الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ٢٤
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء الرابع والعشرون من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبيه) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
* (كتاب الأشربة) *
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم ان الخمر حرام بالكتاب والسنة * أما الكتاب فقوله
تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر إلى أن قال فهل أنتم منتهون وسبب نزول هذه
الآية سؤال عمر رضي الله عنه على ما روى أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر مهلكه
للمال مذهبة للعقل فادع الله تعالى يبينها لنا فجعل يقول اللهم بين لنا بيانا شافيا فنزل قوله
تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قيل فيهما إثم كبير ومنافع للناس فامتنع منها بعض الناس
وقال بعضهم نصيب من منافعها وندع المأثم فقال عمر رضي الله عنه اللهم زدنا في البيان فنزل
قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فامتنع بعضهم وقالوا
لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة وقال بعضهم بل نصيب منها في غير وقت الصلاة فقال عمر
اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى إنما الخمر والميسر الآية فقال عمر رضي الله عنه انتهينا
ربنا والخمر هو النئ من ماء العنب المشتد بعد ما غلى وقذف بالزبد اتفق العلماء رحمهم الله
على هذا ودل عليه قوله تعالى انى أراني أعصر خمرا أي عنبا يصير خمرا بعد العصر والميسر
القمار والأنصاب ذبائحهم باسم آلهتهم في أعيادهم والأزلام القداح واحدها زلم كقولك قلم
وأقلام وهذا شئ كانوا يعتادونه في الجاهلية إذا أراد أحدهم أمرا أخذ سهمين مكتوب
على أحدهما أمرني ربى والآخر نهاني ربى فجعلهما في وعاء ثم أخرج أحدهما فان خرج الامر
وجب عليه مباشرة ذلك الامر وان خرج النهى حرم عليه مباشرته وبين الله تعالى ان كل
ذلك رجس والرجس ما هو محرم العين وانه من عمل الشيطان يعنى أن من لا ينتهى عنه
متابع للشيطان مجانب لما فيه رضا الرحمن وفى قوله عز وجل فاجتنبوه أمر بالاجتناب منه
وهو نص في التحريم ثم بين المعنى فيه بقوله عز وجل إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
2

والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وكان هذا إشارة إلى الاثم الذي
بينه الله تعالى في الآية الأولى بقوله عز وجل وإثمهما أكبر من نفعهما وفى قوله فهل أنتم
منتهون أبلغ ما يكون من الامر بالاجتناب عنه وقال تعالى قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر
منها وما بطن والاثم من أسماء الخمر قال القائل
شربت الاثم حتى ضل عقلي * كذاك الاثم يذهب بالعقول
وقيل هذا إشارة إلى قوله وإثمهما أكبر من نفعهما * والسنة ما روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لعن الله من الخمر عشرا الحديث وذلك دليل نهاية التحريم وقال عليه الصلاة
والسلام شارب الخمر كعابد الوثن وقال عليه الصلاة والسلام الخمر أم الخبائث وقال عليه
الصلاة والسلام إذا وضع الرجل قدحا في خمر على يده لعنته ملائكة السماوات والأرض
فان شربها لم تقبل صلاته أربعين ليلة وان داوم عليها فهو كعابد الوثن وكان جعفر الطيار
رحمه الله يتحرز عن هذا في الجاهلية والإسلام يقول العاقل يتكلف ليزيد في عقله فانا
لا أكتسب شيئا يزيل عقلي والأمة أجمعت على تحريمها وكفى بالاجماع حجة هذه حرمة
قوية باتة حتى يكفر مستحلها ويفسق شاربها ويجب الحد بشرب القليل والكثير منها وهي نجسة
نجاسة غليظة لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم منها ولا يجوز بيعها بين المسلمين لقوله عليه الصلاة
والسلام ان الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها وبعض المعتزلة يفصلون بين القليل
والكثير منها في حكم الحرمة ويقولون المحرم ما هو سبب لوقوع العدواة والبغضاء والصد عن
ذكر الله تعالى وعن الصلاة وذلك الكثير دون القليل وعند أهل السنة والجماعة القليل منها
والكثير في الحرمة وجميع ما ذكرنا من الاحكام سواء لقوله عليه الصلاة والسلام حرمت
الخمر لعينها قليها وكثيرها والمسكر من كل شراب ثم في تناول القليل منها معنى العداوة
والصد عن ذكر الله تعالى فالقليل يدعو إلى الكثير على ما قيل ما من طعام وشراب الا ولذته
في الابتداء تزيد على اللذة في الانتهاء الا الخمر فان اللذة لشاربها تزداد بالاستكثار منها ولهذا
يزداد حرصه على شربها إذا أصاب منها شيئا فكان القليل منها داعيا إلى الكثير منها فيكون
محرما كالكثير (ألا ترى) أن الربا لما حرم شرعا حرم دواعيه أيضا وان المشي على قصد
المعصية معصية وأما السكر فهو النئ من ماء التمر المشتد وهو حرام عندنا وقال شريك بن
عبد الله هو حلال لقوله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا
3

حسنا والرزق الحسن شرعا ما هو حلال وحكم المعطوف والمعطوف عليه سواء ولأن هذه
الأشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على
ما كان من قبل (ألا ترى) أن في الآيات بيان حكم الخمر وما كان يكثر وجود الخمر فيهم
بالمدينة فإنها كانت تحمل من الشام وإنما كان شرابهم من التمر وفى ذلك ورد الحديث نزل
تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ منها شئ فلو كان تحريم سائر الأشربة مرادا بالآية لكان الأولى
التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم لان حاجتهم إلى معرفة ذلك * وحجتنا في
ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الخمر من هاتين الشجرتين الكرم والنخل
ولم يرد به بيان الاسم لغة لأنه ما بعث مبينا لذلك وبين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتي
من ماء العنب وواضع اللغة خص كل عين باسم هو حقيقة فيه وإن كان قد يسمى الغير به
مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفلة الواضع والضرورة الداعية إلى ذلك وذلك غير متوهم
هنا فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة
ولما سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن شرب المسكر لأجل الصفر قال إن الله تعالى لم يجعل
شفاءكم فيما حرم عليكم فاما قوله تعالى تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فقد قيل كان هذا
قبل نزول آية التحريم وقيل في الآية اضمار وهو مذكور على سبيل التوبيخ أي تتخذون
منه سكرا وتدعون رزقا حسنا فان طبخ من العنب أدنى طبخه أو ذهب منه بالطبخ أقل من
الثلثين ثم اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو حرام عندنا وقال حماد بن أبي سليمان رحمه الله إذا
طبخ حتى نضج حل شربه وكان بشر المريسي يقول إذا طبخ أدنى طبخه فلا بأس بشربه
وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا إذا طبخ حتى ذهب منه النصف فلا بأس بشربه ثم رجع
فقال ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله
وعن محمد رحمه الله انه كره الثلث أيضا وعنه انه توقف فيه وعنه انه حرم ذلك كله إذا كان
مسكرا وهو قول مالك والشافعي وطريق من توسع ففي هذه الأشربة ما ذكرنا أن قبل
نزول التحريم كان الكل مباحا ثم نزل تحريم الخمر وما عرفنا هذه الحرمة الا بالنص فبقي سائر
الأشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله ومن أثبت التحريم في الكل قال
نص التحريم بصفة الخمرية والخمر ما خامر العقل وكل ما يكون مسكرا فهو مخامر للعقل
فيكون النص متناولا له ولكنا نقول الاسم للتي من ماء العنب حقيقة ولسائر الأشربة مجازا
4

ومتى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز وهبك أن الخمر يسمي لمعنى مخامرة العقل
فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا (ألا ترى) أن الفرس الذي يكون أحد
شقيه أبيض والآخر أسود يسمى أبلق ثم الثوب الذي يجتمع فيه لون السواد والبياض
لا يسمى بهذا الاسم وكذلك النجم يسمى نجما لظهوره قالوا نجم أي ظهر ثم لا يدل ذلك على أن
كل ما يظهر يسمى نجما وامامنا فيما ذكرناه من إباحة شرب المثلث عمر رضي الله عنه فقد
روى عن جابر بن الحصين الأسدي رحمه الله ان عمار بن ياسر رضي الله عنه أتاه بكتاب عمر
رضي الله عنه يأمره ان يتخذ الشرب المثلث لاستمراء الطعام وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه
يقول لا أدع شربها بعد ما رأيت عمر رضي الله عنه يشربها ويسقيها الناس وقد كان عمر
رضي الله عنه هو الذي سأل تحريم الخمر فلا يظن به أنه كان يشرب أو يسقى الناس ما تناوله
نص التحريم بوجه ولا يجوز أن يقال إنما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد
ذهب بالطبخ نصيب الشيطان وربح جنونه وهذا لأنه إنما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام
وإنما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو وقد دل على هذه الجملة الآثار التي بدأ محمد
رحمه الله بها الكتاب فمن ذلك حديث زياد قال سقاني ابن عمر رضي الله عنه شربة ما كدت
أهتدي إلى منزلي فغدوت عليه من الغد فأخبرته بذلك فقال ما زدناك على عجوة وزبيب وابن
عمر رضي الله عنه كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يظن به انه كان يسقى
غيره ما لا يشربه ولا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم وقد ذكرنا أن ما سقاه كان مشتدا
حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله وإنما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير
فيه لا حقيقة السكر فان ذلك لا حيل وفى قوله ما زدناك على عجوة وزبيب دليل على أنه لا بأس
بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب والتمر وإن كان مشتدا وانه لا بأس بشرب الخليطين
بخلاف ما يقوله المتقشفة أنه لا يحل شراب الخليطين وإن كان حلوا لما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن شراب الخليطين وتأويل ذلك عندنا ان ذلك كان في زمان الجدب
كره للأغنياء الجمع بين النعمتين وفى الحديث زيادة فإنه قال وعن القران بين النعمتين وعن
الجمع بين نعمتين والدليل على أنه لا بأس بذلك في غير زمان القحط حديث عائشة رضي الله عنه
ا قالت كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا فلم يستمرئه فأمرني فألقيت فيه زبيبا
ولما جاز اتخاذ الشرب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر والفانيد
5

وعن ابن عمر رضي الله عنه انه سئل عن المسكر فقال الخمر ليس لها كنية وفيه دليل تحريم
السكر فان مراده من هذا الجواب ان السكر في الحرمة كالخمر وإن كان اسمه غير اسم الخمر
فكأنه أشار إلى قوله عليه الصلاة والسلام الخمر من هاتين الشجرتين قال وسئل عن الفضيخ
قال مراده بذلك الفضوح والفضيخ الشراب المتخذ من التمر أي يشدخ ثم
ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ثم يترك حتى يشتد وفيه دليل عن أن التي من شراب
التمر إذا اشتد فهو حرام سكرا كان أو فضيخا فان السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا
وفى قوله بذلك الفضوح بيان انه يفضح شاربه في الدنيا والآخرة لارتكابه ما هو محرم قال
وسئل عن النبيذ والزبيب يعتق شهرا أو عشرا قال الخمر أخبتها وفى رواية اجتنبها أي هي في
الحرمة كالخمر فاجتنبها فظاهر هذا اللفظ دليل لما روى عن أبي يوسف قال لا يحل ماء الزبيب
ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان فان قوله الخمر اجتنبها إشارة إلى ذلك أي الزبيب إذا أنقع
في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل أن يتزبب فكما أن لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب
منه الثلثان فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر ولكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر وماء التمر سواء
إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه ومراد ابن عمر رضي الله عنه
تشبيهه النئ منه بالخمر في حكم الحرمة وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن قال إنهم عن نبيذ السكر والمراد النئ من ماء التمر المشتد وقد
عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عادة أهل اليمن في شرب ذلك فلهذا خصه بالأمر
النهى عنه وسماه نبيذ الحمرة في لونه وعن حصين بن عبد الرحمن قال كأن لأبي عبيدة كرم
بزبالة كان يبيعه عنبا وإذا أدرك العصير باعه عصيرا وفى هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير
والعنب مطلقا ما دام حلوا كما لا بأس ببيع العنب وأخذ أبو حنيفة رحمه الله بظاهره فقال
لا بأس ببيع العصير والعنب ممن يتخذ خمرا وهو قول إبراهيم رحمه الله لأنه لا فساد في
قصد البائع فان قصده التجارة بالتصرف فيما هو حلال لاكتساب الربح وإنما المحرم قصد
المشترى اتخاذ الخمر منه وهو كبيع الجارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها في غير المأتي وكبيع الغلام
ممن يصنع به ما لا يحل وعن الضحاك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلغ حدا
في غير حد فهو من المعتدين معناه فهو من الظالمين المجاوزين لحدود الله تعالى قال الله تعالى
ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وفيه دليل انه لا يجوز أن يبلغ بالتعزير الحد الكامل لان
6

الحدود ثبتت شرعا جزاء على أفعال معلومة فتعديتها لي غير تلك الأفعال يكون بالرأي ولا
مدخل للرأي في الحدود لا في اثبات أصلها ولا في تعدية أحكامها عن مواضعها وعن إبراهيم
رحمه الله قال لا بأس إذا للمسلم خمر ان يجعلها خلا وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا تخليل
الخمر جائز خلافا لما قاله الشافعي رحمه الله وهذا لان الآثار جاءت بإباحة خل الخمر على ما
قال عليه الصلاة والسلام خير خلكم خل خمركم وعن علي رضي الله عنه أنه كان يصطبغ الخبز
بخل خمر ويأكله وإذا كان بالاتفاق يحل تناول خل الخمر فالتخليل بالعلاج يكون اصلاحا
للجوهر الفاسد وذلك من الحكمة فلا يكون موجبا للحرمة ويأتي بيان المسألة في موضعه
وعن محمد بن الزبير رضي الله عنه قال استشار الناس عمر رضي الله عنه في شراب مرقق
فقال رجل من نصارى انا نصنع شرابا في صومنا فقال عمر رضي الله عنه إئتني بشئ منه قال
فأتاه بشئ منه قال ما أشبه هذا بطلاء الإبل كيف تصنعونه قال نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه
وينقي ثلثه فصب عليه عمر رضي الله عنها ماء وشرب منه ثم ناوله عبادة بن الصامت رضي الله عنه
وهو عن يمينه فقال عبادة ما أرى النار يحل شيئا فقال عمر يا أحمق أليس يكون خمرا ثم يصير
خلا فنأكله كله وفى هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان مشتدا فان عمر رضي الله عنه استشارهم
في المشتد دون الحلو وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام وكان عمر
رضي الله عنه حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما
يتصل بعامة المسلمين وفيه دليل انه لا بأس باحضار بعض أهل الكتاب مجلس الشورى فان
النصراني الذي قال ما قاله قد كان حضر مجلس عمر رضي الله عنه للشورى ولم ينكر عليه
وفيه دليل ان خبر النصراني لا بأس بأن يعتمد عليه في المعاملات إذا وقع في قلب السامع انه
صادق فيه وقد استوصفه عمر رضي الله عنه فوصفه له واعتمد خبره حتى شرب منه وفيه دليل
أن دلالة الاذن من حيث العرف كالتصريح بالاذن وانه لا بأس بتناول طعامهم وشرابهم
فان عمر رضي الله عنه لم يستأذنه في الشرب منه وإنما كان أمره أن يأتي به لينظروا إليه ثم
جوز الشرب منه بناء على الظاهر ومن يستقصى في هذا الباب يقول تأويله انه أخذه منه
جزية لبيت المال ثم شرب منه وفيه دليل أن المثلث إن كان غليظا لا بأس بان يرقق بالماء
ثم يشرب منه كما فعله عمر رضي الله عنه والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
استسقى العباس في حجة الوادع فاتاه بشراب فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ثم دعا بماء فصبه
7

عليه ثم شربه وقال عليه الصلاة والسلام إذا رابكم شئ من هذه الأشربة فاكسروا متونها
بالماء وعن عمر رضى الله أنه أتى بنبيذ الزبيب فدعا بماء وصبه عليه ثم شرب وقال إن لنبيذ زبيب
الطائف غراما وفى مناولته عبادة بن الصامت وكان عن يمينه دليل على أن من يكون من
الجانب الأيمن فهو أحق بالتقديم والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعس
من لبن فشرب بعضه وكان عن يمينه اعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه فقال
للأعرابي أنت على يميني وهذا أبو بكر فقال الاعرابي ما أنا بالذي أوثر غيري على سؤرك فتله
رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الا يمنون
الا يمنون ومنه قول القائل
ثلاثة يمنة تدور * الكاس والطست والبخور
ثم أشكل على عبادة رضي الله عنه فقال ما أرى النار تحل شيئا يعنى أن المشتد من هذا
الشرب قبل أن يطبخ بالنار حرام فبعد الطبخ كذلك إذا النار لا تحل الحرام فقال له عمر رضي الله عنه
يا أحمق أي يا قليل النظر والتأمل أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فنأكله يعني أن صفة
الخمرية تزول بالتخليل فكذلك صفة الخمرية بالطبخ حتى يذهب منه الثلثان تزول ومعنى
هذا الكلام ان النار لا تحل ولكن بالطبخ تنعدم صفة الخمرية كالذبح في الشاة عينه لا يكون
محللا ولكنه منهر للدم والمحرم هو الدم المسفوح بكون محللا لانعدام
ما لأجله كان محرما وبهذا أخذنا وقلنا يجوز التخليل لأنه اتلاف لصفة الخمرية واتلاف صفة
الخمرية لا يكون محرما وعن ابن عباس رضي الله عنه قال كل نبيذ يفسد عند ابانه فهو نبيذ
ولا بأس به وكل نبيذ يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وإنما أراد به النئ من ماء الزبيب
أو التمر انه ما دام حلوا ولم يصر معتقا فهو بحيث يفسد عند ابانه فلا بأس بشربه وإذا صار
معتقا بان غلا واشتد وقذف بالزبد فهو يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وبه كان
يقول أبو يوسف رحمه الله في الابتداء في المطبوخ من ماء الزبيب والتمر انه إذا صار معتقا
لا يحل شربه وإن كان بحيث يفسد إذا ترك عشرة فلا بأس بشربه ثم رجع عن ذلك فقال
قول ابن عباس رضي الله عنه في النئ خاصة فهو النبيذ حقيقة مشتق من النبذ وهو الطرح
أي ينبذ الزبيب والتمر الماء ليستخرج حلاوته فاما إذا طبخ فالطبخ يغيره عن حاله فلا
يتناوله اسم النبيذ حقيقة وإن كان قد يسمى به مجازا وعن ابن عباس رضي الله عنه قال حرمت
8

الخمرة لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب وفيه دليل ان المحرم هو الأخير الذي
يكون منه السكر كالمؤلم واسم لما يتولد الألم منه وان الخمر حرام لعينها والقليل والكثير في
الحكم سواء وفي المثلث والمطبوخ من الزبيب والتمر يفصل بين القليل والكثير فلا بأس بشرب
القليل منه وإنما يحرم منه ما يتعقبه السكر وهو القدح الأخير قال ابن عباس رضي الله عنه الكأس
المسكرة هي الحرام قال أبو يوسف رحمه الله وأما مثل ذلك دم في ثوب فلا بأس بالصلاة فيه أن
كان قليلا فإذا كثر لم تحل الصلاة فيه ومثله رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا بأس
بذلك فإذا أسرف في النفقة لم يسلح له ذلك ولا ينبغي وكذلك النبيذ لا بأس بان يشربه على
طعام ولا خير في المسكر منه لأنه إسراف فإذا جاء السكر فليدع الشرب (الا ترى) أن
اللبن وما أشبهه من الشراب حلال ولا ينبغي له أن كان يسكر أن يستكثر منه (ألا ترى)
ان البنج لا بأس بان يتداوى به الانسان فإذا كان أن يذهب عقله منه فلا ينبغي أن يفعل ذلك
وفي هذا كله بيان أن المحرم هو السكر إلا أن في الخمر القليل يدعو إلى الكثير كما قررنا فيحرم
شرب القليل منها لأنها داعية إلى الكثير وذلك في المثلث لا يوجد فإنه غليظ لا يدعو قليله إلى
كثيره بل بالقيل يستمرئ طعامه ويتقوى على الطاعة والكثير يصدع رأسه (ألا ترى) أن
الذين يعتادون شرب المسكر لا يرغبون في المثلث أصلا ولا يقال القدح الأخير مسكر بما
تقدمه لان المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فان تناول الطعام بقدر ما يغذيه
ويقوى بدنه حلال وما يتخمه وهو الأكل فوق الشبع حرام ثم المحرم منه المتخم وهو ما زاد
على الشبع وإن كان هذا لا يكون متخما الا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب وعن ابن
مسعود رضي الله عنه ان انسانا أتاه وفى بطنه صفراء فقال وصف لي السكر فقال عبد الله ان الله
تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وبه نأخذ فنقول كل شراب محرم فلا يباح شربه للتداوي
حتى روى عن محد أن رجلا أتى يستأذنه في شرب الخمر للتداوي قال إن كان في بطنك
صفراء فعليك بماء السكر وإن كان بك رطوبة فعليك بماء العسل فهو أنفع لك ففي هذا إشارة
إلى أنه لا تتحقق الضرورة في الإصابة من الحرام فإنه يوجد من جنسه ما يكون حلالا والمقصود
يحصل به وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم ان الله لم يجعل في رجس شفاء ولم يرد به
نفى الشفاء أصلا فقد يشاهد ذلك ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشرع عليه الصلاة والسلام
ولكن المراد أنه لم يعين رجسا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله أو يكون
9

أقوى منه وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نهيتكم عن ثلاث عن زيارة
القبور فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه
فوق ثلاثة أيام فامسكوه ما بدا لكم وتزودوا فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن
النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في كل ظرف فان الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا
تشربوا مسكرا وفى رواية ابن مسعود رضي الله عنه قال وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير
والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا وهذا اللفظ رواه أبو بردة بن نيار أيضا
وفي الحديث دليل نسخ السنة بالسنة فقد أذن في هذه الأشياء الثلاثة بعد ما كان نهى عنها
وبالاذن ينسخ حكم النهى وقيل المراد النهى عن زيارة قبول المشركين فإنهم ما منعوا عن زيارة
قبول المسلمين قط (ألا ترى) أنه عليه الصلاة والسلام قال قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه
وكانت قد ماتت مشركة وروى أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو
من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه وقيل إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الاطلاق
لما كان من عادة أهل الجاهلية انهم كانوا يندبون الموتى عن قبورهم وربما يتكلمون بما هو
كذب أو محال ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ولا تقولوا هجرا أي لغوا من الكلام ففيه
بيان أن الممنوع هو التكلم باللغو فذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال
نفسه وهذا قائم لم ينسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن الهجر
من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا ومن العلماء من يقول الاذن
للرجال دون النساء والنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روى أن فاطمة رضي الله عنها
خرجت في تعزية لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك
أتيت المقابر قالت لا فقال عليه الصلاة والسلام لو أتيت ما فارقت جدتك يوم القيامة أي
كنت معها في النار والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة في حق الرجال والنساء جميعا فقد
روى أن عائشة رضي الله عنها كانت تزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت
وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه وأنشدت عند القبر قول القائل
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والنهى عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام قد انتسخ بقوله عليه الصلاة والسلام
10

فأمسكوا ما بدا لكم وتزودوا فان القربة تنادي بإراقة الدم والتدبير في اللحم بعد ذلك من
الأكل والامساك والاطعام إلى صاحبه إلا أنه للضيق والشدة في الابتداء نهاهم عن الامساك
على وجه النظر والشفقة ليتسع موسرهم على معسرهم ولما انعدم ذلك التضييق أذن لهم في
الامساك فأما النهى عن الشرب في الأواني فقد كان في الابتداء نهاهم عن الشرب في
الأواني المتثلمة تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الروايا فلما
تم انزجارهم عن ذلك أذن لهم في الشرب ففي الأواني وبين لهم أن المحرم شرب المسكر وان
الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه وقد بينا أن المسكر ما يتعقبه السكر وهو الكأس الأخير وعن
إبراهيم رحمه الله قال أتى عمر رضي الله عنه باعرابي سكران معه إداوة من نبيذ مثلث فأراد
عمر رضي الله عنه أن يجعل له مخرجا فما أعياه الا ذهاب عقله فامر به فحبس حتى صحا ثم
ضربه الحد ودعا بإداوته وبها نبيذ فذاقه فقال أوه هذا فعل به هذا الفعل فصب منها في اناء
ثم صب عليه الماء فشرب وسقى أصحابه وقال إذا رابكم شرابكم فاكسروه بالماء وفيه دليل انه
ينبغي للامام أن يحتال الاسقاط الحد بشبهة يظهرها كما قال عليه الصلاة والسلام ادرؤا الحدود
بالشبهات وقد كانوا يفعلون ذلك في الحدود كلها وفى حديث الشرب على الخصوص لضعف
في سببه على ما روى عن علي رضي الله عنه قال ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فآخذ في
نفسي في ذلك شيئا الا حد الخمر فإنه يثبت بآرائنا فلهذا طلب عمر رضي الله عنه مخرجا له
وفيه دليل على أن السكران يحبس حتى يصحو ثم يقام عليه الحد لان المقصود هو الزجر
وذلك لا يتم بالإقامة عليه في حال سكره فإنه لاختلاط عقله ربما يتوهم أن الضارب يمازحه
بما يضربه والمقصود ايصال الألم إليه ولا يتم ذلك ما لم يصح تأخير إقامة الحد بعذر جائز
كالمرأة إذا لزمها حد الزنا بالرجم وهي حبلى لا يقام عليها حتى تضع وفيه دليل انه لا بأس
بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا وإن كان مشتدا فان عمر رضي الله عنه قد شرب منه
بعد ما صب عليه الماء وسقى أصحابه ثم لم يبين أن الاعرابي أذن له في الشرب من إداوته
ولكن الظاهر أنه شرب ذلك باذنه حتى روي أنه قال أتضربني فيما شربته فقال عمر رضي الله عنه
إنما حددتك لسكرك فهو دليل انه إذا سكر من النبيذ الذي يجوز شرب القليل منه
يلزمه الحد وعن حماد رضي الله عنه قال دخلت على إبراهيم رحمه الله وهو يتغدى فدعا بنبيذ
فشرب وسقاني فرأى في الكراهة فحدثني عن علقمة رحمه الله انه كان يدخل على عبد الله
11

ابن مسعود رضي الله عنه فيتغدى عنده ويشرب عنده النبيذ يعنى نبيذ الحر وقد روي أن
ابن مسعود رضي الله عنه كان يعتاد شربه حتى ذكر عن أبي عبيدة انه أراهم الجر الأخضر
الذي كان ينبذ فيه لابن مسعود رضي الله عنه وعن نعيم بن حماد رضي الله عنه قال كنا عند
يحيى بن سعيد القطان رحمه الله وكان يحدثنا بحرمة النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش رحمه الله
فقال أسكت يا صبي حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة رحمه الله انه شرب عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه نبيذا مشتدا صلبا وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه نبيذا مشتدا
كان يعتاد شربه وقد روى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال سقاني علي رضي الله عنه نبيذا
فلما رأى ما بي من التغير بعث معي قنبرا يهديني وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا رضي الله عنه
قال أن القوم ليجتمعون على الشراب وهو لهم حلال فلا يزالون يشربون حتى يحرم
عليهم يعنى إذا بلغوا حد السكر وكذلك عمر رضي الله عنه كان يشرب المثلث ويأمر باتخاذه
للناس حتى روى عن داود بن أبي هند قال قلت لسعيد بن المسيب الطلاء الذي يأمر عمر
رضي الله عنه باتخاذه للناس ويسقيهم منه كيف كان قال كان يطبخ العصير حتى يذهب
ثلثاه ويبقي ثلثه والمراد انه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر رضي الله عنه قال إنا ننحر
جزورا للمسلمين والعنق منها لآل عمر ثم يشرب عليه من هذا النبيذ فيقطعه في بطوننا
ولكثرة ما روى من الآثار في إباحة شرب المثلث ذكر أبو حنيفة رحمه الله فيما عد من
خصال مذهب أهل السنة وأن لا يحرم نبيذ الجر وعن بعض السلف قال لان أخر من
السماء فانقطع نصفين أحب إلى من أن أحرم نبيذ الجر وإنما قال ذلك لما في التحريم من رد
الآثار المشهورة وإساءة القول في الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وذلك لا يحل فاما مع
الإباحة فقد لا يعجب المرء الإصابة من بعض المباحات للاحتياط أو لأنه لا يوافق طبعه وهذه
الرخصة تثبت بعد التحريم فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا
روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال شهدت تحريمه كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت
ذلك ونسيتم فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة
وعن إبراهيم رحمه الله قال إنما كره التمر والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم
والتمر وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين فاما اليوم فلا بأس به وهذا منه بيان تأويل
النهى عن شراب الخليطين وانه لا بأس به اليوم وعن إبراهيم قال قول الناس ما أسكر كثيره
12

فقليله حرام خطأ منهم إنما أراد السكر حرام فأخطأوا وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا
وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أن رسول الله صلى إليه عليه وسلم غزا غزوة تبوك فمر
بقوم يزفتون فقال ما هؤلاء فقيل أصابوا من شراب لهم فنهاهم أن يشربوا في الدباء والحنتم
والمزفت فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة فأذن لهم أن يشربوا
منها ونهاهم عن المسكر وفيه دليل ان الرخصة كانت بعد النهى وانه عليه الصلاة والسلام
نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد
أن لا يبلغوا حد السكر والزبيب المعتق إذا لم يطبخ فلا بأس بشربه ما لم يغل فإذا غلا واشتد
فلا خير فيه والكلام هنا في فصول أحدها في الخمر وقد بينا وإنما بقي الكلام فيه في فصل
واحد وهو ان عند أبي حنيفة العصير وان اشتد فلا بأس بشربه ما لم يغل ويقذف بالزبد
فإذا غلا وقذف بالزبد فهو خمر حينئذ وقال أبو يوسف ومحمد رحمها الله إذا اشتد فهو خمر
لان صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل وذلك باعتبار صفة الشدة فيه يوضحه
ان حرمة الخمر لما في شربها من ايقاع العداوة والصد عن ذكر الله تعالى وذلك باعتبار
اللذة المطربة والقوة المسكرة فيها فأما بالغليان والقذف بالزبد فيرق ويصفو ولا تأثير لذلك
في احداث السكر فبعد ما صار مشتدا فهو خمر سواء غلا وقدف بالزبد أو لم يغل يوضحه
انه قد يحتال بالقاء شئ عليه ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ولا قذف بالزبد
أصلا ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا فعرفنا ان المعتبر فيه الشدة ولأبي حنيفة رحمه
الله ان المسكر صفه العصير وهو أصل لما يعصر من العنب وما بقي أثر من آثار الأصل
فالحكم له (ألا ترى) أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان ثم حكم
الصحة والحد لا يمكن اثباته بالرأي ولكن طريق معرفته النص والنص إنما ورد بتحريم
الخمر والخمر مغاير للعصير ولا تتم المغايرة مع بقاء شئ من آثار العصير وقد كان الحل ثابتا
فيه وما عرف ثبوته بيقين لا يزال الا بيقين مثله وذلك بعد الغليان والقذف بالزبد والأصل
في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنا والسرقة لا يجب الا بعد كمال الفعل اسما
وصورة ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم والحدود تندرئ بالشبهات
فلهذا استقصي أبو حنيفة رحمه الله وقال لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشدة الا
بعد الغليان والقذف بالزبد فاما نبيذ التمر ونبيذ الزبيب فإن لم يطبخ حتى غلا واشتد وقذف
13

بالزبد فهو حرام لما روينا من الآثار فيه وبعد الطبخ يحل شربه وان اشتد واتفقت الروايات
في التمر ان المعتبر فيه أدنى الطبخ وهو أن ينضج وفى الزبيب المعتق كذلك وهو أن يكسر
بشئ ثم تستخرج حلاوته بالماء كما في التمر وأما إذا يقع في الماء فقد روى عن أبي حنيفة وأبى
يوسف رحمهما الله انه يعتبر فيه الطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقي ثلثه كما في العصير والوجه فيه
ما حكى عن السلف رحمهم الله ان ما يكون منه العصير ابتداء إذا أعيد إلى ما كان عليه في الابتداء
فحكم ما يعصر منه حكم العصير وما لا يكون منه العصير في الابتداء لا يثبت فيه حكم العصير في
الانتهاء فما يسيل من الرطب في الابتداء يحل بأدنى الطبخ فكذلك في الانتهاء وما يسيل من
العنب في الابتداء لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه فكذلك في الانتهاء فاما في ظاهر المذهب
فالزبيب والتمر سواء وإذا طبخ أدنى طبخه فإنه يحل شرب القليل منه وان اشتد لان العصير
الذي كان في العنب قد ذهب حين زبب والزبيب عين آخر سوى العنب (ألا ترى) ان غصب
عنبا فجعله زبيبا انقطع حق المغصوب منه في الاسترداد فإذا تعتبر حاله على هذه الصفة وعلى
هذه الصفة هو والتمر سواء في الحكم ثم التي من نبيذ التمر والزبيب وان كأن لا يحل شربه فهو
ليس نظير الخمر في الحكم حتى يجوز بيعه في قول أبى حنفية رحمه الله وعلى قول أبى يوسف
ومحمد رحمهما الله لا يجوز بيعه ولا يجب الحد بالشرب منه ما لم يسكر وإذا أصاب الثوب منه
أكثر من قدر الدرهم تجوز الصلاة فيه وكذلك المنصف وهو الذي ذهب بالطبخ نصفه إذا
غلا واشتد لا يحل شربه ولكن يجوز بيعه عند أبي حنيفة ولا يجب الحد على من شرب منه
ما لم يسكر وتجوز الصلاة فيه إذا أصاب الثوب منه ما لم يكن كثيرا فاحشا وفي النادق وهو
ما طبخ أدنى طبخه وكان دون النصف فأظهر الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله انه بمنزلة المنصف
في حكم البيع والحد وعنه في رواية أخرى انه ألحق بالخمر في أنه لا يجوز بيعه وأما حكم النجاسة
فيه فلانه مختلف بين العلماء رحمهم الله في حرمته ويتحقق فيه معنى البلوى أيضا وباعتبار هذين
المعنيين يخف حكم النجاسة كما في بول ما يؤكل لحمه وأما في حكم الحد فلان العلماء رحمهم الله لما
اختلفوا في حرمته فالاختلاف المعتبر يورث شبهة والحد مما يندرئ بالشبهات وأما حكم البيع فهما
يقولان ان عينه محرمة التناول فلا يجوز بيعه كالخمر وهذا لان البيع باعتبار صفة المالية والتقوم
باعتبار كونه منتفعا به شرعا ولا منفعة في هذا المشروب سوى الشرب وإذا كان محرم الشرب
شرعا كان فاسدا لماليته والتقوم شرعا فلا يجوز بيعه كالخمر ولان صاحب الشرع صلى الله عليه
14

وسلم سوى في الخمر بين البيع والشرب حين لعن بائعها ومشتريها كما لعن شاربها وهذا لان
البيع يكون تسليطا للمشترى على الشرب عادة فإذا كان الشرب حراما حرم البيع أيضا
وهذا المعنى موجود في هذه الأشربة وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا شراب مختلف في
إباحة شربه بين العلماء رحمهم الله فيجوز بيعه كالمثلث وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة
التناول حرمة البيع فان الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه وكذلك بيع السرقين جائز
وإن كان تناوله حراما والسرقين محرم العين ومع ذلك كان بيعه جائزا فكذلك المنصف
وما أشبهه وبطلان بيع الخمر عرفناه بالنص الوارد فيه وما عرف بالنص لا يلحق به الا
ما يكون في معناه من كل وجه وهذه الأشربة ليس في معنى الخمر من وجه بدليل
حكم الحد وحكم النجاسة فجاز بيعها باعتبار الأصل فاما المثلث على قول أبى حنفية وأبى يوسف
رحمهما الله فلا بأس بشربه والمسكر منه حرام وهو رواية عن محمد رحمه الله أيضا وعنه انه كره
شربه وعنه انه حرم شربه وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله احتجوا في ذلك بما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مسكر حرام وفي رواية قال ما أسكر كثيره فقليله حرام
وفى رواية ما أسكرت الجرعة منه فالجرعة منه حرام وفى رواية فملء الكف منه حرام ولان
المثلث بعد ما اشتد خمر لان الخمر إنما يسمي بهذا الاسم لا لكونه ماء (ألا ترى) أن العصير
الحلو لا يسمى خمرا وإنما تسميته بالخمر لمعني مخامرته العقل وذلك موجود في سائر الأشربة
المسكرة وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر ولو سماه أحد من
أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على اثبات هذا الاسم له فإذا سماه صاحب الشرع عليه
الصلاة والسلام به وهو أفصح العرب أولى يوضحه ان الكثير من هذه الأشربة مساو
للكثير من الخمر في حكم الحرمة ووجوب الحد فكذلك القليل وبهذا تبين أن القليل في
الحرمة كالكثير لان شرب القليل منه لو كان مباحا لما وجب الحد وان سكر منه لان السكر
إنما حصل بشرب الحلال والحرام جميعا فباعتبار جانب الحلال يمنع وجود الحد عليه وإذا
اجتمع الموجب للحد والمسقط له ترجح المسقط على الموجب وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا
بما روينا من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم وأقوى ما يستدل
به قول الرسول عليه الصلاة والسلام حرمت الخمر لعينها والمسكر من كل شراب وبهذا تبين
أن اسم الخمر لا يتناول سائر الأشربة حقيقة لان عطف الشئ على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم
15

وقد بينا انه كان يمسى خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز والمجاز لا يعارض الحقيقة وما
روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال كل مسكر خمر لا يكاد يصح فقد قال يحيى بن معين رحمه
الله ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر في جملتها كل مسكر خمر
ثم مراد النبي عليه الصلاة والسلام تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص وهو الحد فقد بعث
مبينا للاحكام دون الأسامي ونحن نقول إن المسكر وهو القدح الأخير مشبه للخمر في أنه
يجب الحد بشربه وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
استسقى يوم النحر عام حجة الوداع فاتى بنبيذ من السقاية فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ورده
قال العباس رضي الله عنه أحرام هذا يا رسول الله فاخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بماء
وصب عليه ثم شرب وقال إنه إذا استلبث عليكم شئ من الأشربة فاكسروا متونها بالماء
فقد كان مشتدا ولهذا قطب وجهه ورده ثم لما خاف أن يظن الناس انه حرام أخذه وشربه
فدل أن المشتد من الثلث لا بأس بشربه ولا يقال إنما قطب وجهه لحموضته لان شرب
السقاية إنما كان يتخذ لشرب الحاج ولا يسقى الخل العطشان فعرفنا انه قطب وجهه للشدة
والمعنى فيه أن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى وأنهار من خمر لذة للشاربين
فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعمل بالإصابة منه تلك اللذة فيتم الترغيب
فيه وما هو مباح في الدنيا يصير كالا نموذج لما هو موعود في دار الآخرة (ألا ترى) انه
لما وعد الله المؤمنين الشرب في الكأس في الذهب والفضة في الآخرة أحل من جنسه في
الدنيا وهو الشرب من الكأس المتخذ من الزجاج والبلور وغير ذلك لهذا المعنى ولهذا الماء
وعد المؤمنين الحلية في الآخرة أحل لهم ما هو من جنس ذلك في ذلك وتقرر هذا الحرف
من وجه آخر فنقول إن الشرع حرم الخمر ولا شك ان هذه الحرمة لمعنى الابتلاء وإنما
يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذة ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس
وتعاطيها للامر وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق والإصابة فلا بد من
أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة فتحقق معنى
الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا وغيره إلا أن في الخمر القليل والكثير
منه حرام لان قليله يدعو إلى كثيره فأما هذه الأشربة ففيها من الغلظ والكثافة ما لا يدعو
قليلها إلى كثيرها فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة والمسكر منها حرام وقد بينا أن
16

المسكر هو الكاس الأخير وانه مباين في الحكم لما ليس بمسكر منه وهو كمن شرب أقداحا
من ماء ثم شرب قدحا من الخمر فالمحرم عليه الخمر وبها يلزمه الحد دون ما سبق من الأقداح
فهذا مثله فإن كان يسكر بشرب الكثير منه فذاك لا يدل على أنه يحرم تناول القليل منه
كالبنج ولبن الفرس وأما الحديث فنحن نقول به وكل مسكر عندنا حرام وذلك القدح
الأخير وروى عن أبي يوسف أنه قال في تأويله إذا كان يشرب على قصد السكر فان القليل
والكثير على هذا القصد حرام فاما إذا كان يشرب لاستمراء الطعام فلا فهو نظير المشي على
قصد الزنا يكون حراما وعلى قصد الطاعة يكون طاعة وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام
ما أسكر كثيره فقليله حرام هو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدح الأخير الذي
هو مسكر قليله وكثيره حرام ثم هذا عند التحقيق دليلنا فبهذا يتبين ان ما هو الكثير منه
يكون مسكرا فالمحرم عليه قليل من ذلك الكثير وإنما يكون ذلك إذا جعلنا المحرم هو القدح
الأخير فاما إذا جعلنا الكل محرما فلا يكون المحرم قليلا من ذلك الكثير كما اقتضاه ظاهر
الحديث ثم قد بينا أن هذا كان في الابتداء لتحقيق الزجر ثم جاءت الرخصة بعد ذلك في
شرب القليل منه ومهما أمكن الجمع بين الآثار فذلك أولى من الاخذ ببعضها والاعراض
عن بعضها ولا بأس بنبيذ التمر والبسر جميعا أو أحدهما واحده إذا طبخ لان البسر من نوع التمر
فإنه يابس العصب وقد بينا ان المطبوخ من نبيذ التمر شربه حلال والمسكر منه حرام وكذلك
التمر والزبيب أو البسر والزبيب وهو شراب الخليطين وقد بينا الكلام فيه وبعد ما طبخ معتقه
وغير معتقه سواء في إباحة الشرب يعنى المشتد منه وغير المشتد منه والمحرم المسكر منه وذلك
بغير المشتد لا يحصل ولو حصل كان محرما أيضا بمنزلة الأكل فوق الشبع ولا بأس بهذه
الأنبذة كلها من العسل والذرة والحنطة والشعير والزبيب والتمر وكل شئ من ذلك أو غيره
من النبيذ عتق أو لم يعتق خلط بعضها ببعض أو لم يخلط بعد أن يطبخ أما الكلام في نبيذ التمر
والزبيب فقد بيناه وأما في سائر الأنبذة ففي ظاهر الجواب لا بأس بالشرب منه مطبوخا كان
أو غير مطبوخ وفى النوادر روى هشام عن محمد رحمهما الله ان شرب النئ منه بعد ما اشتد
لا يحل لقوله عليه الصلاة والسلام الخمر من خمسة من النخل والكرم والحنطة والشعير والذرة
وليس المراد به أنه خمر حقيقة وإنما المراد التشبيه بالخمر في أنه لا يحل شربه وقد ثبت بالدليل
ان النئ من نقيع الزبيب والتمر إذا كان مشتدا لا يحل شربه فكذلك من سائر الأشربة لان
17

معنى الشدة يجمع الكل وجه ظاهر الرواية ان العسل والذرة والشعير حلان التناول متغيرا
كان أو غير متغير فكذلك ما يتخذ منها من الأشربة لان هذا في معنى الطعام والتغير في
الطعام لا يؤثر في الحرمة فكذلك نفس الشدة لا توجب الحرمة فقد يوجد ذلك في بعض
الأدوية كالبنج وفي بعض الأشربة كاللبن والحديث فيه شاذ والشاذ فيما تعم به البلوي لا يكون
مقبولا وهو محمول على التحريم الذي كان قبل الرخصة لتحقق المبالغة في الزجر ولا حد
على شارب ما يتخذ من العسل والحنطة والشعير والذرة وكذلك ما يتخذ من الفانيد والتوت
والكمثرى وغير ذلك أسكر أو لم يسكر لان النص ورد بالحد في الخمر وهذا ليس في معناه
فلو أوجبنا فيه الحد كان بطريق القياس ثم الحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه ودعاء
الطبع إلى هذه الأشربة لا يكون كدعاء الطبع إلى المتخذ من الزبيب والعنب والتمر فلا يشرع
فيه الزجر أيضا وان اشتد عصير العنب وغلا وقذف بالزبد ثم طبخ بعد ذلك لم يحل بالطبخ
لان الطبخ لاقى عينا حراما فلا يفيد الحل فيه كطبخ لحم الخنزير وهذا لأنه ليس للنار تأثيره في
الحل ولا في تغيير طبع الجوهر بخلاف العصير الحلوا إذا طبخ فالطبخ هناك حصل في عين
حلال وللطبخ تأثير في منع ثبوت صفة الحرمة فيه كما بينا أن الخمر هي التي من ماء العنب
إذا اشتد فإذا طبخ العصير ثم اشتد ما كان نيأ فلا يكون خمرا فاما الأول فحين
اشتد كان نيأ وصار خمرا ثم الطبخ في الخمر لا يوجب تبديل عينه ولهذا يحد من شرب منه
قليلا كان أو كثيرا ولا بأس بنبيذ الفضيخ يعنى إذا صب عليه الماء ثم طبخ وترك حتى اشتد
فهذا لا بأس به لان الطبخ لاقى عينا حلالا ولأنه ان رق فرقته باعتبار ما فيه من اجزاء الماء
والماء حلال الشرب وحده والفضيخ كذلك فكذلك بعد الجمع بينهما قلت فهل يرخص في
شئ من المطبوخ على النصف أو أقل من ذلك وهو حلو قال لا أرخص في شئ من ذلك الا ما قد
ذهب ثلثاه وبقي ثلثه قيل هذا غلط والصحيح هو غير حلو فالحلو حلال وإن كان نيأ كيف
لا يحل بعد الطبخ وقيل المراد به انه طبخ وهو حلو لم يتغير حين ذهب منه النصف أو أقل
ثم ترك حتى اشتد فهذا هو المنصف والقاذف وقد بينا الكلام فيهما في حكم الشراء والبيع
وإذا وقعت قطرة من خمر أو مسكر أو نقيع زبيب قد اشتد في قدح من ماء أمرت بإراقته
وكرهت شربه والتوضؤ به لأنه تنجس بما وقع فيه والتوضؤ بالماء النجس لا يجوز وإذا شربه
فلا بد أن يكون شاربا للقطرة الواقعة فيه وذلك حرام ولأنه اجتمع فيه المعني الموجب للحل
18

والموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة على الموجب للحل فان شرب رجل ماء فيه خمر فإن كان
الماء غالبا بحيث لا يوجد فيه طعم الخمر ولا ريحه ولا لونه لم يحد لان المغلوب مستهلك
بالغالب والغالب ماء نجس ولان الحد للزجر والطباع السليمة لا تدعو إلى شرب مثله على
قصد التلهي فاما إذا كان الخمر غالبا حتى كان يوجد فيه طعمه وريحه وتبين لونه حددته لان
الحكم للغالب والغالب هو الخمر ولان الطباع تميل إلى شرب مثله للتلهي وقد يؤثر المرء
الممزوج على الصرف وقد يشرب بنفسه صرفا ويمزج لجلسائه وهو وان مزجه بالماء
لم يخرج من أن يكون خمرا اسما وحكما ومقصودا ولو لم يجد فيه ريحها ووجد طعمها حد لان
الرغبة في شربها لطعمها لا لريحها (ألا ترى) انه تكلف لاذهاب ريحها ولزيادة القوة في
طبعها ولو ملا فاه خمرا ثم مجه ولم يدخل جوفه منها شئ فلا حد عليه لأنه ذاق الخمر وما شرب
(ألا ترى) انه لا يحنث في اليمين المعقودة على الشرب بهذه وان الصائم لو فعله مع ذكره
للصوم لا يفسد صومه وكذلك الطبع لا يميل إلى هذا الفعل فلا يشرع فيه الزجر بخلاف
شرب القليل فإنه من جنس الشرب والطبع مائل إلى شرب الخمر قلت والتمر المطبوخ يمرس
فيه العنب فيغليان جميعا والعنب غير مطبوخ قال أكره ذلك وأنهى عنه ولا أحد من
شرب منه إلا أن يسكر والكلام في فصلين أحدهما في طبخ العنب قبل أن يعصر فان الحسن
روى عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه بمنزلة الزبيب والتمر يكفي أدنى الطبخ فيه ولكن الحسن
ابن أبي مالك رحمه الله أنكر هذه الرواية وقال سمعت أبا يوسف عن أبي حنيفة يقول إنه لا يحل
ما لم يذهب ثلثا ما فيه بالطبخ وهو الأصح لان الذي في العنب هو العصير والعصر مميز له
عن الثفل والقشر وكما لا يحل العصير بالطبخ ما لم يذهب منه ثلثاه فكذلك العنب فان جمع في
الطبخ بين العنب والتمر أو بين الزبيب والتمر لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه بخلاف ما لو خلط
عصير العنب بنقيع التمر والزبيب وهذا لان العصر لا يحل بالطبخ ما لم يذهب ثلثاه إذا كان وحده
فكذلك إذا كان مع غيره لأنه اجتمع فيه الموجب للحل والحرمة وفى مثله يغلب الموجب
للحرمة احتياطا وذكر المعلى في نوادره أن نقيع التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخه ثم نقع فيه
تمر أو زبيب فإن كان ما نقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله فهو معتبر ولا بأس بشربه
وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل شربه ما لم يطبخ قبل أن يشتد لأنه في معنى نقيع
مطبوخ ولو صب في المطبوخ قدح من نقيع لم يحل شربه إذا اشتد ويغلب الموجب للحرمة
19

على الموجب للحل فهذا مثله ولا يحد في شرب شئ من ذلك ما لم يسكر اما لاختلاف العلماء
رحمهم الله في إباحة شربه أو لان ثبوت الحرمة للاحتياط وفى الحدود يحتال للدرء وللاسقاط
فلا يجب به الحد ما لم يسكر وان خلط الخمر بالنبيذ وشربه رجل ولم يسكر فإن كانت الخمر
هي الغالبة حددته وإن كان النبيذ هو الغالب لم نحده لما بينا ان المغلوب يصير مستهلكا بالغالب
ويكون الحكم للغالب وهذا في الجنسين مجمع عليه والنبيذ والخمر جنسان مختلفان فان أحكامهما
مختلفة فان طبخ الزبيب وحده أو التمر ثم مرس العنب فيه فلا بأس به ما دام حلوا فإذا
اشتد فلا خير فيه وكذلك أن مرس العنب في نبيذ العسل فهو بمنزلة عصير خلط بنبيذ واشتد
فان طبخا جميعا حتى ذهب ثلثا العصير ثم اشتد فلا بأس به لان ما هو الشرط في العصير وهو
ذهاب الثلثين بالطبخ قد وجد والعنب الأبيض والأسود يعصران لا بأس بعصيرهما ما دام
حلوا فإذا اشتد فهو خمر وإنما أورد هذا لأنه وقع عند بعض العوام ان الخمر من العنب
الأسود دون الأبيض هذا وان كأن لا يشكل على الفقهاء فلرد ما وقع عند العوام كما ذكر
في الاصطياد بالكلب الكردي في كتاب الصيد وقد بيناه وما طبخ من التمر والزبيب وعتق
فلا بأس به وقال أبو يوسف رحمه الله أكره المعتق من الزبيب والتمر وأنهى عنه وهذا قوله
الأول على ما ما بينا انه كان يقول أولا كل نبيذ يزداد جودة عند ابانه فلا خيار فيه وقد رجع
عن هذا إلى قول أبي حنيفة وقد ذكر رجوعه في روايات أبى حفص رحمه الله وكذلك نبيذ
التمر المعتق يجعل فيه الراذي وهو شئ يجعلونه في نبيذ التمر عند الطبخ لتقوى به شدته
وينتقص من النفخ الذي هو فيه والشدة بعد الطبخ لا تمنع شربه فكذلك إذا جعل فيه ما تتقوى
به الشدة فذلك يمنع شربه ويكره شرب دردي الخمر والانتفاع به لان الدردي من كل شئ
بمنزلة صافيه والانتفاع بالخمر حرام فكذلك بدرديه وهذا لان في الدردي اجزاء الخمر ولو
وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به فالدردي أولى والذي روى أن سمرة
ابن جندب رضي الله عنه كان يتدلك بدردي الخمر في الحمام فقد أنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك
حتى لعنه على المنبر لما بلغه ذلك عنه وليس لاحد أن يأخذ بذلك بعد ما أنكره عمر رضي الله عنه
ولو شرب منه ولم يسكر فلا حد عليه عندنا وقال الشافعي رحمه الله يلزمه الحد لان الحد يجب
بشرب قطرة من الخمر وفى الدردي قطرات من الخمر ولكنا نقول وجوب الحد للزجر
وإنما يشرع الزجر فيما تميل إليه الطباع السليمة والطباع لا تميل إلى شرب الدردي بل من
20

يعتاد شرب الخمر يعاف الدردي فيكون شربه كشرب الدم والبول ثم الغالب على الدردي
اجزاء ثفل العنب من القشر وغيره ولو كان الغالب هو الماء لم يجب الحد بشربه كما بينا فكذلك
ا ذا كان الغالب ثفل العنب ولا بأس بان يجعل ذلك في خل لأنه يصير خلا فان من طبع
الخمر يصير خلا إذا ترك كذلك فإذا غلب عليه الخل أولى أن يصير خلا وخل الخمر حلال
وإذا طبخ في الخمر ريحان يقال له سوسن حتى يأخذ ريحها ثم يباع لا يحل لاحد أن يدهن
ان يتطيب له لأنه عين الخمر وان تكلفوا لاذهاب رائحته برائحة شئ آخر غلب عليها والانتفاع
بالخمر حرام قد لعن رسول الله صلى عليه وسلم في الخمر عشرا بقوله عليه الصلاة والسلام
لعن الله في الخمر عشرا وقال في الجملة من ينتفع بها ولا تمتشط المرأة بالخمر في الحمام لأنها في
خطاب تحريم الشرب كالرجل وكذلك في وجوب الحد عليها عند الشرب فكذلك في الانتفاع
بها من حيث الامتشاط وذلك شئ يصنعه بعض النساء لأنه يزيد في ترنيق الشعر وقد صح
عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تنهى النساء عن ذلك أشد النهى وكذلك لا يحل أن يسقي
الصبيان الخمر للدواء وغير ذلك والاثم على من يسقيهم لان الاثم ينبنى على الخطاب والصبي
غير مخاطب ولكن من يسقيه مخاطب فهو الآثم والأصل فيه حديث ابن مسعود رضي الله عنه
قال أن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تداووهم بالخمر ولا تغذوهم بها فان الله تعالى
لم يجعل في رجس شفاء وإنما الاثم على من سقاهم ويكره للرجل أن يداوي بها جرحا في
بدنه أو يداوى بها دابته لأنه نوع انتفاع بالخمر والانتفاع بالخمر محرم شرعا من كل وجه
ثم الضرورة لا تتحقق لما بينا انه لابد أن يوجد غير ذلك من الحلال ما يعمل عمله في المداواة
وان غسل الظرف الذي كان فيه الخمر فلا بأس بالانتفاع به ولا بأس أن يجعل فيه النبيذ
والمربى لان الظرف كان تنجس بما جعل فيه من الخمر فهو كما لو تنجس يجعل البول والدم
فيه فيطهر بالغسل وإذا صار طاهرا بالغسل حل الانتفاع به والدليل على أنه يطهر بالغسل
قوله عليه الصلاة والسلام وإنما يغسل الثوب من خمس وذكر فيها الخمر فعرفنا انه يطهر
الثوب بعد ما يصيبه الخمر بالغسل فكذلك الظروف والذي روي أن النبي عليه الصلاة
والسلام أمر بكسر الدنان وشق الروايا قد بينا انه كان في الابتداء للمبالغة في الزجر عن
العادة المألوفة ثم قيل في تأويله المراد ما يشرب فيه الخمر حتى لا يمكن استخراجه بالغسل
وتوجد رائحة الخمر من كل ما يجعل فيه فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فهو يطهر بالغسل فلا
21

يحل كثيره لأنه عين منتفع به بطريق حلال شرعا قلت فالخمر يطرح فيها السمك والملح
فيصنع مربى قال لا بأس بذلك إذا تحولت عن حال الخمر وأصل المسألة أن تحليل الخمر
بالعلاج جائز عندنا ويحل تناول الخل بعد التخليل وعند الشافعي التخليل حرام بالقاء شئ
في الخمر من ملح أو خل ولا يحل ذلك الخل قولا واحدا والتخليل من غير القاء شئ
فيه بالنقل من الظل إلى الشمس أو ايقاد النار بالقرب منه لا يحل عنده أيضا ولكن إذا تخلل
فله قولان في إباحة تناول ذلك الخل واحتج في ذلك بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام
نهى عن تخليل الخمر وفى رواية نهى أن تتخذ الخمر خلا وفى حديث أبي طلحة رضي الله عنه
إن كان في حجره خمور ليتامى فلما نزل تحريم الخمر قال ماذا أصنع بها يا رسول الله قال عليه
الصلاة والسلام أرقها قال أفلا أخللها قال عليه الصلاة والسلام لا فقد أمره بالإراقة ولو
كان التخلل جائزا لأرشده إلى ذلك لما فيه من الاصلاح في حق اليتامى فلما سأله عن التخلل
نهاه عن ذلك فلو كان جائزا لكان الأولى أن يرخص فيه في خمور اليتامى وإذا ثبت بهذه
الاخبار ان التخليل حرام فالفعل المحرم شرعا لا يكون مؤثرا في الحل كذبح الشاة في غير
مذبحها ولان الخمر عين محرم الانتفاع بها من كل وجه والتخليل تصرف فيها على قصد
التمول فيكون حراما كالبيع والشراء وكما لو القى في الخمر شيئا حلوا كالسكر والفانيد حتى صار
حلوا وهذا لان نجاسة العين توجب الاجتناب وفى التخليل اقتراب منه وذلك ضد المأمور
به نصا في قوله عز وجل فاجتنبوه بخلاف الخمر للإراقة فإنه مبالغة في الاجتناب عنه ثم ما يلقى
في الخمر نجس بملاقاة الخمر إياه وما يكون نجسا في نفسه لا يفيد الطهارة في غيره وعلى هذا
الحرف تفصيل بين ما إذا ألقي فيه شئ وبين ما إذا لم يجعل فيه شئ وهذا بخلاف ما إذا
تخلل بنفسه لأنه لم يوجد هناك تنجيس شئ بالقائه فيه ولا مباشرة فعل حرام في الخمر فهو
نظير الصيد إذا خرج من الحرم بنفسه حل اصطياده ولو أخرجه انسان لم يحل ووجب
رده إلى الحرم ومن قتل مورثه يحرم عن الميراث بمباشرته فعلا حراما بخلاف ما إذا مات
بنفسه وحقيقة المعني فيه أن من طبع الخمر ان يتخلل بمضي الزمان فإذا تخللت فقد تحولت
بطبعها وصارت في حكم شئ آخر فأما التخليل فليس بتقليب للعين لأنه ليس للعباد تقليب الطباع
وإنما الذي إليهم احداث المجاورة بين الأشياء فيكون هذا تنجيسا لما يلقى في الخمر لا تقليبا لطبع
الخمر وهو نظير الشاب يصير شيخا بمضي الزمان وبتكليفه لا يصير شيخا فإذا لم يتبدل طبعه
22

بهذا التخليل بقي صفة الخمرية فيه وان كأن لم يطهر كما إذا ألقى فيه شيئا من الحلاوة وهذا بخلاف
جلد الميتة إذا دبغ فان نجاسة الجلد بما اتصل به من الدسومات النجسة والدبغ إزالة لتلك
الدسومة والى العباد الفصل والتمييز بين الأشياء فكان فعله اصلاحا من حيث أنه يميز به الطاهر
من النجس فأما نجاسة الخمر فلعينها لا لغير اتصل بها وإنما تنعدم هذه الصفة بتحولها بطبعها ولا
أثر للتخليل في ذلك * وحجتنا في ذلك ما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال أيما إهاب
دبغ فقد طهر كالخمر يخلل فيحل ولا يقال قد روى كالخمر تخلل فحل لان الروايتين
كالخبرين فيعمل بهما ثم ما رويناه أقرب إلى الصحة لأنه شبه دبغ الجلد به والدبغ يكون
بصنع العباد لا بطبعه فعرفنا ان المراد التخليل الذي يكون بصنع العباد والمعنى فيه أن هذا
صلاح لجوهر فاسد فيكون من الحكمة والشرع أن لا ينهى عما هو حكمة وبيان الوصف أن
الخمر جوهر فاسد فاصلاحه بإزالة صفة الخمرية عنه والتخليل إزالة لصفة الخمرية فعرفنا انه
اصلاح له وهو كدبغ الجلد فان عين الجلد نجس ولهذا لا يجوز بيعه ولو كانت النجاسة بما
اتصل به من الدسومات لجوز بيعه كالدسومات النجسة ولكن الدبغ اصلاح له من حيث إنه
يعصمه عن النتن والفساد فكان جائزا شرعا ولا معنى لما قال إن هذا فساد في الحال لما
يلقى فيه لأنه هذا موجود في دبغ الجلد فإنه افساد لما يجعل فيه من الشب والقرظ وهذا
اصلاح باعتبار مآله والعبرة للمآل لا للحال فان القاء البذر في الأرض يكون اتلافا للبذر في
الحال ولكنه اصلاح باعتبار مآله وبهذا يتبين أن التخليل ليس بتصرف في الخمر على قصد
تمول الخمر بل هو اتلاف لصفة الخمرية وبين تمول الخمر واتلاف صفة الخمرية منافاة فما
كان الاقتراب من العين لاتلاف صفة الخمرية الا نظير الاقتراب منها لإراقة العين وذلك
جائز شرعا ونحن نسلم أن تقليب الطباع ليس إلي العابد وإنما إليهم احداث المجاورة ولكن
احداث المجاورة بين الخل والخمر بهذه الصفة يقوى على اتلاف صفة الخمرية بتحولها إلى طبع
الحل في أسرع الأوقات فكان هذا أقرب إلى الجواز من الامساك وإذا جاز الامساك إلى
أن يتخلل فالتخليل أولى بالجواز وأما إذا ألقى فيه شيئا من الحلاوة فذلك ليس باتلاف لصفة
الخمرية لأنه ليس من طبع الخمر أن يصير حلوا فعرفنا أن معنى الشدة والمرارة قائم فيه
وان كأن لا يظهر لغلبة الحلاوة عليه فأما من طبع الخمر أن يصير خلا فيكون التخليل اتلافا
لصفة الخمرية كما بينا * يوضحه أن من وجه فعليه أحداث المجاورة ومن وجه اتلاف لصفة
23

الخمرية كما قلنا فيوفر حظه عليهما فيقول لاعتبار جانب احداث المجاورة لا يحل بالقاء شئ من
الحلاوات فيه ولاعتبار جانب اتلاف صفة الخمرية يحل التخليل فاما ما روى من النهى عن
التخليل فالمراد أن يستعمل الخمر استعمال الخل بان يؤتدم به ويصطبغ به وهو نظير ما روي
أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تحليل الحرام وتحريم الحلال وان تتخذ الدواب كراسي
والمراد الاستعمال ولما نزل قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال عدى
ابن حاتم رضي الله عنه ما عبدناهم قط قال النبي صلى الله عليه وسلم أليس كانوا يأمرون وينهون
فيطيعونهم قال نعم فقال عليه الصلاة والسلام هو ذاك قد فسر الاتخاذ بالاستعمال وفى حديث أبي
طلحة ذكر بعض الرواة أفلا أخللها قال نعم وان صح ما روى فإنما نهى عن التخليل في
الابتداء للزجر عن العادة المألوفة فقد كان يشق عليهم الانزجار عن العادة في شرب الخمر فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمور ونهى عن التخليل لذلك كما أمر بقتل الكلاب للمبالغة
في الزجر عن العادة المألوفة في اقتناء الكلاب ثم كأن لا يأمن عليهم أن يعفوا في خمور اليتامى
إذا لم يبق بأيديهم شئ من الخمر فأمر في خمور اليتامى أيضا بالإراقة للزجر والواجب على
الوصي المنع من افساد مال اليتيم لا اصلاح ما فسد منه (ألا ترى) ان شاة اليتيم إذا ماتت
لا يجب على الوصي دبغ جلدها وإن كان لو فعله جاز فكذلك لا يجب عليه التخليل وإن كان
لو فعله كان جائزا إذا ثبت جواز التخليل فكذلك جواز اتخاذ المربى من الخمر بالقاء الملح
والسمك فيه لأنه اتلاف لصفة الخمرية كما في التخليل والذي روى عن عمر رضي الله عنه انه
نهى عن ذلك يعارضه ما روى أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن ذلك فقال لا بأس به ثم
تأويل حديث عمر رضي الله عنه مثل ما بينا من تأويل الحديث المرفوع انه نهى عن ذلك
على طريق السياسة للزجر ولا يحل للمسلم بيع الخمر ولا أكل ثمنها لان الله تعالى سماها رجسا
فيقضى ذلك بنجاسة العين وفساد المالية والتقوم كما في الميتة والدم ولحم الخنزير وقد امر بالاجتناب
عنها فاقتضى ذلك أن لا يجوز للمسلم الاقتراب منها على جهة التمول بحال وفى الحديث أن أبا
عامر كان يهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر كل عام فأهدى له في العام التي
حرمت فيه فقال عليه الصلاة والسلام ان الله قد حرم الخمر فلا حاجة لي في خمرك قال خذها
وبعها وانتفع بثمنها في حاجتك فقال عليه الصلاة والسلام يا أبا عامر ان الذي حرم شربها حرم
بيعها وأكل ثمنها وسئل ابن عمر رضي الله عنه عن بيع الخمر وأكل ثمنها فقال قاتل الله اليهود
24

حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها وان الذي حرم الشرب حرم بيعها وأكل
ثمنها وممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر بائعها ومشتريها فان صنع الخمر في
مرقه ثم طبخ لم يحل أكله ولا يحل هذا الصنع لان فيه استعمال الخمر كاستعمال الخل وقد
بينا ان هذا منهى عنه ثم الطبخ في الخمر لا يحلها ولا يغير الحكم الثابت فيها كما لو طبخها
لا في مرقه ولكن لا يحد من شرب تلك المرقة لان الغالب عليه غير الخمر وقد بينا ان
المعتبر هو الغالب في حكم الحد ولان وجوب الحد بشرب الخمر والمرقة تؤكل مع الطعام
والأكل غير الشرب ولهذا لا نوجب الحد في الدردي لأنه إلى الأكل أقرب منه إلى الشرب
ويكره الاحتقان بالخمر والأقطار منها في الإحليل ولا حد في ذلك أما الاستشفاء بعين الخمر
فقد بينا انه لا يحل عندنا والشافعي يجوز ذلك إذا أخبره عدلان ان شفاءه في ذلك ولا حد
عليه لشبهة اختلاف العلماء رحمهم في الله في إباحة هذا الفعل ولحاجته إلى التداوي ثم ما يقطر في
إحليله لا يصل إلى جوفه ولهذا لا يفطره عند أبي حنفية ومحمد رحمها الله والحقنة وان كانت
مفطرة فالحد لا يلزمه فيما يصل إلى جوفه من أسافل البدن لان الحد للزجر والطبع لا يميل
إلى ذلك والتمر يطبخ ويطبخ معه الكشوثا فنبذ فلا بأس به لان ما يطبخ معه يزيد في شدته
وقد بينا ان الشدة لا توجب الحرمة في المطبوخ من التمر ولو عجن الدقيق بالخمر ثم خبز
كرهت أكله لان الدقيق تنجس بالخمر والعجين النجس لا يطهر بالخبز فلا يحل أكله ولو
صب الخمر في حنطة لم يؤكل حتى تغسل لأنها تنجست بالخمر فان غسل الحنطة وطحنها
ولم يوجد فيها طعم الخمر ولا ريحها فلا بأس بأكلها لأن النجاسة كانت على ظاهرها وقد
زالت بالغسل بحيث لم يبق شئ من آثارها فهو وما لو تنجست ببول أو دم سواء فان تشربت
الخمر في الحنطة فقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف تغسل ثلاث مرات وتجفف في كل
مرة فتطهر وعند محمد رحمه الله لا تطهر بحال لان الغسل إنما يزيل ما على طاهرها فاما ما تشرب
فيها فلا يستخرج الا بالعصر والعصر في الحنطة لا يتأتى وهو إلى القياس أقرب وما قاله أبو
يوسف أرفق بالناس لأجل البلوى والضرورة في جنس هذا فان هذا الخلاف في فصول منها
التروي إذا تشرب البول فيه واللوح والآجر والخزف الجديد والنعل في الحمام وما أشبه ذلك
فان للتجفيف أثرا في استخراج ما تشرب منه فيقام التجفيف في كل مرة مقام العصر فيما
يتأتى فيه العصر فيحكم بطهارته ويكره أن يسقى الدواب الخمر لأنه نوع انتفاع بالخمر واقتراب
25

