجماع وهل يشترط في الاقرار بالسرقة والشرب
والسكر قال أبو حنيفة رحمه الله ليس بشرط وقال أبو يوسف رحمه الله ان كلما يسقط بالرجوع فعدد الاقرار فيه كعدد
الشهود وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله ان عند أبي يوسف يشترط الاقرار مرتين في مكانين (وجه) قوله إن حد
السرقة والشرب والسكر خالص حق الله تعالى كحد الزنا فتلزم مراعاة الاحتياط فيه باشتراط العدد كما في الزنا الا انه
يكتفى ههنا بالمرتين ويشترط الأربع هناك استدلالا بالبينة لان السرقة والشرب كل واحد منهما يثبت بنصف ما
يثبت به الزنا وهو شهادة شاهدين فكذلك الاقرار ولهما ان الأصل لا يشترط التكرار في الاقرار لما ذكرنا
انه اخبار والمخبر لا يزداد بتكرار الخبر وإنما عرفنا عدد الأربع في باب الزنا بنص غير معقول فيقتصر على مورد
النص ومنها عدد المجالس فيه وهو ان يقر أربع مجالس واختلف المشايخ في أنه يعتبر مجالس القاضي أو مجالس المقر
والصحيح انه يعتبر مجالس المقر وهكذا روى عن أبي حنيفة انه يعتبر مجالس المقر لأنه عليه الصلاة والسلام اعتبر
اختلاف مجالس ماعز حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة ثم يعود ومجلسه عليه الصلاة والسلام لم يختلف وقد
روى عن أبي حنيفة في تفسير اختلاف مجالس المقر هو ان يقر مرة ثم يذهب حتى يتوارى عن بصر القاضي ثم يجئ
فيقر ثم يذهب هكذا أربع مرات ومنها أن يكون اقراره بين يدي الامام فإن كان عنده غيره لم يجز اقراره لان اقرار
ماعز كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أقر في غير مجلس القاضي وشهد الشهود على اقراره لا تقبل شهادتهم
لأنه إن كان مقرا فالشهادة لغو لان الحكم للاقرار لا للشهادة وإن كان منكرا فالانكار منه رجوع والرجوع عن
الاقرار في الحدود الخالصة حقا لله عز وجل صحيح والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها الصحة في الاقرار بالزنا والسرقة
والشرب والسكر حتى لو كان سكران لا يصح اقراره اما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فلان السكران من صار بالشرب
إلى حال لا يعقل قليلا ولا كثيرا فكان عقله زائلا مستورا حقيقة واما على أصلهما فلانه إذا غلب الهذيان على كلامه
فقد ذهبت منفعة العقل ولهذا لم تصح ردته فيورث ذلك شبهة في وجوب الحد وليس بشرط في الاقرار بالحدود
والقصاص لان القصاص خالص حق العبد وللعبد حق في حد القذف فيصح مع السكر كالاقرار بالمال وسائر
التصرفات وإذا صحا فان دام على اقراره تقام عليه الحدود كلها وان أنكر فالانكار منه رجوع فيصح في الحدود الخالصة
وهو حد الزنا والشرب والسرقة في حق القطع ولا يصح في القذف والقتل العمد والله تعالى أعلم ومنها أن يكون
الاقرار بالزنا ممن يتصور وجود الزنا منه فإن كان لا يتصور كالمجبوب لم يصح اقراره لان الزنا لا يتصور منه لانعدام
50

الآلة ويصح اقرار الخصي والعنين لتصور الزنا منهما لتحقق الآلة والذي يجن ويفيق إذا أقر في حال افاقته فهو
مثل الصحيح لأنه في حال افاقته صحيح ومنها أن يكون المزني به في الاقرار بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة فإن لم
يكن بان أقر رجل انه زنى بامرأة خرساء أو أقرت امرأة انها زنت بأخرس لم يصح اقراره لان من الجائز انه لو كان
يقدر على النطق لادعى النكاح أو أنكر الزنا ولم يدع شيئا فيندرئ عنه الحد لما ذكر في موضعه إن شاء الله تعالى واما
حضرة المزني بها في الاقرار بالزنا والشهادة عليه فليست بشرط حتى لو أقر انه زنى بامرأة غائبة أو شهد عليه الشهود
بالزنا بامرأة غائبة صح الاقرار وقبلت الشهادة ويقام الحد على الرجل لان الغائب بالغيبة ليس الا الدعوى وانها
ليست بشرط ولهذا رجم ماعز من غير شرط حضور تلك المرأة وكذلك العلم بالمزنى ثم إذا صح اقراره بالزنا
بامرأة غائبة يعرفها فحضرت المرأة فلا يخلو اما ان حضرت قبل إقامة الحد على الرجل واما ان حضرت بعد الإقامة
فان حضرت بعد الإقامة فان أقرت بمثل ما أقر به الرجل تحد أيضا كما حد الرجل وان أنكرت وادعت على الرجل
حد القذف لا يحد الرجل حد القذف لأنه لا يجب عليه حدان وقد أقيم أحدهما فلا يقام الآخر وان حضرت قبل
إقامة الحد على الرجل فان أنكرت الزنا وادعت النكاح أو لم تدع وادعت حد القذف على الرجل أو لم تدع فحكمه
نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والعلم بالمزنى بها ليس بشرط لصحة الاقرار حتى لو قال زنيت بامرأة ولا أعرفها
صح اقراره ويحد والعلم بالمشهود به شرط صحة الشهادة حتى لو شهد الشهود على رجل انه زنى بامرأة وقالوا لا نعرفها
لا تقبل شهادتهم ولا يقام الحد على المشهود عليه والفرق ان المقر في الاقرار على نفسه يبنى الامر على حقيقة الحال
خصوصا في الزنا فكان اقراره اخبارا عن وجود الزنا منه حقيقة الا انه لم يعرف اسم المرأة ونسبها وذا لا يورث شبهة
فاما الشاهد فإنه بشهادته بنى الامر على الظاهر لا على الحقيقة لقصور علمه عن الوصول إلى الحقيقة فقولهم لا نعرف
تلك المرأة يورث شبهة لجواز انها امرأته أو امرأة له فيها شبهة حل أو ملك فهو الفرق والله تعالى أعلم واما عدم التقادم
فهل هو شرط لصحة الاقرار بالحد اما في القذف فليس بشرط لأنه ليس بشرط لقبول الشهادة فأولى ان لا يكون
شرطا لصحة الاقرار وكذلك في حد الزنا عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر رحمه الله كما في الشهادة (ولنا) الفرق بين
الاقرار والشهادة وهو ان المانع في الشهادة تمكن التهمة والضغينة وهذا لا يوجد في الاقرار لان الانسان غير متهم
في الاقرار على نفسه وكذا في حد السرقة لما قلنا واما في حد الشرب فشرط عندهما وعند محمد رحمه ليس بشرط بناء
على أن قيام الرائحة شرط صحة الاقرار والشهادة عندهما ولهذا لا يبقى مع التقادم وعنده ليس بشرط ولو لم يتقادم
العهد ولكن ريحها لا يوجد منه لم يصح الاقرار عندهما خلافا له (وجه) قول محمد رحمه الله ان حد الشرب ليس
بمنصوص عليه في الكتاب والسنة وإنما عرف باجماع الصحابة واجماعهم لا ينعقد بدون عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
ولم يثبت فتواه عند زوال الرائحة فإنه روى أن رجلا جاء بابن أخ له إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاعترف
عنده بشرب الخمر فقال له عبد الله بئس ولى اليتيم أنت لا أدبته صغيرا ولا سترت عليه كبيرا ثم قال رضي الله عنه تلتلوه
ومزمزوه واستنكهوه فان وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه وأفتى رضي الله عنه بالحد عند وجود الرائحة ولم يثبت فتواه عند
عدمها وإذا لم يثبت فلا ينعقد الاجماع بدونه فلا يجب بدونه لان وجوبه بالاجماع ولا اجماع ثم إنما تعتبر الرائحة إذا لم يكن
سكران فاما إذا كان سكران فلا لان السكر أدل على الشرب من الرائحة ولذلك لو جئ به من مكان بعيد لا تبقى الرائحة
بالمجئ من مثله عادة يحد وان لم توجد الرائحة للحال لان هذا موضع العذر فلا يعتبر قيام الرائحة فيه والله تعالى أعلم وإذا
أقرا انسان بالزنا عند القاضي ينبغي ان يظهر الكراهة أو يطرده وكذا في المرة الثانية والثالثة هكذا فعل عليه الصلاة
والسلام بماعز وكذا روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال اطردوا المعترفين أي بالزنا فإذا أقر أربعا نظر في
حاله أهو صحيح العقل أم به آفة هكذا قال عليه الصلاة والسلام لماعز أبك خبل أم بك جنون وبعث إلى قومه فسألهم
عن حاله فإذا عرف انه صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وعن كيفيته وعن مكانه وعن المزني بها لما ذكرنا في الشهادة
51

ولا يسأله عن الزمان لان السؤال عن الزمان لمكان احتمال التقادم والتقادم في الاقرار وإنما يقدح في الشهادة ويجوز
ان يسأل عن الزمان أيضا لاحتمال أنه زنى في حال الصغر فإذا بين ذلك كله سأله عن حالة أهو محصن أم لا لان حكم
الزنا يختلف بالاحصان وعدمه فان قال أنا محصن سأله عن ماهية الاحصان انه ما هو لأنه عبارة عن اجتماع شرائط
لا يقدر عليها كل أحد فإذا بين رجمه وأما علم القاضي فلا يظهر به حد الزنا والشرب والسكر والسرقة حتى لا يقضى
بشئ من ذلك بعلمه لكنه يقضى بالمال في السرقة لان القاضي يقضى بعلمه في الأموال سواء علم بذلك قبل زمان
القضاء ومكانه أو بعدهما بلا خلاف بين أصحابنا وسواء علم بذلك معاينة بان رأى انسانا يزني ويشرب ويسرق أو
بسماع الاقرار به في غير مجلسه الذي يقضى فيه بين الناس فإن كان اقراره في مجلس القضاء لزمه موجب اقراره إذ لو لم
يقبل اقراره لاحتاج القاضي إلى أن يكون معه جماعة على الاقرار في كل حادثة واجماع الأمة بخلافه والله تعالى أعلم
ويظهر به حد القذف في زمان القضاء ومكانه كالقصاص وسائر الحقوق والأموال بلا خلاف بين أصحابنا وإنما
اختلفوا في ظهور ذلك بعلمه في غير زمان القضاء ومكانه وقد ذكرنا جملة ذلك بدلائله في كتاب آداب القاضي ولا
يظهر حد السرقة بالنكول لكنه يقضى بالمال لان النكول اما بدل واما اقرار فيه شبهة العدم والحد لا يحتمل البدل ولا
يثبت بالشبهة والمال يحتمل البدل والثبوت بالشبهة واما الخصومة فهل هي شرط ثبوت الحد بالشهادة والاقرار فلا
خلاف في أنها ليست بشرط في حد الزنا والشرب لأنه خالص حق الله عز وجل والخصومة ليست بشرط في الحدود
الخالصة لله تعالى لأنها تقام حسبة لله تعالى فلا يتوقف ظهورها على دعوى العبد ولا خلاف في حد السرقة ان
الخصومة فيها شرط الظهور بالشهادة لان حد السرقة وإن كان حق الله تعالى خالصا لكن هذا الحق لا يثبت الا
بعد كون المسروق ملكا للمسروق منه ولا يظهر ذلك الا بالخصومة وفى كونها شرط الظهور بالاقرار خلاف ذكرناه
في كتاب السرقة ولا خلاف أيضا في أنها شرط الظهور بالشهادة على القذف والاقرار به اما على أصل الشافعي
رحمه الله فلانه خالص حق العبد فيشترط فيه الدعوى كما في سائر حقوق العباد وعندنا حق الله تعالى عز شأنه وإن كان
هو المغلب فيه لكن للعبد فيه حق لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك فيشترط فيه الدعوى عن هذه الجهة وإذا
عرف ان الخصومة في حد القذف شرط كون النية والاقرار مظهرين فيه فيقع الكلام في موضعين أحدهما في بيان
الأحكام التي تتعلق بالدعوى والخصومة والثاني في بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها اما الأول فنقول ولا
قوة الا بالله تعالى الأفضل للمقذوف ان يترك الخصومة لان فيها إشاعة الفاحشة وهو مندوب إلى تركها وكذا العفو
عن الخصومة والمطالبة التي هي حقها من باب الفضل والكرامة وقد قال الله تعالى وان تعفوا أقر للتقوى وقال
سبحانه وتعالى ولا تنسوا الفضل بينكم وإذا رفع إلى القاضي يستحسن للقاضي أن يقول قبل الاتيان بالبينة أعرض
عن هذا لأنه ندب إلى الستر والعفو وكل ذلك حسن فإذا لم يترك الخصومة وادعى القذف على القاذف فأنكر ولا بينة
للمدعى فأراد استحلافه بالله تعالى ما قذفه هل يحلف ذكر الكرخي عليه الرحمة انه لا يحلف عند أصحابنا خلافا
للشافعي رحمه الله وذكر في أدب القاضي انه يحلف في ظاهر الرواية عندهم وإذا نكل يقضى عليه بالحد وقال بعضهم
يحتمل ان يحلف فإذا نكل يقضى عليه بالتعزير لا بالحد وهذه الأقاويل ترجع إلى أصل وهو ان عند الشافعي رحمه
الله حد القذف خالص حق العبد فيجرى فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد واما على أصل أصحابنا ففيه حق
الله تعالى عز وجل وحق العبد فمن قال منهم انه يحلف ويقضى بالحد عند النكول اعتبر ما فيه من حق العبد فالحقه في
التحليف بالتعزير ومن قال منهم انه لا يحلف أصلا اعتبر حق الله سبحانه وتعالى فيه لأنه المغلب فالحقه بسائر حقوق
الله سبحانه وتعالى الخالصة والجامع أن المقصود من الاستحلاف هو النكول وانه على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة
بدل والحد لا يحتمل البدل وعلى أصلهما اقرار فيه شبهة العدم لأنه ليس بصريح اقرار بل هو اقرار بطريق السكوت
فكان فيه شبهة العدم والحد لا يثبت بدليل فيه شبهة العدم ومن قال منهم انه يحلف ويقضى عليه بالتعزير عند النكول
52

دون الحد اعتبر حق العبد فيه للاستحلاف كالتعزير واعتبر حق الله سبحانه وتعالى للمنع من إقامة الحد عند
النكول كسائر الحدود ومثل هذا جائز كحد السرقة انه يجرى فيه الاستحلاف ولا يقضى عند النكول بالحد ولكن
يقضى بالمال وكما قال أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة في القصاص في الطرف والنفس انه يحلف وعند النكول لا يقضى
بالقصاص بل بالدية على ما عرف وان قال المدعى لي بينة حاضرة في المصر على قذفه يحبس المدعى عليه القذف إلى
قيام الحاكم من مجلسه والمراد من الحبس الملازمة أي يقال للمدعى لازمه إلى هذا الوقت فان أحضر البينة فيه والا خلى
سبيله ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه هذا قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يؤخذ منه الكفيل وهذا بناء على أن الكفالة
في الحدود غير جائزة عند أبي حنيفة رحمه الله حيث قال في الكتاب ولا كفالة في حد ولا قصاص وعندهما يكفل
ثلاثة أيام وذكر الجصاص في تفسير قول أبي حنيفة رضي الله عنه ان معناه لا يؤخذ الكفيل في الحدود والقصاص جبرا
فاما إذا بذل من نفسه وأعطى الكفيل فهو جائز بالاجماع وظاهر اطلاق الكتاب يدل على عدم الجواز عنده لان
كلمة النفي إذا دخلت على الافعال الشرعية يراد بها نفى الجواز من الأصل كما في قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة الا
بطهور ولا نكاح الا بشهود ونحو ذلك (وجه) قولهما ان الحبس جائز في الحدود فالكفالة أولى لان معنى
الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة فلما جاز الحبس فالكفالة أحق بالجواز ولأبي حنيفة رحمه الله ان الكفالة
شرعت للاستيثاق والحدود مبناها على الدرء والاسقاط قال عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود ما استطعتم فلا
يناسبها الاستيثاق بالكفالة بخلاف الحبس فان الحبس للتهمة مشروع روى أنه عليه الصلاة والسلام حبس
رجلا بالتهمة وقد ثبتت التهمة في هذه المسألة بقوله لي بينة حاضرة في المصر فجاز الحبس فإذا أقام المدعى شاهدين لا
يعرفهما القاضي أي لم تظهر عدالتهما بعد الحبس فلا خلاف ولا يؤخذ منه كفيل وان أقام شاهدا واحدا عدلا حبس
عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يحبس ويؤخذ منه كفيل (وجه) قولهما ان الحق لا يظهر بقول الواحد وإن كان
عدلا فالحبس من أين بخلاف الشاهدين فان سبب ظهور الحق قد وجد وهو كمال عدد الحجة الا ان توقف الظهور
لتوقف ظهور العدالة فثبتت الشبهة فيحبس (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان قول الشاهد الواحد وإن كان لا
يوجب الحق فإنه يوجب التهمة وحبس المتهم جائز ولو قال المدعى لا بينة لي أو بينتي غائبة أو خارج المصر لا يحبس
بالاجماع لعدم التهمة فان قامت البينة للمقذوف على القذف أو أقر القاذف به فان القاضي يقول له أقم البينة على صحة
قذفك فان أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا من المقذوف أو على اقراره بالزنا سقط الحد عن القاذف ويقام حد
الزنا على المقذوف وان عجز عن إقامة البينة يقيم حد القذف على القاذف لقوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وان طلب التأجيل من القاضي وقال شهودي غيب أو خارج المصر لم
يؤجله ولو قال شهودي في المصر أجله إلى آخر المجلس ولازمه المقذوف ويقال له ابعث أحدا إلى شهودك فأحضرهم
ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما يؤجل يومين أو ثلاثة ويؤخذ منه الكفيل
(وجه) قولهما انه يحتمل أن يكون صادقا في اخباره ان له بينة في المصر وربما لا يمكنه الاحضار في ذلك الوقت
فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني وأخذ الكفيل لئلا يفوت حقه عسى ولأبي حنيفة رحمه الله ان في التأجيل إلى
آخر المجلس الثاني منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره وهذا لا يجوز بخلاف التأخير إلى آخر المجلس لان ذلك القدر
لا يعد تأجيلا ولا منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره وروى عن محمد رحمه الله انه إذا ادعى ان له بينة حاضرة في المصر
ولم يجد أحدا يبعثه إلى الشهود فان القاضي يبعث معه من الشرط من يحفظه ولا يتركه حتى يقر فإن لم يجد ضرب الحد
ولو ضرب بعض الحد ثم أقام القاذف البينة على صدق مقالته قبلت بينته وسقطت بينة الجلدات ولا تبطل شهادته
ويقام حد الزنا على المقذوف كما لو أقامها قبل ان يضرب الحد أصلا ولو ضرب الحد بتمامه ثم أقام البينة على زنا
المقذوف قبلت بينته ويظهر أثر القبول في جواز شهادة القاذف وان لا يصير مردود الشهادة لأنه تبين انه لم يكن
53

محدودا في القذف حقيقة حيث تبين ان المقذوف لم يكن محصنا لان من شرائط الاحصان العفة عن الزنا وقد ظهر
زناه بشهادة الشهود فلم يصر القاذف مردود الشهادة ولا يظهر أثر قبول هذه الشهادة في إقامة حد الزنا على المقذوف
لان معنى القذف قد تقرر بإقامة الحد على القاذف ولو قذف رجلا فقال يا ابن الزانية ثم ادعى القاذف ان أم المقذوف
أمة أو نصرانية والمقذوف يقول هي حرة مسلمة فالقول قول القاذف وعلى المقذوف إقامة البينة على الحرية والاسلام
وكذلك لو قذف انسانا في نفسه ثم ادعى القاذف ان المقذوف عبد فالقول قول القاذف وكذلك لو قال القاذف أنا
عبد وعلى حد العبد وقال المقذوف أنت حر فالقول قول القاذف لأن الظاهر وإن كان هو الحرية
والاسلام لان دار الاسلام دار الأحرار لكن الظاهر لا يصلح للالزام على الغير فلابد من الاتيان بالبينة وروى
عن أبي يوسف فيمن قذف أم رجل فإن كان القاضي يعرف أمه حرة مسلمة جلد القاذف لان الحرية والاسلام
يثبتان بالبينة فعلم القاضي أولى لأنه فوق البينة لان الحرية والاسلام من شرائط الاحصان والاحصان شرط
الوجوب والقاضي يقضى بعلمه بسبب وجوب هذا الحد فلان يقضى بعلمه بشرط الوجوب أولى فإن لم يعلم
القاضي حبسه في السجن حتى يأتي بالبينة لأنه ظهر منه القذف وانه يوجب العقوبة سواء كان المقذوف أمة حرة أو
أمة فجاز ان يستوثق منه بالحبس وان لم تقم بينته أخذ منه كفيلا أو أخرجه وأخذ الكفيل على مذهبه فاما على مذهب
أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يؤخذ الكفيل على ما بينا ولا يعزره لان التعزير من القاضي حكم بابطال احصان المقذوف
لان قذف المحصن يوجب الحد لا التعزير ولا يجوز الحكم بابطال الاحصان ولو شهد شاهدان على القذف
واختلفا في مكان القذف أو زمانه بان شهد أحدهما انه قذف في مكان كذا وشهد الآخر انه قذف في مكان آخر
أو شهد أحدهما انه قذف يوم الخميس وشهد الآخر انه قذف يوم الجمعة قبلت شهادتهما ووجب الحد عند أبي حنيفة
رضي الله عنه وعندهما لا تقبل (وجه) قولهما انهما شهدا بقذفين مختلفين لان القذف في هذا المكان والزمان يخالف
القذف في مكان آخر وزمان آخر فقد شهد كل واحد منهما بقذف غير القذف الذي شهد به الآخر وليس على
أحدهما شهادة شاهدين فلا يثبت ولأبي حنيفة رحمه الله ان اختلاف مكان القذف وزمانه لا يوجب اختلاف
القذف لجواز انه كرر القذف الواحد في مكانين وزمانين لان القذف من باب الكلام والكلام مما يحتمل التكرار
والإعادة والمعاد عين الأول حكما وإن كان غيره حقيقة فكان القذف واحدا فقد اجتمع عليه شهادة شاهدين وان
اتفقا في المكان والزمان واختلفا في الانشاء والاقرار بأن شهد أحدهما انه قذفه في هذا المكان يوم الجمعة وشهد
الآخر انه قذفه في هذا المكان يوم الجمعة لا تقبل ولا حد عليه في قولهم جميعا استحسانا والقياس أن تقبل ويحد
(وجه) القياس ان اختلاف كلامهما في الانشاء والاقرار لا يوجب اختلاف القذف كما إذا شهد أحدهما بانشاء
البيع والآخر بالاقرار به انه تقبل شهادتهما كذا هذا (وجه) الاستحسان أن الانشاء مع الاقرار أمران مختلفان
حقيقة لان الانشاء اثبات أمر لم يكن والاقرار اخبار عن أمر كان فكانا مختلفين حقيقة فكان المشهود به مختلفا
وليس على أحدهما شاهدين فلا تقبل ونظيره من قال لامرأته زنيت قبل ان أتزوجك فعليه اللعان لا الحد ولو قال
لها قذفتك بالزنا قبل أن أتزوجك فعليه الحد لا اللعان لان قوله زنيت انشاء القذف فكان قاذفا لها للحال وهي للحال
زوجته وقذف الزوج يوجب اللعان لا الحد وقوله قذفتك بالزنا اقرار منه بقذف كان منه قبل التزوج وهي كانت أجنبية
قبل التزوج وقذف الأجنبية يوجب الحد لا اللعان والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها فنقول ولا قوة الا بالله تعالى المقذوف لا يخلو اما أن يكون
حيا وقت القذف واما أن يكون ميتا فإن كان حيا فلا خصومة لا حد سواه وإن كان ولده أو والده وسواء كان
حاضرا أو غائبا لأنه إذا كان حيا وقت القذف كان هو المقذوف صورة ومعنى بالحاق العار به فكان حق الخصومة له
وهل تجوز الإنابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالاثبات بالبينة اختلف أصحابنا فيه عندهما يجوز وقال أبو يوسف
54

لا يجوز والمسألة مرت في كتاب الوكالة ولا يجوز التوكيل فيه بالاستيفاء عندنا خلافا للشافعي رحمه الله والمراد
بذلك ان حضرة المقذوف بنفسه شرط جواز الاستيفاء عندنا وعنده ليس بشرط وتقوم حضرة الوكيل مقام
حضرته على أن هذا الحد عنده حد المقذوف على الخلوص فتجرى فيه النيابة في الاثبات والاستيفاء جميعا (ولنا)
ان الاستيفاء عند غيبة الموكل بنفسه استيفاء مع الشبهة لجواز انه لو كان حاضر الصدق القاذف في قذفه والحدود
لا تستوفى مع الشبهات ولو كان المقذوف حيا وقت القذف ثم مات قبل الخصومة أو بعدها سقط الحد عندنا
خلافا للشافعي بناء على أن حد القذف لا يورث عندنا وعند يورث وستأتي المسألة في موضعها هذا إذا كان حيا
وقت القذف (وأما) إذا كان ميتا فلا خلاف في أن لولده ذكرا كان أو أنثى ولابن ابنه وبنت ابنه وان سفلوا ولوالده
وان علا ان يخاصم القاذف في القذف لان معنى القذف هو الحاق العار بالمقذوف والميت ليس بمحل لالحاق العار به
فلم يكن معنى القذف راجعا إليه بل إلى فروعه وأصوله لأنه يلحقهم العار بقذف الميت لوجود الجزئية والبعضية
وقذف الانسان يكون قذفا لاجزائه فكان القذف بهم من حيث المعنى فيثبت لهم حق الخصومة لدفع العار عن أنفسهم
بخلاف ما إذا كان المقذوف حيا وقت القذف ثم مات انه ليس للولد والوالد حق الخصومة بل يسقط لان القذف
أضيف إليه وهو كان محلا قابلا للقذف صورة ومعنى بالحاق العار به فانعقد القذف موجبا حق الخصومة له خاصة فلو
انتقل إلى ورثته لانتقل إليهم بطريق الإرث وهذا الحد لا يحتمل الإرث لما نذكر فسقط ضرورة ولا خلاف في أن
الاخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات لا يملكون الخصومة لان العار لا يلحقهم لانعدام
الجزئية والبعضية فالقذف لا يتناولهم لا صورة ولا معنى وكذا ليس لمولى العتاقة ولاية الخصومة لان القذف لم يتناوله
صورة ومعنى بالحاق العار به واختلف أصحابنا رضي الله عنهم في أولاد البنات انهم هل يملكون الخصومة عندهما
يملكون وعند محمد لا يملكون (وجه) قوله إن ولد البنت ينسب إلى أبيه لا إلى جده فلم يكن مقذوفا معنى بقذف جده
(ولهما) أن معنى الولاد موجود والنسبة الحقيقية ثابتة بواسطة أمه فصار مقذوفا معنى فيملك الخصومة وهل يراعى فيه
الترتيب بتقديم الأقرب على الابعد قال أصحابنا رضي الله عنهم الثلاثة لا يراعى والأقرب والأبعد سواء فيه حتى كان
لابن الابن ان يخاصم فيه مع قيام الابن الصلبي وعند زفر رحمه الله يراعى فيه الترتيب وتثبت للأقرب فالأقرب وليس
للأبعد حق الخصومة والمطالبة بالقذف لالحاق العار بالمخاصم ولا شك ان عار الأقرب يزيد على الابعد فكان أولى
بالخصومة (ولنا) ان هذا الحق ليس يثبت بطريق الإرث على معنى انه يثبت الحق للميت ثم ينتقل إلى الورثة بل
يثبت لهم ابتداء لا بطريق الانتقال من الميت إليهم لما ذكرنا ان الميت بالموت خرج عن احتمال لحوق العار به فلم يكن
ثبوت الحق لهم بطريق الإرث فلا يراعى فيه الأقرب والأبعد وكذا لا يراعى فيه احصان المخاصم بل الشرط
احصان المقذوف عند أصحابنا الثلاثة حتى لو كان الولد أو الوالد عبدا أو ذميا فله حق الخصومة وقال زفر رحمه الله
احصان المخاصم شرط وليس للعبد ولا الكافر أن يخاصم (وجه) قوله أن اثبات حق الخصومة له لصيرورته مقذوفا
معنى بإضافة القذف إلى الميت ولو أضيف إليه القذف ابتداء لا يجب الحد فههنا أولى (ولنا) ان الحد لا يجب لعين
القذف بل للحوق عار كامل بالمقذوف وإن كان الميت محصنا فقد لحق الولد عار كامل فلا يشترط احصانه لان اشتراطه
للحوق عار كامل به وقد لحقه بدونه ولو كان الوارث قتله حتى حرم الميراث فله ان يخاصم لما ذكرنا ان هذا الحق
لا يثبت بطريق الإرث ولو قذف رجل أم ابنه وهي ميتة فليس للولد ان يخاصم أباه لان الأب لو قذف ولده وهي حي
محصن ليس للولد ان يخاصم أباه تعظيما له ففي قذف الام الميتة أولى وكذلك المولى إذا قذف أم عبده وهي حرة ميتة فليس
للعبد أن يخاصم مولاه في القذف لأنه عبد مملوك لا يقدر على شئ والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما صفات الحدود فنقول وبالله التوفيق لا خلاف في حد الزنا والشرب والسكر والسرقة انه لا يحتمل
العفو والصلح والابراء بعدما ثبت بالحجة لأنه حق الله تعالى خالصا لا حق العبد فيه فلا يملك اسقاطه وكذا يجرى
55

فيه التداخل حتى لو زنا مرارا أو شرب الخمر مرارا أو سكر مرارا لا يجب عليه الا حد واحد لان المقصود من إقامة
الحد هو الزجر وأنه يحصل بحد واحد فكان في الثاني والثالث احتمال عدم حصول المقصود فكان فيه احتمال عدم
الفائدة ولا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة ولو زنا أو شرب أو سكر أو سرق فحد ثم زنا أو شرب أو سرق يحد
ثانيا لأنه تبين أن المقصود لم يحصل وكذا إذا سرق سرقات من أناس مختلفة فخاصموا جميعا فقطع لهم كان القطع عن
السرقات كلها والكلام في الضمان نذكره في كتاب السرقة إن شاء الله تعالى (وأما) حد القذف إذا ثبت بالحجة
فكذلك عندنا لا يجوز العفو عنه والابراء والصلح وكذلك إذا عفا المقذوف قبل المرافعة أو صالح على مال فذلك
باطل ويرد بدل الصلح وله أن يطالبه بعد ذلك وعند الشافعي رحمه الله يصح ذلك كله وهو احدى الروايتين عن أبي
يوسف رحمه الله وكذا يجرى فيه التداخل عندنا حتى لو قذف انسانا بالزنا بكلمة أو قذف كل واحد بكلام على
حدة لا يجب عليه الا حد واحد سواء حضروا جميعا أو حضر واحد وقال الشافعي رحمه الله إذا قذف كل واحد
بكلام على حدة فعليه لكل واحد حد على حدة ولو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطا ثم قذف آخر ضرب
السوط الأخير فقط عندنا وعنده يضرب السوط الأخير للأول وثمانين سوطا أخر للثاني ولو قدف رجلا فحد
ثم قذف آخر يحد للثاني بلا خلاف وكذا هذا الحد لا يورث عند أصحابنا رضي الله عنهم وعندهم يورث ويقسم
بين الورثة على فرائض الله عز شأنه في قول وفى قول يقسم بين الورثة الا الزوج والزوجة والكلام في هذا الفرع
بناء على أصل مختلف بيننا وبينه وهو أن حد القذف خالص حق الله سبحانه وتعالى أو المغلب فيه حقه وحق العبد
مغلوب عندنا وعنده هو حق العبد أو المغلب حق العبد (وجه) قوله أن سبب وجوب هذا الحد هو القذف
والقذف جناية على عرض المقذوف بالتعرض وعرضه حقه بدليل ان بدل نفسه حقه وهو القصاص في العمد أو
الدية في الخطا فكان البدل حقه والجزاء الواجب على حق الانسان حقه كالقصاص والدليل عليه أنه يشترط فيه
الدعوى والدعوى لا تشترط في حقوق الله تبارك وتعالى كسائر الحقوق الا أنه لم يفوض استيفاؤه إلى المقذوف
لأجل التهمة لان ضرب القذف أخف الضربات في الشرع فلو فوض إليه إقامة هذا الحد فربما يقيمه على وجه
الشدة لما لحقه من الغيظ بسبب القذف ففوض استيفاؤه إلى الامام دفعا للتهمة لا لأنه حق الله تعالى عز شأنه (ولنا)
أن سائر الحدود إنما كانت حقوق الله تبارك وتعالى على الخلوص لأنها وجبت لمصالح العامة وهي دفع فساد يرجع
إليهم ويقع حصول الصيانة لهم فحد الزنا وجب لصيانة الابضاع عن التعرض وحد السرقة وقطع الطريق وجب
لصيانة الأموال والأنفس عن القاصدين وحد الشرب وجب لصيانة الأنفس والأموال والابضاح في الحقيقة
بواسطة صيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكر وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة جزائها يعود إلى
العامة كان الجزاء الواجب حق الله عز شأنه على الخلوص تأكيدا للنفع والدفع كيلا يسقط باسقاط العبد وهو
معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله تبارك وتعالى وهذا المعنى موجود في حد القذف لان مصلحة الصيانة ودفع الفساد
يحصل للعامة بإقامة هذا الحد فكان حق الله عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود الا أن الشرع شرط فيه الدعوى
من المقذوف وهذا لا ينفى كونه حقا لله تعالى عز شأنه على الخلوص كحد السرقة أنه خالص حق الله عز شأنه وإن كان
ت الدعوى من المسروق منه شرطا ثم نقول إنما شرط فيه الدعوى وإن كان خالص حق الله تعالى عز اسمه لان
المقذوف يطالب القاذف ظاهرا وغالبا دفعا للعار عن نفسه فيحصل ما هو المقصود من شرع الحد كما في السرقة ولان
حقوق العباد تجب بطريق المماثلة اما صورة ومعنى واما معنى لا صورة لأنها تجب بمقابلة المحل جبرا والجبر لا يحصل
الا بالمثل ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى فلا يكون حقه وأما حقوق الله سبحانه وتعالى فلا يعتبر فيها
المماثلة لأنها تجب جزاء للفعل كسائر الحدود (ولنا) أيضا دلالة الاجماع من وجهين أحدهما أن ولاية الاستيفاء
للامام بالاجماع ولو كان حق المقذوف لكان ولاية الاستيفاء له كما في القصاص (والثاني) أنه يتنصف برق القاذف
56

وحق الله تعالى هو الذي يحتمل التنصيف بالرق لا حق العبد لان حقوق الله تعالى تجب جزاء للفعل والجزاء
يزداد بزيادة الجناية وينتقص بنقصانها والجناية تتكامل بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله فاما حق العبد فإنه
يجب بمقابلة المحل ولا يختلف باختلاف حال الجاني وإذا ثبت ان حد القذف حق الله تعالى خالصا أو المغلب فيه
حقه فنقول لا يضح العفو عنه لان العفو إنما يكون من صاحب الحق ولا يصح الصلح والاعتياض لان الاعتياض
عن حق الغير لا يصح ولا يجرى فيه الإرث لان الإرث إنما يجرى في المتروك من ملك أو حق للمورث على ما قال
عليه الصلاة والسلام من ترك مالا أو حقا فهو لورثته ولم يوجد شئ من ذلك فلا يورث ولا يجرى فيه التداخل لما
ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان مقدار الواجب منها فمقدار الواجب في حد الزنا إذا لم يكن الزاني محصنا مائة جلدة إن كان
حرا وإن كان مملوكا فخمسون لقوله عز شأنه فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب ولان العقوبة على قدر الجناية والجناية تزداد بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله والعبد أنقص حالا من
الحر لاختصاص الحر بنعمة الحرية فكانت جنايته أنقص ونقصان الجناية يوجب نقصان العقوبة لان الحكم
يثبت على قدر العلة هذا أمر معقول الا أن التنقيص بالتنصيف في غيره من المقادير ثبت شرعا بقوله تعالى جل شأنه
فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وفى حد الشرب والسكر والقذف ثمانون في الحر وأربعون في العبد
لما قلنا وفى حد السرقة لا يختلف قدر الواجب بالرق والحرية لعموم قوله تبارك وتعالى السارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما ولا يختلف بالذكورة والأنوثة في شئ من الحدود والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط جواز اقامتها فمنها ما يعم الحدود كلها ومنها ما يخص البعض دون البعض أما الذي يعم
الحدود كلها فهو الإمامة وهو أن يكون المقيم للحد هو الامام أو من ولاه الامام وهذا عندنا وعند الشافعي هذا ليس
بشرط وللرجل أن يقيم الحد على مملوكه إذا ظهر الحد عنده بالاقرار أربعا عندنا ومرة عنده وبالمعاينة بان رأى عبده
زنى بأجنبية ولو ظهر عنده بالشهود بأن شهدوا عنده والمولى من أهل القضاء فله فيه قولان وكذا في إقامة المرأة الحد
على مملوكها وإقامة المكاتب الحد على عبد من اكسابه له فيه قولان احتج بما روى عن سيدنا علي رضي الله عنه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وهذا نص وروى عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فان عادت فليجلدها فان عادت فليجلدها فان عادت فليبعها ولو بضفير
أي بحبل وهذا أيضا نص في الباب ولان السلطان إنما ملك الإقامة لتسلطه على الرعية وتسلط المولى على مملوكه فوق
تسلط السلطان على رعيته ألا ترى أنه يملك الاقرار عليه بالدين ويملك عليه التصرفات والامام لا يملك شيئا من ذلك
فلما ثبت الجواز للسلطان فالمولى أولى ولهذا ملك إقامة التعزير عليه كذا الحد (ولنا) أن ولاية إقامة الحدود ثابتة للامام
بطريق التعيين والمولى لا يساويه فيما شرع له بهذه الولاية فلا يثبت له ولاية الإقامة استدلالا بولاية انكاح الصغار
والصغائر لأنها لما ثبتت للأقرب لم تثبت لمن لا يساويه فيما شرع له الولاية وهو الابعد وبيان ذلك أن ولاية إقامة الحد
إنما ثبت للامام لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم واعراضهم لان القضاة يمتنعون من التعرض خوفا من
إقامة الحد عليهم والمولى لا يساوى الامام في هذا المعنى لان ذلك يقف على الإمامة والامام قادر على الإقامة لشوكته
ومنعته وانقياد الرعية له قهرا وجبرا ولا يخاف تبعة الجناة واتباعهم لانعدام المعارضة بينهم وبين الامام وتهمة الميل
والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه فيقيم على وجهها فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين وأما المولى
فربما يقدر على الإقامة نفسها وربما لا يقدر لمعارضة العبد إياه ولأنه رقبانى مثله يعارضه فيمنعه عن الإقامة خصوصا
عند خوف الهلاك على نفسه فلا يقدر على الإقامة وكذا المولى يخاف على نفسه وماله من العبد الشرير لو قصد إقامة
الحد عليه ان يأخذ بعض أمواله ويقصد اهلاكه ويهرب منه فيمتنع عن الإقامة ولو قدر على الإقامة فقد يقيم
57

وقد لا يقيم لما في الإقامة من نقصان قيمته بسبب عيب الزنا والسرقة أو يخاف سراية الجلدات إلى الهلاك والمرء محبول
على حب المال ولو أقام فقد يقيم على الوجه وقد لا يقيم على الوجه بل من حيث الصورة فلا يحصل الزجر فثبت أن
المولى لا يساوى الامام في تحصيل ما شرع له إقامة الحد فلا يزاحمه في الولاية بخلاف التعزير من وجهين أحدهما أن
التعزير هو التغيير والتوبيخ وذلك غير مقدر فقد يكون بالحبس وقد يكون برفع الصوت وتعبيس الوجه وقد يكون
بضرب أسواط على حسب الجناية وخال الجاني لما نذكره في موضعه والمولى يساوى الامام في هذا لأنه من باب
التأديب فله قدرة التأديب والعبد ينقاد لمثله للمولى ولا يعارضه فالمولى أيضا لا يمتنع عن هذا القدر من الايلام لأنه
لا يوجب نقصانا في مالية العبد ولا تعييبا فيه بخلاف الحد والثاني أن في التعزير ضرورة ليست في الحد لان أسباب
التعزير مما يكثر وجودها فيحتاج المولى إلى أن يعزر مملوكه في كل يوم وفى كل ساعة وفى الرفع إلى الامام في كل حين
وزمان حرج عظيم على الموالي ففوضت إقامة الحد إلى الموالي شرعا أو صار المولى مأذونا في ذلك من جهة الامام دلالة
وصار نائبا عن الامام فيه ولا حرج في الحد لأنه لا يكثر وجوده لانعدام كثرة أسباب وجوبه وأما الحديثان
فيحتمل أن يكون خطابا لقوم معلومين علم عليه الصلاة والسلام منهم من طريق الوحي انهم يقيمون الحدود من
غير تقصير مثل الأمير والسلطان ويحتمل أن يكون ذلك خطابا للأئمة في حق عبيدهم والتخصيص للترغيب في إقامة
الحد لما أن الأئمة والسلاطين لا يباشرون الإقامة بأنفسهم عادة بل يفوضونها إلى الحكام والمحتسبين وقد يجئ منهم في
ذلك تقصير ويحتمل الإقامة بطريق التسبب بالسعي لرفع ذلك إلى الامام بطريق الحسبة وتخصيص المولى للترغيب
لهم في الإقامة لاحتمال الميل والتقصير في ذلك ويحتمل أن يكون المراد من الحد المذكور في الحديث التعزير لوجود
معنى الحد فيه وهو المنع فلا يصح الاحتجاج بهما مع الاحتمال والله تعالى أعلم وللامام أن يستخلف على إقامة الحدود
لأنه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه لان أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الاسلام ولا يمكنه الذهاب إليها وفى
الاحضار إلى مكان الامام حرج عظيم فلو لم يجر الاستخلاف لتعطلت الحدود وهذا لا يجوز ولهذا كان عليه الصلاة
والسلام يجعل إلى الخلفاء تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود ثم الاستخلاف نوعان تنصيص وتولية أما التنصيص
فهو أن ينص على إقامة الحدود فيجوز للخليفة اقامتها بلا شك وأما التولية فعلى ضربين عامة وخاصة فالعامة هي أن يولى
رجلا ولاية عامة مثل امارة إقليم أو بلد عظيم فيملك المولى إقامة الحدود وان لم ينص عليها لأنه لما قلده امارة ذلك البلد
فقد فوض إليه القيام بمصالح المسلمين وإقامة الحدود معظم مصالحهم فيملكها والخاصة هي ان يولى رجلا ولاية خاصة
مثل جباية الخراج ونحو ذلك فلا يملك إقامة الحدود لأن هذه التولية لم تتناول إقامة الحدود ولو استعمل أمير على الجيش
الكبير فإن كان أمير مصر أو مدينة فغزا بجنده فإنه يملك إقامة الحدود في معسكره لأنه كان يملك الإقامة في بلده فإذا خرج
بأهله أو ببعضهم ملك عليهم ما كان يملك فيهم قبل الخروج وأما من أخرجه أمير البلد غازيا فمن كان يملك إقامة الحد
عليهم قبل الخروج وبعد الخروج لم يفوض إليه الإقامة فلا يملك الإقامة والإمام العدل له ان يقيم الحدود وينفذ
القضاء في معسكره كما له ان يفعل ذلك في المصر لان للامام ولاية على جميع دار الاسلام ثابتة وكذا إذا استعمل قاضيا
له أن يفعل ذلك في المعسكر لأنه نائب الامام والله تعالى أعلم وأما الذي يخص البعض دون البعض فمنها البداية من
الشهود في حد الرجم إذا ثبت بالشهادة حتى لو امتنع الشهود عن البداية أو ماتوا أو غابوا كلهم أو بعضهم لا يقام الرجم على
المشهود عليه وهذا قول أبي حنيفة ومحمد واحدى الروايتين عن أبي يوسف استحسانا وروى عن أبي يوسف رواية
أخرى انها ليست بشرط ويقام الرجم على المشهود عليه وهو قول الشافعي رحمه الله وهو القياس وجه القياس ان الشهود
فيما وراء الشهادة وسائر الناس سواء ثم لا تشترط البداية من أحد منهم فكذا من الشهود ولان الرجم أحد نوعي الحد
فيعتبر بالنوع الآخر وهو الجلد والبداية من الشهود ليست بشرط فيه كذا في الرجم (ولنا) ما روى عن سيدنا
علي رضي الله عنه أنه قال يرجم الشهود أولا ثم الامام ثم الناس وكلمة ثم للترتيب وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضى
58

الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون اجماعا ولان في اعتبار الشرط احتياطا في درء الحد لان الشهود إذا بدؤا
بالرجم ربما استعظموا فعله فيحملهم ذلك على الرجوع عن الشهادة فيسقط الحد عن المشهود عليه بخلاف الجلد لأنا
إنما عرفنا البداية شرطا استحسانا بالأثر فيسقط الحد عليه والأثر ورد في الرجم خاصة فيبقى أمر الجلد على أصل
القياس ولان الجلد لا يحسنه كل أحد ففوض استيفاؤه إلى الأئمة بخلاف الرجم والله تعالى أعلم ومنها أهلية أداء
الشهادة للشهود عند الإقامة في الحدود كلها حتى لو بطلت الأهلية بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو حد
القذف بان فسق الشهود أو ارتدوا أو جنوا أو عموا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف كلهم أو بعضهم لا يقام الحد على
المشهود عليه لان اعتراض أسباب الجرح على الشهادة عند امضاء الحد بمنزلة اعتراضها عند القضاء به واعتراضها عند
القضاء يبطل الشهادة فكذا عند الامضاء في باب الحدود عن القضاء وأما موت الشهود وغيبتهم عند الإقامة فلا
يمنعان من الإقامة في سائر الحدود الا الرجم حتى لو ماتوا كلهم أو غابوا كلهم أو بعضهم يقام الحد على المشهود عليه الا
الرجم لأنهما ليسا من أسباب الجرح لان أهلية الشهادة لا تبطل بالموت والغيبة بل تتناهى وتتقرر وتختم بها العدالة على
وجه لا يحتمل الجرح وفى حد الرجم إنما يمنعان الإقامة لا لأنهما يجرحان في الشهادة بل لان البداية من الشهود شرط
جواز الإقامة ولم توجد وروى عن محمد في الشهود إذا كانوا مقطوعين الأيدي أو بهم مرض لا يستطيعون الرمي
ان الامام يرمى ثم الناس وجعل قطع اليد أو المرض عذرا في فوت البداية ولم يجعل الموت عذرا فيه وان ثبت الرجم
بالاقرار يبدأ به الامام ثم الناس والله تعالى أعلم ومنها أن لا يكون في إقامة الجلدات خوف الهلاك لان هذا الحد
شرع زاجر الا مهلكا فلا يجوز الإقامة في الحر الشديد والبرد الشديد لما في الإقامة فيهما من خوف الهلاك ولا يقام
على مريض حتى يبرأ لأنه يجتمع عليه وجه المرض وألم الضرب فيخاف الهلاك ولا يقام على النفساء حتى ينقضي
النفاس لان النفاس نوع مرض ويقام على الحائض لان الحيض ليس بمرض ولا يقام على الحامل حتى تضع وتطهر
من النفاس لان فيه خوف هلاك الولد والوالدة ويقام الرجم في هذا كله الا على الحامل لان ترك الإقامة في هذه
الأحوال للاحتراز عن الهلاك والرجم حد مهلك فلا معنى للاحتراز عن الهلاك فيه الا انه لا يقام على الحامل لان
فيه اهلاك الولد بغير حق ولا يجمع الضرب في عضو واحد لأنه يفضى إلى تلف ذلك العضو أو إلى تمزيق جلده وكل
ذلك لا يجوز بل يفرق الضرب على جميع الأعضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين الا الوجه
والفرج والرأس لان الضرب على الفرج مهلك عادة وقد روى عن سيدنا علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال اتق وجهه ومذاكيره والضرب على الوجه يوجب المثلة وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن المثلة والرأس مجمع الحواس وفيه العقل فيخاف من الضرب عليه فوات العقل أو فوات بعض
الحواس وفيه اهلاك الذات من وجه وقال أبو يوسف رحمه الله أيضا لا يضرب الصدر والبطن ويضرب الرأس
سوطا أو سوطين أما الصدر والبطن فلان فيه خوف الهلاك وأما الرأس فلقول سيدنا عمر رضي الله عنه اضربوا
الرأس فان فيه شيطانا والجواب ان الحديث ورد في قتل أهل الحرب خصوصا قوما كانوا بالشام يحلقون أوساط
رؤسهم ثم تفريق الضرب على الأعضاء مذهبنا وقال الشافعي عليه الرحمة يضرب كله على الظهر وهذا ليس بسديد
لان المأمور به هو الجلد وانه مأخوذ من ضرب الجلد والضرب على عضو واحد ممزق للجلد وبعد تمزيق الجلد لا يمكن
الضرب على الجلد بعد ذلك ولان في الجمع على عضو واحد خوف الهلاك وهذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا والله
سبحانه وتعالى أعلم وأما كيفية إقامة الحدود فاما حد الرجم فلا ينبغي ان يربط المرجوم بشئ ولا ان يمسك ولا ان
يحفر له إذا كان رجلا بل يقام قائما لان ماعزا لم يربط ولم يمسك ولا حفر له ألا يرى أنه روى أنه هرب من أرض
قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة ولو ربط أو مسك أو حفر له لما قدر على الهرب وإن كان المرجوم امرأة فان
شاء الامام حفر لها وان شاء لم يحفر أما الحفر فلانه أستر لها وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام حفر للمرأة الغامدية
59

إلى ثندوتها وأخذ حصاة مثل الحمصة ورماها بها وحفر سيدنا علي رضي الله عنه لسراحة الهمذانية إلى سرتها وأما
ترك الحفر فلان الحفر للستر وهي مستورة بثيابها لأنها لا تجرد عند إقامة الحد ولا بأس لكل من رمى ان يتعمد مقتله
لان الرجم حد مهلك فما كان أسرع إلى الهلاك كان أولى الا إذا كان الرامي ذا رحم محرم من المرجوم فلا يستحب له
ان يتعمد مقتله لأنه قطع الرحم من غير ضرورة لان غيره يكفيه ويغنيه وقد روى أن حنظلة غسيل الملائكة استأذن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه أبى عامر وكان مشركا فنهاه عليه الصلاة السلام عن ذلك وقال دعه يكفيك
غيرك وأما حد الجلد فاشد الحدود ضربا حد الزنا ثم حد الشرب ثم حد القذف لان جناية الزنا أعظم من جناية
الشرب والقذف اما من جناية القذف فلا شك فيه لان القذف نسبة إلى الزنا فكانت دون حقيقة الزنا واما من جناية
الشرب فلان قبح الزنا ثبت شرعا وعقلا وحرمة نفس الشرب ثبتت شرعا لا عقلا ولهذا كان الزنا حراما في الأديان
كلها بخلاف الشرب وكذا الخمر يباح عند ضرورة الخمصة والاكراه ولا يباح الزنا عند الاكراه وغلبة الشبق وكذا
وجوب الجلد في الزنا ثبت بنص الكتاب العزيز المكنون ولا نص في الشرب وإنما استخرجه الصحابة الكرام
رضي الله عنهم بالاجتهاد والاستدلال بالقذف فقالوا إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون وقال
سبحانه وتعالى جل شأنه في حد الزنا ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله قيل في التأويل أي
بتخفيف الجلدات وإنما كان ضرب القذف أخف الضربين لوجهين أحدهما أن وجوده ثبت بسبب متردد لان
القاذف يحتمل أن يكون صادقا في قذفه ولا حد عليه والثاني انه انضاف إليه رد الشهادة على التأبيد فجرى فيه نوع
تخفيف ويضرب قائما ولا يمد على العقابين ولا على الأرض كما يفعل في زماننا لأنه بدعة بل يضرب قائما ولا يمد
السوط بعد الضرب بل يرفع لان المد بعد الضرب بمنزلة ضربة أخرى فيكون زيادة على الحد ولا يمد الجلاد يده إلى
ما فوق رأسه لأنه يخاف فيه الهلاك أو تمزيق الجلد ولا يضرب بسوط له ثمرة لان اتصال الثمرة بمنزلة ضربة أخرى
فيصير كل ضربة بضربتين فيكون زيادة على القدر المشروع وينبغي أن يكون الجلاد عاقلا بصيرا بأمر الضرب
فيضرب ضربة بين ضربتين ليس بالمبرح ولا بالذي لا يوجد فيه مس ويجرد الرجل في حد الزنا ويضرب على ازار
واحد لأنه أشد الحدود ضربا ومعنى الشدة لا يحصل الا بالتجريد وفى حد الشرب يجرد أيضا في الرواية المشهورة
وروى عن محمد رحمه الله أنه لا يجرد وجه هذه الرواية أن ضرب الشرب أخف من ضرب الزنا فلابد من اظهار آية
التخفيف وذلك بترك التجريد وجه الرواية المشهورة أنه قد جرى التخفيف فيه مرة في الضرب فلو خفف فيه ثانيا
بترك التجريد لا يحصل المقصود من الحد وهو الزجر ولا يجرد في حد القذف بلا خلاف لان وجوبه بسبب متردد
محتمل فيراعى فيه التخفيف بترك التجريد كما روعى في أصل الضرب بخلاف حد الشرب لان وجوبه ثبت بسبب
لا تردد فيه وأما المرأة فلا ينزع عنها ثيابها الا الحشو والفر وفى الحدود كلها لأنها عورة وتضرب قاعدة لان ذلك أستر لها
ويفرق الضرب في الأعضاء كلها لما ذكرنا لان الجمع في عضو واحد يقع اهلاكا للعضو أو تمزيقا أو تخريقا للجلد وكل
ذلك ليس بمشروع فيفرق على الأعضاء كلها الا الوجه والمذاكير والرأس وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم ولا يقام شئ من
ذلك في المسجد لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقام الحدود في
المساجد وهذا نص في الباب ولان تعظيم المسجد واجب وفى إقامة الحدود فيه ترك تعظيمه يؤيده أن نهينا عن
سل السيوف في المساجد قال عليه الصلاة والسلام جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وبياعاتكم وأشريتكم وسل
سيوفكم تعظيما للمسجد ومعلوم ان سل السيف في ترك التعظيم دون الجلد والرجم فلما كره ذلك فلان يكره هذا
أولى ولان إقامة الحدود في المسجد لا تخلو عن تلويثه فتجب صيانة المسجد عن ذلك وينبغي أن تقام الحدود كلها
في ملا من الناس لقوله تبارك وتعالى عز اسمه وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين والنص وان ورد في حد الزنا
لكن النص الوارد فيه يكون واردا في سائر الحدود دلالة لان المقصود من الحدود كلها واحد وهو زجر العامة وذلك
60

لا يحصل الا وأن تكون الإقامة على رأس العامة لان الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة والغيب ينزجرون
باخبار الحضور فيحصل الزجر للكل وكذا فيه منع الجلاد من المجاوزة عن الحد الذي جعل له لأنه لو جاوز لمنعه
الناس عن المجاوزة وفيه أيضا دفع التهمة والميل فلا يتهمه الناس أن يقيم الحد عليه بلا جرم سبق منه والله تعالى الموفق
* (فصل) * وأما بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه فالمسقط له أنواع منها الرجوع عن الاقرار بالزنا والسرقة
والشرب والسكر لأنه يحتمل أن يكون صادقا في الرجوع وهو الانكار ويحتمل أن يكون كاذبا فيه فإن كان صادقا
في الانكار يكون كاذبا في الاقرار وان كاذبا في الانكار يكون صادقا في الاقرار فيورث شبهة في ظهور الحد
والحدود لا تستوفى مع الشبهات وقد روى أن ماعزا لما أقر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا لقنه
الرجوع فقال عليه الصلاة والسلام لعلك قبلتها لعلك مسستها وقال عليه الصلاة والسلام لتلك المرأة أسرقت قولي
لا ما اخالك سرقت وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام تلقينا للرجوع فلو لم يكن محتملا للسقوط بالرجوع ما كان
للتلقين معنى وهذا هو السنة للامام إذا أقر انسان عنده بشئ من أسباب الحدود الخالصة ان يلقنه الرجوع درأ للحد
كما فعل عليه الصلاة والسلام في الزنا والسرقة وسواء رجع قبل القضاء أو بعده قبل الامضاء أو بعد امضاء بعض
الجلدات أو بعض الرجم وهو حي بعد لما قلنا ثم الرجوع عن الاقرار قد يكون نصا وقد يكون دلالة بان أخذ الناس
في رجمه فهرب ولم يرجع أو أخذ الجلاد في الجلد فهرب ولم يرجع حتى لا يتبع ولا يتعرض له لان الهرب في هذه
الحالة دلالة الرجوع وروى أنه لما هرب ماعز ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلا خليتم سبيله دل أن
الهرب دليل الرجوع وأن الرجوع مسقط للحد وكما يصح الرجوع عن الاقرار بالزنا يصح عن الاقرار بالاحصان
حتى لو ثبت على الاقرار بالزنا ورجع عن الاقرار بالاحصان يسقط عنه الرجم ويجلد لان الاحصان شرط
صيرورة الزنا علة لوجوب الرجم فيصح الرجوع عنه كما يصح عن الزنا فيبطل الاحصان ويبقى الزنا فيجب الجلد وأما
الرجوع عن الاقرار بالقذف فلا يسقط الحد لان هذا الحد حق العبد من وجه وحق العبد بعدما ثبت لا يحتمل
السقوط بالرجوع كالقصاص وغيره ومنها تصديق المقذوف القاذف في القذف لأنه لما صدقه فقد ظهر صدقه في
القذف ومن المحال أن يحد الصادق على الصدق ولان حد القذف إنما وجب لدفع عار الزنا وشينه عن المقذوف
ولما صدقه في القذف فقد التزم العار بنفسه فلا يندفع عنه بالحد فيسقط ضرورة ومنها تكذيب المقذوف
المقر في اقراره بالقذف بأن يقول له انك لم تقذفني بالزنا لأنه لما كذبه في القذف فقد كذب نفسه في الدعوى
والدعوى شرط ظهور هذا الحد (ومنها) تكذيب المقذوف حجته على القذف وهي البينة بأن يقول بعد
القضاء بالحد قبل الامضاء شهودي شهدوا بزور لأنه يحتمل أن يكون صادقا في التكذيب فتثبت الشبهة ولا يجوز
استيفاء الحد مع الشبهة (ومنها) تكذيب المزني بها المقر بالزنا قبل إقامة الحد عليه بأن قال رجل زنيت بفلانة فكذبته
وأنكرت الزنا وقالت لا أعرفك ويسقط الحد عن الرجل وهذا قولهما وقال محمد لا يسقط كذا ذكر الكرخي رحمه
الله الاختلاف وذكر القاضي في شرحه قول أبى يوسف مع قول محمد (وجه) قوله إن زنا الرجل قد ظهر باقراره
وامتناع الظهور في جانب المرأة لمعنى يخصها وهو انكارها فلا يمنع الظهور في جانب الرجل ولهما ان الزنا لا يقوم الا
بالفاعل والمحل فإذا لم يظهر في جانبها امتنع الظهور في جانبه هذا إذا أنكرت ولم تدع على الرجل حد القذف فان ادعت
على الرجل حد القذف يحد حد القذف ويسقط حد الزنا لأنه لا يجب عليه حدان هدا إذا كذبته ولم تدع النكاح
(فأما) إذا ادعت النكاح والمهر قبل إقامة الحد عليه يسقط الحد عن الرجل بالاجماع لأنه لم يجب عليها للشبهة لاحتمال
أن تكون صادقة في دعوى النكاح فتمكنت الشبهة في وجوب الحد عليها وإذا لم يجب عليها الحد تعدى إلى جانب
الرجل فسقط عنه وعليه المهر لان الوطئ لا يخلو عن عقوبة أو غرامة وإن كان دعوى النكاح منها بعد إقامة الحد
على الرجل لا مهر لها عليه لان الوجوب في الفصل الأول لضرورة إقامة الحد ولم توجد وعلى هذا إذا أقرت المرأة
61

بالزنا مع فلان فأنكر الرجل وكذبها أو ادعى النكاح على الاتفاق والاختلاف ولو أقر الرجل بالزنا بفلانة فادعت
المرأة الاستكراه يحد الرجل بالاتفاق فرق بين هذا وبين الأول (ووجه) الفرق ان المرأة في الفصل الأول أنكرت
وجود الزنا فلم يثبت الزنا من جانبها فتعدى إلى جانب الآخر وههنا أقرت بالزنا لكنها إذا ادعت الشبهة لمعنى يخصها
وهو كونها مكرهة فلا يتعدى إلى جانب الرجل والدليل على التفرقة بينهما انا لو تيقنا بالاكراه يقام الحد على الرجل
بالاجماع ولو تيقنا بالنكاح في الفصل الأول لا يقام الحد على الرجل والله تعالى أعلم (ومنها) رجوع الشهود بعد
القضاء قبل الامضاء لان رجوعهم يحتمل الصدق والكذب فيورث شبهة والحدود لا تستوفى مع الشبهات
وقد ذكرنا الأحكام المتعلقة برجوع الشهود في باب الحدود كلهم أو بعضهم قبل القضاء أو بعده قبل الامضاء أو
بعد الامضاء بما فيه من الاتفاق والاختلاف في كتاب الرجوع عن الشهادات (ومنها) بطلان أهلية شهادتهم بعد
القضاء قبل الامضاء بالفسق والردة والجنون والعمى والخرس وحد القذف لما ذكرنا فيما تقدم (ومنها) موتهم في حد
الرجم خاصة في ظاهر الرواية لما ذكرنا أن البداية بالشهود شرط جواز الإقامة وقد فات بالموت على وجه لا يتصور
عوده فيسقط الحد ضرورة (وأما) اعتراض ملك النكاح أو ملك اليمين فهل يسقط الحد بان زنا بامرأة ثم تزوجها أو
بجارية ثم اشتراها عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه ثلاث روايات روى محمد رحمه الله عنه أنه لا يسقط وهو قول أبى
يوسف ومحمد وروى أبو يوسف عنه أنه يسقط وروى الحسن عنه أن اعتراض الشراء يسقط واعتراض النكاح
لا يسقط (وجه) رواية الحسن أن البضع لا يصير مملوكا للزوج بالنكاح بدليل أنها إذا وطئت بشبهة كان العقر لها
والعقر بدل البضع والبدل إنما يكون لمن كان له المبدل فلم يحصل استيفاء منافع البضع من محل مملوك له فلا يورث
شبهة وبضع الأمة يصير مملوكا للمولى بالشراء ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان العقر للمولى فحصل الاستيفاء من محل
مملوك له فيورث شبهة فصار كالسارق إذا ملك المسروق بعد القضاء قبل الامضاء (وجه) رواية أبى يوسف أن المرأة
تصير مملوكة للزوج بالنكاح في حق الاستمتاع فحصل الاستيفاء من محل مملوك فيصير شبهة كالسارق إذا ملك
المسروق (وجه) رواية محمد رحمه الله ان الوطئ حصل زنا محضا لمصادفته محلا غير مملوك له فحصل موجبا للحد
والعارض وهو الملك لا يصلح مسقطا لاقتصاره على حالة ثبوته لأنه يثبت بالنكاح والشراء وكل واحد منهما وجد
للحال فلا يستند الملك الثابت به إلى وقت وجود الوطئ فبقي الوطئ خاليا عن الملك فبقي زنا محضا موجبا للحد بخلاف
السارق إذا ملك المسروق لان هناك وحد المسقط وهو بطلان ولاية الخصومة لان الخصومة هناك شرط وقد
خرج المسروق منه من أن يكون خصما بملك المسروق لذلك افترقا والله سبحانه وتعالى أعلم ولو غصب جارية فزنا بها
فماتت روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما ان عليه الحد وقيمة الجارية وروى الحسن عنهما ان عليه
القيمة ولا حد عليه وذكر الكرخي ان هذا أصح الروايتين (وجه) رواية أبى يوسف ان الضمان لا يجب الا بعد
هلاك الجارية وهي بعد الهلاك لا تحتمل الملك فلا يملكها الغاصب بالضمان فلا يمتنع وجوب الحد (وجه) رواية
الحسن ان الضمان لا يجب بعد الهلاك وإنما يجب في آخر جزء من أجزاء الحياة وهي محتملة للملك في ذلك الوقت
فيستند إلى وقت وجود السبب ولان الحياة المحل تشترط لثبوت الملك فيه مقصودا بمبادلة مقصودة والملك ههنا يثبت
ضرورة استحالة اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد في عقد المبادلة فلا يشترط له حياة المحل فيثبت الملك في
الميت وانه يمنع وجوب الحد ولو غصب حرة فزنا فماتت فعليه الحد والدية لان ملك الضمان في الحرة لا يوجب
ملك المضمون لان المحل لا يحتمل التملك فلا يمتنع وجوب الحد بخلاف الأمة والله عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما حكم الحدود إذا اجتمعت فالأصل في أسباب الحدود إذا اجتمعت أن يقدم حق العبد في
الاستيفاء على حق الله عز وجل لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه وتعالى الله تعالى عن الحاجات ثم ينظر ان لم يمكن استيفاء
حقوق الله تعالى تسقط ضرورة وان أمكن استيفاؤها فإن كان في إقامة شئ منها اسقاط البواقي يقام ذلك درأ للبواقي
62

لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود ما استطعتم وان لم يكن في إقامة شئ منها اسقاط البواقي يقام الكل جمعا بين
الحقين في الاستيفاء وإذا ثبت هذا فنقول إذا اجتمع القذف والشرب والسكر والزنا من غير احصان والسرقة بان
قذف انسانا بالزنا وشرب الخمر وسكر من غير الخمر من الأشربة المعهودة وزنى وهو غير محصن وسرق مال انسان ثم
أتى به إلى الامام بدأ الامام بحد القذف فيضر به لأنه حق الله عز شانه من وجه وما سواه حقوق العباد على الخلوص
فيقدم استيفاؤه ثم يستوفى حقوق الله تعالى لأنه يمكن استيفاؤها وليس في إقامة شئ منها اسقاط البواقي فلا يسقط ثم
إذا ضرب حد القذف يحبس حتى يبرأ من الضرب ثم الامام بالخيار في البداية ان شاء بدأ بحد الزنا وان شاء بحد
السرقة ويؤخر حد الشرب عنهما لأنهما ثبتا بنص الكتاب العزيز وحد الشرب لم يثبت بنص الكتاب الكريم
إنما ثبت باجماع مبنى على الاجتهاد أو على الخبر الواحد ولا شك أن الثابت بنص الكتاب آكد ثبوتا ولا يجمع ذلك
كله في وقت واحد بل يقام كل واحد منهما بعدما برأ من الأول لان الجمع بين الكل في وقت واحد يفضى إلى الهلاك
ولو كان من جملة هذه الحدود حد الرجم بان زنى وهو محصن يبدأ بحد القذف ويضمن السرقة ويرجم ويدرأ عنه
ما سوى ذلك لان حد القذف حق العبد فيقدم في الاستيفاء وفى إقامة حد الرجم اسقاط البواقي فيقام درأ للبواقي لان
الحدود واجبة الدرء ما أمكن فيدرأ الا أنه يضمن السرقة لان المال لا يحتمل الدرء وكذا لو كان مع هذه الحدود
قصاص في النفس يبدأ بحد القذف ويضمن السرقة ويقتل قصاصا ويدرأ ما سوى ذلك وإنما بدئ بحد القذف
دون القصاص الذي هو خالص حق العبد لان في البداية بالقصاص اسقاط حد القذف ولا سبيل إليه لذلك يبدأ
بحد القذف ويقتل قصاصا ويبطل ما سوى ذلك لتعذر الاستيفاء بعد القتل الا أنه يضمن السرقة لما قلنا ولو كان مع
القصاص في النفس قصاص فيما دون النفس يحد حد القذف يقتص فيما دون النفس ويقتص في النفس ويلغى
ما سوى ذلك ولو لم يكن في الحدود حد القذف ويقتص فيما دون النفس ثم يقتص في النفس ويلغى ما سوى ذلك
ولو اجتمعت الحدود الخالصة والقتل يقتص ويلغى ما سوى ذلك لان تقديم القصاص على الحدود في الاستيفاء
واجب ومتى قدم استيفاؤه تعذر استيفاء الحدود فتسقط ضرورة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم المحدود فالحد إن كان رجما فإذا قتل يدفع إلى أهله فيصنعون به ما يصنع بسائر الموتى
فيغسلونه ويكفنونه ويصلون عليه ويدفنونه بهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجم ماعزا فقال عليه الصلاة
والسلام اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم وإن كان جلدا فحكم المحدود وغيره سواء في سائر الأحكام من الشهادة
وغيرها الا المحدود في القذف خاصة في أداء الشهادة فإنه تبطل شهادته على التأبيد حتى لا تقبل وان تاب الا في
الديانات عندنا وعند الشافعي رحمه الله تقبل شهادته بعد التوبة وقد ذكرنا المسألة وفروعها في كتاب الشهادات
والله الموفق
* (فصل) * وأما التعزير فالكلام فيه في مواضع في بيان سبب وجوب التعزير وفي بيان شرط وجوبه وفي بيان
قدره وفي بيان وصفه وفي بيان ما يظهريه (أما) سبب وجوبه فارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع سواء
كانت الجناية على حق الله تعالى كترك الصلاة والصوم ونحو ذلك أو على حق العبد بأن آذى مسلما بغير حق بفعل
أو بقول يحتمل الصدق والكذب بأن قال له يا خبيث يا فاسق يا سارق يا فاجر يا كافر يا آكل الربا يا شارب الخمر
ونحو ذلك فان قال له يا كلب يا خنزير يا حمار يا ثور ونحو ذلك لا يجب عليه التعزير لان في النوع الأول إنما وجب
التعزير لأنه ألحق العار بالمقذوف إذ الناس بين مصدق ومكذب فعزر دفعا للعار عنه والقاذف في النوع الثاني ألحق
العار بنفسه بقذفه غيره بمالا يتصور فيرجع عار الكذب إليه لا إلى المقذوف
* (فصل) * وأما شرط وجوبه فالعقل فقط فيعزر كل عاقل ارتكب جناية ليس لها حد مقدر سواء كان حرا
أو عبدا ذكرا أو أنثى مسلما أو كافرا بالغا أو صبيا بعد أن يكون عاقلا لان هؤلاء من أهل العقوبة الا الصبي العاقل فإنه
63

يعزر تأديبا لا عقوبة لأنه من أهل التأديب ألا ترى إلى ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال مروا صبيانكم
بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وذلك بطريق التأديب والتهذيب لا بطريق العقوبة لأنها
تستدعى الجناية وفعل الصبي لا يوصف بكونه جناية بخلاف المجنون والصبي الذي لا يعقل لأنهما ليسا من أهل
العقوبة ولا من أهل التأديب
* (فصل) * وأما قدر التعزير فإنه ان وجب بجناية ليس من جنسها ما يوجب الحد كما إذا قال لغيره يا فاسق يا خبيث
يا سارق ونحو ذلك فالامام فيه بالخيار ان شاء عزره بالضرب وان شاء بالحبس وان شاء بالكهر والاستخفاف
بالكلام وعلى هذا يحمل قول سيدنا عمر رضي الله عنه لعبادة بن الصامت يا أحمق ان ذلك كان على سبيل التعزير منه إياه
لا على سبيل الشتم إذ لا يظن ذلك من مثل سيدنا عمر رضي الله عنه لا بأحد فضلا عن الصحابي ومن مشايخنا من
رتب التعزير على مراتب الناس فقال التعازير على أربعة مراتب تعزير الاشراف وهم الدهاقون والقواد وتعزير
أشراف الاشراف وهم العلوية والفقهاء وتعزير الأوساط وهم السوقة وتعزير الأخساء وهم السفلة فتعزير اشراف
الاشراف بالأعلام المجرد وهو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له بلغني أنك تفعل كذا وكذا وتعزير الاشراف
بالأعلام والجر إلى باب القاضي والخطاب بالمواجهة وتعزير الأوساط الاعلام والجر والحبس وتعزير السفلة
الاعلام والجر والضرب والحبس لان المقصود من التعزير هو الزجر وأحوال الناس في الانزجار على هذه
المراتب وان وجب بجناية في جنسها الحد لكنه لم يجب لفقد شرطه كما إذا قال لصبي أو مجنون يا زاني أو لذمية أو أم ولد
يا زانية فالتعزير فيه بالضرب ويبلغ أقصى غاياته وذلك تسعة وثلاثون في قول أبي حنيفة عليه الرحمة وعند أبي يوسف
خمسة وسبعون وفى رواية النوادر عنه تسعة وسبعون وقول محمد عليه الرحمة مضطرب ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله
والحاصل أنه لا خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم أنه لا يبلغ التعزير الحد لما روى عنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين الا أن أبا يوسف رحمه الله صرف الحد المذكور في الحديث على الأحرار
وزعم أنه الحد الكامل لا حد المماليك لان ذلك بعض الحد وليس بحد كامل ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل في
كل باب ولان الأحرار هم المقصودون في الخطاب وغيرهم ملحق بهم فيه ثم قال في رواية ينقص منها سوط وهو
الاقيس لان ترك التبليغ يحصل به وفى رواية قال ينتقص منها خمسة وروى ذلك أثرا عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه
قال يعزر خمسة وسبعين قال أبو يوسف رحمه الله فقلدته في نقصان الخمسة واعتبرت عنه أدنى الحدود وروى عنه أنه
قال أخذت كل نوع من بابه وأخذت التعزير في اللمس والقبلة من حد الزنا والقذف بغير الزنا من حد القذف ليكون
الحاق كل نوع ببابه وأبو حنيفة صرفه إلى حد المماليك وهو أربعون لأنه ذكر حدا منكرا فيتناول حدا ما وأربعون
حد كامل في المماليك فينصرف إليه ولان في الحمل على هذا الحد أخذا بالثقة والاحتياط لان اسم الحد يقع على
النوعين فلو حملناه على ما قاله أبو حنيفة يقع الا من عند وعيد التبليغ لأنه لا يبلغ ولو حملناه على ما قاله أبو يوسف لا يقع
الا من عنه لاحتمال انه أراد به حد المماليك فيصير مبلغا غير الحد الحد فيلحقه الوعيد فكان الاحتياط فيما قاله أبو حنيفة
رحمه الله والله تعالى الموفق
* (فصل) * واما صفته فله صفات منها انه أشد الضرب واختلف المشايخ في المراد بالشدة المذكورة قال بعضهم
أريد بها الشدة من حيث الجمع وهي ان يجمع الضربات فيه على عضو واحد ولا يفرق بخلاف الحدود وقال بعضهم
المراد منها الشدة في نفس الضرب وهو الايلام ثم إنما كان أشد الضرب لوجهين أحدهما انه شرع للزجر المحض ليس
فيه معنى تكفير الذنب بخلاف الحدود فان معنى الزجر فيها يشوبه معنى التكفير للذنب قال عليه الصلاة والسلام
الحدود كفارات لأهلها فإذا تمحض التعزير للزجر فلا شك ان الأشد أزجر فكان في تحصيل ما شرع له أبلغ والثاني
انه قد نقص عن عدد الضربات فيه فلو لم يشدد في الضرب لا يحصل المقصود منه وهو الزجر ومنها انه يحتمل العفو
64

والصلح والابراء لأنه حق العبد خالصا فتجرى فيه هذه الأحكام كما تجرى في سائر الحقوق للعباد من القصاص
وغيره بخلاف الحدود ومنها انه يورث كالقصاص وغيره لما قلنا ومنها انه لا يتداخل لان حقوق العبد لا تحتمل
التداخل بخلاف الحدود ويؤخذ فيه الكفيل الا انه لا يحبس لتعديل الشهود اما التكفيل فلان التكفيل للتوثيق
والتعزير حق العبد فكان التوثيق ملائما له بخلاف الحدود على أصل أبي حنيفة رحمه الله واما عدم الحبس فلان الحبس
يصلح تعزيرا في نفسه فلا يكون مشروعا قبل تعديل الشهود بخلاف الحدود انه يحبس فيها لتعديل الشهود لان الحبس
لا يصلح حدا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يظهر به فنقول إنه يظهر به سائر حقوق العباد من الاقرار والبينة والنكول وعلم
القاضي ويقبل فيه شهادة النساء مع الرجال والشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي كما في سائر حقوق
العباد وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لا يقبل فيه شهادة النساء والصحيح هو الأول لأنه حق العبد على
الخلوص فيظهر بما يظهر به حقوق العباد ولا يعمل فيه الرجوع كما لا يعمل في القصاص وغيره بخلاف الحدود الخالصة
لله تعالى والله تعالى عز شأنه أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
* (كتاب السرقة) *
يحتاج لمعرفة مسائل السرقة إلى معرفة ركن السرقة والى معرفة شرائط الركن والى معرفة ما يظهر به السرقة عند القاضي
والى معرفة حكم السرقة
* (فصل) * أما ركن السرقة فهو الاخذ على سبيل الاستخفاء قال الله تبارك وتعالى الا من استرق السمع سمى
سبحانه وتعالى أخذ المسموع على وجه الاستخفاء استراقا ولهذا يسمى الاخذ على سبيل المجاهرة مغالبة أو نهبة أو
خلسة أو غصبا أو انتهابا واختلاسا لا سرقة وروى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن المختلس والمنتهب
فقال تلك الدعابة لا شئ فيها وروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا قطع على نباش ولا منتهب ولا خائن
ثم الاخذ على وجه الاستخفاء نوعان مباشرة وتسبب (أما) المباشرة فهو أن يتولى السارق أخذ المتاع واخراجه
من الحرز بنفسه حتى لو دخل الحرز واخذ متاعا فحمله أو لم يحمله حتى ظهر عليه وهو في الحرز قبل أن يخرجه فلا قطع
عليه لان الاخذ اثبات اليد ولا يتم ذلك الا بالاخراج من الحرز ولم يوجد وان رمى به خارج الحرز ثم ظهر عليه قبل أن
يخرج هو من الحرز فلا قطع عليه لان يده ليست بثابتة عليه عند الخروج من الحرز فإن لم يظهر عليه حتى خرج وأخذ
ما كان رمى به خارج الحرز يقطع وروى عن زفر رحمه الله أنه لا يقطع (وجه) قوله إن الاخذ من الحرز لا يتم
الا بالاخراج منه والرمي ليس باخراج والاخذ من الخارج ليس أخذا من الحرز فلا يكون سرقة (ولنا) ان المال
في حكم يده ما لم تثبت عليه يد غيره فقد وجد منه الاخذ والاخراج من الحرز ولو رمى به إلى صاحب له خارج الحرز
فاخذه المرمى إليه فلا قطع على واحد منهما (أما) الخارج فلانه لم يوجد منه الاخذ من الحرز (وأما) الداخل
فلانه لم يوجد منه الاخراج من الحرز لثبوت يد الخارج عليه ولو نال صاحبا له مناولة من وراء الجدار ولم يخرج هو
فلا قطع على واحد منهما عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقطع الداخل ولا يقطع الخارج إذا كان الخارج لم
يدخل يده إلى الحرز (وجه) قولهما ان الداخل لما ناول صاحبه فقد أقام يد صاحبه مقام يده فكأنه خرج والمال
في يده (وجه) قوله على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة أنه لا سبيل إلى ايجاب القطع على الخارج لانعدام فعل
السرقة منه وهو الاخذ من الحرز ولا سبيل إلى ايجابه على الداخل لانعدام ثبوت يده عليه حالة الخروج من الحرز
لثبوت يد صاحبه بخلاف ما إذا رمى به إلى السكة ثم خرج وأخذه لأنه لما لم تثبت عليه يد غيره فهو في حكم يده فكأنه خرج
به حقيقة وإن كان الخارج ادخل يده في الحرز فاخذه من يد الداخل فلا قطع على واحد منهما في قول أبي حنيفة وقال
65

أبو يوسف أقطعهما جميعا (أما) عدم وجوب القطع على الداخل على أصل أبي حنيفة رحمه الله فلعدم الاخراج
من الحرز يحققه أنه لو أخرج يده وناول صاحبا له لم يقطع فعند عدم الاخراج أولى والوجوب عليه على أصل أبى
يوسف رحمه الله لما ذكرنا في المسألة المتقدمة (وأما) الكلام في الخارج فمبنى على مسألة أخرى وهي ان السارق إذا
نقب منزلا وأدخل يده فيه وأخرج المتاع ولم يدخل فيه هل يقطع ذكر في الأصل وفى الجامع الصغير أنه لا يقطع ولم
يحك خلافا وقال أبو يوسف في الاملاء أقطع ولا أبالي دخل الحرز أو لم يدخل وعلى هذا الخلاف إذا نقب ودخل
وجمع المتاع عند النقب ثم خرج وأدخل يده فرفع (وجه) قوله إن الركن في السرقة هو الاخذ من الحرز فاما الدخول
في الحرز فليس بركن ألا ترى أنه لو أدخل يده في الصندوق أو في الجوالق وأخرج المتاع يقطع وان لم يوجد الدخول
ولهما ما روى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال إذا كان اللص ظريفا لم يقطع قيل وكيف يكون ظريفا قال يدخل
يده إلى الدار ويمكنه دخولها ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون اجماعا ولان هتك الحرز على سبيل الكمال شرط لان
به تتكامل الجناية ولا يتكامل الهتك فيما يتصور فيه الدخول الا بالدخول ولم يوجد بخلاف الاخذ من الصندوق
والجوالق لان هتكهما بالدخول متعذر فكان الاخذ بادخال اليد فيها هتكا متكاملا فيقطع ولو أخرج السارق المتاع
من بعض بيوت الدار إلى الساحة لا يقطع ما لم يخرج من الدار لان الدار مع اختلاف بيوتها حرز واحد ألا ترى انه إذا
قيل لصاحب الدار احفظ هذه الوديعة في هذا البيت فحفظ في بيت آخر فضاعت لم يضمن وكذا إذا أذن لانسان في
دخول الدار فدخلها فسرق من البيت لا يقطع وان لم يأذن له بدخول البيت دل ان الدار مع اختلاف بيوتها حرز واحد
فلم يكن الاخراج إلى صحن الدار اخراجا من الحرز بل هو نقل من بعض الحرز إلى البعض بمنزلة النقل من زاوية إلى
زاوية أخرى هذا إذا كانت الدار مع بيوتها لرجل واحد فاما إذا كان كل منزل فيها لرجل فأخرج المتاع من البيت إلى
الساحة يقطع لان كل بيت حرز على حدة فكان الاخراج منه اخراجا من الحرز وكذلك إذا كان في الدار حجر
ومقاصير فسرق من مقصورة منها وخرج به إلى صحن الدار قطع لان كل مقصورة منها حرز على حدة فكان الاخراج
منها اخراجا من الحرز بمنزلة الدار المختلفة في محلة واحدة ولو نقب رجلان ودخل أحدهما فاستخرج المتاع فلما خرج
به إلى السكة حملاه جميعا ينظر ان عرف الداخل منهما بعينه قطع لأنه هو السارق لوجود الاخذ والاخراج منه ويعزر
الخارج لأنه أعانه على المعصية وهذه معصية ليس فيها حد مقدر فيعزر وان لم يعرف الداخل منهما لم يقطع واحد منهما
لامن عليه القطع مجهول ويعزر ان أما الخارج فلما ذكرنا وأما الداخل فلارتكابه جناية لم يستوف فيها الحد لعذر
فتعين التعزير ولو نقب بيت رجل ودخل عليه مكابرة ليلا حتى سرق منه متاعه يقطع لأنه ان لم يوجد الاخذ على
سبيل الاستخفاء من الممالك فقد وجد من الناس لان الغوث لا يلحق بالليل لكونه وقت نوم وغفلة فتحققت
السرقة والله تعالى أعلم وأما التسبب فهو ان يدخل جماعة من اللصوص منزل رجل ويأخذوا متاعا ويحملوه
على ظهر واحد ويخرجوه من المنزل فالقياس ان لا يقطع الا الحامل خاصة وهو قول زفر وفى الاستحسان يقطعون
جميعا (وجه) القياس ان ركن السرقة لا يتم الا بالاخراج من الحرز وذلك وجد منه مباشرة فاما غيره فمعين له والحد يجب
على المباشر لا على المعين كحد الزنا والشرب (وجه) الاستحسان ان الاخراج حصل من الكل معنى لان الحامل
لا يقدر على الاخراج الا بإعانة الباقين وترصدهم للدفع فكان الاخراج من الكل من حيث المعنى ولهذا الحق المعين
بالمباشر في قطع الطريق وفى الغنيمة كذا هذا ولان الحامل عامل لهم فكأنهم حملوا المتاع على حمار وساقوه حتى أخرجوه
من الحرز ولان السارق لا يسرق وحده عادة بل مع أصحابه ومن عادة السراق انهم كلهم لا يشتغلون بالجمع والاخراج بل
يرصد البعض فلو جعل ذلك مانعا من وجوب القطع لا نسد باب القطع وانفتح باب السرقة وهذا لا يجوز ولهذا ألحقت
الإعانة بالمباشرة في باب قطع الطريق كذا هذا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الشرائط فأنواع بعضها يرجع إلى السارق وبعضها يرجع إلى المسروق وبعضها يرجع إلى المسروق منه
66

وبعضها يرجع إلى المسروق فيه وهو المكان أما ما يرجع إلى السارق فأهلية وجوب القطع وهي العقل والبلوغ فلا
يقطع الصبي والمجنون لما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال رفع القلم عن ثلاثة الصبي حتى يحتلم وعن
المجنون حتى يفيق وعن النائم حق يستيقظ أخبر عليه الصلاة والسلام ان القلم مرفوع عنهما وفى ايجاب القطع اجراء
القلم عليهما وهذا خلاف النص ولان القطع عقوبة فيستدعى جناية وفعلهما لا يوصف بالجنايات ولهذا لم يجب عليهما
سائر الحدود كذا هذا ويضمنان السرقة لان الجناية ليست بشرط لوجوب ضمان المال وإن كان السارق يجن مدة
ويفيق أخرى فان سرق في حال جنونه لم يقطع وان سرق في حال الإفاقة يقطع ولو سرق جماعة فيهم صبي أو مجنون
يدرأ عنهم القطع في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله إن كان الصبي والمجنون هو الذي تولى
إخراج المتاع درئ عنهم جميعا وإن كان وليه غيرهما قطعوا جميعا الا الصبي والمجنون (وجه) قوله إن الاخراج من
الحرز هو الأصل في السرقة والإعانة كالتابع فإذا وليه الصبي أو المجنون فقد أتى بالأصل فإذا لم يجب القطع بالأصل
كيف يجب بالتابع فإذا وليه بالغ عاقل فقد حصل الأصل منه فسقوطه عن التبع لا يوجب سقوطه عن الأصل
(وجه) قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله ان السرقة واحدة وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن لا يجب عليه القطع
فلا يجب القطع على أحد كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا في القطع أو في القتل وقوله الاخراج أصل في السرقة مسلم لكنه
حصل من الكل معنى لاتحاد الكل في معنى التعاون على ما بينا فيما تقدم فكان إخراج غير الصبي والمجنون كاخراج
الصبي والمجنون ضرورة الاتحاد وعلى هذا الخلاف إذا كان فيهم ذو رحم محرم من المسروق منه انه لا قطع على أحد
عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف يدرأ عن ذي الرحم المحرم ويجب على الأجنبي ولا خلاف في أنه إذا كان فيهم
شريك المسروق منه انه لا قطع على أحد فاما الذكورة فليست بشرط لثبوت الأهلية فتقطع الأنثى لقوله تعال عز
شأنه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وكذلك الحرية فيقطع العبد والأمة والمدبر والمكاتب وأم الولد لعموم
الآية الشريفة ويستوى الآبق وغيره لما قلنا وذكر في الموطأ ان عبدا لعبد الله بن سيدنا عمر رضي الله عنهما
سرق وهو آبق فبعث إليه عبد الله إلى سعيد بن العاص رضي الله عنه ليقطع يده فأبى سعيد ان يقطع يده وقال لا تقطع
يد الآبق إذا سرق فقال عبد الله في أيما كتاب الله تعالى عز شأنه وجدت هذا أن العبد الآبق إذا سرق
لا تقطع يده فامر به عبد الله رضي الله عنه فقطعت يده ولان الذكورة والحرية ليست من شرائط سائر الحدود
فكذا هذا الحد وكذا الاسلام ليس بشرط فيقطع المسلم والكافر لعموم آية السرقة
* (فصل) * وأما ما يرجع إلى المسروق فأنواع (منها) أن يكون مالا مطلقا لا قصور في ماليته ولا شبهة وهو أن يكون
مما يتموله الناس ويعدونه مالا لان ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم ومالا يتمولونه فهو تافه حقير وقد روى عن سيدتنا
عائشة رضي الله عنها انها قالت لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشئ التافه وهذا منها بيان
شرع متقرر ولان التفاهة تخل في الحرز لان التافه لا يحرز عادة أو لا يحرز احراز الخطر والحرز المطلق شرط على ما نذكر
وكذا تخل في الركن وهو الاخذ على سبيل الاستخفاء لان أخذ التافه مما لا يستخفى منه فيتمكن الخلل والشبهة في
الركن والشبهة في باب الحدود ملحقة بالحقيقة ويخرج على هذا مسائل إذا سرق صبيا حرا لا يقطع لان الحر ليس بمال
ولو سرق صبيا عبدا لا يتكلم ولا يعقل يقطع في قول أبي حنيفة وروى عن أبي يوسف رحمه الله لا يقطع (ووجهه) ان
العبد ليس بمال محض بل هو مال من وجه آدمي من وجه فكان محل السرقة من وجه دون وجه فلا تثبت المحلية بالشك
فلا يقطع كالصبي العاقل (ولنا) انه مال من كل وجه لوجود معنى المالية فيه على الكمال ولا يدله على نفسه فيتحقق ركن
السرقة كالبهيمة وكونه آدميا لا ينفى كونه مالا فهو آدمي من كل وجه ومال من كل وجه لعدم التنافي فيتعلق القطع بسرقته
من حيث إنه مال لا من حيث إنه آدمي بخلاف العاقل لأنه وإن كان مالا من كل وجه لكنه في يد نفسه فلا يتصور
ثبوت يد غيره عليه للتنافي فلا يتحقق فيه ركن السرقة وهو الاخذ ولو سرق ميتة أو جلد ميتة لم يقطع لانعدام المال
67

ولا يقطع في التبن والحشيش والقصب والحطب لان الناس لا يتمولون هذه الأشياء ولا يظنون بها لعدم عزتها وقلة
خطرها عندهم بل يعدون الظنة بها من باب الخساسة فكانت تافهة ولا قطع في التراب والطين والجص واللبن والنورة
والآجر والفخار والزجاج لتفاهتها فرق بين التراب وبين الخشب حيث سوى في التراب بين المعمول منه وغير
المعمول وفرق في الخشب لان الصنعة في الخشب أخرجته عن حد التفاهة والصنعة في التراب لم تخرجه عن كونه تافها
يعرف ذلك بالرجوع إلى عرف الناس وعاداتهم ومن أصحابنا من فصل في الجواب في الزجاج بين المعمول وغير المعمول
كما في الخشب ومنهم من سوى بينهما وهو الصحيح لان الزجاج بالعمل لم يخرج عن حد التفاهة لأنه يتسارع إليه
الكسر بخلاف الخشب ولا يقطع في الخشب الا إذا كان معمولا بان صنع منه أبوابا أو آنية ونحو ذلك ما خلا الساج
والقنا والابنوس والصندل لان غير المصنوع من الخشب لا يتمول عادة فكان تافها وبالصنعة يخرج عن التفاهة
فيتمول وأما الساج والابنوس والصندل فأموال لها عزة وخطر عند الناس فكانت أموالا مطلقة (وأما) العاج فقد
ذكر محمد أنه لا يقطع الا في المعمول منه وقيل هذا الجواب في العاج الذي هو من عظم الجمل فلا يقطع الا في المعمول
منه لأنه لا يتمول لتفاهته ويقطع في المعمول لخروجه عن حد التفاهة بالصنعة كالخشب المعمول فاما ما هو من عظم
الفيل فلا يقطع فيه أصلا سواء كان معمولا أو غير معمولا لان الفقهاء اختلفوا في ماليته حتى حرم بعضهم بيعه
والانتفاع به فأوجب ذلك قصورا في المالية ولا قطع في قصب النشاب فإن كان اتخذ منه نشابا قطع لما قلنا في
الخشب ولا قطع في القرون معمولة كانت أو غير معمولة وقال أبو يوسف إن كانت معمولة وهي تساوى عشرة
دراهم قطع قيل إن اختلاف الجواب لاختلاف الموضوع فموضوع المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله في قرون
الميتة لأنها ليست بمال مطلق لاختلاف الفقهاء في ماليتها وجواب أبى يوسف رحمه الله في قرون المذكى فلم
يوجب القطع في غير المعمول منها لأنها من أجزاء الحيوان وأوجب في المعمول كما في الخشب المعمول وعن محمد في
جلود السباع المدبوغة أنه لا قطع فيها فان جعلت مصلاة أو بساطا قطع لان غير المعمول منها من أجزاء الصيد
ولا قطع في الصيد فكذا في أجزائه وبالصنعة صارت شيئا آخر فأشبه بالخشب المصنوع وهذا يدل على
أن محمدا لم يعتد بخلاف من يقول من الفقهاء ان جلود السباع لا تطهر بالذكاة ولا بالدباغ ولا قطع في البواري
لأنها تافهة لتفاهة أصلها وهو القصب ولا قطع في سرقة كلب ولا فهد ولا في سرقة الملاهي من الطبل والدف
والمزمار ونحوها لأن هذه الأشياء مما لا يتمول أو في ماليتها قصور ألا ترى أنه لا ضمان على كاسر الملاهي عند أبي
يوسف ومحمد ولا على قاتل الكلب والفهد عند بعض الفقهاء ولو سرق مصحفا أو صحيفة فيها حديث أو عربية
أو شعر فلا قطع وقال أبو يوسف يقطع إذا كان يساوى عشرة دراهم لان الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس
الأموال (ولنا) أن المصحف الكريم يدخر لا للتمول بل للقراءة والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين
والدنيا والعمل به وكذلك صحيفة الحديث وصحيفة العربية والشعر يقصد بها معرفة الأمثال والحكم لا التمول (وأما)
دفاتر الحساب ففيها القطع إذا بلغت قيمتها نصابا لان ما فيها لا يصلح مقصودا بالاخذ فكان المقصود هو قدر البياض
من الكاغد وكذلك الدفاتر البيض إذا بلغت نصابا لما قلنا وعلى هذا يخرج ما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ان كل
ما يوجد جنسه تافها مباحا في دار الاسلام فلا قطع فيه لان كل ما كان كذلك فلا عز له ولا خطر فلا يتموله الناس فكان
تافها والاعتماد على معنى التفاهة دون الإباحة لما نذكر إن شاء الله تعالى وعن أبي حنيفة أنه لا قطع في عفص ولا
اهليلج ولا اشنان ولا فحم لأن هذه الأشياء مباحة الجنس في دار الاسلام وهي تافهة وروى عن أبي يوسف أنه لا
يقطع في العفص والاهليلج والأدوية والأدوية اليابسة ولا قطع في طير ولا صيد وحشيا كان أو غيره لان الطير لا يتمول عادة
وقد روى عن سيدنا عثمان وسيدنا علي رضي الله عنهما أنهما قالا لا قطع في الطير ولم ينقل عن غيرهما خلاف ذلك
فيكون اجماعا وكذا لم ما علم من الجوارح فصار صيودا فلا قطع على سراقة لأنه وان علم فلا يعد مالا وعلى هذا يخرج
68

النباش أنه لا يقطع فيما أخذ من القبور في قولهما وقال أبو يوسف يقطع (وجه) قوله أنه أخذ مالا من حرز مثله
فيقطع كما لو أخذ من البيت ولهما ان الكفن ليس بمال لأنه لا يتمول بحال لان الطباع السليمة تنفر عنه أشد النفار فكان
تافها ولئن كان مالا ففي ماليته قصور لأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي والقصور فوق الشبهة ثم الشبهة تنفى
وجوب الحد فالقصور أولى روى الزهري أنه قال أخذ نباش في زمن مروان بالمدينة فاجمع أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهم متوافرون أنه لا يقطع وعلى هذا يخرج سرقة مالا يحتمل الادخار ولا يبقى من سنة إلى سنة بل
يتسارع إليه الفساد انه لا قطع فيه لان مالا يحتمل الادخار لا يعد مالا فلا قطع في سرقة الطعام الرطب والبقول
والفواكه الرطبة في قولهما وعند أبي يوسف يقطع (وجه) قوله إنه مال منتفع به حقيقة مباح الانتفاع به شرعا على
الاطلاق فكان مالا فيقطع كما في سائر الأموال ولهما ان هذه الأشياء مما لا يتمول عادة وإن كانت صالحة للانتفاع
بها في الحال لأنها لا تحتمل الادخار والامساك إلى زمان حدوث الحوائج في المستقبل فقل خطرها عند الناس فكانت
تافهة ولو سرق تمرا من نخل أو شجر آخر معلقا فيه فلا قطع عليه وإن كان عليه حائط استوثقوا منه واحرزوه أو هناك
حائط لان ما على رأس النخل لا يعد مالا ولأنه ما دام على رأس الشجر لا يستحكم جفافه فيتسارع إليه الفساد وقد
روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا قطع في ثمر ولا كثر قال محمد الثمر ما كان في الشجر والكثر الجمار فإن كان
قد جذ الثمر وجعله في جرين ثم سرق فإن كان قد استحكم جفافة قطع لأنه صار مالا مطلقا قابلا للادخار واليه
أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لا قطع في ثمر ولا كثر حتى يؤويه الجرين فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه
القطع لأنه لا يؤويه الجرين ما لم يستحكم جفافه عادة فإذا استحكم جفافه لا يتسارع إليه الفساد فكان مالا مطلقا
وكذلك الحنطة إذا كانت في سنبلها فهي بمنزلة الثمر المعلق في الشجر لان الحنطة ما دامت في السنبل لا تعد مالا ولا
يستحكم جفافها أيضا (وأما) الفاكهة اليابسة التي تبقى من سنة إلى سنة فالصحيح من الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله
أنه يقطع فيما يتمول الناس إياها لقبولها الادخار فانعدم معنى التفاهة المانعة من وجوب القطع وروى عنه أنه سوى بين
رطب الفاكهة ويابسها وليست بصحيحة ولو سرق من الحائط نخلة بأصلها لا يقطع لان أصل النخلة مما لا يتمول
فكان تافها وروينا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا قطع في ثمر ولا كثر وقيل في تفسير الكثر انه النخل
الصغار ويقطع في الحناء والوسمة لأنه لا يتسارع إليه الفساد فلم يختل معنى المالية ولا قطع في اللحم الطري
والصفيق لأنه يتسارع إليه الفساد وكذلك لا قطع في السمك طريا كان أو مالحا لان الناس لا يعدونه مالا لتفاهته
ولتسارع الفساد إلى الطري منه ولما انه يوجد جنسه مباحا في دار الاسلام ولا قطع في اللبن لأنه يتسارع إليه
الفساد فكان تافها ويقطع في الخل والدبس لعدم التفاهة ألا ترى أنه لا يتسارع إليهما الفساد ولا قطع في عصير العنب
ونقيع الزبيب ونبيذ التمر لأنه يتسارع إليه الفساد فكان تافها كاللبن ولا قطع في الطلاء وهو المثلث لأنه مختلف في
اباحته وفى كونه مالا فكان قاصرا في معنى المالية وكذا المطبوخ أدنى طبخة من نقيع الزبيب ونبيذ التمر
لاختلاف الفقهاء في إباحة شربه وأما المطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب فلا شك انه لا قطع فيه لأنه حرام فلم يكن
مالا ويقطع في الذهب والفضة لأنهما من أعز الأموال ولا تفاهة فيهما بوجه وكذلك الجواهر واللآلئ لما قلنا
وبهذا تبين أن التعويل في هذا الباب في منع وجوب القطع على معنى التفاهة وعدم المالية لا على إباحة الجنس لان
ذلك موجود في الذهب والفضة والجواهر واللآلئ وغيرها ويقطع في الحبوب كلها وفى الادهان والطيب كالعود
والمسك وما أشبه ذلك لانعدام معنى التفاهة ويقطع في الكتان والصوف والخز ونحو ذلك ويقطع في جميع
الأواني من الصفر والحديد والنحاس والرصاص لما قلنا وكذلك لو سرق النحاس نفسه أو الحديد نفسه أو الرصاص
لعزة هذه الأشياء وخطرها في أنفسها كالذهب والفضة ومنها أن يكون متقوما مطلقا فلا يقطع في سرقة الخمر من يسلم
مسلما كان السارق أو ذميا لأنه لا قيمة للخمر في حق المسلم وكذا الذمي إذا سرق من ذمي خمرا أو خنزيرا لا يقطع
69

لأنه وإن كان متقوما عندهم فليس بمتقوم عندنا فلم يكن متقوما على الاطلاق ولا يقطع في المباح الذي ليس بمملوك وإن كان
مالا لانعدام تقومه والله تعالى أعلم ومنها أن يكون مملوكا في نفسه فلا يقطع فلا يقطع في سائر المباحات التي لا يملكها أحد
وإن كانت من نفائس الأموال من الذهب والفضة والجواهر المستخرجة من معادنها لعدم المالك وعلى هذا أيضا
يخرج النباش على أصل أبي حنيفة ومحمد أنه لا يقطع لان الكفن ليس بمملوك لأنه لا يخلو ما أن يكون على ملك الميت
واما أن يكون على ملك الورثة لا سبيل إلى الأول لان الميت ليس من أهل الملك ولا وجه الثاني لان ملك الوارث مؤخر
عن حاجة الميت إلى الكفن كما هو مؤخر عن الدين والوصية فلم يكن مملوكا أصلا ومنها أن لا يكون للسارق فيه ملك
ولا تأويل الملك أو شبهته لان المملوك أو ما فيه تأويل الملك أو الشبهة لا يحتاج فيه إلى مسارقة الأعين فلا يتحقق ركن
السرقة وهو الاخذ على سبيل الاستخفاء والاستسرار على الاطلاق ولان القطع عقوبة السرقة قال الله في آية السرقة
جزاء بما كسبا نكالا من الله فيستدعى كون الفعل جناية محضة وأخذ المملوك للسارق لا يقع جناية أصلا
فالأخذ بتأويل الملك أو الشبهة لا يتمحض جناية فلا يوجب القطع إذا عرف هذا فنقول لا قطع على من سرق
ما أعاره من إنسان أو آجره منه لان ملك الرقبة قائم ولا على من سرق رهنه من بيت المرتهن لان ملك العين له وإنما
الثابت للمرتهن حق الحبس لا غير ولو كان الرهن في يد العدل فسرقه المرتهن أو الراهن فلا قطع على واحد منهما أما
الراهن فلما ذكرنا انه ملكه فلا يجب القطع بأخذه وان منع من الاخذ كما لا يجب الحد عليه بوطئه الجارية المرهونة
وان منع من الوطئ (وأما) المرتهن فلان يد العدل يده من وجه لان منفعة يده عائدة إليه لأنه يمسكه لحقه فأشبه يد
المودع ولا على من سرق مالا مشتركا بينه وبين المسروق منه لان المسروق ملكهما على الشيوع فكان بعض
المأخوذ ملكه فلا يجب القطع بأخذه فلا يجب بأخذ الباقي لان السرقة سرقة واحدة ولا على من سرق من بيت المال
الخمس لان له فيه ملكا وحقا ولو سرق من عبده المأذون فإن لم يكن عليه دين فلا قطع لان كسبه خالص ملك المولى
وإن كان عليه دين تحيط به وبما في يده لا يقطع أيضا (أما) على أصلهما فظاهر لان كسبه ملك المولى وعلى أصل
أبي حنيفة رحمه الله ان لم يكن ملكه فله فيه ضرب اختصاص يشبه الملك ألا ترى أنه يملك استخلاصه لنفسه بقضاء
دينه من مال آخر فكان في معنى الملك ولهذا لو كان الكسب جارية لم يجز له أن يتزوجها فيورث شبهة أو نقول إذا لم
يملكه المولى ولا المأذون يملكه أيضا لأنه عبد مملوك لا يقدر على شئ والغرماء لا يملكون أيضا فهذا مال مملوك
لا مالك له معين فلا يجب القطع بسرقته كمال بيت المال وكمال الغنيمة ولو سرق من مكاتبه لم يقطع لان كسب مكاتبه
ملكه من وجه أو فيه شبهة الملك له ألا ترى أنه لو كان جارية لا يحل له أن يتزوجها والملك من وجه أو شبهة الملك يمنع
وجوب القطع مع ما أن هذا ملك موقوف على المكاتب وعلى مولاه في الحقيقة لأنه ان أدى تبين انه كان ملك المولى
فتبين انه أخذ مال نفسه وان عجز فرد في الرق تبين انه كان ملك المكاتب فكان الملك موقوفا للحال فيوجب شبهة فلا
يجب القطع كأحد المتبايعين إذا سرق ما شرط فيه الخيار ولا قطع على من سرق من ولده لان له في مال ولده تأويل الملك
أو شبهة الملك لقوله عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لأبيك فظاهر الإضافة إليه بلام التمليك يقتضى ثبوت الملك
له من كل وجه الا انه لم يثبت لدليل ولا دليل في الملك من وجه فيثبت أو يثبت لشبهة الملك وكل ذلك يمنع وجوب القطع
لأنه يورث شبهة في وجوبه (وأما) السرقة من سائر ذي الرحم المحرم فلا توجب القطع أيضا لكن لفقد شرط آخر
نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ولو دخل لص دار رجل فأخذ ثوبا فشقه في الدار نصفين ثم أخرجه وهو يساوى
عشرة دراهم مشقوقا يقطع في قولهما وقال أبو يوسف رحمه الله لا يقطع ولو أخذ شاة فذبحها ثم أخرجها مذبوحة
لا يقطع بالاجماع (وجه) قوله أن السارق وجد منه سبب ثبوت الملك قبل الاخراج وهو الشق لان ذلك سبب
لوجوب الضمان ووجوب الضمان يوجب ملك المضمون من وقت وجود السبب على أصل أصحابنا وذلك يمنع
وجوب القطع ولهذا لم يقطع إذا كان المسروق شاة فذبحها ثم أخرجها كذا هذا ولهما أن السرقة تمت في ملك
70

المسروق منه فيوجب القطع وإنما قلنا ذلك لان الثوب المشقوق لا يزول عن ملكه ما دام مختارا للعين وإنما يزول عند
اختيار الضمان فقبل الاختيار كان الثوب على ملكه فصار سارقا ثوبين قيمتهما عشرة دراهم فيقطع وهكذا نقول في
الشاة أن السرقة تمت في ملك المسروق منه الا انها تمت في اللحم ولا قطع في اللحم وقوله وجب الضمان عليه بالشق قلنا قبل
الاختيار ممنوع فإذا اختار تضمين السارق وسلم الثوب إليه لا يقطع لأنه عند اختيار الضمان ملكه من حين وجود
الشق فتبين أنه أخرج ملك نفسه عن الحرز فلا قطع عليه وحكى عن الفقيه أبى جعفر الهندواني رحمه الله أنه قال
موضوع المسألة أنه شق الثوب عرضا فاما لو شقه طولا فلا قطع لأنه بالشق طولا خرقه خرقا متفاحشا فيملكه
بالضمان وذكر ابن سماعة أن السارق إذا خرق الثوب تخريقا مستهلكا وقيمته بعد تخريقه عشرة أنه لا قطع عليه في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهذا يؤيد قول الفقيه أبى جعفر الهندواني رحمه الله لان التخريق إذا وقع استهلاكا
أوجب استقرار الضمان وذلك يوجب ملك المضمون وإذا لم يقع استهلاكا كان وجوب الضمان فيه موقوفا على اختيار
المالك فلا يجب قبل الاختيار فلا يملك المضمون والله تعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا سرق عشرة دراهم من غريم له
عليه عشرة انه لا يقطع لأنه ملك المأخوذ بنفس الاخذ فصار قصاصا بحقه فلم يبق في حق هذا المال سارقا فلا يقطع ولو
كان المسروق من خلاف جنس حقه يقطع لأنه لا يملكه بنفس الاخذ بل بالاستبدال والبيع فكان سارقا ملك غيره
فيقطع كالأجنبي الا إذا قال أخذته لأجل حقي على ما نذكر وههنا جنس من المسائل يمكن تخريجها إلى أصل آخر هو
أولى بالتخريج عليه وسنذكره إن شاء الله تعالى بعد منها أن يكون معصوما ليس للسارق فيه حق الاخذ ولا تأويل
الاخذ ولا شبهة التناول لان القطع عقوبة محضة فيستدعى جناية محضة وأخذ غير المعصوم لا يكون جناية أصلا وما
فيه تأويل التناول أو شبهة التناول لا يكون جناية محضة فلا تناسبه العقوبة المحضة ولان ما ليس بمعصوم يؤخذ
مجاهرة لا مخافتة فيتمكن الخلل في ركن السرقة وإذا عرف هذا فنقول لا قطع في سائر المباحات التي لا يملكها أحد
ولا في المباح المملوك وهو مال الحربي في دار الحرب (وأما) مالي الحربي المستأمن في دار الاسلام فلا قطع فيه
استحسانا والقياس أن يقطع (وجه) القياس انه سرق مالا معصوما لان الحربي استفاد العصمة بالأمان بمنزلة الذي
ولهذا كان مضمونا بالاتلاف كمال الذمي (وجه) الاستحسان أن هذا مال فيه شبهة الإباحة لان الحربي المستأمن
من أهل دار الحرب وإنما دخل دار الاسلام ليقضى بعض حوائجه ثم يعود عن قريب فكونه من أهل دار الحرب
يورث شبهة الإباحة في ماله ولهذا أورث شبهة الإباحة في دمه حتى لا يقتل به المؤمن قصاصا ولأنه كان مباحا وإنما
تثبت العصمة بعارض أمان هو على شرف الزوال فعند الزوال يظهر أن العصمة لم تكن على الأصل المعهود ان كال
عارض على أصل إذا زال يلحق بالعدم من الأصل كأنه لم يكن فيجعل كان العصمة لم تكن ثابتة بخلاف الذمي لأنه من
أهل دار الاسلام وقد استفاد العصمة بأمان مؤبد فكان معصوم الدم والمال عصمة مطلقة ليس فيها شبهة الإباحة
وبخلاف ضمان المال لان الشبهة لا تمنع وجوب ضمان المال لأنه حق العبد وحقوق العباد لا تسقط بالشبهات وكذا
لا قطع على الحربي المستأمن في سرقة مال المسلم أو الذمي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه أخذه على اعتقاد الإباحة
ولذا لم يلتزم أحكام الاسلام وعند أبي يوسف يقطع والخلاف فيه كالخلاف في حد الزنا ولا يقطع العادل في سرقة مال
الباغي لان ماله ليس بمعصوم في حقه كنفسه ولا الباغي في سرقة مال العادل لأنه أخذه عن تأويل وتأويله وإن كان
فاسدا لكن التأويل الفاسد عند انضمام المنعة إليه ملحق بالتأويل الصحيح في منع وجوب القطع ولهذا الحق به في
حق منع وجوب القصاص والحد والله تعالى أعلم وعلى هذا تخرج السرقة من الغريم وجملة الكلام فيه ان الامر
لا يخلوا ما إن كان سرق منه من جنس حقه واما إن كان سرق منه خلاف جنس حقه فان سرق جنس حقه بان سرق
منه عشرة دراهم وله عليه عشرة فإن كان دينه عليه حالا لا يقطع لان الاخذ مباح له لأنه ظفر بجنس حقه ومن له الحق
إذا ظفر بجنس حقه يباح له أخذه وإذا أخذه يصير مستوفيا حقه وكذلك إذا سرق منه أكثر من مقدار حقه لان
71

بعض المأخوذ حقه على الشيوع ولا قطع فيه فكذا في الباقي كما إذا سرق مالا مشتركا وإن كان دينه مؤجلا فالقياس
أن يقطع وفى الاستحسان لا يقطع (وجه) القياس ان الدين إذا كان مؤجلا فليس له حق الاخذ قبل حلول الأجل
ألا ترى ان للغريم ان يسترده منه فصار كما لو سرقه أجنبي (وجه) الاستحسان ان حق الاخذ ان لم يثبت قبل حل
الأجل فسبب ثبوت حق الاخذ قائم وهو الدين لان تأثير التأجيل في تأخير المطالبة لا في سقوط الدين فقيام سبب
ثبوته يورث الشبهة وان سرق خلاف جنس حقه بأن كان عليه دراهم فسرق منه دنانيرا وعروضا قطع هكذا أطلق
الكرخي رحمه الله وذكر في كتاب السرقة انه إذا سرق العروض ثم قال أخذت لأجل حقي لا يقطع فيحمل مطلق قول
الكرخي على المطلق وهو ما إذا سرق ولم يقل أخذت لأجل حقي لأنه إذا لم يقل فقد أخذ مالا ليس له حق أخذه ألا ترى
أنه لا يصير قصاصا الا بالاستبدال والتراضي ولم يتأول الاخذ أيضا فكان أخذه بغير حق ولا شبهة حق وهذا يدل على أن
ه لا يعيد بخلاف قول من يقول من الفقهاء ان لصاحب الحق إذا ظفر بخلاف جنس حقه أن يأخذه لأنه قول لم يقل
به أحد من السلف فلا يعتبر مؤذنا للشبهة وإذا قال أخذت لأجل حقي فقد أخذه متأولا لأنه اعتبر المعنى وهي
المالية لا الصورة والأموال كلها في معنى المالية متجانسة فكان أخذا عن تأويل فلا يقطع ولو أخذ صنفا من الدراهم
أجود من حقه أو أردأ لم يقطع لان المأخوذ من جنس حقه من حيث الأصل وإنما خالفه من حيث الوصف ألا يرى أنه
لو رضى به يصير مستوفيا حقه ولا يكون مستبدلا حتى يجوز في الصرف والسلم مع أن الاستبدال ببدل الصرف والسلم
لا يجوز وإذا كان المأخوذ من جنس حقه من حيث الأصل تثبت شبهة حق الاخذ فيلحق بالحقيقة في باب الحد كما
في الدين المؤجل ولو سرق حليا من فضة وعليه دراهم أو حليا من ذهب وعليه دنانير يقطع لان هذا لا يصير قصاصا
من حقه الا بالمراضاة ويكون ذلك بيعا واستبدالا فأشبه العروض وإن كان السارق قد استهلك العروض أو الحلى
ووجبت عليه قيمته وهو مثل الذي عليه من العين فان هذا يقطع أيضا لان المقاصد إنما تقع بعد الاستهلاك فلا
يوجب سوى القطع ولو سرق مكاتب أو عبد من غريم مولاه يقطع لأنه ليس له حق قبض دين المولى من غير أمره
فصار كالأجنبي حتى لو كان المولى وكله بقبض الدين لا يقطع لثبوت حق القبض له بالوكالة فصار كصاحب الدين ولو
سرق من غريم مكاتبه أو من غريم عبده المأذون فإن لم يكن على العبد دين لم يقطع لان ذلك ملك مولاه فكان له حق
أخذه وإن كان عليه دين قطع لأنه ليس له حق القبض فصار كالأجنبي ولو سرق من غريم أبيه أو ولده يقطع لأنه
لا حق له فيه ولا في قبضه الا إذا كان غريم ولده الصغير فلا يقطع لان حق القبض له كما في دين نفسه والله تعالى أعلم
وعلى هذا أيضا يخرج سرقة المصحف على أصل أبي حنيفة انه لا قطع فيه لان له تأويل الاخذ إذ الناس لا يضنون
ببذل المصاحب الشريفة لقراءة القرآن العظيم عادة فاخذه الا آخذ متأولا ولا وكذلك سرقة البربط والطبل والمزمار
وجميع آلات الملاهي لان آخذها يتأول انه يأخذها منع المالك عن المعصية ونهيه عن المنكر وذلك مأمور به شرعا
وكذلك سرقة شطرنج ذهب أو فضة لما قلنا وكذلك سرقة صليب أو صنم من فضة من حرز لأنه يتأول انه أخذه
للكسر (وأما) الدراهم التي عليها التماثيل فيقطع فيها لأنها لا تعبد عادة فلا تأويل له في الاخذ للمنع من العبادة فيقطع
وعلى هذا يخرج ما إذا قطع سارق في مال ثم سرقه منه سارق آخر انه لا يقطع لان المسروق ليس بمعصوم في حق
المسروق منه ولا متقوم في حقه لسقوط عصمته وتقومه في حقه بالقطع ولان كون يد المسروق منه يدا صحيحة شرط
وجوب القطع ويد السارق ليست يدا صحيحة لما نذكره إن شاء الله تعالى ولو سرق مالا فقطع فيه فرده إلى المالك ثم
عاد فسرقه منه ثانيا فجملة الكلام فيه ان المردود لا يخلوا اما إن كان على حالة لم يتغيروا ما ان أحدث المالك فيه
ما يوجب تغيره فإن كان على حاله لم يقطع استحسانا والقياس ان يقطع وهو رواية الحسن عن أبي يوسف وبه
أخذ الشافعي رحمهم الله (أما) الكلام مع الشافعي رحمه الله فمبنى على أن العصمة الثابتة للمسروق حقا للعبد قد
سقطت عند السرقة الأولى لضرورة وجوب القطع على أصلنا وعلى أصله لم تسقط بل بقيت على ما كانت وسنذكر
72

تقرير هذا الأصل في موضعه إن شاء الله تعالى (وأما) الكلام مع أبي يوسف (وجه) مأوى أن المحل وان
سقطت قيمته الثابتة حقا للمالكية في السرقة الأولى فقد عادت بالرد إلى المالك ألا ترى انها عادت في حق الضمان حتى
لو أتلفه السارق يضمن فكذا في حق القطع (ولنا) أن العصمة وان عادت بالرد لكن مع شبهة العدم لان السقوط
لضرورة وجوب القطع وأثر القطع قائم بعد الرد فيورث شبهة في العصمة ولأنه سقط تقوم المسروق في حق السارق
بالقطع في السرقة الأولى ألا ترى أنه لو أتلفه لا يضمن وأثر القطع بعد الرد قائم فيورث شبهة عدم التقوم في حقه فيمنع
وجوب القطع ولا يمنع وجوب الضمان لأن الضمان لا يسقط بالشبهة لما بينا هذا إذا كان المردود على حاله لم يتغير (فاما)
إذا حدث المالك فيه حدثا يوجب تغيره عن حاله ثم سرقه السارق الأول فالأصل فيه أنه لو فعل فيه ما لو فعله الغاصب في
المغصوب لا وجب انقطاع حق المالك يقطع والا فلا لأنه إذا فعل ذلك فقد تبدلت العين وتصير في حكم عين أخرى
وإذا لم يفعل لم تتبدل وعلى هذا يخرج ما إذا سرق غزلا فقطع فيه ورد إلى المالك فنسجه ثوبا فعاد فسرقه أنه يقطع لان
المسروق قد تبدل ألا ترى أنه لو كان مغصوبا لا يقطع حق المالك ولو سرق ثوب خز فقطع فيه ورد إلى المالك فنقضه
فسرق النقض لم يقطع لأن العين لم تتبدل ألا ترى أنه لو فعله الغاصب لا ينقطع حق المالك ولو نقضه المالك ثم غزله
غزلا ثم سرقه السارق لم يقطع لان هذا لو وجد من الغاصب لا ينقطع حق المغصوب منه فيدل على تبدل العين ولو
سرق بقرة فقطع فيها وردها على المالك فولدت ولدا ثم سرق الولد يقطع لان الولد عين أخرى لم يقطع فيها فيقطع بسرقتها
وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) أن يكون محرزا مطلقا خاليا عن شبهة العدم
مقصود بالحرز والأصل في اعتبار شرط الحرز ما روى في الموطأ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا قطع في ثمر
معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ورى عن عليه الصلاة والسلام أنه قال
لا قطع في ثمر ولا كثر حتى يؤيه الجرين فإذا أواه الجرين ففيه القطع علق عليه الصلاة والسلام القطع بايواء المراح
والمراح حرز الإبل والبقر والغنم والجرين حرز الثمر فدل أن الحرز شرط ولا ركن السرقة هو الاخذ على سبيل
الاستخفاء والاخذ من غير حرز لا يحتاج إلى الاستخفاء فلا يتحقق ركن السرقة لان القطع وجب لصيانة الأموال
على أربابها قطعا لأطماع السراق عن أموال الناس والأطماع إنما تميل إلى ماله خطر في القلوب وغير المحرز لا خطر له في
القلوب عادة فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى الصيانة بالقطع وبهذا لم يقطع فيما دون النصاب وما ليس بمال متقوم
محتمل الادخار ثم الحرز نوعان حرز بنفسه وحرز بغيره (أما) الحرز بنفسه فهو كل بقعة معدة للأحرار ممنوعة الدخول
فيها الا بالاذن كالدور والحوانيت والخيم والفساطيط والخزائن والصناديق (وأما) الحرز بغيره فكل مكان غير معد
للاحراز يدخل إليه بلا اذن ولا يمنع منه كالمساجد والطرق وحكمه حكم الصحراء ان لم يكن هناك حافظ وإن كان
هناك حافظ فهو حرز لهذا سمى حرزا بغيره حيث وقف صيرورته حرزا على وجود غيره وهو الحافظ وما كان حرزا
بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزا ولو وجد فلا عبرة بوجوده بل وجوده والعدم سواء وكل واحد من
الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بايواء المراح والجرين من غير
شرط وجود الحافظ وروى أن صفوان رضي الله عنه كان نائما في المسجد متوسدا بردائه فسرقه سارق من تحت
رأسه فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر الحرز بنفسه فدل ان كل واحد من نوعي الحرز معتبر بنفسه
فإذا سرق من النوع الأول يقطع سواء كان ثمة حافظ أولى لوجود الاخذ من الحرز وسواء كان مغلق الباب أو لا
باب له بعد أن كان محجوزا بالبناء لان البناء يقصد به الاحراز كيف ما كان وإذا سرق من النوع الثاني يقطع إذا
كان الحافظ قريبا منه في مكان يمكنه حفظه ويحفظ في مثله المسروق عادة وسواء كان الحافظ مستيقظا في ذلك
المكان أو نائما لان الانسان يقصد الحفظ في الحالين جميعا ولا يمكن الاخذ الا بفعله ألا ترى انه عليه الصلاة والسلام
قطع سارق صفوان وصفوان كان نائما ولو أذن لانسان بالدخول في داره فسرق المأذون له بالدخول شيئا منها لم يقطع
73

وإن كان فيها حافظ أو كان صاحب المنزل نائما عليه لان الدار حرز بنفسها لا بالحافظ وقد خرجت من أن تكون
حرزا بالاذن فلا يعتبر وجود الحافظ ولأنه لما أذن له بالدخول فقد صار في حكم أهل الدار فإذا أخذ شيئا فهو خائن
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا قطع على خائن وكذلك لو سرق من بعض بيوت الدار المأذون
في دخولها وهو مقفل أو من صندوق في الدار أو من صندوق في بعض البيوت وهو مقفل عليه إذا كان البيت من جملة
الدار المأذون في دخولها لان الدار الواحدة حرز واحدة وقد خرجت بالاذن له من أن تكون حرزا في حقه فكذلك
بيوتها وما روى أن أسود بات عند سيدنا أبى بكر الصديق رضي الله عنه فسرق حليا لهم فيحتمل أن يكون مسروقا من
دار النساء لا من دار الرجال والداران المختلفان إذا أذن بالدخول في إحداهما لا تصير الأخرى مأذونا بالدخول فيها
والمحتمل لا يكون حجة وروى عن أبي يوسف أنه قال في رجل كان في حمام أو خان وثيابه تحت رأسه فسرقها سارق
انه لا قطع عليه سواء كان نائما أو يقظانا وإن كان في صحراء وثوبه تحت رأسه قطع وكذلك روى عن محمد في رجل
سرق من رجل وهو معه في الحمام أو سرق من رجل وهو معه في سفينة أو نزل قوم في خان فسرق بعضهم من بعض انه
لا قطع على السارق وكذلك الحانوت لان الحمام والخان والحانوت كل واحد حرز بنفسه فإذا أذن للناس في دخوله
خرج من أن يكون حرزا فلا يعتبر فيه الحافظ فلا يصير حرزا بالحافظ ولهذا قالوا إذا سرق من الحمام ليلا يقطع لان
الناس لم يؤذنوا بالدخول فيه ليلا فأما الصحراء أو المسجد وإن كان مأذون الدخول إليه فليس حرزا بنفسه بل بالحافظ
ولم يوجد الاذن من الحافظ فلا يبطل معنى الحرز فيه وقالوا في السارق من المسجد إذا كان ثمة حافظ يقطع وان لم يخرج
من المسجد لان المسجد ليس بحرز بنفسه بل بالحافظ فكانت البقعة التي فيها الحافظ هي الحرز لا كل المسجد فإذا
انفصل منها فقد انفصل من الحرز فيقطع (فأما) الدار فإنما صارت حرز بالبناء فما لم يخرج منها لم يوجد الانفصال
من الحرز وروى عن محمد في رجل سرق في السوق من حانوت فتخرب الحانوت وقعد للبيع وأذن للناس بالدخول
فيه انه لم يقطع وكذلك لو سرق منه وهو مغلق على شئ لم يقطع لأنه لما أذن للناس بالدخول فيه فقد أخرج الحانوت من
أن يكون حرزا في حقهم وكذلك ان أخذ من بيت قبة أو صندوق فيه مقفل لان الحانوت كله حرز واحد كالدار على
ما مر وروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في رجل بأرض فلاة ومعه جوالق وضعه ونام عنده يحفظه فسرق منه
رجل شيئا أو سرق الجوالق فانى اقطعه لان الجوالق بما فيها محرز بالحافظ فيستوى أخذ جميعه وأخذ بعضه وكذلك
إذا سرق فسطاطا ملفوفا قد وضعه ونام عنده يحفظه انه يقطع وإن كان مضروبا لم يقطع لأنه إذا كان ملفوفا كان محرزا
بالحافظ كالباب المقلوع إذا كان في الدار فسرقه سارق وإذا كان الفسطاط مضروبا كان حرزا بنفسه فإذا سرقه فقد
سرق نفس الحرز ونفس الحرز ليس من الحرز فلا يقطع كسارق باب الدار ولو كان الجوالق على ظهر دابة فشق الجوالق
وأخرج المتاع يقطع لان الجوالق حرز لما فيه وان أخذ الجوالق كما هو لم يقطع لأنه أخذ نفس الحرز وكذلك إذا سرق
الجمل مع الجوالق لان الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ بل للحمل لان الجمل ليس بمحرز وان ركبه صاحبه فلم يكن الجمل
حرزا للجوالق فإذا أخذ الجوالق فقد أخذ نفس الحرز ولو سرق من المراعى بعير أو بقرة أو شاتا لم يقطع سواء كان
الراعي معها أو لم يكن وان سرق من العطن أو المراح الذي يأوى إليه يقطع إذا كان معها حافظ أوليس معها حافظ غير أن
الباب مغلق فكسر الباب ثم دخل فسرق بقرة قادها قودا حتى أخرجها أو ساقها سوقا حتى أخرجها أو ركبها حتى
أخرجها لان المراعى ليست بحرز للمواشي وإن كان الراعي معها لان الحفظ لا يكون مقصودا من الرعى وإن كان قد
يحصل به لان المواشي لا تجعل في مراعيها للحفظ بل للرعي فلم يوجد الاخذ من حرز بخلاف العطن أو المراح فان ذلك
يقصد به الحفظ ووضع له فكان حرزا وقال عليه الصلاة والسلام في حريسة الجبل غرامة مثليها وجلدات نكالا فإذا
أواها المراح وبلغت قيمتها ثمن المجن ففيها القطع والله تعالى أعلم ولا يقطع عبد في سرقة من مولاه مكاتبا كان العبد أو
مدبرا أو تاجرا عليه دين أو أم ولد سرقت من مال مولاها لان هؤلاء مأذونون بالدخول في بيوت ساداتهم للخدمة فلم
74

يكن بيت مولاهم حررا في حقهم وذكر في الموطأ ان عبد الله بن سيدنا عمر والحضرمي جاءا إلى عمر رضي الله عنه بعبد له
فقال اقطع هذا فإنه سرق فقال وما سرق قال مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهما فقال سيدنا عمر رضي الله عنه أرسله ليس
عليه قطع خادمكم سرق متاعكم ولم ينقل انه أنكر عليه منكر فيكون اجماعا ولا قطع على خادم قوم سرق متاعهم ولا على
ضيف سرق متاع من أضافه ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله لان الاذن بالدخول أخرج الموضع من أن
يكون حرزا في حقه وكذا الأجير إذا أخذ المتاع المأذون له في أخذه من موضع لم يأذن له بالدخول فيه لم يقطع لان الاذن
بأخذ المتاع يورث شبهة الدخول في الحرز ولان الاذن بالاخذ فوق الاذن بالدخول وذا يمنع القطع فهذا أولى ولو سرق
المستأجر من المؤاجر وكل واحد منهما في منزل على حدة يقطع بلا خلاف لأنه لا شبهة في الحرز وأما المؤاجر إذا سرق
من المستأجر فكذلك يقطع في قول أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما لا يقطع (وجه) قولهما أن الحرز ملك السارق
فيورث شبهة في درء الحد لأنه يورث شبهة في إباحة الدخول فيختل الحرز فلا قطع (وجه) قول أبي حنيفة أن معنى
الحرز لا تعلق له بالملك إذ هو اسم لمكان معد للاحراز يمنع من الدخول فيه الا بالاذن وقد وجد لان المؤاجر ممنوع عن
الدخول في المنزل المستأجر من غير اذن فأشبه الأجنبي ولا قطع على من سرق من ذي رحم محرم عندنا سواء كان
بينهما ولادا ولا وقال الشافعي في الوالدين والمولودين كذلك فاما في غيرهم فيقطع وهو على اختلاف العتق والنفقة وقد
ذكرنا المسألة في كتاب العتاق والصحيح قولنا لان كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه بغير اذن عادة وذلك دلالة
الاذن من صاحبه فاختل معنى الحرز ولان القطع بسبب السرقة فعل يفضى إلى قطع الرحم وذلك حرام والمقضى إلى
الحرام حرام ولو سرق جماعة فيهم ذو رحم محرم من المسروق لا يقطع واحد منهم عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف
لا يقطع ذو الرحم المحرم ويقطع سواه والكلام على نحو الكلام فيما تقدم فما إذا كان فيهم صبي أو مجنون وقد ذكرناه
فيما تقدم ولو سرق من ذي رحم غير محرم يقطع بالاجماع لان المباسطة بالدخول من غير استئذان غير ثابتة في هذه
القرابة عادة وكذا هذه القرابة لا تجب صيانتها عن القطيعة ولهذا لم يجب في العتق والنفقة وغير ذلك ولو سرق من ذي
محرم لا رحم له بسبب الرضاع فقد قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقطع الذي سرق ممن يحرم عليه من الرضاع كائنا من
كان وقال أبو يوسف إذا سرق من أمه من الرضاع لا يقطع (وجه) قوله أن المباسطة بينهما في الدخول ثابتة عرفا
وعادة فان الانسان يدخل في منزل أمه من الرضاع من غير اذن كما يدخل في منزل أمه من النسب بخلاف الأخت من
الرضاع ولهما أن الثابت بالرضاع ليس الا الحرمة المؤبدة وانهما لا تمنع وجوب القطع كما لو سرق من أم موطوءته ولهذا
يقطع في الأخت من الرضاع ولو سرق من امرأة أبيه أو من زوج أمه أو من حليلة ابنه أو من ابن امرأته أو بنتها أو أمها
ينظر ان سرق ما لهم من منزل من يضاف السارق إليه من أبيه وأمه وابنه وامرأته لا يقطع بلا خلاف لأنه مأذون
بالدخول في منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزا في حقه وان سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع بالاجماع وإن كان لكل
واحد منها منزل على حدة اختلف فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة لا يقطع وقال أبو يوسف يقطع إذا سرق من غير منزل
السارق أو منزل أبيه أو ابنه وذكر القاضي في شرح مختصر الطحاوي قول محمد مع قول أبى يوسف رحمهم الله (وجه)
قولهما أن المانع هو القرابة ولا قرابة بين السارق وبين المسروق بل كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه فلا يمنع وجوب
القطع كما لو سرق من أجنبي آخر (وجه) قول أبي حنيفة أن في الحرز شبهة لان حق التزاور ثابت بينه وبين قريبه لان
كون المنزل لغير قريبه لا يقطع التزاور وهذا يورث شبهة إباحة الدخول للزيارة فيختل معنى الحرز ولا قطع
على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه سواء سرق من البيت الذي هما فيه أو من بيت آخر لان كل واحد منهما
يدخل في منزل صاحبه وينتفع بماله عادة وذلك يوجب خللا في الحرز وفى الملك أيضا وهذا عندنا وقال الشافعي
رحمه الله إذا سرق من البيت الذي هما فيه لا يقطع وان سرق من بيت آخر يقطع والمسألة مرت في كتاب الشهادة
وكذلك لو سرق أحد الزوجين من عبد صاحبه أو أمته أو مكاتبه أو سرق عبد أحدهما أو أمته أو مكاتبه من صاحبه
75

أو سرق خادم أحدهما من صاحبه لا يقطع لأنه مأذون في الدخول في الحرز ولو سرقت امرأة من زوجها أو سرق رجل
من امرأته ثم طلقها قبل الدخول بها فبانت بغير عدة لم يقطع واحد منهما لان الاخذ حين وجوده لم ينعقد موجبا للقطع
لقيام الزوجية فلا ينعقد عند الإبانة لان الإبانة طارئة والأصل أن لا يعتبر الطارئ مقارنا في الحكم لما فيه من مخالفة
الحقيقة الا إذا كان في الاعتبار اسقاط الحد وقت الاعتبار وفى الاعتبار ههنا ايجاب الحد فلا يعتبر ولو سرق من مطلقته
وهي في العدة أو سرقت مطلقته وهي في العدة لم يقطع واحد منهما سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا أو ثلاثا لان النكاح
في حال قام العدة قائم من وجه أو أثره قائم وهو العدة وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه أو قيام أثره
يورث شبهة ولو سرق رجل من امرأة أجنبية ثم تزوجها فهذا لا يخلو من أحد وجهين (اما) ان تزوجها قبل أن يقضى
عليه بالقطع واما ان تزوجها بعد ما قضى عليه بالقطع فان تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع لم يقطع بلا خلاف لان هذا
مانع طرأ على الحد والمانع الطارئ في الحد كالمقارن لان الحدود تدرأ بالشبهات فيصير طريان الزوجية شبهة مانعة
من القطع كقرانها وان تزوجها بعد ما قضى بالقطع لم يقطع عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف يقطع (وجه) قوله إن
الزوجية القائمة عند السرقة إنما تمنع وجوب القطع باعتبار الشبهة وهي شبهة عدم الحرز أو شبهة الملك فالطارئة لو
اعتبرت مانعة لكان ذلك اعتبار الشبهة وانها ساقطة في باب الحدود (وجه) قول أبي حنيفة ان الامضاء في باب
الحدود من القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الامضاء كالمعترضة على القضاء ألا ترى انه لو قذف رجلا بالزنا
وقضى عليه بالحد ثم إن المقذوف زنى قبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن القاذف وجعل الزنا المعترض على الحد
كالموجود عند المقذوف ليعلم أن الطارئ على الحدود قبل الامضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء والله تعالى أعلم وذكر
في الجامع الصغير في الطرار إذا طر الصرة من خارج الكم انه لا قطع عند أبي حنيفة رحمه الله فان أدخل يده في الكم
فطرها يقطع وقال أبو يوسف هذا كله سواء ويقطع وبتفصيل الكلام فيه يرتفع الخلاف ويتفق الجواب وهو أن
الطر لا يخلوا ما أن يكون بالقطع واما أن يكون بحل الرباط والدراهم لا تخلوا ما إن كانت مصرورة على ظاهر الكم واما إن كانت
مصرورة في باطنه فإن كان الطر بالقطع والدراهم مصرورة على ظاهر الكم لم يقطع لان الحرز هو الكم والدراهم بعد
القطع تقع على ظاهر الكم فلم يوجد الاخذ من الحرز وعليه يحمل قول أبي حنيفة رحمه الله وإن كانت مصرورة في داخل
الكم يقطع لأنها بعد القطع تقع في داخل الكم فكان الطر أخذا من الحرز وهو الكم فيقطع وعليه يحمل قول أبى
يوسف وإن كان الطر بحل الرباط ينظر ان كال بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم بأن كانت العقدة
مشدودة من داخل الكم لا يقطع لأنه أخذها من غير حرز وهو تفسير قول أبي حنيفة رحمه الله وإن كان إذا حل تقع
الدراهم في داخل الكم وهو يحتاج إلى ادخال يده في الكم للاخذ يقطع لوجود الاخذ من الحرز وهو تفسير قول أبى
يوسف والله تعالى أعلم وعلى هذا الأصل أيضا يخرج النباش على أصل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله انه لا يقطع لان
القبر ليس بحرز بنفسه أصلا إذ لا تحفظ الأموال فيه عادة الا ترى أنه لو سرق منه الدراهم والدنانير لا يقطع ولا حافظ
للكفن ليجعل حرزا بالحافظ فلم يكن القبر حرزا بنفسه ولا بغيره أو فيه شبهة عدم الحرز لأنه إن كان حرز مثله فليس
حرزا لسائر الأموال فتمكنت الشبهة في كونه حرزا فلا يقطع ثم اختلف أنه يعتبر في كل شئ حرز مثله أو حرز نوعه
قال بعض مشايخنا انه يعتبر في كل شئ حرز مثله كالإصطبل للدابة والحظيرة للشاة حق لو سرق اللؤلؤة من هذه المواضع
لا يقطع وذكر الكرخي في مختصره عن أصحابنا ان ما كان حرز النوع يكون حرزا للأنواع كلها وجعلوا سريجة
البقال حرزا للجواهر فالطحاوي رحمه الله اعتبر العرف والعادة وقال حرز الشئ هو المكان الذي يحفظ فيه عادة
والناس في العادات لا يحرزون الجواهر في الإصطبل والكرخي رحمه الله اعتبر الحقيقة لان حرز الشئ ما يحرز ذلك
الشئ حقيقة وسريجة البقال تحرز الدراهم والدنانير والجواهر حقيقة فكانت حرزا لها والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها)
أن يكون نصابا والكلام في هذا الشرط يقع في ثلاثة مواضع أحدها في أصل النصاب انه شرط أم لا والثاني في بيان
76

قدره والثالث في بيان صفاته (أما) الأول فقد اختلف فيه قال عامة العلماء أنه شرط فلا قطع فيما دون النصاب
وحكى عن الحسن البصري رحمه الله أنه ليس بشرط ويقطع في القليل والكثير وهو قول الخوارج واحتجوا بظاهر
قوله سبحانه وتعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما من غير شرط النصاب وروى عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده ومعلوم أن من الحبال ما لا يساوى
دانقا والبيضة لا تساوى حبة (ولنا) دلالة النص والاجماع من الصحابة اما دلالة النص فلان الله سبحانه وتعالى
أوجب القطع على السارق والسارقة والسارق اسم مشتق من معنى وهو السرقة والسرقة اسم للاخذ على سبيل
الاستخفاء ومسارقة الأعين وإنما تقع الحاجة في الاستخفاء فيما له خطر والحبة لا خطر لها فلم يكن أخذها سرقة فكان
ايجاب القطع على السارق اشتراطا للنصاب دلالة (وأما) الاجماع فان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على اعتبار
النصاب وإنما جرى الاختلاف بينهم في التقدير واختلافهم في التقدير اجماع منهم على أن النصاب شرط وبه
تبين أن ما رووا من الحديث غير ثابت أو منسوخ أو يحمل المذكور على حبل له خطر كحبل السفينة وبيضة خطيرة
كبيضة الحديد توفيقا بين الدلائل والله تعالى أعلم (وأما) الكلام في قدر النصاب فقد اختلف فيه أيضا قال أصحابنا
رضي الله عنهم انه مقدر بعشرة دراهم فلا قطع في أقل من عشرة دراهم وقال مالك رحمه الله وابن أبي ليلى بخمسة وذكر
القدوري رحمه الله عند مالك رحمه الله بثلاثين وقال الشافعي بربع دينار حتى لو سرق ربع دينار الا حبة وهو مع نقصانه
يساوى عشرة لا يقطع عنده وعندنا يقطع ولو سرق ربع دينار لا يساوى عشرة لم يقطع عندنا وعنده يقطع وقيمة الدينار
عندنا عشرة وعنده اثنا عشر على ما تبين في كتاب الديات احتج من اعتبر الخمسة بما روى عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه لا تقطع الخمسة الا بخمسة واحتج الشافعي رحمه الله بما روى عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا وروى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه عليه
الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وهي قيمة ربع دينار عنده لان الدينار على أصله مقوم باثني عشر درهما
(ولنا) ما روى محمد في الكتاب باسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عنه عليه
الصلاة والسلام أنه كان لا يقطع الا في ثمن مجن وهو يومئذ يساوى عشرة دراهم وفى رواية عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع فيما دون عشرة دراهم وعن ابن مسعود رضي الله عنه
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا تقطع اليد الا في دينار أو في عشرة دراهم وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول
الله عليه الصلاة والسلام أنه قال لا يقطع السارق الا في ثمن المجن وكان يقوم يومئذ بعشرة دراهم وعن ابن أم أيمن أنه
قال ما قطعت يد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن وكان يساوى يومئذ عشرة دراهم وذكر محمد
في الأصل أن سيدنا عمر رضي الله عنه أمر بقطع يد سارق ثوب بلغت قيمته عشرة دراهم فمر به سيدنا عثمان رضي الله عنه
فقال إن هذا لا يساوى الا ثمانية فدرأ سيدنا عمر القطع عنه وعن سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا على ابن
مسعود رضي الله عنهم مثل مذهبنا والأصل أن الاجماع انعقد على وجوب القطع في العشرة وفيما دون العشرة اختلف
العلماء لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال في وجوب القطع فلا يجب مع الاحتمال وإذا عرف أن النصاب شرط
وجوب القطع بالسرقة فان وجد ذلك القدر في أخذ سرقة واحدة قطع لوجود الشرط وهو كمال النصاب وان اختلفت
السرقة لم يقطع لفقد الشرط وعلى هذا مسائل إذا دخل رجل دار رجل فسرق من بيت فيها درهما فأخرجه إلى صحنها
ثم عاد فاخذ درهما من البيت فأخرجه ثم عاد فأخذ درهما من البيت فأخرجه فلم يزل يفعل ذلك حتى أخذ عشرة دراهم ثم
أخرج العشرة من الدار قطع لأن هذه سرقة واحدة لان الدار مع صحنها وبيوتها حرز واحد فما دام في الدار لم يوجد
الاخراج من الحرز فإذا أخرج من الدار جملة فقد وجد اخراج النصاب من الحرز فيجب القطع ولو كان خرج في
كل مرة من الدار ثم عاد حتى فعل ذلك عشر مرات لم يقطع لأن هذه سرقات إذ كل فعل منه اخراج من الحرز فكان
77

كل فعل منه معتبرا بنفس وانه سرقة ما دون النصاب فلا يوجب القطع وكذلك جماعة دخلوا دارا وأخرجوا من
بيت من بيوتها المتاع مرة بعد أخرى إلى صحن الدار ثم أخرجوه من الصحن ثم أخرجوه من الصحن دفعة واحدة يقطعون إذا كان ما أخرجوا
يخص كل واحد منهم عشرة دراهم وان تفرق الاخراج يعتبر كل واحد بنفسه لان الاخراج جملة واحدة فهو سرقة
واحدة فإذا تفرق فهو سرقات فكان كل واحد معتبرا بنفسه ولو سرق رجل واحد عشرة دراهم من منزلين مختلفين بان
سرق منه درهما أو تسعة لم يقطع لأنهما سرقتان مختلفتان لان كل واحد من المنزلين حرز بانفراده فهتك أحدهما بما
دون النصاب لا يعتبر في هتك الا آخر فيبقى كل واحد منهما معتبرا في نفسه ولو سرق رجل عشرة دراهم لعشرة
أنفس في موضع واحد قطع وان تفرق ملاكها يعتبر في ذلك حال السارق والسارق واحد فكان النصاب كاملا
وإنما اعتبر حال السارق دون المسروق منه لان كمال النصاب شرط وجوب القطع والقطع عليه فيعتبر جانب من
عليه ولا يعتبر جانب المسروق منه لان الحكم لم يجب له بل لله سبحانه وتعالى وإن كان عشرة أنفس في دار كل واحد
في بيت على حدة فسرق من كل واحد منهم درهما يقطع إذا خرج بالجميع من الدار لما ذكرنا أن الدار حرز واحد
وقد أخرج منها نصابا كاملا فكانت السرقة واحدة وان اختلف المسروق منه ولو كانت الدار عظيمة فيها حجر
لكل واحد حجرة فسرق من كل حجرة أقل من عشرة لم يقطع لان ذلك سرقات إذ كل حجرة حرز بانفرادها
والسرقات إذا اختلفت يعتبر في كل واحد منها كمال النصاب ولم يوجد ولو سرق عشرة أنفس من رجل واحد
عشرة دراهم لم يقطعوا بخلاف الواحد إذا سرق عشرة دراهم من عشرة أنفس أنه يقطع إذا كانت الدراهم في حرز واحد
لما بينا أن المعتبر جانب السارق لا جانب المسروق منه فكانت السرقة واحدة فيعتبر كمال النصاب في حق السارق
لا في حق المسروق منه وسواء كانت الدراهم مجتمعة أو متفرقة بعد إن كان الحرز واحد حتى لو سرق عشرة دراهم
متفرقا من كل كيس درهما من عشرة أنفس من منزل واحد يقطع لان الحرز واحد فإذا أخرجها منه فقد خرج
بنصاب كامل من السرقة فيقطع ولو سرق ثوبا قيمته تسعة دراهم فوضعه على باب الدار ثم دخل فأخذ ثوبا آخر يساوى
تسعة فأخرجه لم يقطع لأنه لم يبلغ المأخوذ في كل واحد منهما نصابا فلا يقطع والله سبحانه وتعال أعلم (وأما) صفات
النصاب (فمنها) أن تكون الدراهم المسروقة جيادا حتى لو سرق عشرة زيوفا أو نبهرجة أو ستوقة لا يقطع الا أن تكون
كثيرة تبلغ قيمة عشرة جياد وكذلك المسروق من غير الدراهم إذا كان لا تبلغ قيمته عشرة دراهم جيادا لا يقطع
لان مطلق اسم الدراهم في الأحاديث ينصرف إلى الجياد (ومنها) أن يعتبر عشرة دراهم وزن سبعة كذا قالوا لان
اسم الدراهم عند الاطلاق يقع على ذلك ألا ترى أنه قدر به النصاب في الزكوات والديات وكذا الناس أجمعوا على هذا
في وزن الدراهم ولان هذا أوسط المقادير لان الدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صغارا وكبارا
فإذا جمع صغير وكبير كانا درهمين من وزن سبعة فكان هذا الوزن هو أوسط المقادير فاعتبر به لقوله عليه الصلاة والسلام
خير الأمور أوساطها وهل يعتبر أن تكون مضروبة ذكر الكرخي عليه الرحمة أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة وهكذا
روى بشر عن أبي يوسف وابن سماعة عن محمد حتى لو كان تبرا قيمته عشرة دراهم مضروبة لا يقطع وروى الحسن
عن أبي حنيفة عليهم الرحمة أن السارق إذا سرق عشرة دراهم مما يجوز بين الناس ويروج في معاملاتهم قطع وهذا يدل
على أن كونها مضروبة ليس بشرط بل يقطع في المضروبة وغيرها إذا كان مما يجوز بين الناس ويروج في معاملاتهم
لهما أن تقدير نصاب السرقة وقع بالدراهم أو تقويم المجن وقع بالدراهم والدراهم اسم للمضروبة والتبر ليس بمضروب ولا
في معنى المضروب في المالية أيضا لأنه ينقص عنه في القيمة فأشبه نقصان الوزن وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر الجواز
والرواج في معاملات الناس فأجرى به التعامل بين الناس يستوى في نصابه المضروب والصحيح والمكسر كما في
نصاب الزكاة فما قاله أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى القياس وما قاله أبو يوسف ومحمد أقرب إلى الاحتياط في باب
الحدود ثم كمال النصاب في قيمة المسروق يعتبر وقت السرقة لا غير أم وقت السرقة والقطع جميعا وفائدة هذا تظهر فيما
78

إذا كانت قيمة المسروق كاملة وقت السرقة ثم نقصت انه هل يسقط القطع فجملة الكلام فيه ان نقصان المسروق
لا يخلوا ما إن كان نقصان العين بأن دخل المسروق عيب أو ذهب بعضه (واما) إن كان نقصان السعر فإن كان
نقصان العين يقطع السارق ولا يعتبر كمال النصاب وقت القطع بل وقت السرقة بلا خلاف لان نقصان عينه هلاك
بعضه وهلاك الكل لا يسقط القطع فهلاك البعض أولى وإن كان نقصان السعر ذكر الكرخي رحمه الله لا يقطع
في ظاهر الرواية وتعتبر قيمته في الوقتين جميعا وروى محمد رحمه الله انه يقطع وهكذا ذكر الطحاوي رحمه الله انه تعتبر
قيمته وقت الاخراج من الحرز وهو قول الشافعي رحمه الله (وجه) هذه الرواية ان نقصان السعر دون نقصان
العين لان ذلك لا يؤثر في المحل وهذا يؤثر فيه ثم نقصان العين لم يؤثر في اسقاط القطع فنقصان السعر أولى (وجه)
ظاهر الرواية على ما ذكره الكرخي رحمه الله الفرق بين النقصانين (ووجه) الفرق بينهما ان نقصان السعر يورث
شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة لأن العين بحالها قائمة لم تتغير وتغير السعر ليس بمضمون على السارق أصلا
فيجعل النقصان الطارئ كالموجود عند السرقة بخلاف نقصان العين لأنه يوجب تغير العين إذ هو هلاك بعض العين
وهو مضمون عليه في الجملة فلا يمكن تقدير وجوده وقت السرقة وكذا إذا سرق في بلد فأخذ في بلد آخر والقيمة فيه
أنقص ذكر الكرخي رحمه الله انه لا يقطع حتى تكون القيمة جميعا في السعر عشرة دراهم وعلى رواية الطحاوي رحمه
الله تعتبر قيمته وقت السرقة لا غير والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) أن يكون المسروق الذي يقطع فيه في الجملة
مقصودا بالسرقة لا تبعا لمقصود ولا يتعلق القطع بسرقته في قولهما وقال أبو يوسف رحمه الله هذا ليس بشرط والأصل
في هذا أن المقصود بالسرقة إذا كان مما يقطع فيه لو أنفرد وبلغ نصابا بنفسه يقطع بلا خلاف وان لم يبلغ بنفسه نصابا
الا بالتابع يكمل النصاب به فيقطع وكذلك إذا كان واحد منهما مقصودا ولا يبلغ بنفسه نصابا يكمل أحدهما بالاخر
ويقطع وإن كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه لو أنفرد لا يقطع وإن كان معه غيره مما يبلغ نصابا إذا لم يكن الغير مقصودا
بالسرقة بل يكون تابعا في قولهما وعند أبي يوسف رحمه الله يقطع إذا كان ذلك الغير نصابا كاملا وبيان هذه الجملة في
مسائل إذا سرق اناء من ذهب أو فضة فيه شراب أو ماء أو لبن أو ماء ورد أو ثريد أو نبيذ أو غير ذلك مما لا يقطع فيه لو
انفرد لم يقطع عندهما وعند أبي يوسف يقطع (وجه) قوله أن ما في الاناء إذا كان مما لا يقطع فيه التحق بالعدم فيعتبر
أخذ الاناء على الانفراد فيقطع فيه (وجه) قولهما ان المقصود من هذه السرقة ما في الاناء والاناء تابع ألا يرى أنه
لو قصد الاناء بالاخذ لأبقى ما فيه وما في الاناء لا يجب القطع بسرقته فإذا لم يجب القطع بالمقصود لا يجب بالتابع والى
هذا أشار محمد رحمه الله في الكتاب فقال إنما أنظر إلى ما في جوفه فإن كان ما في جوفه لا يقطع فيه لم أقطعه ولو
سرق ما في الاناء في الدار قبل أن يخرج الاناء منها ثم أخرج الاناء فارغا منه قطع لأنه لما سرق ما فيه في الدار علم أن
مقصوده هو الاناء والمقصود بالسرقة إذا كان مما يجب القطع بسرقته وبلغ نصابا يقطع وعلى هذا الخلاف إذا سرق
صبيا حرا لا يعبر عن نفسه وعليه حلي وإن كان يعبر عن نفسه لا يقطع بالاجماع لان له يدا على نفسه وعلى ما عليه من
الحلى فلا يكون أخذه سرقة بل يكون خداعا فلا يقطع وكذلك إذا سرق عبدا صبيا يعبر عن نفسه وعليه حلي أو لم
يكن لا يقطع بلا خلاف وإن كان لا يعبر عن نفسه يقطع عندهما وعند أبي يوسف لا يقطع بناء على أن سرقة مثل هذا
العبد يوجب القطع عندهما وعنده لا يوجب والمسألة قد مرت ولو سرق كلبا أو غيره من السباع في عنقه طوق لم يقطع
وكذلك لو سرق مصحفا مفضضا أو مرصعا بياقوت لم يقطع عندهما وعند أبي يوسف يقطع لما ذكرنا ولو سرق كوزا
قيمته تسعة دراهم وفيه عسل يساوى درهما يقطع لان المقصود ما فيه من العسل والكوز تبع فيكمل نصاب الأصل
به وكذلك لو سرق حمارا يساوى تسعة وعليه اكاف يساوى درهما يقطع لما قلنا ولو سرق عشرة دراهم من ثوب
والثوب لا يساوى عشرة ينظر إن كان ذلك الثوب يصلح وعاء للدراهم بأن تشد فيه الدراهم عادة بأن كانت خرقة
ونحوها يقطع لان المقصود بالاخذ هو ما فيه وإن كان لا يصلح بأن كان ثوب كرباس فإن كان تبلغ قيمة الثوب
79

نصابا بأن كان يساوى عشرة يقطع بلا خلاف لان الثوب مقصود بنفسه بالسرقة وإن كان لا يبلغ نصابا قال أبو حنيفة
رحمه الله لا يقطع وذكر في الأصل ان اللص إن كان يعلم بالدراهم يقطع وإن كان لا يعلم لا يقطع وهو احدى الروايتين
عن أبي حنيفة وهو قول أبى يوسف وروى عنه انه يقطع علم بها أو لم يعلم (ووجهه) ان العلم بالمسروق ليس بشرط
لوجوب القطع بل الشرط أن يكون نصابا وقد وجد (وجه) رواية الأصل انه إذا كان يعلم بالدراهم كان مقصوده
بالاخذ الدراهم وقد بلغت نصابا فيقطع وإذا كان لا يعلم بها كان مقصوده الثوب وانه لم يبلغ النصاب فلا يقطع (وجه)
الرواية الأخرى لأبي حنيفة عليه الرحمة ان مثل هذا الثوب إذا كان مما لا تشد به الدراهم عادة كان مقصودا بنفسه
بالسرقة وان لم يبلغ نصابا فلم يجب فيه القطع فكذا فيما فيه لأنه تابع له ولو سرق جوالقا أو جرابا فيه مال كثير قطع لان
المقصود بالسرقة هو المظروف لا الظرف والمقصود مما يجب القطع بسرقته فيقطع وكذا إذا كان الثوب لا يساوى
عشرة وفيه مال عظيم علم به اللص يقطع لان الثوب يصلح وعاء للمال الكثير ولا يصلح وعاء لليسير ففيما صلح وعاء
له يعتبر ما فيه لأنا نعلم يقينا ان مقصوده ما فيه وفيما لا يصلح يعتبر نفسه مقصودا بالسرقة وما فيه تابعا له ولا قطع في
المقصود لنقصان النصاب فكذا في التابع لان التبع حكمه حكم الأصل والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المسروق منه فهو أن يكون له يد صحيحة وهو يد الملك أو يد الأمانة كيد المودع
والمستعير والمضارب والمبضع أو يد الضمان كيد الغاصب والقابض على سوم الشراء والمرتهن فيجب القطع على
السارق من هؤلاء أما من المالك فلا شك فيه وكذا من أمينه لان يد أمينه يده فالأخذ منه كالاخذ من المالك فأما من
الغاصب فان منفعة يده عائدة إلى المالك إذ بها يتمكن من الرد على المالك ليخرج عن العهدة فكانت يده يد المالك
من وجه ولان المغصوب مضمون على الغاصب وضمان الغصب عندنا ضمان ملك فأشبه يد المشترى والمقبوض على
سوم الشراء مضمون على القابض والمرهون مضمون على المرتهن بالدين فيجب القطع على السارق منهم وهل
يستوفى بخصومتهم حال غيبة المالك فيه خلاف ما نذكره إن شاء الله تعالى ولا يجب القطع على السارق من السارق
لان يد السارق ليست بيد صحيحة إذ ليست يد ملك ولا يد أمانة ولا يد ضمان فكان الاخذ منه كالاخذ من الطريق
وإن كان القطع درئ عن الأول قطع الثاني لأنه إذا درئ عنه القطع صارت يده يد ضمان ويد الضمان يد صحيحة كيد
الغاصب ونحوه والله تعالى عز شأنه أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المسروق فيه وهو المكان فهو أن تكون السرقة في دار العدل فلا يقطع بالسرقة في دار
الحرب ودار البغي لأنه لا يد للامام في دار الحرب ولا على دار البغي فالسرقة الموجودة فيهما لا تنعقد سببا لوجوب
القطع وبيان هذا في مسائل التجار أو الأسارى من أهل الاسلام في دار الحرب إذا سرق بعضهم من بعض ثم
خرجوا إلى دار الاسلام فأخذ السارق لا يقطعه الامام لأنه لا يد للامام في دار الحرب فالسرقة الموجودة فيهما لم
تنعقد سببا لوجوب القطع فلا تستوفى في دار الاسلام وكذلك التجار من أهل العدل في معسكر أهل البغي أو
الأسارى في أيديهم إذا سرق بعضهم من بعض ثم خرجوا إلى أهل العدل فأخذ السارق لم يقطعه الامام لان السرقة
وجدت في موضع لا يد للامام عليه فأشبهت السرقة في دار الحرب وكذلك رجل من أهل البغي جاء للامام تائبا
وقد سرق من أهل البغي لم يقطعه لما قلنا وكذلك رجل من أهل العدل أغار على معسكر أهل البغي فسرق منهم لم يقطعه
الامام لان السرقة لم تنعقد موجبة للقطع لعدم ولاية الاستيفاء فيه ولأنه أخذ عن تأويل لان لأهل العدل أن يأخذوا
أموال أهل البغي ويحبسونها عندهم حتى يتوبوا فكان في العصمة شبهة العدم وكذلك الرجل من أهل البغي إذا سرق
من معسكر أهل العدل وعاد إلى معسكره ثم أخذ بعد ذلك لم يقطع لأنهم يعتقدون إباحة أموالنا ولهم منعة فكان أخذه
عن تأويل فلا يقطع بالسرقة كما لا يضمن بالاتلاف ولو أن رجلا من أهل العدل سرق من إنسان مالا وهو يشهد
عليه بالكفر ويستحل دمه وماله يقطع لان مجرد اعتقاد الإباحة لا عبرة به ولأنا لو اعتبرنا ذلك لأدى إلى سد باب الحد
80

لان كل سارق لا يعجز عن اظهار ذلك فيسقط القطع عن نفسه وهذا قبيح فما يؤدى إليه مثله
* (فصل) * وأما بيان ما تظهر به السرقة عند القاضي فنقول وبالله التوفيق السرقة الموجبة للقطع عند القاضي تظهر
بأحد أمرين أحدهما البينة والثاني الاقرار أما البينة فتظهر بها السرقة إذا استجمعت شرائطها لأنها خبر يرجح فيه
جنبة الصدق على جنبة الكذب فيظهر المخبر به وشرائط قبول البينة في باب السرقة بعضها يعم البينات كلها وقذ ذكرنا
ذلك في كتاب الشهادات وبعضها يخص أبواب الحدود والقصاص وهو الذكورة والعدالة والأصالة فلا تقبل
فيها شهادة النساء ولا شهادة الفساق ولا الشهادة على الشهادة لان في شهادة هؤلاء زيادة شبهة لا ضرورة إلى تحملها
فيما يحتال لدفعه ويحتاط لدرئه وكذا عدم تقادم العهد الا في حد القذف والقصاص حتى لو شدوا بالسرقة بعد حين لم
تقبل ولا يقطع ويضمن المال والأصل ان التقادم يبطل الشهادة على الحدود الخالصة ولا يبطلها على حد القذف ولا
يبطل الاقرار أيضا والفرق ذكرناه في كتاب الحدود وإنما ضمن المال لان التقادم إنما يمنع من الشهادة على الحدود
الخالصة للشبهة والشبهة تمنع وجوب الحد ولا تمنع وجوب المال وبعضها يخص أرباب الأموال والحقوق وهو
الخصومة والدعوى ممن له يد صحيحة حتى لو شهدوا انه سرق من فلان الغائب لم تقبل شهادتهم ما لم يحضر المسروق
منه ويخاصم لما ذكرنا ان كون المسروق ملكا لغير السارق شرط لكون الفعل سرقة ولا يظهر ذلك الا بالخصومة
فإذا لم توجد الخصومة لم تقبل شهادتهم ولكن يحبس السارق لان اخبارهم أورث تهمة ويجوز الحبس بالتهمة لما
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلا بالتهمة وهل يشترط حضور المولى لقبول البينة القائمة على سرقة
عبده مال انسان والعبد يجحد اختلف فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة يشترط حتى لو كان مولاه غائبا لم تقبل البينة وهو
احدى الروايتين عن أبي يوسف وروى عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه لا يشترط ويقضى عليه بالقطع
وإن كان مولاه غائبا (وجه) هذه الرواية أن القطع إنما يجب على العبد بالسرقة من حيث إنه آدمي مكلف لا من حيث إنه
مال مملوك للمولى ومن هذا الوجه المولى أجنبي عنه فلا معنى لاشتراط حضرته كما لا تشترط حضرة سائر الأجانب
ولهذا لو أقر بالسرقة نفذ اقراره ولا يشترط حضور المولى كذا هذا (وجه) قول أبي حنيفة عليه الرحمة أن هذه البينة
تتضمن اتلاف ملك المولى فلا يقضى بها مع غيبة المولى كالبينة القائمة على ملك شئ من رقبة العبد ولان من الجائز أنه
لو كان حاضرا لادعى شبهة مانعة من قبول الشهادة والحدود تدرأ ما أمكن بخلاف الاقرار لأنه بعد ما وقع موجبا للحد
لا يملك المولى رده بوجه فلم تتمكن فيه شبهة ولا تظهر السرقة بالنكول حتى لو ادعى على رجل سرقة فأنكر فاستخلف
فنكل لا يقضى عليه بالقطع ويقضى بالمال لان النكول اما أن يجرى مجرى البدل والقطع مما لا يحتمل البدل والإباحة
والمال يحتمل البدل والإباحة واما أن يجرى مجرى اقرار فيه شبهة العدم لكونه اقرارا من طريق السكوت لا صريحا
والشبهة تمنع وجوب الحد ولا تمنع وجوب المال (وأما) الاقرار فتظهر به السرقة الموجبة للقطع أيضا لان الانسان
غير متهم في الاقرار على نفسه بالاضرار بنفسه فتظهر بها السرقة كما تظهر بالبينة وبل أولى لان المرء قد يتهم في حق غيره
ما لا يتهم في حق نفسه وسواء كان الذي أقر بالسرقة عبدا مأذونا أو محجورا بعد إن كان من أهل وجوب القطع عليه
وعند زفر رحمه الله لا يقطع باقرار العبد من غير تصديق المولى وجملة الكلام أن العبد إذا أقر بسرقة عشرة دراهم لا يخلو
اما إن كان مأذونا أو محجورا والمال قائم أو هالك فإن كان مأذونا يقطع ثم إن كان المال هالكا أو مستهلكا لا ضمان عليه
سواء صدقه مولاه في اقراره أو كذبه لان القطع مع الضمان لا يجتمعان عندنا وإن كان المال قائما فهو للمسروق منه
وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر رحمه الله لا يقطع من غير تصديق المولى والمال للمسروق منه (وجه) قوله أن
اقرار العبد يتضمن اتلاف مال المولى لان ما في يد العبد مال مولاه فلا يقبل من غير تصديق المولى (ولنا) أن العبد غير
متهم في الاقرار لان المولى إن كان يتضرر به فضرر العبد أعظم فلم يكن متهما في اقراره فيقبل ولأنه لا ملك للمولى
في يد العبد في حق القطع كما لا ملك له في نفسه في حق القتل فكان العبد فيه مبقى على أصل الحرية فيقبل اقراره كالحر وبه
81

تبين أن اقراره لم يتضمن ابطال حق المولى في حق القطع لعدم الحق له في حقه وإن كان محجورا تقطع يده ثم إن كان المال
هالكا أو مستهلكا لا ضمان عليه كذبه مولاه أو صدقه وإن كان قائما فان صدقه مولاه تقطع يده والمال للمسروق منه
وان كذبه بان قال هذا مالي اختلف فيه أصحابنا الثلاثة قال أبو حنيفة تقطع يده والمال للمسروق منه وقال أبو يوسف
تقطع يده والمال للمولى ولا ضمان على العبد في الحال ولا بعد العتق وقال محمد لا تقطع يده والمال للمولى ويضمن مثله
للمقر له بعد العتق (وجه) قوله إن ظاهر اقرار المحجور بالمال لا يصح لان ما في يده ملك مولاه ظاهرا وغالبا وإذا لم
ينفذ اقراره بالمال بقي المال على حكم ملك المولى ولا قطع في مال المولى بخلاف المأذون لان اقراره بالمال جائز وإذا
جاز اقراره بالمال لغيره تثبت السرقة منه فيقطع (وجه) قول أبى يوسف أن اقراره بالحد جائز وإن كان لا يجوز بالمال
إذ ليس من ضرورة جواز اقراره في حق الحد جوازه في المال ألا ترى أنه لو قال سرقت هذا المال الذي في يد زيد من
عمرو يقبل اقراره في القطع ولا يقبل في المال كذا هذا (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله أن اقرار العبد بالحد جائز لما
ذكرنا في العبد المأذون فلزمه القطع فبعد ذلك لا يخلو اما أن يقطع في المال المقر به بعينه ويرد المسروق إلى المولى واما أن
يقطع في مال بغير عينه لا سبيل إلى الأول لان قطع اليد في مال محكوم به لمولاه لا يجوز ولا يجوز أن يقطع في مال بغير عينه
لان الاقرار صادف مالا معينا فتعين أن يقطع في المال المقر به بعينه ويرد المال إلى المسروق منه هذا إذا كان العبد بالغا
عاقلا وقت الاقرار فاما إذا كان صبيا عاقلا فلا قطع عليه لأنه ليس من أهل الخطاب بالشرائع ثم ينظر إن كان مأذونا
يصح اقراره بالمال فإن كان قائما يرد عليه وإن كان هالكا يضمن وإن كان محجورا لا يصح اقراره الا بتصديق المولى
فان كذبه فالمال للمولى إن كان قائما وإن كان هالكا لا ضمان عليه لا في الحال ولا بعد العتاق ولو أقر العبد بسرقة ما دون
العشرة لا يقطع لان النصاب شرط ثم ينظر إن كان مأذونا يصح اقراره ويرد المال إلى المسروق منه وإن كان هالكا
يضمن سواء كان العبد مخاطبا أو لم يكن وإن كان محجورا فان صدقه مولاه فكذلك وان كذبه فالمال للمولى
ويضمن العبد بعد العتق إن كان مخاطبا وقت الاقرار وإن كان صغيرا لا ضمان عليه والأصل في جنس هذه المسائل
ان كل ما لا يصح اقرار المولى على عبده يصح اقرار العبد فيه ثم المولى إذا أقر على عبده بالقصاص أو حد الزنا أو حد
القذف أو السرقة أو القطع في السرقة لا يصح فإذا أقر العبد بهذه الأشياء يصح (وأما) إذا أقر المولى على عبده بالجناية
فيما دون النفس فيما يجب فيه الدفع أو الفداء فإنه ينظر ان لم يكن عليه دين صح لان الجناية فيما دون النفس يسلك فيها
مسلك الأموال فكأن المولى أقر عليه وبالدين ولو أقر عليه بالدين يصح كذا هذا وإن كان عليه دين لا يصح لأنه لو أقر
عليه بالدين وعليه دين لا يصح كذا إذا أقر عليه بالجناية والله سبحانه وتعالى أعلم وعدم التقادم في الاقرار ليس بشرط
لجوازه فيجوز سواء تقادم عهد السرقة أو لا بخلاف البينة والفرق ذكرناه في كتاب الحدود واختلف في العدد في
هذا الاقرار انه هل هو شرط قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ليس بشرط ويظهر بالاقرار مرة واحدة وقال أبو
يوسف رحمه الله شرط فلا يقطع ما لم يقر مرتين في مكانين والدلائل ذكرناها في كتاب الحدود وكذا اختلف في
دعوى المسروق منه انها هل هي شرط كون الاقرار مظهرا للسرقة كما هي شرط كون البينة مظهرة لها قال أبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله شرط حتى لو أقر السارق انه سرق مال فلان الغائب لم يقطع ما لم يحضر المسروق منه ويخاصم عندهما
وقال أبو يوسف الدعوى في الاقرار ليست بشرط ويقطع حال غيبة المسروق منه (وجه) قوله إن اقراره بالسرقة
اقرار على نفسه والانسان يصدق في الاقرار على نفسه لعدم التهمة ولهذا لو أقر بالزنا بامرأة وهي غائبة قبل اقراره
وحد كذا هذا ولهما ما روى أن سمرة رضي الله عنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام انى سرقت لآل فلان
فأنفذ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم فقالوا إنا فقدنا بعيرا لنا في ليلة كذا فقطعه فلولا ان المطالبة شرط
ظهور السرقة بالاقرار لم يكن ليسألهم بل كان يقطع السارق ولان كل من في يده شئ فالظاهر أنه ملكه (فأما) إذا
أقر به لغيره لم يحكم بزوال ملكه عنه حتى يصدقه المقر له والغائب يجوز أن يصدقه فيه ويجوز أن يكذبه فبقي على حكم
82

ملك السارق فلا يقطع ولان في ظهور السرقة بهذا الاقرار شبهة العدم لاحتمال التكذيب من المسروق منه فإنه يحتمل
أن يحضر فيكذبه في اقراره بخلاف الاقرار بالزنا بامرأة غائبة انه يحد المقر وإن كان يحتمل أن تحضر المرأة فتدعى
شبهة لان هناك لو كانت حاضرة وادعت الشبهة يسقط الحد لأجل الشبهة فلو سقط عند غيبتها لسقط لشبهة الشبهة
وانها غير معتبرة في درء الحد وههنا بخلافه لان المسروق منه لو كان حاضرا وكذب السارق في اقراره بالسرقة منه
لم يقطع لا لمكان الشبهة بل لانعدام فعل السرقة فلم يكن السقوط حال الغيبة اعتبار شبهة الشبهة والله تعالى أعلم قال
محمد لو قال سرقت هذه الدراهم ولا أدرى لمن هي أو قال سرقتها ولا أخبرك من صاحبها لا يقطع لان جهالة المسروق
منه فوق غيبته ثم الغيبة لما منعت القطع على أصله فالجهالة أولى ولان الخصومة لما كانت شرطا فإذا كان المسروق
منه مجهولا تتحقق الخصومة فلا يقطع وإذا عرف ان الخصومة شرط ظهور السرقة الموجبة للقطع بالبينة على الاتفاق
وبالاقرار على الاختلاف فلا بد من بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها فنقول وبالله التوفيق الأصل ان كل من
كان له يد صحيحة يملك الخصومة ومن لا فلا فللمالك أن يخاصم السارق إذا سرق منه لا شك فيه لان يد المالك يد صحيحة
(وأما) المودع والمستعير والمضارب والمبضع والغاصب والقابض على سوم الشراء والمرتهن فلا خلاف بين
أصحابنا رضي الله عنهم في أن لهم أن يخاصموا السارق وتعتبر خصومتهم في حق ثبوت ولاية الاسترداد والإعادة إلى
أيديهم وأما في حقوق القطع فكذلك عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله ويقطع السارق بخصومتهم وعند زفر رحمه الله
لا تعتبر خصومتهم في حق القطع ولا يقطع السارق بخصومة هؤلاء وعند الشافعي رحمه الله لا يعتبر بخصومة غير
المالك أصلا لا في حق القطع ولا في حق ولاية الاسترداد (ووجه) قول زفر رحمه الله أن يد هؤلاء ليست بيد صحيحة
في الأصل أما يد المرتهن فظاهر لأنها يد حفظ لا انه يثبت له ولاية الخصومة لضرورة الإعادة إلى يد الحفظ ليتمكن من
التسليم من المالك وكذلك يد الغاصب والقابض على سوم الشراء والمرتهن يدهم يد ضمان لا يد خصومة وإنما ثبت
لهم ولاية الخصومة لامكان الرد إلى المالك فكان ثبوت ولاية الخصومة لهم بطريق الضرورة والثابت بضرورة
يكون عدما فيما وراء محل الضرورة لانعدام علة الثبوت وهي الضرورة فكانت الخصومة منعدمة في حق القطع ولا
قطع بدون الخصومة ولهذا لا يقطع بخصومة السارق كذا هذا (ولنا) ان الخصومة شرط صيرورة البينة حجة
مظهرة للسرقة لما بينا ان الفعل لا يتحقق سرقة ما لم يعلم أن المسروق ملك غير السارق وإنما يعلم ذلك بالخصومة فكانت
الخصومة شرط كون البينة مظهرة للسرقة وكونها مظهرة للسرقة ثبت بخصومة هؤلاء وإذا ظهرت السرقة يقطع لقوله
تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما بخلاف السارق انه لا يقطع بخصومته لان يده ليست بصحيحة لما نذكر
على أن عدم القطع هناك لخلل في ملك المسروق لما بينا فيما تقدم وههنا لا خلل في العصمة ألا ترى أن هناك لا يقطع
بخصومة المالك وههنا يقطع ولو حضر المالك وغاب المرتهن هل له أن يخاصم السارق ويقطعه ذكر في الجامع الصغير
أنه له ذلك وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه ليس له ذلك (وجه) رواية ابن سماعة أن ولاية الخصومة للمسروق
منه والمالك ليس بمسروق منه لان السارق لم يسرق منه وإنما سرق من غيره فلم يكن له ولاية الخصومة (وجه) رواية
الجامع أن الخصومة في باب السرقة إنما شرطت ليعلم أن المسروق ملك غير السارق وهذا يحصل بخصومة المالك
فتصح خصومته كما تصح خصومة المرتهن بل أولى لان يد المرتهن يد نيابة فلما صحت الخصومة بيد النيابة فيد الأصالة
أولى ولو حضر المغصوب منه وغاب الغاصب ذكر في الجامع الصغير أن له أن يخاصم ويطالب بالقطع ولم يذكر ابن
سماعة في الغصب خلافا وذكر القدوري عليه الرحمة أنه ينبغي أن يكون الخلاف فيهما واحدا وليس للراهن أن
يخاصم السارق فيقطعه لأنه ليس له حق القبض قبل قضاء الدين فلا يملك المطالبة حتى لو قضى الدين له أن يخاصم لأنه
ثبت ولاية القبض بالفكاك قال القدوري رحمه الله وعلى قياس رواية ابن سماعة لا يثبت للراهن ولاية المطالبة مع غيبة
المرتهن كما في المودع بل أولى لان يد المرتهن أقوى من يد المودع لان يد المرتهن لنفسه ويد المودع لغيره ولو هلك الرهن
83

في يد السارق كان للمرتهن أن يقطعه ولا سبيل للراهن عليه لان المرتهن كان له ولاية القطع قبل الهلاك وهلاك
المحل لا يسقط القطع فيثبت الولاية الولاية (فاما) الراهن لم يبق له حق في المرهون ألا ترى أنه سقط عنه الدين بهلاكه فلا
تثبت له ولاية المطالبة (وأما) السارق فلا يملك الخصومة لان يده ليست بمضمونة لأنها ليست بيد ملك ولا يد ضمان
ولا يد أمانة فصار الاخذ من يده كالاخذ من الطريق فلم يكن له أن يخاصم الثاني بالقطع ولا للمالك أيضا ولاية المخاصمة
لان أخذ المال من اليد الصحيحة شرط وجوب القطع ولم يوجد فلا يجب القطع فلا تثبت له ولاية المطالبة وهل
للسارق الأول أن يطالب الثاني برد المسروق إلى يده قالوا فيه روايتان في رواية له ذلك وفى رواية ليس له ذلك (وجه)
الرواية الأولى على نحو ما بينا أن المسروق منه لم تكن له يد صحيحة فصار الاخذ منه كالاخذ من الطريق سواء (وجه)
الرواية الثانية أن من الجائز أن يختار المالك الضمان ويترك القطع فيحتاج إلى أن يسترده من يده فيدفع إليه فيتخلص
عن الضمان كما في الغصب ونحو على ما مر وذكر القدوري عليه الرحمة أنه يجوز أن يقال ما لم يقطع فله ذلك (وأما) بعد
القطع فليس له ذلك لان قبل القطع يحتمل اختيار الضمان وبعده لا قال ويجوز ان يقال له ذلك بعد القطع أيضا لأن الضمان
ان لم يجب عليه في القضاء فهو واجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى فيحتاج إلى الاسترداد ليتخلص عن الضمان
الواجب عليه فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى ولا تظهر السرقة الموجبة للقطع بعلم القاضي سواء استفاد قبل زمان
القضاء أو في زمان القضاء لما ذكرنا في كتاب أدب القاضي والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم السرقة فنقول وبالله التوفيق للسرقة حكمان أحدهما يتعلق بالنفس والآخر يتعلق بالمال
(أما) الذي يتعلق بالنفس فالقطع لقوله سبحانه وتعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ولما روينا من الاخبار
وعليه اجماع الأمة فالكلام في هذا الحكم يقع في مواضع في بيان صفات هذا الحكم وفي بيان محل إقامته وفي بيان من
يقيمه وفي بيان ما يسقط بعد ثبوته وفي بيان حكم السقوط بعد الثبوت أو عدم الثبوت أصلا لمانع من الشبهة (أما)
صفات هذا الحكم فأنواع (منها) أن يبقى وجوب ضمان المسروق عندنا فلا يضمن الضمان والقطع في سرقة واحدة
ولقب المسألة أن الضمان والقطع هل يجتمعان في سرقة واحدة عندنا لا يجتمعان حتى لو هلك المسروق في يد السارق بعد
القطع أو قبله لا ضمان عليه وعند الشافعي رحمه الله فيقطع ويضمن ما استهلكه (وجه) قوله أنه وجد من السارق
سبب وجوب القطع والضمان فيجبان جميعا وإنما قلنا ذلك لأنه وجد منه السرقة وانها سبب لوجوب القطع والضمان
لأنها جناية حقين حق الله عز وجل وحق المسروق منه (أما) الجناية على حق الله سبحانه وتعالى فهتك حرمة حفظ
الله سبحانه وتعالى إذ المال حال غيبة المالك محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى (وأما) الجناية على حق العبد فباتلاف
ماله فكانت الجناية على حقين فكانت مضمونة بضمانين فيجب ضمان القطع من حيث إنها جناية على حق الله
سبحانه وتعالى وضمان المال من حيث إنها جناية على حق العبد كمن شرب خمر الذمي انه يجب عليه الحد حقا لله تعالى
والضمان حقا للعبيد وكذا قتل الخطأ يوجب الكفارة حقا لله تعالى والدية حقا للعبد كذا هذا والدليل عليه ان
المسروق لو كان قائما يجب رده على المالك فدل انه بقي معصوما حقا للمالك (ولنا) الكتاب والسنة والمعقول أما
الكتاب العزيز فقوله سبحانه وتعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا والاستدلال بالآية من
وجهين أحدهما ان الله سبحانه وتعالى سمى القطع جزاء والجزاء يبنى على الكفاية فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع
كافيا فلم يكن جزاء تعالى الله سبحانه عز شأنه عن الخلف في الخبر والثاني انه جعل القطع كل الجزاء لأنه عز شأنه
ذكره ولم يذكر غير فلو أوجبنا الضمان لصار القطع بعض الجزاء فيكون نسخا لنص الكتاب العزيز وأما السنة فما
روى عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قطع السارق فلا
غرم عليه والغرم في اللغة ما يلزم أداؤه وهذا نص في الباب (وأما) المعقول فمن وجهين أحدهما بناء والآخر ابتداء
(أما) وجه البناء فهو ان المضمونات عندنا تملك عند أداء الضمان أو اختياره من وقت الاخذ فلو ضمنا السارق
84

قيمة المسروق أو مثله لملك المسروق من وقت الاخذ فتبين انه قطع في ملك نفسه وذلك لا يجوز (وأما) وجه الابتداء
فما قاله بعض مشايخنا وهو ان الضمان إنما يجب بأخذ مال معصوم ثبتت عصمته حقا للمالك فيجب أن يكون
المضمون بهذه الصفة ليكون اعتداء بالمثل في ضمان العدوانات والمضمون حالة السرقة خرج من أن يكون معصوما
حقا للمالك بدلالة وجوب القطع ولو بقي معصوما حقا للمالك لما وجب إذ الثابت حقا للعبد ثبت لدفع حاجته
وحاجه السارق كحاجة المسروق منه فتتمكن فيه شبهة الإباحة وانها تمنع وجوب القطع والقطع واجب فينتفى
الضمان ضرورة الا أنه وجب رد المسروق حال قيامه لان وجوب الرد يقف على الملك لا على العصمة ألا ترى ان
من غصب خمر المسلم يؤمر بالرد إليه لقيام ملكه فيها ولو هلكت في يد الغاصب لا ضمان عليه لعدم العصمة فلم يكن
من ضرورة سقوط العصمة الثابتة حقا للعبد زوال ملكه عن المحل وههنا الملك قائم فيؤمر بالرد إليه والعصمة زائلة
فلا يكون مضمونا بالهلاك ويخرج على هذا الأصل مسائل إذا استهلك السارق المسروق بعد القطع لا يضمن
في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله انه يضمن (وجه) هذه الرواية ان المسروق بعد القطع بقي على
ملك المسروق منه ألا ترى انه يجب رده على المالك وقبض السارق ليس بقبض مضمون فكان المسروق في يده
بمنزلة الأمانة فإنه إذا استهلكها ضمن (وجه) ظاهر الرواية ان عصمة المحل الثابتة حقا للمالك قد سقطت في حق
السارق لضرورة امكان ايجاب القطع فلا يعود الا بالرد إلى المالك فلم يكن معصوما قبله فلا يكون مضمونا ولو استهلك
رجل آخر يضمنه لان العصمة إنما سقطت في حق السارق لا في حق غيره فيضمن ولو سقط القطع لشبهة ضمن
لان المانع من الضمان هو القطع وقد زال المانع ولو باع السارق المسروق من إنسان أو ملكه منه بوجه من الوجوه فإن كان
قائما فلصاحبه أن يأخذه لأنه عين ملكه وللمأخوذ منه أن يرجع على السارق بالثمن الذي دفعه لان الرجوع بالثمن
لا يوجب ضمانا على السارق في عين المسروق لأنه يرجع عليه بثمن المسروق لا بقيمته ليوجب ذلك ملك المسروق
للسارق وإن كان هلك في يده فلا ضمان على السارق ولا على القابض هكذا روى عن أبي يوسف أما السارق فلان
القطع ينفى الضمان (وأما) المشترى فلانه لو ضمنه المالك لكان له أن يرجع بالضمان عن السارق فيصير كأن المالك
ضمن السارق وقطعه ينفى الضمان عنه وإن كان استهلكه القابض كان للمالك أن يضمنه القيمة لأنه قبض ماله بغير
اذنه وهلك في يده وللمشتري أن يرجع على السارق بالثمن لان الرجوع بالثمن ليس بتضمين ولو اغتصبه انسان من
السارق فهلك في يده بعد القطع فلا ضمان للسارق ولا للمسروق منه (أما) السارق فلانه ليس بمالك (وأما) المالك
فلان العصمة الثابتة له حقا قد بطلت قال القدوري وكان للمولى أن يضمنه الغاصب لأنه لو ضمن لا يرجع بالضمان
على السارق وعلى هذا يخرج ما إذا سرق ثوبا فخرقه في الدار خرقا فاحشا ثم أخرجه وهو يساوى عشرة دراهم لا يقطع
لان الخرق الفاحش سبب لوجوب الضمان وأنه يوجب ملك المضمون وذلك يمنع القطع وان خرقه عرضا فقد مر
الاختلاف فيه (ومنها) أن يجرى فيه التداخل فيه حتى أنه لو سرق سرقات فرفع فيها كلها فقطع أو رفع في بعضها فقطع
فيما رفع فالقطع للسرقات كلها ولا يقطع في شئ منها بعد ذلك لان أسباب الحدود إذا اجتمعت وانها من جنس
واحد يكتفى فيها بحد واحد كما في الزنا وهذا لان المقصود من إقامة الحد هو الزجر والردع وذلك يحصل بإقامة
الحد الواحد فكان في إقامة الثاني والثالث شبهة عدم الفائدة فلا يقام ولهذا يكتفى في باب الزنا بالإقامة لأول حد
كذا هذا ولان محل الإقامة قد فات إذ محلها اليد اليمنى لان كل سرقة وجدت ما أوجبت الا قطع اليد اليمنى فإذا
قطعت في واحدة منها فقد فات محل الإقامة وصار كما لو ذهبت اليد اليمنى بآفة سماوية وأما حكم الضمان فلا
خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم في أنه إذا حضر أصحاب السرقات وخاصموا فيها فقطع بمخاصمتهم انه لا ضمان
على السارق في السرقات كلها لان مخاصمة المسروق منه بالقطع بمنزلة الابراء عن الضمان عندنا فإذا خاصموا
جميعا فكأنهم أبرؤا واما إذا خاصم واحد في سرقة فقطع فلا ضمان على السارق فيما خوصم باجماع بين أصحابنا
85

رضي الله عنهم واما فيما لم يخاصم فيه فقد اختلفوا قال أبو حنيفة رحمه الله لا ضمان عليه في شئ من السرقات خاصموا
أو لم يخاصموا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن في السرقات كلها الا فيما خوصم (وجه) قولهما ان
المسروق منه مخير بين ان يدعى المال يستوفى حقه وهو الضمان وبين ان يدعى السرقة ليستوفى في حق الله سبحانه
وتعالى وهو القطع ولا ضمان له فكان سقوط الضمان مبنيا على دعوى السرقة والخصومة فيها فمن خاصم منهم فقد
وجد منه ما يوجب سقوط الضمان ومن لم يخاصم لم يوجد منه المسقط فيبقى حقه في الضمان كما كان ولأبي حنيفة
رحمه الله ان النافي للضمان هو القطع والقطع وقع للسرقات كلها فينفي الضمان في السرقات كلها هذا إذا كان المسروق
هالكا اما إذا كان قائما رد كل مسروق إلى صاحبه لان القطع ينفى الضمان لا الرد ومنها انه لا يحتمل العفو حتى لو أمر
الامام بقطع السارق فعفا عنه المسروق منه كان عفوه باطلا لان صحة العفو يعتمد كون المعفو عنه حقا للعافي والقطع
خالص حق الله سبحانه وتعالى لا حق ال؟؟ د فيه فلا يصح عفوه والله سبحانه وتعالى أعلم واما محل إقامة هذا الحكم
فالكلام فيه في موضعين أحدهما في بيان أصل المحل ومراعاة الترتيب فيه والثاني في بيان موضع إقامة الحكم منه اما
الأول فاصل المحل عند أصحابنا طرفان فقط وهما اليد اليمنى والرجل اليسرى فتقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى وتقطع
الرجل اليسرى في السرقة الثانية ولا يقطع بعد ذلك أصلا ولكنه يضمن السرقة ويعزر ويحبس حتى يحدث توبة
عندنا وعند الشافعي رحمه الله الأطراف الأربعة محل القطع على الترتيب فتقطع اليد اليمنى في المرة الأولى وتقطع الرجل
اليسرى في المرة الثانية وتقطع اليد اليسرى في المرة الثالثة وتقطع الرجل اليمنى في السرقة الرابعة احتج الشافعي رحمه الله
بقوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما والأيدي اسم جمع والاثنان فما فوقهما جماعة على لسان رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى ان تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وانه لم يكن لكل واحد الا قلب واحد الا ان
الترتيب في قطع الأيدي ثبت بدليل آخر وهذا لا يخرج اليد اليسرى من أن تكون محلا للقطع في الجملة وروى أن
سيدنا أبا بكر رضي الله عنه قطع سارق حلي أسماء وكان أقطع اليد والرجل (ولنا) ما روى أن سيدنا عليا رضي الله عنه
أتى بسارق فقطع يده ثم أتى به الثانية وقد سرق فقطع رجله ثم أتى به الثالثة وقد سرق فقال لا أقطعه ان قطعت يده
فبأي شئ يأكل بأي شئ يتمسح وان قطعت رجله بأي شئ يمشى انى لأستحي من الله الله فضربه بخشبة وحبسه
وروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه أتى بسارق أقطع اليد والرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم وأراد ان يقطعه قال
له سيدنا علي رضي الله عنه إنما عليه قطع يد ورجل فحبسه سيدنا عمر رضي الله عنه ولم يقطعه وسيدنا عمر وسيدنا
علي رضي الله عنهما لم يزيدا في القطع على قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم
ولم ينقل انه أنكر عليهما منكر فيكون اجماعا من الصحابة رضي الله عنهم (ولنا) أيضا دلالة الاجماع والمعقول اما دلالة
الاجماع فهي انا أجمعنا على أن اليد اليمنى إذا كانت مقطوعة لا يعدل إلى اليد اليسرى بل إلى الرجل اليسرى ولو كان لليد
اليسرى مدخلا في القطع لكان لا يعدل الا إليها لأنها منصوص عليها ولا يعدل عن المنصوص عليه إلى غيره فدل
العدول إلى الرجل اليسرى لا إليها على أنه لا مدخل لها في القطع بالسرقة أصلا وهذا النوع من الاستدلال ذكره
الكرخي رحمه الله واما المعقول فهو ان في قطع اليد اليسرى تفويت جنس منفعة من منافع النفس أصلا وهي منفعة
البطش لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد قطع اليمنى فتصير النفس في حق هذه المنفعة هالكة فكان قطع اليد اليسرى
اهلاك النفس من وجه وكذا قطع الرجل اليمنى بعد قطع الرجل اليسرى تفويت منفعة المشي لان منفعة المشي تفوت
بالكلية فكان قطع الرجل اليمنى اهلاك النفس من كل وجه واهلاك النفس من كل وجه لا يصلح حدا في السرقة
كذا اهلاك النفس من وجه لان الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في الحدود احتياطا ولا حجة له في الآية
الشريفة لان ابن مسعود رضي الله عنه قرأ فاقطعوا أيمانها ولا يظن بمثله ان يقرأ ذلك من تلقاء نفسه بل سماعا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت قراءته مخرج التفسير لمبهم الكتاب العزيز وهكذا روى عن عبد الله بن
86

عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل فاقطعوا أيديهما أنه قال أيمانها وهكذا روى عن الحسن وإبراهيم رحمهما الله
وأما حديث لاقطع فقد روى الزهري في الموطأ عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها انها قالت لما كان الذي سرق حلي
أسماء أقطع اليد اليمنى فقطع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه رجله اليسرى وكانت تنكر أن يكون أقطع اليد والرجل ثم إنما
تقطع يده اليمنى في الكرة الأولى إذا كانت اليد اليسرى صحيحة يمكنه ان ينتفع بها بعد قطع اليد اليمنى والرجل اليمنى صحيحة
يمكنه الانتفاع بها بعد قطع الرجل اليسرى فإن كانت اليد اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الابهام أو إصبعين
سوى الابهام لا تقطع اليد اليمنى لان القطع في السرقة شرع زاجر الا مهلكا فإذا لم تكن اليد اليسرى يمكن الانتفاع بها
فقطع اليد اليمنى يقع تفويتا لجنس المنفعة وهي منفعة البطش أصلا فيقع اهلاكا للنفس من وجه فلا تقطع ولا يقطع
رجله اليسرى أيضا لأنه يذهب أحد الشقين على الكمال فيهلك النفس من وجه ولو كانت اليد اليسرى مقطوعة أصبع
واحدة سوى الابهام تقطع يده اليمنى لان القطع لا يتضمن فوات جنس المنفعة وكذا إن كانت الرجل اليمنى مقطوعة
أو شلاء أو بها عرج يمنع المشي عليها لا تقطع اليد اليمنى لما فيه من فوات الشق ولا رجله اليسرى وإن كانت صحيحة
لأنه يبقى بلا رجلين فيقوت جنس المنفعة ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها فإن كان يستطيع القيام
والمشي عليها تقطع يده اليمنى لان الجنس لا يفوت وإن كان لا يستطيع لا يقطع لفوات الشق ولو كانت يداه صحيحتين
ولكن رجله اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الابهام أو الأصابع تقطع يده اليمنى لان جنس المنفعة لا يفوت ولا
فيه فوات الشق أيضا ولو سرق ويمناه شلاء أو مقطوعة الابهام أو الأصابع لقوله سبحانه وتعالى فاقطعوا أيديهما أي
أيمانها من غير فصل بين يمين ويمين ولأنها لو كانت سليمة تقطع فالناقصة المعيبة أولى بالقطع ثم فرق بين القطع في
السرقة وبين الاعتاق في الكفارة حيث جعل فوات إصبعين سوى الابهام من اليد اليسرى نقصانا مانعا من قطع
اليد اليمنى ولم يجعل فوات إصبعين نقصانا مانعا من جواز الاعتاق ما لم يكن ثلاثا (وجه) الفرق ان القطع حد فهذا القدر
من النقصان يورث شبهة بخلاف العتق والله سبحانه وتعالى أعلم ولو قال الحاكم للحداد قطع يد السارق فقطع اليد
اليسرى فهذا على وجهين اما أن قال اقطع يده مطلقا واما ان قيده فقال اقطع يده اليمنى فان أطلق فقال له اقطع يده فقطع
اليسرى لا ضمان عليه للحال لأنه فعل ما أمر به حيث أمره بقطع اليد وقد قطع اليد وان قيد فقال اقطع يده اليمنى فقطع
اليسرى فان أخرج السارق يده وقال هذا هو يميني فلا ضمان عليه أيضا لأنه قطع بأمره فلا يضمن كمن قال لآخر
اقطع يدي فقطعه لا ضمان عليه كذا هذا وان لم يخرج السارق يده ولم يقل ذلك ولكنه قطع اليسرى خطأ لا
ضمان عليه عند أصحابنا رضي الله عنهم وعند زفر رضي الله عنه يضمن لان الخطأ في حقوق العباد ليس بعذر (ولنا)
ان هذا خطأ في الاجتهاد لأنه أقام اليسار مقام اليمين باجتهاده متمسكا بظاهر قوله سبحانه وتعالى فاقطعوا أيديهما
من غير فصل بين اليمين واليسار فكان هذا خطأ من المجتهد في الاجتهاد وانه موضوع وموضوع المسألة في هذا
الخطا لا فيما إذا أخطأ فظن اليسار يمينا مع اعتقاده وجوب قطع اليمين مع ما ان عند أبي حنيفة رحمه الله لا يضمن هناك
أيضا على ما نبين وان قطع اليسرى عند الا ضمان عليه أيضا عند أبي حنيفة وعندهما يضمن لهما انه تعمد الظلم بإقامة
اليسار مقام اليمين فلم يكن معذورا فيضمن ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه أتلف وأخلف خيرا مما أتلف فلا يضمن
كرجلين شهدا على رجل بيع عبد قيمته الف بألفين ثم رجعا انهما لا يضمنان لما قلنا كذا هذا وإنما قلنا إنه أخلف
خيرا مما أتلف لأنه لما قطع اليسرى فقد سلمت له اليمنى لأنها لا تقطع بعد ذلك لأنه لا يؤتى على أطرافه الأربعة واليمنى
خير من اليسرى ثم على قول أبي حنيفة عليه الرحمة هل يكون هذا القطع وهو قطع اليسرى قطعا من السرقة حتى إذا
هلك المال في يد لا سارق أو استهلكه لا يضمن أو لا يكون من السرقة حتى يضمن اختلف المشايخ فيه قال بعضهم
يكون وقال بعضهم لا يكون هذا كله إذا قطع الحداد بأمر الحاكم فاما الأجنبي إذا قطع يده اليسرى فإن كان خطأ تجب
الدية وإن كان عمدا يجب القصاص وسقط عنه القطع في اليمين لأنه لو قطع يؤدى إلى اهلاك النفس من وجه على ما بينا
87

ويرد عليه المسروق إن كان قائما وعليه ضمانه في الهلاك لان المانع من الضمان هو القطع وقد سقط ولو وجب عليه
قطع اليد اليمين في السرقة فلم تقطع حتى قطع قاطع يمينه فهذا على وجهين اما أن يكون قبل الخصومة واما أن يكون بعدها
فإن كان قبل الخصومة فعلى قاطعه القصاص إن كان عمدا والأرش إن كان خطأ وتقطع رجله اليسرى في السرقة
كأنه سرق ولا يمين له وإن كان بعد الخصومة فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب الا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى
لأنه لما خوصم كان الواجب في اليمين وقد فاتت فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية وإن كان بعد القضاء فلا ضمان
على القاطع لأنه احتسب لإقامة حد لله سبحانه وتعالى فكان قطعه عن السرقة حتى لا يجب الضمان على السارق فيما
هلك من مال السرقة في يده أو استهلك وأما الموضع الذي يقطع من اليد اليمنى فهو مفصل الزند عند عامة العلماء رضي الله عنهم
وقال بعضهم تقطع الأصابع وقال الخوارج تقطع من المنكب لظاهر قوله سبحانه وتعالى فاقطعوا أيديهما
واليد اسم لهذه الجملة والصحيح قولنا لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قطع يد السارق من مفصل الزند فكان فعله
بيانا للمراد من الآية الشريفة كأنه نص سبحانه وتعالى فقال فاقطعوا أيديهما من مفصل الزند وعليه عمل الأمة من
لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم وأما بيان من يقيم هذا الحكم فالذي
يقيمه الامام أو من ولاه لان هذا حد والمتولي لإقامة الحدود الأئمة أو من ولوهم من القضاة والحكام وهذا عندنا وعند
الشافعي رحمه الله المولى يملك إقامة الحد على مملوكه والكلام في هذا الفصل استوفيناه في كتاب الحدود واما بيان
ما يسقط الحد بعد وجوبه فنقول ما يسقطه بعد وجوبه أنواع منها تكذيب المسروق منه السارق في اقراره بالسرقة
بأن يقول له لم تسرق منى ومنها تكذيبه البينة بأن يقول شهد شهودي بزور لأنه إذا كذب فقد بطل الاقرار والشهادة
فسقط القطع ومنها رجوع السارق عن الاقرار بالسرقة فلا يقطع ويضمن المال لان الرجوع يقبل في الحدود ولا
يقبل في المال لأنه يورث شبهة في الاقرار والحد يسقط بالشبهة ولا يسقط المال رجلان أقرا بسرقة ثوب يساوى
مائة درهم ثم قال أحدهما الثوب ثوبنا لم نسرقه أو قال هذا إلى درئ القطع عنهما لأنهما لما اقرا بالسرقة فقد ثبتت الشركة
بينهما في السرقة ثم لما أنكر أحدهما فقد رجع عن اقراره فبطل الحد عنه برجوعه فيورث شبهة في حق الشريك
لاتحاد السرقة ولو قال أحدهما سرقنا هذا الثوب من فلان فكذبه الآخر وقال كذبت لم نسرقه قطع المقر وحده في
قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف لا يقطع واحد منهما (وجه) قول أبى يوسف أنه أقر بسرقة واحدة بينهما على
الشركة فإذا لم تثبت في حق شريكه بانكاره يؤثر ذلك في حق صاحبه ضرورة اتحاد السرقة وهذا بخلاف ما إذا أقر بالزنا
بامرأة فأنكرت أنه يحد الرجل على أصله لان انكار المرأة لا يؤثر في اقرار الرجل إذ ليس من ضرورة عدم الزنا من
جانبها عدمه من جانبه كما لو زنا بصبية أو مجنونة بخلاف الاقرار بالسرقة لان ذلك وجد من أحدهما على وجه الشركة
فعدم السرقة من أحدهما يؤثر في حق الآخر (وجه) قول أبي حنيفة أن اقراره بالشركة في السرفة اقرار بوجود السرقة
من كل واحد منهما الا أنه لما أنكر صاحبه السرقة لم يثبت منه فعل السرقة وعدم الفعل منه لا يؤثر في وجود الفعل من
صاحبه فبقي اقرار صاحبه على نفسه بالسرقة فيؤخذ به بخلاف اقرار الرجل على نفسه بالزنا بامرأة وهي تجحد أنه
لا يجب الحد على الرجل على أصله لان الزنا لا يقوم الا بالرجل والمرأة فإذا أنكرت لم يثبت منها فلا يتصور الوجود من
الرجل بخلاف الاقرار بالسرقة على ما بينا والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) رد السارق المسروق إلى المالك قبل
المرافعة عندهما واحدى الروايتين عن أبي يوسف وروى عنه أنه لا يسقط ولا خلاف في أن الرد بعد المرافعة
لا يسقط الحد (وجه) رواية أبى يوسف أن السرقة حين وجودها انعقدت موجبة للقطع فرد المسروق بعد ذلك
لا يخل بالسرقة الموجودة فلا يسقط القطع الواجب كما لو رده بعد المرافعة ولهما أن الخصومة شرط لظهور السرقة
الموجبة للقطع لما بينا فيما تقدم ولما رد المسروق على المالك فقد بطلت الخصومة بخلاف ما بعد المرافعة لان الشرط
وجود الخصومة لابقاؤها وقد وجدت (ومنها) ملك السارق المسروق قبل القضاء نحو ما إذا وهب المسروق منه
88

المسروق من السارق قبل القضاء وجملة الكلام فيه ان الامر لا يخلو اما ان وهبه منه قبل القضاء واما ان وهبه بعد
القضاء قبل الامضاء فان وهبه قبل القضاء يسقط القطع بلا خلاف وان وهبه بعد القضاء قبل الامضاء يسقط
عندهما وقال أبو يوسف لا يسقط وهو قول الشافعي رحمهما الله احتج أبو يوسف بما روى أن سارق رداء صفوان
أخذ فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده فقال صفوان يا رسول
الله انى لم أرد هذا هو عليه صدقه فقال عليه الصلاة والسلام فهلا قبل أن تأتيني به فدل ان الهبة قبل القضاء تسقط
وبعده لا تسقط ولان وجوب القطع حكم معلق بوجود السرقة وقد تمت السرقة ووقعت موجبة للقطع لاستجماع
شرائط الوجوب فطريان الملك بعد ذلك لا يوجب خللا في السرقة الموجودة فبقي القطع واجبا كما كان كما لورد
المسروق على المالك بعد القضاء بخلاف ما قبل القضاء لان الخصومة شرط ظهور السرقة الموجبة للقطع عند القاضي
وقد بطل حق الخصومة (وجه) قولهما ان القبض شرط لثبوت الملك في الهبة والملك في الهبة يثبت من وقت القبض
فيظهر الملك له من ذلك الوقت من كل وجه أو من وجه وكون المسروق ملكا للسارق على الحقيقة أو الشبهة يمنع من
القطع ولهذا لم يقطع قبل القضاء فكذلك بعده لان القضاء في باب الحدود امضاؤها فلما لم يمض فكأنه لم يقض ولو كان
لم يقض أليس انه لا يقطع فكذا إذا لم يمض ولا الطارئ في باب الحدود ملحق بالمقارن إذا كان في الالحاق
اسقاط الحد وههنا فيه اسقاط الحد فيلحق به (وأما) الحديث فلا حجة له فيه لان المروى قوله هو عليه صدقه وقوله
هو يحتمل انه أراد به المسروق ويحتمل انه أراد به القطع وهبة القطع لا تسقط الحد يدل عليه انه روى في بعض
الروايات أنه قال وهبت القطع وكدا يحتمل انه تصدق عليه بالمسروق أو وهبه منه ولكنه لم يقبضه والقطع إنما يسقط
بالهبة مع القبض وعلى هذا إذا باع المسروق من السارق قبل القضاء أو بعده على الاتفاق والاختلاف ولو زنى
بامرأة ثم تزوجها لا يسقط الحد لان الملك الثابت بالنكاح لا يحتمل الاستناد إلى وقت الوطئ فلا تثبت الشبهة في
الزنا فيحد (وأما) حكم السقوط بعد الثبوت لمانع وهو الشبهة وغيرها فدخول المسروق في ضمان السارق حتى لو
هلك في يده بنفسه أو استهلكه السارق يضمن لان المانع من الضمان هو القطع فإذا سقط القطع زال المانع فيضمن والله
تعالى أعلم والثاني وجوب رد عين المسروق على صاحبه إذا كان قائما بعينه وجملة الكلام فيه ان المسروق في يد
السارق لا يخلوا اما إن كان على حاله لم يتغير واما ان أحدث السارق فيه حدثا فإن كان على حاله رده على المالك لما
روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال على اليد ما أخذت حتى ترده وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال من
وجد عين ماله فهو أحق به وروى أنه عليه الصلاة والسلام رد رداء صفوان رضي الله عنه عليه وقطع السارق فيه
وكذلك إن كان السارق قد ملك المسروق رجلا ببيع أو هبة أو صدقة أو تزوج امرأة عليه أو كان السارق امرأته
فاختلعت من نفسها به وهو قائم في يد المالك فلصاحبه أن يأخذه لأنه ملكه إذا السرقة لا توجب زوال الملك عن العين
المسروقة فكان تمليك السارق باطلا ويرجع المشترى على السارق بالثمن الذي اشتراه به لما مر فإن كان قد هلك في
يدي القابض وكان البيع قبل القطع أو بعده فلا ضمان لا على السارق ولا على القابض لما بينا فيما تقدم وان أحدث
السارق فيه حدثا لا يخلو اما أن أحدث حدثا أوجب النقصان واما ان أحدث حدثا أوجب الزيادة فان أحدث
حدثا أوجب النقصان يقطع وتسترد العين على المالك وليس عليه ضمان النقصان لان نقصان المسروق هلاك بعضه
ولو هلك كله يقطع ولا ضمان على هكذا إذا هلك البعض ويرد العين لان القطع لا يمنع الرد ألا ترى انه لا يمنع رد الكل
فكذا البعض وان أحدث حدثا أوجب الزيادة فالأصل في هذا ان السارق إذا أحدث في المسروق حدثا لو أحدثه
الغاصب في المغصوب لا يقطع حق المالك ينقطع حق المسروق منه والا فلا الا أن في باب الغصب يضمن الغاصب
للمالك مثل المغصوب أو قيمته وههنا لا يضمن السارق لمانع وهو القطع إذا عرف هذا فنقول السارق إذا قطع الثوب
المسروق وخاطه قميصا انقطع حق المالك لأنه لو فعله الغاصب لا نقطع حق المغصوب منه كذا إذا فعله السارق ولا
89

ضمان على السارق لما بينا ولو صبغه أحمر أو أصفر فكذلك لا سبيل لمالك على العين المسروقة في قول أبي حنيفة رحمه
الله وفى قولهما يأخذ المالك الثوب ويعطيه ما زاد الصبغ فيه (وجه) قولهما انه لو وجد هذا من الغاصب لخير المالك
بين أن يضمن الغاصب قيمة الثوب وبين أن يأخذ الثوب ويعطيه ما زاد الصبغ فيه الا أن التضمين ههنا متعذر
لضرورة القطع فتعين الوجه الآخر وهو أن يأخذ الثوب ويعطيه ما زاد الصبغ فيه إذ الغصب والسرقة لا يختلفان في هذا
الباب الا في الضمان ولأبي حنيفة الفرق بين الغصب والسرقة ههنا وهو أن حق المغصوب منه إنما لم ينقطع عن الثوب
بالصبغ لان أصل الثوب ملكه وهو متقوم وللغاصب فيه حق متقوم أيضا الا انا أثبتنا الخيار للمالك لا الغاصب لان
المالك صاحب أصل والغاصب صاحب وصف وههنا حق السارق في الصبغ متقوم وحق المالك في أصل الثوب
ليس بمتقوم في حق السارق لأجل القطع ألا ترى أنه لو أتلفه السارق لا ضمان عليه فاعتبر حق السارق وجعل حق المالك
في الأصل تبعا لحقه في الوصف وتعذر تضمينه لضرورة القطع فيكون له مجانا ولكن لا يحل له أن ينتفع بهذا الثوب بوجه
من الوجوه كذا قال أبو حنيفة رحمه الله لان الثوب على ملك المسروق منه الا أنه تعذر رده وتضمينه في الحكم والقضاء
فما لم يملكه السارق لا يحل له الانتفاع به لأنه ملكه بوجه محظور من غير بدل لتعذر ايجاب الضمان فلا يباح له الانتفاع به
ويجوز أن يصير مال انسان في يد غيره على وجه يخرج من أن يكون واجب الرد والضمان إليه من طريق الحكم والقضاء
لكن لا يحل له الانتفاع به فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى كالمسلم إذا دخل الحرب بأمان فاخذ شيئا من أموالهم
لا يحكم عليه بالرد ويلزمه ذلك فيما بينه وبين الله جل جلاله وكذلك الباغي إذا أتلف مال العادل ثم تاب لا يحكم عليه
بالضمان ويفتى به فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى وكذلك الحربي إذا أتلف شيئا من مالنا ثم أسلم لا يحكم عليه بالرد ويفتى
بذلك فيما بينه وبين الله جلت عظمته وكذلك السارق إذا استهلك المسروق لا يقضى عليه بالضمان ولكن يفتى به فيما بينه
وبين الله تعالى وكذا قاطع الطريق إذا قتل انسانا بعصا ثم جاء تائبا بطل عنه الحد ويؤمر بأداء الدية إلى ولى القتيل
ولو قتل حربي مسلما بعصا ثم أسلم لا يفتى بدفع الدية إلى الولي بخلاف الباغي وقاطع الطريق والفرق أن القتل من
الحربي لم يقع سببا لوجوب الضمان لأنه عصمة المقتول لم تظهر في حقه فلا يجب بالاسلام لأنه يجب ما قبله وقال
الله تعالى قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف بخلاف قاطع الطريق لان فعله وقع سببا لوجوب الضمان
الا أنه لا يحكم بالضمان لمانع وهو ضرورة أقام الحد الا أن الحد إذا لم يجب لشبهة يحكم بالضمان فيظهر أثر المانع في الحكم
والقضاء لا في الفتوى وكذا فعل الباغي وقع سببا لوجوب الضمان لكن لم يحكم بالوجوب لمانع وهو عدم الفائدة لقيام
المنعة وهذا المانع يخص الحكم والقضاء فكان الوجوب ثابتا عند الله سبحانه وتعالى فيقضى به وعلى هذا يخرج ما إذا
سرق نقرة فضة فضربها دراهم أنه يقطع والدراهم ترد على صاحبها في قول أبي حنيفة وعندهما ينقطع حق المالك عن
الدراهم بناء على أن هذا الصنع لا يقطع حق المالك في باب الغصب عنده وعندهما ينقطع ولو سرق حديدا أو صفرا
أو نحاسا أو ما أشبه ذلك فضربها أواني ينظر إن كان بعد الصناعة والضرب تباع وزنا فهو على الاختلاف الذي ذكرنا
وإن كان تباع عددا فيقطع حق المالك بالاجماع كما في الغصب وعلى هذا إذا سرق حنطة فطحنها وغير ذلك من هذا
الجنس وسنذكر جملة ذلك في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى والله أعلم بالصواب
* (كتاب قطاع الطريق) *
الكلام في هذا الكتاب على نحو الكلام في كتاب السرقة وذلك في أربعة مواضع في باب ركن قطع لا طريق
وفي بيان شرائط الركن وفي بيان ما يظهر به قطع الطريق عند القاضي وفي بيان حكم قطع الطريق
* (فصل) * أما ركنه فهو الخروج على المارة لاخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع
الطريق سواء كان القطع من جماعة أو من واحد بعد أن يكون له قوة القطع وسواء كان القطع بسلاح أو غيره من العصا
90

والحجر والخشب ونحوها لان انقطاع الطريق يحصل بكل من ذلك وسواء كان بمباشرة الكل أو التسبيت من البعض
بالإعانة والاخذ لان القطع يحصل بالكل كما في السرقة ولان هذا من عادة القطاع أعنى المباشرة من البعض ولا إعانة
من البعض بالتسمير للدفع فلو لم يلحق التسبب بالمباشرة في سبب وجوب الحد لأدى ذلك إلى انفتاح باب قطع الطريق
وانسدا حكمه وأنه قبيح ولهذا الحق التسبب بالمباشرة في السرقة كذا ههنا
* (فصل) * وأما الشرائط فأنواع بعضها يرجع إلى القاطع خاصة وبعضها يرجع إلى المقطوع عليه خاصة وبعضها
يرجع إليهما جميعا وبعضها يرجع إلى المقطوع له وبعضها يرجع إلى المقطوع فيه (اما) الذي يرجع إلى القاطع خاصة
فأنواع (منها) أن يكون عاقلا (ومنها) أن يكون بالغا فإن كان صبيا أو مجنونا فلا حد عليهما لان الحد عقوبة فيستدعى
جناية وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية ولهذا لم يتعلق به القطع في السرقة كذا هذا ولو كان في القطاع صبي
أو مجنون فلا حد على أحد في قولهما وقال أبو يوسف رحمه الله إن كان الصبي هو الذي يلي القطع فكذلك وإن كان
غيره حد العقلاء البالغين وقد ذكرنا المسألة في كتاب السرقة (ومنها) الذكورة في ظاهر الرواية حتى لو كانت في القطاع
امرأة فوليت القتال وأخذ المال دون الرجال لا يقام الحد عليها في الرواية المشهورة وذكر الطحاوي رحمه الله وقال
النساء والرجال في قطع الطريق سواء وعلى قياس قوله تعالى يقام الحد عليها وعلى الرجال (وجه) ما ذكره الطحاوي
أن هذا حد يستوى في وجوبه الذكر والأنثى كسائر الحدود ولان الحد إن كان هو القطع فلا يشترط في وجوبه
الذكورة والأنوثة كسائر الحدود فلا يشترط في وجوبه الذكورة كحد السرقة وإن كان هو القتل فكذلك كحد الزنا
وهو الرجم إذا كانت محصنة (وجه) الرواية المشهورة أن ركن القطع وهو الخروج على المارة على وجه المحاربة والمغالبة
لا يتحقق من النساء عادة لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن فلا يكن من أهل الحراب ولهذا لا يقتلن في دار الحرب بخلاف
السرقة لأنها أخذ المال على وجه الاستخفاء ومسارقة الأعين والأنوثة لا تمنع من ذلك وكذا أسباب سائر الحدود
تتحقق من النساء كما تتحقق من الرجال (وأما) الرجال الذين معها فلا يقام عليهم الحد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله سواء باشروا معها أو لم يباشروا فرق أبو يوسف بين الصبي وبين المرأة حيث قال إذا باشر الصبي لاحد على من لم
يباشر من العقلاء البالغين وإذا باشرت المرأة تحد الرجال (ووجه) الفرق له أن امتناع الوجوب على المرأة ليس
لعدم الأهلية لأنها من أهل التكليف ألا ترى أنه تتعلق سائر الحدود بفعلها بل لعدم المحاربة منها أو نقصانها عادة وهذا
لم يوجد في الرجال فلا يمتنع وجوب الحد عليهم وامتناع الوجوب على الصبي لعدم أهلية الوجوب لأنه ليس من أهل
الايجاب عليه ولهذا لم يجب عليه سائر الحدود فإذا انتفى الوجوب عليه وهو أصل امتنع التبع ضرورة (وجه) قولهما
أن سبب الوجوب شئ واحد وهو قطع الطريق وقد حصل ممن يجب عليه وممن لا يجب عليه فلا يجب أصلا كما إذا
كان فيهم صبي أو مجنون والله سبحانه وتعالى (وأما) الحرية فليست بشرط لعموم قوله تبارك وتعالى إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساد الا آية من غير فصل بين الحر والعبد ولان الركن وهو قطع
الطريق يتحقق من العبد حسب تحققه من الحر فيلزمه حكمه كما يلزم الحر وكذلك الاسلام لما قلنا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقطوع عليه خاصة فنوعان أحدهما أن يكون مسلما أو ذميا فإن كان حربيا
مستأمنا لاحد على القاطع لان مال الحربي المستأمن ليس بمعصوم مطلق بل في عصمته شبهة العدم لأنه من أهل دار
الحرب وإنما العصمة بعارض الأمان مؤقتة إلى غاية العود إلى دار الحرب فكان في عصمته شبهة الإباحة فلا يتعلق
الحد بالقطع كما لا يتعلق بسرقة ماله بخلاف الذمي لان عقد الذمة أفاد له عصمة ماله على التأبيد فتعلق الحد بأخذه
كما يتعلق بسرقته والثاني أن تكون يده صحيحة بأن كانت يد ملك أو يد أمانة أو يد ضمان فإن لم تكن صحيحة كيد
السارق لاحد على القاطع كما لا حد على السارق على ما مر في كتاب السرقة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إليهما جميعا فواحد وهو أن لا يكون في القطاع ذو رحم محرم من أحد من المقطوع عليهم
91

فإن كان لا يجب الحد لان بينهما تبسطا في المال والحرز لوجود الاذن بالتناول عادة فقد أخذ ما لم يحرزه عنه الحرز
المبنى في الحضر ولا السلطان الجاري في السفر فأورث ذلك شبهة في الأجانب لاتحاد السبب وهو قطع الطريق
وكان الجصاص يقول جواب الكتاب محمول على ما إذا كان المأخوذ مشتركا بين المقطوع عليهم وفى القطاع من
هو ذو رحم محرم من أحدهم فأما إذا كان لكل واحد منهم مال مفرز يجب الحد على الباقين وجواب الكتاب مطلق
عن هذا التفصيل والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يرجع إلى المقطوع له فما ذكر في كتاب السرقة وهو أن يكون المأخوذ مالا متقوما معصوما
ليس فيه لاحد حق الاخذ ولا تأويل التناول ولا تهمة التناول مملوكا لا ملك فيه للقاطع ولا تأويل الملك ولا شبهة
الملك محرزا مطلقا بالحافظ ليس فيه شبهة العدم نصابا كاملا عشرة دراهم أو مقدرا بها حتى لو كان المال المأخوذ
لا يصيب كل واحد من القطاع عشرة لاحد عليهم وقد ذكرنا دلائل هذه الشرائط والمسائل التي تخرج عليها في كتاب
السرقة وشرط الحسن بن زياد في نصاب قطع الطريق أن يكون عشرين درهما فصاعدا وقال عيسى بن زياد ان
قتلوا قتلوا وإن كان ما أخذ كل واحد منهم أقل من عشرة (وجه) قول الحسن ان الشرع قدر نصاب السرقة بعشرة
والواجب فيها قطع طرف الواحد وههنا يقطع طرفان فيشترط نصابان وذلك عشرون (وجه) قول عيسى رحمه
الله انا أجمعنا على أنهم قتلوا ولم يأخذوا المال أصلا قتلوه فإذا أخذوا شيئا من المال وان قل أولى أن يقتلوا (ولنا)
الفرق بين النوعين وهو أنهم لما قتلوا ولم يأخذوا المال أصلا على أن مقصودهم القتل لا المال والقتل جناية متكاملة في
نفسها فيجازى بعقوبة متكاملة وهي القتل ولما أخذوا المال وقتلوا دل أن مقصودهم المال وإنما قتلوا ليتمكنوا من
أخذ المال وأخذ المال لا يتكامل جناية الا إذا كان المأخوذ نصابا كما في السرقة والله تعالى أعلم
* (فصلى) * وأما الذي يرجع إلى المقطوع فيه وهو المكان فنوعان أحدهما أن يكون قطع الطريق في دار
الاسلام فإن كان في دار الحرب لا يجب الحد لان المتولي لإقامة الحد هو الامام وليس له ولاية في دار الحرب فلا يقدر
على الإقامة فالسبب حين وجوده لم ينعقد سببا للوجوب لعدم الولاية فلا يستوفيه في دار الاسلام ولهذا لا يستوفى
سائر الحدود في دار الاسلام إذا وجد أسبابها في دار الحرب كذا هذا والثاني أن يكون في غير مصر فإن كان في مصر
لا يجب الحد سواء كان القطع نهارا أو ليلا وسواء كان بسلاح أو غيره وهذا استحسان وهو قولهما والقياس ان
يجب وهو قول أبى يوسف (وجه) القياس أن سبب الوجوب قد تحقق وهو قطع الطريق فيجب الحد كما لو كان
في غير مصر (وجه) الاستحسان أن القطع لا يحصل بدون الانقطاع لا يحصل بدون الانقطاع والطريق لا ينقطع في الأمصار وفيما بين
القرى لان المارة لا تمتنع عن المرور عادة فلم يوجد السبب وقيل إنما أجاب أبو حنيفة عليه الرحمة على ما شاهده في
زمانه لان أهل الأمصار كانوا يحملون السلاح فالقطاع ما كانوا يتمكنون من مغالبتهم في المصر والآن ترك الناس هذه
العادة فتمكنهم المغالبة فيجرى عليهم الحد وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن قطع الطريق بين الحيرة والكوفة
انه لا يجرى عليه الحد لان الغوث كان يلحق هذا الموضع في زمانه لاتصاله بالمصر والآن صار ملتحقا بالبرية فلا يلحق
الغوث فيتحقق قطع الطريق والثالث أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر فإن كان أقل من ذلك لم يكونوا قطاع
الطريق وهذا على ما قولهما فاما على قول أبى يوسف فليس بشرط ويكونون قطاع الطريق والوجه ما بينا فيجب
الحد وروى عن أبي يوسف في قطاع الطريق في المصر ان قاتلوا نهارا بسلاح يقام عليهم الحد وان خرجوا بخشب
لهم لم يقم عليهم لان السلاح لا يلبث فلا يلحق الغوث والخشب يلبث فالغوث يلحق وان قاتلوا ليلا بسلاح أو
بخشب يقام عليهم الحد لان الغوث قلما يلحق بالليل فيستوى فيه السلاح وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أشهر
على رجل سلاحا نهارا أو ليلا في غير مصر أو في مصر فقتله المشهور عليه عمدا فلا شئ عليه وكذلك ان شهر عليه عصا
ليلا في غير مصر أو في مصر وإن كان نهارا في مصر فقتله المشهور عليه يقتل به والأصل في هذا ان من قصد قتل
92

انسان لا ينهدر دمه ولكن ينظر إن كان المشهور عليه يمكنه دفعه عن نفسه بدون القتل لا يباح له القتل وإن كان لا يمكنه
الدفع الا بالقتل يباح له القتل لأنه من ضرورات الدفع فان شهر عليه سيفه يباح له أن يقتله لأنه لا يقدر على الدفع الا
بالقتل ألا ترى انه لو استغاث الناس لقتله قبل ان يلحقه الغوث إذا السلاح لا يلبث فكان القتل من ضرورات الدفع
فيباح قتله فإذا قتله فقد قتل شخصا مباح الدم فلا شئ عليه وكذا إذا شهر عليه العصا ليلا لان الغوث لا يلحق بالليل
عادة سواء كان في المفازة أو في المصر وان أشهر عليه نهارا في المصر لا يباح قتله لأنه يمكنه دفع شره بالاستغاثة بالناس
وإن كان في المغازة يباح قتله لأنه لا يمكنه الاستغاثة فلا يندفع شره الا بالقتل فيباح له القتل وروى أبو يوسف عن
أبي حنيفة رضي الله عنهما انه لو قصد قتله بما لو قتله به لوجب عليه القصاص فقتله المقصود قتله لا يجب عليه القصاص
لأنه يباح قتله إذ لو لم يبح لقتله القاصد وإذا قتله يقتل به قصاصا فكان فيه اتلاف نفسين فإذا أبيح قتله كان
فيه اتلاف أحدهما فكان أهون ولو قصد قتله بما لو قتله به لكان لا يجب القصاص لا يباح للمقصود قتله أن يقتل
القاصد فان قتله يجب عليه القصاص لأنه ليس في ترك الإباحة ههنا اتلاف نفس فلا يباح فإذا قتله فقد قتل شخصا
معصوم الدم على الأبد فيجب القصاص والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يظهر به القطع عند القاضي فالذي يظهر به البينة أو الاقرار عقيب خصومة صحيحة ولا
يظهر بعلم القاضي على ما ذكرنا في كتاب السرقة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم قطع الطريق فله حكمان أحدهما يتعلق بالنفس والآخر يتعلق بالمال أما الذي يتعلق
بالنفس فهو وجوب الحد والكلام في هذا الحكم في مواضع في بيان أصل هذا الحكم وفي بيان صفاته وفي بيان
محل إقامته وفي بيان من يقيمه وفي بيان ما يسقطه بعد الوجوب وفي بيان حكم السقوط بعد الوجوب أو عدم
الثبوت لمانع أما أصل الحكم الذي يتعلق بالنفس فلن يمكن الوصول إلى معرفته الا بعد معرفة أنواع قطع الطريق
لأنه يختلف باختلاف أنواعه فنقول وبالله التوفيق قطع الطريق أربعة أنواع اما أن يكون بأخذ المال لا غير واما أن يكون
بالقتل لا غير واما أن يكون بهما جميعا واما أن يكون بالتخويف من غير أخذ ولا قتل فمن أخذ المال ولم يقتل
قطعت يده ورجله من خلاف ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال وقتل قال أبو حنيفة رضي الله عنه الامام
بالخيار ان شاء قطع يده ورجله ثم قتله أو صلبه وان شاء لم يقطعه وقتله أو صلبه وقيل إن تفسير الجمع بين القطع والقتل
عند أبي حنيفة رحمه الله هو ان يقطعه الامام ولا يحسم موضع القطع بل يتكره حتى يموت وعندهما يقتل ولا يقطع ومن
أخاف ولم يأخذ مالا ولا قتل نفسا ينفى وقال مالك رحمه الله في قاطع الطريق مخير بين الا جزية المذكورة والأصل
فيه قوله عز وجل إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض احتج مالك رحمه الله بظاهر الآية وهو ان الله تبارك وتعالى ذكر
الا جزية فيها بحرف أو وانها للتخيير كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد فيحب العمل بحقيقة هذا الحرف الا
حيث قام الدليل بخلافها (ولنا) أنه لا يمكن اجراء الآية على ظاهر التخيير في مطلق المحارب لان الجزاء على قدر الجناية
يزداد بزيادة الجناية وينتقص بنقصانها هذا هو مقتضى العقل والسمع أيضا قال الله تبارك وتعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها
فالتخيير في الجناية القاصرة بالجزاء في الجزاء الذي هو جزاء في الجناية الكاملة وفى الجناية الكاملة بالجزاء الذي هو جزاء
في الجناية القاصرة خلاف المشروع يحققه ان الأمة اجتمعت على أن انقطاع لو أخذوا المال وقتلوا لا يجازون
بالنفي وحده وإن كان ظاهر الآية يقتضى التخيير بين الا جزية الأربع دل أنه لا يمكن العمل بظاهر التخيير على أن
التخيير الوارد في الأحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير إنما يجرى على ظاهره إذا كان سبب الوجوب
واحدا كما في كفارة اليمين وكفارة جزاء الصيد أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه كما في قوله تعالى قلنا يا ذا القرنين اما أن تعذب واما أن تتخذ فيهم حسنا ان ذلك ليس للتخيير بين المذكورين بل لبيان
93

الحكم لكل في نفسه لاختلاف سبب الوجوب وتأويله اما أن تعذب من ظلم أو تتخذ الحسن فيمن آمن وعمل
صالحا ألا ترى إلى قوله أما من ظلم فسوف نعذبه الآية وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء
الحسنى الآية وقطع الطريق
متنوع في نفسه وإن كان متحدا من حيث الذات قد يكون بأخذ المال وحده وقد يكون بالقتل لا غير وقد يكون
بالجمع بين الامرين وقد يكون بالتخويف لا غير فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير بل على بيان
الحكم لكل نوع أو يحتمل هذا ويحتمل ما ذكرتم فلا يكون حجة مع الاحتمال وإذا لم يمكن صرفت الآية الشريفة
إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب فاما أن يحمل على الترتيب ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع
الطريق كأنه قال سبحانه وتعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو
يصلبوا ان أخذوا المال وقتلوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ان أخذوا المال لاغير أو ينفوا من الأرض
ان أخافوا هكذا ذكر سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة
رضي الله عنه بأصحابه الطريق على أناس جاؤوا يريدون الاسلام أن من قتل قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت
يده ورجله من خلاف ومن قتل وأخذ المال صلب ومن جاء مسلما هدم الاسلام ما كان قبله من الشرك
والى هذا التأويل يذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي واما ان يعمل بظاهر التخيير بين
الا جزية الثلاثة لكن في محارب خاص وهو الذي أخذ المال وقتل فكان العمل بظاهر التخيير على هذا الوجه
أقرب من ظاهر الآية لان الله تبارك وتعالى جمع بين القتل وقطع الطريق في الذكر بقوله تبارك وتعالى
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا فالمحاربة هي القتل والفساد في الأرض هو قطع
الطريق فأوجب سبحانه وتعالى أحد الا جزية من الفعلين بما ذكر وفيه عمل بحقيقة حرف التخيير وعمل بحقيقة
ما أضيف إليه الجزاء وهو ما ذكر سبحانه وتعالى من المحاربة والسعي في الأرض بالفساد فكان أقرب إلى ظاهر الآية
إلى هذا التأويل يذهب الحسن وابن المسيب ومجاهد وغيرهم رضي الله عنهم ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا
بالتأويل الأول وهو تأويل الترتيب في المحارب إذا أخذ المال وقيل إنه يقتل لا غير لان سيدنا جبريل عليه الصلاة
والسلام ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما مر وحد قطاع الطريق لم يعرف الا بهذا النص ولان أخذ المال
والقتل جناية واحدة وهي جناية قطع الطريق فلا يقابل الا بعقوبة واحدة والقتل والقطع عقوبتان على أنهما إن كانت
ا جنايتين يجب بكل واحدة منهما جزاء عند الانفراد حقا لله تعالى لكنهما إذا اجتمعا يدخل ما دون النفس في
النفس كالسارق إذا زنى وهو محصن وكمن زنا وهو غير محصن ثم أحصن فزنى انه يرجم لا غير كذا ههنا ولأنه لا فائدة
في إقامة القطع لان ما هو المقصود من الحد وهو الزجر وما هو غير مقصود به وهو التكفير يحصل بالقتل وحده فلا يفيد
القطع فلا يشرع وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بالتأويل الثاني وهو التخيير بين الا جزية الثلاثة في المحارب الذي جمع بين
أخذ بالمال والقتل وهو أحق التأويلين للآية لما ذكرنا ان فيه عملا بحقيقة حرف التخيير وبحقيقة ما أضيف إليه الجزاء
وهو المحاربة والسعي في الأرض بالفساد فكان أقرب إلى ظاهر الآية وإنما عرفنا حكم أخذ المال وحده وحكم القتل
وحده لا بهذه الآية الشريفة ولكن بحديث سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام أو غيره أو بالاستدلال بحالة
الاجتماع وهو انه لما وجب الجمع بين الموجبين عند وجود القطعين يجب القبول بافراد كل واحد منهما عند الانفراد
ويمكن أن يقال إنه يقول في تأويل الآية الكريمة بالترتيب فيوجب الصلب بظاهر الآية الشريفة والقطع بالاستدلال
بحالة الانفراد انه يجب على كل واحد منهما فعند الاجتماع يجب ان يجمع الا ان في بعض المواضع قام دليل اسقاط
الأخف ولم يقم ههنا بل قام دليل الوجوب لان مبنى هذا الباب على التغليظ ألا ترى انه يجمع بين قطع اليد
والرجل في أخذ المال ولا يجمع بينهما في أخذ المال في المصر وكذلك يصلب في القتل وحده ههنا ولم يجب ان يصلب
في غيره من القتل في المصر فكذا جاز ان يجمع بين الموجبين عند مباشرة النوعين ههنا دون سائر المواضع والله سبحانه
94

