الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ١١
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء الحادي عشر من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
* (كتاب اللقيطة) *
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي الفضل
السرخسي اختلف الناس فيمن وجد لقطة فالمتفلسفة يقولون لا يحل له أن يرفعها لأنه أخذ
المال بغير إذن صاحبه وذلك حرام شرعا فكما لا يحل له أن يتناول مال الغير بغير إذن صاحبه
لا يحل له اثبات اليد عليه وبعض المتقدمين من أئمة التابعين كان يقول يحل له أن يرفعها والترك
أفضل لان صاحبها إنما يطلبها في الموضع الذي سقطت منه فإذا تركها وجدها صاحبها في
ذلك الموضع ولأنه لا يأمن على نفسه أن يطمع فيها بعد ما يرفعها فكان في رفعها معرضا
نفسه للفتنة والمذهب عند علمائنا رحمهم الله وعامة الفقهاء ان رفعها أفضل من تركها لأنه لو
تركها لم يأمن أن تصل إليها يد خائنة فيكتمها عن مالكها فإذا أخذها هو عرفها حتى يوصلها
إلى مالكها ولأنه يلتزم الأمانة في رفعها لأنه يحفظها ويعرفها والتزام أداء الأمانة يفرض
بمنزلة الثواب لأنه يثاب على أداء ما يلتزمه من الأمانة فإنه يمتثل فيه الامر قال تعالى ان الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وامتثال الامر سبب لنيل الثواب ثم ما يجده نوعان
(أحدهما) ما يعلم أن مالكه لا يطلبه كقشور الرمان والنوى (والثاني) ما يعلم أن مالكه يطلبه
فالنوع الأول له أن يأخذه وينتفع به إلا أن صاحبه إذا وجده في يده بعد ما جمعه كان له أن
يأخذه منه لان القاء ذلك من صاحبه كان إباحة الانتفاع به للواحد ولم يكن تمليكا من غيره
فان المليك من المجهول لا يصح وملك المبيح لا يزول بالإباحة ولكن للمباح له أن ينتفع به
مع بقاء ملك المبيح فإذا وجده في يده فقد وجد عين ملكه قال صلى الله عليه وسلم من وجد
عين ماله فهو أحق به وان وجد ذلك مجتمعا لم يحل له أن ينتفع به لأن الظاهر أن المالك
ما ألقاه بعد ما جمعه ولكنه سقط منه فكان هذا من النوع الثاني وروى بشر عن أبي يوسف
رحمهما الله ان من ألقى شاة ميتة له فجاء آخر وجز صوفها كان له أن ينتفع به ولو وجده صاحب
2

الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ولو سلخها ودبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد
منه بعد ما يعطيه ما زاد الدباغ فيه لان ملكه لم يزل بالالقاء والصوف مال متقوم من غير
اتصال شئ آخر به فله أن يأخذه مجانا فأما الجلد لا يصير مالا متقوما إلا بالدباغ فإذا أراد
أن يأخذه كان عليه أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه فأما (النوع الثاني) وهو ما يعلم أن صاحبه يطلبه
فمن يرفعه فعليه أن يحفظه ويعرفه ليوصله إلى صاحبه وبدأ الكتاب به ورواه عن إبراهيم
قال في اللقطة يعرفها حولا فان جاء صاحبها والا تصدق بها فان جاء صاحبها فهو بالخيار ان
شاء أنفذ الصدقة وان شاء ضمنه وما ذكر هذا علي سبيل الاحتجاج بقول إبراهيم لان
أبا حنيفة رحمه الله كأن لا يرى تقليد التابعين وكان يقول هم رجال ونحن رجال ولكن ظهر
عنده ان إبراهيم فيما كان يفتى به يعتمد قول على وابن مسعود رضي الله عنهما فان فقه أهل
الكوفة دار عليهما وكان إبراهيم أعرف الناس بقولهما فما صح عنه فهو كالمنقول عنهما فلهذا
حشا الكتاب من أقاويل إبراهيم وفي هذا الحديث بيان الملتقط ينبغي له أن يعرف اللقطة
والتقدير بالحول ليس بعام لازم في كل شئ وإنما يعرفها مدة يتوهم ان صاحبها يطلبها وذلك
يختلف بقلة المال وكثرته حتى قالوا في عشرة دراهم فصاعدا يعرفها حولا لان هذا مال خطير
يتعلق القطع بسرقته ويتملك به ماله خطر والتعريف لايلاء العذر والحول الكامل لذلك
حسن قال القائل
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وفيما دون العشرة إلى ثلاثة يعرفها شهرا وفيما دون ذلك إلى الدرهم يعرفها جمعة وفى دون
الدرهم يعرف يوما وفي فلس أو نحوه ينظر يمنة ويسرة ثم يضعه في كف فقير وشئ من هذا
ليس بتقدير لازم لان نصب المقادير بالرأي لا يكون ولكنا نعلم أن التعريف بناء على طلب
صاحب اللقطة ولا طريق له إلى معرفة مدة طلبه حقيقة فيبنى علي غالب رأيه ويعرف
القليل إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك فإذا لم يجئ صاحبها بعد التعريف
تصدق بها لأنه التزم حفظها على مالكها وذلك باتصال عينها إليه ان وجده والا فباتصال ثوابها
إليه وطريق ذلك التصدق بها فان جاء صاحبها فهو بالخيار ان شاء ضمنه لأنه تصدق بماله
بغير إذنه وذلك سبب موجب للضمان عليه وان شاء أنفذ الصدقة فيكون ثوابها له واجازته
في الانتهاء بمنزلة اذنه في الابتداء فان قيل كيف يضمنها له وقد تصدق بها باذن الشرع قلنا
3

الشرع أباح له التصدق بها وما ألزمه ذلك ومثل هذا الاذن مسقط للإثم عنه غير مسقط
لحق محترم للغير كالاذن في الرمي إلى الصيد والاذن في المشي في الطريق فإنه يتقيد بشرط
السلامة وحق صاحب هذه المال مرعي محترم فلا يسقط حقه عن هذا العين بهذا الاذن فله
أن يضمنه ان شاء والاذن هنا دون الاذن لمن أصابته مخمصة في تناول ملك الغير وذلك غير
مسقط للضمان الواجب لحق صاحب المال وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه انه اشترى
جارية بسبعمائة درهم أو بثمانمائة درهم فذهب صاحبها فلم يقدر عليه فخرج ابن مسعود رضي الله عنه
بالثمن في صرة فجعل يتصدق بها ويقول لصاحبها فان أبى فلنا وعلينا الثمن فلما فرغ قال
هكذا يصنع باللقطة وفى هذا اللفظ بيان أن الملتقط له أن يتصدق بها بعد التعريف على أن
يكون ثوابها لصاحبها ان أجاز وان أبى فله الضمان على المتصدق وليس مراد ابن مسعود
رضي الله عنه من هذا ان حكم الثمن الواجب عليه حكم اللقطة من كل وجه وكيف يكون
ذلك والمثن دين في ذمته وما تصدق به من الدراهم خالص ملكه فأما عين اللقطة فمملوكة
لصاحبها والملتقط أمين فيها فعرفنا ان هذا ليس في معنى اللقطة ولا يقال لعله كان اشتراها
بمال معين لأنه صح من مذهبه ان النقود لا تتعين في العقد ولو تعينت فهي مضمونة على
المشترى فعرفنا انه ليس كاللقطة من كل وجه وانه بالتصدق ما قصد اسقاط الثمن عن نفسه
بل قصد إظهار المجاملة في المعاملة واتصال ثوابها إلى صاحبها ان رضى بصنيعه وإلا فالثمن
دين عليه كما كان وعن أبي سعيد مولى أسيد قال وجدت خمسمائة درهم بالحرة وأنا مكاتب
فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اعمل بها وعرفها فعملت بها حتى أديت
مكاتبتي ثم أتيته فأخبرته بذلك فقال ادفعها إلى خزان بيت المال وفى هذا دليل ان للامام
ولاية الاقراض في اللقطة والدفع مضاربة لان قول عمر رضي الله عنه اعمل بها وعرفها إما أن
يكون بطريق المضاربة أو الاقراض مضاربة وقد علمنا أنه لم يرد المضاربة حتى لم يتبين
نصيبه من الربح فكان مراده الاقراض منه وفي هذا معنى النظر لصاحب المال لأنه يعرض
للهلاك فيهلك من صاحبه قبل الاقراض وبعد الاقراض يصير دينا في ذمة المستقرض يؤمن
فيه التوى بالهلاك وكذلك بالجحود لأنه متأكد بعلم القاضي ولهذا كان للقاضي ولاية الاقراض
في أموال اليتامى وربما يكون معنى النظر في الدفع إليه مضاربة أو إلى غيره فذلك كله إلى
القاضي لأنه نصب ناظرا وفيه دليل على أن الملتقط إذا كان محتاجا فله أن ينتفع باللقطة بعد
4

التعريف لان هذا المكاتب كان محتاجا إلى العمل فيها فيؤدى مكاتبته من ربحها فأذن له عمر
رضي الله عنه في ذلك وفيه دليل ان للامام أن يقبض اللقطة من الملتقط ان رأى المصلحة
في ذلك لأنه أمره بدفعها إلى خزان بيت المال وكأنه إنما أمره بذلك لأنه كان سبيلها التصدق
بها بعد التعريف فأمره بدفعها إلى من هو في يده بيت مال الصدقة ليضعها موضع الصدقة
وذكر في الأصل عن سويد بن عقلة قال حججت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأناس
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم فوجدنا سوطا فاحتماه القوم وكرهوا
أن يأخذوه وكنت أحوجهم إليه فأخذته فسالت عن ذلك أبي بن كعب فحدثني بالمائة دينار
التي وجدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجدت مائة دينار فأخبرت النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك قال عرفها سنة فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال عرفها سنة أخرى
فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال عرفها سنة أخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته ثم قال
بعد ثلاث سنين اعرف عددها ووكاءها واخلطها بمالك فان جاء طالبها فادفعها إليه وإلا فانتفع
بها فإنها رزق ساقه الله إليك وأما قوله وجدنا سوطا يحتمل أن يكون ذلك مما يكسر من
السياط ويعلم أن صاحبه ألقاه فتركه القوم لأنهم ما كانوا محتاجين إليه وأخذه سويد لينتفع به
فإنه كان محتاجا إليه فذلك يدل على أن ما ألقاه صاحبه يباح أخذه للانتفاع به لمن شاء
ويحتمل ان هذا كان سوطا هو مال متقوم يعلم أن صاحبه يطلبه فيكون بمنزلة اللقطة وفي
قوله فاحتماه القوم حجة لمن يقول ترك اللقطة أولى من رفعها ولكنا نقول هذا كان في ذلك
الوقت لان الغلبة كانت لأهل الخير والصلاح فإذا تركه واحد يتركه الاخر أيضا أو يأخذه
ليؤدي الأمانة فأما في زماننا فقد غلب أهل الشر إذا ترك الأمين يأخذ الخائن فيكتم من
صاحبه والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس ألا ترى ان النساء كن يخرجن إلى الجماعات
في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه ثم منعن من ذلك في زمن
عمر رضي الله عنه وكان صوابا وفى الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه دليل لما
قلنا إن التقدير بالحول في التعريف ليس بلازم ولكنه يعرفها بحسب ما يطلبها صاحبها ألا ترى
ان المائة دينار لما كانت مالا عظيما كيف أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يعرفها ثلاث
سنين ثم بظاهر الحديث يستدل الشافعي رضي الله عنه في أن للملتقط أن ينتفع باللقطة بعد
التعريف وإن كان غنيا فان رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز ذلك لأبي رضي الله عنه
5

وهو كان غنيا وقد دل على غناه قوله عليه الصلاة والسلام اخلطها بمالك ولكنا نقول يحتمل
انه لفقره وحاجته لديون عليه فأذن له في الانتفاع وخلطها بماله ويحتمل انه علم أن ذلك المال
لحربي لا أمان له وقد سبقت يده إليه فجعله أحق وبه لهذا واليه أشار رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنه قال رزق ساقه الله إليك ولكن مع هذا أمره بأن يعرف عددها ووكاءها احتياطا
حتى إذا جاء طالب لها محترم تمكن من الخروج مما عليه يدفع مثلها إليه وذكر عن الحسن بن
صباح قال وجد رجل لقطة أيام الحاج فسأل عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال عرفها
في الموسم فان جاء صاحبها وإلا تصدق بها فان جاء صاحبها فخيره بين الاجر وبين الثمن يعنى
القيمة فان اختار الثمن فادفع إليه وان اختار الاجر فله الاجر وفى هذا دليل على أنه ينبغي
للملتقط أن يعرفها في الموضع الذي أصابها فيه وان يعرفها في مجمع الناس ولهذا أمره بالتعريف
في الموسم وهذا لان المقصود ايصالها إلى صاحبها وذلك بالتعريف في مجمع الناس في الموضع
الذي أصابها حتى يتحدث الناس بذلك بينهم فيصل الخبر إلى صاحبها وذكر عن أبي إسحاق
عن رجل قال وجدت لقطة حين أنفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه الناس إلى صفين
فعرفتها تعريفا ضعيفا حتى قدمت على علي رضي الله عنه فأخبرته بذلك فضرب يده على
صدري وفى رواية قال لي انك لعريض القفا خذ مثلها فاذهب حيث وجدتها فان وجدت
صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها فان جاء صاحبها فخيره ان شاء اختار الاجر وان شاء
ضمنك ومعنى وقوله فعرفتها تعريفا ضعيفا أي عرفتها سرا وما أظهرت تعريفها في مجمع الناس
فكأنه طمع في أن تبقى له وعرف ذلك منه علي رضي الله عنه حين ضرب يده على صدره
وقال ما قال إنك سليم القلب تطمع في مال الغير وهذا من دعابة علي رضي الله عنه وقد كان
به دعابة كما قال عمر رضي الله عنه حين ذكر علي رضي الله عنه للخلافة أما انه ان ولى هذا
الامر حمل الناس على محجة بيضاء لولا دعابة به وفيه دليل ان التعريف سرا لا يكفي بل ينبغي
للملتقط أن يظهر التعريف كما أمر علي رضي الله عنه الرجل به وانه ينبغي أن يعرفها في الموضع
الذي وجدها لان صاحبها يطلبها في ذلك الموضع وحكى ان بعض العلماء وجد لقطة وكان
محتاجا إليها فقال في نفسه لا بد من تعرفها ولو عرفتها في المصر ربما يظهر صاحبها فخرج من
المصر حتى انتهى إلى رأس بئر فدلى رأسه في البئر وجعل يقول وجدت كذا فمن سمعتوه
ينشد ذلك فدلوه على وتجنب البئر رجل يرقع شمله وكان صاحب اللقطة فتعلق به حتى
6

أخذها منه يعلم أن المقدور كائن لا محالة فلا ينبغي أن يترك ما التزمه شرعا وهو إظهار
التعريف وبعد إظهار التعريف ن جاء صاحبها دفعها إليه لحصول المقصود بالتعريف وإن لم
يجئ فهو بالخيار ان شاء أمسكها حتى يجئ صاحبها وان شاء تصدق بها لان الحفظ هو
العزيمة والتصدق بها بعد التعريف حولا رخصة فيخير بين التمسك بالعزيمة أو الترخص
بالرخصة فان تصدق بها ثم جاء صاحبها فهو بالخيار ان شاء أجاز الصدقة ويكون له ثوابها
وان شاء اختار الضمان وإذا اختار الضمان يخير بين تضمين الملتقط وبين تضمين المسكين
لان كل واحد منهما في حقه مكتسب سبب الضمان الملتقط بتمليك ماله من غير بغير إذنه
والمسكين يقبضه لنفسه على طريق التمليك وأيهما ضمنه لم يرجع على الاخر بشئ أما المسكين
فلانه في القبض عامل لنفسه فلا يرجع بما يلحقه من الضمان على غيره وأما الملتقط فلانه
بالضمان قد ملك وظهر انه تصدق بملك نفسه فله ثوابها ولا رجوع له على المسكين بشئ وإن كان
الملتقط محتاجا فله أن يصرفها إلى حاجة نفسه بعد التعريف لأنه إنما يتمكن من التصدق بها
على غيره لما فيه من سد خلة المحتاج واتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود يحصل بصرفها
إلى نفسه إذا كان محتاجا فكان له صرفها إلى نفسه لهذا المعنى فأما إذا كان غنيا فليس له أن
يصرف اللقطة إلى نفسه عندنا وقال الشافعي له ذلك على أن يكون ذلك دينا عليه إذا جاء
صاحبها لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه كما روينا ولما روى عن علي رضي الله عنه انه وجد
دينارا فاشترى به طعاما بعد التعريف فأكل من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى
وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ولو كان سبيله التصدق ولم يكن للملتقط
صرفها إلى منفعة نفسه لما أكلوا من ذلك فان الصدقة ما كانت تحل لهم والمعنى فيه أن للملتقط
أن يصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا بسبب الالتقاط وما يثبت له بسبب الالتقاط يستوي فيه
أن يكون غنيا أو فقيرا كالحفظ والتعريف والتصدق به على غيره وهذا لان في الصرف
إلى نفسه معنى النظر له ولصاحبها أظهر لأنه يتوصل إلى منفعته ببدل يكون دينا عليه لصاحبها
إذا حضر فكان منفعة كل واحد في هذا أظهر وحجتنا في ذلك ما روينا من الآثار الموجبة
للتصدق باللقطة بعد التعريف ولان المقصود اتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود
لا يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان غنيا بل يتبين به انه في الاخذ كان عاملا لنفسه
ولا يحل له شرعا أخذ اللقطة لنفسه فكما يلزمه أن يتحرز عن هذه النية في الابتداء فكذلك
7

في الانتهاء يلزمه التحرز عن إظهار هذا وقد بينا تأويل حديث أبي فأما حديث علي رضي الله عنه
فقد قيل ما وجده لم يكن لقطة وإنما ألقاها ملك ليأخذه علي رضي الله عنه فقد كانوا لم
يصيبوا طعاما أياما وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بطريق الوحي فلهذا تناولوا منه
علي ان الصدقة الواجبة كانت لا تحل لهم وهذا لم يكن من تلك الجملة فلهذا استجاز علي رضي الله عنه
الشراء بها لحاجته وإذا وجد الرجل اللقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء صاحبها وسمى
وزنها وعددها ووكاءها فأصاب ذلك كله فإن شاء الذي في يده دفعها إليه وان شاء أبى حتى
يقيم البينة عندنا وقال مالك يجبر على دفعها إليه لأنه لما أصاب العلامات فالوهم الذي سبق
إلى وهم كل واحد انه صاحبه والاستحقاق بالظاهر يثبت خصوصا عند عدم المنازع كما يثبت
الاستحقاق لذي اليد باعتبار الظاهر يثبت والملتقط غير منازع له لأنه لا يدعيها لنفسه ولأنه
يتعذر علي صاحبها إقامة البينة فإنه ما أشهد أحدا عند سقوطها منه ولو تمكن من ذلك لما سقطت
منه فسقط اشتراط إقامة البينة للتعذر وتقام العلامة مقام ذلك كما يقام شهادة النساء فيما لا يطلع
عليه الرجال مقام شهادة الرجال ولكنا نقول إصابة العلامة محتمل في نفسه فقد يكون ذلك
جزافا وقد يعرف الانسان ذلك من ملك غيره وقد يسمع من مالكه ينشد ذلك ويذكر
علاماته والمحتمل لا يكون حجة للالزام ثم الملتقط أمين ويصير بالدفع إلى غير المالك ضامنا
فيكون له أن يتحرز عن اكتساب سبب الضمان بأن لا يدفع إليه حتى يقيم البينة فيثبت
استحقاقه بحجة حكمية وله أن يتوسع فيدفع إليه باعتبار الظاهر فان دفعها إليه أخذ منه بها كفيلا
نظرا منه لنفسه فلعله يأتي مستحقها فيضمنها إياه ولا يتمكن من الرجوع على الاخذ منه لأنه
يخفى شخصه فيحتاط فيها بأخذ الكفيل منه وان صدقه ودفعها إلى ثم أقام آخر البينة انها له فله أن
يضمن الملتقط أما بعد التصديق يؤمر بالدفع إليه لان الاقرار حجة في حق المقر لكن الاقرار
لا يعارض بينة الآخر لان البينة حجة متعدية إلى الناس كافة فيثبت الاستحقاق بها للذي أقام
البينة ويتبين ان الملتقط دفع ملكه إلى غيره بغير أمره فله الخياران شاء ضمن القابض بقبضه
وان شاء ضمن الملتقط بدفعه فان ضمن الملتقط رجع على المدفوع إليه وان صدقه بإصابته
العلامة فقد كان ذلك منه اعتمادا على الظاهر ولا بقاء له بعد الحكم بخلافه والمقر إذا صار مكذبا
في إقراره يسقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ثم استحقه انسان من يده
رجع على البائع بالثمن والرواية محفوظة في وكيل المودع إذا جاء إلى المودع وقال أنا وكيله
8

في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه إلا في رواية عن أبي يوسف رحمة الله
بخلاف وكيل صاحب الدين لان المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه واقراره في ملك نفسه
ملزم فأما المودع يقر له بحق القبض في ملك الغير واقراره في ملك الغير ليس بملزم فعلى
هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله في اللقطة كذلك لا يجبر على دفعها إليه وان صدقه ومنهم
من فرق فقال هناك الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة وهنا ليس في اللقطة ملك
ظاهر لغير الذي حضر فينبغي أن يكون اقرار الملتقط ملزما إياه الدفع إليه ثم في الوديعة إذا
دفع إليه بعدما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمن المودع فليس له
أن يرجع على الوكيل بشئ وهنا للملتقط أن يرجع على القابض لأنه هناك في زعم المودع ان
الوكيل عامل للمودع في قبضه له بأمره وانه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه
ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره وهنا في زعمه ان القابض عامل لنفسه وانه ضامن بعد
ما يثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بعدما ضمن لهذا يوضحه ان هناك المودع
منكر الوكالة والقول فيه قوله مع يمينه فلا حاجة به إلى البينة وإنما يقضى القاضي علي المودع
بالضمان باعتبار الأصل وهو عدم الوكالة فلا يصير المودع مكذبا في زعمه حكما وهنا إنما
يقضى بالضمان على الملتقط بحجة البينة فيصير هو مكذبا في زعمه حكما فإن كانت اللقطة مما
لا يبقى إذا أتى عليه يوم أو يومان عرفها حتى إذا خاف أن تفسد تصدق بها لان المقصود
من التعريف ايصالها إلى صاحبها فتقيد مدة التعريف بالوقت الذي لا يفسد فيه لان بعد
الفساد لا فائدة لصاحبها في ايصالها إليه وقد بينا ان التصدق بها طريق لحفظها على صاحبها
من حيث الثواب فيصير إلى ذلك إذا خاف أن تفسد العين وإذا وجد شاة أو بعيرا أو بقرة
أو حمارا فحبسه وعرفه وأنفق عليه ثم جاء صاحبها وأقام البينة أنه له لم يرجع عليه بما أنفق لأنه
متبرع في الانفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون أنفق بغير أمر القاضي فأما أمر القاضي
بمنزلة أمر صاحبها لما للقاضي على صاحبها من ولاية النظر عند عجزه عن النظر بنفسه والامر
بالانفاق من النظر لأنه لا بقاء للحيوان بدون النفقة عادة فان رفعها إلى القاضي وأقام البينة
انه التقطها أمره بان ينفق عليها على قدر ما يرى وقد بينا طريق قبول هذه البينة والامر
بالانفاق بعدها في اللقيط ثم إنما يأمر بالانفاق نظرا منه لصاحبها فلا يأمر إلا في مدة يتحقق
فيها معنى النظر له من يومين أو ثلاثة لأنه لو أمر بالانفاق في مدة طويلة ربما يأتي ذلك على
9

قيمتها فلا يكون فيها نظر لصاحبها فأما في المدة اليسيرة تقل النفقة ومعنى النظر لحفظ عين
ملكه عليه يحصل فإن لم يجئ صاحبها باع الشاة ونحوها لان في البيع حفظ المالية عليه بالثمن
وله ولاية الحفظ عليه بحسب الامكان فإذا تعذر حفظ العين عليه لعوز النفقة صار إلى حفظ
المال عليه بالبيع وأما الغلام والدابة فنؤاجره وننفق عليه من أجره لان بهذا الطريق يتوصل
إلى حفظ عين ملكه والمنفعة لا تبقي له بعد مضى المدة فاجارته والانفاق على بمحض
نظر له فإذا باعها اعطاء القاضي من ذلك الثمن ما أنفق عليه بأمره في اليومين أو الثلاثة لان
الثمن مال صاحبها والنفقة دين واجب للملتقط على صاحبها وهو معلوم للقاضي فيقضى دينه
بماله لان صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فكذلك القاضي يعينه على ذلك
فإن لم يبعها حتى جاء صاحبها وأقام البينة انها له قضى له بها القاضي وقضى عليه بنفقة الملتقط
فان قال الملتقط لا أدفعها إليك حتى تعطيني النفقة كان له ذلك لان ملكه في الدابة حي
وبقي تملك النفقة فكانت تلك النفقة متعلقة بمالية الدابة من هذا الوجه فيحبسها كما يحبس
البائع المبيع بالثمن ولم يذكر في الكتاب أن الملتقط إذا لم يقم البينة هل يأمر القاضي بالانفاق
أم لا والصحيح انه ينبغي للقاضي أن يقول له ان كنت صادقا فقد أمرتك بالانفاق عليه
لان في هذا معنى النظر لهما ولا ضرر فيه على أحد فإنه إن كان غاصبا للدابة لم يخرج من
ضمانه ولا يستوجب الرجوع بالنفقة على مالكها بالأمر لما قيده بكونه صادقا فيه وإذا التقط
الرجل لقطة أو وجد دابة ضالة أو أمة أو عبدا أو صبيا حرا ضالا فرده على أهله لم يكن في
شئ من ذلك جعل لأنه متبرع بمنافعه في الرد ووجوب الجعل لرد الآبق حكم ثبت نصا
بخلاف القياس بقول الصحابة رضي الله عنهم فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه
والضال ليس في معنى الآبق فالآبق لا يزال يتباعد من المولى حتى يفوته والضال لا يزال
يقرب من صاحبه حتى يجده فلهذا أخذنا فيه بالقياس وان عوضه صاحبه شيئا فهو حسن
لأنه يحسن إليه في احياء ملكه ورده عليه وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان ولأنه منعم
عليه وقال صلى الله عليه وسلم من أزالت إليه نعمة فليشكرها وذلك بالتعويض وأدنى درجات
الامر الندب وإذا وجد الرجل بعيرا ضالا أخذه يعرفه ولم يتركه يضيع عندنا وقال ملك رحمه
الله تركه أولى للحديث المشهوران النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الغنم فقال هي
لك أو لأخيك أو للذئب فلما سئل عن ضالة الإبل غضب حتى احمرت وجنتاه وقال مالك
10

ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعي الشجر حتى يلقاها ربها وتأويله عندنا انه كان
في الابتداء فان الغلبة في ذلك الوقت كأن لأهل الصلاح والخير لا نصل إليها يد خائنة إذا
تركها واجدها فأما في زماننا لا يأمن واجدها وصول يد خائنة إليها بعده ففي اخذها احياؤها
وحفظها على صاحبها فهو أولى من تضييعها كما قررنا في سائر اللقطات وإذا باع اللقطة بأمر
القاضي لم يكن لصاحبها ذا حضر إلا الثمن كما لو باعها القاضي بنفسه وهذا لان البيع نفذ
بولاية شرعية فهو كبيع ينفذ بإذن المالك وإن كان باعها بغير أمر القاضي فالبيع باطل لحصوله
ممن لا ولاية له علي المالك بغير أمر معتبر شرعا ثم إن حضر صاحبها واللقطة قائمة في يد
المشتري يخير بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن وبين أن يبطل ويأخذ عين ماله لان البيع
كان موقوفا على اجازته كما لو كان حاضرا حين باعه غيره بغير أمره فإن كان قد هلكت
اللقطة في يد المشترى فصاحبها بالخيار ان شاء ضمن البائع القيمة لوجود البيع والتسليم
منه بغير إذنه وان شاء ضمن المشترى بقبضه ملكه بنفسه بغير رضاه فان ضمن البائع كان
الثمن للبائع لأنه ملكه بالضمان فينفذ البيع من جهته ولكن يتصدق بما زاد على القيمة من
الثمن لأنه حصل له بكسب خبيث فان قيل الضمان إنما يلزمه بالتسليم والبيع كان سابقا
عليه كيف ينفذ البيع من جهته بأداء الضمان قلنا لا كذلك بل كما رفعه ليبعه بغير أمر القاضي
صار ضامنا بمنزلة المودع يبيع الوديعة ثم يضمن قيمتها فان البيع ينفذ من جهته بهذا الطريق
وهو انه كما رفعها إلى البيع صار ضامنا فيستند ملكه إلى تلك الحالة فان ضمن المشترى قيمتها
رجع بالثمن على البائع لان استرداد القيمة منه كاسترداد العين فيبطل البيع به وليس له أن
يجيز البيع بعد هلاك السلعة لان الإجازة في حقة بمنزلة ابتداء التمليك فلا يصح إلا في حاله
بقاء المعقود عليه ولو كان المعقود عليه قائما في يده وقد قبض الملتقط الثمن وقد هلك في
يده ثم أجاز البيع نفذ لقيام المعقود عليه وكان الملتقط أمينا في الثمن لان اجازته في الانتهاء
كاذنه في الابتداء وإذا أخذ عبدا فجاء به إلى مولاه فقال هذا عبد آبق فقد وجب لي
الجعل عليك وقال مولى العبد بل هو الضال أو قال أنا أرسلته في حاجة لي فالقول قول المولى
لان الراد يدعي لنفسه عليه الجعل والمولى ينكر ذلك ولأنه يدعى ان ملكه تغيب بالإباق
والمولى منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإذا هلكت اللقطة عند الملتقط فهو على ثلاثة أوجه
إن كان حين أخذها قال أخذتها لأردها على مالكها وأشهد على ذلك شاهدين فلا ضمان
11

عليه لأنه مأذون في أخذها للرد علي المالك مندوب إلى ذلك شرعا فكان هذا الاخذ نظير
لاخذ بإذن المالك فلا يكون سببا للضمان وإن كان أخذها لنفسه وأقر بذلك فهو ضامن
لها لأنه ممنوع من أخذها فكان متعديا في هذا الاخذ فيكون ضامنا كالغاصب والأصل
فيه قوله صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد أي ضمان ما أخذ والآخذ مطلقا
من يكون عاملا لنفسه وإن لم يكن أشهد عن الالتقاط ولكنه ادعى انه أخذها للرد ويدعى
صاحبها ان أخذها لنفسه فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القول قول صاحبها والملتقط
ضامن وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول الملتقط مع يمينه لوجهين (أحدهما) ان مطلق
فعل المسلم محمول على ما يحل شرعا قال صلى الله عليه وسلم لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك
سوأ وأنت تجد لها في الخير محملا والذي يحل له شرعا الاخذ للرد لا لنفسه فيحمل مطلق فعله
عليه وهذا الدليل الشرعي قائم مقام الاشهاد منه (والثاني) ان صاحبها يدعى عليه سبب
الضمان ووجوب القيمة في ذمته وهو منكر لذلك فالقول قوله كما لو ادعى عليه الغصب وهما
يقولان كل حر عامل لنفسه ما لم يظهر منه ما يدل على أنه عامل لغيره ودليل كونه عاملا
لغيره الاشهاد هنا فإذا تركه كان آخذا لنفسه باعتبار الظاهر هذا إذا وجدها في موضع يتمكن
من الاشهاد فإن لم يكن متمكنا من الاشهاد لعدم من يشهد أو لخوفه على أن يأخذ منه
ذلك ظالم فالقول قوله ولا ضمان عليه والثاني أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب موجب
للضمان عليه إلا عند وجود الاذن شرعا والاذن شرعا مقيد بشرط الاشهاد عليه والاظهار
فإذا ترك ذلك كان أخذه سببا للضمان عليه شرعا فلا يصدق في دعوى المسقط بعد ظهور
سبب الضمان كمن أخذ مال الغير وهلك في يده ثم ادعى ان صاحبه أودعه لم يصدق في ذلك
إلا بحجة وان قال قد التقطت لقطة أو ضالة أو قال عندي شئ فمن سمعتموه ينشد لقطة
فدلوه على فلما جاء صاحبها قال قد هلكت فهو مصدق علي ذلك ولا ضمان عليه لأنه أظهرها
بما قال وتبين ان أخذها للرد فكان أمينا فيها ولا يضره أن لا يسمى جنسها ولا صفتها
في التعريف لأنه إنما امتنع من ذلك لتحقيق الحفظ على المالك كيلا يسمع انسان ذلك منه
فيدعيها لنفسه ويخاصمه إلى قاض يرى الاستحقاق لمصيب العلامة فقد بينا ان في هذا
اختلافا ظاهرا وما يرجع إلى تحقيق الحفظ على المالك لا يكون سببا للضمان عليه وكذلك لو
وبعد لقطتين فقال من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه على وإن لم يقل عندي لقطتان ثم هلكتا
12

عنده ثم جاء صاحبهما فلا ضمان عليه فيهما لأنه أظهرهما بما ذكر من التعريف فاللقطة اسم
جنس يتناول الواحد وما زاد عليه حتى لو قال عندي لقطة برئ من الضمان وان كانت
عنده عشرة لان الاشهاد بهذا اللفظ يتم منه في حق كل واحد منهما وإذا أخذ الرجل لقطة
ليعرفها ثم أعادها إلى المكان الذي وجدها فيه فلا ضمان عليه لصاحبها وان هلكت قبل أن
يصل إليها صاحبها أو استهلكها رجل آخر لان أخذها للتعريف لم يكن سببا لوجوب
الضمان عليه وكذلك ردها إلى مكانها لأنه نسخ لفعله فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه
كرد الوديعة إلى مالكها ورد المغصوب إلى صاحبه ولأنه بمجرد الاخذ لا يصير ملتزما
للحفظ فقد يأخذها على ظن أنها له بان كان سقط منه مثلها فإذا تأملها وعلم أنها ليست
له ردها إلى مكانها وقد يأخذها ليعرف صفتها حتى إذا سمع أنسانا يطلبها دله عليها وقد
يأخذها ليحفظها على المالك وهو يطمع في أن يتمكن من أداء الأمانة فيها فإذا أحس بنفسه
عجزا أو طمعا في ذلك ردها إلى مكانها فلهذا لا يضمن شيئا وإنما الضمان على المستهلك لها وإن كان
الأول أخذها لنفسه ثم أعادها إلى مكانها فهو ضامن لها ان هلكت وان استهلكها
غيره فلصاحبها الخيار يضمن أيهما شاء لان أخذها لنفسه سبب موجب للضمان عليه
وبعد ما وجب الضمان لا يبرأ إلا بالرد على المالك كالغاصب واعادتها إلى مكانها ليس برد
على المالك فلا يكون مسقطا للضمان عليه وقيل على قول زفر يبرأ عن الضمان لأنه نسخ فعله
بما صنع فيسقط عنه حكم ذلك الفعل ونظائر هذه المسألة ذكرها في اختلاف زفر ويعقوب قال
إذا كانت دابة فركبها ثم نزل عنها وتركها في مكانها فعلى قول زفر رحمه الله لا ضمان عليه
وعلى قول أبى يوسف رحمه الله هو ضامن لها وكذلك لو نزع الخاتم من أصبع نائم ثم أعاده
إلى أصبعه بعدما انتبه ثم نام فعند أبي يوسف رحمه الله لا يبرأ عن الضمان وعند زفر يبرأ
عن ضمانه ولو أعاده إلى أصبعه قبل أن ينتبه من تلك النومة برأ بالاتفاق فزفر رحمه
الله سوى بينهما باعتبار انه نسخ فعليه حين أعاده على الحال الذي أخذه وأبو يوسف رحمه
الله يقول لما انتبه صاحبه وجب عليه رده في حالة الانتباه فلا يكون نومه بعد ذلك مسقطا
للضمان عليه بخلاف ما إذا رده قبل أن ينتبه وكذلك لو كان ثوبا فلبسه ثم نزعه وأعاده إلى
مكانه فهو علي هذا الخلاف هذا إذا لبسه كما يلبس ذلك الثوب عادة فأما إذا كان قميصا
فوضعه على عاتقه ثم أعاده إلى مكانه فلا ضمان عليه لان هذا حفظ وليس باستعمال فلا يصير
13

به ضامنا وكذلك الخاتم ان لبسه في الخنصر فهو استعمال يصير به ضامنا اليد اليمنى واليسرى
في ذلك سواء لان بعض الناس يلبسون الخاتم في الخنصر من اليد اليمنى للتزين والاستعمال
وان لبسه في أصبع آخر لم يكن ضامنا لان المقصود هنا الحفظ دون التزين به وذكر هشام
عن محمد رحمهما الله ان لبسه على خاتم في خنصره لم يكن ضامنا لان المقصود هو الحفظ دون
التزين به قال هشام رحمه الله فقلت له من السلاطين من يتخم بخاتمين للتزين فقال يكون
أحدهما للختم لا للتزين ثم قال حتى أتأمل في هذا والحاصل ان الرجل إذا كان معروفا بأنه
يلبس خاتمين للتزين فهذا يكون استعمالا منه وإلا فهو حفظ وكذلك أن كان سيفا فتقلد به
فهذا استعمال وإن كان متقلدا سيفا فكذلك لان المبارز قد يتقلد بسيفين إلا أن يكون متقلدا
بسيفين فحينئذ تقلده بهذه اللقطة يكون حفظا ولا يكون استعمالا فلا يصير ضامنا لها قال
وكذلك الغاصب إذا رد الدابة إلى دار صاحبها لم يبرأ من الضمان حتى يدفعها إلى صاحبها
بخلاف المستعير فإنه ليس بضامن لها فإذا ردها إلى دار صاحبها فقد أتى بما هو المعتاد في
الرد فلا يكون ضامنا شيئا فأما الغاصب ضامن لها فحاجته إلى رد مسقط للضمان عليه
ولا يحصل ذلك ما لم يدفعها إلى صاحبها رجل جاء إلى دابة مربوطة لرجل فحلها ولم يذهب
بها ثم ذهبت الدابة فلا ضمان على الذي حلها وروى عن محمد رحمه الله انه ضامن لها وعلي
هذا لو فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الإصطبل ففرت الدابة وجه قول محمد ان
الذي حل الرباط أو فتح الباب في الحقيقة مزيل للمانع موجد شرط الذهاب إلا أن ما هو
علة للتلف هنا وهو فعل الطير والدابة ساقط الاعتبار شرعا وفي مثله يحال الاتلاف علي
صاحب الشرط فيصير ضامنا كحافر البئر في الطريق فإنه أوجد شرط السقوط بإزالة المسكة
عن الأرض فأما العلة ثقل الماشي في نفسه ومشيه في ذلك الموضع ولكن لما تعذر إضافة
الاتلاف إليه إذا لم يكن عالما به كان مضافا إلى الحافر حتى يكون ضامنا وكذلك من شق
زق انسان فسال منه مائع كان فيه فهو ضامن وعمله إزالة المائع فقط فأما علة السيلان كونه
مائعا ولكن لما تعذر إضافة الحكم إلى ما هو العلة كان مضافا إلى الشرط وعلى هذا لو قطع
حبل قنديل فسقط فعمل القاطع في إزالة المانع فكان ضامنا لهذا المعنى وأبو حنيفة وأبو
يوسف رحمهما الله يقولان عمله في اتحاد الشرط كما قال محمد رحمه الله وقد طرأ على ذلك
الفعل فعل فاعل معتبر حصل به التلف فيسقط اعتبار ذلك الشرط ويحال بالتلف على هذا
14

الفعل المعتبر قوله بان فعل الدابة هدر قلنا نعم هو غير معتبر في ايجاب الضمان ولكنه معتبر
في نسخ حكم الفعل به ألا ترى ان من أرسل دابته في الطريق فأصابت في سير إرساله
مالا أو نفسا كان المرسل ضامنا ولو تيامنت أو تياسرت ثم أصابت شيئا لم يضمن المرسل
واعتبر فعلها في نسخ حكم فعل المرسل به فكذلك هنا يعتبر فعلها في نسخ حكم فعل الذي
حلها أو فعلها باب الإصطبل به وهو نظير من حفر بئرا في الطريق فجاء حربي لا أمان له وألقى
فيه غيره لم يضمن الحافر شيئا وفعل الحربي غير معتبر في ايجاب الضمان عليه ثم كان معتبرا في
نسخ حكم فعل الحافر به وهذا بخلاف مسألة الزق والحبل فإنه ما طرأ على فعله ما ينسخه
حتى إذا كان ما في الزق جامدا ثم ذاب بالشمس فسال لم يضمن الشاق فان قيل كيف
يستقيم القول في هذه الفصول بان عمله في اتحاد الشرط والشرط يتأخر عن العلة ولا يسبقها
قلنا هذا شرط في معنى السبب فان الحكم يوجد عند وجود الشرط وعند وجود السبب
إلا أن السبب يتقدم والشرط يتأخر فهذا التقدم في معنى السبب ولكونه مزيلا للمانع هو
شرط كما بينا وعلى هذا لو حل قيد عبد آبق فذهب العبد لم يضمن شيئا لما قلنا قال محمد رحمه
الله إلا أن يكون العبد مجنونا فحينئذ يضمن لان فعله في الذهاب غير معتبر شرعا فيبقى
الاتلاف مضافا إلى إزالة المانع بحل القيد وقال أيضا لو كان هذا المجنون مقيدا في بيت مغلق
فحل انسان قيده وفتح آخر الباب فذهب فالضمان علي الفاتح لان حل القيد لم يكن إزالة
للمانع قبل فتح الباب واتمام ذلك بالفاتح للباب فهو الضامن وعلى قول الشافعي رضي الله عنه
في هذه الفصول ان ذهب في فور فتح الباب أو حل الرباط فهو ضامن وإن لم يذهب
في فوره ذلك فلا ضمان عليه لأنه لما لم يذهب في فوره فقد علمنا أن الباب لم يكن مانعا له
وإنما ذهب بقصد حدث له وقصد الدابة عنده معتبر وإذا ذهب في فوره فقد علمنا أن الباب
كان مانعا ومن أزال هذا المانع فهو متعدي فيما صنع فيكون ضامنا وإذا كانت اللقطة في يد
مسلم فادعاها رجل ووصيفها فأبى الذي في يده أن يدفعها إليه إلا ببينة فأقام شاهدين كافرين
لم تجز شهادتهما لأنها تقوم على المسلم في استحقاق يده عليه وشهادة الكافر ليست بحجة
على المسلم وان كانت في يد كافر فكذلك في القياس لأني لا أدرى لعلها ملك المسلم وشهادة
الكافر في استحقاق ملك المسلم ليست بحجة ولكن في هذا الاستحسان يقضى له بشهادتهما
لأنها تقوم لاستحقاق اليد علي الملتقط والملتقط كافر وشهادة الكافر حجة على الكافر ثم كما
(2 مبسوط الحادي عشر)
15

يتوهم انها لمسلم يتوهم أنها لكافر فتقابل الموهومات مع أن الموهوم لا يعارض المعلوم وان
كانت في يدي مسلم وكافر لم تجز شهادتهما في القياس على واحد منهما وفى الاستحسان
يجوز على الكافر منهما فيقضى له بما في يد الكافر لما قلنا وإذا أقر الملتقط بلقطة لرجل وأقام
آخر البينة انها له قضيت بها للذي أقام البينة لما قلنا إن البينة حجة في حق الكل والاقرار
ليس بحجة في حق الغير والضعيف لا يعارض القوي فان أقربها لأحدهما أولا ودفعها إليه
بغير حكم فاستهلكها ثم أقام آخر البينة فله أن يضمن أن شاء الدافع وان شاء القابض لأنه
أثبت ملكه بالحجة وكل واحد منهما متعدي في حقه فان ضمن الدافع لم يرجع على القابض
لأنه مقر ان القابض أخذ ملك نفسه وانه ليس بضامن شيئا وإقراره حجة عليه في اسقاط
حقه وان ضمن القابض لم يرجع علي الدافع أيضا لأنه في القبض كان عاملا لنفسه وان دفع
بقضاء القاضي فله أن يضمن القابض ان شاء لما قلنا وان أراد أن يضمن الدافع فقد قال مرة في
آخر هذا الكتاب ليس له أن يضمن الدافع وقال مرة أخرى له أن يضمن الدافع وحيث
قال له ان يضمن الدافع فهو قول محمد رحمه الله وما قال ليس له أن يضمن الدافع فهو قول أبى
يوسف رحمه الله وأصله مسألة الوديعة إذا قال هذا العين في يدي لفلان أودعنيه فلان
لرجل آخر فان دفعه إلى المقر له الأول بغير قضاء القاضي ضمن للمقر له بالودعية بالاتفاق
وان دفعه بقضاء القاضي فكذلك عند محمد لأنه باقراره سلط القاضي علي القضاء فهو كما لو
دل انسانا علي سرقة الوديعة وعند أبي يوسف رحمه الله لا ضمان عليه لان باقراره لم يتلف
شيئا على صاحب الوديعة والدفع كان بقضاء القاضي فلا يكون موجبا للضمان عليه فكذلك هنا
الملتقط أمين كالمودع فإذ دفع إلى المقر له بقضاء القاضي لم يضمن في قول أبى يوسف شيئا
لمن يقيم البينة وهو ضامن له في قول محمد والله أعلم
كتاب الإباق
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد رحمه الله اعلم بان الإباق تمرد في الانطلاق وهو
من سواء الأخلاق ورداءة في الأعراق يظهر العبد عن سيده فرار البصير ماله ضمار افراده
إلى مولاه واعادته إلى مثواه إحسان ولفتتان وإنما جزاء الاحسان الا الاحسان فالكتاب
لبيان الجزاء المستحق افراد في الدنيا مع ماله من الاجر في العقبى بإغاثة اللهفات ومنع المعتدى
16

عن العدوان ولهذا بدأ بحديث سعيد بن المرزبان عن أبي عمر والشيباني قال كنت جالسا
عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فجاء رجل فقال إن فلانا قدم بإباق من القوم فقال
القوم لقد أصاب أجرا فقال عبد الله رضي الله عنه وجعلا إن شاء من كل رأس أربعين
درهما. وفي هذا الحديث بيان ان الراد مثاب لان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم ينكر
عليهم اطلاق القول بأنه أصاب أجرا وفيه دليل على أنه يستحق الجعل على مولاه وهو
استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله. وفى القياس لا جعل له وهو قول الشافعي رضي الله عنه
لأنه تبرع بمنافعه في رده على مولاه ولو تبرع عليه بعين من أعيان ماله لم يستوجب عليه
عوضا بمقابلته فكذلك إذا تبرع بمنافعه ولان رد الآبق نهى عن المنكر لان الإباق منكر
والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم فلا يستوجب بإقامة الفرض جعلا ولكنا تركنا هذا
القياس لا تفاق الصحابة رضي الله عنهم فقد اتفقوا على وجوب الجعل لان ابن مسعود رضي الله عنه
قال في مجلسه ما قال وقد اشتهر عنه ذلك لا محالة ولم ينكر عليه أحد من أقرانه وقد
عرض قوله عليهم لا محالة والسكوت بعد ذلك عن إظهار الخلاف لا يحل لمن يعتقد خلافه
فمن هذا الوجه يثبت الاجماع منهم ثم هم اتفقوا على أصل وجوب الجعل وان اختلفوا في
مقداره فقال عمر رضي الله عنه دينار أو اثنا عشر درهما وقال علي رضي الله عنه دينار أو
عشرة دراهم وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه إذا أخذه في المصر فله عشرة دراهم أو دينار
وان أخذه في غير المصر فله أربعون درهما فقد اتفقوا على وجود أصل الجعل وكفى باجماعهم
حجة والأصل أن الصحابة رضي الله عنهم متى اختلفوا في شئ فالحق لا يعدوهم وليس
لاحد أن يترك جميع أقاويلهم برأيه ولكن يرجح قول البعض على البعض فنحن أخذنا
بقولهم في ايجاب أصل الجعل ورجحنا قول ابن مسعود رضي الله عنه في مقداره (فان قيل)
كان ينبغي أن يؤخذ بالأقل في المقدار لأنه متيقن به (قلنا) إنما لم يؤخذ بالأقل لان التوفيق
بين أقاويلهم ممكن بأن يحمل قول من أفتى بالأقل علي ما إذا رده مما دون مسيرة سفر
وقول من أفتى بالأكثر على ما إذا رده من مسيرة سفر كما فسره عمار بن ياسر رضي الله عنه
فان قوله ان أخذه في المصر كناية عما دون مسيرة سفر وان أخذه خارج المصر كناية عن
مسيرة سفر ومتى أمكن التوفيق بين أقاويلهم وجب المصير إليه ثم الاخذ بالأقل إنما
يكون فيما يقولونه بآرائهم ونحن نعلم أنهم ما قالوا هذا بالرأي لأنه خلاف القياس ولان نصب
17

المقادير بالرأي لا يكون ولا طريق لما ثبت عنهم من الفتوى الا الرأي أو السماع ممن ينزل
عليه الوحي فإذا انتفى أحدهما هنا تعين الآخر وصار كأن كل واحد منهم روى ما قاله عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثبت للزيادة من الاخبار عن التعارض أولى فلهذا أخذنا
بالأكثر هذا هو النهاية في التمسك بالسنة والاخذ بأقاويل الصحابة رضي الله عنهم فقد
قامت الشريعة بفتواهم إلى آخر الدهر وليس لاحد أن يظن بهم إلا أحسن الوجوه ولكنه
بحر عميق لا يقطعه كل سابح ولا يصيبه كل طالب. وليس في هذا الباب شئ من المعنى
سوى ما ذكره عن إبراهيم قل كي يرد الناس بعضهم على بعض معناه أن الراد يحتاج إلى
معالجة ومؤنة في رده وقلما يرغب الناس في التزام ذلك خشية ففي ايجاب الجعل للراد ترغيب
له في رده واظهار الشكر في المردود عليه لإحسانه إليه الا ان إبراهيم كان يستحب ذلك ولا
يوجبه على ما روى عنه أنه كان يستحب أن يرضخ للذي يجئ بالآبق. ولم نأخذ بقوله في هذا
وإنما نأخذ بقول شريح والشعبي رحمهما الله فقد قال الشعبي رحمه الله للراد دينار إذا أخذه
خارجا من المصر وقال شريح رحمه الله له أربعون درهما فنأخذ بذلك ويحمل ما نقل عن
الشعبي على ما إذا رده مما دون مسيرة السفر ويستقيم الاحتجاج بقول شريح رحمه الله
في هذا ونحوه لان الصحابة رضي الله عنهم قلدوه القضاء وسوغوا له المزاحمة معهم في
الفتوى ألا ترى أنه خالف عليا رضي الله عنه في رد شهادة الحسن رضي الله عنه وان مسروقا
رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في موجب النذر بذبح الولد ورجع ابن عباس
رضي الله عنهما إلى قوله فعرفنا أن من كان بهذه الصفة فقوله كقول الصحابي * ثم الشافعي
استحسن برأيه في هذه المسألة من وجه فقال لو كان المولى خاطب قوما فقال من رد منكم
عبدي فله كذا فرده أحدهم استوجب ذلك المسمى وهذا شئ يأباه القياس لأن العقد مع
المجهول لا ينعقد وبدون القبول كذلك ولا شك ان الاستحسان الثابت باتفاق الصحابة
رضي الله عنهم خير من الاستحسان الثابت برأي الشافعي رضي الله عنه ولا حجة له في
قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير لان ذلك كان خطابا لغير معين وهو لا يقول به فإنه لو
قال من رده فله كذا ولم يخاطب به قوما بأعيانهم فرده أحدهم لا يستحق شيئا ثم هذا تعليق
استحقاق المال بالخطر وهو قمار والقمار حرام في شريعتنا ولم يكن حراما في شريعة من
قبلنا (وان قال) اعتبر قول المالك لاثبات أمره بالرد للذين خاطبهم ثم المأمور من جهة الغير
18

يرجع عليه بما لحقه من المؤنة في ذلك (قلنا) لو كان هذا معتبرا لرجع عليه بما لحق فيه من
المؤنة دون المسمى * ثم الامر هنا ثابت أيضا بدون قوله ألا ترى أن العبد الهارب من مولاه
ما دام بمرأى العين منه ينادي مولاه على أثره خذوه فعرفنا بهذا انه أمر لكل من يقدر
على أخذه ورده على أن يرده عليه والامر الثابت دلالة بمنزلة الامر الثابت افصاحا ثم ذكر
عن الشعبي في رجل أخذ غلاما آبقا فأبق منه قال لا ضمان عليه وذكر بعده عن جرير بن
بشير عن أشياخ من قومه قال أخذ مولى للحي آبقا فأبق منه نحو حي فكتب إلى مولاه أن يأتي
أهله فيجتعل له منهم ففعل ذلك ثم كتب إليه فأقبل بالعبد فأبق من فاختصموا إلى شريح فضمنه
إياه ثم اختصموا إلى علي رضي الله عنه فقال يحلف العبد الأحمر للعبد الأسود بالله ما أبق
منه ولا ضمان عليه وإنما نأخذ بحديث علي رضي الله عنه والشعبي فنقول لا ضمان عليه إذا
أخذه للرد على مولاه لأنه أخذه بإذن مولاه كما بيناه وفي هذا دليل على أن الراد يستوجب
الجعل وكان ذلك أمرا ظاهرا حتى لم يخف على مواليهم حين كتب الآخذ إلى مولاه أن
يأتي أهله فيجتعل له منهم إلا أنه كان من مذهب شريح تضمين الأجير المشترك فيما يمكن
التحرز عنه والمستوجب للجعل بمنزلة الأجير المشترك فلهذا ضمنه وكان من مذهب علي رضي الله عنه
انه لا يضمن الأجير المشترك كما ذكر عنه في كتاب الإجارات في إحدى
الروايتين ولكن القول قوله مع يمينه وقوله) يحلف العبد الأحمر يريد به الراد سماه أحمر لقوته
وقدرته على أخذ الآبق وسمى الآبق أسود الخبث فعله وهو من دعابة علي رضي الله عنه
قال وإذا أتى الرجل بعبد آبق فأخذه السلطان فحبسه فجاء رجل وأقام البينة انه عبده فإنه
يستحلف بالله ما بعته ولا وهبته ثم يدفع إليه أولا. نقول ينبغي للراد أن يأتي به السلطان
بخلاف ما سبق في اللقطة لأنه يقدر على حفظها بنفسه ولا يقدر على حفظ الآبق بنفسه
عادة فرفعه إلى السلطان لهذا ولأنه يستوجب التعزير علي إباقه فيرفعه إلى السلطان ليعزره
ويأخذه السلطان منه ليحبسه وذلك نوع تعزير ثم من يدعيه لا يستحقه بدون البينة فإذا
أقام البينة فقد أثبت ملكه فيه بالحجة إلا أنه يحتمل أن يكون باعه أو وهبه ولا يعرف
الشهود ذلك فيستحلفه على ذلك (فان قيل) كيف يستحلفه وليس هنا خصم يدعي ذلك (قلنا)
يستحلفه صيانة لقضاء القاضي والقاضي مأمور بان يصون قضاءه عن أسباب الخطأ بحسب
الامكان أو يستحلفه نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه من مشتر أو موهوب له فإذا
19

حلف دفعه إليه ولا أحب أن يأخذ منه كفيلا وان أخذ منه كفيلا لم يكن مسيئا ولكن
إن لم يأخذ أحب إلى هذه رواية أبى حفص وفي رواية أبى سليمان قال أحب إلى أن يأخذ منه
كفيلا وإن لم يأخذ كفيلا وسعه ذلك. من أصحابنا من قال ما ذكر في رواية أبى حفص
قول أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يرى أخذ الكفيل للمجهول كما قال في الجامع الصغير في
أخذ الكفيل من الوارث هذا شئ احتاطه بعض القضاة وهو ظلم وما قاله في رواية أبى
سليمان رحمه الله قولهما لأنهما يجوزان للقاضي أن يحتاط بأخذ الكفيل صيانة لقضاء نفسه
أو نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه والأصح ان فيه روايتين وما ذكر في رواية أبى سليمان
أقرب إلى الاحتياط فربما يظهر مستحق يقيم البينة علي الولادة في ملكه فيكون مقدما علي
من أقام البينة على الملك المطلق أو يقيم البينة على الملك المطلق فيكون مزاحما له أو يقيم البينة على أنه
اشتراه منه فالمستحب أن يأخذ منه كفيلا لهذا ولكنه موهوم لم يقم عليه دليل فكان في
سعة من أن لا يأخذ منه كفيلا. وما ذكر في رواية أبى حفص أقرب إلى القياس لان استحقاقه
ثابت بما أقام من البينة واستحقاق غيره موهوم والموهوم لا يقابل المعلوم فلا يستحب للقاضي
ترك العمل الا بحجة معلومة لامر مرهوم أرأيت لو لم يعطه كفيلا أو لم يجد كفيلا أكان
يمتنع القاضي من القضاء به له وقد أقام البينة ولكنه لو أخذ منه كفيلا فهو فيما صنع محتاط
مجتهد فلا يكون مسيئا وإن لم يكن للمدعى بينة وأقر العبد انه عبده فإنه يدفعه إليه ويأخذ منه
كفيلا. أما الدفع إليه فلان العبد في يد نفسه وقد أقر بأنه مملوك له ولو ادعى أنه حر كان
قوله مقبولا فكذلك إذا أقر أنه مملوك له يصح اقراره في حق نفسه لأنه لا منازع لهما فيما
قالا وخبر المخبر محمول على الصدق ما لم يعارضه مثله ولكن يأخذ منه كفيلا لان الدفع إليه
بما ليس بحجة على القاضي فلا يلزمه ذلك بدون الكفيل بخلاف الأول فالدفع هناك ليس
بحجة ثابتة في حق القاضي يوضحه أن قول العبد بعد اقراره بالرق في تعيين مالكه غير
مقبول ألا ترى أنه لو كان في يد رجلين وأقر بالملك لأحدهما لم يصح اقراره وكان بينهما
فكذلك لا يصح اقراره في استحقاق اليد الثابتة للقاضي بعد ما أقر برقه فلا بد من أن يأخذ منه
كفيلا بحق نفسه حتى إذا حضر مالكه وأراد أن يضمنه يمكن من أخذ الكفيل ليحضره
فيخلصه من ذلك فأما إذا أقام البينة فقد أثبت استحقاق اليد على القاضي ولا يلحق القاضي
ضمان في الدفع إليه بحجة البينة فلهذا لا يحتاط بأخذ الكفيل وإن لم يكن للعبد طالب فإذا
20

طال ذلك باعه الامام وأمسك ثمنه حتى يجئ له طالب ويقيم البينة انه عبده فيدفع إليه الثمن
لأنه مأمور بالنظر وليس من النظر إمساكه بعد طول المدة لأنه محتاج إلى النفقة وربما يأتي
ثمنه على نفقته ولأنه لا يأمن أن يأبق منه فكان حفظ ثمنه أيسر عليه من حفظ عينه وأنفع
لصاحبه وليس لصاحبه إذا حضر أن ينقض بع الامام لأنه نفذ بولاية شرعية وينفق عليه
الامام في مدة حبسه من بيت المال لأنه محتاج إلى النفقة عاجز عن الكسب إذا كان
محبوسا ولو أمره الامام بان يخرج فيكتسب فأبق ثانيا فكان النظر في الانفاق عليه من بيت
المال لأنه معد للنوائب وهذا من جملة النوائب ثم يأخذ ذلك من صاحبه ان حضر فرده
عليه أو من ثمنه ان باعه وقد بينا هذا في نفقة الملتقط بأمر القاضي فكذلك في نفقة الامام
من بيت المال على الآبق لان قضاءه في ذلك للمسلمين لا لنفسه فان أقام مدعيه شهودا
نصارى لم تجز شهادتهم لان العبد في يد امام المسلمين واستحقاق يد المسلم لا يكون بشهادة
النصارى وان أقام بينة من المسلمين وقد باعه الامام فزعم أنه كان قد دبره أو كانت جارية
فزعم أنها كانت أم ولده لم يصدق على فسخ البيع لان البيع نفذ من القاضي بولاية شرعية
فكأن المالك باشر بيعه بنفسه ثم ادعى شيئا من ذلك ولا يصدق على فسخ البيع إلا أن
يكون لها ولد وقد ولدته في ملكه فيدعى أنه ولده منها فحينئذ يصدق ويثبت النسب ويفسخ
البيع كما لو كان باشر البيع بنفسه وهذا لان ثبوت نسب ولد حصل العلوق به في ملكه
بمنزلة البينة فيما يرجع إلى ابطال حق الغير ألا ترى ان المريض إذا أقر لجاريته أنها أم ولده
ومعها ولد يدعى نسبه كان مصدقا في ابطال حق الغرماء والورثة عنها بخلاف ما إذا لم يكن
معها ولد فهذا مثله وإذا وجد الرجل غلاما أو جارية آبقا بالغا أو غير بالغ فرده إلى مولاه
فإن كان أخذه من مسيرة ثلاثة أيام أو أكثر فله الجعل أربعون درهما ولا يزاد على ذلك
وان بعدت المسافة لان تقدير الجعل بأربعين إذا رده من مسيرة سفر ثابت بفتوى ابن
مسعود رضي الله عنه والزيادة على القدر الثابت شرعا بالرأي لا تجوز ولان أدنى مدة السفر
معلوم ولا نهاية لما وراء ذلك والحكم لا يتغير به شرعا كسائر الاحكام المتعلقة بالسفر وان
أخذه في المصر أو خارجا منه ولكن فيما دون مسيرة سفر في القياس لا شئ له لان التقدير
الثابت بالشرع يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر ولان الجعل إنما يستحقه راد الآبق
وتمام الإباق بمسيرة السفر ففيما دونه هو كالضال ولهذا لا يتعلق شئ من أحكام السفر فيما
21

دون مسيرة السفر. وفى الاستحسان له الجعل على قدر المكان والعناء لان في مدة السفر
وجوب الجعل ليس لعين المدة بل لما يلحق من العناء والتعب في رده وقد وجد بعض
ذلك فيستوجب من الجعل بقدره ألا ترى ان المالك لو استأجره بمال معلوم ليرده من
مسيرة يوم استحق من المسمى بقدرة فكذلك فيما هو ثابت شرعا وإن كان أنفق عليه
أضعاف مقدار الجعل بغير أمر القاضي فليس له سوى الجعل لأنه متبرع فيما أنفق وان مات
عنده قبل أن يرده أو أبق منه فإن كان أشهد على ذلك حين وجده انه إنما أخذه ليرده
علي صاحبه فلا ضمان عليه وان أقر انه أخذه لنفسه فهو ضامن وان ادعى انه أخذه للرد
ولكن ترك الاشهاد مع الامكان فهو على الخلاف وقد بينا هذا في اللقطة فكذلك في الآبق
لان المعنى يجمعها وهذا إذا علم أنه كان آبقا فان أنكر المولى أن يكون عبده آبقا فالقول
قوله لان السبب الموجب للضمان قد ظهر من الاخذ وهو أخذه مال الغير بغير إذنه فهو يدعى
ما يسقطه وهو الاذن شرعا لكون العبد آبقا ولو ادعى الاذن من المالك له في أخذه وأنكر
المالك كان القول قوله فكذلك هنا وعلى هذا لورده فأنكر المولى أن يكون عبده آبقا فلا
جعل له إلا أن يشهد الشهود بأنه أبق من مولاه أوان مولاه أقر بإباقه فحينئذ الثابت بالبينة
كالثابت معاينة فيجب له الجعل وإذا أعتقه المولى في إباقه جاز ذلك لان نفوذ هذا التصرف
يعتمد الملك دون القدرة على التسليم حتى ينفذ في المرهون والمؤاجر والجنين في البطن
والمبيع قبل القبض فكذلك ينفذ في الآبق لان الإباق لا يزيل ملكه وإنما يعجزه عن
التسليم ولهذا لو باعه لم يجز لان البيع لا يصح إلا فيما هو مقدور التسليم للعاقد وقدرته علي
التسليم تنعدم بالإباق ولان في بيعه معنى الغرر لأنه لا يعلم بقاؤه في الحال حقيقة ولا عوده
ليقدر على التسليم ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر فالغرر لا يمنع نفوذ
العتق والتدبير فلهذا صح منه إذا ظهر أنه كان قائما وقت العتق ولو وهبه لرجل لم يجز لان
الهبة لا تتم إلا بالتسليم وهو غير قادر على تسليمه فان وهبه لابن له صغير في عياله فالهبة
جائزة واعلامه بمنزلة القبض لأنه باق في يد مولاه حكما فيصير قابضا للصغير باليد الحكمي
الذي بقي له وحق القبض فيما يوهب للصغير إليه وسواء كان الصغير في عياله أو لم يكن لان
الولاية ثابتة له بالأبوة فلا تنعدم بكونه في عيال غيره وإنما ذكر قوله في عياله علي سبيل
العادة لا للشرط وإنما قلنا إنه في يده حكما لان اليد الحكمي كان له باعتبار ملكه فلا ينعدم
22

الا باعتراض يد أخرى علي يده وبالإباق لا يوجد ذلك وعلى هذا الطريق لا فرق بين أن
يكون مترددا في دار الاسلام أو في دار الحرب ووجه آخر فيه وهو ان اليد الحكمي
باعتبار تمكنه من الاخذ لأنه لو قدر عليه وذلك ما باق ما دام في دار الاسلام بقوة الامام
والمسلمين وعلى هذا الطريق لو أبق إلى دار الحرب ثم وهبه لابنه الصغير لا يجوز كما رواه
قاضي الحرمين عن أبي حنيفة رحمه الله لان اليد الحكمي ليس بثابت له في دار الحرب وإذا
أبق العبد المأذون ثم اشترى وباع لم يجز وقد صار محجورا عليه استحسانا وفي القياس لا يصير
محجور عليه وهو قول زفر رحمه الله لان ما به صح اذن المولى وهو قيام ملكه في رقبته
لا ينعدم بالإباق لان الإباق لا ينافي ابتداء الاذن فلا ينافي البقاء بطريق الأولى. وجه
الاستحسان ان المولى إنما يرضى بتصرفه ما دام تحت طاعته ولا يرضى به بعد تمرده وإباقه فإما
أن يتقيد الاذن المطلق بما قبل الإباق لدلالة العرف أو يصير محجورا بعد الإباق لدلالة
الحجر فان المولى لو ظفر به أدبه وحجر عليه ودلالة الحجر كالتصريح بالحجر كما أن دلالة
الاذن كالتصريح بالاذن ولهذا صح اذن الآبق ابتداء لان الدلالة يسقط اعتبارها عند
التصريح بخلافها ألا ترى ان تقديم المائدة بين يدي انسان يكون إذنا له في التناول دلالة
فان قال لا يأكل بطل حكم ذلك الاذن للتصريح بخلافه ثم المولى لو ظفر به أدبه وحبسه
وحجر عليه فهو وان عجز عن تأديبه فالشرع ينوب عنه في الحجر عليه كالمرتد اللاحق بدار
الحرب يموته الامام حكما فيقسم ماله بين ورثته لأنه لو قدر عليه قتله فإذا عجز عن ذلك جعله
الشرع ميتا حكما فهذا مثله والحكم في جناية الآبق والجناية عليه وفي حدوده كالحكم فيها
في المصر لان الرق فيه باق بعد الإباق وملك المولى قائم فيه وباعتباره يخاطب بالدفع أو الفداء
عند قدرته عليه فإذا قامت البينة عليه بالسرقة لم يقطعه الامام حتى يحضر مولاه فإذا حضر
قطعه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله يقطعه ولا ينتظر حضور
مولاه وكذلك إذا قامت البينة عليه بسائر الأسباب الموجبة للعقوبة من حد أو قصاص فهو
على هذا الخلاف. وجه قول أبى يوسف رحمه الله ان العبد في الأسباب الموجبة للعقوبة كالحر
بدليل انه يصح إقراره بها على نفسه ولا يصح إقرار المولى عليه بذلك وفيما كان هو بمنزلة
الحر لا يشترط حضور المولى للقضاء عليه بالبينة كالطلاق وهذا لان التزام العقوبة باعتبار
معنى النفسية دون المالية وحق المولي في ملك المالية فبقي هو في النفسية على أصل الحرية
23

لان العقوبة تثبت عليه بالبينة تارة وبالإقرار تارة ثم فيما يثبت باقراره لا يشترط
حضور المولى للاستيفاء فكذلك فيما يثبت بالبينة بل أولى لان البينة حجة متعدية إلى
الناس كافة والاقرار حجة قاصرة في حق المقر خاصه. وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله ان في إقامة الحد عليه تفويت حق المولى فلا يجوز إلا بمحضر منه لان العبد ليس بخصم عنه
والقضاء على غير خصم حاضر بتفويت حقه لا يجوز وبيان هذا أن للمولى حق الطعن في الشهود
حتى لو كان حاضرا كان طعنه مسموعا ففي إقامة القوبة تفويت حق المطعون عليه والدليل
عليه ان العبد لو كان كافرا ومولاه مسلما لم تقبل شهادة الكفار عليه بالأسباب الموجبة للعقوبة
ولو لم يكن للمولى حق في هذه البينة لكأن لا يعتبر دينه في ذلك والعبد ليس بخصم عن
المولى لأنه خصم باعتبار معنى النفسية ولا حق للمولى في ذلك فلا ينتصب خصما عنه وبه
فارق الاقرار فإنه ليس للمولى حق الطعن في اقراره فلا يكون في إقامة العقوبة عليه بالاقرار
تفويت حق المولي ولان وجوب العقوبة عليه باعتبار معنى النفسية ولكن في الاستيفاء اتلاف
مالية المولي والبينة لا توجب شيئا بدون القضاء والاستيفاء في العقوبات من تتمة القضاء ألا ترى
ان المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء يجعل كالمقترن بأصل القضاء حتى يمتنع الاستيفاء به
فإذا كان تمام قضائه متناولا حق المولى يشترط حضور المولى في ذلك بخلاف الاقرار فإنه
موجب بنفسه قبل قضاء القاضي وولاية الاستيفاء تثبت بتقرر الوجوب فلا يشترط فيه
حضور المولي وإذا أخذ العبد الآبق وحبس في بلد فتقدم مولاه إلي قاضي بدلته وأقام عليه
شاهدين وطلب أن يكتب به إلي قاضي البلد الذي هو فيه لم يجبه إلي ذلك في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله ولو فعل لم نقض القاضي المكتوب إليه بذلك الكتاب وعلى قول أبى يوسف
يجيبه إلى ذلك بطريق يذكره وهو قول ابن أبي ليلى * والحاصل ان كتاب القاضي إلي
القاضي في الديون صحيح بالاتفاق وكذلك في العقار لان اعلامها في الدعوى والشهادة
تذكر الحدود دون الإشارة إلى العين وفى العروض من الدواب والثياب لا يجوز كتاب
القاضي إلي القاضي بالاتفاق لأنه لا بد من إشارة الشهود إلى العين للقضاء بشهادتهم وذلك
نعدم في كتاب القاضي إلى القاضي فأما في العبيد والجواري فلا يجوز كتاب القاضي عند
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أيضا وهو القياس لأنه لا بد من إشارة الشهود إلى العين ليثبت
الاستحقاق بشهادتهم ولهذا لو كان حاضرا في البلدة لا يسمع الدعوى والشهادة الا بعد
24

احضاره فلا يجوز فيه كتاب القاضي إلي القاضي كما في سائر العروض ولكن استحسن
أبو يوسف في العبيد قال العبد قد يأبق من مولاه و قد يرسله مولاه في حاجة من بلد إلى بلد
فيمتنع من الرجوع إليه ويتعذر علي المولى الجمع بين شهوده وبينه في مجلس القاضي فلو لم يقبل
فيه كتاب القاضي إلى القاضي أدى إلى اتلاف أموال الناس فكان قبول البينة بهذه الضنة
أرفق بالناس وما كان أرفق بالناس فالأخذ به أولى لان الحرج مدفوع وكان يقول مرة في
الجارية أيضا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي ثم رجع فقال لا يقبل في الجارية لان باب
الفروج مبنى علي الاحتياط ولأن هذه البلوى تقل في الجواري فالمولى لا يرسلها من بلد إلى
بلد عادة والإباق في الجواري يندر أيضا * ثم بيان مذهبه أن المدعى يقيم عند القاضي
شاهدين على حليته وصفته وانه مملوك له فيكتب له بذلك إلي قاضي البلد الذي هو فيه
محبوس فإذا ثبت الكتاب عند ذلك القاضي بشهادة الشهود عليه وعلى الختم ووافق حلية
العبد وصفته ما في الكتاب دفع إليه من غير أن يقضى له بالملك ويختم في عنقه بالرصاص
للاعلام ويأخذ من المدعى كفيلا ثم يأتي به المدعي إلى البلد الذي فيه شهوده ويكتب معه
كتابا إلى ذلك القاضي فإذا أتى به إلى هذا القاضي أعاد شهوده ليشهدوا بالإشارة إلى
العبد انه ملكه وحقه فإذا شهدوا بذلك قضى له بالعبد وكتب إلى ذلك القاضي بما ثبت
عنده ليبرئ كفيله. وفى الجواري على قوله الأول لا يدفعها إليه القاضي المكتوب إليه أولا
ولكنه يبعث بها معه على يد أمين لأنه لو دفعها إليه لا يمتنع من وطئها وإن كان أمينا في
نفسه لأنه يزعم أنها مملوكته ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا هذا استحسان فيه
بعض القبح فإنه إذا دفع إليه العبد يستخدمه قهرا أو يستغله فيأكل من غلته قبل أن يثبت
ملكه فيه بقضاء القاضي وربما يظهر العبد لغيره إذا جاء به إلى القاضي الكاتب فالحلية والصفة
تشتبه ألا ترى ان الرجلين المختلفين قد يتفقان في الحلية والصفة أرأيت لو كانت جارية حسناء
أكان يبعث بها مع رجل لم يثبت له فيها حق هذا قبح فلهذا أخذنا بالقياس فإن كان القاضي
باع العبد الآبق حين طال حبسه وأخذ ثمنه وهلك العبد عند المشترى ثم ادعاه الرجل
وأقام البينة ان عبدا اسمه كذا وكذا عبده فوافق ذلك صفة البعد الذي باعه القاضي لم يقبل
ذلك ولا يدفع إليه الثمن لان شهوده لم يشهدوا على استحقاق ما في يد القاضي من الثمن نما
شهدوا على الاسم والحلية والاسم يوافق الاسم والحلية توافق الحلية إلا أن يشهدوا ان العبد
25

الآبق الذي باعه القاضي من هذا الرجل هو عبد هذا فحينئذ يقضى له القاضي بالثمن لأنه
أثبت الملك في ذلك العبد بعينه والبدل إنما يملك بملك الأصل وكذلك إن لم يبعه حتى قتل فأقام
المدعى البينة أن المقتول عبده فإنه يقضى له بالقيمة لان القيمة والثمن كل واحد منهما بدل
عن العبد واستحقاق البدل باستحقاق الأصل * رجل أخذ عبدا آبقا فباعه بغير إذن القاضي
ثم أقام المولى بينة أنه عبده فإنه يسترده من المشترى والبيع باطل لان الآخذ باعه بغير ولاية
له فان ولاية تنفيذ البيع له في ملك الغير أنما تثبت بإذن المولى أو باذن القاضي بعد ما تثبت
الولاية له فإذا باعه بدون اذن القاضي كان البيع باطلا وإن كان العبد هلك عند المشترى
فللمستحق أن يضمن قيمته أيهما شاء لان البائع متعد في حقه بالبيع والتسليم والمشترى
بالقبض لنفسه فإذا ضمن المشترى قيمته رجع علي البائع بالثمن لأن المبيع لم يسلم من جهته
واسترداد القيمة منه كاسترداد العين وان ضمن البائع قيمته نفذ البيع من جهته لأنه ملكه
بالضمان فيكون الثمن له ولكنه يتصدق بما فضل من القيمة على الثمن لأنه ربح حصل
لا على ملكه بكسب خبيث * رجل أقام البينة عند قاض من القضاة بان العبد الذي باعه
قاضي بلد كذا من فلان فهو عبده وأخذ كتابه إلى ذلك القاضي الذي باع الآبق فهذا
جائز ويدفع ذلك القاضي إليه المثن إذا ثبت كتاب القاضي عنده بالبينة لان المدعى بهذه
البينة لا يريد أخذ عين العبد فان بيع القاضي قد نفذ ألا ترى أنه لو أقام البينة عنده
دفع إليه المثن ولم يمكنه من أخذ العبد فعرفنا ان مقصوده اثبات حق أخذ الثمن لنفسه فهذا
والبينة التي يقيمها علي الدين سواء فلهذا يكتب القاضي له بذلك ويقضى المكتوب إليه
بخلاف ما سبق (فان قيل) الثمن عين في يد ذلك القاضي كالعبد (قلنا) نعم ولكنه معلوم
بذكر مقداره فلا تقع الحاجة إلى الإشارة من الشهود إلى عينه للاستحقاق بخلاف العبد.
وإذا وجد الرجل عبدا أو أمة آبقا وهو يقدر علي أخذه فإنه يسعه تركه وأحب إلى أن يأخذه
ليرده على صاحبه ومن العلماء من يقول لا يسعه تركه لان النهى عن المنكر فرض علي كل
من يقدر عليه ولان حرمة مال المسلم كحرمة نفسه ولو رأى إنسانا يغرق لم يسعه إلا أن
يخلصه إذا قدر عليه فكذلك إذا رأى ماله يتوى. ولكنا نقول هو يحتاج في رده إلي معالجة
ومؤنة فكان في سعة من أن لا يلتزم ذلك وإن كان الأولى أن يلتزمه ولأنه في الترك
يعتمد ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤوى الضالة الا ضال وقال ضالة المؤمن حرق النار
26

وبظاهر الحديث يقول جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف لا يسعه أن يأخذه فلا
أقل من أن يسعه الترك لظاهر الحديث (وإذا) أخذ عبدا آبقا فادعاه رجل وأقر له العبد
فدفعه إليه بغير أمر القاضي فهلك عنده ثم استحقه آخر بينة أقامها فله أن يضمن أيهما شاء
لكون كل واحد منهما خائنا في حقه فان ضمن الدافع رجع به على القابض لأنه أخذ العبد
منه لنفسه وقد تبين انه كان غاصبا لا مالكا وللغاصب الأول حق الرجوع على الثاني بما
يضمن ولأنه لم يسبق اقرار من الدافع للقابض بالملك ولو كان أقر له بذلك فسقط اعتبار
اقراره لما صار مكذبا شرعا فإذا لم يسبق اقراره أولى. وإن كان لم يدفع إلى الأول حتى شهد
شاهدان عنده فدفعه إليه بغير حكم ثم أقام آخر البينة عند القاضي فإنه يقضى به لهذا لان
البينة الأولى أقامها صاحبها في غير مجلس الحكم فلا تكون معارضة للبينة التي قامت في
مجلس الحكم لان وجوب الحكم يختص ببينة تقوم في مجلس القضاء وان أعاد الأول بينته
لم ينفعه أيضا لان اليد في العبد له وبينة ذي اليد في الملك المطلق لا تعارض بينة الخارج
وما يكتسبه العبد الآبق بالبيع والشراء والإجارة وغير ذلك لمولاه لأنه مالك لرقبته بعد إباقه
وإذا لم يكن المكتسب أهلا للملك فمولاه يخفه في ملك الكسب لملكه رقبته وان أجره
الذي أخذه وأخذ أجرته فهو للذي أجره قال لأنه في ضمانه وكأنه أشار بهذا إلى قوله صلى
الله عليه وسلم الخراج بالضمان ولا به بعقده صير ما ليس بمال مالا فان المنافع لا تأخذ حكم
المالية الا بالعقد عندنا كما بينه في الغصب ومن صير ما ليس بمال من ملك الغير مالا بفعله
كان ذلك المال له كمن اتخذ كوزا من تراب غيره وباعه ولكن ينبغي له أن يتصدق به لأنه
حصل بكسب خبيث وان دفعه إلى المولى مع العبد وقال هذا المال غلة عبدك وقد سلمته لك
فهو للمولى لأنه أخذ بالاحتياط فيما صنع وتحرز عن اختلاف العلماء فان عند الشافعي رضي الله عنه
هذا المال للمولى وعندنا هو للأجير ولا يمنعه من تمليك مال نفسه منه طوعا ثم يحل للمولى
أكله استحسانا وفى القياس لا يحل لان حق الفقير أثبت فيه حين وجب التصدق به فلا
يملك الآخذ اسقاط حق الفقراء ولكنه استحسن وقال وجوب التصدق به كان لخبث
دخل فيه لعدم رضى المولى به فإنما يظهر ذلك في حق الآخذ لا في حق المولى بل بالتسليم
إلى المولى يزول ذلك الخبث فكان له أن يا كله استحسانا لأنه كسب عبده وفى القياس
لا يجب الاجر لان المستأجر ضامن للعبد باستعماله والأجر مع الضمان لا يجتمعان ولكنه
27

استحسن فقال العبد غير محجور عن الاكتساب وتحصيل المنافع ألا ترى أنه يصح منه
قبول الهبة والصدقة فإذا سلم من العمل نمحض ذلك العقد منفعة لأنه لو لم يسبق العقد
لم يجب على المستعمل له شئ فلهذا أنفذنا ذلك العقد بخلاف ما إذا تلف لأنه لو نفذ العقد لم
يكن للمولى حق تضمين المستأجر فيتضرر به فإذا ثبت نفوذ العقد عند سلامة العبد كان
حق قبض الاجر إليه لأنه وجب بعقده بأخذها فيدفعها إلى المولى. وإباق المكاتب لا يبطل
مكاتبته واذنه بخلاف إباق المأذون لان المولى يقدر على أن يحجر على المأذون ولا يستطيع
أن يحجر على المكاتب ولان حق المكاتب في نفسه لازم ولهذا لا يملك المولى بيعه بخلاف
المأذون * وحقيقة المعنى ان الإباق لا يتحقق من المكاتب فان له أن يخرج في الاكتساب
إلى حيث يشاء وليس للمولى أن يمنعه من ذلك بخلاف المأذون فان للمولى أن يمنعه من
الخروج فإذا خرج بغير إذنه كان فعله إباقا وبهذا الطريق لا جعل لراد المكاتب لأنه ليس
بآبق بخلاف المأذون ولان الراد إنما يستوجب الجعل باحيائه مالية الرقبة برده وذلك
لا يوجد في المكاتب فان حق المولى في بدل الكتابة في ذمته خاصة ولم يصر مشرفا على
الهلاك بإباقه حتى يكون في الرد احياؤه بخلاف العبد لان مالية رقبته حق المولى وقد
أشرف على التوى بإباقه فيكون الراد محييا له * ويجوز عتق الآبق عن الظهار إذا كان حيا لأنه
باق على ملك المولى حقيقة فينفذ عنقه فيه على الوجه الذي ينفذ حال كونه في يده (فان قيل)
الآبق في حكم المستهلك واعتاق المستهلك حكما عن الظهار لا يجوز كالأعمى (قفلنا) المستهلك
منه حكما ماليته لا ذاته والكفارة إنما تتأدى بتحرير مبتدأ وذلك يرجع إلى الذات دون المالية
فان الله تعالى قال لتحرير رقبة والرقبة اسم للذات حقيقة والذات المرقوق عرفا وليس في
النص تعريض لصفة المالية ولهذا كان قليل القيمة وكثير القيمة في جواز التكفير به سواء
بخلاف الأعمى فالمستهلك هناك الذوات حكما لفوات منفعة الجنس منه وبخلاف المدبر
وأم الولد فعتقهما ليس بتحرير مبتدأ بل هذا من وجه تعجيل لما استحقاه مؤجلا ويجوز
بيع الآبق ممن أخذه لان امتناع جواز بيعه من غيره لعجزه عن التسليم إليه ولا يوجد
ذلك هنا لأنه بنفس العقد يصير مسلما إلى المشترى لقيام يده فيه فلهذا جاز بيعه منه وإذا
أبق عبد الرهن فرده رجل في حياه الراهن أو بعد موته فهو رهن على حاله لان ماليته قد
أشرفت على التوى بالإباق ثم قد حيى بالرد فهو كما لو أشرف على الهلاك ثم برئ فيكون
28

رهنا على حاله والمرتهن أحق به من سائر غرماء الراهن بعد موته والجعل على المرتهن إن كان
قيمته مثل الدين لان وجوب الجعل للراد باحيائه مالية العبد ومالية حق المرتهن لان
موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن من المالية ألا ترى أنه لو لم يرده حتى
يتحقق التوى سقط دين المرتهن فعرفنا انه في الرد عمل له فكان الجعل عليه وهو نظير
تخليصه من الجناية بالفداء وذلك على المرتهن بقدر المضمون منه فكذلك الجعل وهذا
بخلاف النفقة فإنه لا بقاء الملك لا لاحياء المالية ألا ترى أن المرتهن إذا امتنع من الانفاق
تمكن من رده ويبقى جميع دينه فعرفنا أن النفقة لا بقاء الملك والملك للراهن والجعل لا حياء
المالية فيكون على المرتهن ألا ترى ان المالية لو انتقصت بقرحة خرجت به كان دواء ذلك
ومعالجته على المرتهن بخلاف النفقة فكذلك جعل الآبق وللذي جاء به أن يمسكه حتى
يأخذ الجعل لأنه إنما يستوجب الجعل باحياء ماليته فكان لما يستوجب تعلقا بماليته فيحتبس
به كما يحبس البائع المبيع بثمنه * وان مات العبد في يده بعد ما قضى القاضي بإمساكه فلا ضمان
عليه لأنه محق في حبسه ولا جعل له لان وجوب الجعل باعتبار احيائه ماليته ولم يتم ذلك
حين لم تصل إليه يد مولاه وهو نظير المبيع يتلف في يده البائع فان حقه في الثمن يسقط سواء
حبسه أو لم يحبسه فهنا يسقط حقه في الجعل بموته في يده سواء حبسه أو لم يحبسه (عبد)
أبق وذهب معه بمال فجاء به رجل فقال لم أجد معه شيئا فالقول قوله ولا شئ عليه لان
وصول يده إلى العبد لا يكون دليل وصول المال إليه ما لم يعلم كونه في يد العبد حين أخذه
والمولى يدعى عليه ذلك وهو منكر كما لو ادعى عليه انه غصبه مالا وأنكره وان اتهمه رب
المال فله أن يستحلفه علي ذلك وهو منكر كما لو ادعي لأنه يدعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا
أنكر يستحلف لرجاء نكوله حتى يقام ذلك مقام اقراره * ولو أن أمة أبقت من مولاها
فالتحقت بأرض الحرب ثم أصابها المسلمون فاشتراها رجل منهم فوطئها فولدت له ثم جاء
مولاها فإنه يأخذها وعقرها وقيمة ولدها في قول أبي حنيفة وكذلك لو كان الواطئ اشتراها
من المشركين وعندهما أم ولد لمن استولدها ولا سبيل لمولاها عليها وهذا بناء علي ان الآبق
إلى دار الحرب لا يملكه المشركون بالأخذ في قول أبي حنيفة لا نهم لم يحرزوه لكونه في
يد نفسه وهي يده محترمة فإذا لم يملكها المشتري منهم ولا المسلمون بالاستيلاء أيضا فمن
اشتراها فوطئها فهو بمنزلة المغرور لأنه في الاستيلاء اعتمد ظاهر الشراء وولد المغرور حر
29

بالقيمة وللمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة ولدها وبه قضى عمر وعلى رضى الله
تعالى عنهما وعندهما هم يملكون الآبق إليهم بالأخذ فإذا ملكوها ملكها المشترى أيضا وقد
استولدها فكانت أم ولد له ولا حق للمولى في استردادها والجعل واجب في رد المدبر
وأم الولد لأنهما مملوكان للمولى يستكسبهما بمنزلة القن (فان قيل) فأين ذهب قولكم
انه يستوجب الجعل باحياء المالية في أم الولد خصوصا عند أبي حنيفة (قلنا) نعم ليس له
فيها مالية باعتبار الرقبة ولكن له ماليه باعتبار كسبها بخلاف المكاتب فإنه أحق بمكاسبه فلا
يكون راده محييا للمولى مالية باعتبار الرقبة ولا باعتبار الكسب فان مات المولى قبل أن
يوصلهما الراد إليه فلا جعل له لأنهما عتقا بموته وراد الحر لا يستوجب الجعل وكذلك أن
كان على المدبر سعاية بأن لم يكن للمولى مال سواه فرده على الورثة لم يستوجب الجعل
لان المستسعى بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة وعندهما هو حر عليه دين ولا جعل لراد
المكاتب أو الحر فأما إذا وصلهما إلى المولى فقد تقرر حقه في الجعل فلا يسقط بموت المولى
وعتقهما بعد ذلك * وان كن الآبق بين رجلين أثلاثا فالجعل بينهما على قدر أنصبائهما وجوبه
باعتبار احياء ماليتهما والمالية لصاحب الكثير أكثر منها لصاحب القليل وراد الصغير إذا كان
آبقا يستوجب الجعل كراد الكبير غير أنه ان جاء به من مسيرة سفر فله أربعون درهما
وان جاء به مما دون ذلك يرضخ له على قدر عنائه وعناؤه في رد الكبير أكثر منه في رد
الصغير فالرضخ يكون بحسب ذلك * وإذا انتهى الرجل بالعبد الآبق إلى مولاه فلما نطر إليه
أعتقه فالجعل واجب عليه لأنه صار قابضا له باعتاقه ألا ترى ان المشترى إذا أعتق المبيع
قبل القبض يصير به قابضا وكذلك أن باعه مولاه من الذي أتاه به لأنه صار قابضا له لما
نفذ تصرفه فيه بالتمليك من غيره ولان سلامة الثمن له باعتبار رد هذا الراد فيكون بمنزلة
سلامة العين له. وان سلمه الراد إلى مولاه فأبق منه ثم جاء به رجل آخر من مسيرة ثلاثة
أيام فعلي الولي جعل تام لكل واحد منهما لان السبب وهو احياء المالية بالرد على المولى
قد تقرر من كل واحد منهما بكماله وإن كان الأول أدخله المصر ثم ابق منه قبل أن
ينتهى به إلى مولاه فالجعل للاخر ان جاء به من مسيرة ثلاثة أيام ويرضخ له إن كان دون
ذلك ولا شئ للأول لان تمام السبب بايصاله إلى المولى والأول ما أوصله إلى المولى فانتقص
السبب في حقه بإباق العبد منه قبل تمامه بالايصال إلى المولى فلا جعل له وأما الثاني فقد
30

أتم السبب بايصاله إلى المولى فيستوجب الجعل بحسب عمله وان أخذه الأول مع الثاني
ورداه من مسيرة يوم فللأول نصف الجعل تاما ويرضخ للثاني علي قدر عنائه لأنهما تمما
السبب بايصاله إلى المولى إلا أن الأول قد ضم فعله الثاني إلى الفعل الأول وباعتبار هذا
الضم يكون رادا له من مسيرة سفر فله نصف الجعل تاما والثاني إنما رده من مسيرة يوم
فيجعل في حقه كأنهما رداه من مسيرة يوم فلهذا استحق الرضخ على قدر عنائه وان رداه
من مسيرة ثلاث فالجعل بينهما سواء لأنهما استويا في سبب الاستحقاق للجعل وهو
الايصال إلى المولى بعد الرد من مسيرة ثلاث فيستويان في استحقاق الجعل. وإن كان أحد
الرادين عبدا محجورا أو مأذونا فهو مثل الحر في استحقاق الجعل لان هذا اكتساب للمال
والعبد غير محجور عن اكتساب المال بطريق هو محض منفعة في حق المولى وإن كان
العبد الآبق لمكاتب أو عبد تاجر فعليهما الجعل للراد لان حقهما في كسبهما بمنزلة حق
الحر فيما يرجع إلى ملك التصرف والراد أحيا مالية البعد بالرد لهما فيستوجب الجعل عليهما
وكذلك أن كان الآبق لصبي فالجعل في ماله يؤدى عنه أبوه أو وصيه لان منفعة احياء المالية
حصلت له (عبد) جنى جناية ثم أبق فجاء به رجل فالمولى مخير بين الدفع والفداء إذا كان قبل
إباقه فان اختار الفداء فالجعل على مولاه لأنه طهره عن الجناية باختياره وتبين ان الراد
عمل له في احياء ماليته وان اختار دفعه إلى أصحاب الجناية فالجعل على أصحاب الجناية لأنه
تبين ان الراد أحيا حقهم فان نفس العبد مستحق لهم بالجناية إلا أن يختار المولى الفداء
ولهذا لو هلك العبد قبل أن يختار المولى شيئا بطل حقهم فتبين باختيار الدفع ان الراد أحيا
حقهم فيستوجب الجعل عليهم وله أن يحبسه عنهم حتى يستوفي الجعل كما كان له أن يحبسه
عن المولى (عبد) أبق إلي بعض البلدان فأخذه رجل فاشتراه منه رجل وجاء به فلا جعل له لأنه
إنما دره لنفسه فان المشترى قد يكون قاصدا إلي تملك المشتري فيكون هو غاصبا في حق المولى
لا عاملا له وكذلك أن وهبه أو أوصى له أو ورثه فان أشهد حين اشتراه انه إنما يشتريه
ليرده على صاحبه لأنه لا يقدر عليه إلا بالشراء فله الجعل له لأنه بهذا الاشهاد أظهر انه
يعمل للمولي في الرد ولكنه الطريق الذي يمكنه فيستوجب ولا يرجع على المولى بما أدى
من الثمن قل ذلك أو كثر لأنه متبرع في ذلك كما كان متبرعا فيما ينفق عليه بغير أمر القاضي
وكذلك أن كان أبق إلي دار الحرب ففي حق الراد هو والمأخوذ في دار الاسلام سواء وان
(3 مبسوط الحادي عشر)
31

أخذ الآبق رجل فجاء به ليرده على مولاه فوجده قد مات قال له الجعل في تركته لان
وارثه أو وصيه يخلفه بعد موته فالرد عليه كالرد على المولى في حياته وإذا استوجب الجعل عليه
كان ذلك دينا في تركته كسائر الديون فإن كان عليه دين يحيط بماله فالراد أحق بإمساك العبد
حتى يعطى الجعل فإن لم يكن له مآل غيره بيع العبد ويبدأ بالجعل له من ثمنه ثم يقسم الباقي
بين الغرماء لان حق الغرماء في ماليته إنما ثبت من جهة الميت وقد كان الراد أحق به من
الميت ما لم يستوف الجس فكذا يكون هو أحق به من غرماء الميت أيضا فإن كان الذي جاء به
وارث الميت وقد أخذه وسار به ثلاثة أيام في حياته وأوصله إلي المصر فمات المولي قبل أن يرده
عليه وليس الوارث الراد في عياله فله الجعل في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى لا جعل له لان استحقاق الجعل إنما يكون بالايصال إلي المالك وكذا لو أبق قبل أن
يوصله إلى المالك فلا جعل له والايصال هنا لم يوجد قبل الموت وبعد الموت لم يصلح سببا
لوجوب الجعل له لأنه شريك فيه ومن عمل في شئ هو فيه شريك لا يستوجب
الاجر بالعقد وان شرط ذلك في العقد فهنا أولى أن لا يستوجب * وجه قولهما ان
الراد إنما يستحق الجعل بعمله في الرد وقد تم ذلك في حياة المورث قبل أن تثبت له الشركة
فيه إلا أن ايصاله إلي المولى شرط وعند وجوده يستحق الاجر بعمله لا بما هو شرط
والشرط يتحقق مع الشركة في المحل وإنما الذي لا يتحقق تسليم العمل إلي غيره فيما هو
شريك فيه وقد صار العمل هنا مسلما إلي المولى باتصاله بملكه وقد وجد الشرط بالرد على
ورثته فيستوجب الجعل. يوضحه أنه باحياء المالية يستوجب الجعل وقد تحقق هذا حتى لو
كان على الميت دين أو أوصى بوصية ينفذ من ذلك فيكون هذا بمنزلة ما لورده عليه في
حياته ولم يأخذ الجعل منه حتى مات وإذا جاء بالآبق من مسيرة ثلاثة أيام وهو لا يساوي
أربعين درهما ففي قول أبى يوسف الأول له الجعل أقل من قيمته بدرهم وهو قول محمد
وفي قول أبى يوسف الآخر رحمهما الله له الجعل تاما * وجه قوله الأول ان وجوب الجعل
باعتبار احياء المالية للمولى فلا بد من اعتبار مقدار المالية التي حييت له ثم الراد مأذون من
جهة المولي في ايصال المنفعة إليه لا في إلحاق الضرر به وايجاب المال لنفسه عليه فإذا كان
قيمة العبد درهما كان في ايجاب الأربعين علي المولي ضرر بين فينبغي أن يوجب له من الجعل
بقدر ما يظهر فيه منفعة عمله للمولي وذلك أن ينقص من قيمته درهم لان ما دون الدرهم
32