منها على قصد التمول ولذلك يكره للمسلم أن يسقيها أو المسكر الذمي كما لا يحل له أن يشربها
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر ساقيها كما لعن شاربها وإن كان لرجل دين
على رجل فقضاه من ثمن خمرا أو خنزير لم يحل له أن يأخذه إلا أن يكون الذي عليه الدين
كافرا فلا بأس حينئذ أن يأخذها منه لأنها مال متقوم في حق الكافر فيجوز بيعه ويستحق
البائع ثمنه ثم المسلم يأخذ ملك مديونه بسبب صحيح وما يأخذه عوض عن دينه في حقه
لا ثمن الخمر فاما بيع الخمر من المسلم فباطل والثمن غير مستحق له بل هو واجب الرد على
من أخذ منه وصاحب الدين ليس يأخذ ملك مديونه بل ملك الغير الحاصل عند بسبب
فاسد شرعا فيكون هو بهذا الاخذ مقررا الحرمة والفساد وذلك لا يحل ولا بأس ببيع العصير
ممن يجعله خمرا لان العصير مشروب طاهر حلال فيجوز بيعه وأكل ثمنه ولا فساد في قصد
البائع إنما الفساد في قصد المشترى ولا تزر وازرة وزر أخرى (ألا ترى) أن بيع الكرم
ممن يتخذ الخمر من عينه جائز لا بأس به وكذلك بيع الأرض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من
عنبه الخمر وهذا قول أبي حنيفة وهو القياس وكره ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله استحسانا
لان بيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا إعانة على المعصية وتمكين منها وذلك حرام وإذا
امتنع البائع من البيع يتعذر على المشترى اتخاذ الخمر فكان في البيع منه تهييج الفتنة وفى
الامتناع تسكينها ومن اهراق خمر مسلم فلا ضمان عليه لان الخمر ليس بمال متقوم في حق
المسلم واتلاف ما ليس بمال متقوم لا يوجب الضمان كاتلاف الميتة وهذا لأن الضمان إنما يجب
جبرا لما دخل على المتلف عليه من نقصان المالية وإن كان سكر أو طلاء قد طبخ حتى ذهب
ثلثه أو ربعه فأهراقه رجل فعليه قيمته عند أبي حنيفة ولا شئ عليه في قول أبي يوسف
ومحمد وهذا بناء على اختلافهم في جواز البيع فان أبا حنيفة لما جوز البيع في هذه الأشربة
كانت المالية والتقوم فيها ثابته فقال إنها مضمونه على المتلف ولكن بالقيمة لا بالمثل لأنه
ممنوع من تمليك عينها وإن كان لو فعل ذلك جاز وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشربة كما
لا يجوز بيع الخمر فلا يجب الضمان على متلفها أيضا وفى الكتاب قال قلت من أين اختلفا قال
الخمر حرام وهذا ليس كالخمر إنما هو شئ نكرهه نحن ومعنى هذا أن حرمة الخمر ثبتت
بالنص فتعمل في اسقاط المالية والتقوم وحرمة هذه الأشربة لم تكن بنص مقطوع به فلا
تسقط المالية والتقوم به فان غصب من مسلم خمرا فصارت في يده خلا ثم وجدها صاحبها
26

فهو أحق بها لأن العين كانت مملوكة له والعين باقية بعد التخلل والكلام في هذا وفى جلد
الميتة إذا دبغه الغاصب قد بيناه في كتاب الغصب ولا بأس بطعام المجوس وأهل الشرك
ما خلا الذبائح فان النبي صلى الله عليه وسلم كأن لا يأكل ذبائح المشركين وكان يأكل ما سوى
ذلك من طعامهم فإنه كان يجيب دعوة بعضهم تأليفا لهم على الاسلام فاما ذبائح أهل الكتاب
فلا بأس بها لقوله تعالى وطعام الذي أوتوا الكتاب حل لكم ولا بأس بالأكل في أواني
المجوس ولكن غسلها أحب إلى وأنظف لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن طبخ المرقة
في أواني المشركين فقال عليه الصلاة والسلام اغسلوها ثم اطبخوا فيها ولان الآنية تتخذ مما هو
طاهر والأصل فيها الطهارة إلا أن الظاهر أنهم يجعلون فيها ما يصنعونه من ذبائحهم فيستحب
غسلها لذلك وان ترك ذلك وتمسك بالأصل لم يضره وهو نظير الصلاة في سراويل المجوس
وقد بيناه في كتاب الصلاة ولا بأس بالجبن وإن كان من صنعة المجوس لما روى أن غلاما
لسلمان رضي الله عنه أتاه يوم القادسية بسلة فيها جبن وخبز وسكين فجعل يقطع من ذلك
الجبن لأصحابه فيأكلونه ويخبرهم كيف يصنع الجبن ولان الجبن بمنزلة اللبن ولا بأس بما
يجلبه المجوس من اللبن إنما لا يحل ما يشترط فيه الذكاة إذا كان المباشر له مجوسيا أو مشركا
والزكاة ليست بشرط لتناول اللبن والجبن فهو نظير سائر الأطعمة والأشربة بخلاف الذبائح
وهذا لان الذكاة إنما تشترط فيما فيه الحياة ولا حياة في اللبن وقد بينا ذلك في النكاح وعلى
هذا الأصل الشاة إذا ماتت وفي ضرعها لبن عند أبي حنيفة رحمه لا يتنجس اللبن بموتها
وعلى قول الشافعي يتنجس لان اللبن عنده حياة وعند أبي يوسف ومحمد يتنجس بتنجس
الوعاء بمنزلة لبن صب في قصعة نجسة وأبو حنيفة رحمه الله يقول لو كان اللبن يتنجس بالموت
لتنجس بالحلب أيضا فان ما أبين من الحي ميت فإذا جاز أن يحلب اللبن فيشرب عرفنا انه
لا حياة فيه فلا يتنجس بالموت ولا بنجاسة وعائه لأنه في معدنه ولا يعطى الشئ في معدنه حكم
النجاسة (ألا ترى) ان في الأصل اللبن إنما يخرج من موضع النجاسة قال الله تعالى من بين
فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وعلى هذا إنفحة الميتة عند أبي حنيفة رحمه لله طاهرة
مائعة كانت أو جامدة بمنزلة اللبن وعند الشافعي نجسة العين وعند أبى يوسف ومحمد ان
كانت مائعة فهي نجسة بنجاسة الوعاء كاللبن وان كانت جامدة فلا بأس بالانتفاع بها بعد
الغسل لان بنجاسة الوعاء لا يتنجس باطنها وما على ظاهرها يزول بالغسل وأشار لأبي حنيفة
27

رحمه الله في الكتاب إلى حرف فقال لأنها لم تكن إنفحة ولا لبنا وهي ميتة ولا يضرها موت
الشاة يعنى ان اللبن والإنفحة تنفصل من الشاة بصفة واحدة حية كانت الشاة أو ميتة ذبحت
أو لم تذبح فلا يكون لموت الشاة تأثير في اللبن والإنفحة وعلى هذا لو ماتت دجاجة فوجد
في بطنها بيضة فلا بأس بأكل البيضة عندنا وعنده ان كانت صلبة فكذلك وان كانت لينة لم
يجز الانتفاع بها كاللبن والإنفحة على أصله ولو سقى شاة خمرا ثم ذبحت ساعتئذ فلا بأس بلحمها
وكذلك لو حلب منها اللبن فلا بأس بشربه لان الخمر صارت مستهلكة بالوصول إلى جوفها
ولم تؤثر في لحمها ولا في لبنها وهي على صفة الخمرية بحالها فلهذا لا بأس بأكل لحمها وشرب لبنها
ولو صب رجل خابية في خمر في نهر مثل الفرات أو أصغر منه ورجل أسفل منه فمرت به
الخمر في الماء فلا بأس بان يشرب من ذلك الماء إلا أن يكون يوجد فيه طعمها أو ربحها فلا
يحل له حينئذ بخلاف ما لو وقعت قطرة من خمر في اناء فيه ماء لان ماء الاناء قد تنجس فلا
يحل شربه وان كأن لا يوجد فيه طعم الخمر وأما الفرات فلا يتنجس إذا لم يتغير طعمه ولا
رائحته بما صب فيه لقوله عليه الصلاة والسلام خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ الا ما غير طعمه
أو لونه أو ريحه والمراد الماء الجاري ثم ما صب في الفرات يصير مغلوبا مستهلكا بالماء فما
يشربه الرجل ماء الفرات ولا بأس بشرب ماء الفرات الا إذا كان يوجد فيه ريح الخمر
أو طعمها فيستدل بذلك على وجود عنى الخمر فيما شربه والصحيح من المذهب في الجيفة
الواقعة في نهر يجرى فيه الماء أنه إن كان جميع الماء أو أكثره يجرى على الجيفة ذلك الماء نجس
وإن كان أكثره لا يجرى على الجيفة فهو طاهر لان الأقل يجعل تبعا للأكثر فيما تعم به
البلوى وإذا خاف المضطر الموت من العطش فلا بأس من يشرب من الخمر ما يرد عطشه
عندنا وقال الشافعي لا يحل شرب الخمر للعطش لان الخمر لا ترد العطش بل تزيد في عطشه
لما فيها من الحرارة ولكنا نقول لا بأس بذلك لقوله تعالى الا ما اضطررتم إليه الآية فإن كان
ت في الميتة ففيها بيان ان موضع الضرورة مستثنى من الحرمة الثابتة بالشرع وحرمة الخمر
ثابتة بالشرع كحرمة الميتة ولحم الخنزير ولا بأس بالإصابة منها عند تحقق الضرورة بقدر
ما يدفع الهلاك به عن نفسه وشرب الخمر يرد عطشه في الحال لان في الخمر رطوبة وحرارة
فالرطوبة التي فيها ترد عطشه في الحال ثم بالحرارة التي فيها يزداد العطش في الثاني والى أن
يهيج ذلك به ربما يصل إلى الماء فعرفنا انه يدفع الهلاك به عن نفسه ولا يحل له أن يشرب
28

منها إلى السكر لان الثابت للضرورة يتقدر بقدر الضرورة فان سكر نظرنا فإن لم يزد على
ما يسكن عطشه فلا حد عليه لان شرب هذا المقدار حلال وهو وان سكر من شرب الحلال
لا يلزمه الحد كما لو سكر من اللبن أو البنج وان استكثر منه بعد ما سكن عطشه حتى سكر
فعليه الحد لان بعد ما سكن عطشه وهو غير مضطر فالقليل والكثير منها سواء في حكمه
فمقدار ما شرب بعد تسكين العطش حرام عليه وذلك يكفي في ايجاب الحد عليه وكذلك
النبيذ إذا شرب منه فوق ما يجزئه حتى سكر لما بينا أن السكر من النبيذ موجب للحد كشرب
الخمر ولا ضرورة له في شرب القدح المسكر فعليه الحد لذلك وإذا كان مع رقيق له ماء كثير
فأبى أن يسقيه حل له أن يقاتله عليه بما دون السلاح لأن الماء محرز مملوك لصاحبه بمنزلة
الطعام إلا أن الماء في الأصل كان مباحا مشتركا وذلك الأصل بقي معتبرا بعد الاحراز
حتى لا يتعلق القطع بسرقته فلاعتبار إباحة الأصل قلنا يقاتله بما دون السلاح ولكونه مالا مملوكا
له في الحال له أن يقاتله عليه بالسلاح لقوله عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد
فكيف يقاتل بالسلاح من إذا قتله كان شهيدا وفي الماء المباح إذا منعه منه قاتله بالسلاح
وقد بينا ذلك في كتاب الشرب فاما في الطعام فلا يحل له أن يقاتله ولكنه يغصبه إياه ان استطاع
فيأكله ثم يعطيه ثمنه بعد ذلك لأنه ما كان للمضطر حق في هذا الطعام قط ولكن الطعام
ملك لصاحبه فهو يمنع الغير من ملكه وذلك مطلق له شرعا فلا يجوز لاحد أن يقاتله على ذلك
ولكن المضطر يخاف الهلاك على نفسه وذلك مبيح له التناول من طعام الغير بشرط الضمان
وهو إنما يتأتى بفعل مقصور على الطعام غير متعد إلى صاحبه والمقصور على الطعام الاخذ فاما
القتال فيكون مع صاحب الطعام لا مع الطعام فلهذا لا يقاتله بالسلاح ولا بغيره فإن كان
الرقيق الذي معه الماء يخاف على نفسه الموت إن لم يحرز ماءه فإنه يأخذ منه بعضه ويترك بعضه
لان الشرع ينظر للكل وإنما يحل للمضطر شرعا دفع الهلاك عن نفسه بطريق لا يكون فيه
هلاك غيره وفى أخذ جميع الماء منه هلاك صاحب الماء لقلته بحيث لا يدفع الهلاك إلا عن
أحدهما فليس له أن يأخذه من صاحب الماء لان حقه في ملكه مقدم على حق غيره ثم ذكر
بعد هذا مسائل قد بينا أكثرها في الحدود فقال يضرب الشارب الحد بالسوط في إزار
وسراويل ليس عليه غيرها لان جنايته مغلظة كجناية الزاني فينزع عنه ثيابه عند إقامة الحد عليه
ليخلص الألم إلى بدنه والمرأة في حد الشرب كالرجل على قياس حد الزنا ويفرق الضرب على
29

أعضائها كما في حق الرجل الا انها لا تجرد عن ثيابها لان بدنها عورة وكشف العورة حرام
ولكن ينزع عنها الحشو والفر ولكي يخلص الألم إلى بدنها فإن لم يكن عليها غير جبة محشوة لم
ينزع ذلك عنها لان كشف العورة لا يحل بحال وكذلك لا يطرح عنها خمارها وتضرب قاعدة
ليكون أستر لها هكذا قال علي رضي الله عنه يضرب الرجال قياما والنساء قعودا والأصل في
حد الشرب ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر وعنده أربعون رجلا
فامرهم أن يضربوه فضربوه كل رجل منهم بنعليه فلما كان زمان عمر رضي الله عنه جعل ذلك
ثمانين سوطا والخبر وإن كان من أخبار الآحاد فهو مشهور وقد تأكد باتفاق الصحابة رضي الله عنه
م إنما العمل به في زمن عمر رضي الله عنه فإنه جعل حد الشرب ثمانين سوطا من هذا
الحديث لأنه لما ضربه كل رجل منهما بنعليه كان الكل في معنى ثمانين جلدة والاجماع حجة
موجبة للعمل فيجوز اثبات الحد به وفيما يجب عليه الحد بالسكر فحد السكر الذي يتعلق به الحد
عن أبي حنيفة أن لا يعرف الأرض من السماء ولا الأنثى من الذكر ولا نفسه من حمار وعند أبي
يوسف ومحمد ان يختلط كلامه فلا يستقر في خطاب ولا جواب واعتبرا العرف في ذلك
فان من اختلط كلامه بالشرب يسمى سكران في الناس وتأيد ذلك بقوله تعالى لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر النهاية فقال في الأسباب
الموجبة للحد تعتبر النهاية كما في السرقة والزنا ونهاية السكر هذا أن يغلب السرور على عقله
حتى لا يميز شيئا عن شئ وإذا كان يميز بين الأشياء عرفنا انه مستعمل لعقله مع ما به من السرور
ولا يكون ذلك نهاية السكر وفى النقصان شبهة العدم والحدود تندرئ بالشبهات ولهذا
وافقهما في السكر الذي يحرم عنده الشرب إذا المعتبر اختلاط الكلام لان اعتبار النهاية فيه
يندرئ بالشبهات والحل والحرمة يؤخذ فيهما بالاحتياط وأيد هذا ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه
ما قال من بات سكران بات عروس الشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح وهذا إشارة إلى
أن السكران من لا يحس بشئ مما يصنع به وأكثر مشايخنا رحمهم الله على قولهما وحكى ان
أئمة بلخ رحمهم الله اتفقوا على أنه يستقرأ سورة من القرآن فان أمكنه أن يقرأها فليس
بسكران حتى حكى ان أميرا ببلخ أتاه بعض الشرط بسكران فأمره الأمير أن يقرأ قل يا أيها
الكافرون فقال السكران للأمير أقر أنت سورة الفاتحة أولا فلما قال الأمير الحمد لله رب
العالمين فقال قف فقد أخطأت من وجهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية
30

وهي آية من الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي الذي
جاء به يقول له أمرتك أن تأتيني بسكران فجئتني بمقرئ بلخ وإذا شهد عليه الشهود بالشرب
وهو سكران حبسه حتى يصحو لان ما هو المقصود لا يتم بإقامة الحد عليه في حال سكره وقد
بينا هذا والمملوك فيما يلزمه من الحد بالشرب كالحر إلا أن على المملوك نصف ما على الحر
لقوله تعالى فعلين نصف ما على المحصنات من العذاب ولا حد على الذمي في شئ من الشراب
لأنه يعتقد إباحة الشرب واعتقاد الحرمة شرط في السبب الموجب للحد وهذا لان الحد
مشروع للزجر عن ارتكاب سببه وبدون اعتقاد الحرمة لا يتحقق هذا ثم قد بينا ان الحكم
الخطاب قاصر عنهم في أحكام الدنيا لأنا أمرنا أن نتركهم وما يعتقدون ولهذا بقي الخمر مالا
متقوما في حقهم ولهذا قلنا المجوسي إذا تزوج أمة ودخل بها لم يلزمه الحد وإن كان يقام عليه
الحد بالزنا ولا يحد المسلم بوجود ريح الخمر منه حتى يشهد الشهود عليه بشربها أو يقر لان ربح
الخمر شاهد زور فقد يوجد ريح الخمر من غير الخمر فان من استكثر من أكل السفرجل بوجد مه
ريح الخمر ومنه قول القائل
يقولون لي أنت شربت مدامة * فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وقد توجد رائحة الخمر ممن شربها مكرها أو مضطرا لدفع العطش فلا يجوز أن يعتمد ربحها
في إقامة الحد عليه ولو شهد عليه واحد انه شربها وآخر انه قاءها لم يحد لان من شربها مكرها
أو مضطرا قد يقئ الخمر فسقط اعتبار شهادة الشاهد وإنما بقي على الشرب شاهد واحد
وكذلك لو شهد على الشرب والريح منه موجود فاختلفا في الوقت لان الشرب فعل فعند
اختلافهما في الوقت يكون كل واحد منهما شاهدا بفعل آخر وكذلك لو شهد أحدهما انه
شربها وشهد الآخر انه أقر بشربها فإنه لا معتبر بالشهادة على الاقرار بالشرب لأنه لو
أقر ثم رجع لا يقام عليه الحد ولان الشهادة قد اختلفت فأحدهما يشهد بالفعل والآخر بالقول
وكذلك لو شهد أحدهما أنه سكران من الخمر وشهد الآخر انه سكران من السكر فإنما شهد
كل واحد منهما بفعل آخر ولا يقال ينبغي أن يقام عليه الحد لما يرى من سكره لأنه قد يكون
سكران من غير الشرب أو من الشرب بالايجار أو الاكراه على الشرب أو كان الشرب
على قصد التداوي وقد بينا أن ذلك غير موجب للحد عليه ولا يحد باقراره في حال سكره
من الخمر لان السكران لا يثبت على كلام واحد ولكنه يتكلم بالشئ وبضده والاصرار على
31

الاقرار بالسبب لا بد منه لايجاب حد الخمر ولو أقر عند القاضي انه شرب أمس خمرا لم يحد
أيضا وإنما يحد إذا أتاه ساعة شرب والريح يوجد منه في قول أبي حنيفة وأبى يوسف وفى
قول محمد يؤخذ باقراره متى جاء مثل حد الزنا وقد بينا هذه المسألة في كتاب الحدود بالبينة
والاقرار جميعا وإذا أكره على شرب الخمر لا يحد لان الشرب في حال الاكراه مباح له على
ما بيننا ان موضع الضرورة مستثنى من الحرمة ولان الحد مشروع للزجر وقد كان منزجرا حين
لم يقدم على الشرب ما لم تتحقق الضرورة بالاكراه وإذا أسلم الحربي وجاء إلى دار الاسلام ثم
شرب الخمر قبل أن يعلم أنها محرمة عليه لم يحد لان الخطاب لم يبلغه فلا يثبت حكم الخطاب في
حقه وهذا بخلاف المسلم المولود في دار الاسلام إذا شرب الخمر ثم قال لم أعلم أنها حرام لان
حرمة الخمر قد اشتهرت بين المسلمين في دار الاسلام فالظاهر يكذب المولود في دار الاسلام
فيما يقول والظاهر لا يكذب الذي جاء من دار الحرب فيما يقول فيعذر بجهله ولا يقام عليه
الحد بخلاف ما إذا زنى أو شرب أو سرق فإنه يقام عليه الحد ولا يعذر بقوله لم أعلم لان حرمة
الزنا والسرقة في الأديان كلها فالظاهر يكذبه إذا قال لم أعلم بحرمتها ولان حد السرقة والزنا مما
تجوز اقامته على الكافر في حال كفره وهو الذمي فبعد الاسلام أولى أن يقام بخلاف حد الخمر
ولان حد الزنا والسرقة ثبت بنص يتلى وحد الخمر بخبر يروى فكان أقرب إلى الدرء من حد الزنا
والسرقة ويستوى في حد الزنا ان طاوعته المرأة على ذلك في دار الاسلام أو أكرهها لان
حرمة الزنا في حقهما جميعا قد اشتهرت وإذا شرب قوم نبيذا فكر بعضهم دون بعض حد
من سكر لان مشروب بعضهم غير مشروب البعض فيعتبر في حق كل واحد منهم حاله
كأنه ليس معه غيره (ألا ترى) أن القوم إذا سقوا خمرا على مائدة فمن علم أنه خمر لزمه
الحد ومن لم يعلم ذلك منهم لم يلزمه الحد والمحرم في حد الخمر كالحلال لأنه لا تأثير للمحرم
والاحرام في إباحة الشرب ولا في المنع من إقامة هذا الحد وإذا قذف السكران رجلا
حبس حتى يصحو ثم يحد للقذف ويحبس حتى يخف عنه الضرب ثم يحد للسكر لان حد القذف
في معنى حق العباد وسكره لا يمنع وجوب الحد عليه بقذفه لأنه مع سكره مخاطب (ألا
ترى) أن بعض الصحابة رضي الله عنهم أخذ حد الشرب من القذف على ما روى عن علي
رضي الله عنه قال إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وحد المفترين في كتاب الله ثمانون جلدة
وإذا شرب الخمر في نهار رمضان حد حد الخمر ثم يحبس حيت يخف عنه الضرب ثم يعزر
32

لافطاره في شهر رمضان لان شرب الخمر ملزم للحد ومهتك حرمة الشهر والصوم يستوجب
التعزير ولكن الحد أقوى من التعزير فيبتدأ بإقامة الحد عليه ثم لا يوالي بينه وبين التعزير لكي يؤدى
إلى الاتلاف والأصل فيه حديث علي رضي الله عنه انه أتى بالنجاشي الحارثي قد شرب الخمر
فحده ثم حبسه حتى إذا كان الغد أخرجه فضربه عشرين سوطا وقال هذا لجرأتك على الله
وافطارك في شهر رمضان * رجل ارتد عن الاسلام ثم أتى به الامام وقد شرب خمرا أو سكر
من غير الخمر أو سرق أو زنا ثم ناب وأسلم فإنه يحد في جميع ذلك ما خلا الخمر والسكر فإنه
لا يحد فيهما لان المرتد كافر وحد الخمر والسكر لا يقام على أحد من الكفار لما بينا انه يعتقد
إباحة سببه فإذا كان ارتكابه سببه في حال يعتقد اباحته لا يقام ذلك عليه فاما حد الزنا والسرقة
فيقام على الكافر لاعتقاده حرمة سببه فيقام على المرتد بعد اسلامه أيضا كالذمي إذا باشر ذلك
ثم أسلم وإن لم يتب فلا حد عليه في شئ من ذلك غير حد القذف لان حد الزنا والسرقة
خالص في حق الله تعالى وقد صارت مستحقة لله تعالى فإنه يقتل على ردته ومتى اجتمع في
حق الله تعالى النفس وما دونها يقتل ويلغى ما سوى ذلك وأما حد السرقة ففيه معنى حق
العبد فيقام عليه ويضمن السرقة لحق المسروق منه فان شرب وهو مسلم فلما وقع في يد الامام
ارتد ثم تاب لم يجد وإن كان زنا أو سرق أقيم عليه الحد لان ما اعترض من الردة يمنع وجوب
حد الخمر والسكر عليه فيمنع بقاؤه ولا يمنع وجوب حد الزنا والسرقة فكذلك لا يمنع
البقاء وقد قال في آخر الكتاب إذا ارتد عن الاسلام ثم سرق أو زنا أو شرب الخمر أو سكر
من غير الخمر ثم تاب وأسلم لم يحد في شئ من ذلك الا في القذف فإن لم يتب لم يقم عليه أيضا
شئ من الحدود غير حد القذف ويقتل وان أخذته وهو مسلم شاربا خمرا أو زانيا أو سارقا
فلما وقع في يدك ارتد عن الاسلام فاستتبته فتاب أقيم عليه الحدود الا حد الخمر وهذه
الرواية تخالف الرواية الأولى في فصل واحد وهو انه إذا زنا أو سرق في حال ردته لا يقام
عليه الحد بعد توبته كما لا يقام قبل توبته لا المرتد بمنزلة الحربي فإنه اعتقد محاربته لو تمكن
منها والحربي إذا ارتكب شيئا من الأسباب الموجبة للحد ثم أسلم لا يقام عليه الحد فكذلك
المرتد وفرق على هذه الرواية بين هذا وبين ما إذا زنا أو سرق وهو مسلم ثم ارتد ثم أسلم
فقال هناك حين ارتكب السبب ما كان حربيا للمسلمين فيكون مستوجبا للحد ولم يزل تمكن
الامام من اقامته عليه بنفس الردة الا انه كأن لا يشتغل به قبل توبته لاستحقاق نفسه بالردة
33

وقد انعدم بالاسلام فلهذا يقام عليه وتزويج السكران ولده الصغير وهبته وما أشبه ذلك من
تصرفاته قولا أو فعلا صحيح لأنه مخاطب كالصاحي وبالسكر لا ينعدم عقله إنما يغلب عليه
السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يؤثر في تصرفه سواء كان شرب مكرها أو طائعا
فاما إذا شرب البنج أو شيئا حلوا فذهب عقله لم يقع طلاقه في تلك الحالة لأنه بمنزلة المعتوه
في التصرفات وان شهد رجلان على شهادة سكران أو شهد السكران على شهادة رجلين لم
يصح ذلك من قبل أنه رجل فاسق وانه سكران لا يستقر على شئ واحد فيما يخبر به لهذا
لو ارتد في حال سكره لا تبين منه امرأته استحسانا قال لا أظن سكرانا ينفلت من هذا وأشباهه
وقد بينا هذا في السير وإذا أتى الامام برجل شرب خمرا وشهد به عليه شاهدان فقال إنما
أكرهت عليه أو قال شربتها ولم أعرفها أقيم عليه الحد لان السبب الموجب للحد قد ظهر
وهو يدعى عذرا مسقطا فلا يصدق على ذلك ببينة إذ لو صدق عليه من غير بينة لانسد باب
إقامة حد الخمر أصلا وهذا بخلاف الزاني إذا ادعى النكاح لأنه هناك ينكر السبب الموجب
للحد فبالنكاح يخرج الفعل من أن يكون زنا محصنا وهنا بعد الاكراه والجهل لا ينعدم
السبب وهو حقيقة شرب الخمر إنما هذا عذر مسقط فلا يثبت الا ببينة يقيمها على ذلك
ويكره للرجل أن يأكل على مائدة يشرب عليها الخمر هكذا نقل عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم انه نهى أن يأكل المسلم على مائدة يشرب عليها الخمر ولان في ذلك تكثير جمع الفسقة
واظهار الرضا بصنيعهم وذلك لا يحل للمسلم في عشر دواريق عصير عنب في قدر ثم يطبخ
فيغلى فيقذف بالزبد فجعل يأخذ ذلك الزبد حتى جمع قدر دورق فإنه يطبخ حتى يبقي ثلاثة دواريق
ثلث الباقي لان ما أخذه من الزبد انتقص من أصل العصير فيسقط اعتباره في الحساب
فظهر أن الباقي من العصير تسعة دواريق فإنما يصير مثلثا إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه
ثلاثة دواريق وان نقص منه دورق آخر في ذلك الغليان فكذلك الجواب لان ما نقص
بالغليان في معني الداخل فيما بقي فلا يصير ذلك كأن لم يكن وإنما يلزمه الطبخ إلى أن يذهب ثلثا
العصير * ولو صب رجل في قدر عشر دواريق عصير وعشرين دورقا ماء فإن كان الماء يذهب
بالطبخ قبل العصير فإنه يطبخه حتى يذهب ثمانية اتساعه ويبقى التسع لأنه إذا ذهب ثلثاه
بالغليان فالذاهب هو الماء فقط فعليه أن يطبخه بعد ذلك حتى يذهب ثلثا العصير ويبقى ثلثه
وهو سبع الجملة وان كانا يذهبان بالغليان معا طبخه حتى يذهب ثلثاه لأنه ذهب بالغليان ثلثا
34

العصير وثلثا الماء والباقي ثلث العصير وثلث الماء فهو وما لو صب الماء في العصير بعد ما طبخه
على الثلث والثلثين سواء وإذا طبخ عصير حتى ذهب ثلثه ثم صنع منه مليقا فإن كان ذلك
قبل أن يتغير عن حاله فلا بأس به وان صنعه بعد ما غلى فتغير عن حال العصير فلا خير فيه
لأنه لما غلى واشتد صار محرما والمليق المتخذ من عين المحرم لا يكون حلالا كالمتخذ من الخمر
فأما قبل أن يشتد فهو حلال الشرب فأما صنيع المليق من عصير فحلال وإذا طبخ الرجل
عصيرا حتى ذهب ثلثه ثم تركه حتى برد ثم أعاد عليه الطبخ حتى ذهب نصف ما بقي فإن كان
أعاد عليه الطبخ قبل أن يغلى أو يتغير عن حال العصير فلا بأس به لان الطبخ في دفعتين إلى
ذهاب الثلثين منه وفى دفعة سواء وان صنعه بعد ما غلي وتغير عن حال العصير فلا خير فيه لان
الطبخ في المرة الثانية لاقى شيئا محرما فهو بمنزلة خمر طبخ حتى ذهب ثلثاه به وإذا طبخ
الرجل عصيرا حتى ذهب ثلاثة أخماسه ثم قطع عنه النار فلم يزل حتى ذهب منه تمام الثلثين
فلا بأس به لأنه صار مثلثا بقوة النار فان الذي بقي منه من الحرارة بعد ما قطع عن النار أثر
تلك النار فهو وما لو صار مثلثا والنار تحته سواء وهذا بخلاف ما لو برد قبل أن يصير مثلثا
لان الغليان بعد ما انقطع عنه أثر النار لا يكون الا بعد الشدة وحين اشتد فقد صار محرما
بنفسه ولان الغليان بقوة لا ينقص منه شيئا بل يزيد في رقته بخلاف الغليان بقوة النار فان
شرب الطلاء الذي قد طبخ حتى ذهب عشره فلا حد عليه أن يسكر لما بينا أنه ذهب
بالطبخ شئ فيخرج من أن يكون خمرا وفى غير الخمر من الأشربة لا يجب الحد الا بالسكر
وإذا استعط الرجل بالخمر أو اكتحل بها أو اقتطرها في اذنه أو داوى بها جائفة أو آمة
فوصل إلى دماغه فلا حد عليه لان وجوب الحد يعتمد شرب الخمر وهو بهذه الأفعال لا
يصير شاربا وليس في طبعه ما يدعوه إلى هذه الأفعال لتقع الحاجة إلى شرع الزاجر عنه ولو
عجن دواء بخمر ولته أو جعلها أحد أخلاط الدواء ثم شربها والدواء هو الغالب فلا حد عليه
وان كانت الخمر هي الغالبة فإنه يحد لان المغلوب يصير مستهلكا بالغالب إذا كان من خلاف
جنسه والحكم للغالب والله أعلم بالصواب
(باب التعزير)
(قال رحمه الله) ذكر عن الشعبي رحمه الله قال لا يبلغ بالتعزير أربعون سوطا وبه أخذ
35

أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا لان الأربعين سوطا أدنى ما يكون من الحد وهو حد العبيد في
القذف والشرب وقال عليه الصلاة والسلام من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين وهذا قول
أبى يوسف الأول ثم رجع وقال يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا لان أدنى الحد ثمانون سوطا
وحد العبد نصف الحر وليس بحد كامل وهذا مروى عن محمد أيضا وعن أبي يوسف انه
يجوز أن يبلغ بالتعزير تسعة وسبعين سوطا وهذا ظاهر على الأصل الذي بينا وأما تقدير النقصان
بالخمسة على الرواية الأولى فهو بناء على ما كان من عادته انه كان يجمع في إقامة الحد والتعزير
بين خمسة أسواط ويضرب دفعة فإنما نقص في التعزير ضربة واحدة وذلك خمسة أسواط
وإذا أخذ الرجل مع المراة وقد أصاب منها كل محرم غير الجماع عزر بتسعة وثلاثين سوطا
وقد بينا في كتاب الحدود أن كل من ارتكب محرما ليس فيه حد مقدر فإنه يعزر ثم الرأي
في مقدار ذلك إلى الامام ويبنى ذلك على قدر جريمته وهذه جريمة متكاملة فلهذا قدر
التعزير فيها بتسعة وثلاثين سوطا وقد بينا أن الضرب في التعزير أشد منه في الحدود لأنه
دخله تخفيف من حيث نقصان العدد وانه ينزع ثيابه عند الضرر ويضرب على ظهره ولا
يفرق على أعضائه إنما ذلك في الحدود وإذا نقب السارق النقب وأخذ المتاع فأخذ في
البيت أو أخذ وقد خرج بمتاع لا يساوى عشرة دراهم فإنه يعزر لارتكابه محرما والمرأة
في التعزير كالرجل لأنها تشاركه في السبب الموجب للتعزير وإذا كان الرجل فاسقا متهما
بالشر كله فاخذ عزر لفسقه وحبس حتى يحدث توبة لأنه متهم وقد حبس رسول الله صلى الله
عليه وسلم رجلا في تهمة والذي يزنى في شهر رمضان نهارا فيدعى شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه
يعزر لافطاره لأنه مرتكب للحرام بافطاره وان خرج من أن يكون زانيا بما ادعي من
الشبهة ولا يحبس هنا لان الحبس للتهمة فاما جزاء الفعل الذي باشره فالتعزير وقد أقيم عليه
والمسلم الذي يأكل الربا أو يبيع الخمر ولا ينزع عن ذلك إذا رفع إلى الامام يعزره وكذلك
المخنث والنائحة والمغنية فان هؤلاء يعزرون بما ارتكبوا من المحرم ويحبسون حتى يحدثوا التوبة
لأنهم بعد إقامة التعزير عليهم مصرون على سوء صنيعهم وذلك فوق التهمة في ايجاب حبسهم
إلى أن يحدثوا التوبة وإذا شتم المسلم امرأة ذمية أو قذفها بالزنا عزر لان الذمية غير محصنة
فلا يجب الحد على على قاذفها ولكن قاذفها مرتكب ما هو محرم فيعزر وكذلك إذا قذف مسلمة
قد زنت أو مسلما قد زنا أو أمة مسلمة لان المقذوف من هؤلاء غير محصن ولكن القاذف
36

مرتكب ما هو حرام وهو إشاعة الفاحشة وهتك للستر على المسلم من غير حاجة وذلك
موجب للتعزير عليه وإذا قطع اللصوص الطريق على قوم فلهم أن يقاتلوهم دفعا عن أنفسهم
وأموالهم قال عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد وإذا استعانوا بقوم من المسلمين
لم يحل لهم أن يعينوهم ويقاتلوهم معهم وان اتوا على أنفسهم لان النهى عن المنكر فرض وبذلك
وصف الله تعالى هذه الأمة بأنهم خير أمة فلا يحل لهم أن يتركوا ذلك إذا قدروا عليه * قلت
والرجل يخترط السيف على الرجل ويريد أن يضربه ولم يفعل أو شد عليه بسكين أو عصا ثم
لم يضربه بشئ من ذلك هل يعزر قال نعم لأنه ارتكب ما لا يحل من تخويف المسلم والقصد
إلى قتله * قلت والرجل يوجد في بيته الخمر بالكوفة وهو فاسق أو يوجد القوم مجتمعين عليها
ولم يرهم أحد يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها هل يعزرون قال نعم لأن الظاهر أن
الفاسق يستعد الخمر للشرب وان القوم يجتمعون عليه لإرادة الشرب ولكن بمجرد الظاهر
لا يتقرر السبب على وجه لا شبهة فيه فلا يمكن إقامة الحد عليهم والتعزير مما يثبت مع الشبهات
فلهذا يعزرون وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من الخمر بالكوفة أو قال ركوة وقد كان بعض
العلماء في عهد أبي حنيفة رحمه الله يقول يقام عليه الحد كما يقام على الشارب لان الذي يسبق
إلى وهم كل أحد انه يشرب بعضها ويقصد الشرب فيما بقي معه منها إلا أنه حكى أن أبا حنيفة
رحمه الله قال لهذا القائل لم تحده قال لان معه آلة الشرب والفساد قال رحمه الله فارجمه إذا فان
معه آلة الزنا فهذا بيان انه لا يجوز إقامة الحد بمثل هذا الظاهر والتهمة والله أعلم
(باب من طبخ العصير)
(قال رحمه الله) رجل طبخ عشرة أرطال عصير حتى ذهب منه رطل ثم اهراق
ثلاثة أرطال منه ثم أراد أن يطبخ البقية حتى يذهب ثلثاها كم يطبخها قال يطبخها حتى يبقى منها
رطلان وتسعا رطل لان الرطل الذاهب بالغليان في المعنى داخل فيما بقي وكان الباقي قبل أن
ينصب منه شئ تسعة أرطال فعرفنا أن كل رطل من ذلك في معنى رطل وتسع لان الذاهب
بالغليان اقتسم على ما بقي أتساعا فان انصب منه ثلاثة أرطال وثلاثة أتساع رطل يكون الباقي
ستة أرطال وستة اتساع رطل فيطبخه حتى يبقى منه الثلث وهو رطلان وتسعا رطل ولو كان
ذهب بالغليان رطلان ثم اهراق منه رطلان قال يطبخه حتى يبقى منه رطلان ونصف لأنه لما
37

ذهب بالغليان رطلان فالباقي ثمانية أرطال كل رطل في معنى رطل وربع فلما انصب منه رطلان
فالذي انصب في المعنى رطلان ونصف والباقي من العصير سبعة أرطال ونصف وان ذهب
بالغليان خمسة أرطال ثم انصب رطل واحد منه أو أخذ رجل منه رطلا قال يطبخ الباقي حتى
يبقى منه رطلان وثلثا رطل لأنه لما ذهب بالغليان خمسة أرطال فما ذهب في المعنى داخل فيما
بقي وصار كل رطل بمعنى رطلين فلما انصب من الباقي رطل كان الباقي بعده من العصير ثمانية
أرطال فيطبخه إلى أن يبقى ثلث ثمانية أرطال وذلك رطلان وثلثا رطل وفى الكتاب أشار إلى
طريق آخر في تخريج جنس هذه المسائل فقال السبيل أن يأخذ ثلث الجميع فيضربه فيما بقي
بعد ما انصب منه ثم يقسمه على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شئ فما خرج
بالقسمة فهو حلال ما بقي منه وبيان هذا أما في المسألة الأولى فتأخذ ثلث العصير ثلاثة وثلثا
وتضربه فيما بقي بعد ما انصب منه وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعد
ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شئ وذلك تسعة وإذا قسمت عشرين على تسعة فكل
جزء من ذلك اثنان وتسعان فعرفنا ان حلال ما بقي رطلان وتسعا رطل * وفى المسألة الثانية
تأخذ أيضا ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد الانصباب وهو ستة فيكون عشرين ثم تقسم ذلك
على ما بقي بعد الطبخ قبل الانصباب وهو ثمانية فكل قسم من ذلك اثنان ونصف فعرفنا ان
حلال ما بقي منه رطلان ونصف * وفى المسألة الثالثة تأخذ ثلاثة وثلثا وتضربه فيما بقي بعد
الانصباب وهو أربعة فيكون ثلاثة عشر وثلثا ثم تقسمه على ما بقي قبل الانصباب بعد الطبخ
وذلك خمسة فيكون كل قسم اثنين وثلثين فلهذا قلنا يطبخه حتى يبقى رطلان وثلثا رطل وفى
الأصل قال حتى يبقى رطلان وثلاثة أخماس وثلث خمس وذلك عبارة عن ثلثي رطل إذا تأملت
وربما يتكلف بعض مشايخنا رحمهم الله لتخريج هذه المسائل عن طريق الحساب من الجبر
والمقابلة وغير ذلك ولكن ليس في الاشتغال بها كثير فائدة هنا والله أعلم
(كتاب الاكراه)
(قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الاكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفى به رضاه أو يفسد
به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب لان المكره
38

مبتلى والابتلاء يقرر الخطاب ولا شك أنه مخاطب في غير ما أكره عليه وذلك فيما أكره
عليه حتى يتنوع الامر عليه فتارة يلزمه الاقدام على ما طلب منه وتارة يباح له ذلك وتارة
يرخص له في ذلك وتارة يحرم عليه ذلك فذلك آية الخطاب ولذلك لا ينعدم أصل القصد
والاختيار بالاكراه كيف ينعدم ذلك وإنما طلب منه أن يختار أهون الامرين عليه وزعم
بعض مشايخنا رحمهم الله أن أثر الاكراه التام في الأفعال في نقل الفعل من المكره إلى
المكره وهذا ليس بصحيح فإنه لا يتصور نقل الفعل الموجود من شخص إلى غيره والمسائل
تشهد بخلاف هذا أيضا فان البالغ إذا أكره صبيا على القتل يجب القود على المكره وهذا
الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر ولكن الأصح أن
تأثير الاكراه في جعل المكره آلة للمكره فيصير الفعل منسوبا إلى المكره بهذا الطريق
وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالاكراه ينعدم الاختيار منه أصلا ولكن لأنه يفسد اختياره
به لتحقق الالجاء فالمرء مجبول على حب حياته وذا يحمله على الاقدام على ما أكره عليه
فيفسد به اختياره من هذا الوجه والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا
إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح منه والمكره يصير كالآلة للمكره لانعدام اختياره حكما
في معارضة الاختيار الصحيح ولهذا اقتصر على ما يصلح أن يكون آلة له فيه دون ما لا يصلح
كالتصرفات قولا فإنه لا يتصور تكلم المرء بلسان غيره وتأثير الاكراه في هذه التصرفات
في انعدام الرضا من المكره بحكم الشبه وشبهه بعض أصحابنا رحمهم الله بالهزل فان الهزل
عدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد والاختيار في نفس السبب فالاكراه كذلك
إلا أن الهازل غير محمول على التكلم والمكره محمول على ذلك وبذلك لا ينعدم اختياره كما
بينا وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فان شرط الخيار يعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب
ثم في الاكراه يعتبر معني في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره
به فالمعتبر في المكره تمكنه من ايقاع ما هدده به فإنه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فاكراهه
هذيان وفى المكره المعتبر أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في ايقاع ما هدده به
عاجلا لأنه لا يصير ملجأ محمولا طبعا الا بذلك وفيما أكره به بان يكون متلفا أو مزمنا أو
متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه
قبل الاكراه اما لحقه أو لحق آدمي آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الأحوال
39

يختلف الحكم فالكتاب لتفصيل هذه الجملة وقد ابتلى محمد رحمه الله بسبب تصنيف هذا
الكتاب على ما حكى عن ابن سماعة رحمه الله قال لما صنف محمد رحمه الله هذا الكتاب سعى به
بعض حساده إلى الخليفة فقال إنه صنف كتابا سماك فيه لصا غاليا فاعتاظ لذلك وأمر
باحضاره وأتاه الشخص وأنا معه فأدخله على الوزير أولا في حجرته فجعل الوزير يعاتبه على
ذلك فأنكره محمد أصلا فلما علمت السبب أسرعت الرجوع إلى داره وتسورت حائط بعض
الجيران لأنهم كانوا سمروا على بابه فدخلت داره وفتشت الكتب حتى وجدت كتاب
الاكراه فألقيته في جب في الدار لان الشرط أحاطوا بالدار قبل خروجي منها فلم يمكني
أن أخرج واختفيت في موضع حتى دخلوا وحملوا جميع كتبه إلى دار الخليفة بأمر الوزير
وفتشوها فلم يجدوا شيئا مما ذكره الساعي لهم فندم الخليفة على ما صنع به واعتذر إليه ورده
بجميل فلما كان بعد أيام أراد محمد رحمه الله أن يعيد تصنيف الكتاب فلم يجبه خاطره إلى
مراده فجعل يتأسف على ما فاته من هذا الكتاب ثم أمر بعض وكلائه أن يأتي بعامل ينقي
البئر لان ماءها قد تغير فلما نزل العامل في البئر وجد الكتاب في آجرة أو حجر بناء من طي
البئر لم يبتل فسر محمد رحمه الله بذلك وكان يخفى الكتاب زمانا ثم أظهره فعد هذا من مناقب
محمد وما يستدل به على صحة تفريعه لمسائل هذا الكتاب ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن
إبراهيم رحمه الله قال في الرجل يجبره السلطان على الطلاق والعتاق فيطلق أو يعتق وهو كاره
انه جائز واقع ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا وهو يقع كيفما كان وبه أخذ علماؤنا
رحمهم الله وقالوا طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا أو غيره أكرهه بوعيد متلف
أو غير متلف والخلاف في هذا الفصل كان مشهورا بين السلف من علماء التابعين رحمهم الله
ولهذا استكثر من أقاويل السلف على موافقة قول إبراهيم وفى قوله ولو شاء الله لابتلاه بأشد
من هذا إشارة إلى ما ذكرنا من بقاء الأهلية والخطاب مع الاكراه وانه غير راض في ذلك
ولكن عدم الرضا بحكم الطلاق لا يمنع الوقوع ولهذا وقع مع اشتراط الخيار عند الايقاع ومع
الهزل من الموقع وإن كان معلوما وكأنه أخذ هذا اللفظ مما ذكره علي رضي الله عنه في امرأة
المفقود انها ابتليت فلتصبر ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا وعن عمر بن عبد العزيز رحمه
الله انه أجاز طلاق المكره وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه انه ذكر له أن رجلا ضرب
غلامه حتى طلق امرأته فقال بئس ما صنع وإنما فهموا منه بهذه الفتوى بوقوع الطلاق حتى
40

قال يحيى بن سعيد راوي الحديث أي هو جائر عليه في معنى قوله بئس ما صنع أي حين فرق
بينه وبين امرأته بغير رضاه وإنما يكون ذلك إذا وقعت الفرقة ومن قال لا يقع طلاق المكره
يقول مراد سعيد رضي الله عنه بئس ما صنع في اكتسابه بالاكراه وتضييعه وقت نفسه
وقد رد عليه الشرع قصده وجعل طلاق المكره لغوا ولكن الأول أظهر وأصل هذا
فيما إذا باع رجلا عينا من مال غيره بغير أمره ثم أخبر المالك به فقال بئس ما صنعت وهذا
اللفظ في رواية هشام عن محمد لا يكون إجازة للبيع بخلاف قوله نعم ما صنعت أو أحسنت
أو أصبت فان في اللفظ الأول إظهار الكراهة لصنعه وفى اللفظ الثاني إظهار الرضا به وروى
ابن سماعة رحمه الله على عكس هذا ان قوله نعم ما صنعت يكون على سبيل الاستهزاء به في
العادة فيكون ردا لا إجازة وقوله بئس ما صنعت يكون إجازة لأنه إظهار للتأسف على ما فاته
وذلك أنما يتحقق إذا نفذ البيع وزال ملكه فجعلناه إجازة لذلك وعن صفوان بن عمرو
الطائي أن رجلا كان مع امرأته نائما فأخذت سكينا وجلست على صدره فوضعت السكين
على حلقه وقالت لتطلقني ثلاثا البتة أو لأذبحنك فناشدها الله فأبت عليه فطلقها ثلاثا فذكر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق وفيه دليل
وقوع طلاق المكره لان لقوله عليه الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق تأويلين أحدهما
انها بمعنى الإقالة والفسخ أي لا يحتمل الطلاق في الفسخ بعد وقوعه وإنما لا يلزمه عند الاكراه
ما يحتمل الإقالة أو يعتمد تمام الرضا والثاني ان المراد إنما ابتليت بهذا لأجل يوم القيلولة وذلك
لا يمنع وقوع الطلاق وبطريق آخر يروى هذا الحديث أن رجلا خرج مع امرأته إلى
الجبل ليمتار العسل فلما تدلى من الجبل بحبل وضعت السكين على الحبل فقالت لتطلقني
ثلاثا أو لأقطعنه فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستفتى فقال عليه
الصلاة والسلام لا قيلولة في الطلاق وأمضى طلاقه وذكر نظير هذا عن عمرو بن شرحبيل
رضي الله عنه أن امرأة كانت مبغضة لزوجها فراودته على الطلاق فأبى فلما رأته نائما قامت
إلى سيفه فأخذته ثم وضعته على بطنه ثم حركته برجلها فلما استيقظ قالت له والله لأنفذنك
به أو لتطلقني ثلاثا فطلقها فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستغاث به فشتمها وقال ويحك
ما حملك على ما صنعت فقالت بغضي إياه فأمضى طلاقه وهو دليل لنا على أن طلاق المكره
واقع ولا يقال في هذا كله ان هذا الاكراه كان من غير السلطان لان الاكراه بهذه
41

الصفة يتحقق بالاتفاق فإنه صار خائفا على نفسه لما كانت متمكنة من ايقاع ما خوفته به وإن كان
ذلك يعارض قوله فشتمها أي نسبها إلى سوء العشرة والصحبة والى الظلم كما يليق بفعلها
لا أن يكون ذلك ما ليس بموجود فيها لان ذلك بهتان لا يظن به وعن أبي قلابة قال طلاق
المكره جائز وعن عمر رضي الله عنه قال أربع واجبات على من تكلم بهن الطلاق والعتاق
والنكاح والنذر يعنى النذر المرسل إذ اليمين بالنذر يمين وبه نأخذ فنقول هذا كله جائز لازم
إن كان جادا فيه أو هازلا أكره عليه أو لم يكره لأنه لا يعتمد تمام الرضا ولا يحتمل الفسخ بعد
وقوعه وعن علي رضي الله عنه قال ثلاث لا لعب فيه الطلاق والعتاق والصدقة يعنى النذر
بالصدقة ومراده أن الهزل والجد في هذه الثلاثة سواء فالهازل لاعب من حيث إنه يريد
بالكلام غير ما وضع له الكلام وذكر نظيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ثلاث لا لعب
بهن واللعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق وعن ابن المسيب رضي الله عنه قال ثلاث
ليس فيهن لعب الطلاق والنكاح والعتاق وأيد هذا كله حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والرجعة
والنكاح إنما أورد هذه الآثار ليستدل بها على صحة هذه التصرفات من المكره فللوقوع
حكم الجد من الكلام والهزل ضد الجد ثم لما لم يمتنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد فلأن لا يمتنع
الوقوع بسبب الاكراه أولى لان الاكراه لا يضاد الجد فإنه أكره على الجد وأجاب إلى
ذلك وإنما ضد الاكراه الرضا فيثبت بطريق البينة لزوم هذه التصرفات مع الاكراه لأنه لما
لم يمتنع لزومها بما هو ضد الجد فلأن لا يمتنع لزومها مع جد أقدم عليه عن اكراه أولى وعن عمر
رضي الله عنه أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رد يدي الطلاق والعتاق والنكاح والنذر وقوله
مبهمات أي واقعات على صفة واحدة في اللزوم مكرها كان الموقع أو طائعا يقال فرس بهيم
إذا كان على لون واحد وقوله مقفلات أي لازمات لا تحتمل الرد بسبب العذر وقد بين ذلك
بقوله ليس فيهن رد يدي وعن الشعبي رضي الله عنه قال إذا أجبر السلطان على الطلاق فهو
جائز وإن كان لصا فلا شئ وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله قال الاكراه يتحقق من السلطان
ولا يتحقق من غيره ثم ظاهر هذا اللفظ يدل على أنه كان من مذهب الشعبي أن المكره على
الطلاق إذا كان سلطانا يقع ولا يقع طلاق المكره إذا كان المكره لصا ولكنا نقول مراده
بيان الوقوع بطريق التشبيه يعنى أن المكره على الطلاق وإن كان سلطانا فالطلاق واقع جائز
42

فإذا كان لصا أولى أن يكون واقعا لان اكراه اللص ليس بشئ وعن علي وابن عباس
رضي الله عنهم قالا كل طلاق جائز الاطلاق الصبي والمعتوه وإنما استدل بقولهما على وقوع
طلاق المكره لأنهما حكما بلزوم كل طلاق الاطلاق الصبي والمعتوه والمكره ليس بصبي
ولا معتوه ولا هو في معناهما لبقاء الأهلية والخطاب مع الاكراه وعن الزهري رحمه الله ان
فتى أسود كان مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان يقرأ القرآن فبعث أبو بكر رضي الله
عنه رجلا يسعى على الصدقة وقال له اذهب بهذا الغلام معك يرع غنمك ويعنك فتعطيه
من سهمك فذهب بالفتى فرجع وقد قطعت يده فقال ويحك ما لك قال زعموا أنى سرقت
فريضة من فرائض الإبل فقطعني قال أبو بكر رضي الله عنه والله لئن وجدته قطعك بغير
حق لأقيدنك منه قال فلبثوا ما لبثوا ثم إن متاعا لامرأة أبى بكر سرق وذلك الأسود قائم
يصلى فرفع يده إلى السماء وقال اللهم أظهر على السارق اللهم أظهر على السارق فوجدوا ذلك المتاع
عنده فقال أبو بكر رضي الله عنه ويحك ما أجهلك بالله ثم أمر به فقطع رجله فكان أول من
قطعت رجله وقد بينا فوائد هذا الحديث في كتاب السرقة واختلاف الروايات أنه ذكر هناك
أن الفتى كان أقطع اليد والرجل فقطعت يده اليسرى وهنا ذكر أنه كان أقطع اليد فقطع
أبو بكر رضي الله عنه رجله وإنما أورد الحديث هنا لحرف وهو قوله والله لئن وجدته قطعك
بغير حق لأقيدنك منه وبه نأخذ فنقول إذا بعث الخليفة عاملا فأمر رجلا بقطع يد غيره أو قتله
بغير حق فعله أن القصاص على العامل الذي أمر به لان أمر مثله اكراه فان من عادة العمال
أنهم يأمرون بشئ ثم يعاقبون من امتنع من ذلك بالقتل وغيره والفعل يصير منسوبا إليه
بمثل هذا الامر قال الله تعالى يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم انه كان من المفسدين واللعين
ما كان يباشر حقيقته ولكنه كان مطاعا بأمره والامر من مثله اكراه والكلام في
الاكراه على القتل يأتي في موضعه وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه
قال أخذ المشركون عمار بن ياسر رضي الله عنه فلم يتركوه حتى سب الله رسول الله صلى الله عليه
وسلم وذكر آلهتم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة
والسلام ما وراءك قال شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال عليه الصلاة
والسلام فيكف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالايمان قال عليه الصلاة والسلام ان عادوا فعد
ففيه دليل انه لا بأس للمسلم أن يجرى كلمة الشرك على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن
43

القلب بالايمان وان ذلك لا يخرجه من الايمان لأنه لم يترك اعتقاده بما أجراه على لسانه
(ألا ترى) أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمار بن ياسر رضي الله عنه عن حال قلبه فلما أخبر
أنه مطمئن بالايمان لم يعاتبه على ما كان منه وبعض العلماء رحمهم الله يحملون قوله عليه الصلاة
والسلام فان عادوا فعد على ظاهره يعنى ان عادوا إلى الاكراه فعد إلى ما كان منك من
النيل منى وذكر آلهتهم بخير وهو غلط فإنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر
أحدا بالتكلم بكلمة الشرك ولكن مراده عليه الصلاة والسلام فان عادوا إلى الاكراه فعد
إلى طمأنينة القلب بالايمان وهذا لان التكلم وإن كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل
(ألا ترى) أن حبيب بن عدي رضى الله لما أمتنع حتى قتل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أفضل الشهداء وقال هو رفيقي في الجنة (وقصته) أن المشركين أخذوه وباعوه من أهل مكة فجعلوا
يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يسب آلهتهم
ويذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير فأجمعوا على قتله فلما أيقن انهم قاتلوه سألهم أن
يدعوه ليصلى ركعتين فأوجز صلاته ثم قال إنما أوجزت لكيلا تظنوا انى أخاف القتل ثم سألهم
أن يلقوه على وجه ليكون هو ساجدا لله حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء
وقال اللهم أنى لا أرى هنا الا وجه عدو فاقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام
اللهم احص هؤلاء عددا واجعلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول
ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي جنب كان لله مصرعي
فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرئه سلام حبيب رضي الله عنه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقال
هو أفضل الشهداء وهو رفيقي في الجنة فبهذا تبين أن الامتناع أفضل وعن أبي عبيدة أيضا في
قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه) قال ذلك عمار بن ياسر رضي الله عنه (ولكن من شرح
بالكفر صدرا) عبيد الله بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما أخذه المشركون وأكرهوه على ما أكرهوا عليه عمار بن ياسر رضي الله عنه أجابهم إلى
ذلك معتقدا فأكرموه وكان معهم إلى أن فتح رسول الله صلى الله وسلم مكة فجاء به عثمان
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يبايعه وفيه قصة وهو المراد بقوله تعالى ولكن
من شرح بالكفر صدرا فعرفنا انه إذا بدل الاعتقاد يحكم بكفره مكرها كان أو طائعا وهذا
44

لأنه لا ضرورة إلى تبديل الاعتقاد فإنه لا اطلاع لاحد من العباد على اعتقاده وهو المراد
أيضا من قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه فأما قوله تعالى الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان
فهو عمار بن ياسر رضي الله عنه وقد ذكرنا قصته وعن جابر الجعفي أنه سأل الشعبي رحمه الله
عن الرجل يأمر عبده أن يقتل رجلا قال فيها ثلاثة أقاويل قائل يقتل العبد وآخر قال يقتل
المولى والعبد وآخر قال يقتل المولى والمراد بيان حكم القصاص عند القتل مكرها انه على من
يجب فان أمر المولى عبده بمنزلة الاكراه لأنه يخاف على نفسه ان خالف أمره كأمر السلطان
في حق رعيته ثم لم يذكر القول الرابع وهو الذي ذهب إليه أبو يوسف انه لا يقتل واحد
منهما وكان هذا القول لم يكن في السلف وإنما سبق به أبو يوسف رحمه الله واستحسنه وبيان
المسألة يأتي في موضعه وفى الحديث دليل ان المفتى لا يقطع الجواب على شئ ولكن يذكر
أقاويل العلماء في الحادثة كما فعلها الشعبي رحمه الله ولكن هذا إذا كان المستفتى ممن يمكنه التمييز
بين الأقاويل ويرجح بعضها على البعض فإن كان بحيث لا يمكنه ذلك فلا يحصل مقصوده
ببيان أقاويل العلماء رحمهم الله فلا بد للمفتي من أن يبين له أصح الأقاويل عنده للاخذ به
وعن الحسن البصري رحمه الله التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة الا انه كأن لا يجعل في
القتل تقية وبه نأخذ والتقية ان يقي نفسه من العقوبة بما ظهره وإن كان يضمر خلافه وقد
كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول إنه من النفاق والصحيح ان ذلك جائز لقوله تعالى إلا أن
تتقوا منهم تقاة واجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالايمان من باب
التقية وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيه لعمار بن ياسر رضي الله عنه إلا أن
هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فأما في حق المرسلين
صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق وقد
جوزه بعض الروافض لعنهم الله ولكن تجويز ذلك محال لأنه يؤدى إلى أن لا يقطع القول بما
هو شريعة لاحتمال أن يكون قال ذلك أو فعله تقية والقول بهذا محال وقوله إلا أنه كان
لا يجعل في القتل تقية يعنى إذا أكره على قتل مسلم ليس له أن يقتله لما فيه من طاعة المخلوق في
معصية الخالق وايثار روحه على روح من هو مثله في الحرمة وذلك لا يجوز وبهذا يتبين عظم
حرمة المؤمن لان الشرك بالله أعظم الأشياء وزرا وأشدها تحريما قال الله تعالى تكاد السماوات
يتفطرن منه إلى قوله عز وجل أن دعوا للرحمن ولدا ثم يباح له اجراء كلمة الكفر في حالة الاكراه
45

ولا يباح الاقدام على القتل في حالة الاكراه فيه يتبين عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى وهو
مراد ابن عباس رضي الله عنه إنما التقية باللسان ليس باليد يعنى القتل والتقية باللسان هو اجراء
كلمة الكفر مكرها وعن حذيفة رضي الله عنه قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف قالوا له
وكيف ذلك قال إن الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشب يعنى الذي يراد صلبه يضرب
بالسوط حتى يصعد السلم وإن كان يعلم ما يراد به إذا صعد وفيه دليل ان الاكراه كما يتحقق
بالتهديد بالقتل يتحقق بالتهديد بالضرب الذي يخاف منه التلف والمراد بالفتنة العذاب قال الله
تعالى ذوقوا فتنتكم وقال الله تعالى ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي عذبوهم فمعناه عذاب
السوط أشد من عذاب السيف لان الألم في القتل بالسيف يكون في ساعته وتوالى الألم في
الضرب بالسوط إلى أن يكون آخر الموت وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل
التقية على ما روى أنه يدارى رجلا فقيل له انك منافق فقال لا ولكني أشتري ديني بعضه
ببعض مخافة أن يذهب كله وقد ابتلى ببعض ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ما روى أن المشركين أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله في غزوه فلما
تخلص منهم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام
أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم وذكر عن مسروق رحمه الله قال بعث معاوية
رضي الله عنه بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها على مسروق رحمه الله قال والله لو
أنى أعلم أنه يقتلني لغرقتها ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني والله لا أدرى أي الرجلين معاوية
رجل قد زين له سوء عمله أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا وقيل هذه
تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة فأمر معاوية رضي الله عنه ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الأسلحة
والكراع للغزاة فيكون دليلا لأبي حنفية رحمه الله في جواز بيع الصنم والصليب ممن
يعبده كما هو طريقة القياس وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله كما هو طريق الاستحسان
الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك ومسروق من علماء التابعين
وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى وقد رجع ابن عباس إلى قوله في مسألة النذر
بذبح الولد ولكن مع هذا قول معاوية رضي الله عنه مقدم على قوله وقد كانوا في المجتهدات
يلحق بعضهم الوعيد بالبعض كما قال علي رضي الله عنه من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل
في الحد يعنى بقول زيد رضي الله عنه وإنما قلنا هذا لأنه لا يظن بمسروق رحمه الله أنه قال في
46

معاوية رضي الله عنه ما قال عن اعتقاد وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم وكان
كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملك بعده فقال
له عليه السلام يوما إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم إلا أن نوبته كانت بعد انتهاء توبة علي رضي الله عنه
ومضي مدة الخلافة فكان هو مخطئا في مزاحمة علي رضي الله عنه تاركا لما هو
واجب عليه من الانقياد له لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا ويحكى أن أبا بكر محمد بن
الفضل رحمه الله كان ينال منه في الابتداء فرأى في منامه كان شعرة تدلت من لسانه إلى
موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك ويقطر الدم من لسانه فسأل المعبر عن ذلك فقال إنك
تنال من واحد من كبار الصحابة رضي الله عنه فإياك ثم إياك وقد قيل في تأويل الحديث أيضا
ان تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روى أنه
وجد خاتم دانيال عليه السلام في زمن عمر رضي الله عنه كان عليه نقش رجل بين أسدين
يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان فعرفها انه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك ولكن
مسروقا رحمه الله كان يبالغ في الاحتياط فلا يجوز اتخاذ شئ من ذلك ولا بيعه ثم كان تغريق
ذلك من الأمر بالمعروف عنده وقد ترك ذلك مخافة على نفسه وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال
التقية وانه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ومقصوده
من ايراد الحديث ان يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الاكراه كما يتحقق في القتل
لأنه قال لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني فيفتنني فتبين بهذا أن فتنة
السوط أشد من فتنة السيف وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال لا جناح على في
طاعة الظالم إذا أكرهني عليها وإنما أراد بيان جواز التقية في اجراء كلمة الكفر إذا
أكرهه المشرك عليها فالظالم هو الكافر قال الله تعالى والكافرون هم الظالمون ولم يرد به طاعة
الظالم في القتل لان الاثم على المكره في القتل لا يندفع بعذر الاكراه بل إذا قدم على القتل
كان آثما اثم القتل على ما بينه والله أعلم
(باب ما يكره عليه اللصوص غير المتأولين)
(قال رحمه الله) ولو أن لصوصا من المسلمين غير المتأولين أو من أهل الذمة
تجمعوا فغلبوا على مصر من أمصار المسلمين وأمروا عليهم أميرا فأخذوا رجلا فقالوا لنقتلنك
47

أو لتشربن هذا الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لحم هذا الخنزير ففعل شيئا من ذلك كان عندنا
في سعة لان حرمة هذه الأشياء ثابتة بالشرع وهي مفسدة بحالة الاختيار فان الله تعالى
استثنى حالة الضرورة من التحريم بقوله عز وجل الا ما اضطررتم إليه والكلام المقيد بالاستثناء
يكون عبارة عما وراء المستثنى فظهر أن التحريم مخصوص بحالة الاختيار وقد تحققت الضرورة
هنا لخوف التلف على نفسه بسبب الاكراه فالتحقت هذه الأعيان في حالة الضرورة بسائر
الأطعمة والأشربة فكان في سعة من التناول منها وإن لم يفعل ذلك حتى يقتل كان آثما
وعن أبي يوسف رحمه الله انه لا يكون آثما وكذلك هذا فيمن أصابته مخمصة فلم يتناول من
الميتة حتى مات فعلى ظاهر الرواية يكون آثما وعلى رواية أبى يوسف لا يكون آثما فالأصل
عند أبي يوسف أن الاثم ينتفى عن المضطر ولا تنكشف الحرمة بالضرورة قال الله تعالى
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه وقال تعالى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم
فان الله غفور رحيم وهذا لان الحرمة بصفة انها ميتة أو خمر وبالضرورة لا ينعدم ذلك فإذا
امتنع كان امتناعه من الحرام فلا يكون آثما فيه وجه ظاهر الرواية ان الحرمة لا تتناول حالة
الضرورة لأنها مستثناة بقوله الله تعالى الا ما اضطررتم إليه فاما أن يقال يصير الكلام عبارة عما
وراء المستثنى وقد كان مباحا قبل التحريم فبقي على ما كان في حالة الضرورة أو يقال الاستثناء
من التحريم إباحة وإذا ثبتت الإباحة في حالة الضرورة فامتناعه من التناول حتى تلف كامتناعه
من تناول الطعام الحلال حتى تلفت نفسه فيكون آثما في ذلك وصفة الخمرية توجب الحرمة
لمعنى الرفق بالمتناول وهو أن يمنعه من استعمال عقله ويصده عن ذكر الله وعن الصلاة
وكذلك لحم الخنزير لما في طبخ الخنزير من الانتهاب وللغذاء أثر في الخلق والرفق هنا في
الإباحة عند الضرورة لان اتلاف البعض أهون من اتلاف الكل وفى الامتناع من التناول
هلاك الكل فتثبت الإباحة في هذه الحالة لهذا المعنى وكذلك لو أوعد بقطع عضو أو بضرب
مائة سوط أو أقل منها مما يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه لان حرمة الأعضاء كحرمة
النفس (ألا ترى) أن المضطر كما لا يباح له قتل الانسان ليأكل من لحمه لا يباح له قطع عضو
من أعضائه والضرب الذي يخاف منه التلف بمنزلة القتل على ما بينا أن فتنة السوط أشد
من فتنة السيف والأعضاء في هذا سواء حتى لو أوعده بقطع أصبع أو أنملة يتحقق به
الالجاء فكل ذلك محرم باحترام النفس تبعا لها ولو أوعده بضرب سوط أو سوطين لم يسعه
48

تناول ذلك لأنه لا يخاف على نفسه ولا على عضو من أعضائه بما هدده به إنما يغمه ذلك
أو يؤلمه ألما يسيرا والالجاء لا يتحقق به (ألا ترى) أن بالاكراه بالحبس والقيد لا يتحقق
الالجاء حتى لا يباح له تناول هذه الأشياء والغم الذي يصيبه بالحبس ربما يزيد على ما يصيبه
بضرب سوط أو سوطين (ألا ترى) أن الجهال يتهازلون فيما بينهم بهذا المقدار وكذلك كل
ضرب لا يخاف منه تلف نفس أو ذهاب عضو في أكثر الرأي وما يقع في القلب لان
غالب الرأي يقام مقام الحقيقة فيما لا طريق إلى معرفته حقيقة قال وقد وقت بعضهم في ذلك
أدنى الحدود أربعين سوطا فان هدد بأقل منها لم يسعه الاقدام على ذلك لان ما دون الأربعين
مشروع بطريق التعزير والتعزير يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا ولكنا نقول نصب المقدار
بالرأي لا يكون ولا نص في التقدير هنا وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب
وخلافه فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه فان وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه
ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ وان خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ وإن كان التهديد
بعشرة أسواط وهكذا نقول في التعزير للامام أن يبلغ بالتعزير تسعة وثلاثين سوطا إذا
كان في أكثر رأيه انه لا يتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه وكذلك أن تغلب هؤلاء
اللصوص على بلد ولكنهم أخذوا رجلا في طريق أو مصر لا يقدر فيها على غوث لان
المعتبر خوفه التلف على نفسه وذلك بتمكنهم من ايقاع ما هددوه به قبل أن يحضر الغوث
ولو توعدوه على شئ من ذلك بحبس سنة أو بقيد ذلك من غير أن يمنعوه طعاما ولا شرابا لم يسعه
الاقدام على شئ من ذلك لان الحبس والقيد يوجب الهم والحزن ولا يخاف منه على
نفس ولا عضو ولدفع الحزن لا يسعه تناول الحرام (ألا ترى) ان شارب الخمر في العادة
إنما يقصد بشربها دفع الهم والحزن عن نفسه ولو تحقق الالجاء بالحبس لتحقق بحبس يوم أو
نحوه وذلك بعيد وان قالوا لنجيعنك أو لتفعلن بعض ما ذكرنا لم ينبغ له أن يفعل ذلك حتى
يجئ من الجوع ما يخاف منه التلف لان الجوع شئ يهيج من طبعه وبادئ الجوع لا يخاف
منه التلف إنما يخاف التلف عند نهاية الجوع بان تخلو المعدة عن مواد الطعام فتحترق وشئ منه
لا يوجد عند أدنى الجوع (ألا ترى) ان الاكراه في هذا معتبر بالضرورة والمضطر الذي
يخاف على نفسه من العطش والجوع يباح له تناول الميتة وشرب الخمر ولا يباح له ذلك
عند أدنى الجوع ما لم يخف التلف على نفسه وهذا بخلاف ما تقدم إذا هددوه بضرب سوط
49