وتعالى أعلم وأما كيفية الصلب فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله أنه يصلب حيا ثم يطعن برمح حتى يموت وكذا
ذكر الكرخي وعن أبي عبيد انه يقتل ثم يصلب وكذا ذكر الطحاوي رحمه الله لان الصلب حيا من باب لمثلة وقد نهى النبي
عليه الصلاة والسلام عن المثلة والصحيح هو الأول لان الصلب في هذا الباب شرع لزيادة في العقوبة تغليظا
والميت ليس من أهل العقوبة ولأنه لو جاز ان يقال بصلب بعد الموت لجاز أن يقال تقطع يده ورجله من خلاف بعد
الموت وذلك بعيد فكذا هذا والمراد من المثلة في الحديث قطع بعض الجوارح كذا قاله محمد رحمه الله وقيل إذا
صلبه الامام تركه ثلاثة أيام عبرة للخلق ثم يخلى بينه وبين أهله لأنه بعد الثلاث يتغير فيتضرر به الناس وأما النفي في قوله
تبارك وتعالى أو ينفوا من الأرض فقد اختلف أهل التأويل فيه قال بعضهم المراد منه وينفوا من الأرض بحذف
الألف ومعناه وينفوا من الأرض بالقتل والصلب إذا هو النفي من وجه الأرض حقيقة وهذا على قول من تأول الآية
الشريفة في المحارب الذي أخذ المال وقيل إن الامام يكون مخيرا بين الا جزية الثلاثة والنفي من الأرض ليس غير
واحد من هذه الثلاثة في التخيير لان بالقتل والصلب يحصل النفي فكذا لا يجوز أن يجعل النفي مشاركا الا جزية
الثلاثة في التخيير لأنه لا يزاحم القتل لأنه دونه بكثير وقيل نفيه ان يطرد حتى يخرج من دار الاسلام وهو قول الحسن
وعن إبراهيم النخعي رحمه الله في رواية أن نفيه طلبه وبه قال الشافعي رحمه الله أنه يطلب في كل بلد والقولان لا يصحان
لأنه ان طلب في البلد الذي قطع الطريق ونفى عنه فقد ألقى ضرره إلى بلد آخر وان طلب من كل بلد من بلاد
الاسلام ونفى عنه يدخل دار الحرب وفيه تعريض له على الكفر وجعله حربا لنا وهذا لا يجوز وعن النخعي رحمه
الله في رواية أخرى انه يحبس حتى يحدث توبة وفيه نفى عن وجه الأرض مع قيام الحياة الا عن الموضع الذي حبس
فيه ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفيا عن وجه الأرض وخروجا عن الدنيا كما أنشد لبعض المحبوسين
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الاحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
* (فصل) * وأما صفات هذا الحكم فأنواع منها انه ينفى وجوب ضمان المال والجراحات عمدا كانت الجراحة
أو خطأ أما المال فلانه لا يجمع بين الحد والضمان عندنا وأما الجراحات إذا كانت خطأ فلأنها توجب الضمان وإن كان
ت عمدا فلان الجناية فيما دون النفس يسلك بها مسلك الأموال ولا يجب ضمان المال فكذا ضمان الجراحات وقد
ذكرنا ما يتعلق من المسائل بهذا الأصل في كتاب السرقة ومنها أن يجرى فيها لتداخل حتى لو قطع قطعات فرفع في
بعضها فقطعت يده ورجله فيما رفع فيه كان ذلك القطعات كلها كما في السرقة الا أن ثمة التداخل لاحتمال عدم الفائدة مع
بقاء محل القطع وهو الرجل اليسرى وههنا التداخل لعدم المحل والكلام في الضمان فيما لم يخاصم فيه ما هو الكلام في
السرقة انه إذا كان المال قائما يرده وإن كان هالكا فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في كتاب السرقة ومنها انه لا يحتمل
العفو والاسقاط والابراء والصلح عنه فكل ما وجب على قاطع الطريق من قتل أو قطع أو صلب يستوفى منه سواء عفا
الأولياء وأرباب الأموال عن ذلك أو لم يعفوا وسواء أبرؤا منه أو صالحوا عليه وليس للامام أيضا إذا ثبت ذلك عنده
تركه واسقاطه والعفو عنه لان الواجب حد والحدود حقوق الله تبارك وتعالى فلا يعمل فيها العبد ولا صلحه
ولا الابراء عنها
* (فصل) * وأما محل إقامة هذا الحكم فنقول محل إقامة هذا الحكم يختلف باختلاف الحكم فإن كان الحكم هو القتل بان
قتل أو أخذ المال وقتل أو الحبس بان لم يأخذ المال ولم يقتل ولكنه خوف لا غير فمحل إقامته النفس وإن كان الحكم
هو القطع بان أخذ المال لا غير فمحل إقامته اليد اليمين والرجل اليسرى لقوله تبارك وتعالى أو تقطع أيديهم وأرجلهم
من خلاف ويعتبر في ذلك سلامة اليد اليسرى والرجل اليمنى على ما ذكرنا في كتاب السرقة وكذلك حكم فعل
الحداد إذا قطع اليد اليسرى مكان اليمنى معتمدا أو مخطئا وحكم فعل الأجنبي إذا قطع اليد اليسرى خطأ أو عمدا ههنا
95

مثل الحكم في السرقة وقد استوفينا الكلام فيه في كتاب السرقة وكذا محل القطع من اليد اليمنى هو المفصل كما في
السرقة والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان من يقيم هذا الحكم فالذي يقيمه الامام أو من ولاه الامام الإقامة ليس إلى الأولياء ولا إلى
أرباب الأموال شئ بل يقيمه الامام طالب الأولياء وأرباب الأموال بالإقامة أو لم يطالبوا وهذا عندنا وعند
الشافعي رحمه الله المولى يملك إقامة الحد على مملوكه من غير تولية الامام والكلام في هذا الفصل على الاستقصاء ذكرناه
في كتاب الحدود
* (فصل) * وأما بيان ما يسقط هذا الحكم بعد وجوبه فالمسقط له بعد الوجوب أشياء ذكرناها في كتاب
السرقة (منها) تكذيب المقطوع عليه القاطع في اقراره بقطع الطريق انه لم يقطع عليه الطريق (ومنها) رجوع
القاطع عن اقراره بقطع الطريق (ومنها) تكذيب المقطوع عليه البينة (ومنها) ملك القاطع المقطوع له وهو
المال قبل الترافع أو بعده على التفصيل على الاختلاف الذي ذكرناه في كتاب السرقة (ومنها) توبة القاطع قبل
أن يقدر عليه لقوله تعالى الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم أي رجعوا عما فعلوا
فندموا على ذلك وعزموا على أن لا يفعلوا مثله في المستقبل فدلت هذه الآية الشريفة على أن قاطع الطريق إذا تاب
قبل ان يظفر به يسقط عنه الحد وتوبته برد المال على صاحبه إن كان أخذ المال لا غير مع العزم على أن لا يفعل مثله
في المستقبل ويسقط عنه القطع أصلا ويسقط عنه القتل حدا وكذلك ان أخذ المال وقتل حتى لم يكن للامام ان
يقتله ولكن يدفعه إلى أولياء القتيل ليقتلوه قصاصا إن كان القتل بسلاح على ما نذكره إن شاء الله تعالى وان لم يأخذ
المال ولم يقتل فتوبته الندم على ما فعل والعزم على ترك مثله في المستقبل وهو ان يأتي الامام عن طوع واختيار ويظهر
التوبة عنده ويسقط عنه الحبس لان الحبس للتوبة وقد تاب فلا معنى للحبس وكذلك السرقة الصغرى إذا تاب
السارق قب ان يظفر به ورد المال إلى صاحبه يسقط عنه القطع بخلاف سائر الحدود انها لا تسقط بالتوبة والفرق
ان الخصومة شرط في السرقة الصغرى والكبرى لان محل الجناية خالص حق العباد والخصومة تنتهى بالتوبة والتوبة
تمامها برد المال إلى صاحبه فإذا وصل المال إلى صاحبه لم يبق له حق الخصومة مع السارق بخلاف سائر الحدود فان
الخصومة فيها ليست بشرط فعدمها لا يمنع من إقامة الحدود في حد القذف إن كانت شرطا لكنها لا تبطل بالتوبة
لان بطلانها برد المال إلى صاحبه ولم يوجد وقد روى عن سيدنا علي رضي الله عنه انه كتب إليه عامله بالبصرة ان حارثة
ابن زيد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فكتب إليه سيدنا علي رضي الله عنه ان حارثة قد تاب قبل ان
تقدر عليه فلا تتعرض له الا بخير هذا إذا تاب قاطع طريق قبل القدرة عليه فاما إذا تاب بعد ما قدر عليه بان أخذ
ثم تاب لا يسقط عنه الحد لان التوبة عن السرقة إذا أخذ المال برد المال على صاحبه وبعد الاخذ لا يكون رد المال
بل يكون استردادا منه جبرا فلا يسقط الحد وإذا لم يأخذ المال فهو بعد الاخذ متهم في اظهار التوبة فلا تتحقق توبته
والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم سقوط الحد بعد الوجوب وحكم عدم الوجوب لمانع فنقول وبالله التوفيق إذا سقط
الحد بعد التوبة قبل ان يقدر عليهم فإن كانوا أخذوا المال لا غير ردوه على صاحبه إن كان قائما وإن كان هالكا أو
مستهلكا فعليهم الضمان وإن كانوا قتلوا لا غير يدفع من قتل منهم بسلاح إلى الأولياء ليقتلوه أو يعفوا عنه ومن قتل
بعصا أو حجر فعلى عاقلته الدية لورثة المقتول وإن كانوا أخذوا المال وقتلوا فحكم أخذ المال والقتل عند الاجتماع ما هو
حكمها عند الانفراد وقد ذكرناه وإنما كان كذلك لان الحد إذا سقط بالتوبة قبل القدرة صار حكم القتل وأخذ المال
وهلاكه استهلاكه ما هو حكمها في غير قطع الطريق ما قلنا وإن كانوا أخذوا المال وجرحوا أو أخذوا المال وقتلوا
وجرحوا قوما أو جرحوا قوما ولم يكن منهم أخذ ولا قتل فحكم القتل والمال ما ذكرنا والجراحات فيها القصاص فيما يقدر
96

فيه على القصاص والأرش فيما لا يقدر عليه لان عند سقوط الحد صار كان الجراحة حصلت من غير قطع الطريق ولو
كان كذلك كان حكمه ما ذكرنا فكذا هذا وكذلك ان قدر عليهم قبل التوبة ولم يكن منهم قتل ولا أخذ مال وقد أخافوا
قوما بجراحات يجب القصاص فيما يستطاع فيه الاقتصاص والدية فيما لا يستطاع فيودعون السجن لان الحبس
وجب عليهم تعزيزا لا حدا والتعزيز لا تدخل فيه الجراحة بخلاف ما إذا قدر عليهم قبل التوبة وقد قتلوا أو أخذوا
المال أو جمعوا بينهما لان الواجب فيه الحد فيدخل فيه الجراحة وكذلك إذا سقط الحد بالرجوع عن الاقرار لان
الرجوع عن الاقرار يصح في حق سقوط الحد ولا يصح في حق ضمان المال والقصاص فبقي اقراره معتبرا في
حقهما (وأما) إذا كان السقوط بتكذيب الحجة من الاقرار أو البينة لا شئ عليهم لان سبب الوجوب لم يثبت لان
ثبوته بالحجة وقد بطلت أصلا ورأسا بخلاف الرجوع عن الاقرار لان الأصل ان اقرار المقر حجة في حقه الا انه تعذر
اعتباره بعد الرجوع في حق الحد درأ للحد بالشبهة فبقي معتبرا في حق ضمان المال والقصاص فهو الفرق وعلى هذا
حكم عدم الوجوب لمانع بان فات شرط من شرائط وجوب الحد نحو نقصان النصاب بأن كان المأخوذ من المال
لا يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم انهم يردونه إن كان قائما ويضمنون إن كان هالكا أو مستهلكا ومن قتل منهم
فإن كان بسلاح فعليه القصاص وإن كان بعصا أو حجر فعلى عاقلته الدية ومن جرح يقتص منه فيما يمكن القصاص وفيما
لا يمكن يجب الأرش لما ذكرنا ان الحد إذا امتنع وجوبه فقد حصل الاخذ والقتل والجراحة من غير قطاع الطريق
وحكمها في غير قطاع الطريق ما قلنا وكذلك إذا كان في المحاربين بين صبي أو مجنون حتى امتنع وجوب الحد يدفع كل بالغ
عاقل قتل منهم بسلاح إلى الأولياء فيقتلون أو يعفون وإن كان الذي ولى القتل منهم صبي أو مجنون فعلى عاقلته الدية
وان قتل بسلاح لان الصبي والمجنون ليسا من أهل وجوب القصاص عليهما فكان عمدهما خطا وإن كانا أخذا المال
ضمنا لأنهما من أهل وجوب ضمان المال وكذلك إذا امتنع وجوب الحد على القطاع لمعنى من المعاني رجعوا في ذلك
إلى حكم غير القطاع والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الحكم الذي يتعلق بالمال فهو وجوب الرد إن كان قائما بعينه ولصاحبه ان يأخذه أينما وجده سواء
وجده في يد المحارب أو في يد من ملكه المحارب ببيع أو هبة أو غير ذلك ولو تغير المال إلى الزيادة أو النقصان فقد ذكرنا
حكمه في كتاب السرقة والله تعالى أعلم
* (كتاب السير) *
وقد يسمى كتاب الجهاد والكلام في هذا الكتاب في مواضع في بيان معنى السير والجهاد لغة وشرعا وفي بيان كيفية
الجهاد وفي بيان من يفترض عليه الجهاد وفي بيان ما يندب إليه الامام عند بعث الجيس أو السرية إلى الجهاد وفي بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حال شهود الوقعة وفي بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل وفي بيان من
يجوز تركه ممن لا يحل قتله في دار الحرب ومن لا يجوز وفي بيان ما يكره حمله إلى دار الحرب وما لا يكره وفي بيان
ما يعترض من الأسباب المحرمة للقتال وفي بيان حكم الغنائم وما يتصل بها وفي بيان حكم استيلاء الكفرة على
أموال المسلمين وفي بيان أحكام تختلف باختلاف الدارين وفي بيان أحكام المرتدين وفي بيان أحكام الغزاة
(أما) الأول فالسير جمع سيرة والسيرة في اللغة تستعمل في معنيين أحدهما الطريقة يقال هما على سيرة واحدة أي
طريقة واحدة والثاني الهيأة قال الله سبحانه وتعالى سنعيدها سيرتها الأولى أي هيأتها فاحتمل تسمية هذا
الكتاب كتاب السير لما فيه من بيان طرق الغزاة وهيآتهم مما لهم وعليهم وأما الجهاد في اللغة فعبارة عن بذل الجهد
بالضم وهو الوسع والطاقة أو عن المبالغة في العمل من الجهد بالفتح وفى عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة
بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك والله تعالى أعلم
97

* (فصل) * وأما بيان كيفية فرضية الجهاد فالامر فيه لا يخلو من أحد وجهين اما إن كان النفير عاما (واما) ان لم يكن
فإن لم يكن النفير عاما فهو فرض كفاية ومعناه ان يفترض على جميع من هو من أهل الجهاد لكن إذا قام به البعض سقط
عن الباقين لقوله عز وجل فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدة درجة وكلا وعد الله الحسنى وعد الله
عز وجل المجاهدين والقاعدين الحسنى ولو كان الجهاد فرض عين في الأحوال كلها لما وعد القاعدين الحسنى لان
القعود يكون حراما وقوله سبحانه وتعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين الآية ولان ما فرض له الجهاد وهو الدعوة إلى الاسلام واعلاء الدين الحق ودفع شر الكفرة وقهرهم يحصل
بقيام البعض به وكذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يبعث السرايا ولو كان فرض عين في الأحوال كلها لكان
لا يتوهم منه القعود عنه في حال ولا اذن غيره بالتخلف عنه بحال وإذا كان فرضا على الكفاية فلا ينبغي للامام ان يخلى
ثغرا من الثغور من جماعة من الغزاة فيهم غنا وكفاية لقتال العدو فإذا قاموا به يسقط عن الباقين وان ضعف أهل ثغر
عن مقاومة الكفرة وخيف عليهم من العدو فعلى من وراءهم من المسلمين الأقرب فالأقرب ان ينفروا إليهم وان
يمدوهم بالسلاح والكراع والمال لما ذكرنا انه فرض على الناس كلهم ممن هو من أهل الجهاد لكن الفرض يسقط عنهم
بحصول الكفاية بالبعض فما لم يحصل لا يسقط ولا يباح للعبد ان يخرج الا بإذن مولاه ولا المرأة الا باذن زوجها لان
خدمة المولى والقيام بحقوق الزوجية كل ذلك فرض عين فكان مقدما على فرض الكفاية وكذا الولد لا يخرج الا
باذن والديه أو أحدهما إذا كان الاخر ميتا لان بر الوالدين فرض عين فكان مقدما على فرض الكفاية والأصل
ان كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك ويشتد فيه الخطر لا يحل للولد ان يخرج إليه بغير اذن والديه لأنهما يشفقان على
ولدهما فيتضرران بذلك وكل سفر لا يشتد فيه الخطر يحل له ان يخرج إليه بغير اذنهما إذا لم يضيعهما لانعدام الضرر
ومن مشايخنا من رخص في سفر التعلم بغير اذنهما لأنهما لا يتضرران بذلك بل ينتفعان به فلا يلحقه سمة العقوق هذا
إذا لم يكن النفير عاما فاما إذا عم النفير بان هجم العدو على بلد فهو فرض عين يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين ممن
هو قادر عليه لقوله سبحانه وتعالى انفروا خفافا وثقالا قيل نزلت في النفير وقوله سبحانه وتعالى ما كان لأهل المدينة
ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ولان الوجوب على الكل قبل
عموم النفير ثابت لان السقوط عن الباقين بقيام البعض به فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به الا بالكل فبقي فرضا على
الكل عينا بمنزلة الصوم والصلاة فيخرج العبد بغير اذن مولاه والمرأة بغير اذن زوجها لان منافع العبد والمرأة في حق
العبادات المفروضة عينا مستثناة عن ملك المولى والزوج شرعا كما في الصوم والصلاة وكذا يباح للولد أن يخرج بغير
اذن والديه لان حق الوالدين لا يظهر في فروض الأعيان كالصوم والصلاة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان من يفترض عليه فنقول إنه لا يفترض الا على القادر عليه فمن لا قدرة عليه لا جهاد عليه لان الجهاد
بذل الجهد وهو الوسع والطاقة بالقتال أو المبالغة في عمل القتال ومن لا وسع له كيف يبذل الوسع والعمل فلا يفرض
على الأعمى والأعرج والزمن والمقعد والشيخ والهرم والمريض والضعيف والذي لا يجد ما ينفق قال الله سبحانه
وتعالى ليس على الأعمى حرج الآية وقال سبحانه وتعال عز من قائل ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على
الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله فقد عذر الله جل شأنه هؤلاء بالتخلف عن الجهاد ورفع
الحرج عنهم ولا جهاد على الصبي والمرأة لان بنيتهما لا تحتمل الحرب عادة وعلى هذا الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين
ما لا طاقة لهم به وخافوهم ان يقتلوهم فلا بأس لهم ان ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم والحكم
في هذا الباب لغالب الرأي وأكبر الظن دون العدد فان غلب على ظن الغزاة انهم يقاومونهم يلزمهم الثبات وإن كانوا
أقل عددا منهم وإن كان غالب ظنهم انهم يغلبون فلا بأس ان ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم وإن كانوا أكثر عددا
من الكفرة وكذا الواحد من الغزاة ليس معه سلاح مع اثنين منهم معهما سلاح أو مع واحد منهم من الكفرة ومعه
98

سلاح لا بأس أن يولى دبره متحيزا إلى فئة والأصل فيه قوله تبارك وتعالى ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو
متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير الله عز شأنه نهى المؤمنين عن تولية الادبار عاما بقولة
تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار وأوعد عليهم بقوله سبحانه وتعالى ومن
يولهم يومئذ دبره فقد باء بغضب من الله الآية لان في الكلام تقديما وتأخيرا معناه والله سبحانه وتعالى أعلم يا أيها الذين
آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره فقد باء بغضب من الله ثم استثنى سبحانه
وتعالى من يولى دبره لجهة مخصوصة فقال عز من قائل الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة والاستثناء من الخطر إباحة
فكان المحظور تولية مخصوصة وهي ان يولى دبره غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فبقيت التولية إلى جهة
التحرف والتحيز مستثناة من الحظر فلا تكون محظورة ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى من كفر بالله من بعد ايمانه
الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم انه على
التقديم والتأخير على ما نذكره في كتاب الاكراه إن شاء الله تعالى وبه تبين أن الآية الشريفة غير منسوخة وكذا
قوله سبحانه وتعالى ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وقوله وان يكن منكم مائة يغلبوا ألفا ليس بمنسوخ لان
التولية للتحيز إلى فئة خص فيها فلم تكن الآيتان منسوختين والله سبحانه وتعالى أعلم والدليل عليه قوله عليه الصلاة
والسلام للذين فروا إلى المدينة وهو فيها أنتم الكرارون أنا فئة كل مسلم أخبر عليه الصلاة والسلام ان المتحيز إلى فئة
كرار وليس بفرار من الزحف فلا يلحقه الوعيد وعلى هذا إذا كانت الغزاة في سفينة فاحترقت السفينة وخافوا الغرق
حكموا فيه غالب رأيهم وأكبر ظنهم فان غلب على رأيهم انهم لو طرحوا أنفسهم في البحر لينجوا بالسباحة وجب عليهم
الطرق ليسبحوا فيتحيزوا إلى فئة وان استوى جانبا الحرق والغرق بأن كان إذا قاموا حرقوا وإذا طرحوا غرقوا فلهم
الخيار عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يجوز لهم انى يطرحوا أنفسهم في الماء (وجه)
قوله إنهم لو ألقوا أنفسهم في الماء لهلكوا ولو أقاموا في السفينة لهلكوا أيضا الا انهم لو طرحوا لهلكوا بفعل أنفسهم
ولو صبروا لهلكوا بفعل العدو فكان الصبر أقرب إلى الجهاد فكان أولى (وجه) قولهما انه استوى الجانبان في
الافضاء إلى الهلاك فيثبت لهم الخيار لجواز أن يكون الهلاك بالغرق أرفق قوله لو أقاموا لهلكوا بفعل العدو وقلنا ولو
طرحوا لهلكوا بفعل العدو أيضا إذ العدو هو الذي ألجأهم إليه فكان الهلاك في الحالين مضافا إلى فعل العدو ثم قد يكون
الهلاك بالغرق أسهل فيثبت لهم الخيار ولو طعن مسلم برمح فلا بأس بان يمشى إلى من طعنه من الكفرة حتى يجهزه
لأنه يقصد بالمشي إليه بذل نفسه لاعزاز دين الله سبحانه وتعالى وتحريض المؤمنين على أن لا يبخلوا بأنفسهم في قتال
أعداء الله سبحانه وتعالى فكان جائزا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يندب إليه الامام عند بعث الجيش أو السرية إلى الجهاد فنقول وبالله التوفيق انه يندب إلى
أشياء (منها) ان يؤمر عليهم أميرا لان النبي عليه الصلاة والسلام ما بعث جيشا الا وأمر عليهم أميرا ولان الحاجة
إلى الأمير ماسة لأنه لا بد من تنفيذ الأحكام وسياسة الرعية ولا يقوم ذلك الا بالأمير لتعذر الرجوع في كل حادثة
إلى الامام (ومنها) أن يكون الذي يؤمر عليهم عالما بالحلال والحرام عدلا عارفا بوجوه السياسات بصيرا بتدابير
الحروب وأسبابها لأنه لو لم يكن بهذه الصفة لا يحصل ما ينصب له الأمير (ومنها) ان يوصيه بتقوى الله عز شأنه في
خاصة نفسه وبمن معه من المؤمنين خيرا كذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان إذا بعث جيشا أوصاه
بتقوى الله سبحانه وتعالى في نفسه خاصة وبمن معه من المؤمنين خيرا ولان الامارة أمانة عظيمة فلا يقوم بها الا المتقى
وإذا أمر عليهم يكلفهم طاعة الأمير فيما يأمرهم به وينهاهم عنه لقول الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وقال عليه الصلاة والسلام اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع
ما حكم فيكم بكتاب الله تعالى ولأنه نائب الامام وطاعة الامام لازمة كذا طاعته لأنها طاعة الامام الا أن يأمرهم
99

بمعصية فلا تجوز طاعتهم إياه فيها لقوله عليه الصلاة والسلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولو أمرهم بشئ
لا يدرون أينتفعون به أم لا فينبغي لهم أن يطيعوه فيه إذا لم يعلموا كونه معصية لان اتباع الامام في محل الاجتهاد
واجب كاتباع القضاة في مواضع الاجتهاد والله تعالى عز شأنه أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة ولقاء العدو فنقول وبالله التوفيق ان الامر فيه
لا يخلو من أحد وجهين اما إن كانت الدعوة قد بلغتهم واما إن كانت لم تبلغهم فإن كانت الدعوة لم تبلغهم فعليهم الافتتاح
بالدعوة إلى الاسلام باللسان لقول الله تبارك وتعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي
هي أحسن ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة لان الايمان وان وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا
القتل بالامتناع لكن الله تبارك وتعالى حرم قتالهم قبل بعث الرسول عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إياهم فضلا
منه ومنه قطعا لمعذرتهم بالكلية وإن كان لا عذر لهم في الحقيقة لما أقام سبحانه وتعالى من الدلائل العقلية التي لو تأملوها
حق التأمل ونظروا فيها لعرفوا حق الله تبارك وتعالى عليهم لكن تفضل عليهم بارسال الرسل صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين لئلا يبقى لهم شبهة عذر فيقولون ربنا لولا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك وان لم يكن لهم أن يقولوا ذلك
في الحقيقة لما بينا ولان القتال ما فوض لعينه بل للدعوة إلى الاسلام والدعوة دعوتان دعوة بالبنان وهي القتال ودعوة
بالبيان وهو اللسان وذلك بالتبليغ والثانية أهون من الأولى لان في القتال مخاطرة الروح والنفس والمال وليس في
دعوة التبليغ شئ من ذلك فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها هذا إذا كانت الدعوة لم
تبلغهم فإن كانت قد بلغتهم جاز لهم ان يفتتحوا القتال من غير تجديد الدعوة لما بينا ان الحجة لازمة والعذر في الحقيقة منقطع
وشبهة العذر انقطعت بالتبليغ مرة لكن مع هذا الأفضل ان لا يفتتحوا القتال الا بعد تجديد الدعوة لرجاء الإجابة في
الجملة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتى يدعوهم إلى الاسلام فيما كان دعاهم غير
مرة دل ان الافتتاح بتجديد الدعوة أفضل ثم إذا دعوهم إلى الاسلام فان أسلموا كفوا عنهم القتال لقوله عليه الصلاة
والسلام أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا منى دماهم وأموالهم الا بحقها وقوله عليه
الصلاة والسلام من قال لا إله الا الله فقد عصم منى دمه وماله فان أبوا الإجابة إلى الاسلام دعوهم إلى الذمة الا مشركي
العرب والمرتدين لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد فان أجابوا كفوا عنهم لقوله عليه الصلاة والسلام فان قبلوا عقد
الذمة فأعلمهم ان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وان أبوا استعانوا بالله وسبحانه وتعالى على قتالهم ووثقوا بعهد
الله سبحانه وتعالى النصر لهم بعد ان بذلوا جهدهم واستفرغوا وسعهم وثبتوا وأطاعوا الله سبحانه وتعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم وذكروا الله كثيرا على ما قال تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين ولهم
ان يقاتلوهم وان لم يبدؤا بالدعوة لقول الله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وسواء كان في الأشهر الحرام أو في
غيرها لان حرمة القتال في الأشهر الحرم صارت منسوخة بآية السيف وغيرها من آيات القتال ولا بأس بالإغارة
والبيات عليهم ولا بأس بقطع أشجارهم المثمرة وغير المثمرة وافساد زروعهم لقوله تبارك وتعالى ما قطعتم من لينة أو
تركتموها قائمة على أصولها فباذن الله وليخزي الفاسقين اذن سبحانه وتعالى بقطع النخيل في صدر الآية الشريفة
ونبه في آخرها ان ذلك يكون كبتا وغيظا للعدو بقوله تبارك وتعالى وليخزي الفاسقين ولا بأس باحراق حصونهم
بالنار واغراقها بالماء وتخريبها وهدمها عليهم ونصب المنجنيق عليها لقوله تبارك وتعالى يخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المؤمنين ولان كل ذلك من باب القتال لما فيه من قهر العدو وكبتهم وغيظهم ولان حرمة الأموال لحرمة أربابها
ولا حرمة لأنفسهم حتى يقتلون فكيف لأموالهم ولا بأس برميهم بالنبال وان علموا ان فيهم مسلمين من الأسارى
والتجار لما فيه من الضرورة إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير أو تاجر فاعتباره يؤدى إلى انسداد باب
100

الجهاد ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون المسلمين لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق وكذا إذا
تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم لضرورة إقامة الفرض لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال فان
رموهم فأصاب مسلما فلا دية ولا كفارة وقال الحسن بن زياد رحمه الله تجب الدية والكفارة وهو أحد قولي الشافعي
رحمه الله (وجه) قول الحسن ان دم المسلم معصوم فكان ينبغي ان يمنع من الرمي الا انه لم يمنع لضرورة إقامة الفرض
فيتقدر بقدر الضرورة والضرورة في رفع المؤاخذة لا في نفى الضمان كتناول مال الغير حالة المخمصة انه رخص له
التناول لكن يجب عليه الضمان لما ذكرنا كذلك ههنا (ولنا) انه كما مست الضرورة إلى دفع المؤاخذة لإقامة فرض
القتال مست الضرورة إلى نفى الضمان أيضا لان وجوب الضمان يمنع من إقامة الفرض لأنهم يمتنعون منه خوفا من لزوم
الضمان وايجاب ما يمنع من إقامة الواجب متناقض وفرض القتال لم يسقط دل ان الضمان ساقط بخلاف حالة المخمصة
لان وجوب الضمان هناك لا يمنع من التناول لأنه لو لم يتناول لهلك وكذا حصل له مثل ما يجب عليه فلا يمنع من التناول
فلا يؤدى إلى التناقض ولا ينبغي للمسلمين ان يستعينوا بالكفار على قتال الكفار لأنه لا يؤمن غدرهم إذ العداوة
الدينية تحملهم عليه الا إذا اضطروا إليهم والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل فنقول الحال لا يخلوا اما أن يكون حال القتال أو حال ما
بعد الفراغ من القتال وهي ما بعد الاخذ والأسر اما حال القتال فلا يحل فيها قتل امرأة ولا صبي ولا شيخ فان ولا مقعد
ولا يابس الشق ولا أعمى ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ولا مقطوع اليد اليمنى ولا معتوه ولا راهب في صومعة
ولا سائح في الجبال لا يخالط الناس وقوم في دار أو كنيسة ترهبوا وطبق عليهم الباب اما المرأة والصبي فلقول النبي عليه
الصلاة والسلام لا تقتلوا امرأة ولا وليدا وروى أنه عليه الصلاة والسلام رأى في بعض غزواته امرأة مقتولة فأنكر
ذلك وقال عليه الصلاة والسلام هاه ما أراها قاتلت فلم قتلت ونهى عن قتل النساء والصبيان ولان هؤلاء ليسوا من
أهل القتال فلا يقتلون ولو قاتل واحد منهم قتل وكذا لو حرض على القتال أو دل على عورات المسلمين أو كان
الكفرة ينتفعون برأيه أو كان مطاعا وإن كان امرأة أو صغيرا لوجود القتال من حيث المعنى وقد روى أن ربيعة بن
رفيع السلمي رضي الله عنه أدرك دريد بن الصمة يوم حنين فقتله وهو شيخ كبير كالقفة لا ينتفع الا برأيه فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه والأصل فيه إن كان من كان من أهل القتال يحل قتله سواء قاتل أو لم يقاتل
وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله الا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض وأشباه ذلك على ما
ذكرنا فيقتل القسيس والسياح الذي يخالط الناس والذي يجن ويفيق والأصم والأخرس وأقطع اليد اليسرى
وأقطع احدى الرجلين وان لم يقاتلوا لأنهم من أهل القتال ولو قتل واحد ممن ذكرنا انه لا يحل قتله فلا شئ فيه من دية
ولا كفارة الا التوبة والاستغفار لان دم الكافر لا يتقوم الا بالأمان ولم يوجد واما حال ما بعد الفراغ من القتال وهي
ما بعد الاسرار والاخذ فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد الفراغ من القتال وكل من يحل قتله في حال القتال
إذا قاتل حقيقة أو معنى يباح قتله بعد الاخذ والأسر الا الصبي والمعتوه الذي لا يعقل فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا
قاتلا حقيقة ومعنى ولا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال إذا أسرا وان قتلا جماعة من المسلمين في القتال لان القتل بعد
الأسر بطريق العقوبة وهما ليسا من أهل العقوبة فاما القتل في حالة القتل فلدفع شر القتال وقد وجد الشر منهما فأبيح
قتلهما لدفع الشر وقد انعدم الشر بالأسر فكان القتل بعده بطريق العقوبة وهما ليسا من أهلها والله سبحانه وتعالى أعلم
ويكره للمسلم ان يبتدئ أباه الكافر الحربي بالقتل لقوله تعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا أمر سبحانه وتعالى
بمصاحبة الأبوين الكافرين بالمعروف والابتداء بالقتل ليس من المصاحبة بالمعروف وروى أن حنظلة رضي الله عنه
غسيل الملائكة عليهم الصلاة والسلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه فنهاه عليه الصلاة
والسلام ولان الشرع أمر باحيائه بالنفقة عليه فالامر بالقتل فيه افناؤه يكون متناقضا فان قصد الأب قتله يدفعه عن
101

نفسه وان أتى ذلك على نفسه ولا يكره ذلك لأنه من ضرورات الدفع ولكن لا يقصد بالدع القتل لأنه ضرورة إلى
القصد والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان من يسع تركه في دار الحرب ممن لا يحل قتله ومن لا يسع فالامر فيه لا يخلو من أحد وجهين
اما إذا كان الغزاة قادرين على عمل هؤلاء واخراجهم إلى دار الاسلام واما ان لم يقدروا عليه فان قدروا على ذلك فإن كان
المتروك ممن يولد له ولد لا يجوز تركهم في دار الحرب لان في تركهم في دار الحرب عونا لهم على المسلمين باللقاح وإن كان
ممن لا يولد له كالشيخ الفاني الذي لا قتال عنده ولا لقاح فإن كان ذا رأى ومشورة فلا يباح تركه في دار
الحرب لما فيه من المضرة بالمسلمين لأنهم يستعينون على المسلمين برأيه وان لم يكن له رأى فان شاؤوا تركوه فإنه لا مضرة
عليهم في تركه وان شاؤوا أخرجوه لفائدة المفاداة على قول من يرى مفاداة الأسير بالأسير وعلى قول من لا يرى
لا يخرجونهم لما انه لا فائدة في اخراجهم وكذلك العجوز التي لا يرجى ولدها وكذلك الرهبان وأصحاب الصوامع
إذا كانوا حضورا لا يلحقون وان لم يقدر المسلمون على حمل على هؤلاء ونقلهم إلى دار الاسلام لا يحل قتلهم ويتركون
في دار الحرب لان الشرع نهى عن قتلهم ولا قدرة على نقلهم فيتركون ضرورة واما الحيوان والسلاح إذا لم يقدروا
على الاخراج إلى دار الاسلام اما الحيوان فيذبح ثم يحرق بالنار لئلا يمكنهم بالانتفاع به واما السلاح فما يمكن احراقه
بالنار يحرق وما لا يحتمل الاحراق كالحديد ونحوه فيدفن بالتراب لئلا يجدوه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يكره حمله إلى دار الحرب وما لا يكره فنقول ليس للتاجر ان يحمل إلى دار الحرب ما يستعين
به أهل الحرب على الحرب من الأسلحة والخيل والرقيق من أهل الذمة وكل ما يستعان به في الحرب لان فيه امدادهم
واعانتهم على حرب المسلمين قال الله سبحانه وتعالى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان فلا يمكن من الحمل وكذا الحربي
إذا دخل دار الاسلام لا يمكن من أن يشترى السلاح ولو اشترى لا يمكن من أن يدخله دار الحرب لما قلنا الا إذا
كان داخل دار الاسلام بسلاح فاستبدله فينظر في ذلك إن كان الذي استبدله خلاف جنس سلاحه بان استبدل
القوس بالسيف ونحو ذلك لا يمكن من ذلك أصلا وإن كان من جنس سلاحه فإن كان مثله أو أراد أمنه يمكن منه وإن كان
أجود منه لا يمكن منه لما قلنا ولا بأس بحمل الثياب والمتاع والطعام ونحو ذلك إليهم لانعدام معنى الامداد والإعانة وعلى
ذلك جرت العادة من تجار الاعصار انهم يدخلون دار الحرب للتجارة من غير ظهور الرد والانكار عليهم الا ان الترك
أفضل لأنهم يستخفون بالمسلمين ويدعونهم إلى ما هم عليه فكان الكف والامساك عن الدخول من باب صيانة
النفس عن الهوان والدين عن الزوال فكان أولى واما المسافرة بالقرآن العظيم إلى دار الحرب فينظر في ذلك إن كان
العسكر عظيما مأمونا عليه لا بأس بذلك لأنهم يحتاجون إلى قراءة القرآن وإذا كان العسكر عظيما يقع الامن عن الوقوع
في أيد الكفرة والاستخفاف به وان لم يكن مأمونا كالسرية يكره المسافرة به لما فيه من خوف الوقوع في أيديهم
والاستخفاف به فكان الدخول به في دار الحرب تعريضا للاستخفاف بالمصحف الكريم وما روى عن النبي
عليه الصلاة والسلام انه نهى ان يسافر بالقرآن العظيم إلى أرض العدو محمول على المسافرة في هذه الحالة وكذلك حكم
اخراج النساء مع أنفسهم إلى دار الحرب على هذا التفصيل إن كان ذلك في جيش عظيم مأمون عليه غير مكروه ولأنهم
يحتاجون إلى الطبخ والغسل ونحو ذلك وإن كانت سرية لا يؤمن عليها يكره اخراجهن لما قلنا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يعترض من الأسباب المحرمة للقتال فنقول ولا قوة الا بالله العلي العظيم الأسباب المعترضة
المحرمة للقتال أنواع ثلاثة الايمان والأمان والالتجاء إلى الحرم اما الايمان فالكلام فيه في موضعين أحدهما في
بيان ما يحكم به بكون الشخص مؤمنا والثاني في بيان حكم الايمان اما الأول فنقول الطرق التي يحكم بها بكون الشخص
مؤمنا ثلاثة نص ودلالة وتبعية اما النص فهو ان يأتي بالشهادة أو بالشهادتين أو يأتي بهما معي التبري مما هو عليه صريحا
وبيان هذه الجملة ان الكفرة أصناف أربعة صنف منهم ينكرون الصانع أصلا وهم الدهرية المعطلة وصنف منهم
102

يقرون بالصانع وينكرون توحيده وهم الوثنية والمجوس وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده وينكرون الرسالة
رأسا وهم قوم من الفلاسفة وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده والرسالة في الجملة لكنهم ينكرون رسالة نبينا
محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وهم اليهود والنصارى فإن كان من الصنف الأول والثاني فقال لا إله إلا الله يحكم
باسلامه لان هؤلاء يمتنعون عن الشهادة أصلا فإذا أقروا بها كان ذلك دليل ايمانهم وكذلك إذا قال اشهد ان محمدا
رسول الله لأنهم يمتنعون من كل واحدة من كلمتي الشهادة فكان الاتيان بواحد منهما أيتهما كانت دلالة الايمان
وإن كان من الصنف الثالث فقال لا إله إلا الله لا يحكم باسلامه لان منكر الرسالة لا يمتنع عن هذه
المقالة ولو قال أشهد أن محمدا رسول الله يحكم باسلامه لأنه يمتنع عن هذه الشهادة فكان الاقرار بها دليل الايمان وإن كان
من الصنف الرابع فاتى بالشهادتين فقال لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يحكم باسلامه حتى يتبرأ من الدين الذي
عليه من اليهودية أو النصرانية لان من هؤلاء من يقر برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه يقول إنه بعث إلى
العرب خاصة دون غيرهم فلا يكون اتيانه بالشهادتين بدون التبري دليلا على ايمانه وكذا إذا قال يهودي أو نصراني
أنا مؤمن أو مسلم أو قال آمنت أو أسلمت لا يحكم باسلامه لأنهم يدعون انهم مؤمنون ومسلمون والايمان والاسلام
هو الذي هم عليه وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال إذا قال اليهودي أو النصراني أنا مسلم أو قال أسلمت
سئل عن ذلك أي شئ أردت به ان قال أردت به ترك اليهودية أو النصرانية والدخول في دين الاسلام يحكم باسلامه
حتى لو رجع عن ذلك مرتدا وان قال أردت بقولي أسلمت انى على الحق ولم أرد بذلك الرجوع عن ديني لم يحكم
باسلامه ولو قال يهودي أو نصراني أشهد أن لا إله إلا الله وأتبرأ عن اليهودية أو النصرانية لا يحكم باسلامه لأنهم
لا يمتنعون عن كلمة التوحيد والتبري عن اليهودية والنصرانية لا يكون دليل الدخول في دين الاسلام لاحتمال أنه
تبرأ عن ذلك ودخل في دين آخر سوى دين الاسلام فلا يصلح التبري دليل الايمان مع الاحتمال ولو أقر مع ذلك
فقال دخلت في دين الاسلام أو في دين محمد صلى الله عليه وسلم حكم بالاسلام لزوال الاحتمال بهذه القرينة والله
سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان ما يحكم به بكونه مؤمنا من طريق الدلالة فنحو ان يصلى كتابي أو واحد من أهل
الشرك في جماعة ويحكم باسلامه عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يحكم باسلامه ولو صلى وحده لا يحكم باسلامه
(وجه) قول الشافعي رحمه الله أن الصلاة لو صلحت دلالة الايمان لما افترق الحال فيها بين حال الانفراد وبين حال
الاجتماع ولو صلى وحده لم يحكم باسلامه فعلى ذلك إذا صلى بجماعة (ولنا) أن الصلاة بالجماعة على هذه الهيئة التي
نصليها اليوم لم تكن في شرائع من قبلنا فكانت مختصة بشريعة نبينا محمد صلى الله وعليه وسلم فكانت دلالة على
الدخول في دين الاسلام بخلاف ما إذا صلى وحده لان الصلاة وحده غير مختصة بشريعتنا وروى عن محمد رحمه الله
أنه إذا صلى وحده مستقبل القبلة يحكم باسلامه لان الصلاة مستقبل القبلة دليل الاسلام لقوله عليه الصلاة والسلام
من شهد جنازتنا وصلى إلى قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالايمان وعلى هذا الخلاف إذا أذن في مسجد جماعة
يحكم باسلامه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى لنا أن الاذان من شعائر الاسلام فكان الاتيان به دليل قبول
الاسلام ولو قرأ القرآن أو تلقنه لا يحكم باسلامه لاحتمال أنه فعل ذلك ليعلم ما فيه من غير أن يعتقده حقيقة إذ لا كل
من يعلم شيئا يؤمن به كالمعاندين من الكفرة ولو حج هل يحكم باسلامه قالوا ينظر في ذلك أن تهيأ للاحرام ولبى وشهد
المناسك مع المسلمين يحكم باسلامه لان عبادة الحج على هذه الهيئة المخصوصة لم تكن في الشرائع المتقدمة فكانت
مختصة بشريعتنا فكانت دلالة الايمان كالصلاة بالجماعة وان لبى ولم يشهد المناسك أو شهد المناسك ولم يلب
لا يحكم باسلامه لأنه لا يصير عبادة في شريعتنا الا بالأداء على هذه الهيئة والأداء على هذه الهيئة لا يكون دليل الاسلام
ولو شهد شاهدان انهما رأياه يصلى سنة وما قالا رأيناه يصلى في جماعة وهو يقول صليت صلواتي لا يحكم باسلامه لأنهم
يصلون أيضا فلا تكون الصلاة المطلقة دلالة الاسلام ولو شهد أحدهما وقال رأيته يصلى في المسجد الأعظم وشهد
103

الآخر وقال رأيته يصلى في مسجد كذا وهو منكر لا تقبل ولكن يجبر على الاسلام لان الشاهدين اتفقا على وجود
الصلاة منه بجماعة في المسجد لكنهما اختلفا في المسجد وذا يوجب اختلاف المكان لانفس الفعل وهو الصلاة
فقد اجتمع شاهدان على فعل واحد حقيقة لكن تعتبر شهادتهما في الجبر على الاسلام لا في القتل لان فعل الصلاة
وإن كان متحدا حقيقة فهو مختلف صورة لاختلاف محل الفعل فأورث شبهة في القتل والله سبحانه وتعال اعلم وأما
الحكم بالاسلام من طريق التبعية فان الصبي يحكم باسلامه تبعا لأبويه عقل أو لم يعقل ما لم يسلم بنفسه إذا عقل ويحكم
باسلامه تبعا للدار أيضا والجملة فيه ان الصبي يتبع أبويه في الاسلام والكفر ولا عبرة بالدار مع وجود الأبوين
أو أحدهما لأنه لا بد له من دين تجرى عليه أحكامه والصبي لا يتهم بذلك اما لعدم عقله واما القصورة فلا بد وان يجعل
تبعا لغيره وجعله تبعا للأبوين أولى لأنه تولد منهما وإنما الدار منشأ وعند انعدامهما في الدار التي فيها الصبي تنتقل التبعية إلى
الدار لان الدار تستتبع الصبي في الاسلام في الجملة كاللقيط فإذا أسلم أحد الأبوين فالولد يتبع المسلم لأنهما استويا في
جهة التبعية وهي التولد والتفرع فيرجح المسلم بالاسلام لأنه يعلو ولا يعلى عليه ولو كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا
فالولد كتابي لان الكتابي إلى أحكام الاسلام أقرب فكان الاسلام منه أرجى وبيان هذه الجملة إذا سبى الصبي
وأخرج إلى دار الاسلام فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه اما ان سبى مع أبويه واما ان سبى مع أحدهما واما ان سبى
وحده فان سبى مع أبويه فما دام في دار الحرب فهو على دين أبويه حتى لو مات لا يصلى عليه وهذا ظاهر وكذا إذا سبى
مع أحدهما وكذلك إذا خرج إلى دار الاسلام ومعه أبواه أو أحدهما لما بينا فان مات الأبوان بعد ذلك فهو على
دينهما حتى يسلم بنفسه ولا تنقطع تبعية الأبوين بموتهما لان بقاء الأصل ليس بشرط لبقاء الحكم في التبع وان أخرج
إلى دار الاسلام وليس معه أحدهما فهو مسلم لان التبعية انتقلت إلى الدار على ما بينا ولو أسلم أحد الأبوين في دار
الحرب فهو مسلم تبعا له لان الولد يتبع خير الأبوين دينا لما بينا وكذا إذا أسلم أحد الأبوين في دار الاسلام ثم سبى
الصبي بعده وأدخل في دار الاسلام فهو مسلم تبعا له لأنه جمعهما دار واحدة لان تبعية الدار لا تعتبر مع أحد الأبوين
لما ذكرنا فاما قبل الادخال في دار الاسلام فلا يكون مسلما لأنهما في دارين مختلفين واختلاف الدار يمنع التبعية في
الأحكام الشرعية والله سبحانه وتعالى اعلم ثم إنما تعتبر تبعية الأبوين والدار إذا لم يسلم بنفسه وهو يعقل الاسلام فاما
إذا أسلم وهو يعقل الاسلام فلا تعتبر التبعية ويصح اسلامه عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يصح واحتج بقوله
عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ أخبر
عليه الصلاة والسلام أن الصبي مرفوع القلم والفقه مستنبط منه وهو أن الصبي لو صح اسلامه اما أن يصح فرضا
واما ان يصح نفلا ومعلوم أن التنفل بالاسلام محال والفرضية بخطاب الشرع والقلم عنه مرفوع ولان صحة الاسلام
من الأحكام الضارة فإنه سبب لحرمان الميراث والنفقة ووقوع الفرق بين الزوجين والصبي ليس من أهل التصرفات
الضارة ولهذا لم يصح طلاقه وعتاقه ولم يجب عليه الصوم والصلاة فلا يصح اسلامه (ولنا) انه آمن بالله سبحانه
وتعالى عن غيب فيصح ايمانه كالبالغ وهذا لان الايمان عبارة عن التصديق لغة وشرعا وهو تصديق الله سبحانه
وتعالى في جميع ما أنزل على رسله أو تصديق رسله في جميع ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى وقد وجد ذلك منه لوجود
دليله وهو اقرار العاقل وخصوصا عن طوع فترتب عليه الأحكام لأنها مبنية على وجود الايمان حقيقة قال الله تبارك
وتعالى ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا وقال عليه الصلاة والسلام لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن
وقوله إنه مرفوع القلم قلنا نعم في الفروع الشرعية فاما في الأصول العقلية فممنوع ووجوب الايمان من الأحكام العقلية
فيجب على كل عاقل والحديث يحمل على الأحكام الشرعية توفيقا بين الدلائل وبه نقول والله سبحانه وتعالى
أعلم وأما أحكام الايمان فنقول والله سبحانه وتعالى الموفق للايمان حكمان أحدهما يرجع إلى الآخرة والثاني
يرجع إلى الدنيا أما الذي يرجع إلى الآخرة فكينونة المؤمن من أهل الجنة إذا ختم عليه قال الله تعالى من جاء بالحسنة فله
104

خير منها وأما الذين يرجع إلى الدنيا فعصمة النفس والمال لقوله عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها الا أن عصمة النفس تثبت مقصودة وعصمة المال تثبت
تابعة لعصمة النفس إذ النفس أصل في التخلق والمال خلق بذله للنفس استبقاء لها فمتى ثبتت عصمة النفس ثبتت
عصمة المال تبعا الا إذا وجد القاطع للتبعية على ما نذكر فعلى هذا إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يظهر
عليهم المسلمون حرم قتلهم ولا سبيل لاحد على أموالهم على ما قلنا وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال من أسلم على مال فهو له ولو أسلم حربي في دار الحرب ولم يهاجر الينا فقتله مسلم عمدا أو خطأ فلا شئ عليه
الا الكفارة وعند أبي يوسف عليه الدية في الخطأ وعند الشافعي رحمة الله عليه الدية مع الكفارة في الخطأ
والقصاص في العمد واحتجاجا بالعمومات الواردة في باب القصاص والدية من غير فصل بين مؤمن قتل في دار
الاسلام أو في دار الحرب (ولنا) قوله تبارك وتعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة
أوجب سبحانه وتعالى الكفارة وجعلها كل موجب قتل المؤمن الذي هو من قوم عدو لنا لأنه جعله جزاء والجزاء
ينبئ عن الكفاية فاقتضى وقوع الكفاية بها عما سواها من القصاص والدية جميعا ولان القصاص لم يشرع الا
لحكمة الحياة قال الله تعالى ولكم في القصاص حياة والحاجة إلى الاحياء عند قصد القتل لعداوة حاملة عليه ولا
يكون ذلك الا عند المخالطة ولو لم توجد ههنا وعلى هذا إذا أسلم ولم يهاجر الينا حتى ظهر المسلمون على الدار فما كان
في يده من المقتول فهو له ولا يكون فيأ الا عبدا يقاتل فإنه يكون فيأ لان نفسه استفادت العصمة بالاسلام وماله الذي
في يده تابع له من كل وجه فكان معصوما تبعا لعصمة النفس الا عبدا يقاتل لأنه إذا قاتل فقد خرج من يد المولى فلم
يبق تبعا له فانقطعت العصمة لانقطاع التبعية فيكون محلا للتملك بالاستيلاء وكذلك ما كان في يد مسلم أو ذمي وديعة له
فهو له ولا يكون فيأ لان يدع المودع يده من وجه من حيث إنه يحفظ الوديعة له ويد نفسه من حيث الحقيقة وكل
واحد منهما معصوم فكان ما في يده معصوما فلا يكون محلا للتملك وأما ما كان في يد حربي وديعة فيكون فيأ عند
أبي حنيفة وعندهما يكون له لان يد المودع يده فكان معصوما والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه من
حيث إنه يحفظ له تكون يده فيكون تبعا له فيكون معصوما ومن حيث الحقيقة لا يكون معصوما لان نفس الحربي
غير معصومة فوقع الشك في العصمة فلا تثبت العصمة وكذا عقاره يكون فيأ عند أبي حنيفة وأبى يوسف
وعند محمد هو والمنقول سواء والصحيح قولهما لأنه من حيث إنه يتصرف فيه بحسب مشيئته يكون في يده فيكون
تبعا له من حيث إنه محصن محفوظ بنفسه ليس في يده فلا يكون تبعا له فلا تثبت العصمة مع الشك وأما أولاده الصغار
فأحرار مسلمون تبعا له وأولاده الكبار وامرأته يكونون فيأ لأنهم في حكم أنفسهم لانعدام التبعية وأما الولد الذي في
البطن فهو مسلم تبعا لأبيه ورقيق تبعا لامه وفيه اشكال وهو ان هذا انشاء الرق على المسلم وانه ممنوع والجواب ان
الممتنع انشاء الرق على من هو مسلم حقيقة لا على من له حكم الوجود والاسلام شرعا هذا إذا أسلم ولم يهاجر الينا فظهر
المسلمون على الدار فلو أسلم وهاجر الينا ثم ظهر المسلمون على الدار اما أمواله فما كان في يد مسلم أو ذمي وديعة فهو له
ولا يكون فيأ لما ذكرنا وما سوى ذلك فهو فئ لما ذكرنا أيضا وقيل ما كان في يد حربي وديعة فهو على الخلاف
الذي ذكرنا وأما أولاده الصغار فيحكم باسلامهم تبعا لأبيهم ولا يسترقون لان الاسلام يمنع انشاء الرق الا رقا ثبت
حكما بأن كان الولد في بطن الام وأولاده الكبار فئ لأنهم في حكم أنفسهم فلا يكونون مسلمين باسلام أبيهم وكذلك
زوجته والولد الذي في البطن يكون مسلما تبعا لأبيه ورقيقا تبعا لامه ولو دخل الحربي دار الاسلام ثم أسلم ثم ظهر
المسلمون على الدار فجميع ماله وأولاده الصغار والكبار وامرأته وما في بطنها فئ لما لم يسلم في دار الحرب حتى خرج
الينا لم تثبت العصمة لماله لانعدام عصمة النفس فبعد ذلك وان صارت معصومة لكن بعد تباين الدارين وانه يمنع
ثبوت التبعية ولو دخل مسلم أو ذمي دار الحرب فأصاب هناك مالا ثم ظهر المسلمون على الدار فحكمه وحكم الذي
105

أسلم من أهل الحرب ولم يهاجر الينا سواء والله عز وجل أعلم وأما الأمان فنقول الأمان في الأصل نوعان أمان
مؤقت وأمان مؤبد أما المؤقت فنوعان أيضا أحدهما الأمان المعروف وهو أن يحاصر الغزاة مدينة أو حصنا من
حصون الكفرة فيستأمنهم الكفار فيؤمنوهم والكلام فيه في مواضع في بيان ركن الأمان وفي بيان شرائط
الركن وفي بيان حكم الأمان وفي بيان صفته وفي بيان ما يبطل به الأمان فاما ركنه فهو اللفظ الدال على الأمان
نحو قول المقاتل أمنتكم أو أنتم آمنون أو أعطيتكم الأمان وما يجرى هذا المجرى وأما شرائط الركن فأنواع منها أن يكون
في حال يكون بالمسلمين ضعف وبالكفرة قوة لان القتال فرض والأمان يتضمن تحريم القتال فيتناقض الا
إذا كان في حال ضعف المسلمين وقوة الكفرة لأنه إذ ذاك يكون قتالا معنى لوقوعه وسيلة إلى الاستعداد للقتال فلا
يؤدى إلى التناقض ومنها العقل فلا يجوز أمان المجنون والصبي الذي لا يعقل لان العقل شرط أهلية التصرف ومنها
البلوغ وسلامة العقل عن الآفة عند عامة العلماء وعند محمد رحمه الله ليس بشرط حتى أن الصبي المراهق الذي
يعقل الاسلام والبالغ المختلط العقل إذا أمن لا يصح عند العامة وعند محمد يصح (وجه) قوله أن أهلية الأمان مبنية على
أهلية الايمان والصبي الذي يعقل الاسلام من أهل الايمان فيكون من أهل الأمان كالبالغ (ولنا) أن الصبي ليس
من أهل حكم الأمان فلا يكون من أهل الأمان وهذا لان حكم الأمان حرمة القتال وخطاب التحريم لا يتناوله ولان
من شرط صحة الأمان أن يكون بالمسلمين ضعف وبالكفرة قوة وهذه حالة خفية لا يوقف عليها الا بالتأمل والنظر ولا
يوجد ذلك من الصبي لاشتغاله باللهو واللعب ومنها الاسلام فلا يصح أمان الكافر وإن كان يقاتل مع المسلمين
لأنه متهم في حق المسلمين فلا تؤمن خيانته ولأنه إذا كان متهما فلا يدرى انه بنى أمانه على مراعاة مصلحة المسلمين من
التفرق عن حال القوة والضعف أم لا فيقع الشك في وجود شرط الصحة فلا يصح مع الشك وأما الحرية فليست
بشرط لصحة الأمان فيصح أمان العبد المأذون في القتال بالاجماع وهل يصح أمان العبد المحجور عن القتال اختلف
فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة وأبو يوسف رحمه الله لا يصح وقال محمد رحمه الله يصح وهو قول الشافعي رحمه الله (وجه)
قوله ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم والذمة العهد
والأمان نوع عهد والعبد المسلم أدنى المسلمين فيتناوله الحديث ولان حجر المولى يعمل في التصرفات الضارة دون
النافعة بل هو في التصرفات النافعة غير محجور كقبول الهبة والصدقة ولا مضرة للمولى في أمان العبد بتعطيل منافعه
عليه لأنه يتأدى في زمان قليل بل له ولسائر المسلمين فيه منفعة فلا يظهر انحجاره عنه فأشبه المأذون بالقتال (وجه)
قولهما ان الأصل في الأمان أن لا يجوز لان القتال فرض والأمان يحرم القتال الا إذا وقع في حال يكون بالمسلمين
ضعف وبالكفرة قوة لوقوعه وسيلة إلى الاستعداد للقتال في هذه الحالة فيكون قتالا معنى إذ الوسيلة إلى الشئ حكمها
حكم ذلك الشئ وهذه حالة لا تعرف الا بالتأمل والنظر في حال المسلمين في قوتهم وضعفهم والعبد المحجور لاشتغاله
بخدمة المولى لا يقف عليها فكان أمانه تركا للقتال المفروض صورة ومعنى فلا يجوز فبهذا فارق المأذون لان المأذون
بالقتال يقف على هذه الحالة فيقع أمانه وسيلة إلى القتال فكان إقامة للفرض معنى فهو الفرق (وأما) الحديث فلا
يتناول المحجور لان الأدنى اما أن يكون من الدناءة وهي الخساسة واما أن يكون من الدنو وهو القرب والأول ليس
بمراد لان الحديث يتناول المسلمين بقوله عليه الصلاة والسلام المسلمون تتكافأ دماؤهم ولا خساسة مع الاسلام
والثاني لا يتناول المحجور لأنه لا يكون في صف القتال فلا يكون أقرب إلى الكفرة والله سبحانه وتعالى أعلم
وكذلك الذكورة ليست بشرط فيصح أمان المرأة لأنها بما معها من العقل لا تعجز عن الوقوف على حال القوة والضعف
وقد روى أن سيدتنا زينب بنت النبي المكرم عليه الصلاة والسلام أمنت زوجها أبا العاص رضي الله عنه وأجاز
رسول الله صلى الله عليه وسلم امانها وكذلك السلامة عن العمى والزمانة والمرض ليست بشرط فيصح أمان الأعمى
والزمن والمريض لان الأصل في صحة الأمان صدوره عن رأى ونظر في الأحوال الخفية من الضعف والقوة وهذه
106

العوارض لا تقدح فيه ولا يجوز أمان التاجر في دار الحرب والأسير فيها والحربي الذي أسلم هناك لان هؤلاء
لا يقفون على حال الغزاة من القوة والضعف فلا يعرفون للأمان مصلحة ولأنهم متهمون في حق الغزاة لكونهم
مقهورين في أيدي الكفرة وكذلك الجماعة ليست بشرط فيصح أمان الواحد لقوله عليه الصلاة والسلام
ويسعى بذمتهم أدناهم ولان الوقوف على حالة القوة والضعف لا يقف على رأى الجماعة فيصح من الواحد وسواء أمن
جماعة كثيرة أو قليلة أو أهل مصر أو قرية فذلك جائز وأما حكم الأمان فهو ثبوت الامن للكفرة لان لفظ الأمان
يدل عليه وهو قوله أمنت فثبت الامن لهم عن القتل والسبي والاستغنام فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبى نسائهم
وذراريهم واستغنام أموالهم وأما صفته فهو أنه عقد غير لازم حتى لو رأى الامام المصلحة في النقض ينقض لان
جوازه مع أنه يتضمن ترك القتال المفروض كان للمصلحة فإذا صارت المصلحة في النقض نقض وأما بيان ما ينتقض
به الأمان فالامر فيه لا يخلو من أحد وجهين اما إن كان الأمان مطلقا واما إن كان مؤقتا إلى وقت معلوم فإن كان
مطلقا فانتفاضه يكون بطريقين أحدهما نقض الامام فإذا نقض الامام انتقض لكن ينبغي أن يخبرهم بالنقض ثم
يقاتلهم لئلا يكون منهم غدر في العهد والثاني أن يجئ أهل الحصن بالأمان إلى الامام فينقض وإذا جاؤوا الامام بالأمان
ينبغي أن يدعوهم إلى الاسلام فان أبوا فإلى الذمة فان أبوا ردهم إلى مأمنهم ثم قاتلهم احترازا عن الغدر فان أبو الاسلام
والجزية وأبوا أن يلحقوا بمأمنهم فان الامام يؤجلهم على ما يرى فان رجعوا إلى مأمنهم في الأجل المضروب والا
صاروا ذمة لا يمكنون بعد ذلك أن يرجعوا إلى مأمنهم لان مقامهم بعد الأجل المضروب التزام الذمة دلالة وإن كان
الأمان مؤقتا إلى وقت معلوم ينتهى بمضي الوقت من غير الحاجة إلى النقض ولهم أن يقاتلوهم الا إذا دخل واحد منهم دار
الاسلام فمضى الوقت وهو فيه فهو آمن حتى يرجع إلى مأمنه والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا حاصر الغزاة مدينة أو
حصنا من حصونا الكفرة فجاؤوا فاستأمنوهم فاما إذا استنزلوهم عن الحكم فهذا على وجهين (اما) ان استنزلوهم على
حكم الله سبحانه وتعالى واما ان استنزلوهم على حكم العباد بان استنزلوهم على حكم رجل فان استنزلوهم على حكم الله
سبحانه وتعالى جاز انزالهم عليه عند أبي يوسف والخيار إلى الامام ان شاء قتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وان
شاء سبى الكل وان شاء جعلهم ذمة وعند محمد لا يجوز الانزال على حكم الله تعالى فلا يجوز قتلهم واسترقاقهم ولكنهم
يدعون إلى الاسلام فان أبوا جعلوا ذمة واحتج محمد بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصايا
الامراء عند بعث الجيش وإذا حاصرتم مدينة أو حصنا فان أرادوا أن تنزلوهم على حكم الله عز وجل فإنكم لا تدرون
ما حكم الله تعالى فيهم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الانزال على حكم الله ونبه عليه الصلاة والسلام على
المعنى وهو أن حكم الله سبحانه وتعالى غير معلوم فكان الانزال على حكم الله تعالى من الامام قضاء بالمجهول وأنه
لا يصح وإذا لم يصح الانزال على حكم الله سبحانه وتعالى فيدعون إلى الاسلام فان أجابوا فهم أحرار مسلمون
لا سبيل على أنفسهم وأموالهم وان أبولا يقتلهم الامام ولا يسترقهم ولكن يجعلهم ذمة فان طلبوا من الامام أن يبلغهم
مأمنهم لم يجبهم إليه لأنه لو ردهم إلى مأمنهم لصاروا حربا لنا (وجه) قول أبى يوسف أن الاستنزال على حكم الله عز وجل
هو الاستنزال على الحكم المشروع للمسلمين في حق الكفرة والقتل والسبي وعقد الذمة كل ذلك حكم مشروع في
حقهم فجاز الانزال عليه قوله إن ذلك مجهول لا يدرى المنزل عليه أي حكم هو قلنا نعم لكن يمكن الوصول إليه والعلم به
لوجود سبب العلم وهو الاختيار وهذا لا يكفي لجواز الانزال عليه كما قلنا في الكفارات ان الواجب أحد الأشياء
الثلاثة وذلك غير معلوم ثم لم يمنع ذلك وقوع تعلق التكليف به لوجود سبب العلم به وهو اختيار الكفر المكلف كذا هذا
يدل عليه أنه يجوز الانزال على حكم العباد بالاجماع والانزال على حكم العباد انزال على حكم الله تعالى حقيقة إذ العبد
لا يملك انشاء الحكم من نفسه قال الله تعالى ولا يشرك في حكمه أحدا وقال تبارك وتعالى ان الحكم الا لله ولكنه يظهر
حكم الله عز وجل المشروع في الحادثة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ رضي الله عنه لقد حكمت
107

بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة (وأما) الحديث فيحتمل أنه مصروف إلى زمان جواز ورود النسخ وهو حال
حياة النبي عليه الصلاة والسلام لانعدام استقرار الأحكام الشرعية في حياته عليه الصلاة والسلام لئلا يكون الانزال
على الحكم المنسوخ عسى لاحتمال النسخ فيما بين ذلك وقد انعدم هذا المعنى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لخروج
الأحكام عن احتمال النسخ بوفاته صلى الله عليه وسلم وإذا جاز الانزال على حكم الله سبحانه وتعالى عند أبي يوسف
فالخيار فيه إلى الامام فأيما كان أفضل للمسلمين من القتل والسبي والذمة فعل لان كل ذلك حكم الله سبحانه وتعالى
المشروع للمسلمين في حق الكفرة فان أسلموا قبل الاختيار فهم أحرار مسلمون لا سبيل لاحد عليهم وعلى
أموالهم والأرض لهم وهي عشرية وكذلك إذا جعلهم ذمة فهم أحرار ويضع على أراضيهم الخراج فان أسلموا قبل
توظيف الخراج صارت عشرية هذا إذا كان الانزال على حكم الله سبحانه وتعالى فاما إذا كان على حكم العباد بان
استنزلوهم على حكم رجل فهذا لا يخلو من أحد وجهين (اما) ان استنزلوهم على حكم رجل معين بان قالوا على حكم فلان
لرجل سموه (واما) ان استنزلوهم على حكم رجل غير معين فإن كان الاستنزال على حكم رجل معين فنزلوا على حكمه
فحكم عليهم بشئ مما ذكرنا وهو رجل عاقل مسلم عدل غير محدود في قذف جاز بالاجماع لما روى أن بني قريظة لما
حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة استنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم سعد أن تقتل رجالهم
وتقسم أموالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة
أرقعة فقد استصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه حيث أخبر عليه الصلاة والسلام أن ما حكم به حكم الله
سبحانه وتعالى لان حكم الله سبحانه وتعالى لا يكون الا صوابا وليس للحاكم أن يحكم بردهم إلى دار الحرب فان حكم فهو
باطل لأنه حكم غير مشروع لما بينا لأنهم بالرد يصيرون حربيين لنا وإن كان الحاكم عبد أو صبيا لم يجز حكمه بالاجماع وإن كان
فاسقا أو محدودا في القذف لم يجز حكمه عند أبي يوسف وعند محمد يجوز (وجه) قول محمد رحمه الله أن الفاسق
يصلح قاضيا فيصلح حكما بالطريق الأولى (وجه) قول أبى يوسف أن المحدود في القذف لا يصلح حكما لأنه ليس من
أهل الولاية ولهذا لم يصلح قاضيا وكذا الفاسق لا يصلح حكما وان صلح قاضيا لكنه لا يلزم قضاؤه ولهذا لو رفعت
قضية إلى قاض آخر ان شاء أمضاه وان شاء رده وإن كان ذميا جاز حكمه في الكفرة لأنه من أهل الشهادة على
جنسه وان نزلوا على حكم رجل يختارونه فاختاروا رجلا فإن كان موضعا للحكم جاز حكمه وإن كان غير موضع للحكم
لا يقبل منهم حتى يختاروا رجلا موضعا للحكم فإن لم يختاروا أبلغهم الامام مأمنهم لان النزول كان على شرط وهو حكم
رجل يختارونه فإذا لم يختاروا فقد بقوا في يد الامام بالأمان فيردهم إلى مأمنهم الا أنه لا يردهم إلى حصن هو أحصن من
الأول ولا إلى حد يمتنعون به لان الرد إلى المأمن للتحرج عن توهم العذر وانه يحصل بالرد إلى ما كانوا عليه فلا ضرورة
في الرد إلى غيره وان نزلوا على حكم رجل غير معين فللامام أن يعين رجلا صالحا للحكم فيهم أو يحكم للمسلمين بنفسه بما
هو أفضل لهم والله سبحانه وتعالى أعلم والثاني الموادعة وهي المعاهدة والصلح على ترك القتال يقال توادع الفريقان
أن تعاهدا على أن لا يغزو كل واحد منهما صاحبه والكلام في الموادعة في مواضع في بيان ركنها وشرطها وحكمها
وصفتها وما ينتفض به أما ركنها فهو لفظة الموادعة أو المسألة أو المصالحة أو المعاهدة أو ما يؤدى معنى هذه العبارات
وشرطها الضرورة وهي ضرورة استعداد القتال بأن كان بالمسلمين ضعف وبالكفرة قوة المجاوزة إلى قوم آخرين
فلا تجوز عند عدم الضرورة لان الموادعة ترك القتال المفروض فلا يجوز الا في حال يقع وسيلة إلى القتال لأنها حينئذ
تكون قتالا معنى قال الله تبارك وتعالى ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم وعند تحقق الضرورة
لا بأس به لقول الله تبارك وتعالى وان جنحوا للسلم فاجنح لها توكل على الله وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وادع أهل مكة عام الحديبية على أن توضع الحرب عشر سنين ولا يشترط اذن الامام بالموادعة حتى لو وادعهم
الامام أو فريق من المسلمين من غير اذن الامام جازت موادعتهم لان المعول عليه كون عقد بالموادعة مصلحة
108

للمسلمين وقد وجد ولا بأس بأن يأخذ المسلمون على ذلك جعلا لان ذلك في معنى الجزية ويوضع موضع الخراج
في بيت المال ولا بأس أن يطلب المسلمون الصلح من الكفرة ويعطوا على ذلك مالا إذا اضطروا إليه لقوله سبحانه
وتعالى وان جنحوا للسلم فاجنح لها أباح سبحانه وتعالى لنا الصلح مطلقا فيجوز ببدل أو غير بدل ولان الصلح على
مال لدفع شر الكفرة للحال والاستعداد للقتال في الثاني من باب المجاهدة بالمال والنفس فيكون جائزا وتجوز موادعة
المرتدين إذا غلبوا على دار من دور الاسلام وخيف منهم ولم تؤمن غائلتهم لما فيه من مصلحة دفع الشر للحال ورجاء
رجوعهم إلى الاسلام وتوبتهم ولا يؤخذ منهم على ذلك مال لان ذلك في معنى الجزية ولا يجوز أخذ الجزية من
المرتدين فان أخذ منهم شيئا لا يرد لأنه مال غير معصوم ألا ترى ان أموالهم محل للاستيلاء كأموال أهل الحرب
وكذلك البغاة تجوز موادعتهم لأنه لما جازت موادعة الكفرة فلان تجوز موادعة المسلمين أولى ولكن لا يؤخذ
منهم على ذلك مال لان المال المأخوذ على ترك القتال يكون في معنى الجزية ولا تؤخذ الجزية الا من كافر (وأما)
حكم الموادعة فما هو حكم الأمان المعروف وهو أن يأمن الموادعون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم لأنها عقد
أمان أيضا ولو خرج قوم من الموادعين إلى بلدة أخرى ليست بينهم وبين المسلمين موادعة فغزا المسلمون تلك
البلدة فهؤلاء آمنون لا سبيل لاحد عليهم لان عقد الموادعة أفاد الأمان لهم فلا ينتفض بالخروج إلى موضع آخر
كما في الأمان المؤبد وهو عقد الذمة انه لا يبطل بدخول الذمي دار الحرب كذا هذا وكذلك لو دخل في دار الموادعة
رجل من غير دراهم بأمان ثم خرج إلى دار الاسلام بغير أمان فهو آمن لأنه لما دخل دار المودعين بأمانهم صار كواحد
من جملتهم فلو عاد إلى داره ثم دخل دار الاسلام بغير أمان كافيا لنا أن نقتله ونأسره لأنه لما رجع إلى داره فقد خرج
من أن يكون من أهل دار الموادعة فبطل حكم الموادعة في حقه فإذا دخل دار الاسلام فهذا حربي دخل دار الاسلام
ابتداء بغير أمان ولو أسر واحدا من الموادعين أهل دار أخرى فغزى المسلمون على تلك الدار كان فيأ وقد ذكرنا
انه لو دخل إليهم تاجرا فهو آمن (ووجه) الفرق انه لما أسر فقد انقطع حكم دار الموادعة في حقه وإذا دخل تاجرا
لم ينقطع والله تعالى أعلم (وأما) صفة عقد الموادعة فهو انه عقد غير لازم محتمل للنقض فللامام أن ينبذ إليهم لقوله
سبحانه وتعالى واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فإذا وصل النبذ إلى ملكهم فلا باس للمسلمين أن
يغزوا عليهم لان الملك يبلغ قومه ظاهرا الا إذا استيقن المسلمون ان خبر النبذ لم يبلغ قومه ولم يعلموا به فلا أحب أن
يغزوا عليهم لان الخبر إذا لم يبلغهم فهم على حكم الأمان الأول فكان قتالهم منا غدرا وتعزيرا وكذلك إذا كان النبذ من
جهتهم بان أرسلوا الينا رسولا بالنبذ وأخبروا الامام بذلك فلا باس للمسلمين أن يغزوا عليهم لما قلنا الا إذا استيقن
المسلمون أن أهل ناحية منهم لم يعلموا بذلك لما بينا ولو وادع الامام على جعل أخذه منهم ثم بدا له أن ينقض فلا باس به
لما بينا أنه عقد غير لازم فكان محتملا للنقض ولكن يبعث إليهم بحصة ما بقي من المدة من الجعل الذي أخذه لأنهم إنما
أعطوه ذلك بمقابلة الأمان في كل المدة فإذا فات بعضها لزم الرد بقدر الفائت هذا إذا وقع الصلح على أن يكونوا مستبقين
على أحكام الكفر (فاما) إذا وقع الصلح على أنه يجرى عليهم أحكام الاسلام فهو لازم يحتمل النقض لان
الصلح الواقع على هذا الوجه عقد ذمة فلا يجوز للامام أن ينبذ إليهم والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان ما ينقض
به عقد الموادعة فالجملة فيه أن عقد الموادة (اما) إن كان مطلقا عن الوقت (اما) إن كان موقتا بوقت معلوم فإن كان
مطلقا عن الوقت فالذي ينتقض به نوعان نص ودلالة فالنص هو النبذ من الجانبين صريحا (وأما) الدلالة فهي أن
يوجد منهم ما يدل على النبذ نحو أن يخرج قوم من دار الموادعة باذن الامام ويقطعوا الطريق في دار الاسلام لان اذن
الامام بذلك دلالة النبذ ولو خرج قوم من غير اذن الامام فقطعوا الطريق في دار الاسلام فإن كانوا جماعة لا منعة لهم
لا يكون ذلك نقضا للعهد لان قطع الطريق بلا منعة لا يصلح دلالة للنقض ألا ترى انه لو نص واحد منهم على النقض
لا ينتقض كما في الأمان المؤبد وهو عقد الذمة وإن كانوا جماعة لهم منعة فخرجوا بغير اذن الامام ولا اذن أهل مملكته
109

فالملك وأهل مملكته على موادعتهم لانعدام دلالة النقض في حقهم ولكن ينتقض العهد فيما بين القطاع حتى يباح قتلهم
واسترقاقهم لوجود دليل النقض منهم وإن كان موقتا بوقت معلوم ينتهى العهد بانتهاء الوقت من غير الحاجة إلى النبذ
حتى كان للمسلمين أن يغزوا عليهم لأن العقد المؤقت إلى غاية ينتهى بانتهاء الغاية من غير الحاجة إلى الناقض ولو كان
واحد منهم دخل الاسلام بالموادعة المؤقتة فمضى الوقت وهو في دار الاسلام فهو آمن حتى يرجع إلى مأمنه لان
التعرض له يوهم الغدر والتعزير فيجب التحرز عنه ما أمكن والله تعالى أعلم (وأما) الأمان المؤبد فهو المسمى بعقد الذمة
والكلام فيه في مواضع في بيان ركن العقد وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكم العقد وفي بيان صفة العقد وفي بيان
ما يؤخذ به أهل الذمة وما يتعرض له وما لا يتعرض له (أما) ركن العقد فهو نوعان نص ودلالة (أما) النص فهو لفظ
يدل عليه وهو لفظ العهد والعقد على وجه مخصوص (وأما) الدلالة فهي فعل يدل على قبول الجزية نحو أن يدخل
حربي في دار الاسلام بأمان فان أقام بها سنة بعد ما تقدم إليه في أن يخرج أو يكون ذميا والأصل أن الحربي إذا دخل
دار الاسلام بأمان ينبغي للامام أن يتقدم إليه فيضرب له مدة معلومة على حسب ما يقتضى رأيه ويقول له ان جاوزت
المدة جعلتك من أهل الذمة فإذا جاوزها صار ذميا لأنه لما قال له ذلك فلم يخرج حتى مضت المدة فقد رضى بصيرورته
ذميا فإذا أقام سنة من يوم قال له الامام أخذ منه الجزية ولا يتركه يرجع إلى وطنه قبل ذلك وان خرج بعد تمام السنة
فلا سبيل عليه ولو قال الامام عند الدخول ادخل ولا تمكث سنة فمكث سنة صار ذميا ولا يمكن من الرجوع إلى
وطنه لما قلنا ولو اشترى المستأمن أرضا خراجية فإذا وضع عليه الخراج صار ذميا لان وظيفة الخراج يختص بالمقام
في دار الاسلام فإذا قبلها فقد رضى بكونه من أهل دار الاسلام فيصير ذميا ولو باعها قبل أن يجبى خراجها لا يصير ذميا
لان دليل قبول الذمة وجوب الخراج لا نفس الشراء فما لم يوضع عليه الخراج لا يصير ذميا ولو استأجر أرضا خراجية
فزرعها لم يصر ذميا لان الخراج على الآجر دون المستأجر فلا يدل على التزام الذمة الا إذا كان خراج مقاسمة فإذا
أخرجت الأرض وأخذ الامام الخراج من الخارج وضع عليه الجزية وجعله ذميا ولو اشترى المستأمن أرض
المقاسمة وأجرها من رجل من المسلمين فاخذ الامام الخراج من ذلك لا يصير المستأمن ذميا لما بينا أن نفس الشراء
لا يدل على الالتزام بل دليل الالتزام هو وجوب الخراج عليه ولم يجب ولو اشترى الحربي المستأمن من أرض خراج
فزرعها فأخرجت زرعا فأصاب الزرع آفة أنه لا يصير ذميا لأنه إذا أصاب الزرع آفة لم يجب الخراج فصار كأنه لم يزرعها
فبقي نفس الشراء وأنه لا يصلح دليل قبول الذمة ولو وجب على المستأمن الخراج في أقل من سنة منذ يوم ملكها صار
ذميا حين وجوب الخراج ويؤخذ منه خراج رأسه بعد سنة مستقبلة لأنه بوجوب خراج الأرض صار ذميا كان
عقد الذمة نصا فيعتبر ابتداء العقد من حين وجوب الخراج فيؤخذ خراج الرأس بعد تمام السنة من ذلك الوقت ولو
تزوجت الحربية المستأمنة في دار الاسلام ذميا صارت ذمية ولو تزوج الحربي المستأمن في دار الاسلام ذمية لم يصر
ذميا (ووجه) الفرق ان المرأة تابعة لزوجها فإذا تزوجت بذمي فقد رضيت بالمقام في دارنا فصارت ذمية تبعا لزوجها
فأما الزوج فليس بتابع للمرأة فلا يكون تزوجه إياها دليل الرضا بالمقام في دارنا فلا يصير ذميا والله تعالى أعلم (وأما)
شرائط الركن فأنواع (منها) أن لا يكون المعاهد من مشركي العرب فإنه لا يقبل منهم الا الاسلام أو السيف لقوله
تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلى قوله تعالى فخلوا سبيلهم أمر سبحانه وتعالى بقتل المشركين ولم يأمر بتخلية
سبيلهم الا عند توبتهم وهي الاسلام ويجوز عقد الذمة مع أهل الكتاب لقول الله تبارك وتعالى قاتلوا الذين
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله تعالى من الذين أوتوا الكتاب الآية وسواء كانوا من العرب أو من العجم
لعموم النص ويجوز مع المجوس لأنهم ملحقون بأهل الكتاب في حق الجزية لما روى عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وكذلك فعل سيدنا عمر رضي الله عنه بسواد العراق وضرب
الجزية على جماجمهم والخراج على أراضيهم ثم وجه الفرق بين مشركي العرب وغيرهم من أهل الكتاب ومشركي
110

العجم ان أهل الكتاب إنما تركوا بالذمة وقبول الجزية لا لرغبة فيما يؤخذ منهم أو طمع في ذلك بل للدعوة إلى الاسلام
ليخالطوا المسلمين فيتأملوا في محاسن الاسلام وشرائعه وينظروا فيها فيروها مؤسسة على ما تحتمله العقول وتقبله
فيدعوهم ذلك إلى الاسلام فيرغبون فيه فكان عقد الذمة لرجاء الاسلام وهذا المعنى لا يحصل بعقد الذمة مع
مشركي العرب لأنهم أهل تقليد وعادة لا يعرفون سوى العادة وتقليد الآباء بل يعبدون ما سوى ذلك سخرية
وجنونا فلا يشتغلون بالتأمل والنظر في محاسن الشريعة ليقفوا عليها فيدعوهم إلى الاسلام فتعين السيف داعيا لهم
إلى الاسلام ولهذا لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الجزية ومشركو العجم ملحقون باهل الكتاب
في هذا الحكم بالنص الذي روينا (ومنها) أن لا يكون مرتدا فإنه لا يقبل من المرتد أيضا الا الاسلام أو السيف
لقوله تبارك وتعالى تقاتلونهم أو يسلمون قيل إن الآية نزلت في أهل الردة من بنى حنيفة ولا العقد في حق
المرتد لا يقع وسيلة إلى الاسلام لأن الظاهر أنه لا ينتقل عن دين الاسلام بعد ما عرف محاسنه وشرائعه المحمودة
في العقول الا لسوء اختياره وشؤم طبعه فيقع اليأس عن فلاحه فلا يكون عقد الذمة وقبول الجزية في حقه وسيلة
إلى الاسلام والله تعالى أعلم (وأما) الصابئون فيعقد لهم عقد الذمة لما ذكرنا في كتاب النكاح عند أبي حنيفة
هم قوم من أهل الكتاب يقرؤن الزبور وعندهما قوم يعبدون الكواكب فكانوا في حكم عبدة الأوثان
فتؤخذ منهم الجزية إذا كانوا من العجم والله تعالى أعلم (ومنها) أن يكون مؤبدا فان وقت له وقتا لم يصح
عقد الذمة لأن العقد الذمة في إفادة العصمة كالخلف عن عقد الاسلام وعقد الاسلام لا يصح الا مؤبدا
فكذا عقد الذمة والله تعالى أعلم (وأما) بيان حكم العقد فنقول وبالله التوفيق ان لعقد الذمة أحكاما (منها) عصمة
النفس لقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله عز وجل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون نهى سبحانه
وتعالى إباحة القتال إلى غاية قبول الجزية وإذا انتهت الإباحة تثبت العصمة ضرورة (ومنها) عصمة المال لأنها تابعة
لعصمة النفس وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا
والكلام في وجوب الجزية في مواضع في بيان سبب وجوب الجزية وفي بيان شرائط الوجوب وفي بيان وقت
الوجوب وفي بيان مقدار الواجب وفي بيان ما يسقط به بعد الوجوب (أما) الأول فسبب وجوبها عقد الذمة
وأما شرائط الوجوب فأنواع (منها) العقل (ومنها) البلوغ (ومنها) الذكورة فلا تجب على الصبيان والنساء
والمجانين لان الله سبحانه وتعالى أوجب الجزية على من هو من أهل القتال بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر الآية والمقاتلة مفاعلة من القتال فتستدعى أهلية القتال من الجانبين فلا تجب على من ليس من أهل
القتال وهؤلاء ليسوا من أهل القتال فلا تجب عليهم (ومنها) الصحة فلا تجب على المريض إذا مرض السنة كلها لان
المريض لا يقدر على القتال وكذلك إن مرض أكثر السنة وان صح أكثر السنة وجبت لان للأكثر حكم الكل
(ومنها) السلامة عن الزمانة والعمى والكبر في ظاهر الرواية فلا تجب على الزمن والأعمى والشيخ الكبير وروى
عن أبي يوسف انها ليست بشرط وتجب على هؤلاء إذا كان لهم مال والصحيح جواب ظاهر الرواية لان هؤلاء ليسوا
من أهل القتال عادة ألا ترى انهم لا يقتلون وكذا الفقير الذي لا يعتمل لا قدرة له لان من لا يقدر على العمل لا يكون
من أهل القتال (وأما) أصحاب الصوامع فعليهم الجزية إذا كانوا قادرين على العمل لأنهم من أهل القتال فعدم العمل
مع القدرة على العمل لا يمنع الوجوب كما إذا كان له أرض خراجية فلم يزرعها مع القدرة على الزراعة لا يسقط عنه
الخراج والله تعالى أعلم (ومنها) الحرية فلا تجب على العبد لان العبد ليس من أهل ملك المال (وأما) وقت
الوجوب فأول السنة لأنها تجب لحقن الدم في المستقبل فلا تؤخر إلى آخر السنة ولكن تؤخذ في كل شهر من الفقير
درهم ومن المتوسط درهمان ومن الغنى أربعة دراهم (وأما) بيان مقدار الواجب فنقول وبالله التوفيق الجزية على
ضربين جزية توضع بالتراضي وهو الصلح وذلك يتقدر بقدر ما وقع عليه الصلح كما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم
111

أهل نجران على الف ومائتي حلة وجزية يضعها الامام عليهم من غير رضاهم بان ظهر الامام على أرض الكفار وأقرهم
على أملاكهم وجعلهم ذمة وذلك على ثلاثة مراتب لان الذمة ثلاث طبقات أغنياء وأوساط وفقراء فيضع على الغنى
ثمانية وأربعين درهما وعلى الوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير المعتمل اثنى عشر درهما كذا روى عن
سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه أنه أمر عثمان بن حنيف حين بعثه إلى السواد أن يضع هكذا وكان ذلك من سيدنا عمر
رضي الله عنه بمحضر من الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد فهو كالاجماع على ذلك مع
ما أنه لا يحتمل أن يكون من سيدنا عمر رضي الله عنه رأيا لان المقدرات سبيل معرفتها التوقيف والسمع لا العقل فهو
كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اختلف في تفسير الغنى في هذا الباب والوسط والفقير قال بعضهم
من لم يملك نصابا تجب في مثله الزكاة على المسلمين وهو مائتا درهم فهو فقير ومن ملك مائتي درهم فهو من الأواسط ومن
ملك أربعة آلاف درهم فصاعدا فهو من الأغنياء لما روى عن سيدنا على وعبد الله بن سيدنا عمر رضى الله تعالى عنهم
انهما قالا أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما فوق ذلك كنز وقيل من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف فما دونها فهو من
الأوساط ومن ملك زيادة على عشرة آلاف فهو من الأغنياء والله تعالى أعلم (وأما) ما يسقطها بعد الوجوب فأنواع
(منها) الاسلام (ومنها) عندنا فان الذمي إذا أسلم أو مات سقطت الجزية عندنا وعند الشافعي رحمه الله
لا تسقط بالموت والاسلام (وجه) قوله إن الجزية وجبت عوضا عن العصمة بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
إلى قوله جل شأنه حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أباح جلت عظمته دماء أهل القتال ثم حقنها بالجزية فكانت
الجزية عوضا عن حقن الدم وقد حصل له المعوض في الزمان الماضي فلا يسقط عنه العوض (ولنا) ما روى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس على مسلم جزية وعن سيدنا عمر رضي الله عنه انه رفع الجزية بالاسلام فقال والله
ان في الاسلام لمعاذا ان فعل ولأنها وجبت وسيلة إلى الاسلام فلا تبقى بعد الاسلام والموت كالقتال والدليل
على أنها وجبت وسيلة إلى الاسلام ان الاسلام فرض بالنصوص والجزية تتضمن ترك القتال فلا يجوز شرع عقد
الذمة والجزية الذي فيه ترك القتال الا لما شرع له القتال وهو التوسل إلى الاسلام والا فيكون تناقضا والشريعة لا
تتناقض وتعذر تحقيق معنى التوسل بعد الموت والاسلام فيسقط ضرورة وقوله إنها وجبت عوضا عن حقن الدم
ممنوع بل ما وجبت الا وسيلة إلى الاسلام لان تمكين الكفرة في دار الاسلام وترك قتالهم مع قولهم في الله ما لا يليق
بذاته وصفاته تبارك وتعالى للوصول إلى عرض يسير من الدنيا خارج عن الحكم والعقل فاما التوسل إلى الاسلام
واعدام الكفرة فمعقول مع ما انها ان وجبت لحق الدم فإنما تجب كذلك في المستقبل وإذا صار دمه محقونا فيما مضى فلا
يجوز أخذ الجزية لأجله فتسقط (ومنها) مضى سنة تامة ودخول سنة أخرى عند أبي حنيفة وعندهما لا تسقط حتى أنه
إذا مضى على الذمة سنة كاملة ودخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها الذمي تؤخذ منه للسنة المستقبلة ولا تؤخذ للسنة
الماضية عنده وعندهما تؤخذ لما مضى ما دام ذميا والمسألة تعرف بالمواليد (1) انها تؤخذ أم لا (وجه) قولهما ان الجزية
أحد نوعي الخراج فلا تسقط بالتأخير إلى سنة أخرى استدلالا بالخراج الآخر وهو خراج الأرض وهذا لان كل
واحد منهما دين فلا تسقط بالتأخير كسائر الديون ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان (أحدهما) ان الجزية ما وجبت
الا لرجاء الاسلام وإذا لم يوجد حتى دخلت سنة أخرى انقطع الرجاء فيما مضى وبقى الرجاء في المستقبل فيؤخذ للسنة
المستقبلة والثاني ان الجزية إنما جعلت لحق الدم في المستقبل فإذا صار دمه محقونا في السنة الماضية فلا تؤخذ الجزية
لأجلها لانعدام الحاجة إلى ذلك كما إذا أسلم أو مات تسقط عنه الجزية لعدم الحاجة إلى الحقن بالجزية كذا هذا
والاعتبار بخراج الأرض غير سديد فان المجوسي إذا أسلم بعد مضى السنة لا يسقط عنه خراج الأرض ويسقط عنه
خراج الرأس بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله وبه تبين ان هذا ليس كسائر الديون فبطل الاعتبار بها والله تعالى أعلم
(وأما) صفة العقد فهو انه لازم في حقنا حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال وأما في حقهم فغير لازم بل

(1) كذا في الأصل وفى نسخه هكذا بالموالية
112

يحتمل الانتفاع في الجملة لكنه لا ينتقض الا بأحد أمور ثلاثة أحدها ان يسلم الذمي لما مر ان الذمة عقدت وسيلة
إلى الاسلام وقد حصل المقصود والثاني أن يلحق بدار الحرب لأنه إذا لحق بدار الحرب صار بمنزلة المرتد الا ان
الذمي إذا لحق بدار الحرب يسترق والمرتد إذا لحق بدار الحرب لا يسترق لما نذكره إن شاء الله تعالى (والثالث) ان
يغلبوا على موضع فيحاربون لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد صاروا أهل الحرب وينتقض العهد ضرورة ولو امتنع الذمي
من اعطاء الجزية لا ينتقض عهده لان الامتناع يحتمل أن يكون لعذر العدم فلا ينتقض العهد بالشك والاحتمال
وكذلك لو سب النبي عليه الصلاة والسلام لا ينتقض عهده لان هذا زيادة كفر على كفر والعقد يبقى مع أصل
الكفر فيبقى مع الزيادة وكذلك لو قتل مسلما أو زنى بمسلمة لأن هذه معاص ارتكبوها وهي دون الكفر في القبح
والحرمة ثم بقيت الذمة مع الكفر فمع المعصية أولى والله تعالى أعلم (وأما) بيان ما يؤخذ به أهل الذمة وما يتعرض له
وما لا يتعرض فنقول وبالله التوفيق ان أهل الذمة يؤخذون باظهار علامات يعرفون بها ولا يتركون يتشبهون
بالمسلمين في لباسهم ومركبهم وهيئتهم فيؤخذ الذمي بان يجعل على وسطه كشحا مثل الخيط الغليظ ويلبس قلنسوة
طويلة مضروبة ويركب سرجا على قربوسه مثل الرمانة ولا يلبس طيلسانا مثل طيالسة المسلمين ورداء مثل أردية
المسلمين والأصل فيه ما روى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله مر على رجال ركوب ذوي هيئة فظنهم مسلمين
فسلم عليهم فقال له رجل من أصحابه أصلحك الله تدرى من هؤلاء فقال من هم فقال هؤلاء نصارى بنى تغلب فلما أتى
منزله أمر أن ينادى في الناس أن لا يبقى نصراني الا عقد ناصيته وركب الاكاف ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد فيكون
كالاجماع ولان السلام من شعائر الاسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه الشعائر عند الالتقاء ولا يمكنهم ذلك إلا
بتمييز أهل الذمة بالعلامة ولان في إظهار هذه العلامات إظهار آثار الذلة عليهم وفيه صيانة عقائد ضعفة المسلمين عن
التغيير على ما قال سبحانه وتعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة
ومعارج عليها يظهرون وكذا يجب أن يتميز نساؤهم عن نساء المسلمين في حال المشي في الطريق ويجب التمييز في
الحمامات في الأزر فيخالف أزرهم أزر المسلمين لما قلنا وكذا يجب أن تميز الدور بعلات تعرف بها دورهم من دور
المسلمين ليعرف السائل المسلم انها دور الكفرة فلا يدعو لهم بالمغفرة ويتركون أن يسكنوا في أمصار المسلمين يبيعون
ويشترون لان عقد الذمة شرع ليكون وسيلة لهم إلى الاسلام وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ إلى هذا
المقصود وفيه أيضا منفعة المسلمين بالبيع والشراء فيمكنون من ذلك ولا يمكنون من بيع الخمور والخنازير فيها
ظاهرا لان حرمة الخمر والخنزير ثابتة في حقهم كما هي ثابتة في حق المسلمين لأنهم مخاطبون بالحرمات وهو الصحيح
عند أهل الأصول على ما عرف في موضعه فكان اظهار بيع الخمر والخنزير منهم اظهارا للفسق فيمنعون من ذلك
وعندهم ان ذلك مباح فكان اظهار شعائر الكفر في مكان معد لاظهار شعائر الاسلام وهو أمصار المسلمين فيمنعون
من ذلك وكذا يمنعون من ادخالها في أمصار المسلمين ظاهرا وروى عن أبي يوسف انى أمنعهم من ادخال الخنازير
فرق بين الخمر والخنزير لما في الخمر لما في الخمر من خوف وقوع المسلم فيها ولا يتوهم ذلك في الخنزير ولا يمكنون من إظهار صليبهم
في عيدهم لا له اظهار شعائر الكفر فلا يمكنون من ذلك في أمصار المسلمين ولو فعلوا ذلك في كنائسهم لا يتعرض لهم
وكذا لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرض لذلك لان اظهار الشعائر لم يتحقق فان ضربوا به خارجا
منها لم يمكنوا منه لما فيه من اظهار الشعائر ولا يمنعون من اظهار شئ مما ذكرنا من بيع الخمر والخنزير والصليب وضرب
الناقوس في قرية أو موضع ليس من أمصار المسلمين ولو كان فيه عدد كثير من أهل الاسلام وإنما يكره ذلك في أمصار
المسلمين وهي التي يقام فيها الجمع والأعياد ولان المنع من اظهار هذه الأشياء لكونه اظهار شعائر الكفر في مكان
اظهار شعائر الاسلام فيختص المنع بالمكان المعد لاظهار الشعائر وهو المصر الجامع (وأما) اظهار فسق يعتقدون حرمته
كالزنا وسائر الفواحش التي هي حرام في دينهم فإنهم يمنعون من ذلك سواء كانوا في أمصار المسلمين أو في أمصارهم
113

ومدائنهم وقراهم وكذا المزامير والعيدان والطبول في الغنا واللعب بالحمام ونظيرها يمنعون من ذلك كله في الأمصار
والقرى لأنهم يعتقدون حرمة هذه الأفعال كما نعتقدها نحن فلم تكن مستثناة عن عقد الذمة ليقروا عليها (وأما) الكنائس
والبيع القديمة فلا يتعرض لها ولا يهدم شئ منها (واما) احداث كنيسة أخرى فيمنعون عنه فيما صار مصرا من أمصار
المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام لا كنيسة في الاسلام الا في دار الاسلام ولو انهدمت كنيسة فلهم ان يبنوها
كما كانت لان لهذا البناء حكم البقاء ولهم ان يستبقوها فلهم ان يبنوها وليس لهم ان يحولوها من موضع إلى موضع آخر
لان التحويل من موضع إلى موضع آخر في حكم احداث كنيسة أخرى (وأما) في القرى أو في موضع ليس من
أمصار المسلمين فلا يمنعون من احداث الكنائس والبيع كما لا يمنعون من اظهار بيع الخمور والخنازير لما بينا ولو ظهر
الامام على قوم من أهل الحرب فرأى أن يجعلهم ذمة ويضع على رؤسهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج لا يمنعون
من اتخاذ الكنائس والبيع واظهار بيعي الخمر والخنزير لان الممنوع اظهار شعائر الكفر في مكان اظهار شعائر
الاسلام وهو أمصار المسلمين ولم يوجد بخلاف ما إذا صاروا ذمة بالصلح بان طلب قوم من أهل الحرب منا أن يصيروا
ذمة يؤدون عن رقابهم وأراضيهم شيئا معلوما وتجرى عليهم أحكام الاسلام فصالحناهم على ذلك فكانت أراضيهم
مثل أراضي الشام مدائن وقرى ورساتيق وأمصار انه لا يتعرض لكنائسهم القديمة ولكنهم لو أرادوا أن يحدثوا
شيئا منها يمنعوا من ذلك لأنها صارت مصرا من أمصار المسلمين واحداث الكنيسة في مصر من أمصار المسلمين
ممنوع عنه شرعا فان مصر الامام مصرا للمسلمين كما مصر سيدنا عمر رضي الله عنه الكوفة والبصرة فاشترى قوم
من أهل الذمة دورا وأرادوا أن يتخذوا فيها كنائس لا يمكنوا من ذلك لما قلنا وكذلك لو تخلى رجل في صومعته
منع من ذلك لان ذلك في معنى اتخاذ الكنيسة وكل مصر من أمصار المشركين ظهر عليه الامام عنوة وجعلهم ذمة فما
كان فيه كنيسة قديمة منعهم من الصلاة في تلك الكنائس لأنه لما فتح عنوة فقد استحقه المسلمون فيمنعهم من
الصلاة فيها ويأمرهم ان يتخذوها مساكن ولا ينبغي ان يهدمها وكذلك كل قرية جعلها الامام مصرا ولو عطل
الامام هذا المصر وتركوا إقامة الجمع والأعياد والحدود فيه كان لأهل القرية ان يحدثوا ما شاؤوا لأنه عاد قرية كما
كانت نصرانية تحت مسلم لا يمكنها من نصب الصليب في بيته لان نصب الصليب كنصب الصنم وتصلى في بيته
حيث شاءت هذا الذي ذكرنا حكم أرض العجم (وأما) أرض العرب فلا يترك فيها كنيسة ولا بيعة ولا
يباع فيها الخمر والخنزير مصرا كان أو قرية أو ماء من مياه العرب ويمنع المشركون ان يتخذوا أرض العرب مسكنا
ووطنا كذا ذكره محمد تفضيلا لأرض العرب على غيرها وتطهيرا لها عن الدين الباطل قال عليه الصلاة والسلام
لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وأما الالتجاء إلى الحرم فان الحربي إذا التجأ إلى الحرم لا يباح قتله في الحرم ولكن
لا يطعم ولا يسقى ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم وعند الشافعي رحمه الله يقتل في الحرم واختلف أصحابنا
فيما بينهم قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقتل في الحرم ولا يخرج منه أيضا وقال أبو يوسف رحمه الله لا يباح قتله
في الحرم ولكن يباح اخراجه من الحرم للشافعي رحمه الله قوله تبارك وتعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وحيث
يعبر به عن المكان فكان هذا إباحة لقتل المشركين في الأماكن كلها (ولنا) قوله تبارك وتعالى أو لم يروا انا جعلنا حرما
آمنا هذا إذا دخل ملتجئا اما إذا دخل مكابرا أو مقاتلا يقتل لقوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حق يقاتلوكم فيه فان
قاتلوكم فاقتلوهم ولأنه لما دخل مقاتلا فقد هتك حرمة الحرم فيقتل تلافيا للهتك زجرا لغيره عن الهتك وكذلك لو دخل
قوم من أهل الحرب للقتال فإنهم يقتلون ولو انهزموا من المسلمين فلا شئ على المسلمين في قتلهم وأسرهم والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم الغنائم وما يتصل بها فنقول وبالله التوفيق ههنا ثلاثة أشياء النفل والفئ والغنيمة فلا بد من
بيان معاني هذه الألفاظ وما يتعلق بها من الشرائط والأحكام (أما) النفل في اللغة فعبارة عن الزيادة ومنه سمى
ولد الولد نافلة لأنه زيادة على الولد الصلبي وسميت نوافل العبادات لكونها زيادات على الفرائض وفى الشريعة عبارة
114

عما خصه الامام لبعض الغزاة تحريضا لهم على القتال سمى نفلا لكونه زيادة على ما يسهم لهم من الغنيمة والتنفيل هو
تخصيص بعض الغزاة بالزيادة نحو أن يقول الامام من أصاب شيئا فله ربعه أو ثلثه أو قال من أصاب شيئا فهو له أو قال
من أخذ شيئا أو قال من قتل قتيلا فله سلبه أو قال لسرية ما أصبتم فلكم ربعه أو ثلثه أو قال فهو لكم وذلك جائز لان
التخصيص بذلك تحريض على القتال وانه أمر مشروع ومندوب إليه قال الله تعالى عز شأنه يا أيها النبي حرض
المؤمنين على القتال الا انه لا ينبغي للامام أن ينفل بكل المأخوذ لان التنفيل بكل المأخوذ قطع حق الغانمين عن النفل
أصلا لكن مع هذا لو رأى الامام المصلحة في ذلك ففعله مع سرية جاز لان المصلحة قد تكون فيه في الجملة ويجوز
التنفيل في سائر الأموال من الذهب والفضة والسلب وغير ذلك لان معنى التحريض على القتال يتحقق في الكل
والسلب هو ثياب المقتول وسلاحه الذي معه ودابته التي ركبها بسرجها وآلاتها وما كان معه من مال في حقيبة على
الدابة أو على وسطه (وأما) حقيبة غلامه وما كان مع غلامه من دابة أخرى فليس بسلب ولو اشتركا في قتل
رجل كان السلب بينهما فان بدأ أحدهما فضربه ثم أجهزه الآخر بأن كانت الضربة الأولى قد أثخنته وصيرته إلى
حال لا يقاتل ولا يعين على القتال فالسلب للأول لأنه قتيل الأول وإن كانت الضربة الأولى لم تصيره إلى هذه الحالة
فالسلب للثاني لأنه قتيل الثاني ولو قتل رجل واحد قتيلين أو أكثر فله سلبه وهل يدخل الامام في التنفيل ان قال
في جميع ذلك منكم لا يدخل لأنه خصهم وان لم يقل منكم يدخل لأنه عم الكلام هذا إذا نفل الامام فإن لم ينفل شيئا
فقتل رجل من الغزاة قتيلا لم يختص بسلبه عندنا وقال الشافعي رحمه الله ان قتله مدبرا منهزما لم يختص بسلبه وان
قتله مقبلا مقاتلا يختص بسلبه واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قتل قتيلا فله سلبه وهذا
منه عليه الصلاة والسلام نصب الشرع ولأنه إذا قتله مقبلا مقاتلا فقد قتله بقوة نفسه فيختص بالسلب وإذا قتله
موليا منهزما فإنما قتله بقوة الجماعة فكان السلب غنيمة مقسومة (ولنا) ان القياس يأبى جواز النفل والاختصاص
بالمصاب من السلب وغيره لان سبب الاستحقاق إن كان هو الجهاد وجد من الكل وإن كان هو الاستيلاء والإصابة
والاخذ بذلك حصل بقوة الكل فيقتضى الاستحقاق للكل فتخصيص البعض بالتنفيل يخرج مخرج قطع الحق
عن المستحق فينبغي أن لا يجوز الا انا استحسنا الجواز بالنص وهو قوله تبارك وتعالى يا أيها النبي حرض المؤمنين
على القتال والتنفيل تحريض على القتال باطماع زيادة المال لان من له زيادة غنا وفضل شجاعة لا يرضى طبعه باظهار
ذلك مع ما فيه من مخاطرة الروح وتعريض النفس للهلاك الا باطماع زيادة لا يشاركه فيه غيره فإذا لم يطمع
لا يظهر فلا يستحق الزيادة والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) الحديث فلا حجة فيه لأنه يحتمل انه نصب ذلك
القول شرعا ويحتمل أن يكون نصبه شرطا ويحتمل أنه نفل قوما بأعيانهم فلا يكون حجة مع الاحتمال نظيره قوله عليه
الصلاة والسلام من أحيا أرضا ميتة فهي له انه لم يجعله أبو حنيفة حجة لملك الأرض المحياة بغير اذن الامام لمثل هذا
الاحتمال والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) شرط جوازه فهو أن يكون قبل حصول الغنيمة في يد الغانمين فإذا
حصلت في أيديهم فلا نفل لأن جواز التنفيل للتحريض على القتال وذا لا يتحقق الا قبل أخذ الغنيمة فان قيل أليس
أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل بعد احراز الغنيمة فالجواب أنه يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام إنما
نفل من الخمس أو من الصفي الذي كان له في الغنائم ويحتمل أنه كان مما أفاء الله تعالى عليه فسماه الراوي غنيمة والله
تعالى أعلم (وأما) حكم التنفيل فنوعان أحدهما اختصاص النفل بالمنفل حتى لا يشاركه فيه غيره وهل يثبت الملك
فيه قبل الاحراز بدار الاسلام ففيه كلام نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والثاني انه لا خمس في النفل لان
الخمس إنما يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين والنفل ما أخلصه الامام لصاحبه وقطع شركة الاغيار عنه فلا يجب فيه
الخمس ويشارك المنفل له الغزاة في أربعة أخماس ما أصابوا لان الإصابة أو الجهاد حصل بقوة الكل الا أن الامام
خص البعض ببعضها وقطع حق الباقين عنه فبقي حق الكل متعلقا بما وراءه فيشاركهم فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
115

وأما الفئ فهو اسم لما لم يوجب عليه المسلمون بخيل ولا ركاب نحو الأموال المبعوثة بالرسالة إلى امام المسلمين
والأموال المأخوذة على موادعة أهل الحرب ولا خمس فيه لأنه ليس بغنيمة إذ هي للمأخوذ من الكفرة على سبيل
القهر والغلبة ولم يوجد وقد كان الفئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يتصرف فيه كيف شاء يختصه لنفسه أو
يفرقه فيمن شاء قال الله تعالى عز شأنه وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله
يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير وروى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال كانت أموال بنى النضير
مما أفاء الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت خالصة له وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله
في الكراع والسلاح ولهذا كانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت لم يوجب عليها الصحابة رضي الله عنهم
من خيل ولا ركاب فإنه روى أن أهل فدك لما بلغهم أهل خيبر انهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان يجليهم ويحقن دماءهم ويخلوا بينه وبين أموالهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحوه على النصف من
فدك فصالحهم عليه الصلاة والسلام على ذلك ثم الفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأئمة في المال
المبعوث إليهم من أهل الحرب أنه يكون لعامة المسلمين وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ان الامام إنما أشرك
قومه في المال المبعوث إليه من أهل الحرب لان هيبة الأئمة بسبب قومهم فكانت شركة بينهم (وأما) هيبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بما نصر من الرعب لا بأصحابه كما قال عليه الصلاة والسلام نصرت بالرعب
مسيرة شهرين لذلك له ان يختص لنفسه والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا إذا دخل حربي في دار الاسلام
بغير أمان فاخذه واحد من المسلمين يكون فيأ لجماعة المسلمين ولا يختص به الا آخذ عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله يكون للآخذ خاصة (وجه) قولهما ان سبب الملك وجد من الا آخذ خاصة فيختص
بملكه كما إذا دخلت طائفة من أهل الحرب دار الاسلام فاستقبلتها سرية من أهل الاسلام فاخذتها انهم يختصون
بملكها والدليل عن أن سبب الملك وجد من الا آخذ خاصة ان السبب هو الاخذ والاستيلاء هو اثبات اليد وقد
وجد ذلك حقيقة من الآخذ خاصة وأهل الدار إن كانت لهم يد لكنها يد حكيمة ويد الحربي حقيقة لأنه حر والحر
في يد نفسه واليد الحكيمة لا تصلح مبطلة لليد الحقيقية لأنها دونها ونقض الشئ بما هو مثله أو بما هو فوقه لا بما هو دونه
فاما يد الآخذ فيد حقيقة وهي محقة ويد الحربي مبطلة فجاز ابطالها بها (وجه) قول أبي حنيفة رضي الله عنه انه وجد
سبب ثبوت الملك لعامة المسلمين في محل قابل للملك وهو المباح فيصير ملكا للكل كما إذا استولى جماعة على صيد
وإنما قلنا ذلك لأنه كلما دخل دار الاسلام فقد ثبت يد أهل الدار عليه لان الدار في أيديهم فما في الدار يكون في أيديهم
أيضا ولهذا قلنا إنه لا يثبت الملك للغانمين في الغنائم ما داموا في دار الحرب كهذا ههنا قوله يد أهل الدار يد حكمية ويد الحربي
حقيقية فلا تبطلها قلنا ويد أهل الدار حقيقية أيضا لان المعنى من اليد في هذه الأبواب القدرة من حيث سلامة
الأسباب والآلات ولأهل الدار آلات سليمة لو استعملوها في التصرف عليه لحدثت لهم بمجرى العادة قدرة
حقيقية على وجه لا يمكنهم مقاومتهم ومعارضتهم مع ما انه إذا ثبت يد الآخذ عليه حقيقة فقد ثبت يد أهل الدار لان يده
يد أهل الدار لان أهل دار الاسلام كلهم منعة واحدة فإنهم يذبون عن دين واحد فكانت يده يد الكل معنى كما إذا
دخل الغزاة دار الحرب فاخذوا منهم شيئا من أموال الكفرة فان المأخوذ يكون غنيمة مقسومة بين الكل كذا هذا
والله سبحانه وتعالى أعلم وأما السريتان إذا التقتا في دار الاسلام فأخذ منها سرية الامام فإنما اختصوا بملكها للحاجة
والضرورة وهي ان بالامام حاجة إلى بعث السريا لحراسة الحوزة وحماية البيضة عن شر الكفرة إذ الكفرة يقصدون
دار الاسلام والدخول في حدودها بغتة فإذا علموا ببعث السرايا وتهيئهم للذب عن حريم الاسلام قطعوا الأطماع
فبقيت البيضة محروسة فلو لم يختصوا بالمأخوذ لما انقاد طبعهم لكفاية هذا الشغل فتمتد أطماع الكفرة إلى دار الاسلام
ولهذا إذا نفل الامام سرية فأصابوا شيئا يختصون به لوقوع الحاجة إلى التنفيل لاختصاص بعض الغزاة بزيادة
116

شجاعة لأنه لا ينقاد طبعه لاظهارها الا بالترغيب بزيادة من المصاب بالتنفيل كذا هذا وهل يجب فيه الخمس فعن
أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان والصحيح انه لا يجب لان الخمس إنما يجب في الغنائم والغنيمة اسم للمال المأخوذ
عنوة وقهرا بايجاف الخيل والركاب ولم يوجد لحصوله في أيديهم بغير قتال فكان مباحا ملك لا على سبيل القهر والغلبة
فلا يجب فيه الخمس كسائر المباحات وكذا روى عن محمد روايتان والصحيح انه يجب فيه الخمس لان الملك عنده
يثبت بأخذه وإنما أخذه على سبيل القهر والغلبة فكان في حكم الغنائم ولو دخل دار الاسلام فاسلم قبل ان يؤخذ
ثم أخذه واحد من المسلمين يكون فيأ لجماعة المسلمين أيضا عند أبي حنيفة وعندهما يكون حرا لا سبيل لاحد عليه
وهذا فرع الأصل الذي ذكرنا ان عند أبي حنيفة رحمه الله كما دخل دار الاسلام فقد انعقد سبب الملك فيه لوقوعه في
يد أهل الدار فاعتراض الاسلام بعد انعقاد سبب الملك لا يمنع الملك وعندهما سبب الملك هو الاخذ حقيقة فكان
حرا قبله حيث وجد الاسلام قبل وجود سبب الملك فيه فيمنع ثبوت الملك على ما مر ولو رجع هذا الحربي إلى دار
الحرب خرج من أن يكون فيأ بالاجماع اما عند أبي حنيفة فلان حق أهل دار الاسلام لا يتأكد الا بالاخذ حقيقة
ولم يوجد واما عندهما فلانه لم يثبت الملك أصلا الا بحقيقة الاخذ ولم يوجد وصار هذا كما إذا انفلت واحد من
الأسارى قبل الاحراز بدار الاسلام والتحق بمنعتهم انه يعود حرا كما كان كذا هذا ولو ادعى هذا الحربي بأمان لم
يقبل قوله عند أبي حنيفة وعندهما يقبل اما عنده فلان دخول دار الحرب سبب ثبوت الملك والأمان عارض مانع
من انعقاد السبب فلا تقبل دعوى العارض الا بحجة واما عندهما فلان الملك فيه يقف على حقيقة الاخذ فكان حرا
قبله فكان دعوى الأمان دعوى حكم الأصل فتقبل وكذلك لو قال الا آخذ انى امنته لم يقبل قوله عند أبي حنيفة
وعندهما يقبل اما عنده فلان هذا اقرار يتضمن ابطال حق الغير فلا يقبل وعندهما هذا اقرار على نفسه وانه غير
متهم في حق نفسه ولو دخل هذا الحربي الحرم قبل ان يؤخذ فهو فئ عند أبي حنيفة ودخول الحرم لا يبطل ذلك عنه
لان ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل بين الحرم وغيره والدليل عليه ان الاسلام لم يبطل الملك فالحرم أولى ولان
الاسلام أعظم حرمة من الحرم وعندهما لا يكون فيئا الا بحقيقة الاخذ فيبقى على أصل الحرية ولا يتعرض له لكنه
لا يطعم ولا يسقى ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم ولو أمنه رجل من المسلمين في الحرم أو بعد ما خرج من
الحرم قبل ان يؤخذ لم يصح عند أبي حنيفة وعندهما يصح ويرد إلى مأمنه لان عنده صار فيئا لجماعة المسلمين بنفس
دخول دار الاسلام وعندهما لا يصير فيئا الا بحقيقة الاخذ فإذا أمنه قبل الاخذ يصح ولا يصح بعده لأنه مرقوق ولو
أخذه رجل في الحرم وأخرجه منه فقد أساء وكان فيئا لجماعة المسلمين عند أبي حنيفة وعندهما يكون لمن أخذه اما عنده
فلان الملك قد ثبت بدخوله دار الاسلام فالأخذ في الحرم لا يبطله واما عندهما فلان الملك وإن كان يثبت بالاخذ
وانه منهى لكن النهى لغيره وهو حرمة الحرم فلا يمنع كونه سببا للملك في ذاته كالبيع وقت النداء ونحو ذلك ولو أخذه
في الحرم ولم يخرجه فينبغي ان يخلى سبيله في الحرم رعاية لحرمة الحرم ما دام فيه والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الغنيمة
فالكلام فيها في مواضع في تفسير الغنيمة وفي بيان ما يملكه الامام من التصرف في الغنائم وفي بيان مكان قسمة
الغنائم وفي بيان ما يباح الانتفاع به من الغنائم وفي بيان كيفية قسمة الغنائم وفي بيان مصارفها اما الأول فالغنيمة عندنا
اسم للمأخوذ من أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة والاخذ على سبيل القهر والغلبة لا يتحقق الا بالمنعة اما بحقيقة
المنعة أو بدلالة المنعة وهي اذن الامام وعند الشافعي رحمه الله هي اسم للمأخوذ من أهل الحرب كيف ما كان ولا يشترط
له المنعة أصلا وبيان ذلك في مسائل إذا دخل جماعة لهم منعة دار الحرب فاخذوا أموالا منهم فإنها تقسم قسمة الغنائم
بالاجماع سواء دخلوا باذن الامام أو بغير اذنه لوجود الاخذ على سبيل القهر والغلبة لوجود المنعة القائمة مقام المقاتلة
حقيقة وأقل المنعة أربعة في ظاهر الرواية لقوله عليه الصلاة والسلام خير الأصحاب أربعة وروى عن أبي يوسف
انها تسعة ولو دخل من لا منعة له باذن الامام كان المأخوذ غنيمة في ظاهر الرواية عن أصحابنا لوجود المنعة دلالة على ما
117

نذكره ولو دخل بغير اذن الامام لم يكن غنيمة عندنا لانعدام المنعة أصلا وعند الشافعي رحمه الله يكون غنيمة
والصحيح قولنا لان الغنيمة والغنم والمغنم في اللغة اسم لمال أصيب من أموال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون
بالخيل والركاب وكذا إشارة النص دليل عليه وهي قوله سبحانه وتعالى وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم
عليه من خيل ولا ركاب أشار سبحانه وتعالى إلى أنه ما لم يوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب لا يكون غنيمة
وإصابة مال أهل الحرب بايجاف الخيل والركاب لا يكون الا بالمنعة اما حقيقة أو دلالة لان من لا منعة له لا يمكنه الاخذ
على طريق القهر والغلبة فلم يكن المأخوذ غنيمة بل كان مالا مباحا فيختص به الا آخذ كالصيد الا ان أخذاه جميعا
فيكون المأخوذ بينهما كما لو أخذا صيدا اما عند وجود المنعة فيتحقق الاخذ على سبيل القهر والغلبة اما حقيقة المنعة
فظاهرة وكذا دلالة المنعة وهي اذن الامام لأنه لما أذن له الامام بالدخول فقد ضمن له المعونة بالمدد والنصرة عند الحاجة
فكان دخوله باذن الامام امتناعا بالجيش الكثيف معنى فكان المأخوذ مأخوذا على سبيل القهر والغلبة فكان غنيمة
فهو الفرق ولو اجتمع فريقان أحدهما دخل باذن الامام والاخر بغير اذنه ولا منعة لهم فالحكم في كل فريق عند
الاجتماع ما هو الحكم عند الانفراد انه تفرد كل فريق بأخذ شئ فلكل فريق ما أخذ كما لو أنفرد كل فريق بالدخول
فاخذ شيئا فان اشترك الفريقان في الاخذ فالمأخوذ بينهم على عدد الا آخذين ثم ما أصاب المأذون لهم يخمس ويكون
أربعة أخماسه بينهم مشتركة فيه الآخذ وغير الآخذ لأنه غنيمة وهذا سبيل الغنائم وما أصاب الذين لم يؤذن لهم لا
خمس فيه فيكون بين الآخذين ولا يشاركهم الذين لم يأخذوا لأنه مال مباح وهذا حكم المال المباح على ما بينا هذا إذا
اجتمع فريقان ولا منعة لهم فاما إذا اجتمعا وكان لهم باجتماعهم منعة فما أصاب واحدا منهم أو جماعتهم يخمس وأربعة
أخماسه بينهم لان المأخوذ غنيمة لوجود المنعة فكان وجود الاذن وعدمه بمنزلة واحدة ولو كان الذين دخلوا باذن
الامام لهم منعة ثم لحقهم لص أو لصان لا منعة لهما بغير اذن الامام ثم لقوا قتالا وأصابوا مالا وأصابوا غنائم فما أصاب
العسكر قبل ان يلحقهم اللص فان هذا اللص لا يشاركهم فيه وما أصابوه بعد ان لحق هذا اللص بهم فإنه يشاركهم
لان الإصابة قبل اللحاق حصلت بقتال العسكر حقيقة وكذلك الاحراز بدار الاسلام لان لهم غنية عن معونة اللص
فكان دخوله في الاستيلاء على المصاب قبل اللحاق وعدمه بمنزلة واحدة ولا يشبه هذا الجيش إذا لحقهم المدد انه
يشاركهم فيما أصابوا لان الجيش يستعين بالمدد لقوتهم فكان الاحراز حاصلا بالكل وكذلك الإصابة بعد اللحوق
حصلت باستيلاء الكل لذلك شاركهم بخلاف اللص والله تعالى أعلم ولو أخذ واحد من الجيش شيئا من المتاع
الذي له قيمة وليس في يد انسان منهم كالمعادن والكنوز والخشب والسمك فذلك غنيمة وفيه الخمس وذلك الواحد
إنما أخذه بمنعة الجماعة وقوتهم فكان مالا مأخوذا على سبيل القهر والغلبة فكان غنيمة وان لم يكن لذلك الشئ في دار
الحرب وفى دار الاسلام قيمة فهو له خاصة لأنه إذا لم يكن له قيمة لا يقع فيه تمانع وتدافع فلا يقع أخذه على سبيل
القهر والغلبة فلم يكن غنيمة ولو أخذ شيئا له قيمة في دار الحرب نحو الخشب فعمله آنية أو غيرها رده إلى الغنيمة لأنه
إذا كان له قيمة بذاته فالعمل فيه فضل له فإن لم يكن ذلك الشئ متقوما فهو له خاصة لما قلنا ولا خمس فيما يؤخذ على
موادعة أهل الحرب لأنه ليس بمأخوذ على سبيل القهر والغلبة فلم يكن غنيمة وكذا ما بعث رسالة إلى امام المسلمين
لا خمس فيه لما قلنا ولو حاصر المسلمون قلعة في دار الحرب فاقتدوا أنفسهم بمال ففيه الخمس لأنه غنيمة لكونه
مأخوذا على سبيل القهر والغلبة والله سبحانه وتعالى أعلم وأما بيان ما يملكه الامام من التصرف في الغنائم فجملة
الكلام فيه انه إذا ظهر الامام على بلاد أهل الحرب فالمستولي عليه لا يخلو من أحد أنواع ثلاثة المتاع والأراضي
والرقاب اما المتاع فإنه يخمس ويقسم الباقي بين الغانمين ولا خيار للامام فيه واما الأراضي فللامام فيها خياران ان
شاء خمسها ويقسم الباقي بين الغانمين لما بينا وان شاء تركها في يد أهلها بالخراج وجعلهم ذمة إن كانوا بمحل الذمة بأن كانوا
من أهل الكتاب أو من مشركي العجم ووضع الجزية على رؤسهم والخراج على أراضيهم وهذا عندنا وعند
118

الشافعي رحمه الله ليس للامام ان يترك الأراضي في أيديهم بالخراج بل يقسمها (وجه) قوله إن الأراضي صارت
ملكا للغزاة بالاستيلاء فكان الترك في أيديهم ابطالا لملك الغزاة فلا يملكه الامام كالمتاع (ولنا) اجماع الصحابة رضي الله عنهم
فان سيدنا عمر رضي الله عنه لما فتح سواد العراق ترك الأراضي في أيديهم وضرب على رؤسهم الجزية
وعلى أراضيهم الخراج بمحضر من الصحابة الكرام رضى الله تعالى عنهم ولم ينقل انه أنكر عليه منكر فكان ذلك اجماعا
منهم واما الرقاب فالامام فيها بين خيارات ثلاث ان شاء قتل الأسارى منهم وهم الرجال المقاتلة وسبى النساء
والذراري لقوله تبارك وتعالى فاضربوا فوق الأعناق وهذا بعد الاخذ والأسر لان الضرب فوق الأعناق هو الإبانة
من المفصل ولا يقدر على ذلك حال القتال ويقدر عليه بعد الاخذ والأسر وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما استشار الصحابة الكرام رضى الله تعالى عنهم في أسارى بدر فأشار بعضهم إلى الفداء وأشار سيدنا عمر رضي الله عنه
إلى القتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءت من السماء نار ما نجى الا عمر أشار عليه الصلاة والسلام
إلى أن الصواب كان هو القتل وكذا روى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث
يوم بدر وبقتل هلال بن خطل ومقيس بن صبابة يوم فتح مكة ولان المصلحة قد تكون في القتل لما فيه من استئصالهم
فكان للامام ذلك وان شاء استرق الكل فخمسهم وقسمهم لان الكل غنيمة حقيقة لحصولها في أيديهم عنوة وقهرا
بايجاف الخيل والركاب فكان له ان يقسم الكل الا رجال مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا يسترقون عندنا بل يقتلون
أو يسلمون وعند الشافعي رحمه الله يجوز استرقاقهم (وجه) قوله إنه يجوز استرقاق مشركي العجم وأهل الكتاب
من العجم العرب فكذا استرقاق مشركي العرب والمرتدين وهذا لان للاسترقاق حكم الكفر وهم في الكفر
سواء فكانوا في احتمال الاسترقاق سواء (ولنا) قوله سبحانه وتعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلى قوله سبحانه
وتعالى فان تابوا وأقاموا الصلاة وأتو الزكاة فخلوا سبيلهم ولان القتل بالاسترقاق في حق أهل الكتاب
ومشركي العجم للتوسل إلى الاسلام ومعنى الوسيلة لا يتحقق في حق مشركي العرب والمرتدين على نحو ما بينا من قبل
واما النساء والذراري منهم فيسترقون كما يسترق نساء مشركي العجم وذراريهم لان النبي عليه الصلاة والسلام استرق
نساء هوازن وذراريهم وهم من صميم العرب وكذا الصحابة استرقوا نساء المرتدين من العرب وذراريهم وان شاء
من عليهم وتركهم أحرارا بالذمة كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه بسواد العراق الا مشركي العرب والمرتدين فإنه لا يجوز
تركهم بالذمة وعقد الجزية كما لا يجوز بالاسترقاق لما بينا ولو شهدوا بشهادة قبل ان يجعلهم الامام ذمة لم تجز شهادتهم
لأنهم أهل الحرب فان جعلهم ذمة فأعادوا الشهادة جازت لان شهادة أهل الذمة مقبولة في الجملة فاما شهادة أهل
الحرب فغير مقبولة أصلا وليس للامام ان يمن على الأسير فيتركه من غير ذمة لا يقتله ولا يقسمه لأنه لو فعل ذلك لرجع
إلى المنعة فيصير حربا علينا فان قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من على الزبير بن باطال من بنى قريضة وكذا من
على أهل خيبر فالجواب انه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من على الزبير ولم يقتله اما لأنه لم يثبت انه ترك بالجزية
أم بدونها فاحتمل انه تركه بالجزية وبعقد الذمة وأما أهل خيبر فقد كانوا أهل الكتاب فتركهم ومن عليهم ليصيروا
كرة للمسلمين ويجوز المن لذلك لان ذلك في معنى الجزية فيكون تركا بالجزية من حيث المعنى وهل للامام ان يفادى
الأسارى اما المفاداة بالمال فلا تجوز عند أصحابنا في ظاهر الروايات وقال محمد مفاداة الشيخ الكبير الذي
لا يرجى له ولد تجوز وعند الشافعي رحمه الله تجوز المفادات بالمال كيف ما كان واحتج بظاهر قوله عز وجل فاما منا
بعد واما فداء وقد فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسارى بدر بالمال وأدنى درجات فعليه عليه الصلاة والسلام
الجواز والإباحة (ولنا) ان قتل الأسرى مأمور به لقوله فاضربوا فوق الأعناق وانه منصرف إلى ما بعد
الاخذ والاسترقاق لما قلنا وقوله سبحانه وتعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم والامر بالقتل للتوسل إلى الاسلام
فلا يجوز تركه الا لما شرع له القتل وهو أن يكون وسيله إلى الاسلام ولا يحصل معنى التوسل بالمفاداة فلا يجوز
119

ترك المفروض لأجله ويحصل بالذمة والاسترقاق لما بينا فكان إقامة للفرض معنى لا تركا له ولان المفاداة بالمال
إعانة لأهل الحرب على الحراب لأنهم يرجعون إلى المنعة فيصيرون حربا علينا وهذا لا يجوز ومحمد رحمه الله يقول
معنى الإعانة لا يحصل من الشيخ الكبير الذي لا يرجى منه ولد فجاز فداؤه بالمال ولكنا نقول إن كان لا يحصل بهذا
الطريق يحصل بطريق آخر وهو الرأي والمشورة وتكثير السواد وأما قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء فقد قال
بعض أهل التفسير ان الآية منسوخة بقوله تبارك وتعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تبارك وتعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية لان سورة براءة نزلت بعد سورة محمد عليه الصلاة والسلام
ويحتمل أن تكون الآية في أهل الكتاب فيمن عليهم بعد أسرهم على أن يصيروا كرة للمسلمين كما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم باهل خيبر أو ذمة كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه باهل السواد ويسترقون
(وأما) أسارى بدر فقد قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك باجتهاده ولم ينتظر الوحي فعوتب عليه
بقوله سبحانه وتعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم حتى قال عليه الصلاة والسلام لو
أنزل الله من السماء نارا ما نجى الا عمر رضي الله عنه يدل عليه قوله تعال ما كان لنبي أن تكون له أسرى حتى يثخن في
الأرض على أحد وجهي التأويل أي ما كان لنبي أن يأخذ الفداء في الأسارى حتى يثخن في الأرض أي حتى يغلب
في الأرض منعة عن أخذ الفداء بها وأشار إلى أن ذلك ليغلب في الأرض إذ لو أطلقهم لرجعوا إلى المنعة وصاروا حربا
على المسلمين فلا تتحقق الغلبة ويحتمل أن المفاداة كانت جائزة ثم انتسخت بقوله تبارك وتعالى فاضربوا فوق
الأعناق وقوله تبارك وتعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وإنما عوتب عليه الصلاة والسلام بقوله تعال لولا كتاب من
الله سبق لا لخطر المفاداة بل لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينتظر بلوغ الوحي وعمل باجتهاده أي لولا من حكم الله تعالى
أن لا يعذب أحدا على العمل بالاجتهاد لمسكم العذاب بالعمل بالاجتهاد وترككم انتظار الوحي والله تعالى أعلم وكذا
لا تجوز مفاداة الكراع والسلاح بالمال لان كل ذلك يرجع إلى اعانتهم على الحرب وتجوز مفاداة أسارى المسلمين
بالدراهم والدنانير والثياب ونحوها مما ليس فيها إعانة لهم على الحرب ولا يفادون بالسلاح لأنه فيه إعانة لهم على الحرب
والله تعالى أعلم (وأما) مفاداة الأسير بالأسير فلا تجوز عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعند أبي يوسف ومحمد تجوز
(وجه) قولهما أن في المفاداة انقاذ المسلم وذلك أولى من اهلاك الكافر ولأبي حنيفة ما ذكرنا أن قتل المشركين فرض
بقوله تعالى اقتلوا المشركين وقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق فلا يجوز تركه الا لما شرع له إقامة الفرض وهو
التوسل إلى الاسلام لأنه لا يكون تركا معنى وذا لا يحصل بالمفاداة ويحصل بالذمة والاسترقاق فيمن يحتمل ذلك على
ما بينا ولما ذكرنا أن فيها إعانة لأهل الحزب على الحرب لأنهم يرجعون إلى المنعة فيصيرون حربا على المسلمين ثم
اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما قال أبو يوسف تجوز المفاداة قبل القسمة ولا تجوز بعدها وقال محمد تجوز في
الحالين (وجه) قول محمد أنه لما جازت المفادات قبل القسمة فكذا بعد القسمة لان الملك ان لم يثبت قبل القسمة فالحق
ثابت ثم قيام الحق لم يمنع بجواز المفاداة فكذا قيام الملك (وجه) قول أبى يوسف أن المفاداة بعد القسمة ابطال ملك
المقسوم له من غير رضاه وهذا لا يجوز في الأصل بخلاف ما قبل القسمة لأنه لا ملك قبل القسمة إنما الثابت حق غير
متقرر فجاز أن يكون محتملا للابطال بالمفاداة والله تعالى أعلم ولا يجوز أن يعطى رجل واحد من الأسارى ويؤخذ
بدله رجلين من المشركين لان كم من واحد يغلب اثنين وأكثر من ذلك فيؤدى إلى الإعانة على الحرب وهذا لا يجوز
وإذا عزم المسلمون على قتل الأسارى فلا ينبغي أن يعذبوهم بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب لان
ذلك تعذيب من غير فائدة وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بنى قريضة لا تجمعوا عليهم حر هذا
اليوم وحر السلاح ولا تمثلوا بهم لقوله عليه الصلاة والسلام في وصايا الامراء ولا تمثلوا ولا ينبغي للرجل أن يقتل
أسير صاحبه لأنه له ضرب اختصاص به حيث أخذه وأسره فلم يكن لغيره أن يتصرف فيه كما لو التقط شيئا والأفضل
120

أن يأتي به الامام ان قدر عليه حتى يكون الامام هو الحكم فيه لتعلق حق الغزاة به فكان الحكم فيه للامام وإنما يقتل
من الأسارى من بلغ اما بالسن أو بالاحتلام على قدر ما اختلف فيه فاما من لم يبلغ أو شك في بلوغه فلا يقتل وكذا
المعتوه الذي لا يعقل لما بينا من قبل فلو قتل رجل من المسلمين أسيرا في دار الحرب أو في دار الاسلام فإن كان قبل
القسمة فلا شئ فيه من دية ولا كفارة ولا قيمة لان دمه غير معصوم قبل القسمة فان للامام فيه خيرة القتل وإن كان
بعد القسمة أو بعد البيع فيراعى فيه حكم القتل لان الامام إذا قسمهم أو باعهم فقد صار دمهم معصوما فكان مضمونا
بالقتل الا أنه لا يجب القصاص لقيام شبهة الإباحة كالحربي المستأمن ثم ما ذكرنا من خيار القتل للامام في الأسارى
قبل القسمة إذا لم يسلموا فان أسلموا قبل القسمة فلا يباح قتلهم لان الاسلام عاصم وللامام خيار ان فيهم ان شاء
استرقهم فقسمهم وان شاء تركهم أحرارا بالذمة إن كانوا بمحل الذمة والاسترقاق لان الاسلام لا يرفع الرق اما لا يرفعه
لان الرفع فيه ابطال حق الغزاة وهذا لا يجوز (وأما) بيان قسمة الغنائم فنقول وبالله التوفيق القسمة نوعان قسمة
حمل ونقل وقسمة ملك (أما) قسمة الحمل فهي ان عزت الدواب ولم يجد الامام حمولة يفرق الغنائم على الغزاة فيحمل
كل رجل على قدر نصيبه إلى دار الاسلام ثم يستردها منهم فيقسمها قسمة ملك وهذه القسمة جائزة بلا خلاف ولا
تكون قسمة ملك كالمودعين يقتسمان الوديعة ليحفظ كل واحد منهما بعضها جاز ذلك وتكون قسمة ملك فكذا هذا
(وأما) قسمة الملك فلا تجوز في دار الحرب عند أصحابنا وعند الشافعي رحمه الله تجوز وهذا الاختلاف مبنى على
أصل وهو أن الملك هل يثبت في الغنائم في دار الحرب للغزاة فعندنا لا يثبت الملك أصلا فيها لا من كل وجه لا من وجه
ولكن ينعقد سبب الملك فيها على أن تصير علة عند الاحراز بدار الاسلام وهو تفسير حق الملك أو حق التملك عندنا
وعنده يثبت الملك قبل الاحراز بدار الاسلام بعد الفراغ من القتال قولا واحدا وله في حال فور الهزيمة قولان ويبنى
على هذا الأصل مسائل (منها) أنه إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب لا يورث نصيبه عندنا وعنده يورث
والله تعالى أعلم (ومنها) أن المدد إذا لحق الجيش فاحرزوا الغنائم جملة إلى دار الاسلام يشاركونهم فيها عندنا وعنده
لا يشاركونهم (ومنها) أنه إذا أتلف واحد من الغانمين شيئا من الغنيمة لا يضمن عندنا وعنده يضمن (ومنها) أن
الامام إذا باع شيئا من الغنائم لا لحاجة الغزاة لا يجوز عندنا وعنده يجوز (ومنها) أن الامام إذا قسم الغنائم في دار الحرب
مجازفا غير مجتهد ولا معتقد جواز القسمة لا تجوز عندنا وعنده تجوز (فاما) إذا رأى الامام القسمة فقسمها نفذت قسمته
بالاجماع وكذلك لو رأى البيع فباعها لأنه حكم أمضاه في محل الاجتهاد بالاجتهاد فينفذ (وجه) قول الشافعي رحمه
الله ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر بخيبر وقسم غنائم أوطاس بأوطاس وقسم غنائم بنى
المصطلق في ديارهم وقسم غنائم بدر بالجعرانة وهي وادى من أودية بدر وأدنى ما يحمل عليه فعل النبي عليه الصلاة
والسلام هو الجواز والإباحة ولأنه وجد الاستيلاء على مال مباح فيفيد الملك استدلالا بالاستيلاء على الحطب
والحشيش ولا شك أن المستولي عليه مال مباح لأنه مال الكافر وانه مباح والدليل على تحقق الاستيلاء ان الاستيلاء
عبارة عن اثبات اليد على المحل وقد وجد ذلك حقيقة وانكار الحقائق مكابرة ورجعة الكفار بعد انهزامهم واستردادهم
أمر موهوم لا دليل عليه فلا يعتبر (ولنا) أن الاستيلاء إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير مملوك ولم يوجد ههنا
لان ملك الكفرة قائم لان ملك الكفرة كان ثابتا لهم والملك متى ثبت لانسان لا يزول الا بإزالته أو يخرج المحل من
أن يكون منتفعا به حقيقة بالهلاك أو بعجز المالك عن الانتفاع به دفعا للتناقض فيما شرع الملك له ولم يوجد شئ من ذلك
(أما) الإزالة وهلاك المحل فظاهر العدم (واما) قدرة الكفرة على الانتفاع بأموالهم فلان الغزاة ما داموا في دار
الحرب فالاسترداد ليس بنادر بل هو ظاهر أو محتمل احتمالا على السواء والملك كان ثابتا لهم فلا يزول مع الاحتمال
وأما الأحاديث فاما غنائم خيبر وأوطاس والمصطلق فإنما قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الديار لأنه
افتتحها فصارت ديار الاسلام (وأما) غنائم بدر فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قسمها بالمدينة فلا يصح الاحتجاج
121

به مع التعارض ثم الملك ان لم ثبت للغزاة في الغنائم في دار الحرب فقد ثبت الحق لهم حتى يجوز لهم الانتفاع بها من غير
حاجة على ما نذكره ولولا تعلق الحق لجاز لأنه يكون مالا مباحا وكذا لو وضئ واحد من الغزاة جارية من المغنم لا يجب
عليه الحد لان له فيها حقا فأورث شبهة في درء الحد ولا يجب عليه العقر أيضا لأنه بالوطئ أتلف جزأ من منافع بعضها
ولو أتلفها لا يضمن فههنا أولى ولا يثبت النسب أيضا لو ادعى الولد لان ثبات النسب معتمد الملك أو الحق الخاص ولا
ملك ههنا والحق عام وكذا لو أسلم الأسير في دار الحرب لا يكون حرا ويدخل في القسمة لتعلق حق الغانمين به بنفس
الاخذ والاستيلاء فاعتراض الاسلام عليه لا يبطله بخلاف ما إذا أسلم قبل الأسر أنه يكون حرا ولا يدخل في القسمة
لان عند الاخذ والأسر لم يتعلق به حق أحد فكان الاسلام دافعا الحق لا رافعا إياه على ما بينا (وأما) بعد الاحراز بدار
الاسلام قبل القسمة فيثبت الملك أو يتأكد الحق ويتقرر لان الاستيلاء الثابت انعقد سببا لثبوت الملك أو تأكد
الحق على أن يصير علة عند وجود شرطها وهو الاحراز بدار الاسلام وقد وجد فتجوز القسمة ويجرى فيه الإرث
ويضمن المتلف وتنقطع شركة المدد ونحو ذلك الا انه لو أعتق واحد من الغانمين عبدا من المغنم لا ينفذ اعتاقه
استحسانا لان نفاذ الاعتاق يقف على الملك الخاص ولا يتحقق ذلك الا بالقسمة فاما الموجود قبل القسمة فملك عام
أو حق متأكد وانه لا يحتمل الاعتاق لكنه يحتمل الإرث والقسمة ويكفى لايجاب الضمان وانقطاع شركة المدد
على ما بينا وكذلك لو استولد جارية من المغنم وادعى الولد لا تصير أم ولد استحسانا لما بينا ان إثبات النسب وأمومية
الولد يقفان على ملك خاص وذلك بالقسمة أو حق خاص ولم يوجد ويلزمه العقر لان الملك العام أو الحق الخاص يكون
مضمونا بالاتلاف (وأما بعد) القسمة فيثبت الملك الخاص لكل واحد منهم في نصيبة لان القسمة افراز الانصباء
وتعيينها ولو قسم الامام الغنائم فوقع عبد في سهم رجل فاعتقه لا شك انه ينفذ إعتاقه لان الاعتاق صادف مكا خاصا
فاما إذا وقع في سهم جماعة منهم عبد فأعتقه أحدهم ينفذ اعتاقه عند أبي حنيفة قل الشركاء أو كثروا (وروى) عن أبي
يوسف إن كانوا عشرة أو أقل منها ينفذ اعتاقه وإن كانوا أكثر من ذلك لا ينفذ فأبو حنيفة رحمه الله نظر في خصوص
الملك إلى القسمة وأبو يوسف إلى العدد والصحيح نظر أبي حنيفة لان القسمة تمييز وتعيين فكانت قاطعة لعموم
الشركة مخصصة للملك وان كثر العدد والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أخذ المسلمون غنيمة ثم غلبهم العدو فاستنقذوها
من أيديهم ثم جاء عسكر آخر فاخذها من العدو فأخرجوها إلى دار الاسلام ثم اختصم الفريقان نظر في ذلك فإن كان
الأولون لم يقتسموها ولم يحرزوها بدار الاسلام فالغنيمة للآخرين لان الأولين لم يثبت لهم الا مجرد حق غير متقرر
وقد ثبت للآخرين ملك عام أو حق متقرر مجرى الملك فكانوا أولى بالغنائم وإن كان الأولون لقد اقتسموها
فالقسمة لهم وإن كانوا لم يحرزوها بدار الاسلام لأنهم ملكوها بالقسمة ملكا خاصا فإذا غلبهم الكفار فقد استولوا على
أملاكهم فان وجدوها في يد الآخرين قبل القسمة أخذوها بغير شئ وان وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة ان
شاؤوا كما في سائر أموالهم التي استولى عليها العدو ثم وجدوها في يد الغانمين قبل القسمة وبعدها وإن كانوا لم يقتسموها
ولكنهم أحرزوها بدار الاسلام فان وجدوها بعد قسمة الآخرين فالآخرون أولى لان الثابت لهم ملك خاص
بالقسمة والثابت للأولين ملك عام أو حق متقرر عام فكان اعتبار الملك الخاص أولى (وأما) إذا وجدها قبل قسمة
الآخرين ففيه روايتان ذكر في الزيادات أن الأولين أولى وذكر في السير الكبير ان الآخرين أولى (وجه) رواية
الزيادات ان الثابت لكل واحد من الفريقين وإن كان هو الحق المتأكد لكن نقض الحق بالحق جائز لان الشئ
يحتمل الانتقاض بمثله كما في النسخ ولهذا جاز نقض الملك بالملك (وجه) الرواية الأخرى ان حق الآخرين ثابت
متقرر وحق الأولين زائل ذاهب فاستصحاب الحالة الثابتة أولى إذ هو يصلح للترجيح وهذا هو قياس في الملك
فكان ينبغي ان لا ينتقض الحادث بالقديم الا ان النقض هناك ثبت نصا (بخلاف) القياس فيقتصر على مورد النص
هذا إذا كان الكفار أحرزوا الأموال بدار الحرب فإن كانوا لم يحرزوها حتى أخذها الفريق الآخر من المسلمين منهم
122

في دار الاسلام فالغنائم للأولين سواء قسمها الآخرون أو لم يقسموها لان الكفار لا يملكون أموال المسلمين
بالاستيلاء الا بعد الاحراز بدار الحرب ولم يوجد فكانت الغنائم في حكم يد الأولين ما دامت في دار الاسلام فكان
الآخرون أخذوه من أيدي الأولين فيلزمهم الرد عليهم الا إذا كان الامام قسمها بين الآخرين ورأيه ان الكفرة
قد ملكوها بنفس الاخذ والاستيلاء وإن كانوا في دار الاسلام كما هو مذهب بعض الناس فكانت قسمة في محل
الاجتهاد فتنفذ وتكون للآخرين والله تعالى أعلم هذا الذي ذكرنا من كون الاحراز بدار الاسلام شرطا لثبوت
الملك في الغنائم المشتركة (وأما) الغنائم الخالصة وهي الأنفال فهل هو شرط فيها (قال) بعض المشايخ انه شرط عند
أبي حنيفة حتى لا يثبت الملك بينهما فيها قبل الاحراز بدار الاسلام (وعند) محمد ليس بشرط فيثبت الملك فيها بنفس
الاخذ والإصابة استدلالا بمسألة ظهر فيها اختلاف وهي ان الامام إذا نفل فقال من أصاب جارية فهي له فأصاب
رجل من المسلمين جارية فاستبرأها في دار الحرب بحيضة لا يحل له وطؤها (عند) أبي حنيفة وعند محمد يحل (وقال)
بعضهم الاحراز بالدار ليس بشرط لثبوت الملك في الأنفال بالاجماع واختلافهما في تلك المسألة لا يدل على
الاختلاف في ثبوت الملك لأنه كما ظهر الاختلاف بينهما في النقل فقد ظهر الاختلاف في الغنيمة المقسومة فان
الامام إذا قسم الغنائم في دار الحرب فأصاب رجلا جارية فاستبرأها بحيضة فهو على الاختلاف وكذا لو رأى
الامام بيع الغنائم فباع من رجل جارية فاستبرأها المشترى بحيضة فهو على الاختلاف (ولا خلاف) بين أصحابنا في
الغنائم المقسومة انه لا يثبت الملك فيها قبل الاحراز بدار الاسلام دل ان منشأ الخلاف هناك شئ آخر وراء ثبوت
الملك وعدمه والصحيح ان ثبوت الملك في النفل لا يقف على الاحراز بدار الاسلام بين أصحابنا بخلاف الغنائم
المقسومة لان سبب الملك قد تحقق وهو الاخذ والاستيلاء ولا يجوز تأخير الحكم عن سبب إلا لضرورة وفى الغنائم
المقسومة ضرورة وهي خوف شر الكفرة لأنه لو ثبت الملك بنفس الاخذ لاشتغلوا بالقسمة ولتسارع كل أحد
إلى إحراز نصيبه بدار الاسلام وتفرق الجمع وفيه خوف توجه الشر عليهم من الكفرة فتأخر الملك فيها إلى ما بعد
الاحراز بدار الاسلام لهذه الضرورة وهذه الضرورة منعدمة في الأنفال لأنها خالصة غير مقسومة فلا معنى لتأخير
الحكم عن السبب والدليل على التفرقة بينهما ان المدد إذا لحق الجيش لا يشارك المنفل له كما بعد الاحراز بالدار بخلاف
الغنيمة المقسومة وكذا لو مات المنفل له يورث نصيبه كما لو مات بعد الاحراز بالدار بخلاف الغنيمة المقسومة فيثبت
بهذه الدلائل ان الملك في النفل لا يقف على الاحراز بالدار بلا خلاف بين أصحابنا إلا أن هذا النوع من الملك
لا يظهر في حق حل الوطئ عند أبي حنيفة رحمه الله وهذا لا يدل على عدم الملك أصلا ألا ترى ان حل الوطئ
قد يمتنع مع قام الملك لعوارض من الحيض والنفاس والمحرمية والصهرية ونحو ذلك ثم إنما يثبت الحل هناك
مع ثبوت الملك لأنه ملك متزلزل غير متقرر لاحتمال الزوال ساعة فساعة لان الدار دارهم فكان احتمال الاسترداد
قائما ومتى استردوا يرتفع السبب من حين وجوده ويلتحق بالعدم اما من كل وجه أو من وجه فتبين ان الوطئ لم
يصادف محله وهو الملك المطلق ولهذا والله تعالى أعلم قال أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه انه لا يحل وطؤها بعد قسمة
الامام وبيعه إذا رأى ذلك وان وقعت قسمته جائزة وبيعه نافذا مفيدا للملك في هذه الصورة كما ذكرنا من
المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما بيان) ما يجوز به الانتفاع من الغنائم ومالا يجوز فالكلام فيه في موضعين
(أحدهما) في بيان ما ينتفع به منها (والثاني) في بيان من ينتفع به (أما الأول) فلا باس بالانتفاع بالمأكول
والمشروب والعلف والحطب منها قبل الاحراز بدار الاسلام فقيرا كان المنتفع أو غنيا لعموم الحاجة إلى الانتفاع
بذلك في حق الكل فإنهم لو كلفوا حملها من دار الاسلام إلى دار الحرب مدة ذهابهم وايابهم ومقامهم فيها لوقعوا في
حرج عظيم بل يتعذر عليهم ذلك فسقط اعتبار حق كل واحد من الغانمين في حق صاحبه والتحق بالعدم شرعا
والتحقت هذه المحال بالمباحات الأصلية لهذه الضرورة وكذلك كل ما كان مأكولا مثل السمن والزيت والخل لا
123

بأس أن يتناول الرجل ويدهن به نفسه ودابته لان الحاجة إلى الانتفاع بهذه الأشياء قبل الاحراز بدار الاسلام
لازمة وما كان من الادهان لا يؤكل مثل البنفسج والخيري فلا ينبغي أن ينتفع به لان الانتفاع به ليس من الحاجات
اللازمة بل من الحاجات الزائدة ولا ينبغي أن يبيعوا شيئا من الطعام والعلف وغير ذلك مما يباح الانتفاع به بذهب ولا
فضة ولا عروض لأن اطلاق الانتفاع واسقاط اعتبار الحقوق والحاقها بالعدم للضرورة التي ذكرنا ولا ضرورة في
البيع ولان محل البيع هو المال المملوك وهذا ليس بمال مملوك لان الاحراز بالدار شرط ثبوت الملك ولم يوجد فان
باع رجل شيئا رد الثمن إلى الغنيمة لان الثمن بدل مال تعلق به حق الغانمين فكان مردودا إلى المغنم ولو أحرزوا شيئا من
ذلك بدار الاسلام وهو في أيديهم وإن كانت لم تقسم الغنائم ردوها إلى المغنم لاندفاع الضرورة وإن كانت قد
قسمت الغنيمة فإن كانوا أغنياء تصدقوا به على الفقراء وإن كانوا فقراء انتفعوا به لتعذر قسمته على الغزاة لكثرتهم
وقلته فأشبه اللقطة والله سبحانه وأعلم هذا إذا كانت قائمة بعد القسمة فإن كان انتفع بها بعد القسمة فإن كان غنيا تصدق
بقيمته على الفقراء لأنه أكل مالا لو كان قائما لكان سبيله التصدق لكونه مالا يتعلق به حق الغانمين وتعذر صرفه
إليهم لقلته وكثرتهم فيقوم بدله مقامه وهو قيمته وإن كان فقيرا لم يجب عليه شئ لأنه أكل مالا لو كان قائما لكان له ان
يأكله والله سبحانه وتعالى أعلم وأما ما سوى المأكول والمشروب والعلف والحطب فلا ينبغي أن ينتفعوا به لان حق
الغانمين متعلق به وفى الانتفاع ابطال حقهم الا أنه إذا احتاج إلى استعمال شئ من السلاح أو الدواب أو الثياب
فلا بأس باستعماله بأن انقطع سيفه فلا باس بأن يأخذ سيفا من الغنيمة فيقاتل به لكنه إذا استغنى عنه رده إلى المغنم
وكذا إذا احتاج إلى ركوب فرس أو لبس ثوب إذا دفع حاجته بذلك رده إلى المغنم لان هذا موضع الضرورة أيضا لكن
لا ثابت بالضرورة لا يتعدى محل الضرورة حتى أنه لو أراد أن يستعمل شيئا من ذلك وقاية لسلاحه ودوابه وثيابه
وصيانة لها فلا ينبغي له ذلك لانعدام تحقق الضرورة وهكذا إذا ذبحوا البقر أو الغنم وأكلوا اللحم وردوا الجلود
إلى المغنم لان الانتفاع به ليس من الحاجات اللازمة والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان من ينتفع بالغنائم فنقول أنه
لا ينتفع بها الا الغانمون فلا يجوز للتجار أن يأكلوا شيئا من الغنيمة الا بثمن لان سقوط اعتبار حق كل واحد من
الغانمين في حق صاحبه لمكان الضرورة ولا يجوز اسقاط اعتبار الحقيقة من غير ضرورة ولا ضرورة في حق غيرهم
وللغانمين أن يأكلوا ويطعموا عبيدهم ونساءهم وصبيانهم لان انفاق الرجل على هؤلاء انفاق على نفسه لان نفقتهم
عليه والأصل أن كل من عليه نفقته فله أن يطعمه ومن لا فلا ولا يجوز لأجير الرجل للخدمة أن يأكل منه لان
نفقته على نفسه لا عليه وللمرأة إذا دخلت دار الحرب لمداواة المرضى والجرحى أن تأكل وتعلف دابتها وتطعم رقيقها
لأن المرأة تستحق الرضخ من الغنيمة فكانت من الغانمين والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان كيفية قسمة الغنائم
وبيان مصارفها فنقول وبالله التوفيق الغنائم تقسم على خمسة أسهم منها وهو خمس الغنيمة لأربابه وأربعة أخماسها
للغانمين أما الخمس فالكلام فيه في بيان كيفية قسمة الخمس وفي بيان مصرفه فنقول لا خلاف في أن خمس
الغنيمة في حال حياة النبي عليه الصلاة والسلام كان يقسم على خمسة أسهم سهم للنبي عليه الصلاة والسلام وسهم
لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل قال الله تبارك وتعالى واعلموا إنما غنمتم
من شئ فان لله خمسة وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وإضافة الخمس إلى الله تعالى يحتمل
أن يكون لكونه مصروفا إلى وجوه القرب التي هي لله تبارك وتعالى وهي قوله سبحانه وتعالى وللرسول ولذي
القربى الآية على ما تضاف المساجد والكعبة إلى الله سبحانه وتعالى لكونها مواضع إقامة العبادات والقرب التي
هي لله تعال ويحتمل أن يكون تعظيما للخمس على ما هو الأصل في إضافة جزئية الأشياء إلى الله سبحانه وتعالى
انها تخرج مخرج تعظيم المضاف كقوله ناقة الله وبيت الله ويحتمل أن يكون لخلوصه لله تعالى بخروجه عن تصرف
الغانمين كقوله تعالى الملك يومئذ لله والملك في كل الأيام كلها لله تعالى لكن خص سبحانه وتعالى ذلك اليوم بالملك له
124

فيه لانقطاع تصرف الاغيار والله تعالى أعلم ثم اختلف العلماء في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى سهم ذوي
القربى بعد وفاته أما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال علماؤنا رحمهم الله انه سقط بعد وفاته عليه الصلاة
والسلام وقال الشافعي رحمه الله انه لم يسقط ويصرف إلى الخلفاء لأنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يأخذه
كفاية له لاشتغاله بمصالح المسلمين والخلفاء بعده مشغولون بذلك فيصرف سهمه إليهم كفاية لهم (ولنا) أن ذلك
الخمس كان خصوصية له عليه الصلاة والسلام كالصفى الذي كان له خاصة والفئ وهو المالية الذي لم يوجف عليه
المسلمون بخيل ولا ركاب ثم لم يكن لاحد خصوص من الفئ والصفى فكذا يجب أن لا يكون لاحد خصوص من
الخمس ولهذا لم يكن للخلفاء الراشدين بعده يحققه أنه لو بقي بعده لكان بطريق الإرث وقد قال عليه الصلاة
والسلام انا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة (وأما) سهم ذوي القربى فقد قال الشافعي رحمه الله إنه باق
ويصرف إلى أولاد بني هاشم من أولاد سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وغيرها يستوى فيه فقيرهم وغنيهم (وأما)
عندنا فعلى الوجه الذي كان بقي واختلف المشايخ فيه أنه كيف كان والصحيح أنه كان لفقراء القرابة دون أغنيائهم
يعطون لفقرهم وحاجتهم لا لقرابتهم وقد بقي كذلك بعد وفاته فيجوز أن يعطى فقراء قرابته عليه الصلاة والسلام
كفايتهم دون أغنيائهم ويقدمون على غيرهم من الفقراء ويجاوز لهم من الخمس أيضا لما لاحظ لهم من الصدقات
لكن يجوز أن يعطى غيرهم من فقراء المسلمين دونهم فيقسم الخمس عندنا على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين
وسهم لأبناء السبيل ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم ويقدمون ولا يدفع إلى أغنيائهم شئ وعند الشافعي رحمه الله
لذوي القربى سهم على حدة يصرف إلى غنيهم وفقيرهم احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى واعلموا إنما غنمتم من
شئ فان لله خمسة وللرسول ولذي القربى الآية فان الله تعالى جعل سهما لذوي القرب وهم القرابة من غير فصل بين
الفقير والغنى وكذا روى أنه عليه الصلاة والسلام قسم الخمس على خمسة أسهم وأعطى سهما منها لذوي القربى ولم
يعرف له ناسخ في حال حياته ولا نسخ بعد وفاته (ولنا) ما رواه محمد بن الحسن في كتاب السير ان سيدنا أبا بكر
وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا عليا رضي الله عنهم قسموا الغنائم على ثلاثة أسهم سهم لليتامى وسهم للمساكين
وسهم لأبناء السبيل بمحضر من الصحابة الكرام ولم ينكر عليهم أحد فيكون اجماعا منهم على ذلك وبه تبين أن ليس
المراد من ذوي القربى قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام إذ لا يظن بهم مخالفة كتاب الله تعالى ومخالفة رسوله
عليه الصلاة والسلام في فعله ومنع الحق عن المستحق وكذا لا يظن بمن حضرهم من الصحابة رضى الله تعالى عنهم
السكوت عما لا يحل مع ما وصفهم الله تعالى بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر وكذا ظاهر الآية الشريفة يدل
عليه لان اسم ذوي القربى يتناول عموم القرابات ألا ترى إلى قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون
ولم يفهم منه قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة وكذا قوله الوصية للوالدين والأقربين لم ينصرف إلى قرابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روى أنه قسم عليه الصلاة والسلام الخمس على خمسة أسهم فأعطى عليه الصلاة
والسلام ذا القربى سهما فنعم لكن الكلام في أنه أعطاهم خاصة وكذا قوله الوصية للوالدين والأقربين لم ينصرف
إلى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم لفقرهم وحاجتهم أو لقرابتهم وقد علمنا بقسمة الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى
عنهم أنه أعطاهم لحاجتهم وفقرهم لا لقرابتهم والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام كان يشدد في أمر الغنائم فتناول
من وبر بعير وقال ما يحل لي من غنائمكم ولا وزن هذه الوبرة الا الخمس وهو مردود فيكم ردوا الخيط والمخيط فان
الغلول عار ونار وشنار على صاحبه يوم القيامة لم يخص عليه الصلاة والسلام القرابة بشئ من الخمس بل عم المسلمين
جميعا بقوله عليه الصلاة والسلام والخمس مردود فيكم فدل أن سبيلهم سبيل سائر فقراء المسلمين يعطى من يحتاج
منهم كفايته والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أعطى أي فريق اتفق ممن سماهم الله تعالى جاز لان ذكر هؤلاء الأصناف
لبيان المصارف لا لايجاب الصرف إلى كل صنف منهم شيئا بل لتعيين المصرف حتى لا يجوز الصرف إلى غير هؤلاء
125

كما في الصدقات والله تعالى أعلم وأما الكلام في الأربعة الأخماس ففي موضعين في باين من يستحق السهم منها ومن
لا يستحق وفي بيان مقدار الاستحقاق أما الأول فالذي يستحق السهم منا هو الرجل المسلم المقاتل وهو أن يكون
من أهل القتال ودخل دار الحرب على قصد القتال وسواء قاتل أو لم يقاتل لان الجهاد والقتال ارهاب العدو وذا كما
يحصل بمباشرة القتل يحصل بثبات القدم في صف القتال ردا للمقاتلة خشية كر العدو عليهم وكذا روى أن أصحاب
بدر كانوا ثلاثا ثلث في نحر العدو يقتلون ويأسرون وثلث يجمعون الغنائم وثلث يكونون ردا لهم خشية كر العدو
عليهم وسواء كان مريضا أو صحيحا شابا أو شيخا حرا أو عبدا مأذونا بالقتال لأنهم من أهل القتال (فاما) المرأة
والصبي العاقل والذمي والعبد المحجور فليس لهم سهم كامل لأنهم ليسوا من أهل القتال ألا ترى أنه لا يجب القتال على
الصبي والذمي أصلا ولا يجب على المرأة والعبد الا عند الضرورة وهي ضرورة عموم النفير ولذلك لم يستحقوا كمال
السهم ولكن يرضخ لهم على حسب ما يرى الامام وكذا روى أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يعطى العبيد
والصبيان والنسوان سهما كاملا من الغنائم وكذا الأسهم للتاجر لأنه لم يدخل الدار على قصد القتال الا إذا قاتل مع
العسكر فإنه يستحق ما يستحقه العسكر لأنه تبين انه دخل الدار على قصد القتال فكان مقاتلا ولا سهم للأجير لانعدام
الدخول على قصد القتال فان قاتل نظر في ذلك ان ترك الخدمة فقد دخل في جملة العسكر وان لم يترك فلا شئ له أصلا
لأنه إذا لم يترك تبين انه لم يدخل على قصد القتال والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان مقدار الاستحقاق وبيان
حال المستحق وهو المقاتل فنقول وبالله التوفيق المقاتل اما أن يكون راجلا (واما) أن يكون فارسا فإن كان راجلا فله
سهم واحد وإن كان فارسا فله سهمان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله له ثلاثة
أسهم سهم له وسهمان لفرسه وبه أخذ الشافعي رحمه الله وروايات الاخبار تعارضت في الباب روى في بعضها انه
عليه الصلاة والسلام قسم للفارس سهمين وفى بعضها أنه عليه الصلاة والسلام قسم له ثلاثة أسهم الا أن رواية
السهمين عاضدها القياس وهو ان الرجل أصل في الجهاد والفرس تابع له لأنه آلة ألا ترى ان فعل الجهاد يقوم بالرجل
وحده ولا يقوم بالفرس وحده فكان الفرس تابعا في باب الجهاد ولا يجوز تنفيل التبع على الأصل في السهم وأخبار
الآحاد إذا تعارضت فالعمل بما عاضده القياس أولى والله سبحانه وتعالى أعلم ويستوى فيه العتيق من الخيل
والفرس والبرذون لأنه لا فضل في النصوص بين فارس وفارس ولان استحقاق سهم الفرس لحصول ارهاب العدو
به والله سبحانه وتعالى وصف جنس الخيل بذلك بقوله تبارك وتعالى ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوكم فلا يفصل بين نوع ونوع ولا يسهم لأكثر من فرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله وعند أبي
يوسف يسهم لفرسين (وجه) قول أبى يوسف رحمه الله ان الغازي تقع الحاجة له إلى فرسين يركب أحدهما
ويجنب الآخر حتى إذا أعيى المركوب عن الكر والفر تحول إلى الجنيبة (وجه) قولهم إن الاسهام للخيل في الأصل
ثبت على مخالفة القياس لان الخيل آلة الجهاد ثم لا يسهم لسائر آلات الجهاد فكذا الخيل الا أن الشرع ورد به كفرس
واحد فالزيادة على ذلك ترد إلى أصل القياس على أن ورود الشرع إن كان معلولا بكونه آلة مرهبة للعدو بخلاف
سائر الآلات فالمعتبر هو أصل الارهاب بدليل انه لا يسهم لما زاد على فرسين بالاجماع مع أن معنى الارهاب يزداد
بزيادة الفرس ثم اختلف في حال المقاتل من كونه فارسا أو راجلا في أي وقت يعتبر وقت دخوله دار الحرب أم
وقت شهود الوقعة فعندنا يعتبر وقت دخول دار الحرب إذا دخلها على قصد القتال وعند الشافعي رحمه الله يعتبر وقت
شهود الوقعة حتى أن الغازي إذا دخل دار الحرب فارسا فمات فرسه أو نفر أو أخذه العدو فله سهم الفرسان عندنا وعنده
له سهم الرجالة واحتج بما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال الغنيمة لمن شهد الوقعة ولان استحقاق الغنيمة
بالجهاد ولم يوجد وقت دخول دار الحرب لان الجهاد بالمقاتلة ودخول دار الحرب من باب قطع المسافة لا من باب
المقاتلة (ولنا) أن الله تبارك وتعالى جعل الغنائم للمجاهدين قال سبحانه وتعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا
126

وقال تعال عز شأنه واعلموا إنما غنمتم من شئ وقال جلت عظمته وكبرياؤه وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها
وقال سبحانه وتعالى وإذ يعدكم الله احدى الطائفتين انها لكم وغير ذلك من النصوص والذي جاوز الدرب فارسا على
قصد القتال مجاهد لوجهين أحدهما أن المجاوزة على هذا الوجه ارهاب العدو وانه جهاد والدليل على أنه ارهاب
العدو وانه جهاد قوله عز وجل ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ولان دار الحرب لا تخلو عن عيون
الكفار وطلائعهم فإذا دخلها جيش كثيف رجالا وركبانا فالجواسيس يخبرونهم بذلك فيقع الرعب في قلوبهم
حتى يتركوا القرى والرساتيق هرابا إلى القلاع والحصون المنيعة فكان مجاوزة الدرب على قصد القتال ارهاب العدو
وانه جهاد والثاني ان فيه غيظ الكفرة وكبتهم لان وطئ أرضهم وعقر دارهم مما يغيظهم قال الله تبارك وتعالى
ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار وفيه قهرهم وما الجهاد الا قهر أعداء الله تعالى لاعزاز دينه واعلاء كلمته فدل
ان مجاوزة الدرب فارسا على قصد القتال جهاد ومن جاهد فارسا فله سهم الفرسان ومن جاهد راجلا فله سهم الرجالة
بقوله عليه الصلاة والسلام للفارس سهمان وللراجل سهم وأما أمر سيدنا عمر رضي الله عنه فيحتمل أنه قال ذلك في
وقعة خاصة بان وقع القتال في دار الاسلام أو في أرض فتحت عنوة وقهرا ثم لحق المدد أو يحمل على هذا توفيقا بين
الدلائل بقدر الامكان صيانة لها عن التناقض ونحن به نقول إن المدد لا يشاركونهم في الغنيمة في تلك الوقعة الا إذا
شهدوها ولا كلام فيه وعلى هذا إذا دخل راجلا ثم اشترى فرسا أو استأجر أو استعار أو وهب له فله سهم
الرجال عندنا لاعتبار وقت الدخول وعند الشافعي له سهم الفرسان لاعتبار وقت الشهود وقال الحسن رحمه الله
في هذه الصورة إذا قاتل فارسا فله سهم فارس وعلى هذا إذا دخل فارسا ثم باع فرسه أو آجره أو وهبه أو أعاره
فقاتل وهو راجل فله سهم راجل ذكره في السير الكبير وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ان له سهم فارس
وسوى على هذه الرواية بين البيع والموت وبين البيع قبل شهود الوقعة وبعدها والصحيح جواب ظاهر الرواية
لان المجاوزة فارسا على قصد القتال دليل الجهاد فارسا ولما باع فرسه تبين انه لم يقصد به الجهاد فارسا بل قصد
به التجارة وكذا هذا في الإجارة والإعارة والرهن بخلاف ما بعد شهود الوقعة لان البيع بعده لا يدل على قصد
التجارة لان الغازي لا يبيع فرسه ذلك الوقت لقصد التجارة عادة بل لقصد ثبات القدم والتشمر للقتال بعامة
ما في وسعه وامكانه والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم الاستيلاء من الكفرة على أموال المسلمين فالكلام فيه في موضعين أحدهما في بيان
أصل الحكم والثاني في بيان كيفيته أما الأول فنقول لا خلاف في أن الكفار إذا دخلوا دار الاسلام واستولوا على
أموال المسلمين ولم يحرزوها بدارهم انهم لا يملكونها حتى لو ظهر عليهم المسلمون وأخذوا ما في أيديهم لا يصير ملكا لهم
وعليهم ردها إلى أربابها بغير شئ وكذا لو قسموها في دار الاسلام ثم ظهر عليهم المسلمون فاخذوها من أيديهم
أخذها أصحابها بغير شئ لان قسمتهم لم تجز لعدم الملك فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة بخلاف قسمة الامام
الغنائم في دار الحرب انها جائزة وان لم يثبت الملك فيها في دار الحرب لان قسمة الامام إنما تجوز عندنا إذا اجتهد
وأفضى رأيه إلى الملك حتى لو قسم مجازفة لا تجوز على أن القسمة هناك قضاء صدر من امام جائز القضاء ولم يوجد ههنا ولا
خلاف في أنهم أيضا إذا استولوا على رقاب المسلمين ومدبريهم وأمهات أولادهم ومكاتبيهم انهم لا يملكون وان
أحرزوهم بالدار واختلف فيما إذا دخلوا دار الاسلام فاستولوا على أموال المسلمين وأحرزوها بدار الحرب وقال
علماؤنا يملكونها حتى لو كان المستولي عليه عبد فاعتقه الحربي أو باعه أو كاتبه أو دبره أو كانت أمة فاستولدها جاز
ذلك خاصة وقال الشافعي رحمه الله لا يملكونها وجه قوله إنهم استولوا على مال معصوم والاستيلاء على مال معصوم
لا يفيد الملك كاستيلاء المسلم على مال المسلمين واستيلائهم على الرقاب وإنما قلنا ذلك لان عصمة مال المسلم ثابتة في
حقهم لأنهم يخاطبون بالحرمات إذا بلغتهم الدعوة وان اختلفا في العبادات والاستيلاء يكون محظورا والمحظور
127

لا يصلح سببا للملك (ولنا) انهم استولوا على مال مباح غير مملوك ومن استولى على مال مباح غير مملوك يملكه كمن
استولى على الحطب والحشيش والصيد دلالة ان هذا الاستيلاء على مال مباح غير مملوك ان ملك المالك يزول بعد
الاحراز بدار الحرب فتزول العصمة ضرورة بزوال الملك والدليل على زوال الملك ان الملك هو الاختصاص بالمحل
في حق التصرف أو شرع للتمكن من التصرف في المحل وقد زال ذلك بالاحراز بالدار لان المالك لا يمكنه الانتفاع به
الا بعد الدخول ولا يمكنه الدخول بنفسه لما فيه من مخاطرة الروح والقاء النفس في التهلكة وغيره قد لا يوافقه ولو
وافقه فقد لا يظفر به ولو ظفر به قلما يمكنهم الاسترداد لان الدار دارهم وأهل الدار يذبون عن دارهم فإذا زال معنى
الملك أو ما شرع له الملك يزول الملك ضرورة وكذلك لو استولوا على عبيدنا فهو على هذا الاختلاف لان العبد مال
قابل للتمليك بالاستيلاء ولهذا يحتمل التملك بسائر أسباب الملك بخلاف الأحرار والمدبرين والمكاتبين وأمهات
الأولاد وهذا إذا دخلوا دار الاسلام فاستولوا على عبيد المسلمين وأحرزوهم بدار الحرب فاما إذا أبق عبد أو أمة
ولحق بدار الحرب فاخذه الكفار لا يملكونه عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يملكونه وجه قولهما انهم
استولوا على مال مباح غير مملوك فيملكونه قياسا على الدابة التي ندت من دار الاسلام إلى دار الحرب فأخذها
الكفار وسائر أموال المسلمين التي استولوا عليها والدليل على أنهم استولوا على مال مباح غير مملوك انه كما دخل
دار الحرب فقد زال ملك المالك لما ذكرنا في المسألة الأولى وزوال الملك لا يوجب زوال المالية ألا ترى أنه لا يوجب
زوال الرق (وجه) قوى أبي حنيفة ان الاستيلاء لم يصادف محله فلا يفيد الملك قياسا على الاستيلاء على الأحرار
والمدبرين والمكاتبين وأمهات الأولاد ودلالة ان الاستيلاء لم يصادف محله ان محل الاستيلاء هو المال ولم يوجد
لان المالية في هذا المحل إنما ثبتت ضرورة ثبوت الملك للغانمين لان الأصل فيه هو الحرية وكما دخل دار الحرب
فقد زال الملك كما ذكرنا في المسألة المتقدمة فتزول المالية الثابتة ضرورة ثبوته فكان ينبغي ان يزول الرق أيضا الا انه بقي
شرعا بخلاف القياس فيقتصر على مورد النص بخلاف الدابة لان المالية فيها لا تثبت ضرورة ثبوت الملك لأنها
مال والأموال كلها محل لثبوت الملك وبخلاف الآبق المتردد في دار الاسلام لان الاستيلاء حقيقة صادفه وهو
مال مملوك فكان ينبغي ان يثبت الملك للحال لوجود سببه الا أنه تأخر إلى وقت الاحراز بالدار لمانع وهو ملك المالك
فإذا أحرزوه بدارهم فقال زال المانع لزوال المالك فيعمل الاستيلاء السابق وعمله في اثبات الملك والملك لا يثبت
الا في المال فبقيت المالية ضرورة المرء ههنا لاستيلاء حال كونه مالا أصلا وبعدما وجد الاستيلاء لا مالية لزوال
الملك فلم يصادف الاستيلاء محله فلا يفيد الملك والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان كيفية الحكم فنقول ملك
المسلم يزول عن ماله باستيلاء الكفار عليه ويثبت لهم عندنا على وجه له حق الإعادة اما بعوض أو بغير عوض
حتى لو ظهر عليهم المسلمون فاخذوها وأحرزوها بدار الاسلام فان وجده المالك القديم قبل القسمة أخذه
بغير شئ سواء كان من ذوات القيم أو من ذوات الأمثال وان وجده بعد القسمة فإن كان من ذوات الأمثال
لا يأخذه لأنه لو أخذه لاخذه بمثله فلا يفيد وان لم يكن من ذوات الأمثال يأخذه بقيمته ان شاء لان الاخذ بالقيمة
مراعاة الجانبين جانب الملك القديم بايصاله إلى قديم ملكه الخاص المأخوذ منه بغير عوض وجانب الغانمين بصيانة
ملكهم الخاص عن الزوال من غير عوض فكان الاخذ بالقيمة نظرا للجانبين ومراعاة الحقين بخلاف ما إذا وجده
قبل القسمة انه يأخذه بغير شئ لان الثابت للغانمين قبل القسمة بعد الاحراز ليس الا الحق المتأكد أو الملك العام
فكانت الإعادة إلى قديم الملك رعاية للملك الخاص أولى وقد روى أن بعيرا لرجل من المسلمين استولى عليه أهل
الحرب ثم ظهر عليهم المسلمون فوجده صاحبه في المغنم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال إن وجدته قبل
القسمة فهو لك بغير شئ وان وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة وكذلك لو كان الحربي باع المأخوذ من المسلمين ثم ظهر
عليه المسلمون فان المالك القديم يأخذه قبل القسمة بغير شئ وبعد القسمة بالقيمة لأنه باعه مستحق الإعادة إلى قديم
128

الملك فبقي كذلك ولو كان المستولي عليه مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد ثم ظهر عليه المسلمون فأخرجوه إلى دار الاسلام
أخذه المالك القديم بغير شئ قبل القسمة وبعدها لأنه حر من وجه والحر من وجه أو من كل وجه لا يحتمل التملك
بالاستيلاء ولهذا لا يحتمله بسائر أسباب الملك فإذا حصلوا في أيدي الغانمين وجب ردهم إلى المالك القديم ولو وهب
الحربي ما ملكه بالاستيلاء لرجل من المسلمين أخذه المالك القديم بالقيمة ان شاء لان فيه نظرا للجانبين على ما بينا
وكذلك لو باعه من مسلم بعوض فاسد بان باع من مسلم عبد المسلم بخمر أو خنزير أخذه صاحبه بقيمة العبد لان تسمية
الخمر والخنزير لم تصح فكان هذا بيعا فاسدا والبيع الفاسد مضمون بقيمة المبيع فصار كأنه اشتراه بقيمته ولو لم يكن
العوض فاسد اخذه بالثمن الذي اشتراه به ان شاء إن كان اشتراه بخلاف جنسه لان الاخذ عند اختلاف الجنس
مفيد وكذلك لو كان اشتراه بجنسه لكن بأقل منه فإنه يأخذه بمثل ما اشتراه ولا يكون هذا ربا أ لان الربا فضل
مال قصد استحقاقه بالبيع من غير عوض يقابله والمالك القديم لا يأخذه بطريق البيع بل بطريق الإعادة إلى قديم
ملكه فلا يتحقق الربا وإن كان اشتراه بجنسه بمثله قدرا لا يأخذه لأنه لا يفيد ولو اشتراه رجل من العدو ثم باعه من رجل
آخر ثم حضر المالك القديم أخذه من الثاني بالثمن الثاني وليس له ان ينقض البيع الثاني ويأخذ بالثمن الأول من
المشترى الأول في ظاهر الرواية وروى عن محمد رحمه الله في النوادر ان المالك بالخيار ان شاء نقض البيع وأخذه
بالثمن الأول وان شاء أخذه بالثمن الثاني (وجه) رواية النوادر أن أخذ المالك القديم تملك ببدل فأشبه حق الشفعة
ثم حق الشفيع مقدم على حق المشترى فكذا حقه والجامع أن حق كل واحد منهما سابق على حق المشترى والسبق
من أسباب الترجيح وجه ظاهر الرواية أنه لا ملك للمالك القديم في المحل بوجه بل هو زائل من كل وجه وإنما
الثابت له حق الإعادة وانه ليس بمعنى في المحل فلا يمنع جواز البيع فلا يملك نقضه بخلاف حق الشفعة فان الشفيع
يتملك نقض المشفوع فيقتضى الاخذ بالشفعة بتمليك البائع منه على ما عرف وعلى هذا الأصل إذا علم المالك القديم
بشراء المأسور وترك الطلب زمانا لا يبطل حقه لان هذا الاخذ ليس في معنى الاخذ بالشفعة ليشترط له الطلب على
سبيل المواثبة وعلى قياس ما روى عن محمد رحمه الله يبطل كما يبطل حق الشفعة بترك الطلب على المواثبة وكذلك
هذا الحق يورث في ظاهر الرواية حتى لو مات المالك القديم كان لورثته أن يأخذوه وعلى قياس ما روى عن محمد
رحمه الله لا يورث كما لا يورث حق الشفعة والصحيح جواب ظاهر الرواية لان هذا الاخذ ليس ابتداء تملك بل
هو إعادة إلى قديم الملك بخلاف الاخذ بالشفعة وحق الإعادة إلى قديم الملك مما يحتمل الإرث كحق الرد بالعيب
وليس لبعض الورثة أن يأخذوا ذلك دون البعض لأنه حق ثبت للكل فلا ينفرد به البعض ولو اشترى الماسور
رجل فأدخله دار الاسلام ثم اشتراه العدو ثانيا فاشتراه رجل آخر فأدخله دار الاسلام فالمشترى الأول أحق من
المالك القديم وليس للمالك القديم أن يأخذه من المشترى الثاني لأنه لما أسر من يد المشترى الأول نزل المشترى الأول
منزلة المالك القديم فكان حق الاخذ له لكن إذا أخذه المشترى الأول فللمالك القديم أن يأخذه بالثمنين ان شاء أو
يدع لأنه لما أخذه المشترى الأول بالثمن فقد قام عليه بالثمنين فكأنه اشتراه بهذا القدر من المال ولم يوجد الأسر أصلا
ولو أعتق الحربي العبد المأسور في دار الحرب أو دبره أو كاتبه أو كانت أمة فاستولدها ثم ظهر المسلمون عليها فذلك
كله جائز وعتقت هي وأولادها وكذا المدبر والمكاتب (أما) إذا أعتقه فلان يده زالت عنه وهو مسلم فحصل في
يد نفسه فعتق عليه كالعبد الحربي إذا خرج الينا مسلما والاستيلاء فرع النسب والنسب يثبت في دار الحرب وقهر
الحربي كموته وان مات عتقت أم ولده كما إذا غلبت عليه وعتق المدبر لهذا المعنى والمكاتب صار في يد نفسه لزوال يد
المولى عنه وهو مسلم فيعتق ولأنه إذا قهر المولى سقط عنه بدل الكتابة فعتق لزوال رقه ولو كان الماسور حرا فاشتراه
مسلم وأخرجه إلى دار الاسلام فلا شئ للمشترى على الحر لأنه ما اشتراه حقيقة إذ الحر لا يحتمل التملك لكنه بذل
مالا لاستخلاص الأسير بغير اذنه فكان متطوعا فيه فلا يملك الرجوع عليه وان أمره الحر بذلك ففعله بأمره رجع
129

عليه لأنه لما أمره بذلك فكأنه استقرض منه هذا القدر من المال فاقرضه إياه ثم أمره أن يدفعه إلى فلان ففعل فيرجع
عليه بحكم الاستقراض ولو أسلم أهل الحرب ومتاع المسلمين الذي أحرزوه في أيديهم فهو لهم ولا حق للمالك القديم
فيه لأنه مال أسلموا عليه ومن أسلم على مال فهو له على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الذي ذكرنا حكم
استيلاء الكافر فاما حكم الشراء فنقول الحربي إذا خرج الينا فاشترى عبدا مسلما ثبت الملك له فيه عندنا لكنه يجبر
على البيع وكذلك لو خرج الينا بعبده فاسلم في يده يجبر على البيع وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز شراء الكافر العبد
المسلم وهي مسألة كتاب البيوع فإن لم يبعه حتى دخل دار الحرب به عتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما
لا يعتق وجه قولهما أن لاحراز الكافر ماله بدار الحرب في زوال العصمة لا في زوال الملك فان مال الكافر مملوك
لكنه غير معصوم وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ان الثابت للحربي بالشراء ملك مجبور على ازالته فلو لم يعتق بادخاله دار
الحرب لم يبق الملك الثابت له شرعا بهذه الصفة لتعذر الجبر بالاحراز بوجه فيؤدى إلى تغيير المشروع وهذا لا يجوز
ثم طريق الزوال هو الاحراز بالدار وإن كان هو في الأصل شرط زوال الملك والعصمة في استيلاء الكفار لتعذر
تحصيل العلة فأقيم الشرط مقامه على الأصل المعهود من إقامة الشرط مقام العلة تعذر تعليق الحكم بالعلة ولو
اشترى عبدا ذميا فهو على هذا الاختلاف أيضا لان الحربي مجبور على بيع الذمي أيضا ولا يترك ليدخل دار الحرب
ولو أسلم عبد لحربي في دار الحرب لا يعتق وهو عبد على حاله بالاجماع لان الملك وإن كان واجب الإزالة لكن
لا طريق للزوال ههنا فبقي على حاله ولو خرج هذا العبد الينا فإن كان خرج مراغما لمولاه ولحق بعسكر المسلمين عتق لان
دار الحرب دار قهر وغلبة وقد قهر مولاه بخروجه مراغما إياه فصار مستوليا على نفسه مستغنما إياها فيزول ملك المالك
عنه وقد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال في أباق الطائف هؤلاء عتقاء الله سبحانه وتعالى ولو خرج غير مراغم
فان خرج بإذن المولى للتجارة فهو عبد لمولاه لكن يبيعه الامام ويقف ثمنه لمولاه أما كونه عبدا لمولاه فلانه لم يخرج
قاهرا مستوليا ولأنه ملك مستحق الزوال بالاسلام وأما وقف ثمنه لمولاه فلانه باعه على ملكه وكذا لو لم يخرج
مراغما ولكن ظهر المسلمون على الدار يعتق أيضا لأنه لما أسلم فقد بقي عليه ملك مستحق الزوال محتاج إلى طريق
الزوال وقد وجد وهو احراز نفسه بمنعه المسلمين وانه أسبق من احراز المسلمين إياه بدار الاسلام ليملكوه فكان أولى
ولو لم يخرج ولم يظهر على الدار ولكن باعه الحربي من مسلم أو حربي عتق عند أبي حنيفة قبل المشترى البيع أو لم يقبل
وعندهما لا يعتق وجه قولهما انه كما زال ملك البائع عنه فقد ثبت ملك المشتري فيه فلا يعتق وجه قول أبي حنيفة
رضى الله تعالى عنه ما ذكرنا ان هذا ملك مستحق الزوال موقوف زواله على سبب الزوال أو شرط الزوال على ما بينا
فإذا عرضه على البيع والبيع سبب لزوال الملك فقد رضى بزواله إلى غيره فكان بزواله إليه أرضى لأنه استحق الزوال
وغيره ما استحقه والرضا بالزوال شرط الزوال ولو أسلم حربي في دار الحرب وله رقيق فيها فخرج هو إلى دار الاسلام
ثم تبعه عبده بعد ذلك كافرا كان أو مسلما فهو عبد لمولاه لان خروجه إلى مولاه كخروجه مع مولاه ولو كان خرج مع
مولاه لكان عبدا لمولاه كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين فنقول لابد أولا من معرفة معنى الدارين دار الاسلام
ودار الكفر لتعرف الأحكام التي تختلف باختلافهما ومعرفة ذلك مبنية على معرفة ما به تصير الدار دار اسلام أو دار
كفر فنقول لا خلاف بين أصحابنا في أن دار الكفر تصير دار اسلام بظهور أحكام الاسلام فيها واختلفوا في دار
الاسلام إنما بماذا تصير دار الكفر قال أبو حنيفة انها لا تصير دار الكفر الا بثلاث شرائط أحدها ظهور أحكام
الكفر فيها والثاني أن تكون متاخمة لدار الكفر والثالث ان لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول وهو أمان
المسلمين وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله انها تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها (وجه) قولهما ان
قولنا دار الاسلام ودار الكفر إضافة دار إلى الاسلام والى الكفر وإنما تضاف الدار إلى الاسلام أو إلى الكفر
130

لظهور الاسلام أو الكفر فيها كما تسمى الجنة دار السلام والنار دار البوار لوجود السلامة في الجنة والبوار في النار
وظهور الاسلام والكفر بظهور أحكامهما فإذا ظهر أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر فصحت الإضافة
ولهذا صارت الدار دار الاسلام بظهور أحكام الاسلام فيها من غير شريطة أخرى فكذا تصير دار الكفر بظهور
أحكام الكفر فيها والله سبحانه وتعالى أعلم (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان المقصود من إضافة الدار إلى الاسلام
والكفر ليس هو عين الاسلام والكفر وإنما المقصود هو الامن والخوف ومعناه ان الأمان إن كان للمسلمين فيها
على الاطلاق والخوف للكفرة على الاطلاق فهي دار الاسلام وإن كان الأمان فيها للكفرة على الاطلاق
والخوف للمسلمين على الاطلاق فهي دار الكفر والأحكام مبنية على الأمان والخوف لا على الاسلام والكفر
فكان اعتبار الأمان والخوف أولى فما لم تقع الحاجة للمسلمين إلى الاستئمان بقي الامن الثابت فيها على الاطلاق فلا
تصير دار الكفر وكذا الا من الثابت على الاطلاق لا يزول الا بالمتاخمة لدار الحرب فتوقف صيروتها دار الحرب
على وجودهما مع ما ان إضافة الدار إلى الاسلام احتمل أن يكون لما قلتم واحتمل أن يكون لما قلنا وهو ثبوت الامن
فيها على الاطلاق للمسلمين وإنما يثبت للكفرة بعارض الذمة والاستئمان فإن كانت الإضافة لما قلتم تصير دار
الكفر بما قلتم وإن كانت الإضافة لما قلنا لا تصير دار الكفر الا بما قلنا فلا تصير ما به دار الاسلام بيقين دار الكفر
بالشك والاحتمال على الأصل المعهود ان الثابت بيقين لا يزول بالشك والاحتمال بخلاف دار الكفر حيث تصير
دار الاسلام لظهور أحكام الاسلام فيها لان هناك الترجيح لجانب الاسلام لقوله عليه الصلاة والسلام الاسلام
يعلو ولا يعلى فزال الشك على أن الإضافة إن كانت باعتبار ظهور الأحكام لكن لا تظهر أحكام الكفر الا عند
وجود هذين الشرطين أعنى المتاخمة وزوال الأمان الأول لأنها لا تظهر الا بالمنعة ولا منعة الا بهما والله سبحانه وتعالى
أعلم وقياس هذا الاختلاف في أرض لأهل الاسلام ظهر عليها المشركون وأظهروا فيها أحكام الكفر أو كان أهلها
أهل ذمة فنقضوا الذمة وأظهروا أحكام الشرك هل تصير دار الحرب فهو على ما ذكرنا من الاختلاف فإذا صارت
دار الحرب فحكمها إذا ظهرنا عليها وحكم سائر دور الحرب سواء وقد ذكرناه ولو فتحها الامام ثم جاء أربابها فإن كان
قبل القسمة أخذوا بغير شئ وإن كان بعد القسمة أخذوا بالقيمة ان شاؤوا لما ذكرنا من قبل وعاد المأخوذ على حكمه
الأول الخراجى عاد خراجيا والعشري عاد عشريا لان هذا ليس استحداث الملك بل هو عود قديم الملك إليه فيعود
بوظيفته الا إذا كان الامام وضع عليها الخراج قبل ذلك فلا يعود عشريا لان تصرف الامام مصدر عن ولاية شرعية
فلا يحتمل النقض والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين فأنواع منها ان المسلم إذا زنا في دار الحرب أو سرق
أو شرب الخمر أو قذف مسلما لا يؤخذ بشئ من ذلك لان الامام لا يقدر عليه إقامة الحدود في دار الحرب لعدم الولاية
ولو فعل شيئا من ذلك ثم رجع إلى دار الاسلام لا يقام عليه الحد أيضا لان الفعل لم يقع موجبا أصلا ولو فعل في دار
الاسلام ثم هرب إلى دار الحرب يؤخذ به لان الفعل وقع موجبا للإقامة فلا يسقط بالهرب إلى دار الحرب وكذلك
إذا قتل مسلما لا يؤخذ بالقصاص وإن كان عمدا لتعذر الاستيفاء الا بالمنعة إذ الواحد يقاوم الواحد والمنعة منعدمة
ولان كونه في دار الحرب أورث شبهة في الوجوب والقصاص لا يجب مع الشبهة ويضمن الدية خطأ كان أو عمدا
وتكون في ماله لا على العاقلة لان الدية تجب على القاتل ابتداء أو لان القتل وجد منه ولهذا وجب القصاص
والكفارة على القاتل لا على غيره فكذا الدية تجب عليه ابتداء وهو الصحيح ثم العاقلة تتحمل عنه بطريق التعاون
لما يصل إليه بحياته من المنافع من النصرة والعز والشرف بكثرة العشائر والبر والاحسان لهم ونحو ذلك وهذه المعاني
لا تحصل عند اختلاف الدارين فلا تتحمل عنه العاقلة وكذلك لو كان أميرا على سرية أو أمير جيش وزنا رجل
منهم أو سرق أو شرب الخمر أو قتل مسلما خطأ أو عمدا لم يأخذه الأمير بشئ من ذلك لان الامام ما فوض إليه إقامة
131

الحدود والقصاص لعلمه انه لا يقدر على اقامتها في دار الحرب الا أنه يضمنه السرقة إن كان استهلكها ويضمنه الدية
في باب القتل لأنه يقدر على استيفاء ضمان المال ولو غزا الخليفة أو أمير الشام ففعل رجل من العسكر شيئا من ذلك أقام
عليه الحد واقتص منه في العمد وضمنه الدية في ماله في الخطأ لان إقامة الحدود إلى الامام وتمكنه الإقامة بماله من
القوة والشوكة باجتماع الجيوش وانقيادها له فكان لعسكره حكم دار الاسلام ولو شذ رجل من العسكر ففعل شيئا من
ذلك درئ عنه الحد والقصاص لاقتصار ولاية الامام على المعسكر وعلى هذا يخرج الحربي إذا أسلم في دار الحرب
ولم يهاجر الينا فقتله مسلم عمدا أو خطأ لأنه لا قصاص عليه عندنا على ما ذكرنا وهذا مبنى على أن التقوم عندنا يثبت
بدار الاسلام لان التقوم بالعزة ولا عزة الا بمنعة المسلمين وعند الشافعي رحمه الله التقوم يثبت بالاسلام وعلى هذا
إذا أسلم الحربي في دار الحرب ولم يعرف ان عليه صلاة ولا صياما ثم خرج إلى دار الاسلام فليس عليه قضاء
ما مضى وقال أبو يوسف أستحسن ان يجب عليه القضاء (وجه) قوله إن الصلاة قد وجبت عليه لوجود سبب
الوجوب وهو الوقت وشرطه وهو الاسلام والصلاة الواجبة إذا فاتت عن وقتها تقضى كالذمي إذا أسلم في دار
الاسلام ولم يعرف ان عليه ذلك حتى مضى عليه أوقات صلوات ثم علم (وجه) قول أبي حنيفة ان وجوب الشرائع
يعتمد البلوغ وهو العلم بالوجوب لان وجوبها لا يعرف الا بالشرع بالاجماع ان اختلفا في وجوب الايمان الا ان
حقيقة العلم ليست بشرط بل امكان الوصول إليه كاف وقد وجد ذلك في دار الاسلام لأنها دار العلم بالشرائع ولم يوجد
في دار الحرب لأنها دار الجهل بها بخلاف وجوب الايمان وشكر النعم وحرمة الكفر والكفران ونحو ذلك لأن هذه
الأحكام لا يقف وجوبها على الشرع بل تجب بمجرد العقل عندنا فان أبا يوسف روى عن أبي حنيفة رحمه الله
هذه العبارة فقال كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول لا عذر لاحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لان الواجب على
جميع الخلق معرفة الرب سبحانه وتعالى وتوحيده لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفس وسائر
ما خلق الله سبحانه وتعالى فاما الفرائض فمن لم يعلمها ولم تبلغه فان هذا لم تقم عليه حجة حكمية بلفظه وعلى هذا إذا دخل
مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان فعاقد حربيا عقد الربا أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الاسلام جاز عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وكذلك لو كان أسيرا في أيديهم أو أسلم في دار الحرب ولم يهاجر الينا فعاقد حربيا وقال أبو يوسف
لا يجوز للمسلم في دار الحرب الا ما يجوز له في دار الاسلام (وجه) قوله إن حرمة الربا ثابتة في حق العاقدين
أما في حق المسلم فظاهر وأما في حق الحربي فلان الكفار مخاطبون بالحرمات وقال تعالى جل شانه وأخذهم الربا
وقد نهوا عنه ولهذا حرم مع الذمي والحربي الذي دخل دارنا بأمان (وجه) قولهما ان أخذ الربا في معنى اتلاف
المال واتلاف مال الحربي مباح وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي فكان المسلم بسبيل من أخذه الا بطريق الغدر
والخيانة فإذا رضى به انعدم معنى الغدر بخلاف الذمي والحربي المستأمن لان أموالهما معصومة على الاتلاف ولو
عاقد هذا المسلم الذي دخل بأمان مسلما أسلم هناك ولم يهاجر الينا جاز عند أبي حنيفة وعندهما لا يجوز ولو كانا
أسيرين أو دخلا بأمان للتجارة فتعاقدا عقد الربا أو غيره من البياعات الفاسدة لا يجوز بالاتفاق (وجه) قولهما
ان أخذ الربا من المسلم اتلاف مال معصوم من غير رضاه معنى لان الشرع حرم عليه ان تطيب نفسه بذلك بقوله
عليه الصلاة والسلام من زاد واستزاد فقد أربى والساقط شرعا والعدم حقيقة سواء فأشبه تعاقد الأسيرين
والتاجرين (وجه) قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن أخذ الربا في معنى اتلاف المال ومال الذي أسلم في دار الحرب
ولم يهاجر الينا غير مضمون بالاتلاف يدل عليه ان نفسه غير مضمونة بالقصاص ولا بالدية عندنا وحرمة المال تابعة
لحرمة النفس بخلاف التاجرين والأسيرين فان مالهما مضمون بالاتلاف وعلى هذا إذا دخل مسلم دار الحرب
بأمان فادانه حربي أو ادان حربيا ثم خرج المسلم وخرج الحربي مستأمنا فان القاضي لا يقضى لواحد منهما على
صاحبه بالدين وكذلك لو غصب أحدهما صاحبه شيئا لا يقضى بالغصب لان المداينة في دار الحرب وقعت هدرا
132

لانعدام ولايتنا عليهم وانعدام ولايتهم أيضا في حقنا وكذا غصب كل واحد منهما صادف مالا غير مضمون
فلم ينعقد سببا لوجوب الضمان وكذلك لو كانا حربيين داين أحدهما صاحبه ثم خرجا مستأمنين ولو خرجا
مسلمين لقضى بالدين لثبوت الولاية ولا يقضى بالغصب لما بينا الا ان المسلم لو كان هو الغاصب يفتى بان يرد عليهم
ولا يقضى عليه لأنه صار غادرا بهم ناقضا عهدهم فتلزمه التوبة ولا تتحقق التوبة الا برد المغصوب يرده وعلى هذا
مسلمان دخلا دار الحرب بأمان بأن كانا تاجرين مثلا فقتل أحدهما صاحبه عمدا لا قصاص على القاتل
لما بينا وإن كان خطأ فعليه الدية في ماله والكفارة لأنهما من أهل دار الاسلام وإنما دخلا
دار الحرب لعارض أمر الا انه يجب القصاص للشبهة أو لتعذر الاستيفاء على ما بينا ولو كانا أسيرين أو
كان المقتول أسيرا مسلما فلا شئ على القاتل الا الكفارة في الخطا عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما عليه
الكفارة والدية (وجه) قولهما ان الأسيرين من أهل دار الاسلام كالمستأمنين وإنما الأسر أمر عارض
ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان الأسير مقهور في يد أهل الحرب فصار تابعا لهم فبطل تقومه والله سبحانه وتعالى
أعلم وعلى هذا الحربي إذا أعتق عبده الحربي في دار الحرب لا ينفذ عندهما وعند أبي يوسف رحمه الله ينفذ وقيل
لا خلاف في العتق أنه ينفذ إنما الخلاف في الولاء انه هل يثبت منه عندهما لا يثبت وعنده يثبت (وجه) قوله إن ركن
الاعتاق صدر من أهل الاعتاق في محل مملوك للمعتق فيصح كما لو أعتق في دار الاسلام (وجه) قولهما ان الاعتاق
في دار الحرب لا يفيد زوال الملك لان الملك في دار الحرب بالقهر والغلبة حقيقة فكل مقهور مملوك وكل قاهر مالك
هذا ديانتهم فإنهم لا يعرفون سوى القدرة الحقيقية حتى أن العبد منهم إذا قهر مولاه يصير هو مالكا ومولاه مملوكا وهذا
لا يفيده الاعتاق في دار الحرب فلا يوجب زوال ملك المالك هذا معنى قول مشايخنا لأبي حنيفة رضي الله عنه معتق
بلسانه مسترق بيده وكذلك لو اشترى قريبا لا يعتق عليه لأنه لا يعتق بصريح الاعتاق فكيف يعتق بالشراء
وكذلك لو دبره أو كاتبه في دار الحرب حتى لو دخل دار الاسلام ومعه مدبر أو مكاتب دبره أو كاتبه في دار الحرب جاز
بيعه لان التدبير اعتاق مضاف إلى ما بعد الموت والكتابة تعليق العتق بشرط أداء بدل الكتابة ثم لم ينفذ اعتاقه المنجز
فكذا المعلق والمضاف ولو استولد أمته في دار الحرب صح استيلاده إياها حتى لو خرج الينا بها إلى دار الاسلام
لا يجوز بيعها لان الاستيلاد اكتساب ثبات النسب للولد والحربي من أهل ذلك ألا ترى ان أنساب أهل الحرب
ثابتة وإذا ثبت النسب صارم أم ولد له فخرجت عن محلية البيع لكونها حرة من وجه قال عليه الصلاة والسلام
أعتقها ولدها ولو دخل الحربي الينا بأمان ففعل شيئا من ذلك نفذ كله لأنه لما دخل بأمان فقد لزمه أحكام الاسلام ما
دام في دار الاسلام ومن أحكام الاسلام أن لا يملك المعتق أن يسترق بيده ما أعتقه بلسانه ولو دبر عبده في دار
الاسلام ثم رجع إلى دار الحرب وخلف المدبر أو خلف أم ولده التي استولدها في دار الاسلام أو في دار الحرب ثم
مات على كفره أو قتل أو أسر يحكم بعتقهما أما إذا مات أو قتل فظاهر لان أم الولد والمدبر يعتقان بموت سيدهما
والمقتول ميت باجله وان رغم أنف المعتزلة (وأما) إذا أسر فلانه صار مملوكا فلم يبق مالكا ضرورة وأما مكاتبه
الذي كاتبه في دار الاسلام ودخل هو إلى دار الحرب فهو مكاتب على حاله وبدل الكتابة عليه لورثته إذا مات
وكذلك الرهون والودائع والديون التي له على الناس وما كان للناس عليه فهي كلها على حالها إذا مات لأنه دخل دار
الاسلام بأمان ومعه هذه الأموال فكان حكم الأمان فيها باقيا وكذلك لو ظهر على الدار فظهر الحربي أو قتل ولم
يظهر على الدار فملكه على حاله يعود فيأخذ أو يجئ ورثته فيأخذونه له اما إذا هرب ولم يقتل ولم يؤسر فظاهر واما إذا
قتل ولم يظهر فلان ماله صار ميراثا لورثته فيجيئون فيأخذونه والمكاتب على حاله يؤدى إلى ورثته فيعتق فاما إذا ظهر
وأسر أو أسر ولم يظهر أو ظهر وقتل يعتق مكاتبه اما إذا ظهر وأسر أو أسر ولم يظهر فظاهر لأنه ملك بالأسر وكذا إذا
ظهر وقتل لان القتل بعد الظهور قتل بعد الأسر ويبطل ما كان له من الدين لما ذكرنا انه بالأسر صار مملوكا فلم يبق مالكا
133

فسقطت ديونه ضرورة ولا يصير مالكا للأسر لان الدين في الذمة وما في الذمة لا يعمل عليه الأسر وكذلك ما عليه
من الديون يسقط أيضا لأنه لو بقي لتعلق برقبته فلا يخلص السبي للسابي وأما ودائعه فهي في جماعة المسلمين وروى
عن أبي يوسف رحمه الله انها تكون فيئا للمودع (ووجه) ان يده عن يد الغانمين أسبق والمباح مباح لمن سبق على
لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ظاهر الرواية ان يد المودع يده تقديرا فكان الاستيلاء عليه بالأسر استيلاء
على ما في يده تقديرا ولا يختص به الغانمون لأنه مال لم يؤخذ على سبيل القهر والغلبة حقيقة فكان فيئا حقيقة لا غنيمة
فيوضع موضع الفئ وأما الرهن فعند أبي يوسف يكون للمرتهن بدينه والزيادة له وعند محمد رحمه الله يباع فيستوفى
قدر دينه والزيادة في جماعة المسلمين والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان أحكام المرتدين فالكلام فيه في مواضع في بيان ركن الردة وفي بيان شرائط صحة الركن وفي بيان حكم الردة اما ركنها فهو اجراء كلمة الكفر
على اللسان بعد وجود الايمان إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الايمان
فالرجوع عن الايمان يسمى ردة في عرف الشرع واما شرائط صحتها فأنواع منها العقل فلا تصح ردة المجنون والصبي
الذي لا يعقل لان العقل من شرائط الأهلية خصوصا في الاعتقادات ولو كان الرجل ممن يجن ويفيق فان ارتد
في حال جنونه لم يصح وان ارتد في حال افاقته صحت لوجود دليل الرجوع في احدى الحالتين دون الأخرى وكذلك
السكران الذاهب العقل لا تصح ردته استحسانا والقياس ان تصح في حق الأحكام (وجه) القياس ان الأحكام
مبنية على الاقرار بظاهر اللسان لا على ما في القلب إذ هو أمر باطن لا يوقف عليه (وجه) الاستحسان ان أحكام
الكفر مبنية على الكفر كما أن أحكام الايمان مبنية على الايمان والكفر يرجعان إلى التصديق
والتكذيب وإنما الاقرار دليل عليهما واقرار السكران الذاهب العقل لا يصلح دلالة على التكذيب فلا يصح اقراره
وأما البلوغ فهل هو شرط اختلف فيه قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما ليس بشرط فتصح ردة الصبي العاقل
وقال أبو يوسف رحمه الله شرط حتى لا تصح ردته (وجه) قوله إن عقل الصبي في التصرفات الضارة المحضة ملحق
بالعدم ولهذا لم يصح طلاقه واعتاقه وتبرعاته والردة مضرة محضة فاما الايمان فيقع محض لذلك ايمانه ولم تصح
ردته (وجه) قولهما انه صح ايمانه فتصح ردته وهذا لان صحة الايمان والردة مبنية على وجود الايمان والردة حقيقة
لان الايمان والكفر من الافعال الحقيقية وهما أفعال خارجة القلب بمنزلة أفعال سائر الجوارح والاقرار الصادر عن
عقل دليل وجودهما وقد وجد ههنا الا انهما مع وجودهما منه حقيقة لا يقتل ولكن يحبس لما نذكر إن شاء الله تعالى
والقتل ليس من لوازم الردة عندنا فان المرتدة لا تقتل بلا خلاف بين أصحابنا والردة موجودة واما الذكورة فليست
بشرط فتصح ردة المرأة عندنا لكنها لا تقتل بل تجبر على الاسلام وعند الشافعي رحمه الله تقتل وستأتي المسألة في
موضعها إن شاء الله تعالى ومنها الطوع فلا تصح ردة المكره على الردة استحسانا إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان
والقياس ان تصح في أحكام الدنيا وسنذكر وجه القياس والاستحسان في كتاب الاكراه إن شاء الله تعالى وأما
حكم الردة فنقول وبالله تعالى التوفيق ان للردة أحكاما كثيرة بعضها يرجع إلى نفس المرتد وبعضها يرجع إلى
ملكه وبعضها يرجع إلى تصرفاته وبعضها يرجع إلى ولده أما الذي يرجع إلى نفسه فأنواع منها إباحة دمه إذا كان
رجلا حرا كان أو عبدا لسقوط عصمته بالردة قال النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه وكذا العرب لما
ارتدت بعد وقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم ومنها انه يستحب أن
يستتاب ويعرض عليه الاسلام لاحتمال ان يسلم لكن لا يجب لان الدعوة قد بلغته فان أسلم فمرحبا واهلا
بالاسلام وان أبى نظر الامام في ذلك فان طمع في توبته أو سأل هو التأجيل أجله ثلاثة أيام وان لم يطمع في توبته ولم
يسأل هو التأجيل قتله من ساعته والأصل فيه ما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه قدم عليه رجل من جيش
المسلمين فقال هل عندكم من مغرية خبر قال نعم رجل كفر بالله تعالى بعد اسلامه فقال سيدنا عمر رضي الله عنه ماذا
134

فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه فقال سيدنا عمر رضي الله عنه هلا طينتم عليه بيتا ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا
واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني وهكذا روى عن
سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال يستتاب المرتد ثلاثا وتلي هذه الآية ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم
ازدادوا كفرا ولان من الجائز ان عرضت له شبهة حملته على الردة فيؤجل ثلاثا لعلها تنكشف في هذه المدة فكانت
الاستتابة ثلاثا وسيلة إلى الاسلام عسى فندب إليها فان قتله انسان قبل الاستتابة يكره له ذلك ولا شئ عليه لزوال
عصمته بالردة وتوبته ان يأتي بالشهادتين ويبرأ عن الدين الذي انتقل إليه فان تاب ثم ارتد ثانيا فحكمه في المرة الثانية
كحكمه في المرة الأولى انه ان تاب في المرة الثانية قبلت توبته وكذا في المرة الثالثة والرابعة لوجود الايمان ظاهرا في كل
كرة لوجود ركنه وهو اقرار العاقل وقال الله تبارك وتعالى ان الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا فقد أثبت
سبحانه وتعالى الايمان بعد وجود الردة منه والايمان بعد وجود الردة لا يحتمل الرد الا انه إذا تاب في المرة الرابعة
يضربه الامام ويخلى سبيله وروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه انه إذا تاب في المرة الثالثة حبسه الامام ولم يخرجه
من السجن حتى يرى عليه أثر خشوع التوبة والاخلاص وأما المرأة فلا يباح دمها إذا ارتدت ولا تقتل عندنا ولكنها
تجبر على الاسلام واجبارها على الاسلام ان تحبس وتخرج في كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الاسلام فان
أسلمت والا حبست ثانيا هكذا إلى أن تسلم أو تموت وذكر الكرخي رحمه الله وزاد عليه تضرب أسواطا في كل
مرة تعزيرا لها على ما فعلت وعند الشافعي رحمه الله تقتل لعموم قوله عليه الصلاة والسلام من بدل دينه فاقتلوه ولأن علة
إباحة الدم هو الكفر بعد الايمان ولهذا قتل الرجل وقد وجد منها ذلك بخلاف الحربية وهذا لان الكفر بعد
الايمان أغلظ من الكفر الأصلي لان هذا رجوع بعد القبول والوقوف على محاسن الاسلام وحججه وذلك امتناع
من القبول بعد التمكن من الوقوف دون حقيقة الوقوف فلا يستقيم الاستدلال (ولنا) ما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتلوا امرأة ولا وليدا ولان القتل إنما شرع وسيلة إلى الاسلام بالدعوة إليه بأعلى
الطريقين عند وقوع اليأس عن اجابتها بادناهما وهو دعوة اللسان بالاستتابة باظهار محاسن الاسلام والنساء اتباع
الرجال في إجابة هذه الدعوة في العادة فإنهن في العادات الجارية يسلمن بالاسلام أزواجهن على ما روى أن رجلا أسلم
وكانت تحته خمس نسوة فأسلمن معه وإذا كان كذلك فلا يقع شرع القتل في حقها وسيلة إلى الاسلام فلا يفيد
ولهذا لم تقتل الحربية بخلاف الرجل فان الرجل لا يتبع رأى غيره خصوصا في أمر الدين بل يتبع رأى نفسه فكان
رجاء الاسلام منه ثابتا فكل شرع القتل مفيدا فهو الفرق والحديث محمول على الذكور عملا بالدلائل صيانة لها عن
التناقض وكذلك الأمة إذا ارتدت لا تقتل عندنا وتجبر على الاسلام ولكن يجبرها مولاها ان احتاج إلى خدمتها
ويحبسها في بيته لان ملك المولى فيها بعد الردة قائم وهي مجبورة على الاسلام شرعا فكان الرفع إلى المولى رعاية للحقين
ولا يطؤها لان المرتدة لا تحل لاحد وكذلك الصبي العاقل لا يقتل وان صحت ردته عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما
لان قتل البالغ بعد الاستتابة والدعوة إلى الاسلام باللسان واظهار حججه وايضاح دلائله لظهور العناد ووقوع
اليأس عن فلاحه وهذا لا يتحقق من الصبي فكان الاسلام منه مرجوا والرجوع إلى الدين الحق منه مأمولا فلا
يقتل ولكن يجبر على الاسلام بالحبس لان الحبس يكفيه وسيلة إلى الاسلام وعلى هذا صبي أبواه مسلمان حتى
حكم باسلامه تبعا لأبويه فبلغ كافرا ولم يسمع منه اقرار باللسان بعد البلوغ لا يقتل لانعدام الردة منه إذ هي اسم
للتكذيب بعد سابقة التصديق ولم يوجد منه التصديق بعد البلوغ أصلا لانعدام دليله وهو الاقرار حتى لو أقر
بالاسلام ثم ارتد يقتل لوجود الردة منه بوجود دليلها وهو الاقرار فلم يكن الموجود منه رده حقيقة فلا يقتل ولكنه
يحبس لأنه كان له حكم الاسلام قبل البلوغ ألا ترى انه حكم باسلامه بطريق التبعية والحكم في اكسابه كالحكم في
اكساب المرتد لأنه مرتد حكما وسنذكر الكلام في اكساب المرتد في موضعه إن شاء الله تعالى ومنها حرمة الاسترقاق
135

فان المرتد لا يسترق وان لحق بدار الحرب لأنه لم يشرع فيه الا الاسلام أو السيف لقوله سبحانه وتعالى تقاتلونهم
أو يسلمون وكذا الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا عليه في زمن سيدنا أبى بكر رضي الله عنه ولان استرقاق الكافر
للتوسل إلى الاسلام واسترقاقه لا يقع وسيلة إلى الاسلام على ما مر من قبل ولهذا لم يجز ابقاؤه على الحرية بخلاف
المرتدة إذا لحقت بدار الحرب انها تسترق لأنه لم يشرع قتلها ولا يجوز ابقاء الكافر على الكفر الا مع الجزية أو مع
الرق ولا جزية النسوان فكان ابقاؤها على الكفر مع الرق أنفع للمسلمين من ابقائها من غير شئ وكذا الصحابة
رضي الله عنهم استرقوا نساء من ارتد العرب وصبيانهم حتى قيل إن أم محمد ابن الحنفية وهي خولة بنت اياس كانت
من سبى بنى حنيفة ومنها حرمة أخذ الجزية فلا تؤخذ الجزية من المرتد لما ذكرنا ومنها ان العاقلة لا تعقل جنايته لما
ذكرنا من قبل ان موجب الجناية على الجاني وإنما العاقلة تتحمل عنه بطريق التعاون والمرتد لا يعاون ومنها الفرقة
إذا ارتد أحد الزوجين ثم إن كانت الردة من المرأة كانت فرقة بغير طلاق بالاتفاق وإن كانت من الرجل ففيه خلاف
مذكور في كتاب النكاح ولا ترتفع هذه الفرقة بالاسلام ولو ارتد الزوجان معا أو أسلما معا فهما على نكاحهما عندنا
وعند زفر رحمه الله فسد النكاح ولو أسلم أحدهما قبل الاخر فسد النكاح بالاجماع وهي من مسائل كتاب النكاح
ومنها انه لا يجوز انكاحه لأنه لا ولاية له ومنها حرمة ذبيحته لأنه لا ملة له لما ذكرنا ومنها انه لا يرث من أحد لانعدام
الملة والولاية ومنها انه تحبط أعماله لكن بنفس الردة عندنا وعند الشافعي رحمه الله بشريطة الموت عليها وهي مسألة
كتاب الصلاة ومنها انه لا يجب عليه شئ من العبادات عندنا لان الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا
وعند الشافعي رحمه الله يجب عليه وهي من مسائل أصول الفقه وأما الذي يرجع إلى ماله فثلاثة أنواع حكم الملك وحكم
الميراث وحكم الدين أما الأول فنقول لا خلاف في أنه إذا أسلم تكون أمواله على حكم ملكه ولا خلاف أيضا في
أنه إذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب تزول أمواله عن ملكه واختلف في أنه تزول بهذه الأسباب مقصورا على
الحال أم بالردة من حين ووجودها على التوقف فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ملك المرتد لا يزول عن ماله بالردة وإنما
يزول بالموت أو القتل أو باللحاق بدار الحرب وعند أبي حنيفة رضي الله عنه الملك في أمواله موقوف على ما يظهر من
حاله وعلى هذا الأصل بنى حكم تصرفات المرتد انها جائزة عندهما كما تجوز من المسلم حتى لو أعتق أو دبر أو كاتب
أو باع أو اشترى أو وهب نفذ ذلك كله وعقدة تصرفاته موقوفة لوقوف أملاكه فان أسلم جاز كله وان مات أو قتل
أو لحق بدار الحرب بطل كله (وجه) قولهما ان الملك كان ثابتا حالة الاسلام لوجود سبب الملك وأهليته وهي
الحرية والردة لا تؤثر في شئ من ذلك ثم اختلفا فيما بينهما في كيفية الجواز فقال أبو يوسف رحمه الله جوازها جواز
تصرف الصحيح وقال محمد رحمه الله جواز تصرفات المريض مرض الموت (وجه) قول محمد رحمه الله ان
المرتد على شرف التلف لأنه يقتل فأشبه المريض مرض الموت وجه قول أبى يوسف ان اختيار الاسلام بيده
فيمكنه الرجوع إلى الاسلام فيخلص عن القتل والمريض لا يمكنه دفع المرض عن نفسه فانى يتشابهان (وجه)
قول أبي حنيفة رحمه الله انه وجد سبب زوال الملك وهو الردة لأنها سبب لوجوب القتل والقتل سبب لحصول الموت
فكان زوال الملك عند الموت مضافا إلى السبب السابق وهو الردة لا يمكنه اللحاق بدار الحرب بأمواله لأنه لا يمكن من
ذلك بل يقتل فيبقى ماله فاضلا عن حاجته فكان ينبغي ان يحكم بزوال ملكه للحال الا انا توقفنا فيه لاحتمال العود إلى
الاسلام لأنه إذا عاد ترتفع الردة من الأصل ويجعل كان لم يكن فكان التوقف في الزوال للحال لاشتباه العاقبة فان
أسلم تبين ان الردة لم تكن سببا لزوال الملك لارتفاعها من الأصل فتبين ان تصرفه صادف محله فيصح وان قتل أو مات
أو لحق بدار الحرب تبين انها وقعت سببا للزوال من حين وجودها فتبين ان الملك كان زائلا من حين وجود الردة لان
الحكم لا يتخلف عن سببه فلم يصادف التصرف محله فبطل فاما قبل ذلك كان ملكه موقوفا فكانت تصرفاته
المبنية عليه موقوفة ضرورة وأجمعوا على أنه يصح استيلاده حتى أنه لو استولد أمته فادعى ولدها انه يثبت
136

النسب وتصير الجارية أم ولد له أما عندهما فلان المحل مملوك له ملكا تاما (وأما) عند أبي حنيفة رحمه الله فلان الملك
الموقوف لا يكون أدنى حالا من حق الملك ثم حق الملك يكفي لصحة الاستيلاد فهذا أولى وأجمعوا على أنه يصح طلاقة
وتسليمه الشفعة لان الردة لا تؤثر في ملك النكاح والثابت للشفيع حق لا يحتمل الإرث ومعاوضته موقوفة بالاجماع
لأنها مبنية على المساواة (وأما) المرتدة فلا يزول ملكها عن أموالها بلا خلاف فتجوز تصرفاتها في مالها بالاجماع لأنها
لا تقتل فلم تكن ردتها سببا لزوال ملكها عن أموالها بلا خلاف فتجوز تصرفاتها وإذا عرف حكم ملك المرتد وحال
تصرفاته المبنية عليه فحال المرتد لا يخلو من أن يسلم أو يموت أو يقتل أو يلحق بدار الحرب فان أسلم فقد عاد على حكم
ملكه القديم لان الردة ارتفعت من الأصل حكما وجعلت كأن لم تكن أصلا وان مات أو قتل صار ماله لورثته وعتق
أمهات أولاده ومدبروه ومكاتبوه إذا أدى إلى ورثته وتحل الديون التي عليه وتقضى عنه لأن هذه أحكام الموت
وكذلك إذا لحق بدار الحرب مرتدا وقضى القاضي بلحاقه لان اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت في حق زوال ملكه
عن أمواله المتروكة في دار الاسلام لان زوال الملك عن المال بالموت حقيقة لكونه مالا فاضلا عن حاجته لانتهاء حاجته
بالموت وعجزه عن الانتفاع به وقد وجد هذا المعنى في اللحاق لان المال الذي في دار الاسلام خرج من أن يكون
منتفعا به في حقه لعجزه عن الانتفاع به فكان في حكم المال الفاضل عن حاجته لعجزه عن قضاء حاجته به فكان
اللحاق بمنزلة الموت في كونه مزيلا للملك فإذا قضى القاضي باللحاق يحكم بعتق أمهات أولاده ومدبريه ويقسم ماله
بين ورثته وتحل ديونه المؤجلة لأن هذه أحكام متعلقة بالموت وقد وجد معنى وأما المكاتب فيؤدى إلى ورثته فيعتق
وإذا عتق فولاؤه للمرتد لأنه المعتق ولو لحق بدار الحرب ثم عاد إلى دار الاسلام مسلما فهذا لا يخلوا من أحد وجهين
أحدهما ان يعود قبل قضاء القاضي بلحاقه بدار الحرب والثاني ان يعود بعد ذلك فان عاد قبل ان يقضى القاضي
بلحاقه عاد على حكم أملاكه في المدبرين وأمهات الأولاد وغير ذلك لما ذكرنا ان هذه الأحكام متعلقة بالموت واللحوق
بدار الحرب ليس بموت حقيقة لكنه يلحق بالموت إذا اتصل به قضاء القاضي باللحاق فإذا لم يتصل به لم يلحق فإذا
عاد يعود على حكم ملكه وان عاد بعدما قضى القاضي باللحاق فما وجد من ماله في يد ورثته بحاله فهو أحق به لان ولده
جعل خلفا له في ماله فكان تصرفه في ماله بطريق الخلافة له كأنه وكيله فله ان يأخذ ما وجده قائما على حاله وما زال ملك
الوارث عنه بالبيع أو بالعتق فلا رجوع فيه لان تصرف الخلف كتصرف الأصل بمنزلة تصرف الوكيل وأما ما أعتق
الحاكم من أمهات أولاده ومدبريه فلا سبيل عليهم لان الاعتاق مما لا يحتمل الفسخ وكذا المكاتب إذا كان أدى
المال إلى الورثة لا سبيل عليه أيضا لان المكاتب عتق بأداء المال والعتق لا يحتمل الفسخ وما أدى إلى الورثة
إن كان قائما أخذه وان زال ملكهم عنه لا يجب عليهم ضمانه كسائر أمواله لما بينا وإن كان لم يؤد بدل الكتابة بعد يؤخذ
بدل الكتابة وان عجز عاد رقيقا له ولو رجع كافرا إلى دار الاسلام وأخذ طائفة من ماله وأدخلها إلى دار الحرب ثم
ظهر المسلمون عليه فان رجع بعدما قضى بلحاقه فالورثة أحق به وان وجدته قبل القسمة أخذته مجانا بلا عوض
وان وجدته بعد القسمة أخذته بالقيمة في ذوات القيم لأنه إذا لحق وقضى بلحاقه فقد زال ملكه إلى الورثة فهذا
مال مسلم استولى عليه الكافر وأحرزه بدار الحرب ثم ظهر المسلمون على الدار فوجده المالك القديم فالحكم
فيه ما ذكرنا وان رجع قبل الحكم باللحاق ففيه روايتان في رواية هذا ورجوعه بعد الحكم باللحاق سواء وفى
رواية أنه يكون فيألا حق للورثة فيه أصلا والله سبحانه وتعالى أعلم ولو جنى المرتد جناية ثم لحق بدر الحرب ثم
عاد الينا ثانيا فما كان من حقوق العباد كالقتل والغصب والقذف يؤخذ به وما كان من حقوق الله تبارك
وتعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر يسقط عنه لان اللحاق يلتحق بالموت فيورث شبهة في سقوط ما يسقط
بالشبهات ولو فعل شيئا من ذلك بعد اللحاق بدار الحرب ثم مات لم يؤخذ بشئ منه لان فعله لم ينعقد موجبا
لصيرورته في حكم أهل الحرب هذا الذي ذكرنا حكم ماله الذي خلفه في دار الاسلام وأما الذي لحق به في دار
137

الحرب فهو ملكه حتى لو ظهر المسلمون عليه يكون فيأ لان ملك الورثة لم يثبت في المال المحمول إلى دار الحرب
فبقي على ملك المرتد وهو غير معصوم فكان محل التملك بالاستيلاء لسائر أموال أهل الحرب وأما حكم الميراث
فقول لا خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم في أن المال الذي اكتسبه في حالة الاسلام يكون ميراثا لورثته المسلمين
إذا مات أو قتل أو لحق وقضى باللحاق وقال الشافعي رحمه الله هو فئ احتج بما روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال لا يرث الكافر ولا المسلم الكافر نفى ان يرث المسلم الكافر ووارثة مسلم فيجب ان لا يرثه
(ولنا) ما روى أن سيدنا عليا رضي الله عنه قتل المستورد العجلي بالردة وقسم ماله بين ورثته المسلمين وكان ذلك بمحضر
من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل انه أنكر منكر عليه فيكون اجماعا من الصحابة رضى الله تعالى عنهم ولان الردة
في كونها سببا لزوال الملك كالموت على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه على ما قررناه فإذا ارتد فهذا مسلم مات فيرثه
المسلم فكان هذا ارث المسلم من المسلم لا من الكافر فقد قلنا بموجب الحديث بحمد الله تعالى وأما على أصلهما فالردة
إن كانت لا توجب زوال الملك يمكن احتمال العود إلى الاسلام ألا ترى انه يجبر على الاسلام فيبقى على حكم الاسلام
في حق حكم الإرث وذلك جائز ألا ترى انه بقي على حكم الاسلام في حق المنع من التصرف في الخمر والخنزير فجاز ان
يبقى عليه في حق حكم الإرث أيضا فلا يكون ارث المسلم من الكافر فيكون عملا بالحديث أيضا والله سبحانه وتعالى
أعلم واختلفوا في المال الذي اكتسبه في حال الردة قال أبو حنيفة رضي الله عنه هو فئ وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله هو ميراث (وجه) قولهما ان كسب الردة ملكه لوجود سبب الملك من أهل الملك في محل قابل ولا
شك ان المرتد أهل الملك لان أهلية الملك بالحرية والردة لا تنافيها بل تنافى ما ينافيها وهو الرق إذ المرتد لا يحتمل
الاسترقاق وإذا ثبت ملكه فيه احتمل الانتقال إلى ورثته بالموت أو ما هو في معنى الموت على ما بينا (وجه) قول
أبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا ان الردة سبب لزوال الملك من حين وجودها بطريق الظهور على ما بنيا ولا وجود للشئ
مع وجوب سبب زواله فكان الكسب في الردة مالا لا ملك له فلا يحتمل الإرث فيوضع في بيت مال المسلمين كاللقطة
ثم اختلفوا فيما يورث من مال المرتد انه يعتبر حال الوارث وهي أهلية الوراثة وقت الردة أم وقت الموت أم من وقت
الردة إلى وقت الموت فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعتبر أهلية الوراثة وقت الموت لان ملك المرتد إنما يزول
عندهما بالموت فتعتبر الأهلية في ذلك الوقت لا غير وعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان في رواية يعتبر وقت الردة
لا غير حتى لو كان أهلا وقت الردة ورث وان زالت أهليته بعد ذلك وفى رواية يعتبر دوام الأهلية من وقت الردة إلى
وقت الموت (وجه) هذه الرواية ان الإرث يثبت بطريق الاستناد لا بطريق الظهور لان الموت أمر لابد منه
للإرث والقول بالإرث بطريق الظهور ايجاب الإرث قبل الموت ولا سبيل إليه فإذا وجد الموت يثبت الإرث
ثم يستند إلى وقت وجود الردة وزوال الأهلية فيما بين الوقتين يمنع من الاستناد فيشترط دوام الأهلية من وقت
الردة إلى وقت الموت حتى لو كان بعض الورثة مسلما وقت الردة ثم ارتد عن الاسلام قبل موت المرتد لا يورث وكذا
إذا مات قبل موته أو المرأة انقضت عدتها قبل موته (وجه) الرواية الأولى ان الإرث يتبع زوال الملك والملك
زال بالردة من وقت وجودها فيثبت الإرث في ذلك الوقت بطريق الظهور قوله هذا ايجاب الإرث قبل الموت قلنا
هذا ممنوع بل هذا ايجاب الإرث بعد الموت لان الردة في معنى الموت لأنها تعمل عمل الموت في زوال الملك على
ما بينا فكانت الردة موتا معنى وكذا اختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله فيما إذا لحق بدار الحرب وقضى القاضي
باللحاق انه تعتبر أهلية الوراثة وقت القضاء باللحاق أم وقت اللحاق فعند أبي يوسف رحمه الله وقت القضاء وعند
محمد رحمه الله تعتبر وقت اللحاق (وجه) قول محمد ان وقت الإرث وقت زوال الملك وملك المرتد إنما يزول باللحاق
لان به يعجز عن الانتفاع بماله المتروك في دار الاسلام الا ان العجز قبل القضاء غير متقرر لاحتمال العود فإذا قضى
تقرر العجز وصار العود بعده كالممتنع عادة فكان العامل في زوال الملك هو اللحاق فتعتبر الأهلية وقتئذ (وجه) قول
138