من الكسور لا يجوز اعتباره شرعا. وجه قوله الآخر أن وجوب الجعل للراد عرف شرعا
باتفاق الصحابة وقد قدروه بأربعين درهما من غير أن يعرضوا لقيمة العبد وما ثبت من
التقدير شرعا يجب اعتباره وكان عمل الراد هنا في ايجاب جعل مقدر له بمنزلة عقد باشره
مع المولى فكما يستحق هناك جميع المسمى ولا ينظر إلى قيمة العبد فكذلك هنا يوضحه ان
ماليه رقبته وان كانت دون الأربعين فمالية كسبة الذي يحصل للمولى قد تزيد عليه وقد
بينا ان ذلك يعتبر لا يجاب الجعل ابتداء فلان يعتبر لتكميل الجعل كان أولى وإذا كان على
العبد دين فجعله على مولاه إذا أراد ذلك بأن يقضى ما على العبد من الدين وان أبى بيع
العبد واستوفى صاحب الجعل جعله وكان ما بقي من الثمن لأصحاب الديون وهذا وما تقدم
مما إذا كان على العبد دين جناية سواء لان المستحق هناك الدفع بالجناية وهنا البيع في الدين
وإذا أخذ الرجل عبد أخيه أو أخته أو عبد أبيه أو ابنه أو عبد امرأته أو امرأة أخذت عبد
زوجها فالقياس في جميع ذلك واحد أن يكون له الجعل إذا لم يكن في عياله لان ملك أحدهما
منفصل عن ملك الآخر فيتحقق منه احياء المالية على المالك بالرد فيستوجب الجعل كسائر
الأجانب ولكنه استحسن فقال إذا وجد عبد أبيه وهو في عياله فلا جعل له لان رد الآبق
على أبيه من جملة خدمته وخدمة الأب مستحق على الابن دينا وإن لم تكن مستحقا عليه
دينا ولهذا لو استأجر ابنه لخدمته لم يستوجب الاجر سواء كان في عياله أو لم يكن فكذلك
لا يستوجب الجعل ترد آبقه وكذلك المرأة مع الزوج لان كل واحد منهما له بسوطة اليد
في مال صاحبه ويعد خيره خير نفسه ولان خدمة الزوج مستحق على المرأة دينا حتى
لا يستأجرها على ذلك والزوج هو الذي يطلب آبق امرأته عادة. فأما إذا وجد عبد ابنه
فإن كان في عيال ابنه فلا جعل له لان آبق الرجل إنما يطلبه من في عياله عادة ولهذا ينفق
عليهم فلا يستوجب مع ذلك جعلا آخر وإن لم يكن الأب في عيال الابن فله الجعل لان
خدمة الابن غير مستحق على الا أب دينا ولا هو سائغ له شرعا ولهذا لو استأجر أباه
ليخدمه فخدمه استوجب الاجر عليه فكذلك يستوجب الجعل وكذلك الأخ له الجعل
إذا لم يكن في عيال أخيه وإن كان في عياله فلا جعل له لأنه إنما يعوله وينفق عليه لهذا
ونحوه وإذا أبق عبد اليتيم فجاء به الوصي فلا جعل له لأنه هو الذي يطلب آبق اليتيم عادة
وهو الذي يمسك عبده فلا يكون له الرد على نفسه وكذلك أن كان اليتيم في حجر رجل
33

يعوله فجاء به ذلك الرجل فلا جعل له لأنه هو الذي يطلبه عادة وإذا صالح الذي جاء بالآبق
مولاه من الجعل على عشرين درهما جاز لأنه يجوز بدون حقه وأحسن إليه بحط بعض
ما استوجبه عليه وان صالحه على خمسين درهما وهو لا يعلم أن الجعل أربعون درهما جاز
منه أربعون ويطرح الفضل لان حقه مقدر بالأربعين شرعا فالزيادة على ذلك تكون ربا
وهو نظير ما لو صالح الشريك المعتق شريكه على أكثر من قيمة نصيبه كان الفضل باطلا
لما بيناه. وإذا أبقت الأمة ولها صبي رضيع فردهما رجل فله جعل واحد لان الإباق من الرضيع
لا يتحقق فإنما رد آبقا واحدا وهي الأمة وإن كان ابنها غلاما قد قارب الحلم فله جعلان
ثمانون درهما لان الإباق تحقق منهما فإنما أحيا مالية مملوكين بالرد فيستوجب جعلا كاملا
باعتبار كل واحد منهما. وإذا رجع الواهب في الهبة بعد مارد العبد من إباقه وسلمه إلى
الموهوب له فله الجعل على الموهوب له لأنه أحيا المالية له بالرد والايصال إليه فزوال ملكه
بعد ذلك برجوع الواهب كزوال ملكه بموت العبد ولو مات لم يبطل حق الراد في الجعل
فكذلك إذا رجع فيه الواهب والله سبحانه وتعالى أعلم
كتاب المفقود
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي إملاء. المفقود اسم لموجود هو حي باعتبار أول حاله ولكنه خفى الأثر كالميت
باعتبار مآله وأهله في طلبه يجدون ولخفاء أثر مستقره لا يجدون قد انقطع عليهم خبره واستتر
عليهم أثره وبالجد ربما يصلون إلى المراد وربما يتأخر اللقاء إلى يوم التناد * والاسم في اللغة من
الأضداد يقول الرجل فقدت الشئ أي أضللته وفقدته أي طلبته وكلا المعنيين يتحقق في
المفقود فقد ضل عن أهله وهم في طلبه * وحكمه في الشرع انه حي في حق نفسه حتى
لا يقسم ماله بين ورثته ميت في حق غيره حتى لا يرث هو إذا مات أحد من أقر بائه لان
ثبوت حياته باستصحاب الحال فإنه علم حياته فيستصحب ذلك ما لم يظهر خلافه
واستصحاب الحال معتبر في ابقاء ما كان على ما كان غير معتبر في اثبات ما لم يكن ثابتا وفى
الامتناع من قسمة ماله بين ورثته ابقاء ما كان على ما كان وفى توريثه من الغير اثبات
أمر لم يكن ثابتا له ولان حياته باعتبار الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق وليس بحجة
34

للاستحقاق فلا يستحق به ميراث غيره ويندفع به استحقاق ورثته لماله بهذا الظاهر ولهذا
لا تزوج امرأته عندنا وهو مذهب على رضى الله تعالى عنه كما بدأ به الكتاب من قوله
في امرأة المفقود انها امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق وبه كان يأخذ
إبراهيم كما قال (قد سمعنا ان امرأته تتربص أربع سنين وليس ذلك بشئ هي امرأة
ابتليت فلتصبر) وتربص أربع سنين كان يقول به عمر رضى الله تعالى عنه في الابتداء ثم
رجع إلى قول علي رضي الله عنه ومالك كان يأخذ بقول عمر رضي الله عنه فيقول الظاهر أنه
يوقف على خبره بعد هذه المدة أن لو كان حيا والبناء على الظاهر واجب فيما لا يوقف
على حقيقته خصوصا إذا وقعت الحاجة إلى دفع الضرر عنها وقد مست الحاجة إلى دفع
الضرر عنها لكيلا تبقى معلقة ألا ترى أنه يفرق بين العنين وامرأته بعد مضى سنة لدفع
الضرر عنها وبين المولى وامرأته بعد أربعة أشهر لدفع الضرر عنها ولكن عذر المفقود أظهر
من عذر المولى والعنين فيعتبر في حقه المدتان في التربص وذلك بأن تجعل الشهور سنين
فلهذا تتربص. ولا نأخذ بهذا لان نكاحه حقه وهي حي في ابقاء ملكه وحقه عليه ولو مكنا
زوجته من أن تتزوج كان فيه حكم بالموت ضرورة إذ المرأة لا تحل لزوجين في حالة
واحدة فيجب قسمة ماله أيضا وذلك ممتنع ما لم يقم على موته دليل موجب له. والتقدير
بالمدة في حق المولى والعنين لدفع ظلم التعليق ولا يتحقق معنى الظلم من المفقود فقلنا إنها
امرأة ابتليت فلتصبر ولو شاء الله تعالى لابتلاها بأشد من هذا. فإذا لم يظهر خبره فظاهر
المذهب انه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا فإنه يحكم بموته لان ما تقع الحاجة إلى معرفته
فطريقه في الشرع الرجوع إلى أمثاله كقيم المتلفات ومهر مثل النساء وبقاؤه بعد موت جميع
أقرانه نادر وبناء الأحكام الشرعية على الظاهر دون النادر * وكان الحسن بن زياد رحمه
الله يقول إذا تم مائة وعشرون سنة من مولده يحكم بموته وهذا يرجع إلى قول أهل الطبائع
والنجوم فإنهم يقولون لا يجوز أن يعيش أحد أكثر من هذه المدة لان اجتماع التحسين
يحصل للطباع الأربع في هذه المدة ولا بد من أن يضاد واحد من ذلك طبعه في هذه المدة
فيموت ولكن خطأهم في هذا قد تبين للمسلمين بالنصوص الواردة في طول عمر بعض
من كان قبلنا كنوح صلوات الله وسلامه عليه وغيره فلا يعتمد على هذا القول. وعن أبي
يوسف رحمه الله قال إذا مضى مائة سنة من مولده يحكم بموته لان الظاهران أحدا في زماننا
35

لا يعيش أكثر من مائة سنة * وحكى انه لما سئل عن معنى هذا قال أبينه لكم بطريق
محسوس فان المولود إذا كان ابن عشر سنين يدور حول أبويه هكذا وعقد عشرا فإن كان
ابن عشرين سنة فهو بين الصبا والشباب هكذا وعقد عشرين فإن كان ابن ثلاثين سنة
يستوى هكذا وعقد ثلاثين فإذا كان ابن أربعين تحمل عليه الأثقال هكذا وعقد أربعين
فإذا كان ابن خمسين ينحني من كثر الأثقال والأشغال هكذا وعقد خمسين فإذا كان ابن
ستين ينقبض للشيخوخة هكذا وعقد ستين فإذا كان ابن سبعين يتوكأ على عصا هكذا
وعقد سبعين فإذا كان ابن ثمانين يستلقى هكذا وعقد ثمانين فإذا كان ابن تسعين تنضم
أمعاؤه هكذا وعقد تسعين فإذا كان ابن مائة سنة يتحول من الدنيا إلى العقبى كما يتحول
الحساب من اليمنى إلى اليسرى * وهذا يحمل من أبى يوسف على طريق المطايبة إلا أن
يكون يعرف الحكم بمثل هذا وهو كما نقل عن أبي يوسف رحمه الله انه سئل عن بنات العشر
من النساء فقال لهو اللاهين فسئل عن بنات العشرين فقال لذة المعانقين فسئل عن بنات
الثلاثين فقال تنموا وتلين وسئل عن بنات الأربعين فقال ذات مال وبنين فسئل عن بنات
الخمسين فقال عجوز في الغابرين وسئل عن بنات الستين فقال لعنة اللاعنين. وكان محمد
ابن سلمة يفتى في المفقود بقول أبى يوسف حتى تبين له خطؤه في نفسه فإنه عاش مائة
سنة وسبع سنين. فالأليق بطريق الفقه أن لا يقدر بشئ لان نصب المقادير بالرأي لا يكوز
ولا نص فيه ولكن نقول إذا لم يبق أحد من أقرانه يحكم بموته اعتبارا لحاله بحال نظائره
(وذكر) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمهما الله قال لقيت المفقود نفسه فحدثني حديثه قال
أكلت حريرا في أهلي ثم خرجت فأخذني نفر من الجن فمكثت فيهم ثم بدا لهم في عتقي
فأعتقوني ثم أتوا بي قريبا من المدينة فقالوا أتعرف النخل فقلت نعم فخلوا عنى فجئت فإذا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أبان امرأتي بعد أربع سنين وحاضت وانقضت عدتها
وتزوجت فخيرني عمر رضي الله عنه بين أن يردها علي وبين المهر. وأهل الحديث رحمهم
الله يرون في هذا الحديث انه هم بتأديبه حين رآه وجعل يقول يغيب أحدكم عن زوجته
هذه المدة الطويلة ولا يبعث بخبره فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين وذكر له قصته * وفى
هذا الحديث دليل لمذهب أهل السنة والجماعة رحمهم الله في أن الجن قد يتسلطون على
بني آدم وأهل الزيغ ينكرون ذلك على اختلاف بينهم. فمنهم من يقول المستنكر دخولهم
36

في الآدمي لان اجتماع الروحين في شخص لا يتحقق وقد يتصور تسلطهم على الادمي
من غير أن يدخلوا فيه. ومنهم من قال هم أجسام لطيفة فلا يتصور أن يحملوا جسما كثيفا
من موضع إلى موضع ولكنا نقول نأخذ بما وردت به الآثار قال النبي صلى الله عليه وسلم ان
الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم وقال صلى الله عليه وسلم انه يدخل في رأس
الانسان فيكون على قافية رأسه حديث فيه طول وهذا الحديث دليل لنا أيضا فنتبع
الآثار ولا نشتغل بكيفية ذلك. وكأن عمر رضي الله عنه إنما رجع عن قوله في امرأة المفقود
لما تبين من حال هذا الرجل. وأما تخييره إياه بين أن يردها عليه وبين المهر فهو بناء على
مذهب عمر رضي الله عنه في المرأة إذا نعى إليها زوجها فاعتدت وتزوجت ثم أتى الزوج
الأول حيا انه يخير بين أن ترد عليه وبين المهر وقد صح رجوعه عنه إلى قول علي رضي الله عنه
فإنه كان يقول ترد إلى زوجها الأول ويفرق بينها وبين الآخر ولها المهر بما استحل
من فرجها ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدتها من الآخر وبهذا كان يأخذ إبراهيم رحمه
الله فيقول قول علي رضي الله عنه أحب إلى من قول عمر رضي الله عنه وبه نأخذ أيضا
لأنه تبين انها تزوجت وهي منكوحة ومنكوحة الغير ليست من المحللات بل هي من
المحرمات في حق سائر الناس كما قال الله تعالى والمحصنات من النساء فكيف يستقيم تركها
مع الثاني. وإذا اختار الأول المهر ولكن يكون النكاح منعقدا بينهما فكيف يستقيم دفع
المهر إلى الأول وهو بدل بضعها فيكون مملوكا لها دون زجها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة
فعرفنا ان الصحيح انها زوجة الأول ولكن لا يقربها لكونها معتدة لغيره كالمنكوحة إذا
وطئت بالشبهة. وذكر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله ان عمر رضي الله عنه رجع عن
ثلاث قضيات إلى قول علي رضي الله عنه عن امرأة أبى كنف والمفقود زوجها والمرأة التي
تزوجت في عدتها. أما حكم المفقود والمعتدة فقد بينا. وأما حديث أبي كنف فهو ما رواه
إبراهيم ان أبا كنف طلق امرأته فأعلمها وراجعها قبل انقضاء العدة ولم يعلمها فجاء وقد
تزوجت فأتى عمر رضي الله عنه فقص عليه القصة فقال له ان وجدتها لم يدخل بها فأنت
أحق بها وإن كان قد دخل بها فليس لك عليها سبيل فقدم وقد وضعت القصة على رأسها
فقال لهم ان لي إليها حاجة فخلوا بيني وبينها فوقع عليها وبات عندها ثم غدا إلى الأمير
بكتاب عمر رضي الله عنه فعرفوا انه جاء بأمر بين وهذا كان مذهب عمر رضي الله عنه
37

في الابتداء انه إذا راجعها ولم يعلمها لا يثبت حكم الرجعة في حقها ما لم تعلم حتى إذا اعتدت
وتزوجت ودخل بها الثاني لم يبق للأول عليها سبيل لدفع الضرر عنها ثم رجع إلى قول علي رضي الله عنه
أن مراجعته إياها صحيح بغير علمها وهي منكوحة سواء دخل بها الثاني أو
لم يدخل لان الزوج يستبد بالرجعة كما يستبد بالطلاق فكما يصح إيقاع الطلاق عليها وإن لم
تعلم به فكذلك رجعتها لقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وإنما يكون أحق إذا
كان يستبد به. والرجعة إمساك بالنص كما قال الله تعالى فإمساك بمعروف والمالك ينفرد
بإمساك ملكه من غير أن يحتاج إلى علم غيره قال (وإذا فقد الرجل فارتفع ورثته إلى القاضي
وأقروا انه فقد وسألوا قسمة ماله فإنه لا يقسم حتى تقوم البينة على موته) لما بينا انه حي
في حق نفسه ومال الحي لا يقسم بين ورثته فما لم يثبت موته بالبينة عند القاضي لا يشتغل
بقسمة ماله (فان قيل) كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب (قلنا) بأن يجعل من في
يده المال خصما عنه أو ينصب عنه قيما في هذه الولاية وإذا قامت البينة علي من ينصبه
القاضي فيما قضى بموته (فان قيل) كان ينبغي أن يجعله ميتا حكما لانقطاع خبره فيقسم
ماله وإن لم تقم البينة على موته كالمرتد اللاحق بدار الحرب (قلنا) هناك ظهر دليل
الحكم بموته وهو انه صار حربيا وأهل الحرب في حق من هو في دار الاسلام كالميت ولم
يظهر هنا دليل موجب لموته حقيقة ولا حكما ولان هناك لو ظفر به الامام موته حقيقة بان
يقتله فإذا عجز عن ذلك بدخوله دار الحرب موته حكما فقسم ماله ولا يتحقق ذلك المعنى
هنا قال (وتفسير المفقود الرجل يخرج في سفر ولا يعرف موته ولا حياته ولا موضعه
ولا يأسره العدو ولا يستبين موته ولا قتله) فهذا مفقود لا يقضى القاضي في شئ من أمره
حتى تقوم البينة انه مات أو قتل ومن كان من ورثة المفقود غنيا فلا نفقة له في ماله ما خلا
الزوجة لان حياته معلوم ولا يستحق أحد من الأغنياء النفقة في مال الحي سوى الزوجة
لان استحقاق الزوجة بالعقد فلا يختلف باليسار والعسرة أو بكونها محبوسة بحقه وذلك
موجود في حمق المفقود فأما استحقاق من سواها فباعتبار الحاجة وذلك ينعدم بغنى المستحق
فإن كانت له غلة جعل القاضي فيها من يحفظها لأنه ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه
والمفقود عاجز عن النظر لنفسه فينصب القاضي في غلاته من يجمعها ويحفظها عليه وما كان
يخاف عليه الفساد من متاعه فان القاضي يبيعه لان حفظ عينه عليه متعذر فيصير إلى حفظ
38

ماليته عليه وذلك يكون بالبيع وينفق على زوجته وأولاده الصغار أو الكبار من الإناث
أو الزمنى من الذكور من ماله بالمعروف وهذا إذا كان السبب معلوما عنده لأنه لو كان
حاضرا قضى بالنفقة لهم عليه بعلمه فإن كان غائبا يقضى بذلك لهم في ماله أيضا وقيل هذا
لا يكون منه قضاء علي الغائب على الحقيقة بل يكون تمكينا للمستحق من أخذ حقه
ولو تمكنوا من ذلك كان لهم أن يأخذوه فيعينهم القاضي على ذلك. والأصل فيه قوله صلى
الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان رضي الله عنه خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك
وولدك بالمعروف. وقيل بل هو قضاء منه وللقاضي ولاية القضاء على الغائب بعلمه كما إذا
أقر بين يديه ثم غاب. ثم هذا نظر منه للغائب لان ملك النكاح حقه في زوجه ولا يبقى
بدون النفقة فكان له أن ينفق عليها من ماله حفظا لملكه عليه وكذلك ولده جزء منه
فينفق عليه من ماله حفظا لنسله. وللقاضي ولاية في ماله فيما يرجع إلى الحفظ والنظر وان
استوثق منهم بكفيل فحسن وإن لم يأخذ منهم كفيلا فهو مستقيم أيضا إلا أن الأحوط
أن يأخذ الكفيل لجواز أن يكون فارقها قبل أن يفقد أو كان عجل لها النفقة لمدة فكان
تمام النظر في الاستيثاق بالكفيل وهذا قولهم جميعا لأن هذه كفالة للمفقود وهو معلوم
ولكن لا يجب على القاضي أخذ الكفيل من غير خصم يطلب ذلك وليس هنا خصم
طالب فلهذا يسعه أن لا يأخذ كفيلا ولم ينفق من ماله على غير من سمينا من ذي الرحم
المحرم لان وجوب النفقة عليه لهم لا يكون إلا بعد قضاء القاضي والقاضي لا يقضى علي
الغائب ولان ولايته فيما يرجع إلى النظر للمفقود وذلك لا يوجد في حق ذي الرحم المحرم
ولا يبيع شيئا مما لا يخاف عليه الفساد من ماله في نفقة ولا غيرها لأن ولاية البيع للنظر
له وحفظ العين فيما يتأتى حفظه نظر له فلا يبيع شيئا من ذلك وهو في الانفاق على من سمينا هم
معين لهم على أخذ حقهم وإنما يثبت لهم حق الاخذ إذا ظفروا بجنس حقهم ولا يكون
لهم أن يبيعوا عروضا ولا غيرها فكذلك القاضي لا يبيع شيئا من ذلك فإن لم يكن له
مال إلا دار واحتاج زوجته وولده إلى النفقة لم يبع لهم الدار وكذلك لو كان له خادم لان
هذا مما لا يخاف عليه لفساد من ملكه فلا يكون بيعه محض الحفظ عليه فلهذا لا يبيعه
بخلاف ما يخاف فساده * وهذا بخلاف الوصي في حق الوارث الكبير الغائب فان له
أن يبيع العروض لان ولايته ثابتة فيما يرجع إلى حق الموصى وبيع العروض فيه معنى حقه
39

وربما يكون حفظ الثمن للاتصال إلى ورثته أيسر من حفظ العين وهنا لا ولاية للقاضي
على المفقود إلا في الحفظ فقط وحفظ عين ملكه عند الامكان أنفع له فلهذا لا يبيع شيئا
من العروض وقال أو حنيفة رحمه الله إن كان له أب محتاج فلابنه أن يبيع شيئا من ماله من
العروض وينفق على نفسه وليس له أن يبيع العقار وهو استحسان وفى القياس له أن يبيع
العروض وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهم الله وذكر الكرخي أن محمدا ذكر قول
أبي حنيفة رحمه الله في الأمالي وقال هو حسن * وجه القياس أنه لا ولاية للأب في مال
ولده الكبير ونفوذ البيع يعتمد الولاية ألا ترى أنه لا يبيع عقاره لهذا ولا يبيع عروضه
إذا كان حاضرا والحاضر والغائب في حكم الولاية للأب عليه سواء ألا ترى أنه لما ثبت
له ولاية التملك بالاستيلاد لم يفترق الحال بين حضور الولد وغيبته. ووجه الاستحسان
أن ولاية الأب وان زالت بالبلوغ فقد بقي أثرها حتى يصح منه استيلاد جارية الابن لحاجته
إلى ذلك وحاجته إلى النفقة لبقاء نفسه حاجته إلى الاستيلاد لبقاء نسله ولهذا يتملك هناك
بضمان القيمة وينفق على نفسه من ماله بغير ضمان وإذا ثبت بقاء أثر ولايته كان حاله
كحال الوصي في حق لوارث الكبير الغائب وهناك ثبت له حق بيع العروض دون
بيع العقار لان بيع العروض من الحفظ وبيع العقار ليس من الحفظ فان العقارات محصنه
بنفسها ولهذا لا يبيع حال حضوره لان بيعه في هذه الحالة ليس من الحفظ فان الابن حافظ
لما له كمالا يبيع الوصي عروض الولد الكبير الحاضر ولا يبعد زوال ولاية الأب بالبلوغ مع
بقاء أثره كما لو مات وأوصى إلى رجل زالت ولايته بالموت وبقي أثره ببقاء الوصي فإن كان
للمفقود دنانير أو دراهم أو ذهب أو فضه تبرا أنفق عليهم من ذلك وكذلك كل ما كان يخاف
عليه الفساد من غلته ومتاعه فان القاضي يبيع ذلك وينفق عليهم منه وان باعته زوجته أو الولد
فبيعهما باطل لان البيع من الحفظ وليس من استيفاء النفقة في شئ واليهما حق استيفاء
النفقة دون الحفظ وأما القاضي فله حق الحفظ في مال المفقود وبيع ما يخاف عليه الفساد من
الحفظ وبعد البيع الثمن من جنس حقهم فينفق عليهم منه وكذلك الوديعة تكون له عند الرجل
فإنه ينفق منها عليهم إذا كان الرجل مقرا بالوديعة والزوجية أو يكون ذلك معلوما للقاضي
عندنا. وقال زفر رحمه الله لا ينفق منها عليهم لان اقرار المودع ليس بحجة على الغيب وهو
ليس بخصم عن الغائب ولا يقضى على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضر ولكنا نقول المودع
40

مقر بأن في يده ملك الغائب وان للزوجة و للولد حق الانفاق منه واقرار الانسان فيما في يده
معتبر فينتصب هو خصما باعتبار يده فيتعدى القضاء منه إلى المفقود. وكذلك الدين يكون
للمفقود على رجل وهو مقر به فهو والوديعة سواء والكلام في الدين أظهر لان اقرار
المديون يلاقى ملك نفسه فان الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها. والجواب في الفصلين جميعا
استحسان إذا كان مقرا بالنسب والمال فإن كان جاحدا لأحدهما لم تسمع البينة عليه من
طالب النفقة لأنه إذا كان جاحدا للمال فطالب النفقة لا يثبت الملك في المال لنفسه إنما
يثبته للمفقود حتى إذا ثبت ذلك ترتب عليه وهو ليس بخصم عن المفقود وإن كان منكرا
للزوجية فإنما يثبت النكاح على المفقود المودع والمديون ليس بخصم عنه في اثبات النكاح
عليه. وان كانت الزوجية والمالية معلومين للقاضي فعلم القاضي بذلك أقوى من اقرار المودع
والمديون وان أعطاهما المديون بغير أمر القاضي لم يبرأ عن الضمان وكذلك أن أعطاهما
المودع من الوديعة فهو ضامن لأنه دفع مال الغير إلى الغير بغير إذنه بخلاف ما إذا دفع
بأمر القاضي فان أمر القاضي في حق المفقود معتبر فميا يرجع إلى حفظ ملكه وقد بينا أن
الانفاق على الزوجة والولد من حفظ ملكه وحقه عليه فيكون أمر القاضي فيه كأمر
المفقود وان طلبت زوجته وولده من القاضي ان ينصب وكيلا يتقاضى دينه ويجمع غلاته
ويؤاجر رقيقة فعل القاضي ذلك نظرا منه للحاضر والغائب جميعا. للغائب بحفظ ماله وجمعه
وللحاضر بوصوله إلى حقه وهي النفقة وكان للوكيل أن يتقاضى ويقبض ويخاصم من
يجحد حقا من عقد يجرى بينه وبين الوكيل لان ما وجب بعقده فهو أحق بقبضه ألا
ترى أنه لو ظهر المفقود كان حق القبض في هذا المال للوكيل الذي باشر سببه فأما كل
دين كان المفقود تولاه أو نصيب من عقار أو عرض في يدي رجل أو حق من الحقوق
فان الوكيل لا يخاصم فيه من جحده لأنه ليس بخصم عن المفقود إنما هو حافظ لماله فقط
وحفظه يتحقق فيما وصلت يده إليه فأما الخصومة وإقامة البينة فيما لم يكن في يده قط ليس
من الحفظ فيكون الوكيل كأجنبي آخر إلا أن يكون القاضي قد ولاه ذلك ورآه وأنفذ
الخصومة بينهم فيه فيجوز حينئذ لأنه مما اختلف فيه القضاة يعنى بهذا القضاء على الغائب
بالبينة فإنه مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله فينفذ قضاء القاضي فيه وكذلك أن مات غريم
من غرمائه وقد أقر له بدينه في وصيته عزلت حق المفقود من ذلك وجعلته على يدي وكيله
41

لان ذلك من الحفظ. وإن لم يكن أوصى به وعليه ديون لغيره لم يكن لورثة المفقود ووكيله
في ذلك خصومة إلا أن يراه القاضي فيقضي به فحينئذ ينفذ قضاؤه لكونه مجتهدا فيه
(فان قيل) المجتهد فيه نفس القضاء فينبغي أن يتوقف على امضاء قاض آخر كما لو كان
القاضي محدودا في قذف (قلنا) لا كذلك بل المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل
تكون حجة من غير خصم حاضر أم لا فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ قضاؤه كما
لو قضى بشهادة المحدود في قذف * وان ادعى انسان على المفقود حقا من دين أو وديعة
أو شركة في عقار أو رقيق أو طلاق أو عتاق أو نكاح أورد بعيب أو مطالب باستحقاق لم
يلتفت إلى دعواه ولم تقبل منه البينة ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من ورثته خصما له. أما
الوكيل فلانه نصب للحفظ فقط وأما الورثة فلأنهم يخلفونه بعد موته ولم يظهر موته فان
رأى القاضي سماع البينة وحكم بذلك نفذ حكمه لما بينا انه أمضى فصلا مختلفا فيه باجتهاده *
وإذا رجع المفقود حيا لم يرجع في شئ مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من
ماله وغلته ودينه لان القاضي لما ثبت له ولاية الانفاق كان فعله كفعل المفقود بنفسه
وكذلك ما أنفقوا هم على أنفسهم من دنانير أو دراهم في وقت حاجتهم إلى النفقة لما بينا أنهم
إذا ظفروا بجنس حقهم وسعهم أخذه بالمعروف فلا يضمنون شيئا من ذلك وكذلك أن كان
في ماله طعام فأكلوه لان ذلك من جنس حقهم وكذلك أن كان في ماله ثياب فلبسوها
للكسوة لان ذلك من جنس حقهم فأما ما سوى ذلك من العروض ان باعوا شيئا منه
كانوا ضامنين له ألا ترى ان القاضي لا يبيع شيئا من ذلك للانفاق فكذلك لا يملكون
بيعه وإنما لا يبيع القاضي ما لا يخاف عليه الفساد في النفقة لان في بيع ذلك في النفقة حجرا
على الغائب وأبو حنيفة لا يرى الحجر عليه وهما وان كانا يريان الحجر علي من لزمه حق فذلك
عنه ظهور تعنته وامتناعه وبهذا الطريق يقول لا يقضي القاضي دين المفقود من ماله وكذلك
مهر امرأته والنفقات المجتمعة عليه قبل أن يفقد لان ذلك لا يرجع إلى حفظ ملكه بل فيه
نوع حجر عليه ولم يذكر في الكتاب انه إذا لم يكن للمفقود مال وطلبت زوجته من
القاضي أن يقضي لها بالنفقة على زوجها هل يجيبها إلى ذلك وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول
أولا يجيبها إلى ذلك وهو قول إبراهيم النخعي رحمه الله ثم رجع إلي قول شريح وقال لا يجيبها
إلي ذلك. فالحجة لقوله الأول حديث هند كما روينا. ووجه قوله الآخر ان نفقة
42

الزوجة لا تصير دينا إلا بضاء القاضي وليس للقاضي أن يوجه القضاء على الغائب فيلزمه
بقضائه شيئا من غير خصم عنه وهذا إذا كان النكاح معلوما له وان أرادت اثبات النكاح
بالبينة لم يسمع القاضي بينتها عندنا لان البينة لا تكون حجة الأعلى خصم جاحد فما لم يحضر
هو أو خصم عنه لا يسمع القاضي بينها عليه بالنكاح وعلى قول زفر تسمع البينة ويأمرها بأن
تستدين وتنفق على نفسها فإذا حضر الزوج كلفها إعادة البينة عليه فان أعادت قضي على الزوج
بما أنفقت في المدة الماضية وإن لم تعد البينة على الزوج لم يقض عليه بشئ وهذا منه نوع
احتياط في حق الحاضر والغائب جميعا (وإذا) أجر المفقود شيئا قبل أن يفقد لم تنتقض الإجارة
بعدما يصير مفقودا لأنه حي في ابقاء ما كان علي ما كان ولا يبرأ المستأجر بدفع الأجرة إلى
زوجته وولده إلا أن يأمره القاضي بذلك كما في سائر الديون (وإذا) فقد الرجل بصفين أو
بالجمل ثم اختصم ورثته في ماله اليوم فان هذا قد مات ألا ترى أنه لم يبق أحد أدرك ذلك الزمان
فإذا بلغ المفقود هذه المدة فهو ميت يقسم ماله بين ورثته (والجمل) حرب كان بين على
وعائشة وطلحة والزبير بالبصرة رضوان الله عليهم أجمعين (وصفين) كان بين على معاوية
رضي الله عنهما وبين أهل الشام ومن ذلك الوقت إلى وقت تصنيف هذا الكتاب كان
أكثر من مائة وعشرين سنة والرجل الذي فقد في ذلك الوقت كان ابن عشرين سنة
أو أكثر لأنه خرج محاربا ولا شك انه لا يبقى في مثل هذا المدة الطويلة ظاهرا. فإن كان
له ابن مات زمان خالد بن عبد الله وترك أخا لامه وللمفقود عصبة فانى أنظر إلى
سن المفقود يوم مات الابن فإن كان مثله يعيش إلى ذلك الوقت لم أورث الابن منه شيئا
لبقائه حيا بطريق الظاهر واستصحاب الحال ولم أورثه من أبيه أيضا لان بقاء الوارث بعد
موت المورث شرط لوراثته عنه فان الوارثة خلافة والحي يخلف الميت فأما الميت فلا يخلف الميت
وما كان شرطا فما لم يثبت بدليل موجب له لا يثبت الحكم واستصحاب الحال دليل يبقى لا
موجب فلهذا لا يرث المفقود من أبيه ثم يكون ميراث المفقود لعصبته الحي بعدما يمضي من
المدة مالا يعيش مثله إليه وإن كان مثله لا يعيش إلى مثل تلك المدة حين مات ابنه جعلت
الميراث لا بنه لان حياته بعد موت أبيه معلوم هنا بدليل شرعي فإذا صار مال المفقود
ميراثا له كان ذلك موروثا عن ابنه بعد موته كسائر أمواله لأخيه لامه منه السدس والباقي
لعصبته وإن كان مات بعض من يرثه المفقود قبل هذا فنصيبه من الميراث يوقف إلي أن
43

يتبين حاله لأنه غير محكوم بموته ولكنه يشتبه الحال بمنزلة الجنين في البطن فيوقف
نصيبه فان ظهر حيا كان ذلك مستحقا له وإن لم يظهر حاله فذلك مردود إلى ورثة صاحب
المال على سهامهم بمنزلة الموقوف للجنين إذا انفصل الجنين ميتا وهذا لأنه لم يظهر شرط
الاستحقاق له فيكون موروثا عن الميت كسائر ورثته يوم مات * وإذا فقد المكاتب وله مال
وولد ولدوا في المكاتبة وقف ماله حتى يظهر حاله لأن ولاية أداء الكتابة من ماله إنما تكون
بعد موته ليحكم بحريته مستندا إلى حال حياته ولم يظهر موته وكذلك استسعاء أولاده في
بدل الكتابة بطريق الخلافة عنه بعد موته ولم يظهر لأنه لا يستسعى الولد إذا كان له مال
بعد موته حقيقة فكيف يستسعى ولده بعدما يصير مفقودا وله مال. وينفق على ولده
الصغار وبناته الذين ولدوا في المكاتبة وعلى امرأته من ماله لان هؤلاء كانوا يستحقون عليه
النفقة في كسبه أن لو كان حاضر فكذلك ينفق عليهم من ماله بعد ما يصير مفقودا كولد الحر
وزوجته وهذا لان استحقاق النفقة للزوجة بعقد النكاح والحر والمكاتب فيه سواء
وأولاده الذين ولدوا في المكاتبة هو أحق بكسبهم فتلزمه نفقتهم لان الغرم مقابل بالغنم
فان مات ابن له ولد في مكاتبته وترك مالا كان ماله موقوفا لأنه إن كان المفقود حيا حين
اكتسب هذا الولد فكسبه للمفقود وإن كان ميتا فكسبه لورثته لأنه يحكم بحريته إذا
أديت كتابة أبيه من ماله مستندا إلي حياة أبيه فلجهالة المستحق بقي موقوفا وإن كان ماله
في يد أخيه لم أخرجه من يده ولم أتعرض له لأنه لا يدرى لمن هذا المال و ما لم يظهر مستحق
للمال فليس للقاضي أن يتعرض لذي اليد بإزالة * يده ولو أقر ولد المكاتب الذين ولدوا في
المكاتبة وهم كبار ان أباهم قد مات وماله في أيديهم وأقر المولى بذلك فأدوا الكتابة
وقسموا المال ثم اختلفوا وجحد بعضهم بعضا وارتفعوا إلى القاضي نفذ القاضي ذلك عليهم
لتقدم الاقرار منهم بذلك وقسمتهم عن تراض منهم ولان الذي يجحد بعد ذلك مناقض
لكلامه والقاضي لا يتلفت إلى قول المناقض وكذلك لو لم يقتسموا حتى ارتفعوا إليه وأقروا
به عنده جاز اقرارهم عليه وقسم المال بينهم بعد أداء الكتابة لان الحق لا يعدوهم فالثابت
باقرارهم في حقهم كالثابت بالبينة. وكذلك لو أقروا بدين عليه بدأت به قبل المكاتبة كما لو
ثبت موته بالبينة وهذا لان الدين أقوى من المكاتبة حتى إذا عجز نفسه سقطت المكاتبة عنه
دون الدين وعند اجتماع الحقوق في المال يبدأ بالأقوى فالأقوى عرفت ذلك بقضية العقول
44

وشواهد الأصول. وكذلك الحر إذا أقر ورثته انه قد مات فإنه يقضي دينه ويقسم الميراث
بينهم إذا كان في أيديهم لان اقرار الانسان فيما في يده معتبر ما لم يظهر له خصم ينازعه
فيه وكذلك إذا كان المال في يد غيرهم فصدقهم بذلك. وان جحد موته لم انزعه من يده
الا ببينة تقوم على موته لأنهم يدعون استحقاق اليد في هذا المال على ذي اليد وقولهم ليس
بحجة عليه في استحقاق يده فما لم تقم البينة علي موته لا يخرج القاضي المال من يد ذي اليد.
ولو أن المولى أعتق المكاتب المفقود ثم مات ابن المكاتب وهو حر وله اخوة أحرار لم يقض
لهم بشئ من ذلك حتى يعلم موت المكاتب قبله لان المفقود إن كان حيا فقد عتق باعتاق
المولى إياه والميراث له دون الاخوة فشرط تورث الاخوة عدم أب هو وارث وبالظاهر
لا يثبت هذا الشرط فلهذا لا يقضى لهم بشئ حتى يعلم موت الأب قبله. وكذلك أن كان
مكاتب المكاتب عبدا لان اعتاق المولى عبده المفقود كاعتاقه المكاتب المفقود ولا ينفق علي
ولده الصغار من هذا المال شيئا لأنه لا يدرى لمن هذا المال فإنه كما لم يثبت الاستحقاق
فيه للاخوة لم يثبت للأب المفقود لأنه لا يرث من غيره ما لم يعلم حياته حقيقة وقت موت
مورثه. ولو ادعى مملوك المفقود العتق لو أقام بينته على ذلك لم يقبل منه لانعدام خصم حاضر
(قال) ولو ادع أولاده يبيعونه لأنه قبل هذه البينة ما كان لهم أن يبيعوه فبعدها أولى ومراده
بعد ما كانوا يقرون بموته لان اقرارهم ليس بحجة على هذا العبد ولأنه إن كان ميتا فالولد
خصم في البينة التي أقامها المملوك على العتق. وكذلك لو ادعت امرأته الطلاق أو ادعت
امرأة انه تزوجها لم أقبل بينتها على ذلك لانعدام الخصم ولو. أوصي رجل للمفقود بوصية
لم أقض بها له ولم أبطلها ولم أنفق على ولده منها لان الوصية أخت الميراث وشرط لاستحقاق
الموصى له بقاؤه حيا بعد موت الموصى كالميراث وقد بينا أنه يوقف نصيبه من الميراث
حتى يتبين حاله ولا ينفق على ولده منه شئ فكذلك الوصية (رجل) مات وترك ابنتين
وابن ابن وبنت ابن وترك ابنا مفقودا وترك مالا في يد الابنتين فارتفعوا إلى القاضي
وأقروا أن الابن مفقود فالقاضي لا ينبغي له ان يحول المال من موضعه ولا يوقف شيئا منه
للمفقود ومراده بهذا اللفظ انه لا يخرج شيئا من أيديهما لان القاضي لا يتعرض لاخراج
المال من يد ذي اليد الا بمحضر من الخصم ولا خصم هنا فان أولاد المفقود لا يدعون لأنفسهم
شيئا ولا يكونون خصما عن المفقود لأنه لا يدرى ان المفقود حتى فيرث أو ميت فلا يرث
45

فلهذا لا يخرج المال من أيديهما بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له لان حق أولاده ثابت
في ذلك المال باعتبار ملكه فإنهم يستحقون النفقة في ملكه واستصحاب الحال معتبر في
ابقاء ما كان علي ما كان وكذلك أن قالت الابنتان قد مات أخونا وقال ولد الابن هو مفقود
لان من في يده المال قد أقر لولد الابن ببعض ذلك المال وهم قد ردوا اقرارهم بقولهم أبونا مفقود
فيسقط اعتبار ذلك الاقرار. ولو كان مال الميت في يدي ولد الابن المفقود وطلبت الابنتان
ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود فإنه يعطى للابنتين النصف لأنا تيقنا باستحقاق النصف لهما فان
المفقود إن كان حيا فالميراث بينهما وبين أخيهما للذكر مثل حظ الأنثيين فلهما النصف وإن كان ميتا
فلهما الثلثان والباقي لولد الابن فيدفع إليهما الأقل وهو النصف ويترك الباقي. في يد ولد الابن من
غير أن يقضي به لهما ولا لأبيهما لأنه لا يدرى من المستحق لهذا الباقي. ولو كان المال في يد
أجنبي فقالت الابنتان مات أخونا قبل أبينا وقال ولد الابن هو مفقود فان أقر الذي في يده
المال بالمال للميت وبأن الابن مفقود فإنه يعطى للابنتين النصف أقل النصيبين لهما والباقي
موقوف على يده حتى يظهر خصمه و مستحقه بظور حال المفقود. وان قال الذي في يده المال
قد مات المفقود قبل أبيه فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين لان اقرار ذي اليد فيما في يده
معتبر وقد أقر بان ثلثي ما في يده للابنتين فيجبر علي تسليم ذلك إليهما ولا يمتنع صحة اقراره
بقول أولاد الابن أبونا مفقود لأنهم لأنفسهم بهذا القول لا يدعون شيئا ثم يوقف الثلث
الباقي على يد ذي اليد حتى يظهر خصمه ومستحقه. ولو جحد الذي في يديه المال أن يكون
المال للميت فأقامت الابنتان البينة أن أباهم مات وترك هذا المال ميراثا لهما ولأخيهما المفقود
فإن كان حيا فهو الوارث معهما وإن كان ميتا فولده الوارث معهما ولا يعلم له غير هؤلاء
فإنه يدفع إلى الابنتين النصف وهذا لأنهما بهذه البينة يثبتان الملك لأبيهما في المال والأب
ميت وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت في اثبات الملك له بالبينة ثم يدفع إليهما القدر
المتيقن بأنه مستحق لهما وهو النصف والباقي يخرج من يد ذي اليد فيوضع في يد عدل
حتى يظهر مستحقه لان ذا اليد قد جحده وظهرت جنايته بجحوده فلا يؤتمن بعد ذلك وإن كان
معروفا بالعدالة لان العدالة لا تتحرز زمن تناول ما يزعم أنه ملك بخلاف ما سبق فذو
اليد كان هناك مقرا بأن المال للميت وقد انتفت الجناية منه بهذا الاقرار فكان ترك الباقي
في يده أولى لظهور أمانته بالتجربة. فان ادعى ولد المفقود انه مات بعد شهادة الشهود لم أدفع
46

إليهم شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل أبيه لأنهم يريدون استحقاق اليد على ذي اليد
ومجرد قولهم لا يكفي لذلك ولان سبب الاستحقاق لهم غير معلوم فان أباهم ان مات قبل
موت الجد فهم يستحقون الثلث ميراثا من الجد وان مات بعد موت الجد فهم يستحقون
النصف ميراثا من أبهم ولا يجوز القضاء لهم بشئ قبل ظهور سبب الاستحقاق فلا بد ان
يقيموا البينة على موته قبل أبيه أو بعده ولا ينفق عليهم من ذلك المال شئ وان كانوا
محتاجين لأنه لا يدرى لمن هذا المال ونفقتهم عند الحاجة في مال أبيهم والملك لأبيهم في هذا
المال لا يثبت ما لم تعلم حياته بعد موت الجد. فإن كان المال أرضا في أيدي الابنتين وولد
الابن فأقروا جميعا ان الابن قد مات قبل أبيه واقتسموا الأرض بينهم على ذلك ثم ادعوا
انه مفقود فان القاضي يمضي القسمة عليهم لأنها تمت بتراضيهم وقولهم فيما في أيديهم مقبول
فكانت القسمة ماضية ولا يقبل قولهم انه مفقود لأنهم مناقضون في ذلك والقاضي لا يلتفت
إلى قول المناقض. وكذلك لو كان في ولد الابن رجل غائب لم يشهد القسمة ولم يكن في
يده شئ من هذه الأرض ثم قدم فقال والدي مفقود وأراد نقض القسمة لم يكن له ذلك
لأنه لا يدعى لنفسه بمقابلته وإنما يدعى الملك للمفقود وهو مقر أنه ليس بوكيل له ولا
وارث لأنه حي ونقض القسمة بقول من لا يدعى لنفسه شيئا لا يجوز بخلاف ما لو كان
بعض الأرض في يده لأنه مدع لنفسه حقا وهو ابقاء يده فيما في يده وقسمتهم قبل
حضوره غير صحيح لما فيه من استحقاق يده عليه وكذلك لو كان مكان الغائب صغير
فأدرك. وان ادعى أن أباه مات قبل جده كان له أن ينقض القسمة فيقسمها القاضي بينهم قسمة
مستقبلة باقرارهم على أنفسهم لأنه يدعى لنفسه بعض الملك هنا ويدعى بطلان قسمتهم لان تراضيهم
على القسمة بعد موت الجد لا يعمل به في حق الغائب والصغير وهم مصدقون له فميا يدعى
فلهذا ينقض القسمة بخلاف ما لو كان القاضي هو الذي قسمه بين الحضور وعزل نصيب
الغائب والصغيرة فإنه ينفذ قسمته في حقهما إذا لم يكن في يد الغائب والصغير من هذا المال
شئ لان للقاضي نوع ولاية في حق الغائب والصغير وليس للورثة تلك الولاية في حق
الغائب والصغير ولو مات ابنة هذا الابن المفقود فإن كان ميراثها في يد أخيها لم أتعرض
له ولم أقف منه شيئا للمفقود لأنه لا يدرى أحي هو فيكون وارثا أوميت فلا يكون
وارثا وقد بينا انه لا يتعرض ليد ذي اليد الا بمحضر من الخصم. وإن كان ميراثها في يد
(4 المبسوط حادي عشر)
47

أجنبي لم أدفع إلى أخيها منه شيئا لان شرط توريث الأخ أن يكون الأب ميتا فما لم يصر
هذا الشرط معلوما بالحجة لا يدفع إلى الأخ من الميراث شئ وإن كان ميراثها في يد أخيها
وأختها وأرادوا القسمة وهم مقرون بأن الأب مفقود لم اقسم بينهم لان القسمة تبنى على
ثبوت استحقاقهم بالميراث ولا يثبت ذلك ما لم تقم البينة على موت الأب المفقود قبل موت
الابنة ولو كان للمفقود امرأة فماتت وميراثها في يد ولدها لم اقسم للمفقود من ذلك نصيبا
لان حياته بعد موتها خير معلوم ولم أقف له شيئا لان التعرض ليد ذي اليد لا يجوز الا
بمحضر من الخصم وان أراد ولدها قسمة ميراثها وهو في أيديهم لم أقسمه بينهم حتى تقوم
البينة على موت المفقود ثم يعزل من ذلك مثل نصيب المفقود فيوقف حتى يعلم أنه مات
قبلها أو بعدها ويقسم ما بقي بينهم. أما قبل أن تقوم البينة على موته فالقاضي لا يشتغل بالقسمة
لان فيها قضاء على المفقود وهو حي في حق نفسه فلا يوجه القاضي القاضي القضاء عليه بغير محضر
من الخصم وأما بعد موته فقد ثبت للقاضي ولاية توجه القضاء عليه لما ظهر موته فيعزل
نصيبه من القسمة ويجعله موقوفا حتى يتبين مستحقه بظهور موته قبلها أو بعدها ولو كان
في يد غيرهم قضيت لهم بثلاثة أرباعه لأنا تيقنا باستحقاقهم لهذا المقدار فيسلم إليهم ويوقف
الربع على يد ذي اليد حتى يظهر حال المفقود بخلاف ما سبق فان المال هناك في أيديهم ففي
القسمة تمييز نصيب المفقود عن نصيبهم وذلك قضاء على المفقود وهنا المال ليس في أيديهم فقضاؤه
لهم بثلاثة أرباعه لا يمس المفقود وهو متيقن استحقاقه لهم * وإذا فقد المرتد ولم يعلم ألحق بدار
الحرب أم لا فإنه يوقف ميراثه كما يوقف ميراث المسلم لان اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت في
حق المسلم فكما يوقف ميراث المفقود المسلم حتى يتبين موته فكذلك يوقف ميراث المفقود
المرتد حتى يتبين لحوقه بدار الحرب. وان مات أحد من ولده قسم ميراثه بين ورثته ولم
يحبس للمفقود شئ لأنه محروم عن الميراث بكونه مرتدا فان المرتد لا يرث أحدا واسلامه
بعد الردة موهوم والموهوم لا يقال المعلوم ألا ترى ان الأب المفقود لو كان عبدا لم يحبس
له شئ من ميراث وولده لان الرق الذي يحرمه معلوم والعتق بعد ذلك موهوم وكذلك أن
كان ميراثه في يد أجنبي وكذلك المرأة المرتدة فإنها لا ترث أحدا وكذلك الذمي يفقد
وله بنون مسلمون فمات أحدهم لم يوقف للأب شئ لان سبب حرمانه معلوم فان الكافر
لا يرث المسلم. وكذلك رجل مسلم فقد وله بنون كفار فمات أحدهم قسمت ميراثه بين
48

اخوته ولم أوقف على أبيه شيئا لان المسلم لا يرث الكافر فسبب حرمانه متيقن والله أعلم
كتاب الغصب
(قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة السرخسي إملاء)
(اعلم) بان الاغتصاب أخذ مال الغير بما هو عدوان من الأسباب واللفظ مستعمل لغة
في كل باب مالا كان المأخوذ أو غير مال. يقال غصبت زوجة فلان وولده ولكن في الشرع
تمام حكم الغصب يختص بكون المأخوذ مالا متقوما. ثم هو فعل محرم لأنه عدوان وظلم وقد
تأكدت حرمته في الشرع بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال تعالي
(ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) وقال صلى الله عليه
وسلم لا يحل ما امرئ مسلم الا بطيبة نفس منه وقال صلى الله عليه وسلم سباب المسلم
فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته ألا إن
دماءكم واعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومى هذا في شهري هذا في مقامي هذا
(فثبت) أن الفعل عدوان محرم في المال كهو في النفس ولهذا يتعلق به المأثم في الآخرة كما
قال صلى الله عليه وسلم من غصب شبرا من ارض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع
أرضين الا ان المأثم عند قصد الفاعل مع العلم به. فأما إذا كان مخطئا بان ظن المأخوذ ماله أو كان
جاهلا بأن اشترى عينا ثم ظهر استحقاقه لم يكن آثما لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان والمراد المأثم فأما حكمه في الدنيا فثابت سواء كان آثما فيه أو غير آثم لان
ثبوت ذلك لحق صاحبه وحقه مرعى وانى الآخذ معذور شرعا لجهله وعدم قصده والحكم
الأصلي الثابت بالغصب وجوب رد العين على المالك بقوله صلى الله عليه وسلم على اليد
ما أخذت حتى ترد. وقال صلى الله عليه وسلم لا يحل لاحد أن يأخذ متاع أخيه لا عبا ولا
جادا فان أخذه فليرده عليه وقال صلى الله عليه وسلم من وجد عين ماله فهو أحق به. ومن
ضرورة كونه أحق بالعين وجوب الرد على الآخذ والمعنى فيه أنه مفوت عليه يده بالأخذ
واليد لصاحب المال في ماله مقصود به يتوصل إلى التصرف والانتفاع ويحصل ثمرات
لملك فعلى المفوت بطريق العدوان نسخ فعله ليندفع به الضرر والخسران عن صاحبه. وأثم
49

وجوهه رد العين إليه ففيه إعادة العين إلى يده كما كان فهو الواجب الأصلي لا يصار إلى
غيره إلا عند العجز عنه فان عجز عن ذلك بهلاكه في يده بفعله أو بغير فعله فعليه ضمان
المثل جبرا؟ ا لما فوت على صاحبه لان تفويت اليد المقصودة كتفويت الملك عليه بالاستهلاك
(ثم) الملك نوعان كامل وقاصر. فالكامل هو المثل صورة ومعنى. والقاصر هو المثل معنى
أي في صفة المالية فيكون الواجب عليه هو المثل التام الا إذا عجز عن ذلك فحينئذ يكون المثل
القاصر خلفا عن المثل التام في كونه واجبا عليه * وبيان هذ ان المغصوب إذا كان من ذوات
الأمثال كالمكيل والموزون فعليه المثل عندنا. وقال نفاة القياس عليه رد القيمة لان حق
المغصوب منه في العين والمالية وقد تعذر ايصال العين إليه فيجب ايصال المال إليه ووجوب
الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية ومالية الشئ عبارة عن قيمته ولكنا نقول الواجب هو المثل
قال الله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وتسمية الفعل الثاني
أعداء بطريق المقابلة مجازا كما قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) والمجازاة لا تكون
سيئة وقد ثبت بالنص أن هذه الأموال أمثال متساوية قال صلى الله عليه وسلم الحنطة
بالحنطة مثل بمثل ولان المقصود هو الجبران وذلك في المثل أثم لان فيه مراعاة الجنس
والمالية وفى القيمة مراعاة المالية فقط فكان ايجاد المثل أعدل الا إذا تعذر ذلك بالانقطاع من
أيدي الناس فحينئذ يصار إلى المثل القاصر وهو القيمة للضرورة ثم على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعتبر القيمة وقت القضاء لان التحول إليه الآن يكون فان المثل واجب في الذمة وهو
مطلوب له حتى لو صبر إلى مجئ أوانه كان له ان يطالبه بالمثل فإنما يتحول إلى القيمة عند
تحقق العجز عن المثل وذلك وقت الخصومة والقضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو
المستهلك مما لا مثل له لان الواجب هناك وإن كان هو المثل عند أبي حنيفة ولكنه غير مطالب
بأداء المثل بل هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فيعتبر قيمته عند ذلك وأبو يوسف رحمه
الله يقول لما انقطع المثل فقد التحق بما لا مثل له في وجوب اعتبار القيمة والخلف إنما يجب
بالسبب الذي يجب به الأصل وذلك الغصب فيعتبر قيمته يوم الغصب ومحمد يقول أصل
الغصب أوجب المثل خلفا عن رد العين وصار ذلك دينا في ذمته فلا يوجب القيمة أيضا
لان السبب الواحد لا يوجب ضمانين ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل وذلك
بالانقطاع عن أيدي الناس فيعتبر قيمته بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع وإن كان المغصوب
50

من العدديات المتقاربة كالجواز والبيض والفلوس فعليه ضمان المثل عندنا وعلى قول زفر عليه
ضمان القيمة وهو بناء على الاختلاف بيننا وبينه في جواز السلم فيها عددا ثم زفر رحمه الله
يقول المثل فيما يؤدى به الضمان منصوص على اعتباره والمماثلة في العدديات المتقاربة غير
ثابتة بالنص بل بالاجتهاد ولهذا لا يجرى فيها الربا لأنها ليست بأمثال متساوية قطعا وما كان
ثابتا بالنص فهو مقطوع به فلا يؤدي بما هو مجتهد فيه ولكن لا يصار إلى القيمة لتعذر أداء
المثل كما في العدديات المتقاربة ولكنا نقول المماثلة في آحاد هذه الأشياء ثابتة بالعرف فهو
كالثابت بالنص فيما هو المقصود وهو جبران حق المغصوب منه في مراعاة الجنس والمالية
عليه وهذا لان آحاد هذه الأشياء لا تتفاوت في المالية إنما تتفاوت أنواعها كالمكيل
والموزون وإن كان المغصوب من العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب والواجب على
الغاصب ضمان القيمة عند تعذر رد العين عندنا * وقال أهل المدينة رحمهم الله الواجب هو
المثل لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال كنت في حجرة عائشة رضى الله تعالى عنها مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب الحجاب فأتى بقصعة من ثريد من عند بعض
أزواجه فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فانكسرت فجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأكل من الأرض ويقول غارت أمكم غارت أمكم ثم جاءت عائشة رضى الله تعالى
عنها بقصعة مثل تلك القصعة فردتها واستحسن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغيرة
وقال علي رضي الله عنه في المغرور يفك الغلام بالغلام، الجارية بالجارية ولكنا نحتج بحديث
معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في عبد بين شريكين يعتقه أحدهما فإن كان
موسرا ضمن قيمة نصيب شريكه وإن كان معسرا سعى العبد في قيمة نصيب شريكه غير
مشقوق عليه فهذا تنصيص علي اعتبار القيمة فيما لا مثل له * وتأويل حديث أنس رضي الله عنه
أن الرد كان على طريق المروءة ومكارم الأخلاق لا على طريق الضمان وقد كانت القصعتان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم * ومعنى قول علي رضي الله عنه يفك الغلام بالغلام يعنى بقيمة
الغلام فقد صح عن عمر وعلي رضي الله عنهما انهما قضيا في ولد المغرور انه حر بالقيمة * ثم
بدأ محمد الكتاب بحديث ابن سيرين عن شريح رحمهما الله قال من كسر عصى فهي له وعليه
مثله وذكر بعده عن الحكم عن شريح قال من كسر عصى فهي له وعليه قيمتها فاما أن يقول
مراده بالمثل المذكور في الحديث الأول المماثلة في المالية خاصة وذلك في القيمة أو يحمل
51

الحديث الأول على العصى الصغيرة فإنها من العدديات المتقاربة لا تتفاوت آحادها في المالية
كالسهام وما ذكر في الحديث الثاني محمول علي العصى الكبيرة فإنها كالعدديات المتفاوتة لان
آحادها تتفاوت في المالية. ثم المراد بالكسر ما يكون فاحشا حتى لا يمكن التقضي به بعد
ذلك فأما إذا كان الكسر يسيرا فليس على الكاسر الا ضمان النقصان لأنه غير مفوت
للمنفعة المطلوبة من العين وإنما يمكن نقصانا في ماليته فعلية ضمان النقصان وفي الكسر الفاحش
هو مستهلك من وجه لفوات المنفعة المطلوبة من العين فكان لصاحبها حق تضمين القيمة ان
شاء وهذا الحكم في كل عين الا في الأموال الربوية فان التعيب هناك فاحشا كان أو يسيرا
يثبت لصاحبها الخيار بين أن يمسك العين ولا يرجع على الغاصب بشئ وبين ان يسلم العين
إليه ويضمنه مثله عندنا لان تضمين النقصان متعذر فإنه يتعدى إلى الربا لأنه يسلم له قدر
ملكه وزيادة وعلى قول الشافعي رحمه الله له أن يضمنه النقصان وهو بناء على أن من مذهبه
أن للجودة في هذه الأموال قيمة كما في سائر الأموال ألا تري أن لها قيمة إذا قوبلت بخلاف
جنسها ولها قيمة في اثبات الخيار لصاحبها عند تفويت الغاصب الجودة ومالا يتقوم شرعا
فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالخمر والصنعة من الملاهي والمعازف. ثم وجوب ضمان النقصان لا
يؤدي إلى الربا فان حكم الربا يجرى بالمقابلة على طريق المعادلة وذلك لا يوجد هنا خصوصا
علي أصله فان ضمان الغصب عنده لا يوجب الملك في المضمون ولكنا نقول لا قيمة للجودة في
هذه الأموال منفردة عن الأصل قال صلى الله عليه وسلم جيدها ورديئها سواء يعنى في المالية
التي ينبنى عليها العقد لأنه لا يجوز الاعتياض عن هذه الجودة حتى لو باع قفيز حنطة جيدة
بقفيز حنطة رديئة ودرهم لا يجوز وما يكون متقوما شرعا فالاعتياض عنه جائز وبهذا فارق
حال اختلاف الجنس وثبوت الخيار عندنا ليس لفوات الجودة بل للتغير المتمكن بفعله في
العين وإذا ثبت انه لا قيمة للجودة منفردة عن الأصل قلنا لو ضمنه النقصان كان فيه اقرار
بجودته عن الأصل فأما إذا سلم العين إليه فلا يكون فيه اقرار بجودته عن الأصل وهي
متقومة مع الأصل تبعا فلهذا كان له أن يضمنه المثل وقول شريح هو دليل له على أن
المغصوب يصير ملكا للغاصب عند أداء الضمان كما هو مذهبنا (وذكر) عن أبي البحتري
ان اعرابيا أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال إن بنى عمك عدوا علي ابلى فقطعوا ألبانها
وأكلوا فصلانها فقال له عثمان رضى الله تعالى عنه إذا نعطيك إبلا مثل إبلك وفصلانا مثل
52

فصلانك قال إذا تنقطع ألبانها ويموت فصلانها حتى تبلغ الوادي فغمزه بعض الفوم بعبد
الله بن مسعود رضي الله عنه فقال بيني وبينك عبد الله فقال عثمان رضي الله عنه نعم فقال
عبد الله رضي الله عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطى ثمة إبلا مثل إبله وفصلانا مثل
فصلانه فرضى عثمان رضي الله عنه بذلك وأعطاه * وبظاهر الحديث يستدل أهل المدينة في
أن الحيوان مضمون بالمثل عند الغصب والاتلاف فقد اتفق عليه عثمان وابن مسعود رضي الله عنه
ما إلا أنا نقول لم يكن هذا على طريق القضاء بالضمان وإنما كان ذلك على سبيل
الصلح بالتراضي لان المتلف لم يكن عثمان رضي الله عنه ووجوب الضمان على المتلف والانسان
غير مؤاخذ بجناية بنى عمه إلا أن عثمان رضي الله عنه كان يتبرع بأداء مثل ذلك عن بنى
عمه ويقول إن قوتهم ونصرتهم بي وهذا لأنه كان به فرط الميل إلى أقاربه واليه أشار عمر
رضي الله عنه حين ذكر عثمان رضي الله عنه في الشورى فقال إنه كلف بأقاربه وكان ذلك
ظاهرا منه ولهذا جاء الاعرابي يطالبه وإنما غمزه بعض القوم بعبد الله رضي الله عنه لما كان بين
عثمان رضي الله عنه وبينه من النفرة وسبب ذلك معلوم * ثم فيه دليل جواز التحكيم وان
الامام إذا كان يخاصمه غيره فله أن يحكم برضى الخصم من ينظر بينهما كما فعله عثمان رضي
الله عنه * وفيه دليل على أن رد مثل المغصوب أو المستهلك يجب في موضع الغصب والاستهلاك
لان ابن مسعود رضي الله عنه حكم بذلك وانقاد له عثمان رضي الله عنه وهذا لان المقصود
هو الجبران ورفع الخسران عن صاحب المال وذلك برد العين عليه في ذلك الموضع وأداء
الضمان في ذلك الموضع ولهذا قلنا إن مؤنة الرد تكون على الغاصب (وذكر) عن
شريح رحمه الله أن مسلما كسر دنا من خمر لرجل من أهل الذمة فضمنه شريح قيمة الخمر
وبه نأخذ فان الخمر مال متقوم عندنا في حقهم لتمام احرازها منهم بحماية الامام فإنهم يعتقدون
فيها المالية وإنما يكون المال متقوما بالاحراز والامام مأمور بأن يكف عنهم الأيدي
المتعرضة لهم في ذلك لمكان عقد الذمة فيتم احرازها منهم بذلك وسنقرر ذلك في موضعه
(ثم) فيه دليل أن المسلم يضمن قيمة الخمر للذمي عند الاتلاف دون المثل لان المسلم عاجز
عن تمليك الخمر من غيره وعند العجز عن رد المثل يكون الواجب هو القيمة ولم يذكر تضمين
قيمة الدن لان ذلك غير مشكل وإنما ذكر الراوي ما هو المشكل وهو تضمينه قيمة الخمر
(وإذا) غصب الرجل جارية تساوى ألف درهم فازدادت عنده فالزيادة نوعان منفصلة متولدة
53

منها كالولد والعقر ومتصلة كالسمن وانجلاء البياض عن العين * وفى الكتاب بدأ ببيان
الزيادة المتصلة ولكن الأولى أن يبدأ ببيان الزيادة المنفصلة فيقول. هذه الزيادة تحدث
أمانة في يده عندنا حتى لو هلكت من غير صنعه لم يضمن قيمتها عندنا (وقال) الشافعي
رحمه الله تعالى تحدث مضمونة لأنها لما تولدت من أصل مضمون بيد متعدية فتحدث
مضمونة كزوائد الصيد المخرج من الحرم وهذا لان المتولد من الأصل يكون بصفة
الأصل والأصل مضمون عليه فكذلك ما تولد منه ألا ترى ان الزيادة مملوكة للمغصوب
منه كالأصل (ثم) له في بيان المذهب طريقان (أحدهما) ان الزيادة مغصوبة بمباشرة من
الغاصب لان حد الغصب الاستيلاء على مال الغير باثبات اليد لنفسه بغير حق وقد كانوا في
الجاهلية يتملكون بهذه اليد ويسمونه غصبا فالشرع أبطل حكم الملك بها في كل محترم
وأثبت الضمان وبقي حكم الملك بها في كل مباح كالصيد. ثم إنما يملك الصيد باثبات اليد
عليه فكذلك يجب الضمان باثبات اليد عليه وهو مثبت يده على الولد حتى لو نازعه فيه
انسان كان القول قوله (والثاني) هو انه غاصب للولد تسبيبا فان غصب الأم وامساكها
إلى وقت الولادة سبب لحصول الولد في يده وهو معتاد لان أصحاب السوائم يمسكون
الأمهات لتحصيل الأولاد وهذا تسبيب هو فيه متعد فينزل منزلة المباشرة لان المال يضمن
بالاتلاف تارة وبالغصب أخرى وفى الاتلاف المسبب إذا كان متعديا يجعل كالمباشر في حكم
الضمان كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق فكذلك في الغصب * وحجتنا في ذلك أن وجوب
ضمان الغصب لا يكون إلا باعتبار تحقق الغصب لأنه سببه ولهذا يضاف إليه الحكم
ولا يثبت بدون السبب ولم يوجد الغصب في الزيادة تسبيبا ولا مباشرة لان حد الغصب
الموجب للضمان الاستيلاء على مال الغير باثبات اليد لنفسه على وجه تكون يده مفوتا
ليد المالك لأن الضمان واجب بطريق الجبران فلا يجب الا بتفويت شئ عليه وليس في
الغصب تفويت العين فعرفنا أن وجوب الضمان باعتبار تفويت اليد عليه وذلك غير
موجود في الولد لان التفويت بإزالة يده عما كان في يده أو بإزالة تمكنه من أخذ ما لم
يكن في يده وما كان الولد في يد المالك قط ولا زال تمكنه من أخذه لحصوله في دار
الغاصب ما لم يمنعه الغاصب منه فلا يكون مضمونا عليه لانعدام سبب الضمان حتى يطالبه
بالرد فإذا منعه يتحقق التفويت بقصر يده عنه بالمنع فيكون مضمونا عليه كالثوب إذا هبت
54

به الريح وألفته في حجره وهذا بخلاف الاستيلاء الموجب للملك لان الملك حكم مقصود
على المحل فيتم سببه باثبات اليد على المحل والضمان جبران لحق المالك فلا يتم سببه الا بتفويت
شئ عليه وبخلاف ضمان صيد الحرم لان ذلك ضمان اتلاف معنى الصيدية فيه فإنه بالحرم
أمن الصيد ومعنى الصيدية في تنفيره واستيحاشه وبعده عن الأيدي فاثبات اليد عليه يكون
اتلافا لمعنى الصيدية فيه حكما وقد تحقق ذلك في الولد باثبات اليد عليه. فأما الأموال فمحفوظة
بالأيدي فلا يكون اثبات اليد علي المال اتلافا لشئ على المالك * يوضح الفرق أن الحق في
صيد الحرم للشرع والشرع يطالبه برد الأصل مع ولده إلى مأمنه فإنما وجد المنع منه بعد
الطلب وذلك سبب الضمان. وعلي هذا الطريق يقول إذا هلك الولد قبل تمكنه من الرد إلى
الحرم لا يضمن وعلي الطريق الأول هو ضامن ولا وجه لاثبات حكم الضمان في الزيادة
بتولدها من الأصل المضمون لأن الضمان ليس في العين بل هو في ذمة الغاصب وإنما
توصف العين به مجازا كما يقال فلان مغصوب عليه والغصب صفة للغاصب بخلاف الملك
لأنه وصف للمحل فإنه يوصف بأنه مملوكه حقيقة فيتعدى ذلك إلى الولد وان باع الغاصب
الولد وسمله أو أتلفه فهو ضامن لقيمته لوجود التعدي منه على الأمانة كما لو باع المودع
الوديعة (فان قيل) فليس في البيع والتسليم تفويت يد المالك في الولد (قلنا) بل فيه
تفويت يده لأنه كان متمكنا من أخذه من الغاصب وقد زال ذلك ببيعه وتسليمه فلوجود
التفويت من هذا الوجه يكون ضامنا فأما الزيادة المتصلة فهي أمانة في يد الغاصب عندنا
حتى لو هلكت الجارية بعد الزيادة ضمن قيمتها وقت الغصب ولا يضمن الزيادة وعند
الشافعي رضى الله تعالى عنه مضمونة كالزيادة المنفصلة عنده ويزعم أن كلامه هنا أظهر فان
الزيادة تصير مغصوبة بالوقوع في يد الغاصب ولان الزيادة لا تنفصل عن الأصل فمن
ضرورة كون يده على الأصل يد غصب أن تكون على الزيادة يد غصب أيضا ولكنا نقول
سبب وجوب الضمان في الأصل ليس هو يد الغصب بل اليد الغاصبة لان ليد الغصب
حكم الغصب وإنما يحال بالضمان على أصل السبب لا على حكمه فأصل السبب اليد الغاصبة
المفوتة ليد المالك ولم يوجد ذلك في الزيادة وان منعها بعد الطلب ففي احدى الروايتين
الزيادة تصير مضمونة بالمنع لان قصر يد المالك عنها يثبت بالمنع وفى الرواية الأخرى
لا تصير مضمونة لان المطالبة بالرد في حق الزيادة لا تتحقق منفردة عن الأصل إذ لا يتصور
55

ردها بدون الأصل ولا معتبر بهذا المنع في حق الأصل لان الأصل مضمون بدون هذا
المنع فلهذا لا يضمن الزيادة المتصلة بالمنع بعد الطلب بخلاف الزيادة المنفصلة وعلى هذا
الاختلاف لو ازدادت قيمتها من غير زيادة في بدنها ثم هلكت لم يضمن الغاصب الا قيمتها
وقت الغصب عندنا وعند الشافعي يضمن قيمتها وقت الهلاك لان من أصله ان سبب الضمان
اثبات اليد واليد مستدام والأصل أن ما يستدام فإنه يعطى لاستدامته حكم انشائه فبهذا
الطريق يصير كالمجدد للغصب عند الهلاك وعندنا سبب وجوب الضمان تفويت يد المالك
وذلك بابتداء الغصب فتعتبر قيمتها عند ذلك فان باعها وسلمها بعد ما صارت قيمتها ألفين
بالزيادة المتصلة فهلكت عند المشترى ثم جاء صاحبها فله الخيار ان شاء ضمن المشترى
قيمتها يوم قبض العين وان شاء ضمن الغاصب لان المشترى متعد بقبضها لنفسه علي
طريق التملك وفى هذا القبض تفويت يد المالك حكما على ما بينا انه كان متمكنا من
استردادها من الغاصب وقد زال ذلك بقبض المشتري على طريق التملك لنفسه فيضمن قيمتها
حال قبضه وذلك ألفا درهم بمنزلة ما لو غصبها غاصب من الأول بعد الزيادة فان للمالك ان يضمن
الغاصب الثاني قيمتها وقت غصبه. وفيه طريقان. أحدهما ما بينا. والثاني أن المولي باختياره
تضمين الغاصب الثاني يكون مبرئا للغاصب الأول ولهذا لا يكون له أن يضمنه بعد ذلك
وبهذا الابراء تصير يده يد المالك والغاصب الثاني مفوت لهذه اليد فإذا صارت كيد المالك
كان هو ضامنا بتفويته يد المالك حكما فان اختار تضمين البائع فإن شاء ضمنه قيمتها وقت
الغصب ألف درهم وان شاء ضمنه قيمتها وقت البيع والتسليم ألفي درهم ولم يذكر فيه خلافا
في الكتاب (وروى) الحسن عن أبي حنيفة وابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله انه
ليس له ان يضمن الغاصب وقت البيع والتسليم قيمتها * وجه ظاهر الرواية وهو قولهما ان
الزيادة حصلت في يد الغاصب أمانة وقد تعدى عليها بالبيع والتسليم فيكون ضامنا لها بزيادتها
كما لو كانت الزيادة منفصلة وكما لو قتلها بعد حدوث الزيادة ولأنه وجد من الغاصب سببان
موجبان للضمان الغصب والتسليم بحكم البيع فللمالك ان يضمنه بأي الشيئين شاء كما لو فتلها
بعد الغصب * وتحقيق هذا ان البيع والتسليم استهلاك ألا ترى ان من ادعى عينا في يد انسان
فأقام البينة ان فلانا باعه وسلمه منه إليه فان القاضي بالملك له كما لو شهدوا بالملك له فهو
بالبيع والتسليم باشر سببا لو أثبته المشترى بالبينة قضى القاضي بالملك له فيكون ذلك استهلاكا
56

للملك علي المغصوب منه حكما والاستهلاك بعد الغصب يتحقق ويكون سببا للضمان
كالاستهلاك بالقتل * وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب
والغصب لا يتحقق في المغضوب لوجهين (أحدهما) ان الغصب الموجب للضمان لا يكون
الا بتفويت يد المالك والتفويت بعد التفويت من واحد لا يتحقق (والثاني) أن الأسباب
مطلوبة لا حكامها وتكرار الغصب من واحد في محل غير مفيد شيئا فلا يعتبر كتكرار
البيع بثمن واحد وإنما قلنا إن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب لان ملك المغصوب منه باق
بعد بيع الغاصب كما بعد غصبه * والاستهلاك اما أن يكون بتفويت العين حقيقة أو بتفويت
الملك فيه حكما وذلك غير موجود. والدليل عليه أن الحر لا يضمن بالبيع والتسليم كما
لا يضمن بالغصب والحر يضمن بالاتلاف وكذلك العقار عند أبي حنيفة وأبى يوسف
آخرا رحمهما الله لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب وهو مضمون بالاتلاف
(فإذا) ثبتت هذه القاعدة فنقول السبب الثاني لا يمكن اعتباره في الأصل لما قلنا إن الغصب
بعد الغصب لا يتحقق مع بقاء حكم الأول ولا وجه لا بطال حكم الضمان الثابت بالغصب
الأول بفعل الغاصب لان المسقط للضمان عنه نسخ فعله بإعادته إلى يد المالك لا اكتساب
غصب آخر ولا وجه لاعتبار السبب الثاني في الزيادة لان الزيادة تابعة للأصل فلا يثبت
الحكم فيها الا بثبوته في الأصل ولان الزيادة المتصلة لا نفرد بالغصب فلا تفرد بضمان
الغصب ولأنه لما ضمن الأصل بالغصب ملك الأصل بزيادته من ذلك الوقت فتبين أنه باع
ملك نفسه ولهذا نفذ بيعه هنا وبيع ملك نفسه لا يكون موجبا للضمان عنه وهذا بخلاف
ما إذا قتلها لان ذاك ضمان اتلاف والزيادة تفرد بالاتلاف ولان اعتبار السبب الثاني هناك
مفيد في حق الأصل لأن الضمان بالقتل يجب مؤجلا على العاقلة وبالغصب يجب على
الغاصب فيجب اعتبار السبب الثاني في حق الأصل لكونه مفيدا ثم يعتبر في حق الزيادة
تبعا للأصل إلا أنه إذا ضمن الأصل بالقتل لا يملكها لان ضمان القتل لا يوجب الملك
فلا يتبين به ان الزيادة كانت مملوكة له ولم يذكر هنا ان المغصوبة لو كانت دابة فاستهلكها
الغاصب بعد الزيادة المتصلة هل يضمن قيمتها زائدة ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات
انه يضمن قيمتها زائدة من بعض المحققين من أصحابنا رحمهم الله ان ذلك الجواب قولهم
جميعا وجعل يفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الاستهلاك بعد الغصب يتحقق في الأصل
57

فيكون موجبا للضمان وأما الغصب بعد الغصب فلا يتحقق. قال رضي الله عنه والأصح عندي
انه لا فرق في الفصلين عند أبي حنيفة رحمه الله فإنه كما لم يذكر الخلاف ثمة لم يذكر هنا
قال وقد رأيت في بعض النوادر بيان الخلاف في الشاة إذا ذبحها الغاصب وأكلها بعد
الزيادة انه لا يضمن قيمتها زائدة وهذا لما بينا أن السبب إنما يعتبر إذ كان مفيدا وحكم
الاستهلاك في الدواب وحكم الغاصب سواء لأنه يوجب الضمان على المستهلك حالا ويملك
المضمون به فالاستهلاك وان تحقق فلا فائدة في اعتباره في حق الأصل بخلاف القتل في
الآدمي فان حكم ضمان القتل مخالف لحكم ضمان الغصب فكان اعتبار السبب الثاني مفيدا
وهذا بخلاف صيد الحرم إذا باعها وسلمها بعد الزيادة لأنا نثبت بهذا الكلام ان البيع
والتسليم لا يكون سببا للضمان بعد الغصب وهناك الزيادة كانت مضمونة عليه قبل هذا
الا ان تصير مضمونة بالبيع والتسليم * وان اختار المغصوب منه تضمين المشترى بطل
البيع ورجع بالثمن علي الغاصب لان استرداد القيمة منه كاسترداد العين ولان ملك العين
لم يسلم للمشترى بالبيع وإنما سلم له بضمان القيمة فلا يسلم الثمن للبائع أيضا فلهذا استرد الثمن
من البائع (رجل) غصب جارية فولدت عنده ثم مات الولد فعلى الغاصب رد الجارية مع
نقصان الولادة لان ما دخلت في ضمانه بجميع أجزائها وقد فات جزء مضمون منها ولو فاتت
كلها ضمن الغاصب قيمتها والجزء معتبر بالكل وإن كان الولد حيا فعليه رد هما لان الولد جزء
من لأصل فيكون مملوكا لمالك لأصل ومؤنة الرد في الولد على الغاصب وإن لم يكن مضمونا
عليه كمؤنة الرد في المستعار على المستعير وإن لم يكن مضمونا عليه فإذا ردهما وفى قيمة الولد
وفاء بنقصان الولادة لم يضمن الغاصب من نقصان الولادة شيئا عندنا وقال زفر رحمه الله
هو ضامن لذلك وإن لم يكن في قيمة الولد وفاء بالنقصان فهو ضامن لما زاد علي قيمة الولد
من النقصان عندنا وعند زفر هو ضامن لجميع النقصان لان ضمان النقصان واجب عليه
بفوات جزء مضمون منها فلا يسقط الا بالأداء أو الابراء ممن له الحق وقد انعدم الاسقاط
ممن له الحق وهو برد لولد لا يكون مؤد يا للضمان لان الولد ملك المضمون له وأداء الضمان
يملك غير المضمون له لأن الضمان لجبران ما فات عليه وملكه لا يكون جابرا لملكه ولا يجوز
ن يكون الولد قائما مقام الجزء الفائت بالولادة لان الولد أمانة في يده والفائت مضمون عليه
فكيف تكون الأمانة خلفا عن المضمون (ألا ترى) انه لو دخلها عيب آخر في يده وفى
58

قيمة الولد وفاء بنقصان ذلك العيب لم يكن الولد جابرا لذلك النقصان. وشبه هذا بمن قطع
قوائم شجرة انسان فنبت مكانها أخرى لم يسقط الضمان عن القاطع بما نبت لان النابت
ملك المضمون له بخلاف ما لو قطعت يدها فأخذ الغاصب الأرش فردها مع الأرش
لان الأرش ما تولد من ملك المضمون له فيمكن أن يجعل مؤديا للضمان به وبخلاف
ما لو قلع سنها فنبت مكانها أخرى أو صارت مهزولة ثم سمنت لان هناك انعدم سبب الضمان لا
ن السبب افساد المنبت لا مجرد القلع وقد تبين أنه ما أفسد المنبت ولهذا لو كان نبات السن
بعد الرد لم بحب على الغاصب شئ أيضا وهنا السبب وهو النقصان قائم مشاهد والولد
لا يصلح أن يكون قائما مقام ذلك النقصان. ألا ترى أن الوفاء بقيمته لو حصل بعد الرد لم
يتخير به فكذلك قبله * وحجتنا في ذلك أن سبب الضمان منعدم هنا حكما والثابت حكما
كالثابت حسا أو أقوى منه. وبيان ذلك أن الولد خلف عن الجزء الفائت بالولادة بطريق
اتحاد السبب وهو ان الولادة أوجبت فوات جزء من مالية الأصل وحدوث مالية الولد
لان الولد وإن كان موجودا قبل الانفصال فلم يكن مالا بل كان عيبا في الأم أو كان وصفا
لها وإنما صار مالا مقصودا بعد الانفصال والسبب الواحد متى أثر في النقصان والزيادة
كانت الزيادة خلفا عن النقصان كالبيع لما زال المبيع عن ملك البائع وأدخل الثمن في ملكه
كان الثمن خلفا عن مالية المبيع له باتحاد السبب حتى لو شهد الشاهدان عليه ببيع شئ بمثل
قيمته ثم رجعا لم يضمنا شيئا وكذلك الأرش خلف عن مالية اليد المقطوعة باتحاد السبب
فكما ينعدم النقصان إذا رد ذلك الجزء بعينه بأن غصب بقرة فقطع جزأ منها ثم رد ذلك الجزء
مع الأصل فكذلك ينعدم النقصان برد الخلف لان الخلف عن الشئ يقوم مقامه عند فواته
والدليل عليه فصل السمن والسن فان الحادث هناك يجعل خلفا عن الفائت باتحاد المحل لأنه
حادث في محل النقصان وتأثير السبب في الخلافة أكثر من تأثير المحل فإذا جعل باتحاد
المحل هناك الحادث خلفا عن الفائت حتى ينعدم به سبب الضمان فهذا أولى. وبهذا ظهر
الجواب عن كلامه فانا لا نجعل الغاصب مؤديا للضمان برد الولد ولكن نبرئه بانعدام سبب
الضمان فإنما ينعدم سبب الضمان برد ملك المغصوب منه فيكون المردود ملكه يقرر هذا
المعني (فان قيل) كيف يستقيم هذا والولد يبقى ملكا للمغصوب منه بعد انعدام النقصان
(قلنا) لأنه في الملك لم يكن خلفا إنما كان مملوكا له بكونه متولدا من ملكه وذلك باق وإنما
59

كان خلفا في حكم الانجبار فلا جرم بعد ارتفاع النقصان لا يكون الولد جابرا للنقصان وهو
كالتراب خلف عن الماء في حكم الطهارة لا في الملك فبعد وجود الماء يبقى التراب مملوكا له
ولا يكون خلفا في حكم الطهارة (وإذا) ثبت هذا فيما إذا كان في قيمة الولد وفاء بالنقصان
عند الولادة فكذلك إذا صار فيه وفاء بعد الولاد قبل الرد لان حكم الخلافة باتحاد السبب
لما انعقد فيه فالحادث فيه بعد انعقاد السبب يلتحق بالموجود وقت السبب كالزوائد في البيع
بعد البيع قبل القبض تلتحق بالموجود وقت العقد ولكن هذه الخلافة في حكم الانجبار
ليكون رد الخلف كرد الأصل وهذا ينتهى بالرد فالزيادة فيه بعد الرد لا تجعل كالموجود
عند السبب لهذا كالزيادة في المبيع بعد القبض لا تعتبر في انقسام الثمن فأما في السن يتبين
انعدم سبب الضمان من حيث إن الحادث خلف عن الفائت باتحاد المحل من حيث الظاهر
ومن حيث المعنى عدم افساد المنبت وذلك يتحقق بعد الرد يتحقق قبله * ويوضحه أن
هناك لا يشترط لا يجاب الضمان بالقلع كون الأصل في ضمانه عند القلع فكذلك
لا يشترط لانعدام السبب بالنبات بقاء الأصل في ضمانه بخلاف ما نحن فيه وفى قطع قوائم
الشجرة الواجب ضمان عين ما ذهب به القاطع وهو الجزء المقطوع وذلك لا ينعدم بنبات
مثله. ثم النبات هناك ليس يسبب القطع بل ببقاء الشجرة الخضرة النامية والانجبار بحكم
اتحاد السبب على ما قررنا * فان ماتت الأم وبالولد وفاء بقيمتها ففي هذه المسألة ثلاث روايات
روى عن أبي حنيفة رحمه الله انه يبرأ برد الولد لان وجوب الضمان على الغاصب لجبران حق
المغصوب منه وذلك حاصل بالوفاء في قيمة الولد وروى عنه أنه يجبر بالولد قدر نقصان
الولادة ويضمن ما زاد على ذلك من قيمة الأم لان الولادة لا توجب الموت فالنقصان يكون
بسبب الولادة فأما موت الأم لا يكون بسبب الولادة ورد القيمة كرد العين ولو رد عين
الجارية كان النقصان منجبرا بالولد فكذلك إذا رد قيمتها (وفي) ظاهر الرواية عليه قيمتها
يوم الغصب كاملة لوجهين (أحدهما) انها لما ماتت تبين ان الولادة كانت موتا من أصله
كالجرح إذا اتصل به زهوق الروح يكون قتلا من أصله لا أن يكون جرحا ثم قتلا بناء عليه
ومن حيث إن الولادة موت لا يكون موجبا للزيادة وهذا بخلافه بحكم اتحاد السبب فإذا
انعدم هناك لم يكن الولد جابرا للنقصان بالولادة ولا قائما مقام الأم لأنا نجعل اتحاد السبب
كاتحاد المحل وهناك يتصور أن يكون الحادث خلفا عن الفائت إذا كان الفائت بعض الأصل
60

كالسمن والسن لا ما إذا كان الفائت جميع الأصل فكذلك بسبب اتحاد السبب يجعل
الحادث خلفا عن الفائت إذا كان الفائت بعض الأصل لا ما إذا كان الفائت كله لان الحادث
تبع والتبع لا يقوم مقام الأصل إنما يقوم مقام تبع مثله * يوضحه أنه لما ضمن الأصل من وقت
الغصب ملك الأصل بالضمان من ذلك الوقت وتبين ان النقصان حادث على ملكه فلا حاجة
إلى ما يجبره بخلاف ما إذا رد الأصل فالحاجة إلى رد جابر النقصان هنا متقرر وباعتبار هذه
الحاجة يجعل الولد خلفا في حكم الانجبار به (قال) وإذا جاء المغصوب منه يدعى جاريته
في يد الغاصب وهو منكر فأقام شاهدا انها جاريته غصبها هذا إياه وأقام شاهدا آخر على
اقرر الغاصب بذلك لم يجز لأنهما اختلفا حين شهد أحدهما بالقول والآخر بالفعل إذ
الفعل غير القول وبشهادة الواحد لا يثبت واحد من الامرين. وكذلك لو شهد أحدهما
بالملك له وشهد الآخر على اقرار الغاصب له بالملك لان المشهود به مختلف وليس على واحد
من الامرين شهادة شاهدين وان شهدا له بالملك وزاد أحدهما ذكر الغصب فالشهادة
جائزة لأنهما اتفقا في الشهادة على الملك للمدعى وتفرد إحداهما بالشهادة بالغصب على المدعى
عليه فيقضي القاضي بما أنفقا عليه وان شهد أحدهما انها جاريته وشهد الآخر انها كانت
جاريته قضيت بها له لأنهما اتفقا في المشهود به وهو المالك للمدعى لان ما كان له فهو باق على
ملكه ابدا حتى يخرجه من ملكه بحق ولم يظهر سبب ذلك فعرفنا ان كل واحد منهما
شهد له بالملك في الحال * وان شهد أحدهما انها جاريته اشتراها من فلان وشهد الاخر انها
جاريته ورثها عن أبيه لم يجز لان أحدهما شهد له بملك هو أصل فيه مستفاد بسبب أحدثه
وهو الشراء والآخر شهد له بملك هو خلف عن مورثه فيه وأحد الملكين متباين عن
الآخر * ألا ترى أن الوارث يرد بالعيب على بائع مورثه ويصير مغرورا بشراء مورثه
والمشترى لا يرد على بائع بائعه ولا يصير مغرورا بسبب شراء بائعه (وإذا) اختلف المشهود
به حكما لم يتمكن القاضي من القضاء بشئ. وان شهد أحدهما بالشراء من رجل والاخر
بالشراء من رجل آخر أو بهبة أو صدقة لم تجز الشهادة لاختلافهما في المشهود به وهو السبب
اما لان الصدقة والهبة غير الشراء أو لأن الشراء من زيد غير الشراء من عمرو. وان شهدا
أنها جاريته غصبها إياه هذا وقد باعها الغاصب من رجل فسلم رب الجارية البيع بعد ذلك
قال يجوز لان البيع انعقد من الغاصب موقوفا على إجازة المالك فان من أصلنا أن ماله مجيز
61

حال وقوعه يتوقف علي الإجازة وان الإجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء ولكن الشرط
لتمام العقد بالإجازة بقاء المتعاقدين والمقود عليه والمجيز وذلك كله باق هنا (وقد) ذكر في
النوادر أن المدعى إذا طلب من القاضي أن يقضي له بالملك ففعل لم يكن له أن يجيز البيع بعد
ذلك لأنه طلب من القاضي أن يقرر ملكه وذلك يتضمن دفع السبب المزيل فيجعل ناسخا
للبيع بهذا. وجه ظاهر الرواية ان الملك لذي ظهر له بقضاء القاضي لا يكون أقوى من ملك
ظاهر له وذلك لا يمنع انعقاد البيع موقوفا فلا يمنع بقاء البيع إذا ظهر بالفضاء بطريق الأولى
فإن كان الغاصب قد قبض الثمن فهلك عنده هلك من مال رب الجارية لان بنفوذ البيع
صار الغاصب كالوكيل من جهته بالبيع بطريق ان الإجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء
وحق قبض الثمن إلى الوكيل وهو أمين فيما يقبض. الا ترى أنه لو هلك عنده بعد الإجازة
لم يضمن فكذلك إذا هلك قبل الإجازة ولا يشترط لنفوذ العقد بالإجازة بقاء الثمن
لان الثمن معقود به ولا يشترط وجوده في ملك المشتري لصحة البيع بعد ابتداء فكذلك
لا يشترط بقاؤه لنفوذ البيع بالإجازة وكل ما حدث للجارية عند المشترى من ولد أو كسب
أو أرش جناية وما شابهها فهو للمشتري لان عند اجازته ينفذ البيع ويثبت الملك للمشترى
من وقت البيع فان سبب ملكه هو العقد وكان تاما في نفسه ولكن امتنع ثبوت الملك به
لمانع وهو حق المغصوب منه فإذا ارتفع ذلك بالإجازة ثبت الملك له من وقت السبب
لان الإجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء * فتبين ان الزوائد حدثت على ملكه وإن لم
يسلم المبيع وأخذها أخذ جميع ذلك معها لأنه بقي ملكه مقررا فيها وإنما يملك الكسب
والأرش والولد بملك الأصل فان أعتقها المشترى لم ينفذ عتقه قبل أن يجيز المالك البيع عندنا
وقال) ابن أبي ليلي عتقه نافذ والغاصب ضامن قيمتها للمغصوب منه لان الاعتاق قبض
بطريق الاتلاف فإنه ينعدم به محلية البيع كما بالاتلاف حقيقة فهناك الغاصب يضمن قيمتها
وينفذ البيع بينه وبين المشترى إذا ضمن قيمتها فهنا كذلك اعتبار للحكمي بالحقيقي. ولكنا
نقول حصول القبض والاتلاف بنفوذ العتق لا بالتكلم به وشرط نفوذ العتق ملك المحل
قال صلى الله عليه وسلم لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم والبيع الموقوف ضعيف في نفسه فلا
يثبت الملك به قبل الإجازة كالهبة قبل القبض فان الموهوب له لو أعتق الموهوب قيل أن
يقبض لم يعتق ولا يصير قابضا به فهذا مثله بخلاف الاتلاف فإنه حسي يتحقق في الملك
62

وغير الملك ولا نقول المشترى بالاتلاف يصير مالكا متى كان للمغصوب منه أن يضمن
المشترى ان شاء فان أجاز المغصوب منه البيع بعد ما أعتق المشترى الجارية جاز البيع ولم
ينفذ عتق المشتري في القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وفى الاستحسان ينفذ عتقه
وهو قول أبى حنفية وأبى يوسف رحمهما الله هكذا يرويه محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
(قال) أبو سليمان وكنا سمعنا من أبى يوسف روايته عن أبي حنيفة انه لا ينفذ عتقه * وجه
القياس ان هذا عتق ترتب على عقد توقف نفوذه لحق المالك فلا ينفذ بنفوذ العقد كالمشترى
بشرط الخيار أقوى من البيع الموقوف فإنه متفق على جواره ويتم بموت البائع وبسكوته
حتى تمضى المدة * والبيع الموقوف مختلف في جوازه وهو يبطل بموت العاقد وبموت المالك
ولا يتم بدون الإجازة لان هذا العتق توقف على إجازة مالك ظاهر الملك فان المالك لو أجاز
العتق عن نفسه عتق من جهته فلا ينفذ من جهة من يحدث له بالملك كالمشترى من المكره
إذا أعتق قبل القبض ثم رضي المكره بالبيع لم ينفذ عتق المشترى * يوضحه أن البيع
والعتق توقفا على إجازة المالك ثم لو أجاز العتق بطل البيع فكذلك لو أجاز البيع يبطل
العتق لما بينهما من المنافاة في حقه. والدليل عليه ان الغاصب لو أعتق ثم ضمن القيمة لم
ينفذ عنقه والملك الثابت له بالضمان أقوى من الملك الثابت للمشترى هنا حتى بنفذ بيعه
لو كان باعه هناك ولا ينفذ بيع المشترى هنا لو كان باعه ثم هناك لم ينفذ عتقه فهنا أولى.
وكذلك لو كان المشترى من الغاصب أعتق ثم إن المالك ضمن الغاصب حتى نفذ بيعه لم
ينفذ عتق المشترى فكذلك إذا نفذ البيع بإجازة المالك * وجه الاستحسان ان هذا عتق ترتب
علي سبب ملك تام فينفذ بدون السبب بالإجازة كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة وهي
مستغرقة بالدين ثم يسقط الدين أو المشتري من الوارث إذا فعل ذلك * وتقرير هذا الكلام
ان العقد الموقوف سبب تام في نفسه وانعقاده بكلام المتعاقدين ولهما ولاية على أنفسهما فإذا
أطلقا العقد انعقد بصفة التمام لان الممتنع ما يتضرر به المالك وكما لا ضرر على المالك بانعقاد
السبب لا ضرر عليه في تمام السبب لأنه ليس من ضرورة اتمام السبب اتصال الحكم به
فقد يتراخى عنه لان الأسباب الشرعية لا تنعقد خالية عن الحكم ولكن يجوز أن يتأخر
الحكم عن السبب والضرر على المالك في اثبات الملك للمشترى لان من ضرورته زول
ملك فيتأخر ذلك إلى وقت الإجازة ويبقى السبب تاما والدليل عليه ان الاشهاد على
(5 مبسوط حادي عشر)
63

النكاح يعتبر وقت العقد لا عند الإجازة والنكاح ينعقد مع التوقف وما يمنع تمام السبب
فالنكاح لا يحتمله كخيار الشرط. والدليل عليه ان الغاصبين إذا تصارفا وتقابضا وافترقا ثم أجاز
المالكان فمحمد يوافقنا انه يجوز وما يمنع تمام السبب لا يكون عفوا في الصرف بعد الافتراق
كخيار الشرط والدليل على تمام السبب انه يملك المبيع عند الإجازة بزوائده المنفصلة
والمتصلة (وإذا) ثبت ان السبب تام فنقول العتق قبض حتى أن المشترى إذا أعتق المبيع
قبل القبض يسير قابضا والقبض بعد تمام السبب يتوقف بتوقف السبب وينفذ بنفوذه
كالقبض الحقيقي في المبيع أو المثن والدليل عليه ان رجلا لو قال للغاصب أعتق هذا العبد
عنى بألف درهم فأعتقه ثم أجاز المالك نفذ بالإجازة العتق والبيع جميعا فهذا مثله بل أولي
لان سبب الملك هناك مضمر وهنا مفصح به ولا وجه لمنع هذا فإنه لو التمس هذا من
المالك فأجابه إليه كان نافذا فكذلك إذا التمس من غير المالك فأجابه إليه وأجازه المالك وهذا
بخلاف البيع بشرط الخيار لان السبب هناك غير تام فان قوله على أنى بالخيار مقرون بالعقد
نصا وتعليق العقد بالشرط يمنع كونه سببا قبل وجود الشرط ولهذا لم يجز البيع قياسا لأنه
أدخل الشرط على السبب وفى الاستحسان يجعل الشرط داخلا علي حكم السبب فينعقد
أصل العقد ويكون في حق الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبله ألا ترى أنه
لو قال إذا جاء عبدي فلله علي ان أتصدق بدرهم فتصدق به اليوم لا يجوز بخلاف ما لو
قال لله علي ان أتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم يجوز فعرفنا ان التوقف لا يمنع تمام
السبب والتعليق بالشرط يمنع منه يوضح الفرق ان في العقد الموقوف يثبت ملكا يلبق
بالسبب وهو الملك الموقوف لان هذا القدر لا يزيل ملك المالك ولا يتضرر به فإنما
ترتب على ملك موقوف فيتوقف بتوقفه وينفذ بنفوذه فأما الشرط في مسألة الخيار كما يمنع
الملك التام يمنع الملك الموقوف فلم يترتب عتق المشترى علي ملك في المحل أصلا ومسألة
المكره قد منعها بعض أصحابنا رحمهم الله (والأصح) ان نقول بيع المكره فاسد ولهذا لو
أعتقه المشترى بعد القبض ينفذ عتقه والبيع الفاسد قبل القبض ضعيف غير تام في حكم
الملك كالهبة قبل القبض فلا يثبت به ملك تام ولا موقوف في المحل فلهذا لا ينفذ عنقه
وعتق المشترى مخالف لبيعه لان البيع ليبس بقبض ألا ترى أنه لو باع المبيع قيل القبض
لا يصير به قابضا وإنما يتوقف بعد تمام السبب ما هو من حقوقه والعتق من حقوقه
64