فان هناك يباح له التناول ولا يلزمه أن يصبر إلى أن يبلغ الضرب حدا يخاف منه التلف
على نفسه لان الضرب فعل الغير به فينظر إلى ما هدده به فإذا كان يخاف منه التلف يباح
الاقدام عليه باعتبار ان تمكنه من ايقاع ما هدده به يجعل كحقيقة الايقاع والجوع هنا يهيج من
طبعه وليس هو فعل الغير به فإنما يعتبر القدر الموجود منه وقد قيل إنما يعتبر إذا كان يعلم أن
الجوع صار بحيث يخاف منه التلف وأراد أن يتناول مكنوه من ذلك فاما إذا كان يعلم أنه لو
صبر إلى تلك الحالة ثم أراد أن يتناول لم يمكنوه من ذلك فليس له أن يتناول الا إذا كان بحيث يلحقه
الغوث إلى أن ينتهى حاله إلى ذلك فحينئذ لا يسعه الاقدام عليه بأدنى الجوع قال وكل شئ
جاز له فيه تناول هذه المحرمات من الاكراه فكذلك يجوز عندنا الكفر بالله إذا أكره عليه
وقلبه مطمئن بالايمان وهذا يجوز في العبادة فان حرمة الكفر حرمة ثابتة مضمنة لا تنكشف
بحال ولكن مراده انه يجوز له اجراء كلمة الشرك على اللسان مع طمأنينة القلب بالايمان
لان الالجاء قد تحقق والرخصة في اجراء كلمة الشرك ثابتة في حق الملجأ بشرط طمأنينة
القلب بالايمان إلا أن هنا ان امتنع كان مثابا على ذلك لان الحرمة باقية فهو في الامتناع
متمسك بالعزيمة والمتمسك بالعزيمة أفضل من المترخص بالرخصة قال وقد بلغنا عن ابن
مسعود رضي الله عنه قال ما من كلام أتكلم به يدرأ عنى ضربتين بسوط غير ذي سلطان
الا كنت متكلما به وإنما نضع هذا على الرخصة فيما فيه الألم الشديد وإن كان سوطين
فاما أن نقول السوطان اللذان لا يخاف منهما تلف يوجبان الرخصة له في اجراء كلمة الشرك
فهذا مما لا يجوز أن يظن بعبد الله رضي الله عنه وأما تصرف هذا اللفظ منه على سبيل المثل
فلبيان الرخصة عند خوف التلف وقيل السوطان في حقه كان يخاف منهما التلف لضعف
نفسه فقد كان بهذه الصفة على ما روى أنه صعد شجرة يوما فضحكت الصحابة رضي الله عنهم
من دقة ساقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تضحكوا فهما ثقيلان في الميزان ولو أن
هؤلاء اللصوص قالوا شيئا من ذلك للرجل والرجل لا يرى أنهم يقدمون عليه لم يسعه
الاقدام على المحرم لان المعتبر خوف التلف ولا يصير خائفا التلف إذا كان يعلم أنهم لا يقدمون
عليه وان هددوه به وقد بينا ان ما لا طريق إلى معرفته حقيقة يعتبر فيه غالب الرأي فإن كان
لا يخاف أن يقدموا عليه في أول مرة حتى يعاودوه لم ينبغ له أن يقدم على ذلك حتى
يعاودوه وهذا على ما يقع القلب (ألا ترى) انك لو رأيت رجلا ينقب عليك دارك من
50

خارج أو دخل عليك ليلا من الثقب بالسيف وخفت أن أنذرته يضربك وكان على أكثر
رأيك ذلك وسعك أن تقتله قبل أن تعلمه إذا خفت أن يسبقك ان أعلمته وفى هذا اتلاف
نفس ثم أجاز الاعتماد على غالب الرأي لتعذر الوقوع على حقيقته فكذلك فيما سبق ولو
هددوه بقتل أو اتلاف عضو أو بحبس أو قيد ليقر لهذا الرجل بألف درهم فأقر له به
فالاقرار باطل اما إذا هددوه بما يخاف منه التلف فهو ملجأ إلى الاقرار محمول عليه والاقرار
خبر متميل بين الصدق والكذب فإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق وذلك
ينعدم بالالجاء وكذلك أن هددوه بحبس أو قيد لان الرضا ينعدم بالحبس والقيد بما يلحقه
من الهم والحزن به وانعدام الرضا يمنع ترجيح جانب الصدق في اقراره ثم قد بينا أن الاكراه
نظير الهزل ومن هزل باقراره لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شئ فكذلك
إذا أكره عليه * فان قيل لماذا لم يجعل هذا بمنزلة شرط الخيار وشرط الخيار يمنع صحة الاقرار
* قلنا لا كذلك بل متى صح شرط الخيار مع الاقرار بالمال لا يجب المال حتى لو قال كفلت
لفلان عن فلان بألف درهم على أنى بالخيار لا يلزمه المال فاما إذا أطلق الاقرار بالمال وهو
خبر عن الماضي فلا يصح معه شرط الخيار والاكراه هنا متحقق فإنما يعتبر بموضع يصح
فيه اشتراط الخيار وهذا بخلاف ما تقدم من تناول الحرام لان المؤثر هناك الالجاء وذلك
ما يخاف منه التلف وهنا المانع من وجوب المال انعدام الرضا بالالتزام وقد انعدم الرضا
بالاكراه وإن كان بحبس أو قيد قال شريح رحمه الله القيد كره والوعيد كره والضرب
كره والسجن كره وقال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضربت أو بغت
أو جوعت أي هو ليس بطائع عند خوف هذه الأشياء وإذا لم يكن طائعا كان مكرها ولو توعدوه
بضرب سوط واحد أو حبس يوم أو قيد يوم على الاقرار بألف فأقر به كان الاقرار جائزا
لأنه لا يصير مكرها بهذا القدر من الحبس والقيد فالجهال قد يتهازلون به فيما بينهم فيحبس
الرجل صاحبه يوما أو بعض يوم أو يقيد من غير أن يغمه ذلك وقد يفعل المرء ذلك بنفسه
فيجعل القيد في رجله ثم يمشي تشبيها بالمقيد أرأيت لو قالوا له لنطرقنك طرقة أو لنسمنك
أو لتقرن به أما كان اقراره جائز والحد في الحبس الذي هو اكراه في هذا ما يجئ منه
الاغتمام البين وفى الضرب الذي هو اكراه ما يجد منه الألم الشديد وليس في ذلك حد
لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لان نصب المقادير بالرأي لا يكون ذلك على قدر
51

ما يرى الحاكم إذا رفع ذلك إليه فما رأى أنه اكراه أبطل الاقرار به لان ذلك يختلف
باختلاف أحوال الناس فالوجيه الذي يضع الحبس من جاهه تأثير الحبس والقيد يوما في
حقه فوق تأثير حبس شهر في حق غيره فلهذا لم نقدر فيه بشئ وجعلناه موكولا إلى رأى القاضي
ليبنى ذلك على حال من ابتلى به ولو أكرهوه على أن يقر لرجل بألف درهم فأقر له بخمسمائة
كان باطلا لأنهم حين أكرهوه على ألف فقد أكرهوه على أقل منها فالخمسمائة بعض
الألف ومن ضرورة امتناع صحة الاقرار بالألف إذا كان مكرها امتناع صحة اقراره بما هو
دونه ولان هذا من عادات الظلمة أنهم يكرهون المرء على الاقرار وبدل الحط بألف
ويقنعون منه ببعضه فبهذا الطريق جعل مكرها على ما دون الألف ولو أقر بألفين لزمه ألف
درهم لأنه طائع في الاقرار في أحد الألفين وليس من عادات الظلمة أن يتحكموا على المرء
بمال ومرادهم أكثر من ذلك وفرق أبو حنيفة بين هذا وبين ما إذا شهد أحد الشاهدين بألف
والآخر بألفين فان هناك لا تقبل الشهادة على شئ وقال هناك لا يصح اقراره بقدر ألف
وتصح الزيادة لان في الشهادة تعتبر الموافقة من الشاهدين لفظا ومعنى وقد انعدمت الموافقة
لفظا فالألف غير الألفين وهنا المكره مضار متعنت فإنما يعتبر في حقه المعنى دون اللفظ
وقد قصد الاضرار به بالزام الألف إياه باقراره فيرد عليه قصده ولا يلزمه الألف بما أقر به
ويلزمه ما زاد عليه ولو أقر بألف دينار لزمته لان الدراهم والدنانير جنسان حقيقة فيكون هو
طائعا في جميع ما أقر به من الجنس الآخر ولا يقال الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد
في الاحكام لان هذا في الانشاءات فاما في الاخبارات فهما جنسان كما في الدعوى والشهادة
فإنه إذا ادعى الدراهم وشهد له الشهود بالدنانير لا تقبل والاقرار اخبار هنا فالدراهم والدنانير
فيه جنسان وكذلك أن أقر له بنصف غير ما أكرهوه عليه من المكيل أو الموزون فهو طائع متى
أقر به ولو أكرهوه على أنه يقر له بألف فأقر له ولفلان الغائب بألف فالاقرار كله باطل في
قول أبي حنيفة وأبى يوسف سواء أقر الغائب الشركة أو أنكرها وقال محمد أن صدقه الغائب
فيما أقر به بطل الاقرار كله وان قال لي عليه نصف هذا المال ولا شركة بيني وبين هذا
الذي أكرهوه على الاقرار له جاز الاقرار للغائب بنصف المال وأصل المسألة ما بيناه في
الاقرار ان المريض إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين عند أبي حنيفة وأبى يوسف الاقرار باطل
على كل حال لأنه أقر بأن المال مشترك بينهما ولا وجه لاثبات الشركة للوارث فيبطل الاقرار
52

كله وهنا أقر بالمال مشتركا بينهما ولا وجه لاثبات الشركة لمن أكره على الاقرار له فكان الاقرار
باطلا وكذلك عند محمد ان صدقه الأجنبي بالشركة وان كذبه فله نصف المال لأنه أقر له
بنصف المال وادعي عليه شركة الوارث معه وهنا أيضا أقر للغائب بنصف المال طائعا وادعي
عليه شركة الحاضر معه فكان اقراره للغائب بنصف المال صحيحا ودعواه الشركة باطلة
ولو أكرهوه على هبة جاريته لعبد الله فوهبها لعبد الله وزيد وقبضاها بأمره جازت في
حصة زيد لأنه ملكه نصف الجارية طائعا والشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع صحة الهبة
وبطلت في حصة عبد الله بالاكراه ثم الهبة انشاء التصرف فبطلانه في نصيب من أكره
عليه لا يمنع من صحته في نصيب الآخر كالوصية فان من أوصى لوارثه ولأجنبي جازت الوصية
في نصيب الأجنبي بخلاف الاقرار ولو كان ذلك في ألف درهم بطلت الهبة كلها أما عند أبي
حنيفة فلانه لا يجوز هبة ما يحتمل القسمة من رجلين إذا كان طائعا في حقهما فإذا كان مكرها
في حق أحدهما كان أولى وأما عند أبي يوسف ومحمد فإنما لا يجوز هنا لان الهبة بطلت في
نصيب عبد الله من الأصل فلو صحت في نصيب زيد كانت في مشاع يحتمل القسمة
وذلك يمنع صحة الهبة (ألا ترى) أنه لو وهب داره من رجل فاستحق نصفها بطلت الهبة
في الثاني واستشهد لهذا بما لو اشترى دارا وهو شفيعها مع رجل غائب فقبضها ووهبها
وسلمها ثم حضر الغائب فاخذ نصفها بالشفعة بطلت الهبة في النصف الآخر لان في النصف
المأخوذ بالشفعة الهبة تبطل من الأصل وكذلك لو وهب لرجل دارا على أن يعوضه من
نصفها خمرا فالهبة تبطل في النصف الباقي لبطلانها في النصف الذي شرط فيه الخمر عوضا
وهذا بخلاف المريض إذا وهب دراه من انسان ولا مال له غيرها ثم مات فان الهبة تنتقض
في الثلثين لحق الورثة وتبقى في الثلث صحيحة لان الهبة في الكل صحيحة في الابتداء وإنما
تنتقض في الثلثين لحق الورثة بعد موت الواهب فكان الشيوع في الثلث طارئا وذلك لا يبطل
الهبة كما لو وهب داره من انسان ثم رجع في نصفها وفيما تقدم من المسائل المبطل للهبة في
النصف مقترن بالسبب فبطلت الهبة في ذلك النصف من الأصل فالشيوع في النصف الباقي
يكون مقارنا لا طارئا ولو أكرهوه على هبة جاريته لرجل ودفعها إليه فوهب ودفع فأعتقها
الموهوب له جاز عتقه وغرم المعتق قيمتها أما قوله ولو دفعها إليه فهو فصل من الكلام فان
الاكراه على الهبة يكون اكراها على الدفع بخلاف الاكراه على البيع فإنه لا يكون اكراها
53

على التسليم والفرق أن المكره مضار متعنت والهبة لا توجب الملك بنفسها ما لم يتصل بها
القبض فإذا كان الضرر الذي قصده المكره وهو إزالة ملكه لا يحصل الا بالقبض تعدى
الاكراه إليه وإن لم ينص عليه فأما البيع فموجب الملك بنفسه والاضرار به يتحقق متى صح
فلا يتعدى الاكراه عن البيع إلى شئ آخر وإذا سلم بعد ذلك بغير أمره كان طائعا في
التسليم * يوضحه أن القبض في باب البيع يوجب ملك التصرف وذلك حكم آخر غير ما هو
الموجب الأصلي بالبيع وهو ملك الغير فلا يتعدى الاكراه إليه بدون التنصيص عليه وأما
القبض في باب الهبة فيوجب الملك الذي هو حكم الهبة وهو ملك الغير فلهذا كان الاكراه
على الهبة اكراها على التسليم ثم بسبب الاكراه تفسد الهبة ولكن الهبة الفاسدة توجب
الملك بعد القبض كالهبة الصحيحة بناء على أصلنا أن فساد السبب لا يمنع وقوع الملك
بالقبض فإذا أعتقها أو دبرها أو استولدها فقد لاقى هذه التصرفات منه ملك نفسه فكانت
نافذة وعليه ضمان قيمتها لان رد العين كان مستحقا عليه وقد تعذر بنفوذ تصرفه فيه فعليه
قيمتها كالمشتراة شراء فاسدا وإذا شاء المكره في هذا كله رجع إلى الذين أكرهوه بقيمتها
لأنهم أتلفوا عليه ملكه فان الاكراه بوعيد متلف يجعل المكره ملجأ وذلك يوجب كون
المكره آلة للمكره ونسبة الفعل إليه فيما يصلح أن يكون آلة وهو في التسليم والاتلاف
الحاصل به يصلح أن يكون آلة للمكره فإذا صار الاتلاف منسوبا إلى المكره كان ضامنا
للقيمة فان ضمنهم القيمة رجعوا بها على الموهوب له لأنهم قاموا في الرجوع عليه مقام من صحبهم
ولأنهم ملكوها بالصحبة ولو كانت قائمة من هذا الموهوب له كان لهم أن يأخذوها منه وإذا
أتلفوها بالاعتاق كان لهم أن يضمنوه قيمتها * فان قيل لماذا لا تنفذ الهبة من جهتهم * قلنا لأنهم ما
وهبوها له وإنما قصدوا الاضرار بالمكره لا التبرع من جهتهم بخلاف الغاصب إذا وهب
المغصوب ثم ضمن القيمة فان هناك قصد تنفيذ الهبة من جهته فإذا ملكه بالضمان نفذت الهبة
من جهته كما قصدها ولذلك لو أكرهوه على البيع والتسليم ففعل فأعتقه المشترى أو دبره أو كانت
أمة فاستولدها نفذ ذلك كله عندنا وقال زفر لا ينفذ شئ من ذلك وأصل المسألة أن المشترى
من المكره بالقبض يصير مالكا عندنا خلافا لزفر رحمه الله وحجته في ذلك أن بيع المكره
دون البيع بشرط الخيار للبائع فالبائع هناك راض بأصل السبب والبيع هناك يتم بموت
البائع وهنا لا يتم ثم هناك المشترى لا يملكه بالقبض فهنا أولى إذ بيع المكره كبيع الهازل
54

ولو تصادقا انه كان البيع بينهما هزلا لم يملك المشترى المبيع بالقبض فكذلك إذا كان البائع
مكرها وكلامه في الاكراه بالقتل أوضح لان الفعل ينعدم في جانب المكره بالالجاء فيصير
كان المكره باشر ذلك بنفسه فلا يملكه المشترى بالقبض وإن كان لو أجازه المالك طوعا
صح * وحجتنا في ذلك أن بيع المكره فاسد والمشترى بالقبض بحكم البيع الفاسد يصير مالكا
وبيان الوصف ان ما هو ركن العقد لم ينعدم بالاكراه وهو الايجاب والقبول في محله وإنما
انعدم ما هو شرط الجواز وهو الرضى قال الله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم
وتأثير انعدام شرط الجواز في افساد العقد كما هو في الربا فان المساواة في أموال الربا شرط
جواز العقد فإذا انعدمت المساواة كان العقد فاسدا وكان الملك ثابتا للمشترى بالقبض فهذا
مثله بخلاف البيع بشرط الخيار فان شرط الخيار يجعل العقد في حق حكمه كالمتعلق بالشرط
والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وهذا لان قوله على أنى بالخيار شرط ولكن لا يمكن
ادخاله على أصل السبب لان البيع لا يحتمل التعليق بالشرط فيكون داخلا على حكم السبب
لان الحكم يحتمل التأخر عن السبب وبهذا تبين أن البائع هناك غير راض بالسبب في الحال
لأنه علقه بالشرط فلا يتم رضاه به قبل الشرط فكان أضعف من بيع المكره لان المكره
راض بالسبب لدفع الشر عن نفسه غير راض بحكم السبب والخيار الثابت للمكره من طريق
الحكم فيكون نظير خيار الرؤية وخيار العيب وذلك لا يمنع انعقاد السبب في الحكم مقيدا
لحكمه فكذلك بيع المكره وكذلك الهازل فإنه غير راض بأصل البيع لان البيع اسم للجد
الذي له في الشرع حكم والهزل ضد الجد فإذا تصادقا على أنهما لم يباشرا ما هو سبب الملك
لا ينعقد البيع بينهما موجبا للملك وهنا المكره دعي إلى الجد وقد أجاب إلى ذلك لأنه لو أتى
بغيره كان طائعا فكان بيع المكره أقوى من بيع الهازل من هذا الوجه وإنما ينعدم الفعل
في جانب المكره إذا صار منسوبا إلى المكره وذلك يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره
فيه آلة المكره وفى البيع لا يصلح أن يكون هو آلة للمكره لان التكلم بلسان الغير لا يتحقق
فيه المكره مباشرا للبيع فان قيل هو في التسليم يصلح أن يكون آلة للمكره فينتقل ذلك إلى
المكره ويصير كأنه سلم بنفسه فلا يملكه المشترى * قلت هو في التسليم متمم للعقد فلا يصلح أن
يكون آلة للمكره وإنما يصلح أن يكون آلة للمكره في تسليم ابتداء غصب وثبوت الملك في
البيع الفاسد لا ينبني على ذلك وإنما ينبني على تسليم هو حكم العقد وذلك متصور على المكره
55

أيضا يوضحه انه لا تأثير للاكراه في تبديل محل الفعل ولو أخرجنا هذا التسليم من أن يكون
متمما للعقد جعلناه غصبا ابتداء بنسبته إلى المكره فيتبدل بسبب الاكراه ذات الفعل وإذا
كأن لا يجوز أن يتبدل محل الفعل بسبب الاكراه فكيف يجوز أن تتبدل ذاته ومن أصحابنا رحمهم
الله من علل لتنفيذ عتق المشترى من غير تعرض للملك فنقول ايجاب البيع مطلقا تسليط للمشترى
على العتق والاكراه لا يمنع صحة التسليط على العتق ونفوذ العتق بحكمه كما لا يمنع الاكراه
صحة الاعتاق (ألا ترى) أنه لو أكره على أن يوكل في عتق عبده ففعل وأعتقه الوكيل نفذ عتقه
فهذا مثله وإذا ثبت نفوذ العتق والتدبير والاستيلاد فقد تعذر على المشترى رد عينها فيضمن
قيمتها للبائع فإن شاء البائع ضمن الذين أكرهوه لأن العقد وما يتممه وإن لم يصر مضافا
إليهم فلاتلاف الحاصل به يصير مضافا إليهم في حق البائع لان المكره يصلح أن يكون آلة
لهم في الاتلاف فكان له أن يضمنهم قيمتها ثم يرجعون بها على المشترى لأنهم قاموا مقام
البائع أو لأنهم ملكوها بالضمان ولا يمكن تنفيذ البيع من جهتهم فيرجعون على المشترى بقيمتها
لأنه أتلفها عليهم طوعا بالاعتاق ولو أن المشترى أتلفها والموهوب له لم يفعل بها ذلك ولكنه
باعها أو وهبها وسلمها أو كاتبها كأن لمولاها المكره أن ينقض جميع ذلك لأن هذه التصرفات
تحتمل النقض فينقض لحق المكره بخلاف العتق (ألا ترى) أن العتق لا ينتقض لحق المرتهن
والبيع والهبة والكتابة تنقض لحقه * فان قيل فأين ذهب قولكم ان بيع المكره فاسد والمشترى
شراء فاسدا لا ينقض منه هذه التصرفات بعد القبض لحق البائع * قلنا لان هناك البائع سلم المبيع
راضيا به فيصير بالتسليم مسلطا للمشترى على هذه التصرفات وهنا المكره غير راض بالتسليم
ولو رضى بالتسليم تم البيع فوزانه المشترى شراء فاسدا إذا أكره البائع على التسليم فسلمه
مكرها وهذا لان الفاسد معتبر بالصحيح وفى البيع الصحيح إذا قبضه المشترى بغير إذن
البائع وتصرف فيه ينقض من تصرفاته ما يحتمل النقض لابقاء حق البائع في الحبس دون
ما لا يحتمل النقض قال وليس في شئ يكره عليه الانسان الا وهو يرد الا ما جرى فيه عتق
أو تدبير أو ولادة أو طلاق أو نكاح أو نذر أو رجعة في العدة أو في الايلاء ممن لا يقدر
على الجماع فان هذه الأشياء تجوز في الاكراه ولا ترد وأصل المسألة أن تصرفات المكره قولا
منعقد عندنا إلا أن ما يحتمل الفسخ منه كالبيع والإجارة يفسخ وما لا يحتمل الفسخ منه
كالطلاق والنكاح والعتاق وجميع ما سمينا فهو لازم وقال الشافعي تصرفات المكره قولا
56

يكون لغوا إذا كان الاكراه بغير حق بمنزلة تصرفات الصبي والمجنون ويستوى إن كان
الاكراه بحبس أو قتل * وحجته في ذلك قوله تعالى لا اكراه في الدين والمراد نفى الحكم
لما يكره عليه المرء في الدين قال عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه فهذا يدل على أن ما يكره عليه يكون مرفوعا عنه حكمه واثمه وعينه الا بدليل والمعنى
فيه أن هذا قول موجب للحرمة فالاكراه الباطل عليه يمنع حصول الفرقة كالردة وتأثيره ان
انعقاد التصرفات شرعا بكلام يصدر عن قصد واختيار معتبر شرعا ولهذا لا ينعقد شئ من ذلك
بكلام الصبي والمجنون والنائم وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعا فيما تكلم به بل هو مكره
عليه والاكراه يضاد الاختيار فوجب اعتبار هذه الاكراه في انعدام اختياره به لكونه اكراها
بالباطل ولكنه معذورا في ذلك فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعا التحق بالمجنون بخلاف العنين إذا
أكرهه القاضي على الفرقة بعد مضى المدة أو المولى بعدها لان ذلك اكراه بحق لانعدام اختياره
شرعا (ألا ترى) أن المديون إذا أكرهه القاضي على بيع ماله نفذ بيعه والذمي إذا أسلم عبده
فاجبر على بيعه نفذ بيعه بخلاف ما إذا أكرهه على البيع بغير حق قال وعلى هذا قلت وإذا
أكره الحربي على الاسلام صح اسلامه ولو أكره المستأمن أو الذمي على الاسلام لا يصح
اسلامه لأنه اكراه بالباطل ولا يدخل فيه السكران فإنه غير معذور شرعا فهو في المعنى
كالمكره بحق فيكون قصده واختياره معتبرا شرعا ولهذا نفذ منه جميع التصرفات ولهذا
صح اقراره بالطلاق هناك ولا يصح هنا اقراره بالطلاق بالاتفاق فكذلك انشاؤه وهذا
بخلاف الهازل لأنه قاصدا إلى التكلم بالطلاق مختار له فان باب الهزل واسع فلما اختار عند
الهزل التكلم بالطلاق من سائر الكلمات عرفنا انه مختار للفظ وإن لم يكن مريدا
لحكمه فأما المكره فغير مختار في التكلم بالطلاق هنا لأنه لا يحصل له النجاة إذا تكلم بشئ
آخر وهذا بخلاف ما إذا أكره على أن يجامع امرأة وهي أم امرأته فإنها تحرم عليه لأنا
ادعينا هذا في الأقوال التي يكون ثبوتها شرعا بناء على اختيار صحيح فأما الأفعال فتحققها
بوجودها حسا (ألا ترى) انه إذا تحقق ذلك من المجنون كان موجبا للفرقة أيضا فكذلك
من المكره بخلاف ما نحن فيه ولان سبب الاكراه محافظة قدر الملك على المكره حتى قلتم في
الاكراه على العتق المكره يضمن القيمة وكما تجب محافظة قدر ملكه عليه تجب محافظة
عين ملكه عليه ولا طريق لذلك سوى أن يجعل الفعل عدما في جانب المكره ويجعل هو آلة
57

للمكره وإذا صار آلة له امتنع وقوع الطلاق والعتاق ولا معنى لقولكم انه في التكلم لا يصلح
آلة فإنكم جعلتموه آلة حيث أوجبتم ضمان القيمة على المكره في العتاق وضمان نصف
الصداق على المكره في الطلاق قبل الدخول ثم إن لم يمكن أن يجعل آلة حتى يصير الفعل
موجودا من المكره يجعل آلة حتى ينعدم الفعل في جانب المكره فيلغو طلاقه وعتاقه
* وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار في أول الكتاب والمعنى فيه أنه تصرف من أهله في
محله فلا يلغى كما لو كان طائعا وبيانه ان هذا التصرف كلام والأهلية للكلام يكون مميزا
ومخاطبا وبالإكراه لا ينعدم ذلك وقد بينا انه مخاطب في غير ما أكره عليه وكذلك فيما
أكره عليه حتى ينوع عليه الامر كما قررنا وهذا لان الخطاب ينبنى على اعتدال الحال وذلك
لا يختلف فيه أحوال الناس فأقام الشرع البلوغ عن عقل مقام اعتدال الحال في توجه الخطاب
واعتبار كلامه شرعا تيسيرا للامر على الناس وبسبب الاكراه لا ينعدم هذا المعنى والسبب
الظاهر متى قام مقام المعنى الخفي دار الحكم معه وجودا وعدما وبيان المحلية أنه ملكه ولو لم
يكن مكرها لكان تصرفه مصادفا محله وليس للطواعية تأثير في جعل ما ليس بمحل محلا
فعرفنا ان التصرف صادف محله إلا أن بسبب الاكراه ينعدم الرضا منه بحكم السبب ولا
ينعدم أصل القصد والاختيار لان المكره عرف الشرين فاختار أهونهما وهذا دليل حسن
اختياره فكيف يكون مفسدا لاختياره وهو قاصد إليه أيضا لأنه قصد دفع الشر عن نفسه
ولا يتوصل إليه الا بايقاع الطلاق وما لا يتوصل إلى المقصود الا به يكون مقصودا فعرفنا
أنه قاصد مختار ولكن لا لعينه بل لدفع الشر عنه فيكون بمنزلة الهازل من حيث إنه قاصد إلى التكلم
مختار له لا لحكمه بل لغيره وهو الهزل ثم طلاق الهازل واقع فبه يتبين ان الرضا بالحكم
بعد القصد إلى السبب والاختيار له غير معتبر وقد بينا ان حال المكره في اعتبار كلامه فوق
حال الهازل لان الحكم للجد من الكلام والهزل ضد الجد والمكره يتكلم بالجد لأنه يجيب
إلى ما دعى إليه ولكنه غير راض بحكمه وهذا بخلاف الردة فإنها تنبنى على الاعتقاد وهو
التكلم بخبر عن اعتقاده وقيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه غير معتقد وانه في
اخباره كاذب وكذلك الاقرار بالطلاق والاقرار متميل بين الصدق والكذب وإنما يصح
من الطائع لترجح جانب الصدق فان دينه وعقله يدعوانه إلى ذلك وفى حق المكره قيام السيف
على رأسه دليل على أنه كذب والمخبر عنه إذا كان كاذبا فالاخبار به لا يصير صدقا فان أقر به
58

المقر باختياره لا يصير كائنا حقيقة وهذا بخلاف ما إذا هزل بالردة ولان هناك إنما يحكم بكفره
لاستخفافه بالدين فان الهازل مستخف لا محالة إذ الاستخفاف بالدين كفر فاما المكره فغير
مستخف ولا معتقد لما يخبر به مكرها ثم إن وجب محافظة قدر الملك على المكره فذلك
لا يدل على أنه يجب محافظة عين الملك عليه كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو
موسر فإنه يجب محافظة قدر الملك على الساكت بايجاب الضمان له على المعتق ولا يجب محافظة
عين ملكه بابطال عتق المعتق وهذا لأنه مكره على شيئين التكلم بالعتاق أو الاتلاف وهو في
التكلم لا يصلح آلة للمكره لان تكلمه بلسان الغير لا يتحقق وفى الاتلاف يصلح آلة له فجعلنا
الاتلاف مضافا إلى المكره فأوجبنا الضمان عليه وجعلنا التكلم بالطلاق والعتاق مقصورا
على المكره فحكمنا بنفوذ قوله بان المكره ينبغي أن يجعل آلة حتى ينعدم التكلم في جانبه
حكما * قلنا هذا شئ لا يمكن تحقيقه هنا فان الخلاف في الاكراه بالقتل والاكراه بالحبس
سواء وعند الاكراه بالحبس لا ينعدم الفعل في جانب المكره بحال ثم نقول ليس للاكراه
تأثير في الاهدار والالغاء (ألا ترى) أن المكره على اتلاف المال لا يجعل فعله لغوا بمنزلة فعل
التهمة ولكن يجعل موجبا للضمان على المكره فعرفنا ان تأثير الاكراه في تبديل النسبة
حتى يكون الفعل منسوبا إلى المكره وهذا يقتصر على ما يصلح أن يكون المكره آلة
للمكره فلو اعتبرنا ذلك لأعدم الفعل في جانب المكره من غير أن يصير منسوبا إلى المكره
كان تأثير الاكراه في الالغاء وذلك لا يجوز والمراد بالآية الحديث نفى الاثم لا رفع
الحكم وبه نقول أن الاثم يرتفع بالاكراه حتى لو أكرهه على ايقاع الطلاق الثلاث أو الطلاق
حالة الحيض لا يكون آثما إذا ثبت ان تصرفاته تنعقد شرعا فما لا يكون محتملا للفسخ بعد
وقوعه يلزم من المكره وما لا يعتمد تمام الرضا يكون لازما منه والطلاق والعتاق لا يعتمد
تمام الرضا حتى أن شرط الخيار لا يمنع وقوعهما وما يحتمل الفسخ ويعتمد لزومه تمام الرضا
قلنا لا يكون لازما إذا صدر من المكره إلا أن يرضى به بعد زوال الاكراه صريحا أو
دلالة فحينئذ يلزم لوجود الرضا منه به فان باع المشترى من المكره العبد من غيره وأعتقه
المشترى الآخر نفذ عتقه لان المشترى من المكره ملك بالشراء وإن كان للمكره حق
الفسخ كما كان المشترى منه مالكا بالشراء وإن كان له حق الفسخ إلا أن عتق المشترى من
المكره قبل القبض لا ينفذ وعتق المشترى من المشترى من المكره نافذ قبضه أو لم يقبضه
59

لان بيع المكره فاسد فالمشترى منه لا يصير مالكا الا بالقبض فأما بيع المشترى منه فصحيح
وإن كان للمكره حق الفسخ كالمشترى إذا قبض المبيع بغير إذن البائع وباعه صح بيعه وإن كان
للبائع حق الفسخ فإذا صح البيع ملكه بنفس العقد وينفذ عتقه فيه ويصير بالعتق قابضا
له * يوضحه أن المشترى بايجاب البيع لغيره يصير مسلطا له على العتق وهو لو أعتق بنفسه
نفذ عتقه فينفذ عتق المشترى منه بتسليطه أيضا ثم كان للمولى الخيار ان شاء ضمن المكره
قيمته إذا كان الوعيد بقتل لان الاتلاف صار منسوبا إليه وان شاء ضمن الذي أخذه منه
لأنه قبضه بشراء فاسد وقد تعذر رده وان شاء ضمن الذي أعتقه لأنه أتلف المالية فيه بالاعتاق
والعتق ينفذ من جهته حتى يثبت الولاء له فان ضمن المكره رجع المكره بالقيمة ان شاء
على المشترى الأول وان شاء على المشترى الثاني لأنه قام مقام المكره بعد ما ضمن له
ولأنه ملكه بالضمان وكل واحد منهما متعد في حقه فيضمن أيهما شاء فان ضمن المشترى
الآخر المكره أو المكره رجع على المشترى الأول لان استرداد قيمته منه كاسترداد عينه
وذلك مبطل للبيعين جميعا فيرجع هو بالثمن على المشترى الأول ويرجع المشترى الأول بالثمن على
مولاه وان ضمن المكره المشترى الأول أو ضمنه المكره نفذ البيع بين المشترى الأول والمشترى
الآخر وكان الثمن له لأنه كان باع ملك نفسه وكان البيع صحيحا فيما بينهما إلا أنه كان
للمكره حق الفسخ فإذا سقط حقه بوصول القيمة إليه وقد تقرر الملك للمشترى الأول نفذ
البيع بينه وبين المشترى الآخر ولو كان الاكراه بقيد أو حبس أو قتل على أن يبيعها منه
بألف درهم وقيمتها عشرة آلاف فباعها منه بأقل من ألف درهم ففي القياس هذا البيع
جائز لأنه أتى بعقد آخر سوى ما أكره عليه فالبيع بخمسمائة غير البيع بألف بدليل الدعوى
والشهادة وإذا أتى بعقد آخر كان طائعا فيه كما لو أكره على البيع فوهب له وفى
الاستحسان البيع باطل لأنه إذا أكرهه على البيع بألف فقد أكرهه على البيع بأقل من
ألف لان قصد المكره الاضرار بالمكره وفى معنى الاضرار هذا البيع فوق البيع بألف
فكان هو محصلا مقصود المكره فلهذا كان مكرها (ألا ترى) أن الوكيل بالبيع بألف
إذا باع بألفين ينفذ على الموكل والوكيل بشراء عين بألف إذا اشتراها بخمسمائة ينفذ على
الموكل لان في هذا تحصيل مقصود الموكل فوق ما أمره به فلا يعد خلافا ولو باعه بأكثر
من ألف كان البيع جائزا لان هذا في معنى الاضرار دون ما أمره به المكره فلم يكن
60

هو محصلا مقصود المكره فيما باشره وهذا لان الممتنع من البيع بألف لا يكون ممتنعا من
البيع بألفين والممتنع من البيع بألف يكون ممتنعا من البيع بخمسمائة ولو أكرهوه على البيع
فوهبه نفذ ذلك لان الممتنع من البيع قد لا يكون ممتنعا من الهبة للقصد إلى الانعام ثم
هو مخالف للمكره في جنس ما أمره به فلا يكون محصلا مقصود المكره بل يكون طائعا
مخالفا له كالوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار بخلاف البيع بخمسمائة فهناك ما خالف
المكره في جنس ما أمره به وتحصيل مقصود المكره فيما باشره أتم فكان مكرها وكذلك
لو أكرهوه على أن يقر له بألف درهم فوهب له ألف درهم جاز لان الهبة غير الاقرار
الاقرار من التجارة والهبة تبرع والممتنع من الاقرار قد لا يكون ممتنعا من الهبة فكان
هو في الهبة طائعا ولو أكرهوه على بيع جاريته ولم يسموا أحدا فباعها من انسان كان البيع
باطلا لان قصد المكره الاضرار بالمكره لا منفعة المشترى وإن لم يبين المشترى لا يتمكن
الخلل في مقصود المكره فكان هو مكرها في البيع ممن باعه ولو أخذوه بمال ليؤديه وذلك
المال أصله باطل فأكرهوه على أدائه ولم يذكروا له بيع جاريته فباعها ليؤد ذلك المال
فالبيع جائز لأنه طائع في البيع وإنما أكره على أداء المال ووجهه أن بيع الجارية غير متعين
لأداء المال فقد يتحقق أداء المال بطريق الاستقراض والاستيهاب من غير بيع الجارية
وهذا هو عادة الظلمة إذا أرادوا أن يصادروا رجلا يحكمون عليه بالمال ولا يذكرون له بيع
شئ من ملكه حتى إذا باعه ينفذ بيعه فالحيلة لمن ابتلى بذلك أن يقول من أين أؤدي ولا
مال لي فإذا قال له الظالم بع جاريتك فالآن يصير مكرها على بيعها فلا ينفذ بيعها ولو أكرهوه
على أن يبيع جاريته من فلان بألف درهم فباعها منه بقيمة ألف درهم دنانير جاز البيع في القياس
لان الدراهم والدنانير جنسان حقيقة وهو في الاستحسان باطل لأنهما في المعنى والمقصود
جنس واحد وقد بينا فيما تقدم ان في الانشاءات جعلا كجنس واحد كما في شراء ما باع بأقل
مما باع وفى شراء المضارب بأحد النقدين ورأس المال من النقد الآخر وفى الاخبارات هما
جنسان مختلفان وبهذا يتضح الفرق بين هذا وبين الاقرار الذي سبق فالاقرار اخبار والدراهم
والدنانير في ذلك جنسان مختلفان وهنا أنما أكره على انشاء البيع والدراهم والدنانير في ذلك
جنس واحد فكان البيع باطلا ولو أكرهوه على أن يبيعها بألف درهم فباعها بعرض أو حنطة أو
شعير جاز البيع بكل حال لان البيع يختلف باختلاف العرض وهو آت بعقد آخر سوى
61

ما أكره عليه حقيقة وحكما وقد يمتنع الانسان من البيع بالنقد ولا يمتنع من البيع بالعرض
لماله من الغرض في ذلك العرض وقد يمتنع من البيع بالعرض ولا يمتنع من البيع بالنقد فالمكره
على أحد النوعين يكون طائعا في العقد الآخر إذا باشره والله أعلم بالصواب
(باب الاكراه على العتق والطلاق والنكاح)
(قال رحمه الله) ولو أن رجلا أكره بوعيد قتل على عتق عبده فأعتقه نفذ العتق عندنا
لما بينا أنه في التكلم بالعتق لا يمكن أن يجعل آلة للمكره فيبقى تكلمه مقصورا عليه ويصير به
معتقا لان الاكراه وإن كان يفسد اختياره لكن لا يخرجه من أن يكون مخاطبا وفيما يمكن
نسبته إلى المكره يجعل المكره آلة له فرجح الاختيار الصحيح على الاخيتار الفاسد وفيما
لا يمكن نسبته إلى المكره يبقى مضافا إلى المكره بماله من الاختيار الفاسد وعلى المكره ضمان
قيمته لان في حكم الاتلاف المكره يصلح آلة للمكره فيصير الاتلاف مضافا إلى المكره
ترجيحا للاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد ويستوى إن كان المكره موسرا أو معسرا
لان وجوب هذا الضمان باعتبار مباشرة الاتلاف فيكون جبرانا لحق المتلف عليه وذلك
لا يختلف باليسارة والعسرة ولا سعاية على العبد لأنه نفذ العتق فيه من جهة مالكه ولا حق
لاحد في ماله بخلاف المريض يعتق عبده وعليه دين فهناك يجب السعاية لحق الغرماء
وكذلك إذا أعتق المرهون وهو معسر فإنه يجب السعاية على العبد لحق المرتهن والمحجور عليه
للسفه إذا أعتق عبده تجب السعاية على العبد في قول محمد وهو قول أبى يوسف الأول
رحمه الله لان بالحجر صار هو في حكم التصرف ناقص الملك لوجوب النظر له شرعا
وهنا بعذر الاكراه لم يصر ناقص الملك ومعنى النظر يتم بايجاب الضمان على المكره ثم الولاء
يكون للمكره لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق وثبوت الولاء له يبطل حقه في تضمين
المكره كما لو شهد شاهدان على رجل أنه أتق عبده ثم رجعا بعد القضاء ضمنا قيمته والولاء
ثابت للمولى وهذا لان الولاء كالنسب ليس بمال متقوم وليس بمال متقوم وليس للمكره أن يرجع على العبد
بشئ لأنه قام مقام المولى ولا سبيل للمولى على العبد في الاستسعاء ولان المكره لم يصر
مالكا للعبد بالضمان (ألا ترى) أن الولاء للمكره فإن كان العبد بين رجلين فأكره أحدهما
حتى أعتقه جاز عتقه ثم على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله العتق لا يتجزأ فيعتق العبد
62

كله والولاء للمعتق وعلى المكره إن كان موسرا ضمان جميع القيمة بينهما نصفين ولأنه صار
متلفا الملك عليهما وإن كان معسرا ضمن نصيب المكره لأنه باشر اتلاف نصيبه ويستسعى العبد
في قيمة نصيب الشريك الآخر لأنه لم يوجد من المكره اتلاف نصيب الشريك قصدا
ولكنه تعدى إليه التلف حكما فيكون هو بمنزلة شريك المعتق والمعتق إذا كان معسرا
لا يجب عليه ضمان نصيب شريكه ولكن يجب على العبد السعاية في نصيب شريكه لأنه قد
سلم له ذلك القدر من رقبته ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشئ اما على العبد فلانه سعى
في بدل ما سلم له وأما المكره فلانه ضمن بمباشرة الاتلاف وأما في قياس قول أبي حنيفة
رحمه الله فالمكره ضامن لنصيب المكره موسرا كان أو معسرا وفى نصيب الساكت إن كان
المكره موسرا فالساكت بالخيار ان شاء أعتق نصيه وان شاء استسعاه في نصيبه وان
شاء ضمن المكره قيمة نصيبه فان ضمنه يرجع المكره بهذا النصف من القيمة على العبد
فاستسعاه فيه لأنه قام مقام الساكت في ذلك وصار متملكا لنصيبه بأداء الضمان والولاء بين
المكره والمكره نصفان وإن كان المكره معسرا فللساكت حق الاستسعاء والاعتاق والولاء
بينه وبين المكره نصفان لأنه عتق نصيب كل واحد منهما على ملكه * ولو أكره بوعيد
تلف على أن يطلق امرأته ثلاثا ففعل ولم يدخل بها بانت منه لما قلنا وعلي الزوج نصف
الصداق إن كان سمى لها مهرا والمتعة إن لم يكن سمى لها مهرا ويرجع بذلك على المكره لأنه
هو الذي ألزمه ذلك المال حكما فان وقوع الفرقة قبل الدخول في حال الحياة مسقط لجميع
الصداق الا إذا كان بسب مضاف إلى الزوج فحينئذ يجب نصف الصداق بالنص
والمكره هو الذي جعل الفرقة مضافة إلى الزوج باكراهه فكأنه ألزم الزوج ذلك المال
أو فوت يده من ذلك المال فليزمه ضمانه كالغاصب وبهذا الطريق يضمن شاهدا الطلاق قبل
الدخول ولو كان الزوج قد دخل بها لم يرجع على المكره بشئ لان الصداق كله تقرر على
الزوج بالدخول والمكره إنما أتلف عليه ملك النكاح وملك النكاح لا يتقوم بالاتلاف على
الزوج عندنا ولهذا لا نوجب على شاهدي الطلاق بعد الدخول ضمانا عند الرجوع ولا على
المرأة ان ارتدت بعد الدخول ولا على القاتل لمنكوحة الغير خلافا للشافعي رحمه الله
فإنه يجعل البضع مضمونا بمهر المثل عند الاتلاف على الزوج كما هو مضمون بمهر المثل
عند دخوله في ملك الزوج ولكنا نقول البضع ليس بمال متقوم فلا يجوز أن يكون مضمونا
63

بالمال لأنه لا مماثلة بين ما هو مال وبين ما ليس بمال وتقومه عند النكاح لاظهار خطر المملوك
وهذا الخطر للمملوك لا للملك الوارد عليه (ألا ترى) أن إزالة الملك بغير شهود وبغير ولى
صحيح فلا حاجة إلى إظهار الخطر عند الاتلاف فلهذا لا يضمن المتلف شيئا ولو أن رجلا
أكره امرأة أبيه فجامعها يريد به الفساد على أبيه ولم يدخل بها أبوه كان لها على الزوج
نصف المهر لان الفرقة وقعت بسب مضاف إلى الأب وهو حرمة المصاهرة ويرجع بذلك
على ابنه لأنه هو الذي ألزمه ذلك حكما وإن كان الأب قد دخل بها لم يرجع على الابن
بشئ لما قلنا وهذا الفصل أورده لايضاح ما سبق وقوله يريد به الفساد أي يكون قصده
افساد النكاح فأما الزنا فلا يكون افسادا ولو أكره بوعيد قتل أو حبس حتى تزوج امرأة
على عشرة آلاف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز النكاح لما بينا أن الجد والهزل في النكاح
والطلاق والعتاق سواء فكذلك الاكراه والطواعية وللمرأة مقدار مهر مثلها لان التزام
المال يعتمد تمام الرضا ويختلف بالجد والهزل فيختلف أيضا بالاكراه والطوع فلا يصح من
الزوج التزام المال مكرها إلا أن مقدار مهر المثل يجب لصحة النكاح لا محالة (ألا ترى)
أن بدون التسمية يجب فعند قبول التسمية فيه مكرها أولى أن يجب وما زاد على ذلك يبطل
لانعدام الرضا من الزوج بالتزامه ولو أن المرأة هي التي أكرهت ببعض ما ذكرنا على أن
تزوج نفسها منه بألف ومهر مثلها عشرة آلاف فزوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا
ضمان على المكره فيه لان البضع ليس بمال متقوم وتقومه على المتملك باعتبار ثبوت الملك فيما
هو مصون عن الابتذال وهذا المعنى لا يوجد في حق المكره ثم يقول القاضي للزوج
إن شئت فأتمم لها مهر مثلها وهي امرأتك إن كان كفؤا لها فان أبى فرق بينهما ولا شئ لها
والحاصل أن الزوج إن كان كفؤا لها ثبت لها الخيار لما يلحقها من الضرر بنقصان حقها عن
صداق مثلها والزوج متمكن من إزالة هذا الضرر بان يلتزم لها كمال مهر مثلها فان التزم ذلك
فالنكاح بينهما لازم وان أبى فرق بينهما ولا شئ لها إن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها
مكرهة فلها تمام مهر مثلها لانعدام الرضا منها بالنقصان ولا خيار لها بعد ذلك لان الضرر
اندفع حين استحقت كمال مهر مثلها وان دخل بها وهي طائعة أو رضيت بما سمى لها فعند أبي
حنيفة للأولياء حق الاعتراض وعندهما ليس لهم ذلك وأصله فيما إذا زوجت المرأة نفسها
من كفؤ بدون صداق مثلها وقد بيناه في كتاب النكاح وإن لم يكن الزوج كفؤا لها فلها
64

أن لا ترضي بالمقام معه سواء التزم الزوج لها كمال مهر المثل أو لم يلتزم دخل بها أو لم يدخل
بها لما يلحقها من الضرر من استفراش من لا يكافئها فان دخل بها وهي طائعة أو رضيت
فللأولياء أن يفرقوا بينهما لان للأولياء حق طلب الكفاءة (ألا ترى) أنها لو زوجت
نفسها طائعة من غير كفوء كان للأولياء حق الاعتراض فهنا أيضا لم يوجد من الأولياء
الرضا بسقوط حقهم في الكفاءة والزوج لا يتمكن من إزالة عدم الكفاءة فيكون للأولياء أن
يفرقوا بينهما سواء رضى بأن يتم لها مهر مثلها أو لم يرض بذلك ولو أن رجلا وجب له على
رجل قصاص في نفس أو فيما دونها فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى عفا فالعفو جائز لان
العفو عن القصاص نظير الطلاق في أن الهزل والجد فيه سواء فإنه ابطال ملك الاستيفاء
وليس فيه من معنى الملك شئ ولا ضمان له على الجاني لان الجاني لم يلتزم له عوضا ولم يتملك
عليه شيئا وتقوم النفس بالمال عند الخطأ لصيانة النفس عن الاهدار وهذا لا يوجد عند
الاسقاط بالعفو لأنه مندوب إليه في الشرع والبدل فيه صحيح ولا ضمان على المكره لأنه
لم يستهلك عليه مالا متقوما فان التمكن من استيفاء القصاص ليس بمال متقوم ولهذا لا يضمن
شهود العفو إذا رجعوا ومن عليه القصاص إذا قتله انسان لا يضمن لمن له القصاص شيئا
وكذلك إذا مات من عليه القصاص لا يكون ضامنا لمن له القصاص شيئا فكذلك المكره
ولو وجب لرجل على رجل حق من مال أو كفالة بنفس أو غير ذلك فأكره بوعيد قتل
أو حبس حتى أبرأ من ذلك الحق كان باطلا لان صحة الابراء تعتمد تمام الرضا وبسبب
الاكراه ينعدم الرضا وهذا لان الابراء عن الدين وإن كان اسقاطا ولكن فيه معنى
التمليك ولهذا يرتد برد المديون وابراء الكفيل فرع لابراء الأصيل والكفالة بالنفس من
حقوق المال لان صحتها باعتبار دعوى المال فلهذا لا تصح البراءة في هذه الفصول مع الاكراه
كما لا تصح مع الهزل وكذلك لو أكره على تسليم الشفعة بعد ما طلبها لان تسليم الشفعة من
باب التجارة كالأخذ بالشفعة ولهذا ملكه الأب والوصي في قول أبى حنفية وأبى يوسف
رحمهما الله والتجارة تعتمد تمام الرضا وذلك يعتمد بالاكراه ولو كان الشفيع حين علم بها أراد
أن يتكلم بطلبها فأكره حتى سد فمه ولم يتركه ينطق يوما أو أكثر من ذلك كان على شفعته
إذا خلى عنه فان طلب عند ذلك والا بطلت شفعته لان المسقط للشفعة ترك الطلب بعد التمكن
منه (ألا ترى) أن ترك الطلب قبل العلم بالبيع لا يبطل الشفعة لانعدام تمكنه من الطلب
65

وهو لم يكن متمكنا من الطلب هنا حين سد فمه أو قيل له لئن تكلمت بطلب شفعتك لنقتلنك
أو لنحبسنك فهذا لا يبطل شفعته فأما بعد زوال الاكراه إذا لم يطلب بطلت شفعته لترك
الطلب بعد التمكن فان قيل أليس أن الاكراه بمنزلة الهزل والهازل بتسليم الشفعة تبطل
شفعته فكذلك المكره على تسليم الشفعة قلنا إذا هزل بتسليم الشفعة قبل الطلب بطلت شفعته
لترك الطلب مع الامكان الا بالهزل بالتسليم فأما إذا طلب الشفعة ثم سلمها هازلا واتفقا أنه كان
هازلا في التسليم لم تبطل شفعته لما بينا أنه بمنزلة التجارة يعتمد تمام الرضا فان قال المشتري
انه لم يكف عن الطلب للاكراه ولكنه لم يرد أخذها بالشفعة وقال الشفيع ما كففت الا
للاكراه فالقول قول الشفيع لان قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه إنما كف عن
الطلب للاكراه ولكنه يحلف بالله ما منعه من طلب الشفعة الا الاكراه لان المشترى ادعى
عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكره استحلف عليه ولو أن رجلا أكرهه أهل الشرك على أن
يكفر بالله وله امرأة مسلمة ففعل ثم خلى سبيله فقالت قد كفرت بالله تعالى وبنت منك
وقال الرجل إنما أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالايمان ففي القياس القول قولها ويفرق بينهما
لأنه لا طريق لنا إلى معرفة سره فوجب بناء الحكم على ظاهر ما نسمعه منه وهذا لان الشرع
أقام الظاهر الذي يوقف عليه مقام الخفي الذي لا يمكن الوقوف عليه للتيسير على الناس
فباعتبار الظاهر قد سمع منه كلمة الردة فتبين منه امرأته ولكنه استحسن فقال القول قوله
مع يمينه لان النبي عليه الصلاة والسلام قبل قول عمار رضي الله عنه ولم يجدد النكاح بينه وبين
امرأته ولان الظاهر شاهد له فان امتناعه من اجراء كلمة الشرك حتى تحقق الاكراه دليل
على أنه مطمئن القلب بالايمان وانه ما قصد بالتكلم الا دفع الشر عن نفسه وهذا بخلاف
ما إذا أكره على الاسلام فإنه يحكم باسلامه لان الاسلام مما يجب اعتقاده فذلك دليل على
أنه قال ما قال معتقدا وهو معارض للاكراه فعند تعارض الدليلين يصار إلى ظاهر ما سمع
منه فاما الشرك مما لا يجوز اعتقاده والاكراه فدليل على أنه معتقد فلهذا لا يحكم بردته إذا
أجرى كلمة الشرك مكرها والله أعلم
(باب ما يكره أن يفعله بنفسه أو ماله)
(قال رحمه الله) ولو أن رجلا أكرهه لص بالقتل على قطع يد نفسه فهو إن شاء الله
66

في سعة من ذلك لأنه ابتلى ببليتين فله أن يختار أهونهما عليه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت
ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين الا اختار أيسرهما ثم حرمة الطرف تابعة
لحرمة النفس والتابع لا يعارض الأصل ولكن يترجح جانب الأصل ففي اقدامه على قطع
اليد مراعاة حرمة نفسه وفى امتناعه من ذلك تعريض النفس وتلف النفس يوجب تلف
الأطراف لا محالة ولا شك ان اتلاف البعض لابقاء الكل يكون أولى من اتلاف الكل
(ألا ترى) أن من وقعت في يده أكلة يباح له أن يقطع يده ليدفع به الهلاك عن نفسه
وقد فعله عروة بن الزبير رضي الله عنه فهذا المكره في معنى ذلك من وجه لأنه يدفع الهلاك
عن نفسه بقطع طرفه الا انه قيده بالمشيئة هنا لان هذا ليس في معنى الأكلة من كل وجه
وحرمة الطرف كحرمة النفس من وجه فلهذا تحرز عن الاثبات في الجواب وقال إن شاء الله في
سعة من ذلك فان قطع يد نفسه ثم خاصم المكره فيه قضى القاضي له على المكره بالقود لان
القطع صار منسوبا إلى المكره لما تحقق الاكراه على ما بينه في مسألة المكره على القتل فكان
المكره باشر قطع يده وهذا ظاهر على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنما الاشكال على
قول أبى يوسف رحمه الله فإنه لا يوجب القود على المكره فقيل في هذا الفصل لا قود عليه عند أبي
يوسف أيضا وليكن يلزمه أرش اليد في ماله وقيل هنا يجب القود عنده لأنه إنما يجعل المكره
آلة في قتل الغير لكونه آثما لا يحل له الاقدام على القتل وهنا يحل للمكره الاقدام على قطع
يده فكان هو آلة بمنزلة المكره على اتلاف المال فيجب القود على المكره ولو أكرهه على
أن يطرح نفسه في النار بوعيد قتل فهو إن شاء الله في سعة من ذلك اما إن كان يرجو
النجاة من النار فإنه يلقى نفسه على قصد النجاة وان كأن لا يرجو النجاة فكذلك الجواب
لان من الناس من يختار ألم النار على ألم السيف ومنهم من يختار ألم السيف وربما يكون في
النار بعض الراحة له وإن كان يأتي على نفسه وقيل على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله
لا يسعه أن يلقى نفسه إذا كأن لا يرجوا النجاة فيه لأنه لو ألقى نفسه صار مقتولا بفعل نفسه
ولو امتنع من ذلك صار مقتولا بفعل المكره وحيث يسعه الالقاء فلوليه القود على المكره
وهذا لا يشكل عند أبي حنيفة ومحمد وكذلك عند أبي يوسف في الصحيح من الجواب لأنه
لما أبيح له الاقدام صار آلة للمكره وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه من فوق بيت
إلا أن في هذا الموضع عند أبي حنيفة لا يجب القود كما لو ألقاه المكره بنفسه وعندهما إذا كان
67

ذلك مما يقتل غالبا فهو والقاء النفس في النار سواء وكذلك لو أكرهه على أن يطرح نفسه
في ماء وهنا القود لا يجب على المكره عند أبي حنيفة كما لو ألقاه بنفسه وكذلك عندهما إذا
كان يرجى النجاة منه وإن كان مما يقتل غالبا يجب القود على المكره واستدل بحديث
زيد بن وهب قال استعمل عمر بن الخطاب رجلا على جيش فخرج نحو الجبل فانتهى إلى نهر
ليس عليه جسر في يوم بارد فقال أمير ذلك الجيش لرجل انزل فابغ لنا مخاضة نجوز فيها فقال
الرجل انى أخاف ان دخلت الماء ان أموت قال فأكرهه فدخل الماء قال يا عمراه يا عمراه ثم لم
يلبث ان هلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وهو في سوق المدينة قال يا ليتكاه يا ليتكاه فبعث إلى
أمير ذلك الجيش فنزعه وقال لولا أن يكون سنة لأقدته منك ثم غرمه الدية وقال لا تعمل لي
عملا أبدا قال وإنما أمره الأمير بهذا على غير إرادة قتله بل ليدخل الماء فينظر لهم مخاضة الماء
فضمنه عمر رضي الله عنه ديته فكيف بمن أمره وهو يريد قتله بذلك وفيه دليل على أنه يجب
القود على المكره وانه يجب بغير السلاح ومعنى قوله أن يكون سنة يعنى في حق من لا يقصد
القتل ويكون مخطئا في ذلك فهو تنصيص على أنه إذا كان قاصدا إلى قتله بما لا يلجئه فإنه
يستوجب القود وأبو حنيفة يقول إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد وقد
يهدد الامام بما لا يتحقق ويتحرز فيه عن الكذب ببعض معاريض الكلام ولو قال لتقطعن
يد نفسك أو لأقطعنها انه لم يسعه قطعها لأنه ليس بمكره فالمكره من ينجو عما هدد به
بالاقدام على ما طلب منه وهنا في الجانبين عليه ضرر قطع اليد وإذا امتنع صارت يده مقطوعة
بفعل المكره وإذا أقدم عليه صارت مقطوعة بفعل نفسه وهو يتيقن بما يفعله بنفسه ولا
يتيقن بما هدده به المكره فربما يخوفه بما لا يحققه فلهذا لا يسعه قطعها ولو قطعها لم يكن على
الذي أكرهه شئ لان نسبة الفعل إلى المكره عند تحقق الاكراه والاكراه أن يدفع
عن نفسه ما هو أعظم مما يقدم عليه وذلك لا يوجد هنا فإذا لم يكن مكرها اقتصر حكم فعله
عليه وكذلك لو قال له لتقتلن نفسك بهذا السيف أو لأقتلنك به لم يكن هذا اكراها لما قلنا
ولو قال له لنقتلنك بالسياط أو لتقتلن نفسك بهذا السيف أو ذكر له نوعا من القتل هو أشد
عليه مما أمره أن يفعل بنفسه فقتل نفسه قتل به الذي أكرهه لان الاكراه هنا تحقق
فان قصد بالاقدام على ما طلب منه دفع ما هو أشد عليه فالقتل بالسياط أفحش وأشد على البدن
من القتل بالسيف لان القتل بالسيف يكون في لحظة وبالسياط يطول ويتوالى الألم واليه
68

أشار حذيفة رضي الله عنه حيث قال فتنة السوط أشد من فتنة السيف وكذلك ما دون
النفس لو قيل له لتحرقن يدك بالنار أو لتقطعنها بهذا الحديد فقطعها قطعت يد الذي أكرهه
إن كان واحد لتحقق الاكراه منه وإن كان عددا لم يكن عليهم في يده قود وعليهم دية
اليد في أموالهم بخلاف النفس وأصل هذا الفرق في المباشرة حقيقة فإنه لو قطع جماعة يد رجل
لم يلزمهم القود عندنا ولو قتلوا رجلا كان عليهم القود ويأتي هذا الفرق في كتاب الديات إن شاء الله
تعالى ولو أكره بوعيد قتل على أن يطرح ماله في البحر أو على أن يحرق ثيابه أو يكسر
متاعه ففعل ذلك فالمكره ضامن لذلك كله لان اتلاف المال مما يصلح أن يكون المكره فيه آلة
للمكره فعند تحقق الالجاء يصير الفعل منسوبا للمكره فكأنه باشر الاتلاف بيده والشافعي في
هذا لا يخالفنا لان المكره يباح له الاقدام على اتلاف المال سواء كان له أو لغيره وإذا صار
الاقدام مباحا له كان هو آلة للمكره فالضمان على المكره خاصة وأصحابه خرجوا له قولين سوى
هذا أحدهما أن الضمان يجب على المكره لصاحب المال لأنه هو المتلف حقيقة ثم يرجع هو على
المكره لأنه هو الذي أوقعه في هذه الورطة والثاني أن الضمان عليهم نصفان لان حقيقة
الاتلاف وجد من المكره والقصد إلى الاضرار وجد من المكره فكانا بمنزلة الشريكين في
الاتلاف ولكن الأولى أصح لما قلنا وان أكرهه على ذلك بحبس أو قيد ففعله لم يكن على
المكره ضمان ولا قود لان المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الالجاء وهو ما إذا خاف التلف
على نفسه وليس في التهديد بالحبس والقيد معنى الخوف التلف على نفسه فيبقى الفعل مقصورا
على المكره فيؤاخذ بحكمه وهذا لأنه ليس في الحبس والقيد الأهم يلحقه ومن يتلف مال
الغير اختيارا فإنما يقصد بذلك دفع الغم الذي يلحقه بحسده إياه على ما آتاه الله تعالى من المال
فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطا للضمان عنه ولو أكرهه بتلف على أن يأكل طعاما له أو
يلبس ثوبا له فلبسه مكرها حتى تخرق لم يضمن المكره شيئا لأنه ليس بفساد بل أمره أن
يصرف مال نفسه إلى حاجته وذلك لا يكون فسادا (ألا ترى) أن الأب والوصي يفعلان
ذلك للصبي ولا يكون فسادا منهما ثم هذا من وجه أمر بالمعروف فان التقتير وترك الانفاق
على نفسه بعد وجود السعة منهى عنه وفى الأمر بالمعروف دفع الفساد فعرفنا ان ما أمره به
ليس بفساد فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المكره بخلاف احراق المال بالنار أو طرحه
في الماء فان ذلك فساد لا انتفاع بالمال ولو أكرهه بوعيد قتل على أن يقتل عبده بالسيف أو
69

على أن يقطع يده لم يسعه ان يفعل ذلك لان العبد في حكم نفسه باق على أصل الحرية على ما بينا
ان ذمته لا تدخل تحت القهر والملك فكما لا يسعه الاقدام على أن يفعل شيئا من ذلك بحر
لو أكره عليه فكذلك العبد بخلاف سائر الأموال (ألا ترى) أن عند ضرورة المخمصة
يجوز له أن يصرف ماله إلى حاجته وليس له أن يقتل عبده ليأكل من لحمه فان فعله كان
له أن يأخذ الذي أكرهه بقتله قودا بعبده إن كان مثله ويأخذ دية يده إن كان قطع يده بمنزلة
ما لو باشر المكره ذلك بنفسه بناء على أصلنا أن القود يجرى بين الأحرار والمماليك في
النفس ولا يجرى فيما دون النفس وإن كان الاكراه بحبس لم يكن على المكره شئ وإنما
عليه الأدب بالضرب والحبس والالجاء لم يتحقق فكان فعل القتل مقصورا على المولى فلا
يرجع على المكره بشئ وليس على المولى سوى الاثم لان الحق في بدل نفس العبد للمولى
ولا يستوجب هو على نفسه عقوبة ولا مالا فاما الاثم فهو حق الشرع فكما يصير آثما بالاقدام
على قتل الحر مكرها لأنه يؤثر روحه على روح من هو مثله في الحرمة ويطيع المخلوق
في معصية الخالق وقد نهاه الشرع عن ذلك فكذلك المولى يكون آثما بهذا الطريق ولو أن
قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب أو حبس أو قيد حتى يقر على نفسه بحد أو قصاص كان
الاقرار باطلا لان الاقرار متمثل بين الصدق والكذب وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب
الصدق على جانب الكذب والتهديد بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على
ما قال عمر رضي الله عنه ليس الرجل على نفسه بأمير إذا ضربت أو أوثقت ولم ينقل عن أحد
من المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله صحة الاقرار مع التهديد بالضرب والحبس في حق السارق
وغيره الا شئ روى عن الحسن بن زياد رضي الله عنه ان بعض الأمراء بعث إليه وسأله
عن ضرب السارق ليقر فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى
مجلس الأمير ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال فلما رأى المال موضوعا
بين يدي الأمير قال ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا فان خلى سبيله بعد ما أقر مكرها
ثم أخذ بعد ذلك فجئ به فأقر بما كان تهدد عليه بغير اكراه مستقل أخذ بذلك كله لان
اقراره الأول كان باطلا ولما خلى سبيله فقد انتهى حكم ذلك الاخذ والتهديد فصار كأن لم
يوجد أصلا حتى أخذ الآن فأقر بغير اكراه وان كأن لم يخل سبيله ولكنه قال له وهو في
يده بعد ما أقر انى لا أؤاخذك باقرارك الذي أقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض
70

لك فإن شئت فأقر وإن شئت فلا تقر وهو في يد القاضي على حاله لم يجز هذا الاقرار
لان كينونته في يده حبس منه له وإنما كان هدده بالحبس فما دام حابسا له كان أثر ذلك
الاكراه باقيا وقوله لا أحبسك نوع غرور وخداع منه فلا ينعدم به أثر ذلك الاكراه
ولان الظاهر أنه إنما أقر لأجل اقراره المتقدم فإنه علم أنه لا ينفعه الانكار وانه إذا تناقض
كلامه يزداد التشديد عليه بخلاف الأول فهناك قد خلى سبيله وصار بحيث يتمكن من
الذهاب ان شاء فينقطع به أثر ذلك الاكراه وان خلى سبيله ولم يتوار عن بصر القاضي
حتى بعث من أخذه ورده إليه فأقر بالذي أقر به أول مرة من غير أكراه جديد فان هذا
ليس بشئ لأنه ما لم يتوار عن بصره فهو متمكن من أخذه وحبسه فيجعل ذلك بمنزلة ما لو
كان في يده على حاله وإن كان حين رده أول مرة لم يحبسه ولكنه هدده فلما أقر قال إني لست
أصنع بك شيئا فإن شئت فأقر وإن شئت فدع فأقر لم يأخذه بشئ من ذلك لأنه ما دام في يده
فكأنه محبوس في سجنه فكان أثر التهديد الأول قائما أرأيت لو خلى سبيله ثم بعث معه من
يحفظه ثم رده إليه بعد ذلك فأقر أكان يؤخذ بشئ من ذلك أو لا يؤخذ بهد لان يد من يحفظه له
كيده في ذلك ولو أكرهه قاض بضرب أو حبس حتى يقر بسرقة أو زنا أو شرب خمر
أو قتل فأقر بذلك فأقامه عليه فإن كان رجلا معروفا بما أقر به إلا أنه لا بينة عليه فالقياس
أن يقتص من المكره فيما أمكن القصاص فيه ويضمن من ماله ما لا يستطاع القصاص فيه
لان اقراره كان باطلا والاقرار الباطل وجوده كعدمه فبقي هو مباشرا للجناية بغير حق
فليزمه القصاص فيما يستطاع فيه القصاص ولكن يستحسن أن يلزمه ضمان جميع ذلك في
ماله ويدرأ القصاص لان الرجل إذا كان معروفا بما أقر به على نفسه فالذي يقع في قلب
كل سامع انه صادق في اقراره لما أقر به وذلك يورث شبهة والقصاص مما يندرئ بالشبهات
ولان على قول أهل المدينة رحمهم الله للامام أن يجبر المعروف بذلك الفعل على الاقرار
بالضرب والحبس فان مرتكب الكبيرة قل ما يقر على نفسه طائعا وإذا أقر به مكرها عندهم
يصح اقراره وتقام عليه العقوبة فيصير اختلاف العلماء رحمهم شبهة والقاضي مجتهد في ما
صنع فهذا اجتهاد في موضعه من وجه فيكون مسقطا للقود عنه ولكن يلزمه المال لان المال
مما يثبت مع الشبهات وبالإقرار الباطل لم تسقط حرمة نفسه وأطرافه فيصير ضامنا له
مراعاة لحرمة نفسه وطرفه وإن كان المكره غير معروف بشئ مما رمى به أخذت فيه بالقياس
71