أبى يوسف ان الملك لا يزول الا بالقضاء فكان المؤثر في الزوال هو القضاء وعلى هذا الاختلاف المرتدة إذ لحقت
بدار الحرب لان المعنى لا يوجب الفصل ولو ارتد الزوجان معا ثم جاءت بولد ثم قتل الأب على ردته فان جاءت به
لأقل من ستة أشهر من حين الردة يرثه لأنه علم أن العلوق حصل في حالة الاسلام قطعا وان جاءت به لستة أشهر
فصاعدا من حين الردة لم يرثه لأنه يحتمل انه علق في حالة الردة فلا يرث مع الشك ولو ارتد الزوج دون المرأة أو كانت له
أم ولد مسلمة ورثه مع ورثته المسلمين وان جاءت به لأكثر من ستة أشهر لان الام مسلمة فكان الولد على حكم
الاسلام تبعا لامه فيرث أباه ولو مات مسلم عن امرأته وهي حامل فارتدت ولحقت بدار الحرب فولدت هناك ثم
ظهرنا على الدار فإنه لا يسترق ويرث أباه لأنه مسلم تبعا لأبيه ولو لم تكن ولدته حتى سبيت ثم ولدته في دار الاسلام فهو
مسلم مرقوق مسلم تبعا لأبيه مرقوق تبعا لامه ولا يرث أباه لان الرق من أسباب الحرمان ولو تزوج المرتد مسلمة
فولدت له غلاما أو وطئ أمة مسلمة فولدت له فهو مسلم تبعا للام ويرث أباه لثبوت النسب وإن كانت الام كافرة
لا يحكم باسلامه لأنه لم يوجد اسلام أحد الأبوين والله سبحانه وتعالى أعلم وأما حكم الدين فعند أبي يوسف ومحمد
ديون المرتد في كسب الاسلام والردة جميعا لان كل ذلك عندهما ميراث وأما عند أبي حنيفة عليه الرحمة فقد ذكر
أبو يوسف عنه انه في كسب الردة الا ان لا يفي به فيقضى الباقي من كسب الاسلام وروى الحسن رحمه الله عنه انه
في كسب الاسلام الا ان لا يفي به فيقضى الباقي من كسب الردة وقال الحسن رحمه الله دين الاسلام في كسب
الاسلام ودين الردة في كسب الردة وهو قول زفر رحمه الله والصحيح رواية الحسن لان دين الانسان يقضى من
ماله لا من مال غيره وكذا دين الميت يقضى من ماله لا من مال وارثه لان قيام الدين يمنع زوال ملكه إلى وارثه بقدر
الدين لكون الدين مقدما على الإرث فكان قضاء دين كل ميت من ماله لا من مال وارثه وماله كسب الاسلام فاما
كسب الردة فمال جماعة المسلمين فلا يقضى منه الدين الا لضرورة فإذا لم يف به كسب الاسلام مست الضرورة
فيقضى الباقي منه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم ولد المرتد فولد المرتد لا يخلو من أن يكون مولودا في الاسلام أو في الردة فإن كان مولودا في
الاسلام بان ولد للزوجين ولد وهما مسلمان ثم ارتدا لا يحكم بردته ما دام في دار الاسلام لأنه لما ولد وأبواه مسلمان
فقد حكم باسلامه تبعا لأبويه فلا يزول بردتهما لتحول التبعية إلى الدار إذ الدار وإن كانت لا تصلح لاثبات التبعية ابتداء
عند استتباع الأبوين تصلح للابقاء لأنه أسهل من الابتداء فما دام في دار الاسلام يبقى على حكم الاسلام تبعا للدار
ولو لحق المرتدان بهذا الولد بدار الحرب فكبر الولد وولد له ولد وكبر ثم ظهر عليهم أما حكم المرتد والمرتدة فمعلوم وقد
ذكرنا ان المرتد لا يسترق ويقتل والمرتدة تسترق ولا تقتل وتجبر على اسلام بالحبس وأما حكم الأولاد فولد
الأب يجبر على الاسلام ولا يقتل لأنه كان مسلما باسلام أبويه تبعا لهما فلما بلغ كافرا فقد ارتد عنه والمرتد يجبر على
الاسلام الا انه لا يقتل لأن هذه ردة حكيمة لا حقيقية لوجود الايمان حكما بطريق التبعية لا حقيقة فيجبر على الاسلام
لكن بالحبس لا بالسيف اثباتا للحكم على قدر العلة ولا يجبر ولد ولده على الاسلام لان ولد الولد لا يتبع الجد في الاسلام
إذ لو كان لذلك لكان الكفار كلهم مرتدين لكونهم من أولاد آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام فينبغي ان تجرى
عليهم أحكام أهل الردة وليس كذلك بالاجماع وإن كان مولودا في الردة بان ارتد الزوجان ولا ولد لهما ثم حملت
المرأة من زوجها بعد ردتها وهما مرتدان على حالهما فهذا الولد بمنزلة أبويه له حكم الردة حتى لو مات لا يصلى عليه
لان المرتد لا يرث أحدا ولو لحقا بهذا الولد بدار الحرب فبلغ وولد له أولاد فبلغوا ثم ظهر على الدار وسبوا جميعا
يجبر ولد الأب وولد ولده على الاسلام ولا يقتلون كذا ذكر محمد في كتاب السير وذكر في الجامع الصغير أنه لا يجبر ولد
ولده على الاسلام (وجه) ما ذكر في السير ان ولد الأب تبع لأبويه فكان محكوما بردته تبعا لأبويه وولد الولد تبع له فكان
محكوما بردته تبعا له والمرتد يجبر على الاسلام الا انه لا يقتل لأن هذه ردة حكمية فيجبر على الاسلام بالحبس لا بالقتل
139

(وجه) المذكور في الجامع أن هذا الولد إنما صار محكوما بردته تبعا لأبيه والتبع لا يستتبع غيره وأما حكم الاسترقاق
فذكر في السير انه يسترق الإناث والذكور الصغار من أولاده لان أمهم مرتدة وهي تحتمل الاسترقاق والولد كما تبع
الام في الرق يتبعها في احتمال الاسترقاق وأما الكبار فلا يسترقون لانقطاع التبعية بالبلوغ ويجبرون على الاسلام
وذكر في الجامع الصغير الولدان فئ أما الأول فلان أمة مرتدة وأما الآخر فلانه كافر أصلى لان تبعية الأبوين
في الردة قد انقطعت بالبلوغ وهو كافر فكان كافرا أصليا فاحتمل الاسترقاق ولو ارتدت امرأة وهي حامل ولحقت
بدار الحرب ثم سبيت وهي حامل كان ولدها فيئا لان السبي لحقه وهو في حكم جزء الام فلا يبطل بالانفصال من الام
والذمي الذي نقض العهد ولحق بدار الحرب بمنزلة المرتد في سائر الأحكام من الإرث والحكم بعتق أمهات
الأولاد والمدبرين ونحو ذلك لان المعنى الذي يوجب لحاقه اللحاق بالموت في الأحكام التي ذكرنا لا يفصل الا انهما
يفترقان من وجه وهو ان الذمي يسترق والمرتد لا يسترق وجه الفرق ان شرع الاسترقاق للتوسل إلى الاسلام
واسترقاق المرتد لا يقع وسيلة إلى الاسلام لما ذكرنا انه رجع بعدما ذاق طعم الاسلام وعرف محاسنه فلا يرجى
فلاحه بخلاف الذمي والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان أحكام البغاة فالكلام فيه في مواضع في تفسير البغاة وفي بيان ما يلزم امام أهل العدل عند
خروجهم عليه وفي بيان ما يصنع بهم وبأموالهم عند الظفر بهم والاستيلاء على أموالهم وفي بيان من يجوز قتله منهم
ومن لا يجوز وفي بيان حكم إصابة الدماء والأموال من الطائفتين وفي بيان ما يصنع بقتلى الطائفتين وفي بيان حكم
قضاياهم أما تفسير البغاة فالبغاة هم الخوارج وهم قوم من رأيهم ان كل ذنب كفر كبيرة كانت أو صغيرة يخرجون على امام
أهل العدل ويستحلون القتال والدماء والأموال بهذا التأويل ولهم منعة وقوة وأما بيان ما يلزم امام العدل عند
خروجهم فنقول وبالله التوفيق ان علم الإمام ان الخوارج يشهرون السلاح ويتأهبون للقتال فينبغي له ان يأخذهم
ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة لأنه لو تركهم لسعوا في الأرض بالفساد فيأخذهم على أيديهم ولا يبدؤهم
الامام بالقتال حتى يبدؤه لان قتالهم لدفع شرهم لا لشر شركهم لأنهم مسلمون فما لم يتوجه الشر منهم لا يقاتلهم وان لم يعلم
الامام بذلك حتى تعسكروا وتأهبوا للقتال فينبغي له ان يدعوهم إلى العدل والرجوع إلى رأى الجماعة أولا لرجاء
الإجابة وقبول الدعوة كما في حق أهل الحرب وكذا روى أن سيدنا عليا رضي الله عنه لما خرج عليه أهل حروراء
ندب إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ليدعوهم إلى العدل فدعاهم وناظرهم فان أجابوا كف عنهم وان أبوا قاتلهم
لقوله تعالى فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله وكذا قاتل سيدنا علي رضي الله عنه
أهل حروراء بالنهروان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام لسيدنا على أنك تقاتل على
التأويل كما تقاتل على التنزيل والقتال على التأويل هو القتال مع الخوارج ودل الحديث على امامة سيدنا علي رضي الله عنه
لان النبي عليه الصلاة والسلام شبه قتال سيدنا علي رضي الله عنه على التأويل بقتاله على التنزيل وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قتاله بالتنزيل فلزم أن يكون سيدنا على محقا في قتاله بالتأويل فلو لم يكن امام حق لما كان محقا
في قتاله إياهم ولأنهم ساعون في الأرض بالفساد فيقتلون دفعا للفساد على وجه الأرض وان قاتلهم قبل الدعوة لا بأس
بذلك لان الدعوة قد بلغتهم لكونهم في دار الاسلام ومن المسلمين أيضا ويجب على كل من دعاه الامام إلى قتالهم ان
يجيبه إلى ذلك ولا يسعه التخلف إذا كان عنده غنا وقدرة لان طاعة الامام فيما ليس بمعصية فرض فكيف فيما هو
طاعة والله سبحانه وتعالى الموفق وما روى عن أبي حنيفة رضي الله عنه انه إذا وقعت الفتنة بين المسلمين فينبغي للرجل
ان يعتزل الفتنة ويلزم بيته محمول على وقت خاص وهو ان لا يكون امام يدعوه إلى القتال وأما إذا كان فدعاه يفترض
عليه الإجابة لما ذكرنا وأما بيان ما يصنع بهم وبأموالهم عند الظفر بهم والاستيلاء على أموالهم فنقول الامام إذا قاتل
أهل البغي فهزمهم ولوا مدبرين فإن كانت لهم فئة ينحازون إليها فينبغي لأهل العدل ان يقتلوا مدبرهم يجهزوا على
140

جريحهم لئلا يتحيزوا إلى الفئة فيمتنعوا بها فيكروا على أهل العدل وأما أسيرهم فان شاء الامام قتله استئصالا
لشأفتهم وان شاء حبسه لاندفاع شره بالأسر والحبس وان لم يكن لهم فئة يتحيزون إليها لم يتبع مدبرهم ولم يجهز على
جريحهم ولم يقتل أسيرهم لوقوع الامن عن شرهم عند انعدام الفئة (وأما) أموالهم التي ظهر أهل العدل عليها فلا بأس بان
يستعينوا بكراعهم وسلاحهم على قتالهم كسرا لشوكتهم فإذا استغنوا عنها أمسكها الامام لهم لان أموالهم لا تحتمل
التملك بالاستيلاء لكونهم مسلمين ولكن يحبسها عنهم إلى أن يزول بغيهم فإذا زال ردها عليهم وكذا ما سوى
الكراع والسلاح من الأمتعة لا ينتفع به ولكن يمسك ويحبس عنهم إلى أن يزول بغيهم فيدفع إليهم لما قلنا ويقاتل
هل البغي بالمنجنيق والحرق والغرق وغير ذلك مما يقاتل به أهل الحرب لان قتالهم لدفع شرهم وكسر شوكتهم
فيقاتلون بكل ما يحصل به ذلك وللامام ان يوادعهم لينظروا في أمورهم ولكن لا يجوز ان يأخذوا على ذلك
مالا لما ذكرنا من قبل (وأما) بيان من يجوز قتله منهم ومن لا يجوز فكل من لا يجوز قتله من أهل الحرب من الصبيان
والنسوان والأشياخ والعميان لا يجوز قتله من أهل البغي لان قتلهم لدفع شر قتالهم فيختص باهل القتال وهؤلاء
ليسوا من أهل القتال فلا يقتلون الا إذا قاتلوا فيباح قتلهم في حال القتال وبعد الفراغ من القتال الا الصبيان
والمجانين على ما ذكرنا في حكم أهل الحرب والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) العبد المأسور من أهل البغي
فإن كان قاتل مع مولاه يجوز قتله وإن كان يخدم مولاه لا يجوز قتله ولكن يحبس حتى يزول بغيهم فيرد
عليهم (وأما) الكراع فلا يمسك ولكنه يباع ويحبس ثمنه لمالكه لان ذلك أنفع له ولا يجوز للعادل أن يبتدئ
بقتل ذي رحم محرم منه من أهل البغي مباشرة وإذا أراد هو قتله له أن يدفعه وإن كان لا يندفع الا بالقتل فيجوز له أن
يتسبب ليقتله غيره بأن يعقر دابته ليترجل فيقتله غيره بخلاف أهل الحرب فإنه يجوز قتل سائر ذوي الرحم المحرم منه
مباشرة وتسببا ابتداء الا الوالدين (ووجه) الفرق ان الشرك في الأصل مبيح لعموم قوله تبارك وتعالى اقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم الا أنه خص منه الأبوان بنص خاص حيث قال الله تبارك وتعالى وصاحبهما في الدنيا
معروفا فبقي غيرهما على عموم النص بخلاف أهل البغي لان الاسلام في الأصل عاصم لقوله عليه الصلاة والسلام
فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم والباغي مسلم الا أنه أبيح قتل غير ذي الرحم المحرم من أهل البغي دفعا لشرهم
لا لشوكتهم ودفع الشر يحصل بالدفع والتسبيب ليقتله غيره فبقيت العصمة عما وراء ذلك بالدليل العاصم (وأما) بيان
حكم إصابة الدماء والأموال من الطائفتين فنقول لا خلاف في أن العادل إذا أصاب من أهل البغي من دم أو جراحة
أو مال استهلكه انه لا ضمان عليه (وأما) الباغي إذا أصاب شيئا من ذلك من أهل العدل فقد اختلفوا فيه قال أصحابنا
ان ذلك موضوع وقال الشافعي رحمه الله انه مضمون (وجه) قوله إن الباغي جان فيستوى في حقه وجود المنعة
وعدمها لان الجاني يستحق التغليظ دون التخفيف (ولنا) ما روى عن الزهري أنه قال وقعت الفتنة وأصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فاتفقوا ان كل دم استحل بتأويل القرآن فهو موضوع وكل مال استحل
بتأويل القرآن فهو موضوع وكل فرج استحل بتأويل القرآن فهو موضوع ومثله لا يكذب فانعقد الاجماع من
الصحابة رضي الله عنهم على ما قلنا وانه حجة قاطعة والمعنى في المسألة ما نبه عليه الصحابة رضي الله عنهم وهو ان لهم في
الاستحلال تأويلا في الجملة وإن كان فاسدا لكن لهم منعة والتأويل الفاسد عند قيام المنعة يكفي لرفع الضمان
كتأويل أهل الحرب ولان الولاية من الجانبين منقطعة لوجود المنعة فلم يكن الوجوب مفيدا لتعذر الاستيفاء فلم
يجب ولو فعلوا شيئا من ذلك قبل الخروج وظهور المنعة أو بعد الانهزام وتفرق الجمع يؤخذون به لان المنعة إذا
انعدمت الولاية وبقى مجرد تأويل فاسد فلا يعتبر في دفع الضمان ولو قتل تاجر من أهل العدل تاجرا آخر من أهل
العدل في عسكر أهل البغي أو قتل الأسير من أهل العدل أسيرا آخر أو قطع ثم ظهر عليه فلا قصاص عليه لان الفعل
لم يقع موجبا لتعذر الاستيفاء وانعدام الولاية كما لو قطع في دار الحرب لان عسكر أهل البغي في حق انقطاع الولاية
141

ودار الحرب سواء والله عز وجل أعلم ثم لا خلاف في أن العادل إذا قتل باغيا لا يحرم الميراث لأنه لم يوجد قتل نفس
بغير حق لسقوط عصمة نفسه وأما الباغي إذا قتل العادل يحرم الميراث عند أبي يوسف وعند أبي حنيفة ومحمد ان قال
قتلته وكنت على حق وأنا الآن على حق لا يحرم الميراث وان قال قتلته وأنا أعلم أنى على باطل يحرم (وجه) قول أبى
يوسف ان تأويله فاسد الا أنه ألحق بالصحيح عند وجود المنعة في حق الدفع لا في حق الاستحقاق فلا يعتبر في حق
استحقاق الميراث (وجه) قولهما انا نعتبر تأويله في حق الدفع والاستحقاق لان سبب استحقاق الميراث هو
القرابة وانها موجودة الا أن قتل نفس بغير حق سبب الحرمان فإذا قتله على تأويل الاستحلال والمنعة موجودة
اعتبرناه في حق الدفع وهو دفع الحرمان فأشبه الضمان الا أنه إذا قال قتلته وأنا أعلم أنى على باطل يحرم الميراث لان
التأويل الفاسد إنما يلحق بالصحيح إذا كان مصرا عليه فإذا لم يصر فلا تأويل له فلا يندفع عنه الضمان والله سبحانه
وتعالى أعلم (وأما) بيان ما يصنع بقتلى الطائفتين فنقول وبالله تعالى التوفيق (أما) قتلى أهل العدل فيصنع بهم ما يصنع
بسائر الشهداء لا يغسلون ويدفنون في ثيابهم ولا ينزع عنهم الا مالا يصلح كفنا ويصلى عليهم لأنهم شهداء
لكونهم مقتولين ظلما وقد روى أن زيد بن صرحان اليمنى كان يوم الجمل تحت راية سيدنا علي رضي الله عنهما فأوصى
في رمقه لا تنزعوا عنى ثوبا ولا تغسلوا عنى دما وارمسوني في التراب رمسا فانى رجل محاج أحاج يوم القيامة (وأما) قتلى
أهل البغي فلا يصلى عليهم لأنه روى أن سيدنا عليا رضي الله عنه ما صلى على أهل حروراء ولكنهم يغسلون ويكفنون
ويدفنون لان ذلك من سنة موتى بنى سيدنا آدم على الصلاة والسلام ويكره أن تؤخذ رؤسهم وتبعث إلى الآفاق
وكذلك رؤس أهل الحرب لان ذلك من باب المثلة وانه منهى لقوله عليه الصلاة والسلام لا تمثلوا فيكره الا إذا كان في
ذلك وهن لهم فلا بأس به لما روى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جز رأس أبى جهل عليه اللعنة يوم بدر وجاء به
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أبا جهل كان فرعون هذه الأمة ولم ينكر عليه
ويكره بيع السلاح من أهل البغي وفى عساكرهم لأنه إعانة لهم على المعصية ولا يكره بيع ما يتخذ منه السلاح كالحديد
ونحوه لأنه لا يصير سلاحا الا بالعمل ونظيره انه يكره بيع المزامير ولا يكره بيع ما يتخذ منه المزمار وهو الخشب
والقصب وكذا بيع الخمر باطل ولا يبطل بيع ما يتخذ منه وهو العنب كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما)
بيان حكم قضاياهم فنقول الخوارج إذا ولوا قاضيا فالامر لا يخلو من أحد وجهين اما ان ولوا رجلا من أهل البغي واما
ان ولوا رجلا من أهل العدل فان فان ولوا رجلا من أهل البغي فقضى بقضايا ثم رفعت قضاياه إلى قاضى أهل العدل
لا ينفذها لأنه لا يعلم كونها حقا لأنهم يستحلون دماءنا وأموالنا فاحتمل انه قضى بما هو باطل على رأى الجماعة فلا
يجوز له تنفيذه مع الاحتمال ولو كتب قاضى أهل البغي إلى قاضى أهل العدل بكتاب فان علم أنه قضى بشهادة أهل
العدل أنفذه لأنه تنفيذ الحق ظاهرا وإن كان لا يعلم لا ينفذه لأنه لا يعلم كونه حقا فلا يجوز تنفيذه لقوله تبارك وتعالى
ولا تقف ما ليس لك به علم وان ولوا رجلا من أهل العدل فقضى فيما بينهم بقضايا ثم رفعت قضاياه إلى قاضى أهل
العدل نفذها لان التولية إياه قد صحت ولأنه يقدر على تنفيذ القضايا بمنعتهم وقوتهم فصحت التولية والظاهر أنه قضى
على رأى أهل العدل فلا يملك ابطاله كما إذا رفعت قضايا قاضى أهل العدل إلى بعض قضاة أهل العدل وما أخذوا من
البلاد التي ظهروا عليها من الخراج والزكاة التي ولاية أخذها للامام لا يأخذه الامام ثانيا لان حق للامام لمكان
حمايته ولم توجد الا أنهم يفتون بان يعيدوا الزكاة استحسانا لأن الظاهر أنهم لا يصرفونها إلى مصارفها فاما الخراج
فمصرفه المقاتلة وهم يقاتلون أهل الحرب والله تعالى أعلم
* (كتاب الغصب) *
جمع محمد رحمه الله في كتاب الغصب بين مسائل الغصب وبين مسائل الاتلاف وبدأ بمسائل الغصب فنبدأ بما بدأ به
142

فنقول وبالله التوفيق معرفة مسائل الغصب في الأصل مبنية على معرفة حد الغصب وعلى معرفة حكم اختلاف
الغاصب والمغصوب منه (أما) حد الغصب فقد اختلف العلماء فيه قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما
هو إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة بفعل في المال وقال محمد رحمه الله الفعل في المال ليس
بشرط لكونه غصبا وقال الشافعي رحمه الله هو اثبات اليد على مال الغير بغير اذنه والإزالة ليست بشرط (أما)
الكلام مع الشافعي رحمه الله فهو احتج لتمهيد أصله بقوله سبحانه وتعالى وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا
جعل الغصب مصدر الاخذ فدل ان الغصب والاخذ واحد والاخذ اثبات اليد الا أن الاثبات إذا كان بإذن المالك
يسمى ايداعا وإعارة وابضاعا في عرف الشرع وإذا كان بغير اذن المالك يسمى في متعارف الشرع غصبا ولأن الغصب
إنما جعل سببا لوجوب الضمان بوصف كونه تعديا فإذا وقع الاثبات بغير اذن المالك وقع تعديا فيكون سببا
لوجوب الضمان بوصف كونه تعديا والدليل عليه ان غاصب الغاصب ضامن وان لم يوجد منه إزالة يد المالك لزوالها
بغصب الغاصب الأول وإزالة الزائل محال والله سبحانه وتعالى أعلم (ولنا) الاستدلال بضمان الغصب من وجهين
أحدهما ان المالك استحق إزالة يد الغاصب عن الضمان فلابد وأن يكون الغصب منه إزالة يد المالك لان الله تبارك
وتعالى لم يشرع الاعتداء الا بالمثل بقوله سبحانه وتعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والثاني
ان ضمان الغصب لا يخلوا إما أن يكون ضمان زجر واما أن يكون ضمان جبر ولا سبيل إلى الأول لأنه يجب على من
ليس من أهل الزجر ولان الانزجار لا يحصل به فدل انه ضمان جبر والجبر يستدعى الفوات فدل انه لابد من التفويت
لتحقق الغصب ولا حجة له في الآية لان الله تعالى فسر أخذ الملك تلك السفينة بغصبه إياها كأنه قال سبحانه وتعالى
وكان وراؤهم ملك يغصب كل سفينة وهذا لا يدل على أن كل أخذ غصب بل هي حجة عليه لان غصب ذلك الملك كان
اثبات اليد على السفينة مع إزالة أيدي المساكين عنها فدل على أن الغصب اثبات على وجه يتضمن الإزالة (وأما) قوله
الغصب إنما أوجب الضمان لكونه تعديا فمسلم لكن التعدي في الإزالة لا في الاثبات لان وقوعه تعديا بوقوعه ضارا
بالمالك وذلك باخراجه من أن يكون منتفعا به في حق المالك واعجازه عن الانتفاع به وهو تفسير تفويت اليد وازالتها
(فاما) مجرد الاثبات فلا ضرر فيه فلم يكن الاثبات تعديا وعلى هذا الأصل يخرج زوائد الغصب انها ليس بمضمونة
سواء كانت منفصلة كالولد واللبن والثمرة أو متصلة كالسمن والجبل لأنها لم تكن في يد المالك وقت غصب الام فلم توجد
إزالة يده عنها فلم يوجد الغصب وعند محمد مضمونة لأن الغصب عنده اثبات اليد على مال الغير بغير اذن مالكه وقد
وجد الغصب وهل تصير مضمونة عندنا بالبيع والتسليم والمنع أو الاستهلاك أو الاستخدام جبرا (أما) المنفصلة فلا
خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم في أنها تصير مضمونة بها (وأما) المتصلة فذكر في الأصل انها تصير مضمونة بالبيع
والتسليم ولم يذكر الخلاف وصورة المسألة إذا غصب جارية قيمتها ألف درهم فازدادت في بدنها خيرا حتى صارت
قيمتها الفي درهم فباعها وسلمها إلى المشترى فهلكت في يده فالمالك بالخيار ان شاء ضمن المشترى قيمتها الفي درهم وان
شاء ضمن البائع فان اختار تضمين المشترى ضمنه قيمتها يوم القبض الفي درهم وان اختار تضمين البائع ضمنه بالبيع
والتسليم قيمتها الفي درهم أيضا كذا ذكر في الأصل ولم يذكر الخلاف وحى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله الخلاف
ان على قول أبي حنيفة رحمه الله ان شاء ضمن المشترى قيمتها يوم القبض الفي درهم وان شاء ضمن الغاصب قيمتها يوم
الغصب ألف درهم وليس له أن يضمنه زيادة البيع والتسليم وكذا ذكره الحاكم الشهيد في المنتقى وحكى الخلاف
وهكذا ذكر الطحاوي في مختصر الا أنه ذكر الاستهلاك مطلقا فقال الا أن يستهلكها وفسره الجصاص في شرحه
مختصر الطحاوي فقال الا أن يكون عبدا أو جارية فيقتل وهذا هو الصحيح ان المغصوب إذا كان عبدا أو جارية
فقتله الغاصب خطأ يكون المالك بالخيار ان شاء ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب وان شاء ضمن عاقلة القاتل قيمته
وقت القتل زائدة في ثلاث سنين (وجه) قولهما ان البيع والتسليم غصب لأنه تفويت امكان الاخذ لان المالك
143

كان متمكنا من أخذه منه قبل البيع والتسليم وبعد البيع والتسليم لم يبق متمكنا وتفويت امكان الاخذ تفويت
اليد معنى فكان غصبا موجبا للضمان وهذا لان تفويت يد المالك إنما كان غصبا موجبا للضمان لكونه اخراج المال
من أن يكون منتفعا به في حق المالك واعجازه عن الانتفاع بماله وهذا يحصل بتفويت امكان الاخذ فيوجب الضمان
ولهذا يجب الضمان على غاصب الغاصب ومودع الغاصب والمشترى من الغاصب كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه
ان الأصل مضمون بالغصب الأول فلا يقع البيع والتسليم غصبا له لان غصب المغصوب لا يتصور والزيادة
المتصلة لا يتصور افرادها بالغصب لتصير مغصوبة بالبيع والتسليم بخلاف الزيادة المنفصلة فان افرادها بالغصب
بدون الأصل متصور فلم تكن مغصوبة بالغصب الأول لانعدامها فجاز أن تصير مغصوبة بالبيع والتسليم فهذا الفرق
بين الزيادتين وبخلاف القتل لان قتل المغصوب متصور لان محل القتل غير محل الغصب فمحل القتل هو الحياة ومحل
الغصب هو مالية العين فتحقق الغصب لا يمنع تحقق القتل الا أن المضمون واحد والمستحق للضمان واحد
فيخير ولا الأصل مضمون بالغصب السابق لا شك فيه فيصير مملوكا للغاصب من ذلك الوقت بلا خلاف بين
أصحابنا رحمهما الله (وأما) الزيادة المتصلة فالزيادة حدثت على ملك الغاصب لأنها نماء ملكه فتكون ملكه فكان البيع
والتسليم والمنع والاستخدام والاستهلاك في غير بني آدم تصرفا في ملك نفسه فلا يكون مضمونا عليه كما لو تصرف
في سائر أملاكه بخلاف الزيادة المنفصلة لأنا أثبتنا الملك بطريق الاستناد فالمستند يظهر من وجه ويقتصر على
الحال من وجه فيعمل بشبهة الظهور في الزوائد المتصلة وبشبه الاقتصار في المنفصلة إذ لا يكون العمل به على العكس
ليكون عملا بالشبهين بقدر الامكان (واما) على طريق الظهور المحض فتخريجهما مشكل والله تعالى الموفق بخلاف
القتل لان العبد إنما يضمن بالقتل من حيث إنه آدمي لا من حيث إنه مال والغاصب إنما ملكه بالضمان من وقت
الغصب من حيث إنه مال لا من حيث إنه آدمي لأنه من حيث إنه آدمي لا يحتمل التملك فلم يكن هو بالقتل متصرفا في ملك
نفسه لهذا افترقا والله سبحانه وتعالى أعلم ثم على أصلها إذا اختار المالك تضمين البائع هل يثبت له الخيار بين أن يضمنه
ألفي درهم وقت البيع وبين أن يضمنه ألف درهم وقت الغصب قال بعض مشايخنا يثبت وهذا غير سديد لان التخيير
بين القليل والكثير عند اتحاد الذمة من باب السفه بخلاف التخيير بين البائع والمشترى عند أبي حنيفة رحمه الله لان هناك
الذمة مختلفة فمن الجائز أن يكون أحدهما مليا والآخر مفلسا فكان التخيير مفيدا وبخلاف القتل لان ضمان القتل
ضمان الدم وانه مؤجل إلى ثلاث سنين وضمان الغصب ضمان المال وانه حال فكان التخيير مفيدا ثم إذا ضمن
المالك الغاصب قيمة المغصوب وقت الغصب أو وقت البيع والتسليم جاز البيع لأنه تبين انه باع ملك نفسه والثمن له
لأنه بدل ملكه وان ضمن المشترى قيمته وقت القبض بطل البيع ورجع المشترى بالثمن على البائع لأنه تبين انه أخذه
بغير حق وليس له ان يرجع على البائع بالضمان ولو غصب من إنسان شيئا فجاء آخر وغصبه منه فهلك في يده فالمالك
بالخيار ان شاء ضمن الأول وان شاء ضمن الثاني أما تضمين الأول فلوجود فعل الغصب منه وهو تفويت يد المالك
وأما تضمينه الثاني فلانه فوت يد الغاصب الأول ويده يد المالك من وجه لأنه يحفظ ماله ويتمكن من رده على المالك
ويستقر بهما الضمان في ذمته فكانت منفعة يده عائدة إلى المالك فأشبهت يد المودع وقد وجد من كل واحد منهما
سبب وجوب الضمان الا أن المضمون واحد فخيرنا المالك لتعين المستحق فان اختار أن يضمن الأول رجع بالضمان
على الثاني لأنه ملك مغصوب من وقت غصبه فتبين ان الثاني غصب ملكه وان اختار تضمين الثاني لا يرجع على
أحد لأنه ضمن بفعل نفسه وهو تفويت يد المالك من وجه على ما بينا وكذلك ان استهلكه الغاصب الثاني ومتى
اختار تضمين أحدهما هل يبرأ الآخر عن الضمان بنفس الاختيار ذكر في الجامع أنه يبرأ حتى لو أراد تضمينه بعد
ذلك لم يكن له ذلك وروى ابن سماعة رحمه الله في نوادره عن محمد أنه لا يبرأ ما لم يرض من اختار تضمينه أو يقضى به عليه
(وجه) رواية النوادر ان عند وجود الرضا أو القضاء بالضمان صار المغصوب ملكا للذي ضمنه لأنه باعه منه فلا يملك
144

الرجوع بعد تمليكه كما لو باعه من الأول فاما قبل وجود الرضا أو القضاء بالضمان صار المغصوب ملكا للذي ضمنه
لأنه باعه منه فلا يملك الرجوع بعد تمليكه كما لو باعه من الأول فأما قبل وجود الرضا أو القضاء فلم يوجد منه التمليك
من أحدهما فله ان يملكه من أيهما شاء (وجه) رواية الجامع ما ذكرنا انه باختياره تضمين الغاصب الآخر أظهر انه
راض بأخذ الأول وانه بمنزلة المودع وباختيار تضمين الأول أظهر ان الثاني ما أتلف عليه شيئا لأنه لم يفوت يده والله
سبحانه وتعالى أعلم ولو باع الغاصب المغصوب من الثاني فهلك في يده يتخير المالك فيضمن أيهما شاء فان ضمن
الغاصب جاز بيعه والثمن لما ذكرنا وان ضمن المشترى بطل البيع ولا يرجع بالضمان على البائع ولكنه يرجع بالثمن
عليه لما ذكرنا وكذلك لو استهلكه المشترى ولو كان المغصوب عبدا فاعتقه المشترى من الغاصب ثم أجاز المالك
البيع نفذ اعتاقه استحسانا وعند محمد وزفر رحمهما الله لا ينفذ قياسا ولا خلاف في أنه لو باعه المشترى ثم أجاز المالك
البيع الأول أنه لا ينفذ البيع الثاني (وجه) القياس ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا عتق فيما لا يملكه
ابن آدم ولا ملك للمشتري في العبد لأنه ملك المغصوب منه فلا ينعقد اعتاقه فيه فينفذ عليه عند الإجازة ولهذا لم ينفذ بيعه
(وجه) الاستحسان ان اعتاق المشترى صادف ملكا على التوقف فينعقد على التوقف كالمشترى من الوارث
عبدا من التركة المستغرقة بالدين إذا أعتقه ثم أبرأ الغرماء الميت عن ديونهم والدليل على أن الاعتاق صادف ملكا
على التوقف أن سبب الملك انعقد على التوقف وهو البيع المطلق الخالي عن الشرط ممن هو من أهل البيع في محل قابل
الا أنه لم ينفذ دفعا للضرر عن المالك ولا ضرر عليه في التوقف فيتوقف وإذا توقف سبب الملك يتوقف الملك فيتوقف
الاعتاق بخلاف البيع فإنه يعتمد شروطا أخر ألا ترى أنه لا يجوز بيع المنقول قبل القبض مع قيام الملك لمعنى
الغرر وفى توقيف نفاذ البيع الأول تحقيق معنى الغرر ولو أودع الغاصب المغصوب فهلك في يد المودع يتخير المالك
في التضمين فان ضمن الغاصب لا يرجع بالضمان على أحد لأنه تبين انه أودع ملك نفسه وان ضمن المودع يرجع على
الغاصب لأنه غره بالايداع فيرجع عليه بضمان الغرر وهو ضمان الالتزام في الحقيقة ولو استهلكه المودع فالجواب
على القلب من الأول انه ان ضمن الغاصب فالغاصب يرجع بالضمان على المودع لأنه تبين انه استهلك ماله وان ضمن
المودع لم يرجع على الغاصب لأنه ضمن بفعل نفسه فلا يرجع على أحد ولو آجر الغاصب المغصوب أو رهنه من إنسان
فهلك في يده يتخير الملك فان ضمن الغاصب لا يرجع على المستأجر والمرتهن لأنه تبين انه آجر ورهن ملك نفسه الا
ان في الرهن يسقط دين المرتهن على ما هو حكم هلاك الرهن وان ضمن المستأجر أو المرتهن يرجع على الغاصب بما
ضمن والمرتهن يرجع بدينه أيضا أما رجوع المرتهن بالضمان فلا شك فيه لصيرورته مغرورا وأما رجوع
المستأجر فلانه وان استفاد ملك المنفعة لكن بعوض وهو الأجرة فيتحقق الغرور فأشبه المودع ولو استهلكه
المستأجر أو المرتهن يتخير المالك الا أنه ان ضمن الغاصب يرجع على المستأجر والمرتهن لأنه تبين انه آجر ملك نفسه
ورهن ملك نفسه فاستهلكه المستأجر والمرتهن وان ضمن المستأجر أو المرتهن لم يرجع على أحد لأنه ضمن بفعل
نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أعاره الغاصب فهلك في يد المستعير يتخير المالك وأيهما ضمن لا يرجع بالضمان
على صاحبه أما الغاصب فلا شك فيه لأنه أعار ملك نفسه فهلك في يد المستعير وأما المستعير فلانه استفاد ملك
المنفعة فلم يتحقق الغرور والله تعالى أعلم وعلى هذا تخرج منافع الأعيان المنقولة المغصوبة انها ليست بمضمونة
عندنا وعند الشافعي رحمه الله مضمونة نحو ما إذا غصب عبدا أو دابة فامسكه أياما ولم يستعمله ثم رده على مالكه لأنه
لم يوجد تفويت يد المالك عن المنافع لأنها اعراض تحدث فشيئا على حسب حدوث الزمان فالمنفعة الحادثة على يد
الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك فلم يوجد تفويت يد المالك عنها فلم يوجد الغصب وعنده حد الغصب اثبات اليد
على مال الغير بغير اذن مالكه وقد وجد في المنافع والمنفعة مال بدليل أنه يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة وتصلح
مهرا في النكاح فتحقق الغصب فيها فيجب الضمان وعلى هذا يخرج ما إذا غصب دارا أو عقارا فانهدم شئ من
145

البناء أو جاء سيل فذهب بالبناء والأشجار أو غلب الماء على الأرض فبقيت تحت الماء انه لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة
رضي الله عنه وأبى يوسف الآخر وعند محمد وهو قول أبى يوسف الأول يضمن وهو قول الشافعي رحمه
الله أما الشافعي فقد مر على أصله في تحديد الغصب انه اثبات اليد على مال الغير بغير اذن مالكه وهذا يوجد في العقار
كما يوجد في المنقول وأما محمد رحمه الله تعالى فقد مر على أصله في حد الغصب انه إزالة يد المالك عن ماله والفعل في المال
ليس بشرط وقد وجد تفويت يد المالك عن العقار لان ذلك عبارة عن اخراج المال من أن يكون منتفعا به في حق المالك
أو اعجاز المالك عن الانتفاع به وهذا كما يوجد في المنقول يوجد في العقار فيتحقق الغصب والدليل عليه مسألة ذكرناها
في الرجوع عن الشهادات وهي ان من ادعى على آخر دارا فأنكر المدعى عليه فأقام المدعى شاهدين وقضى القاضي
بشهادتهما ثم رجعا يضمنان كما لو كانت الدعوى في المنقول فقد سوى بين العقار والمنقول في ضمان الرجوع فدل ان
الغصب الموجب للضمان يتحقق فيهما جميعا وأما أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فمرا على أصلهما ان الغصب إزالة
يد المالك عن ماله بفعل في المال ولم يوجد في العقار والدليل على أن هذا شرط تحقق الغصب الاستدلال بضمان
الغصب فان أخذ الضمان من الغاصب تفويت يده عنه بفعل في الضمان فيستدعى وجود مثله منه في المغصوب ليكون
اعتداء بالمثل وعلى أنهما ان سلما تحقق الغصب في العقار فالأصل في الغصب أن لا يكون سببا لوجوب الضمان لان
أخذ الضمان من الغاصب اتلاف ماله عليه ألا ترى أنه تزول يده وملكه عن الضمان فيستدعى وجود الاتلاف منه اما
حقيقة أو تقديرا لان الله سبحانه وتعالى لم يشرع الاعتداء الا بالمثل قال الله سبحانه وتعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم ولم يوجد ههنا الاتلاف من الغاصب لا حقيقة ولا تقديرا أما الحقيقة فظاهرة وأما التقدير
فلان ذلك بالنقل والتحويل والتغييب عن المالك على وجه لا يقف على مكانه ولهذا لو حبس رجلا حتى ضاعت
مواشيه وفسد زرعه لا ضمان عليه والعقار لا يحتمل النقل والتحويل فلم يوجد الاتلاف حقيقة وتقديرا فينتفى الضمان
لضرورة النص وعلى هذا الاختلاف إذا غصب عقارا فجاء انسان فأتلفه فالضمان على المتلف عندهما لأن الغصب
لا يتحقق في العقار فيعتبر الاتلاف وعند محمد يتحقق الغصب فيه فيتخير المالك فان اختار تضمين الغاصب
فالغاصب يرجع بالضمان على المتلف وان اختار تضمين المتلف لا يرجع على أحد لأنه ضمن بفعل نفسه (وأما)
مسألة الرجوع عن الشهادة فمن أصحابنا من منعها وقال إن محمد رحمه الله بنى الجواب على أصل نفسه فاما على قولهما
فلا يضمنان ومنهم من سلم ولا بأس بالتسليم لان ضمان الرجوع ضمان اتلاف لا ضمان غصب والعقار مضمون
بالاتلاف بلا خلاف وعلى هذا يخرج ما إذا غصب صبيا حرا من أهله فمات في يده من غير آفة اصابته بان مرض
في يده فمات أنه لا يضمن لان كون المغصوب مالا شرط تحقق الغصب والحر ليس بمال ولو مات في يده بآفة فان
عقره أسد أو نهشته حية ونحو ذلك يضمن لوجود الاتلاف منه تسبيبا والحر يضمن بالاتلاف مباشرة وتسبيبا على
ما نذكره في مسائل الاتلاف إن شاء الله تعالى ولو غصب مدبرا فهلك في يده يضمن لان المدبر مال متقوم الا انه امتنع
جواز بيعه إذا كان مدبرا مطلقا مع كونه مالا متقوما لانعقاد سبب الحرية للحال وفى البيع ابطال السبب على ما عرف
وكذلك لو غصب مكاتبا فهلك في يده لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مالا
متقوما ومعتق البعض بمنزلة المكاتب على أصل أبي حنيفة فكان مضمونا بالغصب كالمكاتب وعلى أصلهما هو حر
عليه دين والحر لا يضمن بالغصب ولو غصب أم ولد انسان فهلكت عنده لم يضمن عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وعندهما يضمن وأم الولد لا تضمن بالغصب ولا بالقبض في البيع الفاسد ولا بالاعتاق كجارية بين رجلين جاءت
بولد فادعياه جميعا ثم أعتقها أحدهما لا يضمن لشريكه شيئا ولا تسعى هي في شئ أيضا عنده وعندهما يضمن في ذلك
كله كالمدبر ولقب المسألة ان أم الولد هل هي متقومة من حيث إنها مال أم لا ولا خلاف انها متقومة بالقتل ولا
خلاف في أن المدبر متقوم (وجه) قولهما انها كانت مالا متقوما والاستيلاد لا يوجب المالية والتقوم انه
146

لا يثبت به الا حق الحرية فإنه لا يبطل المالية والتقوم كما في المدبر (وجه) قول أبي حنيفة رضي الله عنه ان الاستيلاد
اعتاق لما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في جاريته مارية أعتقها ولدها فظاهره يقتضى ثبوت العتق
للحال في جميع الأحكام الا أنه تأخر في حق بعض الأحكام فمن ادعى التأخر في حق سقوط المالية والتقوم فعليه
الدليل بخلاف المدبر لان التدبير ليس باعتاق للحال على معنى أنه لا يثبت به العتق للحال أصلا وإنما الموجود للحال
مباشرة سبب العتق من غير عتق وهذا لا يمنع بقاء المالية والتقويم ويمنع جواز البيع لما قلنا وعلى هذا يخرج ما إذا
غصب جلد ميتة لذمي أو لمسلم فهلك في يده أو استهلكه أنه لا يضمن لان الميتة والدم ليسا بمال في الأديان كلها ولو دبغه
الغاصب وصار مالا فحكمه نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وعلى هذا يخرج ما إذا غصب خمر المسلم أو خنزيرا له
فهلك في يده انه لا يضمن سواء كان الغاصب مسلما أو ذميا لان الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وكذا الخنزير
فلا يضمنان بالغصب ولو غصب خمرا أو خنزيرا لذمي فهلك في يده يضمن سواء كان الغاصب ذميا أو مسلما غير أن
الغاصب إن كان ذميا فعليه في الخمر مثلها وفى الخنزير قيمته وإن كان مسلما فعليه القيمة فيهما جميعا وهذا عندنا وقال
الشافعي لا ضمان على غاصب الخمر والخنزير كائنا من كان (وجه) قوله أن حرمة الخمر والخنزير ثابتة في حق الناس كآفة
لقوله سبحانه وتعالى في صفة الخمور انه رجس من عمل الشيطان وصفة المحل لا تختلف باختلاف الشخص وقوله
عليه الصلاة والسلام حرمت الخمر لعينها أخبر عليه الصلاة والسلام كونها محرمة وجعل علة حرمتها عينها فتدور
الحرمة مع العين وإذا كانت محرمة لا تكون مالا لان المال ما يكون منتفعا به حقيقة مباح الانتفاع به شرعا على الاطلاق
(ولنا) ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المعروف فاعلموهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على
المسلمين وللمسلم الضمان إذا غصب منه خله وشاته ونحو ذلك إذا هلك في يد الغاصب فيلزم أن يكون للذمي الضمان إذا
غصب منه خمره أو خنزيره ليكون لهم ما للمسلمين عملا بظاهر الحديث وأما الكلام في المسألة من حيث المعنى فبعض
مشايخنا قالوا الخمر مباح في حق أهل الذمة وكذا الخنزير فالخمر في حقهم كالخل في حقنا والخنزير في حقهم كالشاة في
حقنا في حق الإباحة شرعا فكان كل واحد منهما مالا متقوما في حقهم ودليل الإباحة في حقهم ان كل واحد منهم
منتفع به حقيقة لأنه صالح لإقامة مصلحة البقاء والأصل في أسباب البقاء هو الاطلاق الا ان الحرمة في حق المسلم
تثبت نصا غير معقول المعنى أو معقول المعنى لمعنى لا يوجد ههنا أو يوجد لكنه يقتضى الحل لا الحرمة وهو قوله تعالى
إنما يريد الشيطان أو يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
لان الصد لا يوجد في الكفرة والعداوة فيما بينهم واجب الوقوع ولأنها سبب المنازعة والمنازعة سبب الهلاك وهذا
يوجب الحل لا الحرمة فلا تثبت الحرمة في حقهم وبعضهم قالوا إن الحرمة ثابتة في حقهم كما هي ثابتة في حق المسلمين
لان الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات عندنا وهو الصحيح من الأقوال على ما عرف من أصول الفقه وعلى هذا
طريق وجوب الضمان وجهان أحدهما ان الخمر وان لم يكن مالا متقوما في الحال فهي بعرض أن تصير مالا متقوما في
الثاني بالتخلل والتخليل ووجوب ضمان الغصب والاتلاف يعتمد كون المحل المغصوب والمتلف مالا متقوما في الجملة
ولا يقف على ذلك للحال ألا ترى ان المهر والجحش ومالا منفعة له في الحال مضمون بالغصب والاتلاف والثاني
أن الشرع منعنا عن التعرض لهم بالمنع عن شرب الخمر وأكل الخنزير لما روى عن سيدنا على كرم مالله وجهه أنه قال
أمرنا بان نتركهم وما يدينون ومثله لا يكذب وقد دانوا شرب الخمر وأكل الخنزير فلزمنا ترك التعرض لهم في ذلك وبقى
الضمان بالغصب والاتلاف يفضى إلى التعرض لان السفيه إذا علم أنه إذا غصب أو أتلف لا يؤاخذ بالضمان يقدم على
ذلك وفى ذلك منعهم وتعرض لهم من حيث المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم ولو كان لمسلم خمر غصبها ذمي أو مسلم
فهلكت عند الغاصب أو خللها فلا ضمان عليه ولو استهلكها يضمن خلا مثلها لأن الغصب حين وجوده لم ينعقد سببا
لوجوب الضمان ولم يوجد من الغاصب صنع آخر لان الهلاك ليس من صنعه فلا يضمن وان استهلكه فقد وجد منه
147

صنع آخر سوى الغصب وهو اتلاف خل مملوك للمغصوب منه فيضمن ولو غصب مسلم من نصراني صليبا له فهلك
في يده يضمن قيمته صليبا لأنه مقر على ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا استخدم عبد رجل بغير
أمره أو بعثه في حاجة أو قاد دابة له أو ساقها أو ركبها أو حمل عليها بغير اذن صاحبها انه ضامن بذلك سواء عطب في
تلك الخدمة أو في مضيه في حاجته أو مات حتف أنفه لان يد المالك كانت ثابتة وإذا أثبت يد التصرف عليه فقد
فوت يد المالك فيتحقق الغصب ولو دخل دار انسان بغير اذنه وليس في الدار أحد فهلك في يده لم يضمن في قولهما
وعند محمد يضمن وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم ولو جلس على فراش غيره أو بساط غيره بغير اذنه فهلاك لا يضمن
بالاجماع لان تفويت يد المالك فيما يحتمل النقل لا يحصل بدون النقل فلم يتحقق الغصب فلا يجب الضمان والله
سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم الغصب فله في الأصل حكمان أحدهما يرجع إلى الآخرة والثاني يرجع إلى الدنيا أما الذي
يرجع إلى الآخرة فهو الاثم واستحقاق المؤاخذة إذا فعله عن علم لأنه معصية وارتكاب المعصية على سبيل التعمد
سبب لاستحقاق المؤاخذة وقد روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى
من سبع أرضين يوم القيامة وان فعله لا عن علم بان ظن أنه ملكه فلا مؤاخذة عليه لان الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعا
ببركة دعاء البنى عليه الصلاة والسلام بقوله عليه الصلاة والسلام ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقوله عليه
الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (وأما) الذي يرجع إلى الدنيا فأنواع بعضها
يرجع إلى حال قيام المغصوب وبعضها يرجع إلى حال هلاكه وبعضها يرجع إلى حال نقصانه وبعضها يرجع إلى
حال زيادته (أما) الذي يرجع إلى حال قامه فهو وجوب رد المغصوب على الغاصب والكلام في هذا الحكم في
ثلاثة مواضع في بيان سبب وجوب الرد وفى باين شرط وجوبه وفي بيان ما يصير المالك به مستردا أما السبب
فهو أخذ مال الغير بغير اذنه لقوله عليه الصلاة والسلام على اليد ما أخذت حتى ترد وقوله عليه الصلاة والسلام لا يأخذ
أحدكم مال صاحبه لا عبا ولا جادا فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليرد عليه ولان الاخذ على هذا الوجه معصية
والردع عن المعصية واجب وذلك برد المأخوذ ويجب رد الزيادة المنفصلة كما يجب رد الأصل لوجود سبب وجوب
الرد فيه ومؤنة الرد على الغاصب لأنها من ضرورات الرد فإذا وجب عليه الرد وجب عليه ما هو من ضروراته كما في
رد العارية (وأما) شرط وجوب الرد فقيام المغصوب في يد الغاصب حتى لو هلك في يده أو استهلك صورة ومعنى
أو معنى لا صورة ينتقل الحكم من الرد إلى الضمان لان الهالك لا يحتمل الرد وعلى هذا يخرج ما إذا كان المغصوب
حنطة فزرعها الغاصب أو نواة فغرسها حتى نبتت أو باقلة فغرسها حتى صارت شجرة أو بيضة فحضنها حتى صارت
دجاجة أو قطنا فغزله أو غزلا فنسجه أو ثوبا فقطعه أو خاطه قميصا أو لحما فشواه أو طبخه أو شاة فذبحها وشواها
أو طبخها أو حنطة فطحنها أو دقيقا فخبزه أو سمسما فعصره أو عنبا فعصره أو حديدا فضربه سيفا أو سكينا أو صفرا أو
نحاسا فعمله آنية أو ترابا له قيمة فلبنه أو اتخذه خزفا أو لبنا فطبخه آجرا ونحو ذلك أنه ليس للمالك أن يسترد شيئا من
ذلك عندنا ويزول ملكه بضمان المثل أو القيمة وعند الشافعي لا ولاية الاسترداد ولا يزول ملكه وجه قوله إن ذات
المغصوب وعينه قائم بعد فعل الغاصب وإنما فات بعض صفاته فلا يبطل حق الاسترداد كما إذا غصب ثوبا فقطعه
ولم يخطه أو صبغه أحمر أو أصفر لان الملك في المغصوب كان ثابتا للمالك والعارض وهو فعل الغاصب محظور فلا
يصلح سببا لثبوت الملك له فيلحق بالعدم فيبقى المغصوب على ملك المالك فتبقى له ولاية الاسترداد (ولنا) أن فعل
الغاصب في هذه المواضع وقع استهلاكا للمغصوب اما صورة ومعنى أو معنى لا صورة فيزول ملك المالك عنه وتبطل
ولاية الاسترداد كما إذا استهلكه حقيقة ودلالة تحقق الاستهلاك أن المغصوب قد تبدل وصار شيئا آخر بتخليق
الله تعالى وايجاده لأنه لم تبق صورته ولا معناه الموضوع له في بعض المواضع ولا اسمه وقيام الأعيان بقيام صورها
148

ومعانيها المطلوبة منها وفى بعضها ان بقيت الصورة فقد فات معناه الموضوع له المطلوب منه عادة فكان فعله استهلاكا
للمغصوب صورة ومعنى أو معنى فيبطل حق الاسترداد إذ الهالك لا يحتمل الرد كالهالك الحقيقي ولأنه إذا حصل
الاستهلاك يزول ملك المالك لان الملك لا يبقى في الهالك كما في الهالك الحقيقي فتنقطع ولاية الاسترداد ضرورة
ولان الاستهلاك يوجب ضمان المثل أو القيمة للمالك لوقوعه اعتداء عليه أو اضرارا به وهذا يوجب زوال ملكه عن
المغصوب لما نذكره إن شاء الله تعالى وإذا زال ملك المالك بالضمان يثبت الملك للغاصب في المضمون لوجود سبب
الثبوت في محل قابل وهو اثبات الملك على مال غير مملوك لاحد وبه تبين أن فعله الذي هو سبب لثبوت الملك مباح
لا حظر فيه فجاز أن يثبت الملك به وعلى هذا يخرج ما إذا غصب لبنا أو آجرا أو ساجة فأدخلها في بنائه انه لا يملك
الاسترداد عندنا وتصير ملكا للغاصب بالقيمة خلافا للشافعي رحمه الله فهو على أصله المعهود في جنس هذه المسائل أن
فعل الغاصب محظور فلا يصلح سببا لثبوت الملك لكون الملك نعمة وكرامة فالتحق فعله بالعدم شرعا فبقي ملك
المغصوب منه كما كان (ولنا) أن المغصوب بالادخال في البناء والتركيب صار شيئا آخر غير الأول لاختلاف
المنفعة إذ المطلوب من المركب غير المطلوب من المفرد فصار بها تبعا له فكان الادخال اهلاكا معنى فيوجب زوال
ملك المغصوب منه ويصير ملكا للغاصب ولان الغاصب يتضرر بنقض البناء والمالك وإن كان يتضرر بزوال
ملكه أيضا لكن ضرره دون ضرر الغاصب لأنه يقابله عوض فكان ضرر الغاصب أعلى فكان أولى بالدفع ولهذا
لو غصب من آخر خيطا فخاط به بطن نفسه أو دابته ينقطع حق المالك كذا هذا وذكر الكرخي رحمه الله أن موضوع
مسألة الساجة ما إذا بنى الغاصب في حوالي الساجة لا على الساجة فاما إذا بنى على نفس الساجة لا يبطل ملك
المالك بل ينقض وهو اختيار الفقيه أبى جعفر الهندواني رحمه الله لان البناء إذا لم يكن على نفس الساجة لم يكن الغاصب
متعديا بالبناء لينقض إزالة للتعدي وإذا كان البناء عليها كان متعديا على الساجة فيزال تعديه بالنقض والصحيح أن
الجواب في الموضعين والخلاف في الفصلين ثابت لأنه كيف ما كان لا يمكنه رد الساجة الا بنقض البناء ولزوم ضرر
معتبر هذا موضوع المسألة حتى لو كان يمكنه الرد بدون ذلك لا ينقطع حق المالك بالاتفاق بل يؤمر بالرد ولو بيعت الدار
في حياة الغاصب أو بعد وفاته كان صاحب هذه الأشياء أسوة الغرماء في الثمن فلا يكون أخص بشئ من ذلك لان
ملكه قد زال عن العين إلى القيمة فبطل اختصاصه بالعين وكذا لو غصب خوصا فجعله زنبيلا لا سبيل
للمغصوب منه عليه وهو بمنزلة الساجة إذا جعلها بناء ولو غصب نخلة فشقها فجعلها جذوعا كان له أن يأخذ
الجذوع لان عين المغصوب قائمة وإنما فرق الاجزاء فأشبه الثوب إذا قطعه ولم يخطه ولو غصب أرضا فبنى عليها أو
غرس فيها لا ينقطع ملك المالك ويقال للغاصب اقلع البناء والغرس وردها فارغة لان الأرض بحالها لم تتغير ولم تصر
شيئا آخر ألا ترى أنها لم تتركب بشئ وإنما جاورها البناء والغرس بخلاف الساجة لأنها ركبت وصارت من جملة
البناء ألا يرى أنه يسمى الكل بناء واحدا فكانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء
والغرس مقلوعا ويكون له البناء والغرس لان الغاصب يتضرر بالمنع من التصرف في ملك نفسه بالقلع والمالك أيضا
يتضرر بنقصان ملكه فلزم رعاية الجانبين وذلك فيما قلنا ولو غصب تبر ذهب أو فضة فصاغه اناء أو ضربه دراهم أو
دنانير فللمغصوب منه أن يأخذه ولا يعطيه شيئا لأجل الصياغة على قول أبي حنيفة رحمه الله وفى قولهما لا سبيل له على
ذلك وعلى الغاصب مثل ما غصب وأجمعوا على أنه إذا سبكه ولم يصغه أو جعله مربعا أو مطولا أو مدورا ان له أن
يسترده ولا شئ عليه (وجه) قولهما أن صنع الغاصب وقع استهلاكا لان المغصوب بالصياغة صار شيئا آخر
فأشبه ما إذا غصب حديدا فاتخذه سيفا أو سكينا وجه قوله أن استهلاك الشئ اخراجه من أن يكون منتفعا به منفعة
موضوعة له مطلوبة منه عادة ولم يوجد ههنا لان المطلوب من الذهب والفضة الثمنية وهي باقية بعدما استحدث الصنعة
فلم يتحقق الاستهلاك فبقي على ملك المغصوب منه ولو غصب صفرا أو نحاسا أو حديدا فضربه آنية ينظر ان
149

كان يباع وزنا فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الذهب والفضة لأنه لم يخرج بالضرب والصناعة عن حد الوزن وإن كان
يباع عددا ليس له أن يسترده بلا خلاف لأنه خرج عن كونه موزونا بخلاف الذهب والفضة لان الوزن
فيهما أصل لا يتصور سقوطه أبدا ولو غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه أو شاة فذبحها ولم يشوها ولا طبخها لا ينقطع حق
المالك إذ الذبح ليس باستهلاك بل هو تنقيص وتعييب فلا يوجب زوال الملك بل يوجب الخيار للمالك على ما نذكره
في موضعه إن شاء الله تعالى (وأما) بيان ما يصير المالك به مستردا للمغصوب فنقول وبالله التوفيق الأصل أن
المالك يصير مستردا للمغصوب باثبات يده عليه لأنه صار مغصوبا بتفويت يده عنه فإذا أثبت يده عليه فقد اعاده إلى
يده فزالت يد الغاصب ضرورة الا أن يغصبه ثانيا وعلى هذا تخرج المسائل إذا كان المغصوب عبدا فاستخدمه أو
ثوبا فلبسه أو دابة فركبها أو حمل عليها صار مستردا له ويبرأ الغاصب من الضمان لما قلنا سواء علم المالك أنه ملكه أو لم
يعلم لان اثبات اليد على العين أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل ولهذا لم يكن العلم شرطا لتحقق الغصب فلا يكون شرطا
لبطلانه وكذلك لو كان طعاما فأكله لأنه أثبت يده عليه فبطلت يد الغاصب وكذا إذا أطعمه الغاصب يبرأ عن
الضمان عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يبرأ وجه قوله أنه عزه في ذلك حيث أطعمه ولم يعلمه أنه ملكه فلا يسقط
عنه الضمان (ولنا) أنه أكل طعام نفسه فلا يستحق الضمان على غيره كما لو كان في يد الغاصب فاستهلكه وقوله عزه
الغاصب ممنوع بل هو الذي اعتز بنفسه حيث تناول من غير بحث انه ملكه أو ملك الغاصب والمغتر بنفسه
لا يستحق الضمان على غيره ولو كان المغصوب عبدا فآجره من الغاصب للخدمة أو ثوبا فآجره منه للبس أو دابة
للركوب وقبل الغاصب الإجارة برئ عن الضمان لان الإجارة إذا صحت صارت يد الغاصب على المحل يد إجارة وأنها
يد محقة فتبطل يد الغصب ضرورة فيبرأ عن الضمان حين وجبت عليه الإجارة بالإجارة وقالوا في الغاصب إذا آجر
العبد المغصوب من مولاه ليبنى له حائطا معلوما أنه يسقط ضمان الغصب حين يبتدئ بالبناء لان البراءة عن الضمان
في الموضعين جميعا متعلقة بوجوب الأجرة والأجرة في استئجار العبد والثوب بالتسليم وهو التخلية وههنا تجب
بالعمل لا بنفس التخلية لذلك افترقا ولو زوج الأمة المغصوبة من الغاصب لا يبرأ عن الضمان في قياس قول أبي حنيفة
رحمه الله وعند أبي يوسف يبرأ بناء على أن المشترى هي يصير قابضا بالتزويج أم لا وقد ذكرنا المسألة في كتاب
البيوع في بيان حكم البيع ولو استأجر الغاصب لتعليم العبد المغصوب عملا من الاعمال فهو جائز لكنه لا يصير
مستردا للعبد ولا يبرأ الغاصب عن الضمان بل هو في يد الغاصب على ضمانه حتى لو هلك قبل أن يأخذ في ذلك العمل
أو بعده ضمن وكذلك لو استأجره لغسل الثوب المغصوب لان الإجارة ههنا ما وقعت على المغصوب فلم تثبت يد
الإجارة عليه لتبطل عنه يد الغاصب فبقي في يد الغصب كما كان فبقي مضمونا كما كان بخلاف استئجار المغصوب
على ما بينا وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الغاصب الأول برئ يده يد المالك من وجه فيصح الرد عليه
والله سبحانه وتعالى اعلم (وأما) الذي يتعلق بحال هلاك المغصوب فنوعان أحدهما وجوب الضمان على الغاصب
والثاني ملك الغاصب المضمون (أما) وجوب الضمان فالكلام فيه في مواضع في بيان كيفية الضمان وفي بيان شرط
وجوبه وفي بيان وقت وجوبه وفي بيان ما يخرج به الغاصب عن عهدته (اما) الأول فالمغصوب لا يخلو اما
أن يكون مما له مثل واما أن يكون مما لا مثل له فإن كان مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة فعلى
الغاصب مثله لان ضمان الغصب ضمان اعتداء والاعتداء لم يشرع الا بالمثل قال الله تبارك وتعالى فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى فاما القيمة فمثل من حيث المعنى دون الصورة
ولان ضمان الغصب ضمان جبر الفائت ومعنى الجبر بالمثل أكل منه من القيمة فلا يعدل عن المثل إلى القيمة الا عند
التعذر وقال زفر رحمه الله الجوز والبيض مضمونا بالقيمة لا بالمثل وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع وإن كان
مما لا مثل له من المذروعات والمعدودات المتفاوتة فعليه قيمته لان تعذر ايجاب المثل صورة ومعنى لأنه لا مثل له فيجب
150

المثل معنى وهو القيمة لأنها المثل الممكن والأصل في ضمان القيمة وما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في
عبد بين شريكين أعتق أحدهما نصيبه بنصف قيمته الذي لم يعتق والنص الوارد في العبد يكون واردا في اتلاف كل
مالا مثل له دلالة والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) شرط وجوب الضمان فشرط وجوب ضمان المثل والقيمة على
الغاصب عجزه عن رد المغصوب فما دام قادرا على رده على الوجه الذي أخذه لا يجب عليه الضمان لان الحكم الأصلي
للغصب هو وجوب رد عين المغصوب لان بالرد يعود عين حقه إليه وبه يندفع الضرر عنه من كل وجه والضمان خلف
عن رد العين وإنما يصار إلى الخلف عند العجز عن رد الأصل وسواء عجز عن الرد لفعله بان استهلكه أو بفعل غيره
بان استهلكه غيره أو بآفة سماوية بان هلك بنفسه لان المحل إنما صار مضمونا بالغصب السابق لان فعله ذلك لا بالهلاك
لان الهلاك ليس صنعه لكن عند الهلاك يتقرر الضمان لان عنده يتقرر العجز عن رد العين فيتقرر الضمان وعلى هذا
يخرج ما إذا ادعى الغاصب هلاك المغصوب ولم يصدقه المغصوب منه انه يطلب منه بينة فان أقامها والا حبسه
القاضي مدة يغلب على ظنه انه لو كان في يده لاظهره ثم قضى عليه بالضمان لان بذلك ثبت عجزه عن رد العين فيحبس
كمن كان عليه دين فطولب به فادعى الافلاس ومن شرط الخطاب بأداء الضمان أن يكون المثل موجودا في أيدي
الناس حتى لو غصب شيئا له مثل ثم انقطع عن أيدي الناس لا يخاطب بأدائه للحال لأنه ليس بمقدور بل يخاطب بالقيمة
ولو اختصما في حال انقطاعه عن أيدي الناس فقد اختلف أصحابنا الثلاثة قال أبو حنيفة يحكم على الغاصب بقيمته يوم
يختصمون وقال أبو يوسف رحمه الله يوم الغصب وقال محمد رحمه الله يوم الانقطاع وجه قوله أن الغصب أوجب
المثل على الغاصب والمصير إلى القيمة للتعذر والتعذر حصل بسبب الانقطاع فتعتبر قيمته يوم الانقطاع كما لو استهلكه
في ذلك الوقت وجه قول أبى يوسف رحمه الله أن سبب وجوب ضمان المثل عند القدرة والقيمة عند العجز هو
الغصب والحكم يعتبر من وقت وجود سببه وجه قول أبي حنيفة عليه الرحمة ان الواجب كان مثل المغصوب
وبالانقطاع عن أيدي الناس لم يبطل الواجب لان الأصل ان ما ثبت يبقى لتوهم الفائدة وتوهم العود ههنا ثابت ألا ترى
ان للمالك أن يختار الانتظار إلى وقت ادراكه فيأخذ المثل وإذا بقي المثل واجبا بعد الانقطاع فإنما ينتقل حقه من
المثل إلى القيمة بالخصومة فتعتبر قيمته وقت الخصومة فاما علم الغاصب بكون المغصوب ملك غيره فليس بشرط
لوجوب الضمان حتى لو أخذ مالا على وجه يحق له أخذه ظاهرا وفى الباطن بخلافه كما إذا اشترى أو ملكه بوجه
من الوجوه فتصرف فيه ثم تبين انه مستحق يضمن لكن لا اثم عليه لان العلم ليس بشرط لتحقق الغصب وهو شرط
ثبوت المؤاخذة قال الله سبحانه وتعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم (وأما) وقت
وجوب الضمان فوقت وجود الغصب لأن الضمان يجب بالغصب ووقت ثبوت الحكم وقت وجود سببه فتعتبر
قيمة المغصوب يوم الغصب حتى لا يتغير بتغير السعر لان السبب لم يتغير ولا يتغير المحل أيضا لان تراجع السعر لفتور
يحدثه الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده (وأما) بيان ما يخرج به الغاصب عن عهده الضمان فالذي يخرج به عن
عهدته شيئان أحدهما أداء الضمان إلى المالك أو من يقوم مقامه لان الأصل في طريق الخروج عن عهدة الواجب
أداؤه ولو هلك المغصوب في يد الغاصب الثاني فادى القيمة إلى الغاصب الأول يبرأ عن الضمان في الرواية المشهورة
وروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يبرأ الا بقضاء القاضي وجه هذه الرواية ان الضمان الواجب عليه للمالك فلا
يسقط عنه الا بالأداء إلى المالك وجه الرواية المشهورة ان الضمان خلف عن العين قائم مقامه ثم لو رد العين برئ
عن الضمان فكذا إذا رد القيمة لان ذلك رد العين من حيث المعنى والثاني الابراء وهو نوعان صريح وما يجرى
مجرى الصريح ودلالة (اما) الأول فنحو أن يقول أبرأتك عن الضمان أو أسقطته عنك أو وهبته منك وما أشبه ذلك
فيبرأ عن الضمان لأنه أسقط حق نفسه وهو من أهل الاسقاط والمحل قابل للسقوط فيسقط وأما الثاني فهو أن
يختار المالك تضمين أحد الغاصبين فيبرأ الآخر لان اختيار تضمين أحدهما ابراء للآخر دلالة لما ذكرنا فيما تقدم
151

فيبرأ اما بنفس الاختيار أو بشريطة رضا من اختار تضمينه أو القضاء على اختلاف الروايتين اللتين ذكرناهما ولو
أبرأه عن ضمان العين وهي قائمة في يده صح الابراء وسقط عنه الضمان عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر رحمه
الله لا يصح وجه قوله إن الابراء اسقاط واسقاط الأعيان لا يعقل فالتحق بالعدم وبقيت العين مضمونة كما كانت
وإذا هلكت ضمن (ولنا) ان العين صارت مضمونة بنفس الغصب لأن الغصب سبب لوجوب الضمان فكان
هذا ابراء عن الضمان بعد وجود سبب وجوبه فيصح كالعفو عن القصاص بعد الجرح قبل الموت ولو أجل
المغصوب منه الغاصب ببدل الغصب صح التأجيل عند أصحابنا وعند زفر لا يصح استدلالا بالقرض (ولنا) أن
عدم اللزوم في القرض لكونه جاريا مجرى الإعارة لما بين في كتاب القرض والأجل لا يلزم في العوارى وهذا المعنى
لا يوجد في الغصب فيلزمه وهذا الان الأصل هو لزوم التأجيل لأنه تصرف صدر من أهله في محله وهو الدين الا أن
عدم اللزوم في باب القرض لضرورة الإعارة ولم يوجد ههنا فيلزم على الأصل والله تعالى أعلم (وأما) ملك الغاصب
المضمون فالكلام في هذا الحكم في مواضع في بيان أصل الحكم انه سبب أم لا وفي بيان وقت ثبوته وفي بيان صفة
الحكم الثابت (أما) الأول فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا رحمهم الله يثبت إذا كان المحل قابلا للثبوت ابتداء
وقال الشافعي رحمه الله لا يثبت أصلا حتى أن من غصب عبدا واكتسب في يد الغاصب ثم هلك العبد وضمن
الغاصب قيمته فالكسب ملك للغاصب عندنا وعنده ملك للمالك ولو أبق العبد المغصوب من يد الغاصب وعجز عن
رده إلى المالك فالمغصوب منه بالخيار ان شاء انتظر إلى أن يظهر وان شاء لم ينتظر وضمن الغاصب قيمته ولو ضمنه
قيمته ثم ظهر العبد ان أخذ صاحبه القيمة بقول نفسه التي سماها ورضى بها أو بتصادقهما عليه أو بقيام البينة
أو بنكول الغاصب عن اليمين فلا سبيل له على العبد عندنا وعنده يأخذ عبده بعينه ولو كان المغصوب مدبرا
يعود على ملك المالك بالاجماع وجه قوله أن المالك لابد له من سبب والغصب لا يصلح سببا لأنه محظور والملك نعمة
وكرامة فلا يستفاد بالمحظور ولان ضمان الغصب لا يقابل أعين وإنما يقابل اليد الفائتة فلا تملك به العين كما في غصب
المدبر (ولنا) ان ملك الغاصب يزول عن الضمان فلو لم يزل ملك المغصوب منه عن المضمون لم يكن الاعتداء بالمثل ولأنه
إذا زال ملك الغاصب عن الضمان وأنه بدل المغصوب لأنه مقدر بقيمته وملك المغصوب منه البدل بكماله لو لم يزل ملكه
عن المغصوب لاجتمع البدل والمبدل في ملك المالك وهذا لا يجوز وإذا زال ملك المالك عن المغصوب فالغاصب أثبت
يده على مال قابل للملك لا ملك لاحد فيه فيملكه كما يملك الحطب والحشيش باثبات يده عليهما وبه تبين ان ما هو
سبب المالك فهو مباح لا حظر فيه فجاز أن يثبت به الملك بخلاف المدبر لأنه لا يحتمل ابتداء الملك فيزول ملك المالك
لكن لا يملكه الغاصب لعدم قبول المحل التملك ابتداء وههنا بخلافه والله تعالى أعلم ولو أخذ صاحبه القيمة بقول
الغاصب بان اختلفا في القيمة وقضى القاضي بالقيمة بقول الغاصب وبيمينه ثم ظهر العبد ذكر في ظاهر الرواية ان
المغصوب منه بالخيار ان شاء رضى بالمأخوذ وترك العبد عند الغاصب وان شاء رد المأخوذ وأخذ العبد لأنه تبين ان
المأخوذ بعض بدل العين لاكله فلم يملك بدل المغصوب بكماله فيثبت له الخيار وان أراد استرداد العبد فللغاصب أن
يحبس العبد حتى يأخذ القيمة ولو مات العبد في يد الغاصب قبل رد القيمة لا يرد القيمة ولكن يأخذ من الغاصب فضل
القيمة إن كان في قيمة العبد فضل على ما أخذه وان لم يكن فيها فضل فلا شئ سوى له القيمة وروى عن أبي يوسف
رحمه الله انه إذا ظهر العبد وقيمته أكثر مما قاله الغاصب فالمغصوب منه بالخيار على ما بينا فاما إذا كانت قيمته مثل ما قال
الغاصب أو أقل منه فلا سبيل لصاحبه عليه وهكذا فصل الكرخي رحمه الله لأنه رضى بزوال ملكه بهذا البدل وفى
ظاهر الرواية أثبت الخيار من غير تفصيل ولو اختلفا في زيادة القيمة فادعى الغاصب انها حدثت بعد التضمين وادعى
المغصوب منه انها كانت قبله كان الجصاص يقول من تلقاء نفسه ان القول قول الغاصب لان التمليك قد صح فلا يفسخ
الشك (وأما) وقت ثبوت الملك فهو وقت وجود الغصب لان الملك في الضمان يستند إلى وقت وجود الغصب فكذا
152

في المضمون فيظهر في الكسب والغلة والريح وأما شرط ثبوت الملك في المضمون فما هو شرط ثبوت الملك في الضمان
وهو اختيار الضمان عند أبي حنيفة رحمه الله فالمغصوب قبل اختيار الضمان على حكم ملكه عنده فإنه لو أراد أن لا يختار
الضمان حتى يهلك المغصوب على ملكه ويكون له ثواب هلاكه على ملكه ويخاصم الغاصب في القيمة له ذلك وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله هذا ليس بشرط ويثبت الملك قبل الاختيار في الضمان والمضمون جميعا وعلى هذا الأصل
يبنى الصلح عن المغصوب الذي لا مثل له على اضعاف قيمته انه جائز عنده وعندهما لا يجوز (ووجه) البناء أنه لما
وجب الضمان بنفس الهلاك عندهما وهو مال مقدر والزيادة عليه تكون ربا ولما توقف الوجوب على اختيار المالك
عنده ولم يوجد منه الاختيار كان الصلح تقدير القيمة المغصوب هذا القدر وتمليكا للمغصوب به كأنه باعه من الغاصب به
فجاز والله تعالى أعلم (وأما) صفة الملك الثابت للغاصب في المضمون فلا خلاف بين أصحابنا في أن الملك الثابت له يظهر
في حق نفاذ التصرفات حتى لو باعه أو وهبه أو تصدق به قبل أداء الضمان ينفذ كما تنفذ هذه التصرفات في المشترى شراء
فاسدا واختلفوا في أنه هل يباح له الانتفاع به بأن يأكله بنفسه أو يطعمه غيره قبل أداء الضمان فإذا حصل فيه فضل
هل يتصدق بالفضل قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومحمد رحمه الله لا يحل له الانتفاع حتى يرضى صاحبه وإن كان فيه
فضل يتصدق بالفضل وقال أبو يوسف رحمه الله يحل له الانتفاع ولا يلزمه التصدق بالفضل إن كان فيه فضل وهو
قول الحسن وزفر رحمهما والله وهو القياس وقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله استحسان (وجه) القياس ان المغصوب
مضمون لا شك فيه وهو مملوك للغاصب من وقت الغصب على أصل أصحابنا فلا معنى للمنع من الانتفاع وتوقيف
الحل على رضا غير المالك كما في سائر أملاكه ويطيب له الربح لأنه ربح ما هو مضمون ومملوك وربح ما هو مضمون غير
مملوك يطيب له عنده لما نذكر فربح المملوك المضمون أولى (وجه) الاستحسان ما روى أنه عليه الصلاة والسلام
أضافه قوم من الأنصار فقدموا إليه شاة مصلية فجعل عليه الصلاة والسلام يمضغه ولا يسيغه فقال عليه الصلاة
والسلام ان هذه الشاة لتخبرني أنها ذبحت بغير حق فقالوا هذه الشاة لجار لنا ذبحناها لنرضيه بثمنها فقال عليه الصلاة
والسلام اطعموها الأسارى أمر عليه الصلاة والسلام بأن يطعموها الأسارى ولم ينتفع به ولا أطلق لأصحابه
الانتفاع بها ولو كان حلالا طيبا لأطلق مع خصاصتهم وشدة حاجتهم إلى الاكل ولان الطيب لا يثبت الا بالملك
المطلق وفى هذا الملك شبهة العدم لأنه يثبت من وقت الغصب بطريق الاستناد والمستند يظهر من وجه ويقتصر على
الحال من وجه فكان في وجوده من وقت الغصب شبهة العدم فلا يثبت به الحل والطيب ولان الملك من وجه
حصل بسبب محضور أو وقع محظورا بابتدائه فلا يخلو من خبث ولان إباحة الانتفاع قبل الارضاء يؤدى إلى
تسليط السفهاء على أكل أموال الناس بالباطل وفتح باب الظلم على الظلمة وهذا لا يجوز وعلى هذا يخرج ما إذا غصب
حنطة فطحنها أنه لا يحل له الانتفاع بالدقيق حتى يرضى صاحبه ولو غصب حنطة فزرعها قال أبو حنيفة ومحمد يكره
له أن ينتفع به حتى يرضى صاحبه ويتصدق بالفضل وقال أبو يوسف لا يكره له الانتفاع به قبل أداء الضمان ولا
يلزمه التصدق بالفضل فظاهر هذا الاطلاق يدل على أن عندهما يكره الانتفاع به حتى يرضى صاحبه بأداء الضمان
وفرق أبو يوسف بين الزرع والطحن فقال في الطحن مثل قولهما أنه لا يحل الانتفاع به حتى يرضى صاحبه لان
الحنطة لم تهلك بالطحن وإنما تغيرت صفتها من التركيب إلى التفريق فكان عين الحنطة قائمة فكان حق المالك فيها
قائما خلاف الزرع لان البذر يهلك بالزراعة لأنه يغيب في الأرض فيخرج من أن يكون مالا متقوما فلم يبق
للمالك فيه حق فلم يكره الانتفاع به وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله فيمن غصب نوى فصار نخلا انه يحل الانتفاع
به كما في الحنطة إذا زرعها وقال في الودي إذا غرسه فصار نخلا أنه يكره الانتفاع به حتى يرضى صاحبه لان النوى
يعفن ويهلك والودي يزيد في نفسه وروى عن أبي حنيفة في الشاة إذا ذبحها فشواها انه لا يسع له أن يأكلها ولا
يطعم أحدا حتى يضمن القيمة وإن كان صاحبها غائبا أو حاضرا لا يرضى بالضمان لا يحل له أكلها وإذا دفع الغاصب
153

قيمتها يحل له الاكل كذلك إذا ضمنه المالك القيمة أو ضمنه الحاكم وهذا عندي ليس باختلاف رواية بل هذه
الرواية تفسير للأولى لان قوله حتى يرضى صاحبه بحله يحتمل الارضاء بأداء الضمان ويحتمل الارضاء باختيار
الضمان فالمذكور ههنا مفسر فيحمل المجمل على المفسر فيحمل قوله حتى يرضيه على الارضاء باختيار الضمان ورضاه
لا على الارضاء بأداء الضمان توفيقا بين الروايتين فلا يحل له الانتفاع به قبل اختيار الضمان ويحل بعده سواء أدى
المضان أو لا وهذا قولهما وهو قياس قول أبى يوسف رحمه الله في الشاة المشوية أنه يحل له الانتفاع بها فيأكلها
ويطعمها من شاء سوى أدى الضمان أم لا ولا خلاف في أنه إذا أدى الضمان أنه يحل له الاكل وكذلك إذا أبرأه عن
الضمان وكذلك إذا ضمنه المالك القيمة أو ضمنه القاضي لان القاضي لا يضمنه الا بعد طلبه فكان منه اختيارا
للضمان ورضا به وعلى هذا يخرج ما إذا غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة أنه يضمن النقصان والغلة له ويتصدق بها
في قولهما وعند أبي يوسف رحمه الله هي طيبة أما ضمان النقصان فلان الاستغلال وقع اتلافا فيضمن قدر ما أتلف
ويطيب له قدر المضمون لان ذلك القدر ليس بربح والنهى وقع عن الربح (وأما) الغلة فللغاصب عندنا وعند الشافعي
رحمه الله للمالك وهي فريعة مسألة المنافع وقد مرت في موضعها (وأما) التصدق بالغلة وهي الأجرة عندهما فلأنها
خبيثة لحصولها بسبب خبيث فكان سبيلها التصدق ولأبي يوسف أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن
وهذا ربح مضمون والجواب أن التحريم لعدم الضمان يدل على التحريم لعدم الملك من طريق الأولى لان الملك
فوق الضمان ولو غصب أرضا فزرعها كرا فنقصتها الزراعة وأخرجت ثلاثة اكرار يغرم النقصان ويأخذ رأس
المال ويتصدق بالفضل أما ضمان النقصان فلان الغاصب نقص الأرض بالزراعة وذلك اتلاف منه والعقار
مضمون بالاتلاف بلا خلاف واما التصدق بالفضل فلحصوله بسبب خبيث وهي الزراعة في أرض الغصب وإن كان
البذر ملكا له ويطيب له قدر النقصان وقدر البذر لما ذكرنا أن النهى ورد عن الربح وذا ليس يربح فلم يحرم
والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب ألفا فاشترى جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين
جارية فباعها بثلاثة آلاف انه يتصدق بجميع الربح في قولهما وعند أبي يوسف رحمه الله لا يلزمه التصدق بشئ لأنه
ربح مضمون مملوك لأنه عند أداء الضمان يملكه مستندا إلى وقت الغصب ومجرد الضمان يكفي للطيب فكيف إذا
اجتمع الضمان والملك وهما يقولان الطيب كما لا يثبت بدون الضمان لا يثبت بدون الملك من طريق الأولى وفى هذا
الملك شبهة العدم على ما بينا فيما تقدم فلا يفيد الطيب ولو اشترى بالألف جارية تساوى الفين فوهبها أو اشترى به
طعاما يساوى الفين فأكله لم يتصدق بشئ لأنه لم يحصل له الربح ولان الخبث إنما يثبت بشبهة عدم الملك والشبهة
توجب التصدق اما لا توجب التضمين وعلى هذا يخرج ما إذا خلط المستودع احدى الوديعتين بالأخرى خلطا
لا يتميزان المخلوط يصير ملكا له عند أبي حنيفة رحمه الله لكن لا يطيب له حتى يرضى صاحبه على ما نذكره إن شاء الله
تعالى ولو اشترى بالدراهم المغصوبة شيئا هل يحل له الانتفاع به أو يلزمه التصدق ذكر الكرخي رحمه الله وجعل ذلك
على أربعة أوجه اما ان يشير إليها وينقد منها واما أن يشير إليها وينقد من غيرها واما أن يشير إلى غيرها وينقد منها واما
ان يطلق اطلاقا وينقد منها وإذا ثبت الطيب في الوجوه كلها الا في وجه واحد وهو ان يجمع بين الإشارة إليها والنقد
منها وذكر أبو نصر الصفار والفقيه أبو الليث رحمهما الله انه يطيب في الوجوه كلها وذكر أبو بكر الإسكاف رحمه الله انه
لا يطيب في الوجوه كلها وهو الصحيح (وجه) قول أبى نصر وأبى الليث رحمهما الله تعالى ان الواجب في ذمة المشتري
دراهم مطلقة والمنقودة بدل عما في الذمة أما عند عدم الإشارة فظاهر وكذا عند الإشارة لان الإشارة إلى الدراهم
لا تفيد التعيين فالتحقت الإشارة إليها بالعدم فكان الواجب في ذمته دراهم مطلقة والدراهم المنقودة بدلا عنها فلا يخبث
المشترى والكرخي كذلك يقول إذا لم تتأكد الإشارة بمؤكد وهو النقد منها فإذا تأكدت بالنقد منها تعين المشار إليه
فكان المنقود بدل المشترى فكان خبيثا (وجه) قول أبى بكر انه استفاد بالحرام ملكا من طريق الحقيقة أو الشبهة
154

فيثبت الخبث وهذا لأنه ان أشار إلى الدراهم المغصوبة فالمشار إليه إن كان لا يتعين في حق الاستحقاق يتعين في حق
جواز العقد بمعرفة جنس النقد وقدره فكان المنقود بدل المشترى من وجه نقد منها أو من غيرها وان لم يشر إليها ونقد
منها فقد استفاد بذلك سلامة المشترى فتمكنت الشبهة فيخبث الربح واطلاق الجواب في الجامعين والمضاربة دليل
صحة هذا القول ومن مشايخنا من اختار الفتوى في زماننا بقول الكرخي تيسيرا للامر على الناس لازدحام الحرام
وجواب الكتب أقرب إلى التنزه والاحتياط والله تعالى أعلم ولان دراهم الغصب مستحقة الرد على صاحبها
وعند الاستحقاق ينفسخ العقد من الأصل فتبين ان المشترى كان مقبوضا بعقد فاسد فلم يحل الانتفاع به ولو تزوج
بالدراهم المغصوبة امرأة وسعه ان يطأها بخلاف الشراء لما ذكرنا ان عند الاستحقاق ينفسخ الشراء والنكاح
لا يحتمل الفسخ ولو كان المغصوب ثوبا فاشترى به جارية لا يسعه ان يطأها ولو تزوج عليه امرأة حل له وطؤها
لما قلنا والله عز وجل أعلم وأما الذي يتعلق بحال نقصان المغصوب فالكلام فيه في موضعين أحدهما في بيان ما يكون
مضمونا من النقصان ومالا يكون مضمونا منه والثاني في بيان طريق معرفة النقصان أما لأول فنقول وبالله التوفيق
إذا عرض في يد الغاصب ما يوجب نقصان قيمة المغصوب والعارض لا يخلو اما أن يكون بغير السعر واما أن يكون
فوات جزء من المغصوب أو فوات صفة مرغوب فيها أو معنى مرغوب فيه فإن كان بغير السعر لم يكن مضمونا لان
المضمون نقصان المغصوب ونقصان السعر ليس بنقصان المغصوب بل لفتور يحدثه الله تعالى عز شأنه في قلوب العباد
لا صنع للعبد فيه فلا يكون مضمونا وإن كان فوات جزء من المغصوب أو فوات صفة مرعوب فيها أو معنى مرغوب
فيه فالمغصوب لا يخلو اما أن يكون من غير أموال الربا واما أن يكون من أموال الربا فإن كان من غير أموال الربا
يكون مضمونا إذا لم يكن للمغصوب منه فيه صنع ولا اختيار لأنه هلك بعض المغصوب صورة ومعنى أو معنى
لا صورة وهلاك كل المغصوب مضمون بكل القيمة فهلاك بعضه يكون مضمونا بقدره لما ذكرنا ان ضمان
الغصب ضمان جبر الفائت فيتقدر بقدر الفوات وعلى هذا يخرج ما إذا سقط عضو من المغصوب في يد الغاصب
بآفة سماوية أو لحقه زمانة أو عرج أو شلل أو عمى أو عور أو صمم أو بكم أو حمى أو مرض آخر انه يأخذه المولى
ويضمنه النقصان لوجود فوات جزء من البدن أو فوات صفة مرغوب فيها ولو زال البياض من عينه في يد المولى
أو أقلع الحمى رد على الغاصب ما أخذه منه بسبب النقصان لأنه تبين ان ذلك النقصان لم يكن موجبا للضمان لانعدام
شرط الوجوب وهو العجز عن الانتفاع على طريق الدوام وكذلك لو ابق المغصوب من يد الغاصب من عبد أو أمة
إذا لم يكن ابق قبل ذلك أو زنت الجارية المغصوبة أو سرقت إذا لم تكن زنت قبل ذلك لفوات معنى مرغوب فيه وهو
الصيانة عن هذه القاذورات ولهذا كانت عيوبا موجبة للرد في باب البيع وجعل الآبق على المالك وهل يرجع به
على الغاصب قال أبو يوسف رحمه الله لا يرجع وقال محمد رحمه الله يرجع (وجه) قوله إن الجعل من ضرورات رد
المغصوب لان رد المغصوب واجب على الغاصب ولا يمكنه الرد الا باعطاء الجعل فكان من ضرورات الرد فيكون
عليه مؤنة الرد (وجه) قول أبى يوسف رحمه الله ان الجعل إنما يجب بحق الملك والملك للمغصوب منه فيكون
الجعل عليه كمداواة الجراحة ولو قتل العبد المغصوب أو الجارية المغصوبة في يد الغاصب قتيلا أو جنى على حر أو عبد
في نفس أو ما دونها جناية رد إلى مولاه ويقال له ادفعه بجنايته أو أفده لان الملك له ويرجع المولى على الغاصب بالأقل من
قيمته ومن أرش الجناية لان هذا الضمان إنما وجب بسبب كان في ضمانه ولو استهلك لرجل مالا يخاطب المولى بالبيع
أو الفداء ويرجع على الغاصب بالأقل من قيمته ومما أداه عنه من الدين لما قلنا ولو قتل المغصوب نفسه في يد الغاصب
ضمن الغاصب قيمته بالغصب ولا يضمن من قيمته بقتل نفسه لان قتله نفسه هدر فصار كموته حتف انفه ولو كان
المغصوب أمة فولدت ثم قلت ولدها ثم ماتت ضمن قيمة الام ولا يضمن قيمة الولد لأنه أمانة وكذلك إذا كبر
المغصوب في يد الغاصب من الغلام والجارية بان غصب عبدا شابا فشاخ في يد الغاصب أو جارية شابة فصارت
155

عجوزا في يده ضمن النقصان لان الكبر يوجب فوات جزء أو صفة مرغوب فيها وكذلك إذا غصب جارية ناهدا
فانكسر ثديها في يد الغاصب لان نهود الثديين صفة مرغوب فيها ألا يرى إلى قوله عز وجل وكواعب أترابا وأما نبات
اللحية للأمرد فليس بمضمون لأنه ليس بنقصان بل هو زيادة في الرجال ألا ترى ان حلق اللحية يوجب كمال الدية
وكذلك لو غصب عبدا قارئا فنسي القرآن العظيم أو محترفا فنسي الحرفة يضمن لان العلم بالقرآن والحرفة معنى مرغوب
فيه وأما حبل الجارية المغصوبة بان غصب جارية فحبلت في يده فإن كان المولى أحبلها في يد الغاصب لا شئ على
الغاصب لان النقصان حصل بفعل المولى فلا يضمنه الغاصب كما لو قتلها المولى في يد الغاصب وكذلك لو حبلت في يد
الغاصب من زوج كان لها في يد المولى لان الوطئ من الزوج حصل بتسليط المولى فصار كأنه حصل منه أو حدث
في يده وان حبلت في يد الغاصب من زنا أخذها المولى وضمنه نقصان الحبل والكلام في قدر الضمان قال أبو يوسف
رحمه الله ينظر إلى ما نقصها الحبل والى أرش عيب الزنا فيضمن الأكثر ويدخل الأقل فيه وهذا استحسان والقياس
ان يضمن الامرين جميعا وروى عن محمد رحمه الله انه أخذ بالقياس (وجه) القياس ان الحبل والزنا كل واحد
منهما عيب على حدة فكان النقصان الحاصل بكل واحد منهما نقصانا على حدة فيفرد بضمان على حدة (وجه)
الاستحسان ان الجمع بين الضمانين غير ممكن لان نقصان الحبل إنما حصل بسبب الزنا فلم يكن نقصانا بسبب على حدة
حتى يفرد بحكم على حدة فلابد من ايجاب أحدهما فأوجبنا الأكثر لان الأقل يدخل في الأكثر ولا يتصور دخول
الأكثر في الأقل فان ردها الغاصب حاملا فماتت في يد المولى من الولادة فبقي ولدها ضمن الغاصب جميع قيمتها عند
أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا يضمن الا نقصان الحبل خاصة (وجه) قولهما ان الرد وقع صحيحا من الغاصب
في القدر المردود وهو ما وراء الفائت بالحبل والهلاك بعد الرد حصل في يد المالك بسبب وجد في يده وهو الولادة فلا
يكون مضمونا على الغاصب كما لو ماتت بسبب آخر وكما لو باع جارية حبلى فولدت عند المشترى ثم ماتت في نفاسها
انه لا يرجع المشترى على البائع بشئ كذا هذا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ان الموت حصل بسبب كان في ضمان
الغاصب وهو الحبل أو الزنا لان ذلك أفضى إلى الولادة والولادة أفضت إلى الموت فكان الموت مضافا إلى السبب
السابق وإذا حصل الهلاك بذلك السبب تبين ان الرد لم يصح لانعدام شرط صحته وهو أن يكون الرد مثل الاخذ من
جميع الوجوه فصارت كأنها ولدت في يد الغاصب فماتت من الولادة ولو كان كذلك يضمن الغاصب جميع قيمتها كذا
هذا بخلاف مسألة البيع لان الواجب هناك هو التسليم ابتداء لا الرد وقد وجد التسليم فخرج عن العهدة وبخلاف
الحرة إذا زنا بها مكرهة فماتت من الولادة انه لا يضمن لأنها غير مضمونة بالاخذ ليلزمه الرد على وجه الاخذ بخلاف
الأمة ولو كانت الجارية زنت في يد الغاصب ثم ردها على المالك فحدث في يده ونقصها الضرب ضمن الغاصب
الأكثر من نقصان الضرب ومما نقصها الزنا في قول أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما ليس عليه الا نقصان الزنا (وجه)
قولهما ان النقصان حصل في يد المالك بسبب آخر ولأبي حنيفة رحمه الله ان النقصان حصل سبب كان في ضمان
الغاصب فيضاف إلى حين وجود السبب في يد الغاصب بسبب وجد في يده وهو الضرب فلا يكون مضمونا على
الغاصب كما لو حصل في يد المالك فأبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى وقت وجود السبب وهما نظرا إلى وقت ثبوت
الحكم وهو النقصان ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن اشترى عبدا فوجده مباح الدم فقتل في يد المشترى انه ينتفض
العقد ويرجع على البائع بكل القيمة وكذلك لو كان سارقا فقطع في يده رجع بنصف الثمن اعتبارا للسبب السابق
وعندهما يقتصر الحكم على الحال ويكون في ضمان المشترى ويرجع على البائع بنقصان العيب فان قيل كيف يضاف
النقصان إلى سبب كان في ضمان الغاصب وذلك السبب لم يوجب ضربا جارحا فكيف يضاف نقصان الجرح إليه
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في شهود الزنا إذا رجعوا بعد إقامة الجلدات انهم لا يضمنون بنقصان الجرح لان
شهادتهم لم توجب ضربا جارحا فلم يضف نقصان الجرح إليها كذا هذا قيل له ان النقصان لا يضاف إلى السبب
156

السابق ههنا كمالا يضاف إلى شهادة الشهود هناك الا انه وجب الضمان ههنا لان وجوب ضمان الغصب لا يقف على
الفعل فيستند الضرب إلى سبب كان في يد الغاصب ولا يستند إليه أثره فيصير كأنها ضربت في يد الغاصب فانجرحت
عند الضرب لا بالضرب ولو كان كذلك لضمن الغاصب كذا هذا وإنما اعتبر الأكثر من نقصان الضرب ومن نقصان
الزنا لما ذكرنا فيما تقدم ان النقصانين جميعا حصلا بسبب واحد فتعذر الجمع بين الضمانين فيجب الأكثر ويدخل الأقل
فيه والله تعالى أعلم ولو كانت الجارية المغصوبة سرقت في يد الغاصب فردها على المالك فقطعت عنده يضمن الغاصب
نصف قيمتها في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يضمن الا نقصان السرقة والكلام في هذه المسألة في الطرفين
جميعا على نحو الكلام في المسألة الأولى الا ان أبا حنيفة رحمه الله اعتبر نقصان القطع ههنا ولم يعتبر نقصان عيب السرقة
واعتبر نقصان عيب الزنا هناك لان نقصان القطع يكون أكثر من نقصان السرقة ظاهرا وغالبا فدخل الأقل في
الأكثر بخلاف نقصان عيب الزنا لأنه قد يكون أكثر من نقصان الضرب لذلك اختلف اعتباره والله سبحانه وتعالى
أعلم ولو حمت الجارية المغصوبة في يد الغاصب فردها على المولى فماتت في يده من الحمى التي كانت في يد الغاصب لم يضمن
الغاصب الا ما نقصها الحمى في قولهم جميعا لان الموت يحصل بالآلام التي لا تتحملها النفس وانها تحدث شيئا فشيئا
إلى أن يتناهى فلم يكن الموت حاصلا بسبب كان في ضمان الغاصب فلا يضمن الا قدر نقصان الحمى ولو غصب جارية
محمومة أو حبلى أو بها جراحة أو مرض آخر سوى الحمى فماتت من ذلك في يد الغاصب فهو ضامن لقيمتها وبها ذلك
فرق بين هذا وبين ما إذا ماتت في يد المولى بحبل كان في يد الغاصب حيث جعل هنالك موتها في يد المالك كموتها في يد
الغاصب ولم يجعل ههنا موتها في يد الغاصب كموتها في يد المالك (ووجه) الفرق ان الهلاك هناك حصل بسبب
كان في ضمان الغاصب وهو الحبل لأنه يفضى إليه فأضيف إليه كأنه حصل في يده فتبين ان الرد لم يصح لعدم شرط
الصحة على ما بينا والهلاك ههنا ان حصل بسبب كان في يد المولى لكن لم يحصل بسبب كان في ضمانه لان الحبل
لم يكن مضمونا عليه فإذا غصبها فقد صارت مضمونة بالغصب لان انعقاد سبب الهلاك لا يمنع دخولها في ضمان
الغاصب لان وجوب ضمان الغصب لا يقف على فعل الغاصب فإذا هلك في يده تقرر الضمان لكن منقوصا بما بها من
المرض ونحوه لأنها لم تدخل في ضمان الغصب الا كذلك والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب
جارية سمينة فهزلت في يد الغاصب ان عليه نقصان الهزال ولو عادت سمينة في يده فردها لا شئ عليه لان نقصان
الهزال انجبر بالسمن فصار كان لم يكن أصلا وكذا إذا قلعت سنها في يده فنبتت فردها لأنها لما نبتت ثانيا جعل كأنها لم
تقلع وكذا إذا قطعت يدها في يده فردها مع الأرش لما قلنا والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج نقصان الولادة
انه مضمون على الغاصب لفوات جزء من المغصوب بالولادة الا إذا كان له جابر فينعدم الفوات من حيث المعنى وجملة
الكلام في الجارية المغصوبة إذا نقصتها الولادة ان الامر لا يخلو اما إن كان الام أو الولد جميعا قائمين في يد الغاصب
واما ان هلكا جميعا في يده واما ان هلك أحدهما وبقى الآخر فإن كانا قائمين ردهما على المغصوب منه ثم ينظر إن كان
في قيمة الولد وفاء لنقصان الولادة انجبر به ولا شئ على الغاصب وان لم يكن في قيمته وفاء بالنقصان انجبر بقدره وضمن
الباقي استحسانا وهو قول أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم والقياس ان لا يجوز وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله ولو لم
يكن في الولد وفاء بالنقصان وقت الرد ثم حصل به وفاء بعد الرد لم يعتبر ذلك لان الزيادة لم تحصل في ضمان الغاصب فلا
تصلح لجبر النقصان وقالوا إن نقصان الحبل على هذا الخلاف بان غصب جارية حائلا فحملت في يد الغاصب فردها
إلى المالك فولدت عنده ونقصتها الولادة وفى الولد وفاء لا يضمن الغاصب شيئا خلافا لزفر رحمه الله وعلى هذا الخلاف
إذا بيعت بيعا فاسدا وهي حامل فولدت في يد المشترى ونقصتها الولادة وفى الولد وفاء فرد المشترى الجارية مع الولد إلى
البائع انه لا يضمن شيئا خلافا لزفر وعلى هذا الخلاف إذا كان له جارية للتجارة فحال عليها الحول وقيمتها ألف درهم
فولدت فنقصتها الولادة مائتي درهم وفى الولد وفاء بالنقصان انه يبقى الواجب في جميع الألف ولا يسقط منه شئ وعند
157

زفر رحمه الله يبقى فيما وراء النقصان ويسقط بقدره (وجه) قول زفر رحمه الله في مسألة الغصب انه وجد سبب
وجوب الضمان وهو النقصان فيجب الضمان جبرا لان ضمان الغصب ضمان جبر الفائت وقد حصل الفوات فلابد له
من جابر والولد لا يصلح جابرا له لان الفائت ملك المغصوب منه والولد ملكه أيضا ولا يعقل أن يكون ملك الانسان
جابرا لملكه فلزم جبره بالضمان (ولنا) ان هذا نقصان صورة لا معنى فلا يكون مضمونا كنقصان السن
والسمن والقطع وقد مر والدليل على أن هذا ليس نقصانا معنى ان سبب الزيادة والنقصان واحد وهو
الولادة واتحاد سبب الزيادة والنقصان يمنع تحقق النقصان من حيث المعنى لان الزيادة مال متقوم مثل
الفائت فالسبب الذي فوت أفاد له مثله من حيث المعنى فلم يحصل الفوات الا من حيث الصورة
والصورة غير مضمونة بالقيمة في ضمان العدوان وقد خرج الجواب عن قوله إن جبر ملكه بملكه غير معقول لان
ما ذكرنا يمنع تحقق النقصان من حيث المعنى فيمتنع تحقق الفوات من حيث المعنى فلا حاجة إلى الجابر وان هلكا جميعا
في يد الغاصب ضمن قيمة الام يوم غصب لتحقق الغصب فيها ولم يضمن قيمة الولد عندنا لأنه غير مغصوب وعند
الشافعي رحمه الله يضمن لوجود الغصب فيه وقد مرت المسألة في صدر الكتاب وإن كان الغاصب قتل الولد أو باعه
ضمن قيمته مع قيمة أمه لان الولد إن كان أمانة في يد الغاصب عندنا فالأمانة تصير مضمونة بوجود سبب الضمان فيها
وقد وجد على ما بينا فيما تقدم فإن كانت قيمة الام ألف درهم فنقصتها الولادة مائة درهم والولد يساوى مائتين ضمن
قيمة الام يوم الغصب ألف درهم وضمن من الولد نصف قيمته مائة درهم يدخل ذلك النصف في قيمة الام وان
شئت ضمنته قيمة الام يوم ولدت وقيمة الولد بأمه وكل ذلك سواء لان النقصان إذا انجبر بالولد كان الواجب من
الضمان في الحاصل الف ومائة فان اعتبرت قيمة الام تامة بقي نصف قيمة الولد وان اعتبرت قيمة الام تسعمائة بقي
كل قيمة الولد وان هلك أحدهما وبقى الآخر فان هلك الولد قبل الرد رد الام وضمن نقصان الولادة وليس عليه ضمان
الولد عندنا لأنه هلك أمانة فان هلكت الام وبقى الولد ضمن قيمة الام يوم غصب ورد الولد ولا تجبر الام بالولد وإن كان
في قيمة الولد وفاء بقيمة الام بخلاف ضمان النقصان انه يجبر بالولد لان الجبر هناك لاتحاد سبب النقصان والزيادة
وهو الولادة ولم توجد ههنا لان الولادة سبب لحصول الولد وليست سببا لهلاك الام لأنها لا تفضى إلى الهلاك غالبا
فلم يتحد السبب فيتعذر الجبر والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه ان
للمغصوب منه ان يضمنه النقصان غير أن النقصان إن كان يسيرا لا خيار للمغصوب منه وليس له الا ضمان النقصان
لان ذلك نقص وتعييب فيوجب ضمان نقصان العيب وإن كان فاحشا بان قطعه قباء أو قميصا فهو بالخيار ان شاء
أخذه مقطوعا وضمنه ما نقصه القطع وان شاء تركه عليه وضمنه قيمة ثوب غير مقطوع لان القطع الفاحش يفوت
بعض المنافع المطلوبة من الثوب ألا ترى انه لا يصلح لما كان يصلح له قبل القطع فكان استهلاكا له من وجه فيثبت
له الخيار وكذلك لو غصب شاة فذبحها ولم يشوها ولا طبخها فالمغصوب منه بالخيار ان شاء أخذ الشاة وضمنه
نقصان الذبح وان شاء تركها عليه وضمنه قيمتها يوم الغصب كذا ذكر في الأصل وساء ساخها الغاصب وأربها أو لا
بعد ان لم يكن شواها ولا طبخها وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه ان شاء أخذ الشاة ولا شئ له غيرها وان
شاء ضمنه قيمتها يوم الغصب (وجه) هذه الرواية ان ذبح الشاة إن كان نقصانا صورة فهو زيادة من حيث المعنى لان
المقصود من الشاة اللحم والذبح وسيلة إلى هذا المقصود فلم يكن نقصانا بل كان زيادة حيث رفع عنه مؤنة الوسيلة فكان
الغاصب محسنا في الذبح وقد قال الله تبارك وتعالى ما على المحسنين من سبيل فإذا اختار أخذ اللحم لا يلزمه شئ آخر
الا انه ثبت له خيار الترك عليه ويضمنه القيمة لفوات مقصود ما في الجملة (وجه) رواية الأصل ان الشاة كما يطلب منها
اللحم يطلب منها مقاصد أخر من الدر والنسل والتجارة فكان الذبح تفويتا لبعض المقاصد المطلوبة منها فكان
تنقيصا لها واستهلاكا من وجه فيثبت له خيار تضمين النقصان وخيار تضمين القيمة كما في مسألة الثوب وعلى هذا
158

الأصل يخرج ما إذا غصب من إنسان عينا من ذوات القيم أو من ذوات الأمثال ونقلها إلى بلدة أخرى فالتقيا والعين
في يد الغاصب وقيمتها في ذلك المكان أقل من قيمتها في مكان الغصب ان للمغصوب منه ان يطالبه في ذلك المكان
بقيمتها التي في مكان الغصب لان قيم أعيان تختلف باختلاف الأماكن بالزيادة والنقصان فإذا نقلها إلى ذلك المكان
وقيمتها فيه أقل من قيمتها في مكان الغصب فقد نقصها من حيث المعنى بالنقل فلو أجبر على أخذ العين لتضرر به من جهة
الغاصب فيثبت له الخيار ان شاء طالبه بالقيمة التي في مكان الغصب وان شاء انتظر العود إلى مكان الغصب بخلاف
ما إذا وجده في البلد الذي غصبه فيه وقد انتقص السعر انه لا يكون له خيار لان النقصان هناك ما حصل بصنعه لأنه
حصل بتغير السعر ولا صنع للعبد في ذلك بل هو محض صنع الله عز وجل أعنى مصنوعه فلم يكن مضمونا عليه ولو كانت
قيمة العين في المكان المنقول إليه مثل قيمتها في مكان الغصب أو أكثر ليس له ولاية المطالبة بالقيمة لان الحكم الأصلي
للغصب هو وجوب رد العين حال قيام العين والمصير إلى القيمة لدفع الضرر وههنا يمكن الوصول إلى العين من غير ضرر
يلزمه فلا يملك العدول إلى القيمة ولو كان المغصوب دراهم أو دنانير فليس له ان يطالبه بالقيمة وان اختلف السعر لان
الدراهم والدنانير جعلت أثمان الأشياء ومعنى الثمنية لا يختلف بالاختلاف الأماكن عادة لأنه ليس لها حمل ومؤنة لعزتها
وقلتها عادة فلم يكن النقل نقصانا لها باختلاف الأماكن للحاجة إلى الحمل والمؤنة ولم يوجد فلم يكن له ولاية المطالبة بالقيمة
وله ان يطالبه برد عينها لأنه هو الحكم الأصلي للغصب والمصير إلى القيمة لعارض العجز أو الضرر ولم يوجد هذا إذا
كانت العين المغصوبة قائمة في يد الغاصب فاما إذا كانت هالكة فالتقيا فإن كانت من ذوات القيم أخذ قيمتها التي كانت
وقت الغصب لأنها إذا هلكت تبين ان الغصب السابق وقع اتلافا من حين وجوده والحكم يثبت من حين وجود
سببه وإن كان من ذوات الأمثال ينظر إن كان سعرها في المكان الذي التقيا فيه أقل من سعرها في مكان الغصب
فالمغصوب منه بالخيار ان شاء أخذ القيمة التي للعين في مكان الغصب وان شاء انتظر ولا يجبر على أخذ المثل في هذا
المكان لما ذكرنا انه نقص العين بالنقل إلى هذا المكان لما بينا ان اختلاف قيمة الأشياء التي لها حمل ومؤنة يختلف
باختلاف المكان لمكان الحمل والمؤنة فالجبر على الاخذ في هذا المكان يكون اضرارا به فيثبت له الخيار ان شاء
أخذ القيمة وان شاء انتظر كما لو كانت العين قائمة وقيمتها في هذا المكان أقل وإن كانت قيمتها في هذا المكان مثل
قيمتها في مكان الغصب كان للمغصوب منه ان يطالبه بالمثل لأنه لا ضرر فيه على أحد وإن كانت قيمتها في
مكان الخصومة أكثر من قيمتها في مكان الغصب بالخيار ان شاء أعطى المثل في مكان الخصومة وان
شاء أعطى القيمة في مكان الغصب لان في الزام تسليم المثل في مكان الخصومة ضررا بالغا صلا وفى التأخير إلى
العود إلى مكان الغصب ضررا بالمغصوب منه فيسلم إليه في هذا المكان القيمة التي له في مكان الغصب الا ان
يرضى المغصوب منه بالتأخير والله سبحانه وتعالى أعلم وإن كان المغصوب من أموال الربا لا يجوز بيعه بجنسه
متفاضلا كالمكيلات والموزونات فانتقص في يد الغاصب بصنعه أو بغير صنعه فليس للمغصوب منه
أن يأخذه منه ويضمنه قيمة النقصان لأنه يؤدى إلى الربا وعلى هذا يخرج ما إذا غصب حنطه فعفنت في يد
الغاصب أو ابتلت أو صب الغاصب فيها ماء فانتقصت قيمتها ان صاحبها بالخيار ان شاء أخذها بعينها
ولا شئ له غيرها وان شاء تركها على الغاصب وضمنه مثل ما غصبت وليس له ان يأخذها ويضمنه النقصان وهذا
عندنا وعند الشافعي رحمه الله ذلك بناء على أن الجودة بانفرادها لا قيمة لها في أموال الربا عندنا وعنده لها قيمة
والمسألة مرت في كتاب البيوع وإذا لم تكن متقومة لا تكون مضمونة لان المضمون هو المال المتقوم ولأنها إذا لم
تكن متقومة تؤدى إلى الربا ولو غصب درهما صحيحا أو دينارا صحيحا فانكسر في يده أو كسره إن كان في موضع
لا يتفاوت الصحيح والمكسر في القيمة لا شئ على الغاصب وإن كان في موضع يتفاوت فصاحبها بالخيار ان
شاء أخذه منه بعينه ولا شئ له غيره وان شاء تركه عليه وضمنه مثل ما أخذ وليس له أن يأخذه بعينه ويضمنه
159

النقصان عندنا خلافا للشافعي رحمه الله بناء على الأصل الذي ذكرنا وإن كان المغصوب اناء فضة أو ذهب فانهشم في
يد الغاصب أو هشمه فالمالك بالخيار ان شاء أخذه بعينه ولا شئ له غيره وان شاء ضمنه قيمته من خلاف الجنس
لان الجودة لا قمية لها بانفرادها فاما مع الأصل فمتقومة خصوصا إذا حصلت بصنع العباد فلابد من التضمين
والتضمين بالمثل غير ممكن لأنه لا مثل له فوجب التضمين بالقيمة ثم لا سبيل إلى تضمينه بجنسه لأنه يؤدى إلى الربا
فلزم تضمينه بخلاف جنسه بخلاف الدراهم والدنانير لان هناك ايجاب بالمثل ممكن هو الأصل في الباب فلا يعدل
عن الأصل من غير ضرورة ولو قضى عليه بالقيمة من خلاف الجنس ثم تفرقا قبل التقابض من الجانبين لا يبطل القضاء
عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم لان القيمة قامت مقام العين وعند زفر رحمه الله يبطل لأنه صرف وكذلك آنية الصفر
والنحاس والشبة والرصاص إن كانت تباع وزنا فهي وآنية الذهب والفضة سواء لأنها إذا كانت تباع وزنا لم تخرج
بالصناعة عن حد الوزن فكانت موزونة فكانت من أموال الربا كالذهب والفضة فإذا انهشمت في يد الغاصب نفسه
أو غيره فحدث فيها عيب فاحش أو يسير ان شاء أخذه كذلك ولا شئ له غيره وان شاء تركه عليه بالقيمة من الدراهم
والدنانير ولا يكون التقابض فيه شرطا بالاجماع وكذلك هذا الحكم في كل مكيل وموزون إذا نقص من وصفه
لا من الكيل والوزن وإن كانت تباع عددا فانكسرت أو كسرت إن كان ذلك لم يورث فيه عيبا فاحشا فليس لصاحبه
فيه خيار الترك ولكنه يأخذها ويضمنه نقصان القيمة وإن كان أورث عيبا فاحشا فصاحبها بالخيار ان شاء أخذها
وأخذ قيمة النقصان وان شاء تركها عليه وضمنه قيمتها صحيحا وعلى هذا يخرج ما إذا غصب عصيرا فصار خلا في يده
أو لبنا حليبا فصار مخيضا أو عنبا فصار زبيبا أو رطبا فصار تمرا ان المغصوب منه بالخيار ان شاء أخذ ذلك الشئ بعينه
ولا شئ له غيره لأن هذه من أموال الربا فلم تكن الجودة فيها بانفرادها متقومة فلا تكون متقومة وان شاء تركه على
الغاصب وضمنه مثل ما غصب لما ذكرنا فيما تقدم وأما طريق معرفة النقصان فهو ان يقوم صحيحا ويقوم وبه العيب
فيجب قدر ما بينهما لأنه لا يمكن معرفة قدر النقصان الا بهذا الطريق والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الذي يتعلق بحال
زيادة المغصوب فنقول وبالله التوفيق إذا حدثت زيادة في المغصوب في يد الغاصب فالزيادة لا تخلو اما إن كانت
منفصلة عن المغصوب واما إن كانت متصلة به فإن كانت منفصلة عنه أخذها المغصوب منه مع الأصل ولا شئ
عليه للغاصب سواء كانت متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن والصوف أو ما هو في حكم المتولد كالأرش والعقر أو
غير متولدة منه أصلا كالكسب من الصيد والهبة والصدقة ونحوها لان المتولد منها نماء ملكه فكان ملكه وما هو في
حكم المتولد بدل جزء مملوك أو بدل ماله حكم الجزء فكان مملوكا له وغير المتولد كسب ملكه فكان ملكه وأما بدل
المنفعة وهو الأجرة بان آجر الغاصب المغصوب يملكه الغاصب عندنا ويتصدق به خلافا للشافعي رحمه الله بناء على أن
المنافع ليست بأموال متقومة بأنفسها عندنا حتى لا تضمن بالغصب والاتلاف وإنما يتقوم بالعقد وانه وجد من الغاصب
وعنده هي أموال متقومة بأنفسها مضمونة بالغصب والاتلاف كالأعيان وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم والله سبحانه
وتعالى أعلم وإن كانت متصلة به فإن كانت متولدة كالحسن والجمال والسمن والكبر ونحوها أخذها المالك مع
الأصل ولا شئ عليه للغاصب لأنها نماء ملكه وإن كانت غير متولدة منه ينظر إن كانت الزيادة عين مال متقوم قائم في
المغصوب وهو تابع للمغصوب فالمغصوب منه بالخيار على ما نذكر إن شاء الله تعالى وان لم تكن عين مال متقوم قائم
أخذها المغصوب منه ولا شئ للغاصب وإن كانت عين مال متقوم ولكنه ليس ببيع للمغصوب بل هي أصل
بنفسها تزول عن ملك المغصوب منه وتصير ملكا للغاصب للضمان وبيان هذا في مسائل إذا غصب من إنسان
ثوبا فصبغه الغاصب بصبغ نفسه فان صبغه أحمر أو اصفر بالعصفر والزعفران وغيرهما من الألوان سوى السواد
فصاحب الثوب بالخيار ان شاء أخذ الثوب من الغاصب وأعطاه ما زاد الصبغ فيه اما ولاية اخذ الثوب فلان الثوب
ملكه لبقاء اسمه ومعناه واما ضمان ما زاد الصبغ فيه فلان للغاصب عين مال متقوم قائم فلا سبيل إلى ابطال
160

ملكه عليه من غير ضمان فكان الاخذ بضمان رعاية للجانبين وان شاء ترك الثوب على الغاصب وضمنه
قيمة ثوبه ابيض يوم الغصب لأنه لا سبيل إلى جبره على اخذ الثوب إذ لا يمكنه اخذه الا بضمان وهو قيمة
ما زاد الصبغ فيه ولا سبيل إلى جبره على الضمان لانعدام مباشرة سبب وجوب الضمان منه وقيل له خيار ثالث
وهو ان له ترك الثوب على حاله وكان الصبغ فيه للغاصب فيباع الثوب ويقسم الثمن على قدر حقهما
كما إذا انصبغ لا بفعل أحد لان الثوب ملك المغصوب منه والصبغ ملك الغاصب والتمييز متعذر فصارا
شريكين في الثوب فيباع الثوب ويقسم الثمن بينهما على قدر حقهما وإنما كان الخيار للمغصوب منه لا للغاصب وإن كان
للغاصب فيه ملك أيضا وهو الصبغ لان الثوب أصل والصبغ تابع له فتخيير صاحب الأصل أولى من أن
يخير صاحب التبع وليس للغاصب ان يحبس الثوب بالعصفر لأنه صاحب تبع وان صبغه اسود اختلف فيه قال أبو
حنيفة رحمه الله صاحب الثوب بالخيار ان شاء تركه على الغاصب وضمنه قيمة ثوبه أبيض وان شاء أخذ الثوب ولا
شئ للغاصب بل يضمنه النقصان وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله السواد وسائر الألوان سواء وهذا بناء على
أن السواد نقصان عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه يحرق الثوب فينقصه وعندهما زيادة كسائر الألوان وقيل إنه
لا خلاف بينهم في الحقيقة وجواب أبي حنيفة رحمه الله في سواد ينقص وجوابهما في سواد يزيد وقيل كان السواد
يعد نقصانا في زمنه وزمنهما كان يعد زيادة فكان اختلاف زمان والله سبحانه وتعالى أعلم وأما العصفر إذا نقص
الثوب بأن كانت قيمة الثوب ثلاثين فعادت قيمته بالصبغ إلى عشرين فإنه ينظر إلى قدر ما يزيد هذا الصبغ لو كان
في ثوب يزيد هذا الصبغ قيمته ولا ينقص فإن كان يزيده قدر خمسة دراهم فصاحب الثوب بالخيار ان شاء ترك
الثوب على الغاصب وضمنه قيمة الثوب أبيض ثلاثين درهما وان شاء أخذ الثوب وأخذ من الغاصب خمسة دراهم
كذا قال محمد رحمه الله لان العصفر نقص من هذا الثوب عشرة دراهم الا أن يقدر خمسة فيه صبغ فانجبر نقصان الخمسة
به أو صارت الخمستان قصاصا وبقى نقصان خمسة دراهم فيرجع عليه بخمسة وكذلك السواد على هذا والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو صبغ الثوب المغصوب بعصفر نفسه وباعه وغاب ثم حضر صاحب الثوب يقضى له بالثوب ويستوثق
منه بكفيل أما القضاء بالثوب لصاحب الثوب فلما ذكرنا ان الثوب أصل والصبغ تابع له فكان صاحب الثوب
صاحب أصل فكان اعتبار جانبه أولى وأما الاستيثاق بكفيل فلان للغاصب فيه عين مال مقتوم قائم ولو وقع الثوب
المغصوب في صبغ انسان فصبغ به أو هبت الريح بثوب انسان فالقته في صبغ غيره فانصبغ به فإن كان الصبغ
عصفرا أو زعفرانا فصاحب الثوب بالخيار ان شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد الصبغ فيه لما مر وان شاء امتنع لما
ذكرنا انه لا سبيل إلى جبره على الضمان لانعدام مباشرة سبب وجوب الضمان منه فيباح الثوب فيضرب كل واحد
منهما بحقه فيضرب صاحب الثوب بقيمة ثوبه أبيض لان حقه في الثوب الأبيض وصاحب الصبغ يضرب بقيمة
الصبغ في الثوب وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه لان حقه في الصبغ القائم في الثوب لا في الصبغ المنفصل وإنما ثبت
الخيار لصاحب الثوب لا للغاصب لما بينا وإن كان سوادا أخذه صاحب الثوب ولا شئ عليه من قيمة الصبغ بل
يضمنه النقصان إن كان غاصبا لان النقصان حصل في ضمانه وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما حكمه حكم
سائر الألوان على ما بينا والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك السمن يخلط بالسويق المغصوب أو يخلط به فالسويق
بمنزلة الثوب والسمن بمنزلة الصبغ لان السويق أصل والسمن كالتابع له ألا ترى انه يقال سويق ملتوت ولا يقال
سمن ملتوت وأما العسل إذا خلط بالسمن أو اختلط به فكلاهما أصل وإذا خلط المسك بالدهن أو اختلط به
فإن كان يزيد الدهن ويصلحه كان المسك بمنزلة الصبغ وإن كان دهنا لا يصلح بالخلط ولا تزيد قيمته كالادهان
المنتنة فهو هالك ولا يعتد به والله سبحانه وتعالى أعلم ولو غصب من إنسان ثوبا ومن إنسان صبغا فصبغه به ضمن
لصاحب الصبغ صبغا مثل صبغه لأنه أتلف عليه صبغه وهو من ذوات الأمثال فيكون مضمونا بالمثل فبعد ذلك حكمه
161

وحكم ما إذا صبغ الثوب المغصوب بصبغ نفسه سواء لأنه ملك الصبغ بالضمان وقد بينا ذلك ولو غصب من إنسان
ثوبا ومن آخر صبغا فصبغه فيه ثم غاب ولم يعرف فهذا وما إذا انصبغ بغير فعل أحد سواء استحسانا والقياس ان
لا يكون لصاحب الصبغ على صاحب الثوب سبيل (وجه) القياس ما ذكرنا ان الصبغ صار مضمونا عليه لوجود
الاتلاف منه فملكه بالضمان وزال عنه ملك صاحبه (وجه) الاستحسان انه إذا غاب الغاصب على وجه لا يعرف
لا يمكن اعتبار فعله في إدارة الحكم عليه فيجعل كأنه حصل لا بصبغ أحد ولو غصب ثوبا وعصفرا من رجل واحد
فصبغه به فالمغصوب منه يأخذ الثوب مصبوغا ويبرى الغاصب من الضمان في العصفر والثوب استحسانا والقياس
ان يضمن الغاصب عصفرا مثله ثم يصير كأنه صبغ ثوبه بعصفر نفسه فيثبت الخيار لصاحب الثوب لما ذكرنا انه أتلف
عليه عصفره وملكه بالضمان فهذا رجل صبغ ثوبا بعصفر نفسه فيثبت الخيار لصاحب الثوب (وجه) الاستحسان
ان المغصوب منه واحد فالغاصب خلط مال المغصوب منه بماله وخلط مال الانسان بماله لا يعد استهلاكا له بل
يكون نقصانا فإذا اختار أخذ الثوب فقد أبرأه عن النقصان ولو كان العصفر لرجل والثوب لاخر فرضيا أن يأخذاه
كما يأخذ الواحد ان لو كانا له فليس لهما ذلك لان المالك ههنا اختلف فكان الخلط استهلاكا والله سبحانه وتعالى
أعلم ولو غصب انسان عصفر أو صبغ به ثوب نفسه ضمن عصفرا مثله لأنه استهلك عليه عصفره وله مثل فيضمن
مثله وليس لصاحب العصفر أن يحبس الثوب لان الثوب أصل والعصفر تبع له والسواد في هذا بمنزلة العصفر في قول
أبي حنيفة رضي الله عنه أيضا لان هذا ضمان الاستهلاك والألوان كلها في حكم ضمان الاستهلاك سواء والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو غصب دارا فجصصها ثم ردها قيل لصاحبها اعطه ما زاد التجصيص فيها الا أن يرضى صاحب الدار
أن يأخذ الغاصب جصه لان للغاصب فيها عين مال متقوم قائم وهو الجص فلا يجوز ابطال حقه عليه من غير عوض
فيخير صاحب الدار لأنه صاحب أصل فان شاء أخذها وغرم للغاصب ما زاد التجصيص فيها وان شاء رضى بأن
يأخذ جصه ولو غصب مصحفا فنقطه روى عن أبي يوسف رحمه الله أن لصاحبه أخذه ولا شئ عليه وقال محمد
رحمه الله صاحبه بالخيار ان شاء أعطاه ما زاد النقط فيه وان شاء ضمنه قيمته غير منقوط (وجه) قوله إن النقط
زيادة في المصحف فأشبه الصبغ في الثوب (وجه) ما روى عن أبي يوسف أن النقط أعيان لا قيمة لها فلم يكن
للغاصب فيه عين مال متقوم قائم بقي مجرد عمله وهو النقط ومجرد العمل لا يتقوم الا بالعقد ولم يوجد ولان النقط في
المصحف مكروه ألا ترى إلى ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال جردوا القرآن وإذا كان التجريد مندوبا إليه
كان النقط مكروها فلم يكن زيادة فكان لصاحب المصحف أخذه ولو غصب حيوانا فكبر في يده أو سمن
أو ازدادت قيمته بذلك فلصاحبه ان يأخذه ولا شئ عليه للغاصب لأنه ليس للغاصب فيه عين مال متقوم قائم وإنما
الزيادة نماء ملك المالك وكذلك لو غصب جريحا أو مريضا فداواه حتى برأ وصح لما قلنا ولا يرجع الغاصب على
المالك بما انفق لأنه أنفق على مال الغير بغير اذنه فكان متبرعا وكذلك لو غصب أرضا فيها زرع أو شجر فسقاه
الغاصب وأنفق عليه حتى انتهى بلوغه وكذلك لو كان نخلا اطلع فابره ولقحه وقام عليه فهو للمغصوب منه ولا شئ
للغاصب فيما أنفق لما قلنا ولو كان حصد الزرع فاستهلكه أوجد من الثمر شيئا أوجز الصوف أو حلب كان ضامنا لأنه
أتلف مال الغير بغير اذنه فيضمن ولو غصب ثوبا ففتله أو غسله أو قصره فلصاحبه أن يأخذه ولا شئ للغاصب لأنه
ليس للغاصب عين مال متقوم قائم فيه أما الفتل فإنه تغيير الثوب من صفة إلى صفة (أما) الغسل فإنه إزالة الوسخ عن
الثوب وإعادة له في الحالة الأولى والصابون أو الحرض فيه يتلف ولا يبقى وأما القصارة فإنها تسوية أجزاء الثوب فلم
يحصل في المغصوب زيادة عين مال متقوم قائم فيه ولو غصب من مسلم خمرا فخللها فلصاحبها أن يأخذ الخل من غير شئ
لان الخل ملكه لان الملك كان ثابتا له في الخمر وإذا صار خلا حدث الخل على ملكه وليس للغاصب فيه عين مال
متقوم قائم لان الملح الملقى في الخمر يتلف فيها فصار كما لو تخللت بنفسها في يده ولو كان كذلك لاخذه من غير شئ كذا
162

هذا وقيل موضوع المسألة انه خللها بالنقل من الظل إلى الشمس لا بشئ له قيمة وهو الصحيح وعلى هذا يخرج ما
إذا غصب جلد ميتة ودبغه انه ان دبغه بشئ لا قيمة له كالماء والتراب والشمس كان لصاحبه ان يأخذه ولا شئ عليه
للغاصب لان الجلد كان ملكه وبعدما صار مالا بالدباغ بقي على حكم ملكه وليس لصاحبه فيه عين مال متقوم قائم إنما فيه
مجرد فعل الدباغ ومجرد العمل لا يتقوم الا بالعقد ولم يوجد هذا إذا أخذه من منزله فدبغه فاما إذا كانت الميتة ملقاة على
الطريق فأخذ جلدها فدبغه فلا سبيل له على الجلد لان الالقاء في الطريق إباحة للاخذ كالقاء النوى وقشور الرمان
على قوارع الطرق ولو هلك الجلد المغصوب بعدما دبغه بشئ لا قيمة له لا ضمان عليه لأن الضمان لو وجب عليه
اما ان يجب بالغصب السابق واما ان يجب بالاتلاف لا سبيل إلى الأول لأنه لا قيمة له وقت الغصب ولا سبيل إلى
الثاني لأنه لم يوجد الاتلاف من الغاصب وان استهلكه يضمن بالاجماع لأنه كان ملكه قبل الدباغ وبعدما صار مالا
بالدباغ بقي على حكم ملكه لا حق للغاصب فيه واتلاف مال مملوك للغير بغير اذنه لا حق له فيه فيوجب الضمان ولو دبغه
بشئ متقوم كالقرظ والعفص ونحوهما فلصاحبه أن يأخذه ويغرم له ما زاد الدباغ فيه لأنه ملك صاحبه وللغاصب فيه
عين ملك متقوم قائم فلزم مراعاة الجانبين وذلك فيما قلنا وليس له ان يضمنه قيمة الجلد لأنه لو ضمنه قيمته لضمنه يوم
الغصب ولم يكن له قيمة يوم الغصب ولو هلك في يده بعدما دبغه لا ضمان عليه لما بينا ولو استهلكه فكذلك عند أبي
حنيفة رضي الله عنه وذكر في ظاهر الرواية أن على قولهما يضمن قيمته مدبوغا ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه وذكر
الطحاوي رحمه الله في مختصره ان عندهما يغرم قيمته ان لو كان الجلد ذكيا غير مدبوغ (وجه) قولهما انه أتلف مالا
متقوما مملوكا بغير اذن مالكه فيوجب الضمان كما إذا دبغه بشئ لا قيمة له فاستهلكه وإنما قلنا ذلك أما المالية والتقوم
فلان الجلد بالدباغ صار مالا متقوما (وأما) الملك فلانه كان ثابتا له قبل الدباغ وبعده بقي على حكم ملكه ولهذا
وجب عليه الضمان فيما إذا دبغه بمالا قيمة له كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان التقوم حدث بصنع الغاصب
فلا يجب الضمان عليه لان الأصل ان الحادث بفعل الانسان يكون حقا له فلا يمكن ايجاب الضمان عليه فالتحق هذا
الوصف بالعدم فكان هذا اتلاف مال لا قيمة له من حيث المعنى فلا يجب الضمان ولان تقوم الجلد تابع لما زاد الدباغ
فيه لأنه حصل بالدباغ وما زاد الدباغ مضمون فيه فكذا ما هو تابع له يكون ملحقا به والمضمون ببدل لا يضمن
بالقيمة عند الاتلاف كالمبيع قبل القبض بخلاف ما إذا دبغه بشئ لا قيمة له لان هناك ما زاد الدباغ فيه غير مضمون
فلم يوجد الأصل فلا يلحق به غيره وإن كان الجلد ذكيا فدبغه فان دبغه بمالا قيمة له فلصاحبه ان يأخذه ولا شئ عليه
لما ذكرنا انه ملك صاحبه وليس للغاصب فيه عين مال متقوم قائم وليس له ان يضمن الغاصب شيئا لان الجلد قائم لم
ينتقص ولو دبغه بماله قيمة فصاحبه بالخيار ان شاء ضنه قيمته غير مدبوغ وان شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه
لما ذكرنا في الثوب المغصوب إذا صبغه أصفر أو أحمر بصبغ نفسه ولو أن الغاصب جعل هذا الجلد أديما أو زقا أو دفترا
أو جرابا أو فروا لم يكن للمغصوب منه على ذلك سبيل لأنه صار شيئا آخر حيث تبدل الاسم والمعنى فكان استهلاكا
له معنى ثم إن كان الجلد ذكيا فله قيمته يوم الغصب وإن كان ميتة فلا شئ ولو غصب عصير المسلم فصار خمرا في يده أو
خلا ضمن عصيرا مثله لأنه هلك في يده بصيرورته حمرا أو خلا والعصير من ذوات الأمثال فيكون مضمونا بالمثل
والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم اختلاف الغاصب والمغصوب منه إذا قال الغاصب هلك المغصوب في يدي ولم يصدقه
المغصوب منه ولا بينة للغاصب فان القاضي يحبس الغاصب مدة لو كان قائما لاظهره في تلك المدة ثم يقضى عليه بالضمان
لما قلنا فيما تقدم ان الحكم الأصلي للغصب هو وجوب رد عين المغصوب والقيمة خلف عنه فما لم يثبت العجز عن
الأصل لا يقضى بالقيمة التي هي خلف ولو اختلفا في أصل الغصب أو في جنس المغصوب ونوعه أو قدره أو صفته أو
قيمته وقت الغصب فالقول في ذلك كله قول الغاصب لان المغصوب منه يدعى عليه الضمان وهو ينكر فكان القول قوله
163

إذ القول في الشرع قول المنكر ولو أقر الغاصب بما يدعى المغصوب منه وادعى الرد عليه لا يصدق الا ببينة لان
الاقرار بالغصب اقرار بوجود سبب وجود الضمان منه فهو بقوله رددت عليك يدعى انفساخ السبب فلا يصدق من
غير بينة وكذا لو ادعى الغاصب ان المغصوب منه هو الذي أحدث العيب في المغصوب لا يصدق الا ببينة
لان الاقرار بوجود الغصب منه اقرار بوجود الغصب بجميع أجزائه في ضمانه فهو يدعى احداث العيب من
المغصوب منه ويدعى خروج بعض اجزائه عن ضمانه فلا يصدق الا ببينة ولو أقام المغصوب منه البينة أنه غصب
الدابة ونفقت عنده وأقام الغاصب البينة انه ردها إليه وانها نفقت عنده فلا ضمان عليه لان من الجائز ان شهود
المغصوب منه اعتمدوا في شهادتهم على استصحاب الحال لما انهم علموا بالغصب وما علموا بالرد فبنوا الامر على
ظاهر بقاء المغصوب في يد الغاصب إلى وقت الهلاك وشهود الغاصب اعتمدوا في شهادتهم بالرد حقيقة الامر وهو
الرد لأنه أمر لم يكن فكانت الشهادة القائمة على الرد أولى كما في شهود الجرح مع شهود التزكية وروى عن أبي يوسف
رحمه ان الغاصب ضامن والله تعالى أعلم ولو أقام المغصوب منه البينة أنه غصب منه هذا العبد ومات عنده وأقام
الغاصب البينة ان العبد مات في يد مولاه قبل الغصب لم ينتفع بهذه الشهادة لان موته في يد مولاه قبل الغصب
لا يتعلق به حكم فلم تقبل الشهادة عليه والتحقت بالعدم فيجب العمل بشهادة شهود المغصوب منه ولان من الجائز ان
شهود الغاصب اعتمدوا استصحاب الحال وهو حال اليد التي كانت عليه للمولى لجواز انهم علموها ثابتة
ولم يعلموا بالغصب وظنوا تلك اليد قائمة فاستصحبوها وشهود المغصوب منه اعتمدوا في شهادتهم تحقق الغصب
فكانت شهادتهم أولى بالقبول ولو أقام المغصوب منه البينة ان الغاصب غصب هذا العبد يوم النحر بالكوفة
وأقام الغاصب البينة انه كان يوم النحر بمكة هو والعبد فالضمان واجب على الغاصب لان بينة الغاصب لا يتعلق
بها حكم فالتحقت بالعدم فبقيت بينة المغصوب منه بلا معارض فلزم العمل بها وقال محمد رحمه الله في الاملاء
إذا أقام الغاصب البينة أنه مات في يد المغصوب منه وأقام المغصوب منه البينة أنه مات في يد الغاصب فالبينة بينة
الغاصب لما ذكرنا ان بينته قامت على اثبات أمر لم يكن وهو الرد وبينة المغصوب منه قامت على ابقاء ما كان على
ما كان وهو الغضب فكانت بينة الرد أولى والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أقام المغصوب منه البينة ان الدابة نفقت
عند الغاصب من ركوبه وأقام الغاصب البينة أنه ردها إليه فالبينة بينة المغصوب منه وعلى الغاصب القيمة
لان بينة الغاصب لا تدفع بينة المغصوب منه لأنها قامت على رد المغصوب ومن الجائز أنه ردها ثم غصبها ثانيا
وركبها فنفق في يده فأمكن الجمع بين البينتين وكذلك لو شهد شهود صاحب الدابة ان الغاصب قتلها وشهد شهود
الغاصب أنه ردها إليه لما قلنا كما إذا قال رجل لآخر غصبنا منك ألفا ثم قال كنا عشرة قال أبو يوسف رحمه الله
لا يصدق وقال زفر رحمه الله يصدق (وجه) قوله إن قوله غصبنا منك حقيقة للجمع والعمل بحقيقة اللفظ
واجب وفى الحمل على الواحد ترك للعمل بالحقيقة فيصدق (وجه) قول أبى يوسف ان العمل بالحقيقة واجب ما
أمكن وههنا لا يمكن لان قوله غصبنا اخبار عن وجود الغصب من جماعة مجهولين فلو عملنا بحقيقة لألغينا كلامه ولا
شك ان العمل بالمجاز أولى من الالغاء والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما مسائل الاتلاف فالكلام فيها ان الاتلاف لا يخلو اما ان ورد على بني آدم واما ان ورد على غيرهم
من البهائم والجمادات فان ورد على بني آدم فحكمه في النفس وما دونها نذكره في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى وان
ورد على غير بني آدم فإنه يوجب الضمان إذا استجمع شرائط الوجوب فيقع الكلام فيه في ثلاثة مواضع في بيان كونه
سببا لوجوب الضمان وفي بيان شروط وجوب الضمان وفي بيان ماهية الضمان الواجب (أما) الأول فلا شك ان
الاتلاف سبب لوجوب الضمان عند استجماع شرائط الوجوب لان اتلاف الشئ اخراجه من أن يكون منتفعا
به منفعة مطلوبة منه عادة وهذا اعتداء واضرار وقد قال الله سبحانه وتعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
164

ما اعتدى عليكم وقال عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا اضرار في الاسلام وقد تعذر نفى الضرر من حيث
الصورة فيجب نفيه من حيث المعنى بالضمان ليقوم الضمان مقام المتلف فينتفى الضرر بالقدر الممكن ولهذا وجب
الضمان بالغصب فبالاتلاف أولى لأنه في كونه اعتداء واضرارا فوق الغصب فلما وجب بالغصب فلان يجب
بالاتلاف أولى سواء وقع اتلافا له صورة ومعنى باخراجه عن كونه صالحا للانتفاع أو معنى باحداث معنى فيه يمنع من
الانتفاع به مع قيامه في نفسه حقيقة لان كل ذلك اعتداء واضرار وسواء كان الاتلاف مباشرة بايصال الآلة
بمحل التلف أو تسبيبا بالفعل في محل يفضى إلى تلف غيره عادة لان كل واحد منهما يقع اعتداء واضرارا فيوجب
الضمان وبيان ذلك في مسائل إذا قتل دابة انسان أو أحرق ثوبه أو قطع شجرة انسان أو أراق عصيره أو هدم بناءه
ضمن سواء كان المتلف في يد المالك أو في يد الغاصب لتحقق الاتلاف في الحالين غير أن المغصوب إن كان
منقولا وهو في يد الغاصب يخير المالك ان شاء ضمن الغاصب وان شاء ضمن المتلف لوجود سبب وجوب الضمان
من كل واحد منهما فان ضمن الغاصب فالغاصب يرجع بما ضمن على المتلف لأنه ملك المغصوب بالمضان فتبين
ان الاتلاف ورد على ملكه وان ضمن المتلف لا يرجع بالضمان على أحد وإن كان عقارا ضمن المتلف ولا يضمن
الغاصب عندهما وعند محمد رحمه الله الجواب فيه وفى المنقول سواء بناء على أن العقار غير مضمون بالغصب عندهما
وعنده مضمون به فكان له أن يضمن أيهما شاء كما في المنقول وكذلك إذا نقص مال انسان بما لا يجرى فيه الربا
ضمن النقصان سواء كان في يد المالك أو في يد الغاصب لان النقص اتلاف جزء منه وتضمينه ممكن لأنه لا يؤدى
إلى الربا فيضمن قدر النقصان بخلاف الأموال الربوية على ما مر غير أن النقصان إن كان بفعل غير الغاصب
فالمغصوب منه بالخيار ان شاء ضمن الغاصب ويرجع الغاصب على الذي نقص وان شاء ضمن الذي نقص
وهو لا يرجع على أحد لما قلنا ولو غصب عبدا قيمته ألف درهم فازداد في يد الغاصب حتى صارت قيمته الفين
فقتله انسان خطا فالمالك بالخيار ان شاء ضمن الغاصب قيمته وقت الغصب ألف درهم وان شاء ضمن القاتل
قيمته وقت القتل الفين لأنه وجد سببا وجوب الضمان الغصب والقتل والزيادة الحادثة في يد الغاصب غير مضمونة
بالغصب وهي مضمونة بالقتل لذلك ضمن الغاصب ألفا والقاتل الفين فان ضمن القاتل فإنه لا يرجع على أحد وان ضمن
الغاصب فالغاصب يرجع على عاقلة القاتل بألفين ويتصدق بالفضل على الألف وأما الرجوع عليهم بألفين فلانه ملك
المغصوب بالضمان فتبين أن القتل ورد على عبد الغاصب فيضمن قيمته وأما التصدق بالفضل على الألف فلتمكن
الخبث فيه لاختلال الملك وينبغي أن يكون هذا على أصل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله اظهر فاما على أصل أبى يوسف
رحمه الله فالفضل طيب له ولا يلزمه التصدق به وان قتله الغاصب بعد الزيادة خطأ فالمغصوب منه بالخيار ان شاء
ضمنه الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم وان شاء ضمنه عاقلته قيمته يوم القتل الفي درهم وهو الصحيح بخلاف
المغصوب إذا كان حيوانا سوى بني آدم فقتله الغاصب بعد الزيادة انه لا يضمن قيمته الا يوم الغصب ألف درهم
عند أبي حنيفة رحمه الله وقد بينا له الفرق بينهما فيما تقدم ولو قتل العبد نفسه في يد الغاصب بعد حدوث الزيادة ضمن
الغاصب قيمته يوم الغصب ألفا لان قتله نفسه يهدر فيلحق بالعدم كأنه مات بنفسه ولو كان كذلك يضمن قيمته
يوم الغصب ألف درهم كذا هذا ولو كانت الجارية ولدت ولدا فقتلت ولدها ثم ماتت الجارية فعلى الغاصب قيمتها
يوم الغصب ألف درهم وليس عليه ضمان الولد لان قتلها ولدها هدر ولا حكم له فالتحق بالعدم كأنه مات حتف أنفه
فهلك أمانة وبقيت الام مضمونة بالغصب ولو أودع رجلان رجلا كل واحد منهما ألف درهم فخلط المستودع أحد
الألفين بالآخر خلطا لا يتميز ضمن لكل واحد منهما ألفا وملك المخلوط في قول أبي حنيفة رحمه الله لان الخلط وقع
اتلافا معنى وعندهما بالخيار بين أن يأخذا ذلك ويقتسماه بينهما وبين أن يضمناه والمسألة مرت في كتاب
الوديعة ثم قال محمد رحمه الله ولا يسع المودع أكل هذه الدراهم حتى يؤدى مثلها إلى أصحابها وهذا صحيح لا خلاف فيه
165

لان عندهما لم ينقطع حق المالك وعند أبي حنيفة رحمه الله ان انقطع وثبت الملك للمستودع لكن فيه خبث فيمنع من
التصرف فيه حتى يرضى صاحبه ولو أن رجلا له كران اغتصب رجل أحدهما أو سرقه ثم إن المالك أودع الغاصب
أو السارق ذلك الاخر فخلطه بكر الغصب ثم ضاع ذلك كله ضمن كر الغصب ولم يضمن كر الوديعة بسبب الخلط
لأنه خلط ملكه بملكه وذلك ليس باستهلاك فلا يجب الضمان عليه بسبب الخلط وبقى الكر المضمون وكر الأمانة في
يده على حالهما فصار كأنهما هلكا قبل الخلط ولو خلط الغاصب دراهم الغصب بدراهم نفسه خلطا لا يتميز ضمن مثلها
وملك المخلوط لأنه اتلفها بالخلط وان مات كان ذلك لجميع الغرماء والمغصوب منه أسوة الغرماء لأنه زال ملكه عنها
وصار ملكا للغاصب ولو اختلطت دراهم الغصب بدراهم نفسه بغير صنعه فلا يضمن وهو شريك للمغصوب منه
لان الاختلاط من غير صنعه هلاك وليس باهلاك فصار كما لو تلفت بنفسها وصارا شريكين لاختلاط الملكين على
وجه لا يتميز والله عز وجل أعلم ولو صب ماء في طعام في يد انسان فافسده وزاد في كيله فلصاحب الطعام ان
يضمنه قيمته قبل أن يصب فيه الماء وليس له أن يضمنه طعاما مثله ولا يجوز أن يضمنه مثل كيله قبل صب الماء
وكذلك لو صب ماء في دهن أو زيت لأنه لا سبيل إلى أن يضمنه مثل الطعام المبلول والدهن المصبوب فيه الماء لأنه
لا مثل له ولا سبيل إلى أن يضمنه مثل كيل الطعام قبل صب الماء فيه لأنه لم يكن منه غصب متقدم حتى لو غصب
ثم صب فعليه مثله والله تعالى أعلم ولو فتح باب قفص فطار الطير منه وضاع لم يضمن في قولهما وقال محمد رحمه
الله يضمن وقال الشافعي رحمه ان طار من فوره ذلك ضمن وان مكث ساعة ثم طار لا يضمن (وجه) قول محمد
ان فتح باب القفص وقع اتلافا للطير تسبيبا لان الطيران للطير طبع له فالظاهر أنه يطير إذا وجد المخلص فكان الفتح
اتلاله تسبيبا فيوجب الضمان كما إذا شق زق انسان فيه دهن مائع فسال وهلك وهذا وجه قول الشافعي رحمه أيضا
الا أنه يقول إذا مكث ساعة لم يكن الطيران بعد ذلك مضافا إلى الفتح بل إلى اختياره فلا يجب الضمان (وجه) قولهما
ان الفتح ليس باتلاف مباشرة ولا تسبيبا (أما) المباشرة فظاهرة الانتفاء (وأما) التسبيب فلان الطير مختار في الطيران
لأنه حي وكل حي له اختيار فكان الطيران مضافا إلى اختياره والفتح سببا محضا فلا حكم له كما إذا حل القيد عن عبد
انسان حتى ابق انه لا ضمان عليه لما قلنا كذا هذا بخلاف شق الزق الذي فيه دهن مائع لان المائع سيال بطبعه بحيث
لا يوجد منه الاستمساك عند عدم المانع الا على نقض العادة فكان الفتح تسببا للتلف فيجب الضمان وعلى هذا
الخلاف إذا حل رباط الدابة أو فتح باب الإصطبل حتى خرجت الدابة وضلت وقالوا إذا حل رباط الزيت انه إن كان
ذائبا فسال منه ضمن وإن كان السمن جامدا فذاب بالشمس وزال لم يضمن لما ذكرنا ان المائع يسيل بطبعه إذا
وجد منفذا بحيث يستحيل استمساكه عادة فكان حل الرباط اتلافا له تسبيبا فيوجب الضمان بخلاف الجامد لان
السيلان طبع المائع لا طبع الجامد وهو وان صار مائعا لكن لا بصنعه بل بحرارة الشمس فلم يكن التلف مضافا إليه
لا مباشرة ولا تسبيبا فلا يضمن والله عز وجل أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا غصب صبيا صغيرا حرا من أهله فعقره
سبع أو نهشته حية أو وقع في بئر أو من سطح فمات ان على عاقلة الغاصب الدية لوجود الاتلاف من الغاصب
تسبيبا لأنه كان محفوظا بيد وليه إذ هو لا يقدر على حفظ نفسه بنفسه فإذا فوت حفظ الأهل عنه ولم يحفظه بنفسه حتى
اصابته آفة فقد ضيعه فكان ذلك منه اتلافا تسبيبا والحر ان لم يكن مضمونا بالغصب يكون مضمونا بالاتلاف مباشرة
كان أو تسبيبا ولو قتله انسان خطأ في يد الغاصب فلأوليائه أن يتبعوا أيهما شاؤوا الغاصب أو القاتل (أما) القاتل
فلوجود الاتلاف منه مباشرة (وأما) الغاصب فلوجود الاتلاف منه تسبيبا لما ذكرنا والتسبب ينزل منزلة المباشرة
في وجوب الضمان كحفر البئر على قارعة الطريق والشهادة على القتل حتى لو رجع شهود القصاص ضمنوا فان اتبعوا
القاتل بالمال لا يرجع على أحد وان اتبعوا الغاصب فالغاصب يرجع على القاتل لأن الغصب بأداء الضمان قام مقام
المستحق في حق ملك الضمان وان تعذر أن يقوم مقامه في حق ملك المضمون كغاصب المدبر إذا قتل المدبر في يده
166

واختار المالك تضمين الغاصب يرجع بالضمان على القاتل وان لم يملك نفس المدبر بأداء الضمان كذا هذا وكذلك لو
وقع عليه حائط انسان فالغاصب ضامن ويرجع على عاقلة صاحب الحائط إن كان تقدم إليه لما قلنا ولو قتله انسان
في يد الغاصب عمدا فأولياؤه بالخيار ان شاؤوا قتلوا القاتل وبرئ الغاصب وان شاؤوا اتبعوا الغاصب بالدية على عاقلته
ويرجع عاقلة الغاصب في مال القاتل عمدا ولا يكون لهم القصاص (أما) ولاية القصاص من القاتل فلوجود القتل
العمد الخالي عن الموانع (وأما) ولاية اتباع الغاصب بالدية فلوجود الاتلاف منه تسبيبا على ما بينا فان قتلوا القاتل
برئ الغاصب لأنه لا يجمع بين القصاص والدية في نفس واحدة في قتل واحد وان اتبعوا الغاصب فالدية على عاقلته
ترجع عاقلته على مال القاتل ولا يكون لهم أن يقتصوا من القاتل لان القصاص لم يصر ملكا لهم بأداء الضمان إذ هو
لا يحتمل التمليك فلم يقم الغاصب مقام الولي في ملك القصاص فسقط القصاص وينقلب مالا والمال يحتمل التمليك
فجاز أن يقوم الغاصب مقام الولي في ملك المال ولو قتل الصبي انسانا في يد الغاصب فرده على الولي وضمن عاقلة
الصبي لم يكن لهم أن يرجعوا على الغاصب بشئ لأنه لا سبيل إلى ايجاب ضمان الغصب لان الحر غير مضمون
بالغصب ولا سبيل إلى ايجاب ضمان الاتلاف لان الغاصب إنما يصير متلفا إياه تسبيبا بجناية غيره عليه لا بجنايته على
غيره ولو قتل الصبي نفسه أو أتى على شئ من نفسه من اليد والرجل وما أشبه ذلك أو أركبه الغاصب دابة فالقى نفسه
منها فالغاصب ضامن عند أبي يوسف وعند محمد لا يضمن وجه قول محمد أن فعله على نفسه هدر فالتحق بالعدم فصار
كأنه مات حتف انفه أو سقطت يده بآفة سماوية ولو كان كذلك لا ضمان عليه كذا هذا والجامع أنه لو وجب
الضمان لوجب بالغصب والحر غير مضمون بالغصب ولهذا لو جنى على غيره لا يضمن الغاصب كذا هذا وجه قول
أبى يوسف أن الحر ان لم يكن مضمونا بالغصب فهو مضمون بالاتلاف مباشرة أو تسبيبا وقد وجد التسبيب من
الغاصب حيث تركه حفظه عن أسباب الهلاك في الحالين جميعا فكان متلفا إياه تسبيبا فيجب الضمان عليه ولا
يرجع الغاصب على عاقلة الصبي بما ضمن لان حكم فعله على نفسه لا يعتبر فلا يمكن ايجابه على العاقلة والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو غصب مدبرا فمات في يده ضمن بالاجماع ولو غصب أم ولد فماتت في يده من غير آفة لم يضمن عند أبي
حنيفة وقد ذكرنا المسألة في موضعها ولو ماتت في يده بآفة على الوجه الذي بينا أنه يضمن في الصبي الحر فان الغاصب
يغرم قيمتها حالة في ماله لوجود الاتلاف منه تسبيبا وأم الولد مضمونة بالاتلاف بلا خلاف ولهذا وجب الضمان في
الضبي الحر ففي أم الولد أولى والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط وجوب هذا الضمان فمنها أن يكون المتلف مالا فلا يجب الضمان باتلاف الميتة والدم وجلد
الميتة وغير ذلك مما ليس بمال وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيوع ومنها أن يكون متقوما فلا يجب الضمان باتلاف الخمر
والخنزير على المسلم سواء كان المتلف مسلما أو ذميا لسقوط تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم ولو أتلف مسلم أو ذمي
على ذمي خمرا أو خنزيرا يضمن عندنا خلافا للشافعي رحمه الله والدلائل مرت في مسائل الغصب ولو أتلف ذمي
على ذمي خمرا أو خنزيرا ثم أسلما أو أسلم أحدهما أما في الخنزير فلا يبرأ المتلف عن الضمان الذي لزمه سواء أسلم
الطالب أو المطلوب أو أسلما جميعا لان الواجب باتلاف الخنزير القيمة وانها دراهم أو دنانير والاسلام لا يمنع من قبض
الدراهم والدنانير (وأما) في الخمر فان أسلما جميعا أو أسلم أحدهما وهو الطالب المتلف عليه برئت ذمة المطلوب هو
المتلف وسقطت عنه الخمر بالاجماع ولو أسلم المطلوب أولا ثم أسلم الطالب أو لم يسلم ففي قول أبى يوسف وهو
روايته عن أبي حنيفة يبرأ المطلوب من الخمر ولا يتحول إلى القيمة كما لو أسلم الطالب وعند محمد وزفر وعافية بن
زيد القاضي وهو روايتهم عن أبي حنيفة لا يبرأ المطلوب ويتحول ما عليه من الخمر إلى القيمة كما لو كان الاتلاف بعد
الاسلام انه يضمن قيمتها للذمي فكذا إذا أتلف بعد الاسلام وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع ولو كسر على أن
سان بربطا أو طبلا يضمن قيمته خشبا منحوتا عند أبي حنيفة رحمه الله وذكر في المنتقى خشبا ألواحا وعندهما
167

لا يضمن وجه قولهما ان هذا آلة اللهو والفساد فلم يكن متقوما كالخمر ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كما يصلح للهو والفساد
يصلح للانتفاع به من وجه آخر فكان مالا متقوما من ذلك الوجه وكذلك لو أراق لانسان مسكرا أو منصفا فهو
على هذا الاختلاف والمسألة قد ذكرناها في كتاب البيوع ولو أحرق بابا منحوتا عليه تماثيل منقوشة ضمن قيمته غير
منقوش بتماثيل لأنه لا قيمة لنقش التماثيل لان نقشها محظور وإن كان صاحبه قطع رؤس التماثيل ضمن قيمته منقوشا
لأنه لا يكون تمثالا بلا رأس ألا ترى انه ليس بمحظور فكان النقش منقوشا ولو أحرق بساطا فيه تماثيل رجال ضمن
قيمته مصورا لان التمثال على البساط ليس بمحظور لان البساط يوطأ فكان النقش متقوما ولو هدم بيتا مصورا
ضمن قيمة البيت والصور غير مضمونة لان الصور على البيت لا قيمة لها لأنه محظور فاما الصبغ فمتقوم ولو قتل جارية
مغنية ضمن قيمتها غير مغنية لان الغناء لا قيمة له لأنه محظور هذا إذا كان الغناء زيادة في الجارية فاما إذا كان نقصانا
فيها فإنه يضمن قدر قيمتها وعلى هذا تخرج المباحات التي ليست بمملوكة لاحد لأنها غير مضمونة بالاتلاف لعدم
تقومها إذ التقوم يبنى على العزة والحظر ولا يتحقق ذلك الا بالاحراز والاستيلاء (وأما) المباح المملوك وهو مال
الحربي فلا يجب الضمان باتلافه أيضا وإن كان متقوما لفقد شرط آخر نذكره إن شاء الله تعالى وان شئت قلت
ومنها أن يكون مملوكا فلا يجب الضمان باتلاف المباحات التي لا يملكها أحد والتخريج على شرط التقوم أصح
لان كون الشئ مملوكا في نفسه ليس بشرط لوجوب الضمان فان الموقوف مضمون بالاتلاف وليس بمملوك أصلا
أرض بين شريكين زرعها أحدهما وتراضيا على أن يعطى الذي لم يزرع نصف البذر ويكون الخارج بينهما فهذا لا يخلو
(اما) إن كان الزرع نبت (واما) إن كان لم ينبت فإن كان قد نبت جاز لان هذا بيع الحشيش بالحنطة وانه جائز وإن كان
لم ينبت لم يجز لأنه لا يدرى ما بقي تحت الأرض مما تلف مع أن ذلك ليس بمال متقوم فلا يجوز بيعه فان نبت الزرع
وطلب الذي لم يزرع القسمة قسم وأمر الذي زرع ان يقلع ما في نصيب الشريك لان نصيبه مشغول بملكه فيجبر
على تفريغه وتضمينه نقصان الزراعة والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) أن يكون المتلف من أهل وجوب الضمان
عليه حتى لو أتلف مال انسان بهيمة لا ضمان على مالكها لان فعل العجماء جبار فكان هدرا ولا اتلاف من مالكها
فلا يجب الضمان عليه ومنها أن يكون في الوجوب فائدة فلا ضمان على المسلم باتلاف مال الحربي ولا على الحربي
باتلاف مال المسلم في دار الحرب وكذا لا ضمان على العادل إذا أتلف مال الباغي ولا على الباغي إذا أتلف مال العادل
لأنه لا فائدة في الوجوب لعدم امكان الوصول إلى الضمان لانعدام الولاية فاما العصمة فليست بشرط لوجوب
ضمان المال الا أن الصبي مأخوذ بضمان الاتلاف وان لم تثبت عصمة المتلف في حقه وكذا يجب الضمان بتناول مال
الغير حال المخمصة مع إباحة التناول وكذا كسر آلات الملاهي مباح وهي مضمونة بالاتلاف عند أبي حنيفة رحمه الله
ولا يلزم إذا أتلف مال انسان باذنه انه لا يجب الضمان لأن عدم الوجوب ليس لعدم العصمة بل لعدم الفائدة لأنه لو
وجب الضمان عليه لكان له ان يرجع عليه بما ضمن فلا يفيد والله عز شأنه أعلم وكذلك العلم بكون المتلف مال الغير
ليس بشرط لوجوب الضمان حتى لو أتلف مالا على ظن أنه ملكه ثم تبين أنه ملك غيره ضمن لان الاتلاف أمر
حقيقي لا يتوقف وجوده على العلم كما في الغصب على ما مر الا انه إذا علم بذلك يضمن ويأثم وإذا لم يعلم يضمن ولا يأثم
لان الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعا لما ذكرنا في مسائل الغصب والله سبحانه وتعالى أعلم وأما بيان ماهية الضمان
الواجب باتلاف ما سوى بني آدم فالواجب به ما هو الواجب بالغصب وهو ضمان المثل إن كان المتلف مثليا
وضمان القيمة إن كان ممالا مثل له لان ضمان الاتلاف ضمان اعتداء والاعتداء لم يشرع الا بالمثل فعند الامكان
يجب العمل بالمثل المطلق وهو المثل صورة ومعنى عند التعذر يجب المثل معنى وهو القيمة كما في الغصب والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
168

* (كتاب الحجر والحبس) *
في هذا الكتاب فصلان فصل في الحجر وفصل في الحبس أما الحجر فالكلام فيه يقع في ثلاثة مواضع أحدها في
بيان أسباب الحجر والثاني في بيان حكم الحجر والثالث في بيان ما يرفع الحجر (أما) الأول فقد اختلف فيه
قال أبو حنيفة عليه الرحمة الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة مالها رابع الجنون والصبا والرق وهو قول زفر وقال أبو
يوسف ومحمد والشافعي وعامة أهل العلم رحمه الله تعالى والسفه والتبذير ومطل الغنى وركوب الدين وخوف ضياع
المال بالتجارة والتلجئة والاقرار لغير الغرماء من أسباب الحجر أيضا فيجرى عندهم في السفيه المفسد للمال بالصرف
إلى الوجوه الباطلة وفى المبذر الذي يسرف في النفقة ويغبن في التجارات وفيمن يمتنع عن قضاء الدين مع القدرة عليه
إذا ظهر مطلله عند القاضي وطلب الغرماء من القاضي ان يبيع عليه ماله ويقضى به دينه وفيمن ركبته الديون وله مال
فخاف الغرماء ضياع أمواله بالتجارة فرفعوا الامر إلى القاضي وطلبوا منه أن يحجر عليه أو خافوا ان يلجئ أمواله
فطلبوا من القاضي أن يحجره عن الاقرار الا الغرماء فيجرى الحجر في هذه المواضع عندهم وعنده لا يجرى وما روى
عن أبي حنيفة رحمه الله انه كان لا يجرى الحجر الا على ثلاثة المفتى الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس وليس
المراد منه حقيقة الحجر وهو المعنى الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف ألا ترى أن المفتى لو أفتى بعد الحجر وأصاب في
الفتوى جاز ولو أفتى قبل الحجر وأخطأ لا يجوز وكذا الطبيب لو باع الأدوية بعد الحجر نفذ بيعه فدل انه ما أراد به الحجر
حقيقة وإنما أراد به المنع الحسى أي يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حسا لان المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر لان المفتى الماجن يفسد أديان المسلمين والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين والمكاري المفلس
يفسد أموال الناس في المفازة فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعرف والنهى عن المنكر لا من باب الحجر فلا يلزمه
التناقض بحمد الله تعالى عز شأنه ولو حجر القاضي على السفيه ونحوه لم ينفذ حجره عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لو تصرف
بعد الحجر ينفذ تصرفه عنده وإن كان الحجر ههنا محل الاجتهاد لان الحجر من القاضي قضاء منه وقضاء القاضي في
المجتهدات إنما ينفذ ويصير كالمتفق عليه إذا لم يكن نفس القضاء محل الاجتهاد فاما إذا كان فلا بخلاف سائر المجتهدات
التي لا يرجع الاجتهاد فيها إلى نفس القضاء وقد ذكرنا الفرق في كتاب أدب القاضي واختلف أبو يوسف ومحمد
فيما بينهما في السفيه انه هل يصير محجورا عليه بنفس السفه أم يقف الانحجار على حجر القاضي قال أبو يوسف لا يصير
محجورا الا بحجر القاضي وقال محمد ينحجر بنفسه السفه من غير الحاجة إلى حجر القاضي وحجة العامة قوله تبارك
وتعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل جعل الله سبحانه وتعالى
لكل واحد من المذكورين وليا منهم السفيه وعند أبي حنيفة رحمه الله لا ولى للسفيه لأنه إذا كان له ولى دل انه مولى
عليه فلا ينفذ تصرفه كالصبي والمجنون وقوله تبارك وتعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم نهى عن اعطاء الأموال السفهاء
وعنده يدفع إليه ماله إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن كان سفيها وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع على
معاذ ماله بسبب ديون ركبته وهذا نص في الباب لان البيع عليه لا يذكر الا في غير موضع الرضا ولان التصرفات
شرعت لمصالح العباد والمصلحة تتعلق بالاطلاق مرة وبالحجر أخرى والمصلحة ههنا في الحجر ولهذا إذا بلغ الصبي
سفيها يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنة بلا خلاف ولهذا حجر على الصبي والمجنون لكون الحجر مصلحة في حقهما
كذا ههنا ولأبي حنيفة رضي الله عنه عمومات البيع والهبة والاقرار والظهار واليمين من نحو قوله تبارك وتعالى وأحل
الله البيع وقوله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله عز شأنه ولا يبخس
منه شيئا أجاز الله تعالى البدلين حيث ندب إلى الكتابة وأثبت الحق حيث أمر من عليه الحق بالاملاء ونهى عن
البخس عاما من غير تخصيص وقوله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون
169

تجارة عن تراض منكم وبيع مال المديون عليه تجارة لا عن تراض فلا يجوز وبيع السفيه ماله تجارة عن تراض فيجوز
وقوله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم عاما وشهادة الانسان على
نفسه اقرار وقوله تبارك وتعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقوله عليه الصلاة والسلام تهادوا تحابوا
وآية الظهار وآية كفارة اليمين شرع الله تعالى هذه التصرفات عاما والحجر عن المشروع متناقض وكذا نص الظهار
واليمين يقتضيان وجوب التحرير على المظاهر والحالف الحانث وجوازه عن الكفارة عاما وعند أبي يوسف ومحمد
لا يجب التحرير على السفيه ولو حرر لا يجزيه عن الكفارة لأنه تجب السعاية على العبد فيكون اعتاقا بعوض فلا يقع
التحرير تكفيرا فكانت الآية حجة عليهما ولان بيع السفيه مال نفسه تصرف صدر من الأهل بركنه في محل هو
خالص ملكه فينفذ كتصرف الرشيد وهذا لان وجود التصرف حقيقة بوجود ركنه ووجوده شرعا بصدوره من
أهله وحلوله في محله وقد وجد وبيع مال المديون عليه تصرف في ملك الغير من غير رضا المالك وانه لا ينفذ كالفضولي
(وأما) الآية فقد قال بعض أهل التأويل السفيه هو الصغير وبه نقول وقيل إن الولي ههنا هو من له الحق يملى بالعدل عند
حضرة من عليه الذين لئلا يزيد على ما عليه شيئا ولو زاد أنكر عليه وقوله تبارك وتعال ولا تؤتوا السفهاء أموالكم فقد
قال بعض أهل التأويل المراد من السفهاء النساء والأولاد الصغار يؤيده في سياق الآية قوله فارزقوهم منه واكسوهم
ورزق النساء والأولاد الصغار هو الذي يجب على الأولياء والأزواج لأزرق السفيه وكسوته فان ذلك يكون من مال
السفيه على أن في الآية الشريفة أن لا تؤتوهم مال أنفسكم لأنه سبحانه وتعالى أضاف الأموال إلى المعطى لا إلى المعطى
له وبه نقول (وأما) بيع مال معاذ رضي الله عنه فقد كان برضاه إذ لا يضمن به انه يكره بيع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويتمنع بنفسه عن قضاء الدين مع ما أنه قد روى أنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبيع ماله لينال بركته
فيصير دينه مقضيا ببركته كما روى عن جابر رضي الله عنه انه لما استشهد أبوه يوم أحد وترك ديونا فطلب جابر من
النبي عليه الصلاة والسلام ان يبيع أمواله لينال بركته فيصير دينه بذلك مقضيا وكان كما ظن الاستدلال بمنع المال
إذا بلغ سفيها لا يستقيم لان المنع تصرف في المال والحجر تصرف على النفس والنفس أعظم خطرا من المال فثبوت
أدنى الولايتين لا يدل على ثبوت أعلاهما ثم نقول إنما يمنع عن ماله نظرا له تقليلا للسفه لما أن السفه غالبا يجرى في
الهبات والتبرعات فإذا منع منه ماله ينسد باب السفه فيقل السفه (فاما) المعاوضات فلا يغلب فيها السفه فلا حاجة
إلى الحجر لتقليل السفه وانه يقل بدونه فيتمحض الحجر ضررا بابطال أهليته وهذا لا يجوز بخلاف الصبي والمجنون
لأنهما ليسا من أهل التصرف فلم يتضمن الحجر ابطال الأهلية والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم الحجر فحكمه يظهر في مال المحجور وفى التصرف في ماله (أما) حكم المال فاما المجنون
فإنه يمنع عنه ماله ما دام مجنونا وكذلك الصبي الذي لا يعقل لان وضع المال في يد من لا عقل له اتلاف المال (وأما)
الصبي العاقل فيمنع عنه ماله إلى أن يؤنس منه رشده ولا بأس للولي أن يدفع إليه شيئا من أمواله ويأذن له بالتجارة
للاختيار عندنا لقوله تعالى وابتلوا اليتامى أذن سبحانه وتعالى للأولياء في ابتلاء اليتامى والابتلاء الاختبار وذلك
بالتجارة فكان الاذن بالابتلاء اذنا بالتجارة وإذا اختبره فان آنس منه رشدا دفع الباقي إليه لقوله تعالى فان آنستم منهم
رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والرشد هو الاستقامة والاهتداء في حفظ المال واصلاحه وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه
الله يمنع منه ماله ولا يجوز للولي أن يدفعه شيئا من أمواله إليه وأن يأذن له بالتجارة قبل البلوغ والمسألة نذكرها في كتاب
المأذون إن شاء الله تعالى وان لم يأنس منه رشدا منعه منه إلى أن يبلغ فان بلغ رشيدا دفع إليه وان بلغ سفيها مفسدا
مبذرا فإنه يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنة بالاجماع فإذا بلغ هذا المبلغ ولم يؤنس رشده دفع إليه عند أبي حنيفة
رضي الله عنه وعندهما لا يدفع إليه ما دام سفيها (وأما) الرقيق فلا مال له يمنع فلا يظهر أثر الحجر في حقه في المال وإنما
يظهر في التصرفات هذا حكم الحجر في مال المحجور (وأما) حكمه في تصرفه فالتصرف لا يخلو اما أن يكون من
170

الأقوال واما أن يكون من الافعال (أما) التصرفات القولية فعلى ثلاثة أقسام نافع محض وضار محض ودائر بين
الضرر والنفع (أما) المجنون فلا تصح منه التصرفات القولية كلها فلا يجوز طلاقه وعتاقه وكتابته واقراره ولا
ينعقد بيعه وشراؤه حتى لا تلحقه الإجازة ولا يصح منه قبول الهبة والصدقة والوصية وكذا الصبي الذي لا يعقل لان
الأهلية شرط جواز التصرف وانعقاده ولا أهلية بدون العقل (وأما) الصبي العاقل فتصح منه التصرفات النافعة
بلا خلاف ولا تصح منه التصرفات الضارة المحضة بالاجماع (وأما) الدائرة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء
والإجازة ونحوها فينعقد عندنا موقوفا على إجازة وليه فان أجاز جاز ان رد بطل وعند الشافعي رحمه الله لا تنعقد
أصلا وهي مسألة تصرفات الصبي العاقل وقد مرت في موضعها (وأما) الرقيق فيصح منه قبول الهبة والصدقة
والوصية وكذا يصح طلاقه واقراره بالحدود والقصاص (وأما) اقراره بالمال فلا يصح في حق مولاه ويصح في
حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد العتاق (وأما) البيع وغيره من التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع فلا ينفذ بل ينعقد
موقوفا على إجازة المولى ودلائل هذه المسائل ذكرت في مواضعها (وأما) التصرفات الفعلية وهي المغصوب
والاتلاف فهذه العوارض وهي الصبا والجنون والرق لا توجب الحجر فيها حتى لو أتلف الصبي والمجنون شيئا
فضمانه في مالهما وكذا العبد إذا أتلف مال انسان فإنه يؤاخذ به لكن بعد العتاق (وأما) السفيه فعند أبي حنيفة
عليه الرحمة ليس بمحجور عن التصرفات أصلا وحاله وحال الرشيد في التصرفات سواء لا يختلفان الا في وجه واحد
وهو ان الصبي إذا بلغ سفيها يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنة إذا بلغ رشيدا يدفع إليه ماله (فاما) في التصرفات
فلا يختلفان حتى لو تصرف بعد ما بلغ سفيها ومنع عنه ماله نفذ تصرفه كما ينفذ بعد ان دفع المال إليه عنده (وأما) عندهما
فحكمه وحكم الصبي العاقل والبالغ المعتوه سواء فلا ينفذ وشراؤه واجارته وهبته وصدقته وما أشبه ذلك من
التصرفات التي تحتمل النقض والفسخ (أما) فيما سوى ذلك فحكمه وحكم البالغ العاقل الرشيد سواء فيجور طلاقه
ونكاحه واعتاقه وتدبيره واستيلاده وتجب عليه نفقة زوجاته وأقاربه والزكاة في ماله وحجة الاسلام وينفق على
زوجاته وأقاربه ويؤدى الزكاة من ماله ولا يمنع من حجة الاسلام ولا من العمرة ولا من القرابين وسوق البدنة لكن
يسلم القاضي النفقة والكراء والهدى على يد أمين لينفق عليه في الطريق ولا ولاية عليه لأبيه وجده ووصيهما ويجوز
اقراره على نفسه بالحدود والقصاص وتجوز وصاياه بالقرب في مرض موته من ثلث ماله وغير ذلك من التصرفات التي
تصح من العاقل البالغ الرشيد الا أنه إذا تزوج امرأة بأكثر من مهر مثلها فالزيادة باطلة وإذا أعتق عبده يسعى في قيمته
في ظاهر الرواية وذكر الطحاوي عن محمد رحمهما الله انه رجع عن ذلك وقال يعتق من غير سعاية فاما فيما سوى ذلك فلا
يختلفان ولو باع السفيه أو اشترى نظر القاضي في ذلك فما كان خيرا أجاز وما كان فيه مضرة رده والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يرفع الحجر (أما) الصبي الذي يرفع الحجر عنه شيئان أحدهما اذن الولي إياه بالتجارة
والثاني بلوغه الا أن الاذن بالتجارة يزيل الحجر عن التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع (وأما) التصرفات الضارة
المحضة فلا يزول الحجر عنها الا بالبلوغ وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يزول الحجر عن الصبي الا بالبلوغ
وقد مرت المسألة ثم عند أبي حنيفة رضي الله عنه يزول الحجر عن التصرفات بالبلوغ سواء بلغ رشيدا أو سفيها وكذا
عند أبي يوسف الا أن يحجر عليه القاضي بعد البلوغ فينحجر بحجره وعند أبي حنيفة رحمه الله لا ينحجر الصبي عن
التصرف بحجر القاضي لكن يمنع ماله إلى خمس وعشرين سنة وعند محمد والشافعي لا يزول الا ببلوغه رشيدا ثم البلوغ
في الغلام يعرف بالاحتلام والاحبال والانزال وفى الجارية يعرف بالحيض والاحتلام والحبل فإن لم يوجد شئ من
ذلك فيعتبر بالسن (أما) معرفة البلوغ بالاحتلام فلما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال رفع القلم عن
ثلاثة منها الصبي حتى يحتلم جعل عليه الصلاة والسلام الاحتلام غاية لارتفاع الخطاب والخطاب بالبلوغ دل أن
البلوغ يثبت بالاحتلام ولان البلوغ والادراك عبارة عن بلوغ المرء كمال الحال وذلك بكمال القدرة والقوة والقدرة
171

من حيث سلامة الأسباب والآلات هي امكان استعمال سائر الجوارح السليمة وذلك لا يتحقق على الكمال الا
عند الاحتلام فان قيل الادراك امكان استعمال سائر الجوارح إن كان ثابتا فاما امكان استعمال الآلة المخصوصة
وهو قضاء الشهوة على سبيل الكمال فليس بثابت لان كمالها بالانزال والاحتلام سبب لنزول الماء على الأغلب فجعل
علما على البلوغ ولان الله تعالى أمر بابتغاء الولد وأخبر انه مكتوب له بقوله تبارك وتعالى وابتغوا ما كتب الله
لكم والتكليف بابتغاء الولد إنما يتوجه في وقت لو ابتغى الولد لوجد ولا يكون ذلك الا في خروج الماء للشهوة وذلك في
حق الصبي بالاحتلام في المتعارف ولان عند الاحتلام يخرج عن حيز الأولاد ويدخل في حيز الآباء حتى يسمى أبا
فلان لا ولد فلان في المتعارف لان عنده يصير من أهل العلوق فكان الاحتلام علما على البلوغ وإذا ثبت أن البلوغ
يثبت بالاحتلام يثبت بالانزال لان ما ذكرنا من المعاني يتعلق بالنزول لا بنفس الاحتلام الا أن الاحتلام سبب
لنزول الماء عادة فعلق الحكم به وكذا الاحبال لأنه لا يتحقق بدون الانزال عادة فإن لم يوجد شئ مما ذكرنا فيعتبر البلوغ
بالسن وقد اختلف العلماء في أدنى السن التي يتعلق بها البلوغ قال أبو حنيفة رضي الله عنه ثماني عشرة سنة في الغلام
وسبع عشرة في الجارية وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله خمس عشرة سنة في الجارية والغلام جميعا وجه
قولهم إن المؤثر في الحقيقة هو العقل وهو الأصل في الباب إذ به قوام الأحكام وإنما الاحتلام جعل حدا في الشرع
لكونه دليلا على كمال العقل والاحتلام لا يتأخر عن خمس عشر سنة عادة فإذا لم يحتلم إلى هذه المدة علم أن ذلك لآفة
في خلقته والآفة في الخلقة لا توجب آفة في العقل فكان العقل قائما بلا آفة فوجب اعتباره في لزوم الأحكام وقد
روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام وهو ابن أربع عشرة سنة فرده
وعرض وهو ابن خمس عشرة فأجازه فقد جعل عليه الصلاة والسلام خمس عشرة حدا للبلوغ ولأبي حنيفة رضي الله عنه
أن الشرع لما علق الحكم والخطاب الاحتلام بالدلائل التي ذكرناها فيجب بناء الحكم عليه ولا يرتفع الحكم
عنه ما لم يتيقن بعدمه ويقع اليأس عن وجوده وإنما يقع اليأس بهذه المدة لان الاحتلام إلى هذه المدة متصور في الجملة
فلا يجوز إزالة الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع الاحتمال على هذا أصول الشرع فان حكم الحيض لما كان لازما في
حق الكبيرة لا يزول بامتداد الطهر ما لم يوجد اليأس ويجب الانتظار لمدة اليأس لاحتمال عود الحيض وكذا التفريق
في حق العنين لا يثبت ما دام طمع الوصول ثابتا بل يؤجل سنة لاحتمال الوصول في فصول السنة فإذا مضت السنة
ووقع اليأس الآن يحكم بالتفريق وكذا أمر الله سبحانه وتعالى باظهار الحجج في حق الكفار والدعاء إلى الاسلام
إلى أن يقع اليأس عن قبولهم فما لم يقع اليأس لا يباح لنا القتال فكذلك ههنا ما دام الاحتلام يرجى يجب الانتظار ولا
يأس بعد مدة خمس عشرة إلى هذه المدة بل هو مرجو فلا يقطع الحكم الثابت بالاحتلام عنه مع رجاء وجوده بخلاف
ما بعد هذه المدة فإنه لا يحتمل وجوده بعدها فلا يجوز اعتباره في زمان اليأس عن وجوده (وأما) الحديث فلا حجة
فيه لأنه يحتمل انه أجاز ذلك لما علم عليه الصلاة والسلام انه احتمل في ذلك الوقت ويحتمل أيضا أنه أجاز ذلك لما رآه
صالحا للحرب محتملا له على سبيل الاعتياد للجهاد كما أمرنا باعتبار سائر القرب في أول أوقات الامكان والاحتمال لها
فلا يكون حجة مع الاحتمال وإذا أشكل أمر الغلام المراهق في البلوغ فقال قد بلغت يقبل قوله ويحكم ببلوغه وكذلك
الجارية المراهقة لان الأصل في البلوغ هو الاحتلام على ما بينا وأنه لا يعرف الا من جهته فالزمت الضرورة قبول
قوله كما في الاخبار عن الطهر والحيض والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) المجنون فلا يزول الحجر عنه الا بالإفاقة فإذا
أفاق رشيدا أو سفيها فحكمه في ذلك حكم الصبي وقد ذكرناه (وأما) الرقيق فالحجر يزول عنه بالاعتاق مرة
وبالاذن بالتجارة أخرى الا أن الاعتاق يزيل الحجر عنه على الاطلاق والاذن بالتجارة لا يزل الا في التصرفات
الدائرة بين الضرر والنفع (وأما) السفيه فلا حجر عليه عن التصرف أصلا عند أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يتصور
الزوال (وأما) على مذهبهم فزواله عند أبي يوسف بضده وهو الاطلاق من القاضي فكما لا ينحجر الا بحجره
172

لا ينطلق الا باطلاقه وعند محمد والشافعي رحمهما الله زوال الحجر على السفيه بظهور رشده لان الحجارة كان بسفهه
فانطلاقه يكون بضده وهو رشده والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) الفصل الثاني وهو فصل الحبس فالحبس على نوعين
حبس المديون بما عليه من الدين وحبس العين بالدين أما الأول فالكلام فيه في مواضع في بيان سبب وجوب الحبس
وفي بيان شرائط الوجوب وفي بيان ما يمنع عنه المحبوس ومالا يمنع أما سبب وجوب الحبس فهو الدين قل أو كثر
وأما شرائط الوجوب فأنواع بعضها يرجع إلى الدين وبعضها يرجع إلى المديون وبعضها يرجع إلى صاحب الدين
(أما) الذي يرجع إلى الدين فهو أن يكون حالا فلا يحبس في الدين المؤجل لان الحبس لدفع الظلم المتحقق بتأخير
قضاء الدين ولم يوجد من المديون لان صاحب الدين هو الذي أخر حق نفسه بالتأجيل وكذا لا يمنع من السفر قبل
حلول الأجل سواء بعد محله أو قرب لأنه لا يملك مطالبته قبل حل الأجل ولا يمكن منعه ولكن له ان يخرج معه حتى
إذا حل الأجل منعه من المضي في سفره إلى أن يوفيه دينه (وأما) الذي يرجع إلى المديون فمنها القدرة على قضاء الدين
حتى لو كان معسر الا يحبس لقوله سبحانه وتعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ولان الحبس لدفع الظلم بايصال
حقه إليه ولو ظلم فيه لعدم القدرة ولأنه إذا لم يقدر على قضاء الدين لا يكون الحبس مفيدا لان الحبس شرع للتوسل إلى
قضاء الدين لا لعينه ومنها المطل وهو تأخير قضاء الدين لقوله عليه الصلاة والسلام مطل الغنى ظلم فيحبس دفعا للظلم
لقضاء الدين بواسطة الحبس وقوله عليه الصلاة والسلام لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والحبس عقوبة وما لم يظهر
منه المطل لا يحبس لانعدام المطل واللى منه ومنها أن يكون من عليه الدين ممن سوى الوالدين لصاحب الدين فلا
يحبس الوالدون وان علوا بدين المولودين وان سفلوا لقوله تبارك وتعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا وقوله تعالى
وبالوالدين احسانا وليس من المصاحبة بالمعروف والاحسان حبسهما بالدين الا أنه إذا امتنع الوالد من الانفاق على
ولده الذي عليه نفقته فان القاضي يحبسه لكن تعزيرا لا حبسا بالدين (وأما) الولد فيحبس بدين الوالد لان المانع
من الحبس حق الوالدين وكذا سائر الأقارب يحبس المديون بدين قريبه كائنا من كان ويستوى في الحبس الرجل
والمرأة لان الموجب للحبس لا يختلف بالذكورة والأنوثة ويحبس ولى الصغير إذا كان ممن يجوز له قضاء دينه لأنه إذا
كان الظلم بسبيل من قضاء دينه صار بالتأخير ظالما فيحبس ليقضى الدين فيندفع الظلم (وأما) الذي يرجع إلى
صاحب الدين فطلب الحبس من القاضي فما لم يطلب لا يحبس لان الدين حقه والحبس وسيلة إلى حقه ووسيلة حق
الانسان حقه وحق المرء إنما يطلب بطلبه فلابد من الطلب للحبس وإذا عرف سبب وجوب الدين وشرائطه فان
ثبت عند القاضي السبب مع شرائطه بالحجة حبسه لتحقق الظلم عنده بتأخير حقه من غير ضرورة والقاضي نصب لدفع
الظلم فيندفع الظلم عنه وان اشتبه على القاضي حاله في يساره واعساره ولم يقم عنده حجة على أحدهما وطلب الغرماء
حبسه فإنه يحبسه ليتعرف عن حاله انه فقير أم غنى فان علم أنه غنى حبسه إلى أن يقضى الدين لأنه ظهر ظلمه بالتأخير وان
علم أنه فقير خلى سبيله لأنه ظهر انه لا يستوجب الحبس فيطلقه ولكن لا يمنع الغرماء عن ملازمته عند أصحابنا الثلاثة
رضي الله عنهم الا إذا قضى القاضي بالانظار لاحتمال ان يرزقه الله سبحانه وتعالى مالا إذ المال غاد ورائح وعند زفر
رحمه الله لا يلازمونه لقوله تبارك وتعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ذكر النظرة بحرف الفاء فثبت من غير
قضاء القاضي (ولنا) ان النظرة هي التأخير فلابد وان يؤخر وهو ان يؤخره القاضي أو صاحب الحق لا يمنعونه من
التصرف ولا من السفر فإذا اكتسب يأخذون فضل كسبه فيقتسمونه بينهم بالحصص وإذا مضى على حبسه شهر
أو شهران أو ثلاثة ولم ينكشف حاله في اليسار والاعسار خلى سبيله لان هذا الحبس كان لاستبراء حاله وابلاء غدره
والثلاثة الأشهر مدة صالحة لاشتهار الحال وابلاء العذر فيطلقه لكن الغرماء لا يمنعون من ملازمته فيلازمونه
لكن لا يمنعونه من التصرف والسفر على ما ذكرنا ولو اختلفا في اليسار والاعسار فقال الطالب هو موسر وقال
المطلوب انا معسر فان قامت لأحدهما بينة قبلت بينته وان أقاما جميعا البينة فالبينة بينة الطالب لأنها تثبت
173

زيادة وهي اليسار وان لم يقم لهما بينة فقد ذكر محمد في الكفالة والنكاح والزيادات انه ينظر ان ثبت الدين بمعاقدة
كالبيع والنكاح والكفالة والصلح عن دم العمد والصلح عن المال والخلع أو ثبت تبعا فيما هو معاقدة كالنفقة في
باب النكاح فالقول قول الطالب وكذا في الغصب والزكاة وان ثبت الدين بغير ذلك كاحراق الثوب أو القتل
الذي لا يوجب القصاص ويوجب المال في مال الجاني وفى الخطا فالقول قول المطلوب وذكر الخصاف رحمه
الله في آداب القاضي انه ان وجب الدين عوضا عن مال سالم للمشترى نحو ثمن المبيع الذي سلم له البيع والقرض
والغصب والمسلم الذي أخذ المسلم إليه رأس المال فالقول قول الطالب وكل دين ليس له عوض أصلا كاحراق
الثوب أو له عوض ليس بمال كالمهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن دم العمد والكفالة فالقول قول المطلوب
واختلف المشايخ فيه قال بعضهم القول قول المطلوب على كل حال ولا يحبس لان الفقر أصل في بني آدم والغنا
عارض فكان الظاهر شاهدا للمطلوب فكان القول قوله مع يمينه وقال بعضهم القول قول الطالب على كل حال لقوله
عليه الصلاة والسلام لصاحب الحق اليد واللسان وقال بعضهم يحكم زيه إذا كان زيه زي الأغنياء فالقول قول
الطالب وإن كان زيه زي الفقراء فالقول قول المطلوب وعن الفقيه أبى جعفر الهندواني رحمه الله انه يحكم زيه فيؤخذ
بحكمه في الفقر والغنا الا إذا كان المطلوب من الفقهاء أو العلوية أو الاشراف لان من عاداتهم التكلف في اللباس
والتجمل بدون الغنا فيكون القول قول المديون انه معسر (وجه) ما ذكره الخصاف رحمه الله ان القول في الشرع
قول من يشهد له الظاهر وإذا وجب الدين بدلا عن مال سلم له كان الظاهر شاهدا للطالب لأنه ثبتت قدرة
المطلوب بسلامة المال وكذا في الزكاة انها لا تجب الا على الغنى فكان الظاهر شاهدا للطالب (وجه) قول محمد
رحمه الله وهو ظاهر الرواية ان الظاهر شاهد للطالب فيما ذكرنا أيضا من طريق الدلالة وهو اقدامه على المعاقدة فان
الاقدام على التزويج دليل القدرة إذ الظاهر أن الانسان لا يتزوج حتى يكون له شئ ولا يتزوج أيضا حتى يكون له
قدرة على المهر وكذا الاقدام على الخلع لأن المرأة لا تخالع عادة حتى يكون عندها شئ وكذا الصلح لا يقدم الانسان
عليه الا عند القدرة فكان الظاهر شاهدا للطالب في هذه المواضع فكان القول قوله والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يمنع المحبوس عنه ومالا يمنع فالمحبوس ممنوع عن الخروج إلى أشغاله ومهماته والى الجمع
والجماعات والأعياد وتشييع الجنائز وعيادة المرضى والزيارة والضيافة لان الحبس للتوسل إلى قضاء الدين فإذا منع
عن اشغاله ومهماته الدينية والدنيوية تضجر فيسارع إلى قضاء الدين ولا يمنع من دخول أقاربه عليه لان ذلك
لا يخل بما وضع له الحبس بل قد يقع وسيلة إليه ولا يمنع من التصرفات الشرعية من البيع والشراء والهبة والصدقة
والاقرار لغيرهم من الغرماء حتى لو فعل شيئا من ذلك نفذ ولم يكن للغرماء ولاية الابطال لان الحبس لا يوجب بطلان
أهلية التصرفات ولو طلب الغرماء الذين حبس لأجلهم من القاضي ان يحجر على المحبوس من الاقرار والهبة والصدقة
وغيرها لم يجبهم إلى ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما له ان يجيبهم إليه وكذا إذا طلبوا من القاضي بيع ماله عليه
مما سوى الدراهم والدنانير من النقول والعقار له ان يجيبهم إليه عندهما وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا يجيبهم إلى ذلك
وهي مسألة الحجر لكن إذا كان دينه دراهم وعنده دراهم فان القاضي يقضى بها دينه لأنها من جنس حقه وإن كان دينه
دراهم وعنده دنانير باعها القاضي بالدراهم وقضى بها دينه وكذا إذا كان دينه دنانير وعنده دراهم باعها القاضي بالدنانير
وقضى بها دينه فرق بين الدنانير والدراهم وبين سائر الأموال انه يبيع أحدهما بالآخر لقضاء الدين ولا يبيع سائر
الأموال (ووجه) الفرق ان الدراهم والدنانير من جنس واحد من وجه بدليل انه يكمل نصاب أحدهما بالآخر
في باب الزكاة والمؤدى عن أحدهما كان مؤدى عن الآخر عند الهلاك فكان بينهما مجانسة من وجه فصار كل
واحد منهما كعين الآخر حكما وليس بين العروض وبين الدراهم والدنانير مجانسة بوجه فلا يملك التصرف على
المحبوس ببيعهما ولان العروض إذا بيعت لقضاء الدين فإنها لا تشترى مثل ما تشترى في سائر الأوقات بل دون
174

ذلك وفيه ضرر به ولا ضرر في الدراهم والدنانير لأنها لا تتفاوت وهذا بخلاف ما بعد الموت ان القاضي يبيع جميع ماله
لقضاء دينه لان بيع القاضي ليس تصرفا على الميت لبطلان أهليته بالموت ولأنه رضى بذلك في آخر جزء من أجزاء
حياته هذا هو الظاهر لان قضاء الديون من حوائجه الأصلية فكان راضيا بقضاء الدين من أي مال كان تخليصا لنفسه
عن عهدة الدين عندما شده عن حياته والله سبحانه وتعالى أعلم وينفق المحبوس على نفسه وعياله وأقاربه ولا يمنع من
ذلك ولا عن شئ من التصرفات الشرعية والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حبس العين بالدين فالمحبوس بالدين في الأصل على نوعين محبوس هو مضمون ومحبوس هو أمانة
والمضمون على نوعين أيضا مضمون بالثمن ومضمون بالقيمة فالمضمون بالثمن كالمبيع في يد البائع حتى لو هلك سقط
الثمن لأنه لو بقي لطالبه البائع به فيطالبه المشترى بتسليم المبيع لان البيع تمليك بإزاء تمليك وتسليم بإزاء تسليم وهو عاجز
عن التسليم لهلاك المبيع فلا يملك مطالبته فلا يملك البائع مطالبته بالثمن فيسقط ضرورة عدم الفائدة في البقاء ولان
المبيع في يد البائع لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء وذلك مضمون فهذا أولى الا ان ذلك مضمون
بالقيمة وهذا بالثمن لوجود التسمية الصحيحة ههنا وانعدام التسمية هناك أصلا وأما الوكيل بالشراء إذا أدى الثمن
من مال نفسه فحبس السلعة لاستيفاء الثمن من الموكل فهلك فإن كان قبل الطلب يهلك أمانة عند أصحابنا رحمهم الله
الثلاثة وعند زفر رحمه الله يهلك مضمونا ولو كان بعد الطلب يهلك مضمونا لكن ضمان المبيع عند أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف ضمان الرهن وعند زفر رحمه الله ضمان الغصب وقد ذكرنا المسألة في كتاب الوكالة وأما المضمون
بالقيمة فكالمبيع بيعا فاسدا إذا لم يكن من ذوات الأمثال إذا فسخ البائع والمبيع في يد المشترى فحبسه ليرد البائع
الثمن عليه فهلك في يده يهلك بقيمته ويتقاصان ويترادان الفضل وكذا المرهون مضمون عندنا لكن بالأقل من قيمته
ومن الدين وعند الشافعي رحمه الله ليس بمضمون أصلا وهي مسألة كتاب الرهن وأما المحبوس الذي هو أمانة فنحو
نماء الرهن فإنه محبوس بالدين لكنه أمانة في يد المرتهن حتى لو هلك لا يسقط شئ من الدين وكذا المستأجر دابة
إجارة فاسدة إذا كان عجل الأجرة فحبسها لاستيفاء الأجرة المعجلة حتى هلكت في يده تهلك أمانة والله سبحانه
وتعالى أعلم
* (كتاب الاكراه) *
الكلام في هذا الكتاب في مواضع في بيان معنى الاكراه لغة وشرعا وفى باين أنواع الاكراه وفي بيان شرائط
الاكراه وفي بيان حكم ما يقع عليه الاكراه إذا أتى به المكره وفي بيان ما عدل المكره إلى غير ما وقع عليه الاكراه أو
زاد على ما وقع عليه الاكراه أو نقص عنه (أما) الأول فالاكراه في اللغة عبارة عن اثبات الكره والكره معنى قائم
بالمكره ينافي المحبة والرضا ولهذا يستعمل كل واحد منهما مقابل الآخر قال الله سبحانه وتعالى وعسى أن تكرهوا
شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولهذا قال أهل السنة ان الله تبارك وتعالى يكره الكفر والمعاصي
أي لا يحبها ولا يرضى بها وإن كانت الطاعات والمعاصي بإرادة الله عز وجل وفى الشرع عبارة عن الدعاء إلى الفعل
بالايعاد والتهديد مع وجود شرائطها التي نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى
* (فصل) * وأما بيان أنواع الاكراه فنقول إنه نوعان نوع يوجب الالجاء والاضطرار طبعا كالقتل والقطع
والضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو قل الضرب أو كثر ومنهم من قدره بعدد ضربات الحد وانه غير سديد
لان المعول عليه تحقق الضرورة فإذا تحققت فلا معنى لصورة العدد وهذا النوع يسمى اكراها تاما ونوع لا يوجب
الالجاء والاضطرار وهو الحبس والقيد والضرب الذي لا يخاف منه التلف وليس فيه تقدير لازم سوى ان يلحقه
منه الاغتنام البين من هذه الأشياء أعنى الحبس والقيد والضرب وهذا النوع من الاكراه يسمى اكراها ناقصا
175

* (فصل) * وأما شرائط الاكراه فنوعان نوع يرجع إلى المكره ونوع يرجع إلى المكره (أما) الذي يرجع إلى
المكره فهو أن يكون قادرا على تحقيق ما أوعد لان الضرورة لا تتحقق الا عند القدرة وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه
ان الاكراه لا يتحقق الا من السلطان وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله انه يتحقق من السلطان وغيره (وجه)
قولهما ان الاكراه ليس الا ايعاد بالحاق المكروه وهذا يتحقق من كل مسلط وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول غير
السلطان لا يقدر على تحقيق ما أوعد لان المكره يستغيث بالسلطان فيغيثه فإذا كان المكره هو السلطان فلا يجد غوثا
وقيل إنه لا خلاف بينهم في المعنى إنما هو خلاف زمان ففي زمن أبي حنيفة رضي الله عنه لم يكن لغير السلطان قدرة
الاكراه ثم تغير الحال في زمانهما فغير الفتوى على حسب الحال والله سبحانه وتعالى أعلم فاما البلوغ فليس بشرط
لتحقق الاكراه حتى يتحقق من الصبي العاقل إذا كان مطاعا مسلطا وكذلك العقل والتمييز المطلق ليس بشرط فيتحقق
الاكراه من البالغ المختلط العقل بعد إن كان مطاعا مسلطا (وأما) النوع الذي يرجع إلى المكره فهو ان يقع في غالب
رأيه وأكثر ظنه انه لو لم يجب إلى ما دعى إليه تحقق ما أوعد به لان غالب الرأي حجة خصوصا عند تعذر الوصول إلى
التعين حتى أنه لو كان في أكثر رأى المكره ان المكره لا يحقق ما أوعده لا يثبت حكم الاكراه شرعا وان وجد صورة
الايعاد لان الضرورة لم تتحقق ومثله لو أمره بفعل ولم يوعده عليه ولكن في أكثر رأى المكره انه لو لم يفعل تحقق
ما أوعد يثبت حكم الاكراه لتحقق الضرورة ولهذا انه لو كان في أكثر رأيه انه لو امتنع عن تناول الميتة وصبر إلى أن
يلحقه الرجوع المهلك لأزيل عنه الاكراه لا يباح له ان يعجل بتناولها وإن كان في أكثر رأيه انه وان صبر إلى تلك الحالة
لما أزيل عنه الاكراه يباح ان يتناولها للحال دل ان العبرة لغالب الرأي وأكثر الظن دون صورة الايعاد والله
سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يقع عليه الاكراه فنقول وبالله التوفيق ما يقع عليه الاكراه في الأصل نوعان حسي وشرعي
وكل واحد منهما على ضربين معين ومخير فيه أما الحسى المعين في كونه مكرها عليه فالاكل والشرب والشتم والكفر
والاتلاف والقطع عينا وأما الشرعي فالطلاق والعتاق والتدبير والنكاح والرجعة واليمين والنذر والظهار والايلاء
والفئ في الايلاء والبيع والشراء والهبة والإجارة والابراء عن الحقوق والكفالة بالنفس وتسليم الشفعة وترك طلبها
ونحوها والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان حكم ما يقع عليه الاكراه فنقول وبالله التوفيق اما التصرفات الحسية فيتعلق بها حكمان
أحدهما يرجع إلى الآخرة الثاني يرجع إلى الدنيا أما الذي يرجع إلى الآخرة فنقول وبالله التوفيق التصرفات الحسية
التي يقع عليها الاكراه في حق أحكام الآخرة ثلاثة أنواع نوعه هو مباح ونوع هو مرخص ونوع هو حرام ليس
بمباح ولامر خص (أما) النوع الذي هو مباح فاكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر إذا كان الاكراه تاما بأن كان
بوعيد تلف لأن هذه الأشياء مما تباح عند الاضطرار قال الله تبارك وتعالى الا ما اضطررتم إليه أي دعتكم شدة
المجاعة إلى أكلها والاستثناء من التحريم إباحة وقد تحقق الاضطرار بالاكراه فيباح له التناول بل لا يباح له الامتناع
عنه ولو امتنع عنه حتى قتل يؤاخذ به كما في حالة المخمصة لأنه بالامتناع عنه صار ملقيا نفسه في التهلكة والله سبحانه
وتعالى نهى عن ذلك بقوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وإن كان الاكراه ناقصا لا يحل له الاقدام عليه ولا يرخص
أيضا لأنه لا يفعله للضرورة بل لدفع الغم عن نفسه فكانت الحرمة بحكمها قائمة وكذلك لو كان الاكراه بالاجاعة بان
قال لتفعلن كذا والا لأجيعنك لا يحل له ان يفعل حتى يجيئه من الجوع ما يخاف منه تلف النفس أو العضو لان
الضرورة لا تتحقق الا في تلك الحالة والله تعالى أعلم (وأما) النوع الذي هو مرخص فهو اجراء كلمة الكفر على
اللسان مع اطمئنان القلب بالايمان إذا كان الاكراه تاما وهو محرم في نفسه مع ثبوت الرخصة فاثر الرخصة في تغير
حكم الفعل وهو المؤاخذة لا في تغير وصفه وهو الحرمة لان كلمة الكفر مما لا يحتمل الإباحة بحال فكانت الحرمة
176

قائمة الا انه سقطت المؤاخذة لعذر الاكراه قال الله تبارك وتعالى من كفر بالله من بعد إيمانه الا من أكره وقلبه
مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم الا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان على التقديم والتأخير في الكلام والله سبحانه وتعالى أعلم والامتناع عنه أفضل من الاقدام عليه حتى لو امتنع
فقتل كان مأجورا لأنه جاد بنفسه في سبيل الله تعالى فيرجو أن يكون له ثواب المجاهدين بالنفس هنا وقال عليه
الصلاة والسلام من قتل مجبرا في نفسه فهو في ظل العرش يوم القيامة وكذلك التكلم بشتم النبي عليه الصلاة والسلام مع
اطمئنان القلب بالايمان والأصل فيه ما روى أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما لما أكرهه الكفار ورجع إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما وراءك يا عمار فقال شر يا رسول الله ما تركوني حتى نلت منك فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ان عادوا فعد فقد رخص عليه الصلاة والسلام في اتيان الكلمة بشريطة اطمئنان القلب بالايمان حيث
أمره عليه الصلاة والسلام بالعود إلى ما وجد منه لكن الامتناع عنه أفضل لما مر ومن هذا النوع شتم المسلم لان عرض
المسلم حرام التعرض في كل حال قال النبي عليه الصلاة والسلام كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله الا انه
رخص له لعذر الاكراه وأثر الرخصة في سقوط المؤاخذة دون الحرمة والامتناع عنه حفظا لحرمة المسلم وايثارا له على
نفسه أفضل ومن هذا النوع اتلاف مال المسلم لان حرمة مال المسلم حرمة دمه على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلا يحتمل السقوط بحال الا انه رخص له الاتلاف لعذر الاكراه حال المخمصة على ما نذكر ولو امتنع حتى قتل
لا يأثم بل يثاب لان الحرمة قائمة فهو بالامتناع قضى حق الحرمة فكان مأجورا لا مأزورا وكذلك اتلاف مال
نفسه مرخص بالاكراه لكن مع قيام الحرمة حتى أنه لو امتنع فقتل لا يأثم بل يثاب لان حرمة ماله لا تسقط بالاكراه
ألا ترى انه أبيح له الدفع قال النبي عليه الصلاة والسلام قاتل دون مالك وكذا من أصابته المخمصة فسأل صاحبه
الطعام فمنعه فامتنع من التناول حتى مات انه لا يأثم لما ذكرنا انه بالامتناع راعى حق الحرمة هذا إذا كان الاكراه تاما
فإن كان ناقصا من الحبس والقيد والضرب الذي لا يخاف منه تلف النفس والعضو لا يرخص له أصلا ويحكم بكفره
وان قال كان قلبي مطمئنا بالايمان فلا يصدق في الحكم على ما نذكر ويأثم بشتم المسلم واتلاف ماله لان الضرورة لم
تتحقق وكذا إذا كان الاكراه تاما ولكن في أكبر رأى المكره ان المكره لا يحقق ما أوعده لا يرخص له الفعل أصلا
ولو فعل يأثم لانعدام تحقق الضرورة لانعدام الاكراه شرعا والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) النوع الذي لا يباح ولا
يرخص بالاكراه أصلا فهو قتل المسلم بغير حق سواء كان الاكراه ناقصا أو تاما لان قتل المسلم بغير حق لا يحتمل
الإباحة بحال قال الله تبارك وتعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق وكذا قطع عضو من أعضائه والضرب
المهلك قال الله سبحانه وتعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا
وكذلك ضرب الوالدين قل أو كثر قال الله تعالى ولا تقل لهما أف والنهى عن التأفيف نهى عن الضرب دلالة بالطريق
الأولى فكانت الحرمة قائمة بحكمها فلا يرخص الاقدام عليه ولو أقدم يأثم والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) ضرب غير
الوالدين إذا كان مما لا يخاف منه التلف كضرب سوط أو نحوه فيرجى ان لا يؤاخذ به وكذا الحبس والقيد لان
ضرره دون ضرر المكره بكثير فالظاهر أنه يرضى بهذا القدر من الضرر لاحياء أخيه ولو أذن له المكره عليه أو قطعه
أو ضربه فقال للمكره افعل لا يباح له ان يفعل لان هذا ممالا يباح بالإباحة ولو فعل فهو آثم ألا ترى انه لو فعل بنفسه
أثم فبغيره أولى وكذا الزنا من هذا القبيل انه لا يباح ولا يرخص للرجل بالاكراه وإن كان تاما ولو فعل يأثم لان حرمة
الزنا ثابتة في العقول قال الله سبحانه وتعالى ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا فدل انه كان فاحشة في العقل
قبل ورود الشرع فلا يحتمل الرخصة بحال كقتل المسلم بغير حق ولو أذنت المرأة به لا يباح أيضا حرة كانت أو أمة
أذن له مولاها لان الفرج لا يباح بالإباحة وأما المرأة فيرخص لها لان الذي يتصور منها ليس الا التمكين وهي مع ذلك
مدفوعة إليه وهذا عندي فيه نظر لان فعل الزنا كما يتصور من الرجل يتصور من المرأة ألا ترى ان الله سبحانه وتعالى
177

سماها زانية الا ان زنا الرجل بالايلاج وزناها بالتمكين والتمكين فعل منها لكنه فعل سكوت فاحتمل الوصف
بالحظر والحرمة فينبغي ان لا يختلف فيه حكم الرجل والمرأة فلا يرخص للمرأة كما لا يرخص للرجل والله سبحانه
وتعالى أعلم (وأما) الحكم الذي يرجع إلى الدنيا في الأنواع الثلاثة اما النوع الأول فالمكره على الشرب لا يجب
عليه الحد إذا كان الاكراه تاما لان الحد شرع زاجرا عن الجناية في المستقبل والشرب خرج من أن يكون جناية
بالاكراه وصار مباحا بل واجبا عليه على ما مر وإذا كان ناقصا يجب لان الاكراه الناقص لم يوجب تغير
الفعل عما كان عليه قبل الاكراه بوجه ما فلا يوجب تغير حكمه والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) النوع الثاني
فالمكره على الكفر لا يحكم بكفره إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان بخلاف المكره على الايمان أنه يحكم بايمانه والفرق
بينهما من وجهين أحدهما ان الايمان في الحقيقة تصديق والكفر في الحقيقة تكذيب وكل ذلك عمل القلب
والاكراه لا يعمل على القلب فإن كان مصدقا بقلبه كان مؤمنا لوجود حقيقة الايمان وإن كان مكذبا بقلبه كان كافرا
لوجود حقيقة الكفر الا أن عبارة اللسان جعل دليلا على التصديق والتكذيب ظاهرا حالة الطوع وقد بطلت هذه
الدلالة بالاكراه فبقي الايمان منه والكفر محتملا فكان ينبغي أن لا يحكم بالاسلام حالة الاكراه مع الاحتمال كما لم
يحكم بالكفر فيها بالاحتمال الا انه حكم بذلك لوجهين أحدهما انا إنما قبلنا ظاهر ايمانه مع الاكراه ليخالط المسلمين
فيرى محاسن الاسلام فيؤول أمره إلى الحقيقة وان كنا لا نعلم بايمانه لا قطعا ولا غالبا وهذا جائز ألا ترى ان الله
تبارك وتعالى أمرنا في النساء المهاجرات بامتحانهن بعد وجود ظاهر الكلمة منهن بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا
جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ليظهر لنا ايمانهن بالدليل الغالب لقوله عز شأنه فان علمتموهن مؤمنات فلا
ترجعوهن إلى الكفار كذا ههنا وهذا المعنى لا يتحقق في الاكراه على الكفر والثاني أن اعتبار الدليل المحتمل في باب
الاسلام يرجع إلى اعلاء الدين الحق وان اعتبار الغالب يرجع إلى ضده واعلاء الدين الحق واجب قال النبي عليه
الصلاة والسلام الاسلام يعلو ولا يعلى فوجب اعتبار المحتمل دون الغالب اعلاء الدين الحق وذلك في الحكم بايمان
المكره على الايمان والحكم بعدم كفر المكره والله سبحانه وتعالى أعلم ولو اكره على الاسلام فأسلم ثم رجع يجبر
على الاسلام ولا يقتل بل يحبس ولكن لا يقتل والقياس أن يقتل لوجود الردة منه وهي الرجوع عن الاسلام
(وجه) الاستحسان انا إنما قبلنا كلمة الاسلام منه ظاهرا طمعا للحقيقة ليخالط المسلمين فيرى محاسن الاسلام
فينجع التصديق في قلبه على ما مر فإذا رجع تبين أنه لا مطمع لحقيقة الاسلام فيه وانه على اعتقاده الأول فلم يكن هذا
رجوعا عن الاسلام بل اظهارا لما كان في قلبه من التكذيب فلا يقتل وكذلك الكافر إذا أسلم وله أولاد صغار
حتى حكم باسلامهم تبعا لأبيهم فبلغوا كفارا يجبرون على الاسلام ولا يقتلون لأنه لم يوجد منهم الاسلام حقيقة فلم
يتحقق الرجوع عنه والله سبحانه وتعالى أعلم ولو اكره على أن يقر أنه أسلم أمس فاقر لا يحكم باسلامه لان الاكراه
يمنع صحة الاقرار لما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وإذا لم يحكم بكفره باجراء الكلمة لا تثبت أحكام الكفر حتى
لا تبين منه امرأته والقياس أن تثبت البينونة لوجود سبب الفرقة وهو الكلمة أو هي من أسباب الفرقة بمنزلة كلمة
الطلاق ثم حكم تلك لا يختلف بالطوع والكره فكذا حكم هذه (وجه) الاستحسان ان سبب الفرقة الردة دون
نفس الكلمة وإنما الكلمة دلالة عليها حالة الطوع ولم يبق دليلا على حالة الاكراه فلم تثبت الردة فلا تثبت البينونة ولو
قال المكره خطر ببالي في قولي كفرت بالله ان أخبر عن الماضي كاذبا ولم أكن فعلت لا يصدق في الحكم ويحكم بكفره
لأنه دعى إلى إنشاء الكفر وقد أخبر أنه أتى بالاخبار وهو غير مكره على الاخبار بل هو طائع فيه ولو قال طائعا
كفرت بالله ثم قال عنيت به الاخبار عن الماضي كاذبا ولم أكن فعلت لا يصدق في القضاء كذا هذا ويصدق فيما بينه
وبين الله تعالى لأنه يحتمله كلامه وإن كان خلاف الظاهر ولو أكره على الاخبار فيما مضى ثم قال ما أردت به الخبر عن
الماضي فهو كافر في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه لم يجبه إلى ما دعاه إليه بل أخبر انه أنشأ الكفر طوعا ولو قال لم
178

يخطر ببالي شئ آخر لا يحكم بكفره لأنه إذا لم ير شيئا يحمل على الإجابة إلى ظاهر الكلمة مع اطمئنان القلب بالايمان
فلا يحكم بكفره وكذلك لو أكره على الصلاة للصليب فقام يصلى فخطر بباله أن يصلى لله تعالى وهو مستقبل القبلة
أو غير مستقبل القبلة فينبغي أن ينوى بالصلاة أن تكون لله عز وجل فإذا قال نويت به ذلك لم يصدق في القضاء ويحكم
بكفره لأنه أتى بغير ما دعى إليه فكان طائعا والطائع إذا فعل ذلك وقال نويت به ذلك لا يصدق في القضاء كذا
هذا ويصدق فيما بينه وبين الله عز شأنه لأنه نوى ما يحتمله فعله ولو صلى للصليب ولم يصل لله سبحانه وتعالى وقد
خطر بباله ذلك فهو كافر بالله في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه صلى للصليب طائعا مع امكان الصلاة لله
تعالى وإن كانا مستقبل الصليب فإن لم يخطر بباله شئ وصلى للصليب ظاهرا وقلبه مطمئن بالايمان لا يحكم بكفره
ويحمل على الإجابة إلى ظاهر ما دعى إليه مع سكون قلبه بالايمان وكذلك لو أكره على سب النبي عليه الصلاة
والسلام فخطر بباله رجل آخر اسمه محمد فسبه وأقر بذلك لا يصدق في الحكم ويحكم بكفره لأنه إذا خطر بباله
رجل آخر فهذا طائع في سب النبي محمد عليه الصلاة والسلام ثم قال عنيت به غيره فلا يصدق في الحكم ويصدق فيما
بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمله كلامه ولو لم يقصد بالسب رجلا آخر فسب النبي عليه الصلاة والسلام فهو كافر في
القضاء وفيما بينه وبين الله جل شأنه ولو لم يخطر بباله شئ لا يحكم بكفره ويحمل على جهة الاكراه على ما مر والله
سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان الاكراه على الكفر تاما فاما إذا كان ناقصا يحكم بكفره لأنه ليس بمكره في الحقيقة
لأنه ما فعله للضرورة بل لدفع الغم عن نفسه ولو قال كان قلبي مطمئنا بالايمان لا يصدق في الحكم لأنه خلاف الظاهر
كالطائع إذا أجرى الكلمة ثم قال كان قلبي مطمئنا بالايمان ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى (وأما) المكره على اتلاف
مال الغير إذا أتلفه يجب الضمان على المكره دون المكره إذا كان الاكراه تاما لان المتلف هو المكره من حيث المعنى
وإنما المكره بمنزلة الآلة على معنى انه مسلوب الاختيار ايثارا وارتضاء وهذا النوع من الفعل مما يمكن تحصيله
بآلة غيره بأن يأخذ المكره فيضربه على المال فأمكن جعله آلة المكره فكان التلف حاصلا باكراهه فكان الضمان
عليه وإن كان الاكراه ناقصا فالضمان على المكره لان الاكراه الناقص لا يجعل المكره آلة المكره لأنه لا يسلب
الاختيار أصلا فكان الاتلاف من المكره فكان الضمان عليه وكذلك لو أكره على أن يأكل مال غيره فالضمان
عليه لان هذا النوع من الفعل وهو الاكل مما لا يعمل عليه الاكراه لأنه لا يتصور تحصيله بآلة غيره فكان طائعا
فيه فكان الضمان عليه ولو أكره على أن يأكل طعام نفسه فأكل أو على أن يلبس ثوب نفسه فلبس حتى تخرق
لا يجب الضمان على المكره لان الاكراه على أكل مال غيره لما لم يوجب الضمان على المكره فعلى مال نفسه أولى مع ما
أن أكل نفسه ولبس ثوب نفسه ليس من باب الاتلاف بل هو صرف مال نفسه إلى مصلحة بقائه ومن صرف مال
نفسه إلى مصلحته لا ضمان له على أحد ولو أذن صاحب المال المكره باتلاف ماله من غير اكراه فاتلفه لا ضمان على
أحد لان الاذن بالاتلاف يعمل في الأموال لان الأموال مما تباح بالإباحة واتلاف مال مأذون فيه لا يوجب
المضان والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) النوع الثالث فأما المكره على القتل فإن كان الاكراه تاما فلا قصاص عليه
عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما ولكن يعزر ويجب على المكره وعند أبي يوسف رحمه الله لا يجب القصاص
عليهما ولكن تجب الدية على المكره وعند زفر رحمه الله يجب القصاص على المكره دون المكره وعند الشافعي
رحمه الله يجب عليهما (وجه) قول الشافعي رحمه الله أن القتل اسم لفعل يفضى إلى زهوق الحياة عادة وقد وجد في كل
واحد منهما الا انه حصل من المكره مباشرة ومن المكره تسبيبا فيجب القصاص عليهما جميعا (وجه) قول زفر
رحمه الله ان القتل وجد من المكره حقيقة حسا ومشاهدة وانكار المحسوس مكابرة فوجب اعتباره منه دون المكره
إذ الأصل اعتبار الحقيقة لا يجوز العدول عنها الا بدليل (وجه) قول أبى يوسف رحمه الله ان المكره ليس بقاتل
حقيقة بل هو مسبب للقتل وإنما القاتل هو المكره حقيقة ثم لما لم يجب القصاص عليه فلان لا يجب على المكره أولى
179

(وجه) قول أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عفوت عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه وعفو الشئ عفو عن موجبه فكان موجب المستكره عليه معفوا بظاهر الحديث ولان
القاتل هو المكره من حيث المعنى وإنما الموجود من المكره صورة القتل فأشبه الآلة إذ القتل مما يمكن اكتسابه بآلة
الغير كاتلاف المال ثم المتلف هو المكره حتى كان الضمان عليه فكذا القاتل ألا ترى انه إذا أكره على قطع يد نفسه له
أن يقتص من المكره ولو كان القاطع حقيقة لما اقتص ولان معنى الحياة أمر لابد منه في باب القصاص قال الله
تعالى ولكم من القصاص حياة ومعنى الحياة شرعا واستيفاء لا يحصل بشرع القصاص في حق المكره واستيفائه
منه على ما مر في مسائل الخلاف لذلك وجب على المكره دون المكره وإن كان الاكراه ناقصا وجب القصاص على
المكره بلا خلاف لان الاكراه الناقص يسلب الاختيار أصلا فلا يمنع وجوب القصاص وكذلك لو كان المكره
صبيا أو معتوها يعقل ما أمره به فالقصاص على المكره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لما ذكرنا ولو كان الصبي المكره
يعقل وهو مطاع أو بالغ مختلط العقل وهو مسلط لا قصاص عليه وعلى عاقلته الدية لان عمد الصبي خطأ ولو قال
المكره على قتله للمكره اقتلني من غير اكراه فقتله لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة لأنه لو قتله من غير اذن لا يجب
عليه فهذا أولى وعند زفر يجب عليه القصاص وكذا لا قصاص على المكره عندنا وفى وجوب الدية روايتان
وموضع المسألة كتاب الديات ومن الأحكام التي تتعلق بالاكراه على القتل أن المكره على قتل مورثه لا يحرم
الميراث عند أصحابنا الثلاثة لما ذكرنا أن الموجود من المكره صورة القتل لا حقيقة بل هو في معنى الآلة فكان القتل
مضافا إلى المكره ولأنه قتل لا يتعلق به وجوب القصاص ولا وجوب الكفارة فلا يوجب حرمان الميراث وعلى
قياس قول زفر والشافعي رحمهما الله يحرم الميراث لأنه يتعلق به وجوب القصاص (وأما) المكره فيحرم الميراث
عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رضي الله عنهم لوجوب القصاص عليه وعند أبي يوسف وزفر رحمهما الله لا يحرم
لانعدام وجوب القصاص عليه والكفارة والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان المكره بالغا فإن كان صبيا وهو
وارث المقتول لا يحرم الميراث لان من شرط كون القتل جاز ما أن يكون حراما وفعل الصبي لا يوصف بالحرمة ولهذا
إذا قتله بيد نفسه لا يحرم فإذا قتله بيد غيره أولى وكذلك المكره على قطع يد انسان إذا قطع فهو على الاختلاف الذي
ذكرنا في القتل غير أن صاحب اليد إذا كان اذن للمكره بقطع يده من غير اكراه فقطع لا ضمان على أحد وفى باب القتل
إذا أذن لمكره على قتله المكره بالقتل فقتل فهو اختلاف الرواية في وجوب الدية على المكره والله سبحانه وتعالى
أعلم والفرق ان الأطراف يسلك بها مسلك الأموال في بعض الأحوال والاذن باتلاف المال المحض مبيح فالاذن
باتلاف ماله حكم المال في الجملة يورث شبهة الإباحة فيمنع وجوب الضمان بخلاف النفس يدل على التفرقة
بينهما انه إذا قال له لتقطعن يدك والا لأقتلنك كان في سعة من ذلك ولا يسعه ذلك في النفس والله سبحانه
وتعالى أعلم (وأما) المكره على الزنا فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا إذا أكره الرجل على الزنا يجب عليه
الحد وهو القياس لان الزنا من الرجل لا يتحقق الا بانتشار الآلة والاكراه لا يؤثر فيه فكان طائعا في الزنا
فكان عليه الحد ثم رجع وقال إذا كان الاكراه من السلطان لا يجب بناء على أن الاكراه لا يتحقق الا من
السلطان عنده وعندهما يتحقق من السلطان وغيره فإذا جاء من غير السلطان ما يجئ من السلطان لا يجب
والفرق لأبي حنيفة ما ذكرنا من قبل ان المكره يلحقه الغوث إذا كان الاكراه من غير السلطان ولا يجد غوثا إذا
كان الاكراه منه (وأما) قوله إن الزنا لا يتحقق الا بانتشار الآلة فنعم لكن ليس كل من تنشر آلته يفعل فكان
فعله بناء على اكراهه فيعمل فيه لضرورته مدفوعا إليه خوفا من القتل فيمنع وجوب الحد ولكن يجب العقر على
المكره لان الزنا في دار الاسلام لا يخلو عن احدى الغرامتين وإنما وجب العقر على المكره دون المكره لان الزنا
مما لا يتصور تحصيله بآلة غيره والأصل ان كل مالا يتصور تحصيله بآلة الغير فضمانه على المكره وما يتصور تحصيله
180

بآلة الغير فضمانه على المكره كذلك المرأة إذا أكرهت على الزنا لاحد عليها لأنها بالاكراه صارت محمولة على
التمكين خوفا من مضرة السيف فيمنع وجوب الحد عليها كما في جانب الرجل بل أولى لان الموجود منها ليس
الا التمكين ثم الاكراه لما أثر في جانب الرجل فلان يؤثر في جانبها أولى هذا إذا كان اكراه الرجل تاما فاما إذا كان
ناقصا بحبس أو قيد أو ضرب لا يخاف منه التلف يجب عليه الحد لما مر ان الاكراه الناقص لا يجعل المكره مدفوعا
إلى فعل ما أكره فبقي مختارا مطلقا فيؤاخذ بحكم فعله (وأما) في حق المرأة فلا فرق بين الاكراه التام والناقص ويدرأ
الحد عنها في نوعي الاكراه لأنه لم يوجد منها فعل الزنا بل الموجود هو التمكين وقد خرج من أن يكون دليل الرضا
بالاكراه فيدرأ عنها الحد هذا الذي ذكرنا إذا كان المكره عليه معينا فاما إذا كان مخيرا فيه بان أكره على أحد
فعلين من الأنواع الثلاثة غير معين فنقول وبالله التوفيق أما الحكم الذي يرجع إلى الآخرة وهو ما ذكرنا من الإباحة
والرخصة والحرمة المطلقة فلا يختلف التخيير بين المباح والمرخص انه يبطل حكم الرخصة أعنى به ان كل ما يباح حالة
التعيين يباح حالة التخيير وكلما لا يباح ولا يرخص حالة التعيين لا يباح ولا يرخص حالة التخيير وكل ما يرخص حالة
التعيين يرخص حالة التخيير الا إذا كان التخيير بين المباح وبين المرخص وبيان هذه الجملة إذا أكره على أكل ميتة أو
قتل مسلم يباح له الاكل ولا يرخص له القتل وكذا إذا أكره على أكل ميتة أو أكل مالا يباح ولا يرخص حالة التعيين
من قطع اليد وشتم المسلم والزنا يباح له الاكل ولا يباح له شئ من ذلك ولا يرخص كما في حالة التعيين ولو امتنع من الاكل
حتى قتل يأثم كما في حالة التعيين ولو أكره على القتل والزنا لا يرخص له ان يفعل أحدهما ولو امتنع عنهما لا يأثم إذا قتل
بل يثاب كما في حالة التعيين ولو أكره على القتل أو الاتلاف لمال انسان رخص له الاتلاف ولو لم يفعل أحدهما حتى
قتل لا يأثم بل يثاب كما في حالة التعيين وكذا إذا أكره على قتل انسان وإتلاف مال نفسه يرخص له الاتلاف دون
القتل كما في حالة التعيين ولو امتنع عنهما حتى قتل لا يأثم وكذا لو أكره على القتل أو الكفر يرخص له ان يجرى كلمة
الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالايمان ولا يرخص له القتل ولو امتنع حتى قتل فهو مأجور كما في حالة التعيين فاما إذا أكره
على أكل ميتة أو الكفر لم يذكر هذا الفصل في الكتاب وينبغي ان لا يرخص له كلمة الكفر أصلا كما لا يرخص له
القتل لان الرخصة في اجراء الكلمة لمكان الضرورة ويمكنه دفع الضرورة بالمباح المطلق وهو الاكل فكان اجراء
الكلمة حاصلا باختياره مطلقا فلا يرخص والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الحكم الذي يرجع إلى الدنيا فقد يختلف
بالتخيير حتى أنه لو أكره على أكل الميتة أو قتل المسلم فلم يأكل وقتل يجب القصاص على المكره لأنه أمكنه دفع
الضرورة بتناول المباح فكان القتل حاصلا باختياره من غير ضرورة فيؤاخذ بالقصاص ولو أكره على القتل أو الكفر
فلم يأت بالكلمة وقتل فالقياس ان يجب القصاص على المكره لأنه مختار في القتل حيث آثر الحرام المطلق على
المرخص فيه وفى الاستحسان انه لا قصاص عليه ولكن تجب الدية في ماله ان لم يكن عالما ان لفظ الكفر مرخص
له منهم من استدل بهذه اللفظة على أنه لو كان عالما ومع ذلك تركه وقتل يجب القصاص على المكره لأنه أخرجها مخرج
الشرط ومنهم من قال لا يجب علم أو لم يعلم وجه الاستحسان ما ذكر في الكتاب ان أمر هذا الرجل محمول على أنه
ظن أن اجراء كلمة الكفر على اللسان أعظم حرمة من القتل فأورث شبهة الرخصة في القتل والقصاص لا يجب مع
الشبهات حتى لو كان عالما يجب القصاص عند بعضهم لانعدام الظن المورث للشبهة وعند بعضهم لا يجب لأنه وان
علم بالرخصة فقد استعظم حرف الكفر بالامتناع عنه فجعل استعظامه شبهة دارئة للقصاص والله سبحانه وتعالى
أعلم وإنما وجبت الدية في ماله لا على العاقلة لأنه عمد (وقال) عليه الصلاة والسلام لا تعقل العاقلة عمدا ولا يرجع
على المكره لان القتل حصل باختياره فلا يملك الرجوع عليه ولو أكره على القتل أو الزنا فزنا القياس ان يجب عليه
الحد وفى الاستحسان يدرأ عنه لما مر ولو قتل لا يجب القصاص على المكره ولكنه يؤدب بالحبس والتعزير
ويقتص من المكره كما في حالة التعيين على ما مر والله سبحانه وتعالى أعلم هذا كله إذا كان الاكراه على الافعال
181