من حيث إنه قبض ومن حيث إن الشراء موجب وهو شراء القريب فإنه اعتلق بخلاف
البيع. يوضحه ان البيع قاطع للملك والعتق منهى له ألا ترى ان المشترى لو باع المبيع ثم
اطلع على عيب به لا يرجع على بائعه بحصة العيب من الثمن بخلاف ما لو أعتقه فلكون العتق
منهيا للملك يتوقف بتوقف الملك حتى إذا تم انتهى به والبيع لكونه قاطعا للملك لا يجوز أن
يتوقف بتوقف الملك وهذا بخلاف ما لو أجاز المالك العتق لأنه بإجازة العتق عن نفسه يبطل
محل البيع فلا يمكن تنفيذ البيع به وبإجازة البيع يمتد محل العتق للمشترى وهو المالك فينفذ
العتق من جهته وهذا بخلاف الغاصب إذا أعتق ثم ضمن القيمة لان المستند له حكم الملك
لا حقيقة الملك ولهذا لا يستحق الزوائد المنفصلة وحكم الملك يكفي لنفوذ البيع دون العتق
كحكم ملك المكاتب في كسبه وهذا الثابت للمشترى من وقت العقد حقيقة الملك ولهذا
استحق الزوائد المنفصلة والمتصلة. فأما إذا أعتقه المشترى ثم نفذ البيع بتضمين الغاصب
فالأصح أنه ينفذ العتق أيضا هكذا ذكر هلال رحمه الله في كتاب الوقف فقال ينفذ
وقفه على طريقة الاستحسان فالعتق أولى وبعد التسليم يقول هناك المشترى يملكه من
جهة الغاصب وقد بينا أنه لا يستند للغاصب حقيقة الملك فكيف يستند لمن يملك من
جهته فلهذا لا ينفذ عتقه وهنا إنما يستند الملك له إلى وقت العقد من جهة المجيز والمجيز كان
مالكا له حقيقة فيمكن اثبات حقيقة الملك للمشتري من وقت العقد بالطريق الذي قلنا
فلهذا نفذ عتقه * وان ماتت الجارية في يد المشترى ثم أجاز المالك البيع لم يتم لان اجازته
إنما تصح في حال يصح اذنه بالبيع وبعد الموت لا يصح اذنه بالبيع ولان الملك للمشتري
يثبت عند الإجازة مقصودا بسببه وإن كان يستند إلى وقت العقد والميت لا يحتمل التمليك
مقصودا بسببه. وإن لم يمت ولم يسلم رب الجارية المبيع ولكن الغاصب اشتراها منه لم بجز
البيع الأول لان اقدام المالك على بيعها من الغصب ابطال منه للبيع الأول ولأنه لا يمكن
تنفيذ البيع الأول من الغاصب بهذا الشراء لان الملك له حادث والبيع الموقوف إذا تم
أوجب الملك للمشترى من وقت العقد ولأنه ما توقف على حقه ولم يوجد منه الرضا بتمليك
المشترى عليه فلهذا لا يصح البيع الأول بعد شراء الغاصب وكذلك أن أجازه لأنه قد طرأ
ملك نافذ على ملك موقوف فكان مبطلا للموقوف إذ لا يتصور اجتماعهما في محل واحد
والبيع بعد ما بطل لا يلحقه الإجازة وكذلك لو وهبها مولاها للغاصب أو تصدق بها
65

عليه أو ماتت فورثها منه فهذا كله مبطل للملك الموقوف بطريان الملك النافذ في المحل
(رجل) غصب من رجل جارية فعيبها فأقام المغصوب منه البينة انه قد غصب جارية
له فإنه يحبس حتى يجئ بها ويردها على صاحبها (وكان) أبو بكر الأعمش رحمه الله
يقول تأويل هذه المسألة ان الشهود شهدوا على اقرار الغاصب بذلك لان الثابت من
اقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة فأما الشهادة علي فعل الغصب لا تقبل مع جهالة المغصوب لان
المقصود اثبات الملك للمدعى في المغصوب ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول ولا بد من
الإشارة إلى ما هو المقصود بالدعوى في الشهادة ولكن الأصح أن هذه الدعوى والشهادة
صحيحة لأجل الضرورة فان الغاصب يكون ممتنعا من احضار المغصوب عادة وحين يغصب
فإنما يتأتى من الشهود معاينة فعل الغاصب دون العلم بأوصاف المغصوب فسقط اعتبار علمهم
بالأوصاف لأجل التعذر ويثبت بشهادتهم فعل الغصب في محل هو مال متقوم فصار ثبوت
ذلك بالبينة كثبوته باقراره فيحبس حتى يجئ به ولان وجوب الرد على الغاصب ثابت بنفس
الفعل وهذا معلوم من شهادتهم فيتمكن القاضي من القضاء به فلهذا يحبسه حتى يجئ بها
ويردها على صاحبها. فان قال الغاصب قد ماتت أو قد بعتها ولا أقدر عليها تلوم القاضي
في ذلك زمانا ولم يعجل بالقضاء بالقيمة لان بقضائه يتحول الحق من العين إلى القيمة
وفيه نوع ضرر علي صاحبها فعين الملك مقصود لصاحبها كماليتها وربما يتعلل الغاصب بذلك
لتسلم العين عند أداء القيمة فلهذا لا يعجل بالقضاء بها وليس لمدة التلوم مقدار بل يكون ذلك
موكولا إلى رأى القاضي لان نصب المقادير بالرأي لا يكون (2) وهذا التلوم إذا لم يرض
المغصوب منها بالقضاء بالقيمة له فأما إذا رضى بذلك أو تلوم له القاضي فلم يقدر علي الجارية
فان اتفقا في قيمتها علي شئ أو أقام المغصوب منه البينة علي ما يدعى من قيمتها قضى له القاضي
بذلك وإن لم يكن له بينة فالقول قول الغاصب مع يمينه لان المالك يدعي الزيادة وهو
منكر لها فان استحلف فنكل كان نكوله بمنزلة اقراره بما يدعيه المالك وان حلف قضي
له بما أقر به الغاصب لان ما زاد على ذلك انتفى عنه بيمينه ما لم يقم المالك حجة عليه فان
ظهرت الجارية بعد ذلك فإن كان القضاء بالقيمة بالبينة أو بالنكول أو بالاقرار من الغاصب
بما ادعي المالك فالجارية له لا سبيل للمغصوب منه عليها وإن كان القضاء بالقيمة بزعم الغاصب
بعد ما يحلف يخير المغصوب منه فإن شاء استردها ورد ما قبض علي الغاصب وان شاء
66

أمسك تلك القيمة ولا سبيل له عليها. قال الكرخي رحمة الله هذا إذا كانت قيمتها بعد
ما ظهرت أكثر مما قال الغاصب فأما إذا كانت قيمتها مثل ما قال الغاصب فلا خيار له في
استردادها لأنه يوفر عليه بدل ملكه بكماله. وفى ظاهر الرواية الجواب مطلق وهو
الصحيح لأنه لم يتم رضاه بزوال ملكه عن العين إذا لم يعط ما يدعيه من القيمة وثبوت
الخيار له لانعدام تمام الرضا من جهته وذلك لا يختلف باختلاف قيمتها فقد لا يرضي
الانسان بزوال العين عن ملكه بقيمته وهذا كله مذهبنا. وأما عند الشافعي رحمه الله تعالى
فالجارية باقية على ملك مولاها فيستردها إذا ظهرت ويرد ما قبض من القيمة (وبعض)
المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله يقول سبب الملك عندنا يقرر الضمان على الغاصب لكيلا
يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وهو معنى قولهم المضمونات تملك بالضمان
ولكن هذا غلط لان الملك عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب
وسلم الكسب له (وبعض) المتأخرين رحمهم الله يقول الغصب هو السبب الموجب للملك
عند أداء الضمان وهذا أيضا وهم فان الملك لا يثبت عند أداء الضمان من وقت الغصب
للغاصب حقيقة ولهذا لا يسلم له الولد. ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له
الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة كالبيع الموقوف إذا تم بالإجازة يملك المشترى
المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة ومع هذا في هذه العبارة بعض الشنعة فالغصب هو عدوان
محض والملك حكم مشروع مرغوب فيه فيكون سببه مشروعا مرغوبا فيه ولا يصح أن يجعل
العدوان المحض سببا له فإنه ترغيب للناس فيه لتحصيل ما هو مرغوب لهم به ولا يجوز إضافة
مثله إلي الشرع فالأسلم أن يقول الغصب موجب رد العين ورد القيمة عند تعذر رد العين
بطريق الجبران مقصودا بهذا السبب ثم يثبت الملك به للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا حكما
ثابتا بالغصب مقصودا ولهذا لا يملك الولد لان الملك كان شرطا للقضاء بالقيمة والولد غير
مضمون بالقيمة وهو بعد الانفصال ليس يتبع فلا يثبت هذا الحكم فيه بخلاف الزيادة المتصلة
فإنه تبع محض والكسب كذلك بدل المنفعة فيكون تبعا محضا وثبوت الحكم في التبع كثبوته
في الأصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا بسببه أو شرطا لغيره. وجه قول الشافعي رحمه الله
الاستدلال بقوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم) فالله تعالى جعل أكل مال الغير قسمين قسم بالباطل وقسم بالتجارة عن تراض وهذا
67

ليس بتجارة عن تراض فيكون أكلا بالباطل والمعنى فيه أن الغصب عدوان محض لأنه ليس
فيه شبهة الإباحة بوجه ما فلا يكون موجبا للملك كالقتل. وتأثيره ما قلنا إن الملك حكم مشروع
فيستدعى سببا مشروعا والعدوان المحض ضد المشروع فأدنى درجات المشروع أن يكون
مرضيا به وأن يكون مباحا والعدوان المحض ضده ولا يجوز أن يثبت الملك بضمان القيمة
لان هذا ضمان جبران فيكون بمقابلة الفائت بالغصب والفائت بالغصب يد المالك لا ملكه * فعرفنا
ان هذا الضمان بمقابلة النقصان الذي حل بيد الغاصب لا أن يكون بدلا عن العين ولهذا قلتم
لو هشم قلب فضة لإنسان وقضى القاضي عليه بالقيمة ثم افترقا من غير قبض لا يبطل القضاء
ولو كان بدلا عن العين كان صرفا فيبطل بالافتراق من غير قبض ولما ثبت ان هذا الضمان
بطريق الجبران فلا يكون الجبران بتفويت ما هو قائم بل هو باحياء ما هو فائت وملكه في
العين كان قائما فلو جعلنا زائلا بالقضاء بالقيمة له كان هذا تفويتا لا جبرانا ولو كانت القيمة
بدلا عن العين فهو حلف يصار إليه عند وقوع اليأس عن رد العين ومثل هذا الحلف يسقط
اعتباره عند ظهور العين كما لو قلع سن انسان فاستؤني به حولا كاملا ثم قضى له بالأرش
فقبض ثم نبت سنه يلزمه رد المقبوض من الأرش بهذا المعنى واعتمادهم علي فصل المدبر.
وبهذا يتضح جميع ما قلنا فان الغصب يتحقق في المدبر وسبب الملك عندكم لا يتحقق في المدبر
وبقضاء القاضي بالقيمة لا يزول عن ملكه ولو كان شرط القضاء بالقيمة انعدام ملكه في
العين أو كانت العين بدلا عن العين لما قضى القاضي بها في محل لا يتحقق فيه هذا الشرط
وان تم بضاء القاضي ينبغي أن يزول ملكه عن المدبر كما لو قضى بجواز بيع المدبر * وحجتنا في ذلك
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشاة المغصوبة المصلية أطعموها الأسارى فقد أمرهم
بالتصدق بها ولو لم يملكوها لما أمرهم بالتصدق بها لان التصدق بملك الغير إذا كان مالكه
معلوما لا يجوز ولكن يحفظ عليه عين ملكه فان تعذر ذلك يباع ويحفظ عليه ثمنه. والمعنى
فيه أن الغصب الموجب للضمان مختص بمحل هو مال متقوم فيثبت الملك به إذا أمكن كالبيع
والصلح * وبيان الوصف أن غصب الحر لا يتحقق موجبا للضمان لأنه ليس بمال وكذلك
غصب الخمر من المسلم لأنه غير متقوم وتأثيره ان اختصاص السبب بمحل لا يكون إلا
لاختصاصه بحكم يختص بذلك المحل فالمحل الذي هو مال متقوم يختص بصحة التمليك فيه
فلما اختص الغصب الموجب للضمان به عرفنا أنه إنما اختص بهذا الحكم فان الفعل الذي
68

هو عدوان محض وإزالة اليد المحترمة لا تختص بمحل هو مال متقوم. ثم حقيقة المعنى ان
الضمان الواجب علي الغاصب بدل العين. ألا ترى أنه يقوم العين به وأنه يسمى الواجب
قيمة العين ويتقدر بمالية العين ولأن الضمان بمقابلة ما هو المقصود ومقصود صاحب الدراهم
عين الدارهم لا امتلاء كيسه بها فعرفنا أن الضمان بدل العين وإنما يقضى بها جبرانا والجبران
يستدعى الفوات لا محالة لأنه إنما يجير الفائت دون القائم فكان من ضرورة القضاء بقيمة
العين انعدام ملكه في العين فيكون جبرانا لما هو فائت ومالا يمكن اثباته الا بشرط فإذا
وقعت الحاجة إلي اثباته يقدم شرطه عليه لا محالة كما إذا قال لغيره أعتق عبدك عنى على ألف
درهم فأعتقه يقدم التمليك منه علي نفوذ العتق منه ضرورة كونه شرطا في المحل إلا أن يكون
قوله أعتقه عنى سببا للتمليك مقصودا * إذا تقرر هذا تبين أنه إنما يثبت بالعدوان المحض
ما هو حسن مشروع به وهو القضاء بالقيمة جبرانا لحقه في الفائت ثم انعدام الملك في العين
لما كان من شرطه هذا المشروع يثبت به ويكون حسنا بجنسه ولهذا لا يشترط التقابض
لان شرط التقابض فيما هو سبب للملك مقصودا الا فيما يثبت شرطا لغيره كما لا يشترط
القبول في قوله أعتق عبدك عنى على ألف درهم لان شرط القبول في سبب ملك مقصود
لا فيما هو شرط لغيره ولهذا قلنا إن المغصوب وإن كان هالكا عند القضاء بالقيمة يصير مملوكا
للغاصب لان الهالك مما لا يقبل التمليك مقصودا بسببه لا شرطا لغيره وكذلك يقول إذا أخذ
القيمة بزعم الغاصب فالعين لا تبقى علي ملكه ولكن يتخير عند ظهوره لعدم تمام الرضى به
كالمشترى إذا وجد بالمبيع عيبا (فاما) المدبر ففي تخريجه طريقان * أحدهما ان هناك لا يقول
ببقاء العين على ملكه بعد تقرر حقه في القيمة بل يجعل زائلا عن ملكه لتحقيق هذا لشرط
ولهذا لو لم يظهر المدبر بعد ذلك وظهر له كسب فذلك الكسب يكون للغاصب دون
المغصوب منه الا انه إذا ظهر المدبر يعاد إليه صيانة لحق المدبر فان حق العتق ثبت له بالتدبير
عندنا * الثاني أن في المدبر القيمة ليست ببدل عن العين لان ما هو شرطه وهو انعدام الملك
في العين متعذر في المدبر فيجعل هذا خلفا عن النقصان الذي حل بيده ولكن هذا عند
الضرورة ففي كل محل يمكن اتحاد الشرط لا تتحقق الضرورة فيجعل بدلا عن العين وإذا
تعذر اتحاد الشرط يجعل خلفا عن النقصان الذي حل بيده * ونظيره فصلان. أحدهما ضمان
العتق فإنه بمقابلة العين في كل محل يمكن اتحاد الشرط وهو تمليك العين وفيما لا يحتمل
69

اتحاد هذا الشرط كالمدبر وأم الولد عندهم لا يجعل بدلا عن العين وكذلك ضمان الصلح
فإنه إذا أخذ القيمة بالتراضي كان المأخوذ بدلا عن العين في كل محل يحتمل تمليك العين
وفي كل محل لا يحتمل تمليك العين يجعل المأخوذ بمقابلة الجناية التي حلت بيده وكذلك
إذا أخذ القيمة بقضاء القاضي وفيما تلي من الآية بيان أن الأكل بالتجارة عن تراض جائز
لا أن يكون الجواز مقصودا عليه ثم معنى التجارة عن تراض يندرج هنا من وجه فان
المالك هنا متمكن من أن يصبر حتى تظهر العين فيأخذها فحين طالب بالقيمة مع علمه أن
من شرطه انعدام ملكه في العين فقد صار راضيا بذلك لان من طلب شيئا لا يتوصل إليه
الا بشرط كان راضيا بالشرط كما يكون راضيا بمطلوبه (رجل) غصب من رجل جارية
فوطئها فولدت منه ثم حضر صاحبها فادعاها ولم يكن له بينة فأقر له بهذا واليد لم يصدق
عليها ولا على ولدها لان حق أمية الولد لها وحقيقة الحرية للولد تثبت من حيث الظاهر
فان من في يده شئ فالظاهر أنه ملكه ولهذا لو نازعه غيره فيه كان القول قوله فلا يصدقه
في ابطال حقهما ولكنه مصدق فيما يقربه علي نفسه وقد أقر أنها كانت مغصوبة في يده وأنه
ضامن لقيمتها عند تعذر رد عينها وقد تعذر رد العين بفعله فلهذا يلزمه قيمتها للمقر له (قال)
ولا يضمن قيمة الولد ولم يتعرض للعقر ذكر المسألة في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما
الله علي ان قول زفر يضمن قيمة الولد والعقر وعلى قول أبى يوسف لا يضمن ذلك. وجه
قول زفر انه أقر بوجوب العقر عليه لأنه يزعم أنه وطئها وهي مغصوبة في يده والوطئ
في ملك الغير لا ينفك عن حد أو عقر وقد سقط الحد بشبهة فيجب العقر وكذلك إن
أقر أن الولد ملك المقر له وقد احتبس عنده بفعله كالأم فيضمن قيمته لان الغاصب يضمن قيمة
الولد بالمبيع أو يجعل هذا بمنزلة المغرور وولد المغرور حر بالقيمة وعلي المغرور عقرها للمستحق
فهذا مثله. وجه قول أبى يوسف ان ما يلزمه من الضمان إنما يلزمه باقراره وهو ما أقر بوجوب
العقر عليه إنما أقر بوجوب الحد عليه لان وطئ الجارية المغصوبة يوجب الحد علي الغاصب
دون العقر وكذلك والد المغصوبة لا يكون مضمونا علي الغاصب الا بمنع منه ولم يوجد ذلك
منه في الولد وإنما امتنع رده لحريته شرعا فهو كما لو امتنع رده بموته فعرفنا انه ما أقر علي نفسه
بوجوب العقر ولا بوجوب قيمة الولد فلا يلزمه ذلك فإن كان المدعى أقام البينة انها جاريته
غصبها هذا منه قضي له بها وبولدها لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولم يذكر العقر
70

وينبغي أن يقضى له بالعقر لان ذا اليد لما أنكر فقد صار انكاره شبهة في اسقاط الحد
عنه وقد أثبت بالبينة أنه وطئ ملك الغير فيلزمه العقر فإن لم يقل الشهود غصبها ولم يقر
الذي هي في يديه ولكنه قال اشتريتها من فلان فأردت أن يقضى بالجارية للذي أقام
البينة هل يستحلفه بالله ما بعته ولا أذنت له فيه ولم يدع ذو اليد شيئا من ذلك (قال) لا
استحلفه علي شئ من ذلك إلا أن يدعى الذي هي في يديه لان القاضي نصب لفصل
الخصومات لا لتهيجها ولان الاستحلاف يترتب علي دعوى صحيحة فإن لم يدع ذو اليد
ذلك فلا معنى للاستحلاف وإذا ادعاه فيحنئذ يستحلف لأنه يدعى عليه ما لو أقر به لزمه
(وروى) عن أبي يوسف رحمه الله ان القاضي يستحلفه وإن لم يطلب ذو اليد ذلك صيانة
لقضاء نفسه. وان أقام الذي هي في يديه البينة علي تسليمه المبيع أخذ رب الجارية الثمن
من البائع لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولان إجازة البيع في الانتهاء بمنزلة الاذن
في الابتداء فان تصادق الأول والجارية على أنه كان أعتقها قبل هذا البيع لم يصدقا
علي ذلك لأنها صارت مملوكة للمشتري بما أثبت من البيع وإجازة المالك بالبينة فلا
يصدقان على ابطال ملكه ولكن ان أقامت الجارية البينة ان الأول كان أعتقها قبل أن
يشتريها هذا فإنها تعتق لأنها أثبتت حريتها باعتاق من كان يملكها بالحجة ثم يتبين بطلان
البيع فيرجع المشترى علي البائع بالثمن وعلى المشترى العقر للجارية لأنه وطئها بشبهة الملك
وهي حرة والولد ولده بغير قيمة لان الولد يتبع الأم في الحرية وقد ثبتت حريتها بالبينة
فينفصل الولد عنها حرا بذلك السبب لا بالغرور فلهذا لا يغرم قيمة الولد * ولو اشترى جارية
فولدت له ثم جاء أخوه فأقام البينة ان الجارية له قضيت بها له وبقيمة الولد والعقر لان حربة الولد
هنا بسبب الغرور لا بسبب ملك الأخ لأنه إنما يعتق ابن الأخ على عمه بعد تملكه وهنا الولد كان
حر الأصل فلم يدخل في ملك المدعى حتى يجعل عتقه بسبب القرابة * وإذا ثبت أن حرية الولد
بسبب الغرور فولد المغرور حر بالقيمة به قضى عمر وعلى رضي الله تعالى عنهما ويرجع
المشترى على البائع بالثمن وقيمة الولد لأجل الغرور ولا يرجع بالعقر لأنه إنما لزمه بما نال
من لذة الوطئ فلا يرجع به على غيره (رجل) غصب جارية أو شاة أو بقرة فولدت ولدا ثم
ذبح الولد أو باعه أو استخدمه حتى إذا مات من ذلك فعليه ضمان قيمته يوم مات لان الولد
كان أمانة عنده وقد أتلفه بالذبح أو الاستخدام حتى مات منه وصار متعديا عليه بالبيع
71

والتسليم فيضمن قيمته كالمودع إذا فعل ذلك بالوديعة وإن لم يصنع شيئا من ذلك ولكن الأم
ماتت فله أن يضمنه قيمة الأم يوم غصبها ويأخذ الأولاد لان الملك في الأم يثبت للغاصب
شرعا لتقرر الضمان عليه وذلك غير متعد إلى الولد فان الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة
لان أصل السبب للضمان هو الغصب ووجوبه حقيقة بعد موت الأم فأما قبل موتها الواجب
رد العين فالملك يثبت به كذلك وتبين ان وقت الغصب إنما يثبت له حكم الملك لا حقيقة
الملك وذلك يكفي لسلامة الكسب دون الولد كحكم الملك الثابت للمكاتب بالكتابة حتى أن
كسبه لا يكون مملوكا للمولى وولده يكون مملوكا له ينفذ عتقه فيه (رجل) غصب جارية
قيمتها ألف درهم فصارت قيمتها ألفين ثم قتلها رجل خطأ فالمغصوب منه بالخياران شاء ضمن
الغاصب ألف درهم في ماله حالا وان شاء اتبع عاقلة القاتل بألفي درهم في ثلاث سنين لان
كل واحد منهما جان في حقه فله الخيار في التضمين فان ضمن الغاصب فإنما يضمنه باعتبار
الغصب فينظر إلى قيمتها عند ذلك وضمان الغصب يجب حالا على الغاصب لان وجوبه باعتبار
المالية ثم الغاصب يرجع على عاقله القاتل بألفي درهم مؤجلا في ثلاث سنين لان الغاصب
يملك بالضمان فيظهر ان القاتل جان على ملكه فلهذا يرجع على عاقلة القاتل بألفي درهم في
ثلاث سنين أو لان المالك لما ضمنه فقد أقامه مقام نفسه في الرجوع على عاقلة القاتل وهو
لو اختار الرجوع عليهم أخذ منهم ألفي درهم قيمتها وقت القتل في ثلاث سنين لان الواجب
باعتبار القتل بدل النفس فيكون على العاقلة مؤجلا فكذلك الغاصب يرجع عليهم بهذه
الصفة ثم يسلم له مما يقبض ألفا قدر ما ضمن ويتصدق بالألف الأخرى لأنه حصل له بكسب خبيث
وهو الغصب المتقدم ولأنه ربج حصل لا علي ملكه فيلزمه التصدق به كالربح الحاصل لا على
ضمانه فإن كانت قيمة الجارية يوم غصبها عشرة آلاف درهم ويوم قتلها القاتل كذلك فمولاها
بالخياران شاء ضمن الغاصب عشرة آلاف درهم في ماله حالة بسبب الغصب وان شاء ضمن
عاقله القاتل خمسة آلاف درهم الا عشرة دراهم في ثلاث سنين بسبب القتل لان الواجب
بهذا السبب بدل النفس وبدل نفس الأمة لا يزيد على خمسة آلاف كبدل نفس الحرة وينقص
للرق من ذلك عشرة دراهم وفى رواية خمسة فان ضمن الغاصب يرجع الغاصب علي عاقلة
القاتل بخمسة آلاف درهم الا عشرة دراهم اما لأنه قائم مقام المغصوب منه أو لأنه ظهر أن
جناية القاتل كانت علي ملكه فإن كانت الجارية هي التي قتلت رجلا خطأ أخذها مولاها
72

ودفعها أو فداها لأنها بعد الغصب باقية على ملك مولاها وموجب جناية المملوك أن يخير
مولاها بين الدفع والفداء وأي ذلك فعل رجع على الغاصب بالأقل من قيمتها ومن الفداء
لان ذلك أنما لزمه بسبب كان منها في يد الغاصب وجنايتها في ضمان الغاصب كجناية الغاصب
عليها ولان الرد لم يسلم حين استحقت من يد المولى بسبب كان عند الغاصب فكأنه لم يردها
فيرجع عليه بقيمتها إلا أن يكون الفداء أقل من القيمة فحينئذ يرجع بالأقل لأنه في التزام
الزيادة على الأقل مختار فإنه كان يتخلص باختيار الأقل فإن كانت ماتت عند الغاصب بعد
الجناية اخذ المولى قيمتها من الغاصب بسبب الغصب فيدفعها إلى أولياء الجناية لأنها كانت
مستحقة لهم بالجناية وقد فاتت واختلفت بدلا فيستحقون بدلها باستحقاقها وإذا دفع القيمة
إليهم رجع بها على الغاصب مرة أخرى لان المقبوض استحق من يده بسبب كان عند
الغاصب ولا استرداد القيمة كاسترداد العين ولو استردها ودفعها بالجناية رجع على الغاصب
بقيمتها فكذلك إذا استرد قيمتها ودفعها بالجناية (رجل) غصب دار رجل وسكنها
فان انهدمت من سكناه أو من عمله فهو ضامن لذلك لأنه متلف لما انهدم بفعله والاتلاف
يتحقق في العقار كما في المنقول وان انهدمت من غير عمله فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف الآخر رحمهما الله لأن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق عندهما في العقار
والحكم ينبنى علي السبب وأصل المسألة لان العقار لا يضمن بالغصب في القياس وهو قول
أبي حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهم الله وفى الاستحسان يضمن وهو قول أبى يوسف
الأول ومحمد والشافعي رحمهم الله. حجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من غصب شبرا
من أرض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم
لفظ الغصب على العقار وكذلك من حيث العرف يقال غصب دار فلان ومن حيث الحكم
دعوى الغصب في العقار تسمع حتى لا يندفع بإقامة ذي اليد البينة على أن يده يد أمانه
وإذا ثبت أن الغصب يتحقق فيها يترتب عليه حكمه والمعنى فيه. أما الشافعي رضي الله تعالى
عنه يقول العقار يملك بالاستيلاء يدا فيضمن بالغصب يدا كالمنقول * وبيان الوصف
ان الغزاة إذا فتحوا بلدة يملكون عقارهم وتأثيره ما بينا على أصله أن حد الغصب التعدي
باثبات اليد لنفسه على مال الغير بغير حق وذلك يتحقق في العقار والمنقول جميعا ومحمد
يقول العقار يضمن بالعقد الجائز والفاسد فيضمن بالغصب كالمنقول وتحقيقه هو أن
73

وجوب ضمان الغصب يعتمد تفويت يد المالك بالنقل ولكن فيما يتأتى ذلك فيه فأما فيما
لا يتأتى يقام غيره مقامه لاثبات الحكم وهو الاستيلاء بأقصى ما يمكنه بالسكنى واخراج
المالك عنه كما أن شرط صحة الدعوى والشهادة الإشارة إلى العين في المنقول الذي
يمكن احضاره ثم في العقار لم تعذر ذلك يقام ذكر الحدود مقامه وشرط تمام الهبة القبض
بعد القسمة فيما يتأتى فيه القسمة ثم فيما لا يحتمل القسمة تقام التخلية مقامه ولهذا سماه
استحسانا ولا معنى لقولكم ان فعله في المالك هنا يمنعه من أن يدخل ملكه فيسكن لان
ما هو المقصود بتفويت اليد وهو فوت منفعة الملك وثمراته عليه يحصل بهذا ويجوز إقامة
فعله في غير المضمون مقام فعله في المضمون في ايجاب الضمان كحافر البئر في الطريق فعله
في الأرض دون المار ثم يجعل ذلك قائما مقام فعله في المار الواقع في البئر في ايجاب الضمان
عليه فهذا مثله أو أقوى منه * وحجتنا في ذلك الحديث فان النبي صلى الله عليه وسلم بين
جزاء غاصب العقار الوعيد في الآخرة ولم يذكر الضمان في الدنيا فذلك دليل على أن
المذكور جميع جزائه ولو كان الضمان واجبا لكان الأولى أن يبين الضمان لان الحاجة إليه
أمس واطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل علي تحقق الغصب فيه موجبا للضمان لان في لسان
الشرع حقيقة ومجازا. ألا ترى أنه أطلق لفظ البيع على الحر بقوله من باع حرا وهذا
لا يدل على أن البيع الموجب لحكمه حقيقة يتصور في الحر. وكذلك في عرف اللسان حقيقة
ومجاز ألا ترى أنهم يطلقون لفظ السرقة على العقار كما يطلقون لفظ الغصب وقد ورد الشرع
بذلك أيضا ثم لا يتحقق في العقار السرقة الموجبة لحكمها على أنا نقول يتحقق أصل الغصب
في العقار ولكن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق لأنه مما لا ينقل ولا يحول. وبيان
هذا أن الضمان إنما يجب جبرانا للفائت من يد المالك ولا يتحقق تفويت اليد عليه بفعل في
المال بدون النقل والتحويل لان يد المالك متى كانت ثابتة على ماله في مكان تبقى ما يبقى المال
في ذلك المكان حكما إلا أن ينقله إلى غيره بمباشرة سببه ومن حيث الحقيقة الغاصب
وان سكن الدار فالمالك متمكن من أن يدخل فيسكن فان منعه فذلك فعل في المالك
لا في الملك وفعله في المالك لا يفوت يده عن المال فلا يكون سببا للضمان كما لو حبس
المالك حتى تلفت مواشيه ولهذا لا يضمن المنقول بالتخلي به قبل النقل فكذلك العقار
وإقامة الشئ الآخر مقام السبب الموجب للحكم طريق فيما يأذن الشرع فيه أن يوجبه
74

الحكم فأما الغصب لا يأذن الشرع فيه والحكم يمنع منه فكيف يثبت بإقامة غيره مقامه
حكما ولكن ان صادف الفعل محلا يتحقق فيه يثبت حكمه وان صادف محلا لا يتحقق
فيه لا يثبت الحكم كمن زنى برتقاء وأتى بما في وسعه من المعالجة لا يلزمه الحد وان قضى
شهوته لان ما هو حد فعل الزنا لا يتحقق في هذا المحل فلا يشتغل بإقامة غيره مقامه
ولا ينظر إلى تحصيل المقصود وبه فارق ضمان العقد لان ذلك يوجبه الحكم فيجوز
اثباته بطريق حكمي والعقد الفاسد معتبر بالجائز لان الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا في
معرفة حكمه فان الشرع لا يرد بالعقد الفاسد وكذلك ذكر الحدود في الدعوى والشهادة
يجوز أن تقوم مقام الإشارة في التعريف لان ذلك مما يوجبه الحكم ويأذن فيه الشرع
وكذلك القبض في باب الهبة فان الشرع يأذن فيه فيصار إلي ايجاده بطريق التمكن
ولو كان ما قال محمد رحمه الله تعالى من إقامة الفعل في المالك مقام الفعل في المال صحيحا
لكان الأولى أن يصار إليه في المنقول لان الحاجة إلى حفظ المنقول باليد أظهر منه إلى
حفظ العقار ولا يوجب الضمان علي الحافر بالطريق الذي قال بل بإقامة الشرط مقام السبب
لما تعذر تعليق الحكم بالسبب وهو نقله في نفسه ومسببه إذا كأن لا يعلم والحافر أوجد
شرط الوقوع بإزالة السكة. وإقامة الشرط مقام السبب عند تعذر تعليق الحكم بالسبب أصل
في الشرع والاتلاف بهذا الطريق يتحقق فأما هنا الفعل في المالك ليس بشرط ولا سبب
ولا يتحقق به تفويت اليد الثابتة حكما ألا ترى أن هناك مع أن الاتلاف يتحقق من
الحافر بالمباشرة بان يلقيه في البئر يقام الحفر مقامه وهنا فيما يتأتى الفعل حقيقة لا يقام الفعل
في المالك مقام الفعل في المال * ولا يدخل على هذا ما قاله في الزيادات إذا وهب لرجل
دارا بما فيما من الأمتعة فهلكت الأمتعة قبل أن ينقلها الموهوب له ثم استحقت فللمستحق
أن يضمن الموهوب له لان في جواب تلك المسألة نظرا فقيل هو مذهب محمد وقيل
لا يستقيم علي أصل محمد أيضا لأنه يوافقنا في المنقول انه لا يضمن قبل النقل وقد نص عليه
في السير الكبير (ثم) العذر ان الواهب نقل يده إلى الموهوب له ويد الواهب في الأمتعة
كانت مفوتة ليد المالك فانتقلت بصفتها إلى الموهوب له (فان قيل) أليس انه لو اشترى
منقولا وحلى بينه فهلك قبل النقل ثم جاء مستحق فليس له أن يضمن المشترى وهذا المعنى
موجود فيه (قلنا) لا كذلك فالبيع يوجب الملك واليد للمشترى فلا يجعل يده كيد
75

البائع فأما الهبة لا توجب التسليم إلي الموهوب له فيستقيم أن يجعل الواهب بالتسليم محولا يده
إلى الموهوب له وبهذا الطريق للمالك أن يضمن غاصب الغاصب أيضا لأنه حول إلى
نفسه يد الغاصب الأول وهي يد مفوتة ليد المالك فتحول إليه بصفته * وأشار في الكتاب
إلى حرف آخر فقال (لو دخل دار رجل بغير إذنه فسقط منها حائط لم يضمن ولو ركب
دابة فعطبت أو لبس ثوابا فاحترق كان ضامنا) ومعنى هذا أن العقار لو كان يضمن بالاستيلاء
لكان يضمن بأول أسبابه وهو الدخول كالمنقول ولكن عذر محمد عن هذا واضح لأن الضمان
إنما يجب باثبات اليد بطريق الاستيلاء وذلك بالدخول لا يحصل إنما يحصل بالسكنى ألا ترى ان
من ادعى دارا بالميراث فشهد الشهود ان أباه دخل هذه الدار فمات فيها لم يستحق بها شيئا
(ولو شهدوا انه مات وهو ساكن هذه الدار استحق القضاء له بها لأنهم يشهدون باليد
للأب عند الموت) بخلاف الثوب والدابة فبمجرد الركوب واللبس تثبت يده حتى لو شهدوا
ان أباه مات وهو لا بس هذا الثوب أو راكب هذه الدابة استحق القضاء له بها وهذا لان
الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب فظهر ان الاعتماد على الفصل الأول فإن كان
الغاصب للدار باعها وسلمها ثم أقر بذلك وليس لرب الدار بينة فاقراره في حق المشترى باطل
لان المشترى صار مالكا بالشراء من حيث الظاهر فلا يقبل قول البائع بعد ذلك في ابطال
ملكه ثم لا ضمان على الغاصب للمالك في قول أبي حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهما الله لأنه
مقر على نفسه بالغصب فان البيع والتسليم غصب والغصب الموجب للضمان عندهما لا يتحقق
في العقار. وقد ذكر في كتاب الرجوع من الشهادات انهم إذا شهدوا بدار لإنسان وقضى
القاضي ثم رجعوا ضمنوا قيمتها للمشهود عليه فقيل ذلك قول محمد رحمه الله لان تسليطهما
الغير على الدار بالشهادة كتسليط الغاصب على الدار بالبيع والتسليم إليه وقيل بل هو قولهم
جميعا والفرق بين الفصلين لهما أن هناك اتلاف الملك على المشهود عليه قد حصل بشهادتهما
حتى لو أقام البينة علي الملك لنفسه لا تقبل بينته والعقار يضمن بالاتلاف وهنا اتلاف الملك
لم يحصل بالبيع والتسليم بل يعجز المالك عن اثبات ملكه بالبينة. ألا ترى أنه لو أقام البينة
علي انها ملكه قضي له بها فلهذا لا يكون الغاصب ضامنا ولكن يدخل على هذا جحود
الوديعة فان العقار يضمن بالجحود في الوديعة وليس فيه اتلاف الملك حتى لو أقام المالك
البينة قضى له بها والأصح أن يقول جحود الوديعة بمنزلة الغصب فلا يكون موجبا للضمان
76

في العقار في قول أبي حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهما الله (رجل) غصب عبدا أو دابة
فأجره وأصاب من غلته فالغلة للغاصب لان وجوبها بعقده وقد بيناه في كتاب اللقطة
ولان المنافع لا تتقوم الا بالعقد والعاقد هو الغاصب فإذا هو الذي جعل منافع العبد بعقده
مالا فكان بدله له. وفى الأصل قال قلت ولم لا يكون لصاحب العبد قال لأنه كان في ضمان
غيره وكأنه أشار بهذا التعليل إلي قوله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان فحين كان
في ضمان الغاصب فهو الذي التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الاجر له دون المالك
ويؤمر أن يتصدق بها لأنها حصلت له بكسب خبيث فان مات العبد فالغاصب ضامن
بقيمته وله أن يستعين بتلك الغلة في ضمان القيمة لأنها ملكه وما فضل بعد ذلك تصدق
به اعتبار للجزء بالكل (فان قيل) القيمة دين في ذمته ومن قضى بمال الصدقة دينه فعليه أن
يتصدق بمثله (قلنا) نعم ولكن التصدق بهذا لم يكن حتما عليه. ألا ترى أنه لو سلم الغلة إلى
المالك مع العبد كان للمالك أن يتناول ذلك وليس علي الغاصب شئ آخر فهو بما صنع
يصير مسلما إلى المالك ثم يصير المالك مبرئا له عن ذلك القدر من القيمة بما يقبضه فيزول
الخبث بهذا الطريق فلا يلزمه التصدق بعوضه. وإن كان الغاصب باع الدابة وأخذ ثمنها
فاستهلكه وماتت الدابة عند المشترى فضمن رب الدابة المشتري قيمتها رجع المشترى
على الغاصب بالثمن لبطلان البيع باسترداد القيمة منه ثم لا يستعين الغاصب بالغلة في أداء
الثمن لان الخبث في الغلة ما كان بحق المشترى فلا يزول بالوصول إلي يده بخلاف الأول
فان الخبث لحق المالك فيزول بوصول الغلة إلى يده (قال) إلا أن يكون عند الغاصب ما يؤدى
به الثمن فلا بأس حينئذ أن يؤدى من الغلة لأنه محتاج إلى تفريغ ذمته وتخليص نفسه عن
الحبس وحاجته تقدم على حق الفقراء فإذا أصاب بعد ذلك مالا تصدق بمثله إن كان استهلك
الثمن يوم استهلكه وهو غنى عنه وإن كان محتاجا يوم استهلك الثمن لم يكن عليه أن يتصدق
بشئ من ذلك لان وجوب الضمان عليه باعتبار استهلا كه الثمن ولو استهلك الغلة مكان
الثمن فإن كان محتاجا فليس عليه أن يتصدق بشئ منه وإن كان غنيا فعليه ان يتصدق بمثله
فكذلك في استهلاك الثمن وإنما قنا ذلك لان حق الفقراء في هذا المال بمنزلة حقهم في اللقطة
على معنى أن له أن يتصدق وله ان يردها على المالك ان شاء (ثم) الملتقط إذا كان محتاجا فله
ان يصرف اللقطة إلى حاجة نفسه بخلاف ما إذا كان غنيا فكذلك حكم هذا الغلة وليس على
77

الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر * وعلل فقال (لأنه كان ضامنا) ومعنى هذا ان
ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه ولهذا تختلف
قيمة العين باختلاف منفعته فإذا اعتبرت المنفعة لا يجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها
لايجاب ضمانها مقصودا والمنفعة كالكسب وقد بينا في الكسب ان الخراج بالضمان
فكذلك في المنفعة ولكن هذا التعليل يتقاعد في الدار فان الساكن غير ضامن للدار عند
أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله. والأصح بناء هذه المسألة على الأصل المتقدم فان
المنافع زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا وقد بينا أن زوائد المغصوب لا يكون مضمونا على
الغاصب عندنا ويكون مضمونا له عند الشافعي رضي الله عنه فكذلك المنفعة ولان الغصب
الموجب للضمان عنده يحصل باثبات اليد واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين وعندنا
لا تتحقق الا بيد مفوتة ليد المالك وذلك لا يتحقق في المنافع لأنها لا تبقى وقتين فلا يتصور
كونها في يد المالك ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يده مفوتة ليد المالك فلهذا
لا يضمن المنافع بالغصب عندنا * فأما الاتلاف فيقول عندنا المنافع لا تضمن بالاتلاف بغير
عقد ولا شبهة عقد وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تضمن ومنفعة الحر في ذلك سواء
حتى لو استسخر حرا واستعمله عنده يضمن اجر مثله وعندنا يأثم ويؤدب على ما صنع
ولكنه لا يضمن شيئا * وجه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المنفعة مال متقوم فيضمن
بالاتلاف كالعين وبيان الوصف ان المال اسم لما هو مخلوق لا قامة مصالحنا به مما هو عندنا
والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة وإنما تعرف مالية الشئ بالتمول والناس يعتادون تمول
المنفعة بالتجارة فيها فان أعظم الناس تجارة الباعة ورأس مالهم المنفعة وقد يستأجر المرء جملة
ويؤجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشترى جملة ويبيع متفرقا وولى الصبي يستأجر له بماله فيصح
منه وبهذا تبين ان المنافع في المالية مثل الأعيان والمنفعة تصلح أن تكون صداقا وشرط
صحة التسمية أن يكون المسمى مالا وهكذا يقوله في منافع الحر انه مال يضمن بالاتلاف
إلا أنه إذ حبس حرا لا يضمن منافعه لأنه لم يوجد من الحابس اتلاف منافعه ولا اثبات
يده عليه بل منافع المحبوس في يده كثياب بدنه وكما لا يضمن ثياب بدنه بالحبس فكذلك
منافعه ولئن لم تكن المنفعة مالا فهي متقومة لأنها تقوم الأعيان فيستحيل أن لا تكون
متقومة بنفسها ولأنها تملك بالعقد ويضمن به صحيحا كان العقد أو فاسدا وإنما يملك بالعقد
78

ما هو متقوم فيضمن بالاتلاف وإن لم يكن مالا كالنفوس والابضاع وبفضل العقد الفاسد
يتبين المماثلة بين العين والمنفعة في المالية لأن الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعا كما
بالاتلاف وهذا بخلاف رائحة المسك فان من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئا لان الرائحة
ليست بمنفعة ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب ولهذا لا يملك بعقد الإجارة حتى
لو استأجر مسكا ليشمه لا يجوز ولا يضمن بالعقد أيضا صحيحا كان أو فاسدا. وحجتنا في
ذلك حديث عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما حكما في ولد المغرور أنه حر بالقيمة وأوجبا على
المغرور رد الجارية مع عقرها ولم يوجبا قيمة الخدمة مع علمهما ان المغرور كان يستخدمها ومع
طلب المدعى بجميع حقه فلو كان ذلك واجبا له لما حل لهما السكوت عن بيانه وبيان العقر
منهما لا يكون بيانا لقيمة الخذمة لان المستوفى بالوطئ في حكم جزء من العين ولهذا يتقوم
عند الشبهة بخلاف المنفعة والمعنى فيه أن المنفعة ليست بمال متقوم فلا تضمن بالاتلاف
كالخمر والميتة. وبيانه أن صفة المالية للشئ إنما تثبت بالتمول والتمول صيانة الشئ وادخاره
لوقت الحاجة والمنافع لا تبقى قويين ولكنها اعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود
تتلاشى فلا يتصور فيها التمول ولهذا لا يتقوم في حق الغرماء والورثة حتى أن المريض إذا
أعان انسانا بيديه أو أعاره شيئا فانتفع به لا يعتبر خروج تلك المنفعة من الثلث وهذا لان
المتقوم لا يسبق الوجود فان المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشئ وبعد الوجود
التقوم لا يسبق الاحراز والاحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقي وقتين فكيف يكون
متقوما وعلي هذا نقول الاتلاف لا يتصور في المنفعة أيضا لان فعل الاتلاف لا يحل المعدوم
وبعد الوجود لا يبقي لحله فعل الاتلاف واثبات الحكم بدون تحقق السبب لا يجوز فأما بالعقد
يثبت للمنفعة حكم الاحراز والتقوم شرعا بخلاف القياس وكان ذلك باعتبار إقامة العين المنتفع
به مقام المنفعة لأجل الضرورة والحاجة ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة
معتبرة وباعتبارها ينعدم التقوم والاتلاف وفى الصداق واستئجار الولي إنما يظهر حكم
الاحراز والتقوم بالعقد للحاجة والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة
التمول والاحراز وكما تتفاوت قيمة العين بتفاوت المنفعة تتفاوت قيمة الطيب بتفاوت الرائحة
ولم يدل ذلك على كونه مالا متقوما ولئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم فهو دون الأعيان في
المالية وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة والدين لا يضمن
(6 مبسوط حادي عشر)
79

بالعين لأنه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين * وبيان هذا الكلام ان المنفعة عرض يقوم
بالعين والعين جوهر يقوم به العرض ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما والمنافع لا تبقى وقتين
والعين تبقى أوقاتا وبين ما يبقي ومالا يبقى تفاوت عظيم والعين لا تضمن بالمنفعة قط ومن
ضرورة كون الشئ مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له أيضا والمنفعة لا تضمن بالمنفعة
عند الاتلاف حتى أن الحجر في خان واحد علي تقطيع واحد لا تكون منفعة إحداهما
مثلا للمنفعة الأخرى عند الاتلاف. والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين
والمنفعة وبهذا فارق ضمان العقد فإنه غير مبنى على المماثلة باعتبار الأصل بل على المراضاة
وكيف ينبنى على المماثلة والمقصود بالعقد طلب الربح (ثم) ضمان العقد مشروع وفى المشروع
يعتبر الوسع والامكان ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا فيسقط
اعتبار التفاوت الذي ليس في وسعنا الاحتراز عنه في ضمان العقد. فأما الاتلاف فمحظور
غير مشروع وضمانه مقدر بالمثل بالنص فلا يجوز ايجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب
الاتلاف (فان قيل) يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن اتلاف منافع أموال
الناس ولان المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت ومراعاة جانب المظلوم
أولى من مراعاة جانب الظالم من أن هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق
المتلف عن الصفة ولو اعتبرناه أسقطنا حق المتلف عليه عن أصل المالية وإذا لم يكن بد من
اهدار أحدهما فاهدار الصفة أولى من اهدار الأصل (قلنا) قد أوجبنا للزجر التعزير
والحبس فأما وجوب الضمان للجبران فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه والظالم لا يظلم
بل ينتصف منه مع قيام حرمة ماله ولو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلما مضافا
إلى الشرع لان الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز وإذا لم يوجب الضمان لتعذر ايجاب المثل
كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم مع أن حق
المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة. ولو أوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرا في حق
المتلف فيبطل حقه عنه أصلا فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان
بدون اعتبار المماثلة أعدل من هذا الوجه * قال (أقام رب الدابة البينة انها نفقت عند
الغاصب من ركوبه وأقام الغاصب البينة أنه قد ردها إليه وماتت في يده فعلى الغاصب
القيمة) لان رب الدابة يثبت على الغاصب سبب وجوب القيمة والغاصب ينفى ذلك لان
80

موت الدابة في يد مالكها لا يوجب الضمان على أحد والبينات للاثبات دون النفي (فان
قيل) سبب وجوب الضمان على الغاصب ظاهر فهو يثبت ببينته ما يبرئه عن الضمان وهو
لرد فكانت بينته أولى بالقبول (قلنا) نعم ولكن ثبوت الرد لا يمنع قبول بينة المالك
على هلاكها من ركوب الغاصب لجواز أن يكون ركبها بعد الرد فماتت من ركوبه فلهذا
جعلنا بينته أولى بالقبول وكذلك لو شهد شهود صاحبها أن الغاصب قتلها أو أنه هدم الدار
وشهود الغاصب أنه ردها إليه علي حالها لان القتل بعد الرد يتحقق من الغاصب وكذلك
لو هدم الدار بعد الرد يتحقق منه فيجب قبول بينة صاحبها في اثبات سبب متجدد للضمان
على الغاصب لان الغاصب بينته تنفى ذلك السبب. فأما إذا أقام صاحبها البينة أنها ماتت
في يد الغاصب وأقام الغاصب البينة انه ردها فماتت في يد صاحبها فعلى قول أبي حنيفة تقبل
بينة صاحبها كما في الفصول المتقدمة لأن الغصب بعد الرد يتحقق فصاحبها ببينته يثبت
سبب ضمان متجدد وهو غصبه إياها عند الموت فيقضي له بالضمان لهذا وعند محمد رحمه
الله البينة بينة الغاصب هنا لما فيها من اثبات الرد وسقوط الضمان عنه به ثم ليس في بينة
صاحبها هنا اثبات سبب متجدد والظاهر أنهم إنما شهدوا بذلك لأنه خفى عليهم الرد وقد
علموا الغصب فاستصحبوا ذلك وشهدوا أنها ماتت في يد الغاصب وشهود الغاصب علموا
الرد وقد علموا الغصب فشهدوا به بخلاف ما سبق فان القتل والهدم والاتلاف من الركوب
سبب متجدد لا يشهدون عليه ما لم يعاينوه باعتبار علمهم بالغصب السابق (وإذا وهب
الغاصب الثوب المغصوب لرجل فلبسه حتى تخرق أو كان طعاما فأكله ثم جاء المغصوب
منه وضمن الموهوب له فليس له أن يرجع بالضمان على الواهب عندنا) وقال الشافعي
رحمه الله له ذلك لأنه صار مغرورا من جهته حين أوجب الملك له بالعقد وأخبره أنه يهب
ملك نفسه وانه لا يلحقه فيه ضمان من جهة أحد والمغرور يرجع على الغار بما يحلقه من الضمان
دفعا للضرر عنه ولكنا نقول الموهوب له في القبض والأكل عامل لنفسه ومن عمل لنفسه
فلحقه ضمان بسببه لا يرجع به علي أحد. فأما المغرور قنا مجرد الغرور بالخبر لا يثبت له حق
الرجوع كمن أخبر انسانا أن هذا الطريق أمن فسلكه فأخذ اللصوص ماله أو أخبره أن
هذا الطعام طيب وكان مسموما فتناوله فتلف * وإنما الغرور في عقد الضمان هو المثبت للرجوع
لمعنيين (أحدهما) أن بعقد الضمان يستحق صفة السلامة عن الغيب ولا عيب فوق
81

الاستحقاق فبفوات ما هو مستحق له ثبت له حق الرجوع فأما بعقد التبرع لا يستحق
الموهوب له صفة السلامة ولهذا لو وجد الموهوب معيبا لا يرده بالعيب فلا يرجع بسبب
الغرور أيضا (والثاني) وهو ان القابض بحكم عقد الضمان عامل للمالك من وجه فإنه يتقرر
به حقه في العوض وهو الثمن فإذا لحقه ضمان بسببه رجع به عليه فأما الموهوب له في
القبض عامل لنفسه من كل وجه لان الواهب لم يشترط لنفسه شيئا ليتأكد ذلك بقبضه
وعلي هذا لو وهب له جارية فاستولدها ثم جاء مستحق واستحقها وأخذها وعقرها
وقيمة ولدها لم يرجع الموهوب له علي الواهب بشئ بخلاف ما لو كان اشتراها فان هناك يرجع
بقيمة الولد لأنه ضمن له سلامة الولد بعقد الضمان فإذا لم يسلم له رجع عليه بما لحقه ولا يرجع
بالعقر عندنا. وعلى قول الشافعي رحمه الله يرجع بالعقر أيضا لان البائع قد ضمن له سلامة
الوطئ أيضا ولكنا نقول وجب العقر بما استوفى منها وهو الذي نال تلك اللذة فلا يرجع
بما لحقه بسببه على أحد * وعلى هذا لو أن غاصب الدابة أجرها فعطبت عند المستأجر ثم ضمنه
المغصوب منه قيمتها رجع بها علي الآخر ليتحقق الغرور بمباشرة عقد الضمان ولان المستأجر
في قبضها عامل للآخر من وجه فإنه يتقرر به حقه في الاجر فأما المستعير إذا ضمن قيمة الدابة
لصاحبها لم يرجع علي أحد بالاتفاق عندنا لانعدام عقد الضمان كما بينا في الهبة وعند الشافعي
رحمه الله لان المستعير ضامن للعين في حق المعير فلهذا لا يرجع عليه بما يلحقه من الضمان * وإذا
اختلف رب الثوب والغاصب في قيمته وقد استهلكه الغصب فالبينة بينه رب الثوب لما
فيها من اثبات الزيادة والقول قول الغاصب مع يمينه إذا لم يكن لرب الثوب بينة لانكاره
الزيادة وان أقام الغاصب بينة ان قيمة ثوبه كان كذا لم يلتفت إلي بينته ولا يسقط اليمين بها
عنه لان هذا القدر من القيمة ثابت باتفاقهما وإنما يدعى رب الثوب الزيادة على ذلك والشهود
لم يتعرضوا لتلك الشهادة أو نفوا تلك الزيادة والشهادة على النفي لا تكون مقبولة فلهذا
كان لرب الثوب ان يحلف الغاصب على دعواه * وفي الأصل يقول رب الثوب هو المدعى
والغاصب هو المدعى عليه والشرع جعل البينة في جانب المدعى فقال البينة على المدعي
وبالألف واللام يظهر ان جنس البينة في جانب المدعي وجعل اليمين في جانب المدعى
عليه والبينة لا تصلح بدلا عن اليمين فلا يسقط عنه اليمين بما أقام من البينة فان شهد
رب الثوب شاهد أن قيمة ثوبه كذا وشهد آخر علي اقرار الغاصب بذلك لم تجز شهادتهما
82

بذلك لأنهما اختلفا فشهد أحدهما بالقول والآخر بالفعل ولا يثبت واحد منهما الا
بشهادة شاهدين وإن لم يكن لواحد منهما البينة فأردت أن تلحف الغاصب علي ذلك
فقال أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف عليه فليس له ذلك لان الشرع جعل
اليمين على المدعى عليه وما كان مستحقا على المرء شرعا فليس له ان يحوله إلى غيره
(قال) ولا أدر اليمين ولا أحولها عن موضعها الذي وضعها فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومعنى هذا ان اليمين شرعا في جانب المدعي عليه اما للنفي أولا بقاء ما كان على ما كان وهو
براءة ذمته فإذا حولت إلى جانب المدعى لم يعمل الا بهذا المقدار لان عمل الشئ في محله
أقوى منه في غير محله وبهذا القدر لا يستحق المدعى شيئا بل حاجته إلى اثبات ما ليس
بثابت له واليمين لا تصلح لهذا. وكذلك أن رضى رب الثوب بذلك وقال أنا أحلف
فتراضيهما علي ما يخالف حكم الشرع يكون لغوا فإذا جاء الغاصب بثوب زطي فقال هذا الذي
غصبتكه وقال رب الثوب كذبت بل هو ثوب هروي أو مروى كان القول قول الغاصب
مع يمينه لان الاختلاف منهما في تعيين المقبوض والقول فيه قول القابض أمينا كان أو
ضامنا لأنه لو أنكر القبض أصلا كان القول قوله. ثم ذكر صفة يمينه وقال (يحلف بالله ان
هذا ثوبه الذي غصبه إياه وما غصبه هرويا ولا مرويا) لان في تعيين المقبوض القول قوله
ومن جعل القول قوله شرعا فإنه يحلف على ما يقول كالمودع في رد الوديعة أو هلاكها
والمدعى يدعى عليه أنه غصبه هرويا أو مرويا وهو منكر لذلك فالقول قوله مع اليمين فلهذا
جمع في اليمين بين الامرين فإذا حلف قضيت لصاحب الثوب بالثوب وأبرأت الغاصب من
دعوى رب الثوب وان نكل عن اليمين يقضى عليه بما ادعاه المدعى لان نكوله كاقراره
وعند النكول لا يقضي له بهذا الثوب لأنه لا يدعى ثوبين إنما يدعى ثوبا هرويا وقد استحقه
فأما إذا حلف فهو ما استحق ثوبا سوى هذا وقد كان يدعى أصل الثوب بصفته ولم يثبت
له تلك الصفة بنفي دعواه أصل الثوب فيقضى له بهذا الثوب باعتبار دعواه فإن شاء أخذه وان
شاء تركه. فان جاء بثوب هروي خلق وقال هذا الذي غصبتكه وهو على حاله وقال رب
الثوب بل كان ثوبي جديدا حين غصبته فالقول قول الغاصب مع يمينه لانكاره قبض الثوب
حين كان جديدا ولان الظاهر شاهد له فان صفة الثوب في الحال معلوم وعند الغصب
مختلف فيه فيرد المختلف فيه إلى ما هو المعلوم في نفسه ولان الغصب حادث فيحال بحدوثه
83

إلى أقرب الأوقات. فان أقاما البينة فالبينة بينة رب الثوب انه غصبه جديدا لاثباته سبق
التاريخ في غصبه وضمان النقصان عليه باعتبار فوات الصفة عنده وإن لم يقم لواحد منهما بينة
وحلف الغاصب وأخذ رب الثوب ثم أقام البينة أنه غصبه إياه جديدا ضمن الغاصب فضل
ما بينهما لان الثابت ببينة كالثابت باقرار الخصم ويمين الغاصب لا يمنع قبول بينة رب الثوب
بعد ذلك هكذا نقل عن عمر رضى الله تعالى عنه قال اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة
العادلة ولان القاضي ما قضى بان المغصوب كان خلقا وقت الغصب ولكنه امتنع عن القضاء
بأنه كان جديدا عند ذلك لعدم الحجة فإذا قامت الحجة فعليه أن يقضى بها. فإن كان غصبه ثوبا فصبغه
أحمر أو أصفر فصاحب الثوب بالخيار ان شاء ضمن الغاصب قيمة الثوب أبيض وكان
الثوب لغاصب وان شاء أخذ الثوب وضمن للغاصب ما زاد الصبغ فيه لان الصبغ مال
متقوم وهو قائم في الثوب وقد بينا ان بغصبه لا يسقط حرمة ماله فاصل الثوب لصاحب
الثوب والصبغ للغاصب وقد تعذر تمييز أحدهما عن الآخر وتعذر اتصال منفعة ملك كل
واحد منهما علي الانفراد إليه الا ان صاحب الثوب صاحب الأصل والغاصب صاحب
الوصف فاثبات الخيار لصاحب الأصل أولى لان الأصل قائم بنفسه وقيام الوصف بالأصل
فإن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض لأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ملكه بدون غرم يلزمه وله
أن لا يلتزم الغرم فيضمنه قيمة الثوب أبيض كما غصبه ويصير الثوب للغاصب بالضمان وان
شاء ضمن له ما زاد الصبغ فيه فيتوصل الغاصب إلى مالية حقه ويتملك صاحب الثوب عليه
هذا الصبغ بما يؤدى من الضمان والغاصب راض بذلك حين جعل ملكه وصفا لملك الغير
وان شاء رب الثوب باع الثوب فيضرب في ثمنه بقيمته أبيض ويضرب الغاصب بما زاد
الصبغ فيه لان لصاحب الثوب أن لا يملك ثوبه منه بقيمته وأن لا يغرم له قيمة الصبغ وعند
امتناعه منهما لا طريق لتمييز حق أحدهما عن الآخر الا بالبيع وهو نظير ما لو هبت الريح
بثوب انسان فألقته في صبغ غيره فالصبغ الا ان هناك لا ضمان على صاحب الصبغ لانعدام
الصبغ منه وفيما وراء ذلك هما سواء ولم يذكر في الكتاب انه إذا كان هذا الصبغ نقصانا
في هذا الثوب وقد يكون لون الحمرة والصفرة نقصانا في بعض الثياب * وذكر هشام
عن محمد رحمهما الله قال لو غصب ثوبا يساوى ثلاثين درهما فصبغه بعصفر وتراجع قيمته
إلى عشرين درهما فإنه ينظر إلى قيمة الصبغ في ثوب يزيد به فإن كان خمسة دراهم
84

فلصاحب الثوب أن يأخذ ثوبه ويأخذ خمسة دراهم من الغاصب أيضا لأنه استوجب
عليه عشرة دراهم نقصان قيمة وثوبه واستوجب الصباغ عليه قيمة الصبغ خمسة والخمسة
دراهم بالخمسة قصاص ويرجع عليه بما بقي من النقصان وهو خمسة * فإن كان الغصب جارية
صغيرة فرباها حتى أدركت وكبرت ثم أخذها رب الجارية لم يضمن للغاصب ما زاد في
الجارية لان الزيادة من عينها وهي مملوكة للمغصوب منه بخلاف ما بينا من الصبغ في
الثوب فهو زيادة من مال الغاصب لامن العين المغصوبة ولا يرجع بما أنفق علي المغصوب
منه لأنه متبرع في الانفاق بغير أمره ولأنه استخدمها بما أنفق ولأنه انتفع بهذا الانفاق
لأنه تمكن بها من الرد واسقاط الضمان عن نفسه * وإذا غصب سويقا فلته بسمن فصاحبه
بالخيار ان شاء ضمنه قيمة سويقه وان شاء أخذ سويقه وضمن للغاصب ما زاد السمن فيه
لان السمن في السويق زيادة وصف من مال الغاصب كالصبغ في الثوب * وكذلك الدهن
إذا خلط به مسكه وهذا إذا كان دهنا يطيب بالمسك فإن كان دهنا منتنا كدهن البرز
ونحوه أخذه صاحبه ولم يضمن للغاصب شيئا لان المسك صار مستهلكا فيه * وإذا غصب
ثوبا فصبغه اسود فلصاحب الثوب أن يأخذه ولا يعطيه شيئا في قول أبي حنيفة رحمه الله
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله السواد كالحمرة والصفرة ولا اختلاف في الحقيقة ولكن أبو
حنيفة أجاب على ما شاهد في عصره من عادة بنى أمية وقد كانوا ممتنعين من لبس السواد وهما
أجابا علي ما شاهدا في عصرهما من عادة بنى العباس رضي الله عنه بلبس السواد وقد كان
أبو يوسف يقول أولا بقول أبي حنيفة فلما قلد القضاء وأمر بلبس السواد واحتاج إلى التزام
مؤنة في ذلك رجع وقال السواد زيادة. وقيل السواد يزيد في قيمة بعض الثياب وينقص من
قيمة بعض الثياب كالغصب ونحوه * فإن كان المغصوب ثوبا ينقص بالسواد من قيمته فالجواب
ما قاله أبو حنيفة وإن كان ثوبا يزيد السواد في قيمة فالجواب ما قالا إنه بمنزلة الحمرة والصفرة
وان غصبه ثوبا فقطعه قميصا ولم يخطه فهو بالخيار ان شاء ضمن قيمته وان شاء أخذ الثوب
وضمنه ما نقصه القطع لان القطع نقصان فاحش في الثوب فإنه قبل القطع كان يصلح لاتخاذ
القباء والقميص وبعد ما قطع قميصا لا يصلح لاتخاذ القباء منه على الوجه الذي كان يصلح
قبل القطع فكان مستهلكا من وجه قائما من وجه فإن شاء مال صاحبه إلى جانب الاستهلاك
وضمنه قيمته وان شاء مال إلى جانب البقاء وأخذ عين الثوب وضمنه نقصان القطع لان
85

الثوب ليس بمال الربا وتضمين النقصان في مثله مع أخذ العين جائز شرعا وكذلك إذا
نقصه الصبغ الأسود فله أن يأخذه ويضمنه ما نقصه لان الصبغ الأسود في مثله نقصان
فاحش وهو كالاستهلاك من وجه لان قبله كان متمكنا من احداث أي لون شاء فيه وقد
خرج من أن يكون صالحا لذلك والصبغ الأسود من الثوب لا يمكن قلعه عادة وبه يفرق
أبو حنيفة بينه وبين سائر الألوان * ولو اعتصب ثوبا فخرقه فإن كان خرقا صغيرا ضمن
الغاصب النقصان فقط وأخذ صاحب الثوب ثوبه لأن العين قائم من كل وجه فبهذا
القدر من الخرق لا يخرج من أن يكون صالحا لما كان صالحا قبله وإنما يتمكن في قيمته
نقصان فيضمن ذلك النقصان وإن كان الخرق كبيرا وقد أفسد الثوب فصاحبه بالخياران
شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه لأنه مستهلك من كل وجه فإنه لا يصلح بعد هذا الخرق لجميع
ما كان صالحا قبله له وان شاء أخذ الثوب لكونه قائما حقيقة وضمنه ما نقصه فعل الغاصب
(وأما) الدابة إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلصاحبها أن يضمن الغاصب قيمتها بخلاف
ما لو كان المغصوب عبدا أو جارية فيقطع منه يدا أو رجلا فهناك يأخذه مع أرش المقطوع
لان الآدمي بقطع طرف منه لا يصير مستهلكا لبقائه صالحه لعامة ما كان صالحا له من قبل
والدابة تصير مستهلكة بقطع طرف منها فإنه لا ينتفع بها بما هو المقصود من الحمل والركوب
بعد هذا القطع فلهذا كان لصاحبها أن يتركها للغاصب ويضمنه قيمتها. وكذلك لو كانت بقرة
أو جزورا فقطع يدها أو رجلها أو كانت شاة فذبحها لان الذبح استهلاك من وجه فإنه يفوت
به بعض ما كان مقصودا من النسل واللبن فلصاحبها أن يضمنه قيمتها ان شاء وان شاء أخذ
المذبوح مسلوخا كان أو غير مسلوخ وضمن الغاصب النقصان في ظاهر الرواية. وفي رواية
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لا يضمنه شيئا لان الذبح والسلخ في الشاة زيادة ولهذا
يلتزم بمقابلته العوض ولكن ما ذكره في ظاهر الرواية أصح لأنه زيادة من حيث التقرب
إلي الانتفاع باللحم ولكنه نقصان بتفويت سائر الأغراض من الحيوان ولأجله يثبت الخيار
فكان هذا والقطع في الثوب سواء يضمنه النقصان ان شاء (وإذا) طحن الغاصب الحنطة
فعليه مثلها والدقيق له عندنا. وسوى هذا عن أبي يوسف روايتان (إحداهما) ان حق المغصوب
منه لا ينقطع عن الدقيق لا على معنى انه يتمكن من أخذه ولكن يباع فيشترى له به حنطة
مثل حنطته وان مات الغاصب فالمغصوب منه أحق به من سائر الغرماء لأنه زال ملكه
86

ويده بسبب لم يرض به ولو زال ملكه بسبب هو راض به كالبيع لا ينقطع حقه وإذا أزيلت
يده بغير رضاه بان قبض المشترى المبيع بغير إذن البائع فهنا أولى أن لا ينقطع حقه (والرواية
الأخرى) ان ملكه لا يزول بل له الخيار وان شاء ترك الدقيق وضمنه حنطة مثل حنطته
وان شاء أخذ الدقيق ولم يضمنه شيئا * قال أستحسن ذلك وأخالف فيه أبا حنيفة لأنه
استقبح أن يأتي مفلس إلى كر حنطة انسان فيطحنه ثم يهب الدقيق لابنه الصغير فلا
يتوصل صاحب الحنطة إلى شئ فهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا الا ان عند الشافعي رحمه
الله يأخذ القيق ويضمنه النقصان إن كان لما بينا ان علي أصله تضمين النقصان مع أخذه
العين في أموال الربا جائز وعند أبي يوسف لا يجوز ذلك كما هو مذهبنا * ووجه هذا أن
الدقيق عين شبه فيكون له أن يأخذه كما قبل الطحن وهذا لان عمل الطحن في تفريق
الاجزاء لا لا حداث ما لم يكن موجودا وتفريق الاجزاء لا يبدل العين كالقطع في
الثوب والذبح والسلخ والتأريب في الشاة. والدليل عليه ان الدقيق جنس الحنطة ولهذا جرى
الربا بينهما ولا يجرى الربا الا باعتبار المجانسة * واستدل محمد رحمه الله في إملاء الكيسانيات
لأبي حنيفة رحمه الله بالحديث الذي رواه أبو حنيفة عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبي مرة
عن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في ضيافة رجل من الأنصار فقدم إليه شاة
مصلية فأخذه منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال صلى الله عليه وسلم انها ذبحت بغير حق
فقال الأنصاري كانت شاة أخي ولو كانت أعز منها لم ينفس علي بها وسأرضيه بما هو خير
منها إذا رجع قال صلى الله عليه وسلم أطعموها الأسارى قال محمد يعنى المحبسين فأمره
بالتصدق بها بيان منه أن الغاصب قد ملكها لان مال الغير يحفظ عليه عينه إذا أمكن وثمنه
بعد البيع إذا تعذر عليه حفظ عينه ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتصدق بها دل انه
ملكها والخلاف في الفصلين سواء قال محمد وهذا الحديث جعله أبو حنيفة رحمه الله أصلا
في أكثر مسائل الغصب والمعنى فيه أن هذا الدقيق غير الحنطة وهو إنما غصب الحنطة فلا
يلزمه رد الدقيق كمن أتلف حنطة لا يلزمه رد الدقيق. وبيان المغايرة انهما غير أن اسما وهيئة
وحكما ومقصودا. وكذلك يتعذر إعادة الدقيق إلي صفة الحنطة. و تحقيقه ان الموجودات من
المخلوقات تعرف بصورتها ومعناها فتبدل الهيئة والاسم دليل علي ان المغايرة صورة وتبدل
الحكم والمقصود دليل علي المغايرة معنى وإذا ثبتت المغايرة فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام
87

الأول لاستحالة أن يكون الشئ الواحد شيئين وإذا انعدم الأول بفعله صار ضامنا مثله وقد
ملكه بالضمان فيجعل هذا الدقيق حادثا من ملكه فيكون مملوكا له أو يجعل حادثا بفعله وفعله
سبب صالح لحكم الملك فيصير مضافا إليه ولكن بين الدقيق والحنطة شبهة المجانسة من
حيث الصورة وهو ان عمل الطحن صورة تفريق الاجزاء وباب الربا مبنى على الاحتياط
لبقاء شبهة المجانسة من هذا الوجه جرى حكم الربا بخلاف القطع في الثوب والذبح في الشاة
لان بالذبح لا يفوت اسم العين يقال شاة مذبوحة وشاة حية فبقيت مملوكة لصاحبها ثم بالسلخ
والتاريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح بل تحقق ذلك المقصود فلا يكون دليل
تبديل العين فلهذا كان لصاحبها أن يأخذها ثم على قول فر للغاصب أن يأكل هذا الدقيق
وينتفع به قبل أن يؤدي الضمان وهو القياس لان ملكه حادث بكسبه. وفى الاستحسان
وهو قولنا ليس له أن ينتفع بما ما لم يؤد الضمان بالتراضي أو بقضاء القاضي أو يقضى عليه
بالضمان لما بينا ان من حيث الصورة هذه أجزاء ملك المغصوب منه وهذه الصورة معتبر فيما
بنى على الاحتياط والأكل مبنى علي ذلك فإنما يتم تحول حق المغصوب منه إلى الضمان بالاستيفاء
أو بالقضاء فلهذا لا ينتفع به الا بعده (وإذا) استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا عندنا
وعند الشافعي رحمه الله تعالى يضمن قيمته من جنسه بناء على أصله ان للجودة والصفة في
الأموال الربوية قيمة وعندنا لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها فلو أوجبنا مثل قيمتها من
جنسها أدى إلي الربا ولو أوجبنا مثل وزنها كان فيه ابطال حق المغصوب منه عن الجودة
والصفة فلمراعاة حقه والتحرز عن الربا قلنا يضمن القيمة من الذهب مصوغا. وان وجده
صاحبه مكسورا فرضى به لم يكن له فضل ما بين المكسور والصحيح لأنه عاد إليه عين
ماله فبقيت الصفة منفردة عن الأصل ولا قيمة لها في الأموال الربوية ولأنه لو أخذ للصفة
عوضا كان هذا في معنى مبادلة العشرة بأحد عشر وذلك لا يجوز في الأموال الربوية وله
أن يضمن الغاصب قيمته مصوغا من الذهب ويسلمه إليه سواء كان النقصان بالكسر يسيرا
أو فاحشا لأنه لا يتوصل إلى دفع الضرر عن نفسه وابقاء حقه في الصفة الا بذلك. وكذلك
كل اناء مصوغ كسره رجل فإن كان من فضة فعليه قيمته مصوغا من الذهب وإن كان
من ذهب فعليه قيمته مصوغا من الفضة للتحرز عن الربا مع مراعاة حق المغصوب منه في
الصفة فان كسر درهما أو دينارا فعليه مثله لأنه غيره بصنعه ولا يتم دفع الضرر عن صاحبه
88

الا بايجاب المئل والمكسور للكاسر إذا ضمن مثله وان شاء صاحبه أخذه ولم يرجع عليه
بشئ ويستوى ان كانت مالية انتقصت بالكسر أو لم تنتقص لان صفة العين بغير فعله
وذلك كاف لاثبات الخيار له الا فيما يكون زيادة فيه على ما تبين (وإذا) ادعى دارا أو ثوبا أو عبدا
في يد رجل وأقام البينة انه له وقال الذي هو في يديه هو عندي وديعة فهو خصم لظهور
العين في يده ولم يثبت بقوله ان يده يد غيره (وان) أقام البينة ان فلانا استودعها إياه أو
أعارها أو أجرها أو رهنها منه لم يكن بينهما خصومة لأنه أثبت ببينته أن يده يد حفظ وهذه
مسألة مخمسة وقد بيناها في كتاب الدعوى * وان أقام المدعى البينة ان ذا اليد غصبه منه
لم تندفع الخصومة عنه لأنه صار خصما بدعوى الفعل عليه ألا ترى أن دعواه الخصم صحيح
على غير ذي اليد بخلاف دعوى الملك المطلق * وان أقام المدعى البينة على أنه ثوبه غصب منه
فقد اندفعت الخصومة عن ذي اليد بما أقام من البينة لان الفعل غير مدعى عليه فان هذا
فعل ما لم يسم فاعله فإنما كان ذو اليد خصما باعتبار يده وقد أثبت أن يده يد حفظ * وان قال
المدعى هذا ثوبي سرق منى فالجواب كذلك في القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله
(قوله) سرق منى ذكر فعل ما لم يسم فاعله فلا يصير الفعل به مدعى على ذي اليد إنما كان
هو خصما باعتبار يده كما في الغصب ولكن استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله
وقالا لا تندفع الخصومة عن ذي اليد. وللاستحسان وجهان (أحدهما) أن قوله سرق
منى معناه سرقه منى إلا أنه اختار هذا اللفظ انتدابا إلى ما ندب إليه في الشرع من التحرز عن
إظهاره الفاحشة والاحتيال لدرء الحد فإذا آل الامر إلى أن يبطل حقه يعود فيدعى عليه
فعل السرقة وهذا المعنى لا يوجد في الغصب لان الغاصب تجاهر بما صنع ولا يندب إلى
الستر على من تجاهر بفعله (والثاني) ان السارق في العادة يكون بالبعد من المسروق منه فيشتبه
عليه في ظلمة الليل انه فلان أو غيره فهو بقوله سرق منى يتحرز عن توهم الكذب وله ذلك
شرعا فكان هذا في معنى قوله سرقته منى بخلاف الغصب. ولان السراق قلما يوقف علي
أثرهم لخوفهم من إقامة الحد عليهم فلو اندفعت الخصومة عن ذي اليد بهذا كان ابطالا لحق
المدعي لا تحويلا فهو بمنزلة ما لو أقام البينة علي أنه أودعه رجل لا يعرفه بخلاف الغاصب فإنه
يكون ظاهرا فيكون هذا من ذي اليد تحويلا للخصومة إليه لا ابطالا لحق المدعي (رجل)
غصب ثوب رجل فاستهلكه فضمن انسان عن الغاصب قيمته وليس لرب الثوب بينة على
89

قمته فقال الكفيل قيمته عشرة وقال الغاصب عشرون وقال صاحب الثوب ثلاثون لم يلزم
الكفيل الا عشرة دراهم مع يمينه بالله ما قيمته إلا ذلك لأنه التزام بالكفالة قيمة المغصوب
فالقول في بيان مقداره قوله كالغاصب وهذا لأنه منكر للزيادة على العشرة والقول قول
المنكر مع يمينه وقد أقر الغاصب بعشرة أخرى فهو مصدق على نفسه غير مصدق على
الكفيل وليس من ضرورة وجوب العشرة الأخرى عليه وجوبها على الكفيل فلهذا يرجع
على الغاصب بعشرة أخرى مع يمينه بالله ما قيمته الا عشرون لان صاحب الثوب يدعي عليه
عشرة أخرى وهو منكر لذلك (رجل) غصب جارية شابة فكانت عنده حتى صارت عجوزا
فان صاحبها يأخذها وما نقصها لأنها صارت مضمونة على الغاصب بجميع أجزائها وقد فات
وصف مقصود منها وهو الشباب فعلي الغاصب ضمان ذلك اعتبارا للجزء بالكل * وكذلك
لو غصبه غلاما شابا فكان عنده حتى هرم لأنه فات بعض ما هو مقصود منه وهو قوة
الشباب والهرم نقصان في العين وهذا بخلاف ما لو غصبه صبيا فشب عنده لأنه ازداد عند
الغاصب بما حدث له من قوة الشباب * وكذلك لو نبت شعره عند الغاصب لأنه ازداد جمالا
عنده فان اللحية جمال ولهذا يجب بحلقها من الحر عند اقتبال المنبت كمال الدية والغاصب
بالزيادة عنده لا يصير ضامنا شيئا * ولو كان محترفا بحرفة فنسى ذلك عند الغاصب كان ضامنا
للنقصان لأنه فات ما كان مقصودا منه عند الغاصب وما يزيد في ماليته (فان قيل) عدم
العلم بالحرفة ليس بنقصان في العين ولهذا لا يثبت به حق الرد بالعيب (قلنا) نعم ولكن إذا
وجد فهو زيادة في العين ولهذا يستحق في البيع بالشرط ويثبت حق الرد عند فواته
فيضمن الغاصب باعتباره النقصان أيضا * وكذلك أن غصب ثوبا من رجل فعفن عنده
واصفر فقد انتقصت ماليته بما حدث في العين عند الغاصب فكان ضامنا للنقصان. ولو
غصب طعاما حدثا فامسكه حتى عفن عنده فعليه طعام مثله و هذا الفاسد للغاصب لان
دفع الضرر عن المالك يتضمن النقصان والنقصان هنا متعذر فيصار إلى دفع الضرر عنه
بتضمين المثل إلا أن يرضى المالك بأخذ الطعام العفن فيأخذه ولا شئ له سواه (رجل)
غصب من رجل ثوبا ومن آخر عصفرا فصبغه به ثم حضرا جميعا فقال أما صاحب العصفر
فيأخذه حتى يعطيه عصفرا مثله أو قيمته لان ما غصبه منه صار مستهلكا بفعله فإنه كان
عين مال قائم بنفسه وقد صار وصفا قائما بملك غيره فعرفنا انه صار مستهلكا فعلى الغاصب
90

ضمان مثله أو قيمته ان كأن لا يوجد مثله والسواد في هذا كغيره عندهم جميعا لان السواد
في نفسه مال متقوم وإنما هو نقصان في الثوب عند أبي حنيفة وإذا ضمن لصاحب العصفر
عصفره ملك المضمون وصار في الحكم كأنه صبغه بعصفر نفسه وقد بينا حكم الخيار فيه
ولو كان غصب الثوب والصبغ من رجل واحد فصبغه به ففي القياس كذلك لأنه مستهلك
للصبغ بما صنع فيتقرر عليه ضمانه ويصير ذلك مملوكا له ولكن في الاستحسان لصاحب
الثوب هنا أن يأخذ ثوبه ولا يعطى الصباغ شيئا ولا يضمنه قيمة صبغه لان ملكه صار
وصفا لملكه فلا يكون مستهلكا به من هذا الوجه. ولأنه إذا اختار أصل الثوب كان
مجيزا لفعله في الانتهاء فيجعل ذلك كالاذن منه في الابتداء فلهذا كان له أن يأخذ الثوب
ان شاء وان شاء ضمنه الصبغ لأنه مستهلك من الوجه الذي قلنا وإذا ضمنه كان بمنزلة
ما لو صبغ الثوب بصبغ نفسه على ما بينا. ولو كان الثوب مغصوبا من انسان والصبغ من
آخر وصبغه للغاصب ثم لم يقدر عليه ففي القياس أن يأخذ صاحب الثوب ثوبه ولا يبقى
لصاحب الصبغ عليه شئ لان صبغه مستهلك بفعل الغاصب وضمانه دين عليه وللغاصب على
صاحب الثوب قيمة الصبغ إذا أخذ الثوب فهذا الرجل وجد مديون مديونه فلا سبيل له
عليه حتى يحضر خصمه * وفى الاستحسان إذا أخذ الثوب ضمن له ما زاد الصبغ فيه لان
عين ماله قد احتبس عنده وإن لم يوجد من جهته صبغ فيه فهو كما لو انصبغ ثوب انسان
بصبغ انسان. ولهذا نوجب السعاية في العبد المشترك يعتقه أحدهما لان نصيب الشريك
قد احتبس عند العبد وإن لم يوجد منه صبغ في ذلك وان شاء صاحب الثوب باعه فضرب
هو في الثمن بقيمة ثوبه أبيض وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ كما لو صبغه الغاصب بصبغ نفسه
على ما بينا * فان غصب من واحد حنطة ومن آخر شعيرا فخلطهما ضمن لكل واحد منهما
ما غصب منه لأنه تعذر على كل واحد منهما الوصول إلى عين ملكه فان تمييز الحنطة من
الشعير متعسر والمتعسر كالمتعذر والمتعذر كالممتنع ولم يبين في الكتاب حكم المخلوط فعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى المخلوط يصير ملكا للخالط سواء خلط الحنطة بالحنطة
أو بالشعير وعلى قول أبى يوسف ومحمد لهما الخيار ان شاءا أخذا المخلوط فكان مشتركا بينهما
بقدر ملكهما وان شاءا تركا المخلوط وضمن كل واحد منهما الخالط مثل ماله لان عين مال
كل واحد منهما باق أما في الخلط بالجنس فلان الشئ يتكثر بجنسه وكذلك في الخلط بغير
91

الجنس إذا كان بحيث يتأتى التمييز في الجملة إلا أنه تعيب ملك كل واحد منهما بعيب الشركة
فلهذا يثبت لكل واحد منهما حق التضمين ان شاء وان شاء اعتبر بقاء عين الملك حقيقة
فيختار الشركة في المخلوط وهو نظير غاصب الثوب إذا صبغه على ما بينا. وأبو حنيفة يقول
بالخلط صار ملك كل واحد منهما مستهلكا حكما لان المخلوط في الحكم كأنه شئ آخر
سوى ما كان قبل الخلط ألا ترى أنه يبدل اسم العين فقبل ذلك كان يسمى قفيزا والآن
يسمى كرا والمكيل والموزون في حكم شئ واحد ولهذا لو وجد ببعضه عيبا لم يرد بالعيب
خاصة والبعض من الشئ الواحد غير كله فعرفنا ان هذا المخلوط حادث بفعل الغاصب
حكما فيكون مملوكا له ومن ضرورته صيرورة ملك كل واحد منهما مستهلكا حكما ولهذا
ثبت لكل واحد منهما حق التضمين مع امكان التمييز في الجملة بخلاف الثوب مع الصبغ
وإذا صار ملك كل منها مستهلكا تقرر الضمان على الغاصب وذلك يوجب الملك
له في المضمون وهذا بخلاف ما إذا حصل الاختلاط من غير صنع أحد فان المخلوط هناك
أيضا هالك الا انه لا ضامن له فيكون لا قرب الناس إليه وهما المالكان قبل الخلط ولان
الحكم يضاف إلى المحل عند تعذر اضافته إلى السبب ولان المحل بمعنى الشرط والحكم
يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فإذا كان الخلط بفعل آدمي
وهو سبب صالح لإضافة الملك إليه في المخلوط يصير مضافا إليه وعند انعدام الفعل يكون
مضافا إلى المحل فلهذا كان المخلوط لهما * ولو غصب من آخر كتانا فغزله ونسجه فعليه
مثله أو قيمته ان كأن لا يوجد مثله ولا سبيل له على الثوب. وكذلك إن غصب قطنا فغزله
ونسجه أو غصب غزلا فنسجه وهذا عندنا فأما على قول أبى يوسف الآخر وهو قول
الشافعي رضي الله عنه فلصاحب الكتان والقطن الخيار على نحو ما بينا في الحنطة إذا طحنها
لأنه لا فرق بين الفصلين في المعنى فان هناك الغاصب فرق الاجزاء المجتمعة بالطحن وهنا جمع
الاجزاء المتفرقة بالنسج فكما لا تبدل العين بتفريق المجتمع فكذلك لا تتبدل بجمع المتفرق
وهو كما لو غزل القطن ولم ينسجه فإنه لا ينقطع حق صاحب القطن ولكن يثبت له الخيار
ولكنا نقول الثوب غير الغزل والقطن صورة ومعنى. أما الصورة فالغزل خيط ممدود
والثوب مؤلف مركب له طول وعرض. والدليل على المغايرة تبدل الاسم ومن حيث
المعنى والحكم الغزل والقطن موزون وهو مال الربا والثوب مذروع ليس بمال الربا وبعد
92

النسج لا يتصور اعادته إلى الحالة الأولى فإذا ثبتت المغايرة بينهما فمن ضرورة حدوث
الثاني انعدام الأول لاستحالة أن يكون الشئ الواحد شيئين ثم هذا حادث بعمل الغاصب
فكان مملوكا له والأول صار مستهلكا بعمله فصار ضامنا له. فأما القطن إذا غزله فالصحيح
من الجواب انه ينقطع حق المالك أيضا واليه أشار في كتاب الدعوى حيث سوى بين القطن
إذا غزله وبين الغزل إذا نسجه ومن أصحابنا رحمهم الله من فرق بينهما فقال القطن غزل لأنه
خيوط رقيقة يبدو ذلك لمن أمعن النظر فيه ويتحقق ذلك في الإبرسيم فالغزل احداث
المجاورة بينهما وليس بتركيب وتأليف وباحداث المجاورة لا تتبدل العين ولهذا بقي موزونا
يجرى فيه الربا كما كان قبله بخلاف الغزل إذا نسجه * ولو غصب ساجة فجعلها بابا أو حديدا
فجعله سيفا ضمن قيمة الحديد والساجة وجميع ذلك للغاصب عندنا * وكذلك لو غصب
ساجة أو خشبة وأدخلها في بنائه أو آجرا فأدخله في بنائه أو جصا فبنى به فعليه في كل
ذلك قيمته عندنا وليس للمغصوب منه نقض بنائه وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى في
هذه الفصول لا ينقطع حق صاحبها فزفر مع الشافعي رحمهما الله في هذا النوع لان
الحادث زيادة وصف من غير أن يكون الأول مستهلكا بخلاف ما تقدم. وبيان هذا
ما ذكر في الجامع إذا اشترى حنطة فطحنها أو غزلا فنسجه ثم زاد البائع في الثمن لم يجز
ولو اشترى ثوبا فقطعه وخاطه ثم زاد في الثمن يجوز فوجه قولهم في ذلك أن الغاصب قادر
على رد عين المغصوب من غير إيلام حيوان فيجب رده كالساجة إذا بنى عليها وتأثير هذا
الكلام ان العين باق والرد جائز شرعا فان بالاتفاق لو رده الغاصب جاز ولو صبر المغصوب
منه حتى نقض الغاصب البناء والخياطة كان له أن يأخذه فدل ان العين باق ورده عين
المغصوب مستحق شرعا فما دام الرد جائزا يبقى ذلك الاستحقاق بحاله بخلاف ما إذا غصب
خيطا وخاط به بطن نفسه أو بطن عبده أو لوحا وأصلح به سفينة والسفينة في لجة البحر
فان ذلك لا يجوز رده لما فيه من إيلام الحيوان ونقص البنية وذلك محرم شرعا ومن
ضرورة عدم الجواز الرد انعدام استحقاق الرد شرعا * وحجتنا في ذلك أن العين ملك
المغصوب منه وما اتصل به من الوصف متقوم حقا للغاصب وسبب ظلمه لا يسقط قيمة
ما كان متقوما من حقه كما في الثوب إذا صبغه بصبغ نفسه الا ان هناك الصبغ متقوم
بنفسه فيمكن ابقاء حق صاحب الثوب في الثوب مع دفع الضرر عن الغاصب بايجاب قيمة
93

الصبغ له وهذا الوصف غير متقوم بنفسه مقصودا ودفع الضرر واجب فيتعين دفع الضرر
هنا بايجاب قيمة المغصوب حقا للمغصوب منه ليتوصل هو إلى مالية ملكه ويبقى حق
صاحب الوصف في الوصف مرعيا وهذا لأنه لا بد من الحاق الضرر بأحدهما الا ان في
الاضرار بالغاصب اهدار حقه وفي قطع حق المغصوب منه بضمان القيمة توفير المالية عليه
لا اهدار حقه ودفع الضرر واجب بحسب الامكان وضرر النقل دون ضرر الابطال وهو
نظير مسألة الخيط واللوح ولهذا جوزنا الرد ههنا لان الامتناع لدفع الضرر عن الغاصب
فإذا رضي فقد التزم الضرر (فان قيل) صاحب الثوب صاحب أصل والغاصب صاحب
وصف ولا شك ان مراعاة حق صاحب الأصل أولى ولم يجز لحق صاحب الوصف وهو
جان (قلنا) لان هذا الوصف قائم من كل وجه والأصل قائم من وجه لان الأصل كان
ملكا للمغصوب منه مقصودا والآن صار تبعا لملك غيره والتبع غير الأصل ولهذا صار
بحيث يستحق بالشفعة بعد أن كان منقولا لا يستحق بالشفعة والعدم منه سائر وجوه
الانتفاع سوى هذا فعرفنا أنه قائم من وجه دون وجه والقائم من كل وجه يترجح على
ما هو قائم من وجه مستهلك من وجه وإنما يترجح الأصل إذا كان قائما من كل وجه كما
في مسألة الساجة فإنها قائمة من كل وجه صالحة لما كانت صالحة له قبل البناء تستحق بالشفعة
كما كان من قبل فلهذا رجحنا هناك اعتبار حق صاحب الساجة * ولا يدخل على بشئ مما
ذكرنا إذا غصب ثوبا فقصره لأنه ليس للغاصب في الثوب وصف قائم متقوم والقصارة
تزيل الدرن والوسخ عن الثوب ثم لون البياض وصف أصلي للقطن * ولا يقال أليس ان
القصار يحبس بالأجر (قلنا) نعم ولكن باعتبار أثر عمله في المعمول لا باعتبار قيام الوصف
في العمل للمعول بعمله وذكر الكرخي في مسألة الساجة أن موضع المسألة فيما إذا أدخل
الساجة في بنائه بان بنى حولها لا عليها لأنه لا يكون متعديا بالبناء في ملكه فأما إذا بنى على
الساجة فهو متعد في هذا البناء والساجة من وجه كالأصل لهذا البناء فيهدم للرد كما في مسألة
الساجة ولكن هذا ضعيف فقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في كتاب الصرف انه لو غصب
بقرة واتخذ منها عروة مزادة انقطع حق المالك عنها وهو في العمل هنا متعد لان عمله في
ملك الغير فدل انه لا فرق بين أن يكون عمله في ملك الغير أو في ملك نفسه وان الصحيح
ما قلنا * وان غصب حنطة فزرعها ثم جاء صاحبها وقد أدرك الزرع أو هو بقل فعليه حنطة
94

مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الزرع له لأنه
متولد من ملكه والمتولد يملك بملك الأصل كولد الجارية وثمرة الشجرة وهذا لان فعل
الزارع حركاته والأجسام لا تتولد من الحركات. والدليل على أن التولد من الأصل ان
بصفة الأصل يختلف الزرع مع اتحاد عمل الزارع والدليل عليه انه لو حصل بغير فعل أحد
بأن هبت الريح بحنطة انسان وألقته في أرض الغير فينبت كان الزرع لصاحب الحنطة
(وحجتنا) في ذلك أن الزرع غير الحنطة لان الحنطة مطعوم بني آدم والزرع بقل هو علف
الدواب وهذا الزرع حادث لأنه ما لم يفسد الحب في الأرض لا ينبت الزرع فاما أن يكون
حادثا بأصل الحنطة أو بقوة الأرض والهواء أو بعمل الزارع والأول باطل لان كونه
حنطة ليس بعلة لبقائها كذلك حنطة فكيف تكون علة لحدوث شئ آخر وقوة الأرض
والهواء كذلك لأنهما مسخران بتقدير الله تعالى لا اختيار لهما فلا يصلح إضافة الحكم إليهما بنفي
عمل الزارع وهو في معنى الشرط لأنه يجمع بين البذر وقوة الأرض والهواء بعمله وقد بينا
انه يضاف الحكم إلى الشرط عند تعذر الإضافة إلى العلة كما أن الواقع في البئر يضاف هلاكه
إلي الحافر وعمله في الشرط ولكن ما كان علة وهو تعلة ومشبه بغير علة لا يصلح عمله لإضافة
الحكم إليه فيكون مضافا إلي الشرط وإذا ثبت انه مضاف إلى عمل الزارع كان هو مكتسبا
للزارع والكسب ملك للمكتسب وعليه ضمان ما صار مستهلكا بعمله إلا أنه لا يطيب له الفضل
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يطيب له الفضل لأنه كسبه
ولكنا نقول دخل في كسبه من حيث إنه استعمل في الاكتساب ملك الغير ولأنه من
حيث الصورة هذا متولد من ذلك الأصل كما قاله الخصم ومن حيث المعنى والحكم غيره
فلاعتبار الصورة قلنا لا يطيب له الفضل احتياطا وعلى هذا لو غصب نواة فأنبتها أو تالة (1)
فغرسها الا انه روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في التالة لا يحل له أن ينتفع بها حتى
يؤدى الضمان وفي الزرع والنواة له ذلك لان البذر والنواة تفسد في الأرض فكان الزرع
والشجرة كسب الغاصب من كل وجه فيجوز له الانتفاع به قبل أداء الضمان المستهلك
وأما التالة فلا تفسد ولكنها تنمو وإنما جعلنا الشجرة غير التالة من حيث الحكم فلا يحل
له الانتفاع بها قبل أداء الضمان كما في الحنطة إذا طحنها. وفى ظاهر الرواية الجواب في
(7 مبسوط حادي عشر)

(1) التالة بالمثناة الفوقية واحدة التال وهو صغار النخل وفسلانها اه‍ كتبه مصححه
95