وأوجبت القصاص على القاضي في ما يستطاع فيه القصاص لأنه إذا كان معروفا بالصلاح فالذي
يسبق إليه أوهام الناس أنه برئ الساحة مما رمى به وإنما أقر على نفسه كاذبا بسبب الاكراه
ونظير هذا ما قيل فيمن دخل على انسان بيته شاهرا سيفه مادا رمحه فقتله صاحب البيت
ثم اختصم أولياؤه مع صاحب البيت فقال أولياؤه كان هاربا من اللصوص ملتجئا إليك وقال
صاحب البيت بل كان لصا قصد قتلى فإن كان المقتول رجلا معروفا بالصلاح فالقول قول
الأولياء ويجب القصاص على صاحب البيت وإن كان متهما بالذعارة ففي القياس كذلك وفى
الاستحسان القول قول صاحب البيت ولا قصاص ولكن عليه الدية في ماله وفى رواية
الحسن عن أبي حنيفة لا شئ عليه لأن الظاهر شاهد عليه انه كان دخل عليه مكابرا وانه قد
أهدر دمه عليه بذلك ولكن في ظاهر الرواية يقول مجرد الظاهر لا يسقط حرمة النفوس
المحترمة ولا يجوز اهدار الدماء المحقونة ولكن يصير الظاهر شبهة في اسقاط القود عنه
فيجب عليه الدية في ماله صيانة لدم المقتول عن الهدر فكذلك ما سبق والله أعلم
(باب تعدى العامل)
(قال رحمه الله) وإذا بعث الخليفة عاملا على كورة فقال لرجل لتقتلن هذا الرجل
عمدا بالسيف أو لأقتلنك فقتله المأمور فالقود على الآمر المكره في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله ولا قود على المكره وقال زفر رحمه الله القود على المكره دون المكره وقال
الشافعي رحمه الله يجب القود على المكره قولا واحد وله في ايجاب القود على المكره
قولان وقال أهل المدينة رحمهم الله عليهما القود وزادوا على هذا فأوجبوا القود على الممسك
حتى إذا امسك رجلا فقتله عدوه قالوا يجب القود على الممسك وقال أبو يوسف أستحسن
أن لا يجب القود على واحد منهما ولكن تجب الدية على المكره في ماله في ثلاث سنين أما
زفر رحمه الله فاستدل بقوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا والمراد سلطان
استيفاء القود من القاتل والقاتل هو المكره حقيقة والمعنى فيه أن من قتل من يكافئه لاحياء
نفسه يعتمد بحق مضمون فليزمه القود كما لو أصابته مخمصة فقتل انسانا وأكل من لحمه
والدليل على أن القاتل هو المكره أن القتل فعل محسوس وهو يتحقق من المكره والطائع بصفة
واحدة فيعرف به انه قاتل حقيقة ومن حيث الحكم انه يأثم أثم القاتل واثم القتل على من
72

باشر القتل والدليل عليه ان المقصود بالقتل إذا قدر على قتل المكره كان له أن يقتله كما لو
كان طائعا وبه نعلل فنقول كل حكم يتعلق بالقتل فإنه لا يسقط عن المكره بالاكراه كالاثم
والتفسيق ورد الشهادة وإباحة قتله للمقصود بالقتل بل أولى لان تأثير الضرورة في اسقاط
الاثم دون الحكم حتى أن من أصابته مخمصة يباح له تناول مال الغير ويكون ضامنا ثم هنا
لا يسقط اثم الفعل عن المكره فلأن لا يسقط عنه حكم القتل أولى ولما جعل هذه نظير
الاكراه بالحبس في اثم الفعل فكذلك في حكمه ولا يقال إنما يأثم أثم سوء الاختيار أو اثم
جعل المخلوق في معصية الخالق لأنه مكره على هذا كله كما هو مكره على القتل والشافعي
يستدل بهذا أيضا إلا أنه يوجب القود على المكره أيضا للسبب القوى لان القصد إلى القتل
بهذا الطريق ظاهر من المتخيرين والقصاص مشروع بطريق الزجر فيقام السبب القوى
مقام المباشرة في حق المكره لتغليظ أمر الدم وتحقيق معنى الزجر كما قال في شهود القصاص
يلزمهم القود قال وعلى أصلكم حد قطاع الطريق يجب على الردى بالسبب القوى والدليل
عليه ان الجماعة يقتلون بالواحد قصاصا لتحقيق معنى الزجر ومن أوجب القود على الممسك
يستدل بها أيضا فنقول الممسك قاصدا إلى قتله مسبب له فإذا كان التسبب يقام مقام المباشرة
في أخذ بدل الدم وهو الدية يعنى حافر البئر في الطريق فكذلك في حكم القصاص إلا أن
المتسبب إذا قصد شخصا بعينه يكون عامدا فليزمه القود وإذا لم يقصد بتسببه شخصا بعينه
فهو بمنزلة المخطئ فتلزمه الدية وللشافعي رحمه لله طريق آخر ان المكره مع المكره بمنزلة
الشريكين في القتل لان القصد وجد من المكره وما هو المقصود به وهو الانتقام يحصل له
والمباشرة وجدت من المكره فكان بمنزلة الشريكين ثم وجب القود على أحدهما وهو المكره
فكذلك على الآخر والدليل على أنهما كشريكين أنهما مشتركان في اثم الفعل وان المقصود
بالقتل ان يقتلهما جميعا وحجة أبي حنيفة ومحمد أن المكره ملجأ إلى هذا الفعل والالجاء بأبلغ
الجهات ويجعل الملجأ آلة للملجئ فلا يصلح أن يكون آلة له كما في اتلاف المال فان الضمان يجب
على المكره ويصير المكره آلة له حتى لا يكون عليه شئ من حكم الاتلاف ومعلوم أن المباشر
والمتسبب إذا اجتمعا في الاتلاف فالضمان على المباشر دون المتسبب ولما وجب ضمان المال
على المكره علم أن الاتلاف منسوب إلى المكره ولا طريق للنسبة إليه سوى جعل المكره
آلة للمكره فكذلك في القتل لان المكره يصلح أن يكون آلة للمكره فيه بأن يأخذ بيده
73

مع السكين فيقتل به غيره وتفسير الالجاء انه صار محمولا على ذلك الفعل بالتهديد بالقتل
فالانسان مجبول على حب الحياة ولا يتوصل إلى ذلك الا بالاقدام على القتل فيفسد اختياره
بهذا الطريق ثم يصير محمولا على هذا الفعل وإذا فسد اختياره التحق بالآلة التي لا اختيار لها
فيكون الفعل منسوبا إلى من فسد اختياره وحمله على هذا الفعل لا على الآلة فلا يكون على
المكره شئ من حكم القتل من قصاص ولا دية ولا كفارة (ألا ترى) ان شيئا من المقصود
لا يحصل للمكره فلعل المقتول من أخص أصدقائه فعرفنا أنه بمنزلة الآلة فأما الآثم فبقاء الاثم
عليه لا يدل على بقاء الحكم كما إذا قال لغيره اقطع يدي فقطعها كان آثما ولا شئ عليه من حكم
القطع بل في الحكم يجعل كان الآمر فعله بنفسه وقد بينا أنه مع فساد الاختيار يبقى مخاطبا
فلبقائه مخاطبا كان عليه اثم القتل ولفساد اختياره لم يكن عليه شئ من حكم القتل ثم حقيقة المعني
في العذر عن فعل الاثم من وجهين أحدهما أن تأثير الالجاء في تبديل النسبة لا في تبديل محل
الجناية ولو جعلنا المكره هو الفاعل في حكم الضمان لم يتبدل به محل الجناية ولو أخر جناية
المكره من أن يكون فاعلا في حق الآثم تبدل به محل الجناية لان الاثم من حيث إنه جناية علي
حد الدين وإذا جعلنا المكره في هذا آلة كانت الجناية على حد دين المكره دون المكره وإذا قلنا
المكره آثم ويكون الفعل منسوبا إليه في حق الآثم كانت جناية على دينه بارتكاب ما هو حرام
محض وبسبب الاكراه لا يتبدل محل الجناية فأما في حق الضمان فمحل الجناية نفس المقتول
سواء كان الفعل منسوبا إلى المكره أو إلى المكره وبهذا تبين أن في حق الاثم لا يصلح أن
يكون آلة لان الانسان في الجناية على حد دين نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره والثاني
انا لو جعلنا المكره آلة في حق الاثم كان ذلك اهدار وليس تأثير الالجاء في الاهدار (ألا
ترى) ان في المال لا يجعل فعل المكره كفعل بهيمة ليس لها اختيار صحيح والمكره آثم باكراهه
فإذا لم يجعل المكره آثما كان هذا اهدارا للآثم في حقه أصلا ولا تأثير للالجاء في ذلك
بخلاف حكم الفعل فإنه إذا جعل المكره آلة فيه كان المكره مؤاخذا به إلا أن يكون هدرا
ولا يقال الحربي إذا أكره مسلما على قتل مسلم فان الفعل يصير منسوبا إلى المكره عندكم وفى
هذا اهدار لأنه ليس على المكره شئ من الضمان وهذا لأنه ليس باهدار بل هو بمنزلة
ما لو باشر الحربي قتله فيكون المقتول شهيدا ولا يكون قتل الحربي إياه هدرا وان كأن لا يؤاخذ
بشئ من الضمان إذا أسلم وبه فارق المضطر لأنه غير ملجأ إلى ذلك الفعل من جهة غيره ليصير
74

هو آلة للملجئ (ألا ترى) أن في المال الضمان واجب عليه فعرفنا به أن حكم الفعل
مقصور عليه والدليل على أن الفاعل هو المكره أن القصاص يلزمه عند الشافعي رحمه الله
والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيعتمد المساواة حتى أن بدون المساواة لا يجب القصاص
كما بين المسلم والمستأمن وكما في كسر العظام ولا مساواة بين المباشرة والتسبب ولا طريق لجعل
المكره شريكا الا بنسبة بعض الفعل إليه وإذا كان للالجاء تأثير في نسبة بعض الفعل إلى
الملجئ فكذلك في نسبة جميع الفعل إليه ولا معنى لايجاب القود على الممسك لان القصاص
جزاء مباشرة الفعل فإنه عقوبة تندرئ بالشبهات وفى التسبب نقصان فيجوز أن يثبت به
ما يثبت مع الشبهات وهو المال ولا يجوز أن يثبت ما يندرئ بالشبهات بخلاف حد قطاع
الطريق فان ذلك جزاء المحاربة والردء مباشر للمحاربة كالقاتل وقد بينا هذا في السرقة والأصل
فيه قوله عليه الصلاة والسلام يصبر الصابر ويقتل القاتل أي يحبس الممسك ويقتل القاتل فاما
أبو يوسف رحمه الله فقال استحسن أن لا يجب القود على واحد منهما لان بقاء الاثم في حق
المكره دليل على أن الفعل كله لم يصر منسوبا إلى المكره والقصاص لا يجب الا بمباشرة
تامة وقد انعدم ذلك من المكره حقيقة وحكما فلا يلزمه القود وإن كان هو المؤاخذ بحكم
القتل فيما يثبت مع الشبهات والدليل عليه ان وجوب القصاص يعتمد المساواة ولا مساواة
بين المباشرة والاكراه فلا يمكن ايجاب القود على المكره الا بطريق المساواة ولكنا نقول
المكره مباشر شرعا بدليل أن سائر الأحكام سوى القصاص نحو حرمان الميراث والكفارة
في الموضع الذي يجب والدية يختص بها المكره فكذلك القود والأصل فيه قوله تعالى يذبح
أبناءهم ويستحيى نساءهم فقد نسب الله الفعل إلى المعين وهو ما كان يباشر صورة ولكنه كان
مطاعا فأمر به وأمره اكراه إذا عرفنا هذا فنقول سواء كان المكره بالغا عاقلا أو كان
معتوها أو غلاما غير يافع فالقود على المكره لان المكره صار كالآلة والبلوغ والعقل لا معتبر
به في حق الآلة وإنما المعتبر تحقق الالجاء لخوف التلف على نفسه وكذلك حرمان
الميراث فإنه يثبت في حق المكره دون المكره وإن كان الآمر غير بالغ ولكنه مطاع بتحقق
الاكراه منه أو كان رجلا مختلط العقل ولكن يتحقق الاكراه منه فان الفعل يصير منسوبا
إليه وذلك يكون بمنزلة جنايته بيده في أحكام القتل واستدل بقول الحسن البصري رحمه
الله في أربعة شهدوا على رجل بالزنا ورجمه الناس فقتلوه ثم رجع بعض الشهود ان على الراجع
75

القتل وهذا شئ لا يؤاخذ به ولكن قصد بهذا الاستشهاد دفع النسبة عمن تمسك بالصورة
ويقول كيف أوجبتم القتل على المكره ولم يباشر القتل حسا واستدل عليه بقول أهل المدينة
في الممسك ويقتل الردئ في قطع الطريق وإن لم يباشروا قتل أحد حسا وكذلك لو قال
العامل له لتقطعن يده أو لأقتلنك لم ينبغ له أن يفعل ذلك لأن لأطراف المؤمن من الحرمة
مثل ما لنفسه (ألا ترى) ان المضطر لا يحل له أن يقطع طرف الغير ليأكله كما لا يحل له أن
يقتله وكذلك لو أمره بقطع أصبع أو نحوه فان حرمة هذا الجزء بمنزلة حرمة النفس فان
القتل من المظالم والمكره مظلوم فليس له أن يظلم أحدا ولو ظلم وان أقدم على القتل فليس
عليه الا الاثم فاما الفعل في حق الحكم فقد صار منسوبا إلى المكره لوجود الالجاء بالتهديد
بالقتل وان رأى الخليفة أن يعزر المكره ويحبسه فعل لاقدامه على ما لا يحل له الاقدام عليه
وأن أمره ان يضربه سوطا واحدا أو أمره أن يحلق رأسه أو لحيته أو أن يحبسه أو أن
يقيده وهدده على ذلك بالقتل رجوت أن لا يكون آثما في فعله ولا في تركه أما في تركه فلانه
من المظالم والكف عن المظالم هو العزيمة والمتمسك بالعزيمة لا يكون آثما وأما إذا قدم عليه
فلانه يدفع القتل عن نفسه بهم وحزن يدخل على غيره فان بالحبس والقيد وبحلق اللحية
وضرب سوط يدخله هم وحزن ولا يخاف على نفسه وعلى شئ من أعضائه ولدفع الهلاك
عن نفسه قد رخص له الشرع في ادخال الهم والحزن على غيره (ألا ترى) أن المضطر يأخذ
طعام الغير بغير رضاه ولا شك ان صاحب الطعام يلحقه حزن بذلك الا انه علق الجواب
بالالجاء لأنه لم يجد في هذا بعينه نصا والفتوى بالرخصة فيما هو من مظالم العباد بالرأي لا يجوز
مطلقا فلهذا قال رجوت وإن كان يهدده على ذلك بحبس أو قيد أو ضرب سوط أو حلق
رأسه ولحيته لم ينبغ له أن يقدم على شئ من الظلم قل ذلك أو كثر لان الرخصة عند تحقق
الضرورة وذلك إذا خاف التلف على نفسه وهو بما هدده هنا لا يخاف التلف على نفسه ولو
أكرهه بالحبس على أن يقتل رجلا فقتله كان القود فيه على القاتل لان بالتهديد بالحبس
لا يتحقق الالجاء ولهذا كان الضمان في المال عند الاكراه بالحبس على المكره دون المكره
ولو أمره بقتله ولم يكرهه على ذلك إلا أنه يخاف إن لم يفعل أن يقتله ففعل ما أمر به كان
ذلك بمنزلة الاكراه لان الالجاء باعتبار خوفه التلف على نفسه أن لو امتنع من الاقدام
على الفعل وقد تحقق ذلك هنا ومن عادة المتجبرين الترفع عن التهديد بالقتل ولكنهم يأمرون
76

ثم لا يعاقبون من خالف أمرهم الا بالقتل فباعتبار هذه العادة كان الامر من مثله بمنزلة
التهديد بالقتل ولو أكرهه بوعيد تلف حتى يفترى على مسلم رجوت أن يكون في سعة منه
(ألا ترى) أنه لو أكرهه بذلك على الكفر بالله تعالى كان في سعة من اجراء كلمة الكفر
على اللسان مع طمأنينة القلب بالايمان فكذلك إذا أكرهه بالافتراء على مسلم لان الافتراء
على الله تعالى والشتم له يكون أعظم من شتم المخلوق إلا أنه علقه بالرجاء لان هذا من مظالم
العباد وليس هذا في معنى الافتراء على الله تعالى من كل وجه فان الله تعالى مطلع على ما في
ضميره ولا اطلاع للمقذوف على ما في ضميره ولان الله تعالى أن يدخله نقصان
بافتراء المفترين وفى الافتراء على هذ المسلم هتك عرضه وذلك ينقص من جاهه ويلحق
الحزن به فلهذا علق الجواب بالرجاء قال (ألا ترى) أنه لو أكرهه على شتم محمد صلى الله عليه
وسلم بقتل كان في سعة أن شاء الله فهذا أعظم في قذف امرئ مسلم ولو تهدده بقتل حتى
يشتم محمدا صلى الله عليه وسلم أو يقذف مسلما فلم يفعل حتى قتل كان ذلك أفضل له لما بينا أن
في الامتناع تمسك بما هو العزيمة ولما امتنع حبيب رضي الله عنه حتى قتل سماه رسول الله
صلى الله عليه وسلم أفضل الشهداء ولو تهدده بقتل حتى يشرب الخمر فلم يفعل حتى قتل خفت
أن يكون آثما وقد بينا هذا الفصل إلا أنه ذكره هنا بلفظ يستدل به على أنه كان من مذهبه
أن الأصل في الأشياء الإباحة وان الحرمة بالنهي عنها شرعا فإنه قال لان شرب الخمر وأكل
الميتة لم يحرم الا بالنهي عنهما وبين أهل الأصول في هذا كلام ليس هذا موضع بيانه ولو
أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال فلان فيدفعه إليه رجوت أن يكون في سعة من
أخذه ودفعه إليه لأنه بمنزلة المضطر وقد بينا أن يباح للمضطر أخذ مال الغير ليدفع به
الضرورة عن نفسه ولكنه علق الجواب بالرجاء لان هذا ليس في معنى المضطر من وجه
فالعذر هناك وهو الجوع ما كان بصنع مضاف إلى العباد والخوف هنا باعتبار صنع مضاف
إلى العبد وبينهما فرق (ألا ترى) أن المقيد إذا صلى قاعدا يلزمه الإعادة إذا أطلق عنه
القيد بخلاف المريض قال والضمان فيه على الآمر لان الالجاء قد تحقق فيصير الاخذ
والدفع كله منسوبا إلى الآمر والمكره بمنزلة الآلة له وإنما يسعه هذا ما دام حاضرا عند
الآمر فإن كان أرسله ليفعل فخاف أن يقتله ان ظفر به ولم يقل أن لم يفعل ما هدد به لم
يحل الاقدام على ذلك لان الالجاء إنما يتحقق ما دام في يد المكره بحيث يقدر على ايقاع
77

ما هدده به عاجلا وقد انعدم ذلك حين بعد عنه ولا يدرى أيقدر عليه بعد ذلك أو لا يقدر
وبهذا الفصل تبين أنه لا عذر لأعوان الظلمة في أخذ الأموال من الناس فان الظالم
يبعث عاملا إلى موضع ليأخذ مالا فيتعلل العامل بأمره وانه يخاف العقوبة من جهته إن لم
يفعل وليس ذلك بعذر له إلا أن يكون بمحضر من الآمر فاما بعد ما بعد من الظالم فلا إلا أن
يكون رسول الآمر معه على أن يرده عليه إن لم يفعل فيكون هذا بمنزلة الذي كان حاضرا
عنده لان كونه تحت يد رسوله ككونه يده ويتمكن الرسول من رده إليه ليعاقبه بتحقق
الالجاء ولو لم يفعل ذلك حتى قتله كان في سعة إن شاء الله لأنه تحرز عما هو من مظالم العباد
وذلك عزيمة (ألا ترى) أن للمضطر أن يأخذ طعام صاحبه بقدر ما تندفع عنه الضرورة به
ولو لم يأخذه حتى تلف لم يكن مؤاخذا به فهذا مثله ولو كان المكره هدده بالحبس أو القيد لم
يسعه الاقدام على ذلك لان الالجاء والضرورة بهذا التهديد لا يتحقق ولو أكره رجلا على
قتل أبيه أو أخيه بوعيد قتل فقتله فقد بينا حكم المسألة أن الفعل يصير منسوبا إلى المكره فيما
هو من أحكام القتل فكأنه هو المباشر بيده وعلى هذا الحرف ينبنى ما بعده من المسائل حتى قالوا
لو أن لصين أكرها رجلا بوعيد تلف على أن يقطع يد رجل عمدا كان ذلك كقطعهما بأيديهما
فعليهما أرش اليد في مالهما في سنتين ولا قود عليهما لان اليدين لا يقطعان بيد واحدة وان مات
فيهما فعلى المكرهين القود لان القطع إذا اتصلت به السراية كان قتل من أصله ولو باشرا
قتله لزمهما القود ولو كان الآمر واحدا والمأمور اثنين كان على الآمر القصاص في اليد ان
عاش وفى البدن ان مات من ذلك لان الفعل منسوب إلى المكره وهو واحد لو باشر قطع
يده أو قتله يجب القود عليه فكذلك إذا أكرهه على ذلك رجلان والله أعلم بالصواب
(باب الاكراه على دفع المال وآخذه)
(قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف حتى أعطى رجلا ماله وأكره
الآخر بمثل ذلك حتى قبضه منه ودفعه فهلك المال عنده فالضمان على الذي أكرههما دون
القابض لان الدافع والقابض كل واحد منهما ملجأ من جهة المكره فيصير الفعل في الدفع
والقبض منسوبا إلى المكره والقابض مكره على قبضه بوعيد تلف فلا يبقى في جانبه فعل
موجب للضمان عليه ولأنه قبضه ليرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يوجب
78

الضمان على القابض وإن كان قبضه بغير أمر صاحبه كمن أخذ آبقا أو وجد لقطة وأشهد
انه أخذه ليرده على صاحبه لم يكن عليه ضمان ان هلك عنده وكذلك لو كان أكره القابض
على قبضه ليدفعه إلى الذي أكرهه فقبضه وضاع عنده قبل أن يدفعه إليه فلا ضمان على القابض
إذا حلف بالله ما أخذ الا ليدفعه إليه طائعا وما أخذه الا ليرده على صاحبه إلا أن يكره على
دفعه لأن الظاهر يشهد له في ذلك فان فعل المسلم محمول على ما يحل ويحل له الاخذ مكرها
على قصد الرد على صاحبه ولا يحل له الاخذ على قصد الدفع إلى المكره طائعا ودينه وعقله
يدعوانه إلى ما يحل دون ما لا يحل إلا أن في اللقطة لا يقبل قوله على هذا إذا لم يشهد في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنه متمكن من الاشهاد على ذلك وهنا هو غير متمكن من
الاشهاد على ما في ضميره من قصد الرد على المالك لأنه ان أظهر ذلك عاقبه المكره فلهذا
قبلنا قوله في ذلك مع اليمين ولو كان أكره صاحب المال على أن يهبه لصاحبه وأكره الآخر
على أن يقبل الهبة منه ويقبضها بوعيد تلف فقبضها فضاعت عنده فان قال القابض أخذتها
على أن تكون في يدي مثل الوديعة حتى أردها على صاحبها فالقول قوله مع يمنيه لان الاكراه
شاهد له على أنه غير راغب في تمليكها فيكون الضمان على المكره خاصة وان قال أخذتها على
وجه الهبة لتسلم لي كان لرب المال أن يضمنه ان شاء وان شاء المكره لان الموهوب له قبض
مال الغير على وجه التملك بغير رضا صاحبه وهو طائع في ذلك القبض على هذا القصد فيكون
ضامنا للمال وأما المكره فلان الدافع ملجأ من جهته فيجعل كأنه قبضه بنفسه ودفعه إليه فان
ضمن المكره رجع على الموهوب له لأنه قائم مقام من ضمنه لان المكره ما قصد مباشرة
الهبة من جهته فلا يمكن تنفيذ الهبة من جهته بملكه إياه وفى الأصل أشار إلى حرف آخر
فقال لأنه إنما ضمن المال بقبض الموهوب له وقد كانت الهبة قبل القبض فلا يجعل الذي
أكرههما بمنزلة الواهب وما قلناه أوضح لأنا إذا جعلنا القابض مكرها وكان المكره ضامنا
باعتبار نسبة القبض إليه لا يبقى في جانب القابض سبب موجب للضمان عليه والدليل عليه أنه قال
فان ضمن الموهوب له لم يكن على الذي أكرهه شئ لأنه أخذه على أنه له ولو كان القبض
منسوبا إلى المكره كان للقابض أن يرجع على المكره بما يلحقه من الضمان بسببه فإن كان
الموهوب له بحيث يتمكن من الاشهاد عند الهبة أن يقبضه للرد فلم يفعل كان ضامنا بترك
الاشهاد لان القبض بحكم الهبة عمل منه لنفسه فلا يقبل قوله بخلاف ما صرح به إلا عند
79

الضرورة وهو ما إذا لم يكن متمكنا من الاشهاد لأنا رأينا ان في موضع الضرورة يجعل القول
قوله فيما في ضميره كالمكره على الكفر إذا قال بعد ما تكلم بالكفر كنت مطمئن القلب بالايمان
قبل قوله ولم تبن منه امرأته فاما عند تمكنه من الاشهاد بلا ضرورة فلا يقبل قوله بمنزلة من
وجد عبد آبقا لرجل في يد غيره فلم يقدر على استرداده منه الا بشراء أو هبة فطلب ذلك
منه حتى وهب له أو اشتراه كان ضامنا له إلا أن يشهد عند ذلك أنه يأخذه ليرده على مولاه
فإذا أشهد لم يضمن وكذلك إن لم يكن متمكنا من الاشهاد يقبل قوله في ذلك ولو أكرهه
على بيع عبده وأكره المشترى على شرائه وأكرههما على التقابض فهلك الثمن والعبد ثم
اختصموا فضمان العبد للبائع وضمان الثمن للمشترى على الذي أكرههما لان كل واحد
منهما ملجأ على دفع ماله إلى الآخر من جهته فان أراد أحدهما ان يضمن صاحبه سئل كل
واحد منهما عما قبضه على وجه قبضه فان قال قبضته على البيع الذي أكرهنا عليه ليكون لي
وقالا ذلك جميعا فالبيع جائز ولا ضمان على المكره فيه لان قبض كل واحد منهما على هذا
القصد دليل الرضا منه بالبيع ودليل الرضا كصريح الرضا (ألا ترى) أنهما لو أكرها على البيع
ثم تقابضا بغير اكراه تم البيع بينهما فكذلك إذا أقر كل واحد منهما انه قبضه على وجه التمليك
وان قال قبضته مكرها لأرده على صاحبه وآخذه منه ما أعطيت وحلف كل واحد منهما
لصاحبه على ذلك لم يكن لواحد منهما على صاحبه ضمان لان الاكراه دليل ظاهر لكل
واحد منهما على ما يخبر به عن ضميره إلا أن صاحبه يدعى عليه ما لو أقر به لزمه الضمان فإذا
أنكر يحلف على ذلك فان حلف أحدهما وأبى الآخر ان يحلف لم يضمن الذي حلف لان
بيمينه قد انتفى عنه بسبب الضمان إلا أن يثبته صاحبه بالحجة ويضمن الذي لم يحلف ما قبض
لان نكوله كاقراره وذلك يثبت عليه سبب الضمان عند قضاء القاضي فإن كان الذي أبى
اليمين هو الذي قبض العبد ضمن البائع قيمة العبد أيهما شاء لان فعله بالدفع صار منسوبا
إلى المكره والقابض كان طائعا حين قبضه لنفسه على وجه التملك فان ضمنها المكره رجع
بها على المشترى لأنه ملك بالضمان وما قصد تنفيذ البيع من جهته ولأنه إنما ضمنها بالاكراه
على القبض وقد كان البيع قبل ذلك فلا يكون بمنزلة البائع وقد بينا أن الوجه الأول أصبح
وان ضمنها المشترى لم يرجع بها على المكره لأنه أقر أنه لم يقبضه على وجه الاكراه وإنما قبضه
على وجه الشراء ولم يرجع على البائع بالثمن أيضا لان البائع قد حلف أنه قبض الثمن للرد
80

عليه وقد هلك في يده فلا يضمن له شيئا من ذلك ولا يرجع بالثمن على المكره أيضا لأنه
أقر انه دفع الثمن طوعا وانه كان راضيا بالبيع وإن كان المشترى حلف وأبى البائع اليمين فلا
ضمان في العبد على من أخذه وأما الثمن فإن شاء المشترى ضمنه المكره وان شاء ضمنه البائع لان
البائع بنكوله أقر أنه قبض الثمن لنفسه طائعا وفعل الدافع منسوب إلى المكره للالجاء فان ضمن
البائع لم يرجع به على المكره لأنه ضمن بفعل كان عاملا فيه لنفسه طائعا وان ضمنه المكره
رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملكه بالضمان والقابض كان طائعا في قبضه
لنفسه فيضمن له ذلك ولو أكرههما على البيع والشراء ولم يذكر لهما قبض فلما تبايعا لم يتقابضا
حتى فارقا الذي أكرههما ثم تقابضا على ذلك البيع فهذا رضا منهما بالبيع وإجازة له لان
البيع مع الاكراه كان منعقدا ولم يكن نافذا جائزا لانعدام الرضا منهما فإذا وجد دليل
الرضا نزل ذلك منزلة التصريح بالرضا بالإجارة طوعا وقد بينا الفرق بين الهبة وبين البيع
لان الاكراه على البيع لا يكون اكراها على التسليم والاكراه على الهبة يكون اكراها
على التسليم ولو كان الاكراه في الوجه الأول على البيع والقبض بغير تلف بل بحبس أو قيد
وتقابضا على ذلك مكرهين لم يجز البيع لان نفوذ البيع يعتمد تمام الرضا وبالتهديد بالحبس
ينعدم تمام الرضا فان ضاع ذلك عندهما فلا ضمان لواحد منهما على المكره لان فعلهما لم
يصر منسوبا إلى المكره فان نسبة الفعل إليه بالالجاء والتهديد بالحبس لا يتحقق الالجاء
ولكن كل واحد منهما ضامن لما قبض من مال صاحبه لأنه قبضه بحكم عقد فاسد وفعل
كل واحد منهما في القبض مقصور عليه وقد قبضه بغير رضا صاحبه ولو قبضه بحكم العقد
الفاسد برضا صاحبه كان مضمونا عليه فهنا أولى أن يكون مضمونا عليه ولو أكرهه بالحبس
على أن يودع ماله هذا الرجل وأكره الآخر بالحبس على قبوله وديعة فقبله وضاع عنده
فلا ضمان على المكره ولا على القابض أما على المكره فلانعدام الالجاء من جهته واما على
القابض فلانه ما قبض لنفسه وإنما قبضه ليحفظه وديعة ويرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل
هذا القبض لا يكون موجبا للضمان عليه وان انعدام الرضا من صاحبه كما لو هبت الريح
بثوب انسان وألقته في حجر غيره فأخذه ليرده على صاحبه فهلك لم يكن ضامنا شيئا ولو
أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا أو يدفعه إليه وأكره الآخر بالحبس على قبوله
وقبضه فهلك فالضمان على القابض لأنه قبضه على وجه التملك وفعله في القبض مقصور عليه
81

فإنه غير ملجأ من جهة المكره فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ولو كان أكره القابض
بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ولا المكره شيئا أما القابض فلانه ملجأ إلى القبض
وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه وأما المكره فلان الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال
إليه لأنه كان مكرها بالحبس فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قال أبو حازم رحمه الله
وهذا غلط لان فعل الدافع إن لم يكن منسوبا إلى المكره ففعل القابض صار منسوبا إليه
وإنما قبضه بغير رضا المالك فكأن المكره قبضه بنفسه فينبغي أن يكون المكره ضامنا من
هذا الوجه وما قاله في الكتاب أصح لان هذا القبض متمم للهبة وفى مثله لا يصلح
المكره آلة للمكره (ألا ترى) أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم لهبة به ثم الموجب للضمان
على المكره تفويت اليد على المالك وذلك بالدفع والاخراج من يدهما لا بالقبض لان
الأموال محفوظة بالأيدي وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره ولو أكره الواهب بتلف
وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن أن شاء المكره وان شاء القابض
لان فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته فيكون المكره ضامنا له وفعل
القابض مقصور عليه لأنه كان مكرها على القبض بالحبس وقد قبضه على وجه التملك فكان
للدافع أن يضمن أيهما شاء فان ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا وكذلك في البيع
إذا أكره بالبائع بوعيد تلف على البيع والتقابض وأكره المشترى على ذلك بالحبس فتقابضا
وضاع المال فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد أن يحلف ما قبضه الا ليرده على صاحبه لأنه
ملجأ قبل القبض فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه وللبائع أن يضمن المكره
قيمة عبده لأنه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ثم يرجع بها المكره على المشترى لما بينا
أن البيع لم ينفذ من جهة المكره وقد ملكه بالضمان فإن شاء البائع ضمنها المشترى لان فعله
في القبض مقصور عليه وقد قبضه على وجه التملك وإن لم يكن راضيا بسببه ثم لا يرجع
المشترى على المكره بالقيمة ولا بالثمن أما القيمة فلانه إنما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا
لنفسه واما الثمن فلانه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره
في حكم الضمان وفى هذا طعن أبي حازم رحمه الله أيضا كما في الهبة ولو كان أكره البائع بالحبس
وأكره المشترى بالقتل فلا ضمان للبائع في العبد على المشترى ولا على المكره لان المشترى
ملجأ إلى القبض فلا يكون ضامنا شيئا والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره فيقتصر
82

حكم الدفع عليه فلهذا لا ضمان على المكره وللمشتري أن يضمن الثمن أن شاء البائع وان شاء
المكره لان كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه فاقتصر
حكم فعله بالقبض عليه وللمشتري الخيار فان ضمن المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من
ضمنه ولأنه ملك المضمون بالضمان ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن فرجع على البائع بالثمن
والله أعلم بالصواب
(باب من الاكراه على الاقرار)
(قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بعتق أو
طلاق أو نكاح وهو يقول لم أفعله فأقر به مكرها فاقراره باطل والعبد عبده كما كان والمرأة
زوجته كما كانت لان الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والاكراه الظاهر دليل
على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع الشر عن نفسه والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالاخبار
لا يصير صدقا (ألا ترى) أن فرية المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقا باخبارهم به
والدليل عليه انه لو أقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب في ذلك فإنه يسعه امساكها فيما بينه
وبين الله تعالى إلا أن القاضي لا يصدقه على ذلك لأنه مأمور باتباع الظاهر والظاهر أن
الانسان لا يكذب فيما يلحق الضرر به فإذا كان مكرها وجب تصديقه في ذلك لوجود
الاكراه فلهذا لا يقع به شئ والاكراه بالحبس والقتل في هذا سواء لان الاقرار تصرف
من حيث القول ويعتمد تمام الرضا وبسبب الاكراه بالحبس ينعدم ذلك وكذلك الاقرار
بالرجعة أو الفئ في الايلاء أو العفو عن دم العمد فإنه لا يصح مع الاكراه لما قلنا وكذلك
الاقرار في عبده انه ابنه أو جاريته انها أم ولده لان هذا اخبار عن أمر سابق خفى فالاكراه
دليل على أنه كاذب فيما يخبر به * فان قيل أليس عند أبي حنيفة رحمه الله إذا قال لمن هو أكبر
سنا منه هذا ابني يعتق عليه وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند
الاقرار مكرها فإذا نفذ العتق ثمة ينبغي أن ينفذ هنا بطريق الأولى قلنا أبو حنيفة رحمه الله
يجعل ذلك الكلام مجازا عن الاقرار بالعتق كأنه قال عتق على من حين ملكته وباعتبار هذا
المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في اقراره فاما عند الاكراه فأكثر ما فيه أن يجعل
هذا مجازا عن الاقرار بالعتق ولكن الاكراه يمنع صحة الاقرار بالعتق كما يمنع صحة الاقرار
83

بالنسب ولو أكره نصراني على الاسلام فأسلم كان مسلما لوجود حقيقة الاسلام مع الاكراه
فان ذلك بالتصديق بالقلب والاقرار باللسان وقد سمعنا اقراره بلسانه وإنما يعبر عما في قبله
لسانه فلهذا يحكم باسلامه والأصل فيه قوله تعالى وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا
وكرها وقال عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله وقد قبل
من المنافقين ما أظهروا من الاسلام مع علمه أنهم أظهروا ذلك خوفا من السيف وهذا في
أحكام الدنيا فأما فيما بينه وبين ربه إذا لم يكن يعتقد فيما يقول لا يكون مسلما والذمي في هذا
والحربي سواء عندنا والشافعي رحمه الله يفرق بينهما باعتبار أن اكراه الحربي على الاسلام
اكراه بحق وقد قررناه فيما سبق وفرق بين الاكراه على الاسلام وبين الاكراه على الردة
وقال الردة إنما تحصل بتبديل الاعتقاد والاكراه دليل ظاهر على أنه غير مبدل لاعتقاده
فأما الاسلام في أحكام الدنيا فإنما يثبت بالاقرار باللسان مع التصديق بالقلب ولا طريق لنا
إلى الوقوف على ما في قلبه وقد سمعنا اقراره مع الاكراه فلذلك حكمنا باسلامه فان رجع
عنه إلى النصرانية أجبر على الاسلام ولم يقتل استحسانا وفى القياس يقتل لأنه بدل الدين
وقد قال عليه الصلاة والسلام من بدل دينه فاقتلوه وهذا لان الاكراه لما لم يمنع صحة
الاسلام كان المكره كالطائع فيه ولكنه استحسن اسقاط القتل عنه للشبهة التي فعلت
لأنا لا نعلم سره حقيقة والأدلة قد تعارضت فكون الاسلام مما يجب اعتقاده دليل على أنه
معتقد والاكراه دليل على أنه غير معتقد بما يقول وتعارض الأدلة شبهة في درء ما يندرئ
بالشبهات وهذا نظير القياس والاستحسان في المولود بين المسلمين إذا بلغ مرتدا يجبر على
الاسلام ولا يقتل استحسانا والذي أسلم بنفسه في صغره إذا بلغ مرتدا يجبر على الاسلام
ولا يقتل للشبهة المتمكنة فيه بسبب اختلاف العلماء رحمهم الله ولو كان أكرهه على الاقرار
باسلام ماض منه فالاقرار باطل لان الاكراه دليل على أنه كاذب فيما أخبر به من الاقرار
بالاسلام ماضيا وكذلك لو أكره بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بأنه لا قود له قبل
هذا الرجل ولا بينة له عليه به فالاقرار باطل لان الاكراه دليل على أنه كاذب فيما يقر به
بخلاف ما إذا أكره على انشاء العفو فان اعاده بعد ذلك وأقام البينة عليه به حكم له بالقود
لان ما سبق منه من الاقرار بالعفو قد بطل فكان وجوده كعدمه وكذلك لو أكرهه على
أن يقر بأنه لم يتزوج هذه المرأة وانه لا بينة له عليها بذلك أو على أن هذا ليس بعبده وانه حر
84

الأصل فاقراره بذلك باطل لان الاكراه على أنه كاذب فيما أقر به فلا يمنع ذلك قبول
بينته على ما يدعيه من النكاح والرق بعد ذلك (ألا ترى) انه لو أقر بشئ من هذا هازلا
لا يلزمه شئ فيما بينه وبين ربه ولو أقر به طائعا وهو يعلم أنه كاذب فيما قال وسعه إمساك
المرأة والعبد فيما بينه وبين ربه بخلاف الانشاء فمن هذا الوجه يقع الفرق بين هذه الفصول
والله أعلم بالصواب
(باب من الاكراه على النكاح والخلع والعتق والصلح عن دم العمد)
(قال رحمه الله) ولو أن رجلا أكره بوعيد تلف حتى خلع امرأته على ألف درهم
ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف وقد دخل بها والمرأة غير مكرهة فالخلع واقع لأن الخلع
من جانب الزوج طلاق والاكراه لا يمنع وقوع الطلاق بغير جعل فكذلك بالجعل
وللزوج على امرأته ألف درهم لأنها قد التزمت الألف طائعة بإزاء ما سلم لها من البينونة
ولا شئ على المكره للزوج لأنه أتلف عليه ملك النكاح وقد بينا أنه لا قيمة لملك النكاح
عند الخروج من ملك الزوج وانه ليس بمال فلا يكون مضمونا بالمال أصلا بل عند الحاجة إلى
الصيانة والمضمون المحل المملوك لا الملك الوارد عليه ولهذا جاز إزالة الملك بغير شهود ولا
عوض وكذلك لو أكره ولى العمد على أن يصالح منه على ألف درهم فالاكراه لا يمنع اسقاط
القود بالعفو فكذلك لا يمنع اسقاطه بالصلح ولا شئ له سوى الألف على الذي كان قبله
الدم ولا شئ لصاحب الدم على الذي أكرهه لان القاتل ما التزم الزيادة على الألف والمكره
أتلف عليه ما ليس بمال متقوم وهو ملك استيفاء القود وهذا ملك غير مضمون بالعفو
مندوب إليه شرعا وبه فارق النفس فإنها مضمونة بالمال عند الاتلاف خطأ صيانة لها
عن الاهدار ولو أكره على أن يعتق عبده على مائة درهم وقبله العبد وقيمته ألف والعبد
غير مكره فالعتق جائز على المائة لان الاكراه لا يمنع صحة اسقاط الرق بالعتق والعبد التزم
المائة طوعا ثم يتخير مولى العبد فإن شاء ضمن الذي أكرهه قيمة العبد لأنه أتلف عليه
ملكه في العبد بالاكراه الملجئ وملكه في العبد ملك مال متقوم فيكون مضمونا على
المتلف بخلاف ما سبق ثم يرجع المكره على العبد بمائة لان المولى أقامه مقام نفسه حين
ضمنه القيمة في الرجوع على العبد بالمسمي وان شاء المولى أخذ العبد بالمائة ورجع على المكره
85

بتسعمائة تمام القيمة لان ما زاد على قدر المسمى من المالية أتلفه المكره عليه بغير عوض فان
قيل لماذا كان له أن يرجع بجميع الألف على المكره وقد أتلف عليه مقدار المائة بعوض قلنا
لان هذا العوض في ذمة مفلسة فان العبد يخرج من ملك المولى ولا شئ له فهو كالتاوي
فان قيل لماذا لم يجعل اختياره للمسمى ابراء منه للمكره * قلنا في مقدار المائة يجعل هكذا لان
له أن يرجع بها على أيهما شاء فاما في الزيادة على ذلك فحقه متعين في ذمة المكره ولو كان
أكرهه على العتق بألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف فالمولى بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمة
عبده لأنه أتلف عليه ماليته ببدل لا يصل إليه الا بعد مضى الاجل وان شاء اتبع العبد
بالألفين بعد مضى السنة لأنه التزم ذلك طوعا فان اختار تضمين المكره قام المكره مقام
المولى في الرجوع على العبد بالمسمى عند حلول الأجل فإذا أخذ ذلك منه امسك ألفا
مقدار ما غرم وتصدق بالفضل لأنه حصل له بكسب خبيث وان اختار اتباع العبد فلا شئ
له على المكره بعد ذلك لأنه صار راضيا بما صنع حين اختار اتباع العبد فإن كان الألفان
نجوما فحل نجم منها فطلب المولى العبد بذلك النجم بغير اكراه فهذا منه اختيار لاتباع العبد
ولا ضمان له على المكره بعد ذلك لان مطالبته إياه بذلك النجم دليل الرضا منه بما سبق
فيكون كالتصريح بالرضا وذلك يسقط حقه في تضمين المكره ولو أكرهت امرأة بوعيد
تلف أو حبس حتى تقبل من زوجها تطليقة على ألف درهم فقبلت ذلك منه وقد دخل بها
ومهرها الذي تزوجها عليه أربعة آلاف أو خمسمائة فالطلاق رجعي ولا شئ عليه من المال لان
التزام البدل يعتمد تمام الرضا وبالإكراه ينعدم الرضا سواء كان الاكراه بحبس أو بقتل
ولكن وقوع الطلاق يعتمد وجود القبول لا وجود للقبول (ألا ترى) أنه لو طلق امرأته
الصغيرة على مال فقبلت وقع الطلاق ولم يجب المال وبسبب الاكراه لا ينعدم القبول فلهذا
كان الطلاق واقعا ثم الواقع بصريح اللفظ يكون رجعيا إذا لم يجب العوض بمقابلته وهنا
لا عوض عليه فكان الطلاق رجعيا وقد ذكر في الجامع الصغير إذا شرطت الخيار لنفسها ثلاثة
أيام في الطلاق بمال عند أبي حنفية لا يقع الطلاق ما لم يسقط الخيار وعندهما الطلاق واقع
والمال لازم وكذلك لو هزلت بقبول الطلاق بمال واتفقا على ذلك عند أبي حنيفة لا يقع
الطلاق ما لم يرض بالتزام المال وعندهما الطلاق واقع والمال واجب فبالكل حاجة إلى الفرق
بين مسألة الاكراه ومسألة الخيار والهزل فاما أبو حنيفة رحمه الله فقال الاكراه لا يعدم
86

الاخيتار في السبب والحكم وإنما يعدم الرضا بالحكم فلوجود الاختيار في السبب والحكم
تم القبول ووقع الطلاق ولانعدام الرضا لا يجب المال فكان المال لم يذكر أصلا فأما خيار
الشرط فلانعدام الاختيار والرضا بالسبب وبعدم الاختيار والرضا بالحكم يتوقف الحكم
وهو وقوع الطلاق ووجوب المال على وجود الاختيار والرضا به وكذلك الهزل لا ينافي
الاختيار والرضا بالسبب وإنما يعدم الرضا والاختيار بالحكم فتوقف الحكم لانعدام الاختيار
في حقه وصح التزام المال به موقوفا على أن يلزمه عند تمام الرضا به وهما يقولان الاكراه
يعدم الرضا بالحكم ولا يعدم الاختيار في السبب والحكم جميعا فيثبت الحكم وهو الطلاق ولا
يجب المال لانعدام الرضا به فكأنه لم يذكر فأما الهزل وشرط الخيار فلا يعدم الرضا بالسبب
والحكم لا ينفصل عن السبب فالرضا بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ويجب
المال لان المال صار تبعا للطلاق في الحكم وفى الاكراه انعدم الرضا بالسبب فلا يثبت ما يعتمد
ثبوته الرضا وهو المال ويثبت من المال ما لا يعتمد ثبوته الرضا وهو الطلاق فان قالت بعد ذلك
قد رضيت بتلك التطليقة بذلك المال جاز ولزمها المال وتكون التطليقة بائنة في قول أبي حنيفة
وقال محمد اجازتها باطلة وهي تطليقة رجعية ولم يذكر قول أبى يوسف فقيل قوله كقول محمد
رحمهما الله والأصح ان قوله كقول أبي حنيفة رحمه الله فمن جعل قوله كقول محمد قال المسألة
فرع لما بينا في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته أنت طالق كيف شئت عند أبي حنيفة تقع
تطليقة رجعية ولها الخيار في جعلها بائنة وعندهما لا يقع عليها شئ ما لم تشأ فمن أصله انه يقع
أصل الطلاق ويبقى لها المشيئة في الصفة فهنا أيضا وقع أصل الطلاق بقبولها وبقي لها المشيئة في
صفته فإذا التزمت المال طوعا صارت تطليقة بائنة وعندهما لا يجوز أن يبقى لها مشيئة بعد وقوع
أصل الطلاق بقبولها فلا رأى لها بعد ذلك في التزام المال لتغير صفة تك التطليقة ومن قال إن
قول أبى يوسف كقول أبي حنيفة جعل المسألة فرعا لما بيناه في كتاب الدعوى ان من طلق
امرأته تطليقة رجعية ثم قال جعلتها بائنة عند أبي حنيفة وأبى يوسف تصير بائنا وعند محمد
لا تصير بائنا فلما كان من أصلها أن للزوج أن يجعل الواقع بصفة الرجعية بائنا فكذلك للمرأة
ذلك بالتزام المال وعند محمد لما لم يكن للزوج ولاية جعل التطليقة الرجعية بائنة فكذلك لا يكون
لها ذلك بالتزام المال ولو كان مكان التطليقة خلع بألف درهم كان الطلاق بائنا ولا شئ عليها
لان الواقع بلفظ الخلع بائن من غير اعتبار وجوب المال فان الخلع مشتق من الخلع والانتزاع
87

ففي اللفظ ما يوجب البينونة ولهذا لو خلع الصغيرة على مال وقبلت كان الواقع بائنا بخلاف
لفظ صريح الطلاق وكذلك الصلح عن دم العمد إذا أكره القاتل بقتل أو حبس على أن يصالح
الولي على أكثر من الدية أو أقل منها فصالحه بطل الدم لوجود القبول مع الاكراه وليس على
القاتل من المال شئ لان التزام المال يعتمد تمام الرضا وينعدم بالاكراه ولو خلع امرأته
قبل أن يبلغ وقد دخل بها على ألف درهم فقبلت وقع الخلع لوجود القبول منها ولم يجب المال
لان الصغر لا ينافي التكلم بالقول لكن ينافي صحة التزام المال (ألا ترى) أن التزام المال منه
عوضا عن مال لا يكون صحيحا فعن غير مال أولى ولذلك لو كان لرجل على رجل دم عمد فصالحه
عنه غلام لم يبلغ على مال ضمنه له الغلام على أن عفا جاز العفو لوجود القبول ممن شرط عليه
الضمان ولا شئ عليه لان الصغر ينافي التزام المال بجهة الضمان وإنما أورد هذا لايضاح
مسألة الاكراه وكذلك لو أكره العبد على أن يقبل العتق من مولاه بمال قليل أو كثير
عتق لوجود القبول ولا شئ عليه من المال لانعدام الرضا من العبد بالتزام المال ولو أكره
الزوج على أن يطلق امرأته بألف درهم وأكرهت المرأة على أن تقبل ذلك ففعلا وقع
الطلاق بغير مال لان الاكراه لا ينافي الاختيار في الايجاب والقبول وإنما يعدم الرضا به
والمال لا يجب بدون الرضا به وكذلك هذا في الصلح من القود والعتق على مال لان للمولى
أن يضمن المكره قيمة عبده إن كان أكرهه بوعيد قتل وإن كان أكرهه بحبس لم يضمن
شيئا لما بينا أن الاتلاف إنما يصير منسوبا إلى المكره عند الالجاء التام وذلك الاكراه بالقتل
دون الاكراه بالحبس
(باب الاكراه على الزنا والقطع)
(قال رحمه الله) كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا لو أن سلطانا أو غيره أكره رجلا حتى
زنا فعليه الحد وهو قول زفر رحمه الله ثم رجع فقال لا حد عليه إذا كان المكره سلطانا وهو
قولهما وجه قوله الأول ان الزنا من الرجل لا يتصور الا بانتشار الآلة ولا تنتشر آلته الا
بلذة وذلك دليل الطواعية فمع الخوف لا يحصل انتشار الآلة وفرق على هذا القول بين الرجل
والمرأة قال المرأة في الزنا محل الفعل ومع الخوف يتحقق التمكين منها (ألا ترى) أن فعل الزنا
يتحقق وهي نائمة أو مغمى عليها لا تشعر بذلك بخلاف جانب الرجل وفرق على هذا القول
88

بين الاكراه على الزنا وبين الاكراه على القتل قال لا قود على المكره وعليه الحد ففي كل واحد
من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالاكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه
آلة للمكره فبسبب الالجاء يصير الفعل منسوبا إلى المكره ولهذا لزمه القصاص وإذا صار
منسوبا إلى المكره صار المكره آلة فاما الزنا ففعل لا يتصور أن يكون المكره فيه آلة
للمكره لان الزنا بآلة الغير لا يتحقق ولهذا لا يجب الحد على المكره فبقي الفعل مقصورا
على المكره فيلزمه الحد ووجه قوله الآخر ان الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى ذلك
في حالة الاكراه لأنه منزجر إلى أن يتحقق الالجاء وخوف التلف على نفسه فإنما كان قصده
بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في اسقاط الحد عنه
وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف فقد تنتشر الآلة طبعا بالفحولة التي ركبها الله تعالى
في الرجال وقد يكون ذلك طوعا (ألا ترى) أن النائم تنتشر آلته طبعا من غير اختيار
له في ذلك ولا قصد ثم على القول الآخر قال أبو حنيفة رحمه الله إن كان المكره غير السلطان
يجب الحد على المكره وقال أبو يوسف ومحمد إذا كان قادرا على ايقاع ما هدده به فلا حد
على المكره سواء كان المكره سلطانا أو غيره قيل هذا اختلاف عصر فقد كان السلطان مطاعا
في عهد أبي حنيفة ولم يكن لغير السلطان من القوة ما يقدر على الاكراه فأجاب بناء على
ما شاهد في زمانه ثم تغير حال الناس في عهدهما وظهر كل متغلب في موضع فأجابا بناء على
ما عاينا وقيل بل هو اختلاف حكم فوجه قولهما ان المعتبر في اسقاط الحد هو الالجاء وذلك
بان يكون المكره قادرا على ايقاع ما هدد به لان خوف التلف للمكره بذلك يحصل (الا
ترى) ان السلطان لو هدده وهو يعلم أنه لا يفعل ذلك به لا يكون مكرها وخوف التلف
يتحقق عند قدرة المكره على ايقاع ما هدده به بل خوف التلف باكراه غير السلطان أظهر
منه باكراه السلطان فالسلطان ذو أناة في الأمور لعلمه انه لا يفوته وغير السلطان ذو عجلة
في ذلك لعلمه انه يفوته ذلك بقوة السلطان ساعة فساعة وأبو حنيفة لا يقول الالجاء لا يتحقق
باكراه غير السلطان وإنما يتحقق باكراه السلطان لأنه لا يتمكن من دفع السلطان عن نفسه
بالالتجاء إلى من هو أقوى منه ويتمكن من دفع اللص عن نفسه بالالتجاء بقوة السلطان فان اتفق في
موضع لا يتمكن من ذلك فهو نادر والحكم إنما ينبنى على أصل السبب لا على الأحوال وباعتبار
الأصل يمكن دفع اكراه غير السلطان بقوة السلطان ولا يمكن دفع اكراه السلطان بشئ ثم ما يكون
89

مغيرا للحكم يعتبر فيه السلطان كتغيير الفرائض من الأربع إلى الركعتين يوم الجمعة وإقامة الخطبة
مقام الركعتين يعتبر فيه السلطان ولا يقوم في ذلك غيره مقامه وفى كل موضع وجب الحد على المكره
لا يجب المهر لها وقد بينا هذا في الحدود إذ الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافا
للشافعي رحمه الله وفى كل موضع سقط الحد وجب المهر لان الواطئ في غير الملك لا ينفك
عن حد أو مهر فإذا سقط الحد وجب المهر لاظهار خطر المحل فإنه مصون عن الابتذال محترم
كاحترام النفوس ويستوى ان كانت أذنت له في ذلك أو استكرهها اما إذا استكرهها
فغير مشكل لان المهر يجب عوضا عما تلف عليه ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها وأما إذا
أذنت له في ذلك فلانه لا يحل لها شرعا أن تأذن في ذلك فيكون اذنها لغوا لكونها محجورة
عن ذلك شرعا بمنزلة اذن الصبي والمجنون في اتلاف ماله أو هي متهمة في هذا الاذن لما لها
في هذا الاذن من الحظ فجعل الشرع اذنها غير معتبر للتهمة ووجوب الضمان لصيانة المحل
عن الابتذال والحاجة إلى الصيانة لا تنعدم بالاذن (الا ترى) أنها لو زوجت نفسها بغير
مهر وجب المهر ولو مكنت نفسها بعقد فاسد حتى وطئها الزوج ولم يكن سمى لها مالا
وجب المال فهذا مثله وهو واجب في الوجهين أما إذا استكرهها فإنه ظالم وحرمة الظلم حرمة
باتة وكذلك إذا أذنت له في ذلك لان اذنها لغو غير معتبر ثم حرمة الزنا حرمة باتة لا
استثناء فيها ولم يحل في شئ من الأديان بخلاف حرمة الميتة ولحم الخنزير فتلك الحرمة مقيدة
بحالة الاختيار لوجود التنصيص على استثناء حالة الضرورة في قوله تعالى الا ما ضطررتم إليه
وان امتنع من الزنا حتى قتل كان مأجورا في ذلك لأنه امتنع من ارتكاب الحرام وبذل
نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في الوقوف على حد الدين بالتحرز عن مجاوزته وفيما يرخص
له فيه وهو اجراء كلمة الشرك وقد بينا انه إذا امتنع حتى قتل كان مأجورا فما لا رخصة فيه
أولى وإن كان الاكراه على الزنا بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد لان تمكن الشبهة باعتبار
الالجاء وبسبب الاكراه بالحبس لا يتحقق الالجاء فوجوده وعدمه في حق الحكم سواء
ولو قال له لأقتلنك أو لتقطعن يد هذا الرجل فقال له ذلك الرجل قد أذنت لك في القطع
فاقطعه وهو غير مكره لا يسع المكره أن يقطع يده لان هذا من المظالم وليس المقصود
بالفعل ان يأذن في ذلك شرعا لأنه يبذل طرفه لدفع الهلاك عن غيره وذلك لا يسعه كما لو
رأى مضطرا فأراد أن يقطع يد نفسه ليدفعها إليه حتى يأكلها ولا يسعه ذلك فهذا مثله ولو لم
90

يوجد الاذن لم يسعه الاقدام على القطع فكذلك بعد الاذن وان قطعها فلا شئ عليه ولا
على الذي أكرهه لان القاطع لو لم يكن مكرها وقال له انسان اقطع يدي فقطعه لم يلزمه
شئ فإذا كان القاطع مكرها أولى وهذا لان الحق في الطرف لصاحب الطرف وقد أسقطه
بالاذن في الابتداء ولو أسقطه بالعفو في الانتهاء لا يجب شئ فكذلك بالاذن في الابتداء
والدليل عليه أن الطرف يسلك به مسلك الأموال من وجه وفى الأموال البدل مفيد عامل
في الإباحة والبدل الذي هو سعته عامل في اسقاط الضمان حتى إذا قال له احرق ثوبي
هذا لا يباح له أن يفعله ولكن لا يلزمه شئ ان فعله فكذلك في الطرف البدل المفيد عامل
في الإباحة وهو إذا وقع في يده أكلة فأمر انسانا أن يقطع يده فالبدل هو سعته يكون
مسقطا للضمان فيه أيضا فلهذا لا يجب على القاطع ولا على المكره شئ وإن كان صاحب اليد
مكرها أيضا من ذلك المكره أو من غيره على الاذن في القطع بوعيد تلف فالقصاص على المكره
لان بسبب الالجاء يلغو اذنه وفعل القطع منسوب إلى المكره لان المكره يصلح أن يكون
آلة في ذلك فلهذا كان عليه القود ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلنه فقال له المقصود اقتلني فأنت
في حل من ذلك وهو غير مكره فقتله بالسيف فعلى الآمر الدية في ماله لان المباشر ملجأ
إلى القتل فيصير الفعل منسوبا إلى الملجئ وصار هذا بمنزلة ما لو قتل انسانا باذنه وفى هذا
يجب الدية عليه دون القصاص في ظاهر الرواية وعلى قول زفر رحمة الله عليه القصاص
وعلى قول أبى يوسف رحمه الله لا شئ عليه أورده في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله الا
ان هذا إنما يتحقق في حق من باشر القتل بنفسه لا في حق المكره فان زفر لا يرى القود
على المكره وأورد على هذا أيضا أنه إذا قال اقتل أبى أو ابني فقتله فعليه القصاص في قول زفر
رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله أستحسن أن يكون عليه الدية في ماله إذا كان هو الوارث
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في قوله اقتل ابني كقول
زفر وفى قوله اقتلني كقول أبى يوسف انه لا شئ عليه وجه تلك الرواية ان الاذن في الابتداء
كالعفو في الانتهاء وبعد ما جرحه لو عفى عن الجناية ومات لم يجب شئ فكذلك إذا أذن
في الابتداء وهذا لان الحق في بدل نفسه له حتى يقضى منه ديونه فيسقط باسقاطه كما في
الطرف وجه قول زفر ان بدل النفس إنما يجب بعد زهوق الروح والحق عند ذلك للوارث
فاذنه في القتل صادف محلا هو حق الغير فكان لغوا وعليه القصاص بخلاف بدل الطرف
91

فان الحق له بعد تمام الفعل فيعتبر اسقاطه وهذا بخلاف العفو فان العفو اسقاط بعد وجود
السبب والاسقاط بعد وجود السبب وقبل الوجوب يصح فاما الاذن فلا يمكن أن يجعل اسقاطا
لان السبب لم يوجد بعد وباعتبار عينه الاذن لاقى حق الغير فلا يصح ووجه ظاهر الرواية
ان اذنه في القتل باعتبار ابتدائه صادف حقه وباعتبار مآله صادف حق الوارث فلاعتبار
الابتداء يمكن شبهة والقصاص يسقط بالشبهة ولاعتبار المال تجب عليه الدية في ماله ولهذا
قال أبو يوسف في الآذن في قتل أبيه أو ابنه انه باعتبار الابتداء لاقى حق الغير وباعتبار المآل
لاقى حقه فيصير المال شبهة في اسقاط القود ويجب عليه الدية ولو قطع يده باذنه فمات منه
لم يكن على القاطع ولا على الآمر في ذلك شئ لان أصل الفعل صار هدرا فلو سرى إلى
النفس كان كذلك كما لو قطع يد مرتد فأسلم ثم سرى إلى النفس وروى الحسن عن أبي حنيفة
انه تجب الدية هنا لان القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا فإذا لم يتناوله الاذن فلا شك
انه يجب الضمان به وان تناوله الاذن فهو بمنزلة قوله اقتلني فيكون موجبا للدية ولو أكرهه
على أن يصنع به شيئا لا يخاف منه تلف من ضرب سوط أو نحوه ففعل ذلك به رجوت
أن لا يأثم فيه لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بما يلحق الهم والحزن بغيره وقد رخص له الشرع
في ذلك فان المضطر يباح له أن يأخذ مال الغير فيتناوله بغير رضاه فان أبى عليه ذلك فمات
منه كانت ديته على عاقلة المكره لان فعل المكره صار منسوبا إلى المكره فكأنه فعل ذلك
بنفسه وهذا بمنزلة الخطأ وهو يوجب الدية على عاقلته وهذا إذا لم يكن المقتول أذن له في ذلك
فإن كان أذن له في ذلك طوعا فلا ضمان فيه على أحد لان فعل الغير به باذنه كفعله بنفسه ولو
أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال رجل فيرمى به في مهلكة فاذن له صاحبه فيه ففعله فلا
شئ على واحد منهما لان صاحب الحق أسقط حقه بالاذن له في الاتلاف طوعا ولو كان
أكره صاحب المال بوعيد تلف أيضا على أن أمره بذلك فاذنه مع الاكراه لغو والضمان
على المكره لان المكره آلة في ذلك الفعل والفعل صار منسوبا إلى المكره ولا ضمان على الفاعل
ان علم أن صاحب المال مكره على الاذن أو لم يعلم لأنه بالالجاء يصير كالآلة ولا يختلف ذلك
باختلاف صاحب المال في الاذن طوعا أو كرها ولو كان الفاعل أكره على ذلك بحبس أو
قيد لم يحل له أن يستهلك مالا لان هذا من مظالم العباد فلا يرخص له في الاقدام عليه بدون
الالجاء وبالحبس والقيد لا يتحقق الالجاء إلا أن يأمره به صاحبه بغير اكراه فحينئذ لا شئ
92

عليه من اثم ولا ضمان لان صاحب المال صار باذلا ماله بالاذن والمال مبتذل وإنما كان ممنوعا
من اتلافه لمراعاة حق صاحب المال فإذا رضى به طوعا كان له الاقدام عليه والعبد والأمة
فيما يأذن فيه مولاهما في جميع ما وصفنا بمنزلة الحر والحرة الا في خصلة واحدة ان القاتل
لا يغرم نفس المملوك إذا أذن المولى في قتله بغير اكراه لان الحق في بدل نفسه له باعتبار
الحال والمال فيعتبر اذنه في اسقاط الضمان كما يعتبر اذن صاحب اليد في اسقاطه حقه في
بدله عن القاطع والله أعلم بالصواب
(باب الاكراه على البيع ثم يبيعه المشترى من آخر أو يعتقه)
(قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على بيع عبد له يساوى عشرة آلاف
درهم من هذا الرجل بألف درهم ويدفعه إليه ويقبض الثمن ففعل ذلك وتقابضا والمشترى
غير مكره فلما تفرقوا عن ذلك المجلس قال البائع قد أجزت البيع كان جائزا لان الاكراه
لا يمنع انعقاد أصل البيع فقد وجد ما به ينعقد البيع من الايجاب والقبول من أهله في محل
قابل له ولكن امتنع نفوذه لانعدام تمام الرضا بسبب الاكراه فإذا أجاز البيع غير مكره
فقد تم رضاه به ولو أجاز بيعا باشره غيره نفذ بإجازته فإذا أجاز بيعا باشره هو كان أولى به
ولان بيع المكره فاسد والفساد بمعنى وراء ما يتم به العقد فبإجازته يزول المعنى المفسد وذلك موجب
صحة البيع كالبيع بشرط أجل فاسد أو خيار فاسد إذا أسقط من له الاجل أو الخيار ما شرط
له قبل تقرره كان البيع جائزا وكذلك لو لم يكن البائع قبض الثمن فقبضه من المشترى بعد
ذلك كان هذا إجازة للبيع لوجود دليل الرضا منه بقبض الثمن طائعا فإنه قبضه لتملكه ملكا
حلالا ولا يكون ذلك الا بعد إجازة البيع ودليل الرضا كصريح الرضا وفى البيع بشرط
الخيار للبائع إذا قبض البائع الثمن روايتان في اسقاط خيار البائع في احدى الروايتين يسقط
به خياره لوجود دليل الرضا منه بتمام البيع وفى الرواية الأخرى لا يسقط خياره على
ما ذكر في الزيادات وهو الأصح والفرق على تلك الرواية أن يقول هناك انعدام الرضا
باعتبار خيار مشروط نصا وقبض الثمن لا ينافي شرط الخيار ابتداء فلا ينافي بقاءه بطريق
الأولى وهنا الخيار ثبت حكما لانعدام الرضا بسبب الاكراه وبين قبض الثمن الذي هو
دليل الرضا وبين الاكراه منافاة وبقبض الثمن طوعا ينعدم معنى الاكراه * ويوضحه أن هناك
93

العقد في حق الحكم كالمتعلق بالشرط وبقبض الثمن لا يصير الشرط موجودا وهنا العقد في
حق الحكم منعقد غير متعلق بالشرط ولكنه غير نافذ لانعدام الرضا وقبض الثمن دليل الرضا
فيتم به البيع ولو لم يفعل ذلك حتى أعتق المشترى العبد فعتقه جائز عندنا لأنه ملكه بالقبض
وإنما أعتق ملك نفسه فان قال المكره بعد ذلك قد أجزت البيع كانت اجازته باطلة لان الإجازة
إنما تعمل في حال بقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ابتداء وبعد العتق أو التدبير أو الاستيلاد
لم يبق محلا لذلك فلا تصح اجازته كما في البيع الموقوف إذا أجازه المالك بعد هلاك المعقود
عليه في يد المشترى ولان الفساد قد تقرر حين وجب على المشترى قيمة العبد للبائع دينا في
ذمته فان ذلك حكم العقد الفاسد وبعد ما تقرر المفسد لا ينقلب العقد صحيحا ولان العبد قد
وجب للمشترى بالقيمة فبعد ما تقرر ملكه فيه بضمان القيمة وانتهى لا يمكن ان يجعل مملوكا
له بالثمن ولو لم يقبض المشترى ولم يحدث فيه شيئا ولم يجز البائع البيع حتى التقيا فقال المشترى
قد نقضت البيع فيما بيني وبينك وقال البائع لا أجيز نقضك وقد أجزت البيع فقد انتقض
البيع لان في البيع الفاسد قبل القبض كل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخه فان فسخه
لأجل الفساد مستحسن شرعا على كل واحد منهما وما يكون مستحقا عليه شرعا يتم بمباشرته
فإذا انفسخ العقد بفسخ المشترى لا تلحقه الإجازة بعد ذلك من جهة البائع لان الإجازة
تلحق الموقوف لا المفسوخ والحاصل أن بيع المكره بمنزلة البيع بشرط أجل فاسد أو خيار
فاسد وهنا لكل واحد من المتعاقدين أن ينفرد بفسخه قبل القبض وبعد القبض من له
الخيار أو الاجل الفاسد ينفرد بفسخه وصاحبه لا ينفرد بفسخه على ما فسره في آخر الباب
لان قبل القبض العقد ضعيف جدا وكل واحد من المتعاقدين ينفرد بفسخ العقد الضعيف فأما
بعد القبض فقد تأكد العقد بثبوت حكمه وانضمام ما يقويه إليه وهو القبض فالمنفرد به من
ليس له خيار ولا أجل لان رضاه بالعقد مطلقا قد تم وإنما ينفرد بفسخه من شرط الخيار
والأجل له لأنه لا يتم منه الرضا بالعقد مطلقا فكذلك في مسألة الاكراه قبل القبض ينفرد
كل واحد منهما بالفسخ وبعد القبض المكره ينفرد بالفسخ لانعدام الرضا من جهته والآخر
لا ينفرد بفسخه ما لم يساعده المكره عليه أو يقض القاضي به وهذا بخلاف البيع بالخمر فهناك
كل واحد منهما ينفرد بفسخه قبل القبض وبعده لان المفسد هناك متمكن في صلب العقد
ولهذا لا يحتمل التصحيح الا بالاستقبال فلتمكن المفسد في صلب العقد كان ضعيفا قبل القبض
94