الحسية فاما إذا كان على التصرفات الشرعية فنقول وبالله التوفيق التصرفات الشرعية في الأصل نوعان انشاء واقرار
والانشاء نوعان نوع لا يحتمل الفسخ ونوع يحتمله أما الذي لا يحتمل الفسخ فالطلاق والعتاق والرجعة والنكاح
واليمين والنذر والظهار والايلاء والفئ في الايلاء والتدبير والعفو عن القصاص وهذه التصرفات جائزة مع الاكراه
عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا تجوز واحتج بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عفوت عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه فلزم أن يكون حكم كل ما استنكره عليه عفوا ولان القصد إلى ما وضع له التصرف شرط
جوازه ولهذا لا يصح تصرف الصبي والمجنون وهذا الشرط يفوت بالاكراه لان المكره لا يقصد بالتصرف ما وضع له
وإنما يقصد دفع مضرة السيف عن نفسه (ولنا) ان عمومات النصوص واطلاقها يقتضى شرعية هذه التصرفات
من غير تخصيص وتقييد (أما) الطلاق فلقوله سبحانه وتعالى فطلقوهن لعدتهن وقوله عليه الصلاة والسلام كل
طلاق جائز الاطلاق الصبي والمعتوه ولان الفائت بالاكراه ليس الا الرضا طبعا وانه ليس بشرط لوقوع الطلاق فان
طلاق الهازل واقع وليس براض به طبعا وكذلك الرجل قد يطلق امرأته الفائقة حسنا وجمالا الرائقة تغنجا ودلالا
لخلل في دينها وإن كان لا يرضى به طبعا ويقع الطلاق عليها وأما الحديث فقد قيل إن المراد منه الاكراه على الكفر لان
القوم كانوا حديثي العهد بالاسلام وكان الاكراه على الكفر ظاهرا يومئذ وكان يجرى على ألسنتهم كلمات الكفر
خطأ وسهوا فعفا الله جل جلاله عن ذلك عن هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما انا نقول
بموجب الحديث ان كل مستكره عليه معفو عن هذه الأمة لكنا لا نسلم ان الطلاق والعتاق وكل تصرف قولي مستكره
عليه وهذا لان الاكراه لا يعمل على الأقوال كما يعمل على الاعتقادات لان أحدا لا يقدر على استعمال لسان غيره
بالكلام على تغيير ما يعتقده بقلبه جبرا فكان كل متكلم مختارا فيما يتكلم به فلا يكون مستكرها عليه حقيقة فلا يتناوله
الحديث وقوله القصد إلى ما وضع له التصرف بشرط اعتبار التصرف قلنا هذا باطل بطلاق الهازل ثم إن كان شرطا
فهو موجود ههنا لأنه قاصد دفع الهلاك عن نفسه ولا يندفع عنه الا بالقصد إلى ما وضع له فكان قاصدا إليه ضرورة ثم
لا يخلو اما ان أكره على تنجيز الطلاق أو على تعليقة بشرط أو على تحصيل الشرط الذي علق به وقوع الطلاق وحكم
الجواز لا يختلف في نوعي التنجيز والتعليق وحكم الضمان يتفق مرة ويختلف أخرى وسنذكر تفصيل هذه الجملة في
فصل الاكراه على الاعتاق وإنما نذكر ههنا حكم جواز التطليق المنجز فنقول إذا جاز طلاق المكره فإن كان قبل
الدخول بها يجب عليه نصف المفروض إن كان المهر مفروضا والمتعة إذا لم يكن مفروضا لان هذا حكم الطلاق قبل
الدخول ويرجع به على المكره لأنه هو الذي دفعه إلى مباشرة سببه وهو الطلاق فكان قرار الضمان عليه وإذا كان
بعد الدخول بها يجب عليه كمال المهر ولا سبيل له على المكره لان المهر يتأكد باستيفاء منفعة البضع على وجه لا يحتمل
السقوط وهو الذي استوفى المبدل باختياره فعليه تسليم البدل والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك إذا كان الاكراه
ناقصا لا سبيل على المكره لأنه لا يخل باختيار المكره أصلا على ما مر هذا إذا كان الاكراه على الطلاق فاما إذا كان
الاكراه على التوكيل بالطلاق ففعله الوكيل فحكمه يذكر في فصل الاكراه على الاعتاق إن شاء الله تعالى وأما العتاق فلما
روى أن رجلا جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال علمني عملا يدخلني الجنة فقال أعتق النسمة وفك الرقبة فقال
أوليسا واحدا فقال عليه الصلاة والسلام لا عتق النسمة ان تفرد بعتقها وفك الرقبة ان تعين في عتقها وغيره من
الأحاديث التي فيها الندب إلى الاعتاق من غير فصل بين المكره والطائع ولان الاعتاق تصرف قولي فلا يؤثر فيه
الاكراه كالطلاق ثم لا يخلوا اما إن كان على تنجيز العتق أو على تعليقه بشرط أو على شرط العتق المعلق به أما إذا كان
الاكراه على تنجيز العتق فاعتق يضمن المكره قيمة العبد موسرا كان أو معسرا ولا يرجع المكره على العبد بالضمان ولا
سعاية على العبد والولاء لمولاه أما وجوب الضمان على المكره فلان العبد آدمي هو مال والاعتاق اتلاف المالية
والأموال مضمونة على المكره بالاتلاف فكان الضمان على المكره كما في سائر الأموال ويستوى فيه يساره واعساره
182

لان ضمان الاتلاف لا يختلف باليسار والاعسار ولا يرجع على العبد بالضمان لان سبب وجوب الضمان منه باختياره
فلا معنى للرجوع إلى غيره والولاء للمكره لان الاعتاق من حيث هو كلام مضاف إلى المكره لاستحالة ورود
الاكراه على الأقوال فكان الولاء ولا سعاية على العبد لان العبد إنما يستسعى ما لتخريجه إلى العتق تكميلا له واما
لتعليق حق الغير به وقد عتق كله فلا حاجة إلى التكميل وكذا لا حق لاحد تعلق به فلا سعاية عليه ولو أكره على شراء
ذي رحم محرم منه عتق عليه لان شراء القريب اعتاق بالنص والاكراه لا يمنع جواز الاعتاق لكن لا يرجع المكره
ههنا بقيمة العبد على المكره لأنه حصل له عوض وهو صلة الرحم ولو كان العبد مشتركا بين اثنين فأكره أحدهما على
اعتاقه فاعتقه جاز عتقه لما ذكرنا ان الاكراه لا يمنع حواز الاعتاق لكن يعتق نصفه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وعندهما يعتق كله بناء على أن الاعتاق يتجزأ عنده وعندهما لا يتجزأ ولا يضمن الشريك المكره للشريك
الآخر نصيبه ولكن يضمن المكره نصيب المكره لان الاعتاق من حيث هو اتلاف المال مضاف إلى المكره فكان
المتلف من حيث المعنى هو المكره فكان الضمان عليه سواء كان موسرا أو معسرا وهذا بخلاف حالة الاختيار إذا أعتقه
أحد الشريكين انه لا يضمن لشريكه الساكت إذا كان المعتق معسرا وههنا يضمن موسرا كان أو معسرا لأن الضمان
الواجب على المكره ضمان اتلاف على ما مر والأصل ان ضمان الاتلاف لا يختلف باليسار والاعسار فالواجب على
أحد الشريكين حالة الاختيار ليس بضمان اتلاف لانعدام الاتلاف منه في نصيب شريكه أما على أصل أبي حنيفة
رضي الله عنه فظاهر لأنه لا يعتق نصيب شريكه وأما على أصلهما فان عتق لكن لا باعتاقه لان اعتاقه تصرف في ملك
نفسه الا انه عتق نصيب شريكه عند تصرفه لا بتصرفه فلا يكون مضاف إليه كمن حفر بئرا في دار نفسه فوقع فيها غيره أو
سقى أرض نفسه ففسدت أرض غيره حتى لا يجب عليه الضمان الا ان وجوب الضمان على أحد الشريكين حالة
الاختيار عرف شرعا والشرع ورد به على الموسر فيقتصر على مورد الشرع وشريك المكره بالخيار ان شاء أعتق
نصيبه وان شاء دبره وان شاء كاتبه وان شاء استسعاه معسرا كان المكره أو موسرا وان شاء ضمن المكره
إن كان موسرا فان اختار تضمين المكره فالولاء بين المكره والمكره لأنه انتقل نصيبه إليه باختيار طريق الضمان
وان اختار الاعتاق أو السعاية فالولاء بينه وبين شريكه وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما إن كان
المكره موسرا فلشريك المكره ان يضمنه لا غير وإن كان معسرا فله ان يستسعى العبد لا غير كما في حالة الاختيار
وموضع المسألة في كتاب العتاق وإنما ذكرنا بعض ما يختص بالاكراه والله تعالى الموفق (وأما) التدبير فلان
التدبير تحرير قال النبي عليه الصلاة والسلام المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث الا انه للحال تحرير من
وجه الاكراه لا يمنع نفاذ التحرير من كل وجه فلا يمنع نفاذ التحرير من وجه بالطريق الأولى ويرجع المكره
على المكره للحال بما نفضه التدبير وبعد موته يرجع ورثته على المكره ببقية قيمته لان التدبير للحال اثبات الحرية من
وجه وإنما تثبت الحرية من كل وجه في آخر جزء من أجزاء حياته فكان الاكراه على التدبير اتلافا لمال المكره
للحال من وجه فيضمن بقدره من النقصان ثم يتكامل الاتلاف في آخر جزء من أجزاء حياته فيتكامل الضمان
عند ذلك وذلك بقية قيمته فإذا مات المكره صار ذلك ميراثا لورثته فكان لهم ان يرجعوا به على المكره والله تعالى
الموفق هذا إذا أكره على تنجيز العتق فاما إذا أكره على تعليق العتق بشرط أما حكم الجواز فلا يختلف في النوعين
لما ذكرنا وأما حكم الضمان فقد يختلف بيان ذلك إذا أكره على تعليق العتق بفعل نفسه فإنه ينظر فإن كان فعلا لابد
منه بأن كان مفروضا عليه أو يخاف من تركه الهلاك على نفسه كالأكل والشرب ففعله حتى عتق يرجع بالضمان
على المكره لان الاكراه على تعليق العتق بفعل لابد له منه اكراه على ذلك الفعل فكان مضافا إلى المكره وإن كان
فعلا له منه بد كتقاضي دين الغريم أو تناول شئ له منه بد ففعل حتى عتق لا يرجع بالضمان على المكره لأنه إذا كان
له منه بدلا يكون مضطرا إلى تحصيله إذ لا يلحقه بتركه كثير ضرر فأشبه الاكراه الناقص فلا يكون الاكراه على تعليق
183

العتق به اكراها عليه فلا يكون تلف المال مضافا إلى المكره فلا يرجع عليه بالضمان ولو اكره على أن يقول كل
مملوك أملكه فيما استقبله فهو حر فقال ذلك ثم ملك مملوكا حتى عتق عليه فان ملك بشراء أو هبة أو صدقة أو
وصية لا ضمان على المكره لأنه إنما ملكه باختياره فيقطع إضافة اكراه الاتلاف إلى المكره وان ملك بإرث
فكذلك في القياس وفى الاستحسان يضمن لأنه لا صنع له للمكره في الإرث فبقي الاتلاف مضافا إلى المكره ولو
اكره على أن يقول لعبده ان شئت فأنت حر فقال شئت حتى عتق ضمن المكره لان مشيئة المكره العتق توجد غالبا
فأشبه التعليق بفعل لابد منه فكان الاكراه على الاعتاق اكراها عليه هذا إذا اكره على تعليق العتق بالشرط
فاما إذا اكره على تحصيل الشرط الذي علق به العتق عن طوع بأن قال رجل لعبد ان ملكتك فأنت حر فأكره على
الشراء فاشتراه حتى عتق لا يرجع على المكره بشئ لان العتق لم يثبت بالشرط وهو الشراء وإنما ثبت بالكلام السابق
وهو طائع فيه وكذا إذا قال لعبده ان دخلت الدار فأنت حر فأكره على الدخول حتى عتق لا ضمان على المكره لما ذكرنا
ثم إنما يضمن المكره في جميع ما وصفنا إذا كان الاكراه تاما فاما إذا كان ناقصا فلا ضمان لما مر ان الاكراه الناقص
لا يقطع الإضافة عن المكره بوجه فلا يوجب الضمان على المكره والله تعالى أعلم هذا الذي انا إذا أكره على
الاعتاق المطلق عينا فاما إذا أكره على أحدهما غير عين بان أكره على أن يعتق عبده أو يطلق امرأته فإن لم تكن المرأة
مدخولا بها ففعل المكره أحدهما غرم المكره الأقل من قيمة العبد ومن نصف مهر المرأة أما إذا فعل أقلهما ضمانا
فظاهر لأنه ما أتلف عليه الا هذا القدر وكذلك إذا فعل أكثرهما ضمانا لأنه أمكنه دفع الضرورة بأقل الفعلين ضمانا
فإذا فعل أكثرهما ضمانا كان مختارا في الزيادة لانعدام الاضطرار في هذا القدر فلا يكون تلف هذا القدر مضافا
إلى المكره وإن كانت المرأة مدخولا بها ففعل المكره أحدهما لا شئ على المكره أما إذا أطلق فظاهر لان الطلاق
بعد الدخول لا يوجب الضمان على المكره لما ذكرنا من قبل وكذلك إذا أعتق لأنه أمكنه دفع الضرورة بما
لا يتعلق فيه ضمان أصلا وهو الطلاق فكان مختارا في الاعتاق فلا يكون الاتلاف مضافا إلى المكره فلا يضمن
وكذلك إذا كانت المرأة غير مدخول بها ولكن الاكراه ناقص ففعل المكره أحدهما لا ضمان على المكره لما مر
ان الاكراه الناقص لا يقطع إضافة الفعل إلى المكره لان الضرورة لا تتحقق به فكان مختارا مطلقا فيه فلا يؤاخذ
به المكره هذا إذا اكره على الاعتاق فاما إذا أكره على التوكيل بالاعتاق فوكل غيره به ففعل الوكيل فالقياس ان
لا يصح التوكيل ولا يجوز اعتاق الوكيل لان التوكيل تصرف يحتمل الفسخ فأشبه البيع ولهذا يبطله الهزل كالبيع
فلا يصح مع الاكراه كما لا يصح البيع وفى الاستحسان يجوز لان الاكراه لا يمنع صحة الاعتاق فلا يمنع صحة التوكيل
بالاعتاق بخلاف البيع فان الاكراه يمنع صحة البيع فيمنع صحة التوكيل به وأما قوله إنه يحتمل الفسخ والهزل فنعم لكنه
تصرف قولي فلا يعمل عليه الاكراه كما لا يعمل على الاعتاق والطلاق والنكاح وغيرها بخلاف البيع فإنه اسم
للمبادلة حقيقة وحقيقة المبادلة بالتعاطي وإنما الايجاب والقبول دليل عليه حالة الطوع فيعمل عليه الاكراه على
ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وإذا نفذ اعتاق الوكيل يرجع المكره على المكره بقيمة العبد استحسانا والقياس
ان لا يرجع لان الموجود من المكره الاكراه على التوكيل بالاعتاق لا على الاعتاق وإنما الاعتاق حصل باختيار الوكيل
ورضاه فلا يكون مضافا إلى المكره كشهود التوكيل بالاعتاق إذا رجعوا لا يضمنون لأنهم شهدوا بالوكالة بالاعتاق كذا
ههنا وجه الاستحسان ان الاكراه على التوكيل بالاعتاق اكراه على الاعتاق لأنه إذا وكل بالاعتاق ملك الوكيل
اعتاقه عقيب التوكيل بلا فصل فيعتقه فيتلف ماله فكان الاتلاف مضافا إلى المكره فيؤاخذ بضمانه ولا ضمان على
الوكيل لأنه فعل بأمره أمرا صحيحا وإن كان الاكراه ناقصا فلا ضمان على المكره لما مر غير مرة وأما النكاح فلعموم قوله
تبارك وتعالى وانكحوا الأيامى منكم وغيره من عمومات النكاح من غير تخصيص ولان النكاح تصرف قولي فلا
يؤثر فيه الاكراه كالطلاق والعتاق ثم إذا جاز النكاح مع الاكراه فلا يخلو اما ان أكره الزوح أو المرأة فان أكره الزوج
184

فلا يخلو اما أن يكون المسمى في النكاح مقدار مهر المثل واما أن يكون أقل من مهر المثل واما أن يكون أكثر منه فإن كان
المسمى قدر مهر المثل أو أقل منه يجب المسمى ولا يرجع به على المكره لأنه ما أتلف عليه ماله حيث عوضه بمثله لان منافع
البضع جلعت أموالا متقومة شرعا عند دخولها في ملك الزوج لكونها سببا لحصول الآدمي تعظيما للآدمي وصيانة
له عن الابتذال وإذا لم يوجد الاتلاف فلا يجب عليه الضمان وإن كان المسمى أكثر من مهر المثل يجب قدر مهر المثل
وتبطل الزيادة لان تسمية الزيادة على قدر مهر المثل لم تصح مع الاكراه فبطلت وجعل كأنه لم يفرض الا قدر مهر المثل
وهذا لان الاكراه وقع على النكاح وعلى ايجاب المال الا ان الاكراه لا يؤثر في النكاح ويؤثر في ايجاب المال كما يؤثر
في الاقرار بالمال فكان ينبغي ان لا تصح تسمية المهر أصلا الا انها صحت في قدر مهر المثل شرعا لان الشرع لو أبطل هذا
القدر لاثبته ثانيا فلم يكن الابطال مفيدا فلم يبطل لئلا يخرج الابطال مخرج العيب ولا ضرورة في الزيادة فلا تصح
تسميتها هذا إذا أكره الزوج على النكاح فاما إذا أكرهت المرأة فإن كان المسمى في النكاح قدر مهر المثل أو أكثر منه جاز
النكاح ولزم وإن كان المسمى أقل من مهر المثل بان أكرهت على النكاح بألف درهم ومهر مثلها عشرة آلاف فزوجها
أولياؤها وهم مكرهون جاز النكاح لما ذكرنا وليس للمرأة على المكره من مهر مثلها شئ لان المكره ما أتلف عليها مالا
لان منافع البضع ليست بمتقومة بأنفسها وإنما تصير متقومة بالعقد والعقد قومها بالقدر المسمى فلم يوجد من المكره اتلاف
مال متقوم عليها فلا يجب عليه الضمان ولا يجب الضمان على الشهود أيضا لأنه لما لم يجب على المكره فلان لا يجب على
الشهود أولى ثم ينظر إن كان الزوج كفأ فقال للزوج ان شئت فكمل لها مهر مثلها والا فنفرق بينكما فان فعل لزم
النكاح وان أبى تكميل مهر المثل يفرق بينهما ان لم ترض بالنقصان لان لها في كمال مهر مثلها حقا لأنها تعير بنقصان مهر
المثل فيلحقها ضرر العار وإذا فرق بينهما قبل الدخول بها لا شئ على الزوج لان الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول
بها ولو رضيت بالنقصان صريحا أو دلالة بان دخل بها عن طوع منها فلها المسمى وبطل حقها في التفريق لكن بقي حق
الأولياء فيه عند أبي حنيفة فلهم ان يفوقوا وعندهما ليس للأولياء حق التفريق لنقصان المهر على ما عرف في كتاب
النكاح ولو دخل بها على كره منها لزمه تكميل مهر المثل لان ذلك دلالة اختيار التكميل وان لم يكن الزوج كفأ فللمرأة
خيار التفريق لانعدام الكفاءة ونقصان مهر المثل أيضا وكذا الأولياء عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لهم خيار
عدم الكفاءة أما لا خيار لهم لنقصان مهر المثل فان سقط أحد الخيارين عنها يبقى لها حق التفريق لبقاء الخيار الآخر
وان سقط الخياران جميعا فللأولياء خيار عدم الكفاءة بالاجماع وفى خيار نقصان المهر خلاف على ما عرف حتى أن
الزوج إذا دخل بها قبل التفريق على كره منها حتى لزمه التكميل بطل خيار النقصان وبقى لها عدم خيار الكفاءة
ولو رضيت بعدم الكفاءة أيضا صريحا ودلالة بان دخل بها الزوج على طوع منها سقط الخياران جميعا وبطل حقها
في التفريق أصلا لكن للأولياء الخياران جميعا وعندهما أحدهما دون الآخر ولو فرق بينهما قبل الدخول بها لا شئ
على الزوج لان الفرقة ما جاءت من قبله بل من قبل غيره فلا يلزمه شئ وأما الرجعة فلعموم قوله تبارك وتعالى
وبعولتهن أحق بردهن عاما من غير تخصيص ولان الرجعة لا تخلو من أن تكون بالقول أو بالفعل وهو الوطئ واللمس
عن شهوة والنظر إلى الفرج عن شهوة والاكراه لا يعمل على النوعين فلا يمنع جوازها والله سبحانه وتعالى أعلم وأما
اليمين والنذر بأن أكره على أن يوجب على نفسه صدقة أو حجا أو شيئا من وجوه القرب والظهار والايلاء والفئ
في الايلاء فلعمومات النصوص الواردة في هذه الأبواب من غير تخصيص الطبائع قال الله تبارك وتعالى لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان وقال الله سبحانه وتعالى وليوفوا نذورهم وقال جل شأنه يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود أي بالعهود ولان النذر يمين وكفارته كفارة اليمين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
سبحانه وتعالى والذين يظاهرون من نسائهم وقال جلت عظمته وكبرياؤه للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة
أشهر فان فاؤا فان الله غفور رحيم وان عزموا الطلاق فان الله سميع عليم ولأن هذه تصرفات قولية وقد مر ان الاكراه
185

لا يعمل على الأقوال والفئ في الايلاء في حق القادر بالجماع وفى حق العاجز بالقول والاكراه لا يؤثر في النوعين جميعا
فكان طائعا في الفئ فتلزمه الكفارة ولا تلزمه في هذه التصرفات من الكفارة والقربة المنذور بها على المكره لان
الكفارة وجبت على المكره على سبيل التوسيع وكذا المنذور به لان الامر بها مطلق عن الوقت وهما مما لا يجبر
على فعلهما أيضا فلو وجب على المكره لكان لا يخلو من أن يجب عليه على الوجه الذي وجب على المكره أو على الوجه
الذي وجب عليه ولا سبيل إلى الأول لان الايجاب على هذا الوجه لا يفيد المكره شيئا فلا معنى لرجوعه عليه ولا
سبيل إلى الثاني لأنه يؤدى إلى تغيير المشروع من وجهين أحدهما جعل الموسع مضيقا والثاني جعل مالا يجبر على
فعله مجبورا على فعله وكل ذلك تغيير ولا يجوز تغيير المشروع من وجه فكيف يجوز من وجهين وكذا في الايلاء إذا لم
يقر بها حتى بانت بتطليقة لا يرجع لما لزمه على المكره لأنه إنما لزمه ترك القربان وهو مختار في تركه لأنه يمكنه ان يقر بها
في المدة حتى لا تبين فلا يلزمه فإذا لم يقرب كان ترك القربان حاصلا باختياره فلا يكون مضافا إلى المكره والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو أكره على كفارة اليمين لم يرجع على المكره لأنها لزمته بفعله ولو أكره على أن يعتق عبده عن ظهاره ينظر
إن كانت قيمته قيمة عبد وسط لا يرجع على المكره بشئ لان ذلك وجب عليه بفعله فلا يرجع به عليه وإن كانت
قيمته أكثر من ذلك يرجع عليه بالزيادة لأنه أتلف ذلك القدر عليه لان الزيادة على عبد وسط لا تجب عليه بالظهار ولا
تجزيه عن الظهار لأنه اعتاق دخله عوض والاعتاق بعوض وان قل لا يجزى عن التكفير وأما العفو عن دم العمد
فلعمومات قوله تبارك وتعالى فمن تصدق به فهو كفارة له وقوله به أي بالقصاص لأنه أقرب المذكور والتصدق
بالقصاص هو العفو وقوله عز شأنه وان تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم فقد ندب سبحانه وتعالى إلى العفو
عاما ولأنه تصرف قولي فلا يؤثر فيه الاكراه ولا ضمان على المكره لأنه لم يوجد منه اتلاف المال لان القصاص ليس
بمال ولهذا لا يجب الضمان على شهود العفو إذا رجعوا والله سبحانه وتعال أعلم وأما النوع الذي يحتمل الفسخ فالبيع
والشراء والهبة والإجارة ونحوها فالاكراه يوجب فساد هذه التصرفات عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وعند زفر
رحمه الله يوجب توقفها على الإجازة كبيع الفضولي وعند الشافعي رحمه الله يوجب بطلانها أصلا (ووجه) قولهما ان
الرضا شرط البيع شرعا قال الله تعالى الا أن تكون تجارة عن تراض منكم والاكراه يسلب الرضا يدل عليه انه لو أجاز
المالك يجوز والبيع الفاسد لا يحتمل الجواز بالإجازة كسائر البياعات الفاسدة فأشبه بيع الفضولي وهذه شبهة زفر
رحمه الله (ولنا) ظواهر نصوص البيع عاما مطلقا من غير تخصيص وتقييد ولان ركن البيع وهو المبادلة صدر مطلقا
من أهل البيع في محل وهو مال مملوك البائع فيفيد الملك عند التسليم كما في سائر البياعات الفاسدة ولا فرق سوى ان
المفسد هناك لمكان الجهالة أو الربا أو غير ذلك وهنا الفساد لعدم الرضا طبعا فكان الرضا طبعا شرط الصحة لا شرط
الحكم وانعدام شرط الصحة لا يوجب انعدام الحكم كما في سائر البياعات الفاسدة الا ان سائر البياعات لا تلحقها
الإجازة لان فسادها لحق الشرع من حرمة الربا ونحو ذلك فلا يزول برضا العبد وههنا الفساد لحق العبد وهو عدم
رضاه فيزول بإجازته ورضاه وإذا فسد البيع والشراء بالاكراه فلابد من بيان ما يتعلق به من الأحكام في الجملة والجملة
فيه ان الامر لا يخلو من ثلاثة أوجه اما إن كان المكره هو البائع واما إن كان هو المشترى واما إن كانا جميعا مكرهين فإن كان
المكره هو البائع فلا يخلو الامر فيه من وجهين اما إن كان مكرها على البيع طائعا في التسليم واما إن كان مكرها على
البيع والتسليم جميعا فإن كان مكرها على البيع طائعا في التسليم فباع مكرها وسلم طائعا جاز لان البيع في الحقيقة اسم
للمبادلة فإذا سلم طائعا فقد أتى بحقيقة البيع باختياره فيجوز بطريق التعاطي فكان ما أتى به من لفظ البيع بالاكراه
وجوده وعدمه بمنزلة واحدة الا انه لا يكون التسليم منه طائعا إجازة لذلك البيع بل يكون هذا بيعا مبتدأ بطريق التعاطي
والثاني ان التسليم منه إجازة لذلك البيع لأنه ليس من شرط صحة البيع صحة التسليم حتى يكون الاكراه على البيع اكراها
على مالا صحة له بدونه إذ البيع يصح بدون التسليم فكان طائعا في التسليم فصلح أن يكون دليلا للإجازة بخلاف المكره
186

على الهبة والصدقة إذا سلم طائعا انه لا يجوز ولا يكون التسليم إجازة لان القبض شرط لصحتها ألا ترى انهما
لا يصحان بدون القبض فكان الاكراه عليهما اكراها على القبض فلم يصح التسليم دليلا على الإجازة فهو الفرق هذا
إذا كان مكرها على البيع طائعا في التسليم فاما إذا كان مكرها عليهما جميعا فباع مكرها وسلم مكرها كان البيع فاسدا لان
حقيقة البيع هو المبادلة والاكراه يؤثر فيها بالفساد ويثبت الملك للمشتري لما قلنا حتى لو كان المشترى عبدا فاعتقه نفذ
اعتاقه وعليه قيمة العبد لان بالاعتاق تعذر عليه الفسخ إذ الاعتاق ممالا يحتمل الفسخ فتقرر الهلاك فتقرر عليه
القيمة فكان له ان يرجع بقيمة العبد عليه كالبائع والمكره بالخيار ان شاء رجع على المكره بقيمته ثم المكره يرجع على
المشترى وان شاء رجع على المشترى أما حق الرجوع على المكره فلانه أتلف عليه ماله بإزالة يده عنه فأشبه الغاصب
فيرجع عليه بضمان ما أتلفه كالغاصب ثم يرجع بما ضمنه على المشترى لأنه ملكه بأداء الضمان فنزل منزلة البائع وأما حق
الرجوع على المشترى فلانه في حق البائع بمنزلة غاصب الغاصب وللمالك ولاية تضمين غاصب الغاصب كذا هذا
ولو أعتقه المشترى قبل القبض لا ينفذ اعتاقه لان البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض والاعتاق لا ينفذ في غير الملك
فان أجاز البائع البيع بعد الاعتاق نفذ البيع ولم ينفذ الاعتاق وهذه المسألة من حيث الظاهر تدل على أن الملك يثبت
بالإجازة فكانت الإجازة في حكم الانشاء ولكنا نقول إن الملك يثبت بالبيع السابق عند الإجازة بطريق الاستناد
والمستند مقتصر من وجه ظاهر من وجه فجاز أن لا يظهر في حق المعلق بل يقتصر وللبائع خيار الفسخ والإجازة
في هذا البيع قبل القبض وبعده لان الملك وان ثبت بعد القبض لكنه غير لازم لأجل الفساد فيثبت له خيار
الفسخ والإجازة قبل القبض وبعده دفعا للفساد وأما المشترى فله حق الفسخ قبل القبض لأنه لا حكم لهذا
البيع قبل القبض وليس له حق الفسخ بعد القبض لأنه طائع في الشراء فكان لازما في جانبه لكن إنما يملك البائع
فسخ هذا العقد إذا كان بمحل الفسخ فاما إذا لم يكن بأن تصرف المشترى تصرفا لا يحتمل الفسخ كالاعتاق
والتدبير والاستيلاد لا يملك الفسخ وتلزمه القيمة وان تصرف تصرفا يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة والكفالة
ونحوها يملك الفسخ بخلاف سائر البياعات الفاسدة فان تصرف المشترى بإزالة الملك يوجب بطلان حق الفسخ
أي تصرف كان (ووجه) الفرق ان حق الفسخ هناك ثبت لمعنى يرجع إلى المملوك من الزيادة والجهالة
ونحو ذلك وقد زال ذلك المعنى بزوال المملوك عن ملك المشتري بطل حق الفسخ فلما ثبت حق الفسخ لمعنى يرجع
إلى المالك وهو كراهته وفوات رضاه وانه قائم فكان حق الفسخ ثابتا وكذلك لو باعه المشترى الثاني حتى
تداولته الأيدي له أن يفسخ العقود كلها لما ذكرنا وكذا إنما يملك الإجازة إذا كان بمحل الإجازة فأما إذا لم يكن
بأن تصرف المشترى تصرفا لا يحتمل الفسخ لا تجوز اجازته حتى لا يجب الثمن على المشترى بل تجب عليه قيمة
العبد لان قيام المحل وقت الإجازة شرط لجواز الإجازة لان الحكم يثبت في المحل ثم يستند والهالك لا يحتمل الملك
فلا يحتمل الإجازة والمحل بالاعتاق صار في حكم الهالك وتقرر هلاكه لأنه لا يحتمل الفسخ فيتقرر على المشترى
قيمته وان تصرف تصرفا يحتمل الفسخ كالبيع ونحو يملك الإجازة وان تداولته الأيدي وإذا أجاز واحدا من
العقود جازت العقود كلها ما بعد هذا العقد وما قبله أيضا بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب ثم باعه المشترى
هكذا حتى تداولته الأيدي وتوقفت العقود كلها فأجاز المالك واحدا منها إنما كان يجوز ذلك العقد خاصة دون غيره
ولو لم يجز المالك شيئا من العقود ولكنه ضمن واحدا منهم يجوز ما بعد عقده دون ما قبله والفرق ان في باب الغصب
لم ينفذ شئ من العقود بل توقف نفاذ الكل على الإجازة فكانت الإجازة شرط النفاذ فينفذ ما لحقه الشرط دون غيره
أما ههنا فالعقود ما توقف نفاذها على الإجازة لوقوعها نافذة قبل الإجازة إذ الفساد لا يمنع النفاذ فكانت الإجازة إزالة
الاكراه من الأصل ومتى جاز الاكراه من الأصل جاز العقد الأول فتجوز العقود كلها فهو الفرق وبخلاف ما إذا
ضمن المغصوب منه أحدهم لأنه ملك المغصوب عند اختيار أخذ الضمان منه وقت جنايته وهو القبض اما
187

بطريق الظهور واما بطريق الاستناد على ما عرف في مسائل الخلاف فلا يظهر فيما قبله من العقود وههنا بخلافه على
ما مر وإذا قال البائع أجزت جاز البيع لان المانع من الجواز هو الاكراه والإجازة إزالة الاكراه وكذا إذا قبض
الثمن لان قبض الثمن دليل الإجازة كالفضولي إذا باع مال غيره فقبض المالك الثمن ولو لم يعتقه المشترى الأول ولكن
أعتقه المشترى قبل الإجازة نفذ اعتاقه لان الملك ثابت له بالشراء وسواء كان قبض العبد أولا لان شراءه صحيح فيفيد
الملك بنفسه بخلاف اعتاق المشترى الأول قبل القبض لان البيع الفاسد لا يفيد الملك بنفسه بل بواسطة القبض ولو
أعتقه المشترى الأخير ثم أجاز البائع العقد الأول لم تجز اجازته حتى لا يملك المطالبة بالثمن بل تجب القيمة وهو بالخيار ان
شاء رجع بها على المكره والمكره يرجع على المشترى الأول وان شاء رجع على أحد المشتريين أيهما كان أما الرجوع
على المكره فلما ذكرنا في اعتاق المشترى الأول انه أتلف عليه ملكه معنى فله أن يأخذ منه ضمان الاتلاف وللمكره
أن يرجع بذلك على المشترى الأول لأنه ملك المضمون بأداء الضمان فنزل منزلة البائع وكان للبائع أن يرجع عليه بالضمان
فكذا له ويصح كل عقد وجد بعد ذلك وان شاء المكره رجع على أحد المشتريين أيهما شاء لان كل واحد منهما
في حق البائع بمنزلة غاصب الغاصب فان اختار تضمين المشترى الأول برئ المكره وصحت البياعات كلها لأنه ملك المشتري
الأول باختيار تضمينه فتبين انه باع ملك نفسه فصح فيصح كل بيع وجد بعد ذلك وان اختار تضمين
المشترى الآخر صح كل بيع وجد بعد ذلك وبطل كل بيع كان قبله لأنه لما اختار تضمينه فقد خصه بملك
المضمون فتبين ان كل بيع كان قبله كان بيع مالا يملكه البائع فبطل والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان المكره
هو البائع فأما إذا كان المكره هو المشترى دون البائع فلكل واحد منهما حق الفسخ قبل القبض وبعد القبض حق
الفسخ للمشترى دون البائع لما ذكرنا في اكراه البائع وللمشتري أن يجيز هذا العقد كما للبائع إذا كان مكرها ولو أكره
على الشراء والقبض ودفع الثمن والمشترى عبد فاعتقه المشترى فذلك إجازة للبيع لأن هذه التصرفات لا تحتمل الفسخ
بعد وجودها فكان الاقدام عليها التزاما للمالك كالمشترى بشرط الخيار إذا فعل شيئا من ذلك وكذلك لو كان
المشترى أمة فوطئها أو قبلها بشهوة فهو إجازة للبيع لأنه لو نقض البيع لتبين ان الوطئ صادف ملك الغير وذلك حرام
والظاهر من حال المسلم التحرز عن الحرام فكان اقدامه عليه التزاما للبيع دلالة ولو لم يقبضه المشترى حتى أعتقه البائع
نفذ اعتاقه لأنه على ملكه قبل التسليم وان أعتقه المشترى نفذ اعتاقه استحسانا والقياس أن لا ينفذ وجه القياس ظاهر
لأنه أعتق مالا يملكه ولا عتق فيما لا يملكه ابن آدم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجه) الاستحسان أن
المشترى يملك إجازة هذا البيع فاقدامه على الاعتاق إجازة له تصحيحا لتصرفه وهذا لان تصرف العاقل تجب صيانته
عن الالغاء ما أمكن ولا صحة لتصرفه الا بالملك ولا يثبت الملك قبل القبض الا بالإجازة فيقتضى الاعتاق إجازة هذا
العقد سابقا عليه أو مقارنا له تصحيحا له كما في قوله لغيره أعتق عبدك عنى على ألف درهم ولهذا نفذ اعتاق المشترى
بشرط الخيار كذا هذا هذا إذا أعتقه المشترى وحده ولو أعتقاه جميعا معا قبل القبض فاعتاق البائع أولى لوجهين
أحدهما ان ملك البائع ثابت مقصود أو ملك المشتري يثبت ضمنا للإجازة الثابتة ضمنا للاعتاق فكان تنفيذ اعتاق
البائع أولى والثاني أن ملك البائع ثابت في الحال وملك المشتري يثبت في الثاني فاعتبار الموجود للحال أولى هذا إذا كان
المكره هو البائع أو المشترى فاما إذا كانا جميعا مكرهين على البيع والشراء فلكل واحد منهما خيار الفسخ والإجازة لان
البيع فاسد في حقهما والثابت بالبيع الفاسد ملك غير لازم فكان بمحل الفسخ والإجازة فان أجازا جميعا جاز وان أجاز
أحدهما دون الآخر جاز في جانبه وبقى الخيار في حق صاحبه ولو أعتقه المشترى قبل وجود الإجازة من أحدهما
أصلا نفذ اعتاقه ولزمه القيمة لان الاعتاق تصرف لا يحتمل النقض فكان اقدامه عليه التزاما للبيع في جانبه ولا
تجوز إجازة البائع بعد ذلك لأنه خرج من أن يكون محلا للإجازة باعتاق لما ذكرنا أن قيام المحل وقت الإجازة شرط
صحة الإجازة وقد هلك بالاعتاق ولو لم يعتقه المشترى ولكن أجاز أحدهما البيع ثم اعتقاه معا نفذ اعتاق البائع وبطل
188

اعتاق المشترى لأنه لا يخلو اما إن كانت الإجازة من المشترى أو من البائع فإن كانت من المشترى نفذ اعتاق البائع لان
إجازة المشترى لم تعمل في جانب البائع فبقي البائع على خياره فإذا أعتق نفذ اعتاقه وبطل اعتاق المشترى لأنه أبطل
خياره بالإجازة وإن كانت الإجازة من البائع فتنفيذ اعتاقه أولى أيضا لما ذكرنا من الوجهين في اكراه المشترى لو
أجاز البائع البيع ثم أعتق المشترى ثم أعتق البائع بعده نفذ اعتاق المشترى ولزمه الثمن ولا ينفذ اعتاق البائع أما نفوذ
اعتاق المشترى فلبقاء الخيار له وأما عدم نفوذ اعتاق البائع فلسقوط خياره بالإجازة (وأما) لزوم الثمن المشترى
فللزوم البيع في الجانبين جميعا والله سبحانه وتعالى أعلم ويستوى أيضا في باب البيع والشراء الاكراه التام والناقص
لان كل ذلك يفوت الرضا ويستوى في الاكراه على البائع تسمية المشترى وترك التسمية حتى يفسد البيع في
الحالين جميعا لان غرض المكره في الحالين جميعا واحد وهو إزالة ملك البائع وذلك يحصل بالبيع من أي انسان كل
ولو أوعده بضرب سوط أو الحبس يوما أو القيد يوما فليس ذلك من الاكراه في شئ لان ذلك لا يغير حال المكره عما
كان عليه من قبل هذا إذا ورد الاكراه على البيع والتسليم فأما إذا وره على التوكيل بالبيع والتسليم فباع الوكيل وسلم وهو
طائع والمبيع عبده فمولى العبد بالخيار ان شاء ضمن المكره وان شاء ضمن الوكيل أو المشترى فان ضمن الوكيل رجع
على المشترى وان ضمن المشترى لا يرجع على أحد أما ولاية تضمين المكره فلان الاكراه على التوكيل بالبيع اكراه
على البيع لكن بواسطة التوكيل لان التوكيل بالبيع تسبيب إلى إزالة اليد وانه اتلاف معنى فكان التلف بهذه الواسطة
مضافا إلى المكره فكان له ولاية تضمين المكره وأما تضمين الوكيل فلانه قبض ماله بغير رضاه وكذلك المشترى
وقبض مال الانسان بغير رضاه سبب لوجوب الضمان فكان له ولاية تضمين أيهما شاء فان ضمن الوكيل يرجع عن
المشترى بقيمة العبد لأنه لما أدى الضمان فقد نزل منزلة البائع فيملك تضمينه كالبائع ولكن لا ينفذ ذلك البيع بأداء
الضمان لأنه ما ملكه بأداء الضمان لأنه لم يبعه لنفسه بل لغيره وهو المالك فيقف نفاذه على إجازة من وقع له العقد وهو
المالك لا على فعل يوجد منه وهو أداء الضمان وهذا بخلاف ما إذا باع الغاصب المغصوب ثم أدى الضمان أنه ينفذ
بيعه لان هناك باعه لنفسه لا لغيره وهو المالك لأنه ملكه بأداء الضمان فجاز وقوفه على فعله وهو أداء الضمان وجاز
وقوفه على فعل مالكه أيضا قبل أداء الضمان لان الغاصب إنما يملكه بأداء الضمان ومن الجائز أن لا يختار المالك
الضمان فلا يملكه الغاصب لذلك وقف على إجازة المالك وان اختار تضمين المشترى لا يرجع المشترى على أحد
لان القيمة بدل المبيع وقد سلم له المبدل ثم إن كان البائع قبض الثمن من المشترى يسترده منه وإن كان لم يقبضه فلا شئ
والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان كالاكراه تاما فإن كان ناقصا لا يرجع المكره بالضمان على المكره لان الاكراه
الناقص لا يوجب نسبة الاتلاف إليه على ما بينا ولكنه يرجع إلى الوكيل أو المشترى لما بينا والله سبحانه وتعالى أعلم
(وأما) الاكراه على الهبة فيوجب فسادها كالاكراه على البيع حتى أنه لو وهب مكرها وسلم مكرها ثبت الملك كما في
البيع الا انهما يفترقان من وجه وهو ان في باب البيع إذا باع مكرها وسلم طائعا يجوز البيع وفى باب الهبة مكرها لا يجوز
سواء سلم مكرها أو طائعا وقد بينا الفرق بينهما فيما تقدم وكذلك تسليم الشفعة من هذا القبيل أنه لا يصح مع الاكراه
لان الشفعة في معنى البيع ألا ترى انه لا يتعلق صحته باللسان كالبيع حتى تبطل الشفعة بالسكون فأشبه البيع ثم البيع
يعمل عليه الاكراه فكذلك تسليم الشفعة ومن هذا القبيل الاكراه على الابراء عن الحقوق لان الابراء فيه معنى
التمليك ولهذا لا يحتمل التعليق بالشرط ولا يصح في المجهول كالبيع ثم البيع يعمل عليه الاكراه فكذلك الابراء عن
الكفالة بالنفس ابراء عن حق المطالبة بتسليم النفس الذي هو وسيلة المال فكان ملحقا بالبيع الذي هو تمليك المال
فيعمل عليه الاكراه كما يعمل على البيع والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان الاكراه على الانشاء فأما إذا كان
على الاقرار فيمنع صحة الاقرار سواء كان المقر به محتملا للفسخ أو لم يكن لان الاقرار اخبار وصحة الاخبار عن الماضي
بوجود المخبر به سابقا على الاخبار والمخبر به ههنا يحتمل الوجود والعدم وإنما يترجح جنبة الوجود على جنبة العدم
189

بالصدق وحال الاكراه لا يدل على الصدق لان الانسان لا يتحرج عن الكذب حالة الاكراه فلا يثبت الرجحان
ولان الاقرار من باب الشهادة قال الله تبارك وتعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على
أنفسكم والشهادة على أنفسهم ليس الا الاقرار على أنفسهم والشهادة ترد بالتهمة وهو متهم حالة الاكراه ولو أكره على
الاقرار بالحدود والقصاص لما قلنا بل أولى لان الحدود والقصاص تسقط بالشبهات فاما المال فلا يسقط بالشبهة
فلما لم يصح هناك فلان لا يصح ههنا أولى ولو أكره على الاقرار بذلك ثم خلى سبيله قبل أن يقر به ثم أخذه فأقر به من
غير تجديد الاكراه فهذا على وجهين اما ان توارى عن بصر المكره حين ما خلى سبيله واما ان لم يتوار عن بصره حتى بعث
من أخذه ورده إليه فإن كان قد توارى عن بصره ثم أخذه فاقر اقرارا مستقبلا جاز اقراره لأنه لما خلى سبيله حتى توارى
عن بصره فقد زال الاكراه عنه فإذا أقر به من غير اكراه جديد فقد أقر طائعا فصح وان لم يتوار عن بصره بعد حتى رده
إليه فأقر به من غير تجديد الاكراه لم يصح اقراره لأنه إذا لم يتوار عن بصره فهو على الاكراه الأول ولو اكره على الاقرار
بالقصاص فاقر به فقتله حين ما أقر به من غير بينة فإن كان المقر معروفا بالذعارة يدرأ عنه القصاص استحسانا وان لم
يكن معروفا بها يجب القصاص والقياس ان لا يجب القصاص كيف ما كان وجه القياس ان الاقرار عنه الاكراه لما لم
يصح شرعا صار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة فصار كما لو قتله ابتداء وجه الاستحسان ان الاقرار إن كان لا يصح مع
الاكراه لكن لهذا الاقرار شبهة الصحة إذا كان المقر معروفا بالذعارة لوجود دليل الصدق في الجملة وذا يورث شبهة
في وجوب القصاص فبدأ للشبهة وإذا لم يكن معروفا بالذعارة فاقراره لا يورث شبهة في الوجوب فيجب ومثال هذا
إذا دخل رجل على رجل في منزلة فخاف صاحب المنزل انه ذاعر دخل عليه ليقتله ويأخذ ماله فبادره وقتله فإن كان
الداخل معروفا بالذعارة لا يجب القصاص على صاحب المنزل وان لم يكن معروفا بالذعارة يجب القصاص عليه كذا
هذا وإذا لم يجب القصاص يجب الأرش لان سقوط القصاص للشبهة وانها لا تمنع وجوب المال وروى الحسن عن
أبي حنيفة رضي الله عنهما انه لا يجب الأرش أيضا إذا كان معروفا بالذعارة
* (فصل) * وأما بيان حكم ما عدل المكره إلى غير ما وقع عليه الاكراه أو زاد على ما وقع عليه الاكراه أو نقص
عنه فنقول وبالله التوفيق العدول عما وقع عليه الاكراه إلى غيره لا يخلو من وجهين اما أن يكون بالعقد في الاعتقادات
أو بالفعل في المعاملات أما حكم العدول عما وقع عليه الاكراه بالعقد في الاعتقادات فقد ذكرناها فيما تقدم (وأما)
العدول إلى غير ما قوع عليه الاكراه بالفعل في المعاملات فنقول إذا عدل المكره إلى غير ما وقع عليه الاكراه بالفعل جاز
ما فعل لأنه طائع فيما عدل إليه حتى لو أكره على بيع جاريته فوهبها جاز لأنه عدل عما أكره عليه لتغاير البيع والهبة
وكذلك لو طولب بمال وذلك المال أصله باطل وأكره على أدائه ولم يذكر له بيع الجارية فباع جاريته جاز البيع لأنه
في بيع الجارية طائع ولو أكره على الاقرار بألف درهم فاقر بمائه دينار أو صنف آخر غير ما أكره عليه جاز لأنه طائع
فيما أقر به وهذا بخلاف ما إذا أكره على أن يبيع عبده من فلان بألف درهم فباعه منه بمائة دينار ان البيع فاسد
استحسانا جائز قياسا فقد اعتبر الدراهم والدنانير جنسين مختلفين في الاقرار قياسا واستحسانا واعتبرها جنسا
واحدا في الانشاء استحسانا لأنهما جنسان مختلفان حقيقة الا انهما جعلا جنسا في موضع الانشاء بل مخالفة الحقيقة
لمعنى هو منعدم في الاقرار وهو ان الفائت بالاكراه هو الرضا طبعا والاكراه على البيع بألف درهم كما يعدم الرضا بالبيع
بألف درهم يعدم الرضا بالبيع بمائة دينار قيمته الف لاتحاد المقصود منها وهو المنية فكان انعدام الرضا بالبيع
بأحدهما دليل على انعدام الرضا بالبيع بالآخر فكان الاكراه على البيع بأحدهما اكراها على البيع بالآخر بخلاف
ما إذا أكره على البيع بألف فباعه بمكيل أو موزون آخر سوى الدراهم والدنانير لان هناك المقصود مختلف فلم يكن
كراهة البيع بأحدهما كراهة البيع بالآخر وهذا المعنى لا يوجد في الاقرار لان بطلان اقرار المكره لانعدام
رجحان جانب الصدق على جانب الكذب في اختياره بدلالة الاكراه فيختص بمورد الاكراه وهو الدراهم فكان
190

صادقا في الاقرار بالدنانير لانعدام المانع من الرجحان فيه فهو الفرق (وأما) إذا زاد على ما وقع عليه الاكراه بان
أكره على الاقرار بألف درهم فأقر بألفين جاز اقراره بألف وبطل بألف لأنه في الاقرار بالألف الزائد طائع فصح
ولو أكره على الاقرار لفلان فأقر له ولغيره فان صدقه الغير في الشركة لم يجز أصلا بالاجماع وان كذبه فكذلك عند أبي
حنيفة وأبى يوسف وعند محمد يجوز في نصيب الغير خاصة وجه قول محمد أن المانع من الصحة عند التصديق هو
الشركة في مال لم يصح الاقرار بنصفه شائعا فإذا كذبه لم يثبت الشركة فيصح اقراره للغير إذ هو فيما أقر له به طائع وجه
قولهما أن الاقرار اخبار وصحة الاخبار عن الماضي بوجود المخبر به سابقا على الاخبار والمخبر به ألف مشتركة فلو صح
اقراره لغير المقر له بالاكراه لم يكن المخبر به على وصف الشركة فلم يصح اخباره عن المشترك فلم يصح اقراره وهذه فريعة
اختلافهم في المريض مرض الموت إذا أقر لوارثه ولأجنبي بالدين انه لا يصح اقراره أصلا بالاجماع ان صدقه
الأجنبي بالشركة وان كذبه فعلى الاختلاف الذي ذكرنا ولو أكره على هبة عبده لعبد الله فوهبه لعبد الله وزيد
فسدت الهبة في حصة عبد الله وصحت في حصة زيد لأنه مكره في حصة عبد الله لورود الاكراه على كل العبد والاكراه
على كل الشئ اكراه على بعضه فلم تصح الهبة في حصته طائع في حصة زيد وأنه هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة
فصحت في حصته ولو كان مكان العبد الف فالهبة في الكل فاسدة بالاجماع بين أصحابنا أما على أصل أبي حنيفة
رضي الله عنه فظاهر لان هبة الطائع من اثنين لا تصح عنده فهبة المكره أولى (وأما) على أصلهما فلانه لما وهب
الألف منهما والهبة من أحدهما لا تصح بحكم الاكراه كان واهبا نصف الألف من الآخر وهذه هبة المشاع فيما
يحتمل القسمة وانه لا يصح بلا خلاف بين أصحابنا بخلاف حالة الطواعية والله تعالى أعلم هذا إذا زاد على ما وقع
عليه الاكراه فأما إذا نقص عنه بأن أكره على الاقرار بألف درهم فأقر بخمسمائة فاقراره باطل لان الاكراه على الف
اكراه على خمسمائة لأنها بعض الألف والاكراه على كل شئ اكراه على بعضه فكان مكرها بالاقرار بخمسمائة فلم
يصح ولو أكره على بيع جاريته بألف درهم فباعها بألفين جاز البيع بالاجماع ولو باعها بأقل من ألف فالبيع فاسد
استحسانا جائز قياسا وجه القياس أن المكره عليه هو البيع بألف فإذا باع بأقل منه فقد عقد عقدا آخر إذ البيع بألف
غير البيع بخمسمائة فكان طائعا فيه فجاز وجه الاستحسان ان غرض المكره هو الاضرار بالبائع بإزالة ملكه وان قل
الثمن فكان الاكراه على البيع بألف اكراها على البيع بأقل منه فبطل بخلاف ما إذا باعه بألفين لان حال المكره دليل
على أنه لا يأمر بالبيع بأوفر الثمنين فكان طائعا في البيع بألفين فجاز والله سبحانه وتعالى أعلم
* (كتاب المأذون) *
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان ركن الاذن بالتجارة وفي بيان شرائط الركن وفى بان ما يظهر به الاذن
بالتجارة وفي بيان ما يملك المأذون من التصرف ومالا يملك وفي بيان ما يملك المولى من التصرف في المأذون وكسبه وما
لا يملك حكم تصرفه وفي بيان حكم الغرور في العبد المأذون وفي بيان حكم الدين الذي يلحق المأذون وفي بيان ما يبطل
به الاذن ويصير محجورا وفي بيان حكم تصرف المحجور (أما) الأول فنقول وبالله التوفيق ركن الاذن بالتجارة نوعان
صريح ودلالة والصريح نوعان خاص وعام وكل واحد منهما أنواع ثلاثة منجز ومعلق بشرط ومضاف إلى وقت (أما)
الخاص المنجز فهو أن يأذن له في شئ بعينه ممالا يؤذن في مثله للتجارة عادة بأن يقول له اشتر لي بدرهم لحما أو اشتر لي طعاما
رزقا لي أو لأهلي أو لك أو اشتر لي ثوبا أو لأهلي أو لأهلك أو اشتر ثوبا اقطعه قميصا ونحو ذلك ممالا يقصد به التجارة عادة
ويصير مأذونا فيما تناوله الاذن خاصة استحسانا والقياس أن يصير مأذونا بالتجارات كلها لان الاذن بالتجارة مما
لا يجزى فكان الاذن في تجارة اذنا في الكل وجه الاستحسان ان الاذن على هذا الوجه لا يوجد الا على وجه
الاستخدام عرفا وعادة فيحمل على المتعارف وهو الاستخدام دون الاذن بالتجارة مع ما انه لو جعل الاذن بمثله اذنا
191

بالتجارات كلها لصار المأذون بشراء البقل مأذونا في التجارة وفيه سد باب استخدام المماليك وبالناس حاجة إليه
فاقتصر على مورد الضرورة (وأما) العام المنجز فهو أن يقول أذنت لك في التجارات أو في التجارة ويصير مأذونا
في الأنواع كلها بالاجماع (وأما) إذا أذن له في نوع بان قال اتجر في البر أو في الطعام أو في الدقيق يصير مأذونا في التجارات
كلها عندنا وعند زفر والشافعي رحمهما الله لا يصير مأذونا الا في النوع الذي تناوله ظاهر الاذن وكذلك إذا قال له
اتجر في البر ولا تتجر في الخبز لا يصح نهيه وتصرفه ويصير مأذونا في التجارات كلها وعلى هذا إذا أذن له في ضرب
من الصنائع بان قال له اقعد قصارا أو صباغا يصير مأذونا في التجارات والصنائع كلها حتى كان له أن يقعد صيرفيا وصائغا
وكذلك إذا أذن له أن يتجر شهرا أو سنة يصير مأذونا أبدا ما لم يحجر عليه وجه قولهما ان العبد متصرف عن اذن فلا
يتعدى تصرفه مورد الاذن كالوكيل والمضارب ولهذا يثبت حكم تصرفه لمولاه (ولنا) أن تقييد الاذن بالنوع غير
مفيد فيلغو استدلالا بالمكاتب وهذا لان أفئدة الاذن بالتجارة تمكين العبد من تحصيل النفع المطلوب من التجارة
وهو الربح وهذا في النوعين على نمط واحد وكذا الضرر الذي يلزمه في العقد عسى لا يتفاوت فكان الرضا بالضرر
في أحد النوعين رضا به في النوع الآخر فلم يكن التقييد بالنوع مفيدا فيلغو ويبقى الاذن بالتجارة عاما فيتناول
الأنواع كلها مع ما أنه وجد الاذن في النوع الآخر دلالة لان الغرض من الاذن هو حصول الربح والنوعان في احتمال
الربح على السواء فكان الاذن بأحدهما اذنا بالآخر دلالة ولهذا يملك قبول الهبة والصدقة من غير اذن المولى صريحا
لوجوده دلالة كذا ههنا (وأما) الخاص المعلق بشرط فهو أن يقول إن قدم فلان فاشتر لي بدرهم لحما ونحو ذلك
والمضاف إلى وقت أن يقول اشتر لي بدرهم لحما غذا أو رأس شهر كذا (وأما) العام المعلق بشرط فهو أن يقول إن قدم
فلان فقد أذنت لك بالتجارة والمضاف إلى وقت أن يقول أذنت لك بالتجارة غدا أو رأس شهر كذا وكل واحد من
النوعين يصح معلقا ومضافا كما يصح مطلقا بخلاف الحجر انه لا يصح تعليقه بشرط ولا إضافة إلى وقت بأن يقول
للمأذون ان قدم فلان فأنت محجورا أو فقد حجرت عليك غدا أو رأس شهر كذا ووجه الفرق أن الاذن تصرف
اسقاط لان انحجار العبد ثبت حقا لمولاه وبالاذن أسقطه والاسقاطات تحتمل التعليق والإضافة كالطلاق
والعتاق ونحوهما فاما الحجر فاثبات الحق واعادته والاثبات لا يحتمل التعليق والإضافة كالرجعة ونحوها ولهذا
قال أصحابنا ان الاذن لا يحتمل التوقيت حتى لو أذن لعبده بالتجارة شهرا أو سنة يصير مأذونا أبدا ما لم يوجد المبطل
للاذن كالحجر وغيره الا أن يؤقت الاذن إلى وقت إضافة الحجر إليه لان معناه إذا مضى شهر أو سنة فقد حجرت
عليك أو حجرت عليك رأس شهر كذا والحجر لا يحتمل الإضافة إلى وقت فلغت الإضافة وبقى الاذن بالتجارة
مطلقا إلى أن يوجد المبطل (وأما) الاذن بطريق الدلالة فنحو أن يرى عبده يبيع ويشترى فلا ينهاه ويصير مأذونا
في التجارة عندنا الا في البيع الذي صادفه السكون وأما في الشراء فيصير مأذونا وعند زفر والشافعي رحمهما الله
لا يصير مأذونا وجه قولهما أن السكوت يحتمل الرضا ويحتمل السخط فلا يصلح دليل الاذن مع الاحتمال ولهذا لم
ينفذ تصرفه الذي صادفه السكوت (ولنا) أنه يرجح جانب الرضا على جانب السخط لأنه لو لم يكن راضيا لنهاه إذ
النهى عن المنكر واجب فكان احتمال السخط احتمالا مرجوحا فكان ساقط الاعتبار شرعا (وأما) التصرف
الذي صادفه السكوت فإن كان شراء ينفذ وإن كان بيعا قائما لم ينفذ لانعدام المقصود من الاذن بالتجارة على ما نذكره
إن شاء الله تعالى وسواء رآه يبيع بيعا صحيحا أو بيعا فاسدا إذا سكت ولم ينهه يصير مأذونا لان وجه دلالة السكوت
على الاذن لا يختلف وكذلك لو رآه المولى يبيع مال أجنبي فسكت يصير مأذونا وان لم يجز البيع لما قلنا وكذلك
لو باع مال مولاه والمولى حاضر فسكت لم يجز ذلك البيع ويصير مأذونا في التجارة لان غرض المولى من الاذن بالتجارة
حصول المنفعة دون المضرة وذلك باكتساب ما لم يكن لا بإزالة الملك عن مال كائن ولا ينجبر هذا الضرر بالثمن لان
الناس رغائب في الأعيان ما ليس في ابدالها حتى لو كان شراء ينفذ لأنه نفع محض ثم لا حكم للسكوت الا في مواضع
192

منها سكوت المولى عند تصرف العبد بالبيع والشراء وقد ذكرناه (ومنها) سكوت البالغة البكر عند استئمار الولي أنه
يكون اذنا وقت العقد وبعده يكون إجازة (ومنها) سكوت الشفيع إذا علم بالشراء أنه يكون تسليما للشفعة (ومنها)
سكوت الواهب أو المتصدق عند قبض الموهوب له والمتصدق عليه بحضرته أن يكون اذنا بالقبض (ومنها) سكوت
المجهول النسب إذا باعه انسان بحضرته وقال له قم فاذهب مع مولاك فقام وسكت أنه يكون اقرارا منه بالرق حتى لا تسمع
دعواه الحرية بعد ذلك (وأما) سكوت البائع بيعا صحيحا بثمن حال عند قبض المشترى بحضرته هل يكون اذنا بالقبض
ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكون اذنا بالقبض وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يكون اذنا كما في البيع الفاسد ودلائل هذه
المسائل نذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى وعلى هذا إذا قال لعبده أد إلى كل يوم كذا أو كل شهر كذا يصير مأذونا
لأنه لا يتمكن من أداء الغلة إلا بالكسب فكان الاذن بأداء الغلة اذنا بالتجارة وكذلك لو قال لعبده أد إلى ألفا وأنت حر
أو قال إن أديت إلى ألفا فأنت حر يصير مأذونا لان غرضه حمل العبد على العتق بواسطة تحصيل الشرط ولا يتمكن من
تحصيله الا بالتصرف فكان التعليق دليلا على الاذن وكذلك إذا قال له أدلى ألفا وأنت حر فهذا والأول سواء لأنه
يستعمل في التعليق عرفا وعادة ولو قال له أد وأنت حر لا يصير مأذونا ويعتق للحال لان هذا تنجيز وليس بتعليق
وعلى هذا إذا كاتب عبده يصير مأذونا لأنه لما كاتبه فقد جعله أحق بكسبه ولا يكون ذلك الا بالتجارة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط الركن فأنواع منها أن يكون الاذن لمن يعقل التجارة لان الاذن بالتجارة لمن لا يعقل سفه
فاما البلوغ فليس بشرط لصحة الاذن فيصح الاذن للعبد بالغا كان أو صبيا بعد إن كان يعقل البيع والشراء لما روى أن
النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب دعوة المملوك من غير فصل فدل الحديث على جواز الاذن بالتجارة لأنه
عليه الصلاة والسلام ما كان ليجيب دعوة المحجور ويأكل من كسبه فتعين المأذون وكذا الاذن للأمة والمدبرة
وأم الولد بعد ان عقلوا التجارة لان اسم المملوك يتناول الكل وكذا يجوز الاذن للصبي الحر بالتجارة إذا كان يعقل
التجارة وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز الاذن للصبي بالتجارة بحال حرا كان أو عبدا وكذا سلامة
العقل عن الفساد أصلا ليس بشرط لصحة الاذن عندنا حتى يجوز الاذن للمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بالتجارة
وعنده شرط (وجه) قوله إن الصبي ليس من أهل التجارة فلا يصح الاذن له بالتجارة وهذا لان أهلية التجارة
بالعقد الكامل لأنها تصرف دائرة بين الضرر والنفع فلابد لها من كمال العقل وعقل الصبي ناقص فلا يكفي لأهلية
التجارة ولهذا لم يعتبر عقله في الهبة والصدقة والطلاق والعتاق كذا ههنا (ولنا) قوله تبارك وتعالى وابتلوا اليتامى
أمر سبحانه وتعالى الأولياء بابتلاء اليتامى والابتلاء هو الاظهار فابتلاء اليتيم اظهار عقله بدفع شئ من أمواله إليه
لينظر الولي انه هل يقدر على حفظ أمواله عند النوائب ولا يظهر ذلك الا بالتجارة فكار الامر بالابتلاء اذنا بالتجارة
ولان الصبي إذا كان يعقل التجارة يعقل النافع من الضار فيختار المنفعة على المضرة ظاهرا فكان أهلا للتجارة كالبالغ
بخلاف الهبة والصدقة والطلاق ونحوها لأنها من التصرفات الضارة المحضة لكونها إزالة ملك لا إلى عوض فلم يجعل
الصبي أهلا لها نظرا دفعا للضرر عنه ومنها العلم بالاذن بالتجارة في أحد نوعي الاذن بلا خلاف وبيان ذلك ان الاذن
بالإضافة إلى الناس ضربان اذن اسرار واذن اعلان وهو المسمى بالخاص والعام في الكتاب فالخاص أن يقول أذنت
لعبدي في التجارة لاعلى وجه ينادى أهل السوق فيقول بايعوا عبدي فلانا فانى قد أذنت له في التجارة ولا خلاف في أن
العلم بالاذن شرط لصحة الاذن في هذا النوع لان الاذن هو الاعلام قال الله تبارك وتعالى وأذان من الله ورسوله أي
اعلام والفعل لا يعرف اعلاما الا بعد تعلقه بالمعلم ولان اذن العبد يعتبر باذن الشرع ثم حكم الاذن من الشرع لا يثبت
في حق المأذون الا بعد علمه به فعلى ذلك اذن العبد ولهذا كان العلم بالوكالة شرطا لصحتها على ما ذكرنا في كتاب
الوكالة كذا هذا حتى لم يصح تصرف الوكيل قبل العلم بالوكالة وأما في الاذن العام فقد ذكرنا في كتاب المأذون انه
يصير مأذونا وان لم يعلم به العبد وذكر في الزيادات فيمن قال لأهل السوق بايعوا ابني فلانا فبايعوه والصبي لا يعلم
193

بالاذن انه لا يصير مأذونا ما لم يعلم باذن الأب منهم من أثبت اختلاف الروايتين في جواز الاذن القائم من غير علم العبد
ومنهم من لم يثبت الاختلاف وفرق بين العبد والصبي فجعل العلم شرطا في الصبي دون العبد (ووجه) الفرق ان
انحجار العبد لحق مولاه فإذا أذن انفك بمبايعته فقد أسقط حق نفسه فانفك الحجر فصار مأذونا بخلاف الصبي لان
انحجاره عن التصرف لحق نفسه لا لحق أبيه ألا ترى ان العهدة تلزمه دون أبيه فشرط علمه بالاذن الذي هو إزالة الحجر
ليكون لزوم العهدة في التجارة مضافا إليه ويحتمل ان يفرق بينهما من وجه آخر وهو ان الاذن على سبيل الاستفاضة
سبب لحصول العلم لهما جميعا الا ان السبب لا يقام مقام المسبب الا لضرورة والضرورة في حق العبد دون الصبي
لان الناس يحتاجون إلى مبايعة العبد المأذون لان الاذن للعبد بالتجارة من عادات التجار وإذا وجد الاذن على
الاستفاضة وانه سبب لحصول العلم غالبا فالناس يعاملونه بناء على هذه الدلالة ثم يظهر انه ليس بمأذون لانعدام العلم
حقيقة فتتعلق ديونهم بذمة المفلس وتتأخر إلى ما بعد العتق فيؤدى إلى الضرر بهم بخلاف الصبيان لان اذن الصبي
بالتجارة ليس من عادة التجار والناس أيضا لا يعاملون الصبيان عادة ولو توقف الاذن على حقيقة العلم لا يلحقهم الضرر
الا على سبيل الندرة والنار ملحق بالعدم والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يظهر به الاذن بالتجارة فنقول ما يظهر به الاذن بالتجارة نوعان أحدهما من جهة المولى
والثاني من جهة العبد أما الذي من جهة المولى فهو تشهيره الاذن واشاعته بان ينادى أهل السوق انى قد أذنت لعبدي
فلانا بالتجارة فبايعوه وهو المسمى بالإذن العام وأما الذي من جهة العبد فهو اخباره عن كونه مأذونا بالتجارة بان لم
يكن الاذن من المولى عاما أو قدم مصرا لم يشتهر فيه اذن المولى فقال إن مولاي أذن لي في التجارة والاذن بالتجارة يظهر
بكل واحد من النوعين أما الأول فلا شك فيه لحصول العلم للسامعين بحس السمع من الاذن ولغير السامعين بالنقل
بطريق التواتر وأما الثاني فلان خبر الواحد مقبول في المعاملات ولا يشترط فيه العدد ولا العدالة ألا ترى انه لو جاء
عبد أو أمة إلى إنسان فقال هذه هدية بعثني بها مولاي إليك جاز له القبول كذا هذا وهذا لأن هذه المعاملات في
العادات يتعاطاها العبيد والخدم والفسق فيهم غالب فلو لم يقبل خبرهم فيها لوقع الناس في الحرج وإذا قبل خبره ظهر
الاذن فيسع الناس ان يعاملوه غير أنهم ان بنوا معاملاتهم على الاذن العام فعاملوه فلحقه دين يباع فيه كسبه ورقبته بدين
التجارة وان عاملوه بناء على اخباره فلحقه دين يباع كسبه بالدين ولا تباع رقبته ما لم يحضر المولى فيقر باذنه والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * واما بيان ما يملكه المأذون من التصرف ومالا يملكه فنقول وبالله تعالى التوفيق كل ما كان من باب
التجارة أو توابعها أو ضروراتها يملكه المأذون ومالا فلا لان كل ذلك داخل في الاذن بالتجارة فيملك الشراء
والبيع بالنقد والنسيئة والعروض لان كل ذلك من التجارة ومن عادة التجار وكذلك يملك البيع والشراء بغبن يسير
بالاجماع لأنه من التجارة ولا يمكن التحرز عنه حتى ملكه الأب والوصي وكذا بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وعندهما لا يملك (وجه) قولهما أن البيع بغبن فاحش في معنى التبرع ألا يرى أنه لو فعله المريض يعتبر
من الثلث كما في سائر التبرعات والمأذون لا يملك التبرع (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان هذا بيع وشراء على
الاطلاق لوقوع اسم الشراء والبيع عليه مطلقا فكان تجارة مطلقة فدخلت تحت الاذن بالتجارة ثم فرق أبو حنيفة
رحمه الله بين المأذون وبين الوكيل حيث سوى البيع والشراء في المأذون وفرق بينهما في الوكيل حيث قال إن
المأذون يملك البيع والشراء بالغبن الفاحش والوكيل لا يملك الشراء بالغبن الفاحش بالاجماع (ووجه) الفرق
له أن امتناع جواز الشراء بالغبن الفاحش في باب الوكالة لمكان التهمة لجواز انه اشترى لنفسه فلما ظهر الغبن أظهر الشراء
لموكله فلم يجز للتهمة حتى أن الوكيل لو كان وكل بشراء شئ بعينه ينفذ على الموكل لانعدام التهمة لأنه لا يملك الشراء
لنفسه ومعنى التهمة لا يتقدر في المأذون لأنه لا يملك الشراء لنفسه فاستوى فيه البيع والشراء وهل يملك المأذون ان
194

يبيع شيئا من مولاه فإن لم يكن عليه دين لا يتصور البيع من المولى لاستحالة بيع مال الانسان منه وإن كان عليه دين
فان باعه بمثل قيمته أو أكثر جاز وان باعه بأقل من قيمته لم يجز عند أبي حنيفة أصلا وعندهما لا يجوز بقدر المحاباة
وكذلك لو باع المولى شيئا منه فإن لم يكن عليه دين لم يكن بيعا لما قلنا وإن كان عليه دين فان باعه بمثل قيمته أو بأقل من
قيمته جاز وان باعه بأكثر من قيمته لم يجز البيع عند أبي حنيفة وعندهما يجوز وتبطل الزيادة وعلى هذا إذا اشترى
المولى دارا بجنب دار العبد ان لم يكن على العبد دين فالشفعة له لأنه إذا لم يكن عليه دين فالدار الذي في يد العبد خالص ملك
المولى فلو أخذها بالشفعة لاخذها هو فكيف يأخذ ملك نفسه بالشفعة من نفسه وإن كان على العبد دين فله ان يأخذها
بالشفعة ولو اشترى العبد دارا بجنب دار المولى فإن لم يكن على العبد دين فلا حاجة للمولى ان الاخذ بالشفعة لأنها
خالص ملكه وإن كان عليه دين فله ان يأخذها بالشفعة وكذلك الصبي المأذون في الشراء والبيع بالنقد والنسيئة
والعروض والغبن اليسير والبيع بالغبن الفاحش بمنزلة العبد المأذون على الاتفاق والاختلاف وهذا إذا باع من
أجنبي أو اشترى منه فان باع من أبيه شيئا أو اشترى منه فان باع بمثل القيمة أو أكثر واشترى بمثل القيمة أو أقل جاز
ولو كان فيه غبن فإن كان مما يتغابن الناس فيه جاز لان الاحتراز عنه غير ممكن وإن كان مما لا يتغابن الناس فيه لم يجز
لأنه يتصرف بولاية مستفادة من قبل أبيه كأنه نائبه في التصرف فصار كما لو اشترى الأب شيئا من مال ابنه بنفسه لنفسه
أو اشترى شيئا من ماله بنفسه لابنه الصغير كان الجواب فيه هكذا كذا هذا ولو باع من وصيه أو اشترى منه فإن لم
يكن فيهما نفع ظاهر له لا يجوز بالاجماع وإن كان فيهما نفع ظاهر فإن كان بأكثر من قيمته بما لا يتغابن الناس في مثله
فكذلك عند محمد رحمه الله وعندهما يجوز وللمأذون أن يسلم فيما يجوز فيه السلم ويقبل السلم فيه لان السلم من قبل
المسلم إليه بيع الدين بالعين ومن قبل رب السلم شراء الدين بالعين وكل ذلك تجارة وله ان يوكل غيره بالبيع والشراء لان
ذلك من عادات التجار أو التاجر لا يمكنه ان يتولى ذلك كله بنفسه فكان توكيله فيه من أعمال التجارة وكذا له ان
يتوكل عن غيره بالبيع بالاجماع وتكون العهدة عليه ولو توكل عن غيره بالشراء ينظر ان وكله ان يشترى أشياء بالنقد
جاز استحسانا دفع إليه الثمن أو لم يدفع وتكون العهدة عليه والقياس ان لا تجوز هذه الوكالة (ووجهه) انها لو جازت
للزمه العهدة وهي تسليم الثمن فيصير في معنى الكفيل بالثمن ولا تجوز كفالته فلا تجوز وكالته (وجه) الاستحسان
ان التوكيل بالشراء بالنقد في معنى التوكيل بالبيع ألا ترى انه لا يجب عليه تسليم المبيع فكان هذا في معنى البيع لا في
معنى الكفالة ولو توكل عن غيره بشراء شئ نسيئة فاشترى لم يجز حتى كان الشراء للعبد دون الآخر لان الثمن إذا كان
نسيئة لا يملك حبس المشترى الاستيفائه بل يلزمه التسليم إلى الموكل فكانت وكالته في هذه الصورة التزام الثمن فكانت
كفالة معنى فلا يملكها المأذون وله ان يستأجر انسانا يعمل معه أو مكانا يحفظ فيه أمواله أو دوابا يحمل عليها أمتعته
لان استئجار هذه الأشياء من توابع التجارة وكذا له ان يؤاجر الدواب والرقيق ونفسه لما قلنا ولان الإجارة من
التجارة حتى كان الاذن بالإجارة اذنا بالتجارة وله ان يرهن ويرتهن ويعير ويودع ويقبل الوديعة لان ذلك كله من
عادات التجار ويحتاج إليه التاجر أيضا وله ان يدفع المال مضاربة ويأخذ من غير مضاربة لما قلنا ولان الاخذ
والدفع من باب الإجارة والاستئجار والمأذون يملك ذلك كله وله ان يشارك غيره شركة عنان لأنها من صنيع
التجار ويحتاج إليه التاجر وليس له ان يشارك شركة مفاوضة لان المفاوضة تتضمن الكفالة ولا يملك الكفالة
فلا يملك المفاوضة فإذا فاوض تنقلب شركة عنان لان هذا حكم فساد المفاوضة ولو اشترك عبدان مأذونان شركة
عنان على أن يشتريا بالنقد والنسيئة جاز ما اشتريا بالنقد وما اشتريا بالنسيئة فهو له خاصة لان الشركة تتضمن الوكالة
وقد ذكرنا انه يجوز ان يتوكل المأذون عن غيره بالشراء نقدا ولا يجوز ان يتوكل لغيره بالشراء نسيئة ويملك الاقرار
بالدين لان هذا من ضرورات التجارة إذ لو لم يملك لامتنع الناس عن مبايعته خوفا من تواء أموالهم بالانكار عند تعذر
إقامة البينة فكان اقراره بالدين من ضرورات التجارة فيصح ويملك الاقرار بالعين لان العادة قد جرت بشراء
195

كثير من الأشياء بظروفها فلو علم الناس انه لا يصح اقراره بالعين لامتنعوا عن تسليم الأعيان إليه فلا يلتئم أمر التجارة
ولا يملك الاقرار بالجناية لان الاقرار بالجناية ليس من ضرورات التجارة فلا يتناوله الاذن بالتجارة فلا يصح
منه ولا يطالب بها بعد العتاق أيضا لان موجب الجناية يلزم المولى دون العبد فكان ذلك شهادة على المولى لا اقرارا على
نفسه فلم يصح أصلا الا إذا صدقه المولى فيجوز عليه ولا يجوز على الغرماء وهل يصح اقراره بافتضاض أمة بإصبعه
غصبا قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما لا يصح وقال أبو يوسف رحمه الله يصح سواء كان عليه دين أو لا ويضرب
مولى الأمة مع الغرماء في ثمن العبد وهذا الخلاف مبنى على أن هذا الاقرار بالجناية أم بالمال فعندهما هذا اقرار
بالجناية فلا يصح من غير تصديق المولى وعنده هذا اقرار بالمال فيصح من غير تصديقه وعلى هذا إذا أقر بمهر
وجب عليه بنكاح جائز أو فاسد أو شبهة فإن لم يصدقه المولى لم يصح اقراره حتى لا يؤاخذ به للحال لان المهر يجب
بالنكاح وانه ليس بتجارة ولا هو في معنى التجارة فيستوى فيه اقرار المأذون والمحجور وان صدقه المولى جاز ذلك
عليه ولم يجز على الغرماء لان تصديقه يعتبر في حق نفسه لا في ابطال حق الغير فيباع في دين الغرماء فان فضل شئ منه
يصرف إلى دين المرأة والا فيتأخر إلى ما بعد العتق ويملك الاقرار بالحدود والقصاص لان المحجور يملك فالمأذون
أولى وإذا أقر به فلا يشترط حضرة المولى للاستيفاء بلا خلاف وهل يشترط حضور المولى عند قيام البينة عليها
فيه خلاف نذكره في موضعه وهل يملك تأخير دين له وجب على إنسان فان وجب له وحده يملك بالاجماع لان
التأخير يحتاج إليه وكذا هو من عادة التجار وان وجب له ولرجل آخر دين على إنسان فاخر المأذون نصيب نفسه
فالتأخير باطل عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما جائز (وجه) قولهما ان التأخير منه تصرف في ملك نفسه
فيصح كما لو كان كل الدين له فأخره (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان التأخير لو صح لا يخلو اما ان
يصح في نصيب شريكه واما أن يصح في نصيب نفسه لا سبيل إلى الأول لانعدام الملك والولاية
وتصرف الانسان لا يصح في غير ملك ولا ولاية ولا سبيل إلى الثاني لأنه قسمة الدين قبل القبض ألا ترى ان شريكه
لو قبض شيئا من نصيبه قبل حلول الأجل يختص بالمقبوض ولا يشاركه فيه ومعنى القسمة هو الاختصاص بالمقسوم
وقد وجد فثبت ان هذا قسمة الدين قبل القبض وانها غير جائزة لان الدين اسم لفعل واجب وهو فعل تسليم المال
والمال حكمي في الذمة وكل ذلك عدم حقيقة الا انه أعطى له حكم الوجود لحاجة الناس لان كل أحد لا يملك ما يدفع به
حاجته من الأعيان القائمة فيحتاج إلى الاستقراض والشراء بثمن دين فأعطى له حكم الوجود لهذه الحاجة ولا حاجة
إلى قسمته فبقي في حق القسمة على أصل العدم والعدم لا يحتمل القسمة وإذا لم يصح التأخير عند أبي حنيفة رحمه الله
فلو أخذ شريكه من الدين كان المأخوذ بينهما على الشركة كما قبل التأخير وعندهما كان المأخوذ له خاصة ولا يشاركه
حتى يحل الأجل له بالتأخير أسقط حق نفسه والمطالبة فإذا حل الأجل فهو بالخيار ان شاء شاركه في المقبوض وان
شاء أخذ حقه من الغريم لان الدين حل بحلول الأجل ولو كان الدين في الأصل منهما جميعا مؤجلا فاخذ أحدهما شيئا
قبل حل الأجل شاركه فيه صاحبه لأنه لما أخذ شيئا قبل حل الأجل فقد سقط الأجل عن قدر المقبوض وصار حالا
فصار المقبوض من النصيبين جميعا فيشاركه فيه صاحبه كما في الدين الحال ولو كان الدين كله بينهما مؤجلا إلى سنة
فأخره العبد سنة أخرى لم يجز التأخير عند أبي حنيفة وعندهما يجوز حتى لو أخذ شريكه من الغريم شيئا في السنة الأولى
شاركه فيه عنده وعندهما لا يشاركه حتى يحل دينه فإذا حل فله الخيار على ما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم ولا يملك
الابراء عن الدين بالاجماع لأنه ليس من التجارة بل هو تبرع فلا يملكه المأذون وهل يملك الحط فإن كان الحط من غير
عيب لا يملكه أيضا لما قلنا وإن كان الحط من عيب بان باع شيئا ثم حط من ثمنه ينظر ان حط بالمعروف بان حط مثل
ما يحطه التجار عادة جاز لان مثل هذا الحط من توابع التجارة وان لم يكن بالمعروف بأن كان فاحشا جاز عند أبي حنيفة
وعندهما لا يجوز وقد ذكرنا أصل المسألة فيما قبل وهل يملك الصلح بان وجب له على إنسان دين فصالحه على بعض
196

حقه فإن كان له عليه بينة لا يملكه لأنه حط بعض الدين والحط من غير عيب ليس من التجارة بل هو تبرع فلا يملكه
المأذون وان لم يكن له عليه بينة جاز لأنه إذا لم يكن له عليه بينة فلا حق له الا الخصومة والحلف والمال خير من ذلك فكان
في هذا الصلح منفعة فيصح وكذا الصلح على بعض الحق عند تعذر استيفاء كله من عادات التجار فكان داخلا تحت
الاذن بالتجارة ويملك الاذن بالتجارة بان يشترى عبدا فيأذن له بالتجارة لان الاذن بالتجارة من عادات التجار
بخلاف الكتابة أنه لا يملكها المأذون لان الكتابة ليست من التجارة بل هي اعتاق معلق بشرط أداء بدل الكتابة
فلا يملكها ويملك الاستقراض لأنه تجارة حقيقة وفيه منفعة وهو من عادات التجار وليس للمأذون ان يقرض لان
القرض تبرع للحال ولهذا لم يلزم فيه الأجل ولا يكفل بمال ولا بنفس لان الكفالة تبرع الا إذا أذن له المولى بالكفالة
ولم يكن عليه دين بخلاف المكاتب انه لا تجوز كفالته أصلا على ما مر في كتاب الكفالة ولا يهب درهما تاما لا بغير
عوض ولا بعوض وكذا لا يتصدق بدرهم ولا يكسو ثوبا لأنه تبرع ويجوز تبرعه بالطعام اليسير إذا وهب أو أطعم
استحسانا والقياس أن لا يجوز لأنه تبرع وان قل الا انا استحسنا الجواز لما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يجيب دعوة المملوك ولان هذا من ضرورات التجارة عادة فكان الاذن فيه ثابتا بطريق الدلالة فيملكه
ولهذا ملكت المرأة التصدق بشئ يسير كالرغيف ونحوه من مال زوجها لكونها مأذونة في ذلك دلالة كذا هذا ولا
يتزوج من غير اذن مولاه لان التزوج ليس من باب التجارة وفيه ضرر بالمولى ولا يتسرى جارية من اكسابه لأنه لا
ملك للعبد حقيقة وحل الوطئ بدون أحد الملكين منفى شرعا وسواء أذن له المولى بالتسري أو لم يأذن له لما ذكرنا ان
العبد لا يملك شيئا لأنه مملوك فيستحيل أن يكون مالكا وبالاذن لا يخرج عن كونه مملوكا فلا تندفع الاستحالة ولا يزوج
عبده بالاجماع لان التزويج ليس من التجارة وفيه أيضا ضرر بالمولى وهل له أن يزوج أمته قال أبو حنيفة ومحمد
لا يزوج وقال أبو يوسف يزوج (وجه) قوله أن هذا تصرف نافع في حق المولى لأنه مقابلة ما ليس بمال فكان أنفع
من البيع لأنه يملك البيع فالنكاح أولى وجه قولهما أن الداخل تحت الاذن هو التجارة وانكاح الأمة وإن كان نافعا
في حق المولى فليس بتجارة إذ التجارة مبادلة مال بمال ولم توجد فلا يملكه ولا يعتق وإن كان على مال لأنه ليس بتجارة
بل هو تبرع للحال ألا ترى انه يعتق بنفس القبول فأشبه القرض ولا يملك القرض فلا يملك الاعتاق على مال وان
أعتق على مال فإن لم يكن عليه دين وقف على إجازة المولى بالاجماع فان أجاز جاز لأنه إذا لم يكن عليه دين يملك المولى
نشاء العتق فيه فيملك الإجازة بالطريق الأولى وولاية قبض العوض للمولى لا للعبد لما نذكر وأن لحقه دين بعد ذلك
لم يكن للغرماء حق في هذا المال لأنه كسب الحر وإن كان عليه دين لم يجز الاعتاق وأن أجاز المولى عند أبي حنيفة رحمه
الله وعندهما يجوز ويضمن المولى قيمة العبد للغرماء ولا سبيل للغرماء على العوض بخلاف ما إذا كان مكان الاعتاق
كتابة ان عندهما يتعلق حق الغرماء بالبدل وههنا لا يتعلق لان هذا كسب الحر وذاك كسب الرقيق وحتى الغريم
يتعلق بكسب الرقيق ولا يتعلق بكسب الحر ولا يكاتب سواء كان عليه دين أو لم يكن لان الكتابة ليست بتجارة فلا
يملكها المأذون ولأنها اعتاق معلق بالشرط وهو لا يملك الاعتاق فان كاتب فإن لم يكن عليه دين وقف على إجازة
المولى لأنه إذا لم يكن عليه دين فكسبه خالص ملك المولى لا حق لاحد فيه فيملك الإجازة ألا ترى أنه يملك الانشاء
فالإجازة أولى فان أجاز نفذ وصار مكاتبا للمولى وولاية قبض بدل الكتابة للمولى لا العبد لان الإجازة اللاحقة
بمنزلة الوكالة السابقة فكان العبد بمنزلة وكيل المولى في الكتابة وحقوق الكتابة ترجع إلى المولى لا إلى الوكيل لذلك لم
يملك المأذون قبض بدل الكتابة وملكه المولى ولو لحق العبد بعد ذلك دين فليس للغرماء فيما على المكاتب حق لأنه
لما صار مكاتب للمولى فقد صار كسبا منتزعا من يد المأذون فلا يكون للغرماء عليه سبيل وإن كان المكاتب قد أدى
جميع بدل الكتابة إلى المأذون قبل إجازة المولى لم يعتق لان الكتابة لم تنفذ لانعدام شرط النفاذ وهو الإجازة وإن كان
عليه دين محيط برقبته وبما في يده لا تصح إجازة المولى عند أبي حنيفة رحمه الله حتى لا يعتق إذا أدى البدل
197

لان كسب العبد المأذون الذي عليه دين محيط لا يكون ملكا للمولى عنده ولهذا لا يملك انشاء الكتابة فلا يملك
الإجازة وعندهما تصح اجازته كما يصح انشاء الكتابة منه ويعتق إذا أدى ويضمن المولى قيمته للغرماء لتعلق
حقهم به فصار متلفا عليهم حقهم وما قبض المأذون من بدل الكتابة قبل الإجازة يستوفى منه الدين عندهما لتعلق
حق الغرماء به قبل الإجازة بخلاف الاعتاق على مال وقد ذكرنا وجه الفرق لهما فكانت الإجازة في معنى انشاء
الكتابة ولو أنشأ ضمن القيمة عندهما كذا هذا وان لم يكن الدين محيطا برقبته وبما في يده جازت اجازته بالاجماع
ويضمن قيمته للغرماء لاتلاف حقهم والله الموفق للصواب
* (فصل) * وأما بيان ما يملكه المولى من التصرف في المأذون وكسبه ومالا يملك وبيان حكم تصرفه فنقول وبالله
التوفيق ان المولى يملك اعتاق عبده المأذون سواء لم يكن عليه دين أو كان عليه دين لان صحة الاعتاق تقف على ملك
الرقبة وقد وجد الا أنه إذا لم يكن على العبد دين لا شئ على المولى وإن كان عليه دين فالغرماء بالخيار ان شاؤوا اتبعوا المولى
بالأقل من قيمته ومن الدين لأنه تصرف في ملك نفسه وأتلف حق الغير لتعلق الغرماء بالرقبة فيراعى جانب الحقيقة
بتنفيذ الاعتاق ويراعى جانب الحق بايجاب المضان مراعاة للجانبين عملا بالدليلين فينظر إن كانت قيمة العبد مثل
الدين غرم ذلك وإن كانت أكثر منه غرم قيمة الدين وإن كانت أقل منه غرم ذلك القدر لأنه ما أتلف عليهم بالاعتاق
الا القدر المتعلق برقبة العبد فيؤاخذ المولى بذلك ويتبع الغرماء العبد بالباقي وان شاؤوا اتبعوا العبد بكل الدين
فيستسعوه فيه لان كل الدين كان واجبا عليه لمباشرة سبب الوجوب منه حقيقة وهو المعاملة الا أن رقبته تعينت
لاستيفاء قدر ما يحتمله من الدين منها بتعيين المولى أو شرعا على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى فبقيت الزيادة
على ذلك في ذمة العبد وقد عتق فيطالب به وأيهما اختار واتباعه لا يبرأ الا آخر لان اختيار التضمين في باب
الغصب يتضمن المغصوب والتمليك بعوض لا يحتمل الرجوع عنه فاما اختيار اتباع أحدهما ههنا لا يوجب
ملك الدين منه ولو لم يكن على العبد دين ولكنه قتل عبدا آخر خطأ وعلم المولى به فاعتقه وهو عالم به يصير مختارا للفداء
يغرم المولى تمام قيمة العبد المقتول إن كان قليل القيمة وإن كان كثير القيمة بأن كانت قيمته عشرة آلاف أو أكثر غرم
عشرة آلاف الا عشرة فرق بين الجناية والدين إذا أعتقه وعليه دين وهو عالم به لا يلزمه تمام الدين بل الأقل من قيمته
ومن الدين علم بالدين أو لم يعلم وههنا يلزمه تمام القيمة إذا كان عالما بالجناية ووجه أن الفرق موجب جناية العبد على المولى
وهو الدفع لكن جعل له سبيل الخروج عنه بالفداء بجميع الأرش فإذا أعتقه مع العلم بالجناية فقد صار مختارا للفداء
فيلزمه الفداء بجميع قيمة العبد المقتول الا أن تكون عشرة آلاف أو أكثر فينقص منه عشرة إذ لا مزيد لدية العبد
على هذا القدر فاما موجب معاملة العبد وهو الدين فعلى العبد حقا للغرماء الا أن القيمة التي في مالية الرقبة فإنها تعلق
بها وبالاعتاق ما أبطل عليهم الا ذلك القدر من حقهم فيضمنه والزيادة بقيت في ذمة العبد فيطالب به بعد العتق
وكذلك إن كان قتل حرا خطأ فاعتقه المولى وهو عالم به غرم المولى دية الحر لان الاعتاق مع العلم بالجناية دليل اختيار
الفداء ودية الحر مقدرة بعشرة آلاف درهم فيغرمها المولى هذا إذا أعتقه المولى وهو عالم بالجناية فاما إذا لم يكن عالما بالجناية
يغرم قيمة عبده لأولياء الجناية لأنه إذا لم يكن عالما بالجناية وقت الاعتاق لم يكن اعتاقه دليل اختيار الفداء لان هذا
النوع من الاختيار لا يتحقق بدون العلم ويلزمه قيمة عبده لان الواجب الأصلي على المولى هو دفع العبد بالجناية
ألا ترى أنه لو هلك العبد قبل اختيار الفداء لا شئ على المولى وإنما ينتقل من العين إلى الفداء باختيار الفداء فإذا لم يكن
الاعتاق قبل العلم دليل الاختيار بقي الدفع واجبا وتعذر عليه دفع عينه فيلزمه ماليته إذ هو دفع العين من حيث
الصورة ولو كان على العبد المأذون دين محيط برقبته وجنى جنايات تحيط بقيمته فاعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية فإنه
يغرم لأصحاب الدين قيمته كاملة ويغرم لأصحاب الجناية قيمة أخرى الا أن تكون قيمته عشرة آلاف أو أكثر
فينقص منها عشرة لان حق أصحاب الدين قد تعلق بمالية العين وحق أصحاب الجناية قد تعلق بالعين والمولى بالاعتاق
198

أبطل الحقين فيضمنها ولو قتله أجنبي يضمن قيمة واحدة لأن الضمان الواجب بالقتل ضمان اتلاف النفس
والنفس واحدة فلا يتعدد ضمانها فاما الضمان الواجب بالاعتاق فضمان ابطال الحق فيتعدد ضمانه فهو الفرق والله تعالى
الموفق فان قيل لم لا يشارك أصحاب الدين أصحاب الجناية فالجواب لاختلاف محل الحقين فالدفع يتعلق بالعين
والدين يتعلق بمالية العين وهما محلان مختلفان فتعذرت المشاركة والله تعالى أعلم وكذلك يملك اعتاق المدبر وأم
الولد المأذونين في التجارة لما قلنا ولو أعتقهما وعليهما دين فلا ضمان على المولى من الدين ولا من قيمة المدبر وأم الولد لان
دين التجارة لم يتعلق برقبتهما فخروجهما عن احتمال الاستيفاء منهما بالتدبير والاستيلاء فلم يوجد منه اتلاف حق
الغرماء فلا يضمن وهل يملك اعتاق كسب عبده المأذون لا خلاف في أنه إذا لم يكن على المأذون دين أصلا يملك وينفذ
اعتاقه ولا شئ عليه لان الاعتاق صادف محلا هو خالص ملكه لا حق لاحد فيه فينفذ ولا يضمن شيئا وإن كان عليه
دين فإن كان كثيرا يحيط برقبته كسبه لا يملك ولا ينفذ اعتاقه عند أبي حنيفة رضي الله عنه الا أن يسقط حق الغرماء
بان يقضى المولى دينهم أو تبرئه الغرماء من الدين أو يشتريه المولى من الغرماء وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يملك
وينفذ اعتاقه ويضمن قيمته إن كان موسرا وإن كان معسرا سعى العبد فيه ويرجع على المالك والمسألة تعرف بان
المولى يملك كسب عبده المأذون المديون دينا مستغرقا لرقبته وكسبه عنده لا يملك وعندهما يملك وجه قولهما أن رقبة
المأذون وأن تعلق بها حق الغرماء فهي ملك المولى ألا ترى أنه ملك اعتاقه وملك الرقبة علة مهلك الكسب فيملك
الكسب كما يملك الرقبة وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن شرط ثبوت الملك للمولى في كسب العبد فراغه عن
حاجة العبد ولم يوجد فلا يثبت الملك له فيه كما لا يثبت للوارث في التركة المستغرقة بالدين والدليل على أن الفراغ شرط
أن الملك للمولى في كسب العبد ثبت معدولا به عن الأصل انه لم يحصل بكسبه حقيقة وقال الله تبارك وتعالى وأن
ليس للانسان إلا ما سعى وهذا ليس من سعيه حقيقة فلا يكون له بظاهر النص الا أن الكسب الفارغ عن حاجة
العبد خص عن عموم النص وجعل ملكا للمولى فبقي الكسب المشغول بحاجته على ظاهر النص هذا إذا كان الدين
محيطا بالرقبة والكسب فإن لم يكن محيطا بهما فلا شك انه لا يمنع الملك عندهما لان المحيط عندهما لا يمنع فغير المحيط
أولى (وأما) أبو حنيفة رضي الله عنه فقد كأن يقول أولا يمنع حتى لا يصح اعتاقه شيئا من كسبه ثم رجع وقال لا يمنع وجه
قوله الأول ما ذكرنا أن الفراغ شرط ثبوت الملك له فالشغل وان قل يكون مانعا وجه قوله الاخر أن المانع من ملك
المولى كون الكسب مشغولا لحاجة العبد وبعضه مشغول وبعضه فارغ (فاما) أن يعتبر جانب الشغل في المنع من
ثبوت الملك له في كله (واما) أن يعتبر جانب الفراغ في ايجاب الملك له في كله واعتبار جانب الفراغ أولى لأنا إذا
اعتبرنا جانب الفراغ فقد راعينا حق الملك باثبات الملك له وحق الغرماء باثبات الحق لهم فإذا اعتبرنا جانب الشغل فقد
راعينا جانب الغرماء وأبطلنا حق المالك أصلا فقضينا حق المالك بتنفيذ اعتاقه وقضينا حق الغرماء بالضمان صيانة
للحقين عن الابطال عملا بالدليلين بقدر الامكان ولهذا ثبت الملك للوارث في كل التركة إذا لم يكن الدين محيطا بها كذا
هذا ولو أعتقه ثم قضى المولى دين الغرماء من خالص ملكه أو أبرأه الغرماء نفذ اعتاقه عند عامة أصحابنا رحمهم الله
تعالى وقال الحسن بن زياد رحمه الله لا ينفذ وجه قول الحسن أن الاعتاق صادف كسبا مشغولا بحاجة العبد لان
الملك ثبت مقصورا على حال القضاء والابراء فيمنع النفاذ كما إذا أعتق عبد مكاتبه ثم عجز المكاتب انه لا ينفذ اعتاقه
كذا هذا (ولنا) أن النفاذ كان موقوفا على سقوط حق الغرماء وقد سقط حقهم بالقضاء والابراء فظهر النفاذ من
حين وجوده من كل وجه بخلاف ما إذا أعتق عبدا من اكساب مكاتبه لان المكاتب أحق باكسابه من المولى لأنه فيما
يرجع إلى اكسابه كالحر وبالعجز لا يتبين انه لم يكن أحق بكسبه فلم ينفذ اعتاق المولى وعلى هذا الخلاف لو أعتق
الوارث عبدا من التركة المستغرقة بالدين ثم قضى الوارث الدين من مال نفسه أو أبرأ الغرماء الميت من الدين انه ينفذ
اعتاقه خلافا للحسن ولو وطئ المولى جارية العبد المأذون وعليه دين محيط فجاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه وصارت
199

الجارية أم ولد له وغرم قيمة الجارية للغرماء ولا يغرم لهم شيئا من عقرها قليلا ولا كثيرا أما صحة الدعوة فلان ملك
المولى ان لم يظهر في الكسب في الحال عند أبي حنيفة رضي الله عنه فله فيه حق الملك فصحت دعوته (وأما) لزوم قيمة
الجارية للغرماء فلانه بالدعوة أبطل حقهم (وأما) عدم وجوب العقر فلان المانع من ظهور ملكه في الكسب حق
الغرماء وقد سقط حقهم بالضمان فيظهر الملك له فيه من حين اكتسبه العبد فتبين انه وطئ ملك نفسه فلا يلزم العقر ولو
أعتق المولى جارية العبد المأذون وعليه دين محيط ثم وطئها فجاءت بولد فادعاه المولى صحت دعوته والولد حر ويضمن
قيمة الجارية للغرماء لما قلنا لان الاعتاق السابق منه لم يحكم بنفاذه للحال فكان حق الملك ثابتا له الا أن الجارية ههنا تصير
حرة بالاعتاق السابق وعلى المولى العقر للجارية أما صيرورتها حرة بالاعتاق السابق فلان الاعتاق السابق كان نفاذه
موقوفا على سقوط حق الغرماء وقد سقط بدعوة المولى فنفذ فصارت حرة بذلك الاعتاق (وأما) لزوم العقر للجارية
فلان الوطئ صادف الحرة من وجه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ويملك المولى بيع العبد المأذون إذا لم يكن
عليه دين لأنه خالص ملكه وإن كان عليه دين لا يملك بيعه الا باذن الغرماء أو باذن القاضي بالبيع للغرماء أو بقضاء
الدين ولو أذن له بعض الغرماء بالبيع لا يملك بيعه الا بإجازة الباقين لما نذكره في بيان حكم تعلق الدين ويملك أخذ
كسب العبد من يده إذا لم يكن عليه دين لأنه فارغ عن حاجته فكان خالص ملكه ولو لحقه دين بعد ذلك فالمأخوذ
سالم للمولى لان شرط خلوص الملك له فيه كونه فارغا عند الاخذ وقد وجد ولو كان الكسب في يد العبد ولا دين
عليه فلم يأخذ المولى حتى لحقه دين ثم أراد أن يأخذه لا يملك أخذه لأنه لم يوجد الفراغ عند الاخذ فلم يوجد الشرط
وإن كان عليه دين وفى يده كسب لا يملك أخذه لأنه مشغول بحاجته لتعلق حق الغرماء به ولو أخذه المولى فللغرماء أن
يأخذوه منه إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا لتعلق حقهم بالمأخوذ فعليه رد عينه أو بدله ولو لحقه دين آخر بعد
ما أخذه المولى اشترك الغرماء الأولون والآخرون في المأخوذ وأخذوا عينه أو قيمته لان زمان الاذن مع تعدده
حقيقة في حكم زمان واحد كزمان المرض فكان زمان تعلق الديون كلها واحدا لذلك اشتركوا فيه ولو كان المولى
يأخذ الغلة من العبد في كل شهر فلحقه دين محيط برقبته وكسبه فهل يجوز له قبض الغلة مع قيام الدين ينظر إن كان
يأخذ عليه مثله جاز له ذلك استحسانا والقياس أن لا يجوز لان حقهم يتعلق بالغلة الا انا استحسنا الجواز نظرا
للغرماء لان الغلة لا تحصل الا بالتجارة فلو منع المولى عن أخذ غلة المثل لحجره عن التجارة فلا يتمكن من الكسب
فيتصرر به الغرماء فكان اطلاق هذا القدر وسيلة إلى غرضهم فكان تحصيلا للغلة من حيث المعنى وليس له ان
يأخذ أكثر من غلة المثل ولو أخذ رد الفضل على الغرماء لان امتناع ظهور حقهم في غلة المثل للضرورة ولا ضرورة في
الزيادة فيظهر حقهم فيها مع ما ان في اطلاق ذلك اضرارا بالغرماء لان المولى يوظف عليه غلة تستغرق كسب الشهر
فيتضرر به الغرماء وعلى هذا إذا كان على العبد دين وفى يده مال فاختلف العبد والمولى فالقول قول العبد ويقضى
منه الدين لان الكسب في يده والمأذون في اكسابه التي في يده كالحر ولو كان المال في يدهما فهو بينهما لاستوائهما
في اليد وإن كان ثمة ثالث فهو بينهم أثلاثا لما قلنا ولو لم يكن عليه دين فاختلف العبد والمولى وأجنبي فهو بين المولى
والأجنبي لأنه إذا لم يكن عليه دين فلا عبرة ليده فكانت يده ملحقة بالعدم فبقيت يد المولى والأجنبي فكان الكسب
بينهما نصفين وهذا إذا لم يكن العبد في منزل المولى فإن كان في منزل المولى وفى يده ثوب فاختلفا فكان الثوب من
تجارة العبد فهو له لأنهما استويا في ظاهر اليد وترجح يد العبد بالتجارة وان لم يكن من تجارته فهو للمولى لأن الظاهر
شاهد للمولى ولو كان العبد راكبا على دابة أو لابسا ثوبا فهو للعبد سواء كان من تجارته أو لم يكن لأنه ترجح يده
بالتصرف فكانت أولى من يد المولى ولو تنازع المأذون وأجنبي فيما في يده من المال فالقول قول العبد لما ذكرنا انه
فيما يرجع إلى السيد كالحر ولو آجر الحر أو المأذون نفسه من خياط يخيط معه أو من تاجر يعمل معه وفى يد الأجير
ثوب واختلفا فقال المستأجر هو لي وقال الأجير هو لي فإن كان الأجير في حانوت التاجر والخياط فهو للتاجر والخياط
200

وان لم يكن في منزله وكان في السكة فهو للأجير لان الأجير إذا كان في دار الخياط ودار الخياط في يد الخياط كان
الأجير مع ما في يده في يد الخياط ضرورة وإذا كان في السكة لم يكن هو في يده فكذا ما في يده كما لو كان مكان الأجير
أجنبي ولو آجر المولى عبده المحجور من رجل ومعه ثوب فادعاه المولى والمستأجر فهو للمستأجر سواء كان العبد في
منزل المستأجر أو لم يكن بخلاف الأجير إذا لم يكن في منزل المستأجر أنه يكون للأجير دون المستأجر (ووجه) الفرق
بان يد العبد يد نيابة عن المولى وقد صار مع ما في يده بالإجارة في يد المستأجر فكان القول قول صاحب اليد فاما يد
الأجير فيد أصالة إذ هو في حق اليد كالحر فلا يصير بنفس الإجارة في يد المستأجر ولو كان المحجور في منزل المولى فهو
للمولى لأنه إذا كان في منزل المولى كان في يده لكون منزله في يده فتزول يد المستأجر والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب
* (فصل) * وأما بيان حكم الغرور في العبد المأذون فنقول وبالله التوفيق إذا جاء رجل بعبد إلى السوق وقال هذا
عبدي أذنت له بالتجارة فبايعوه فبايعه أهل السوق فلحقه دين ثم استحق أو تبين انه كان حرا أو مدبرا أو أم ولد فهذا
لا يخلو من أحد وجهين اما إن كان الرجل حرا واما إن كان عبدا فإن كان حرا فعليه الأقل من قيمة العبد ومن الدين
أما وجوب أصل الضمان عليه فلانه غرهم بقوله هذا عبدي فبايعوه حيث أضاف العبد إلى نفسه وأمرهم بمبايعته
فيلزمه ضمان الغرور وهذا لان أمرهم إياهم بالمبايعة اخبار منه عن كونه مأذونا في التجارة وإضافة العبد إلى نفسه اخبار
عن كونه ملكا والاذن بالتجارة مع عبد الاذن يوجب تعلق الدين برقبته فكان الاذن مع الإضافة دليلا على الكفالة
بما يتعلق برقبته التي هي مملوكة له فيؤخذ بضمان الكفالة إذ ضمان الغرور في الحقيقة ضمان الكفالة والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب (وأما) وجوب الأقل من قيمة العبد ومن الدين فلان الداخل تحت الكفالة هذا القدر وللغرماء أن
يرجعوا على الذي ولى مبايعتهم إن كان حرا لأنه الذي باشر سبب الوجوب حقيقة وإن كان مستحقا أو مدبرا أو
مكاتبا أو أم ولد يرجع عليهم بعد العتاق لان رقابهم لا تحتمل الاستيفاء قبل العتاق وسواء قال أذنت له بالتجارة أو لم يقل
لان الامر بالمبايعة يغنى عن التصريح بالاذن وسواء أمر بتجارة عامة أو خاصة لان التخصيص لغو عندنا بخلاف ما
إذا قال ما بايعت فلانا من البز فهو على أنه لا يصير كفيلا بغيره لان هناك التخصيص صحيح لوقوع التصرف في كفالة
مقصودة والكفالة المقصودة محتملة للتخصيص فأما ههنا فالكفالة له ما ثبتت مقصودة وإنما ثبتت مقتضى الامر
بالمبايعة والامر لا يحتمل التخصيص فكذا الكفالة هذا إذا أضاف العبد نفسه وأمرهم بمبايعته فأما إذا وجد
أحدهما دون الآخر لا ضمان عليه لان معنى الكفالة لا يثبت بأحدهما دون الآخر فلابد من وجودهما ولو كان
هذا العبد الذي أضافه إلى نفسه وامر الناس بمبايعته ملكا للآمر فدبره المولى ثم لحقه دين بعد التدبير لم يضمن المولى
شيئا لأنه لم يغرهم حيث لم يظهر الامر بخلافه فلا يلزمه ضمان الغرور وكذا لم يتلف عليهم حقهم بالتدبير لانعدام الدين
عنده وكذا لو أعتقه المولى ثم بايعوه لما قلنا هذا إذا كان الآمر حرا فاما إذا كان عبدا فإن كان محجورا فلا ضمان
عليه حتى يعتق لان هذا ضمان كفالة وكفالة العبد المحجور لا تنفذ للحال وإن كان مأذونا أو مكاتبا وكان المأذون حرا
لا ضمان على الآمر في شئ وكذا لو كان الآمر صبيا مأذونا لان المأذون والمكاتب لا تنفذ كفالتهما للحال ولكنها
تنعقد فيؤاخذن به بعد العتق والصبي لا تنعقد كفالته فلا يؤاخذ بالمضان والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما بيان حكم الدين الذي يلحق المأذون فنقول وبالله التوفيق حكمه تعلقه بمحل يستوفى منه إذا ظهر
فلابد من بيان سبب تعلق الدين وبيان سبب ظهور الدين وبيان حكم التعلق أما بيان سبب تعلق الدين فلتعلق
الدين أسباب منها التجارة من البيع والشراء والإجارة والاستئجار والاستدانة ومنها ما هو في معنى التجارة
كالغصب وجحود الأمانات من الودائع ونحوها لأن الغصب وجحود الأمانة سبب لوجوب الملك في المغصوب
والمجحود فكان في معنى التجارة وكذا الاستهلاك مأذونا كان أو محجورا بأن عقر دابة أو خرق ثوبا خرقا فاحشا
201

لأنه سبب لثبوت الملك في العين قبل الهلاك فكان في معنى التجارة وكذلك عقر الجارية المستحقة بان اشترى
جارية فوطئها ثم استحقت لان الواجب وإن كان قيمة منافع البضع لكن منافع البضع لا تتقوم الا بالعقد فتلحق
بالواجب بالعقد فكان في حكم ضمان التجارة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ومنها النكاح بإذن المولى لأنه
لم يشرع بدون المهر
* (فصل) * وأما بيان سبب ظهور الدين فسبب ظهوره شيئان أحدهما اقراره بالدين وبكل ما هو سبب
لتعلق الدين بمحل يستوفى منه وهو ما ذكرنا لان اظهار ذلك بالاقرار من ضرورات التجارة على ما بينا فيملكه المأذون
والثاني قيام البينة على ذلك عند الانكار لان البينة حجة مظهرة للحق ولا ينتظر حضور المولى بل يقضى عليه ولو
كان محجورا فقامت البينة عليه بالغصب لم يقض عليه حتى يحضر المولى (ووجه) الفرق أن الشهادة في المأذون
قامت عليه لا على المولى لان يد التصرف له لا للمولى فيملك الخصومة فكانت الشهادة قائمة عليه لا على المولى فلا
معنى لشرط حضور المولى بخلاف المحجور لأنه لا يد له فلا يملك الخصومة فكانت الشهادة قائمة على المولى فشرط
حضوره لئلا يكون قضاء على الغائب ولو ادعى على العبد المحجور وديعة مستهلكة أو بضاعة أو شيئا كان أصله
أمانة لا يقضى بها للحال عند أبي حنيفة ومحمد عليها الرحمة وعند أبي يوسف رحمه الله يقضى بها للحال بناء على أن
العبد لا يؤاخذ بضمان وديعة مستهلكة للحال عندهما وإنما يؤاخذ به بعد العتاق فيتوقف القضاء بالضمان إليه وعنده
يؤخذ به للحال فلا يتوقف والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك لو أقامت البينة على اقرار المأذون بذلك قضى عليه
ولا يشترط حضور المولى ولو قامت البينة على اقرار المحجور بالغصب لم يقض عليه وإن كان المولى حاضرا لان
المحجور لو أقر بذلك لما نفذ على مولاه للحال كذا إذا قامت البينة على اقراره بخلاف المأذون ولو قامت البينة
على العبد المأذون أو المحجور على سبب قصاص أو حد من القتل والقذف والزنا والشرب لم يقض بها حتى يحضر
المولى عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف يقضى بها وإن كان غائبا واجمعوا على أنه لو أقر بالحدود والقصاص
فإنها تقام من غير حضرة المولى (وجه) قول أبى يوسف ان العبد أجنبي عن المولى فيما يرجع إلى الحدود والقصاص
ألا ترى انه يصح اقراره بهما من غير تصديق المولى ولا يصح اقرار المولى من غير تصديقه فكانت هذه شهادة قائمة
عليه لا على المولى فلا يشترط حضوره ولهذا لم يشترط حضرة المولى في الاقرار (وجه) قولهما أن العبد بجميع
أجزائه مال المولى وإقامة الحدود والقصاص اتلاف ماله عليه فيصان حقه عن الاتلاف ما أمكن وفى شرط الحضور
صيانة حقه عن الاتلاف بقدر الامكان لأنه لو كان حاضرا عسى يدعى شبهة مانعة من الإقامة وحق المسلم تجب
صيانته عن البطلان ما أمكن ومثل هذه الشبهة مما لا بنعد في الاقرار بعد صحته لذلك افترقا وكذلك إذا قامت
البينة على عبد أنه سرق عشرة دراهم وهو يجحد ذلك أنه لو كان المولى حاضرا تقطع ولا يضمن السرقة مأذونا كان أو
محجورا بلا خلاف لان القطع مع الضمان لا يجتمعان وإن كان غائبا فإذا كان العبد مأذونا يضمن السرقة ولا يقطع
لان غيبة المولى لا تمنع القضاء بالضمان في حق المأذون ومتى وجب الضمان امتنع القطع لأنهما لا يجتمعان وعلى قياس
أبى يوسف هذا والفصل الأول سواء يقطع ولا يضمن السرقة ولان حضرة المولى عنده ليس بشرط للقضاء
بالقطع والقطع يمنع الضمان وإن كان محجورا لا تسمع البينة على السرقة فلا يقضى عليه بقطع ولا ضمان عندهما
(أما) القطع فلان حضرة المولى شرط ولم يوجد (وأما) الضمان فلان غيبة المولى تمنع القضاء بالضمان في حق
المحجور وعنده يقطع ولا يضمن لما قلنا ولو قامت البينة على سرقة ما دون النصاب فإن كان مأذونا قبلت
ولزمه الضمان دون القطع سواء حضر المولى أو غاب لان سرقة ما دون النصاب لا توجب القطع فبقي دعوى
السرقة ودعوى الضمان على المأذون وحضرة المولى ليست بشرط للقضاء بالمضان على المأذون وإن كان
محجورا لا تسمع بينته أصلا (أما) على القطع فظاهر وأما على المال فلان حضور المولى شرط القضاء على
202

المحجور بالمال ولو قامت البينة على اقرار المأذون أو المحجور بسبب القصاص أو الحد لزمه القود وحد حد
القذف حضر المولى أو غاب ولا يلزمه ما سواهما من الحدود وإن كان المولى حاضرا لان القصاص حق العبد وكذا
حد القذف فيه حق العبد وسائر الحدود حقوق الله سبحانه وتعالى خالصا فالبينة وان أظهرت الاقرار فالانكار منه
رجوع عن الاقرار والرجوع عن الاقرار يصح في حقوق الله تبارك وتعالى لا في حقوق العباد فيجب القصاص
وحد القذف ويسقط ما سواهما غير أنه إذا قامت البينة على اقراره بالسرقة يلزمه الضمان إن كان مأذونا سواء بلغ نصابا
أو لم يبلغ حضر المولى أو غاب لان سقوط القطع للرجوع والرجوع في حق المال لم يصح فيجب الضمان سواء كان
المولى حاضرا أو غائبا لان القضاء بالمال على المأذون لا يقف على حضور المولى ولو كان محجورا لا قطع عليه ولا ضمان
أما القطع فلمكان الرجوع وأما الضمان فلان اقرار المحجور بالمال غير نافذ في الحال فلا تصح إقامة البينة عليه ولو قامت
البينة على الصبي المأذون أو المعتوه المأذون على قتل أو سبب حد قبلت على القتل وتجب الدية على العاقلة ولا تقبل على
الحد لتصور سبب وجوب الدية منه وهو القتل الخطأ لان عمد الصبي خطأ وانعدام تصور سبب وجوب الحد منه من
الزنا وغيره غير أنه إذا قامت البينة عليه على السرقة قبلت على المال وضمنه القاضي لان الصبي المأذون من أهل القضاء
عليه بالمال ولو قامت البينة على اقراره بالقتل لم تقبل لان اقرار الصبي غير صحيح فلا تقبل البينة عليه والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما بيان محل التعلق فنقول وبالله التوفيق لا خلاف في أن الدين يتعلق بكسب العبد لان المولى بالاذن
بالتجارة عينه للاستيفاء أو تعين شرعا نظرا للغرماء سواء كان كسب التجارة أو غيره من الهبة والصدقة والوصية وغيرها
وهذا قول علمائنا الثلاثة رضي الله عنهم وقال زفر رحمه الله لا يتعلق الا بكسب التجارة وتكون الهبة وغيرها للمولى
(وجه) قول زفر ان التعلق حكم الاذن والاذن بالتجارة لا لغيرها وهذه ليست من كسب التجارة فلا يتعلق بها الدين
(ولنا) ان شرط ثبوت الملك للمولى في كسب العبد أي كسب كان فراغه عن حاجة العبد للفقه الذي ذكرنا من قبل
ولم يوجد الفراغ فلا يثبت الملك له وسواء حصل الكسب بعد لحوق الدين أو كان حاصلا قبله الا الولد والأرش فان
ما ولدت المأذونة من غير مولاها بعد لحوق الدين يتعلق به وما ولدته قبل ذلك لا يتعلق الدين به ويكون للمولى
وكذلك الأرش بان فقئت عينها فوجب الأرش على الفاقئ (ووجه) الفرق ان التعلق بالولد بحكم السراية من الام إليه
لان الولد يحدث على وصف الام ومعنى السراية إنما يتحقق في الحادث بعد لحوق الدين لا قبله لأنه كان ولا دين
على الام فلما حدث حدث على ملك المولى وكذلك الأرش في حكم الولد لان الولد جزء منفصل من الأصل والأرش
بدل جزء منفصل من الأصل وحكم البدل حكم الأصل وأما تعلقه بغيرهما فليس بحكم السراية بل الشغل بحاجة العبد
فإذا لم ينزعه المولى من يده حتى لحقه دين محيط فقد صار مشغولا بحاجته فلا يظهر ملك المولى فيه فهو الفرق والله سبحانه
وتعالى أعلم وههنا فرق آخر وهو ان الولد المولود بعد لحوق الدين يدخل في الدين وولد الجناية لا يدخل في الجناية لان
دخوله في الدين بحكم السراية لان الدين يتعلق برقبة الام فسرى ذلك إلى الولد فحدث على وصف الام والجناية
لا تحتمل التعلق بالرقبة فلا تحتمل السراية فهو الفرق ولو أذن له المولى دفع إليه مالا ليعمل به فباع واشترى ولحقه دين
لا يتعلق الدين بالمال المدفوع إليه لان الدين يتعلق بكسب العبد وذا ليس كسبه أصلا فلا يتعلق به وأما رقبة العبد فهل
يتعلق الدين بها اختلف فيه قال علماؤنا الثلاثة رضى الله تعالى عنهم يتعلق وقال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى
لا يتعلق (وجه) قولهما ان هذا إن كان دين العبد فالرقبة ملك المولى ودين الانسان لا يقضى من مال مملوك لغيره الا باذنه
ولم يوجد وإن كان دين المولى فلا يتعين له مال دون مال كسائر ديون المولى وإنما يقضى من الكسب لوجود التعيين
فالاذن من المولى دلالة الاذن بالتجارة لأنه قضاء دين التجارة من كسب التجارة فكان مأذونا فيه دلالة ومثل هذه
الدلالة لم يوجد في الرقبة لان رقبة العبد ليست من كسب التجارة (ولنا) ان نقول هذا دين العبد لكن ظهر وجوبه عند
203

المولى ودين العبد إذا ظهر وجوبه عند المولى يقضى من رقبته التي هي مال المولى كدين الاستهلاك أو نقول هذا دين
المولى فيقضى من المال الذي عينه المولى للقضاء منه كالرهن والمولى بالاذن عين الرقبة لقضاء الدين منها فيتعين بتعيين
المولى والله سبحانه وتعالى أعلم وإذا كان الرقبة والكسب كل واحد منهما محلا لتعلق الدين به فإذا اجتمع الكسب
والرقبة يبدأ بالاستيفاء من الكسب لان الكسب محل للتعلق قطعا ومحلية الرقبة لتعلق محل الاجتهاد فكانت البدلية
بالكسب أولى فإذا قضى الدين منه فان فضل من الكسب شئ فهو للمولى لأنه كسب فارغ عن حاجة العبد وان
فضل الدين يستوفى من الرقبة عندنا فان فضل على الثمن يتبع العبد به بعد العتاق على ما نذكره
* (فصل) * وأما بيان حكم التعلق فنقول وبالله تعالى التوفيق ان لتعلق الدين أحكاما منها ولاية طلب البيع للغرماء من
القاضي لان معنى تعلق الدين منه ليس الا تعينه لاستيفاء الدين منه وهو في الحقيقة تعين ماليته للاستيفاء لان استيفاء
الدين من جنسه يكون وذلك ماليته لا عينه وذلك بيعه وأخذ ثمنه الا ان يقضى المولى ديونهم فتخلص له الرقبة لان
حقهم في المالية دون العين وقد قضى حقهم فبطل التعلق ومنها انه إذا بيع العبد كان ثمنه بين الغرماء بالحصص لان الثمن
بدل الرقبة فيكون لهم على قدر تعلق حقهم بالمبدل وهو الرقبة وكان ذلك بالحصص فكذا الثمن كثمن التركة إذا بيعت
ثم إذا بيع العبد فان فضل شئ من ثمنه فهو للمولى وان فضل الدين لا يطالب المولى به لأنه لا دين على المولى ويتبع العبد
به بعد العتاق لان الدين كان عليه الا أن القدر الذي تعلق برقبته صار مقضيا فبقي الفاضل عليه وإنما يباع العبد في الدين
إذا كان حالا فإن كان مؤجلا لا يباع إلى حل الأجل لان البيع يتبع التعلق والتعلق يتبع الوجوب والوجوب على
التضييق لا يثبت الا بعد حل الأجل فكذا التعلق ولو كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا فطلب أصحاب الحال البيع باعه
القاضي وأعطى أصحاب الحال قدر حصتهم وأمسك حصة أصحاب الأجل لان التعليق على التضييق ثبت في حق
أصحاب الحال لا في حق أصحاب الأجل وكذلك لو كان الغرماء بعضهم حضورا وبعضهم غيبا فطلب الحضور البيع
من القاضي باعه القاضي وأعطى الحضور حصتهم ووقف حصة الغيب لان لكل واحد منهم على الانفراد دينا متعلقا
بالرقبة وذا يوجب التحريج إلى البيع فغيبة البعض لا تكون مانعة وكذلك إذا كان بعض الديون ظاهرا والبعض
لا يظهر لكن ظهر سبب وجوبه بأن كان عليه دين فحفر بئرا على طريق المسلمين فطلب الغريم البيع باعه القاضي في
دينه وأعطاه دينه وإن كان لا يفضل الثمن عن دينه شيئا لان ظهور دينه أوجب التعلق برقبته فلا يجوز ترك العمل
بالظاهر بما لم يظهر ثم إذا وقعت فيها بهيمة فعطبت رجع صاحب البهيمة على الغريم فيتضاربان فيضرب صاحب
البهيمة بقيمتها ويضرب الغريم بدينه فيكون الثمن بالحصص لان الحكم مستند إلى وقت وجود سببه فيتبين انه
كان شريكه في الرقبة في تعلق الدين فيتشاركان في بدلها بالحصص ولو كان عليه دين فاقر قبل ان يباع لغائب يصدق في
ذلك صدقه المولى والغرماء أو كذبوه لان اقرار المأذون بالدين صحيح من غير تصديق المولى لما بينا وإذا بيع وقف القاضي
من ثمنه حصة الغائب ولو أقر بدين لغائب بعدما بيع في الدين لم يجز اقراره وان صدقه المولى لأنه إذا بيع فقد صار
محجورا عليه واقرار المحجور بالدين لا يصح وان صدقه المولى فان قدم الغائب وأقام بينة على الدين اتبع الغرماء بحصته
من الثمن لأنه بإقامة البينة ظهر إن كان شريكهم في الرقبة في تعلق الدين فشاركهم في بدلها ولا سبيل له على العبد ولا على
المشترى لان حقه في الدين ومحل تعلقه الرقبة لا غير فلا سبيل له على غيرها والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها انه لا يجوز
للمولى بيع العبد الذي عليه دين الا باذن الغرماء أو بقضاء الدين أو باذن القاضي بالبيع للغرماء ولو باع لا ينفذ الا إذا
وصل إليهم الثمن وفيه وفاء بديونهم لان حق الغرماء متعلق برقبته وفى البيع ابطال هذا الحق عليهم فلا ينفذ من غير رضاهم
كبيع المرهون الا ان يصل ثمنه إليهم وفيه وفاء بديونهم فينفذ لما بينا ان حقهم في معنى الرقبة لا في صورتها فصار كما لو
قضى المولى الدين من خالص ماله ودل اطلاق هذه الرواية على أن الدين حال قيام الكسب يتعلق بالكسب والرقبة
جميعا لأنه بقي جواز بيع المولى مطلقا عن شرط عدم الكسب ولو كان قيام الكسب مانعا من التعلق بالرقبة
204

لجاز لان الرقبة إذ ذاك تكون خالص ملك المولى وتصرف الانسان في خالص ملكه نافذا لا ان يحمل على حال
عدم الكسب حملا للمطلق على المقيد والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أذن له بعض الغرماء بالبيع لم يجز الا ان يجيزه الباقون
لتعلق حق كل واحد بالرقبة فكان البيع تصرفا في حق الكل فلا ينفذ من غير اجازتهم ثم فرق بين بيع المولى
وبين بيع الوصي التركة في الدين من غير اذن الغرماء انه ينفذ هناك وهنا لا ينفذ (ووجه) الفرق ان للغرماء
حق استسعاء المأذون وهذا الحق يبطل بالبيع فكان امتناع النفاذ مفيدا وليس للغرماء ولاية استسعاء
التركة لما فيه من تأخير قضاء دين الميت فكان عدم النفاذ للوصول إلى الثمن خاصة وانه يحصل ببيع
الوصي فلم يكن التوقف مفيدا فلا يتوقف هذا إذا كان الدين حالا فإن كان مؤجلا نفذ البيع في ظاهر الرواية
لان المانع من النفاذ هو التعلق عن التضييق ولم يوجد ثم إذا حل الأجل فإن كانت ديونهم مثل الثمن أو أقل أخذوا
منه وإن كانت ديونهم أكثر من الثمن ضمنوا المولى إلى تمام قيمة العبد وروى عن محمد رحمه الله في النوادر انه لا ينفذ
بيع المولى لوجود أصل التعليق هذا إذا كان العبد قائما في يد المشترى فإن كان هالكا فالغرماء بالخيار ان شاؤوا ضمنوا
المولى وان شاؤوا ضمنوا المشترى قيمة العبد لان كل واحد منهما غاصب لحقهم فكان لهم تضمين أيهما شاؤوا فان
اختاروا تضمين المولى نفذ بيعه لأنه خلص ملكه فيه عند البيع باختيار الضمان فكأنهم باعوه منه بثمن هو قدر قيمته
واشتراه منهم به حتى لو وجد المشترى به عيبا بعد هلاكه له ان يرجع بالنقصان على المولى وللمولى ان يرجع به على
الغرماء وان اختاروا تضمين المشترى بطل البيع لأنه يمكن تمليكه منه بالضمان واسترد الثمن ولو لم يهلك العبد
في يد المشترى ولكن غاب المولى فان وجدوه ضمنوه القيمة وان لم يجدوه فلا خصومة بينهم وبين المشترى عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله هذا وما إذا كان المولى حاضرا سواء والله أعلم بالصواب هذا الذي
ذكرنا حكم تعلق الدين بالرقبة عند الانفراد فاما حكم تعلقه عند الاجتماع بان اجتمع الدين والجناية فنقول وبالله التوفيق
إذا اجتمع الدين والجناية بان قتل العبد المأذون رجلا خطأ وعليه دين لا يبطل الدين بالجناية لان حكم الجناية في
الأصل وجوب الدفع وله سبيل الخروج عنه بالفداء أو التخيير بين الدفع والفداء وهذا لا ينافي الدين لأنه يمكنه دفعه
متعلقا رقبته بالدين وكذا لا ينافيه الفداء لا شك فيه فان اختار الدفع فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه اما ان حضر أصحاب
الدين والجناية معا واما ان حضر أصحاب الجناية واما ان حضر أصحاب الدين فان حضر أصحاب الدين والجناية جميعا
يدفع العبد إلى أولياء الجناية ثم يبيعه القاضي للغرماء في دينهم فانا إذا دفعناه فقد راعينا حق أصحاب الجناية بالدفع
إليهم وراعينا حق الغرماء بالبيع بدينهم وإذا دفعناه إلى أصحاب الدين أبطلنا حق أصحاب الجناية لتعذر الدفع بعد البيع
إذا الثابت للمشترى ملك جديد خال عن الجناية فكانت البداية بالجناية مراعاة الحقين من الجانبين فكان أولى ثم في
الدفع إلى أصحاب الجناية ثم البيع فائدة وهي الاستخلاص بالفداء لان للناس في أعيان الأشياء رغائب ما ليس
في ابدالها وإذا دفعه المولى أصحاب الجناية فالقياس ان يضمن قيمته للغرماء لأنه يصير ملكا لهم بالدفع فكان الدفع
منه تمليكا منهم بمنزلة البيع وفى الاستحسان لا يضمن لان الدفع واجب عليه ومن أتى بفعل واجب عليه لا يضمن
لان المضان يمنعه عن إقامة الواجب فيتناقض ثم إذا دفعه إليهم فبيع للغرماء فان فضل عن دينهم شئ من الثمن صرف
إلى أصحاب الجناية لان العبد صار ملكا لهم بالدفع إليهم وإنما بيع على ملكهم الا ان أصحاب الدين أولى بثمنه بقدر دينهم
فبقي الفاضل من دينهم على ملك أصحاب الجناية كما إذا لم يكن هناك جناية فباعه القاضي للغرماء وفضل من ثمنه شئ ان
الفاضل يكون للمولى كذا هذا ولو دفعه المولى إلى أصحاب الدين بدينهم إن كان عالما بالجناية لزمه الأرش لأنه صار مختارا
للفداء وان لم يكن عالما بها يلزمه قيمة العبد لان الواجب الأصلي دفع عين العبد وإنما الفداء للخروج عنه بطريق
الرخصة على ما بينا والدفع من غير علم لا يصلح دليل اختيار الفداء فبقي دفع العين واجبا وقد تعدد دفع عينه بالدفع إلى
أصحاب الدين فيجب دفع قيمته إذ هو دفع العين معنى وان حضر أصحاب الجناية أولا فكذلك بدفع العبد إليهم ولا
205

ينتظر حضور الغرماء لأنهم لو كانوا حضورا لكان الحكم هكذا فلا معنى للانتظار وان حضر أصحاب الدين أولا
فإن كان القاضي عالما بالجناية لا يبيعه في ديونهم لان في البيع ابطال حق أصحاب الجناية وان لم يكن عالما فباعه بطل
حق أصحاب الجناية حتى لو حضروا بعد ذلك لا ضمان على القاضي ولا على المولى اما القاضي فلانه لا عهدة تلزم القاضي
فيما فعله لكونه أمينا واما المولى فلانه باعه بأمر القاضي فكان مضافا إلى القاضي ولو كان باعه بغير اذن القاضي فان
باعه مع علمه بالجناية يلزمه الأرش لأنه صار مختارا للفداء وان لم يكن عالما بالجناية يلزمه الأقل من قيمة العبد ومن الأرش
لما بينا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يبطل به الاذن بعد وجوده فنقول إن الاذن بالتجارة يبطل بشدة وهو الحجر فيحتاج إلى
بيان ما يصير العبد به محجورا وذلك أنواع بعضها يرجع إلى المولى وبعضها إلى العبد اما الذي يرجع إلى المولى فثلاثة
أنواع صريح ودلالة وضرورة والصريح نوعان خاص وعام أما العام فهو الحجر باللسان على سبيل الاشهار والإشاعة
بان يحجره في أهل سوقه بالنداء بالحجر وهذا النوع من الحجر يبطل به الاذن الخاص والعام جميعا لان الاذن بالتجارة
غير لازم فكان محتملا للبطلان والشئ يبطل بمثله وبما هو فوقه وأما الخاص فهو أن يكون بين العبد وبين المولى ولا
يكون على سبيل الاستفاضة والاشتهار وهذا النوع لا يبطل به الاذن العام لان الشئ لا يبطل بما هو دونه ولان
الحجر إذا لم يشتهر فالناس يعاملونه بناء على الاذن العام ثم يظهر الحجر فيلحقهم ضرر الغرور وهو اتلاف ديونهم في ذمة
المفلس ومعنى التعزير لا يتحقق في الاذن العام لان الناس يمتنعون عن معاملته فلا يلحقهم ضرر الغرور ويبطل به
الاذن الخاص لان الحجر صحيح في حقهما حسب صحة الاذن فجاز ان يبطل به لان الشئ يحتمل البطلان بمثله ومن
شرط صحة هذين النوعين علم العبد بهما فإن لم يعلم لا يصير محجورا لان الحجر منع من تصرف شرعي وحكم المنع في
الشرائع لا يلزم الممنوع الا بعد العلم كما في سائر الأحكام الشرعية ولو أخبره بالحجر رجلان أو رجل وامرأتان
عدلا كان أو غير عدل صار محجورا بالاجماع وكذلك إذا أخبره واحد عدل رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا
أو أخبره واحد غير عدل وصدقه لان خبر الواحد في المعاملات مقبول من غير شرط العدد والعدالة والذكورة والحرية
إذا صدقه فيه وأما إذا كذبه فلا يصير محجورا عند أبي حنيفة رحمه الله وان ظهر صدق المخبر وعندهما يصير محجورا
صدقه أو كذبه إذا ظهر صدق المخبر ولو كان المخبر رسولا يصير محجورا بالاجماع صدقه أو كذبه ولو اشترى المأذون
عبدا فأذن له بالتجارة فحجر المولى على أحدهما فان حجر على الأسفل لم يصح سواء كان على الاعلى دين أو لم يكن لأنه
مأذون من جهة الاعلى لا من جهة المولى وان حجر على الاعلى ينظر ان لم يكن عليه دين لا يصير الأسفل محجورا عليه
لأنه إذا لم يكن عليه دين فهما عبدان مملوكان للمولى فيصير كأنه أذن لهما ثم حجر على أحدهما ولو كان كذلك ينحجر
أحدهما بحجر الآخر كذا هذا وإن كان على الاعلى دين يصير محجورا عند أبي حنيفة وعندهما لا يصير محجورا
بناء على أن المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عنده وعندهما يملك (ووجه) البناء انه لما لم يملك عبده وقد
استفاد الاذن من جهة الاعلى لا من جهة المولى صار حجر الاعلى كموته ولو مات لصار الثاني محجورا كذا هذا ولما
ملك عندهما صار الجواب في هذا وفى الأول سواء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وأما الدلالة فأنواع منها البيع
وهو ان يبيعه المولى ولا دين عليه لأنه زال ملكه بالبيع وحدث للمشترى فيه ملك جديد فيزول اذن البائع لزوال
ملكه ولم يوجد الاذن من المشترى فيصير محجورا ومنها الاستيلاد بأن كان المأذون جارية فاستولدها المولى
استحسانا والقياس ان لا يبطل به الاذن لأنها قادرة على التصرف بعد الاستيلاد (وجه) الاستحسان ان التجارة
لا بد لها من الخروج إلى الأسواق وأمهات الأولاد ممنوعات عن الخروج في العادات فكان الاستيلاد حجرا دلالة
وأما التدبير فلا يكون حجرا لأنه لا ينفى الاذن إذ الاذن اطلاق والتدبير لا ينافيه ومنها الحوقه بدار الحرب مرتد لان
الردة مع اللحوق توجب زوال الملك وذا يمنع بقاء الاذن فكان حجرا دلالة فإن لم يلحق بدار الحرب فعلى قياس قول أبى
206

حنيفة رضي الله عنه ينبغي ان يقف تصرف المأذون بعد الردة وعلى قياس قولهما ينفذ والله تعالى أعلم بالصواب وأما
الضرورة فأنواع أيضا منها موته لان الموت مبطل للملك وبطلان الملك يوجب بطلان الاذن على ما بينا ومنها
جنونه جنونا مطبقا لان أهلية الاذن شرط بقاء الاذن لان الاذن بالتجارة غير لازم فكان لبقائه حكم الابتداء ثم
ابتداء الاذن لا يصح من غير الأهل فلا يبقى أيضا والجنون المطبق مبطل للأهلية فصار محجورا فان أفاق يعود مأذونا
لان بطلان الاذن لبطلان الأهلية مع احتمال العود فإذا أفاق عادت الأهلية فعاد مأذونا وصار كالموكل إذا أفاق بعد
جنونه انه تعود الوكالة كذا هذا وأما الاغماء فلا يوجب الحجر لأنه لا يبطل الأهلية لكونه على شرف الزوال ساعة
فساعة عادة ولهذا لا يمنع وجوب سائر العبادات وأما الذي يرجع إلى العبد فأنواع أيضا منها إباقه لأنه بالإباق
تنقطع منافع تصرفه عن المولى فلا يرضى به المولى وهذا ينافي الاذن لان تصرف المأذون برضا المولى ومنها جنونه
جنونا مطبقا لأنه مبطل أهلية التجارة على وجه لا يحتمل العود الا على سبيل الندرة لزوال ما هو مبنى عليه وهو العقل
فلم يكن في بقاء الاذن فائدة فيبطل ولو أفاق بعد ذلك لا يعود مأذونا بخلاف الموكل والله سبحانه وتعالى علم
وأما الجنون الذي هو غير مطبق فلا يوجب الحجر لان غير المطبق منه ليس بمبطل للأهلية لكونه على شرف
الزوال فكان في حكم الاغماء ومنها ردته عند أبي حنيفة وعندهما لا توجب الحجر بناء على وقوف تصرفاته عنده
ونفوذها عندهما ومنها لحوقه بدار الحرب مرتدا لان اللحوق بدار الحرب مرتدا بمنزلة الموت فكان مبطلا للأهلية
فيصير محجورا لكن عند أبي حنيفة رحمه الله من وقت الردة وعندهما من وقت اللحوق والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم الحجر فهو انحجار العبد في حق المولى عن كل تصرف كان يملكه بسبب الاذن فلا يملك الاقرار
بالدين إذا لم يكن في يده مال لان صحة اقرار المأذون بالدين لكونه من ضرورات التجارة على ما بينا ولا يملك التجارة
فلا يملك الاقرار بما هو من ضروراتها في حق المولى لكن يتبع به بعد العتاق لان اقراره صحيح في نفسه لصدوره
من الأهل لكن لم يظهر للحال لحق المولى فإذا عتق فقد زال المانع فيظهر وإن كان في يده مال ينفذ اقراره فيما في يده
عند أبي حنيفة وعندهما لا ينفذ لأنه اقرار المحجور فكيف ينفذ ولأبي حنيفة رضي الله عنه انه غير محجور فيما في يده
ولم يصح الحجر في حق ما في يده لأنه لو صح لتبادر المولى إلى حجر عبيدهم المأذونين في التجارة إذا علموا ان عليهم دينا
لتسلم لهم اكسابهم التي في أيديهم وقد لا يكون للغرماء بينة على ذلك فيتضرر به الغرماء لتعلق ديونهم بذمة العبد المفلس
فكان اقراره فيما في يده من المال من ضرورات التجارة فأشبه اقرار المأذون بخلاف ما إذا لم يكن في يده مال لان
الحجر من المولى للوصول إلى الكسب فإذا لم يكن في يده كسب فلا يحجر فهو الفرق بين الفصلين ولو ظهر عليه الدين
بالبينة أو المعاينة وفى يده كسب فحجره المولى لا سبيل على الكسب لان حق الغرماء متعلق به ويملك الاقرار
على نفسه بالحدود والقصاص صدقه المولى أو كذبه لأنه لا ملك للمولى في نفسه في حق الحدود والقصاص فاستوى
فيه تصديقه وتكذيبه ولا يحتاج في اقامتها إلى حضور المولى بالاجماع وفيما إذا ثبت ذلك بينة قامت عليه اختلاف
ذكرناه فيما قبل المحجور في الجناية عمدا أو خطأ والمأذون سواء وموضع معرفة حكم جنايتهما كتاب الديات
وسنذكره فيه إن شاء الله تعالى
* (كتاب الاقرار) *
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان ركن الاقرار وفي بيان الشرائط التي يصير الركن بها اقرارا شرعا وفي بيان
ما يصدق المقر فيما ألحق باقراره من القرائن ما لا يكون رجوعا حقيقة وما لا يصدق فيه مما يكون رجوعا عنه وفي بيان ما
يبطل به الاقرار بعده وجوده أما ركن الاقرار فنوعان صريح ودلة فالصريح نحو أن يقول لفلان على ألف درهم لان كلمة
على كلمة ايجاب لغة وشرعا قال الله تبارك وتعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا كذا إذا قال
207

لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل نعم لان كلمة نعم خرجت جوابا لكلامه وجواب الكلام إعادة له لغة كأنه قال
لك على ألف درهم وكذلك إذا قال لفلان في ذمتي ألف درهم لان ما في الذمة هو الدين فيكون اقرارا بالدين ولو قال فلان
قبلي ألف درهم ذكر القدوري رحمه الله أنه أقر بأمانة في يده وذكر الكرخي رحمه الله أنه يكون اقرارا بالدين وجه
ما ذكره الكرخي أن القبالة هي الكفالة قال الله سبحانه وتعالى عز من قائل والملائكة قبيلا أي كفيلا والكفالة هي
الضمان قال الله تبارك وتعالى وكفلها زكريا على قراءة التخفيف أي ضمن القيام بأمرها وجه ما ذكره القدوري
رحمه الله أن القبالة تستعمل بمعنى الضمان وتستعمل بمعنى الأمانة فان محمدا رحمه الله ذكر في الأصل أن من قال لا حق
لي على فلان يبرأ عن الدين ومن قال لا حق لي عند فلان أو معه يبرأ عن الأمانة ولو قال لا حق لي قبله يبرأ عن الدين
والأمانة جميعا فكانت القبالة محتملة للضمان والأمانة والضمان لم يعرف وجوبه فلا يجب بالاحتمال ولو قال له في دراهمي
هذه ألف درهم يكون اقرارا بالشركة ولو قال له في مالي ألف درهم ذكر في الأصل أن هذا اقرار له ولم يذكر أنه مضمون
أو أمانة واختلف المشايخ فيه قال الجصاص رحمه الله أنه يكون اقرارا بالشركة له كما في الفصل الأول لأنه جعل ماله ظرفا
للمقر به هو الألف فيقتضى الخلط وهو معنى الشركة وقال بعضهم إن كان ماله محصورا يكون اقرارا بالشركة وان لم
يكن محصورا يكون إقرار بالدين فظاهر اطلاق الكتاب يدل على الاقرار بالدين كيف ما كان لان كلمة الظرف في
مثل هذا تستعمل في الوجوب قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرقة ربع العشر وفى خمس من الإبل السائمة شاة
وفى الركاز الخمس ولو قال له في مالي ألف درهم لا يكون اقرارا بل يكون هبة لأنه ليس فيه ما يدل على الوجوب في
الذمة لان اللام المضاف إلى أهل الملك للتمليك والتمليك بغير عوض هبة وإذا كان هبة فلا يملكها الا بالقبول والتسليم
ولو قال له في مالي ألف درهم لا حق له فيها فهو اقرار بالدين لان الألف التي لا حق له فيها لا تكون دينا إذ لو كانت هبة
لكان له فيها حق ولو قال له عندي ألف درهم فهو وديعة لان عندي لا تدل على الوجوب في الذمة بل هي كلمة حضرة
وقرب ولا اختصاص لهذا المعنى بالوجوب في الذمة فلا يثبت الوجوب الا بدليل زائد وكذلك لو قال لفلان معي أو
في منزلي أو في بيتي أو في صندوقي ألف درهم فذلك كله وديعة لأن هذه الألفاظ لا تدل الا على قيام اليد على المذكور
وذا لا يقتضى الوجوب في الذمة لا محالة فلم يكن اقرار بالدين فكانت وديعة لأنها في متعارف الناس تستعمل في
الودائع فعند الاطلاق تصرف إليها ولو قال له عندي ألف درهم عارية فهو فرض لان عندي تستعمل في الأمانات
وقد فسر بالعارية وعارية الدراهم والدنانير تكون قرضا إذ لا يمكن الانتفاع بها الا باستهلاكها وإعارة ما لا يمكن الانتفاع
به الا باستهلاكه يكون قرضا في المتعارف وكذلك هذا في كل ما يكال أو يوزن لتعذر الانتفاع بها بدون الاستهلاك
فكان الاقرار باعارتها اقرار بالقرض والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) الدلالة فهي أن يقول له رجل لي عليك ألف
فيقول قد قضيتها لان القضاء اسم لتسليم مثل الواجب في الذمة فيقتضى سابقية الوجوب فكان الاقرار بالقضاء اقرارا
بالوجوب ثم يدعى الخروج عنه بالقضاء فلا يصح الا بالبينة وكذلك إذا قال له رجل لي عليك ألف درهم فقال أتزنها
لأنه أضاف الاتزان إلى الألف المدعاة والانسان لا يأمر المدعى باتزان المدعى الا بعد كونه واجبا عليه فكان الامر
بالاتزان اقرارا بالدين دلالة وكذلك إذا قال انتقدها لما قلنا ولو قال أتزن أو أتنقد لم يكن اقرارا لأنه لم توجد الإضافة
إلى المدعى فيحتمل الامر باتزان شئ آخر فلا يحمل على الاقرار بالاحتمال وكذا إذا قال أجلني بها لان التأجيل
تأخير المطالبة مع قيام أصل الدين في الذمة كالدين المؤجل والله تعالى أعلم ولو قال له رجل لي عليك ألف درهم فقال حقا
يكون اقرارا لان معناه حققت فيما قلت لان انتصاب المصدر لا بد له من اظهار صدره وهو الفعل ويحتمل أن يكون
معناه حقا أو الزم حقا ولكن الأول أظهر وكذلك إذا قال الحق لأنه تعريف المصدر وهو قوله حقا وكذلك لو قال
صدقا أو الصدق أو يقينا أو اليقين لما قلنا ولو قال برا أو البر لا يكون اقرار لان لفظة البر مشترك تذكر على إرادة
الصدق وتذكر على إرادة التقوى وتذكر على إرادة الخير فلا يحمل على الاقرار بالاحتمال وكذلك لو قال صلاحا أو
208

الصلاح لا يكون اقرارا لان لفظة الصلاح لا تكون بمعنى التصديق والاقرار فإنه لو صرح وقال له صلحت لا يكون
تصديقا فيحمل على الامر بالصلاح والاجتناب عن الكذب هذا إذا ذكر لفظة مفردة من هذه الألفاظ الخمسة فان
جمع بين لفظتين متجانستين أو مختلفتين فحكمه يعرف في اقرار الجامع إن شاء الله تعالى ثم ركن الاقرار لا يخلو اما أن
يكون مطلقا واما أن يكون ملحقا بقرينة فالمطلق هو قوله لفلان على كذا وما يجرى مجراه خاليا عن القرائن (وأما)
الملحق بالقرينة فبيانه يشتمل على فصل بيان ما يصدق للمقر فيما ألحق باقراره من القرائن ما لا يكون رجوعا وما
لا يصدق فيه مما يكون رجوعا فنقول القرينة في الأصل نوعان قرينة مغيرة من حيث الظاهر مبنية على الحقيقة وقرينة
مبنية على الاطلاق أما القرينة المغيرة من حيث الظاهر والمبنية على الحقيقة فهي المسقطة لاسم الجملة فيعتبر بها الاسم
لكن يتبين بها المراد فكان تغييرا صورة تبيينا معنى (وأما) القرينة المغيرة فتتنوع ثلاثة أنواع نوع يدخل في أصل الاقرار
ونوع يدخل على وصف المقر به ونوع يدخل على قدره وكل ذلك قد يكون متصلا وقد يكون منفصلا أما الذي
يدخل على أصل الاقرار فنحو التعليق بمشيئة الله تعالى متصلا باللفظ بان قال لفلان على ألف درهم إن شاء الله تعالى
وهذا يمنع صحة الاقرار أصلا لان تعليق مشيئة الله تبارك وتعالى بكون الألف في الذمة أمر لا يعرف فان شاء كان وان
لم يشأ لم يكن فلا يصح الاقرار مع الاحتمال ولان الاقرار اخبار عن كائن والكائن لا يحتمل تعليق كونه بالمشيئة فان
الفاعل إذا قال أنا فاعل إن شاء الله تعالى يستحق ولهذا أبطلنا القول بالاستثناء في الايمان والله تعالى أعلم بالصواب
وكذا إذا علقه بمشيئة فلان لا يصح الاقرار لما قلنا ولو أقر بشرط الخيار بطل الشرط وصح الاقرار لما ذكرنا
أن الاقرار اخبار عن ثابت في الذمة وشرط الخيار في معنى الرجوع والاقرار في حقوق العباد لا يحتمل الرجوع
(وأما) الذي يدخل على وصف المقر به فكان كان متصلا باللفظ بان قال لفلان على ألف درهم وديعة يصح ويكون
اقرار بالوديعة وإن كان منفصلا عنه بان سكت ثم قال عنيت به الوديعة لا يصح ويكون اقرار بالدين لان بيان الغير
لا يصح الا بشرط الوصل كالاستثناء وهذا لان قوله لفلان على ألف درهم اخبار عن وجوب الألف عليه من حيث
الظاهر ألا ترى أنه لو سكت عليه لكان كذلك فان قرن به قوله وديعة وحكمها وجوب الحفظ فقد غير حكم الظاهر من
وجوب العين إلى وجوب الحفظ فكان بيان تغيير من حيث الظاهر فلا يصح الا موصولا كالاستثناء وإنما
يصح موصولا لان قوله على ألف درهم يحتمل وجوب الحفظ أي على حفظ ألف درهم وإن كان خلاف الظاهر
فيصح بشرط الوصل ولو قال على ألف درهم وديعة قرضا أو مضاربة قرضا أو بضاعة قرضا أو قال دينا مكان قوله
قرضا فهو اقرار بالدين لان الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن لجواز أن يكون أمانة في الابتداء ثم يصير مضمونا في
الانتهاء إذ الضمان قد يطرأ على الأمانة كالوديعة المستهلكة ونحوها سواء وصل أو فصل لان الانسان في الاقرار
بالضمان على نفسه غير متهم (وأما) الذي يدخل على قدر المقر به فنوعان أحدهما الاستثناء والثاني الاستدراك أما
الاستثناء في الأصل فنوعان أحدهما أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه والثاني أن يكون من خلاف جنسه
وكل واحد منهما نوعان متصل ومنفصل فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والاستثناء متصل فهو على ثلاثة
أوجه استثناء القليل من الكثير واستثناء الكثير من القليل واستثناء الكل من الكل اما استثناء القليل من
الكثير فنحو أن يقول على عشرة دراهم الا ثلاثة دراهم ولا خلاف في جوازه ويلزمه سبعة دراهم لان الاستثناء
في الحقيقة تكلم بالباقي بعد الثنيا كأنه قال لفلان على سبعة دراهم الا أن للسبعة اسمان أحدهما سبعة والآخر عشرة
الا ثلاثة قال الله تبارك وتعالى فلبث فهم ألف سنة الا خمسين عاما معناه أنه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما
وكذلك إذا قال لفلان على ألف درهم سوى ثلاثة دراهم لان سوى من ألفاظ الاستثناء وكذا إذا قال غير ثلاثة
لان غير بالنصب للاستثناء فان قال لفلان على درهم غير دانق يلزمه خمسة دوانق ولو قال غير دانق بالرفع يلزمه درهم
تام (وأما) استثناء الكثير من القليل بان قال لفلان على تسعة دراهم الا عشرة فجائز في ظاهر الرواية ويلزمه درهم
209

الا ما روى عن أبي يوسف رحمه الله لا يصح وعليه العشرة والصحيح جواب ظاهر الرواية لان المنقول عن أئمة اللغة
رحمهم الله ان الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وهذا المعنى كما يوجد في استثناء القليل من الكثير يوجب في استثناء
الكثير من القليل الا أن هذا النوع من الاستثناء غير مستحسن عند أهل اللغة لأنهم إنما وضعوا الاستثناء لحاجتهم
إلى استدراك الغلط ومثل هذا الغلط مما يندر وقوعه غاية الندرة فلا حاجة إلى استدراكه لكن يحتمل الوقوع
في الجملة فيصح (وأما) استثناء الكل من الكل بأن يقول لفلان على عشرة دراهم الا عشرة دراهم فباطل وعليه عشرة
كامله لان هذا ليس باستثناء إذ هو تكلم بالحاصل بعد الثنيا ولا حاصل ههنا بعد الثنيا فلا يكون استثناء بل يكون ابطالا
للكلام ورجوعا عما تكلم به والرجوع عن الاقرار في حق العباد لا يصح فبطل الرجوع وبقى الاقرار ولو قال لفلان
على عشرة دراهم الا درهما زائفا لا يصح الاستثناء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه عشرة جياد وقال أبو يوسف
يصح وعليه عشرة جياد للمقر له وعلى المقر له درهم زائف للمقر بناء على أن الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أن المقاصة
لا تقف على صفة الجودة بل تقف على الوزن وعند أبي يوسف لا تتحقق المقاصة الا بهما جميعا ووجه البناء على
هذا الأصل أنه لو صح الاستثناء لوجب على المقر له درهم زائف وحينئذ تقع المقاصة لان اختلاف صفة الجودة لا تمنع
المقاصة عنده وإذا وقعت المقاصة يصير المستثنى درهما جيدا لا زائفا وهذا خلاف موجب تصرفه فلم يصح الاستثناء
وعند أبي يوسف رحمه الله لما كان اتحادهما في صفة الجودة شرطا لتحقق المقاصة ولم يوجد ههنا لا تقع المقاصة وإذا لم تقع
كان الواجب على كل واحد منهما أداء ما عليه فلا يؤدى إلى تغيير موجب الاستثناء فيصح الاستثناء والصحيح
أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لان الجودة في الأموال الربوية ساقطة الاعتبار شرعا لقول النبي عليه الصلاة والسلام
جيدها ورديئها سواء والساقط شرعا والعدم حقيقة سواء ولو انعدمت حقيقة لوقعت المقاصة كذا إذا انعدمت
شرعا ولو قال لفلان على عشرة دراهم الا درهم ستوق فقياس قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله انه يصح
الاستثناء وعليه عشرة دراهم الا قيمة درهم ستوق وقياس قول محمد وزفر رحمهما الله انه لا يصح الاستثناء أصلا وعليه
عشرة كاملة بناء على أن المجانسة ليست بشرط لصحة الاستثناء عند أبي حنيفة وأبى يوسف عليهما الرحمة وعند محمد
وزفر شرط على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ولو قال لفلان على ألف الا قليلا فعليه أكثر من نصف الألف والقول
في الزيادة على الخمسمائة قوله لان القليل من أسماء الإضافة فيقتضى أن يكون ما يقابله أكثر منه ليكون هو بالإضافة إليه
قليلا فإذا استثنى القليل من الألف فلا بد وإن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى وهو الأكثر من نصف الألف
ولهذا قال بعض أهل التأويل في قوله تبارك وتعالى يا أيها المزمل قم الليل الا قليلا ان استثناء القليل من الامر بقيام
الليل يقتضى الامر بقيام أكثر الليل والقول في مقدار الزيادة على نصف الألف قوله لأنه المجمل في قدر الزيادة فكان
البيان إليه وكذلك إذا قال الأشياء لان الاستثناء بلفظة شئ لا يستعمل الا في القليل هذا إذا كان المستثنى من جنس
المستثنى منه فإن كان من خلاف جنسه ينظر إن كان المستثنى مما لا يثبت دينا في الذمة مطلقا كالثوب لا يصح الاستثناء
وعليه جميع ما أقر به عندنا بأن قال له على شعرة دراهم الا ثوبا وعند الشافعي رحمه الله يصح ويلزمه قدر قيمة الثوب
وإن كان المستثنى مما يثبت دينا في الذمة مطلقا من المكيل والموزون والعددي المتقارب بان قال لفلان على عشرة الا
درهم أو الا قفيز حنطة أو مائة دينار الا عشرة دراهم أو دينار الا مائة جوزة يصح الاستثناء عند أبي حنيفة وأبى يوسف
رضي الله عنهما ويطرح مما أقر به قدر قيمة المستثنى وعند محمد وزفر رحمهما الله لا يصح الاستثناء أصلا (اما) الكلام
مع الشافعي رحمه الله في المسألة الأولى فوجه قول الشافعي رحمه الله أن لنص الاستثناء حكما على حدة كما لنص
المستثنى منه من النفي والاثبات لان الاستثناء من النفي اثبات ومن الاثبات نفى لغة فقوله لفلان على عشرة دراهم
الا درهما معناه الا درهما فإنه ليس على فيصير دليل النفي معارضا لدليل الاثبات في قدر المستثنى ولهذا قال إن الاستثناء
يعمل بطريق المعاوضة فصار قوله لفلان على ألف درهم الا ثوبا أي الا ثوبا فإنه ليس على من الألف ومعلوم ان عين
210

الثوب من الألف ليس عليه فكان المراد قدر قيمته أي مقدار قيمة الثوب ليس على من الألف وجه قول أصحابنا
رضي الله عنهم أنه لا حكم لنص الاستثناء الا بيان أن القدر المستثنى لم يدخل تحت المستثنى منه أصلا لان أهل اللغة
قالوا إن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وإنما يكون تكلما بالباقي إذا كان ثابتا فكان انعدام حكم نص المستثنى منه
في المستثنى لانعدام تناول اللفظ إياه لا للمعارضة مع ما أن القول بالمعارضة فاسد لوجوه أحدهما ان الاستثناء مقارن
للمستثنى منه فكانت المعارضة مناقضة والثاني أن المعارضة إنما تكون بدليل قائم بنفسه ونص الاستثناء ليس
بنص قائم بنفسه فلا يصلح معارضا الا أن يزاد عليه قوله الا كذا فإنه كذا وهذا تغيير ومهما أمكن العمل بظاهر اللفظ
من غير تغيير كان أولى والثالث أن القول بالمعارضة يكون رجوعا عن الاقرار والرجوع عن الاقرار في حقوق العباد
لا يصح كما إذا قال له على عشرة دراهم وليس له على عشرة دراهم وإن كان بيانا فمعنى البيان لا يتحقق الا إذا كان المستثنى
من جنس المستثنى منه اما في الاسم أو في احتمال الوجوب في الذمة على الاطلاق ولم يوجد ههنا على ما نذكره إن شاء الله
تعالى وقولهم الاستثناء من الاثبات نفى ومن النفي اثبات محمول على الظاهر إذ هو في الظاهر كذلك دون الحقيقة لأنه
تحقق معنى المعارضة وهي محال على ما ذكرنا وجه احالته فيكون بيانا حقيقة نفيا أو اثباتا جمعا بين النقلين بقدر الامكان
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (وأما) الكلام في المسألة الثانية فوجه قول محمد وزفر رحمهما الله أن الاستثناء
استخراج بعض ما لولاه لدخل تحت نص المستثنى منه وذا لا يتحقق الا في الجنس ولهذا لو كان المستثنى ثوبا لم يصح
الاستثناء وجه قول أبي حنيفة وأبى يوسف ان الداخل تحت قوله لفلان على عشرة دراهم عشرة موصوفة بأنها واجبة
مطلقا مسماة بالدراهم فإن لم يمكن تحقيق معنى الجانسة في اسم الدراهم أمكن تحقيقا في الوجوب في الذمة على الطلاق
لان الحنطة في احتمال الوجوب في الذمة على الاطلاق من جنس الدراهم ألا ترى أنها تجب دينا موصوفا في الذمة
حالا بالاستقراض والاستهلاك كما تجب سلما وثمنا حالا كالدراهم (فاما) الثوب فلا يحتمل الوجوب في الذمة
على الاطلاق بل سلما أو ثمنا مؤجلا (فاما) ما لا يحتمله استقراضا واستهلاكا وثمنا حالا غير مؤجل فأمكن تحقيق
معنى المجانسة بينهما في وصف الوجوب في الذمة على الاطلاق ان لم يكن في اسم الدراهم فأمكن العمل بالاستثناء في
تحقق معناه وهو البيان من وجه ولا مجانسة بين الثياب والدراهم لا في الاسم ولا في احتمال الوجوب في الذمة على
الاطلاق فانعدم معنى الاستثناء أصلا فهو الفرق والله تعالى أعلم ولو أقر لانسان بدار واستثنى بناءها لنفسه فالاستثناء
باطل لان اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة في اللغة وإنما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى
من جنس المستثنى منه فلم يصح الاستثناء وتكون الدار مع البناء للمقر له لأنه ان لم يكن اسما عاما لكنه يتناول هذه
الاجزاء بطريق التضمن كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة والفص لا لأنه اسم عام بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب
من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمن وكذا من أقر بسيف لغيره كان له النصل والجفن والحمائل لما
قلنا وكذا من أقر بحجلة كان له العيدان والكسوة بخلاف ما إذا استثنى ربع الدار أو ثلثها أو شيئا منها انه يصح
الاستثناء لما بينا ان الدار اسم للعرصة فكان المستثنى من جنس المستثنى منه فصح ولو قال بناء هذه الدار لي والعرصة
لفلان صح لان اسم البناء لا يتناول العرصة إذ هي اسم للبقعة والله سبحانه وتعالى أعلم هذا الذي ذكرنا حكم الاستثناء
إذا ورد على الجملة الملفوظة فاما إذا ورد الاستثناء على الاستثناء فالأصل سفيه ان الاستثناء الداخل على الاستثناء يكون
استثناء من المستثنى منه لان المستثنى منه أقرب المذكور إليه فيصرف الاستثناء الثاني إليه ويجعل الباقي منه مستثنى من
الجملة الملفوظة وعلى هذا إذا ورد الاستثناء على الاستثناء مرة بعد أخرى وان كثر فالأصل فيه أن يصرف كل استثناء
إلى ما يليه لكونه أقرب المذكور إليه فيبدأ من الاستثناء الأخير فيستثنى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي مما يليه ثم
ينظر إلى الباقي هكذا إلى الاستثناء الأول ثم ينظر إلى الباقي منه فيستثنى ذلك من الجملة الملفوظة فما بقي منها فهو القدر
المقر به بيان هذه الجملة إذا قال لفلان على عشرة دراهم الا ثلاثة دراهم الا درهما يكون اقرارا بثمانية دراهم لأنا صرفنا
211

الاستثناء الأخير إلى ما يليه فبقي درهمان يستثنيهما من العشرة فيبقى ثمانية والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى خبرا عن
الملائكة قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين الا آل لوط انا لمنجوهم أجمعين الا امرأته قدرنا انها لمن الغابرين استثنى الله
تبارك وتعالى آل لوط من أهل القرية لا من المجرمين لان حقيقة الاستثناء من الجنس وآل لوط لم يكونوا مجرمين ثم
استثنى امرأته من آله فبقيت في الغابرين ولو قال لفلان على عشرة دراهم الا خمسة دراهم الا ثلاثة دراهم الا درهما
يكون اقرارا بسبعة لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه وهي ثلاثة فبقي درهمان استثناهما من خمسة فبقي ثلاثة
استثناها من الجملة الملفوظة فبقي سبعة وكذلك لو قال لفلان على عشرة دراهم الا سبعة دراهم الا خمسة دراهم الا ثلاثة
دراهم الا درهما يكون اقرارا بستة لما ذكرنا من الأصل وهذا الأصل لا يخطئ في ايراد الاستثناء على الاستثناء وان
كثر هذا إذا كان الأصل متصلا بالجملة المذكورة فاما إذا كان منفصلا عنها بان قال لفلان على عشرة دراهم وسكت
ثم قال الا درهما لا يصح الاستثناء عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم الا ما روى عن عبد الله بن
عباس رضي الله عنهما انه يصح وبه أخذ بعض الناس ووجهه ان الاستثناء بيان لما ذكرنا فيصح متصلا ومنفصلا
كبيان المجمل والتخصيص للعام عندنا وجه قول العامة ان صيغة الاستثناء إذا انفصلت عن الجملة الملفوظة لا تكون
كلام استثناء لغة لان العرب ما تكلمت به أصلا ولو اشتغل به أحد يضحك عليه كمن قال لفلان على كذا ثم قال
بعد شهر إن شاء الله تعالى لا يعد ذلك تعليقا بالمشيئة حتى لا يصح كذا وهذا والرواية عن ابن عباس لا تكاد تصح
بخلاف بيان المجمل والعام لأنهم يتكلمون بذلك مستعمل عندهم متصلا ومنفصلا على ما عرف في أصول الفقه والله
سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا قال أبو حنيفة فيمن قال أنت حر وحر إن شاء الله تعالى انه لا يصح الاستثناء لان
تكرير صيغة التحرير لغو فكان في معنى السكتة ولو قال لفلان على كر حنطة وكر شعير الا كر حنطة وقفيز شعير
لا يصح استثناء كر الحنطة بالاتفاق لانصراف كر الحنطة إلى جنسه فيكون استثناء للكل من الكل فلم يصح وهل
يصح استثناء القفيز من الشعير قال أبو حنيفة رحمه الله لا يصح لأنه لما لم يصح استثناء كر الحنطة فقد لغا فكأنه سكت ثم
استثنى قفيز شعير فلم يصح استثناؤه أصلا والله عز وجل أعلم (وأما) الاستدراك فهو في الأصل لا يخلو من أحد
وجهين اما أن يكون في القدر واما أن يكون في الصفة فإن كان في القدر فهو على ضربين اما أن يكون في الجنس واما أن
يكون في خلاف الجنس فنحو أن يقول لفلان على ألف درهم لا بل ألفان فعليه ألفان استحسانا والقياس أن يكون
عليه ثلاثة آلاف (وجه) القياس ان قوله لفلان على ألف درهم اقرار بألف وقوله لا رجوع وقوله بل استدراك
والرجوع عن الاقرار في حقوق العباد غير صحيح والاستدراك صحيح فأشبه الاستدراك في خلاف الجنس وكما
إذا قال لامرأته أنت طالق واحد لا بل ثنتين أنه يقع ثلاث تطليقات وجه الاستحسان ان الاقرار اخبار والمخبر
عنه مما يجرى الغلط في قدره أو وصفه عادة فتقع الحاجة إلى استدراك الغلط فيه فيقبل إذا لم يكن متهما فيه وهو غير
متهم في الزيادة على المقر به فتقبل منه بخلاف الاستدراك في خلاف الجنس لان الغلط في خلاف الجنس لا يقع
عادة فلا تقع الحاجة إلى استدراكه وبخلاف مسألة الطلاق أن قوله أنت طالق انشاء الطلاق لغة وشرعا والانشاء
لا يحتمل الغلط حتى لو كان اخبارا بان قال لها كنت طلقتك أمس واحدة لا بل اثنتين لا يقع عليها الاطلاقان والله
تعالى أعلم وكذلك إذا قال لفلان على كر حنطة لا بل كران ولو قال لفلان على ألف درهم لا بل ألف درهم فعليه
الفان لأنه متهم في النقصان فلا يصح استدراكه مع ما أن مثل هذا الغلط نادر فلا حاجة إلى استداركه لالتحاقه بالعدم
(وأما) في خلاف الجنس كما لو قال لفلان على ألف درهم لا بل مائة دينار أو لفلان على كر حنطة لا بل كر شعير لزمه الكل
لما بينا أن مثل هذا الغلط لا يقع الا نادرا والنادر ملحق بالعدم هذا إذا وقع الاستدراك في قدر المقر به (فاما) إذا وقع في
صفة المقر به بان قال لفلان على ألف درهم بيض لا بل سود ينظر فيه إلى أرفع الصفتين وعليه ذلك لأنه غير متهم في زيادة
الصفة متهم في النقصان فكان مستدركا في الأول راجعا في الثاني فيصح استدراكه ولا يصح رجوعه كما في الألف
212

والألفين والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا رجع الاستدراك إلى المقر به فاما إذا رجع إلى المقر له بان قال هذه الألف
لفلان لا بل لفلان وادعاها كل واحد منهما يدفع إلى المقر له الأول لأنه لما أقر بها للأول صح اقراره له فصار واجب
الدفع إليه فقوله لا بل لفلان رجوع عن الاقرار الأول فلا يصح رجوعه في حق الأول ويصح اقراره بها للثاني في
حق الثاني ثم إن دفعه إلى الأول بغير قضاء القاضي يضمن للثاني لان اقراره بها للثاني في حق الثاني صحيح ان لم يصح
في حق الأول وإذا صح صار واجب الدفع إليه فإذا دفعها إلى الأول فقد أتلفها عليه فيضمن وان دفعها إلى الأول بقضاء
القاضي لا يضمن لأنه لو ضمن لا يخلو اما أن يضمن بالدفع (واما) أن يضمن بالاقرار لا سبيل إلى الأول لأنه مجبور
في الدفع من جهة القاضي فيكون كالمكره ولا سبيل إلى الثاني لان الاقرار للغير بملك الغير لا يوجب الضمان ولو قال
غصبت هذا العبد من فلان لا بل من فلان يدفع إلى الأول ويضمن للثاني سواء دفع إلى الأول بقضاء أو بغير
قضاء بخلاف المسألة الأولى (ووجه) الفرق أن الغصب سبب لوجوب الضمان فكان الاقرار به اقرارا بوجود
سبب وجوب الضمان وهو رد العين عند القدرة وقيمة العين عند العجز وقد عجز عن رد العين إلى المقر له الثاني فيلزمه رد
قيمته بخلاف المسألة الأولى لان الاقرار بملك الغير للغير ليس بسبب لوجوب الضمان لانعدام الاتلاف وإنما التلف
في تسليم مال الغير إلى الغير باختياره على وجه يعجز عن الوصول إليه فلا جرم إذا وجد يجب الضمان وكذلك لو قال
هذه الألف لفلان أخذتها من فلان أو أقرضنيها فلان وادعاها كل واحد منهما فهي للمقر له الأول ويضمن للذي
أقر أنه أخذ منه أو أقرضه ألفا مثله لان الاخذ والقرض كل واحد منهما سبب لوجوب الضمان فكان الاقرار بهما
اقرارا بوجود سبب وجوب الضمان فيرد الألف القائمة إلى الأول لصحة اقراره بها له ويضمن للثاني ألفا أخرى ضمانا
للاخذ والقرض ولو قال أودعني فلأن هذه الألف لا بل فلان يدفع إلى المقر له الأول لما بينا ثم إن دفع إليه بغير قضاء
القاضي يضمن للثاني بالاجماع وان دفع بقضاء القاضي فعند أبي يوسف لا يضمن وعند محمد يضمن (وجه) قول
محمد رحمه الله ان اقراره بالايداع من الثاني صحيح في حق الثاني فوجب عليه الحفظ بموجب العقد وقد فوته بالاقرار
للأول بل استهلكه فكان مضمونا عليه (وجه) قول أبى يوسف رحمه الله ان فوات الحفظ والهلاك حصل بالدفع
إلى الأول بالاقرار والدفع بقضاء القاضي لا يوجب الضمان لما بينا ولو قال دفع إلى هذه الألف فلان وهي لفلان وادعى
كل واحد منهما انها له فهي للدافع لان اقراره بدفع فلان قد صح فصار واجب الرد عليه وهذا يمنع صحة اقراره للثاني في
حق الأول لكن يصح في حق الثاني ولو قال هذه الألف لفلان دفعها إلى فلان فهي للمقر له بالملك ولا يكون للدافع شئ
فإذا ادعى الثاني ضمن له ألفا أخرى لما بينا ان الاقرار بها للأول يوجب الرد إليه وهذا يمنع صحة اقراره للثاني في حق
الأول لكنه يصح في حق الثاني ثم إن دفعه إلى الأول بغير قضاء القاضي يضمن وان دفعه بقضاء القاضي فكذلك
عند محمد وعند أبي يوسف لا يضمن والحجج من الجانبين على نحو ما ذكرنا ولو قال هذه الألف لفلان ارسل بها إلى فلان
فإنه يردها على الذي أقر انها ملكه وهذا قياس قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى لما قلنا ولا يصح اقراره
للثاني عند أبي حنيفة فرق أبو حنيفة عليه الرحمة بين العين والدين بان قال لفلان على ألف درهم قبضتها من فلان
فادعاها كل واحد منهما أن عليه لكل واحد منهما ألفا (ووجه) الفرق ان المقر به للأول هناك ألف في الذمة فيلزمه ذلك
باقراره له ولزمه ألف أخرى لفلان باقراره بقبضها منه إذا القبض سبب لوجوب المضان فلزمه الفان وههنا المقر به عين
مشار إليها فمتى صح اقراره بها لم يصح للثاني وذكر قول أبى يوسف في الأصل في موضعين أحدهما انه لا ضمان عليه
للثاني بحال بانتهاء الرسالة بالوصول إلى المقر وفى الاخر انه ان دفع بغير قضاء القاضي يضمن فان قال الذي أقر له انها
ملكه ليست الألف لي وادعاها الرسول لان اقراره للأول قد ارتد برده وقد أقر باليد للرسول فيؤمر بالرد إليه ولو كان
الذي أقر له أنها ملكه غائبا وأراد الرسول أن يأخذها وادعاها لنفسه لم يأخذها كذا روى عن أبي يوسف لان رسالته
فقد انتهت بالوصول إلى المقر ولو أقر إلى خياط فقال هذا الثوب أرسله إلى فلان لاقطعه قميصا وهو لفلان فهو للذي
213

أرسله إليه وليس للثاني شئ لأنه أقر باليد للمرسل فصار واجب الرد عليه وهذا يمنع صحة اقراره بالملك الثاني كما إذا قال
دفع إلى هذه الألف فلان وهي لفلان على ما بينا ولو قال الخياط هذا الثوب الذي في يدي لفلان أرسله إلى فلان
وكل واحد منهما يدعيه فهو للذي أقر له أول مرة ولا يضمن للثاني شيئا في قياس قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف
ومحمد يضمن بناء على أن الأجير المشترك لا ضمان عليه فما هلك في يده عنده فأشبه الوديعة وعندهما عليه الضمان فأشبه
الغصب والله سبحانه وتعالى العليم
* (فصل) * (وأما) القرينة المبنية على الاطلاق فهي المعينة لبعض ما يحتمله اللفظ بأن كان اللفظ يحتمل هذا وذاك
قبل وجود القرينة فإذا وجدت القرينة يتعين البعض مراد باللفظ من غير تغيير أصلا ثم ينظر إن كان اللفظ يحتملها
على السواء يصح بيانه متصلا كان أو منفصلا وإن كان لأحدهما ضرب رجحان فإن كان الافهام إليه أسبق عند
الاطلاق من غير قرينة فإن كان منفصلا لا يصح وإن كان متصلا يصح إذا لم يتضمن الرجوع وان تضمن معنى
الرجوع لا يصح الا بتصديق المقر له وهذا النوع من القرينة أيضا يتنوع ثلاثة أنواع نوع يدخل على أصل المقر
به ونوع يدخل على وصف المقر به ونوع يدخل على قدر المقر به (أما) الذي يدخل على أصل المقر به فهو أن يكون
المقر به مجهول الذات بأن قال لفلان على شئ أو حق يصح لان جهالة المقر به لا تمنع صحة الاقرار لان الاقرار اخبار عن
كائن وذلك قد يكون معلوما وقد يكون مجهولا بأن أتلف على آخر شيئا ليس من ذوات الأمثال فوجبت عليه قيمته أو
جرح آخر جراحة ليس لها في الشرع أرش مقدر فأقر بالقيمة والأرض فكان الاقرار بالمجهول اخبارا عن المخبر على
ما هو به وهو حد الصدق بخلاف الشهادة لان جهالة الشهود به تمنع القضاء بالشهادة لتعذر القضاء بالمجهول بخلاف
الاقرار فيصح ويقال له بين لأنه المجمل فكان البيان عليه قال الله تبارك وتعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه
ويصح بيانه متصلا ومنفصلا لأنه بيان محض فلا يشترط فيه الوصل كبيان المجمل والمشترك لكن لا بد وأن يبين شيئا له
قيمة لأنه أقر بما في ذمته وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة ثم إذا بين شيئا له قيمة فالامر لا يخلوا من أحد وجهين اما ان صدقه
في ذلك وادعى عليه زيادة واما ان كذبه وادعى عليه مالا آخر فان صدقه فيما بين وادعى عليه زيادة أخذ ذلك القدر
المبين وأقام البينة على الزيادة والا حلفه عليها ان أراد لأنه منكر للزيادة والقول قول المنكر مع يمينه وان كذبه وادعى
عليه مالا آخر أقام مبينة على مال آخر والا حلفه عليه وليس له أن يأخذ القدر المبين لأنه أبطل اقراره له بالتكذيب
وكذلك إذا أقر انه غصب من فلان شيئا ولم يبين يلزمه البيان لما قلنا ولكن لا بد وأن يبين شيئا يتمانع في العادة ويقصد
بالغصب لان مالا يتمانع عادة ولا يقصد غصبه نحو كف من تراب أو غيره لا يطلق فيه اسم الغصب وهل يشترط مع
ذلك أن لا يكون مالا متقوما اختلف المشايخ فيه قال مشايخ العراق لا يشترط وقال مشايخنا رحمهم الله تعالى يشترط
حتى لو بين انه غصب صبيا حرا أو غصب جلد ميتة أو خمر مسلم يصدق عند الأولين ولا يصدق عند الآخرين حتى
يبين شيئا هو مال متقوم (وجه) قول مشايخ العراق ان الحكم الأصلي للغصب وجوب رد المغصوب وهذا لا يقف على
كون المغصوب مالا متقوما (وجه) قول مشايخنا ان المغصوب مضمون على الغاصب وله ضمانان أحدهما وجوب
رد العين عند القدرة والثاني وجوب قيمتها عند العجز فكان اقراره بغصب شئ اقرارا بغصب ما يحتمل موجبه وهو
المال المتقوم ولو بين غصب العقار ذكر القدوري رحمه الله انه يصدق وهذا على قياس قول مشايخ العراق لان العقار
وان لم يكن مضمون القيمة بالغصب عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله فهو مضمون الرد بالاتفاق وعند محمد
رحمه الله هو مضمون القيمة أيضا فاما على قياس قول مشايخنا على قياس قول محمد يصدق (وأما) على قياس قولهما
لا يصدق لأنه غير مضمون القيمة بالغصب عندهما والله عز وجل أعلم وعلى هذا إذا قال لفلان على مال يصدق في
القليل والكثير لان المال اسم ما يتمول وذا يقع على القليل والكثير فيصح بيانه متصلا ومنفصلا ولو قال لفلان على
الف ولم يبين فالبيان إليه والله تعالى أعلم بالصواب
214

* (فصل) * وأما الذي يدخل على وصف المقر به فهو أن يكون المقر به معلوم الأصل مجهول الوصف نحو أن يقول
غصب من فلان عبدا أو جارية أو ثوبا من العروض فيصدق في البيان من جنس ذلك سليما كان أو معيبا لأن الغصب
يرد على السليم والمعيب عادة وقد بين الأصل وأجمل الوصف فيرجع في بيان الوصف إليه فيح متصلا
ومنفصلا ومتى صح بيانه يلزمه الرد ان قدر عليه وان عجز عنه تلزمه القيمة لان المغصوب مضمون على هذا الوجه
والقول قوله في مقدار قيمته مع يمينه لأنه منكر للزيادة والقول قول المنكر مع اليمين وكذلك لو أقر انه غصب من فلان دارا
وقال هي بالبصرة يصدق لأنه أجمل المكان فكان القول في بيان المكان إليه فيلزمه تسليم الدار ان قدر عليه وان عجز
عنه بان خربت أو قال هي هذه الدار التي في يدي زيد وزيد ينكر فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما
الله تعالى الآخر ولا يضمن وعند محمد يضمن قيمة الدار بناء على أن العقار غير مضمون القيمة بالغصب عندهما خلافا له
فإذا أقر بألف درهم وقال هي زيوف أو نبهرجة فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين اما ان أقر بذلك مطلقا من غير
بيان الجهة واما ان بين الجهة فان أطلق بان قال لفلان على ألف درهم ولم يذكر له جهة أصلا وقال هي زيوف أو نبهرجة
فان وصل يصدق وان فصل لا يصدق لان اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف فكان قوله زيوف بيانا
للنوع الا أنه يصح موصولا لا مفصولا لأنها عند الاطلاق تصرف إلى الجياد فكان فصل البيان رجوعا عما أقر به
فلا يصح ولو قال لفلان عندي ألف درهم وقال هي زيوف أو نبهرجة يصدق وصل أو فصل لان هذا اقرار بالوديعة
والوديعة مال محفوظ عند المودع وقد يكون ذلك جيدا وقد يكون زيوفا على حسب ما يودع فيقبل بيانه هذا إذا
أطلق ولم يبين الجهة أما إذا بين الجهة بان قال لفلان على ألف درهم ثمن مبيع وقال هي زيوف أو نبهرجة فلا يصدق وان
وصل وعليه الجياد إذا ادعى المقر له الجياد عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد ان وصل يصدق وان فصل
لا يصدق (وجه) قولهما ما ذكرنا آنفا ان اسم الدراهم يقع على الزيوف كما يقع على الجياد إذ هو اسم جنس والزيافة
عيب فيها واسم كل جنس يقع على السليم والمعيب من ذلك الجنس لأنه نوع من الجنس لكن عند الاطلاق ينصرف
إلى الجياد فيصح بيانه موصولا لوقوعه تعيينا لبعض ما يحتمله اللفظ ولا يصح مفصولا لكونه رجوعا عن الاقرار
(وجه) قول أبي حنيفة عليه الرحمة أن قوله هي زيوف بعد النسبة إلى ثمن المبيع رجوع عن الاقرار فلا يصح بيانه
أن البيع عقد مبادلة فيقتضى سلامة البدلين لان كل واحد من العاقدين لا يرضى الا بالبدل السليم فكان اقراره يكون
الدراهم ثمنا اقرارا بصفة السلامة فاخباره عن الزيافة يكون رجوعا فلا يصح كما إذا قال بعتك هذا العبد على أنه معيب
لا يصدق وان وصل كذا هذا ولو قال لفلان على ألف درهم قرضا وقال هي زيوف فالجواب فيه كالجواب في البيع ان
وصل يصدق وان فصل لا يصدق بخلاف البيع (وجه) الرواية الأولى أن القرض في الحقيقة مبادلة المال بالمال
كالبيع فكان في استدعاء صفة السلامة كالبيع (وجه) الرواية الأخرى أن القرض يشبه الغصب لأنه يتم بالقبض
كالغصب ثم بيان الزيافة مقبول في الغصب كذا في القرض ويشبه البيع لأنه تمليك مال بمال فلشبهه بالغصب احتمل
البيان في الجملة ولشبهة بالبيع شرطنا الوصل عملا بالشبهين بقدر الامكان ولو قال غصب من فلان ألف درهم وقال
هي زيوف أو نبهرجة يصدق سواء وصل أو فصل وروى عن أبي يوسف أنه لا يصدق إذا فصل والصحيح جواب
ظاهر الرواية لأن الغصب في الأجود لا يستدعى صفة السلامة لأنه كما يرد على السليم يرد على المعيب على حسب
ما يتفق فكان محتملا للبيان متصلا أو منفصلا لانعدام معنى الرجوع فيه ولهذا لو كان المقر به غصب عبد بان قال
غصبت من فلان عبدا ثم قال غصبته وهو معيب يصدق وان فصل كذا هذا ولو قال أودعني فلان ألف درهم وقال
هي زيوف يصدق بلا خلاف فصل أو وصل لان الايداع استحفاظ المال وكما يستحفظ السليم يستحفظ المعيب
فكان الاخبار عن الزيافة بيانا محضا فلا يشترط لصحته الوصل لانعدام تضمن معنى الرجوع وأبو يوسف رحمه الله
على ما روى عنه فرق بين الوديعة وبين الغصب حيث صدقه في الوديعة موصولا كان البيان أو مفصولا ولم يصدقه
215

في الغصب الا موصولا (ووجه) الفرق له أن ضمان الغصب ضمان مبادلة إذ المضمونات تملك عند أداء الضمان فأشبه
ضمان المبيع وهو الثمن وفى باب البيع لا يصدق إذا فصل عنده كذا في الغصب (فاما) الواجب في باب الوديعة فهو
الحفظ والمعيب في احتمال الحفظ كالسليم فهو الفرق والله أعلم بالصواب هذا إذا أقر بالدراهم وقال هي زيوف أو نبهرجة
فاما إذا أقر بها وقال هي ستوقة أو رصاص ففي الوديعة والغصب يصدق ان وصل وان فصل لا يصدق لان الستوق
والرصاص ليسا من جنس الدراهم الا أنه يسمى بها مجازا فكان الاخبار عن ذلك بيانا مغيرا فيصح موصولا لا مفصولا
كالاستثناء (وأما) في البيع إذا قال اتبعت بألف ستوقة أو رصاص فلا يصدق عند أبي حنيفة فصل أو وصل
وهذا لا يشكل عنده لأنه لو قال ابتعت بألف زيوف لا يصدق عنده وصل أو فصل فههنا أولى وعند أبي يوسف
يصدق ولكن يفسد البيع أما التصديق فلان قوله ستوقة أو رصاص خرج بيانا لوصف الثمن فيصح كما إذا قال
بألف بيض أو بألف سود (وأما) فساد البيع فلان تسمية الستوقة في البيع يوجب فساده كتسمية العروض وروى
عن أبي يوسف فيمن قال لفلان على ألف درهم بيض زيوف أو وضح زيوف أنه يصدق إذا وصل ولو قال لفلان على
ألف درهم جياد زيوف أو نقد بيت المال زيوف لا يصدق والفرق ظاهر لان البياض يحتمل الجودة والزيافة إذ
البيض قد تكون جيادا وقد تكون زيوفا فاحتمل البيان بخلاف قوله جياد لان الجودة لا تحتمل الزيافة لتضاد بين
الصفتين فلا يصدق أصلا وعلى هذا إذا أقر بألف ثمن عبد اشتراه لم يقبضه فهذا لا يخلو من أحد وجهين اما ان ذكر
عبدا معينا مشارا إليه بان قال ثمن هذا العبد واما ان ذكر عبدا من غير تعيين بان قال لفلان على ألف درهم ثمن عبد
اشتريته منه ولم اقبضه فان ذكر عبدا بعينه فان صدقه في البيع يقال للمقر له ان شئت أن تأخذ الألف فسلم العبد والا
فلا شئ لك لان المقر به ثمن المبيع وقد ثبت البيع بتصادقهما والبيع يقتضى تسليما بإزاء تسليم وان كذبه في البيع وقال
ما بعت منك شيئا والعبد عبدي ولى عليك ألف درهم بسبب آخر فالعبد للمقر له لأنه يدعى عليه البيع وهو ينكر ولا
شئ له على المقر من الثمن لان المقر به ثمن المبيع لا غيره ولم يثبت البيع فان ذكر عبدا بغير عينه فعليه الألف عند أبي
حنيفة ولا يصدق في عدم القبض سواء وصل أم فصل صدقه المقر له في البيع أو كذبه وكان أبو يوسف أولا يقول إن
وصل يصدق وان فصل لا يصدق ثم رجع وقال يسئل المقر له عن الجهة فان صدقه فيها لكن كذبه في القبض كان
القول قول المقر سواء وصل أو فصل وان كذبه في البيع وادعى عليه ألفا أخرى ان وصل يصدق وان فصل
لا يصدق وهو قول محمد (وجه) قوله الأول ان المقر به ثمن المبيع والمبيع قد يكون مقبوضا وقد لا يكون الا أن الغالب
هو القبض فكان قوله لم أقبضه بيانا فيه معنى التغيير من حيث الظاهر فيصدق بشرط الوصل كالاستثناء (وجه) قوله
الآخر وهو قول محمد ان القبض بعد ثبوت الجهة بتصادقهما يحتمل الوجود والعدم لان القبض لا يلزم في البيع
فكان قوله لم أقبضه تعيينا لبعض ما يحتمله كلامه فكان بيانا محضا فلا يشترط له الوصل لبيان المجمل والمشترك وإذا
كذبه يشترط الوصل لأنه لو اقتصر على قوله لفلان على ألف درهم لوجب عليه التسليم للحال فإذا قال ثمن عبد لم أقبضه
لا يجب عليه التسليم الا بتسليم العبد فكان بيانا فيه معنى التغيير فلا يصح الا بشرط الوصل كالاستثناء (ووجه)
قول أبي حنيفة رحمة الله ان قوله لم أقبضه رجوع عن الاقرار فلا يصح بيانه ان قوله لفلان على ألف درهم اقرار بولاية
المطالبة للمقر له بالألف ولا تثبت ولاية المطالبة الا بقبض المبيع فكان الاقرار به اقرارا بقبض المبيع فقوله لم أقبضه
يكون رجوعا عما أقر به فلا يصح ولو قال لفلان على ألف درهم ثمن خمر أو خنزير فعليه الف ولا يقبل تفسيره عند أبي
حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يلزمه شئ (وجه) قولهما ان المقر به مما لا يحتمل الوجوب في ذمة المسلم لأنه ثمن
خمر أو خنزير وذمة المسلم لا تحتمله فلا يصح اقراره أصلا (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان قوله لفلان على ألف درهم
اقرار بألف واجب في ذمته وقوله ثمن خمر أو خنزير ابطال لما أقر به ذمة المسلم لا تحتمل ثمن الخمر والخنزير فكان
رجوعا فلا يصح ولو قال اشتريت من فلان عبدا بألف درهم لكني لم أقبضه يصدق وصل أو فصل لأن الشراء قد
216

يتصل به القبض وقد لا يتصل فكان قوله لم أقبض بيانا محضا فيصح متصلا أو منفصلا ولو قال أقرضني فلان ألف
درهم ولم أقبض إنما طلبت إليه القبض فأقرضني ولم أقبض ان وصل يصدق وان فصل لا يصدق وهذا استحسان
والقياس أن يصدق وصل أو فصل (وجه) القياس ان المقر به هو القرض وهو اسم للعقد لا للقبض فلا يكون
الاقرار به اقرارا بالقبض كما لا يكون الاقرار بالبيع اقرار بالقبض (وجه) الاستحسان ان تمام القرض بالقبض كما أن
تمام الايجاب بالقبول فكان الاقرار به اقرارا بالقبض ظاهرا لكن يحتمل الانفصال في الحكم فكان قوله لم أقبض بيانا
معنى فلا يصح الا بشرط الوصل كالاستثناء والاستدراك وكذاك لو قال أعطيتني ألف درهم أو أودعتني أو أسلفتني
أو أسلمت إلى وقال ألم قبض لا يصدق ان فصل وان وصل يصدق لان الاعطاء والايداع والاسلاف يستدعى
القبض حقيقة خصوصا عند الإضافة فلا يصح منفصلا لكن يحتمل العدم في الجملة فيصح متصلا ولو قال بعتني
دارك أو آجرتني أو أعرتني أو وهبتني أو تصدقت على وقال لم أقبض يصدق وصل أم فصل أما البيع والإجارة
والإعارة لان القبض ليس بشرط لصحة هذه التصرفات فلا يكون الاقرار بها اقرارا بالقبض وأما الهبة والصدقة فلان
الهبة اسم للركن وهو التمليك وكذلك الصدقة وإنما القبض فيهما شرط الحكم ولهذا لو حلف لا يهب ولا يتصدق ففعل
ولم يقبض الموهوب له والمتصدق عليه يحنث ولو قال نقدتني ألف درهم أو دفعت إلى ألف درهم وقال لم أقبض ان فصل
لا يصدق بالاجماع وان وصل لا يصدق عند أبي يوسف وعند محمد يصدق وجه قوله إن النقد والدفع يقتضى القبض
حقيقة بمنزلة الأداء والتسليم والاعطاء والاسلام ويحتمل الانفصال في الجملة فيصح بشريطة الوصل كما في هذه
الأشياء (وجه) قول أبى يوسف ان القبض من لوازم هذين الفعلين أعنى النقد والدفع خصوصا عند صريح الإضافة
والاقرار بأحد المتلازمين اقرار بالآخر فقوله لم أقبض يكون رجوعا عما أقر به فلا يصح وعلى هذا إذا قال لرجل
أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت عندي فقال الرجل لا بل أخذتها غصبا لا يصدق فيه المقر والقول قول المقر له
مع يمينه والمقر ضامن ولو قال المقر له لا بل أقرضتك فالقول قول المقر مع يمينه (ووجه) الفرق ان أخذ مال الغير سبب
لوجوب الضمان في الأصل لقول النبي عليه الصلاة والسلام على اليد ما أخذت حتى ترد فكان الاقرار بالاخذ اقرارا
بسبب الوجوب فدعوى الاذن تكون دعوى البراءة عن الضمان وصاحبه ينكر فكان القول قوله مع يمينه بخلاف
قوله أقرضتك لان اقراره بالقبض اقرار بالاخذ بالاذن فتصادقا على أن الاخذ كان يأذن والاخذ باذن لا يكون سببا
لوجوب الضمان في الأصل فكان دعوى الاقراض دعوى الاخذ بجهة الضمان فلا يصدق الا ببينة ولو قال أودعتني
ألف درهم أو دفعت إلى ألف درهم وديعة أو أعطيتني ألف درهم وديعة فهلكت عندي وقال المقر له لا بل غصبتها
منى كان القول قول المقر مع يمينه لأنه ما أقر بسبب وجوب الضمان إذ المقر به هو الايداع والاعطاء وانهما ليسا
من سباب الضمان ولو قال له أعرتني ثوبك أو دابتك فهلكت عندي وقال المقر له غصبت منى نظر في ذلك ان هلك
قبل اللبس أو الركوب فلا ضمان عليه لان المقر به الإعارة وانها ليست بسبب لوجوب الضمان وان هلك بعد
اللبس والركوب فعليه الضمان لان لبس ثوب الغير وركوب دابة الغير سبب لوجوب الضمان في الأصل فكان
دعوى الاذن دعوى البراءة عن الضمان فلا يثبت الا بحجة وكذلك إذا قال له دفعت إلى ألف درهم مضاربة
فهلكت عندي فقال المقر له بل غصبتها منى انه هلك قبل التصرف فلا ضمان عليه وان هلك بعده يضمن لما قلنا
في الإعارة ولو أقر بألف درهم مؤجلة بأن قال لفلان على ألف درهم إلى شهر وقال المقر له لا بل هي حالة فالقول قول المقر
له لان هذا الاقرار على نفسه ودعوى الأجل على الغير فاقراره مقبول ولا تقبل دعواه الا بحجة ويحلف المقر له على
الأجل لأنه منكر للأجل والقول قول المنكر مع اليمين وهذا بخلاف ما إذا أقر وقال كفلت لفلان بعشرة دراهم إلى شهر
وقال المقر له لا بل كفلت بها حالة ان القول قول المقر عند أبي حنيفة ومحمد لأن الظاهر شاهد للمقر لان الكفالة تكون
مؤجلة عادة بخلاف الدين والله تعالى أعلم وعلى هذا إذا أقر انه اقتضى من فلان ألف درهم كانت له عليه وأنكر المقر
217

له أن يكون له عليه شئ وقال هو مالي قبضته منى فالقول قوله مع يمينه ويؤمر بالرد إليه لان الاقرار بالاقتضاء اقرار
بالقبض والقبص سبب لوجوب الضمان في الأصل بالنص فكان الاقرار بالقبض اقرارا بوجود سبب وجوب
الضمان منه فهو بدعوة القبض بجهة الاقتضاء يدعى براءته عن الضمان وصاحبه ينكر فيكون القول قوله مع يمنيه وكذلك
إذا أقر انه قبض منه ألف درهم كانت عنده وديعة وأنكر المقر له فالقول قول المقر له لما قلنا ولو قال أسكنت فلانا بيتي
ثم أخرجته وادعى الساكن انه له فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد القول قال الساكن مع يمينه
ولو قال أعرته دابتي ثم أخذتها منه وقال صاحبه هي لي فهو على هذا الاختلاف (وجه) قولهما ان قوله أسكنته داري
ثم أخرجته وأعرته دابتي ثم أخذتها منه اقرار منه باليد لهما ثم الاخذ منهما فيؤمر بالرد عليهما لقوله عليه الصلاة والسلام
على اليد ما أخذت حتى ترد ولهذا لوغا يباه سكن الدار فزعم المقر انه أعارهما (1) منه لم يقبل قوله فكذا إذا أقر وجه قول أبي حنيفة
ان المقر به ليس هو اليد المطلقة بل اليد بجهة الإعارة والسكنى وهذا لان اليد لهما ما عرفت الا باقراره فبقيت
على الوجه الذي أقر به فيرجع في بيان كيفية اليد إليه ولو أقر فقال إن فلانا الخياط خاط قميصي بدرهم وقبضت منه
القميص وادعى الخياط انه له فهو على هذا الاختلاف الذي ذكرنا ولو قال خاط لي هذا القميص ولم يقل قبضه منه لم
يؤمر بالرد عليه بالاجماع لأنه إذا لم يقل قبضه منه لم يوجد منه الاقرار باليد للخياط لجواز انه خاطه في بيته فلم تثبت يده
عليه فلا يجبر على الرد هذا إذا لم يكن الدار والثوب معروفا له فإن كان معروفا للمقر فالقول قوله بالاجماع لأنه إذا لم يكن
معروفا له كان قول صاحبه هو لي منه دعوى التملك فلا تسمع منه الا ببينة ولو أقر ان فلانا ساكن في هذا البيت والبيت
لي وادعى ذلك الرجل البيت فهو له وعلى المقر البينة لان الاقرار بالسكنى اقرار باليد فصار هو صاحب يد فلا يثبت
الملك للمدعى الا ببينة ولو أقر ان فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذا الدار أو غرس هذا الكرم وذلك في يدي
المقر وادعى المقر له انه له فالقول قول المقر لان الاقرار بالزرع والغرس والبناء لا يكون اقرار باليد لجواز وجودها في يد
الغير فلا يؤمر بالرد إليه والله تعالى أعلم وعلى هذا ان من أعتق عبده ثم أقر المولى انه أخذ منه هذا الشئ في حال الرق
وهو قائم بعينه وقال العبد لا بل أخذته بعد العتق فالقول قول العبد ويؤمر بالرد إليه بالاجماع لان قول العبد يقتضى
وجوب الرد وقول المولى لا ينفى الوجوب بل يقتضيه لان الاخذ في الأصل سبب لوجوب ضمان الرد والإضافة إلى
حال الرق لا تنفى الوجوب فان المولى إذا أخذ كسب عبده المأذون المديون يلزمه إليه ولو أقر بالاتلاف بان قال
أتلفت عليك مالا وأنت عبدي وقال العبد لا بل أتلفته وأنا حر فالقول قول العبد عند أبي حنيفة وأبى يوسف وعند محمد
القول قول المولى وعلى هذا الاختلاف إذا قال المولى قطعت يدك قبل العتق وقال العبد لا بل قطعتها بعد العتق ولو تنازعا
في الضريبة فقال المولى أخذت منك ضريبة كل شهر كذا وهي ضريبة مثله وقال العبد لا بل كان بعد العتق فالقول
قول المولى بالاتفاق وكذلك لو ادعى المولى وطئ الأمة قبل العتق وادعت الأمة بعد العتق فالقول قول المولى بالاجماع
(وجه) قول محمد وزفر رحمهم الله ان المولى ينكر وجوب الضمان فكان القول قوله وهذا لأنه أضاف الضمان إلى حال
الرق حيث قال أتلفت وهو رقيق والرق ينافي الضمان إذ المولى لا يجب عليه لعبده ضمان فكان منكرا وجوب الضمان
والعبد بقوله أتلفت بعد العتق يدعى وجوب الضمان عليه وهو ينكر فكان القول قوله ولهذا كان القول قوله في الغلة
والوطء كذا هذا (وجه) قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ان اعتبار قول العبد يوجب الضمان على المولى
لان اتلاف مال الحر يوجب الضمان واعتبار قول المولى لا ينفى الوجوب لأنه أقر بالاخذ والاخذ في الأصل سبب
لوجوب الضمان والاكافة إلى حال الرق لا تنفى الوجوب فان اتلاف كسب العبد المأذون المديون دينا مستغرقا
للرقبة والكسب موجب للضمان فإذا وجد الموجب وانعدم المانع بقي خبره واجب القبول بخلاف الوطئ والغلة لان
وطئ الرقيقة لا يوجب الضمان أصلا وكذلك أخذ ضريبة العبد وهي الغلة لا يوجب الضمان على المولى فان المولى إذا
أخذ ضريبة العبد وعليه دين مستغرق ليس للغرماء حق الاسترداد على ما مر في كتاب المأذون فكان المولى بقوله كان
218

قبل العتق منكرا وجوب الضمان فكان القول قوله مع ما ان الظاهر شاهد للمولى لان الأصل في الوطئ ان لا يكون
سببا لوجوب الضمان لأنه اتلاف منافع البضع والأصل في المنافع ان لا تكون مضمونة بالاتلاف فترجح خبر المولى
بشهادة الأصل له فكان أولى بالقبول كما في الاخبار عن طهارة الماء ونجاسته فاما الأصل في أخذ المال أن يكون سببا
لوجوب الضمان فكان الظاهر شاهدا للعبد وكذلك الغلة لأنها بدل المنفعة والمنافع في الأصل غير مضمونة والله
سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا إذا استأمن الحربي أو صار ذمة فقال له رجل مسلم أخذت منك ألف درهم وأنت
حربي في دار الحرب فقال له المقر لا بل أخذته وأنا مستأمن أو ذمي في دار الاسلام والألف قائمة بعينها فالقول قول المقر
له ويؤمر بالرد إليه بالاجماع ولو قال أخذت منك ألفا فاستهلكتها وأنت حربي في دار الحرب أو قال قطعت يدك وقال
المقر له لا بل فعلت وأنا مستأمن أو ذمي في دار الاسلام فالقول قول المقر له ويضمن له المقر ما قطع وأتلف عند أبي
حنيفة وأبى يوسف وعند محمد وزفر رحمهم الله لا يضمن شيئا (وجه) قول محمد وزفر ان المولى منكر وجوب
الضمان لإضافة الفعل إلى حالة منافية للوجوب وهي حالة الحراب والقول قول المنكر (وجه) قول أبي حنيفة وأبى
يوسف ان الظاهر شاهد للعبد إذ العصمة أصل في النفوس والسقوط بعارض المسقط فالقول قول من يشهد له
الأصل وعلى هذا إذا قال لفلان على ألف درهم ولم يذكر الوزن يلزمه الألف وزنا لا عددا لان الدراهم في الأصل موزونة
الا إذا كان الاقرار في بلدة دراهمها عددية فينصرف إلى العدد المتعارف وكذلك إذا ذكر العدد بان قال لفلان على ألف درهم
عددا يلزمه ألف درهم وزنا ويلغو ذكر العدد ويقع على ما يتعارفه أهل البلد من الوزن وهي في ديارنا وخراسان
والعراق وزن سبعة وهو الذي يكون كل عشرة منها سبعة مثاقيل فإن كان الاقرار في هذه البلاد يلزمه بهذا الوزن وإن كان
الاقرار في بلد يتعاملون فيه بدراهم وزنها ينقص عن وزن سبعة مثاقيل يقع اقراره على ذلك الوزن لانصراف
مطلق الكلام إلى المتعارف حتى لو ادعى وزنا أقل من وزن بلده يصدق لأنه يكون رجوعا ولو كان في البلد أوزان مختلفة
يعتبر فيه الغالب كما في نقد البلد فان استوت يحمل على الأقل منها لان الأقل متيقن به والزيادة مشكوك فيها والوجوب
في الذمة أو لم يكن والوجوب في أقله لم يكن فمتى وقع الشك في ثبوته فلا يثبت مع الشك ولو سمى زيادة على وزن البلد أو
أنقص منه بان قال لفلان على ألف درهم وزن خمسة إن كان موصولا يقبل والا فلا لان اسم الدراهم يحتمله لكنه
خلاف الظاهر فاحتمل البيان الموصول ولا يصدق إذا فصل لانصراف الافهام عند الاطلاق إلى وزن البلد فكان
الاخبار عن غيره رجوعا فلا يصح وكذلك إذا قال لفلان على ألف درهم مثاقيل يلزمه ذلك لأنه زاد على الوزن
المعروف وهو غير متهم في الاقرار على نفسه بالزيادة فيقبل منه ولو أقر وهو ببغداد فقال لفلان على ألف درهم طبرية
يلزمه ألف درهم طبرية لكن بوزن سبعة لان قوله طبرية خرج وصفا للدراهم أي دراهم منسوبة إلى طبرستان
فلا يوجب تغيير وزن البلد وكذلك إذا قال لفلان على كر حنطة موصلية والمقر ببغداد يلزمه كر حنطة موصلية لكن
بكيل بغداد لما قلنا ولو قال لفلان على دينار شامي أو كوفي فعليه ان يعطيه دينارا واحدا وزنه مثقال ولا يجوز ان يعطيه
دينارين وزنهما جميعا مثقال بخلاف الدراهم انه إذا أعطاه درهمين صغيرين مكان درهم واحد كبير انه يجبر على
القبول كذا ذكر في الكتاب وكان في عرفهم ان الدينار إذا كان ناقص الوزن يكون ناقص القيمة فكان نقصان
الوزن فيه وضيعة كذلك اعتبر الوزن والعدد جميعا وفى الدراهم بخلاف فاما في عرف ديارنا فالعبرة للوزن
فسواء أعطاه دينارا واحدا أو دينارين يجبر على القبول بعد أن يكون وزنهما مثقالا وكذلك لو قال لفلان على
قفير حنطة فهو بقفيز البلد وكذلك الأوقار والأمنان لما قلنا في الدراهم والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الذي يدخل
على قدر المقر به فهو أن يكون المقر به مجهول القدر وانه في الأصل لا يخلو من حد وجهين اما ان يذكر عددا واحدا
واما ان يجمع بين عددين فالأول نحو أن يقول لفلان على دارهم أو دنانير لا يصدق في أقل من ثلاثة لان الثلاثة
أقل الجمع الصحيح فكان ثابتا بيقين وفى الزيادة عليها شك وحكم الاقرار لا يلزم بالشك ولو قال لفلان على دريهم
219

أو دنينير فعليه درهم تام ودينار كامل لان التصغير له قد يذكر لصغر الحجم وقد يذكر لاستحقار الدرهم واستقلاله
وقد يذكر لنقصان الوزن فلا ينقص عن الوزن بالشك وروى عن أبي يوسف فيمن قال لفلان على شئ من
دراهم أو شئ من الدراهم ان عليه ثلاثة دراهم لأنه أجمل الشئ وفسره بدراهم أي الشئ الذي هو دراهم كما في قوله
تبارك وتعالى فاجتنبوا قول الرجس من الأوثان أي الرجس التي هي أوثان والله سبحانه وتعالى أعلم ولو قال لفلان
على دراهم مضاعفة لا يصدق في أقل من ستة لان أقل الجمع الصحيح للدراهم ثلاثة وأقل التضعيف مرة واحدة
فإذا ضعفنا الثلاثة مرة تصير ستة ولو قال لفلان على دراهم اضعافا مضاعفة لا يصدق في أقل من ثمانية عشر لما بينا
ان الدراهم المضاعفة ستة وأقل اضعاف الستة ثلاث مرات فذلك ثمانية عشر ولو قال لفلان على عشرة دراهم
واضعافها مضاعفة لا يصدق في أقل من ثمانين لأنه ذكر عشرة دراهم وضاعف عليها اضعافها مضاعفة وأقل اضعاف
العشرة ثلاثون فذلك أربعون وأقل تضعيف الأربعين مرة فذلك ثمانون وروى عن محمد فيمن قال لفلان على غير
الف ان عليه الفين ولو قال غير الفين عليه أربعة آلاف لان غير من أسماء الإضافة فيقتضى ما يغايره لاستحالة مغايرة
الشئ نفسه فاقتضى ألفا تغاير الألف الذي عليه فصار معناه لفلان على غير الف أي غير هذا الألف الف آخر فكان
اقرارا بألفين وكذا هذا الاعتبار في قوله غير الفين ويحتمل أن يكون قوله غير الف أي مثل الف لان المغايرة من لوازم
المماثلة لاستحالة كون الشئ مماثلا لنفسه ولهذا قيل في حدها غير أن ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد
مسده والملازمة بين شيئين طريق الكتابة فصحت الكتابة عن المماثلة بالمغايرة فإذا قال لفلان على غير ألف درهم
فكأنه قال مثل الف ومثل الألف الف مثله فكان اقرارا بألفين وكذا هذا الاعتبار في قوله غير الفين ولو قال
على زهاء الف أو عظم الف أوجل الف فعليه خمسمائة وشئ لأن هذه عبارات عن أكثر هذا القدر في العرف
وكذا إذا قال قريب من الف لان خمسمائة وشيئا أقرب إلى الألف من خمسمائة ولو قال لفلان على دراهم كثيرة لا
يصدق في أقل من عشرة دراهم عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله لا يصدق في أقل من مائتي درهم
(وجه) قولهما ان المقر به دراهم كثيرة وما دون المائتين في حد القلة ولهذا لم يعتبر ما دونه نصاب الزكاة (وجه)
قول أبي حنيفة رضي الله عنه انه جعل الكثرة صفة للدراهم وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم العشرة ألا ترى انه إذا زاد
على العشرة يقال أحد عشر درهما واثنى عشر درهما هكذا ولا يقال دراهم فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم
الدراهم فلا تلزمه الزيادة عليها ولو قال لفلان على مال عظيم أو كثير لا يصدق في أقل من مائتي درهم في المشهور
وروى عن أبي حنيفة رحمه الله ان عليه عشرة (وجه) ما روى عنه انه وصف المال بالعظم والعشرة لها عظم في
الشرع ألا ترى انه علق قطع اليد بها في باب السرقة وقدر بها بدل البضع وهو المهر في باب النكاح (وجه) القول
المشهور ان العشرة لا تستعظم في العرف وإنما يستعظم النصاب ولهذا استعظمه الشرع حيث علق وجوب المعظم
وهو الزكاة به فكان هذا أقل ما استعظمه الشرع عرفا فلا يصدق في أقل من ذلك وقيل إن كان الرجل غنيا
يقع على ما يستعظم عند الأغنياء وإن كان فقيرا يقع على ما يستعظم عند الفقراء ولو قال على أموال عظام فعليه
ستمائة درهم لان عظام جمع عظيم وأقل الجمع الصحيح ثلاثة وهذا على المشهور من الروايات فاما على ما روى عن
أبي حنيفة رضي الله عنه فيقع على ثلاثين درهما ولو قال غصبت فلانا إبلا كثيرة فهو على خمس وعشرين لأنه وصف
بالكثرة ولا تكثر الا إذا بلغت نصابا تجب الزكاة فيها في جنسها وأقل ذلك خمس وعشرون ولو قال لفلان على حنطة
كثيرة فعند أبي حنيفة رحمه الله البيان إليه وعندهما لا يصدق في أقل من خمسة أو سق بناء على أن النصاب في باب
العشر ليس بشرط عند أبي حنيفة وعندهما شرط ولو قال لفلان على ما بين مائة إلى مائتين أو من مائة إلى مائتين
فعليه مائة وتسعة وتسعون عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد عليه مائتان وعند زفر عليه تسعة وتسعون
وكذلك إذا قال لفلان على ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة فعليه تسعة دراهم عند أبي حنيفة وعندهما
220

عليه عشرة وعند زفر عليه ثمانية ولو قال ما بين هذين الحائطين لفلان لم يدخل الحائطان في اقراره بالاجماع وكذلك
لو وضع بين يديه عشرة مرتبة فقال ما بين هذا الدرهم إلى هذا الدرهم وأشار إلى الدرهمين لفلان لم يدخل الدرهمان
تحت اقراره بالاتفاق والأصل فيه ان الغايتان لا يدخلان وعندهما يدخلان وعند أبي حنيفة يدخل الأول دون
الآخر وجه قول زفر ان المقر به ما ضربت به الغاية لا الغاية فلا تدخل الغاية تحت ما ضربت له الغاية وهنا لم يدخل
في باب البيع (وجه) قولهما انه لما جعلهما غايتين فلا بد من وجودهما ومن ضرورة وجودهما لزومهما (وجه)
قول أبي حنيفة الرجوع إلى العرف والعادة فان من تكلم بمثل هذا الكلام يريد به دخول الغاية الأولى دون الثانية
ألا ترى انه إذا قيل سن فلان ما بين تسعين إلى مائة لا يراد به دخول المائة كذا ههنا ولو قال لفلان على ما بين كر شعير
إلى كر حنطة فعليه كر شعير وكر حنطة الا قفيزا على قياس قول أبي حنيفة وعندهما عليه كران ولو قال لفلان على من
درهم إلى عشرة دنانير أو من دينار إلى عشرة دراهم فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه أربعة دنانير وخمسة دراهم تجعل الغاية
الأخيرة من أفضلهما وعندهما عليه خمسة دنانير وخمسة دراهم وعند زفر عليه من كل جنس أربعة ولو قال له على من
عشرة دراهم إلى عشرة دنانير عليه عشرة دراهم وتسعة دنانير عند أبي حنيفة رحمه الله وكذلك لو قال له على من عشرة
دنانير إلى عشرة دراهم قدم أو أخر وعندهما عليه الكل وكذلك هذا الاختلاف في الوصية والطلاق ولو قال لفلان
على خمسة دراهم في خمسة دراهم ونوى الضرب والحساب فعليه خمسة وقال زفر عليه خمسة وعشرون (وجه) قوله إن
خمسة في خمسة على طريق الضرب والحساب خمسة وعشرون فيلزمه ذلك (ولنا) ان الشئ لا يتكثر في نفسه
بالضرب وإنما يتكثر باجزائه فخمسة في خمسة له خمسة أجزاء فيلزمه ذلك بالاقرار وان نوى به خمسة مع خمسة فعليه
عشرة لان في تحتمل مع لمناسبة بينهما في معنى الاتصال ولو أقر بتمر في قوصرة فعليه التمر والقوصرة جميعا وكذلك
إذا قال غصبت من فلان ثوبا في منديل يلزمه الثوب والمنديل وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله لا يلزمه الظرف
ولو أقر بدابة في اصطبل لا يلزمه الإصطبل بالاجماع (وجه) قول الشافعي رحمه الله ان الداخل تحت الاقرار التمر
والثوب لا القوصرة والمنديل لما ذكرنا ان ذلك ظرفا فالاقرار بشئ في ظرفه لا يكون اقرارا به وبظرفه كالاقرار
بدابة في الإصطبل وبنخلة في البستان انه لا يكون اقرارا بالإصطبل والبستان (ولنا) أن الاقرار بالتمر في قوصرة اقرار
بوجود سبب وجوب الضمان فهما وكذلك الاقرار بغصب الثوب في منديل لان الثوب يغصب مع المنديل
الملفوف فيه عادة وكذلك التمر مع القوصرة واما غصب الدابة مع الإصطبل فغير معتاد مع ما ان العقار لا يحتمل الغصب
عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ولو قال لفلان على ثوب في ثوب فعليه ثوبان لما قلنا ولو قال ثوب في عشرة
أثواب فليس عليه الا ثوب واحد عند أبي يوسف وعند محمد رحمة الله عليه أحد عشرة ثوبا (وجه) قول محمد رحمه الله
انه جعل عشرة أثواب ظرفا لثوب واحد وذلك محتمل بأن يكون في وسط العشرة فأشبه الاقرار بثوب في منديل أو
في ثوب (وجه) قول أبى يوسف ان ما ذكره محمد ممكن لكنه غير معتاد ومطلق الكلام للمعتاد هذا إذا ذكر عددا
واحدا مجملا فان ذكر عددا واحدا معلوما لكن أضافه إلى صنفين بان قال لفلان على مائتا مثقال ذهب وفضة أو كرا
حنطة وشعير فله من كل واحد منهما النصف وكذلك لو سمى أجناسا ثلاثة فعليه من كل واحد الثلث وكذلك لو
تزوج على ذلك لأنه ذكر عددا واحدا وأضافه إلى عددين من غير بيان حصة كل واحد منهما فتكون حصة كل
واحد منهما على السواء كما إذا أضافه إلى شخص واحد بان أقر بمائتي درهم لرجلين فان لكل واحد منهما النصف كذا
هذا ولو قال استودعني ثلاثة أثواب زطي ويهودي فالقول قول المقر ان شاء جعل زطيين ويهوديا وان شاء جعل
يهوديين وزطيا لأنه جعل الأثواب من جنس الزطي واليهودي فيكون زطي ويهودي مرادا بيقين فكان
البيان في الآخر إليه لتعذر اعتبار المساواة فيه ولو قال استودعني عشرة أثواب هروية ومروية كان من كل صنف
النصف لان اعتبار المساواة ههنا ممكن وأما إذا جمع بين عددين فلا يخلو اما أن جمع بين عددين مجملين واما ان أجمل
221

أحدهما وبين الآخر فان جمع بين عددين مجملين بان قال لفلان على كذا كذا درهما لا يصدق في أقل من أحد عشر
درهما لأنه جمع بين عددين مبهمين وجعلهما اسما واحدا من غير حرف الجمع وذلك يحتمل أحد عشر واثنى عشر هكذا
إلى تسعة عشر الا ان أقل عدد يعبر عنه بهذه الصيغة أحد عشر فيحمل عليه لكونه متيقنا به ويلزمه أحد عشر درهما
لأنه فسر هذا العدد بالدراهم لا بغيرها ولو قال لفلان على كذا وكذا درهما لا يصدق في أقل من احدى وعشرين درهما
لأنه جمع بين عددين مبهمين بحرف الجمع وجعلهما اسما واحدا وأقل ذلك احدى وعشرون وأما إذا أجمل أحدهما
وبين الآخر فنحو أن يقول لفلان على عشرة دراهم ونيف فعليه عشرة والقول قوله في النيف من درهم أو أكثر أو
أقل لأنه عبارة عن مطلق الزيادة ولو قال لفلان على بضع وخمسون درهما لا يصدق في بيان البضع في أقل من ثلاثة
دراهم لان البضع في اللغة اسم لقطعة من العدد وفى عرف اللغة يستعمل في الثلاثة إلى التسعة فيحمل على أقل المتعارف
لأنه متيقن به ولو قال لفلان على عشرة دراهم ودانق أو قيراط فالدانق والقيراط من الدراهم لأنه عبارة عن جزء من
الدراهم كأنه قال لفلان على عشرة وسدس ولو قال لفلان على مائة ودرهم فالمائة دراهم ولو قال مائة ودينار فالمائة
دنانير ويكون المعطوف عليه من جنس المعطوف وهذا استحسان والقياس ان يلزمه درهم والقول قوله في المائة
(وجه) القياس انه أبهم المائة وعطف الدرهم عليها فيعتبر تصرفه على حسب ما أوقعه فيلزمه درهم والقول في المبهم قوله
(وجه) الاستحسان ان قوله لفلان على مائة ودرهم أي مائة درهم ودرهم هذا معنى هذا في عرف الناس الا انه حذف
الدرهم طلبا للاختصار على ما عليه عادة العرب من الاضمار والحذف في الكلام وكذلك لو قال لفلان على مائة وشاة
فالمائة من الشياه عليه تعرف الناس ولو قال لفلان على مائة وثوب فعليه ثوب والقول في المائة قوله لان مثل هذا لا
يستعمل في بيان كون المعطوف عليه من جنس المعطوف فبقيت المائة مجملة فكان البيان فيما أجمل عليه وكذلك إذا
قال مائة وثوبان ولو قال مائة وثلاثة أثواب فالكل ثياب لان قوله مائة وثلاثة كل واحد منهما مجمل وقوله أثواب
يصلح تفسيرا لهما فجعل تفسيرا لهما وكذلك روى عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لفلان على عشرة وعبد ان
عليه عبد والبيان في العشرة إليه والله سبحانه وتعال أعلم وكذلك إذا قال لفلان على عشرة ووصيفة ان عليه وصيفة
والبيان في العشرة إليه ولو أقر بألف في مجلس ثم أقر له بألف أخرى نظر في ذلك فان أقر له في مجلس آخر فعليه
ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد عليه الف واحدة وهو احدى الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله عنه
أيضا وان أقر له في مجلس واحد فعندهما لا يشكل ان عليه ألفا واحدا وأما عند أبي حنيفة ذكر عن الكرخي
ان عليه ألفين وذكر الطحاوي ان عليه ألفا واحدا وهو الصحيح (وجه) قول أبى يوسف ومحمد ان العادة
بين الناس بتكرار الاقرار بمال واحد في مجلسين مختلفين لتكثير الشهود كما جرت العادة بذلك في مجلس واحد ليفهم
الشهود فلا يحمل على إنشاء الاقرار مع الشك (وجه) قول أبي حنيفة ان الألف المذكور في الاقرار الثاني غير
الألف المذكور في الاقرار الأول لأنه ذكر كل واحد من الألفين منكرا والأصل ان النكرة إذا كررت يراد بالثاني
غير الأول قال الله تبارك وتعالى ان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا حتى قال ابن عباس رضي الله عنه لن يغلب
عسر يسرين الا انا تركنا هذا الأصل في المجلس الواحد للعادة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط الركن فأنواع لكن بعضها يعم الأقارير كلها وبعضها يخص البعض دون البعض اما
الشرائط العامة فأنواع منها العقل فلا يصح اقرار المجنون والصبي الذي لا يعقل فاما البلوغ فليس بشرط فيصح
اقرار الصبي العاقل بالدين والعين لان ذلك من ضرورات التجارة على ما ذكرنا في كتاب المأذون الا انه لا يصح اقرار
المحجور لأنه من التصرفات الضارة المحضة من حيث الظاهر والقبول من المأذون للضرورة ولم يوجد وأما الحرية
فليست بشرط لصحة الاقرار فيصح اقرار العبد المأذون بالدين والعين لما بينا في كتاب المأذون وكذا بالحدود
والقصاص وكذا العبد المحجور يصح اقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف
222

المأذون لان اقرار المأذون إنما صح لكونه من ضرورات التجارة على ما ذكر في كتاب المأذون والمحجور لا يملك
التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها الا انه يصح اقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد الحرية لأنه من أهل الاقرار
لوجود العقل والبلوغ الا انه امتنع النفاذ على المولى للحال لحقه فإذا عتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح اقراره
بالحدود والقصاص فيؤاخذ به للحال لان نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج عن ملك المولى ولهذا لو أقر
المولى عليه بالحدود والقصاص لا يصح وكذلك الصحة ليست بشرط لصحة الاقرار والمرض ليس بمانع حتى
يصح اقرار المريض في الجملة لان صحة اقرار الصحيح برجحان جانب الصدق على جانب الكذب وحال المريض
أدل على الصدق فكان اقراره أولى بالقبول على ما نذكره في موضعه وكذلك الاسلام ليس بشرط لصحة الاقرار
لأنه في الاقرار على نفسه غير متهم ومنها ان لا يكون متهما في اقراره لان التهمة تخل برجحان الصدق على جانب
الكذب في اقراره لان اقرار الانسان على نفسه شهادة قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء
لله ولو على أنفسكم والشهادة على نفسه اقرار دل ان الاقرار شهادة وانها ترد بالتهمة وفروع هذه المسائل تأتى في خلال
المسائل إن شاء الله تعالى ومنها الطوع حتى لا يصح اقرار المكره لما ذكرنا في كتاب الاكراه ومنها أن يكون المقر
معلوما حتى لو قال رجلا لفلان على واحد منا ألف درهم لا يصح لأنه إذا لم يكن معلوما لا يتمكن له المقر له من المطالبة
فلا يكون في هذا الاقرار فائدة فلا يصح وكذلك إذا قال أحدهما غصب واحد منا وكذلك إذا قال واحد منا
زنى أو سرق أو شرب أو قذف لان من عليه الحد غير معلوم فلا يمكن إقامة الحد وأما الذين يخص بعض الأقارير دون
البعض فمعرفته مبنية على معرفة أنواع المقر به فنقول ولا قوة الا بالله تعالى ان المقر به في الأصل نوعان أحدهما حق
الله تعالى عز شأنه والثاني حق العبد اما حق الله سبحانه وتعالى فنوعان أيضا أحدهما أن يكون خالصا لله تعالى
وهو حد الزنا والسرقة والشرب والثاني أن يكون للعبد فيه حق وهو حد القذف ولصحة الاقرار بها شرائط ذكرناها
في كتاب الحدود
* (فصل) * وأما حق العبد فهو المال من العين والدين والنسب والقصاص والطلاق والعتاق ونحوها ولا يشترط
لصحة الاقرار بها ما يشترط لصحة الاقرار بحقوق الله تعالى وهي ما ذكرنا من العدد ومجلس القضاء والعبارة حتى أن
الأخرس إذ اكتب الاقرار بيده أو أوما بما يعرف انه اقرار بهذه الأشياء يجوز بخلاف الذي اعتقل لسانه لان
للأخرس إشارة معهودة فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه وليس ذلك لمن اعتقل لسانه ولان إقامة الإشارة مقام
العبارة أمر ضروري والخرس ضرورة لأنه أصلى (فأما) اعتقال اللسان فليس من باب الضرورة لكونه على
شرف الزوال بخلاف الحدود لأنه لا يجعل ذلك اقرارا بالحدود لما بينا ان مبنى الحدود على صريح البيان بخلاف
القصاص فإنه غير مبنى على صريح البيان فإنه إذا أقر مطلقا عن صفة التعمد بذكر آلة دالة عليه وهي السيف ونحوه
يستوفى بمثله القصاص وكذا لا يشترط لصحة الاقرار بها الصحو حتى يصح اقرار السكران لأنه يصدق في حق المقر له
انه غير صاحي أو لأنه ينزل عقله قائما في حق هذه التصرفات فيلحق فيها بالصاحي مع زوال حقيقة عقوبة عليه
وحقوق العباد تثبت مع الشبهات بخلاق حقوق الله تعالى لكن الشرائط المختصة بالاقرار بحقوق العباد نوعان نوع
يرجع إلى المقر له ونوع يرجع إلى المقر به (أما) الذي يرجع إلى المقر له فنوع واحد وهو أن يكون معلوما موجودا كان
أو حملا حتى لو كان مجهولا بان قال لواحد من الناس على أو لزيد على ألف درهم لا يصح لأنه لا يملك أحد مطالبته فلا
يفيد الاقرار حتى لو عين واحدا بان قال عنيت به فلانا يصح ولو قال لحمل فلانة على ألف درهم فان بين جهة يصح
وجوب الحق للحمل من تلك الجهة بان قال المقر أوصى بها فلان له أو مات أبوه فورثه صح الاقرار لان الحق يجب له
من هذه الجهة فكان صادقا في اقراره فيصح وان أجمل الاقرار لا يصح عند أبي يوسف وعند محمد يصح (وجه) قول
محمد ان اقرار العاقل يجب حمله على الصحة ما أمكن وما أمكن حمله على اقراره على جهة مصححة له وهي ما ذكرنا فوجب
223

حمله عليه (وجه) قول أبى يوسف ان الاقرار المبهم له جهة الصحة والفساد لأنه إن كان يصح بالحمل على الوصية
والإرث يفسد بالحمل على البيع والغصب والقرض فلا يصح مع الشك مع ما ان الحمل في نفسه محتمل الوجود والعدم
والشك من وجه واحد يمنع صحة الاقرار فمن وجهين أولى والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا أقر للحمل (أما) إذا
أقر بالحمل بان أقر بحمل جارية أو بحمل شاة لرجل صح أيضا لان حمل الجارية والشاة مما يحتمل الوجوب في الذمة
بان أوصى له به مالك الجارية والشاة فاقر به والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) الذي يرجع إلى المقر به اما الاقرار بالعين
والدين فشرط صحة الفراغ عن تعلق حق الغير فإن كان مشغولا بحق الغير لم يصح لان حق الغير معصوم محترم فلا يجوز
ابطاله من غير رضاه فلا بد من معرفة وقت التعلق ومعرفة محل التعلق (أما) وقت التعلق فهو وقت مرض الموت
فما دام المديون صحيحا فالدين في ذمته فإذا مرض مرض الموت يتعلق بتركته أي يتعين فيها ويتحول من الذمة إليها
الا انه لا يعرف كون المرض مرض الموت الا بالموت فإذا اتصل به الموت تبين ان المرض كان مرض الموت من
وقت وجوده فتبين ان التعلق يثبت من ذلك الوقت وبيان ذلك الوقت ببيان حكم اقرار المريض والصحيح وما
يفترقان فيه وما يتصل به وما يستويان فيه فنقول وبالله التوفيق اقرار المريض في الأصل نوعان اقراره بالدين لغيره
واقراره باستيفاء الدين من غيره (فأما) اقراره بالدين لغيره فلا يخلو من أحد وجهين (اما) ان أقر به لأجنبي أو
لوارث فان أقر به لوارث فلا يصح الا بإجازة الباقين عندنا وعند الشافعي يصح (وجه) قول الشافعي رحمه الله ان جهة
الصحة للاقرار هي رجحان جانب الصدق على جانب الكذب وهذا في الوارث مثل ما في الأجنبي ثم يقبل الاقرار
الأجنبي كذا الوارث (ولنا) ما روى عن سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رضي الله عنهما انهما قالا إذا أقر المريض
لوارثه لم يجز وإذا أقر لأجنبي جاز ولم يرو عن غيرهما خلاف ذلك فيكون اجماعا ولأنه متهم في هذا الاقرار لجواز
انه آثر بعض الورثة على بعض بميل الطبع أو بقضاء حق موجب للبعث على الاحسان وهو لا يملك ذلك بطريق
التبرع والوصية به فأراد تنفيذ غرضه بصورة الاقرار من غير أن يكون للوارث عليه دين فكان متهما في اقراره فيرد
ولأنه لما مرض مرض الموت فقد تعلق حق الورثة بماله ولهذا لا يملك ان يتبرع عليه بشئ من الثلث مع ما انه خالص
ملكه لا حق لأجنبي فيه فكان اقراره للبعض ابطالا لحق الباقين فلا يصح في حقهم ولان الوصية لم تجز لوارث
فالاقرار أولى لأنه لو جاز الاقرار لارتفع بطلان الوصية لأنه يميل إلى الاقرار اختيار الايثار بل هو أولى من الوصية
لأنه لا يذهب بالوصية الا الثلث وبالاقرار يذهب جميع المال فكان ابطال الاقرار ابطال الوصية بالطريق الأولى
ويصح اقرار الصحيح لوارث لان ما ذكرنا من الموانع منعدمة في اقراره هذا إذا أقر لوارث فان أقر لأجنبي فإن لم
يكن عليه دين ظاهر معلوم في حالة الصحة يصح اقراره من جميع التركة استحسانا والقياس ان لا يصح الا في الثلث
(وجه) القياس ان حق الورثة بما زاد على الثلث متعلق ولهذا لم يملك التبرع بما زاد على الثلث لكنا تركنا القياس
بالأثر وهو ما روى عن ابن سيدنا عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قال إذا أقر المريض بدين لأجنبي جاز ذلك من جميع
تركته ولم يعرف له فيه من الصحابة رضى الله تعالى عنهم مخالف فيكون اجماعا ولأنه في الاقرار للأجنبي غير متهم
فيصح ويصح اقرار الصحيح للأجنبي من جميع المال لانعدام تعلق حق الورثة بماله في حالة الصحة بل الدين في
الذمة وإنما يتعلق بالتركة حالة المرض وكذا لو أقر الصحيح بديون لأناس كثيرة متفرقة بان أقر بدين جاز عليه كله
لان حال الصحة حال الاطلاق لوجود الموجب للاطلاق وإنما الامتناع لعارض تعلق حق الورثة أو للتهمة وكل
ذلك ههنا منعدم ويستوى فيه المتقدم والمتأخر لحصول الكل في حالة الاطلاق ولو أقر المريض بديون لأناس كثيرة
متفرقة بان أقر بدين ثم بدين جاز ذلك كله واستوى فيه المتقدم والمتأخر استواء الكل في التعلق لاستوائهما في زمان
التعلق وهو زمان المرض إذ زمن المرض مع امتداده بتجدد أمثاله حقيقة بمنزلة زمان واحد في الحكم فلا يتصور فيه
التقدم والتأخر ولو أقر وهو مريض بدين ثم بعين بان أقر ان هذا الشئ الذي في يده وديعة لفلان فهما دينان ولا تقدم
224