الفصلين سواء وعلى هذا لو غصب بيضة وحضنها تحت دجاجة له حتى أفرخت فهذا ومسألة
الزرع سواء والمغايرة بين الفرخ والبيضة لا تشكل على أحد لان هذا حيوان وذلك
موات ولا يدخل على شئ من هذا إذا غصب شجرة وقلعها وكسرها لان القلع نقصان
محض لا يتبدل به اسم العين ثم الكسر تحقيق ما هو المقصود بالشجرة بعد القلع وهو الحطب
فهو كمسألة الشاة إذا ذبحها وسلخها (مسلم) غصب خمرا من مسلم فاستهلكها فلا ضمان عليه
لان الخمر ليس بمال مقوم فان الشرع أفسد تقومه حين حرم تموله وان جعلها خلا فلرب
الخمر أن يأخذها لان بفساد معنى التمول والتقوم لا تخرج من أن تكون مملوكة للمسلم إذا
الملك صفة للعين والعين باقية ولهذا جاز له إمساك الخمر للتخلل وكان أحق بها من غيرها فان
خللها الغاصب من غير القاء شئ فيها فالعين باقية علي حالها لبقاء الهيئة كما كانت وإن ألقى
فيها ملحا فالملح صار مستهلكا أيضا وان صب فيها خلا فهذا خلط الا ان الخلط إنما يزيد ملك
المغصوب منه بشرط الضمان وايجاب الضمان هنا متعذر لان الخمر لا يضمن للمسلم بالاستهلاك
فلهذا كان شريكا في المخلوط بقدر ملكه. وكذلك لو غصب جلد ميتة فدبغه قالوا هذا على
وجهين. أما إذا ألقي الجلد صاحبه فاخذه انسان ودبغه فهو مملوك له لان صاحبها ألقاه تاركا له
بمنزلة من يلقى النوى وقشور الرمان فيجمع ذلك انسان وينتفع به فإنه يكون مباحا له وأما إذا
غصب الجلد من صاحبه ودبغه بشئ لا قيمة له كالتراب والشمس فصاحبه أحق به يأخذه ولا
يعطى الغاصب شيئا لان ملكه باق بعد الموت ولم يحدث الغاصب فيه زيادة مال متقوم وقد بينا
ان صنعته إنما تعتبر إذا إمكان تحويل حق صاحب الأصل إلى الضمان وهذا غير ممكن هنا لان
جلد الميتة لا يضمن بالاستهلاك * وأما إذا دبغه بشئ له قيمة كالشب والقرظ والعفص وما
أشبه ذلك فلصاحب الجلد أن يأخذ جلده ويضمن ما زاد الدباغ فيه لأنه عين مال قائم للغاصب
بمنزلة الصبغ في الثوب ولكن ليس له أن يدع الجلد ويضمنه قيمته هنا بخلاف الثوب لان
الثوب بدون الصبغ كان مالا متقوما والجلد قبل الدباغ لم يكن مالا متقوما حتى ذكر في
كتاب الإجارات لو غصبه جلدا ذكيا فدبغه بشئ له قيمة فإن شاء صاحب الجلد ضمنه
قيمة الجلد غير مدبوغ وان شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه لان الجلد الذكي مال متقوم
قبل الدباغ فهو ومسألة الثوب سواء * وان غصبه عصيرا فصار عنده خمرا فله ان يضمنه قيمة
العصير لان المغصوب كان مالا متقوما وبالتخمير يصير هذا الوصف منه مستهلكها * ومراده
96

من قوله يضمنه قيمة العصير أن الخصومة بعد انقطاع أوان العصير فأما في أوانه يضمنه مثله لان
العصير من ذوات الأمثال وإن لم يحضر حتى صارت خلا فإن شاء أخذ الخل وان شاء
ضمنه قيمة العصير لأن العين باق ببقاء الهيئة ولكنه تغير من صفة الحلاوة إلى صفة الحموضة
فإن شاء رضي به متغيرا ولا يضمنه شيئا آخر لان العصير مال الربا وقد بينا انه لا يثبت
فيه حق تضمين النقصان مع أخذ العين ولم يذكر هذا الخيار قبل التخلل. فمن أصحابنا رحمهم
الله من يقول لا خيار له لأنه لو ثبت له الخيار هناك لكان أخذ الخمر عوضا عما استوجب
من قيمة العصير وذلك لا يجوز والأصح أن هناك يثبت الخيار أيضا بطريق أنه يكون
مبرئا عن الضمان ثم يأخذ خمره ليخلله كما لو كان العصير وديعة له في يده فتخمر (رجل)
له حنطة عند رجل وشعير لآخر عند ذلك الرجل أيضا وديعة فخلطهما من لا يقدر عليه ولا
يعرف * قال يباعان ثم يقسم الثمن على قيمة الحنطة والشعير وهذا عندهما وهو الاستحسان
عند أبي حنيفة أيضا. فأما في القياس على قوله المخلوط صار مملوكا للخالط وحق كل واحد
منهما في ذمته ولا ولاية لهما عليه في بيع ملكه لحقهما ووجه الاستحسان ان المخلوط وان
صار مملوكا للخالط ولكن لم ينقطع حقهما عنه بل يتوقف تمام انقطاع حقهما علي وصول
البدل إليهما ألا ترى أنه لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط ما لم يود البدل إليهما وإذا بقي حقهما
فيه قلنا يباع لايفاء حقهما عند تعذر استيفاء الضمان من الخالط كالمبيع في يد البائع يباع
في الثمن إذا تعذر استيفاؤه من المشترى لغيبته ثم يضرب صاحب الحنطة في الثمن بقيمة
حنطته مخلوطا بالشعير وصاحب الشعير يضرب بقيمة شعيره غير مخلوط بالحنطة لان الحنطة
تنقص بالاختلاط بالشعير وإنما دخل في البيع بهذه الصفة فلا يضرب بقيمتها الا بالصفة التي
دخلت في الشعير تزداد قيمته بالاختلاط بالحنطة ولكن هذا الزيادة من مال
صاحب الحنطة فلا يستحق الضرب بها معه فلهذا يضرب بقيمة الشعير غير مخلوط (قال)
وكذلك كل ما يكال أو يوزن يعنى إذا تحقق الخلط على وجه يتعسر معه التمييز أو يتعذر فان اختلفا
في مبلغ كيل الحنطة والشعير وقد باعهما مجازفة واستهلكهما المشترى فالقول في الحنطة قول
صاحب الشعير وفي الشعير قول صاحب الحنطة لان كل واحد منهما يدعى زيادة في مقدار ملكه
وكل واحد منهما غير مصدق فيما يدعى لنفسه على صاحبه وكل واحد منهما منكر للزيادة التي
يدعيها صاحبه فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لانكاره وبعد ما حلف يقسم
97

الثمن بينهما على مقدار ما يزعم صاحبه المنكر من ملك كل واحد منهما (ثوب) في يدي رجل
أقام رجل البينة انه ثوبه غصبه إياه هذا وأقام الذي في يديه البينة انه وهبه له (فقال) أقضى للذي
هو في يديه لأنه يثبت سبب الملك الحادث لنفسه وصاحبه ينفى ذلك. ولأنا نجعل كان الامرين
كانا والهبة بعد الغصب تتحقق موجبا للملك وكذلك لو أقام البينة على البيع منه بثمن مسمى
أو على اقراره أنه ثوبه لان البيع والاقرار بالملك بعد الغصب يتحقق فتقبل البينتان جميعا
(وان) كان في أيديهما جميعا فأقام كل واحد منهما البينة انه ثوبه غصبه الاخر إياه قضيت
به بينهما نصفين لان كل واحد منهما يثبت على صاحبه انه غصب ما في يده منه وفى يد كل
واحد منهما نصفه فكان بينة كل واحد منهما فيما في يد صاحبة أولي بالقبول فلهذا قضى
لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه * فان أقام رجل البينة انه ثوبه استودعه الميت
الذي هذا وارثه وأقام آخر البينة أنه ثوبه غصبه إياه الميت قضيت به بينهما لان كل واحد
منهما أثبت الملك لنفسه في جميع الثوب ان وصوله إلى يد الميت كان من جهته فاستويا ولا
ترجح لمدعى الغصب في معنى الضمان لأن الضمان للآخر ثابت أيضا فان المودع إذا مات
مجهلا للوديعة يكون ضامنا ولان المقصود اثبات الملك في العين ولا معتبر بضمان القيمة مع
بقاء العين * وان جاء بالبينة علي دراهم بعينها أنها ماله غصبها إياه الميت فهو أحق بها من غرماء
الميت لأنه أثبت بالبينة ملك العين لنفسه فان الدارهم تتعين في الغصب ولهذا لا يملك الغاصب
إمساك العين ورد المثل وحق الغريم إنما كان في ذمة الميت فيتعلق بعد موته بماله دون مال
المغصوب منه * وان أقام رجل البينة ان هذا ثوبه غصبه ذو اليد وأقام آخر البينة ان ذا اليد
أقر به له أقضي به للذي أقام البينة انه ثوبه غصبه إياه لأنه أثبت الملك لنفسه بالبينة وأثبت
ان ذا اليد كان غاصبا والآخر إنما أثبت ببينته اقرار الغاصب له بالملك واقرار الغاصب ليس
بحجة في الاستحقاق علي المالك (رجل) غصب ثوب رجل فأودعه عند آخر فهلك عنده
فلصاحبه ان يضمنه أيهما شاء لان كل واحد منهما متعد في حقه فان المالك غير راض بقبض
المودع فهو كالغاصب في حقه فان ضمن المستودع رجع علي الغاصب بما ضمن لأنه في
حفظ العين كان عاملا له وكان مغرورا من جهته حين أخبره انه ملكه وانه لا يغرم شيئا
ان هلك في يده * ولم يذكر ان المودع إذا رد الثوب على الغاصب أو كان غصب منه فرده
عليه هل يبقى للمالك عليه سبيل (والجواب) انه لا سبيل للمالك عليه الا في رواية عن
98

أبى يوسف رحمه الله فإنه يقول صار ضامنا للمالك بقبضه فلا يبرأ إلا بالرد على المالك أو على
من قامت يده مقام يد المالك ويد الغاصب لا تقوم مقام يد المالك فلا يبرأ بالرد عليه. ولكنا
نقول وجوب الضمان عليه باعتبار يده وقد انفسخ ذلك حين أعاده إلي يد من وصلت إليه
من جهته فالعدم به حكم يده وكان هذا في حقه بمنزلة رد الغاصب العين على مالكه (وإذا)
قال الرجل لآخر غصبتني هذه الجبة المحشوة وقال الغاصب ما غصبتكها ولكن غاصبتك
الظهارة فالقول قول الغاصب مع يمينه لانكاره ما ادعاه فإنه ادعى غصب الجبة والظهارة
ليست بجبة ولأنه منكر الغصب في البطانة والحشو ولو أنكر الغصب في الكل كان القول
قوله مع يمينه ثم إذا حلف يضمن قيمة الظهارة لإقراره بغصب الظهارة واقراره حجة في
حقه فكان غايتاه غصب الظهارة وجعلها جبة. وان قال غصبتك الجبة ثم قال بعد ذلك
البطانة والحشو لي لم يصدق لأنه رجع عما أقر به فاسم الجبة يتناول الكل * وكذلك لو قال
غصبتك هذا الخاتم ثم قال فصه لي أو هذه الدار ثم قال بناؤها لي أو هذه الأرض ثم قال
شجرها لي أو أنا غرستها لم يصدق علي شئ من ذلك لكونه راجعا فان البناء والشجر تبع
للأصل فيصير مذكورا بذكر الأصل ويثبت حكم الغصب فيه بثبوته في الأصل
والفص في الخاتم كذلك فيكون راجعا بدعواه المالك لنفسه فما أقر به لغيره * وان قال
غصبتك هذا البقرة ثم قال عجولها لي أو قال هذه الجارية ثم قال ولدها لي فالقول قوله لان
الولد منفصل فلا يكون تبعا للأم فاقراره بالأصل لا يتعدى إليه بخلاف الاستحقاق باليد
عندنا. وقد بينا هذا الفرق في الدعوى فلا يكون هو في دعوى الولد لنفسه مناقضا بل
يكون متمسكا بما هو الأصل وهو ان ما في يده فالظاهر أنه ملكه إلا ما يقربه لغيره
(رجل) غصب من رجل ثوبا ثم إن الغاصب كسا الثوب رب الثوب فلبسه حتى تخرق
ولم يعرفه فلا شئ له على الغاصب. وكذلك المكيل والموزون إذا غصب منه ثم أطعمه
إياه بعينه أو وهبه فأكله ولم يعرفه فالغاصب برئ عن الضمان عندنا وفي أحد قولي
الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يبرأ لأنه ما أتى بالرد المأمور به فإنه غرور منه والشرع لا يأمر
بالغرور والغاصب لا يستفيد البراءة الا بالرد فإذا لم يكن يوجد صار ضامنا ولأنه ما أعاد
إلى ملكه كما كأن لان المباح له الطعام لا يصير مطلق التصرف فيما أبيح له فكان فعله
قاصرا في حكم الر فلو جعلنا هذا ردا تضرر به المغصوب منه لأنه اقدام على الأكل بناء
99

علي خبره انه أكرم ضيفه ولم علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله فأكله معهم فلدفع
الضرر عنه بقي الضمان علي الغاصب. وحجتنا في ذلك أن الواجب على الغاصب نسخ فعله
وقد تحقق ذلك. أما من حيث الصورة فلانه وصل إلى يد المالك وبه ينعدم ما كان فائتا. ومن
حيث الحكم فلانه صار به متمكنا من التصرف حتى لو تصرف فيه نفذ تصرفه غير أنه جهل
بحاله وجهله لا يكون مبقيا للضمان في ذمة الغاصب مع تحقق العلة المسقطة كما أن جهل المتلف
لا يكون مانعا من وجوب الضمان عليه مع تحقق الاتلاف إذا كان يظن أنه ملكه * وقد بينا
ان الغرور بمجرد الخبر لا يوجب حكما أنما المعتبر ما يكون في ضمن عقد ضمان ولم يوجد
ذلك فان الغاصب المضيف ما شرط لنفسه عوضا ولان أكثر ما في الباب أن لا يكون فعل
الغاصب هو الرد المأمور به ولكن تناول المغصوب منه عين المغصوب كاف في اسقاط
الضمان عن الغاصب. ألا ترى أنه لو جاء إلى بيت الغاصب وأكل ذلك الطعام بعينه وهو
يظن أنه ملك الغاصب برئ الغاصب من الضمان فكذلك إذا أطعمه الغاصب إياه. وإن كان
الغاصب قد نبذ التمر ثم سقاه فهو ضامن للتمر لأنه بدل العين بما صنع وتقرر ضمان التمر في
ذمته فسقى النبيذ إياه لا يكون ردا للعين المغصوب منه ولا أداء الضمان. وكذلك كل ما يشبهه
كالدقيق إذا خبزه ثم أطعمه أو اللحم إذا شواه ثم أطعمه (قال) وكذلك إذا غصب حديدا
فجعله درعا فهو ضامن لحديد مثله وإن لم يقدر على ذلك ضمن قيمته. وكذلك إذا غضب
صفرا فجعله كوزا لأنه غيره عن حاله وصار الغاصب مستهلكا وهذا الحادث حادث بفعل
الغاصب لتبدل العين صورة ومعنى واسما وحكما ومقصودا فلهذا لا سبيل له على المصنوع
وكان الكرخي يقول هذا إذا كان بعد الصنعة لا يباع وزنا أما إذا كان يباع وزنا ينبغي أن
يكون للمغصوب منه حق أخذ المصنوع إن شاء عند أبي حنيفة رحمه الله كما في البقرة لبقاء حكم
الربا والأصح أن الجواب مطلق لان اسم العين قد تبدل بصنع الغاصب بخلاف القلب علي ما نبينه
فان كسر صاحب الصفر الكوز بعد ما ضمن له الغاصب قيمة صفره فعليه قيمة الكوز
صحيحة لان الكوز مملوك للغاصب وهو ملك محترم فيكون المغصوب منه الصفر في كسره
كغيره وكذلك أن كسره قبل أن يقضى له بالقيمة لان الكوز مملوك لأنه كان حادثا
بعمله فيكون الحال قبل القضاء بالقيمة وبعد سواء في حقه الا انه يحاسبه بما عليه لان
المغصوب منه استوجب عليه قيمة الصفر والغاصب استوجب عليه قيمة الكوز فيتقاصان
100

ويترادان الفضل * فان غصب فضة فضربها دراهم أو صاغها إناء فعلى قول أبى يوسف ومحمد
رحمهما الله هذا والحديد والصفر سواء لان الاسم تبدل بصنعة الغاصب وكذلك الحكم فان
البقرة لا تصلح رأس مال الشركة والمضاربة والدراهم تصلح لذلك ولا معتبر بالتمكن من الإعادة
فان هذا موجود في الحديد والصفر ثم جعل هناك الثاني غير الأول وجعل الاناء حادثا
بعمل الغاصب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول هنا للمغصوب منه أن يأخذها ولا أجر
للغاصب وعلل فقال لأنه فضة بعينها لا تخرج من الوزن بخلاف الحديد والصفر. وبهذا
الحرف يستدل الكرخي في تقسيم الجواب هناك. ثم معنى هذا التعليل ان اسم العين لا يتبدل
لان اسم العين هو الذهب والفضة وهو يبقى بعد الصنعة إنما يتبدل اسم الصنعة فان الدراهم
والدنانير اسم الصنعة وكذلك حكم العين باق فان حكم العين انه موزون ويجرى فيه الربا بعلة
الوزن وتجب الزكاة فيه باعتبار العين فأما صلاحية رأس مال الشركة والمضاربة فهو حكم
الصنعة لا حكم العين ولهذا يقول ما لا يتفاوت من الفلوس الرائجة في هذا الحكم كالذهب
والفضة فإذا بقي اسم العين وحكم العين كان ذلك دليل بقاء العين المغصوب وان تعذر
على المغصوب منه أخذه إنما يتعذر للصنعة ولا قيمة للصنعة في هذه الأموال منفردة من
الأصل وبه فارق الحديد والصفر فان الصنعة هناك تخرجها من الوزن ومن أن تكون مال
الربا وللصنعة في غير مال الربا قيمة مع أن اسم العين وحكمه قد تبدل هناك كما قررنا * وان
غصب حنطة فاستهلكها ثم باعه بها شعيرا أو غيره مما يكال أو يوزن أو من العروض قبل
القبض فلا بأس به يدا بيد لان الواجب مثل الحنطة في ذمته وبيع الحنطة بالشعير جائز كيفما
كان ولو كانت الحنطة عينا فكذلك إذا كان ذلك دينا إلا أن الدين بالدين حرام فيشترط
قبض ما يقابلها في المجلس فلا تنعدم الدينية من الجانبين * وكذلك أن أقرضه طعاما فله أن
يأخذ ما بد اله بخلاف البيع والسلم يريد به ان الاستبدال بالمبيع قبل القبض لا يجوز والمسلم
فيه في حكم المبيع فأما بدل القرض والغصب ليس في حكم المبيع حتى يجوز اسقاط القبض
فيه أصلا في الابراء فكذلك في الاستبدال به كالثمن في البيع * وإذا غصب رجل دابة من
رجل فأقام صاحبها البينة انها نفقت عند الغاصب وأقام الغاصب البينة انه قد ردها إليه
وانها نفقت عنده فلا ضمان عليه وقد بينا خلاف أبى يوسف في هذه المسألة وان بينة
المغصوب منه بطريق استصحاب الحال وبينة الغاصب وافقت علي أمر هو حادث وهو الرد
101

فكانت أولى بالقبول (مسلم) غصب من نصراني خمرا فاستهلكها فعليه ضمان قيمتها عندنا
وقال الشافعي لا ضمان عليه وكذلك الخنزير. وجه قوله أن الخمر والخنزير محرم العين ولا يضمن
بالاتلاف حقا للمسلم فكذلك للذمي لان حقوقهم دون حقوقنا وهذا لأنا بعقد الذمة إنما
ضمنا ترك التعرض لهم في الخمر والخنزير وايجاب ضمان القيمة على المتلف أمر وراء ذلك
تحقق هذا أن ترك التعرض لاعتقادهم أن الخمر والخنزير مال متقوم ولكن اعتقادهم
لا يكون حجة على المسلم المتلف في ايجاب الضمان وإنما يكون معتبرا في حقهم ولذا لا نحدهم
على شربها ولا ندع أحدا يتعرض لهم في ذلك ولا يتعرض لهم في الأنكحة أيضا * والدليل
على أن اعتقادهم لا يكون حجة على الغير أن المجوسي إذا مات عن ابنتين إحداهما امرأته
فإنها لا تستحق بالزوجية شيئا ولم يجعل اعتقادهم معتبرا في استحقاق التفضيل بشئ من
الميراث علي الأخرى * وكذلك العبد المرتد لا يضمن للذمي بالاتلاف وإن كان هو يعتقد
انه مال متقوم وانه محق في اعتقاده ثم لم يصر اعتقاده حجة في ايجاب الضمان على المتلف
إلا أن هناك يتعرض له في ذلك لأنا بعقد الذمة ما ضمنا ترك التعرض لهم في ذلك. وحجتنا
في ذلك قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه حين سأل عماله ماذا تصنعون بما يمر به
أهل الذمة من الخمر فقالوا نعشرها فقال لا تفعلوا ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فقد
جعلها مالا متقوما في حقهم حيث جوز بيعها وأمر بأخذ العشر من الثمن (وذكر) أبو
عبيدة في كتاب الأموال أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلي عماله أن اقتلوا خنازير أهل
الذمة واحتسبوا لأصحابها بقيمتها من الجزية فهذا تنصيص منه علي انه مال متقوم في حقهم
يضمن بالاتلاف عليهم والمعنى فيه أن الخمر كان مالا متقوما في شريعة من كان قبلنا وكذلك
في شريعتنا في الابتداء ثم إن الشرع أفسد تقومه بخطاب خاص في حق المسلمين حيث
قال (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان)
إلى قوله تعالى فهل أنتم منتهون) فبقي في حق من لم يدخل تحت هذا الخطاب علي
ما كان من قبل. هذا من حيث الصورة ومن حيث المعنى ان حرمة العين وفساد التقوم
ثبت بخطاب الشرع وقد أمرنا ان نتركهم وما يدينون لمكان عقد الذمة فقصر الخطاب
عنهم حين لم يعتقدوا الرسالة في المبلغ وانقطعت ولاية الالزام بالسيف والمحاجة لمكان عقد
الذمة ويصير في حقهم كأن الخطاب غير نازل فيبقى الحكم على ما كان. ألا ترى ان من
102

شرب الخمر من المسلمين بعد ما نزل خطاب التحريم قبل علمه به لم يكن معاتبا بذلك كما قال الله
تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية * وكذلك أهل قباء
كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد ما نزلت فريضة التوجه إلى الكعبة وجاز ذلك منهم كأن
الخطاب غير نازل حين لم يبلغهم فهذا مثله أيضا. وأمر الأنكحة على هذا وليس في هذا توسعة
الامر عليهم بل فيه استدراج وترك لهم على الجهل وتمهيد بعقوبة الآخرة والخلود في النار وتحقيق
لقول النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. وبهذا تبين فساد ما قال إن
اعتقاده لا يكون حجة على المتلف لأنا لا نوجب الضمان باعتبار اعتقاده ولكن يبقى ما كان
على ما كان وهو المالية والتقوم * ثم وجوب الضمان بالاتلاف لا يكون به المحل مالا متقوما
ولكن شرط سقوط الضمان بالاتلاف انعدام المالية والتقوم في المحل وهذا الشرط لم يثبت
في حقهم مع أنا لما ضمنا بعقد الذمة ترك التعرض لهم فقد التزمنا حفظها وحمايتها لهم والعصمة
والاحراز تتم بهذا الحفظ ووجوب الضمان بالاتلاف ينبنى على ذلك فكان هذا من ضرورة
ما ضمناه بعقد الذمة بخلاف قتل المرتد فانا ما ضمنا لهم ترك التعرض في ذلك لما فيه من
الاستخفاف بالدين وكان نظير ذلك من العقود الربا فإنه يتعرض لهم في ابطال عقود الربا
بينهم لأنا لم نضمن لهم ترك التعرض لهم في ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الا من
أربى فليس بيننا وبينه عهد. وهذا لان ذلك فسق منهم في الاعتقاد ولا ديانة فقد ثبت بالنص
حرمة الربا في اعتقادهم قال الله تعالى (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه) وكذلك الجواب في
موقوذة المجوسي الصحيح ان المسلم يضمنها له بالغصب والاتلاف وهو قول أبى يوسف رحمه الله
وقد روى عن محمد رحمه الله بأنه لا يضمنها كالميتة والدم لأنها ليست بمال في اعتقاد أهل الذمة
وقد أمرنا ان نبني أحكام المجوس على أحكام أهل الكتاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب الحديث إلا أن هذا ضعيف فانا في حكم الأنكحة اعتبرنا
اعتقاد المجوس من غير أن نبني ذلك على اعتقاد أهل الكتاب والعذر عن فضل الميراث
بالزوجية بيناه في النكاح انه ليس من ضرورة الحكم بصحة النكاح استحقاق الميراث
وهذا كله بخلاف ما لو أتلف متروك التسمية عامدا على شفعوي المذهب لأن ولاية الألزم
بالمحاجة والدليل هنا ثابت وقد ثبت لنا بالنص أن متروك التسمية حرام ليس بمال فلهذا
لا يعتبر اعتقادهم في ايجاب الضمان (ولو) غصب نصراني من نصراني خمرا فاستهلكها فعليه مثلها
103

لان الخمر من ذوات الأمثال والمصير إلى القيمة في ذوات الأمثال عند العجز عن أداء المثل
وذلك في حق المسلم دون النصراني لأنه قادر على تمليك الخمر من غيره بعوض ولهذا جازت
المبايعة بالخمر فيما بينهم وان أسلم الطالب بعد ما قضي له بمثلها فلا شئ له على المستهلك لان
الخمر في حق المسلم ليس بمال متقوم * ولو احتبس عينها عند النصراني له بالغصب والاستهلاك
لم يضمنه شيئا فكذلك إذا احتبس ما صار دينا منها ولكنه باسلامه يكون مبرئا له عما كان
له في ذمته من الخمر لأنه يخرج بفعله من أن يكون مالا متقوما في حقه ومن أن يكون
متمكنا من قبضه وكذلك لو أسلما معا لان في اسلامهما إسلام الطالب ولو أسلم المطلوب
وحده أو أسلم المطلوب ثم الطالب فعلي قول أبى يوسف وهو روايته عن أبي حنيفة رحمهما الله
الجواب كذلك وفى قول محمد رحمه الله تعالى وهو رواية عافية وزفر عن أبي حنيفة رحمهما الله
على المطلوب قيمة الخمر. وجه قول محمد رحمه الله أن الاسلام الطارئ بعد تقرر سبب الضمان
يجعل كالمقترن بالسبب كما أن الاسلام الطارئ بعد العقد قبل القبض يجعل كالمقترن بالعقد
ثم اقتران اسلام المطلوب بغصب الخمر واستهلاكها لا يمنع وجوب ضمان القيمة بخلاف
اسلام الطالب فكذلك الطارئ وهذا لان خمر الذمي يجوز أن يكون مضمونا في يد المسلم
فكذلك يجوز أن يكون مضمونا في ذمة المسلم. وبهذا تبين انه ليس في اسلام المطلوب معنى
البراءة وأما خمر المسلم يجوز أن يكون مضمونا في يد الذمي فكذلك في ذمته فكان إسلامه
مبرئا بهذا الطريق وهو انه يمنع بقاءها في ذمته بعده ولا يمكن جعل أصل السبب موجبا
للقيمة في الاسلام المقارن لأنه وجب به ضمان المثل فلا تجب به القيمة أيضا بخلاف النكاح
فان على قول محمد يجب قيمة الخمر بعد الاسلام أحدهما كانت بعينها أو بغير عينها لان اسلام
الطالب مبرئ من حيث تعذر ابقائها في الذمة أو مضمونا في يد الزوج بعد اسلامهما ولكن
هذا لا يمنع وجوب ضمان القيمة بأصل السبب لأن هذه القيمة عوض عن البضع وشرط
وجوبها صحة التسمية لابقاء استحقاق المسمى وقد كانت التسمية صحيحة حين كان المسمى
مالا متقوما يومئذ وأبو يوسف رحمه الله يقول تعذر قبض الخمر المستحق في الذمة بسبب
الاسلام فلا تجب القيمة كما لو أسلم الطالب. وتحقيقه أنه لما وجب الخمر بالسبب دينا في ذمته
فلا يمكن ايجاب القيمة باعتبار أصل السبب ولا يمكن ايجاب القيمة عوضا عما كان في الذمة
لان شرطها تمليك ما في الذمة بها والذمي لا يقدر علي تمليك الخمر من المسلم بعوض كما أن المسلم
104

لا يتملك الخمر بعوض فلانعدام الشرط يتعذر استيفاء القيمة كما لو هشم قلب فضة انسان
ثم تلف المكسور في يد صاحب القلب ليس له ان يضمن الكاسر شيئا لان شرط
تضمين القيمة تمليك المكسور منه وذلك فائت وبه فارق الاسلام المقارن لان وجوب
القيمة هناك باعتبار أصل السبب وهو الغصب والاستهلاك فإنه موجب للضمان باعتبار
الجناية من غير أن يكون موجبا الملك في المحل عند التعذر كما في غصب المدبر * وان غصب
خنزيرا فاستهلكه ثم أسلم أحدهما أو أسلما فعليه قيمته لان بنفس الاستهلاك وجبت القيمة
هنا فان الحيوان ليس من ذوات الأمثال والقيمة دراهم أو دنانير فلا يمتنع بقاؤها في
الذمة واستيفاؤها بعد اسلامهما أو اسلام أحدهما * ولو غصب مسلم من مسلم خمرا فجعلها
خلا ثم استهلكها فعليه خل مثلها لأنه بعد ما جعلها خلا بقيت علي ملك صاحبها حتى كان
له أن يأخذها منه فإذا استهلكها فقد استهلك مالا متقوما لغيره وذلك موجب للضمان عليه
أمانة كانت عنده أو مضمونة * وكذلك لو غصب جلد ميتة فدبغه بشئ لا قيمة له ثم
استهلكه فعليه ضمان قيمته لأنه باق على ملك صاحبه ولهذا يتمكن من أخذه من غير
أن يعطيه عوضا. ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول يضمنه قيمته طاهرا غير مدبوغ لان
صفة الدباغ حصل بفعله فلا يوجب الضمان عليه ولكن من ضروته زوال صفة النجاسة
وذلك غير حاصل بفعله بل بتميز الجلد من الدسومات النجسة. وأكثرهم على أنه يضمنه
قيمته مدبوغا لان صفة الدباغ هنا تبع للجلد وهو غير معتبر منفردا عن الجلد ولهذا لا يغرم
باعتباره شيئا وإذا صار أصل الجلد مضمونا عليه بالاستهلاك فكذلك ما يتبعه كالخمر إذا خلله
فأما إذا دبغه بشئ له قيمة ثم استهلكه فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة وفي قول أبى يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يضمن قيمة الجلد مدبوغا ويعطيه ما زاد الدباغ فيه * وجه قولهما ان الجلد
باق على ملك صاحبه بعد الدباغ وهو مضمون الرد على الغاصب ولكن يشترط ان يعطيه
ما زاد الدباغ فيه فإذا استهلكه كان ضامنا كالثوب المغصوب إذا صبغه ثم استهلكه وهذا لمعنيين
(أحدهما) ان الاستهلاك جناية موجبة للضمان في محل هو مال متقوم وقد وجد ذلك لما بقي
الجلد على ملك صاحبه بعد ما صار مالا متقوما كما في الثوب إلا أن هناك السبب الأول
وهو الغصب غير موجب للضمان أيضا فله أن يضمنه بأي السببين شاء وهنا الأول وهو الغصب
موجب للضمان فيتعين التضمين بالسبب الثاني وكان هو في هذا السبب كغيره ولو استهلكه
105

غيره كان للمغصوب منه ان يضمن المستهلك ويعطى الغاصب وما زاد الدباغ فيه (والثاني)
وهو انه لما بقي الجلد مضمون الرد عليه وإذا تعذر رد عينها باستهلاكه بحب عليه رد قيمته لأنه
بالاستهلاك فوت ما كان مستحقا عليه والتفويت موجب للضمان وبه فارق ما لو هلك في
يده فان التفويت منه لم يوجد وهو نظير المستعار إذا فوت المستعير رده بالاستهلاك ضمن
قيمته بخلاف ما إذا فات بغير صنعه * وكذلك لو دبغه بشئ لا قيمة له أو جعل الخمر خلا فلا
يضمن إذا فوت الرد بالاستهلاك ولا يضمن إذا هلك في يده * وحجة أبي حنيفة رحمه الله
في ذلك أن المغصوب منه استفاد المالية والتقوم في هذا الجلد من الغاصب ببدل استوجبه
الغاصب عليه فلا يكون له ان يضمنه شيئا بعد استهلاكه كما لو استهلاك البائع المبيع قبل
التسليم * وتقريره من وجهين (أحدهما) أن الاستهلاك غير موجب للضمان عليه باعتبار ما زاد
الدباغ فهي لان ذلك كان مملوكا له قبل الاتصال بالجلد وبعد الاتصال بقي حقا له حتى كان له أن
يحبسه ليستوفى بدله والجلد بدون هذا الوصف لا يكون مضمونا عليه بالاستهلاك كما لو استهلكه
قبل الدباغ وبه فارق الثوب فان الاستهلاك فيه بدون صفة الصبغ موجب للضمان وبه
فارق ما إذا دبغه بشئ لا قيمة له لان الصنعة ما بقيت حقا للغاصب بعد الاتصال بالجلد ولهذا
لا يحبسه ولا يرجع ببدله وكذلك الخمر إذا خلله (والثاني) أن ما اتصل بالجلد من الصفة هنا
مال متقوم للغاصب حقيقة وحكما وهو قائم من كل وجه وقد كان مالا قبل الاتصال بالجلد وبقي
بعده كذلك وأما أصل الجلد لم يكن مالا متقوما قبل الدباغ وما كان مالا بنفسه ومتصلا بغيره
يترجح على ما لم يكن مالا قبل الاتصال وإنما صار مالا بالاتصال فتكون العبرة للراجح واستهلاكه
فيه غير موجب للضمان بخلاف الثوب لان الأصل هناك كان مالا قبل الاتصال وإنما
صار مالا بالاتصال ولما استويا في صفة المالية رجحنا ما هو الأصل. وإذا دبغه بشئ
لا قيمة له فالوصف هنا ليس بمال قبل الاتصال ولا بعده والأصل مال بعد الاتصال
فرجحنا جانب الأصل لهذا ولا يقال في حال بقاء الجلد رجحنا حق صاحب الأصل حتى
مكناه من أخذه. ويملك الوصف على الغاصب بعوض وهذا لان أخذ العين كان باعتبار
الملك دون المالية والتقوم ولهذا كان متمكنا من استرداده قبل الدباغ وفي حكم الملك
الأصل مرجح لأنه كان مملوكا قائما بنفسه قبل الاتصال وبعده فأما وجوب الضمان عند
الاستهلاك باعتبار صفة المالية والتقوم وصفة الدباغ في معنى المالية والتقوم يترجح علي
106

أصل الجلد فيعتبر ذلك في ايجاب الضمان * يحقق ما قلنا أن فائدة وجوب الضمان الاستيفاء
ولا يستوفى منه قدر مالية الدباغة بالاتفاق وكيف يستوفى منه ما هو واجب له علي غيره
* ولو ظفر صاحب الحق بجنس حقه فاستهلكه لم يغرم شيئا فإذا ظفر بعين حقه فاستهلكه
أولى أن لا يضمن شيئا فإذا تعذر ايجاب هذا القدر عليه انفصل أصل الجلد عن صفة الدباغة
حكما فيعتبر بما لو كان منفصلا حقيقة فلا يجب عليه ضمان قيمة الجلد وهما قد اعتبرا هذا
حتى قالا لا يكون له أن يضمنه قيمة الجلد غير مدبوغ (ولو) غصب من رجل عينا فقال
المغصوب منه للغاصب أبرأتك عن الغصب ثم هلك في يده الغاصب لم يضمن شيئا في قول
علمائنا رحمهم الله. وقال زفر هو ضامن للقيمة لان الابراء عن العين لغو فان الابراء اسقاط
والعين ليست بمحل له إذ لا تسقط حقيقة ولا يسقط ملك المالك عنها أيضا وإضافة
التصرف إلى غير محله لغو. ولكنا نقول قوله أبرأتك عن الغصب أي عما وجب لي عليك
بسبب الغصب بمنزلة ابراء المجني عليه الجاني عن الجناية وابراء المشترى البائع عن العيب
والواجب له بسبب الغصب رد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاكه وذلك قابل للاسقاط
فيسقط عنه وإذا سقط عنه ذلك بقي العين أمانة في يده كالوديعة ولأنه لو أبرأه بعد تقرر
الضمان عليه بالهلاك صح الابراء فكذلك إذا أبرأه بعد تقرر السبب (ولو) غصب جارية
فحبلت عند الغاصب ثم ردها فولدت ثم هلكت بالولادة يجب عند أبي حنيفة رحمه الله على
الغاصب ضمان قيمتها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقوم حاملا وغير حامل فيكون
على الغاصب ضمان النقصان لان الرد قد صح مع الحبل ولكنها معيبة بعيب الحبل وذلك
موجب ضمان النقصان عليه فاما هلاكها بسبب الآلام الحادثة بعد الرد وهو الطلق فلا
يبطل به حكم الرد كما لو حمت الجارية عند الغاصب ثم ردها فهلكت أو زنت عند الغاصب
ثم ردها فجلدت وماتت من ذلك لم يضمن الغاصب الا نقصان عيب الزنا * وكذلك
المبيعة إذا سلمها إلى المشترى وهي حبلى فماتت في الولادة لم يرجع المشترى على البائع بجميع
الثمن بالاتفاق وأبو حنيفة رحمه الله يقول الواجب على الغاصب نسخ فعله بالرد ولم يوجد ذلك
حين ردها لا على الوجه الذي قبضها ولما هلكت بالسبب الذي كان عند الغاصب يجعل في
الحكم كأنها هلكت عند الغاصب كما لو جنت عند الغاصب ثم ردها فدفعت في الجناية فإنه
يضمن قيمتها ويجعل كأنه لم يردها أصلا بخلاف الحمى لان الهلاك لم يكن بالسبب الذي كان
107

عند الغاصب إنما كان لضعف الطبيعة عن دفع آثار الحمى المتوالية وذلك لا يحصل بأوله
الحمى عند الغاصب وان ذلك غير موجب لما كان بعده. وهنا أصل السبب ما كان عند
الغاصب لان الحبل يوجب انفصال الولد وانفصال الولد يوجب آلام الولادة فما يحدث
به يكون محالا على السبب الأول. بخلاف الجلد لان الزنا يوجب جلدا مؤلما غير جارح ولا
متلف ولهذا يختار سوطا لا ثمرة له فلم يكن الهلاك محالا به على السبب الذي كان عند
الغاصب وهذا بخلاف الشراء لأن الشراء يوجب تسليم المبيع إلى المشترى على الوجه الذي
يتناوله العقد وهو انه مال متقوم وقد وجد ذلك باعتبار ظاهر الحال وهو ان الغالب في
الولادة السلامة فإنما علي الغاصب نسخ فعله وذلك في أن يرده كما قبضه ولم يوجد ذلك
* ألا ترى أن البائع لو قطع يده ثم باعه وسلمه إلى المشترى فمات من ذلك في يده لم يرجع
بجميع الثمن بخلاف الغاصب إذا قطع يدها ثم ردها فماتت من ذلك * ثم على قول أبى
يوسف ومحمد رحمهما الله هي قد تعيبت في يد الغاصب بعيب الزنا والحبل جميعا * ففي القياس
يضمن الغاصب نقصان العيب وهو قول محمد رحمه الله. وفي الاستحسان وهو قول أبى
يوسف يضمن أكثرهما ويدخل الأقل في الأكثر. وكذلك عند أبي حنيفة إذا سلمت من
الولادة ينظر إلى نقصان الزنا ونقصان الحبل فعليه ضمان أكثرهما ولكن إن كان عيب
الحبل أكثر فقد زال ذلك بالولادة فلا يلزمه الا قدر نقصان عيب الزنا وإن كان عيب
الزنا أكثر فعليه ضمان ذلك لان عيب الزنا لا ينعدم بالولادة فمحمد رحمه الله اعتبر الحقيقة
وهو ان الحبل عيب آخر سوى عيب الزنا لتحقق انفصال كل واحد منهما عن الآخر
وأبو يوسف رحمه الله اعتبر اتحاد السبب وقال الحبل هنا حصل بذلك السبب فبحكم اتحاد
السبب يدخل الأقل في الأكثر كما في نقصان البكارة مع العقر الواجب بالوطئ فإنه يدخل
الأقل في الأكثر لاتحاد السبب فكذلك هنا والله سبحانه وتعالي أعلم
كتاب الوديعة
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه
الله تعالى إملاء. الايداع عقد جائز عقد جائز لأنه تصرف من المالك في ملكه وقد يحتاج إليه عند إرادة
السفر والحاج يحتاج إلى ايداع بعض ماله في كل موضع لينتفع به إذا رجع والمودع مندوب
108

إلى القبول شرعا لما فيه من الإعانة على البر قال الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) وقال
صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. وبعد القبول عليه
أداء ما التزم وهو الحفظ حتى يؤديها إلى صاحبها لقوله تعالى (ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات
إلى أهلها) وقد قيل في سبب النزول ان المراد رد مفتاح الكعبة على عثمان بن أبي طلحة
لأنه حين أتاه به قال خذه بأمانة الله تعالى ولكن ظاهر الآية يتناول كل أمانة قال صلى
الله عليه وسلم من ائتمن أمانة فليؤدها وقال صلى الله عليه وسلم أد الأمانة من ائتمنك ولا
تخن من خانك وقال صلى الله عليه وسلم علامة المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد
أخلف وإذا ائتمن خان. على الموحد أن يحترز عما هو من علامة المنافق وذلك بأن يحفظ
الوديعة على الوجه الذي يحفظ به مال نفسه فيضعها في بيته أو صندوقه لأنه وعد لصاحبها
ذلك وخلف الوعد مذموم وإذا ترك الحفظ بعد غيبة صاحبها ففيه ترك الوفاء بما التزام
والغرور في حق صاحبها وذلك حرام. فان وضعها في بيته أن صندوقه فهلكت لم يضمنه
لحديث عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أودع وديعة
فهلكت فلا ضمان عليه ولحديث ابن الزبير عن جابر رضى الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المودع غير المغل ضمان. فالمراد بالمغل
الخائن قال صلى الله عليه وسلم لا أغلال ولا اسلال في الاسلام والأغلال الخيانة والاسلال
السرقة وقد قيل المغل المنتفع من قولهم أرض مغل أي كثير الريع والغلة فعلى هذا المراد
المنتفع بغير إذن صاحبه. وقال عمر رضى الله تعالى عنه العارية كالوديعة لا يضمنها صاحبها الا
بالتعدي. وقال على رضى الله تعالى عنه لا ضمان على راع ولا على مؤتمن. والمعنى فيه أن
المودع متبرع في حفظها لصاحبها والتبرع لا يوجب ضمانا على المتبرع للمتبرع عليه
فكان هلاكها في يده كهلاكها في يد صاحبها وهو معنى قول الفقهاء رحمهم الله تعالى
يد المودع كيد المودع ويستوي ان هلك بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن لان
الهلاك بما يمكن التحرز عنه بمعنى العيب في الحفظ ولكن صفة السلامة عن العيب إنما تصير
مستحقا في المعاوضة دون التبرع والمودع متبرع * فان دفعها إلى بعض من في عياله من زوجته
أو ولده أو والديه أو أجيره فلا ضمان عليه إذا هلكت استحسانا. وفي القياس هو ضامن لأنه
استحفظ من استحفظ منه. ويؤيد وجه القياس قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)
109

والمراد النساء فإن كان هو منهيا عن دفع مال نفسه إلى امرأته فما ظنك في مال غيره * وجه
الاستحسان أن المطلوب منه حفظ الوديعة علي الوجه الذي يحفظ مال نفسه والانسان يحفظ مال
نفسه بيد من في عياله على ما قيل قوام العالم بشيئين كاسب يجمع وساكنة تحفظ ولأنه لا يجد
بدا من هذا فإنه إذا خرج من داره في حاجته لا يمكنه أن يجعل الوديعة مع نفسه وإذا خلفها في
داره صارت في يد امرأته حكما وما لا يمكن الامتناع عنه عفو * وذكر في جملة من في
عياله الأجير والمراد التلميذ الخاص الذي استأجره مشاهرة أو مسانهة فأما الأجير بعمل من الاعمال
كسائر الأجانب يضمن الوديعة بالدفع إليه. فإذا انشق الكيس في صندوقه فاختلط بدراهمه
فلا ضمان عليه لانعدام الصنع الموجب للضمان عليه ولو يمكن تقصير فذلك من المودع
بأن جعل دراهم الوديعة في كيس بال ولكن المختلط مشترك بينهما بقدر ملكهما فان هلك
بعضها هلك من مالهما جميعا ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما لأنه ليس
أحدهما بأن يجعل الهالك من نصيبه بأولى من الآخر والأصل في المال المشترك إذا هلك
شئ منه ان ما هلك هلك على الشركة وما بقي على الشركة باعتبار أن الهالك يجعل كأن لم يكن
(وان) فعل ذلك انسان ممن هو في عيال المودع من صغير أو كبير أو مملوك أو أجنبي فلا
ضمان فيه على المستودع لانعدام الخلط منه حقيقة وحكما فان فعل من في عياله كفعله فيما
هو مأمور به من جهته صريحا أو دلالة وذلك لا يوجد في الخلط ولكن الضمان على الذي
خلطها بمباشرة الفعل الموجب للضمان والصغير والكبير في ذلك سواء لان الصغير مؤاخذ
بضمان الفعل فان تحقق الفعل بوجوده لا ينعدم بالحجر بسبب الصغر * ثم الخلط أنواع ثلاثة
(خلط) يتعذر التمييز بعده كخلط الشئ بجنسه فهذا موجب للضمان لأنه يتعذر به على المالك
الوصول إلى عين ملكه * وخلط يتيسر معه التمييز كخلط السود بالبيض والدراهم بالدنانير
فهذا لا يكون موجبا للضمان لتمكن المالك من الوصول إلى عين ملكه فهذه مجاورة ليس
بخلط * وخلط يتعسر معه التمييز كخلط الحنطة بالشعير فهو موجب للضمان لأنه يتعذر على
المالك الوصول إلي عين ملكه الا بحرج والمتعسر كالمتعذر كما بيناه في الغصب (فان قيل) تمييز
الحنطة من الشعير ممكن بأن يصب من ماء فترسب الحنطة ويطفو الشعير (قلنا) في هذا
إفساد للمخلوط في الحال. اثم الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير كما لا يخلو الشعير عن حبات
الحنطة فما كان من حياة الحنطة لصاحب الشعير يرسب وما كان من حبات الشعير لصاحب
110

الحنطة يطفو فعرفنا أن التمييز متعذر بهذا الطريق أيضا * وكذلك خلط الجياد بالزيوف إن كان
بحيث يتعذر التمييز أو يتعسر فهو موجب للضمان على الخالط وإن كان بحيث يتيسر التمييز
لا يكون موجبا للضمان عليه * يقول فإن لم يظهر بالخلط فقال أحدهما أنا آخذ المخلوط وأغرم
لصاحبي مثل ما كان له فرضى به صاحبه جاز لان الحق لهما فإذا تراضيا على شئ صح ذلك
في حقهما وان أبى ذلك أحدهما فإنه يباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على قيمة الحنطة والشعير
على التفسير الذي بيناه في الغصب قبل هذا الجواب. إنما يستقيم علي قول أبى يوسف ومحمد
رحمهما الله ورواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في أن ملك المالك لا ينقطع عن المخلوط
بل له الخيار بين الشركة في المخلوط وبين تضمين الخالط فأما علي ما هو الظاهر من
مذهب أبي حنيفة المخلوط ملك للخالط وحقهما في ذمته فلا يباع ماله في دينهما لما فيه
من الحجر عليه وأبو حنيفة لا يرى ذلك والأصح انه قولهم جميعا لان ملكهما وان انقطع عن
المخلوط فالحق فيه باق ما لم يصل إلي كل واحد منهما بدل ملكه ولهذا لا يباح للخالط أن
ينتفع بالمخلوط قبل أداء الضمان فلبقاء حقهما يكون لهما أن يستوفيا حقهما من المخلوط
إما صلحا بالتراضي أو بيعا وقسمة الثمن إذا لم يتراضيا علي شئ * وإذا كان عند الرجل
وديعة دراهم أو دنانير أو شئ من المكيل أو الموزون فأنفق طائفة منهما في حاجته كان
ضامنا لما أنفق منها اعتبارا للبعض بالكل ولو لم يصر ضامنا لما بقي منها لأنه في الباقي
حافظ للمالك وبما أنفق لم بتعيب الباقي فان هذا مما لا يضره التبعيض فهو كما لو أودعه
وديعتين فأنفق إحداهما لا يكون ضامنا للأخرى. فان جاء بمثل ما أنفق فخلطه بالباقي
صار ضامنا لجميعها لان ما أنفق صار دينا في ذمته وهو لا ينفرد بقضاء الدين بغير محضر
من صاحبه فيكون فعله هذا خلطا لما بقي بملك نفسه وذلك موجب للضمان عليه * فإن كان
حين أنفق بعضها وجاء بمثله فخلط بالباقي أفتى بأنه صار ضامنا لها كلها فباعها ثم جاء رب
الوديعة فضمنها إياه وفى الثمن فضل قال يطيب له حصة ما خلطه بها من ماله من الفضل
لأنه ربح حصل على ملكه وضمانه ويتصدق بحصة الثاني من الوديعة في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وفي قول أبى يوسف رحمه الله لا يتصدق به لأنه بالضمان قد ملكه مستندا
إلى وقت وجوب الضمان ولهذا نفذ بيعه فكان هذا ربحا حاصلا على ملكه وضمانه فيطيب له
كما في حصة ملكه وهما يقولان هذا ربح حصل له بكسب خبيث فإنه ممنوع من بيع الوديعة
(8 مبسوط حادي عشر)
111

اما لبقاء ملك المودع كما في الباقي بعد الخلط في احدى الروايتين أو لبقاء حقه على ما قلنا والربح
الحاصل بكسب خبيث سبيله التصدق به ولان المودع عند البيع يخبر المشترى أنه يبيع ملكه
وحقه وهو كاذب في ذلك والكذب في التجارة يوجب الصدقة بدليل حديث قيس بن عروة
الكناني قال كنا نتبايع في الأسواق بالأوساق ونسمى أنفسنا السماسرة فدخل علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسمانا بأحسن الأسماء وقال يا معشر التجار ان تجارتكم هذه يحضرها
اللغو والكذب فشوبوها بالصدقة فعملنا بالحديث في ايجاب التصدق بالفضل وهذا إذا
كانت الوديعة شيئا يباع فإن كانت دراهم فالدراهم يشترى بها ثم ينظر ان اشترى بها بعينها
ونقدها لا يطيب له الفصل أيضا وان اشترى بها ونقد غيرها أو اشترى بدارهم مطلقة ثم
نقدها يطيب له الربح هنا لان الدراهم لا تتعين بنفس العقد ما لم ينضم إليه التسليم ولهذا لو
أراد أن يسلم غيرها كان له ذلك فأما بالقبض يتعين نوع تعين ولهذا لا يملك استرداد المقبوض
من البائع ليعطيه مثلها فلهذا قلنا إذا استعان في العقد والنقد جميعا بالدراهم الوديعة أو المغصوبة
لا يطيب له الفضل وكذلك إن اشترى بها مأكولا ونقدها لم يحل له أن يأكل ذلك قبل
أداء الضمان ولو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم حل له أن ينتفع بها * وفي النوادر
لو اشترى دينارا بعشرة دراهم ونقد الدراهم المغصوبة لم يحل له ان ينتفع بالدينار ما لم يؤد
الضمان لان صاحب الدراهم إذا استحق دراهمه فسد العقد ووجب عليه رد الدينار فكانت
كالمقبوض بحكم عقد فاسد بخلاف ما لو نقدها في ثمن الطعام لأنه بالاستحقاق هناك لا يبطل
الشراء بل يبقى الثمن دينا في ذمته كما كان * وعلى هذا قالوا لو غصب ثوبا واشترى به جارية
لم يحل له أن يطأها لأنه لو استحق الثوب لزمه رد الجارية * ولو تزوج بالثوب المغصوب
امرأة حل له أن يطأها لان المغصوب منه إذا استحق الثوب لا يبطل النكاح ولا التسمية
(فان) كان أخذ بعض الوديعة لينفقه في حاجته ثم بدا له فرده إلى موضعه ثم ضاعت الوديعة فلا
ضمان عليه لان رفعه حفظ فلا يكون موجبا للضمان عليه * بقي مجرد نية الانفاق في حاجته
وبمجرد النية لا يصير ضامنا كما لو نوى أن يغصب مال انسان وهذا لقوله صلى الله عليه
وسلم ان الله تعالى تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا والعراقيون
يقولون كاد ولما أي كاد يعصى فعصم والمعصوم لا يعاقب بعقوبة من عصى. ولئن صار ضامنا
بأرفع فقد عاد إلي الوفاق برد العين إلي مكانه وذلك يبرئه عن الضمان عندنا علي ما نبينه بخلاف
112

ما سبق لان هناك إنما جاء بملك نفسه فوضعه مكان ما أنفق ولهذا لا يكون عودا إلي الوفاق
فيما خالف فيه وهنا إنما جاء بالوديعة بعينها فتحقق عوده إلى الوفاق وهذا أولى الوجهين عندي
فإنه لو باعها ثم ضمن قيمتها نفذ البيع من جهته وإنما يستند ملكه بالضمان إلى وقت وجوب
الضمان فلو لم يكن الرفع للبيع موجبا للضمان عليه قبل البيع والتسليم لم يستند ملكه إلى
تلك الحالة فينبغي أن لا ينفذ بيعه والرواية محفوظة في هذا الكتاب وفى المضاربة ان البيع
نافذ فعرفنا ان الأوجه هو الطريق الثاني (وإذا) طلب المودع الوديعة فقال المستودع قد
رددتها عليك فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين لانكاره السبب
الموجب للضمان واخباره بما هو مسلط عليه وهو رد الوديعة على صاحبها والمودع هو الذي
سلطه على ذلك فيجعل قوله كقول المسلط الا انه يستحلف لنفى التهمة عنه * وكذلك لو
سرقت أو ضاعت أو ذهبت وقال لا أدرى كيف ذهبت لأنه أمين أخبر بما هو محتمل ولأنه
ينكر وجوب الضمان عليه والمالك يدعى عليه سبب الضمان وهو المنع بعد الطلب فلا يصدق
إلا بحجة (واختلف) المتأخرون رحمهم الله فيما إذا قال ابتداء لا أدرى كيف ذهبت فمنهم
من يقول هو ضامن لها لأنه جهلها بما قال والمودع بالتجهيل يصير ضامنا بخلاف ما إذا قال
ذهبت ولا أدرى كيف ذهبت لأنه بقوله ذهبت يخبر بهلاكها ويكفيه هذا المقدار فلا
معتبر بعد ذلك بقوله لا أدرى كيف ذهبت والأصح انه لا يصير ضامنا لأنه مخبر بهلاكها
محترز عن الكذب والمجازفة في القول بقوله لا أدرى كيف ذهبت وهذا لان أصل الذهاب
معلوم من هذا اللفظ لا محالة وإنما التجهيل في كيفية الذهاب والاخبار بأصل الذهاب يكفي
في براءته عن الضمان * وان قال بعثت بها إليك مع رسولي وسمى بعض من في عياله فهو
كقوله رددتها عليك لان يد من في عياله لما جعل كيده في الحفظ فكذلك في الرد يد من
في عياله كيده فلا يصير بهذا مقرا بالسبب الموجب للضمان عليه (وإذا) قال بعثت بها إليك
مع أجنبي فهو ضامن حتى يقر المودع بوصولها إليه عندنا (قال) ابن أبي ليلى رحمه الله
لا ضمان عليه وهذا بناء على أن عنده للمودع أن يودع غيره لأنه يحفظ الوديعة على الوجه
الذي يحفظ ماله وقد يودع الانسان مال نفسه من أجنبي فكذلك له أن يودع الوديعة من
غيره فلا يصير ضامنا بالدفع إلى غيره ليحفظ أو يرد كما في حق من في عياله * وعندنا ليس للمودع
أن يودع غيره لان الحفظ يتفاوت فيه الناس والمودع إنما رضي بحفظه وأمانته دون غيره فإذا
113

دفع إلى أجنبي فقد صار تاركا للحفظ الذي التزمه مستحفظا عليه من استحفظ منه فيكون
ضامنا. بخلاف من في عياله فان المودع هو الحافظ له بيد من في عياله لان من في عياله في
يده فما في يد من في عياله كذلك فأما إذا دفع إلى أجنبي لا يكون هو حافظا له بل
الأجنبي هو الحافظ له والمودع لم يرض بهذا فيكون ضامنا حتى يقر المودع بوصولها إليه
فإذا أقر بذلك برئ عن الضمان بوصول المال إلى يد صاحبه كما يبرأ الغاصب بوصول
المغصوب إلي يد صاحبه * وكذلك العارية في جميع ذلك لأنها أمانة كالوديعة. وفي هذا بيان
أن المستعير ليس له أن يودع أجنبيا كالمودع وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله له ذلك لان
للمستعير ان يعير فيما لا تفاوت الناس في الانتفاع به وفى الإعارة ايداع وزيادة ولكن
الأول أصح لان المستعير عندنا مالك للمنفعة فاعاراته من الغير تصرف فيما هو مملوك له وهو
المنفعة ثم يتعدى تسليمه إلى العين حكما لتصرفه في ملك نفسه فلا يكون موجبا للضمان عليه
فأما ايداعه من الغير فهو تصرف في العين ولا حق له في العين فيكون موجبا للضمان عليه
كالايداع من المودع * فان قال بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي أو استودعتها إياه ثم ردها
علي فضاعت عندي لم يصدق وهو ضامن لها لأنه أقر بوجود السبب الموجب للضمان
عليه ثم ادعى ما يسقط عنه فلا يصدق كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب فان أقام البينة علي
ذلك برئ من الضمان لأنه أثبت البراءة بالحجة والثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم وهو
مذهبنا فان المودع إذا خالف ثم عاد إلي الوفاق يبرأ عن الضمان وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه
لا يبرأ وبيانه في هذه المسألة وفيما إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه فهلك وحجة الشافعي قوله صلى
الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد. وهو حين أخذها للاستعمال صارت مضمونة
عليه حتى لو هلكت في تلك الحالة ضمنها فلا يبرأ الا بالرد على المالك ولم يوجد ولان الوديعة
تضمن بالخلاف من طريق القول وهو الجحود تارة وبالخلاف من طريق الفعل أخرى ثم
إذا ضمنها بالجحود لم يبرأ بذلك الخلاف ما لم يردها إلى المالك فكذلك بالاستعمال بل أولى لان
الاستعمال يتصل بالعين والجحود لا يتصل به * وقاس بالمستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوزه
ثم عاد إليه لم يبرأ * وكذلك المستعير يعلم أنه أمين ضمن الأمانة بالخيانة ولان المودع معير يده
من المودع في الحفظ فإذا خالف فقد استرد يد عاريته وهو ينفرد به ثم إذا عاد إلى الوفاق فقد
أراد إعادة يده ثانيا منه وهو لا ينفرد به ولان موجب العقد هو الحفظ للمالك وبالخلاف
114

يفوت موجب العقد اما لتركه الحفظ أصلا أو لتركه الحفظ للمالك حين حفظها لنفسه فلا
يبقى العقد بعد فوات موجبه. ولان الأسنان إنما يأتمن الأمين علي ماله دون الخائن ومطلق
العقد يتقيد بدلالة العرف كالشراء بمطلق الدراهم يتقيد بنقد البلد وإذا تقيد العقد بما قبل
الخلاف لا يبقى بعده * وحجتنا في ذلك أن الايداع مطلق فكان باقيا بعد الخلاف * وبيان
الوصف أنه قال احفظ مالي أو قال احفظه أبدا ولا يشكل على أحد أن هذا اللفظ يتناول
الحفظ قبل الخلاف وبعده ثم لم يبطل بالخلاف لان بطلان الشئ بما هو موضع لابطاله أو
بما ينافيه والاستعمال ليس بموضع لابطال الايداع وهو لا ينافيه * ألا ترى ان الامر بالحفظ
مع الاستعمال صحيح ابتداء بأن يقول للغاصب أو دعتك وهو مستعمل له والخلاف ليس
برد لان الامر قول ورد القول بقول مثله ولان الخلاف يكون في حال غيبة المودع ولو
قال رددت الامر في هذه الحالة لم يرتد. ولأنه تصرف في حفظ الواجب بالأمر على خلاف
ما يوجبه وليس بتصرف في الامر وصحة الامر كأن يكون الآمر أهلا له وكون الحفظ
مقصودا من المأمور ولم ينعدم شئ من ذلك بخلاف الجحود فإنه رد للامر بعينه لان الجاحد
يكون متملكا للعين والمالك في ملكه لا يكون مأمورا بالحفظ من جهة غيره والدليل عليه
أوامر الشرع فالجحود فيها رد والخلاف لا يكون ردا حتى لو ترك صوما أو صلاة لم يكفر
(وكذلك) في أوامر العباد إذا وكله ببيع عين بألف فباعه بخمسمائة وسلم لم تبطل الوكالة
مع تحقق الخلاف ومع أن الوكالة جائزة غير لازمة كالايداع. وعذره ان البيع لا يستغرق
المدة فالامر به لا يبطل بالخلاف والحفظ يستغرق المدة فيبطل الامر به إذا خالف في بعض
المدة هنا وهناك حتى يصير ضامنا * ويشكل بالاستئجار للحفظ فإنه يستغرق المدة ثم
لا يبطل بالخلاف من طريق الفعل وعذره عن الإجارة انها لازمة حتى لا يبطل بالجحود ضعيف
لان بطلان العقد عنده بفوات المعقود عليه واللازم وغير اللازم فيه سواء إنما يفترق اللازم
وغير اللازم فيما هو رد. ثم في الاستئجار العقد ورد على منفعة الحافظ في المدة والمنفعة تحدث
شيئا فشيئا فبترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر ويكون باقيا فيما وراءه كبقاء
المعقود عليه فكذلك في الحفظ بغير بدل * فأما استئجار الدابة إلى مكان فقد قال بعض أصحابنا
رحمهم الله ان استأجرها ذاهبا وجائيا يبرأ عن الضمان بالعود إلى ذلك المكان فيصير ضامنا
بالمجاوزة لوجود سبب الضمان ثم بالعود إلى ذلك المكان لا يعود العقد بينهما * ولو سلمنا
115

فنقول العقد هناك يرد علي منافع الدابة في ذلك المكان فباخراج الدابة من ذلك المكان
يفوت المعقود عليه أصلا وهنا العقد يرد علي منفعة الحافظ وبالخلاف من طريق الفعل لم
يفت جميع المعقود عليه إنما وقع التغير في التسليم في بعضه لان كان مأمورا بتسليم العين في
المصر فإذا أخرجه يتغير التسليم من غير أن يفوت المعقود عليه حتى أن في الإجارة لو حمل
عليها حملا آخر في ذلك المكان ثم نزع برئ عن الضمان لبقاء المعقود عليه وتمكن التغير
كان في الاستيفاء ولان المستأجر ضامن بالامساك لا في المكان المأمور به وهو في
الامساك عامل لنفسه * ألا ترى أنه لو أمسكها أياما في بيته كان ضامنا فلا يتحقق الرد منه
بعد الخلاف إذا كان ممسكا لمنفعة نفسه فأما المودع لا يضمن بالامساك بل بالاستعمال وقد
زال ذلك كله حتى أن في الإجارة إذا لم يضمن بالامساك برئ بترك الخلاف على ما قال في
الإجارات إذا استأجرت المرأة ثوب صيانة لتلبسه أياما فلبست بالليل كانت ضامنة فإذا
جاء النهار برئت لأن الضمان عليها بالاستعمال ليلا دون الامساك (إذا) ثبت بقاء عقد
الوديعة فنقول يد المودع كيد المودع فاما ان يجعل في حالة الخلاف كان العين في يد المالك
والمستعمل متشبث به فان هلك من عمله ضمن وإلا فلا كما لو تشبث بثوب في يد صاحبه وهذا
اختيار الهندواني رحمه الله. والأصح انه ضامن إذا هلك في حالة الخلاف سواء كان من
استعماله أو من غير استعماله * وفي الكتاب ما يدل عليه فان قال برئ عن الضمان وذلك
لا يكون الا بعد صيرورة العين مضمونا عليه * ولو تنازعا في الهلاك انه كان في حالة الخلاف
أو بعد ترك الخلاف كان القول قول المالك فعرفنا انه صار ضامنا وطريق صيرورته ضامنا
تفويت المعقود عليه ونزع يده ضمنا للخلاف ولكن ما ثبت ضمنا للشئ يتقدر بقدرة ففيما
وراء زمان الخلاف يد المودع كيد المودع لبقاء العقد والاستدامة فيما يستدام له حكم
الانشاء * ولو أودعه ابتداء برئ عن الضمان باعتبار ان يد المودع كيد المودع فكذلك
هنا * وتبين بهذا ان استرداده يد عاريته كان مقصودا علي حالة الخلاف لأنه ثبت ضمنا
له ودعوى تقييد الامر بما قبل الخلاف كلام باطل فان أحدا لا يظن بصاحب المال أن
يقول احفظ مالي ما لم تخن فإذا خنت فلا تحفظ ولكنه يقول احفظ ولا تخن فإذا خنت
فاترك الخيانة واحفظه لي لان مقصوده من الامر بالحفظ أن يكون ماله مصونا عنده
والحاجة إلى ذلك في حالة الخلاف أظهر * وإذا طلب المودع الوديعة فجحدها المستودع
116

كان ضامنا لها لوجهين (أحدهما) أنه بالجحود صار متملكا فان الشرع جعل القول قوله
فيما في يده ولا يتملك أحد مال الغير بغير رضاه الا بالضمان ولان المالك عزله عن الحفظ
حين طالبه بالرد فهو بالجحود صار مانعا المالك عن ملكه مفوتا عليه يده الثابتة حكما فيكون
كالغاصب ضامنا بهذا الطريق. ولم يذكر في الكتاب إذا جحدها لا في وجه المودع * فان
قال له انسان ما حال وديعة فلان عندك فجحدها أو جحدها في وجه المودع من غير أن
يطالبه بالرد بأن قال له ما حال وديعتي عندك ليشكره على حفظها فجحدها. وذكر
الفصلين في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أنه على قول زفر يكون ضامنا لما ذكرنا أنه
بالجحود متملك لها ومفوت يد المالك حكما (وقال) أبو يوسف لا يكون ضامنا لان المالك
ما عزله عن الحفظ فيكون العقد باقيا وباعتبار بقائه يده كيد المالك في العين ولان الجحود
في حال غيبة المالك من الحفظ لأنه طريق لدفع طمع الطامعين عنها فلا يكون موجبا للضمان
عليه * فان أقام رب الوديعة البينة بعد جحود المودع انه استودعه كذا ثم أقام المستودع البينة
انها ضاعت فهو ضامن لها لأنه بالجحود صار ضامنا وهلاك المضمون في يد الضامن يقرر
عليه الضمان * وكذلك أن أقام البينة انها كانت ضاعت قبل جحوده لان البينة لا تقبل الا بعد
نقدم الدعوى * وهو مناقض في كلامه فجحوده أصل الايداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله
فلهذا لا تقبل بينته إلا أن يقر المودع بذلك فحينئذ لا ضمان على المودع لان الاقرار موجب
بنفسه في حق المقر ولان المناقض إذا صدقه خصمه كان مقبول القول * وان قال لم تودعني
شيئا ثم قال قد أودعتني ولكنها هلكت فهو ضامن لها لما بينا ان جحوده أصل الابداع يمنعه
من دعوى الهلاك قبله والهلاك بعد الجحود يؤكد الضمان عليه * وان قال قد أعطيتكها ثم قال
بعد أيام لم أعطكها ولكنها ضاعت لم يصدق وهو ضامن لها * وطعن عيسى في هذا وقال لا ضمان
عليه لأنه تكلم بكلامين لو تكلم بكل واحد منهما على الانفراد لم يكن ضامنا فبمجموعهما
كيف يصير ضامنا * وتقرير هذا من وجهين (أحدهما) أن الضمان يستدعى سببا لا محالة ولم
يوجد لان قبضه بإذن المالك ولم يوجد منه جحود ليكون ضامنا (والثاني) ان قول المودع
رددتها أو هلكت معتبر في نفى الضمان عنه لا في ثبوت الرد به ولهذا لو ادعى الرد على
الوصي لم يضمن الوصي شيئا * وإذا كان المقصود نفى الضمان عنه ولا تناقض بين كلاميه فيما
هو المقصود لا يكون ضامنا شيئا * ووجه ظاهر الرواية انه مناقض في كلامه لان اخباره بالرد
117

يمنعه من دعوى الهلاك في يده واخباره بالهلاك في يده يمنعه من دعوى الرد فسقط اعتبار
كلامه للتناقض فيبقى ساكتا ممتنعا من رد الوديعة بعد ما طولب بها وذلك سبب موجب
للضمان عليه فكان ضامنا لهذا * فان قال استودعتني ألف درهم فضاعت وقال الطالب
كذبت بل غصبتها منى فالقول قول المستودع لان المقر له يدعى عليه سبب الضمان
وهو الغصب والمستودع منكر لذلك ولم يسبق منه اقرار بسبب موجب للضامن أنما
ذكر أن صاحب المال وضع ماله في موضع فضاع وفعل الانسان في مال نفسه لا يكون
موجبا للضمان على غيره * وان قال المستودع أخذتها منك وديعة وقال الآخر بل غصبتني
فهو ضامن لها لإقراره بوجود الفعل الموجب للضمان منه في ملك الغير وهو الاخذ. قال
صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه وهو اذن
المالك إياه في الاخذ فلا يصدق على ذلك ويكون ضامنا إلا أن يقيم البينة أو يأتي المالك
اليمين فيقوم نكوله مقام إقراره * وان قال رب المال بل أقرضتكها قرضا وقال المستودع بل
وضعتها عندي وديعة أو أخذتها منك وديعة وقد ضاعت فلا ضمان عليه لأنهما تصادفا علي
ان الاخذ حصل بإذن المالك فلا يكون موجبا للضمان الا باعتبار عقد الضمان والمالك يدعى
ذلك بقوله أقرضتكها والمودع منكر فكان القول قوله لانكاره. ثم بين في خلط الحنطة
بالشعير انه إن كان بحيث يستطاع ان يخلص فلا ضمان علي المودع وقد يكون ذلك بأن يدق
حبات الحنطة فتغربل فتتميز من الشعير فإذا كان بهذه الصفة كان هذا كخلط البيض
بالسود فلا يكون موجبا للضمان (رجل) استودع رجلا ألف درهم وله على المستودع
ألف قرض فأعطاه ألف درهم ثم اختلفا بعد أيام فقال الطالب أخذت الوديعة وقال
المستودع أعطيت القرض وقد ضاعت الوديعة فالقول قول المستودع لأنه هو الدافع
للألف فالقول قوله انه من أي جهة دفعه وقد زعم أنه دفعه عن جهة قضاء الدين فبرئ
من الدين به وبقيت الوديعة في يده وقد أخبر بهلاكها فالقول قوله في ذلك يوضحه انه لو لم
يدفع إليه شيئا حتى أخبر بهلاك الوديعة كان القول قوله ولا يجب على الا أداء الألف بدل
القرض فكذلك إذا أخبر بهلاك الوديعة بعد أداء الألف (رجل) استودع صبيا محجورا عليه
مالا فاستهلكه لم يضمن في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ضامن في قول أبى يوسف
والشافعي رحمهما الله * وجه قولهما ان ضمان الاستهلاك ضمان فعل والصبي والبالغ فيه سواء
118

لما بينا أن تحقق الفعل بوجوده. ألا ترى أن الوديعة لو كانت عبدا أو أمة فقتلهما
الصبي كان ضامنا بهذا الطريق فكذلك في سائر الأموال ولان الايداع من الصبي باطل لأنه
استحفاظ من لا يحفظ فكأنه لم يودعه ولكنه جاء فأتلف ماله واستحفاظ من لا يحفظ تضييع
للمال فكأنه ألقاه على قارعة الطريق ولو فعل ذلك فأتلفه صبي كان ضامنا فكذا هذا * وحجة
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ما قال في الكتاب لأنه صبي وقد سلطه رب المال على ماله حين دفعه
إليه (وفى) تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام (أحدهما) أنه تسليط باعتبار العادة لان
عادة الصبيان اتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الأمور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير
كالاذن له في الاتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون اذنا لأنه إنما يخاطب بهذا من
لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقال لا تأكل. بخلاف العبد والأمة لأنه ليس من
عادة الصبيان القتل لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون ايداعه تسليطا على القتل باعتبار
عادتهم وهذا بخلاف الدابة فان من عادتهم اتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة
بطريق العادة * والأصح أن نقول معنى التسليط تحويل يده في المال إليه فان المالك باعتبار يده
كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه صار ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع
أو صبيا إلا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا علي الحفظ دون غيره
وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي لأنه لما التزم بالعقد والصبي ليس من أهله
فيبقي التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا بخلاف العبد والأمة فان المالك باعتبار
يده ما كان متمكنا من قتل الآدمي فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ولان
الايداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدام مبقى على أصل الحرية فلا يتناوله
الايداع والتسليط يثبت باعتباره. بخلاف ما لو قال اقتل عبدي لان ذاك استعمال والاستعمال
وراء التسليط فان بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط
حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لاحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا
الموضع ان الصبي المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له أتلفه
فذلك استعمال للصبي وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام إن شئت
ولو قال ذلك فأكله الصبي لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع علي الذي قال له ذلك
فهذا مثله إلا أن أبا يوسف يقول قوله احفظه بمنزلة الاستثناء مما تناوله مطلق التسليم
119

والاستثناء تصرف من المستثنى على نفسه في حقه فلا يعتبر لصحته حال المخاطب به أو ثبوت
ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الحفظ من هذا التسليط فإذا استهلكه الصبي كان
مستهلكا بغير إذنه ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمها الله يقولان التسليط بالفعل وهو نقل
اليد إليه مطلقا وقوله احفظ كلام فلا يتحقق استثناؤه من الفعل المطلق بل يكون
معارضا لذلك الفعل الذي هو تسليط ولا يكون معارضا الا بعد صحته حكما لكون المخاطب
من أهل الالتزام بالعقد وذلك في حق البالغ دون الصبي فيبقى التسليط مطلقا في حق الصبي
* والدليل عليه ان الصبي لو ضيع الوديعة لم يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله علي
أخذها والبائع يضمن بمثله فعرفنا ان العارض صحيح في حق البالغ دون الصبي * وعلى هذا
لو أودع عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى
يعتق لان العارض صحيح في حقه دون المولى فإنه التزام بالعقد وعلى قول أبى يوسف يباع
فيه في الحال لان المودع يتصرف على نفسه في الاستثناء فيبقى الاستهلاك بغير إذنه * فإن كان
العبد صبيا لم يضمن عندهما في الحال ولا بعد البلوغ والعتق لان العارض لم يصح في
حقه ولا في حق المولى وإن كان الصبي أو العبد مأذنونا كان ضامنا في الحال لان العارض
قد صح في حقهما وفى حق المولى فالمأذون من أهل الالتزام بالعقد ولهذا يؤاخذ ان بضمان
التضييع * وعلى هذا الخلاف لو أقرض صبيا محجورا عليه أو عبدا محجورا عليه مالا
فاستهلكه لان التسليم إليه تسليط وقوله أقرضتك معارض لقوله احفظ في الوديعة على ما بينا
* وكذلك لو باع من صبي محجور عليه أو عبد محجور عليه شيئا فاستهلكه فهو علي هذا
الخلاف لان التسليم إليهما تسليط وقوله بعت معارض فلا يعمل هذا المعارض في حق الصبي
أصلا ولا في حق العبد حتى يعتق فهذا هو الحرف الذي يخرج عليه هذه المسائل (وان)
هلكت الوديعة عند الصبي والعبد فلا ضمان عليهما لانعدام صنيع موجب للضمان منهما * وفى
قتل العبد والأمة يجب عليهما مان يجب قبل الايداع فعلى عاقلة الصبي قيمة المقتول في ثلاث
سنين عمدا قتله أو خطأ لان عمد الصبي وخطأ سواء وعلى المملوك القصاص ان قتله عمدا وان
قتله خطأ يخاطب المولى بالدفع أو الفداء في العبد وعليه القيمة في المدبر وأم الولد يعنى الأقل
من قيمة المقتول وقيمة القاتل وعلى المكاتب أن يسعى في الأقل من قيمته ومن قيمة
المقتول * ولو أودع رجلا شيئا فاستهلكه ابن له صغير أو عبد فعلى المستهلك ضمانه في الحال
120

لان قبوله الوديعة يكون إذنا لمن في عياله بان يحفظها والصبي والعبد إذا كان مأذونا في حفظ
الوديعة يؤاخذ بضمان الاستهلاك (رجل) استودع رجلا ألف درهم فدفعها المستودع
إلى آخر ادعى ان رب الوديعة أمره بذلك لم يصدق عليه الا ببينة (وقال) ابن أبي ليلي
هو مصدق في ذلك مع يمينه لان عنده للمودع أن يودع وهو منكر لوجوب الضمان
عليه فأما عندنا ليس للمودع أن يودع فدفعه إلى الثاني سبب لوجوب الضمان عليه ثم
يدعى ما يسقط الضمان عنه وهو الاذن فلا يصدق الا ببينة كما لو أخذ مال انسان فادعى
أنه أخذه باذنه. وله ان يستحلف صاحبها انه لم يأمره بالدفع لأنه لو أقر بالأمر برئ المودع
فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله * فإن كان رب الوديعة أمره أن يدفعها إلى رجل فقال قد
دفعتها وقال الرجل لم أقبضها منك وقال رب الوديعة لم تدفعها فالقول قول المودع مع يمينه
لان دعواه الدفع إلى من أمر المالك بالدفع إليه بمنزلة دعواه الدفع إلى مالكها فيكون
مصدقا في براءته عن الضمان دون وصول المال إلى ذلك الرجل حتى لا يضمن ذلك الرجل
ما لم تقم البينة على قبضه * وإذا قال صاحب الوديعة للمودع أخبأها في بيتك هذا فخبأها في بيت
آخر في داره تلك فضاعت فلا ضمان عليه استحسانا وفي القياس هو ضامن لأنه خالف
أمره نصا فهو كما لو قال أخبأها في دارك هذه فخبأها في دار أخرى فهلكت * وفي
الاستحسان يقول نما يعتبر من كلامه ما يكون مفيدا دون ما لا يكون مفيدا. ألا ترى أنه
لو قال احفظها بيمينك دون يسارك أو انظر إليها بعينك اليمنى دون اليسرى لم يعتبر
لأنه غير مفيد * إذا ثبت هذا فنقول البيتان في دار واحدة لا يتفاوتان في معنى الحرزية لان
الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق إذا أخرج المتاع من أحد البيتين إلى البيت
الآخر لم يقطع إذا أخذ قبل أن يخرجه من الحرز فأما الداران يتفاوتان في الحرز فكان
تقييده في الدار مفيدا لان كل دار حرز علي حدة * ألا ترى أنه لو قال له لا تخرج بها من
الكوفة فخرج بها إلى البصرة كان ضامنا لها لان التقييد في المصرين مفيد فان انتقل من
الكوفة إلى البصرة أو إلى غيرها لشئ لم يكن له منه بد فهلكت فلا ضمان عليه لان
المودع إنما يلتزم شرط المودع بحسب امكانه * ألا ترى أنه لو قال أمسكها بيدك ولا تضعها
ليلا ولا نهارا فوضعها في بيته فهلكت لم يضمنها لان ما شرط عليه ليس في وسعه باعتبار
العادة فكذلك يسقط اعتبار شرطه إذا لم يجد بدا من الانتقال من بلد إلى بلد فلا ضمان عليه
121

إذا هلكت وهذا بناء على أصلنا فان للمودع أن يسافر بالوديعة عند اطلاق العقد. وعند
الشافعي ليس له ذلك لان فيه تعريض المال للهلاك قال صلى الله عليه وسلم المسافر ومتاعه
وماله على قلت الا ما وقى الله تعالى وليس للمودع تعريض الوديعة للتلف وهذا بخلاف
الأب والوصي والمضارب فإنهم يسافرون للتجارة وطلب الريح. ألا ترى أن هم أن يسافروا
بالمال من طريق البحر وليس للمودع حق التصرف والاسترباح في الوديعة ولهذا لا يسافر
من طريق البحر. يوضحه ان مقصود المودع أن يكون ماله في المصر محفوظا يتمكن منه
متى شاء ويفوت عليه هذا المقصود إذا سافر المودع به. وحجتنا في ذلك أن الامر مطلق
فلا يتقيد بمكان دون مكان كما لا يتقيد بزمان وهذا لان من يراعى أمره في شئ يراعى اطلاق
أمره كأوامر الشرع والأمكنة كلها في صفة الامر سواء إنما الخوف من الناس دون المكان
فإذا كان الطريق أمنا كان الحفظ فيه كالحفظ في جوف المصر ومراد رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيان الحالة في ذلك الوقت فان المسلمين كانوا لا يأمنون خارج المدينة لغلبة الكفار
ألا ترى أنه فيما أخبر من الامر بعده قال يوشك أن تخرج الظعينة من القادسية إلى مكة لا تخاف
الا الله تعالى والذئب على غنمها ولا يجوز أن يتقيد مطلق أمره بالعرف والمقصود لان النص
مقدم على ذلك والمقصود مشترك فقد يكون قصده أن يحمل المال إليه خصوصا إذا سافر
إلى البلد الذي فيه صاحب المال ولان المودع لا يتعذر عليه الخروج وللسفر في حاجتة بسبب
قبول الوديعة وإذا خرج فاما أن يدفع الوديعة إلى غيره فيكون تاركا للنص لأنه أمره أن
يحفظ بنفسه واما أن يحمل مع نفسه فيكون مخالفا لمقصوده ولا شك ان مراعاة النص
أولى من مراعاة المقصود ولهذا قال أبو حنيفة ماله حمل ومؤنة ومالا حمل له ولا مؤنة في ذلك
سواء بعدت المسافة أو قربت لمراعاة النص وهو القياس. واستحسن أبو يوسف رحمه الله
فقال إذا كان حمل ومؤنة فليس له أن يسافر به لأنه يلزم صاحبها مؤنة الرد ولا ولاية له عليه
في إلزام المؤنة إياه. واستحسن محمد رحمه الله فقال إذا قربت المسافة فله أن يسافر بها وإذا
بعدت المسافة فليس له ذلك لأنه يعظم الضرر والمؤنة على صاحبها عند بعد المسافة إذا أراد
ردها * ولو أودعه وديعة فقال لا تدفعها إلى امرأتك أو عبدك أو ولدك أو أجيرك فانى اتهمهم
عليها فدفعها إلى الذي نهاه عنه فهلكت فإن كان يجد بدا من الدفع إليه بأن كان سواه
أهل وخدم فهو ضامن وان كأن لا يجد بدا من ذلك لم يضمن لان شرطه هذا مفيد وقد
122

يأتمن الانسان الرجل على ماله ولا يأتمن زوجته إلا أنه إنما يلزمه مراعاة شرطه بحسب
الامكان فإذا كان يجد بدا من الدفع إلى من نهاه عنه فهو متمكن من حفظها على الوجه المأمور
به فيصير ضامنا بحفظها على الوجه المنهى عنه وإذا كأن لا يجد بدا من ذلك فهو حافظ لها
بحسب الامكان وليس عليه أكثر من ذلك فلا يضمنها * وإذا استعمل المودع الوديعة وأقر
بذلك ثم قال رددتها إلى مكانها فهلكت لم يصدق الا ببينة لان السبب الموجب للضمان عليه
وهو الاستعمال معلوم ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه وهو ترك الخلاف قبل الهلاك فلا يصدق
إلا بحجة فان أقام البينة أنه رده إلى موضعه صحيحا ثم هلك كان الثابت بالبينة كالثابت باقرار
الخصم فلا يضمن شيئا عندنا * وان كانت الوديعة أمة فوطئها المودع فولدت فالولد مملوك
لصاحب الأصل وعلي المودع الحد ولا يثبت نسب الولد منه لان فعله زنا محض وكونها
وديعة عنده لا يمكن في شبهة المحل إلا أن يدعى شبهة نكاح أو شراء فحينئذ يسقط الحد عنه
ويغرم العقر للشبهة (وإذا) استودع رجلان رجلا وديعة من دراهم أو دنانير أو ثياب أو
دواب أو عبيد ثم حضر أحدهما وطلب حقه منه لم يكن له ذلك حتى يجتمعا ولو خاصمه إلى القاضي
لم يأمره بدفع نصيبه إليه في قوله أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يأمره
بأن يقسم ذلك ويدفع نصيبه إليه ولا تكون قسمته جائزة على الغائب. وعن محمد في الأمالي
قال قول أبي حنيفة أقيس وقول أبى يوسف رحمه الله أوسع. وجه قولهما ان كل واحد من
المودعين مالك لنصيبه حقيقة فلا يتعذر عليه قبض نصيبه في غيبة الآخر كالشريكين في الدين
إذا حضر أحدهما كان له أن يطالب المديون بنصيبه وهذا لأنه يجب دفع الضرر عن الحاضر
كما يجب دفع الضرر عن الغائب وإنما يندفع الضرر عنهما فيما قلنا بأن يقسم فيدفع إلى الحاضر
نصيبه ليندفع الضرر عنه ثم لا تنفذ قسمته على الغائب حتى إذا هلك الباقي في يده ثم حضر
الغائب كان له أن يشارك الحاضر فيما قبض دفعا للضرر عنه هذا في المكيل والموزون واضح
فان الحاضر له أن ينفرد بأخذ نصيبه منهما مع غيبة الآخر فكذلك للمودع أن يدفع نصيبه
إليه وقد بينا نظيره في مال المفقود ومذهب أبي حنيفة مروي عن علي رضى الله تعالى عنه والمعنى
فيه أنه لو دفع شيئا إلى الحاضر فاما أن يكون المدفوع من نصيبهما جميعا أو نصيب الحاضر
خاصة ولا يمكن أن يجعل ذلك من نصيب الحاضر خاصة لان ذلك لا يكون الا بعد قسمة معتبرة
وليس للمودع ولاية على الغائب في القسمة فلم يبق إلا أن يكون المدفوع من النصيبين
123

ودفع مال الغير إلى الغير يكون جناية فلا يكون للمودع أن يباشر ذلك ولا يأمره القاضي به
والحاضر وإن كان يتضرر بهذا فقد رضى بالتزام هذا الضرر حين ساعد شريكه على الايداع
قبل القسمة وإن كان يتمكن هو من أخذه فكذلك لا يدل على أنه يكون للمودع أن يدفع
إليه. ألا ترى أن صاحب الدين إذا طالب المودع بقضاء دينه من الوديعة لم يؤمر المودع
بذلك ولو ظفر به وهو من جنس حقه كان له أن يأخذه وهذا بخلاف الدين لان المديون
إنما يقضى بالدين من ملك نفسه فدفعه نصيب الآخر إليه تصرف في ملكه وليس فيه قسمة
على الغائب فلهذا يؤمر بخلاف ما نحن فيه (رجل) أودع رجل دراهم فجاء رجل فقال
أرسلني إليك صاحب الوديعة لتدفعها إلى فصدقه ودفعها إليه فهلكت عنده ثم حضر
صاحبها وأنكر الرسالة فإنه يضمنها له لأنه دفع ماله إلى غيره وبتصادقهما لا يثبت الامر
في حق المالك إذا أنكر فكان ضامنا ولا يرجع بها على الرسول إذا كانت الوديعة هلكت
في يده أو زعم أنه أو صلها إلى صاحبها لأنه قد صدقه فإنه رسول أمين وان المالك ظالم في
تضمينه إياه ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره إلا أن يكون المقبوض قائما بعينه في يده فيأخذه
لأنه قد تملكه بأداء بدله وإن كان كذبه في دعوى الرسالة أولم يصدقه ولم يكذبه ودفع
المال إليه ثم جاء المالك فضمنه فله أن يرجع على الرسول لأنه لم يقر بأنه كان أمينا ولكن
دفع المال إليه بناء على قوله انه رسول المالك وانه لا يلحقه غرم بسبب الدفع إليه فإذا لحقه
غرم كان له أن يرجع عليه به ولو صدقه في دعوى الرسالة ودفعه إليه وضمنه يعنى ان
الرسول قال له ان لحقك فيه غرم فأنا ضامن لك ثم حضر المالك وضمنه فله أن يرجع على
الرسول لأنه قد ضمن له ذلك وهذه كفالة مضافة إلى سبب وجوب المال فإنهما يتصادقان
أن المالك ظالم وأن ما يقبضه دين عليه للمودع والرسول ضمن له ذلك مضافا إلى سبب
الوجوب فلهذا طالبه به (وإذا) كان عند رجل وديعة أو عارية أو بضاعة فغصبها منه رجل
فهو خصمه فيها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا خصومة بينهما حتى يحضر المالك
ولان المال ملك صاحبه فإنما يخاصم في الاسترداد هو أو وكيله والمودع ليس بوكيل عنه في
الخصومة فلا يخاصم في الاسترداد كأجنبي آخر. ولكنا نقول للمودع يد معتبرة في الوديعة
وقد أزالها الغاصب فكان له أن يخاصم عن نفسه لإعادة اليد التي أزالها بالغصب ولأنه
مأمور بالحفظ من جهة المودع ولا يتأتى له الحفظ الا باسترداد عينه من الغاصب أو استرداد
124

قيمته بعد هلاك العين ليحفظ ماليته عليه فكان كالمأمور به دلالة وفى اثبات حق الخصومة
له تحقيق معنى الحفظ لان الغاصب إذا علم أن المودع لا يخاصمه في حال غيبة المودع تجاسر على
أخذه فلهذا كان المودع فيه خصما * وان كانت الوديعة عند رجلين من ثياب أو غيرها
فاقتسماها وجعل كل واحد منهما نصفها في بيته فهلك أحد النصفين أو كلاهما فلا ضمان
عليهما. وهكذا أمر الناس لأنهما لا يستطيعان أن يجتمعا على حفظها في مكان واحد لما بينا
أن المودع إنما يلتزم الحفظ بحسب امكانه ومعلوم أنهما لا يقدران على أن يتركا جميع
اشغالهما ويجتمعا في مكان واحد لحفظ الوديعة والمالك لما أودعهما مع علمه بذلك فقد صار
راضيا بقسمتها وحفظ كل واحد منهما للنصف دلالة والثابت بالدلالة كالثابت بالنص.
وان أبيا القسمة وأو دعاه عند رجل فهلك ضمناه لتركهما ما التزماه من الحفظ. والمستبضعان
والوصيان والعدلان في الرهن قياس المودعين في ذلك. فان تركها أحدهما عند صاحبه وإن كان
ذلك شيئا لا يحتمل القسمة فلا ضمان على واحد منهما إذا هلك لان المالك لما أودعهما
مع علمه أنهما لا يجتمعان على حفظه آناء الليل والنهار فقد صار راضيا بحفظ كل واحد منهما
لجميعه * ألا ترى أنهما يتهايآن في الحفظ وفي مدة المهاياة يتركه كل واحد منهما عند صاحبه
في نوبته * فإن كان شيئا يحتمل القسمة فتركه أحدهما عند صاحبه فلا ضمان على الذي هلك
في يده لأنه مقبل على حفظه وهو في نصيب صاحبه مودع المودع ومودع المودع عند أبي
حنيفة لا يضمن فأما الدافع عند أبي حنيفة رحمه الله فإنه ضامن للنصف لأنه ترك الحفظ
الذي التزمه مع الامكان فإنهما يتمكنان من القسمة ليحفظ كل واحد منهما نصفه. وعندهما
لا يضمن شيئا لأنه لما ائتمنهما فقد صار راضيا بحفظ كل واحد منهما له كما لا يحتمل القسمة
وقول أبي حنيفة أقيس لان رضاه بأمانة اثنين لا يكون رضا بأمانة واحد فإذا كان الحفظ
منهما يتأتى عادة لا يصير راضيا بحفظ أحدهما للكل وحده (وإذا) احترق بيت المودع
وأخرج الوديعة مع متاعه وضعه في بيت جاره فهلك فهو ضامن في القياس لأنه ترك الحفظ
الذي التزمه بالتسليم إلى غيره وعذره يسقط المأثم عنه ولكن لا يبطل حق المالك في
الضمان. وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأنه لا يجد بدا من هذا في مثل هذه الحالة ولان
وضعه في بيت جاره في مثل هذه الحالة من الحفظ لأنه يقصد به دفع الحرق عن الوديعة
ألا ترى أنه إنما يحفظ الوديعة علي الوجه الذي يحفظ مال نفسه وإنما يحفظ مال نفسه في هذه
125

الحالة بهذا الطريق. أرأيت لو كان في سفينة فغرفت فناول الوديعة انسانا علي الجلد يمسكها
أكان ضامنا (وإذا) كانت الوديعة إبلا أو بقرا أو غنما وصاحبها غائب فان أنفق عليها
المستودع من ماله بغير أمر القاضي فهو متطوع لأنه متبرع بالانفاق على ملك الغير بغير
أمره وان دفعها إلى القاضي يسأله البينة لأنه يدعى ثبوت ولاية الامر بالانفاق للقاضي فيه
فلا يصدقه الا ببينة فان أقام البينة انها وديعة عنده لفلان أمره ان ينفق عليها من ماله
على قدر ما يرى القاضي لأنه مأمور بالنظر والحيوان لا يبقى بدون النفقة والمودع لا ينفق
بغير أمره لأنه لا يرضى بالتبرع به فيأمره بذلك نظرا منه للغائب ويكون ذلك دينا على
رب الوديعة لان أمر القاضي في حال قيام ولايته كأمره بنفسه ولو أمره بأن ينفق كان
ما ينفقه دينا له على المالك فكذا إذا أمره القاضي به فإذا جاء أجبره على رد نفقته عليه. وان
رأى القاضي أن يأمره ببيعها فعل ذلك وإذا باعها جاز بيعه لان في الامر بالانفاق تلف بعض
المالية على المالك وفي البيع يتوفر عليه حفظ جميع المالية فلهذا نفذ بيعه بأمر القاضي * وإن لم
يكن رفعها إلى القاضي واجتمع عنده من ألبانها شئ كثير يخاف فساده أو كان ذلك
ثمرة أرض فباع بغير أمر القاضي فهو ضامن لها إن كان في مصر يتمكن من استطلاع
رأي القاضي وان باعها بأمر القاضي لم يضمن لان القاضي نائب الغائب فيما يرجع إلى
النظر له. ولو تمكن من استطلاع رأى المالك فباعه بغير أمره لم ينفذ بيعه وكان ضامنا
فكذلك إذا تمكن من استطلاع رأي القاضي فلم يفعل فأما إذا كان في موضع لا يتوصل
إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك الشئ لم يضمن استحسانا لان بيعه الآن من الحفظ
وليس في وسعه الا ما أتى به (وحكى) ان أصحاب محمد رحمهم الله مات رفيق لهم في
طريق الحج فباعوا متاعه وجهزوه به ثم رجعوا إلى محمد رحمه الله فسألوا عن ذلك فقال لو لم
تفعلوا لم تكونوا فقهاء والله يعلم المفسد من المصلح * وان حمل عليها المستودع فنتجت ولم يكن
صاحبها أمر بذلك فأولادها لصاحبها لان الولد خير متولد من الأصل يملك بملك الأصل
وان هلكت الأمهات بذلك فالمستودع ضامن لها لأنه مخالف حين أتى بغير ما أمر به
فيضمن ما هلك بسببه (ولو) أكرى الإبل إلى مكة وأخذ الكراء كان الكراء له لأنه
وجب بعقده وليست الغلة كالولد ولا كالصوف واللبن فان ذاك يتولد من الأصل فيملك
بملك الأصل وهذا غير متولد من الأصل بل هو واجب بالعقد فيكون للعاقد. وقد بينا نظيره
126