وبعده فينفرد كل واحد منهما بفسخه والذي شرط الخمر لا أشكال أنه ينفرد بفسخه وصاحبه
كذلك لأنه ما رضى بوجود بدل آخر عليه سوى المسمى فكان له أن ينفرد بفسخه فأما في
هذه الفصول فالمفسد غير متمكن في صلب العبد ولكنه لمعنى وراء ما يتم به العقد ولهذا أمكن
تصحيحه بالإجازة فمن ليس في جانبه المعنى المفسد قد تم الرضا منه بملك المعقود عليه بالبدل
المسمى وبإجازة صاحبه لا يثبت الا ذلك فلهذا لا ينفرد بفسخه بعد تأكد العقد بالقبض ولو
باعه المشترى من المكره من آخر وقد كان قبضه بتسليم البائع مكرها فالبائع على خياره ان
شاء نقض البيع الأول والثاني وأخذ عبده وان شاء أجاز البيع الأول لان البيع الثاني في
كونه محتملا للفسخ كالأول والبائع غير راض بواحد من البيعين فيكون متمكنا من استرداده
وباسترداده ينفسخ البيعان جميعا كما لو اشترى عبدا بألف درهم حالة وقبضه المشترى بغير أمر
البائع فباعه كان جائزا لمصادفته ملكه وللبائع الأول أن يسترده لأنه غير راض بالعقد الثاني
حين كان ممتنعا من تسليمه إلى المشترى فإذا استرده انتقض البيع الثاني وكذلك في حق المكره
بخلاف البيع الفاسد بشرط أجل أو خيار لمجهول فالمشترى هناك إذا باعه من غيره ونفذ بيعه
لا يكون للبائع أن يسترده لان البيع الثاني حصل برضا البائع الأول وتسليطه عليه فتسليمه
المبيع إلى المشترى طائعا يكون تسليطا له على التصرف وهنا البيع الثاني كان بغير رضا المكره
لأنه كان مكرها على التسليم فيتمكن من نقض البيعين واسترداد العبد فان أجاز البيع الأول
فقد أسقط حقه في استرداد العبد فينفذ البيع الثاني لأنه حصل من المشترى في ملكه ويده
كما لو قبض المبيع بغير إذن البائع وباعه ثم سلم البائع الأول للمشترى الأول فقبضه جاز البيع
الثاني لهذا المعنى وكذلك في الفصلين يجوز كل بيع جرى فيه وان تناسخه عشرة بيع بعضهم
من بعض إذا نفذ البيع الأول بإجازة البائع كذلك البيع بقبض المشترى لان كل واحد منهم
باع ملكه بعد ما قبضه بحكم عقد صحيح إلا أنه كان للبائع الأول حق الفسخ فإذا سقط حقه
بالإجازة نفذت البيوع كلها وكذلك في مسألة المكره لو تناسخه عشرة بيع بعضهم من بعض
كان للمكره أن ينقض البيوع كلها ويأخذ عبده فان سلم بيع من هذه البيوع الأول أو الثاني
أو الآخر جازت البيوع كلها لان تسليمه اسقاط منه لحقه في استرداد المبيع فاما البيع من
كل مشتر فكان في ملكه لنفسه ولكن يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الفسخ
وبالإجازة سقط حقه فتنفذ البيوع كلها كالراهن إذا باع المرهون وأجاز المرتهن البيع أو الآخر
95

باع المستأجر فأجازه المستأجر بعد البيع من جهة المباشر والمجيز يكون مسقطا حقه في الفسخ
إلا أن يكون مملوكا بإجازته وإذا جازت البيوع كلها كان الثمن للمكره على المشترى الأول
ولكل بائع الثمن على المشترى لأن العقد الأول نفذ بين المكره والمشترى الأول بهذه الإجازة
فله أن يطالبه بالثمن وكل عقد بعد ذلك أنما نفذ بين البائع والمشترى منه فيكون الثمن له وهذا
بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب وسلمه ثم باعه المشترى من غيره حتى تناسخته بيوع ثم
أجاز المالك بيعا من تلك البيوع فإنه ينفذ ما أجازه خاصة لأن الغصب لا يزيل ملكه فكل بيع
من هذه البيوع يوقف على اجازته لمصادفته ملكه فتكون اجازته لاحد البيوع تمليكا للعين
من المشترى بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه وهنا المشترى من المكره كان مالكا فالبيع من
كل مشتر صادف ملكه وإنما يوقف نفوذه على سقوط حق المكره في الاسترداد وعلى هذا
لا يفترق الحال بين إجازة البيع الأول أو الآخر فلهذا نفذت البيوع كلها بإجازته عقدا منها
فان أعتقه المشترى الآخر قبل إجازة البائع وقد تناسخ العبد عشرة كان العتق جائزا من الذي
أعتقه إن لم يقبضه لان كل بائع صار مسلطا المشترى منه على اعتاقه بايجابه البيع له مطلقا وصح
هذا التسليط لأنه يملك الاعتاق بنفسه فيملك أن يسلط الغير عليه ويستوى ان الآخر قبضه
أو لم يقبضه لان شراءه من بائعه صحيح وإن كان للمكره حق الفسخ بالاسترداد وفى الشراء
الصحيح المشترى تملك المعقود عليه بنفس العقد وينفذ العتق فيه قبضه أو لم يقبضه بخلاف
المشترى من المكره فان شراءه فاسد لانعدام شرط الجواز وهو رضا البائع به فلا يكون
مالكا قبل القبض فلهذا لا ينفذ عتقه فيه الا بعد قبضه فإذا سلم المكره بعد ذلك لم يجز تسليمه
لما بينا أن حقه تقرر في ضمان القيمة فلا يتحول إلى ضمان الثمن وان المحل بعد العتق لم يبق قابلا
لحكم العقد ابتداء فلا تعمل اجازته أيضا وكان له أن يضمن قيمة عبده أيهم شاء لان كل واحد
منهم متعد في حقه بقبض العين على وجه التملك لنفسه بغير رضاه فله أن يضمن قيمته أيهم
شاء وان شاء ضمن المكره لأنه في التسليم كان مكرها من قبله بوعيد تلف فيصير الاتلاف
الحاصل به منسوبا إلى المكره فله أن يضمنه قيمته فان ضمن الذي أكرهه رجع بها المشترى
الأول لأنه قام مقام المكره في الرجوع عليه بعد ما ضمنه القيمة وقد بينا ان البيع لا ينفذ من
جهة المكره حين ضمن القيمة لأنه ما قصد البيع من جهته فإذا رجع بالقيمة على المشترى الأول
جازت البيوع كلها وكذلك أن ضمن البائع المشترى الأول برئ الذي أكرهه وتمت البيوع
96

الباقية كلها لان الملك قد تقرر للمشترى الأول من حين قبضه وهو إنما باع ملك نفسه فينفذ بيعه
وكذلك كل بائع بعده ولأنه في هذا لا يكون دون الغاصب والغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة
ينفذ بيعه فهنا كذلك فان ضمنها أحد الباعة الباقين سلم كل بيع كان بعد ذلك البيع وبطل كل بيع
كان قبل ذلك لان استرداد القيمة منه كاسترداد العين وان القيمة سميت قيمة لقيامها مقام العين
ولو استرد العين منه بطل كل بيع كان قبله للاستحقاق فكذلك إذا استرد القيمة وجاز كل بيع
كان بعده لان الملك قد تقرر للضامن حين ضمن القيمة فتبين انه باع ملك نفسه فيكون بيعه
جائزا حتى إذا ضمن المشترى الآخر بطلت البيوع لان استرداد القيمة منه كاسترداد العبد
ويرجع هو على بائعه بالثمن الذي أعطاه وكذلك كل مشتر يرجع على بائعه حتى ينتهوا إلى البائع
المكره لان البيوع كلها قد انقضت وكل واحد منهم قبض الثمن بحكم بيعه فبعد الانتقاض يلزمه
رده على من قبضه منه ولو أكره بوعيد تلف على أن يشترى من رجل عبدا له يساوى ألف
درهم بعشرة آلاف درهم والبائع غير مكره فأكره على الشراء والقبض ودفع الثمن فلما قبضه
المشترى أعتقه أو دبره أو كاتب أمة فوطئها أو قبلها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة وأقر
بذلك أو قال قد رضيتها فهذا كله جائز عليه لان البيع تام من جهة البائع وإنما امتنع لزومه في حق
المشترى لانعدام الرضا منه بحكمه حين كان مكرها فإذا أجازه فقد تم رضاه به وكذلك دليل
الإجازة منه كصريح الإجازة ومباشرته هذه التصرفات المختصة بالملك حالا أو منقودا دليل
الرضا منه بالحكم وهو الملك فلهذا يتم به البيع وهو بمنزلة ما لو اشترى جارية على أنه بالخيار أبدا
وقبضها فالبيع فاسد فان تصرف فيها بشئ من هذه التصرفات نفذ تصرفه وجاز البيع لأنه بتصرفه
صار مسقطا لخياره مزيلا للمفسد وهو بمنزلة ما لو اشترى عبدا بألف درهم إلى الحصاد أو الدياس
فالبيع فاسد فان أبطل المشترى الاجل وأعطى الثمن حالا جاز شراؤه إلا أن في هذه المسألة
بالاعتاق والوطئ لا ينقلب العقد صحيحا لان المفسد شرط الاجل ولم ينعدم ذلك بمباشرته هذه
التصرفات وفى مسألة الخيار والاكراه المفسد انعدام الرضا منه بالحكم وهذه التصرفات منه
دليل الرضا بالحكم وهو الملك فلهذا نفذ به البيع ولو كان أكره البائع ولم يكره المشترى فلم
يقبض المشترى العبد حتى أعتقه كان عتقه باطلا لما بينا ان بيع المكره فاسد والبيع الفاسد
لا يملك به الا بعد القبض فاعتاقه قبل القبض لم يصادف ملكه فان أجازه البائع بعد عتق
المشترى جاز البيع لبقاء المعقود عليه محلا لحكم العقد ولم يجز ذلك العتق الذي كان من
97

المشترى لأنه سبق ملكه فلا ينفذ لحدوث الملك له في المحل كمن أعتق عبد الغير ثم اشتراه
ولو أعتقا جميعا العبد جاز عتق البائع لأنه صادف ملكه وانتقض به البيع لأنه فوت باعتاقه
محل البيع وهو نظير ما لو كان البائع بالخيار في البيع ثلاثة أيام فأعتقه هو والمشترى جاز
عتق البائع وبطل عتق المشتري ولو كان المشترى قبضه ثم أعتقاه جميعا عتق العبد من المشترى
لان البيع فاسد والمشترى بالقبض صار مالكا فعتقه صادف ملكه وعتق البائع صادف ملك
الغير فلهذا نفذ العتق من المشترى دون البائع ولو كانا مكرهين جميعا على العقد والتقابض
ففعلا ذلك فقال أحدهما بعد ذلك قد أجزت البيع كان البيع جائزا من قبله وبقي الآخر على
حاله لان الذي أجاز صار راضيا به فكأنه كان في الابتداء راضيا وذلك يوجب نفوذ البيع من
قبله لا من قبل صاحبه المكره وهو نظير ما لو شرط في البيع الخيار ثم أسقط أحدهما خياره
نفذ العقد من جهته وكان الآخر على خياره فان أجازا جميعا بغير اكراه جاز البيع لوجود تمام
الرضى بينهما ولو لم يجيزا حتى أعتق المشتري العبد جاز عتقه لأنه ملكه بالقبض مع
فساد العقد فكان ضامنا لقيمته فان أجاز الآخر بعد ذلك لم يلتفت إلى اجازته لتقرر ضمان
القيمة على المشتري وفوات محل حكم العقد ابتداء وإن لم يتقابضا فأجاز أحدهما البيع بغير اكراه
فالبيع فاسد على حاله لان بقاء الاكراه في جانب صاحبه كاف لفساد البيع فان اعتقاه جميعا معا
وقد أجاز أحدهما البيع فإن كان العبد غير مقبوض فعتق البائع فيه جائز وعتق المشتري باطل
لأنه قبل القبض باق على ملك البايع لفساد البيع فاعتاقه صادف ملكه وان أعتقه أحدهما ثم
أعتقه الآخر فإن كان البائع أجاز البيع وقد أعتقه المشترى قبله فهذا إجازة منهما
للبيع لان اقدام المشترى على الاعتاق رضا منه بحكم البيع منه وذلك يوجب نفوذ العتق من قبله
وإنما يوقف نفوذه لعدم الرضى من البائع فإذا أجاز البيع ثم بتراضيهما والثمن المسمى للبائع
على المشترى والعتق لا ينفذ من المشترى لأنه سبق ملكه وإن كان البائع أعتق أولا فهو
باعتاقه قد نقض البيع ونفذ العتق من قبله فلا يعمل فيه إجازة واحد منهما ولا اعتاق المشترى
بعد ذلك وإن كان الذي أجازه أول مرة من المشترى ولم يجزه البائع فعتق البائع جائز فيه
وقد انتقض البيع به ان أعتقه قبل المشترى أو بعده لأنه باق على ملك البائع بعد إجازة
المشترى فاعتاق البائع يصادف ملكه فينفذ وينتقض به البيع وإنما مثل هذا مثل رجل
اشترى عبدا بألف درهم على أن المشترى بالخيار أبدا فلم يقبضه حتى أعتقاه فعتق البائع جائز
98

لان شرط الخيار بهذه الصفة يفسد البيع وفى البيع الفاسد المبيع على ملك البائع قبل تسليمه إلى
المشترى فينفذ عتقه فيه وكذلك لو سبق البائع بالعتق فان أعتقه المشترى أولا فالقياس فيه
أن عتقه باطل لان البيع فاسد فلا يملكه المشترى قبل القبض والاعتاق إذا لم يصادف
الملك كان باطلا ولكنا نستحسن فنجعل عتقه إياه رضا بالبيع لان الخيار الفاسد لا يكون
أقوى من الخيار الصحيح ولو كان المشترى شرط لنفسه خيار ثلاثة أيام ثم أعتقه كان اعتاقه
اسقاطا منه الخيار وباسقاط الخيار يزول المعنى المفسد وهذا لان الفساد لانعدام الرضا منه
بحكم البيع واقدامه على العتق يتضمن الرضا منه بالحكم وهو الملك فيقدم الرضى وثبوت
الملك له على العتق لتنفيذ العتق كما قصده فان من قصد تنفيذ تصرف في محل لا يمكنه ذلك
الا باعتبار تقديم شرط في المحل بعد ذلك ليصح كمن يقول لغيره أعتق عبدك عنى على ألف
درهم فيقول قد أعتقت أو يقول صاحب العبد أعتقت عبدي عنك على ألف درهم وقال
الآخر قد رضيت عتق العبد على المعتق عنه ووقع العتق والملك معا برضاه بذلك أو تقدم الملك
في المحل على العتق فكذلك فيما سبق ولو كان المشترى قبض العبد في الاكراه وفى الخيار
الفاسد ثم أجاز أحدهما البيع في الاكراه لم يجز عتق البائع فيه على حال لان ملك البائع زال
بتسليمه إلى المشترى ويكون البيع مطلقا من جهته وجاز عتق المشترى فيه لمصادفته ملكه
فإن كان الذي أجاز البيع في الاكراه البائع جاز العتق والبيع بالثمن لان المشترى بالاعتاق
صار مجيزا وإن كان الذي أجاز البيع المشترى جاز عتقه وغرم القيمة للبائع لان البيع فاسد
لانعدام الرضى من البائع به فإن كان قبض منه الثمن حاسبه به وأعطاه فضلا أن كان له ولو
أن المشتري اكره على الشراء والقبض ودفع الثمن ولم يكره البائع على ذلك وتقابضا ثم التقيا
فقال البائع قد نقضت البيع لم يلتفت إلى قوله وكان ذلك إلى المشترى وما بعد هذا إلى آخر
الباب مبنى على ما قررناه في أول الباب ان بعد القبض إنما ينفرد بالفسخ من كان مكرها
منهما دون صاحبه الذي لم يكن مكرها وقبل القبض كل واحد منهما متمكن من النقض
بعد صحة النقض عاد إلى ملك البائع فلا ينفذ عتق المشترى فيه بعد ذلك لان ملك البائع
مضمون في يده كالمغصوب وينفذ عتق البائع فيه لمصادفته ملكه
99

(باب الاكراه على ما يجب به عتق أو طلاق)
(قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يشترى من رجل عبدا
بعشرة آلاف درهم وقيمته ألف وعلى دفع الثمن وقبض العبد وقد كان المشترى حلف ان
كل عبد يملكه فيما يستقبل فهو حر أو حلف على ذلك العبد بعينه فقد عتق العبد لأنه ملكه
بالقبض بعد الشراء لما بينا أن شراء المكره فاسد وبالملك يتم شرط العتق فاسدا كان السبب
أو صحيحا والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه أعتقه بعد ما قبضه فيعتق وعلى
المشترى قيمته للبائع ولا يرجع على المكره بشئ لأنه ألزمه بالاكراه على الشراء والقبض
مقدار القيمة وقد ادخل في ملكه بمقابلة ما يعدله ثم دخل في ملكه تلف بالعتق ولم يوجد
من المكره اكراه على هذا الاتلاف لان الملك شرط العتق فأما السبب وهو الثمن السابق فلان
كلمة الاعتاق وهو قوله أنت حر وجدت في اليمين دون الشرط وإنما يحال بالاتلاف على السبب
دون الشرط وهو ما كان مكرها عليه من جهة أحد (ألا ترى) أنه لو قال لعبده ان دخلت
الدار فأنت حر فشهد شاهدان انه قد دخلها وقضى القاضي بالعتق ثم رجعا لم يضمنا شيئا وفى
قياس قول زفر رحمه الله يجب الضمان على المكره لأنه يقول الحكم مضاف إلى الشرط وجودا
عندي ولهذا أوجب الضمان على شهود الشرط فكذا في الاكراه يوجب الضمان على المكره
على الشرط لحصول تلف المالية عنده ولكنا نقول المكره إنما يضمن إذا صار الاتلاف منسوبا
إليه ولا يكون ذلك الا بالاكراه على ما يحصل به التلف بعينه وكذا لو أكرهه على شراء ذي رحم
محرم منه وعلى قبضه بأكثر من قيمته فاشتراه وقبضه عتق عليه لأنه ملكه ومن ملك ذا رحم
محرم منه فهو حر وعليه قيمته لأن الشراء فاسد وقد تعذر رد المشترى لنفوذ العتق فيه
فليزمه قيمته ويبطل عنه ما زاد على قدر القيمة من الثمن لأنه التزمه مكرها والتزام المال مع
الاكراه لا يصح ولا يرجع إلى المكره بشئ لأنه عتق بقرابته ولم يوجد من المكره اكراه
على تحصيل السبب الذي به حصل العتق فان قيل لا كذلك فالملك هنا متمم عليه العتق لان
القريب إنما يعتق على القريب بالقرابة والملك جميعا والحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين يحال
به على آخر الوصفين وجودا ولهذا لو اشترى قريبه ناويا عن كفارته جاز لان بالشراء يصير
معتقا متمما لعلة العتق فهنا المكره يكون متمما عليه العتق فيضمن قيمته كما لو كان أكرهه
على الاعتاق بعينه قلنا نعم الملك متمم عليه العتق ولكن بين المشترى والعبد لان القرابة
100

وجدت في حقهما فأما في حق المكره فالشراء ليس بمتمم عليه العتق لان أحد الوصفين وهو
القرابة غير موجود في جانب المكره إذ لا صنع له في ذلك أصلا والإضافة إليه باعتبار صنعه فإذا
انعدم ذلك الوصف في حقه لم يكن الشراء اتلافا في حقه وما لم يصر الاتلاف منسوبا إليه
لا يجب الضمان عليه فاما في الكفارة فالشراء متمم للعلة في حق المشترى والقريب فيصير به معتقا
والثاني ان عتق القريب بطريق المجازاة مستحق عليه عند دخوله في ملكه إلا أنه إذا نوى به
الكفارة وقع عما نوى ولم يكن مجازاة للقرابة فتتأدى به الكفارة فاما هنا فالمكره ما نوى شيئا
آخر سوى المجازاة لأنه إذا نوى شيئا آخر يصير طائعا والمكره إنما أكرهه على المجازاة
فيكون هذا اكراها على إقامة ما هو مستحق عليه وذلك لا يوجب الضمان على المكره كما
لو أكرهه على أن يؤدى زكاة ماله أو يكفر يمينه وكذلك لو أكرهه على شراء أمة قد ولدت
منه أو أمة مدبرة ان ملكها لان التدبير والاستيلاد إنما يحصل عند وجود الشرط بالسبب
المتقدم وهو لم يكن مكرها على ذلك السبب وثبوت حق العتق بها عند وجود الشرط لا
يكون أقوى من ثبوت حقيقة الحرية وقد بينا ان الاكراه على ايجاد الشرط في حقيقة الحرية
لا يوجب الضمان على المكره فكذلك في حق الحرية واستوضح بفصل الشهادة إذا شهد
شاهدان على رجل انه اشترى هذا العبد بألف درهم هي قيمته والبائع يدعى البيع وقد كان
المشترى قال إن ملكته فهو حر فقضى القاضي بذلك وأعتقه ثم رجعا فلا ضمان عليهما لأنه
إنما أعتقه بقوله فهو حر لا بشرائه والشهود ما أثبتوا تلك الكلمة بشهادتهم وكذلك لو قال
عبده حر ان دخل هذه الدار فأكرهه بوعيد تلف حتى دخل فإنه يعتق لأنه هو الداخل
بنفسه وإن كان مكرها بخلاف ما إذا حمل فادخل لأنه الآن مدخل لا داخل فلا يصير الشرط
به موجودا إلا أن يكون قال إن صرت في هذه الدار فعبدي هذا حر فحمله المكره حتى
أدخله الدار وهو لا يملك من نفسه شيئا فإنه يعتق لوجود الشرط ولا ضمان على المكره في
الوجهين لان العتق إنما حصل بقوله هو حر لا بحصوله في الدار فان الحرية من موجبات قوله
هو حر لا من موجبات دخول الدار فالاتلاف الحاصل به لا يكون مضافا إلى من أدخله
الدار ولذلك لو قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فأكره على تزوجها بمهر مثلها طلقت ولزمه
نصف الصداق لها بسبب الطلاق قبل الدخول ولم يرجع على المكره بشئ لأنه ما أكرهه
على الطلاق إنما أكرهه على التزويج وقد دخل في ملكه بالتزوج ما يعادل ما لزمه من المهر لان
101

البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم قال (ألا ترى) أنه لو قال لامرأته ولم يدخل بها ان شجني
اليوم أحد فأنت طالق أو قال ذلك لعبده فشج ان العبد يعتق والمرأة تطلق وعلى الشاج أرش
الشجة وليس عليه من قيمة العبد ولا من نصف الصداق شئ للمعنى الذي قلنا وزفر رحمه الله
في الكل مخالف ولكن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لايضاح الكلام
ولو أكره بوعيد تلف حتى يحصل عتق عبده في يد هذا الرجل أو طلاق امرأته ولم يدخل
بها ففعله فطلق ذلك الرجل المرأة أو أعتق العبد وقع الطلاق والعتاق لان الاكراه لا يمنع
صحة الاعتاق والطلاق فكذلك لا يمنع صحة التسليم بها عليه وصحة تمليكه من غيره تجعله في يده
(ألا ترى) ان الاكراه في هذا كشرط الخيار وشرط الخيار كما لا يؤثر في الاعتاق لا يؤثر
في تفويض العتق إلى الغير ثم القياس فيه أن لا يغرم المكره شيئا لأنه ما أكرهه على السبب
المتلف فان السبب قول المجعول إليه للعبد أنت حر وللمرأة أنت طالق إلا أنه يشترط لحصول
التلف بهذا تقدم التفويض من المالك فالمكره على ذلك التفويض بمنزلة المكره على شرط العتق
والدليل عليه فصل الشهادة فان شاهدين لو شهدا على رجل أنه جعل أمر عبده في العتق في يد
فلان أو أمر امرأته في الطلاق ثم أعتق فلان العبد وطلق المرأة ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا
شيئا فلما جعل التفويض بمنزلة الشرط في حكم الشهادة فكذلك في حكم الاكراه ولكنه
استحسن فقال على المكره ضمان قيمة العبد ونصف المهر الذي غرم لامرأته لان هذا اكراه
على الامر بالعتق بعينه أو بالطلاق بعينه فيصير به متلفا عند وجود الايقاع من المفوض إليه
(ألا ترى) أنه لو أكرهه على أن يجعل ذلك في يد المكره ففعل ذلك وأوقعه كان ضامنا ولا
يكون ضامنا بايقاعه إنما يكون ضامنا باكراهه على جعل ذلك في يده والاخذ بالقياس في هذا
الفصل قبيح لأنه لو أكرهه على اعتاقه كان المكره متلفا فإذا أكرهه على جعل العتق في يد المكره
فأعتقه المكره كان أولى أن يكون متلفا والفرق بين الاكراه والشهادة من حيث إن المكره
مضار متعنت فيتعدى الاكراه إلى ما يتحقق فيه الضرر والشاهد محتسب في أداء الأمانة فلا
تتعدى شهادته عما شهد به إلى غيره (ألا ترى) أن الاكراه على الهبة يجعل اكراها على التسليم
لان الضرر به يتحقق والشهادة على الهبة لا تكون شهادة على التسليم * يوضحه أن الشاهد مخبر
عن تفويض قد كان منه والايقاع من المفوض إليه ليس من جنس الخبر بل هو انشاء فلا يصح
أن يكون متمما لما ثبت باخبار الشاهد فاما المكره فإنما ألجأه إلى انشاء التفويض فيمكن جعل
102

ايقاع المفوض إليه متمما لما أكرهه المكره عليه حتى يصير هو متلفا وفي الكتاب استشهد
لايضاح هذا الفرق فقال (ألا ترى) أن شهود الاحصان إذا رجعوا بعد الرجم وقالوا شهدنا
بالباطل ونحن نعلم أنه باطل لم يكن عليهما غرم ولو لم يشهدوا بالاحصان وقال القاضي علمت أنه
غير محصن وانه لا رجم ولكنه أرجمه وأكره الناس حتى رجموه كان ضامنا وبهذا تبين الفرق بين
الشهادة والاكراه ثم في هذه المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله الاشكال ان القاضي يضمن
الدية لأنه لا يرى القود في القتل رجما على من باشره فكذلك على من أكره عليه وكذلك عند أبي
يوسف رحمه الله لأنه لا يرى القود على المكره إذا أكره على القتل بالسيف فبالحجارة أولى فان
عند محمد رحمه الله في القياس يجب القصاص على القاضي لأنه يوجب القود على المكره والقتل
بالحجر عنده كالقتل بالسيف في حكم القصاص وهذا قتل بغير حق فكان موجبا للقصاص عليه
ولكنه استحسن فجعل عليه الدية في ماله للشبهة التي دخلت من حيث إن السبب المبيح لدمه
موجود وهو الزنا فان عند ظهور احصانه إنما يرجم لزناه لا لاحصانه فيصير هذا السبب شبهة
في اسقاط القود عن القاضي ولان بعض الرجم قائم مقام إقامة الحد المستحق عليه (ألا ترى) انه
بعد ما رجمه القاضي بعض الرجم لو بدا له في ذلك لم يكن له أن يقيم عليه الحد فيصير ذلك شبهة
في اسقاط القود عن القاضي وتلزمه الدية في ماله لان المال ثبت مع الشبهات ولو أكره على
أن يجعل كل مملوك يملكه فيما يستقبل حرا ففعل ثم ملك مملوكا بوجه من الوجوه عتق ولا
ضمان على المكره فيه لان العتق إنما حصل باعتبار صنع من جهته وهو مختار فيه وهو قبول
الشراء والهبة أو الصدقة أو الوصية وذلك منه دليل الرضا بالعتق فيكون مانعا من وجوب
الضمان على المكره وان ورث مملوكا فالقياس فيه أن لا يضمن المكره شيئا لأنه أكرهه على
اليمين واليمين تصرف لا يحصل الاتلاف به (ألا ترى) ان العتق لا يحصل الا بعد انحلال
اليمين بوجود الشرط فلم يكن الاكراه على اليمين أو تعليق العتق بالملك اكراها على ما يحصل
به التلف بعينه ولكنه استحسن فقال المكره ضامن قيمة المملوك الذي ورثه لان الميراث
يدخل في ملكه شاء أو أبى بغير اختيار ولا يرتد برده وعند وجود الشرط إنما ينزل العتق
بتكلمه بكلام العتق وقد كان مكرها على ذلك فإذا لم يوجد منه ما يدل على الرضا بعد ذلك
كان المكره ضامنا (ألا ترى) أنه لو أكرهه على أن يقول كل مملوك أرثه فهو حر فقال
ذلك ثم ورث مملوكا يعتق ويصح أن يقال لا يضمن المكره هنا لان بذلك الاكراه قصد
103

اتلاف هذا الملك عليه ولا بد من ايجاب الضمان عليه فكذلك فيما سبق ولو أكرهه في
هذا كله بحبس لم يضمن المكره شيئا لان الاتلاف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا النوع
من الاكراه ولو أكرهه على أن قال لعبده إن شئت فأنت حر فشاء العبد عتق وغرم المكره
قيمته لأنه عند مشيئته عتق بقوله أنت حر وقد كان مكرها على ذلك القول ولم يوجد منه
بعد ذلك ما يدل على الرضا به وكذلك لو أكرهه على أن قال له أن دخلت الدار فأنت حر
ثم دخلها العبد لأنه لم يوجد من المولى ما يدل على الرضا بذلك العتق * فان قيل لا كذلك فقد
كان يمكن أن يخرج العبد من ملكه قبل أن يدخل الدار وان شاء العتق يبيعه من غيره فإذا لم
يفعل صار باستدامة الملك فيه راضيا بذلك العتق * قلنا لا كذلك فالبيع لا يتم به وحده إنما يتم
به وبالمشترى وربما لا يجد في تلك الساعة مشتريا يشتريه منه فلا يصير هو بهذا الطريق راضيا
ولو كان أكرهه على أن قال لعبده ان صليت فأنت حر أو ان أكلت أو شربت فأنت حر
ثم صنع ذلك فان العبد يعتق ويغرم المكره قيمته وكذلك كل فريضة لا يجد المكره بدا من
أن يفعل ذلك لأنه بمباشرة ذلك الفعل لا يصير راضيا بالعتق فإنه يخاف التلف بالامتناع من
الأكل والشرب ويخاف العقوبة بترك الفريضة فيكون هو مضطرا في الاتيان بذلك الفعل
والمضطر لا يكون راضيا وهو نظير المريض إذا قال لامرأته ان أكلت أو صليت الظهر
فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك كان الزوج فارا بهذا المعنى ولو قال له فلان ان تقاضيت ديني
الذي على فلان أو أكلت طعام كذا لطعام خاص بعينه أو دخلت دار فلان فأنت حر ففعل ذلك
ثم فعل الذي حلف عليه عتق العبد ولم يغرم المكره شيئا لأنه كان يجد من ذلك الفعل بدا
فبالاقدام عليه يصير راضيا بالعتق ويخرج الاتلاف به من أن يكون منسوبا إلى المكره وقد
قال في الطلاق إذا قال المريض لامرأته ان تقاضيت دينك الذي على فلان فأنت طالق ثلاث
ففعلت ذلك يصير الزوج فارا والفرق بين الفصلين أن المعتبر هنا انعدام الرضا من المرأة
بالفرقة ليصير الزوج فارا لا الالجاء (ألا ترى) أنه لو أكرهها بالحبس حتى سألته بالطلاق كان
الزوج فارا لان الرضا ينعدم بالاكراه بالحبس فكذلك الرضا ينعدم منها إذا كانت تخالف هلاك
دينها على فلان بترك التقاضي فأما في هذا الموضع فالمعتبر هو الالجاء والضرورة لايجاب الضمان
على المكره لا انعدام الرضا من المكره (ألا ترى) أنه لو أكره بحبس أو قيد على أن يعتق
عبده لم يضمن المكره شيئا وإنما يتحقق الالجاء عند خوف التلف على نفسه أو خوف العقوبة
104

بترك الفريضة فأما خوفه على الدين الذي له على فلان فلا يوجب الضرورة والالجاء فلهذا
لا يضمن المكره شيئا ولو أن رجلا قتل عبده قتلا خطأ فاختصموا فيه إلى القاضي فأكره
القاضي المولى على عتق عبده بوعيد تلف فأعتقه وهو عالم بالجناية فلا ضمان على المولى لأنه
بالالجاء خرج من أن يكون مختارا للدية أو مستهلكا للعبد وإنما الضمان على الذي أكرهه لان
تلف العبد منسوب إليه فيغرم قيمته فيأخذها المولى منه لأنه بدل ملكه ثم يدفعها إلى ولى الجناية
لان الرقبة كانت مستحقة لولى الجناية وقد فاتت وأخلفت بدلا ولو كان الاكراه بحبس أو
قيد لم يضمن المكره شيئا لان التلف لا يصير منسوبا إلى المكره بهذا التهديد ويغرم المولى
قيمة العبد لأصحاب الجناية ولا يلزمه أكثر منها لأنه بالاكراه بالحبس ينعدم الرضا فيخرج به
من أن يكون مختارا للفداء ملتزما للدية ولكنه يكون مستهلكا للرقبة فيغرم قيمته بمنزلة
ما لو أعتقه وهو لا يعلم بالجناية ولو كان المولى أكره بوعيد تلف حتى قتل عبده عمدا كان
للمولى أن يقتل الذي أكرهه لان القتل صار منسوبا إلى المكره فصار المكره آلة له بالالجاء
فيجب القصاص عليه ويكون استيفاء القصاص إلى المولى لأنه عوض عن العبد وهو ملكه
فباعتبار الملك يخلفه في عوض نفسه خلافة الوارث المورث ويبطل حق أصحاب الجناية لفوات
محل حقهم فالقصاص الواجب غير صالح لايفاء حقهم منه وإن كان أكرهه بحبس أو قيد
فلا شئ على المكره وعلى المولى قيمته لأصحاب الجناية لأنه مستهلك للعبد فإنه لم يصر ملجأ
بالاكراه بالحبس فكان الفعل مقصورا عليه ولكنه لم يصر مختارا للفداء لانعدام الرضا منه
بالتزام الدية لأجل الاكراه بالحبس فليزمه قيمته للاستهلاك كما لو قتله وهو لا يعلم بالجناية
والله أعلم بالصواب
(باب الاكراه على النذر واليمين)
(قال رحمه الله) ولو أكره بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو
حجا أو عمرة أو غزوة في سبيل الله أو بدنة أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى لزمه ذلك وكذلك
لو أكرهه على اليمين بشئ من ذلك أو بغيره من الطاعات أو المعاصي والأصل فيه حديث
حذيفة رضي الله عنه ان المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة حلف مكرها ثم أخبر به رسول الله صلى الله وسلم فقال عليه
105

الصلاة والسلام أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم وقد بينا ان اليمين بمنزلة الطلاق
والعتاق في أن الهزل والجد فيه سواء وهذا لان فيه منع نفسه عن شئ وايجاب شئ على
نفسه لحق الله تعالى فيكون في معنى الطلاق والعتاق الذي يتضمن تحريم الفرج حقا لله
تعالى فيستوي فيه الكره والطوع والنذر بمنزلة اليمين في هذا المعنى وقال عليه الصلاة والسلام
النذر يمين ولا ضمان على المكره في شئ من ذلك لان التزامه لا يصير منسوبا إلى المكره
وإنما ينسب إليه التلف الحاصل به ولا يتلف عليه شئ بهذا الالتزام ثم المكره إنما ألزمه شيئا
يؤثر الوفاء به فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبر عليه في الحكم فلو ضمن له شيئا كان يجبر
على ايفاء ما ضمن في الحكم فيؤدى إلى أن يلزمه أكثر مما يلزم المكره وهذا لا يجوز ولو كان
اكراهه على أن يظاهر من امرأته كان مظاهرا لان الظهار من أسباب التحريم ثم يستوى
فيه الجد والهزل وقد كان طلاقا في الجاهلية فأوجب الشرع به حرمة مؤقتة بالكفارة فكما أن
الاكراه لا يؤثر في الطلاق فكذلك في الظهار فان أكرهه على أن يكفر ففعل لم يرجع
بذلك على الذي أكرهه لأنه أمره بالخروج عن حقه لزمه وذلك منه حسنة لا اتلاف شئ
عليه بغير حق وان أكرهه على عتق عبد بعينه عن ظهار ففعل عتق وعلى المكره قيمته لأنه
صار متلفا عليه مالية العبد باكراهه على ابطاله ولو لم يكن عتق هذا العبد بعينه مستحقا عليه بل
المستحق كان واجبا في ذمته يؤمر بالخروج عنه فيما بينه وبين ربه وذلك في حكم العين
كالمعدوم فلهذا ضمن المكره قيمته بخلاف الأول لان هناك أمره بالخروج عما في ذمته من
غير أن يقصد ابطال ملكه في شئ من أعيان ماله ثم لا يجزيه عن الكفارة هنا لأنه في معنى عتق
بعوض ولو استحق العوض على العبد بالشرط لم يجز على الكفارة فكذلك إذا استحق العوض
على المكره فان قال أنا أبرئه من القيمة حتى يجزيني من الكفارة لم يجز ذلك لان العتق نفذ
غير مجزئ عن الكفارة والموجود بعده ابراء عن الدين وبالابراء لا تتأدى الكفارة وان قال
أعتقه حين أكرهني وأردت به كفارة الظهار ولم أعتقه لاكراهه اجزه عن كفارة الظهار
ولم يكن له على المكره شئ لأنه أقر انه كان طائعا في تصرفه قاصدا إلى اسقاط الواجب
عن ذمته واقراره حجة عليه وان قال أردت العتق عن الظهار كما أمرني لم يخطر ببالي غير
ذلك لم يجزه عن كفارة الظهار وله على المكره القيمة لأنه أجاب المكره إلى ما أكرهه عليه
وهو العتق عن الظهار فلا يخرج به من أن يكون مكرها فإذا كان مكرها كان التلف
106

منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فان هناك لو أقر انه لم يعتقه لاكراهه بل لاختياره
اسقاط الواجب عن ذمته به طوعا وإن كان أكرهه بحبس أو قيد فلا ضمان على المكره
لانعدام الالجاء وجاز عن كفارته لان العتق حصل بغير عوض واقترنت به نية الظهار ولو
أكرهه بوعيد تلف حتى آلى من امرأته فهو مول لان الايلاء طلاق مؤجل أو هو يمين
في الحال والاكراه لا يمنع كل واحد منهما فان تركها أربعة أشهر فبانت منه ولم يكن دخل
بها وجب عليه نصف المهر ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان متمكنا من أن يقربها في
المدة فإذا لم يفعل فهو كالراضي بما لزمه من نصف الصداق وان قربها كانت عليه الكفارة ولم
يرجع على المكره بشئ لأنه ما جرى على سنن اكراهه فإنه بالاكراه منعه من العربان وقد
أتى بضده ولأنه لزمه كفارة يعني بها فلا يرجع عليه بضمان يحبس به ولو أكرهه على أن قال إن
قربتها فهي طالق ثلاثا ولم يدخل بها فقربها فطلقت ولزمه مهرها لم يرجع على المكره
بشئ لأنه خالف ما أكرهه عليه ولان المهر لزمه بالدخول فإنما أتلف عليه باكراهه ملك
النكاح وذلك ليس بمتقوم فلا يضمن المكره له قيمته وإن لم يقر بها حتى بانت بمضي أربعة
أشهر فعليه نصف الصداق ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان يقدر على أن يجامعها
فيجب المهر بجماعه إياها لا بما ألجأه إليه المكره وأكثر ما فيه أنه بمنزلة الاكراه على الجماع
وذلك لا يوجب الضمان على المكره وكذلك لو أكرهه على أن يقول إن قربتها فعبدي
هذا حر فان قربها عتق عبده ولا ضمان على المكره لأنه ما جرى على سنن اكراهه وان
تركها فبانت بالايلاء قبل الدخول غرم نصف الصداق ولا يرجع على المكره بشئ لأنه كان
يقدر على أن يبيع عبده في الأربعة الأشهر ثم يقربها فيسقط الايلاء ولا يلزمه شئ فان قبل
البيع لا يتم به وحده وإنما يتم به وبالمشترى وقد بينا قبل هذا ان تمكنه من البيع غير معتبر
في إزالة معنى الاكراه قلنا هناك كان الوقت ضيقا لان العبد يعتق بدخول الدار وبمشيئة
العتق ولا يتفق وجود مشتر في ذلك القدر من المدة وهنا الوقت أربعة أشهر والظاهر أنه
في هذه المدة يجد مشتريا يرغب في شراء العبد منه وإن كان مدبرا لا يقدر على بيعه وان
كانت جارية هي أم ولد فان قرب المرأة عتق هذا ولا ضمان على الذي أكرهه لأنه خالف
ما أكرهه عليه وان تركها حتى بانت بالايلاء وقد دخل بها لم يرجع على الذي أكرهه أيضا
بشئ لأنه أتلف عليه النكاح وإن لم يكن دخل بها لزمه نصف المهر وفى القياس لا يرجع على
107

المكره بشئ لأنه كان متمكنا من قربانها في المدة ليسقط به الايلاء فإذا لم يفعل كان في معنى
ما لزمه من نصف المهر وفى الاستحسان يرجع على المكره بالأقل من نصف الصداق ومن قيمة
الذي التي استحلفه على عتقه لأنه ملجأ في التزام الأقل فإنه اما أن يدخل بها فيبطل ملكه عن
المدبر أو لا يدخل بها فليزمه نصف المهر بوقوع الطلاق قبل الدخول فكان ملجأ مضطرا في
أقلهما والمكره هو الذي ألجأه إلى ذلك فلهذا رجع عليه بالأقل وجمع في السؤال بين المدبر
وأم الولد وقيل في أم الولد الجواب قولهما فاما عند تحقيقه فلا يرجع بشئ لان رق أم الولد
عنده فليس بمال متقوم وإنما له عليه ملك المتعة بمنزلة ملك النكاح وذلك لا يكون مضمونا على
المكره بالاتلاف ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فمالي صدقة في المساكين فتركها أربعة
أشهر فبانت ولم يدخل بها أو قربها في الأربعة الأشهر فلزمته الصدقة لم يرجع على المكره بشئ
لأنه أن قربها فقد خالف ما أمره به المكره وإن لم يقربها فقد كان هو متمكنا من أن يقربها
في المدة ويلزمه بالقربان صدقة فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبره السلطان عليها ولهذا لا يرجع
على المكره بشئ وهو في المعنى نظير ما لو أكرهه على النذر بصدقة ماله في المساكين والله أعلم
(باب اكراه الخوارج المتأولين)
(قال رحمه الله) وان غلب قوم من الخوارج المتأولين على أرض وجرى فيها حكمهم ثم
أكرهوا رجلا على شئ مما وصفنا في اكراه اللصوص أو اكره قوم من المشركين رجلا على
شئ مما ذكرنا في اكراه اللصوص فهذا في حق المكره فيما يسعه الاقدام عليه أو لا يسعه
بمنزلة اكراه اللصوص لان الالجاء تحقق بخوف التلف على نفسه وذلك عند قدرة المكره على
ايقاع ما هدده به سواء كان من اللصوص أو من المشركين أو من الخوارج فاما ما يضمن
فيه اللصوص أو يلزمهم به القود في جميع ما ذكرنا فإنه لا يجب شئ من ذلك على أهل الحرب
ولا على الخوارج المتأولين كما لو باشروا الاتلاف بأيديهم وهذا لان أهل الحرب غير
ملتزمين لاحكام الاسلام وإذا انضمت المنعة بالتأويل في حق الخوارج كانوا بمنزلة أهل
الحرب في سقوط الضامن عنهم فيما أتلفوا من الدماء والأموال للحديث الذي جاء ان الفتنة
وقعت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متوافرين واتفقوا أنه لا قود في دم
استحل بتأويل القرآن ولا حد في فرج استحل بتأويل القرآن ولا ضمان في مال استحل
108

بتأويل القرآن إلا أن يوجد شئ بعينه فيرد إلى أهله وقد تقدم بيان هذا في السير ولو أن
المتأولين الشاهدين علينا بالشرك المستحلين لمالنا اقتسموه وأخذوا جوارا من جوارينا
فاقتسموهن فيما بينهم كما تقسم الغنيمة واستولدوهن ثم تابوا أو ظهر عليه ردت الجواري
إلى مواليهن لأنهم لم يتملكوهن اما لانعدام تمام الاحراز فتمامه بالاحراز بدار تخالف دار
المستولي عليه أو لبقاء احراز الملاك لبقاء الجواري في دار الاسلام ولا حد على الواطئ منهن
ولا عقر لان المستوفى بالوطئ في حكم جزء هو عين واتلاف الجزء معتبر باتلاف الكل
والأولاد أحرار بعين القيمة لان الواطئ بمنزلة المغرور باعتبار تأويله والتأويل الفاسد عند
انضمام المنعة بمنزلة التأويل الصحيح وولد المغرور حر ثابت النسب من المغرور إلا أن في غير
هذا الموضع المغرور يضمن قيمة الأولاد لأنه منع حدوث الرق فيهم فنزل ذلك منزلة
الاتلاف وهنا هو لا يضمن الولد بالاتلاف لصاحب الجارية فكذلك لا يغرم قيمته بسبب الغرور
وكذلك أهل الحرب فيما أخذوا من المسلمين من مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة فولدت لهم ثم
أسلموا ان هؤلاء لا يملكون بالاحراز فيكون حال المشركين فيه كحال الخوارج في الجواري
على ما بيناه والله أعلم
(باب ما يخالف المكره فيه ما أمر به)
(قال رحمه الله) ولو أكره الرجل على أن يهب نصف داره غير مقسوم أو لم يسم له
مقسوما ولا غيره وأكره على التسليم فوهب الدار كلها وسلمها فهو جائز لأنه أتى بغير
ما أكره فالجميع غير النصف وهبة نصف الدار غير مقسوم هبة فاسدة وهو قد أتى بهبة
صحيحة عرفنا أن ما أتى به غير ما أكره عليه فكان طائعا فيه وكذلك لو أمر بهبة الدار فتصدق
بها عليه أو بصدقتها عليه فوهبها له وهو ذو رحم محرم منه أو أجنبي لان الهبة غير الصدقة
فالهبة تمليك المال من الموهوب له والمقصود به العوض والصدقة جعل المتصدق به لله تعالى
خالصا ثم الصرف إلى الفقراء لتكون كفاية من الله تعالى والدليل عليه أن صرف الصدقة
الواجبة إلى بني هاشم لا تجوز والهبة لهم حسن وانه وأنه لا رجوع في الصدقة وحق الرجوع
ثابت للواهب وفى الهبة من ذي الرحم المحرم إنما لا يرجع لصيانة الرحم عن القطيعة أو
لحصول المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لأنه بمنزلة الصدقة إذا ثبت أن ما أتى به غير
109

ما أكره عليه حقيقة وحكما كان طائعا فيه ولو أمره بالهبة فنحلها أو أعمرها كان باطلا لان
النحلة والعمرى هبة فهذه ألفاظ مختلفة والمقصود بالكل واحد وفى الاكراه يعتبر المقصود دل
على الفرق ان اختلاف الشاهدين في لفظة الهبة والنحلة والعمرى لا يمنع قبول الشهادة واختلافهما
في الهبة والصدقة يمنع قبول الشهادة سواء كان الموهوب له ذا رحم محرم أو أجنبيا ولو أكره
على الهبة والدفع فوهب على عوض وتقابضا كان جائزا لأنه أتى بغير ما أمر به فالهبة بشرط
العوض بعد التقابض بيع فكأنه أكرهه على الهبة فباع ولان مقصود المكره الاضرار باتلاف
ملكه بغير عوض ولم يحصل ذلك إذا وهبه على عوض وقد يكون المرء ممتنعا من الهبة بغير
عوض ولا يمتنع من الهبة بعوض ولو أكرهه على أن يهبه على عوض ويدفعه فباعه بذلك
وتقابضا كان باطلا وكذلك أو أكره على البيع والتقابض فوهبه على عوض وتقابضا كان بعد
التقابض والهبة بشرط العوض بمنزلة البيع حتى ثبت فيه جميع أحكام البيع فيكون هو مجيبا
إلى ما طلب المكره في المعنى وان خالفه في اللفظ ولان قصد المكره الاضرار به وذلك لا يختلف
باختلاف لفظ البيع والهبة بشرط العوض ولو أكره على أن يهبه ويدفعه ففعل فعوضه الآخر
من الهبة بغير أكراه فقبله كان هذا إجازة منه بهبته حين رضى بالعوض لان العوض اما
يكون عن هبة صحيحة فرضاه بالعوض يكون دليل الرضا منه بصحة الهبة ودليل الرضا كصريح
الرضا فان سلم له العوض فان قبضه بتسليم العوض فهو جائز ولا رجوع لواحد منهما على
صاحبه كما لو كانت الهبة بغير كره فعوضه وكما في الهبة بشرط العوض وان أبى أن يسلم
العوض وقال قد سملت الهبة حين رضيت بالعوض فلا أدفع إليك العوض ولا سبيل لك على
الهبة لم يكن له ذلك لان الرضا كان في ضمن العوض وإنما يكون راضيا بشرط سلامة العوض
له وإذا لم يسلم له كان له أن يرجع في الهبة كما لو وهبه بشرط العوض (ألا ترى) أنه لو قال قد
سلمته على أن يعوضني كذا فأبى لم يكن هذا تسليما منه للهبة (ألا ترى) أن رجلا لو وهب
جارية رجل بغير أمره لرجل وقبضها الموهوب له فقال له رب الجارية عوضني منها فعوضه
عوضا وقبضه كان هذا إجازة منه للهبة وان أبى أن يعوضه لم يكن هذا إجازة منه للهبة
فكذلك ما سبق وكذلك لو أجبره على بيع عبده بألف درهم وعلى دفعه وقبض الثمن ففعل
ذلك ثم قال للمشتري زدني في الثمن ألف درهم لم يكن هذا إجازة للبيع الأول إلا أن يزيده
فان زاده جاز البيع وإن لم يزده فله أن يبطله وكذلك لو قال قد أجزت ذلك البيع على أن تزيدني
110

ألف درهم والمعني في الكل واحد وهو إنما رضى بشرط أن يسلم له العوض والزيادة فإذا
لم يسلم لم يكن راضيا به ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يبيع عبده من هذا بألف درهم
ولم يأمره بالدفع فباعه ودفعه لم يكن على الذي أكرهه شئ وينبغي أن يجوز البيع إذا كان
هو الدافع بغير اكراه بمنزلة ما لو دفعه بعد ما افترقا من موضع الاكراه وقد بينا فيما تقدم أن
الاكراه على البيع لا يكون اكراها على التسليم بخلاف الهبة (ألا ترى) لو أن لصا قال
له لأقتلنك أو لتبيعنه عبدك هذا فانى قد حلفت لتبيعنه إياه فباعه خرج المكره من يمينه وهذا
إشارة إلى الجواب عن اشكال يقال في هذه المسألة ان قصد المكره الاضرار وذلك أنما
يكون تمامه بالاخراج من يده لان زوال الملك في بيع المكره لا يكون الا به كما في الهبة
فتبين أنه قد يكون للمكره مقصود في نفس البيع ولكن هذا الذي أشار إليه يتأتى في الهبة
أيضا والمعتمد هو الفرق الذي تقدم بيانه ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يهبه له فوهبه ودفعه
فقال قد وهبته لك فخذه فاخذه الموهوب له فهلك عنده كان للمكره ان شاء ضمن المكره
القيمة لان اكراهه على الهبة أكراه على التسليم وان شاء ضمن القابض لان قبضه على
سبيل التملك لنفسه بغير رضاه (ألا ترى) أن رجلا لو أمر رجلا ان يهب جاريته هذه
لفلان فأخذها المأمور فوهبها ودفعها إلى الموهوب له جاز ذلك فلما جعل التوكيل بالهبة توكيلا
بالتسليم كان المقصود بالهبة لا يحصل الا بالتسليم فكذلك الاكراه على الهبة يكون اكراها
على التسليم ثم بين في الأصل ما يوضح هذا الفرق وهو ان ايجاب الهبة للموهوب له يكون
اذنا في القبض إذا كان بمحضر منهما وايجاب البيع لا يكون اذنا في القبض وإن كان المبيع حاضرا
حتى لو قبضه بغير أمر البائع كان للبائع أن يأخذه منه حتى يعطيه الثمن والبيع الفاسد بمنزلة
الهبة في هذا الحكم وكان الطحاوي رحمه الله يقول في البيع الصحيح أيضا للمشترى أن يقبضه
بمحضر منهما ما لم ينهه البائع عن ذلك وقال ايجاب البيع الصحيح أقوى من ايجاب البيع الفاسد
ولكن ما ذكره محمد في الكتاب أصح لان القبض في البيع الفاسد والهبة نظير القبول في
البيع الصحيح من حيث إن الملك يحصل به فاما قبض المشترى في البيع الصحيح فيكون مسقطا
حق البائع في الحبس وايجاب البيع لا يكون اسقاطا لحقه في الحبس فلا بد من الامر بالقبض
ليسقط به حقه ولو أكرهه على أن يبيعه منه بيعا فاسدا فباعه بيعا جائزا جاز البيع لأنه أتى بغير
ما أمره به فالبيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه والبيع الجائز يزيل الملك بنفسه وكذلك الممتنع
111

من البيع الفاسد لا يكون ممتنعا من البيع الجائز فهو طائع فيما أتى به من التصرف ولو أكره
على أن يبيعه منه بيعا جائزا ويدفعه إليه فباعه بيعا فاسدا ودفعه إليه فهلك عنده فللبائع أن يضمن المكره
ان شاء وان شاء المشترى لأنه لم يخالف ما أمر به فإنه وان أتى به على الوجه الذي أمر به
يكون البيع فاسدا لكونه مكرها عليه وانه أتى بدون ما أمره به والممتنع من البيع الجائز
يكون ممتنعا من البيع الفاسد وإنما هذا بمنزلة رجل أمره أن يبيع بألف درهم نقد بيت المال
فباعه بألف درهم عليه جاز ولو أمره ان يبيعه بألف فباعها بألفين جاز ولم يكن مكرها فكذلك فيما
سبق ولو أكرهه على أن يهب له نصف هذه الدار مقسوما ويدفعه إلى الموهوب له فوهب له
الدار كلها ودفعها إليه جازت الهبة في القياس لأنه أمره أن يقسم ثم يهب له فحين وهب الدار
كلها قبل أن يقسم فقد خالف ما أمره وكذلك هذا القياس في البيع لو أمره أن يبيعه نصف الدار
مقسوما فباعه الدار كلها لأنه أمره بالبيع بعد القسمة فهو في البيع قبل القسمة لا يكون مطيعا
له فيما أمره به ولأنا لو جعلناه مخالفا لم يكن بد من القسمة وفى البيع قبل القسمة لا ندري
أي شئ يضمنه لان بين نصفي الدار مقسوما تفاوتا في المالية ومع الجهالة لا يمكن ايجاب الضمان
ولكنه استحسن فقال لا أجيز هبته ولا بيعه في شئ مما أكرهه عليه لأنه مكره على بعض
ذلك فلا بد من أن تبطل هبته فما كان مكرها عليه وذلك يبطل هبته فكذلك في البيع الصفقة
واحدة فذا بطلت في البعض بطلت في الكل وكذلك لو أكرهه على أن يهب له أو يبيعه بيتا
من هذه البيوت فباعه البيوت كلها أو وهبها كان ذلك باطلا في الاستحسان لأنه قد بطل
في بعض البيوت للاكراه فيبطل فيما بقي لاتحاد الصفقة وجهالة ما ينفذ فيه العقد والله أعلم
(باب الاكراه على أن يعتق عبده عن غيره)
(قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق عبدا يساوى ألف
درهم عن رجل بألف درهم ففعل ذلك وقبل المعتق عنه طائعا فالعبد حر عن المعتق عنه طائعا والولاء
له لان المولى لو كان طائعا في هذا الايجاب كان العبد حرا على المعتق عنه فكذلك إذا كان
مكرها إذ لا تأثير للاكراه في المنع من العتق فان قيل إذا كان طائعا يصير كأنه ملك العبد بألف
درهم وأعتقه عنه وإن كان مكرها لا يمكن تصحيح العقد عن المعتق عنه بهذا الطريق لان
تمليك المكره بعوض يكون فاسدا والملك بالسبب الفاسد لا يثبت الا بالقبض ولم يوجد
112

القبض فكيف يعتق العبد عن المعتق عنه * قلنا هذا التمليك غير مقصود بسببه ولكنه في ضمن
العتق فيكون حكمه حكم العتق والاكراه لا يمنع صحة العتق فكذلك لا يمنع صحة هذا التمليك
بدون القبض (ألا ترى) أن التمليك إذا كان مقصودا فسببه لا يثبت بدون القبول وإذا كان
في ضمن العتق يثبت بدون القبول بان يقول أعتق عبدك عنى بألف درهم ويقول الآخر
أعتقت يصح بدون القبول والقبض في البيع الفاسد كالقبول في البيع الصحيح فكما سقط
اعتبار القبول هناك سقط اعتبار القبض هنا على أن الاعتاق يجعل قبضا في البيع الصحيح
فكذلك في البيع الفاسد الذي هو في ضمن العقد وهو نظير ما لو قال لغيره أعتق عبدك عنى على
ألف درهم ورطل من خمر فقال أعتقت يصير الآمر قابضا بنفوذ العتق عنه وإن كان البيع
المندرج في كلامه فاسدا وقد قررنا هذا في الظهار من كتاب الطلاق فكذلك في مسألة
الاكراه ثم رب العبد بالخيار ان شاء ضمن قيمة عبد المعتق عنه وان شاء المكره لان المعتق
عنه قبله باختياره وقد تعذر عليه رده لنفوذ العتق من جهته فيكون ضامنا قيمته والمكره متلف
ملكه عليه بالاكراه الملجئ فيكون ضامنا له قيمته * فان قيل المكره إنما ألجأه إلى إزالة الملك
بعوض يعدله وهو الألف فكيف يجب الضمان عليه * قلنا هو أكرهه على ابطال الملك بالاعتاق
وليس بإزائه عوض وإنما العوض بمقابلة التملك الثابت بمقتضى بكلامه والمقتضى تابع للمقتضى
فإنما ينبنى الحكم على ما هو الأصل وباعتبار الأصل هو متلف عليه ملكه بغير عوض فان ضمن
المكره قيمته رجع بها على المعتق عنه لأنه قائم مقام المولى حين ضمن له قيمة ولان العبد قد
احتبس عند المعتق عنه حين عتق على ملكه ويثبت الولاء له وكان هو المعتق بقوله طوعا فلا
يسلم له مجانا وان ضمنها المعتق عنه لم يرجع بها على المكره لأنه ضمن باحتباس الملك عنده ولو
أكرهه بحبس كانت القيمة له على المعتق عنه ولا شئ له على المكره لان الالجاء لا يحصل
بالاكراه بالحبس وبدونه لا يصير الاتلاف منسوبا إلى المكره ولو كان اكره المعتق والمعتق
عنه بوعيد تلف حتى فعلا ذلك فالعبد حر عن المعتق عنه والولاء له وضمان العبد على المكره
خاصة لمولى العبد لان المعتق عنه ملجأ إلى القبول وهذا النوع من الضرورة يخرجه من أن
يكون متلفا مستوجبا للضمان وإنما المتلف هو المكره فالضمان عليه خاصة بخلاف الأول فهناك
المعتق عنه طائع في القبول فيصير به متلفا للعبد ضامنا * فان قيل العبد قد احتبس عند المعتق عنه
فان عتق على ملكه وثبت الولاء له وإن كان هو ملجأ في القبول فينبغي أن يجب عليه الضمان
113

* قلنا المحتبس عنده مقدار ما ثبت له من الولاء وذلك ليس بمتقوم (ألا ترى) أن من أكره رجلا
على أن يعتق عبده كان المكره ضامنا له جميع قيمته وإن كان الولاء ثابتا للمعتق فلما لم يعتبر الولاء
في اسقاط حقه في الضمان فكذلك لا يعتبر الولاء في ايجاب الضمان عليه وإنما هذا بمنزلة
ما لو أكره رجلا على بيع عبده من هذا بألف درهم ودفعه إليه وأكره الآخر على شرائه
وقبضه وعتقه بوعيد تلف ففعلا ذلك ففي هذا الضمان يكون على المكره خاصة فكذلك فيما
سبق ولو أكرههما على ذلك بالحبس ففعلا ضمن المعتق عنه قيمته لمولاه لان المكره غير
ملجأ هنا فلا ضمان عليه والاتلاف حاصل بقبول المعتق عنه وقد بقي مقصورا عليه حين لم يكن
ملجأ إلى ذلك فكان ضامنا قيمته فان قيل الاكراه بالحبس يمنع صحة التزام المال بالقبول والمعتق
عنه إنما يلتزم الضمان هنا بقوله وهو القبول * قلنا لا كذلك بل هو ملتزم لصيرورته قابضا
بالاعتاق متلفا والاكراه بالحبس لا يمنع تحقق الاتلاف منه موجبا للضمان عليه ولو أكرهه
المولى بوعيد تلف وأكره الآخر بحبس حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يضمن أيهما شاء قيمته
لان المكره ألجأ المولى إلى اتلاف ملكه فيكون ضامنا له قيمته والمعتق عنه بالقبول متلف
معتق لان ما كان ملجأ إليه فيكون للمولى الخيار فأيها اختار ضمانه لم يكن له بعد ذلك أن
يضمن الآخر شيئا فان ضمن المكره رجع على المعتق عنه بما ضمن لأنه قام مقام المولى ولان
المعتق عنه متلف للملك بفعل مقصور عليه فلا بد من ايجاب ضمان القيمة عليه ولو أكره
المولى بالحبس وأكره المعتق عنه بوعيده تلف فالعبد حر عن المعتق عنه ثم المعتق بقيمته غير مدبر
لأنه قام مقام المولى في الرجوع عليه حين ضمن له قيمته فإن لم يرجع المكره على المدبر
عنه يضمن الذي أكرهه قيمة العبد لأنه ملجأ إلى القبول من جهته وبه تلف الملك عليه
فكان له ضامنا له قيمته وإذا قبضها دفعها إلى مولى العبد لان القيمة قائمة مقام العين ولو كان
العبد في يده على حاله كان عليه رده على المولى لكونه مكرها بالحبس فكذلك إذا وصل
إليه قيمته ولا سبيل للمعتق على المكره لأنه ما كان ملجأ من جهته حين أكرهه بالحبس ولو
أكرههما بوعيد تلف حتى دبره صاحبه عنده بألف درهم وقبل ذلك صاحبه فالتدبير جائز
عن الذي دبره عنه لان التدبير يوجب حق الحرية للعبد ومن شرطه ملك المحل بمنزلة
حقيقة الحرية والاكراه كما لا يمنع صحة العتق لا يمنع صحة التدبير ثم المولى بالخيار ان شاء
ضمن الذي أكرهه قيمته عبدا غير مدبر لأنه أتلف عليه ملكه حتى ألجأه إلى تدبيره عن
114

الغير وفى حقه هذا والالجاء إلى الاعتاق سواء لان ملكه يزول في الموضعين وإذا ضمنه ذلك
يرجع المكره على الذي دبره عنه بقيمته مدبرا ولا يرجع بفضل ما بين التدبير وغيره لان
النقصان الحاصل بالتدبير كان لقبوله ولكنه كان ملجأ إلى القبول من جهته فصار هذا النقصان
كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا قبل هذا نظيره في العتق ان المكره لا يرجع على
المعتق عنه فهنا أيضا لا يرجع عليه بالنقصان ولكن يرجع عليه بقيمته مدبرا لان العبد قد
احتبس عنه بهذه الصفة والمدبر مال متقوم فلا يجوز أن يسلم له مجانا ولكنه يضمن قيمته
لاحتباسه عنده وان انعدم الصنع منه لكونه ملجأ إلى القبول كمن استولد جارية بالنكاح ثم
ورثها مع غيره يضمن قيمة نصيب شريكه منها لاحتباسها عنده بالاستيلاد وان كأن لا صنع
له في الميراث وان شاء مولى العبد يرجع بقيمته مدبرا على الذي دبره عنه لاحتباسه عنده
ويرجع إلى المكره بنقصان التدبير لان ذلك الجزء قد تلف بفعل منسوب إلى المكره لوجود
الالجاء منه ولو كان إنما أكرههما على ذلك بالحبس فالعبد مدبر للذي دبره عنه يعتق بموته
ولا ضمان على المكره لان الاتلاف لم يصر منسوبا إليه بالاكراه بالحبس ولكن المولى
يرجع بقيمة عبده تامة على المدبر عنه لان ما تلف بالتدبير وما أحتبس عنده صار كله مضمونا
عليه حين لم يكن ملجأ إلى القبول فلهذا ضمن قيمته غير مدبر ولو كان اكره المولى بوعيد
تلف وأكره الآخر بالحبس فالمولى بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمته عبدا غير مدبر لأنه
كان ملجأ من جهته إلى إزالة ملكه وان شاء ضمن المدبر عنه قيمته غير مدبر لأنه غير ملجأ إلى
القبول فكان حكم الاتلاف والحبس مقصورا عليه وان ضمن المكره رجع على المدبر عنه
بعد ما أختار المولى تضمينه حتى أبرأ المولى المكره من القيمة التي ضمنها إياه أو وهبها له أو
اخرها عنه شهرا فكان للمكره أن يرجع على المدبر عنه على حاله لان المولى باختياره تضمينه
يصير مملكا منه القيمة التي على المدبر عنه ولهذا لم يكن له أن يرجع على المدبر عنه بشئ بعد
ذلك فابراؤه إياه وتأجيله لا يسقط حق المكره في الرجوع على المدبر عنه كالوكيل بالشراء
إذا أبرأ عن الثمن كان له أن يرجع على الموكل وهذا بخلاف الكفيل بالدين إذا أبرأ لان
هناك الحق لم يسقط عن الأصيل وهنا باختياره تضمين المكره سقط حقه عن الرجوع على
المدبر عنه وتعين ذلك حقا للمكره ولو كان المولى أكره بالحبس وأكره الآخر بوعيد تلف
حتى فعلا ذلك كان للمولى أن يرجع على المدبر عنه بقيمته مدبرا لاحتباس العبد عنده مدبرا
115

لسبب فاسد ويرجع على المكره بنقصان التدبير لان تلف هذا الجزء حصل بقبول المدبر
عنه وهو كان ملجأ إلى ذلك وإن لم يكن المولى ملجأ بالاكراه بالحبس والأصح عندي
أن الرجوع بنقصان التدبير على المكره يكون للمدبر عنه يأخذ ذلك منه فيدفعه إلى المكره
لان نقصان التدبير هنا كجميع القيمة في مسألة العتق وقد بينا هناك أن المعتق عنه هو
الذي يستوفى القيمة فيدفعها إلى المكره وهذا لان العبد دخل في ملك المدبر عنه ثم صار
مدبرا والمولى كان مكرها من جهة المكره بالحبس وبالإكراه بالحبس لا يجب له عليه الضمان
وإنما يجب بالاكراه بوعيد تلف وذلك أنما وجد بين المكره والمدبر عنه وكذلك في هذه الوجوه
كلها لو أكرههما بالبيع والقبض وأكره المشترى على التدبير فهو في التخريج نظير ما سبق
ولو أكرههما بوعيد تلف على أن يتبايعا ويتقابضا ثم أكره المشتري بوعيد تلف على أن
يقتل العبد عمدا بالسيف فالقياس فيه أن للبائع ان يقتل المكره بعبده لان المشترى في القبول
والقبض والقتل كان ملجأ من جهة المكره فيكون بمنزلة الآلة له ويجعل في الحكم كان المكره
هو الذي قتله بنفسه فيلزمه القود ولكنه استحسن فقال عليه ضمان قيمته في ماله ولا قود عليه
لأنهما وان كانا مكرهين فالمشترى صار مالكا بالقبض ثم قتله صادف ملك نفسه ولو قتله طائعا
لم يلزمه القصاص فلو قتله مكرها لا يكون قتله أيضا موجبا للقصاص لمعنى وهو ان المستحق
لهذا القود مسببه فباعتبار ان العبد صار ملك المشتري القود يجب له وباعتبار ان المشترى في
حكم الاتلاف الحاصل بقبوله وقبضه وقتله آلة للمكره القود يكون للبائع وعند اشتباه المستوفى
يمتنع وجوب القصاص كالمكاتب إذا قتل عن وفاء وله وارث سوى المولى وإذا سقط القود
للشبهة وجب ضمان قيمته على المكره لان التكلم بالبيع والشراء وإن لم يصر منسوبا إلى
المكره فتلف المال به صار منسوبا إلى المكره والمشترى في القتل والقبض كان له فلا يجب
عليه شئ من الضمان بل ضمان القيمة على المكره في ماله ولو أكرههما بالحبس على البيع وأكره
المشترى على القتل بوعيد تلف فللبائع قيمة العبد على المشترى لان البيع مع الاكراه بالحبس
كان فاسدا ولكن القبض مقصور على المشترى وقد تعذر عليه رده فيلزمه قيمته وهو إن كان
ملجأ إلى القتل فتأثير الاكراه في انعدام الفعل في جانبه فكأنه تلف العبد في يده بغير صنعه
فعليه قيمته بسبب البيع الفاسد وللمشتري ان يقتل الذي أكرهه على القتل لان العبد كان مملوكا
له حين أكرهه على قتله بوعيد تلف فيصير فعل القتل منسوبا إلى المكره ويجب القصاص * فان
116