الوديعة لان اقراره بالدين قد صح فأوجب تعلق حق الغرماء بالعين لكونها مملوكة من حيث الظاهر والاقرار
بالوديعة لا يبطل التعلق لان حق الغير يصان عن الابطال ما أمكن وأمكن ان يجعل ذلك اقرارا بالدين لاقراره
باستهلاك الوديعة بتقديم الاقرار بالدين عليه وإذا صار مقرا باستهلاك الوديعة فالاقرار باستهلاك الوديعة يكون
اقرارا بالدين لذلك كانا دينين ولو أقر بالوديعة أولا ثم أقر بالدين فالاقرار بالوديعة أولى لان الاقرار بالوديعة
لما صح خرجت الوديعة من أن تكون محلا للتعلق لخروجها عن ملكة فلا يثبت التعلق بالاقرار لان حق غريم
المرض يتعلق بالتركة لا بغيرها ولم يوجد وكذلك لو أقر المريض بمال في يده انه بضاعة أو مضاربة فحكمه وحكم
الوديعة سواء والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا أقر المريض بالدين وليس عليه دين ظاهر معلوم في حال الصحة يعتبر
اقراره فأما إذا كان عليه دين ظاهر معلوم بغير اقراره ثم أقر بدين آخر نظر في ذلك فإن لم يكن المقر به ظاهرا معلوما بغير
اقراره تقدم الديون الظاهرة لغرماء الصحة في القضاء فتقضى ديونهم أولا من التركة فما فضل يصرف إلى غير غرماء
الصحة وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يستويان (وجه) قوله إن غريم المرض مع غريم الصحة استويا في
سبب الاستحقاق وهذا لان الاقرار إنما كان سببا لظهور الحق لرجحان جانب الصدق على جانب الكذب وحالة
المرض أدل على الصدق لأنها حالة يتدارك الانسان فيها ما فرط في حالة الصحة فان الصدق فيها أغلب فكان أولى
بالقبول (ولنا) ان شرط صحة الاقرار في حق غريم الصحة لم يوجد فلا يصح في حقه ودليل ذلك ان الشرط فراغ المال
عن تعلق حق الغير به لما بينا ولم يوجد لان حق غريم الصحة متعلق بما له من أول المرض بدليل انه لو تبرع بشئ من ماله
لا ينفد تبرعه ولولا تعلق حق الغير به لنفذ لأنه حينئذ كان التبرع تصرفا من الأصل في محل هو خالص ملكه وحكم الشرع
في مثله النفاذ فدل عدم النفاذ على تعلق النفاذ وإذا ثبت التعلق فقد انعدم الفراغ الذي هو شرط صحة الاقرار في حق غريم
الصحة فلا يصح في حقه ولأنه إذا لم يعلم وجوبه بسبب ظاهر معلوم سوى اقراره كان متهما في هذا الاقرار في حق
غرماء الصحة لجواز أن يكون له ضرب عناية في حق شخص يميل طبعه إلى الاحسان إليه أو بينهما حقوق تبعثه على
المعروف والصلة في حقه ولا يملك ذلك بطريق التبرع فيريد به تحصيل مراده بصورة الاقرار فكان متهما في حق
أصحاب الديون الظاهرة انه أظهر الاقرار من غير أن يكون عليه دين فيرد اقراره بالتهمة وكذلك إذ كان عليه دين
الصحة فأقر بعبده في يده انه لفلان لا يصح اقراره في حق غرماء الصحة وكانوا أحق بالغرماء من الذي أقر له لأنه لما
مرض مرض الموت فقد تعلق حق الغرماء بالعبد لما بينا وكان الاقرار بالعبد لفلان ابطالا لحقهم فلا يصح اقراره في
حقهم هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن الدين المقر به ظاهرا معلوما بغير اقراره (فأما) إذا كان بان بدلا عن مال
ملكه كبدل القرض وثمن المبيع أو بدلا عن مال استهلكه فهو بمنزلة دين الصحة ويقدمان جميعا على دين المرض
لأنه إذا كان ظاهرا معلوما بسبب معلوم لم يحتمل الرد فيظهر وجوبه باقراره وتعلقه بالتركة من أول المرض وكذا
إذا كان ظاهرا معلوما بسبب معلوم لا يتهم في اقراره والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك إذا تزوج امرأة في مرضه
بألف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز ذلك على غرماء الصحة والمرأة تحاصصهم بمهرها لأنه لما جاز النكاح ولا يجوز
الا بوجوب المهر كان وجوبه ظاهرا معلوما لظهور سبب وجوبه وهو النكاح فلم يكن وجوابه محتملا للرد فيتعلق بما له
ضرورة يحققه ان النكاح إذا لم يجز بدون وجوب المهر والنكاح من الحوائج الأصلية للانسان فكذلك وجوب المهر
الذي هو من لوازمه شرعا والمريض غير محجور عن صرف ماله إلى حوائجه الأصلية كثمن الأغذية والأدوية وإن كان
عليه دين الصحة وللصحيح ان يؤثر بعض الغرماء على بعض حتى أنه لو قضى دين أحدهم لا يشاركه فيه الباقون لما
بينا أن الدين في حالة الصحة لم يتعلق بالمال بل هو في الذمة فلا يكون في ايثار البعض ابطال حق الباقين الا ان يقر لرجلين
بدين واحد فما قبض أحدهما منه شيئا كان لصاحبه أن يشاركه فيه لأنه قضى دينا مشتركا فكان المقبوض على
الشركة وليس للمريض ان يؤثر بعض غرمائه على بعض سواء كانوا غرماء المرض أو غرماء الصحة حتى أنه لو قضى
225

دين أحدهم شاركه الباقون المقبوض لان المرض أوجب تعلق الحق بالتركة وحقوقهم في التعلق على السواء فكان
في ايثار البعض ابطال حق الباقين الا أن يكون ذلك بدل قرض أو ثمن مبيع بان استقرض في مرضه أو اشترى شيئا
بمثل قيمته وكان ذلك ظاهرا معلوما فله أن يقضى القرض وينقد الثمن ولا يشاركه الغرماء في المقبوض والمنقود لان
الايثار في هذه الصورة ليس ابطالا لحق الباقين لان حقوقهم متعلقة بمعنى التركة لا بصورتها والتركة قائمة من حيث
المعنى لقيام بدلها لان بدل الشئ يقوم مقامه كأنه هو فلم يكن ذلك ابطالا معنى ولو تزوج امرأة أو استأجر أجيرا
فنقدهما المهر والأجرة لا يسلم لهما المنقود بل الغرماء يتبعونهما ويخاصمونهما بديونهم وكانوا أسوة الغرماء لان
التسليم أعنى جعل المنقود سالما لهما ابطال حق الغرماء صورة ومعنى لان المهر بدل عن ملك النكاح وملك النكاح
لا يحتمل تعلق حق الغرماء به وكذلك الأجرة بدل عن المنفعة المستوفاة وهي مما لا يحتمل تعلق الحق به لذلك لزم
الاستواء في القسمة والله تعالى أعلم وعلى هذا الأصل يخرج تقديم الدين على الوصية والميراث لان الميراث حق
وضع في المال الفارغ عن حاجة الميت فإذا مات وعليه دين مستغرق للتركة والتركة مشغولة بحاجته فلم يوجد شرط
جريان الإرث فيه قال الله تعالى عز من قائل من بعد وصية يوصى بها أو دين وقد قدم الدين على الميراث وسواء كان
دين الصحة أو دين المرض لان الدليل لا يوجب الفصل بينهما وهو ما بينا وإذا اجتمعت الديون فالغرماء يقسمون
التركة على قدر ديونهم بالحصص ولو توى شئ من التركة قبل القسمة اقتسموا الباقي بينهم بالحصص ويجعل التاوى
كأنه لم يكن أصلا لان حق كل واحد منهم تعلق بكل جزء من التركة فكان الباقي بينهم على قدر ديونهم والله سبحانه
تعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان محل تعلق الحق فمحل تعلق الحق هو المال لان الدين يقضى من المال لا من غيره فيتعلق حق
الغرماء بكل متروك هو مال من العين والدين ودية المديون وأرش الجنايات الواجبة له بالجناية عليه خطا أو عمدا لان
كل ذلك مال ولا يتعلق بالقصاص في النفس وما دونهما حتى لا يصح عفوهم لأنه ليس بمال ولو عفا بعض الورثة
عن القصاص حتى أنقلب نصيب الباقين ما لا يتعلق حق الغرماء به ويقضى منه ديونهم لأنه بدل نفس المقتول فكان
حقه فيصرف إلى ديونه كسائر أمواله المتروكة وكذلك المديون إذا كانت امرأة يتعلق حق الغرماء بمهرها ويقسم
بينهم بالحصص لان المهر مال والله سبحانه وتعالى أعلم وما عرف من أحكام الأقارير وتفاصيلها في الصحة والمرض
في اقرار الحر فهو الحكم في اقرار العبد المأذون لأنه يملك الاقرار بالدين والعين لكونه من ضرورات التجارة على ما بينا
في كتاب المأذون فكان هو في حكم الاقرار والحر سواء ولو تصرف المأذون في مرضه جازت محاباته من جميع
المال ومحاباة الحر المريض لا تجوز الا من الثلث (ووجه) الفرق ان انحجار الحر عن المحاباة لتعلق حق الورثة والعبد
لا وارث له وحكم تصرفه يقع لمولاه فأشبه الوكيل بالبيع إذا باع في مرض موته وحابى انه تجوز محاباته من جميع المال
كذا هذا ولو كان على العيد دين وفى يده وفاء بالدين أخذ الغرماء ديونهم وجازت المحاباة فيما بقي من المال وإن كان
الدين محيطا بما في يده يقال للمشترى ان شئت فاد جميع المحاباة والا فاردد المبيع كالحر المريض إذا حابى وعليه دين
والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما اقرار المريض باستيفاء دين وجب له على غيره فلا يخلوا من أحد وجهين اما ان أقر باستيفاء دين
وجب له على وارث واما ان أقر باستيفاء دين وجب له على أجنبي فان أقر باستيفاء دين وجب له على أجنبي فاما ان
أقر باستيفاء دين وجب له في حالة الصحة واما ان أقر باستيفاء دين وجب له في حالة المرض فان أقر باستيفاء دين
وجب له في حالة الصحة يصح ويصدق في اقراره بالاستيفاء حتى يبرأ الغريم عن الدين سواء كان الدين الواجب
في حالة الصحة بدلا عما ليس بمال نحو أرش جنابة أو بدل صلح عن عمدا وكان بدلا عما هو مال نحو بدل قرض
أو ثمن مبيع وسواء لم يكن عليه دين الصحة أو كان عليه دين الصحة أما إذا وجب بدلا عما هو مال فلان المريض
226

بهذا الاقرار لم يبطل حق الغرماء لان المديون استحق البراءة عن الدين بالاقرار باستيفاء الدين حالة الصحة كما
استحقها بإيفاء الدين بالتخلية بين المال وبين صاحب الدين والعارض هو المرض وأثره في حجر المريض عما كان
له لا في حجره عما كان حقا مستحقا عليه كالعبد المأذون إذا أقر بعد الحجر باستيفاء دين ثبت له في حالة الاذن انه يصح
اقراره لما قلنا كذا هذا بل أولى لان حجر العبد أقوى لأنه يصير محجورا عن البيع والشراء والمريض لا يصير
محجورا عن البيع والشراء ثم أثر الحجر هناك ظهر فيما له فيما عليه فههنا أولى (وأما) إذا وجب بدلا عما ليس بمال
فلان المرض لم يتعلق حق الغرماء بالمبدل وهو النفس لأنه ليس بمال فلا يتعلق بالبدل وإذا لم يتعلق حقهم به فلا يكون
الاقرار باستيفاء الدين ابطالا لحق الغرماء فيصح ويبرأ الغريم وكذلك إذا أقر المولى باستيفاء بدل الكتابة الواقعة
في حالة الصحة يصدق ويبرأ المكاتب لما قلنا هذا إذا أقر باستيفاء دين وجب له في حالة الصحة فاما إذا أقر
باستيفاء دين وجب له في حالة المرض فان وجب بدلا عما هو مال لم يصح اقراره ولا يصدق في حق غرماء الصحة
ويجعل ذلك منه اقرارا بالدين لأنه لما مرض فقد تعلق حق الغرماء بالمبدل لأنه مال فكان البيع والقرض ابطالا لحقهم
عن المبدل الا ان يصل البدل إليهم فيكون بدلا معنى لقيام البدل مقامه لما أقر بالاستيفاء فلا وصول للبدل إليهم فلم
يصح اقراره بالاستيفاء في حقهم فبقي اقرار بالدين لان الاقرار بالدين لان كل من استوفى دينا من
غيره يصير المستوفى دينا في ذمة المستوفى ثم تقع المقاصة فكان الاقرار بالاستيفاء اقرار بالدين واقرار المريض
بالدين وعليه دين الصحة لا يصح في حق غرماء الصحة وكذلك لو أتلف رجل على المريض شيئا في مرضه فاقر
المريض بقبض القيمة منه لم يصدق في ذلك إذا كان عليه دين الصحة لان الحق كان متعلقا بالمبدل حالة المرض
فيتعلق بالبدل ولو أتلف في حالة الصحة فاقر في حالة المرض صح لان الاقرار بقبض دين الصحة في حالة المرض
صحيح وإن كان بدلا عما هو بالمال لما بينا وان وجب بدلا عما ليس بمال يصح اقراره لأنه بالمرض لم يتعلق حق غرماء
الصحة بالمبدل لأنه لا يحتمل التعلق لأنه ليس بمال فلا يتعلق بالبدل فصار الاقرار باستيفائه والاقرار باستيفاء دين
وجب له في حال الصحة سواء وذلك صحيح كذا هذا وكذلك لو أقر رجل للمريض انه قتل عبدا في مرضه خطأ
أو قطع يد العبد أو قامت البينة على ذلك فلزمه نصف القيمة فأقر المريض بالاستيفاء فهو مصدق لان الواجب بقتل
العبد بدل النفس عندنا لا بدل المال بدليل انه يجب مقدرا كأرش الأحرار حتى لو قطع يد عبد قيمته ثلاثون ألف
درهم فعليه عشرة آلاف درهم الا أحد عشر درهما عند أبي يوسف رحمه الله فينقص عشرة عن عشرة آلاف لئلا
يبلغ دية الحر وينقص الدرهم الحادي عشر لئلا تبلغ بدل يده بدل نفسه وعند محمد رحمه الله يجب بقطع يد هذا العبد
خمسة آلاف الا عشرة دراهم دل ان أرش يد العبد وجب مقدرا فكان بدلا عما ليس بمال كأرش الحر فلا يتعلق به
حق الغرماء فلا يكون الاقرار بالاستيفاء ابطالا لحقهم وكذلك لو كان الجاني قتل العبد متعمدا فصالحه المريض على
مال ثم أقر أنه استوفى بدل الصلح جاز وكان مصدقا لان بدل الصلح بدل عما ليس بمال والله تعالى أعلم
* (فصل) * وان أقر باستيفاء دين وجب له على وارث لا يصح سواء وجب بدلا عما هو مال أو بدلا عما ليس
بمال لأنه اقرار بالدين لما بينا ان استيفاء الدين بطريق المقاصة وهو ان يصير المستوفى دينا في ذمة المستوفى فكان
اقراره بالاستيفاء اقرار بالدين واقرار المريض لوارثه باطل على هذا إذا تزوج امرأة فأقرت في مرض موتها انها
استوفت مهرها من زوجها ولا يعلم ذلك الا بقولها وعليها دين صحة ثم ماتت قبل أن يطلقها زوجها ولا مال لها غير
المهر لا يصح اقرارها ويؤمر الزوج برد المهر إلى الغرماء فيكون بين الغرماء بالحصص لان الزوج وارثها واقرار
المريض بدين وجب له على وارثه لا يصح وان وجب بدلا عما ليس بمال لما بينا ان ذلك اقرار بالدين للوارث وانه
باطل ولو أقرت في مرضها انها استوفت المهر من زوجها ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها يصح اقرارها لان الزوج
بالطلاق قبل الدخول خرج من أن يكون وارثا لها فلم يكن اقرارها باستيفاء المهر منه اقرار بالدين للوارث فصح وليس
227

للزوج ان يضارب الغرماء بنصف المهر فيقول إنها أقرت باستيفاء جميع المهر منى وهي لا تستحق بالطلاق
قبل الدخول الا نصف المهر فصار نصف المهر دينا لي عليها فانا أضرب مع غرمائها لان اقرارها بالاستيفاء إنما يصح
في حق براءة الزوج عن المهر لا في حق اثبات الشركة في مالها مع غرمائها لان ديونهم ديون الصحة واقرارها للزوج
في حالة المرض فلا يصح في حقهم ولو كان الزوج دخل بها فأقرت باستيفاء المهر ثم طلقها طلاقا بائنا أو رجعيا ثم
ماتت بعد انقضاء العدة فكذلك الجواب لان الزوج عند الموت ليس بوارث ولو ماتت قبل انقضاء العدة لا يصح
اقرارها (أما) في الطلاق الرجعي فلان الزوجية باقية والوراثة قائمة (وأما) في البائن فلان العدة باقية وكانت ممنوعة
من هذا الاقرار لقيام النكاح في حالة العدة فكان النكاح قائما من وجه فلا يزول المنع ما دام المانع قائما من وجه
ولهذا لا تقبل شهادة المعتدة لزوجها وإن كان الطلاق بائنا وإذا لم يصح اقرارها وعليها ديون الصحة فيستوفى أصحاب
ديون الصحة ديونهم فان فضل من مالها شئ ينظر إلى المهر والى ميراثه منها فيسلم له الأقل منهما ومشايخنا يقولون إن
هذا الجواب على قول أبي حنيفة رضي الله عنه (وأما) على قولهما يجب أن يكون اقرارها باستيفاء المهر من الزوج
صحيحا في حق التقديم على الورثة في جميع ما أقرت (وأصل) المسألة في كتاب الطلاق في المريض يطلق امرأته
بسؤالها ثم يقر لها بمال انه يصح اقراره عندهما لأنها أجنبية لا ميراث لها منه وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول لها الأقل
من نصيبها من الميراث ومما أقر لها به فهما يعتبران ظاهر كونها أجنبية وأبو حنيفة رحمه الله يقول يحتمل انهما تواضعا
على ذلك ليقر لها بأكثر من نصيبها فكان متهما فيما زاد على ميراثها في حق سائر الورثة فلم يصح فهذا كذلك والعبد
المأذون في حالة المرض في الاقرار باستيفاء دين الصحة والمرض كالحر لأنه يملك الاقرار باستيفاء الدين وقبضه كالحر
فكل ما صح من الحر يصح منه ومالا فلا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما اقرار المريض بالابراء بان أقر المريض انه كان أبرأ فلانا من الدين الذي عليه في صحته لا يجوز
لأنه لا يملك انشاء الابراء للحال فلا يملك الاقرار به بخلاف الاقرار باستيفاء الدين لأنه اقرار بقبض الدين وانه يملك
انشاء القبض فيملك الاخبار عنه بالاقرار والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الاقرار بالنسب فهو الاقرار بالوارث وهو نوعان أحدهما اقرار الرجل بوارث والثاني اقرار
الوارث بوارثه ويتعلق بكل واحد منهما حكمان حكم النسب وحكم الميراث اما الاقرار بوارث فلصحته في حق
ثبات النسب شرائط منها أن يكون المقر به محتمل الثبوت لان الاقرار اخبار عن كائن فإذا استحال كونه فالاخبار
عن كائن يكون كذبا محضا وبيانه ان من أقر بغلام انه ابنه ومثله لا يلد مثله لا يصح اقراره لأنه يستحيل أن يكون ابنا له
فكان كذبا في اقراره بيقين ومنها ان لا يكون المقر بنسبه معروف النسب من غيره فإن كان لم يصح لأنه إذا ثبت نسبه
من غيره لا يحتمل ثبوته له بعده ومنها تصديق المقر بنسبه إذا كان في يد نفسه لان اقراره يتضمن ابطال يده فلا تبطل
الا برضاه ولا يشترط صحة المقر لصحة اقراره بالنسب حتى يصح من الصحيح والمريض جميعا لان المرض ليس
بمانع لعينه بل لتعلق حق الغير أو التهمة فكان ذلك منعدم اما التعلق فظاهر العدم لأنه لا يعرف التعلق في مجهول النسب
وكذلك معنى التهمة لان الإرث ليس من لوازم النسب فان لحرمان الإرث أسبابا لا تقدح في النسب من القتل
والرق واختلاف الدين والدار والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها أن يكون فيه حمل النسب على الغير سواء كذبه
المقر بنسبه أو صدقه لان اقرار الانسان حجة على نفسه لا على غيره لأنه على غيره شهادة أو دعوى والدعوى المفردة
ليست بحجة وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال وهو من باب حقوق العباد غير مقبولة والاقرار الذي فيه حمل نسب
الغير على غيره اقرار على غيره لا على نفسه فكان دعوى أو شهادة وكل ذلك لا يقبل الا بحجة وعلى هذا يجوز اقرار
الرجل بخمسه نفر الوالدين والولد والزوجة والمولى ويجوز اقرار المرأة بأربعة نفر الوالدين والزوج والمولى ولا يجوز
بالولد لأنه ليس في الاقرار بهؤلاء حمل نسب الغير على غيره اما الاقرار بالولاء فظاهر لأنه ليس فيه حمل نسب إلى أحد
228

وكذلك لاقرار بالزوجية ليس فيه حمل نسب الغير على غيره لكن لا بد من التصديق لما ذكرنا ثم إن وجد التصديق
في حال حياة المقر جاز بلا خلاف وان وجد بعد وفاته فإن كان الاقرار من الزوج يصح تصديق المرأة سواء صدقته
في حال حياته أو بعد وفاته بالاجماع بان أقر الرجل بالزوجية فمات ثم صدقته المرأة لان النكاح يبقى بعد الموت
من وجه لبقاء بعض أحكامه في العدة فكان محتملا للتصديق وإن كان الاقرار بالزوجية من المرأة فصدقها الزوج
بعد موتها لا يصح عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يصح (وجه) قولهما ما ذكرنا ان النكاح يبقى بعد الموت
من وجه فيجوز التصديق كما إذا أقر الزوج بالزوجية وصدقته المرأة بعد موته (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان
النكاح للحال عدم حقيقة فلا يكون محلا للتصديق الا انه أعطى له حكم البقاء لاستيفاء أحكام كانت ثابتة قبل الموت
والميراث حكم لا يثبت الا بعد الموت فكان زائلا في حق هذا الحكم فلا يحتمل التصديق والله سبحانه وتعالى أعلم
وأما الاقرار بالولد فلانه ليس فيه حمل نسب غيره بل على نفسه فيكون اقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل
لكن لا بد من التصديق إذا كان في يد نفسه لما قلنا وسواء وجده في حال حياته أو بعد وفاته لان النسب لا يبطل
بالموت فيجوز التصديق في الحالين جميعا وكذلك الاقرار بالوالدين ليس فيه حمل نسب غيره على غيره فيكون اقرارا
على نفسه لا على غيره فيقبل وكذلك اقرار المرأة بهؤلاء لما ذكرنا الا الولد لان فيه حمل نسب غيره على غيره وهو نسب
الولد على الزوج فلا يقبل الا إذا صدقها الزوج أو تشهد امرأة على الولادة بخلاف الرجل لان فيه حمل نسب الولد
على نفسه ولا يجوز الاقرار بغير هؤلاء من العم والأخ لان فيه حمل نسب غيره على غيره وهو الأب والجد وكذلك
الاقرار بوارث في حق حكم الميراث يشترط له ما يشترط للاقرار به في حق ثبات النسب وهو ما ذكرنا الا شرط حمل
النسب على الغير فان الاقرار بنسب يحمله المقر على غيره لا يصح في حق ثبات النسب أصلا ويصح في حق الميراث
لكن بشرط ان لا يكون له وارث أصلا ويكون ميراثه له لان تصرف العاقل واجب التصحيح ما أمكن فإن لم يكن في
حق ثبات النسب لفقد شرط الصحة أمكن في حق الميراث وإن كان ثمة وارث قريبا كان أو بعيدا لا يصح اقراره
أصلا ولا شئ له في الميراث بان أقر بأخ وله عمة أو خالة فميراثه لعمته أو لخالته ولا شئ للمقر له لأنهما وارثان بيقين
فكان حقهما ثابتا بيقين فلا يجوز ابطاله بالصرف إلى غيرهما وكذلك إذا أقر بأخ أو ابن ابن وله مولى المولاة ثم مات
فالميراث للمولى ولا شئ للمقر له لان الولاء من أسباب الإرث ولا يكون اقراره بذلك رجوعا عن عقد الموالاة لانعدام
الرجوع حقيقة فبقي العقد وانه يمنع صحة الاقرار بالمذكور وكذلك لو كان مولى الموالاة هو مولى العتاقة من طريق
الأولى لأنه عصبته ولو لم يكن له وارث ولكنه أوصى بجميع ماله لرجل فالثلث للموصى له والباقي للأخ المقر به لأنه
وارث في زعمه وظنه ولو كان مع الوصي له بالمال مولى الموالاة أيضا فللموصى له الثلث والباقي للمولى ولا شئ للمقر
له لان الموالاة لا تمنع صحة الوصية لكنها تمنع صحة الاقرار بالمذكور لما بينا وكذلك لو كان مكان المولى الموالاة مولى
العتاقة لان مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام ومولى الموالاة آخر الورثة مؤخر عن ذوي الأرحام
فأضعف الولاءين لما منع صحة الاقرار بالمذكور فأقواهما أولى ولو أقر بأخ في مرض الموت وصدقه المقر له ثم أنكر
المريض بعد ذلك وقال ليس بيني وبينك قرابة بطل في حق الميراث أيضا حتى أنه لو أوصى بعد الانكار بماله
لانسان ثم مات ولا وارث له فالمال كله للموصى له بجميع المال لان الانكار منه رجوع والرجوع عن مثل هذا
الاقرار صحيح لأنه يشبه الوصية وان لم يكن وصية في الحقيقة والرجوع عن الوصية صحيح ولو أنكر وليس هناك
موصى له بالمال أصلا فالمال لبيت المال لبطلان الاقرار أصلا بالرجوع والله تعالى أعلم وأما الاقرار بوارث
فالكلام فيه في موضعين أحدهما في حق ثبات النسب والثاني في حق الميراث أما الأول فامر فيه لا يخلو من أحد
وجهين اما إن كان الوارث واحدا واما إن كان أكثر من واحد بان مات رجل وترك ابنا فاقر بأخ هل يثبت نسبه
من الميت اختلف فيه قال أبو حنيفة ومحمد لا يثبت النسب باقرار وارث واحد وقال أبو يوسف يثبت وبه أخذ
229

الكرخي رحمه الله وإن كان أكثر من واحد بأن كانا رجلين أو رجلا وامرأتين فصاعدا يثبت النسب باقرارهم بالاجماع
(وجه) قول أبى يوسف رحمه الله ان اقرار الواحد مقبول في حق الميراث فيكون مقبولا في حق النسب كاقرار الجماعة
(وجه) قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما ان الاقرار بالاخوة اقرار على غيره لما فيه من حمل نسب غيره على غيره
فكان شهادة وشهادة الفرد غير مقبولة بخلاف ما إذا كانا اثنين فصاعدا لان شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في
النسب مقبولة واما في حق الميراث فاقرار الوراث الواحد بوارث يصح ويصدق وفى حق الميراث بان أقر الابن
المعروف بأخ وحكمه انه يشاركه فيما في يده من الميراث لان الاقرار بالاخوة اقرار بشيئين النسب واستحقاق المال
والاقرار بالنسب اقرار على غيره وذلك غير مقبول لأنه دعوى في الحقيقة أو شهادة والاقرار باستحقاق المال اقرار
على نفسه وانه مقبول ومثل هذا جائز أن يكون الاقرار الواحد مقبولا بجهة غير مقبول بجهة أخرى كمن اشترى عبدا ثم
أقر ان البائع كان أعتقه قبل البيع يقبل اقراره في حق العتق ولا يقبل في حق ولاية الرجوع بالثمن على البائع فعلى ذلك
ههنا جاز ان يقبل الاقرار بوارث في حق الميراث ولا يقبل في حق ثبات النسب ولو أقر الابن المعروف بأخت أخذت
ثلث ما في يده لان اقراره قد صح في حق الميراث ولها مع الأخ ثلث الميراث ولو أقر بامرأة انها زوجة أبيه فلها ثمن ما في
يده ولو أقر بجدة هي أم الميت فلها سدس ما في يده والأصل ان المقر فيما في يده يعامل معاملة ما لو ثبت النسب ولو أقر ابن
الميت بابن ابن للميت وصدقه لكن أنكر أن يكون المقر ابنه فالقول قول المقر والمال بينهما نصفان استحسانا والقياس
أن يكون القول قول المقر له والمال كله له ما لم يقم البينة على النسب (وجه) القياس انهما تصادقا على اثبات وراثة المقر له
واختلفا في وراثة المقر فيثبت المتفق عليه ويقف المختلف فيه على قيام الدليل (وجه) الاستحسان ان المقر له إنما
استفاد الميراث من جهة المقر فلو بطل اقراره لبطلت وراثته وفى بطلان وراثته بطلان وراثة المقر له وكذلك لو أقر
بابنة للميت وصدقته لكنها أنكرت أن يكون المقر ابنه فالقول قول المقر استحسانا لما قلنا ولو أقرت امرأة بأخ للزوج
الميت وصدقها الأخ ولكنه أنكر أن تكون هي امرأة الميت فالقول قول المقر له عند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم
الله تعالى وهو القياس وعلى المرأة اثبات الزوجية بالبينة وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول المرأة والمال بينهما
على قدر مواريثها ولو أقر زوج المرأة الميتة بأخ لها وصدقه الأخ لكنه أنكر أن يكون هو زوجها فهو على
الاختلاف (وجه) قول أبى يوسف قياس هذه المسألة على المسألة الأولى بالمعنى الجامع الذي ذكرناه في المسألة
الأولى ولأبي حنيفة رحمه الله الفرق بين المسألتين (ووجهه) ان النكاح ينقطع بالموت والاقرار بسبب منقطع
لا يسمع الا ببينة بخلاف النسب ولو ترك ابنين فاقر أحدهما بأخ ثالث فان صدقه الأخ المعروف في ذلك شاركهما
في الميراث كما إذا أقرا جميعا لما بينا وان كذبه فيه فإنه يقسم المال بين الأخوين المعروفين أولا نصفين فيدفع النصف
إلى الأخ المنكر واما النصف الآخر فيقسم بين الأخ المقر وبين المقر له نصفين عند عامة العلماء وعند ابن أبي ليلى
أثلاثا ثلثاه للمقر وثلثه للمقر له (وجه) قول ابن أبي ليلى ان من زعم المقر ان المال بين الاخوة الثلاثة اثلاث وان ثلث
المقر له نصفه في يده ونصفه في يد أخيه المنكر على الشيوع الا ان اقراره على أخيه لا ينفذ فيما في يد أخيه فينفذ فيما في يده
فيعطيه ثلث ذلك (ولنا) ان زعم المقر ان حق المقر بنسبه في الميراث حقه وان المنكر فيما يأخذ من الزيادة وهو
النصف التام ظالم فيجعل ما في يده بمنزلة الهالك فيكون النصف الباقي بينهما بالسوية لكل واحد منهما ربع المال
ولو أقر أحدهما بأخت فان صدقة الآخر فالامر ظاهر وان كذبه فيقسم المال أولا نصفين بين الأخوين النصف
للأخ المنكر ثم يقسم النصف الباقي بين الأخ المقر وأخته للذكر مثل حظ الأنثيين ولو أقر أحدهما لامرأة انها زوجة
أبينا فان صدقه الآخر فالامر واضح للمرأة الثمن والباقي بينهما لكل واحد منهما سبعة لا تستقيم عليها فتصحح
المسألة فتضرب سهمين في ثمانية فتصير ستة عشر لها ثمنا والباقي بينهما لكل واحد منهما سبعة وان كذبه فلها تسع
ما في يده عند عامة العلماء رضي الله عنهم وعند أبي ليلى رحمه الله لها ثمن ما في يده (وجه) قوله في أن زعم المقر ان
230

للمرأة ثمن ما في يدي الأخوين الا أن اقراره صح فيما في يد نفسه ولم يصح في حق صاحبه وإذا صح في حق نفسه يعطيها
ثمن ما في يده (وجه) قول العامة ان في زعم المقر ان ثمن التركة لها وسبعة أثمانها لهما بينهما على السوية أصل المسألة
وقسمتها ما ذكرنا الا أن الأخ المنكر فيما يأخذ من الزيادة فيجعل ما في يده كالهالك ويقسم النصف الذي في يد المقر
بينه وبينها على قدر حقهما ويجعل ما يحصل للمقر وذلك سبعة على تسعة أسهم سهمان من ذلك لها وسبعة أسهم له وإذا
جعل هذا النصف على تسعة صار كل المال على ثمانية عشر تسعة منها للأخ المنكر وسهمان للمرأة وسبعة أسهم للأخ
المقر هذا إذا أقر الوارث بوارث واحد فاما إذا أقر بوارث بعد وارث بان أقر بوارث ثم أقر بوارث آخر فالأصل في
هذا الاقرار انه ان صدق المقر بوارثه الأول في اقراره بالورثة للثاني فالمال بينهم على فرائض الله تعالى وان كذبه فيه
فإن كان المقر دفع نصيب الأول إليه بقضاء القاضي لا يضمن ويجعل ذلك كالهالك ويقسمان على ما في يد المقر على قدر
حقهما وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي يضمن ويجعل المدفوع كالقائم في يده فيعطى الثاني حقه من كل المال بيان
هذه الجملة فيمن هلك وترك ابنا فأقر بأخ له من أبيه وأمه فإنه يدفع إليه نصف الميراث لما ذكرنا ان اقراره بالاخوة
صحيح في حق الميراث فان أقر بأخ آخر فهذا على وجهين اما ان أقر به بعد ما دفع إلى الأول واما ان أقر قبل أن يدفع
إلى الأول نصيبه فان أقر به بعد ما دفع إلى الال نصيبه فإن كان الدفع بقضاء القاضي فللثاني ربع المال ويبقى في يد
المقر الربع لان الربع في القضاء في حكم الهالك لكونه مجبورا في الدفع فيكون الباقي بينهما نصفان لان في زعم المقر
أن الثاني يساويه في استحقاق الميراث فيكون لكل واحد منهما نصف النصف وهو ربع الكل وكذلك إذا كان
لم يدفع إلى الأول شيئا لان نصف المال صار مستحق الصرف إليه والمستحق كالمصروف وإن كان يدفع إليه بغير قضاء
القاضي أعطى الثاني ثلث جميع المال لما ذكرنا ان الدفع بغير قضاء مضمون عليه والمضمون كالقائم فيدفع ثلث جميع
المال إليه ويبقى في يده الثلث فان دفع ثلث المال إلى الثاني بعد قضاء القاضي ثم أقر بأخ ثالث وكذبه الثالث في الاقرار
بالأولين أخذ الثالث من الابن المعروف ربع جميع المال لان كل المال قائم معنى لان الدفع بغير القضاء مضمون
على الدافع فيأخذ السدس الذي في يد المقر ونصف سدس آخر لان الدفع إلى الأولين من غير قضاء القاضي لم يصح
في حق الثالث فيضمن له قدر نصف سدس فيدفعه مع السدس الذي في يده إليه وعلى هذا إذا ترك ابنين فأقر أحدهما
بأخ ثم أقر بأخ آخر فان صدقه الابن المعروف اشتركوا في الميراث وان كذبه فان صدقه المقر بوراثته الأول فنصف
المال بينهم أثلاث لان اقراره بالوراثة في حقه وفى حق المقر بوراثته الأول صحيح لكنه لم يصح في حق الابن المعروف
وكان النصف للابن المعروف والنصف الباقي بينهم أثلاثا وان كذبه فإن كان المقر دفع نصف ما في يده وهو ربع
جميع المال إليه بقضاء القاضي كان الباقي بينه وبين الثاني نصفين لان الدفع بقضاء القاضي في حكم الهالك فكان
الباقي بينهما نصفين لكل واحد ثمن المال وإن كان دفع إليه بغير قضاء القاضي فإن كان المقر يعطى الثاني مما في يده
وهو ربع المال سدس جميع المال لان الدفع بغير قضاء مضمون على الدافع فيكون ذلك الربع كالقائم ولو أقر
أحدهما بأخت ودفع إليها نصيبها ثم أقر بأخت أخرى وكذبه الأخ فان صدقته الأخت الأولى فنصف المال للأخ
المنكر والنصف بين الأخ المقر وبين الأختين للذكر مثل حظ الأنثيين وان كذبته فإن كان دفع إليها نصيبها وهو
ثلث النصف وذلك سدس الكل بقضاء فالباقي بين المقر وبين الأخت الأخرى للذكر مثل حظ الأنثيين لما مر
ان المدفوع بغير قضاء في حكم الهالك فلا يكون مضمونا على الدافع وإن كان الدفع بغير قضاء فان المقر يعطى
للأخت الأخرى مما في يده نصف ربع جميع المال لان الدفع بغير القضاء اتلاف فصار كأنه قائم في يده وقد أقر
بأختين ولو كان كذلك يكون لهما ربع جميع المال لكل واحدة الثمن كذلك ههنا يعطى الأخت الأخرى مما في يده
نصف ربع جميع المال والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أقر أحدهما بامرأة لأبيه ثم أقر بأخرى فان أقر بهما معا
فذلك التسعان لهما جميعا وهذا ظاهر لان فرض الزوجات لا يختلف بالقلة والكثرة وان أقر بالأولى ودفع إليها ثم
231

بالأخرى فان صدقته الأولى فكذلك الجواب وان كذبته فالنصف للأخ المنكر وتسعان للأولى فبقي هناك
الابن المعروف والمرأة الأخرى فينظر إن كان دفع التسعين إلى الأولى بالقضاء يجعل ذلك كالهالك ويجعل كان لم
يكن له مال سوى الباقي وهو سبعة أسهم فيكون ذلك بين الابن المقر وبين المرأة الأخرى على ثمانية أسهم ثمن من
ذلك للمرأة وسبعة للابن المقر وإن كان دفع إليها بغير قضاء يعطى من التسعة التي هي عنده سهما للمرأة الأخرى وهو
سبع نصف جميع المال لان المدفوع كالقائم عنده ولو كان نصف المال عنده قائما يعطى الأخرى التسع وذلك
سهم لان المقر به عن المال للمرأتين جميعا والثمن هو تسعان للأولى وتسع للأخرى الا أن الأول ظلمت حيث
أخذت زيادة سهم وذلك الظلم حصل على الأخ المقر له لأنه هو الذي دفع بغير قضاء القاضي فيدفع التسع الثاني إلى
الأخرى وهو سبع نصف المال والباقي للابن وهو ستة أسهم والله سبحانه وتعالى أعلم ولو مات رجل وترك ابنا
معروفا وألف درهم في يده فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الابن أو نكل عن اليمين فدفع إلى الغريم ذلك
ثم ادعى رجل آخر على الميت ألف درهم فصدقه الابن أو نكل عن اليمين فإن كان دفع إلى الأول بقضاء لم يضمن
للثاني شيئا لأنه في الدفع مجبور فكان في حكم الهالك وإن كان بغير قضاء يضمن للثاني نصف المال لأنه مختار في
الدفع فكان اتلافا فيضمن كما إذا أقر لهما ثم دفع إلى أحدهما ولو مات وترك ألف درهم فاقر بأخ ثم رجع وقال لست
بأخ لي وإنما أخي هذا الرجل الآخر وصدقه الآخر بذلك وكذبه في الاقرار الأول فإن كان دفع النصف إلى الأول
بقضاء يشاركه الثاني فيما في يده فيقتسمان نصفين لما بينا ان الدفع بقضاء في حكم الهلاك وإن كان بغير قضاء يدفع جميع
ما في يده وهو نصف المال إلى الآخر لما بينا ولو مات وترك ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم
فصدقه الوارث ودفع إليه بقضاء أو بغير قضاء وادعى رجل آخر على الميت دينا ألف درهم وكذبه الوارث وصدقه
الغريم الأول وأنكر الغريم الثاني دين الغريم الأول لم يلتفت إلى إنكاره ويقتسمان الألف بينهما نصفين لان
استحقاق الغريم الثاني إنما يثبت باقرار الغريم الأول وهو يصدقه وهر ما أقر له الا بالنصف وكذلك لو أقر الغريم
الثاني لغريم ثالث فان الغريم الثالث يأخذ نصف ما في يده لما قلنا ولو مات وترك ألفا في يد رجل فقال الرجل أنا أخوه
لأبيه وأمه وأنت أخوه لأبيه وأمه وأنكر المقر به أن يكون المقر أخا له فالقول قول المفر استحسانا على ما بينا ولو قال
المقر للمقر به أنا وأنت أخواه لأبيه وأمه ولى عليه ألف درهم دين وأنكر المقر به الدين فالمال بينهما نصفان لان دعوى
الدين ودعوى أمر عارض مانع من الإرث فلا يثبت الا بحجة ولو مات وترك ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت
ألف درهم فصدقه الوارث بذلك ودفع إليه ثم ادعى رجل آخر ان الميت أوصى له بثلث ماله أو ادعى انه ابن الميت
وصدقهما بذلك الابن المعروف وكذباه فيما أقر فإن كان دفع بغير قضاء فلا ضمان على الدافع لان الإرث والوصية
مؤخر ان عن الدين فاقراره لم يصح في حق ثبات النسب وإنما يصح في حق الميراث ولم يوجد الميراث ولو أقر لهما أول
مرة ودفع إليهما ثم أقر للغريم كان للغريم أن يضمنه ما دفع إلى الأولين لان الدين مقدم فإذا دفع بغير قضاء فقد أتلف على
الغريم حقه وإن كان الدفع بقضاء لا ضمان عليه لما بينا ولو ثبت الوصية أو الميراث بالبينة بقضاء أو بغير قضاء ثم أقر
الغريم بدينه فلا ضمان عليه الغريم فيما دفعه إلى الوارث والموصى له لأنه لما قامت البينة على الميراث أو الوصية فقد
ظهر انه وارث معروف أو موصى له فالاقرار بالدين لا يوجب بطلان حقهما ولو لم يكن دفع إليه لا يجوز له أن يدفع إلى
الغريم ويجبره القاضي على الدفع إلى الوارث والموصى له لما قلنا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما يبطل به الاقرار بعد وجوده فنقول وبالله التوفيق الاقرار بعد وجوده يبطل بشيئين
أحدهما تكذيب المقر له في أحد نوعي الاقرار وهو الاقرار بحقوق العباد لان اقرار المقر دليل لزوم المقر به وتكذيب
المقر له دليل عدم اللزوم واللزوم لم يعرف ثبوته فلا يثبت مع الشك والثاني رجوع عن المقر عن اقراره فيما يحتمل الرجوع
في أحد نوعي الاقرار بحقوق الله تبارك وتعالى خالصا كحد الزنا لأنه يحتمل أن يكون صادقا في الانكار فيكون كاذبا
232

في الاقرار ضرورة فيورث شبهة في وجوب الحد وسواء رجع قبل القضاء أو بعده قبل تمام الجلد أو الرجم قبل
الموت لما قلنا وروى أن ماعزا لما رجم بعض الحجارة هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة فلما بلغ
ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام سبحان الله هلا خليتم سبيله ولهذا يستحب
للامام تلقين المقر الرجوع بقوله لعلك لمستها أو قبلتها كما لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا وكما لقن عليه الصلاة
والسلام السارق والسارقة بقوله عليه الصلاة والسلام ما أخا له سرق أو أسرقت قولي لا لو لم يكن محتملا للرجوع
لم يكن للتلقين معنى وفائدة فكان التلقين منه عليه أفصل التحية والتسليم احتيالا للدرء لأنه أمرنا به بقوله عليه أفضل
التحية ادرؤا الحدود بالشبهات وقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود ما استطعتم وكذلك الرجوع عن
الاقرار بالسرقة والشرب لان الحد الواجب بهما سبحانه وتعالى خالصا فيصح الرجوع عن الاقرار بهما الا
أن في السرقة يصح الرجوع في حق القطع لا في حق المال لان القطع حق الله تعالى عز شأنه على الخلوص فيصح
الرجوع عنه فأما المال فحق العبد فلا يصح الرجوع فيه وأما حد القذف فلا يصح الرجوع عن الاقرار فيه لان
للعبد فيه حقا فيكون متهما في الرجوع فلا يصح كالرجوع عن سائر الحقوق المتمحضة للعباد وكذلك الرجوع عن
الاقرار بالقصاص لان القصاص خالص حق العباد فلا يحتمل الرجوع والله تعالى أعلم بالصواب
* (كتاب الجنايات) *
الجناية في الأصل نوعان جناية على البهائم والجمادات وجناية على الآدمي (أما) الجناية على البهائم والجمادات
فنوعان أيضا غصب واتلاف وقد ذكرنا كل واحد منهما في كتاب الغصب وهذا الكتاب وضع لبيان حكم
الجناية على الآدمي خاصة فنقول وبالله تعالى التوفيق الجناية على الآدمي في الأصل أنواع ثلاثة جناية على النفس
مطلقا وجناية على ما دون النفس مطلقا وجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه (أما) الجناية على النفس مطلقا فهي
قتل المولود والكلام في القتل في مواضع في بيان أنواع القتل وفي بيان صفة كل نوع وفي بيان حكم كل نوع منه (أما)
الأول فالقتل أربعة أنواع قتل هو عمد محض ليس فيه شبهة العدم وقتل عمد فيه شبهة العدم وهو المسمى بشبه العمد
وقتل هو خطأ محض ليس فيه شبهة العدم وقتل هو في معنى القتل الخطأ (اما) الذي هو عمد محض فهو ان يقصد
القتل بحديد له حدا وطعن كالسيف والسكين والرمح والاشفاء والإبرة وما أشبه ذلك أو ما يعمل عمل هذه الأشياء
في الجرح والطعن كالنار والزجاج وليطة القصب والمروة والرمح الذي لاسنان له ونحو ذلك الا آلة المتخذة
من النحاس وكذلك القتل بحديد لاحد له كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمرو ونحو ذلك عمد في ظاهر الرواية
(وروى) الطحاوي عن أبي حنيفة رضي الله عنهم انه ليس بعمد فعلى ظاهر الرواية العبرة للحديد نفسه سواء
جرح أو لا وعلى رواية الطحاوي العبرة للجرح نفسه حديدا كان أو غيره وكذلك إذا كان في معنى الحديد كالصفر
والنحاس والآنك والرصاص والذهب والفضة فحكمه حكم الحديد وأما شبه العمد فثلاثة أنواع بعضها متفق
على كونه شبه عمد وبعضها مختلف فيه أما المتفق عليه فهو ان يقصد القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو لطمة
ونحو ذلك مما لا يكون الغالب فيه الهلاك كالسوط ونحو إذا ضرب ضربة أو ضربتين ولم يوال في الضربات وأما
المختلف فيه فهو ان يضرب بالسوط الصغير ويوالي في الضربات إلى أن يموت وهذا شبه عمد بلا خلاف بين
أصحابنا رحمهم الله تعالى وعند الشافعي رحمه الله هو عمد وان قصد قتله بما يغلب فيه الهلاك مما ليس بجارح ولا طاعن
كمدقة القصارين والحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوها فهو شبه عمد عند أبي حنيفة رضى الله عند وعندهما
والشافعي هو عمد ولا يكون فيما دون النفس شبه عمد فما كان شبه عمد في النفس فهو عمد فيما دون النفس لان
ما دون النفس لا يقصد اتلافه بآلة دون آلة عادة فاستوت الآلات كلها في الدلالة على القصد فكان الفعل عمدا
233

محضا فينظر ان أمكن ايجاب القصاص يجب القصاص وان لم يمكن يجب الأرش وأما القتل الخطأ فالخطأ قد يكون في
نفس الفعل وقد يكون في ظن الفاعل أما الأول فنحو ان يقصد صيرا فيصيب آدميا وان يقصد رجلا فيصيب غيره فان
قصد عضوا من رجل فأصاب عضوا آخر منه فهذا عمد وليس بخطا وأما الثاني فنحو ان يرمى إلى إنسان على ظن أنه
حربي أو مرتد فإذا هو مسلم وأما الذي هو في معنى الخطأ فنذكر حكمه وصفته بعد هذا إن شاء الله تعالى فهذه صفات
هذه الأنواع وأما بيان أحكامها فوقوع القتل بإحدى هذه الصفات لا يخلو اما ان علم واما ان لم يعلم بان وجد قتيل لا يعلم
قاتله فان علم ذلك أما القتل العمد المحض فيتعلق به أحكام منها وجوب القصاص والكلام في القصاص في مواضع في
بيان شرائط وجوب القصاص وفى بان كيفية وجوبه وفي بيان من يستحق القصاص وفي بيان من يلي استيفاء
القصاص وشرط جواز استيفائه وفي بيان ما يستوفى به القصاص وكيفية الاستيفاء وفي بيان ما يسقط القصاص بعد
وجوبه (أما) الأول فلوجوب القصاص شرائط بعضها يرجع إلى القاتل وبعضها يرجع إلى المقتول وبعضها يرجع إلى
نفس القتل وبعضها يرجع إلى ولى القتيل أما الذي يرجع إلى القاتل فخمسة أحدها أن يكون عاقلا والثاني أن يكون بالغا
فإن كان مجنونا أو صبيا لا يجب لان القصاص عقوبة وهما ليسا من أهل العقوبة لأنها لا تجب الا بالجناية وفعلهما لا
يوصف بالجناية ولهذا لم تجب عليهما الحدود وأما ذكورة القاتل وحريته واسلامه فليس من شرائط الوجوب والثالث
أن يكون متعمدا في القتل قاصدا إياه فإنه كان مخطئا فلا قصاص عليه لقول النبي العمد قود أي القتل العمد يوجب
القود شرط العمد لوجوب القود ولان القصاص عقوبة متناهية فيستدعى جناية متناهية والجناية لا تتناهى الا بالعمد
والرابع أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس فيه شبهة العدم لأنه عليه الصلاة والسلام شرط العمد مطلقا بقول النبي
العمد قود والعمد المطلق هو العمد من كل وجه ولا كمال مع شبهة العدم ولان الشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة وعلى
هذا يخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل انه لا يوجب القود لان الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل
عادة بل التأديب والتهذيب فتمكنت في القصد شبهة العدم وعلى هذا يخرج قول أصحابنا رضي الله عنهم في الموالاة في
الضربات انها لا توجب القصاص خلافا للشافعي (وجه) قوله إن الموالاة في الضربات دليل قصد القتل لأنها لا يقصد
بها التأديب عادة وأصل القصد موجود فيتمحض القتل عمدا فيوجب القصاص (ولنا) ان شبهة عدم القصد ثابتة
لأنه يحتمل حصول القتل بالضربة والضربتين على سبيل الاستقلال من غير الحاجة إلى الضربات الاخر والقتل
بضربة أو ضربتين لا يكون عمدا فتبين بذلك أنه لا يوجب القصاص وإذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وزيادة وعلى
هذا يخرج قول أبي حنيفة رضي الله عنه في القتل بالمثقل انه لا يوجب القود خلافا لهما والشافعي رحمهم الله (وجه)
قولهم إن الضرب بالمثقل مهلك عادة ألا ترى انه لا يستعمل الا في القتل فكان استعماله دليل القصد إلى القتل كاستعمال
السيف وقد انضم إليه أصل القصد فكان القتل الحاصل به عمدا ومحضا ولأبي حنيفة رحمه الله طريقان مختلفان على
حسب اختلاف الروايتين عنه أحدهما ان القتل بآلة غير معدة للقتل دليل عدم القصد لان تحصيل كل فعل بالآلة
المعدة له فحصوله بغير ما أعد له دليل عدم القصد والمثقل وما يجرى مجراه ليس بمعد للقتل عادة فكان القتل به دلالة عدم
القصد فيتمكن في العمدية شبهة العدم بخلاف القتل بحديد لا حد له لان الحديد آلة معدة للقتل قال الله تبارك وتعالى
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد والقتل بالعمود معتاد فكان القتل به دليل القصد فيتمحض عمدا وهذا على قياس ظاهر
الرواية والثاني وهو قياس رواية الطحاوي رحمه الله هو اعتبار الجرح انه يمكن القصور في هذا القتل لوجود فساد الباطن
دون الظاهر وهو نقض التركيب وفى الاستيفاء افساد الباطن والظاهر جميعا فلا تتحقق المماثلة وعلى هذا الخلاف إذا
خنق رجلا فقتله أو غرقه بالماء أو ألقاه من جبل أو سطح فمات انه لا قصاص فيه عند أبي حنيفة وعندهما يجب ولو طين
على أحد بيتا حتى مات جوعا أو عطشا لا يضمن شيئا عند أبي حنيفة وعندهما يضمن الدية (وجه) قولهما ان الطين
الذي عليه تسبيب لا هلاكه لأنه لا بقاء للآدمي الا بالاكل والشرب فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش عليه يكون
234

اهلاكا له فأشبه حفر البئر على قارعة الطريق ولأبي حنيفة رحمه الله ان الهلاك حصل بالجوع والعطش لا بالتطيين ولا
صنع لاحد في الجوع والعطش بخلاف الحفر فإنه سبب للوقوع والحفر حصل من الحافر فكان قتلا تسبيبا ولو أطعم
غيره سما فمات فإن كان تناول بنفسه فلا ضمان على الذي أطعمه لأنه أكله باختياره لكنه يعزر ويضرب ويؤدب لأنه
ارتكب جناية ليس لها حد مقدور وهي الغرور فان أوجر السم فعليه الدية عندنا وعند الشافعي رحمة الله عليه القصاص
ولو غرق انسانا فمات أو صاح على وجهة فمات فلا قود عليه عندنا وعليه الدية وعنده عليه القود والخامس أن يكون
القاتل مختارا اختيار الايثار عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند زفر والشافعي رحمهم الله هذا ليس بشرط وعلى هذا
يخرج المكره على القتل انه لا قصاص عليه عندنا خلافا لهما والمسألة مرت في كتاب الاكراه وأما الذي يرجع إلى
المقتول فثلاثة أنواع أحدها ان لا يكون جزء القاتل حتى لو قتل الأب ولده لا قصاص عليه وكذلك الجد أب الأب أو
أب الام وان علا وكذلك إذا قتل الرجل ولد ولده وان سفلوا وكذا الام إذا قتلت ولدها أو أم الام أو أم الأب إذا قتلت
ولد ولدها والأصل فيه ما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا يقاد الوالد بولده واسم الوالد والولد يتناول كل
والد وان علا وكل ولد وان سفل ولو كان في ورثة المقتول ولد القاتل أو ولد ولده فلا قصاص لأنه تعذر ايجاب القصاص
للولد في نصيبه فلا يمكن الايجاب للباقين لأنه لا يتجزأ وتجب الدية للكل ويقتل الولد بالوالد لعمومات القصاص من
غير فصل ثم خص منها الوالد بالنص الخاص فبقي الولد داخلا تحت العموم ولان القصاص شرع لتحقيق حكمة الحياة
بالزجر والردع والحاجة إلى الزجر في جانب الولد لا في جانب الوالد لان الوالد يحب ولده لولده لا لنفسه بوصول النفع
إليه من جهته أو يحبه لحياة الذكر لما يحيى به ذكره وفيه أيضا زيادة شفقة تمنع الوالد عن قتله فاما الولد فإنما يحب والده
لا لوالده بل لنفسه وهو وصول النفع إليه من جهته فلم تكن محبته وشفقته مانعة من القتل فلزم المنع بشرع القصاص كما
في الأجانب ولان محبة الولد لوالده لما كانت لمنافع تصل إليه من جهته لا لعينه فربما يقتل الوالد ليتعجل الوصول إلى
أملاكه لا سيما إذا كان لا يصل النفع إليه من جهته لعوارض ومثل هذا يندر في جانب الأب والثاني ان لا يكون ملك
القاتل ولا له فيه شبهة الملك حتى لا يقتل المولى بعبده لقوله عليه الصلاة والسلام لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده
ولأنه لو وجب القصاص لوجب له والقصاص الواحد كيف يجب له وعليه كذا إذا كان يملك بعضه فقتله لا قصاص
عليه لأنه لا يمكن استيفاء بعض القصاص دون بعض لأنه غير متجزئ وكذا إذا كان له فيه شبهة الملك كالمكاتب إذا
قتل عبدا من كسبه لان للمكاتب شبهة الملك في أكسابه والشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة ولا يقتل المولى بمدبره
وأم ولده ومكاتبه لأنه مماليكه حقيقة ألا ترى انه لو قال كل مملوك لي فهو حر عتق هؤلاء الا المكاتب فإنه لا يعتق
الا بالنية لقصور في الإضافة إليه بالملك لزوال ملك اليد ويقتل العبد بمولاه وكذا المدبر وأم الولد والمكاتب لعمومات
النصوص ولتحقيق ما شرع له القصاص وهو الحياة بالزجر والردع بخلاف المولى إذا قتل هؤلاء لان شفقة المولى
على ماله تمنعه عن القتل عن سيحان العداوة الحامل على القتل الا نادرا فلا حاجة إلى الزجر بالقصاص بخلاف العبد
ولو اشترك اثنان في قتل رجل أحدهما ممن يجب القصاص عليه لو انفرد والاخر لا يجب عليه لو انفرد ممن ذكرنا
كالصبي مع البالغ والمجنون مع العاقل والخاطئ مع العامد والأب مع الأجنبي والمولى مع الأجنبي لا قصاص
عليهما عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجب القصاص على العاقل والبالغ والأجنبي الا العامد فإنه لا قصاص
عليه إذا شاركه الخاطئ (وجه) قوله إن سبب الوجوب وجد من كل واحد منهما وهو القتل العمد الا انه امتنع
الوجوب على أحدهما لمعنى يخصه فيجب على الآخر ولنا انه تمكنت شهبة عدم القتل في فعل كل واحد منهما
لأنه يحتمل أن يكون فعل من لا يجب عليه القصاص لو أنفرد مستقلا في القتل فيكون فعل الآخر فضلا ويحتمل
على القلب وهذه الشبهة ثابتة في الشريكين الأجنبيين الا ان الشرع أسقط اعتبارها وألحقها بالعدم فتحا لباب
القصاص وسدا لباب العدوان لان الاجتماع ثم يكون أغلب وههنا أندر فلم يكن في معنى مورد الشرع فلا يلحق
235

به وعليهما الدية لوجود القتل الا انه امتنع وجوب القصاص للشبهة فتجب الدية ثم ما يجب على الصبي والمجنون
والخاطئ تتحمله العاقلة وما يجب على البالغ والعاقل والعامد يكون في ماله لان القتل عمد لكن سقط القصاص
للشبهة والعاقلة لا تعقل العمد وفى الأب والأجنبي الدية في مالهما لان القتل عمد وفى المولى مع الأجنبي على
الأجنبي نصف قيمة العبد في ماله لما قلنا وكذلك إذا جرح نفسه وجرحه أجنبي فمات لا قصاص على الأجنبي
عندنا خلافا للشافعي وعلى الأجنبي نصف الدية لأنه مات بجرحين أحدهما هدر والاخر معتبر وعلى هذا مسائل
تأتى في موضع آخر إن شاء الله تعالى والثالث أن يكون معصوم الدم مطلقا فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي
ولا بالمرتد لعدم العصمة أصلا ورأسا ولا بالحربي المستأمن في ظاهر الرواية لان عصمته ما ثبتت مطلقة بل
مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الاسلام وهذا لان المستأمن من أهل دار الحرب وإنما دخل دار الاسلام لا لقصد
الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي فكانت في عصمته شبهة العدم وروى عن أبي
يوسف انه يقتل به قصاصا لقيام العصمة وقت القتل وهل يقتل المستأمن بالمستأمن ذكر في السير الكبير انه يقتل
وروى ابن سماعة عن محمد انه لا يقتل ولا يقل العادل بالباغي لعدم العصمة بسبب الحرب لأنهم يقصدون أموالنا
وأنفسنا ويستحلونها وقد قال عليه الصلاة والسلام قاتل دون نفسك وقال عليه الصلاة والسلام قاتل دون مالك ولا
يقتل الباغي بالعادل أيضا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يقتل لان المقتول معصوم مطلقا (ولنا) انه غير معصوم في
زعم الباغي لأنه يستحل دم العادل بتأويل وتأويله وإن كان فاسدا لكن له منعة والتأويل الفاسد عند وجود المنعة
الحق بالتأويل الصحيح في حق وجوب الضمان باجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم فإنه روى عن الزهري أنه قال
وقعت الفتنة والصحابة متوافرون فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع وعلى هذا يخرج
ما إذا قال الرجل لآخر اقتلني فقتله انه لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يجب القصاص (وجه) قوله إن
الامر بالقتل لم يقدح في العصمة لان عصمة النفس مما لا تحتمل الإباحة بحال ألا ترى انه يأثم بالقول فكان الامر ملحقا
بالعدم بخلاف الامر بالقطع لان عصمة الطرف تحتمل الإباحة في الجملة فجاز ان يؤثر الامر فيها ولنا انه تمكنت في
هذه العصمة شبهة العدم لان الامر وان لم يصح حقيقة فصيغته تورث شبهة والشبهة في هذا الباب لها حكم الحقيقة
وإذا لم يجب القصاص فهل تجب الدية فيه روايتان عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رواية تجب وفى رواية لا تجب وذكر
القدوري رحمه الله ان هذا أصح الروايتين وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وينبغي أن يكون الأصح هي الأولى
لان العصمة قائمة مقام الحرمة وإنما سقط القصاص لمكان الشبهة والشبهة لا تمنع وجوب المال ولو قال اقطع يدي
فقطع لا شئ عليه بالاجماع لان الأطراف يسلك لها مسلك الأموال وعصمة الأموال تثبت حقا له فكانت محتملة
للسقوط بالإباحة والاذن كما لو قال له اتلف مالي فاتلفه ولو قال اقتل عبدي أو اقطع يده فقتل أو قطع فلا ضمان عليه
لان عبده ماله عصمة ماله تثبت حقا له فجاز ان يسقط باذنه كما في سائر أمواله ولو قال اقتل أخي فقتله وهو وارثه القياس
ان يجب القصاص وهو قول زفر رحمه الله وقال أبو حنيفة رضي الله عنه أستحسن ان آخذ الدية من القاتل (وجه)
القياس ان الأخ الآمر أجنبي عن دم أخيه فلا يصح اذنه بالقتل فالتحق بالعدم (وجه) الاستحسان ان القصاص
لو وجب بقتل أخيه لوجب له القتل حصل باذنه والاذن ان لم يعمل شرعا لكنه وجد حقيقة من حيث الصيغة
فوجوده يورث شبهة كالاذن بقتل نفسه والشبهة لا يؤثر في وجوب المال وروى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما
فيمن أمر انسانا ان يقتل ابنه فقتله انه يقتل له وهذا يوجب اختلاف الروايتين في المسألتين ولو أمره ان يشجه
فشجه فلا شئ عليه ان لم يمت من الشجة لان الامر بالشجة كالأمر بالقطع وان مات منها كان عليه الدية كذا ذكر في
الكتاب ويحتمل هذا أن يكون على أصل أبي حنيفة رحمه الله خاصة بناء على أن العفو عن الشجة لا يكون عفوا عن
القتل عنده فكذا الامر بالشجة لا يكون أمرا بالقتل ولما مات تبين ان الفعل وقع قتلا من حين وجوده لا شجا وكان
236

القياس ان يجب القصاص الا انه سقط للشبهة فتجب الدية فاما على أصلهما فينبغي ان لا يكون عليه شئ لان العفو عن
الشجة يكون عفوا عن القتل عندهما فكذا الامر بالشجة يكون أمرا بالقتل وروى عن ابن سماعة عن محمد رحمهما الله
فيمن أمر انسانا بان يقطع يده ففعل فمات من ذلك أنه لا شئ على قاطعه ويحتمل أن يكون هذا قولهما خاصة كما قالا
فيمن له القصاص في الطرف إذا قطع طرق من عليه القصاص فمات انه لا شئ عليه فاما على قول أبي حنيفة رحمه الله
فينبغي ان تجب الدية لأنه لما مات تبين ان الفعل وقع قتلا والمأمور به القطع لا القتل وكان القياس ان يجب بالقصاص كما
قال فيمن له القصاص في الطرف الا انه سقط لمكان الشبهة فتجب الدية وعلى هذا يخرج الحربي إذا أسلم في
دار الحرب ولم يهاجر الينا فقتله مسلم انه لا قصاص عليه عندنا لأنه وإن كان مسلما فهو من أهل دار الحرب
قال الله تبارك وتعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فكونه من أهل دار الحرب أو ورث شبهة في عصمته ولأنه
إذا لم يهاجر الينا فهر مكثر سواد الكفرة ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وان
لم يكن منهم دينا فهو منهم دارا فيورث الشبهة ولو كانا مسلمين تاجرين أو أسيرين في دار الحرب فقتل أحدهما
صاحبه فلا قصاص أيضا وتجب الدية والكفارة في التاجرين وفى الأسيرين خلاف ذكرناه في كتاب
السير ولا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال الذات وهو سلامة الأعضاء ولا أن يكون مثله
في الشرف والفضيلة فيقتل سليم الأطراف بمقطوع الأطراف والأشل ويقتل العالم بالجاهل والشريف بالوضيع
والعاقل بالمجنون والبالغ بالصبي والذكر بالأنثى والحر بالعبد والمسلم بالذمي الذي يؤدى الجزية وتجرى عليه أحكام
الاسلام وقال الشافعي رحمه الله كون المقتول مثل القاتل في شرف الاسلام والحرية شرط وجوب القصاص
ونقصان الكفر والرق يمنع من الوجوب فلا يقتل المسلم بالذمي ولا الحر بالعبد ولا خلاف في أن الذمي إذا قتل ذميا ثم
أسلم القاتل انه يقتل به قصاصا وكذا العبد إذا قتل عبدا ثم عتق القاتل احتج في عدم قتل المسلم بالذمي بما روى عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال لا يقتل مؤمن بكافر وهذا نص في الباب ولان في عصمته شبهة العدم لثبوتها مع القيام
المنافى وهو الكفر لأنه مبيع في الأصل لكونه جناية متناهية فيوجب عقوبة متناهية وهو القتل لكونه من أعظم
العقوبات الدنيوية الا أنه منع من قتله لغيره وهو نقض العهد الثابت بالذمة فقيامه يورث شبهة ولهذا لا يقتل المسلم
بالمستأمن فكذا الذمي ولان المساواة شرط وجوب القصاص ولا مساواة بين المسلم والكافر ألا ترى أن المسلم
مشهود له بالسعادة والكافر مشهود له بالشقاء فانى يتساويان (ولنا) عمومات القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى
كتب عليكم القاص في القتلى وقوله سبحانه وتعالى وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس وقوله جلت عظمته
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا من غير فصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم فمن ادعى
التخصيص والتقييد فعليه الدليل وقوله سبحانه وتعالى عز من قائل ولكم في القصاص حياة وتحقيق معنى الحياة
في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم لان العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصا عند الغضب ويجب
عليه قتله لغرمائه فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس فكان في شرع القصاص فيه في تحقيق معنى الحياة أبلغ وروى
محمد بن الحسن رحمهما الله باسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد مؤمنا بكافر وقال عليه الصلاة والسلام
أنا أحق من وفى ذمته وأما الحديث فالمراد من الكافر المستأمن لأنه قال عليه الصلاة والسلام لا يقتل مؤمن بكافر
ولا ذو عهد في عهده عطف قوله ولا ذو عهد في عهده على المسلم فكان معناه لا يقتل مؤمنا بكافر ولا ذو عهد به ونحن به
نقول أو نحمله على هذا توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض وأما قوله في عصمته شبهة العدم ممنوع بل دمه
حرام لا يحتمل الإباحة بحال مع قيام الذمة بمنزلة دم المسلم مع قيام الاسلام وقوله الكفر مبيح على الاطلاق ممنوع
بل المبيح هو الكفر الباعث على الحراب وكفره ليس بباعث على الحراب فلا يكون مبيحا وقوله لا مساواة بين
المسلم والكافر قلنا المساواة في الدين ليس بشرط ألا ترى أن الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل يقتل به قصاصا ولا
237

مساواة بينهما في الدين لكن القصاص محنة امتحنوا الخلق بذلك فكل من كان أقبل بحق الله تعالى واشكر لنعمه كان
أولى بهذه المحنة لان العذر له في ارتكاب المحذور أقل وهو بالوفاء بعهد الله تعالى أولى ونعم الله تعالى في حقه أكمل
فكانت جنايته أعظم واحتج في قتل الحر بالعبد بقول الله تبارك وتعالى الحر بالحر والعبد بالعبد وفسر القصاص
المكتوب في صدر الآية بقتل الحر بالحر والعبد بالعبد فيجب أن لا يكون قتل الحر بالعبد قصاصا ولأنه لا مساواة
بين النفسين في العصمة لوجهين أحدهما أن الحر آدمي من كل وجه والعبد آدمي من وجه مال من وجه وعصمة
الحر تكون له وعصمة المال تكون للمالك والثاني أن في عصمة العبد شبهة العدم لان الرق أثر الكفر والكفر
مبيح في الأصل فكان في عصمته شبهة العدم عصمة الحر تثبت مطلقة فانى يستويان في العصمة وكذا لا مساواة
بينهما في الفضيلة والكمال لان الرق يشعر بالذل والنقصان والحرية ينبئ عن العزة والشرف (ولنا) عمومات
القصاص من غير فصل بين الحر والعبد ولان ما شرع له القصاص وهو الحياة لا يحصل الا بايجاب القصاص على
الحر بقتل العبد لان حصوله يقف على حصول الامتناع عن القتل خوفا على نفسه فلو لم يجب القصاص بين الحر والعبد
لا يخشى الحر تلف نفسه بقتل العبد فلا يمتنع عن قتله بل يقدمه عليه عند أسباب حاملة على القتل من الغيظ المفرط
ونحو ذلك فلا يحصل معنى الحياة ولا حجة له في الآية لان فيها أن قتل الحر بالحر والعبد بالعبد قصاص وهذا لا ينفى
أن يكون قتل الحر بالعبد قصاصا لان التنصيص لا يدل على التخصيص ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام البكر
بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ثم البكر إذا زنى بالثيب وجب الحكم الثابت
بالحديث فدل أنه ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم به يدل عليه أن العبد يقتل بالحر والأنثى بالذكر ولو كان
التنصيص على الحكم في نوع موجبا تخصيص الحكم به لما قتل ثم قوله تعالى والأنثى بالأنثى حجة عليكم لأنه قاتل
الأنثى بالأنثى مطلقا فيقتضى أن تقتل الحرة بالأمة وعندكم لا تقتل فكان حجة عليكم وقوله العبد آدمي من وجه مال من
وجه قلنا لا بل آدمي من كل وجه لان الآدمي اسم لشخص على هيئة مخصوصة منسوب إلى سيدنا آدم عليه
الصلاة والسلام والبعد بهذه الصفة فكانت عصمته مثل عصمة الحر بل فوقها على أن نفس العبد في الجناية له لا لمولاه
بدليل أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص والحد يؤخذ به ولو أقر عليه مولاه بذلك لا يؤخذ به فكان نفس العبد في
الجناية له لا للمولى كنفس الحر للحر وأما قوله الحر أفضل من العبد فنعم لكن التفاوت في الشرف والفضيلة لا يمنع
وجوب القصاص ألا ترى أن العبد لو قتل عبدا ثم أعتق القاتل يقتل به قصاصا وان استفاد فضل الحرية وكذا
الذكر يقتل بالأنثى وإن كان الذكر أفضل من الأنثى وكذا لا تشترط المماثلة في العدد في القصاص في النفس
وإنما تشترط في الفعل بمقابلة الفعل زجرا وفى الفائت بالفعل جبرا حتى لو قتل جماعة واحدا يقتلون به قصاصا وان لم يكن
بين الواحد والعشرة مماثلة لوجود المماثلة في الفعل والفائت به زجرا وجبرا على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأحق
ما يجعل فيه القصاص إذا قتل الجماعة الواحد لان القتل لا يوجد عادة الا على سبيل التعاون والاجتماع فلو لم يجعل فيه
القصاص لا نسد باب القصاص إذ كل من رام قتل غيره استعان بغير يضمه إلى نفسه ليبطل القصاص عن نفسه
وفيه تفويت ما شرع له القصاص وهو الحياة هذا إذا كان القتل على الاجتماع فأما إذا كان على التعاقب بأن شق
رجل بطنه ثم حز آخر رقبته فالقصاص على الحاز إن كان عمدا وإن كان خطأ فالدية على عاقلته لأنه هو القاتل
لا الشاق ألا ترى أنه قد يعيش بعد شق البطن بأن يخاط بطنه ولا يحتمل أن يعيش بعد حزم رقبته عادة وعلى الشاق
أرش الشق وهو ثلث الدية لأنه جائفة وإن كان الشق نفذ من الجانب الآخر فعليه ثلثا الدية في سنتين في كل سنة
ثلث الدية لأنهما جائفتان هذا إذا كان الشق مما يحتمل أن يعيش بعده يوما أو بعض يوم فأما إذا كان لا يتوهم
ذلك ولم يبق معه الا غمرات الموت والاضطراب فالقصاص على الشاق لأنه القاتل ولا ضمان على الحاز لأنه قتل
المقتول من حيث المعنى لكنه يعزر لارتكابه جناية ليس لها حد مقدر وكذلك لو جرحه رجل جراحة مثخنة لا يعيش
238

معها عادة ثم جرحه آخر جراحة أخرى فالقصاص على الأول لأنه القاتل لاتيانه بفعل مؤثر في فوات الحياة عادة
فإن كانت الجراحتان معا فالقصاص عليهما لأنهما قاتلان ولو جرحه أحدهما جراحة واحدة والآخر عشر
جراحات فالقصاص عليهما ولا عبرة بكثرة الجراحات لان الانسان قد يموت بجراحة واحدة ولا يموت بجراحات
كثيره والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك الواحد يقتل بالجماعة قصاصا اكتفاء ولا يجب مع القود شئ من المال
عندنا وقال الشافعي رحمه الله ينظر أن قتلهم على التعاقب يقتل بالأول قصاصا وتؤخذ ديات الباقين من تركته وان
قتلهم معا فله فيه قولان في قول يقرع بنيهم فمن خرجت قرعته يقتل وتجب الدية للباقين وفى قول يجتمع أولياء القتلى
فيقتلونه وتقسم ديات الباقين بينهم (وجه) قوله أن المماثلة مشروطة في باب القصاص ولا مماثلة بين الواحد والجماعة
فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة على طريق الاكتفاء به فيقتل الواحد بالواحد وتجب الديات للباقين كما لو قطع
واحد يميني رجلين انه لا يقطع بهما اكتفاء بل يقطع بإحداهما وعليه أرش الأخرى لما قلنا كذا هذا وكان ينبغي أن
لا يقتل الجماعة بالواحد قصاصا الا انا عرفنا ذلك باجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم غير معقول أو معقولا بحكمة
الزجر والردع لما يغلب وجود القتل بصفة الاجتماع فتقع الحاجة إلى الزجر فيجعل كل واحد منهم قاتلا على الكمال
كان ليس معه غيره تحقيقا للزجر وقتل الواحد الجماعة لا يغلب وجوده بل يندر فلم يكن في معنى ما ورد الشرع به فلا
يلحق به وانا نقول حق الأولياء في القتل مقدور الاستيفاء لهم فلو أوجبنا معه المال لكان زيادة على القتل وهذا لا يجوز
والدليل على أن القتل مقدور الاستيفاء لهم أن التماثل في باب القصاص اما ان يراعى في الفعل زجرا اما ان يراعى
في الفائت بالفعل جبرا واما ان يراعى فيهما جميعا وكل ذلك موجود ههنا أما في الفعل زجرا فلان الموجود من الواحد
في حق كل واحد من الجماعة فعل مؤثر في فوات الحياة عادة والمستحق لكل واحد من أولياء القتلى قبل القاتل قتله
فكان الجزاء مثل الجناية وأما في الفائت جبرا فلانه بقتله الجماعة ظلما انعقد سبب هلاك ورثة القتلى لأنهم
يقصدون قتله طلبا للثار وتشفيا للصدر فيقصد هو قتلهم دفعا للهلاك عن نفسه فتقع المحاربة بين القبيلتين ومتى قتل
منهم قصاصا سكنت الفتنة واندفع سبب الهلاك عن ورثتهم فتحصل الحياة لكل قتيل معنى ببقاء حياة ورثته بسبب
القصاص فيصير كان القاتل دخر حياة كل قتيل تقديرا بدفع سبب الهلاك عن ورثته فيتحقق الجبر بالقدر الممكن كما
في قتل الواحد بالواحد والجماعة بالواحد من غير تفاوت وأما الذي يرجع إلى نفس القتل فنوع واحد وهو أن يكون
القتل مباشرة فإن كان تسبيبا لا يجب القصاص لان القتل تسبيبا لا يساوى القتل مباشرة والجزاء قتل بطريق
المباشرة وعلى هذا يخرج من حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيها انسان ومات أنه لا قصاص على الحافر لان الحفر
قتل سببا لا مباشرة وعلى هذا يخرج شهود القصاص إذا رجعوا بعد قتل المشهود عليه أو جاء المشهود بقتله حيا أنه
لا قصاص عليهم عندنا خلافا للشافعي رحمه الله (وجه) قوله أن شهادة الشهود وقعت قتلا لان القتل اسم لفعل مؤثر
في فوات الحياة عادة وقد وجد من الشهود لان شهادتهم مؤثرة في ظهور القصاص والظهور مؤثر في وجوب القضاء
على القاضي وقضاء القاضي مؤثر في ولاية الاستيفاء وولاية الاستيفاء مؤثرة في الاستيفاء طبعا وعادة فكانت فوات
الحياة بهذه الوسائط مضافة إلى الشهادة السابقة فكانت شهادتهم قتلا تسبيبا والقتل تسبيبا مثل القتل مباشرة في حق
وجوب القصاص كالاكراه على القتل أنه يوجب القصاص على المكره وان لم يكن قتلا بطريق المباشرة لوقوعه قتلا
بطريق التسبيب كذا هذا (ولنا) ما ذكرنا أن القتل تسبيبا لا يساوى القتل مباشرة لان القتل تسبيبا قتل معنى
لا صورة والقتل مباشرة قتل صورة ومعنى والجزاء قتل مباشرة بخلاف الاكراه على القتل لأنه قتل مباشرة لأنه يجعل
المكره آلة المكره كأنه أخذه وضربه على المكره على قتله والفعل لمستعمل الآلة لا للآلة فكان قتلا مباشرة
ويضمنون الدية لوجود القتل منهم وهل يرجعون بها على الولي اختلف أصحابنا الثلاثة فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة
لا يرجعون وعندهما يرجعون لهما أن الشهود بأداء الضمان قاموا مقام المقتول في ملك بدله ان لم يقوموا مقامه في ملك
239

عينه فأشبه غاصب المدبر إذا غصب منه فمات في يد الغاصب الثاني أن للأول أن يرجع على الثاني بما ضمنه المالك
لما ذكرنا كذا هذا ولأبي حنيفة رحمه الله أن الدية بدل النفس ونفس الحر لا يحتمل التملك فلا يثبت الملك لهم في
البدل بخلاف المدبر لأنه محتمل للتملك لكونه قاتلا الا أنه امتنع ثبوت الملك فيه لمعارض وهو التدبير فيثبت في بدله
والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الذين يرجع إلى ولى القتيل فواحد أيضا وهو أن يكون الولي معلوما فإن كان مجهولا
لا يجب القصاص لان وجوب القصاص وجوب للاستيفاء والاستيفاء من المجهول متعذر فتعذر الايجاب له وعلى
هذا يخرج ما إذا قتل المكاتب وترك وفاء وورثة أحرارا غير المولى أنه لا قصاص على القاتل بالاجماع لان المولى مشتبه
يحتمل أن يكون هو الوارث ويحتمل أن يكون هو المولى لاختلاف الصحابة الكرام رضي الله عنهم في موته حرا أو
عبدا فان مات حرا كان وليه الوراث وان مات عبدا كان وليه المولى وموضع الاختلاف موضع التعارض والاشتباه
فلم يكن الولي معلوما فامتنع الوجوب وان اجتمعا ليس لهما أن يستوفيا لان الاشتباه لا يزول بالاجتماع هذا إذا ترك وفاء
وورثة غير المولى فاما إذا ترك وفاء ولم يترك ورثة غير المولى فقد اختلف أصحابنا فيه عندهما يجب القصاص للمولى وعند
محمد لا يجب القصاص أصلا وهو رواية عن أبي يوسف أيضا وجه قول محمد انه وقع الاشتباه في سبب ثبوت الولاية
لأنه ان مات حرا كان سبب ثبوت الولاية القرابة فلا تثبت الولاية للمولى وان مات عبدا كان السبب هو الملك فتثبت
الولاية للمولى فوقع الاشتباه في ثبوت الولاية فلا تثبت ولهما أن من له الحق متعين غير مشتبه لان الاشتباه موجب
المزاحمة ولم يوجد ولو قتل ولم يترك وفاء وجب القصاص بالاجماع لان الولي معلوم وهو المولى لأنه يموت رقيقا بلا
خلاف فكان القصاص للمولى كالعبد القن إذا قتل وكذلك المدبر والمدبرة وأم الولد وولدها بمنزلة العبد القن
لأنهم قتلوا على ملك المولى فكان الولي معلوما ولو قتل عبدا لمكاتب فلا قصاص لان المكاتب له نوع ملك وللمولى
أيضا فيه نوع ملك فاشتبه الولي فامتنع الوجوب وعلى هذا يخرج ما إذا قطع رجل يد عبد فاعتقه مولاه ثم مات من
ذلك أنه إن كان للعبد وارث حر غير المولى فلا قصاص لاشتباه ولى قصاص لان القصاص يجب عند الموت مستندا
إلى القطع السابق والحق عند القطع للمولى لا للورثة وعند ثبوت الحكم وهو الوجوب وذلك عند الموت الحق
للوارث لا للمولى فاشتبه المولى فلم يجب القصاص ولو اجتمع المولى مع الوارث فلا قصاص لان الاشتباه لا يزول
باجتماعهما فرق بين هذا وبين العبد الموصى برقبته لانسان وبخدمته لا آخر قتل واجتمعا أنه يجب القصاص لان
هناك لم يشتبه المولى لان لصاحب الرقبة ملكا ولصاحب الخدمة حقا يشبه الملك فلم يشتبه المولى وههنا اشتبه الولي
لان وقت القطع لم يكن للوارث فيه حق ووقت الموت لم يكن للمولى فيه حق فصار الولي مشتبها فامتنع الوجوب وان لم
يكن وارث سوى المولى فهو على الاختلاف الذي ذكرنا أن على قولهما للمولى أن يستوفى القصاص لان الحق له
وقت القطع ووقت الموت وعلى قول محمد ليس له حق الاقتصاص لاشتباه سبب الولاية لان الثابت للمولى وقت
القطع كان ولاية الملك وبعد الموت له ولاية العتاقة فاشتبه سبب الولاية هذا إذا كان القطع عمدا فاما إذا كان خطأ
فاعتقه ثم مات من ذلك فلا شئ على القاطع غير أرش اليد وهو نصف قيمة البعد واعتاقه إياه بمنزلة برئة في اليد لتبدل
المحل حكما بالاعتاق فتنقطع آية السراية هذا إذا أعتقه المولى بعد القطع عمدا أو خطأ فمات من ذلك فاما إذا لم يعتقه
ولكنه دبره أو كانت أمة فاستولدها ثم مات من ذلك فإن كان القطع عمدا فللمولى القصاص لان الحق له وقت القطع
والموت جميعا فلم يشتبه الولي وإن كان خطأ لا تنقطع السراية فيجب نصف القيمة دية اليد ويجب ما نقص بعد
الجناية قبل الموت لحصول ذلك في ملك المولى ولو كاتبه والمسألة بحالها فإن كان القطع عمدا ينظر ان مات عاجزا
فللمولى القصاص لأنه مات عبدا وان مات عن وفاء فإن كان له وارث يحجب المولى أو يشاركه لا يجب القصاص
لاشتباه الولي وعليه أرش اليد لا غير ولو لم يكن له وارث غير المولى فللمولى أن يقتص عندهما وعند محمد ليس له ان
يقتص وعليه أرش اليد وإن كان القطع خطأ لا شئ على القاطع الا أرش اليد وهو نصف القيمة للمولى وتنقطع السراية
240

هذا إذا كان القطع قبل الكتابة فإن كان بعدها فمات فإن كان القطع عمدا ينظر ان مات عاجزا فللمولى ان يقتص
لأنه مات عبدا وان مات عن وفاء فإن كان مع المولى وارث آخر أو غيره يشاركه في الميراث فلا قصاص لاشتباه
الولي وان لم يكن له وارث غير المولى فعلى الاختلاف الذي ذكرنا وإن كان القطع خطأ فان مات عاجزا فالقيمة للمولى
لأنه مات عبدا وان مات عن وفاء فالقيمة للورثة لأنه مات حرا والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما كيفية وجوب القصاص فهو انه واجب عينا حتى لا يملك الولي ان يأخذ الدية من القاتل من غير رضاه
ولو مات القاتل أو عفا الولي سقط الموجب أصلا وهذا عندنا وللشافعي رحمه الله قولان في قول القصاص ليس
بواجب عينا بل الواجب أحد الشيئين غير عين (اما) القصاص (واما) الدية وللولي خيار التعيين ان شاء استوفى
القصاص وان شاء أخذ الدية من غير رضا القاتل فعلى هذا القول إذا مات القاتل يتعين المال واجبا فإذا عفا الولي
سقط الموجب أصلا وفى قول القصاص واجب عينا لكن للولي ان يأخذ المال من غير رضا القاتل وإذا عفا له ان
يأخذ المال وإذا مات القاتل سقط الموجب أصلا احتج بقوله تعالى فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء
إليه باحسان معناه فليتتبع وليؤد الدية أوجب سبحانه وتعالى على القاتل أداء الدية إلى الولي مطلقا عن شرط الرضا
لان أداء الدية صيانة النفس عن الهلاك وانه واجب قال الله تعالى جل شأنه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولان
ضمان القتل يجب حقا للمقتول لان الجناية وردت على حقه فكان الواجب بها حقا له وحق العبد ما ينتفع به والمقتول
لا ينتفع بالقصاص وينتفع بالمال لأنه تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه وكان ينبغي أن لا يشرع القصاص أصلا
الا أنه شرع لحكمة الزجر لان الانسان لا يمتنع من قتل عدوه خوفا من لزوم المال فشرع ضمانا زاجرا كان ينبغي أن
يجمع بينهما كما في شرب خمر الذمي الا أنه تعذر الجمع لان الدية بدل النفس وفى القصاص معنى البدلية قال الله تبارك
وتعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والباء تستعمل في الابدال فتؤدى إلى الجمع بين البدلين وهذا لا يجوز فخير
بينهما (ولنا) قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى وهذا يفيد تعين القصاص موجبا ويبطل
مذهب الابهام جميعا أما الابهام فلانه أخبر عن كون القصاص واجبا فيصدق القول عليه بأنه واجب وإن كان عليه
أحد حقين لا يصدق القول على أحدهما بأنه أوجب (وأما) التعيين فلانه إذا وجب القصاص على الإشارة إليه
بطل القول بوجوب الدية بضرورة النص لأنه لا يقابل بالجمع بينهما فبطل القول باختيار الدية من غير رضا القاتل ولان
القصاص إذا كان عين حقه كانت الدية بدل حقه وليس لصاحب الحق أن يعدل من غير الحق إلى بدله من غير رضا
من عليه الحق كمن عليه حنطة موصوفة فأراد صاحب الحق أن يأخذ منه قيمتها من غير رضاه ليس له ذلك كذا هذا
وقوله عليه الصلاة والسلام العمد قود وجه الاستدلال به على نحو وجه الاستدلال بالآية الشريفة ولان ضمان
العدوان الوارد على حق العبد مقيد بالمثل والقصاص وهو القتل الثاني مثل القتل الأول لأنه ينوب مناب الأول ويسد
مسده ومثل الشئ غيره الذي ينوب منابه ويسد مسده وأخذ المال لا ينوب مناب القتل ولا يسد مسده فلا يكون
مثلا له فلا يصلح ضمانا للقتل العمد وكان ينبغي أن لا يجب أصلا الا ان الوجوب في قتل الخطأ ثبت شرعا تخفيفا على
الخاطئ نظرا له اظهار الخطر الدم صيانة له عن الهدر والعامد لا يستحق التخفيف والصيانة تحصل بالقصاص فبقي
ضمانا أصليا في الباب (وأما) الآية الشريفة فالمراد من قوله سبحانه وتعالى فمن عفى له من أخيه شئ هو الولي
لا القاتل لأنه قال الله تبارك وتعالى فمن عفى له والقاتل معفو عنه لا معفو له ولأنه قال تعالى اسمه فاتباع بالمعروف
فليتبع وانه أمر لمن دخل تحت كلمة فمن ومعلوم أن القاتل لا يتبع أحدا بل هو المتبع وإنما المتبع هو الولي فكان هو
الداخل تحت كلمة فمن فكان معنى الآية الكريمة فمن بذل له وأعطى له من أخيه شئ بطريق الفضل والسهولة فليتبع
بالمعروف ويجوز استعمال لفظ العفو بمعنى الفضل لغة قال الله سبحانه وتعالى يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو
أي الفضل وتقول العرب خذ ما أتاك عفوا أي فضلا ونحن به نقول إنه يجوز أخذ المال من القاتل برضاه وقيل الا آية
241

الشريفة نزلت في الصلح عن دم العبد وقيل نزلت في دم بين نفر يعفو وأحدهم عن القاتل فللباقين ان يتبعوا بالمعروف في
نصيبهم لأنه قال سبحانه وتعالى فمن عفى له من أخيه شئ وهو العفو عن بعض الحق ونحن به نقول أوقع الاحتمال في
المراد بالآية فلا يصح الاحتجاج بها مع الاحتمال وقوله في دفع الدية صيانة نفس القاتل عن الهلاك وانه واجب قلنا
نعم لكن قضيته ان يصير آثما بالامتناع لا ان يملك الولي أخذه من غير رضاه كمن أصابته مخمصة وعند صاحبه طعام يبيعه
بمثل قيمته يجب عليه أن يشتريه دفعا للهلاك عن نفسه فان امتنع عن الشراء ليس لصاحب الطعام أن يدفع الطعام
إليه ويأخذ الثمن من غير رضاه كذا هذا وقوله المقتول لا ينتفع بالقصاص قلنا ممنوع بل ينتفع به أكثر مما ينتفع بالمال لان
فيه احياؤه باكفاء ورثته احياء وهذا لا يحصل بالمال على ما عرف والله تعالى اعلم
* (فصل) * واما بيان من يستحق القصاص فنقول ولا قوة الا بالله المقتول لا يخلوا اما أن يكون حرا واما أن يكون عبدا
فإن كان حرا لا يخلوا اما أن يكون له وارث واما ان لم يكن فإن كان له وارث فالمستحق للقصاص هو الوارث كالمستحق
للمال لأنه حق ثابت والوارث أقرب الناس إلى الميت فيكون له ثم إن كان الوارث واحدا استحقه وإن كان جماعة
استحقوه على سبيل الشركة كالمال الموروث عنه وجه قولهما في تمهيد هذا الأصل ان القصاص موجب الجناية
وانها وردت على المقتول فكان موجبها حقا له الا انه بالموت عجز عن الاستيفاء بنفسه فتقوم الورثة مقامه بطريق
الإرث عنه ويكون مشتركا بينهم ولهذا تجرى فيه سهام الورثة من النصف والثلث والسدس وغير ذلك كما تجرى في
المال وهذا آية الشركة ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن المقصود من القصاص هو التشفي وأنه لا يحصل للميت
ويحصل للورثة فكان حقا لهم ابتداء والدليل على أنه يثبت لكل واحد منهم على الكمال كان ليس معه غيره
لا على سبيل الشركة انه حق لا يتجزأ والشركة فيما لا يتجزأ محال إذ الشركة المعقولة هي أن يكون البعض لهذا
والبعض لذلك كشريك الأرض والدار وذلك فما لا يتبعض محال والأصل ان ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت
لجماعة وقد وجد سبب ثبوته في حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كان ليس معه
غيره كولاية الانكاح وولاية الأمان وعلى هذا يخرج ما إذا قتل انسان عمدا وله وليان أحدهما غائب
فأقام الحاضر البينة على القتل ثم حضر الغائب انه يعيد البينة عنده وعندهما لا يعيد ولا خلاف في أن القتل
إذا كان خطأ لا يعيد وكذلك الدين بأن كان لأبيهما دين على إنسان ووجه البناء على هذا الأصل ان
عند أبي حنيفة لما كان القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء كان كل واحد منهما أجنبيا عن صاحبه فيقع اثبات البينة له
لا للميت فلا يكون خصما عن الميت في الاثبات فتقع الحاجة إلى إعادة البينة ولما كان حقا موروثا على فرائض
الله تبارك وتعالى عندهما والورثة خلفاؤه في استيفاء الحق يقع الاثبات للميت وكل واحد من آحاد الورثة
خصم عن الميت في حقوقه كما في الدية والدين فيصح منه اثبات الكل للميت ثم يخلفونه كما في المال ولو قتل
انسان وله وليان وأحدهما غائب وأقام القاتل البينة على الحاضر أن الغائب قد عفا فالشاهد خصم لان تحقق العفو من
الغائب يوجب بطلان حق الحاضر عن القصاص فكان القاتل مدعيا على الحاضر بطلان حقه فكان خصما له
ويقضى عليه ومتى قضى عليه يصير الغائب مقضيا عليه تبعا له والله تعالى أعلم وان لم يكن للقاتل بينة لم يكن له ان يستخلف
الحاضر لان الانسان قد ينتصب خصما عن غيره في إقامة البينة اما لا ينتصب خصما عن غيره في اليمين وعلى هذا يخرج
القصاص إذا كان بين صغير وكبير ان للكبير ولاية الاستيفاء عنده وعندهما ليس له ذلك وينتظر بلوغ الصغير ووجه
البناء ان عند أبي حنيفة رحمه الله لما كان القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء لكل واحد منهم على سبيل الاستقلال
لاستقلال سبب ثبوته في حق كل واحد منهم وعدم تجزئه في نفسه ثبت لكل واحد منهم على الكمال كان ليس معه غيره
فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير وعندهما لما كان حقا مشتركا بين الكل فاحد الشريكين لا ينفرد
بالتصرف في محل مشترك بدون رضا شريكه اظهارا لعصمة المحل وتحرزا عن الضرر والصحيح أصل أبي حنيفة
242

رضي الله عنه لما ذكرنا أن القصاص لا يحتمل التجزئة والشركة في غير المتجزئ محال وإنما تثبت الشركة إذا انقلب ما لا
لان المال محل قابل للشركة على أن أبا حنيفة ان سلم أن القصاص مشترك بين الصغير والكبير فلا بأس بالتسليم لأنه
يمكن القتل بثبوت ولاية الاستيفاء للكبير في نصيبة بطريق الأصالة وفى نصيب الصغير بطريق النيابة شرعا
كالقصاص إذا كان بين انسان وابنه الصغير والجامع بينهما حاجتهما إلى استيفاء القصاص لاستيفاء النفس وعجز
الصغير عن الاستيفاء بنفسه وقدرة الكبير على ذلك وكون تصرفه في النظر والشفقة في حق الصغير مثل تصرف الصغير
بنفسه لو كان أهلا ولهذا يلي الأب والجد استيفاء قصاص وجب كله للصغير فهذا أولى ولأبي حنيفة رحمه الله اجماع
الصحابة رضى الله تعالى عنهم فإنه روى أنه لما جرح ابن ملجم لعنه الله سيدنا عليا كرم الله تعالى وجهه فقال للحسن
رضي الله عنه ان شئت فاقتله وان شئت فاعف عنه وان تعفو خير لك فقتله سيدنا الحسن رضي الله عنه وكان في ورثة
سيدنا علي رضي الله عنه صغار والاستدلال من وجهين أحدهما بقول سيدنا علي رضي الله عنه والثاني بفعل سيدنا
الحسن رضي الله عنه (أما) الأول فلانه خير سيدنا الحسن رضي الله عنه حيث قال إن شئت فاقتله مطلقا من غير التقييد
ببلوغ الصغار (وأما) الثاني فلان الحسن رضي الله عنه قتل ابن ملجم لعنه الله ولم ينتظر بلوغ الصغار وكل ذلك بمحضر
من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم ينقل انه أنكر عليهما أحد فيكون اجماعا وان لم يكن له وارث وكان له مولى العتاقة
وهو المعتق فالمستحق للقصاص هو لان مولى العتاقة آخر العصبات ثم إن كان واحدا استحق كله وإن كانوا جماعة
استحقوه وإن كان للمقتول وارث ومولى العتاقة أيضا فلا قصاص لان الولي مشتبه لاشتباه سبب الولاية فالسبب
في حق الوارث هو القرابة وفى حق المولى الولاء وهما سببان مختلفان واشتباه الولي يمنع الوجوب للقصاص وكذلك
ان لم يكن له مولى العتاقة وله مولى المولاة لأنه آخر الورثة فجاز ان يستحق القصاص كما يستحق المال وان لم يكن له
وارث ولا له مولى العتاقة ولا مولى المولاة كاللقيط وغيره فالمستحق هو السلطان في قولهما وقال أبو يوسف رحمه
الله لا يستحقه إذا كان المقتول في دار الاسلام والحجج تأتى في موضعها إن شاء الله تعالى وإن كان المقتول عبدا
فالمستحق هو المولى لان الحق قد ثبت وأقرب الناس إلى العبد مولاه ثم إن كان المولى واحدا استحق كله وإن كان
جماعة استحقوه لوجود سبب الاستحقاق في حق الكل وهو الملك والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان من يلي استيفاء القصاص وشرط جواز استيفائه فولاية استيفاء القصاص تثبت بأسباب
منها الوراثة وجملة الكلام فيه ان الوارث لا يخلو اما إن كان واحدا (واما) إن كانوا جماعة فإن كان واحدا لا يخلو اما إن كان
كبيرا واما إن كان صغيرا فإن كان كبيرا فله ان يستوفى القصاص لقوله تبارك وتعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا ولوجود سبب الولاية في حقه على الكمال وهو الوراثة من غير مزاحمة وإن كان صغيرا اختلف المشايخ
فيه قال بعضم ينتظر بلوغه وقال بعضهم يستوفيه القاضي وإن كانوا جماعة فإن كان الكل كبارا فكل واحد
منهم ولاية استيفاء القصاص حتى لو قتله أحدهم صار القصاص مستوفى لان القصاص إن كان حق الميت
فكل واحد من آحاد الورثة خصما في استيفاء حق الميت كما في المال وإذا كان حق الورثة ابتداء كما قال أبو حنيفة
رحمه الله فقد وجد سبب ثبوت الحق في حق كل واحد منهم الا أن حضور الكل شرط جواز الاستيفاء وليس
للبعض ولاية الاستيفاء مع غيبة البعض لان فيه احتمال استيفاء ما ليس بحق له لاحتمال العفو من الغائب والى هذا
أشار محمد رحمه الله فقال لا أدري لعل الغائب عفا وكذا إذا كان الكل حضورا لا يجوز لهم ولا لأحدهم أن يوكل في
استيفاء القصاص على معنى أنه لا يجوز للوكيل استيفاء القصاص مع غيبة الموكل لاحتمال أن الغائب قد عفا ولان في
اشتراط حضرة الموكل رجاء العفو منه عند معاينة حلول العقوبة بالقاتل وقد قال الله تبارك وتعالى وان تعفوا أقرب للتقوى
ولا تنسوا الفضل بينكم (فاما) الاستيفاء بالوكيل فجائز إذا كان الموكل حاضرا على ما نذكر وإن كان فيهم صغير وكبير
فإن كان الكبير هو الأب بأن كان القصاص مشتركا بين الأب وابنه الصغير فللأب أن يستوفى بالاجماع لأنه لو كان
243

لم يقاصص كان للأب أو يستوفيه فههنا أولى وإن كان الكبير غير الأب بأن كان أخا فللكبير أن يستوفى قبل بلوغ
الصغير عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى ليس له ذلك قبل بلوغ الصغير والكلام فيه يرجع
إلى أصل ذكرناه بدلائله فيما تقدم ومنها الأبوة فللأب والجد أن يستوفى قصاصا وجب للصغير في النفس وفيما دون
النفس لأن هذه ولاية نظر ومصلحة كولاية الانكاح فتثبت لمن كان مختصا بكمال النظر والمصلحة في حق الصغير
(وأما) الوصي فلا يلي استيفاء القصاص في النفس بان قتل شخص عبد اليتيم لان تصرف الوصي لا يصدر عن كمال
النظر والمصلحة في حق الصغير لقصور في الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب والجد وله أن يستوفى القصاص فيما
دون النفس لان ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال على ما نذكر وللوصي ولاية استيفاء المال (ومنها) الملك المطلق
وقت القتل فللمولى أن يستوفى القصاص إذا قتل مملوكه إذا لم يكن في استيفاء القصاص ابطال حق الغير من غير رضاه
لان الحق قد ثبت له وهو أقرب الناس إليه فله أن يستوفيه وكذا إذا قتل مدبره ومدبرته وأم ولده وولدها لان التدبير
والاستيلاد لا يوجب زوال الملك وكذا إذا قتل المكاتب ولم يترك وفاء لأنه مات رقيقا فكان ملك المولى قائما وقت القتل
وذكر في المنتقى عند أبي حنيفة رضي الله عنه في معتق البعض إذا قتل عاجزا أنه لا قصاص ففرق بينه وبين المكاتب
(ووجه) الفرق أن موت المكاتب عاجزا يوجب انفساخ الكتابة وجعلها كأن لم تكن فالقتل صادفه هو قن وموت
معتق البعض لا يوجب انفساح العتاق إذ الاعتاق بعد وجوده لا يحتمل الفسخ فالقتل صادفه ولا ملك للمولى في كله
ولو قتل المكاتب وترك وفاء وورثه أحرارا سوى المولى لا قصاص بالاجماع لأنه لا يستوفيه المولى لوقوع الشك في قيام
المولى وقت القتل ولا الوارث لاحتمال أنه مات عبدا لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم أنه يموت حرا أو عبدا
فامتنع الوجب وان لم يكن له وارث حر غير المولى فله أن يستوفى القصاص عندهما خلافا لمحمد وقد ذكرنا المسألة ولو
قتل العبد في يد البائع قبل القبض فان اختار المشترى إجازة البيع فله ولاية الاستيفاء بالاجماع لان الملك كان له وقت
القتل وقد تقرر بالإجازة فكان له أن يستوفى وان اختار فسخ البيع فللبائع أن يستوفى القصاص في قول أبي حنيفة
رضي الله عنه وقال أبو يوسف للبائع القيمة ولا قصاص له (وجه) قوله إن الملك لم يكن ثابتا له وقت القتل وإنما حدث
بعد ذلك بالفسخ والسبب حين وجوده لم ينعقد موجبا الحكم له فلا يثبت له بمعنى وجد بعد ذلك ولأبي حنيفة رحمه الله
ان رد البيع فسخ له من الأصل وجعل إياه كان لم يكن فإذا انفسخ من الأصل تبين أن الجناية وردت على ملك البائع
فيوجب القصاص له فكان له أن يستوفى وليس للمشترى ولاية الاستيفاء لهذا المعنى أن بالفسخ يظهر ان العبد وقت
القتل لم يكن على ملك البائع ولو قتل العبد الذي هو بدل الصداق في يد الزوج أو بدل الخلع في يد المرأة أو بدل الصلح
عن دم العمد في يدي الذي صالح عليه فذلك بمنزلة البيع لان المستحق للصداق وبدل الخلع والصلح ان اختار اتباع
القاتل فقد تقرر ملكه فيجب القصاص له وان طالب القيمة فالملك في العبد قد انفسخ فيجب القصاص للآخر على
ما ذكرنا في البيع ولو قتل في يد المشترى وللمشتري خيار الشرط أو خيار الرؤية فالقصاص للمشترى قبض البائع الثمن
أو لم يقبض لان الخيار قد سقط بموت العبد وانبرم البيع وتقرر الملك فيه للمشترى فوجب القصاص له فكان له ان
يستوفى القصاص كما إذا قتل في يده ولا خيار في البيع أصلا ولو كان الخيار للبائع فان شاء اتبع القاتل فقتله قصاصا
وان شاء ضمن المشترى القيمة (أما) اختيار اتباع القاتل فلان العبد وقت القتل كان ملكا له (وأما) اختيار تضمين
المشترى القيمة فلانه كان مضمونا في يده بالقيمة ألا ترى لو هلك بنفسه في يده كان عليه قيمته ولا قصاص
للمشترى وان هلك العبد بالضمان لان الملك ثبت له بطريق الاستناد والمستند يظهر من وجه ويقتصر من وجه
فشبه الظهور يقتضى وجوب القصاص له وشبه الاستناد يقتضى أن لا يجب فتمكنت الشبهة في الوجوب له
فلا يجب وكذا العبد المغصوب إذا قتل في يدي الغاصب واختار المالك تضمينه لم يكن للغاصب القصاص
لما قلنا ولو قتل عبد موصى برقبته لرجل وبخدمته لآخر لم ينفرد أحدهما باستيفاء القصاص لان الموصى له بالخدمة
244

لا ملك له في الرقبة فلا يملك الاستيفاء بنفسه والموصى له بالرقبة وان ملك الرقبة لكن في استيفاء القصاص ابطال
حق الموصى له بالخدمة لا إلى بدل هو مال فلا يملك ابطال حقه عليه من غير رضاه وإذا اجتمعا فللموصى له بالرقبة
أن يستوفى لأن المطلق للاستيفاء موجود وهو قيام ملك الرقبة والامتناع كان لحق الموصى له بالخدمة فإذا رضى
بسقوط حقه فقد زال المانع ولو قتل العبد المرهون في يد المرتهن لم يكن لواحد منهما أن ينفرد باستيفاء القصاص
(أما) المرتهن فظاهر لان ملك الرقبة لم يكن ثابتا له وقت القتل فلم يوجد سبب ثبوت ولاية الاستيفاء في حقه (وأما)
الراهن فلان استيفاءه يتضمن ابطال حق المرتهن في الدين من غير رضاه لان الرهن يصير هالكا من غير بدل لان
العبد إنما كان رهنا من حيث إنه مال والقصاص لا يصلح بدلا عن المالية لأنه ليس بمال فيصير الرهن هالكا من
غير بدل فيسقط دينه فكان في استيفائه القصاص ابطال حق المرتهن من غير رضاه وهذا لا يجوز ولو اجتمعا
ذكر الكرخي رحمه الله ان للراهن أن يستوفى القصاص عند أبي حنيفة رحمه لان الامتناع كان لحق المرتهن
وقد رضى بسقوطه وعند محمد ليس له أن يستوفى وان اجتمعا على الاستيفاء وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي
رحمه الله أنه لا قصاص على قاتله ولم يذكر الخلاف وقد ذكرنا وجه كل من ذلك في كتاب الرهن (ومنها) الولاء إذا لم
يكن لمولى الأسفل وارث لان الولاء سبب الولاية في الجملة ألا ترى أن مولى العتاقة يزوج بالاجماع لأنه آخر العصبات
ومولى الموالاة يزوج على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه آخر الورثة فإن كان له وارث فلا قصاص لاشتباه الولي
فلا يتصور الاستيفاء (ومنها) السلطنة عند عدم الورثة والملك والولاء كاللقيط ونحوه إذا قتل وهذا قولهما وقال أبو
يوسف رحمه الله ليس للسلطان أن يستوفى إذا كان المقتول من أهل دار الاسلام وله أن يأخذ الدية وإن كان من أهل
دار الحرب فله أن يستوفى القصاص وله أن يأخذ الدية (وجه) قوله إن المقتول في دار الاسلام لا يخلو عن ولى له عادة
الا أنه ربما لا يعرف وقيام ولاية الولي تمنع ولاية السلطان وبهذا لا يملك العفو بخلاف الحربي إذا دخل دار الاسلام
فاسلم أن الظاهر أن لا ولى له في دار الاسلام ولهما أن الكلام في قتيل لم يعرف له ولى عند الناس فكان وليه السلطان
لقوله عليه الصلاة والسلام السلطان ولى من لا ولى له وقد روى أنه لما قتل سيدنا عمر رضي الله عنه خرج الهرمزان
والخنجر في يده فظن عبيد الله أن هذا الذي قتل سيدنا عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه
فقال سيدنا علي رضي الله عنه لسيدنا عثمان اقتل عبيد الله فامتنع سيدنا عثمان رضي الله عنه وقال كيف أقتل رجلا
قتل أبوه أمس لا أفعل ولكن هذا رجل من أهل الأرض وانا وليه أعفو عنه وأؤدي ديته وأراد بقوله أعفو عنه
وأؤدي ديته الصلح على الدية وللامام أن يصالح على الدية الا أنه لا يملك العفو لان القصاص حق المسلمين بدليل
أن ميراثه لهم وإنما الامام نائب عنهم في الإقامة وفى العفو اسقاط حقهم أصلا ورأسا وهذا لا يجوز ولهذا لا يملكه
الأب والجد وإن كانا يملكان استيفاء القصاص وله أن يصالح على الدية كما فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه والله تعالى
الموفق بالصواب
* (فصل) * وأما بيان ما يستوفى به القصاص وكيفية الاستيفاء فالقصاص لا يستوفى الا بالسيف عندنا وقال
الشافعي رحمه الله يفعل به مثل ما فعل فان مات والا تحز رقبته حتى لو قطع يد رجل عمدا فمات من ذلك فان الولي يقتله
وليس له أن يقطع يده عندنا وعنده تقطع يده فان مات في المدة التي مات الأول فيها والا تحز رقبته (وجه) قوله أن مبنى
القصاص على المماثلة في الفعل لأنه جزاء الفعل فيشترط أن يكون مثل الفعل الأول وذلك فما قلنا وهو أن يفعل به مثل
ما فعل هو والموجود منه القطع فيجب أن يجازى بالقطع والظاهر في القطع عدم السراية فان اتفقت السراية والا تحز
رقبته ويكون الحز تتميما للفعل الأول لأجزأ مبتدأ (ولنا) قوله عليه الصلاة والسلام لا قود الا بالسيف والقود هو
القصاص والقصاص هو الاستيفاء فكان هذا نفى استيفاء القصاص بالسيف ولان القطع إذا اتصلت به السراية
تبين أنه وقع قتلا من حين وجوده فلا يجازى الا بالقتل فلو قطع ثم احتيج إلى الحز كان ذلك جمعا بين القتل والحز فلم
245

يكن مجازاة بالمثل وقوله الحز يقع تتميما للقطع فاسد لان المتمم للشئ من توابعه والحز قتل وهو أقوى من القطع فكيف
يكون من تمامه وان أراد الولي أن يقتل بغير السيف لا يمكن لما قلنا ولو فعل يعزر لكن لا ضمان عليه ويصير مستوفيا
باي طريق قتله سواء قتله بالعصا أو بالحجر أو ألقاه من السطح أو ألقاه في البئر أو ساق عليه دابة حتى مات ونحو ذلك لان
القتل حقه فإذا قتله فقد استوفى حقه بأي طريق كان الا أنه يأثم بالاستيفاء لا بطريق مشروع لمجاوزته حد الشرع
وله أن يقتل بنفسه وبنائبه بان يأمر غيره بالقتل لان كل أحد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه اما لضعف بدنه أو لضعف
قلبه أو لقلة هدايته إليه فيحتاج إلى الإنابة الا أنه لا بد من حضوره عند الاستيفاء لما ذكرنا فيما تقدم ثم إذا قتله المأمور
والآمر حاضر صار مستوفيا ولا ضمان عليه فاما إذا قتله والآمر غير حاضر وأنكر ولى هذا القتيل الامر فإنه يجب
القصاص على القاتل ولا يعتبر تصديق الولي لان القتل عمدا سبب لوجوب القصاص في الأصل فلو خرج من أن
يكون سببا إنما يخرج بالامر وقد كذبه ولى هذا القتيل في الامر وتصديق ولى القصاص غير معتبر لأنه صدقه بعد
ما بطل حقه عن القصاص لفوات محله فصار أجنبيا عنه فلا يعتبر تصديقه فلم يثبت الامر تبقى القتل العمد موجبا
للقصاص ولو حفر بئرا في دار انسان فوقع فيها انسان ومات فادعى ولى القتيل الدية فقال الحافر حفرته باذن صاحب
الدار وصدقه صاحب الدار في ذلك فلا ضمان على الحافر ويعتبر تصديقه لأنه صدقه في فعل يملك انشاء الامر به للحال
وهو الحفر في ملكه فلم يكن هذا تصديقا بعد فوات المحل فاعتبر بخلاف الأول والله تعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه فالمسقط له أنواع منها فوات محل القصاص بان مات من
عليه القصاص بآفة سماوية لأنه لا يتصور بقاء الشئ في غير محله وإذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية
عندنا لان القصاص هو الواجب عينا عندنا وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وعلى قوله الآخر تجب الدية وقد
بينا فساده فيما تقدم وكذا إذا قتل من عليه القصاص بغير حق أو بحق بالردة والقصاص بان قتل انسانا فقتل
به قصاصا يسقط القصاص ولا يجب المال لما قلنا وكذلك القصاص الواجب فيما دون النفس إذا فات ذلك
العضو بآفة سماوية أو قطع بغير حق يسقط القصاص من غير مال عندنا لما قلنا وان قطع بحق بان قطع يده غيره
فقطع به أو سرق مال انسان فقطع يسقط القصاص أيضا لفوات محله لكن يجب أرش اليد فيقع الفرق في
موضعين أحدهما بين القتل والقطع بحق والثاني بين القطع بغير حق وبين القطع بحق والفرق انه إذا قطع طرفه
بحق فقد قضى به حقا واجبا عليه فجعل كالقائم وجعل صاحبه ممسكا له تقديرا كأنه أمسكه حقيقة وتعذر استيفاء
القصاص لعذر الخطا ونحو ذلك وهناك يجب الأرش كذا هذا وهذا المعنى لم يوجد فيما إذا قطع بغير حق لأنه لم يقض
حقا واجبا عليه وفى القتل ان قضى حقا واجبا عليه لكن لا يملك ان يجعل ممسكا للنفس بعد موته تقديرا لأنه
لا يتصور حقيقة بخلاف الطرف والله تعالى أعلم ومنها العفو والكلام فيه في ثلاثة مواضع أحدها في بيان ركنه
والثاني في بيان شرائط الركن والثالث في بيان حكمه أما ركنه فهو أن يقول العافي عفوت أو أسقطت أو
أبرأت أو وهبت وما يجرى هذا المجرى وأما الشرائط فمنها أن يكون العفو من صاحب الحق لأنه اسقاط الحق
واسقاط الحق ولا حق محال فلا يصح العفو من الأجنبي لعدم الحق ولا من الأب والجد في قصاص وجب للصغير
لان الحق للصغير لا لهما وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير ولان ولايتهما مقيدة بالنظر للصغير والعفو ضرر
محض لأنه اسقاط الحق أصلا ورأسا فلا يملكانه ولهذا لا يملكه السلطان فيما له ولاية الاستيفاء على ما بينا والله تعالى
أعلم ومنها أن يكون العافي عاقلا (ومنها) أن يكون بالغا فلا يصح العفو من الصبي والمجنون وإن كان الحق ثابتا لهما
لأنه من التصرفات المضرة المحضة فلا يملكانه كالطلاق والعتاق ونحو ذلك (وأما) حكم العفو فالعفو في الأصل
لا يخلو اما أن يكون من الولي واما أن يكون من المجروح فإن كان من الولي لا يخلو من أن يكون منه بعد الموت أو قبل
الموت بعد الجرح فإن كان بعد الموت فاما أن يكون الولي واحدا واما أن يكون أكثر فإن كان واحدا بأن كان القاتل
246

والمقتول واحدا فعفا عن القاتل سقط القصاص لان استيفاء لتحقق معنى الحياة وهذا المعنى يحصل بدون
الاستيفاء بالعفو لأنه إذا عفا فالظاهر أنه لا يطلب الثار بعد العفو فلا يقصد قتل القاتل قتله فيحصل
معنى الحياة بدون الاستيفاء فيسقط القصاص لحصول ما شرع له استيفاؤه بدونه وهكذا قال الحسن رحمه الله في
تأويل قوله تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا أي من أحياها بالعفو وقيل في قوله تبارك وتعالى ذلك تخفيف
من ربكم ورحمه ان ذلك العفو والصلح على ما قيل إن حكم التوراة القتل لا غير وحكم الإنجيل العفو بغير بدل لا غير
فخفف سبحانه وتعالى على هذه الأمة فشرع العفو بلا بدل أصلا والصلح ببدل سواء عفا عن الكل أو عن البعض
لان القصاص لا يتجزأ وذكر البعض فميا لا يتبعض ذكر الكل كالطلاق وتسليم الشفعة وغيرهما وإذا سقط
القصاص بالعفو لا ينقلب مالا عندنا لان حق الولي في القصاص عينا وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله وقد أسقطه
لا إلى بدل ومن له الحق إذا أسقط حقه مطلقا وهو من أهل الاسقاط والمحل قابل للسقوط يسقط مطلقا كالابراء عن
الدين ونحو ذلك وعلى قوله الآخر الواجب أحدهما فإذا عفا عن القصاص انصرف إلى الواجب تصحيحا لتصرفه
كمن له على آخر دراهم أو دنانير ولا ينوى أحدهما بعينه فأبرأه المديون عن أحدهما ليس له ان يطالبه بالآخر لما قلنا
كذا هذا ولو عفا عنه ثم قتله بعد العفو يجب عليه القصاص عند عامة العلماء رضى الله تعالى عنهم وقال بعض الناس
لا يجب واحتجوا بقوله تبارك وتعالى فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم جعل جزاء المعتدى وهو القاتل بعد العفو
العذاب الأليم وهو عذاب الآخرة نستجير بالله سبحانه وتعالى من هو له فلو وجب القصاص في الدنيا لصار
المذكور بعض الجزاء ولان القصاص في الدنيا يرفع عذاب الآخرة لقوله عليه الصلاة والسلام السيف محاء
للذنوب وفيه نسخ الآية الشريفة (ولنا) عموما القصاص من غير فصل بين شخص وشخص وحال وحال
الا شخصا أو حالا قيد بدليل وكذا الحكمة التي لها شرع القصاص وهو الحياة على ما بينا يقتضى الوجوب وأما
الآية فقد قيل في بعض وجوه التأويل ان العذاب الأليم ههنا هو القصاص فان القتل غاية العذاب الدنيوي في
الايلام فعلى هذا التأويل كانت الآية حجة عليهم وتحتمل هذا وتحتمل ما قالوا فلا تكون حجة مع الاحتمال وإن كان
القصاص أكثر بان قتل رجلان واحدا فان عفا عنهما سقط القصاص أصلا لما ذكرنا وان عفا عن أحدهما
سقط القصاص عنه وله أن يقتل الآخر لأنه استحق على كل واحد منهما قصاصا كاملا والعفو عن أحدهما
لا يوجب العفو عن الآخر وذكر في المنتقى عن أبي يوسف رحمه الله انه يسقط القصاص عنهما لان طريق ايجاب
القصاص عليهما ان يجعل كل واحد منهما قاتلا على الانفراد كان ليس معه غيره إذا القتل تفويت الحياة ولا يتصور
تفويت حياة واحدة من كل واحد منهما على الكمال فيجعل كل واحد منهما قاتلا على الانفراد ويجعل قتل صاحبه
عدما في حقه فإذا عفا عن أحدهما والعفو عن القاتل جعل فعل الآخر عدما تقديرا فيورث شبهة والقصاص
لا يستوفى مع الشبهة وهذا ليس بسديد لان طريق ايجاب القصاص عليهما ليس ما ذكر وليس القتل اسما لتفويت
الحياة بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة وهذا حصل لكل واحد منهما على الكمال فالعفو عن أحدهما
لا يؤثر في الآخر هذا إذا كان الولي واحدا فاما إذا كان اثنين أو أكثر فعفا أحدهما سقط القصاص عن
القاتل لأنه سقط نصيب العافي بالعفو فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا يتجزأ إذ القصاص قصاص واحد
فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض وينقلب نصيب الآخر مالا باجماع الصحابة الكرام رضى الله تعالى عنهم فإنه
روى عن عمر و عبد الله بن مسعود وابن عباس رضى الله تعالى عنهم انهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا
نصيبهم من الدية وذلك بمحضر من الصحابة رضى الله تعالى عنهم ولم ينقل انه أنكر أحد عليهم فيكون اجماعا وقيل إن
قوله تبارك وتعالى فمن عفى له من أخيه شئ نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل فللآخرين ان يتبعوه بالمعروف
في نصيبهم لأنه قال سبحانه وتعالى فمن عفى له من أخيه شئ وهذا العفو عن بعض الحق ويكون نصيب الآخر وهو
247

نصف الدية في مال القاتل لان القتل عمد الا انه تعذر استيفاء القصاص لما ذكرنا والعاقلة لا تعقل العمد ويؤخذ منه
في ثلاث سنين عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر في سنتين (وجه) قوله إن الواجب نصف الدية فيؤخذ في سنتين كما
لو قطع يد انسان خطأ ووجب عليه نصف الدية انه يؤخذ في سنتين كذا ههنا (ولنا) ان الواجب جزء مما يؤخذ في
ثلاث سنين وحكم الجزء حكم الكل بخلاف القطع فان الواجب هناك كل لا جزء لان كل دية واحدة هذا القدر
الا انه قدر كل ديتها بنصف دية النفس وهذا لا ينفى أن يكون كل دية الطرف ولو عفا أحدهما فقتله الاخر ينظر
ان قتله ولم يعلم بالعفو أو علم به لكنه لم يعلم بالحرمة لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند زفر رحمة الله عليه
القصاص (وجه) قوله إنه قتل نفسا بغير حق لان عصمته عادت بالعفو ألا ترى انه حرم قتله فكانت
مضمونة بالقصاص كما لو قتله قبل وجود القتل منه فلو سقط إنما سقط بالشبهة ومطلق الظن لا يورث شبهة كما لو
قتل انسانا وقال ظننت انه قاتل أبى (ولنا) ان في عصمته شبهة العدم في حق القاتل لأنه قتله على ظن أن قتله مباح
له وهو ظن مبنى على نوع دليل وهو ما ذكرنا ان القصاص وجب حقا للمقتول وكل واحد من الأولياء بسبيل من
استيفاء حق وجب للمقتول فالعفو من أحدهما ينبغي ان لا يؤثر في حق الاخر ولان سبب ولاية الاستيفاء وجد
في حق كل واحد منهما على الكمال وهو القرابة فينبغي ان لا يؤثر عفو أحدهما في حق صاحبه الا انه امتنع هذا الدليل
عن العمل باجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم على ما بينا فقيامه يورث شبهة عدم العصمة والشبهة في هذا الباب
تعمل عمل الحقيقة فتمنع وجوب القصاص ويجب عليه نصف الدية لان القصاص إذا تعذر ايجابه للشبهة وجب
عليه كمال الدية كان على القاتل نصف الدية فصار النصف قصاصا بالنصف فيوجب عليه النصف الآخر ويكون
في ماله لا على العاقلة لأنه وجب بالقتل وهو عمد والعاقلة لا تعقل العمد وان علم بالعفو والحرمة يجب عليه القصاص
لان المانع من الوجوب الشبهة وانها نشأت عن الظن ولم يوجد فزال المانع وله على المقتول نصف الدية لأنه قد كان
انقلب نصيبه مالا بعفو صاحبه فبقي ذلك على المقتول هذا إذا كان القصاص الواحد مشتركا بينهما فعفا أحدهما
عن نصيبه فاما إذا وجب لكل واحد منهما قصاص كامل قبل القاتل بان قتل واحد رجلين فعفا أحدهما عن القاتل
لا يسقط قصاص الآخر لان كل واحد منهما استحق عليه قصاصا كاملا ولا استحالة له في ذلك لان القتل ليس
تفويت الحياة ليقال إن الحياة الواحدة لا يتصور تفويتها من اثنين بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة
وهذا يتصور من كل واحد منهما في محل واحد على الكمال فعفو أحدهما عن حقه وهو القصاص لا يؤثر في حق
صاحبه بخلاف القصاص الواحد المشترك والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا عفا الولي عن القاتل بعد موت وليه
(فأما) إذا عفا عنه بعد الجرح قبل الموت فالقياس ان لا يصح عفوه وفى الاستحسان يصح (وجه) القياس أن
العفو عن القتل يستدعى وجود القتل والفعل لا يصير قتلا الا بفوات الحياة عن المحل ولم يوجد فالعفو لم يصادف محله
فلم يصح وللاستحسان وجهان أحدهما ان الجرح متى اتصلت به السراية تبين انه وقع قتلا من حين وجوده فكان
عفوا عن حق ثابت فيصح ولهذا لو كان الجرح خطأ فكفر بعد الجرح قبل الموت ثم مات جاز التكفير والثاني
ان القتل ان لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده وهو الجرح المفضى إلى فوات الحياة والسبب المفضى إلى الشئ
يقام مقام ذلك الشئ في أصول الشرع كالنوم مع الحدث والنكاح مع الوطئ وغير ذلك ولأنه إذا وجد سبب وجود
القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه وانه جائز كالتكفير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطأ والله سبحانه
وتعالى أعلم وكذلك العفو من المولى واحدا كان أو أكثر والعفو من الوارث سواء في جميع ما وصفنا الا ان في
القصاص بين الموليين إذا عفا أحدهما فللآخر حصته من قيمة العبد وههنا من الدية لان القيمة في دم العمد كالدية
في دم الحر (فأما) فيما وراء ذلك فلا يختلفان هذا كله إذا كان العفو من المولى أو من الولي فأما إذا كان من المجروح
بأن كان المجروح عفا لا يصح عفوه لان القصاص يجب حقا للمولى لا له وإن كان حرا فان عفا عن القتل ثم مات
248

صح استحسانا والقياس ان لا يصح (وجه) القياس والاستحسان على نحو ما ذكرنا وان عفا عن القطع أو الجراحة
أو الشجة أو الجناية ثم مات أولا فجملة الكلام فيه ان الجرح لا يخلو اما أن يكون عمدا أو خطأ فإن كان عمدا فالمجروح
لا يخلو اما أن يقول عفوت عن القطع أو الجراحة أو الشجة أو الضربة وهذا كله قسم واحد (واما) أن يقول عفوت
عن الجناية والقسم الأول لا يخلوا (اما) ان ذكر معه ما يحدث منها (واما) ان لم يذكر وحال المجروح لا يخلو (اما)
ان برئ وصح (واما) ان مات من ذلك فان برئ من ذلك صح العفو في الفصول كلها لان العفو وقع عن ثابت وهو
الجراحة أو موجبها وهو الأرش فيصح وان سرى إلى النفس ومات فإن كان العفو بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما
يحدث منها صح بالاجماع ولا شئ على القاتل لان لفظ الجناية يتناول وكذا لفظ الجراحة وما يحدث منها فكان
ذلك عفوا عن القتل فيصح وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر ما يحدث منها لم يصح العفو في قول أبي حنيفة رضي الله عنه
والقياس ان يجب القصاص وفى الاستحسان تجب الدية في مال القاتل وعندهما يصح العفو ولا شئ على القاتل (وجه)
قولهما ان السراية اثر الجراحة والعفو عن الشئ يكون عفوا عن أثره كما إذا قال عفوت عن الجراحة وما يحدث منها ولأبي
حنيفة رضي الله عنه وجهان أحدهما انه عفا عن غير حقه فان حقه في موجب الجناية لان في عينها لان عينها عرض
لا يتصور بقاؤها فلا يتصور العفو عنها ولان عينها جناية وجدت من الخارج والجناية لا تكون حق المجني عليه فكان
هذا عفوا عن موجب الجراحة وبالسراية يتبين انه لا موجب بهذه الجراحة لان عند السراية يجب موجب القتل
بالاجماع وهو القصاص إن كان عمدا والدية إن كان خطأ ولا يجب الأرش وقطع اليد مع موجب القتل لان الجمع بينهما
غير مشروع والثاني إن كان العفو عن القطع والجرح صحيحا لكن القطع غير والقتل غير فالقطع إبانة الطرف والقتل فعل
مؤثر في فوات الحياة عادة وموجب أحدهما القطع والأرش وموجب الاخر القتل والدية والعفو عن أحد الغيرين
لا يكون عفوا عن الآخر في الأصل فكان القياس ان يجب القصاص لوجود القتل العمد وعدم ما يسقطه الا انه سقط
للشبهة فتجب الدية وتكون في ماله لأنها وجبت بالقتل العمد والعاقلة لا تعقل العمد هذا إذا كان القتل عمدا فاما إذا كان
خطأ فان برئ من ذلك صح العفو بالاجماع ولا شئ على القاطع سواء كان بلفظ الجناية أو الجراحة وذكر وما يحدث
منها أو لم يذكر لما قلنا وان سرى إلى النفس فإن كان بلفظ الجناية أو الجراحة وما يحدث منها صح أيضا لما ذكرنا ثم إن
كان العفو في حال صحة المجروح بأن كان يذهب ويجئ ولم يصر صاحب فراش يعتبر من جميع ماله وإن كان في حال
المرض بأن صار صاحب فراش يعتبر عفوه من ثلث ماله لان العفو تبرع منه وتبرع المريض مرض الموت يعتبر من
ثلث ماله فإن كان قدر الدية يخرج من الثلث سقط ذلك القدر عن العاقلة وإن كان لا يخرج كله من الثلث فثلثه يسقط
عن العاقلة وثلثاه يؤخذ منهم وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها لم يصح العفو والدية على العاقلة عند أبي
حنيفة وعندهما يصح العفو وهذا وقوله عفوت عن الجراحة وعن الجناية وما يحدث منها سواء وقد بينا حكمه والله
سبحانه وتعالى أعلم ولو كان مكان العفو صلح بان صالح من القطع أو الجراحة على مال فهو على التفصيل الذي ذكرنا
أنه ان برئ المجروح فالصلح صحيح بأي لفظ كان وسواء كان القطع عمدا أو خطأ لان الصلح وقع عن حق ثابت
فيصح وان سرى إلى النفس فإن كان الصلح بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها فالصلح صحيح أيضا لأنه
صلح عن حق ثابت وهو القصاص وإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح
الصلح ويؤخذ جميع الدية من ماله في العمد وإن كان خطأ يرد بدل الصلح ويجب جميع الدية على العاقلة والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو كان مكان الصلح نكاح بان قطعت امرأة يد رجل أو جرحته فتزوجها على ذلك فهو على ما ذكرنا من
التفاصيل انه ان برئ من ذلك جاز النكاح وصار أرش ذلك مهرا لها لأنه تبين أن موجب ذلك الأرش سواء كان القطع
عمدا أو خطأ لان القصاص بين الذكور والإناث لا يجرى فيما دون النفس فكان الواجب هو المال فإذا تزوجها عليه
فقد سمى المال فكان مهرا لها وان سرى إلى النفس فإن كان النكاح بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها
249

وكان القطع خطأ جاز النكاح وصار دم الزوج مهرا لها لأنه لما اتصلت به السراية تبين انه وقع قتلا موجبا للدية على
العاقلة فكان التزوج على موجب الجناية وهو الدية وسقطت عن العاقلة لصيرورتها مهرا لها وهذا إذا كان وقت
النكاح صحيحا فإن كان مريضا فبقدر مهر المثل يسقط عن العاقلة لأنه ليس بمتبرع في هذا القدر (وأما) الزيادة على
ذلك فينظر إن كانت تخرج من ثلث ماله يسقط أيضا وإن كانت لا تخرج من ثلث ماله فبقدر الثلث يسقط أيضا
والزيادة تكون للزوج ترجع إلى ورثته وإنما اعتبر خروج الزيادة من ثلث ماله لأنه متبرع بالزيادة وهو مريض
مرض الموت هذا في الخطأ (وأما) في العمد جاز النكاح وصار عفوا (أما) جواز النكاح فلا شك فيه لأن جوازه لا يقف
على تسمية ما هو مال (واما) صيرورة النكاح على القصاص عفوا له لأنه لما تزوجها على القصاص فقد أزال حقه
عنه وأسقطه وهذا معنى العفو ولها مهر المثل من تركة الزوج لان النكاح لا يجوز الا بالمهر والقصاص لا يصلح مهرا
لأنه ليس بمال فيجب لها العوض الأصلي وهو مهر المثل فإن كان بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها فكذلك
الجواب عندهما في العمد والخطأ وعند أبي حنيفة رحمه الله بطل العفو إذا كان عمدا ولها مهر المثل من مال الزوج
وتجب الدية من مالها فيتناقصان بقدر مهر المثل وتضمن المرأة الزيادة وإن كانت خطأ فتجب الدية على عاقلتها ولها
مهر المثل من مال الزوج ولا ترث المرأة من مال الزوج شيئا لأنها قاتلة ولا ميراث للقاتل والله تعلى أعلم ولو كان
مكان النكاح خلع بان قطع يد امرأته أو جرحها جراحة فخلعها على ذلك فهو على ما ذكرنا انها ان برئت جاز الخلع وكان
بائنا لأنه تبين انه خلعها على أرش اليد فصح الخلع وصار أرش اليد بدل الخلع والخلع على مال طلاق بائن ويستوى فيه
العمد والخطأ لما مر وان سرى إلى النفس وكان خطأ فان ذكر بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها جاز الخلع
ويكون بائنا لأنه تبين ان الفعل وقع قتلا فتبين انه وقع موجبا للدية فكان الخلع واقعا على ماله وهو الدية فيصح ويكون
بائنا ثم إن كانت المرأة صحيحة وقت الخلع جاز ذلك من جميع المال وإن كانت مريضة صارت الدية بدل الخلع ويعتبر
خروج جميع الدية من الثلث بخلاف النكاح حيث يعتبر هناك خروج الزيادة على قدر مهر المثل من الثلث لان
تلك الحال دخول البضع في ملك الزوج وهذه حالة الخروج والبضع يعد مالا حال الدخول في ملك الزوج ولا
يعد مالا حال الخروج عن ملكه وإن كان يخرج من الثلث سقط عن العاقلة وان لم يكن لها مال يسقط والثلثان على
العاقلة ويكون بمنزلة الوصية هذا في الخطأ فأما في العمد جاز العفو ولا يكون مالا وخلعها بغير مال يكون رجعيا
وإن كان الخلع بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها فعندهما كذلك الجواب وعند أبي حنيفة رحمه الله لم يصح
العفو وتجب جميع الدية في ماله في العمد وفى الخطأ على العاقلة ويكون الخلع بغير مال فيكون الطلاق رجعيا والله تعالى
أعلم ومنها الصلح على مال لان القصاص حق للمولى ولصاحب الحق أن يتصرف في حقه استيفاء واسقاطا إذا كان
من أهل الاسقاط والمحل قابل للسقوط ولهذا يملك العفو فيملك الصلح ولان المقصود من استيفاء القصاص وهو
الحياة يحصل به لأن الظاهر أن عند أخذ المال عن صلح وتراض تسكن الفتنة فلا يقصد الولي قتل القاتل فلا يقصد
القاتل قتله فيحصل المقصود من استيفاء القصاص بدونه وقيل إن قوله تبارك وتعالى فمن عفى له من أخيه شئ الآية
نزل في الصلح عن دم العمد فيدل على جواز الصلح وسواء كان بدل الصلح قليلا أو كثيرا من جنس الدية أو من
خلاف جنسها حالا أو مؤجلا بأجل معلوم أو مجهول جهالة متفاوتة كالحصاد والدياس ونحو ذلك بخلاف الصلح
من الدية على أكثر مما تجب فيه الدية انه لا يجوز لان المانع من الجواز هناك تمكن الربا ولم يوجد ههنا لان الربا يختص
بمبادلة المال بالمال والقصاص ليس بمال وقد ذكرنا شرائط جواز الصلح ومن يملك الصلح ومن لا يملكه في كتاب
الصلح ولو صالح الولي القاتل على مال ثم قتله يقتص منه عند عامة العلماء رضي الله عنهم وقال بعض الناس لا قصاص
عليه وقد مرت المسألة في العفو ولو كان الولي اثنين والقصاص واحد فصالح أحدهما سقط القصاص عن القاتل
وينقلب نصيب الآخر مالا لما ذكرنا في العفو ولو قتله الآخر بعد عفو صاحبه فهو على التفصيل والخلاف
250

والوفاق الذي ذكرناه في العفو ولو كان القصاص أكثر فصالح ولى أحد القتلين فللآخر ان يستوفى وكذا
لو صالح الولي مع أحد القاتلين كان له أن يقتص للآخر لما ذكرنا في العفو وكذلك حكم المولى في الصلح عن دم
العمد في جميع ما وصفنا ومنها ارث القصاص بان وجب القصاص لانسان فمات من له القصاص فورث القاتل
القصاص سقط القصاص لاستحالة وجوب القصاص له وعليه فيسقط ضرورة ولو قتل رجلان رجلين كل
واحد منهما ابن الآخر عمدا وكل منهما وارث الآخر قال أبو يوسف رحمه الله لا قصاص عليهما وقال
الحسن بن زياد رحمه الله يوكل كل واحد منهما وكيلا يستوفى القصاص فيقتلهما الوكيلان معا وقال زفر رحمه
الله يقال للقاضي ابتد بأيهما شئت وسلمه إلى الاخر حتى يقتله ويسقط القصاص عن الاخر (وجه) قول زفر
رحمه الله ان القصاص وجب على كل واحد منهما لوجود السبب من كل واحد منهما وهو القتل العمد الا انه لا يتمكن
استيفاؤهما لأنه إذا استوفى أحدهما يسقط الآخر لصيرورة القصاص ميراثا للقاتل الآخر فكان
الخيار فيه إلى القاضي يبتدئ بأيهما شاء ويسلمه إلى الاخر حتى قتله ويسقط القصاص عن الآخر (وجه)
قول الحسن رحمه الله ان استيفاء القصاص منهما ممكن بالوكالة بان يقتل كل واحد من الوكيلين كل واحد من القاتلين في
زمان واحد فلا يتوارثان كما في الغرقى والحرقى (وجه) قول أبى يوسف رحمه الله ان وجوب القصاص وجوب
الاستيفاء لا يعقل له معنى سواه ولا سبيل إلى استيفاء القصاص لأنه إذا استوفى أحدهما سقط الآخر وليس
أحدهما بالاستيفاء أولى من الآخر فتعذر القول بالوجوب أصلا ولان في استيفاء أحد القصاصين ابقاء حق
أحدهما واسقاط حق الآخر وهذا لا يجوز والقول باستيفائهما بطريق التوكيل غير سديد لان الفعلين قل ما
يتفقان في زمان واحد بل يسبق أحدهما الاخر عادة وكذا أثرهما الثابت عادة وهو فوات الحياة وفى ذلك اسقاط
القصاص عن الآخر وقالوا في رجل قطع يد رجل ثم قتل المقطوع يده ابن القاطع عمدا ثم مات المقطوع يده من القطع
ان على القاطع القصاص وهو القتل لولي المقطوع يده لأنه مات بسبب سابق على وجود القتل منه وهو القطع السابق
لان ذلك القطع صار بالسراية قتلا فوجب القصاص على القاطع ولا يسقط بقتل المقطوع يده ابن القاطع والله سبحانه
وتعالى أعلم (ومنها) حرمان الميراث لحصول القتل مباشرة بغير حق ولهذا يثبت بالقتل الخطا فبالعمد أولى وأما الكفارة
فلا تجب عندنا وعند الشافعي رحمه الله تجب (وجه) قوله إن الكفارة لرفع الذنب ومحو الاثم ولهذا وجبت في القتل
الخطا والذنب في القتل العمد أعظم فكانت الحاجة إلى الدفع أشد (ولنا) ان التحرير أو الصوم في الخطا إنما
وجب شكرا للنعمة حيث سلم له أعز الأشياء إليه في الدنيا وهو الحياة مع جواز المؤاخذة بالقصاص وكذا ارتفع عنه
المؤاخذة في الآخرة مع جواز المؤاخذة وهذا لم يوجد في العمد فيقدر الايجاب شكرا أوجب لحق التوبة عن القتل
بطريق الخطأ وألحق التوبة الحقيقية لخفة الذنب بسبب الخطا والذنب ههنا أعظم فلا يصلح لتحرير توبة والله
تعالى أعلم وأما شبه العمد فيتعلق به أحكام منها وجوب الدية المغلظة على العاقلة اما وجوب الدية فلان القصاص
امتنع وجوبه مع وجود القتل العمد للشبهة فتجب الدية وأما صفة التغليظ فلاجماع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم
اختلفوا في كيفية التغليظ على ما نذكر إن شاء الله تعالى واختلافهم في الكيفية دليل ثبوت الأصل وأما الوجوب
على العاقلة فلان العاقلة إنما تعقل الخطأ تخفيفا على القاتل نظرا له لوقوعه فيه لا عن قصد وفى هذا القتل شبهة عدم القصد
لحصوله بآله لا يقصد بها القتل عادة فكان مستحقا لهذا النوع من التخفيف ومنها حرمان الميراث ومنها عدم جواز
الوصية لأنه قتل مباشرة بغير حق وهل تجب الكفارة في هذا القتل ذكر الكرخي رحمه الله انها تجب وألحقه بالقتل
الخطأ المحض في وجوب الكفارة وقال بعض مشايخنا لا تجب وألحقه بالعمد المحض في عدم وجوب الكفارة
(وجه) ما ذكره الكرخي رحمه الله ان الكفارة إنما وجبت في الخطا اما لحق الشكر أو لحق التوبة على ما بينا والداعي
إلى الشكر والتوبة ههنا موجود وهو سلامة البدن وكون الفعل جناية فيها نوع خفة لشبهة عدم القصد فأمكن ان يجعل
251

التحرير فيه توبة (وجه) القول الآخر ان هذه جناية متغلظة ألا ترى ان المؤاخذة فيها ثابتة بخلاف الخطا فلا يصلح
التحرير توبة بها كما في العمد والله سبحانه وتعالى أعلم وأما القتل الخطأ فيختلف حكمه باختلاف حال القاتل
والمقتول فنفصل الكلام فيه فنقول القاتل والمقتول اما أن يكونا جميعا حرين واما إن كان القاتل حرا والمقتول عبدا
واما إن كان القاتل عبدا والمقتول حرا واما إن كانا جميعا عبدين فإن كانا حرين فيتعلق به أحكام منها وجوب الكفارة
عند وجود شرائط الوجوب وهو نوعان بعضها يرجع إلى القاتل وبعضها إلى المقتول أما الذي يرجع إلى القاتل
فالاسلام والعقل والبلوغ فلا تجب الكفارة على الكافر والمجنون والصبي لان الكفار غير مخاطبين بشرائع هي
عبادات والكفارة عبادة والصبي والمجنون لا يخاطبا بالشرائع أصلا وأما الذي يرجع إلى المقتول فهو أن يكون
المقتول معصوما فلا تجب بقتل الحربي والباغي لعدم العصمة واما كونه مسلما فليس بشرط فيجب سواء كان مسلما
أو ذميا أو مستأمنا وسواء كان مسلما أسلم في دار الاسلام أو في دار الحرب ولم يهاجر الينا لقوله سبحانه وتعالى ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة إلى قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان
من قوم بينكم وبينهم مياثق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ولان القاتل قد سلم له الحياة في الدنيا وهي من أعظم
النعم ورفعت عنه المؤاخذة في الآخرة مع جواز المؤاخذة في الحكمة لما في وسع الخاطئ في الجملة حفظ نفسه عن الوقوع
في الخطأ وهذا أيضا نعمة فكان وجوب الشكر لهذه النعمة موافقا للعقل فبين الله تعالى مقداره وجنسه بهذه الآية ليقدر
العبد على أداء ما وجب عليه من أصل الشكر بتعضية العقل ولان فعل الخطأ جناية ولله تعالى المؤاخذة عليه بطريق
العدل لأنه مقدور الامتناع بالتكلف والجهد وإذا كان جناية فلا بد لها من التكفير والتوبة فجعل التحرير من العبد
بحق التوبة عن القتل الخطا بمنزلة التوبة الحقيقية في غيره من الجنايات الا انه جعل التحرير أو الصوم توبة له دون
التوبة الحقيقية لخفة الجناية بسبب الخطا إذ الخطأ معفو في الجملة وجائز العفو عن هذا النوع فخفت توبته لخفة في
الجناية فكان التحرير في هذه الجناية بمنزلة التوبة في سائر الجنايات ومنها حرمان الميراث لأنه وجد القتل مباشرة
بغير حق اما المباشرة فلا شك فيها وأما الخطر والحرمة فلان فعل الخطا جناية جائز المؤاخذة عليها عقلا لما بينا
والدليل عليه قوله عز اسمه ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا ولو لم يكن جائز المؤاخذة لكان معنى الدعاء اللهم لا تجر
علينا وهذا محال وإنما رفع حكمها شرعا ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام وقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان ومال استكرهوا عليه مع بقاء وصف الفعل على حاله وهو كونه جناية ومنها وجوب الدية والكلام في
الدية في مواضعه في بيان شرائط وجوب الدية وفي بيان ما تجب منه الدية من الأجناس وفي بيان مقدار الواجب من كل
جنس وفي بيان صفته وفي بيان من تجب عليه الدية وفي بيان كيفية الوجوب أما الشرائط فبعضها شرط أصل الوجوب
وبعضها شرط كمال الواجب أما شرط أصل الوجوب فنوعان أحدهما العصمة وهو أن يكون المقتول معصوما فلا دية
في قتل الحربي والباغي لفقد العصمة فاما الاسلام فليس من شرائط وجوب الدية لا من جانب القاتل ولا من جانب
المقتول فتجب الدية سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو ذميا أو حربيا مستأمنا وكذلك العقل والبلوغ حتى تجب
الدية في مال الصبي والمجنون والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحير رقبة مؤمنة ودية مسلمة
إلى أهله الا ان يصدقوا ولا خلاف في أنه إذا قتل ذميا أو حربياه مستأمنا تجب الدية لقوله تبارك وتعالى فإن كان من قوم
بينكم وبينهم ميثاق فديه مسلمة إلى أهله والثاني التقوم وهو أن يكون المقتول متقوما وعلى هذا يبنى ان الحربي إذا أسلم
في دار الحربي فلم يهاجر الينا فقتله مسلم أو ذمي خطأ انه لا تجب الدية عند أصحابنا خلافا للشافعي بناء على أن التقوم بدار
الاسلام عندنا وعنده بالاسلام وقد ذكرنا تقرير هذا الأصل في كتاب السير ثم نتكلم في المسألة ابتداء احتج الشافعي
رحمه الله بقوله تبارك وتعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وهذا مؤمن قتل خطأ
فتجب الدية (ولنا) قوله جلت عظمته وكبرياؤه فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة
252

والاستدلال به من وجهين أحدهما انه جعل التحرير جزاء القتل والجزاء يقتضى الكفاية فلو وجبت الدية معه
لا تقع الكفاية بالتحرير وهذا خلاف النص والثاني انه سبحانه وتعالى جعل التحرير كل الواجب بقتله لأنه كل
المذكور فلو أوجبنا معه الدية لصار بعض الواجب وهذا تغيير حكم النص وأما صدر الآية الكريمة فلا يتناول هذا
المؤمن لوجهين أحدهما انه سبحانه وتعالى ذكر المؤمن مطلقا فيتناول المؤمن من كل وجه وهو المستأمن دينا ودارا
وهذا مستأمن دينا لا دارا لأنه مكثر سواد الكفرة ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم والثاني انه أفرد هذا المؤمن بالذكر والحكم ولو تناوله صدر الآية الشريفة لعرف حكمه به فكان الثاني تكرارا ولو
حمل على المؤمن المطلق لم يكن تكرارا فكان الحمل عليه أولى أو يحتمل ما ذكرنا فيحمل عليه توفيقا بين الدليلين عملا
بهما جميعا ثم عصمة المقتول تعتبر وقت القتل أم وقت الموت أم في الوقتين جميعا على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه
تعتبر وقت القتل لا غير وعلى أصلهما تعتبر وقت القتل والموت جميعا وعلى قول زفر رحمه الله تعتبر وقت الموت لا غير
وعلى هذا تخرج مسائل الرمي إذا رمى مسلما فارتد المرمى إليه ثم وقع به السهم وهو مرتد فمات فعلى الرامي الدية في قول
أبي حنيفة رحمه الله إن كان خطأ تتحمله العاقلة وإن كان عمدا يكون في ماله وعندهما لا شئ عليه وكذا عند زفر وان
رمى مرتدا أو حربيا فاسلم ثم وقع السهم به ومات لا شئ عليه عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر عليه الدية (وجه) قوله إن
الضمان إنما يجب القتل والفعل إنما يصير قتلا بفوات الحياة ولا عصمة للمقتول وقت فوات الحياة فكان دمه هدرا كما
لو جرحه ثم ارتد فمات وهو مرتد لهما ان للقتل تعلقا بالقاتل والمقتول لأنه فعل القاتل وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة
فلا بد من اعتبار العصمة في الوقتين جميعا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان الضمان إنما يجب على الانسان بفعله ولا فعل منه
سوى الرمي السابق فكان الرمي السابق عند وجود زهوق الروح قتلا من حين وجوده والمحل كان معصوما في ذلك
الوقت فكان ينبغي ان يجب القصاص الا انه سقط للشبهة فتجب الدية ولهذا لو كان مرتدا أو حربيا وقت الرمي
ثم أسلم فأصابه السهم وهو مسلم انه لا شئ عليه عندهما وهذه المسألة حجة قوية لأبي حنيفة رضي الله عنه عليهما في
اعتبار وقت الرمي لا غير والدليل عليه ان في باب الصيد يعتبر وقت الرمي في قولهم جميعا حتى لو كان الرامي
مسلما وقت الرمي ثم ارتد فأصاب السهم الصيد وهو مرتد يؤكل وإن كان الباب باب الاحتياط وبمثله لو كان
مجوسيا وقت الرمي ثم أسلم ثم وقع السهم بالصيد وهو مسلم لا يؤكل وكذلك حلال رمى صيدا ثم أحرم ثم أصابه
لا شئ عليه وان رمى وهو محرم ثم حل فأصابه به فعليه الجزاء فهذه المسائل حجج أبي حنيفة رضي الله عنه في اعتبار
وقت الفعل والأصل ان ما يرجع إلى الأهلية تعتبر فيه أهلية الفاعل وقت الفعل بلا خلاف وما كان راجعا إلى المحل
فهو على الاختلاف الذي ذكرنا بخلاف ما إذا جرح مسلما ثم ارتد المجروح فمات وهو مرتد انه يهدر دمه لان
الجرح السابق انقلب قتلا بالسراية وقد تبدل المحل حكما بالردة فيوجب انقطاع السراية عن ابتداء الفعل كتبدل
المحل حقيقة ولم يوجد هذا المعنى في مسألتنا ولو رمى عبدا فاعتقه مولاه ثم وقع به السهم فمات فلا دية عليه وعليه قيمته
لمولاه في قول أبي حنيفة عليه الرحمة وقال محمد على الرامي لمولى للعبد فضل ما بين قيمته مرميا إلى غير مرمى لا شئ
عليه غير ذلك وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله قول أبى يوسف مع قول محمد انه لما رمى إليه فقد
صار ناقصا بالرمي في ملك مولاه قبل وقوع السهم به لأنه أشرف على الهلاك بتوجه السهم إليه فوجب عليه ضمان
النقصان فصار كما لو جرحه ثم أعتقه مولاه ولو كان كذلك لانقطعت السراية ولا يضمن الدية ولا القيمة وإنما
يضمن النقصان كذا هذا وأبو حنيفة رضي الله عنه مر على أصله وهو اعتبار وقت الفعل لأنه صار قاتلا بالرمي
السابق وهو كان ملك المولى حينئذ (وأما) بيان ما تجب فيه الدية فقد اختلف أصحابنا فيه قال أبو حنيفة رحمه الله
الذي تجب منه الدية وتقضى منه ثلاثة أجناس الإبل والذهب والفضة وعندهما ستة أجناس الإبل والذهب
والفضة والبقر والغنم والحلل واحتجا بقضية سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه فإنه روى أنه قضى بالدية من هذه الأجناس
253

بمحضر من الصحابة رضى الله تعالى عنهم ولأبي حنيفة رضى الله تعالى عنه قوله عليه الصلاة والسلام في النفس المؤمنة
مائة من الإبل جعل عليه الصلاة والسلام الواجب من الإبل على الإشارة إليها فظاهره يقتضى الوجوب منها على
التعيين الا ان الواجب من الصنفين الأخيرين ثبت بدليل آخر فمن ادعى الوجوب من الأصناف الأخر فعليه الدليل
وأما قضية سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه فقد قيل إنه إنما قضى بذلك حين كانت الديات على العواقل فلما نقلها إلى
الديوان قضى بها من الأجناس الثلاثة وذكر في كتاب المعاقل ما يدل على أنه لا خلاف بينهم فإنه قال لو صالح الولي على
أكثر من مائتي بقرة أو مائتي حلة لم يجز بالاجماع ولو لم يكن ذلك من جنس الدية لجاز والله أعلم بالصواب وأما بيان مقدار
الواجب من كل جنس وبيان صفته فقدر الواجب من كل جنس يختلف بذكورة المقتول وأنوثته فإن كان ذكرا فلا
خلاف في أن الواجب بقتله من الإبل مائة لقوله عليه الصلاة والسلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل ولا خلاف
أيضا في أن الواجب من الذهب ألف دينار لما روى أنه عليه الصلاة والسلام جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار
والتقدير في حق الذمي يكون تقديرا في حق المسلم من طريق الأولى وأما الواجب من الفضة فقد اختلف فيه قال
أصحابنا رحمهم الله تعالى عشرة آلاف درهم وزنا وزن سبعة وقال مالك والشافعي رحمهما الله اثنا عشر ألفا والصحيح قولنا
لما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال الدية عشرة آلاف درهم بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل انه أنكر
عليه أحد فيكون اجماعا مع ما ان المقادير لا تعرف الا سماعا فالظاهر أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر
الواجب من البقر عندهما مائتا بقرة ومن الحلل مائتا حلة ومن الغنم ألفا شاة ثم دية الخطا من الإبل أخماس بلا خلاف
عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهذا قول عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال دية الخطا أخماس عشرون بناته مخاض
وعشرون بنو مخاض وعشرون بنو لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وعندهما قدر كل بقرة خمسون درهما
وقدر كل حلة خمسون درهما والحلة اسم لثوبين ازار ورداء وقيمة كل شاة خمسة دراهم ودية شبه العمد أرباع عندهما
خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهو
مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعند محمد ثلاث ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل
عامها كله خلفة وهو مذهب سيدنا عمر وزيد بن ثابت رضى الله تعالى عنهما وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال في
شبه العمد أثلاث ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة والصحابة رضي الله عنهم متى
اختلفت في مسألة على قولين أو ثلاثة يجب ترجيح قول البعض على البعض والترجيح ههنا لقول ابن مسعود رضي الله عنه
لوجهين أحدهما انه موافق للحديث المشهور الذي تلقنه العلماء رضي الله عنهم بالقبول وهو قوله عليه الصلاة
والسلام في النفس المؤمنة مائة من الإبل وفى ايجاب الحوامل ايجاب الزيادة على المائة لان الحمل أصل من وجه والثاني
ان ما قاله أقرب إلى القياس لان الحمل معنى موهوم لا يوقف عليه حقيقة فان انتفاخ البطن قد يكون للحمل وقد يكون
للداء ونحو ذلك وإن كان أنثى فدية المرأة على النصف من دية الرجل لاجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى عن
سيدنا عمر وسيدنا على وابن مسعود وزيد بن ثابت رضوان الله تعالى عليهم انهم قالوا في دية المرأة انها على النصف
من دية الرجل ولم ينقل انه أنكر عليهم أحد فيكون اجماعا ولأن المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل
فكذلك في ديتها وهل يختلف قدر الدية بالاسلام والكفر قال أصحابنا رحمهم الله لا يختلف ودية الذمي والحربي
والمستأمن كدية المسلم وهو قول إبراهيم النخعي والشعبي رحمهما الله والزهري رحمه الله وقال الشافعي رحمه الله تختلف
دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة واحتج بحديث رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
انه جعل دية هؤلاء على هذه المراتب ولان الأنوثة لما أثرت في نقصان البدل فالكفر أولى لان نقيصة الكفر فوق كل
نقيصة (ولنا) قوله تبارك وتعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله أطلق سبحانه وتعالى
254

القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل فدل ان الواجب في الكل على قدر واحد (وروينا) انه عليه
الصلاة والسلام جعل دية كل ذي عهد في عهده الف دينا (وروى) أن عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بدية حرين مسلمين وعن الزهري رحمه الله أنه قال قضى سيدنا أبو بكر
وسيدنا عمر رضى الله تعالى عنهما في دية الذمي بمثل دية المسلم ومثله لا يكذب وكذا روى عن ابن مسعود رضي الله عنه
أنه قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين ولان وجوب كمال الدية يعتمد كمال حال القتيل فيما يرجع إلى
أحكام الدنيا وهي الذكورة والحرية والعصمة وقد وجد ونقصان الكفر يؤثر في أحكام الدنيا (وأما) بيان
من تجب عليه الدية فالدية تجب على القاتل لان سبب الوجوب هو القتل وانه وجد من القاتل ثم (الدية)
الواجبة على القاتل نوعان نوع يجب عليه في ماله ونوع يجب عليه كله وتتحمل عنه العاقلة بعضه بطريق التعاون إذا
كان له عاقله وكل دية وجبت بنفس القتل الخطا أو شبه العمد تتحمله العاقلة وما لا فلا فلا تعقل الصلح لان بدل
الصلح ما وجب بالقتل بل بعقد الصلح ولا الاقرار لأنها وجبت بالاقرار بالقتل لا بالقتل واقراره حجة في حقة لا في حق
غيره فلا يصدق في حق العاقلة حتى لو صدقوا عقلوا ولا العبد بان قتل انسانا خطأ لان الواجب بنفس القتل الدفع لا
الفداء والفداء يجب باختيار المولى لا بنفس القتل ولا العمد بان قتل الأب ابنه عمدا لأنها وان وجبت بالقتل فلم تجب
بالقتل الخطأ أو شبه العمد وهذا لان التحمل من العاقلة في الخطأ وشبه العمد على طريق التخفيف على الخاطئ
والعامد لا يستحق التخفيف وقد روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا
ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة وقيل في معنى قوله عليه الصلاة والسلام ولا عبدا أن المراد منه العبد المقتول وهو
الذي قتله مولاه وهو مأذون مديون أو المكاتب لا العبد القاتل لأنه لو كان كذلك لكان من حق الكلام أن يقول
لا تعقل العاقلة عن عبد لان العرب تقول عقلت عن فلان إذا كان فلان قاتلا وعقلت فلانا إذا كان فلان مقتولا كذا
فرق الأصمعي ثم الوجوب على القاتل فيما تتحمله العاقلة قول عامة المشايخ وقال بعضهم كل الدية في هذا النوع
تجب على الكل ابتداء القاتل والعاقلة جميعا والصحيح هو الأول لقوله سبحانه وتعالى ومن قتل مؤمنا خطا فتحرير
رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ومعناه فليتحرر وليود وهذا خطاب للقاتل لا للعاقلة دل ان الوجوب على القاتل ولما
ذكرنا أن سبب الوجوب هو القتل وانه وجد من القاتل لا من العاقلة فكان الوجوب عليه لا على العاقلة وإنما العاقلة
تتحمل دية واجبة عليه ثم دخول القاتل مع العاقلة في التحمل مذهبنا وقال الشافعي رحمه الله القاتل لا يدخل معهم بل
تتحمل العاقلة الكل دون القاتل وقال أبو بكر الأصم يتحمل القاتل دون العاقلة لأنه لا يجوز أن يؤاخذ أحد بذنب
غيره قال الله سبحانه وتعالى ولا تكسب كل نفس الا عليها وقال جلت عظمته ولا تزر وازرة وزر أخرى ولهذا لم
تتحمل العاقلة ضمان الأموال ولا ما دون نصف عشر الدية كذا هذا (ولنا) أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة على
عاقلة الضاربة وكذا قضى سيدنا عمر رضي الله عنه بالدية على العاقلة بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير
وأما الآية الشريفة فنقول بموجبها لكن لم قلتم أن الحمل على العاقلة أخذ بغير ذنب فان حفظ القاتل واجب على عاقلته
فإذا لم يحفظوا فقد فرطوا والتفريط منهم ذنب ولان القاتل إنما يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له في القتل ولان
الدية مال كثير فالزام الكل القاتل اجحاف به فيشاركه العاقلة في التحمل تخفيفا وهو مستحق التخفيف لأنه خاطئ
وبهذا فارق ضمان المال لان ضمان المال لا يكثر عادة فلا تقع الحاجة إلى التخفيف وما دون نصف عشر الدية حكمه حكم
ضمان الأموال (وأما) الكلام مع الشافعي رحمه الله فوجه قوله أنه عليه السلام قضى بالدية على العاقلة فلا يدخل فيه القاتل
وانا نقول نعم لكن معلولا بالنصرة والحفظ وذلك على القاتل أوجب فكان أولى بالتحمل ثم الكلام في العاقلة في
موضعين أحدهما في تفسير العاقلة من هم والثاني في بيان القدر الذي تتحمله العاقلة من الدية (أما) الأول فالقاتل
لا يخلو اما إن كان حر الأصل واما إن كان معتقا واما إن كان مولى الموالاة فإن كان حر الأصل فعاقلته أهل ديوانه وإن كان
255

من أهل الديوان وهم المقاتلة من الرجال الأحرار البالغين العاقلين تؤخذ من عطاياهم وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله
عاقلته قبيلته من النسب والصحيح قولنا لاجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإنه روى عن إبراهيم النخعي رحمه
لله أنه قال كانت الديات على القبائل فلما وضع سيدنا عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الدواوين فان قيل
قضى عليه الصلاة والسلام بالدية على العاقلة من النسب إذ لم يكن هناك ديوان فكيف يقبل قول سيدنا عمر رضي الله عنه
على مخالفته فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالجواب لو كان سيدنا عمر رضي الله عنه فعل ذلك وحده لكان
يجب حمله فعله على وجه لا يخالف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وكان فعله بمحضر من الصحابة رضي الله عنه
م ولا يظن من عموم الصحابة رضي الله عنهم مخالفة فعله عليه الصلاة والسلام فدل انهم فهموا أنه كان معلولا
بالنصرة وإذا صارت النصرة في زمانهم الديوان نقلوا العقل إلى الديوان فلا تتحقق المخالفة وهذا لان التحمل من العاقلة
للتناصر وقبل وضع الديوان كان التناصر بالقبيلة وبعد الوضع صار التناصر بالديوان فصار عاقلة الرجل أهل ديوانه
ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين والرقيق لأنهم ليسوا من أهل النصرة ولان هذا الضمان صلة وتبرع بالإعانة
والصبيان والمجانين ليسوا من أهل التبرع وان لم يكن له ديوان فعاقلته قبيلته من النسب لان استنصاره بهم وإن كان
القاتل معتقا أو مولى الموالاة فعاقلته مولاه وقبيلة مولاه لقوله عليه الصلاة والسلام مولى القوم منهم ثم عاقلة المولى
الا على قبيلته إذا لم يكن من أهل الديوان فكذا عاقلة مولاه ولان استنصاره بمولاه وقبيلته فكانوا عاقلته هذا إذا كان
للقاتل عاقلة فاما إذا لم يكن له عاقله كاللقيط والحربي أو الذمي الذي أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر الرواية وروى محمد
عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب الدية عليه من ماله لا على بيت المال وجه هذه الرواية أن الأصل هو الوجوب في
مال القاتل لان الجناية وجدت منه وإنما الاخذ من العاقلة بطريق التحمل فإذا لم يكن له عاقلة يرد الامر فيه إلى حكم
الأصل وجه ظاهر الرواية أن الوجوب على العاقلة لمكان التناصر فإذا لم يكن له عاقلة كان استنصاره بعامة المسلمين
وبيت المال مالهم فكان ذلك عاقلته (وأما) بيان مقدار ما تتحمله العاقلة من الدية فلا يؤخذ من كل واحد منهم الا ثلاثة
دراهم أو أربعة دراهم ولا يزاد على ذلك لان الاخذ منهم على وجه الصلة والتبرع تخفيفا على القاتل فلا يجوز التغليظ
عليهم بالزيادة ويجوز أن ينقص عن هذا القدر إذا كان في العاقلة كثرة فان قلت العاقلة حتى أصاب الرجل أكثر من
ذلك يضم إليهم أقرب القبائل إليهم من النسب سواء كانوا من أهل الديوان أولا ولا يعسر عليهم ويدخل القاتل مع
العاقلة ويكون فيما يؤدى كأحدهم لان العاقلة تتحمل جناية وجدت منه وضمانا وجب عليه فكان هو أولى بالتحمل
(وأما) بيان كيفية وجوب الدية لا خلاف في أن دية الخطأ تجب مؤجلة على العاقلة في ثلاث سنين لاجماع
الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإنه روى أن سيدنا عمر رضي الله عنه قضى بذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنه
م ولم ينقل أنه خالفه أحد فيكون اجماعا وتؤخذ من ثلاث عطايا إن كان القاتل من أهل الديوان لان لهم في كل سنه
عطية فان تعجل العطايا الثلاث في سنة واحدة يؤخذ الكل في سنة واحدة وان تأخرت يتأخر حق الاخذ وان لم
يكن من أهل الديوان تؤخذ منه ومن قبيلته من النسب في ثلاث سنين ولا خلاف في أن الدية بالاقرار بالقتل الخطأ
تجب في ماله في ثلاث سنين لان الاقرار بالقتل اخبار عن وجود القتل وانه يوجب حقا مؤجلا تتحمله العاقلة الا أنه
لا يصدق على العاقلة فيجب مؤجلا في ماله واختلف في شبه العمد والعمد الذي دخلته شبهة وهو الأب إذا قتل
ابنه عمدا قال أصحابنا رحمهم الله انها تجب مؤجلة في ثلاث سنين الا أن دية شبه العمد تتحمله العاقلة ودية العمد في
مال الأب وقال الشافعي رحمه الله دية الدم كدية العمد تجب حالا وجه قوله أن سبب الوجوب وجد
حالا فتجب الدية حالا إذ الحكم يثبت على وفق السبب هو الأصل الا أن التأجيل في الخطأ ثبت معدولا به عن
الأصل لاجماع الصحابة رضي الله عنهم أو يثبت معلولا بالتخفيف على القاتل حتى تحمل عنه العاقلة والعامد يستحق
التغليظ ولهذا وجب في ماله لا على العاقلة (ولنا) أن وجوب الدية لم يعرف الا بنص الكتاب العزيز وهو قوله
256

تبارك وتعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله والنص وان ورد بلفظ الخطأ لكن غيره
ملحق به الا أنه مجمل في بيان القدر والوصف فبين عليه الصلاة والسلام قدر الدية بقوله عليه الصلاة والسلام في
النفس المؤمنة مائة من الإبل وبيان الوصف وهو الأجل ثبت باجماع الصحابة رضي الله عنهم بقضية سيدنا عمر رضي الله عنه
بمحضر منهم فصار الأجل وصفا لكل دية وجبت بالنص وقوله دية الخطأ وجبت بطريق التخفيف والعامد
يستحق التغليظ قلنا وقد غلظنا عليه من وجهين أحدهما بايجاب دية مغلظة والثاني بالايجاب في ماله والجاني
لا يستحق التغليظ من جميع الوجوه وكذلك كل جزء من الدية تتحمله العاقلة أو تجب في مال القاتل فذلك الجزء
تجب في ثلاث سنين كالعشرة إذا قتلوا رجلا خطأ أو شبه عمد حتى وجبت عليهم دية واحدة فعاقلة كل واحد منهم
تتحمل عشرها في ثلاث سنين وكذلك العشرة إذا قتلوا رجلا واحدهم أبوه حتى وجبت عليهم دية واحدة في مالهم يجب
على كل واحد منهم عشرها في ثلاث سنين لان الواجب على كل واحد منهم جزء من دية مؤجلة في ثلاث سنين
فكان تأجيل الدية تأجيلا لكل جزء من أجزائها إذ الجزء لا يخالف الكل في وصفه ولا خلاف في أن بدل الصلح
عن دم العمد يجب في ماله حالا لأنه لم يجب بالقتل وإنما وجب بالعقد فلا يتأجل الا بالشرط كثمن البيع ونحو ذلك
وكذلك العبد إذا قتل انسانا خطأ واختار المولى الفداء يجب الفداء حالا لان الفداء لم يجب بالقتل بدلا من القتيل وإنما
وجب بدلا عن دفع العبد والعبد لو دفع يدفع حالا فكذلك بدله والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان القاتل حرا
والمقتول حرا فاما إذا كان القاتل حرا والمقتول عبدا فالعبد المقتول لا يخلو اما إن كان عبد أجنبي (واما) إن كان
عبد القاتل فإن كان عبد أجنبي فيتعلق بهذا القتل حكمان أحدهما وجوب القيمة والكلام في القيمة في مواضع في
بيان مقدار الواجب منها وفي بيان من تجب عليه وفي بيان من يتحمله وفي بيان كيفية الوجوب أما الأول فالعبد
لا يخلو اما إن كان قليل القيمة (واما) إن كان كثير القيمة فإن كان قليل القيمة بأن كان قيمته أقل من عشرة آلاف درهم
يجب قيمته بالغة ما بلغت بالاجماع وإن كانت قيمته عشرة آلاف أو أكثر اختلف فيه قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
يجب عشرة آلاف الا عشرة وروى عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه يجب قيمته بالغة ما بلغت وهو قول
الشافعي رحمه الله والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مثل مذهبنا
وروى عن سيدنا عثمان وسيدنا على رضى الله تعالى عنهما مثل مذهبه والحاصل أن العبد آدمي ومال لوجود معنى
الآدمية والمالية فيه وكل واحد منهما معتبر مضمون بالمثل والقيمة حالة الانفراد وبالقتل فوت المعنيين جميعا ولا وجه
إلى ايجاب الضمان بمقابلة كل واحدة منهما على الانفراد فلا بد من ايجابه بمقابلة أحدهما واهدار الآخر فيقع الكلام
في الترجيح فادعى الشافعي رحمه الله الترجيح من وجهين أحدهما أن الواجب مال ومقابلة المال بالمال أولى من مقابلة
المال بالآدمي لان الأصل في ضمان العدوان الوارد على حق العبد أن يكون مقيدا بالمثل ولا مماثلة بين المال والآدمي
فكان ايجابه بمقابلة المال موافقا للأصل فكان أولى والثاني أن الضمان وجب حقا للعبد وحقوق العباد تجب بطريق
الجبر وفى ايجاب الضمان بمقابلة المالية جبر حق المفوت عليه من كل وجه (ولنا) النص ودلالة الاجماع والمعقول أما
النص فقوله تبارك وتعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وهذا مؤمن قتل خطأ فتجب
الدية والدية ضمان الدم وضمان الدم لا يزاد على عشرة آلاف بالاجماع (وأما) دلالة الاجماع فهو أنا أجمعنا على أنه
لو أقر على نفسه بالقصاص يصح وان كذبه المولى لولا أن الترجيح لمعنى الآدمية لما صح لأنه يكون اقراره اهدارا
لمال المولى قصدا من غير رضاه وانه لا يملك ذلك (وأما) المعقول فمن وجهين أحدهما أن الآدمية فيه أصل والمالية
عارض وتبع والعارض لا يعارض الأصل والتبع لا يعارض المتبوع ودليل أصالة الآدمية من وجوه أحدها
انه كان خلق خلق آدميا ثم ثبت فيه وصف المالية بعارض الرق والثاني أن قيام المالية فيه بالآدمية وجودا وبقاء
لا على القلب والثالث أن المال خلق وقاية للنفس والنفس ما خلقت وقاية للمال فكانت الآدمية فيه أصلا وجودا
257

وبقاء وعرضا والثاني أن حرمة الادمى فوق حرمة المال لان حرمة المال لغيره وحرمة الآدمي لعينه فكان اعتبار
النفسية واهدار المالية أولى من القلب الا أنه نقصت ديته عن دية الحر لكون الكفر منقصا في الجملة واظهار الشرف
الحرية وتقدير النقصان بالعشرة ثبت توفيقا قال ابن مسعود رضي الله عنه ينقص من دية الحر عشرة دراهم فالظاهر
أنه قال ذلك سماعا منه عليه الصلاة والسلام لأنه من باب المقادير أو لان هذا أدنى مال له في خطر الشرع كما في نصاب
السرقة والمهر في النكاح قوله المال ليس بمثل للآدمي قلنا نعم لكن لشرف الادمى وجه المال لم يجعل مثلا له عند
امكان ايجاب ما هو مثل من كل وجه وهو النفس فاما عند تعذر اعتباره من كل وجه فاعتبار المثل من وجه أولى من
الاهدار وقوله الجبر في المال أبلغ قلنا بلى لكن فيه اهدار الآدمي ومقابلة الجابر بالآدمي الفائت أولى من المقابلة بالمال
الهالك وإن كان الجبر ثمة أكثر لكن فيه اعتبار جانب المولى فيكون لغيره وفيما قلنا الجبر أقل لكن فيه اعتبار جانب
نفس الآدمي وهو العبد وحرمة الآدمي لعينه فكان ما قلناه أولى ولو كان المقتول أمة فإن كانت قليلة القيمة بأن كانت
قيمتها أقل من خمسة آلاف فهي مضمونة بقدر قيمتها بالغة ما بلغت وإن كانت كثيرة القيمة بأن كانت قيمتها خمسة
آلاف أو أكثر يجب خمسة آلاف الا عشرة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعلى رواية أبى يوسف رحمه الله له
فهو قول الشافعي رحمه الله تبلغ بالغة ما بلغت والكلام في الأمة كالكلام في العبد وإنما ينقص منها عشرة كما نقصت
من دية العبد وان اختلفا في قدر البدل لأن هذه دية البدل لأن هذه دية كاملة في الأمة فينقص في العبد بخلاف ما إذا قطع
يد عبد تزيد نصف قيمته على خمسة آلاف انه تجب خمسة آلاف الا خمسة لان الواجب هناك ليس بدية كاملة بل
هو بعض الدية لان اليد منه نصف فيجب نصف ما يجب في الكل والواجب في الأنثى ليس دية الذكر بل هو
دية كاملة في نفسها لكنها دية الأنثى (وأما) بيان من يجب عليه ومن يتحملها فإنها تجب على القاتل لوجود سبب
الوجوب منه وهو القتل وتتحملها العاقلة في قولهما وعلى رواية أبى يوسف وهو قول الشافعي رحمه الله تجب في مال
القاتل وهذا بناء على الأصل الذي ذكرنا ان عندهما ضمان العبد بمقابلة النفس وضمان النفس تتحمله العاقلة وكدية
الحر وعند الشافعي بمقابلة المالية وضمان المال لا تتحمله العاقلة بل يكون في مال المتلف كضمان سائر الأموال
وروى عن أبي يوسف في كثير القيمة ان يقدر عشرة آلاف تعقله العاقلة لان ذلك القدر يجب بمقابلة النفسية وما
زاد عليها لا تعقله لأنه يجب بمقابلة المالية (وأما) كيفية وجوب القيمة على العاقلة عندنا وقدر ما يتحمل كل واحد
منهم فما ذكرنا في دية الحر من غير تفاوت والله تعالى أعلم والثاني وجوب الكفارة لعموم قوله تبارك وتعالى ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة من غير فصل بين الحر والعبد والله تعالى الموفق ولو كان المقتول مدبر انسان أو أم
ولده أو مكاتبه فحكمه حكم القن في جميع ما وصفنا وإن كان عبد القاتل فجناية المولى عليه هدر وكذا لو كان مدبره أو أم
ولده لان القيمة لو وجبت لوجبت عليه وهذا ممتنع وإن كان مكاتبه فجناية المولى عليه لازمة وعلى المولى قيمته في
ثلاث سنين لان المكاتب فيما يرجع إلى كسبه وأرش جنايته حر فكان كسبه وأرشه له فالجناية عليه من المولى
والأجنبي سواء ولا تعقلها العاقلة بل تكون على ماله لقوله عليه الصلاة والسلام لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا
والمكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم ولان المكاتب على ملك مولاه وإنما ضمن جنايته بعد الكتابة والعقد ثابت
بينهما غير ثابت في حق العاقلة ولهذا لا تعقل العاقلة الاعتراف لان اقرار المقر حجة في حقه لا في حق غيره وكذلك
جناية المولى على رقيق المكاتب وعلى ماله لازمة لما ذكرنا أنه أحق بكسبه من المولى والمولى كالأجنبي فيه
وكذا إذا كان مأذونا فعلى المولى قيمته لتعلق حق الغرماء برقبته وبالقتل أبطل محل حقهم فتجب عليه
قيمته وتكون في ماله بالنص وتكون حالة لأنه ضمان اتلاف المال هذا إذا كان القاتل حرا والمقتول عبدا
فاما إذا كان القاتل عبدا والمقتول حرا فالحر المقتول لا يخلو من أن يكون أجنبيا أو يكون ولى العبد فإن كان
أجنبيا فالعبد القاتل لا يخلو من أن يكون قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا فإن كان قلنا يدفع إذا ظهرت جنايته الا أن
258

يختار المولى الفداء فلا بد من بيان ما تظهر به هذه الجناية وبيان حكم هذه الجناية وبيان صفة الحكم وبيان
ما يصير به المولى مختارا للفداء وشرط صحة الاختيار وبيان صفة الفداء الواجب عند الاختيار أما الأول فهذه
الجناية تظهر بالبينة واقرار المولى وعلم القاضي ولا تظهر باقرار العبد محجورا كان أو مأذونا لان العبد يملك بالاذن
بالتجارة ما كان من مال التجارة والاقرار بالجناية ليس من التجارة وإذا لم يصح اقراره لا يؤخذ به لا في الحال ولا بعد
العتاق لان موجب اقراره لا يلزمه وإنما يلزم مولاه فكان هذا اقرارا على المولى حتى لو صدقه المولى صح اقراره
وكذلك لو أقر بعد العتاق انه كان جنى في حال الرق لا شئ عليه لما ذكرنا ان هذا اقرار له على المولى ألا يرى لو صدقه
المولى وأقر أنه أعتقه وهو يعلم بالجناية فعلى المولى قيمته والله سبحانه وتعالى أعلم وأما حكم هذه الجناية فوجوب دفع
العبد إلى ولى الجناية الا أن يختار المولى الفداء عندنا وقال الشافعي رحمه الله حكمها تعلق الأرض برقبة العبد يباع فيه
ويستوفى الأرش من ثمنه فان فضل منه شئ فالفضل للمولى وان لم يف ثمنه بالأرش يتبع بما بقي بعد العتاق وللمولى
أن يستخلصه ويؤدى الأرش من مال آخر (وجه) قوله أن الأصل في ضمان الجناية أنه يجب على الجاني والواجب
على الانسان اما أن يكون في ماله أو تتحمل العاقلة عنه والعبد لا مال له ولا عاقلة فتعذر الايجاب عليه فتجب في رقبته
يباع فيه كدين الاستهلاك في الأموال (ولنا) اجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى عن سيدنا على وعن
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل مذهبنا بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل الانكار عليهما من أحد
منهم فيكون اجماعا منهم القياس يترك بمعارضه الاجماع ودين الاستهلاك في باب الأموال يجب على العبد على
ما عرف وأما صفة هذا الحكم فصيرورة العبد واجب الدفع على سبيل التعيين كثرت قيمة العبد أو قلت وعند
اختيار المولى الفداء ينتقل الحق من الدفع إلى الفداء سواء كان المجني عليه واحدا أو أكثر غير أنه إن كان واحدا دفع إليه
ويصير كله مملوكا له وإن كانوا جماعة يدفع إليهم وكان مقسوما بينهم على قدر اروش جنايتهم وسواء كان على العبد دين
وقت الجناية أو لم يكن وبيان هذه الجملة في مسائل إذا مات العبد الجاني قبل اختيار الفداء بطل حق المجني عليه أصلا
لان الواجب دفع العبد على طريق التعيين وذلك لا يتصور بعد هلاك العبد فيسقط الحق أصلا ورأسا وهذا يدل
على أن قول من يقول حكم هذه الجناية تخير المولى بين الدفع والفداء ليس بسديد لأنه لو كان كذلك لتعين الفداء عند
هلاك العبد ولم يبطل حق المجني عليه أصلا على ما هو الأصل في المخير بين شيئين إذا هلك أحدهما أنه يتعين عليه
الآخر ولو مات بعد اختيار الفداء لا يبرأ بموت العبد لأنه لما اختار الفداء فقد انتقل الحق من رقبته إلى ذمة المولى فلا
تحتمل السقوط بهلاك العبد بعد ذلك ولو كانت قيمة العبد أقل من الدية فليس على المولى الا الدفع لان وجوب الدفع
حكمه لهذه الجناية ثبت باجماع الصحابة رضي الله عنهم ولم يفصلوا بين قليل القيمة وكثيرها فلو جنى العبد على جماعة
فان شاء المولى دفعه إليهم لان تعلق حق المجني عليه للأول لا يمنع حق الثاني والثالث لان ملك المولى لما لم يمنع التعلق
فالحق أولى لأنه دونه وإذا دفعه إليهم كان مقسوما بينهم بالحصص قدر أروش جنايتهن فان حصة كل واحد منهم من
العبد عوض عن الفائت فيتقدر بقدر الفائت وان شاء أمسك العبد وغرم الجنايات بكمال أروشها ولو أراد المولى أن
يدفع من العبد إلى بعضهم مقدار ما يتعلق به حقه ويفدى بعض الجنايات له ذلك بخلاف ما إذا كان القتيل واحدا وله
وليان فأراد المولى دفع العبد إلى أحدهما والفداء إلى الآخر أنه ليس له ذلك لان الجناية هناك واحدة ولها حكم واحد
وهو وجوب الدفع على التعيين وعند اختيار الفداء وجوب الفداء على التعيين ولا يجوز أن يجمع في جناية واحدة بين
حكمين مختلفين بخلاف ما إذا جنى على جماعة لان الجناية هناك متعددة وله خيار الدفع والفداء في كل واحد منهما
والدفع في البعض والفداء في البعض لا يكون جمعا بين حكمين مختلفين في جناية واحدة فهو الفرق ولو قتل انسانا وفقأ عين
آخر فان اختار الدفع دفعه إليهما أثلاثا لتعلق حقهما بالعبد أثلاثا وان اختار الفداء فدى عن كل جناية بأرشها وكذلك
إذا شج انسانا شجاجا مختلفة انه ان دفع العبد إليهم كان مقسوما بينهم على قدر جناياتهم وان اختار الفداء فدى عن الكل
259

بأروشها ولو قتل العبد رجلا وعلى العبد دين يخير المولى بين الدفع والفداء ولا يبطل الدين بحدوث الجناية لان
موجب الجناية وجوب الدفع وتعلق الدين برقبة العبد لا يمنع من الدفع الا أنه يدفعه مشغولا بالدين فان فدى بالدية يباع
العبد في الدين لأنه لما فدى فقد طهرت رقبة العبد عن الجناية فيباع الا أن يستخلصه المولى لنفسه ويقضى دين الغرماء
وان اختار الدفع إلى أولياء الجناية فدفعه إليهم يباع لأجل الغرماء في دينهم وإنما بدئ بالدفع لا بالدين لان فيه رعاية
الحقين حق أولياء الجناية بالدفع إليهم وحق أصحاب الدين بالبيع لهم ولو بدئ بالدين فبيع به لبطل حق أولياء الجناية
في الدفع لأنه بالبيع يصير ملكا للمشتري لذلك بدئ بالدفع وفائدة الدفع إلى أولياء الجناية ثم البيع هي أن يثبت لهم حق
استخلاص العبد بالفداء لان للناس أغراضا في الأعيان ثم إذا بيع فان فضل شئ من ثمن العبد كان الفضل لأولياء
الجناية لان العبد بيع على ملكهم لصيرورته ملكا لهم بالدفع إليهم وان لم يف ثمنه بالدين يتأخر ما بقي إلى ما بعد العتاق كما
لو بيع على ملك المولى الأول ولا يضمن المولى لأصحاب الدين بدفع العبد إلى أولياء الجناية شيئا استحسانا والقياس
أن يضمن (وجه) القياس أن الدفع إليهم تمليك منهم بعد تعلق الدين برقبته فصار كأنه باعه منهم ولو باعه منهم لضمن
كذا هذا (وجه) الاستحسان أن الدفع واجب عليه لما فيه من رعاية الحقين لما بينا ومن فعل ما وجب عليه
لا يضمن ولو حضر الغرماء أولا فباع المولى العبد فان فعل ذلك بغير أمر القاضي ينظر إن كان عالما بالجناية صار مختارا
للفداء ولزمه الأرش وإن كان غير عالم بالجناية فعليه الأقل من قيمة العبد ومن الأرش وهو الدية وإن كان رفع إلى
القاضي فإن كان القاضي عالما بالجناية فلانه لا يبيع العبد بالدين لان فيه ابطال حق أولياء الجناية فلا يملك ذلك وان لم
يكن عالما بالجناية فباعه بالدين بينة قامت عنده أو بعلمه ثم حضر أولياء الجناية ولا فضل في الثمن بطلت الجناية وسقط
حق أولياء الجناية لأنه خرج عن ملك المولى بغير رضاه فصار كأنه مات وهذا لأنه لا سبيل إلى تضمين القاضي لأنه فيما
يصنعه أمين فلا تلحقه العهدة ولا سبيل إلى فسخ البيع لأنه لو فسخ البيع ودفع بالجناية لوقعت الحاجة إلى البيع ثانيا
فتعذر القول بالفسخ فصار كأنه مات ولو مات لبطل حق أولياء الجناية أصلا كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم ولو
قتل العبد الجاني قبل الدفع فإن كان القاتل حرا يأخذ المولى قيمته ويدفعها إلى ولى الجناية إن كان واحدا وإن كانوا
جماعة فيدفعها إليهم على قدر حقوقهم لان القيمة بدل العبد فتقوم مقامه الا أنه لا خيار للمولى بين القيمة والفداء حتى لو
تصرف في تلك القيمة لا يصير مختارا للفداء ولو تصرف في العبد يصير مختارا للفداء على ما نذكر وإنما كان كذلك لان
القيمة دراهم أو دنانير فإن كانت مثل الأرش فلا فائدة في التخيير وكذلك إذا كانت أقل من الأرض أو أكثر منه لأنه
يختار الأقل لا محالة بخلاف العبد فإنه وإن كان قليل القيمة فللناس رغائب في الأعيان وكذلك ان قتله عبد أجنبي
فخير مولاه بين الدفع والفداء وفدى بقيمة العبد المقتول أن المولى يأخذ القيمة ويدفعها إلى ولى الجناية لما قلنا ولو دفع
القاتل إلى مولى العبد المقتول يخير مولى العبد المقتول بين الدفع والفداء حتى لو تصرف في العبد المدفوع بالبيع ونحوه
يصير مختارا للفداء لان العبد القاتل قام مقام المقتول لحما ودما فكان الأول قائم وان قتله عبد آخر لمولاه يخير المولى في
شيئين في العبد القاتل بين الدفع والفداء لان تعلق حق ولى الجناية بالعبد جعل المولى كالأجنبي فصار كان عبد أجنبي
قتل العبد الجاني وهناك يخير بين الدافع والفداء وبقيمة المقتول كذا ههنا وكذلك لو قتل عبد رجلا خطأ وقتلت أمة
لمولاه هذا العبد يخير المولى بين دفعها وفدائها بقيمة العبد لما قلنا ولو كان العبد قتل رجلا خطأ وقتلت أمة لمولاه
رجلا آخر خطأ ثم إن العبد قتل الأمة خير المولى بين الدفع والفداء فان اختار الفداء فدى بالدية وقيمة الأمة وان اختار
الدفع ضرب فيه أولياء قتيل العبد بالدية وأولياء قتيل الأمة بقيمة الأمة لان الجناية عليها كالجناية على أمة أجنبي
قتلت رجلا خطأ ولو كانت قيمة الأمة ألفا كان العبد مقسوما بينهم على أحد عشر سهما سهم لأولياء قتيل الأمة وعشرة
أسهم لأولياء قتيل العبد فان قطع عبد لأجنبي يد العبد الجاني أو فقأ عينه أو جرحه جراحة فخير المولى العبد القاطع
أو الفاقئ أو الجارح بين الدفع والفداء فان دفع عبده أو فداه بالأرش فمولى العبد المقطوع يخير بين الدفع والفداء فان
260

شاء دفع عبده المقطوع مع العبد القاطع أو مع أرش يد عبده المقطوع وان شاء فدى عن الجناية بالأرش لان العبد
المقطوع كان واجب الدفع بجميع أجزائه وأرش يده بدل جزئه وكذا العبد المدفوع قائم مقام يده فكان واجب
الدفع الا أن يختار الفداء فينقل الحق من العبد إلى الأرش ولو كسب العبد الجاني كسبا أو كان الجاني أمة فولدت بعد
الجناية فاختار المولى الدفع لم يدفع الكسب ولا الولد بخلاف الأرش أنه يدفع والفرق أن الأرش بدل جزء كان
واجب الدفع وحكم البدل حكم المبدل بخلاف الكسب والولد ولو قطعت يد العبد فأخذ المولى الأرش ثم اختلف
المولى وولى الجناية فادعى المولى ان القطع كان قبل جنايته وان الأرش سالم له وادعى ولى الجناية انه كان بعدها وانه
مستحق الدفع مع العبد فالقول قول المولى لان الأرش ملك المولى كالعبد لأنه بدل ملكه فولى الجناية يدعى عليه وجوب
تمليك مال هو ملكه منه وهو ينكر فكان القول قوله مع يمينه ولو قطعت يد عبد أو فقئت عينه وأخذ المولى الأرش ثم
جنى جناية فان شاء المولى اختار الفداء وان شاء دفع العبد كذلك ناقصا وسلم له ما كان أخذ من الأرش لان
وجوب الدفع بسبب الجناية وهو كان عند الجناية ناقصا بخلاف ما إذا قطعت يده بعد الجناية انه يدفع مع أرش اليد لان
العبد وقت الجناية عليه كان واجب الدفع بجميع أجزائه والأرش بدل الجزء فيجب دفعه مع العبد ولو قتل قتيلا خطأ
ثم قطعت يده ثم قتل قتيلا آخر خطأ فأرش يده يسلم لولي الجناية الأولى لان حقه كان متعلقا بجميع أجزائه وقت
الجناية والأرش بدل الجزء فيقوم مقامه فيسلم له فاما حق الثاني فلم يتعلق بالجزء لانعدامه وقت الجناية ثم يدفع العبد
فيكون بين وليي الجنايتين على تسعة وثمانين جزأ لان موضوع المسألة فيما إذا كانت قيمة العبد ألف درهم فنقول
حق ولى كل جناية في عشرة آلاف وقد استوفى ولى الجناية الأولى من حقه خمسمائة فيجعل كل خمسمائة
سهما فيكون كل العبد أربعين سهما حق كل واحد منهما في عشرين وقد أخذ ولى الجناية الأولى من حقه خمسمائة
أو بقي حقه في تسعة عشر سهما ولم يأخذ ولى الجناية الثانية شيئا فبقي حقه في عشرين جزأ من العبد وان اختار الفداء
فدى عن كل واحد من الجنايتين بعسرة آلاف لان ذلك أرشها ولو شج انسانا موضحة وقيمته ألف درهم ثم قتل آخر
وقيمته ألفان فان اختار الفداء فدى عن كل واحده من الجنايتين بأرشها وان اختار الدفع دفعه مقسوما بينهما على أحد
وعشرين سهما سهم لصاحب الموضحة وعشرون لولي القتيل لما ذكرنا أن قسمة العبد بينهما على قدر تعلق حل كل
واحد منهما به وصاحب الموضحة حقه في خمسمائة وحق ولى القتيل في عشرة آلاف فيجعل كل خمسمائة سهما فتكون
القسمة على أحد وعشرين وما حدث من زيادة القيمة للعبد والزيادة على الشركة أيضا لأنها صفة الأصل وإذا ثبتت
الشركة في الأصل ثبتت في الصفة وكذلك لو قتل انسانا خطأ وقيمته ألفان ثم عمى بعد القتل قبل الشجة
ثم شج انسانا موضحة كانت القسمة بينهما على أحد وعشرين وما حدث فيه من النقصان فهو على الشركة أيضا لما قلنا
والله سبحانه وتعالى أعلم ولو جنى جناية ففداه المولى ثم جنى جناية أخرى خير المولى بين الدفع والفداء لأنه لما
فدى فقد طهر العبد عن الجناية وصار كأنه لم يجن فإذا جنى بعد ذلك فهذه جناية مبتدأة فيبتدأ بحكمها وهو الدفع أو
الفداء بخلاف ما إذا جنى ثم جنى جناية أخرى قبل اختيار الفداء انه يدفع إليهما جميعا أو يفدى لأنه لما لم يفد للأولى
حتى جنى ثانيا فحق كل واحد منهما تعلق بالعبد فيدفع إليهما أو يفدى ولو قتل العبد رجلا وله وليان فدفعه المولى
إلى أحدهما فقتل عبده رجلا آخر ثم حضروا يقال للمدفوع إليه ادفع نصف العبد إلى ولى القتيل الثاني أو نصف
الدية وأما النصف الآخر فيؤمر بالرد على المولى بين الدفع إلى ولى الجناية الثانية وولى الجناية الأولى الذي لم يدفع إليه
(أما) وجوب دفع نصف العبد على المدفوع إليه ولى القتيل الثاني أو الفداء فلانه ملك نصف العبد بالدفع
فيخير في جنايته بين الدفع والفداء (وأما) وجوب رد نصف العبد إلى المولى فلانه أخذه بغير حق فعليه رده لقوله
عليه الصلاة والسلام على اليد ما أخذت حتى ترده ولا يخير المولى في النصف بين الدفع إلى ولى الجنايتين وبين الفداء
لان وقت الجناية الأولى كان كل العبد على ملكه ووقت وجود الثانية كان نصفه على ملكه فيوجب الدفع أو الفداء
261

فان اختار الفداء فدى لكل واحد منهما بنصف الدية وان دفع نصف العبد إليهما نصفين لان الدفع على قدر
تعلق الحق وحق كل واحد منهما تعلق بنصف فيكون نصف العبد بينهما نصفين وقد كان وصل النصف إلى
ولى الجناية الثانية من جهة المدفوع إليه ووصل إليه بالدفع من المولى الربع فسلم له ثلاثة أرباع العبد وسلم لولي الجناية
الأولى الذي لم يدفع إليه العبد الربع فصار العبد بينهما أرباعا ثلاثة أرباعه لولي الجناية الثانية وربعه لولي الجناية
الأولى وبقى إلى تمام حقه الربع ثم لا يخلو اما إن كان المولى دفع كل العبد بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي
فإن كان الدفع بقضاء لا يضمن المولى لان الدفع إذا كان بقضاء كان هو مضطرا في الدفع فلا يضمن ولا سبيل
إلى تضمين القاضي لان القاضي فيما يصنع أمين فلا تلحقه العهدة ويضمن القابض لأنه قبض نصيب صاحبه
بغير حق والقبض بغير حق سبب لوجوب الضمان كقبض الغصب ولا يخرج عن الضمان بالرد إلى المولى لأنه لم يرده
على الوجه الذي قبض العبد فارغا ورده مشغولا وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي فولى الجناية الذي لم يدفع إليه العبد
بالخيار ان شاء ضمن الولي ربع قيمة العبد وان شاء ضمن القابض ليسلم له نصف العبد ربعه لحم ودم وربعه
دراهم ودنانير لأنه وجد سبب وجوب الضمان في حق كل واحد منهما الدفع من المولى والقبض من القابض
فان اختار تضمين المولى فالمولى يرجع على القابض وان اختار تضمين القابض لا يرجع على المولى لان حاصل
الضمان عليه ولو قتل العبد قتيلين خطأ فدفعه المولى إلى أحد وليي القتيلين فقتل عنده قتيلا آخر واجتمعوا فان
القابض يدفع نصف العبد بالجناية أو يفدى نصف الجناية لما ذكرنا في الفصل الأول ثم يقال للمولى ادفع النصف
الباقي ولى الجناية الثالثة أو أفد بنصف الدية خمسة آلاف لأنه قد وصل إليه نصف العبد وبقى حقه في النصف
ويفدى لولي الجناية الثانية بكمال الدية عشرة آلاف لأنه لم يصل إليه شئ من حقه وله ان يدفع نصف العبد إليهما
فان دفع إليهما كان مقسوما بينهما على قدر حقيهما فيضرب ولى الجناية الثانية بعشره آلاف وولى الجناية
الثالثة بخمسة آلاف فيصير نصف العبد بينهما أثلاثا ثلثاه لولي الجناية الثانية وثلثه لولي الجناية الثالثة وبقى من حق
الثاني السدس لان حقه في نصف العبد وقد حصل له ثلثا النصف وهو ثلث كل العبد فبقي إلى تمام حقه السدس فإن كان
الدفع بقضاء القاضي ضمن القابض المولى وإن كان بغير قضاء فان شاء ضمن المولى وان شاء ضمن القابض كما
في المسألة المتقدمة ولو قتل العبد انسانا وفقأ عين آخر فدفع المولى العبد إلى المفقوءة عينه فقتل في يده قتيلا يقال للمفقوءة
عينه ادفع ثلث العبد إلى ولى القتيل الثاني أو افده بالثلث ورد الثلثين على المولى لأنه أخذ الثلث بحق ملكه وأخذ الثلثين
بغير حق فيؤمر بالرد إلى المولى ثم يخير المولى بين الدفع والفداء فان اختار الفداء فدى للأول بتمام الدية عشرة آلاف
وللثاني بثلثي الدية وذلك ستمائة وستة وستون وثلثان وان اختار الدفع دفع إليهما مقسوما بينهما على قدر حقهما
فيتضاربان يضرب الأول بتمام الدية عشرة آلاف والثاني بثلثي الدية ستة آلاف وستة وستين وثلثين فاجعل كل
الف سهما وستمائة فيصير ثلثا الدية بينهما على ستة عشر سهما وثلثين فيكون كل العبد على خمسة وعشرين سهما وقد
أخذ ولى القتيل الثاني منه ثلثه وهو ثمانية وثلث وبقى ثلثاه فيكون بينهما لولي القتيل الأول عشرة ولولي القتيل الثاني
ستة وثلثان ثم ولى القتيل الأول يرجع على القابض وهو المفقوءة عينه بستة أجزاء من ستة عشر جزأ وثلثي جزء من
ثلثي قيمته لان هذا القدر كان حقه وقد فات عليه بسبب كان في يد القابض فيجعل كأنه هلك عنده فيضمنه لولي
القتيل الأول فإن كان الدفع بغير قضاء القاضي له أن يأخذ أيهما شاء كما في الفصل الأول وطريقة أخرى في الحساب
انه إذا دفع ثلثي العبد إليهما وضرب أحدهما بالدية والآخر بثلثي الدية يجعل كل ثلث سهما فيصير كل الدية ثلاثة أسهم
وثلثا الدية سهمين فيصير ثلثا العبد على خمسة أسهم للأول ثلاثة وللآخر سهمان ويصير الثلث الآخر سهمين
ونصف فيصير جميع العبد على سبعة ونصف فوقع فيه كسر فيضعف فيصير خمسة عشر فالثلث منه خمسة وقد دفع
إلى الآخر وثلثا العبد عشرة فيقسم بينهما فيضرب الأول بثلاثة أخماسه وهو ستة أسهم والآخر بأربعة أسهم ثم
262

يرجع الأول على القابض بخمس ثلثي قيمة العبد والله سبحانه وتعالى أعلم ولو قتلت أمة رجلا ثم ولدت بنتا فقتلت
البنت رجلا ثم إن البنت قتلت أمها فالمولى يخير بين دفع البنت إلى ولى الجنايتين وبين الفداء فان اختار الفداء فدى
لأولياء قتيل البنت بالدية ولأولياء قتيل الام بقيمة الام لما ذكرنا فيما تقدم ان تعلق حق المجني عليه وهو حق الدفع
الحق المولى بالأجنبي فتصير كأنها جنت على جارية أخرى لأجنبي وان اختار الدفع ضرب أولياء قتيل البنت بالدية
وأولياء قتيل الام بقيمة العبد فيقسم العبد بينهم على ذلك حتى لو كانت قيمة الام ألف درهم كانت القسمة على احدى
عشر سهما كل ألف درهم سهم سهم من ذلك لأولياء قتيل الام وعشرة أسهم لأولياء قتيل البنت ولو كانت البنت
فقأت عين الام ولم تقتلها فالمولى يخير بين الدفع والفداء لا يخلو (اما) ان يختار دفعهما جميعا (واما) ان يختار فداءهما
جميعا (واما) ان يختار فداء البنت ودفع الام (واما) ان يختار فداء الام ودفع البنت فان اختار دفعهما جميعا يدفع
الام إلى أولياء قتيل الام وهذا ظاهد ويدفع البنت إلى أولياء قتيل البنت والى أولياء قتيل الام وكانت مقسومة بينهم
على قدر حقوقهم فيتضاربون فيها يضرب أولياء قتيل البنت فيها بالدية لان حقهم تعلق بكل البنت وأولياء قتيل الام
بنصف قيمة الام لأنها فقأت احدى عينيها والعين من الآدمي نصفه فان اختار فداءهما جميعا فدى الكل فريق من
أولياء الجنايتين بتمام الدية لان ذلك أرش كل واحد من الجنايتين وسقطت جناية البنت على الام لأنهما جميعا ملك
المولى وقد طهرتا عن الجناية بالفداء وخلص ملك المولى فيهما فبقيت جناية البنت عليهما جناية ملك المولى على ملكه
فتكون هدرا وان اختار دفع الام وفداء البنت دفع الام إلى أولياء قتيل الام ثم يفدى البنت يفدى لأولياء قتيل
البنت بالدية ولأولياء قتيل الام بنصف قيمة الام لما بينا وان اختار دفع البنت وفداء الام يدفع البنت إلى أولياء
قتيل البنت ويفدى لأولياء قتيل الام بكمال الدية وبطلت جناية البنت على الام لان الام طهرت بالفداء وخلص
ملك المولى فيها فصار جناية البنت على أمها جناية ملك المولى على ملكه فتكون هدرا ولو أن الام بعد ذلك فقأت عين
البنت قبل أن تدفع واحده منهما فان المولى يخير فيهما جميعا فيبدأ بالبنت لأنها هي التي بدأت بالجناية فيدفع إلى أولياء
الجنايتين فيتضاربون فيها فيضرب فيها أولياء قتيل البنت بالدية وأولياء قتيل الام بنصف قيمة الام لما بينا في المسألة
الأولى ثم يدفع الام إليهم فيتضاربون فيها فيضرب فيها أولياء قتيل الام بالدية الا ما وصل إليهم من أرش البنت
ويضرب فيها أولياء قتيل البنت بنصف قيمة البنت لان كل واحدة منها جنت جنايتين فتدفع كل واحدة بجنايتها
طعن في هذا الجواب وقيل ينبغي إذا دفع البنت في الابتداء أن يضرب فيها أولياء قتيل الام بنصف قيمة الام وأولياء
قتيل البنت بالدية الا ما يصل إليهم في المستأنف لأنه يصل إليهم بعض الام فينبغي أن لا يضربوا بتمام الدية والصحيح
ما ذكر في الكتاب لان البنت حين دفعت كان حق أولياء قتيل البنت في تمام الدية ولم يكن وصل إليهم شئ فوجب
أن يضربوا بجميع ذلك والزيادة التي تظهر لهم في المستأنف لا عبرة بها لان القسمة قد صحت وقت الدفع فلا تتغير بعد
ذلك كما لو قالوا في رجل مات وعليه لرجل ألف ولآخر ألفان وترك ألفا فاقتسماها أثلاثا ثم إن صاحب الألفين أبرأ
الميت عن ألف ان القسمة الأولى لا تنتقض كذا هذا ولو جنت الأمة جناية ثم ولدت ولدا فقطع ولدها يدها يدفع
الولد مع الام لما ذكرنا أن الولد في حكم الجناية على الام بمنزلة الأجنبي فصار كأن عبد أجنبي قطع يدها ودفع بالجناية
وهناك يدفع العبد مع الجارية لكونه قائما مقام يد الجارية كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) بيان ما يصير به
المولى مختارا للفداء وبيان صحة الاختيار فنقول ما يصير به المولى مختارا للفداء نوعان نص ودلالة (أما) النص فهو الصريح
بلفظ الاختيار وما يجرى مجراه نحو أن يقول اخترت الفداء أو آثرته أو رضيت به ونحو ذلك سواء كان المولى موسرا
أو معسرا في قول أبي حنيفة رضي الله عنه فيسار المولى ليس بشرط لصحة الاختيار عنده حتى لو اختار الفداء ثم
تبين أنه فقير معسر صح اختياره وصارت الدية دينا علية (وعندهما) يسار المولى شرط صحة اختياره الفداء
ولا يصح اختياره إذا كان معسرا الا برضا الأولياء ويقال له اما أن تدفع أو تفدى حالا كذا ذكر الاختلاف
263

في ظاهر الرواية وذكر الطحاوي قول محمد مع قول أبي حنيفة في جواز الاختيار وقال الا أن عند محمد الدية
تكون في عين العبد لولى الجناية يبيعه فيها المولى لولى الجناية وهكذا روى عن أبي يوسف (وجه) قولهما
أن الحكم الأصلي لهذه الجناية هو لزوم الدفع وعند الاختيار ينتقل إلى الذمة فيتقيد الاختيار بشرط السلامة
ولا سلامة مع الاعسار فلا ينتقل إليها فيبقى العبد واجب الدفع ولأبي حنيفة رحمه الله أن العزيمة ما قالا وهو
وجوب الدفع لكن الشرع رخص له الفداء عند الاختيار والاعسار لا يمنع صحة الاختيار لأنه لا يقدح في الأهلية
والولاية وقد وجد الاختيار مطلقا عن شرط السلامة فلا يجوز تقييد المطلق الا بدليل (وأما) الدلالة فهي أن
يتصرف المولى في العبد تصرفا يفوت الدفع أو يدل على امساك العبد مع العلم بالجناية فكل تصرف يفوت الدفع
أو يدل على امساك العبد مع العلم بالجناية يكون اختيار للفداء لان حق المجني عليه متعلق بالعبد وهو حق الدفع وفى
تفويت الدفع تفويت حقة والظاهر أن المولى لا يرضى بتفويت حقه مع العلم بذلك الا بما يقوم مقامه وهو الفداء
فكان اقدامه عليه اختيارا للفداء وعلى هذا الأصل يخرج المسائل إذا باع العبد بيعا باتا وهو عالم بالجناية صار
مختارا لأنه تصرف مزيل للملك فيفوت الدفع وكذا إذا باع بشرط خيار المشترى أما على أصلهما فلا يشكل
لأن المبيع دخل في ملك المشتري (وأما) على أصل أبي حنيفة فلان خيار المشترى إن كان يمنع دخول المبيع
في ملكه فلا يمنع زواله عن ملك البائع وهذا يكفي دلالة الاختيار لأنه يفوت الدفع ولو باع على أنه بالخيار فان
مضت مدة الخيار قبل مضى المدة كان مختارا لان البيع انبرم قبل الدفع ولو نقض البيع لم يكن مختارا لان الملك
لم يزل فلم يفت الدفع ولو عرض العبد على البيع لم يكن ذلك اختيارا عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر رحمه
الله يكون اختيارا (وجه) قوله أن العرض على البيع دليل استيفاء الملك أن المشترى بشرط الخيار إذا
عرض المشترى على البيع بطل اختياره فكان دليل امساك العبد لنفسه وذلك دليل اختيار الفداء لما بينا (ولنا)
أن العرض على البيع لا يوجب زوال الملك فلا يفوت الدفع وليس دليل امساك العبد أيضا بل هو دليل
الاخراج من الملك فلا يصلح دليل اختيار الفداء ولو باعه بيعا فاسدا لم يكن مختارا حتى يسلمه إلى المشترى لان الملك
لا يزول قبل التسليم فلا يفوت الدفع ولو وهبه من إنسان وسلمه إليه صار مختارا لان الهبة والتسليم يزيلان
الملك فيفوت الدفع ولو كانت الجناية فيما دون النفس فوهبه المولى من المجني عليه لا يصير مختارا ولا شئ على
المولى ولو باعه من المجني عليه كان مختارا لان التسليم بالهبة في معنى الدفع لان كل واحد منهما تمليك بغير عوض
فوقعت الهبة موقع الدفع بخلاف البيع لأنه تمليك بعوض والدفع تمليك بغير عوض فلا يقوم مقامه فكان
الاقدام على البيع منه اختيارا للفداء وكذلك لو تصدق به على إنسان أو على المجني عليه فهو والهبة سواء لان
كل واحد منهما تمليك بغير عوض ولو أعتقه أو دبره أو كانت أمه فاستولدها وهو عالم بالجناية صار مختارا لأن هذه
التصرفات تفوت الدفع إذ الدفع تمليك وإنما تمنع من التمليك فكانت اختيارا للفداء ولو كانت جناية العبد فيما دون
النفس فأمر المولى المجني عليه باعتاقه وهو عالم بالجناية صار المولى مختارا للفداء لان اعتاقه بأمره مضاف إليه فكان
دليل اختيار الفداء كما لو أعتق بنفسه ولو قال لعبده ان قتلت فلانا فأنت حر فقتله صار مختارا للفداء عند أصحابنا
الثلاثة رحمهم الله وعند زفر رحمه الله لا يكون مختارا (وجه) قوله إنما صار معتقا بالقول السابق وهو قوله
أنت حر ولا جناية عند ذلك وبعد وجود الجناية لا اعتاق فكيف يصير مختارا (ولنا) أن المعلق بالشرط يصير
منجزا عند وجود الشرط بتنجيز مبتدإ كأنه قال له بعد وجود الجناية أنت حر ونظيره إذا قال لامرأته وهو صحيح إذا
مرضت فأنت طالق ثلاثا فمرض حتى وقع الطلاق عليها يصير فارا عن الميراث حتى ترثه المرأة وإن كان التعليق
في حالة الصحة لما قلنا كذا هذا ولو أخبر المولى انسان ان عبده قد جنى فاعتقه فان صدقه ثم أعتقه صار مختارا
للفداء بل خلاف وان كذبه فاعتقه لا يصير مختارا عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يكن المخبر رجلان أو رجل
264

واحد عدل وعندهما يصير مختارا للفداء ولا يشترط العدد في المخبر ولا عدالته وقد ذكرنا المسألة في كتاب الوكالة
ولو كاتبه وهو عالم بالجناية صار مختارا اختيارا على التوقف لفوات الدفع في الحال على التوقف فان أدى بدل
الكتابة فعتق تقرر الاختيار وان عجز ورد في الرق ينظر في ذلك ان خوصم قبل أن يعجز فقضى بالدية ثم عجز لا يرتفع
القضاء لان الدية كانت وجبت بالكتابة من حيث الظاهر وتقرر الوجوب باتصال القضاء به وان لم يخاصم حتى عجز
كان للمولى ان يدفعه لان الدفع كان لم يثبت على القطع والبتات لاحتمال ان يعجز فان عجز جعل كان الكتابة لم تكن
فكان له ان يدفعه وروى عن أبي يوسف انه يصير مختارا بنفس الكتابة لتعذر الدفع بنفسها لزوال يده عنه ثم عادت
إليه بسبب جديد وهو العجز ولو كاتبه كتابة فاسدة كان ذلك اختيارا منه بخلاف البيع الفاسد أنه لا يكون اختيارا
بدون التسليم لان الكتابة الفاسدة وهي تعلق العتق بالأداء تثبت بنفس العقد والبيع الفاسد لا يفيد الحكم بنفسه
بل بواسطة التسليم (وأما) الإجارة والرهن والتزويج بان زوج العبد الجاني امرأة أو زوج الأمة الجانية انسانا فهل
يكون اختيارا ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكون اختيارا لان الدفع لم يفت لان الملك قائم فكان الدفع ممكنا في الجملة
وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يكون اختيارا لان الدفع للحال متعذر فأشبه البيع والتزويج تعييب فأشبه التعييب حقيقة
ولو أقر به لغيره لا يكون مختارا كذا ذكر في الأصل لان الاقرار به لغيره لا يفوت الدفع لان المقر مخاطب بالدفع أو
الفداء وذكر الكرخي رحمه الله في مختصره أنه يكون مختارا لان اقراره به لغيره في معنى التمليك منه إذ العبد ملكه من
حيث الظاهر لوجود الدليل الملك وهو اليد فإذا أقر به لغيره فكأنه ملكه منه ولو قتله المولى صار مختارا لأنه فوت الدفع
بالقتل ولو قتله أجنبي فإن كان عمدا بطلت الجناية وللمولى أن يقتله قصاصا لأنه فات محل الدفع لا إلى خلف هو مال
فتبطل الجناية أو إن كان خطأ يأخذ المولى القيمة ويدفعها إلى ولى الجناية ولا يخير المولى في القيمة على ما بينا فيما تقدم ولو لم
يقتله المولى ولكن عيبه بان قطع يده أو فقأ عينه أو جرحه جراحة أو ضربه ضربا أثر فيه ونقصه وهو عالم بالجناية صار
مختارا للفداء لأنه بالنقصان حبس عن المجني عليه من جزأ من العبد وحبس الكل دليل اختيار الفداء لأنه دليل امساك
العبد لنفسه فكذا حبس الجزء ولان حكم الجزء حكم الكل والله سبحانه أعلم ولو ضرب المولى عينه فابيضت
وهو عالم بالجناية حتى جعل مختارا ثم ذهب البياض فان ذهب قبل أن يخاصم فيه بطل الاختيار ويؤمر بالدفع أو الفداء
لأنه إنما جعل مختارا لأجل النقصان وقد زال فجعل كان ذلك لم يكن وان خوصم في حال البياض فضمنه القاضي
القيمة ثم زال البياض فقضاء القاضي نافذ لا يرد ولا يبطل اختياره لان اختياره وقع صحيحا ووجب الدين وقد استقر
باتصال القضاء به وان استخدمه وهو عالم بالجناية لا يصير مختارا للفداء لأنه لا يفوت الدفع بالاستخدام لقيام الملك
وكذا الاستخدام لا يختص بالملك ولهذا لا يبطل به خيار الشرط فلا يكون دليلا على امساك العبد لنفسه فان
عطب في الخدمة فلا ضمان عليه وبطل حق ولى الجناية لان الاستخدام ليس باختيار لما بينا ولم يوجد منه تصرف
آخر يدل على الاختيار فصار كأنه عطب قبل الاستخدام ولو كان الجاني أمة فوطئها المولى فإن كانت بكرا فقد صار
مختارا لأنه فوت جزأ منها حقيقة بإزالة البكارة وهي إزالة العذرة وإن كانت ثيبا فان علقت منه صار مختارا وان لم
تعلق لا يصير مختارا وهذا وجوب ظاهر الرواية وروى عن أبي يوسف أنه يصير مختارا سواء علقت منه أو لم تعلق
(وجه) هذه الرواية ان حل الوطئ لا بد له من الملك اما ملك النكاح أو ملك اليمين ولم يوجد ههنا ملك النكاح فتعين
ملك اليمين لثبوت الحل فكان اقدامه على الوطئ دليلا على امساكها لنفسه فكان دليل الاختيار (وجه) ظاهر
الرواية أن الوطئ ليس الا استيفاء منفعة البضع وأنه لا يوجب نقصان العين حقيقة لان منفعة البضع لأجزأ من العين
حقيقة الا انها ألحقت بالاجزاء وقدر النقصان عند الاستيفاء في غير الملك اظهار الخطر البضع والاستيفاء ههنا حصل
في الملك فلا حاجة إلى الالحاق فانعدم النقصان حقيقة وتقديرا ولو أذن له في التجارة فركبه دين لم يصر المولى مختارا
وعليه قيمته (اما) عدم صيرورته مختارا فلان الاذن لا يوجب تعذر الدفع لا قبل لحوق الدين ولا بعده وأما لزوم
265

القيمة فلان تعلق الدين برقبة العبد يوجب نقصانا فيه بسبب كل من جهة المولى وهو الاذن بالتجارة فتلزمه قيمته
حين لو رضى ولى الجناية بقبوله مع النقصان لا شئ على المولى ثم جميع ما يصير به مختارا للفداء مما ذكرنا إذا
فعله وهو عالم بالجناية فإن كان لم يعلم لم يكن مختارا سواء كانت الجناية على النفس أو على ما دون النفس لان الاختيار
ههنا اختيار الايثار وانه لا يتحقق بدون العلم بما يختاره وهو الفداء عن الجناية واختيار الفداء عن الجناية اختيار
الايثار واختيار الايثار بدون العلم بالجناية محال ثم الجناية إن كانت على النفس فعليه الأقل من قيمة العبد ومن الدية
وإن كانت على ما دون النفس فعليه الأقل من قيمته ومن الأرش لأنه فوت الدفع المستحق من غير اختيار الفداء
فيضمن القيمة ولو باعه بياعا باتا وهو لا يعلم بالجناية فلم يخاصم فيها حتى رد العبد إليه بعيب بقضاء القاضي أو بخيار
رؤية أو شرط يقال له ادفع أو أفد لأنه إذا لم يعلم بالجناية لم يصر مختارا لما بينا ولو كان بعد العلم فعليه الفداء لأنه إذا باعه
بعد العلم بالجناية فقد صار مختارا للفداء لتعذر الدفع لزوال ملكه بالبيع فلا يعود بالرد وهذا مشكل لان الرد بهذه
الأشياء فسخ للعقد من الأصل وسيتضح المعنى فيه إن شاء الله تعالى ولو قطع العبد يد انسان أو جرحه جراحة
فخير فيه فاختار الدفع ثم مات من ذلك فالدفع على حاله لا يبطل لان وجوب الدفع لا يختلف بالقتل والقطع لأنه يدفع
في الحالين جميعا وان اختار الفداء ثم مات يبطل الاختيار ثم يخير ثانيا عند محمد استحسانا وهو قول أبى يوسف
الأول والقياس أن لا يبطل وعليه الدية وهو قول أبى يوسف الأخير ولم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي حنيفة رحمه
الله وذكر الطحاوي قوله مثل قول محمد ولو كان اختار الفداء بالاعتاق بان عتق العبد للحال حتى صار مختارا للفداء ثم
مات المجني عليه لا يبطل الاختيار ويلزمه جميع الدية قياسا واستحسانا (وجه) القياس أن المولى لما اختار الفداء
عن أصل الجناية فقد صح اختياره ولزمه موجبها وبالسراية لم يتغير أصل الجناية وإنما تغير وصفها والوصف تبع
للأصل فكان اختيار الفداء عن المتبوع اختيارا عن التابع (وجه) الاستحسان أن اختيار الفداء عن القطع لما سرى
إلى النفس ومات فقد صار قتلا وهما متغايران فاختيار الفداء عن أحدهما لا يكون اختيارا عن الآخر فيخير اختيارا
مستقبلا بخلاف ما إذا كان الاختيار بالاعتاق لان اقدامه على الاعتاق مع علمه أنه ربما يسرى إلى النفس فيلزمه
كل الدية ولا يمكنه الدفع بعد الاعتاق دلالة اختيار الكل والرضا به وهذا المعنى لم يوجد ههنا لأنه لم يرض
بالزيادة على ما كان ثابتا وقت الاختيار والعبد للحال محل للدفع والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) صفة الفداء
الواجب عند الاختيار فهو أنها تجب في ماله حالا لا مؤجلا لان الحكم الأصلي لهذه الجناية هو وجوب الدفع والفداء
كالخلف عنه فيكون على نعت الأصل ثم الدفع يجب حالا في ماله لا مؤجلا فكذلك الفداء والله سبحانه وتعالى
الموفق هذا إذا كان العبد القاتل قنا فإن كان مدبرا فجنايته على مولاه إذا ظهرت فيقع الكلام في مواضع في بيان ما تظهر
به جنايته وفي بيان أصل الواجب ومن عليه وفي بيان مقدار الواجب وفي بيان صفته أما الأول فجنايته تظهر بما تظهر
به جناية القن وقد ذكرناه ولا تظهر باقراره حتى لا يلزم المولى شئ ولا يتبع المدبر بعد العتاق كجناية القن لان هذا
اقرار على المولى فلا يصح (وأما) بيان أصل الواجب بهذه الجناية فاصل الواجب بها قيمة المدبر على المولى
لاجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى عن سيدنا عمر وأبى عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما انهما قضيا بجناية المدبر
على مولاه بمحضر من الصحابة ولم ينقل أنه أنكر عليهما أحد منهم فيكون اجماعا من الصحابة والقياس يترك
بمقابلة الاجماع ولان الأصل في جناية العبد هو وجوب الدفع على المولى وبالتدبير منع من الدفع من غير اختيار الفداء
والمنع من الدفع من غير اختيار الفداء يوجب القيمة على المولى كما لو دبر القن وهو لا يعلم بالجناية (أو أما) مقدار الواجب
فمقدار الواجب بهذه الجناية الأقل من قيمته ومن الدية لان الدية إن كانت هي الأقل فلاحق لولى الجناية في الزيادة
وإن كانت القيمة أقل فلم يمنع المولى بالتدبير الا الرقبة فإن كانت قيمته أقل من الدية فعليه قدر قيمته لما قنا ولا يخير بين
قيمته وبين الدية لأنه يخير بين الأقل والأكثر وأنه خارج عن قضية الحكمة وإن كانت قيمته أكثر من الدية أو مثل
266

الدية فعليه قدر الدية وينقص منها عشرة دراهم لان قيمة العبد في الجناية لا تزاد على دية الحر بل ينقص منها عشرة
وسواء قلت جنايته أو كثرت لا يلزم المولى من جناياته أكثر من قيمة واحدة لان سبب الوجوب هو المنع عند الجناية
والمنع منع واحد فكان الواجب قيمة واحدة ولان القيمة في جناية المدبر بمنزلة العين في جناية القن قلت جنايته أو
كثرت ولا يجب شئ آخر مع الدفع كذلك ههنا وتقسيم قيمته بين أولياء الجنايات على قدر جناياتهم يستوى فيها الأول
والثاني لان القسمة في دفع العين هكذا فكذلك قيمة المدبر وسواء قبض ما على المولى أو لم يقبض يشتركون فيه
فيتضاربون بقدر حقوقهم وتعتبر قيمة المدبر لكل واحد منهم يوم الجناية عليه لا يوم التدبير وإن كان سبب وجوب
الضمان هو المنع وهو التدبير السابق لكن إنما يصير ذلك سببا عند وجود شرطه وهو الجناية فكأنه أنشأ التدبير عندهما
وبيان هذه الجملة في مسائل إذا مات المدبر بعد الجناية لم تبطل على المولى القيمة لان حكم جنايته يلزم مولاه فيستوى فيه
بقاء المدبر وهلاكه بخلاف القن إذا جنى ثم هلك أنه يبطل حكم الجناية أصلا لان حكم جنايته وجوب الدفع وبالموت
خرج عن احتمال الدفع ولو انتقصت قيمته بعد الجناية بان جنى وقيمته ألف ثم عمى لم يحط عن المولى شئ وعليه قيمته
تامة لان نقصانه هلاك جزء منه ثم هلاك كله لا يسقط عنه شيئا فكذا هلاك البعض ولو قتل انسانا ثم قتل آخر
لا يلزم المولى الا قيمة واحدة لما قلنا وكذلك لو جنى جنايات ثم أعتقه المولى لم يلزمه الا قيمة واحدة لان سبب
وجوب الضمان هو المنع وأنه متحد فكان وجود الاعتاق وعدمه بمنزلة واحدة ولو قتل انسانا خطأ ثم قتل آخر خطأ
ثم دفع المولى القيمة إلى ولى القتيل الأول فالدفع لا يخلوا ما إن كان بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي فإن كان بقضاء
القاضي فلا سبيل لولى القتيل الثاني على المولى لأنه كان مجبورا على الدفع والمجبور معذور وله أن يتبع ولى القتيل
الأول بنصف القيمة لأنه قبض نصف القيمة بغير حق وإن كانت الجنايتان مختلفتين بأن كانت إحداهما نفسا
والأخرى ما دون النفس فالثاني يتبع الأول بقدر حصته من القيمة وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي فولى القتيل
الثاني بالخيار ان شاء ضمن المولى نصف القيمة وان شاء ضمن ولى القتيل الأول لوجود سبب وجوب الضمان
من كل واحد منهما لان المولى متعد في دفع العبد والقابض متعد في قبضه فان ضمن المولى فإنه يرجع على القابض
وان ضمن القابض لا يرجع على المولى ولو قتل انسانا خطأ فدفع القيمة إلى ولى القتيل ثم قتل آخر خطأ فهذا
والأول سواءا في قول أبي حنيفة عليه الرحمة والامر فيه على التفصيل الذي ذكرنا وعندهما لولى القتيل الثاني
أن يضمن المولى وله أن يضمن ولى القتيل الأول سواء كان الدفع بقضاء أو بغير قضاء فهما فرقا بين الفصلين
وأبو حنيفة عليه الرحمة جمع بينهما (وجه) الفرق لهما أن المولى ههنا ليس بمتعد في حق ولى القتيل الثاني لان
الجناية الثانية كانت منعدمة وقت الدفع فلا سبيل إلى تضمينه وفى الفصل الأول كانت الجنايتان
موجودتين وقت الدفع فكان الدفع منه إلى الأول تعديا فيضمن (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن سبب
وجوب المضان على المولى هو المنع والمنع منع واحد في حق الأول والثاني جميعا فصار كان الجنايات كلها موجوده
وقت الدفع فيصير المولى متعديا في الدفع فكان له تضمينه بخلاف ما إذا كان الدفع بقضاء لان قصاء القاضي صيره
مجبورا في الدفع هذا إذا كانت قيمته وقت الجنايتين على السواء فاما إذا كانت مختلفة بان قتل رجلا وقيمته ألف ثم
ازدادت قيمته فصار ألفين ثم قتل آخر يضمن المولى لولى القتيل الثاني ألفا آخر ولا حق لولى القتيل الأول في
الزيادة لأنها لم تكن موجودة وقت الجناية على الأول فيسلم الزيادة إلى الثاني ويقسم تلك القيمة وهي الألف بين أولياء
الأول والثاني يتضاربون فيها فيضرب الأول فيها بعشرة آلاف والثاني بتسعة آلاف لأنه قد وصل إليه ألف من
عشرة آلاف فكانت قسمة تلك الألف على تسعة عشر سهما عشرة أسهم للأول وتسعة أسهم للثاني ولو كانت قيمته
وقت قتل الأول الفين ووقت الثاني ألفا لا يضمن المولى شيئا والألف تكون لولى القتيل الأول سالما والألف
للآخر تقسم بينهما على تسعة عشر سهما عشرة أسهم لولى القتيل الثاني وتسعة أسهم لولى القتيل الأول ولو قتل انسانا
267

وقيمته الف ثم ازدادت قيمته وصارت ألفا وخمسمائة ثم قتل آخر فزيادة الخمسمائة سالمة لولى القتيل الثاني لا حق فيها
لولى القتيل الأول لأنها لم تكن موجودة وقت الجناية الأولى والألف تكون بين ولي القتيلين يتضاربون فيها فيضرب
ولى القتيل الأول بتمام الدية عشرة آلاف والثاني بتسعة آلاف وخمسمائة لأنه وصل إليه خمسمائة من عشرة آلاف
فكانت قسمة الألف بينهما على تسعة وثلاثين سهما لأنا نجعل كل خمسمائة سهما تسعة عشر لولى القتيل الثاني
وعشرون لولى القتيل الأول والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) صفة الواجب بهذه الجناية فهي انها تجب في مال المولى
حالا لأنه ضمان المنع من الدفع من غير اختيار الفداء وأنه يوجب القيمة في مال المولى حالا كما لو دبر العبد الجاني وهو
لا يعلم بالجناية وهذا لان ضمان المنع كالخلف عن ضمان الدفع والدفع يجب من ماله حالا كذلك ههنا والله تعالى الموفق
للصواب وإن كان القاتل أم ولد فأم الولد في جميع ما وصفنا والمدبر سواء لان الواجب في جنايتهما ضمان المنع أيضا
الا أن جهة المنع تختلف فالمنع في أم الولد بالاستيلاد وفى المدبر بالتدبير لذلك استويا في حكم الجناية والله تعالى أعلم
وإن كان القاتل مكاتبا فقتل أجنبيا خطأ فجنايته على نفسه إذا ظهرت لا على مولاه فيقع الكلام فيما تظهر به جنايته وفي بيان أصل الواجب ومن عليه وفي بيان كيفية الوجوب وفي بيان مقدار الواجب وفي بيان صفته (أما) الأول فجنايته
تظهر بما تظهر به جناية القن والمدبر وأم الولد وتظهر أيضا باقراره بالجناية بخلاف جنايتهم لان ذلك اقرار على المولى فلم
يصح أصلا واقرار المكاتب على نفسه لأنه أحق بكسبه من المولى فيجوز اقراره وكذا يجوز صلحه من الجناية على مال
لأنه صالح عن حق ثابت له ظاهرا ولو أقر وصالح ثم عجز فحكمه نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وأما أصل الواجب
بجنايته ومن عليه الواجب فالواجب هو قيمة نفسه عليه لا على مولاه لان كسب المكاتب لنفسه لا لمولاه فكان
موجب جنايته عليه لا على مولاه ليكون الخراج بالضمان بخلاف القن والمدبر وأم الولد لان امتناع الدفع حصل بشئ
من قبله وهو قبول الكتابة فكانت قيمته عليه بخلاف القن والمدبر وأم الولد (وأما) كيفية الوجوب فقد اختلف
أصحابنا فيه قال علماؤنا الثلاثة ان قيمته تصير دينا في ذمته على طريق القطع والبتات وفائدة هذا الاختلاف تظهر فيما
إذا جنى ثم عجز عقيب الجناية بلا فصل أنه يخاطب أنه يخاطب المولى بالدفع أو الفداء عندنا وعنده يباع ويدفع ثمنه إلى أولياء القتيل
وكذلك إذا جنى ثم جنى جناية أخرى عقيب الأولى بل فصل لا يجب عليه الا قيمة واحدة عندنا وعنده يجب عليه
قيمة أخرى عقيب الأولى ولا خلاف في أنه إذا جنى جناية وقضى القاضي عليه بالقيمة ثم جنى جناية أخرى أنه
تجب عليه قيمة أخرى ووجه الفرق لأصحابنا الثلاثة رحمهم الله أن القاضي لما قضى بالقيمة في الجناية الأولى فقد
صارت القيمة دينا في ذمته حتما من غير تردد والجناية الثانية صادفت رقبة فارغة فتقضى بقيمة أخرى وأما قبل القضاء
فالرقبة مشغولة بالأولى والمشغول لا يشغل (وجه) قول زفر رحمه الله أن الموجب للقيمة على المكاتب هو امتناع الدفع
لحق ثبت للمكاتب بعقد الكتابة لان امتناع الدفع إذا كان لحقه كانت القيمة عليه إذ لا خراج مع الضمان وهذا المعنى
لا يوجب التوقف على قضاء القاضي (ولنا) ان الحكم الأصلي في جناية العبد هو وجوب الدفع وامتناعه ههنا لعارض
لم يقع اليأس عن زواله وهو الكتابة لاحتمال العجز لأنه ربما يعجز فيرد في الرق فيتبين ان الجناية صدرت من القن فلا
يمكن قطع القول بصيرورة قيمته دينا في ذمته الا من حيث الظاهر والامر في الحقيقة على التوقف وإنما يرتفع التوقف
بإحدى معان اما بأداء القيمة إلى ولى القتيل لان الأداء كان واجبا عليه فإذا أدى فقد وصل الحق إلى المستحق
فلا يسترد منه أو بالعتق (اما) بأداء بدل الكتابة (واما) بالاعتاق المبتدأ وبالموت عن وفاء أو ولد لأنه يعتق في آخر جزء
من أجراء حياته وإذا عتق يتقرر حقه في كسبه ويقع اليأس عن الدفع فتقرر القيمة وإذا ترك ولدا ولم يترك وفاء فعقد
الكتابة يبقى ببقاء الولد فيسعى على نجوم أبيه فيؤدى فيعتق ويعتق أبوه ويستند عتقه إلى آخر جزء من أجزاء حياته
أو بقضاء القاضي بالقيمة لأنها كانت واجبة وتقرر الوجوب باتصال القضاء به أو بالصلح على القيمة لان الصلح بمنزلة
القضاء هذا إذا ظهرت جناية بالمعاينة أو بالبينة (فأما) إذا ظهرت باقراره فإن كان قد أدى القيمة ثم عجز لم يبطل اقراره
268