في العضب (وان) ادعى المستودع أنه أنفق الوديعة على عيال المودع بأمر وصدقه عياله في
ذلك وقال رب الوديعة لم آمرك بذلك فالقول قول رب الوديعة مع يمينه لان المودع باشر
سبب الضمان في الوديعة وهو الانفاق وادعى ما يسقط الضمان عنه وهو اذن المالك فلا
يصدق على ذلك الا ببينة وإذا لم تكن له بينة فالقول قول رب الوديعة مع يمينه لانكاره
وكذلك لو ادعى انه أمره بأن يتصدق بها على المساكين أو يهبها لفلان. فإن كانت الوديعة
جارية فزوجها المستودع من رجل وأخذ عقرها فولدت ونقصتها الولادة ثم جاء سيدها
له أن يأخذها وولدها وله أن يفسد النكاح لان المودع باشره بغير رضاه فكان موقوفا
علي اجازته وإذا فسد النكاح أخذ عقرها لان المستوفى بالوطئ في حكم جزء من العين
والعقر كالأرش فيكون بمنزلة المتولد من العين بخلاف الاجر * ويضمن المستودع نقصان
الولادة ان كانت الولادة نقصتها ولم يكن في الولد وفاء بها وإن كان في الولد وفاء بها انجبر
النقصان بالولد لان المودع صار كالغاصب فيما صنع وقد بينا هذا الحكم في حق الغاصب
وإن كان نقصانها من غير الولادة من شئ أحدثه الزوج من جماعها فالمستودع ضامن
لذلك لأنه سلط الزوج على ذلك وصار غاصبا بما صنع وإنما ينجبر بالولد نقضان الولادة
لاتحاد سبب النقصان والزيادة وذلك لا يوجد في نقصان حدث بسبب آخر * وإن كان
المستودع استهلك الولد ضمن قيمة الولد لان الولد كان أمانة عنده كولد الغصب عند
الغاصب فيضمن قيمته بالاستهلاك (ثم) رد قيمة الولد كرد عينه في انجبار نقصان الولادة
به (رجل) استودع رجلين جارية فباع أحدهما نصفها الذي في يده فوقع عليها المشترى
فولدت له ثم جاء سيدها (قال) يأخذها وعقرها وقيمة الولد لان المستولد مغرور فان
قيام الملك له في نصفها كقيام الملك له في جميعها في صحة الاستيلاد ولو كان الملك له في جميعها
ظاهرا كان يتحقق الغرور فكذلك في نصفها وولد المغرور حر بالقيمة. ثم رد قيمة الولد
كرد عين الولد في جبر نقصان الولادة به فإن لم يكن في قيمة الولد وفاء بالنقصان أخذ
تمام ذلك من المشترى لان المشترى كان غاصبا لها في حق مالكها فيكون ضامنا لما حدث
من النقصان في يده ثم يرجع المشترى علي البائع بالثمن وبنصف قيمة الولد لان البائع إنما
ملكه نصفها ولو ملكه كلها رجع عليه بجميع قيمة الولد إذا ظهر الاستحقاق فالجزء معتبر
بالكل وأما الرجوع بالثمن فلانفساخ البيع بسبب الاستحقاق وان شاء رب الجارية ضمن
(9 مبسوط حادي عشر)
127

البائع نصف النقصان لأنه كان أمينا في نصفها وقد تعدى بالبيع والتسليم ألا ترى أنها لو
هلكت كان له أن يضمن البائع نصف قيمتها فكذلك إذا فات جزء منها بالولادة فإن لم يعلم أن
الجارية لهذا الذي حضر الا بقول المستودعين لم تقبل شهادتهما في ذلك لان البائع
منهما مناقض في كلامه والآخر قد تملك عليه المستولد نصيبه أيضا بالضمان فلا تقبل شهادتهما
على ابطال ملك ثابت للمستولد عليهما ولكن الجارية أم ولد للمشترى باعتبار الظاهر ويضمن
لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها فيدفعه إلى شريكه فيها كما هو الحكم في جارية مشتركة
بين شريكين يستولدها أحدهما (فان قيل) كيف يغرم للشريك هنا وهو يأبى ذلك ويزعم أنها
مملوكة لغيره (قلنا) نعم ولكنه صار مكذبا في زعمه شرعا حين كانت الجارية أم ولد
للمشترى فلهذا سقط اعتبار زعمه (وإذا) جحد المستودع ما عنده من الوديعة ثم أودع من
ماله عند المودع مثل ذلك وسعه إمساكه قصاصا بما ذهب به من وديعته لان المال صار دينا له
على المستودع بجحوده وصاحب الحق متى ظفر بجنس حقه من مال المديون يكون له أن
يأخذه والأصل فيه قول رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لهند خذي من مال أبي سفيان
ما يكفيك وولدك بالمعروف (وقيل) في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق اليد
وللسان ان المراد أخذ جنس حقه إذا ظفر به * وكذلك أن كان المال دينا عليه وأنكره ثم
أودعه مثله. فأما إذا أودعه شيئا من غير جنس حقه لم يسعه إمساكه عنه لان هذا بيع عند
اختلاف الجنس فلا ينفرد هو به والأول استيفاء وصاحب الحق ينفرد بالاستيفاء وحكى
عن ابن أبي ليلي رحمه الله التسوية بينهما للمجانسة من حيث المالية ولكنه بعيد فالوديعة
عين لا يكون له أن يحبسها باعتبار صفة المالية إذا لم يثبت له حق تملك العين ولا يدخل عليه
المرهون لان هناك المرتهن يحبس المرهون بايجاب الراهن ملك اليد له في العين وإن كان عند
الهلاك يصير مستوفيا دينه باعتبار المالية. ثم عند المجانسة إذا طلب الثاني يمين المودع الأول
كان له أن يحلف بالله لا يلزمني تسليم شئ إليك. فان قال للقاضي حلفه بالله ما استودعته
كذا فله ذلك إلا أن يؤدى المدعى عليه فيقول قد يودع الرجل غيره شيئا ثم لا يلزمه تسليم
شئ إليه فان أدى بهذه الصفة فقد طلب من القاضي أن ينظر له فيجيبه إلي ذلك فأما إذا لم
يذكر هذا فان القاضي يحلفه كما طلب الخصم بالله ما أودعه ما يدعى ثم لا ينبغي له ان يحلف
على ذلك لأنه يكون كاذبا في يمينه ولا رخصة في اليمين الكاذبة فطريق التخلص له أن
128

يعرض للقاضي بما ذكرنا أو يحلف ما استودعتني شيئا الا كذا وكذا يستثنى ذلك بكلامه
يخفيه من خصمه ومن القاضي ويسعه ذلك لأنه مظلوم دافع الضرر عن نفسه غير قاصد
إلى الاضرار بغيره إلا أن مجرد نيته لا تكفى لذلك لأنه يحتاج إلى اخراجه من جملة
ما يتناوله كلامه لولا الاستثناء وذلك يحصل بالنية لان الاستثناء بيان أن كلامه عبارة عما
وراء المستثنى فلا يحصل ذلك الا بما يصلح أن يكون ناسخا أو معارضا ومجرد النية لا تصلح
لذلك فلهذا شرط التكلم بالاستثناء. وجه ذلك ما لو قرب انسان اذنه من فمه سمع ذلك
وفهمه * وأما إذا غاب رب الوديعة ولا يدرى أحي هو أو ميت فعليه ان يمسكها حتى يعلم
بموته لأنه التزم حفظها له فعليه الوفاء بما التزم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
في العهود وفاء لا غدر فيه بخلاف اللقطة فان مالكها غير معلوم عنده فبعد التعريف
التصدق بها طريق لايصالها إليه وهنا مالكها معلوم فطريق ايصالها الحفط إلى أن يحضر
المالك أو يتبين موته فيطلب وارثه ويدفعها إليه * وان مات الرجل وعليه دين وعنده وديعة
ومضاربة وبضاعة. فان عرفت بأعيانها فأربابها أحق بها من الغرماء لان حق الغرماء بعد
موت المديون يتعلق بماله دون مال سائر الناس وكما كانوا أحق بها في حياة المديون
فكذلك بعد موته. وإن لم تعرف بأعيانها قسم المال بينهم بالحصص وأصحاب الوديعة
والمضاربة والبضاعة بمنزلة الغرماء عندنا * وعلى قول ابن أبي ليلى الغرماء أحق بجميع التركة
وأصل المسألة أن الأمين إذا مات مجهلا للأمانة فالأمانة تصير دينا في تركته عندنا لأنه
بالتجهيل صار متملكا لها فان اليد المجهولة عند الموت تنقلب يد ملك ولهذا لو شهد الشهود
بها كان ذلك بمنزلة الشهادة بالملك حتى يقضى القاضي للوارث والمودع بالتمليك فيصير ضامنا
ولأنه بالتجهيل يصير مسلطا غرماءه وورثته علي أخذها والمودع بمثل هذا التسليط يصير
ضامنا كما لو دل سارقا على سرقتها ولأنه التزم أداء الأمانة ومن أداء الأمانة بيانها عند
موته وردها على المالك إذا طلب فكما يضمن بترك الرد بعد الطلب يضمن أيضا بترك
البيان عند الموت. وابن أبي ليلي يقول هذا كله إذا علم قيامها عند الموت ولا يعرف ذلك
ولكنا نقول قد علمنا بقاءها والتمسك بها هو المعلوم واجب ما لم يتبين خلافه * وربما يقول
حق الغرماء كان في ذمته ويتحول بالموت إلى ماله وحق أصحاب الأمانة لم يكن في ذمته
في حياته فكيف يزاحمون الغرماء في ماله بعد موته. ولكنا نقول صار حقهم أيضا دينا قبل
129

موته حين وقع اليأس عن بيانه. ثم حق أصحاب الأمانة من وجه أقوى لعلمنا أنه كان في
عين المال الذي في يده ومن له حق العين فهو مقدم على سائر الغرماء كالمرتهن في الرهن
فإن كأن لا يستحق صاحب الأمانة الترجيح فلا أقل من أن يزاحم الغرماء (وإذا) رد
المستودع الوديعة إلى المودع ثم أقام رجل البينة أنها له وحضروا عند القاضي فلا ضمان على
المستودع لان فعله في القبض قد انتسخ بالرد إلى من أخذ منه فلا يبقى له حكم بعد ذلك
وبيان الانتساخ من حيث الحس ظاهر ومن حيث الحكم فلانه مأمور بالرد شرعا على
من أخذها منه قبل حضور المالك. ألا ترى أن الأول لو كان غاصبا معروفا فطالب المودع
بالرد عليه قبل أن يحضر المالك ألزمه القاضي ذلك * وكذلك لو كانت سرقة أو غصبا
فالمودع بالرد على من أخذه منه يكون ناسخا حكم فعله فيبقى للمالك قبله حق وهذا لان
وجوب الضمان عليه باعتبار التفويت فان بأخذه فات على المالك التمكن من الاخذ من
الأول وقد زال ذلك بالإعادة إلى يده * وكذلك أن كان المودع صبيا أو عبدا محجورا
عليه. وكذلك أن كان رب الوديعة صبيا أو عبدا لان المسقط للضمان في حق المودع
رده إلي من أخذه منه وذلك متحقق منه (وان) كان المودع دفعها إلى انسان بأمر
المودع أو باع أو وهب وسلم بأمره ثم ظهر الاستحقاق كان للمستحق ان يضمن المستودع
لأنه ما نسخ فعله بالرد إلى من أخذه منه إنما سلمه إلى غيره وذلك سبب موجب للضمان عليه
بدون أمر المودع وقد ظهر بالاستحقاق ان أمره لم يكن معتبرا فكان المستودع ضامنا
بخلاف الأول فقد رد هناك إلى المودع الذي أخذه منه وذلك ناسخ لفعله (عبد)
استودع رجلا وديعة ثم غاب لم يكن لمولاه ان يأخذ الوديعة تاجرا كان العبد أو محجورا
لان المودع ما قبض منه شيئا. ولان تمكنه من أخذ هذا المال بشرطين (أحدهما) قيام
ملكه في رقبة الدافع في الحال (والثاني) فراغ ذمة الدافع عن دين العبد لان دين العبد
في كسبه مقدم على حق المولى والمودع ليس بخصم في اثبات هذين الشرطين عليه ولأنه
إنما يتمكن من أخذه إذا علم أن الوديعة كسب العبد وذلك غير معلوم فلعلها كانت وديعة
في يده لغيره وإنما أورد هذا لايضاح ما سبق أن المودع رد الوديعة إلى من أخذها منه
وليس عليه طلب المالك ليردها عليه فان في هذا الموضع يلزمه ردها إلى العبد إذا حضر ولا
يلزمه ردها على مالكها (وإذا) مات رب الوديعة فالوارث خصم في طلب الوديعة لأنه خليفة
130

المورث قائم مقامه بعد موته * فإن كان على الميت دين وله وصى فينبغي للمستودع أن
يدفع الوديعة إلى الوصي لأنه قائم مقام الوصي بعد موته فأما الوارث فإنما يخلف المورث
بشرط فراغ التركة عن حق الغرماء لان حق الغرماء مقدم على حق الوارث فلهذا كان
له أن يدفعها إلى الوصي ليبيعها فيقضى الدين ثم يدفع ما بقي إلى الوارث (وان) كانت الوديعة
عبدا أو دابة أو ثوبا واحدا عند رجلين فإنهما يتهايآن على حفظة فيمسكه كل واحد منهما
شهر الآن اجتماعهما على الحفط آناء الليل والنهار لا يتصور ولأنهما يحفظان ما لا يحتمل
القسمة من ملكهما بهذه الصفة فكذلك من الوديعة لأنهما يحفظان الوديعة على الوجه الذي
يحفظان مالهما (وان) وضعه أحدهما عند صاحبه فهلك لم يضمنا شيئا اعتبارا بما لو هلك في يد
أحدهما في زمان المهاياة وقد بينا هذا (وإذا) قال رب الوديعة أودعتك عبدا وأمة وقال
المستودع ما أو دعتني إلا الأمة وقد هلكت فأقام رب الوديعة البينة على ما ادعى ضمن
المستودع قيمة العبد لأنه جحد الوديعة في العبد فصار ضامنا قيمته ولا ضمان عليه في
الأمة لأنه مقر بالوديعة فيها وقد زعم أنها هلكت فالقول قوله مع يمينه (رجلان) ادعى
كل واحد منهما أمة في يد رجل أنه أو دعها إياه وقال المستودع ما أدرى لأيكما هي غير
أنى أعلم أنها لاحد كما (قال) يحلف لكل واحد منهما لان كل واحد منهما يدعى عليه أنه
أودعه الأمة بعينها وهو منكر لذلك أنما أقر بايداع أحدهما بغير عينه من والمنكر غير
المعين فلهذا يحلف لكل واحد منهما وتمام بيان المسألة في كتاب الاقرار وإنما أورد المسألة
هنا لبيان خلاف ابن أبي ليلي في فصل وهو انه إذا أبى أن يحلف لهما فإنه يدفع الأمة إليهما
ويغرم قيمتها بينهما نصفين. وعند ابن أبي ليلى يردها عليهما ولا شئ عليه سوى ذلك وهو
بناء على ما بينا ان التجهيل غاير موجب للضمان على المودع وعندنا التجهيل موجب للضمان
عليه وقد صار مجهلا في حق كل واحد منهما فيصير ضامنا ثم بنكوله صار مقرا لكل
واحد منهما انه أخذ جميعها منه وإنما رد على كل واحد منهما نصفها فيصير ضامنا لكل
واحد منهما ما بقي من حقه وذلك بأن يغرم قيمته بينهما ألا ترى أنه لو قال هذا
استودعنيها ثم قال أخطأت بل هو هذا كان عليه أن يدفعها إلي الأول لان اقراره له بها
صحيح ورجوعه بعد ذلك باطل ويضمن للآخر قيمتها لا قراره انها للثاني وانه صار مستهلكا
على الثاني باقراره بها للأول فيكون ضامنا له قيمتها وهذا إذا دفعها إلى الأول بغير قضاء
131

القاضي وكذلك أن كان دفعها بقضاء القاضي في قول محمد. وفى قول أبى يوسف رحمه الله
تعالى لا يكون ضامنا لان بمجرد اقراره لم يفت على الثاني شئ وإنما الفوات بالدفع إلى
الأول وقد كان بقضاء القاضي ولكن محمد رحمه الله يقول هو الذي سلط القاضي على القضاء
بها للأول باقراره قد أقر أنه مودع فيها من الثاني والمودع إذا سلط الغير على اخذ الوديعة
يصير ضامنا للمودع (رجل) استودع رجلا وديعة فأودعها المستودع غيره من غير
عياله فهلكت فالأول ضامن لها لأنه متعد بالتسليم إلى غير من أمر بحفظها منه ولا ضمان
على مودع المودع في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
هو ضامن لها أيضا ولصاحب المال الخيار يضمن أيهما شاء. وعند ابن أبي ليلى لا ضمان على
واحد منهما بناء على أصله ان للمودع أن يودع غيره وقد بينا هذا. فأما هما فيقولان
الأول متعد في التسليم بغير إذن المالك والثاني متعد في القبض بغير إذن المالك فكان للمالك
أن يضمن أيهما شاء كالغاصب مع غاصب الغاصب فان ضمن الأول لم يرجع على الثاني
لأنه بالضمان ملك فتبين أنه أودع ملك نفسه وقد هلكت في يد المودع وان ضمن الثاني
رجع على الأول لأنه مغرور من جهته فإنه أودعه على أنه ملكه وانه لا يلحقه الضمان
فهلك في يده فإذا لحقه الضمان رجع عليه ولأنه في القبض والحفظ كان عاملا له فيرجع عليه
بما يضمن بسببه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الأول يصير ضامنا بالتسليم إلى الثاني بدليل
أنه لو سلمها إليه ليحفظها بحضرته فهلكت لم يضمن واحد منهما وإنما يصير الأول ضامنا
بترك الحفظ حين غاب بعد ما سلمها إلى الثاني فاما الثاني لم يترك الحفظ بل هو مقبل على
الحفظ حين هلكت فلا يضمن شيئا. يوضحه ان أصل قبض الثاني لم يكن موجبا للضمان
عليه حتى لو هلك قبل غيبة الأول لم يضمن ولم يوجد من جهته صنع بعد ذلك فيصير به
ضامنا والضمان لا يجب بدون الصنع إنما وجد الصنع من الأول وهو الذهاب وترك الحفظ
ولما لم يصر الثاني ضامنا بالقبض كان هذا في حقه كثوب هبت به الريح وألقته في حجره
فإذا هلكت من غير صنعه لم يضمن. يقرره أن الأول لما لم يضمن بمجرد التسليم وإنما
ضمن بتركها في يد الثاني بعد غيبته فقد صارت يده يدا معتبرة في ايجاب الضمان علي الأول
ولا يمكن اعتبار تلك اليد بعينها في ايجاب الضمان على الثاني كأجير القصار إذا دق الثوب
وتخرق لما وجب الضمان على الأستاذ بسبب فعل الأجير ولم يجب على الأجير شئ من
132

الضمان لأنه لو ضمن أنما يضمن بذلك الفعل الواحد لا يكون موجبا للضمان
على الشخصين فهذا مثله. بخلاف الغاصب مع غاصب الغاصب فان كل واحد منهما إنما
يصير ضامنا بفعله وهو غصبه وغصب أحدهما غير غصب الثاني ولهذا يعتبر في كل حق
واحد منهما قيمته حين غصبه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
(كتاب العارية)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء * العارية تمليك المنفعة بغير عوض سميت عارية
لتعريها عن العوض فإنها مع العرية اشتقت من شئ واحد والعرية العطية في الثمار بالتمليك من
غير عوض والعارية في المنفعة كذلك ولهذا اختصت بما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها
أو ما يجوز تمليك منافعها بالعوض بعقد الإجارة. وقيل هي مشتقة من التعاور وهو التناوب
فكأنه يجعل للغير نوبة في الانتفاع بملك على أن تعود النوبة إليه بالاسترداد متى شاء
ولهذا كانت الإعارة في المكيل والموزون قرضا لأنه لا ينتفع بها الا باستهلاك العين فلا
تعود النوبة إليه في تلك العين لتكون عارية حقيقة وإنما تعود النوبة إليه في مثلها وما يملك
الانسان الانتفاع به علي أن يكون مثله مضمونا عليه يكون قرضا (وكان) الكرخي رحمه الله
يقول موجب هذا العقد إباحة الانتفاع بملك العين لا بملك المنفعة بدليل انه لا يشترط إعلام
مقدار المنفعة فيه ببيان المدة والجهالة تمنع صحة التمليك أما لا تمنع صحة الإباحة وبدليل أن
المستعير ليس له أن يؤاجر ومن تملك شيئا بغير عوض جاز له أن يملكه من غيره بعوض
كالموهوب له. والصحيح أن موجب هذا العقد ملك المنفعة للمستعير لان المنفعة تحتمل
التمليك بعوض فتحتمل التمليك بغير عوض أيضا كالعين والدليل عليه أن للمستعير أن
يعير فيما لا يتفاوت الناس بالانتفاع به والمباح له لا يملك أن يبيح لغيره (والعارية) تنعقد
بلفظ التمليك بأن يقول ملكتك منفعة داري هذه شهرا أو جعلت لك سكنى داري هذه
شهرا إلا أنه لا يؤاجره لما فيه من الحاق الضرر بالمعير فإنه ملكه علي وجه يتمكن من
الاسترداد فهو نظير ما لو استأجر دابة أو ثوبا ليس له أن يؤاجر من غيره وان ملك
منفعة اللبس والركوب ولكن لما كان الناس يتفاوتون في ذلك ففي الإجارة من غيره
133

اضرار بالآخر (فان قيل) كان ينبغي أن يملك المستعير الإجارة ولا ينقطع حق المعير في
الاسترداد بل يصير قيام حق المعير في الاسترداد عذرا في نقض الإجارة (قلنا) لو ملك
المستعير الإجارة كان ذلك من مقتضيات عقد المعير وكان صحة العقد بتسليطه فلا يتمكن
من نقضه بعد ذلك * وإنما لا يشترط إعلام المدة أو المكان في الإعارة لان اشتراط ذلك
في المعاوضات لقطع المنازعة وذلك لا يوجد في العارية لأنه لا يتمكن بينهما منازعة إذا أراد
المعير الاسترداد. ولان المعاوضات يتعلق بها صفة اللزوم وذلك لا يتحقق في غير المعلوم فأما
العارية لا يتعلق بها صفة اللزوم فلهذا لا يشترط إعلام المكان ولا إعلام المدة ولا اعلام ما يحمل
على الدابة وعند اطلاق العقد للمستعير ان ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب كما
ينتفع بدابة نفسه في قليل المدة وكثيرها ما لم يطالبه المالك بالرد لأنه لا يؤاجرها فان
آجرها صار غاصبا وكان الاجر له يتصدق به وقد بيناه في كتاب الغصب. وان هلكت
بعد ما آجرها كان ضامنا لها فإذا لم يؤاجرها ولكنها هلكت في يده لم يضمن في أقوال
علمائنا رحمهم الله سواء هلكت من استعماله أولا وهو قول عمر وعلى وابن مسعود رضوان
الله عليهم وقال الشافعي رحمه الله ان هلكت من الاستعمال المعتاد لم يضمن وان هلكت لامن
الاستعمال ضمن قيمتها للمالك وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما. واحتج في
ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم العارية مضمونة فقد جعل الضمان صفة للعارية
فيقتضي أن يكون صفة لازمة لها كما أن الله تعالى لما جعل القبض صفة للرهن بقوله عز
وجل فرهان مقبوضة اقتضى أن يكون ذلك صفة لازمة للرهن. واستعار رسول الله صلى
الله عليه وسلم من صفوان دروعا في حرب هوازن فقال له أغصبا يا محمد قال صلى الله عليه
وسلم لا بل عارية مضمونة مؤداة. وكتب في عهد بنى نجران وما تعار رسلي فهلكت على
أيديهم فضمانها على رسلي. وقال صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد والاخذ إنما
يطلق في موضع يأخذ المرء لمنفعة نفسه وذلك موجود في العارية وهو المعنى الفقهي أنه لما
قبض مال الغير لنفسه لا عن استحقاق تقدم فكان مضمونا عليه كالمغصوب والمقبوض
على سوم الشراء والمستقرض. وهذا لأنه لما لم يثبت بهذا العقد استحقاق تسليم العين عرفنا
انه مقصور علي المنفعة لا يتعدى إلى العين فصار في حق العين كأنه قبضه بغير إذنه بخلاف
الإجارة فقد تعدى العقد هناك إلى العين حتى تعلق به استحقاق تسليم العين. وبخلاف
134

الوديعة فان المودع لا يقبض الوديعة لمنفعة نفسه إنما يقبضها لمنفعة المالك ولهذا لم يكن
عليه مؤنة الرد وهو المعتمد لهم فان قبض العارية يوجب ضمان الرد حال قيام العين فيوجب
ضمان القيمة حال هلاك العين كالقبض بطريق الغصب. يقرره أن ضمان الرد إنما يلزمه
لأنه يسقط بالرد ضمان العين عن نفسه ولما لزمه ضمان الرد فعليه أداء ما لزمه ولا يتحقق
أداء ذلك الا برد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاك العين ليصير به مؤديا ما لزمه من
ضمان الرد وهذا بخلاف ما لو تلف في الاستعمال لان فعله في الاستعمال منقول إلى المالك
فإنه يستعمل بتسليط المالك فيحصل به الرد معنى * ويجوز أن يكون العين مضمونا عليه ثم
يبرأ عن ضمانه بفعل يباشره بتسليط المالك كما لو غصب من غيره شاة فقال له المغصوب
منه ضح بها فان هلكت قبل أن يضحي بها ضمنها وان ضحى بها لم يضمن شيئا. ولا يقال
قبضه بتسليط المالك أيضا لأنه يقبض من يد المالك لنفسه فلا يمكن أن يجعل فعله في
القبض كفعل المالك. والدليل عليه أنه لو ضمن للمستحق لم يرجع على المعير ولو كان يد
المستعير في العين كيد المعير لرجع عليه بالمودع. وحجتنا في ذلك قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان والمغل هو
الخائن فقد نفى الضمان عن المستعير عند عدم الخيانة والمعنى فيه أنه قبض العين للانتفاع به
باذن صحيح فلا يكون مضمونا عليه كالمستأجر. وتأثيره أن وجوب الضمان يكون للجبران
وذلك لا يتحقق الا بعد تفويت شئ على المالك وبالاذن الصحيح ينعدم التفويت. ألا
ترى ان القبض في كونه موجبا للضمان لا يكون فوق الاتلاف ثم الاتلاف بالاذن
لا يكون موجبا للضمان فالقبض أولى ولا يجوز أن يجب الضمان هناك باعتبار العقد
لأن العقد عقد تبرع فلا يكون عقد ضمان كالهبة. والدليل عليه ان ما تناوله العقد وهو
المنفعة لا يصير مضمونا بهذا العقد فما لم يتناوله العقد أولى. ولان العقد على المنفعة إذا كان
بعوض وهو الإجارة لا يوجب ضمان العين وتأثير العوض في تقدير حكم ضمان العقد
فإذا كان العقد على المنفعة مقرونا بالعوض لا يوجب الضمان فالمتعري عن العوض كيف
يوجب الضمان. والدليل عليه أنه لو تلف في الاستعمال لم يضمن ولا يجوز ان يجعل فعله
كفعل المالك لأنه استعمل لمنفعة نفسه ولكن إنما لا يضمن لوجود الاذن من المالك في
الاستعمال فكذلك للقبض * وان قال بحكم الاذن من المالك في الاستعمال جعل استعماله
135

كاستعمال المالك فبحكم الاذن في القبض والاعطاء ينبغي أن يجعل قبضه كقبض المالك
أيضا ووجوب ضمان الرد على المستعير ليس لما قال بل لان منفعة النقل حصلت له والرد
فسخ لذلك النقل فكانت المؤنة على من حصلت له منفعة النقل ولهذا توجب مؤنة الرد
على الموصى له بالخدمة أيضا فأما ضمان العين إنما يجب علي من فوت شيئا على المالك. بقبضه
كالغاصب ولم يوجد ذلك إذا كان القبض باذنه والمقبوض على سوم الشراء إنما كان مضمونا
ضمان العقد والاذن يقرر ضمان العقد ولان المالك هناك ما رضى بقبضه الا بجهة العقد ففيما
وراء العقد كان المقبوض بغير إذنه. والمستقرض كذلك أنما كان مضمونا بالعقد والاذن
يقرر ضمان العقد وإنما لا يرجع المستعير بضمان الاستحقاق لان الرجوع عند الاستحقاق
بسبب الغرور أو بسبب العيب وذلك يختص بعقد المعاوضة فإنه يقتضى السلامة عن
العيب فأما عقد التبرع لا يقتضي ذلك ولهذا لا يرجع الموهوب له بضمان الغرور عندنا
(وقوله) بأنه قبض العين لاعن استحقاق تقدم (قلنا) نعم ولكنه قبض العين بحق والموجب
للضمان القبض بغير حق لما فيه من التفويت على المالك وكما أن القبض موجب للضمان
فالاتلاف كذلك ثم الاتلاف إنما يوجب الضمان إذا حصل بغير حق لا إذا حصل بغير
استحقاق تقدم فالقبض مثله * والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم العارية مضمونة ضمان الرد
ولأنه جعل الضمان صفة للعين وحقيقة ذلك في ضمان الرد لأنه يبقى ببقاء الرد وحديث
صفوان فقد قيل إنه أخذ تلك الدروع بغير رضاه وقد دل عليه قوله أغصبا يا محمد إلا أنه إذا
كان محتاجا إلى السلاح كان الاخذ له حلالا ثمة شرعا ولكن بشرط الضمان كمن اصابته
مخمصة له أن يتناول مال الغير بشرط الضمان (وقيل) كانت الدروع أمانة لا هل مكة عند
صفوان فاستعارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته إليها فكان مستعيرا من المودع
وهو ضامن عندنا (وقيل) المراد ضمان الرد (وقوله) مؤداة تفسير لذلك كما يقال فلان عالم
فقيه يعلم باللفظ الثاني أن المراد بالأول علم الفقه (وقيل) كان هذا من رسول الله صلى الله عليه
وسلم اشتراط الضمان علي نفسه والمستعير وان كأن لا يضمن ولكن يضمن بالشرط كالمودع
على ما ذكره في المنتقى ولكن صفوان كان يومئذ حربيا ويجوز بين المسلم والحربي من
الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين (وقيل) إنما قال ذلك تطبيبا لقلب صفوان على ما روى أنه
هلك بعض تلك الدروع فقال صلى الله عليه وسلم إن شئت غرمناها لك فقال لا فانى اليوم
136

أرغب في الاسلام مما كنت يومئذ ولو كان الضمان واجبا لامره بالاستيفاء أو الابراء
(وقوله صلى الله عليه وسلم) وما يعار رسلي فهلك علي أيديهم أي استهلكوه لأنه يقال
هلك في يده إذا كان بغير صنعه وهلك على يده إذا استهلكه (وقوله صلى الله عليه وسلم)
على اليد ما أخذت حتى ترد يقتضى وجوب رد العين ولا كلام فيه أنما الكلام في وجوب
ضمان القيمة بعد هلاك العين * قال (وان استعار الدابة يوما إلي الليل ولم يسم ما يحمل عليها
لم يضمن إذا هلكت) لأنه قبضها باذن صحيح ولكن ان أمسكها بعد مضي اليوم فهو ضامن
لها لأنه لما وقت فقد بين انه غير راض بقبضه إياها فيما وراء المدة فإذا أمسكها بعد مضى
المدة كان ممسكا لها بغير رضا صاحبها فيضمنها كما في المودع إذا طولب بالرد فلم يرد حتى
هلكت. وهذا بخلاف المستأجر فإنه بعد مضى المدة إذا أمسكها لا يضمنها ما لم يطالبه صاحبها
بالرد لان مؤنة الرد هناك ليست على المستأجر ولكنها على المالك فإذا لم يحضر المالك ليأخذها لم
يوجد من المستأجر منع يصير به ضامنا. وهنا مؤنة الرد على المستعير فإذا أمسكها بعد
مضى المدة فقد وجد منه الامتناع من الرد المستحق عليه وذلك موجب ضمان المستعار عليه
(وإذا لم يؤقت المالك ولكنه أعارها ليحمل عليها الحنطة فجعل ينقل عليها الحنطة أياما فلا ضمان
عليه) لان الاذن من المالك مطلق فلا ينعدم حكمه الا بالنهي والمطالبة بالرد ولم يوجد * وان
حمل عليها الآجر أو اللبن أو الحجارة فعطبت فهو ضامن لأنه خالف ما أمره به نصا فصار
غاصبا مستعملا بغير إذنه * وهذا المسألة على أربعة أوجه (أحدها) أن يحمل علها غير
ما عينه المالك ولكنه مثل ما عينه في الضرر علي الدابة من جنسه بأن استعارها ليحمل عليها
عشرة مخاتيم (3) من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة مخاتيم من حنطة أخرى أو ليحمل عليها
حنطة نفسه فحمل عليها حصة غيره فلا ضمان عليه لان التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا
وهذا التقييد والتعيين لا يفيد شيئا فان حنطته وحنطة غيره في الضرر عليها سواء
(والثاني) أن يخالف في الجنس بأن استعارها ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة فحمل عليها
عشرة أقفزة شعير. في القياس يكون ضامنا لأنه مخالف فإنه عند اختلاف الجنس لا تعتبر
المنفعة والضرر. ألا ترى ان الوكيل بالبيع بألف درهم إذا باع بألف دينار لم ينفذ بيعه
وفى الاستحسان لا يكون ضامنا لأنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة فان مقصوده دفع زيادة

(3) (مخاتيم) جمع مختوم وهذا الصاع كما في القاموس اه‍ مصححه
137

الضرر عن دابته ومثل كيل الحنطة من الشعير يكون أخف على الدالة وقد بينا انه إنما يعتبر
من تقييده ما يكون مفيدا دون مالا يفيده شيئا حتى قيل لو سمى مقدارا من الحنطة وزنا
فحمل مثل ذلك الوزن من الشعير يضمن لأنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ من الحنطة
فهو كما لو استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حطبا أو تبنا فأما مثل ذلك كيلا من الشعير
لا يأخذ من ظهرها أكثر مما يأخذ من الحنطة (والثالث) أن يخالف إلى ما هو أضر على
الدابة بأن استعارها ليحمل عليها حنطة فحمل عليها حديدا أو آجرا مثل وزن الحنطة فهو ضامن
لها لان هذا يجتمع في موضع واحد فيدق ظهر الدابة فكان أضر عليها من حمل الحنطة وتقييد
المالك معتبر إذا كان مفيدا له. وكذلك لو حمل عليها مثل وزن الحنطة قطنا لأنه يأخذ من
ظهر الدابة فوق ما تأخذ الحنطة فكان أضر عليها من وجه كما لو حمل عليها حطبا أو تبنا
(والرابع) أن يخالف في المقادر بأن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحل عليها خمسة
عشر مختوما فهلكت فهو ضامن ثلث قيمتها لأنه في مقدار عشرة مخاتيم موافق لأنه حامل
بإذن المالك وفيما زاد على ذلك حامل بغير إذنه فيعتبر الجزء بالكل ويتوزع الضمان على ذلك
وهذا إذا كان مثل تلك الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوما فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك
فهو ضامن لجميع قيمتها لأنه متلف لها بهذا الحمل والمالك ما أذن له في اتلافها * وللشافعي ثلاثة
أقاويل في هذه المسألة. قول مثل قولنا. وقول آخر انه يضمن جميع قيمتها لأنه خالف إلى
ما هو أضر علي الدابة فهو كما لو خالف في الجنس. وقول آخر أنه يضمن نصف قيمتها لأنها تلفت
من حملين أحدهما باذن صاحبه والآخر بغير إذنه فيضمن نصف قيمتها كما لو أمره أن يضرب
عبده عشرة أسواط فضربه أحد عشر سوطا فمات من ذلك يضمن نصف قيمته. ولكن
الفرق بينهما ظاهر لان ذاك ضمان قتل وفي باب القتل المعتبر عدد الجناة لا عدد الجنايات
فقد نقوي الطبيعة على دفع ألم عشر جراحات في موضع ولا تقوى على دفع ألم جراحة
واحدة في موضع فلهذا اعتبرنا عدد الجناة وجعلنا الضمان نصفين. وهنا تلف الدابة باعتبار
ثقل المحمول وثقل عشرة مخاتيم فوق ثقل خمسة مخاتيم في الضرر على الدابة فلا بد من أن
يتوزع الضمان علي قدر ثقل المحمول وهذا بخلاف ما لو استعار ثورا ليطحن به عشرة مخاتيم
حنطة فطحن أحد عشر مختوما فهلك فإنه يضمن جميع قيمته لان الطحن يكون شيئا فشيئا
فلما طحن عشرة مخاتيم انتهى اذن المالك فبعد ذلك هو في الطحن مخالف في جميع الدابة
138

مستعمل لها بغير إذن مالكها فيضمن جميع قيمتها. فأما الحمل يكون جملة واحدة فهو في
البعض مستعمل لها بإذن المالك وفى البعض مخالف فيتوزع الضمان علي ذلك * وإذا جاوز
المكان الذي سمى له وأخذ إلى مكان غير ذلك فعطبت فهو ضامن لها لأنه استعملها بغير إذن
صاحبها فالتقييد من صاحبها هنا مفيد لان الضرر على الدابة يختلف بقرب الطريق
وبعده والسهولة والوعورة * وان استعارها ليحمل كذا وكذا ثوبا هرويا فحمل عليها مثل
ذلك مرويا أو فوهيا أو نرمقا لم يضمن لان التقييد بالهروي غير مفيد فان سائر أجناس
الثياب كالهروي في الضرر على الدابة * وكذلك في الوزنيات من الادهان وغيرها كل
تقييد يكون مفيدا فهو معتبر وإذا خالف ذلك كان ضامنا ومالا يكون مفيدا لا يعتبر
(وان) استعارها ليركبها هو فركبها هو وحمل معه عليها رجلا ضمن نصف قيمتها لأنه في
نصفها موافق وفى النصف مخالف والجزء معتبر بالكل (فان قيل) أليس أنه لو لم يركبها
وحمل عليها غيره فهلكت ضمن جميع قيمتها فإذا ركبها معه أولى لان الضرر على الدابة
أكثر (قلنا) إذا حمل عليها غيره فهو مخالف في الكل وإذا ركبها فهو موافق فيما شغله
بنفسه مخالف فيما شغله بغيره. ألا ترى أنه لو كان استأجرها لركوبه لم يجب الاجر إذا
حمل عليها غيره ووجب الاجر إذا ركبها وحمل مع نفسه غيره وهذا إذا كانت الدابة
بحيث تطيق حمل رجلين فإن كان يعلم أنها لا تطيق ذلك فهو متلف لها ضامن لجميع قيمتها
ثم لم يعتبر هنا الثقل والخفة بأن يكون الذي حمله مع نفسه أخف منه أو أثقل منه.
بخلاف مسألة الحنطة وهذا لأنه استقبح وزن الرجال في مثل هذا (فقال) أرأيت لو كان
يوزن كل واحد منهما أيوزن قبل الطعام أو بعده قبل الخلاء أو بعده لان الضرر في حق
الراكبين على الدابة لا يكون باعتبار الثقل والخفة فرب ثقيل يروض الدابة إذا ركبها لهدايته
في ذلك ورب خفيف يعقرها لخرقه في ذلك فلهذا اعتبرنا المناصفة * فان قضى حاجته من
الدابة ثم ردها مع عبده أو بعض من هو في عياله فلا ضمان عليه ان عطبت لان يد من في
عياله في الرد كيده كما أن يد من في عياله في الحفظ كيده والعرف الظاهر أن المستعير يرد
المستعار بيد من في عياله ولهذا يعولهم فكان مأذونا فيه من جهة صاحبها دلالة * وكذلك
ان ردها إلى عبد صاحب الدابة وهو الذي يقوم عليها فهو برئ استحسانا. والقياس أن لا
يبرأ ما لم تصل إلى صاحبها كالمودع إذا رد الوديعة لا يبرأ عن الضمان ما لم تصل إلى يد
139

صاحبها ووجه الاستحسان ان صاحبها إنما يحفظ بيد هذا السائس ولو دفعها إليه لكان
يدفعها إلى السائس أيضا فكذلك إذا ردها علي السائس والعرف الظاهر أن صاحب الدابة
يأمر السائس بدفعها إلى المستعير وباستردادها منه إذا فرغت فيصير مأذونا في دفعها إليه
دلالة ولم يوجد مثل هذا العرف في الوديعة فان صاحبها هو الذي يتولى استردادها عادة
وإنما أودعها لأنه لم يرض بكونها في يد عياله حتى قالوا في المستعار لو كان عقد لؤلؤ فرده
المستعير على عبد هو سائس دواب المعير لا يبرأ لأنه في مثل هذا لا يرضى باسترداد مثله
عادة * وان استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبس فهو ضامن لان الناس يتفاوتون في لبس
الثوب ولبس القصاب والدباغ لا يكون كلبس البزاز والعطار فكان هذا تقييدا مفيدا
في حق صاحب الثوب فإذا ألبسه المستعير غيره صار مخالفا. وكذلك الدابة إذا استعارها
ليركبها هو لان الناس يتفاوتون في الركوب فرب راكب يروض الدابة وآخر يقتلها. فأما
إذا استعاره ولم يسم من يلبسه فأعاره غيره لم يضمن لان صاحب الثوب رضى باستيفاء
منفعة اللبس من ثوبه مطلقا فسواء لبسه المستعير أو غيره لم يكن مخالفا لما نص عليه المستعير
وكذلك أن كان المستعار مما لا تفاوت الناس في الانتفاع به كسكنى الدار وخدمة العبد
لان تقييده هنا بنفسه غير مفيد فيكون وجوده كعدمه وهو بناء على أصلنا أن للمستعير أن
يعير وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمستعير ان يعير لأنه منتفع بملك الغير بإذنه فلا يكون له أن يأذن لغيره في ذلك كالمباح له الطعام لا يبيح لغيره وهذا لأنه يسوى غيره
بنفسه فيما هو من حق الغير وإنما له هذه الولاية في حق نفسه لا في حق الغير * ألا ترى أن
الوكيل بالتصرف لا يوكل غيره به. وحجتنا في ذلك أن المستعير مالك للانتفاع بهذا العين
فيملك أن يعيره من غيره كالمستأجر والموصى له بالخدمة وهذا لما بينا ان المستعير يملك المنفعة
بالعارية واليه أشار بعد هذا فقال (من أعارك شيئا فقد جعل لك منفعة ذلك) والدليل
عليه انه لو قال ملكتك منفعة هذه العين كانت عارية صحيحة فإذا ثبت انه مالك للمنفعة فهو
بالتمليك من الغير يتصرف في ملك نفسه ويستوى غيره بنفسه في حق نفسه وذلك صحيح
بخلاف المباح له الطعام فإنه لا يملك الطعام وإنما يتناوله على ملك المبيح الا ان العين بقي
على ملك صاحبه ففيما يتفاوت الناس في الانتفاع به لا يعيره من غيره وإن كان تصرفه في
ملك نفسه لدفع الضرر وذلك صحيح كما أن أحد الشريكين في العبد إذا كاتبه كان للآخر
140

ان يفسخ لدفع الضرر عن نفسه. والمشترى إذا تصرف في الشقص المشفوع فهو متصرف
في ملكه ثم ينقض تصرفه لدفع الضرر علي الشفيع قال * (رجل استعار من رجل أرضا على أن
يبنى فيها أو على أن يغرس فيها نخلا فأذن له صاحبها في ذلك ثم بدا له ان يخرجه فله ذلك
عندنا) وقال مالك رحمه الله تعالى ليس له ذلك لأنه غير متعد في البناء والغرس فلا يهدم عليه
ذلك وصاحب الأرض وإن كان يتضرر بذلك فقد رضي بالتزام هذا الضرر. فأما صاحب
البناء لم يرض بهدم بنائه وغرسه فلا يكون لصاحب الأرض أن يأخذها ما لم يفرغ ولكنا
نقول الأرض بقيت على ملك صاحبها والعارية لا يتعلق بها اللزوم فلا يمتنع بسببه عليه اثبات
اليد على ملكه والانتفاع به متى شاء وصاحب البناء والغرس لما بنى على بقعة هي
مملوكة لغيره من غير حق لازم له فقد صار راضيا بان يهدم عليه بناؤه وغرسه لأنه
ملكه وقد شغل أرض الغير به فيؤمر بتفريغه ولا ضمان له على صاحب الأرض عندنا
(وقال) ابن أبي ليلى البناء للمعير ويضمن قيمتها مبنية لصاحبها لان دفع الضرر من
الجانبين واجب وإنما يندفع الضرر بهذا. وشبه هذا بثوب انسان إذا انصبغ بصبغ
غيره فأراد صاحب الثوب أن يأخذه فإنه يضمن للصباغ قيمة صبغه ولكنا نقول صاحب
الأرض غير راض بالتزام قيمة البناء ففي إلزام ذلك عليه من غير رضاه اضرار به ولا يجوز
المصير إليه بدون تحقق الضرورة ولا ضرورة هنا لان رفع البناء وتمييز ملك أحدهما من ملك
الآخر ممكن بخلاف مسألة الصبغ فان تمييز ملك أحدهما من ملك الآخر هناك غير ممكن
ثم هناك لا يلزمه قيمة الصبغ بدون رضاه أيضا حتى يكون له أن يأبى التزام القيمة
ليصار إلى بيع الثوب فكذلك هنا ينبغي أن لا يلزم قيمة البناء بغير رضاه * فإن كان وقت
له وقتا عشرين سنة أو نحو ذلك ثم أخرجه قبل الوقت فهو ضامن للمستعير قيمة بنائه وغرسه
عندنا. وعلى قول زفر رحمه الله لا يضمن ذلك لان التوقيت في العارية غير ملزم إياه شيئا
كأصل العقد فكما لا يكون له أن يضمنه قيمة البناء والغرس باعتبار مطلق الإعارة فكذلك
بالتوقيت منها وبيان التوقيت غير ملزم إياه أنه يتمكن من اخراجه قبل مضي ذلك الوقت
وحجتنا في ذلك أن المعير بالتوقيت يصير غارا للمستعير لأنه نص على ترك الأرض في يده
واقرار بنائه فيها في المدة التي سمى فإذا لم يف بذلك صار غارا له وللمغرور أن يدفع الضرر
عن نفسه بالرجوع على الغار بخلاف ما إذا أطلق فهلك المعير لم يصر غارا له ولكن المستعير
141

مغتر بنفسه حتى ظن أنه بمطلق العقد يتركها في يده مدة طويله. ولكن قد بينا فيما سبق
أن الغرور بمباشره عقد الضمان يكون سببا للرجوع وذلك لا يوجد هنا فان المعير لم يباشر
عقد ضمان. وان وقت فالوجه أن يقول كلام العاقل محمول على الفائدة ما أمكن ولا حاجة
إلى التوقيت في تصحيح العارية فلا بد من أن يكون لذكر الوقت فائدة أخرى وليس
ذلك الا التزام قيمة البناء والغرس إذا أراد اخراجه قبله وصار تقدير كلامه كأنه قال ابن لي في
هذه الأرض لنفسك على أن أتركها في يدك إلى كذا من المدة فإن لم أتركها فأنا ضامن لك
ما تنفق في بنائك ويكون بناؤك لي فإذا بدا له في الاخراج ضمن قيمة بنائه وغرسه ويكون
كأنه بنى له بأمره إلا أن يشاء المستعير أن يرفعها ولا يضمنه قيمتها فيكون له ذلك لان البناء
والغرس ملكه وإنما أوجبنا الضمان على المعير لدفع الضرر عن المستعير فإذا رضي بالتزام هذا
الضرر كان هو أحق بملكه يرفعه بتفريغ ملك الغير (وقيل) هذا إذا لم يكن في قلع الأشجار
ضرر عظيم بالأرض فأما إذا كان فيه ضرر عظيم فليس للمستعير أن يرفعها بغير رضا المعير
لما فيه من الاضرار به ولكن للمعير أن يتملكها عليه بالقيمة * وإن كان اعاره الأرض ليزرعها
ووقت لذلك وقتا أولم يوقت وقتا فلما تقارب حصاده أراد أن يخرجه ففي القياس له ذلك
كما في البناء والغرس وهذا لان الزارع زرع الأرض من غير حق لازم له فيها فلصاحبها أن
يأخذها متى شاء كالغاصب للأرض إذا زرعها. ولكن في الاستحسان لا يأخذها صاحبها
إلى أن يحصد المستعير زرعها لأنه ما كان متعديا في الزارعة بجهة العارية ولا دراك الزرع
نهاية معلومة فلو تمكن المعير من قلع زرعه كان فيه اضرار بالمستعير في ابطال ملكه ولو
تركت في يد المستعير كان فيه اضرار بالمعير من حيث تأخير حقه وضرر الابطال فوق
ضرر التأخير فإذا لم يكن بد من الاضرار بأحدهما ترجح أهون الضررين. بخلاف البناء
والغرس فإنه ليس له نهاية معلومة فيكون الضرر من الجانبين ضرر ابطال الحق فترجح
جانب صاحب الأصل على جانب صاحب التبع وبخلاف الغصب لان الغاصب متعد
في الزراعة في الابتداء فلا يستحق بفعل التعدي ابقاء زرعه ولم يبين في الكتاب ان
الأرض تترك في يد المستعير إلى وقت ادراك الزرع بأجر أو بغير أجر * قالوا وينبغي أن
يترك بأجر المثل كما لو انتهت مدة الإجارة والزرع نقل بعده وهذا لان ابطال حق صاحب
الأرض عن منفعة ملكه مجانا لا يجوز بغير رضاه وإنما يعتدل النظر من الجانبين إذا
142

ترك الزرع إلى وقت الادراك باجر المثل (فان) رد المستعير الدابة مع غلامه فعقرها الغلام فهو
ضامن لقيمتها يباع في ذلك أو يؤدى عنه مولاه لأنه استهلكها والعبد المحجور عليه يؤاخذ
بضمان الاستهلاك في الحال (وإذا اختلف رب الدابة والمستعير فميا أعارها له وقد عقرها
الركوب أو الحمولة فالقول قول رب الدابة عندنا) وعند ابن أبي ليلى رحمه الله القول قول
المستعير لان رب الدابة يدعى عليه سبب الضمان وهو الخلاف وهو منكر لذلك فالقول
قوله ولكنا نقول الاذن يستفاد من جهة صاحب الدابة ولو أنكر أصل الاذن كان القول
قوله فكذلك إذا أنكر الاذن على الوجه الذي انتفع به المستعير وهذا لان سبب وجوب الضمان
قد ظهر وهو استعمال دابة الغير والمستعمل يدعى ما يسقط الضمان عنه وهو الاذن وصاحبها
منكر لذلك فإذا حلف فقد انتفى المسقط ويبقى هو ضامنا بالسبب الظاهر * وان اعاره الأرض
على أن يبنى فيها أو يسكن ما بدا له فإذا خرج فالبناء لصاحب الأرض فهذا الشرط فاسد لان
البناء ملك الباني شرط رب الأرض ذلك عليه لنفسه بإزاء منفعة الأرض فيكون هذا إجارة
لا إعارة وهي إجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه حين لم يذكر مدة معلومة وبجهالة الاجر
حين لم يكن مقدار ما يبنى معلوما لهما وقت العقد وعلي الساكن أجر مثل الأرض فيما
سكن لأنه استوفى منفعتها بحكم عقد فاسد (وينقض الساكن بناءه إذا طالبه صاحبها برد
الأرض) لان البناء ملكه (فان قيل) لماذا لا يتملك البناء صاحب الأرض بحكم الإجارة
الفاسدة لأنه صار قابضا له باتصاله بالأرض (قلنا) كان الشرط بينهما ان يبنى الساكن
لنفسه ثم البناء كان معدوما عند العقد والعقد على المعدوم لا ينعقد أصلا وإنما يملك بالقبض
ما يتناوله العقد الفاسد وإذا مات المعير والمستعير انقطعت العارية. أما إذا مات المعير فلان
العين انتقلت إلي وارثه والمنفعة بعد هذا تحدث علي ملكه وإنما جعل المعير للمستعير ملك
نفسه لا ملك غيره. وأما إذا مات المستعير فلان المنفعة لا تورث لان الوارثة خلافة وذلك
فيما كان للميت فيخلفه فيه وارثه وإذا كانت المنافع لا تبقى وقتين لا يتصور فيها هذه الخلافة
ولان الدلالة قامت لنا على أن العقد على المنفعة بعوض يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو
الإجارة فما كان منها بغير عوض أولى * وكذلك أن كان قال له هذه الدار لك سكنى لان معناه
سكناه لك فان قوله لك يحتمل تمليك العين ويحتمل تمليك المنفعة وقوله سكنى يكون تفسيرا
لذلك المحتمل وكذلك إذا قال عمري سكنى كان قوله سكنى تفسيرا لقوله عمري فإنما تثبت العارية
(10 مبسوط حادي عشر)
143

بهذا اللفظ تنقطع بموته (وإذا جاء رجل إلى المستعير وقال إني استعرت من فلان هذا
الذي عندك وأمرني ان أقبضه منك فصدقه ودفعه إليه فهلكت عنده ثم أنكر المعير أن
يكون أمره بذلك فالمستعير ضامن له) لأنه يدعى على المعير الامر بالدفع إليه وهو منكر
فالقول قوله مع يمينه وإذا حلف يتبين ان المستعير دفعه إلى غير المالك بغير إذنه وذلك موجب
للضمان عليه (فان قيل) لما ذا لم تجعل هذه إعارة من المستعير حيت لا يكون موجبا للضمان
عليه (قلنا) المستعير إذا أعاره من غيره فإنه يقيمه مقام نفسه في الانتفاع وامساك العين
فيكون يد الثاني كيد الأول ولهذا كان له أن يسترده متى شاء وهنا تسليمه إلي الثاني لم يكن
بهذا الطريق بل بطريق أنه أحق بالعين منه ولهذا لا يملك الاسترداد منه فلا يمكن أن يجعل
كالمعير منه ثم إذا ضمن المستعير لا يرجع به على الذي قبضه منه لأنه صدقه فيما ادعى ففي
زعمه أنه مستعير من المالك وانه لا ضمان على واحد منهما إلا أن المالك ظلمه حين ضمنه
ومن ظلم فليس له أن يظلم غير ظالمه * وإن كان الذي جاء فقبض العارية منه خادم المعير وأنكر
مولاه أن يكون أمره بذلك فلا ضمان على المستعير لما بينا ان الرد على خادم المعير كالرد علي
المعير فلا يكون سببا لوجوب الضمان على المستعير * وإذا رد المستعير الدابة فلم يجد صاحبها
ولا خادمه فربطها في دار صاحبها على معلفها فضاعت فهو ضامن لها في القياس لأنه ضيعها
حين أخرجها من يده ولم يسلمها إلي أحد يحفظها. ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك كان
مضيعا ضامنا فكذلك المستعير وفي الاستحسان لا ضمان عليه لأنه ربطها في موضعها المعروف
ولو ردها علي صاحبها لكان يربطها في هذا الموضع فكذلك إذا ربطها بنفسه وهذا للعادة
الظاهرة ان المستعير يأخذ الدابة من مربطها ويردها إلى مربطها فيثبت الاذن له من جهة
صاحبها في ذلك بهذا الطريق دلالة. وهذا بخلاف الغاصب لأنه ضامن محتاج إلى اسقاط
الضمان عن نفسه بنسخ فعله وذلك لا يتم بردها إلى مربطها بعد ما أخذها من صاحبها فأما
المستعير فهو أمين فإنما الحاجة إلى دفع سبب الضمان عنه وهو التضييع وقد اندفع باعتبار العادة
لان المربط في يد صاحب الدابة فاعادتها إلى المربط بمنزلة الإعادة إلى يد صاحبها حكما (ولو
جحد المستعير العارية ثم زعم أنها هلكت فهو ضامن لها) لأن العين كانت أمانة في يده فيصير
ضامنا بالجحود كالمودع وإن لم يجحد ولكن قال قد رددته أو ضاع منى فهو مصدق مع
يمينه في كل ما يصدق فيه المودع لأنه أمين ينكر وجوب الضمان عليه (وعارية الدراهم
144

والدنانير والفلوس قرض) لان الإعارة اذن في الانتفاع ولا يتأتى الانتفاع بالنقود الا
باستهلاك عينها فيصير مأذونا في ذلك * وفيه طريقان اما الهبة أو القرض فيثبت الأقل لكونه
متيقنا به ولان المستعير يلتزم رد العين بعد الانتفاع ويتعذر هنا رد العين فيقام رد المثل
مقام رد العين والقبض الذي يمكنه من استهلاك المقبوض ويوجب عليه ضمان المثل القبض
بجهة القرض * وكذلك كل ما يكال أو يوزن أو يعد مثل الجوز والبيض. قال في الأصل
أرأيت لو استعار دراهم يشترى بها طعاما أو جارية أما كان له أن يأكل الطعام أو يطأ الجارية
له ذلك والمال قرض عليه * وان استعار آنية يتجمل بها في منزله أو سكينا محلى أو سيفا أو
منطقة مفضضة أو خاتما لم يكن شئ من هذا قرضا لان الانتفاع بهذه الأعيان مع بقائها
ممكن ولهذا تجوز اجارتها (قالوا) ولو أن صيرفيا استعار دراهم أو دنانير ليتجمل بها في حانوته
أو ليعبر بها صنجاته فإنه لا يكون قرضا لا نهما لما صرحا به علمنا أو مقصودهما الانتفاع مع
بقاء العين دون الاذن في استهلاك العين * وإذا استعار دابة ليركبها إلى مكان معلوم فأخذ بها
في طريق آخر إلي ذلك المكان فعطبت لم يضمن لأنه مأذون في الوصول عليها إلي ذلك
المكان ولم يقيد له طريق فلا يكون مخالفا في أي طريق ذهب بعد أن يكون طريقا
يسلكه الناس إلي ذلك المكان فإن كان طريقا لا يسلكه الناس إلي ذلك المكان فهو ضامن
لان مطلق الاذن ينصرف إلى المتعارف * وان استعارها إلى حمام أعبر فجاوز بها حمام أعبر
ثم جاء بها إلى حمام أعين أو إلى الكوفة فعطبت الدابة فهو ضامن لها حتى يردها إلى صاحبها
(قيل) هذا إذا استعارها ذاهبا لا راجعا فأما إذا استعارها ذاهبا وجائيا فلا ضمان عليه
وهكذا ذكر في النوادر لأنه في الأول لما وصل إلى حمام أعين انتهى العقد فإذا جاوز كان
غاصبا فلا يبرأ الا بالرد علي المالك وفى الثاني إنما يضمن بالخلاف وهو استعمالها وردء المكان
المشروط فإذا رجع إلى حمام أعين فقد ارتفع الخلاف والعقد قائم بينهما فيكون أمينا
(وقيل) الجواب في الفصلين سواء لان يد المستعير يد نفسه * وفى الوديعة إذا خالف ثم
عاد إلى الوفاق إنما أبرأناه عن الضمان لان يده يد المالك فيجعل في الحكم كما لورده على
المالك وهذا لا يوجد هنا فبقي ضامنا كما كان وان عاد إلى مكان العقد ما لم يوصله إلى المالك
والإجارة في هذا كالعارية لان يد المستأجر يد نفسه أيضا فإنه يقبض لمنفعة نفسه ورجوعه
بضمان الاستحقاق لأجل الغرور الثابت بعقد ضمان لا لان يده يد المالك * يوضح الفرق ان
145

المستعير والمستأجر يضمنان بالامساك فإنه لو استعار أو استأجر دابة ليركبها إلى مكان كذا
فأمسكها في المصر أياما كان ضامنا فكذلك إذا جاوز المكان المشروط فإنما ضمناه بامساكها
في غير الموضع الذي تناوله الاذن ولا ينعدم الامساك إلا بالرد. فأما المودع يصير ضامنا
بالاستعمال لا بالامساك وقد انعدام الاستعمال حين عاد إلى الوفاق. يقول فان أقام صاحبها
البينة أنها نفقت تحته في دير عبد الرحمن من ركوبه وأقام المستعير شاهدين أنه قد ردها
إلي صاحبها أخذت بينة رب الدابة لأنها تثبت سبب تقرر الضمان على الراكب وبينة المستعير
تنفى ذلك والبينات للاثبات * وإذا نفقت الدابة تحت المستعير ثم أقام رجل البينة انها دابته
يقضي القاضي له بالملك لاثباته ذلك بالحجة ولا يسأله البينة أنه لم يبع ولم يهب لان ذلك
لا يدعيه أحد والقاضي نصب لفصل لخصومات لا لانشائها فان ادعى ذلك الذي أراد أن
يضمنه أو قال أذن لي في عاريتها يحلف على ذلك لأنه ادعى عليه ما لو أقربه لزمه فإذا أنكر
يستحلفه فان نكل كان نكوله كاقراره فلا يضمن المستحق أحدا وان حلف كان له أن
يضمن أيهما شاء لان كل واحد منهما متعد في حقه المعير بالتسليم والمستعير بالقبض
والاستعمال فان ضمن المعير لم يرجع على المستعير لأنه ملكها من حين وجب عليه الضمان
فيتبين انه أعار ملك نفسه وان ضمن المستعير لم يرجع على المعير أيضا لأنه ضمن بفعل باشره
لنفسه بخلاف المودع ولأنه لم يصر مغرورا من جهة المعير حين لم يشترط المعير لنفسه
عوضا بخلاف المستأجر فقد صار مغرورا من جهة الاجر بمباشرته عقد الضمان واشتراط
العوض لنفسه. ثم على المستأجر الاجر إلى الموضع الذي نفقت فيه الدابة لأنه استوفى المعقود
عليه وذلك للأجر دون الملك لان تقوم المنفعة كان بعقده وبه وجب الاجر * ولا بأس بأن يعير
العبد التاجر والعبد الذي يؤدى الغلة الدابة. وفى القياس ليس لهما ذلك لأنه تبرع والمملوك
ليس من أهله فان تبرعه يكون بملك الغير ولأنه صار منفك الحجر عنه في التجارة والإعارة
ليست من التجارة في شئ * ووجه الاستحسان ان هذا من توابع التجارة فان التاجر لا
يجد منه بدا لأنه إذا أراد الانسان أن يعامله فلا بد أن يجلسه في حانوته أو يضع وسادة
له وهو إعارة لذلك الموضع منه وقد يستعار منه الميزان أو صنجات الميزان فإذا لم يعر لان يعار
منه عند حاجته أيضا * وما يكون من توابع التجارة يملكه المأذون كاتخاذ الضيافة اليسيرة
والاهداء إلى المجاهدين بشئ. والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب
146

دعوة المملوك وحديث أبي سعيد مولى أبى أسيد رضى الله تعالى عنه قال عرست وأنا عبد
فدعوت رهطا من الصحابة رضى الله تعالى عنهم فيهم أبو ذر فأجابوني. فدل أن للعبد اتخاذ للدعوة
حتى أجابه أبو ذر رضى الله تعالى عنه مع زهده * والعبد الذي أمره المولى بأداء الغلة مأذون له
في التجارة لأنه لا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب فأمر المولي إياه بأداء الغلة يكون إذنا له في
الاكتساب (عبد مأذون له) أجر دابته من رجل فنفقت تحته فاستحقها رجل وضمن
الراكب قيمتها يرجع بها على العبد المأذون كما يرجع على الحر لأنه صار مغرورا من جهته
باشتراطه العوض لنفسه والمأذون يؤاخذ بضمان الغرور كالحر ولهذا تبين خطأ بعض المتأخرين
من مشايخنا رحمهم الله تعالى أن ضمان الغرور كضمان الكفالة وان الغار يصير كالقائل للمغرور
ان ضمنك أحد بسبب ركوب هذه الدابة أو استيلاد هذه الجارية في البيع فأنا ضامن لك
ذلك لأنه لو كان هذا بطريق الكفالة لم يؤاخذ به المأذون فان العبد المأذون لا يؤاخذ
بضمان الكفالة ولكن الطريق أن من باشر عقد المعاوضة فهو ملتزم سلامة المعقود عليه
عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق والرجوع عليه لهذا. ولهذا لا رجوع على المعير
الواهب لأنه لا يلتزم صفة السلامة بعقد التبرع * ثم العبد في التزام صفة السلامة بعقد
المعاوضة وهو التجارة كالحر * وإذا أعار عبد محجور عليه عبدا مثله دابة فركبها فهلكت تحته
ثم استحقها رجل فله ان يضمن أيهما شاء لان أحدهما غاصب لملكه بالتسليم إلى الاخر والآخر
مستهلك باستعماله فان ضمن الراكب لم يرجع على المعير لانعدام الغرور منه ولان المعير كان
محجورا عليه فلا يؤاخذ بضمان الأقوال وان ضمن المعير رجع به مولاه في رقبة الراكب
لان الدابة صارت كسب المعير حين تقرر عليه ضمانها وكسب العبد لمولاه. فتبين ان الراكب
أتلف ملكه بغير رضاه. وكذلك أن كانت الدابة لمولى المعير فله أن يضمن الراكب لان
اذن العبد المحجور عليه غير معتبر في اسقاط حق المولى فبقي الراكب مستعملا دابته بغير رضاه
فكان غاصبا ضامنا * وان استعار الرجل دابة نتوجا فألقت من غير أن يعنف عليها فلا ضمان
عليه لأنها لو هلكت من الركوب المعتاد لم يضمن فإذا هلك ما في بطنها أولى وان ضربها ففقأ
عينها أو كبحها باللجام فهلكت فهو ضامن لها لأنه متلف بما صنع وإنما أذن له المالك في الركوب
دون الضرب * ولو استعار من رجل سلاحا ليقاتل به فضرب بالسيف فانقطع نصفين أو طعن
بالرمح فانكسر فلا ضمان عليه لأنه مأذون في الاستعمال والاستعمال يكون الا هكذا
147

وان ضرب به حجرا فهو ضامن لان المعير إنما أذن له في المقاتلة بالسلاح والمقاتلة مع الخصم
لا مع الحجر والضرب بالسيف الحجر غير معتاد أيضا فكان به ضامنا قال (وإذا قال المستعير
في صحته أو مرضه قد هلكت منى العارية فالقول قوله مع يمينه) لأنه أمين فيه كالمودع ولا
يتغير حكم أمانته بمرضه (وإذا) كان على دابة بإعارة أو إجارة فنزل عنهما في السكة ودخل
المسجد ليصلى فخلى عنها فهلكت فهو ضامن لها وكذلك أن أدخل الحمل في بيته وخلى عنها
في السكة لأنه ضيعها حين تركها في غير حرز لا حافظ معها من أصحابنا رحمهم الله من قال
هذا إذا لم يربطها بشئ فان ربطها لم يضمن لأنه متعارف لا يجد المستعير من ذلك بدا.
والأصح أنه يضمن إذا غيبها عن بصره. ألا ترى أنه قال وإن كان في صحراء فنزل ليصلي
وأمسكها فانفلتت منه فلا ضمان عليه. فبهذا تبين ان المعتبر أن لا يغيبها عن بصره ليكون
حافظا لها فأما بعد ما غيبها عن بصره لا يكون هو حافظا لها وان ربطها بشئ بل يكون
مضيعا لها بترك الحفظ فيكون ضامنا * وإذا استعارها ليركبها في حاجته إلى ناحية مسماة
من النواحي في الكوفة فأخرجها إلى الفرات ليسقيها والناحية التي استعارها إليها من غير
ذلك المكان فهلكت فهو ضامن لها لامساكه إياها في غير الموضع المأذون فيه أو ركوبه إياها
إلى موضع السقي (ولا يقال) إنما فعل هذا المنفعة الدابة لأنه لا ولاية له على ملك الغير
في ذلك إلا أن يأذن صاحبها وهو لم يأذن له في سقيها ولأنه يمكنه ان يسقيها في خروجه
إلى الناحية التي استعارها إليها لأن الماء موجود في كل موضع (وإذا) وجد المعير دابته مع رجل
يزعم أنها له فهو خصم له فيها لأنها في يده وهو يدعى رقبتها وذو اليد في مثل هذا خصم
للمستحق * وان قال الذي هي في يديه أودعنيها فلان الذي أعرتها إياه فلا خصومة بينهما
لأنهما تصادقا على أن الوصول إليه من ذلك الرجل وذلك الرجل ليس بخصم للمدعى لو كان
حاضرا لأنه مستعير منه فكذلك من قامت يده فيها مقام يده لا يكون خصما ولأنهما
تصادقا أنه مودع حافظ لها فلا يكون خصما. وإن كان ذلك المستعير باعها من رجل أو باعها
وصيه بعد موته فأخذها صاحبها وأقام البينة انها له قضى بها له ورجع المشترى بالثمن على
بائعه لان بالاستحقاق يتبين بطلان البيع * وإذا طلب المعير ثوبه فأبى المستعير أن يدفعه
فهلك عنده فهو ضامن لقيمته لأنه بالمنع بعد الطلب صار غاصبا وإن لم يمنعه ولكنه قال دعه
عندي إلى غد فرضى به صاحبه فلا ضمان عليه لأنه بهذا الرضا صار كالمجدد للإعارة منه فلا
148

يكون في إمساكه إلى الغد متعديا (رجل) أرسل رسولا يستعير له دابة من فلان إلى
الحيرة فجاء الرسول إلى صاحبها وقال إن فلانا يقول لك أعرني دابتك إلى المدينة فدفعها إليه فجاء
بها الرسول فدفعها إلى الذي أرسله ثم بدا للذي أرسله أن يركبها إلى المدينة وهو لا يشعر
بما كان من قول الرسول فركبها فهلكت تحته فلا ضمان عليه لأنه استعملها باذن مالكها.
وان ركبها إلى الحيرة فهلكت تحته فهو ضامن لها لأنه جاوز المكان الذي أذن فيه المالك
فصار مستعملا لها بغير إذنه وهذا لان ظنه غير معتبر إنما المعتبر اذن المالك وقد كان إلى
الموضع الذي طلب الرسول. ثم لا يرجع المرسل على الرسول بشئ لأنه لم يوجد منه عقد
ضمان إنما أخبره بخبر أو لم يخبره بشئ ولكنه لم يبلغ رسالته كما أمره به وذلك غير موجب
للضمان عليه والكراء في هذا قياس العارية * وان قال أعرتني دابتك فنفقت وقال رب الدابة
ما أعرتكها ولكن غصبتها فلا ضمان عليه إن لم يركبها لأنه أقر بفعل المالك في ملكه وذلك
غير موجب للضمان عليه والمالك يدعى عليه سبب الضمان وهو الغصب فيكون القول قول
المنكر. وإن كان قد ركبها فهو ضامن لها لان السبب الموجب للضمان عليه قد ظهر وهو
استعمال دابة الغير بغير إذنه والاذن المسقط للضمان لا يثبت بدعواه. و ان قال رب الدابة
أجرتكها فالقول قول الراكب مع يمينه لا نهما تصادقا على أن الركوب حصل بالاذن ثم رب
الدابة يدعى عليه الاجر والراكب منكر فالقول قوله لانكار ذلك. وهذا بخلاف العين فإنه
إذا هلك مال الغير في يده فقال وهبتها لي وقال المالك بل بعتها منك فإنه يكون ضامنا لأن العين
مال متقوم بنفسه فلا يسقط حق المالك عن ماليته إلا باسقاطه فأما المنفعة إنما تأخذ
حكم المالية والتقوم بعقد الإجارة ورب الدابة يدعي ذلك والراكب منكر فلهذا لا يضمن
شيئا * وان أقام رجل البينة على أرض ونخل أنها له وقد أصاب ذو اليد من غلتها وثمرتها فهو
ضامن لما أصاب من ذلك (وقال) ابن أبي ليلي لا ضمان عليه لان الثمرة منفعة الأشجار
والمنفعة لا تكون مضمونة بغير عقد ضمان كمنفعة الدابة ولكنا نقول الثمرة عين مال متقوم
بدليل جواز بيعها وهي مملوكة لصاحب الشجرة لتولدها من ملكه فيكون المصيب ضامنا
لماله بالاتلاف كولد الجارية والحمل في الشاة إذا أتلفها * وإذا غصب الرجل الأرض وزرعها
فالزرع له لأنه حصل بعمله من بذره وهذا بخلاف ما إذا غصب جارية فأحبلها فان الولد
هناك يكون لصاحبها لان حصول الولد بحضانتها في رحمها لا بفعل الواطئ فان ماء الفحل
149

يصير مستهلكها بالاختلاط بمائها ولان الولد في حكم جزء من عينها وهي بجميع أجزائها
مملوكة للمغصوب منه فأما الزرع ليس بجزء من الأرض. ألا ترى أنه من جنس البذر وانه
حاصل بعمل الزارع كما قررناه في الغصب ثم الزارع ضامن لما نقص الأرض عندنا وعلى
قول ابن أبي ليلى رحمه الله لا ضمان عليه لان العقار لا يكون مضمونا بالغصب والنقصان لم
يحصل بفعله ولان النقصان في الأرض من حيث تقليل المنفعة والريع والمنفعة لا تكون
مضمونة على الغاصب. ولكنا نقول قد انتقص مالية العين بفعله وهو الزراعة فكان متلفا
بقدر النقصان والعقار يضمن بالاتلاف كما لو هدم الأبنية أو قلع الأشجار. ثم يرفع من الزرع
مقدار بذره وما أنفق فيه وما غرم من نقصان الأرض ويتصدق بالفضل في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله لأنه بكسب خبيث، وفى قول أبى يوسف وابن أبي ليلي رحمهما الله
لا يتصدق بشئ لأنه حصل له بزراعته وهو سبب مشروع للاكتساب وقد بينا هذا في
الغصب * وإذا استأجر أرضا سنة فزرعها سنتين فعليه الاجر للسنة الأولى لأنه استوفي المعقود
عليه بحكم عقد صحيح وعليه نقصان الأرض بالزراعة في السنة الثانية لأنه غاصب فيما صنع
ويتصدق بالفضل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله كما في الفضل الأول. وعند ابن أبي ليلى
عليه أجر مثلها في السنة الثانية لاعتبار فكأنه زرعها في السنة الثانية بناء على العقد في
السنة الأولى وإنما لم يتعرض له صاحبها لهذا والعقد ينعقد بالدلالة كما ينعقد بالتصريح فيلزمه
أجر مثلها (ثم) ختم الكتاب بمسألة ذكرها في كتاب الزكاة أن من وجد كنزا في دار رجل
ففيه الخمس وأربعة أخماسه لصاحب الخلطة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وفى قول
أبى يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله للواحد وإنما ذكر أبو يوسف رحمه الله هذه المسألة
المختلفة بين أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله في آخر هذا الكتاب وآخر الوديعة لان
كل واحد منهما كان أستاذه فإنه كان في الابتداء يختلف إلى ابن أبي ليلى تسع سنين ثم
تحول منه إلى أبي حنيفة واختلف عنده أيضا تسع سنين فأحب أن يذكر بعض الفصول
عن أستاذيه جميعا فلهذا ذكر هذه الفصول والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. واليه المرجع
والمآب. وصلي على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
150

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الشركة)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله تعالى إملاء * الأصل في جواز الشركة ما روى أن السائب بن شريك
جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفني فقال صلوات الله وسلامه عليه وكيف لا
أعرفك وكنت شريكي وكنت خير شريك لا تدارى ولا تمارى أي لا تداجي ولا تخاصم
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يفعلون ذلك فأقرهم عليه وقد تعامله الناس من بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي يومنا هذا من غير نكير منكر (ثم) الشركة نوعان؟ شركة
الملك. وشركة العقد (فشركة الملك) أن يشترك رجلان في ملك مال وذلك نوعان. ثابت بغير
فعلهما كالميراث. وثابت بفعلها وذلك بقبول الشراء أو الصدقة أو الوصية والحكم واحد وهو
أن ما يتولد من الزيادة يكون مشتركا بينهما بقدر الملك وكل واحد منهما بمنزلة الأجنبي في
التصرف في نصيب صاحبه (وأما شركة العقد) فالجائز منها أربعة أقسام المفاوضة والعنان
وشركة الوجوه وشركة التقبل ويسمى هذا شركة الأبدان وشركة الصنائع (فأما العنان)
فهو مشتق من قول القائل عن لي كذا أي عرض قال امرؤ القيس
فعن لنا سرب كان نعاجه * عذارى دوار في ملاء مذبل
أي عرض. وزعم بعض أهل الكوفة ان هذا شئ أحدثه أهل الكوفة ولم يتكلم به
العرب وليس كذلك فقد قال النابغة الجعدي
وشاركنا قريشا في نقاها * وفي أحسابها شرك العنان
(وقيل) هو مأخوذ من عنان الدابة على معنى ان راكب الدابة يمسك العنان بإحدى
يديه ويعمل بالأخرى وكل واحد من الشريكين يجعل عنان التصرف في بعض المال إلى
صاحبه دون البعض أو على معنى ان للدابة عنانين أحدهما أطول والآخر أقصر فيجوز في
151

هذه الشركة أن يتساويا في رأس المال والربح أو يتفاوتا فسميت عنانا (وأما المفاوضة) فقد قيل
اشتقاقها من التفويض فان كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه في جميع مال التجارة
(وقيل) اشتقاقها من معنى الانتشار يقال فاض الماء إذا انتشر و استفاض الخير يستفيض إذا
شاع فلما كان هذه العقد مبنيا على الانتشار والظهور في جميع التصرفات سمى مفاوضة (وقيل)
اشتقاقها من المساواة قال القائل
لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا
يعنى متساوين فلما كان هذا العقد مبنيا علي المساواة المال والربح سمى مفاوضة (وأما شركة
الوجوه) تسمى شركة المفاليس وهو ان يشترك الرجلان بغير رأس مال على أن يشتريا
بالنسيئة ويبيعا سميت بهذا الاسم على معنى ان رأس مالهما وجههما فإنه إنما يباع في النسيئة ممن له
في الناس وجه * وشركة التقبل أن يشترك صانعان في تقبل الاعمال كالخياطة والقصارة ونحو
ذلك وتسمى شركة الأبدان لأنهما يعملان بأبدانها وشركة الصنائع لان رأس مالهما صنعتهما
(وأما شركة العنان) فهو ان يشترك الرجلان برأس مال يحضره كل واحد منهما ولا بد من
ذلك اما عند العقد أو عند الشراء حتى أن الشركة لا تجوز برأس مال غائب أو دين. ولا
يشترط لجواز هذه الشركة خلط المالين عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يشترط وهي
رواية عن زفر. والأصل عنده ان شركة الملك أصل ثم شركة العقد تنبنى عليه قال لان
الشركة عبارة عن الاختلاط وذلك أنما يتحقق في الملك والمعتبر في كل عقد ما هو قضية اسم
ذلك العقد كالحوالة والكفالة والصرف. فإذا خلطا المالين على وجه لا يمكن تمييز أحدهما عن
الآخر فقد ثبتت الشركة في الملك فينبنى عليه شركة العقد فأما قبل الخلط فالشركة في
الملك لم تثبت حتى إذا هلك رأس ما أحدهما كان هالكا عليه خاصة فلا تثبت شركة
العقد لان معنى الاختلاط فيه لا يتحقق مقصودا. وعندنا موجب شركة العقد الوكالة على
معنى ان كل واحد منهما يكون وكيل صاحبه في الشراء بالمال الذي عينه ولهذا شرطنا تعيين
المال عند العقد أو عند الشراء لان الوكالة بالشراء بماله لا تصح الا به فان بدون تعيين المال
يكون الوكيل مشتريا بما في ذمته وهذا التوكيل صحيح بدون خلط المالين ومعنى الاختلاط
الذي تقتضيه الشركة في المشترى بالمال والربح لا في رأس المال وذلك ثابت بدون خلط
وعلى هذا الأصل لو كان رأس مال أحدهما دراهم والآخر دنانير تنعقد الشركة بينهما
152

صحيحة عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله * وكذلك أن كان رأس مال أحدهما بيضا
الآخر سودا لان الشركة في الملك لا تثبت هنا حين كانا لا يختلطان وعلى الرواية التي شرط
زفر الخلط جواب هذه الفصل ظاهر على مذهبه وأما على الرواية التي لا يشترط ذلك نقول
في هذين الفصلين ربما يظهر الربح لأحدهما دون الآخر بتغيير سعر أحد النقدين وذلك
تقتضيه الشركة وعندنا موجب هذا العقد الوكالة وذلك صحيح مع اختلاف النقدين فإنهما
لو صرحا بالوكالة بأن يشترى أحدهما بهذه الدراهم على أن يكون المشترى بينهما ويشترى
الآخر بهذه الدنانير على أن يكون المشترى بينهما كان صحيحا * فكذلك تصح الشركة بهذه
الصفة (فأما شركة المفاوضة) فهي جائزة عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى لا أعرف ما المفاوضة
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه إن كان في الدنيا عقد فاسد فهو المفاوضة وربما قال إنه نوع
من القمار فأما مالك رحمه الله فإن كأن لا يعرفها لغة فقد بينا اشتقاقها وان كأن لا يعرفها شرعا فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاوضوا فإنه أعظم للبركة وقال عليه الصلاة والسلام إذا فاوضتم
فأحسنوا المفاوضة * وأما الشافعي رحمه الله فإنه ينبنى على مذهبه ان الأصل شركة الملك وما
هو موجب المفاوضة قط لا يثبت باعتبار شركة الملك فلهذا أفسدها وقال لأنها تتضمن الكفالة
بالمجهول للمجهول فان كل واحد منهما يكون كفيلا عن صاحبه فيما يلزمه بجهة التجارة
والكفالة للمجهول بالمعلوم باطل فبالمجهول أولى * والذي يقول إنه ضرب من القمار فإنما
يدخل ذلك على مذهب الثوري لأنه يقول إذا ورث أحدهما مالا يكون ذلك مشتركا بينهما
ولسنا نقول بذلك فلا يدخل ذلك على مذهبنا * وحجتنا في ذلك أن هذه الشركة تتضمن
الكفالة والوكالة وكل واحد منهما صحيح مقصودا فكذلك في ضمن الشركة فأما الجهالة
بعينها لا تبطل الكفالة ولكن تمكن المنازعة سببا وذلك منعدم هنا لان كل واحد منهما إنما
يصير ضامنا عن صاحبه ما لزمه بتجارته وعند اللزوم المضمون له والمضمون به معلوم ومثل هذا
لا يوجد في شركة العنان فان التوكيل بشراء مجهول الجنس لا يصح مقصودا. ثم صحت
شركة العنان وان تضمنت ذلك لان ما يشتريه كل واحد منهما غير مسمى في العقد فكذلك
المفاوضة. ومن شروط هذه العقد ان يتساويا في رأس المال ولا يختص أحدهما بملك مال
يصلح أن يكون رأس ماله في الشركة من النقود وأن يتساويا في الربح فلا يشترط لأحدهما
زيادة على صاحبه لما بينا أن قضية اللفظ المساواة ثم في ظاهر هذه الرواية تصح هذه الشركة
153

من غير خلط المالين والمالان لا يختلطان كالدراهم والدنانير والسود والبيض وزفر رحمه الله لا
يجوز هذه الشركة بدون خلط المالين برواية واحدة (قال) لأنه لو جاز لكان كل واحد منهما
مختصا بملك مال بعد عقد الشركة وذلك لا يجوز في هذه العقد (وقد) روى الحسن عن أبي
حنيفة رحمه الله ان هذه الشركة لا تجوز بمالين لا يختلطان لان المساواة شرط في هذا العقد
والمساواة بين الدراهم والدنانير في المالية إنما تكون بالتقويم وطريق ذلك الحزر والمساواة
شرعا لا تثبت بهذا الطريق كالمساواة التي تشترط في مبادلة الأموال الربوية بجنسها وإن كان
رأس مال أحدهما بيضا ورأس مال الآخر سودا وبينهما تفاوت في الصرف لا يجوز
هذا العقد في ظاهر الرواية لعدم المساواة (وذكر) إسماعيل بن حماد عن أبي يوسف رحمهم
الله انه يجوز لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها وإنما تعتبر المساواة في
الوزن قال صلى الله عليه وسلم جيدها ورديئها سواء * وروى الحسن عن أبي حنيفة ان المفاوضة
لا تنعقد الا بلفظ المفاوضة حتى إذا لم يذكر لفظة المفاوضة كان عنانا عاما * والعنان قد يكون
عاما وقد يكون خاصا. وتأويل هذا أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة فلا يتحقق
منهما الرضا بحكم المفاوضة قبل علمهما به ويجعل تصريحهما بالمفاوضة قائما مقام ذلك كله فإن كان
المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم
يصرحا بلفظها لان المعتبر المعنى دون اللفظ (فأما شركة الوجوه) فهي صحيحة عندنا وباطلة عند
الشافعي بناء علي أصله أن الأصل شركة الملك وذلك لا يوجد في شركة الوجوه. وعندنا
شركة العقد تصح باعتبار الوكالة وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء على أن يكون
المشترى بينهما نصفين أو ثلاثا صحيح فكذلك الشركة التي تتضمن ذلك إلا أن في هذا العقد
لا يصلح التفاضل في اشتراط الربح بعد التساوي في ملك المشتري لان الذي يشترط له الزيادة
ليس له في نصيب صاحبه رأس مال ولا عمل ولا ضمان فاشتراط جزء من ذلك الربح له يكون
ربح ما لم يضمن ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فان أراد التفاوت في الربح
فينبغي أن يشترط التفاوت في ملك المشتري بأن يكون لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان حتى
يكون لكل واحد منهما الربح بقدر ملكه * وهذه الشركة عندنا تجوز عنانا ومفاوضة الا ان
المفاوضة لا تكون الا باعتبار المساواة في المشترى والربح جميعا (فأما شركة التقبل) فهي
صحيحة عندنا ولا تصح عند الشافعي رحمه الله بناء على أصله ان شركة الملك أصل ولا يوجد
154

ذلك في هذه الشركة فان الخلط في العمل لا يتحقق. ولكنا نقول جواز الشركة باعتبار الوكالة
وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بتقبل العمل صحيح فكذلك الشركة والناس تعاملوا بهذه
الشركة وشركة الوجوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير
وهو الأصل في جواز الشركة. ثم استحقاق الربح في طريق الشركة يكون بالمال تارة وبالعمل
أخرى بدليل المضاربة فان رب المال يستحق نصيبه من الربح بماله والمضارب بعمله وذلك
العقد شركة الإجارة بدليل انها لا تلزم وانه لا يحتاج فيها إلى بيان المدة فإذا صح عقد الشركة
بين اثنين بالمال فكذلك يصح باعتبار العمل لان كل واحد منهما يستحق به الربح وسواء
اتفقت الاعمال أو اختلفت عندنا. وقال زفر رحمه الله ان اتفقت الاعمال كالقصارين والصباغين
إذا اشتركا يجوز وإذا اختلفت بان يشترك قصار وصباغ لا تجوز الشركة لان كل واحد منهما
عاجز عن العمل الذي يتقبله صاحبه فان ذلك ليس من صنعته فلا يتحقق ما هو مقصود
الشركة عند اختلاف الاعمال ولكنا نقول جواز هذه الشركة باعتبار الوكالة والتوكيل
بتقبل العمل صحيح ممن يحسن مباشرة ذلك العمل وممن لا يحسن لأنه لا يتعين على المتقبل
إقامة العمل بيده بل له أن يقيم بأعوانه وأجرائه وكل واحد منهما غير عاجز عن ذلك فكان
العقد صحيحا (وهذا) النوع من الشركة قد يكون عنانا وقد يكون مفاوضة عند استجماع
شرائط المفاوضة ومعنى هذا أنه متى كان مفاوضة فان كل واحد منهما مطالب بما يلتزمه
صاحبه بحكم الكفالة ومتى كان عنانا فإنما يطالب به من باشر السبب دون صاحبه كما هو
حكم الوكالة (إذا) عرفنا هذا فنقول. بدأ الكتاب ببيان شركة العنان وانهما كيف يكتبان
كتاب هذه الشركة بينهما والشركة عقد يمتد فيستحب الكتاب في مثله ليكون حكما
بينهما فيما يجرى من المنازعة قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل
مسمى فاكتبوه) ثم المقصود بالكتاب التوثق والاحتياط فينبغي أن يكتب على أوثق
الوجوه ويتحرز فيه من طعن كل طاعن ثم بدأ فقال (هذا ما اشترك عليه فلان وفلان)
وبعض أصحاب الشروط عابوا عليه في هذا اللفظ فقال هذا إشارة إلى الصك فالأحوط
أن يكتب هذا كتاب فيه ذكر ما اشترك فلان وفلان ولكن محمدا رحمه الله اتبع
الكتاب والسنة فيما اختار قال الله تعالى (هذا ما توعدون) وهو إشارة إلى ما هو المقصود
من الوعد للأبرار والوعيد للفجار ولما اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أمر أن
155

يكتب هذا ما اشترى محمد رسول الله من الغد بن خالد بن هوذة اليهودي (ولما) أمر صلى الله
عليه وسلم بكتاب الصلح يوم الحديبية كتب على رضى الله تعالى عنه بأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذا ما اصطلح محمد بن عبد الله وسهل بن عمر وعلي أهل مكة * ثم قال (اشتركا على
تقوى الله وأداء الأمانة) فان هذا العقد عقد أمانة والمقصود تحصيل الربح و ذلك بالتقوى
وأداء الأمانة يحصل (ثم يبين مقدار رأس مال كل واحد منهما) لان عند القسمة لا بد من
تحصيل رأس مال كل واحد منهما ليظهر الربح فلا بد من إعلام ذلك في كتاب الشركة
ليرجعا إليه عند المنازعة * ثم قال (وذلك كله في أيديهما) وهذه إشارة إلى أن رأس المال ليس
بغائب ولا دين بل هو عين في أيديهما * ومن الناس من شرط الخلط ومنهم من شرط أن يكون
المال في أيديهما جميعا فللتوثق يذكر ذلك ويذكر أنهما يشتريان به ويبيعان جميعا في شئ
ويعمل كل واحد منهما فيه برأيه ويبيع بالنقد والنسيئة * وعندنا هذا يملكه كل واحد منهما
بمطلق عقد الشركة إلا أن من العلماء من يقول لا يملك كل واحد منهما ذلك ما لم يصرحا به في
عقد الشركة فللتحرز عن قول هذه القائل يكتب هذا (ثم يذكر فما كان فيه من ربح فهو بينهما
على قدر رؤس أموالهما وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك) ولا خلاف ان اشتراط الوضيعة
بخلاف مقدار رأس المال باطل واشتراط الربح صحيح عندنا خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه
علي ما نبينه وأما مكاتبة علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه قال الربح على ما اشترطا والوضيعة
على المال وإنما يذكر هذا ليكون أبعد عن الاختلاف. ولكن إنما يكتب هذا إذا كان
الشرط بينهما هكذا ثم قال (اشتركا على ذلك في شهر كذا من سنة كذا) وإنما بتبيين التاريخ
تنقطع المنازعة حتى لا يدعى أحدهما لنفسه حقا فيما اشتراه قبل هذا التاريخ (وكتب) التاريخ
في زمن عمر رضى الله تعالى عنه فإنه شاور الصحابة رضوان الله عليهم في التاريخ من أي
وقت يعتبرونه فمنهم من قال من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال من وقت
مبعثه ومنهم من قال من وقت موته ثم اتفقوا على التاريخ من وقت الهجرة وهو المعروف الذي
يتعامل عليه الناس إلى يومنا هذا قال (ولا يجوز أن يفضل أحدهما صاحبه في الربح لا في المال
العين أو العمل بأيديهما أو في الذي ليس فيه شراء شئ بتأخير فأما في المال العين إذا تساويا
في رأس المال واشترطا أن يكون الربح بينهما أثلاثا أو تفاوتا في رأس المال فكأن لأحدهما
الف وللآخر ألفان واشترطا أن يكون الربح بينهما نصفين يجوز عندنا وعلى قول زفر
156

والشافعي رحمهما الله تعالى لا يجوز. أما عند الشافعي رحمه الله تعالى فلان شركة الملك على مذهبه
أصل وفى شركة الملك لا يجوز أن يستحق أحدهما شيئا من برح ملك صاحبه فكذلك في
شركة العقد * واعتبر الربح بالوضيعة فهي بينهما على قدر رؤس أموالهما واشتراطهما خلاف
ذلك باطل فكذلك الربح ولكنا نقول استحقاق الربح بالشرط فإنما يستحق كل واحد منهما
بقدر ما شرط له لقوله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم * ثم جواز هذا العقد لحاجة
الناس إليه والحاجة ماسة إلى هذا الشرط فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر في وجوه
التجارة فلا يرضى بأن يساويه صاحبه في استحقاق الربح مع حذاقته وخرق صاحبه * ثم الربح
يستحق بالعمل بدون المال وهو في المضاربة فبالعمل مع المال أولي (ثم) الوضيعة هلاك جزء
من المال. وكل واحد منهما أمين فيما في يده من مال صاحبه واشتراط الضمان على الأمين
باطل ألا ترى ان في المضاربة لا يجوز اشتراط شئ من الوضيعة علي المضارب ولهذا يقول
زفر رحمه الله ان التساوي في الربح مع التفاضل في رأس المال لا يجوز هنا لأنه لو جاز إنما
يجوز بالقياس علي المضاربة علي معنى ان صاحب الألفين يشترط جزأ من الربح للآخر
بعمله فيه ومثل هذا في المضاربة لا يجوز لان المال في أيديهما هنا والعمل مشروط عليهما وفي
المضاربة لو شرط العمل على رب المال أو كون المال في يده لا يجوز ولكنا نقول موجب
المضاربة التخلية بين المضارب وبين رأس المال فيكون أمينا عاملا فيه وذلك ينعدم بهذا
الشرط فأما موجب الشركة ليس هو التخلية بين أحدهما والمال فهذا الشرط لا يؤدى إلى
ابطال موجب الشركة ليس (ثم) حكم المضاربة هنا ثبت تعبا للشركة وقد يثبت الشئ حكما
على وجه لا يجوز اثباته قصدا كالكفالة الثابتة في ضمن المفاوضة * وكذلك في العمل بأيديهما
يجوز شرط التفاضل في الربح عندنا للحاجة إلى ذلك فقد يكون أحدهما أحذق في العمل من
الآخر * فأما قوله أو في الذي ليس فيه شراء شئ بتأخير فهو إشارة إلى شركة الوجود فان
التفاضل في الربح هناك لا يجوز عند اشتراط التساوي في ملك المشتري لان ذلك ربح ما لم
يضمن وقد بينا ذلك * وقال (والشريكان في العمل إذا غاب أحدهما أو مرض أو لم يعمل وعمل
الآخر فالربح بينهما على ما اشترطا) لما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال أنا أعمل في السوق ولي شريك يصلى في المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعلك بركتك منه. والمعنى ان استحقاق الاجر بتقبل العمل دون مباشرته والتقبل كان
157

منهما وان باشر العمل أحدهما. ألا ترى ان المضارب إذا استعان برب المال في بعض العمل
كان الربح بينهما على الشرط. أولا ترى أن الشريكين في العمل يستويان في الربح وهما لا
يستطيعان ان يعملا على وجه يكونان فيه سواء وربما يشترط لأحدهما زيادة ربح لحذاقته وإن كان
الآخر أكثر عملا منه فكذلك يكون الربح بينهما على الشرط ما بقي العقد بينهما وإن كان
المباشر للعمل أحدهما ويستوى ان امتنع الاخر من العمل بعذر أو بغير عذر لأن العقد
لا يرتفع بمجرد امتناعه من العمل واستحقاق الربح بالشرط في العقد * قال (وان جاء أحدهما
بألف درهم والآخر بألفي درهم فاشتركا على أن الربح والوضيعة نصفان فهذه شركة فاسدة)
ومراده ان شرط الوضيعة نصفين فاسد لان الوضيعة هلاك جزء من المال فكأن صاحب
الألفين شرط ضمان شئ مما يهلك من ماله على صاحبه وشرط الضمان على الألفين فاسد
ولكن لا يبطل بهذا أصل العقد لأن جواز الشركة باعتبار الوكالة والوكالة لا تبطل
بالشروط الفاسدة وإنما تفسد الشروط وتبقى الوكالة فكذا هذا فان عملا على هذا فوضعا
فالوضيعة على قدر رؤس أموالهما لان الشرط بخلافه كان باطلا وان ربحا فالربح على ما
اشترطا لان أصل العقد كان صحيحا واستحقاق الربح بالشرط في العقد فكان بينهما على ما
اشترطا * وان اشترطا الربح والوضيعة على قدر رأس المال والعمل من أحدهما بعينه كان
ذلك جائزا لان العامل منهما معين لصاحبه في العمل له في ماله حين لم يشترط لنفسه شيئا
من بربح مال صاحبه فهو كالمستبضع في مال صاحبه (وان) اشترطا الربح نصفين والوضيعة
على رأس المال والعمل عليهما جاز ذلك لان صاحب الألف شرط لنفسه جزأ من ربح مال
صاحبه وهو السدس بعمله فيه فيكون في معنى المضارب له إلا أن معنى المضاربة تبع لمعنى
الشركة والمعتبر موجب الأصل دون التبع فلهذا لا يضرهما اشتراط العمل عليهما * فان عملاه
أو عمل أحدهما فالربح على ما اشترطا لان الاستحقاق بعد صحة العقد بالشرط لا بنفس
العمل وقد كان العمل مشروطا عليهما فلا يضرهما تفرد أحدهما بإقامة العمل * وكذلك أن
اشترطا العمل على صاحب الألف ووجه الجواز هنا أبين لان صاحب الألفين دفع إليه ماله
ليعمل فيه بسدس الربح فان المشروط له نصف الربح ثلث الربح حصة رأس ماله وسدسه
إلى تمام النصف يستحق من مال صاحبه بعمله فيه واشتراط العمل على المضارب يصحح
المضاربة ولا يبطلها (فان قيل) إذا كان يعمل هو في شئ شريك فكيف يستوجب عوض
158