قيل كيف ينبغي أن لا يجب لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله فان من أصل زفر والشافعي رحمهم
الله ان المشترى لا يملك بالقبض عند فساد البيع بسبب الاكراه فلا يكون القصاص واجبا
له * قلنا أصحابنا رحمهم الله لا يعتبرون خلاف الشافعي في تفريع المسائل لأنه ما كان موجودا
عند هذه التفريعات منهم وخلاف زفر في هذا كخلافه في المبيع من وجوب القود على المكره
في الأصل وذلك لا يمنعنا من أن نلزمه القود لقيام الدليل ولو كان أكرهه على القتل بحبس
لم يضمن المكره شيئا لان الالجاء لم يحصل بالاكراه بالحبس ولو أكره البائع بوعيد تلف
وأكره المشترى على الشراء والقبض والقتل بالحبس فالبائع بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمة
عبده لأنه كان ملجأ من جهته إلى البيع والتسليم فيكون متلفا عليه ملكه وان ضمنه قيمته
رجع المكره بها على المشترى لأنه لم يكن ملجأ إلى القتل ولا إلى العتق وان شاء البائع ضمن
المشترى قيمة عبده لان فعله في القبض والعتق مقصور عليه فيكون ضامنا له قيمته ولو
كان أكره المشترى على الشراء بالحبس وعلى القتل عمدا بالقتل فالبائع بالخيار ان شاء ضمن المكره
قيمة عبده لما بينا وإذا ضمنه لم يرجع هو على المشترى بشئ لان المشترى كان ملجأ إلى
القتل من جهته فيصير فعله منسوبا إلى المكره وكأنه قتله بيده وذلك استرداد منه للعبد وزيادة فلا
يضمن المشترى لذلك بخلاف ما سبق فالاكراه بالحبس على الفعل لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره
وان شاء البائع ضمن المشترى قيمة عبده لان فعله في الشراء والقبض مقصور عليه فإن كان مكرها
على ذلك بالحبس فان ضمنه كان للمشترى أن يقتل المكره لان العبد تقرر في ملكه من
حين قبضه حين ضمن قيمته فتبين أنه أكرهه على قتل عبده عمدا بوعيد تلف وذلك يوجب
القود على المكره وإن كان أكره البائع بالحبس على البيع والدفع وأكره المشترى على الشراء
والقبض والقتل بالوعيد بالقتل فلا ضمان على المشترى لأنه بمنزلة الآلة في جميع ما كان منه
للاكراه الملجئ ويغرم المكره قيمة العبد لمولاه لان فعله في البيع والتسليم وإن لم يصر
منسوبا إلى المكره ففعل المشترى بالقبض والقتل صار منسوبا إلى المكره فكان المكره هو
الذي فعل بنفسه إلا أنه سقط عنه القود استحسانا لاشتباه المستوفى فيجب عليه ضمان قيمته
لمولاه وإن كان إنما أكره المشترى على الشراء والقبض بوعيد تلف وأكرهه على القتل
أو العتق أو التدبير بالحبس فلا ضمان على المكره لان البائع بعد قبض المشترى كان متمكنا
من استرداد العين وإنما تعذر ذلك عليه بالقتل أو العتق أو التدبير وذلك مقصور على
117

المشترى غير منسوب إلى المكره لأنه كان مكرها على ذلك بالحبس فلهذا لا ضمان على المكره
ويضمن المشترى قيمة العبد لان اقدامه على هذه التصرفات بمنزلة الرضا منه أن لو كان طائعا
ولكن الاكراه يمنع تمام الرضا فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع ولو كان البائع غير مكره
ولكنه طلب الذي أكرهه أن يكره المشترى بوعيد تلف على أن يشترى عبده بألفين وقيمته
الف ويقبضه ففعل ذلك ثم أكرهه على أن يقتله عمدا أو يعتقه بوعيد تلف فلا ضمان على
المشترى في ذلك لأنه ملجأ إلى جميع ما كان منه فكان هو بمنزلة الآلة فيه وعلى المكره قيمة
العبد للبائع لأنه إنما طلب المكره الاكراه على الشراء والقبض وقد كان متمكنا من
الاسترداد لانعدام الرضا من المشترى فإنما تعذر ذلك عليه بالقتل وقد كان المشترى فيه
آلة للمكره فكأنه هو الذي قتله بنفسه فلهذا كان ضامنا قيمته للبائع ولو كان أكرهه بقتل
حتى دبر العبد فالبائع بالخيار ان شاء ضمن المكره قيمته غير مدبر لأنه إنما تعذر استرداده
بالتدبير ثم يرجع المكره بقيمته مدبرا على المشترى لأنه احتبس في ملك المشتري وهو مدبر
فلا بد من ايجاب ضمان القيمة عليه (ألا ترى) انها لو كانت جارية استخدمها واستكتبها
ووطئها فكيف يسلم له ذلك مجانا وان شاء ضمن المشترى قيمته مدبرا لهذا المعنى أيضا
وضمن الذي أكرهه نقصان التدبير لان ذلك الجزء قد تلف بالتدبير وقد كان المشترى ملجأ
إلى التدبير من جهة المكره ولم يوجد من البائع الرضا بذلك ولو كان أكره المشترى على
الشراء والقبض بالحبس والمسألة بحالها لم يكن للبائع على المكره شئ وكان له أن يضمن
المشترى قيمة عبده لان الفعل في الشراء والقبض كان مقصورا عليه وإذا تقرر عليه ضمان
قيمته تبين أن المكره أكرهه على أن يقتل عبده بالاكراه بالقتل فله ان يقبض منه وان أكرهه
على العتق ضمنه قيمته وإن كان أكرهه على التدبير ضمنه نقصان التدبير في الحال فإذا مات
المشترى والعبد يخرج من ثلثه ضمنه ورثة المشترى قيمته مدبرا لان تلف الباقي بعد موته حصل
بذلك التدبير وقد كان ملجأ إليه من جهة المكره ولو كان أكرهه في ذلك كله بالحبس والمسألة بحالها
لم يكن للبائع مع المكره ضمان لان ما تلف به العبد لم يصر منسوبا إليه بالاكراه بالحبس ولكنه
يضمن المشترى قيمة عبده لان فعله فيما يحصل به تلف العبد مقصور عليه ولو كان أكرهه
بوعيد تلف على أن يقبل من فلان أن يعتق عبده عنه بألف درهم وقيمته ألفان أو خمسمائة
بطلب من رب المال فقبله منه فالعتق جائز عن المعتق عنه لان فعله في القبول مقصور عليه ولا
118

ضمان عليه ولا على المكره اما على القابل فلانه ملجأ إلى هذا القبول بوعيد تلف وذلك يمنع نسبة
التلف إليه في حكم الضمان واما على المكره فلان رب العبد هو الذي طلب منه ما حصل به
تلف العبد فلا يكون له أن يضمن المكره شيئا (ألا ترى) أنه لو شاء اللص ان يكره هذا
الرجل بوعيد تلف على أن يشترى منه هذا العبد بألف درهم ويقبضه ففعل ذلك فمات في
يده لم يضمن المكره ولا المشترى للمولى شيئا وكذلك أن سأل مع ذلك أن يكرهه على عتقه
بوعيد تلف ففعل بخلاف ما إذا كان أكرهه على العتق بغير سؤال من البائع لان هناك لم
يوجد منه الرضا بتلف العبد وهنا قد تحقق منه الرضا بذلك ولو أكرهه المولى بالحبس على
البيع والدفع واكره الآخر يومئذ بوعيد تلف على الشراء والقبض ففعلا ذلك ثم أكره المولى
بالحبس على أن يأمر المشترى بالعتق وأكره المشترى على أن يعتق بوعيد تلف ففعلا كان العبد
حرا وكان ضمان القيمة على المكره لان أمر البائع إياه بالعتق وهو مكره بالحبس أمر باطل
فان المشترى كان متمكنا من العتق باعتبار ملكه وإنما تأثير أمر البائع في رضاه به ليسقط
حقه في الضمان بهذا السبب وبالإكراه بالحبس ينعدم الرضا (ألا ترى) أنه لو أكره رجل
بالحبس حتى يأذن للمكره في قتل عبده فأذن له في ذلك فقتله كان على المكره القيمة لان اذنه
مع الاكراه بالحبس باطل فهذا كذلك وإذا ثبت بطلان أمره بقي اكراهه المشترى على العتق
بالقتل وذلك يوجب نسبة الاتلاف إلى المكره والله أعلم بالصواب
(باب الاكراه على الوديعة وغيرها)
(قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بالحبس على أن يودع ماله هذ الرجل فأودعه فهلك
عند المستودع وهو غير مكره لم يضمن المستودع ولا المكره شيئا أما المكره فلان التهديد
بالحبس لا يجعل الدفع من صاحب المال منسوبا إليه وأما المستودع فلانه قبض المال بتسليم
صاحبه إليه ليرده عليه وذلك غير موجب للضمان وهذا لان فعل التسليم مقصور على المالك
فإنه لم يكن ملجأ إليه وإنما هو غير راض به فهو كمن أودع ماله غيره عند خوفه من اللصوص
أو عند وقوع الحريق في دراه وهناك لا يضمن المودع إذا هلك في يده بغير صنعة وإن كان
أكرهه بوعيد تلف فلرب المال أن يضمن المستودع وان شاء المكره لان فعله في التسليم
صار منسوبا إلى المكره للالجاء فكان المكره هو الذي باشر الدفع فيكون كل واحد
119

منهما جانيا في حق صاحب المال وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشئ لان المكره ان
ضمن فإنما يضمن بكون الدفع منسوبا إليه ولو كان هو الذي دفعه إليه وديعة لم يرجع على
المودع بشئ وان شاء ضمن المودع فلانه كان في القبض طائعا وبه صار ضامنا وهو لم يكن
في هذا القبض عاملا للاكراه لأنه لم يقبض ليسلمه إلى المكره ولو أكره بتلف أو حبس
على أن يأمر رجلا بقبض المال فأمر بقبضه والمأمور غير مكره فضاع في يده فالقابض ضامن
للمال لان الامر قول منه والاكراه بالحبس يبطل قوله في مثله (ألا ترى) أنه يبطل شراؤه
وبيعه فكان كالقابض بغير أمره بخلاف الأول فهناك صاحب المال هو الدافع والاكراه
بالحبس لا يعدم فعله في الدفع (ألا ترى) أنه لو أكرهه بالحبس على أن يطرح ماله في ماء أو
نار ففعل لم يضمن المكره شيئا ولو أكرهه بالحبس على أن يأمر انسانا بان يطرح ماله في
ماء أو نار فأمره بذلك ففعله المأمور كان المكره ضامنا ولا شئ على المكره إلا أن يكون
الطارح مكرها من جهته بوعيد تلف فحينئذ يكون الضمان على المكره وكذلك لو أكرهه
بالحبس على أن يأذن له في أن يأخذ ماله فيهبه أو يأكله أو يستهلكه ففعل ذلك كان المستهلك
ضامنا لان أمره بالتهديد بالحبس لغو فكأنه فعله بغير أمره ولو أكرهه بوعيد تلف على أن
يأذن له في أن يقتل عبده عمدا فأذن له في ذلك فقتله كان للمولى أن يقتله به لأنه لا معتبر
باذنه بعد الاكراه التام ولو أكرهه على ذلك بالحبس كان كذلك في القياس لان الاذن كان
باطلا فان التهديد بالحبس يسقط اعتبار ما يحتمل الابطال من أقاويله والاذن إنما كان مؤثرا
باعتبار انه دليل الرضا ومع الاكراه بالحبس الاذن لا يكون دليل الرضا ولكنه استحسن في هذا
فقال لا يلزمه القود ولكنه ضامن له قيمة عبده لان الاكراه بالحبس يؤثر في ابطال بعض
الأقاويل دون البعض (ألا ترى) انه لا يؤثر في أبطال قوله في الطلاق والعتاق والعفو عن
القصاص ويؤثر في البيع والشراء فان اعتبرناه بما يؤثر فيه يجب القصاص على المكره وان اعتبرناه
بما لا يؤثر فيه لا يجب القصاص على المكره والقصاص مما يندرئ بالشبهات فلهذا سقط القود
* فان قيل هذا في الاكراه بوعيد التلف موجود * قلنا لا كذلك فالاكراه بوعيد التلف مؤثر
في جميع الأقاويل فيما يحصل بها من الاتلاف حتى يكون موجبا للضمان على المكره بخلاف
الاكراه بالحبس ثم الاذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء والعفو مع الاكراه بالحبس صحيح
على أن يكون مقصورا على العافي من كل وجه بخلاف الاكراه بالقتل فالعفو هناك صحيح
120

على أن يكون ما يتلف به مما هو متقوم منسوبا إلى المكره فكذلك الاذن في الابتداء مع
الاكراه بالحبس * قلنا يجعل معتبرا في اسقاط القود الذي يندرئ بالشبهات ولا يجعل معتبرا في
اسقاط الضمان الذي يثبت مع الشبهات وكذلك أن كان المأمور بالقتل غير المكره فان المعني في
الكل سواء ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يوكل ببيع أو شراء ففعل كان ذلك باطلا
لان التوكيل قول وإنما يعتبر ليتحقق به الرضا من الموكل بتصرف الوكيل على سبيل النيابة عنه
وذلك ينعدم إذا كان مكرها على التوكيل ثم الاكراه بالقتل والحبس يمنع صحة البيع والشراء
فكذلك يمنع صحة التوكيل بالبيع والشراء ولو أكرهه بالحبس على أن يوكل هذا بعتق عبده
فأعتقه الوكيل والوكيل غيره مكره كان العبد حرا عن مولاه ولم يضمن المكره شيئا لان الاكراه
بالحبس لا يجعل بالفعل منسوبا إلى المكره في معنى الاتلاف ولا يمنع صحة الاعتاق فكذلك
لا يمنع صحة التسليط على الاعتاق والتوكيل في الابتداء كالإجازة في الانتهاء ولو أن أجنبيا أعتق
عبد رجل بغير أمره فأكره بالحبس على أن يجيزه بعد العتق لم يضمن المكره شيئا فهذا مثله ولو
أكرهه على ذلك بوعيد تلف كان الضمان على المكره دون الذي ولى العتق أما نفوذ العتق فلان
الاكراه على التوكيل بالعتق بمنزلة الاكراه على الاعتاق وأما وجوب الضمان على المكره
فلان الاتلاف منسوب إليه بسبب الالجاء وحصول التلف بالأمر الصادر من المولى عند
اعتاق المأمور لا باعتاق المأمور (ألا ترى) أنه لو لم يسبق الامر كان اعتاقه لغوا وبه فارق
القتل والقطع فالاتلاف هناك يحصل بمباشرة المأمور دون الامر به (ألا ترى) أنه يتحقق
وإن لم يسبقه أمر فإذا كان المباشر طائعا كان الضمان عليه (ألا ترى) أن المشترى لو أمر
رجلا بان يقتل المبيع قبل القبض فقتله كان القاتل ضامنا قيمته للبائع حتى يحبسه بالثمن ولو
أمر رجلا فأعتقه كان العبد حرا ولا ضمان على المعتق والفرق بينهما بما أشرنا إليه أن الاعتاق
بدون أمر المشترى لغو فيكون اعتاق المأمور كاعتاق المشترى والقتل بدون أمر المشترى
يتحقق فيكون موجب الضمان على القاتل ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في عتقه
فأذن له فيه فأعتقه عتق والولاء للمولى ويضمن المكره قيمته لا باعتبار انه أعتقه بل باعتبار انه
ألجأه إلى الامر بالعتق حتى لو كان أكرهه على ذلك بحبس لم يضمن له شيئا فهذا يبين لك
ما سبق أن الاكراه على الامر بالعتق بمنزلة الاكراه على العتق في حكم الضمان وكل اكراه
بوعيد تلف على الامر لا يمكن رده بعد وقوعه نحو العتق والطلاق والقتل واستهلاك المال
121

فاكراهه فيه بمنزلة جنايته بيده لان المكره في حكم الاتلاف صار آلة للمكره وإن كان
أكرهه على ذلك بقيد أو بحبس لم يلزمه ضمانه وإنما الاكراه بالحبس بمنزلة الاكراه
بالقتل في البيع والشراء والاقرار بالأشياء كلها والوكالة بذلك والامر به لان صحة هذا كله
تعتمد الرضا ومع الاكراه بالحبس ينعدم الرضا ثم أوضح الفرق بين الفعل وبين الامر به عند
الاكراه بالحبس بفعل العبد المحجور عليه فإنه لو غصب مالا فدفعه إلى عبد آخر محجور
عليه فهلك عنده كان لصاحب المال أن يضمن الثاني ثم يرجع مولاه بما ضمن في رقبة الأول
ولو لم يدفعه ولكنه أمره أن يأخذه والمسألة بحالها لم يكن لمولى الآخر أن يضمن الأول
(ألا ترى) أن الحجر عليه أسقط اعتبار أمره ولم يسقط اعتبار دفعه فكذلك الاكراه
بالحبس يسقط اعتبار أمره ولا يسقط اعتبار دفعه والله أعلم بالصواب
(باب التلجئة)
(قال رحمه الله) رجل قال لرجل انى أريد أن ألجئ إليك عبدي هذا فأبيعكه تلجئة وباطلا
وليس بشراء واجب لشئ أخافه فقال نعم وحضر هذه المقالة شهود ثم قال له في مجلس آخر
قد بعتكه بألف درهم فقال قد فعلت ثم تصادقا على ما كان بينهما فالبيع باطل لان التلجئة بمنزلة
الهزل والهزل أن يراد بالكلام غير ما وضع له والهازل لا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به
ويكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب فالملجئ أيضا يكون مختارا للسبب لغير ما وضع
له السبب ولا يكون مختارا للحكم ولا راضيا به فلا يمتنع الهزل والتلجئة انعقاد السبب ولكن
لا يكون موجبا لحكمه لما لم ينعدم هذا الوصف وهو كالبيع بشرط الخيار لهما بدا يكون
منعقدا ولكن لا يكون موجبا لحكمه مع بقاء الخيار لهما إذا عرفنا هذا فنقول إن تصادقا
على أنهما بينا على تلك المواضعة فالبيع باطل لاتفاقهما على أنهما يعزلانه وان تصادقا انهما أعرضا
عن تلك المواضعة فالبيع لازم بينهما لأنهما تصادقا على أنهما قصدا الجد وهذا ناسخ لما كان
بينهما من المواضعة وإذا كان العقد بعد العقد يكون ناسخا للعقد فالعقد بعد المواضعة أولى
أن يكون ناسخا لها وان تصادقا انه لم يحضرهما نية عند العقد ففي ظاهر الجواب البيع باطل
وروي المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن البيع صحيح وجه تلك الرواية أن مطلق فعل
العاقل المسلم محمول على الصحة وما يحل شرعا وعند الاطلاق يجب حمل كلامهما إليه فلا يجوز
122

إلغاء كلامهما مع امكان تصحيحه ووجه ظاهر الرواية انهما ما تواضعا الا ليبنيا على تلك
المواضعة فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يظهر منهما خلافه وهذا
لأنه إذا لم يجعل بناء كان استعمالها بتلك المواضعة استعمالا بما لا يفيد والحاصل أن في ظاهر
الرواية تعارض الأمران في الاطلاق فيرجح السابق منهما وهو المواضعة وفى الرواية
الأخرى جعل الثاني ناسخا للأول واما إذا اختلفا فقال أحدهما بنينا على تلك المواضعة وقال
الآخر أعرضنا عنها فعلى قول أبي حنيفة القول قول من يدعى صحة العقد وعند أبي يوسف
ومحمد القول قول من يدعي البناء على تلك المواضعة لان عند الخصومة القول قول من
يشهد له الظاهر وإنما يشهد الظاهر لمن يدعي البناء على المواضعة * يوضحه انا نجعل في حق كل
واحد منهما كأنه قصد ما أخبر به ولكن باعراض أحدهما عن المواضعة لا يصح العقد فيما بينهما
كما لو بنيا عل المواضعة ثم أجاز العقد أحدهما وأبو حنيفة يقول عند الاختلاف يجب الرجوع
إلى الأصل والأصل أن مطلق العقد يقتضى اللزوم فدعوى البناء من أحدهما على المواضعة
كدعواه شرط الخيار * يوضحه ان تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما فينفرد كل واحد منهما
بابطالها بطريق الاعراض عنها وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ثم اختلافهما في بناء العقد
على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة ولو أدعى أحدهما المواضعة السابقة وجحد
الآخر كان القول قول المنكر وكان البيع صحيحا بينهما حتى تقوم البينة للآخر على هذا
القول منهما فكذلك إذا اختلفا في البناء عليها وان تصادقا على البناء على المواضعة ثم قال
أحدهما قد أجزت البيع لم يجز على صاحبه لان ذلك بمنزلة اشتراط الخيار منهما فالمجيز يكون
مسقطا لخياره ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد فان قال صاحبه قد أجزت
أنا أيضا فالبيع جائز لأنهما أسقطا خيارهما ولان البيع كان هزلا منهما ولم يكن مفيدا حكمه
لانعدام الاختيار منهما للحكم وقد اختارا ذلك وإن لم يجيزاه حتى قبض المشترى فأعتقه
كان عتقه باطلا بمنزلة ما لو كان شرطا الخيار لهما وهذا لان الحكم وهو الملك غير ثابت
لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل فتوقف الحكم على اختيارهما له وقبل الاختيار
لا ملك للمشتري فلا ينفذ عتقه بخلاف المشتري من فالمكره المكره مختار للحكم ولكنه غير
راض به لان الحكم للجد من الكلام وإنما أكره على الجد فأجاب إلى ذلك فلهذا ينفذ
عتقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيعه تلجئة فباعه لم يجز عتق المشترى فيه أيضا ولو قال
123

رجل لامرأة أتزوجك تزوجا هزلا فقالت نعم ووافقهم على ذلك الولي ثم تزوجها كان
النكاح جائزا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاثة جدهن
جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق ولان النكاح لا تمتنع صحته بعد اختيار السبب
لعدم اختيار الحكم كما لو شرط الخيار فيه كان النكاح صحيحا وبهذا الفصل يتبين أن بيع الهازل
منعقد تلحقه الإجازة منهما لان بالهزل لو كان ينعدم اختيار أصل السبب لما صح النكاح
والطلاق والعتاق من الهازل وأصل السبب لا بد من اعتباره في هذه الأشياء وكذلك لو
طلق امرأته على مال على وجه الهزل أو أعتق جاريته على مال على وجه الهزل وقد تواضعا
قبل ذلك أنه هزل وقع الطلاق والعتاق ووجب المال وهذا عندنا قول أبى يوسف ومحمد أما
عند أبي حنيفة رحمه الله فيتوقف وقوع الطلاق والعتاق على وجود الإجازة من المرأة والعبد لما بينا
أن الهزل بمنزلة شرط الخيار وعند أبي حنيفة شرط الخيار في جانب المرأة والعبد يمنع وقوع
الطلاق والعتاق ووجوب المال قبل اسقاط الخيار لان الذي في جانبهما مال فيعتبر بالعقد الذي
هو مبادلة مال بمال وعندهما شرط الخيار لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق إذ هو المقصود بالعقد
فأما المال فتبع فيه وثبوت التبع بثبوت الأصل فكذلك الهزل والإجارة والقسمة والكتابة
بمنزلة البيع في حكم التلجئة لأن هذه العقود محتملة للنقض بعد وقوعها كالبيع ولو تواضعا
على أن يجيزا أنهما تبايعا هذ العبد أمس بألف درهم ولم يكن بينهما بيع في الحقيقة ثم قال
البائع للمشتري قد كنت بعتك عبدي يوم كذا بكذا وقال الآخر صدقت فليس هذا ببيع
لان الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب والمخبر عنه إذا كان باطلا فبالاخبار به
لا يصير حقا ولو أجمعا على اجازته بعد ذلك لم يكن بيعا لان الإجازة إنما تلحق العقد المنعقد
وبالإقرار كاذبا لا ينعقد العقد فلا تلحقه بالإجازة (الا ترى) أنهما لو صنعا مثل ذلك في
طلاق أو عتاق أو نكاح لم يكن ذلك طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا وكذلك لو أقر بشئ من
ذلك من غير تقدم المواضعة لم يكن طلاقا ولا عتاقا ولا نكاحا فيما بينه وبين ربه وإن كان
القاضي لا يصدقه في الطلاق والعتاق على أنه كذب إذا أقر طائعا وقد بينا الفرق بين الاقرار
والانشاء في هذه التصرفات مع الاكراه فكذلك مع التلجئة ولو كان قبض العبد الذي
قال فيه ما قال فأعتقه ثم قامت البينة على ما كانا قالا في السر من المواضعة على الاقرار بطل
العتق ورد العبد على مولاه لأنه ثبت ان اقرارهما كان كذبا وان اعتاقه حصل في غير ملكه
124

فكان لغوا ولو أن رجلا قال لامرأة ووليها أو قال لوليها دونها انى أريد أن أتزوج فلانة
على ألف درهم وتسمى ألفين والمهر ألف فقال الولي نعم افعل فتزوجها على ألفين علانية
كان النكاح جائزا والصداق ألف درهم إذا تصادقا على ما قالا في السر أو قامت به البينة
لأنهما قصدا الهزل بذكر أحد الألفين والمال مع الهزل لا يجب وصار ذكر أحد الألفين
على وجه الهزل بمنزلة شرط فاسد والشرط الفاسد في النكاح لا يؤثر في أصل العقد ولا في
الصداق وكذلك الطلاق على المال والعتاق عليه قال في الكتاب وكذلك البيع وهذا الجواب
في البيع قول أبى يوسف ومحمد وهو احدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله وأما في رواية
أبى يوسف عن أبي حنيفة فالبيع فاسد إذا تصادقا على أيهما شاء على تلك المواضعة لان
الألف التي قصد الهزل بها يكون ذكرها شرطا فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد بخلاف
النكاح وفى الرواية الأخرى ما قصد الهزل به فذكره والسكوت عنه سواء والبيع صحيح
بدون ذكره وان تصادقا على الاعراض عن تلك المواضعة كان البيع بينهما بألفين وان تصادقا
على أنه لم يحضرهما نية فعند أبي حنيفة في احدى الروايتين البيع بينهما بألفين لما ذكرنا في
المواضعة على أصل البيع وهذا لان تصحيح العقد غير ممكن الا بجميع المسمى فيه وعند
الاطلاق يجب المضي إلى تصحيح العقد وعندهما البيع منهما بألف وهو احدى الروايتين عن
أبي حنيفة وان اختلفا في البناء فعند أبي حنيفة البيع بينهما بألفين وعندهما على قياس المواضعة في
أصل البيع ولو قال المهر مائة دينار ولكنا نسمع بعشرة آلاف درهم وأشهدوا عليه ثم تزوجها
في الظاهر على عشرة آلاف درهم كان النكاح جائزا بمهر مثلها كأنه تزوجها على غير مهر لأنهما
قصدا الهزل بما سمياه في العقد ومع الهزل لا يجب المال وما تواضعا على أن يكون صداقا
بينهما ثم يذكرانه في العقد والمسمى لا يثبت بدون التسمية فإذا لم يثبت واحد منهما صار
كأنه تزوجها على غير مهر فيكون لها مهر مثلها بخلاف الأول فهناك قد سميا في العقد ما تواضعا
على أن يكون مهرا وزيادة لان في تسمية الألفين تسمية الألف وكذلك لو قالا في السر على أن
يكون النكاح على مائة دينار وتزوجها في العلانية ولم يسم لها مهرا فلها مهر المثل لما قلنا وان
قالا عند العقد عقدنا على ما تراضينا به من المهر فالنكاح جائز على مائة دينار لأن هذه الإضافة
بمنزلة التسمية منهما لما تواضعا عليه من الدنانير وأكثر ما فيه أن الشهود لم يسمعوا ما سميا
من مقدار المهر ولكن سماع الشهود التسمية ليس بشرط لصحتها ولو كان هذا في البيع فقالوا
125

البيع على مائة دينار إلا أنا نظهر بيعا بخمسة آلاف درهم فالبيع جائز بخمسة آلاف درهم
وما تواضعا عليه باطل وهذا استحسان وفى القياس البيع باطل لأنهما قصدا الهزل بما سميا
ولم يذكرا في العقد ما تواضعا على أن يكون ثمنا بينهما فبقي البيع بينهما بغير ثمن ووجه الاستحسان
أن البيع لا يصح الا بتسمية البدل وهما قصدا الجد في أصل البيع هنا فلا بد من تصحيحه
ولا وجه لذلك إلا أن يعقد بالمسمى فيه من البدل بخلاف النكاح فهناك اعمال الهزل في
المسمى مع تصحيح أصل العقد ممكن لان النكاح لا تتوقف صحته على تسمية البدل * يوضح
الفرق أن المعاقدة بعد المعاقدة في البيع يكون مبطلا الأول بالثاني فإنهما لو تبايعا بمائة دينار
ثم تبايعا بخمسة آلاف درهم كان البيع الثاني مبطلا للأول فكذلك يجوز أن يكون البيع بعد
المواضعة بخلاف جنس ما تواضعا عليه فيكون مبطلا للمواضعة واما في النكاح فالعقد بعد العقد
لا يكون مبطلا فإنه لو تزوجها بمائة دينار ثم حدد العقد بعشرة آلاف درهم لم يصح الثاني
فكذلك تسمية الدراهم في العقد بعد ما تواضعا على أن يكون الصداق دنانير يمنع وجوب
الدراهم فيكون لها مهر مثلها وكل ما يحتمل النقض لا يصح الا بتسمية البدل كالقسمة والإجارة
والكتابة في ذلك قياس البيع وكذلك هذا في الخلع والطلاق والعتاق بجعل لان البدل في
هذه العقود لا يجب بدون التسمية فلو أعملنا الهزل في المسمى لوقع الطلاق والعتاق بغير جعل
ولم يوجد منهما الرضا بذلك فلهذا صححنا ذلك بالمسمى فيه بخلاف النكاح فهناك وان جعلنا
ما سميا في العقد هزلا انعقد النكاح بينهما مواضعة بمهر المثل فلهذا اعتبرنا الموضعة في المنع
من وجوب المسمى في العقد يوضحه ان في الطلاق بجعل لا بد من وقوع أصل الطلاق لقصدهما
الجد فيه فلو لم يجب ما سمينا من البدل فيه كان الطلاق رجعيا ولا وجه لذلك مع وجود تسمية
البدل فلهذا أوجبنا المال عليها وجعلنا الطلاق ثابتا ولو كانوا عقدوا البيع أو الطلاق أو العتاق
أو النكاح أو الإجارة على ما كانوا تواضعوا عليه في السر ثم أظهروا شيئا غير ذلك وادعى
أحدهم السر وأقام عليه البينة وادعي الآخر العلانية وأقام عليها البينة أخذ بالعلانية وأبطل
السر لان نية العلانية دافعة لدعوى مدعى السر فإنها تثبت اقدامه في العلانية على
ما شهدت به وذلك يمنع منه دعوى شئ آخر بخلافه في السر أو يجعل هذا الثاني ناسخا للأول
عند المعارضة لان البينة لا توجب شيئا بدون القضاء إلا أن يشهد الشهود انهم قالوا في السر
إنا نشهد بذلك في العلانية بسمعه فان شهدوا بذلك على الولي الذي زوج أو على المرأة أو على
126

الذي ولى ما ادعى من العلانية أخذت بينة أصحاب السر وأبطلت العلانية لان الثابت بالبينة
كالثابت بالعلانية أو باتفاق الخصوم وبهذه البينة ثبت أن الاشهاد في العلانية كان تحقيقا لما
كان بينهما في السر لا فسخا لذلك بخلاف الأول وذكر عن الشعبي رحمه الله قال إذا كان مهر
سر ومهر علانية أخذنا بالعلانية إلا أن تقوم بينة أنه أعلم ذلك وان المهر هو الذي في السر
وبهذا نأخذ ولو قال في السر إنا نريد أن نظهر بيعا علانية وهو بيع تلجئة وباطل ثم إن
أحدهما قال علانية وصاحبه حاضر إنا قد قلنا كذا وكذا في السر وقد بدا لي أن أجعله بيعا
صحيحا وصاحبه يسمع ذلك ولم يقل شيئا ثم تبايعا فالبيع جائز لان تلك المواضعة لم تكن لازمة
بينهما وينفرد أحدهما بابطالها ثم اقدام الآخر على العقد بعد ما سمع منه ابطال تلك المواضعة
يكون رضا منه بصحة البيع فإنما تم البيع بينهما بتراضيهما ولو لم يكن سمع ذلك من صاحبه ولم
يبلغه كان البيع فاسدا لانعدام الرضا من الآخر بصحة البيع ولزومه حين لم يعلم بمناقضة صاحب
المواضعة فان قبضه المشترى على ذلك وأعتقه فإن كان الذي قال ذلك القول البائع فالبيع جائز
لان البائع صار راضيا بلزوم العقد حين أبطل المواضعة والمشتري صار راضيا بذلك حين أعتقه
فيتم البيع وعلى المشترى الثمن وهو بمنزلة ما لو شرطا الخيار ثم أسقط البائع خياره وأعتق
المشترى العبد وإن كان المشترى قاله لم يجز العتق لان البائع لما لم يظهر منه ما يدل على الرضا
بالعقد كان خياره باقيا وبقاء الخيار للبائع يمنع نفوذ عتق المشترى فان أجاز البائع البيع جاز البيع
ولا يجوز العتق الذي كان قبل ذلك من المشترى لأنه سبق ملكه فلا ينفذ وان حدث له الملك
من بعد وان بلغ الذي لم يقل مقالة صاحبه بعد أن تبايعا فرضى بالبيع فالبيع جائز لان صاحبه
بنقض المواضعة صار راضيا والآخر بالرضا بعد ما بلغه مقالة صاحبه صار راضيا أيضا وإن لم
يرض حتى نقض صاحبه البيع فإن كانا لم يتقابضا فنقضه جائز وهو نظير ما تقدم في البيع الفاسد
قبل القبض لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ وبعد القبض للذي المفسد من قبله أن ينفرد
بالفسخ وليس للآخر ذلك فهذا قياسه وإن كان المشترى قد قبض فإن كان البائع هو الذي قال
ذلك القول فليس له أن ينقض والامر إلى المشترى لان رضا البائع قد تم وإنما بقي المفسد في
جانب المشترى لما بينا أن المواضعة بمنزلة شرط الخيار أبدا وإن كان المشترى هو الذي قال
ذلك القول فالامر إلى البائع ان شاء نقض وان شاء سلم المبيع وليس إلى المشترى من النقض
شئ لان الرضا قد تم منه فإن كان البائع والمشترى قالا في السر نريد أن نظهر بيعا هزلا وباطلا
127

ونظهر أنه غير هزل ولا باطل ونظهر مع ذلك أنا ان كنا جعلنا في السر هزلا فقد أبطلنا ذلك
وجعلناه جدا جائزا وأشهدا على أنفسهما بذلك ثم قال علانية قد أبطلنا كل هزل في هذا
البيع ونحن نجعله بيعا صحيحا فتبايعا على هذا وادعى أحدهما جواز البيع بينهما فالبيع جائز
باعتبار الظاهر فإنه شاهد لمن يدعي جوازه إلا أن يقيم الآخر البينة على ما كانا قالا في السر
من ذلك فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وما كان منهما في العلانية من ابطال كل هزل
تحقيق لما كانا تواضعا عليه في السر لا ابطال له فلهذا كان البيع بينهما باطلا وان كانا قالا في
العلانية انا قلنا في السر نريد أن نتبايع في العلانية بيعا باطلا هزلا وقد أبطلنا ذلك فقال
صاحبه صدقت ثم تبايعا فالبيع باطل إذا قامت البينة على ما كانا قالا في السر لما بينا أن هذا
الابطال تحقيق منهما للمضي على تلك المواضعة فلا يتغير به الحكم إلا أن يقول أحدهما بمحضر
من صاحبه وهو يسمع انا كنا قلنا في السر انا نتبايع بيعا هزلا وقلنا في السر أيضا انا نظهر
في العلانية أنا قد أبطلنا كل قول قلناه في السر من هذا وانا قد أبطلنا جميع ما قلنا في السر من
هذا وانا بعنا بيعا صحيحا فإذا قالا هذا أو قال أحدهما والآخر يسمع فالبيع جائز لا يقدر أحدهما
على أن يبطله لأنهما وضعا جميع ما كانا قالا في السر ثم أبطلا جميع ذلك وهذا النوع من
الابطال ليس يمضي على موافقة ما تواضعا عليه بل هو ابطال لذلك وتلك المواضعة ما كانت
لازمة فتبطل بابطالهما فاما إذا وضعا ابطال ما قالا في البيع خاصة وأبطلا ذلك فهذا مضى
منهما على موافقة ما تواضعا عليه وذلك مبطل للبيع لا مصحح له والله أعلم
(باب العهدة في الاكراه)
(قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف أو سجن على أن يبيع متاع اللص
من هذا الرجل بألف درهم فباعه والمشترى غير مكره فالبيع جائز لان البيع مع الاكراه
منعقد والمالك راض بنفوذه والمشترى راض به أيضا والثمن للص على المشترى ولا عهدة على
البائع لأنه غير راض بالتزام العهدة حين كان مكرها على ذلك وعهدة البيع لا تلزمه بغير رضاه
فإذا تعذر ايجاب العهدة على العاقد كانت العهدة على المنتفع بالعقد وهو المالك كما لو أمر عبدا
محجورا عليه أو صبيا ببيع متاعه فباعه كانت العهدة على الآمر فإذا طلب البائع الثمن من
المشتري بعد ذلك بغير أكراه فله أن يقبضه وعلى المشترى دفعه إليه وتكون عهدته عليه
128

لان امتناع وجوب العهدة عليه لعدم الرضا منه بذلك فإذا وجد منه ما يدل على الرضا فقد
زال المانع بمنزلة ما لو كان الوكيل بالبيع عبدا محجورا عليه فأعتق كان له أن يقبض الثمن
والعهدة عليه لزوال المانع ولو كان أكره رجلا على أن يشترى له متاعا بألف درهم من رجل
فاشتراه كان الثمن على المكره الراضي بذلك كما لو وكل صبيا أو عبدا محجورا عليه بالشراء
له فان طلب المشترى المتاع من البائع فقبضه بغير اكراه فله ذلك وعليه الثمن ويرجع به على
الآمر لوجود دليل الرضا منه بالتزام العهدة حين طالبه بتسليم المبيع طائعا فان بدا له أن
يأخذه بعد ذلك فقد وجب عليه الثمن حين طلبه بغير اكراه لان دليل الرضا كصريح
الرضا وبعد ما لزمته العهدة برضاه لا يكون له أن يأبى كما لو كان راضيا به في الابتداء ولو أن
رجلا باع عبدا من رجل فلم يقبض الثمن حتى أكرهه لص على دفعه إلى المشترى بوعيد تلف
أو سجن فدفعه كان له أن يرتجعه حتى يأخذ الثمن لان الاكراه يعدم الرضا منه بالقبض
فكان المشترى قبضه بغير رضاه ولان اسقاط حقه في الحبس بمنزلة الابراء عن الثمن فكما أن
الاكراه يمنع صحة الابراء عن الثمن فكذلك يمنع سقوط حقه في الحبس وكذلك لو كان
المشترى باعه أو وهبه كان للبائع أن ينقضه ويرتجع العبد بمنزلة ما لو قبضه بغير تسليم منه
وتصرف فيه وهذا لان البيع والهبة يحتملان النقض فينتقض لقيام حق البائع في الحبس وكذلك
لو أكره المرتهن على أن يرد الرهن إلى الراهن ويناقضه الرهن ففعل ذلك وباعه الراهن
أو وهبه وسلمه كان للمرتهن أن ينقض جميع ذلك لأنه مكره على اسقاط حقه في حبس
الرهن ومع الاكراه لا يسقط حقه في الحبس فكان له أن يعيده كما كان وان يبطل تصرف
الراهن فيه كما لو تصرف قبل استرداده من المرتهن والله أعلم
(باب ما يخطر على بال المكره من غير ما أكره عليه)
(قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل على الكفر بالله تعالى فقال قد كفرت بالله وقلبه
مطمئن بالايمان لم تبن منه امرأته استحسانا وقد بينا ثم المسألة على ثلاثة أوجه أحدها أن يقول
قد خطر على بالي أن أقول لهم قد كفرت بالله أريد به الخبر عما مضى فقلت ذلك أريد به
الخبر والكذب ولم أكن فعلت ذلك فيما مضى وهذا مخرج له صحيح فيما بينه وبين ربه
ولا يسعه الا ذلك إذا خطر بباله لان الانشاء جناية صورة من حيث تبديل الصدق باللسان
129

وإن لم يكن جناية معنى لطمأنينة القلب بالايمان والاخبار لا يكون جناية صورة ولا معني
فعليه أن ينوى ذلك إذا خطر بباله ولكن لا يظهره للناس فان أظهر هذا المراد للناس بانت
منه امرأته في الحكم وإن لم تبن فيما بينه وبين الله تعالى لأنه أقر أنه أتى بغير ما أكره عليه
فقد أكره على الانشاء وإنما أتى بالاقرار فكان طائعا في هذا الاقرار ومن أقر بالكفر
طائعا بانت منه امرأته في الحكم وفيما بينه وبين ربه لا تبين منه والثاني أن يقول خطر على
بالي ذلك تم قلت قد كفرت بالله أريد به ما طلب منى المكره ولم أرد به الخبر عن الماضي
فهذا كافر تبين منه امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه بعد ما خطر هذا بباله قد
يمكن من الخروج عما ابتلى به بان ينوى غير ذلك والضرورة تنعدم بهذا التمكن فإذا لم يفعل
وأنشأ الكفر كان بمنزلة من أجرى كلمة الشرك طائعا على قصد الاستحقاق أولا على
قصده ولكن مع علمه أنه كفر وفى هذا تبين منه امرأته في القضاء وفيما بنيه وبين الله
تعالى فينبغي أن يتوب عن ذلك والثالث أن يقول لم يخطر ببالي شئ ولكني كفرت بالله
كفرا مستقبلا وقلبي مطمئن بالايمان فلا تبين منه امرأته استحسانا لأنه لما لم يخطر بباله سوى
ما أكره عليه كانت الضرورة متحققة ومتى تحققت الضرورة يرخص له اجراء كلمة الشرك مع
طمأنينة القلب بالايمان وكذلك لو أكره على أن يصلى لهذا الصليب ومعناه يسجد لهذا
الصليب فإن لم يخطر بباله شئ لم تبن امرأته منه وان خطر بباله أن يصلى لله وهو مستقبل
القبلة أو غير مستقبل القبلة ينبغي أن يقصد ذلك لان الصلاة غير مستقبل القبلة تجوز
عند الضرورة والاعمال بالنيات فان ترك هذا بعد ما خطر بباله فصلى يريد الصلاة للصليب
كما أكره عليه كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته لأنه بعد ما خطر بباله قد وجد المخرج عما
ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا وهذه المسألة تدل على أن السجود لغير الله تعالى على وجه
التعظيم كفر وكذلك لو أكره على شتم محمد عليه الصلاة والسلام فان أجابهم إلى ذلك ولم يخطر
بباله شئ لم تبن منه امرأته وان خطر على باله رجل من النصارى يقال له محمد فان شتم محمدا
ويريد به ذلك الرجل فلا تبين منه امرأته وقد أظرف في هذه العبارة حيث لم يقل خطر
بباله رجل من المسلمين يقال له محمد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال رجل من
النصارى لان الشتم في حق النصارى أهون منه في حق المسلمين فان ترك ما خطر بباله
وشتم محمدا صلى الله عليه وسلم وقلبه كاره لذلك كان كافرا وتبين منه امرأته لأنه بعد ما خطر
130

بباله قد وجد مخرجا عما ابتلى به فإذا لم يفعل كان كافرا فان شتم النبي صلى الله عليه وسلم في غير
موضع الضرورة كفر وكراهته بقلبه لا تنفع شيئا ولو أكره بوعيد تلف على أن يعتق
عبده فخطر على باله أن يقول هو حر يريد الخبر والكذب وسعه أن يمسكه فيما بينه وبين
الله تعالى لما بينا أن المخبر به إذا كان باطلا فبالاخبار لا يصير حقا ولكن إذا ظهر ذلك للقاضي
أعتقه عليه لإقراره به أي بغير ما أكره عليه فإنه أكره على انشاء العتق والاقرار غير
الانشاء ومن أقر بحرية مملوكه طائعا يعتق عليه في القضاء ولا يضمن المكره له شيئا لأنه
حين أقر أنه بغير ما أكره عليه فقد صار مغريا المكره على الضمان (ألا ترى) أنه لو
بين لهم ذلك وقال كيف تكرهونني على العتق وهو حر الأصل أو قد أعتقه أمس أعتقه
القاضي ولم يضمن له المكره شيئا ولو قال خطر ذلك على بالي فقلت هو حر أريد به عتقا مستقبلا
كان حرا في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وضمن الذي أكرهه قيمته لان الذي
خطر على باله لو فعله عتق به في القضاء أيضا فاتلاف المالية بفعل المكره في القضاء متحقق
وسواء قصد ما خطر بباله أو لم يقصد كان الاتلاف في القضاء مضافا إلى المكره فعليه قيمته
ثم قد أنشأ عتقا مستقبلا وذلك يجعل المملوك حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى
سواء كان مكرها أو لم يكن مكرها (ألا ترى) انه لو لم يخطر بباله شئ ولكن أتى بما أكره
عليه كان حرا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ويضمن المكره قيمته فكذلك ما سبق
فان قال المكره قد خطر على باله الخبر بالكذب فقال هو حر يريد به الخبر الكذب فأنا
أريد يمينه على ذلك كان له أن يستحلف عليه لأنه أدعى ما لو أقر به كان مكرها إياه ولا يكون
له أن يضمن المكره بعده فإذا أنكره كان له أن يستحلف لرجاء نكوله وكذلك لو أكره على
طلاق امرأته ولم يدخل بها فقال هي طالق ثم قال بعد ذلك أردت الخبر بالكذب أو انها طالق
عن وثاق أو قيد وسعه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فهي بائن منه ولا ضمان
على المكره لإقراره أنه أتى بغير ما أكره عليه وإن كان طائعا فيما قاله بناء على قصده وإن كان
قال قد كان خطر ببالي أن أقول هي طالق أريد الخبر أو انها طالق من وثاق أو قيد فلم أقل
ذلك وقلت هي طالق أريد طلاقا مستقبلا كانت طالقا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ولها على
الزوج نصف المهر ويرجع على الذي أكرهه لان الاتلاف مضاف إلى المكره في القضاء سواء
قصد ما خطر بباله أو لم يقصد فهو وما لم يخطر بباله شئ في الحكم سواء وان قال المكره إنما
131

قال ذلك يريد الخبر بالكذب أو طلاق من قيد فطلب يمينه على ذلك استحلف له عليه لرجاء
نكوله فإنه لو أقر بذلك يسقط حقه في تضمين المكره
(باب زيادة المكره على ما أمر به)
(قال رحمه الله) ولو أكره رجل رجلا بوعيد تلف على أن يطلق امرأته واحدة ولم يدخل بها
فقال هي طالق ثلاثا فلا ضمان على المكره لأنه أتى بغير ما أكره عليه اما من حيث الصورة
فلا اشكال وأما من حيث الحكم فلان زوال الملك بالثلاث لانتفاء صفة الحل عن المحل وأما
بواحده فتحصل إزالة الملك مع بقاء الحل في المحل وهما غيران فكان هو طائعا فيما أتى به ولان
ما زاد مما لم يكرهوه عليه يبينها لو لم يكن غيره لأنه زاد اثنتين وهما كافيتان في البينونة وتأكد
نصف الصداق بينهما قبل الدخول وكذلك لو طلقها اثنتين أو قيل له طلقها اثنتين وطلقها
ثلاثا ولو قال طلقها ثلاثا فطلقها واحدة رجع عليه بنصف الصداق الذي غرم لان ما أتى به
بعض ما أكره عليه فيكون مكرها على ذلك والتلف الحاصل به يصير منسوبا إلى المكره
(ألا ترى) أن المأمور بايقاع الثلاث إذا أوقع الواحدة تقع والمأمور بايقاع الواحدة إذا أوقع
الثلاث لم يقع شئ عند أبي حنيفة رحمه الله ولو أكره على أن يضرب هذا بهذه الحديدة
فيقطع يده ففعل المكره ذلك ثم ثنى فقطع رجله من غير اكراه فمات من ذلك كله فعليهما
القود لأنه في الفعل الأول صار آلة للمكره فكان المكره فعل ذلك بنفسه وهو في الفعل
الثاني طائع والقصاص يجب على المثنى بقتل الواحد ولو كان أكره على أن يضربه بعصا
ففعل ثم ضربه ضربة أخرى بعصا بغير اكراه أو أكرهه على أن يضربه مائة سوط فضربه
مائة وعشرة فمات من ذلك فعلى عاقلة الآمر نصف الدية في ثلاث سنين وعلى عاقلة الضارب
كذلك لأنه آلة في الفعل الذي أكره عليه فكان المكره فعل ذلك بنفسه ولو قتل رجلان
رجلا بالعصا والسوط يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف الدية في ثلاث سنين فإن كان
قطع يده بالسيف مكرها ثم ضربه بغير اكراه خمسين سوطا فمات فنصف الدية في مال الآمر
في ثلاث سنين لأنه آلة في الفعل الأول فكان المكره فعله بنفسه إلا أنه اجتمع في المحل
الفعل الموجب للقود وغير الموجب فسقط القود بالشبهة ويكون نصف الدية في مال الآمر
في ثلاث سنين لان فعله عمد محض ونصف الدية على عاقلة الضارب في ثلاث سنين لان
132

فعله الضرب بالسوط وهو بمنزلة الخطأ ولو كان أكرهه على ذلك بالحبس كان ذلك كله على
الفاعل لان الاكراه بالحبس لا يجعل المكره آلة ولا يوجب نسبة الفعل إلى المكره ولو أن
لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق نصف عبده فأعتقه كله فلا شئ على الذي أكرهه
في قياس قول أبي حنيفة لان العتق عنده يتجزأ وما أتى به غير ما أكره عليه فلا يصير الاتلاف
به منسوبا إلى المكره (ألا ترى) أن أصله لو أمر رجلا أن يعتق نصف عبده فأعتقه كله كان
باطلا وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله المكره ضامن لقيمة العبد لان عندهما العتق لا يتجزأ
فالاكراه على اعتاق النصف بمنزلة الاكراه على اعتاق الكل ولو أكرهه على أن يعتق كله
فأعتق نصفه فكذلك عندهما لان اعتاق النصف كاعتاق الكل فاما في قياس قول أبي حنيفة
رحمه الله فالعتق يتجزأ فيستسعى العبد في نصف قيمته لمولاه بمنزلة ما لو كان أعتق نصف عبده
طائعا ويرجع المولى على المكره بنصف قيمته لأنه أتى ببعض ما أكره عليه فكان حكم الاكراه
ثابتا فيما أتى به (ألا ترى) أن المأمور باعتاق العبد لو أعتق نصفه نفذ فان نوى ما على العبد
من نصف القيمة كان للمولى أن يرجع به أيضا على المكره ويرجع المكره به على العبد فيكون
الولاء بينهما نصفين لان المكره صار كالمعتق لذلك النصف واعتاق النصف افساد لملكه في
النصف الآخر من حيث إنه يتعذر عليه استدامة الملك فيه فيكون ضامنا له قيمة النصف الآخر
ثم يرجع به على العبد لأنه يملك ذلك النصف بالضمان فيستسعيه فيه ويكون الولاء
بينهما نصفين لان هذا النصف عتق على ملك المكره بأداء السعاية إليه قالوا وينبغي أن يكون
هذا الجواب فيما إذا كان المكره موسرا على قياس ضمان المعتق ولو أن مريضا أكرهت
امرأته بوعيد تلف أو حبس حتى تسأله ان يطلقها تطليقة بائنة فسألته ذلك فطلقها كما سألت
ثم مات وهو في العدة ورثته لان سؤالها مع الاكراه باطل فان تأثير سؤالها في الرضا منها
بالفرقة واسقاط حقها من الميراث وذلك مع الاكراه لا يتحقق ولو سألته تطليقتين بائنتين ففعل
ثم مات وهي في العدة لم ترثه لأنها سألته غير ما أكرهت عليه ولان ما زادت من عندها كاف
لاسقاط حقها في الميراث (ألا ترى) أنها لو سألت زوجها أن يطلقها تطليقة بائنة فطلقها
تطليقتين بائنتين ثم مات وهي في العدة لم ترثه للمعنيين اللذين أشرنا إليهما (ألا ترى) أنه لو
لم يدخل بامرأته حتى جعل أمرها بيد رجل يطلقها تطليقة إذا شاء وأكره بوعيد تلف على أن
جعل في يد ذلك الرجل تطليقة أخرى ففعل فطلقها الرجل التطليقتين جميعا لم يرجع الزوج على
133

المكره بشئ من المهر لان ما جعله في هذه طائعا كاف لتقرير الصداق به ولا رجوع على
المكره بشئ من المهر وكذلك لو طلقها التطليقة التي جعلها الزوج إليه بغير اكراه ولو كان طلقها
التطليقة التي أكره الزوج عليها دون الأخرى رجع الزوج على المكره بنصف المهر لان تقرر
نصف الصداق عليه كان باعتبار ما أكره عليه (ألا ترى) انه لو قال لامرأته ولم يدخل بها
أنت طالق تطليقة إذا شئت ثم أكره بعد ذلك أو قبله على أن يقول لها أنت طالق تطليقة
إذا شئت فقال لها ذلك فطلقت نفسها التطليقتين جميعا غرم لها الزوج نصف المهر ولم يرجع على
المكره بشئ ولو طلقت نفسها التطليقة التي أكرهه عليها خاصة وثبت ذلك رجع الزوج
بنصف المهر على المكره للمعنى الذي بينا ولو كانت هي المسلطة فأكرهته على أن يطلقها بوعيد
تلف ففعل لم يكن لها عليه شئ من المهر لان الاتلاف منسوب إليها للالجاء فكان الفرقة
وقعت من جهتها قبل الدخول ولو كانت أكرهته بالحبس أخذته بنصف الصداق لان
الاتلاف لا يصير منسوبا إليها بهذا النوع من الاكراه فبقيت الفرقة منسوبة إلى الزوج قبل
الدخول فيلزمه نصف الصداق لها ولو أكره رجل الزوج بوعيد تلف على أن يطلقها واحدة
بألف درهم فطلقها ثلاثا كل واحدة بألف فقبلت جميع ذلك طلقت ثلاثا ووجب لها عليه ثلاثة
آلاف درهم ولها عليه نصف مهرها لوقوع الفرقة قبل الدخول لا بسبب مضاف إليه ولم
يرجع إلى المكره بشئ وإن كان نصف المهر أكثر من ثلاثة آلاف درهم لان ما زاد الزوج
من عنده طائعا كاف في تقرير نصف الصداق عليه ولو أكرهه على أن يطلقها واحدة بألف ففعل
وقبلت ذلك وجب له عليها ألف درهم ثم ينظر إلى نصف مهرها فإن كان أكثر من ألف درهم
أدى الزوج إليها الفضل على ألف درهم ويرجع به على المكره إن كان أكرهه بوعيد تلف وهذا
قول أبى يوسف ومحمد فأما عند أبي حنيفة فلا شئ لها عليه وللزوج عليه الألف وهي مسألة
الطلاق إذ الخلع يوجب براءة كل واحد من الزوجين عن صاحبه في الحقوق الواجبة بالنكاح
وفى الكتاب ذكر قولهما ولم يذكر قول أبي حنيفة لأنه وضع المسألة في لفظ الطلاق وفيه
شبهة اختلاف الروايات عن أبي حنيفة بخلاف لفظ الخلع على ما بينا في الطلاق ثم عندهما
قد وجب له عليها ألف درهم بدل الطلاق ولها على الزوج نصف مهرها فتقع المقاصة ويؤدى
الزوج إليها الفضل فيرجع به على الذي أكرهه إن كان أكرهه بوعيد تلف لأنه قرر عليه
تلك الزيادة من غير عوض ولو عتقت أمة لها زوج حر لم يدخل بها فأكرهت بوعيد تلف
134

أو حبس على أن اختارت نفسها في مجلسها بطل الصداق كله عن زوجها ولا ضمان على المكره
في ذلك لأنه أكرهها على استيفاء حقها والشرع ملكها أمر نفسها حين عتقت وليس في هذا
الاكراه ابطال شئ عليها لان المهر للمولى دونها ولو دخل بها الزوج ولان ما كان بمقابلة
المهر عاد إليها ولو كان قد دخل بها قبل ذلك كان الصداق لمولاها على الزوج ولم يرجع الزوج
على المكره بشئ لأنه ما أكره الزوج على شئ ولان الصداق قد تقرر عليه كله بالدخول وإنما
أتلف المكره ملك البضع على الزوج وقد بينا أن ذلك لا يتقوم بالاكراه لأنه لا قيمة للبضع
عند خروجه من ملك الزوج والله أعلم
(باب الخيار في الاكراه)
(قال رحمه الله) وإذا قال اللص الغالب لرجل لأقتلنك أو لتعتقن عبدك أو لتطلقن
امرأتك هذه أيهما شئت ففعل المكره أحدهما ولم يدخل بالمرأة فما باشر نافذ لان الاكراه
على كل واحد منهما بعنيه لا يمنع نفوذه فكذلك الاكراه على أحدهما بغير عينه ويغرم المكره
الأقل من نصف المهر ومن قيمة العبد لأنه ان التزم بمباشرته الأقل منهما فالاتلاف مضاف
إلى المكره وان التزم الأكثر فالضرورة إنما تحققت له في الأقل لأنه كان متمكنا من دفع
البلاء عن نفسه باختيار الأقل فيكون هو في التزام الزيادة على الأقل غير مضطر ورجوعه
على المكره لسبب الاضطرار فيرجع بالأقل لذلك ولو كان الزوج دخل بها لم يغرم المكره
له شيئا لأنه ان أوقع الطلاق فالمهر قد تقرر عليه بالدخول وإنما أتلف المكره عليه ملك
البضع وذلك لا يضمن بالاكراه وان أوقع العتق فقد كان متمكنا من دفع البلاء عن نفسه
بايقاع الطلاق فيكون هو في ايقاع العتق بمنزلة الرضا به أو غير مضطر إليه بمنزلة ما لو أكره
عليه بحبس أو قيد وهناك لا يرجع على المكره بشئ وإن لم يدخل بالمرأة لانعدام الضرورة
والالجاء ولو قيل له لنقتلنك أو لتكفرن بالله أو تقتل هذا المسلم عمدا فان كفر بالله تعالى
بقلبه مطمئن بالايمان فهو في سعة ولا تبين امرأته منه لتحقق الضرورة في ذلك بسبب
الاكراه فإنه لا يحل له قتل المسلم بحال فتتحقق الضرورة في اجراء كلمة الشرك كما لو أكره
على ذلك بعينه والأصل فيه ما روى أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال لأحدهما أتشهد أن محمد رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أنى رسول الله فقال
135

لا أدرى ما تقول فقتله وقال للآخر أتشهد أن محمدا رسول الله فقال نعم فقال أتشهد أنى
رسول الله فقال نعم فخلى سبيله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة
والسلام أما الأول فقد آتاه الله تعالى أجره مرتين وأما الآخر فلا أثم عليه ففي هذا دليل انه
يسعه ذلك عند الاكراه وانه ان امتنع منه حتى قتل كان أعظم لاجره لأنه أظهر الصلابة في
الدين ولان اجراء كلمة الشرك جناية على الدين من حيث الصورة وإن لم تكن جناية معنى عند
طمأنينة القلب بالايمان والتحرز عن الجناية على الدين صورة ومعنى سبب لنيل الثواب ولا
يحل له أن يقتل المسلم بحال لأنه لو أكره على ذلك بعينه لم يحل له أن يفعله فعند التردد بينه
وبين غيره أولى فان قتل الرجل المسلم ففي القياس عليه القود لأنه كان متمكنا من دفع البلاء
عن نفسه باجراء كلمة الشرك على اللسان فلا يأثم به ولا تبين منه امرأته فإذا ترك ذلك وأقدم
على القتل كان بمنزلة الطائع في ذلك ولما لم يتحقق الالجاء فيه فيصير حكم القتل عليه بمنزلة
ما لو أكره عليه بالحبس فيلزمه القود ولكنه استحسن لاسقاط القود عنه إذ لم يكن عالما بان
الكفر يسعه في هذا الوجه لان حرمة الشرك حرمة بانة مضمنة لا تنكشف بحال ولكن يرخص
له مع طمأنينة القلب بالايمان فهو يتحرز مما هو حرام لأن هذه الرخصة سببها خفى قد يخفى
على كثير من الناس فيصير جهله بذلك شبهة في اسقاط القود عنه ولكن يجب عليه الدية في
ماله في ثلاث سنين لان الضرورة لم تتحقق له في الاقدام على القتل فيكون فعل القتل مقصورا
عليه وان أسقطنا عنه القود للشبهة والمال يثبت مع الشبهات فتجب الدية في ماله ولكن الدية
بنفس القتل تجب مؤجلة ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان عالما بان الكفر يسعه وأكثر
مشايخنا رحمهم الله على أنه يلزمه القود لأنه لا يبقى له شبهة في الاقدام على القتل إذا كان عالما
بان الكفر يسعه فهو نظير المسلم إذا أكره على أكل الميتة ولحم الخنزير على ما بينه وهذه من
جملة المسائل التي يضره العلم فيها ويخلص في جهله وفى هذا الكتاب من هذا الجنس خمس
مسائل جمعناها في كتاب الوكالة ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول وإن كان يعلم ذلك لا يلزمه
القود لأنه بما صنع قصد مغايظة المشركين واظهار الصلابة في الدين ويباح للانسان أن يبذل
نفسه وماله لما يكون فيه كبت وغيظ للمشركين فيقاتلهم وإن كان يعلم أنهم يقتلونه فإذا كان
يحل له في نفسه ففي نفس الغير أولى وان كأن لا يحل له ذلك فيصير شبهة في درء القود عنه
ولو قيل له لتقتلنك أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن هذا المسلم عمدا فينبغي له أن يأكل الميتة لما
136

بينا أن حرمة الميتة تنكشف عند الضرورة وقد تحققت الضرورة هنا فالتحقت الميتة بالمباح من
الطعام كما لو أكره عليه بعينه فإن لم يأكل الميتة وقتل المسلم فعليه القود لأنه طائع في الاقدام على
القتل حين تمكن من دفع البلاء عن نفسه بتناول الميتة وذلك مباح له عند الضرورة وليس في
التحرز عن المباح إظهار الصلابة في الدين فلهذا لزمه القود وأشار إلى الفرق بين هذا وبين
ما تقدم فقال (ألا ترى) أنه لو لم يكفر حتى قتل كان مأجورا ولو لم يأكل الميتة حتى قتل كان
آثما إذا كان يعلم أنه يسعه ذلك وقد بينا في أول الكتاب قول أبى يوسف رحمه الله في أنه
لا يأثم إذا أمتنع من التناول عند الضرورة وان الأصح ما ذكره في الكتاب من انكشاف
الحرمة ولو أكرهه في هذا بوعيد أو سجن أو قيد لم يسعه ان يكفر فان فعل بانت منه امرأته
لان الضرورة لم تتحقق فان شرب الخمر عند الاكراه بالحبس ففي القياس عليه الحد لأنه لا تأثير
للاكراه بالحبس في الأفعال فوجوده كعدمه (ألا ترى) ان العطشان الذي لا يخاف على
نفسه الهلاك إذا شرب الخمر يلزم الحد فالمكره بالحبس قياسه وفى الاستحسان لا حد عليه
لان الاكراه لو تحقق به الالجاء صار شرب الخمر مباحا له فإذا وجد جزء منه يصير شبهة كالملك
في الحر وفى الجارية المشتركة يصير شبهة في اسقاط الحد عنه بوطئها ولان الاكراه بالحبس
معتبر في بعض الأحكام غير معتبر في البعض وحد الخمر ضعيف ثبت باتفاق الصحابة رضي الله عنه
م على ما قال علي رضي الله عنه ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي من ذلك
شيئا الا حد الخمر فإنه ثبت بآرائنا فلهذا صار هذا القدر من الاكراه شبهة في اسقاط هذا
الحد خاصة وان قتل المسلم قتل به في الوجوه كلها لان الاكراه بالحبس لا أثر له في نسبة
الفعل إلى المكره ولا في إباحة القتل فلا يصير الاكراه بالحبس شبهة في اسقاط القود عن
القاتل ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم عمدا أو تزني بهذه المرأة لم يسعه أن يصنع
واحدا منهما حتى يقتل فان صنع واحد منهما فهو آثم لان كل واحد من هذين الامرين
لا يحل له بالاكراه وان أكره عليه بعينه فكذلك إذا أكره على أحدهما بغير عينه فان أبى أن
يفعل واحدا منهما حتى قتل كان مأجورا لأنه بذل نفسه في التحرز عن الحرام وقتل بالذي قتله
لأنه قتله ظلما فعليه القود وان زنا كما أمره ففي القياس عليه الحد وفى الاستحسان عليه المهر
ومن أصحابنا من قال المراد بالقياس في قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وبالاستحسان قوله
الآخر كما بينا فيما إذا أكره على الزنا بعينه والأصح ان هذا قياس واستحسان أجريناه على
137

قوله الآخر وجه القياس انه إذا أقدم على قتل المسلم كان آلة في ذلك الفعل وكان الفعل
منسوبا إلى غيره وهو المكره فلا يكون هو مؤاخذا بشئ من أحكامه وإذا أقدم على الزنا
كان الفعل منسوبا إليه بحكمه فهو للاقدام على الزنا هنا مع تمكنه من دفع البلاء عن نفسه
على وجه لا يصير مؤاخذا بشئ من أحكام الفعل بان يقتل الرجل فيلزمه الحد بخلاف ما لو
أكره على الزنا بعينه ووجه الاستحسان ان في هذه الحالة لا يحل له الاقدام على قتل المسلم
فهو أقدم على الزنا دفعا للقتل عن غيره ولو أقدم على الزنا دفعا للقتل عن نفسه بان أكره
عليه بعينه سقط عنه الحد ولزمه المهر فهذا مثله * يوضحه ان الضرورة تحققت له في كل واحد
من هذين الفعلين حين لم يسعه الاقدام على واحد منهما فيجعل في حق كل واحد منهما
كأنه أكره عليه بعينه حتى لو قتل المسلم كان القود على المكره وكان المكره مستحقا للتعزير
والحبس بمنزلة ما لو أكره عليه بعينه فلذلك إذا أقدم على الزنا كان عليه الصداق وهذا
عند الحد بمنزلة ما لو أكرهه عليه بعينه (ألا ترى) أنه لو أكرهه أن يقتل أحد هذين
الرجلين عمدا كان القود على المكره إذا قتل أحدهما لأنه لما لم يسعه الاقدام على قتل واحد
منها صار في حق كل واحد منهما كأنه أكره على قتله بعينه ولو أكرهه على ذلك بالحبس
أخذ بحد الزنا ان زنا وبالقود ان قتل الرجل لأنه لا يسعه الاقدام على واحد من الفعلين
بسبب الاكراه وان تحققت الضرورة به فالاكراه بالحبس لا يكون مؤثرا في موجب واحد
منهما كما لو أكره عليه بعينه ولو أكرهت المرأة على الزنا بحبس أو قيد درئ عنها الحد
لأنها لو أكرهت على ذلك بالقتل يسعها بالتمكين ولا تأثم فيه فإذا أكرهت عليه بالحبس يصير
شبهة في اسقاط الحد عنها بمنزلة شرب الخمر وإنما فرقنا بين جانب الرجل والمرأة في الاكراه
بالقتل لان الرجل مباشر لفعل الزنا مستعمل للآلة في ذلك وحرمة الزنا حرمة تامة فلا
تنكشف عند الضرورة لحرمة القتل فأما المرأة فهي مفعول بها وليس من جهتها مباشرة للفعل
إنما الذي منها التمكين وذلك بترك الامتناع إلا أن في غير حالة الضرورة لا يسعها ذلك
لوجوب دفع المباشرة للزنا عن نفسها وذلك المعنى ينعدم عن تحقق الضرورة بالاكراه بالقتل
فلا يأثم في ترك الامتناع كمن ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عند خوف الهلاك
عن نفسه لا يكون آثما في ذلك ولو قال له لأقتلنك أو لتقتلن هذا المسلم أو تأخذ ماله
فتستهلكه وهو أكثر من الدية أو أقل فلا بأس بان يأخذ المال أو يستهلكه ويكون ضمانه
138