ولا يسترد القيمة لأنه وصل الحق إلى المستحق فلا يسترد وكذا إذا لم يؤد ولكنه عتق بأداء بدل الكتابة أو باعتاق
مبتدإ أو بموت المكاتب عن وفاء أو ولد لما قلنا ولو لم يعتق ولكنه عجز فإن كان عجزه قبل قضاء القاضي عليه بالقيمة
فاقراره باطل في حق المولى بلا خلاف حتى لا يؤخذ به للحال ولكن يتبع به بعد العتاق لأنه لما عجز قبل القضاء فقد
انفسخ العقد من الأصل وعاد قنا كما كان فتبين انه أقر على مولاه واقرار العبد على المولى باطل الا أنه يتبع بعد العتاق
لان اقراره في حق نفسه صحيح وإن كان بعد ما قضى القاضي عليه بالقيمة بطل اقراره في حق المولى ولا يؤخذ به للحال
عند أبي حنيفة عليه الرحمة ويتبع بعد العتاق وعندهما لا يبطل اقراره في حق المولى ويؤخذ به للحال ويباع (وجه)
قولهما ان القيمة قد وجبت عليه باقراره من حيث الظاهر لصحة اقراره ظاهرا أو بقضاء القاضي تقرر الوجوب فلا
يحتمل البطلان بالعجز كما لو أقر بدين لانسان ثم عجز ولأبي حنيفة رحمه الله أن صحة اقراره من حيث الظاهر لم تكن
لمكان الكتابة لان الداخل تحت الكتابة ما كان من التجارة والاقرار بالجناية ليس من التجارة وإنما كانت لكونه
أحق بكسبه من المولى فإذا عجز صار المولى أحق باكسابه فبطل اقراره ولو كان مكان الاقرار صلح بان جنى المكاتب
جناية خطأ فصالح منها على مال جاز صلحه على ما ذكرنا ثم إن كان قد أدى بدل الصلح إلى ولى الجناية أو كان لم يؤد
لكنه عتق باي طريق كان فقد تقرر الصلح ولا يبطل وإن كان لم يؤد بدل الصلح ولا عتق حتى عجز بطل المال عنه في
قول أبي حنيفة رضي الله عنه ويخاطب المولى بالدفع أو الفداء وعندهما لا يبطل ويصير دينا عليه وعلى هذا الخلاف
إذا قتل المكاتب انسانا عمدا ثم صالح من دم العمد على مال ثم عجز قبل أداء بدل الصلح انه يبطل الصلح ولا يؤخذ
للحال عند أبي حنيفة وعندهما لا يبطل ويؤخذ للحال ولو كان ولى القتيل اثنين فصالح المكاتب أحدهما دون
الآخر سقط القصاص عنه وعليه ان يؤدى إلى من صالحه ما صالح عليه وينقلب نصيب الآخر مالا فيغرم المكاتب
له الأقل من نصف قيمته ومن نصف الدية لان الواجب عليه في كل الجناية الأقل من قيمته ومن الدية فالواجب في
نصفها الأقل من نصف قيمته ومن نصف الدية اعتبارا للنصف بالكل فان عجز قبل الأداء فنصيب المصالح لا يؤخذ
للحال وإنما يؤخذ بعد العتاق (وأما) نصيب الآخر فيقال للمولى ادفع نصف العبد أو أفد بنصف الدية على قول أبي حنيفة
رضي الله عنه لان الصلح قد بطل عنده وعلى قولهما يدفع نصف العبد أو يفدى بنصف الدية والنصف
الآخر يباع في حصة المصالح أو يقضى عنه المولى (وأما) القن إذا قتل رجلا عمدا وله وليان فصالح العبد أحدهما
ينقلب نصيب الآخر مالا ونصيب المصالح يؤخذ بعد العتاق بلا خلاف (وأما) غير المصالح فيخاطب المولى بدفع
نصف العبد إليه أو الفداء بنصف الدية ولو مات المكاتب قبل أن يؤخذ شئ من ذلك ولم يترك شيئا أصلا أو لم يترك
وفاء بالكتابة بطلت الجناية لأنه إذا مات عاجزا فقد مات قنا والقن إذا جنى جناية ثم مات تبطل الجناية أصلا ورأسا
وما تركه يكون للمولى إذا مات عبدا كان المتروك مال المولى فيكون له ولو مات المكاتب وترك مالا وعليه دين وكتابه
يبدأ بدين الأجنبي لان دين المولى دين ضعيف إذ لا يجب للمولى على عبده دين فكانت البداية بالأقوى أولى وحكى
عن قتادة رضي الله عنه قال قلت لابن المسيب ان شريحا يقول الأجنبي والمولى يتحاصان فقال سعيد بن المسيب أخطأ
شريح وإن كان قاضيا قضاء زيد بن ثابت أولى وكان زيد يقول يبدأ بدين الأجنبي فالظاهر أنه كان لا يخفى قضاؤه على
الصحابة ولم يعرف له مخالف فيكون اجماعا ولو مات المكاتب وترك وفاء بالكتابة وجناية فالجناية أولى لأنها أقوى
ولو مات وترك مالا وعليه دين وكتابة وجناية فإن كان قضى عليه بالجناية فصاحب الجناية وصاحب الدين سواء لان
الجناية إذا قضى بها صارت دينا فهما دينان فلا يكون أحدهما بالبداية به أولى من صاحبه وإن كان لم يقض عليه بالجناية
يبدأ بالدين لأنه متعلق بذمته ودين الجناية لم يتعلق بذمته بعد فكان الأول آكد وأقوى فيبدأ به ويقضى الدين منه ثم
ينظر إلى ما بقي فإن كان به وفاء بالكتابة فصاحب الجناية أولى فيبدأ به وان لم يكن به وفاء بالكتابة فما بقي يكون للمولى
لأنه يموت قنا على ما بينا وهذا بخلاف ما قبل الموت ان المكاتب يبدأ باي الديون شاء ان شاء بدين الأجنبي وان
269

شاء بأرش الجناية وان شاء بمال الكتابة لأنه يؤدى من كسبه والتدبير في اكسابه إليه فكان له أن يبدأ باي ديونه شاء
وعلى هذا قالوا في المكاتب إذا مات فترك ولدا ان ولده يبدأ من كسبه باي الديون شاء لأنه قام مقام المكاتب فتدبير
كسبه إليه بخلاف ما إذا مات ولم يترك ولدا لان الامر في موته إلى القاضي فيبدأ بالأولى فالأولى والله سبحانه وتعالى
أعلم ولو اختلف المولى وولى الجناية في قيمته وقت الجناية فالقول قول المكاتب في قول أبى يوسف الآخر وهو
قول محمد وفى قول أبى يوسف الأول ينظر إلى قيمته للحال لان الحال يصلح حكما في الماضي فيحكم (وجه) قوله الأخير
ان ولى الجناية يدعى زيادة الضمان وهو ينكر فكان القول قوله والله وتعالى الموفق (وأما) قدر الواجب بجنايته فهو
الأقل من قيمته ومن الدين لان الأرش إن كان أقل فلا حق لولى الجناية في الزيادة وإن كانت القيمة أقل فلم يوجد من
الكاتب منع الزيادة فلا تلزمه وإن كانت قيمته أقل من الدية وجبت قيمته ولا يخير وإن كانت أكثر من الدية
أو قدر الدية ينقص من الدية عشرة دراهم لان العبد لا يتقوم في الجناية بأكثر من هذا القدر سواء كانت الجناية منه أو
عليه وتعتبر قيمته يوم الجناية لان القيمة كالبدل عن الدفع والدفع يجب عند الجناية وكذا المنع بالكتابة السابقة لحق
المكاتب إنما يصير سببا عند وجود الجناية فيعتبر الحكم وهو وجوب القيمة عند وجود الجناية والله تعالى أعلم (وأما)
صفة الواجب فهي ان يجب عليه حالا لا على العاقلة مؤجلا لان الحكم الأصلي في جناية العبد هو الدفع وهذا كالخلف
عنه والدفع يجب عليه حالا لا مؤجلا فكذا الخلف والله تعالى أعلم هذا إذا كان المقتول أجنبيا (فاما) إذا كان مولى
القاتل فالقاتل لا يخلو (اما) إن كان قنا (واما) إن كان مدبرا (واما) إن كان أم ولد (واما) إن كان مكاتبا فإن كان قنا
فقتل مولاه خطأ فجنايته هدر لان المولى لا يجب عليه على عبده دين وان قتله عمدا فعليه القصاص لما مر ولو قتله عمدا
وله وليان فعفا أحدهما حتى سقط القصاص بطلت الجناية ولا يجب للذي لم يعف شئ في قولهما وقال أبو يوسف
رحمه الله يقال للذي عفا اما أن تدفع نصف نصيبك وهو ربع العبد إلى الذي لم يعف أو تفديه بربع الدية (وجه)
قوله إن القصاص كان مشتركا بينهما لكل واحد منهما النصف فإذا عفا أحدهما فقد سقط نصف القصاص وانقلب
نصيب صاحبه وهو النصف مالا شائعا في النصفين نصفه وهو الربع في نصيبه ونصفه في نصيب الشريك فما كان في
نصيبه يسقط وما كان في نصيب الشريك يثبت (وجه) قولهما أن الدية اما أن تجب حقا للمولى والوارث يقوم مقامه
في استيفاء حق وجب له واما ان تجب حقا للورثة بانتقال الملك إليهم بطريق الوراثة وكيف ما كان فالمولى لا يجب له على
عبده دين وإن كان مدبرا فقتل مولاه خطأ فجنايته هدر وعليه السعاية في قيمته لأنه لو وجبت الدية لوجبت على المولى
لأنه لو جنى على أجنبي لوجبت الدية عليه فههنا أولى ولا سبيل إلى الايجاب له وعليه الا انه يسعى في قيمة نفسه لان
العتق يثبت بطريق الوصية ألا ترى انه يعتبر من الثلث والوصية لا تسلم للقاتل الا ان العتق بعد وقوعه لا يحتمل الفسخ
فوجب عليه قيمة نفسه ولو قتله عمدا فعليه القصاص ويسعى في قيمته لما قلنا وورثته بالخيار ان شاؤوا عجلوا استيفاء
القصاص وبطلت السعاية وان شاؤوا استوفوا السعاية ثم قتلوه قصاصا لأنهما حقان ثبتا لهم واختيار السعاية لا يكون
مسقطا للقصاص لان السعاية ليست بعوض عن المقتول بل هي بدل عن الرق ولو كان للمولى وليان عفا أحدهما
ينقلب نصيب الآخر مالا بخلاف القن لان هناك لا يمكن ايجاب الضمان لأنه لو وجب لوجب للمولى على عبده
وليس يجب للمولى على عبده دين وههنا يمكن لان المدبر يعتق بموت سيده فيسعى وهو حر فلم يكن في ايجاب الدية
عليه ايجاب الدين للمولى على عبده فهو الفرق وإن كان أم ولد فقتلت مولاها خطأ أو عمدا فحكمها حكم المدبر
وإنما يختلفان في السعاية فأم الولد لا سعاية عليها والمدبر يسعى في قيمته لان العتق هناك يثبت بطريق الوصية وعتق
أم الولد ليس بوصية حتى لا يعتبر من الثلث ولو قتلت أم الولد مولاها عمدا وله ابنان من غيرها فعفا أحدهما سعت
في نصف قيمتها للذي لم يعف لان القصاص قد سقط بعفو أحدهما وانقلب نصيب الآخر مالا وإنما وجب عليها
السعاية في نصف قيمتها لا في نصف الدية وإن كانت هي حرة وقت وجوب السعاية لأنها عتقت بموت سيدها
270

وتسعى وهي حرة لأنها كانت مملوكة وقت الجناية فيجب اعتبار الحالين حال وجود الجناية وحال وجوب السعاية ولو
كانت مملوكة في الحالين بان قتلت أجنبيا خطأ لوجبت القيمة وكانت على المولى لا عليها فإن كانت مملوكة حال الجناية
حرة حال السعاية اعتبرنا بالحالين فأوجبنا نصف القيمة اعتبارا إلى وجود الجناية وأوجدنا ذلك عليها لا على المولى
اعتبارا بحال وجوب السعاية اعتبارا للحالين بقدر الامكان ولو كان أحد الابنين منها لا يجب القصاص عليها وسعت
في جميع قيمتها أما عدم وجوب القصاص فلانه لو وجب لوجب مشتركا بينهما ولا يمكن ايجاب في نصيب ولدها إذ
لا يوجب للولد على أمه قصاص لتعذر الاستيفاء احتراما للام (وأما) لزوم السعاية فلان القصاص سقط للتعذر ولا
تعذر في القيمة فتسعى في جميع قيمتها وتكون بينهما وإن كان مكاتبا فقتل مولاه خطأ فعليه الأقل من قيمته أو الدية
لان جناية المكاتب على مولاه لازمة كجناية مولاه عليه لأنه فيما يرجع إلى اكسابه وأرش جناياته كالأجنبي لأنه أحق
باكسابه من المولى وتجب القيمة حالة لأنها تجب بالمنع من الدفع فتكون حالة كما تجب على المولى بجناية مدبره وإن كان
عمدا فعليه القصاص والله سبحانه وتعالى أعلم (هذا) إذا كان القاتل والمقتول حرين أو كان القاتل حرا والمقتول
عبدا أو كان القاتل عبدا والمقتول حرا فاما إذا كانا عبدين بأن قتل عبد عبدا خطأ فالمقتول لا يخلو اما إن كان عبدا
لأجنبي واما إن كان عبد المولى القاتل فإن كان عبدا لأجنبي بأن كان القاتل قنا يخاطب المولى بالدفع أو الفداء سواء كان
المقتول قنا أو مديرا أو أم ولد أو مكاتبا وهذا وما إذا كان المقتول حرا أجنبيا سواء الا ان هناك يخاطب المولى بالدفع
أو بالفداء بالدية وههنا يخاطب بالدفع أو الفداء بالقيمة وإن كان القاتل مدبرا أو أم ولد فعلى المولى قيمة الولد والمدبر وأم
الولد سواء كان المقتول قنا أو مديرا أو مكاتبا كما إذا كان المقتول حرا أجنبيا وإن كان القاتل مكاتبا فعليه قيمة نفسه
سواء كان المقتول قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا كما إذا كان المقتول حرا أجنبيا هذا إذا كان المقتول عبدا لأجنبي
فإن كان عبدا لولى القاتل فجناية القاتل عليه هدر وإن كان القاتل قنا أو مدبرا أو أم ولد سواء كان المقتول قنا أو مدبرا أو أم
ولد أو مكاتبا وإن كان القاتل مكاتبا فجنايته عليه لازمة كائنا من كان المقتول لما ذكرنا فيما تقدم والله تعالى أعلم بالصواب
هذا إذا قتل عبد عبدا خطأ فان قتل عمدا فعليه القصاص كائنا من كان المقتول والله جل شأنه الموفق (وأما) القتل
الذي هو في معنى القتل خطأ فنوعان نوع هو في معناه من كل وجه وهو أن يكون على طريق المباشرة ونوع هو في
معناه من وجه وهو أن يكون من طريق التسبيب أما الأول فنحو النائم ينقلب على إنسان فيقتله فهذا القتل في
معنى القتل الخطا من كل وجه لوجوده لا عن قصد لأنه مات بثقله فترتب عليه أحكامه من وجوب الكفارة والدية
وحرمان الميراث والوصية لأنه إذا كان في معناه من كل وجه كان ورود الشرع بهذه الأحكام هناك ورودا ههنا
دلاله وكذلك لو سقط انسان من سطح على قاعد فقتله (أما) وجوب الدية فلوجود معنى الخطا وهو عدم القصد
(وأما) وجوب الكفارة وحرمان الميراث والوصية فلوجود القتل مباشرة لأنه مات بثقله سواء كان القاعد في طريق
العامة أو في ملك نفسه ولو مات الساقط دون القاعد ينظر إن كان في ملك نفسه أو في موضع لا يكون قعوده فيه جناية
لا شئ على القاعد لأنه ليس بمتعد في القعود فما تولد منه لا يكون مضمونا عليه ويهدر دم الساقط وإن كان في موضع
يكون قعوده فيه جناية فدية الساقط على القاعد تتحملها العاقلة لأنه متعد في القعود فالمتولد منه يكون مضمونا عليه كما في
حفر البئر ولا كفارة عليه لحصول القتل بطريق التسبيب كما في البئر وكذلك إذا كان يمشى في الطريق حاملا
سيفا أو حجرا أو لبنة أو خشبة فسقط من يده فقتله لوجود معنى الخطا فيه وحصوله على سبيل المباشرة لوصول
الآلة لبشرة المقتول (ولو) كان لابسا سيفا فسقط على غيره فقتله أو سقط عنه ثوبه أو رداؤه أو طيلسانه أو عمامته
وهو لابسه على إنسان فتعقل به فتلف فلا ضمان عليه أصلا لان في اللبس ضرورة إذ الناس يحتاجون إلى لبس هذه
والتحرز عن السقوط ليس في وسعهم فكانت البلية فيه عامة فتعذر التضمين ولا ضرورة في الحمل والاحتراز عن
سقوط المحمول ممكن أيضا وإن كان الذي لبسه مما لا يلبس عادة فهو ضامن وكذلك الراكب إذا كان يسير في الطريق
271

العامة فوطئت دابته رجلا بيدها أو برجلها لوجود معنى الخطا في هذا القتل وحصوله على سبيل المباشرة لان ثقل
الراكب على الدابة والدابة آلة له فكان القتل الحاصل بثقلها مضافا إلى الراكب فكان قتلا مباشرة ولو كدمت أو
صدمت أو خبطت فهو ضامن الا انه لا كفارة عليه ولا يحرم الميراث والوصية لحصول القتل على سبيل التسبب دون
المباشرة ولا كفارة على السائق والقائد ولا يحرمان الميراث والوصية لان فعل السوق والقود يقرب الدابة من القتل
فكان قتلا تسبيبا لا مباشرة والقتل تسبيبا لا مباشرة لا يتعلق بهذه الأحكام بخلاف الراكب لأنه قاتل مباشرة على
ما بينا والرديف والراكب سواء وعليهما الكفارة ويحرمان الميراث والوصية لان ثقلهما على الدابة والدابة آلة لهما
فكانا قاتلين على طريق المباشرة ولو نفحت الدابة برجلها أو بذنبها وهو يسير فلا ضمان في ذلك على راكب ولا سائق
ولا قائد والأصل ان السير والسوق والقود في طريق العامة مأذونا فيه بشرط سلامة العاقبة فما لم تسلم عاقبته لم يكن
مأذونا فيه فالمتولد منه يكون مضمونا الا إذا كان مما لا يمكن الاحتراز عنه بسد باب الاستطراق على العامة ولا سبيل إليه
والوطئ والكدم والصدم والخبط في السير والسوق والقود مما يمكن الاحتراز عنه بحفظ الدابة وذود الناس والنفح مما
لا يمكن التحرز عنه وكذا البول والروث واللعاب فسقط اعتباره والتحق بالعدم وقد روى أن النبي عليه الصلاة
والسلام قال الرجل جبار أي نفحها ولهذا سقط اعتبار ما ثار من الغبار من مشى الماشي حتى لو أفسد متاعا لم يضمن
وكذا ما أثارت الدابة بسنابكها من الغبار أو الحصى الصغار لا ضمان فيه لما قلنا كذا هذا وأما الحصى الكبار فيجب
الضمان فيها لأنه يمكن التحرز عن اثارتها إذ لا يكون ذلك الا بتعنيف في السوق ولو كبح الدابة باللجام فنفحت برجلها
أو بذنبها فهو هدر لعموم البلوى به ولو أوقف الدابة في الطريق فقتلت انسانا فإن كان ذلك في غير ملكه كطريق العامة
فهو ضامن لذلك كله سواء وطئت بيدها أو برجلها أو كدمت أو صدمت أو خبطت بيدها أو نفحت برجلها أو بذنبها
أو عطب شئ بروثها أو بروثها أو بولها أو لعابها كل ذلك مضمون عليه وسواء كان راكبا أولا لان روث الدابة في طريق العامة
ليس بمأذون فيه شرعا إنما المأذون فيه هو المرور لا غير إذ الناس يتضررون بالوقوف ولا ضرورة فيه فكان الوقوف فيه
تعديا من غير ضرورة فما تولد منه يكون مضمونا عليه سواء كان مما يمكن التحرز عنه أولا يمكن غير أنه إن كان راكبا فعليه
الكفارة في الوطئ باليد والرجل لكونه قاتلا من طريق المباشرة وان لم يكن راكبا لا كفارة عليه لوجود القتل منه
تسبيبا لا مباشره وكذلك لو أوقف دابة على باب المسجد فهو مثل وقفه في الطريق لأنه متعد في الوقف الا أن يكون
الامام جعل للمسلمين عند باب المسجد موقفا يقفون فيه دوابهم فلا ضمان عليه فيما أصاب في وقوفها لان للامام ان
يفعل ذلك إذا لم يتضرر الناس به فلم يكن متعديا في الوقوف فأشبه الوقوف في ملك نفسه الا إذا كان راكبا فوطئت دابته
انسانا فقتلته لان ذلك قتل بطريق المباشرة فيستوى في المواضع كلها ألا ترى انه لو كان في ملكه يضمن وكذلك لو
أوقف دابته في موضع اذن الامام بالوقوف فيه كما في سوق الخيل والبغال لما قلنا وكذلك إذا أوقف دابته في الفلاة لان
الوقوف في الفلاة مباح لعدم الاضرار بالناس فلم يكن متعديا فيه وكذلك في الطريق إن كان وقف في المحجة فالوقوف
فيها كالوقوف في سائر الطرق العامة ولو كان سائرا في هذه المواضع التي أذن الامام فيها بالوقوف للناس أو سائقا أو قائدا
فهو ضامن لان أثر الاذن في سقوط ضمان الوقف لا في غيره لان إباحة الوقف فيها استفيد بالاذن لأنه لم يكن ثابتا قبله
فاما إباحة السير والسوق والقود فلم يثبت بالاذن من الامام لأنه كان ثابتا قبله فبقي الامر فيها على ما كان قبل الاذن
وإن كان الوقف أو السير أو السوق أو القود في ملكه فلا ضمان عليه في شئ مما ذكر الا فيما وطئت دابته بيدها أو برجلها وهو
راكب لأن هذه الأفعال تقع تعديا في الملك والتسبيب إذا لم يكن تعديا لا يكون سببا لوجوب الضمان فاما الوطئ باليد
والرجل في حال السير أو الوقوف فهو قتل مباشرة لا تسبيبا حتى تجب الكفارة لوجود الضمان على كل سواء كان في
ملكه أو في غير ملكه وسواء كان الذي لحقته الجناية مأذونا في الدخول أو غير مأذون لان التلف حصل بفعله مباشرة
ومن دخل ملك غيره بغير اذنه لا يباح اتلافه ولو ربط الدابة في ملك غيره فما دامت تجول في رباطها إذا أصابت شيئا بيدها
272

أو برجلها أو راثت أو بالت فعطب به شئ فذلك كله مضمون عليه لأنه متعد في الوقوف في غير ملكه ولو أنفتح الرباط
وذهبت من ذلك الموضع فما عطب به شئ فهو هدر لان معنى التعدي قد زال بزوالها من موضع الوقوف وان أوقفها غير
مربوطة فزالت عن موضعها بعد ما أوقفها ثم جنت على إنسان أو عطب بها شئ فهو هدر لأنها لما زالت عن موضع الوقف
فقد زال التعدي فكأنها دخلت في هذه المواضع بنفسها وجنت ولو نفرت الدابة من الرجل أو انفلتت منه فما أصابت في
فورها ذلك فلا ضمان عليه لقوله عليه الصلاة والسلام العجماء جبار أي البهيمة جرحها جبار ولأنه لا صنع له في نفارها
وانفلاتها ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها فالمتولد منه لا يكون مضمونا ولو أرسل دابته فما أصابت من فورها ضمن لان
سيرها في فورها مضاف إلى ارسالها فكان متعديا في الارسال فصار كالدافع لها أو كالسائق فان عطفت يمينا وشمالا
ثم أصابت فإن لم يكن لها طريق الا ذلك فذلك مضمون على المرسل لأنها باقية على حكم الارسال وإن كان لها طريق
آخر لا يضمن لأنها عطفت باختيارها فينقطع حكم الارسال وصارت كالمنفلتة ولو أرسل طيرا فأصاب شيئا في
فوره ذلك لا يضمن ذلك بالاجماع ذكره في الزيادات فيمن أرسل بازيا في الحرم فاتلف طيبة الحرم انه لا يضمن لأنه
يفعل باختياره وفعله جبار ولو أغرى به كلبا حتى عقر رجلا فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه كما
لو أرسل طيرا وعند أبي يوسف رحمه الله يضمن كما لو أرسل البهيمة وقال محمد رحمه الله إن كان سائقا له أو قائدا
يضمن وان لم يكن سائقا له ولا قائدا لا يضمن وبه أخذ الطحاوي رحمه الله (وجه) قول محمد ان العقر فعل الكلب
باختياره فالأصل هو الاقتصار عليه وفعله جبار الا أنه بالسوق أو القود يصير مغريا إياه إلى الاتلاف فيصير سببا للتلف
فأشبه سوق الدابة وقودها (وجه) قول أبى يوسف ان اغراء الكلب بمنزله ارسال البهيمة فالمصاب على فور
الارسال مضمون على المرسل فكذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان الكلب يعقر باختياره والاغراء للتحريض
وفعله جبار ولو دخل رجل دار غيره فعقره كلبه لا يضمن سواء دخل داره باذنه أو بغير اذنه لان فعل الكلب
جبار ولم يوجد من صاحبه التسبيب إلى العقر إذ لم يوجد منه الا الامساك في البيت وانه مباح قال الله تبارك وتعالى وهو
أصدق القائلين مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن علكم ولو ألقى حية أو عقربا في الطريق فلدغت
انسانا فضمانه على الملقى لأنه متعد في الالقاء الا إذا عدلت عن ذلك الموضع إلى موضع آخر فلا يضمن لارتفاع التعدي
بالعدول إذا اصطدم فارسان فماتا فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر في قول أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند
زفر رحمه الله على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر وهو قول الشافعي رحمه الله (وجه) قول زفر ان كل
واحد منهما مات بفعلين فعل نفسه وفعل صاحبه وهو صدمة صاحبه وصدمة نفسه فيهدر ما حصل بفعل
نفسه ويعتبر ما حصل بفعل صاحبه فيلزم أن يكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر كما لو جرح
نفسه وجرحه أجنبي فمات ان على الأجنبي نصف الدية لما قلنا كذا هذا (ولنا) ما روى عن سيدنا علي رضي الله عنه
أنه قال مثل مذهبنا ولان كل واحد منهما مات من صدم صاحبه إياه فيضمن صاحبه كمن بنى حائطا في
الطريق فصدم رجلا فمات ان الدية على صاحب الحائط كذا هذا وبه تبين ان صدمة نفسه مع صدم صاحبه إياه
فيه غير معتبر إذ لو اعتبر لما لزم باني الحائط على الطريق جميع الدية لان الرجل قد مشى إليه وصدمه وكذلك حافر البئر
يلزمه جميع الدية وإن كان الماشي قد مشى إليها رجلان مدا حبلا حتى انقطع فسقط كل واحد منهما فان سقطا على
ظهرهما فماتا فلا ضمان فيه أصلا لان كل واحد منهما لم يمت من فعل صاحبه إذ لو مات من فعل صاحبه لخر على وجهه
فلما سقط على قفاه علم أنه سقط بفعل نفسه وهو مده فقد مات كل واحد منهما من فعل نفسه فلا ضمان على أحد وان
سقطا على وجهيهما فماتا فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر لأنه لما خر على وجهه علم أنه مات من جذبه وان سقط
أحدهما على ظهره والآخر على وجهه فماتا جميعا فدية الذي سقط على وجهه على عاقلة الاخر لأنه مات بفعله وهو
جذبه ودية الذي سقط على ظهره هدر لأنه مات من فعل نفسه ولو قطع قاطع الحبل فسقطا جميعا فماتا فالضمان على القاطع
273

لأنه تسبب في اتلافهما والاتلاف تسبيبا يوجب الضمان كحفر البئر ونحو ذلك صبي في يد أبيه جذبه رجل من يده
والأب يمسكه حتى مات فديته على الذي جذبه ويرثه أبوه لان الأب محق في الامساك والجاذب متعد في الجذب
فالضمان عليه ولو تجاذب رجلا صبيا وأحدهما يدعى انه ابنه والاخر يدعى انه عبده فمات من جذبهما فعلى الذي
يدعى انه عبده ديته لأنه متعد في الجذب لان المتنازعين في الصبي إذا زعم أحدهما انه أبوه فهو أولى به من الذي يدعى
انه عبده فكان امساكه بحق وجذب الآخر بغير حق فيضمن رجل في يده ثوب تشبث به رجل فجذبه صاحب
الثوب من يده فخرق الثوب ضمن الممسك نصف الخرق لان حق صاحب الثوب في دفع الممسك وعليه دفعه بغير
جذب فإذا جذب فقد حصل التلف من فعلهما فانقسم الضمان بينهما رجل عض ذراع رجل فجذب المعضوض
ذراعه من فيه فسقطت أسنان العاض وذهب لحم ذراع هذا تهدر دية الأسنان ويضمن العاض أرش الذراع لان
العاض متعد في العض والجاذب غير متعد في الجذب لان العض ضرر وله ان يدفع الضرر عن نفسه رجل جلس إلى
جنب رجل فجلس على ثوبه وهو لا يعلم فقام صاحب الثوب فانشق ثوبه من جلوس هذا عليه يضمن الجالس نصف
ذلك لان التلف حصل من الجلوس والجذب والجالس متعد في الجلوس إذ لم يكن له أن يجلس عليه فكان التلف
حاصلا من فعليهما فينقسم الضمان عليهما رجل أخذ بيد انسان فصافحه فجذب يده من يده فانقلب فمات فلا شئ عليه
لان الآخذ غير متعد في الاخذ للمصافحة بل هو مقيم سنة وإنما الجاذب هو الذي تعدى على نفسه حيث جذب يده
لا لدفع ضرر لحقه من الآخذ وإن كان أخذ يده ليعصرها فآذاه فجر يده ضمن الآخذ ديته لأنه هو المتعدى وإنما
صاحب اليد دفع الضرر عن نفسه بالجر وله ذلك فكان الضمان على المتعدى فان انكسرت يد الممسك وهو الآخذ
بالجذب لم يضمن الجاذب لان التعدي من الممسك فكان جانيا على نفسه فلا ضمان على غيره والله سبحانه وتعالى أعلم
(وأما) الثاني فنحو جناية الحافر ومن في معناه ممن يحدث شيئا في الطريق أو المسجد وجناية السائق والقائد وجناية
الناخس وجناية الحائط (أما) جناية الحافر فالحفر لا يخلو (اما) إن كان في غير الملك أصلا (واما) إن كان في الملك فإن كان
في غير الملك ينظر إن كان في غير الطريق بأن كان في المفازة لا ضمان على الحافر لان الحفر ليس بقتل حقيقة بل هو
تسبيب إلى القتل الا ان التسبيب قد يلحق بالقتل إذا كان المسبب متعديا في التسبيب والمتسبب ههنا ليس بمتعد لان
الحفر في المفازة مباح مطلق فلا يلحق به فانعدم القتل حقيقة وتقديرا فلا يجب الضمان وإن كان في طريق المسلمين فوقع
فيها انسان فمات فلا يخلو اما ان مات بسبب الوقوع واما ان مات غما أو جوعا فان مات بسبب الوقوع فالحافر لا يخلو
اما إن كان حرا واما إن كان عبدا فإن كان حرا يضمن الدية لان حفر البئر على قارعة الطريق سبب لوقوع المار فيها
إذا لم يعلم وهو متعد في هذا التسبيب فيضمن الدية وتتحمل عنه العاقلة لان التحمل في القتل الخطأ المطلق للتخفيف
على القاتل نظرا له والقتل بهذه الطريق دون القتل الخطأ فكانت الحاجة إلى التخفيف أبلغ ولا كفارة عليه لان
وجوبها متعلق بالقتل مباشرة والحفر ليس بقتل أصلا حقيقة الا انه الحق بالقتل في حق وجوب الدية فبقي في حق
وجوب الكفارة على الأصل ولان الكفارة في الخطأ المطلق إنما وجبت شكر النعمة الحياة بالسلامة عند وجود
سبب فوت السلامة وذلك بالقتل فإذا لم يوجد لم يجب الشكر وكذا لا يحرم الميراث إن كان وارثا للمجني عليه ولا
الوصية إن كان أجنبيا لان حرمان الميراث والوصية حكم متعلق بالقتل قال النبي عليه الصلاة والسلام لا ميراث لقاتل
وقال عليه الصلاة والسلام لا وصية لقاتل ولم يوجد القتل حقيقة وان مات غما أو جوعا فقد اختلف أصحابنا فيه قال
أبو حنيفة رضي الله عنه لا يضمن وقال محمد يضمن وقال أبو يوسف رحمه الله ان مات غما يضمن وان مات جوعا لا
يضمن (وجه) قول محمد رحمه الله ان الضمان عند الموت بسبب السقوط إنما وجب لكون الحفر تسبيبا إلى الهلاك
ومعنى التسبيب موجود ههنا لان الوقوع سبب الغم والجوع لان البئر يأخذ نفسه وإذا طال مكثه يلحقه الجوع
والوقوع بسبب الحفر فكان مضافا إليه كما إذا حبسه في موضع حتى مات (وجه) قول أبى يوسف ان الغم من آثار
274

الوقوع فكان مضافا إلى الحفر فأما الجوع فليس من آثاره فلا يضاف إلى الحفر ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لا صنع للحافر
في الغم ولا في الجوع حقيقة لأنهما يحدثان بخلق الله تعالى لا صنع للعبد فيما أصلا لا مباشرة ولا تسبيبا أما المباشرة فلا
شك في انتفائها واما التسبيب فلان الحفر ليس بسبب للجوع لا شك فيه لأنه لا ينشأ منه بل من سبب آخر والغم
ليس من لوازم البئر فإنها قد تغم فلا يضاف ذلك إلى الحفر وان أصابته جناية فيما دون النفس فضمانها على
الحافر لأنها حصلت بسبب الوقوع والوقوع بسبب الحفر ثم إن بلغ القدر الذي تتحمله العاقلة حمله عليهم والا
فيكون في ماله وكذا إذا كان الواقع غير بني آدم لان ضمان المال لا تتحمله العاقل كما لا تتحمل سائر الديون ثم إن
جنايات الحفر وان كثرت من الحر يجب عليه لكل جناية أرشها ولا يسقط شئ من ذلك بشئ منه ولا يشرك المجني
عليهم فيما يجب لكل واحد منهم لأنه بالحفر جنى على كل واحد منهم بحياله فيؤخذ بكل واحدة من الجنايات بحيالها
هذا هو الأصل وإن كان الحافر عبدا فإن كان قنا فجنايته بالحفر بمنزلة جنايته بيده وقد ذكرنا حكم ذلك فيما تقدم وهو
ان يخاطب المولى بالدفع أو الفداء قلت جنايته أو كثرت غير أنه إن كان المجني عليه واحدا يدفع إليه أو يفدى وإن كان
وا جماعة يدفع إليهم أو يفدى بجميع الأروش لان جنايات القن في رقبته يقال للمولى ادفع أو افد والرقبة تتضايق
عن الحقوق فيتضاربون في الرقبة والواجب بجناية الحر يتعلق بذمة العاقلة والذمة لا تتضايق عن الحقوق فان وقع فيها
واحد فمات فدفعه المولى إلى ولى جنايته ثم وقع آخر يشارك الأول في الرقبة المدفوعة وكذلك الثالث والرابع
فكلما يحدث من جناية بعد الدفع فإنهم يشاركون المدفوع إليه الأول في رقبة العبد وكل واحد منهم يضرب بقدر
جنايته لان المولى بالدفع إلى الأول خرج عن عهدة الجناية لأنه فعل ما وجب عليه فخرج عن عهدة الواجب ثم الجناية
في حق الثاني والثالث حصلت بسبب الحفر أيضا والحكم فيها وجوب الدفع فكان الدفع إلى الأول دفعا إلى الثاني
والثالث لاستواء الكل في سبب الوجوب كأنه دفعه إلى الأول دفعة واحدة ولو حفرها ثم أعتقه المولى بعد الحفر قبل
الوقوع ثم لحقت الجنايات فذلك على المولى في قيمته يوم عتق يشترك فيها أصحاب الجنايات التي كانت قبل العتق
وبعده يضرب في ذلك كل واحد بقدر أرش الجناية لان جناية القن وان كثرت فالواجب فيها الدفع والولي بالاعتاق
فوت الدفع من غير اختيار الفداء فتعتبر قيمته وقت الاعتاق لان فوات الدفع حصل بالاعتاق فتعتبر قيمته يوم الاعتاق
بخلاف المدبر انه لا تعتبر قيمته يوم التدبير بل يوم الجناية وإن كان فوات الدفع بالتدبير لكن التدبير إنما يصير سببا عند
وجود شرطه وهو الجناية فتعتبر قيمته حينئذ على ما بينا فيما تقدم وإن كان الحافر مدبرا أو أم ولد فعلى المولى قيمة واحدة
قلت الجناية أو كثرت وتعتبر قيمته يوم الجناية وهو يوم الحفر ولا تعتبر زيادة القيمة ونقصانها لأنها صار جانيا بسبب
الحفر عند الوقوع فتعتبر قيمته وقت الجناية كما إذا جنى بيده وإن كان مكاتبا فجنايته على نفسه لا على مولاه كما إذا
جنى بيده وتعتبر قيمته يوم الحفر لما بينا ولو حفر بئرا في الطريق فجاء انسان ودفع انسانا وألقاه فيها فالضمان على الدافع
لا على الحافر لان الدافع قاتل مباشرة ولو وضع رجل حجرا في قعر البئر فسقط انسان فيها لا ضمان على الحافر مع
الواضع ههنا كالدافع مع الحافر ولو جاء رجل فحفر من أسفلها ثم وقع فيها انسان فالضمان على الأول كذا ذكر الكرخي
رحمه الله وذكر محمد رحمه الله في الكتاب ينبغي في القياس ان يصمن الأول ثم قال وبه نأخذ ولم يذكر الاستحسان
وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله في الاستحسان الضمان عليهما لاشتراكهما في الجناية وهي الحفر
فيشتركان في الضمان (وجه) القياس ان سبب الوقوع حصل من الأول وهو الحفر بإزالة المسكة والحفر من الثاني
بمنزلة نصب السكين أو وضع الحجر في قعر البئر فكان الأول كالدافع فكان الضمان عليه ولو حفر رجل بئرا فجاء
انسان ووسع رأسها فوقع فيها انسان فالضمان عليهما نصفان هكذا أطلق في الكتاب ولم يفصل وقيل جواب
الكتاب محمول على ما إذا وسع قليلا بحيث يقع رجل في حفرهما (فأما) إذا وسع كثيرا بحيث يقع قدمه في حفر
الثاني فالضمان على الثاني لا على الأول لان التوسع إذا كان قليلا بحيث يقع قدمه في حفرهما كان الوقوع بسبب
275

وجد منهما وهو حفرهما فكان الضمان عليهما وإذا كان كثيرا كان الوقوع بسبب وجد من الثاني فكان الضمان
عليه ولو حفر بئرا ثم كبسها فجاء رجل وأخرج ما كبس فوقع فيها انسان فالكبس لا يخلو اما إن كان بالتراب
والحجارة (واما) إن كان بالحنطة والشعير فإن كان بالأول فالضمان على الثاني وإن كان بالثاني فالضمان على الأول
لان الكبس بالتراب والحجارة يعد طما للبئر والحاقا له بالعدم فكان اخراج ذلك منها بمنزلة اخراج بئر أخرى (فأما)
الحنطة والشعير ونحوهما فلا يعد ذلك طما بل يعد شغلا لها الا يرى أنه بقي أثر الحفر بعد الكبس بالحنطة والشعير ولا
يبقى أثره بعد الكبس بالتراب والحجارة ولو حفر بئر أو سد الحافر رأسها ثم جاء انسان فنقضه فوقع فيها انسان فالضمان
على الحافر لان أثر الحفر لم ينعدم بالسد لكن السد صار مانعا من الوقوع والفاتح بالفتح أزال المانع وزوال المانع شرط
للوقوع والحكم يضاف إلى سبب لا إلى الشرط ولو وضع رجل حجرا في الطريق فتعثر عليه رجل فوقع في بئر حفرها
آخر فالضمان على واضع الحجر لان الوقوع بسبب التعثر والتعثر بسبب وضع الحجر والوضع تعد منه فكان التلف مضافا
إلى وضع الحجر فكان الضمان على واضعه وان لم يكن يضعه أحد ولكنه حمل السيل فالضمان على الحافر لأنه لا يمكن ان
يضاف إلى الحجر لعدم التعدي منه فيضاف إلى الحافر لكونه متعديا في الحفر ولو اختلف الحافر وورثه الميت فقال
الحافر هو القى نفسه فيها متعمدا وقال الورثة بل وقع فيها فالقول قول الحافر في قول أبى يوسف الآخر وهو قول محمد
وفى قول أبى يوسف الأول القول قول الورثة (وجه) قوله الأول ان الظاهر شاهد للورثة لان العاقل لا يلقى نفسه
في البئر عمدا والقول قول من يشهد له الظاهر (وجه) قول الآخر ان حاصل الاختلاف يرجع إلى وجوب الضمان
فالورثة يدعون على الحافر الضمان وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه وما ذكر من الظاهر معارض بظاهر آخر وهو
ان الظاهر أن المار على الطريق الذي يمشى فيه يرى البئر فتعارض الظاهران فبقي الضمان على أصل العدم ولو حفر بئرا
في الطريق فوقع رجل فيها فتعلق بآخر وتعلق الثاني بثالث فوقعوا فماتوا فهذا في الأصل لا يخلوا من أحد وجهين (اما)
ان علم حال موتهم بان خرجوا أحياء فأخبروا عن حالهم (واما) ان لم يعلم فان علم ذلك (فاما) موت الأول فلا يخلو من
سبعة أوجه (اما) ان علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة (واما) ان علم أنه مات بوقوع الثاني عليه خاصة (واما) انه علم أن
مات بوقوع الثالث عليه خاصة (واما) ان علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه (واما) ان علم أنه مات بوقوعه في
البئر ووقوع الثاني عليه (واما) ان علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه وأما ان علم أنه مات بوقوعه في
البئر ووقوع الثاني والثالث عليه فان علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة فالضمان على الحافر لان الحافر هو القاتل تسبيبا
وهو متعد فيه فكان الضمان عليه فان علم أنه مات بوقوع الثاني عليه خاصة فدمه هدر لأنه هو الذي قتل نفسه حيث
جره على نفسه وجناية الانسان على نفسه هدر وان علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة فالضمان على الثاني لان
الثاني هو الذي جر الثالث على الأول حتى أوقعه عليه وان علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه فنصفه هدر ونصفه
على الثاني لان جره الثاني على نفسه هدر لأنه جناية على نفسه وجر الثاني والثالث عليه معتبر فهدر النصف وبقى
النصف وان علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه فالنصف على الحافر لوجود الجناية منه بالحفر والنصف
هدر لجره الثاني على نفسه وان علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف على الحافر والنصف على
الثاني لأنه هو الذي جر الثالث على الأول وان علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه فالثلث هدر
والثلث على الحافر والثلث على الثاني لأنه مات بثلاث جنايات أحدها هدر وهي جره الثاني على نفسه فبقيت جناية
الحافر وجناية الثاني بجره الثالث على الأول فتعتبر (واما) موت الثاني فلا يخلو من ثلاثة أوجه (اما) ان علم أنه
مات بوقوعه في البئر خاصة واما ان علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة (واما) ان علم أنه مات بوقوعه في البئر
ووقوع الثالث عليه فان علم أنه مات بسقوطه في البئر خاصة فديته على الأول وليس على الحافر شئ لان الأول
هو الذي جره إلى البئر فكان الدافع وان علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة فدمه هدر لأنه مات بفعل
276

نفسه حيث جر الثالث على نفسه فهدر دمه وان علم أنه مات بسقوطه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف هدر
والنصف على الأول لأنه مات بشيئين أحدهما فعل نفسه وهو جره الثالث على نفسه وجنايته على نفسه هدر والثاني
فعل غيره وهو جر الأول وايقاعه في البئر وأما موت الثالث فله وجه واحد لا غير وهو سقوطه في البئر وديته على
الثاني لأنه هو الذي جره إلى البئر وأوقعه فيه هذا كله إذا علم حال وقوعهم وأما إذا لم يعلم فلا يخلوا اما ان وجد بعضهم
على بعض واما ان وجدوا متفرقين فإن كانوا متفرقين فدية الأول على الحافر ودية الثاني على الأول ودية الثالث على
الثاني وإن كان بعضهم على بعض فالقياس هكذا أيضا وهو أن يكون دية الأول على الحافر ودية الثاني على الأول
ودية الثالث على الثاني وهو قول محمد رحمه الله وفى الاستحسان دية الأول أثلاث ثلث على الحافر وثلث على الثاني
وثلث هدر ودية الثاني نصفان نصف هدر ونصف على الأول ودية الثالث كلها على الثاني ولم يذكر محمد رحمه الله في
الاستحسان انه قول من وجه القياس انه وجد لموت كل واحد سبب ظاهر وهو الحفر للأول والجر من الأول للثاني
والجر من الثاني للثالث وإضافة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة أصل في الشريعة (وجه) الاستحسان انه اجتمع
في الأول ثلاثة أسباب كل واحد منها صالح للموت وقوعه في البئر ووقوع الثاني ووقوع الثالث عليه الا ان وقوع
الثاني عليه حصل بجره إياه على نفسه فهدر الثلث وبقى الثلثان وبقى الثلثان ثلث على الحافر بحفره وثلث على الثاني بجره الثالث
على نفسه ووجد في الثاني شيئان الحفر ووقوع الثالث عليه الا ان وقوعه عليه حصل بجره فهدر نصف الدية وبقى
النصف على الحافر ولم يوجد في الثالث الا سبب واحد وهو جر الثاني إياه إلى البئر والأصل في الأسباب اعتبارها
ما أمكن واعتبارها يقتضى أن يكون الحكم ما ذكرنا والله تعالى أعلم ولو استأجر رجلا ليحفر له بئرا في الطريق فحفر فوقع
فيها انسان فإن كانت البئر في فناء المستأجر فالضمان عليه لا على الأجير لان له ولاية الانتفاع بفنائه إذا لم يتضمن
الضرر بالمارة على أصلهما مطلقا وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله إذا لم يمنع منه مانع فانصرف مطلق الامر بالحفر
إليه فإذا حفر في فنائه انتقل فعل المأمور إليه كأنه حفر بنفسه فوقع فيها انسان ولو كان كذلك وجب الضمان
عليه كذا هذا وان لم يكن ذلك في فنائه فان أعلم المستأجر الأجير ان ذلك ليس من فنائه فالضمان على الأجير لا على
الآمر لان الأجير لم يحفر بأمره فبقي فعله مقصورا عليه كأنه ابتدأ الحفر من نفسه من غير أمر فوقع فيها انسان وان لم
يعلمه فالضمان على الآمر لأنه غره بالامر بحفر البئر في الطريق مطلقا إنما يأمر بما يملكه مطلقا عادة فيلزمه ضمان
الغرور هو ضمان الكفالة في الحقيقة كأنه ضمن له ما يلزمه من الحفر بمنزلة الضمان ضمان الدرك ولو أمر عبده ان يحفر بئرا في
الطريق فحفر فوقع فيها انسان فإن كان الحفر في فنائه فالضمان على عاقلة المولى لأنه يملك الامر بالحفر في هذا المكان
فينتقل فعله إلى المولى كأنه حفر بنفسه وإن كان في غير فنائه فالضمان في رقبة العبد يخاطب المولى بالدفع أو الفداء لان
الامر بالحفر لا ينصرف إلى غير فنائه فصار مبتدئا في الحفر بنفسه سواء أعلم العبد أنه ليس من فنائه أو لم يعلمه بخلاف
الأجير لان وجوب الضمان على الآمر هناك بمعنى الغرور على ما بينا ولا يتحقق الغرور فيما بين العبد وبين
مولاه فيستوى فيه العلم والجهل وإن كان الحفر في الملك فإن كان في ملك غيره بان حفر بئرا في دار انسان بغير اذنه فوقع
فيها انسان يضمن الحافر لأنه متعد في التسبيب ولو قال صاحب الدار أنا أمرته بالحفر وأنكر أولياء الميت فالقياس
أن لا يصدق صاحب الدار والقول قول الورثة وفى الاستحسان يصدق والقول قول الحافر (وجه) القياس ان الحفر
وقع موجبا للضمان ظاهرا لأنه صادف ملك الغير وانه محظور فكان متعديا في الحفر من حيث الظاهر فصاحب الدار
بالتصديق يريد ابراء الجاني عن الضمان فلا يصدق (وجه) الاستحسان ان قول صاحب الدار أمرته بذلك اقرار
منه بما يملك انشاءه للحال وهو الامر بالحفر فيصدق وإن كان في ملك نفسه لا ضمان عليه لان الحفر مباح مطلق له فلم
يكن متعديا في التسبيب وإن كان في فنائه يضمن لان الانتفاع به مباح بشرط السلامة كالسير في الطريق ولو
استأجر أربعة يحفرون له بئرا فوقعت عليهم من حفرهم فمات أحدهم فعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية وهدر
277

الربع لأنه مات من أربع جنايات الا أن جناية المرء على نفسه هدر فبطل الربع وبقى جنايات أصحابه عليه فتعتبر
ويجب عليهم ثلاث أرباع الدية على كل واحد منهم الربع وقد روى الشعبي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قضى
على القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثا وهن ثلاث جواري ركب إحداهن الأخرى فقرصت الثالثة
المركوبة ففمصت فسقطت الراكبة فقضى للتي وقصت بثلثي الدية على صاحبتها وأسقط الثلث لان الواقصة أعانت
على نفسها وروى أن عشرة مدوا نخلة فسقطت على أحدهم فمات فقضى سيدنا علي رضي الله عنه على كل واحد
منهم بعشر الدية وأسقط العشر لان المقتول أعان على نفسه ولو استأجر اجراء حرا وعبدا محجورا ومكاتبا
يحفرون له بئرا فوقعت البئر عليهم من حفرهم فماتوا فلا ضمان على المستأجر في الحر ولا في المكاتب ويضمن قيمة العبد
المحجور لمولاه أما الحر والمكاتب فلانه لم يوجد فيهما من المستأجر سبب وجوب الضمان لان استئجارهما وقع
صحيحا فكان استعماله إياهما في الحفر بناء على عقد صحيح فلا يكون سببا لوجوب الضمان ووقوع البئر عليهما حصل
من غير صنعه فلا يجب الضمان عليه وأما العبد فلان استئجاره لم يصح فصار المستأجر باستعماله في الحفر غاصبا
إياه فدخل في ضمانه فإذا هلك فقد تقرر الضمان فعليه قيمته لمولاه ثم إذا دفع قيمته إلى المولى فالمولى يدفع القيمة إلى
ورثة الحر والمكاتب فيتضاربون فيها فيضرب ورثة الحر بثلث دية الحر وورثة المكاتب بثلث قيمة المكاتب
وإنما كان كذلك لان موت كل واحد منهم حصل بثلاث جنايات بجناية نفسه وجناية صاحبيه فصار قدر الثلث
من الحر والمكاتب تالفا بجناية العبد وجناية القن توجب الدفع ولو كان قنا لوجب دفعه إلى ورثة الحر والمكاتب
يتضاربون في رقبته على قدر حقوقهم فإذا هلك وجب دفع القيمة إليهم يتضاربون فيها أيضا فيضرب ورثة الحر فيها
بثلث دية الحر وورثة المكاتب بثلث قيمة المكاتب لان الحر مضمون بالدية والمكاتب مضمون بالقيمة ثم يرجع
المولى على المستأجر بقيمة العبد مرة أخرى ويسلم له تلك القيمة لأنه وان ورد المغصوب إلى المغصوب منه برد قيمته إليه
لكنه رده مشغولا وقد كان غصبه فارغا فلم يصح رده في حق الشغل فيضمن القيمة مرة أخرى وللمستأجر أن يرجع
على عاقلة الحر بثلث قيمة العبد لان ملك العبد بالضمان من وقت الغصب فتبين أن الجناية حصلت من الحر على ثلث
عبد المستأجر فيضمن ثلث قيمته فتؤخذ من عاقلته ويأخذ ورثة المكاتب أيضا من عاقلة الحر ثلث قيمة المكاتب
لوجود الجناية من الحر على ثلث قيمته فيضمن ثلث قيمته فتؤخذ من عاقلته ثم يؤخذ من تركة المكاتب مقدار قيمته
فتكون بين ورثة الحر وبين المستأجر لوجود الجناية منه على الحر وعلى العبد يضرب ورثة الحر بثلث دية الحر
ويضرب المستأجر بثلث قيمة العبد لأنه جنى على ثلث الحر وعلى ثلث العبد فأتلف من كل واحد منهما ثلثه والحر
مضمون بالدية والعبد بالقيمة وقد ملك المستأجر العبد بالضمان فكان ضمان الواردة على ملكه والله سبحانه وتعالى
أعلم وقالوا فيمن حفرا بئرا في سوق العامة لمصلحة المسلمين فوقع فيها انسان ومات انه إن كان الحفر باذن السلطان
لا يضمن وإن كان بغير اذنه يضمن وكذلك إذا اتخذ قنطرة للعامة وروى عن أبي يوسف أنه لا يضمن
(ووجهه) ان ما كان من مصالح المسلمين كان الاذن به ثابتا دلالة والثابت دلالة كالثابت نصا (وجه) ظاهر
الرواية ان ما يرجع إلى مصالح عامة المسلمين كان حقا لهم والتدبير في أمر العامة إلى الامام فكان الحفر فيه بغير اذن
الامام كالحفر في دار انسان بغير اذن صاحب الدار هذا الذي ذكرنا حكم الحافر في الطريق وكذلك من كان في معنى
الحافر ممن يحدث شيئا في الطريق كمن أخرج جناحا إلى طريق المسلمين أو نصب فيه ميزابا فصدم انسانا فمات أو
بنى دكانا أو وضع حجرا أو خشبة أو متاعا أو قعد في الطريق ليستريح فعثر بشئ من ذلك عاثر فوقع فمات أو وقع على غيره
فقتله أو حدث به أو بغيره من ذلك العثرة والسقوط جناية من قتل أو غيره أو صب ماء في الطريق فزلق به انسان فهو
في ذلك كله ضامن وكذلك ما عطب بذلك من الدواب لأنه سبب التلف باحداث هذه الأشياء وهو متعد في
التسبيب فما تولد منه يكون مضمونا عليه كالمتولد من الرمي ثم ما كان من الجناية في بني آدم تتحملها العاقلة إذا بلغت
278

القدر الذي تتحمل العاقلة وهو نصف عشر دية الرجل وما لم يبلغ ذلك القدر أو كان منها في غير بني آدم يكون في ماله
لان تحميل العاقلة ثبت بخلاف القياس لعدم الجناية منهم وقد قال الله تبارك وتعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى
عرفناه بنص خاص في بني آدم بهذا القدر فبقي الامر فيما دونه وفى غير بني آدم على الأصل ولا كفارة عليه ولا يحرم
الميراث لو كان وارثا للمجني عليه ولا الوصية لو كان أجنبيا لأنه لم يباشر القتل وقد قالوا فيمن وضع كناسة في
الطريق فعطب بها انسان أنه يضمن لان التلف حصل بوضعه وهو في الوضع متعد وقال محمد ان وضع ذلك في
طريق غير نافذة وهو من أهله لم يضمن لعدم التعدي منه إذ الطريق مشترك بين أهل السكة فيكون لكل واحد من
أهلها الانتفاع به كالدار المشتركة ولو سقط الميزاب الذي نصبه صاحب الدار إلى طريق المسلمين على إنسان فقتله
ان أصابه الطرف الداخل في الحائط لم يضمن لأنه في ذلك القدر متصرف في ذلك نفسه فلم يكن متعديا فيه وان أصابه
الطرف الخارج إلى الطريق يضمن لأنه متعد في اخراجه إلى الطريق وان أصابه الطرفان جميعا يضمن النصف
لأنه متعد في النصف لا غير وإن كان لا يدرى فالقياس أن لا يضمن شيئا لأنه إن كان أصابه الطرف الداخل
لا يضمن وإن كان أصابه الطرف الخارج يضمن والضمان لم يكن واجبا فوقع الشك في وجوبه فلا يجب بالشك
وفى الاستحسان يضمن النصف لأنه إذا لم يعرف الطرف الذي أصابه انه الداخل أو الخارج يجعل كأنه أصابه
الطرفان جميعا كما في الغرقى والحرقى انه إذا لم يعرف التقدم والتأخر في موتهم يجعل كأنهم ماتوا جملة واحدة في أوان
واحد حتى لا يرث البعض من البعض كذا هذا ولو أحدث شيئا مما ذكرنا في المسجد بأن حفر بئرا في المسجد لأجل
الماء أو بنى فيه بناء دكانا أو غيره فعطب به انسان فإن كان الحافر والباني من أهل المسجد فلا ضمان عليه وإن كان
من غير أهله فان فعل باذن أهل المسجد فكذلك وان فعل بغير اذنهم يضمن بالاجماع لان تدبير مصالح المسجد إلى
أهل المسجد فما فعلوه لا يكون مضمونا عليهم كالأب أو الوصي إذا فعل شيئا من ذلك في دار اليتيم ومتولي الوقف
إذا فعل في الوقف وأما غير أهل المسجد فليس له ولاية التصرف في المسجد بغير اذن أهل المسجد فإذا فعل بغير اذنهم
كان متعديا في فعله فكان مضمونا عليه ولو علق قنديلا أو بسط حصيرا أو القى فيه الحصى فإن كان من أهل المسجد
فلا ضمان عليه وان لم يكن من أهل ذلك المسجد فان فعله باذن أهل المسجد فكذلك وان فعل بغير اذنهم يضمن في
قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفى قولهما لا يضمن (وجه) قولهما ان المسجد لعامة المسلمين فكان كل واحد من
آحاد المسلمين بسبيل من إقامة مصالحه ولأن هذه المصالح من عمارة المسجد وقد قال الله تبارك وتعالى إنما يعمر
مساجد الله من آمن بالله من غير تخصيص الا ان لأهل المسجد ضرب اختصاص به فيظهر ذلك في التصرف في نفسه
بالحفر والبناء لا في القنديل والحصير كالمالك مع المستعير أن للمستعير ولاية بسط الحصير وتعليق القنديل في دار
الإعارة وليس له ولاية الحفر والبناء كذا هذا ولأبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن التدبير في مصالح المسجد إلى أهل
المسجد لا إلى غيرهم بدليل أن لهم ولاية منع غيرهم عن التعليق والبسط عمارة المسجد فكان الغير متعديا في فعله
فالمتولد منه يكون مضمونا عليه كما لو وضع شيئا في دار غيره بغير اذنه فعطب به انسان ولهذا ضمن بالحفر والبناء
كذا هذا وكون المسجد لعامة المسلمين لا يمنع اختصاص أهله بالتدبير والنظر في مصالحه كالكعبة فإنها
لجميع المسلمين ثم اختص بنو شيبة بمفاتحها حتى روى أنه عليه الصلاة والسلام لما أخذ مفتاح الكعبة منهم ودفعه
إلى عمه العباس رضي الله عنه عند طلبه ذلك امره الله تبارك وتعالى برده إلى بنى شيبة بقوله تبارك وتعالى
ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها ولو جلس في المسجد فعطب به انسان إن كان في الصلاة لا يضمن
الجالس سواء كان الجالس من أهل المسجد أو لم يكن من أهله لان المسجد بنى للصلاة فلو أخذ المصلى بالضمان لصار
الناس ممنوعين عن الصلاة في المساجد وهذا لا يجوز وان جلس لحديث أو نوم فعطب به انسان فيضمن في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وفى قولهما لا يضمن وجه قولهما ان الجلوس في المسجد لغير الصلاة من الحديث والنوم مباح فلم
279

يكن الهلاك حاصلا بسبب هو متعد فيه فلا يجب الضمان كما لو جلس في دار فعبر عليه انسان فعطب به انه لا يضمن
كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان المسجد بنى للصلاة لا للحديث والنوم فإذا شغله بذلك صار متعديا فيضمن
كما لو جلس في الطريق للاستراحة فعطب به انسان أنه يضمن لان الطريق جعل للاجتياز لا للجلوس وإذا جلس
فقد صار متعديا فيضمن كذا هذا وقولهما الحديث والنوم مباح في المسجد مسلم لكن بشرط سلامة العاقبة ولم
يوجد الشرط فكان تعديا ولو جلس لانتظار الصلاة أو لقراءة قرآن أو لعبادة من العبادات غير الصلاة فلا شك
أن على أصلهما لا يضمن لأنه لو جلس لغير قربة لا يضمن فإذا جلس لقربة فهو أولى وأما على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه
فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يضمن لان المنتظر في الصلاة على لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقال بعضهم يضمن لأنه ليس في الصلاة حقيقة وإنما الحق بالمصلى في حق الثواب لا غير والله تعالى أعلم
ومن هذا الجنس جناية السائق والقائد بان ساق دابة في طريق المسلمين أو قادها فوطئت انسانا بيدها أو برجلها أو
كدمت أو صدمت أو خبطت فهو ضامن لما ذكرنا من الأصل ان السوق والقود في الطريق مباح بشرط سلامة
العاقبة فإذا حصل التلف بسببه ولم يوجد الشرط فوقع تعديا فالمتولد منه فيما يمكن التحرز عنه يكون مضمونا وهذا مما يمكن
الاحتراز عنه بان يذود الناس عن الطريق فيكون مضمونا وسواء كان السائق أو القائد راجلا أو راكبا الا أنه إذا كان
راكبا فعليه الكفارة إذا وطئ دابته انسانا بيدها أو برجلها ويحرم الميراث والوصية وإن كان راجلا لا كفارة عليه
ولا يحرم الميراث والوصية لأن هذه الأحكام يتعلق ثبوتها بمباشرة القتل لا بالتسبيب والمباشرة من الراكب لا من غيره
وإن كان أحدهما سائقا والاخر قائدا فالضمان عليهما لأنها ما اشتركا في التسبيب فيشتركان في الضمان وكذلك إذا
كان أحدهما سائقا والآخر راكبا أو كان أحدهما قائدا والاخر راكبا فالضمان عليهما لوجود سبب وجوب
الضمان من كل واحد منهما الا أن الكفارة تجب على الراكب وحده فيما وطئت دابته انسانا فقتلته لوجود القتل منه
وحده مباشرة فان قاد قطارا فما أصاب الأول أو الاخر أو الأوسط انسانا بيد أو رجل أو صدم انسانا فقتله فهو
ضامن لذلك لأنه فعل فعلا هو سبب حصول التلف فيضمن وهو مما يمكن الاحتراز عنه كما إذا وضع حجرا في الطريق
أو حفر فيه بئرا فإن كان معه سائق في آخر القطار فالضمان عليهما لان كل واحد منهما سبب التلف وإن كان السائق في
وسط القطار فما أصاب مما خلف هذا السائق وما بين يديه شيئا فهو عليهما لان ما بين يديه هو له سائق والأول له
قائد وما خلفه هما له قائدان (أما) قائد القطار فلا شك فيه لان بعضه مربوط ببعض (وأما) السائق الذي في
وسط القطار فلانه بسوقه ما بين يديه قائد لما خلفه لان ما خلفه ينقاد بسوقه فكان قائدا له والقود والسوق كل واحد
منهما سبب لوجوب الضمان لما بينا وإن كان أحيانا في وسط القطار وأحيانا يتأخر وأحيانا يتقدم وهو يسوقها في
ذلك فهو والأول سواء لأنه سائق وقائد والسوق والقود كل واحد منهما سبب لوجوب الضمان وإن كانوا ثلاثة
أحدهم في مقدمة القطار والا آخر في مؤخر القطار وآخر في وسطه فإن كان الذي في الوسط والمؤخر لا يسوقان
ولكن المقدم يقود فما أصاب الذي قدام الوسط شيئا فذلك كله على القائد لان التلف حصل بسبب القود وما
أصاب الذي خلفه فذلك على القائد الأول وعلى الذي في الوسط لأنهما قائدان لما بينا وعلى المؤخر أيضا إن كان
يسوق هو وإن كان لا يسوق لا شئ عليه لأنه لم يوجد منه صنع وإن كانوا جميعا يسوقون فما تلف
بذلك فضمانه عليهم جميعا لوجود التسبيب منهم جميعا وذكر محمد رحمه الله في الكيسانيات لو أن رجلا يقود قطارا
وآخر من خلف القطار يسوقه يزجر الإبل فينزجرن بسوقه وعلى الإبل قوم في المحامل نيام فوطئ بعير منها انسانا فقتله
فالدية على عاقلة القائد والسائق والراكب على البعير الذي وطئ وعلى الراكبين على الذين قدام البعير الذي وطئ على
عواقلهم جميعا على عدد الرؤس والكفارة على راكب البعير الذي وطئ خاصة وأما السائق والقائد فلأنهما مقربان
القطار إلى الجناية فكانا مسببين للتلف (وأما) الراكب للبعير الذي وطئ فلا شك فيه لان التلف حصل بفعله
280

(وأما) الراكبون امام البعير الذي وطئ فلأنهم قاده لجميع ما خلفهم فكانوا قائدين للبعير الواطئ ضرورة
فكانوا مسببين للتلف أيضا فاشتركوا في سبب وجوب الضمان فانقسم الضمان عليهم وإنما كانت الكفارة على
راكب البعير الذي وطئ خاصة لأنه قاتل بالمباشرة لحصول التلف بثقله وثقل الدابة الا أن الدابة آلة فكان الأثر
الحاصل بفعله مضافا إليه فكان قاتلا بالمباشرة ومن كان من الركبان خلف البعير الذي وطئ لا يزجر الإبل ولا
يسوقها راكبا على بعير منها أو غير راكب فلا ضمان على أحد منهم لأنه لم يوجد منهم سبب وجوب الضمان إذا لم يسوقوا
البعير الذي وطئ ولم يقودوه فصاروا كمتاع على الإبل ولو قاد قطارا وعلى بعير في وسط القطار راكب لا يسوق منه
شيئا فضمان ما كان بين يديه على القائد خاصه وضمان ما خلفه عليهما جميعا لان الراكب غير سائق لما بين يديه لان
ركوبه لهذا البعير لا يكون سوقا لما بين يدية كما أن مشيه إلى جانب البعير لا يكون سوقا إياه إذا لم يسقه ولكنه سائق لما
ركبه لان البعير إنما يسير بركوب الراكب وحثه إذا كان سائقا له كان قائدا لما خلفه فكان ضمانه عليهما وإذا كان
الرجل يقود قطارا فجاء رجل وربط إليه بعيرا فوطئ البعير انسانا فالقائد لا يخلو اما إن كان لا يعلم بربطه واما ان علم ذلك
فإن لم يعلم فالدية على القائد تتحمل عنه عاقلته ثم عاقلته يرجعون على عاقلة الرابط (أما) وجوب الدية على القائد
فلانه قاتل تسبيبا وضمان القتل ضمان اتلاف وانه لا يختلف بالعلم والجهل (وأما) رجوع عاقلة القائد على عاقلة
الرابط فلان الرابط متعد في الربط وهو السبب في لزوم الضمان للقائد فكان الرجوع عليه وكذلك لو كانت
الإبل وقوفا لا تقاد فحاء رجل وربط إليها بعيرا ولا قائد لا يعلم فقاد البعير معها فوطئ البعير انسانا فقتله الدية على القائد
يتحمل عنه عاقلته الا أن ههنا لا ترجع عاقله القائد على عاقلة الرابط لان الرابط وان تعدى في الربط وانه سبب
لوجوب الضمان لكن القائد لما قاد البعير عن ذلك المكان فقد أزال تعديه فيزول الضمان عنه ويتعلق بالقائد كمن وضع
حجرا في الطريق فجاء انسان فدحرجه عن ذلك المكان ثم عطب به انسان فالضمان على الثاني لا على الأول لما قلنا
كذا هذا بخلاف المسألة الأولى لان هناك وجد الربط والإبل سائرة فلم يستقر مكان التعدي ليزول بالانتقال عنه
فبقي التعدي ببقاء الربط وإن كان القائد علم بالربط في المسألتين جميعا فقاده على ذلك فوطئ البعير انسانا فقتله فالدية
على القائد تتحمل عنه عاقلته ولا ترجع عاقلته على عاقلة الرباط لأنه لما قاد مع علمه بالربط فقد رضى بما يلحقه من العهدة
في ذلك فصار علمه بالربط بمنزلة أمره بالربط ولو ربط بأمره كان الامر على ما وصفنا كذا هذا ولو سقط سرج
دابة فعطب به انسان فالدية على السائق أو القائد لان السقوط لا يكون الا بتقصير منه في شد الحزام فكان مسببا للقتل
متعديا في التسبيب والله سبحانه وتعالى أعلم ومن هذا النوع جناية الناخس والضارب وجملة الكلام فيه ان
الدابة المنخوسة أو المضروبة (اما) أن يكون عليها راكب (واما) أن لا يكون عليها راكب فإن كان عليها راكب
فالراكب لا يخلو اما إن كان سائرا واما إن كان واقفا والسير والوقوف اما أن يكون في موضع أذن له بذلك (واما) أن
يكون في موضع له يؤذن له به والناخس أو الضارب لا يخلو من أن يكون نخس أو ضرب بغير أمر الراكب أو بأمره
فان فعل ذلك بغبر أمر الراكب فنفحت الدابة برجلها أو ذنبها أو نفرت فصدمت انسانا فقتلته فان فعلت شيئا من ذلك
على فور النخسة والضربة فالضمان على الناخس والضارب يتحمل عنهما عاقلتهما لا على الراكب سواء كان الراكب
واقفا أو سائرا أو سواء كان في سيره أو وقوفه فيما أذن له بالسير فيه والوقوف أو فيما لم يؤزن بأن كان يسير في ملكه أو في
طريق المسلمين أو في ملك الغير أو كان يقف في ملكه أو في سوق الخيل ونحوه أو في طريق المسلمين وإنما كان
كذلك لان الموت حصل بسبب النخس أو الضرب وهو متعد في السبب فيضمن ما تولد منه كما لو دفع الدابة على غيره
والراكب الواقف على طريق العامة وإن كان متعديا أيضا لكنه ليس بمتعد في التعدي والناخس متعد في التعدي
وكذا الضارب فأشبه الدافع مع الحافر وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه ضمن الناخس دون الراكب وكذا
روى عن ابن مسعود رضي الله عنه انه فعل هكذا وكان ذلك منهما بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم يعرف
281

الانكار من أحد فيكون اجماعا من الصحابة وإنما شرط الفور لوجوب الضمان على الناخس والضارب لان الهلاك
عند سكون الفور يكون مضافا إلى الدابة لا إلى الناخس والضارب ولو نخسها أو ضربها وهو سائر عليها فوطئت
انسانا فقتلته لم يذكر هذا في ظاهر الرواية وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أن الضمان عليهما لان الموت حصل
بثقل الراكب وفعل الناخس وكل واحد منهما سبب لوجود الضمان فقد اشتركا في سبب وجوب الضمان وكذلك
إذا كان واقفا عليها لما قلنا وتجب الكفارة على الراكب لوجود القتل منه مباشرة كما قلنا في الراكب مع السائق أو القائد
ولو نخسها أو ضربها فوثبت وألقت الراكب فالناخس أو الضارب ضامن لحصول التلف سبب هو متعد فيه وهو
النخس والضرب فيضمن ما تولد منه فإن لم تلقه ولكنها جمحت به فما أصابت في فورها ذلك فعلى الناخس أو
الضارب لما ذكرنا أن فعل كل واحد منهما وقع سببا للهلاك وهو متعد في التسبيب فان نفحت الدابة الناخس أو
الضارب فقتلته فدمه هدر لأنه هلك من جناية نفسه وجناية الانسان على نفسه هدر هذا إذا نخس أو ضرب بغير أمر
الراكب فاما إذا فعل ذلك بأمر الراكب فإن كان الراكب سائرا فيما أذن له بالسير فيه بأن كان يسير في ملك نفسه أو في
طريق المسلمين أو واقفا فيما أذن له بالوقوف بان وقف في ملك نفسة أو في سوق الخيل وغيره من المواضع التي أذن
بالوقوف فيها فنفحت الدابة برجلها انسانا فقتلته فلا ضمان على الناخس ولا على الضارب ولا على الراكب لأنه أمره
بما يملكه بنفسه فصح أمره به فصار كأنه نخس أو ضرب بنفسه فنفحته وقد ذكرنا ان النفحة في حال السير والوقوف
في موضع اذن بالسير أو الوقوف فيه غير مضمون على أحد لا على الراكب ولا على السائق ولا على القائد وإن كان
الراكب سائرا فيما لم يؤذن له بالسير بأن كان يسير في ملك الغير أو كان واقفا فيما لم يؤذن له بالوقوف فيه كما إذا كان واقفا في
ملك غيره أو في طريق المسلمين فنفحت فالدية عليهما نصفان نصف على الناخس أو الضارب ونصف على الراكب
ولا كفارة عليهما كذا ذكر في ظاهر الرواية وروى عن ابن سماعة عن محمد رحمهما الله ان الضمان على الراكب ووجهه
ان الناخس أو الضارب نخس أو ضرب لها باذن الراكب وهو راكب وهو يملك بنفسه فانتقل فعله إليه فكان
فعله بنفسه فكان الضمان عليه وجه ظاهر الرواية ان الناخس أو الضارب مع الراكب اشتركا في سبب وجوب
الضمان أما الناخس أو الضارب فلا يشكل لوجود سبب القتل من كل واحد منهما على سبيل التعدي (وأما)
الراكب فلانه ضار بالامر بالنخس أو الضرب ناخسا أو ضاربا والنفحة المتولدة من نخسه وضربه في هذه المواضع
مضمونة عليه الا أنه لا كفارة عليهما لحصول القتل بالتسبيب لا بالمباشرة هذا إذا نفحت فاما إذا صدمت فإن كان
الراكب سائرا أو واقفا في ملك نفسه فلا ضمان على الناخس والضارب ولا على الراكب لان فعل النخس
والضرب مضاف إلى الراكب لحصوله بأمره والصدمة في الملك غير مضمونة على الراكب سواء كان سائرا أو واقفا
وإن كان سيره أو وقوفه في طريق المسلمين أو في ملك الغير فينبغي أن يكون على الاختلاف الذي ذكرنا في النفحة إذا
كان الراكب واقفا في موضع لم يؤذن بالوقوف فيه لان الصدمة مضمونة على الراكب إذا كان في طريق المسلمين
وافقا كان أو سائرا وكذا في ملك الغير فيتأتى فيه الخلاف الذي ذكرنا في النفحة والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا
نفحت أو صدمت فاما إذا وطئت انسانا فقتلته فالضمان عليهما سواء كان الراكب سائرا أو واقفا في أي موضع كان
فيما اذن فيه أو لم يؤذن لأنهما اشتركا في سبب القتل لحصول الموت بثقل الراكب والدية وفعل الناخس وتجب
الكفارة على الراكب لأنه قاتل مباشرة فضار الراكب مع الناخس كالراكب مع السائق والقائد أن الدية عليهما
نصفان والكفارة على الراكب خاصة كذا ههنا هذا الذي ذكرنا إذا كان على الدابة المنخوسة أو المضروبة
راكب فاما إذا لم يمكن عليها راكب فإن لم يكن لا سائق ولا قائد فنخسها انسان أو ضربها فما أصابت شيئا
على فور النخسة والضربة فضمانه على الناخس والضارب في أي موضع كانت الدابة لأنه سبب الاتلاف
بالنخس والضرب وهو متعد في التسبيب فما تولد منه يكون مضمونا عليه وإن كان عليها سائق أو قائد فنخس أو ضرب
282

بغير أمره فنفحت أو نفرت فصدمت أو وطئت انسانا فقتلته فالضمان على الناخس أو الضارب لا على السائق
والقائد في أي موضع كان الناخس والقائد لان الناخس مع السائق والقائد كالدافع مع الحافر لأنه بالنخس أو
الضرب كأنه دفع الدابة على غيره وكذلك إذا كان لها سائق وقائد يقود أحدهما ويسوق الاخر فنخس أو ضرب
بغير اذن واحد منهما فالضمان على الناخس والضارب لا عليهما في أي موضع كان الناخس والقائد لما ذكرنا أن
الناخس متعمد كالدافع للدابة وكذا الضارب ولا تعمد من السائق والقائد وإن كان كل واحد منهما أمره بذلك
فنفحت فإن كان سوقه أو قوده فيما اذن له بالسوق والقود فيه فلا ضمان على الناخس والضارب وان فعل ذلك بأمر
السائق أو القائد فإن كان يسوق أو يقود فيما أذن له بالسوق والقود فيه بأن كان في ملكه أو في طريق المسلمين لا ضمان
على أحد لان فعله يضاف إليه كالسائق أو القائد وإن كان يسوق أو يقود فيما أذن له بذلك بأن كان في ملك الغير فعلى
قياس ما ذكرنا في ظاهر الرواية الضمان على الناخس والضارب وعلى السائق أو القائد ولا كفارة عليهما وعلى
قياس ما ذكره ابن رستم عن أبي يوسف الضمان على السائق أو القائد خاصة وان صدمت فقتلت انسانا فإن كان
السائق يسوق في ملك نفسه فلا ضمان على أحد لان فعل الناخس أو الضارب بأمر السائق أو القائد مضاف إليه
والصدمة في الملك غير مضمونة على السائق والقائد والراكب وإن كان يسوق أو يقود في طريق المسلمين أو في ملك
الغير فهو على الاختلاف وان وطئت انسانا فقتلته فهو على الاختلاف أيضا سواء كان سوقه أو قوده فيما أذن له بالسوق
أو القود فيه أو لم يكن لان الوطأة مضمونة على كل حال والله تعالى أعلم وان وطئت تجب القيمة بلا خلاف لكن في قياس
ظاهر الرواية على الناخس والضارب وعلى السائق والقائد نصفان وعلى قياس رواية ابن سماعة عن أبي يوسف
على السائق والقائد خاصة والله تعالى أعلم بالصواب ومن هذا القبيل جناية الحائط المائل إذا سقط على رجل فقتله
أو على متاع فافسده أو على دار فهدمها أو على حيوان فعطب به وجملة الكلام فيه أن الحائط لا يخلو اما ان بنى مستويا
مستقيما ثم مال (واما) ان بنى مائلا من الأصل فان بنى مستقيما ثم مال فميلانه لا يخلو اما أن يكون إلى الطريق (واما) أن يكون
في ملك انسان فإن كان إلى الطريق لا يخلو من أن يكون نافذا وهو طريق العامة أو غير نافذ وهو السكة التي ليست
بنافذة فإن كان نافذا فسقط فعطب به شئ مما ذكرنا يجب الضمان على صاحب الحائط إذا وجد شرائط وجوبه فيقع
الكلام في سبب وجوب الضمان وفي بيان شرائط الوجوب وفي بيان ماهية الضمان الواجب وكيفيته (اما) الأول
فسبب وجوب الضمان هو التعدي بالتسبيب إلى الاتلاف بترك النقض المستحق مع القدرة على النقض لأنه إذا
مال إلى طريق العامة فقد حصل الهواء في يد صاحب الحائط من غير فعله وهو الطريق حق العامة كنفس الطريق
فقد حصل حق الغير في يده صنعه فإذا طولب بالنقض فقد لزمه إزالة يده عنه بهدم الحائط فإذا لم يفعل مع الامكان
فقد صار متعديا باستبقاء يده عليه كثوب هبت به الريح فالقته في دار انسان فطولب به فامتنع من الرد مع امكان الرد حتى
هلك يضمن لما قلنا كذا هذا وقد روى عن جماعة من التابعين مثل الشعبي وشريح وإبراهيم وغيرهم رحمهم
الله انهم إذا تقدم إليه في الحائط فلم يهدمه وجب عليه الضمان والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما شرائط الوجوب فمنها المطالبة بالنقض حتى لو سقط قبل المطالبة فعطب به شئ لا ضمان على
صاحب الحائط لأن الضمان يجب بترك النقض لا مستحق لان به يصير متعديا في التسبيب إلى الاتلاف ولا يثبت
الاستحقاق بدون المطالبة وصورة المطالبة هي ان يتقدم إليه واحد من عرض الناس فيقول له ان حائطك هذا مائل أو
مخوف فارفعه فإذا قال ذلك لزمه رفعه لان هذا حق العامة فإذا قام به البعض صار خصما عن الباقين سواء كان الذي
تقديم إليه مسلما أو ذميا حرا أو عبدا بعد إن كان أذن له مولاه بالخصومة فيه بالغا أو صبيا بعد أن كان عاقلا وقد أذن له
وليه بالخصومة فيه لان الطريق حق جميع أهل الدار فكان لكل واحد من أهل الدار حق المطالبة بإزالة سبب الضرر
عنه الا أنه لا بد من عقل المطالب وكونه مأذونا بالتصرف لان كلام المجنون والمحجور عليه غير معتبر في الشرع فكان
283

ملحقا بالعدم وينبغي أن يشهد على الطلب وتفسير الاشهاد ما ذكره محمد رحمه الله وهو أن يقول الرجل اشهدوا انى قد
تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا والاشهاد للتحرز عن الجحود والانكار لجواز ان ينكر صاحب الحائط
المطالبة بالنقض فتقع الحاجة إلى الاشهاد لاثبات الطلب عند القاضي لا لصحة الطلب فان الطلب يصح بدون
الاشهاد حتى لو اعترف صاحب الدار بالطلب يجب عليه الضمان وان لم يشهد عليه وكذا إذا أنكر يجب عليه
الضمان فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى ونظيره ما قلنا في الشفعة أن الشرط فيها الطلب لا الاشهاد وإنما الاشهاد
للحاجة إلى اثبات الطلب على تقدير الانكار حتى لو أقر المشترى بالطلب يثبت حق الشفعة وان لم يشهد على الطلب
وكذا لو جحد الطلب يثبت الحق له فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى وكذا الاشهاد في باب اللقطة على أصل أبي حنيفة
رحمه الله هذا القبيل وقد ذكرنا في كتاب اللقطة ولو طولب صاحب الحائط بالنقض فلم ينقض حتى
سقط إلى الطريق فعثر بنقضه انسان فعطب به فإن كان قد طولب بدفع النقض يضمن لأنه إذا طولب بالرفع لزمه الرفع
فإذا لم يرفع صار متعديا فيضمن ما تولد منه وإن كان لم يطالب برفعه لا ضمان عليه عند أبي يوسف وعند محمد يضمن
وجه قوله إنه لما طولب بالنقض فلم ينقض حتى سقط صار متعديا بترك النقض فحصل التلف بسبب هو متعد فيه
فيضمن ولهذا ضمن إذا وقع على إنسان كذا إذا عطب بنقضه انسان وجه قول أبى يوسف ان الحائط قد زال عن
الموضع الذي طولب فيه لانتقاله عن محل الجناية وهو الهواء إلى محل آخر بغير صنع صاحبه فلا بد من مطالبة أخرى
كمن وضع حجرا في الطريق فدحرجته الريح إلى موضع آخر فعطب به انسان انه لا ضمان على الواضع كذا ههنا
بخلاف ما إذا سقط على إنسان لأنه لما زال عن محل المطالبة وهو الهواء الذي هو محل الجناية فلا يحتاج إلى مطالبة
أخرى وإن كان الطريق غير نافذ فالخصومة إلى واحد من أهل تلك السكة لان الطريق حقهم فكان لكل واحد
منهم ولاية التقدم إلى صاحب الحائط وإن كان ميلان الحائط إلى ملك رجل فالمطالبة بالنقض والاشهاد إلى صاحب
الملك لان هواء ملكه حقه وقد شغل الحائط حق صاحب الملك فكانت المطالبة بالتفريغ إليه فإن كان في الدار ساكن
كالمستأجر والمستعير فالمطالبة واشهاد إلى الساكن فيشترط طلب الساكن أو المالك لان الساكن له حق المطالبة
بإزالة ما يشغل الدار فكان له ولاية المطالبة بإزالة ما يشغل الهواء أيضا ولو طولب صاحب الحائط بالنقض فاستأجل
الذي طالبه أو استأجل القاضي فأجله فإن كان ميلان الحائط إلى الطريق فالتأجيل باطل وإن كان ميلانه إلى دار
رجل فأجله صاحب الدار أو أبرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار فذلك جائز ولا ضمان عليه فيما تلف بالحائط والله
سبحانه وتعالى أعلم ووجه الفرق بينهما أن الحق في الطريق لجماعة المسلمين فإذا طالب واحد منهم بالنقض فقد
تعلق الضمان بالحائط لحق الجماعة فكان التأجيل والابراء اسقاطا لحق الجماعة فلا يملك ذلك بخلاف ما إذا كان
الميلان إلى دار انسان لان هناك الحق لصاحب الدار خاصة وكذلك الساكن فكان التأجيل والابراء منه اسقاطا
لحق نفسه فيملكه وكذلك لو وضع رجل في دار غيره حجرا أو حفر فيها بئرا أو بنى فيها بناء وأبرأه صاحب الدار منه كان
بريئا ولا يلزمه ما عطب بشئ من ذلك سواء عطب به صاحب الدار أو داخل دخل لان الحق له فيملك اسقاطه كأنه
فعل ذلك باذنه (ومنها) أن يكون المطالب بالنقض ممن يلي النقض لان المطالبة بالنقض ممن لا يلي النقض سفه
فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة فلا تصح مطالبة المستودع والمستعير والمستأجر والمرتهن لأنه ليس لهم ولاية
النقض فتصح مطالبة الراهن لان له ولاية النقض لقيام الملك فينقض ويقضى الدين فيصير متعديا بترك النقض
وتصح مطالبة الأب والوصي في هدم حائط الصغير لثبوت ولاية النقض لهما فإن لم ينقضا حتى سقط يجب الضمان
على الصبي لان التلف بترك النقض المستحق على الولي والوصي مضاف إلى الصبي لقيامهما مقام الصبي والصبي
مؤاخذ بافعاله فيضمن وتتحمل عنه عاقلته فيما تتحمل العاقلة ويكون في ماله فما لا تتحمله العاقلة كالبالغ وساء وعلى
هذا يخرج ما إذا كان الحائط المائل لجماعة فطولب بعضهم بالنقض فم ينقض حتى سقط فعطب به شئ ان القياس
284

أن لا يضمن أحد منهم شيئا وفى الاستحسان يضمن الذي طولب وجه القياس انه لم يوجد من أحد منهم ترك النقض
المستحق (أما) الذين لم يطالبوا بالنقض فظاهر (وأما) الذي طولب به فلان أحد الشركاء لا يلي النقض بدون
الباقين وجه الاستحسان أن المطالب بالنقض ترك النقض مع القدرة عليه لأنه يمكنه ان يخاصم الشركاء ويطالبهم
بالنقض إن كانوا حضورا وإن كانوا غيبا يمكنه أن يرفع الامر إلى القاضي حتى يأمره القاضي بالنقض لان فيه حقا
لجماعة المسلمين والامام يتولى ذلك لهم فيأمر الحاضر بنقض نصيبه ونصيب الغائبين فإذا لم يفعل فقد صار متعديا
بترك النقض المستحق فيضمن ما تولد منه لكن بقدر حصته من الحائط في قول أبي حنيفة رحمه الله وفى قولهما عليه
ضمان النصف وجه قولهما ان أنصباء الشركاء الآخرين لم يجب بها ضمان فكانت كنصيب واحد كمن جرحه
رجل وعقره سبع ونهشته حية فمات من ذلك كله ان على الجارح النصف لان عقر السبع ونهش الحية لم يجب بهما
ضمان فكانا كالشئ الواحد كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن التلف حصل بثقل الحائط وليس ذلك معنى
مختلفا في نفسه فيضمن بمقدار نصيبه والله تعالى أعلم ومنها قيام ولاية النقض وقت السقوط ولا يكتفى بثبوتها وقت
المطالبة لأنه إنما يصير متعديا بترك النقض عند السقوط كأنه أسقطه فإذا لم يبق له ولاية النقض عند السقوط لم يصر
متعديا بترك النقض فلا يجب الضمان عليه وعلى هذا يخرج ما إذا طولب بالنقض فلم ينقض حتى باع الدار التي فيها
الحائط من إنسان وقبضه المشترى أو لم يقبضه ثم سقط على شئ فعطب به أنه لا ضمان على البائع لانعدام ولاية
النقض وقت السقوط بخروج الحائط عن ملكه ولا على المشترى أيضا لانعدام المطالبة في حقه فرق بين هذا
وبين ما إذا شرع جناحا إلى الطريق ثم باع الدار مع الجناح ثم وقع على إنسان انه يضمن البائع ووجه الفرق أن
وجوب الضمان هناك على البائع قبيل البيع لكونه متعديا باشراع الجناح والاشراع على حاله لم يتغير فلا يتغير ما تعلق به
من الضمان ووجوب الضمان لكونه متعديا بترك النقض المستحق وذلك عند سقوط الحائط وقد بطل الاستحقاق
بالبيع فلم يوجد التعدي عند السقوط بترك النقض فلا يجب الضمان وعلى هذا يخرج ما إذا طولب الأب بنقض
حائط الصغير فلم ينقض حتى مات الأب أو بلغ الصبي ثم سقط الحائط أنه لا ضمان فيه لان قيام الولاية وقت
السقوط شرط وقد بطلت بالموت والبلوغ والله تعالى أعلم (ومنها) امكان النقض بعد المطالبة وهو أن يكون
سقوط الحائط بعد المطالبة بالنقض في مدة يمكنه نقضه فيها لأن الضمان يجب بترك النقض الواجب ولا وجوب
بدون الامكان حتى لو طولب بالنقض لم يفرط في نقضه ولكنه ذهب يطلب من ينقضه فسقط الحائط فتلف
به شئ لا ضمان عليه لأنه إذا لم يتمكن من النقض لم يكن بترك النقض متعديا فبقي حق الغير حاصلا في يده بغير صنعه فلا
يكون مضمونا عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما بيان ماهية الضمان الواجب بهذه الجناية وكيفيته فالواجب بهذه الجناية ما هو الواجب بجنسها
من جناية الحافر ومن في معناه وجناية السائق والقائد والناخس وهو ما ذكرنا ان الجناية إن كانت على بني آدم
وكانت نفسا فالواجب بها الدية وإن كانت ما دون النفس فالواجب بها الأرش فإذا بلغ الواجب بها نصف عشر
دية الذكر وهو عشر دية الأنثى فما فوقه تتحمله العاقلة ولا تتحمل ما دون ذلك ولا ما يجب بالجناية على غير بني آدم
بل يكون في ماله لما بينا فيما تقدم الا أن ظهور المالك لصاحب الحائط في الدار عند الانكار بحجة مطلقة وهي البينة شرط
تحمل العاقلة حتى لو أنكرت العاقلة كون الدار ملكا لصاحب الحائط لا عقل عليهم حتى يقيم صاحب الدار البينة على
الملك كذا ذكر محمد رحمه الله فقال لا تضمن العاقلة حتى يشهد الشهود على ثلاثة أشياء على التقديم إليه من سقوط
الحائط وعلى أن الدار له يريديه عند الانكار أما الشهادة على الملك فلان الملك وإن كان ثابتا له بظاهر اليد لكن الظاهر
لا يستحق به حق على غيره إذ هو حجة للدفع لا حجه الاستحقاق لحياة المفقود وغير ذلك فلا بد من الاثبات بالبينة وعند
زفر رحمه الله تتحمل العاقلة بظاهر اليد وهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الشفعة (وأما) الشهادة على المطالبة
285

لان المطالبة شرط وجوب الضمان لما ذكرنا فيما تقدم فلا بد من اثباتها بالبينة عند الانكار (وأما) الشهادة على
الموت من سقوط الحائط فلان به يظهر سبب وجوب الضمان وهو التعدي لأنه ما لم يعلم أنه مات من السقوط
لا يعلم كون صاحب الحائط متعديا عليه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * في القسامة هذا الذي ذكرنا حكم قتل نفس علم قاتلها فاما حكم نفس لم يعلم قاتلها فوجوب القسامة والدية
عند عامة العلماء رحمهم الله تعالى وعند مالك رحمه الله وجوب القسامة والقصاص والكلام في القسامة يقع في مواضع
في تفسير القسامة وبيان محلها وفي بيان شرائط وجوب القسامة والدية وفي بيان سبب وجوب القسامة والدية
وفي بيان من يدخل في القسامة والدية وفي بيان ما يكون ابراء عن القسامة والدية أما تفسير القسامة وبيان محلها
فالقسامة في اللغة تستعمل بمعنى الوسامة وهو الحسن والجمال يقال فلان قسيم أي حسن جميل وفى صفات النبي عليه
والصلاة والسلام قسيم وتستعمل بمعنى القسم وهو اليمين الا ان في عرف الشرع تستعمل في اليمين بالله تبارك وتعالى
بسبب مخصوص وعدد مخصوص وعلى شخص مخصوص وهو المدعى عليه على وجه مخصوص وهو أن يقول
خمسون من أهل المحلة إذا وجد قتيل فيها بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فإذا حلفوا يغرمون الدية وهذا عند أصحابنا
رحمهم الله وقال مالك رحمه الله إن كان هناك لوث يستحلف الأولياء خمسين يمينا فإذا حلفوا يقتص من المدعى عليه
وتفسير اللوث عنده أن يكون هناك علامة القتل في واحد بعينه أو يكون هناك عداوة ظاهرة وقال الشافعي رحمه الله
إن كان هناك لوث أي عداوة ظاهرة وكان بين دخوله المحلة وبين وجوده قتيلا مدة يسيرة يقال للمولى عين القاتل فان
عين القاتل يقال للولي احلف خمسين يمينا فان حلف فله قولان في قول يقتل القاتل الذي عينه كما قال مالك رحمه الله
وفى قول يغرمه الدية فان عدم أحد هذين الشرطين اللذين ذكرناهما يحلف أهل المحلة فإذا حلفوا لا شئ عليهم كما في
سائر الدعاوى احتجا لوجوب القسامة على المدعى بحديث سهل بن أبي خيثمة قال وجد عبد الله بن سهل قتيلا في
قليب خيبر فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب
عبد الرحمن يتكلم عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام الكبر الكبر فتكلم أحد عميه اما حويصة
واما محيصة الكبير منهما فقال يا رسول الله انا وجدنا عبد الله قتيلا في قلب من قليب خيبر وذكر عداوة اليهود لهم فقال
عليه الصلاة والسلام يحلف لكم اليهود خمسين يمينا انهم لم يقتلوه فقالوا كيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون فقال عليه
الصلاة والسلام فيقسم منكم خمسون انهم قتلوه فقالوا كيف نقسم على ما لم نره فوداه عليه الصلاة والسلام من عنده ووجه
الاستدلال بالحديث انه عليه الصلاة والسلام عرض الايمان على أولياء القتيل فدل أن اليمين على المدعى (ولنا)
ما روى عن زياد بن أبي مريم أنه قال جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله انى وجدت أخي قتيلا
في بنى فلان فقال عليه الصلاة والسلام اجمع منهم خمسين فيحلفون بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا فقال يا رسول الله
ليس لي من أخي الا هذا فقال بل لك مائة من الإبل فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم وهم أهل
المحلة لا على المدعى وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال وجد قتيل
بخيبر فقال عليه الصلاة والسلام اخرجوا من هذا الدم فقالت اليهود قد كان وجد في بني إسرائيل على عهد سيدنا موسى
عليه الصلاة والسلام فقضى في ذلك فان كنت نبيا فاقض فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام تحلفون خمسين يمينا ثم
يغرمون الدية فقالوا قضيت بالناموس أي بالوحي وهذا نص في الباب وبه يبطل قول مالك رحمه الله بايجاب القصاص
به لان النبي عليه الصلاة والسلام غرمهم الدية لا القصاص ولو كان الواجب هو القصاص لغرمهم القصاص
لا الدية وروى عن أن سيدنا عمر رضي الله عنه حكم في قتيل وجد بين قريتين فطرحه على أقربهما وألزم أهل
القرية القسامة والدية وكذا روى عن سيدنا علي رضي الله عنه ولم ينقل الانكار عليهما من أحد الصحابة رضي الله عنهم
فيكون اجماعا (وأما) حديث سهل ففيه ما يدل على عدم الثبوت ولهذا ظهر النكير فيه من السلف فان فيه أنه
286

عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى أيمان اليهود فقالوا كيف نرضى بأيمانهم وهو مشركون وهذا يجرى مجرى الرد لما
دعاهم إليه مع أن رضا المدعى لا مدخل له في يمين المدعى عليه وفيه أيضا أنه لما قال لهم يحلف منكم خمسون أنهم قتلوه
قالوا كيف نحلف على ما لم نشهد وهذا أيضا يجرى مجرى الرد لقوله عليه الصلاة والسلام ثم إنهم أنكروا ذلك لعدم
علمهم بالمحلوف عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم لا علم لهم بذلك فكيف استخار عرض اليمين عليهم
ولئن ثبت فهو مؤول وتأويله أنهم لما قالوا لا نرضى بايمان اليهود فقال لهم عليه الصلاة والسلام يحلف منكم خمسون
على الاستفهام أي أيحلف إذ الاستفهام قد يكون بحذف حرف الاستفهام كما قال الله تعالى جل شأنه تريدون عرض
الدنيا أي أتريدون كما روى في بعض ألفاظ حديث سهل أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم على سبيل الرد والانكار
عليهم كما قال الله تبارك وتعالى أفحكم الجاهلية يبغون حملناه على هذا توفيقا بين الدلائل والحديث المشهور دليل على ما قلنا
وهو قوله عليه الصلاة والسلام البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه جعل جنس اليمين على المدعى عليه فينبغي
أن لا يكون شئ من الايمان على المدعى فان قيل روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال البينة على المدعى واليمين على
المدعى عليه الا في القسامة استثنى القسامة فينبغي أن لا تكون اليمين على المدعى عليه في القسامة لان حكم المستثنى
يخالف حكم المستثنى منه فالجواب أن الاستثناء لو ثبت فله تأويلان أحدهما اليمين على المدعى عليه بعينه الا في
القسامة فان يحلف من لم يدع عليه القتل بعينه والثاني اليمين كل الواجب على المدعى عليه الا في القسامة فإنه تجب
معها الدية والله سبحانه وتعالى أعلم وإنما جمعنا في القسامة بين اليمين البتات والعلم إلى آخره لان احدى اليمنين كانت
على فعلهم فكانت على البتات والأخرى على فعل غيرهم فكانت على العلم والله تعالى عز وجل أعلم فان قيل أي فائدة
في الاستحلاف على العلم وهم لو علموا القاتل فأخبروا به لكان لا يقبل قولهم لأنهم يسقطون به الضمان عن أنفسهم
فكانوا متهمين دافعين الغرم عن أنفسهم وقد قال عليه الصلاة والسلام لا شهادة للمتهم وقال عليه الصلاة
والسلام لا شهادة لجار المغنم ولا لدافع المغرم قيل إنما استحلفوا على العلم اتباعا للسنة لان السنة هكذا وردت لما
روينا من الاخبار فاتبعنا السنة من غير أن نعقل فيه المعنى ثم فيه فائدة من وجهين أحدهما أن من الجائز أن يكون
القاتل عبدا لواحد منهم فيقر عليه بالقتيل فيقبل اقراره لان اقرار المولى على عبده بالقتل الخطأ صحيح فيقال له ادفعه
أو افده ويسقط الحكم عن غيره فكان التحليف على العلم مفيدا وجائز أن يقر على عبد غيره ويصدقه مولاه فيؤمر
بالدفع أو الفداء ويسقط الحكم عن غيره فكان مفيدا فجاز أن يكون التحليف على العلم لهذا المعنى في الأصل ثم بقي هذا
الحكم وان لم يكن لواحد من الحالفين عبد كالرمل في الطواف لأنه عليه الصلاة والسلام كأن يرمل في الطواف اظهارا
للجلادة والقوة مراءاة للكفرة بقوله عليه الصلاة والسلام رحم الله امرأ أظهر يوم الجلادة من نفسه ثم زال ذلك اليوم
ثم بقي الرمل سنة في الطواف حتى روى أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يرمل في الطواف ويقول ما أهز كتفي ولم
أحدا رأيته لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كذا هذا والثاني أنه لا يمتنع أن يكون واحد منهم
أمر صبيا أو مجنونا أو عبدا محجورا عليه بالقتل ولو أقر به يلزمه في ماله يحلف بالله ما علمت له قاتلا لأنه لو قال علمت له
قاتلا وهو الصبي الذي أمره بقتله لكان حاصل الضمان عليه ويسقط الحكم عن غيره فكان مفيدا والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما شرائط وجوب القسامة والدية فأنواع منها أن يكون الموجود قتيلا وهو أن يكون به أثر القتل
من جراحة أو أثر ضرب أو خنق فإن لم يكن شئ من ذلك فلا قسامة فيه ولا دية لأنه إذا لم يكن به أثر القتل فالظاهر أنه
مات حتف أنفه فلا يجب فيه شئ فإذا احتمل انه مات حتف أنفه واحتمل أنه قتل احتمالا على السواء فلا يجب
شئ بالشك والاحتمال ولهذا لو وجد في المعركة ولم يكن به أثر القتل لم يكن شهيدا حتى يغسل وعلى هذا قالوا إذا
وجد والدم يخرج من فمه أو من أنفه أو دبره أو ذكره لا شئ فيه لان الدم يخرج من هذه المواضع عادة بدون الضرب
بسبب القئ والرعاف وعارض آخر فلا يعرف كونه قتيلا وإن كان يخرج من عينه أو أذنه ففيه القسامة والدية لان الدم
287

لا يخرج من هذه المواضع عادة فكان الخروج مضافا إلى ضرب حادث فكان قتيلا ولهذا لو وجد هكذا في المعركة كان
شهيدا وفى الأول لا يكون شهيدا ولو مر في محلة فإصابة سيف أو خنجر فجرحه ولا يدرى من أي موضع أصابه فحمل
إلى أهله فمات من تلك الجراحة فإن كان لم يزل صاحب فراش حتى مات فعلى عاقلة القبيلة القسامة والدية وان لم يكن
صاحب فراش فلا قسامة ولا دية وهذا قولهما وقال أبو يوسف رحمه الله لا قسامة فيه ولا ضمان في الوجهين جميعا وهو
قول ابن أبي ليلى رحمه الله وجه قول أبى يوسف ان المجروح إذا لم يمت في المحلة كان الحاصل في المحلة ما دون النفس
ولا قسامة فيما دون النفس كما لو وجد مقطوع اليد في المحلة ولهذا لو لم يكن صاحب فراش فلا شئ فيه كذا هذا (وجه)
قول أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا لم يبرأ عن الجراحة وكان لم يزل صاحب فراش حتى مات علم أنه مات من الجراحة فعلم أن
الجراحة حصلت قتلا من حين وجودها فكان قتيلا في ذلك الوقت كأنه مات في المحلة بخلاف ما إذا لم يكن صاحب
فراش لأنه إذا لم يصر صاحب فراش لم يعلم أن الموت حصل من الجراحة فلم يوجد قتيلا في المحلة فلا يثبت حكمه وعلى
هذا يخرج ما إذا وجد من القتيل أكثر بدنه ان فيه القسامة والدية لأنه يسمى قتيلا لان للأكثر حكم الكل ولو وجد
عضو من أعضائه كاليد والرجل أو وجد أقل من نصف البدن فلا قسامة فيه ولا دية لان الأقل من النصف
لا يسمى قتيلا ولأنا لو أوجبنا في هذا القدر القسامة لأوجبنا في الباقي قسامة أخرى فيؤدى إلى اجتماع قسامتين في
نفس واحدة وهذا لا يجوز وان وجد النصف فإن كان النصف الذي فيه الرأس ففيه القسامة والدية وإن كان
النصف الآخر فلا قسامة فيه ولا دية لان الرأس إذا كان معه يسمى قتيلا وإذا لم يكن لا يسمى قتيلا لان الرأس
أصل ولأنا لو أوجبنا في النصف الذي لا رأس فيه للزمنا الايجاب في النصف الذي معه الرأس فيؤدى إلى ما قلنا وان
وجد الرأس وحده فلا قسامة ولا دية لان الرأس وحده لا يسمى قتيلا وان وجد النصف مشقوقا فلا شئ فيه لان
النصف المشقوق لا يسمى قتيلا ولان في اعتباره ايجاب القسامتين على ما بينا ونظير هذا ما قلنا في صلاة الجنازة إذا
وجد أكثر البدن أو أقل أو نصفه على التفصيل الذي ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) ان لا يعلم قاتله فان
علم فلا قسامة فيه ولكن يجب القصاص إن كان قتيلا يوجب القصاص وتجب الدية إن كان قتيلا يوجب الدية وقد
ذكرنا جميع ذلك فيما تقدم (ومنها) أن يكون القتيل من بني آدم عليه الصلاة والسلام فلا قسامة في بهيمة وجدت في
محلة قوم ولا غرم فيها لان لزوم القسامة في نفسها أمر ثبت بخلاف القياس لان تكرار اليمين غير مشروع واعتبار
عدد الخمسين غير معقول ولهذا لم يعتبر في سائر الدعاوى وكذا وجوب الدية معها لان اليمين في الشرع جعلت دافعة
للاستحقاق بنفسها كما في سائر الدعاوى الا انا عرفنا ذلك بالنصوص والاجماع في بني آدم خاصة فبقي الامر فيما
وراءهم على الأصل ولهذا لم تجب القسامة والغرامة في سائر الأموال كذا في البهائم وتجب في العبد القسامة والقيمة إذا
وجد قتيلا في غير ملك صاحبه لأنه آدمي من كل وجه ولهذا يجب فيه القصاص في العمد والكفارة في الخطأ وتغرم
العاقلة قيمته في الخطأ وهذا على أصلهما فأما على أصل أبى يوسف فلا قسامة ولا دية لان العبد عنده مضمون
بالخطأ من حيث إنه مال لا من حيث إنه آدمي ولهذا قال تجب قيمته في القتل الخطأ بالغة ما بلغت ولا تتحملها العاقلة
فكان بمنزلة البهيمة وكذا الجواب في المدبر وأم الولد والمكاتب والمأذون لما قلنا وسواء كان القتيل مسلما أو ذميا
عاقلا أو مجنونا بالغا أو صبيا ذكرا أو أنثى لأنه عليه الصلاة والسلام أطلق القضية بالقسامة والدية في مطلق قتيل أخبر به
في بعض الأحاديث ولم يستفسر ولو كان الحكم يختلف لاستفسر ولان دم هؤلاء مضمون بالقصاص والدية في العمد
والخطأ فيكون مضمونا بالقسامة والدية وسواء وجد المسلم قتيلا في محلة المسلمين أو في محلة أهل الذمة لان عبد الله بن
سهل الأنصاري رضي الله عنه وجد قتيلا في قليب من قليب خيبر وأوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم القسامة
على اليهود وكذا الذمي لان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم الا ما نص بدليل (ومنها) الدعوى من أولياء القتيل
لان القسامة يمين واليمين لا تجب بدون الدعوى كما في سائر الدعاوى والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) انكار المدعى
288

عليه لان اليمين وظيفة المنكر قال عليه الصلاة والسلام واليمين على من أنكر جعل جنس اليمين على المنكر فينفي
وجوبها على غير المنكر (ومنها) المطالبة بالقسامة لان اليمين حق المدعى وحق الانسان يوفى عند طلبه كما في سائر
الايمان ولهذا كان الاختيار في حال القسامة إلى أولياء القتيل لان الايمان حقهم فلهم أن يختار وامن يتهمونه
ويستحلفون صالحي العشيرة الذين يعلمون انهم لا يحلفون كذبا ولو طولب من عليه القسامة بها فنكل عن اليمين
حبس حتى يحلف أو يقر لان اليمين في باب القسامة حق مقصود بنفسه لا انه وسيلة إلى المقصود وهو الدية بدليل انه
يجمع بينه وبين الدية ولهذا قال الحرث بن الازمع لسيدنا عمر رضي الله عنه انبذل ايماننا وأموالنا فقال نعم وروى أن
الحارث قال أما تجزى هذه عن هذه فقال لا وروى أنه قال فبم يبطل دم صاحبكم فإذا كانت مقصودة بنفسها فمن
امتنع عن أداء حق مقصود بنفسه وهو قادر على الأداء يجبر عليه بالحبس كمن امتنع عن قضاء دين عليه مع القدرة على
القضاء بخلاف اليمين في سائر الحقوق فإنها ليست مقصودة بنفسها بل هي وسيلة إلى المقصود وهو المال المدعى
ألا ترى انه لا يجمع بينهما بل إذا خلف المدعى عليه برئ أولا ترى انه إذا لم يحلف المدعى عليه ولم يقر وبذل المال
لا يلزمه شئ وههنا لو لم يحلفوا ولم يقروا واو بذلوا الدية لا تسقط عنهم القسامة فدل انها مقصودة بنفسها فيجبرون عليها
بالحبس وروى عن أبي يوسف انهم لا يحبسون والدية على العاقلة ذكره القاضي في شرحه مختصر الطحاوي رحمه
الله وذكر فيه أيضا ان الامام إذا أيس عن الحلف وسأله الأولياء ان يغرمهم الدية يقضى عليهم بالدية والله تعالى أعلم
(ومنها) أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل ملكا لاحدا وفى يد أحد فإن لم يكن ملكا لاحد ولا في يد أحد أصلا
فلا قسامة فيه ولا دية وإن كان في يد أحد يد العموم لا يد الخصوص وهو أن يكون التصرف فيه لعامة المسلمين لا لواحد
منهم ولا لجماعة يحصون لا تجب القسامة وتجب الدية وإنما كان كذلك لان القسامة أو الدية إنما تجب بترك الحفظ
اللازم على ما نذكر فإذا لم يكن ملك أحد ولا في يد أحد أصلا لا يلزم أحدا حفظه فلا تجب القسامة والدية وإذا كان في
يد العامة فحفظه على العامة لكن لا سبيل إلى ايجاب القسامة على الكل لتعذر الاستيفاء من الكل وأمكن ايجاب الدية
على الكل لامكان الاستيفاء منهم بالاخذ من بيت المال لان مال بيت المال مالهم فكان الاخذ من بيت المال
استيفاء منهم وعلى هذا يخرج ما إذا وجد القتيل في فلاة من الأرض ليس بملك لاحد انه لا قسامة فيه ولا دية إذا
كان بحيث لا يسمع الصوت من الأمصار ولا من قرية من القرى فإن كان بحيث يسمع الصوت تجب القسامة على
أقرب المواضع إليه فإن كان أقرب إلى القرى فعلى أقرب القرى وإن كان أقرب إلى المصر فعلى أقرب محال المصر إليه
لأنه إذا كان بحيث لا يسمع الصوت والغوث لا يلحق ذلك الموضع فلم يكن الموضع في يد أحد فلم يوجد القتيل في ملك
أحد ولا في يد أحد أصلا فلا تجب فيه القسامة ولا الدية وإذا كانت بحيث يسمع الصوت والغوث يلحق فكان
من توابع أقرب المواضع إليه وقد ورد اعتبار القرب حديث عنه عليه الصلاة والسلام وقضى به أيضا سيدنا عمر
رضى الله تعالى عنه على ما نذكر ولو وجد في نهر عظيم كدجلة والفرات وسيحون ونحوها فإن كان النهر يجرى به فلا
قسامة ولا دية لان النهر العظيم ليس ملكا لاحد ولا في يد أحد وقال زفر رحمه الله تجب على أقرب القرى من ذلك
الموضع كما إذا وجد على الدابة وهي تسير وليست في يد أحد وهذا القياس ليس بسديد لان الموضع الذي تسير فيه
الدابة تابع لأقرب المواضع إليه فكان في يد أهله بخلاف النهر الكبير فإنه لا يدخل تحت يد أحد لا بالأصالة ولا
بالتبعية وإن كان النهر لا يجرى به ولكنه كان محتبسا في الشط أو مربوطا على الشط أو ملقى على الشط فإن كان الشط
ملكا فحكمه حكم الأرض المملوكة أو الدار المملوكة إذا وجد فيها قتيل وسنذكره إن شاء الله تعالى فإن لم يكن ملكا
لاحد فعلى أقرب المواضع إليه من الأمصار والقرى من حيث يسمع الصوت القسامة والدية لأنهم يستقون منه الماء
ويوردون دوابهم فكان لهم تصرف في الشط فكان الشط في أيديهم وكذلك لو كان في الجزيرة فعلى أقرب المواضع
إلى الجزيرة من الأمصار والقرى من حيث يسمع الصوت القسامة والدية لان الجزيرة تكون في تصرفهم فكانت
289

في أيديهم وان وجد في نهر صغير مما يقضى فيه بالشفعة للشركاء في الشرب ففيه القسامة على أهل النهر لان النهر
مملوك لهم وسواء كان القتيل محتبسا أو مربوطا على الشط أو كان النهر يجرى به بخلاف النهر الكبير لأنه إذا كان ملكا
لأربابه كان الموضع الذي يجرى به مملوكا لهم وليس كذلك النهر الكبير ولا قسامة في قتيل يوجد في مسجد الجامع
ولا في شوارع العامة ولا في جسور العامة لأنه لم يوجد الملك ولا يد الخصوص وتجب الدية على بيت المال لان تدبير
هذه المواضع ومصلحتها إلى العامة فكان حفظها عليهم فإذا قصر واضمنوا وبيت المال مالهم فيؤخذ من بيت المال
وكذلك لا قسامة في قتيل في سوق العامة وهي الأسواق التي ليست بمملوكة وهي سوق السلطان لأنها إذا لم تكن
مملوكة وليس لاحد عليها يد الخصوص كانت كالشوارع العامة لان سوق السلطان لعامة المسلمين فلا تجب القسامة
وتجب الدية لان حفظها والتدبير فيها إلى جماعة المسلمين فيضمنون بالتقصير فبيت المال مال عامة المسلمين فيؤخذ
منه وكذا إذا وجد في مسجد جماعتهم لا قسامة والدية في بيت المال لأنه لا ملك لاحد فيه ولا يد الخصوص ويد
العموم توجب الدية لا القسامة لما بينا فإن كان السوق ملكا تجب القسامة والدية لكن على من تجب فيه اختلاف
نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ولا قسامة في قتيل يوجد في السجن لانعدام الملك ويد الخصوص لأنه لا تصرف
لأهل السجن في السجن لكونهم مقهورين فيه وتجب الدية على بيت المال لان يد العموم ثابتة عليه ولان منفعة
السجن لعامة المسلمين لأنه بنى لاستيفاء حقوقهم ودفع الضرر عنهم ويد العموم وتوجب الدية لا القسامة وهذا قولهما
وقال أبو يوسف رحمه الله تجب القسامة والدية على أهل السجن لان لهم ضرب تصرف في السجن فكأن لهم يدا
على السجن فعليهم حفظه (ومنها) ان لا يكون القتيل ملكا لصاحب الملك الذي وجد فيه فلا قسامة ولا دية في
قن أو مدبر أو أم ولد أو مكاتب أو مأذون وجد قتيلا في دار مولاه لأنه ملكه ووجوده في داره قتيلا كمباشرة القتل منه
وقتل المملوك لا يتعلق به ضمان الا ان في المكاتب تجب على المولى قيمته لأنه فيما يرجع إلى كسبه وأرش جنايته حر
فكان كسبه وأرشه له والمولى فيه كالأجنبي ولا تعقله العاقلة لأنه إذا صار مضمونا بعقد الكتابة والعقد ثبت في حق
المولى والمكاتب لا في حق العاقلة وفى المأذون عليه قيمته لغرمائه إن كان له دين لتعلق حق الغرماء بماليته وقد استهلك
حقهم بالقتل باستهلاك محل الحق فيجب عليه قيمته لغرمائه وتكون حالة في ماله لان هذا ليس ضمان النفس لان
نفسه ملك المولى بل هذا ضمان المال لتعلق الغرماء بماليته فكان هذا ضمان الاستهلاك فتكون في ماله حالة
لا مؤجلة كما لو استهلكه بالاعتاق وان لم يكن عليه دين لا شئ وكذلك ان قتله عمدا وكذلك لو كان العبد جنى
جناية ثم وجد قتيلا في دار مولاه فعلى المولى قيمته حالة وكذلك ان قتله خطأ وهو لا يعلم بجنايته لما قلنا ولو وجد العبد
الرهن قتيلا في دار الرهن أو المرتهن فان وجد قتيلا في دار الراهن فلا قسامة والقيمة على رب الدار دون العاقلة لأنه
ملكه وقتل الانسان ملك نفسه لا يوجب الضمان عليه وإنما وجب الضمان بعقد الرهن والعقد ثبت في حق الراهن
والمرتهن لا في حق العاقلة فلا يلزم حكمه العاقلة وان وجد في دار المرتهن فالقسامة والقيمة على عاقلته لان هذا الضمان
لا يجب بالعقد وإنما يجب بالجناية لان وجوده في داره قتيلا كمباشرة القتل منه كعبد ليس برهن وجد في دار قتيلا
وثمة القسامة والقيمة عليه كذا ههنا (وأما) بيان سبب وجوب القسامة والدية فنقول سبب وجوبهما هو التقصير
في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ
مع القدرة على الحفظ صار مقصرا بترك الحفظ الواجب فيؤاخذ بالتقصير زجرا عن ذلك وحملا على تحصيل الواجب
وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ ولأنه
إذا اختص بالموضع ملكا أو يد التصرف كانت منفعته له فكانت النصرة عليه إذ الخراج بالضمان على لسان رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال تبارك وتعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولان القتيل إذا وجد في موضع
اختص به واحدا وجماعة اما بالملك أو باليد وهو التصرف فيه فيتهمون انهم قتلوه فالشرع ألزمهم القسامة دفعا للتهمة
290

والدية لوجود القتيل بين أظهرهم والى هذا المعنى أشار سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه حينما قيل أنبذل أموالنا
وأيماننا فقال أما أيمانكم فلحقن دمائكم وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم وإذا عرف هذا فنقول القتيل إذا
وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة للأحاديث واجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا ولان حفظ
المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم وهم المتهمون في قتله فكانت القسامة الدية عليهم وكذا إذا
وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة لما قلنا فيحلف عنهم خمسون فإن لم يكمل العدد خمسين رجلا تكرر الايمان
عليهم حتى تكمل خمسين يمينا لما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه إذا حلف رجال القسامة فكانوا تسعة
وأربعين رجلا فأخذ منهم واحدا وكرر عليه اليمين حتى كملت خمسين يمينا وكان ذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم
ولم ينقل انه خالفه أحد فيكون اجماعا ولأن هذه الايمان حق ولى القتيل فله أن يستوفيها ممن يمكن استيفاؤها منه فان
أمكن الاستيفاء من عدد الرجال الخمسين استوفى وان لم يكن يستوفى عدد الايمان التي هي حقه وإن كان العدد كاملا
فأراد الولي أن يكرر اليمين على بعضهم ليس له ذلك كذا ذكر محمد رحمه الله لان موضوع هذه الايمان على عدد
الخمسين في الأصل لا على واحد وإنما التكرار على واحد لضرورة نقصان العدد ولا ضرورة عند الكمال وإن كان
في المحلة قبائل شتى فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة
ومحمد عليهما الرحمة وقال أبو يوسف رحمة الله عليهم وعلى المشترين جميعا (وجه) قوله إن الوجوب على أهل
الخطة باعتبار الملك والملك ثابت للمشترين ولهذا لم يكن من أهل الخطة أحد كانت القسامة على المشترين (وجه)
قولهما ان أهل الخطة أصول في الملك لان ابتداء الملك ثبت لهم وإنما انتقل عنهم إلى المشترين فكانوا أخص
بنصرة المحلة وحفظها من المشترين فكانوا أولى بايجاب القسامة والدية عليهم وإن كان المشترى بينهم كالأجنبي
فما بقي واحد منهم لا ينتقل إلى المشترى وقيل أن أبا حنيفة بنى الجواب على ما شاهد بالكوفة وكان تدبير أمر
المحلة فيها إلى أهل الخطة وأبو يوسف رأى التدبير إلى الاشراف من أهل المحلة كانوا من أهل الخطة أولا
فبنى الجواب على ذلك فعلى هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة لان كل واحد منهما عول على معنى الحفظ
والنصرة فان فقد أهل الخطة وكان في المحلة ملاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة
ومحمد وعند أبي يوسف عليهم جميعا له ما روى أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أوجب القسامة على أهل خيبر
وكانوا سكانا ولان للساكن اختصاصا بالدار يدا كما أن للمالك اختصاصا بها ملكا ويد الخصوص تكفى لوجوب
القسامة (وجه) قولهما أن المالك أخص بحفظ الموضع ونصرته من السكان لان اختصاصه اختصاص ملك
وانه أقوى من اختصاص اليد ألا يرى أن السكان يسكنون زمانا ثم ينتقلون وأما ايجاب القسامة على يهود خيبر
فممنوع انهم كانوا سكانا بل كانوا ملاكا فإنه روى أنه عليه الصلاة والسلام أقرهم على املاكهم ووضع الجزية على
رؤسهم وما كان يؤخذ منهم كان يؤخذ على وجه الجزية لا على سبيل الأجرة ولو وجد قتيل في سفينة فإن لم يكن معهم
ركاب فالقسامة والدية على أرباب السفينة وعلى من يمدها ممكن يملكها أو لا يملكها وإن كان معهم فيها ركاب فعليهم
جميعا وهذا في الظاهر يؤيد قول أبى يوسف في ايجابه القسامة والدية على الملاك والسكان جميعا وأبو حنيفة ومحمد
رحمهما الله يفرقان بين السفينة والمحلة لان السفينة تنقل وتحول من مكان إلى مكان فتعتبر فيها اليد دون الملك كالدابة
إذا وجد عليها قتيل بخلاف الدار فإنها لا تحتمل النقل والتحويل فيعتبر فيها الملك والتحويل ما أمكن لا اليد وكذلك
العجلة حكمها حكم السفينة لأنها تنقل وتحول ولو وجد القتيل معه رجل يحمله على ظهره فعليه القسامة والدية لان
القتيل في يده ولو وجد جريح معه به رمق يحمله حتى أتى به أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لا يضمن عند أبي
يوسف وقال أبو يوسف وفى قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه يضمن (وجه) القياس أن الحامل قد ثبتت
يده عليه مجروحا فإذا مات من الجرح فكأنه مات في يده وهذا تقرير على من جرح في قبيلة فتحامل إلى قبيلة أخرى
291

فمات فيهم وقد ذكرناه فيما تقدم وكذلك إذا كان على دابة ولها سائق أو قائدا وعليها راكب فعليه القسامة والدية
لأنه في يده وان اجتمع السائق والقائد والراكب فعليهم جميعا لان القتيل في أيديهم فصار كأنه وجد في دارهم وان
وجد على دابة لا سائق لها ولا قائد ولا راكب عليها فإن كان ذلك الموضع ملكا لاحد فالقسامة والدية على المالك وإن كان
لا مالك له فعلى أقرب المواضع إليه من حيث يسمع الصوت من الأمصار والقرى وإن كان بحيث لا يسمع فهو
هدر لما قلنا فيما تقدم فان وجدت الدابة في محلة فعلى أهل تلك المحلة وكذلك إذا وجد في فلاة من الأرض أنه
ينظر إن كان ذلك المكان الذي وجد فيه ملكا لانسان فالقسامة والدية عليه وان لم يكن له مالك فعلى أقرب المواضع
إليه من الأمصار والقرى إذا كانت بحيث يبلغ الصوت منها إليه فان فكان بحيث لا يبلغ فهو هدر لما قلنا وذكر في
الأصل في قتيل وجد بين قريتين انه يضاف إلى أقربهما لما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي
عليه الصلاة والسلام أمر بان يوزع بين قريتين في قتيل وجد بينهما وكذا روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه في
قتيل وجد بين وادعه وأرحب وكتب إليه عامله بذلك فكتب إليه سيدنا عمر رضي الله عنه ان قس بين القريتين
فأيهما كان أقرب فالزمهم فوجد القتيل إلى وادعة أقرب فالزموا القسامة والدية وذلك كله محمول على اما إذا كان
بحيث يبلغ الصوت إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل كذا ذكر محمد في الأصل حكاه الكرخي رحمه الله والفقه
ما ذكرنا فيما تقدم وكذا إذا وجد بين سكتين فالقسامة والدية على أقربهما فان وجد في المعسكر في فلاة من الأرض
فإن كانت الأرض التي وجد فيها لها أرباب فالقسامة والدية على أرباب الأرض لأنهم أخص بنصرة الموضع
وحفظه فكانوا أولى بايجاب القسامة والدية عليهم وهذا على أصلهما لان المعسكر كالسكان والقسامة على الملاك
لا على السكان على أصلهما (فأما) على أصل أبى يوسف رحمه الله فالقسامة والدية عليهم جميعا وان يكن في ملك
أحد بان وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكن الخباء والفسطاط وعلى عواقلهم القسامة والدية لان صاحب
الخيمة خص بموضع الخيمة من أهل العسكر بمنزلة صاحب الدار مع أهل المحلة ثم القسامة على صاحب الدار إذا وجد
فيها قتيل لا على أهل المحلة كذا ههنا وان وجد خارجا من الفسطاط والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط منهم
القسامة والدية كذا ذكر في ظاهر الرواية لان الأقرب أولى بايجاب القسامة والدية لما ذكرنا وعن أبي حنيفة رضي الله عنه
إذا وجد بين الخيام فالقسامة والدية على جماعتهم كالقتيل يوجد في المحلة جعل الخيام المحمولة كالمحلة على هذه
الرواية هذا إذا لم يكن العسكر لقوا عدوا فإن كانوا قد لقوا عدوا فقاتلوا فلا قسامة ولا دية في قتيل يوجد بين أظهرهم لأنهم
إذا لقوا عدوا وقاتلوا فالظاهر أن العدو قتله لا المسلمون إذ المسلمون لا يقتل بعضهم بعضا ولو وجد قتيل في أرض رجل
إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهل القرية فالقسامة والدية على صاحب الأرض لا على أهل القرية لان
صاحب الأرض أخص بنصرة أرضه وحفظها من أهل القرية فكان أولى بايجاب القسامة والدية عليه كصاحب
الدار مع أهل المحلة ولو وجد قتيل في دار انسان وصاحب الدار من أهل القسامة فالقسامة والدية على صاحب الدار
وعلى عاقلته كذا ذكر في الأصل ولم يفصل بين ما إذا كانت العاقلة حضورا أو غيبا وذكر في اختلاف زفر ويعقوب
رحمهما الله أن القسامة على رب الدار وعلى عاقلته حضورا كانوا أو غيبا وقال أبو يوسف رحمه الله لا قسامة على العاقل
هكذا ذكر فيه وقال الكرخي رحمه الله إن كانت العاقلة حضورا في المصر دخلوا في القسامة وإن كانت غائبة
فالقسامة على صاحب الدار تكرر عليه الايمان والدية عليه وعلى عاقلته أما دخول العاقلة في القسامة إذا كانوا حضورا
فهو قولهما وظاهر قول أبى يوسف لا قسامة على العاقلة يقتضى أن لا يدخلوا في القسامة (وجه) قول زفر رحمه الله
انه لما لزمتهم الدية لزمتهم القسامة كاهل المحلة ولأبي يوسف أن صاحب الدار أخص بالنصرة وبالولاية والتهمة فلا
يشاركه العاقلة كما لا يشارك أهل المحلة غيرهم (وجه) قولهما أن العاقلة إذا كانوا حضورا يلزمهم حفظ الدار
ونصرتها كما يلزم صاحب الدار وكذا يتهمون بالقتل كما يتهم صاحب الدار فقد شاركوه في سبب وجوب القسامة
292

فيشاركونه في القسامة أيضا وبهذا يقع الفرق بين حال الحضور والغيبة على ما ذكره الكرخي رحمه الله لان معنى التهمة
ظاهر الانتفاء من الغيب وكذا معنى النصرة لأنه لا يلحق ذلك الموضع نصرة من جهتهم الا أنه تجب عليهم الدية لان
وجوب الدية على العاقلة لا يتعلق بالتهمة فإنهم يتحملون عن القاتل المعين إذا كان صبيا أو مجنونا أو خاطئا وسواء
كانت الدار فيها ساكن أو كانت مفرغة مغلقة فوجد فيها قتيل فعلى رب الدار وعلى عاقلته القسامة والدية أما على
أصل أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما فظاهر لأنهما يعتبران الملك دون السكنى فكان وجود السكنى فيها والعدم
بمنزلة واحدة (وأما) أبو يوسف رحمه الله فإنما يوجب على الساكن لاختصاصه بالدار يدا ولم يوجد ههنا وسواء كان
الملك الذي وجد فيه القتيل خاصا أو مشتركا فالقسامة والدية على أرباب الملك لما قلنا وسواء اتفق قدر أنصباء الشركاء
أو اختلف فالقسامة والدية بينهم بالسوية حتى لو كانت الدار بين رجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث فالقسامة
عليهما وعلى عاقلتهما نصفان ويعتبر في ذلك عدد الرؤس لاقدر الانصباء كما في الشفعة لان حفظ الدار واجب على
كل واحد منهما والحفظ لا يختلف ولهذا تساويا في استحقاق الشفعة لان الاستحقاق لدفع ضرر الدخيل وانه
لا يختلف باختلاف قدر الملك وذكر في الجامع الصغير فيمن باع دارا ووجد فيها قتيل قبل أن يقبضها المشترى أن
القسامة والدية على البائع إذا لم يكن في البيع خيار فإن كان فيه خيار فعلى من الدار في يده في قول أبي حنيفة وعند أبي
يوسف ومحمد الدية على مالك الدار ان لم يكن في البيع خيار فإن كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له وعند زفر رحمه
الله الدية على المشترى الا أن يكون للبائع خيار فتكون الدية عليه (وجه) قول زفر أن الملك للمشتري إذا لم يكن فيه
خيار وكذا إذا كان الخيار للمشترى لان خيار المشترى لا يمنع دخول المبيع في ملكه عنده فإذا كان الخيار للبائع
فالملك له لان خياره يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف (وجه) قولهما انه إذا لم يكن فيه خيار فالملك للمشتري وإنما
للبائع صورة يد من غير تصرف وصورة اليد لا مدخل لها في القسامة كيد المودع فكانت القسامة والدية على
المشترى وإذا كان فيه خيار فعلى من تصير الدار لأنها إذا صارت للبائع فقد انفسخ البيع وجعل كأنه لم يكن وان صارت
للمشترى فقد انبرم البيع وتبين انه ملكها بالعقد من حين وجوده (وأما) تصحيح مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه
فمشكل من حيث الظاهر لأنه يعتبر الملك فيما يحتمل النقل والتحويل لا اليد وإن كانت اليد يد تصرف كيد الساكن
والثابت للبائع صورة من غير تصرف فأولى ان لا يعتبره لكن لا اشكال في الحقيقة لان الوجوب بترك الحفظ
والحفظ باليد حقيقة الا أنه يضاف الحفظ إلى الملك لان استحقاق اليد به عادة فيقام مقام اليد فكانت الإضافة إلى
ما به حقيقة الحفظ أولى الا أن مطلق اليد لا يعتبر بل اليد المستحقة بالملك وهذه يد مستحقة بالملك بخلاف يد الساكن
وإذا وجل رجل قتيلا في دار نفسه فالقسامة والدية على عاقلته لورثته في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفى قولهما رحمهما
الله لا شئ فيه وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهم الله وروى عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قولهم (وجه) قولهم أن
القتل صادفه والدار ملكه وإنما صار ملك الورثة عند الموت والموت ليس بقتل لان القتل فعل القاتل ولا صنع لا حد في
الموت بل هو من صنع الله تبارك وتعالى فلم يقتل في ملك الورثة فلا سبيل إلى ايجاب الضمان على الورثة وعواقلهم ولان
وجوده قتيلا في دار نفسه بمنزلة مباشرة القتل بنفسه كأنه قتل نفسه بنفسه فيكون هدرا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان
المعتبر في القسامة وقت ظهور القتيل لا وقت وجود القتل بدليل أن من مات قبل ذلك لا يدخل في الدية والدار وقت
ظهور القتيل لورثته فكانت القسامة والدية عليهم وعلى عواقلهم تجب كما لو وجد قتيلا في دار ابنه فان قيل كيف تجب
الدية عليهم وعلى عواقلهم وان الدية تجب لهم فكيف تجب لهم وعليهم وكذا عاقلتهم تتحمل عنهم لهم أيضا وفيه ايجاب
لهم أيضا وعليهم وهذا ممتنع فالجواب ممنوع أن الدية تجب لهم بل للقتيل لأنها بدل نفسه فتكون له وبدليل أنه يجهز منها
وتقضى منها ديونه وتنفذ منها وصاياه ثم ما فضل عن حاجته تستحقه ورثته لاستغناء الميت عنه والورثة أقرب الناس إليه
وصار كما لو وجد الأب قتيلا في دار ابنه أو في بئر حفرها ابنه أليس أنه تجب القسامة والدية على الابن وعلى عاقلته ولا
293

يمتنع ذلك لما قلنا كذا هذا وان اعتبرها وقت وجود القتل فهو ممكن أيضا لأنه تجب على عاقلته لتقصيرهم في حفظ الدار
فتجب عليهم الدية حقا للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته عند فراغه عن حاجته وذكر محمد إذا وجد ابن الرجل أو أخوه
قتيلا في داره أن على عاقلته دية ابنه ودية أخيه وإن كان هو وارثه لما قلنا أن وجود القتيل في الدار كمباشرة صاحبها القتل
فيلزم عاقلته ذلك للمقتول ثم يستحقها صاحب الدار بالإرث ولو وجد مكاتب قتيلا في دار نفسه فدمه هدر لان داره
في وقت ظهور القتيل ليس لورثته بل هي على حكم ملك نفسه إلى أن يؤدى بدل الكتابة فصار كأنه قتل نفسه فهدر
دمه رجلان كانا في بيت ليس معهما ثالث وجد أحدهما ثالث وجد أحدهما مذبوحا قال أبو يوسف يضمن الآخر الدية وقال محمد
لا ضمان عليه (وجه) قوله أنه يحتمل أنه قتله صاحبه ويحتمل أنه قتل نفسه فلا يجب الضمان بالشك ولأبي يوسف
أن الظاهر أنه قتله صاحبه لان الانسان لا يقتل نفسه ظاهرا وغالبا واحتمال خلاف الظاهر ملحق بالعدم ألا ترى أن
مثل هذا الاحتمال ثابت في قتيل المحلة ولم يعتبر
* (فصل) * واما بيان من يدخل في القسامة والدية بعد وجوبهما ومن لا يدخل في ذلك فنقول وبالله التوفيق
الصبي والمجنون لا يدخلان في القسامة في أي موضع وجد القتيل سواء وجد في غير ملكهما أو في ملكهما لان
القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين ولهذا لا يستحلفان في سائر الدعاوى ولان القسامة تجب على من هو من
أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة فلا تجب القسامة عليهما وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل في ملكهما
لتقصيرهم بترك النصرة اللازمة وهل يدخلان في الدية مع العاقلة فان وجد القتيل في غير ملكهما كالمحلة وملك انسان
لا يدخلان فيها وجد في ملكهما يدخلان لان وجود القتيل في ملكهما كمباشرتهما القتل وهما مؤاخذان بضمان
الافعال وعلى قياس ما ذكره الطحاوي رحمه الله لا يدخلان في الدية مع العاقلة أصلا لكنه ليس بسديد لان هذا
ضمان بالقتل والقتل فعل والصبي والمجنون مؤاخذان بافعالهما ولا يدخل العبد المحجور والمدبر وأم الولد في القسامة
والدية لان هؤلاء لا يستنصر بهم عادة وليسوا من أهل ملك المال أيضا فلا تلزمهم الدية وأما المأذون والمكاتب فلا
يدخلان في قسامة وجبت في قتيل وجد في غير دارهما وان وجد في دارهما أما المأذون ان لم يكن عليه دين فلا قسامة
عليه بل على مولاه وعاقلته استحسانا والقياس أن تجب عليه القسامة وإذا حلف يخاطب المولى بالدفع أو الفداء (وجه)
القياس أن العبد من أهل اليمين ألا ترى أنه يستحلف في الدعاوى ووجود القتيل في داره بمنزله مباشرة القتل خطأ وان
قتله خطأ يخير المولى بين الدفع والفداء كذا هذا وجه الاستحسان أن فائدة الاستحلاف جريان القسامة لسبب هو
النكول لأنه لا يقضى بالنكول في هذا الباب بل يحبس حتى يحلف أو يقر ولو قر بالقتل خطأ لا يصح اقراره لأنه اقرار
على مولاه فلم يكن الاستحلاف مفيدا فلا تجب عليه القسامة وتجب على المولى وعلى عاقلته لان الملك له وإن كان عليه
دين فينبغي في قياس قول أبي حنيفة أنه تجب القسامة على العبد لان المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عنده
فلا يملك الدار وفى الاستحسان تجب على المولى لان المولى إن كان لا يملكها فالغرماء لا يملكونها أيضا والعبد لا ملك
له والمولى أقرب الناس إليه فكانت القسامة عليه مع ما أن للمولى حقا في الدار وهو حق استخلاصها لنفسه بقضاء دين
الغرماء فكان أولى بايجاب القسامة (وأما) المكاتب إذا وجد قتيلا في داره فعليه الأقل من قيمته ومن الدار لان
وجود القتيل في داره كمباشرته القتل فلا يكون على مولاه كما لا يكون عليه في مباشرته وهل تجب عليه القسامة ذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه يكرر عليه الايمان فان حلف يجب عليه الأقل من قيمته ومن الدية الا قدر
عشرة دراهم لان عاقلة المكاتب نفسه وتكون القيمة حالة لأنها تجب بالمنع من الدفع فتكون حالة كما تجب على المولى بجناية
المدبر ولو كان القتيل مولى المكاتب عليه الأقل من قيمته ومن الدية لان وجود القتيل في داره كمباشرته القتل
وتكون القيمة حالة لا مؤجلة لما قلنا ولا تدخل المرأة في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها لان وجوبهما
بطريق النصرة وهي ليست من أهلها وان وجد في دارها أو في قرية لها لا يكون بها غيرها عليها القسامة فتستخلف
294

ويكرر عليها الايمان وهذا قولهما وقال أبو يوسف عليها لا على عاقلتها وجه قوله إن لزوم القسامة للزوم النصرة
وهي ليست من أهل النصرة فلا تدخل في القسامة ولهذا لم تدخل مع أهل المحلة (وجه) قولهما ان سبب الوجوب
على المالك هو الملك مع أهلية القسامة وقد وجد في حقها أما الملك فثابت لها وأما الأهلية فلان القسامة يمين وانها
من أهل اليمين ألا يرى أنها تستحلف في سائر الحقوق ومعنى النصرة يراعى وجوده في الجملة لا في كل فرد كالمشقة في
السفر وهل تدخل مع العاقلة في الدية ذكر الطحاوي ما يدل على أنها لا تدخل فإنه قال لا يدخل القاتل في التحمل الا
أن يكون ذكرا عاقلا بالغا فإذا لم تدخل عند وجود القتل منها عينا فههنا أولى وأصحابنا رضي الله عنهم قالوا إن المرأة
تدخل مع العاقلة في الدية في هذه المسألة وأنكروا على الطحاوي قوله وقالوا إن القاتل يدخل في الدية بكل
حال ويدخل في القسامة والدية الأعمى والمحدود في القذف والكافر لأنهم من أهل الاستحلاف والحفظ
والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما ما يكون ابراء عن القسامة والدية فنوعان نص ودلالة أما النص فهو التصريح بلفظ الابراء وما
يجرى مجراه كقوله أبرأت أو أسقطت أو عفوت ونحو ذلك لان ركن الابراء صدر ممن هو من أهل الابراء في محل قابل
للبراءة فيصح وأما الدلالة فهي ان يدعى ولى القتيل على رجل من غير أهل المحلة فيبرأ أهل المحلة عن القسامة والدية لان
ظهور القتيل في المحلة لم يدل على كون هذا المدعى عليه قاتلا فاقدام الولي على الدعوى عليه يكون نفيا للقتل عن أهل المحلة
فيتضمن برأتهم عن القسامة والدية فان أقام البينة على المدعى عليه والا حلف فان حلف برئ وان نكل حبس حتى
يحلف أو يقر في قول أبي حنيفة رحمه الله (وعندهما) يقضى بالدية ولو شهد اثنان من أهل المحلة للولي بهذه الدعوى
لا تقبل شهادتهما في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تقبل (وجه) قولهما ان المانع من القبول قبل الدعوى
كانت التهمة وقد زالت بالبراءة فلا معنى لرد الشهادة ولأبي حنيفة رحمه الله انه تمكنت التهمة في شهادتهم من
وجهين أحدهما ان من الجائز انه أبرأهم ليتوسل بالابراء إلى تصحيح شهادتهم والثاني انه أحسن إليهم بالابراء
حيث أسقط القسامة والدية عنهم فمن الجائز انهم أرادوا بالمكافأة على ذلك والشهادة ترد بالتهمة من وجه واحد فمن
وجهين أولى ولان أهل المحلة كانوا خصماء في هذه الدعوى فلا تقبل شهادتهم وان خرجوا بالابراء عن الخصومة لان
السبب الموجب لكونهم خصماء قائم وهو وجود القتيل فيهم كالوكيل بالخصومة إذا خاصم ثم عزل فشهد لا تقبل
شهادته كذا هذا ولو ادعى ولى القتيل على رجل بعينه من أهل المحلة فالقسامة والدية بحالها في ظاهر الرواية وروى
عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله عنه ان القسامة تسقط وكذا روى محمد وقال أبو يوسف القياس ان تسقط
القسامة الا انا تركناه للأثر (وجه) رواية ابن المبارك رحمه الله ان تعيين الولي واحدا منهم ابراء عن الباقين دلالة
فتسقط عنهم القسامة كما لو أبرأهم نصا (وجه) ظاهر الرواية ان القاتل أحد أهل المحلة ظاهرا والولي كذلك الا أنه
عين وهو متهم في التعيين فلا يعتبر تعيينه الا بالبينة فلا تعتبر حكم القسامة الا بها فان أقام البينة من غير أهل المحلة على دعواه
يقضى بها فيجب القصاص في العمد والدية في الخطأ ولو شهد شاهد ان من المحلة عليه لا تقبل شهادتهما على ظاهر
الرواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه لان الخصومة بعد هذه الدعوى قائمة فكان الشاهد خصما لأنه يقطع
الخصومة عن نفسه بشهادته ولا شهادة للخصم وإذا لم تقبل شهادة أهل المحلة عليه ولم يقم بينة أخرى وبقيت القسامة
على أهل المحلة على حالها يحلف المدعى والشاهد ان مع أهل المحلة حتى يكمل خمسون رجلا من أهل المحلة ثم كيف
يستحلف الشهود مع أهل المحلة عندهما يحلفون بالله سبحانه وتعالى ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا غير فلان وعند أبي
يوسف يحلفون بالله جل شأنه ما قتلناه ولا يزادون على ذلك لان عندهم ان المشهود عليه قاتل فلا سبيل إلى
استحلافهم على العلم وما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله أولى لان فيما قالاه مراعاة موضوع القسامة وهو الجمع بين
اليمين على البتات والعلم بالقدر الممكن فيما وراء المستثنى وفيما قاله أبو يوسف ترك اليمين على العلم أصلا فكان ما قالاه
295

أولى ولو ادعى أهل تلك المحلة على رجل منهم أو من غيرهم تصح دعواهم فان أقاموا البينة على ذلك الرجل يجب
القصاص في العمد والدية في الخطأ ان وافقهم الأولياء في الدعوى على ذلك الرجل وان لم يوافقوهم في الدعوى
عليه لا يجب عليه شئ لان الأولياء قد أبرؤه حيث أنكروا وجود القتل منه ولا يجب على أهل المحلة أيضا شئ
لأنهم أثبتوا القتل على غيرهم وان لم يقم لهم البينة وحلف ذلك الرجل تجب القسامة على أهل المحلة ثم كيف يحلفون
فهو على الاختلاف الذي ذكرنا والله سبحانه وتعالى الموفق
* (فصل) * وأما الجناية على ما دون النفس مطلقا فالكلام في هذه الجناية يقع في موضعين أحدهما في بيان أنواعها
والثاني في بيان حكم كل نوع منها أما الأول فالجناية على ما دون النفس مطلقا أنواع أربعة أحدها إبانة الأطراف
وما يجرى مجرى الأطراف والثاني اذهاب معاني الأطراف مع ابقاء أعينها والثالث الشجاج والرابع الجراح
أما النوع الأول فقطع اليد والرجل والإصبع والظفر والانف واللسان والذكر والأنثيين والاذن والشفة وفق ء
العينين وقطع الأشفار والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق شعر الرأس واللحية والحاجبين والشارب وأما
النوع الثاني فتفويت السمع والبصر والشم والذوق والكلام والجماع والايلاد والبطش والمشي وبغير لون السن إلى
السواد والحمرة والخضرة ونحوها مع قيام المحال الذي تقوم بها هذه المعاني ويلحق بهذا الفصل اذهاب العقل وأما
النوع الثالث فالشجاج أحد عشر أولها. الخارصة. ثم الدامعة. ثم الدامية. ثم الباضعة. ثم المتلاحمة. ثم السمحاق
ثم الموضحة ثم الهاشمة. ثم المنقلة. ثم الآمة. ثم الدامغة. (فالخارصة) هي التي تخرص الجلد أي تشقه
ولا يظهر منها الدم والدامعة هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين والدامية هي التي يسيل منها الدم والباضعة
هي التي تبضع اللحم أي تقطعه والمتلاحمة هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة فيه هكذا روى أبو يوسف
وقال محمد المتلاحمة قبل الباضعة وهي التي يتلاحم منها الدم ويسود والسمحاق اسم لتلك الجلدة الا ان الجراحة
سميت بها والموضحة التي تقطع السمحاق وتوضح العظم أي تظهره والهاشمة هي التي تهشم العظم أي تكسره والمنقلة
هي التي تنقل العظم بعد الكسر أي تحوله من موضع إلى موضع والآمة هي التي تصل إلى أم الدماغ وهي جلدة تحت
العظم فوق الدماغ والدامغة هي التي تخرق تلك الجلدة وتصل إلى الدماغ فهذه إحدى عشر شجة ومحمد ذكر الشجاج
تسعا ولم يذكر الخارصة ولا الدامغة لان الخارصة لا يبقى لها أثر عادة والشجة التي لا يبقى لها أثر لا حكم لها في الشرع
والدامغة لا يعيش الانسان معها عادة بل تصير نفسا ظاهرا وغالبا فتخرج من أن تكون شجة فلا معنى لبيان حكم
الشجة فيها لذلك ترك محمد ذكرهما والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) النوع الرابع فالجراح نوعان جائفة وغير جائفة
فالجائفة هي التي تصل إلى الجوف والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف هي الصدر والظهر والبطن والجنبان
وما بين الأنثيين والدبر ولا تكون في اليدين والرجلين ولا في الرقبة والحلق جائفة لأنه لا يصل إلى الجوف وروى
عن أبي يوسف ان ما وصل من الرقبة إلى الموضع الذي لو وصل إليه من الشراب قطرة يكون جائفة لأنه لا يقطر الا إذا
وصل إلى الجوف ولا تكون الشجة الا في الرأس والوجه وفى مواضع العظم مثل الجبهة والوجنتين والصدغين والذقن
دون الخدين ولا تكون الآمة الا في الرأس والوجه وفى الموضع الذي تتخلص منه إلى الدماغ ولا يثبت حكم
هذه الجراحات الا في هذه المواضع عند عامة العلماء رضي الله عنهم وقال بعض الناس يثبت حكم هذه الجراحات في
كل البدن وهذا غير سديد لان هذا القائل ان رجع في ذلك إلى اللغة فهو غلط لان الغرب تفصل بين الشجة وبين
مطلق الجراحة فتسمى ما كان في الرأس والوجه في مواضع العظم منها شجة وما كان في سائر البدن جراحة فتسمية
الكل شجة يكون غلطا في اللغة وان رجع فيه إلى المعنى فهو خطأ لان حكم هذه الشجاج يثبت للشين الذي يلحق
المشجوج ببقاء أثرها بدليل أنها لو برأت ولم يبق لها أثر لم يجب بها أرش والشين إنما يلحق فيما يظهر في البدن
وذلك هو الوجه والرأس وأما سواهما فلا يظهر بل يغطى عادة فلا يلحق الشين فيه مثل ما يلحق في الوجه والرأس
296

والله سبحانه وتعالى الموفق
* (فصل) * وأما أحكام هذه الأنواع فهذه الأنواع مختلفة الأحكام (منها) ما يجب فيه القصاص ومنها ما يجب فيه دية
كاملة ومنها ما يجب فيه أرش مقدر (ومنها) ما يجب فيه أرش غير مقدر (أما) الذي فيه القصاص فهو الذي استجمع
شرائط الوجوب فيقع الكلام في موضعين (أحدهما) في بيان شرائط وجوب القصاص (والثاني) في بيان وقت
الحكم بالقصاص (أما) الأول فنقول شرائط وجوب القصاص أنواع (بعضها) يعم النفس وما دونها وبعضها يخص
ما دون النفس (أما) الشرائط العامة فما ذكرنا في بيان شرائط وجوب القصاص في النفس من كون الجاني عاقلا بالغا
متعمدا مختارا وكون المجني عليه معصوما مطلقا لا يكون جزء الجاني ولا ملكه وكون الجناية حاصلة على طريق
المباشرة لما ذكرنا من الدلائل (وأما) الشرائط التي تخص الجناية فيما دون النفس فمنها المماثلة بين المحلين في المنافع والفعلين
وبين الأرشين لان المماثلة فيما دون النفس معتبرة بالقدر الممكن فانعدامها يمنع وجوب القصاص والدليل على أن
المماثلة فيما دون النفس معتبرة شرعا النص والمعقول (أما) النص فقوله تبارك وتعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
والعين بالعين إلى قوله تعالى جل شأنه والجروح قصاص فان قيل ليس في كتاب الله تبارك وتعالى بيان حكم ما دون
النفس لا في هذه الآية الشريفة وانه اخبار عن حكم التوراة فيكون شريعة من قبلنا وشريعة من قبلنا لا تلزمنا
(فالجواب) ان من القراء المعروفين من ابتدأ الكلام من قوله عز شأنه والعين بالعين بالرفع إلى قوله تبارك وتعالى فمن
تصدق به على ابتداء الايجاب لا على الاخبار عما في التوراة فكان هذا شريعتنا لا شريعة من قبلنا على أن هذا إن كان
اخبارا عن شريعة التوراة لكن لم يثبت نسخة بكتابنا ولا بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم فيصير شريعة لنبينا صلى الله
عليه وسلم مبتدأة فيلزمنا العمل به على أنه شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم لا على أنه شريعة من قبله من الرسل على
ما عرف في أصول الفقه الا انه لم يذكر وجوب القصاص في اليد والرجل نصا لكن الايجاب في العين والانف والاذن
والسن ايجاب في اليد والرجل دلالة لأنه لا ينتفع بالمذكور من السمع والبصر والشم والسن الا صاحبه (ويجوز) ان ينتفع
باليد والرجل غير صاحبهما فكان الايجاب في العضو المنتفع به في حقه على الخصوص ايجابا فيما هو منتفع به في حقه وفى
حق غيره من طريق الأولى فكان ذكر هذه الأعضاء ذكرا لليد والرجل بطريق الدلالة له كما في التأفف مع الضرب
في الشتم على أن في كتابنا حكم ما دون النفس قال الله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقال الله
تعالى عز شأنه وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وأحق ما يعمل فيه بهاتين الآيتين ما دون النفس (وقال) تبارك
وتعالى من عمل سيئة فلا يجزى الا مثلها ونحو ذلك من الآيات (وأما) المعقول فهو ان ما دون النفس له حكم الأموال
لأنه خلق وقاية للنفس كالأموال ألا ترى انه يستوفى في الحل والحرم كما يستوفى في المال وكذا الوصي يلي استيفاء ما دون
النفس الصغير كما يلي استيفاء ماله فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في اتلاف الأموال (ومنها) أن يكون المثل ممكن الاستيفاء
لان استيفاء المثل بدون امكان استيفائه ممتنع فيمتنع وجوب الاستيفاء ضرورة ويبتنى على هذين الأصلين مسائل
(فنقول) وبالله تعالى التوفيق لا يؤخذ شئ من الأصل الا بمثله فلا تؤخذ اليد الا باليد لان غير اليد ليس من جنسها
فلم يكن مثلا لها إذا التجانس شرط للمماثلة (وكذا) الرجل والإصبع والعين والانف ونحوها لما قلنا (وكذا) الابهام
لا تؤخذ الا بالابهام ولا السبابة بالسبابة ولا الوسطى الا بالوسطى ولا البنصر الا بالبنصر ولا الخنصر الا بالخنصر
لان منافع الأصابع مختلفة فكانت كالأجناس المختلفة وكذلك لا تؤخذ اليد اليمين الا باليمين ولا اليسرى الا باليسرى
لان لليمين فضلا على اليسار ولذلك سميت يمينا وكذلك الرجل وكذلك أصابع اليدين والرجلين لا تؤخذ اليمين منهما
الا باليمين ولا اليسرى الا باليسرى وكذلك الأعين لما قلنا وكذلك الأسنان لا تؤخذ الثنية الا بالثنية والا الناب الا
بالناب ولا الضرس الا بالضرس لاختلاف منافعها فان بعضها قواطع وبعضها طواحن وبعضها ضواحك واختلاف
المنفعة بين الشيئين يلحقهما بجنسين ولا مماثلة عند اختلاف الجنس وكذا لا يؤخذ الاعلى منها بالأسفل ولا الأسفل
297

بالأعلى لتفاوت بين الاعلى والأسفل في المنفعة ولا يؤخذ الصحيح من الأطراف الا بالصحيح منها فلا تقطع اليد
الصحيحة ولا كاملة الأصابع بناقصه الأصابع أو مفصل من الأصابع وكذلك الرجل والإصبع وغيرها لعدم
المماثلة بين الصحيح والمعيب وإن كان العيب في طرف الجاني فالمجني عليه بالخيار ان شاء اقتص وان شاء أخذ أرش
الصحيح لان حقه في المثل وهو السليم ولا يمكنه استيفاء حقه من كل وجه مع فوات صفه السلامة وأمكنه
الاستيفاء من وجه ولا سبيل إلى الزام الاستيفاء حتما لما فيه من الزام استيفاء حقه ناقصا وهذا لا يجوز فيخير ان
شاء رضى بقدر حقه واستوفاه ناقصا وان شاء عدل إلى بدل حقه وهو كمال الأرش كمن أتلف على إنسان شيئا له
مثل والمتلف جيد فانقطع عن أيدي الناس ولم يبق منه الا الردئ ان صاحب الحق يكون بالخيار ان شاء أخذ
الموجود ناقصا وان شاء عدل إلى قيمة الجيد لما قلنا كذا هذا (ولو أراد) المجني عليه ان يأخذه ويضمنه النقصان هل
له ذلك قال أصحابنا رحمهم الله تعالى ليس له ذلك (وقال) الشافعي له ذلك قوله إن حقه في المثل ولا يمكنه استيفاؤه من
هذه اليد من كل وجه فيستوفى حقه منها بقدر ما يمكن ويضمنه الباقي كما لو أتلف على آخر شيئا من المثليات فانقطع
عن أيدي الناس الا قدر بعض حقه انه يأخذ القدر الموجود من المتلف ويضمنه الباقي كذا هذا (ولنا) انه قادر على
استيفاء أصل حقه وإنما الفائت هو الوصف وهو صفه السلامة فإذا رضى باستيفاء أصل حقه ناقصا كان ذلك رضا
منه بسقوط حقه عن الصفة كما لو أتلف شيئا من ذوات الأمثال وهو جيد فانقطع عن أيد الناس نوع الجيد ولا
يوجد الا الردئ منه انه ليس له الا ان يأخذه أو قيمة الجيد كذلك هذا بخلاف ما ذكره من المسألة لان هناك حق
المتلف عليه متعلق بمثل المتلف بكل جزء من أجزائه صورة ومعنى فكان له ان يستوفى الموجود ويأخذ قيمة الباقي
وههنا حق المجني عليه لم يتعلق الا بالقطع من المفصل دون الأصابع بدليل انه لو أراد ان يقطع الأصابع ويبرأ عن
الكف ليس له ذلك فلم تكن الأصابع عين حقه إن كان البعض قطع الأصابع بأن كانت جارية مجرى الصفة كالجودة
في المكيل فلا يكون له ان يطالب بشئ آخر كما في تلك المسألة (ولو) ذهبت الجارحة المعينة قبل ان يختار المجني عليه
أخذها أو قطعها قاطع بطل حق المجني عليه في القصاص لفوات محله (وهل يجب) الأرش على الجاني فالكلام فيه
كالكلام فيما إذا قطع يدا صحيحة وهو على التفصيل الذي ذكرنا فيما تقدم انها ان سقطت بآفة سماوية أو قطعت ظلما
لا شئ عليه ولو قطعت بحق من قصاص أو سرقة فعليه أرش اليد المقطوعة (وعند) الشافعي رحمة الله عليه الأرش
في الوجهين والكلام فيه راجع إلى أصل وقد تقدم ذكره وهو ان موجب العمد القصاص عينا عندنا في النفس وما
دونه (وعنده) أحدهما غير عين في قول وفى قول القصاص عينا لكن مع حق العدول إلى المال (وقد) ذكرنا هذا
الأصل بفروعه في بيان حكم الجناية على النفس الا انه إذا كان القطع بحق يجب الأرش لأنه قضى بالطرف حقا
مستحقا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ وغيره على ما مر ذكره وإذا ثبت هذا في الصحيحة
فنقول حق المجني عليه كان متعلقا باليد المعينة بعينها وإنما ينتقل عنها إلى الأرض عند اختياره فإذا لم يختر حتى هلكت
بقي حقه متعلقا باليد (فان قيل) أليس انه كان مخيرا بين القصاص والأرش فإذا فات أحدهما تعين الآخر قيل لابل
حقه كان في اليد على التعيين الا ان له ان يعدل عنه إلى بدله عند الاختيار فإذا هلك قبل الاختيار بقي حقه في اليد فإذا
هلكت فقد بطل محل الحق فبطل الحق أصلا ورأسا والله تعالى عز وجل الموفق (ولو كانت) يد القاطع صحيحة
وقت القطع ثم شلت بعده فلا حق للمقطوع في الأرش لان حقه ثبت في اليد عينا بالقطع فلا ينتقل إلى الأرش
بالنقصان كما إذا ذهب الكل بآفة سماوية انه يسقط حقه أصلا ولا ينتقل إلى الأرش لما قلنا كذا هذا ولا قصاص
الا فيما يقطع من المفاصل مفصل الزند أو مفصل المرفق أو مفصل الكتف في اليد أو مفصل الكعب أو مفصل
الركبة أو مفصل الورك في الرجل وما كان من غير المفاصل فلا قصاص فيه كما إذا قطع من الساعد أو العضد أو الساق
أو الفخذ لأنه يمكن استيفاء المثل من المفاصل ولا يمكن من غيرها (وليس) في لحم الساعد والعضد والساق والفخذ ولا
298

في الالية قصاص ولا في لحم الخدين ولحم الظهر والبطن ولا في جلدة الرأس وجلدة اليدين إذا قطعت لتعذر استيفاء
المثل ولا في اللطمة والوكزة والوجأة والدقة لما قلنا ولا يؤخذ العدد بالعدد فيما دون النفس مما يجب على أحدهما فيه
القصاص لو أنفرد كالاثنين إذا قطعا يد رجل أو رجله أو إصبعه أو أذهبا سمعه أو بصره أو قلعا سنا له أو نحو ذلك من
الجوارح التي على الواحد منها فيها القصاص لو أنفرد به فلا قصاص عليهما وعليهما الأرش نصفان وكذلك ما زاد
على الثلاث من العدد فهو بمنزلة الاثنين ولا قصاص عليهم وعليهم الأرش على عددهم بالسواء وهذا عندنا وعند الشافعي
يجب القصاص عليهم وان كثروا كما في النفس واحتج بما روى أن رجلين شهدا بين يدي سيدنا على رضى الله تعالى
عنه على رجل بالسرقة فامر بقطع يده ثم جاءا بآخر وقالا أوهمنا إنما السارق هذا يا أمير المؤمنين فقال سيدنا على رضى الله
تعالى عنه لا أصدقكما على هذا وأغرمكما دية الأول ولو علمت انكما تعمدتما لقطعت أيديكما فقد اعتقد سيدنا على رضى
الله تعالى عنه قطع اليدين بيد واحدة وإنما قال ذلك بمحضر من الصحابة رضى الله تعالى عنهم ولم ينقل انه أنكر عليه
أحد منهم فيكون اجماعا ولان اليد تابعة للنفس ثم الأنفس تقتل بنفس واحدة فكذا الأيدي تقطع بيد واحدة لان
حكم التبع حكم الأصل (ولنا) ان المماثلة فيما دون النفس معتبرة لما ذكرنا من الدلائل ولا مماثلة بين الأيدي ويد
واحدة لا في الذات ولا في المنفعة ولا في الفعل (أما) في الذات فلا شك فيه لأنه لا مماثلة بين العدد بين الفرد من حيث
الذات يحققه انه لا تقطع الصحيحة بالشلاء والفائت هو المماثلة من حيث الوصف فقط ففوات المماثلة في الوصف
لما منع جريان القصاص ففواتها في الذات أولى (وأما) في المنفعة فلان من المنافع ما لا يتأتى الا باليدين كالكتابة
والخياطة ونحو ذلك وكذا منفعة اليدين أكثر من منفعة يد واحدة عادة (وأما) في الفعل فلان الموجود من كل واحد
منهما قطع بعض اليد كأنه وضع أحدهما السكين من جانب والاخر من جانب آخر والجزاء قطع كل واحد من كل
واحد منهما وقطع كل اليد أكثر من قطع بعض اليد وانعدام المماثلة من وجه تكفى لجريان القصاص كيف وقد
انعدمت من وجوه وأما قول سيدنا علي رضي الله عنه فلا حجة له فيه لأنه إنما قال ذلك على سبيل السياسة بدليل
انه أضاف القطع إلى نفسه وذا لا يكون الا بطريق السياسة والله سبحانه وتعالى أعلم ولو قطع) رجل يميني رجلين
تقطع يمينه ثم إن حضرا جميعا فلهما ان يقطعا يمينه ويأخذا منه دية يد بينهما نصفين وهذا قول أصحابنا رحمهم الله وقال
الشافعي رحمه الله إذا كان على التعاقب يقطع للأول ويغرم الدية للثاني كما قال في القتل وإن كان على الاجماع يقرع
بينهما فيقطع لمن خرجت قرعته ويغرم للآخر الدية كما قال في النفس (وجه) قوله إنه إذا قطع على الترتيب صارت
يده حقا للأول فلا تصير حقا للثاني فتجب الدية للثاني وإذا قطع اليدين على الاجتماع فقد صارت يده حقا لأحدهما
غير عين وتتعين بالقرعة (ولنا) انهما استويا في سبب استحقاق القصاص فيستويان في الاستحقاق ودليل الوصف
ان سبب الاستحقاق قطع اليد وقد وجد قطع اليد في حق كل واحد منهما فيستحق كل واحد منهما قطع يده ولا يحصل
من كل واحد منهما في يد واحدة الا قطع بعضها فلم يستوف كل واحد منهما بالقطع الا بعض حقه فيستوفى الباقي من
الأرش ولان كل واحد منهما لما استوفى بعض حقه بقطع اليد صار القاطع قاضيا ببعض يده حقا مستحقا عليه
فيجعل كأن يده قائمة وتعذر استيفاء القصاص لعذر فتجب الدية (وقوله) صارت يده حقا لمن له القصاص ممنوع فان
ملك القصاص ليس ملك المحل بل هو ملك الفعل وهو اطلاق الاستيفاء لان حرية من عليه تمنع ثبوت الملك لأنها
تنبئ عن الخلوص والملك في المحل بثبوت فيه فينافيه الخلوص (والدليل) عليه انه لو قطعت يده بغير حق ثابت كانت
الدية له ولو صارت يده مملوكة لمن له القصاص لكانت الدية له دل ان ملك القصاص ليس هو ملك المحل بل ملك
الفعل وهو اطلاق الاستيفاء ولا تنافى فيه فاطلاق الاستيفاء للأول لا يمنع اطلاق استيفاء الثاني وهذا بخلاف
النفس ان الواحد يقتل بالجماعة اكتفاء لان هناك كل واحد منهم استوفى حقه في الكمال لان حقه في القتل وكل
واحد منهم استوفى القتل بكماله لما ذكرنا في الجناية على النفس فيما تقدم وان حضر أحدهما والآخر غائب فللحاضر
299

ان يقتص ولا ينتظر الغائب لما ذكرنا ان حق كل واحد منهما ثابت في كل اليد وإنما التمانع في استيفاء الكل بحكم
التزاحم بحكم المشاركة في الاستيفاء فإذا كان أحدهما غائبا فلا يزاحم الحاضر فكان له ان يستوفى كأحد الشفيعين إذا
حضر يقضى له بالشفعة في كل المبيع (ولان) حق الحاضر إذا كان ثابتا في كل اليد وأراد الاستيفاء والغائب قد يحضر
وقد لا يحضر وقد يطالب بعض الحضور وقد يعفو فلا يجوز تأخير حق الحاضر في الاستيفاء والمنع منه للحال بعد
طلبه لأمر يحتمل ولهذا قضى بالشفعة لاحد الشفيعين إذا حضر وطلب ولا ينتظر حضور الغائب كذا هذا وللآخر
دية يده على القاطع لأنه تعذر استيفاء حقه بعد ثبوته فيصار إلى البدل ولان القاطع قضى به حقا مستحقا عليه فيلزمه
الدية وان عفا أحدهما بطل حقه وكان للآخر القصاص إذا كان العفو قبل قضاء القاضي بالاجماع لان حق كل
واحد منهما ثابت في اليد على الكمال فالعفو من أحدهما لا يؤثر في حق الآخر كما في القصاص في النفس وكذلك
لو عدا أحدهما على القاطع فقطع يده فقد استوفى حقه فللآخر الدية لما ذكرنا (وأما) إذا قضى القاضي بالقصاص بينهما
ثم عفا أحدهما فللآخر ان يستوفى القصاص في قولهما استحسانا (وقال) محمد رحمه الله إذا قضى القاضي بالقصاص
في اليد بينهما نصفين وبدية اليد بينهما نصفين ثم عفا أحدهما بطل القصاص (وجه) قوله إن حق كل واحد منهما
وإن كان ثابتا في كل اليد لكن القاضي لما قضى بالقصاص بينهما فقد أثبت الشركة بينهما فصار حق كل واحد منهما
في البعض فإذا عفا أحدهما سقط البعض ولا يتمكن الاخر من استيفاء الكل (وجه) قولهما ان قضاء القاضي
بالشركة لم يصادف محله لان الشرع ما ورد بوجوب القطع في بعض اليد فيلحق بالعدم أو يجعل مجازا عن الفتوى كأنه
أفتى بما يجب لهما وهو ان يجتمعا على القطع ويأخذ الدية بينهما فكان عفو أحدهما بعد القضاء كعفوه قبله ولو قضى
القاضي بالدية بينهما فقبضاها ثم عفا أحدهما لم يكن للآخر القصاص وينقلب نصيبه مالانهما لما قبضا الدية فقد ملكاها
وثبوت الملك في الدية يقتضى ان لا يبقى الحق في كل اليد فسقط حق كل واحد منهما عن نصف اليد فإذا عفا أحدهما
لا يثبت للآخر ولاية استيفاء كل اليد (وكذلك) لو أخذ بالدية رهنا لان قبض الرهن قبض استيفاء لان الدين كأنه
في الرهن بدليل انه إذا هلك يسقط الدين فصار قبضهما الرهن كقبضهما الدين (ولو) أخذ بالدية كفيلا ثم عفا أحدهما
فللآخر القصاص لأنه ليس في الكفالة معنى الاستيفاء بل هو للتوثق لجانب الوجوب فكان الحكم بعد الكفالة
كالحكم قبلها (ولو قطع) من رجل يدية أو رجليه قطعت يداه ورجلاه لان استيفاء المثل ممكن ولو قطع من
رجل يمينه ومن آخر يساره قطعت يمينه لصاحب اليمين ويساره لصاحب اليسار لان تحقيق الماثلة فيه وانه
ممكن (فان قيل) القاطع ما أبطل عليهما منفعة الجنسين فكيف تبطل عليه منفعة الجنس فالجواب إن كان
واحد منهما ما استحق عليه الا قطع يد واحدة وليس في قطع يد واحدة تفويت منفعة الجنس فكان الجزاء
مثل الجناية الا ان فوات منفعة الجنس عند اجتماع الفعلين حصل ضرورة غير مضاف إليهما ولو قطع إصبع
رجل كلها من المفصل ثم قطع يد آخر أو يدا باليد ثم يقطع الإصبع وذلك كله في يد واحدة في اليمين أو في اليسار
فلا يخلو (اما) ان جاءا جميعا يطلبان القصاص واما ان جاءا متفرقين فان جاءا جميعا يبدأ بالقصاص في الإصبع فتقطع
الإصبع بالإصبع ثم يخير صاحب اليد فان شاء قطع ما بقي وان شاء أخذ دية يده من مال القطع لان حق كل
واحد منهما في مثل ما قطع منه فحق صاحب اليد في قطع اليد وحق صاحب الإصبع في قطع الإصبع فيجب
ايفاء حق كل واحد منهما بقدر الامكان وذلك في البداية بالقصاص في الإصبع لأنا لو بدأنا بالقصاص
في اليد لبطل حق صاحب الإصبع في القصاص أصلا ورأسا ولو بدأنا بالقصاص في الإصبع لم يبطل
حق الآخر في القصاص أصلا ورأسا لأنه يتمكن من استيفائه مع النقصان فكانت البداية بالإصبع أولى
وإنما خير صاحب اليد بعد قطع الإصبع لان الكف صارت معيبة بقطع الإصبع فوجد حقه ناقصا فيثبت له الخيار
كالأشل إذا قطع يد الصحيح وان جاءا متفرقين فان جاء صاحب اليد وصاحب الإصبع غائب تقطع اليد لصاحب
اليد لان حق صاحب اليد ثابت في اليد فلا يجوز منعه من استيفاء حقه لحق غائب يحتمل أن يحضر ويطالب ويحتمل
300

ان لا يحضر ولا يطالب فان جاء صاحب الإصبع بعد ذلك أخذ الأرش لتعذر استيفاء حقه عليه بعد ثبوته فيأخذ
بدله ولان القاطع قضى بطرفه حقا مستحقا عليه فصار كأنه قائم وتعذر الاستيفاء لمانع فيلزمه الأرش وان جاء
صاحب الإصبع وصاحب اليد غائب تقطع الإصبع لصاحب الإصبع لما ذكرنا في صاحب اليد ثم إذا
جاء صاحب اليد بعد ذلك أخذ الأرش لما قلنا ولو قطع إصبع رجل من مفصل ثم قطع إصبع رجل آخر من
مفصلين ثم قطع إصبع آخر كلها وذلك كله في إصبع واحدة فهو على التفصيل الذي ذكرنا ان الامر لا يخلو (اما)
ان جاؤوا جميعا يطلبون القصاص واما ان جاؤوا متفرقين فان جاؤوا جميعا يبدأ بقطع المفصل الاعلى لصاحب الاعلى
ثم يخير صاحب المفصلين فان شاء استوفى الأوسط بحقه كله ولا شئ له من الأرش وان شاء أخذ ثلثي دية إصبعه
من ماله ثم يخير صاحب الإصبع فان شاء أخذ ما بقي بأصبعه وان شاء أخذ دية أصبعه من مال الذي قطعها وإنما
كان كذلك لما بينا ان حق كل واحد منهما في مثل ما قطع منه فيجب ايفاء حقوقهم بقدر الامكان وذلك في البداية بما
لا يسقط حق بعضهم وهو ان يبدأ بقطع المفصل الاعلى لصاحب الاعلى لان البداية لا تبطل حق الباقين في
القصاص أصلا لامكان استيفاء حقيهما مع النقصان وفى البداية بالقصاص في الإصبع ابطال حق الباقين أصلا
ورب رجل يختار القصاص وإن كان ناقصا تشفيا للصدر وإذا قطع منه المفصل الاعلى لصاحب الاعلى
يخير الباقين لان كل واحد منهما وجد حقه ناقصا لحدوث العيب بالطرف وان جاؤوا متفرقين فان جاء صاحب
الإصبع أولا تقطع له الإصبع لما ذكرنا في المسألة المتقدمة فإذا جاء الباقيان بعد ذلك يقضى لهما بالأرش لصاحب
المفصل الاعلى ثلث دية الإصبع ولصاحب المفصلين ثلثا دية الإصبع لما قلنا وان جاء صاحب المفصلين أولا
يقطع له المفصلان لما ذكرنا في المسألة المتقدمة ويقضى لصاحب المفصل الاعلى بالأرش لما مر وصاحب
الإصبع بالخيار ان شاء أخذ ما بقي واستوفى حقه ناقصا وان شاء أخذ دية الإصبع لما مر وان جاء صاحب الاعلى
أولا فهو كما إذا جاؤوا معا وقد ذكرنا حكمه والله سبحانه وتعالى أعلم ولو قطع كف رجل من مفصل ثم قطع يد آخر من
المرفق أو بدأ بالمرفق ثم بالكف وهما في يد واحدة في اليمين أو في اليسار ثم اجتمعا فان الكف يقطع لصاحب
الكف ثم يخير صاحب المرفق فان شاء قطع ما بقي بحقه كله وان شاء أخذ الأرش لما بينا وان جاء أحدهما والآخر
غائب فان جاء صاحب الكف قطع له الكف ولا ينتظر الغائب لما مر ثم إذا جاء صاحب المرفق أخذ الأرش وان
جاء صاحب المرفق أولا يقطع له المرفق أولا ثم إذا جاء صاحب اليد بعد ذلك يأخذ أرش اليد والله سبحانه وتعالى
أعلم ولو قطع المفصل الاعلى من سبابة رجل ثم عاد فقطع المفصل الثاني منها فعليه القصاص من الفصل الأول ولا
قصاص عليه في المفصل الثاني وعليه قيمة الأرش وكذلك لو قطع إصبع رجل من أصلها ثم قطع الكف التي منها
الإصبع كان عليه القصاص في الإصبع ولا قصاص عليه في الكف وعليه الأرش في الكف ناقصة بأصبع
وكذلك لو قطع يد رجل وهي صحيحة ثم قطع ساعده من المرفق من اليد التي قطع منها الكف عليه في اليد القصاص ولا
قصاص عليه في الساعد بل فيه أرش حكومة كذا روى عن أبي حنيفة رضي الله عنه ولم يفصل بين ما إذا كانت
الجناية الثانية بعد برء الأولى أو قبلها وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كانت الثانية بعد برء الأولى فهما
جنايتان متفرقتان وإن كانت قبل البرء فهي جناية واحدة ذكر قولهما في الزيادات (وجه) قولهما ان الجنايتين إذا
كانتا قبل البرء فهما في حكم جناية واحده بدليل ان من قطع يد رجل خطأ ثم قتله وجبت عليه دية واحدة فصار كأنه قطع
المفصلين معا بضربة واحدة فيجب القصاص فيهما وإذا برئت الأولى فقد استقرت حكمها فكانت الثانية
جناية مفردة في مفصل مفرد فتفرد بحكمها فيجب القصاص في الأولى والأرش في الثانية ولأبي حنيفة رضي الله عنه
ان وقت قطع المفصل الاعلى كانت الإصبعان صحيحتين أعنى إصبع القاطع والمقطوع له المفصل أولا فكانت
بين الإصبعين مماثلة فأمكن استيفاء القصاص على وجه المماثلة ولم يكن بينهما مماثلة وقت قطع المفصل الثاني لان
301

إصبع القاطع كامل وقت القطع فيكون استيفاء الكامل بالناقص وهذا لا يجوز فان قيل وقت قطع المفصل الثاني كان
القصاص مستحقا في المفصل الاعلى من القاطع والمستحق كالمستوفي فكان استيفاء الناقص بالناقص فالجواب
عنه من وجهين أحدهما ان نفس الاستحقاق لا يوجب النقصان بدليل انه لو جاء الأجنبي وقطع ذلك المفصل عمدا
وجب القصاص عليه ولو ثبت القصاص بنفس الاستحقاق لما وجب فثبت ان النقصان لا يثبت بمجرد
الاستحقاق وإنما يثبت بالاستيفاء ولم يوجد فلو وجب النقصان لكان استيفاء الكامل بالناقص والثاني ان سلم
ان النقصان يثبت بنفس الاستحقاق والوجوب لكن حكما لا حقيقة والأول ناقص حقيقة فلم يكن بينهما مماثلة
ولو قطع المفصل الاعلى منها فاقتص منه ثم قطع المفصل الثاني وبرئ اقتص منه لان إصبع القاطع كانت ناقصة وقت
قطع المفصل الثاني فيكون استيفاء الناقص بالناقص فتحققت المماثلة ولو كان غيره قطع المفصل الاعلى منها ثم قطع
هو المفصل الثاني منها فلا قصاص عليه لانعدام المساواة بين إصبع القاطع والمقطوع وعليه ثلث دية اليد ولو قطع
المفصل الاعلى فبرأ ثم قطع المفصل الثاني فمات فالولي بالخيار ان شاء قطع المفصل ثم قتل لان فيه استيفاء مثل حقه
في القطع والقتل وان شاء ترك المفصل وقتل لان في اتلاف النفس اتلاف الطرف فكان المقصود حاصلا بخلاف
ما إذا كانت الجنايتان من رجلين فمات من إحداهما دون الأخرى انه إن كان ذلك كله عمدا فعلى صاحب النفس
القصاص في النفس وعلى صاحب الجناية فيما دون النفس القصاص في ذلك إن كان يستطاع وإن كان لا يستطاع
فالأرش وإن كان ذلك خطأ فعلى صاحب النفس دية النفس وعلى صاحب الجراحة فيما دون النفس أرش ذلك
وإن كان أحدهما عمدا والآخر خطأ فعلى العامد القصاص وعلى الخاطئ الأرش ولا يدخل أحدهما في الآخر
سواء كان بعد البرء أو قبل البرء ولان الجنايتين إذا كانتا من شخص واحد يمكن جعلهما كجناية واحدة كأنهما
حصلا بضربة واحدة وإذا كانتا من شخصين لا يمكن ان يجعلا كجناية واحدة لان جعل فعل أحدهما فعل
الآخر لا يتصور فلا بد ان نعتبر فعل كل واحد منهما بانفراده سواء برأت الجناية الأولى أو لم تبرأ على ما نبين إن شاء الله
تعالى ولو قطع من رجل نصف المفصل الاعلى من السبابة ثم قطع نصف المفصل الباقي إن كان قبل البرء يقتص منه
فيقطع منه المفصل كله لأنه إذا كان قبل البرء صار كأنه قطع المفصلين جميعا بضربة واحدة ولو كان كذلك يقتص منه
ويقطع منه المفصل كله كذا هذا وإن كان بعد البرء لا يقتص منه وتجب حكومة العدل في كل نصف لأنه لا يمكن
استيفاء القصاص من نصف المفصل وليس له أرش مقدر فتجب حكومة العدل ولو قطع رجل من نصف المفصل
الاعلى من السبابة ثم عاد فقطع المفصل الثاني فإن كان قبل البرء فلا قصاص عليه وعليه القصاص في المفصل
والحكومة في نصف المفصل لأنه يصير كأنه قطعهما دفعة واحدة ولو فعل ذلك لا قصاص عليه لتعذر الاستيفاء بصفة
المماثلة فكان عليه الأرش في المفصل وحكومة العدل في نصف المفصل كذا هذا وإن كان بعد البرء يجب القصاص
في المفصل وحكومة العدل في نصف المفصل لأنه إذا برئ الأول فقد استقر حكمه والاستيفاء بصفة المماثلة ممكن
فثبت ولاية الاستيفاء فلا يمكن استيفاء القصاص في نصف المفصل وليس له أرش مقدر فتجب فيه حكومة العدل
ولو قطع من رجل يمينه من المفصل فاقتص منه ثم إن أحدهما قطع من الآخر الذراع من المرفق فلا قصاص فيه
وفيه حكومة العدل عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وقال زفر رحمهم الله يجب القصاص كذا ذكر القاضي الخلاف
في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله وذكر الكرخي عليه الرحمة الخلاف بين أبي حنيفة وأبى يوسف رضي الله عنهما
(وجه) قول أبى يوسف وزفر ان استيفاء القصاص على سبيل المماثلة ممكن لان المحلين استويا والمرفق
مفصل فكان المثل مقدور الاستيفاء فلا معنى للمصير إلى الحكومة كما لو قطع يد انسان من فصل الزند ولأبي
حنيفة ومحمد ان القصاص فيما دون النفس يعتمد المساواة في الأرش لان ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال
لما بينا والمساواة في اتلاف الأموال معتبرة ولهذا لا يجرى القصاص بين طرفي الذكر والأنثى والحر والعبد
302

لاختلاف الأرش وههنا لا يعرف التساوي في الأرش لان أرش الذراع حكومة العدل وذلك يكون بالحرز والظن
فلا يعرف التساوي بين أرشيهما لان قطع للكف يوجب وهن الساعد وضعفه وليس له أرش مقدر وقيمة الوهن
والضعف فيه لا تعرف الا بالحزر والظن فلا تعرف المماثلة بين أرشي الساعدين فيمتنع وجوب القصاص وعلى
هذا الخلاف إذا قطع يد رجل وفيها إصبع زائدة وفى يد القاطع إصبع زائدة مثل ذلك أنه لا قصاص عند أبي
حنيفة ومحمد وفيهما حكومة العدل وعند أبي يوسف يجب القصاص لوجود المساواة بين اليدين ولهما ان الإصبع
الزائدة في الكف نقص فيها وعيب وهو نقص يعرف بالحزر والظن فلا تعرف المماثلة بين الكفين ولو قطع أصبعا
زائدة وفى يده مثلها فلا قصاص عليه بالاجماع لان الإصبع الزائدة في معنى التزلزل ولا قصاص في المتزلزل ولأنها
نقص ولا تعرف قيمة النقصان الا بالحزر والظن ولأنه ليس لهما أرش مقدر فلا تعرف المماثلة ولو قطع الكف التي
فيها أصبع زائدة فإن كانت تلك الإصبع توهن الكف وتنقصها فلا قصاص فيها وإن كانت لا تنقصها ففيها
القصاص ولا قصاص بين الأشلين كذا روى الحسن عن أبي حنيفة سواء كانت يد المقطوعة يده أقلهما شللا
أو أكثر أو هما سواء وهو قول أبى يوسف وقال زفر إن كانا سواء ففيهما القصاص وإن كانت يد المقطوعة يده أقلهما
شللا كان بالخيار ان شاء قطع يد القاطع وان شاء ضمنه أرش يده شلاء وإن كانت يد المقطوعة يده أكثرهما شللا فلا
قصاص وله أرش يده والصحيح قولنا لان بعض الشلل في يديهما يوجب اختلاف أرشيهما وذلك يعرف بالحزر
والظن فلا تعرف المماثلة وكذلك مقطوع الابهام كلها إذا قطع يدا مثل يده لم يكن بينهما قصاص في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف لان قطع الابهام يوهن الكف ويسقط تقدير الأرش فلا يعرف الا بالحزر والظن فلا تعرف المماثلة
ولو قطع يد رجل ثم قتله فإن كان بعد البرء لا تدخل اليد في النفس بلا خلاف والولي بالخيار ان شاء قطع يده ثم قتله وان
شاء اكتفى بالقتل وان شاء عفا عن النفس وقطع يده وإن كان قبل البرء فكذلك في قول أبي حنيفة وفى قولهما
تدخل اليد في النفس وله ان يقتله وليس له ان يقطع يده (وجه) قولهما ان الجناية على ما دون النفس إذا لم يتصل بها
البرء لا حكم لها مع الجناية على النفس في الشريعة بل يدخل ما دون النفس في النفس كما إذا قطع يده خطأ ثم قتله قبل
البرء حتى لا يجب عليه الا دية النفس ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان حق المجني عليه في المثل وذلك في القطع والقتل
والاستيفاء بصفة المماثلة ممكن فإذا قطع المولى يده ثم قتله كان مستوفيا للمثل فيكون الجزاء مثل الجناية جزاء وفاقا
بخلاف الخطأ لان المثل هناك غير مستحق بل المستحق غير المثل لان المال ليس بمثل النفس وكان ينبغي أن لا يجب
أصلا الا ان وجوبه ثبت معدولا به عن الأصل عند استقرار سبب الوجوب فبقيت الزيادة حال عدم استقرار
السبب لعدم البرء مردودة إلى حكم الأصل والله تعالى أعلم هذا إذا كانا جميعا عمدا فاما إذا كانا جميعا خطأ فإن كان بعد
البرء لا يدخل ما دون النفس في النفس وتجب دية كاملة ونصف دية تتحمله العاقل وتؤدى في ثلاث سنين في السنة
الأولى ثلثا الدية ثلث من الدية الكاملة وثلث من نصف الدية وفى السنة الثانية نصف الدية ثلث من الدية الكاملة
وسدس من النصف وفى السنة الثالثة ثلث الدية لان الدية الكاملة تؤدى في ثلاث سنين ونصف الدية يؤدى في
سنتين من الثلاث وهذا يوجب أن يكون قدر المؤدى منهما وإنما لم يدخل ما دون النفس في النفس لان الأول لما
برأ فقد استقر حكمه فكان الباقي جناية مبتدأة بحكمها وإن كان قبل البرء يدخل ما دون النفس في النفس وتجب
دية واحدة لان حكم الأول لم يستقر وإن كان أحدهما عمدا والآخر خطأ لا يدخل ما دون النفس في النفس بل
يعتبر كل واحد منهما بحكمه سواء كان بعد البرء أو قبله لان العمد مع الخطأ جنايتان مختلفتان فلا يحتملان التداخل
فيعطى لكل واحد منهما حكم نفسها فيجب في العمد القصاص وفى الخطأ الأرش هذا كله إذا كان الجاني واحدا
فقطع ثم قتل فاما إذا كانا اثنين فقطع أحدهما يده ثم قتله الآخر فلا يدخل ما دون النفس في النفس كيف ما كان بعد
البرء أو قبله لان الأصل اعتبار كل جناية بحيالها لان كل واحدة منهما جناية على حدة فكان الأصل عدم التداخل
303

وافراد كل جناية بحكمها الا ان عند اتحاد الجاني وعدم البرء قد يجعلان كجناية واحدة كأنهما حصلا بضربة واحدة
تقديرا ولا يمكن هذا التقدير عند اختلاف الجاني لاستحالة أن يكون فعل كل واحد منهما فعلا لصاحبه حقيقة
فتعذر التقدير فبقي فعل كل واحد منهما جناية مفردة حقيقة وتقديرا فيفرد حكمها فإن كانتا جميعا عمدا يجب القصاص
على كل واحد منهما من القطع والقتل وإن كانتا جميعا خطأ يجب الدية عليهما يتحمل عنهما عاقلتهما في القطع والقتل
وإن كان أحدهما عمدا والاخر خطأ يجب القصاص في العمد والأرش في الخطأ ولو قطع أصبع يد رجل عمدا وقطع
آخر يده من الزند فمات فالقصاص على الثاني في قول أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر رحمة الله عليهما جميعا وبه
أخذ الشافعي (وجه) قول زفر ان السراية باعتبار الألم والقطع الأول اتصل ألمه بالنفس وتكامل بالثاني فكانت
السراية مضافة إلى الفعلين فيجب القصاص عليهما (ولنا) أن السراية باعتبار الآلام المترادفة التي لا تتحملها النفس
إلى أن يموت وقطع اليد يمنع وصول الألم من الإصبع إلى النفس فكان قطعا للسراية فبقيت السراية مضافة إلى قطع اليد
وصار كما لو قطع الإصبع فبرئت ثم قطع آخر يده فمات وهناك القصاص على الثاني كذا هذا بل أولى لان القطع
في المنع من الأثر وهو وصول الألم إلى النفس فوق البرء إذ البرء يحتمل الانتقاص والقطع لا يحتمل ثم زوال الأثر
بالبرء يقطع السراية فزواله بالقطع كان أولى وأحرى ولو جنى على ما دون النفس فسرى فالسراية لا تخلو اما إن كانت
إلى النفس واما إن كانت إلى عضو آخر فإن كانت إلى النفس فالجاني لا يخلو اما إن كان متعديا في الجناية واما ان لم يكن
فإن كان متعديا في الجناية والجناية بحديد أو بخشبة تعمل عمل السلاح فمات من ذلك فعليه القصاص سواء كانت
الجناية مما توجب القصاص لو برئت أو لا توجب كما إذا قطع يد انسان من الزند أو من الساعد أو شجة موضحة أو آمة أو
جائفة أو أبان طرفان من أطرافه أو جرحه جراحة مطلقة فمات من ذلك فعليه القصاص لأنه لما سرى بطل حكم ما دون
النفس وتبين انه وقع قتلا من حين وجوده وللولي أن يقتله وليس له أن يفعل به مثل ما فعل حتى لو كان قطع يده ليس له
أن يقطع يده عندنا وعند الشافعي رحمه الله انه يفعل به مثل ما فعل فان مات من ذلك والا قتله وكذلك إذا قطع رجل
يد رجل ورجليه فمات من ذلك تحز رقبته عندنا وعنده يفعل به مثل ما فعل وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم ولو قطع
يده فعفا المقطوع عن القطع ثم سرى إلى النفس ومات فان عفا عن الجناية أو عن القطع وما يحدث منه أو الجراحة وما
يحدث منها فهو عن النفس بالاجماع وان عفا عن القطع أو الجراحة ولم يقل وما يحدث منها لا يكون عفوا عن النفس
وعلى القاطع دية النفس في ماله في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفى قولها يكون عفوا عن النفس ولا شئ عليه
والمسألة بأخواتها قد مرت في مسائل العفو عن القصاص في النفس ولو كان له رجل قصاص في النفس فقطع
يده ثم عفا عن النفس وبرأت اليد ضمن دية اليد في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه (وجه)
قولهما ان نفس القاتل بالقتل صارت حقا لولى القتيل والنفس اسم لجملة الاجزاء فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه
فلا يضمن ولهذا لو قطع يده ثم قتله لا يجب عليه ضمان اليد ولو لم تكن اليد حقه لوجب الضمان عليه دل انه بالقطع
استوفى حقه نفسه فبعد ذلك ان عفا عن النفس فالعفو ينصرف إلى القائم لا إلى المستوفى كمن استوفى بعض ديته ثم
أبرأ الغريم ان الابراء ينصرف إلى ما بقي لا إلى المستوفى كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان حق من له القصاص
في الفعل وهو القتل لا في المحل وهو النفس أو يقال حقه في النفس لكن في القتل لا في حق القطع لان حقه في المثل
والموجود منه القتل لا القطع ومثل القتل هو القتل فكان أجنبيا عن اليد فإذا قطع اليد فقد استوفى ما ليس بحق له وهو
متقوم فيضمن وكان القياس أن يجب القصاص الا انه سقط للشبهة فتجب الدية الا انه إذا قطع اليد ثم قتله لا يجب
عليه ضمان اليد وإن كان متعديا في القطع مسيئا فيه لأنه لا قيمة لها مع اتلاف النفس بالقصاص فلا يضمن كما لو قطع يد
مرتد انه لا يضمن وإن كان متعديا في القطع لما قلنا كذا هذا ولأنه كان مخيرا بين القصاص وبين العفو فإذا عفا
استند العفو إلى الأصل كأنه عفا ثم قطع فكان القطع استيفاء غير حقه فيضمن هذا إذا كان متعديا في الجناية على
304

ما دون النفس فأما إذا لم يكن متعديا فيها فلا يجب القصاص للشبهة وتجب الدية في بعضها ولا تجب في البعض وبيان
ذلك في مسائل إذا قطع يد رجل عمدا حتى وجب عليه القصاص فقطع الرجل يده فمات من ذلك ضمن الدية في قول
أبي حنيفة رحمه الله وفى قولهما لا شئ عليه ولو قطع الامام يد السارق فمات منه لا ضمان على الامام ولا على بيت
المال وكذلك الفصاد والبزاغ والحجام إذا سرت جراحاتهم لا ضمان عليهم بالاجماع (وجه) قولهما ان الموت
حصل بفعل مأذون فيه وهو القطع فلا يكون مضمونا كالامام إذا قطع يد السارق فمات منه ولأبي حنيفة رضي الله عنه
انه استوفى غير حقه لان حقه في القطع وهو أتى بالقتل لان القتل اسم لفعل يؤثر في فوات الحياة عادة وقد وجد
فيضمن كما إذا قطع يد انسان ظلما فسرى إلى النفس وكان القياس أن يجب القصاص الا انه سقط للشبهة فتجب الدية
وهكذا نقول في الامام ان فعله وقع قتلا الا انه لا سبيل إلى ايجاب الضمان للضرورة لان إقامة الحد مستحقة عليه
والتحرز عن السراية ليس في وسعه فلو أوجبنا الضمان لامتنع الأئمة عن الإقامة خوفا عن لزوم الضمان وفيه تعطيل
الحدود والقطع ليس بمستحق على من له القصاص بل هو مخير فيه والأولى هو العفو ولا ضرورة إلى اسقاط الضمان
بعد وجود سببه ولو ضرب امرأته للنشوز فماتت منه يضمن لان المأذون فيه هو التأديب لا القتل ولما اتصل به
الموت تبين انه وقع قتلا ولو ضرب الأب أو الوصي الصبي للتأديب فمات ضمن في قول أبي حنيفة رضي الله عنه
وفى قولهما لا يضمن وجه قولهما ان الأب والوصي مأذونان في تأديب الصبي وتهذيبه والمتولد من الفعل المأذون فيه
لا يكون مضمونا كما لو عزر الامام انسانا فمات (وجه) قول أبي حنيفة رضي الله عنه ان التأديب اسم لفعل يبقى
المؤدب حيا بعده فإذا سرى تبين انه قتل وليس بتأديب وهما غير مأذونين في القتل ولو ضربه المعلم أو الأستاذ فمات
إن كان الضرب بغير أمر الأب أو الوصي يضمن لأنه متعد في الضرب والمتولد منه يكون مضمونا عليه وإن كان باذنه
لا يضمن للضرورة لان المعلم إذا علم أنه يلزمه الضمان بالسراية وليس في وسعه التحرز عنها يمتنع عن التعليم فكان في
التضمين سد باب التعليم والناس حاجة إلى ذلك فسقط اعتبار السراية في حقه لهذه الضرورة وهذه الضرورة لم
توجد في الأب لان لزوم الضمان لا يمنعه عن التأديب لفرط شفقته على ولده فلا يسقط اعتبار السراية من غير ضرورة
ولو قطع يد مرتد فأسلم ثم مات فلا شئ على القاطع وهذا يؤيد مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في اعتبار وقت الفعل
والأصل في هذا ان الجناية إذا وردت على ما ليس بمضمون فالسراية لا تكون مضمونة لأن الضمان يجب بالفعل
السابق والفعل صادف محلا غير مضمون وكذلك لو قطع يد حربي ثم أسلم ثم مات من القطع انه لا شئ على القاطع
لان الجناية وردت على محل غير مضمون فلا تكون مضمونة وهكذا لو قطع يد عبده ثم أعتقه ثم مات لم يضمن السراية
لان يد العبد غير مضمونة في حقه ولو قطع يده وهو مسلم ثم ارتد والعياذ بالله ثم مات فعلى القاطع دية اليد لا غير لأنه أبطل
عصمة نفسه بالردة فصارت الردة بمنزلة الابراء عن السراية ولو رجع إلى الاسلام ثم مات فعلى القاطع دية النفس في
قولهما وعند محمد عليه دية اليد لا غير وجه قوله على نحو ما ذكرنا انه لما ارتد فكأنه أبرأ القاطع عن السراية وجه قولهما
ان الجناية يتعلق حكمها بالابتداء أو بالانتهاء وما بينهما لا يتعلق به حكم والمحل ههنا مضمون في الحالين فكانت الجناية
مضمونة فيهما فلا تعتبر الردة العارضة فيما بينهما (وأما) قول محمد الردة بمنزلة البراءة فنعم لكن بشرط الموت عليها لان
حكم الردة موقوف على الاسلام والموت وقد كانت الجناية مضمونة فوقف حكم السراية أيضا وكذلك لو لحق بدار
الحرب ولم يقض القاضي بلحوقه ثم رجع الينا مسلما ثم مات من القطع فهو على هذا الخلاف وإن كان القاضي قضى
بلحوقه ثم عاد مسلما ثم مات من القطع فعلى القاطع دية يده لا غير بالاجماع لان لحوقه بدار الحرب يقطع حقوقه بدليل
انه يقسم ماله بين ورثته بعد اللحوق ولا يقسم قبله فصار كالابراء عن الجناية ولو قطع يد عبد خطأ فاعتقه مولاه ثم مات
منها فلا شئ على القاطع غير أرش اليد وعتقه كبرء اليد لان السراية لو كانت مضمونة على الجاني فاما أن تكون
مضمونة عليه للمولى (واما) أن تكون مضمونة عليه للعبد لا سبيل إلى الأول لان المولى ليس بمالك له بعد العتق ولا
305

وجه للثاني لما ذكرنا أن السراية تكون تابعة للجناية فالجناية لما لم تكن مضمونة للعبد لا تكون سرايتها مضمونة له وهذا
قلنا إذا باعه المولى بعد القطع سقط حكم السراية وليس قطع اليد في هذا مثل الرمي في قول أبي حنيفة رحمه الله حيث
أوجب عليه بالرمي القيمة ان أعتقه المولى ولم يوجب في القطع الا أرش اليد لما ذكرنا أن الرمي سبب الإصابة لا محالة
فصار جانيا به وقت الرمي (فاما) القطعة بموجب للسراية لا محالة والله تعالى أعلم وإن كان قطع يد العبد عمدا
فاعتقه مولاه ثم مات العبد ينظر إن كان المولى هو وارثه لا وارث له غيره فله أن يقتل الجاني في قولهما خلافا لمحمد وقد
مرت المسألة وإن كان له وارث غيره يحجبه عن ميراثه ويدخل معه في ميراثه فلا قصاص لاشتباه الولي على ما مر
ولو لم يعتقه بعد القطع ولكنه دبره أو كانت أمة فاستولدها فإنه لا تنقطع السراية ويجب نصف القيمة ويجب ما نقص
بعد الجناية قبل الموت هذا إذا كان خطأ وإن كان عمدا فللمولى أن يقتص بالاجماع ولو كاتبه والمسألة بحالها
فبالكتابة برئ عن السراية فيجب نصف القيمة للمولى فإذا مات وكان خطأ لا يجب عليه شئ آخر وإن كان عمدا
فإن كان عاجزا فللمولى ان يقتص لأنه مات عبدا وان مات عن وفاء فقد مات حرا فينظر إن كان له وارث يحجب
المولى أو يشاركه فلا قصاص عليه ويجب عليه أرش اليد لا غير وان لم يكن له وارث غير المولى فللمولى أن يقتص
عندهما وعند محمد رحمه الله ليس له ان يقتص وعليه أرش اليد لا غير وإن كان القطع بعد الكتابة فمات وكان القطع خطأ
أو مات عاجزا فالقيمة للمولى وان مات عن وفاء فالقيمة للورثة وإن كان عمدا فان مات عاجزا فللمولى أن يقتص وان
مات عن وفاء مات حرا ثم ينظر إن كان مع المولى وارث يحجبه أو يشاركه في الميراث فلا قصاص وان لم يكن له وارث
غير المولى فعلى الاختلاف الذي ذكرنا والله تعالى أعلم هذا إذا كانت السراية إلى النفس فاما إذا كانت إلى العضو
فالأصل أن الجناية إذا حصلت في عضو فسرت إلى عضو آخر والعضو الثاني لا قصاص فيه فلا قصاص في الأول
أيضا وهذا الأصل يطرد على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة في مسائل إذا قطع إصبعا من يد رجل فشلت الكف فلا
قصاص فيهما وعليه دية اليد بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله لان الموجود من القاطع قطع مشل للكف ولا يقدر
المقطوع على مثله فلم يكن المثل ممكن الاستيفاء فلا يجب القصاص ولان الجناية واحدة فلا يجب بها ضمانان مختلفان
وهو القصاص والمال خصوصا عند اتحاد المحل لان الكف مع الإصبع بمنزلة عضو واحد وكذا إذا قطع مفصلا من
إصبع فشل ما بقي أو شلت الكف لما قلنا فان قال المقطوع أنا أقطع المفصل وأترك ما يبس ليس له ذلك لان الجناية
وقعت غير موجبة للقصاص من الأصل لعدم امكان الاستيفاء على وجه المماثلة على ما بينا فكان الاقتصار على
البعض استيفاء ما لاحق له فيه فيمنع من ذلك كما لو شجه منقلة فقال المشجوج أنا أشجه موضحة وأترك أرش
ما زاد لم يكن له ذلك وكذلك إذا كسر بعض سن انسان واسود ما بقي فليس في شئ من ذلك قصاص لان قصاصه
هو كسر مسود للباقي وذلك غير ممكن ولان الجناية واحدة فلا توجب ضمانين مختلفين ولو قطع إصبعا فشلت إلى جنبها
أخرى فلا قصاص في شئ من ذلك في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه دية الإصبعين وقال أبو يوسف ومحمد
وزفر والحسن في الأول لا قصاص وفى الثاني الأرش وجه قولهم إن المحل متعدد والفعل يتعدد بتعدد المحل حكما وإن كان
متحدا حقيقة لتعدد أثره وههنا تعدد الأثر فيجعل فعلين فيفرد كل واحد منهما بحكمه فيجب القصاص في الأول
والدية في الثاني كما لو قطع إصبع انسان فانسل السكين إلى إصبع أخرى خطأ فقطعها حتى يجب القصاص في الأول
والدية في الثاني وكما لو رمى سهما إلى إنسان فأصابه ونفذ منه وأصاب آخر حتى يجب القصاص في الأول والدية في
الثاني لما قلنا وكذلك هذا وإذا تعددت الجناية تفرد كل واحد منهما بحكمها فيجب القصاص في الأولى
والأرش في الثانية وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه ما ذكرنا أن المستحق فيما دون النفس هو المثل والمثل وهو القطع
المشل ههنا غير مقدور الاستيفاء فلا يثبت الاستحقاق ولان الجناية متحدة حقيقة وهي قطع الإصبع وقد تعلق به
ضمان المال فلا يتعلق به ضمان القصاص بخلاف ما إذا قطع إصبعا عمدا فنفذ السكين إلى أخرى خطأ لان الموجود
306

هناك فعلا حقيقة فجاز أن يفرد كل واحد منهما بحكم وفى مسألة الرمي جعل الفعل المتحد حقيقة متعددا شرعا بخلاف
الحقيقة ومن ادعى خلاف الحقيقة ههنا يحتاج إلى الدليل ولو قطع إصبعا فسقطت إلى جنبها أخرى فلا قصاص في
شئ من ذلك في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما في ظاهر الرواية عنهما يجب في الأول القصاص وفى الثاني
الأرش وفى رواية ابن سماعة عن محمد انه يجب القصاص فيهما لان من أصله على هذه الرواية أن الجراحة التي فيها
القصاص إذا تولد منها ما يمكن فيه القصاص يجب القصاص فيهما جميعا وههنا يمكن وفيما إذا قطع إصبعا فشلت أخرى
بجنبها لا يمكن فوجب القصاص في الأولى والأرش في الثانية وجه ظاهر قولهما على نحو ما ذكرنا فيما تقدم أن المحل
متعدد وانه يوجب تعدد الفعل عند تعدد الأثر وقد وجد ههنا فيجعل كجنايتين مختلفتين فيتعلق بكل واحدة منهما
حكمها ولأبي حنيفة رضي الله عنه انه لا سبيل إلى استيفاء القصاص على وجه المماثلة لان ذلك هو القطع المسقط
للإصبع وذلك غير ممكن ولان الجناية واحدة حقيقة فلا توجب الا ضمانا واحدا وقد وجب المال فلا يجب القصاص
ولو قطع إصبع رجل عمدا فسقطت الكف من المفصل فلا قصاص في ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وفيه دية
اليد لان استيفاء المثل وهو القطع المسقط للكف متعذر فيمتنع الوجوب ولان الكف مع الإصبع كعضو واحد
فكانت الجناية واحدة حقيقة وحكما وقد تعلق بهما ضمان المال فلا يتعلق بهما القصاص وقال أبو يوسف يقتص
منه فتقطع يده من المفصل فرق أبو يوسف بين هذا وبين ما إذا قطع إصبعا فسقطت أخرى إلى جنبها انه لا يجب
القصاص في الثانية لان الإصبع جزء من الكف والسراية تتحقق من الجزء إلى الجملة كما تتحقق من اليد إلى النفس
والإصبعان عضوان مفردان ليس أحدهما جزء الآخر فلا تتحقق السراية من أحدهما إلى الآخر فوجب
القصاص في الأولى دون الثانية وعلى ما روى محمد رحمه الله في النوادر يجب القصاص ههنا أيضا كما قال أبو يوسف
رحمه الله لأنه جناية واحدة وقد سرت إلى ما يمكن القصاص فيه فيجعل كأنه قطع الكف من الزند ولو كسر بعض
سن انسان فسقطت لا قصاص فيه في قول أبي حنيفة عليه الرحمة لأنه لا يمكن الاقتصاص بكسر مسقط للسن وقال
أبو يوسف يجب القصاص كما قال في الإصبع إذا قطعت فسقطت منها الكف وكذلك عند محمد يجب القصاص
على رواية النوادر لما ذكرنا من أصله وكذلك لو ضرب سن انسان فتكسر بعضها وتحرك الباقي واستوفى حولا
انها ان اسودت فلا قصاص فيها لتعذر استيفاء المثل وهو الكسر المسود وان سقطت فكذلك في قول أبي حنيفة
رحمه الله وفيها الأرش لعدم امكان استيفاء المثل وهو الكسر المسقط فيجب فيها الأرش وقال أبو يوسف فيها
القصاص كما قال في الإصبع إذا قطعت الكف ولو شج انسانا موضحة متعمدا فذهب منها بصره فلا قصاص
في قول أبي حنيفة وفى البصر الأرش وقالا في الموضحة القصاص وفى البصر الدية هذه رواية الجامع الصغير
عن محمد وروى ابن سماعة في نوادره عنه ان فيهما جميعا القصاص وجه هذه الرواية انه تولد من جناية العمد إلى
عضو يمكن فيه القصاص فيجب فيه القصاص كما إذا سرى إلى النفس وجه ظاهر قولهما ان تلف البصر حصل من
طريق التسبيب لا من طريق السراية بدليل أن الشجة تبقى بعد ذهاب البصر وحدوث السراية يوجب تغير الجناية
كالقطع إذا سرى إلى النفس انه لا يبقى قطعا بل يصير قتلا وهنا الشجة لم تتغير بل بقيت شجة كما كانت فدل ان
ذهاب البصر ليس من طريق السراية بل من طريق التسبيب والجناية بطريق التسبيب لا توجب القصاص كما في
حفر البئر ونحو ذلك ولو ذهبت عيناه ولسانه وسمعه وجماعه فلا قصاص في شئ من ذلك على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه
وعلى قولهما في الموضحة القصاص ولا قصاص في العينين في ظاهر قولهما بل فيها الأرش وعلى رواية النوادر
عن محمد فيهما القصاص دون اللسان والسمع والجماع لأنه لا يمكن فيهما القصاص إذ لا قصاص في ذهاب منفعة
اللسان والسمع والجماع في الشرع وفى ذهاب البصر قصاص في الشريعة ولو ضربه بعصا فأوضحه ثم عاد فضربه
أخرى إلى جنبها ثم تأكلتا حتى صارت واحدة فهما موضحتان ولا قصاص فيهما أما على أصل أبي حنيفة رحمه
307

الله فلعدم امكان استيفاء المثل وهما شجتان موضحتان تأكل بينهما (وأما) على أصلهما فلان ما تأكل بين
الموضحتين تلف بسبب الجراحة والاتلاف تسبيبا لا يوجب القصاص والله سبحانه وتعالى الموفق ولا قصاص في
العين إذا قورت أو فسخت لأنا إذا فعلنا ما فعل وهو التقوير والفسخ لا يمكن استيفاء المثل إذ ليس له حد معلوم وان
أذهبنا ضوءه فلم نفعل مثل ما فعل فتعذر الاستيفاء بصفة المماثلة فامتنع الوجوب وصار كمن قطع يد انسان من الساعد
أنه لا يجب القصاص لأنه لا سبيل إلى القطع من الساعد ولا من الزند لما قلنا فامتنع الوجوب كذا هذا وان ضرب
عليها فذهب ضوءها مع بقاء الحدقة على حالها لم تنخسف ففيها القصاص لقوله تبارك وتعالى والعين بالعين ولان
القصاص على سبيل المماثلة ممكن بان يجعل على وجهه القطن المبلول وتحمى المرآة وتقرب من عينه حتى يذهب ضوءها
وقيل أول من اهتدى إلى ذلك سيدنا علي رضي الله عنه وأشار إلى ما ذكرنا فإنه روى أنه وقعت هذه الحادثة في زمن
سيدنا عثمان رضي الله عنه فجمع الصاحبة الكرام رضى الله تعالى عنهم وشاورهم في ذلك فلم يكن عندهم حكما حتى
جاء سيدنا علي رضي الله عنه وأشار إلى ما ذكرنا فلم ينكر عليه أحد فقضى به سيدنا عثمان بمحضر من الصحابة الكرام
رضي الله عنهم فيكون اجماعا وان انخسفت فلا قصاص لان الثاني قد لا يقع خاسفا بها فلا يكون مثل الأول وروى
عن أبي يوسف أنه لا قصاص في عين الأحول لان الحول نقص في العين فيكون استيفاء الكامل بالناقص فلا
تتحقق المماثلة ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة باليد الشلاء كذا هذا ولا قصاص في الأشفار والأجفان لأنه لا يمكن
استيفاء المثل فيها (وأما) الاذن فان استوعبها ففيها القصاص لقوله تبارك وتعالى والاذن بالاذن ولان استيفاء
المثل فيها ممكن فان قطع بعضها فإن كان له حد يعرف ففيه القصاص والا فلا (وأما) الانف فان قطع المارن ففيه
القصاص بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله لقوله سبحانه وتعالى والانف بالأنف ولان استيفاء المثل فيه ممكن لان له
حدا معلوما وهو مالان منه فان قطع بعض المارن فلا قصاص فيه لتعذر استيفاء المثل وان قطع قصبة الانف فلا
قصاص فيه لأنه عظم ولا قصاص في العظم ولا في السن لما نذكر إن شاء الله تعالى وقال أبو يوسف ان استوعب
ففيه القصاص وقال محمد لا قصاص فيه وان استوعب ولا خلاف بينهما في الحقيقة لان أبا يوسف أراد استيعاب
المارن وفيه القصاص بلا خلاف ومحمد رحمه الله أراد به استيعاب القصبة ولا قصاص فيها بلا خلاف (وأما) الشفة
فقد روى عن أبي حنيفة أنه قال إذا قطع شفة الرجل السفلى أو العليا وكان يستطاع أن يقتص منه ففيه القصاص وذكر
الكرخي رحمه الله انه ان استقصاها بالقطع ففيها القصاص لامكان استيفاء المثل عند الاستقصاء وان قطع بعضها فلا
قصاص فيه لعدم الامكان ولا قصاص في عظم الا في السن لأنه لا يعلم موضعه ولا يؤمن فيه عن التعدي أيضا وقد
روى عنه عليه الصلاة والسلام انه لا قصاص في عظم وفى السن القصاص سواء كسر أو قلع لقوله تبارك وتعالى
والسن بالسن ولأنه يمكن استيفاء المثل فيه بان يؤخذ في الكسر من سن الكاسر مثل ما كسر بالمبرد وفى القلع يؤخذ سنه
بالمبرد إلى أن ينتهى إلى اللحم ويسقط ما سوى ذلك وقيل في القلع انه يقلع سنه لان تحقق المماثلة فيه والأول استيفاء
على وجه النقصان الا أن في القلع احتمال الزيادة لأنه لا يؤمن فيه ان يفعل المقلوع أكثر مما فعل القالع (وأما) اللسان
فان قطع بعضه فلا قصاص فيه لعدم امكان استيفاء المثل وان استوعب فقد ذكر في الأصل أن اللسان لا يقتص فيه
وقال أبو يوسف فيه القصاص وجه قوله أن القطع إذا كان مستوعبا أمكن استيفاء المثل فيه بالاستيعاب فيكون الجزاء
مثل الجناية وجه ما ذكر في الأصل أن اللسان ينقبض وينسبط فلا يمكن استيفاء القصاص فيه بصفة المماثلة
وان قطع الحشفة ففيها القصاص لامكان استيفاء المثل لان لها حدا معلوما وان قطع بعضها أو بعض الذكر فلا
قصاص فيه لأنه لا حد لذلك فلا يمكن القطع بصفة المماثلة فصار كما لو قطع بعض اللسان ولو قطع الذكر من أصله ذكر
في الأصل انه لا قصاص فيه وقال أبو يوسف فيه القصاص وجه قوله إن عند الاستيعاب أمكن الاستيفاء على وجه
المماثلة فيجب القصاص وجه ما ذكر في الأصل أن الذكر ينقبض مرة وينبسط مرة أخرى فلا يمكن مراعاة
308

المماثلة فيه فلا يجب القصاص ولا قصاص في جز شعر الرأس وحلقه وحلق الحاجبين والشارب واللحية وان لم ينبت
بعد الحلق والنتف (أما) الجز فلانه لا يعلم موضعه فلا يمكن أخذ المثل (وأما) الحلق والنتف الموجود من الحالق
والناتف فلان المستحق حلق ونتف غير منبت وذلك ليس في وسع المحلوق والمنتوف لجواز أن يقع حلقه ونتفه
منبتا فلا يكون مثل الأول وذكر في النوادر انه يجب القصاص إذا لم ينبت ولم يذكر حكم ثدي المرأة هل يجب فيه
القصاص أم لا وكذا لم يذكر حكم الأنثيين في وجوب القصاص فيهما وينبغي أن لا يجب القصاص فيهما لان كل
ذلك ليس له مفصل معلوم فلا يمكن استيفاء المثل (وأما) حلمة ثدي المرأة فينبغي أن يجب القصاص فيها لان لها حدا
معلوما فيمكن استيفاء المثل فيها كالحشفة ولو ضرب على رأس انسان حتى ذهب عقله أو سمعه أو كلامه أو شمه أو
ذوقه أو جماعه أو ماء صلبه فلا قصاص في شئ من ذلك لأنه لا يمكنه ان يضرب ضربا تذهب به هذه الأشياء فلم يكن
استيفاء المثل ممكنا فلا يجب القصاص وكذلك لو ضرب على يد رجل أو رجله فشلت لا قصاص عليه لأنه لا يمكنه
ان يضرب ضربا مشلا فلم يكن المثل مقدور الاستيفاء فلا يجب القصاص والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الشجاج فلا
خلاف في أن الموضحة فيها القصاص لعموم قوله سبحانه وتعالى والجروح قصاص الا ما خص بدليل ولأنه يمكن
استيفاء القصاص فيها على سبيل المماثلة لان لها حدا تنتهى إليه السكين وهو العظم ولا خلاف في أنه لا قصاص فيما بعد
الموضحة لتعدد الاستيفاء فيه على وجه المماثلة لان الهاشمة تهشم العظم والمنقلة تهشم وتنقل بعد الهشم ولا قصاص في
هشم العظم لما بينا والآمة لا يؤمن فيها من أن ينتهى السكين إلى الدماغ فلا يمكن استيفاء القصاص في هذه الشجاج على
وجه المماثلة فلا يجب القصاص بخلاف الموضحة (وأما) ما قبل الموضحة فقد ذكر محمد في الأصل أنه يجب القصاص
في الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا قصاص في الشجاج الا
في الموضحة والسمحاق ان أمكن القصاص في السمحاق وروى عن النخعي رحمه الله أنه قال ما دون الموضحة خدوش
وفيها حكومة عدل وكذا روى عن عمر بن عبد العزيز رحمهما الله وعن الشعبي رحمه الله أنه قال ما دون الموضحة فيه
أجرة الطبيب (وجه) رواية الحسن رحمه الله أن ما دون الموضحة مما ذكرنا لا حد له ينتهى إليه السكين فلا يمكن الاستيفاء
بصفة المماثلة (وجه) رواية الأصل أن استيفاء المثل فيه ممكن لأنه يمكن معرفة قدر غور الجراحة بالمسبار ثم إذا عرف
قدره به يعمل حديدة على قدره فتنفذ في اللحم إلى آخرها فيستوفى منه مثل ما فعل ثم ما يجب فيه القصاص من الشجاج لا
يقتص من الشاج الا في موضع الشجة من المشجوج من مقدم رأسه ومؤخره ووسطه وجنبيه لان وجوب القصاص
للشين الذي يلحق المشجوج وذا يختلف باختلاف المواضع من الرأس أن الشين في مؤخر الرأس لا يكون مثل
الشين الذي في مقدمه ولهذا يستوفى على مساحة الشجة من طولها وعرضها ما أمكن لاختلاف الشين باختلاف
الشجة في الصغر والكبر وعلى هذا يخرج ما إذا شج رجلا موضحة فأخذت الشجة ما بين قرني المشجوج وهي لا تأخذ
ما بين قرني الشاج لصغر رأس المشجوج وكبر رأس الشاج أنه لا يستوعب ما بين قرني الشاج في القصاص لان في
الاستيعاب استيفاء الزيادة وفيه زيادة شين وهذا لا يجوز ولكن يخير المشجرج ان شاء اقتص من الشاج حتى يبلغ
مقدار شجته في الطول ثم يكف وان شاء عدل إلى الأرش لأنه وجد حقه ناقصا لان الشجة الأولى وقعت مستوعبه
والثانية لا يمكن استيعابها فيثبت له الخيار فان شاء استوفى حقه ناقصا تشفيا للصدر وان شاء عدل إلى الأرش كما قلنا
في الأشهل إذا قطع يد الصحيح فان اختار القصاص فله أن يبدأ من أي الجانبين شاء لان كل ذلك حقه فله أن
يبتدئ من أيهما شاء وإن كانت الشجة تأخذ ما بين قرني المشجوج ولا تفضل وهي ما بين قرني الشاج وتفضل عن
قرنيه لكبر رأس المشجوج وصغر رأس الشاج فللمشجوج الخيار ان شاء أخذ الأرش وان شاء اقتص ما بين قرني
الشاج لا يزيد على ذلك شيئا لأنه لا سبيل إلى استيفاء الزيادة على ما بين قرني الشاج لأنه ما زاد على ما بين قرني المشجوج
فلا يزاد على ما بين قرنيه فيخير المشجوج لأنه وجد حقه ناقصا إذ الثانية دون الأولى في قدر الجراحة فان شاء رضى
309

باستيفاء حقه ناقصا واقتصر على ما بين قرني الشاج طلبا للتشفي وان شاء عدل إلى الأرش وإن كانت الشجة لا تأخذ
بين قرني المشجوج وهي تأخذ ما بين قرني الشاج لا يجوز أن يستوعب بين قرني الشاج كله بالقصاص لأنه الشجة
الأولى وقعت غير مستوعبة فالاستيعاب في الجزء يكون زيادة وهذا لا يجوز وإن كان ذلك مقدار شجته في
المساحة كما لا يجوز في استيفاء ما فضل عن قرني الشاج في المسألة الأولى وإن كان ذلك مقدار الشجة الأولى في المساحة
وله الخيار لتعذر استيفاء مثل شجته في مقدارها في المساحة في الطول فان شاء اقتص ونقص عما بين قرني الشاج وان
شاء ترك وأخذ الأرش وإن كانت الشجة في طول رأس المشجوج وهي تأخذ من جبهته إلى قفاه ولا تبلغ من الشاج
إلى قفاه يخير المشجوج ان شاء اقتص مقدار شجته إلى مثل موضعها من رأس الشاج لا يزيد عليه وان شاء أخذ الأرش
لما بينا فيما تقدم وحكى الطحاوي عن علي بن العباس الرازي أنه قال إذا استوعبت الشجة ما بين قرني المشجوج ولم
تستوعب ما بين قرني الشاج يقتص من الشاج ما بين قرنيه كله وان زاد ذلك على طول الشجة الأولى لأنه لا عبرة للصغر
والكبر في القصاص بين العضوين كما في اليدين والرجلين انه يجرى القصاص بينهما وإن كانت إحداهما أكبر من
الأخرى فكذا في الشجة وهذا الاعتبار غير سديد لان وجوب القطع هناك لفوات المنفعة وانها لا تختلف بالصغر
والكبر ألا يرى أن اليد الصغيرة قد تكون أكثر منفعة من الكبيرة فإذا لم يختلف ما وجب له لم يختلف الوجوب بخلاف
الشجة لان وجوب القصاص فيها للشين الذي يلحق المشجوج وانه يختلف فيزداد بزيادة الشجة وينتقص بنقصانها
لذلك افترق الامر وان الله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (وأما) الجراح فان مات من شئ منها المجروح وجب
القصاص لان الجراحة صارت بالسراية نفسا وان لم يمت فلا قصاص في شئ منها سواء كانت جائفة أو غيرها لأنه
لا يمكن استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة ومنها أن يكون الجاني والمجني عليه حرين فإن كان أحدهما حرا والآخر
عبدا أو كانا عبدين فلا قصاص فيه ومنها أن يكونا ذكرين أو أنثيين عندنا فإن كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى فلا
قصاص فيه عند أصحابنا وعند الشافعي رحمه الله هذا ليس بشرط ويجرى القصاص بين الذكر والأنثى فيما دون
النفس كما يجرى في النفس وهذان الشرطان في الحقيقة عندنا متداخلان لأنهما دخلا في شرط المماثلة لان المماثلة
في الأروش شرط وجوب القصاص فيما دون النفس بدليل أن الصحيح لا يقطع بالأشل ولا كامل الأصابع بناقص
الأصابع ولما ذكرنا فيما تقدم أن ما دون النفس يسلك به مسلك الأموال والمماثلة في الأموال في باب الأموال معتبرة ولم
توجد المماثلة بين الأحرار والعبيد في الأروش لان أرش طرف العبد ليس بمقدر بل يجب باعتبار قيمته وأرش طرف
الحر مقدر فلا يوجد التساوي بين أرشيهما ولئن اتفق استواؤهما في القدر فلا يعتبر ذلك لان قيمة طرف العبد تعرف
بالحزر والظن بتقويم المقومين فلا تعرف المساواة فلا يجب القصاص وكذا لم يوجد بين العبيد والعبيد لأنهم ان اختلفت
قيمتهم فلم يوجد التساوي في الأرش وان استوت قيمتهم فلا يعرف الا بالحزر والظن لأنه يعرف بتقويم المقومين
وذلك يختلف فلا يعرف التساوي في أروشهم فلا يجب القصاص أو تبقى فيه شبهة العدم والشبهة في باب القصاص
ملحقة بالحقيقة ولا بين الذكور والإناث فيما دون النفس لان أرش الأنثى نصف الذكر وعند الشافعي رحمه
الله المساواة في الأروش في الأحرار غير معتبرة (وجه) قوله أن القصاص جرى بين نفسيهما فيجرى بين طرفيها
لان الطرف تابع للنفس (ولنا) أنه لا مساواة بين أرشيهما فلا قصاص في طرفيهما كالصحيح مع الأشل ولا قصاص
في الأظفار لانعدام المساواة في أروشها لان أرش الظفر الحكومة وانها معتبرة بالحزر والظن والله تعالى الموفق
* (فصل) * وأما كون الجناية فيما دون النفس بالسلاح فليس بشرط لوجوب القصاص فيه فسواء كانت
بسلاح أو غيره يجب فيه القصاص لأنه ليس فيما دون النفس شبهة عمد وإنما فيه عمد أو خطأ لما ذكرنا فيما تقدم
فاستوى فيهما السلاح وغيره هذا الذي ذكرنا شرائط وجوب شرائط وجوب القصاص فيما دون النفس (وأما) بيان وقت
الحكم بالقصاص فيما دون النفس فوقته ما بعد البرء فلا يحكم بالقصاص فيه ما لم يبرأ وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه
310

الله وقته ما بعد الجناية ولا ينتظر (وجه) قوله أنه وجب القصاص للحال فله أن يستوفى الواجب للحال (ولنا) ما روى أنه
عليه الصلاة والسلام قال لا يستفاد من الجراحة حتى يبرأ وروى أن رجلا جرح حسان بن ثابت رحمه الله في
فخذه بعظم فجاء الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبوا القصاص فقال عليه الصلاة والسلام انتظروا
ما يكون من صاحبكم فانا والله منتظرة وهو انه يحتمل السراية والجراحة عند السراية تصير قتلا فيتبين أنه استوفى غير
حقه وهذا فرع مسألة ذكرناها وهي أن المجروح إذا مات بالجراحة يجب القصاص بالنفس عندنا لا في الطرف
وعند الشافعي رحمه الله يفعل به مثل ما فعل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (فصل) * وأما الذي فيه دية كاملة فالكلام فيه في موضعين أحدهما في بيان سبب الوجوب والثاني في بيان
شرائطه أما السبب فهو تفويت المنفعة المقصودة من العضو على الكمال وذلك في الأصل بأحد أمرين إبانة العضو
واذهاب معنى العضو مع بقاء العضو صورة أما الأول فالأعضاء التي تتعلق بانتهاء كمال الدية أنواع ثلاثة نوع لا نظير
له في البدن ونوع في البدن منه اثنان ونوع في البدن منه أربعة (أما) الذي لا نظير له في البدن فستة أعضاء
أحدها الانف سواء استوعب جدعا أو قطع المارن منه وحده وهو مالان من الانف والثاني اللسان سواء
استوعب قطعا أو قطع منه ما يذهب بالكلام كله والثالث الذكر سواء استوعب قطعا أو قطع الحشفة منه وحدها
والأصل فيه ما روى عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في النفس الدية وفى اللسان
الدية وفى الذكر الدية وفى الانف الدية وفى المارن الدية وروى أنه عليه الصلاة والسلام كتب في كتاب عمرو ابن
حزم في النفس الدية وفى الانف الدية وفى اللسان الدية ولأنه أبطل المنافع المقصودة من هذه الأعضاء والجمال أيضا
من بعضها فالمقصود من الانف الشم والجمال أيضا ومن اللسان الكلام ومن الذكر الجماع والحشفة يتعلق بها منفعة
الانزال وقد زال كله بالقطع وإن كان ذهب بعض الكلام بقطع بعض اللسان دون بعض ففيه حكومة العدل
لأنه لم يوجد تفويت المنفعة على سبيل الكمال وقيل تقسم الدية على عدد حروف الهجاء فيجب من الدية بقدر ما فات
من الحروف ونقلت هذه القضية عن سيدنا علي رضي الله عنه لان المقصود من اللسان هو الكلام وقد فات بعضه
دون بعض فيجب من الدية بقدر الفائت منها لكن إنما يدخل في القسمة الحروف التي تفتقر إلى اللسان فاما ما لا يفتقر
إلى اللسان من الشفوية والحلقية كالباء والفاء والهاء ونحوهما فلا تدخل في القسمة والرابع الصلب إذا أحد ودب
بالضرب وانقطع الماء وهو المنى فيه دية كاملة لوجود تفويت منفعة الجنس والخامس مسلك البول والسادس
مسلك الغائط من المرأة إذا أفضاها انسان فصارت لا تستمسك البول أو الغائط فعليه دية كاملة فان صارت
لا تستمسكهما فعليه لكل واحد منهما دية كاملة لأنه فوت منفعة مقصودة بالعضو على الكمال فيجب عليه كمال الدية
(وأما) الأعضاء التي في البدن منها اثنان فالعينان والأذنان والشفتان والحاجبان إذا ذهب شعرهما ولم ينبت
والثديان والحلمتان والأنثيان والأصل فيه ما روى عن ابن المسيب أنه عليه الصلاة والسلام قال وفى الاذنين الدية
وفى العينين الدية وفى الرجلين الدية ولان في القطع كل اثنين من هذين العضوين تفويت منفعة الجنس منفعة مقصودة
أو تفويت الجمال على الكمال كمنفعة البصر في العينين والبطش في اليدين والمشي في الرجلين والجمال في الاذنين
والحاجبين إذا لم ينبتا والشفتين ومنفعة امساك الريق في إحداهما وهي السفلى والثديان وكاء للبن وفى الحلمتين منفعة
الرضاع والأنثيان وكاء المنى (وأما) الأعضاء التي منها أربعة في البدن فنوعان أحدهما أشفار العينين وهي منابت
الأهداب إذا لم تنبت لما في تفويتها تفويت منفعة البصر والجمال أيضا على الكمال وفى كل شفر منها ربع الدية والثاني
الأهداب وهي شعر الأشفار إذا لم تنبت لما قلنا (وأما) اذهاب معنى العضو مع بقاء صورته فنحو العقل والبصر والشم
والذوق والجماع والايلاد بان ضرب على إنسان فذهب عقله أو سمعه أو كلامه أو شمه أو ذوقه أو جماعه أو ايلاده
بان ضرب على ظهره فذهب ماء صلبه والأصل فيه ما روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قضى في رجل واحد
311