عمله على شريكه (قلنا) استحقاق الربح بطريق الشركة لا بطريق الإجارة ولهذا لا
يشترط فيه تسمية مقدار العمل ولا بيان المدة والعامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب
الاجر لان استحقاق الاجر بنفس العمل فإذا العامل فيما هو شريك فيه يستحق الربح
بالشرط في عقد صحيح * وان اشترطا العمل على صاحب الألفين لم تجز الشركة لان العامل
شرط لصاحبه جزأ من ربح ماله من غير أن يكون له فيه رأس مال أو عمل وذلك باطل
فان استحقاق الربح باعتبار العمل والمال أو العمل أو الضمان ولم يوجد شئ من ذلك لصاحب
الألف في مال صاحب الألفين فكان اشتراطه جزأ من الربح له باطلا والربح بينهما على
قدر رؤس أموالهما لان العامل لم يطمع في شئ من ربح مال صاحب الألفين حين لم
يشترط شيئا من ذلك لنفسه * قال (وإذا أقعد الصانع معه رجلا في دكانه يطرح عليه العمل
بالنصف فهو فاسد في القياس) لان رأس مال صاحب الدكان منفعة المنافع لا تصلح أن تجعل
رأس مال في الشركة ولان المتقبل للعمل إن كان صاحب الدكان فالعامل أجيره بالنصف وهو
مجهول والجهالة تفسد عقد الإجارة وان ان المتقبل هو العامل فهو مستأجر لموضع جلوسه
من دكانه بنصف ما يعمل وذلك مجهول الا انه استحسن فأجاز هذا لكونه متعاملا بين
الناس من غير نكير منكر وفي نزع الناس عما تعاملوا به نوع حرج فلدفع هذا الحرج يجوز
هذا العقد إذ ليس فيه نص يبطله ولان بالناس حاجة إلى هذا العقد فالعامل قد يدخل بلدة
لا يعرفه أهلها ولا يأمنونه على متاعهم وإنما يأمنون على متاعهم صاحب الدكان الذي يعرفونه
وصاحب الدكان لا يتبرع بمثل هذا على العامل في العادة ففي تصحيح هذا العقد تحصيل
مقصود كل واحد منهما لان العامل يصل إلى عوض عمله والناس يصلون إلى منفعة عمله
وصاحب الدكان يصل إلى عوض منفعة دكانه فيجوز العقد ويطيب الفضل لرب الدكان لأنه
أقعده في دكانه واعانه بمتاعه وربما يقيم بعض العمل أيضا كالخياط يتقبل المتاع ويلي قطعه ثم
يدفعه إلي آخر بالنصف فلهذا يطيب له الفضل وجواز هذه العقد كجواز عقد السلم فان
الشرع رخص فيه لحاجة الناس إليه * قال (ولا تصح الشركة بالعروض) واعلم بأن الشركة
بالنقود من الدراهم والدنانير جائزة ولا تجوز الشركة بالتبر في ظاهر المذهب وقد ذكر في
كتاب الصرف أن من اشتري بتبر بعينه شيئا فهلك قبل القبض لا يبطل العقد فقد جعل
التبر كالنقود حتى قال لا يتعين بالتعيين فالحاصل أن هذا يختلف باختلاف العرف في كل
(11 مبسوط حادي عشر)
159

موضع فإن كانت المبايعات بين الناس في بلدة بالتبر فهو كالنقود لا يتعين بالتعيين ويجوز
الشركة به وإن لم يكن في ذلك عرف ظاهر فهو كالعروض لا تجوز الشركة به فإن كان
التعيين مفيدا فيه فهو معتبر وإن لم يكن مفيدا لا يعتبر كتعين الصنجان والقيمات (فأما
الشركة بالفلوس) ان كانت نافعة لا تجوز في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وتجوز في
قول محمد رحمه الله (وذكر) الكرخي في كتابه أن قول أبى يوسف كقول محمد رحمهما الله
والأصح ما قلنا وهو بناء على مسألة كتاب البيوع إذا باع قلنا تعيينه بفلسين بأعيانها يجوز
عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمها الله وتعين الفلوس بالتعيين بمنزلة الجوز والبيض وعند محمد
رحمه الله لا يجوز ولا تتعين الفلوس الرائجة بالتعيين كالنقود. فكذلك في حكم الشركة محمد
رحمه الله يقول هي بمنزلة النقود ما دامت رائجة وهما يقولان الرواج في الفلوس عارض
في اصطلاح الناس وذلك يتبدل ساعة فساعة فلو جوزنا الشركة بها أدى إلى جهالة رأس
المال عند قسمة الربح إذا كسدت الفلوس وأخذ الناس غيرها لان رأس المال عند قسمة
الربح يحصل باعتبار المالية لا باعتبار العدد ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد (وروى)
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ان المضاربة بالفلوس الرائجة تصح وقال أبو يوسف رحمه الله
لا تصح الشركة بها ولا تصح المضاربة وفرق بينهما فقال في المضاربة يحصل رأس المال أولا
ليظهر الربح والفلوس ربما تكسد فلا تعرف ماليتها بعد الكساد إلا بالحزر والظن ولا
وجه لاعتبار العدد لما فيه من الاضرار بصاحب المال فأما في الشركة إذا كسدت الفلوس
يمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما باعتبار العدد لان حالهما فيه سواء فلا يختص
أحدهما بالضرر دون الآخر (فأما) الشركة بالعروض من الدواب والثياب والعبيد لا
تصح عندنا وعلى قول ابن أبي ليلى ومالك رحمها الله هي صحيحة للتعامل وحاجة الناس إلى
ذلك ولاعتبار شركة العقد بشركة الملك. وفى الكتاب علل للفساد فقال لان رأس المال
مجهول يريد به أن العروض ليست من ذوات الأمثال وعند القسمة لا بد من تحصيل
رأس مال كل واحد منهما ليظهر الربح فإذا كان رأس مالهما من العروض فتحصيله عند القسمة
يكون باعتبار القيمة وطريق معرفة القيمة الحزر والظن ولا يثبت التيقن به. ثم الشركة
مختصة برأس مال يكون أول التصرف به بعد العقد شراء لا بيعا وفى العروض أول التصرف
يكون بيعا وكل واحد منهما يصير موكلا لصاحبه ببيع متاعه على أن يكون له بعض
160

ربحه وذلك لا يجوز وقد بينا ان صحة الشركة باعتبار الوكالة ففي كل موضع لا تجوز الوكالة
بتلك الصفة فكذلك الشركة ومعنى هذا أن الوكيل بالبيع يكون أمينا فإذا شرط له جزء
من الربح كان هذا ربح ما لم يضمن والوكيل بالشراء يكون ضامنا للثمن في ذمته فإذا شرط
له نصف الربح كان ذلك ربح ما قد ضمن ولان في الشركة بالعروض ربما يظهر الربح في
ملك أحدهما من غير تصرف بتغير السعر فلو جاز استحق الآخر حصة من ذلك الربح من
غير ضمان له فيه وربما يخسر أحدهما بتراجع سعر عروضه ويربح الآخر فلهذه المعاني بطلت
الشركة بالعروض * فان باعا العروض بثمن واحد قسما الثمن على قيمة متاع كل واحد منهما يوم
باعه لان كل واحد منهما تابع لملكه والمسمى من الثمن بمقابلة جميع ما دخل في العقد من
العروض فيقسم عليهما باعتبار القيمة ولكل واحد منهما حصة عرضه لان الشركة لما فسدت
كأنها لم تكن (وكذلك) لا يصح أن يكون رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر
عروضا في مفاوضة ولا عنان لجهالة رأس المال في نصيب صاحب العروض علي ما بينا * قال
(وان اشتركا في مكيل أو موزون أو معدود متفق في المقدار والصفة فإن لم يخلطاه فليسا
بشريكين ولكل واحد منهما متاعه له ربحه وعليه وضيعته) لأن هذه الأشياء بمنزلة العروض
وتستحق أعيانها بالعقد وأول التصرف فيها بعد الشركة يكون بيعا لا شراء فكانت كالعروض
لا تجوز الشركة بها وان خلطاه فهو بينهما وما ربحا فيه فلهما وما وضعا فيه فعليهما وهذا
ظاهر لان الخلط حصل بفعلهما فالمخلوط يكون مشتركا بينهما على قدر ملكهما وقد كان
ملكهما سواء فالربح والوضعية بعد البيع يكون بينهما على ذلك ولم يذكر في الكتاب ان
الشركة بينهما بعل الخلط تكون شركة ملك أو شركة عقد. وذكر في النوادر أن على قول
أبى يوسف رحمه الله الشركة بينهما شركة ملك وعند محمد رحمه الله تكون شركة عقد
وفائدة هذا الخلاف فيهما أنهما إذا اشترطا من الربح لا حدهما زيادة على نصيبه عند أبي
يوسف رحمه الله لا يستحق ذلك بل لكل واحد منهما من الربح بقدر ملكه وعند محمد الربح
بينهما علي ما اشترطا * محمد يقول المكيل والموزون عرض من وجه ثمن من وجه. ألا ترى
ان الشراء بهما دينا في الذمة صحيح فكان ثمنا وان بيع عينهما صحيح فكانت مبيعة وما
تردد بين الأصلين يوفر حظه عليهما فلشبههما بالعروض قلنا لا تجوز الشركة بهما قبل
الخلط ولشبههما بالأثمان قلنا تجوز الشركة بهما بعد الخلط وهذا لان باعتبار الشبهين تضعف
161

إضافة عقد الشركة إليهما فيتوقف ثبوتها علي ما يقويها وهو الخلط لان بالخلط تثبت شركة
الملك لا محالة فيتأكد به شركة العقد لا محالة وأبو يوسف رحمه الله يقول ما يصلح أن
يكون رأس مال في الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدم الخلط كالنقود فكذلك
ما لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة لا يختلف الحكم فيه بالخلط وعدم الخلط وهذا لان
قبل الخلط إنما يجوز شركة العقد بها لأنها متعينة فتعين رأس المال لا بد منه في عقد الشركة
وأعيانها مبيعة وأول التصرف بها يكون بيعا وهذا المعنى موجود بعد الخلط بل يزداد تقررا
بالخلط لان الخلط لا يتقرر الا في معين والمخلوط المشترك لا يكون الا معينا فتقرر المعنى
المفسد لا يكون مصححا للعقد * والذي يقال لمحمد ان تحصيل رأس المال عند القسمة هنا
ممكن لأنها من ذوات الأمثال يشكل بما قبل الخلط فان هذا المعنى موجود فيه ومع ذلك
لا يثبت بينهما شركة العقد وكذلك يشكل بما إذا كان رأس مال أحدهما حنطة ورأس مال
الآخر شعيرا فالشركة لا تصح هنا بينهما خلطاه أو لم يخلطاه ورأس مال كل واحد منهما
من ذوات الأمثال يمكن تحصيله عند قسمة الربح ولكن محمد رحمه الله يفرق ويقول عقد
الشركة إنما يثبت بعد الخلط باعتبار المخلوط فعند اختلاف الجنس المخلوط ليس من ذوات
الأمثال ألا ترى ان من أتلف هذا المخلوط كان عليه قيمته وإن لم يكن من ذوات الأمثال
كان بمنزلة العروض وأما إذا كان الجنس واحدا فالمخلوط من ذوات الأمثال حتى أن من أتلفه
يضمن مثله فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل (ثم) عند اختلاف
الجنس إذا باعا المخلوط فالثمن بينهما على قدر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه مخلوطا
لان الثمن بدل المبيع فيقسم على قيمة ملك كل واحد منهما وملك كل واحد منهما كان معلوم
القيمة وقت الخلط فتعتبر تلك القيمة ولكن مخلوطا لأنه دخل في البيع بهذه الصفة
واستحقاق الثمن بالبيع فتعتبر صفة ملك كل واحد منهما حين دخل في البيع فإن كان أحدهما
يزيده الخلط خيرا فإنه يضرب بقيمته يوم يقتسمون غير مخلوط ومعنى هذا ان قيمة الشعير
تزداد إذا خلطاه بالحنطة وقيمة الحنطة تنتقص فصاحب الشعير يضرب بقيمة شعيره غير
مخلوط لان تلك الزيادة ظهرت في ملكه من مال صاحبه فلا يستحق الضرب به معه وصاحب
الحنطة يضرب بقيمة حنطته مخلوطة بالشعير لان النقصان حصل بعمل هو راض به وهو
الخلط وقيمة ملكه عند البيع ناقص فلا يضرب الا بذلك القدر * وقد طعن عيسى في الفصلين
162

جميعا فقال قوله في الفصل الأول انه يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه وفي الفصل
الثاني يوم يقتسمون غلط بل الصحيح انه يقسم الثمن على قيمة متاع كل واحد منهما يوم وقع
البيع لان استحقاق الثمن بالبيع وإنما يقسم الثمن على القيمة وقت البيع. ألا ترى أنهما لو لم يخلطا
ولكن باعا الكل جملة فقسمة الثمن تكون على القيمة وقت البيع فكذلك بعد الخلط إلا أن
يكون تأويل المسألة أن تكون قيمته وقت الخلط والقسمة والبيع سواء (قال) الشيخ
الامام الاجل رحمه الله تعالى وعندي أن ما ذكره صحيح لان معرفة قيمة الشئ بالرجوع إلى
قيمة مثله مما يباع في الأسواق وليس للمخلوط مثل يباع في الأسواق حتى يمكن اعتبار
قيمة ملك كل واحد منهما وقت البيع فإذا تعذر هذا وجب المصير إلى التقويم في وقت يمكن
معرفة قيمة كل واحد منهما كما في جارية مشتركة بين اثنين أعتق أحدهما ما في بطنها فهو
ضامن لنصيب شريكه معتبرا بوقت الولادة لتعذر امكان معرفة القيمة وقت العتق لكونه
مختبئا في البطن فيصار إلى تقويمه في أول الحال الذي يمكن معرفة القيمة فيه وهو بعد الولادة
فكذلك هنا يصار إلى معرفة قيمة ملك كل واحد منهما في أول أوقات الامكان وهو عند
الخلط إلا أنه إذا علم أن الخلط يزيد في مال أحدهما وينقص من مال الآخر فقد تعذر قسمة
الثمن على قيمة ملكهما وقت الخلط لتيقننا يزيادة ملك أحدهما ونقصان ملك الآخر فتعتبر
القيمة وقت القسمة باعتبار أن عند الخلط ملك كل واحد منهما من ذوات الأمثال فيجعل حق
كل واحد منهما بعد الخلط كالباقي في المثل إلى وقت القسمة فيقسم الثمن على ما هو حق كل
واحد منهما بخلاف ما إذا لم يخلطه لان تقويم ملك كل واحد منهما وقت البيع (قال) فإن كان
لأحدهما ألف درهم وللآخر مائة دينار فخلطا أولم يخلطا فهما سواء لأنهما لا يختلطان
وقد بينا أن خلط المالين في النقود ليس بشرط لصحة عقد الشركة فأيهما هلك هلك من مال
صاحبه لأنه بقي على ملكه بعد عقد الشركة وكل واحد منهما أمين في رأس مال صاحبه
سواء هلك في يده أو في يد صاحبه يكون هلاكه عليه ثم الشركة تبطل بهلاك أحد المالين
لان المقصود بالشركة التصرف بها لا عينها فإذا اعترض بعد العقد قبل حصول المقصود ما لو
اقترن بالعقد كان مانعا من العقد فكذلك إذا اعترض يكون مبطلا كالتخمر في العصير
المشترى قبل القبض والكساد في الفلوس وانعدام رأس المال لأحدهما لو اقترن بالعقد كان
مانعا فكذا إذا اعترض والمشترى بالمال الباقي بعد ذلك يكون لصاحبه خاصة هكذا يقول في
163

بعض المواضع وفى بعض المواضع يقول إذا اشترى الآخر بماله بعد ذلك يكون المشترى
بينهما نصفين ويرجع المشترى على صاحبه بنصف ما نقد من الثمن. وإنما اختلف الجواب
لاختلاف الموضوع فحيث قال يكون الباقي مشتريا لنفسه خاصة وضع المسألة فيما إذا أطلقا
الشركة فيكون المشترى بمال أحدهما مشتركا بينهما عند الاطلاق من قضية عقد الشركة
وقد بطلت بهلاك مال أحدهما فيكون الآخر مشتريا لنفسه وحيث قال المشترى بمال آخر
لا بينهما وضع المسألة فيما إذا صرحا عند عقد الشركة على أن ما اشتراه كل واحد منهما بماله
هذا يكون مشتركا بينهما وعند هذا التصريح الشركة في المشترى من قضية الوكالة لان كل
واحد منهما قد وكل صاحبه بالشراء بماله نصا علي أن يكون نصف المشترى له والشركة وان
بطلت بهلاك أحد المالين فالوكالة باقية فلهذا كان المشترى بينهما نصفين ويرجع المشترى
على صاحبه بنصف الثمن لأنه اشترى له النصف بحكم الوكالة ونقد الثمن من مال نفسه
فيرجع به عليه. وإذا تأملت موضوع المسألة في كل موضع يتبين لك صحة الجواب من غير
حاجة إلى الفرق ومن غير تناقض في الجواب قال (فان اشتريا متاعا على المال فنقدا الثمن من
الدراهم ثم هلكت الدنانير فإنها تهلك من مال صاحبها خاصة) لبقائها على ملكه بعد الشراء
بالدراهم والمشترى بالدراهم بينهما على قدر رؤس أموالهما لان الشركة كانت قائمة بينهما حين
اشتريا بالدراهم وصار المشترى مشتركا بينهما فلا يتغير ذلك بهلاك الدنانير بعد ذلك ولكن
يرجع صاحب الدراهم علي صاحب الدنانير من ثمن المتاع بقدر حصته من المتاع لأنه اشترى
ذلك القدر له بوكالته ونقد الثمن من مال نفسه وإنما رضي بذلك على أن يشترى الآخر بالدنانير
لهما وبنقد الثمن من مال نفسه فإذا فات ذلك رجع بما نقد من ثمن حصته من دراهمه (ثم)
لم يذكر ان شركتهما في المتاع المشترى شركة عقد أو شركة ملك وفيه اختلاف بين محمد
والحسن رحمهما الله تعالى فعند محمد هي شركة عقد حتى إذا باعه أحدهما نفذ بيعه في الكل
وعند الحسن رحمه الله هي شركة ملك حتى لا ينفذ بيع أحدهما الا في حصته لان شركة
العقد قد بطلت بهلاك الدنانير كما لو هلكت قبل الشراء بالدراهم وإنما بقي ما هو حكم
الشراء وهو الملك فكانت شركتهما في المتاع شركة ملك. وجه قول محمد رحمه الله ان
هلاك الدنانير كان بعد حصول ما هو المقصود بالدراهم وهو الشراء بها فلا يكون مبطلا
شركة العقد بينهما في ذلك كما لو كان الهلاك بعد الشراء بالمالين جميعا. قال (فان اشتريا
164

بالدراهم والدنانير جميعا متاعا فالمتاع بينهما على قدر رؤس أموالهما) والحاصل ان في شرط الربح
ليعتبر قيمة رأس مال كل واحد منهما وقت عقد الشركة وفي وقوع الملك للمشترى يعتبر
قيمة رأس مال كل واحد منهما وقت الشراء وفى ظهور الربح في نصيبهما أو في نصيب أحدهما
يعتبر قيمة رأس المال وقت القسمة لأنه ما لم يحصل رأس المال لا يظهر الربح وقد بينا هذا
فيما أمليناه من شرح الجامع. قال (وان اشتريا بالألف متاعا ثم اشتريا بعد ذلك بالدنانير متاعا
فوضعا في أحد المتاعين وربحا في الآخر فذلك بينهما على قدر رؤس أموالهما) لان الوضيعة
هلاك جزء من المال والربح كالمال فيكون على قدر رأس المال ما لم يغير ذلك بشرط صحيح
(وكذلك) رجلان اشتريا متاعا بألف درهم وكر حنطة على أن لأحدهما من المتاع بحصة
الألف وللآخر بحصة الكر ودفعا الثمن فهذا الشرط معتبر لمقتضى مطلق السبب لان كل
واحد منهما في الشراء يكون عاملا لنفسه وإنما يملك من المبدل بقدر ما نقده من البدل
(وكذلك) لو اشتريا متاعا بكر حنطة وكر شعير فكال أحدهما كر حنطة علي ان له من المتاع
بحصته وكال الآخر الشعير على أن له من المتاع بحصته ثم باعا ذلك بدراهم فإنهما يقتسمان
الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان * وكذلك كل ما يكال أو يوزن. قال عيسى رحمه
الله هذا غلط والصواب ان يقتسما ذلك علي القيمة يوم الشراء لما بينا ان في وقوع الملك في
المشترى يعتبر قيمة مال كل واحد منهما يوم الشراء فإنما يملك كل واحد منهما من المتاع
المشترى بقدر رأس ماله عند الشراء ثم إذا باع ذلك فثمن حصة كل واحد منهما يكون له
كما في العروض لو اشتريا متاعا بعرضين أحضراهما لكل واحد منهما عرض ثم باعا ذلك
المتاع بدراهم اقتسما الثمن علي قيمة عرض كل واحد منهما وقت الشراء بها إلا أن يكون
تأويل المسألة انهما باعا المتاع مرابحة فحينئذ الثمن في بيع المرابحة مبنى على الثمن الأول
على قدر الملك فيقسم الثمن بينهما على قدر قيمة رأس مالهما وقت القسمة بخلاف العروض
فان المشترى بالعروض لا يجوز بيعه مرابحة إنما يجوز بيع المرابحة في المشترى بماله مثل من
جنسه فكانت القسمة على قدر قيمة العروض وقت الشراء بها. ولكن هذا التأويل بعيد
فإنه قال ثم باعا ذلك بدارهم. وقد نص على حكم بيع المرابحة بعد هذا فقال (إذا اشتريا
بالمكيل والموزون وباعاه مرابحة استوفى كل واحد منهما رأس ماله الذي كاله أو وزنه ثم
اقتسما الربح على قيمة رأس مال كل واحد منهما ان باعاه مرابحة بمال مسمى وان باعاه بربح
165

عشرة أحد عشر كان لكل واحد منهما رأس ماله وحصته من الربح على ما باعا لأنهما إذا
باعا بربح عشرة أحد عشر فالربح من جنس أصل رأس المال بصفته وإذا باعاه مرابحة بمال
مسمى فالربح مبنى على الثمن الأول فيقسم على قيمة رأس مال كل واحد منهما بيان
هذا فيما قال في كتاب المضاربة لو اشترى شيئا بألف درهم نقد بيت المال ثم باعه مرابحة
بربح مائة درهم فالربح الغلة ولو باعه بربح عشرة أحد عشر فالربح من نقد بيت المال كأصل
الثمن وبهذا الفصل يتبين ضعف التأويل الذي قلنا في مسألة الطعن فإنه قال هناك يقتسمان
الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان فاعتبر في جميع ذلك الثمن دون الربح * قال
الشيخ الامام رحمه الله والذي تخايل لي بعد التأمل في تصحيح جواب الكتاب انه بنى على
قول محمد رحمه الله ان شركة العقد بالمكيل والموزون ثبتت عند خلط المال وقد بينا هذا
الا ان الخلط إذا كان في أصل رأس المال يختلف الجواب باتحاد الجنس وخلاف الجنس
لان تمام الاختلاط عند اتحاد الجنس فاما الخلط هنا باعتبار المشتري والمشترى مختلط بينهما
سواء اتفق جنس رأس المال أو اختلف فكان المشترى مشتركا بينهما شركة عقد ورأس
مال كل واحد منهما ما أداه وهو من ذوات الأمثال فيجب تحصيله عند القسمة فلهذا قال
يقسم الثمن على قيمة الحنطة والشعير يوم يقتسمان بخلاف العروض فان شركة العقد لا تثبت
بالعروض بحال ولا يكون حق كل واحد منهما في مثل عرضه لأنه لا مثل له فكان المعتبر
قيمة عرض كل واحد منهما وقت الشراء. قال (ولو أن رجلا أعطى رجلا دنانير مضاربة
فعمل بها ثم أرادا القسمة كان لرب المال أن يستوفي دنانيره أو يأخذ من المال بقيمتها يوم
يقتسمون) لان المضارب شريك في الربح ولا يظهر الربح الا بعد وصول كمال رأس المال
إلى رب المال اما باعتبار العين أو باعتبار القيمة وقد بينا في إظهار الربح ان المعتبر قيمة رأس
المال في وقت القسمة. وإنما أورد فصل المضاربة لايضاح ما أشار إليه في الشركة قال (وينبغي
لمن خالف ذلك أن يقول أخذ قيمتها يوم أعطاه ولم يبين من المخالف قبل المخالف) زفر
رحمه الله قال لا يجوز شركة العقد بالدراهم والدنانير لاختلاف جنس رأس المال وإنما يكون
لكل واحد من ملك المشتري بقدر ما أعطى من ماله فلهذا يعتبر قيمة كل واحد منهما وقت
الاعطاء * وفى النوادر لو دفع إلى رجل ألف درهم على أن يعمل بها على أن له ربحها وعليه
الوضيعة فهلكت قبل الشراء فالقابض ضامن لها لان المعطى مقرض المال منه حين شرط
166

ان الربح كله له والوضيعة عليه فهو إشارة الا انه يعمل بها لنفسه وذلك لا يكون الا بعد
الاقراض والقبض بحكم القرض قبض ضمان. ولو قال اعمل بها على أن الربح بيننا والوضيعة
بيننا فهلكت قبل أن يعمل بها فلا ضمان عليه في قول أبى يوسف لأنه أمره بالعمل بها علي
وجه الشركة والمال أمانة في يد الشريك وثبوت حكم القرض في النصف هنا بمقتضى الشراء
لأنه في النصف يصير مشتريا لنفسه فما ينقد فيه المثن يكون قرضا عليه فلا يثبت ذلك قبل
الشراء وعند محمد رحمه الله هذا والأول سواء فإذا هلكت قبل الشراء بها فعليه ضمان نصفها
للمعطى اعتبارا للجزء بالكل وهذا لأنه شرط الوضيعة عليه في النصف وذلك لا يكون الا
بطريق الاقراض فان المضارب ليس عليه من الوضيعة شئ فجعلناه مقرضا نصف المال منه
وضمان القرض يثبت بالقبض. قال (وإذا جاء كل واحد منهما بألف درهم فاشتركا بها
وخلطاها كان ما هلك منها هالكا منهما وما بقي فهو بينهما) لان المخلوط مشترك بينهما
وما يهلك من المال المشترك يهلك علي الشركة إذ ليس صرف الهالك إلى نصيب أحدهما
بأولى من صرفه إلى نصيب الآخر إلا أن يعرف شئ من الهالك أو الباقي من مال أحدهما
بعينه فيكون ذلك له وعليه لان الاختلاط في ذلك القدر لم يتحقق. وإنما يعرف ذلك بان
يكون مال أحدهما صحاحا والآخر مكسورا فما كان باقيا من الصحاح يعلم أنه ملك صاحبها
والحال في هذا قبل الاختلاط وبعده سواء فأما إذا لم يعرف فإنه يجعل الهالك والقائم بينهما
علي قدر ما اختلط من رؤس أموالهما ليتحقق الاختلاط في ذلك. قال (وإذا اشتركا بغير
رأس مال علي ان ما اشتريا من الرقيق بينهما فهذا جائز) وهذا يفسد شركة الوجوه في
الرقيق خاصة وقد بينا أن شركة الوجوه تكون مفاوضة تارة وعنانا أخرى والعنان منها
يكون عاما وخاصا كالعنان في الشركة بالمال وهذا لان جوازها باعتبار الوكالة والتوكيل
بشراء نوع خاص صحيح * وكذلك لو قالا في هذا الشهر لأنه توقيت في التوكيل والوكالة
تقبل التخصيص في الوقت والعمل جميعا قال (فان قال أحدهما قد اشتريت متاعا فهلك منى
وطالب شريكه بنصف ثمنه لم يصدق علي شريكه بذلك القدر) لان كل واحد منهما وكيل
صاحبه بالشراء والوكيل بالشراء إذا لم يكن الثمن مدفوعا إليه فقال اشتريته وهلك في يدي
لا يصدق في إلزام الثمن في ذمة الموكل بخلاف ما إذا كان الثمن مدفوعا إليه لان الوكيل
أمين فيقبل قوله في براءته عن الضمان ولا يقبل قوله في إلزام الدين لنفسه في ذمة الموكل لأنه
167

في ذلك غير أمين ولكن إذا دخل في ملكه ظاهرا مثل ما لزمه صح إلزامه إياه وذلك بمباشرة
الشراء لا باقراره فكذلك هنا كل واحد منهما في مباشرة الشراء يلزم ذمة صاحبه مثل
ما يدخله في ملكه ظاهرا فاما في الاقرار لا يدخل شيئا في ملك شريكه ظاهرا فلا
يصدق في إلزام شئ في ذمته والقول قول الشريك لانكاره بعد أن يحلف وإنما يحلف
على العلم لأنه استحلاف علي فعل الغير وهو شراء المدعى والحلف على فعل الغير يكون على
العلم كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القسامة يحلف لكم اليهود
خمسين يمينا بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا. قال (وان أقام البينة على الشراء والقبض ثم ادعى
هلاك المتاع فالقول قوله مع يمينه على الهلاك) لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ثم هو
أمين في المقبوض من نصيب صاحبه فيكون القول قوله في الهلاك مع يمينه ويتبع
شريكه في نصف الثمن لان هلاك المشترى في يد الوكيل إذا لم يمنعه من الموكل كهلاكه
في يد الموكل * وكذلك إذا اشتريا متاعا وقبضاه ثم قبضه أحدهما ليبيعه وقال قد هلك فهو
مصدق مع يمينه لأنه وكيل بالبيع في نصف صاحبه والوكيل بالبيع أمين فيما في يده فالقول
في هلاكه قوله مع يمينه. قال (وإذا اشتركا بغير مال على أن ما اشترياه من شئ فهو بينهما
نصفين ولأحدهما بعينة ثلثا الربح وللآخر الثلث فالشركة جائزة والشرط باطل) لان أحدهما
شرط لنفسه جزأ من ربح ملك صاحبه وهو غير ضامن لشئ من نصيب صاحبه وقد
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ولكن أصل الشركة لا تبطل
بالشرط الفاسد فيجوز بيع كل واحد منهما فيما اشترى والربح بينهما نصفين على قدر
ملكهما في المشترى. قال (وإذا اشتركا شركة عنان بأموالهما أو بوجوههما فاشترى أحدهما
متاعا فقال الشريك الذي لم يشتره هو من شركتنا وقال المشترى هو لي خاصة وإنما
اشتريته بمالي لنفسي قبل الشركة فالقول قول المشترى) لأن الظاهر شاهد له والأصل أن
يكون كل أحد عاملا لنفسه ما لم يقم دليل على عمله لغيره ولان سبب الملك له في المشترى
ظاهر والآخر يدعى استحقاق بعض ما في يده عليه فكان القول قول المنكر مع يمينه
بالله ما هو من شركتنا (فان قيل) قيام عقد الشركة بينهما في هذا النوع دليل ظاهر علي
ان المشترى بينهما فهو في قوله اشتريته قبل عقد الشركة يدعى لنفسه تاريخا سابقا في الشراء
ومثل هذا التاريخ لا يثبت الا بحجة (قلنا) نعم هذا نوع ظاهر يشهد للآخر ولكن الظاهر
168

حجه لدفع الاستحقاق فلا يثبت الاستحقاق بها وحاجة الآخر إلى اثبات الاستحقاق فلا
يكفيه الظاهر لذلك فأما حاجة المشترى إلى دفع الاستحقاق للآخر عما في يده فالظاهر
يكفيه لذلك. قال (رجل أمر رجلا أن يشترى عبدا بعينه بينه وبينه فقال المأمور نعم ثم ذهب
فاشتراه وأشهد أنه يشتريه لنفسه خاصة فالعبد بينهما على الشركة) لأنه وكيل من جهة الآخر
في شراء نصف العبد له والوكيل لا يعزل نفسه بغير محضر من الموكل كما أن الموكل لا يعزل
وكيله بغير علم منه لما في فعل كل واحد منهما من الالزام في حق صاحبه وذلك لا يثبت
بدون علمه كخطاب الشرع لا يلزم المخاطب ما لم يعلم به ولأنه قصد عزل نفسه هنا في امتثال
أمر الآمر فإنما عزله في مخالفته أمره لكيلا ينفذ تصرفه عليه فأما في امتثال أمره لا يمكنه
أن يعزل نفسه. وعلى هذا إذا اشتركا على أن ما اشترى كل واحد منهما اليوم فهو بينهما
لم يستطع أحدهما الخروج عن الشركة الا بمحضر من صاحبه لان كل واحد منهما وكيل
لصاحبه * ولو أشهد الموكل على اخراج الوكيل عما وكله به وهو غير حاضر لم يجز ذلك حتى
إذا تصرف قبل أن يعلم بالعزل نفذ تصرفه علي الآمر فكذلك في الشركة. قال (رجل أمر
رجلا أن يشترى له عبدا بعينه بينه وبين المأمور فقال نعم ثم لقيه آخر فقال اشتر هذا
العبد بيني وبينك فقال المأمور نعم ثم ذهب المأمور فاشترى العبد فالعبد بين الآمرين نصفين
ولا شئ للمشترى فيه) لان الآمر الأول وكله بشراء نصفه له وقد تمت الوكالة بقبوله
وصار بحال لا يملك شراء ذلك النصف لنفسه فكذلك لا يملك شراءه لإنسان آخر لأنه إنما
يملك الشراء لغيره باذنه فيما يملك شراءه لنفسه ولما أمره الثاني بأن يشترى العبد بينه وبينه
فقد أمره بشراء نصفه له فينصرف هذا النصف إلى النصف الآخر غير النصف الذي قبل
الوكالة فيه من الأول وهذا لأنه وان ذكر كل النصف مطلقا ولكن مقصودهما تصحيح
هذا التصرف ولا يمكن تصحيحه إلا أن يتعين في الوكالة من الثاني النصف الآخر وهو
نظير عبد بين شريكين باع أحدهما نصفه مطلقا ينصرف بيعه إلي حصته خاصة فهنا أيضا
ينصرف توكيل الثاني إلى النصف الآخر خاصة فلهذا يجعل مشتريا نصفه لكل واحد منهما
بوكالته وخرج من البين. قال (رجل اشترى عبدا وقبضه فطلب إليه رجل آخر الشركة
فأشركه فيه فله نصفه) لان الاشراك تمليك نصف ما ملك بمثل الثمن الذي ملكه به ولو ملكه
منع جميع ما ملك بعد ما قبضه بأن ولاه البيع كان صحيحا فكذلك إذا ملكه نصفه. وبيان
169

هذا ان مطلق عقد الشركة يقتضى التسوية قال الله تعالى في ميراث أولاد الأم (فإن كانوا
أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) اقتضي التسوية بين الذكور والإناث فلما قال هنا
أشركتك فيه فمعناه سويتك بنفسي وذلك تمليك للنصف منه وكذلك لو أشرك رجلين
فيه صفقة واحدة كان العبد بينهم أثلاثا لأنه سواهما بنفسه وإنما تتحقق التسوية إذا كان
العبد بينهم أثلاثا. قال (ولو اشتري رجلان عبدا فأشركا فيه رجلا فالقياس أن يكون
للرجل نصفه ولكل واحد من المشتريين ربعه) لان الاشتراك تمليك بطريق التسوية بين
المشتري وبين من أشرك على ما روى أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما اشترى بلالا رضي الله عنه
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه أشركني فيه فقال
قد أعتقته. فعرفنا بهذا أن الاشراك تمليك حتى امتنع منه بالاعتاق ومقتضى لفظ الاشراك
التسوية فكل واحد منهما صار مملكا نصف نصيبه منه حين سواه بنفسه في نصيبه فيجمع
له نصف العبد ويبقى لكل واحد منهما ربعه. وفى الاستحسان يكون له ثلثه لأنهما حين
أشركاه فقد سوياه بأنفسهما فيقتضى هذا اللفظ أن يسوى بينهما في ملك العبد وإنما يتحقق
ذلك إذا صار له ثلث العبد من جهة كل واحد منهما السدس ويبقى لكل واحد منهما ثلثه.
يوضحه أنهما حين أشركاه فقد جعلاه كالمشترى للعبد معهما ولو اشتراه معهما كان له ثلث
العبد. قال (ولو أشركه أحد الرجلين في نصيبه ونصيب صاحبه فأجاز شريكه ذلك كان للرجل
نصفه وللشريكين نصفه) لان اشراكه في نصيبه نفذ في الحال وفى نصيب شريكه توقف على
إجازة الشريك وعند الإجازة يصير الشريك مشركا له في نصيبه فكأن كل واحد منهما أشركه
في نصيبه بعقد على حدة (وروى) ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله أن أحد المشتريين
إذا قال لرجل أشركتك في هذا العبد فأجاز شريكه كان العبد بينهم أثلاثا لان الإجازة
في الانتهاء كالاذن في الابتداء ولو أشركه باذن شريكه كان بينهم أثلاثا هذا لان المجيز
صار راضيا بالسبب لا مباشرا له والحكم الثابت عند الإجازة يسند إلى وقت العقد فيصير
كأنهما أشركاه معا فيكون بينهم أثلاثا. قال (وكذلك أن أشركه أحدهما في نصيبه ولم يسم
في كم أشركه ثم أشركه الآخر أيضا في نصيبه) لان كل واحد منهما سواه بنفسه في نصيبه
في عقد على حدة فيصير مملكا نصف نصيبه منه. وذكر ابن سماعة عن ابن يوسف رحمهما الله
أن أحد المشتريين لو قال لرجل أشركتك في نصف هذا العبد كان مملكا جميع نصيبه منه
170

بمنزلة قوله قد أشركتك بنصف هذا ألا ترى أن المشتري لو كان واحدا فقال لرجل
قد أشركتك في نصفه كان له نصف العبد بمنزلة قوله أشركتك بنصفه بخلاف ما لو قال
أشركتك في نصيبي فإنه لا يمكن أن يجعل بهذا اللفظ مملكا جميع نصيبه بإقامة حرف
في مقام حرف الباء فإنه لو قال أشركتك بنصيبي كان باطلا فلهذا كان له نصف نصيبه.
قال (رجل اشترى عبدا ولم يقبضه حتى أشرك فيه رجلا لم يجز) لأنه بيع ما لم يقبض وذلك
منهى عنه ألا ترى أنه لو ملكه الكل قبل القبض بطريق التولية لم يجز فكذلك إذا ملكه
البعض بالاشراك فان أشركه بعد القبض فهلك قبل أن يسلمه إليه لم يكن عليه ثمن ما
أشركه فيه بمنزلة ما لو ولاه وهذا لأنه في حقه بائع وهلاك المبيع في يد البائع قبل التسليم
مبطل للبيع. ولم يذكر في الكتاب لو قبض نصف العبد ثم أشرك فيه غيره (والجواب) أنه
يصح اشراكه في نصف العبد اعتبار للبعض بالكل (فان قيل) كانوا ينبغي أن ينصرف
اشراكه إلى النصف الذي قبضه خاصة تصحيحا لتصرفه بمنزلة عبد بين شريكين باع
أحدهما نصفه مطلقا ينصرف البيع إلى نصيبه خاصة (قلنا) الاشراك يقتضي التسوية وإنما
يتحقق إذا انصرف أشاركه إلى الكل ثم يصح في المقبوض لوجود شرطه ولا يصح في
غير المقبوض لانعدام شرطه فأما إذا انصرف إلي تمليك المقبوض خاصة لا يكون تسوية
بينهما وتصحيح التصرف يجوز على وجه لا يخالف الملفوظ ففي تعيين المقبوض هنا مخالفة
الملفوظ بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصف المقبوض فليس في تعيين نصيبه هناك
لتصحيح العقد مخالفة الملفوظ. قال (وإذا اشترك الرجلان في عبد قبل أن يشترياه فقال
كل واحد منهما لصاحبه أينا اشترى هذا العبد فقد أشرك فيه صاحبه أو قال فصاحبه فيه
شريك له فهو جائز) لان كل واحد منهما يصير موكلا لصاحبه بأن يشترى نصف العبد له
فأيهما اشتراه كان مشتريا نصفه لنفسه ونصفه لصاحبه بوكالته فإذا قبضه فذلك كقبضهما
جميعا لان القبض من حقوق العقد وذلك إلى العاقد. ثم يد الوكيل كيد الموكل ما لم يمنعه منه
حتى إذا مات كان من مالهما جميعا (فان اشترياه معا أو اشترى أحدهما نصفه قبل صاحبه
ثم اشترى صاحبه النصف الباقي كان بينهما) لأنهما ان اشترياه معا فقد صار كل واحد منهما
مشتريا نصفه لنفسه وان اشترى أحدهما نصفه فقد صار مشتريا نصف هذا العبد لنفسه
171

ونصفه لصاحبه وكان العبد بينهما فان نقد أحدهما الثمن بأمر صاحبه أو بغير أمره وقد
كانا اشتركا فيه قبل الشراء على ما وصفت لك فإنه يرجع بنصف الثمن على شريكه لان
بالعقد السابق بينهما صار كل واحد منهما وكيل صاحبه في نقد الثمن من ماله ألا ترى أنه
لو اشتراه أحدهما ونقد الثمن رجع على شريكه بنصفه بحكم تلك الوكالة فكذلك إذا اشترياه
وأدى الثمن أحدهما فإنما أدى النصف عن نفسه والنصف عن شريكه بوكالته فيرجع به
عليه. (قال فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في بيعه ثم باعه أحدهما على أن له نصفه كان
بائعا لنصف شريكه بنصف الثمن فان باعه الا نصفه كان جميع الثمن ونصف العبد بينه وبين
شريكه نصفين) في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله البيع
على نصف المأمور خاصة فيحتاج في تخريج هذه المسألة إلى معرفة فصلين (أحدهما) أن عند أبي
حنيفة الوكيل ببيع العبد يملك بيع نصفه والوكيل ببيع نصف العبد يملك بيع نصف ذلك
النصف وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يملك وقد بينا هذا في كتاب الوكالة (والثاني)
أن العبد إذا كان لواحد فقال لرجل بعته منك الا نصفه بألف درهم كان بائعا للنصف بألف
درهم. ولو قال بعته منك بألف درهم على أن لي نصفه كان بائعا للنصف بخمسمائة لان الاستثناء
والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى فكأنه قال بعت منك نصفه بألف
درهم فأما قوله على أن لي نصفه ليس باستثناء بل هو عامل على سبيل المعارضة للأول
فكان الايجاب الأول متناولا لجميعه وبالمعارضة تبين انه جعل الايجاب في نصفه للمخاطب
وفى نصفه لنفسه وذلك صحيح منه إذا كان مقيدا ألا ترى أن رب المال يشترى مال المضاربة
من المضارب فيكون صحيحا وإن كان ذلك مملوكا له لكونه مقيدا فهنا أيضا ضم نفسه
إلى المخاطب في شراء العبد مقيد في حق التقسيم فلهذا كان بائعا نصفه من المخاطب
بخمسمائة. إذا عرفنا هذا فنقول البائع منهما هنا بائع نصفه بحكم الملك وفى النصف وكيل
عن صاحبه فإذا قال بعته منك على أن لي نصفه كان ايجابه متناولا للكل. ثم قوله على أن لي
نصفه معارض فيكون ذلك معتبرا في تقسيم الثمن وفي ابقاء نصيبه على ملكه ويبقى موجبا
للمشترى نصيب شريكه بنصف الثمن * وإذا قال بعته الا نصفه فهذا بمنزلة قوله بعت نصفه
بكذا فعند أبي حنيفة ينصرف إلى النصف من النصيبين جميعا لان تعين نصيبه قبل الوكالة
لتصحيح تصرفه وبعد الوكالة تصرفه صحيح وإن لم يتعين له نصيبه لان من أصله أن الوكيل
172

ببيع نصف العبد يملك بيع نصف ذلك النصف فلهذا كان جميع الثمن ونصف العبد بينه وبين
شريكه نصفين وعندهما لا يمكن تصحيح تصرفه في النصيبين لان الوكيل ببيع نصف العبد لا يبيع
نصف ذلك النصف فينصرف بيعه إلى نصيب نفسه لتصحيح تصرفه. قال (رجل اشترى عبدا
وقبضه ثم قال لرجل آخر قد أشركتك في هذا العبد على أن تنقد الثمن عنى ففعل كانت هذه
الشركة فاسدة) لأنه ملكه نصف العبد بيعا بنصف الثمن وشرط فيه أن ينقد جميع الثمن عنه
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط فيبطل هذا البيع بينهما لمكان الشرط
وان نقد عنه الرجل رجع عليه بما نقد عنه لأنه قضى دينه بأمره ولا شئ له في العبد لان
الاشراك كان فاسدا والبيع الفاسد بدون القبض لا يوجب شيئا. قال (رجل اشترى نصف
عبد بمائة درهم واشترى رجل آخر نصف ذلك العبد الباقي بمائتي درهم ثم باعاه مساومة
بثلاثمائة درهم أو بمائتي درهم فالثمن بينهما نصفين ولو باعاه مرابحة بربح مائة درهم أو قال
بالعشرة أحد عشر كان الثمن بينهما أثلاثا) وكذلك لو ولياه رجلا برأس المال أو باعاه بوضيعة
كذا فالثمن بينهما أثلاثا لان الثمن في بيع المساومة بمقابلة الملك حتى يعتبر الملك هو في المحل
دون الثمن الأول حتى لو كان موهوبا أو كان مشترى بعرض لا مثل له يجوز بيعه مساومة
فعرفنا ان الثمن بمقابلة الملك وهما يستويان في ملك العبد فيستويان في ثمنه. وأما بيع المرابحة
والتولية والوضيعة باعتبار الثمن الأول ألا ترى أنه لا تستقيم هذا البيوع في الموهوب
والموروث وفى المشتري بعرض لا مثل له والثمن الأول كان أثلاثا بينهما فكذلك الثاني. يوضح
الفرق أن في بيع المرابحة لو اعتبرنا الملك في قيمة الثمن دون الثمن الأول كان البيع مرابحة في
حق أحدهما وضيعة في حق الآخر وقد نصا على بيع المرابحة في نصيبهما فلا بد من اعتبار
الثمن الأول كذلك بخلاف بيع المساومة. قال (وإذا اشترك الرجلان شركه عنان في تجارة
علي أن يشتريا ويبيعا بالنقد والنسيئة فاشترى أحدهما شيئا من غير تلك التجارة فهو له
خاصة لان كل واحد منهما بحكم الشركة يصير وكيل صاحبه والوكالة تقبل التخصيص فإذا
خصا نوعا كان كل واحد منهما في شراء ما سوى ذلك كالأجنبي عن صاحبه فيكون مشتريا
لنفسه خاصة فأما في ذلك النوع فبيع كل واحد منهما وشراؤه بالنقد والنسيئة ينفذ علي
صاحبه لأنهما صرحا بذلك وهكذا لو لم يصرحا فان بمطلق التوكيل يملك الوكيل البيع والشراء
بالنقد والنسيئة على الموكل فكذلك بمطلق الشركة إلا أنه إذا اشترى أحدهما بالنسيئة
173

بالنقود أو المكيل أو الموزون فإن كان في يده من مال الشركة من ذلك الجنس جاز شراؤه
على الشركة وإن لم يكن كان مشتريا لنفسه لأنه لو نفذ شراؤه على الشركة كان مستدينا على
المالك وليس للشريك شركة عنان ولا للمضارب ولاية الاستدانة بمطلق العقد لمعين وهو
انه لو صح استدانتهما زاد مال الشركة والمضاربة وما رضى كل واحد من الشريكين
بتصرف صاحبه الا في مقدار ما جعلاه رأس المال فلهذا كان شراؤه بالنسيئة في هذه الحالة
على نفسه خاصة. قال (وإن كان مال الشركة في يده دراهم فاشترى بالنسيئة بالدنانير عندنا
يصير مشتريا على الشركة استحسانا) وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله يصير مشتريا لنفسه
بناء على أصل معروف وهو ان الدراهم والدنانير في القياس جنسان وفى الاستحسان كجنس
واحد في ضم أحدهما إلى الآخر وفى تكميل النصاب وغيره. ثم قد بينا ان عند زفر رحمه الله
في حكم الشركة هما جنسان حتى لا تصح الشركة إذا كان رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال
الآخر دنانير فكذلك في حكم الشراء بالنسيئة وعندنا هما كجنس واحد في صحة الشركة
بهما فكذلك في الشراء بالنسيئة على شريكه. قال (فان أقر أحدهما بدين في تجارتهما وأنكره
الآخر لزم المقر جميع الدين إن كان هو الذي وليه) لان حقوق العقد تتعلق بالعاقد وكيلا كان
أو مباشرا لنفسه وان أقر أنهما ولياه لزمه نصفه لأنه في النصف مقر على نفسه وفي النصف
على صاحبه وبعقد الشركة لا يثبت له ولاية إلزام الدين في ذمة صاحبه باقراره فبطل اقراره.
وان أقر أن صاحبه وليه لم يلزمه منه شئ لأنه أقر على غيره ولا ولاية له في إلزام الدين على
غيره باقراره وهذا بخلاف شركة المفاوضة فإنها تتضمن الكفالة والوكالة جميعا فيكون كل
واحد منهما كفيلا عن صاحبه بما يلزمه فإذا أقر أحدهما كان كل واحد منهما مطالبا بجميع
ذلك المال بحكم الكفالة. فأما شركة العنان تتضمن الوكالة دون الكفالة وبحكم الوكالة لا
يصير كل واحد منهما مطالبا بما علي صاحبه. قال (فإن كان لشريكي العنان علي رجل دين
فأخره أحدهما لم يجز على صاحبه) بخلاف شريكي المفاوضة لان المتفاوضين فيما هو من صنيع
التجار كشخص واحد والتأجيل من صنيع التجار فمباشرة أحدهما فيه كمباشرتهما وبشركة
العنان ما صارا كشخص واحد ولان في شركة المفاوضة لكل واحد منهما حق المطالبة بما
وجب لصاحبة بمباشرته فكان له أن يؤجل فيه وليس لشريك العنان حق المطالبة بما وجب
بمباشرة صاحبه فلا يكون له أن يؤجل في نصيب صاحبه وفي نصيب نفسه اختلاف بين
174

أبي حنيفة وبين صاحبيه رحمهم الله في صحة التأجيل موضع بيانه في كتاب الصلح. قال (وان
اشترى أحدهما شيئا من تجارتهما فوجد به عيبا لم يكن للآخر أن يرده) لان الرد بالعيب من
حقوق العقد وذلك يتعلق بالعاقد ولان الآخر في النصف أجنبي وفى النصف موكل وليس
للموكل أن يخاصم في العيب مع البائع فيما اشتراه وكيله وكذلك لو أخذ أحدهما مالا
مضاربة فربح فيه كان الربح له خاصة لان مال المضاربة ليس من شركتهما في شئ فعمله فيه
يكون لنفسه خاصة دون شريكه واستحقاق المضارب الربح بعمله * وكل وضيعة لحقت
أحدهما من غير شركتهما فهي عليه خاصة لان قيما ليس من شركتهما كل واحد منهما من
صاحبه بمنزلة الأجنبي. وعلى هذا لو شهد أحدهما لصاحبه بشهادة من غير شركتهما فهو
جائز لأنه عدل لا تهمة في شهادته بخلاف ما هو من شركتهما فإنه متهم في شهادته لماله
من النصيب في الشهود به وقال أبو حنيفة لشريك العنان أن يضح وأن يدفع المال مضاربة
وإن لم يأذن له شريكه في ذلك ويجوز له أن يعمل في المال الذي ليس من شركتهما كل شئ
يجوز للمضارب أن يعمله وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى * وهذه المسألة تشتمل
على فصول (أحدها) أن لاحد الشريكين أن يوكل بالتصرف وهو استحسان وفى القياس
ليس له ذلك لان كل واحد منهما وكيل صاحبه وليس للوكيل أن يوكل غيره وان
الموكل إنما رضى برأيه ولم يرض برأي غيره. وفي الاستحسان التوكيل من عادة التجار وكل
واحد منهما لا يجد بدا منه لان الربح لا يحصل الا بالتجارة الحاضرة والغائبة وكل واحد
منهما عاجز عن مباشرة النوعين لنفسه ولا يجد بدا من أن يوكل غيره بأحد النوعين ليحصل
مقصودهما وهو الربح فيصير كل واحد منهما كالاذن لصاحبه في ذلك دلالة ولان الوكالة
التي تتضمنها الشركة بمنزلة الوكالة العامة ولهذا صحت من غير بيان جنس المشترى وصفته
وفى الوكالة العامة للوكيل أن يوكل غيره فإنه لو قال لوكيله عمل برأيك كان له أن يوكل
غيره (وكذلك) لاحد الشريكين ان يضع لان ذلك من عادة التجار ولأنه لو استأجر من
يتصرف في مال الشركة لجاز ذلك منه على شريكه فإذا وجد من يتصرف بغير أجر كان له
أن يضعه بطريق الأولى (وكذلك) له أن يودع من مال الشركة لان له أن يستأجر من يحفظ
مال الشركة فلأن يكون له أن يودع ليحفظ المودع بغير أجر أولى * وله أن يدفع من مال
الشركة مضاربة لان له أن يستأجر من يتصرف في مال الشركة بأجر مضمون في الذمة
(12 مبسوط حادي عشر)
175

فلأن يكون له أن يستأجر من يتصرف ببعض ما يحصل من عمله من غير أن يكون ذلك
مضمونا في الذمة أو لي لان هذا أنفع لهما (وروى) الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه ليس له أن يدفع المال مضاربة لأنه ايجاب الشركة للمضارب في الربح فيكون بمنزلة عقد
الشركة وليس لاحد الشريكين أن يشارك مع غيره بمال الشركة فكذلك لا يدفعه مضاربة
وما ذكره في الكتاب أصح. ووجه الفرق بين الشركة والمضاربة ان ما يستفاد بعقد فهو
من توابع ذلك العقد وإنما يتبع الشئ ما هو دونه لا ما هو مثله أو فوقه والمضاربة دون
الشركة. ألا ترى أنه ليس على المضارب شئ من الوضيعة وان المضاربة لو فسدت لم يكن
للمضارب شئ من الربح فيمكن جعل المضاربة مستفاد بعقد الشركة لأنه دونه فأما
الاشتراك مع الغير مثل الأول فلا يمكن ان يجعل من توابعه مستفادا به فهو نظير ما يقول إن
للمضارب ان يوكل لان الوكالة دون المضاربة وليس له أن يدفع المال مضاربة لان الثاني
مثل الأول فلا يكون مستفادا به ولهذا لم يكن للوكيل أن يوكل بمطلق التوكيل لان الثاني
مثل الأول فلا يكون مستفادا به ولهذا لم يكن للوكيل أن يوكل بمطلق التوكيل لان الثاني
مثل الأول ولكن هذا كله في حق الغير فأما في حق نفسه فيجوز أن يوجب لغيره مثل
ماله ولهذا كان للمكاتب أن يكاتب وللمأذون أن يأذن لعبده لأنه متصرف لنفسه بفك الحجر
عنه والله سبحانه وتعالى أعلم
باب شركة المفاوضة
(روى) عن أبي سيرين رحمه الله تعالى قال لا تجوز شركة بعروض ولا بمال غائب
وفى هذا دليل على أنه لا بد من احضار رأس المال ولكن ان وجد الاحضار عند الشراء بها
فهو والاحضار عند العقد سواء حتى إذا دفع إلى رجل ألف درهم على أن يشترى بها وبألف من
ماله وعقدا عقد الشركة بينهما بهذه الصفة فأحضر الرجل المال عند الشراء جازت الشركة
لان المقصود هو التصرف لا نفس الشركة فإذا وجد احضار المال عند المقصود كان ذلك
بمنزلة الاحضار عند العقد (وعن) الشعبي رحمه الله قال الربح على ما اصطلحا عليه والوضيعة
على المال فكذلك في الشركة وهو مروى وعن علي رضى الله تعالى عنه وبه نأخذ.
وتعتبر الشركة بالمضاربة فكما أن الربح في المضاربة على الشرط والوضيعة على المال
فكذلك في الشركة (وعن) على رضى الله تعالى عنه قال ليس على من قاسم الربح ضمان
176

وتفسير هذا أن الوضيعة علي المال في المضاربة والشركة لان الوضيعة هلاك جزء من المال
والمضارب والشريك أمين فيما في يده من المال وهلاك المال في يده الأمين كهلا كه في يد
صاحبه * قال (وإذا اشترك الرجلان شركة مفاوضة فكتبنا بينهما كتابا بينا فيه أنهما
اشتركا فيه في كل قليل أو كثير شركه مفاوضة وان رأس مالهما كذا وكذا بينهما نصفين
يعمل كل واحد منهما برأيه فإذا اشتركا على هذا فهما متفاوضان) وهذا لما بينا ان اعتبار
المساواة ركن المفاوضة فلا بد من أن تذكر التسوية بينهما في رأس المال والرابح وان الشركة
بينهما في كل قليل أو كثير لأنه إذا اختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس مال
في الشركة لا يكون العقد بينهما مفاوضة لانعدام المساواة ولكن ان اختص أحدهما
بملك عرض أو دين على انسان فالشركة بينهما مفاوضة لان العرض لا يصلح أن يكون رأس
مال الشركة والدين كذلك وهو نظير الاختصاص بالزوجة أو الولد وذلك لانعدام المساواة
المعتبرة في المفاوضة ونص في الكتاب على لفظة المفاوضة. وقد بينا ان هذا لا بد منه وان
كانا لا يعرفان جميع أحكام المفاوضة وبعد ما صارا متفاوضين فما اشترى أحدهما فهو جائز
عليه وعلي صاحبه يؤخذ به كله لان المفاوضة تتضمن الوكالة والكفالة فبحكم الوكالة يجعل
شراء أحدهما كشرائهما وبحكم الكفالة يجعل كل واحد منهما مطالبا بما يجب على صاحبه
بسبب التجارة. قال (وإن كان رأس مال كل واحد منهما ألف درهم فاشتركا ولم يخلطا المال
فالشركة جائزة) وفى النوادر قال في القياس لا تكون الشركة مفاوضه بينهما قبل خلط
المالين لان كل واحد منهما مختص بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وذلك
ينفى المفاوضة وفى الاستحسان يجوز لان المساواة موجودة بينهما وإن لم يخلطا المال
واختصاص أحدهما بملك مال غير صاف للمفاوضة بعينه بل بانعدام المساواة فإذا كانت
المساواة موجودة كان الخلط وعدم الخلط سواء فان هلك أحد المالين يهلك من مال صاحبه
على ما بينا في شركة العنان وتبطل الشركة بينهما * وان اشتريا بأحد المالين في القياس
تبطل المفاوضة أيضا لان المشترى صار بينهما نصفين والآخر مختص بملك رأس ماله فتنعدم
المساواة وفى الاستحسان لا يبطل العقد. وللاستحسان وجهان (أحدهما) ان المساواة قائمة
معنى لان الآخر وان ملك نصف المشترى فقد صار نصف الثمن مستحقا عليه لصاحبه
ونصف ماله مستحق به لصاحبه (والثاني) أن مالا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا ولا يمكن
177

التحرز عن هذا التفاوت عادة فقلما يجدان شيئا واحدا يشتريانه بمالهما. ولا بد من أن
يكون الشراء بأحد المالين قبل الآخر فيجعل هذا عفوا لعدم امكان التحرز عنه * قال
(فإن كانت دراهم أحدهما بيضا ودراهم الآخر سودا فهو كذلك) لان السود والبيض
كل واحد منهما يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وبتفاوت الوصف ينعدم
الاختلاط وقد بينا ان الخلط ليس بشرط إلا أن يكون لأحدهما على الآخر فضل في
الصرف فلا تجوز شركة المفاوضة لانعدام التساوي بينهما الا في رواية عن أبي يوسف
رحمه الله وقد بينا هذا ثم تكون الشركة بينهما عنانا لان تحصيل مقصود المتعاقدين
بقدر الامكان واجب والعنان قد يكون عاما وقد يكون خاصا وهذا عنان عاما وان لقباه
بالمفاوضة فهو لقب فاسد لانعدام شرط المفاوضة ولكن لا يبطل به أصل الشركة فإن كان
شراء يوم وقعت الشركة ثم صار في أحدهما فضل قبل أن يشتريا شيئا فسدت المفاوضة أيضا
لأنه اعترض بعد العقد قبل حصول المقصود به ما يمنع ابتداء العقد وهو التفاوت في ملك المال
فيكون مبطلا للعقد كما لو ورث أحدهما مالا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة تفسد
به المفاوضة وإن كان ذلك بعد الشراء بالمالين جميعا فالشركة جائزة لان المقصود قد حصل
حين اشتريا بالمالين فلا معتبر بما يظهر من التفاوت في العرف بعد ذلك (فان قيل) أليس
أنه لو ورث أحدهما مالا بعد الشراء بالمالين أو وهب له مالا فسدت المفاوضة (قلنا) لان
المساواة في ملك المال منعدم هناك بما اختص به أحدهما وهنا لا ينعدم لان ملكهما تحول
من الدراهم إلى المشترى والمشترى بينهما نصفان (فان قيل) لا كذلك بل لكل واحد
منهما علي صاحبه نصف رأس ماله دينا عليه حتى لو هلك المشترى يرجع كل واحد منهما على
صاحبه بنصف رأس ماله فينعدم المساواة أيضا بظهور الفصل في النصف (قلنا) نعم ولكن
ما استوجبه كل واحد بينهما علي صاحبه دين عليه والدين لا يصلح أن يكون رأس مال في
الشركة فالتفاوت بينهما في ذلك لا يمنع بقاء المفاوضة كما لو ورث أحدهما دينا أو عرضا
وكذلك لو كان رأس مال أحدهما ألف درهم ورأس مال الآخر مائة دينار فإن كانت قيمتها
مثل الألف فالشركة بينهما مفاوضة وهذا في التفريع كالسود والبيض وان كانت قيمة
الدنانير أكثر من ألف درهم لم تجز المفاوضة لانعدام المساواة وكانت الشركة بينهما عنانا
حتى لا يطالب كل واحد منهما بما يجب علي صاحبه لان ذلك من حكم من الكفالة الثابتة
178

بالمفاوضة. قال (وإذا اقتسما ضرب كل واحد منهما برأس ماله أو بقيمته يوم يقتسمون)
لما بينا ان المعتبر قيمة رأس المال وقت القسمة لاظهار الربح فإنه لما لم يصل إلى كل واحد منهما
جميع رأس ماله لا يظهر الربح ليقتسماه بينهما * قال (ولو قال أحدهما لصاحبه بعتك نصف
مالي هذا بنصف مالك هذا فرضى بذلك وتقابضا كانا شريكين فيهما بمنزلة المال المختلط) لأن العقد
الذي جرى بينهما عقد صرف وقدتم بالتقابض فصار كل واحد من المالين مشتركا
بينهما نصفين فإن كان رأس مال أحدهما دراهم ورأس مال الآخر عروضا فباعه نصف
العروض بنصف الدراهم و تقابضا ثم اشتركا شركة مفاوضة أو شركة عنان جاز ذلك لان
الدراهم بهذا العقد صارت نصفين بينهما فيكون ذلك رأس مالهما ثم يثبت في الشركة
حكم العروض وهو بينهما نصفان بيعا * وقد يدخل في العقد بيعا ما لا يجوز ايراد العقد عليه
قصدا كالشرب والطريق في البيع والمنقولات في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا إذا وقف
قرية بما فيها من الدواب والمماليك وآلات الحراثة وان كأن لا يثبت حكم الوقف في المنقولات
قصدا فهذا مثله وقد بينا ان الشراء والحل بمنزلة العروض في أنه لا يصلح أن يكون رأس مال
في الشركة. قال (وان اشتركا شركة مفاوضة بغير مال على أن يشتريا بوجوههما فهو
جائز) كما بيناه في شركة العنان إلا أن تكون المفاوضة عامة ومثله في الوكالة لا يجوز فان من
قال لغيره اشتر بيني وبينك لا يكون ذلك صحيحا ما لم يعين المشترى أو يخص بذكر الوقت
أو بتسمية الجنس في العروض والقدر في المكيل والموزون أو بتسميته الثمن وتفويض
الامر إلى رأيه على العموم وفي شركة الوجوه يجوز ذلك بدون التخصيص لأنها تشتمل
علي البيع والشعراء ومقصودهما الربح لا عين المشترى ومثله في الوكالة يجوز أيضا لو قال كل
واحد منهما لصاحبه ما اشترينا من شئ فهو بيننا نصفان علي أن يبيعه ويقسم ربحه نصفين
وكان ذلك تفسيرا للشركة فأما في الوكالة الخاصة المقصود عين المشترى فلا بد من اعتبار
معنى الخصوص فيه لتصحيح الوكالة. قال (وكذلك أن اشترك خياطان في الخياطة مفاوضة
أو خياط وقصار أو شبه ذلك من الاعمال المختلفة أو المتفقة حتى إذا تقبل أحدهما عملا
أخذ الآخر به وإن كان عمله غير ذلك العمل) لان بشركة المفاوضة صار كل واحد منهما
وكيل صاحبه في تقبل العمل له وكفيلا عن صاحبه فيما يجب عليه فكان كل واحد منهما
مأخوذا بما يقبله الآخر ولا يمتنع صحة التقبل باعتبار أن ذلك ليس من عمله لأنه لا يتعين عليه
179

إقامة ما يقبل ببدنه ولكن له أن يقمه بأعوانه وأحزابه وهو يقدر له على ابقاء ما التزمه بهذا
الطريق فلهذا كان مطالبا بحكم الكفالة والله سبحانه وتعالى أعلم
باب بضاعة المفاوض
قال (ولأحد المتفاوضين أن يبيع بضاعة مع رجل وأن يدفع مضاربة وان يودع) وقد
بينا ان شريك العنان يملك هذا فالمفاوض أولي لأنه أعم تصرفنا منه. قال (وليس له أن
يقرض لان الاقراض تبرع) وكل واحد من المتفاوضين إنما قام مقام صاحبه في التجارة
في مال الشركة دون التبرع ألا ترى أنه لا يملك الهبة ولا الصدقة في نصيب صاحبه فالاقتراض
في كونه تبرعا كالصدقة أو فوقه قال صلى الله عليه وسلم الصدقة بعشرة أمثالها والقرض
بثمانية عشر. وقيل إنما جعل الثواب في القرض أكثر لان ملتمس القرض لا يأتيك
الا محتاجا والسائل للصدقة قد يكون محتاجا وقد يكون وغير محتاج (وذكر) الحسن ان
على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لاحد المتفاوضين أن يقرض مال المفاوضة من رجل ويأخذ
منه ما نتحققه به وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس له ذلك وجعل هذا بمنزلة الكفالة
من يحث انه متبرع في الأداء ولكن يرجع بمثله كما أن الكفيل متبرع في الالتزام ولكن
يرجع بمثل ما يؤدى. ثم من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان أحد المتفاوضين إذا كفل بمال
يلزم شريكه ويجعل معنى المفاوضة في ذلك راجحا لذلك الاقرار وعندهما كفالة أحد
المتفاوضين لا يلزم شريكه وجعلا معنى التبرع فيه راجحا لذلك في الاقرار. قال (فان أقر ض
أحدهما فهو ضامن نصف ما أقرض لشريكه) لأنه متعد في نصيب شريكه بتصرفه في المال
علي غير ما هو مقتضى الشركة ولكن لا يفسد ذلك المفاوضة لان المضمون له إنما اختص بملك
دين وذلك غير مفسد للمفاوضة ما لم يقبضه ولان المقترض مستوجب مثل ذلك عن
المستقرض فكانت المساواة بينهما قائمة. قال (وليس له أن يعير دابة بغير رأيه من شركتهما في
القياس) لان الإعارة تبرع بالمنفعة بغير بدل فهو كالتبرع بالعين بغير بدل كالهبة وذلك
خلاف ما تقتضيه المفاوضة قال (فإذا فعل فعطبت الدابة تحت المستعير كان المعير ضامنا نصف
قيمة الدابة لشريكه في القياس) لأنه متعد في نصيبه بالتسليم إلى المستعير ولكن استحسن
فقال له أن يعير ولا ضمان عليه لان الإعارة من توابع التجارة فان التاجر لا يجد بدا منه
180

لأنه إذا أتاه من يعامله فلا بد أن يعيره ثوبا ليلبس أو وسادة يجلس عليها ولا يجد بدا من
إعارة الميزان وصنجاته من بعض الجيران فان من لا يعير لا يعار عند حاجته وكل واحد
منهما مالك للتجارة في هذا المال فيملك ما هو من توابع التجارة ألا ترى ان المأذون يعير
والمفاوض أعم تصرفا من المأذون حتى أن المفاوض يكاتب والمأذون لا يكاتب. وعلل في
بعض النوادر فقال التاجر في المال وإن لم يكن مالكا لشئ منه فله أن يعير وإنما أراد به
المأذون فالتاجر الذي يملك النصف يكون شريكا في الربح لا تملك الإعارة أولى. قال (ولو
أبضع أحدهما بضاعة مع رجل لم يفرق المتفاوضان ثم اشترى المستبضع بالبضاعة شيئا وهو
لا يعلم توفرهما فشراؤه جائز على الآمر وعلى شريكه) لان الابضاع توكيل ومباشرة أحدهما
فيه حال قيام المفاوضة كمباشرتهما ثم افتراقهما عزل منهما إياه عن لتصرف قصدا
وحكم العزل لا يثبت قصدا في حق الوكيل ما لم يعلم به فلهذا نفذ شراؤه عليهما ولو كان
أمره بالشراء ولم يدفع إليه ما لا كان ما اشترى للآمر خاصة لان عمل أحدهما فيما هو من
شركتهما كعملهما. وإذا دفع إليه مالا من شركتهما وأمره أن يشترى بها فإنما وجد عمل
أحدهما فيما هو من شركتهما فإذا لم يكن دفع إليه مالا فإنما عمل أحدهما بالتوكيل والإبانة فيما
ليس من شركتهما الا ان المفاوضة إذا بقيت بينهما حتى اشترى الوكيل جعل شراؤه كشراء
الموكل وكان المشترى بينهما نصفين بهذا الطريق وذلك لا يوجد إذا افترقا قبل شراء الوكيل
لان عند شراء الوكيل لو اشتراه الموكل كان مشتريا لنفسه وكذلك الوكيل يكون مشتريا
للآمر خاصة. يوضحه ان دفع الضرر عن الوكيل واجب وإذا كان المال مدفوعا إليه لو
جعلناه مشتريا للآمر خاصة كان ضامنا للآخر نصيبه من المال فلدفع هذا الضرر جعلناه
مشتريا بينهما إذا لم يعرف افتراقهما وذلك غير موجود فيما إذا لم يكن المال مدفوعا إليه لأنه
لا يضمن للشريك شيئا وان صار مشتريا للآمر ولكن يجب الشراء بالثمن في ذمته ويرجع به
على الامر وقد رضى بذلك حين قبل الوكالة. قال (الا ترى أنه لو مات الذي لم يبضع ثم
اشترى المستبضع المتاع لزم الحي خاصة) إلا أن في فضل الموت إذا كان المال مدفوعا إلى
المستبضع فورثه الميت بالخيار ان شاؤوا وضمنوا المستبضع وان شاؤوا ضمنوا الآمر وهذا لان
الموت يوجب عزل الوكيل حكما بطريق انه ينقل الملك إلى الورثة ولم يوجد من واحد منهم
الرضا بتصرف الوكيل والعزل الحكمي يثبت في حق الوكيل وإن لم يعلم به بخلاف افتراقهما
181

فان ذلك من الذي لم يبضع عزل الوكيل في نصيبه قصدا فلا يثبت حكمه في حقه ما لم يعلم
به * وإن كان للورثة حق تضمين المستبضع لأنه جان في نصيبهم من المال بالدفع إلى البائع
من غير رضاهم ثم فلهم أن يضمنوه ان شاؤوا وان شاؤوا الآمر لان دفعه كان باذن الآمر
فيكون كدفع الآمر بنفسه فان ضمنوا المستبضع رجع به على الآمر لأنه غرم لحقه في عمل
باشره له بأمره ولان جميع المتاع صار للآمر فيكون عليه جميع الثمن وقد نقد نصف الثمن
من ماله ونصفه من مال غيره وقد استحق يرجع عليه بمثله قال (وإذا وكل أحد المتفاوضين
رجلا بشراء جارية بعينها أو بغير عينها بثمن مسمى ثم إن الآخر نهاه عن ذلك فنهيه جائز) لان
عزل الوكيل من صنيع التجارة كالتوكيل فكما جعل فعل أحدهما في التوكيل كفعلهما
فكذلك يجعل نهى أحدهما إياه كنهيهما وان اشتراه الوكيل فهو مشتر لنفسه فان الوكالة
قد بطلت بعزل أحدهما إياه فإن لم ينهه حتى اشتراها كان مشتريا لهما جميعا فيرجع بالثمن على
أيها شاء لان كل واحد يطالب بما وجب على صاحبه بحكم الكفالة وقد كان توكيل أحدهما
كتوكيلهما جميعا فيستوجب الوكيل الرجوع عليها بالثمن فله أن يأخذ أيهما شاء بجميعه لأنه
في النصف أصيل وفى النصف كفيل عن صاحبه * وكذا ان اشترى أحدهما شيئا وقبضه
كان للبائع أن يأخذ شريكه بالثمن لأنه كفيل عن المشترى بما يلزمه بطريق التجارة * وإن كان
بالمتاع عيب كان للشريك ان يرده على البائع بعينه لان الرد بالعيب من حقوق التجارة
وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما يجب بالتجارة له وعليه وكذلك أن باع أحدهما
متاع فوجد المشترى به عيبا كان له أن يرده على الذي لم يبع لأنه قائم مقام صاحبه فيما
يلزمه بالتجارة والخصومة في العيب انا لزمته بالتجارة فكان الآخر قائما مقام البائع في
ذلك فرد عليه. قال (أرأيت لو كانا قصارين متفاوضين فأسلم رجل إلى أحدهما ثوبا أما كان
له أن يأخذ الآخر بعمله ذلك له ذلك) وللآخر أن يأخذه بالأجر إذا فرغ من العمل فحكم
الرد بالعيب كذلك قال (وإذا أبضع أحد المتفاوضين بضاعة له ولشريك له شاركه شركة عنان
فأبضع ألف درهم بينهما نصفين مع رجل يشترى له بها متاعا فرضى الشريك فمات الدافع
ثم اشترى المستبضع بذلك متاعا فالمتاع للمشترى أولا) يقول فيما ذكرنا بيان أن لاحد
المتفاوضين ان يشارك مع رجل شركة عنان وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمها الله ليس
له ذلك لأنه يجاب إلى الشركة للغير في المال المشترك ولهذا لم يكن لشريك العنان ان يشارك
182

غيره فكذلك في المفاوض. وجه ظاهر الرواية ان العنان دون المفاوضة فيمكن أن يجعل من
توابع المفاوضة مستفادا بها كالمضاربة وشركة العنان. قال (وان شارك أحد المتفاوضين رجلا
شركة مفاوضة لم يجز ذلك علي شريكه) في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لان الثاني مثل
الأول فلا يكون من توابع الأول مستفادا به كما أنه ليس لشريك العنان أن يشارك غيره
فكذلك وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يجوز ذلك منه لأنه المتفاوضين كل واحد منهما قائم
مقام صاحبه فيما هو من صنيع التجار فيكون كل واحد منهما كفعلهما إذا عرفنا هذا فنقول
المستبضع وكيل للدافع فيعذل بموت الدافع علم به أولم يعلم لان هذا عزل من طريق الحكم
فإذا اشترى المتاع بعد ذلك كان مشتريا لنفسه فإذا نقد الثمن بالمال المدفوع إليه فقد قضى بمال
الغير دينا عليه فيكون ضامنا مثل ذلك لصاحب المال ونصف هذا المال لشريك العنان
فيضمن له ذلك والنصف الآخر للمفاوض الحي ولورثة الميت فيضمن لهما ذلك وإنما قلنا إنه
ينعزل بموت الدافع أما في حقه لا يشكل وفي حق الشريكين الآخرين لان الشركة قد انقطعت
من الدافع وبين كل واحد منهما بموته واعتبار أمره في حقهما كان بعقد الشركة فلا يبقى
بعد انتقاضها ولو كان الدافع حيا ومات شريك العنان ثم اشترى المستبضع المتاع كان المتاع
كله للمتفاوضين لان شركة الدافع مع شريك العنان قد انتقضت بموته وانقطعت الوكالة
التي كانت بينهما فلا يثبت له الملك في المتاع بشراء الوكيل لان شراء الوكيل كشراء الموكل
بنفسه والدافع لو اشترى المتاع بنفسه كان المتاع كله للمتفاوضين فكذلك وكيله ويرجع
ورثة الميت بحصته من المال ان شاؤوا على المستبضع لأنه دفع ما صار ميراثا لهم إلى
البائع بغير رضاهم ثم يرجع المستبضع به على أي المتفاوضين شاؤوا لان كل واحد
منهما ضامن عن صاحبه ما يلزمه بحكم قيام المفاوضة بينهما وقد صار الدافع ضامنا
لذلك لان أداء وكيله بأمره كأدائه بنفسه فإن لم يمت هذا ولكن المتفاوض الآخر مات
ثم اشترى المستبضع المتاع فنصف المتاع لشريك العنان لقيام الشركة بين الدافع وبين شريك
العنان ولان شراء وكيله له كشرائه بنفسه ونصف المتاع للآمر لا شئ له منه لورثة الميت لان المفاوضة
قد انتقضت بين الدافع وبين الميت * ولو اشترى بنفسه في هذه الحالة لم يكن شئ من المشترى
لورثة الميت فكذلك إذا اشترى وكيله * ولورثة الميت الخيار ان شاؤوا ضمنوا نصيبهم من المال
المفاوض الحي لان أداء وكيله كأدائه بنفسه وان شاؤوا ضمنوه المستبضع لأنه دفع مالهم إلى البائع
183

بغير رضاهم ثم يرجع المستبضع به على الآمر لأنه عامل له فيما أدى بأمره فيرجع عليه بما يلحق
من العهدة ولا يرجع بها على شريكه الآخر لان الشركة بينهما عنان فلا يكون كل واحد منهما
مطالبا بما يجب على الآخر. (قال وان أخذ أحد المتفاوضين من رجل مالا على بيع فاسد
فاشترى به وباع كان البيع لهما والضمان عليهما) لان ما حصل إنما يحصل بطريق التجارة وما
وجب بطريق التجارة وهذا لان الفاسد من البيع معتبر بالجائز في الاحكام وفعل كل واحد
منهما في التجارة كفعلها فيما يجب به عليهما وفيما يحصل به لهما. (قال وإذا أمر أحد المتفاوضين
رجلين بأن يشتريا عبدا لهما وسمى جنسه وثمنه فاشترياه وافترقا عن الشركة فقال الآمر
اشترياه بعد التفريق فهو لي خاصة وقال الآخر اشترياه قبل الفرقة فهو بيننا فالقول قول
الامر مع يمينه) لأن الشراء حادث فيحال حدوثه إلى أقرب الا وفات * ومن ادعى فيه تاريخا
سابقا فعليه اثباته بالبينة وإن لم يكن له بينة فالقول قول من يجحد التاريخ مع يمينه ولان
سبب الملك في المشترى أظهر للآمر فان فعل وكيله كفعله بنفسه والآخر يدعى استحقاق
المشترى عليه وهو ينكر فالقول قوله مع يمينه وعلى الآخر البينة فان أقاما البينة فالبينة
بينة الآخر لان فيه اثبات التاريخ فاثبات الاستحقاق له والبينات للاثبات فتترجح بزيادة
الاثبات ولا تقبل فيه شهادة الوكيلين لأنهما خصمان في ذلك يشهدان على فعل أنفسهما فان قال
الشريكان لا ندري متى اشترياه فهو للامر أيضا لأنه إنما يحال بالشراء على أقرب الأوقات لما
يعلم فيه تاريخ سابق. وإذا قال الآمر اشترياه قبل الفرقة وقال الآخر اشترياه بعد الفرقة
فالقول قول الذي لم يأمر لانكاره التاريخ وانكاره وقوع الملك له ووجوب شئ من الثمن
عليه والبينة بينة الآمر وكذلك هذا في شركة العنان بعد الفرقة
باب خصومة المفاوضين فيما بينهما
قال (وإذا ادعى رجل على رجل انه شاركه شركة مفاوضة وجحد المدعى عليه والمال في يد الجاحد
فالقول قول الجاحد مع يمينه وعلى المدعى البينة) لأنه يدعى العقد واستحقاق نصف ما في يده
وذو اليد منكر فعلى المدعي البينة وعلى المنكر اليمين. وان أقام المدعى البينة فشهد الشهود انه
مفاوضة أو زادوا على هذا فقالوا المال الذي في يده من شركتهما أو قالوا هو بينهما نصفين فإنه
يقضي للمدعى بنصفه لان الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم. ولأنهما ان قالا المال الذي في
184

يده بينهما نصفان أو هو من شركتهما فقد صرحا بالشهادة للمدعى بملك نصف ما في يد ذي اليد
وان قالا هو مفاوضة فمقتضى المفاوضة هذا وهو أن يكونا مستويين في ملك المال
شريكين فيه فإذا قضى القاضي بذلك ثم ادعى ذو اليد عينا مما في يده انه ميراث له وأقام
البينة على ذلك لم تقبل بينته في قول أبى يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله إن كان
شهود المدعى شهدوا بأنه مفاوضة فبينة ذي اليد مقبولة وان شهدوا ان المال الذي في يده
من شركتهما أو هو بينهما فلا تقبل بينة ذي اليد بعد ذلك * واحتج في ذلك فقال القاضي
يقضي بما شهد به الشهود فإذا شهدوا بمطلق المفاوضة قضى القاضي بذلك أيضا ومطلق
المفاوضة لا ينفى احتمال كون بعض ما في يده ميراثا له. ألا ترى ان العقد لو كان ظاهرا
بينهما وورث أحدهما ما لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة كان ذلك له خاصة وتبقى
المفاوضة بينهما إلا أنا إنما نجعل جميع ما في يده بينهما نصفين لاعتبار مقتضى المفاوضة وهذا
ظاهر نعتبره والظاهر يسقط اعتباره إذا قام الدليل بخلافه فإذا أقام البينة على عين انه ميراث
له فقد ظهر الدليل المانع من اعتبار الظاهر في هذا العين فيجب العمل بذلك الدليل بخلاف
ما إذا شهدوا بالشركة فيما في يده لان القاضي قضي بالشركة بدليل موجب لذلك فإقامة
البينة بعد ذلك على عين انه ميراث يتضمن ابطال حكم الحاكم وبينة المقضى عليه على ابطال
القضاء لا تكون مقبولة والدليل على الفرق بين حالة الاطلاق والبيان ان شاهدين لو شهدا
بدار في يد رجل لإنسان وقضى القاضي بذلك ثم زعم المدعى ان البناء كان ملك المقضى عليه
فإنه لا يبطل قضاء القاضي بالأرض له ولو كان الشهود شهدوا له بالبناء والأرض مفسرا
ثم أقر المدعى ان البناء للمدعى عليه يكون ذلك إكذابا منه لشهوده ويبطل به قضاء القاضي
له والفرق ما بينا ان البناء تبع فاستحقاقه في الفصل الأول باعتبار الظاهر إلى استحقاقه
الأصل وعند التفسير والبيان استحقاقه البناء بالحجة فإذا أكذب شهوده في ذلك بطلت
شهادتهم له. وجه قول أبى يوسف رحمه الله ان ذا اليد صار مقضيا عليه بنصف ما في يده لصاحبه
وبينة المقضى عليه في اثبات الملك لا تقبل إلا أن يدعى تلقى الملك من جهة المقضى له كما لو
كانت الشهادة مفسرة وهذا لان الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لاحكامها والمفاوضة
سبب وحكمها الشركة في المال. ألا ترى ان دعوى المفاوضة لا تصح بدون دعوى الشركة
في المال فكذا في الشهادة عليها إنما تقبل باعتبار الحكم ولا فرق بين أن يصرح الشاهد بالحكم
185

وبين أن يذكر السبب في أن القاضي يقضى بالحكم والسبب جميعا بالشهادة كما لو شهدوا
بالشراء أو بالشراء والملك جميعا للمشترى ثم عند التفسير لم تقبل بينة ذي اليد يعتبرون به
مقضيا عليه فكذلك عند الابهام. قال (فان ادعى ذو اليد عينا في يده انه له خاصة وهبه
شريكه منه حصته فيه وأقام البينة على الهبة والقبض قبل ذلك منه) ومحمد رحمه الله يستدل
بهذا على أبي يوسف رحمه الله ولا حجة له فيه على أبي يوسف رحمه الله لان هنا
بينته مقبولة سواء فسر شهود المدعى بشهادتهم أولم يفسروا ثم الفرق انه ليس في قبول هذه
البينة ابطال القضاء الأول في هذا العين بل فيها تقرير القضاء الأول لان القضاء الأول بالملك
للمدعى وإنما تصح الهبة باعتبار ملكه بخلاف الأول مع قبول البينة هناك ابطال القضاء
الأول فيما تناوله القضاء قال ألا ترى أنهم لو شهدا ان هذا العبد الذي في يده مشترك بينهما
وقضى القاضي بذلك ثم أقام ذو اليد البينة ان المدعى وهبه له أو تصدق به عليه قبلت بينته.
ولو أقام البينة انه ورثه عن أبيه وهو يملكه أو ان رجلا آخر وهبه منه لم تقبل بينته على
ذلك والفرق ما بينا فكذلك في المفاوضة وان ادعى انه شريكه شركة مفاوضة والمال في يد
المدعى عليه فأقر له بالمفاوضة وقضى عليه باقراره ثم ادعى عبدا مما كان في يده انه ميراث له
أو وهبه من فلان فأقام البينة على ذلك قبل ذلك وقضى له بالعبد وهو دليل لمحمد رحمه الله
أيضا من الوجه الذي قلنا إن الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم ولكن الفرق بينهما لأبي
يوسف رحمه الله من وجهين (أحدهما) ان ذا اليد هنا مقر بالمفاوضة مدع الميراث ولا منافاة
بينهما وقد أثبت دعواه بالبينة فوجب قبول بينته ألا ترى أنه لو لم يكن له بينة لم كان
يستحلف خصمه وفى الأول ذو اليد جاحد مدعى عليه وقد صار مقضيا عليه بحجة صاحبه
ألا ترى أنه لو ادعى الميراث ولم يكن له بينه لم يكن له أن يستحلف خصمه فعرفنا بهذا انه
منكر والمنكر لا يكون مدعيا فلهذا لم تقبل بينته (والثاني) ان الاقرار موجب الحق بنفسه
بدون القضاء وإنما يقضى القاضي بالاقرار فقط ولهذا قلنا إن استحقاق الملك بالاقرار لا يظهر
في حق الزوائد المنفصلة فأما البينة لا توجب الا بقضاء القاضي وإنما يقضى القاضي بما هو
المقصود وهو كون المال مشتركا بينهما فلهذا لا يقبل بينة ذي اليد بعد ذلك * وكذلك
لو كان المال في يديهما جميعا وهما مقران بالمفاوضة فادعى أحدهما شيئا من ذلك أنه له ميراث
وأقام البينة قبلت بينته لأنه مدع أثبت دعواه بالحجة وإن لم يكن له بينة استحلف صاحبه
186

لأنه منكرها لو أقر به يلزمه ولا اشكال في هذا الفصل انه لو ادعى تملك نصيب صاحبه
عليه بالهبة وأقام البينة على ذلك أن بينته تكون مقبولة (وان ادعي رجل قبل رجل شركا في
عبد له خاصة وجحد ذو اليد وأقام المدعى البينة ان العبد بينهما نصفان فإنه يقضى له بنصفه)
لأنه نور دعواه بالحجة ولا تقبل من ذي اليد البينة انه ادعى ميراثا فيه لأنه مقضى عليه بالملك
في نصفه ولا بينة له إلا أن يدعى تلقى الملك من جهة المقضى له. قال (وإذا مات أحد المتفاوضين
والمال في يد الباقي منهما فادعى ورثة الميت المفاوضة وجحد ذلك الحي فأقاموا البينة ان أباهم
كان شريكه شركة مفاوضة لم يقض لهم بشئ مما في يد الحي) لأنهم شهدوا بعقد قد علمنا
ارتفاعه بان المفاوضة تنتقض بموت أحدهما ولأنه لا حكم لما شهدوا به في المال الذي في
يده في الحال لان المفاوضة فيما مضى لا توجب أن يكون ما في يده في الحال من شركتهما
إلا أن يقيموا البينة انه كان في يده في حياة الميت وانه من شركة ما بينها فحينئذ يقضى لهم
بنصفه لأنهم أثبتوا الاستحقاق بالحجة أما إذا شهدوا انه كان من شركتهما فقد شهدوا
بالنصف للميت وورثته خلفاؤه فيه بعد موته وان شهدوا انه كان في يده في حياة الميت
فاليد الثابتة له في حال قيام الشركة كاليد الثابتة بالمعاينة أو باقرار الخصم وذلك موجب ملك
الميت في نصفه وورثته في ذلك يخلفونه (فان أقام الحي البينة انه ميراث له من قبل أبيه لم
تقبل بينته) لان الشهود قد فسروا وقضى القاضي عليه بالنصف للورثة بشهادتهم قالوا وهذا
إذا شهدوا انه من شركة ما بينهما فاما إذا شهدوا انه كان في يده في حياة الميت فينبغي أن
تكون المسألة على الخلاف كما في حال الحياة ولو كان المال في يد الورثة وجحدوا الشركة
فأقام الحي البينة على شركة المفاوضة وأقام الورثة البينة ان أباهم مات وترك هذا ميراثا
من غير شركة بينهما لم أقبل منهم البينة علي ذلك) لأنهم جاحدون للشركة وإنما يقيمون
البينة على النفي وقد أثبت المدعى الشركة فيما في أيديهم بالبينة فيقضى له بنصفه وهذا لأنهم
حين زعموا ان أباهم مات وترك ميراثا فقد أقروا أنه كان في يد أبيهم حال قيام الشركة
وهذا الفصل أيضا حمله بعضهم على الخلاف والأصح في الفصلين انه قولهم جميعا لان بعد
الموت قبلت البينة للحكم لا للسبب فالسبب قد انتقض بالموت ولهذا يسوي بين ما إذا
فسر الشهود أنه من شركتهما أو لم يفسروا ذلك بخلاف حال الحياة (ولو قال ورثة الميت
مات جدنا وترك ميراثا لا بينا وأقاموا البينة على هذا لم يقبل) في قول أبى يوسف
187

رحمه الله وقبلت في قول محمد رحمه الله بمنزلة ما لو كان المفاوض حيا وأقام البينة على ذلك
بعد ما شهد الشهود عليه بالمفاوضة المطلقة فإن كان شهود الحي شهدوا على شئ بعينه انه
من شركتهما لم تقبل بينة الورثة في ذلك كما لا تقبل البينة فيه من المورث لو كان حيا. قال
(وإذا افترق المتفاوضان ثم ادعى أحدهما ان صاحبه كان شريكه بالثلث وادعى صاحبه
النصف وكلاهما مقر بالمفاوضة فجميع المال من العقار وغيره بينهما نصفان) لان موجب
المفاوضة المساواة في ملك المال فاتفاقهما على المفاوضة يكون اتفاقا على حكمها وهو ان
المال بينهما نصفان ثم مدعى التفاوت يكون راجعا بعد الاقرار ومناقضا في كلامه ولان
مطلق الاقرار بالعقد يتناول الصحيح من العقد ولا تصح المفاوضة الا بعد التساوي بينهما
في المال الا ما كان من ثياب كسوة أو متاع بيت أو رزق العيال أو خادم يطؤها فانى
أجعل ذلك لمن يكون في يديه ولا اجعله في الشركة استحسانا. وفي القياس يدخل
هذا في الشركة لأنه مال في يد أحدهما وهو حاصل بالتصرف وكل واحد منهما في
التصرف قائم مقام صاحبه. ووجه الاستحسان ان هذه الشياء مستثناة من عقد الشركة
لعلمنا بوقوع الحاجة لكل واحد من المتفاوضين إليها مدة المفاوضة ولهذا لو عايناه
اشترى ذلك جعلناه مشتريا لنفسه فإذا صار مستثنى لم يتناوله مطلق المفاوضة فينفي ظاهر
الدعوى والانكار ويجعل القول قول ذي اليد لانكاره وكذلك الخادم يطؤها لان فعله
محمول على ما يحل شرعا ولا يحل له الاقدام على وطئها الا إذا كان مختصا بملكها. أرأيت لو
كانت مدبرة أو أم ولد أما كان القول فيها قول ذي اليد وكذلك الأمة ولذلك لو لم يفترقا
ولكن مات أحدهما ثم اختلفوا في مقدار الشركة فهو على النصف لأنا علمنا بوجود المال
في يد أحدهما في حال قيام المفاوضة وتأثير موت أحدهما في نقض العقد فهو وافتراقهما
سواء (ولو كانا حيين والمال في يد أحدهما وهو منكر للشركة وأقام الآخر البينة انه شريكه
شركة مفاوضة له الثلثان وللذي في يده الثلث فهذه الشهادة في القياس لا تقبل) لان اقراره
بالمفاوضة اقرار بالمناصفة في المال وذلك اكذاب منه لشهوده فيما شهدوا به من الثلث والثلثين
والمدعى إذا أكذب شاهده تبطل شهادته له. وفي الاستحسان شهادتهم على أصل المفاوضة
مقبولة والمال بينهما نصفان لأنه لا حاجة بهم إلى اتمام الشهادة إلى ما ذكروا من الثلث والثلثين
فتلغى تلك الشهادة فتبقى شهادتهم على أصل المفاوضة ولان من الناس من يقول مع التفاوت
188

في المال تصح المفاوضة فلعل الشهود ممن يعتمدون ذلك ففسروا بناء على اعتقادهم ولكن
القاضي يبنى ما ثبت عنده على اعتقاده لا على اعتقاد الشهود فتبين بهذا الفعل ضعف كلام
محمد رحمه الله في الفرق بين ما إذا فسر الشهود أو أبهموا فان تفسير هم لما لم يعتبر في قبول
شهادتهم على المفاوضة فكذلك لا يعتبر تفسيرهم في المنع من قبول بينة أحدهما على متاع
في يده انه ميراث بل المبهم والمفسر في ذلك سواء وكذلك لو كان المدعى ميتا وأقام وارثه
البينة على مثل ذلك لأنه خليفة مورثة قائم مقامه. قال (وإذا افترق المتفاوضان فأقام أحدهما
البينة أن المال كله كان في يد صاحبه وان قاضي كذا قد قضى بذلك عليه وقسموا المال وانه
قضى به بينهما نصفين وأقام الآخر البينة بمثل ذلك القاضي بعينه أو من غيره فإن كان
ذلك من قاض واحد وعلمنا التاريخ من القضائين أخذنا بالآخر وهو رجوع عن الأول)
لأنه عالم بقضاء نفسه فإنما يقضي ثانيا بخلاف ما قضى به أولا إذا تبين له الخطأ في القضاء الأول
فلهذا جعلنا الثاني نقضا للأول وهو كما لو تباينا بألف ثم تبايعا بمائة دينار يجعل الثاني نقضا للأول
وإن لم يعلم التاريخ بينهما أو كان القضاء من قاضيين لزم كل واحد منهما القضاء الذي لا نعده عليه
لان كل واحد منهما صحيح ظاهر وانه قضى بالحجة ممن له ولاية القضاء فلا يجوز ابطاله بالشك
إذ ليس أحدهما بالابطال أولى من الآخر (وإذا كان من قاضيين وكل واحد منهما لا يملك
نقض قضاء الآخر ولا يقصد ذلك أنما يقضى كل واحد منهما بما شهد عنده الشهود به ولا منافاة
بينهما) لجواز أن يكون في يد كل واحد منهما بعض مال الشركة فظن كل فريق ان ذلك جميع
مال الشركة فيحاسب كل واحد منهما صاحبه بما عليه ويترادان الفضل. قال (ولا يلزم المفاوض
ما على شريكه من مهر أو أرش جناية) لان كل واحد منهما ملتزم لما وجب لطريق التجارة
والنكاح ليس بتجارة فلمهر الواجب به لا يكون واجبا بسبب التجارة ولأنه بدل مما لا
يحتمل الشركة وكفالة كل واحد منهما عن صاحبه بدين هو بدل ما يحتمل الشركة حتى يكون
منفعة مباشرة بسبب الالتزام لهما وأرش الجناية واجب بطريق العدوان دون التجارة فهو
بدل مالا يحتمل الشركة بينهما والدليل علي الفرق ان اقرار المأذون بالمهر وأرش الجناية غير
صحيح في حق المولى بخلاف اقراره بديون التجارة. قال (ولا يشارك أحدهما صاحبه فيما يرث
من ميراث ولا جائزة يجيزها السلطان له أو هبة أو هدية) إلا عند ابن أبي ليلي رحمه الله فإنه يقول
مقتضي الشركة المساواة وقد بقيت الشركة بينهما فيثبت ما هو مقتضاها وهو بناء علي مذهبه
189