على المكره لان الالجاء قد تحقق ويباح اتلاف المال عند الالجاء كما لو أكره عليه بعينه
ويصير هو في ذلك آلة للمكره فضمانه على المكره وان قتل الرجل قتل به الذي ولى القتل
لأنه لما أبيح له الاقدام على اتلاف المال ولا يلحقه بذلك اثم ولا ضمان كان هو غير
مضطر في الاقدام على القتل فيكون بمنزلة الطائع فيلزمه القود وهو نظير ما تقدم من مسألة
الميتة وشرب الخمر إلا أن هنا إن لم يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم في ذلك بخلاف
مسألة الميتة لان الحرمة هناك لحق الشرع وحالة الضرورة مستثناة من الحرمة شرعا وهنا
بخلافه فان تناول مال الغير واستهلاكه بغير رضاه ظلم في حق صاحب المال والظلم حرام إلا أن
بسبب الضرورة يباح له الاتلاف شرعا مع بقاء حق الملك في المال فلهذا وجب الضمان
له على المكره جبرانا لحقه فإذا امتنع من ذلك كان ممتنعا من الظلم فلا يأثم به (الا ترى)
أن المضطر إلى طعام الغير يسعه أن يأخذه بغير رضا صاحبه فان أبى صاحبه أن يعطيه فلم
يأخذ حتى مات لم يكن آثما في تركه لهذا المعنى فكذلك المكره (ألا ترى) أنه لو قيل له
لنقتلنك أو لتدلنا على مالك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما فإذا كان لو قتل في دفعه عن مال
نفسه لم يكن آثما فكذلك إذا امتنع عن استهلاك مال الغير حتى قتل قال ولو اثم في هذا في
ماله أو مال غيره ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد وهذا
حديث مشهور أشار إلى الاستدلال به من حيث إنه لو قتل دفعا عن مال نفسه أو عن مال
غيره كان شهيدا فكيف لا يكون شهيدا في دفع ما لا يسعه الاقدام عليه فبهذا تبين أنه لا يأثم
إذا امتنع من ذلك كله وكذلك لو قال لأقتلنك أو لتطلقن امرأتك أو لتعتقن عبدك فلم يفعل
حتى قتل لم يأثم لأنه بذل نفسه دفعا عن ملك محترم له فان ملك النكاح محترم لملك المال وربما
يكون الاحترام لملك النكاح أظهر فلا يكون هو آثما وإن كان يسعه الاقدام على كل واحد
منهما لتحقق الضرورة ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده عمدا وقيمته ألف درهم أو
يستهلك ماله هذا وهو ألفا درهم فان أبى أن يفعل واحدا منهما حتى قتل كان غير آثم لان
حرمة القتل لم تنكشف بالاكراه وحرمة المال قائمة مع الاكراه وان أبيح له الاقدام على
استهلاكه للدفع عن نفسه فلا يكون آثما في الامتناع لأنه يمتنع من السفه في استهلاك المال
وقتل النفس من السفه فان استهلك ماله فقد أحسن وضمانه على المكره بالغا ما بلغ لان الالجاء
قد تحقق فيكون فعله في اتلاف المال منسوبا إلى المكره وهو محسن فيما صنع لأنه جعل ماله
139

دون نفسه وقال عليه الصلاة والسلام لواحد من أصحابه أجعل مالك دون نفسك ونفسك
دون دينك فان قتل العبد ولم يستهلك المال فهو آثم ولا شئ على المكره لان الالجاء لم يتحقق
في القتل فإنه كان متمكنا من دفع الشر عن نفسه من غير مباشرة القتل فبقي فعله في القتل
مقصورا عليه فليس له على المكره قود ولا قيمة ولا أكرهه بوعيد القتل على أن يقتل أحد عبديه
هذين وأحدهما أقل قيمة من الآخر فقتل أحدهما عمدا كان له أن يقتل المكره لتحقق الالجاء
هنا فيما أقدم عليه من القتل فحكم القتل في العبد الذي هو قليل القيمة كهو في كثير القيمة وإذا
تحقق الالجاء صار القتل منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فإنه لا مساواة بين استهلاك المال
والقتل وإنما يتحقق الالجاء في الأدنى والأدنى استهلاك المال الذي يباح له الاقدام عليه عند
الضرورة فبقي في قتل العبد مباشرا للفعل مختارا وهنا حرمة نفس العبدين سواء فيتحقق الالجاء
في حق كل واحد منهما وكذلك لو أكرهه بوعيد القتل على أن يقطع يعد نفسه أو يقتل عبده
عمدا ففعل أحدهما كان له ان يقتص من المكره لان الجاء تناول كل واحد منهما بمنزلة
ما لو أكره عليه بعينه فان قيل لا كذلك فإنه يباح له الاقدام على قطع يد نفسه عند الاكراه ولا
يباح له الاقدام على قتل عبده فينبغي أن يجعل هذا نظير الفصل الأول قلنا لا كذلك فالأطراف
محترمة كالنفوس إلا أنه إذا أكره على قطع يد نفسه فباعتبار مقابلة طرفه بنفسه جوزنا له
أن يختار أدنى الضررين وهذا المعنى لا يتحقق عند مقابلة طرفه بنفس عبده فالضرر عليه في
قطع طرفه فوق الضرر في قتل عبده (ألا ترى) أنه لو خاف على عبده الهلاك لا يحل له
أن يقطع يد نفسه ليتناوله العبد فبهذا تبين ان المساواة بينهما في الحرمة عند مقابلة أحدهما
بالآخر فيتناول الاكراه كل واحد منهما ولو أكرهه على أن يضرب أحد عبديه مائة سوط
ففعل ذلك بأحدهما فمات منه غرم المكره أقل القيمتين إن كان الذي بقي أقلهما قيمة لان
الواجب بهذا الفعل ضمان المالية في حق المولى وفيما يرجع إلى المالية الضرورة للمولى إنما
تتحقق في الأقل فهو إذا أقدم على ضرب أكثرهما قيمة كان مختارا في الزيادة بمنزلة ما لو أكره
على الهبة والتسليم في أحدهما بغير عينه بخلاف ما سبق فهناك موجب الفعل القود يستوى
فيه قليل القيمة وكثير القيمة وهنا موجبه المال بطريق الجبران لما فات عن المولى وبينهما في
المالية تفاوت وإنما تتحقق له الضرورة في أقلهما ولو أكرهه في كله بوعيد حبس لم يكن على
المكره شئ ولو أكرهه على أن يأخذ مال هذا الرجل أو مال هذا الرجل فلا بأس أن يأخذ
140

مال أحدهما لان الاكراه قد تناولهما لاستوائهما في بقاء الحرمة والتقوم في حق كل واحد
منهما كحق المالك وان أبيح له الاقدام على الاخذ لدفع الهلاك عن نفسه وأحب الينا أن
يأخذ مال أغناهما عن ذلك لان أخذ المال من صاحبه يلحق الهم والحزن به وذلك يتفاوت
بفوات حال المأخوذ منه في الغني فالأخذ من الفقير يلحق به هما عظيما لأنه لا يرجع إلى ملكه
مثله بخلاف الاخذ من الغنى في مباسطة الشرع مع الأغنياء في المال الكثير منه مع الفقراء
يعنى به الزكاة وصدقة الفطر وضمان العتق والنفقة فلهذا يستحب له أن يأخذ مال أغناهما فإن كان
ا في الغنى عنه سواء قلنا خذ أقلهما لان الضرورة تتحقق في الأقل وفى القليل من المال من
التساهل بين الناس ما ليس في الكثير وقيل إن استويا في المقدار قلنا خذ مال أحسنهما خلقا
وأظهرهما جودا وسماحة لان الهم والحزن بالأخذ منه يتفاوت بحسن خلقه وسوء خلقه وبخله
وجوده فان أخذه واستهلكه كما أمره غرمه الذي أكرهه لان الاكراه لما تناوله صار الاتلاف
منسوبا إلى المكره وان أخذ أكثرهما فاستهلكه غرم المكره مقدار أقلهما لان الاتلاف
إنما يصير منسوبا إلى المكره فيما تحقق الالجاء فيه وهو الأقل ثم يغرم المستهلك الفضل
لصاحب المال لأنه في الزيادة على الأقل لا ضرورة له في الاستهلاك فيقتصر حكم الاستهلاك
عليه ولو أكرهه على أن يقتل عبد هذا الرجل عمدا أو يأخذ مال هذا الآخر أو مال صاحب
العبد فيطرحه في مهلكة أو يعطيه انسانا فلا بأس أن يعمل في المال ما أمره به لتحقق الضرورة
فيه وغرمه بالغا ما بلغ على المكره لان الاتلاف صار منسوبا إليه وان قتل العبد فعلى القاتل
القود لان الاكراه لم يتناول هنا إذا لا مساواة بين حرمة القتل وحرمة استهلاك المال
وإذا تمكن من دفع البلاء عن نفسه بغير النقل كان هو في الاقدام على القتل طائعا فعليه القود
وعلى المكره الأدب والحبس لارتكابه ما لا يحل ولو كان إنما أمره أن يستهلك المال ويضرب
العبد مائة سوط فلا بأس باستهلاك المال وضمانه على المكره ولا يحل له ضرب العبد لان
مثل هذا الضرب يخاف منه الهلاك فيكون بمنزلة القتل فان ضربه فمات منه كانت قيمته على
عاقلة الضارب ولا ضمان على المكره لأنه طائع في الاقدام على الضرب حتى يتمكن من
التخليص بدونه على وجه لا يلحقه اثم ولا ضمان والقتل بالسوط يكون سببه العمد فيوجب
القيمة على عاقلة الضارب ولو كان العبد والمال للمكره لم يسعه ضرب عبده ولكنه يستهلك
ماله ويرجع به على المكره فان ضرب عبده فمات لم يكن على المكره ضمان لان المكره
141

لما كان يتخلص بدون الضرب كان هو في الاقدام على الضرب طائعا ومن قتل عبد
نفسه طائعا لم يجب الضمان له على غيره ولو أكره بوعيد قتل على أن يقتل عبده هذا أو
يقتل العبد الذي أكرهه أو يقتل ابنه أو قال أقتل عبدك هذا الآخر أو أقتل أباك لم
يسعه أن يقتل عبده الذي أكرهه على قتله لان الاكراه لم يتحقق هنا فالمكره من
يخاف التلف على نفسه وهنا إنما هدده بقتل من سماه دون نفسه فلا يكون هو ملجأ به إلى
الاقدام على القتل فان قتل عند ذلك فلا شئ على المكره سوى الأدب لأنه لم يصر آلة
للمكره حين لم يتحقق الالجاء (ألا ترى) انه لو قيل له لتقتلن ابنك أو لتقتلن هذا الرجل
وهو لا يخاف منه سوى ذلك لم يسعه أن يقتل الرجل وان قتله قتل به وكذلك لو أكرهوه
على أن يستهلك مال هذا الرجل أو يقتلون أباه فاستهلكه ضمنه ولم يرجع به على المكره
لأنه لم يصر ملجأ إلى هذا الفعل حتى لم يصر خائفا على نفسه ولان قتل أبيه أو ابنه
يلحق الهم والحزن به بمنزلة الحبس والقيد في نفسه ولو أكره بالحبس على القتل أو استهلاك
المال اقتصر حكم الفعل عليه كذلك ههنا الا انه لا يأثم في ذلك الاستهلاك لأنه يجعل مال
الغير وقاية لنفس ابنه وكما يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية لنفسه يجوز له أن يجعل مال الغير وقاية
لنفس ابنه أو لنفس أجنبي آخر (ألا ترى) أن المضطر الذي يخاف الهلاك إذا عجز عن
اخذ طعام الغير وهناك من يقوى على أخذ ذلك منه وسعه أن يأخذه فيدفعه إلى المضطر
فيأكله ويكون ضامنا لما يأخذه وهذا لان فعله من باب الأمر بالمعروف فإنه يحقق على صاحب
الطعام شرعا دفع الهلاك عن المضطر فإذا امتنع من ذلك كان فعل الغير به ذلك من نوع
الأمر بالمعروف فيسعه ذلك فكذلك في الاستهلاك للمال ولو لم يستهلكه حتى قتل الرجل
أباه لم يكن عليه اثم إن شاء الله لأنه كان يلزمه غرمه إذا استهلكه فيكون له أن يمتنع
من ذلك كما يكون للقوى في فصل المضطر أن يمتنع من أخذ الطعام ودفعه إلى المضطر
(ألا ترى) أن حرمة أبيه في حقه لا تكون أعظم من حرمة نفسه وفى حق نفسه يسعه أن
يمتنع من الاستهلاك حتى يقتل ففي حق أبيه أولى ألا أن يكون شيئا يسيرا فلا أحب له أن
يترك استهلاكه ثم يغرم لصاحبه لأنه يحق عليه احياء أبيه بالغرم اليسير يعنى بالانفاق عليه
فكذلك في فصل الاكراه إذا كان شيئا يسيرا لا يستحب له أن يمتنع من التزام غرمه ويدع
أباه يقتل وكذلك في الناس التحرز عن التزام القليل لاحياء أبيه يعد من العقوق والعقوق
142

حرام وكذلك في مسألة المضطر المستحب للقوي أن لا يمنع من أخذ الطعام ودفعه إلى
المضطر لان ذلك يسير لا يجحف به غرمه ولو كان بحيث يجحف به لم أر بأسا أن لا يأخذه ولو
رأى رجلا يقتل رجلا وهو يقوى على منعه لم يسعه إلا أن يمنعه وإن كان يأتي ذلك على
نفس الذي أراد قتل صاحبه بخلاف فضل المال لان هذا لا يلتزم غرما بهذا الدفع وان أتى
على نفس القاصد فالقاصد باغ قد أبطل دمه بما صنع (ألا ترى) أنه إذا قصد قتله فقتله
المقصود لم يلزمه شئ فكذلك إذا قصد قتل غيره فقتله هذا الذي يقوى عليه فأما في فضل
المال القوى فيلتزم الغرم بما يأخذه لان بسبب الضرورة للمضطر لا تسقط الحرمة والقيمة
في حق صاحب المال فلهذا كان له أن يمتنع من ذلك ولو انتهوا إلى بئر فيها ماء فمنع المضطر
من الشرب منها فلم يقو عليهم وقوى صاحبه على قتالهم حتى يأخذ الماء فيسقيه إياه لم يسعه
الا ذلك وان أتى على أنفسهم لأنهم ظالمون في منع المضطر حقه فحق السقيا في ماء البئر ثابت
لكل أحد ولو قوى المضطر بنفسه على أن يقاتلهم بالسيف حتى يقتلهم ويخلوا بينه وبين الماء
فكذلك من يقوى على ذلك من رفقائه (ألا ترى) أنه لا يلتزم غرما يفعله فهو نظير القاصد
إلى قتل الغير فأما في الطعام والشراب الذي أحرزوه في أوعيتهم فلم يبق للغير فيه حق
وان اضطر إلى ذلك (ألا ترى) أنه لا يسعه أن يقاتلهم عليه أن منعوه فكذلك لغيره
أن يمتنع من التزام الغرم بأخذه (ألا ترى) أن الماء الذي في البئر لو باعوه منه لم يجز بخلاف
ما لو أحرزوه في أوعيتهم ولو بذلوا له الطعام أو الشراب بثمن مثل ما يشترى به مثله فأبى
أن يأخذه بذلك حتى مات وهو يقدر على ثمنه كان آثما في ذلك لأنه في معنى قاتل نفسه حين
امتنع من تحصيل ما هو سبب لبقائه مع قدرته على ذلك وقد قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم
ولأنه ملق نفسه في التهلكة في بالامتناع من أداء الثمن عند عرضهم عليه إذا كان واجدا للثمن
ولو قيل له لتشربن هذه الخمر أو لتأكلن هذه الميتة أو لتقتلن ابنك هذا أو أباك لم يسعه شرب
الخمر ولا أكل الميتة لانعدام الضرورة (ألا ترى) أن هذا بمنزلة التهديد بالحبس في حقه كما
قررنا ولو قيل له لتقتلن ابنك هذا أو أباك أو لتبيعن عبدك هذا بألف درهم فباعه فالقياس ان
البيع جائز لأنه ليس بمكره على البيع فالمكره من يهدد بشئ في نفسه ولكنه استحسن فقال
البيع باطل لان البيع يعتمد تمام الرضا وبما هدد به ينعدم رضاه فالانسان لا يكون راضيا عادة
بقتل أبيه أو ابنه ثم هذا يلحق الهم والحزن به فيكون بمنزلة الاكراه بالحبس والاكراه
143

بالحبس يمنع نفوذ البيع والاقرار والهبة والعقود التي تحتمل الفسخ فكذلك الاكراه بقتل
ابنه وكذلك التهديد بقتل ذي رحم محرم لان القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في حكم
الاحياء بدليل انها توجب العتق عند الدخول في ملكه ولو قيل له لنحبسن ابنك في السجن
أو لتبيعن هذا الرجل عبدك بألف درهم ففعل ففي القياس البيع جائز لما بينا أن هذا ليس
باكراه فإنه لم يهدد بشئ في نفسه وحبس ابنه في السجن لا يلحق ضررا به والتهديد به لا يمنع
صحة بيعه واقراره وهبته وكذلك في حق كل ذي رحم محرم وفى الاستحسان ذلك اكراه
كله ولا ينفذ شئ من هذه التصرفات لان حبس ابنه يلحق به من الحزن ما يلحق به حبس
نفسه أو أكثر فالولد إذا كان بارا يسعى في تخليص أبيه من السجن وإن كان يعلم أنه يحبس
وربما يدخل السجن مختارا ويحبس مكان أبيه ليخرج أبوه فكما أن التهديد بالحبس في حقه
بعدم تمام الرضا فكذلك التهديد بحبس أبيه والله أعلم
(باب الاكراه فيما يوجب لله عليه أن يؤديه)
(قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يكفر يمينا قد حنث فيها فكفر
بعتق أو صدقة أو كسوة أجزأه ذلك ولم يرجع على المكره بشئ لأنه أمره باسقاط ما هو
واجب عليه شرعا وذلك من باب الحسبة فلا يكون موجبا للضمان على المكره وكأنه يعوضه
ما جبره عليه من التكفير بسقوط التبعة عنه في الآخرة وأما الجواز عن الكفارة فلان
الفعل في التكفير مقصور عليه لما لم يرجع على المكره بشئ ومجرد الخوف لا يمنع جواز التكفير
(ألا ترى) ان كل مكفر يقدم على التكفير خوفا من العذاب ولا يمنع ذلك جوازه ولو
أكرهه على أن يعتق عبده هذا عنها ففعل لم يجزه لان المستحق عليه شرعا الكفالة لا ابطال
الملك في هذا العبد بعينه فالمكره في اكراهه على اعتاق هذه العبد بعينه ظالم فيصير فعله
في الاتلاف منسوبا إلى المكره ويجب عليه ضمان قيمته وإذا لزمه قيمته لم يجز عن الكفارة
لانعدام التكفير في حق المكره حين صار منسوبا إلى غيره ولان هذا في معنى عتق بعوض
والكفارة لا تتأتى بمثله ولو كان أكرهه بالحبس أجزأه عن الكفارة لان الفعل منسوب
إليه دون المكره ولم يستوجب الضمان على المكره بهذا الاكراه فتتأدى به الكفارة لاقتران
النية بفعل الاعتاق ولو أكرهه بوعيد تلف على الصدقة في الكفارة ففعل ذلك نظر فيما
144

تصدق به فإن كانت قيمته أقل من قيمة الرقاب ومن أدنى الكسوة التي تجزئ لم يضمن
المكره شيئا لتيقننا بوجوب هذا المقدار من المال عليه في التكفير فيكون المكره مكتسبا سبب
اسقاط الواجب عنه وإن كان أكثر قيمة من غيرها ضمنه الذي أكرهه لأنه لا يغبن في
وجوب هذا المقدار عليه ولا هذا النوع بل هو مخير شرعا بين الأنواع الثلاثة ويخرج عن
الكفارة باختياره أقلها فيكون المكره متلفا عليه هذا النوع بغير حق فيضمنه له ولا يجزئه
عن الكفارة وان قدر على الذي أخذه منه كان له أن يسترده لأنه كان مكرها على التسليم
إليه وتمليكه إياه مع الاكراه فاسد فيتمكن من استرداده وإن كان أكرهه بالحبس لم يضمن
المكره شيئا لان الفعل لا يصير منسوبا إليه بهذا الاكراه ولكنه يرجع به على الذي أخذ
منه لأنه ما كان راضيا بالتسليم إليه والتمليك مع الاكراه بالحبس فان أمضاه له بعد ذلك
بغير اكراه أجزأه إن كان قائما وإن كان مستهلكا لم يجزه لأنه إذا كان قائما في يده فامضاؤه
بمنزلة ابتداء التصدق عليه وإن كان مستهلكا فهو دين عليه والتصدق بالدين على من هو عليه
لا يجزئ عن الكفارة وكذلك هذا في كفارة الظهار وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله انه إذا
أكرهه في كفارة الظهار على عتق عبد بعينه وذلك أدنى ما يجزئ في الكفارة لا يكون على المكره
فيه ضمان ويجزيه عن الكفارة لأنا تيقنا ان ذلك القدر واجب عليه فالتكفير بالعتق عين في الظهار
والأصح أن ذلك لا يجزيه وعلى المكره قيمته لأنه وإن لم يكن ظالما له في القدر فهو ظالم له في
العين إذ ليس عليه اعتاق هذا بعينه وللناس في الاعتاق أغراض فيلزم المكره الضمان بهذا الطريق
وإذا لزمه الضمان لم يجزه عن الكفارة قال وكذلك كل شئ وجب لله تعالى عليه من بدنة أو هدى
أو صدقة أو حج فأكره على أن يمضيه ففعل ولم يأمره المكره بشئ بعينه فلا ضمان على المكره
ويجزي عن الرجل ما أمضاه ولان المكره محتسب حين لم يزد على أمره باسقاط الواجب
والوفاء بما التزمه وقد قال الله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم فان أوجب شيئا بعينه على نفسه
صدقة في المساكين فأكره بحبس أو قيد على أن يتصدق بذلك جاز ما صنع منه ولم يرجع على المكره
بشئ لان الوفاء بما التزمه مستحق عليه شرعا كما التزمه فإذا التزم التصدق بالعين كان عليه
الوفاء به في ذلك العين والمكره ما زاد في أمره على ذلك فلا يرجع عليه بشئ وكذلك الأضحية
وصدقة الفطر لو أكره عليهما رجل حتى فعلهما أجزأه ولم يرجع على المكره بشئ لان ذلك
واجب عليه شرعا وهذا الجواب في الأضحية بناء على ظاهر الرواية انها واجبة ومقصوده
145

أن يبين أن الواجب الذي يثبت للامام فيه ولاية الاخذ والذي لا يثبت له في ذلك ولكن
من عليه يقضي بأدائه في حكم الاكراه سواء ولو قال لله تعالى على هدى أهديه إلى بيت
الله فأكره بالقتل على أن يهدى بعيرا أو بدنة ينحرها ويتصدق بها ففعل كان المكره ضامنا
قيمتها ولا يجزيه ما أوجبه على نفسه لان بلفظ الهدى لا يتعين عليه البعير والبقرة ولكن
يخرج عنه بالشاة فالمكره ظالم له في تعيين البدنة فيلزمه ضمان قيمتها ولا يجزيه عما أوجبه
لحصول العوض أو لان الفعل صار منسوبا إلى المكره ولو أكرهه على أدنى ما يكون من
الهدى في القيمة وغيرها فأمضاه لم يغرم المكره شيئا لأنه ما زاد على ما هو الواجب عليه شرعا
ولو قال لله على عتق رقبة فأكرهه على أن يعتق عبدا بعينه بقتل فأعتقه ضمن المكره قيمته
ولم يجزه عن النذر لأنه التزم بعتق رقبة بغير عينها والمكره في أمر بعتق عبد بعينه ظالم فيكون
ضامنا قيمته وإن كان يعلم الذي أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يكون من التسمية لم يكن
على المكره ضمان وأجزأ عن المعتق لتيقننا بوجوب هذا المقدار عليه ومن قال من أصحابنا
في مسألة كفارة الظهار ان المكره لا يضمن إذا أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يجزى إنما
أخذ جوابه من هذا الفصل وعلى ما قلنا من الجواب المختار هذه لا تشبه تلك لان الناذر
إنما يلتزم الوفاء بالمنذور من أعيان ملكه فيصير كالعتق للأدنى عن نذره فأما في الكفارة
فالواجب دين في ذمته ولا يتناول أعيان ملكه (ألا ترى) أن في الكفارات قد يخرج بغير
الاعتاق عند العجز عن الاعتاق وفى النذر لا يخرج بدون الاعتاق ولا يكون الاعتاق الا
في ملكه فمن هذا الوجه يقع الفرق ولو قال لله على أن أتصدق بثوب هروي أو مروى
فأكرهه على أن يتصدق بثوب بعينه فإنه ينظر إلى ذلك الذي تصدق به فإن كان العلم محيطا بأنه أدنى
ما يكون من ذلك الجنس في القيمة وغيرها أجزأه ذلك ولا ضمان على المكره لأنه ما ألزمه
بالاكراه الا ما يعلم أنه مستحق عليه بنذره شرعا وإن كان غيره أقل من قيمته نظر إلى فضل
ما بين القيمتين فغرم المكره ذلك لأنه في الزيادة على الأدنى يلزمه ذلك بالاكراه من غير أن
كان واجبا عليه وهذا بخلاف الهدى والأضحية والعتق لان ذلك مما لا ينتقض فإذا ضمن المكره
بعضه صار ناقضا ما وجب عليه فلا يجزيه عن الواجب فلهذا يغرم المكره جميع القيمة والتصدق
بالثوب مما يحتمل التجزء فإنه لو تصدق بنصف ثوب جيد يساوي ثوبا كما لزمه أجزأه عن
الواجب فنحن وان أوجبنا ضمان الزيادة على المكره وقع المؤدى في مقدار الأدنى مجزيا
146

عن الواجب * يوضحه أن في التصدق تعتبر المالية (ألا ترى) أن له أن يتصدق بقيمة الثوب
مكان الثوب وعند النظر إلى القيمة يظهر الفضل وفى الهدايا والضحايا وعتق الرقاب لا تعتبر
المالية حتى لا يتأدى الواجب بالقيمة فلهذا قلنا إذا صار ضامنا للبعض ضمن الكل وذا قال
لله على أن أتصدق بعشرة أقفزة حنطه على المساكين فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق بخمسة
أقفزة حنطة جيدة تساوى عشرة أقفزة حنطة رديئة فالمكره ضامن لطعام مثله لان المؤدى
لا يخرج عن جميع الواجب فإنه لا معتبر بالجودة في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها ولا
يمكن تجويزها عن خمسة أقفزة حنطة لان في ذلك ضررا على الناذر فالمكره ظالم له في التزام
الزيادة على الأدنى فلهذا يضمن له طعاما مثل طعامه وعلى الناذر أن يتصدق بعشرة أقفزة
رديئة ولو أن رجلا له خمسة وعشرون بنت مخاض فحال عليها الحول فوجب فيها ابنة مخاض
وسط فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق على المساكين بابنة مخاض جيدة غرم المكره فضل
قيمتها على قيمة الوسط لأنه ظالم له في إلزام هذه الزيادة وقد جازت الصدقة عن المتصدق
في مقدار الوسط فلا يغرم المكره ذلك لان هذا ليس بمال الربا فيمكن تجويز بعضه عن كله
(ألا ترى) انه لو تصدق بنصف ابنة مخاض جيدة فبلغ قيمته قيمة ابنة مخاض وسط أجزأه
عن الواجب فلهذا لا يوجب على المكره الا ضمان الفضل بينهما والله أعلم
(باب الاكراه في الوكالة)
(قال رحمه الله) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد قتل عن أن يوكل رجلا بعتق عبد له
أو بطلاق امرأة لم يدخل بها ففعل ذلك جاز التوكيل ونفذ تصرف الوكيل لان الاكراه
لما لم يمنع صحة مباشرة الاعتاق والطلاق لا يمنع صحة التوكيل بهما أيضا ولا ضمان على الوكيل
لأنه نائب معبر فعبارته كعبارة الموكل ولكن الضمان على المكره كما لو أكرهه على مباشرة
الايقاع وهذا استحسان قد بيناه في جعل الامر في يد الغير عن اكراه فالتوكيل قياسه ولو
أكرهه على أن وكله بيع عبده من هذا بألف درهم وأكرهه على دفعه إليه حتى يبيعه ففعل
ذلك فباعه الوكيل وأخذ الثمن ودفع العبد إلى المشترى فهلك العبد في يده من غير فعله
والوكيل والمشترى غير مكرهين فالمولى بالخيار ان شاء ضمن المشترى قيمة عبده لأنه قبضه
طائعا بشراء فاسد وان شاء ضمن الوكيل لأنه متعد في البيع والتسليم طائعا وان شاء ضمن
147

المكره لان اكراهه على التوكيل والتسليم بمنزلة الاكراه على مباشرة البيع والتسليم في حكم
الاتلاف والضمان فان ضمن المشترى لم يرجع على أحد بشئ لأنه ضمن بسبب باشره لنفسه
وان ضمن الوكيل يرجع الوكيل على المشترى بالقيمة لأنه قائم مقام المالك في الرجوع على
المشترى ولأنه ملكه بالضمان وقد قبضه المشترى منه بحكم شراء فاسد فيكون له أن يسترد
منه قيمته لما تعذر استرداد العين وعلى الوكيل رد الثمن أن كان قبض ولا يكون له الثمن بما
ضمن له من القيمة لأنه باعه للمكره ونقض ما ضمنه له من القيمة لأنه باعه للمكره وقد نقض
المكره البيع بتضمينه القيمة ولا يشبه هذا الغصب يعنى ان الغاصب إذا باع ثم ضمن القيمة
ينفذ البيع من جهته لأنه باعه هناك لنفسه وقد تقرر الملك له بالضمان وهنا باعه بطريق الوكالة
عن المكره (ألا ترى) أن المكره لو رضى بعد زوال الاكراه نفوذ البيع من جهته والمشترى
بالقبض صار متملكا على المكره حتى لو أعتقه نفذ عتقه فلا يمكن أن يجعل متملكا بهذا السبب
على الوكيل فلهذا لا ينفذ البيع من جهته ولا يسلم له الثمن بل يرده على المشترى لان استرداد
القيمة من المشترى كاسترداد العين ولا شئ للوكيل على المكره لأنه ما أكرهه على شئ وإنما
التزم الوكيل ضمان القيمة بالبيع والتسليم وهو كان طائعا في ذلك وإن كان المكره ضمن
المكره القيمة كان له أن يرجع بها ان شاء على المشترى وان شاء على الوكيل لأنه قائم مقام
المكره وقد كان له أن يرجع على أيهما شاء فان قال الوكيل للمكره لا أضمن لك شيئا لأنك
أنت الذي أمرته أن يدفع إلى لم ينفعه ذلك شيئا لأنه كان غير مكره على قبضه وقد كان له
أن لا يقبضه وإنما ضمنه الذي أكرهه بقبضه وتسليمه فان قال الوكيل حين ضمن القيمة انا
أجيز البيع فيما بيني وبين المشترى ويكون الثمن لي لم يكن له ذلك لان المشترى إنما يملكه
على المكره فلا يمكن جعله متملكا على الوكيل وان ملكه بخلاف الغصب على ما بينا ولو كان
أكرهه بالحبس على ذلك كان كذلك إلا أنه لا يضمن المكره لان الاتلاف لا يصير منسوبا
إليه بالاكراه بالحبس ولو كان المولى والوكيل مكرهين بالقتل فان المولى بالخيار ان شاء
ضمن المشترى قيمة عبده لأنه قبضه بشراء فاسد طائعا وان شاء ضمن المكره باكراهه إياه
على التسليم بوعيد تلف ثم يرجع بها المكره على المشترى لأنه قائم مقام من ضمنه ولأنه ملكه
بالضمان ولا ضمان له على الوكيل لأنه كان مكرها بالقتل على القبض والتسليم فلا يبقى في
جانبه فعل معتبر وان كانوا جميعا مكرهين بالقتل فالضمان على المكره خاصة لان الاتلاف
148

منسوب إليه إذ لم يبق للمكره فعل معتبر في التسليم والقبض ولا يرجع المكره على أحد
بشئ لأنهم صاروا كالآلة له وليس للمتلف أن يرجع على الآلة بشئ وان كانوا مكرهين
بالحبس فلا ضمان على المكره وللمولى أن يضمن المشترى قيمة عبده لان فعل المشترى في
القبض مقصور عليه وكذلك فعل الوكيل في التسليم فان الاكراه بالحبس لا يخرج واحد
منهما من أن يكون مباشرا للفعل فان ضمن الوكيل رجع الوكيل بالقيمة على المشترى لأنه
قام مقام من ضمنه وان اختار تضمين المشترى فهو الذي يلي خصومته بما دون الوكيل
لان الوكيل كان مكرها على البيع والتسليم بالحبس وذلك ينفى التزامه العهدة بالعقد فيخرج
من الوسط إذا اختار المولى تضمين المشترى وتكون الخصومة فيه لمن باشر العقد له بمنزلة
ما لو وكل عبدا محجورا عليه أو صبيا محجورا ببيع فاسد وهذا لان الوكيل لو خاصم المشترى
إنما يخاصمه بحكم العقد فإنه قد استفاد البراءة من الضمان حين اختار المولى تضمين المشتري
وهو كان مكرها على العقد بالحبس وذلك يمنع ثبوت أحكام العقد في حقه ولو أكره المولى
بالقتل وأكره الوكيل والمشترى بالحبس فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء لان فعلهم في
التسليم منسوب إلى المكره وفعل الوكيل والمشترى مقصور عليهما فان ضمن المشترى لم
يرجع على أحد بشئ وان ضمن الوكيل كان له أن يرجع إلى المشترى ولا شئ له على المكره
لما بينا وان ضمن المكره كان له أن يرجع على المشترى بالقيمة التي ضمن ولا يرجع على الوكيل
بشئ لأنه أمر الوكيل بالقبض والبيع والدفع حين أكرهه عليه بالحبس والمكره بالضمان
يصير كالمالك فلا يكون له أن يرجع بشئ على من قبضه ودفعه إلى غيره باكراهه على ذلك
ولو أكره المولى والوكيل بالقتل وأكره المشترى بالحبس فلا ضمان على الوكيل لانعدام الفعل
منه حين كان مكرها بالقتل وللمولى أن يضمن المكره قيمته ان شاء ويرجع به المكره
على المشترى وان شاء ضمن المشترى لان فعله في القبض مقصور عليه فان قيل إذا ضمن المكره
ينبغي أن لا يرجع على المشترى بشئ لان المشترى كان مكرها من جهته بالحبس كما في حق
الوكيل في المسألة الأولى * قلنا نعم ولكن المشترى قبضه على وجه التمليك لنفسه بالشراء فلا بد
من أن يكون ضامنا لما كان حكم قبضه مقصورا عليه وأما الوكيل فما قبضه لنفسه وإنما قبضه
ليدفعه إلى غيره بأمر المكره فلا يكون للمكره أن يرجع عليه بشئ ولو أكره المولي والوكيل
بالحبس وأكره المشترى بالقتل فلا ضمان على أحد منهم الا الوكيل خاصة لان المولى إنما
149

يضمن المكره بتسليمه إلى الغير مكرها من جهته وإنما كان مكرها هنا على ذلك بالحبس فلا يرجع
عليه بشئ والمشترى على القبض مكره بالقتل فلا يكون قبضه موجبا للضمان عليه وأما الوكيل فهو
مكره على القبض والتسليم بالحبس وذلك لا يوجب نقل الفعل عنه إلى غيره فيكون ضامنا قيمته
* فان قيل ينبغي أن يكون المكره ضامنا لان فعل المشترى في القبض صار منسوبا إليه فيجعل
كأنه قبضه بنفسه وهلك في يده * قلنا المالك إنما يضمن المكره باعتبار سبب جرى بينهما
لا باعتبار سبب جري بينه وبين غيره والذي جرى بينهما اكراهه إياه عل التسليم بالحبس
فما اكراهه المشترى فهو سبب بين المكره والمشترى فلا يكون للمولى أن يضمن المكره
بذلك السبب وإنما يكون ذلك للمشترى في الموضع الذي لا يكون عاملا لنفسه في القبض
ويتقرر عليه ضمان وهذا لان المالك إنما يثبت له حق التضمين بتفويت يده وتفويت يده
بالتسليم لا باعتبار قبض المشترى ولو أكره المولى والمشترى بالقتل وأكره الوكيل بالحبس
والمسألة بحالها كان للمولى أن يضمن المكره ان شاء لأنه فوت يده حين أكرهه بالقتل على
التسليم وان شاء ضمن الوكيل لان فعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأيهما ضمن لم
يرجع على صاحبه بشئ أما إذا ضمن الوكيل فلانه ما كان عاملا في البيع والتسليم للمكره
وفعله في القبض والتسليم مقصور عليه وأما إذا ضمن المكره فلانه أذن له في بيعه ودفعه حين
أكره بالحبس على ذلك ولا ضمان على المشترى لأنه كان مكرها على القبض بوعيد قتل
وذلك ينفى الضمان عنه ولو أكرهه بالقتل على أن يوكل هذا الرجل بأن يهب عبده هذا لهذا
الرجل فوكله بذلك فقبضه الوكيل ودفعه إلى الموهوب له ومات في يده والوكيل والموهوب
له غير مكرهين فللمولى أن يضمن قيمته أيهم شاء بمنزلة الشراء لان الموهوب له يقبض
لنفسه على وجه التملك بهبة فاسدة فيكون ضامنا كالمشترى فان ضمن الموهوب له لم يرجع
على أحد وان ضمن الوكيل رجع به الوكيل على الموهوب له وان ضمن المكره رجع المكره
ان شاء على الموهوب له وان شاء على الوكيل ورجع به الوكيل على الموهوب له لما بينا في
فصل الشراء ولو كان الاكراه بحبس لم يضمن المكره شيئا وكان للمولى أن يضمن أن شاء
الوكيل وان شاء الموهوب له فان ضمن الوكيل رجع به على الموهوب له لأنه قام مقام
من ضمنه أو لأنه ملكه بالضمان ولم يقصد تنفيذ الهبة من جهته فكان له أن يرجع على الموهوب
له لأنه بالقبض متملك عامل لنفسه بغير إذن المالك فلا يسلم له مجانا والله أعلم
150

(باب ما يسع الرجل في الاكراه وما لا يسعه)
(قال رحمه الله) وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أكل الميتة أو لحم الخنزير أو شرب
الخمر فلم يفعل حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما لان حالة الضرورة مستثناة من
التحريم والميتة والخمر في هذه الحالة كالطعام والشراب في غير حالة الضرورة ولا يسعه أن
يمتنع من ذلك حتى يتلف (ألا ترى) أن الذي يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا
وجد ميتة أو لحم خنزير أو دما فلم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه كان
آثما وقد بينا هذا فيما سبق في الماء الذي خالطه الخمر التحرز عن قول من خالفنا في شرب
الخمر عند العطش وفائدته وذكره عن مسروق رحمه الله قال من اضطر إلى ميتة أو لحم
خنزير أو دم فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا دليلنا على قول أبى يوسف وفيه
دليل انه لا بأس باطلاق القول بدخول الدار لمن يرتكب ما لا يحل له وإن كان المذهب انه في
مشيئة الله تعالى ان شاء عذبه وان شاء عفى عنه حتى اشتغل بعضهم بالتأويل بهذا اللفظ قالوا
مراده الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى وان منكم الا واردها أي داخلها وهو المذهب
عند أهل السنة والجماعة ولكن هذا بعيد لان مراده بيان الجزاء على ارتكاب ما لا يحل
ولكن لا يظن أحد بمثله انه يقصد بهذا اللفظ نفى المشيئة وقطع القول بالعذاب فإن كان
لا يعلم أن ذلك يسعه رجوت أن لا يكون آثما لأنه قصد به التحرز عن ارتكاب الحرام في
زعمه وهذا لان انكشاف الحرمة عند تحقق الضرورة دليله خفى فيعذر فيه بالجهل كما أن
عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا له في ترك ما ثبت بخطاب الشرع يعنى
الصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه ثم ذكر في فصل الاكراه على
الكفر انه إذا امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثما وقد بينا أنه مأجور فيه كما جاء في
الأثر ان المجبر في نفسه في ظل العرش يوم القيامة أن أبى الكفر حتى قتل وحديث خبيب
رضي الله عنه فيه معروف وأشار إلى الأصل الذي بينا أن اجراء كلمة الشرك في هذه الحالة رخصة
له والامتناع هو العزيمة فان ترخص بالرخصة وسعه وان تمسك بالعزيمة كان أفضل له لان
في تمسكه بالعزيمة اعزاز الدين وغيظ المشركين فيكون أفضل وعلى هذا إذا قيل له لئن صليت
لأقتلنك فخاف ذهاب الوقت فقام وصلى وهو يعلم أنه يسعه تركه فلما صلى قتل لم يكن آثما
في ذلك لأنه تمسك بالعزيمة أيضا وكذلك صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم لئن لم تفطر
151

لنقتلنك فأبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا لأنه متمسك بالعزيمة
وفيما فعله إظهار الصلابة في الدين وأن أفطر وسعه ذلك لان الفطر رخصة له عن الضرورة
إلا أن يكون مريضا يخاف على نفسه إن لم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك
يسعه فحينئذ يكون آثما وكذلك لو كان مسافرا فصام في شهر رمضان فقيل له لنقتلنك أو
لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما لان الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين معتدا
بقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فعند خوف الهلاك شهر رمضان
في حقهما أيامه كلياليه وكأيام شعبان في حق غيرهما فيكون في الامتناع حتى يموت بمنزلة
المضطر في فصل الميتة بخلاف الصحيح المقيم فالامر بالصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى فمن
شهد منكم الشهر فليصمه والفطر عند الضرورة رخصة فان ترخص بالرخصة فهو في سعة
من ذلك وان تمسك بالعزيمة فهو أفضل له وهذا كله بناء على مذهبنا انه يصير مفطرا بالتناول
مكرها وعند الشافعي رحمه الله لا يصير مفطرا وقد بينا هذا في الصوم فان الخاطئ والمكره
عنده في الحكم سواء وقال المكره مسلوب الفعل (ألا ترى) ان الاتلاف الحاصل بفعله
يصير منسوبا إلى المكره ولكنا نقول المكره إنما يجعل آلة للمكره فيما يصلح أن يكون آلة له
وهو في الجناية على صوم نفسه لا يصلح أن يكون آلة للغير فيقتصر حكم فعله في حق الافطار
عليه (ألا ترى) أن المكره لو كان صائما لم يصر مفطرا بهذا فلو جعلنا الفعل عدما في حكم
المكره في حق الصوم رجع إلى الاهدار وليس للاكراه تأثير في الاهدار ولا في تبديل محل
الجناية وبه فارق حكم الضمان لأنا لو جعلنا الفعل منسوبا إلى المكره لا يؤدى إلى الاهدار
ولا إلى تبديل محل الجناية ولو قال له لأقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتعطينيه فأبى أن
يفعل ذلك حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا إن شاء الله لان الاخذ عند الضرورة
مباح له بطريق الرخصة وقيام الحرمة والتقوى حقا للمالك يوجب أن تكون العزيمة في ترك
الاخذ فان تمسك بالعزيمة كان مأجورا وقيده بالاستثناء لأنه لم يجعل هذا بعينه نصا بعينه
وإنما قاله بالقياس على ما تقدم وليس هذا في معنى ما تقدم من كل وجه لان الامتناع من الاخذ
هنا لا يرجع إلى اعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا
الصيد فأبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا إن شاء الله لان حرمة قتل الصيد على المحرم حرمة
مطلقة قال الله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم فكأن لا الامتناع عزيمة وإباحة قبل الصيد رخصة
152

عند الضرورة فان ترخص بالرخصة كان في سعة من ذلك وان تمسك بالعزيمة فهو أفضل له
فان قتل الصيد فلا شئ عليه في القياس ولا على الذي أمره وفى الاستحسان على القاتل الكفارة
أما الآمر فلا شئ عليه لأنه حلال لو باشر قتل الصيد بيده لم يلزمه شئ فكذلك إذا أكره عليه
غيره وأما المحرم ففي القياس لا شئ عليه لأنه صار آلة للمكره بالالجاء التام فينعدم الفعل في
جانبه (ألا ترى) أن في قتل المسلم لا يكون هو ضامنا شيئا لهذا المعنى وان كأن لا يسعه الاقدام
على القتل ففي قتل الصيد أولى ووجه الاستحسان أن قتل الصيد منه جناية على احرامه وهو
بالجناية على احرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فاما قتل المسلم فجناية على المحل وهو يصلح
أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى أن في حق الاثم لما كان ذلك جناية على حق دينه وهو
لا يصلح آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الاثم * توضيحه انه لما لم يجب على الآمر
هنا شئ فلو لم توجب الكفارة على القاتل كان تأثير الاكراه في الاهدار وقد بينا انه لا تأثير
للاكراه في الاهدار ولا في تبديل محل الجناية وإن كان محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما
كفارة أما على المكره فلانه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر
بالاكراه وأما المكره فلانه في الجناية على احرام نفسه لا يصلح آلة لغيره * يوضحه أنه لا حاجة
هنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره في ايجاب الكفارة عليه فكفارة الصيد تجب على المحرم
بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هنا وبه فارق كفارة القتل
إذا كان خطأ أو شبه عمد فإنه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية ولا قصاص لان
تلك الكفارة لا تجب الا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل
في جانب المكره وهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز ايجابه على المكره بالمباشرة
وعلى المكره بالتسبيب ولان السبب هنا الجناية على الاحرام وكل واحد منهما جان على
احرام نفسه فأما هناك فالسبب هو الجناية على المحل والمحل واحد فإذا أوجبنا الكفارة
باعتبارها على المكره قلنا لا يجب على المكره ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففي القياس تجب
الكفارة على القاتل دون الآمر لان قتل الصيد فعل ولا أثر للاكراه بالحبس في الأفعال وفى
الاستحسان على كل واحد منهما الجزاء أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلان تأثير
الاكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والإشارة وإذا كان الجزاء يجب على المحرم بالدلالة
153

والإشارة فبالاكراه بالحبس أولى ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة
على المكره لان جزاء الصيد في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى الصوم فلا تجب بالدلالة
ولا تتعدد بتعدد الفاعلين وهذا لان وجوبها باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال
وذلك على المكره دون المكره عند التهديد بالقتل وان توعده بالحبس كانت الكفارة على
القاتل خاصة بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطا ولو أن رجلا وجب
عليه أمر بمعروف أو نهى عن منكر فخاف أن فعل أن يقتل وسعه أن لا يفعل وان فعل فقتل
كان مأجورا لان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض مطلقا قال الله تعالى وأمر
بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك الآية والترك عند خوف الهلاك رخصة
قال الله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة فان ترخص بالرخصة كان في سعة وان تمسك
بالعزيمة كان مأجورا وذكر في السير الكبير أن المسلم إذا أراد أن يحمل على جمع من المشركين
وهو يعلم أنه لا ينكى فيهم وانه يقتل لم يسعه ذلك لأنه يكون ملقيا نفسه في التهلكة من غير
فائدة ولو أراد أن يمنع قوما من فسقة المسلمين عن منكر اجتمعوا عليه وهو يعلم أنهم لا يمتنعون
بسببه وانهم يقتلونه فإنه يسعه الاقدام على ذلك لان هؤلاء يعتقدون الاسلام فزجره إياهم
يؤثر فيهم اعتقادا لا محالة وأولئك غير معتقدين فالشرط أن ينكى فعله فيهم حسا فإذا علم
أنه لا يتمكن من ذلك لا يسعه الاقدام ولو أكره بالقتل على أن يزنى لم يسعه أن يفعل فان
فعل وكان محرما فسد احرامه وعليه الكفارة دون الذي أكرهه لما بينا أن فعله جناية على
احرامه وهو في الجناية على احرامه لا يصلح أن يكون آلة لغيره ولو أكرهت امرأة محرمة
بالقتل على الزنا وسعها أن تمكن من نفسها وقد بينا الفرق بين جانبها وجانب الرجل في حكم
الاثم فأما فساد الاحرام فلا فرق حتى يفسد احرامها ويجب عليها الكفارة دون المكره لان
تمكنها من نفسها جناية على احرامها وهي لا تصلح في ذلك آلة للمكره وإن لم تفعل حتى
تقتل فهي في سعة من ذلك لان حرمة الزنا والجماع في حالة الاحرام حرمة مطلقة فهي في
الامتناع تتمسك بالعزيمة وفى كل موضع من هذه المواضع أوجبنا الكفارة على المكره لا يرجع
به على المكره لأنه ألزمه كفارة يفي بها ولو رجع بها عليه يقضى بها عليه ولا يجوز أن يرجع
عليه بأكثر مما التزمه وكل أمر أحله الله تعالى مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها
والفطر في المرض والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم وكل أمر حرمه الله تعالى ولم
154

يجئ فيه احلال إلا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ بالرخصة حتى قتل فهو في سعة لان هذا
اغرار بالدين وليس في الأول اغرار بالدين (ألا ترى) أن محرما لو اضطر إلى ميتة والى ذبح
صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة لان الميتة حلال في حال
الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة ولأنه لو ذبح الصيد صار ميتة أيضا فيصير هو جامعا
بين ذبح الصيد وتناول الميتة وإذا تناول الميتة كان ممتنعا من الجناية على احرامه بقتل الصيد
والحل لأجل الضرورة فإن كانت الضرورة ترتفع بأحدهما لم يكن له أن يجمع بينهما ولو قيل
لرجل دلنا على مالك أو لنقتلنك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما لأنه قصد الدفع عن ماله وذلك
عزيمة قال عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد ولان في دلالته إياهم عليه إعانة لهم
على معصية الله تعالى وقد قال الله تعالى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان فلهذا يسعه أن لا يدلهم
وان دلهم حتى أخذوه ضمنوا له لان بدلالته لا يخرجون من أن يكونوا غاصبين لماله متلفين
فعليهم الضمان والله أعلم بالصواب
(باب اللعان الذي يقضى به القاضي ثم يتبين أنه باطل)
(قال رحمه الله) وإذا ادعت امرأة على زوجها قذفا وجحده الرجل فأقامت عليه البينة
بذلك وزكوا في السر والعلانية وأمر القاضي الزوج أن يلاعنها فأبى أن يفعل وقال لم أقذفها
وقد شهدوا على بالزور فان القاضي يجبره على اللعان ويحبسه حتى يلاعن لأنه ممتنع من ايفاء
ما هو مستحق عليه فيحبسه لأجله ولا يضربه بالحد وقد بينا هذا في الطلاق فان حبسه حتى
يلاعن وقال أشهد بالله انى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا
قاله أربع مرات ثم قال ولعنة الله علي ان كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا والتعنت
المراة أيضا وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود عبيد أو محدودون في قذف أو بطلت
شهادتهم بوجه من الوجوه فان القاضي يبطل اللعان الذي كان بينهما ويبطل الفرقة ويردها
إليه لأنه تبين أنه قضى بغير حجة والقضاء بغير حجة باطل مردود ولا يقال فقد أقر بالقذف
بالزنا في شهادات اللعان لان ذلك كان باكراه من القاضي إياه على ذلك والاكراه بالحبس
يمنع صحة الاقرار (ألا ترى) انه لو هدده بالحبس على أن يقر بأنه قذف هذ الرجل فأقر
بذلك لم يلزمه بهذا الاقرار شئ فكذلك هنا فان قيل ذاك اكراه بالباطل وهذا اكراه بحق
155

قلنا هذا اكراه بحق ظاهر فأما إذا تبين أن الشهود عبيد فقد ظهر أن الاكراه كان بالباطل
حقيقة ولو كان القاضي لم يحبسه حتى يلاعن ولم يهدده بحبس ولكنه قال قد شهدوا عليك
بالقذف وقضيت عليك باللعان فالتعن ولم يزده على هذا فالتعن الرجل كما لو وصفت لك
والتعنت المرأة وفرق القاضي بينهما ثم ظهر أن الشهود كانوا عبيدا فأبطل شهادتهم فإنه يمضى
اللعان بين الزوج والمرأة وتمضي الفرقة ويجعلها بائنا من زوجها لان القاضي لما لم يهدده بحبس
ولا غيره حتى قال أشهدكم بالله انى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا كان هذا اقرارا منه بأنه
قذفها بغير اكراه فيلزمه ما أقر به من ذلك ويصير كأنه أقر بقذفه إياها بعد ما جحد ثم التعن
ثلاث مرات وفرق القاضي بينهما فيكون ذلك تفريقا صحيحا باعتبار حجة شرعية (ألا ترى)
انه لو قال له القاضي قد شهدوا عليك انك قذفت هذا الرجل بالزنا وقد قضيت عليك بالحد
فقال المقضى عليه أجل قد قذفته بالزنا ثم علم أن شهادة الشهود باطلة ضرب الحد لإقراره
على نفسه بالقذف ولو قال قد شهد عليك الشهود بالقذف فلتقرن بذلك أو لأحبسنك ثم علم
أن شهادة الشهود باطلة لم يكن عليه حد باقراره انه قدفه لأنه كان مكرها على ذلك فكذلك
ما وصفنا من حكم التفريق بسبب اللعان ولو لم يظهر أن الشهود عبيد ولكنهما يعلمان انهم
شهدوا عليهما بزور فالتعنا وفرق القاضي بينهما كان قضاؤه نافذا ظاهرا وباطنا في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف الأول رحمهما الله وفى قول أبى يوسف الآخر وهو قول محمد رحمهما الله
لا ينفذ قضاؤه باطنا وقد بينا هذا في كتاب الرجوع عن الشهادات والله أعلم بالصواب
(كتاب الحجر)
(قال الشيح الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم بان الله تعالى خلق الورى وفاوت بينهم في الحجى فجعل
بعضهم أولى الرأي والنهى ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وجعل بعضهم مبتلى ببعض
أصحاب الردي فيما يرجع إلى معاملات الدنيا كالمجنون الذي هو عديم العقل والمعتوه الذي
هو ناقص العقل فاثبت الحجر عليهما عن التصرفات نظرا من الشرع لهما واعتبارا بالحجر
الثابت على الصغير في حال الطفولية بسبب عدم العقل بعد ما صار مميزا بسبب نقصان العقل
وذلك منصوص عليه في الكتاب فيثبت الحجر في حق المعتوه والمجنون استدلالا بالنصوص
156

بطريق التشبيه لان حالهما دون حال الصبي فالصبي عديم العقل إلى الإصابة عادة والمجون
عديم العقل إلى الإصابة عادة ولهذا جاز اعتاق الصبي في الرقاب الواجبة دون المجنون فأما
إذا بلغ عاقلا فلا حجر عليه بعد ذلك على ما قال أبو حنيفة رحمه الله الحجر على الحر باطل ومراده
إذا بلغ عاقلا وحكى عنه أنه كان يقول لا يجوز الحجر الا على ثلاثة على المفتى الماجن وعلى
المتطبب الجاهل وعلى المكارى المفلس لما فيه من الضرر الفاحش إذا لم يحجر عليهم فالمفتي
الماجن يفسد على الناس دينهم والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم والمكاري المفلس يتلف أموالهم
فيمتنعون من ذلك دفعا للضرر فان الحجر في اللغة هو المنع والاختلاف بين العلماء رحمهم
الله ورأي هذا في فصلين أحدهما الحجر على السفيه المبذر والآخر الحجر على المديون بسبب
الدين والسفه هو العمل بخلاف موجب الشرع وهو اتباع الهوى وترك ما يدل عليه العقل
والحجي وأصل المسامحة في التصرفات والبر والاحسان مندوب إليه شرعا ولكن بطريق
السفه والتبذير مذموم شرعا وعرفا ولهذا لا تنعدم الأهلية بسبب السفه ولا يجعل السفه
عذرا في اسقاط الخطاب عنه بشئ من الشرائع ولا في اهدار عبارته فيما يقر به على نفسه من
الأسباب الموجبة للعقوبة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات بسبب
السفه أيضا وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن
التصرفات المحتملة للفسخ إلا أن أبا يوسف ومحمدا رحمهما الله قالا إن الحجر عليه على سبيل
النظر له وقال الشافعي على سبيل الزجر والعقوبة له ويتبين هذا الخلاف بينهم فيما إذا كان
مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعند الشافعي رحمه الله يحجر عليه بهذا النوع من
الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر عليه
فالفاسق عند أصحابنا جميعا رحمهم الله أهل للولاية على نفسه على العموم وعلى غيره إذا وجد
شرط تعدى ولايته لغيره أما من جوز الحجر على السفيه فقد احتج بقوله تعالى فإن كان الذي
عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل وهو تنصيص على أن
اثبات الولاية على السفيه وانه مولى عليه ولا يكون ذلك الا بعد الحجر عليه وقال الله تعالى ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم إلى أن قال واكسوهم وهذا أيضا تنصيص على اثبات الحجر عليه بطريق
النظر له فان الولي الذي يباشر التصرف في ماله على وجه النظر منه له وروى أن حبان بن منقذ
الأنصاري رضي الله عنه كان يغبن في البياعات لآمة أصابت رأسه فسأل أهله رسول الله
157

صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه فقال إني لا أصبر عن البيع فقال عليه الصلاة والسلام إذا
بايعت فقل لا خلابة ولى الخيار ثلاثة أيام فلو لم يكن الحجر بسبب التبذير في المال مشروعا
عرفا لما سأل أهله ذلك ولما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وان عبد الله بن جعفر رضي الله عنه
كان يفنى ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى دار للضيافة بمائة ألف فبلغ ذلك علي
ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال لآتين عثمان ولأسألنه أن يحجر عليه فاهتم بذلك عبد الله
رضي الله عنه وجاء إلى الزبير رضي الله عنه وأخبره بذلك فقال أشركني فيها فأشركه ثم جاء علي
إلى عثمان رضي الله عنه وسأله أن يحجر عليه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وإنما
قال ذلك لان الزبير رضي الله عنه كان معروفا بالكياسة في التجارة فاستدل برغبته في الشركة
على أنه لا غبن في تصرفه فهذا اتفاق منهم على جواز الحجر بسبب التبذير فان عليا رضي الله عنه
سأل وعثمان رضي الله عنه اشتغل ببيان العذر واهتم لذلك عبد الله رضي الله عنه واحتال الزبير
لدفع الحجر عنه بالشركة فيكون اتفاقا منهم على جواز الحجر بهذا السبب وان عائشة رضي الله عنه
ا كانت تتصدق بمالها حتى روى أنها كان لها رباع فهمت ببيع رباعها لتتصدق بالثمن
فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فقال لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها والمعنى فيه أنه
مبذر في ماله فيكون محجورا عليه كالصبي بل أولى لان الصبي إنما يكون محجورا عليه لتوهم
التبذير منه وقد تحقق التبذير والاسراف هنا فلان يكون محجورا عليه أولى وتحقيقه وهو
أن للصبي ثلاثة أحوال حال عدم العقل وحال نقصان العقل بعد ما صار مميزا وحال السفه
والتبذير بعد ما كمل عقله بان قارب أو أن بلوغه ثم عدم العقل ونقصانه بعد البلوغ يساوى عدم
العقل ونقصانه قبل البلوغ في استحقاق الحجر به فكذلك السفه والبلوغ يساوى السفه قبل
البلوغ بعد كمال العقل في استحقاق الحجر به وكان هذا الحجر بطريق النظر له لان التبذير
وإن كان مذموما فهو مستحق النظر باعتبار أصل دينه (ألا ترى) ان العفو عن صاحب
الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وذلك يكون نظرا له والدليل عليه أن في حق منع المال
يجعل السفه بعد البلوغ كالسفه قبل البلوغ بالقياس على عدم العقل ونقصان العقل وكان منع
المال بطريق النظر له فكذلك الحجر عليه عن التصرف لان منع المال غير مقصود لعينه بل
لابقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإذا كان هو مطلق
التصرف لا يفيد منع المال شيئا وإنما يكون فيه زيادة مؤنة وتكلف على الولي في حفظ ماله
158

إلى أن يتلفه بتصرفه وأما أبو حنيفة رحمه الله فاستدل بقوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا
ان يكبروا فقد نهى الولي عن الاسراف في ماله مخافة أن يكبر فلا يبقى له عليه ولاية
والتنصيص على زوال ولايته عنه بعد الكبر يكون تنصيصا على زوال الحجر عنه بالكبر لان
الولاية عليه للحاجة وإنما تنعدم الحاجة إذا صار هو مطلق التصرف بنفسه ولما سئل أبو
حنيفة رحمه الله عن هذه المسألة استدل بآيات الكفارات من الظهار والقتل وغيرها ففي
هذه العمومات بيان أن هذه الكفارات تجب على كل من يتحقق منه أسبابها شرعا سفيها كان
أو غير سفيه وارتكاب هذه الأسباب اختيارا نوع من السفه فدل انه مع السفه يتصور منه
السبب الموجب لاستحقاق المال ومن ضرورته أن لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا وبه يتبين ان
الحجر عن التصرفات ليس فيه كثير فائدة لتمكنه من اتلاف جميع ماله بهذه الأسباب والمعنى
فيه أنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد وفى هذين الوصفين إشارة إلى
أهلية التصرف والمحلية فيه لان بكونه مخاطبا تثبت أهلية التصرف فان التصرف كلام ملزم
وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام المميز بنفسه بكونه مخاطبا والمحلية تثبت بكونه خالص
ملكه وذلك يثبت باعتبار حرية المالك وبعد ما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه
الا لمانع والسفه لا يصلح أن يكون معارضا للحرية والخطاب في المنع من نفوذ التصرف لان
بسبب السفه لا يظهر نقصان علقه ولكن السفيه يكابر عقله ويتابع هواه وهذا لا يكون معارضا
في حق التصرف كما لا يكون معارضا في توجه الخطاب عليه بحقوق الشرع وكونه معاقبا على
تركه ان زوال الحجر وتوجه الخطاب في الأصل ينبنى على اعتدال الحال إلا أن اعتدال الحال باطنا
لا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو البلوغ عن عقل
مقامه تيسيرا على ما هو الأصل انه متى تعذر الوقوف على المعاني الباطنة تقام الأسباب الظاهرة
مقامها كما أقيم السير المديد مقام المشقة في جواز الترخص وأقيم حدوث ملك الحل بسبب
ملك الرقبة مقام حقيقة استعمال الرحم بالماء في وجوب الاستبراء ثم هذا السبب الظاهر يقوم
مقام ذلك المعنى الخفي فيدور الحكم معه وجودا وعدما فكما لا يعتبر الرشد قبل البلوغ وان علم أنه
أصاب ذلك في زوال الحجر عنه فكذلك لا يعتبر السفه والتبذير بعد البلوغ في اثبات
الحجر عليه (ألا ترى) أن في حكم الخطاب اعتبر هذا المعنى فدار مع السبب الظاهر وهو
البلوغ عن عقل وجودا وعدما فكذلك في حكم التصرفات بل أولى لان توجه الخطاب عليه
159

إنما يكون شرعا والله تعالى أعلم بحقيقة باطنه وحكم التصرف بينه وبين العباد لا طريق
لهم إلى معرفة ما في باطنه حقيقة فلما أقيم هناك السبب الظاهر مقام المعنى الخفي فهنا أولى
والدليل عليه جواز اقراره على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة وإقامة ذلك عليه وتلك
العقوبات تندرئ بالشبهات فلو بقي السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل لكان الأولى أن يعتبر
ذلك فيما يندرئ بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر له لكان الأولى أن يحجر عليه
عن الاقرار بالأسباب الموجبة للعقوبة لان الضرر في هذا أكثر فان الضرر هنا يلحقه في
نفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى وما قالا من
أن النظر له باعتبار أصل دينه يضعف بهذا الفصل ثم هذا النوع من النظر جائز لا واجب كما
في العفو عن صاحب الكبيرة ومن أصلهم أن الحجر عليه يجب وإنما يجوز النظر له بطريق
لا يؤدى إلى الحاق الضرر به وهو أعظم من ذلك النظر وفى اهدار قوله في التصرفات الحاق
له بالبهائم والمجانين فيكون الضرر في هذا أعظم من النظر الذي يكون له في الحجر من
التصرفات لان الآدمي إنما باين سائر الحيوانات باعتبار قوله في التصرفات فاما منع المال منه
فعلى طريق بعض مشايخنا رحمه الله هو ثابت بطريق العقوبة عليه ليكون زجرا له عن التبذير
والعقوبات مشروعة بالأسباب الحسية فاما اهدار القول في التصرفات فمعنى حكمي والعقوبات
بهذا الطريق غير مشروعة كالحدود ولا يدخل عليه اسقاط شهادة القاذف فإنه متمم لحده
عندنا ويكون تابعا لما هو حسي وهو إقامة الجلد لا مقصودا بنفسه ولئن ثبت جواز ذلك
ولكن لا يمكن اثبات العقوبة بالقياس بل بالنص وقد ورد النص بمنع المال إلى أن يؤنس منه
الرشد ولا نص في الحجر عليه عن التصرف بطريق العقوبة فلا ثبته بالقياس وهو نظير
ما قال أصحابنا رحمهم الله ان البكر إذا كانت مخوفا عليها فللولي أن يضمها إلى نفسه وكذلك
الغلام البالغ إذا كان مخوفا عليه فللولي أن يضمه إلى نفسه وبان ثبت له حق الحيلولة بينه وبين
نفسه في التفرد بالسكنى لمعنى الزجر لا يستدل به على أنه يسقط اعتبار قوله في التصرف في
نفسه نكاحا أو منع المال منه باعتبار بقاء أثر الصبي لان العادة أن أثر الصبي يبقى زمانا في أوائل
البلوغ ولهذا لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال منه وبان جعل أثر الصبي كنفس الصبا
في منع المال منه فذلك لا يدل على أن يجعل كذلك في الحجر عليه كما أن العدة تعمل عمل
النكاح في المنع من النكاح دون ايفاء الحل بعد البينونة وهذا لان نعمة اليد على المال نعمة
160

زائدة واطلاق اللسان في التصرفات نعمة أصلية فبان جواز الحاق ضرر يسير به في منع
نعمة زائدة لتوفر النظر عليه لا يستدل على أنه يجوز الحاق الضرر العظيم به بتفويت النعمة
الأصلية لمعنى النظر له فاما الآيات فقيل المراد بالسفيه الصغير أو المجنون لان السفه عبارة عن
الخفة وذلك بانعدام العقل ونقصانه وعليه يحمل قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها
أو ضعيفا أي صبيا أو مجنونا وكذلك قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم أما أن يكون
المراد الصبيان أو المجانين بدليل انه لا يثبت ولاية الولي عليه ومن يوجب الحجر على السفيه يقول إن
ولاية الولي تزول عنه بالبلوغ عن عقل على ما بينه أو المراد نهى الأزواج عن دفع المال
إلى النساء وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله (ألا ترى) أنه قال وأموالكم وذلك
يتناول أموال المخاطبين بهذا النهى لا أموال السفهاء وحديث حبان بن منقذ دليلنا ذكر أبو
يوسف رحمه الله في الأماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحجر عليه وعلى الرواية الأخرى
أطلق عنه الحجر لقوله لا أصبر عن البيع ومن يجعل السفه موجبا للحجر لا يقول يطلق عنه
الحجر بهذا القول فعرفنا أن ذلك لم يكن حجرا لازما وحديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه
دليلنا أيضا لان عثمان رضي الله عنه امتنع من الحجر عليه مع سؤال علي رضي الله عنه
وأكثر ما فيه أنه لم يكن في التصرف غبن ذلك حين رغب الزبير رضي الله عنه في الشركة
ولكن المبذر وان تصرف تصرفا واحدا على وجه لا غبن فيه فإنه يحجر عليه عند من يرى الحجر
فلما لم يحجر عليه دل ان ذلك على سبيل التخويف وحديث عائشة رضي الله عنها دليلنا فإنه لما
بلغها قول أبن الزبير حلفت أن لا يكلم ابن الزبير أبدا فإن كان الحجر حكما شرعيا لما استجازت
هذا الحلف من نفسها مجازاة على قوله فيما هو حكم شرعي وبهذا يتبين أن الزبير إنما قال
ذلك كراهة أن يفنى مالها فتبتلي بالفقر فتصير عيالا على غيرها بعد ما كان يعولها رسول الله
صلى الله عليه وسلم والمصير إلى هذا أولى ليكون أبعد عن نسبة السفه والتبذير إلى الصحابة
رضي الله عنهم فان بلغ خمسا وعشرين سنة لم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه في قول أبي حنيفة
رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لم يدفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لقوله
تعال فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فهذه آية محكمة لم ينسخها شئ فلا يجوز دفع
المال إليه قبل إيناس الرشد منه (ألا ترى) أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع
المال إليه بهذه الآية فكذلك إذا بلغ خمسا وعشرين لان السفه يستحكم بمطاولة المدة ولان
161