بأربع ديات ضرب على رأسه فذهب عقله وكلامه وبصره وذكره لأنه فوت المنافع المقصودة عن هذه الأعضاء على
سبيل الكمال (أما) العقل فلان تفويته تفويت منافع الأعضاء كلها لأنه لا يمكن الانتفاع بها فيما وضعت له بفوت
العقل ألا ترى أن أفعال المجانين تخرج أفعال البهائم فكان اذهابه ابطالا للنفس معنى (وأما) السمع والبصر
والكلام والشم والذوق والجماع والايلاد فكل واحد منها منفعة مقصودة وقد فوتها كلها ولو ضرب على رأس رجل
فسقط شعره أو على رأس امرأة فسقط شعرها أو حلق لحية رجل أو نتفها أو حلق شعر امرأة ولم ينبت فإن كان حرا
ففيه الدية عند أصحابنا رضي الله عنهم وعند الشافعي فيه حكومة (وجه) قوله أنه لا يجب كمال الدية الا باتلاف النفس
لان الدية بدل النفس الا أن الشرع ورد بذلك عند تفويت منفعة الجنس كما في قطع اليدين والرجلين ونحو ذلك لان
تفويت منفعة الجنس يجعل النفس تالفة من وجه ولم يوجد ذلك في حلق الشعر فبقي الحكم فيه مردودا إلى الأصل
ولهذا لم يجب في حلق الشعر سائر البدن (ولنا) أن الشعر للنساء والرجال جمال كامل وكذا اللحية للرجال والدليل عليه
ما روى من الحديث ان الله تبارك وتعالى عز وجل خلق في سماء الدنيا ملائكة من تسبيحهم سبحان الذي زين
الرجال باللحى والنساء بالذوائب وتفويت الجمال على الكمال في حق الحر يوجب كمال الدية كالمارن والاذن الشاخصة
والجامع بينهما اظهار شرف الآدمي وكرامته وشرفه في الجمال فوق شرفه في المنافع ثم تفويت المنافع على الكمال لما
أوجب كمال الدية فتفويت الجمال على الكمال أولى بخلاف شعر سائر البدن لأنه لا جمال فيه على الكمال لأنه لا يظهر
للناس فتفويته لا يوجب كمال الدية وقد روى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال في الرأس إذا حلق فلم ينبت الدية
كاملة وكذا روى عنه أنه قال في اللحية إذا حلقت فلم تنبت الدية وروى أن رجلا أغلى ماء فصبه على رأس رجل
فانسلخ جلد رأسه فقضى سيدنا علي رضي الله عنه بالدية وعن الفقيه أبى جعفر الهندواني أنه قال إنما يجب كمال
الدية في اللحية إذا كانت كاملة بحيث يتجمل بها فاما إذا كانت طاقات متفرقة لا يتجمل بها فلا شئ وإن كانت
غير متوفرة بحيث يقع بها الجمال الكامل وليست مما يشين ففيها حكومة عدل وأما شعر العبد ولحيتة فذكر في الأصل
أن فيه حكومة وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن فيه القيمة (وجه) هذه الرواية أن القيمة في العبيد
كالدية في الأحرار فلما وجبت في الحر الدية تجب في العبد القيمة (وجه) رواية الأصل أن الجمال في العبيد ليس
بمقصود بل المقصود منهم الخدمة وتفويت ما ليس بمقصود لا يتعلق به كمال الدية ولو حلق رأس انسان أو لحيته ثم
نبت فلا شئ عليه لان النابت قام مقام الفائت فكأنه لم يفت الجمال أصلا وفى الصعر وهو اعوجاج الرقبة كمال الدية
لوجود تفويت منفعة مقصودة وتفويت الجمال على الكمال والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) شرائط الوجوب (فمنها)
أن تكون الجناية خطأ فيما في عمده القصاص وأما ما لا قصاص في عمده فيستوى فيه العمد والخطأ وقد بينا ما في عمده
القصاص وما لا قصاص فيه فيما تقدم (ومنها) أن يكون المجني عليه ذكرا فإن كان أنثى فعليه دية أنثى وهو نصف دية
الذكر سواء كان الجاني ذكرا أو أنثى لاجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم على ذلك وهو تنصيف دية الأنثى من دية
الذكر على ما ذكرنا في دية النفس (ومنها) أن يكون الجاني والمجني عليه حرين فإن كان الجاني حرا والمجني عليه عبدا
فلا دية فيه وفيه القيمة في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ثم إن كان قليل القيمة وجبت جميع القيمة وإن كان كثير القيمة
بان بلغت الدية ينقص من قيمته عشرة كذا ورى أبو يوسف رحمه الله تعالى عن أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه أنه قال
كل شئ من الحر فيه الدية فهو من العبد فيه القيمة وكل شئ من الحر فيه نصف الدية فهو من العبد فيه نصف القيمة
وكذلك الجراحات وعموم هذه الرواية يقتضى أن كل شئ من الحر فيه قدر من الدية فمن العبد فيه ذلك القدر من قيمته
من غير فصل بين ما يقصد به المنفعة كالعين واليد والرجل وبين ما يقصد به الجمال والزينة مثل الحاجب والشعر والاذن
وهكذا روى الحسن رحمه الله عنه أنه حلق أحد حاجبيه فلم ينبت أو نتف أشفار عينيه الأسفل أو الاعلى يعنى
أهدابه فلم تنبت أو قطع احدى شفتيه العليا أو السفلى أن عليه في كل واحد من ذلك نصف القيمة وقال أبو يوسف
312

رجع أبو حنيفة في حاجب العبد وفى أذنيه وقال فيه حكومة العدل وكذا قال محمد استقبح أبو حنيفة رحمه الله أن يضمن
في أذن العبد نصف القيمة وهذا دليل الرجوع أيضا والحاصل أن الواجب فيما يقصد به المنفعة هو القيمة رواية
واحدة عنه وفيما يقصد به الزينة والجمال عنه روايتان وقال محمد الواجب في ذلك كله النقصان يقوم العبد مجنيا عليه
ويقوم وليس به الجناية فيغرم الجاني ما بين القيمتين وهو قول أبى يوسف الآخر وقوله الأول مع أبي حنيفة (وجه)
قول محمد ان ما دون النفس من العبد له حكم المال لأنه خلق لمصلحة النفس كالمال وبدليل انه لا يجب فيه القصاص
ولا تتحمله العاقلة فكان ضمانه ضمان الأموال وضمان الأموال غير مقدر بل يجب بقدر نقصان المال كما في سائر
الأموال (وجه) رواية الجمع لأبي حنيفة رضي الله عنه أن القيمة في العبد كالدية في الحر فلما جاز تقدير ضمان جناية الحر
بديته جاز تقدير ضمان جناية العبد بقيمته ولان التقدير قد دخل على الجناية عليه في النفس حتى لا يبلغ الدية إذا كان
كثير القيمة فجاز ان يدخل في ضمان الجناية فيما دون النفس كالحر (ووجه) رواية الفرق له أن الجمال ليس بمقصود
في العبيد بل المقصود منهم الخدمة فاما المنفعة فمقصودة من الأحرار والعبيد جميعا ولان ما دون النفس من
العبيد له شبه النفس وشبه المال أما شبه النفس فظاهر لأنه من أجزاء النفس حقيقة (وأما) شبه المال فإنه لا يجب
فيه القصاص ولا تتحمله العاقلة فيجب العمل بالشبهين فيعمل بشبه النفس فيما يقصد به المنفعة بتقدير ضمانه
بالقيمة كما لو جنى على النفس ويعمل بشبه المال فيما يقصد به الجمال فلم يقدر ضمانه بالقيمة كما إذا أتلف المال
عملا بالشبهين بقدر الامكان وقد خرج الجواب عما ذكر محمد من عدم وجوب القصاص وتحمل العاقلة
لان ذلك عمل بشبه المال وانه لا ينفى العمل بشبه النفس فيجب العمل بهما جميعا وذلك فيما قلنا ثم الحر إذا
فقأ عيني عبد انسان أو قطع يديه أو رجليه حتى وجب عليه كمال القيمة فمولاه بالخيار ان شاء سلمه إلى الفاقئ وأخذ
قيمته وان شاء أمسكه ولا شئ له وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يمسكه ويأخذ ما نقصه وقال الشافعي
رحمه الله له ان يمسكه ويأخذ جميع القيمة (وجه) قوله أن الواجب فيه وهو القيمة ضمان العضوين الفائتين لا غير
فيبقى الباقي على ملكه كما لو فقأ احدى عينيه أو قطع احدى يديه أنه يضمن نصف قيمته ويبقى الباقي على ملك
مالكه كذا هذا (وجه) قولهما أن الضمان بمقابلة العينين كما قال الشافعي عليه الرحمة لكن الرقبة هلكت
من وجه لفوات منفعة الجنس فيخير المولى ان شاء مال إلى جهة الهلاك وضمنه القيمة وسلم العبد إلى الفاقئ لوصول
عوض الرقبة إليه وان شاء مال إلى جهة القيام وأمسكه وضمن النقصان وهو بدل العينين كما يخير صاحب المال
عند النقصان الفاحش في المواضع كلها ولأبي حنيفة رضي الله عنه إنما لما وصل إلى المولى بدل النفس فلو بقي العبد
على ملكه لاجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد فيما يصح تمليكه بعقود المعاوضات وهذا لا يجوز كما لا يجوز
اجتماع المبيع والثمن في ملك رجل واحد ولا يلزم ما إذا غصب مدبرا فابق من يده أن المولى يضمنه قيمته والمدبر على
ملكه لأنه لا يحتمل التمليك بعقد المعاوضة ولا تلزم الهبة بشرط العوض إذا سلم الهبة ولم يقبض العوض انه اجتمع
على ملك الموهوب له العوض والمعوض لان العوض قبل القبض لا يكون عوضا فلم يجتمع العوض والمعوض
ولا يلزم البيع الفاسد إذا قبض المشترى المبيع ولم يسلم الثمن لان الثمن ليس ببدل في البيع الفاسد إنما البدل القيمة
وقد ملكها البائع حين ملك المشتري المبيع فلم يجتمع البدل والمبدل في ملكه ولا يلزم ما إذا اشترى عبدا بجارية
على أنه الخيار فقبض العبد فأعتقهما جميعا أنه ينفذ اعتاقه فيهما جميعا وقد اجتمع والمعوض على ملكه لأنه لما
عتقهما فسد البيع في الجارية وصار العوض عن العبد القيمة وملكها البائع في مقابلة ملك العبد فلم يجتمع العوض
والمعوض ولا يلزم ما إذا استأخر شيئا وعجل الأجرة ان المؤاجر بملكها والمنافع على ملكه فقد اجتمع البدل
والمبدل في ملك واحد لان المنافع لا تملك عندنا الا بعد وجودها وكلما وجد جزء منها حدث على ملك المستأجر فلم
يجتمع العوض والمعوض على ملك المؤاجر ولا يلزم ما إذا غصب عبدا فجنى عنده جناية ثم رده على مولاه فجنى عنده
313

جناية أخرى ودفعه بالجنايتين أنه يرجع على الغاصب بنصف القيمة فيدفعها إلى ولى الجناية الأولى ومعلوم أن نصف
القيمة عوض عن نصف الرقبة الذي سلم له فقد اجتمع في ملكه وهو نصف العبد العوض والمعوض لان الممتنع
اجتماع العوض والمعوض في ملك رجل بعقد المعاوضة ولم يوجد هناك لان ولى الجناية إنما يأخذ عوضا عن جنايته
لا عن المال واجتماع العوض والمعوض في ملك رجل واحد بغير عقد المعاوضة جائز كمن استوهب المبيع من البائع
والثمن من المشترى أو ورثهما والله سبحانه وتعالى أعلم وإن كان الجاني عبدا والمجني عليه حرا أو كانا جميعا
عبدين فحكم هذه الجناية وجوب الدفع الا أن يختار المولى أن الفداء على ما ذكرنا في جنايات العبيد والله سبحانه
وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يجب فيه أرش مقدر ففي كل اثنين من البدن فيهما كمال الدية في أحدهما نصف الدية من
احدى العينين واليدين والرجلين والاذنين والحاجبين إذا لم تنبت والشفتين والأثنيين والثديين والحلمتين لما روى أنه
عليه الصلاة والسلام كتب في كتاب عمرو بن حزم وفى العينين الدية وفى إحداهما نصف الدية وفى اليدين الدية
وفى إحداهما نصف الدية ولان كل الدية عند قطع العضوين يقسم عليهما فيكون في أحدهما النصف لان وجوب
الكل في العضوين لتفويت كل المنفعة المقصودة من العضوين والفائت بقطع أحدهما النصف فيجب فيه نصف
الدية ويستوى فيه اليمين واليسار لان الحديث لا يوجب الفصل بينهما وسواء ذهب بالجناية على العين نور البصر دون
الشحمة أو ذهب البصر مع الشحمة لان المقصود من العين البصر والشحمة فيه تابعة وكذا العليا والسفلى من
الشفتين سواء عند عامة الصحابة رضوان الله تعالى عنهم وروى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه انه فصل بينهما
فأوجب في السفلى الثلثين وفى العليا الثلث لزيادة جمال في العليا ومنفعة في السفلى وبقية الصحابة سووا بنيهما وهو
قول جماعة من التابعين مثل شريج وإبراهيم رضي الله عنهما وغيرهما سواء قطع الحلمة من ثدي المرأة أو قطع الثدي وفيه
الحلمة ففيه نصف الدية للحلمة والثدي تبع لان المقصود من الثدي وهو منفعة الرضاع يفوته بفوات الحلمة وسواء
كان ذلك بضربة أو ضربتين إذا كان قبل البرء من الأولى لان الجناية لا تستقر قبل البرء فإذا اتبعها الثانية قبل
استقرارها صار كأنه أوقعهما معا وفى أصابع اليدين والرجلين في كل واحدة منها عشر الدية وهي في ذلك سواء
لا فضل لبعض على بعض والأصل فيه ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في كل إصبع عشر من الإبل من
غير فصل بين إصبع وإصبع وروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه وهذه سواء وأشار إلى الخنصر
والابهام وسواء قطع أصابع اليد وحدها أو قطع الكف ومعها الأصابع وكذلك القدم مع الأصابع لما روى
عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في الأصابع في كل إصبع عشر من الإبل من غير فصل بين ما إذا قطع الأصابع
وحدها أو قطع الكف التي فيها الأصابع ولان الأصابع أصل والكف تابعة لها لان المنفعة المقصودة من اليد
البطش وانها تحصل بالأصابع فكان اتلافها اتلافا لليد وساء قطع الأصابع أو شل من الجراحة أو يبس ففيه عقله
تاما لان المقصود منه يفوت وما كان من الأصابع فيه ثلاث مفاصل ففي كل مفصل ثلث دية الإصبع وما كان
فيه مفصلان ففي كل واحد منهما نصف دية الإصبع ولان ما في الإصبع ينقسم على مفاصلها كما ينقسم ما في
اليد على عدد الأصابع وفى احدى أشفار العينين ربع الدية وفى الأنثيين نصف الدية وفى الثلاث ثلاثة أرباع
الدية ان لم ينبت لان في الأشفار كلها كل الدية فتقسم الدية على عددها كما تقسم الدية على اليدين وان نبت
فلا شئ فيه وسواء قطع الشفر وحده أو قطع معه الجفن لان الجفن تبع للشفر كالكف والقدم للأصابع
وكذا أهداب العينين إذا لم تنبت حكمها حكم الأشفار وفى كل سن خمس من الإبل يستوى فيه المقدم والمؤخر
والثنايا والأضراس والأنياب والأصل فيه ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في كل سن خمس من الإبل
من غير فصل بين سن وسن ومن الناس من فضل أرش الطواحن على أرش الضواحك وهذا غير سديد لان الحديث
314

لا يوجب الفضل وهذا لا يجرى على قياس الأصابع لان الشرع ورد في كل سن بخمس من الإبل لان الأسنان
اثنان وثلاثون فيزيد الواجب في جملتها على قدر الدية ولو ضرب رجلا ضربة فالقى أسنانه كلها فعليه دية وثلاثة
أخماس الدية لان جملة الأسنان اثنان وثلاثون سنا عشرون ضرسا وأربعة أنياب وأربع ثنايا وأربع ضواحك في كل
سن نصف عشر الدية فيكون جملتها ستة عشر ألف درهم وهي دية وثلاثة أخماس دية تؤدى هذه الجملة في ثلاث سنين
في السنة الأولى ثلثا الدية من ذلك من الدية الكاملة وهي عشرة آلاف درهم وثلث من ثلاثة أخماس الدية وهي
ستة آلاف درهم وفى السنة الثانية الثلث من الدية الكاملة والباقي من ثلاثة أخماس الدية وفى السنة الثالثة ثلث الدية
وهو ما بقي من الدية الكاملة وإنما كان كذلك لان الدية الكاملة تؤدى في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها وثلاثة
أخماس الدية وهي ستة آلاف درهم تؤدى في سنتين من السنين الثلاث وهذا يلزم أن يكون قدر المؤدى من الدية
الكاملة والناقصة في السنتين الأوليين وقدر المؤدى من الدية الكاملة في السنة الثانية ما وصفنا والله سبحانه وتعالى
أعلم ولو ضرب أسنان رجل وتحركت ينتظر بها حولا لما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال يستأنى بالجراح
حتى تبرأ والتقدير بالسنة لأنها مدة يظهر فيها حقيقة حالها من السقوط والتغير والثبوت وسواء كان المضروب صغيرا
أو كبيرا كذا روى في المجرد عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يؤجل سنة سواء كان صغيرا أو كبيرا وقال أبو يوسف
رحمه الله ينتظر في الصغير ولا ينتظر في الرجل وعن محمد رحمه الله أنه ينتظر إذا تحركت وإذا سقطت لا ينتظر وجه
قوله أن السن إذا تحركت قد تثبت وقد تسقط فاما إذا سقطت فالظاهر أنها لا تثبت وجه قول أبى يوسف في الفرق
بين الصغير والكبير أن سن الصغير يثبت ظاهرا وغالبا وسن الكبير لا تثبت ظاهرا وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه
أن احتمال النبات ثابت فيجب التوقف فيه فان اشتدت ولم تسقط فلا شئ فيها وروى عن أبي يوسف رحمه
الله فيها حكومة عدل وان تغيرت فإن كان التغير إلى السواد أو إلى الحمرة أو إلى الخضرة ففيها الأرش تاما لأنه ذهبت
منفعتها وذهاب منفعة العضو بمنزلة ذهاب العضو وإن كان التغير إلى الصفرة ففيها حكومة العدل وروى عن أبي
حنيفة رضي الله عنه انه إن كان حرا فلا شئ فيه وإن كان مملوكا ففيه الحكومة وهذه الرواية لا تكاد تصح عنه لان الحر
أولى بايجاب الأرش من العبد وقال زفر رحمه الله في الصفرة الأرش تاما كما في السواد لان كل ذلك يفوت الجمال
(ولنا) أن الصفرة لا توجب فوات المنفعة وإنما توجب نقصانها فتوجب حكومة العدل وروى عن أبي يوسف
انه ان كثرت الصفرة حتى تكون عيبا كعيب الحمرة والخضرة ففيها عقلها تاما ويجب أن يكون هذا قولهم جميعا وان
سقطت فان نبت مكانها أخرى ينظر ان نبتت صحيحة فلا شئ فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقال أبو يوسف
رحمة الله عليه الأرش كاملا كذا ذكر الكرخي رحمه الله وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاري رحمه الله أن على
قول أبى يوسف فيها حكومة العدل وجه قول أبى يوسف أنه فوت السن والنابت لا يكون عوضا عن الفائت لان
هذا العوض من الله تبارك وتعالى فلا يسقط به الضمان الواجب كمن أتلف مال انسان ثم إن الله تبارك وتعالى رزق
المتلف عليه مثل المتلف ولأبي حنيفة رحمه الله أن السن يستأنى بها فلولا أن الحكم يختلف بالنبات لم يكن للاستيفاء فيه
معنى لأنه لما نبتت فقد عادت المنفعة والجمال وقامت الثانية مقام الأولى كان الأولى قائمة كسن الصبي هذا إذا نبتت
بنفسها فاما إذا ردها صاحبها إلى مكانها فاشتدت ونبت عليها اللحم فعلى القالع الأرش بكماله لان المعادة لا ينتفع بها
لانقطاع العروق بل يبطل بأدنى شئ فكانت اعادتها والعدم بمنزلة واحدة ولهذا جعلها محمد في حكم الميتة حتى قال إن كانت
أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة معها وأبو يوسف رحمه الله فرق بين سن نفسه وسن غيره فأجار الصلاة في سن
نفسه دون غيره وعلى هذا إذا قطع أذنه فخاطها فالتحمت انه لا يسقط عنه الأرش لأنها لا تعود إلى ما كانت
عليه فلا يعود الجمال هذا إذا نبتت مكانها أخرى صحيحة فاما إذا نبتت معوجة ففيها حكومة العدل بالاجماع وان نبتت
متغيرة بان نبتت سوداء أو حمراء أو خضراء أو صفراء فحكمها حكم ما لو كانت قائمة فتغيرت بالضربة لان النابت قام مقام
315

الذاهب فكان الأولى قائمة وتغيرت وقد بينا حكم ذلك (وأما) سن الصبي إذا ضرب عليها فسقطت فإن كان قد ثغر
فسنه وسن البالغ سواء وقد ذكرناه وإن كان قبل ان يثغر فإن لم تنبت أو نبتت متغيرة فكذلك وان نبتت صحيحة
فلا شئ فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه كما في سن البالغ وفى قول أبى يوسف رحمه الله فيها حكومة الألم
فرق أبو يوسف على ما ذكره الكرخي رحمه الله بين سن البالغ والصبي لان سن الصبي إذا لم يثغر لانبات له
الا على شرف السقوط بخلاف سن البالغ وهذه فريعة مسأله الشجة إذا التحمت ونبت الشعر عليها أنه
لا شئ على الشاج في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف عليه الرحمة فيها حكومة الألم وعند محمد عليه الرحمة فيها
أجرة الطبيب والمسألة تأتى في بيان حكم الشجاج إن شاء الله تعالى ولو ضرب على سن انسان فتحرك فأجله
القاضي سنة ثم جاء المضروب وقد سقطت سنه فقال إنما سقطت من ضربتك وقال الضارب ما سقطت
بضربتي فالمضروب لا يخلو (اما) ان جاء في السنة (واما) أن جاء بعد مضى السنة فان جاء في السنة
فالقياس أن يكون في قول الضارب وفى الاستحسان القول قول المضروب ولو شج رأس انسان موضحة
فصارت منقلة فاختلفا في ذلك فقال المشجوج صارت منقلبة بضربتك وعليك أرش المنقلة وقال الشاج لا بل
صارت منقلة بضربة أخرى حدثت فالقياس على السن أن يكون القول قول الشاج وفى الاستحسان القول قول
المشجوج وللقياس وجهان أحدهما أن المضروب والمشجوج يدعيان على الضارب والشاج الضمان وهما
ينكران والقول قول المنكر مع يمينه والثاني انه وقع التعارض بين قوليهما والضمان لم يكن واجبا فلا تجب بالشك والى
هذا أشار محمد في الأصل فقال استحسن في السن لورود الأثر والأثر عن إبراهيم النخعي رحمه الله وللاستحسان
وجهان من الفرق أحدهما أن الظاهر شاهد للمضروب في مسألة السن لان سبب السقوط حصل من الضارب
وهو المضروب المحرك لان التحرك سبب السقوط فكان الظاهر شاهدا للمضروب بخلاف الشجة لان الشجة
الموضحة لا تكون سببا لصيرورتها منقلة فلم يكن الظاهر شاهدا له والقول قول من يشهد له الظاهر والثاني أنه لما
جرى التأجيل حولا في السن والتأجيل مدة الحول لانتظار ما يكون من الضربة فإذا جاء في الحول وقد سقطت سنه
فقد جاء بما وقع له الانتظار من الضربة في مدة الانتظار فكان الظاهر شاهدا له (فاما) الشجة فلم يقدر في انتظارها
وقت فكان القول قول الشاج في قدر الشجة وان جاء بعد مضى السنة فالقول قول الضارب لان التأجيل مدة الحول
لاستقرار حال السن لظهور حالها في هذه المدة عادة فإذا لم يجئ دل على سلامتها عن السقوط بالضربة فكان السقوط
محالا إلى سبب حادث فكان الظاهر شاهدا للضارب أو لم يشهد لأحدهما فيبقى المضروب مدعيا ضمانا على
الضارب وهو ينكر فالقول قوله أو يقع التعارض فيقع الشك في وجوب الضمان والضمان لا يجب بالشك وكذا
على الوجه الثاني زمان ما بعد الحول لم يجعل لانتظار حال السن فاحتمل السقوط من ضربة أخرى من غيره واحتمل
من ضربته فلا يمكن القول بوجوب الضمان مع وقوع الشك في وجوبه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (وأما)
الشجاج فالكلام في الشجة يقع في موضعين أحدهما في بيان حكمها بنفسها والثاني في بيان حكمها بغيرها أما الأول
فالموضحة إذا برئت وبقى لها أثر ففيها خمس من الإبل وفى الهاشمة عشر وفى المنقلة خمسة عشر وفى الآمة ثلث
الدية هكذا روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في الموضحة خمس من الإبل وفى الهاشمة عشر وفى المنقلة
خمسة عشر وفى الآمة ثلث الدية وليس فيما قبل الموضحة من الشجاج أرش مقدر وان لم يبق لها أثر بان التحمت
ونبت عليها الشعر فلا شئ فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقال أبو يوسف عليه حكومة الألم وقال محمد عليه
أجرة الطبيب (وجه) قوله أن أجرة الطبيب إنما لزمته بسبب هذه الشجة فكأنه أتلف عليه هذا القدر من المال
ولأبي يوسف أن الشجة قد تحققت ولا سبيل إلى اهدارها وقد تعذر ايجاب أرش الشجة فيجب أرش الألم (وجه)
قول أبي حنيفة رحمه الله ان الأرش إنما يجب بالشين الذي يلحق المشجوج بالأثر وقد زال ذلك فسقط الأرش
316

والقول بلزوم حكومة الألم غير سديد لان مجرد الألم لا ضمان له في الشرع كمن ضرب رجلا ضربا وجيعا وكذا ايجاب
أجرة الطبيب لان المنافع على أصل أصحابنا رضي الله عنهم لا تتقوم ما لا بالعقد أو شبهة العقد ولم يوجد في حق الجاني
العقد ولا شبهته فلا يجب عليه أجرة الطبيب (وأما) حكمها بغيرها بان شج رأس انسان موضحة فسقط شعر رأسه
أو ذهب عقله أو بصره أو سمعه أو كلامه أو شمه أو ذوقه أو جماعة أو ايلاده فلا شك في أنه يجب عليه أرش هذه
الأشياء وهل يجب عليه أرش الموضحة أم يدخل في أرشها عندهما لا يدخل أرش الموضحة الا في الشعر والعقل ولا
يدخل فيما وراء ذلك وقال أبو يوسف رحمه الله في الاملاء يدخل في الكل الا في البصر وقال الحسن بن زياد رحمه
الله لا يدخل الا في الشعر فقط وقال زفر رحمه الله لا يدخل في شئ من ذلك أصلا (وجه) قوله أن الشجة واذهاب
اشعر والعقل وغيرهما جنايتان مختلفان فلا يدخل إحداهما في الأخرى كسائر الجنايات من قطع اليدين والرجلين
ونحو ذلك (وجه) قول الحسن رحمه الله انهما جنايتان اختلف محلهما والمقصود منهما فلا يدخل أرش إحداهما في
الأخرى كأرش اليدين والرجلين ولأبي يوسف أن السمع والكلام والشم والذوق ونحوها من البواطن فيدخل
فيها أرش الموضحة كالعقل (وأما) البصر فظاهر فلا يدخل فيه الموضحة كاليد والرجل وهذا الفرق يبطل
بالشعر لأنه ظاهر ويدخل أرش الموضحة فيه ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى الفرق بين الشعر والعقل وبين
غيرهما ووجهه أن في الشعر الجناية حلت في عضو واحد بفعل واحد بسبب واحد (وأما) اتحاد العضو فلا شك
فيه لان كل ذلك حصل في الرأس (وأما) العقل فلانه لم يوجد منه الا الشجة (وأما) اتحاد السبب فلان دية الشعر
تجب بفوات الشعر وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر فكان سبب وجوبها واحدا فيدخل الجزء في
الكل كما إذا قطع رجل إصبع رجل فشلت اليد ان أرش الإصبع يدخل في دية اليد كذا هذا وفى العقل الواجب دية
النفس من حيث المعنى لان جميع منافع النفس يتعلق به فكان تفويته تفويت النفس معنى فكان الواجب دية
النفس فيدخل فيه أرش الموضحة كما إذا شج رأسه موضحة فسرى إلى النفس فمات والله سبحانه وتعالى أعلم
(وأما) السمع والبصر والكلام ونحوها فقد اختلف السبب والمحل لان سبب الوجوب في كل واحد منهما
تفويت المنفعة المقصودة منه فاختلف المحل والسبب والمقصود فامتنع التداخل وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنه
انه قضى في شجة واحدة بأربع ديات فان اختلفا في ذهاب البصر والسمع والكلام والشم فطريق معرفتها
اعتراف الجاني وتصديق المجني عليه أو نكوله عن اليمين وقد يعرف البصر بنظر الأطباء بان ينظر إليه طبيبان عدلان
لأنه ظاهر تمكن معرفته وقد قيل يمتحن بالقاء حية بين يديه وفى السمع يستغفل المدعى كما روى عن إسماعيل بن حماد
ابن أبي حنيفة رضى الله تعالى عنهم ان رجلا ضرب امرأة فادعت عنده ذهاب سمعها فتشاغل عنها بالنظر في القضاء
ثم التفت إليها وقال يا هذه غطى عورتك فجمعت ذيلها فعلم أنها كاذبة في دعواها وفى الكلام يستغفل أيضا وفى
الشم يختبر بالروائح الكريهة وسواء ذهب جميع هذه الأشياء بالشجة أو ذهب بعضها دون البعض الاجتماع
والافتراق في هذا سواء لان التداخل فيما يجرى فيه التداخل ليس للكثرة بل لما ذكرنا من المعنى وانه لا يوجب
الفصل بين الاجتماع والافتراق ولا تدخل ديات هذه الأشياء بعضها في بعض الا عند السراية انه يسقط ذلك كله
وعليه دية النفس لا غير لما ذكرنا ان كل واحد من هذه الأشياء من السمع والبصر والكلام ونحوها أصل بنفسه
لاختصاصه بمحل مخصوص ومنفعة مقصودة فلا يجعل تبعا لصاحبه في الأرش وإنما دخلت أروشها في دية النفس
عند السراية لان الأعضاء كلها تابعة للنفس فتدخل أروشها في دية النفس ثم إن كان الأول خطأ تتحمل العاقلة وإن كان
عمدا فدية النفس في ماله وكل ذلك في ثلاث سنين وسواء كانت الشجة موضحة أو هاشمة أو منقلة أو آمة
فالشجاج كلها في التداخل سواء لان المعنى لا يوجب الفصل وسواء قلت الشجاج أو كثرت بعد أن لا يجاوز أرشها
الدية حتى لو كانت آمتين أو ثلاث أو أم ذهب منها الشعر أو العقل يدخل أرشها في الشعر والعقل وإن كانت أربع أو أم
317

يدخل قدر الدية لا غير ويجب فيها دية وثلث دية لان الكثير لا يتبع القليل فيما دون النفس وعلى قول زفر رحمة الله عليه
ديتان وثلث دية لأنه لا يرى التداخل في الشجاج أصلا ورأسا ولو سقط بالموضحة بعض شعر رأسه ينظر
إلى أرش الموضحة والى حكومة العدل في الشعر فإن كانا سواء لا يجب الا أرش الموضحة وإن كان أحدهما أكثر
يدخل الأقل في الأكثر أيهما كان لأنهما يجبان لمعنى واحد فيتداخل الجزء في الجملة ولو كانت الشجة في حاجبه
فسقط ولم ينبت يدخل أرش الموضحة في أرش الحاجب وهو نصف الدية كما يدخل في أرش الشعر لما قلنا وهذه
المسائل من الشجاج الخطأ (فاما) إذا كانت الشجة عمدا فذهب منها العقل أو الشعر أو السمع أو غيره ففيه خلاف
ذكرناه فيما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * ومما يلحق بمسائل التداخل ما إذا قطعت اليد وفيها إصبع واحدة أو إصبعان أو ثلاث أو أكثر من
ذلك أو أقل وجملة الكلام فيه انه إذا قطع الكف وفيها ثلاث أصابع فصاعدا تجب دية الأصابع ولا شئ في الكف
في قولهم جميعا لان الكف تبع لجميع الأصابع بدليل انه إذا قطع الكف عليه أرش الأصابع لا غير ولا يجب
لأجل الكف شئ فإذا بقي أكثر الأصابع فللأكثر حكم الكل وان بقي من الكف أقل من ثلاث أصابع
يجب أرش ما بقي منها وإن كان مفصلا واحدا ولا يجب في الكف شئ في قول أبي حنيفة والأصل عند أبي حنيفة
رحمه الله انه إذا بقي من الأصابع شئ له أرش معلوم ولو مفصلا واحدا دخل أرش اليد فيه حتى لو لم يكن في الكف الا
ثلث مفصل من أصبع فيها ثلاث مفاصل فقطع انسان الكف فعليه ثلث خمس دية اليد ولو كان فيها إصبع واحدة
فعليه خمس دية اليد ولو كان فيها إصبعان فعليه خمسا دية اليد وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في الرواية
المشهورة عنهما يدخل القليل في الكثير أيهما كان فينظر إلى حكومة الكف والى أرش ما بقي من الأصابع فيدخل
أقلهما في أكثرهما أيهما كان لان القليل يتبع الكثير لا عكسا فيدخل القليل في الكثير ولا يدخل الكثير في
القليل (وجه) قول أبي حنيفة رحمه الله ان ما بقي من الأصابع أو من مفاصلها فهو أصل لان له أرشا مقدرا والكف
ليس لها رش مقدر وهي متصلة بالأصابع فيتبعها في أرشها كما يتبع جميع الأصابع أو أكثرها ونظير هذا ما قالوا في
القسامة انه ما بقي واحدا من أهل المحلة فالقسامة عليهم لا على المشترين وكذلك الوصية لولد فلان أنه ما بقي له ولد من
صلبه وإن كان واحدا لا يدخل ولد الولد في الوصية وقال أبو يوسف إذا قطع كفا لا أصابع فيها فعليه حكومة لا يبلغ
بها أرش إصبع لان الواحدة يتبعها الكف في قول أبي حنيفة رحمه الله والتبع لا يساوى المتبوع في الأرش ولو قطع
اليد مع الذراع من المفصل خطأ ففي الكف مع الأصابع الدية وفى الذراع حكومة العدل في قولهما وقال أبو يوسف
تجب دية اليد والذراع تبع وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله واحتجا بقوله عليه الصلاة والسلم وفى اليدين الدية وفى
إحداهما نصف الدية واليد عبارة عن العضو المخصوص من رؤس الأصابع إلى المنكب ولان ما ليس له أرش
مقدر إذا اتصل بماله أرش مقدر يتبعه في الأرش كالكف مع الأصابع (وجه) قولهما أن الدية إنما تجب في
الأصابع والكف تابعة للأصابع بدليل انه إذا أفرد الأصابع بالقطع يجب نصف الدية ولو قطعها مع الكف
لا يجب الا نصف الدية أيضا فلو جعل الذراع تبعا لكان لا يخلو اما ان يجعل تبعا للأصابع (واما) أن يجعل تبعا
للكف لا سبيل إلى الأول لان بنيهما عضو فاصل وهو الكف فلا يكون تبعا لها ولا وجه للثاني لان الكف
تابعة في نفسها فلا تستتبع غيرها وعلى هذا الخلاف إذا قطع اليد من المنكب والرجل من الورك أو قطع اليد من العضد
والرجل من الفخذ والأصل عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة ان أصابعه اليد لا يتبعها الا الكف فلا يدخل في
أرشها غير أرش الكف وكذلك أصابع الرجل لا يتبعها غير المقدم فلا يدخل في أرشها غير أرش القدم والأصل
عند أبي يوسف وابن أبي ليلى ان ما فوق الكف من اليد تبع وكذا ما فوق القدم من الرجل تبع فيدخل أرش التبع
في المتبوع كما يدخل أرش الكف في الأصابع (وأما) الجراح ففي الجائفة ثلث الدية لما روى عنه عليه الصلاة
318

والسلام أنه قال في الجائفة ثلث الدية فان نفذت إلى الجانب الا آخر فهما جائفتان وفيهما ثلثا الدية وقد روى عن
سيدنا أبى بكر الصديق أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية وكان ذلك بمحضر من الصحابة
الكرام ولم ينقل انه خالفه في ذلك أحد منهم منهم فيكون اجماعا وعلى هذا يخرج ما إذا رمى امرأة بحجر فأصاب فرجها
فأفضاها به بان جعل موضع البول والغائط واحدا وهي تستمسك البول ان عليه ثلث الدية لان هذا في معنى الجائفة
وجملة الكلام ان المفضاة لا يخلو (اما) إن كانت أجنبية (واما) إن كانت زوجته والافضاء لا يخلو (اما) أن
يكون بالآلة (واما) أن يكون بالحجر أو بالخشب أو الإصبع وما يجرى مجراه فإن كانت أجنبية والافضاء بالآلة
فإن كانت مطاوعة ولم يوجد دعوى الشبهة لا من الرجل ولا من المرأة فعليهما الحد لوجود الزنا منهما ولا مهر على الرجل
لان العقر مع الحد لا يجتمعان ولا أرش لهما بالافضاء سواء كانت تستمسك البول أو لا تستمسك لان التلف تولد من
فعل مأذون فيه من قبلها فلا يجب به الضمان كما لو أذنت بقطع يدها فقطعت لا ضمان على القاطع كذا هذا وإن كان الرجل
يدعى الشبهة سقط عنه الحد وعنها أيضا وعلى الزوج العقر لان الوطئ لا يخلو من ايجاب حدا وغرامة ولا أرش لها
بالافضاء لما ذكرنا وإن كانت مستكرهة فإن لم يدع الرجل الشبهة فعليه الحد لوجود الزنا منه ولا حد عليها لعدم الزنا
منها ولا عقر على الرجل لوجوب الحد عليه والحد مع العقر لا يجتمعان وعلى الرجل الأرش بالافضاء لعدم الرضا منها
بذلك ثم إن كانت تستمسك البول ففيه ثلث الدية لأنه جائفة وإن كانت لا تستمسك البول ففيه كمال الدية لوجود
اتلاف العضو بتفويت منفعة الحبس وإن كان الرجل يدعى الشبهة سقط الحد عنه للشبهة وعنها أيضا لوجود
الاكراه ولها الأرش بالافضاء لما ذكرنا ثم إن كانت تستمسك البول فلها ثلث الدية لأنها جائفة وكمال المهر وإن كان
ت لا تستمسك فلها الدية ولا مهر لها في قولهما وعند محمد رحمه الله لها المهر والدية وجه قوله إن سبب وجوب
المهر والدية مختلف لان المهر يجب باتلاف المنفعة والدية تجب باتلاف العضو فلا يدخل أحدهما في الآخر ولهذا لم
يدخل المهر في ثلث الدية فيما إذا كانت تستمسك البول حتى وجب عليه كمال المهر مع ثلث الدية كذا هذا ولهما أن
سبب الوجوب متحد لان الدية تجب باتلاف هذا العضو والعقر يجب باتلاف منافع البضع ومنافع البضع ملحقة
باجزاء البضع فكان سبب وجوبهما واحدا فكان المهر عوضا عن جزء من البضع وضمان الجزء والكل إذا وجد
السبب واحد يدخل ضمان الجزء في ضمان الكل كالأب إذا استولد جارية ابنه انه لا يلزمه العقر ويدخل في قيمة
الجارية لما قلنا كذا هذا وأما وجوب كمال المهر مع ثلث الدية حالة الاستمساك فعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة
رضي الله عنهما لا يجمع بينهما بل الأقل يدخل في الأكثر كما يدخل أرش الموضحة في دية الشعر فكانت المسألة
ممنوعة ولئن سلمنا على ظاهر الرواية فلا يلزم لان المنافى لضمان الجزء هو ضمان كل العين وثلث الدية ضمان الجزء
وضمان الجزء لا يمنع ضمان جزء واحد هذا إذا كان الافضاء بالآلة (فاما) إذا كان بغيرها من الحجر ونحوه
فالجواب في هذا الفصل في جميع وجوهه كالجواب في الفصل الأول في الوفاق والخلاف والجمع بين الضمانين
وعدم الجمع الا ان الأرش في هذا الفصل يجب في ماله وفى الفصل الأول تتحمله العاقلة لان الافضاء بالآلة
يكون في معنى الخطأ وبغيرها يكون عمدا وقال بعض مشايخنا لا وجه لايجاب المهر في هذا الفصل لان وجوبه
متعلق بقضاء الشهوة ولم يوجد وقال بعضهم يجب ويلحق غير الآلة بالآلة تعظيما لأمر الابضاع كما الحق
الايلاج بدون الانزال بالايلاج مع الانزال في وجوب الحد وغيره من الأحكام مع قيام شبهة القصور في قضاء
الشهوة تفخيما لشأن الفروج والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كانت المرأة أجنبية (فاما) إذا كانت زوجته
فأفضاها فلا شئ عليه سواء كانت تستمسك البول أو لا تستمسك في قولهما وقال أبو يوسف إن كانت لا تستمسك
البول فعليه الدية في ماله وإن كانت تستمسك فعليه ثلث الدية في ماله (وجه) قوله إنه مأذون في الوطئ لا في الافضاء
فكان متعديا في الافضاء فكان مضمونا عليه (ولهما) ان الوطئ مأذون فيه شرعا فالمتولد منه لا يكون
319

مضمونا كالبكارة ولو وطئ زوجته فماتت فلا شئ عليه في قولهما وقال أبو يوسف على عاقلته الدية (وجه)
قوله على نحو ما ذكرنا في الافضاء انه مأذون في الوطئ لا في القتل وهذا قتل فكان مضمونا عليه الا ان ضمان هذا
على العاقلة وضمان الافضاء في ماله لان الافضاء لا يكون الا بالمجاوزة عن المعتاد فكان عمدا فكان الواجب
به في ماله (فأما) القتل فغير مقصود بهذا الفعل في معنى الخطأ فتتحمله العاقلة (وأما) وجه قولهما فعلى نحو ما ذكرنا
في الافضاء ولو وطئها فكسر فخذها ضمن في قولهم جميعا لان الكسر لا يتولد من الوطئ المأذون فيه بل هو فعل
مبتدأ فكان فعلا تعديا محضا فكان مضمونا عليه والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) سائر جراح البدن إذا
برئت وبقى لها أثر ففيها حكومة العدل وان لم يبق لها أثر فلا شئ فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه على ما بينا في الشجة
وان مات فالجراحة لا تخلو (اما) إن كانت من واحد (واما) إن كانت من عدد فإن كانت من واحد ففيها
القصاص إن كانت عمدا والدية إن كانت خطأ وإن كانت من عدد فالجراحة المجتمعة من أعداد (اما) إن كانت
كلها مضمونة (واما) إن كان بعضها مضمونا والبعض غير مضمون فإن كان الكل مضمونا بان جرحه رجل
جراحة وجرحه آخر جراحة أخرى خطأ فمات من ذلك كله كانت الدية عليها نصفين وسواء جرحه أحدهما
جراحة واحدة والآخر جرحه جراحتين أو أكثر لا ينظر إلى عدد الجراحات وإنما ينظر إلى الجارح لان الانسان
قد يموت من جراحة واحدة ويسلم من عشرة وقد يموت من عشرة ويسلم من واحدة حتى لو جرحه أحدهما جراحة
واحدة والآخر عشر جراحات فمات من ذلك كانت الدية بينهما نصفين لما قلنا وكذلك إذا جرحه رجل جراحة
واحدة وجرحه آخر جراحتين وآخر ثلاثا فمات من ذلك كله كانت الدية بينهم أثلاثا لما قلنا وعلى هذا يخرج ما إذا
جرحه رجل جراحة واحدة وجرحه آخر عشر جراحات فعفا المجروح للجارح عن جراحة واحدة من العشر وما
يحدث منها ثم مات من ذلك ان على صاحب الجراحة الواحدة نصف الدية وعلى صاحب العشرة الربع ويسقط
الربع لأنه لما سقط اعتبار عدد الجراحات كانت الجراحة الواحدة كالعشر في الضمان ثم لما عفا عن واحدة من
الجراحات العشر انقسمت العشر فيتغير حكمها فصار لتسعة منها الربع وللواحدة الربع فسقط بالعفو عن الواحدة من
العشرة الربع وبقى الربع تبعا للتسعة وإن كان البعض مضمونا والبعض غير مضمون ينقسم الضمان فيسقط بقدر
ما ليس بمضمون ويبقى بقدر المضمون وعلى هذا يخرج ما إذا خرج رجلا جراحة وجرحه سبع فمات من ذلك
ان على الرجل نصف الدية ونصفها هدر لأنه مات بجراحتين إحداهما مضمونة والأخرى ليست بمضمونة فانقسم
الضمان فسقط بقدر غير المضمون وبقى بقدر المضمون وكذلك لو جرحه الرجل جراحتين والسبع جراحة
واحدة أو جرحه السبع جراحتين والرجل جراحة واحدة فمات من ذلك أنه يجب على الرجل نصف الدية ويهدر
النصف لأنه لا عبرة لكثرة الجراحة لما بينا وكذلك لو جرحه رجل جراحة وعقره سبع ونهشته حية وخرج به
خراج وأصابه حجر رمت به الريح فمات من ذلك فعل الرجل نصف الدية ويهدر النصف والأصل انه يجعل
الجراحات التي ليس لها حكم يلزم أحدا كجراحة واحدة ويصير كأنه مات من جراحتين إحداهما مضمونة
والأخرى غير مضمونة فيلزم الرجل نصف الدية ويبطل نصفها سواء كثر عدد الهدر أو قل هو كجراحة واحدة لان
الهدر له حكم واحد فصار كجراحات الرجل الواحد انها في الحكم كجراحة واحدة كذا هذا وكذلك لو جرحه
رجل جراحة وجرحه آخر جراحة أخرى ثم انضم إلى ذلك شئ مما ذكرنا انه لا حكم له يلزم فاعله فان على كل رجل
ثلث الدية ويهدر الثلث لما ذكرنا ان الهدر من الجراحات وان كثر فهو كجراحة واحدة وكل واحدة من جراحتي
الرجلين مضمونة فقد مات من ثلاث جراحات جراحتان منها مضمونتان وجراحه هدر فتقسم الدية أثلاثا فيسقط
قدر ما ليس بمضمون وهو الثلث ويبقى قدر المضمون وهو الثلثان فإن كان لبعض الجناة جنايات مختلفة الأحكام فإنه
يقسم ما يخصه على جناياته بعد ما قسم عدد الجناية على أحكام الجنايات وذلك نحو رجل أمر رجلان أن يقطع يده لعلة بها
320

ثم إن المأمور جرح الآمر جراحة أخرى بغير أمره ثم جرحه رجلان آخران كل واحد منهما جراحة ثم عقره سبع
ثم نهشته حية وخرج به خراج فمات من ذلك كله تقسم الدية أرباعا لان الموت حصل من أربع جنايات لان الهدر
من الجنايات لها حكم جناية واحدة وجراحتا المأمور وان اختلف حكمهما فإنهما حصلا من رجل واحد فلا يثبت
لهما في حق شركائه الا حكم جناية واحده فثبت ان الموت حصل من أربع جنايات فكانت قسمة الدية أرباعا هدر
الربع منها وبقيت ثلاثة أرباع تقسم على الجنايات الثلاثة فيكون على كل واحد منهم الربع ثم ما أصاب المأمور
بالقطع تقسم حصته وهي الربع على جراحتيه فإحداهما مضمونة وهي التي فعلها بغير أمر المجروح والأخرى غير
مضمونة وهي التي فعلها بأمره وهي القطع فيسقط بقدر ما ليس بمضمون وهو نصف الربع وهو الثمن وبقى قدر ما هو
مضمون وهو نصف الربع الآخر وهو الثمن الآخر والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أن رجلا أمر عشرة أن
يضربوا عبده أمر كل واحد منهم أن يضربه سوطا فضربه كل واحد منهم ما أمره ثم ضربه رجل آخر لم يأمره سوطا
فمات من ذلك كله فعلى الذي لم يؤمر أرش السوط الذي ضربه من قيمته مضروبا عشرة أسواط وعلية أيضا جزء من
أحد عشر جزأ من قيمته مضروبا أحد عشر سوطا وإنما كان كذلك (أما) وجوب أرش السوط الذي ضربه
فلانه نقصه بالضرب فيلزمه ضمان النقصان (وأما) اعتبار قيمة العبد مضروبا عشرة أسواط فلانه ضربه
بعد ما انتقص من ضرب العشرة وذلك حصل من فعل غيره فلا يكون عليه وإنما عليه ضمان ما نقصه سوطه الحادي
عشر من قيمته لذلك اعتبرت قيمته وهو مضروب عشرة فيقوم وهو غير مضروب ويقوم وهو مضروب عشرة
أسواط فيلزم الذي لم يؤمر بالضرب ذلك القدر (وأما) وجوب جزء من أحد عشر جزأ من قيمته فلانه مات
من أحد عشر سوطا كل سوط حصل ممن يتعلق بفعله حكم في الجملة وهو الآدمي فانقسم الضمان على عددهم
ثم ما أصاب العشرة سقط عنهم لحصوله بإذن المالك وما أصاب الحادي عشر ضمنه الذي لم يؤمر بالضرب لأنه ضرب
بغير اذن المالك (وأما) اعتبار تضمينه مضروبا بأحد عشر سوطا فلان البعض الحاصل بضرب العشرة حصل بفعل
غيره فلا يكون عليه ضمانه (وأما) السوط الحادي عشر فلانه قد ضمن نقصانه مرة فلا يضمنه ثانيا وإنما لم يدخل
نقصان السوط فيما وجب عليه من القيمة لان كل واحد منهما ضمان الجزء وضمان الجزء إذا تعلق بسبب واحد
لا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف ما إذا ضربه واحد ومات من ذلك أنه يضمن القيمة دون النقصان لأنه اجتمع
هناك ضمان جزء وضمان كل فيدخل ضمان الجزء في ضمان الكل لاتحاد سبب الضمانين هذا إذا أمر المولى عشرة
أن يضربه كل واحد منهم سوطا فإن كان المولى هو الذي ضربه عشرة أسواط بيده ثم ضربه أجنبي سوطا ثم
مات من ذلك كله فعلى الأجنبي ما نقصه السوط الحادي عشر من قيمته مضروبا بعشرة أسواط وعليه
أيضا نصف قيمته مضروبا أحد عشر سوطا اما وجوب ضمان نقصان السوط واعتبار قيمته مضروبا بعشرة أسواط
فلما ذكرنا (واما) وجوب نصف قيمته فلانه مات من سوطين في الحاصل لان ضرب الأسواط العشرة من المولى
بمنزلة جناية واحدة لأنها حصلت من رجل واحد والجنايات من واحد وان كثرت فهي في حكم جناية واحدة فصار
كأنه مات من سوطين سوط المولى وسوط الأجنبي وسوط المولى ليس بمضمون وسوط الأجنبي مضمون فسقط
نصف القيمة وثبت نصفها (وأما) اعتبار قيمته مضروبا أحد عشر سوطا وعدم دخول ضمان النقصان في ضمان القيمة
فلما ذكرنا في المسألة المتقدمة رجل أمر غيره أن يجرحه جراحة واحدة فجرحه عشر جراحات وجرحه آخر جراحة
أخرى واحدة بغير أمره ثم عفا المجروح لصاحب العشرة عن واحدة من التسع التي كانت بغير أمره ثم مات المجروح
من ذلك كله فعلى صاحب الجراحة الواحدة نصف الدية وعلى صاحب العشرة ثمن الدية لان نصف الدية على
صاحب الجراحة الواحدة والنصف الآخر تعلق بصاحب العشرة واحدة منها بأمر المجروح فصار عليه الربع
ثم انقسم ذلك بالعفو فسقط نصفه وهو الثمن وبقى عليه الثمن والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان المجني عليه حرا
321

ذكرا فاما إذا كان أنثى حرة فإنه يعتبر ما دون النفس منها بديتها كديتها قل أو كثر عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال تعاقل المرأة الرجل فيما كان أرشه نصف عشر الدية كالسن
والموضحة أي ما كان أرشه هذا القدر فالرجل والمرأة فيه سواء لا فضل للرجل على المرأة وعن سعيد بن المسيب أنه قال
تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها أي أرش الرجل والمرأة إلى ثلث ديتها سواء وهو مذهب أهل المدينة ويروون
انه عليه الصلاة والسلام قال تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها وهذا نص لا يتحمل التأويل واحتج ابن مسعود
رضي الله عنه بحديث الغرة انه عليه الصلاة والسلام قضى في الجنين بالغرة وهي نصف عشر الدية ولم يفصل عليه
الصلاة والسلام بين الذكر والأنثى فيدل على استواء أرش الذكر والأنثى في هذا القدر (ولنا) انه بنصف
بدل النفس بالاجماع وهو الدية فكذا بدل ما دون النفس لان المنصف في الحالين واحد وهو الأنوثة ولهذا ينصف
ما زاد على الثلث فكذا الثلث وما دونه ولان القول بما قاله أهل المدينة يؤدى إلى القول بقلة الأرش عند كثرة الجناية
وانه غير معقول والى هذا أشار ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي رحمه الله فإنه روى أنه سأل سعيد بن
المسيب عن رجل قطع أصبع المرأة فقال فيها عشر من الإبل قال فان قطع ثلاثة قال ففيها ثلاثون من الإبل قال فان
قطع أربعة فقال عشرون من الإبل فقال ربيعة لما كثرت جروحها وعظمت مصيبتها قل أرشها فقال أعراقي
أنت قال لا بل جاهل متعلم أو عالم متبين فقال هكذا السنة يا ابن أخي وعنى به سنه زيد بن ثابت رضي الله عنه أشار ربيعة
إلى ما ذكرنا من المعنى وقبله سعيد حيث لم يعترض عليه وأحال الحكم إلى السنة وبهذا تبين ان روايتهم عنه عليه الصلاة
والسلام لم تصح إذ لو صحت لما اشتبه الحديث على مثل سعيد ولا حال الحكم إلى قوله عليه الصلاة والسلام لا إلى سنة
زيد رضي الله عنه فدل ان الرواية لا تكاد تثبت عنه عليه الصلاة والسلام وأما حديث الغرة في الجنين فنقول بموجبه
ان الحكم في أرش الجنين لا يختلف بالذكورة والأنوثة وإنما الكلام في أرش المولود والحديث ساكت عن بيانه ثم
نقول احتمل انه عليه الصلاة والسلام لم يفصل في الجنين بين الذكر والأنثى لان الحكم لا يختلف ويحتمل انه لم يفصل
لتعذر الفصل لعدم استواء الخلقة فلا يكون حجة مع الاحتمال هذا الذي ذكرنا إذا كان الجاني حرا والمجني عليه حرا
فأما إذا كان الجاني حرا والمجني عليه عبدا فالأصل فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه ما ذكرنا في الفصل المتقدم ان كل
شئ من الحر فيه قدر من الدية فمن العبد فيه ذلك القدر من قيمته سواء كان فيما يقصد به المنفعة أو الجمال والزينة في رواية
عنه وفى رواية فيما يقصد به الجمال والزينة يجب النقصان وعندهما في جميع ذلك يجب النقصان فيقوم العبد مجنيا عليه
ويقوم غير مجني عليه فيغرم الجاني فضل ما بين القيمتين وقد بينا وجه الروايتين عنه وجه قولهما في الفصل الأول
* (فصل) * وأما شرائط الوجوب فهو أن تكون الجناية خطأ إذا كانت الجناية فيما في عمده القصاص فإن كانت
مما لا قصاص في عمده يستوى فيه الخطأ والعمد وقد مر بيان الجنايات التي في عمدها القصاص وما لا قصاص
في عمدها
* (فصل) * وأما بيان الجناية التي تتحملها العاقلة والتي لا تتحملها فيما دون النفس فنقول لا خلاف انه إذا بلغ
أرش الجناية فيما دون النفس من الاحراز نصف عشر الدية فصاعدا وذلك خمسمائة في الذكور ومائتان وخمسون
في الإناث تتحمله العاقلة واختلف فيما دون ذلك في الرجل والمرأة قال أصحابنا رحمهم الله تعالى يكون في مال الجاني
ولا تتحمله العاقلة وقال الشافعي رحمه الله تعالى العاقلة تتحمل القليل والكثير (وجه) قوله إن التحمل من العاقلة
لتفريط منهم في الحفظ والنصرة وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين القليل والكثير (ولنا) ان القياس يأبى التحمل
لان الجناية حصلت من غيرهم وإنما عرفنا ذلك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرش الجنين على العاقلة وهو
الغرة وهي نصف عشر الدية فبقي الامر فيما دون ذلك على أصل القياس ولان ما دون ذلك ليس له أرش مقدر بنفسه
فأشبه ضمان الأموال فلا تتحمل العاقلة كما لا تتحمله ضمان المال ولا يلزم على هذا أرش الأنملة فان لها أرشا
322

مقدرا وهو ثلث دية الإصبع فينبغي ان تتحمله العاقلة لان الأنملة ليس لها أرش مقدر بنفسها بل بالإصبع فكانت
جزأ مما له أرش مقدر وهو الإصبع فلا تتحمله العاقلة ثم ما كان أرشه نصف عشر الدية إلى ثلث الدية يؤخذ من العاقلة
في سنة واحدة استدلالا بكمال الدية فان كل الدية تؤخذ من العاقلة في ثلاث سنين لاجماع الصحابة رضي الله عنهم على
ذلك فان سيدنا عمر رضي الله عنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فيكون اجماعا
فكلما كان من الأرش قدر ثلث الدية يؤخذ في سنة واحدة لان في الدية الكاملة هكذا فإذا ازداد الأرش على ثلث
الدية فقدر الثلث يؤخذ في سنة والزيادة في سنة أخرى لان الزيادة على الثلث في كل الدية تؤخذ في السنة الثانية
فكذلك إذا انفردت فان زاد على الثلثين في سنتين وما زاد على ذلك في السنة قياسا على كل الدية والله
تعالى أعلم (وأما) ما دون النفس من العبيد فلا تتحمله العاقلة بالاجماع لان ما دون النفس من العبيد له حكم الأموال
لما ذكرنا فيما تقدم ولهذا لا يجب فيه القصاص وضمان المال لا تتحمله العاقلة والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الذي يجب فيه أرش غير مقدر وهو المسمى بالحكومة فالكلام فيه في مواضع في بيان الجنايات
التي تجب فيها الحكومة وفى تفسير الحكومة أما الأول فالأصل فيه ان ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون
النفس وليس له أرش مقدر ففيه الحكومة لان الأصل في الجناية الواردة على محل معصوم اعتبارها بايجاب الجابر أو
الزاجر ما أمكن إذا عرف هذا فنقول في كسر العظام كلها حكومة عدل الا السن خاصة لان استيفاء القصاص بصفة
المماثلة فيما سوى السن متعذر ولم يرد الشرع فيه بأرش مقدر فتجب الحكومة وأمكن استيفاء المثل في السن والشرع
ورد فيها بأرش مقدر أيضا فلم تجب فيها الحكومة وفى لسان الأخرس والعين القائمة الذاهب نورها والسن السوداء
القائمة واليد الشلاء والرجل الشلاء وذكر الخصي والعنين حكومة عدل لأنه لا قصاص في هذه الأشياء وليس فيها
أرش مقدر أيضا لان المقصود ههنا المنفعة ولا منفعة فيها ولا زينة أيضا لأن العين القائمة الذاهب نورها لا جمال فيها
عند من يعرفها على أن المقصود من هذه الأشياء المنفعة ومعنى الزينة فيها تابع فلا يتقدر الأرش لأجله وفى الإصبع
والسن الزائدة حكومة عدل لأنه لا قصاص فيها وليس لها أرش مقدر أيضا لانعدام المنفعة والزينة لكنها جزء من
النفس وأجزاء النفس مضمونة مع عدم المنفعة والزينة لما ذكرنا (واما) الصغير الذي لم يمش ويلم يقعد ورجله ولسانه
وأذنه وأنفه وعينه وذكره ففي أنفه وأذنه كمال الدية وكذلك في يديه ورجليه إذا كان يحركهما وكذا في ذكره إذا كان
يتحرك وفى لسانه حكومة العدل لا الدية وان استهل ما لم يتكلم لان الاستهلال صياح وأما العينان فإن كان يستدل
بشئ على بصرهما ففيهما مثل عين الكبير وإنما كان كذلك (أما) الانف والاذن فلان المقصود منهما الجمال
لا المنفعة وذلك يوجد في الصغير بكماله كما يوجد في الكبير (وأما) الأعضاء التي يقصد بها المنفعة فلا يجب فيها
أرش كامل حتى يعلم صحتها بما ذكرنا فإذا علم ذلك فقد وجد تفويت منفعة الجنس في كل واحد من ذلك فيجب فيه
أرش كامل فإذا لم يعلم يقع الشك في وجود سبب وجوب كمال الأرش فلا يجب الشك ولا يقال إن الأصل هو
الصحة والآفة عارض فكانت الصحة ثابتة ظاهرا لأنا لا نسلم هذا الأصل في الصغير بل الأصل فيه عدم الصحة
والسلامة لأنه كان نطفة وعلقة ومضغة فما لم يعلم صحة العضو فهو على الأصل على أن هذا الأصل متعارض لان براءة
ذمة الجاني أصل أيضا فعارض الأصلان فسقط الاحتجاج بالأصل على الصحة على أن الصحة إن كانت ثابتة
ظاهرا بحكم الأصل لأن الظاهر حجة الدفع لا حجة الاستحقاق كحياة المفقود انها تصلح لدفع الإرث لا لاستحقاقه
وفى الظفر إذا نبت لا شئ فيه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه عادت المنفعة والزينة وان مات ففيه حكومة عدل
لأنه لا قصاص فيه ولا له أرش مقدر وكذا إذا نبت على عيب ففيه حكومة عدل دون ذلك لان النابت عوص عن
الذاهب فكأن الأول قائم ودخله عيب وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله انه إذا نبت أسودان فيه حكومة لما
أصاب من الألم بالجراحة الأولى بناء على أصله ان الألم مضمون وفى ثدي الرجل حكومة العدل لأنه لا قصاص فيه
323

ولا أرش مقدر لأنه لا منفعة فيه ولا جمال فتجب الحكومة فيهما وفى أحدهما نصف ذلك الحكم وفى حملة ثدييه
حكم عدل دون ما في ثدييه لما قلنا وثدي المرأة تبع للحلمة حتى لو قطع الحلمة ثم الثدي فإن كان قبل البرء لا يجب الا
نصف الدية وإن كان بعد البرء يجب نصف الدية في الحلمة والحكومة في الثدي لان منفعة الثدي الرضاع وذلك
يبطل بقطع الحلمة وكذلك الانف مع المارن حتى لو قطع المارن دون الانف تجب الدية ولو قطع مع المارن لا تجب
الا دية واحدة ولو قطع المارن ثم الانف فإن كان قبل البرء تجب دية واحدة وإن كان بعد البرء ففي المارن الدية وفى
الانف الحكومة وكذلك الجفن مع الأشفار حتى لو قطع الشفر بدون الجفن يجب الأرش المقدر ولو قطع الجفن
معه لا يجب ذلك الأرش كالكف مع الأصابع ولو قطع الشفر ثم الجفن فإن كان قبل البرء فكذلك وإن كان بعد
البرء يجب في الشفر أرشه وفى الجفن الحكومة لأنه قطع الشفر وهو كامل المنفعة وقطع الجفن وهو ناقص المنفعة فلا
يجب الا الأرش الناقص وهو الحكومة ولو قطع أنفا مقطوع الأرنبة ففيه حكومة العدل لان المقصود من الانف
الجمال وقد نقص جماله بقطع الأرنبة فينتقص أرشه وكذلك إذا قطع كفا مقطوعة الأصابع لان
المقصود من الكف البطش وانه لا يحصل بدون الأصابع وكذلك إذا قطع ذكرا مقطوع الحشفة لان منفعة الذكر
تزول بزوالها فلا يمكن ايجاب أرش مقدر ولا قصاص فيه فتجب الحكومة (ولو) قطع الذكر والأنثيين فان قطعهما
معا بان قطعهما من جانب عرضا يجب ديتان لأنه فوت منفعة الجماع يقطع الذكر ومنفعة الانزال بقطع الأنثيين فقد
وجد تفويت منفعة الجنس في قطع كل واحد منهما فيجب في كل واحد منهما دية كاملة وان قطع أحدهما بعد
الآخر بأن قطعهما طولا فان قطع الذكر أولا تجب ديتان أيضا دية بقطع الذكر لوجود تفويت منفعة الجماع ودية
بقطع الأنثيين لان بقطع الذكر لا تنقطع منفعة الأنثيين وهو الانزال لان الانزال يتحقق مع عدم الذكر وان بدأ بقطع
الأنثيين ثم الذكر ففي الأنثيين الدية وفى الذكر حكومة العدل لان منفعة الأنثيين كانت كاملة وقت قطعهما ومنفعة
الذكر تفوت بقطع الأنثيين إذ لا يتحقق الانزال بعد قطع الأنثيين فنقص أرشه ولو حلق رأس رجل فنبت
أبيض فلا شئ فيه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه (وقال) أبو يوسف فيه حكومة عدل وإن كان عبدا ففيه ما نقص
(وجه) قوله إن المقصود من الشعر الزينة والزينة معتبرة في الأحرار ولا زينة في الشعر الأبيض فلا يقوم النابت
مقام الفائت (وجه) قول أبي حنيفة ان الشيب في الأحرار ليس بعيب بل هو جمال وكمال فلا يجب به أرش بخلاف
العبيد فان الشيب فيهم عيب ألا يرى أنه ينقص الثمن فكان مضمونا على الجاني وفيما دون الموضحة من الشجاج حكومة
عدل وكذا روى عن سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال ما دون الموضحة خدوش فيها حكم عدل (وكذلك)
روى عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى ولأنه لا قصاص فيه والشرع ما ورد فيه بأرش مقدر فتحب فيه الحكومة
والخلاف الذي ذكرنا في المتلاحمة بين أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يرجع إلى المعنى بل إلى الاسم لان أبا يوسف
لا يمنع أن تكون الشجة التي قبل الباضعة أقل منها أرشا وكذلك محمد لا يمنع أن تكون أرش الشجة التي ذهبت في اللحم
أكثر مما ذهبت الباضعة زائدا على أرش الباضعة فكان الاختلاف بينهما في العبارة وفيما سوى الجائفة من
الجراحات التي في البدن إذا اندملت ولم يبق لها أثر لا شئ فيها عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف رحمهما الله فيه أرش
الألم وعند محمد رحمه الله أجرة الطبيب وقد مرت المسألة وان بقي لها أثر ففيها حكومة عدل وكذا في شعر سائر البدن
إذا لم ينبت حكومة عدل وان نبت لا شئ فيه والله سبحانه وتعالى علم (وأما) تفسير الحكومة فإن كان الجاني والمجني
عليه عبدا يقوم العبد مجنيا عليه وغير مجني عليه فيجب نقصان ما بين القيمتين بلا خلاف وإن كان الجاني والمجني عليه
حرا فقد ذكر الطحاوي رحمه الله انه يقوم المجني عليه لو كان عبدا ولا جناية به ويقوم وبه الجناية فينظر كم بين القيمتين
فعليه القدر من الدية (وقال) الكرخي رحمه الله تقرب هذه الجناية إلى أقرب الجنايات التي لها أرش مقدر فينظر ذوا
عدل من أطباء الجراحات كم مقدار هذه ههنا في قلة الجراحات وكثرتها بالحزر والظن فيأخذ القاضي بقولهما ويحكم من
324

الأرش بمقداره من أرش الجراحة المقدرة (وجه) ما ذكره الطحاوي رحمه الله ان القيمة في العبد كالدية في الحر
فيقدر العبد حرا فما أوجب نقصا في العبد يعتبر به الحر وكان الكرخي رحمه الله ينكر هذا القول ويقول هذا يؤدى
إلى أمر فظيع وهو ان يجب في قليل الشجاج أكثر مما يجب في كثيرها لجواز أن يكون نقصان شجة السمحاق في
العبد أكثر من نصف عشر قيمته فلو أوجبنا مثل ذلك من دية الحر لأوجبنا في السمحاق أكثر مما يوجب في الموضحة
وهذا لا يصح والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهو الجنين بان ضرب على بطن حامل فألقت جنينا فيتعلق
بها أحكام وجملة الكلام فيه ان الجنين لا يخلو اما أن يكون حرا بأن كانت أمه حرة أو أمة علقت من مولاها أو من
مغرور واما أن يكون رقيقا ولا يخلو اما ان ألقته ميتا وما ان ألقته حيا فإن كان حرا وألقته ميتا ففيه الغرة والكلام في
الغرة في مواضع في بيان وجوبها وفى تفسيرها وتقديرها وفي بيان من تجب عليه وفي بيان من تجب له أما الأول فالغرة
واجبة استحسانا والقياس ان لا شئ على الضارب لأنه يحتمل أن يكون حيا وقت الضرب ويحتمل انه لم يكن بان لم
تخلق فيه الحياة بعد فلا يجب الضمان بالشك ولهذا لا يجب في جنين البهيمة شئ الا نقصان البهيمة كذا هذا الا انهم
تركوا القياس بالسنة وهو ما روى عن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال كنت بين جاريتين فضرب إحداهما
الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا وماتت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاقلة الضاربة بالدية وبغرة الجنين
وروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه اختصم إليه في املاص المرأة الجنين فقال سيدنا عمر رضي الله عنه أنشدكم الله
تعالى هل سمعتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا فقام المغيرة رضي الله عنه فقال كنت بين جاريتين
وذكر الخبر وقال فيه فقام عم الجنين فقال إنه أشغر وقام والد الضاربة فقال كيف ندى من لا صاح ولا استهل ولا
شرب ولا أكل ودم مثل ذلك بطل فقال عليه الصلاة والسلام أسجع كسجع الكهان وروى كسجع الاعراب فيه
غرة عبد أو أمة فقال سيدنا عمر رضي الله عنه من شهد معك بهذا فقام محمد بن سلمة فشهد فقال سيدنا عمر رضي الله عنه
كدنا ان نقضي فيها برأينا وفيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى هذه القصة أيضا حمل بن مالك
ابن النابغة ولان الجنين إن كان حيا فقد فوت الضارب حياته وتفويت الحياة قتل وان لم يكن حيا فقد منع من حدوث
الحياة فيه فيضمن كالمغرور لما منع من حدوث الرق في الولد وجب الضمان عليه وسواء استبان خلقه أو بعض خلقه
لأنه عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة ولم يستفسر فدل ان الحكم لا يختلف وان لم يستبن شئ من خلقه فلا شئ فيه لأنه
ليس بجنين إنما هو مضغة وسواء كان ذكرا أو أنثى لما قلنا ولان عند عدم استواء الخلقة يتعذر الفصل بين الذكر
والأنثى فسقط اعتبار الذكورة والأنوثة فيه (وأما) تفسير الغرة فالغرة في اللغة عبد أو أمة كذا قال أبو عبيد من أهل
اللغة وكذا فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روينا فقال عليه الصلاة والسلام فيه غرة عبد
أو أمة فسر الغرة بالعبد والأمة وروى أنه عليه الصلاة والسلام قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة أو خمسمائة وهذه
الرواية خرجت تفسيرا للرواية الأولى فصارت الغرة في عرف الشرع اسما لعبد أو أمة يعدل خمسمائة أو بخمسمائة
وهذه الرواية خرجت تفسيرا للرواية الأولى ثم تقدير الغرة بالخمسمائة مذهب أصحابنا رحمهم الله تعالى وعند الشافعي
رحمه الله مقدرة بستمائة وهذا فرع أصل ما ذكرناه فيما تقدم لأنهم اتفقوا على أن الواجب نصف عشر الدية لكنهم
اختلفوا في الدية فالدية من الدراهم عندنا مقدرة بعشرة آلاف فكان نصف عشرها خمسمائة وعنده مقدر باثني عشر
ألفا فكان نصف عشرها ستمائة ثم ابتدأ الدليل على صحة مذهبنا ان في بعض الروايات انه عليه الصلاة والسلام
قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة أو خمسمائة وهذا نص في الباب (وأما) بيان من تجب عليه الغرة تجب على العاقلة
لما روينا من الحديث انه عليه الصلاة والسلام قضى على عاقلة الضاربة بالدية وبغرة الجنين وروى أن عاقلة الضاربة
قالوا أندى من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ودم مثل هذا بطل وهذا يدل على أن القضاء بالدية كان عليهم
325

حيث أضافوا الدية إلى أنفسهم على وجه الانكار ولأنها بدل نفس فكانت على العاقلة كالدية (وأما) من تجب له
فهي ميراث بين ورثة الجنين على فرائض الله تبارك وتعالى عند عامة العلماء وقال مالك رحمه الله انها لا تورث وهي
للام خاصة (وجه) قوله إن الجنين في حكم جزء من أجزاء الام فكانت الجناية على الام فكان الأرش لها كسائر
أجزائها (ولنا) ان الغرة بدل نفس الجنين وبدل النفس يكون ميراثا كالدية (والدليل) على أنها بدل نفس الجنين لا بدل
جزء من أجزاء الام ان الواجب في جنين أم الولد ما هو الواجب في جنين الحرة ولا خلاف في أن جنين أم الولد جزء
ولو كان في حكم عضو من أعضاء الام لكان جزأ من الام حرا وبقية أجزائها أمة وهذا لا يجوز (والدليل) عليه انه عليه
الصلاة والسلام قضى بدية الام على العاقلة وبغرة الجنين ولو كان في معنى أجزاء الام لما أفرد الجنين بحكم بل دخلت
الغرة في دية الأمة كما إذا قطعت يد الام فماتت انه تدخل دية اليد في النفس وكذا لما أنكرت عاقلة الضاربة حمل الدية
إياهم فقالت اندى من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل لم يقل لهم النبي عليه الصلاة والسلام ان
أوجبت ذلك بجناية الضاربة على المرأة لا بجنايتها على الجنين ولو كان وجوب الأرش فيه لكونه جزأ من أجزاء الام
لرفع انكارهم بما قلنا فدل ان الغره وجبت بالجناية على الجنين لا بالجناية على الام فكانت معتبرة بنفسه لا بالأم ولا يرث
الضارب من الغره شيئا لأنه قاتل بغير حق والقتل بغير حق من أسباب حرمان الميراث ولا كفارة على الضارب لأنه
عليه الصلاة والسلام لما قضى بالغرة على الضاربة لم يذكر الكفارة مع أن الحال حال الحاجة إلى البيان ولو كانت واجبة
لبينها ولان وجوبها متعلق بالقتل وأوصاف أخرى لم يعرف وجودها في الجنين من الايمان والكفر حقيقة أو حكما
قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وقال تبارك وتعالى وإن كان من قوم بينكم وبنيهم ميثاق أي كان
المقتول ولم يعرف قتله لأنه لم تعرف حياته وكذا ايمانه وكفره حقيقة حكما (أما) الحقيقة فلا شك في انتقائها لان الايمان
والكفر لا يتحققان من الجنين وكذلك حكما لان ذلك بواسطة الحياة ولم تعرف حياته ولان الكفارة من باب المقادير
والمقادير لا تعرف بالرأي والاجتهاد بل بالتوقيف وهو الكتاب العزيز والسنة والاجماع ولم يوجد في الجنين الذي
القى ميتا شئ من ذلك فلا تجب فيه الكفارة ولان وجوبها متعلق بالنفس المطلقة والجنين نفس من وجه دون وجه
بدليل انه لا يجب فيه كمال الدية مع ما ان ضرب لو وقع قتل نفس لكان قتلا تسبيبا لا مباشرة والقتل تسبيبا لا يوجب
الكفارة كحفر البئر ونحو ذلك وذكر محمد رحمه وقال ولا كفارة على الضارب وان سقط كامل الخلق ميتا الا ان يشاء
ذلك فهو أفضل وليس ذلك عليه عندنا واجب وليتقرب إلى الله تبارك وتعالى بما يشاء ان استطاع ويستغفر الله
سبحانه وتعالى مما صنع وهذا قول أبى يوسف رحمه الله وقولنا كذا ذكر محمد رحمه الله لأنه ارتكب محظورا فندب
إلى أن يتقرب بالكفارة لمحوه هذا إذا ألقته ميتا فاما إذا ألقته حيا فمات ففيه الدية كاملة لا يرث الضارب منها شيئا وعليه
الكفارة (أما) حرمان الميراث فلما قلنا وأما وجوب الدية والكفارة فلانه لما خرج حيا فمات علم أنه كان حيا وقت
الضرب فحصل الضرب قتل النفس وانه في معنى الخطأ فتجب فيه الدية والكفارة هذا إذا ألقت جنينا واحدا فاما إذا
ألقت جنينين فإن كانا ميتين ففي كل واحد منهما غرة وإن كانا حيين ثم ماتا ففي كل واحد منهما دية لوجود سبب وجوب
كل واحدة منهما وهو الاتلاف الا انه أتلفهما بضربة واحدة ومن أتلف شخصين بضربة واحدة يجب عليه ضمان
كل واحد منهما كما لو أفرد كل واحد منهما بالضرب كما في الكبيرين فان ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا ثم مات
فعليه في الميت الغرة وفى الحي الدية لوجود سبب وجوب الغرة في الحنين والميت والدية في الجنين الحي فيستوى فيه
الجمع في الاتلاف والافراد فيه فان ماتت الام من الضربة وخرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه ديتان دية في
الام ودية في الجنين لوجود سبب وجوبهما وهو قتل شخصين فان خرج بعد موتها ميتا فعليه دية الام ولا شئ
عليه في الجنين وقال الشافعي رحمه الله يجب عليه في الجنين الغرة (وجه) قوله إن أتلفهما جميعا فيؤاخذ بضمان
كل واحد منهما كما لو خرج الجنين ميتا ثم ماتت الام (ولنا) ان القياس يأبى كون الجنين مضمونا أصلا
326

لما بينا من احتمال عدم الحياة وازداد ههنا احتمال آخر وهو انه يحتمل انه مات بالضرب ويحتمل انه مات بموت الام
وإنما عرفنا الضمان فيه بالنص والنص ورد بالضمان في حال مخصوصة وهي ما إذا خرج ميتا قبل موت الام فسقط
اعتبار أحد الاحتمالين فيتعين الثاني في نفى وجوب الضمان في غيره هذه الحالة هذا إذا كان الجنين حرا فاما إذا كان
رقيقا فان خرج ففيه نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى وروى عن أبي يوسف ان في جنين الأمة
ما نقص الام وقال الشافعي رحمه الله فيه عشر قيمة الام أما الكلام مع أبي يوسف رحمه الله فبناء على أصل ذكرناه
فيما تقدم وهو ان ضمان الجناية الواردة على العبد ضمان النفس أم ضمان المال فعلى أصلهما ضمان النفس حتى قالا إنه
لا تزاد قيمته على دية الحر بل تنقص ههنا وكذا تتحمله العاقلة وعلى أصل أبى يوسف رحمه الله ضمانها ضمان المال حتى
قال تبلغ قيمته بالغة ما بلغت ولا تتحمله العاقلة فصار جنينها كجنين البهيمة وهناك لا يجب الا نقصان الام كذا ههنا
(وأما) الكلام مع الشافعي رحمه الله فبناء على أن الجنين معتبر بنفسه أم بأمه وقد ذكرنا الدلائل على أنه معتبر بنفسه
لا بأمه فيما تقدم والدليل عليه أيضا ان ضمان جنين الحرة موروث عنه على فرائض الله عز وجل ولو كان معتبرا بأمه لسلم
لها كما يسلم لها أرش عضوها وإذا ثبت ان الجنين معتبر بنفسه وان الواجب فيه ضمان فهذا الاعتبار يوجب أن يكون في
جنين الأمة إذا كان رقيقا نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى لان الواجب في الجنين الحر خمسمائة
ذكرا كان أو أنثى وهي نصف عشر دية الذكر وعشر دية الأنثى والقيمة في الرقيق كالدية في الحر فيلزم أن يكون في
الجنين الرقيق نصف عشر قيمته إن كان ذكرا اعتبارا بالحر وعشر قيمته إن كان أنثى بالحرة وان خرج حيا ثم
مات قيمته لما قلنا في الجنين الحر فان ألقت جنينين ميتين أو جنينين حيين ثم ماتا ففي كل واحد منهما حالة الاجتماع ما فيه
حال الانفراد لما ذكرنا في الجنين الحر فان ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا ثم مات ففي كل واحد منهما ما هو ضمانه حالة
الانفراد لما مر فان ماتت الام من الضرب وخرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه قيمتان قيمة في الام وقيمة في
الجنين وان خرج الجنين ميتا بعد موت الام فعليه في الام القيمة ولا شئ عليه في الجنين لما ذكرنا والأصل ان في كل
موضع يجب في الجنين الحر الغرة ففي الرقيق نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى وكل موضع يجب
في المضروبة إذا كانت حرة الدية ففي الأمة القيمة وفى كل موضع لا يجب في الجنين هناك شئ لا يجب هنا شئ أيضا
لما ذكرنا في جانب الحر من غير تفاوت الا ان الواجب في جنين الأمة يكون في مال الضارب يؤخذ منه حالا ولا
تتحمله العاقلة والواجب في الجنين الحرة يكون على العاقلة لان تحمل العاقل ثبت بخلاف القياس بالنص والنص
ورد بالتحمل في الغرة في جنين فبقي الحكم في جنين الأمة على أصل القياس والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (كتاب الخنثى) *
(الكلام) فيه يقع في مواضع في تفسير الخنثى وفي بيان ما يعرف به انه ذكر أو أنثى وفي بيان حكم الخنثى المشكل
(أما الأول) فالخنثى من له آلة الرجال والنساء والشخص والواحد لا يكون ذكر أو أنثى حقيقة فاما أن يكون ذكرا
واما أن يكون أنثى
* (فصل) * وأما بيان ما يعرف به انه ذكر أو أنثى فإنما يعرف ذلك بالعلامة وعلامة الذكورة بعد البلوغ نبات اللحية
وامكان الوصول إلى النساء وعلامة الأنوثة في الكبر نهود ثديين كثديي المرأة ونزول اللبن في ثدييه والحيض والحبل
وامكان الوصول إليها من فرجها لان كل واحد مما ذكرنا يختص بالذكورة والأنوثة فكانت علامة صالحة للفصل
بين الذكر والأنثى وأما العلامة في حالة الصغر فالمبال لقوله عليه الصلاة والسلام الخنثى من حيث يبول فإن كان يبول
من مبال الذكور فهو ذكر وإن كان يبول من مبال النساء فهو أنثى وإن كان يبول منهما جميعا يحكم السبق لان سبق البول
من أحدهما يدل على أنه هو المخرج الأصلي وان الخروج من الآخر بطريق الانحراف عنه وإن كان لا يسبق
327

أحدهما الآخر فتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه وقال هو خنثى مشكل وهذا من كمال فقه أبي حنيفة رضي الله عنه لان
التوقف عند عدم الدليل واجب وقال أبو يوسف ومحمد تحكم الكثرة لأنها في الدلالة على المخرج الأصلي كالسبق
فيجوز تحكيمه وجه قول أبي حنيفة عليه الرحمة ان كثرة البول وقلته لسعة المحل وضيقه فلا يصلح للفصل بين الذكورة
والأنوثة بخلاف السبق وحكى انه لما بلغ أبا حنيفة قول أبى يوسف في تحكيم الكثرة لم يرض به وقال وهل رأيت حاكما
يزن البول فان استويا توقفا أيضا وقالا هو خنثى مشكل والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم الخنثى المشكل فله في الشرع أحكام حكم الختان وحكم الغسل بعد الموت وحكم الميراث ونحو ذلك
من الأحكام أما حكم الختان فلا يجوز للرجل ان يختنه لاحتمال انه أنثى ولا يحل له النظر إلى عورتها ولا يحل لامرأة
أجنبية ان تختنه لاحتمال انه رجل فلا يحل لها النظر إلى عورته فيجب الاحتياط في ذلك وذلك أن يشترى له من ماله
جارية تختنه إن كان له مال لأنه إن كان أنثى فالأنثى تختن بالأنثى عند الحاجة وإن كان ذكرا فتختنه أمته لأنه يباح لها النظر
إلى فرج مولاها وان لم يكن له مال يشترى له الامام من مال بيت المال جارية ختانة فإذا ختنته باعها ورد ثمنها إلى بيت المال
لان الختان من سنة الاسلام وهذا من مصالح المسلمين فيقام من بيت مالهم عند الحاجة والضرورة ثم تباع ويرد ثمنها
إلى بيت المال لاندفاع الحاجة والضرورة وقيل يزوجه الامام امرأة ختانة لأنه إن كان ذكرا فللمرأة ان تختن زوجها
وإن كان أنثى فالمرأة تختن المرأة عند الحاجة وأما حكم غسله بعد الموت فلا يحل للرجل ان يغسله لاحتمال أن يكون أنثى
ولا يحل للمرأة ان تغسله لاحتمال انه ذكر ولكنه ييمم كان الميمم رجلا أو امرأة غير أنه إن كان ذا رحم محرم منه يممه من
غير خرقه وإن كان أجنبيا يممه بالخرقة ويكف بصره عن ذراعيه وأما حكم الوقوف في الصفوف في الصلاة فإنه يقف
بعد صف الرجال والصبيان قبل صف النساء احتياطا على ما ذكرنا في كتاب الصلاة وأما حكم إمامته في الصلاة
أيضا فقد مر فلا يؤم الرجال لاحتمال انه أنثى ويؤم النساء وأما حكم وضع الجنائز على الترتيب فتقدم جنازته على جنازة
النساء وتؤخر عن جنازة الرجال والصبيان على ما مر في كتاب الصلاة لجواز انه ذكر فيسلك مسلك الاحتياط في
ذلك كله وأما حكم الغنائم فلا يعطى سهما ولكن يرضخ له كأنه امرأة لان في استحقاق الزيادة شك فلا يثبت بالشك
وأما حكم الميراث فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا رحمهم الله يعطى له أقل الانصباء وهو نصيب الأنثى الا أن يكون
أسوأ أحواله ان يجعل ذكرا فحينئذ يجعل ذكرا حكما وبيان هذا في مسائل إذا مات رجل وترك ابنا معروفا
وولدا خنثى فعند أصحابنا رحمهم الله تعالى يقسم المال بينهم أثلاثا للابن المعروف الثلثان وللخنثى الثلث ويجعل الخنثى
ههنا أنثى كأنه ترك ابنا وبنتا ولو ترك ولدا خنثى وعصبة فالنصف للخنثى والباقي للعصبة ويجعل الخنثى أنثى
كأنه ترك بنتا وعصبة ولو ترك أختا لأب وأم وخنثى لأب وعصبة فللأخت للأب والام النصف والخنثى لأب
السدس تكملة الثلثين والباقي للعصبة ويجعل الخنثى أيضا ههنا أنثى كأنه ترك أختا لأب وأم وأختا لأب وعصبة
فان تركت زوجا وأختا لأب وأم وخنثى لأب فللزوج النصف وللأخت للأب والام النصف ولا شئ للخنثى
ويجعل ههنا ذكرا لان هذا أسوأ أحواله لأنا لو جعلناه أنثى لأصاب السدس وتعول الفريضة ولو جعلناه ذكرا لا
يصيب شيئا كأنها تركت زوجا وأختا لأب وأم وأخا لأب وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا رحمهم الله تعالى وقال
الشعبي رحمه الله يعطى نصنف ميراث الذكر ونصف ميراث الأنثى لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى
فيعطى له نصف ميراث الرجال ونصف ميراث النساء (والصحيح) قول أصحابنا رحمهم الله تعالى لان الأقل ثابت
بيقين وفى الأكثر شك لأنه إن كان ذكرا فله الأكثر وإن كان أنثى فلها الأقل فكان الاستحقاق الأقل ثابتا بيقين وفى
استحقاق الأكثر شك فلا يثبت الاستحقاق مع الشك على الأصل المعهود في غير الثابت بيقين انه لا يثبت بالشك
ولان سبب استحقاق كل المال ثابت للابن المعروف وهو ذكر فيه وإنما ينتقص حقه بمزاحمة الآخر فإذا احتمل
انه ذكر واحتمل انه أنثى وقع الشك في سقوط حقه عن الزيادة على الثلث فلا يسقط بالشك على الأصل المعهود في
328

الثابت بيقين انه لا يسقط بالشك واختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في تفسير قول الشعبي رحمه الله وتخريجه فيما إذا
ترك ابنا معروفا وولدا خنثى فقال أبو يوسف على قياس قوله يقسم المال على سبعة أربعة أسهم منها للابن المعروف
وثلاثة للخنثى وقال محمد رحمه الله تعالى على قياس قوله يقسم المال على اثنى عشر سهما سبعة منها للابن المعروف
وخمسة للخنثى وجه تفسير محمد وتخريجه لقول الشعبي ان للخنثى في حال سهما وهو أن يكون ذكرا وللابن المعروف
سهم وله في حال ثلثا سهم وهو أن يكون أنثى وللابن المعروف سهم وثلث سهم فيعطى نصف ما يستحقه في حالين
لأنه لا يستحق على حالة واحدة من الذكورة والأنوثة الاستحالة أن يكون الشخص والواحد ذكر أو أنثى وليست
احدى الحالتين أولى من الأخرى فيعطى نصف ما يستحقه في الحالين وهو خمسة أسداس سهم وانكسر
الحساب بالأسداس فيصير كل سهم ستة فيصير جميع المال اثنى عشر سهما للخنثى منها خمسة وللابن المعروف
سبعة أو يقال إذا جعلنا جميع المال اثنى عشر سهما فالخنثى يستحق في حال ستة من اثنى عشر وهي أن يكون ذكرا
وفى حالة أربعة من اثنى عشر وهي أن يكون أنثى فالأربعة ثابتة بيقين وسهمان يثبتان في حال ولا يثبتان في حال وليست
احدى الحالتين أولى من الأخرى فينصف وذلك سهم فذلك خمسة أسهم للخنثى وأما الابن المعروف فالستة من
الاثني عشر ثابتة بيقين وسهمان يثبتان في حال ولا يثبتان في حال فينصف وذلك سهم فذلك سبعة أسهم للابن
المعروف والله سبحانه وتعالى أعلم (وجه) قول أبى يوسف وتخريجه لقول الشعبي انه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل
أن يكون أنثى فإن كان ذكرا فله نصيب ابن وهو سهم وللابن المعروف سهم وإن كان أنثى فله نصيب بنت وهو نصف
سهم وللابن المعروف سهم فله في حال سهم تام وفى حال نصف سهم وإنما يستحق على حالة واحدة وليست
إحداهما بأولى من الأخرى فيعطى نصف ما يستحقه في حالين وذلك ثلاثة أرباع سهم وللابن المعروف سهم تام
فيكون الميراث بينهما على سبعة أسهم للابن المعروف أربعة وللخنثى ثلاثة والله سبحانه وتعالى أعلم (ووجدت) في
شرح مسائل المجرد المنسوب إلى الامام إسماعيل بن عبد الله البيهقي رضي الله عنه الذي اختصر المبسوط والجامعين
والزيادات في مجلدة واحدة وشرحه بكتاب لقبه الشامل بابا في الخنثى فأحببت ان ألحقه بهذا الفصل وهو ليس من
أصل الشيخ وهو باب الخنثى (قال) ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يورث الخنثى
من حيث يبول وهو مذهبنا الخنثى المشكل معتبر بالنساء في حق بعض الأحكام إذا كان الاحتياط في الالحاق بهن
وبالرجال إذا كان الاحتياط فيه فحكمه في الصلاة حكم المرأة في القعود والستر وفى الوقوف بجنب الرجال في افساد
صلاة الرجل ويقوم خلف الرجال وقدام النساء ولا يلبس الحرير الحاقا بالرجال وفى القصاص فيما دون النفس مثل
المرأة ولو مات يمم بالصعيد ولا يغسله رجل ولا امرأة ويسجى قبره ويدخل قبره ذو رحم محرم منه فان قبله رجل بشهوة
لم يتزوج بأمه ولو زوجه أبوه امرأة يؤجل كالعنين سنة ولا حد على قاذفه اعتبارا بالمجبوب والرتقاء وفى الكل يعتبر
الاحتياط قال كل عبد لي حر وقال كل أمة لم يعتق الخنثى المشكل لان الملك ثابت فلا يزول بالشك ولو قال القولين جميعا
عتق لما عرف (وقوله) انا ذكر أو أنثى لا يقبل لأنه متهم ويشترى امرأة بان يشترى له أمة من ماله للخدمة فإن لم
يكن له مات فمن بيت المال لأنه من مصالح أهل الاسلام (مات) وأقام رجل البينة انها كانت امرأته
وكانت تبول من مبال النساء وامرأة انه كان زوجها وكان يبول من مبال الرجال لم يقض لأحدهما الا
ان ذكرت احدى البينتين وقتا أقدم فيقضى له وفى حبسه في الدعاوى ولا يفرض له في الديوان لأنه حق
الرجل المقاتل فان شهد القتال يرضخ له لان الرضخ نوع إعانة وان أسر لم يقتل ولا يدخل في قسامة ولا تؤخذ منه
الجرية لان هذا من أحكام الرجال أوصى رجل لما في بطن فلانة بألف درهم إن كان غلاما وبخمسمائة إن كانت
جارية وكان مشكلا لم يزد على خمسمائة عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما رحمهما الله له نصف الألف والخمسمائة
قال وخروج اللحية دليل انه رجل والثدي على مثال ثدي المرأة مع عدم اللحية والحيض دليل كونه امرأة زوج خنثى
329

من خنثى مشكلان على أن أحدهما رجل والآخر امرأة صح الوقف في النكاح حتى تتبين فان ماتا قبل البيان لم
يتوارثا لما مر شهد شهود على خنثى انه غلام وشهود انه جارية والمطلوب ميراث قضيت بشهادة الغلام لأنها
أكثر اثباتا فإن كان المدعى مهرا قضيت بكونها جارية وإن كان المقيم لا يطلب شيئا لم اسمع البينة والله سبحانه
وتعالى أعلم
* (كتاب الوصايا) *
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان جواز الوصية وفي بيان ركن الوصية وفي بيان معنى الوصية وفي بيان شرائط ركن الوصية وفي بيان صفة عقد الوصية وفي بيان حكم الوصية وفي بيان ما تبطل به الوصية (أما)
الأول فالقياس يأبى جواز الوصية لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت والموت مزيل للملك فتقع الإضافة إلى زمان
زوال الملك فلا يتصور وقوعه تمليكا فلا يصح الا انهم استحسنوا جوازها بالكتاب العزيز والسنة الكريمة
والاجماع أما الكتاب العزيز فقوله تبارك وتعالى في آية المواريث يوصيكم الله في أولادكم إلى قوله جلت عظمته من
بعد وصية يوصي بها أو دين ويوصي بها أو دين ويوصين بها أو دين وتوصون بها أو دين شرع الميراث مرتبا على
الوصية فدل أن الوصية جائزة وقوله سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ان أنتم ضربتم في الأرض ندبنا سبحانه وتعالى إلى الاشهاد على حال
الوصية فدل انها مشروعة (وأما) السنة فما روى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو سعد بن مالك كان
مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أوصى بجميع مالي فقال لا فقال بثلثي مالي قال لا قال
فبنصف مالي قال لا قال فبثلث مالي فقال عليه الصلاة والسلام الثلث والثلث كثير انك ان تدع ورثتك أغنياء خير
من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وروى فقراء يتكففون الناس فقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية
بالثلث وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إن الله تبارك وتعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم
زيادة على أعمالكم فضعوه حيث شئتم أخبر عليه الصلاة والسلام ان الله تبارك وتعالى جعلنا أخص بثلث أموالنا
في آخر أعمارنا لنكتسب به زيادة في أعمالنا والوصية تصرف في ثلث المال في آخر العمر زيادة في العمل فكانت
مشروعة وأما الاجماع فان الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يوصون من غير إنكار من أحد
فيكون اجماعا من الأمة على ذلك والقياس يترك بالكتاب العزيز والسنة الكريمة والاجماع مع ما ان ضربا من
القياس يقتضى الجواز وهو ان الانسان يحتاج إلى أن يكون ختم عمله بالقربة زيادة على تقرب الساعة على ما نطق به
الحديث أو تداركا لما فرط في حياته وذلك بالوصية وهذه العقود ما شرعت الا لحوائج العباد فإذا مست حاجتهم إلى
الوصية وجب القول بجوازها وبه تبين أن ملك الانسان لا يزول بموته فيما يحتاج إليه الا يرى أنه بقي في قدر جهازه من
الكفن والدفن وبقى في قدر الدين الذي هو مطالب به من جهة العباد لحاجة إلى ذلك كذلك ههنا وبعض الناس
يقول الوصية واجبة لما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يريد
أن يوصى فيه يبيت ليلتين الا ووصيته عند رأسه وفى نفس الحديث ما ينفى الوجوب لان فيه تحريم ترك الايصاء عند
إرادة الايصاء والواجب لا يقف وجوبه على إرادة من عليه كسائر الواجبات أو يحمل الحديث بما عليه من الفرائض
والواجبات كالحج والزكاة والكفارات والوصية بها واجبة عندنا على أنه من أخبار الآحاد ورد فيما تعم به البلوى
وانه دليل على عدم الثبوت فلا يقبل وقيل إنها كانت واجبة في الابتداء للوالدين والأقربين المسلمين لقول الله
تبارك وتعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين
ثم نسخت واختلف في الناسخ قال بعضهم نسخها الحديث وهو ما روى عن أبي قلابة رضي الله عنه عليه
330

الصلاة والسلام أنه قال لا وصية لوارث والكتاب العزيز قد ينسخ بالسنة افان قيل إنما ينسخ الكتاب عندكم
بالسنة المتواترة وهذا من الآحاد فالجواب ان هذا الحديث متواتر غير أن التواتر ضربان تواتر من حيث الرواية وهو
ان يرويه جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب وتواتر من حيث ظهور العمل به قرنا فقرنا من غير ظهور المنع والنكير
عليهم في العمل به الا انهم ما رووه على التواتر لان ظهور العمل به أغناهم عن روايته وقد ظهر العمل بهذا مع ظهور القول
أيضا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع منهم ومثله يوجب العمل قطعا فيجوز نسخ الكتاب العزيز به كما يجوز بالمتواتر
في الرواية الا انهما يفترقان من وجه وهو ان جاحد المتواتر في الرواية يكفر وجاحد المتواتر في ظهور العمل لا يكفر لمعنى
عرف في أصول الفقه وقال بعض العلماء نسختها آية المواريث وفى الحديث ما يدل عليه فإنه عليه الصلاة والسلام
قال إن الله تبارك وتعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وقوله كل ذي حق حقه أي كل حقه فقد أشار
عليه الصلاة والسلام إلى أن الميراث الذي أعطى للوارث كل حقه فيدل على ارتفاع الوصية وتحول حقه من الوصية
إلى الميراث وإذا تحول فلا يبقى له حق له في الوصية كالقبلة لما تحولت من بيت المقدس إلى الكعبة لم يبق ببيت المقدس
قبلة وكالدين إذا تحول من ذمة إلى ذمة لا يبقى في الذمة الأولى وكما في الحوالة الحقيقية وقال بعضهم الوصية بقيت واجبة
للوالدين والأقربين غير الوارثين بسبب الكفر والرق والآية وإن كانت عامة في المخرج لكن خص منها الوالدان
والأقربون الوارثون بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام لا وصية لوارث فكان الحديث مخصصا لعموم
الكتاب لا ناسخا والحمل على التخصيص أولى من الحمل على النسخ الا ان عامة أهل التأويل قالوا إن الوصية في
الابتداء كانت فريضة للوالدين والأقربين المسلمين ثم نسخت بحديث أبى قلابة وقال بعضهم إن كان عليه حج
أو زكاة أو كفارة أو غير ذلك من الواجبات فالوصية بذلك واجبة وان لم يكن فهي غير واجبة بل جائزة وبه أخذ الفقيه
أبو الليث (وأما) الكلام في الاستحباب فقد قالوا إن كان ماله قليلا وله ورثة فقراء فالأفضل أن لا يوصى لقوله
عليه الصلاة والسلام في حديث سعد رضى الله تعالى عنه انك ان تركت ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة
يتكففون الناس ولان الوصية في هذه الحالة تكون صلة بالأجانب والترك يكون صلة بالأقارب فكان أولى وإن كان
ماله كثيرا فإن كانت ورثته فقراء فالأفضل أن يوصى بما دون الثلث ويترك المال لورثته لان غنية الورثة تحصل بما زاد
على الثلث إذا كان المال كثيرا ولا تحصل عند قلته والوصية بالخمس أفضل من الوصية بالربع والوصية بالربع أفضل
من الوصية بالثلث لما روى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالربع
ولان أوصى بالربع أحب إلى من أن أوصى بالثلث ومن أوصى بالثلث لم يترك شيئا أي لم يترك من حقه شيئا لورثته
لان الثلث حقه فإذا أوصى بالثلث فلم يترك من حقه شيئا لهم وروى عن سيدنا أبى بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان
رضى الله تعالى عنهم انهم قالوا الخمس اقتصاد والربع جهد والثلث حيف وإن كان ورثته أغنياء فالأفضل الوصية
بالثلث ثم الوصية بالثلث لأقاربه الذين لا يرثون أفضل من الوصية به للأجانب والوصية للقريب المعادي أفضل من
الوصية للقريب الموالي لان الصدقة على المعادي تكون أقرب إلى الاخلاص وأبعد عن الرياء ونظيره قوله عليه
الصلاة والسلام لذلك اشترى عبدا فاعتقه فان شكرك فهو خير له وشر لك وان كفرك فهو شر له وخير لك
ولان الوصية للمعادي سبب لزوال العداوة وصيانة للقرابة عن القطيعة فكانت أولى هذا إذا استوى الفريقان
في الفضل والدين والحاجة وأحدهما معادي (فاما) إذا كان الموالي منهما اعفهما وأصلحهما وأحوجهما فالوصية
له أفضل لان الوصية له تقع إعانة على طاعة الله تبارك وتعالى
* (فصل) * وأما ركن الوصية فقد اختلف فيه قال أصحابنا الثلاثة رحمهم الله هو الايجاب والقبول الايجاب من
الموصى والقبول من الموصى له فما لم يوجدا جميعا لا يتم الركن وان شئت قلت ركن الوصية الايجاب من الموصى وعدم
الرد من الموصى له وهو ان يقع اليأس عن رده وهذا أسهل لتخريج المسائل على ما نذكر وقال زفر رحمهم الله الركن هو
331

الايجاب من الموصى فقط (وجه) قول زفر أن ملك الموصى له بمنزلة ملك الوارث لان كل واحد من الملكين ينتقل
بالموت ثم مك الوارث لا يفتقر إلى قبوله وكذلك ملك الموصى له (ولنا) قوله تبارك وتعالى وان ليس للانسان الا
ما سعى فظاهره أن لا يكون للانسان شئ بدون سعيه فلو ثبت الملك للموصى له من غير قبول لثبت من غير سعيه وهذا
منفى الا ما خص بدليل ولان القول بثبوت الملك له من غير قبوله يؤدى إلى الاضرار به من وجهين أحدهما أنه يلحقه
ضرر المنة ولهذا توقف ثبوت الملك للموهوب له على قبوله دفعا لضرر المنة والثاني أن الموصى به قد يكون شيئا يتضرر
به الموصى له كالعبد الأعمى والزمن والمقعد ونحو ذلك والى هذا أشار في الأصل فقال رأيت لو أوصى بعبيد عميان
أيجب عليه القبول شاء أو أبى وتلحقه نفقتهم من غير أن يكون له منهم نفع فلو لزمه الملك من غير قبوله للحقه الضرر من غير
التزامه والزام من له ولاية الالزام إذ ليس للموصى ولاية الزام الضرر فلا يلزمه بخلاف ملك الوارث لان اللزوم هناك
بالزام من ولاية الالزام وهو الله تبارك وتعالى فلم يقف على القبول كسائر الأحكام التي تلزم بالزام الشرع ابتداء وعلى
هذا يخرج ما إذا كان الموصى له انه لا يعتق عليه ما لم يقبل أو يموت من غير قبول لأنه لا عتق بدون الملك ولا ملك بدون
القبول أو بدون عدم الرد ووقوع اليأس عنه ولم يوجد القبول منه ولا وقع اليأس عن الرد ما دام حيا فلا يعتق ولو مات
الموصى ثم مات الموصى له قبل القبول صار الموصى به ملكا لورثة الموصى له استحسانا والقياس أن تبطل الوصية
ويكون لورثته الخيار ان شاؤوا قبلوا وان شاؤوا ردوا (وجه) القياس الأول أن القبول أحد ركني العقد وقد فات
بالموت فيبطل الركن الآخر كما ذا أوجب البيع ثم مات المشترى قبل القبول أو أوجب الهبة ثم مات الموهوب له قبل
القبول انه يبطل الايجاب لما قلنا كذا هذا (وجه) القياس الثاني أن الموصى له في حياته كان له القبول والرد فإذا مات
تقوم ورثته مقامه (وجه) الاستحسان ان أحد الركنين من جانب الموصى له هو عدم الرد منه وذلك بوقوع اليأس
على الرد منه وقد حصل ذلك بموته فتم الركن (وأما) على عبارة القبول فنقول إن القبول من الموصى له لا يشترط لعينه
بل لوقوع اليأس عن الرد وقد حصل ذلك بموت الموصى له وعلى هذا يخرج ما إذا أوصى له بجاريته التي ولدت من
الموصى له بالنكاح انها لا تصير أم ولد له ما لم يقبل الوصية أو يموت قبل القبول فإذا مات صارت أم ولد له لأنه ملك
جارية قد ولدت منه بالنكاح فتصير أم ولد له وينفسخ النكاح وان لم يعلم الموصى له بالوصية حتى مات أو علم ولم يقبل
حتى مات فهو على القياس والاستحسان اللذين ذكرنا ولو كان حيا ولم يعلم بالوصية وهو يطؤها بالنكاح حتى ولدت
أولادا ثم علم بالوصية فهو بالخيار ان شاء قبل الوصية فكانت الجارية أم ولد له وأولادها أحرار إن كانوا يخرجون
من الثلث وان شاء لم يقبل فلا تكون الجارية أم ولد له لان قبوله شرط فان قبل فقد صارت الجارية أم ولد له لأنه ملكها
بالقبول ومن استولد جارية غيره بالنكاح ثم ملكها تصير أم ولد له وأولادها أحرار إن كانوا يخرجون من الثلث لان
عند القبول يثبت الملك من وقت موت الموصى فتبين أن الملك ثبت له في الجارية من ذلك الوقت كما في البيع بشرط
الخيار ان عند الإجازة يثبت الحكم وهو الملك من وقت البيع كذا ههنا وإذا ثبت الملك من وقت موت الموصى يحكم
بفساد النكاح من ذلك الوقت فتبين أن الأولاد ولدوا على فراش ملك اليمين فدخلوا تحت الوصية فيملكهم بالقبول
فيعتقون إذا كانوا يخرجون من الثلث وان لم يقبل الوصية كان الجارية ملكا لورثة الموصى والأولاد أرقاء لان الولد
يتبع الام في الرق والحرية ولو أوصى بالثلث لرجلين ومات الموصى فرد أحدهما وقبل الاخر الوصية كان للآخر
حصته من الوصية لأنه أضاف الثلث إليهما وقد صحت الإضافة فانصرف إلى كل واحد منهما نصف الثلث فإذا رد
أحدهما الوصية ارتد في نصفه وبقى النصف الآخر لصاحبه الذي قبل كمن أقر بألف لرجلين فرد أحدهما اقراره
ارتد في نصيبه خاصة وكان للآخر نصف الاقرار كذا ههنا بخلاف ما إذا أوصى بالثلث لهذا والثلث لهذا فرد
أحدهما وقبل الآخر ان كل الثلث للذي قبل الا انه إذا قبل صاحبه يقسم الثلث بينهما لضرورة المزاحمة إذ ليس
أحدهما بأولى من الآخر فإذا رد أحدهما زالت المزاحمة فكان جميع الثلث له وإذا ثبت أن القبول ركن في عقد الوصية
332

فوقت القبول ما بعد موت الموصى ولا حكم للقبول والرد قبل موته حتى لو رد قبل الموت ثم قبل بعده صح قبوله لان
الوصية ايجاب الملك بعد الموت والقبول أو الرد يعتبر كذا الايجاب لأنه جواب والجواب لا يكون الا بعد تقدم
السؤال ونظيره إذا قال لامرأته إذا جاء غد فأنت طالق على ألف درهم انه إنما يعتبر القبول أو الرد إذا جاء غد كذا هذا
فإذا كان التصرف يقع ايجابا بعد الموت يعتبر القبول بعده والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان معنى الوصية فالوصية اسم لما أوجبه الموصى في ماله بعد موته وبه تنفصل عن البيع والإجارة
والهبة لان شيئا من ذلك لا يحتمل الايجاب بعد الموت ألا ترى أنه لو أوجبها بعد الموت بطل وذكر الكرخي عليه
الرحمة في حد الوصية ما أوجبه الموصى في ماله تطوعا بعد موته أو في مرضه الذي مات فيه فقوله ما أوجبه الموصى في ماله
تطوعا بعد موته لا يشمل جميع أفراد الوصايا فإنه لا يتناول الوصية بالقرب الواجبة التي تسقط بالموت من غير وصية
كالحج والزكاة والكفارات ونحوها فلم يكن الحد جامعا وقوله أو في مرضه حد مقسم وانه فاسد وكذا تبرع الانسان
بماله في مرضه الذي مات فيه من الاعتاق والهبة والمحاباة والكفالة وضمان الدرك لا يكون وصية حقيقة لان
حكم هذه التصرفات منجز نافذ في الحال قبل الموت وحكم الوصية يتأخر إلى ما بعد الموته فلم تكن هذه التصرفات
من المريض وصية حقيقة الا انها تعتبر بالوصايا في حق اعتبار الثلث فاما أن تكون وصية حقيقة فلا وعلى هذا يخرج
ما إذا أوصى بثلث ماله أو ربعه وقد ذكر قدرا من ماله مشاعا أو معينا ان قدر ما يستحقه الموصى له من مال هو ماله الذي
عند الموت لا ما كان عند الوصية حتى لو أوصى بثلث ماله وماله يوم أوصى ثلاثة آلاف ويوم مات ثلاثمائة لا يستحق
الموصى له الا مائة ولو لم يكن له مال يوم أوصى ثم اكتسب مالا ثم مات فله ثلث المال يوم مات ولو كان له مال يوم أوصى
فمات وليس له مال بطلت وصيته وإنما كان كذلك لما ذكرنا أن الوصية تمليك مضاف إلى وقت الموت فيستحق
الموصى له ما كان على ملك الموصى عند موته ويصير المضاف إلى الوقت كالمنجز عنده كأنه قال عند الموت لفلان ثلث
مالي فيعتبر ما يملكه في ذلك الوقت لا ما قبله وذكر ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فقال إذا أوصى
رجلا فقال لفلان شاة من غنمي أو نخلة من نخلي أو جارية من جواري ولم يقل من غنمي هذه ولا من جواري هؤلاء
ولا من نخلي هذه فان الوصية في هذا تقع يوم موت الموصى ولا تقع يوم أوصى حتى لو ماتت غنمه تلك أو باعها فاشترى
مكانها أخرى أو ماتت جواريه فاشترى غيرهن أو باع النخل واشترى غيرها فان للموصى له نخلة من نخله يوم يموت
وليس للورثة ان يعطوه غير ذلك لما بينا ان الوصية عقد مضاف إلى الموت فكأنه قال في تلك الحالة لفلان شاة من غنمي
فيستحق شاة من الموجود دون ما قبله قال فان ولدت الغنم قبل ان يموت الموصى أو ولدت الجواري قبل موته
فلحقت الأولاد الأمهات ثم مات الموصى فان للورثة ان يعطوه ان شاؤوا من الأمهات وان شاؤوا من الأولاد لان
الاسم يتناول الكل عند الموت فكان المستفاد بالولادة كالمستفاد بالشراء قال فان اختار الورثة أن يعطوه شاة من غنمه
ولها ولد قد ولدته بعد موت الموصى فان ولدها يتبعها وكذلك صوفها ولبنها لان الوصية وان تعلقت بشاة غير معينة
لكن التعيين من الورثة يكون بيانا أن الشاة المعينة هي من الموصى بها كان الوصية وقعت بهذه المعينة ابتداء فما حدث
من نمائها بعد الموت يكون للموصى له قال فاما ما ولدت قبل موت الموصى فلا يستحقه الموصى له لان الوصية
اعتبارها عند الموت فالحادث قبل الموت يحدث على ملك الورثة وكذلك الصوف المنفصل واللبن المنفصل قبل
الموت لما قلنا فاما إن كان متصلا بها فهو للموصى له وان حدث قبل الموت لأنه لا ينفرد عنها بالتمليك قال ولو استهلكت
الورثة لبن الشاة أو صوفها وقد حدث بعد الموت فعليهم ضمانه لان الموصى له ملكه بملك الأصل فيكون مضمونا
بالاتلاف قال ولو قال أوصيت له بشاة من غنمي هذه أو بجارية من جواري هؤلاء أو قال قد أوصيت له بإحدى
جاريتي هاتين فهذا على هذه الغنم وهؤلاء الجواري لأنه عين الموصى به وهو الشاة من الغنم المشار إليها حتى لو ماتت الغنم
أو باعها بطلت الوصية كما لو قال أوصيت بهذه الشاة أو بهذه الجارية فهلكت ولو ولدت الغنم أو الجواري في حال
333

حياة الموصى ثم أراد الورثة أن يعطوه من الأولاد ليس لهم ذلك لان الوصية تعلقت بعين مشار إليها وان لم يثبت الملك
فيها ينزل في غيرها فان دفع الورثة إليه جارية من الجواري لم يستحق ما ولدت قبل الموت لان الوصية لم تكن وجبت
فيها لان الملك في الوصية إنما ينتقل بالموت فما حدث قبل الموت يحدث على ملك الميت فيكون للورثة وما ولدت بعد
الموت فهو للموصى له لأنه ملكها بالموت فحدث الولد على ملكه قال فان ماتت الأمهات كلها الا واحدة تعينت
الوصية فيها لأنه لم يبق من يزاحمها في تعلق الوصية فتعينت ضرورة انتفاء المزاحم فان ماتت الأمهات كلها وقد بقي
لها أولاد حدثت بعد الموت أو أحرق النخل وبقى لها ثمر حدث بعد الموت فعلى الورثة ان يدفعوا إليه ولد جارية
وثمرة نخلة لان الوصية كانت متعلقة بها فيظهر الاستحقاق في الولد الحادث بعده فإذا هلكت الام بقي الحق في الولد
على حاله ولا يظهر فيما حدث قبل الموت والله سبحانه وتعالى عز وجل أعلم
* (فصل) * وأما شرائط الركن فبعضها يرجع إلى نفس الركن وبعضها يرجع إلى الموصى وبعضها يرجع إلى
الموصى له وبعضها يرجع إلى الموصى به (أما) الذي يرجع إلى نفس الركن فهو أن يكون القبول موافقا للايجاب فان
خالف الايجاب لم يصح القبول لأنه إذا خالفه لم يرتبط فبقي الايجاب بلا قبول فلا يتم الركن وبيان ذلك إذا قال لرجلين
أوصيت بهذه الجارية لكما فقبل أحدهما بعد موت الموصى ورد الآخر لم يصح القبول لأنه أوصى لهما جميعا فكان
وصية لكل واحد منهما بنصف الجارية وكانت الجارية بينهما لو قبلا فإذا رد أحدهما لم يوجد الشرط وهو قبولهما
جميعا فبطلت الوصية ولو أوصى بها لانسان ثم أوصى بها لآخر فقبل أحدهما الوصية بعد موت الموصى ورد الآخر
فالنصف للموصى له والنصف لورثة الموصى لأنه أوصى لكل واحد منهما على حياله فلا يشترط اجتماعهما في القبول
فإذا رد أحدهما بعد موت الموصى لم يتم الركن في حقه بل بطل الايجاب في حقه فعاد نصيبه إلى ورثة الموصى فصح القبول
من الآخر فاستحق نصف الوصية كالشفيعين إذا سلم أحدهما الشفعة بعد قضاء القاضي بالشفعة ان ذلك النصف
يكون للمشترى ولا يكون للشفيع الآخر (وأما) الذي يرجع إلى الموصى فأنواع منها أن يكون من أهل التبرع في
الوصية بالمال وما يتعلق به لان الوصية بذلك تبرع بايجابه بعد موته فلابد من أهلية التبرع فلا تصح من الصبي والمجنون
لأنهما ليسا من أهل التبرع لكونه من التصرفات الضارة المحضة إذ لا يقابله عوض دنيوي وهذا عندنا وقال
الشافعي رحمه الله في أحد قوليه وصية الصبي العاقل في القرب صحيحة واحتج بما روى أن سيدنا عمر رضي الله عنه
أجاز وصية غلام يافع وهو الذي قرب ادراكه ولان في وصيته نظرا له لأنه يثاب عليه ولو لم يوص لزال ملكه إلى
الوارث من غير ثواب لأنه يزول عنه جبرا شاء أو أبى فكان هذا تصرفا نافعا في حقة فأشبه صلاة التطوع وصوم
التطوع والجواب اما إجازة سيدنا عمر رضي الله عنه فيحتمل أن وصية ذلك الصبي كانت لتجهيزه وتكفينه ودفنه
ووصية الصبي في مثله جائزة عندنا لأنه يثبت من غير وصية (وأما) قوله يحصل له عوض وهو الثواب فمسلم لكنه ليس
بعوض دنيوي فلا يملكه الصبي كالصدقة مع ما أن هذا في حد التعارض لأنه كما يثاب على الوصية يثاب على الترك
للوارث بل هو أولى في بعض الأموال لما بينا فيما تقدم وسواء مات قبل الادراك أو بعده لأنها وقعت باطلة فلا تنقلب
إلى الجواز بالادراك الا بالاستئناف وسواء كان الصبي مأذونا في التجارة أو محجورا لان الوصية ليست من باب
التجارة إذ التجارة معاوضة المال بالمال ولو أضاف الوصية إلى ما بعد الادراك بان قال إذا أدركت ثم مت فثلث مالي
لفلان لم يصح لان عبارته لم تقع صحيحة فلا تعتبر في ايجاب الحكم بعد الموت ولا تصح وصية العبد المأذون والمكاتب
لأنهما ليسا من أهل التبرع ولو أوصيا ثم أعتقا وملكا مالا ثم ماتا لم تجز لوقوعها باطلة من الابتداء ولو أضاف أحدهما
الوصية إلى ما بعد العتق بان قال إذا أعتقت ثم مت فثلث مالي لفلان صح فرقا بين العبد والصبي ووجه الفرق أن
عبارة الصبي فيما يتضرر به ملحقة بالعدم لنقصان عقله فلم تصح عبارته من الأصل بل بطلت والباطل لا حكم له بل هو
ذاهب متلاشي في حق الحكم فاما عبارة العبد فصحيحة لصدورها عن عقل مميز الا أن امتناع تبرعه لحق المولى فإذا
334

عتق فقد زال المانع والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها رضا الموصى لأنها ايجاب ملك أو ما يتعلق بالملك فلابد فيه من
الرضا كايجاب الملك بسائر الأشياء فلا تصح وصية الهازل والمكره والخاطئ لأن هذه العوارض تفوت الرضا وأما
اسلام الموصى فليس بشرط لصحة وصيته فتصح وصية الذي بالمال للمسلم والذمي في الجملة لان الكفر لا ينافي
أهلية التمليك ألا ترى أنه يصح بيع الكافر وهبته فكذا وصيته وكذا الحربي المستأمن إذا أوصى للمسلم أو
الذمي يصح في الجملة لما ذكرنا غير أنه إن كان دخل وارثه معه في دار الاسلام وأوصى بأكثر من الثلث وقف ما زاد على
الثلث على إجازة وارثه لأنه بالدخول مستأمنا التزم أحكام الاسلام أو ألزمه من غير التزامه لامكان اجراء الأحكام
عليه ما دام في دار الاسلام ومن أحكام الاسلام أن الوصية بما زاد على الثلث ممن له وارث تقف على إجازة وارثه وان
لم يكن له وارث أصلا تصح من جميع المال كما في المسلم والذمي وكذلك إذا كان له وارث لكنه في دار الحرب لان
امتناع الزيادة على الثلث لحق الورثة وحقهم غير معصوم لأنه لا عصمة لأنفسهم وأموالهم فلان لا يكون لحقهم الذي
في مال مورثهم عصمة أولى وذكر في الأصل ولو أوصى الحربي في دار الحرب بوصية ثم أسلم أهل الدار أو صاروا ذمة
ثم اختصما إلى في تلك الوصية فإن كانت قائمة بعينها أجزتها وإن كانت قد استهلكت قبل الاسلام أبطلتها لان الحربي
من أهل التمليك ألا يرى أنه من أهل سائر التمليكات كالبيع ونحوه فكانت وصيته جائزة في نفسها الا أنه ليس لنا
ولاية اجراء أحكام الاسلام وتنفيذها في دارهم فإذا أسلموا أو صاروا ذمة قدرنا على التنفيذ فننفذها ما دام الموصى به
قائما فاما إذا صار مستهلكا أبطلنا الوصية وألحقناها بالعدم لان أهل الحرب إذا أسلموا أو صاروا ذمة لا يؤاخذون
بما استهلك بعضهم على بعض وبما اغتصب بعضهم من بعض بل يبطل ذلك كذا هذا ومنها ان لا يكون على الموصى
دين مستغرق لتركته فإن كان لا تصح وصيته لان الله تبارك وتعالى قدم الدين على الوصية والميراث لقوله تبارك
وتعالى في آية المواريث من بعد وصية يوصى بها أو دين ويوصي بها أو دين وتوصون بها أو دين ويوصين بها أو دين ولما
روى عن سيدنا على رضى الله تعالى عنه أنه قال إنكم تقرؤن الوصية قبل الدين وقد شهدت رسول الله صلى الله عليه
وسلم بدأ بالدين قبل الوصية أشار سيدنا علي رضي الله عنه إلى أن الترتيب في الذكر لا يوجب الترتيب في الحكم وروى أنه
قيل لابن عباس رضي الله عنهما انك تأمر بالعمرة قبل الحج وقد بدأ الله تبارك وتعالى بالحج فقال تبارك وتعالى
وأتموا الحج والعمرة لله فقال رضي الله عنه كيف تقرؤن آية الدين فقالوا من بعد وصية يوصى بها أو دين فقال وبماذا
تبدؤون قالوا بالدين قال رضي الله عنه هو ذاك ولان الدين واجب والوصية تبرع والواجب مقدم على التبرع ومعنى
تقدم الدين على الوصية والميراث أنه يقضى الدين أولا فان فضل منه شئ يصرف إلى الوصية والميراث والا فلا (وأما)
معنى تقدم الوصية على الميراث فليس معناه ان يخرج الثلث ويعزل عن التركة ويبدأ بدفعه إلى الموصى له ثم يدفع
الثلثان إلى الورثة لان التركة بعد قضاء الدين تكون بين الورثة وبين الموصى له على الشركة والموصى له شريك الورثة في
الاستحقاق كأنه واحد من الورثة لا يستحق الموصى له من الثلث شيئا قل أو كثر الا ويستحق منه الورثة ثلثيه ويكون
فرضهما معا لا يقدم أحدهما على الآخر حتى لو هلك شئ من التركة قبل القسمة يهلك على الموصى له والورثة جميعا ولا
يعطى الموصى له كل الثلث من الباقي بل الهالك يهلك على الحقين والباقي على الحقين كما إذا هلك شئ من المواريث
بعد الوصايا بخلاف الدين فإنه إذا هلك بعض التركة وبقى البعض يستوفى كل الدين من الباقي وإنما معناه انه يحسب
قدر الوصية من جملة التركة أولا لتظهر سهام الورثة كما تحسب سهام أصحاب الفرائض أولا ليظهر الفاضل للعصبة
ويحتمل أن يكون معنى قوله تبارك وتعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر إلى قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أي سوى
ما لكم ان توصوه من الثلث أوصاكم الله بكذا وتكون بعد بمعنى سوى والله تعالى عز شأنه أعلم (وأما) الذي يرجع
إلى الموصى له فمنها أن يكون موجودا فإن لم يكن موجودا لا تصح الوصية لان الوصية للمعدوم لا تصح وعلى هذا يخرج
ما إذا قال أوصيت بثلث مالي لما في بطن فلانة انها ان ولدت لما يعلم أنه كان موجودا في البطن صحت الوصية والا فلا
335

وإنما يعلم ذلك إذا ولدت لأقل من ستة أشهر ثم يعتبر ذلك من وقت موت الموصى في ظاهر الرواية وعند الطحاوي
رحمه الله من وقت وجود الوصية وجه ما ذكره الطحاوي رحمه الله ان سبب الاستحقاق هو الوصية فيعتبر وجوده
(وجه) ظاهر الرواية أن وقت نفوذ الوصية واعتبارها في حق الحكم وقت الموت فيعتبر وجوده من ذلك الوقت لأنها
إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الموت أو من وقت الوصية على اختلاف الروايتين تيقنا أنه كان موجودا
إذ المرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر وإذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا لا يعلم وجوده في البطن لاحتمال انها علقت بعده
فلا يعلم وجوده بالشك الا إذا كانت المرأة معتدة من زوجها من طلاق أو وفاة فولدت إلى سنتين منذ طلقها أو مات
عنها زوجها فله الوصية لان نسب الولد يثبت من زوجها إلى سنتين ومن ضرورة ثبات النسب الحكم بوجوده في
البطن وقت موت الموصى فرق بين الوصية لما في البطن وبين الهبة لما في البطن أن الهبة لا تصح والوصية صحيحة لان
الهبة لا صحة لها بدون القبض ولم يوجد والوصية لا تقف صحتها على القبض ولو قال إن كان في بطن فلانة جارية فلها
وصية الف وإن كان في بطنها غلام فله وصية الفان فولدت جارية لستة أشهر الا يوما وولدت غلاما بعد ذلك بيومين
فلهما جميع الوصية لأنهما أوصى لهما جميعا لكن لأحدهما بألف وللآخر بألفين وقد علم كونهما في البطن أما
الجارية فلا شك فيها لأنها ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت موت الموصى فعلم أنها كانت موجودة في البطن في
ذلك الوقت وكذا الغلام لأنه لما ولد لأكثر من ستة أشهر بيوم أو يومين علم أنه كان في البطن مع الجارية لأنه توأم
فكان من ضرورة كون أحدهما في البطن كون الآخر كذلك لأنهما علقا من ماء واحد فان ولدت غلامين
وجاريتين لأقل من ستة أشهر فذلك إلى الورثة يعطون أي الغلامين شاؤوا وأي الجاريتين شاؤوا الا أنه ما أوصى لهما
جميعا وإنما أوصى لأحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فكان البيان إلى الورثة لأنهم قائمون مقام
المورث وقيل إن هذا الجواب على مذهب محمد رحمه الله تعالى فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فالوصية
باطلة بناء على مسألة أخرى وهو ما إذا أوصى بثلث ماله لفلان وفلان أو أوصى بثلث ماله لاحد هذين الرجلين
روى عن أبي حنيفة رضي الله عنه ان الوصية باطلة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنها صحيحة غير أن عند أبي
يوسف الوصية لهما جميعا وعند محمد لأحدهما وخيار التعيين إلى الورثة يعطون أيهما شاؤوا فقاسوا هذه المسألة على
تلك لان المعنى يجمعهما وهو جهالة الموصى له ومنهم من قال ههنا يجوز في قولهم جميعا وفرق بين المسئلتين من حيث إن
الجهالة هناك مقارنة للعقد وههنا طارئة لان الوصية هناك حال وجودها أضيفت إلى ما في البطن لا إلى أحد
الغلامين واحدى الجاريتين ثم طرأت بعد ذلك بالولادة والبقاء أسهل من الابتداء كالعدة إذا قارنت النكاح منعته
من الانعقاد فإذا طرأت عليه لا ترفعه كذا ههنا ولو قال إن كان الذي في بطن فلانة غلاما فله الفان وإن كان جارية فلها
ألف فولدت غلاما وجارية فليس لواحد منهما شئ من الوصية لأنه جعل شرط استحقاق الوصية لكل واحد منهما
أن يكون هو كل ما في البطن بقوله إن كان الذي في بطنها كذا فله كذا وكل واحد منهما ليس هو كل ما في البطن بل بعض
ما فيه فلم يوجد شرط صحة استحقاق الوصية في كل واحد منهما فلا يستحق أحدهما شيئا بخلاف المسألة الأولى لان
قوله إن كان في بطن فلانة جارية فلها كذا وإن كان في بطنها غلام فله كذا ليس فيه شرط أن يكون كل واحد كل ما
في البطن الشرط فيه أن يكون في بطنها غلام وأن يكون في بطنها جارية وقد كان في بطنها غلام وجارية فوجد شرط
الاستحقاق وكذلك لو أوصى بما في بطن دابة فلان أن ينفق عليه أن الوصية جائزة إذا قبل صاحبها وتعتبر فيه المدة
على ما ذكرنا هذا هو حكم الوصية لما في البطن فأما حكم الاقرار بمال لما في بطن فلانة فهذا في الأصل على وجهين
(اما) ان بين السبب (واما) ان لم يبين بل أطلق فان بين السبب (فاما) ان بين سببا هو جائز الوجود (واما) ان بين سببا
هو مستحيل الوجود عادة فان بين سببا هو جائز الوجود عادة بان قال لما في بطن فلانة على ألف درهم لأني استهلكت
ماله أو غصبت أو سرقت جاز اقراره في قولهم جميعا وان بين سببا هو مستحيل الوجود عادة بان قال لما في بطن فلانة
336

على ألف درهم لأنه استقرضت منه لا يجوز في قولهم جميعا لأنه أسند اقراره إلى سبب هو محال عادة وان لم يبين
للاقرار سببا بل سكت عنه بان قال لما في بطن فلانة على ألف درهم ولم يزد عليه فهذا الاقرار باطل في قولهما
وعند محمد صحيح (وجه) قوله أن تصرف العاقل يحمل على الصحة ما أمكن وأمكن تصحيحه بالحمل على سبب
متصور الوجود فيحمل عليه تصحيحا له ولهما أن الاقرار المطلق بالدين يراد به الاقرار بسبب المداينة لأنه هو
السبب الموضوع لثبوت الدين وانه في الدين ههنا محال عادة والمستحيل عادة كالمستحيل حقيقة ومنها أن يكون
حيا وقت موت الموصى حتى لو قال أوصيت بثلث مالي لما في بطن فلانة فولدت لأقل من ستة أشهر من وقت
موت الموصى ولدا ميتا لا وصية له لان الميت ليس من أهل استحقاق الوصية كما ليس من أهل استحقاق
الميراث بان ولد ميتا وأنها أخت الميراث ولو ولدت ولدين حيا وميتا فجميع الوصية للحي لان الميت لا يصلح
محلا لوضع الوصية فيه ولهذا لو أوصى لحي وميت كان كل الوصية للحي كما لو أوصى لآدمي وحائط والله سبحانه
وتعالى أعلم (ومنها) أن لا يكون وارث الموصى وقت موت الموصى فإن كان لا تصح الوصية لما روى عن أبي
قلابة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تبارك وتعالى أعطى كل ذي حق حقه
فلا وصية لوارث وفى هذا حكاية وهي ما حكى أن سليمان بن الأعمش رحمه الله تعالى كان مريضا فعاده
أبو حنيفة رضي الله عنه فوجده يوصى لابنيه فقال أبو حنيفة رضي الله عنه ان هذا لا يجوز فقال ولم يا أبا حنيفة فقال
لأنك رويت لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا وصية لوارث فقال سليمان رحمه الله يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء
ونحن الصيادلة فقد نفى الشارع عليه الصلاة والسلام أن يكون لوارث وصية نصا وأشار إلى تحول الحق من الوصية
إلى الميراث على ما بينا فيما تقدم ولأنا لو جوزنا الوصية للورثة لكان للموصى أن يؤثر بعض الورثة وفيه ايذاء البعض
وايحاشهم فيؤدى إلى قطع الرحم وانه حرام وما أفضى إلى الحرام فهو حرام دفعا للتناقض ثم الشرط أن لا يكون
وارث الموصى وقت موت الموصى لا وقت الوصية حتى لو أوصى لأخيه وله ابن وقت الوصية ثم مات قبل موت
الموصى ثم مات الموصى لم تصح الوصية لان الموصى له وهو الأخ صار وارث الموصى عند موته ولو أوصى لأخيه
ولا ابن له وقت الوصية ثم ولد له ابن ثم مات الموصى صحت الوصية لان الأخ ليس بوارثه عند الموت لصيرورته
محجوبا بالابن وإنما اعتبرت الوراثة وقت موت الموصى لا وقت وصيته لان الوصية ليست بتمليك للحال ليعتبر كونه
وارثا وقت وجودها بل هي تمليك عند الموت فيعتبر ذلك عند الموت وكذلك الهبة في المرض بان وهب المريض
لوارثه شيئا ثم مات أنه يعتبر كونه وارثا له وقت الموت لا وقت الهبة لان هبة المريض في معنى الوصية حتى تعتبر من الثلث
وعلى هذا يخرج ما إذا أوصى لامرأة أجنبية وهو مريض أو صحيح ثم تزوجها أنه لا يصح ولو أقر المريض لامرأة
أجنبية بدين ثم تزوجها جاز اقراره لان الوصية إنما تصير ملكا عند موت الموصى فيعتبر كونها وارثة لها حينئذ وهي وارثته
عند موته لأنها زوجته فلم تصح الوصية (فاما) الاقرار فاعتباره حال وجوده وهي أجنبية حال وجوده فاعتراض
الزوجية بعد ذلك لا يبطله كذا لو وهب لها هبة في مرض موته ثم تزوجها بطلت الهبة لان تبرعات المريض
مرض الموت تعتبر بالوصايا ولو أوصى وهو مريض أو صحيح لابنه النصراني صح لأنه ليس بوارثه فلو أسلم الابن
قبل موته بطلت وصيته لما قلنا أن اعتبارها بعد الموت وهو وارث بعد الموت ولو أقر المريض بدين لابنه النصراني ثم
أسلم لم يجز اقراره عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وعند زفر رحمه الله تعالى يصح (وجه) قوله على نحو ما ذكرنا
في المرأة أن الاقرار يعتبر حال وقوعه وأنه غير وارث وقت الاقرار فاعتراض الوراثة بعد ذلك لا يبطل الدين الثابت كما
قلنا في المرأة (ولنا) أن الوراثة وان لم تكن موجودة عند الاقرار لكن سببها كان قائما وهو القرابة لكن لم يظهر عملها
للحال لمانع وهو الكفر فعند زوال المانع يلحق بالعدم من الأصل ويعمل السبب من وقت وجوده لا من وقت زاول
المانع كما في البيع بشرط الخيار أن عند سقوط الخيار يعمل السبب وهو البيع في الحكم من وقت وجوده لا من وقت
337

سقوط الخيار والجامع أن العامل عند ارتفاع المانع ذات البيع وذات القرابة فتستند السببية إلى وقت وجود ذاته
فيظهر أنه أقر لوارثه فلم يصح أو يقال إن اقرار المريض لوارثه إنما يرد للتهمة وسبب التهمة وقت الاقرار موجود
وهو القرابة بخلاف ما إذا أقر لامرأة أجنبية ثم تزجها لان هناك سبب القرابة لم يكن موجودا وقت الاقرار لان
السبب هو الزوجية ولم تكن وقت الاقرار وإنما وجدت بعد ذلك وبعد وجودها لا تحتمل الاستناد فيقتصر على حال
وجودها ولم يكن ذلك اقرارا لوارثه فيصح ويثبت الدين في ذمته فلا يسقط بحدوث الزوجية وعلى التقريب الثاني
لم يوجد سبب التهمة وقت الاقرار فيصح ولو كان ابنه مسلما لكنه مملوك فأوصى له ثم أعتق فالوصية باطلة لما ذكرنا
ان أوان اعتبار الوصية أوان الموت وهو وارثه عند الموت ولو أقر له بالدين وهو مريض أو وهب له هبة فقبضها فإن لم
يكن عليه دين جاز ذلك لأنه إذا لم يكن عليه دين كان الاقرار والهبة لمولاه وانه أجنبي عن الموصى فجاز وإن كان عليه
دين لا يجوز لان الاقرار والهبة يقعان له لا لمولاه لأنه يقضى منه ديونه فتبين أن الاقرار كان لوارثه من طريق الاستناد
فلا يصح أو لا يصح لقيام سبب شبهة التهمة وقت الاقرار كما قلنا في الاقرار لابنه النصراني إذا أسلم ولو أوصى
لبعض ورثته فأجاز الباقون جازت الوصية لان امتناع الجواز كان لحقهم لما يلحقهم من الأذى والوحشة بايثار
البعض ولا يوجد ذلك عند الإجازة وفى بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا وصية لوارث الا أن
يجيزها الورثة ولو أوصى بثلث ماله لبعض ورثته ولأجنبي فان أجاز بقية الورثة جازت الوصية لهما جميعا وكان الثلث
بين الأجنبي وبين الوارث نصفين وان ردوا جازت في حصة الأجنبي وبطلت في حصة الوارث وقال بعض الناس
يصرف الثلث كله إلى الأجنبي لان الوارث ليس بمحل للوصية فالتحقت الإضافة إليه بالعدم كما لو أوصى لحي وميت
أن الوصية كلها للحي لما قلنا كذا هذا وهذا غير سديد لان الوصية للوارث ليست وصية باطلة بدليل أنه لو اتصلت بها
الإجازة جازت والباطل لا يحتمل الجواز بالإجازة وبه تبين أن الوارث محل للوصية لان التصرف المضاف إلى غير
محله يكون باطلا دل أنه محل وأن الإضافة إليه وقعت صحيحة الا أنها تبطل في حصته برد الباقين وإذا وقعت صحيحة فقد
أوصى لكل واحد منهما بنصف الثلث ثم بطلت الوصية في حق الوارث بالرد فبقيت في حق الأجنبي على حالها كما لو
أوصى لأجنبيين فرد أحدهما دون الآخر بخلاف المريض إذا أقر بدين لبعض ورثته ولأجنبي كما إذا قر لهما بألف درهم
والوارث مع الأجنبي تصادقا أنه لا يصح لهما الاقرار أصلا لا للوارث ولا للأجنبي لان الوصية تمليك فبطلانه
في حق أحدهما لا يوجب البطلان في حق الآخر لأنه لا يوجب الشركة والاقرار لهما بالدين اخبار عن دين
مشترك بينهما فلو صح في حق الأجنبي لكان فيه قسمة الدين قبل القبض وانها باطلة ولأنه إذا كان اخبارا عن دين
مشترك بينهما فالوارث يشارك الأجنبي فيما يقبض ثم تبطل حصته وفيه اقرار للوارث وأنه باطل بخلاف الوصية فان
الوارث لا يشارك الأجنبي وإذا بطل الاقرار أصلا تقسم التركة بين ورثة المقر فما أصاب الوارث المقر له من ذلك يكون
بينه وبين الأجنبي إلى تمام الاقرار وما زاد على ذلك يكون للوارث لأنهما إذا تصادقا فمن زعمهما أن هذا القدر دين على
الميت والدين مقدم على الميراث هذا إذا تصادقا فان تكاذبا أو أنكر الأجنبي شركة الوارث أورد الورثة اقراره
فالاقرار باطل أيضا في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لما ذكرنا وإذا بطل كان المال ميراثا بين ورثة المقر فما
أصار الوارث فهو له كله ولا شركة للأجنبي فيه لأنه يكذبه في ذلك وعند محمد يصح اقراره في حق الأجنبي ويكون له
خمسمائة وإن كان الأجنبي يكذب الوارث والوارث يصدقه في ذلك فالخمسمائة مما أصابه للأجنبي لأنه لما صدقه
الوارث فقد أقر أنه كان له على الميت خمسمائة دين وأنه مقدم على الميراث الا أنه ادعى الشركة فيه وهو يكذبه
في الشركة فكان القول قول الأجنبي ويأخذ تلك الخمسمائة كلها ولو أوصى لعبد وارثه لا يصح سواء كان على العبد دين
أو لم يكن (أما) إذا لم يكن عليه دين فظاهر لان الوصية تقع لمولاه لان الملك يقع له فكانت الوصية لوارثه وإن كان عليه دين
فالوصية تقع لمولاه من وجه لأنه إذا سقط عنه الدين يصير الموصى به للوارث وقت الوصية فكان وصية للوارث من
338

وجه فلا تصح الا إذا عتق قبل موت الموصى فتصح الوصية لان الوصية ايجاب الملك عند موت الموصى وهو كان حرا
عند موته وكذا إذا أوصى لعبد نفسه فاعتقه قبل موته صحت وصيته له فان مات وهو عبد بطلت لان وصيته لمولاه
ومولاه وارثه ولو أوصى لمكاتب وارثه لا يصح لان منفعة الوصية تحصل لوارثه في الحال والمال في الحال بأداء بدل
الكتابة وفى المآل بالعجز ولو أوصى لمكاتب نفسه جاز لأنه (اما) أن يعتق بأداء بدل الكتابة فيصير أجنبيا فتجوز
له الوصية (واما) أن يعجز ويرد في الرق فيصير ميراثا لجميع ورثته لا لبعضهم دون بعض فلا يكون في هذه الوصية ايثار
بعض الورثة على بعض فتجوز كما لو أوصى بثلث ماله لورثته (ومنها) أن لا يكون قاتل الموصى قتلا حراما على
سبيل المباشرة فإن كان لم تصح الوصية له عندنا وبه أخذ الشافعي رحمه الله وقال مالك رحمه الله هذا ليس بشرط
وتصح الوصية للقاتل واحتج بما ذكرنا من الدلائل لجواز الوصية في أول الكتاب من غير فصل بين القاتل وغيره
ولان الوصية تمليك وتملك والقتل لا ينافي أهلية التمليك (ولنا) ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا وصية
لقاتل وهذا نص ويروى أنه قال ليس لقاتل شئ ذكر الشئ نكرة في محل النفي فتعم الميراث والوصية جميعا وبه تبين
أن القاتل مخصوص عن عمومات الوصية ولان الوصية أخت الميراث ولا ميراث للقاتل لما روى عن سيدنا عمر
وسيدنا علي رضي الله عنهما أنهما لم يجعلا للقاتل ميراثا وعن عبيدة السلماني أنه قال لا يرث قاتل بعد صاحب البقرة
ويروى لا يورث قاتل بعد صاحب البقرة وهذا منه بيان لاجماع المسلمين من زمن سيدنا موسى عليه الصلاة
والسلام إلى زمن التابعين رضي الله عنهم على أنه لا ميراث للقاتل وذكر محمد رحمه الله هذه الآثار في الأصل وقال
والوصية عندنا بمنزلة ذلك لا وصية للقاتل ولان الورثة تتأذى بوضع الوصية في القاتل كما يتأذى البعض بوضعها
في البعض فيؤدى إلى قطع الرحم وأنه حرام ولان المجروح إذا صار صاحب فراش فقد تعلق حق الورثة بماله نظرا لهم
لئلا يزيل المورث ملكه إلى غيرهم لعداوة أو أذى لحقه من جهتهم فيتضررون بذلك لكن مع بقاء ملك المورث نظرا له
لحاجته إلى دفع حوائجه الأصلية وسبب ثبوت حقهم في مرض الموت ما هو سبب ثبوت ملكهم بعد الموت وهو
القرابة فكان ينبغي أن لا يملك التبرع بشئ من ماله الا أنه ملك ذلك على غير القاتل والوارث بخلاف القياس فيبقى
الامر فيهما على أصل القياس ولان القتل بغير حق جناية عظيمة فتستدعى الزجر بأبلغ الوجوه وحرمان الوصية
يصلح زاجرا لحرمان الميراث فيثبت وسواء كان القتل عمدا أو خطأ لان القتل الخطأ قتل وأنه جاز المؤاخذة عليه
عقلا وسواء أوصى له بعد الجناية أو قبلها لان الوصية إنما تقع تمليكا بعد الموت فتقع وصية للقاتل تقدمت الجناية
أو تأخرت ولا تجوز الوصية لعبد القاتل كان على العبد دين أو لم يكن ولا لمكاتبه لما ذكرنا في عبد الوارث ومكاتبه
وتجوز الوصية لابن القاتل ولأبويه ولجميع قرابته لان ملك كل واحد منهما منفصل عن ملك صاحبه فلا
تكون الوصية لأحدهما وصية لصاحبه ولو اشترك عشرة في قتل رجل فأوصى لبعضهم بعد
الجناية لم تصح لان كل واحد منهم قاتل على الكمال حين وجب القصاص على كل واحد منهم
فكانت وصية لقاتله فلم تصح ولو كان أحدهم عبدا لموصي فأوصى لبعضهم بعد الجناية وأعتق عبده ثم مات فالوصية
باطلة ولا يبطل العتق ولكن العبد يسعى في قيمته (أما) بطلان الوصية فلما ذكرنا ان كل واحد منهم قاتل فكان
الموصى له قاتلا فلم تصح الوصية له (وأما) صحة الاعتاق ونفاذه ففيه ضرب اشكال وهو ان الاعتاق حصل في
مرض الموت والاعتاق في مرض الموت وصية والوصية للقاتل لا تصح والعبد قاتل فينبغي أن لا ينفذ اعتاقه
والجواب عنه من وجهين أحدهما ان الاعتاق في مرض الموت ليس بوصية حقيقة لان الوصية تمليك والاعتاق
اسقاط الملك وازالته لا إلى أحد وهما متغايران بل متنافيان حقيقة وكذا الاعتاق ينجر حكمه للحال وحكم الوصية
يتأخر إلى ما بعد الموت فلم يكن الاعتاق في مرض الموت وصية حقيقة الا انه يشبه الوصية من حيث إنه يعتبر من
الثلث لا غير والثاني إن كان في معنى الوصية فالوصية بالاعتاق مردودة من حيث المعنى وإن كانت نافذة صورة ألا
339

ترى ان العبد يسعى في قيمته والسعاية قيمة الرقبة فكانت السعاية ردا للوصية معنى والعتق بعد وقوعه وإن كان لا
يحتمل النقض صورة يحتمله معنى برد السعاية التي هي قيمة الرقبة ولو أوصى لعبده بالثلث ثم قتله العبد لم تصح وصيته
غير أنه يعتق ويسعى في قيمته أما بطلان الوصية فلانه وصية للقاتل وأما نفاذ العتق فلان الوصية للقاتل
ليست بباطلة بل هي صحيحة ألا ترى انها تقف على إجازة الورثة في ظاهر الرواية فإذا أوصى له بثلث ماله فقد أوصى له
بثلث رقبته لان رقبته من ماله فدخلت تحت الوصية بالثلث فلما مات الموصى ملك ثلث رقبته وتمليك ثلث رقبته منه
يكون اعتاقا لثلثه عند الموت فيعتق ثلثه عند الموت ثم ينقض من حيث المعنى برد السعاية كما لو أعتقه نصا في مرض
موتة أو أضاف العتق إلى ما بعد الموتة بالتدبير غير أن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقعت الوصية له بثلث الرقبة لان
الاعتاق متجزئ عنده فيعتق ثلث رقبته ويسعى في ثلثيه لأنه معتق البعض ويسعى في ذلك الثلث للذي عتق ردا
للوصية معنى بالسعاية لأنه لا وصية للقاتل فيرد برد السعاية وعندهما وقعت الوصية له بكل الرقبة لأنه عتق كله لان
الاعتاق لا يتجزأ عندهما ومتى عتق كله يسعى في كل قيمته ردا للوصية معنى فاتفق الجواب وهو السعاية في جميع
قيمته وإنما اختلف الطريق ولو أوصى للقاتل ثم أجازت الورثة الوصية بعد موت الموصى ذكر في الأصل انه يجور
ولم يذكر خلافا وذكر في الزيادات ان على قول أبى يوسف لا يجوز وسكت عن قولهما فيدل على الجواز عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله لأبي يوسف ما روينا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لا وصية لقاتل وقال عليه الصلاة
والسلام ليس لقاتل شئ من غير فصل بين حال الإجازة وعدمها ولان المانع من الجواز هو القتل والإجازة لا تمنع
القتل ولهما ان امتناع الجواز كان لحق الورثة لأنهم يتأذون بوضع الوصية في القاتل أكثر مما يتأذى البعض بايثار
البعض بالوصية ثم جازت الوصية للبعض بإجازة الباقين فههنا أولى والدليل على أن المانع هو حق الورثة ان الورثة
ينتفعون ببطلان الوصية للقاتل وحق الانسان ما ينتفع به فإذا جازوا فقد زال المانع فجازت ولهذا جازت الوصية
لبعض الورثة بإجازة الباقين كذا هذا ولو كان القتل قصاصا لا يمنع صحة الوصية لأنه ليس بقتل حرام وكذا لو كان
القاتل صبيا لان قتله لا يوصف بالحرمة ولهذا لم يتعلق بشئ من ذلك حرمان الميراث فكذا حرمان الوصية
وكذا القتل تسبيبا لا يمنع جواز الوصية كما لا يمنع حرمان الميراث على ما عرف في كتاب الفرائض وأما الاقرار
للقاتل بالدين فان صار صاحب فراش لم يجز وإن كان يذهب ويجئ جاز لان اقرار المريض مرض الموت في معنى
الوصية ألا ترى انه لا يصح لوارثه كما لا تصح وصيته له وإذا كان يذهب ويجئ كان في حكم الصحيح فيحوز
كما لو أقر لوارثه في هذه الحالة وكذا الهبة في المرض في معنى الوصية فلا تصح للقاتل وعفو المريض عن القاتل
في دم العمد جائز لقوله تعالى وان تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم مطلقا من غير فصل بين حال المرض
والصحة ولان المانع من نفاذ تصرف المريض هو تعلق حق الورثة أو الغرماء وإنما يتعلق حقهم بالمال والقصاص
ليس بمال وبهذا علل في الأصل وإن كان القتل خطأ يجوز العفو من الثلث لان القتل الخطأ يوجب المال فكان عفوه
بمنزلة الوصية بالمال وانها جائزة من الثلث ودلت هذه المسألة على أن الدية كلها تجب على العاقلة ولا يجب على القاتل شئ
لأنه لو وجب لم يصح عفوه من الثلث في حصة القاتل لأنه يكون وصية للقاتل في ذلك القدر ولا وصية للقاتل ولما
جاز العفو ههنا من الثلث علم أن الدية لا تجب على القاتل وإنما تجب على عاقلة القاتل حتى تكون وصية لعاقلة القاتل
ثم الوصية للقاتل إنما لا تجوز إذا لم تجز الورثة فان أجاز وأجازت ولم يذكر في الأصل اختلافا وذكر في الزيادات قول
أبى يوسف انها لا تجوز وان أجازت الورثة وسكت عن قول أبي حنيفة ومحمد رحمهم الله تعالى وجه قول أبى
يوسف ان المانع من الجواز هو القتل وانه لا ينعدم بالإجازة ولهذا حرم الميراث اجازته الورثة أولا ولأنه لما قتله بغير
حق صار كالحربي والوصية للحربي لا تجوز أجازت الورثة أم لم تجز كذا القاتل وجه ظاهر الرواية ان عدم الجواز
لمكان حق الورثة لما ذكرنا في الوصية لبعض الورثة فيجوز عند اجازتهم كما جازت لبعض الورثة عند إجازة الباقين
340

بل أولى لان من الناس من يقول بجواز الوصية للقاتل وهو مالك ولا أحد يقول بجواز الوصية للوارث فلما لحقتها
الإجازة هناك فلان تلحقها ههنا أولى ومنها ان لا يكون حربيا عند مستأمن فإن كان لا تصح الوصية له من مسلم أو
ذمي لان التبرع بتمليك المال إياه يكون إعانة له على الحرب وانه لا يجوز وأما كونه مسلما فليس بشرط حتى لو كان
ذميا فأوصى له مسلم أو ذمي جاز وكذا لو أوصى ذميا لقوله عليه الصلاة والسلام فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم ان
لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وللمسلم أن يوصى مسلما أو ذميا كذا لهم وسواء أوصى لأهل ملته أو لغير أهل
ملته لعموم الحديث ولان الاختلاف بينه وبين غير أهل ملته لا يكون أكثر من الاختلاف بيننا وبينهم وذا لا يمنع
جواز الوصية فهذا أولى وإن كان مستأمنا فأوصى له مسلم أو ذمي ذكر في الأصل انه يجوز لأنه في عهدنا فأشبه الذمي
الذي هو في عهدنا وتجوز الوصية للذمي وكذا الحربي المستأمن وروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه انه لا يجوز
وهذه الرواية بقول أصحابنا رحمهم الله أشبه فإنهم قالوا إنه لا يجوز صرف الكفارة والنذر وصدقة الفطر والأضحية
إلى الحربي المستأمن لما فيه من الإعانة على الحراب ويجوز صرفها إلى الذمي لأنا ما نهينا عن بر أهل الذمة لقوله
سبحانه وتعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم في دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم وقيل إن في
التبرع عليه في حال الحياة بالصدقة والهبة روايتين عن أصحابنا فالوصية له على تلك الروايتين أيضا وكذا كونه من
أهل الملك ليس بشرط حتى لو أوصى مسلم بثلث ماله للمسجد ان ينفق عليه في اصلاحه وعمارته وتجصيصه يجوز
لان قصد المسلم من هذه الوصية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى باخراج ماله إلى الله سبحانه وتعالى لا التمليك إلى أحد
ولو أوصى المسلم لبيعة أو كنيسة بوصية فهو باطل لأنه معصية ولو أوصى الذمي بثلث ماله للبيعة أو لكنيسة ان ينفق
عليها في اصلاحها أو أوصى لبيت النار أو أوصى بأن يذبح لعيدهم أو للبيعة أو لبيت النار دبيحة جاز في قول أبي حنيفة
رحمه الله وعندهما لا يجوز وجملة الكلام في وصايا أهل الذمة انها لا تخلو اما إن كان الموصى به أمرا هو قربة عندنا
وعندهم أو كان أمرا هو قربة عندنا لا عندهم وأما إن كان أمرا هو قربة عندهم لا عندنا فإن كان الموصى به شيئا هو قربة
عندنا وعندهم بان أوصى بثلث ماله ان يتصدق به على فقراء المسلمين أو على فقراء أهل الذمة أو بعتق الرقاب أو بعمارة
المسجد الأقصى ونحو ذلك جاز في قولهم جميعا لان هذا مما يتقرب به المسلمون وأهل الذمة وإن كان شيئا هو قربة عندنا
وليس بقربة عندهم بان أوصى بان يحج عنه أو أوصى ان يبنى مسجدا للمسلمين ولم يبين لا يجوز في قولهم جميعا لأنهم
لا يتقربون به فيما بينهم فكان مستهزئا في وصيته والوصية يبطلها الهزل والهزل وإن كان شيئا هو قربة عندهم لا عندنا
بان أوصى بأرض له تبنى بيعة أو كنيسة أو بيت نار أو بعمارة البيعة أو الكنيسة أو بيت النار أو بالذبح لعيدهم أو
للبيعة أو لبيت النار ذبيحة فهو على الاختلاف الذي ذكرنا ان عند أبي حنيفة رحمه الله يجوز وعندهما لا يجوز وجه
قولهما ان الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية والوصية بالمعاصي لا تصح وجه قول أبي حنيفة رحمه الله ان
المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم لا ما هو قربة حقيقة لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية ولهذا لو أوصى بما هو قربة
عندنا وليس بقربة عندهم لم تجز وصيته كالحج وبناء المسجد للمسلمين فدل أن المعتبر ما هو قربة عندهم وقد وجد
ولكنا أمرنا ان لا نتعرض لهم فيما يدينون كما لا نتعرض لهم في عبادة الصليب وبيع الخمر والخنزير فيما بينهم ولو بنى
الذمي في حياته بيعة أو كنيسة أو بيت نار كان ميراثا بين ورثته في قولهم جميعا على اختلاف المذهبين أما على أصلهما
فظاهر لأنه معصية وأما عنده فلانه بمنزلة الوقف والمسلم لو جعل دارا وقفا ان مات صار ميراثا كذا هذا فان
قيل لم لا يجعل حكم البيعة فيما بينهم كحكم المسجد فيما بين المسلمين فالجواب على أن حال المسجد يخالف حال البيعة
لان المسجد صار خالصا لله تبارك وتعالى وانقطعت عنه منافع المسلمين وأما البيعة فإنها باقية على منافعهم فإنه
يسكن فيها أساقفتهم ويدفن فيها موتاهم فكانت باقية على منافعهم فأشبه الوقف فيما بين المسلمين والوقف فيما بين
المسلمين لا يزيل ملك الرقبة عنده فكذا هذا ولو أوصى مسلم بغلة جاريته أن تكون في نفقة المسجد ومؤنته
341

فانهدم المسجد وقد اجتمع من غلتها شئ أنفق ذلك في بنائه لأنه بالانهدام لم يخرج من أن يكون مسجدا وقد أوصى
له بغلتها فتنفق في بنائه وعمارته والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها أن لا يكون مملوكا للموصى إذا كانت الوصية
بدراهم أو دنانير مسماة أو بشئ معين من ماله سوى رقبة العبد حتى لو أوصى لعبده بدراهم أو دنانير مسماة أو بشئ معين
من ماله سوى رقبة العبد لا تصح الوصية لأنه إذ ذاك يكون موصيا لنفسه ولو أوصى له بشئ من رقبته بان أوصى
له بثلث رقبته جاز لان الوصية له بثلث رقبته تمليك ثلث رقبته منه وتمليك نفس العبد منه يكون اعتاقا فيصير ثلثه مدبرا في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يصير كله مدبرا لان التدبير يتجزأ عنده كالاعتاق وعندهما لا يتجزأ ولو
أوصى له بثلث ماله جازت وصيته وعتق ثلثه بعد موته لان رقبته دخلت في الوصية لأنها ماله فوقعت الوصية عليها
وعلى سائر املاكه ثم ينظر إن كان ماله دراهم ودنانير ينظر إلى ثلثي العبد فإن كانت قيمة ثلثي العبد مثل ما وجب له في
سائر أمواله صار قصاصا وإن كان في المال زيادة تدفع إليه الزيادة وإن كان في ثلثي قيمة العبد زيادة تدفع الزيادة إلى
الورثة إن كانت التركة عروضا لا تصير قصاصا الا بالتراضي لاختلاف الجنس وعليه أن يسعى في ثلثي قيمته وله
الثلث من سائر أمواله وللورثة أن يبيعوا الثلث من سائر أمواله حتى تصل إليهم السعاية وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه
وأما عندهما صار كله مدبرا فإذا مات عتق كله ويكون العتق مقدما على سائر الوصايا فان زاد الثلث على مقدار قيمته
فعلى الورثة أن يدفعوا إليه فإن كانت قيمته أكثر فعليه أن يسعى في الفضل والله سبحانه وتعالى أعلم ومنها أن لا يكون
مجهولا جهالة لا يمكن ازالتها فإن كان لم تجز الوصية له لان الجهالة التي لا يمكن استدراكها تمنع من تسليم الموصى به إلى
الموصى له فلا تفيد الوصية وعلى هذا يخرج ما إذا أوصى بثلث ماله لرجل من الناس انه لا يصح بلا خلاف ولو
أوصى لاحد هذين الرجلين لا يصح في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما يصح غير أن عند أبي يوسف رحمه
الله الوصية تكون بينهما نصفين وعند محمد رحمه الله الخيار إلى الوارث يعطى أيهما شاء (وجه) قول محمد ان
الايجاب وقع صحيحا لان أحدهما وإن كان مجهولا ولكن هذه جهالة تمكن ازالتها ألا ترى ان الموصى لو عين أحدهما
حال حياته لتعين ثم إن محمدا يقول لما مات عجز عن التعيين بنفسه فيقوم وارثه مقامه في التعيين وأبو يوسف يقول لما
مات قبل التعيين شاعت الوصية لهما وليس أحدهما بأولى من الآخر كمن أعتق أحد عبديه ثم مات قبل البيان
ان العتق يشيع فيهما جميعا فيعتق من كل واحد منهما نصفه كذا ههنا يكون لكل واحد منهما نصف الوصية ولأبي
حنيفة ان الوصية تمليك عند الموت فتستدعى كون الموصى له معلوما عند الموت والموصى له عند الموت مجهول فلم
تصح الوصية من الأصل كما لو أوصى لواحد من الناس فلا يمكن القول بالشيوع ولا يقام الوارث مقام الموصى في
البيان لان ذلك حكم الايجاب الصحيح ولم يصح الا ان الموصى لو بين الوصية في أحدهما حال حياته صحت لان
البيان انشاء الوصية لأحدهما فكان وصية مستأنفة لأحدهما عينا وانها صحيحة ولو كان له عبدان فأوصى بأرفعهما
الرجل وبأخسهما لآخر ثم مات الموصى ثم مات أحد العبدين ولا يدرى أيهما هو فالوصية بطلت في قول أبي حنيفة
وزفر رحمهما الله اجتمعا على أخذ الباقي أو لم يجتمعا وقال أبو يوسف رحمه الله ان اجتمعا على أخذ الباقي فهو بينهما
نصفان وان لم يجتمعا على أخذه فلا شئ لهما وروى عن أبي يوسف انه بينهما نصفان ان اجتمعا أو لم يجتمعا وعلى هذا
يخرج الوصية لقوم لا يحصون انها باطلة إذا لم يكن في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة وإن كان فيه ما ينبئ عن الحاجة فالوصية
جائزه لأنهم إذا كانوا لا يحصون ولم يذكر في اللفظ ما يدل على الحاجة وقعت الوصية تمليكا منهم وهم مجهولون والتمليك
من المجهول جهالة لا يمكن ازالتها لا يصح ثم اختلف في تفسير الاحصاء قال أبو يوسف إن كانوا لا يحصون الا بكتاب
أو حساب فهم لا يحصون وقال محمد إن كانوا أكثر من مائة فهم لا يحصون وقيل إن كانوا بحيث لا يحصيهم محص
حتى يولد منهم مولود ويموت منهم ميت فهم لا يحصون وقيل يفوض إلى رأى القاضي وإن كان في اللفظ ما يدل على
الحاجة كان وصيته بالصدقة وهي اخراج المال إلى الله سبحانه وتعالى والله سبحانه وتعالى واحد معلوم فصحت
342

الوصية ثم إذا صحت الوصية فالأفضل للوصي أن يعطى الثلث لمن يقرب إليه منهم فان جعله في واحد فما زاد جاز عند أبي
حنيفة وأبى يوسف وعند محمد لا يجوز الا ان يعطى اثنين منهم فصاعدا ولا يجوز أن يعطى واحد الا نصف الوصية
وبيان هذه الجملة في مسائل إذا أوصى بثلث ماله للمسلمين لم تصح لان المسلمين لا يحصون وليس في لفظ المسلمين
ما ينبئ عن الحاجة فوقعت الوصية تمليكا من مجهول فلم تصح ولو أوصى لفقراء المسلمين أو لمساكينهم صحت الوصية
لأنهم وإن كانوا لا يحصون لكن عندهم اسم الفقير والمسكين ينبئ عن الحاجة فكانت الوصية لهم تقربا إلى الله تبارك
وتعالى طلبا لمرضاته لا لمرضاة الفقير فيقع المال لله تعالى عز وجل ثم الفقراء يتملكون بتمليك الله تعالى منهم والله سبحانه
وتعالى عز شأنه واحد معلوم ولهذا كان ايجاب الصدقة من الله سبحانه وتعالى من الأغنياء على الفقراء صحيحا وإن كانوا
لا يحصون وإذا صحت الوصية فلو صرف الوصي جميع الثلث إلى فقير واحد جاز عند أبي حنيفة وأبى يوسف وقال
محمد لا يجوز الا ان يعطى منهم اثنين فصاعدا ولا يجوز أن يعطى واحدا منهم الا نصف الثلث وجه قول محمد ان الفقراء
اسم جمع وأقل الجمع الصحيح ثلاثة الا أنه أقام الدليل على أن لاثنين من باب الوصية يقومان مقام الثلاث لان الوصية
أخت الميراث والله تعالى أقام الثنتين من البنات مقام الثلاث منهن في استحقاق الثلثين وكذا الاثنان من الاخوة
والأخوات يقومان مقام الثلاث في نقص حق الام من الثلث إلى السدس ولا دليل على قيام الواحد مقام الجماعة مع ما
ان الجمع مأخوذ من الاجتماع وأقل ما يحصل به الاجتماع اثنان ومراعاة معنى الاسم واجب ما أمكن ولهما ان هذا
النوع من الوصية وصية بالصدقة وهي الزام المال حقا لله تبارك وتعالى وجنس الفقراء مصرف ما يجب لله عز وجل
من الحقوق المالية فكان ذكر الفقراء لبيان المصرف لا لايجاب الحق لهم فيجب الحق لله تبارك وتعالى ثم يصرف
إلى من ظهر رضا الله سبحانه وتعالى بصرف حقه المال إليه وقد حصل بصرفه إلى فقير واحد ولهذا جاز صرف
ما وجب من الصدقات الواجبة بايجاب الله عز وجل إلى فقير واحد وإن كان المذكور بلفظ الجماعة بقوله تبارك
وتعالى إنما الصدقات للفقراء وقد خرج الجواب عما ذكره محمد رحمه الله على أن مراعاة معنى الجمع أنما تجب عند
الامكان فاما عند التعذر فلا بل يحمل اللفظ على مطلق الجنس كما في قوله والله لا أتزوج النساء وقوله إن كلمت بني آدم
أو ان اشتريت العبيد انه يحمل على الجنس ولا يراعى فيه معنى الجمع حتى يحنث بوجود الفعل منه في واحد من الجنس
وههنا لا يمكن اعتبار معنى الجمع لان ذلك مما لا غاية له ولا نهاية فيحمل على الجنس بخلاف ما إذا أوصى لمواليه وله
مولى واحد انه لا يصرف كل الثلث إليه بل نصفه لان هناك ما التزم المال حقا لله تعالى عز وجل بل ملكه للموالي وهو
اسم جمع فلابد من اعتباره وكذا ذلك الجمع له غاية ونهاية فكان اعتبار معنى الجمع ممكنا فلا ضرورة إلى الحمل على
الجنس بخلاف جمع الفقراء وكذلك لو أوصى لفقراء بنى فلان دون أغنيائهم وبنو فلان قبيلة لا تحصى ولا يحصى
فقراؤهم فالوصية جائزه لما قلنا بل أولى لأنه لما صحت الوصية لفقراء المسلمين مع كثرتهم فلان تصح لفقراء
القبيلة أولى فإن لم يقل لفقرائهم ولكنه أوصى لبنى فلان ولم يزد عليه فهذا لا يخلو من أحد وجهين (اما) إن كان فلان
أبا قبيلة (واما) ان لم يكن أبا قبيله بل هو رجل من الناس يعرف بأبى فلان فإن كان أبا قبيلة مثل تميم وأسد ووائل
فإن كان بنوه يحصون جازت الوصية لهم لأنهم إذا كانوا يحصون فقد قصد الموصى تمليك المال منهم لا الاخراج إلى
الله تعالى فكان الموصى له بالثلث معلوما فتصح الوصية له كما لو أوصى لأغنياء بنى فلان وهم يحصون ويدخل فيه الذكور
والإناث لان الإضافة إلى أب القبيلة إضافة النسبة كالإضافة إلى القبيلة ألا يرى أنه يصح أن يقال هذه المرأة من بنى
تميم كما يصح ان يقال هذا الرجل من بنى تميم فيدخل فيه كل من ينتسب إلى فلان ذكرا كان أو أنثى غنيا كان أو فقيرا
لأنه ليس في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة وصار كما لو أوصى لقبيلة فلان ولو كان لبنى فلان موالي عتاقة يدخلون في الوصية
وكذا موالي مواليهم وحلفائهم وعبيدهم وكذا لو كان لهم موالي الموالاة لما ذكرنا أن المراد من قوله بنى فلان إذا كان
فلان أبا قبيلة هو القبيلة لا أبناؤه حقيقة فكان المراد منه المنتسبين إلى هذه القبيلة والمنتمون إليهم والحلفاء والمولى
343

ينتسبون إلى القبيلة وينتمون إليهم في العرف والشرع قال عليه الصلاة والسلام موالي القوم منهم وفى رواية موالي
القوم من أنفسهم وحليفهم منهم وروى أنه قال في جملة ذلك وعبيدهم منهم ولان بنى فلان إذا كانوا لا يحصون سقط
اعتبار حقيقة البنوة فصار عبارة عمن يقع بهم لهم التناصر والموالي يقع بهم لهم التناصر وكذا الحليف والعديد إذ الحليف
هو الذي حلف للقبيلة انه ينصرهم ويذب عنهم كما يذب عن نفسه وهم حلفوا له كذلك والعديد هو الذي يلحق بهم من
غير حلف ولو أوصى لقبيلة فلان دخل فيه الموالي لان المراد من القبيلة الذين ينسبون إليه والموالي ينسبون إليه هذا
إذا كانوا يحصون فإن كانوا لا يحصون لا تجوز الوصية لما قلنا في الوصية لبنى فلان بخلاف ما إذا أوصى لبنى فلان
وهم يحصون وفلان أب خاص لهم وليس بابي قبيلة حيث كان الثلث لبنى صلبه ولا يدخل فيه مواليه لأنه ما جرى
العرف هناك انهم يريدون بهذه اللفظة المنتسب إليهم فبقيت اللفظة محمولة على الحقيقة ولهذا لا يدخل في الوصية بنو
بنيه والدليل على التفرقة بين الفصلين أن زيدا لو أعتق عبدا لا يقول المعتق أنا من بنى زيد إذا كان زيد أبا خاصا وإن كان
زيد أبا قبيلة يقول المعتق أنا من بنى زيد هذا هو المتعارف عندهم ولان بنى فلان إذا كانوا لا يحصون
لم تصح الوصية لان الوصية وقعت لهم تمليك المال منهم وهم مجهولون ولا يمكن أن يجعل هذا وصية بالصدقة لأنه ليس في
لفظ الابن ما ينبئ عن الحاجة فلا يصح كما لو أوصى للمسلمين انه لا يصح لجهالة الملك منه ولم يجعل وصية بالصدقة
لما قلنا كذا هذا وإن كان أبا نسب وهو رجل من الناس يعرف كابن أبي ليلى وابن سيرين ونحو ذلك فإن كانوا كلهم
ذكورا دخلوا في الوصية لان حقيقة اسم البنين للذكور لأنه جمع الابن فيجب العمل بالحقيقة ما أمكن وقد أمكن وإن كان
وا كلهم إناثا لا يدخل فيه واحدة منهن لان اللفظ لا يتناولهن عند انفرادهن وإن كانوا ذكورا وإناثا فقد اختلف
فيه قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهم الوصية للذكور دون الإناث وقال محمد عليه الرحمة يدخل فيه الذكور
والإناث وهو احدى الروايتين عن أبي حنيفة رواه يوسف بن خالد السمتي وذكر القدوري في شرحه مختصر
الكرخي الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه (وجه) قول محمد رحمه الله ان الذكور مع الإناث إذا اجتمعا غلب
الذكور الإناث ويتناول اسم الذكور الذكور والإناث وإن كان لا يتناولهن حالة الانفراد ولهذا تتناول الخطابات
التي في القرآن العظيم باسم الجمع الذكور والإناث جميعا فكذا في الوصية ولهما اعتبار الحقيقة وهو أن البنين جمع ابن
والابن اسم للذكر حقيقة وكذا البنون فلا يتناول الا الذكور ولهذا لم يتناولهن حالة الانفراد فكذا حالة الاجتماع
وهكذا نقول في خطابات القرآن العظيم ان خطاب الذكور لا يتناول الإناث بصيغته بل بدليل زائد والدليل عليه
ما روى أن النساء شكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله ان الله سبحانه وتعالى يخاطب الرجال
دوننا فنزل قوله تبارك وتعالى ان المسلمين والمسلمات الآية فلو كان خطاب الرجال يتناولهن لم يكن لشكايتهن معنى
بخلاف ما إذا كان فلان أبا قبيلة أو بطن أو فخذ لان الإضافة إلى القبيلة والبطن والفخذ لا يراد بها الأعيان وإنما يراد
بها الأنساب وهي أن يكون منسوبا إلى القبيلة والبطن والفخذ والذكر والأنثى في النسبة على السواء ولهذا يتناول الاسم
الإناث منهم وان لم يكن فيهن ذكر ولا يتناول الاسم من ولد الرجل المعروف الإناث اللاتي لا ذكر معهن فإن كان
لفلان بنو صلب وبنو ابن فالوصية لبنى الصلب لأنهم بنوه في الحقيقة (وأما) بنو الابن فبنو بنيه حقيقة لا بنوه وإنما
يسمون بنيه مجازا واطلاق اللفظ يحمل على الحقيقة ما أمكن فإن لم يكن له بنو الصلب فالوصية لبنى الابن لأنهم بنوه
مجازا فيحمل عليه عند تعذر العمل بالحقيقة وأما أبناء البنات فلا يدخلون في الوصية عند أبي حنيفة عليه الرحمة وذكر
الخصاف عن محمد رحمه الله انهم يدخلون كأبناء البنين وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى فإن كان له ابنان لصلبه فالوصية
لهما في قولهم جميعا لان اسم الجمع في باب الوصية يتناول الاثنين فصاعدا فقد وجد من يستحق كل الوصية فلا يحمل
على غيرهم وإن كان له ابن واحد لصلبه صرف صنف الثلث إليه الان المذكور بلفظ الجمع وليس في الواحد معنى الجمع
فلا يستحق الواحد كل الوصية بل النصف ويرد النصف الباقي إلى ورثة الموصى وإن كان له ابن واحد لصلبه وابن
344

ابنه فالنصف لابنه والباقي يرد على ورثة الموصى في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما النصف لابنه وما بقي
فلابن ابنه والصحيح قول أبي حنيفة لان اللفظ الواحد لا يحمل على الحقيقة والمجاز في زمان واحد وإذا صارت
الحقيقة مرادة سقط المجاز وعندهما يجوز حمل اللفظ الواحد على الحقيقة والمجاز في حالة واحدة وهذا غير سديد لان
الحقيقة اسم للثابت المستقر في موضعه والمجاز ما انتقل عن موضعه والشئ الواحد في زمان واحد يستحيل أن يكون
ثابتا في محله ومنتقلا عن محله ولو كان له بنات وبنو ابن فلا شئ للفريقين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفى قولهما
هو بينهم بالسوية لان عند أبي حنيفة ولد الصلب إذا كان حيا يسقط معه ولد الولد غير أن ولد الصلب ههنا البنات على
الانفراد واسم البنين لا يتناول البنات على الانفراد فلم تصح الوصية في الفريقين جميعا وعلى أصلهما تحمل الوصية
على ولد الولد إذا لم يجرأ أولاد الولد بالوصية ويتناولهما الاسم على الاشتراك وصاروا كالبطن الواحد فيشترك ذكورهم
وإناثهم ولو قال أوصيت بثلث مالي لاخوة فلان وهم ذكور وإناث فهو على الخلاف الذي ذكرنا عند أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله هو للذكور دون الإناث وعند محمد رحمه الله هو بينهم بالسواء لا يزاد الذكر على الأنثى والحجج
على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة ولو أوصى لولد فلان فالذكر فيه والأنثى سواء في قولهم جميعا لان الولد اسم للمولود
وانه يتناول الذكر والأنثى ولو كانت له امرأة حامل دخل ما في بطنها في الوصية لان الوصية أخت الميراث لان
الاستحقاق في كل واحد منهما يتعلق بالموت ثم الحمل يدخل في الميراث فيدخل في الوصية فإن كان له بنات وبنو ابن
فالوصية لبناته دون بنى ابنه لان اسم الولد للبنات بانفرادهن حقيقة ولأولاد الابن مجاز ومهما أمكن حمل اللفظ على
الحقيقة لا يحمل على المجاز فإن لم يكن له ولد صلب فالوصية لولد الابن يستوى فيه ذكورهم وإناثهم لأنه تعذر العمل
بحقيقة اللفظ فيعمل بالمجاز تصحيحا لكلام العاقل ولا يدخل أولاد البنات في الوصية في قول أبي حنيفة رضي الله عنه
وذكر الخصاف عن محمد رحمهما الله ان ولد البنات يدخلون فيها كولد البنين وذكر في السير الكبير إذا أخذ الأمان
لنفسه وولده لم يدخل فيه أولاد البنات فصار عن محمد رحمه الله روايتان (وجه) رواية الخصاف أن الولد ينسب إلى
أبويه جميعا لأنه ولد أبيه وولد أمه حقيقة لانخلاقه من مائهما جميعا ثم ولد ابنه ينسب إليه فكذا ولد بنته ولهذا
يضاف أولاد سيدتنا فاطمة رضى الله تعالى عنها إلى أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم
للحسن رضي الله عنه ان ابني هذا لسيد وأن الله تبارك وتعالى يصلح به بين الفئتين وروى أنه عليه الصلاة والسلام
قال للحسن والحسين رضي الله عنهما ان ابني لسيدا كهول أهل الجنة وكذا يقال لسيدنا عيسى ابن مريم عليه الصلاة
والسلام انه من بني آدم وإن كان لا ينتسب إليه الا من قبل أمه ولأبي حنيفة أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم لا إلى
أب الام قال الشاعر
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
(وأما) قوله إن الولد ينسب إلى أبيه والى أمه قلنا نعم وبنت الرجل ولده حقيقة فكان ولدها ولده حقيقة بواسطتها
حتى تثبت جميع أحكام الأولاد في حقه كما تثبت في أولاد البنين الا أن النسب إلى الأمهات مهجور عادة فلا ينسب
أولاد البنات إلى آباء الأمهات بوساطتهن ولا يدخلون تحت النسبة المطلقة وأولاد سيدتنا فاطمة رضى الله تعالى عنهم
لم تهجر نسبتهم إليها فينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطتها وقيل إنهم خصوا بالنسبة إليه عليه الصلاة
والسلام تشريفا واكراما لهم وقد روى بعض مشايخنا عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في هذا حديثا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كان بنى بنت بنو أبيهم الا أولاد فاطمة رضى الله تعالى عنها فإنهم أولادي فإن لم يكن له الا
ولد واحد فالثلث له سواء كان ذكرا أو أنثى لان اسم الولد يتناول الولد الواحد فما زاد عليه حقيقة ولا يتناول الجمع
قال هشام سألت محمدا عن رجل له ابن وبنت فقال أوصيت لفلان بمثل نصيب أحد ابني ثم مات الموصى فكم يجعل
للموصى له قال ذلك إلى الورثة ان شاؤوا أعطوه أقل الانصباء قلت له فإن كان له ابنتان وابن قال فكذلك أيضا قلت
345

فإن كان له ابنان وبنت أو ابنان وبنتان أو بنون وبنات فقال قد أوصيت لفلان بمثل نصيب أحد ابني فقال يعطى
الموصى له في هذا نصيب ابن وإنما كان كذلك لأنه إذا قال أحد ابني وله ابن وبنت وعلم أنه سمى الأنثى ابنا لاجتماعها
مع الذكر فدخلت في الكلام فكان للورثة ان يحملوا الوصية على نصيبهما وإذا كان له بنون وبنات أو ابنان وبنات
فقال أحد بنى يقع على الذكور فتحمل الوصية على نصيب واحد منهم دون نصيب البنات قال محمد رحمه الله فإذا كان
له بنت وابن أو ابن وبنتان أو ابن وبنات فالابن وحده لا يكون بنين والامر على ما ذكره محمد لان اسم الجمع لا يتناول
الواحد فلابد من ادخال الإناث معه فحملت الوصية على نصيب أحدهم فهذا إشارة إلى اعتباره حقيقة اللفظ وان
الاسم يحمل على الذكور الا عند التعذر ولو أوصى ليتامى بنى فلان فإن كان يتاماهم يحصون جازت الوصية لأنهم
إذا كانوا يحصون وقعت الوصية لهم بأعيانهم لكونهم معلومين فأمكن ايقاعها تمليكا منهم فصحت كما لو أوصى ليتامى
هذه السكة أو هذه الدار ويستوى فيها الغنى والفقير لان اليتيم في اللغة اسم لمن مات أبوه ولم يبلغ الحلم وهذا لا يتعرض
للفقر والغنا وقال الله سبحانه وتعالى ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وقال عليه الصلاة واسلام ابتغوا في
أموال اليتامى خيرا كيلا تأكلها الصدقة قد سموا يتامى وإن كان لهم مال فكل صغير مات أبوه يدخل تحت الوصية ومن
لا فلا فإن كانوا لا يحصون فالوصية جائزة وتصرف إلى الفقراء منهم لأنها لو صرفت إلى الأغنياء لبطلت لجهالة الموصى
له ولو صرفت إلى الفقراء لجازت لأنها وصية بالصدقة واخراج للمال إلى الله تعالى والله تعالى واحد معلوم وأمكن أن
تجعل الوصية للفقراء وان لم يكن في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة لغة لكنه ينبئ عن سبب الحاجة وعما يوجب الحاجة
بطريق الضرورة لان الصغر والانفراد عن الأب أعظم أسباب الحاجة إذ الصغير عاجز عن الانتفاع بماله ولا بد له
ممن يقوم بايصال منافع ماله إليه وكذا هو عاجز عن القيام بحفظ ماله واستنمائه ولا بقاء للمال عادة الا بالحفظ والاستنماء
وهو عاجز عن ذلك كله فيصير في الحكم كمن انقطعت عليه منافع ماله بسبب بعده عن ماله وهو ابن السبيل فصار
الاسم بهذه الوساطة منبئا عن الحاجة ولهذا المعنى جعل الله لليتامى سهما من خمس الغنيمة بقوله تبارك وتعالى واعلموا
إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى وقال تبارك وتعالى ما أفاء الله على رسوله من أهل
القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى وأراد به المحتاجين منهم دون الأغنياء وإذا كان كذلك أمكن تصحيح
هذا التصرف بجعله ايصاء بالصدقة وكذلك إذا أوصى لزمني بنى فلان أو لعميانهم لان الاسم يدل على سبب
الحاجة عادة وهو الزمانة والعمى بخلاف ما إذا أوصى لبنى فلان وهم لا يحصون انه لا يصح لأنه لا يمكن تصحيحه
بطريق التمليك بجهالة الموصى لهم ولا بطريق الايصاء بالصدقة لأنه ليس في لفظ الابن ما ينبئ عن الحاجة ولا
ما يوجب الحاجة وههنا بخلافه على ما بينا فتصح الوصية ثم إذا صحت وانصرفت الوصية إلى الفقراء من اليتامى فان
صرف لي اثنين منهم فصاعدا جاز بالاجماع وان صرف جميع الثلث إلى واحد فهو على الخلاف الذي ذكرنا
والأفضل للموصى أن يصرف إلى كل من قدر منهم لأنه أقرب إلى العمل بحقيقة اللفظ وتحقيق مقصود الموصى ولو
أوصى بثلث ماله لأرامل بنى فلان جازت الوصية سواء كن يحصين أو لا يحصين أما إذا كن يحصين فلا يشكل فان
الوصية وقعت تمليكا منهن بأعيانهن لكونهن معلومات وكذلك إذا كن لا يحصين لان في الاسم ما يدل على الحاجة
لان الأرملة اسم لامرأة بالغة فارقت زوجها بطلاق أو وفاة دخل بها أو لم يدخل كذا قال محمد رحمه الله وقال ابن
الأنباري الأرملة التي لا زوج لها من قولهم أرمل القوم فهم مرملون إذا فنى زادهم ومن فنى زاده كان محتاجا فكان في
الاسم ما ينبئ عن الحاجة فتقع وصية بالصدقة واخراج المال إلى الله تبارك وتعالى والله سبحانه وتعالى واحد
معلوم وهل يدخل في هذه الوصية الرجال الذين فارقوا أزواجهم قال عامة العلماء رضي الله عنهم لا يدخلون
وقال الشافعي رحمه الله يدخل في كل من خرج من كرمة فلان ذكرا كان أو أنثى واليه ذهب القتبي واحتجا بقول
جرير الشاعر
346

هذه الأرامل قد قضيت حاجتها * فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
أطلق اسم الأرمل على الرجل (ولنا) أن حقيقة هذا الاسم للمرأة لما ذكرنا عن محمد وهو من كبار أهل اللغة روى
عنه أبو عبيد وأبو العباس ثعلب وأقر انهم كما روينا عن الخليل والأصمعي وأقر انهما وقال الخليل يقال امرأة أرملة
ولا يقال رجل أرمل الا في المليح من الشعر وقال ابن الأنباري رحمه الله لا يقال رجل أرمل الا في الشعر ونحو ذلك
ولان الاسم لما كان مشتقا من قولهم أرمل القوم إذا فنى زادهم فالمرأة هي التي فنى زادها بموت زوجها لان النفقة على
الزوج لا على المرأة فإذا مات فقد فنى زادها وبه تبين أن قول جرير محمول على مليح الشعر كما قال الخليل أو هو شاذ كما
قال ابن الأنباري أو لازدواج الكلام قال الله سبحانه وتعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقال تعالى فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله سبحانه وتعالى وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وكما قال الشاعر
فان تنكحي أنكح وأن تتأيمى * مدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم
(ومعلوم) أن الرجل لا يسمى أيما لكن أطلق عليه لازدواجه بقوله وأن تتأيمى كذا ههنا واطلاق الاسم لا ينصرف
إلى مالا يذكر الا لضرورة تمليح الشعر وازدواج الكلام أو في الشذوذ لان مطلق الاسم ينصرف إلى ما تتسارع إليه
الافهام والأوهام وذلك ما قلنا ولو أوصى لأيامى بنى فلان فان كن يحصين جازت الوصية لما قلنا وان كن لا يحصين
لا تجوز لأنه ليس في لفظ الأيم ما ينبئ عن الحاجة لتجعل وصيته بالصدقة لان الأيم في اللغة اسم لامرأة جومعت في
قبلها فارقها زوجها وشرحه محمد رحمه الله قال الأيم كل امرأة جومعت بنكاح جائز أو فاسد أو فجور ولا زوج لها
غنية كانت أو فقيرة صغيرة كانت أو كبيرة وليس في هذه المعاني ما ينبئ عن الحاجة فلا يكون ايصاء بالتصدق بخلاف
الوصية لأرامل بنى فلان وهن لا يحصين انها جائزة لان اسم الأرملة ينبئ عن الحاجة على ما بينا فجعل وصية بالصدقة
ثم إذا كن يحصين حتى جازت الوصية يدخل فيها الصغيرة والبالغة والغنية والفقيرة لان الاسم في اللغة لا يتعرض لما
سوى الأنوثة وحلول الجماع بها في قبلها وفراقها زوجها وقال الله تبارك وتعالى وانكحوا الأيامى منكم وانه يتناول
الكبيرة والصغيرة حتى يجوز انكاح الصغار كما يجوز انكاح الكبار وكذا لا يتعرض للفقر والغنا لأنه سبحانه وتعالى
قال عز من قائل أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ولو كان متعرضا لشئ من ذلك لم يكن لقوله سبحانه وتعالى أن يكون
وا فقراء معنى وهذا الذي ذكرنا ان الأيم اسم لامرأة جومعت في قبلها فارقها زوجها قول عامة المسلمين وقال
أبو القاسم الصفار البلخي وأبو الحسن الكرخي رحمهما الله ان الجماع ليست بشرط لثبوت هذا الاسم وكذا الأنوثة بل
يقع هذا الاسم على المدخول بها وعلى البكر ويقع على الرجل كما يقع على المرأة واحتجا بقول الشاعر
ان القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى
ومعلوم أن القبر يضم البكر إلى نفسه كما يضم الثيب وقال الشاعر
فان تنكحي أنكح وان تتأيمى * مدا الدهر ما لم تنكحي أتأيم
أي أمكث بلا زوج ما مكثت أنت بلا زوج وقال آخر
فلا تنكحن جبارة ان شرها * عليك حرام فانكحن أو تايما
والجواب أن الحقيقة اللغة ما حكينا عن نقلة اللغة وهم أهل دقائق الألفاظ فيقبل نقلهم إياها فيما وضعت له وما ورد
في استعمال بعض الفصحاء معدولا به عن تلك الحقائق فحمل على المجاز اما بطريق المقابلة والازدواج أو باعتبار
بعض المعاني التي وضع لها الاسم والدليل على أن الأنوثة أصل وانه لا يقع على الذكر أنه لا يدخل علامة التأنيث
فيه يقال امرأة أيم ولا يقال أيمة ولو كان الاسم يتناول الذكر والأنثى لفرقوا بينهما بادخال علامة التأنيث في المرأة
وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني ان ما ذكر محمد في صفة الأيم جومعت بفجور أو غير فجور مذهبهما فاما عند أبي
حنيفة رحمه الله التي جومعت بفجور لا تدخل في هذه الوصية لان التي جومعت بفجور بكر لا أيم عنده حتى
347

تزوج كما تزوج الابكار عنده ومنهم من قال هذا قولهم جميعا لأنها أيم حقيقة لوجود الجماع الا انها تزوج كما تزوج
الابكار عنده لمشاركتها الابكار عنده في المعنى الذي أقيم فيه السكوت مقام الرضا نطقا في حقها باعتبار السكوت
وهو الحياء على ما عرف في مسائل الخلاف ولو أوصى لكل ثيب من بنى فلان ان كن يحصين صحت الوصية لما ذكرنا
في المسائل المتقدمة ويدخل تحت هذه الوصية كل امرأة جومعت بحلال أو حرام لها زوج أو لم يكن لها زوج
بلغت مبلغ النساء أو لم تبلغ كذا ذكر محمد ويدخل فيه الفقيرة والغنية والصغيرة والكبيرة لان اللفظ لا يتعرض لذلك
وقال الله تبارك وتعالى ثيبات وأبكارا أدخل فيه الصغار والكبار والفقيرات والغنيات يدل عليه انهن دخلن فيما
يقابله وهو قوله سبحانه وتعالى وأبكارا فكذا في قوله تعالى ثيبات فدل الامر على اشتراط الدخول لأنه قابل الثيبات
بالأبكار وهن اللاتي لم يجامعن فكانت الثيبات اللاتي جومعن لتصح المقابلة ولا تشترط مفارقتها زوجها بخلاف
الأرملة لان اللغة كذا تقتضي فيتبع فيه وضع أرباب اللغة ولا يدخل فيه الرجل لان هذا الاسم لا يتناول الرجل حقيقة
وان ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة لان ذلك اطلاق
بطريق المجاز للازدواج والمقابلة وان كن لا يحصين لم تجز الوصية لأنه ليس في الاسم ما ينبئ عن الحاجة لما ذكرنا
أنه اسم لأنثى من بنات آدم عليه الصلاة والسلام جومعت وليس في الأوصاف المذكورة في الحد ما ينبئ عن الحاجة
فلا يراد بهذه الوصية الا التمليك والمتملك مجهول فلا يصح ولو أوصى لكل بكر من بنى فلان يجوز إذا كن محصورات
لما قلنا ويدخل فيه الصغيرة والكبيرة الغنية والفقيرة إذ البكر اسم لامرأة لم تجامع بنكاح ولا غيره كذا قال محمد رحمه
الله واطلاق هذا الاسم على الذكر في الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام
بطريق المجاز وهو المجاز بطريق المقابلة والازدواج أو كان لها حقيقة ثم غلب استعماله في متعارف الحلق على الأنثى
فصار بحال لا تنصرف أوهام الناس عند اطلاقه الا إلى الأنثى فيحمل الحديث على المجاز ولو كانت عذرتها زالت
بالوضوء أو بالوثبة أو بذرور الدم تستحق الوصية لأنها لم تجامع ومن الناس من خالف محمدا رحمه الله قالوا إن هذه أيضا
لا تستحق الوصية لأنها ليست ببكر والصحيح ما ذكره محمد رحمه الله لما ذكرنا وذكر محمد رحمه الله أن التي زالت
بكارتها بفجور لا تكون بكرا ولا تكون لها وصية وقال بعض مشايخنا منهم الفقير أبو جعفر الهندواني رحمه الله ان هذا
قولهما (فاما) عند أبي حنيفة رحمه الله فإنها بكر وتستحق الوصية ومنهم من قال لا خلاف في أنها لا تستحق الوصية
لأنها ليست ببكر حقيقة لعدم حد البكارة وإنما تزوج تزوج الابكار عند أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب ولو أوصى لذوي قرابته أو قراباته أو لأنسابه أو لأرحامه أو لذوي أرحامه هذه الألفاظ الخمسة
سواء فعند أبي حنيفة الوصية بهذه الألفاظ للأقرب فالأقرب فالحاصل ان عند أبي حنيفة عليه الرحمة يعتبر في هذه
الوصية خمسة أشياء الرحم المحرم والأقرب فالأقرب وجمع الوصية وهو اثنان فصاعدا وأن يكون سوى الوالدين
والمولودين وأن يكون ممن لا يرث وعندهما يدخل في هذه الوصية ذو الرحم المحرم والقريب والبعيد إلى أقصى أب له
في الاسلام حتى لو أوصى للعلوية والعباسية يصرف إلى الثلث إلى من اتصل بسيدنا على وبسيدنا العباس رضي الله عنهما
لا إلى من فوقهما من الآباء ولا خلاف في اعتبار الأوصاف الثلاثة وهي اعتبار جمع الوصية وان لا يكون والدا
ولا ولدا وأن يكون ممن لا يرث (أما) الأول فلان لفظ ذوي لفظ جمع وأقل الجمع في باب الوصية اثنان لان الوصية
أخت الميراث وفى باب الميراث كذلك فان الثنتين من البنات والأخوات ألحقتا بالثلاث فصاعدا في استحقاق الثلثين
وحجب الام من الثلث إلى السدس على ما مر حتى لو أوصى لذوي قرابته استحق الواحد فصاعدا كل الوصية لان
ذي ليس بلفظ جمع وأما الثاني فلان الوالد والولد لا يسميان قرابتين عرفا وحقيقة أيضا لان الأب أصل والولد
فرعه وجزؤه والقريب من يقرب من غيره لا من نفسه فلا يتناوله اسم القرب وقال الله سبحانه وتعالى الوصية
للوالدين والأقربين عطف الأقرب على الوالد والعطف يقتضى المغايرة في الأصل وإذا لم يدخل الوالد والولد في
348

هذه الوصية فهل يدخل فيها الجد وولد الولد ذكر في الزيادات انهما يدخلان ولم يذكر فيه خلافا وذكر الحسن
ابن زياد عن أبي حنيفة رحمهم الله انهما لا يدخلان وهكذا روى عن أبي يوسف رحمه الله وهو الصحيح لان الجد
بمنزلة الأب وولد الولد بمنزلة الولد فإذا لم يدخل فيها الوالد والولد كذا الجد وولد الولد (وأما) الثالث فلما روينا عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال لا وصية لوارث وإنما الخلاف في موضعين أحدهما أنه يعتبر المحرم عند أبي حنيفة
وعندهما لا يعتبر والثاني أنه يعتبر الأقرب فالأقرب عنده وعندهما لا يعتبر (وجه) قولهما أن القريب اسم مشتق
من معنى وهو القرب وقد وجد القرب فيتناول الرحم المحرم وغيره والقريب والبعيد وصار كما لو أوصى لإخوته أنه
يدخل الاخوة لأب وأم والاخوة لأب والاخوة لام لكونه اسما مشتقا من الاخوة كذا هذا والدليل عليه ما روى
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لما نزل قوله تبارك وتعالى وأنذر عشيرتك الأقربين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قريشا فخص وعم فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فانى لا أملك لكم من الله تبارك وتعالى ضرا ولا نفعا
يا معشر بنى قصي أنقذوا أنفسكم من النار فانى لا أملك لكم من الله عز شأنه ضرا ولا نفعا وكذلك قال عليه الصلاة والسلام
لبنى عبد المطلب ومعلوم أنه كان فيهم الأقرب والأبعد وذو الرحم المحرم وغير المحرم فدل أن الاسم يتناول كل قريب
الا أنه لا يمكن العمل بعمومه لتعذر ادخال أولاد سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام فيه فتعتبر النسبة إلى أقصى أب في
الاسلام لأنه لما ورد الاسلام صارت المعرفة بالاسلام والشرف به فصار الجد المسلم هو النسب فتشرفوا به فلا يعتبر
من كان قبله ولأبي حنيفة رحمه الله أن الوصية لما كانت باسم القرابة أو الرحم فالقرابة المطلقة هي قرابة ذي الرحم
المحرم ولان معنى الاسم يتكامل بها وأما في غيرها من الرحم غير المحرم فناقص فكان الاسم للرحم المحرم لا لغيره لأنه لو
كان حقيقة لغيره فاما أن يعتبر الاسم مشتركا أو عاما ولا سبيل إلى الاشتراك لان المعنى متجانس ولا إلى العموم لان
المعنى متفاوت فتعين أن يكون الاسم لما قلنا حقيقة ولغيره مجازا بخلاف الوصية لاخوته لان مأخذ الاسم وهو الاخوة
لا يتفاوت فكان اسماعا فيتناول الكل وههنا بخلافه على ما بينا ولان المقصود من هذه الوصية هو صلة القرابة وهذه
القرابة هي واجبة الوصل محرمة القطع لا تلك والظاهر من حال المسلم الدين المسارعة إلى إقامة الواجب فيحمل مطلق
اللفظ عليه بخلاف ما إذا أوصى لاخوته لان قرابة الاخوة واجبة الوصل محرمة القطع على اختلاف جهاتها فهو
الفرق بين الفصلين وجواب أبى يوسف ومحمد رحمهما الله على زعمهما كان يستقيم في زمانهما لان أقصى أب الاسلام
كان قريبا يصل إليه بثلاثة آباء أو أربعة آباء فكان الموصى له معلوما فاما في زماننا فلا يستقيم لان عهد الاسلام قد
طال فتقع الوصية لقوم مجهولين فلا تصح الا أن نقول إنه يصرف إلى أولاد أبيه وأولاد جده وأولاد جد أبيه والى
أولاد أمه وأولاد جدته وجدة أمه لان هذا القدر قد يكون معلوما فيصرف إليهم فاما الزيادة على ذلك فلا والله سبحانه
وتعالى أعلم فان ترك عمين وخالين وهم ليسوا بورثته بان مات وترك ابنا وعمين وخالين فالوصية للعمين لا للخالين
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه يعتبر الأقرب فالأقرب والعمان أقرب إليه من الخالين فكانا أولى بالوصية
وعندهما الوصية تكون بين العمين والخالين أرباعا لان القريب والبعيد سواء عندهما ولو كان له عم واحد وخالان
فللعم نصف الثلث وللخالين النصف الآخر لان الوصية حصلت باسم الجمع وأقل من يدخل تحت اسم الجمع في
الوصية اثنان فلا يستحق العم الواحد أكثر من نصف الوصية لان أقل من ينضم إليه مثله وإذا استحق هو النصف
بقي النصف الآخر لا مستحق له أقرب من الخالين فكان لهما وعندهما يقسم الثلث بينهم أثلاثا لاستواء الكل
في الاستحقاق فإن كان له عم واحد ولم يكن له غيره من ذوي الرحم المحرم فنصف الثلث لعمه والنصف يرد على ورثة
الموصى عنده لان العم الواحد لا يستحق أكثر من النصف فبقي النصف الآخر لا مستحق له فتبطل فيه الوصية
وعندهما يصرف النصف الآخر إلى ذي الرحم الذي ليس بمحرم ولو أوصى لأهل بيته يدخل فيه من جمعه آباؤهم
أقصى أب في الاسلام حتى أن الموصى لو كان علويا يدخل في هذه الوصية كل من ينسب إلى سيدنا على رضى الله
349

عنه من قبل الأب وإن كان عباسيا يدخل فيها كل من ينسب إلى العباس رضي الله عنه من قبل الأب سواء كان بنفسه
ذكرا أو أنثى بعد إن كانت نسبته إليه من قبل الآباء ولا يدخل من كانت نسبته من قبل الام لان المراد من أهل البيت
أهل بيت النسب والنسب إلى الآباء وأولاد النساء آباؤهم قوم آخرون فلا يكون من أهل بيته ويدخل تحت الوصية
لأهل بيته أبوه وجده إذا كان ممن لا يرث لان بيت الانسان أبوه ومن ينسب إلى بيته فالأب أصل البيت فيدخل في
الوصية ولا يدخل في الوصية بالقرابة لان القرابة من تقرب إلى الانسان بغيره لا بنفسه وذلك لا يوجد في أب
وكذلك لو أوصى لنسبه أو حسبه فهو على قرابته الذين ينسبون إلى أقصى أب له في الاسلام حتى لو كان آباؤه على غير
دينه دخلوا في الوصية لان النسب عبارة عمن ينسب إلى الأب دون الام وكذلك الحسب فان الهاشمي إذا تزوج
أمة فولدت منه ينسب الولد إليه لا إلى أمه وحسبه أهل بيت أبيه دون أمه فثبت أن النسب والحسب يختص بالأب
دون الام وكذلك إذا أوصى لجنس فلان فهم بنو الأب لان الانسان يتجنس بأبيه ولا يتجنس بأمه فكان المراد
من جنسه في النسب وكذلك اللحمة عبارة عن الجنس وذكر المعلى عن أبي يوسف إذا أوصى لقرابته فالقرابة
من قبل الأب والام والجنس واللحمة من قبل الأب لان القرابة من يتقرب إلى الانسان بغيره وهذا المعنى يوجد في
الطرفين بخلاف الجنس على ما بينا وكذلك الوصية لآل فلان هو بمنزلة الوصية لأهل بيت فلان فلا يدخل أحد
من قرابة الام في هذه الوصية ولو أوصى لأهل فلان فالوصية لزوجة فلان خاصة في قول أبي حنيفة وعندهما هذا
على جميع من يعولهم فلان ممن تضمه نفقته من الأحرار فيدخل فيه زوجته واليتيم في حجره والولد إذا كان يعوله فإن كان
كبيرا قد اعتزل عنه أو كان بنتا قد تزوجت فليس من أهله ولا يدخل فيه مماليكه ولا وارث الموصى ولا الموصى
لأهله (وجه) قولهما أن الأهل عبارة عمن ينفق عليه قال الله تبارك وتعالى خبرا عن نبيه سيدنا نوح عليه الصلاة
والسلام ان بنى من أهلي وقال تبارك وتعالى في قصة لوط عليه الصلاة والسلام فنجيناه وأهله ولأبي حنيفة
رحمه الله ان الأهل عند الاطلاق يراد به الزوجة في متعارف الناس يقال فلان متأهل وفلان لم يتأهل وفلان له أهل
وفلان ليس له أهل ويراد به الزوجة فتحمل الوصية على ذلك ولا يدخل فيه المماليك لأنهم لا يسمون أهل المولى ولا
يدخل فيه وارث الموصى لأنه ان خرج منه لا يدخل فعند الاطلاق أولى ولا يدخل فلان الذي أوصى لأهله لان
الوصية وقعت للمضاف إليه والمضاف غير المضاف إليه فلا يدخل في الوصية كما لو أوصى لولد فلان ان فلانا لا يدخل
في الوصية لما قلنا كذا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أوصى بثلث ماله لاخوته وله ست اخوة متفرقة وله أولاد
يحوزون ميراثه فالثلث بين اخوته سواء لأنهم في استحقاق الاسم سواء بخلاف الوصية لأقرباء فلان انه يصرف إلى
الأقرب فالأقرب عند أبي حنيفة لان القرابة تحتمل التفاوت في القرب والبعد وأما الاخوة فلا تحتمل التفاوت ألا
ترى انه يقال هذا أقرب من فلان ولا يقال هذا أكثر اخوة من فلان هذا إذا كان له ولد يحوز ميراثه فإن لم يكن فلا شئ
للاخوة من الأب والام والاخوة من الام لأنهم ورثة ولا وصية لوارث وللاخوة من قبل الأب ثلث ذلك الثلث
لأنهم لا يرثون ولا يقال إذا لم تصح الوصية للاخوة لأب وأم وللاخوة لام ينبغي ان يصرف كل الثلث إلى الإخوة للأب
لأنا نقول نعم هكذا لو لم تصح الإضافة إلى الاخوة لأب وأم والى الاخوة لام والإضافة إليهم وقعت صحيحة
بدليل انه لو أجازت الورثة جازت الوصية لهم وصار هذا كرجل أوصى بثلث ماله لثلاثة نفر فمات اثنان منهم
قبل موت الموصى فللباقي منهم ثلث الثلث لان الإضافة إليهم وقعت صحيحة كذا هذا بخلاف ما إذا أوصى لفلان
وفلان وأحدهما ميت لان هناك الإضافة لم تصح لان الميت بمحل للوصية أصلا فلم يدخل تحت الإضافة
قال أبو يوسف رحمه الله في رجل أوصى بثلث ماله في الصلة وله اخوة وأخوات وبنو أخ وبنو أخت يوضع
الثلث في جميع قرابته من هؤلاء ومن ولد منهم بعد موته لأقل من ستة أشهر لان الصلة يراد بها صلة الرحم فكأنه نص
عليه ومن ولد منهم لأقل من ستة أشهر علم أنه كان موجودا يوم موت الموصى فيدخل في الوصية وذكر محمد رحمه
350

الله في الزيادات إذا أوصى بثلث ماله لاختانه ثم مات فالأختان أزواج البنات والأخوات والعمات والخالات
فكل امرأة ذات رحم محرم من الموصى فزوجها من أختانه وكل ذي رحم محرم من زوجها من ذكر وأنثى فهو أيضا
من أختانه ولا يكون الأختان الا أزواج ذوات الرحم المحرم ومن كان من قبلهم من ذي الرحم المحرم ولا يكون من
الأختان من كان من قبل نساء الموصى أي زوجاته لان من ينسب إلى الزوجة فهو صهر وليس بختن على ما نذكر إن شاء الله
تعالى وقول محمد رحمه الله حجة في اللغة وذكر محمد رحمه الله في الاملاء أيضا إذا قال قد أوصيت لأختاني
فأختانه أزواج كل ذات رحم محرم من الزوج فإن كانت له أخته وبنت أخت وخالة ولكل واحدة منهن
زوج ولزوج كل واحدة منهن أب فكلهم جميعا أختان والثلث بينهم بالسوية الذكر والأنثى فيه سواء أم الزوج
وأختانه وغير ذلك فيه سواء على ما بينا فقد نص محمد رحمه الله في موضعين على أن الأختان ما ذكر وقول محمد حجة في
اللغة وقال في الاملاء إذا قال أوصيت بثلث مالي لاصهاري فهو على كل ذي رحم محرم من زوجته وزوجة أبيه
وزوجة ابنه وزوجة كل ذي رحم محرم منه فهؤلاء كلهم أصهاره ولا تدخل في ذلك الزوجة ولا امرأة أبيه ولا
امرأة أخيه وقول محمد رحمه الله حجة في اللغة والدليل أيضا على أن الأصهار من كان من أهل الزوجة ما روى أنه عليه
الصلاة والسلام لما أعتق صفية وتزوجها أعتق من ملك ذا رحم محرم منها اكراما لها وكانوا يسمون أصهاره عليه
الصلاة والسلام وقال في الاملاء قال أبو حنيفة رضي الله عنه إذا أوصى فقال ثلث مالي لجيراني فهو لجيرانه الملاصقين
لداره من السكان عبيدا كانوا أو أحرارا نساء كانوا أو رجالا ذمة كانوا أو مسلمين بالسوية قربت الأبواب أو بعدت
إذا كانوا ملاصقين للدار وعندهما الثلث لهؤلاء الذين ذكرهم أبو حنيفة رضي الله عنه ولغيرهم من الجيران من أهل
المحلة ممن يضمهم مسجدا وجماعة واحدة ودعوة واحدة فهؤلاء جيرانه في كلام الناس وقال في الزيادات عن أبي
حنيفة رضي الله عنه إذا أوصى لجيرانه فقياسه أن يكون للملاصقين وقول أبي حنيفة عليه الرحمة ينبغي أن يكون الثلث
للسكان وغيرهم ممن يسكن تلك الدور التي تجب لأجلها الشفعة ومن كان منهم له دار في تلك الدور وليس بساكن فيها
فليس من جيرانه قال محمد رحمه الله فاما أنا فأستحسن ان أجعل الوصية لجيرانه الملاصقين ممن يملك الدور وغيرهم ممن
لا يملكها ولمن يجمعه مسجد تلك المحلة التي فيها الموصى من الملاصقين وغيرهم السكان ممن في تلك المحلة وغيرهم سواء في
الوصية الأقربون والأبعدون والكافر والمسلم والصبي والمرأة في ذلك سواء وليس للماليك والمدبرين وأمهات
الأولاد في ذلك شئ (وأما) المكاتبون فهم في الوصية إذا كانوا سكانا في المحلة (وجه) قولهما ان اسم الجار كما يقع على
الملاصق يقع على المقابل وغيره ممن يجمعهما مسجد واحد فان كل واحد منهما يسمى جارا وقال عليه الصلاة والسلام
لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد (وروى) ان سيدنا عليا رضي الله عنه فسر ذلك فقال هم الذين يجمعهم مسجد
واحد ولان مقصود الموصى من الوصية للجار هو البر به والاحسان إليه وانه لا يختص بالملاصق ولأبي حنيفة رحمه
الله ان الجوار المطلق ينصرف إلى الحقيقة وهي الاتصال بين الملكين بلا حائل بينهما وهو حقيقة المجاورة فاما مع الحائل
فلا يكون مجاورا حقيقة ولهذا وجبت الشفعة للملاصق لا للمقابل لأنه ليس بجار حقيقة (ومطلق) الاسم محمول على
الحقيقة ولان الجيران الملاصقين هم الذين يكون لبعضهم على بعض حقوق يلزم الوفاء بها حال حياتهم فالظاهر أنه
أراد بهذه الوصية قضاء حق كان عليه وإذا كان كذلك فتنصرف الوصية إلى الجيران الملاصقين الا انه لابد من
السكنى في الملك الملاصق لملك الموصى فإذا وجد ذلك صار كأنه جار له فيستحق الوصية والمذكور في الحديث جار
المسجد وجار المسجد فسره على رضى الله تعالى عنه فإذا أوصى لموالي فلان وهو أبو فخذ أو قبيلة أو لبنى فلان فإنه يصير
كأنه قال لموالي قبيلة فلان ولبني قبيلة فلان ويريد به المنتسبين إليهم بالنسب والمنتمين إليهم بالولاء هذا هو المتعارف
بين أهل اللسان ومطلق الكلام ينصرف إليه ويصير كالمنطوق بما هو المتعارف عندهم ولو قال نص هذا ثبت المال
للمنتسبين إلى هذه القبيلة والمنتمين إليهم بالولاء كان الجواب ما قلنا كذا ههنا بخلاف ما إذا لم يكن فلان أبا فخذا وقبيلة
351

فان هناك لا عرف فعمل بحقيقة اللفظ ولا يصار إلى المجاز الا بالدليل الظاهر ولا يدخل فيه مولى الموالاة لان مولى
العتاقة يتقدم عليه والله سبحانه وتعالى أعلم ثم لا خلاف في أنه إذا قال ثلث مالي لموالي فلان انه يدخل في الوصية
جميع من نجز اعتاقه في صحته وفى مرضه وسواء كان أعتقه قبل الوصية أو بعدها لان نفاذ الوصية متعلق بالموت وكل من
أعتقه في المرض أو في الصحة بعد ان نجز اعتاقه صار مولى بعد الموت فيستحق الوصية فاما المدبرون وأمهات الأولاد
فهل يدخلون تحت هذه الوصية (روى) عن أبي يوسف انهم يدخلون وروى عنه رواية أخرى انهم لا يدخلون
وهو قول محمد ذكره في الجامع وجه الرواية الأولى ان تعلق نفوذ الوصية أو ان الموت وهم مواليه في ذلك الوقت فإنهم
يستحقون الوصية (وجه) ظاهر الرواية ان أوان نفوذ الوصية وهو وقت الموت أوان عتقهم فيعتقون في تلك الحالة
ثم يصيرون مواليه بعده والوصية تناولت من كان مولى عند موته وهم في تلك الحالة ليسوا بمواليه فلا يدخلون في الوصية
(ولو كان) قال ذلك بعد ان قال إن لم أضربك فأنت حر فمات قبل ان يضربه عتق ودخل في الوصية لأنه عتق في آخر
جزء من اجزاء حياته لتحقق عدم الضرب منه في تلك الحالة ووقوع الياس عن حصوله من قبله فيصير مولى له ثم يعتقه
الموت ثم تنفذ الوصية فكان مولى وقت نفوذ الوصية ووجوبها بخلاف المسألة الأولى والله تعالى أعلم بالصواب
* (وأما) * الذي يرجع إلى الموصى به فأنواع منها أن يكون مالا أو متعلقا بالمال لان الوصية ايجاب الملك أو ايجاب
ما يتعلق بالملك من البيع والهبة والصدقة والاعتاق ومحل الملك هو المال فلا تصح الوصية بالميتة والدم من أحد
ولا حد لأنهما ليسا بمال في حق أحد ولا بجلد الميتة قبل الدباغ وكل ما ليس بمال وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيوع
(ومنها) أن يكون المال متقوما فلا تصح الوصية بمال غير متقوم كالخمر فإنها وإن كانت مالا حتى تورث لكنها غير متقومة
في حق المسلم حتى لا تكون مضمونة بالاتلاف فلا تجوز الوصية من المسلم وله بالخمر ويجوز ذلك من الذمي لأنها
مال متقوم في حقهم كالخل وتجوز بالكلب المعلم لأنه متقوم عندنا ألا ترى انه مضمون بالاتلاف ويجوز بيعه
وهبته سواء كان المال عينا أو منفعة عند عامة العلماء حتى تجوز الوصية بالمنافع من خدمة العبد وسكنى الدار وظهر
الفرس وقال ابن أبي ليلى رحمه الله لا تجوز الوصية بالمنافع (وجه) قوله إن الوصية بالمنافع وصية بمال الوارث لان
نفاذ الوصية عند الموت وعند الموت تحصل المنافع على ملك الورثة لان الرقبة ملكهم وملك المنافع تابع لملك الرقبة
فكانت المنافع ملكهم لان الرقبة ملكهم فكانت الوصية بالمنافع وصية من مال الوارث فلا تصح ولان الوصية
بالمنافع في معنى الإعارة إذ الإعارة تمليك المنفعة بغير عوض والوصية بالمنفعة كذلك والعارية تبطل بموت المعير فالموت
لما أثر في بطلان العقد على المنفعة بعد صحته فلان يمنع من الصحة أولى لان المنع أسهل من الرفع (ولنا) انه لما ملك تملك
حال حياته بعقد الإجارة والإعارة فلان يملك بعقد الوصية أولى لأنه أوسع العقود ألا ترى انها تحتمل مالا يحتمله
سائر العقود من عدم المحل والحظر والجهالة ثم لما جاز تمليكها ببعض العقود فلان يجوز بهذا العقد أولى والله سبحانه
وتعالى الموفق للصواب (وأما) قوله إن الوصية وقعت بمال الوارث فممنوع وقوله ملك الرقبة عند موت الموصى
مسلم لكن المنفعة يتبع ملك الرقبة إذا أفرد المنفعة بالتمليك وإذا لم يفرد الأول ممنوع والثاني مسلم وهنا أفرد بالتمليك
فلا يتبع ملك الرقبة وهذا لان الموصى إذا أفرد ملك المنفعة بالوصية فقد جعله مقصودا بالتمليك وله هذه الولاية فلا يبقى
تبعا لملك الذات بل يصير مقصودا بنفسه بخلاف الإعارة لان المعير وان جعل ملك المنفعة مقصودا بالتمليك لكن
في الحال لا بعد الموت لأنه إنما يعار الشئ للانتفاع في حال الحياة عادة لا بعد الموت فينتفى العقد بالموت وأما الوصية
فتمليك بعد الموت فكان قصده تمليكه المنفعة بعد الموت فكانت المنافع مقصودة بالتمليك بعد الموت فهو الفرق ونظيره
من وكل وكيلا في حال حياته فمات الموكل ينعزل الوكيل ولو أضاف الوكالة إلى ما بعد موته جاز حتى يكون وصيا بعد
موته وسواء كانت الوصية بالمنافع مؤقتة بوقت من سنة أو شهر أو كانت مطلقة عن التوقيت لان الوصية بالمنافع في معنى
الإعارة لأنها تمليك المنفعة بغير عوض ثم الإعارة تصح مؤقتة ومطلقة عن الوقت وكذا الوصية غير أنها إذا كانت
352

مطلقة فللوصي له ان ينتفع بالعين ما عاش وإذا كانت مؤقتة بوقت فله ان ينتفع به إلى ذلك الوقت وإذا جازت الوصية
بالمنافع يعتبر فيها خروج العين التي أوصى بمنفعتها من الثلث ولا يضم إليها قيمة وإن كان الموصى به هو المنفعة والعين ملك
لم يزل عنه لان الموصى بوصيته بالمنافع منع العين عن الوارث وحبسها عنه لفوات المقصود من العين وهو الانتفاع بها
فصارت ممنوعة عن الوارث محبوسة عنه والموصى لا يملك منع ما زاد عن الثلث على الوارث فاعتبر خروج العين من
ثلث المال (ولهذا) لو أجل المريض مرض الموت دينا معجلا له لا يصح الا في الثلث وإن كان التأجيل لا يتضمن
ابطال ملك الدين لكن لما كان فيه منع الوارث عن الدين قبل حلول الأجل لم يصح الا في قدر الثلث كذا ههنا وإن كان
المعتبر خروج العين من الثلث فان خرجت من الثلث جازت الوصية في جميع المنافع فللموصى له ان ينتفع بها فيستخدم
العبد ويسكن الدار ما عاش إن كانت الوصية مطلقة عن الوقت فإذا مات الموصى له بالمنفعة انتقلت إلى ملك
صاحب العين لان الوصية بالمنفعة قد بطلت بموت الموصى له لأنها تمليك المنفعة بغير عوض كالإعارة فتبطل بموت
المالك إياه كما تبطل الإعارة بموت المستعير على أن المنافع بانفرادها لا تحتمل الإرث وإن كان تملكها بعوض
على أصل أصحابنا رضي الله عنهم كإجارة فلان لا يحتمل فيما هو تمليك بغير عوض أولى بخلاف ما إذا أوصى
بغلة داره أو ثمرة نخله فمات الموصى له وفى النخل ثمرا وكان وجب بما استغل الدار آخر ان ذلك يكون لورثة
الموصى له لان ذلك عين ملكها الموصى له وتركه بالموت فيصير ميراثا لورثته وفى المنفعة لا حتى أن ما يحصل بعد موته
لا يكون لورثته بل لورثة الموصى لأنه لم يملكه الموصى له فلا يورث وإن كانت العين لا تخرج من ثلث ماله جازت
الوصية في المنافع في قدر ما تخرج العين من ثلث ماله بان لم يكن له مال آخر سوى العين من العبد والدار تقسم المنفعة
بين الموصى له وبين الورثة أثلاثا ثلثها للموصى له وثلثاها للورثة فيستخدم الموصى له العبد يوما والورثة يومين وفى الدار
يسكن الموصى له ثلثها والورثة ثلثيها ما دام الموصى له حيا فإذا مات ترد المنفعة إلى الورثة وحكى أبو يوسف عن ابن أبي
ليلى رحمهما الله انه إذا أوصى بسكنى داره لرجل وليس له مال غيرها ولم تجز الورثة ان الوصية باطلة لان الوصية لم
تصح في الثلثين والشيوع شائع في الثلثين والشيوع يؤثر في المنافع كما في الإجارة (وهذا) لا يتفرع عن أصل ابن أبي
ليلى لان الوصية بالمنافع باطلة على أصله فتبقى السكنى كلها على ملك الورثة فلا يتحقق الشيوع ولو أراد
الورثة بيع الثلثين أو القسمة ليس لهم ذلك (عند) أبي حنيفة وعند أبي يوسف لهم ذلك (وجه) قول
أبى يوسف ان الملك مطلق للتصرف في الأصل وإنما الامتناع لتعلق حق الغير به وحق الغير ههنا تعلق
بالثلث لا بالثلثين لان الوصية تعلقت بالثلث لا غير فخلا ثلثا الدار عن تعلف حق الغير بها فكان لهم ولاية
البيع والقسمة وكذا الحاجة دعت إلى القسمة لتكميل المنفعة ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن حق الموصى
له بالمنفعة متعلق بمنافع كل الدار على الشيوع وذلك يمنع جواز البيع كما في الإجارة فان رقبة المستأجر ملك
المؤجر لكن لما تعلق بها حق المستأجر منع جواز البيع ونفاذه بدون إجازة المستأجر كذا ههنا وكذا في
القسمة ابطال حق الموصى له هذا إذا كانت الوصية بالمنافع مطلقة عن الوقت فإن كانت مؤقتة فإن كانت
العين تخرج من ثلث ماله فان الموصى له ينتفع بها إلى الوقت المذكور فإن كان المذكور سنة غير معية فينتفع بها الموصى
له سنة كاملة ثم يعود بعد ذلك إلى الورثة وإن كانت لا تخرج من ثلث ماله فبقدر ما يخرج وان لم يكن له مال آخر
كانت المنفعة بين الموصى له وبين الورثة أثلاثا يخدم العبد يوما للموصى له ويومين للورثة فيستوفى الموصى له خدمة
السنة في ثلاث سنين وإن كانت العين الموصى بمنفعتها دارا يسكن الموصى له ثلثها والورثة ثلثيها ينهايئان مكانا لان
التهايؤ بالمكان في الدار ممكن وفى العبد لا يمكن لاستحالة خدمة العبد بثلثه لأحدهما وبثلثيه للآخر فمست الضرورة
إلى المهايئات زمانا وإن كان المذكور من الوقت سنة بعينها بان قال سنة كذا أو شهر كذا فإن كان الموصى به خدمة
العبد فإن كان العبد يخرج من الثلث ينتفع بها تلك السنة أو الشهر وان لم يكن له مال آخر ففي العبد ينتفع به الورثة يومين
353

والموصى له يوما وفى الدار يسكن الموصى له ثلثها والورثة ثلثيها على طريق المهايأة فإذا مضت تلك السنة أو ذلك الشهر
على هذا الحساب يحصل للموصى له منفعة السنة أو الشهر ولو أراد أن يكمل ذلك من سنة أخرى أو من شهر آخر
ليس له ذلك لان الوصية أضيفت إلى تلك السنة أو ذلك الشهر لا إلى غيرها ولو عين الشهر الذي هو فيه أو السنة التي
هو فيها بان قال هذا الشهر أو هذه السنة ينظر ان مات بعد مضى ذلك الشهر أو تلك السنة بطلت وصيته لان الوصية
نفاذها عند موته وقد مضى ذلك الشهر أو تلك السنة قبل موته فبطلت الوصية وان مات قبل أن يمضى ذلك
الشهر أو السنة فإن كانت العين تخرج من الثلث ينتفع بها فيما بقي من الشهر أو السنة وإن كانت لا تخرج وليس له
مال آخر ففي العبد ينتفع بها الموصى له يوما والورثة يومين إلى أن يمضى ذلك الشهر أو السنة وفى الدار يسكناها أثلاثا على
طريق المهايأة على ما بينا ولو أوصى بخدمة عبده لانسان وبرقبته لا آخر أو بسكنى داره لانسان وبرقبتها لآخر
والرقبة تخرج من الثلث فالرقبة لصاحب الرقبة والخدمة كلها لصاحب الخدمة لان المنفعة لما احتملت الافراد من
الرقبة بالوصية حتى لا تملك الورثة الرقبة والموصى له المنفعة فيستوى فيها الافراد باستيفاء الرقبة لنفسه وتمليكها من غيره
فيكون أحدهما موصى له بالرقبة والآخر بالمنفعة فإذا مات الموصى ملك صاحب الرقبة الرقبة وصاحب المنفعة المنفعة
وكذلك إذا أوصى برقبة شجرة أو بستان لانسان وبثمرته لآخر أو برقبة أرض لرجل وبغلتها لا آخر أو بأمة لرجل
وبما في بطنها لآخر لان الثمر والغلة والحمل كل واحد منهما يحتمل الافراد بالوصية فلا فرق بين أن يستبقي الأصل
لنفسه وبين أن يملكه من غيره على ما ذكرنا في الوصية بالمنفعة وسواء كان الموصى به موجودا وقت كلام الوصية أو لم
يكن موجودا عنده فالوصية جائزة الا إذا كان في كلام الموصى ما يقتضى الوجود للحال فتصح الوصية بثلث ماله ولا مال
له عند كلام الوصية وكذا تصح الوصية بغلة بستانه أو بغلة أرضه أو بغلة أشجاره أو بغلة عبده أو بسكنى داره أو
بخدمة عبده وتصح الوصية بما في بطن جاريته أو دابته وبالصوف على ظهر غنمه وباللبن في ضرعها وثمرة بستانه
وثمرة أشجاره وان لم يكن شئ من ذلك موجودا للحال (وأما) وجوده عند موت الموصى فهل هو شرط بقاء الوصية
على الصحة (فاما) في الثلث والعين المشار إليها فشرط حتى لو أوصى بثلث ماله وله مال عند كلام الوصية ثم هلك
ثم مات الموصى بطلت الوصية وكذلك الوصية بما في البطن والضرع وبما على الظهر من الصوف واللبن والولد حتى
لو مات الموصى بطلت الوصية إذا لم يكن موجودا وقت موته وأما في الوصية بالثمرة فليس بشرط استحسانا
والقياس أن يكون شرطا ولا يشترط ذلك في الوصية بغلة الدار والعبد والحاصل ان جنس هذه الوصايا على أقسام بعضها
يقع على الموجود وقت موت الموصى والذي يوجد بعد موته سواء ذكر الموصى في وصيته الأبد أو لم يذكر وهو الوصية
بالغلة وسكنى الدار وخدمة العبد وبعضها يقع على الموجود قبل الموت ولا يقع على ما يحدث بعد موته سواء ذكر الأبد
أو لم يذكر وهو الوصية بما في البطن والضرع وبما على الظهر فإن كان في بطنها ولد في ضرعها لبن وعلى ظهرها صوف
وقت موت الموصى فالوصية جائزة والا فلا وفى بعضها ان ذكر لفظ الأبد يقع على الموجود والحادث وان لم يذكر فإن كان
موجودا وقت موت الموصى يقع على الموجود ولا يقع على الحادث وان لم يكن موجودا فالقياس ان تبطل الوصية
كما في الصوف والولد واللبن وفى الاستحسان لا تبطل وتقع على ما يحدث كما لو ذكر الأبد وهذه الوصية بثمرة
البستان والشجر إنما كان كذلك لان الوصية إنما تجوز فيما يجرى فيه الإرث أو فيما يدخل تحت عقد من العقود في حالة
الحياة والحادث من الولد وأخواته لا يجرى فيه الإرث ولا يدخل تحت عقد من العقود فلا يدخل تحت الوصية
بخلاف الغلة فان له نظيرا في العقود وهو عقد المعاملة والإجارة وكذلك سكنى الدار وخدمة العبد يدخلان تحت عقد
الإجارة والإعارة فكان لهما نظير في العقود وأما الوصية بثمرة البستان والشجر فلا شك انها تقع عن الموجود وقت
موت الموصى والحادث بعد موته ان ذكر الأبد لان اسم الثمرة يقع على الموجود والحادث والحادث منها يحتمل
الدخول تحت بعض العقود وهو عقد المعاملة والوقف فإذا ذكر الأبد يتناوله وان لم يذكر الأبد فإن كان وقت موت
354

الموصى ثمرة موجودة دخلت تحت الوصية ولا يدخل ما يحدث بعد الموت وان لم يكن فالقياس ان لا يتناول ما
يحدث وتبطل الوصية وفى الاستحسان يتناوله ولا تبطل الوصية (وجه) ان القياس ان الثمرة بمنزلة الولد والصوف
واللبن والوصية بشئ من ذلك لا يتناول الحادث كذا الثمرة (وجه) الاستحسان ان الاسم يحتمل الحادث
وفى حمل الوصية عليه تصحيح العقد ويمكن تصحيحه لان له نظيرا من العقود وهو الوقف والمعاملة ولهذا لو نص على
على الأبد يتناوله بخلاف الولد والصوف واللبن لأنه عقد مالا يحتمله فلم يكن ممكن التصحيح ولهذا لو نص على الأبد
لا يتناول الحادث وههنا بخلافه ولو أوصى لرجل ببستانه يوم يموت وليس له يوم أوصى بستان ثم اشترى بستانا
ثم مات فالوصية جائزة لان الوصية بالمال ايجاب الملك عند الموت فيراعى وجود الموصى به وقت الموت ألا ترى
انه لو أوصى له بعين البستان وليس في ملكه البستان يوم الوصية ثم ملكه ثم مات صحت الوصية ولو قال أوصيت
الفلان بغلة بستاني ولا بستان له فاشترى بعد ذلك ومات ذكر الكرخي عليه الرحمة ان الوصية جائزة وذكر في
الأصل انها غير جائزة (وجه) رواية الأصل ان قوله بستاني يقتضى وجود البستان للحال فإذا لم يوجد لم يصح
(والصحيح) ما ذكره الكرخي لان الوصية ايجاب الملك بعد الموت فيستدعى وجود الموصى به عند الموت لا
وقت كلام الوصية ولو أوصى لرجل بثلث غنمه فهلكت الغنم قبل موته أو لم يكن له غنم من الأصل فمات ولا غنم
له فالوصية باطلة وكذلك العروض كلها لان الوصية تمليك عند الموت ولا غنم له عند الموت فإن لم يكن له غنم
وقت كلام الوصية ثم استفاد بعد ذلك ذكر في الأصل ان الوصية باطلة لان قوله غنمي يقتضى غنما موجودة وقت
الوصية كما قلنا في البستان وعلى رواية الكرخي رحمه الله ينبغي ان يجوز لما ذكرنا في البستان وكذلك لو قال
أوصيت له بشاة من غنمي أو بقفيز من حنطتي ثم مات وليس له غنم ولا حنطة فالوصية باطلة لما قلنا ولو لم يكن له غنم
ولا حنطة ثم استفاد بعد ذلك ثم مات فهو على الروايتين اللتين ذكرناهما وبمثله لو قال شاة من مالي أو قفيز حنطة من
مالي وليس له غنم ولا حنطة فالوصية جائزة ويعطى قيمة الشاة لأنه لما أضاف إلى المال وعين الشاة لا توجد في المال
علم أنه أراد به قدر مالية الشاة وهي قيمتها ولو أوصى بشاة ولم يقل من غنمي ولا من مالي فمات وليس له غنم لم يذكر
هذا الفصل في الكتاب واختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا تصح الوصية لان الشاة اسم للصورة والمعنى جميعا
الا انا حملنا هذا الاسم على المعنى في الفصل الأول بقرينة الإضافة إلى المال ولم توجد ههنا وقال بعضهم يصح لان
الشاة إذا لم تكن موجودة في ماله فالظاهر أنه أراد به مالية الشاة تصحيحا لتصرفه فيعطى قيمة شاة وقد ذكر في
السير الكبير مسألة تؤيد هذا القول وهي ان الامام إذا نفل سرية فقال من قتل قتيلا فله جارية من السبايا فإن كان في
السبي جارية يعطى من قتل قتيلا وان لم يكن في السبي جارية لا يعطى شيئا ولو قال من قتل قتيلا فله جارية ولم يقل من
السبي فإنه يعطى من قتل قتيلا قدر مالية الجارية كذا ههنا ولا تجوز الوصية بسكنى داره أو خدمة عبده أو ظهر فرسه
للمساكين في قول أبي حنيفة عليه الرحمة ولابد من أن يكون ذلك لانسان معلوم وعندهما رحمهما الله تجوز الوصية
بذلك كله للمساكين كذا ذكر الكرخي في مختصره وذكر في الأصل والوصية بسكنى الدار وخدمة العبد انها
لا تجوز ولم يذكر فيها الخلاف وإنما ذكره في الوصية بظهر الفرس (وجه) قولهما ان الوصية المساكين وصية
بطريق الصدقة والصدقة اخراج المال إلى الله سبحانه وتعالى والله عز وجل واحد معلوم ولهذا جازت الوصية
بسائر الأعيان للمساكين فكذا بالمنافع ولأبي حنيفة رضي الله عنه ان الموصى له بالخدمة والركوب والسكنى تلزمه
النفقة على العبد والفرس والدار لأنه لا يمكنه الانتفاع الا بعد بقاء الدين ولا يبقى عادة بدون النفقة فبعد ذلك لا يخلو اما
ان تلزمه النفقة أولا فإن لم تلزمه النفقة لا يمكن تنفيذ هذه الوصية لأنه لا يمكن ايجابها على الورثة لان المؤنة لا تجب الا على
من له المنفعة والمنفعة للموصى له لا للورثة ولا يمكن الاستغلال بان يستغل فينفق عليه من الغلة لان الوصية لم تقع بالغلة
ولان الاستغلال يقع تبديلا للوصية وانه لا يجوز فتعذر تنفيذ هذه الوصية وان لزمه النفقة فكان هذا معاوضة معنى
355