ان في الابتداء لو كان رأس مالهما علي التفاوت يجوز الشركة ويصير رأس المال بينهما نصفين
فكذلك في الانتهاء ولكنا نقول لابد للملك من سبب وسبب الإرث القرابة وذلك غير
موجود في حق الشريك ولا يمكن جعل الوراث مملكا نصفه من شريكه بعقد الشركة لان
تمام سبب الملك له بعد موت المورث والتمليك لا يسبق سببه لان كل واحد منهما يجعل
كالوكيل عن صاحبه فيما يحتمله ويجوز الميراث يدخل في ملك الوراث بغير صنعه فلا يجوز
أن يكون نائبا عن شريكه فيه وكذلك الصدقة فان مع إضافة موجب العقد إليه لا يمكن
جعله نائبا عن شريكة. قال (ولا يفسد ذلك المفاوضة إلا أن يكون دراهم أو دنانير وقد قبضه)
معناه لم يكن دينا وهذا بناء على ما بينا انه متى اختص أحدهما بملك مال يصلح أن يكون رأس
مال الشركة ينعدم به موجب المفاوضة فتبطل المفاوضة. قال (وكل وديعة كانت عند أحدهما
فهي عند هما جميعا) لأنهما بعقد المفاوضة صار الشخص واحدا فيما يلتزمه كل واحد منهما
بسبب هو من صنيع التجارة ويقول الوديعة من جملة ذلك فان مات المستودع قبل أن
يبين لزمهما جميعا لان المودع إذا مات مجهلا للوديعة يصير متملكا للوديعة فهذا ضمان
ما أوجب بتملك أحدهما ما يحتمل الشركة فيكون ملزما صاحبه (فان قيل) وجوب هذا الضمان
بعد الموت ولا مفاوضة بينهما بعد الموت (قلنا) لا كذلك ولكنه لما أشرف على الموت وقد عجز
عن البيان قد تحقق التجهيل وصار ذلك دينا عليه قبل موته. فان قال الحي ضاعت في يد الميت
قبل موته لم يصدق لأنه لا عقد بينهما بعد موت أحدهما وإنما يجعل قول أحدهما كقول صاحبه
بسبب العقد القائم بينهما ولان المودع بنفسه بعد ما صار ضامنا بالجحود ولو زعم أنه ان هلك
في يده لم يصدق فكذلك قول شريكه في ذلك لان قول المرء مقبول فيما هو أمين فيه لنفى
الضمان عنه فأما في اسقاط الضمان الواجب عليه غير مقبول وإن كان الحي هو المستودع
صدق لأنه ما صار متملكا ولا ضامنا للوديعة ما دام حيا بعد موت شريكه فإنه قادر على
ما التزمه فلهذا كان قوله مقبولا (فان قيل) أليس ان كل واحد منهما فيما يلزمهما مقبول
الوديعة مثل صاحبه (قلنا) نعم ولكن التمليك عند الموت باعتبار اليد لان الأيدي المجهولة
عند الموت تنقلب يد ملك والوديعة في يد المودع حقيقة لا في يد شريكه (وان قال أكلتها
قبل موت صاحبي لزمه الضمان خاصة ولم يصدق علي صاحبه) لان وجوب الضمان عليه
باقراره وعند الاقرار لا مفاوضة بينهما وهو في الانتهاء غير مصدق في حق صاحبه الا ان
190

يقيم البينة انه أنفقها في حياة الميت والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فيكون عليهما وهذا قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي يوسف هو عليه خاصة. وأصل المسألة إذا وجب على
أحدهما ضمان بغصب أو استهلاك ما فعند أبي يوسف رحمه الله هذا نظير أرش الجناية لأنه
واجب بسبب ليس بتجارة ولأنه بدل المستهلك والمستهلك لا يحتمل الشركة وهما قالا ضمان
الغصب الاستهلاك ضمان تجارة بدليل صحة اقرار المأذون به وكونه مؤاخذا به في الحال وهذا
لأنه وبدل مال محتمل للشركة وإنما يجب بأصل السبب وعند ذلك المحل قابل للملك ولهذا
ملك المغصوب والمستهلك بالضمان. قال (وإذا أودع أحد المتفاوضين من مالهما وديعة عند
رجل فادعى المستودع أنه قد ردها إليه أو إلي صاحبه فالقول قوله مع يمينه) لأنه مسلط على
الرد على كل واحد منهما أمين فيه فإنه كما يقوم أحدهما مقام صاحبه في الايداع فكذلك في
الاسترداد فلهذا كان القول قول المودع مع يمينه فان جحد الذي ادعي عليه ذلك لم يضمن لقوله
لشريكه شيئا لان قول المودع مقبول في براءة نفسه عن الضمان لا في وصول المال إلى من
أخبر بدفعه إليه ألا ترى ان المودع لو كان وصيا فادعى المودع الرد عليه لا يغرم الوصي
لليتيم شيئا وكذلك لو أمره أن يقضى بالوديعة دينه فقال قد فعلت وقال صاحب الدين ما
قضيت شيئا فالقول قول المودع في براءته ودين الطالب علي المودع بحاله ولكن يحلف الشريك
الذي ادعى المودع الرد إليه بالله ما قبضته لان شريكه يدعى عليه ضمان نصيبه بجحوده القبض
ولو أقر بذلك لزمه فإذا أنكر حلفه عليه (وكذلك) لو مات أحدهما ثم ادعى المستودع انه
كان دفعه إلى الميت منهما لأنه بقي أمينا بعد موته ألا ترى ان قوله في الرد مقبول في حق ورثة
المودع فكذلك في حق شريكه ثم يستحلف الورثة على العلم لان المورث لو كان حيا وأنكر
القبض استحلف لشريكه فكذلك بعد موته إلا أنه إذا كان حيا فإنما يستحلف علي فعل
نفسه والورثة يستحلفون على فعل المورث بالقبض فقد بينا ان الاستحلاف على فعل الغير
يكون على العلم فان ادعى انه دفعه إلى ورثة الميت فكذبوه وحلفوا انهم ما قبضوه فهو
ضامن لنصف حصة الحي من ذلك لان في نصيب الميت كان له حق الدفع إلي ورثته وقد
أخبر بأداء الأمانة في ذلك فأما نصيب الحي فليس له أن يدفعه إلى ورثة الميت لأنهم خلفاء
الميت في حقه خاصة ولان المفاوضة قد انقضت بالموت فهو في نصيب الحي مقر بوجوب
الضمان له على نفسه يدفعه إلى ورثة الميت ثم يكون ذلك النصف بين الحي وورثة الميت نصفين
(13 مبسوط حادي عشر)
191

لان المودع لم يصدق في وصول شئ من المال إلى ورثة الميت وإنما يصدق في براءته عن الضمان
فيجعل ذلك النصف كالناوي والمال المشترك ما ينوى منه ينوى على الشركة وما يبقى يبقى على
الشركة (ولو قال دفعت المال إلى الذي أو دعني بعد موت الذي يودعني وحلف على ذلك فهو
برئ من الضمان) لأنه يدعي أداء الأمانة في الكل فان للمودع حق الرد على من قبض منه
مالكا كان أو غير مالك فرده عليه بعد انتقاض المفاوضة بينهما كرده في حال قيام المفاوضة
ولا يصدق على إلزام الحي شيئا بعد أن يحلف ما قبضه فإن كان المودع ميتا فقال المستودع
قد دفعت المال إليكما جميعا إلى الحي نصفه والى ورثة الميت نصفه وجحدوا ذلك فالقول قول
المستودع مع يمينه وهو برئ لأنه يخبر عن أداء الأمانة بايصال نصيب كل واحد منهما اليه
فان أقر أحد الفريقين بقبض النصف شركه الفريق الآخر فيه لان باقراره يثبت وصول
النصف إليه وبدعوى المودع لم يثبت وصول النصف الآخر إلي صاحبه فيما يثبت القبض
فيه يكون مشتركا وما وراء ذلك يكون ناويا قال (وان كانا حيين وقال المستودع قد دفعت
المال إليهما فأقر أحدهما بذلك وجحده الآخر فالمستودع برئ ولا يمين عليه) لان تصديق
أحدهما وإياه في حال قيام المفاوضة كتصديقهما ولو صدقاه لم يكن عليه يمين وان افترقا ثم قال
المستودع دفعته إلى الذي أو دعني فهو برئ لان حق الرد على المودع باعتبار ان الوصول
إلى يده كان من جهته لا بقيام المفاوضة بينهما وان قال دفعته إلي الآخر وكذبه ذلك ضمن
نصف ذلك المال للذي أودعه لان بعد الفرقة ليس له حق دفع نصيب المودع إلى
شريكه وله حق دفع نصيب الشريك إليه فكان هو في نصيب الشريك مخبرا بأداء الأمانة
وفى نصيب المودع مقرا بالضمان على نفسه يدفعه إلي غيره ثم ما يقبضه المودع يكون بينهما
نصفين لان المودع غير مصدق في وصول نصيب الشريك إليه لما كذبه فجعل ذلك كالناوي
فكان ما بقي بينهما نصفين وان صدقه الشريك بذلك فالمودع بالخيار ان شاء ضمن شريكه
نصيبه لأنه قبضه ولا حق له فيه وان شاء ضمن المودع لأنه دفع نصيبه إلى شريك بعد
انتفاض المفاوضة بينهما والدافع بغير حق ضامن كالقابض قال (وعارية المفاوض وأكل
طعامه وقبول هديته في المطعوم وإجابة دعوته بغير أمر شريكه جائز لا بأس به) ولا ضمان
على الداعي ولا على الآكل استحسانا وفي القياس ليس له ذلك لأنه يتصرف في نصيب
شريكه بخلاف ما أمره به فإنه أمره بالتجارة والعارية والاهداء واتخاذ الدعوة ليس بتجارة
192

ولكنه استحسن فقال هذا من توابع التجارة وهما لا يجد التاجر منه بدا ألا ترى أن
العبد المأذن يدعو المجاهدين إلى طعامه ويهدى إليهم المطعوم ليجتمعوا عنده والمأذون غير
مالك لشئ من المال إنما هو تاجر والمفاوض تاجر مالك لنصف المال فلان يملك ذلك كان
أولى وذكر حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال أهديت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا عبد قبل أن أكاتب فقبل ذلك منى وحديث الأخرس بن حكيم عن أبيه رضي الله عنه
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة عبد وقال أبو سعيد مولي أبى أسيد
رضي الله عنه قال عرست وأنا عبد فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورضي الله عنهم فيهم أبو ذر رضي الله عنه وعنهم فأجابوني قال (ولو كسا المفاوض
رجلا ثوبا أو وهب له دابة أو وهب له الفضة والذهب والأمتعة والحبوب كلها لم يجز في
حصة شريكه) لأنه تبرع وإنما استحسن ذلك في الفاكهة واللحم والخبز وأشباه ذلك مما
يؤكل لأنه اهداء ذلك إلى المجاهدين من صنيع التجار فأما في سائر الأموال الهبة ليس من
صنيع التجار والمرجع في معرفة الفرق بينهما إلى العرف. قال (ولو أعار أحدهما دابة فركبها
المستعير ثم اختلفا في الموضع الذي ركبها إليه وقد عطبت الدابة فإنها صدقة في الإعارة إلى
ذلك الموضع وبرئ المستعير من ضمانها) لان اقرار أحدهما فيما هو مملوك لهما بحكم
المفاوضة كاقرارهما. قال (ولو استعار أحدهما دابة ليركبها إلى مكان معلوم فركبها شريكه
فعطبت فهما ضامنان) لان ركوب الدابة تتفاوت فيه الناس وصاحبها إنما رضى بركوب
المستعير دون غيره فالآخر في ركوبها غاصب ضامن إذا هلكت. وقد بينا أن ما يجب من
الضمان على أحدهما بحكم الغصب فالآخر مطالب به فإن كان ركبها في حاجتهما فالضمان
في مالهما لان منفعة ركوبه ترجع إليهما فيما يجب من الضمان بسببه يكون في مالهما لان
الغرم مقابل بالغنم * وان ركب في حاجة نفسه فهما ضامنان لما قلنا إلا أنهما ان أذناه من
مال الشريك رجع الشريك على الراكب بنصيبه من ذلك لان منفعة الركوب حصلت
للراكب فكان قرار الضمان عليه بمنزلة غصب اغتصبه أو طعام اشتراه فأكله وقد أدى
الثمن من شركتهما فبقي الثمن دينا عليه * قال (وإذا استعار أحدهما دابة ليحمل عليها طعاما
له خاصة لرزقه إلى مقام معلوم فحمل عليها شريكه مثل ذلك إلى ذلك المكان من شركتهما
أو لخاصتهما فلا ضمان عليه) من قبل أن التقييد الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا والضرر على
193

الدابة لا يختلف بحمل ما عين من الطعام أو مثله وفعل كل واحد منهما في الحمل كفعل صاحبه
ثم المستعير لو حمل عليها طعاما من شركتهما أو لغيرهما لم يضمن فكذلك شريكه. ألا ترى أن
رجلا لو استعار رجل دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فبعث بالدابة مع وكيل له ليحمل
عليها الطعام فحمل الوكيل طعاما لنفسه انه لا يضمنه فللمفاوضة أوجب من الوكالة. وكذلك
أحد المتفاوضين إذا استعارها ليحمل عليها عدل زطي فحمل عليها شريكه مثل ذلك العدل
لم يضمن * ولو حمل عليها طيالسة أو أكسية كان ضامنا لاختلاف الجنس وللتفاوت في الضرر
على الدابة. قال (ولو حمل المستعير عليها ذلك ضمنه فكذلك شريكه) إلا أنه إن كان ذلك
من تجارتهما فالضمان عليهما لحصول المنفعة لهما. وان كانت بضاعة عند الذي حمل فالضمان
عليهما لان الذي حمل عنه غاصب والآخر عنه كفيل ضامن ثم يرجع الشريك علي الذي
حمل بنصف ذلك إذا أديا من مال الشركة لأنه لا منفعة له في هذا الحمل فلا يكون عليه
من قرار الضمان شئ. ولو استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها شريكه
عشرة مخاتيم شعير من شركتهما لم يضمن لان هذا أخف على الدابة فلا يصير الحامل به
مخالفا في حق صاحب الدابة سواء كان المستعير هو الذي حمله أو شريكه. وكذلك لو
كانا شريكين شركة عنان فاستعارها أحدهما فالجواب في هذا كالجواب في الأول لان
وجوب الضمان باعتبار زيادة الضرر على الدابة في الحمل ولم يوجد ذلك وإن كان الأول
استعارها ليحمل عليها حنطة رزقا لأهله فحمل عليها شريكه شعيرا له خاصة كان ضامنا لأنه
مستعمل لها بغير إذن مالكها وبغير إذن شريكه المستعير فان المستعيرين عند الاستعارة انه
يستعيرها لمنفعة نفسه لان ما أعده رزقا لأهله يكون ملكا له خاصة وذلك بعدم رضاه
بانتفاع الشرك بها فلهذا كان ضامنا. قال (وإذا ادعى رجل أن أحد المتفاوضين باعه خادما
فجحد ذلك المتفاوضان فللمدعى أن يحلف المدعى عليه البيع على الثياب وشريكه على العلم)
لان كل واحد منهما لو أقر بما ادعاه المدعى كان اقراره ملزما إياهما فإذا أنكر يستحلف كل
واحد منهما لرجاء نكوله إلا أن المدعى عليه البيع يستحلف على فعل نفسه فيكون يمينه على
الثبات وصاحبه يستحلف على فعل الغير فيكون يمينا على العلم وأيهما نكل عن اليمين قضى
بالجارية للمشترى بالثمن الذي ادعاه لان نكوله كاقراره واقرار أحدهما ملزم إياهما وكذلك
لو ادعى تولية أو شركة أو إجارة أو تسليم دين أو تسليم دار بالشفعة لان فيما هو من عمل
194

التجارة فعل أحدهما كفعلهما واقرار أحدهما ملزم للآخر فيحلف كل واحد منهما بدعوى
المدعى فان ادعى شيئا من ذلك عليهما جميعا كان له أن يستحلف كل واحد منهما البتة لان كل
واحد منهما الآن يحلف على فعل نفسه فأيهما نكل عن اليمين أمضى الامر عليهما. وان ادعى على
ذلك أحدهما وهو غائب كان له أن يستحلف الحاضر على عمله فان حلف ثم قدم الغائب كان له
أن يستحلفه البتة كما لو كانا حاضرين وإن كان المفاوض هو الذي ادعى على رجل شيئا من
ذلك وحلفه عليه ثم أراد شريكه أن يحلفه أيضا لم يكن له ذلك والفرق من وجهين (أحدهما)
أن المفاوض المدعى يكون نائبا عن صاحبه بمنزلة الوكيل وبعدما استحلف بخصومة الوكيل
لا يستحلف بخصومة الموكل لان النيابة في الاستحلاف صحيح وإذا كانت الدعوى عليهما فلا
يمكن أن يجعل المفاوض المدعى عليه نائبا عن صاحبه في الحلف لان النيابة لا تجرى في اليمين
فلهذا كان للمدعى أن يحلف الآخر (والثاني) أن الاشتغال بالاستحلاف فيما إذا كان مقيدا
فأما إذا لم يكن مقيدا فلا يشتغل به وان كانت الدعوى من المتفاوضين فاستحلف المدعى
عليه بخصومة أحدهما فلا فائدة في استحلافه لخصومة الآخر لأنه بعد ما حلف في حادثة
لخصومة انسان لا يمتنع من اليمين في تلك الحادثة لخصومة الاخر فأما إذا كانت الدعوى
عليهما وحلف أحدهما كان استحلاف الآخر مفيدا لان أحدهما قد لا يبالي من اليمين والآخر
يمتنع من ذلك إذ الناس يتفاوتون في الجرأة على اليمين فلهذا كان للمدعي أن يستحلف
الآخر بعد ما حلف أحدهما لرجاء نكوله. قال (وان ادعى على أحد المتفاوضين جراحة
خطأ لها أرش واستحلفه البتة فحلف له ثم أراد أن يستحلف شريكه لم يكن له ذلك ولا
خصومة له مع شريكه) لان كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما لزمه بسبب التجارة فأما
ما يلزم بسبب الجناية لأن يكون الآخر كفيلا به. ألا ترى أنه لو ثبتت الجناية بالبينة أو
بمعاينة السبب لم يكن على الشريك شئ من موجبه ولا خصومة للمجني عليه معه فذلك
لا يحلفه عليه لان الاستحلاف لرجاء النكول واقراره بالجناية علي شريكه باطل وكذلك
المهر والجعل في الخلع والصلح من جناية العمد إذا ادعاه على أحدهما وحلفه عليه ليس له أن
يحلف الآخر لما بينا. قال (وان ادعى على أحد المتفاوضين مالا من كفالة وحوله عليه فله
أن يحلف شريكه عليه أيضا) في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما
الله ليس له ذلك. وأصل المسألة ان أحد المتفاوضين إذا كفل بمال فان ذلك يلزم شريكه في
195

قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يلزم شريكه *
وجه قولهما ان الكفالة تبرع بدليل أنه لا يصح ممن ليس من أهل التبرع كالمأذون
والمكاتب وانه إذا حصل من المريض كان معتبرا من ثلاثة وكل واحد منهما كفيل عن
صاحبه فيما يلزمه بالتجارة دون التبرع. ألا ترى أن الهبة والصدقة من أحدهما لا تصح في
حق شريكه فكذلك الكفالة. ولا بي حنيفة رحمه الله طريقان (أحدهما) أن الكفالة من
مقتضيات المفاوضة فان كل واحد من المتفاوضين يكون كفيلا عن صاحبه كما يكون
وكيلا عن صاحبه فيما يجب على أحدهما بالكفالة دين واجب بما هو من مقتضيات المفاوضة
فيكون ملزما شريكه كما لو توكل أحدهما عن انسان بشراء شئ كان شريكه مطالبا بثمنه
(والثاني) أن الكفالة تبرع في الابتداء ولكنها إذا صحت انقلبت مفاوضة. ألا ترى
أن الكفيل يرجع بما يؤدى علي المكفول عنه إذا كفل بأمره وقد صحت الكفالة هنا
والذي كفل صار مطالبا بالمال * ولما صحت الكفالة انقلبت مفاوضة وما يوجب على
أحدهما بمفاوضة مال بمال يطالب بها الشريك كالدين الواجب بالشراء بخلاف كفالة المديون
والمكاتب والمأذون والمريض فيما زاد على الثلث فان ذلك غير صحيح أصلا فلا يكون مفاوضة
وقد يجوز أن يكون تبرعا في الابتداء مفاوضة في الانتهاء كالهبة بشرط العوض فإنه تبرع
في الابتداء ثم إذا اتصل به القبض من الجانبين كان مفاوضة وإذا ثبت أن كفالة أحدهما
يلزم شريكه عند أبي حنيفة رضي الله عنه. قال (يحلف الشريك على دعوى الكفالة بالمال
لأنه لو أقر به لزمهما جميعا فإذا أنكر يستحلف عليه) لأنه مطالب بالمال لو ثبتت الكفالة
على شريكه بالبينة فيستحلف عليه إذا أنكر بخلاف المهر والأرش لأنه غير مطالب به وإذا
ثبت السبب على شريكه بالبينة فلا يستحلف عليه أيضا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لو
ثبتت الكفالة على شريكه بالبينة لم يكن هو مطالبا بالمال فلا يستحلف عليه أيضا * قال (وان
كانت الكفالة من أحدهما بالنفس لم يلزم شريكه ولا يستحلف على ذلك إذا أنكره
بالاتفاق لان الكفالة بالنفس ليست بمال ولا يتحقق فيه معنى المفاوضة بحال فحكمه مقتصر
علي من باشر سببه لان كفالة كل واحد منهما عن صاحبه بالمال الذي يحتمل الشركة
والكفالة بالنفس لا تحتمل الشركة. قال (ولا تجوز المفاوضة بين المسلم والذمي في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) وقال أبو يوسف رحمه الله يجوز ذلك وهي مكروهة.
196

ووجه قوله ان كل واحد منهما من أهل الوكالة والكفالة على الاطلاق فتصح المفاوضة
بينهما كالمسلمين والذميين وهذا لان مقتضي المفاوضة والكفالة والوكالة فإنما تشترط
أهلية كل واحد منهما في ذلك ثم كل واحد منهما مالك للتصرف بنفسه فكان كل واحد
منهما من أهل المفاوضة ألا ترى ان المفاوضة تصح بين الذميين والمسلمين فكذلك
تصح بين المسلم والذمي ولا معتبر بتفاوتهما في التصرف من حيث إن المسلم لا يتصرف في
الخمر والخنزير والذمي يتصرف في ذلك. وهذا لان الذمي الذي هو شريك المسلم مفاوضة
لا يتصرف عندي في الخمر والخنزير ثم لا معتبر بالمساواة في التصرف الا ترى أن المفاوضة
تصح بين الكتابي والمجوسي والمجوسي يتصرف في الموقوذة لأنه يعتقد فيها المالية والكتابي
لا يفعل وكذلك المفاوضة تصح بين حنفي المذهب وشافعي المذهب وإن كان الحنفي يتصرف
في المثلث النبيذ لأنه يعتقد فيه المالية وشافعي المذهب يتصرف في متروك التسمية عمدا
لأنه يعتقد فيها المالية. ثم هذا التفاوت لا يمنع صحة المفاوضة بينهما فكذلك المسلم والذمي
وهما يقولان مبنى المفاوضة علي المساواة ولا مساواة بين المسلم والذمي في التصرف ولا في
محل التصرف وهو المال فان المخمر والخنزير مال متقوم في حق أهل الذمة يجوز تصرفهم
فيها بيعا وشراء وسلما في الخمر وهي ليست بمال في حق المسلم فتنعدم المساواة بينهما وبدون
المساواة لا تكون الشركة مفاوضة. ألا ترى أن المفاوضة لا تصح بين الحر والعبد لانعدام
المساواة بينهما قال قوله بأنه لا يتصرف في الخمر والخنزير إذا كان مفاوضا للمسلم قلنا المعنى
الذي لأجله كان ينفذ تصرفه في الخمر والخنزير إذا كان مفاوضا للمسلم هو اعتقاد المالية
والتقوم فيه وذلك لا ينعدم بالمفاوضة مع المسلم فلا بد من القول بنفوذ التصرف عليه وهذا
بخلاف المفاوضة بين الكتابي والمجوسي لان من يجعل الموقوذة مالا متقوما في حقهم لا يفصل
بين الكتابي والمجوسي فيتحقق المساواة بينهما في التصرف (فان قيل) لا يتحقق المساواة
فان الكتابي يؤاجر نفسه للذبح والتضحية والمجوسي لا يؤاجر نفسه لذلك لان ذبيحته
لا تحل (قلنا) لا كذلك بل كل واحد منهما أن يتقبل ذلك العمل علي ان يقيمه بنفسه
أو بنائبة وإجارة المجوسي نفسه للذبح صحيح يستوجب به الاجر وان كأن لا تحل ذبيحته
فأما بين الحنفي والشافعي تتحقق المساواة لان الدلالة قامت على أن متروك التسمية عمدا
ليس بمال متقوم ولا يجوز التصرف فيه من الحنفي والشافعي جميعا لثبوت ولاية الالزام
197

بالمحاجة له والدليل فيتحقق المساواة بينهما في المال والتصرف وإنما كرهه أبو يوسف رحمه
الله لان في المفاوضة الوكالة ويكره للمسلم توكيل الذمي بالتصرف له. قال (ولا تجوز
المفاوضة بين الحر والعبد ولا بين العبدين ولا بين الحر والمكاتب ولا بين المكاتبين ولا بين
الصبيين وان أذن لهما أبوهما) لان مبنى المفاوضة على الكفالة فان كل واحد من المتفاوضين
يكون كفيلا عن صاحبه والعبد والمكاتب والصبي ليسوا من أهل الكفالة فلهذا لا يجوز
المفاوضة بينهما لان كل واحد منهما غير مالك للتصرف بنفسه فان العبد يحجر عليه مولاه
والصبي يحجر عليه وليه والمكاتب يعجز فيرد في الرق والمقصود من المفاوضة التصرف
والاسترباح فإذا لم يكن كل واحد منهما مالكا للتصرف بنفسه لا تجوز المفاوضة بينهما ثم
تكون الشركة بينهما عنانا في هذه المواضع لأنهما أهل الشركة وإنما فسدت المفاوضة خاصة
فيبقى العنان قد بينا ان العنان قد يكون عاما وقد يكون خاصا. قال (وان تفاوض الذميان
جاز ذلك وإن كان أحدهما نصرانيا والآخر مجوسيا) لان المساواة بينهما في الملك والتصرف
تتحقق وكل واحد منهما من أهل الوكالة والكفالة فصحت المفاوضة بينهما. قال (وان شارك
المسلم المرتد شركة عنان أو مفاوضة فهو موقوف عند أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه) ان قتل
على ردته أو لحق بدار الحرب بطل وان أسلم جاز لان من أصله ان التصرفات تتوقف بالردة
على أن ينفذ بالاسلام أو تبطل إذا قتل أو لحق بدار الحرب والشركة من جملة تصرفاته
فأما علي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله شركة العنان منه صحيحة لان من أصلهما أن
تصرف المرتد بعد ردته قبل لحاقه بدار الحرب نافذ فان قتل أو لحق بدار الرحب انقطعت
الشركة لان في القتل موتا ولحوقه بدار الحرب كموته والموت مبطل للشركة وأما المفاوضة
فعلى ما قال أبو حنيفة رحمه الله لا يرد به توقف أصل الشركة عندهما بل المراد توقف صحة
المفاوضة فأما أصل الشركة صحيح عندهما وإنما توقف صفة المفاوضة عند محمد رحمه الله لان
المرتد عنده في التصرفات كالمريض وكفالة المريض مرض الموت معتبرة من ثلثه فلا يكون
المرتد من أهل الكفالة المطلقة إلا أن يسلم فلهذا توقف صفة المفاوضة على اسلامه وعلى أصل
أبى يوسف الكفالة وان كانت تصح من المرتد لأنه بمنزلة الصحيح في التصرف الا ان
نفسه توقف بين أن تسلم له بالاسلام أو يتلف عليه إذا أصر على الردة فيكون في معنى المكاتب
من هذا الوجه والمكاتب ليس من أهل المفاوضة فلهذا توقف المفاوضة منه. قال (وان شارك
198

المسلم المرتدة شركة عنان أو شركة مفاوضة جازت شركة العنان ولم تجز شركة المفاوضة
إلا أن يسلم لان تصرف المرتدة نافذ فان المال باق على ملكها لان نفسها لم تتوقف بالردة
حتى لا تقبل فكذلك في مالها الا انها كافرة فهي كالذمية ومن أصل أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
ان المفاوضة لا تصح بين المسلمة والذمية وتصح شركة العنان وهي مكروهة فكذلك في
حق المرتدة قال (وينبغي في قياس قول أبى يوسف أن تكون المفاوضة جائزة مع الكراهة
لأنه يجوز المفاوضة بين المسلمة والذمية فكذلك بين المسلمة والمرتدة وذكر عيسى بن أبان
عن أبي يوسف رحمهما الله ان مفاوضتهما تتوقف كما تتوقف مفاوضة المرتد مع المسلم لأنها
وان كانت لا تقبل فإنها تسترق وإذا ألحقت بدار الحرب فنفسها موقوفة من هذا الوجه
فلهذا تتوقف مفاوضتهما. قال (ولأحد المتفاوضين أن يكاتب عبدا من تجارتهما) لان
المفاوضة في حق شريكه أعم تصرفا من الوصي في حق اليتيم وللوصي أن يكاتب فللمفاوض
ذلك بطريق الأولى وبيان هذا أن إقرار أحد المتفاوضين صحيح في حق شريكه وإقرار
الوصي بالدين على اليتيم غير صحيح ثم الكتابة من عقود الاكتساب وهو أنفع من
البيع لان البيع يزيل الملك بنفسه والكتابة لا تزيل الملك قبل الأداء وكل واحد من
المتفاوضين بمنزلة صاحبه في اكتساب المال وان كانت الكتابة من التاجر الذي لا يملك
شيئا من العبد وهو الأب والوصي صحيحة فصحتها من التاجر الذي يملك نصف العبد
وهو المفاوض أولى وإذا ثبت أن لأحدهما أن يكاتب فله أن يأذن لعبده في التجارة بطريق
الأولى فان كل واحد منهما فك الحجر والكتابة لازمة والاذن في التجارة ليس بلازم
ولهذا كان للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة وليس له أن يكاتب والاذن في التجارة من
صنيع التجارة ومما يقصد به تحصيل المال وكل واحد من المتفاوضين في ذلك يقوم مقام
صاحبه. قال (وليس لاحد المتفاوضين أن يعتق عبدا بمال أو بغير مال) لان ذلك تبرع
أما العتق بغير مال فلا اشكال فيه وكذلك العتق بمال لان ذلك يتعجل زوال الملك عن العبد
في الحال والمال في ذمة مفلسة لا يدرى أيقدر على الأداء أولا يقدر فلم يكن ذلك من عقود
الاكتساب فلهذا لا يملك المفاوض في نصيب صاحبه وكذلك لا يزوج عبدا من تركتهما
لأنه ليس في تزويج العبد تحصيل المال بل فيه تعييب رقبته من حيث الاشتغال بالمهر والنفقة
فلا يملك أحدهما في نصيب شريكه بدون اذنه وله أن يزوج الأمة لان تزويج الأمة من عقود
199

الاكتساب فإنه يكتسب به المهر وتسقط نفقتها عن نفسه ولهذا يملك الأب والوصي
تزويج أمة اليتيم ولا يملكان تزويج عبد اليتيم. قال (وليس لشريك العنان أن يكاتب لان
كل واحد منهما وكيل صاحبه في التجارة والكتابة ليس من التجارة) وما يكون
معتادا بين التجار والكتابة ليس من هذه الجملة وكذلك لا يملك أحدهما تزويج الأمة
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبى يوسف رحمه الله يملك ذلك وقد بينا هذا
في كتاب النكاح. قال (وإذا كان للمتفاوضين عبد تاجر فأدانه أحدهما دينا من تجارتهما
لم يلزمه من ذلك شئ) لان فعل أحدهما في الإدانة كفعلهما ولان مالية العبد من شركتهما
وما أداناه أو أحدهما فهو من شركتهما أيضا فلا فائدة في الايجاب في ذمته فلا يشتغل بما لا
يفيده شرعا (وكذلك في شركة العنان في البيع والشراء كل واحد منهما وكيل صاحبه في البيع
بالنقد والنسيئة) والإدانة بيع بالنسيئة ولا فائدة في ايجاب ذلك في ذمته متعلقا بماليته لان
ماليته من شركتهما أما إذا كانا شريكين في عبد لهما خاصة فاذن لهما في التجارة ثم أدانه كل
واحد منهما دينا فإنه يلزمه نصف دين كل واحد منهما في حصة الآخر لان كل واحد منهما
من حصة صاحبه كالأجنبي حتى لا يملك التصرف فيه فما أدانه كل واحد منهما نصفه في
ملكه والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا ونصفه في ملك شريكه وهو يستوجب الدين
فيه لكونه مقيدا فإنه في ذلك النصف كأجنبي آخر ويجعل كل نصف من العبد كعبد على
حدة (ومن أدان عبده وعبد غيره يثبت من دينه ما يخص عبد غيره دون ما يخص عبده)
قال (وإن كان العبد التاجر بين المتفاوضين فباعه أحدهما ثوبا من ميراث ورثه لزمه نصف
ذلك الدين في نصيب الآخر) لان ما أدانه ليس من شركتهما وفيما ليس من شركتهما كل
واحد منهما من صاحبه كالأجنبي. قال (ولو كان العبد ميراثا لأحدهما فأذن له الآخر في
البيع والشراء لم يجز) لان العبد ليس من شركتهما فاذن صاحبه له في التجارة كاذن أجنبي آخر
فان أذن له مولاه ثم أدانه الآخر دينا من ميراثه خاصة لزمه ذلك كمال لو أدانه أجنبي آخر
لان ما أدانه ليس من شركتهما وان أداناه من التجارة لزمه نصف ذلك لان فعل أحدهما
في الإدانة من مال التجارة كفعلهما فلا يجب عليه نصيب الاذن لأنه ملكه ولا يستوجب
المولى الدين علي عبده ويلزمه نصيب الآخر لأنه أجنبي عن ماليته. قال (وإذا استأجر
أحد المتفاوضين أجيرا في تجارتهما أو دابة أو شيئا من الأشياء فللمؤجر أن يأخذ بالأجر
200

أيهما شاء) لان الإجارة من عقود التجارة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بما يلزمه
بالتجارة وكذلك أن استأجر لحاجة نفسه أو استأجر إبلا لحج إلى مكة فحج عليها
فللمكرى أن يأخذ به أيها شاء ان شاء المستأجر بالتزامه بالعقد وان شاء شريكه بكفالته
عنه إلا أن شريكه إذا أدى ذلك من خالص ماله يرجع به عليه لأنه أدى ما كفل عنه
بأمره وان أدى من مال الشركة يرجع عليه بنصيبه من المؤدى وهو النصف. وأما في شركة
العنان فلا يؤاخذ به غير الذي استأجره لأنه هو الملتزم بالعقد وصاحبه ليس بكفيل عنه فان
شركة العنان لا تتضمن الكفالة (وان أدى العاقد من مال الشركة رجع شريكه بنصف ذلك
عليه إذا كان استأجره لخاصة نفسه وإن كان استأجره لتجارتهما وأدى الاجر من خالص
ماله رجع لي شريكه بنصفه) لأنه وكيل عن صاحبه في هذا الاستئجار وقد أدى الاجر من
مال نفسه ولو كانت الشركة بينهما في شئ خاص شركة ملك لم يرجع علي صاحبه بشئ مما
أدى لأنه ليس بوكيل عن صاحبه في هذا الاستئجار. قال (ولو أجر أحد المتفاوضين عبدا
من تجارتهما كان للآخر أن يأخذ الاجر) لان كل واحد منهما قائم مقام صاحبه فيما يجب
لهما بالتجارة وفعل أحدهما كفعل صاحبه وللمستأجر أن يأخذه بتسليم العبد لان التسليم
مضمون علي الآخر والاخر مطالب عنه بكفالته بما يلتزمه بالتجارة وان أجر أحدهما عبدا
له خاصة من الميراث لم يكن للآخر أن يأخذ الاجر لأنه بدل ما ليس من شركتهما ألا
ترى أنه لو باع هذا العبد لم يكن للآخر أن يأخذ الثمن وحكم المنفعة حكم العين ولم يكن
للمستأجر أن يأخذه بتسليم العبد لما بينا أن فيما ليس من شركتهما كل واحد من صاحبه
كالأجنبي ولا تفسد المفاوضة وإن كان الاجر دراهم أو دنانير حتى يقبضها لان أحدهما إنما
فضل صاحبه بملك دين والدين لا يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فإذا قبضها فسدت
المفاوضة لأنه اختص بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة وذلك بعدم المساواة
وكذلك كل شئ مما هوله خاصة باعه فليس لشريكه أن يطالب به ولا تفسد المفاوضة ما لم
يقبض الثمن فإذا قبض وكان من النقود فسدت المفاوضة لما قلنا. قال (ولأحد المتفاوضين
أن يشارك رجلا شركة عنان ببعض مال الشركة فيجوز عليه وعلي شريكه كان باذنه أو
بغير إذنه) وان شاركه شركة المفاوضة باذن شريكه فهو جائز عليهما كما لو فعلا ذلك وإن كان
بغير إذنه لم تكن مفاوضة وكانت شركة عنان وقد بينا اختلاف الرايات في هذا
201

الفصل ويستوى إن كان الذي شاركه أباه أو ابنه أو أجنبيا عنه لان حكم الشركة واحد
فلا يمكن التهمة فيه بسبب القرابة (وذكر) الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ان أحد
شريكي العنان إذا شارك انسانا آخر شركة المفاوضة فإن كان ذلك بمحضر من شريكه تصح
مفاوضته وتبطل به شركته مع الأول وإن كان بغير محضر من شريكه لم تصح مفاوضته
لان مباشرته المفاوضة مع الثاني نقص منه لشركة العنان مع الأول فان المساواة بينهما لا تتحقق
الا به ونقص أحد الشريكين الشركة بمحضر من صاحبه صحيح وبغير محضر منه باطل. قال
(وإذا أجر أحد المتفاوضين نفسه لحفظ شئ أو خياطة ثوب أو عمل معلوم بأجر واكتسب
بهذا الطريق فهو بينهما لأنه إنما يستوجب الاجر لتقبل ذلك العمل وهو صحيح منه في
حق صاحبه) فما يكتسب به يكون بينهما ويجعل فعل أحدهما فيه كفعلهما بخلاف ما إذا
أجر نفسه للخدمة لان البدل هناك يستوجبه بتسليم النفس ونفسه ليست من شركتهما
فهو بمنزلة ما لو أجر عبدا له ميراثا. وأما شريك العنان إذا اكتسب بتقبل العمل وليس
ذلك من شركتهما فإنه يكون له خاصة ولأنه وكيل صاحبه في التصرف في مال الشركة
وتقبل هذا العمل ليس بتصرف منه في مال الشركة وكان شريكه في ذلك كأجنبي آخر
قال (ولأحد المتفاوضين أن يرهن عبدا من مال المفاوضة بدين من مال المفاوضة وبدين
عليه خاصة من مهر أو غيره بغير إذن شريكه) لان المقصود من الرهن قضاء الدين فان
موجب الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن وله أن يوفي من مال الشركة هذا الدين وكذلك
يرهن به الا انه إذا هلك الرهن حتى صار المرتهن مستوفيا للدين فإن كان الدين من شركتهما
فلا ضمان عليه وإن كان الدين عليه خاصة يرجع شريكه عليه بنصف ذلك لأنه قضى دينا
عليه من مال مشترك وان كانت قيمة الرهن أكثر من الدين فلا ضمان عليه في الزيادة
لان الزيادة على قدر الدين أمانة في يد المرتهن فأن لاحد المتفاوضين أن يودع ولان الأب
لو رهن بدين الولد عينا قيمته أكثر من الدين لم يكن ضامنا للزيادة وكذلك المفاوض
وان رهن عبدا له خاصة بدين من المفاوضة وقيمته مثل الدين فهلك فهو بما فيه ويرجع
بنصفه على شريكه لأنه صار قاضيا دين المفاوضة بخالص ملكه وهو في نصيب
صاحبه وكيل عنه فيرجع عليه بما أدى من دينه من خالص ملكه. قال (وإن كان الدين
من تجارتهما على رجل فارتهن أحدهما به رهنا جاز) سواء كان هو الذي ولى المبايعة أو
202

صاحبه لان كل واحد منهما قائم مقام صاحبه في استيفاء الدين الواجب بالتجارة وكذلك
في الارتهان به وأما في شركة العنان فلا يجوز لأحدهما أن يرهن شيئا من الشركة بدين
عليه خاصة الا برضا صاحبه كما ليس له أن يوفى ذلك الدين من مال الشركة لان كل
واحد منهما وكيل صاحبه في التجارة في ذلك المال له في لا صرفه إلى حاجة نفسه قال (ولا
يجوز ان يرتهن رهنا بدين لهما من الشركة على رجل إلا أن يكون هو الذي ولي المبايعة
أو يأمر من وليها منهما) اعتبارا للارتهان بالاستيفاء وليس له حق المطالبة بالاستيفاء لما وليه
صاحبه الا باذنه فكذلك الارتهان وهذا لان الاستيفاء من حقوق العقد فيكون إلى
العاقد وكيلا كان أو مالكا. قال (ولا يجوز لأحدهما أن يرتهن رهنا بدين ولياه جميعا) لان
فيما وجب بعقد صاحبه هو لا يملك الاستيفاء فلا يصح ارتهانه به ولو جاز في نصيبه كان
مشاعا والشيوع يمنع صحة الرهن فان فعل وهلك الرهن وقيمته مثل الدين ذهب نصف
الدين وضمن نصف الرهن في ماله خاصة لان الفاسد من الرهن معتبر بالجائز في حكم
الضمان فكما أن المقبوض بحكم الرهن الجائز يكون مضمونا بقدر الدين فكذلك المقبوض
بحكم الرهن الفاسد (وطعن) عيسى رحمه الله في هذه المسألة وقال الصحيح ان يذهب
نصف الدين ولا يضمن شيئا آخر لأنه في نصيب صاحبه أجنبي وضمان الرهن ينبنى على
يد الاستيفاء فإذا لم تثبت له يد الاستيفاء في نصيب صاحبه لا يثبت الضمان في ذلك النصف
كمن ارتهن بدين لرجل على آخر أن يكون هو عدلا فيه أن أجازه صاحب الدين ضمنه وإن لم
يجزه فلا شئ عليه فهلك الرهن في يده قبل أن يجيزه صاحب الدين لم يضمن القابض
شيئا وما ذكره في الكتاب أصح لأنه قبض الرهن هنا على جهة استيفاء الدين فلا يكون
صاحبه راضيا بالتسليم إليه بدون هذه الجهة وفي مسألة العدل بشرط انه لم يخبر صاحبه فلا
شئ عليه وباعتبار هذا الشرط يتحقق رضا صاحب الرهن بقبضه لا على وجه الاستيفاء
فلهذا لا يضمن شيئا ثم يكون للآخر أن يطالب المديون بنصيبه من الدين لأنه لم يصر
نصيبه من الدين مستوفى بهلاك الرهن. قال (واقرار أحد المتفاوضين بالرهن والارتهان
جائز كما يصح اقراره بالايفاء والاستيفاء) لان كل واحد منهما قائم مقام صاحبه في ذلك
ومن ملك مباشرة الشئ بالاقرار به لانتفاء التهمة فان أقر بذلك بعد التصرف أو موت أحدهما لم
يجز اقراره على صاحبه لان الشركة قد انقطعت بينهما وقيامه مقام صاحبه في الاقرار كان بحكم
203

الشركة فلا يبقى بعد انقطاع الشركة بينهما. قال (ويجوز اقرار شريك العنان بالارتهان فيما
تولاه عليه وعلى شريكه) لان حق القبض إليه فيما تولى سببه فكما يجوز اقراره بالاستيفاء
في نصيبه ونصيب صاحبه فكذلك اقراره بالارتهان وفيما وليه صاحبه ولا يجوز اقراره
بالاستيفاء في نصيب صاحبه ويجوز في نصيبه استحسانا لان الموكل إذا اقبض الثمن بتسليم
المشترى إليه صح قبضه استحسانا وكذلك اقراره بالاستيفاء حقيقة أو بالارتهان يكون
صحيحا في نصيبه دون نصيب صاحبه. قال (وما غصبه المفاوض أو استهلكه أو عقد دابة أو
احرق ثوبا فلصاحبه أن يضمن أيهما شاء) وقد بينا هذا إلا أن حاصل الضمان يكون على
الفاعل خاصة حتى لو أدى الآخر من مال الشركة رجع عليه بنصفه إلا أن هذا الفعل لم يكن
هو فيه قائما مقام شريكه ولا مأذونا له من جهته فيه فان الغصب ليس بتجارة وبثبوت الملك
في المغصوب بتحقق شرط تقرر الضمان فأما الواجب ضمان الفعل فيكون علي الفاعل خاصة
وإذا أدى غيره عنه بحكم الكفالة رجع عليه بخلاف الشراء الفاسد فان الضمان الواجب به
ضمان العقد والفاسد من العقد معتبر بالجائز فكما أن ما يجب بالصحيح من التجارة يكون
عليهما وإذا أداه أحدهما من مال الشركة لم يرجع به على صاحبه فكذلك ما يجب بالشراء
الفاسد. قال (ولو كان عند أحدهما وديعة فعمل بها أو كانت مضاربة فخالف فيها كان الربح
لهما) لان حصول الربح بطريق التجارة وفعل أحدهما فيه كفعلهما ولصاحبه أن يضمن أيهما
شاء لمعنى الكفالة بينهما كما في ضمان الغصب والاستهلاك. قال (وإذا غصب شريك العنان
شيئا أو استهلكه لم يؤخذ به صاحبه) لان على صاحبه ليس بكفيل عنه وان اشترى شيئا
شراء فاسدا فهلك عنده ضمنه ورجع على صاحبه بنصفه لأنه وكيل صاحبه بالشراء وما
يجب على الوكيل بالشراء الفاسد والصحيح يستوجب الرجوع به على صاحبه لأنه عامل له
بأمره فان مطلق التوكيل يتناول الجائز والفاسد من التصرف. قال (ولو كفل أحد المتفاوضين
عن رجل بمهر أو بأرش جناية فهو بمنزلة كفالته بدين آخر لا يؤاخذ به شريكه) في قول أبى
يوسف ومحمد رحمهما الله وفى قول أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه يؤاخذ به لان الواجب علي
المفاوض بسبب الكفالة لا بسبب النكاح والجناية والأرش والمهر في حقهما كسائر الديون
بخلاف المهر والأرش الواجب على أحد المتفاوضين فان وجوب ذلك بسبب النكاح
والجناية والشريك غير متحمل فيه ما يجب لهذا السبب ولهذا لا يؤاخذ واحد من المتفاوضين
204

بنفقة امرأة شريكه ولا متعتها ولا بنفقة يفرضها الحاكم عليه لذوي أرحامه لان وجوب
ذلك بسبب لا يحتمل الشركة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يجب باعتبار سبب
يحتمل الشركة. قال (وان أقر أحد المتفاوضين بدين عليه لامرأته غير المهر من شراء أو
قرض لم يلزم شريكه منه شئ) في قول أبي حنيفة رحمه الله ويلزم المفاوض المقر خاصة وكذلك
اقراره لكل من لا تجوز شهادته له من آبائه وأولاده وعبيده ومكاتبيه في قول أبي حنيفة
رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما اقراره لهؤلاء جائز عليهما ما خلا عبده
ومكاتبه وأصل المسألة في الوكيل بالبيع أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يبيع بمطلق الوكالة
من واحد من هؤلاء وعندهما يجوز بيعه من هؤلاء الا من عبده ومكاتبه فمن أصلهما ان
الاملاك بينهما متباينة فيكون لكل واحد منهما ولاية ايجاب الحق لصاحبه في ملك
الغير عند تسليط من له الحق كما في حق الأجانب ولا يكون منهما في ذلك باعتبار ما بينهما
من القرابة بخلاف العبد فكتبه ملك هؤلاء وللمولى حق الكسب في ملك المكاتب فلا
يكون متهما في حق نفسه فكذلك في حق مكاتبه وعبده وبخلاف الشهادة فان التسليط
ممن له الحق غير موجود هناك إذا ثبت هذا في التوكيل فكذلك في الاقرار أو كل واحد
من المتفاوضين يوجب الحق للمقر له في مال صاحبه بتسليطه فامرأته وأبوه في ذلك كأجنبي
آخر وأبو حنيفة رحمه الله يقول هو متهم في حق هؤلاء بدليل ان شهادته لهم لا تصح
موجبة للحكم والانسان إنما يملك الحق للغير في مال الغير عند تسليطه بصفة الأمانة فلا
يملك في حق هؤلاء لتمكن تهمة الميل إليهم كما في حق العبد والمكاتب ولكن هذه التهمة في
نفوذ اقرار المفاوض على شريكه لا في نفوذ اقراره على نفسه فلهذا لزم المال المقر خاصة. قال
(وكذلك لو أقر لامرأته وهي بائنة معتدة منه) وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
يجوز اقراره لها في حق شريكه وأصله في الشهادة فإنه إذا شهد للمباينة وهي تمتد منه قبلت
الشهادة في رواية الحسن رحمه الله لانقطاع السبب الممكن للتهمة وهو النكاح كما بعد انقضاء
العدة وفي ظاهر الرواية لا تقبل شهادته لها لأن العدة حق من حقوق النكاح فبقاؤها
كبقاء أصل النكاح ألا ترى ان في نكاح أختها وأربع سواها جعلت هذه العدة كالنكاح
(وكذلك) في استحقاق النفقة والسكنى ووقوع طلاقه عليها فكذلك في المنع من قبول
شهادته لها وفى امتناع صحة اقراره لها في حق الشريك. قال (ولو كان النكاح فاسدا وقد
205

دخل بها فان أقر لها بمهرها لم يلزم شريكه لان وجوب المهر بسبب لا يحتمل الشركة
فاسدا كان النكاح أو صحيحا) وان أقر لها بدين غير المهر لزمها جميعا لأن هذه العدة ليست
من حقوق النكاح ولكنها تجب لاشتغال الرحم بالماء ألا ترى أنها لا تستحق النفقة
والسكنى باعتبارها وانه لا يقع عليها اطلاقه (وكذلك) لو أعتق أم ولده ثم أقر لها بدين لزمهما
جميعا وان كانت في عدته لأن هذه العدة ليست من حقوق النكاح ألا ترى أنها لا تستحق
النفقة والسكنى باعتباره وكذلك لا تمنع من الخروج والسوق في هذه العدة بخلاف عدة
النكاح وانه لا يقع عليها طلاقه وللمولى أن يتزوج أربعا سواها في هذه العدة بخلاف عدة
النكاح فلهذا كانت كالأجنبية في حكم الشهادة والاقرار لها حتى يثبت المقر به في حقهما
ويجوز اقراره عليهما جميعا لام امرأته وولدها من غير اعتبار الاقرار بالشهادة. قال (ولا
يجوز اقرار المرأة المفاوضة بالدين لزوجها على شريكها كما لا يجوز شهاداتها له) ويجوز
اقرارها بالدين لأبوي زوجها وولده من غيرها عليها وعلى شريكها كما يجوز شهادتها. قال
(وإذا أعتق أحد المتفاوضين عبدا من شركتهما فالقول فيه كالقول في غير المفاوض)
لان العتق ليس مما تقتضيه المفاوضة وقد بينا حكم اعتاق أحد الشريكين العبد المشترك
في كتاب العتاق. قال (وإذا افترق المتفاوضان ثم قال أحدهما كنت كاتبت هذا العبد في
الشركة لم يصدق على ذلك) لان أقر علي صاحبه بما لا يملك انشاءه في الحال وصحة اقرار
المقر في حق الغير باعتبار ملكه للانشاء ولكن اقراره في نصيب نفسه صحيح فيكون
ذلك كانشاء مكاتبته وليس لشريكه أن يرده لدفع الضرر عن نفسه بعد ما يحلف على علمه
لأنه لو أقر بما أقر به على شريكه صار العبد كله مكاتبا فإذا أنكر يستحلف عليه ولكن
الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم فيحلف بالله ما يعلم أنه كاتب في المفاوضة
وكذلك أن أقر أنه أعتقه في الشركة معناه ان اقراره يصح في نصيب نفسه خاصة ولا
يشتغل باستحلاف الآخر هنا لأنه لو أنشأ العتق في حال بقاء الشركة لم ينفذ في نصيب شريكه
فكذلك إذا أقر به بعد الافتراق بخلاف الكتابة. قال (فان تفرقا وأشهد كل واحد منهما
على صاحبه بالبراءة من كل شركة ثم قال أحدهما قد كنت أعتقت هذا العبد في الشركة
وقد دخل نصف قيمته فيما ترتب إليك مرة فصدقه الآخر في عتقه وقال كنت اخترت
استسقاء العبد فالقول قول الذي لم يعتق) لان الخيار إليه في تعيين محل حقه فلا يملك المقر
206

ابطال هذا الحق عليه ولان مالية نصف العبد عرفناه حقا له والمقر يريد اسقاط حقه بما ذكر
فلا يقبل قوله الا بحجة وعلي المنكر اليمين فإذا حلف كان له أن يستسقى العبد في قول أبي حنيفة
رحمه الله ولا شئ له علي الشريك لإقراره انه باختيار الاستسقاء وذلك موجب
براءة المعتق عن الضمان بالبراءة. قال (فان قال قد كنت اخترت ضمانك فقد برئ من
الضمان بالبراءة) لان حقه تقرر في ذمته بزعمه وبرئ العبد من ذلك وقد صار مبرئا شريكه
بالاشهاد على البراءة من كل شركة وان قال ما كنت اخترت شيئا فأنا على خياري كان
القول قوله لان الخيار كان ثابتا له والاختيار حادث من قبله فإذا أنكره كان القول قوله
ولكن له أن يستسقى العبد وليس له أن يضمن الشريك لأجل البراءة فإنه لو تقرر ضمان
نصيبه في ذمته باختياره تضمينه سقط ذلك بالاشهاد على البراءة فقيل تقرر الضمان لان
يستفيد البراءة منه بالاشهاد على البراءة أولى وإذا سقط حقه في تضمينه تعين في استسقاء العبد
كما لو أعتقه برضاه وان أقام المقر البينة انه قد كان اختار ضمانه جعل الثابت بالبينة كالثابت
بالمعاينة فيبرأ هو من ذلك ولا شئ على العبد وان قال الشريك لم يعتقه الا بعد الفرقة كان
القول قوله أيضا لان الاعتاق حادث فيحال به على أقرب الأوقات ولا يصدق المقر في
الاسناد الا بحجة فان أقام المعتق البينة انه أعتقه في المفاوضة وضمن له نصف قيمته وأقام
الآخر البينة انه أعتقه بعد الفرقة واختار سقاية العبد فالبينة بينة المعتق وبرئ هو والعبد
من نصف قيمته لأنه أثبت بينته بسبق التاريخ في الاعتاق وأبقى ما لزمه من الضمان به
والتشريك ببينته يبغي ذلك والبينات للاثبات فيترجح يزيادة الاثبات. قال (ولو أقر أحدهما
انه كاتب عبدا على ألف درهم في الشركة وقبضها منه ومات العبد فقد دخل فيما برئت
إليك منه وقال (الآخر بل كاتبته بعد الفرقة فالقول قول الذي لم يكاتب) لان المكاتب
يدعى سبق التاريخ في عقده فلا يصدق الا بحجة والقول قول المنكر مع يمينه على علمه فإذا
حلف يأخذ نصف الألف من المقر لأنه أخذه من كسب العبد وقد كان مشتركا بينهما بعد
الفرقة وإن كان العبد مات وترك مالا كثيرا فقال المكاتب كاتبته بعد الفرقة وأنا وارثه
وقال الآخر كاتبته في المفاوضة ونحن وارثاه جميعا ولم يرد المكاتب شيئا بعد فالقول قول
الذي لم يكاتب لان ملكه في نصف المكاتب كان ظاهرا وذلك يوجب الملك له في نصف
الكسب فالشريك بما قال يدعى بملك ذلك عليه فعليه البينة وهو منكر ذلك فالقول قول
(14 مبسوط حادي عشر)
207

الذي لم يكاتب مع يمينه فإذا حلف كان مكاتبا بينهما وقد مات فيأخذ ان المكاتبة من تركته
والباقي ميراث قال لان ولاءه لهما. قال (ولو مات المتفاوضان واقتسم الورثة جميع ما تركا
ثم وجدوا مالا كثيرا فقال أحد الفريقين كان هذا في قسمنا لم يصدقوا على ذلك الا ببينة)
لأنهم تصادقوا على أن هذا المال كان مشتركا في الأصل فدعوى أحد الفريقين للاختصاص
به بعد ذلك لا يقبل في حق الآخر الا بحجة وعلى الفريق الآخر اليمين فإذا حلفوا كان بينهما
نصفين وإن كان في أيديهم صدقوا ان كانوا قد أشهدوا بالبراءة لان سبب اختصاصهم بما في
أيديهم قد ظهر وهو الاشهاد بالبراءة العامة وان كانوا لم يشهدوا بالبراءة فهو بينهم جميعا بعد
ما يحلف الآخرون ما دخل هذا في قسم هؤلاء لأنا عرفناه مشتركا في الأصل فإنما يستحق
ذو اليد باعتبار يده ما لم نعلم فيه حقا لغيره فأما إذا كان معلوما فلا يستحق باعتبار يده بل بالاشهاد
على البراءة وذلك غير موجود وهذا لان دعوى البعض فيما في يد الغير كدعوى الدين في ذمته
وبعد الاشهاد على البراءة المطلقة لا تسمع منه دعوى ما في ذمته مطلقا فكذلك لا تسمع منه
دعوى ما في يده بخلاف ما قبل الاشهاد على البراءة. قال (ولو كان في يد أحد الفريقين مال فقالوا
هذا لأبينا قبل المفاوضة لم يصدقوا على ذلك) لأنهم قائمون مقام مورثهم ولو ادعى المورث ذلك
في حياته لم يسمع ذلك منه وكان ما في يده بينه وبين صاحبه نصفين كما هو مقتضى المفاوضة
فكذلك دعوى الورثة بعده فإن كانوا قد أشهدوا بالبراءة مما كان في الشركة ثم أقروا بهذا
وللفريق الآخر نصفه لان الاقرار حجة في حق المقر وقد زعموا ان هذا ما لم يتناوله البراءة
لأنه لم يكن من الشركة وكان حكم هذا المال بعد الاشهاد على البراءة كما قبله وان كانت البراءة
مما كان في الشركة وغيره فلا حق لهم فيه لأنه دخل في البراءة بهذا اللفظ سواء كان من شركتهما
أو من غير شركتهما. قال (وكل ما اشترى أحد المتفاوضين من التجارة وغيرها فهو بينه وبين
شريكه) الا انى أستحسن في كسوته وكسوة عياله وقوتهم من الطعام والإدام أن يكون له خاصة
دون شريكه لان مقتضى المفاوضة المساواة وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في التصرف
وكان شراء أحدهما كشرائهما جميعا والقياس في الطعام والكسوة والإدام كذلك فان شراء ذلك
من عقود التجارة ولكنه استحسنه فقال هذا مستثنى من قضية المفاوضة لان كل واحد منهما
حين شارك صاحبه كان عالما بحاجته إلى ذلك في مدة المفاوضة ومعلوم ان واحد منهما لم
يقصد بالمفاوضة أن تكون نفقة ونفقة عياله على شريكه وقد كان يعلم أنه لا يتمكن من تحصيل
208

حاجته من ذلك الا بالشراء فصار كل واحد منهما مستثنيا هذا المقدار من تصرفه كما هو من
مقتضى المفاوضة والاستثناء المعلوم بدلالة الحال كالاستثناء بالشرط ولان سبب المفاوضة
إنما يجب المساواة شرعا فيما يتمكن كل واحد منهما من الوقاية وذلك فيما سوى الطعام
والكسوة والإدام فان اشترى أحدهما شيئا من ذلك كان له خاصة وللبائع أن يطالب بالثمن
أيهما شاء لان المشترى باشر سبب الالتزام والآخر كفل عنه ما لزمه بالشراء بسبب
الشركة فإذا أداه أحدهما من مال الشركة رجع المؤدى على المشترى بقدر صحته من
ذلك لان الثمن كان عليه خاصة وقد قضى من مال الشركة وان كانت الأشياء في يد أحدهما
فجحد المفاوضة فقد وقعت الفرقة لجحوده لان كل واحد منهما ينفرد بفسخ الشركة بمحضر
من صاحبه فجحوده يكون فسخا لأنه ينفى بالجحود عقد الشركة بينهما فيما مضي ومن
ضرورة ذلك بعينه في الحال وهو ضامن لنصف جميع ما في يده إذا قامت البينة على المفاوضة
لأنه كان أمينا في نصيب صاحبه فبالجحود يصير ضامنا كالمودع إذا جحد الوديعة وكذلك
لو جحد وارثه بعد موته لان نصيب الآخر في يد وارث الميت أمانة فبالجحود يصير
ضامنا فان ماتا وأوصى كل واحد منهما إلى رجل فوصى كل واحد منهما يطالب بما ولى
موصيه مبايعته لأنه قائم مقام الموصى وقد انقطعت الشركة بموتهما ولا يطالب بالدين الا من
هو قائم مقام الذي ولى المبايعة فإذا قبضه فلا ضمان عليه في ذلك ولا على الورثة بعد أن
يكونوا مقرين بالمفاوضة كما لو كان الموصى قبض بنفسه وهو مقر بالمفاوضة كأن أمينا في
نصيب صاحبه. قال (وإذا اشترى أحد المتفاوضين جارية لخاصة نفسه ليطأها فإن كان
اشتراها بغير أمر شريكه فهي بينهما) وليس له أن يطأها لان هذا الشراء ما صار مستثنى
من مقتضى الشركة وانه ما كان يعلم وقوع الحاجة إليه إلا عند الشركة فيقع علي مقتضي
الشركة وليس لاحد الشريكين وطئ الجارية المشتركة وان اشتراها باذن شريكه وللبائع أن
يأخذ بالثمن أيهما شاء ويحتسبان به فيما بينهما من حصة الذي اشتراها بمنزلة ما يشتريه من
الطعام والكسوة لنفسه وعياله (وذكر) في الجامع الصغير أن الجارية للمشترى بغير شئ
في قول أبي حنيفة رحمه الله وله أن يطأها وأيهما نقد الثمن لم يرجع علي صاحبه بشئ منه
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا أديا الثمن من مال الشركة فللشريك أن يرجع على
المشترى بحصته من الثمن * فتبين بما ذكر هناك ان الجواب المذكور في كتاب الشركة
209

قولهما، وجه قولهما انه اختص بملكها بالشراء فيلزمه ثمنها لان الثمن بمقابلة الملك فإذا أداه
من مال الشركة رجع شريكه عليه بحصته من ذلك كما في الطعام والكسوة وهذا لان
اعتبار اذن الشريك ليصير به هذا العقد مستثنى من مقتضي الشركة فإذا وجد التحق بالمستثنى
بدون اذنه وهو الطعام والكسوة وأبو حنيفة رحمه الله يقول صار مشتريا الجارية على الشركة
وقد نقد الثمن من مال الشركة فلا يرجع عليه شريكه بشئ منه كما لو اشتراها بغير أمر
شريكه وهذا لأنهما لا يملكان تغيير مقتضى الشركة مع بقائها. الا ترى أنهما لو شرطا التفاوت
بينهما في ملك المشتري لم يعتبر ذلك مع عقد الشركة ولكن تأثير اذن شريكه في تمليك
نصيبه من المشترى بعد الشركة فيكون واهبا لنصيبه من شريكه * ولو أنهما اشتريا جارية ثم
وهب أحدهما نصيبه من صاحبه كانت الجارية له خاصة يطأها والثمن عليهما فهذا مثله يقرره
ان أذن الشريك عليهما معتبر فيما لان يثبت بدون اذنه وشراء أحدهما صحيح بدون اذن شريكه
وكذلك الملك في المشترى يكون لهما والثمن عليهما بدون اذن الشريك فعرفنا ان اعتبار
اذنه في القرار المشترى بملك الجارية ولذلك طريقان إما بنفس الشراء وذلك غير ممكن
مع قيام الشركة بينهما واما بهبة أحدهما نصيبه من صاحبه وذلك ممكن فيجب تحصيل
مقصودهما بالطريق الممكن ويجعل هذا الطريق المتعين لتحصيل مقصودهما كتصريحهما
به بخلاف الطعام والكسوة لان ذلك مستثنى من مقتضى الشركة فكان الملك في المشترى
للمشترى خاصة بعقد الشراء فلهذا كان الثمن عليه خاصة. قال (فإن كان اشتراها بأمر صاحبه
فوطئها ثم استحقت للمستحق أن يأخذ بالعقد أيهما شاء) لأنه دين وجب على أحدهما بسبب
التجارة وهو الشراء فإنه لولا الشراء لكان الواجب عليه الحد بخلاف ما إذا تزوج امرأة
فوطئها ثم استحقت لان وجوب العقر عليه هناك باعتبار النكاح والنكاح ليس من التجارة
في شئ والدليل على الفرق ان العبد المأذون يؤاخذ بالعقر بسبب الشراء في الحال ولا
يؤاخذ بالعقر بسبب النكاح حتى يعتق. قال (وإذا باع أحدهما جارية من تجارتهما بنسيئة لم
يكن لواحد منهما أن يشتريها بأقل من ذلك قبل استيفاء الثمن) لان فعل أحدهما في البيع
كفعلهما ولان أحدهما بائع والآخر تبع له ومن باع أو بيع له لم يجز شراؤه بأقل من الثمن
الأول قبل العقد. وان وهب البائع الثمن للمشترى أو أبرأه منه جاز في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله ويضمن نصيب صاحبه لأنه في نصيب صاحبه وكيل بالبيع والوكيل بالبيع
210

إذا أبرأ المشترى عن الثمن أو وهبه له قبل القبض جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله وكان ضامنا مثله للموكل ولم يجز ابراؤه في قول أبى يوسف رحمه الله فكذلك هذا في
نصيب الشريك وهذا لان الهبة والابراء ليس مما تقتضيه المفاوضة * وإن كان الشريك هو
الذي وهب الثمن من المشترى جاز في نصفه لأنه مالك لنصيبه فيجوز اسقاط الثمن باعتبار
ملكه كالموكل إذا أبرأ المشترى فأما في نصيب البائع الشريك ليس بمالك ولا عاقد فلا
تصح هبته وان أقاله البيع جاز عليه وعلي الذي ولى البيع لان الإقالة من صنيع التجار فكان
من مقتضيات المفاوضة فان الإقالة كالبيع الجديد ولهذا تصح من الأب والوصي وكذلك
يصح من المفاوض والشريك شركة عنان. قال (ولو أسلم أحد المتفاوضين دراهم في طعام
جاز ذلك عليهما) لأنه شراء بنسيئة وهو من صنيع التجار ففعل أحد المتفاوضين كفعلهما
وكذلك لو تعين أحدهما عينة عينة وصورة العينة أن يشترى عينا بالنسيئة بأكثر من قيمته
ليبيعه بقيمته بالنقد فيحصل له المال وهذا من صنيع التجار بفعل أحد المتفاوضين فيه
كفعلهما وهذا بخلاف أحد شريكي العنان وقد بينا ان هناك إنما يملك كل واحد منهما الشراء
بالنسيئة إذا كان في يده من مال الشركة جنس ذلك الثمن فأما إذا لم يكن فشراؤه بالنسيئة
استدانة على المال وولاية الاستدانة لا تستفاد بشركة العنان وتستفاد بالمفاوضة. قال
(ولو قبل أحد المتفاوضين رأس مال أسلم إليه صاحبه في طعام كان جائزا على شريكه) لان
قبول السلم من صنيع التجار (فان قيل) كيف يصح هذا والتوكيل بقبول السلم لا يصح
وكل واحد منهما وكيل في حق صاحبه فإنما ينفذ من تصرفه على صاحبه ما ينفذ من الوكيل
على الموكل (قلنا) هذا في شركة العنان هكذا فأما المفاوضة فكل واحد منهما بمنزلة صاحبه
فيما هو من تجارة وقبول السلم من التجارة يوضحه ان قبول السلم تبع ما في ذمته والتزام
ضمان ما في الذمة بمال يأخذه فهو بمنزلة ما لو أجر نفسه بعمل من خياطة أو نحوها وقد بينا
ان ذلك ينفذ منه في حق شريكه المفاوض حتى يطالب به فكذلك قبول السلم. قال (وإذا
باع أحد المتفاوضين عبدا بنسيئة ثم مات لم يكن لصاحبه أن يخاصم فيه) لان الشركة انقطعت
بينهما بالموت فإنما تبقى ولاية المطالبة والخصومة بالعقد وذلك إلى العاقد أو إلي من قام مقامه
بعد موته من وصى أو وارث ولكن ان أعطاه المشترى نصف الثمن برئ منه لان نصف
الثمن ملكه إذا قبضه وصى الميت يلزمه دفعه إليه فإذا دفعه المشترى إليه بنفسه برئ
211

استحسانا كالمشترى من الوكيل إذا دفع الثمن إلي الموكل يبرأ استحسانا. قال (وإذا باع
أحدهما من صاحب ثوبا من الشركة ليقطعه جاز) لان هذا بيع مقيد فان الثوب قبل هذا
البيع من الشركة بينهما وبعد هذا البيع يختص المشترى بملكه فإنه لو اشتري ثوبا
لكسوته من أجنبي يختص بملكه وكذلك إذا اشتراه من صاحبه والشراء إذا كان مقيدا
كان صحيحا كالمولى إذا اشترى شيئا من كسب عبده المأذون المديون لنفسه أو رب المال
إذا اشترى شيئا من مال المضاربة من المضارب كان صحيحا. قال (وكذلك لو باعه جارية
ليطأها أو طعاما يجعله رزقا لأهله فلهذا البيع مفيد يجب به الثمن) ثم نصف الثمن له ونصفه
لشريكه كما لو باعه من أجنبي آخر. قال (وإذا اشترى شيئا من ذلك أحدهما من صاحبه
للتجارة كان باطلا) لان هذا العقد غير مقيد فان العين قبل هذا العقد من شركتهما وبعده
كذلك والعقد إذا لم يكن مقيدا كان باطلا لأن العقود الشرعية أسباب مشروعة للفائدة
فإذا خلت منها كانت لغوا واللغو لا يكون مشروعا * وان كأن لأحدهما عبد ميراث
فاشتراه الاخر للتجارة كان جائزا لأنه مفيد فإنه يدخل به في المفاوضة ما لم يكن فيها ولا يفسد
المفاوضة حتى يقبض الثمن لان اختصاصه قبل القبض بملك الدين فإذا قبض الثمن فقد اختص
بملك مال يصلح أن يكون رأس مال في الشركة فتبطل المفاوضة (وكذلك) ان كانت أمة
لأحدهما ميراثا اشتراها الآخر منه ليطأها. قال (وإذا ارتد أحد المتفاوضين ولحق بدار
الحرب انقطعت المفاوضة بينهما) لان القاضي لما قضى بلحاقه بدار الحرب حتى يقسم ماله
بين ورثته والمفاوضة تبطل بالموت حقيقة فكذلك إذا فقد موته حكما ولأنه صار حربيا ولا
عصمة بين الحربي في دار الحرب والمسلم في دار الاسلام ألا ترى ان ابتداء المفاوضة
بينهما لا يجوز وكذلك لا يبقى وان رجع مسلما قبل أن يقضى القاضي بلحاقه كان على
الشركة لان اللحاق بدار الحرب قبل أن يتصل به قضاء القاضي بمنزلة الغيبة فلا تقطع
الشركة ولأنه بمنزلة التوكيل لصاحبه والوكالة لا تبطل بردة الوكيل ولحاقه ما لم يقض
القاضي به وكذلك المفاوضة وشركة العنان فان حكم الحاكم بلحاقه بدار الحرب ثم رجع
مسلما فلا شركة بينهما لأنها قد انقطعت بتمويت القاضي إياه حين قضي بلحاقه وفي ردة
الوكيل والموكل اختلاف وكلام قد بيناه في كتاب الوكالة. قال (وإذا ارتد ولم يلتحق بدار
الحرب ثم أقر بدين ثم قتل على ردته لم يلزمه ذلك الدين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى)
212

لان الاقرار تصرف منه في حال ردته وكان موقوفا عنده ويبطل إذا قتل كسائر تصرفاته
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلزمه كما يلزم شريك العنان لان عندهما شركة
العنان تصح من المرتد فكذلك تبقى بعد ردته وأما المفاوضة فتوقف من المرتد عندهما إذا
باشره ابتداء وكذلك إذا ارتد بعد المفاوضة يتوقف من المرتد عندهما تلك الزيادة فإذا قتل
أو لحق بدار الحرب بطلت الزيادة وإنما بقيت شركة العنان بينهما إلى وقت موته. قال (وبيع
أحد شريكي العنان وشراؤه واقراره بالدين بجهة التجارة جائز على شريكه) وكذا إذا فعل
المرتد ذلك وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ان أقر المسلم منهما بدين لزمه ذلك في حقه
وتوقف أمر المرتد فان أسلم لزمه ما أقر به المسلم لبقاء الشركة بينهما وان مات أو قتل على
ردته لم يلزمه من ذلك شئ وكذلك ما أقر به المرتد الا ان أصله اقرار المرتد موقوف وإذا
قتل بطل كسائر تصرفاته وأصل اقرار المسلم صحيح في حقه وإنما يتوقف بثبوت حكمه
في حق المرتد على اسلامه فإذا قتل أو مات بطل ذلك ويبقى المسلم مطالبا به. قال (وإذا باع
أحد المتفاوضين متاعا ثم افترقا ولم يعلم المشترى بافتراقهما فلكل واحد منهما ان يقبض الثمن
كله) لان بيع أحدهما في حال قيام المفاوضة مثبت على حق قبض الثمن لصاحبه فلا يبطل
ذلك بافتراقهما ما لم يعلم به المشترى حتى إذا قضى الثمن أحدهما وهو لا يعلم بالفرقة برئ
لأنه بالعقد استحق براءة ذمته عند دفع الثمن إلى أحدهما فلا يبطل ذلك بافتراقهما ما لم يعلم
به وهذا لان المشترى بمنزلة الوكيل من جهة البائع في تسليم الثمن إلى شريكه فهما بالافتراق
قصدا عزله عن الوكالة وعزل الوكالة قصدا لا يثبت في حق من لم يعلم به حتى إذا علم بالفرقة
لم يكن له ان يدفع جميع المال الا إلى الذي ولى البيع لان حكم العزل يثبت في حقه لما علم
به إذ لا ضرر عليه في ذلك وهو بخلاف ما إذا مات البائع لان موت الموكل يوجب عزل
الوكيل حكما لتحول ملكه إلى وارثه ولا يتوقف بثبوت حكمه على العلم به ألا ترى أن
الوكيل ينعزل بموت موكله وإن لم يعلم به بخلاف ما إذا عزله قصدا. قال (وان وجد
المشترى به عيبا لم يكن له ان يخاصم الا الذي ولى البيع) لان الشركة قد انقطعت والخصومة
في العيب من حقوق العقد فإنما يتعلق بالعاقد خاصة ثم يرجع العاقد بنصف ذلك على شريكه
لأنه في النصف كان وكيلا فيرجع عليه بما يحلقه من العهدة فيه. قال (ولو كان رده على
شريكه بالعيب قبل الفرقة وحكم له عليه بالثمن أو بنقصان العيب عند تعذر الرد ثم افترقا كان
213

له ان يأخذ أيهما شاء) لان هذا دين لزم أحدهما في حال قيام الشركة فصار الاخر مطالبا
بحكم الكفالة فافتراقهما لا يبطل حق صاحب الدين عن مطالبة كل واحد منهما كسائر
الديون. قال (ولو استحق العبد بعد الفرقة وقد كان نقد الثمن قبلها كان له ان يأخذ بالثمن
أيهما شاء) لان البيع في المستحق كان موقوفا فيبطل من الأصل بابطال المستحق وتبين ان
رد الثمن كان واجبا عليهما قبل افتراقهما وكان للمشترى ان يطالب بالثمن أيهما شاء فأما بالرد
بالعيب بعد الفرقة لا يتبين بطلان البيع من الأصل ولكنه كان صحيحا إلى وقت الرد وإنما
وجب الثمن علي البائع حين رد عليه المبيع وإذا كان الرد بعد الفرقة فليس للمشترى ان
يطالب به الآخر. قال (رجل سلم ثوبا إلى خياط ليخيطه بنفسه وللخياط شريكه في الخياطة
مفاوضة فلصاحب الثوب ان يطالب بالعمل أيهما شاء ما بقيت المفاوضة بينهما) لان كل
واحد منهما بمنزلة صاحبه فيما لزمه ما بقيت الشركة بينهما (فان قيل) عمل الخياطة مستحق
على من باشر السبب والآخر بمنزلة صاحبه الكفيل عنه فإذا شرط على الخياط ان يخيط
بنفسه لم يجز كفالة الغير عنه فلا تطالب الكفيل به (قلنا) ما بقيت المفاوضة بينهما فهما
كشخص واحد وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه فميا تقتضيه المفاوضة لان المساواة التي
هي ركن المفاوضة لا تتحقق الا به فلا تظهر معنى الكفالة قبل الفرقة وإنما تظهر بعد الفرقة
فلا جرم إذا تفرقا أو مات الذي قبض الثوب لم يؤاخذ الآخر بالعمل لان الموجب للاتحاد
هو الشركة وقد انقطعت وإنما بقي معنى الكفالة فكان الشرط علي الخياط فلا يطالب
الأحسن بحكم الكفالة وإذا مات الذي قبل بطل هذه التقبل لفوات المعقود عليه وهذا
نظير ما لو دفع ثوبا إلى الخياط ليخيط بنفسه وأخذ منه كفيلا بالخياطة لم يجز ذلك وإن لم
يكن شرط عليه ان يخيط بنفسه جازت الكفالة لان الكفالة بمضمون بما تجرى النيابة في
ايفائه صحيح وبما لا تجرى النيابة في ايفائه باطل وإذا شرط علي الخياط العمل بنفسه هذا
لا تجرى النيابة في ايفائه وإذا لم يشترط ذلك عليه فهذا تجرى النيابة في ايفائه فتصح الكفالة
وبعد صحتها إذا مات الخياط برئ الكفيل لان الإجازة قد انقطعت بموت الخياط وبراءة
الأصيل توجب براءة الكفيل وكذلك هذا في كراء الإبل إذا مات الجمال برئ الكفيل
لان الإجازة قد انقطعت بموته. قال (وإذا كان بين رجلين كر حنطة وكر شعير ولم يأمر
أحدهما صاحبه ببيعه فاستعار أحدهما دابة ليحمل عليها حنطة فحمل عليها الآخر الشعير
214

بغير أمره كان ضامنا للدابة ولحصة صاحبه من الشعير لان الشركة بينهما شركة ملك وكل
واحد منهما في التصرف كالأجنبي من صاحبه فيكون غاصبا للدابة ولنصيب شريكه من
الشعير يحمله على الدابة فلهذا يضمن قيمة الدابة ونصيب صاحبه من الشعير إذا تلفت بحمله
وليس هذا كشريك العنان والمفاوض لان كل واحد منهما وكيل عن صاحبه في الحمل كما
أنه وكيل صاحبه في التجارة فلهذا لم يكن ضامنا. ثم ختم الباب في الأصل بما إذا اشترك
الرجلان شركة مفاوضه وليس لهما مال على أن يشتريا بوجوههما أو يعملا بأبدانهما وقد بينا
جواز المفاوضة في هذين النوعين من الشركة كالعنان الا ان في المفاوضة لا يجوز اشتراط
التفاوت بينهما وفى العنان لا يجوز ذلك في شركة الوجوه إلا أن يشترطا التفاوت في ملك المشتري
وفي التقبل يصح منهما اشتراط التفاوت وبعض العراقيين من مشايخنا رحمهم
الله يقول لا فرق وتأويل ذلك أنه ان اشترطا التفاوت في التقبل فاما مع اشتراط التساوي
في أصل التقبل لا يصح منهما اشتراط التفاوت في الربح ولكن هذا بعيد لأنه ذكر قبل
هذا و في النوادر أيضا أن الربح بينهما علي الشرط والوضيعة بينهما نصفان ولو كان التفاوت
بينهما في أصل التقبل لكانت الوضيعة على ذلك ولكن الفرق من وجهين (أحدهما)
ان في التقبل هما تابعان للعمل فقد يكون بينهما تفاوت في العمل فيصح منهما اشتراط
التفاوت في الربح فاما في شركة الوجوه هما متساويان بثمن في ذمتهما فمع التساوي في ملك المشتري
لا يصح منهما شرط التفاوت في الربح وتوضيح الفرق أن المنافع إنما تتقوم بالعقد
فمنفعة كل واحد منهما تتقوم بقدر ما شرط لنفسه من الربح بخلاف عين المشترى فإنه
يتقوم بنفسه فلا يصح من أحدهما اشتراط شئ من ربح مال صاحبه من غير رأس مال
ولا ضمان وإذا تقبل العمل أحدهما فإن كانا متفاوضين فلا اشكال ان الآخر مطالب بذلك
فاما إذا كانت الشركة بينهما مطلقة فقد ذكر في النوادر قياسا واستحسانا في هذا
الفصل في القياس لا يطالب الا من تقبل لان الشركة بينهما عنان وذلك لا يتضمن الكفالة
ألا ترى أنه لو أقر أحدهما بدين الانسان لا يطالب الاخر به فكذلك إذا تقبل العمل وفى
الاستحسان يكون الآخر مطالبا به لان هذا التقبل مقصود بالشركة ففيما هو المقصود يقوم
كل واحد منهما مقام صاحبه ويكونان فيه بمنزلة المتفاوضين وعلى هذا إذا عمل أحدهما كان
للآخر أن يطالب بالآخر استحسانا لأنه هو المقصود بعقد هما. وبيان كونه مقصودا أن
215

الشركة التي بينهما لا تنفك عن هذا بخلاف الاقرار في الدين وذكر الشارح عن أبي
يوسف رحمهما الله أن كل واحد منهما ضامن لما جنت يد أحدهما استحسانا أيضا وانه لو
ادعي عينا في يدهما على أحدهما أنه تقبل العمل فيه فأقر به نفذ اقراره في نصيب شريكه أيضا
استحسانا ومحمد رحمه الله في هذين الفصلين يأخذ بالقياس فيقول اقراره بالعين كاقراره بالدين
وما يتلف بجناية في يده بمنزلة غصبه واستهلاكه والشركة بينهما قد تنفك عن ذلك فلا
يطالب الشريك بشئ من ذلك وأبو يوسف رحمه الله أخذ بالاستحسان لان وجوب ضمان
ما جنت يده باعتبار العمل وما في العمل كالمتفاوضين فكذلك فيما يجب باعتباره له أو عليه
وكذلك الاقرار بالعين فان الشركة لا تنفك من ذلك لان من يسلم إلى أحدهما العمل فلا بد
له من أن يسلم إليه محل العمل وما يتقبله أحدهما يثبت عليه يدهما عند إقامة العمل فإذا لم يصح
اقراره في حق شريكه يحذر الناس من المعاملة مع كل واحد منهما فلهذا أخذنا بالاستحسان
والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب الشركة الفاسدة)
قال (وإذا اشترك الرجلان على أن يحتطبا الحطب يبيعانه فما باعاه فهو بينهما نصفان كانت
هذه الشركة فاسدة) لان صحة الشركة باعتبار الوكالة فلا تصح فيما لا تجوز الوكالة فيه
ولو وكل انسانا بأن يحتطب له لم يصح التوكيل وكان الحطب الذي لم يحتطب دون الموكل
فكذلك الشركة لان كل واحد منهما في المعنى يوكل صاحبه بمباشرة بعض ذلك العمل
له ولان الاحتطاب اكتساب والاكتساب في المحل المباح يوجب الملك للمكتسب وكل
واحد منهما يشترط لنفسه بعض كسب صاحبه من غير رأس مال ولا ضمان له فيه أو يصير
كل واحد منهما كالمفاوض مع صاحبه بنصف ما يكتسبه صاحبه وهذا مفاوضة في المجهول
فلا تكون صحيحة ولكل واحد منهما ما احتطب وثمنه إذا باع لان البدل يملك بملك الأصل
فان احتطب أحدهما وأعانه الآخر فله أجر مثله على الذي احتطب لأنه استوفى منافعه
بحكم عقد فاسد فيلزمه أجر مثله ولا يجاوز به نصف الثمن في قول أبى يوسف رحمه الله
وقال محمد رحمه الله له أجر مثله بالغا ما بلغ فأبو يوسف رحمه الله يقول قد رضى هذا بنصف
المسمي فيعتبر رضاه في اسقاط حقه في المطالبة بالزيادة على ذلك * ألا ترى أنه لو استأجر
216

حمالا ليحمل له حنطة إلى موضع كذا بقفيز منها فحملها كان له أجر مثله لا يجاوز به ما سمى
وهذا لان تقدم المنفعة باعتبار العقد والتسمية إذ المنافع لا تتقوم بنفسها بغير العقد وفيما زاد
علي المسمى لم توجد التسمية ومحمد رحمه الله تعالى يقول المسمى مجهول الجنس والقدر فإنه
لا يدرى أي نوع من الحطب يصيبان وهل يصيبان شيئا أم لا والرضا بالمجهول لا يصح
فإذا سقط اعتبار رضاه بقيت منافعه مستوفاة بعقد فاسد فله أجر مثله بالغا ما بلغ فإذا أصاب
شيئا أولى بخلاف حمل الحنطة فان القفيز منها معلوم فاعتبر رضاه بالمعلوم فلهذا لا يجاوز به
المسمى وعلي هذه الشركة في سائر المباحات نحو احتشاش الحشيش واجتناء الثمار من الجبال
والبرادى من الجوز والفسق وغيرهما فإذا عملا ذلك وخلطاه ثم باعا قسم الثمن على كيل ووزن
ما كان لكل واحد منهما إن كان كيليا أو وزنيا لان كل واحد منهما كان مالكا لما أصابه والثمن
في البيع إنما يقسم على ماله المعقود عليه ومالية المكيل والموزون تعرف بالكيل والوزن
فلهذا قسم الثمن بينهما على ذلك وإذا لم يكن كيليا أو وزنيا يقسم الثمن على قيمة ما كان لكل
واحد منهما لان معرفة المالية فيما لا يكال ولا يوزن بمعرفة القيمة وإذا لم يعرف مقدار
ما كان لكل واحد منهما صدق كل واحد منهما في النصف لأنهما استويا في الاكتساب وقد
كان المكتسب في أيديهما وكل واحد منهما في دعواه إلى النصف إنما يدعى ما كان في يده
والظاهر يشهد له في ذلك فيقبل قوله ولا يصدق في الزيادة على النصف الا ببينة لأنه يدعى
خلاف ما يشهد له الظاهر ولأنه يدعى شيئا كان في يد صاحبه ولا يستحق المرء ما في يد
غيره بدعواه الا ان يقيم البينة عليه وكذلك الشركة بنقل الطين وبيعه من أرض لا يملكانها
أو الجص أو الملح أو الكحل وما أشبه ذلك لان التوكيل في هذه الأشياء لا يجوز فإنها
على أصل الإباحة والناس فيها سواء فكذلك الشركة وكذلك أن اشتركا على أن ما يلبنان من طين
لا يملكه أحد أو يطبخانه آجرا أو يشركان على طلب الكنوز أو على الاصطياد فهذا كله ممالا
يصح التوكيل به لكون أصله مباحا غير مملوك فكذلك الشركة فيه. قال (وإن كان من طين
النورة مملوكا فاشتركا علي أن يشتريا منه ويطحناه فهو جائز) لأنه إن كان بينهما رأس مال
فهو شركة العنان وإن لم يكن فهو شركة الوجوه في هذا النوع وقد بينا جواز كل واحد
منهما وكذلك سهلة الزجاج إذا اشتركا على شئ يشتريانه من ذلك جاز وان اشتركا على شئ
لا يشتريانه بل هو مباح الأصل فهو فاسد لما قلنا وإذا اشتركا في الاصطياد فنصبا شبكة أو
217

أرسلا كلبا لهما فالصيد بينهما نصفان لاستوائهما في السبب الموجب للملك وهو الاصطياد
وإن كان الكلب لاحد هما فأرسلاه جميعا فالصيد لصاحب الكلب خاصة وإن كان لكل
واحد منهما كلب فأرسل كل واحد كلبه فان أصاب كل كلب صيدا على حدة كان ذلك
الصيد لصاحبه وان أصابا صيدا واحدا فهو بينهما نصفان وان أصاب أحدهما صيدا فأثخنه
ثم جاء الآخر فأعانه فهو لصاحب الكلب الأول فإن لم يكن الأول أثخنه حتى جاء الآخر
فأثخناه فهو بينهما نصفان لان الارسال إذا وجد من صاحب الكلب فقد تم السبب
الموجب للملك وهو الاصطياد والآخر معين له في ذلك. قال (وإذا أرسل كل واحد
منهما كلبه فان أصابا صيدا واحدا فقد استوى المالكان في سبب الاستحقاق وان أصابه
أحد الكلبين فأثخنه فقد تم أخذه) لأنه أخرجه بفعله من أن يكون صيدا وان أثخناه
جميعا فقد تقررت المساواة بينهما في السبب فكان بينهما نصفين. قال (وان اشتركا
ولأحدهما بغل وللآخر بعير على أن يؤاجرا ذلك فما رزقهما الله تعالى من شئ فهو بينهما
نصفان فهذا فاسد) لان كل واحد منهما في المعنى موكل لصاحبه بان يؤاجر دابته ليكون
نصف الاجر له وهذا التوكيل باطل فإنه لو قال أجر دابتك على أن يكون جميع الاجر لي
كان باطلا فكذلك إذا قال على أن يكون نصف الاجر لي وهذا لان بدل المنفعة يعتبر ببدل
العين وكذلك إذا قال بع دابتك على أن يكون نصف ثمنها لي كان باطلا فكذلك في
الإجارة وإذا ثبت أن التوكيل بهذه الصفة لا يصح فكذلك الشركة والمعنى في الكل
واحد وهو أن التوكيل إنما يعتبر فيما لا يملك الوكيل مباشرته قبل التوكيل والمالك يبيع دابته
ويؤاجرها قبل التوكيل وكذلك كل أحد يملك عند المباح قبل التوكيل فلهذا بطل التوكيل
في جميع ذلك ولان هذا في معنى الشركة بالعروض لان منفعة العين نظرا لغبن لأنه يتعين
في العقد وقد بينا أن الشركة في العروض لا تصح فان أجراهما جميعا بأجر معلوم في عمل
معلوم قسم الاجر بينهما على مثل أجر البغل وأجر البعير لان الاجر بدل المنفعة للدابتين
وأجر المثل في المنفعة كالقيمة في العين فكما لو باعا الدابتين قسم الثمن بينهما على قيمة كل واحد
منهما فكذلك إذا أجراهما. ولو تقبلا حمولة معلومة بأجر معلوم ولم يؤجر البغل والبعير
فالاجر بينهما نصفان لان استحقاق الاجر بتقبل العمل وقد استويا في ذلك وان اجر البعير
بعينه كان الاجر لصاحبه لأنه بدل منفعة دابته فإن كان الآخر أعانه على الحمولة والنقلان
218

كان له أجر مثله لا يجاوز به نصف الاجر الذي أجر في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى
وقال محمد رحمه الله تعالى عليه أجر مثله بالغا ما بلغ وهذه والمسألة الأولى سواء. قال
(وليست الشركة في إجارة الدواب بأعيانها مثل الشركة في عمل أيديهما بأدائهما) حتى
إذا اشترك قصاران لأحدهما أداة القصارين وللآخر بيت على أن يعملا بأداة هذا في بيت
هذا على أن الكسب بينهما نصفان كان جائزا لان استحقاق الاجر هناك باعتبار نقبل
العمل والعمل بالتقبل يصير مضمونا على كل واحد منهما والتوكيل في ذلك صحيح فكذلك
الشركة وهنا استحقاق الاجر بمقابلة منفعة الدالة فإذا كان كل واحد منهما مختصا بملك
منفعة دابته لم يجز للشركة بينهما فيهما. قال (ولو اشترك رجلان لأحدهما دابة وللآخر إكاف
وجواليق على أن يؤاجر الدابة علي أن الاجر بينهما نصفان فهذه شركة فاسدة) لأنها في
معنى الشركة بالعروض بطريق اعتبار المنفعة بالعين ولان التوكيل في مثله لا يصح فان أجر
الدابة كان الاجر لصاحبها ولا يقبل معه أجر مثله لان الاجر بمقابلة منفعة الدابة فان الحمل
علي الدابة هو المقصود فأما الاكاف والجواليق يتأتى الحمل بدونهما فلا يقابلهما شئ من
البدل فكان الاجر كله لصاحب الدابة وقد أعانه الآخر بنفسه وأدابه بحكم عقد فاسد
فله أجر مثله بالغا ما بلغ عند محمد رحمه الله تعالى ولا يجاوز به نصف أجر الدابة عند أبي
يوسف رحمه الله تعالى. قال (رجل دفع دابته إلى رجل يؤجرها علي ان ما أجرها به من
شئ فهو بينهما نصفان فهذه الشركة فاسدة) اعتبارا للعقد الوارد على المنفعة به بالعقد الوارد
على الدين ولو دفع الدابة إليه ليبيعها على أن الثمن بينهما نصفان كان فاسدا فكذلك الإجارة
والأجر كله لرب الدابة ولان المدفوع إليه وكيله في اجارتها وإجارة الوكيل كإجارة الموكل
وللذي أجرها أجر مثله لأنه ابتغى عن منافعها عوضا ولم ينل ذلك لفساد العقد فكان له
أجر مثله وكذلك السفينة والبيت بمنزلة الدابة في ذلك. قال (ولو دفع إليه دابة يبيع عليها
البر والطعام على أن الربح بينهما نصفان فهذه شركة فاسدة بمنزلة الشركة بالعروض) فان
رأس مال أحدهما عرض ورأس مال الآخر منفعة دابته فإذا فسدت شركته فالربح لصاحب
البر والطعام لأنه بدل ملكه فان الثمن بدل المعقود عليه لابد ما حمل عليه من المعقود عليه
ولصاحب الدبة أجر مثلها لأنه شرط لنفسه عوضا عن منفعة دابته ولم ينل ذلك العوض
فاستوجب أجر المثل على من استوفى منفعتها بحكم عقد فاسد وكذلك البيت والسفينة
219

في هذه كالدابة اعتبار المنفعة العين بالعين والله سبحانه وتعالى أعلم.
(كتاب الصيد)
قال (الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله إملاء: إعلم بان الاصطياد مباح في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله
تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وأدنى درجات صفة الامر الإباحة وقال الله تعالى أحل لكم
صيد البحر الآية والسنة قوله صلى الله عليه وسلم الصيد لمن أخذه فعلى هذا بيان ان
الاصطياد مباح مشروع لان الملك حكم مشروع فسببه يكون مشروعا وهو نوع اكتساب
وانتفاع بما هو مخلوق لذلك فكان مباحا ويستوى إن كان الصيد مأكول اللحم أو غير
مأكول اللحم لما في اصطياده من تحصيل المنفعة بجلده أو دفع أذاه عن الناس. والحيوانات
نوعان، نوع منها ما لا دم له فلا يحل تناول شئ منها الا السمك والجراد لان شرط يناول
الحيوانات الذكاة شرعا وذلك لا يتحقق له فيما لا دم له إلا أن السمك والجراد مستثنى بالنص
مما شرط فيه الذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك
والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال. وماله دم نوعان مستأنس ومستوحش فالذي
يحل تناوله من المستأنس بالاتفاق الانعام وهي الإبل والبقر والغنم والدجاج وذلك ثابت
بالكتاب قال الله تعالى والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون وقال تعالى جعل
لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون وفيما سواها من المتأنس نبينه في موضعه إن شاء الله
تعالى. والمستوحش نوعان منها صيد البحر لا يحل تناول شئ منها سوي السمك ومنها
صيد البحر ويحل تناولها الا ماله ناب أو مخلب لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل
ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ولمعنى الخبث فيهما فان من طبعهما الاختطاف
والانتهاب فلا بد من ظهور أثر ذلك في خلق المتناول للغذاء من الأثر في ذلك كما قال
صلى الله عليه وسلم لا ترضع لكم الحمقاء فان اللبن يعدى والمستخبث حرام بالنص لقوله
تعالى ويحرم عليهم الخبائث ولهذا حرم تناول الحشرات فإنها مستخبثة طبعا وإنما أبيح لنا
أكل الطيبات قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فقد أكرم
المؤمنين بهذا الخطاب حيث خاطبهم بما خاطب به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم حيث
220

قال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات الآية ثم شرط حل التناول منها فيما يحل منها بالذكاة
قال الله تعالى الا ما ذكيتم وزعم بعض العراقيين من مشايخنا رحمهم الله أن الذبح والتذكية
محظور بالعقل لما فيها من إيلام الحيوان وهذا عندي باطل فقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يتناول من اللحم قبل مبعثه ولا يظن أنه كان يتناول ذبائح المشركين لأنهم كانوا
يذبحون باسم الأصنام فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه وما كان يفعل ما هو محظور عقلا
كالظلم والكذب والسفه فإنه لا يجوز أن يظن به أنه فعل ذلك قط. ثم في الذبح والاصطياد
تحصيل منفعة الغذاء لمن هو المقصود من الحيوانات وهو الآدمي فيكون ذلك سببا مباحا
إليه وأشار الله تعالى في قوله هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا والايلام لهذا المقصود
فلا يكون محظورا عقلا كالفصد والحجامة مندوب وشرب الأدوية الكريهة في وقتها.
والذكاة لغة التوقد والتلهب الذي يحدث في الحيوان بحدة لأدلة سميت الشمس ذكاء لشدة
الحرارة وسمى الرجل الذي في خاطره حدة ذكيا فبهذا يتبين ان اشتراط الذكاة لتطييب
اللحم به فإنه نوع نضج ولهذا كان المذكى أطيب لحما من الميتة وأبعد من النسيس والفساد
. وقيل الذكاة عبارة عن تسييل الدم الفاسد النجس فان المحرم في الحيوان الدم المسفوح قال
الله تعالى في جملة المحرمات أو دما مسفوحا فكانت الذكاة إزالة للخبث وتطييبا بتمييز
الطاهر من النجس وهو نوعان الذبح في المذبح عند القدرة عليه قال صلى الله عليه وسلم الذكاة
ما بين اللبة واللحيين وبالجرح في أي موضع أصابه عند تعذر الذبح في المذبح ثم يحصل بعض
ذلك بالجرح والتكليف بحسب الوسع ففي كل موضع يكون الذبح في المذبح مقدورا له
لا يثبت الحل الا به وفى كل موضع تعذر يقوم الجرح مقامه. ثم حل التناول بالاصطياد
مختص بشرائط (أحدها) أن يكون ما يصطاد به معلما (والثاني) أن يكونا جارحا قال الله
تعالى (ومما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) وفى معنى الجوارح قولان
(أحدهما) أن يكون جارحا حقيقة بنابه ومخلبه (والثاني) الكواسب قال الله تعالى ويعلم
ما جرحتم بالنهار أي كسبتم ويمكن حمله عليها فنقول الشرط أن يكون من الكواسب التي
تخرج (والثالث) الارسال ثبت ذلك في السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن
حاتم وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وان شارك كلبك كلب آخر
فلا تأكل. فلما حرم التناول عند عدم الارسال في أحد الكلبين دل أن الارسال في ذلك
221