السفه في حكم منع المال منه بمنزلة الجنون والعته وذلك يمنع دفع المال إليه بعد خمس وعشرين
سنة كما قبله فكذلك السفه وأبو حنيفة استدل بقوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن
يكبروا معناه ان يكبروا يلزمكم دفع المال إليهم وقال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم والمراد
البالغين فهذا تنصيص على وجوب دفع المال إليه بعد البلوغ الا انه قام الدليل على منع المال منه
بعد البلوغ إذا لم يؤنس رشده وهو ما تلوا فان الله تعالى قال حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم
رشدا وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بين ان دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس
الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال
إليه مطلق بما تلونا غير معلق بشرط ومدة البلوغ بالسن ثمانية عشر سنة فقدرنا مدة القرب
منه بسبع سنين اعتبار بمدة التمييز في الابتداء على ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في
قوله مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ثم قد بينا ان أثر الصبا يبقى بعد البلوغ إلى أن يمضى
عليه زمان وبقاء أثر الصبا كبقاء عينه في منع المال منه ولا يبقى أثر الصبا بعد ما بلغ خمسا
وعشرين سنة لتطاول الزمان به منذ بلغ ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله لو بلغ رشيدا ثم صار
سفيها لم يمنع منه المال لان هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال منه أو منع المال كان
على سبيل التأديب له والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب فإذا بلغ خمسا وعشرين
سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب لأنه يتوهم أن يصير جدا لان البلوغ بالانزال
بعد اثنتي عشرة سنة يتحقق فإذا أحبل جاريته وولدت لستة أشهر فإذا ثم إن ولده أحبل جاريته بعد
اثنتي عشرة سنة وولدت لستة أشهر صار الأول جدا بعد تمام خمس وعشرين سنة ومن صار
فرعه أصلا فقد تناهى في الأصلية فإذا لم يؤنس رشده عرفنا أنه انقطع منه رجاء التأديب فلا
معنى لمنع المال منه بعد ذلك والى هذا أشار في الكتاب فقال أرأيت لو بلغ ستين سنة ولم
يؤنس منه الرشد وصار ولده قاضيا أو نافلته أكان يحجر على أبيه وحده ويمتنع المال منه هذا
قبيح ثم يقول بعد تطاول الزمان به لابد أن يستفيد رشدا اما بطريق التجربة أو الامتحان
فإن كان منع المال عنه بطريق العقوبة فقد تمكنت شبهة بإصابة نوع من الرشد والعقوبة
تسقط بالشبهة وإن كان هذا حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى فقوله رشدا منكر في موضع
الاثبات والنكرة في موضع الاثبات تخص ولا تعم فإذا وجد رشدا ما فقد وجد الشرط
فيجب دفع المال إليه وهذا معنى ما نقل عن مجاهد رحمه الله في معنى قوله فان آنستم منهم رشدا
162

أي عقلا لأنه بالعقل يحصل له رشد ما وفى الكتاب تتبع على أبي حنيفة رحمه الله بقوله أي
فائدة في منع المال منه مع اطلاق التصرف وفى منع المال منه زمانا ثم الدفع إليه قبل إيناس
الرشد منه وقد أوضحنا الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بما ذكرنا ثم السفيه أنما يبذر ماله عادة في
التصرفات التي لا تتم الا باثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة أو الهبة أو الصدقة فإذا كانت
يده مقصورة من المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وان
كأن لا يحجر عليه ثم إذا بلغ سفيها عند محمد رحمه الله يكون محجورا عليه بدون حجر القاضي
وقال أبو يوسف رحمه الله لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي وكذلك لو بلغ رشيدا
ثم صار سفيها فمحمد يقول قد قامت الدلالة لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون
والعته والحجر يثبت بهما من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك في السفه وقاس الحجر
بسبب الصغر والرق وأبو يوسف يقول الحجر على السفيه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر
والضرر ففي ابقاء الملك له نظر وفى اهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه الا
بقضاء القاضي * توضيحه ان السفه ليس بشئ محسوس وإنما يستدل عليه بان يغبن في التصرفات
وقد يكون ذلك للسفه وقد تكون جبلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان مختبلا مترددا
لا يثبت حكمه الا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعبد ولان الحجر بهذا السبب
مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله فلا يثبت الا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين والكلام في
الحجر بسبب الدين في موضعين أحدهما أن من ركبته الديون إذا خيف أن يلجئ ماله بطريق
الاقرار فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه عند أبي حنيفة رحمه الله لا يحجر عليه القاضي
وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وتنفذ
تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفى هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز عندهما الحجر عليه
بطريق النظر فكذلك يحجر لأجل النظر للمسلمين وعند أبي حنيفة لا يحجر على المديون نظرا له
فكذلك لا يحجر عليه نظرا للغرماء ولما في الحيلولة بينه وبين التصرف في ماله من الضرر عليه
وإنما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه الحاق الضرر به الا بقدر ما ورد الشرع به وهو
الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف
التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر عليه في اهدار قوله فوق الضرر في حبسه
ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر عليه ثم
163

هذا الحجر عندهما لا يثبت الا بقضاء القاضي ومحمد رحمه الله يفرق بين هذا وبين الأول
فيقول هنا الحجر لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم الا بقضاء القاضي له
والحجر على السفيه لأجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فيثبت حكمه بدون
القضاء والفصل الثاني انه لا يباع على المديون ماله في قول أبي حنيفة رحمه الله العروض
والعقار في ذلك سواء لا مبادلة أحد النقدين بالآخر فللقاضي أن يفعل ذلك استحسانا لقضاء
دينه وقال أبو يوسف ومحمد يبيع عليه ماله فيقضي دينه بثمنه لحديث معاذ رضي الله عنه فإنه
ركبته الديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص وقال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته أيها الناس إياكم والدين فان أوله هم وآخره حزن
وان أسيفع جهينة قد رضى من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح وقد دين
به إلا أنى بائع عليه ماله فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص فمن كان له عليه دين فليفد ولم ينكر
عليه أحد من الصحابة فكان هذا اتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله والمعنى فيه أن
بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل انه يحبس إذا امتنع منه وهو ما يجزى فيه
النيابة والأصل ان امتنع عن ايفاء حق مستحق عليه وهو مما يجزي فيه النيابة ناب القاضي
فيه منابه كالذي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي عليه بهذا والتعيين بعد مضى المدة إذا
أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما وهذا بخلاف المديون إذا كان معسرا
فان القاضي لا يؤاجره ليقضى دينه من أجرته وكذلك لا يبيع ما عليه من ثياب بدنه لان
ذلك غير مستحق عليه بدليل انه لا يحبسه لأجله وكذلك الدين إذا وجب على امرأة فان
القاضي لا يزوجها ليقضى الدين من صداقها لان ذلك غير مستحق عليها بدليل انها لا تحبس
لتباشر ذلك بنفسها فلا ينوب القاضي فيه منابها وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وبيع المال على المديون
بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وقال عليه الصلاة والسلام لا يحل مال امرئ مسلم الا
بطيبة نفس منه ونفسه لا تطيب ببيع القاضي ماله عليه فلا ينبغي له أن يفعله لهذا الظاهر والمعنى
في أن بيع المال غير مستحق عليه فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عند امتناعه كالإجارة
والتزويج بيان الوصف أن المستحق عليه قضاء الدين وجهة بيع المال غير متعين لقضاء الدين
فقد يتمكن من قضاء الدين بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون
164

للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله والدليل عليه انه يحبسه بالاتفاق وقد ورد
الأثر به على ما روى أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره فحبسه رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له وضمن نصيب شريكه ونحن نعلم أنه ما حبسه الا
بعد علمه بيساره لان ضمان المعتق لا يجب الا على الموسر ومع ذلك اشتغل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بحبسه حتى باع بنفسه فعرفنا أن المديون يحبس لقضاء الدين ولو جاز للقاضي بيع
ماله لم يشتغل بحبسه لما في الحبس من الاضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا
معنى للمصير إليه بدون الحاجة وفى اتفاق العلماء رحمهم الله على حبسه في الدين دليل على أنه
ليس للقاضي ولاية بيع ماله في دينه وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم لان عند اصرار المولى
على الشرك اخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضي منابه وكذلك في حق
العنين لما تحقق عجزه عن الامساك بالمعروف فالتسريح مستحق عليه بعينه فأما مبادلة أحد النقدين
بالآخر بان كان الدين عليه دراهم وماله دنانير ففي القياس ليس للقاضي ان يباشر هذه
المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين وفى الاستحسان
يفعل ذلك لان الدراهم والدنانير جنسان صورة وجنس واحد معنى ولهذا يضم أحدهما
إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان * للقاضي أن يقضى دينه
به فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى * فان قيل فعلى هذا ينبغي أن يكون لصاحب
الدين ولاية الاخذ من غير قضاء كما لو ظفر بحبس حقه بالاجماع ليس له ذلك قلنا لأنهما
جنسان صورة وإن كان جنسا واحدا حكما فلانعدام المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين
بأخذه لان فيه معنى المبادلة من وجه ولوجود المجانسة معنى قلنا للقاضي أن يقضى دينه به
* يوضحه ان من العلماء من يقول لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء
ولا رضا وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله والقاضي مجتهد فجعلنا له ولاية الاجتهاد هنا في مبادلة
أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه ولا يوجد هذا المعنى في سائر الأموال وفيه اضرار
بالمديون من حيث ابطال حقه عن عين ملكه وللناس في الأعيان أغراض ولا يجوز للقاضي
أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به فوق ما هو مستحق عليه ثم هذا المعنى لا يوجد
في النقود لان المقصود هناك المالية دون العين وأما تأويل معاذ رضي الله عنه فنقول إنما
باع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله بسؤاله لأنه لم يكن في ماله وفاء بدينه فسأل رسول
165

الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير
فيه وفاء بديونه وهذا لان عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع
ماله ولا يظن بمعاذ رضي الله عنه أنه كان يأبى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ببيع ماله
حتى يحتج ببيعه عليه بغير رضاه فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ولأجله ركبته الديون
فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشهور في حديث
أسيفع رضي الله عنه ان عمر رضي الله عنه قال إني قاسم ماله بين غرمائه فيحمل على أنه كان
ماله من جنس الدين وان ثبت البيع فإنما كان ذلك برضاه (ألا ترى) ان عندهما القاضي
لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول إنه ابتدأهم بذلك
وأمرهم ان يفدوا اليه فدل انه كان ذلك برضاه ثم قد تم الكتاب على قول أبي حنيفة رحمه
الله وإنما التفريع بعد هذا على قول من يرى الحجر فنقول بين من يرى الحجر بسبب السفه
اختلاف في صفة الحجر فعلى قول الشافعي رحمه الله الحجر به بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى
لا ينفذ بعد الحجر شئ من تصرفاته سوى الطلاق لان السفه لا يزيل الخطاب ولا يخرجه
من أن يكون أهلا لالتزام العقوبة باللسان باكتساب سببها أو بالاقرار بها بمنزلة الرق
فكما أن بعد الرق لا ينفذ شئ من تصرفاته سوى الطلاق فكذلك بعد الحجر بسبب السفه
وأبو يوسف ومحمد قالا المحجور عليه بسبب السفه في التصرفات كالهازل يخرج كلامه على
غير نهج كلام العقلاء لقصده اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك
السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل
لا لنقصان في عقله وكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق والعتاق لا يؤثر فيه
السفه ولا يجوز أن يجعل هذا نظير الحجر بسبب الرق لان ذلك الحجر لحق الغير في المحل
الذي يلاقيه تصرفه حتى فيما لا حق للغير فيه يكون تصرفه نافذا وهنا لا حق لاحد في المحل
الذي يلاقيه تصرفه ثم على مذهبهما القاضي ينظر فيما باع واشترى هذا السفيه فان رأى
اجازته أجازه وكان جائزا لانعدام الحجر قبل القضاء عند أبي يوسف رحمه الله ولإجازة
القاضي عند محمد رحمه الله فان حاله لا يكون دون حال الذي لم يبلغ إذا كان عاقلا وهناك إذا
باع واشترى وأجازه القاضي جاز وهذا لان الحجر عليه لمعنى النظر وربما يكون النظر له في
إجازة هذا التصرف فلهذا نفذ بإجازة القاضي سواء باشره السفيه أو الصبي العاقل قال وهما
166

سواء في جميع الأشياء الا في خصال أربع أحدهما لا يجوز لوصي الأب أن يبيع شيئا من مال
هذا الذي بلغ وهو سفيه الا بأمر الحاكم ويجوز له البيع والشراء على الذي لم يبلغ لأن ولاية
الوصي عليه ثابتة إلى وقت البلوغ (ألا ترى) أنه ينفرد بالاذن له والحجر عليه وانه قائم
مقام الأب في ذلك وللأب ولاية على ولده ما لم يبلغ فاما بعد ما بلغ عاقلا لا يبقى للوصي عليه
ولاية أما عند أبي يوسف فلانه صار ولى نفسه ما لم يحجر عليه القاضي ومن ضرورة كونه
ولى نفسه انتفاء ولاية الوصي عنه وأما عند محمد فلان البلوغ عن عقل مخرج له من أن يكون
مولى عليه وتثبت له الولاية على نفسه (ألا ترى) إن لمعنى النظر له امتنع ثبوت أحد الحكمين
وهو ثبوت الولاية له في التصرفات بنفسه ولا يتحقق مثل ذلك النظر في ابقاء ولاية الولي عليه
ثم قد بينا أن تأثير السفه كتأثير الهزل ولا أثر للهزل في اثبات الولاية عليه للوصي وللهزل
تأثير في ابطال تصرفه فلهذا لا يجوز تصرف الوصي عليه إلا أن يأمره الحاكم بذلك فحينئذ
يقوم هو في التصرف له مقام القاضي ومعلوم ان القاضي إذا حجر عليه لا يتركه ليموت جوعا
ولكن يتصرف له فيما يحتاج إليه وربما لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه لكثرة اشغاله فلا بد من
أن يقيم غيره فيه مقامه والثاني أن السفيه إذا أعتق مملوكا له نفذ عتقه بخلاف الذي لم
يبلغ لما بينا ان تأثير السفه كتأثير الهزل ثم في قول محمد وهو قول أبى يوسف الأول على العبد
أن يسعى في قيمته وفى قول أبى يوسف الآخر ليس عليه السعاية في قيمته لأنه لو سعى إنما
يسعى لمعتقه والمعتق لا تلزمه السعاية قط لحق معتقه بحال إنما تلزمه السعاية لحق غيره والثاني
ان تأثير السفه كتأثير الهزل ومن أعتق مملوكه هازلا لا تلزمه السعاية في قيمته فهذا قياسه
وجه قول محمد رحمه الله ان الحجر على السفيه لمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض
لأجل النظر لغرمائه وورثته ثم هناك إذا أعتق عبدا وجب عليه السعاية لغرمائه أو في ثلثي
قيمته لورثته إذا لم يكن عليه دين ولا مال سواه لان رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر
رده عليه فيكون الرد بايجاب السعاية فهنا أيضا رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر رد عينه
فيكون الرد بايجاب السعاية فهنا أيضا واجب لمعنى النظر له وقد تعذر رده فكان الرد بايجاب
السعاية وقد بينا أن معنى النظر له في حكم الحجر بمنزلة النظر للمسلمين في الحجر بسبب الدين
فكذلك في حكم السعاية والثالث أن الذي لم يبلغ إذا دبر عبده لا يصح تدبيره وهذا السفيه
إذا دبر عبده جاز تدبيره لان التدبير يوجب حق العتق للمدبر فيعتبر بحقيقة العتق إلا أن
167

هناك تجب عليه السعاية في قيمته وهنا لا تجب الا بعد صحة التدبير في مال مملوك له يستخدمه
ولا يمكن ايجاب نقصان التدبير عليه لأنه لما بقي على ملكه والمولى لا يستوجب على مملوكه
دينا تعذر ايجاب النقصان عليه (ألا ترى) أنه لو دبر عبده بمال وقبله العبد كان التدبير
صحيحا ولا يجب المال بخلاف ما إذا كاتبه أو أعتقه على مال فان مات المولى قبل أن يؤنس منه
لرشد سعى الغلام في قيمته مدبرا لان بموت المولى عتق فكأنه أعتقه في حياته فعليه السعاية
في قيمته وإنما لاقاه المعتق وهو مدبر فيسعى في قيمته مدبرا (ألا ترى) أن مصلحا لو دبر عبدا
له في صحته ثم مات وعليه دين يحيط بقيمته أن على العبد أن يسعى في قيمته مدبرا لغرمائه
فهذا مثله وكذا لو أعتقه بعد التدبير نفذ عتقه وعليه السعاية في قيمته لما قلنا والرابع أن وصايا
الذي لم يبلغ لا تكون صحيحة والذي بلغ مفسدا إذا أوصى بوصايا فالقياس فيه كذلك أنها باطلة
بمنزلة تبرعاته في حياته ولكنا نستحسن أن ما وافق الحق وما يتقرب به إلى الله تعالى وما
يكون على وجه الفسق من الوصية للقرابات ولم يأت بذلك سرف ولا أمر يستقبحه المسلمون
أنه ينفذ ذلك كله من ثلث ماله لان الحجر عليه لمعنى النظر له حتى لا يتلف ماله فيبتلى بالفقر
الذي هو الموت الأحمر وهذا المعنى لا يوجد في وصاياه لان أوان وجوبها بعد موته وبعدما
وقع الاستغناء عن المال في أمر دنياه فإذا حصلت وصاياه على وجه يكون فيه نظر منه لامر
اضربه أو لاكتساب الثناء الحسن بعد موته لنفسه وجب تنفيذه لان النظر له في تنفيذ هذه
الوصايا والتدبير من هذه الجملة فيعتق به بعد الموت لهذا وكان ينبغي أن لا يجب على المدبر السعاية
ولكنه أوجب السعاية لما فيه من معنى ابطال المالية فكلام أبى يوسف يتضح في هذا الفصل ثم
العلماء رحمهم الله اختلفوا في وصية الذي لم يبلغ فأهل المدينة رحمهم الله يجوزون من وصاياه ما وافق
الحق وبه أخذ الشافعي رحمه الله على ما سنبينه في كتاب الوصايا وقد جاءت فيه الآثار حتى روى
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز وصية غلام يفاع وفى رواية يافع وهو المراهق وأن شريحا
رحمه الله سئل عن وصية غلام لم يبلغ قال إن أصاب الوصية فهو جائز وهكذا نقل عن الشعبي رحمه
الله فحال هذا الذي بلغ وصار مخاطبا بالاحكام أقوى من حال الذي لم يبلغ فاختلاف العلماء في وصية
الذي لم يبلغ يكون اتفاقا منهم في وصية السفيه أنه إذا وافق الحق وجب تنفيذه فهذا وجه آخر
للاستحسان ثم الحاصل أن السفه لا يجعل كالهزل في جميع التصرفات ولا كالصبا ولا كالمرض
ولكن الحجر به لمعنى النظر له فالمعتبر فيه توفر النظر عليه وبحثه يلحق ببعض هذه الأصول
168

في كل حادثة فان جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية
أم ولد له فان مات كانت حرة لا سبيل عليها لان توفر النظر في الحاقه بالمصلح في حكم
الاستيلاد فإنه محتاج إلى ذلك لابقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض المديون
إذا ادعي نسب ولد جاريته كان هو في ذلك كالصحيح حتى أنها تعتق من جميع ماله بموته ولا
تسعى هي ولا ولدها في شئ لان حقه مقدم على حق غرمائه بخلاف ما لو أعتقها ولو لم يكن
معها ولد وقال هذه أم ولد كانت بمنزلة أم الولد يقدر على بيعها فان مات سعت في جميع قيمتها
بمنزلة المريض إذا قال لجاريته وليس معها ولد هذه أم ولدى وهذا لأنه إذا كان معها ولد
فثبوت نسب الولد بمنزلة الشاهد لها في ابطال حق الغير فكذلك في دفع حكم الحجر عن
تصرفه بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد فإنه لا شاهد له هنا فاقراره لها بحق العتق بمنزلة اقراره
بحقيقة الحرية فلا يقدر على بيعها بعد ذلك ويسعى في قيمتها بعد موته كما لو أعتقها ولو كان له
عبد لم يولد في ملكه فقال هذا ابني ومثله يولد لمثله فهو ابنه يعتق ويسعى في قيمته لأنه
أصل العلوق ولما لم يكن في ملكه كانت دعواه دعوى تحرير فيكون كالاعتاق (ألا ترى)
أن المريض المديون إذا قال لعبد لم يولد في ملكه هذا ابني عتق وسعى في قيمته ولو اشترى
هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل
في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه لأنه ملك ابنه ثم يسعى
في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشترى شئ من ذلك لأنه وان ملكه بالقبض
فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم
ملحق بالصبي وإذا لم يجب على المحجور شئ لا يسلم له أيضا شئ من سعايته فتكون السعاية
الواجبة على العبد للبائع ولو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام فقبضه وادعى انه ابنه
فإنه يعتق ويلزمه السعاية في قيمته بمنزلة ما لو أعتقه (ألا ترى) أن المريض المديون لو وهب
له ابنه المعروف أو وهب له غلام في مرضه فادعى انه ابنه ثم مات سعى الغلام في قيمته
لغرمائه ولو أن هذا الذي بلغ مفسدا تزوج امرأة جاز نكاحه وينظر إلى ما تزوجها عليه
والى مهر مثلها فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها مما سمى وهو في ذلك كالمريض
المديون فان التزوج من حوائجه ومن ضرورة صحة النكاح وجوب مقدار مهر المثل فأما
الزيادة على ذلك فالتزام بالتسمية ولا نظر له في هذا الالتزام فلا تثبت هذه الزيادة كالمريض
169

إذا تزوج امرأة بأكثر من صداقها مثلها يلزمه من المسمى مقدار مهر مثلها فإذا طلقها قبل
الدخول وجب لها نصف المهر في ماله لان التسمية صحيحة في مقدار مهر المثل وتنصف
المفروض بالطلاق قبل الدخول حكم ثابت بالنص وكذلك لو تزوج أربع نسوة أو تزوج
كل يوم واحدة ثم طلقها وبهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله أنه لا فائدة في الحجر عليه لأنه
لا ينسد باب التلاف المال عليه وانه يتلف ماله بهذا الطريق إذا عجز عن اتلافه بطريق البيع
والهبة وهو يكتسب المحمدة في البر والاحسان والمذمة في التزويج والطلاق قال عليه الصلاة
والسلام لعن الله كل ذواق مطلاق ولو حلف بالله أو نذر نذورا من هدى أو صدقة لم ينفذ له
القاضي شيئا من ذلك ولم يدعه يكفر أيمانه بذلك لأنه حجره عن التصرف في ماله فيما يرجع إلى
الاتلاف ولو لم يمنعه ذلك إذا أوجبه على نفسه لم يحصل المقصود بالحجر لأنه تيسر عليه النذر
بالتصدق بجميع ماله ثم عليه أن يصوم لكل يمين حنث فيها ثلاثة أيام متتابعات وإن كان هو
مالكا للمال لان يده مقصورة عن ماله فهو بمنزلة ابن السبيل المنقطع عن ماله وبمنزلة من يكون ماله
دينا على انسان أو غصبا في يده وهو يأبى أن يعطيه فله أن يكفر بالصوم كذلك هنا ولو ظاهر
هذا المفسد من امرأته صح ظهاره كما يصح طلاقه ويجزيه الصوم في ذلك لقصور يده عن
ماله بمنزلة من كان ماله غائبا عنه * فان قيل هناك لو كان في ماله عبد لم يجز له أن يكفر بالصوم
قلنا لان هناك يقدر على اعتاقه عن ظهاره وإن لم يكن في يده وهنا لا يقدر على ذلك لأنه لو
أعتق عبده وجب على العبد السعاية في قيمته ومع وجوب السعاية عليه لا يجوز عتقه عن الظهار
(ألا ترى) أن مريضا مصلحا لو أعتقه عبده عن ظهاره أو قتله وعليه دين مستغرق ثم مات
سعى الغلام في قيمته ولم يجز عن الكفارة للسعاية التي وجبت فلهذا أوجبنا عليه صوم شهرين
متتابعين في كفارة الظهار والقتل فان قيل كان ينبغي أن ينفذ اعتاقه من غير سعاية لان هذا مما
يتقرب به إلى ربه ويسقط به الواجب عن ذمته فالنظر له في تنفيذه * قلنا لو فتح عليه هذا الباب
لكان إذا شاء أن يعتق عبدا من عبيده وقيل له ان عتقك لا يجوز الا بالسعاية ظاهر من امرأته
ثم أعتق بعد ذلك العبد أو حلف بيمين وحنث فيها ثم أعتق ذلك فيحصل له مقصوده من
التبذير بهذا الطريق لأنه يصير بعد هذا العتق بمنزلة من لم يظاهر فلزجره عن هذا القصد
أوجبنا السعاية على العبد إذا أعتقه وعينا عليه التكفير بالصوم فان صام المفسد أحد الشهرين ثم
صار مصلحا لم يجزه الا العتق بمنزلة معسر أيسر لأنه كان معسرا ابتداء وقد وصلت يده إلى المال
170

قبل سقوط الكفارة عنه بالصوم فعليه التكفير بالمال وأما ما وجب على المفسد من أمر أوجبه
الله تعالى من زكاة ماله أو حجة الاسلام أو غير ذلك فهو والمصلح فيه سواء لأنه مخاطب
وإن كان مفسدا وبسبب الفساد لا يستحق النظر في اسقاط شئ من حقوق الشرع عنه بمنزلة
الفاسق الذي يقصر في أداء بعض الفرائض لا يستحق به التخفيف في حكم الخطاب وهذا بخلاف
ما أوجبه على نفسه لا فيما يوجبه على نفسه بسبب التزامه فيمكن فيه معنى التبذير فيما يرجع
إلى الدنيا وإن كان فيه معنى النظر له في الآخرة كما في مباشرة التصدق فأما فيما أوجب الله
تعالى عليه فلا يتوهم معنى التبذير فهو والمصلح فيه سواء وينبغي للحاكم أن ينفذ له ما أوجب الله
تعالى عليه من ذلك إذا طلبه من أداء زكاة ماله ولكن لا يدفع المال إليه ويخلى بينه وبينه لأنه
يصرفه إلى شهوات نفسه ولكن لا يخلى بينه وبين ذلك حتى يعطيه المساكين بمحضر من أمينه
لان الواجب عليه الايتاء وهو عبارة عن فعل هو عبادة ولا يحصل ذلك الا بنيته فلهذا يدفع
المال إليه ليعطيه المساكين من زكاته بمحضر من أمينه وكذلك أن طلب من القاضي ما لا يصل
به قرابته الذي يجبر على نفقتهم إجابة إلى ذلك لان وجوب نفقتهم عليه يكون شرعا لا بسبب
من جهته ولكن القاضي لا يدفع المال إليه بل يدفعه بنفسه إلى ذوي الرحم المحرم منه لأنه لا
حاجة إلى فعله ونيته حتى أن من له الحق إذا ظفر بجنس حقه من ماله كان له أن يأخذه فكذلك
القاضي يعينه على ذلك بالدفع إليه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يأخذ بقوله في ذلك حتى تقوم
البينة على القرابة وعسرة القرائب لان اقراره بذلك بمنزلة الاقرار له بدين على نفسه فلا
يكون ملزما إياه شيئا الا في الوالد فإنهما إذا تصادقا على النسب قبل قولهما فيه كل واحد منهما
في تصديق صاحبه يقر على نفسه بالنسب وقد بينا ان السفه لا يؤثر في المنع من الاقرار
بالنسب لان ذلك من حوائجه ولكن لا يعتبر قوله في عسرة المقر له حتى يعرف انه كذلك
كما في عسرة سائر الأقارب وكذلك يقبل اقراره بالزوجية لأنه يملك انشاء التزوج فيملك
الاقرار به ويجب لها مقدار مهر مثلها ويعطيها القاضي ذلك لان وجوب ذلك حكما لصحة
النكاح وإن كان قد مضى بعد اقراره أشهر ثم أقر انه كان فرض عليه نفقة في أول تلك
الشهور لم يصدق على ما مضى من ذلك لان هذا منه اقرار بالدين لها فان نفقتها لزوجة في
الزمان الماضي لا تصير دينا الا بقضاء القاضي واقراره لها بالدين باطل وان أراد أن يحج
حجة الاسلام لم يمنع منها لأنها تلزمه شرعا من غير صنع من جهته فلا يتوهم معنى التبذير فيه
171

ثم لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا ويعطى ما يحتاج إليه كالزاد والراحلة لان ذلك من أصول
حوائجه وان أراد عمرة واحدة لم يمنع منها أيضا استحسانا وفى القياس لا يعطى نفقة السفر
لذلك لأن العمرة عندنا تطوع كما لو أراد الخروج للحج تطوعا بعد ما حج حجة الاسلام ولكنه
استحسن لاختلاف العلماء في فريضة العمرة وتعارض الاخبار في ذلك ولظاهر قوله تعالى
وأتموا الحج والعمرة لله فهذا منه أخذ بالاحتياط في أمر الدين وهو من جملة النظر له ليس من
التبذير في شئ وان أراد أن يقرن عمرة وحجا وسوق بدنة لم يمنع من ذلك لان القران
فضل عندنا وإذا لم يكن هو ممنوعا من انشاء سفر لأداء كل واحد من النسكين فلأن لا يمنع
من الجمع بينهما في سفر أولى ثم القارن يلزمه هدى ويجزيه فيه الشاة عندنا ولكن البدنة فيه
أفضل وقد اختلف العملاء من السلف في ذلك فكان أبن عمر رضي الله عنه يقول لا يجزيه الا
بقرة أو جزور فهو حين ساق البدنة قد قصد به التحرز عن موضع الخلاف وأخذ بالاحتياط
في أمر الدين وأراد أن يكون فعله أقرب إلى موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم
يكن في سوق البدنة من معنى الفساد شئ فان أراد الخروج لأداء ذلك نظر الحاكم إلى ثقة
من يريد الخروج إلى مكة فيدفع إليه ما يكفي المحجور عليه للكراء والنفقة والهدى فيلي
ذلك الرجل النفقة عليه وما أراد من الهدى وغيره بأمر المحجور عليه ولا يدفع إلى المحجور
عليه شيئا من ذلك المال مخافة أن يتلفه في شهوات نفسه ثم يقول ضاع منى فأعطوني مثله وهذا
لأنه في حالة الحضر كان ماله في يد وليه ينفق عليه منه بحسب حاجته وإذا ولاه القاضي ذلك
كان هو بمنزلة وليه في الهدى ولا بد من اعتبار أمره ونيته لمعنى القربة فاما أن يباشره الولي
بأمره أن يدفع إليه ليباشر بحضرته ما يحق عليه مباشرته فان اصطاد في احرامه صيد أو حلق
رأسه من أذى أو صنع شيئا يجب فيه الصوم أمره بان يصوم لذلك ولم يعط من ماله لما صنع
شيئا لان وجوب هذا بسبب من جهته وأصل ذلك السبب جناية فلا يستحق باعتبار النظر
فيؤمر بالصوم لذلك حتى يكون ذلك زجرا عن السفه فان رأى الحاكم أن يأمر الرجل ان
ابتلى بأذى في رأسه أو أصابه وجع احتاج فيه إلى لبس قميص أو غير ذلك أن يذبح عنه أو
يتصدق لم يكن بهذا بأس لأنه هذا من النظر له عند حاجته ولهذا جوز الشرع ذلك للمضطر
فلا بأس بأن ينظر القاضي له في ذلك فيأمره بالأداء من ماله عند حاجته ولكن لا يفعله الوكيل
الا بأمر المحجور عليه لمعنى القربة فيه فان الولاية الثابتة عليه لوليه لم تكن باختياره والعبادة
172

لا تتأدى بمثل هذه الولاية فلا بد من أمره ونيته لتحقيق معنى القربة وان تطيب المحجور
في احرامه بطيب كثير أو قبل للشهوة أو صنع ما يلزمه فيه الدم أو الطعام مما لا يجوز فيه
الصوم فهذا لازم له يؤدى إذا صار مصلحا ولا يؤدى عنه في حال فساده وانه لزمه لأنه
مخاطب ولكن سبب هذا الالتزام منه فلا يؤدى من ماله في حال فساده بل يتأخر إلى أن
يصير مصلحا بمنزلة المعسر الذي لا يجد شيئا إذا صنع ذلك أو هو بمنزلة العبد المأذون في
الاحرام من جهة مولاه إذا فعل شيئا من ذلك وهذا لأنه لو أدى عنه الحاكم هذا فعله في كل
يوم مرة فيفنى ماله فيه وكذلك لو جامع امرأته بعد ما وقف بعرفة فعليه بدنة يتأخر إلى أن
يصير مصلحا وان جامعها قبل أن يقف بعرفة لم يمنع نفقة المضي في احرامه إلى ذلك لأنه
يحتاج إلى ذلك التحلل من الاحرام ولا يمنع نفقة العود من عام قابل للقضاء لان ذلك لازم
عليه شرعا ويمنع من الكفارة لان وجوب ذلك بسبب من جهته وفى هذا السبب من الفساد
ما لا يخفى والعمرة في هذا كالحج (ألا ترى) أن المرأة ليس لها أن تحج غير حجة الاسلام الا
باذن زوجها فإذا خرجت لحجة الاسلام ثم جومعت في احرامها مطاوعة أو مكرهة مضت
في الحج الفاسد ولم تمنع من العود للقضاء مع المحرم فإذا كانت لا تمنع هي لحق الزوج لم يمنع
المحجور من ذلك أيضا لأجل الحجر ولو أن هذا المحجور عليه قضى حجة الاسلام الا طواف
الزيارة ثم رجع إلى أهله ولم يطف طواف الصدر فإنه يطلق له نفقة الرجوع للطواف ويصنع
في الرجوع مثل ما يصنع في ابتداء الحج لأنه محرم على النساء ما لم يطف للزيارة فالرجوع
للطواف من أصول حوائجه لأنه محتاج إليه للتحلل ولكن يأمر الذي يلي النفقة عليه أن لا ينفق
عليه راجعا حتى يحضره ويطوف بالبيت لأنه لسفهه ربما يرجع ولا يطوف ثم يطلب النفقة مرة
أخرى وهكذا يفعل ذلك في كل مرة حتى يفنى ماله فللزجر عن ذلك لا ينفق عليه راجعا
حتى يطوف بالبيت بحضرته وان طاف جنبا ثم رجع إلى أهله لم يطلق له نفقة الرجوع للطواف
لأنه تحلل للطواف مع الجنابة ولكن عليه بدنة لطواف الزيارة وشاة لطواف الصدر يؤديهما
إذا صلح لان وجوبهما كان بسبب من جهته وذلك السبب من الغشيان يعنى طواف الزيارة
جنبا وترك طواف الصدر من غير عذر وان أحصر في حجة الاسلام فإنه ينبغي للذي أعطى
نفقته أن يبعث بهدى فيحل به لما بينا أن التحلل بالهدى من أصول حوائجه وماله معد لذلك
(ألا ترى) أن العبد إذا حج بإذن مولاه فأحصر وجب على مولاه أن يبعث بهدى ليحل
173

به ولو أن هذا المحجور أحرم بحجة تطوعا لم ينفق عليه في قضائها نفقة السفر لأنه التزم بسبب
باشره ولكن يجعل من النفقة ما يكفيه في منزله لأنه مستحق لذلك إذا أقام في منزله ولم يحرم
بالحج ولا يمنع ذلك بسبب احرامه ولا يزاد له على ذلك ما يحتاج في السفر من زيادة النفقة والراحلة
ثم يقال له إن شئت فأخرج ماشيا (ألا ترى) انه لو قال اعطوني من مالي شيئا أتصدق به لم
يعط ذلك فالذي يخرج بالحج تطوعا في المعنى ملتمس للزيادة على مقدار نفقته في منزله ليتقرب
به إلى ربه فلا يعطى ذلك وإن كان موسرا كثير المال وقد كان الحاكم يوسع عليه في منزله
بذلك فكان فيما يعطيه من النفقة فضل عن قوته فقال إنا أتكارى بذلك وأنفق على نفسي
بالمعروف أطلق له ذلك من غير أن يدفع إليه النفقة ولكن يدفعها إلى ثقة ينفقها عليه على
ما أراد لان هذا التدبير دليل الرشد والصلاح وفيه نظر له فلا يمنعه القاضي منه فإن لم يقدر
على الخروج ماشيا ومكث حراما فطال به ذلك حتى دخله من احرامه ذلك ضرورة يخاف عليه
من ذلك مرضا أو غيره فلا بأس إذا جاءت الضرورة أن ينفق عليه من ماله حتى يقضى
احرامه ويرجع لان ايفاء ماله لتوفير النظر له لا للاضرار به ومن النظر هنا له أن يعطى
له ما يحتاج إليه لأداء ما التزمه حتى يخرج من احرامه وكذلك لو أحصر في احرام التطوع
لم يبعث الهدى عنه لأنه باشره بسبب التزمه باختياره إلا أن يشاء أن يبعث بهدى من نفقته
وان شاء ذلك لا يمنع منه لأنه من باب النظر وحسن التدبير فإن لم يكن في نفقته ما يقدر على
أن يبعث بذلك منه تركه على حاله حتى تأتي الضرورة التي وصفت لك ثم يبعث عنه بهدى
من ماله يحل به وإنما ينظر في هذا إلى ما يصلحه ويصلح ماله لان الحجر عليه لصيانة ماله
فالمقصود اصلاح نفسه فينظر في كل شئ من ذلك إلى ما يصلحه ويصلح ماله فإذا بلغت المرأة
مفسدة فاختلعت من زوجها جاز الخلع لان وقوع الطلاق في الخلع يعتمد وجوب القبول
لا وجوب المقبول وقد تحقق القبول منها وكان الزوج علق طلاقها بقبولها الجعل فإذا قبلت
وقع الطلاق لوجود الشرط ولم يلزمها المال وان صارت مصلحة لأنها التزمت بالمال لا بعوض
هو مال ولا لمنفعة ظاهرة لها في ذلك فكان النظر في أن يجعل هذه كالصغيرة في هذا الحكم
لا كالمريضة فإن كان الزوج طلقها تطليقة على ذلك المال فهو يملك رجعتها لان وقوع الطلاق
باللفظ الصريح لا يوجب البينونة إلا عند وجوب البدل ولم يجب البدل هنا بخلاف ما إذا
كان بلفظ الخلع فان مقتضى لفظ الخلع البينونة وقد قررنا هذا الفرق في حق الصغيرة في
174

كتاب الطلاق وهذا بخلاف الأمة التي يطلقها زوجها تطليقة على ألف درهم وقد كان دخل
بها فان الطلاق هناك بائن لان قبول الأمة المال صحيح في حقها حتى يلزمها المال الا إذا أعتقت
فلوجوب المال في ذمتها كان الطلاق بائنا وفى المفسدة والصغيرة المال لا يجب بقبولها أصلا
حتى إذا كانت الأمة مع رقها مفسدة ممن لو كانت حرة لم يجز أمرها في مالها كان الطلاق
رجعيا لان التزامها المال لم يصح في حق نفسها حتى لا يلزمها المال إذا أعتقت ولو أن غلاما
أدرك مفسدا فلم يرفع أمره إلى القاضي حتى باع شيئا من تركة والده وأقر بديون ووهب
هبات وتصدق بصدقات ثم رفع أمره إلى القاضي فإنه يبطل جميع ذلك وهو محجور عليه وإن لم
يحجر عليه القاضي وهذا قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله فهذا كله صحيح
منه ما لم يحجر عليه القاضي واستدل محمد على أبي يوسف بمنع المال منه فان الوصي لا يدفع إليه
ولو لم يكن محجورا عليه قبل حجر القاضي لما منع المال منه ومن يقول لا يدفع إليه ماله لم
يكن محجورا عليه قبل حجر القاضي لما منع ويكون تصرفه جائزا فقد دخل فيما قال الذين
لم يروا الحجر شيئا فانا ما احتججنا عليهم الا بهذا ولم يكن بين هذا القائل وبينهم افتراق في رد
الآية يعنى قوله تعالى فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فإنما عرض في هذا الكلام
لأبي حنيفة ومن قال بقوله رحمهم الله قال رحمه الله وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول إنه
في هذه الكلمات جاوز حد نفسه ولم يراع حق الاستناد ولأجل هذا لم يبارك له فيه حتى لم
يكثر له تفريع في هذا الكتاب ولا في كتاب الوقف ولو كان أبو حنيفة رحمه الله في الاحياء
لدمر عليه وكل مجرى في الحلائس فإن كان هذا المفسد قبض ثمن ما باع ببينة ثم رفع ذلك
إلى القاضي فإنه ينظر فيه فان رأى ما باع به رغبة أجازه وإن كان الثمن قائما جاز بإجازته وإن كان
ضاع في يده لم يجزه القاضي لان الإجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء وللقاضي أن
يأذن للسفيه في التجارة إذا رآه أهلا لذلك فكذلك له أن يجز تصرفه وإذا رأى النظر فيه فإن كان
الثمن قائما بعينه والبيع بيع رغبة فالنظر في اجازته فإذا ضاع الثمن في يده فلا نظر له في
هذه الإجازة لأنه أن أجازه زال ملكه عن العين من غير عوض يسلم له في الحال فان إجازة
البيع إجازة منه بقبض الثمن بمنزلة ما لو باع الفضولي مال انسان وقبض الثمن وهلك في يده
ثم أجاز المالك البيع كان ذلك إجازة منه بقبض الثمن حتى لا يرجع على واحد منهما بشئ فهذا
كذلك فإذا لم يسلم له بعد الإجازة شئ لم يكن في الإجازة نظر له فلا يشتغل القاضي به ولا يكون
175

للمشترى على الثمن الذي ضاع في يد المفسد سبيل لان قبضه كان بتسليم منه وتسليطه إياه على
ذلك فلا يدخل به المقبوض في ضمانه وهو في هذا كالذي لم يبلغ وكذلك أن كان قبض الثمن
يدفع المشترى إليه فاستهلكه بين يدي الشهود ثم رفع إلى القاضي فإنه ينقض بيعه ولا يلزم
المحجور من الثمن شئ وهذا على قول محمد رحمه الله فأما عند أبي يوسف رحمه الله فيكون هو
ضامنا لما استهلك من الثمن وللقاضي أن يجيز البيع ان رأى النظر فيه وأصله في الصبي والمحجور
عليه إذا استهلك الوديعة أو استهلك شيئا اشتراه وإن كان المحجور حين قبض الثمن أنفقه على
نفسه نفقة مثله في تلك المدة أو حج به حجة الاسلام أو أدى منه زكاة ماله أو صنع فيه شيئا مما
كان على القاضي أن يصنعه عند طلبه ثم دفع إليه نظر فيه فإن كان البيع فيه رغبة فإن كانت قيمته
مثل الثمن الذي اخذه أجاز البيع وابرأ المشترى من الثمن لان هذا التصرف لم يتمكن فيه
من معنى الفساد شئ فإنه لو طلبه من القاضي وجب عليه أن يجيبه إلى ذلك فان باشر بنفسه
كان على القاضي أن ينفذه لان الحجر لمعنى الفساد ففيما لا فساد فيه هو كغيره والنظر له في
تنفيذ هذا التصرف لأنه لا يمكنه أن يرفع الامر إلى القاضي في كل حاجة وفى كل وقت لما
فيه من الحرج البين عليه وإن كان في تصرفه محاباة فأبطل القاضي ذلك لم يبطل الثمن
عن المحجور عليه ولكن القاضي يقضيه من ماله لأنه لا فساد فيما صرف المال إليه من حوائجه
وفيما لا فساد فيه هو كالرشيد فيصير المقبوض دينا عليه يصرفه له في حاجته وعلى القاضي أن يقضيه
من ماله إلا أن يرى أن المحجور عليه لو أستقرض من رجل مالا فقضى به مهر مثل المرأة
قضى القاضي القرض من ماله فإن كان استقرضه لذلك ثم استهلكه في بعض حاجته لم يكن
للمقرض عليه شئ له حال فساده ولا بعد ذلك لأنه صرف المال إلى وجه التبذير والفساد
وهو كان محجورا عن ذلك فيكون فيه بمنزلة الذي لم يبلغ فأما ما صرفه إلى مهر مثل امرأته
فإنما صرفه إلى ما فيه نظر له وهو اسقاط الصداق عن ذمته وربما كان محبوسا فيه أو كانت
المرأة تمنع نفسها منه لذلك فيصير ذلك دينا عليه * يوضحه أن المقرض ممنوع من دفع مال
نفسه إليه ليصرفه إلى تبذيره لان فيه إعانة له على الفساد فيكون مضيعا ماله بذلك وهو
مندوب إلى أن يقرضه ليصرفه إلى مهر مثل امرأته فلا يكون به مضيعا ماله ولو أستقرض
مالا فأنفقه على نفسه نفقة مثله ولم يكن القاضي أنفق عليه في تلك المدة أجاز ذلك له وقضاه
من ماله لأنه لا فساد فيما صنعه وإن كان أنفقه باسراف حسب القاضي للمقرض من ذلك
176

مثل نفقة المحجور عليه في تلك المدة وقضاه من ماله وأبطل الزيادة على ذلك لان في مقدار
نفقة مثله لا فساد وفيما زاد على ذلك معنى الفساد والاسراف وإنما جعل هو كالذي لم يبلغ
فيما فيه الفساد فاما في ما لا فساد فيه فهو كالرشيد (ألا ترى) أنه لو أقر على نفسه بالأسباب
الموجبة للعقوبة كان مؤاخذا بذلك لأنه لا فساد في اقراره وإنما به يحصل التطهير لنفسه
وآثر عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة وهو نظير أحد الورثة إذا أسرف في جهاز الميت
وكفنه فإنه يحسب من أصل التركة مقدار جهاز مثله وما زاد على ذلك مما فيه إسراف يكون
محسوبا عليه دون سائر الورثة ولو أودعه رجل مالا فأقر أنه استهلكه لم يصدق على ذلك ولم
يلزمه بهذا الاقرار شئ أبدا لان اقراره غير ملزم إياه المال وهو فيه كالذي لم يبلغ ما دام محجورا
عليه فان صلح سئل عما أقر به في حال فساده فان أقر انه قد كان استهلكه في حال فساده
لم يلزمه ذلك أيضا لان الثابت باقراره كالثابت بالبينة والمعاينة ولو عايناه استهلك الوديعة
في حال فساده ولم يكن ضامنا ابدا في قول محمد رحمه الله أما في قول أبى يوسف رحمه الله
هو ضامن فكذلك هنا وأصل الخلاف في الذي لم يبلغ إذا أودعه رجل مالا واستهلكه
وعلل في هذا بما علل به هناك فقال لان رب المال هو الذي سلطه على ماله حين دفعه إليه وإذا
أودع المحجور عليه غلاما أو جارية فقتله خطأ كانت قيمته على عاقلته لان الحجر في الأفعال
لا يتحقق فالأفعال حسية تحققها بوجودها وأصله في الصبي إذا أودع غلاما أو جارية فقتله قال
فان أقر المحجور بذلك لم يلزمه ما دام محجورا عليه لان قوله هدر في التزام المال بنفسه أو الالزام
على عاقلته فان صلح فيسئل عما كان أقر به فان أقر به في حال صلاحه أخذت منه القيمة من ماله
في ثلاث سنين من يوم يقضى عليه لان باقراره في حال صلاحه يظهر هذا الفعل في حقه فيكون
بمنزلة الظاهر بالمعاينة في حقه وهو لم يظهر في حق عاقلته لكونه متهما في حقهم فتكون القيمة عليه
في ماله مؤجلا لأنها وجبت بفعل القتل وابتدأ بالأجل من حين يقضى عليه لأنه صار دينا الآن
والأجل يكون في الدين وهذا بخلاف الصبي فإنه غير مخاطب ولا يلزمه من الدية شئ من موجب
جنايته إذا كان عمدا فكذلك إذا كان هو خطأ فهو وان أقر عند البلوغ فإنما أقر على عاقلته وذلك
لا يلزمه شيئا فأما المحجور عليه فمخاطب ولو كان فعله عمدا كان هو كالرشيد في موجبه فكذلك إذا
كان خطأ يكون هو كالرشيد في أن الدية عليه ثم تتحمله العاقلة عنه للتخفيف عليه وإذا أقر بعد
ما صلح فإنما يظهر باقراره في حقه دون عاقلته فلهذا كانت القيمة عليه في ماله ولو أقر المحجور
177

عليه أنه أخذ مال رجل بغير أمره فاستهلكه لم يصدق على ذلك لكونه محجورا عن الاقرار
بوجوب الدين عليه فان صلح سئل عما كان أقر به فان أقر أنه كان حقا أخذ به كما لو لم يسبق
منه الاقرار في حالة الحجر ولكن أقر بعدما صلح ابتداء انه استهلك مال رجل بغير أمره
وأن أنكر أن يكون حقا لم يؤخذ به لأنه لا حجر عليه بذلك سوى الاقرار الذي كان منه
في حالة الحجر وذلك باطل وكذلك لو قال بعد ما صلح انى قد كنت أقررت وأنا محجور
على أنى استهلكت لك ألف درهم فقال رب المال أقررت لي بذلك في حال صلاحك أو
قال قد أقررت به في حال فسادك ولكنه حق وقال المقر لم يكن ذلك حقا فالقول قول المقر
لأنه أضاف الاقرار إلى حالة معهودة تنافى صحة اقراره فيكون في الحقيقة منكرا لا مقرا
فيجعل القول قوله في ذلك وهو في هذا بمنزلة الذي لم يبلغ ولو قال بعد ما صلح قد كنت
أقررت بذلك في حال الفساد وكان ذلك حقا فإنه يقضى عليه بذلك لان بقوله كان ذلك حقا
صار مقرا له بوجوب المال الآن فيلزمه القاضي ذلك بهذا الاقرار (ألا ترى) أن الذي
لم يبلغ لو أودعه رجل أو أقرضه مالا ثم كبر فأقر انه استهلكه في حال صغره وقال رب المال
استهلكته بعد الكبر ان القول قول الغلام لأنه أضاف استهلاكه إلى حالة معهودة تنافى
وجوب الضمان عليه فيكون هو منكرا للضمان ولو قال رب المال أنا أقرضتك أو أودعتك
بعد الكبر فاستهلكته وقال الغلام استهلكته قبل الكبر كان الغلام ضامنا لجميع ذلك لان
الغلام يدعى اسناد الايداع والاقراض إلى حالة الصغر ليثبت به تسليطه إياه على الاستهلاك
مطلقا ورب المال منكر لذلك فالقول قوله وإذا قبل قوله مع يمينه بقي استهلاكه للمال وهو
سبب موجب للضمان عليه في الحال (ألا ترى) أن من أتلف مال انسان وقال أتلفته باذنك
وأنكر صاحب المال ذلك كان القول قوله فهذا مثله وإذا بلغت المرأة محجورا عليها لفسادها
فزوجت كفؤا بمهر مثلها أو بأقل مما يتغابن الناس فيه فهو جائز لأنه لا فساد فيما صنع والحجر
بسبب الفساد لا يؤثر فيما لا يؤثر فيه الهزل في جانب الرجل فكذلك في جانبها والغبن اليسير
مما لا يستطاع التحرز عنه الا بحرج والحرج مدفوع ولو زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها
فيما يتغابن الناس فيه ولم يدخل بها قيل لزوجها إن شئت فأتم لها مهر مثلها لان معنى الفساد
يتمكن في هذ النوع من المحاباة فلا يسلم ذلك للزوج ولكنه يتخير لأنه يلزمه زيادة لم يرض
بالتزامها فإن شاء رضى به والتزمه وان شاء أبى فيفرق بينهما لأنه لما كأن لا يتمكن من
178

استدامة امساكها الا بالمعروف الا بهذه الزيادة فإذا أباها كان راضيا بالتفريق بينهما
وإن كان قد دخل بها فعليه لها تمام مهر مثلها لان مهر المثل قيمة بضعها مستحق بالدخول
لشبهه العقد الا إذا تقدمه تسمية صحيحة ولم يوجد ذلك حين تمكن الفساد في تسميتها فكأنها
زوجت نفسها منه بغير مهر ودخل هو بها فيلزمه تمام مهر مثلها ولا يفرق بينهما لان التفريق
كان للنقصان عن صداق المثل وقد انعدم حين قضى لها بمهر مثلها بالدخول كذلك أن كان
الذي تزوجها محجورا عليه فالجواب ما بينا الا في خصلة واحدة وهو إن كان تزوجها على
أكثر من مهر مثلها بطل الفضل عن مهر مثلها عن الزوج لان إلزام المفسد للزيادة بالتسمية غير
صحيح فان في التزام ما زاد على مهر مثلها معنى الفساد ثم لا خيار للمرأة في ذلك أن دخل بها
أو لم يدخل بها لان حقها في قيمة البضع وقد سلم لها ذلك وانعدام الرضا منها لتملك البضع
عليها بدون هذه الزيادة ولا يمنع لزوم النكاح إياها كما لو أكرهت هي ووليها على أن تزوج
نفسها فلانا بمهر مثلها وان كانت تزوجت بمهر مثلها غير كفؤ فرق القاضي بينهما لان طلب
الكفاءة فيه حقها وحق الولي ولم يوجد الرضا من الولي بانعدام الكفاءة ورضاها بذلك غير
معتبر في ابطال حقها لما تمكن فيه من معنى الفساد واتباع الهوى فلهذا كان لها أن تخاصم
ويفرق القاضي بينهما لخصومتها وخصومة أوليائها ولو أن غلاما أدرك وهو مصلح قد
أونس منه الرشد فدفع إليه وصيه أو للقاضي ماله وسلطه عليه ثم أفسد بعد ذلك وصار ممن
يستحق الحجر فهو محجور عليه وإن لم يحجر القاضي عليه وهو قول محمد رحمه الله بمنزلة
ما لو صار معتوها وعند أبي وسف ما لم يحجر عليه القاضي فتصرفه نافذ ثم عندهما القاضي يسترد
المال منه ويجعله في يد وليه كما لو بلغ مفسدا لان إيناس الرشد منه شرط لدفع المال إليه
بالنص فيكون شرطا لابقاء المال في يده استدلالا بالنص وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يخرج
المال من يده لان ما هو شرط ابتداء الشئ لا يكون شرط بقائه لا محالة ثم منع المال منه
باعتبار أثر الصبي وفساده عند البلوغ دليل اثر الصبي فمنع المال منه إلى أن يزول لان ذلك
بعرض الزوال فأما فساده بعد ما بلغ مصلحا فليس بدليل أثر الصبي فلا يوجب الحيلولة بينه
وبين ماله لان ذلك جناية منه ولا تأثير للجناية في قطع يده عن ماله ولا في قطع لسانه عن
المال بالتصرف فيه ولو كان باع عبدا ولم يدفعه ولم يقبض ثمنه وهو حال أو مؤجل حتى
فسد فسادا استحق الحجر به ثم دفع الغريم إليه المال فدفعه باطل لان الحجر عليه لمعنى
179

النظر له عند من يرى الحجر وليس من النظر دفع الثمن إليه بعد ما صار سفيها فهو بمنزلة ما لو
باع عبدا وسلمه ولم يقبض ثمنه حتى صار معتوها الا ان مثله يقبض فكما لا يجوز قبضه
للثمن هناك إذا دفعه إليه المشترى كذلك هنا وكذلك لو أن الصبي أذن له وليه في التجارة
فباع شيئا ثم حجر عليه وليه قبل قبض الثمن فدفع الثمن إليه المشترى لم يبرأ بمنزلة ما لو كان
الولي هو الذي باشر البيع والصبي محجور عليه لان قبض الصبي إنما يكون مبرئا للمشترى
إذا تأيد رأيه بانضمام رأى الولي إليه وقد انعدم ذلك بالحجر عليه وهنا قبضه إنما كان مبرئا
للمشترى بكونه رشيدا حافظا لماله وقد انعدم ذلك بفساده وكذلك لو أن رجلا وكله ببيع عبد
له وهو مصلح فباعه ثم صار البائع مفسدا ممن يستحق الحجر عليه فقبض الثمن بعد ذلك لم يبرأ
المشترى إلا أن يوصله القابض إلى الآمر فان أوصله المشترى برئ المشترى بوصول الحق إلى
مستحقه وإن لم يصل إلى الآمر حتى هلك في يد البائع هلك من مال المشترى ولا ضمان على
البائع والآمر فيه ويؤخذ من المشترى الثمن مرة أخرى لان الآمر إنما رضى بقبضه للثمن
باعتبار أنه مصلح حافظ للمال فلا يكون راضيا به بعد ما صار سفيها وهذا كله بخلاف ما لو
نهاه عن قبض الثمن لأنه استحق بالبيع قبض الثمن فاستحق المشترى البراءة بتسليم الثمن إليه
فلا يبطل استحقاقها بنهي الآمر لان ذلك تصرف منه في حق الغير وأما الفساد عند من
يرى الحجر به فمعنى حكمي حتى يخرج به المفسد من أن يكون مستحقا لقبض الثمن فيعمل
ذلك في حقه وحق المشترى وهذا لان الآمر بالنهي قصد الحاق الضرر بهما وليس له هذه
الولاية في اثبات الحجر عليه عن القبض بعد ما صار مفسدا دفع الضرر عن الآمر وهذا
ضرر لم يرض الآمر بالتزامه فيجب دفعه عنه بخلاف ما لو كان الآمر أمره بالبيع والمأمور
مفسد فيما باع وقبض الثمن جاز بيعه وقبضه لأنه راض بالتزام ذلك الضرر حين أمره
بالبيع وهو كذلك وهو نظير ما لو أمر صبيا محجورا أو معتوها يعقل البيع والشراء ببيع
ماله فباعه جاز ولو أمره وهو صحيح العقل ثم صار معتوها لم يكن له أن يبيعه ويستوى أن
كان الآمر يعلم بفساده أو لم يعلم لان أمره تصريح منه بالرضى بتصرفه على الصفة التي هو
عليها ومع التصريح لا معتبر بعلمه وجهله لان ذلك لا يمكن الوقوف عليه ولو باع المفسد
متاعه بثمن صالح ولم يقبضه حتى رفع ذلك إلى القاضي فإنه يجيز البيع وينهى المشترى عن
دفع الثمن إلى المحجور عليه لان في إجازة البيع نظرا له فإنه لو نقضه احتاج إلى إعادة مثله
180

وليس في مباشرته قبض الثمن نظرا له بل فيه تعريض ماله للهلاك فينهي المشترى عن دفع
الثمن إليه لمعنى النظر ويصح ذلك منه لأنه بمنزلة الحكم منه في فصل مجتهد فيه فان دفعه بعد
ما نهاه فضاع في يد المحجور عليه لم يبرأ المشترى منه ويجبر على دفع ثمن آخر إلى القاضي لان
نهيه لما صح صار حق قبض الثمن للقاضي أو لأمينه فدفعه إلى المحجور عليه بعد ذلك كدفعه
إلى أجنبي آخر وكدفع ثمن ما باعه القاضي أو أمينه من ماله إلى المحجور عليه ولا خيار
للمشترى في ذلك البيع لأنه ضيع ماله بالدفع إليه بعد ما نهاه القاضي وأساء الأدب بمخالفة
القاضي فيما خاطبه به فلا يستحق لسعيه تخفيفا ولا خيارا ولو كان القاضي حين أجاز البيع
لم ينهه عن دفع الثمن إليه فدفعه إليه فهو جائز لان في إجازة بيعه إجازة لدفع الثمن فان الإجازة
في الانتهاء كالاذن في الابتداء ومطلق الاذن له في البيع يكون تسليطا على قبض الثمن فكذلك
مطلق الإجازة في الانتهاء إلا أن يبنى الامر على وجه فيقول قد أجزت البيع ولا أجيز
للمشترى أن يدفع الثمن إليه فإذا قال ذلك فهذا بمنزلة الحكم منه وحكم القاضي يقيد بما قيده به
ولو أجاز البيع في الابتداء جملة ثم قال بعد ذلك قد نهيت المشترى أن يدفع الثمن إليه كان نهيه
باطلا وكان دفع المشترى الثمن إلى المحجور عليه جائزا حتى يبلغه ما قال القاضي في ذلك لأنه
سلطه على دفع الثمن بإجازته البيع جملة ثم نهيه إياه عن دفع الثمن إليه خطاب ناسخ أو مغير
لحكم الإجازة المطلقة فلا يثبت في حقه حكمه ما لم يعلم به لأنه لا يتمكن من العلم به ما لم يبلغه
وفى إلزامه إياه قبل أن يعلم به اضرار فإذا بلغه ثم أعطاه الثمن لم يبرأ منه لان الناسخ قد وصل
إليه فليس له أن يعمل بالمنسوخ بعد ما بلغه الناسخ وهذا نظير الناسخ والمنسوخ في خطاب
الشرع فإنه كان في الصحابة رضوان الله عليهم من شرب الخمر بعد ما نزل تحريمها ولم يعاتب
على ذلك لأنه لم يبلغه الناسخ وفى قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح
فيما طعموا ومن أعلمه بذلك وكان خبره حقا فهو اعلام لان على قول من يرى الحجر خبر
الواحد في المعاملات حجة سواء كان ملتزما أو غير ملتزم كان المخبر رسولا أو لم يكن فاسقا
كان أو عدلا بعد أن يكون الخبر حقا (ألا ترى) لو أن مفسدا قال له القاضي بع عبدك هذا
بألف درهم ولم ينهه عن قبض الثمن فباعه وقبض الثمن وضاع عنده كان جائزا ولو قال بعه
ولا تقبض الثمن لم يجز قبضه وأجبر المشترى على أدائه مرة أخرى ولا خيار له في نقض
البيع علم بذلك أو لم يعلم ولو أمره بالبيع ولم ينهه عن قبض الثمن ثم قال بعد ذلك إذا باع
181

فلا يقبض الثمن فانى نهيته عن ذلك فله أن يبيع ويقبض الثمن ما لم يبلغه نهى القاضي ومعنى
هذا الاستشهاد ما أشرنا إليه ان الإجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء وإذا أدرك اليتيم
مفسدا فحجر القاضي عليه أو لم يحجر فسأله وصيه أن يدفع إليه ماله فدفعه إليه فضاع في يده
أو أتلفه فالوصي ضامن للمال لان دفع المال إلى من هو مفسد يكون تضييعا له فهو بمنزلة
ما لو طرح الوصي ماله في مهلكة وكذلك لو كان الوصي أودعه المال ايداعا لأنه تسليط له
على اتلافه حين مكنه منه فيكون ذلك من الوصي بمنزلة الاستهلاك لماله وليس هذا كدفع
الوصي مال يتيم مصلح لم يبلغ إليه وديعة أو ليبيع به ويشترى به لا ضمان عليه إذا ضاع منه
أو ضيعه لان الصغير المصلح مأمون على نفسه وماله (ألا ترى) أن للوصي أن يأذن له
في التجارة فلا يكون دفع المال إلى مثله تضييعا له وأما الكبير المفسد فدفع ماله إليه ما دام هو
على فساده يكون تضييعا له ولهذا لو أذن له في التجارة وهو عالم بأنه فاسد ولم يؤنس منه
رشدا لم يجز اذنه وهذا لأنه مأمور بالنظر في حق كل واحد منهما والنظر في حق الصبي
المصلح اختباره بالاذن له في التجارة كما قال الله تعالى وابتلوا اليتامى والنظر في حق الكبير
المفسد منعه من التصرف ومنع المال منه فيكون دفع المال إليه والاذن له في التجارة خلاف
المأمور به في حقه فلا ينفذ من الوصي (ألا ترى) أن الغلام المصلح لماله لو رفع الامر إلى
القاضي وكان ممن يشترى ويبيع ويربح كان الذي ينبغي للقاضي أن يأذن له في التجارة ولو
رفع هذا المفسد لم يأذن له في ذلك فلذلك اختلف حال الوصي فيهما ولو أن القاضي أمر
هذا المفسد أن يبيع شيئا من ماله ويشترى به ففعل ذلك جاز وكان هذا اخراجا من القاضي
له من الحجر وذلك صحيح من القاضي لأنه حكم منه في موضع الاجتهاد لينفذ منه ولا ينفذ
مثله من الوصي لأنه ليس له ولاية الحكم فان وهب أو تصدق هذا المفسد بذلك المال لم
يجز لان القاضي إنما دفع الحجر عنه في التجارة خاصة وحكم القاضي يتقيد تنفيذه فبقي الحجر
عليه فيما ليس بتجارة على ما كان قبل هذا الاذن حتى إذا أعتق الغلام سعى الغلام في قيمته
وان اشترى وباع بما لا يتغابن الناس فيه لم يجز لان المحاباة ممن لا يملك التبرع بمنزلة الهبة
وان أذن له في بيع عبد بعينه أو في شراء عبد بعينه لم يجز له أن يشتري ولا أن يبيع الا
الذي أذن له فيه خاصة لأنه بهذا الاذن ينيبه مناب نفسه ولا يرفع الحجر عنه في شئ فإنه
لم يفوض إليه شيئا من التصرف إلى رأيه ولكن رأى فيه رأيه ثم أمره أن ينوب عنه في
182

مباشرة العقد فلا يكون ذلك رفعا للحجر عنه ولو أذن له في شراء البر وبيعه خاصة دون
ما سواه من التجارات كان مأذونا في التجارات كلها لان هذا الاذن اطلاق للحجر عنه في
التجارة في نوع مفوضا إلى رأيه وهو نظير المولى يأذن لعبده في نوع من التجارة يصير
مأذونا في التجارات كلها ولو أمره أن يشترى شيئا بعينه لا يصير مأذونا وكذلك الوصي في
حق الذي لم يبلغ والفقه فيه أن الفاسد المحجور عليه يقدر على افساد ماله فيما أذن له من التجارة
لان اتلاف المال بطريق التجارات في الضرر دون اتلافه بطريق التبرع مثل ما يقدر عليه في
غيره فليس في تقييد الاذن بنوع من التجارة معنى النظر بخلاف التبرع فلا يكون فك الحجر
عنه في التجارة فكا للحجر عنه في التبرع فان قال القاضي في السوق بمحضر من أهلها أو
بمحضر من جماعة منهم قد أذنت لهذا في التجارة ولا أجيز له منها الا ما أعلم أنه اشترى أو
باع ببينة فاما ما لا يعمل الا باقراره فإنه لا أجيز عليه فالامر على ما قال القاضي من ذلك لان
تقييده فلك الحجر عنه بما قيده به يرجع إلى النظر له والقاضي مأمور في حق السفيه بما يكون
فيه توفير النظر عليه * يوضحه ان صحة اقراره بعد انفكاك الحجر عنه باعتبار انه من توابع التجارة
وإنما يكون تابعا إذا لم يصرح به بخلاف ما صرح به في أصل تجارته وله ولاية هذا التصريح
مع بقاء فك الحجر عنه فلا بد من اعتباره ولو لم يعتبر هذا إنما لا يعتبر دفعا للضرر والغرور
عمن يعامله وقد اندفع ذلك حين جعل القاضي هذا القيد مشهورا كاشهار الاذن وهذا
بخلاف الغلام المصلح الذي لم يبلغ يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة على هذا الوجه أو العبد يأذن
له مولاه على هذا الوجه حيث لا يلزمهم وما أقروا به مثل ما يلزمهم بالبينة لأنه ليس للولي ولا
للمولى ولاية تقييد الاذن بما قيده به مع بقاء أصل الاذن فيلغو بقيده وهذا لان الاذن
للمحجور عليه على وجه النظر وفى التقييد توفير النظر فيستقيم من القاضي وفى حق من كان
مأمونا على ماله أو في حق العبد ليس في هذا التقييد معنى التطويل بل هو تقييد غير مفيد لان
الحاجة إلى اذن المولى لتتعلق ديونه بمالية رقبته ولا فرق في ذلك بين الدين الذي يثبت عليه
باقرار أو بالبينة في حق المولى والفاسد الذي يستحق الحجر عليه كل من كان مضيعا ماله مفسدا
له لا يبالي ما صنعه منتفعا بالسرف في غير منفعة على جهة المجون فإن كان فاسدا في دينه لا يؤمن
عليه من فجوره ولا غيره إلا أنه حافظ لماله حسن التدبير له لم يستحق الحجر عليه لان الحجر
على قول من يراه لابقاء المال ولا حاجة إليه في حق الفاسد الذي هو حسن التدبير في ماله إنما
183

الحاجة إليه في حق المبذر المتلف لماله ولو أن قاضيا حجر على فاسد يستحق الحجر ثم رفع إلى
قاض آخر فأطلق عنه الحجر وأجاز ما كان باع أو اشترى ولم ير حجر الأول شيئا فأبطل حجره
جاز اطلاق هذا عنه لان الأول لو تحول رأيه فأطلق عنه الحجر جاز فكذلك الثاني وهذا لان
نفس الحجر على السفيه مجتهد فيه فإنه باطل عند أبي حنيفة رحمه الله ونفس القضاء متى كان
مجتهدا فيه يوقف على امضاء غيره فإذا أبطله بطل ثم الحجر عليه لم يكن قضاء من القاضي لان
القضاء يستدعى مقضيا له ومقضيا عليه ولم يوجد ذلك أنما كان ذلك نظرا منه له وقد رأى
الآخر النظر له في الاطلاق عنه فينفذ ذلك منه إلا أن يكون شئ من بيوعه أو شرائه
المتقدمة رفع إلى القاضي الذي يرى الحجر عليه أو إلى قاض آخر يرى الحجر فأبطل مبايعاته ثم
رفع إلى هذا القاضي الآخر فأبطل قضاء الأول وأجاز ما كان أبطله ثم رفع إلى قاض آخر
يرى الحجر أو لا يراه فإنه ينبغي له أن يجيز قضاء الأول بابطال ما أبطل بيوعه وأشريته
ويبطل قضاء الثاني فيما أبطله من قضاء الأول لان قضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد
فنفذ ذلك وكان ذلك قضاء تاما بوجود المقضى له والمقضى عليه وقضاء القاضي في المجتهدات
نافذ بالاتفاق ثم الابطال من الثاني حصل بخلاف الاجماع لأنه أبطل قضاء أجمع المسلمون
على نفوذه وقضاء القاضي بخلاف الاجماع فهذا يبطل الثالث قضاء القاضي بابطال
قضاء الأول ويمضي قضاء الأول بابطال ما أبطل من بيوعه أو أشريته والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب
(تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون وأوله كتاب المأذون)
184