لا وصية ولا صدقة والجهالة تمنع صحة المعاوضة وهذا المعنى لا يوجد في الأعيان وفى الوصية لرجل بعينه وقيل إن
الوصية بظهر فرسه للمساكين أو في سبيل الله تبارك وتعالى فريعة مسألة الوقف أن عند أبي حنيفة رضي الله عنه لو
جعل فرسه للمساكين وقفا في حال الحياة لا يجوز ولا تجوز الوصية به بعد الوفاة وعندهما لو جعله وقفا في حال حياته
جاز فكذا إذا أوصى بعد وفاته وسواء كان الموصى به معلوما أو مجهولا فالوصية جائزة لأن هذه جهالة تمكن ازالتها من
جهة الموصى ما دام حيا ومن جهة ورثته بعد موته فأشبهت جهالة المقر به في حال الاقرار وانها لا تمنع صحة الاقرار
بخلاف جهالة المقر له تمنع صحة الاقرار كذا جهالة الموصى له تمنع صحة الوصية أيضا وعلى هذا مسائل بعضها يرجع إلى
بيان قدر ما يستحقه الموصى له من الوصايا التي فيها ضرب ابهام وبعضها يرجع إلى بيان استخراج القدر المستحق من
الوصية المجهول بالحساب وهي المسائل الحسابية وبيان هذه الجملة في مسائل منها ما إذا أوصى لرجل بجزء من ماله أو
بنصيب من ماله أو بطائفة من ماله أو ببعض أو بشقص من ماله فان بين في حياته شيئا والا أعطاه الورثة بعد موته
ما شاؤوا لأن هذه الألفاظ تحتمل القليل والكثير فيصح البيان فيه ما دام حيا ومن ورثته إذا مات لأنهم قائمون مقامه
لو أوصى بألف الأشياء أو الا قليلا أو الا يسيرا أو زهاء ألف أوجل هذه الألف أو عظم هذه الألف وذلك يخرج من
الثلث فله النصف من ذلك وزيادة وما زاد على النصف فهو إلى الورثة يعطون منه ما شاؤوا لان القليل والكثير واليسير
من أسماء المقابلة فلا يكون قليلا الا وبمقابلته أكثر منه فيقتضى وجود الأكثر وهو النصف وزيادة عليه وتلك
الزيادة مجهولة فيعطيه الورثة من الزيادة ما شاؤوا والشئ مثل هذا الموضع يراد به السير وقوله جل هذه الألف
وعامة هذه الألف وعظم هذه الألف عبارات عن أكثر الألف وهو الزيادة على النصف وزهاء ألف عبارة عن
القريب من الألف وأكثر الألف قريب من الألف ولو أوصى له بسهم من ماله فله مثل أخس الانصباء يزاد على
الفريضة ما لم يزد على السدس عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما رحمهما الله ما لم يزد على الثلث كذا ذكر في
الأصل وذكر في الجامع الصغير له مثل نصيب أحد الورثة ولا يزاد على السدس عند أبي حنيفة وعندهما لا يزاد على
الثلث فعلى رواية الأصل يجوز النقصان عن السدس عنده وعلى رواية الجامع الصغير لا يجوز وبيان هذه الجملة إذا
مات الموصى وترك زوجة وابنا فللموصى له على رواية الأصل أخس سهام الورثة وهو الثمن ويزاد على ثمانية
أسهم سهم آخر فيصير تسعة فيعطى تسع المال وعلى رواية الجامع الصغير يعطى السدس لأنه أخس سهام الورثة ولو
ترك زوجة وأخا لأب وأم أو لأب فللموصى له السدس عنده لان أخس سهام الورثة الربع ههنا وهو لا يجوز الزيادة
على السدس وعندهما له الربع لأنه أقل سهام الورثة وانه أقل من الثلث فزاد على أربعة مثل ربعها وذلك سهم وهو
خمس المال وكذلك لو ماتت امرأة وتركت زوجا وابنا ولو ترك ابنين فله السدس عنده وعندهما له ثلث جميع المال وكذلك
ان ترك ثلاث بنين فان ترك خمسة بنين فله سدس جميع المال عنده وعندهما يجعل المال على ثلاثة أسهم ثم يزاد عليه
سهم فيعطى أربعة إذا وان أقر بسهم من داره لانسان فله السدس عنده وعندهما البيان إلى المقر وكذلك إذا أعتق
سهما من عبده يعتق سدسه عنده لا غير وعندهما يعتق كله لان العتق يتجزأ عنده وعندهما لا يتجزأ (وجه) قولهما ان
السهم اسم لنصيب مطلق ليس له حد مقدر بل يقع على القليل والكثير كاسم الجزء الا انه لا يسمى سهما الا بعد
القسمة فيقدر بواحد من أنصباء الورثة والأقل متيقن فيقدر به الا إذا كان يزيد ذلك على الثلث فتزاد إلى الثلث لان
الوصية لا جواز لها بأكثر من الثلث من غير إجازة الورثة ولأبي حنيفة رضي الله عنه (ما روى) عن ابن مسعود رضي الله عنه
انه سئل عن رجل أوصى بسهم من ماله فقال له السدس (والظاهر) ان الصحابة رضي الله عنهم بلغتهم فتواه
ولم ينقل انه أنكر عليه أحد فيكون اجماعا وروى عن اياس بن معاوية رضي الله عنه أنه قال السهم في كلام العرب
السدس الا انه يستعمل أيضا في أحد سهام الورثة والأقل متيقن به فيصرف إليه فإن كان أقل منه لا يبلغ به السدس
لأنه يحتمل انه أراد به السدس ويحتمل انه أراد به مطلق سهم من سهام الورثة فلا يزاد على أقل سهامهم بالشك
356

والاحتمال ولو أوصى له بمائة دينار الا درهم أو بكر حنطة الا درهم أو الا محتوم شعير جاز وهو كما قال وكذلك لو قال
داري هذه أو عبدي هذا الا مائة درهم جاز عن الثلث وبطل عنه قيمة مائة درهم وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله وقال محمد رحمه الله الاستثناء باطل ولقب المسألة ان استثناء المقدر من المقدر في الجنس وخلاف الجنس
بعد إن كان الاستثناء مقدرا بعد إن كان من المكيلات أو الموزونات أو العدديات المتقاربة صحيح عندهما وعنده
لا يصح الا في الجنس وهي من مسائل كتاب الاقرار ولو قال أوصيت لفلان ما بين العشرة والعشرين أو ما بين
العشرة إلى العشرين أو من العشرة إلى عشرين فهو سواء وله تسعة وعشر درهما وكذلك لو قال ما بين المائة والمائتين أو
ما بين المائة إلى المائتين أو من المائة إلى المائتين فله مائة وتسعة وتسعون درهما وهذا قول أبي حنيفة وعندهما له في
الأول عشرون وفى الثاني مائتان وعند زفر ثمانية عشر في الأول ومائة وثمانية وتسعون في الثاني وأصل المسألة
ان الغايتين يدخلان عندهما وعند زفر رحمه الله لا يدخلان وعند أبي حنيفة عليه الرحمة تدخل الأولى دون الثانية
والمسألة مرت في كتاب الطلاق ولو أوصى لفلان بعشرة دراهم في عشرة ونوى الضرب والحساب فله عشرة دراهم
عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر له مائة درهم وقد ذكرنا المسألة في كتاب الطلاق وبمثله لو أوصى لفلان بعشرة أذرع في
عشرة أذرع من داره له مائة ذراع مكسرة (ووجه) الفرق بين المسألتين على أصل أصحابنا الثلاثة ان الضرب يراد به
تكسير الاجزاء فيما يحتمل المساحة في الطول والعرض وذلك يوجد في الدار والدراهم موزونة وليس لها طول ولا
عرض فلا يراد بالضرب فيها تكسر أجزائها ومعنى قوله المكسرة أي المكسرة في المساحة وهو أن يكون طولها
عشرة أذرع وعرضها عشرة ولو أوصى له بثوب سبعة في أربعة فله كما قال وهو ثوب طوله سبعة أذرع وعرضه أربعة
أذرع لان مفهوم هذا اللفظ في الثوب هذا فينصرف اللفظ إليه ولو قال عبدي هذا وهذا لفلان وصية وهما
يخرجان من الثلث كان للورثة ان يعطوه أيهما شاؤوا لما ذكرنا ان الوارث يقوم مقام المورث في جهالة يمكن ازالتها ولو كان
المورث حيا كان البيان إليه فإذا مات قام الوارث مقامه والفقه في ذلك ان الوصية تمليك بعد الموت والورثة تقوم مقامه
في التمليك بخلاف ما إذا قال عبدي هذا أو هذا حر ان البيان إليه لا إلى الورثة وينقسم العتق عليهما لان ذلك ليس
بتمليك بل هو اتلاف الملك وقد انقسم ذلك عليهما إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فلا يحتمل البيان من جهة الوارث
ولو أوصى له بحنطة في جوالق فله الحنطة دون الجوالق لان الموصى به الحنطة دون الجوالق والجوالق ليس من توابع
الحنطة ألا يرى لو باع الحنطة في الجوالق لا يدخل فيه الجوالق وبيع الحنطة مع الجوالق ليس بمعتاد فلا يدخل في
الوصية ولو أوصى له بهذا الجراب الهروي فله الجراب وما فيه لان الجراب يعد تابعا لما فيه عادة حتى يدخل في
البيع فكذا في الوصية وكذا لو أوصى له بهذا الدن من الخل فله الدن والخل وكذا لو أوصى بقوصرة تمر فله
القوصرة وما فيها لان الدن يعد تابعا للخل والقوصرة للتمر ولهذا يدخل ذلك في عقد البيع كذا في الوصية ولو أوصى
له بالسيف فله السيف بجفنه وحمائله (وقال) أبو يوسف له النصل دون الجفن والحمائل فاصل أبى يوسف في هذا
الباب انه يعتبر الاتصال والانفصال فما كان متصلا به يدخل وما كان منفصلا عنه لا يدخل والجفن والحمائل
منفصلان عن السيف فلا يدخلان تحت الوصية به ولهذا لو أوصى بدار لا يدخل ما فيها من المتاع كذا هذا والمعتبر
على ظاهر الرواية التبعية والأصالة في العرف والعادة والجفن والحمائل يعدان تابعا للسيف عرفا وعادة ألا ترى
انهما يدخلان في البيع كذا في الوصية ولو أوصى له بسرج فله السرج وتوابعه من اللبد والرفادة والطفر والركابات
واللبب في ظاهر الرواية لأنه لا ينتفع بالسرج الا بهذه الأشياء فكانت من توابعه فتدخل في الوصية وبه قال
أبو يوسف له الدفتان والركابان واللبب ولا يكون له اللبد ولا الرفادة ولا الطفر لأنها منفصلة عن السرج ولو أوصى
له بمصحف وله غلاف فله المصحف دون الغلاف في قول أبى يوسف وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنهما كذا
ذكر القدوري عليه الرحمة وقال زفر رحمه الله له المصحف والغلاف أما على أصل أبى يوسف فلان الغلاف منفصل
357

عن المصحف فلا يدخل في الوصية من غير تسمية وأبو حنيفة رحمه الله يقول ليس بتابع للمصحف بدليل انه لا يكره
للجنب والمحدث مس المصحف بغلافه فلا يدخل وزفر يقول هو تابع للمصحف فيدخل في الوصية ولو أوصى
بميزان قال أبو يوسف له الكفتان والعمود الذي فيه الكفتان واللسان وليس له الطرازدان والصنجات (وأما)
الشاهين فله الكفتان والعمود وليس له الصنجات والتخت (وقال) زفر إذا أوصى بميزان فله الطرازدان
والصنجات والكفتان وان أوصى له بشاهين فله التخت والصئان (1) فأبو يوسف مر على أصله ان الصنجة
والطرازدان شيئان منفصلان فلا يدخلان في الوصية الا بالتسمية وزفر يجعل ذلك من توابع الميزان لما أن الانتفاع
لا يكون الا بالجميع فصار كتوابع السرج ولو أوصى له بالقبان والفرسطون فله العمود والحديد والرمانة والكفة
التي يوضع فيها المتاع في قولهم جميعا لان اسم القبان يشمل هذه الجملة فيستوى فيها الاتصال والانفصال ولو أوصى له
بقبة فله عيدان القبة دون كسوتها لان القبة اسم للخشب لا للثياب وإنما الثياب اسم للزينة ألا ترى انه يقال كسوة
القبة والشئ لا يضاف إلى نفسه هو الأصل وكذا الكسوة منفصلة منها على أصل من يعتبر الاتصال ولو أوصى بقبة
تركية وهي ما يقال لها بالعجمية خركاه فله القبة مع الكسوة وهي اللبود لأنه لا يقال لها قبة تركية الا بلبودها بخلاف القبة
البلدية ويعتبر في ذلك العرف والعادة ويختلف الجواب باختلاف العرف والعادة ولو أوصى له بحجلة فله الكسوة
دون العيدان لأنها اسم للكسوة في العرف ولو أوصى بسلة زعفران فله الزعفران دون السلة هكذا ذكر في الأصل
وذكر القدوري رحمه الله ان محمدا إنما أجاب فيه على عادة زمانه لان في ذلك الوقت كان لا تباع السلة مع الزعفران
بل كانت تفرد عنه في البيع وأما الآن فالعادة ان الزعفران يباع بظروفه فيدخل في الوصية والتعويل في الباب على
العرف والعادة ولو أوصى له بهذا العسل وهو في زق فله العسل دون الزق وكذلك السمن والزيت وما أشبه ذلك لأنه
أوصى له بالعسل لا بالزق والعسل يباع بدون ظرفه عادة فلا يتبعه في الوصية والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أوصى
بنصيب ابنه أو ابنته لانسان فإن كان له ابن أو ابنة لم يصح لان نصيب ابنه أو ابنته ثابت بنص قاطع فلا يحتمل
التحويل إلى غيره بالوصية وان لم يكن له ابن أو ابنة صحت الوصية لأنها لم تتضمن تحويل نصيب ثابت فكان وصية
بمثل نصيب ابنه أو ابنته وليس له ابن أو ابنة وانها صحيحة لما نذكر وان أوصى بمثل نصيب ابنه أو ابنته وله ابن أو ابنة
جازت لان مثل الشئ غيره لا عينه فليس في هذه الوصية تحويل نصيب ثابت إلى الموصى له بل يبقى نصيبه ويزاد
عليه بمثله فيعطى الموصى له ثم إن كان أكثر من الثلث تحتاج الزيادة إلى الإجازة وإن كان ثلثا أو أقل منه لا تحتاج
إلى الإجازة حتى لو أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فللموصى له نصف المال ولابنه النصف لأنه
جعل له مثل نصيبه فيقتضى أن يكون للابن نصيب وأن يكون نصيب الموصى له مثل نصيبه وذلك هو
النصف فكان المال بينهما نصفين كما لو كانا ابنين غير أن الزيادة على الثلث ههنا تقف على إجازة الابن ان
أجاز جازت الزيادة والا فلا وإن كان له ابنان فللموصى له ثلث المال لأنه جعل للموصى له مثل نصيب ابن واحد
منهما ولا يكون له مثل نصيب ابن واحد منهما الا وأن يكون المال بينهم أثلاثا ولا يحتاج ههنا إلى الإجازة ولو أوصى
بمثل نصيب بنته فإن كان له بنت واحدة فللموصى له نصف المال ان أجازت لان نصيب البنت الواحدة النصف
فكان مثل نصيبها النصف فكان له النصف ان أجازت والا فالثلث وإن كان له بنتان فللموصى له ثلث المال
لأنه إذا كان لهما الثلثان كان لكل واحد منهما الثلث وقد جعل نصيبه مثل نصيب واحدة منهما ونصيب واحدة
منهما الثلث فكان نصيبه أيضا الثلث ولو أوصى له بنصيب ابن لو كان فهو كما لو أوصى بمثل نصيب ابنه وله نصف
المال ان أجازت الورثة ولو أوصى له بمثل نصيب ابن لو كان فللموصى له ثلث المال لأنه أوصى بمثل نصيب مقدر
لابن مقدر ونصيب الابن المقدر سهم فمثل نصيبه يكون سهما فكان هذا وصية له بسهم من ثلاثة أسهم والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو أوصى لرجل بمثل نصيب أحد بنيه وله ثلاثة بنين وأوصى لرجل آخر بثلث ما يبقى من الثلث بعد
358

النصب فالمسألة تخرج من ثلاثة وثلاثين للموصى له بالنصيب ثمانية وللموصى له الآخر سهم ولكل واحد من
البنين ثمانية أما تخريجها بطريقة الحشو فهو ان تأخذ عدد البنين وذلك ثلاثة وزد عليه واحدا لأجل الوصية بمثل
نصيب أحد البنين لان مثل الشئ غيره فيزاد عليه فيصير أربعة ثم اضرب الأربعة في ثلاثة لأجل تنفيذ الوصية
الأخرى وهي الوصية بثلث ما يبقى من الثلث بعد النصب فيصير اثنى عشر ثم تطرح منها سهما واحدا لان الوصية
الثانية توجب النقصان في نصيب الورثة ونصيب الموصى له الأول شائعا في كل المال فتنقص من كل ثلث سهما
ولأنك لو لم تنقص لا يستقيم الحساب لو اعتبر لوجدته كذلك فإذا نقصت سهما من اثنى عشر بقي أحد عشر هو
ثلث المال وثلثاه مثلاه وهو اثنان وعشرون وجميع المال ثلاثة وثلاثون وإذا أردت معرفة النصب فخذ
النصيب الذي كان وذلك سهم واحد واضربه في ثلاثة كما ضربت أصل المال وهو ثلاثة ثم اضرب ثلاثة في ثلاثة كما
ضربت أصل المال لأنك احتجت إلى ضرب أصل المال في ثلاثة مرة أخرى حتى بلغ جميع المال ثلاثة وثلاثين فإذا
ضربت ثلاثة في ثلاثة صار تسعة ثم اطرح منها سهما كما طرحت من أصل المال فيبقى ثمانية فهو نصيب الموصى
له بمثل النصيب ثم اعط للموصى له نصيبه وهو ثلث ما يبقى من الثلث وذلك سهم يبقى إلى تمام الثلث سهمان ضمهما
تلثي المال وذلك اثنان وعشرون فتصير أربعة وعشرين لكل واحد من البنين الثلاثة ثمانية فاستقام الحساب بحمد
الله سبحانه وتعالى (وأما) تخريجها على طريق الخطأين فهو ان تجعل ثلث المال عددا لو أعطيت منه النصيب وهو
سهم يبقى وراءه عدد له ثلث لحاجتك إلى تنفيذ الوصية الأخرى وهو الوصية بثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب
وأقله أربعة فإذا جعلت ثلث المال أربعة اعط للموصى له بالنصيب سهما من أربعة يبقى ثلاثة فاعط للموصى له
بثلث ما بقي ثلث ما بقي وذلك سهم يبقى سهمان ضمهما إلى ثلثي المال وذلك ثمانية لان ثلث المال لما كان
أربعة كان ثلثاه مثليه وذلك ثمانية ومتى ضممت اثنين إلى ثمانية صارت عشرة وحاجتك إلى ثلاثة أسهم لا غير للبنين
الثلاثة لأنك قد أعطيت الموصى له بالنصيب سهما فظهر انك قد أخطأت بزيادة سبعة فزد في النصيب لأنه ظهر ان
هذا الخطأ ما جاء الا من قبل نقصان النصيب فظهر أن النصيب يجب أن يكون أزيد من سهم فزد في النصيب فاجعله
سهمين فيصير الثلث خمسة فاعط الموصى له بمثل النصيب سهمين ثم اعط للموصى له الآخر سهما مما بقي يبقى
سهمان ضمهما إلى ثلثي المال وذلك عشرة فتصير اثنى عشر وحاجتك إلى ستة فظهر انك أخطأت في هذه الكرة بزيادة
ستة أسهم وكان الخطأ الأول بزيادة سبعة فانتقص بزيادة سهم في النصيب سهم من سهام الخطأ فعلمت انك مهما
زدت في النصيب سهما ينتقص من سهام الخطأ سهم وانك تحتاج إلى أن يذهب ما بقي من سهام الخطأ والباقي من
سهام الخطأ ستة فالذي يذهب به ستة أسهم من الخطأ ستة أسهم من النصيب فزد في النصيب ستة أسهم فتصير
ثمانية فهذا هو النصيب وبقى إلى تمام الثلث ثلاثة اعط منها سهما للموصى له الآخر يبقى سهمان ضمهما إلى
ثلثي المال وذلك اثنان وعشرون فتصير أربعة وعشرين لكل واحد من البنين ثمانية وطريقة الجامع الأصغر
أو الأكبر أو الصغير أو الكبير مبنية على هذه الطريقة أما طريقة الجامع الأصغر أو الصغير فهي انه إذا تبين لك انك
أخطأت مرتين وأردت معرفة الثلث فاضرب الثلث الأول في الخطأ الثاني والثلث الثاني في الخطأ الأول فما
اجتمع فاطرح الأقل من الأكثر فما بقي فهو الثلث وان أردت معرفة النصيب فاضرب النصيب الأول في الخطأ
الثاني واضرب النصيب الثاني في الخطأ الأول ثم اطرح الأقل من الأكثر فما بقي فهو النصيب وإذا عرفت هذا
ففي هذه المسألة الثلث الأول أربعة والخطأ الثاني ستة فاضرب أربعة في سته فتصير أربعة وعشرين والثلث
الثاني خمسة والخطأ الأول سبعة فاضرب خمسة في سبعة فتكون خمسة وثلاثين ثم اطرح أربعة وعشرين من خمسة
وثلاثين فيبقى أحد عشر فهو ثلث المال والنصيب الأول سهم والخطأ الثاني ستة فاضرب سهما في ستة تكون ستة
والنصيب الثاني سهمان والخطأ الأول سبعة فاضرب سهمين في سبعة فتكون أربعة عشر واطرح الأقل وهو ستة
359

من الأكثر وهو أربعة عشر فيبقى ثمانية فهو النصيب (وأما) طريقة الجامع الكبير أو الأكبر فهي انه إذا ظهر لك
الخطأ الأول فلا تزد في النصيب ولكن ضعف ما وراء النصيب من الثلث ثم انظر في الخطأين واعمل ما عملت في
طريقة الجامع الأصغر إذا عرفت هذا ففي هذه المسألة ظهر الخطأ الأول سبعة فضعف ما رواء النصيب من الثلث
وذلك بان تزيد عليه مثله فتصير ستة فصار الثلث مع النصيب سبعة فاعط بالنصيب سهما واعط بالوصية الأخرى
ثلث الباقي وذلك سهما يبقى أربعة ضم ذلك إلى ثلثي المال وذلك أربعة عشر فتصير ثمانية عشر وحاجتك إلى ثلاثة
فظهر الخطأ بخمسة عشر فإذا أردت معرفة الثلث فخذ الثلث الأول وذلك أربعة واضربه في الخطأ الثاني وذلك
خمسة عشر فتصير ستين وخذ الثلث الثاني وذلك سبعة واضربه في الخطأ الأول وذلك سبعة فتصير تسعة وأربعين
ثم اطرح الأقل وذلك تسعة وأربعون من الأكثر وذلك ستون يبقى أحد عشر فهو الثلث وان أردت معرفة
النصيب فخذ النصيب الأول وذلك سهم واضربه في الخطأ الثاني وذلك خمسة عشر فتكون خمسة عشر وخذ
النصيب الثاني وذلك سهم واضربه في الخطأ الأول وذلك سبعة ثم اطرح سبعة من خمسة عشر تبقى ثمانية فهو
النصيب ولو كان له خمس بنين فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم وأوصى لرجل آخر بثلث ما بقي من الثلث بعد
النصيب فالفريضة من أحد وخمسين سهما لصاحب النصيب ثمانية أسهم ولصاحب ثلث ما بقي ثلثه ولكل ابن
ثمانية (أما) تخريج المسألة على طريق الحشو فهو ان تأخذ عدد البنين وذلك خمسة وتفرز نصيبهم وذلك خمسة أسهم وتزيد
عليه سهما آخر لأجل الموصى له بمثل النصيب لان مثل الشئ غيره فتصير ستة فاضربها في مخرج الثلث وذلك ثلاثة
لأجل وصيته بثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب فتصير ثمانية عشر ثم اطرح منها سهما واحدا لأجل الوصية بثلث
ما يبقى من الثلث لأنه زاد في الوصية والزيادة في الوصية توجب نقصانا في نصيب الموصى له الأول وثلث ما يبقى من
الثلث ثمانية لما نذكر إن شاء الله تعالى ويستحق ذلك من جميع الثلث من كل ثلث سهم فوجب أن ينقص من هذا
الثلث سهم لذلك قلنا إنه يطرح من هذا الثلث سهم فيبقى سبعة عشر فاجعل هذا ثلث المال وثلثا المال مثلاه
وذلك أربعة وثلاثون وجميع المال أحد وخمسون وثلث المال سبعة عشر وإذا أردت ان تعرف قدر النصيب فخذ
النصيب وذلك سهم واضربه في ثلاثة ثم اضرب ثلاثة في ثلاثة لقوله ثلث ما بين الثلث بعد النصيب فتصير تسعة ثم
انقص منها واحدا لأجل الموصى له كما نقصت في الابتداء فيبقى ثمانية فذلك نصيب الموصى له بمثل النصيب
من ثلث المال يبقى إلى تمام المال تسعة فاعط الموصى له بثلث ما بقي من الثلث بعد النصيب ثلثها وذلك ثلاثة فيبقى ستة
ضمها إلى ثلثي المال وذلك أربعة وثلاثون فتصير أربعين سهما فتقسم بين البنين الخمس لكل واحد ثمانية مثل
ما أعطيت الموصى له بمثل النصيب (واما) التخريج على طريقة الخطأين فهو ان تجعل ثلث المال عددا لو أعطيت منه
سهما وهو النصيب يبقى وراءه عدد له ثلث لحاجتك إلى اعطاء الموصى له الآخر ثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب
وأقله أربعة فاجعل ثلث المال أربعة فانفذ منه الوصيتين فاعط الموصى له بالنصيب سهما والآخر ثلث ما بقي
وهو سهم آخر فيبقى وراءه سهمان ضمهما إلى ثلث المال وذلك ثمانية فتصير عشرة بين البنين الخمس فتبين انك
قد أخطأت بخمسة لان حاجتك إلى خمسة لأنك قد أعطيت للموصى له بالنصيب سهما فلا تحتاج الا إلى خمسة
فأزل هذا الخطأ وذلك بالزيادة في النصيب لان هذا الخطأ إنما جاء من قبل نقصان النصيب فزد في النصيب سهما
فتصير الثلث على خمسة فنفذ منها الوصيتين فاعط الموصى له بالنصيب سهمين والموصى له بثلث ما يبقى سهما يبقى
سهمان ضمهما إلى ثلثي المال وذلك عشرة فتصير اثنى عشر بين البنين الخمس فيظهر انك أخطأت بسهمين لان
حاجتك إلى عشرة وكان الخطأ الأول خمسة فذهب من سهام الخطا ثلاثة فتبين أنك مهما زدت في النصيب سهما
تماما يذهب من سهام الخطا ثلاثة وأنك تحتاج إلى أن يذهب ما بقي ما سهام الخطا وهو سهمان وطريقه أن
تزيد على النصيب ثلثي سهم حتى يذهب الخطأ كله لان بزيادة سهم تام إذا كان يذهب ثلاثة أسهم من سهام الخطا
360

يعلم ضرورة أو بزيادة كل ثلث على النصيب يذهب سهم من سهام الخطا فيذهب بزيادة ثلثي سهم سهمان
فصار النصيب سهمين وثلثي سهم وتمام الثلث وراءه ثلاثة فصار الثلث كله خمسة أسهم وثلثي سهم فانكسر فاضرب
خمسة وثلثي في ثلاثة فتصير سبعة عشر لان خمسة في ثلاثة تكون خمسة عشر وثلثان في ثلاثة تكون سهمين فذلك سبعة
عشر فهو الثلث والثلثان مثلا ذلك فتصير أحد وخمسين والنصيب سهمان وثلثا سهم مضروب في ثلاثة فتصير
ثمانية لان سهمين في ثلاثة ستة وثلثان في ثلثين سهمان فتصير ثمانية فذلك للموصى له بمثل النصيب بقي إلى
تمام الثلث تسعة فاعط للموصى له بثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب ثلثها وذلك ثلاثة يبقى ستة ضمها إلى
ثلثي المال وذلك أربعة وثلاثون فتصير أربعين لكل واحد من البنين الخمسة ثمانية (وأما) تخريجه على طريقة
الجامع الأصغر وهو أنه إذا ظهر لك الخطأ فلا تزيد على النصيب شيئا ولكن اضرب الثلث الأول في الخطا الثاني
والثلث الثاني في الخطا الأول فما بلغ فاطرح منه أقلهما من أكثرهما فما بقي فهو ثلث المال والثلث الأول ههنا كان
أربعة والخطأ الثاني كان سهمين فاضرب سهمين في أربعة فتصير ثمانية والثلث الثاني خمسة والخطأ الأول كان
خمسة فاضرب خمسة في خمسة فتصير خمسة وعشرين فاطرح الأقل من خمسة وعشرين وذلك ثمانية فيبقى سبعة عشر
فهو ثلث المال وهكذا اعمل في النصيب وهو أنك تضرب النصيب الأول في الخطا الثاني والنصيب الثاني في الخطا
الأول فما بلغ فاطرح مثمل أقلهما من أكثرهما فما بقي فهو النصيب والنصيب الأول سهم والخطأ الثاني سهما فسهم
في سهمين يكون سهمين والنصيب الثاني سهمان والخطأ الأول خمسة فاضرب سهمين في خمسة تكون عشرة ثم
اطرح الأقل وهو سهمان من الأكثر وهو عشرة فيبقى ثمانية وهو النصيب والقسمة بينهم على نحو ما ذكرنا واختار
الحساب في الخطأين هذه الطريقة لما فيها من اللين والسهولة لأنه لو زيد على النصيب بعد ظهور الخطأين يتعين
الآخر لأنه قد زاد عليه من حيث الاجزاء من الثلث والثلثين ثم يحتاج إلى الضرب وفيه نوع عسر (وأما) التخريج
على طريقة الجامع الأكبر فهو أنه إذا تبين لك الخطأ الأول فلا تزد النصيب ولكن ضعف ما وراء النصيب
ووراء النصيب ههنا ثلاثة فإذا ضعفت الثلاثة صارت ستة والثلث سبعة فاعط بالنصيب سهما وبثلث ما يبقى
سهمين يبقى أربعة ضمها إلى ثلثي المال وهو أربعة عشر فيصير ثمانية عشر بين البنين الخمسة وحاجتك إلى
خمسة فتبين أنك قد أخطأت بثلاثة عشر ثم اضرب هذا الخطأ في الثلث الأول يصير اثنين وخمسين واضرب الخطأ الأول
وهو خمسة في الثلث الثاني وهو سبعة فتصير خمسة وثلاثين ثم اطرح الأقل من الأكثر فتصير سبعة عشر وفى النصيب
اعمل هكذا فاضرب النصيب الأول في الخطا الثاني فتصير ثلاثة عشر والنصيب الثاني في الخطا الأول فتصير خمسة
ثم اطرح خمسة من ثلاثة عشر فما بقي فهو النصيب وطريقة الجامع الأصغر أسهل ولو أوصى بمثل نصيب أحدهم
ولآخر بربع ما يبقى من الثلث بعد النصيب فالمسألة تخرج من تسعة وستين للموصى له بمثل النصيب أحد عشر
وللموصى له بربع ما يبقى من الثلث ثلاثة ولكل ابن أحد عشر (أما) التخريج على طريقة الحشو فهو أن تأخذ عدد
البنين وهو خمسة وتزيد عليهما سهما لأجل صاحب النصيب فتصير ستة ثم اضرب الستة في مخرج الربع وذلك
أربعة لأجل صاحب الربع فتصير أربعة وعشرين ثم اطرح منها سهما لما ذكرنا فيبقى ثلاثة وعشرون فهو
ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك ستة وأربعون وجملة المال تسعة وستون والنصيب سهم مضروب في أربعة ثم
الأربعة في ثلاثة فتصير اثنى عشر ثم اطرح منه سهما يبقى أحد عشر فهو للموصى له بمثل النصيب فيبقى إلى تمام
الثلث اثنا عشر فاعط منها ربع ما بقي من الثلث بعد النصيب وذلك ثلاثة يبقى تسعة ضمها إلى ثلث المال وذلك
ستة وأربعون فتصير خمسة وخمسين بين البنين الخمسة لكل واحد أحد عشر فاستقام الحساب (وأما) التخريج
على طريقة الخطائين فهو أن تجعل ثلث المال عددا لو أعطيت منه النصيب يبقى وراءه عدد له ربع وأقله خمسة
فاعط بالنصيب سهما يبقى أربعة فاعط ربع ما يبقى سهما يبقى ثلاثة ضمها إلى ثلثي المال وذلك عشرة فتصير ثلاثة
361

عشر وحاجتك إلى خمسة لكل واحد من البنين سهم ليكون نصيب كل واحد منهم مثل نصيب صاحب النصيب
فظهر أنك أخطأت بثمانية أسهم فزد في النصيب سهما فيصير الثلث ستة فاعط بالنصيب سهمين وبربع ما يبقى
سهما يبقى ثلاثة ضمها إلى ثلثي المال وهو اثنا عشر فيصير خمسة عشر فظهر أنك أخطأت بخمسة لان حاجتك
إلى عشرة لكل واحد من البنين الخمسة سهمان كما للموصى له بالنصيب الا أنه انتقص من سهام الخطأ في هذه الكرة
ثلاثة لان الخطأ الأول كان بثمانية وفى هذه الكرة بخمسة فتبين أنك مهما زدت في النصيب سهما كاملا يذهب
من سهام الخطا ثلاثة فزد ثلثي سهم على سهمين حتى يذهب الخطأ كله فصار النصيب ثلاثة أسهم وثلثي سهم
ووراءه أربعة أسهم فيصير الثلث سبعة أسهم وثلثي سهم وانكسر بالأثلاث فاضرب سبعة أسهم وثلثي سهم
في ثلاثة ليزول الكسر فيصير ثلاثة وعشرين فهو ثلث المال وثلثاه مثلاه وهو ستة وأربعون فكل المال تسعة
وستون والنصيب ثلاثة وثلثان مضروبا في ثلاثة فيكون أحد عشر والباقي إلى تمام الثلث اثنا عشر ثلاثة منها وهي ربع
ما بقي من كل الثلث بعد النصيب للموصى له بالربع فيبقى تسعة ضمها إلى ثلثي المال فيصير خمسة وخمسين لكل واحد من
البنين أحد عشر والتخريج على طريقة الأصغر والأكبر على نحو ما بينا ولو أوصى بمثل نصيب أحدهم ولآخر بخمس
ما بقي من الثلث بعد النصيب فالمسألة تخرج من سبعة وثمانين لصاحب النصيب أربعة عشر ولصاحب الخمس
ثلاثة ولكل ابن أربعة عشر (أما) التخريج على طريقة الحشو فعلى نحو ما ذكرنا أنك تأخذ عدد البنين وذلك خمسة
وتزيد عليها واحدا كما فعلت في المسائل المتقدمة فتصير ستة ثم اضرب ستة في مخرج الخمس وهو خمسة فتصير ثلاثين
ثم إنقص منها واحدا للمعنى الذي ذكرنا فيبقى تسعة وعشرون فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك ثمانية
وخمسون وجميع المال سبعة وثمانون فإذا أردت أن تعرف النصيب فخذ النصيب وذلك سهم فاضربه في خمسة ثم
اضرب خمسة في ثلاثة لما ذكرنا فيما تقدم فيصير خمسة عشر ثم انقص منها سهما فيبقى أربعة عشر فهذا هو النصيب
فأعط للموصى له بمثل النصيب يبقى إلى تمام الثلث خمسة عشر فاعط للموصى له بالخمس حمس ذلك وذلك ثلاثة
يبقى هناك اثنا عشر ضمها إلى ثلثي المال وذلك ثمانية وخمسون فتصير سبعين فاقسمها بين البنين الخمسة لكل ابن
أربعة عشر مثل ما كان للموصى له بالنصيب (وأما) التخريج على طريقة الخطائين فعلى نحو ما بينا أنك تجعل ثلث المال
عددا لو أعطينا منه نصيبا يبقى وراءه عدد له خمس وأقل ذلك ستة فتعطى منها سهما بالنصيب وسهما بخمس ما يبقى
من الثلث بعد النصيب فيبقى وراءه أربعة ضمها إلى ثلثي المال فتصير ستة عشر فتبين أنك أخطأت بأحد عشر لان
حاجتك إلى خمسة لكل واحد من البنين سهم مثل ما كان للموصى له بالنصيب فزد في النصيب سهما فيصير الثلث
سبعة فاعط بالنصيب سهمين ثم اعط بخمس ما بقي سهما فيبقى هناك أربعة ضمها إلى ثلثي المال وذلك أربعة
عشر فتصير ثمانية عشر فتبين انك أخطأت في هذه الكرة بزيادة ثمانية لان حاجتك إلى عشرة لكل ابن
سهمان كما كان للموصى له فظهر لك ان بزيادة كل سهم على النصيب يذهب ثلاثة أسهم من الخطأ وانك تحتاج
إلى أن يذهب ما بقي من سهام الخطا وهي ثمانية أسهم فزد سهمين وثلثي سهم على سهمين فتصير أربعة أسهم
وثلثي سهم وما وراءه خمسة أسهم فصار الثلث تسعة أسهم وثلثي سهم فاضرب هذه الجملة في ثلاثة فتصير تسعة
وعشرين فهو ثلث المال وثلثاه مثلاه فتصير جملة المال سبعة وثمانين فالنصيب أربعة وثلثان مضروب في ثلاثة
فتصير أربعة عشر والباقي إلى تمام الثلث خمسة عشر فأخرج منها الخمس وضم الباقي إلى ثلثي المال على ما علمناك
وطريقتا الجامع الأصغر والأكبر على نحو ما ذكرنا ولو أوصى بمثل نصيب أحدهم الا ثلث ما بقي من الثلث بعد
النصيب فالمسألة تخرج من سبعة وخمسين فالنصيب عشرة والاستثناء ثلاثة ولكل ابن عشرة (أما) على طريقة
الحشو فهو أنك تأخذ نصيب الورثة على عددهم وذلك خمسة وتزيد عليها واحدا فتصير ستة ثم اضرب ستة في ثلاثة
لقوله الا ثلث ما بقي من الثلث بعد النصيب فتصير ثمانية عشر ثم زد عليها سهما لان الاستثناء من وصيته يوجب زيادة
362

في نصيب الورثة وهي شائعة في كل المال فتزيد على كل ثلث سهما كما كنت تنقص في المسائل المتقدمة من كل ثلث
سهما لان النقصان هناك ما كان لذاته لما ذكرنا ولاستقامة الحساب وههنا لا يستقيم الا بالزيادة فتزاد فتصير تسعة عشر
فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك ثمانية وثلاثون وجميع المال سبعة وخمسون وإذا أردت معرفة النصيب
فالنصيب كان واحدا فاضربه في ثلاثة ثم اضرب ثلاثة في ثلاثة لما ذكرنا فتصير تسعة ثم زد عليها واحدا كما زدت
في الابتداء فتصير عشرة فهذا هو النصيب وبقى إلى تمام ثلث المال تسعة فاستثن من النصيب مقدار ثلث ما بقي وهو
ثلاثة فإذا استثنيت من العشرة ثلاثة يبقى للموصى له سبعة أسهم فضم المستثنى وهو الثلاثة مع ما بقي وهو تسعة وذلك اثنا
عشر إلى ثلثي المال وذلك ثمانية وثلاثون فتصير خمسين فاقسمها على البنين الخمس لكل ابن عشرة مثل ما كان للموصى
له قبل الاستثناء واما طريقة الخطائين فهي أن تجعل الثلث على عدد لو أعطيت منه نصيبا يبقى وراءه ثلاثة ولو استثنيت
من النصيب ثلث ما يبقى يبقى وراءه سهم وأقل ذلك أن يجعل الثلث على خمسة أسهم فاعط للموصى له بالنصيب سهمين
ثم استثن منه مثل ثلث ما يبقى وهو واحد وضمه إلى ما بقي فتصير أربعة فضمها إلى ثلثي المال وهو عشرة أسهم فتصير
أربعة عشر سهما وحاجتك إلى عشرة أسهم لكل ابن سهمان مثل ما أعطيت للموصى له بالنصيب فظهر أنك أخطأت
بزيادة أربعة أسهم فزد في النصيب سهما فتصير ثلاثة ووراءه ثلاثة ثم استثن منه سهما وضمه إلى ما بقي فتصير أربعة ثم
ضمها إلى ثلثي المال وذلك اثنا عشر فتصير ستة عشر وحاجتك إلى خمسة عشر لكل ابن ثلاثة مثل ما أعطيت للموصى له
بالنصيب فظهر أنك أخطأت بسهم والخطأ الأول كان بأربعة فظهر ان بزيادة سهم على النصيب يذهب ثلاثة أسهم من
الخطا فتعلم أن بزيادة ثلاثة أسهم أخر يذهب ما بقي من الخطا فرد ثلثا آخر فيصير النصيب ثلاثة أسهم وثلث سهم وما بقي
ثلاثة أسهم فتصير ستة أسهم وثلث سهم فاضربها في ثلاثة فتصير تسعة عشر فهذا ثلث المال والنصيب ثلاثة وثلث
سهم مضروب في ثلاثة فيكون عشرة والاستثناء منه ثلاثة فذلك سبعة وهي للموصى له ولكل ابن عشرة فخرجت
الفريضة من سبعة وخمسين هذا إذا استثنى ثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب فاما إذا استثنى ربع ما يبقى من الثلث بعد
النصيب بأن أوصى له بمثل نصيب أحد بنيه الخمس الأربع ما يبقى من الثلث بعد النصيب فالفريضة من خمسة وسبعين
النصيب منها ثلاثة عشر والاستثناء ثلاثة ولكل ابن أربعة عشر (أما) طريقة الحشو فما ذكرنا أن تأخذ عدد البنين
وتزيد عليه سهما فتصير ستة ثم اضربه في مخرج الربع وذلك أربعة فتصير أربعة وعشرين ثم زد عليها واحدا لما ذكرنا
فتصير خمسة وعشرين فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك خمسون وجميع المال خمسة وسبعون هذه المعرفة أصل
المال (واما) معرفة النصيب فإن كان واحدا فاضربه في أربعة لما ذكرنا فيما تقدم فيصير أربعة ثم اضرب أربعة في ثلاثة
فتصير اثنى عشر فزد عليها واحدا لما ذكرنا أيضا فتصير ثلاثة عشر هذا هو النصيب فيبقى إلى تمام ثلث المال وهو خمسة
وعشرون اثنا عشر فاسترجع من النصيب بحكم الاستثناء ربع ذلك وهو ثلاثة فبقي للموصى له عشرة ثم ضم هذه الثلاثة
إلى اثنى عشر فاسترجع من النصيب بحكم الاستثناء ربع ذلك وهو ثلاثة فبقي للموصى له عشرة ثم ضم هذه الثلاثة إلى
اثنى عشر فتصير خمسة عشر ثم تضمها إلى ثلثي المال خمسون فتصير خمسه وستين فاقسم بين البنين الخمس لكل واحد
ثلاثة عشر مثل ما كان للموصى له بالنصيب قبل الاستثناء (وأما) طريقة الخطائين فهي أن تجعل ثلث المال عددا
إذا أعطيت منه النصيب يبقى وراءه أربعة وإذا استثنيت من النصيب مثل ربع ما بقي من الثلث بعد النصيب يبقى
وراءه سهم وأقل ذلك ستة فاجعلها ثلثي المال فاعط بالنصيب سهمين ثم استرجع منه بالاستثناء مثل ربع ما بقي وذلك
سهم وضمه إلى ما بقي فتصير خمسة ثم ضمها إلى ثلثي المال وذلك اثنا عشر فتصير سبعة عشر فتبين أنك أخطأت بزيادة
سبعة وان حاجتك إلى العشرة لكل ابن سهمان مثل ما أعطيت لصاحب النصيب لان نصيبه مثل نصيبهم فزد
في النصيب سهما فتصير ثلاثة فاعط بالنصيب ثلاثة أسهم ثم استرجع منه مثل ربع ما يبقى وهو سهم وضمه إلى
ما بقي وذلك أربعة فتصير خمسة فضمها إلى ثلثي المال وذلك أربعة عشر فتصير تسعة عشر فيظهر أنك أخطأت في
363

هذه الكرة بأربعة لان حاجتك إلى خمسة عشر لكل ابن ثلاثة مثل ما أعطيت للموصى له بالنصيب وتبين لك أنك
مهما زدت في النصيب سهما انتقص من سهام الخطأ ثلاثة وقد بقي من سهام الخطأ أربعة وانك تحتاج إلى اذهابها
فزد في النصيب قدر ما يذهب به وهو أربعة فزد في النصيب سهما وثلث سهم حتى تذهب به سهام الخطأ كلها فصار
النصيب أربعة أسهم وثلث سهم وما بقي أربعة أسهم فتصير ثمانية أسهم وثلث سهم فاضربها في ثلاثة فتصير خمسة
وعشرين وهي ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك خمسون وجملته خمسة وسبعون والنصيب أربعة أسهم وثلث سهم
مضروب في ثلاثة فيكون ثلاثة عشر استثن منها ثلاثة فيبقى عشرة ثم ضم هذه الثلاثة إلى اثنى عشر يصير خمسة
عشر ثم تضم إلى ثلثي المال وذلك خمسون فتصير خمسة وستين واقسمه بين البنين الخمسة لكل ابن ثلاثة عشر مثل
ما كان للموصى له قبل الاستثناء والتخريج على طريقة الجامع الأصغر والأكبر على نحو ما ذكرنا ولو كان ثلاث
بنين وأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم الا ثلث ما يبقى من الثلث بعد النصيب فالمسألة تخرج من تسعة وثلاثين الثلث
منها ثلاثة عشر والنصيب بعد الاستثناء تسعة وتخريجها على طريقة الحشو أن تأخذ عدد البنين وهو ثلاثة ثم زد
عليها سهما لأجل النصيب فتصير أربعة ثم اضرب الأربعة في ثلاثة لان المستثنى ثلاثة فتصير اثنى عشر ثم زد واحدا
فتصير ثلاثة عشر فهذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك ستة وعشرون (وأما) معرفة النصيب الكامل فهو أن تأخذ
النصيب وذلك سهم واحد واضربه في مخرج الثلث فتصير ثلاثة ثم اضرب ثلاثة في ثلاثة لمكان الثلث فتصير تسعة
ثم زد عليها واحدا كما زدت في الثلث فتصير عشرة فهو النصيب الكامل فاعط لصاحب النصيب عشرة من
الثلث وهو ثلاثة عشر فيبقى من الثلث بعد النصيب ثلاثة ثم استرجع من النصيب بسبب الاستثناء ثلث ما يبقى من
الثلث وذلك واحد وضمه إلى ما بقي من الثلث فتصير أربعة فهذه الأربعة فضلت عن الوصية فضمها إلى ثلثي المال
وذلك ستة وعشرون فتصير ثلاثين لكل ابن عشرة مثل النصيب الكامل قبل الاستثناء وحصل للموصى له بعد
الاستثناء تسعة (وأما) التخريج على طريقة الخطائين فهو ان تجعل ثلث المال عددا لو أعطت بالنصيب شيئا ثم
استرجعت من النصيب بالاستثناء ثلث ما بقي من الثلث بعد النصيب يبقى في يد الموصى له شئ وأقل ذلك خمسة
فاعط بالنصيب سهمين ثم استرجع منه سهما لمكان الاستثناء وضمه إلى ما بقي من الثلث بعد النصيب فتصير
أربعة فهي فاضلة من الوصية فضمها إلى ثلثي المال وذلك عشرة فصار أربعة عشر وحاجتك إلى ستة لأنك أعطيت
بالنصيب الكامل سهمين فظهر انك أخطأت بثمانية فزد على النصيب سهما آخر حتى إذا أعطيت بالنصيب ثلاثة
يبقى بعده ماله ثلث لمكان الاستثناء فاجعل الثلث ستة فاعط النصيب ثلاثة يبقى ثلاثة ثم استرجع من النصيب
سهما فصار معك أربعة فضمها إلى ثلثي المال وذلك اثنا عشر فسار ستة عشر وحاجتك إلى تسعة لأنك أعطيت
بالنصيب ثلاثة فيجب أن يكون لكل ابن مثل ذلك ثلاثة فظهر انك أخطأت في هذه الكرة بزيادة سبعة والخطأ
الأول كان بزيادة ثمانية فتبين لك ان كل سهم زيد على الثلث يذهب سهما من الخطأ فزد سبعة على الثلث الأول وهو
ستة فتصير ثلاثة عشر فهو الثلث فاعط بالنصيب عشرة يبقى إلى تمام الثلث ثلاثة ثم استرجع سهما فصار أربعة
فضمها إلى ثلثي المال وهو ستة وعشرون فتصير ثلاثين على نحو ما ذكرنا وطريقة الجامع الأصغر على ما بينا وهو ان
لا تزيد على النصيب عند ظهور الخطأين ولكن خذ الثلث الأول وذلك خمسة واضربه في الخطأ الثاني وذلك سبعة
فتصير خمسة وثلاثين ثم خذ الثلث الثاني وذلك ستة واضربه في الخطأ الأول وذلك ثمانية يصير ثمانية وأربعين ثم
اطرح الأقل من الأكثر يبقى ثلاثة عشر فهو ثلث المال (وأما) معرفة النصيب فخذ النصيب الأول بعد الاستثناء
وذلك سهم واضربه في الخطأ الثاني وذلك سبعة فتصير سبعة ثم خذ النصيب الثاني وذلك سهمان واضربه في
الخطأ الأول وذلك ثمانية فتصير ستة عشر ثم اطرح الأقل من الأكثر يبقى تسعة فهو النصيب ثم الباقي على نحو
ما ذكرنا (وأما) طريقة الجامع الأكبر فهو ان تضعف الثلث الأول سوى النصيب وذلك أربعة فضعفها فتصير
364

ثمانية ثم زد عليه النصيب وذلك سهم فتصير تسعة فهو الثلث الثاني فاعط بالنصيب ثلاثة يبقى ستة فثلث ما بقي
سهمان ثم استرجع من النصيب ثلث ما يبقى وذلك سهمان وضمهما إلى ما معك وذلك ستة فتصير ثمانية فهي فاضلة
عن الوصية وضمها إلى ثلثي المال وذلك ثمانية عشر فتصير ستة وعشرين وحاجتك إلى تسعة لأنك أعطيت بالنصيب
ثلاثة فيجب أن يكون لكل ابن ثلاثة فظهر انك أخطأت بزيادة سبعة عشر في طريقة الجامع الأكبر والخطأ الأول
في طريقة الخطائين كان بزيادة ثمانية فخذ الثلث الأول في طريقة الخطائين وذلك خمسة واضربه في الخطأ الثاني
وذلك سبعة عشر فتصير خمسة وثمانين ثم خذ الثلث الثاني وذلك تسعة واضربه في الخطأ الأول وذلك ثمانية فتصير
اثنين وسبعين ثم اطرح الأقل من الأكثر يبقى ثلاثة عشر فهو ثلث المال (وأما) معرفة النصيب فخذ النصيب
الأول من طريق الخطائين وذلك سهم واضربه في الخطأ الثاني من الجامع الأكبر وذلك سبعة عشر بسبعة عشر
وخذ النصيب الثاني وذلك سهم من طريقة الجامع الأكبر واضربه في الخطأ الأول وذلك ثمانية بثمانية واطرح
الأقل من الأكثر فيبقى تسعة فهو النصيب يبقى ثلاثون بين البنين لكل واحد منهم عشرة هذا إذا قال الا ثلث ما يبقى
من الثلث بعد النصيب (فاما) إذا قال الا ثلث ما يبقى من الثلث بعد الوصية فاصل المسألة ما ذكرنا في الفصل الأول
الا أن في تخريجه ضرب تفاوت (أما) على طريقة الحشو فهو ان تأخذ عدد البنين وذلك ثلاثة وتزيد عليه واحدا
ثم تضربها في مخرج النصف وهو سهمان وإنما ضربنا هذا في سهمين والأول في ثلاثة لان مقصود الموصى ههنا أن
يكون المستثنى بعد الوصية الحاصلة ثلث ما بقي ولن يكون الا أن يكون قبل الاسترجاع معه سهمان حتى إذا
استرجعت منه شيئا يكون المسترجع ثلث ما بقي ومقصوده في المسألة الأولى الا أن يكون المستثنى بعد النصيب قبل
الاسترجاع مثل ثلاثة ولن يكون ذلك الا وأن يكون معه ثلاثة قبل الاسترجاع حتى إذا استرجعت شيئا يكون
المسترجع ربعه فإذا ضربت أربعة في اثنين بلغ ثمانية ثم تزيد واحدا فتصير تسعة فهذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وهو
ثمانية عشر (فاما) معرفة النصيب فخذ النصيب وذلك واحد واضربه في مخرج الثلث فتصير ثلاثة فاضرب
الثلاثة في مخرج النصف وذلك سهمان فتصير ستة ثم زد عليه سهما فتصير سبعة فهو النصيب فاعط صاحب
النصيب سبعة يبقى إلى تمام الثلث سهمان ثم استرجع منه سهما فضمه إلى ذلك فتصير ثلاثة فضمها إلى ثلثي المال
فيصير أحد وعشرون لكل ابن سبعة (وأما) طريقة الخطائين فهي ان تجعل ثلث المال عددا لو أعطيت منه نصيبا
واسترجعت منه شيئا يكون المسترجع مثل نصف وأقل ذلك أربعة ادفع للموصى له بالنصيب سهمين ثم استرجع
منه سهما ضمه إلى ما بقي وهي اثنان وما بقي وهو سهم المال فتصير ثلاثة فضمها إلى ثلثي المال وذلك ثمانية فتصير أحد
عشر وحاجتك إلى ستة لأنك أعطيت بالنصيب سهمين فظهر انك أخطأت بزيادة خمسة فزد في النصيب سهما واعط
بالنصيب ثلاثة ثم استرجع منه سهما وضمه إلى ما بقي فتصير ثلاثة فضمها إلى ثلثي المال وذلك عشرة فتصير ثلاثة
عشر وحاجتك إلى تسعة لأنك أعطيت بالنصيب ثلاثة فظهر انك قد أخطأت بزيادة أربعة فظهر انك كلما زدت
درهما يزول خطأ درهم فزد في الابتداء على النصيب قدر خطأ الأول وهو خمسة فبلغ سبعة وبقى إلى تمام الثلث بعد
النصيب سهمان فاسترجع منه سهما وضمه مع الباقي إلى ثلثي المال وهو ثمانية عشر فصار أحدا وعشرين فاعط
لكل ابن سبعة وللموصى له ستة هذا إذا قيد قوله الا ثلث ما يبقى من الثلث بالنصيب أو بالوصية (فاما) إذا أطلق
بان قال الا ثلث ما يبقى من الثلث ولم يزد عليه قال محمد قال عامة الحساب يعنى المعروفين بعلم الحساب من أصحاب
أبي حنيفة رضي الله عنه مثل الحسن بن زياد وغيره هذا بمنزلة الفصل الأول وهو ما إذا قال الا ثلث ما يبقى من الثلث بعد
النصيب وقال محمد رحمه الله هو بمنزلة الفصل الثاني وهو ما إذا قال الا ثلث ما يبقى من الثلث بعد الوصية (وجه) قول
العامة انه لما قال أوصيت لك بمثل نصيب أحد بنى فقد أتى بوصية صحيحة واستحق ربع المال لأنه جعل نصيبه مثل
نصيب أحد بنيه كأنه أحد بنيه فلما قال الا ثلث ما يبقى من الثلث فقد استخرج بالاستثناء بعض الوصية مطلقا وذلك
365

يحتمل بعد الوصية ويحتمل بعد النصيب الا أن المستخرج بالاستثناء بعد النصيب أقل والمستخرج بعد الوصية
أكثر والأقل متيقن به في استخراجه وفى استخراج الزيادة شك فلا يثبت استخراج الزيادة بالشك بل تبقى الزيادة
داخلة تحت المستثنى منه (وجه) قول محمد أن الاستثناء ليس باستخراج بعض الكلام لما فيه من التناقض على ما عرف
في أصول الفقه بل هو تكلم بالباقي بعد الثنيا فلم يدخل المستثنى في صدر الكلام لأنه دخل ثم خرج بكلام الاستثناء
فلفظ الوصية ههنا مع الاستثناء لم يتناول الا المستثنى منه والمستثنى يحتمل الأقل والأكثر فلا يتناول اللفظ الا القدر
المتيقن به وهو الأقل ولو أوصى بمثل نصيب أحدهم الأربع ما يبقى من الثلث بعد النصيب فالمسألة تخرج من أحد
وخمسين النصيب اثنا عشر والاستثناء خمسة ولكل ابن ثلاثة عشر (أما) تخريجها على طريقة الحشو فهو ان
تأخذ عدد البنين وهو ثلاثة وتزيد عليه واحدا فيصير أربعة فاضرب أربعة في مخرج السهم المستثنى وهو أربعة
فتصير ستة عشر ثم زد سهما فتصير سبعة عشر هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه أربعة وثلاثون فجملته أحد وخمسون
هذا لمعرفة أصل المال (وأما) معرفة النصيب فهي ان تأخذ النصيب وذلك سهم وتضربه في مخرج الثلث فتصير
ثلاثة ثم تضرب الثلاثة في مخرج السهم المستثنى وذلك أربعة فتصير اثنى عشر ثم تزيد عليه سهما فتصير ثلاثة
عشر هذا هو النصيب بقي إلى تمام الثلث أربعة فاعط بالنصيب ثلاثة عشر ثم استرجع مثل ربع ما بقي وهو سهم
وضمه إلى ما بقي فصار حمسة فضمها إلى ثلثي المال وذلك أربعة وثلاثون فيبلغ تسعة وثلاثين فاعط لكل ابن ثلاثة
عشر كما أعطيت بالنصيب قبل الاسترجاع (وأما) التخريج على طريقة الخطأين فهو ان تجعل ثلث المال ستة ليبقى
بعد اعطاء النصيب والاسترجاع منه مثل ربع ما يبقى فاعط بالنصيب سهمين ثم استرجع منه مثل ربع ما يبقى
وذلك سهم وضمه إلى ثلثي المال وذلك اثنا عشر فتصير سبعة عشر وحاجتك إلى ستة لأنك أعطيت بالنصيب
سهمين فظهر انك أخطأت بزيادة أحد عشر فزد في النصيب سهما تصير ثلاثة فاعط بالنصيب ثلاثة ثم استرجع منه
سهما وضمه مع الباقي إلى ثلثي المال وذلك أربعة عشر فتصير تسعة عشر وحاجتك إلى تسعة لأنك أعطيت
بالنصيب ثلاثة فظهر انك أخطأت بزيادة عشرة وظهر أن كل سهم زائد يزيل خطأ سهم فزد على النصيب
قدر الخطأ الأول وذلك أحد عشر ليزول الخطأ فصار ثلاثة عشر فأعط بالنصيب ثلاثة عشر ثم استرجع منه
سهما وضمه إلى ما بقي وهي أربعة فضمها إلى ثلثي المال وذلك أربعة وثلاثون فتصير تسعة وثلاثين كما ذكرنا
ولو كان له خمس بنين فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم الا ثلث وربع ما يبقى من الثلث بعد النصيب فتخريج
المسألة على طريقة الحشو ان تأخذ عدد البنين خمسة وتزيد عليها واحدا فتصير ستة ثم تضرب ستة في مخرج الجزء
المستثنى وهو مثل الثلث والربع وذلك اثنا عشر فتصير اثنين وسبعين ثم تزيد ثلث مخرج المستثنى وربعه وذلك اثنا
عشر وثلثه وربعه سبعة فتصير تسعة وسبعين فهذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك مائة وثمانية وخمسون
(وأما) معرفة النصيب فهو ان تأخذ النصيب وذلك سهم وتضربه في مخرج الثلث وذلك ثلاثة فتصير ثلاثة
ثم تضرب الثلاثة في مخرج السهم المستثنى وذلك اثنا عشر فتصير ستة وثلاثة ثم تزيد عليه مثل ثلثه وربعه وهو
سبعة فتصير ثلاثة وأربعين فهو النصيب بقي إلى تمام الثلث ستة وثلاثون وأعط بالنصيب ثلاثة وأربعين ثم استرجع
مثل ثلث ما بقي ورابعه بعد النصيب وذلك أحد وعشرون وضمها إلى ما بقي هو ستة وثلاثون فتصير سبعة
وخمسين ثم ضمها إلى ثلثي المال وذلك مائة وثمانية وخمسون فتبلغ مائتين وخمسة عشر فاعط لكل ابن ثلاثة وأربعين
مثل ما أعطيت بالنصيب قبل الاسترجاع وللموصى له اثنين وعشرين ولو قال الا ثلث وربع ما بقي من الثلث بعد
الوصية الحاصلة فتخريجها على طريقة الحشو ان تأخذ عدد البنين خمسة ثم زد عليه واحدا فتصير ستة ثم تضربه في
خمسة لما بينا فتصير ثلاثين ثم زد عليه مخرج الثلث والربع وذلك سبعة فتصير سبعة وثلاثين فهو الثلث والثلثان أربعة
وسبعون (وأما) معرفة النصيب فخذ النصيب وذلك واحد واضربه في ثلاثة ثم ثلاثة في خمسة فصارت خمسة عشر
366

ثم زد عليه مثل مخرج الثلث والربع وهو سبعة فتصير اثنين وعشرين وبقى إلى تمام الثلث خمسة عشر فأعط
صاحب النصيب اثنين وعشرين ثم استرجع منه مثل ثلث ما بقي وربعه بعد النصيب وذلك أحد وعشرون وضمها
إلى ما بقي من الثلث وهو خمسة عشر فتصير ستة وثلاثين ضمها إلى ثلثي المال وذلك أربعة وسبعون تبلغ مائة
وعشرة لكل ابن اثنان وعشرون مثل ما أعطيت صاحب الوصية قبل الاسترجاع وللموصى له درهم والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو ترك خمسة بنين وقد أوصى بمثل نصيب أحدهم وثلثي ما بقي من الثلث فالثلث سبعة عشر
والنصيبين أربعة عشر والباقي بعد النصيبين من الثلث ثلاثة تعطى ثلثي ما يبقى من الثلث سهمان من ذلك يبقى
سهم يرد إلى ثلثي المال وذلك أربعة وثلاثون فتصير خمسة وثلاثين وتخريجه على طريقة الحشو ان تأخذ عدد البنين
وذلك خمسة وتزيد عليه بالنصيبين سهمين لان الموصى له بالنصيبين بمنزلة الابنين فكان البنين سبعة فتصير الفريضة
من سبعة ثم اضربها في ثلاثة لأجل الثلث فتصير أحد وعشرين ثم اطرح منه أربعة سهمين بالوصية بالنصيبين
وسهمين بثلثي ما يبقى من الثلث لتخريج المسألة فيبقى سبعة عشر وهو الثلث وإذا أردت معرفة النصيب فالوجه فيه
ان تأخذ النصيبين وذلك سهمان وتضربهما في ثلاثة فتصير ستة لان الوصية تنفذ من الثلث ثم اضربه في ثلاثة لأجل ما
يبقى من الثلث فيصير ثمانية عشر ثم اطرح منه أربعة مثل ما طرحت من الأول يبقى أربعة عشر فهو النصيبان يبقى إلى
تمام الثلث ثلاثة فاعط بثلثي ما يبقى من الثلث سهمين يبقى سهم فاضل عن الوصايا يرد إلى ثلثي المال وذلك أربعة
وثلاثون فتصير خمسة وثلاثين بين البنين الخمسة لكل ابن سبعة وهو نصف النصيبين والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما)
التخريج على طريقة الخطائين فهو ان تجعل ثلث المال سهما ما لو أعطيت بالنصيبين سهمين يبقى من بعده ما يخرج منه ثلثان
وذلك خمسة فاعط بالنصيبين سهمين يبقى ثلاثة فاعط بثلثي ما يبقى سهمين يبقى سهم يرد إلى ثلثي المال وذلك
عشرة فتصير أحد عشر وحاجتنا إلى خمسة حتى يكون لكل ابن سهم فظهر انك أخطأت بزيادة ستة فزد في
ثلثي المال سهمين فتصير سبعة فاعط بالنصيبين أربعة يبقى ثلاثة فاعط بثلثي ما يبقى سهمين يبقى سهم فزده إلى ثلث
المال وذلك أربعة عشر فيصير خمسة عشر وحاجتك إلى عشرة لأنك أعطيت بالنصيبين أربعة فيجب أن يكون لكل
ابن سهمان وهم خمسة فيكون لهم عشرة فظهر انك أخطأت في هذه الكرة بزيادة خمسة والخطأ الأول كان ستة فمتى
زدت سهمين ذهب به من الخطأ سهم فعلم أن كل سهم يزاد على الثلث يذهب به سهم من الخطأ فيزاد اثنا عشر على
الثلث الأول وهو خمسة حتى يزول الخطأ كله فتصير سبعة عشر فهو الثلث ثم الباقي إلى آخره وأما على طريقة الجامع
الأصغر فهو ان تأخذ الثلث الأول وهو خمسة واضربه في الخطأ الثاني وهو خمسة فتصير خمسة وعشرين وتأخذ
الثلث الثاني وذلك سبعة وتضربه في الخطأ الأول وذلك ستة فتصير اثنين وأربعين ثم اطرح الأقل من الأكثر يبقى
سبعة عشر فهو الثلث (والوجه) في معرفة النصيب ان تأخذ النصيب الأول وذلك سهمان وتضربه في الخطأ
الثاني وذلك خمسة فتصير عشرة ثم تضرب النصيب الثاني وذلك أربعة في الخطأ الأول وذلك ستة فتصير أربعة
وعشرين ثم اطرح الأقل من الأكثر فيبقى أربعة عشر فهو النصيبان (وأما) على طريقة الجامع الأكبر فهو ان
تضعف الثلث الأول الا النصيبين وذلك ثلاثة فتصير ستة ثم زد عليه النصيبين فتصير ثمانية وهذا هو الثلث فاعط
بالنصيبين سهمين فيبقى ستة وأعط ثلثي ما يبقى سهمان يرد إلى ثلثي المال وذلك ستة عشر فتصير ثمانية
عشر وحاجتك إلى خمسة لأنك أعطيت بالنصيبين سهمين فيجب أن يكون لكل ابن سهم فالخطأ الثاني في الجامع
الأكبر زيادة ثلاثة والخطأ الأول في الخطأين كان زيادة ستة فخذ الثلث الأول في الخطأين وذلك خمسة واضربه في
الخطأ الثاني وذلك ثلاثة عشر فتصير خمسة وستين خذ الثلث الثاني في الجامع الأكبر وذلك ثمانية واضربه في الخطأ
الأول وذلك ستة فتصير ثمانية وأربعين ثم اطرح الأقل من الأكثر يبقى سبعة عشر فهو الثلث (والوجه) في معرفة
النصيب ان تأخذ ما جمع من الخطأين أحدهما ستة والآخر ثلاثة عشر فاطرح الأقل من الأكثر فإذا طرحت ستة
367

من ثلاثة عشر يبقى سبعة فهو النصيب ولو أوصى بثلث ما يبقى والمسألة بحالها فالفريضة من سبعة وخمسين والثلث
تسعة عشر والنصيبان ستة عشر وثلث ما يبقى واحد (وتخريجها) على طريقة الحشو ان تأخذ عدد البنين خمسة
ثم زد عليها النصيبين وذلك سهمان فتصير سبعة ثم اضربها في ثلاثة فتصير أحد وعشرين ثم اطرح منها النصيبين وذلك
سهمان يبقى تسعة عشر فهو الثلث فقد طرح محمد رحمه الله في هذه المسألة سهمين وفى المسألة المتقدمة طرح أربعة
أسهم سهمين بالنصيبين وسهمين بثلثي ما يبقى فعلى قياس ما ذكرنا هناك يجب ان يطرح ههنا أيضا أربعة (والوجه)
في معرفة النصيب ان تأخذ النصيبين وذلك سهمان وتضربهما في ثلاثة فتصير ستة ثم تضرب ستة في ثلاثة فتصير
ثمانية عشر ثم اطرح منه سهمين يبقى ستة عشر فهو النصيب وبقى إلى تمام ثلث المال ثلاثة فاعط بثلث ما يبقى
ثلثه وذلك سهم يبقى سهمان يرد إلى ثلثي المال وذلك ثمانية وثلاثون فتصير أربعين تقسم بين البنين لكل ابن ثمانية
(وأما) التخريج على طريق الخطائين فهو ان تجعل ثلث المال خمسة فاعط بالنصيبين سهمين يبقى ثلاثة فاعط
بثلث ما يبقى سهما يبقى سهم ترد إلى ثلثي المال وذلك عشرة فتصير اثنى عشر وحاجتك إلى خمسة فتبين انك
أخطأت بزيادة سبعة فزد على الثلث سهمين فتصير سبعة فاعط بالنصيبين أربعة يبقى ثلاثة فاعط بثلث ما يبقى سهما
يبقى سهمان تضم إلى ثلثي المال وذلك أربعة عشر فتصير ستة عشر وحاجتك إلى عشرة فظهر انك أخطأت في هذه
الكرة بزيادة ستة والخطأ الأول كان زيادة سبعة فعلمت إن كان سهمين تزاد في الثلث تذهب من الخطأ سهما فزد في
الثلث الأول أربعة عشر سهما حتى يزول الخطأ كله فإذا زدت على خمسة أربعة عشر تصير تسعة عشر فهو الثلث ثم
يأتي الكلام على نحو ما ذكرنا (والتخريج) على طريقة الجامع الأصغر والأكبر على نحو ما بينا فإذا مات رجل وترك
أما وابنتين وامرأتين وعصبة وأوصى لرجل بمثل نصيب احدى ابنتيه وبثلث ما يبقى من الثلث لآخر فالفريضة
من ستة وستين والنصيب ستة عشر وثلث الباقي اثنان وللبنتين اثنان وثلاثون وللأم ثمانية وللمرأة ستة وللعصبة
سهمان هكذا خرجها محمد رحمه الله في الأصل ومشايخنا رحمهم الله خرجوها من نصف ما خرجها في الكتاب من غير
كسر وهو ثلاثة وثلاثون (وطريق) هذا التخريج ان أصل هذه الفريضة من أربعة وعشرين لحاجتك إلى
الثمن والثلثين والسدس فللمرأة الثمن ثلاثة أسهم وللبنتين الثلثان ستة عشر وللأم السدس أربعة أسهم وللعصبة
سهم فالبنتان يستحقان السهمين وهو الثلثان والباقون يستحقون سهما واحدا وهو الثلث فصار في المعنى كان عدد
الورثة ثلاثة لان سهامهم ثلاثة فاجعل كأن له ثلاثة بنين أوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم وبثلث ما يبقى من الثلث
ولو كان هكذا فالجواب سهل وهو أن تأخذ عدد البنين ثلاثة وتزيد عليهما سهما لأجل الوصية الأولى وتضربها في
ثلاثة لأجل الوصية الثانية فتصير اثنى عشر ثم اطرح منها سهما لأجل الوصية الثانية فيصير ثلث المال أحد عشر وثلثاه
مثلاه وذلك اثنا وعشرون فتصير جملة المال ثلاثة وثلاثين والنصيب سهم واحد مضروب في ثلاثة ثم في ثلاثة
فتصير تسعة ثم اطرح منها سهما فيبقى ثمانية فاعط لصاحب النصيب ثمانية واعط ثلث ما يبقى وذلك سهم واحد
فتصير تسعة وبقى إلى تمام الثلث سهمان ضمها إلى الثلثين وهو اثنان وعشرون فتصير أربعة وعشرين للبنتين
الثلثان لكل واحدة ثمانية مثل ما أعطيت لصاحب النصيب وللأم أربعة أسهم وللمرأة ثلاثة أسهم وللعصبة سهم
فخرجت المسألة من نصف ما خرج في الكتاب ولو أوصى بمثل نصيب احدى البنتين الا ثلث ما يبقى من الثلث بعد
النصيب فالفريضة من ستمائة وأربعة وعشرين والنصيب مائة وستون وثلث الباقي ستة عشر وطريق التخريج
ان تجعل كأن عدد الورثة ثلاثة زد عليها سهما لأجل الوصية فتصير أربعة ثم اضرب أربعة في ثلاثة فتصير اثنى عشر ثم
زد عليها سهما تصير ثلاثة عشر فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه فتصير تسعة وثلاثين والنصيب سهم في ثلاثة ثم في
ثلاثة فذلك تسعة ثم زد عليها سهما فتصير عشرة ثم استثن منها سهما مثل ثلث ما يبقى وضمه إلى ما بقي فتصير أربعة ثم
ضم الأربعة إلى ثلثي المال فتصير ثلاثين لكل بنت عشرة مثل ما أعطيت قبل الاستثناء وللأم السدس خمسة بقي خمسة
368

بين المرأة والعصبة أرباعا لان حق المرأة في ثلاثة أسهم وحق العصبة في سهم فيكون حقها ثلاثة أضعاف حق العصبة
فان رضيت بالكسر فاجعل الخمسة الباقية بينهما أرباعا وان لم ترض فاضرب أصل الحساب في أربعة فتكون مائة وستة
وخمسين منها تخرج السهام على الصحة وهو ربع ما خرجه محمد في الكتاب ولو أوصى بمثل نصيب المرأة وبثلث
ما يبقى من الثلث فالفريضة من مائتين وأربعة وثلاثين والنصيب أربعة وعشرون وثلث الباقي ثمانية عشر وطريقه
ان تجعل كان عدد الورثة ثمانية لان السهام ثمانية فكان أوصى بمثل نصيب أحدهم فزد عليه سهما فتصير تسعة ثم
اضربها في ثلاثة فتصير سبعة وعشرين ثم اطرح منها سهما فيبقى ستة وعشرون فهذا ثلث المال وجميع المال ثمانية
وسبعون والنصيب سهم مضروب في ثلاثة ثم في ثلاثة فتصير تسعة ثم اطرح منها سهما فيبقى ثمانية وثلث ما يبقى
ستة فيبقى اثنا عشر ضمها إلى ثلثي المال وذلك اثنان وخمسون فتصير أربعة وستين للمرأة منها ثمانية وتبين انك
أعطيت للموصى له بمثل نصيبها مثل نصيبها ثمانية فيبقى ستة وخمسون لا تستقيم بين الام والبنتين والعصبة لأنه يجب
أن يكون للبنتين ثلثا أربعة وستين وليس لها ثلث صحيح وللأم سدسها وليس لها سدس صحيح أيضا غير أن بين
مخرج السدس وحسابنا موافقة بنصف ونصف فاضرب أحدهما في وفق الآخر وهو ثمانية وسبعون في ثلاثة
فيبلغ الحساب مائتين وأربعة وثلاثين كما قال في الكتاب فكل من كان له سهم في الحساب الأول صار له ثلاثة في
الحساب الثاني كان حق الموصى له في ثمانية فصار أربعة وعشرين وحق البنتين في اثنين وأربعين وثلثي درهم فصار
مائه وثمانية وعشرين وحق الام في عشرة وثلثي درهم مضروبا في ثلاثة فيكون اثنين وثلاثين وحق العصبة في
درهمين وثلثي درهم مضروبا في ثلاثة فيكون ثمانية دراهم ولو كان لرجل خمس بنين فأوصى لأحدهم بكمال الربع
بنصيبه ولآخر بثلث ما يبقى من الثلث فأجازوا فالفريضة من اثنى عشر النصيب اثنان وتكملة الربع سهم واحد
وثلث ما يبقى من الثلث واحد لان الوصية للوارث صحيحة عند إجازة الورثة وتفاوت ما بين نصيبه والربع سهم لأنه
لو لم يكن ههنا وصية لأجنبي لكان له الربع والباقي بين البنين الأربعة أرباعا فاحتجنا إلى حساب له ربع ولباقيه
ربع وأقله ستة عشر فيعطى له ربع المال أربعة والباقي بين البنين الأربعة أرباعا لكل ابن ثلاثة وله أربعة فتبين
انه بهذه الوصية لا يستحق الا سهما فإذا أوصى لغيره بثلث ما يبقى من الثلث فخذ حسابا له ثلث وربع وأقله اثنا عشر
فثلثة أربعة وربعه ثلاثة فأعط للموصى له بكمال الربع سهما وللآخر سهمان لان ثلث ما يبقى من الثلث بعد كمال
الربع سهم بقي اثنان ضمهما إلى ثلثي المال فتصير بين البنين الخمسة لكل ابن سهمان (فتبين) انا إذا أعطينا له ربع
المال فنصيبه بنصيبه سهمان مثل ما أصاب هؤلاء والله سبحانه وتعالى أعلم (ومنها) التقدير بثلث المال إذا كان
هناك وارث ولم يجز الزيادة فلا تجوز الزيادة على الثلث الا بإجازة الوارث الذي هو من أهل الإجازة والأصل
في اعتبار هذا الشرط ما روينا من حديث سعد رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بجميع
مالي فقال لا فقال فبثلثيه فقال لا فقال فبنصفه قال عليه الصلاة والسلام لا قال فبثلثه فقال عليه الصلاة والسلام
الثلث والثلث كثير انك ان تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة ان يتكففون الناس وقوله عليه الصلاة والسلام
ان الله تبارك وتعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم ولان الوصية بالمال ايجاب الملك
عند الموت وعند الموت حق الورثة متعلق بماله الا في قدر الثلث فالوصية بالزيادة على الثلث تتضمن ابطال حقهم
وذلك لا يجوز من غير اجازتهم وسواء كانت وصيته في المرض أو في الصحة لان الوصية ايجاب مضاف إلى زمان
الموت فيعتبر وقت الموت لا وقت وجود الكلام واعتبارها وقت الموت يوجب اعتبارها من الثلث لما ذكرنا انه
وقت تعلق حق الورثة بالتركة إذ الموت لا يخلو عن مقدمة مرض وحقهم يتعلق بماله في مرض موته الا في القدر
المستثنى وهو الثلث فرق بين الوصية وغيرها من التبرعات كالهبة والصدقة أن المعتبر هناك وقت العقد فإن كان
صحيحا تجوز في جميع ماله وإن كان مريضا لا تجوز الا في الثلث لان الهبة والصدقة كل واحد منهما ايجاب الملك
369

للحال فيعتبر فيهما حال العقد فإذا كان صحيحا فلا حق لاحد في ماله فيجوز من جميع المال وإذا كان مريضا كان
حق الورثة متعلقا بماله فلا يجوز الا في قدر الثلث وكذا الاعتاق في مرض الموت والبيع والمحاباة قدر مالا يتغابن الناس
فيه وابراء الغريم والعفو عن دم الخطأ يعتبر ذلك كله من الثلث كالهبة والصدقة لتعلق حق الورثة بمال المريض مرض
الموت فيما وراء الثلث ويجوز العفو عن دم العمد ولا يعتبر فيه الثلث لان حق الورثة إنما يتعلق بالمال والقصاص
ليس بمال وكذا ان شاء الكفالة بالدين في حال المرض وضمان الدرك لأنه تبرع بالتزام الدين فيعتبر من الثلث كما
تعتبر الهبة لأنه يتهم فيه كما يتهم في الهبة ولو أقر في مرضه بكفالته بالدين حال صحته فحكم هذا الدين حكم دين المرض
حتى لا يصدق في حق غرماء الصحة ويكون المكفول له مع غرماء المرض سواء ولو كفل في صحته وأضاف ذلك
إلى ما يستقبل بان قال للمكفول له كفلت بما يذوب لك على فلان ثم وجب له على فلان دين في حال مرض
الكفيل فحكم هذا الدين وحكم دين الصحة سواء حتى يضرب المكفول له بجميع ما يضرب به غريم الصحة لان
الكفالة وجدت في حال الصحة وعن إبراهيم النخعي رحمه الله فيمن أوصى لام ولده في حياته وصحته ثم مات انه
ميراث ولو أوصى عند موته لها بوصية فهي لها من الثلث والأول محمول على ما إذا أعطاها شيئا في حياته على وجه
الهبة لان الهبة منها لا تتصور حقيقة لكونها تمليكا وهي ليست من أهل الملك لأنها مملوكة والثاني يجرى على ظاهره
لان الوصية بالمال ايجاب الملك عند الموت وهي عند الموت من أهل الملك لكونها حرة فكانت من أهل الوصية لها ولو
أوصى بما زاد على الثلث ولا وارث له تجوز من جميع المال عندنا وعند الشافعي لا تجوز الا من الثلث والمسألة ذكرناها في
كتاب الولاء وكذلك إذا كان له وارث وأجاز الزيادة على الثلث لان امتناع النفاذ في الزيادة لحقه والا فالمنفذ
للتصرف وهو الملك قائم فإذا أجاز فقد زال المانع ثم إذا جازت بإجازته فالموصى له يملك الزيادة من قبل الموصى لا من
قبل الوارث فالزيادة جوازها جواز وصيته من الموصى لا جواز عطية من الوارث وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم
وقال الشافعي رحمه الله جوازها جواز هبة وعطية حتى يقف ثبوت الملك فيها على القبض عنده وعندنا لا يقف (وجه)
قوله إن النفاذ لما وقف على إجازة الوارث فدل ان الإجازة هبة منه والدليل عليه ان الوارث لو أجاز الوصية في مرض
موته تعتبر اجازته من ثلثه فثبت ان التمليك منه (ولنا) ان الموصى له بالوصية متصرف في ملك نفسه والأصل فيه النفاذ
لصدور التصرف من الأهل في المحل وإنما الامتناع لمانع وهو حق الوارث فإذا أجاز فقد أزال المانع وينفذ بالسبب
السابق لا بإزالة المانع لان ازالته شرط والحكم بعد وجود الشرط يضاف إلى السبب لا إلى الشرط ويتوقف
ثبوته على السبب في الحقيقة لا على الشرط لان الشروط كلها شروط الأسباب لا شروط الأحكام على ما عرف
في أصول الفقه وقد خرج الجواب عما ذكر (وأما) اجازته في مرض موته فإنما اعتبرت من ثلثه لا لكون
الإجازة منه تمليكا وايجابا للملك لان الإجازة لا تنبئ عن التمليك بل هي إزالة المانع عن وقوع التصرف تمليكا باسقاط
الحق عن مال التصرف وهو متبرع في هذا الاسقاط فيعتبر تبرعه من الثلث كما يعتبر تبرعه بالتمليك بالهبة من الثلث فان
أجاز بعض الورثة ورد بعضهم جازت الوصية بقدر حصة المجيز منهم وبطلت بقدر أنصباء الرادين لان لكل واحد
منهم ولاية الإجازة والرد في قدر حصته فتصرف كل واحد منهم في نصيبه صدر عن ولاية شرعية فينفذ ثم إنما تعتبر
إجازة من أجاز إذا كان المجيز من أهل الإجازة بأن كان بالغا عاقلا فإن كان مجنونا أو صبيا لا يعقل لا تعتبر اجازته فإن كان
عاقلا بالغا لكنه مريض مرض الموت جازت اجازته ثم إن كان الوارث واحدا كانت اجازته بمنزلة ابتداء
الوصية حتى لو كان الموصى له وارثه لا تجوز اجازته الا ان تجيزها ورثة المريض بعد موته وإن كان أجنبيا تجوز اجازته
وتعتبر من الثلث ثم وقت الإجازة هو ما بعد موت الموصى ولا تعتبر الإجازة حال حياته حتى أنهم لو أجازوا في حياته لهم
أن يرجعوا عن ذلك بعد موته وهذا قول عامة العلماء رضي الله عنهم وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تجوز اجازتهم بعد موته
وحال حياته وإذا أجازوا في حياته فليس لهم ان يرجعوا بعد موته ولا خلاف في أنهم إذا أجازوا بعد موته ليس لهم ان
370

يرجعوا بعد ذلك (وجه) قول ابن أبي ليلى ان اجازتهم في حال الحياة صادفت محلها لان حقهم يتعلق بماله في مرض
موته الا انه لا يظهر كون هذا المرض مرض الموت الا بالموت فإذا اتصل به الموت تبين انه كان مرض الموت فتبين
ان حقهم كان متعلقا بماله فتبين انهم أسقطوا حقهم بالإجازة فجازت اجازتهم (ولنا) ان حقهم إنما يثبت عند الموت لأنه
إنما يعلم بكون المرض مرض الموت عند الموت فإذا مات الآن علم كونه مرض الموت فيثبت حقهم الآن الا انه إذا
ثبت حقهم عند الموت استند الحق الثابت إلى أول المرض والاستناد إنما يظهر في القائم لا في الماضي واجازتهم قد
مضت لغوا ضائعا لانعدام الحق حال وجودها فلا تلحقها الإجازة والدليل على أن حق الورثة لا يثبت في حال
المرض بطريق الظهور المحض ان المريض يحل له أن يطأ بجاريته ولو ثبت الملك عند الموت بطريق الظهور المحض
لتبين انه وطئ ملك غيره فتبين انه كان حراما وليس كذلك بالاجماع على أن في اثبات الحق في المرض على طريق
الظهور المحض ابطال الحقيقة عند الموت فلا يجوز اعتبار الحق للحال لابطال الحقيقة عند الموت فكان اعتباره من
طريق الاستناد فيظهر في القائم لا في الماضي ولو أوصى بألف درهم من مال رجل أو عبد أو شئ آخر له فأجازه ذلك
الرجل قبل موته أو بعد موته فله ان يرجع عنه ما لم يدفعه إلى الموصى له فإذا دفعه إليه جاز لأن جوازه ليس بجواز
وصيته إذ لا ولاية على مال الغير وإنما جوازه جواز هبة من صاحب المال فلم تكن اجازته إجازة اسقاط حق بل هو
عقد هبة منه لان تصرف الموصى صادف ملك غيره فوقف على اجازته فإذا اجازه الغير فوقع هبة من جهته لا وصية
من الموصى كأنه وهبه ابتداء فان سلم جازت الهبة والا فلا بخلاف الوصية بما زاد على الثلث إذا أجازها الورثة انها
تجوز ولا يشترط فيها التسليم إلى الموصى له لان التصرف هناك وقع وصية لمصادفته ملك نفسه فلا يفتقر إلى التسليم وإنما
يفتقر إلى الإجازة فإذا وجدت الإجازة جازت الوصية ونفذت وسواء كان الموصى به جزأ مسمى كالثلث والنصف
أو كان جميع المال أو كان عينا مشارا إليها بان أوصى بعبد له أو ثوب له انه يعتبر في ذلك كله الثلث فإن كان يخرج من
ثلث جميع ماله فهو له وإن كان لا يخرج فله منه قدر ما يخرج وان لم يكن له مال آخر فله ثلثه والثلثان للورثة سواء
كانت الوصية واحدة أو اجتمعت الوصايا انه ينفذ الكل من الثلث ان أمكن تنفيذ الكل منه وان لم يكن وضاق الثلث
عن الكل يتضارب فيه ويقدم البعض على البعض عند وجود سبب التقدم وبيان هذه الجملة ان الوصايا إذا اجتمعت
فالثلث لا يخلو اما إن كان يسع كل الوصايا واما ان لا يسع الكل فإن كان يسع الكل تنفذ الوصية من الثلث في الكل
لان الوصية تعلقت بالكل وأمكن تنفيذها في الكل فتنفذ سواء كانت الوصايا لله تبارك وتعالى كالوصية بالقرب من
الوصية بالحج الفرض والزكاة والصوم والصلاة والكفارات والنذور وصدقة الفطر والأضحية وحج التطوع وصوم
التطوع وبناء المساجد واعتاق النسمة وذبح البدنة ونحو ذلك أو كانت للعباد كالوصية لزيد وعمرو وبكر وخالد وكذلك
لو كان الثلث لا يسع الكل لكن الورثة أجازت (فأما) إذا كان الثلث لا يسع ولم تجز الورثة فالوصايا لا تخلو (اما) إن كانت
لله تعالى عز وجل وهي الوصية بالقرب أو كان بعضها لله تعالى والبعض للعباد فإن كان الكل لله تعالى فلا
يخلو (اما) إن كان الكل فرائض أو واجبات أو نوافل أو اجتمع في الوصايا من كل جنس من الفرائض والواجبات
والتطوعات فإن كان الكل فرائض متساوية يبدأ بما قدمه الموصى لان عند تساويها لا يمكن الترجيح بالذات
فيرجح بالبداية لان البداية دليل اهتمامه بما بدأ به لان الانسان يبدأ بالأهم فالأهم عادة واختلفت الرواية عن أبي يوسف
في الحج والزكاة روى عنه انه يبدأ بالحج وان أخره الموصى في الذكر وروى عنه انه يبدأ بالزكاة وهو قول محمد (وجه)
الرواية الأولى ان الحج عبادة بدنية والزكاة عبادة مالية والعبادة البدنية أولى لان النفس أنفس وأعز من المال فكان
تقربا إلى الله تبارك وتعالى بأعز الأشياء وأنفسها عنده فكان أقوى فكانت البداية به أولى على أن الحج عبادة بدنية
لها تعلق بالمال والزكاة عبادة ماليه لا تعلق لها بالبدن فكان الحج أقوى فكان أولى بالتقدم (وجه) الرواية الأخرى أن
الحج تمحض حقا لله تعالى والزكاة يتعلق بها حق العبد فيقدم لحاجة العبد وغنا الله عز وجل وقالوا في الحج والزكاة انهما
371

يقدمان على الكفارات لأنهما واجبان بايجاب الله ابتداء من غير تعلق وجوبهما بسبب من جهة العبد والكفارات
يتعلق وجوبها بأسباب توجد من العبد من القتل والظهار واليمين والواجب ابتداء أقوى فيقدم والكفارات متقدمة
على صدقة الفطر لان صدقة الفطر واجبة والكفارات فرائض والفرض مقدم على الجواب ولأن هذه الكفارات
منصوص عليها في الكتاب العزيز ولا نص في الكتاب على صدقة الفطر وإنما عرفت بالسنة المطهرة فكان
المنصوص عليه في الكتاب العزيز أقوى فكان أولى وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية وإن كانت الأضحية أيضا
واجبة عندنا لكن صدقة الفطر متفق عل وجوبها والأضحية وجوبها محل الاجتهاد فالمتفق على الوجوب أقوى
فكان بالبداية أولى وكذا صدقة الفطر مقدمة على كفارة الفطر في رمضان لان وجوب تلك الكفارة ثبت بخبر
الواحد وصدقة الفطر ثبت وجوبها باخبار مشهورة والثابت بالخبر المشهور أقوى فيقدم وقالوا إن صدقة الفطر
تقدم على المنذور به لأنها وجبت بايجاب الله تبارك وتعالى ابتداء والمنذور به وجب بايجاب العبد وقد تعلق وجوبه
أيضا بسبب مباشرة العبد فتقدم الصدقة والاشكال عليه ان صدقة الفطر من الواجبات لا من الفرائض لان
وجوبها ثبت بدليل مقطوع به بل بدليل فيه شبهة العدم ولهذا لا يكفر جاحده والوفاء بالمنذور به فرض لأنه
وجوبه ثبت بدليل مقطوع به وهو النص المفسر من الكتاب العزيز قال الله تبارك وتعالى وليوفوا نذورهم والفرض
مقدم على الواجب ولهذا يكفر جاحد وجوب الوفاء بالنذر وفى كتاب الله عز وجل دليل عليه وهو قوله
سبحانه وتعالى ومنهم من عاهد الله لان آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به
وتولوهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون والمنذور به
مقدم على الأضحية لأنه واجب الوفاء بيقين وفى وجوب الأضحية شبهة العدم لكونه محل الاجتهاد والأضحية تقدم على
النوافل لأنها واجبة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وسنة مؤكدة عندهما والشافعي رحمه الله والواجب والسنة
المؤكدة أولى من النافلة فالظاهر من حال الموصى انه قصد تقديمها على النافلة تحسينا للظن بالمسلم الا انه تركه سهوا
فيقدم بدلالة حالة التقديم وان أخره بالذكر على سبيل السهو هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن في الوصايا
بالقرب اعتاق منجز وهو الاعتاق في مرض الموت أو اعتاق معلق بالموت وهو التدبير فإن كان تقدم
ذلك لان الاعتاق المنجز والمعلق بالموت لا يحتمل الفسخ فكان أقوى فيقدم (وأما) الوصية بالاعتاق
فإن كان اعتاقا واجبا في كفارة فحكمه حكم الكفارات وقد ذكرنا ذلك وان لم يكن واجبا فحكمه حكم سائر
لوصايا المتنقل بها من الصدقة على الفقراء وبناء المساجد وحج التطوع ونحو ذلك لان الوصية بالاعتاق يلحقها
الفسخ كما يلحق سائر الوصايا فكانت الوصية بالاعتاق غير واجبة مثل سائر الوصايا فلا تقدم بخلاف الاعتاق المنجز
في المرض والمعلق بالموت لأنه لا يلحقهما الفسخ فكان أقوى فيقدم على سائر الوصايا وإن كانت الوصايا بعضها لله
سبحانه وتعالى وبعضها للعباد فان أوصى لقوم بأعيانهم يتضاربون بوصاياهم في الثلث ثم ما أصاب العباد فهو لهم لا يقدم
بعضهم على بعض لما نبين وما كان لله تبارك وتعالى يجمع ذلك فيبدأ منها بالفرائض ثم بالواجبات ثم بالنوافل وإن كان
مع الوصايا لله تبارك وتعالى وصية لواحد معين من العباد فإنه يضرب بما أوصى له به مع الوصايا بالقرب ويجعل كل
جهة من جهات القرب مفردة بالضرب فان قال ثلث مالي في الحج والزكاة والكفارات ولزيد فان الثلث يقسم على
أربعة أسهم سهم للموصى له وسهم للحج وسهم للزكاة وسهم للكفارات لان كل جهة من هذه الجهات غير الأخرى
فتفرد كل جهة بسهم كما لو أوصى بثلث ماله لقوم معينين فان قيل جهات القرب وان اختلفت فالمقصود منها كلها واحد
وهو طلب مرضات الله تبارك وتعالى وابتغاء وجهه الكريم فينبغي ان يضرب للموصى له بسهم والقرب بسهم
فالجواب ان المقصود من الكل وإن كان واحدا وهو ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب مرضاته لكن الجهة منصوص
عليها فيجب اعتبارها كما لو أوصى بثلث ماله للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ان كل واحد منهم يضرب بسهمه وان
372

كان المقصود من الكل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى لكن لما كانت الجهة منصوصا عليها اعتبر المنصوص عليه
كذا ههنا هذا إذ كانت الوصايا كلها لله تبارك وتعالى أو بعضها لله تبارك وتعالى وبعضها للعباد (فاما) إذا
كانت كلها للعباد فإنها لا تخلو من أحد وجهين (اما) إن كانت كلها في الثلث لم يجاوز واحدة منها قدر الثلث (وأما)
ان جاوزت فإن لم تجاوز بان أوصى لانسان بثلث ماله ولآخر بالربع ولآخر بالسدس فإنهم يتضاربون في الثلث
بقدر حقوقهم فيضرب صاحب الثلث بثلث الثلث وصاحب الربع بربع الثلث وصاحب السدس بسدس الثلث
فيضرب كل واحد منهم بقدر فريضته من الثلث فلا يقدم بعضهم على بعض الا إذا كان مع هذه الوصايا أحد الأشياء
الثلاثة الاعتاق المنجز في المرض أو المعلق بالموت في المرض أو في الصحة وهو التدبير أو البيع بالمحاباة بما لا يتغابن
الناس فيه في المرض فيقدم هو على سائر الوصايا التي هي للعباد كما يقدم على الوصايا بالقرب فيبدأ ذلك قبل كل وصية ثم
يتضارب أهل الوصايا فيما يبقى من الثلث ويكون بينهم على قدر وصاياهم وإنما قلنا إنه لا يقدم البعض على البعض في
غير المواضع المستثناة لان تقديم البعض على البعض يستدعى وجود المرجح ولم يوجد لان الوصايا كلها استوت في
سبب الاستحقاق لان سبب استحقاق كل واحد منهم مثل سبب صاحبه والاستواء في السبب يوجب الاستواء
في الحكم ولا استواء في سبب الاستحقاق في مواضع الاستثناء لان الاعتاق المنجز والمعلق بالموت لا يحتمل الفسخ
والمحاباة تستحق بعقد الضمان وهو البيع إذ هو عقد معاوضة فكان البيع مضمونا بالثمن والوصية تبرع فكانت المحاباة
المتعلقة بعقد الضمان أقوى فكانت أولى بالتقديم وان اجتمع العتق والمحاباة وضاق الثلث عنهما فقد قال أبو حنيفة
رحمه الله إن كانت المحاباة قبل العتق يبدأ بالمحاباة والا استويا هكذا روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وقال
أبو يوسف ومحمد يبدأ بالعتق تقدم أو تأخر (وجه) قولهما ان العتق أقوى من المحاباة لأنه لا يحتمل الفسخ والمحاباة
تحتمل وفى باب الوصايا يقدم الأقوى فالأقوى إذا كان الثلث لا يسع الكل ولهذا قدم العتق على سائر الوصايا وبه
تبين أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر فإنه يقدم على سائر الوصايا وإن كانت مقدمة في الذكر على العتق على أن التقدم في
الذكر يعتبر ترجيح والترجيح إنما يكون بعد الاستواء في ركن العلة ولا استواء ههنا لما بينا فبطل الترجيح ولأبي
حنيفة رحمه الله ان المحاباة أقوى من العتق لأنها تستحق بعقد ضمان على ما بينا والعتق تبرع محض فلا يزاحمها وكان ينبغي
أن يقدم على العتق تقدمت في الذكر أو تأخرت الا أن مزاحمة العتق إياها حالة التأخير ثبت لضرورة التعارض
حالة التقدم على ما نذكره (وأما) قولهما ان الاعتاق لا يحتمل الفسخ فبعض المشايخ قالوا إن كل واحد منهما
لا يحتمل الفسخ من جهة الموصى فان من باع ماله بالمحاباة في مرض موته لا يملك فسخه كما لو أعتق عبدة في مرض موته
أنه لا يملك فسخه فاستويا في عدم احتمال الفسخ من جهة الموصى وهو العتق والبائع فإذا كانت البداية بالمحاباة
ترجحت بالبداية لكون البداية بها دليل الاهتمام ولا يمكن ترجيح العتق عند البداية به لان تعلق المحاباة بعقد
الضمان يقتضى ترجيحها على العتق الذي هو تبرع محض فتعارض الوجهان فسقطا والتحقا بالعدم فبقي أصل
التعارض بلا ترجيح فتقع المزاحمة بين المحاباة والعتق فيقسم الثلث بينهما وهذا الجواب ضعيف لان البيع
بالمحاباة تصرف يحتمل الفسخ في نفسه في الجملة فيفسخ بخيار العيب والرؤية والشرط والإقالة إذ هي فسخ في حق
المتعاقدين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فكانت المحاباة للفسخ في الجملة والعتق لا يحتمله رأسا فكان
أقوى من المحاباة فيجب ان يقدم عليها كما هو مذهبهما (ومنهم) من قال إن عدم احتمال العتق للفسخ إن كان
يقتضى ترجيحه على المحاباة كما ذكرنا من تعلق المحاباة بعقد الضمان يقتضى ترجيحا على العتق فوقع التعارض
فترجح المحاباة بالبداية وإذا لم يبدأ بها فلم يوجد الترجيح فبقيت المعارضة فثبتت المزاحمة وهذا أيضا ضعيف لأنه لو
كان كذلك للزم تقديم العتق على المحاباة إذا بدأ بالعتق لوجود المرجح للعتق عند وقوع التعارض ولا يقدم غيره بل
يقسم الثلث بينهما (ومنهم) من قال تعلق المحاباة بعقد الضمان من حيث استحقاقها به أقوى في الدلالة من العتق من
373

حيث عدم احتمال الفسخ بدليل أن الدين مقدم على الاعتاق حتى لو أعتق عبدا مستغرقا بالدين لا ينفذ وإن كان
الاعتاق لا يحتمل الفسخ والمعارضة محتملة للفسخ لكونها عقد ضمان فلا يعارضها العتق الا عند البداية وعلى الجملة
تقرير مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في هذه المسألة بالإضافة إلى عقولنا مشكل والله سبحانه وتعالى أعلم وفرع أبو
حنيفة رضي الله عنه على هذا فقال إذا أعتق ثم حابى ثم أعتق يقسم الثلث بين العتق الأول وبين المحاباة نصفين ثم
ما أصاب العتق الأول يقسم بينه وبين العتق الثاني لاستوائهما في القوة ولو حابى ثم أعتق ثم حابى يقسم الثلث بين
المحابتين نصفين ثم ما أصاب المحاباة الأخيرة يقسم بينهما وبين العتق نصفين كما إذا أعتق ثم حابى والله سبحانه وتعالى
أعلم هذا إذا كان مع الوصايا للعباد عتق أو محاباة فإن لم يكن يضرب كل واحد منهما بقدر حقه من الثلث حتى لو أوصى
لرجل بثلث ماله ولآخر بالسدس ولم تجز الورثة يقسم الثلث بينهما أثلاثا سهمان لصاحب الثلث وسهم لصاحب
السدس أصل المسألة من ستة ثلث المال ثلاثة وثلثاه مثلاه وذلك ستة فجملة المال تسعة ثلثه وذلك ثلاثة للموصى
لهما بالثلث والسدس بينهما أثلاثا وثلثاه وذلك ستة للورثة فاستقام الثلث والثلثان وان أجازت الورثة فللموصى
له بالثلث سهمان وللموصى له بالسدس سهم والباقي وهو ثلاثة من ستة للورثة على فرائض الله تبارك وتعالى
ولو أوصى لرجل بالثلث ولآخر بالربع ولم تجز الورثة فالثلث بينهما على سبعة أسهم لصاحب الثلث الثلث أربعة ولصاحب
الربع ثلاثة أصل المسألة من اثنى عشر للموصى له بالثلث ثلثها وذلك أربعة عشر فيكون كل المال أحدا وعشرين الثلث
من ذلك سبعة للموصى له بالثلث والثلثان وهو أربعة عشر للورثة وان أجازت الورثة فللموصى له بالثلث ما أوصى له وهو
أربعة وللموصى له بالربع ما أوصى له وهو ثلاثة والباقي وهو خمسة من اثنى عشر للورثة على فرائض الله تعالى ولو أوصى
لرجل بالثلث ولآخر بالربع ولآخر بالسدس فثلث المال تسعة أصل المسألة من اثنى عشر لصاحب الثلث أربعة
ولصاحب الربع ثلاثة ولصاحب السدس سهمان وذلك تسعة وثلثا المال مثلاه وذلك ثمانية عشر فيكون جملته
سبعة وعشرين سهام الوصية منها تسعة ثلاثة وأربعة وسهمان وثمانية عشر سهام الورثة هذا إذا لم يكن في الوصايا
ما يزيد على الثلث فإن كان بان أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالنصف فان أجازت الورثة فلكل واحد ما أوصى له
به فالثلث للموصى له بالثلث والنصف للموصى له بالنصف أصل المسألة من ستة للموصى له بالثلث سهمان وللموصى
له بالنصف ثلاثة وذلك خمسة والباقي للورثة وان لم تجز الورثة فالثلث بينهما نصفين في قول أبي حنيفة لكل واحد منهما
سهم من ستة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على خمسة لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب النصف الثلث
سهمان وان أوصى لرجل بربع ماله ولآخر بنصف ماله فان أجازت الورثة فلكل واحد منهما ما أوصى له به فالربع
للموصى له بالربع والنصف للموصى له بالنصف والربع الباقي بين الورثة على فرائض الله تعالى لان المانع من الزيادة
على الثلث حق الورثة وقد زال بإجازتهم وان ردوا فلا خلاف في أن الوصية بالزيادة على الثلث لم ينفذ وان نفذت ففي
الثلث لا غير وإنما الخلاف في كيفية قسمة الثلث بينهما فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقسم الثلث بينهما على سبعة
أسهم للموصى له بالنصف أربعة وللموصى له بالربع ثلاثة وعند أبي يوسف ومحمد على ثلاثة سهمان للموصى له بالربع
لان الموصى له بالنصف لا يضرب الا بالثلث عنده والموصى له بالربع يضرب بالربع فيحتاج إلى حساب له ثلث وربع
وأقله اثنا عشر ثلثها أربعة وربعها ثلاثة فتجعل وصيتها على سبعة وذلك ثلث الميراث وثلثاه مثلاه وذلك أربعة عشر
وجميع المال أحد وعشرون سبعة منها للموصى لهما أربعة للموصى له بالنصف وثلاثة للموصى له بالربع وعند أبي
يوسف ومحمد يقسم الثلث بينهما على ثلاثة أسهم لان الموصى له بالنصف يضرب بجميع وصيته عندهما والموصى له
بالربع يضرب بالربع والربع مثل نصف النصف فيجعل كل ربع سهما فالنصف يكون سهمين والربع سهما فيكون
ثلاثة فيصير الثلث بينهما على ثلاثة أسهم سهما للموصى له بالنصف وسهم للموصى له بالربع وهذا بناء على أصل
وهو ان الموصى له بأكثر من الثلث لا يضرب في الثلث بأكثر من الثلث من غير إجازة الورثة عند أبي حنيفة رحمه الله
374

تعالى الا في خمس مواضع في العتق في المرض وفى الوصية بالعتق في المرض وفى المحاباة في المرض وفى الوصية بالمحاباة
وفى الصوية بالدراهم المرسلة فإنه يضرب في هذه المواضع بجميع وصية من غير إجازة الورثة وصورة ذلك في
الوصية بالعتق إذا كان له عبدان لا مال له غيرهما أوصى بعتقهما وقيمة أحدهما الف وقيمة الاخر الفان ولم تجز الورثة
عتقا من الثلث وثلث ماله ألف درهم فالألف بينهما على قدر وصيتهما ثلثا الألف للذي قيمته الفان فيعتق ثلثه ويسعى
في الثلثين للورثة والثلث للذي قيمته الف فيعتق ثلثه ويسعى في الثلثين للورثة فان أجازت الورثة عتقا جميعا وصورة
ذلك في المحاباة إذا كان له عبدان أوصى بأن يباع أحدها من فلان والآخر من فلان آخر بيعا بالمحاباة وقيمة أحدهما
مثلا الف ومائة وقيمة الآخر ستمائة فأوصى بأن يباع الأول من فلان بمائة والآخر من فلان آخر بمائة فههنا
حصلت بالمحاباة لأحدهما بألف وللآخر بخمسمائة وذلك كله وصية لأنها حصلت في حالة المرض فان خرج ذلك
من الثلث أو أجازت الورثة جاز وان لم يخرج من الثلث ولا أجازت الورثة جازت محاباتهما بقدر الثلث وذلك يكون
بينهما على قدر وصيتهما يضرب أحدهما فيها بألف والآخر بخمسمائة وصورة ذلك في الدراهم المرسلة إذا أوصى
لانسان بألف وللآخر بالدين وثلث ماله ألف فالثلث يكون بينهما أثلاثا كل واحد منهما يضرب بجميع وصيته ولا
خلاف أيضا في الوصية بأقل من الثلث كالربع والسدس ونحو ذلك ان الموصى له يضرب بجميع وصيته (وجه)
قولهما أن الوصية وقعت باسم الزيادة على الثلث من النصف ونحوه فيجب اعتبارها ما أمكن الا أنه تعذر اعتبارها في
حق الاستحقاق لما فيه من ابطال حق الورثة وانه اضرار بهم فوجب اعتبارها في حق الضرب وانه يمكن إذ لا ضرر فيه
على الورثة ولهذا اعتبرت التسمية في حق الضرب فيما ذكرنا من المسائل ولأبي حنيفة رحمه الله ان الوصية بالزيادة على
الثلث عند رد الورثة وصية باطلة من كل وجه بيقين والضرب بالوصية الباطلة من كل وجه بيقين باطل وإنما قلنا إن
الوصية بالزيادة وصية باطلة لأنها في قدر الزيادة صادفت حق الورثة الا أنها وقفت على الإجازة والرد فإذا ردوا تبين
انها وقعت باطلة وقوله من كل وجه يعنى به استحقاقا وتسمية وهي تسمية النصف فالكل فلم تقع الوصية صحيحة في
مخرجها وقولنا بيقين لأنها لا يحتمل النفاذ لحال ألا يرى أنه لو ظهر للميت مال آخر لنفذت هذه الوصية وهي الوصية
بالزيادة على الثلث بخلاف المواضع الخمس فان هناك ما وقعت باطلة بيقين بل تحتمل التنفيذ في الجملة بأن يظهر مال آخر
للميت يخرج هذا القدر من الثلث فبين ان الوصية ما وقعت بالزيادة على الثلث فلم يقع باطلة بيقين وههنا بخلافه لأنه
وان ظهر له مال آخر يدخل ذلك المال في الوصية ولا يخرج من الثلث وهذا القدر يشكل بالوصية بيقين فان زادت
قيمته على الثلث بأن أوصى بثلث عبد لرجل وبثلثيه لآخر ولا مال له سواه فردت الورثة ان صاحب الثلثين
لا يضرب بالثلث الزائد عندنا وان لم تكن الوصية باطلة بيقين لجواز أن يظهر له مال آخر فتنفذ تلك الوصية فينتفى أن
يضرب الموصى له بالثلثين بالثلث الزائد ومع هذا لا يضرب عندنا فأشكل القدر وبخلاف الوصية بالأقل من الثلث
لان الوصية هناك وقعت صحيحة في مخرجها من حيث التسمية لان التسمية وقعت بالربعة والسدس وكل ذلك
مخارج الوصية بالتسمية صادفت محل الوصية وإنما يظهر الفرق عند اجتماع الوصيتين فإذا ردت الورثة فالرد ورد
عليهما جميعا فيقسم بينهما على قدر نصيبهما ولو أوصى لرجل بجميع ماله ثم أوصى لآخر بثلث ماله فأجازت الورثة
الوصيتين جميعا فقد روى أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال الموصى له بالجميع يأخذ الثلثين خاصة
ويكون الباقي بين صاحب الجميع وبين صاحب الثلث وقال حسن بن زياد ليس هذا قول أبي حنيفة أن للموصى له
ربع المال وللموصى له بالجميع ثلاثة أرباعه وذكر الكرخي رحمه الله انه ليس في هذه المسألة نص رواية عن أبي حنيفة
رحمه الله وإنما اختلفوا في قياس قوله والصحيح ان قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيها ما روى عنه أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله لأنه قسمة على اعتبار المنازعة وما ذكر حسن رحمه الله تعالى اعتبار العول والمضاربة والقسمة على
اعتبار العول والمضاربة من أصولهما لا من أصله فان من أصله اعتبار المنازعة في القسمة (ووجهه) ههنا ان ما زاد على
375

الثلث يعطى كله للموصى له بجميع المال لأنه لا ينازعه فيه أحد وأما قدر الثلث فينازعه فيه الموصى له بالثلث فاستوت
منازعتهما فيه إذ لا ترجيح لأحدهما على الآخر فيقسم بينهما نصفين فيكون أصل مسألة الحساب من ثلاثة لحاجتنا
إلى الثلث الثلثان للموصى له بالجميع بلا منازعة والثلث بينهما نصفان الا أنه ينكسر الحساب فيضرب اثنين في ثلاثة
فيصير ستة فيسلم ثلثاها للموصى له بالجميع بلا منازعة وثلثها وهو سهمان ينازعه فيه الموصى له بالثلث فيقسم بينهما فحصل
للموصى له بالجميع خمسة وللموصى له بالثلث سهم وأما القسمة على طريق العول والمضاربة عندهما ههنا ان كل واحد
منهما يضرب بجميع وصيته فالموصى له بالثلث يضرب بالثلث وهو سهم والموصى له بالجميع يضرب بكل المال وهو ثلاثة
أسهم فيجعل المال على أربعة أسهم لصاحب الثلث سهم ولصاحب الجميع ثلاثة هذا إذا أجازت الورثة فان ردت
الورثة جازت الوصية من الثلث ثم الثلث يكون بينهما نصفين في قول أبي حنيفة رحمه الله لان الموصى له بأكثر من
الثلث لا يضرب الا بالثلث إذ لم تجز الورثة عنده وعندهما يضرب كل واحد منهما بجميع وصيته أرباعا على ما بينا والله
تعالى الموفق هذا إذا اجتمعت الوصايا فيما سوى العين فان اجتمعت الوصايا في العين فان اجتمعت في عين مشار إليها
بان أوصى بعين واحدة لاثنين أو أكثر أو أوصى لكل واحد بجميع العين فقد قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تقسم العين
بين أصحاب الوصايا على عددهم فيضرب كل واحد منهم بالقدر الذي حصل له بالقسمة ولا يضرب بجميع تلك العين وان
وقعت القسمة بجميع العين وذلك نحو أن يقول أوصيت بعبدي هذا لفلان ثم قال وقد أوصيت بعبدي هذا لفلان
آخر والعبد يخرج من ثلث ماله فان العبد يقسم بينهما نصفين على عددهما وهما اثنان فيضرب كل واحد منهما بنصف
العبد ولا يضرب بأكثر من ذلك وكذلك ان أوصى به لثلاثة أو لأربعة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضرب كل
واحد منهما بجميع وصيته ويتفق الجواب في تقديم ما يستحق كل واحد منهما من العبد في هذه الصورة لكن
بناء على أصلين مختلفين وإنما يظهر ثمرة اختلاف الأصلين فميا إذا انضمت إلى الوصية لهما وصية لثالث بأن كان له
عبد وألفا درهم سوى ذلك فأوصى بالعبد لانسان ثم أوصى به لا آخر وأوصى لرجل آخر بألف درهم فعند أبي
حنيفة رحمه الله يضرب كل واحد من الموصى له بالعبد بنصف العبد وهذا بنصفه وهذا بنصفه ويضرب الموصى له
بألف درهم بألف فيقتسمون بالثلث أرباعا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يضرب كل واحد من الموصى لهما
بالعبد بجميع العبد والموصى له بألف يضرب بألف فيقتسمون الثلث أثلاثا بناء على الأصل الذي ذكرنا فيما تقدم أن
الموصى له بأكثر من الثلث لا يضرب بأكثر من الثلث عنده وعندهما يضرب بجميع وصيته فهما يقولان لان التسمية
وقعت لجميع العين الا انها لا تظهر في حق الاستحقاق فتظهر في حق الضرب كما في أصحاب الديون وأصحاب القول وأبو
حنيفة رحمه الله يقول إن الموصى قد أبطل وصية كل واحد منهما في نصف العين فله ولاية الابطال الا يرى أن
له ان يرجع فيبطل استحقاق كل واحد منهما نصف العين فالضرب بالجميع يكون ضربا بوصية باطلة فكان باطلا
بخلاف الغرماء فإنه ليس لمن عليه الدين ولاية ابطال حقهم فيضرب كل واحد منهم بكل حقه وبخلاف أصحاب
العول لأنه لم يؤخذ من جهة الميت سبب يبطل شهادتهم فيضربون بجميع ما ثبت حقهم فيه ولو كان له عبد آخر قيمته
ألف درهم وألف درهم فأوصى بعبد لرجل وأوصى لرجل آخر بثلث ماله فالثلث وهو قدر ألف درهم يكون بينهما
نصفين خمسمائة للموصى له بجميع العبد وخمسمائة للموصى له بالثلث غير أن ما أصابه الموصى له بالجميع يكون في العبد
وذلك خمسة أسداس العبد وما أصاب الموصى له بالثلث يكون بعضه في العبد وهو سدس ما بقي من العبد وهو عشر العبد
والبعض في الدراهم وهو خمس الألفين فيضرب الموصى له بجميع العبد بخمسة أسداسه والموصى له بالثلث يضرب
بسدس العبد وبخمس الألفين على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه اجتمع في العبد وصيتان وصية بجميعه ووصية
بثلثه لان الوصية بثلث المال تناولت العبد لكونه مالا فاجتمعت في العبد وصيتان فسلم للموصى له بجميع العبد ثلثاه
بلا منازعة والثلث ينازعه فيه الموصى له بالثلث فيكون على الحساب من ثلاثة لحاجتنا إلى الثلث وأقل حساب يخرج
376

منه الثلث ثلاثة قسمان خليا عن منازعة الموصى له بالثلث فسلم ذلك للموصى له بالجميع بلا منازعة بقي سهم استوت
منازعتهما فيه فيكون بينهما فينكسر فنضرب اثنين في ثلاثة فيكون ستة فثلثا الستة وهو أربعة سلم للموصى له بالجميع
لأنه لا ينازعه فيه أحد وثلثها وهو سهمان ينازعه فيه الموصى له بالثلث واستوت منازعتهما فيه فيقسم بينهما لكل
واحد منهما سهم وإذا صار العبد وقيمته الف على ستة يصير كل الف من الدراهم على ستة فصار الألفان على اثنى
عشر للموصى له بالثلث منهما أربعة أسهم فصار له خمسة أسهم أربعة أسهم من الدراهم وسهم من العبد وللموصى
له بالجميع خمسة أسهم كلها في العبد لأنه لا وصية له في الدراهم فصارت وصيتهما جميعا عشرة أسهم فاجعل ثلث المال
على عشرة أسهم فالثلثان عشرون سهما فالكل ثلاثون سهما والعبد ثلث المال لان قيمته ألف درهم فصار العبد
على عشرة أسهم والألفان على عشرين سهما فادفع وصيتهما من العبد فوصية الموصى له بالجميع خمسة وهو نصف
العبد ووصية الموصى له بالثلث سهم وذلك خمس ما بقي من العبد وادفع وصية الموصى له بالثلث من الدراهم وذلك
عشرون سهما أربعة أسهم وهو خمس الألفين على ما ذكره في الأصل فبقي من العبد أربعة أسهم لا وصية فيها فيدفع
إلى الورثة فيكمل لهم الثلثان لان الموصى له بالثلث قد أخذ من الألفين أربعمائة وذلك أربعة أسهم وحص للموصى
له بالعبد خمسة أسهم من العبد وذلك نصفه وحصل للموصى له بالثلث أربعمائة من الدراهم وذلك خمسها لأنا جعلنا
الألفين على عشرين سهما وأربعة من عشرين خمسها وحصل له من العبد سهم وذلك خمس العبد وحصل للورثة
عشرون سهما وهي الثلثان ستة عشر سهما وذلك أربعة أخماسها وأربعة أسهم من العبد وذلك خمساه هذا قول
أبي حنيفة رحمه الله (وأما) على قولهما فيقسم على طريق العول والمضاربة فصاحب العبد يضرب بجميع ثلثه
وصاحب الثلث يضرب بالثلث سهم فيحتاج إلى حساب له ثلث وأقله ثلاثة فصاحب العبد يضرب بالجميع وذلك
ثلاثة وصاحب الثلث يضرب بالثلث وذلك سهم فصار العبد على أربعة أسهم وإذا صار العبد على أربعة أسهم مع
العول صار كل ألف على ثلاثة بغير عول لأنه لا حاجة إلى العول في الألف فصارت الألفان على ستة أسهم فللموصى
له بالثلث ثلثها وذلك سهمان فتبين ان وصيتهما ستة أسهم وصية صاحب العبد ثلاثة كلها في العبد ووصية
صاحب الثلث ثلاثة أسهم سهمان في الدراهم وسهم في العبد فاجعل ذلك ثلث المال واجعل العبد ثلث المال واجعل
العبد على ستة أسهم وادفع إليهما وصيتهما من العبد لصاحب العبد ثلاثة أسهم ولصاحب الثلث سهم بقي سهمان
فاضلان لا وصية فيهما فادفع ذلك إلى الورثة حتى يكمل لهم الثلثان لان صاحب الثلث قد أخذ سهمين من الدراهم
وانتقص نصيب الورثة من الدراهم فيدفع سهمين من العبد إليهم حتى يكمل لهم الثلثان وقد جعل ثلث المال وهو العبد
على ستة أسهم فالثلثان يكونان اثنى عشر فادفع وصية صاحب الثلث من ذلك سهمين ثم ضم السهمين من العبد الذي لا
وصية فيهما إلى عشرة أسهم حتى يكمل لهم الثلثان فحصل للورثة عشرة أسهم من الدراهم وسهمان من العبد وللموصى له
بالعبد ثلاثة أسهم وذلك نصف العبد كله في العبد وللموصى له بالثلث سهم في العبد وذلك سدس العبد وسدس الألفين
وهما سهمان من اثنى عشر والله تعالى أعلم ولو كان له عبدان قيمتهما واحدة لا مال له غيرهما فأوصى لرجل بأحدهما
بعينه ولآخر بثلث ماله فان الثلث يقسم بينهما على سبعة أسهم وهذه المسألة مبنية على مسئلتين إحداهما ان الثلث
يقسم بينهما على طريقة المنازعة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما على طريق العول والثانية ان المذهب عند
أبي حنيفة ان الموصى له بأكثر من الثلث لا يضرب الا بالثلث في مواضع الاستثناء على ما بينا إذا عرفت هذا فنقول
القسمة في هذه المسألة على طريق المنازعة عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه اجتمع في العبد وصيتان وصية بجميعه
ووصية بثلثه والثلثان يسلمان لصاحب الجميع بلا منازعة لأنه لا ينازعه فيه صاحب الثلث وذلك سهمان من ثلاثة
والثلث وهو سهم استوت منازعتهما فيه فيقسم بينهما لكل واحد منهما نصف سهم فانكسر فنضرب
اثنين في ثلاثة فيصير ستة قلنا الستة تسلم لصاحب الجميع بلا منازعة وهو أربعة والثلث وهو سهمان استوت
377

منازعتهما فيه فيقسم بينهما لكل واحد منهما سهم فصار لصاحب الجميع خمسة أسهم ولصاحب الثلث
سهم فلما صار هذا العبد على ستة أسهم صار العبد الآخر على ستة للموصى له بالثلث منهما سهمان فصار وصية
صاحب الثلث ثلاثة أسهم سهمان في العبد الذي لا وصية فيه وسهم في العبد الذي فيه وصية ووصية صاحب
العبد خمسة أسهم وذلك أكثر من ثلث المال لان جميع المال اثنا عشر فثلثها أربعة والمذهب عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى ان الموصى له بأكثر من الثلث لا يضرب له الا بالثلث فنطرح من وصيته سهما فتصير وصيته أربعة
أسهم ووصية الآخر ثلاثة أسهم وذلك سبعة أسهم فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك أربعة عشر وجميع
المال أحد وعشرون وماله عبدان فتبين ان كل عبد على عشرة ونصف لان كل عبد مقدار نصف المال فيدفع من
العبد الموصى به وصيتهما فيه ويدفع إليهما بوصية صاحب الجميع أربعة أسهم في العبد فيدفع ذلك إليه ووصية صاحب
العبد سهم واحد في العبد فيدفع ذلك إليه فبقي من العبد خمسة أسهم ونصف فادفع ذلك إلى الورثة فيقسم بينهم على
فرائض الله تعالى ويؤخذ من العبد الذي لا وصية فيه سهمان ويدفع إلى الموصى له بالثلث فيبقى من هذا العبد ثمانية
ونصف يدفع إلى الورثة فيقسم بينهم على فرائض الله تعالى فصارت كلها سبعة أسهم وهي ثلث المال فحصل للموصى
له بالعبد منهما خمسة أسهم وللموصى له بالثلث سهمان وحصل للورثة من العبد الموصى به خمسة ونصف ومن العبد
الذي لا وصية فيه ثمانية ونصف فذلك أربعة عشر وهي ثلثا المال فاستقام الحساب على الثلث والثلثين وأما على
قول أبى يوسف ومحمد فيقسم على طريق العول فنقول اجتمع في العبد وصيتان وصية بجميعه ووصية بثلثه ومخرج
الثلث ثلاثة فصاحب الجميع يضرب بالجميع وذلك ثلاثة أسهم وصاحب الثلث يضرب بثلثه وهو سهم فصار العبد
على أربعة أسهم وهو معنى العول فلما صار هذا العبد على أربعة بالعول يجعل العبد الآخر على ثلاثة بغير عول لأنه
لا حاجة إلى العبد في ذلك العبد فسهم من ذلك العبد للموصى له بالثلث فصارت وصية صاحب الثلث سهمين سهم من
العبد الذي فيه الوصية وسهم من العبد الذي ولا وصية فيه ووصية صاحب العبد ثلاثة أسهم فذلك خمسة أسهم فاجعل
هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه وذلك عشرة والجميع خمسة عشر وماله عبدان فيصير كل عبد على سبعة ونصف فيدفع
وصية صاحب العبد من العبد إليه وذلك ثلاثة ووصية صاحب الثلث إليه وذلك سهم يبقى من هذا العبد ثلاثة
ونصف فيدفع بذلك إلى الورثة ويدفع من العبد الآخر سهم إلى الموصى له بالثلث يبقى ستة أسهم ونصف من العبد
الذي فيه الوصية وستة أسهم ونصف من العبد الآخر فاستقامت القسمة على الثلث والثلثين والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما صفة العقد فله صفتان إحداهما قبل الوجود والأخرى بعد الوجود أما التي هي قبل الوجود فهي
ان الوصية بالفرائض والواجبات واجبة وبما وراءها جائزه ومندوب إليها ومستحبة في بعض الأحوال وعند بعض
الناس الكل واجب وقد بينا ذلك كله في صدر الكتاب وأما التي هي بعد الوجود فهي ان هذا عقد غير لازم في حق
الموصى حتى يملك الرجوع عندنا ما دام حيا لان الموجود قبل موته مجرد ايجاب وانه محتمل الرجوع في عقد المعاوضة
فهي بالتبرع أولى كما في الهبة والصدقة الا التدبير المطلق خاصة فإنه لازم لا يحتمل الرجوع أصلا وإن كان وصية
لأنه ايجاب يضاف إلى الموت ولهذا يعتبر من الثلث لأنه سبب لثبوت العتق والعتق لازم وكذا سببه لأنه سبب حكم
لازم وكذا التدبير المقيد لا يحتمل الرجوع نصا ولكنه يحتمله دلالة بالتمليك من غيره لان العتق فيه تعلق بموت
موصوف بصفة وقد لا توجد تلك الصفة فلم يستحكم السبب ثم الرجوع قد يكون نصا وقد يكون دلالة وقد يكون
ضرورة أما النص فهو أن يقول الموصى رجعت أما الدلالة فقد تكون فعلا وقد تكون قولا وهو أن يفعل في الموصى به فعلا
يستدل به على الرجوع أو يتكلم بكلام يستدل به على الرجوع وبيان هذه الجملة إذا فعل في الموصى به فعلا لو فعله في
المغصوب لانقطع به ملك المالك كان رجوعا كما إذا أوصى بثوب ثم قطعه وخاطه قميصا أو قباء أو بقطن ثم غزله أو لم
يغزله ثم نسجه أو بحديدة ثم صنع منها اناء أو سيفا أو سكينا أو بفضة ثم صاغ منها حليا ونحو ذلك لأن هذه الأفعال لما
378

أوجبت بطلان حكم ثابت في المحل وهو الملك فلان توجب بطلان مجرد كلام من غير حكم أصلا أولى ثم وجه الدلالة
منها على التفصيل ان كل واحد منها تبديل العين وتصييرها شيئا آخر معنى واسما فكان استهلاكا لها من حيث المعنى
فكان دليل الرجوع فصار كالمشترى بشرط الخيار إذا فعل في المبيع فعلا يدل على ابطال الخيار يبطل خياره والأصل
في اعتبار الدلالة إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله للمخيرة ان وطئك زوجك فلا خيار لك ولو أوصى بقميص ثم
نقضه فجعله قباء فهو رجوع لان الخياطة في ثوب غير منقوض دليل الرجوع فمع النقض أولى وان نقضه ولم يخطه لم
يذكر في الكتاب واختلف المشايخ فيه والأشهر انه ليس برجوع لأن العين بعد النقض قائمة تصلح لما كانت تصلح
له قبل النقض ولو باع الموصى به أو أعتقه أو أخرجه عن ملكه بوجه من الوجوه كان رجوعا لأن هذه التصرفات وقعت
صحيحة لمصادفتها نفسه فأوجبت زوال الملك فلو بقيت الوصية مع وجودها لتعينت في غير ملكه ولا سبيل إليه
ولو باع الموصى به ثم اشتراه أو وهبه وسلم ورجع في الهبة لا تعود الوصية لأنها قد بطلت بالبيع والهبة مع التسليم لزوال
الملك والعائد ملك جديد غير موصى به فلا تصير موصى به لان بوصية جديدة ولو أوصى بعبد فغصبه رجل ثم رده
بعينه فالوصية على حالها لأن الغصب ليس فعل الموصى والموصى به على حاله فبقيت الوصية الا إذا استهلكه الغاصب
أو هلك في يده فتبطل الوصية لبطلان محل الوصية وكذا لو أوصى بعبد ثم دبره أو كاتبه أو باع نفسه منه كان رجوعا لان
التدبير اعتاق من وجه أو مباشرة سبب لازم لا يحتمل الفسخ والنقض وكل ذلك دليل الرجوع والمكاتبة معاوضة الا
أن العوض متأخر إلى وقت أداء البدل فكان دليل الرجوع كالبيع وبيع نفس العبد منه اعتاق فكان رجوعا ولو
أوصى بعبد لانسان ثم أوصى أن يباع من إنسان آخر لم يكن رجوعا وكانت الوصية لهما جميعا لأنه لا تنافى بين الوصيتين
لان كل واحدة منهما تمليك الا أن إحداهما تمليك بغير بدل والأخرى تمليك ببدل فيكون العبد بينهما نصفه للموصى
له به ونصفه يباع للموصى له بالبيع ولو أوصى أن يعتق عبده ثم أوصى بعد ذلك أن يباع من فلان أو أوصى أولا بالبيع ثم
أوصى بالاعتاق كان رجوعا لما بين الوصيتين من التنافي إذ لا يمكن الجمع بين الاعتاق والبيع فكان الاقدام على الثانية
دليل الرجوع عن الأولى وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل انه إذا أوصى بوصيتين متنافيتين كانت الثانية مبطلة
للأولى وهو معنى الرجوع وإن كانتا غير متنافيتين نفذتا جميعا ولو أوصى بشاة ثم ذبحها كان رجوعا لان الملك في باب
الوصية يثبت عند الموت والشاة المذبوحة لا تبقى إلى وقت الموت عادة بل تفسد فكان الذبح دليل الرجوع ولو أوصى
بثوب ثم غسله أو بدار ثم جصصها أو هدمها لم يكن شئ من ذلك رجوعا لان الغسل إزالة الدرن والوصية لم تتعلق به فلم
يكن الغسل تصرفا في الموصى به وتجصيص الدار ليس تصرفا في الدار بل في البناء لان الدار اسم للعرصة والبناء بمنزلة
الصفة فيكون تبعا للدار والتصرف في التبع لا يدل على الرجوع عن الأصل ونقض البناء تصرف في البناء والبناء صفة
وانها تابعة ولو أوصى لرجل أن يشترى له عبدا بعينه ثم رجع العبد إلى الموصى بهبة أو صدقة أو وصية أو ميراث فالوصية
لا تبطل ويجب تنفيذها لان الوصية ما وقعت بثمن العبد بل بعين العبد وهو مقصود الموصى وإنما ذكر الشراء للتوسل به
إلى ملكه وقد ملكه فتنفذ فيه الوصية ولو أوصى به بشئ لانسان ثم أوصى به لآخر فجملة الكلام فيه انه إذا أعاد عند
الوصية الثانية الوصية الأولى والموصى له الثاني محل قابل للوصية كان رجوعا وكان اشراكا في الوصية وبيان هذه
الجملة إذا قال أوصيت بثلث مالي لفلان ثم قال أوصيت بثلث مالي لفلان آخر ممن تجوز له الوصية فالثلث بينهما
نصفان وكذا لو قال أوصيت بهذا العبد لفلان وهو يخرج من الثلث ثم قال أوصيت به لفلان آخر ممن تجوز له الوصية
كان العبد بينهما نصفين ولو قال أوصيت بثلث مالي لفلان أو بعبدي هذا لفلان ثم قال الذي أوصيت به لفلان
أو العبد الذي أوصيت به لفلان فهو لفلان كان رجوعا عن الأولى وامضاء للثانية وإنما كان كذلك لان الأصل
في الوصية بشئ لانسان ثم الوصية به لآخر هو الاشراك لان فيه عملا بالوصيتين بقدر الامكان والأصل في تصرف
العاقل صيانته عن الابطال ما أمكن وفى الحمل على الرجوع ابطال احدى الوصيتين من كل وجه وفى الحمل على
379

الاشراك عمل بكل واحد منهما من وجه فيحمل عليه ما أمكن وعند الإعادة وكون الثاني محلا للوصية لا يمكن
الحمل على الاشراك لأنه لما أعاد علم أنه أراد نقل تلك الوصية من الأول إلى الثاني ولا ينتقل الا بالرجوع فكان ذلك
منه رجوعا هذا إذا قال الوصية التي أوصيت بها لفلان فهي لفلان وكذا إذا قال الوصية التي أوصيت بها لفلان
قد أوصيتها لفلان أو فقد أوصيتها لفلان فاما إذا قال وقد أوصيت بها لفلان فهذا يكون اشراكا لان الواو للشركة
وللاجتماع ولو قال كل وصية أوصيت بها لفلان فهي باطلة فهذا رجوع لأنه نص على ابطال الوصية الأولى وهو من
أهل الابطال والمحل قابل للبطلان فتبطل وهو معنى الرجوع ولو قال كل وصية أوصيت بها لفلان فهي حرام أو هي
ربا لا يكون رجوعا لان الحرمة لا تنافى الوصية فلم يكن دليل الرجوع ولو قال كل وصية أوصيت بها لفلان فهي لفلان
وارثي كان هذا رجوعا عن وصيته لفلان ووصيته للوارث فيقف على إجازة الورثة لأنه نقل الوصية الأولى بعينها
إلى من يصح النقل إليه لان الوصية للوارث صحيحة بدليل انها تقف على إجازة بقية الورثة والباطل لا يحتمل التوقف
وإذا انتقلت إليه لم يبق للأول ضرورة وهذا معنى الرجوع ثم إن أجازت بقية الورثة الوصية لهذا الوارث نفذت
وصار الموصى به للموصى له وان ردوا بطلت ولم يكن للموصى له الأول لصحة الرجوع لانتقال الوصية منه وصار
ميراثا لورثة الموصى كما لو رجع صريحا ولو قال الوصية التي أوصيت بها لفلان فهي لعمرو بن فلان وعمرو حي يوم قال
الموصى هذه المقالة كان رجوعا عن وصيته لان الوصية لعمرو وقعت صحيحة لأنه كان حيا وقت كلام الوصية فيصح
النقل إليه فصح الرجوع ولو كان عمرو ميتا يوم كلام الوصية لم تصح الوصية لان الميت ليس بمحل للوصية فلم يصح
ايجاب الوصية له فلم يثبت ما في ضمنه وهو الرجوع ولو كان عمرو حيا يوم الوصية حتى صحت ثم مات عمرو قبل
موت الموصى بطلت الوصية لان نفاذها عند موت الموصى وتعذر تنفيذها عند موته لكون الموصى له ميتا فكان المال
كله للورثة ولو قال الثلث الذي أوصيت به لفلان فهو لعقب عمرو فإذا عمرو حي ولكنه مات قبل موت الموصى
فالثلث لعقبه وكان رجوعا عن وصية فلان لان قوله لعقب عمرو وقع صحيحا إذا كان لعمرو عقب يوم موت الموصى
لان عقب الرجل من يعقبه بعد موته وهو ولده فلما مات عمرو قبل موت الموصى فقد صار ولده عقبا له يوم نفاذ
الايجاب وهو يوم موت الموصى فصحت الوصية كما لو أوصى بثلث ماله لولد فلان ولا ولد له يومئذ ثم ولد له ولد
ثم مات الموصى ان الثلث يكون له كذا ههنا ثم إذا صح ايجاب الثلث له بطل حق الأول لما قلنا فان مات عقب عمرو
بعد موت عمرو قبل موت الموصى رجع الثلث إلى الورثة لان الايجاب لهم قد صح لكونهم عقبا لعمرو فثبت
الرجوع عن الأول ثم بطل استحقاقهم بموتهم قبل موت الموصى فلا يبطل الرجوع ولو مات الموصى في حياة
عمرو فالثلث للموصى له لان الموصى قد مات ولم يثبت للموصى لهم اسم العقب بعد فبطل الايجاب لهم أصلا فبطل
ما كان ثبت في ضمنه وهو الرجوع عن الوصية الأولى ولو أوصى ثم جحد الوصية ذكر في الأصل أنه يكون رجوعا
ولم يذكر خلافا قال المعلى عن أبي يوسف في نوادره قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في رجل أوصى بوصية ثم
عرضت عليه من الغد فقال لا أعرف هذه الوصية قال هذا رجوع منه وكذلك لو قال لم أوص بهذه الوصية قال
وسألت محمدا عن ذلك فقال لا يكون الجحد رجوعا وذكر في الجامع إذا أوصى بثلث ماله لرجل ثم قال بعد ذلك
اشهدوا أنى لم أوص لفلان بقليل ولا كثير لم يكن هذا رجوعا منه عن وصية فلان ولم يذكر خلافا فيجوز أن يكون
ما ذكر في الأصل قول أبى يوسف وما ذكر في الجامعة قول محمد ويجوز أن يكون في المسألة روايتان (وجه) ما ذكر في
الجامع أن الرجوع عن الوصية يستدعى سابقية وجود الوصية والجحود انكار وجودها أصلا فلا يتحقق
فيه معنى الرجوع فلا يمكن أن يجعل رجوعا ولهذا لم يكن جحود النكاح طلاقا ولان انكار الوصية بعد وجودها
يكون كذبا محضا فكان باطلا لا يتعلق به حكم كالاقرار الكذب حتى لو أقر بجارية لانسان كاذبا والمقر له يعلم
ذلك لا يثبت الملك حتى لا يحل وطؤها وكذا سائر الأقارير الكاذبة انها باطلة في الحقيقة كذا الانكار الكاذب
380

(وجه) ما ذكر في الأصل ان معنى الرجوع عن الوصية هو فسخها وابطالها وفسخ العقد كلام يدل على عدم
الرضايا بالعقد السابق وبثبوت حكمه والجحود في معناه لان الجاحد لتصرف من التصرفات غير راض وبه بثبوت
حكمه فيتحقق فيه معنى الفسخ فحصل معنى الرجوع وروى عن ابن رستم عن محمد رحمه الله تعالى لو أن رجلا
أوصى بوصايا إلى رجل فقيل له انك ستبرأ فاخر الوصية فقال أخرتها فهذا ليس برجوع ولو قيل له اتركها
فقال قد تركتها فهذا رجوع لان الرجوع عن الوصية هو ابطال الوصية والتأخير لا ينبئ عن الابطال والترك
ينبئ عنه ألا يرى أنه لو قال أخرت الدين كان تأجيلا له لا ابطالا ولو قال تركته كان ابراء روى بشر عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله لرجل مسمى وأخبر الموصى أن ثلث ماله ألف أو قال هو هذا
فإذا ثلث ماله أكثر من ألف فان أبا حنيفة رحمه الله قال إن له الثلث من جميع ماله والتسمية التي سمى باطلة لا ينقض
الوصية خطؤه في ماله إنما غلط في الحساب ولا يكون رجوعا في الوصية (وهذا) قول أبى يوسف رحمه الله تعالى
لأنه لما أوصى بثلث ماله فقد أتى بوصية صحيحة لان صحة الوصية لا تقف على بيان مقدار الموصى به فوقعت الوصية
صحيحة بدونه ثم بين المقدار وغلط فيه والغلط في قدر الموصى به لا يقدح في أصل الوصية فبقيت الوصية متعلقة بثلث
جميع المال ولأنه يحتمل أن يكون هذا رجوعا عن الزيادة على القدر المذكور ويحتمل أن يكون غلطا فوقع الشك في
بطلان الوصية فلا تبطل مع الشك على الأصل المعهود ان الثابت بيقين لا يزول بالشك ولو قال أوصيت بغنمي كلها
وهي مائة شاة فإذا هي أكثر من مائة وهي تخرج من الثلث فالوصية جائزة من جميعها لما ذكرنا انه أوصى بجميع غنمه ثم
غلط في العدد قال ولو قال أوصيت له بغنمي وهي هذه وله غنم غيرها تخرج من الثلث فان هذا في القياس مثل ذلك ولكني
أدع القياس في هذا وأجعل له الغنم التي تسمى من الثلث لأنه جمع بين التسمية والإشارة وكل واحد منهما للتعيين غير أن
هذه الإشارة أقوى لأنها تحصر العين وتقطع الشركة فتعلقت الوصية بالمشار إليه فلا يستحق الموصى له غيره بخلاف
ما إذا قال أوصيت له بثلث مالي وهو هذا وله مال آخر غيره انه يستحق ثلث جميع المال لان الإشارة هناك لم تصح لأنه قال
ثلث مالي والثلث اسم للشائع والمعين غير الشائع فلغت الإشارة فتعلقت الوصية بالمسمى وهو ثلث المال وههنا
صحت وصية الإشارة وهي أقوى من التسمية فتعلقت الوصية بالمشار إليه ولو قال قد أوصيت لفلان برقيقي وهم ثلاثة فإذا
هم خمسة جعلت الخمسة كلهم في الثلث لأنه أوصى برقيقه كلهم لكنه غلط في عددهم والغلط في العدد لا يمنع استحقاق
الكل بالوصية العامة ولو أوصى بثلث ماله لبنى عمرو بن حماد وهم سبعة فإذا بنوه خمسة كان الثلث كله لهم لأنه جعل الثلث
لبنى عمرو بن حماد ثم وصف بنيه وهم خمسة بأنهم سبعة غلطا فيلغو الغلط ويلحق بالعدم كأنه لم يتكلم به لأنه لما قال وهم
سبعة ولم يكونوا الا خمسة فقد أوصى لخمسة موجودين ولمعدومين ومتى جمع بين موجود ومعدوم وأوصى لهما يلغو ذكر
المعدوم وتكون الوصية للموجود كما لو قال أوصيت بثلث مالي لعمرو خالدا بنى فلان فإذا أحدهما ميت ان الثلث
كله للحي منهما كذا هذا وكذلك لو قال لبنى فلان وهم خمسة فإذا هم ثلاثة أو قال وهم سبعة فإذا هم ثلاثة أو اثنان لما قلنا
ولو قال أوصيت بثلث مالي لبنى فلان وله ثلاث بنين أو ابنان كان جميع الثلث لهم لان الثلاث يقال لهم بنون والاثنان
في هذا الباب ملحق بالجميع لان الوصية أخت الميراث وهناك الحق الاثنتان بالثلاث في حق استحقاق الثلثين كذا
هذا ولو كان لفلان ابن واحد استحق نصف الثلث لأنه جعل الثلث للبنين والواحد لا ينطلق عليه اسم البنين لغة ولا
له حكم الجماعة في باب الوصية والميراث فلا يستحق الكل وإنما صرف إليه نصف الثلث لان أقل من يستحق كمال
الثلث في هذا الباب اثنان ولو كان معه آخر لصرف إليهما كمال الثلث فإذا كان وحده يصرف إليه نصف الثلث ولو
قال قد أوصيت بثلث مالي لابني فلان عمرو وحماد فإذا ليس له الا عمرو كان جميع الثلث له لأنه جعل عمرا وحمادا بدلين
عن قوله ابني فلان كما يقال جاءني أخوك عمرو والبدل عند أهل النحو هو الاعراض عن قوله الأول والاخذ بالثاني
فكان المعتبر هو الثاني والأول يلغو كما إذا قلت جاءني أخوك زيد يصير كأنك قلت جاءني زيد واعتمدت عليه وأعرضت
381

عن قولك أخوك إلى هذا ذهب الأئمة من النحويين وهذا قول سيبويه وإذا كان كذلك صار الموصى معتمدا على قوله
عمرو وحماد معرضا عن قوله ابني فلان فصار كأنه قال أوصيت بثلث مالي لعمرو وحماد وحماد ليس بموجود ولو كان
كذلك لصرف كل الثلث إلى عمرو وكذا ههنا والاشكال على هذا ان قوله عمرو وحماد كما يصلح أن يكون بدلا
عن قوله ابني فلان يصلح أن يكون عطف بيان والمعتبر في عطف البيان المذكور أولا والثاني يذكر لإزالة الجهالة عن
الأول كما في قول القائل جاءني أخوك زيد إذا كان في اخوته كثرة كان زيد مذكورا بطريق عطف البيان لإزالة
الجهالة المتمكنة في قوله أخوك لكثرة الاخوة بمنزلة النعت وإذا كان المعتبر هو المذكور أولا وهو قوله ابني فلان فإذا لم
يكن لفلان الا ابن واحد وهو عمرو فينبغي أن لا يكون له الا نصف الثلث والجواب نعم هذا الكلام يصلح لهما جميعا
لكن الحمل على ما قلنا أولى لان فيه تصحيح جميع تصرفه وهو تمليكه جميع الثلث وانه أوصى بتمليك جميع الثلث وفى
الحمل على عطف البيان اثبات تمليك النصف فكان ما قلناه أولى على أن من شرط عطف البيان أن يكون الثاني معلوما
كما في قول القائل جاءني أخوك زيد كان زيد معلوما فزال به وصف الجهالة المعترضة في قوله أخوك بسبب كثرة الاخوة
وفى مسئلتنا الثاني غير معلوم لان اسم حماد ليس له مسمى موجود له ليكون معلوما فيحصل به إزالة الجهالة فتعذر حمله
على عطف البيان فيجعل بدلا للضرورة (ولو) قال أوصيت لبنى فلان وهم خمسة ولفلان ابن فلان بثلث مالي
فإذا بنو فلان ثلاثة فان لبنى فلان ثلاثة أرباع الثلث ولفلان ابن فلان ربع الثلث لما ذكرنا ان قوله وهم خمسة لغو
إذا كانوا ثلاثة فبقي قوله أوصيت بثلث مالي لبنى فلان ولفلان ابن فلان فيكون الثلث بينهم أرباعا لحصول الوصية
لأربعة فيكون بينهم أرباعا لاستواء كل سهم فيها (ولو) قال قد أوصيت لبنى فلان وهم ثلاثة بثلث مالي فإذا بنو
فلان خمسة فالثلث لثلاثة منهم لان قوله لبنى فلان اسم عام وقوله وهم ثلاثة تخصيص أي أوصيت لثلاثة من بنى
فلان فصح الايصاء لثلاثة منهم غير معينين وهذه الجهالة لا تمنع صحة الوصية لأنها محصورة مستدركة ومثل هذه
الجهالة لا تمنع صحة الوصية لان تنفيذها ممكن كما لو أوصى لأولاد فلان وكما لو أوصى بثلث ماله وهو مجهول لا يدرى كم
يكون عند موت الموصى بخلاف ما إذا أوصى لواحد من عرض الناس حيث لم يصح لان تلك الجهالة غير مستدركة
وكذا لو أوصى لقبيلة لا يحصون لأنه لا يمكن حصرها والخيار في تعيين الثلاثة من بنيه إلى ورثة الموصى لأنهم قائمون
مقامه والبيان كان إليه لأنه هو المبهم فلما مات عجز عن البيان بنفسه فقام من يخلفه مقامه بخلاف ما إذا أوصى لمواليه حيث
لم تصح ولم تقم الورثة مقامه لان هناك تخلف المقصود من الوصية ولا يقف على مقصود الموصى انه أراد به زيادة في
الانعام أو الشكر أو مجازاة أحد من الورثة فلا يمكنهم التعيين وههنا الامر بخلافه واستشهد محمد رحمه الله لصحة هذه
الوصية فقال ألا يرى أن رجلا لو قال أوصيت بثلث مالي لبنى فلان وهم ثلاثة فلان وفلان وفلان فإذا بنو فلان غير
الذين سماهم ان الوصية جائزة لمن سمى لأنه خص البعض فكذا ههنا أوضح محمد رحمه الله تعالى جواز تخصيص ثلاثة
مجهولين بعلمه لجواز تخصيص ثلاثة معينين وانه ايضاح صحيح ولو قال قد أوصيت بثلث مالي لبنى فلان وهم ثلاثة
ولفلان ابن فلان فإذا بنو فلان خمسة فلفلان ابن فلان ربع الثلث لان قوله وهم ثلاثة صحيح لما ذكرنا انه تخصيص
العام فصار موصيا بثلث ماله لثلاثة من بنى فلان ولفلان بن فلان فكان فلان رابعهم فكان له ربع الثلث وثلاثة
أرباعه لثلاثة من بنى فلان ولو أوصى لرجل بمائة ولرجل آخر بمائة ثم قال لا آخر قد أشركتك معهما فله ثلث كل مائة
لان الشركة تقتضي التساوي وقد أضافهما إليهما فيقتضى ان يستوى كل واحد منهما ولا تتحقق المساواة الا بأن يأخذ
من كل واحد منهما ثلث ما في يده فيكون لكل واحد ثلثا المائة فتحصل المساواة وان أوصى لرجل بأربعمائة ولآخر
بمائتين ثم قال لآخر قد أشركتك معهما فله نصف ما أوصى لكل واحد منهما لان تحقيق المشاركة بينهم على سبيل
الجملة غير ممكن في هذه الصورة لاختلاف الانصباء فيتحقق التساوي على سبيل الانفراد تحقيقا لمقتضى الشركة بقدر
الامكان (وكذا) لو أوصى لاثنين لكل واحد جارية ثم أشرك فيهما ثالثا كان له نصف كل واحدة منهما لما ذكرنا
382

ان اثبات الاستواء على سبيل الاجتماع غير ممكن (ولو قال) سدس مالي لفلان ثم قال في ذلك المجلس أو في مجلس آخر
ثلث مالي لفلان فأجازت الورثة فله ثلث المال لان الموصى أثبت الثلث فثبت وهو يتضمن السدس فثبت المتضمن
به بثبوت المتضمن فيصير كأنه أعاد الأول زيادة ولو قال سدس مالي لفلان وصية سدس مالي لفلان فإنما هو سدس
واحد لان الأصل ان المعرفة إذا كررت كان المراد بالثاني هو الأول والسدس ههنا ذكر معرفة لاضافته إلى المال
المعروف بالإضافة إلى ضمير المتكلم والله تعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا أوصى بخاتم لفلان وبفصه لفلان آخر
وجملة الكلام فيه ان الامر لا يخلو اما إن كانت الوصيتان في كلام واحد متصل واما إن كانتا في كلام منفصل فإن
كانتا في كلام منفصل فالحلقة للموصى له بالخاتم والفص للموصى له بالفص بلا خلاف وإن كانتا في كلام منفصل
فكذلك في قول أبى يوسف وقيل إنه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا وقال محمد رحمه الله تعالى الحلقة للموصى
له بالخاتم والفص بينهما (وجه) قوله إن الوصية بالخاتم تتناول الحلقة والفص وبالوصية لآخر بالفص لم يتبين ان الفص
لم يدخل وإذا كان كذلك بقي الفص داخلا في الوصية بالخاتم وإذا أوصى بالفص لآخر فقد اجتمع في الفص وصيتان
فيشتركان فيه ويسلم الحلقة للأول ولأبي يوسف رحمه الله تعالى ان اسم الخاتم يتناول الفص الذي فيه اما بطريق
التضمن لأنه جزء من أجزاء الخاتم بمنزلة اسم الانسان انه يتناول جميع أجزائه بطريق التضمن واما بطريق التبعية
لكن عند الاطلاق فإذا أفرد البعض بالوصية لا آخر تبين انه لم يتناوله حيث جعله منصوصا عليه أو مقصودا بالوصية
فبطلت التبعية لان الثابت نصا فوق الثابت ضمنا وتبعا والأصل في الوصايا ان يقدم الأقوى فالأقوى وصار هذا كما
إذا أوصى بعبده لانسان وبخدمته لآخر ان الرقبة تكن للموصى له الأول والخدمة للموصى له الثاني لما قلنا كذا
هذا وبهذا تبين ان هذا ليس نظير اللفظ العام إذا ورد عليه التخصيص لان اللفظ العام يتناول كل فرد من أفراد
العموم بحروفه فيصير كل فرد من أفراده منصوصا عليه وههنا كل جزء من أجزاء الخاتم لا يصير منصوصا
عليه بذكر الخاتم ألا يرى أن كل جزء من أجزاء الخاتم لا يسمى خاتما كما لا يسمى كل جزء من أجزاء الانسان انسانا فلم
يكن هذا نظير اللفظ العام فلا يستقيم قياسه عليه مع ما ان المذهب الصحيح في العام انه يحتمل التخصيص بدليل
متصل ومنفصل والبيان المتأخر لا يكون نسخا لا محالة بل قد يكون نسخا وقد يكون تخصيصا على ما عرف في أصول
الفقه على أن الوصية بالخاتم وان تناولت الحلقة والفص لكنه لما أوصى بالفص لا آخر فقد رجع عن وصيته بالفص
للأول والوصية عقد غير لازم ما دام الموصى حيا فيحتمل الرجوع ألا يرى أنه يحتمل الرجوع عن كل ما أوصى به ففي
البعض أولى فيجعل رجوعا في الوصية بالفص للموصى له بالخاتم وعلى هذا إذا أوصى بهذه الأمة لفلان وبما في بطنها
لآخر أو أوصى بهذه الدار لفلان وببنائها لآخر أو أوصى بهذه القوصرة لفلان وبالثمر الذي فيها لا آخر انه إن كان
موصولا كان لكل واحد منهما ما أوصى له به بالاجماع وإن كان مفصولا فعلى الاختلاف الذي ذكرنا ولو أوصى بهذا
العبد لفلان وبخدمته لفلان آخر أو أوصى بهذه الدار لفلان وبسكناها لآخر أو بهذه الشجرة لفلان وثمرتها لا آخر
أو بهذه الشاة لفلان وبصوفها لا آخر فلكل واحد منهما ما سمى به بلا خلاف سواء كان موصولا أو مفصولا لان اسم
العبد لا يتناول الخدمة واسم الدار لا يتناول السكنى واسم الشجرة لا يتناول الثمرة لا بطريق العموم ولا بطريق
التضمن لأن هذه الأشياء ليست من أجزاء العين الا ان الحكم متى ثبت في العين ثبت فيها بطريق التبعية لكن إذا
لم يفرد التبع بالوصية فإذا أفردت صارت مقصودة بالوصية فلم تبق تابغة فيكون لكل واحد منهما ما أوصى له به أو
تجعل الوصية الثابتة رجوعا عن الوصية بالخدمة والسكنى والثمرة والوصية تقبل الرجوع وهذه المسائل حجة أبى
يوسف في المسألة الأولى ولو ابتدأ بالتبع في هذه المسائل ثم بالأصل بان أوصى بخدمة العبد لفلان ثم بالعبد لآخرا
أو أوصى بسكنى هذه الدار لانسان ثم بالدار لآخر أو بالثمرة لانسان ثم بالشجرة لآخر فإذا ذكر موصولا فلكل
واحد منهما ما أوصى له به وان ذكر مفصولا فالأصل للموصى له بالأصل والتبع بينهما نصفان لان الوصية الثابتة
383

تناولت الأصل والتبع جميعا فقد اجتمع في التبع وصيتان فيشتركان فيه ويسلم الأصل لصاحب الأصل وهذا حجة
محمد رحمه الله تعالى في المسألة المتقدمة ولو أوصى بعبده لانسان ثم أوصى بخدمته لآخر ثم أوصى له بالعبد بعدما أوصى
له بالخدمة أو أوصى بخاتمه لانسان ثم أوصى بفصه لآخر ثم أوصى له بالخاتم بعدما أوصى له بالفص أو أوصى بجاريته
لانسان ثم أوصى بولدها لآخر ثم أوصى له بالجارية بعدما أوصى له بولدها فالأصل والتبع بينهما نصفان نصف
العبد لهذا ونصفه للآخر ولهذا نصف خدمته وللآخر نصف خدمته وكذا في الجارية مع ولدها والخاتم مع الفص
لان الوصية لأحدهما بالأصل وصية بالتبع ويبطل حكم الوصية بالتبع بانفراده وصار كأنه أوصى لكل واحد
بالأصل والتبع نصا ولو كان كذلك لاشتركا في الأصل والتبع كذا هذا فإن كان أوصى للثاني بنصف العبد يقسم
العبد بينهما أثلاثا وكان للثاني نصف الخدمة لأنه لما أوصى له بنصف العبد بطلت وصيته في خدمة ذلك النصف
لدخولها تحت الوصية بنصف العبد وبقيت وصيته بالخدمة في النصف الآخر وذكر ابن سماعة ان أبا يوسف رجع
عن هذا وقال إذا أوصى بالعبد لرجل وأوصى بخدمته لآخر ثم أوصى برقبة العبد أيضا لصاحب الخدمة فان العبد
بينهما والخدمة كلها للموصى له بالخدمة لافراده بالوصية بالخدمة فوقع صحيحا فلا تبطل بالوصية بالرقبة فصار الموصى
له الثاني موصى له بالرقبة والخدمة على الانفراد فيستحق نصف الرقبة لمساواته صاحبه في الوصية بها وينفرد بالوصية
بالخدمة وقال لو أوصى لرجل بأمة تخرج من الثلث وأوصى لآخر بما في بطنها وأوصى بها أيضا للذي أوصى له بما في
البطن فالأمة بينهما نصفان والولد كله للذي أوصى له به خاصة لا يشركه فيه صاحبه لما ذكرنا انهما تساويا في استحقاق
الرقبة وانفرد صاحب الولد بالوصية به خاصة ولو أوصى بالدار لرجل وأوصى ببيت فيها بعينه لآخر فان البيت بينهما
بالحصص وكذا لو أوصى بألف درهم بعينها لرجل وأوصى بمائة منها لآخر كان تسعمائة لصاحب الألف والمائة
بينهما نصفان لان اسم الدار يتناول البيوت التي فيها بطريق الأصالة لا بطريق التبعية وكذا اسم الألف يتناول كل
مائة منها بطريق الأصالة وكان كل واحد منهما أصلا في كونه موصى به فيكون بينهما وهذا مما لا خلاف فيه وإنما
الخلاف في كيفية القسمة فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى على طريق المنازعة وعند أبي يوسف على طريق المضاربة
فيقسم على أحد عشر لصاحب المائة جزء من أحد عشر في المائة ولصاحب الألف عشرة أجزاء في جميع الألف وكذلك
الدار والبيت ولو أوصى ببيت بعينه لرجل وساحته لآخر كان البناء بينهما بالحصص لان البيت لا يسمى بيتا بدون
البناء فكانت وصية الأول متناولة للبناء بطريق الأصالة فيشارك الموصى له بالساحة بخلاف الوصية بدار لانسان
وببنائها لآخر انهما لا يشتركان في البناء بل تكون العرصة للموصى له بالدار والبناء لآخر لان اسم الدار لا يتناول البناء
بطريق الأصالة بل بطريق التبعية إذ الدار اسم للعرصة في اللغة والبناء فيها تبع بدليل انها تسمى دارا بعد زوال البناء
فكان دخول البناء في الوصية بالدار من طريق التبعية فكانت العرصة للأول والبناء للثاني والله تعالى اعلم (واما)
الرجوع الثابت من طريق الضرورة فنوعان أحدهما ان يتصل بالعين الموصى به زيادة لا يمكن تسليم العين بدونها كما
إذا أوصى بسويق ثم لته بالسمن لان الموصى به اتصل بما ليس بموصى به بحيث لا يمكن تسليمه بدونه لتعذر التمييز بينهما
فثبت الرجوع ضرورة وكذا إذا وصى بدار ثم بنى فيها أو أوصى بقطن ثم حشاه جبة فيه أو أوصى ببطانة ثم
بطن بها أو بظهارة ثم ظهر بها لأنه لا يمكن تسليم الموصى به الا بتسليم ما اتصل به ولا يمكن تسليمه الا بالنقض ولا سبيل
إلى التكليف بالنقض لأنه تصرف في ملك نفسه فجعل رجوعا من طريق الضرورة ويمكن اثبات الرجوع في هذه
المسائل من طريق الدلالة أيضا لان اتصال الموصى به بغيره حصل بصنع الموصى فكان تعدد التسليم مضافا إلى فعله
وكان رجوعا منه دلالة والثاني أن يتغير الموصى به بحيث يزول معناه واسمه سواء كان التغيير إلى الزيادة أو إلى النقصان
كما إذا أوصى لانسان بثمر هذا النخل ثم لم يمت الموصى حتى صار بسرا أو أوصى له بهذا البسر ثم صار رطبا أو
أوصى بهذا العنب فصار زبيبا أو بهذا السنبل فصار حنطة أو بهذا القصيل فصار شعيرا أو بالحنطة المبذورة في
384

الأرض فنبتت وصارت بقلا أو بالبيضة فصارت فرخا أو نحو ذلك ثم مات الموصى بطلت الوصية فيما أوصى به فيثبت
الرجوع ضرورة هذا إذا تغير الموصى به قبل موت الموصى لأنه صار شيئا آخر لزوال معناه واسمه فتعذر تنفيذ
الوصية فيما أوصى به وأما إذا تغير بعد موته فحكمه يذكر في بيان ما تبطل به إن شاء الله تعالى ولو أوصى برطب هذا
النخل فصار بسرا فالقياس أن تبطل الوصية لتغير الموصى به وهو الرطب من الرطوبة إلى اليبوسة وزوال اسمه في
الاستحسان لا تبطل لان معنى الذات لم يتغير من كل وجه بل بقي من وجه ألا يرى أن غاصبا لو غصب رطب انسان
فصار تمرا في يده لا ينقطع حق المالك بل يكون له الخيار ان شاء أخذه تمرا وان شاء ضمنه رطبا مثل رطبه
* (فصل) * وأما بيان حكم الوصية فالوصية في الأصل نوعان وصية بالمال ووصية بفعل متعلق بالمال لا يتحقق بدون
المال أما الوصية بالمال فحكمها ثبوت الملك في المال الموصى به للموصى له والمال قد يكون عينا وقد يكون منفعة ويتعلق
بالملك في كل واحد منهما أحكام اما ملك العين فحكم مطلق ملكه وحكم سائر الأعيان المملوكة بالأسباب الموضوعة
لها سواء كالبيع والهبة والصدقة ونحوها فيملك الموصى له التصرف فيها بالانتفاع بعينها والتمليك من غيره بيعا وهبة
ووصية لأنه ملك بسبب مطلق فيظهر في الأحكام كلها ويظهر في الزوائد المتصلة أو المنفصلة الحادثة بعد موت
الموصى سواء حدثت بعد قبول الموصى له أو قبل قبوله بان حدثت ثم قبل الوصية أما بعد القبول فظاهر لأنها حدثت
بعد ملك الأصل وملك الأصل موجب ملك الزيادة (وأما) قبل القبول فلان الملك بعد القبول ثبت من وقت الموت
لان الكلام السابق صار سببا لثبوت الملك في الأصل وقت الموت لكونه مضافا إلى وقت الموت فصار سببا عند الموت
فإذا قبل ثبت الملك فيه من ذلك الوقت لوجود السبب في ذلك الوقت كالجارية المبيعة بشرط الخيار للمشترى إذا
ولدت في مدة الخيار ثم أجاز المشترى البيع انه يملك الولد لما قلنا كذا هذا وكانت الزوائد موصى بها حتى يعتبر
خروجها من الثلث لان الملك فيها بواسطة ملك الأصل مضاف إلى كلام سابق كأنها كانت موجودة في ذلك الوقت
وهل يكون موصى بها بعد القبول قبل القسمة لم يذكر في الأصل واختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يكون حتى لا يعتبر
فيها الثلث ويكون في جميع المال كما لو حدثت بعد القسمة لأنها حدثت بعد ملك الأصل وقال عامتهم يكون لان ملك
الأصل وان ثبت لكنه لم يتأكد بدليل انه لو هلك ثلث التركة قبل القسمة وصارت الجارية بحيث لا تخرج من
ثلث المال كانت له الجارية بقدر ثلث الباقي ويستوى فيما ذكرنا من الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل أو في معنى
المتولدة كالولد والأرش والعقر وما لم يكن متولدا من الأصل رأسا كالكسب والغلة فرقا بين الوصية وبين البيع
حيث الحق الكسب والغلة بالمتولد في الوصية ولم يلحقهما في البيع والفرق ان الكسب والغلة بدل المنفعة والمنفعة
تملك بالوصية مقصودا كذا بدلها بخلاف البيع ثم إذا صارت الزوائد موصى بها حتى يعتبر خروجها من الثلث فإن كانت
الجارية مع الزيادة يخرجان من الثلث يعطيان للموصى له وإن كان لا يخرجان جميعا من الثلث فعند أبي حنيفة رحمه الله
يعطى للموصى له الجارية أولا من الثلث فان فضل من الثلث شئ يعطى من الزيادة بقدر ما فضل وعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله يعطى الثلث منهما جميعا بقدر الحصص (وجه) قولهما ان الزيادة ان صارت موصى بها صارت
كالموجودة عند العقد فيعطى الثلث منهما جميعا أكثر ما في الباب ان فيه تغيير حكم العقد في الأصل بسبب الزيادة
لكن هذا جائز كما في الزيادة المتصلة ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى ان القول بانقسام الثلث على الأصل والزيادة اضرار
بالموصى له من غير ضرورة وهذا لا يجوز بيان ذلك ان حكم الوصية في الأصل قبل حدوث الزيادة كان سلامة كل
الجارية للموصى له وبعد الانقسام لا تسلم الجارية له بل تصير مشتركة والشركة في الأعيان عيب خصوصا في
الجواري فيتضرر به الموصى له ولا ضرورة إلى الحاق هذا الضرر لامكان تنفيذ الوصية في الأصل بدون الزيادة
بخلاف الزيادة المتصلة فان هناك ضرورة لتعذر تنفيذ الوصية في الأصل بدون الزيادة لعدم امكان التمييز فمست
الضرورة إلى التنفيذ فيهما من الثلث وأما الزوائد الحادثة قبل موت الموصى فلا يملكها الموصى له لأنها حدثت قبل
385

ملك الأصل وقبل انعقاد سبب الملك لان الكلام السابق إنما يصير سببا عند الموت فإذا مات الموصى ملكها الورثة
والله تعالى أعلم (وأما) ملك المنفعة بالوصية المضافة إليها مقصودا فيتعلق بها أحكام مختلفة فنذكرها فنقول وبالله
التوفيق ان الملك في المنفعة ثبت موقتا لا مطلقا فإن كانت الوصية مؤقتة إلى مدة تنتهى بانتهاء المدة ويعود ملك المنفعة إلى
الموصى له بالرقبة إن كان قد أوصى بالرقبة إلى إنسان وان لم يكن يعود إلى ورثة الموصى وإن كانت مطلقة تثبت إلى
وقت موت الموصى له بالمنفعة ثم ينتقل إلى الموصى له بالرقبة إن كان هناك موصى له بالرقبة وان لم يكن ينتقل إلى ورثة
الموصى وليس للموصى له بالخدمة والسكنى أن يؤاجر العبد أو الدار من غيره عندنا وعند الشافعي له ذلك (وجه) قوله إن
الموصى له بالمنفعة قد ملك المنفعة كالمستأجر له أن يؤاجر من غيره كذا هذا ولهذا يملك الإعارة كذا الإجارة (ولنا) ان
الثابت للموصى له بالسكنى والخدمة ملك المنفعة بغير عوض فلا يحتمل التمليك بعوض كالملك الثابت للمستعير بالإعارة
حتى لا يملك الإجارة كذا هذا أو يخدم العبد بنفسه ولو أوصى بغلة الدار والعبد فأراد أن يسكن بنفسه أو يستخدم
العبد بنفسه هل له ذلك لم يذكر في الأصل واختلف المشايخ فيه قال أبو بكر الإسكاف له ذلك وقال أبو بكر
الأعمش ليس له ذلك وهو الصحيح لأنه أوصى له بالغلة لا بالسكنى والخدمة وليس له أن يخرج العبد من الكوفة الا
أن يكون أهل الموصى له في غير الكوفة فله أن يخرجه إلى أهله ليخدمه هناك إذا كان يخرج من الثلث لان الوصية
بالخدمة تقع على الخدمة المعهودة المتعارفة وهي الخدمة عند أهله فكان ذلك مأذونا فيه دلالة لان لصاحب الرقبة حق
الحفظ والصيانة وإنما يمكنه إذا كانت الخدمة بحضرته هذا إذا كان العبد يخرج من الثلث فإن كان لا يخرج من الثلث
فليس له أن يخرجه إلى مصر آخر لأنه إذا لم يكن له مال آخر سواه يخدم الموصى له يوما والورثة يومين فيكون كالعبد
المشترك فلا يملك اخراجه لما في الاخراج من ابطال حق الورثة وما وهب للعبد أو تصدق به عليه أو اكتسبه فهو
لصاحب الرقبة لان ذلك مال العبد والعبد في الحقيقة لصاحب الرقبة فكان كسبه له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من باع عبدا وله مال فماله لبائعه الا أن يشترطه المبتاع ولو كان مكان العبد أمة فولدت ولدا فهو لصاحب الرقبة لأنه
متولد من الرقبة والرقبة له ولأنه أوصى له بخدمة شخص واحد فلا يستحق خدمة شخصين ونفقة العبد وكسوته على
صاحب الخدمة إن كان العبد كبيرا لان منفعته له فكانت النفقة والكسوة عليه إذ الخراج بالضمان ولهذا كانت نفقة
العبد المستعار على المستعير كذا هذا بخلاف العبد الرهن ان نفقته على الراهن لا على المرتهن لان منفعته للراهن ألا يرى أنه
لو هلك يسقط عنه من الدين بقدره وكذا له ان يفتكه في أي وقت شاء فينتفع به وإن كان العبد صغيرا يخرج من
الثلث فنفقته على صاحب الرقبة إلى أن يدرك الخدمة ويصير من أهلها لأنه لا منفعة لصاحب الخدمة للحال ومنفعة النماء
والزيادة لصاحب الرقبة فكانت النفقة عليه حتى يبلغ الخدمة فإذا بلغ فنفقته على صاحب الخدمة لان المنفعة تحصل
له وعلى هذا إذا أوصى بغلة نخل أبر لرجل ولآخر برقبته ولم تدرك أو لم تحمل فالنفقة في سقيها والقيام عليها على
صاحب الرقبة فإذا أثمرت فالنفقة على صاحب الغلة لأنها إذا لم تدرك أو لم تحمل فصاحب الغلة لا ينتفع بها فلا يكون
عليه نفقتها وكانت على صاحب الرقبة لاصلاح ملكه إلى أن تثمر فإذا أثمرت فقد صارت منتفعا بها في حق صاحب الغلة
فكانت عليه نفقتها فان حملت عاما واحدا ثم حالت ولم تحمل شيئا فالقياس أن لا يكون عليه نفقتها في العام الذي حالت
فيه لأنه لا ينتفع بها فيه وفى الاستحسان عليه نفقتها لان بانعدام حملها عاما لا تعد منقطعة المنفعة لان من الأشجار مالا
يحمل كل عام ولا يعد ذلك انقطاع النفع بل يعد نفعا ونماء وكذا الأشجار لا تخرج الا في بعض فصول السنة ولا يعد
ذلك انقطاع النفع بل يعد نفعا ونماء حتى كانت نفقتها على الموصى له بالغلة فكذا هذا فإن لم ينفق الموصى له بالغلة وانفق
صاحب الرقبة عليها حتى حملت فإنه يستوفى نفقته من ذلك الحمل وما يبقى من الحمل فهو لصاحب الغلة لأنه فعل ذلك
مضطرا لاصلاح ملك نفسه ودفع الفساد عن ماله فلم يكن متبرعا فله أن يرجع فيما حملت لأنه إنما حصل هذه الفائدة بسبب
نفقته ولو هلكت الغلة قبل أن تصل إلى صاحب الغلة ليس له أن يرجع عليه بما أنفق لان هذا ليس بدين واجب
386

عليه وإنما هو شئ يفتى به ولا يقضى ولو جنى العبد جناية فالفداء على صاحب الخدمة لان منفعة الرقبة له فكان الفداء
عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان وصار كعبد الرهن إذا جنى جناية ان الفداء على المرتهن لأنه هو المنتفع
به بحبسه في دينه أو يقال إن الفداء على صاحب الرقبة لان الجناية حصلت من الرقبة حقيقة والرقبة له ولكن يقال
لصاحب الخدمة ان حقك يفوت لو فدى صاحب الرقبة أو دفع وان أردت أن تحيى حقك فافد وهكذا يقال
للمرتهن في العبد الرهن إذا جنى لان الرقبة للراهن فإذا فدى صاحب الخدمة فقد طهره عن الجناية فتكون الخدمة على
حالها وان أبى ان يفدى يقال لصاحب الرقبة ادفعه أو افده لان الرقبة له وأي شئ اختاره بطل حق صاحب الخدمة
في الخدمة أما إذا دفع فلا شك فيه لأنه بطل ملك الموصى له بالخدمة بالدفع فلا يستحق الخدمة على ملك غيره وكذلك
إذا أفدى لأنه يصير كالمشترى منهم الرقبة فيتجدد الملك ويبطل حكم الملك الأول فيه فان مات صاحب الخدمة وقد
فدى قبل ذلك بطلت وصيته لما قلنا إن ملك المنفعة بالوصية بمنزلة ملك المستعير والعارية تبطل بموت المستعير لان المعير
ملك المنفعة منه لا من غيره كذا ههنا ويقال لصاحب الرقبة أد إلى ورثته الفداء الذي فدى لأنه تبين ان الفداء كان
عليه لا على صاحب الخدمة لأنه إنما التزم ذلك على ظن أن كل منفعة الرقبة مصروف إليه ومتى ظهر انه مصروف إلى
غيره ظهر انه على غيره فتبين انه تحمل عن غيره وهو صاحب الرقبة احياء لملكه وهو مضطر فيه فرجع عليه (وليس)
لصاحب الرقبة ان ينتفع به ما لم يدفع إليهم ما دفع صاحب الخدمة من الفداء فان أبى صاحب الرقبة دفع ذلك الفداء إلى
ورثة صاحب الخدمة بيع العبد فيه وكان بمنزلة الدين في عتقه لان هذا الدين وجب بسبب كان في رقبته فصار كسائر
الديون ولو لم يجن العبد ولكن قتله رجل خطأ فعلى عاقلة القاتل قيمته يشترى بها عبدا يخدم صاحب الخدمة لان
البدل يقوم مقام المبدل كالعبد الرهن إذا قتل في يد المرتهن وغرم القاتل قيمته يكون رهنا مكانه بخلاف العبد المستأجر
إذا قتل وغرم القاتل القيمة انه لا يشترى بها عبدا آخر حتى يستعمله المستأجر لان القاتل يغرم القيمة دراهم أو دنانير
والدراهم والدنانير لا يجوز استئناف عقد الإجارة عليها فلا يبقى عليها العقد فتبطل ويجوز استئناف عقد الوصية
على الدراهم والدنانير فجاز ان تبقى عليها فيشترى بها عبد آخر يقوم مقام الأول (وان) كان القتل عمدا فلا قصاص
على القاتل الا ان يجتمع على ذلك صاحب الرقبة وصاحب الخدمة لان لصاحب الرقبة ملكا ولصاحب الخدمة حق
يشبه الملك فصار كعبد بين شريكين قتل عمدا انه لا ينفرد أحدهما باستيفاء القصاص كذا هذا وان اختلفا في ذلك
بأن طلب أحدهما القصاص ولم يطلب الآخر سقط القصاص للشبهة وصار مالا فصار بمعنى الخطأ فيشترى به عبدا
للخدمة كما لو كان القتل خطأ (ولو) فقأ رجل عينيه أو قطع يديه دفع إليه العبد وأخذ قيمته صحيحا فاشترى بها
عبدا مكانه لان فق ء العينين وقطع اليدين استهلاكه الا انه مما يصلح خراجا بضمان فيضمن قيمته ويأخذه
خراجا بضمانه ثم يفعل بالقيمة ما وصفنا وهو ان يشترى بها عبدا للخدمة (ولو) فقئت عينه أو قطعت يده أو شج
موضحة فادى القاتل أرش ذلك فهذا على وجهين اما إن كانت الجناية تنقص الخدمة واما إن كانت لا تنقص فإن كانت
تنقص فان اتفق الموصى له بالرقبة والموصى له بالخدمة على أن يشتريا بالأرش عبدا بأن كان الأرش يبلغ قيمة
عبد حتى يخدم الموصى له بالخدمة مع العبد الأول فعلا ذلك وجاز (وان) اتفقا على أن يباع هذا العبد ويضم ثمنه إلى
ذلك الأرش فاشتريا بهما عبدا آخر جاز أيضا لان الجناية إذا كانت تنقص الخدمة كان لكل واحد منهما حق في
ذلك الأرش فكان لهما ان يتفقا على أحد هذين الشيئين (وان) اختلفا ولم يتفقا فلا يباع الموصى به لان لكل
واحد منهما حق فلا يباع الا برضاهما ويشترى بالأرش عبد لخدمتهما حتى يقوم مقام الجزء الفائت فإن لم يؤخذ
بالأرش عبد يوقف ذلك حتى يصطلحا عليه فان اصطلحا على أن يقتسماه نصفين جاز لان الحق لهما وإذا اقتسماه جاز
ذلك (وان لم) يصطلحا لا يقضى القاضي بشئ ولكن يوقف ذلك المال وإن كانت الجناية لا تنقص الخدمة فوصيته
على حالها والأرش لصاحب الرقبة لان الأرش بدل جزء من أجزاء الرقبة فيكون لمالك الرقبة (ولو) كان لرجل
387

ثلاثة أعبد فأوصى برقبة أحدهم لرجل وأوصى بخدمة آخر لرجل آخر ولا مال له غيرهم وقيمة الذي أوصى بخدمته
خمسمائة وقيمة الذي أوصى برقبته ثلاثمائة وقيمة الباقي ألف درهم فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم والأصل ان الوصية
بالخدمة تعتبر من الثلث كالوصية بالرقبة لان الوصية بالخدمة وصية بحبس الرقبة عن الوارث فيعتبر من
الثلث وإذا عرف هذا فجميع مال الميت ألف وثمانمائة درهم ثلثها ستمائة وجميع سهام الوصايا ثمانمائة فإذا زادت
سهام الوصايا على ثلث المال مائتين وذلك بالنسبة إلى سهام الوصايا ربعها فينقص من وصية كل واحد منها
مثل ربعها وينفذ في ثلاثة أرباعها فيكون ثلاثة أرباع وصيتهما وثلث المال سواء فأما قيمة العبد الموصى له برقبته
فثلثمائة فينقص منه ربعها وذلك خمسة وسبعون وينفذ الوصية في ثلاثة أرباعها وذلك مائتان وخمسة وعشرون
وقيمة العبد الموصى له بخدمته خمسمائة فينقص منه ربعها وذلك مائة وخمسة وعشرون وتنفذ الوصية في ثلاثة أرباعها
وذلك ثلاثمائة وخمسة وسبعون فيضم إلى وصية صاحب الرقبة وذلك مائتان وخمس وعشرون فيصير ستمائة وذلك
ثلث المال وخمسة وسبعون من العبد الموصى برقبته ومائة وخمسة وعشرون من العبد الموصى بخدمته يضم إلى العبد
الباقي وقيمته ألف درهم فصار ألفا ومائتين وذلك ثلثا المال فاستقام على الثلث والثلثين (وإذا) نفذت الوصية في
ثلاثة أرباع العبد الموصى بخدمته يخدم الموصى له ثلاثة أيام والورثة يوما واحدا فان مات صاحب الخدمة استكمل
صاحب الرقبة عبده كله لان وصية صاحب الخدمة قد بطلت بموته وبقيت وصية صاحب الرقبة وهي تخرج من
الثلث فتكون له (وكذلك) ان مات العبد الذي كان يخدمه كان العبد الآخر كله لصاحب الرقبة لان التوزيع
والتقسيم إنما كان بينهما لثبوت حقهما فإذا ذهب أحدهما صار كأنه أوصى له وحده فيعتبر من الثلث وهو يخرج من
الثلث (ولو) كانت قيمة العبيد سواء كان لصاحب الخدمة نصف خدمة العبد ولصاحب الرقبة نصف رقبة
الآخر لان قيمة العبد خمسمائة وقيمة العبدين للذين أوصى بهما ألف درهم قيمة كل واحد خمسمائة فصار ثلث ماله
خمسمائة فيقسم الثلث بينهما فصح من وصية كل واحد منهما نصفان فيكون لصاحب الرقبة نصف الرقبة
وللموصى له بالخدمة نصف الخدمة يخدمه يوما والورثة يوما (وإنما) يضرب لصاحب الخدمة كما يضرب
صاحب الرقبة لما ذكرنا انه أوصى بحبس الرقبة عن الوارث فكأنه أوصى بالتمليك لانقطاع حق الورثة فهي
والوصية بالتمليك سواء (ولو) أوصى بالعبيد كلهم لصاحب الرقبة وبخدمة أحدهم لصاحب الخدمة لم يضرب
صاحب الرقاب الا بقيمة واحد منهم ويضرب الآخر بخدمة الآخر فيكون كالباب الذي قبله (وهذا) قول
أبي حنيفة رحمه الله لان الموصى له بالرقاب في الحكم كأنه أوصى له برقبتين لان العبد الذي أوصى بخدمته لغيره
هو ممنوع لأنه مشغول بحق غيره فما دام مشغولا جعل كأنه لم يوص له به (ومن) أصل أبي حنيفة ان الموصى له
بأكثر من الثلث لا يضرب الا بالثلث فالموصى له بالعبدين ههنا لا يضرب الا بالثلث وهو عبد واحد والموصى له
بالخدمة يضرب أيضا بعد واحد فيصير الثلث بينهما نصفين لكل واحد منهما نصف الرقبة فالذي أوصى له
بالعبدين له نصف العبد في العبدين جميعا لان حقه في العبدين فيكون له من كل عبد ربعه والموصى له بالخدمة له
نصف العبد الذي أوصى له بخدمته يخدم الموصى له يوما والورثة يوما كما في الفصل الأول (وأما) على قولهما
الموصى له بالرقاب يضرب بالعبدين والموصى له بخدمة العبد يضرب بعبد واحد فيصير الثلث بينهما أثلاثا سهمان
لصاحب الرقاب وسهم لصاحب الخدمة فلما صار الثلث على ثلاثة صار الثلثان على ستة والجميع تسعة كل عبد
ثلاثة أسهم فللموصى له بالرقاب سهمان في العبدين من كل رقبة سهم وللموصى له بالخدمة سهم في العبد الذي أوصى
له بخدمته يخدم العبد الموصى به للموصى له بالخدمة يوما وللورثة يومين فحصل للموصى لهما ثلاثة أسهم وللورثة ستة
أسهم (ولو) كانوا يخرجون من الثلث كان لصاحب الرقبة ما أوصى له به ولصاحب الخدمة ما أوصى له به لان كل
واحد منهما يصل إلى تمام حقه ولو لم يكن له مال غيرهم فأوصى بثلث كل عبد منهم لفلان وأوصى بخدمة أحدهم
388

لفلان فإنه يقسم الثلث بينهما على خمسة أسم لصاحب الخدمة ثلاثة أخماس الثلث في خدمة ذلك العبد يخدمه ثلاثة
أيام ويخدم الورثة يومين فيكون للآخر خمس الثلث في العبدين الباقيين في كل واحد منهما خمس رقبته (وجه)
ذلك ان الموصى له بالرقاب لا حق له في العبد الذي أوصى بخدمته ما دام الموصى له باقيا فصار كأنه أوصى بخدمة أحدهم
لرجل وبثلث العبدين الآخرين لرجل فاجعل كل ثلث سهما فيضرب صاحب الرقبة بثلث كل عبد وذلك
سهمان ويضرب صاحب الخدمة بالجميع وذلك ثلاثة أسهم فاجعل ثلث المال على خمسة فيقسم بينهما لصاحب
الرقبة سهمان في كل عبد من العبدين سهم ولصاحب الخدمة ثلاثة أسهم في العبد الموصى له بخدمته فيخدمه ثلاثة
أيام وللورثة يومين فجميع ما حصل للموصى لهما خمسة أسهم سهمان للموصى له بالرقبة وثلاثة أسهم للموصى
له بالخدمة وجميع ما حصل للورثة عشرة أسهم ثمانية أسهم في العبدين في كل عبد أربعة وسهمان من العبد الموصى
له بالخدمة فاستقام على الثلث والثلثين ولو كان أوصى بثلث ماله لصاحب الرقاب وبخدمة أحدهم بعينه لصاحب
الخدمة ولا مال غيرهم له قسم الثلث بينهما نصفين ووجه ذلك ان العبد الموصى بخدمته اجتمع فيه وصيتان وصية بجميعه
ووصية بثلثه لأنه أوصى له بثلث ماله وخدمة العبد مال ألا ترى ان من أوصى لا آخر بخدمة عبده اعتبر ذلك من الثلث
بخلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى انه إذا أوصى له بثلث الرقاب ان الموصى له بالرقاب لا حق له في العبد الذي أوصى
بخدمته ما دام الموصى له باقيا لأنه أوصى بالرقبة والخدمة ليست من الرقبة في شئ وههنا أوصى له بالمال والخدمة مال
فلذلك قلنا إنه إذا اجتمع في العبد الموصى بخدمته وصيتان وصية بجميعه ووصية بثلثه فالثلثان لصاحب الخدمة بلا
منازعة والثلث بينهما نصفان فيجعل العبد على ستة أسهم أربعة أسهم خلت عن دعوى صاحب الثلث وسلمت
لصاحب الخدمة بلا منازعة وسهمان استوت منازعتهما فيهما فينقسم بينهما لكل واحد منهما سهم فصار لصاحب
الخدمة خمسة أسهم ولصاحب الثلث سهم فإذا صار هذا العبد على ستة أسهم صار العبد الآخر ان على اثنى عشر
فثلثها أربعة ضمت إلى ستة فتصير عشرة فهذه جملة وصاياهم فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه عشرون وجميع المال
ثلاثون فيتبين ان كل عبد صار عشرة فالعبد الموصى له بخدمته عشرة يخدم الموصى له بخدمته خمسة أيام وللورثة أربعة أيام
ويخدم صاحب الثلث يوما ولصاحب الثلث من العبدين الآخرين أربعة أسهم فتصير الوصية عشرة ستة في العبد
الموصى بخدمته وأربعة أسهم في العبدين الباقيين وللورثة عشرون في كل عبد من الباقيين ثمانية أسهم وأربعة من
الموصى بخدمته فاستقام على الثلث والثلثين وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله (وأما) على قولهما فإنهما يسلكان
مسلك العول فالعبد الذي أوصى بخدمته اجتمع فيه وصيتان وصية بجميعه ووصية بثلثه ومخرج الثلث ثلاثة
فصاحب الجميع يضرب بالجميع ثلاثة وصاحب الثلث يضرب بالثلث سهم وصار هذا العبد على أربعة فلما صار هذا
العبد على أربعة صار العبد ان الآخران كل واحد منهما على ثلاثة بغير عول لأنه لا حاجة إلى العول في ذلك فالثلث
بينهما سهمان ضمه إلى أربعة فيصير ستة فاجعل هذا ثلث المال وثلثاه مثلاه اثنا عشر والجميع ثمانية عشر
فتبين ان العبد الموصى بخدمته صار على ستة يخدم لصاحب الخدمة ثلاثة أيام وللآخر يوما وللورثة يومين وللموصى
له بالثلث من العبدين الآخرين سهمان فصارت الوصية ستة أربعة أسهم في العبد الموصى له بخدمته وسهمان في
العبدين وللورثة اثنا عشر سهما سهمان في العبد الموصى له بخدمته وعشرة أسهم في العبدين فاستقام على الثلث
والثلثين ولو أوصى بخدمة عبده لرجل وبغلته لآخر وهو يخرج من الثلث فإنه يخدم صاحب الخدمة شهرا وعليه
طعامه ولصاحب الغلة شهرا وعليه طعامه وكسوته عليهما نصفان وإنما كان كذلك لأنه أوصى لكل واحد منهما بجميع
الرقبة لان الوصية بالخدمة وصية بحبس الرقبة لأنه لا يمكن الاستخدام الا بعد حبسها والوصية بالغلة أيضا وصية
بالرقبة لأنه لا يمكن استغلاله الا بعد حبس الرقبة فقد أوصى لكل واحد منهما بجميع الرقبة وحظهما سواء فيخدم هذا
شهرا ويستغله الآخر شهرا لان العبد مما لا يمكن قسمته بالاجزاء فيقسم بالأيام وطعامه في مدة الخدمة على صاحب
389

الخدمة لأنه هو الذي ينتفع به دون صاحب الغلة والنفقة على من يحصل له المنفعة وفى مدة الغلة على صاحب الغلة لان
منفعته في تلك المدة تحصل له (وأما) الكسوة فعليهما جميعا لان الكسوة لا تتقدر بهذه المدة لأنها تبقى أكثر من
هذه المدة ولا تتجدد الحاجة إليها بانقضاء هذا القدر من المدة كما تتجدد إلى الطعام في كل وقت وهما فيه سواء فكانت
الكسوة عليهما لهذا المعنى فان جنى هذا العبد جناية قيل لهما افدياه لان منفعته لهما فيخاطبان به كما يخاطب به المرتهن
في العبد المرهون فان فدياه كانا على حالهما وان أبيا الفداء ففداه الورثة بطلت وصيتهما لأنهما لما أبيا الفداء فقد رضيا
بهلاك الرقبة فبطل حقهما والله تعالى أعلم ولو أوصى لرجل من غلة عبده كل شهر بدرهم ولآخر بثلث ماله ولا
مال له غير العبد فان ثلث المال بينهما نصفان في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه أوصى للموصى له بالغلة بجميع الرقبة
إذ لا يمكن استيفاء ذلك من غلته في كل شهر الا بحبس الرقبة والمذهب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان الموصى له
بأكثر من الثلث لا يضرب الا بالثلث فالثلث يكون بينهما لكل واحد منهما السدس ويخرج الحساب من ستة
فالثلث وذلك سهمان يكون بينهما سهم لصاحب الثلث يعطى له من الرقبة وسهم لصاحب الغلة يستغل وحسبت
عليه غلته وينفق عليه منها كل شهر درهما لأنه هكذا أوصى وأربعة أسهم من الرقبة للورثة فإذا مات الموصى له
بالغلة وقد بقي من الغلة شئ رد ذلك إلى صاحب الرقبة وكذلك ما حبس له من ثمن الرقبة يرد على صاحب الرقبة لأنه
بطلت وصيته بموته فيرجع ذلك إلى صاحب الرقبة وعلى قولهما يقسم الثلث بينهما على أربعة صاحب الغلة يضرب
بالجميع ثلاثة وصاحب الثلث يضرب بالثلث سهم ولو أوصى لرجل بغلة داره ولا آخر بعبد ولا آخر بثبوت فهذه
المسألة على وجهين اما أن تخرج هذه الأشياء كلها من الثلث أو لا تخرج من الثلث فإن كانت تخرج من الثلث اخذ
كل واحد منهم ما أوصى له به لأنه أوصى بالجميع والوصية بغلة الدار وصية بحبس رقبتها على ما بينا وإن كانت
لا تخرج من الثلث لكن الورثة أجازوا فكذلك وان لم تجز الورثة ضرب كل واحد منهم بقدر حقه الا أن تكون
وصية أحدهم تزيد على الثلث فلا يضرب بالزيادة على قول أبي حنيفة رحمه الله وإذا مات صاحب الغلة بطلت
وصيته وقسم الثلث بين ما بقي منهم لما ذكرنا ولو أوصى بغلة داره لرجل وبسكناها لآخر وبرقبتها لا آخر وهي الثلث
فهدمها رجل بعد موت الموصى غرم قيمة ما هدمه من بنائها ثم تبنى مساكن كما كانت فتؤاجر ويأخذ غلتها صاحب
الغلة ويسكنها الآخر لان الوصية بالغلة والسكنى لا تبطل بهدم الدار لقيام القيمة مقام الدار كما قلنا في العبد الموصى
بخدمته لرجل وبرقبته لآخر إذا قتل أن الوصية لا تبطل ويشترى بقيمته عبدا آخر لخدمته وكذا البستان إذا أوصى
بغلته لرجل وبرقبته لآخر فقطع رجل نخله أو شجره يغرم قيمتها فيشترى بها أشجارا مثلها فتغرس فإذا أوصى لرجل
بثلث ماله ولآخر بغلة داره وقيمة الدار ألف درهم وله ألفا درهم سوى ذلك فلصاحب الغلة نصف غلة الدار ولصاحب
الثلث نصف الثلث فيما بقي من المال والدار خمس ذلك في الدار وأربعة أخماسه في المال (ووجه) ذلك أن يقول إن
الوصية بثلث المال وصية بثلث الغلة أيضا لان الغلة مال الميت يقضى منه ديونه وإذا كان كذلك فالدار تخرج من
ثلث ماله لان قيمة الدار ألف درهم وله ألفا درهم سوى ذلك فقد اجتمع في الدار وصيتان وصية بجميعها ووصية بثلثها
فيجعل الدار على ثلاثة ويقسم بينهما على طريق المنازعة وصاحب الثلث لا يدعى أكثر من الثلث وهو سهم واحد
والثلثان سهمان لصاحب الغلة وهو صاحب الجميع بلا منازعة لان الوصية بالغلة وصية بجميع الدار على ما ذكرنا انه
يحبس جميع الدار لأجله واستوت منازعتهما في سهم واحد وكان بينهما فانكسر على سهمين فاضرب سهمين في
ثلاثة فيصير ستة فصاحب الثلث لا يدعى أكثر من سهمين وأربعة أسهم خلت عن دعواه وسلمت لصاحب الجميع
وهو صاحب الغلة بلا منازعة واستوت منازعتهما في سهمين فيقسم بينهما لكل واحد منهما سهم وإذا صارت الدار
وهي الثلث على ستة والألفان اثنا عشر فلصاحب الثلث من ذلك الثلث أربعة أسهم فضمها إلى ستة تصير سهام
الوصايا عشرة وجملة ذلك ثلاثون فنقول ثلث المال عشرة فنقسمها بينهم لصاحب الغلة خمسة أسهم كلها في الدار
390

ولصاحب الثلث خمسة أسهم أربعة أسهم في الألفين وسهم في الدار فهذا معنى قوله في الأصل لصاحب الغلة نصف
غلة الدار وذلك خمسة لأنا جعلنا الدار على عشرة ولصاحب الثلث نصف الثلث خمسة أربعة أخماسه في المال وخمس
ذلك في الدار وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما تقسم الدار على طريق العول فصاحب الجميع يضرب
بالجميع وصاحب الثلث يضرب بالثلث ومخرج الثلث ثلاثة فصاحب الجميع يضرب بالجميع ثلاثة وصاحب الثلث
يضرب سهم فاجعل الدار على أربعة أسهم وإذا صارت الدار على أربعة أسهم مع العول صار كل الألف من الألفين
على ثلاثة من غير عول فالألفان تصير ستة أسهم فللموصى له بالثلث ثلث ذلك وذلك سهمان ضم ذلك إلى أربعة أسهم
فيصير ستة فاجعل هذا ثلث المال والثلثان اثنا عشر والجميع ثمانية عشر فللموصى له بثلث المال ثلث الألفين وذلك
أربعة أسهم من اثنى عشر وذلك ثلثا الثلث لأنا جعلنا الثلث على ستة أسهم وأربعة أسهم من سته ثلثاه وهذا معنى
قوله في الأصل وان شئت قلت ثلثا ذلك في ثلث المال وقال أيضا ثلاثة في الدار لأنك جعلت الدار على ثلاثة قبل العول
وللموصى له بالثلث سهم من الدار وذلك ثلث الدار فان مات صاحب الغلة فلصاحب الثلث ثلث الدار والمال لأنه لما
مات الموصى له بالغلة بطلت وصيته وصار كأنه لم يوص له بشئ وإنما أوصى لصاحب الثلث بثلث المال والدار فيكون له
ذلك وان استحقت الدار بطلت وصية صاحب الغلة وأخذ صاحب الثلث ثلث المال لأنه لا يملك استغلالها بعد
استحقاقها ولو لم يستحق ولكنها انهدمت قيل لصاحب الغلة ابن نصيبك فيها ويبنى صاحب الثلث نصيبه والورثة
نصيبهم لان ذلك مشترك بينهم فيبنى كل واحد نصيبه وأيهم أبى أن يبنى لم يجبر على ذلك لان الانسان لا يجبر على
اصلاح حقه ولم يمنع الآخر أن يبنى نصيبه من ذلك ويؤاجره ويسكنه لان الذي امتنع من البناء رضى ببطلان حقه
فلا يوجب ذلك بطلان حق صاحبه وليس هذا كالسفل إذا كان لرجل وعلوه لآخر فانهدما وأبى صاحب السفل
أن يبنى سفله أنه يقال لصاحب العلو ابن سفله من مالك ثم ابن عليه العلو فإذا أراد صاحب السفل أن ينتفع بالسفل
فامنعه حتى يدفع إليك قيمة السفل لان هناك لا يمكن بناء العلو الا بعد بناء السفل فكان لصاحب العلو أن يبنى سفله
حتى يمكنه بناء العلو عليه فأما ههنا فيمكن أن يقسم عرصة الدار فيبنى كل واحد منهم في نصيبه ولو أوصى لرجل بسكنى
داره أو بغلتها فادعاها رجل وأقام البينة أنها له فشهد الموصى له بالغلة أو السكنى أنه أقر بها للميت لم تجز شهادته لأنه يجر
بشهادته إلى نفسه مغنما لأنه لو قبلت شهادته لسلمت له الوصية ولا شهادة لجار المغنم على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكذا إذا شهد للميت بمال أو بقتل خطأ لا تقبل شهادته لأنه مهما كثر مال الميت كثرت وصيته وكان بشهادته
جار المغنم إلى نفسه فلا تقبل ولو أوصى لرجل بثلث غلة بستانه أبدا ولا مال له غيره فقاسم الورثة البستان فأغل أحد
النصيبين ولم يغل الآخر فإنهم يشتركون فيما خرج من الغلة لان قسمته وقعت باطلة لان الموصى له بالغلة لا يملك رقبة
البستان والقسمة فيما ليس له بملك له باطلة والثمرة غير موجودة وإنما حدثت بعد ذلك وقسمة المعدوم باطلة وللورثة بان
يبيعوا ثلثي البستان فيكون المشترى شريك صاحب الغلة أراد به أنه يبيع ثلثي البستان مشاعا لان الثلث مشغول بحق
صاحب الغلة والورثة ممنوعون عن ذلك الثلث ما دام الموصى له حيا فإذا كان هكذا فلا يجوز البيع الا في مقدار نصيبهم
وروى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال لا يجوز بيع نصيبهم لان ذلك ضرر بالموصى له لأنه تنقص الغلة وتعيب
ولو أوصى بغلة بستانه الذي فيه لرجل وأوصى له بغلته أيضا أبدا ثم مات الموصى ولا مال له غيره والغلة القائمة للحال
تساوى مائة درهم والبستان يساوى ثلاثمائة درهم فللموصى له ثلث الغلة التي فيه وثلث ما يخرج من الغلة فيما يستقبل أبدا
لأنه أوصى له هكذا فإنه أوصى له بالغلة القائمة للحال وبالغلة التي تحدث أبدا فيعتبر في كل واحد منهما ثلثه ولا يسلم إليه كل
الغلة القائمة في الحال وإن كان يخرج من ثلث المال لأنه أوصى له أيضا بثلث ما يخرج من بستانه فيما يستقبل وإذا
ضمت تلك الوصية إلى هذه الوصية زادت الوصية على الثلث ولو أوصى بعشرين درهما من غلته كل سنة
391

ولو أوصى بعشرين درهما من غلته كل سنة لرجل فأغل سنة قليلا وسنة كثيرا فله ثلث الغلة يحبس وينفق عليه كل
سنة من ذلك عشرون درهما لان الوصية بعشرين درهما من غلته وصية بجميع الغلة لجواز أن يطول عمره فيستوفى
ذلك كله فذلك جاز في ثلثه وتحبس غلته حتى ينفق عليه كل سنة عشرون درهما إلى أن يموت ولو أوصى أن ينفق
علية أربعة كل شهر من عرض ماله وعلى آخر خمسة كل شهر من غلة بستانه ولا مال له غير البستان فثلث غلة البستان
بينهما نصفين يباع سدس غلة البستان لكل واحد منهما فيوقف ثمنه على يد الموصى أو على يد ثقة ان لم يكن هناك
وصى وينفق على كل واحد منهما كما سمى وكذلك الوصية بانفاق درهم ولا عبرة بالأقل والأكثر لجواز أن يعيش
صاحب الأقل أكثر مما يعيش صاحب الأكثر فيباع سدس الغلة لكل واحد منهما ويوقف ثمنه وينفق على كل
واحد منهما ما سمى له لأنه أوصى لأحدهما أن ينفق عليه من عرض ماله والبستان ماله ولا يسلم المال إليهما بل يوضع
على يد الموصى فإن لم يكن له وصى فالقاضي يضعه على يد ثقة عدل لأنه أمر بالانفاق عليهما ولم يوص بدفع المال إليهما
فان ماتا وقد بقي شئ من المال رد على ورثة الموصى لان الوصية قد بطلت بموته فيعود إلى الورثة وكذلك لو قال ينفق
على فلان أربعة وعلى فلان وفلان خمسة حبس السدس على المنفرد والسدس الآخر على المجموعين في النفقة لأنه
أضاف الأربعة إلى شخص واحد وأضاف الخمسة إلى شخصين لأنه جمعهما في الوصية فصار كأنه أوصى بان ينفق
على فلان أربعة وعلى فلان خمسة لذلك يقسم الثلث بينهم سدس يوقف للمنفرد وسدس للمجموعين ولو
أوصى بغلة بستانه لرجل وبنصف غلته لا آخر وهو ثلث ماله قسم ثلث الغلة بينهما نصفين كل سنة لان
الوصية بالزيادة على الثلث لا تجوز فيصير كأنه أوصى لكل واحد منهما بالثلث فيكون الثلث بينهما لاستوائهما
ولو كان البستان يخرج من ثلث ماله فإنه يقسم غلة البستان بينهما على طريق المنازعة على قول أبي حنيفة رضي الله عنه
لان صاحب النصف لا يدعى الا النصف فالنصف خلا عن دعواه فسلم لصاحب الجميع بلا منازعة
والنصف الا آخر استوت منازعتهما فيه فيقسم بينهما نصفين فيحتاج إلى حساب له نصف ولنصفه نصف
وذلك أربعة فصاحب النصف لا يدعى أكثر من سهمين فسهمان خليا عن دعواه سلما لصاحب الجميع
بلا منازعة وسهمان آخران استوت منازعتهما فيهما فيقسم بينهما لكل واحد منهما سهم فصار لصاحب
الجميع ثلاثة أسهم ولصاحب النصف سهم وعلى قولهما يقسم على طريق العول فصاحب الجميع يضرب
بالجميع وصاحب النصف يضرب بالنصف والحساب الذي له نصف سهمان فصاحب الجميع يضرب بسهمين
وصاحب النصف يضرب بسهم واحد فيقسم بينهما أثلاثا سهمان لصاحب الجمع وسهم لصاحب النصف
ولو أوصى لرجل بغلة بستانه وقيمته ألف درهم ولا آخر بقيمة عبده وقيمته خمسمائة وله سوى ذلك ثلاثمائة
فالثلث بينهما على أحد عشر سهما في قول أبي حنيفة رضي الله عنه لصاحب العبد خمسة أسهم في العبد
ولصاحب البستان ستة أسهم في غلته لان جميع ماله ألف درهم وثمانمائة درهم والثلث من ذلك ستمائة ووصية
صاحب البستان ألف درهم وذلك أكثر من الثلث ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله ان الموصى له بأكثر
من الثلث لا يضرب الا بالثلث فاطرح ما زاد على ستمائة لان ذلك زيادة على الثلث فصاحب البستان يضرب
بستمائة وصاحب العبد يصرف بخمسمائة فاجعل ثلث المال وهو ستمائة على أحد عشر سهما لصاحب البستان ستة
أسهم ولصاحب العبد خمسة أسهم فما أصاب صاحب البستان كان في البستان في غلته وما أصاب صاحب العبد
كان في العبد وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعلى قولهما صاحب البستان يضرب بجميع البستان وهو الف
وصاحب العبد بخمسمائة فيقسم ثلث المال بينهما أثلاثا على طريق العول ولو أوصى لرجل بغلة ارضه وليس فيها نخل
ولا شجر ولا مال له غيرها فإنها تؤاجر فتكون تلك الغلة له ولو كان فيها شجر أعطى ثلث ما يخرج منها لان اسم الغلة يقع
على الثمرة وعلى الأجرة فإن كان فيها ثمر انصرفت الوصية إلى ما يخرج منها لان الغلة في الحقيقة اسم لما يخرج إذا كان
392

في الأرض أشجار وان لم يكن فيها شجر فالوصية بالغلة وصية بالدراهم والدنانير وذلك هي الأجرة فان قيل إذا لم يكن
في الأرض شجر فينبغي ان يزرعها فيستوفى في زرعها فالجواب انه لو زرع لحصل له ملك الخارج ببذره والموصى به
غلة أرضه لا غلة بذره ولو أوصى لرجل بغلة أرضه ولآخر برقبتها وهي تخرج من الثلث فباعها صاحب الرقبة وسلم
صاحب الغلة المبيع جاز وبطلت وصية صاحب الغلة ولا حق له في الثمن أما جواز الوصية بالغلة فلما ذكرنا فيما تقدم
وأما جواز بيع الرقبة من صاحبها إذا سلم صاحب الغلة المبيع فلان ملك الرقبة لصاحب الرقبة وانه يقتضى النفاذ الا
ان حق صاحب الغلة متعلق به فإذا أجاز فقد رضى بابطال حقه فزال المانع فنفذ وبطلت وصية صاحب الغلة لأنه إنما
أوصى له بالغلة في ملك الموصى له بالرقبة وقد زال ملكه عن الرقبة ولا حق له في الثمن لان الثمن بدل الرقبة ولا ملك له في
الرقبة ولو أوصى له بغلة بستانه فأغل البستان سنتين قبل موت الموصى ثم مات الموصى لم يكن للموصى له من تلك الغلة
شئ إنما له الغلة التي فيه يوم يموت لما ذكرنا ان الوصية ايجاب الملك عند الموت فتكون له الثمرة التي فيه يوم الموت وما
يحدث بعد الموت لا ما كان قبل الموت فان اشترى الموصى له البستان من الورثة بعد موته جاز الشراء وبطلت الوصية
لأنه ملك العين بالشراء فاستغنى بملكها عن الوصية كمن استعار شيئا ثم اشتراه انه تبطل الإعارة وكمن تزوج أمة انسان
ثم اشتراها يبطل النكاح لما قلنا كذا هذا وكذلك لو أعطوه شيئا على أن يبرأ من الغلة وكذلك سكنى الدار وخدمة
العبد إذا صالحوه منه على شئ جاز وتبطل الوصية لان له حقا وقد أسقط حقه بعوض فجاز كالخلع والطلاق على مال
والله سبحانه وتعالى أعلم (وأما) الوصية بأمر متعلق بالمال فالوصية بالعتق والوصية بالاعتاق والوصية بالانفاق
والوصية بالقرب من الفرائض والواجبات والنوافل (أما) الوصية بالعتق فحكمها ثبوت العتق بعد موت الموصى بلا
فصل كما إذا قال وهو مريض أو صحيح أنت حر بعد موتى أو قال دبرتك أو أنت مدبرا وان مت من مرضى هذا أو في
سفري هذا فأنت حر فمات من مرضه ذلك أو سفره ذلك يعتق من غير الحاجة إلى اعتاق أحد لان معنى ذلك أنت حر
بعد موتى أو بعد موتى من هذا المرض أو في هذا السفر ويعتبر في ذلك كله الثلث فإن كان العبد يخرج كله من ثلث ماله
يعتق كله وان لم يخرج كله يعتق منه بقدر ما يخرج من الثلث وان لم يكن له مال سواه يعتق ثلثه ويسعى في الثلثين للورثة
لان هذا كله وصية فلا تنفذ فيما زاد على الثلث الا بإجازة الورثة على ما بينا فيما تقدم (وأما) الوصية بالاعتاق فحكمها
وجوب الاعتاق بعد موت الموصى ولا يعتق من غير اعتاق من الوارث أو الوصي أو القاضي والأصل فيه ان كل عتق
تأخر عن موت الموصى ولو بساعة لا يثبت ولا يعتق من غير اعتاق كما إذا قال هو حر بعد موتى بساعة أو بأقل أو بأكثر
لان غرض الموصى هو عتق العبد بعد الموت والعتق لابد له من الاعتاق ولا يمكن جعل الموصى معتقا بعد الموت فكان
أمرا بالاعتاق دلالة فيعتق الوارث أو الوصي أو القاضي (وأما) الوصية باعتاق نسمة وهي ان يوصى بان يشترى رقبة
فتعتق عنه والنسمة اسم لرقبة تشترى للعتق فحكمها حكم وجوب الشراء والاعتاق يعتبر من الثلث ولو أوصى أن
يعتق عنه نسمة بمائة درهم فلم يبلغ ثلث ماله مائة درهم لم يعتق عنه عند أبي حنيفة وعندهما يعتق عنه بالثلث ولو أوصى بان
يحج بمائة وثلث ماله لا يبلغ مائة فإنه يحج عنه من حيث يبلغ بالاجماع (وجه) قولهما ان تنفيذ الوصية واجب ما أمكن
والتقدير بالمائة لا يقتضى التنفيذ لأنه لا يحتمل انه إنما قدر ظنا منه ان ثلث ماله يبلغ ذلك أو رجاء إجازة الورثة فإذا لم يبلغ
ذلك أو لم تجز الورثة يجب تنفيذها فيما دون ذلك كما في الوصية بالحج ولأبي حنيفة رضي الله عنه انه أوصى بعتق عبد
يشترى بمائة درهم فلو نفذنا الوصية في عبد يشترى بخمسين كان ذلك تنفيذ الوصية لغير من أوصى له وهذا لان الوصية
للعبد في الحقيقة فهو الموصى له وقد جعل الوصية بعبد موصوف بأنه يشترى بمائة والمشترى بدون المائة غير المشترى بمائة
فلا يمكن تنفيذ الوصية له بخلاف الوصية بالحج فإنها وصية بالوصول إلى البيت وانه يحصل بالحج عنه من حيث يبلغ
الثلث وعلى هذا إذا أوصى أن يعتق عنه نسمة بجميع ماله فلم تجز ذلك الورثة لم يشتر به شئ والوصية باطلة في قول أبي حنيفة
رحمه الله وعندهما يشترى بالثلث وهذا بناء على المسألة الأولى وقد ذكرنا وجه القولين والله الموفق (وأما)
الوصية بالانفاق على فلان وأوصى بالقرب فحكمها وجوب فعل ما دخل تحت الوصية لأنه هكذا أوصى ويعتبر
393

ذلك كله من الثلث والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فصل) * وأما بيان ما تبطل به الوصية فالوصية تبطل بالنص على الابطال وبدلالة الابطال وبالضرورة (أما)
النصف فنحو أن يقول أبطلت الوصية التي أوصيتها لفلان أو فسختها أو نقضتها فتبطل الا التدبير خاصة فإنه لا يبطل
بالتنصيص على الابطال مطلقا كان التدبير أو مقيدا الا ان المقيد منه يبطل منه بدلالة الابطال بالتمليك على ما ذكرنا
وكذا إذا قال رجعت لان الرجوع عن الوصية ابطال لها في الحقيقة (وأما) الدلالة والضرورة فعلى نحو ما ذكرنا
في الرجوع وقد ذكرنا ما يكون رجوعا عن الوصية ومالا يكون فيما تقدم وتبطل بجنون الموصى جنونا مطبقا لان
الوصية عقد جائز كالوكالة فيكون لبقائه حكم الانشاء كالوكالة فتعتبر أهلية العقد إلى وقت الموت كما تعتبر أهلية الامر
في باب الوكالة والجنون المطبق هو ان يمتد شهرا عند أبي يوسف وعند محمد سنة وقد ذكرنا في كتاب الوكالة
ولو أغمي عليه لا تبطل لان الاغماء لا يزيل العقل ولهذا لم تبطل الوكالة بالاغماء وتبطل بموت الموصى له قبل موت
الموصى لأن العقد وقع له لا لغيره فلا يمكن ابقاؤه على غيره وتبطل بهلاك الموصى به إذا كان عينا مشارا إليها لبطلان
محل الوصية أعنى محل حكمه ويستحيل ثبوت حكم التصرف أو بقاؤه بدون وجود محله أو بقائه كما لو أوصى بهذه
الجارية أو بهذه الشاة فهلكت الجارية والشاة وهل تبطل الوصية باستثناء كل الموصى به في كلام متصل اختلف فيه
قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله لا تبطل ويبطل الاستثناء وللموصى له جميع ما أوصى له به وقال محمد رحمه الله
يصح الاستثناء وتبطل الوصية ولا خلاف في أن استثناء الكل من الكل في باب الاقرار باطل ويلزم المقر جميعا ما أقر
به (وجه) قوله إن الاستثناء ههنا رجوع عما أوصى به والوصية محتملة للرجوع فيحمل على الرجوع وبهذا فارقت
الاقرار لان الاقرار بالمال مما لا يحتمل الرجوع فيبطل الاستثناء ويبقى المقر به على حاله ولهما ان هذا ليس باستثناء
ولا رجوع فيبطل الاستثناء رأسا وتبقى الوصية صحيحة وبيان ذلك ان الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا واستخراج
بعض الجملة الملفوظة ولا يوجد ذلك في استثناء الكل من الكل والرجوع فسخ الوصية وابطالها ولا يتصور
ذلك في الكلام المتصل ولهذا شرطنا لجواز النسخ في الأحكام الشرعية أن يكون النص الناسخ متراخيا
عن المنسوخ والله تعالى أعلم
* (كتاب القرض) *
الكلام فيه يقع في مواضع في بيان ركن القرض وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكم القرض (أما) ركنه فهو
الايجاب والقبول والايجاب قول المقرض أقرضتك هذا الشئ أو خذ هذا الشئ قرضا ونحو ذلك والقبول هو أن يقول
المستقرض استقرضت أو قبلت أو رضيت أو ما يجرى هذا المجرى وهذا قول محمد رحمه الله وهو احدى
الروايتين عن أبي يوسف وروى عن أبي يوسف أخرى ان الركن فيه الايجاب (وأما) القبول فليس بركن حتى
لو حلف لا يقرض فلانا فاقرضه ولم يقبل لم يحنث عند محمد وهو احدى الروايتين عن أبي يوسف وفى رواية أخرى
يحنث (وجه) هذه الرواية ان الاقراض إعارة لما نذكر والقبول ليس بركن في الإعارة (وجه) قول محمد ان الواجب
في ذمة المستقرض مثل المستقرض فلهذا اختص جوازه بماله مثل فأشبه البيع فكان القبول ركنا فيه كما في البيع
وروى عن أبي يوسف فيمن حلف لا يستقرض من فلان فاستقرض منه فلم يقرضه انه يحنث لان شرط الحنث
هو الاستقراض وهو طلب القرض كالاستيام في البيع وهو طلب البيع فإذا استقرض فقد طلب القرض فوجد
شرط الحنث فيحنث والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما الشرائط فأنواع بعضها يرجع إلى المقرض وبعضها يرجع إلى المقرض وبعضها يرجع إلى نفس
القرض (أما) الذي يرجع إلى المقرض فهو أهليته للتبرع فلا يملكه من لا يملك التبرع من الأب والوصي والصبي
والعبد المأذون والمكاتب لان القرض للمال تبرع ألا ترى انه لا يقابله عوض للحال فكان تبرعا للحال فلا يجوز
الا ممن يجوز منه التبرع وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع فلا يملكون القرض (وأما) الذي يرجع إلى المقرض فمنها
394

القبض لان القرض هو القطع في اللغة سمى هذا العقد قرضا لما فيه من قطع طائفة من ماله وذلك بالتسليم إلى المستقرض
فكان مأخذ الاسم دليلا على اعتبار هذا الشرط ومنها أن يكون مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات
المتقاربة فلا يجوز قرض مالا مثل له من المذروعات والمعدودات المتقاربة لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى
ايجاب رد القيمة لأنه يؤدى إلى المنازعة لاختلاف القيمة باختلاف تقويم المقومين فتعين أن يكون الواجب فيه رد
المثل فيختص جوازه بما له مثل ولا يجوز القرض في الخبز لا وزنا ولا عددا عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله
وقال محمد يجوز عددا وما قالاه هو القياس لتفاوت فاحش بين خبر وخبر لاختلاف العجن والنضج والخفة والثقل في
الوزن والصغر والكبر في العدد ولهذا لم يجز السلم فيه بالاجماع فالقرض أولى لان السلم أوسع جوازا من القرض
والقرض أضيق منه ألا ترى انه يجوز السلم في الثياب ولا يجوز القرض فيها فلما لم يجز السلم فيه فلان لا يجوز القرض
أولى الا ان محمد رحمه الله استحسن في جوازه عددا لعرف الناس وعادتهم في ذلك وترك القياس لتعامل الناس فيه هكذا
روى عن إبراهيم النخعي رحمه الله انه جوز ذلك فإنه روى أنه سئل عن أهل بيت يقرضون الرغيف فيأخذون
أصغر أو كبر فقال لا بأس به ويجوز القرض في الفلوس لأنها من العدديات المتقاربة كالجوز والبيض ولو استقرض
فلوسا فكسدت فعليه مثلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله عليه قيمتها (وجه)
قولهما أن الواجب في باب القرض رد مثل المقبوض وقد عجز عن ذلك لان المقبوض كان ثمنا وقد بطلت الثمنية
بالكساد فعجز عن رد المثل فيلزمه رد القيمة كما لو استقرض رطبا فانقطع عن أيدي الناس أنه يلزمه قيمته لما قلنا كذا
هذا ولأبي حنيفة ان رد المثل كان واجبا والفائت بالكساد ليس الا وصف الثمنية وهذا وصف لا تعلق لجواز القرض
به ألا ترى انه يجوز استقراضه بعد الكساد ابتداء وان خرج من كونه ثمنا فلان يجوز بقاء القرض فيه أولى لان
البقاء أسهل وكذلك الجواب في الدراهم التي يغلب عليها الغش لأنها في حكم الفلوس وروى عن أبي يوسف انه أنكر
استقراض الدراهم المكحلة والمزيفة وكره انفاقها وإن كانت تنفق بين الناس لما في ذلك من ضرورات العامة وإذا نهى
عنها وكسدت فهي بمنزلة الفلوس إذا كسدت ولو كان له على رجل دراهم جياد فأخذ منه مزيفة أو مكحلة أو زيوفا أو
نبهرجة أو ستوقة جاز في الحكم لأنه يجوز بدون حقه فكان كالحط عن حقه الا انه يكره له ان يرضى به وان ينفقه وان بين
وقت الانفاق لا يخلو عن ضرر العامة بالتلبيس والتدليس قال أبو يوسف كل شئ من ذلك لا يجوز بين الناس فإنه ينبغي
أن يقطع ويعاقب صاحبه إذا أنفقه وهو يعرفه وهذا الذي ذكره احتساب حسن في الشريعة ولو استقرض دراهم
تجارية فالتقيا في بلد لا يقدر فيه على التجارية فإن كانت تنفق في ذلك البلد فصاحب الحق بالخيار ان شاء انتظر مكان
الأداء وان شاء أجله قدر المسافة ذاهبا وجائيا واستوثق منه بكفيل وان شاء أخذ القيمة لأنها إذا كانت نافقة لم تتغير
بقيت في الذمة كما كانت وكان له الخيار ان شاء لم يرض بالتأخير وأخذ القيمة لما في التأخير من تأخير حقه وفيه ضرر
به كمن عليه الرطب إذا انقطع عن أيدي الناس انه يتخير صاحبه بين التربص والانتظار لوقت الادراك وبين أخذ
القيمة لما قالوا كذا هذا وإن كان لا ينفق في ذلك البلد فعليه قيمتها والله تعالى أعلم (وأما) الذي يرجع إلى نفس
القرض فهو ان لا يكون فيه جر منفعة فإن كان لم يجز نحو ما إذا أقرضه دراهم غلة على أن يرد عليه صحاحا أو أقرضه وشرط
شرطا له فيه منفعة لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه نهى عن قرض جر نفعا ولان الزيادة المشروطة تشبه
الربا لأنها فضل لا يقابله عوض والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في
القرض فاما إذا كانت غير مشروطة فيه ولكن المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك لان الربا اسم لزيادة مشروطة
في العقد ولم توجد بل هذا من باب حسن القضاء وانه أمر مندوب إليه قال النبي عليه السلام خيار الناس أحسنهم
قضاء وقال النبي عليه الصلاة والسلام عند قضاء دين لزمه للوازن زن وأرجح وعلى هذا تخرج مسألة السفاتج التي
يتعامل بها التجار انها مكروهة لان التاجر ينتفع بها باسقاط خطر الطريق فتشبه قرضا جر نفعا فان قيل أليس انه روى
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما انه كان يستقرض بالمدينة على أن يرد بالكوفة وهذا انتفاع بالقرض باسقاط
395

خطر الطريق فالجواب أن ذلك محمول على أن السفتجة لم تكن مشروطة في القرض مطلقا ثم تكون السفتجة وذلك مما
لا بأس به على ما بينا والله تعالى أعلم والأجل لا يلزم في القرض سواء كان مشروطا في العقد أو متأخرا عنه بخلاف
سائر الديون والفرق من وجهين أحدهما أن القرض تبرع ألا يرى أنه لا يقابله عوض للحال وكذا لا يملكه من
لا يملك التبرع فلو لزم فيه الأجل لم يبق تبرعا فيتغير المشروط بخلاف الديون والثاني أن القرض يسلك به مسلك العارية
والأجل لا يلزم في العوارى والدليل على أنه يسلك به مسلك العارية أن لا يخلو اما ان يسلك به مسلك المبادلة وهي
تمليك الشئ بمثله أو يسلك به مسلك العارية لا سبيل إلى الأول لأنه تمليك العين بمثله نسيئة وهذا لا يجوز فتعين أن يكون
عارية فجعل التقدير كان المستقرض انتفع بالعين مدة ثم رد عين ما قبض وإن كان يرد بدله في الحقيقة وجعل رد بدل
العين بمنزلة رد العين بخلاف سائر الديون وقد يلزم الأجل في القرض بحال بان يوصى بان يقرض من ماله بعد موته فلانا
ألف درهم إلى سنة فإنه ينفذ وصيته ويقرض من ماله كما أمر وليس لورثته أن يطالبوا قبل السنة والله تعالى أعلم
* (فصل) * وأما حكم القرض فهو ثبوت الملك للمستقرض في المقرض للحال وثبوت مثله في ذمة المستقرض
للمقرض للحال وهذا جواب ظاهر الرواية وروى عن أبو يوسف في النوادر لا يملك القرض بالقبض ما لم
يستهلك حتى لو أقرض كرا من طعام وقبضه المستقرض ثم إنه اشترى الكر الذي عليه بمائة درهم جاز البيع وعلى
رواية أبى يوسف لا يجوز لان المقرض باع المستقرض الكر الذي عليه وليس عليه الكر فكان هذا بيع المعدوم فلم
يجز كما لو باعه الكر الذي في هذا البيت وليس في البيت كر وجاز في ظاهر الرواية لأنه باع ما في ذمته فصار كما إذا باعه
الكر الذي في البيت وفى البيت كر وكذلك لو كان الكر المقرض قائما في يد المستقرض كان المستقرض بالخيار ان
شاء دفع إليه هذا الكر وان شاء دفع إليه كرا آخر ولو أراد المقرض أن يأخذ هذا الكر من المستقرض وأراد المستقرض
أن يمنعه من ذلك ويعطيه كرا آخر مثله له ذلك في ظاهر الرواية وعلى ما روى عن أبي يوسف رحمه الله في النوادر ان
لا خيار للمستقرض ويجبر على دفع ذلك الكر إذا طالب به المقرض وعلى هذا فروع ذكرت في الجامع الكبير (وجه)
رواية أبى يوسف ان الاقراض إعارة بدليل انه لا يلزم فيه الأجل ولو كان معاوضة للزم كما في سائر المعاوضات وكذا
لا يملكه الأب والوصي والعبد المأذون والمكاتب وهؤلاء لا يملكون المعاوضات وكذا اقراض الدراهم والدنانير
لا يبطل بالافتراق قبل قبض البدلين وإن كان مبادلة لبطل لأنه صرف والصرف يبطل بالافتراق قبل قبض البدلين
وكذا اقراض المكيل لا يبطل بالافتراق ولو كان مبادلة لبطل لان بيع المكيل بمكيل مثله في الذمة لا يجوز فثبت بهذه
الدلائل ان الاقراض إعارة فبقي العين على حكم ملك المقرض (وجه) ظاهر الرواية أن المستقرض بنفس القبض صار
بسبيل من التصرف في القرض من غير اذن المقرض بيعا وهبة وصدقة وسائر التصرفات وإذا تصرف نفذ تصرفه ولا
يتوقف على إجازة المقرض وهذه أمارات الملك وكذا مأخذ الاسم دليل عليه فان القرض قطع في اللغة فيدل على أن
قطاع ملك المقرض بنفس التسليم (وأما) قوله إعارة والإعارة تمليك المنفعة لا تمليك العين فنعم لكن ما لا يمكن الانتفاع
به مع بقاء عينه بقيام عينه مقام المنفعة صار قبض العين قائم مقام قبض المنفعة والمنفعة في باب الإعارة تملك بالقبض
لأنها تبرع بتمليك المنفعة فكذا ما هو ملحق بها وهو العين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
والحمد لله وحده * (نص ما وجد في الأصل المطبوع عليه) *
وقع تمام النصف الأخير من كتاب البدائع في ترتيب الشرائع للكاساني تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان
على مذهب الامام أبي حنيفة رضي الله عنه الحمد لله الذي وهب التوفيق لاتمام النصف من كتابة الكتاب
والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد خير من نطق بالصواب وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين إلى يوم
الحساب على يد أضعف العباد الفقير الحقير المعترف بالذنب والتقصير الراجي رحمه الله الباري عبد الله بن المرحوم
الحاج عبد الرحيم المدعو باللبقي غفر الله له ولوالده ولاخوانه في خمسة أيام خلت من ذي الحجة سنة 1170
396

* (يقول المتوسل بصالح السلف. مصححه الفقير عبد الجواد خلف) *
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *
حمدا لمن أبرز (بدائع الصنائع) من حيز العدم وهدى إلى (ترتيب الشرائع) بما علم بالقلم وشكرا لما أسدى من
جزيل النعماء وجليل العطايا الا لاء وصلاة يتدفق بالرحمات المقرونة بالتعظيم ودقها وتحيات يتألق بالبركات
المصحوبة بالتكريم برقها على من أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فبين للناس ما نزل
إليهم وأرشدهم إلى ما يجب عليهم بأدلة أعجزت البلغاء وأفحمت الفصحاء فتبدلت بنور الهداية ظلمة الغوايه
سيدنا محمد الصادق الأمين القائل من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وعلى آله حماة السنة وحملة الأسنة
(وبعد) فلما كان علم الفقه من أجل العلوم الشرعية بعد كتاب الله تعالى والسنة النبوية إذ به معرفة الحلال
والحرام وتصحيح العبادة وبيان الأحكام وكان من أعظم ما ألف فيه من الكتب الوحيدة بل الدرة اليتيمة
الفريدة الكتاب الجليل والسفر الذي ليس له في بابه مثيل المسمى (ببدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) وتالله انه
لكتاب كريم ومؤلف فخيم بل هو روضة علم نطقت بيننا بالحق ودوحة فضل لا يعرف قدرها الا القليل من الخلق
فإذا لم تر الهلال فسلم * * لأناس رأوه بالابصار
فلقد أتى في أسلوبه الغريب بالعجب العجيب * وبالجملة فهو المليحة الحسناء * الغنى عن الاطراء والثناء
وانى وان أكثرت فيه مدائحي * فأكثر مما قلت ما أنا تارك
وكيف لا يكون كذلك * ان لم يكن فوق ذلك * وناسج برده * وناظم عقده * امام البلغاء والفصحاء * الملقب بملك
العلماء الذي لا يدانيه في ميدان التحقيق مدانى * المولى المحقق علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاساني المتوفى
سنة 587 هجرية
لله در مؤلف * جمع الطرائف واللطائف * يسعى لكعبة فضله * من كل فج كل طائف
وكان من نعم الله الجسام التي لا تحيط بوصفها الأقلام * تسهيل السبيل إلى طبع هذا المطبوع الجليل فقد قام بهذا
العمل المبرور والسعي المشكور كل من ذوي الهمم العلية * والأخلاق المرضية سعادة الأفخم محمد
أسعد باشا جابري زاده * وفضيلة الأكرم * الحاج مراد أفندي جابري زاده * بلغهما الله
الحسنى وزيادة وشاركهما في هذا الصنع الوجيه * السيد أحمد ناجى الجمالي والسيد محمد أمين
الخانجي الكتبي وأخيه * وفقهم الله الكريم المنان * وجزاهم احسان الجزاء وجزاء
الاحسان وكان هذا الطبع الحسن الجميل والصنع الفائق الجليل (بالمطبعة الجمالية
العامرة ذات الاستعدادات التامة الباهرة * الكائن مركزها بعطفة التترى
بحارة الروم بمصر القاهرة * إدارة محمد أمين الخانجي وشركائه -
وأحمد عارف) أسبغ الله على الجميع جزيل المنن
اللطائف وذلك في شهر شوال سنة 1328
من الهجرة النبوية
397