شرط ولان التذكية إنما تكون موجبا للحل إذا حصل من الآدمي فلا بد من جعل
آلة الصيد نائبا عن الآدمي ليحصل الحل بفعله وذلك لا يكون الا بالارسال واشتراط كونه
معلما لتحقق الارسال فيه (والرابع) التسمية (والخامس) إمساكه على صاحبه لقوله تعالى
فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ومطلق الامر مفيد للوجوب ولا يجب
التسمية عند الأكل فعرفنا أن المراد به عند الارسال (والسادس) أن يكون الصيد
مما يباح تناوله ويكون ممتنعا ومستوحشا (والسابع) أن لا يتوارى عن بصره أولا
يقعد عن طلبه حتى يجده لأنه إذا غاب عن بصره فلا يدرى لعل موته كان بسبب آخر
سوى جرح ما أرسله واليه أشار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بقوله كل ما أممت ودع
ما أيمنت والامماء ما رأيته والايماء ما غاب عنك وإذا قعد عن طلبه فلا يدرى لعله لو تبعه
وقع في يده حياء وقدر على ذبحه في المذبح وترك ذلك مع القدرة عليه محرم والأصل فيه أنه
متي اجتمع في الصيد لعل وعسى أن لا يحل تناوله. واليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم
لعدي بن حاتم رضي الله عنه إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدرى أن
الماء قتله أو سهمك. إذا عرفنا هذا فنقول كما يشترط فيما أرسله الصياد أن يكون خارجا
فكذلك فيما يرمى به وبها الكتاب ببيانه مروى عن إبراهيم رحمه الله إذا خرق المعراض
فكل وإذا لم يخرق فلا تأكل والمعراض سهم لا نصل له إلا أن يكون رأسه محددا وقيل
سهم لا ريش له فربما يصيب السهم عرضا يندق ولا يخرج وهو مروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإنه سئل عن صيد المعراض فقال صلوات الله وسلامه عليه ما أصاب
بحده فجرح فكل وما أصاب بعرضه فلا تأكل والحرق هو الخرق إلا أن لفظة الحرق
تستعمل فيما لا حياة له كالثوب ونحوه ولفظة الخرق تستعمل في الحيوان وقد بينا
أن الحل باعتبار تسييل الدم النجس وذلك يحصل إذا خرق ولا يحصل إذا دق ولم يخرق
فان ذلك في معنى الموقوذة وهو حرام بالنص (وذكر) عن رجل قال كانت لبعض أهل الحي
نعامة فضربها انسان فوقذها فألقاها على كناسة وهي حية فسألنا سعيد بن جبير فقال ذكوها
وكلوها وبه نقول فان الموقوذة إذا أدرك ذكاتها جاز تناولها لقوله تعالى الا ما ذكيتم ولحصول
ما هو المقصود وهو تسييل الدم النجس ومنه دليل إباحة تناول النعامة وعن ابن عباس رضي الله عنه
ما أنه سئل عن الكلب يقتل الصيد فقال كل وان أكل الكلب منه فلا تأكل فإنه
222

امسك على نفسه لأنه يضرب حتى يترك الأكل وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله قالوا الكلب
إذا أكل من الصيد الذي أخذه يحرم تناوله وقال مالك رحمه الله تعالى لا يحرم وهو أحد
قولي الشافعي رضى الله تعالى عنه لحديث أبي ثعلبة الخشني ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
في صيد الكلب كل وان أكل الكلب منه ولأنه تناول اللحم دون الصيد لأنه يقتل الصيد
أولا فيخرج من أن يكون صيدا وتناول الكلب من لحم الصيد لا يحرم ما بقي منه على
صاحبه كما لو فتش في مخلاة صاحبه وتناول شيئا من القديد من لحم الصيد. وحجتنا في ذلك
قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم وحين أكل منه فقد تبين انه أمسكه على نفسه لا على
صاحبه حين لا يتركه حتى يشبع منه واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعدي
ابن حاتم رضي الله عنه فان أكل منه فلا تأكل فإنما امسك على نفسه وتأويل حديث أبي
ثعلبة الخشني رضي الله عنه ان صح أنه كان قبل نزول الآية ثم انتسخ أو مراده إذا ولغ في
دم الصيد وعندنا ذلك القدر لا يحرم ثم قد بينا ان ثبوت الحل بفعله باعتبار أنه نائب عن
صاحبه وينعدم ذلك إذا أكل منه لأنه تبين أن سعيه كان لمنفعة نفسه فهو كما لو انعدم الارسال
أصلا (ثم) ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في البازي يقتل الصيد ويأكل منه قال كل
وقال تعليم البازي أن تدعوه فيجيبك ولا تستطيع أن تضربه حتى يترك الأكل وبه نأخذ
وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى البازي والكلب إذا أكل من الصيد لا يحل لما بينا أنه
يمسك على نفسه وليس بنائب عن صاحبه ولكن الفرق بينهما عندنا علي وجهين (أحدهما) أن
جثة الكلب تحتمل الضرب فيمكن أن يضرب ليدع الأكل وجثة البازي لا تحتمل الضرب
وقد بينا أن التكليف بحسب الوسع (والثاني) ان الكلب ألوف وعلامته علمه أن يأتي بما
يكون مخالفا لطبعه وإجابته صاحبه إذا دعاه غير مخالف لطبعه فلا يكون دليلا على علمه بل يكون
علامة علمه ترك الأكل عند حاجته إليه لان ذلك خلاف طبعه فإذا أكل منه لم يكن معلما
والشرط في صيد الكلب أن يكون معلما والبازي متنفر فأجابته صاحبه إذا دعاه خلاف
طبعه فيجعل ذلك علامة علمه دون ترك الأكل فهو وان أكل فهو وان أكل منه فلا يتبين به أنه غير معلم
ولكن هذا الفرق لا يتأتى في الفهد والنمر فإنه مستوحش كالبازي ثم الحكم فيه وفى الكلب
سواء فالمعتمد هو الأول وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الكلب يشرب من دم الصيد ولا
يأكل منه فقال لا بأس بأكل الصيد وبه نأخذ وكان ابن أبي ليلي رحمه الله يقول يحرم بذلك
(15 مبسوط حادي عشر)
223

لان دم الصيد جزء منه كلحمه فتبين شربه من دمه أنه أمسكه على نفسه ولكنا نقول هذا
دليل ما حذقه في كونه معلما لأنه شرب ما يعلم أن صاحبه لا يرغب فيه ولا يمنعه منه وأمسك
عليه ما يعلم رغبته فيه فكان ذلك دليل علمه وامساكه على صاحبه ما يحتاج إليه
صاحبه ولا يحرم تناول الصيد بخلاف ما لو أكل من لحمه وعن إبراهيم رحمه الله في كلب
المجوسي أو بازيه يصيد به المسلم قال لا بأس به لان الصياد مرسل الكلب لا مالك
الكلب ومرسل الكلب مسلم من أهل التسمية والكلب آلة الاصطياد فاصطياد المسلم به
يوجب الحل فإن كان للمجوسي كاصطياده بقوسه وسهمه (وعنه) في الرجل يرسل كلبه
فيذهب معه كلب آخر غير معلم فيرد عليه الصيد ويأخذ الصياد معه قال لا يؤكل وبه
نأخذ لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضى الله تعالى عنه وان شارك كلبك كلب آخر
فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك ولان إرسال الكلب من
شرائطه الحل وانعدامه يوجب الحرمة والصيد صار مأخوذا بالكلبين والأصل انه متى
اجتمع موجب الحل وموجب الحرمة يغلب الموجب للحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم
ما اجتمع الحلال والحرام في شئ الا غلب الحرام الحلال وعن ابن مسعود رضي الله تعالى
عنه. قال من رمى صيدا فتردى من جبل فلا يأكله فانى أخاف أن يكون التردي قتله وان رمى طيرا
فوقع في ماء فلا تأكله فانى أخاف أن يكون الغرق قتله وبه نأخذ لما روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لعدي بن حاتم رضى الله تعالى عنه إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل
فإنك لا تدرى أن الماء قتله أم سهمك ولان التردي موجب للحرمة. فان الله تعالى
ذكر جملة المحرمات المتردية وعند اجتماع معنى الموجب للحل ومعنى الموجب للحرمة
يغلب الموجب للحرمة وهذا بخلاف ما لو رمى طيرا في الهواء فوقع على الأرض ومات فإنه
يؤكل وإن كان من الجائز أنه مات بوقوعه على الأرض فان ذلك لا يستطاع الامتناع عنه
فيكون عفوا والتكليف بحسب الوسع بخلاف الوقوع في الماء والتردي من موضع فإنه يستطاع
الامتناع عنه ويستوى في ذلك طير الماء و غيره لان طير الماء يعيش في الماء غير مجروح فأما بعد
الجرح يتوهم أن يكون الماء قاتلا له كما يتوهم بغيره وهذا بخلاف ما لو ذبح شاة وتردى
بعد الذبح من موضع أو وقعت في ماء لان قطع الحلقوم والأوداج زكاة مستقرة فإنه يحادي
بالموت عليه دون ما يتعرض بعده فأما الرمي ليس بزكاة مستقرة حتى إذا وقع الصيد في
224

يد الرامي حيا لم يحل الا بالذبح فلهذا كان التردي من الجبل والوقوع في الماء محرما له * وعن
عبد الله بن يزيد قال سألت سعيد بن المسيب رضى الله تعالى عنه عن شئ كان قومي
يصفونه بالبادية ينصبون السنان فيصبح وقد قتل الضبع فقال لي وانك ممن يأكل الضبع
قلت ما أكلتها قط فقال رجل عنده حدثنا أبو الدرداء رضى الله تعالى عنه ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي خطفة وهبة ومجثمة وعن كل ذي ناب من
السباع فقال ابن المسيب رضى الله تعالى عنه صدقت. وفي هذا دليل على أن الضبع غير
مأكول اللحم وهو مذهبا. وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ولا بأس بأكل الضبع
لحديث جابر رضى الله تعالى عنه أن سئل عن الضبع أصيد هو قال نعم فقيل يؤكل لحمه
قال نعم فقيل أشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم. وحجتنا في ذلك الحديث
الذي روينا وحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولأنه ذو ناب يقاتل بنابه فلا
يؤكل لحكه كالذئب وتأثيره ما ذكرنا أنه مستخبث باعتبار ما فيه من القصد إلى الأذى
والبلادة فيدخل في جملة قوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث. وحديث جابر رضي الله تعالى
عنه ان صح فتأويله انه كان في زمن الابتداء ثم انتسخ بنزول الآية وهذا لان الحرمة ثابتة
شرعا فما يروى من الحل يحمل على أنه كان قبل ثبوت الحرمة ولا خلاف في أن الضبع
صيد بحسب الجزاء على المحرم بقتله عندنا لأنه صيد وعنده لأنه مأكول اللحم فأما معنى
حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فالمراد بالخطف ما يختطف بمخلبه من الهواء كالبازي
والعقاب والشاهين والمنهبة ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذئب والفهد والنمر وفي
ذكر هذين الموضعين إشارة إلى معنى الحرمة حتى لا يسرى إلى الأكل هذا الخلق الدرئ
وفى المحتمة روايتان بالفتح والكسر ومعنى الرواية بالفتح ما يحتم عليه الكلب فيقتله غما
لا جرحا فذلك الصيد حرام لانعدام معنى الذكاة فيه ومعنى الرواية بالكسر ما يحتم على
الصيود كالذئب والأسد والفهد فإنه غير مأكول ومعنى قوله وعن كل ذي ناب من السباع
ما يقصد بنابه ويدفع به فأما أصل الناب يوجد لكل صيد فعرفنا ان المحرم ما بينا. وعن
إبراهيم رحمة الله تعالى قال كانوا يكرهون كل ذي مخلب من الطير وما أكل الجيف وبه
نأخذ لان كل ما يأكل الجيف كالفراق والغراب الأبقع مستخبث طبعا فيدخل تحت قوله
225

ويحرم عليهم الخبائث (وعن) هشام بن عروة عن أبيه أنه سئل عن أكل الغراب فقال ومن
يأكله بعد ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا يريد به الحديث المعروف خمس
فواسق يقتلهم المحرم في الحل والحرام وذكر الغراب من جملتها والمراد به ما يأكل الجيف
وأما الغراب الزرعي الذي يلتقط الحب فهو طيب مباح لأنه غير متسخبث طبعا وقد يألف
الآدمي كالحمام فهو والعقعق سواء ولا بأس بأكل العقعق فإن كان الغراب بحيث يخلط
فيأكل الجيف تارة والحب تارة فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يكره لأنه
اجتمع فيه الموجب للحل والموجب للحرمة (وعن) أبي حنيفة رحمه الله تعالى انه لا بأس
بأكله وهو الصحيح على قياس الدجاجة فإنه لا بأس بأكلها وقد أكلها رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهي قد تخلط أيضا وهذا لان ما يأكل الجيف فلحمه ينبت من الحرام
فيكون خبيثا عادة وهذا لا يوجد فيما يخلط وعن ابن المسيب رضى الله تعالى عنه ان
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تنخع الشاة إذا ذبحت وبه نأخذ ومعناه أن يبالغ
الذابح بالذبح حتى يبلغ بالسكين النخاع والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة وفى هذا زيادة
إيلام غير محتاج الله والشرع نهى عن ذلك والأصل فيه حديث أبي الأشعث الصبغاني رضى
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى كتب الاحسان على كل شئ فإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته والنخع
ليس من الاحسان في شئ وكان منهيا عنه وروى كراهية ذلك عن عمر وابن عمر رضى الله
تعالى عنهما حيت قال عمر رضي الله تعالى عنه لا تجروا العجماء إلى مذبحها برجلها وأحدوا
الشفرة وأسرعوا الممر على الأوداج ولا تحفوا (وعن) مكحول رضى الله تعالى عنه قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح لم ينخع ولم يبد بسلخ حتى تبرد الشاة. وفى هذا
دليل على أنه لا بأس للمرء أن يذبح بنفسه وان ذلك ليس من ترك الترحم في شئ بخلاف ما
قاله جهال المتقشفة وفيه دليل علي انه ينبغي للذابح أن يتحرز عن زيادة إيلام غير محتاج إليه
(وعن) عكرمة رضي الله عنه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل قد أضجع شاة
وهو يحد الشفرة وهي ملاحظة فقال عليه الصلاة والسلام أردت أن تميتها موتات. وبه نأخذ
فنقول يكره له ان يحد الشفرة بين يديها لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه. وضرب عمر
رضي الله عنه من رآه يفعل ذلك بالدرة حتى هرب وشردت الشاة ورأي رسول الله صلى
226

الله عليه وسلم رجلا وقد أخذ أذن شاة وهو يجرها إلى المذبح فقال قدها إلي الموت قودا رفيقا
وفى رواية قال خذ ساقها فان الله يرحم من عباده الرحماء والمعنى أنها تعرف ما يراد بها كما
جاء في الخبر أبهبت البهائم إلا عن أربعة خالقها ورازقها وحتفها وسفادها فإذا كانت تعرف
ذلك وهو يحد الشفرة بين يديها ففيه زيادة إيلام غير محتاج إليه وكذلك إذا لم يحد الشفرة
ولكن الشاة لا تحرم بشئ من هذا لان ما هو المطلوب من الذكاة وهي تسييل الدم النجس
منها قد وجد والنهى لمعنى في غير المنهى عنه فلا يكون موجبا للحرمة وقد وجد (وعن)
رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أنهر الدم وأفرى الأوداج
فكل ما عدا السن والظفر والعظم فإنها مدى الحبشة والمراد بيان آلة الذبح وفيه دليل أنه
يشترط للذكاة آلة محددة يحصل بها إنهار الدم وافراء الأوداج والأنهار التسييل ومنه
سمى النهر لأن الماء يسيل فيه والنهار تجرى فيه الشمس بمرأى العين من لعباد والافراء
القطع والمراد بالأوداج الحلقوم والمرئ والودجان. وفي هذا بيان ان المطلوب من الذكاة
تمييز الطاهر من النجس بتسييل الدم من الحيوان والمراد بما استثنى من السن والظفر المركب
لأنه باستعمال ذلك يصير قاتلا لا ذابحا فإنهما منه وآلة الذبح غير الذابح وإنما يحصل بانقطاع
الأوداج بالقوة لا بحدة الآلة ألا ترى أنه قال فإنها مدى الحبشة وهم إنما يعتادون الذبح
بسن أنفسهم وظفر أنفسهم وذلك يحرم بالاتفاق فأما في الذبح بالسن المقلوعة والظفر المنزوعة
والعظم المنفصل إذا كان محدودا اختلاف نبينه (وعن) عامر قال لا بأس بذبيحة الأخرس
إذا كان من أهل الاسلام أو من أهل الكتاب وبه نأخذ فان إشارة الأخرس وتحريكه
الشفتين بمنزلة البسملة من الناطق ألا ترى أنه يصير به شارعا في الصلاة كما يكون الناطق
شارعا بالتكبير ثم الأهلية للذبح يكون للذابح من أهل تسمية الله تعالى على الخلوص وذلك
باعتقاده التوحيد والأخرس معتقد لذلك ثم المحرم بعده الاعراض عن التسمية ولا يتحقق
الاعراض من الأخرس فعذره أبلغ من عذر الناسي وإذا كان بعذر النسيان ينعدم الاعراض
فبعذر الخرس أولى (وعن) علي رضي الله عنه في الرجل إذا ذبح الشاة أو الطير فقطع رأسه قال
لا بأس بأكله (وعنه) أنه قال تلك ذكاة وحية أي سريعة (وعن) عمران بن حصين رضي الله عنه
أنه سئل عن رجل ضرب عنق بطة بالسيف فسبق فأماته قال يؤكل وبه نأخذ لأنه أتى
بما هو المحتاج إليه وهو قطع الحلقوم والأوداج وزاد على ذلك إلا أنه بداء بالقطع من قبل
227

الحلق حتى أبان رأسه فلا يشك في إباحة أكله ويكره هذا الصنيع لأنه زيادة إيلام غير
محتاج إليه وان بدأ من قبل القفا فان قطع الحلقوم والأوداج قبل أن تموت الشاة حلت فان
ماتت قبل أن تقطع الحلقوم والأوداج لم تؤكل لان فعل الذكاة بقطع الحلقوم والأوداج
عند القدرة وان ماتت بفعل ليس بذكاة شرعا وذلك موجب للحرمة بخلاف ما إذا مات
قبل قطع الحلقوم والأوداج (وعن) سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال الذكاة ما بين اللبة
واللحيين وبه نأخذ وقد روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بيان محل الذكاة
عند الاختيار وفيه دليل على أن أعلى الحلق وأوسطه وأسفله سواء في ذلك لان الكل في
المعنى المطلوب بالذكاة سواء (وعن) إبراهيم رحمه الله تعالى قال إذا ذبحت فلا تذكر مع اسم
الله تعالى شيئا غيره وهكذا نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال جردوا التسمية عند
الذبح والأصل فيه قوله تعالى (فلا تدعوا مع الله أحدا) وان أهل الجاهلية كانوا يذكرون
آلهتهم عند الذبح فحرم ذلك الشرع بقوله وما أهل به لغير الله وأمر بتسمية الله تعالى عند
الذبح على الخلوص لمخالفة المشركين فلا ينبغي أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره وإذا أراد أن
يدعو فيقول اللهم تقبل من فلان ينبغي أن يقدم ذلك علي فعل الذبح أو يؤخره عنه فأما مع
الحر لا يذكر غير اسم الله تعالى وهو تأويل الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى
عن أمته قال هذا عمن شهد لي بالبلاغ إلي يوم القيامة إنما قال بعد الذبح لا معه (وعن) رافع بن
خديج رضي الله عنه أن بعيرا من إبل الصدقة قد ند فرماه رجل بسهم وسمى فقتله فقال صلى
الله عليه وسلم ان لها أو أبد كأوابد الوحش فإذا فعلت شيئا من ذلك فافعلوا به كما فعلتم بهذا ثم
كلوه. وبه نأخذ فنقول عند تعذر الحل بذكاة الاختيار يثبت الحل بذكاة الاضطرار وذلك
بالجرح في أي موضع أصابه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ان لها أوابد كأوابد الوحش أي
أن لها تنفرا واستيحاشا كما يكون الوحش الا ان الألف والوحشي أغلب
حاله التوحش فإذا صار ألوفا التحق بما هو ألوف غالبا وإذا توحش التحق بالوحشي غالبا والمراد
بابل الصدقة ما يؤخذ بالصدقة أو ما كان ينحر لاطعام المساكين وقد كان ذلك معروفا في
زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده (وعن) عتابة بن رافع بن خديج رضي الله عنه
ان بعيرا تردى في نهر بالمدينة فوجئ من قبل خاصرته فأخذ منه ابن عمر رضي الله عنهما عسيرا
بدرهمين وفى هذا دليل أن الحل يثبت بذكاة الاضطرار عند تعذر الذكاة بالاختيار وانه لا
228

فرق بين أن يتعذر ذلك بتوحشه بين أن يتعذر سقوطه في مهوى فان ابن عمر رضي الله عنهما
مع زهده وتفرده رغب في الشراء منه والعسير تصغير العسير وقد روى عشيراء وهو
سواد البطن والأول أصح (وعن) إبراهيم رحمه الله قال إذا تردى بعير في بئر ولم يقدروا
أن ينحروه فمن حيث نحر فهو له ذكاة. ففي هذا بيان أن السنة في البعير النحر وفي البقر
والغنم الذبح وبه نطق الكتاب قال الله تعالى (فصل لربك وانحر) وقال الله تعالى (ان الله
يأمركم أن تذبحوا بقرة) وقال الله تعالى (وفديناه بذبح عظيم) والمراد الشاة والذي جاء في
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرنا البدنة على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن سبعة والبقرة عن سبعة معناه وذبحنا البقرة عن سبعة ومثل هذا الاضمار مع العطف
معلوم في لسان العرب قال القائل * علقتها تبنا وماء باردا * أي وسقيتها ماء باردا لأن الماء
لا يعلف وعن علي رضي الله عنه قال ذكاة السمك والجراد أخذه و مراده بيان أن الذكاة
ليست بشرط فيهما بل يثبت الحل فيهما بالأخذ من غير ذكاة ألا ترى أنه لا تثبت الحرمة
بكون الآخذ مجوسيا أو وثنيا وما يشترط فيه الذكاة يشترط فيه الأهلية للمذكى وحيث
لم يشترط في السمك والجراد عرفنا ان الذكاة فيهما ليست بشرط كما قال صلى الله عليه وسلم
أحلت لنا ميتتان ودمان وسئل علي رضي الله عنه عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض
وفيه الميت وغيره قال كله كله وفي بعض الروايات كله كله اللفظ الأول تكرار للمبالغة
والثاني بيان أنه يؤكل كله وبه نأخذ وان الجراد وان وجد ميتا فلا بأس بأكله لان موته
لابد أن يكون بسبب فإنه بحري الأصل برى المعاش كما قيل إن بيض السمك إذا انحصر
عنه الماء يصير جرادا فإذا مات في البر فقد مات في غير موضع أصله وإذا مات في الماء فقد مات
في غير موضع معاشه وذلك سبب لموته والدليل على إباحة أكل الجراد ما روى أن مريم رضي الله عنه
ا سألت لحما هشا فرزقت الجراد وأن عمر رضي الله عنه كان مولعا بأكل الجراد حتى
قال يوما في مجلسه ليت لنا قصعة من جراد فنأكله أو قال نقعة (وعن) عمرة قالت خرجت
مع وليدة لنا فاشترينا خريتة بقفيز من حنطة فوضعناها في زنبيل فخرج رأسها من جانب
وذنبها من جانب فمر بنا علي رضي الله عنه فقال لي بكم أخذت فأخبرته فقال ما أطيبه وأرخصه
وأوسعه للعيال ففي هذا الحديث دليل على أن الجراد مأكول وبه نأخذ وهو مروى عن
ابن عباس رضي الله عنهما فإنه سئل عن الخريت فقال فأما نحن فلا نرى به بأسا فأما أهل
229

الكتاب فيكرهونه. وأما الروافض قاتلهم الله تعالى فيأخذون بقول أهل الكتاب ويحرمون
الخريت ويدعون قول علي رضي الله عنه مع دعواهم محبته وأهل الكتاب يزعمون أن
الخريت من جملة الممسوخات وهذا باطل فان الممسوخ لا نسل له ولا يبقى بعد ثلاثة أيام بل
الخريت نوع من السمك والسمك مأكول بجميع أنواعه يثبت الحل فيه بالكتاب والسنة
قال الله تعالى أحل لكم صيد البحر وقال صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان أما
الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال فهذا دليل أنه لا بأس للانسان أن
يتكلم مع النساء والإماء بما لا يحتاج إليه فان هذا ليس من جملة ما لا يعنيه فإنما الذي لا يعنى
المرء مما ورد النهى عنه أن يكون فيه مأثم (وعن) إبراهيم رحمه الله قال ما أطيب إهابه وهو
كذلك وقد قيل إن أطيب الأشياء من السمك الذنب وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنه أتاه عبد اسود فقال إنني في غنم لأهلي وانى سليل الطريق أفأسقى من لبنها بغير إذنهم فقال
لا فقال إني أرمي الصيد فأصمي وأنمي قال كل ما أصميت ودع ما أنميت. قال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى الاصماء ما رأيته والانماء ما توارى عنك وبه نأخذ إلا أن المراد به إذا
توارى عنه وقعد في طلبه فإذا لم يقعد عن طلبه لا يحرم لما بينا أن مالا يستطاع بالامتناع
عنه يكون عفوا وفي الحديث دليل انه ليس للراعي أن يسقى من لبن الغنم بغير إذن أهلها
فان ابن عباس رضى الله تعالى عنهما نهاه عن ذلك وهذا لان الراعي أمر بالرعي والحفظ
والسقي ومن لبنها بمنزلة هبة عنها ولا يجوز له ذلك بدون اذن أهلها والذي جاء في الحديث
ان النبي صلى الله عليه وسلم مر براعي الغنم فاستسقاه اللبن تأويله ان ذلك الراعي كان يرعى
غنم نفسه أو كان مأذونا من جهة مالكه بذلك وقد عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل ما امرئ مسلم الا بطيبة من نفسه
(وعن) موسى بن طلحة رضى الله تعالى عنه ان اعرابيا أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أرنبا مشويا قال لأصحابه كلوا قال الاعرابي انى رأيت دما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليس بشئ وقال للأعرابي اذن فكل فقال إني صائم قال صوم ما ذا قال صوم ثلاثة
أيام من كل شهر فقال هلا جعلتها البيض وبه نأخذ فنقول الأرنب ما كول وقد قبل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية فيه وأكل منه وأمر أصحابه رضوان الله عليهم بذلك
(وقول) الاعرابي انى رأيت دما مراده ما يقول جهال العرب ان الأرنبة تحيض كالنساء فبين
230

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بشئ. وفيه دليل علي أنه لا بأس للمهدى ان
يأكل من هديته فان النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلي الا كل وإنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق
فما كان يدعو أحدا إلى ما يخالف ذلك وفيه دليل علي أنه إذا دعى إلى طعام وهو صائم
لا بأس بأن يمتنع ويقول إني صائم وقد قرره رسول الله عليه وسلم على ما قال حيث
قال صلى الله عليه وسلم صوم ماذا قال صوم ثلاثة أيام من كل شهر وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يحثهم على ذلك ويقول الحسنة بعشر أمثالها صوم ثلاثة أيام من الشهر كصوم
جميع الشهر. وفيه دليل علي أن الأفضل أن يكون صومه في الأيام البيض لقوله صلى الله عليه
وسلم هلا جعلتها البيض والبيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وعند بعضهم
أولها الرابع عشر وآخرها السادس عشر سميت بيضا لطلوع القمر في لياليها من أول الليل
إلى آخر الليل فكأن الليل يستوى بالنهار في البياض (وقيل) لما روى أن آدم صلوات الله
وسلامه عليه لما أهبط إلى الأرض بعد زلته اغبر جسده صام الرابع عشر فابيض ثلث جسده
ثم صام الخامس عشر فابيض ثلث آخر ثم صام السادس عشر فابيض جميع جسده وعاد
اللون الأول فسميت بيضا لذلك وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه أهدى لها ضب فسالت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فكرهه فجاء سائل فأرادت أن تطعمه إياه فقال
صلوات الله وسلامه عليه أتطعمين مالا تأكلين. وبهذا نأخذ فنقول لا يحل أكل الضب وقال
الشافعي رحمه الله تعالى يحل لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم
سئل عن الضب فقال لم يكن من طعام قومي فأجد نفسي تعافه فلا أحله ولا أحرمه. وفي
حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفى الآكلين أبو بكر رضى الله تعالى عنه كان ينظر إليه ويضحك واعتمادنا على حديث
عائشة رضى الله تعالى عنها فيه يبين أن امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله لحرمته
لا لأنه كان يعافه ألا ترى أنه نهاها عن التصدق به ولو لم يكن كراهية الا كل للحرمة لأمرها
بالتصدق به كما أمرها به في شاة الأنصاري بقوله أطعموها الأسارى والحديث الذي فيه
دليل الإباحة محمول علي أنه كان قبل ثبوت الحرمة. ثم الأصل انه متى تعارض الدليلان أحدهما
يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة يغلب الموجب للحظر. وقال بعض المتأخرين رحمهم الله
تعالى حرمة الضب لأنه من الممسوخات على ما روى أن فريقين من عصاة بني إسرائيل أخذ
231

أحدهما طريق البحر والآخر طريق البر فمسخ الذين أخذوا طريق البر ضبابا وقردة وخنازير
(وروى) هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه غير مشهور. ثم قد بينا أن
الممسوخ لا نسل له ولا بقاء فهذا الذي يوجد الآن ليس بممسوخ وان نسخ قوم من جنسه
ولكنه من الخبائث ولهذا عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل تحت قوله تعالى ويحرم
عليهم الخبائث لكونه مستخبثا طبعا كسائر الهوام (وعن) عبد الله بن أبي أوفى قال أصبنا يوم
حنين حمرا أهلية فذبحناها وأن القدر لتغلي بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفئوها
بما فيها ونهى عن أكلهما فقلنا بيننا إنما حرمها لأنها نهبة لم تخمس فلقيت سعيد بن جبير رضى الله
تعالى عنه فذكرت له ذلك فقال بل حرمها البتة. وبه نأخذ فنقول لا يحل تناول الحمار الأهلي
وكان بشر المريسي يبيح ذلك وهو قول مالك رحمه الله وقد روى أن عائشة رضي الله عنها
سئلت عن ذلك فتلت قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما الآية (وعن) طاوس قال
قلت لجابر بن فهر انكم تزعمون أن لحم الحمار الأهلي حرام قال كان الحكم بن عمرو يقول
ذلك عندنا بالبصرة فأتى ذلك الخبر يعنى ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديث الجر بن غالب
رضي الله عنه انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لم يبق لي من مالي الا حميرات
فقال صلى الله عليه وسلم كل من سمين مالك فانى إنما نهيتكم عن خول القرية واعتبر والحمار
الأهلي بالوحشي فإنه مأكول بالاتفاق وكل حيوان وحشيه مأكول فالأهلي من جنسه
مأكول كالإبل والبقر وما لا يكون أهليه مأكولا فوحشيه لا يكون مأكولا كالكلب
والسنور وحجتنا في ذلك ما روينا من الحديث فيه يتبين أنه ما كان حرمها يوم خيبر لقلة
الظهر لأنه أمر باكفاء القدور بعد ما صار لحما ليس فيه منفعة الظهر وما حرمها لأنها نهبة لم
تخمس فإنه كان مأكولا فللغانمين حق التناول منه قبل الخمس كالطعام والعلف وما حرمها لأنها
حول القربة مأخوذ من الحوال متناول الجيف كالجلالة فإنه خص الحمر الأهلية بذلك وفى
هذا المعنى الحمار وغيره سواء فعرفنا انه حرمها البتة (وقد) روى أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه
فنادى ألا إن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وروى ابن
عمر رضي الله عنهما ان ألبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن متعة النساء وعن الحمار
الأهلي ولما بلغ عليا رضي الله عنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما بإباحة المتعة فقال له نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء وعن الحمر الأهلية زمن خيبر فترجح الآثار
232

الموجبة للحرمة ثم لا حجة في حديث الحبر رضي الله تعالى عنه فان معنى قوله صلى الله عليه وسلم
كل من سمين مالك أي بعه واستنفق ثمنه فقد يقال فلان أكل عقاره والمراد هذا وقال القائل
ان لنا أحمرة عجافا * يأكلن كل ليلة إكافا
والمراد ثمن الا كاف وما نقلوه عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يكاد يصح عنه والمشهور
عنه أنه حرم الخيل والبغال والحمير فاستدل لذلك بالآية لتركبوها وزينة على ما تبين وعائشة
رضي الله عنها استدلت بعام دخله الخصوص بالاتفاق وقد ثبت النهى عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في لحم الحمار فكان دليل الخصوص في هذا العام واعتبار الأهلي بالوحشي ساقط
فإنه لا مشابهة بينهما معنى والمشابهة صورة لا تكون دليل الحل وقد صح في الأثر ان النبي
صلى الله عليه وسلم أباح تناول الحمار الوحشي كما روى أن أعرابيا اهدى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا عفيرا أو رجل حمار وحشي فأمر أبا بكر رضى الله تعالى عنه
أن يقسمه بين الرفاق * ثم كما ورد الحديث بالأمر بالاكفاء للقدر في لحم الحمار فقد ورد مثله
في الضب وهو حديث عبد الرحمن بن حسنة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
سفر فاصابتنا مجاعة ونزلنا في أرض كثيرة الضباب فأخذناها وان القدور لتغلى بها فأمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم باكفاء القدور ومعلوم أن تضييع المال لا يحل فعرفنا أن الامر باكفاء
القدور في الموضعين للحرمة (وعن) أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال أكلنا لحم فرس
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الحريث قال كنا إذا نتجت فرس أخذنا فلوا
ذبحناه وقلنا الامر قريب فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فكتب الينا أن لا
تفعلوا فان في الامر تراخى. وبهذين الحديثين يستدل من يرخص في لحم الخيل فإنهم كانوا
يذبحونه لمنفعة الأكل وهو قول أبى يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى وأما أبو حنيفة
رحمه الله تعالى فإنه كان يكره لحم الخيل فظاهر اللفظ في كتاب الصيد يدل على أن الكراهة
للتنزيه فإنه قال رخص بعض العلماء رحمهم الله في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله وما قال
في الجامع الصغير أكره لحم الخيل يدل على أنه كراهة التحريم فقد روى أن أبا يوسف
رحمه الله تعالى قال لأبي حنيفة رحمه الله إذا قلت في شئ أكرهه فما رأيك فيه قال التحريم
ثم من أباحه استدل بالتعامل الظاهر ببيع لحم الخيل في الأسواق من غير نكير منكر ولان
سؤره طاهر على الاطلاق وبوله بمنزلة بول ما يؤكل لحمه فعرفنا أنه مأكول كالانعام وان
233

روى فيه نهى فلان الخيل كانت قليلة فيهم وكان سلاحا يحتاجون إليه في الحرب فلهذا نهاهم
عن أكله لا لحرمته وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى في ذلك قوله تعالى والخيل والبغال
والحمير لتركبوها وزينة الآية فقد من الله تعالى على عباده بما جعل لهم من منفعة الركوب
والزينة في الخيل ولو كان مأكولا لكان الأولى بيان منفعة الأكل لأنه أعظم وجوه
المنفعة وبه بقاء النفوس ولا يليق بحكمة الحكيم ترك أعظم وجوه المنفعة عند إظهار المنة
وذكر ما دون ذلك ألا ترى أنه في الانعام ذكر الأكل بقوله تعالى ومنها تأكلون ولأنه
ضم الخيل إلى البغال والحمير في الذكر دون الانعام والقرآن في الذكر دليل القرآن في
الحكم وبنحوه استدل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين كره لحم الخيل كما روى عنه
في الكتاب وفى حديث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن أكل لحم الخيل والبغال والحمير وفي حديث المقدام بن معد يكرب رضى الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال حرام عليكم لحوم البغال والحمير والخيل. وقد بينا أن الدليل
الموجب للحرمة يترجح فان ما كان من الرخصة محمول على أنه كان في الابتداء قبل النهى
ولان نتاجه غير مأكول وهو البغل لان البغل نتاج الفرس والولد جزء من الأم وحكمه
حكمها في الحل والحرمة فإذا لم يكن مأكولا عرفنا أن الخيل ليس بمأكول * ثم الخيل تشبه
البغال والحمير من حيث أنه ذو حافر أهلي بخلاف الانعام فإنها ذوات خف لا ذوات حوافر
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى الكراهة في سؤر الفرس كما في لبنه وإنما
جعل يوله كبول ما يؤكل لحمه لمعنى البلوى فيه فللبلوى تأثير في تخفيف حكم النجاسة ومن
قال الكراهة للتنزيه لا للتحريم قال إن الفرس كالآدمي من وجه ومن حيث إنه يحصل إرهاب
العدو به ويستحق السهم من الغنيمة والآدمي غير مأكول لكرامته لا لنجاسة والخيل
كذلك كره أكلها علي طريق التنزيه لمعنى الكرامة ولهذا جعل الخيل طاهرة السؤر وجعل
بوله كبول ما يؤكل لحمه (وعن) إبراهيم رحمه الله تعالى قال لا بأس بثمن كلب الصيد وروى
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ثمن كلب الصيد وبه نأخذ فنقول بيع الكلب المعلم
يجوز وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يجوز بيع الكلب أصلا معلما كان أو غير معلم لما روى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكب وحلوان الكاهن ومهر البغي وأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فلو كانت مالا متقوما لما أمر بذلك ولان
234

الكلب نجس العين بدليل نجاسة سؤره فلا يجوز بيعه كالخنزير ولدليل عليه انه لو كان محل
البيع لم يفترق بين المعلم منه وغير المعلم كالفهد والبازي. وحجتنا في ذلك ما رواه إبراهيم من
الرخصة وذلك بعد النهى والتحريم فبه يتبين تيسير انتساخ ما روى من النهى وهذا لأنهم
كانوا ألفوا اقتناء الكلاب وكانت الكلاب فيهم تؤذى الضيفان والغرباء فنهوا عن اقتنائها
فشق ذلك عليهم فأمروا بقتل الكلاب ونهوا عن بيعها تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة
ثم رخص لهم بعد ذلك في ثمن منتفعا به من الكلاب وهو كلب الصيد والحرث
والماشية وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الكلب الا كلب الصيد والحرث والماشية وروى أنه قضى في كلب الصيد
بأربعين درهما وفي كلب الحرث بفرق من طعام وفى كلب الماشية بشاة منها (وعن) عثمان
رضى الله تعالى عنه أنه قضي علي رجل أتلف كلبا لامرأة بعشرين بعيرا والحديث له قصة
معروفة وإذا ثبت أنه مال متقوم وهو منتفع به شرعا جاز بيعه كسائر الأموال وبيان كونه
منتفعا به أنه يحل الانتفاع به في حالة الاختيار ويجوز تمليكه بغير عوض في حالة الحياة بالهبة
وبعد الموت بالوصية فيجوز تمليكه بالعوض أيضا وبهذا يتبين أنه ليس بنجس العين فان
الانتفاع بما هو نجس العين لا يحل في حالة الاختيار كالخمر ولا يجوز تمليكه قصدا بالهبة
والوصية. ثم الصحيح من المذهب أن المعلم وغير المعلم إذا كان بحيث يقبل التعليم سواء في
حكم البيع حتى ذكر في النوادر لو باع جروا جاز بيعه لأنه يقبل التعليم فأما الذي لا يجوز بيعه
العقور منه الذي لا يقبل التعليم لأنه عين مؤذ غير منتفع به فلا يكون مالا متقوما كالذئب
وهكذا يقول في الأسد إن كان بحيث يقبل التعليم ويصطاد به فبيعه جائز وان كأن لا يقبل
ذلك ولا ينتفع به فحينئذ لا يجوز بيعه والفهد والبازي يقبل التعليم على كل حال فجاز بيعهما
كذلك (وعن) جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب
والسنور وقال أبو يسوف رحمه الله ينقض هذا الحديث في السنور حديث النبي صلى الله عليه
وسلم أنه كان يصغى لها الاناء فتشرب منه وهو مشهور عنه صلى الله عليه وسلم وحديث عروة
عن عائشة رضي الله عنها ان صلى الله عليه وسلم كان يصغى الاناء للهر ليشرب منه ثم
يتوضأ. وفي هذا دليل على أنها ليست بنجسة وقد نص علي ذلك بقوله انها ليست بنجسة انها
من الطوافين عليكم والطوافات ويجوز الانتفاع بها من غير ضرورة وما يكون بهذا الصفة
235

فهو مال متقوم يجوز بيعه والنهى ان ثبت محمول على أنه كان في الابتداء. قال (وصيد الكلب
المعلم وما أشبهه من الجوارح من السباع وغيرها يرسله المسلم أو الكتابي ويسمى عليه فيأخذه
ويقتله جائز حلال) وإنما يشترط أن يكون المرسل مسلما أو كتابيا لان الاصطياد في كونه
سببا للحل كالذبح والأهلية للذابح شرط لحل الذبيحة فكذا في الاصطياد وقد ذكرنا فيما سبق
شرائط الاصطياد ودخل هذا الشرط في جملة ما ذكرنا دلالة وإن لم يدخل نصا لأنا شرطنا
تسمية الله تعالى على الخلوص وإنما يتحقق ذلك عمن يعتقد توحيده جلت قدرته أو يظهر ذلك
وهو مسلم أو كتابي فاما المجوسي يدعي الهين فلا يصح منه تسمية الله تعالى علي الخلوص فلهذا
لا يحل ذبيحة المجوسي وصيده. قال (وإذ ترك التسمية عامدا حرم به الصيد والمذبوح عندنا
ولم يحرم عند الشافعي رحمه الله والمسلم والكتابي في ذلك سواء) وان ترك ناسيا لم يحرم عندنا
وقال مالك رحمه الله تعالى وأصحاب الظواهر يحرم وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما وكان على
وابن عباس رضى الله تعالى عنهما يفصلان بين العامد والناسي كما هو مذهبنا وقد كانوا مجمعين
على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا وكفى باجماعهم حجة ولهذا
قال أبو يوسف رحمه الله متروك التسمية عامدا لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز
البيع فيه لا يجوز قضاؤه لأنه مخالف للاجماع فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بحديث البراء
ابن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المسلم يذبح على اسم الله
سمى أو لم يسم وفى رواية قال ذكر اسم الله تعالى في قلب كل مسلم وكون الذكر في قلبه في
حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن متروك التسمية
ناسيا قال يحل تسمية ملته وفى إقامة الملة مقام التسمية لا فرق بين النسيان والعمد وسألت
عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت إن الاعراب يأتوننا بلحوم فلا ندري
أسموا أم لم يسموا فقال عليه الصلاة والسلام سموا أنتم وكلوا. فلو كان التسمية من شرائط
الحل لما أمرها بالأكل عند وقوع الشك فيها ولان التسمية لو كانت من شرائط الحل كانت
مأمورا بها وفى المأمورات لا فرق بين النسيان والعمد كقطع الحلقوم والأوداج وكالتكبير
والقراءة في الصلاة إنما يقع الفرق في المزجورات كالأكل والشرب في الصوم لان موجب
النهى الانتهاء والناسي يكون منتهيا اعتقادا فأما موجب الامر الائتمار والتارك ناسيا أو عامدا
لا يكون مؤتمرا ولأنه استصلاح الأكل فكانت التسمية فيه ندبا لا حتما كالطبخ والخبز
236

ثم فيما هو المقصود وهو الأكل التسمية فيه ندب وليس بحتم فهذا هو طريق إليه أولي
والدليل عليه أنه تحل ذبائح اليهود والنصارى ولو كانت التسمية شرطا لما حلت ذباحهم
لأنهم وان ذكروا اسم الله تعالى فإنهم يريدون غير الله وهو ما يتخذونه معبودا لهم لان
النصارى يقولون المسيح ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ونحن نتبرأ من اله له ولد وحجتنا
في ذلك قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق ومطلق النهى يقتضي
التحريم وأكد ذلك بحرف من لأنه في موضع النهى للمبالغة فيقتضى حرمة كل جزء منه
والهاء في قوله تعالى وانه لفسق إن كان كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام وإن كان كناية
عن المذبوح فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما كما قال الله تعالى أو فسقا أهل
لغير الله به وفى الآية بيان ان الحرمة لعدم ذكر الله تعالى لان التحريم بوصف دليل على أن
ذلك الوصف هو الموجب للحرمة كالميتة والموقوذة وبهذا يتبين فساد حمل الآية على الميتة
وذبائح المشركين فان الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله تعالى حتى أنه وان ذكر اسم الله
تعالى لم يحل وقال تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف يعنى عند النحر بدليل قوله تعالي فإذا
وجبت جنوبها أي سقطت وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنه في تفسير الآية ذكر اسم الله
تعالى أن يقول عند الطعن بسم الله والله أكبر وقال الله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم الآية
والمراد التسمية عند الارسال فثبت بهذين النصين ان التسمية مأمور بها ومطلق الامر الوجوب
وهي من شرائط الحل ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضى الله تعالى عنه
إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل والمعطوف على الشرط شرط وأكد
ذلك بقوله وان شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فأنت إنما سميت على كلبك ولم تسم على
كلب غيرك. فعلل للحرمة بأنه لم يسم علي كلب غيره فهو دليل الحرمة إذا لم يسم علي كلب نفسه
وشئ من المعنى يشهد له فان ذبيحة الكتابي تحل وذبيحة المجوسي لا تحل وليس بينهما فرق
يعقل معناه بالرأي سوى من يدعى التوحيد يصح منه تسمية الله على الخلوص ومن يدعى الاثنين
لا يصح منه تسمية الله تعالى على الخلوص فيه يتبين ان التسمية من شرائط الحل أو إنما أمرنا
بيناء الحكم في حق أهل الكتاب علي ما يظهرون دون ما يضمرون ألا ترى ان تسمية غير الله
تعالى علي سبيل التعظيم موجبه للحرمة لقوله تعالى وما أهل به لغير الله فلو اعتبرنا ما
يضمرون لم تحل ذبيحتهم وكذلك يستحلفون في المظالم بالله والاستحلاف بغير الله لا يحل
237

فعرفنا أنه يبنى على ما يظهرون ثم إنا أمر نا بالتسمية عند الذبح مخالفة للمشركين لأنهم كانوا
يسمون آلهتم عند الذبح ومخالفتهم واجبة علينا فالتسمية عند الذبح تكون واجبة أيضا بخلاف
الطبخ والأكل فإنهم ما كانوا يسمون آلهتهم عند ذلك فالامر بالتسمية عند ذلك ندب
و كذلك عند الوصف فالامر بالتسمية عند الوصف لم يكن لمخالفتهم فكان ندبا ألا ترى ان
في حالة النسيان تقام ملته مقام التسمية كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لمعنى التخفيف
وهذا التخفيف يستحقه الناسي دون العامد ولان العامد معرض عن التسمية فلا يجوز أن
يجعل مسميا حكما بخلاف الناسي فإنه غير معرض بل معذور والفرق بين المعذور وغير
المعذور أصل في الشرع في الذبح وغير الذبح ألا ترى أن في اعتبار الذبح في المذبح يفصل
بين المعذور وغيره وفى الأكل في الصوم يفصل بين الناسي العامد ولا يعتبر بالمأمور
والمزجور فالاكل في الصلاة مزجور ثم سوى فيه بين النسيان والعمد والجماع في الاحرام
كذلك ولكن متى اقترن بحالة ما يذكره كهيئة المحرمين والمصلين لا يعذر بالنسيان ومتى لم
يقترن بحالة ما يذكره يعذر بالنسيان كالصوم وهنا لم تقترن بحالة ما يذكره وقد يذبح
الانسان الطير وقلبه مشتغل بشغل آخر فيترك التسمية ناسيا وعليه يحمل الحديث على أنه
اذبح على اسم الله تعالى إذا كان ناسيا غير معرض بدليل انه ذكر في بعض الروايات وان
تعمد لم يحل وحديث عائشة رضى الله تعالى عنها دليلنا لأنها سألت عن الأكل عند وقوع
الشك في التسمية فذلك دليله علي أنه كان معروفا عندهم أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل وإنما
أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا
كمن اشترى لحما في سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة
مجوسي * ثم التسمية في الذبح تشترط عند القطع وفى الاصطياد عند الارسال والرمي لان
التكليف بحسب الوسع وفى وسعها التسمية عند الرمي وليس في وسعه التسمية عند الإصابة
فتقام التسمية عند الارسال والرمي مقامه كما يقام الجرح في المتوحش مقام الذبح في المذبح
في الأهلي ولان التسمية تقترن بفعله والقطع من فعله وفي الاصطياد فعله الارسال والرمي وعلى
هذا لو أضجع شاة وأخذ السكين وسمى ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عليها لا يحل
ولو رمى سهما إلى صيد وسمى فأصاب صيدا آخر أو أخذ سكينا وسمى ثم تركها وأخذ
سكينا أخرى أو أرسل كلبه إلى صيد وسمى وترك ذلك الصيد وأخذ غيره حل وكذلك لو
238

ذبح تلك الشاة ثم ذبح شاة أخرى بعدها فظن أن تلك التسمية تكفيه لا يحل والسهم إذا
أصاب ذلك الصيد وغيره أو أخذ الكلب في فوره ذلك الصيد وغيره حل الأكل وجهله
ليس نظير النسيان. ألا تري أن الجهل بالحكم لا يمنع حصول الفطر بخلاف النسيان
وكذلك لو نظر إلى قطيع من الغنم وأخذ السكين وسمى ثم أخذ شاة منها وذبحها بتلك
التسمية لا يحل وكذلك لو أرسل كلبه على جماعة من الصيود وسمى فأخذ أحدهما يحل
لان التعيين في الاصطياد ليس في وسعه والتعيين في الذبح في وسعه. قال (ولو أرسل كلبه ولم
يسم عمدا ثم زجره وسمى فانزجر وأخذ الصيد لم يحل) لان إرساله مع ترك التسمية عمدا فعل
محرم فلا ينسخ الا بما هو مثله أو فوقه والزجر دون الارسال بخلاف ما إذا اتبع الصيد
بغير إرسال صاحبه ثم زجره صاحبه وسمى فان انزجر بزجره وأخذ الصيد حل لان
اتباعه لم يكن فعلا معتبرا فان فعل العجماء غير معتبر إذا لم يكن بناء على إرسال آدمي
فكان زجره بمنزلة ابتداء الارسال وقد اقتربت التسمية به وعلى هذا الأصل إذا أرسل
المسلم كلبه علي صيد فزجره مجوسي فانزجر بزجره لم يضره لان الارسال من المسلم فعل
موجب للحل فلا يرتفع الا بما هو مثله والزجر دون الارسال فلا يتغير به الحكم الثابت
بالارسال ولو كان المجوسي هو الذي أرسل لم ينفعه زجر المسلم لان فعل المجوسي يحرم
فلا يرتفع بزجر المسلم إياه لأنه دونه فأما إذا انبعث الكلب والبازي علي أثر الصيد بغير
إرسال ثم زجره صاحبه فإن لم ينزجر بزجر صاحبه لم يحل الصيد لأنه لا أثر لفعل المسلم
فيأخذه وبدون الارسال لا يحل وان انزجره بزجر في القياس لا يحل أيضا لان زجره
ليس بارسال فان الارسال يكون من يده ولم يكن في يده حين زجره وبدون الارسال
لا يحل صيد الكلب ولكنه استحسن ذلك فقال لما انزجر بزجره يجعل ذلك بمنزلة ابتداء
الارسال والصياد قد يبتلى بهذا لان الكلب ربما يرى الصيد ولا يراه صاحبه فلو انتظر
إرساله فإنه فينبعث على أثره وينظر إلى صاحبه ليزجره حتى إذا زجره كان بالقرب من
الصيد فيتمكن من أخذه ثم انبعاثه لم يكن فعلا معتبرا فالحاجة إلي ابتداء الفعل لا إلى فسخ
الفعل ولما انزجر بزجره جعل هذا ابتداء فعله بخلاف الأول فالحاجة هناك إلى فسخ فعل
معتبر والفسخ لا يصلح لذلك وهو نظير ما قلنا فيمن حفر بئرا في الطريق فألقى انسان حجرا
على شفيره فيعثر انسان في الحجر حتى هوى في البئر فالضمان على الملقى وبمثله لو ثنى حجرا من
(16 مبسوط حادي عشر)
239

شفير البئر أو جاء به سيل فيعثر به انسان فوقع في البئر فالضمان علي الحافر لأنه لم يوجد
من بعد فعله فعل معتبر فبقي حكم فعله بخلاف الأول. قال (وإذا توارى الكلب والصيد
عن المرسل المسلم ثم وجده المسلم وقد قتله وليس فيه أثر غيره حل تناوله إذا لم يترك الطلب
لأنه يستطاع الامتناع منه والتواري عن بصره لا يستطاع الامتناع عنه خصوصا في
القناص والمستأجر والطير بعد إصابة السهم ربما يتحامل ويطير حتى يغيب من بصره فيسقط
فإن كان ترك الطلب إلى عمل آخر حتى إذا كان قريبا من الليل طلبه فوجد الصيد ميتا
والكلب عنده والبازي وبه جراحة لا يدرى الكلب جرحه أو غيره لم يحل أكله عندنا
. وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل لأنه ظهر لموته سبب وهو ما كان منه من إرسال الكلب
والبازي والرمي والحكم متى ظهر عقب سببه يحال عليه كما لو جرح انسانا فلم يزل صاحب
فراش حتى مات فجعل قاتلا له ولكن نستدل بما روى أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله
عليه وسلم صيدا فقال عليه الصلاة والسلام من أين لك هذا قال كنت رميته بالأمس
وكنت في طلبه حتى حال بيني وبينه ظلمة الليل ثم وجدته الليل وفيه من باقي فقال عليه
الصلاة والسلام لعل بعض الهوام أعانك على قتله فلا حاجة لي فيه وقال ابن عباس كل ما أصميت
ودع ما أنميت والانماء التواري عن بصرك إلا أن قدر ما لا يستطاع الامتناع عنه جعل
عفوا فأما ترك الطلب مما يستطاع الامتناع عنه والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة
ثم في المدة القصيرة يؤمن إصابة آفة أخرى إياه ولا يؤمن ذلك إذا ترك الطلب وطالبت المدة
ولأنه لا يدري فلعله لو لم يترك الطلب وجده حيا فذكاه فمن هذا الوجه يكون تاركا ذكاة
الاختيار فيه مع القدرة عليه وان وجده وفيه جراحة أخرى ليس له أن يأكله ترك الطلب
أو لم يترك لأنه ظهر لموته سببان أحدهما موجب للحل والآخر موجب للحرمة فيغلب
كما لو وقعت الرمية في الماء. قال (وإذا أرسل كلبه أو بازيه علي صيد فأخذ ذلك الصيد أو
أخذ غيره أو أخذ عددا من الصيود فهو كله حلال ما دام على وجه الارسال) لان الارسال
قد صح من المسلم موجبا للعمل فما نأخذه من وجه إرساله وهو ممسك له على صاحبه
يحل وتعيين الصيد في الارسال ليس يشرط الا على قول مالك رضي الله تعالى عنه فإنه يقول
التعيين شرط حتى إذا ترك التعيين فهو كترك الارسال وعن ابن أبي ليلى رحمه الله
تعالى قال التعيين ليس بشرط ولكن إذا عين اعتبر تعيينه حتى إذا ترك ذلك وأخذ غيره
240

لا يحل ولكنا نقول الشرط ما في وسعه اتخاذه وهو الارسال فأما التعيين ليس في وسعه لأنه
لا يمكنه ان يعلم البازي والكلب على وجه لا يأخذ الا ما يعينه ولان التعيين غير مفيد
في حقه ولا في حق الكلب فان الصيود كلها فيما يرجع إلى مقصوده سواء وكذلك في
حق الكلب فقصده إلى أخذ كل صيد يتمكن من أخذه وعلامة علمه إمساكه على صاحبه
بترك الأكمل وما ليس بمفيد لا يعتبر شرعا فسواء أخذ ذلك الصيد أو غيره حل. قال
(فان قتل واحدا وجثم عليه طويلا ثم مر به صيد آخر فأخذه لم يؤكل) لان فور الارسال
قد انقطع حين جثم على الأول طويلا فقد انعدم إرسال صاحبه في حق الصيد الثاني وهو
شرط في الحل (فان قيل) كيف يكون فعله ناسخا لارسال صاحبه (قلنا) إنما جثم على ذلك
الصيد بناء على إرسال صاحبه ليأتيه فيأخذه منه فذلك بمنزلة فعل صاحبه ولو منعه انقطع به حكم
الارسال مع أن فعل العجماء معتبر في نسخ حكم فعل الآدمي به كمن أرسل دابة في الطريق
فتركت سنن الارسال وذهب يمنة أو يسرة فأتلفت مالا لم يجب الضمان علي المرسل بخلاف
ما لو ذهبت على سنن الارسال. قال (وان وصل إليه صاحبه والصيد حي فأخذه فلم يذبحه
حتى مات لم يؤكل) أما إذا تمكن من ذبحه فلا شك فيه لأنه ترك ذكاة الاختيار مع القدرة
عليه وأما إذا لم يتمكن من ذلك فإن كان لفقد الآلة فكذلك الجواب لان التقصير من قبله
حيث لم يحمل آلة الذكاة مع نفسه وإن كان لضيق الوقت فكذلك الجواب عندنا (وقال)
الحسن بن زياد ومحمد بن مقاتل رحمهما الله تعالى يحل استحسانا وهو قول الشافعي رحمه الله
تعالى لان ذكاة الاضطرار بدل عن ذكاة الاختيار وما لم يقدر على الأصل لا يسقط
حكم البدل كالمتيمم إذا وجد الماء وبينه وبين الماء سبع أو عدو وهنا لم يقدر على الأصل
فبقي ذكاة الاضطرار موجبا للحل ولكنا نقول ذكاة الاضطرار إنما تعتبر فيما إذا لم يقع في
يده حيا وهذا قد وقع في يده حيا فسقط اعتبار ذكاة الاضطرار فيه وألحق بما كان في يده
كالشاة والبعير إذا سقط فلم يتمكن من ذبحه في المذبح لضيق الوقت فجرحه فمات لم يحل
فهذا مثله وهذا كله إذا كان يتوهم بقاؤه حيا مع الجرح الذي جرحه الكلب فأما إذا شق
بطنه فأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حيا فمات حل تناوله لأنه استقر فعل الذكاة
قبل وقوعه في يده وما بقي فيه اضطراب المذبوح فلا يعتبر كمن ذبح شاة فاضطربت ووقعت
في الماء بعد قطع الحلقوم والأوداج لم يحرم بذلك لهذا المعنى وقيل هذا قول أبى يوسف
241

ومحمد رحمهما الله تعالى فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل وهو القياس لأنه وقع في
يده حيا وموته مما أصابه وحياته موهوم فإنما ينبنى الحكم على ما هو معلوم حقيقة وهو
وقوعه حيا في يده صاحبه فلا يحل بدون ذكاة الاختيار. قال (والكلب الكردي والأسود
في الاصطياد به إذا كان معلما كغيره لقوله تعالى تعلمونهن مما علمكم الله) وإنما أورد هذا لان
من الناس من يقول لا يحل ذلك وإنما الاصطياد بالكلاب الفقهية المسترخية الآذان
وليس ذلك معتبرا عندنا وكذلك إذا علم شيئا من السباع حتى جعل يصيد به مثل عتاق
الأرض وغيره فلا بأس بصيده لأنه مرسل معلم أمسك الصيد على صاحبه. قال (وإذا كمن
الفهد في إرساله حتى استمكن من الصيد ثم وثب عليه فقتله لم يحرم أكله) لان هذا لا يستطاع
الامتناع منه فهو عادة ظاهرة للفهد أنه يكمن ولا يعدو علي أثر الصيد فيسقط اعتباره ولأنه
تحقق ما قصده صاحبه بالارسال فلا ينقطع به فور الارسال كالوثوب. قال (وكذلك الكلب
إذا فعل ذلك فهو بمنزلة الفهد) لما بينا أنه قصد به التمكن من الصيد فلا ينقطع به حكم
الارسال (قال) وكان شيخنا رحمه الله يقول للفهد خصال ينبغي لكل عاقل أن يأخذ ذلك منه
(من ذلك) أنه يكمن للصيد حتى يستمكن منه وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يجاهر بالخلاف مع
عدوه ولكن يطلب الفرصة حتى يحصل مقصوده من غير إتعاب نفسه (ومنه) إنه لا يعدو
خلف صاحبه حتى يركبه خلفه وهو يقول هو المحتاج إلى فلا أذل له فلهذا ينبغي للعاقل أن
يفعله لا يذل نفسه فيما يعمل لغيره (ومنه) أنه لا يتعلم بالضرب ولكن يضرب الكلب بين يديه
إذا أكل من الصيد فيتعلم بذلك وهكذا ينبغي للعاقل أن يتعظ بغيره كما قيل السعيد من وعظ
بغيره (ومنه) أنه لا يتناول الخبيث وإنما يطلب من صاحبه اللحم الطيب وهكذا ينبغي للعاقل
أن لا يتناول الا الطيب (ومنه) أنه يثبت ثلاثا أو خمسا فان تمكن من الصيد والا تركه وهو
يقول لا أقتل نفس فيما أعمله لغيري وهكذا ينبغي لكل عاقل. قال (وإذا شاركه في الصيد
كلب آخر غير معلم لم يحل أكله) لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم رضى الله تعالى
عنه وإذا شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب
غيرك ولأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحل والمعنى الموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة
وكذلك أن رد الصيد عليه حتى أخذه أورده عليه سبع حتى أخذه لأنه قد أعانه على أخذ الصيد
وبهذه الإعانة تثبت المشاركة بين الفعلين والبازي في ذلك كالكلب لان فعل ما ليس بمعلم يحرم
242

الصيد والبازي والكلب فيه سواء وان رد الصيد على الكلب مجوسي حتى أخذه فلا بأس
بأكله لان فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلا تثبت به المشاركة بل يكون الصيد
مأخوذا بأخذ الكلب الذي أرسله المسلم فكان حلالا فاما فعل الكلب الذي لم يرسله صاحبه
وفعل السبع من جنس فعل الكلب الذي أرسله المسلم فتتحقق المشاركة ويجتمع في الصيد
الموجب للحل والموجب للحرمة. قال (وإذا أكل الكلب من الصيد فقد خرج عن حكم المعلم)
لان علامة المعلم فيه ترك الأكل وفى البازي الإجابة إذا دعاه فكما أن البازي إذا فر منه وامتنع
من اجابته لا يكون معلما فكذلك الكلب إذا أكل من الصيد لا يكون معلما ويحرم ما عنده
من صيوده قبل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحرم في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله *
من أصحابنا رحمهم الهل من يقول هذا إذا كان العهد ريبا بأخذ تلك الصيود فاما إذا تطاول
عليه العهد بأن أتى عليه شهر أو نحو ذلك وقد قدر صاحبه صيوده لم تحرم تلك الصيود لان
في المدة الطويلة يتحقق النسيان فلا يكون ذلك دليلا على كونه غير معلم في ذلك الوقت وفى
المدة القصيرة لا يتوهم نسيان الحرفة فنبين انه كان عن غير علم حين اصطاد تلك الصيود وإنما
لم يأكل منها للشبع لا للامساك على صاحبه. والأظهر أن الخلاف في الفصلين جميعا فهما
يقولان قد حكمنا بالحل في الصيود المأخوذة وأكله من هذه الصيد محتمل قد يكون لفرط
الجوع مع كونه معلما وقد يكون لامساكه على نفسه وكونه غير معلم وما كان محكوما به
لا يجوز ابطاله بالشك ولا معنى لقول من يقول قد حكمنا بكونه جاهلا حتى قلنا لا يؤكل
هذا الصيد الذي أكل منه ولا ما يأخذه بعده ما لم يصر معلما إلا أنا إنما حكمنا بذلك لنوع اجتهاد
مع بقاء الاحتمال والاجتهاد دليل يصلح للعمل به في المستقبل وليس بدليل لنوع اجتهاد
مع بقاء الاحتمال والاجتهاد يصلح العمل به في المستقبل لا في بعض ما مضى بالاجتهاد
والحل في الصيود المحرزة حكم أمضى بالاجتهاد وأبو حنيفة رحمه الله يقول تبين أن ذلك صيد
كلب جاهل فلا يؤكل منه كالصيد الذي أكل منه وبيان ذلك أن هذه الحرفة في الكلب
إذا حصلت كانت ضرورية فلا ينسى أصلها ولكنها تضعف بالترك زمانا كالخياطة والرمي
ونحوهما في الآدمي ولما وجب الحكم بكونه جاهلا في الحال تبين ضرورة أنه لم يكن معلما وانه
إنما ترك الأكل للشبع حتى لم يترك حين كان جائعا وهذا لان الأكل وإن كان محتملا
ولكن تعين فيه أحد الوجهين بدليل شرعي وهو كونه غير معلم حين حرم تناول هذا
243

الصيد فسقط اعتبار احتمال وجه آخر وما قال أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى الاحتياط وعليه
يبنى الحل والحرمة. قال (ولا يحل صيده بعد ذلك حتى يصير معلما) بأن يصيد به ثلاثا فلا يأكل
منها فيحل حينئذ الرابع في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ولكن أبو حنيفة رحمه الله لم
يؤقت فيه وقتا ولكن يقول إذا صار عالما فكل من صيده وكذلك الخلاف في تعليمه في ابتداء
أمره وعلى قولهما إنما يحصل بأن يجيبه إذا دعى ويرسله على الصيد فيصيده ولا يأكل منه ثلاث
مرات ولم يؤقت فيه أبو حنيفة رحمه الله وقتا ولكنه قال هو مأكول إلى اجتهاد صاحبه فإن كان
أكبر رأيه انه صار معلما فهو معلم وربما قال يرجع إلى أهل العلم به من الصيادين فإذا قالوا
صار معلما فهو معلم وحجتنا في ذلك أن المعلم يمسك الصيد على صاحبه وعلامة ذلك أن لا
يأكل منه إلا أن ترك الأكل قد يكون للشبع وقد يكون للامساك على صاحبه فإذا ترك
ذلك مرارا علي الولاء يزول به هذا الاحتمال ونعلم أنه معلم لامساكه على صاحبه وقدرنا ذلك
بالثلاث لأنه حسن الاختيار والأصل فيه قصة موسى مع معلمه عليه السلام حيث قال في
الثالثة هذا فراق بيني وبينك وكذلك الشرع قدر مدة الاختيار بثلاثة أيام للاختيار وقال
عليه الصلاة والسلام إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع وقال عمر رضى الله تعالى
عنه إذا لم يربح أحدكم في التجارة ثلاث مرات فليرجع إلى غيرها وأبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول نصب المقادير بالرأي لا يكون ولا مدخل للقياس فيه فيكون طريق معرفته
الاجتهاد والرجوع إلى من له علم في ذلك الباب قال الله تعالى فاسألوا أهل الذكران كنتم
لا تعلمون وهذا لان احتمال الشبع كما يكون في المرة يكون في المرات (وروى) الحسن عن
أبي حنيفة رحمهما الله مثل قولهما في التقدير بالثلاث إلا أن في تلك الرواية أبو حنيفة يقول
يؤكل الصيد الثالث وهما يقولان لا يؤكل الصيد الثالث لأنه إنما حكم بكونه معلما حين ترك
الأكل من الثلاث وآخره لهذا الصيد كان قبل ذلك فلا يؤكل منه وأبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول إنما يحكم بكونه معلما بطريق تعيين إمساكه الثالث على صاحبه وإذا حكمنا بأن
يمسكه على صاحبه وقد أخذه بعد إرسال صاحبه حل التناول منه كالرابع. قال (وإذا أخذ
الرجل الصيد من الكلب ثم وثب عليه الكلب فانتهش منه قطعة ورمى بها صاحبها إليه
فأكلها لم يفسدهما عليه) لأنه قد تم إمساكه على صاحبه حين لم يأكل منه حتى وصل إلى
يد صاحبه وبعد ذلك انتهاشه منه ومن لحم آخر في مخلاة صاحبه سواء فلا يخرج به من أن
244

يكون معلما ولان هذا من عادة الصيادين أن يأخذ الصيد من الكلب ثم يرمى بقطعة منه
إليه وكأن الكلب طالبه بهذه العادة فهو دليل حذقه لا دليل جهله وان انتهش الكلب من
الصيد قطعة في اتباعه إياه فأكلها ثم اتبعه فأخذه أو أخذ غيره فقتله لم يحل أكله لأنه
لما أكل القطعة التي تمكن منها من الصيد عرفنا أنه غير معلم وان سعيه لنفسه لا للامساك
على صاحبه وإنما ترك الأكل مما بقي لأنه شبع بتناول تلك القطعة وإن كان ألقى تلك القطعة
وأخذه وقتله ولم يأكل حتى أخذه ثم عاد فأكل تلك القطعة لم تضره لأنه أمسك الصيد
على صاحبه حين لم يأكل منه مع حاجته وتناوله تلك القطعة بعد وصول الصيد إلي صاحبه
كتناول قطعة ألقاها إليه صاحبه بل ذلك دليل حذقه حتى اشتغل بتناول ما يعلم أن صاحبه
لا يرغب فيه فهو بمنزلة ما لو شرب من دمه وقد بينا ان ذلك لا يحرم الصيد فكذلك هذا. قال
(ولا يحل صيد المجوسي ولا ذبيحته لقوله عليه الصلاة والسلام سنوا بالمجوس سنة أهل
الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) و لأنهم يدعون لا ثنين فلا يتحقق منهم تسمية
الله تعالى على الخلوص وذلك شرط الحل في الذكاة الا فيما يحتاج فيه إلي الذكاة من سمك
أو جراد وبيضة بأخذها وما أشبه ذلك فان الحل في هذه الأشياء ليس يثبت بالفعل حتى
يحل وان مات بغير فعل أحد ولا اقتراب التسمية بالفعل فلا يشترط التسمية للحل فيما لا يشرط فيه الفعل والمرتد في ذلك كالمجوسي أما إذا ارتد لغير دين أهل الكتاب فلا اشكال
فيه لأنه كالكافر الأصلي فيما اعتقده وان ارتد إلي دين أهل الكتاب فلانه غير مقر على ما
اعتقده وقد ترك ما كان عليه فلا ملة له والنكاح وحل الذبيحة ينبنى على الملة. قال (ولا
بأس بصيد المسلم بكلب المجوسي المعلم وبازيه كما يذبح بسكينه) لان المعتبر في الآلة أن تكون
جارحا فلا يختلف ذلك بكون مالكه مجوسيا أو مسلما والشرط يقترن بالفعل والفاعل في الذبح
والاصطياد والمسلم هو من أهل ايجاد هذا الشرط. قال (وإذا أرسل المجوسي كلبه على صيد ثم أسلم
ثم زجره فانزجر بزجره وقتل الصيد لم يحل أكله) كما لو زجره مسلم آخر وهذا لان أصل
إرساله كان فعلا موجبا للحرمة ولم ينسخ ذلك بالزجر بعد اسلامه وإنما ينظر في هذا الجنس
إلى وقت الارسال والرمي فإن كان فيه مجوسيا أو مرتدا لم يحل صيده وان تغير عن حاله قبل
أن يأخذه وإن كان مسلما ثم ارتد والعياذ بالله لم يحرم الصيد لان الحل باعتبار تسمية الله
وقد بينا ان الشرط عند الارسال والرمي لا عند الإصابة فإن كان مسلما في ذلك الوقت
245

وسمى فقد تقرر فعله موجبا للحل فلا يتغير ذلك بردته كما لا يتغير ذلك بموته ولو مات قبل
الإصابة فإن كان مجوسيا أو مرتدا فقد تقرر فعله موجبا للحرمة فلا يتغير باسلامه بعد ذلك
اعتبار بفعل الرمي والارسال هنا بالذبح في الشاة. قال (ولا بأس بصيد اليهودي والنصراني
وذبيحتهما لقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم والمراد الذبائح) إذ لو حمل على ما
هو سواها من الأطعمة لم يكن لتخصيص أهل الكتاب بالذكر معنى ولا نهم يدعون التوحيد
فيتحقق منهم تسمية الله تعالى على الخلوص إلا أن يسمعه المسلم يسمى عليه المسيح فإذا سمع
ذلك منه لم يحل أكله لأنه ذبح بغير اسم الله عز وجل ولو فعل ذلك مسلم لم يحل لقوله تعالى
وما أهل لغير الله به فحال الكتابي في ذلك لا يكون أعلى من حال المسلم وبعض أصحاب
الشافعي رحمهم الله يقولون يحل لان المسلم إذا ذبح بغير اسم الله تعالى يصير مرتدا وإنما
لا يؤكل بردته وهذا لا يوجد في حق الكتابي وقد أحل الشرع ذبائحهم مع قولهم ان الله هو
المسيح بن مريم كما أخبر الله عنهم وهو يتعالى عن ذلك علوا كبيرا فإذا ظهر ذلك لم تحرم
ذبيحتهم ولكنا نقول قد بينا ان الحرمة المعتبرة بالصفة إنما تثبت باعتبار تلك الصفة وقد
نص الله تعالى علي الحرمة بتسمية غير الله تعالى وإذا كان في حق المسلم الحرمة ليست باعتبار
هذا الوصف عرفنا ان المراد بالآية الكتابي وان كانت الحرمة في حق المسلم باعتبار هذا
الوصف فكذلك في حق الكتابي (وقد) روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وإذا
سمعتموهم يذكرون اسم المسيح علي ذبائحهم فلا تأكلوا. قال (فان تهود المجوسي أو تنصر
تؤكل ذبيحته وصيده) لأنه يقر على ما اعتقده عندنا لأنه صار بحيث يدعى التوحيد فلا
يجوز اخباره على العود إلى دعوى اثنين وإذا كان مقرا على ما اعتقده اعتبر بما لو كان عليه في
الأصل لو تمجس يهودي أو نصراني لم يحل صيده ولا ذبيحته بمنزلة ما لو كان مجوسيا في
الأصل. قال (وإن كان غلام أحد أبويه نصراني والآخر مجوسي وهو يعقل الذبح تؤكل
ذبيحته وصيده عندنا) وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تؤكل لأنه تابع لأبويه واعتبار جانب
أحدهما يوجب الحرمة والآخر يوجب الحل فيتغلب الموجب للحرمة كما لو اشترك المسلم
والمجوسي في الاصطياد والذبح وحجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كل مولد يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا
فقد جعل العاقل اتفاق الأبوين ولم يوجد اتفاقهما في التمجس فلا يثبت حكم المجوسية في حقه
246

ولان أحد الأبوين ممن تحل ذبيحته فيجعل الولد تابعا له كما إذا كان أحد الأبوين مسلما
والآخر مجوسيا وهذا لان الصبي يقرب من المنافع ويبعد من المضار والنصرانية إذا قو بلت
بالمجوسية فالمجوسية شر فكان اتباع الولد للكتابي أنفع للولد وإنما يترجح الموجب للحظر عند
المساواة وقد انعدمت المساواة هنا فجعلنا الولد تابعا للكتابي منهما. قال (فأما ذبيحة الصابئ
وصيده يحل عند أبي حنيفة رحمه الله ويكره) وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يحل
وذكر الكرخي رحمه الله تعالى انه لا خلاف بينهم في الحقيقة ولكن في الصابئين قوم
يقرون بعيسى عليه السلام ويقرون الزبور فهم صنف من النصارى فإنما أجاب أبو حنيفة
رحمه الله تعالى لا يحل ذبائح هؤلاء وفيهم من ينكر النبوات والكتب أصلا وإنما يعبدون
الشمس وهؤلاء كعبدة الأوثان وإنما أجاب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في حق
هؤلاء. قال الشيخ الامام رحمه الله تعالى وفيما ذكره الكرخي رحمه الله تعالى عندي نظر
فان أهل الأصول لا يعرفون في جملة الصابئين من يقر بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما
يقرون بإدريس عليه الصلاة والسلام ويدعون له النبوة خاصة دون غيره ويعظمون
الكواكب فوقع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنهم يعظمونها تعظيم الاستقبال لا تعظيم
العبادة كما يستقبل المؤمنون بالقبلة فقال تحل ذبائحهم ووقع عند) أبى يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى أنهم يعظمونها تعظيم العبادة لها فألحقناهم بعبدة الأوثان وإنما اشتبه ذلك لأنهم يدينون
بكتمان الاعتقاد ولا يستحيون باظهار الاعتقاد البتة وإنما احتجاج أبى يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى أولي لان عند الاشتباه يغلب الموجب للحرمة. قال (ولا تؤكل السمكة الطافية
فأما ما انحسر عنه الماء أو نبذه فلا بأس بأكله) وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس بأكل
السمك الطافي واستدل بقوله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قيل الطعام من
السمك ما يوجد فيه ميتا وقال عليه الصلاة والسلام في البحر هو الطهور ماؤه والحل ميتته وقال
صلوات الله وسلامه عليه أحلت لنا ميتتان ودمان الحديث وفى حديث أبان بن أبي عياش
رضى الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أكل الطافي من السمك فلم يربه
بأسا واعتبر السمك بالجراد بعلة أنه لا يشترط فيه الذكاة فيستوى موته بسبب وبغير سبب
وحجتنا في ذلك حديث جابر رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما انحسر
عنه الماء فكل وما طغى فلا تأكل ولا يقال هذا نهى اشفاق لما قيل إن الطافي يورث البرص
247

وهذا لان الاستكثار من السمك يورث البرص الطافئ وغيره سواء وإنما بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم مبينا للاحكام دون الطب وحرمة تناول الطافئ مروى عن علي وابن
عباس رضى الله تعالى عنهم حتى قال على رضى الله تعالى عنه للسماكين لا تبيعوا الطافئ في
أسواقنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أكل الطافئ حرام ولأنه حيوان مات بغير
سبب فلا يؤكل كسائر الحيوانات بخلاف الجراد فموته لا يكون الا بسبب على ما بينا أنه
بحري الأصل برى المعاش فان مات في البحر فقد مات في غير موضع معاشه وما مات في
البر فقد مات في غير موضع أصله وهذا سبب لهلاكه فوزانه لو مات السمك بسبب. وقد
بينا أن الموجب للحرمة من الآثار يترجح على الموجب للحل لقوله عليه الصلاة والسلام
الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى مالا يريبك ثم جميع
أنواع السمك حلال الحريث والمارهيج وغيره في ذلك سواء ولا يؤكل من سوى السمك
من حيوانات الماء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يؤكل جميع ذلك وله في الضفدع
قولان وفى الكتاب ذكر عن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى قالا لا بأس بصيد البحر كله وقيل
الصحيح في مذهب ابن أبي ليلي رحمه الله تعالى ما يؤكل جنسه من صيد البر يؤكل من
صيد البحر وما لا يوكل من صيد البر كالخنزير ونحوه لا يؤكل من صيد البر واستدل
الشافعي رحمه الله تعالى بالآية والخبر وليس فيهما تقييد السمك من بين صيد الماء وميتاتها
وفى حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله تعالى قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورضي الله عنهم في سفر فأصابتنا مجاعة فألقى البحر لنا دابة يقال لها عنترة فأكلنا منها وتزودنا
فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه
هل بقي عندكم شئ فتطعموني وحجتنا في ذلك قوله تعالى أو لحم خنزير ولم يفصل بين البري
والبحري وسئل عليه الصلاة والسلام عن مخ الضفدع يجعل في الدواء فنهى عن قتل الضفادع
وقال إنها خبيثة من الخبائث فان ثبت بهذا الحديث أن الضفدع مستخبث غير مأكول
فقيس عليه سائر حيوانات الماء ومن يقول يؤكل جميع صيد البحر دخل عليه أمر قبيح
فإنه لا يجد بدا من أن يقول يؤكل انسان الماء وهذا تشنع فعرفنا أن المأكول من المائي
السمك فقط وان المراد بقول الله تعالى أحل لكم صيد البحر ما يؤخذ منه طريا ومن قوله
تعالى وطعامه متاعا لكم المالح المقدد منه والصحيح من حديث أبي سعيد رضى الله
248

تعالى عنه فألقى لنا البحر حوتا يقال له عنبر وهو اسم للسمك وتأويل الرواية الأخرى
أنه جوز لهم التناول لضرورة المجاعة أو كان ذلك قبل نزول قوله تعالى ويحرم عليهم
الخبائث ثم الأصل عندنا في إباحة السمك أن ما مات منه بسبب فهو حلال كالمأخوذ منه
وما مات بغير سبب فهو غير مأكول كالطافئ فان ضرب سمكة فقطع بعضها فلا بأس
بأكلها لوجود السبب وكذلك أن وجد في بطنها سمكة أخرى لان ضيق المكان سبب
لموتها وكذلك أن قتلها شئ من طير الماء وغيره وكذلك أن ماتت في جب لان ضيق المكان
سبب لموتها وكذلك أن جمعها في حظيرة لا تستطيع الخروج منها وهو يقدر علي أخذها بغير
صيد فلا خير في أكلها لأنه لم يظهر لموتها سبب وإذا مات السمك في الشبكة وهي لا تقدر
علي التخلص منها أو أكل شيئا ألقاه في الماء ليأكله فمات منه وذلك معلوم فلا بأس بأكله
وكذلك لو ربطها في الماء فماتت فهذا كله سبب لموتها وهو في معنى ما انحسر عنه الماء وقال
عليه الصلاة والسلام ما انحسر عنه الماء فكل وكذلك لو انجمد الماء فبقيت بين الجمد فماتت
فأما إذا ماتت بحر الماء أو برده ففيه روايتان فعلى احدى الروايتين تؤكل لوجود السبب
لموتها وفى الرواية الأخرى لا تؤكل لأن الماء لا يقتل السمك حارا أو باردا (وروى) هشام
عن محمد رحمهما الله أنه إذا انحسر الماء عن بعضه فإن كان رأسه في الماء فمات لا يؤكل وان
انحسر الماء عن رأسه وبقي ذنبه في الماء فهذا سبب لموته فيؤكل. قال (وإذا أرسل بازيه المعلم
على صيد ووقع على صيد ثم اتبع الصيد وأخذه وقتله فلا بأس بأكله) لان هذا مما لا يستطاع
الامتناع منه ولان من عادة البازي هذا أن يقع على شئ وينظر إلى صيد ليأتيه من الجانب
الذي يتمكن من أخذه فهو بمنزلة كمين الفهد فلا يحرم به صيده ولا ينقطع به فور الارسال.
قال (وإذا أصاب السهم الصيد فأثخنه حتى لا يستطيع براحا ثم رماه بسهم آخر فقتله لم
يحل أكله) لان هذا قد صار أهليا فقد عجز بالفعل الأول عن الاستيحاش والطيران فذكاته بعد
ذلك بالذبح في المذبح لا بالرمي بل الرمي في مثله موجب للحرمة ولما اجتمع فيه الموجب للحرمة
والموجب للحل يغلب الموجب للحرمة ولان اثخانه إياه كأخذه ولهذا لو أثخنه أحدهما
وأخذه الآخر فهو للأول ولو أخذه ثم رماه فقتله لم يؤكل فذلك إذا أثخنه وان رمى بالسهم
الثاني غيره فقتله لم يحل أيضا لما بينا ويغرم قيمته مجروحا للأول في قول أبى يوسف ومحمد
رحمهما الله وأبو حنيفة في هذا لا يخالفهما ولكن لم يحفظ جوابه فذكر قول أبى يوسف
249

ومحمد رحمهما الله وهذا الآن الفعل من الأول موجب للملك له والحل له والثاني بفعله أتلف صيدا
مملوكا للأول فيضمن قيمته بالصفة التي أتلفه وإنما أتلفه مجروحا بالجرح الأول وان علم أنه
مات من الجراحتين جميعا فإنه يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرح الأول ونصف قيمته لحما
ذكيا لان النصف مات بفعله والنصف بفعل الأول لان الثاني أفسد عليه اللحم في ذلك
النصف فلهذا ضمن نصف قيمته لحما ذكيا وان أصابته رمية الثاني قبل أن يصيبه الأول لم
يحرم أكله ولا يلزمه غرمه لان رمية الثاني لم تخرجه من أن يكون صيدا فقد سبق ملكه
فلا يغرم له شيئا * وإذا كان الصيد يتحامل ويطير مع اصابه من رمية الأول فرآه الاخر
فقتله فهو للثاني حلاف لأنه هو الذي أخرجه من أن يكون صيدا بفعله والأول كالمقر له
والثاني كالأخذ والصيد لمن أخذ لا لمن أثار (وان رمياه جميعا معا أو أحدهما بعد صاحبه قبل
أن يصيبه السهم الأول فقتلاه فهو لهما جميعا حلال) لان كل واحد منهما رمى إلى صيد مباح
وأصابه الرميتان جميعا معا فقد استويا في سبب الملك وذلك موجب المساواة في الملك وفعل
كل واحد منهما مذك للصيد فيحل تناوله لهما وان رمياه معا فأصابه سهم أحدهما فأثخنه ثم
أصاب السهم الآخر فهو للأول ويحل تناوله عندنا وقال زفر رحمه الله لا يحل لان الرمية من
الثاني أصابته وليس بصيد والمعتبر وقت الإصابة لا وقت الرمي فلهذا لا يحل أكله ولكنا
نقول فعل كل واحد منهما موجب للحل لأنه رمى إلى صيد وفي الحل المعتبر وقت الرمي
لان الحل بالذكاة وهو فعل المذكى وفعله الرمي فأما في الملك فلا خير في أكلها لأنه لم يظهر
لموتها سبب وإذا مات السمك بالشبكة وهي لا تقدر علي التخلص منها أو أكل منها شيئا ألقاه
في الماء ليأكله فمات منه وذلك معلوم فلا بأس بأكله وكذلك لو ربطها في الماء فهذا كله
سبب لموتها والمعتبر وقت الإصابة لا وقت الرمي فلهذا لا يحل أكله ولكنا نقول فعل كل
واحد منهما موجب للحل لأنه رمى إلى الصيد وفى الحل المعتبر وقت الرمي لان الحل بالذكاة
وهو فعل المذكى وفعله الرمي فأما في الملك المعتبر وقت الإصابة لان الملك يثبت بالاحراز
واحراز الصيد بالإصابة دون الرمي وعلى هذ لو رمى إلى صيد وسمى فتكسر الصيد ثم أصابه
السهم حل عندنا ولم يحل عند زفر ومن أخذ صيدا أو فرخ صيد من دار رجل أو أرضه
فهو له لقوله عليه الصلاة والسلام الصيد لمن أخذ وهذا لان صاحب الملك لم يثبت يده على
فرخ الصيد لكونه في ملكه لأنه ما أفرخ ليتركه بل ليطيره. بخلاف النحل العسالة إذا
250

عسلت في أرض رجل فهو لصاحب الأرض لأنها ألقت ذلك للترك والقرار في ذلك
الموضع فهو بمنزلة طين مجتمع في أرض رجل من السيل يكون له. قال (ما لم يحرزه
صاحب الدار بالقبض عليه أو اغلاق باب ليحرزه به بحيث يقدر على أخذه بغير صيد فإذا
فعل ذلك فقد تم احرازه) ثم الآخذ إنما أخذ صيدا مملوكا فعليه رده على مالكه كمن نصب
شبكة فوقع فيها صيد ثم أخذه انسان آخر فعليه رده على صاحب الشبكة (ولو تكسر صيد
في أرض انسان فصار بحيث لا يستطيع براحا أو رمى صيدا فوقع في أرض رجل لا يدرى
من رماه فأخذه رجل آخر فهو للذي أخذه) لان الاحراز من الآخذ ولم يوجد من جهة
صاحب الملك احراز له وان عجز الصيد عن الطيران بما أصابه والمباح إنما يملك بالاحراز
قال (وكل من اصطاد سمكا من نهر جار لرجل فهو للذي أخذه) لان صاحب النهر ما صار
محرزا له بل هو صيد في نهره فالمحرز له من اصطاده وذلك أن كانت أجمة لا يقدر على أخذ
صيدها الا بالاصطياد فصاحب الأجمة صار محرزا لما حصل فيها من السمك إنما المحرز
الآخذ فإن كان صاحب الأجمة احتال لذلك حتى أخرج الماء وبقي السمك فهو لصاحب
الأجمة لأنه صار محرزا بما صنع فالسمك علي اليبس لأن يكون صيدا فإذا صار بفعله بحيث
يتمكن من أخذه من غير صيد فهو محرز له. قال (وإذا عجز المسلم عن مد قوسه واعانه مجوسي
على مده لم يحل الصيد) لاجتماع الموجب للحظر والموجب للحل فان فعل المجوسي من
جنس فعل المسلم فتحققت المشاركة بينهما كما لو أخذ مجوسي بيد المسلم فذبح والسكين في يد
المسلم قال (وإذا أصاب السهم الصيد فوقع على الأرض ومات حل أكله استحسانا) وفى
القياس لا يحل لجواز أن يكون مات بوقوعه على الأرض. وجه الاستحسان أن هذا مما
لا يستطاع الامتناع عنه إذ ليس في وسعه ان يرميه علي وجه يبقى في الهواء ولا يسقط وان
وقع في ماء أو على جبل ثم وقع منه على الأرض ومات لم يؤكل. وفي الوقوع في المال أثر
عن ابن مسعود رضي الله عنه وفى حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن
حاتم رضي الله عنه وقد بينا ولان من الجائز أن الماء قتله وهذا يستطاع الامتناع منه
وكذلك أن وقع على جبل ثم منه على الأرض فهذا مترد ومن الجائز أن التردي قتله
وقد قال الله تعالى في جملة المحرمات والمتردية وكذلك كل ما أصابه قبل أن يستقر على
مكانه الذي يموت عليه يعنى وقع على شجرة ثم وقع منها على الأرض وان مات على ذلك
251

الشئ ولم يقع على الأرض حيا فهو حلال وكذلك أن مات قبل وقوعه في الماء ثم وقع
في الماء لان التردي والوقوع في الماء كان بعد تمام فعل الذكاة ولم يكن سببا لموته وان
وقع على جبل ومات ولو على السطح فمات حل لان الموضع الذي وقع فيه بمنزلة الأرض وقد
بينا أن ذلك لا يستطاع الامتناع منه فيكون عفوا وهذا إذا كان ما وقع عليه مما لا يقتل
فإن كان ما يقتل مثل حد الرمح والقضيبة المنصوبة وحد الآجر واللبنة القائمة ونحوها لم يؤكل
لان هذا سبب لموته وهو فعل آخر سوى فعل الذكاة يستطاع الامتناع منه وفى الأصل
قال إن وقع علي آجرة موضوعة على الأرض فمات فهذا بمنزلة الأرض ويؤكل وذكر في المنتقى
لو وقع على صخرة فانشق بطنه فمات لم يؤكل وليس هذا باختلاف الروايات بل مراده ما
ذكر في المنتقى إذا أصابه حد الصخرة فانشق بطنه بذلك وهذا سبب لموته سوى الذكاة
ومراده مما ذكر في الأصل انه لم يصبه من الآجرة الا ما يصيبه من الأرض لو وقع عليه
وذلك عفو لأنه لا يستطاع الامتناع منه قال (فان رمى صيدا بسهم فأصاب فمر السهم في
سننه فأصاب ذلك الصيد أو غيره أو أصابه ونفذ إلى غيره فأصابه حل جميع ذلك) لما بينا أن
فعل الرمي يذكى لما يصيبه في سننه سواء أصاب صيدا أو صيدين وان عرض للسهم ريح
فرده إلى ما وراءه فأصاب صيدا لم يؤكل لان الإصابة لم تكن بقوة الرامي بل بقوة الريح
فهو نظير سهم موضوع في موضع حمله الريح فضربه على صيد فمات وفعل الريح لا يكون
ذكاة الصيد وكذلك أن رده يمنة أو يسرة حتى إذا أصاب صيدا لم يحل وإن لم يرده عن جهته
حل صيده لأنه ما دام يمضي في سننه فمضيه مضاف إلى قوة الرامي فأما إذا رده الريح يمنة
أو يسرة فقد انقطع حكم هذا الإضافة لان الرامي لا يجب مضي السهم يمنة أو يسرة
فيصير مضافا إلى الريح لا إلى الرامي وما دام يمضي في جهته فالريح يزيده في قوته فلا
ينقطع به حكم إضافة القوة إلى الرامي وعن أبي يوسف قال وان رده يمنة أو يسرة يحل
أيضا لأنه ليس بضد للجهة التي قصدها الرامي ولا يمكن الاحتراز عنه إذا كان يصطاد في
يوم ريح وكذلك لو أصاب السهم حائطا أو شجرا أو شيئا آخر فرده فهو ورد الريح سواء
في جميع ما ذكرنا لان مضيه إلى ما وراءه بصلابة الشجر والحائط لا بقوة الرمي وكذلك
لو أصابه سهم آخر قبل أن يصيب الصيد فرده عن وجهه فأصاب صيدا لم يؤكل وتأويل
هذا إذا كان الرامي بالسهم الثاني مجوسيا أو لم يكن قصده الاصطياد إنما كان قصده الرمي إلي
252

ذلك السهم فأما إذا كان قصد الثاني الاصطياد وسمى فان الصيد يكون له ويحل تناوله
ولا فرق بين أن يصيبه سهم أو يرد سهما آخر فيصيبه وقيل بل لا يحل على كل حال
لان الحل باعتبار فعل الرامي وجرح الآلة والسهم الذي رماه للثاني ما جرح الصيد والذي
جرح الصيد ما رماه الثاني ولا كان مضيه بقوة من رمى به فهو بمنزلة ما لو أصاب السهم قصبة
محدودة منصوبة في حائط وأصابت تلك القصبة الصيد بحدها فجرحته وذلك غير مأكول
فهذا مثله. قال (ولا يحل صيد البندق والحجر والمعراض والعصا وما أشبه ذلك وان جرح) لأنه
لم يخرق إلا أن يكون شيئا من ذلك قد حدده وطوله كالسهم وأمكن أن يرمى به فإذا كان
كذلك وخرقه بحده حل لما بينا أن المطلوب بالذكاة تسييل الدم وذلك يحصل بالخرق
والبضع فأما الجرح الذي يدق في الباطن ولا يخرق في الظاهر فلا يحصل تسييل الدم به
فهو في معنى الموقوذة والموقوذة حرام بالنص المثقل بالحديد وغير الحديد في ذلك سواء
وكذلك لو رمى الصيد بالسكين فأصابه بحده وجرحه يؤكل وان أصابه بقفا السكين أو
بمقبض السكين لم يؤكل والمزراق كالسهم يخرق ويعمل في تسييل الدم * وان حدد مروة فذبح
بها صيدا حل لحصول تسييل الدم بحد الآلة وفى حديث محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد
رضي الله عنه قال أخذت أرنبتين فذبحتهما بمروة محددة ثم سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فجوز لي أكلهما. قال (وما توحش من الأهليات حل بنا يحل به الصيد من الرمي) لما
بينا من الخبر أن لها أوابد كأوابد الوحش وقد روى عن محمد في البعير والبقرة إذ أنه في
المصر أو خارج المصر فرماه انسان حل به لان يدفع عن نفسه نصيبا له ويخاف فوته وإن كان
في المصر وأما الشاة إذا مدت في المصر فلا تحل بالرمي لأنه يمكنه أخذها في المصر
عادة فلم يتحقق العجز عن ذكاة الاختيار يكتفى فيها بذكاة الاضطرار. قال (وإذا أصاب
السهم الظلف والقرن فقتله حل أيضا به إذا أدماه ووصلت الرمية إلى اللحم) لان ما هو
المقصود وهو تسييل الدم قد حصل وكذلك المتردى في بئر لا يقدر على ذكاته فأينما وجئ
منه فأدماه فهو ذكاة لان المعتبر وقوع العجز عن ذكاة الاختيار وقد يتحقق ذلك بالتردي
في البئر فهو وما ند سواء قال (وان ري صيدا بسيف فأبان منه عضوا ومات أكل الصيد
كله الا ما بان عنه) لقوله عليه الصلاة والسلام ما أبين من الحي فهو ميت ومراد رسول الله صلى
253

الله عليه وسلم تحريم ما كانوا يعتادونه في الجاهلية فإنهم كانوا يقطعون بعض لحم الألية من الشاة وربما لا يقطعون بعض لحم العجز منها فيأكلونه فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذلك لان فعل الذكاة لا يتحقق في المبان مقصودا وأصل الشاة حية وبدون الذكاة لا يثبت
الحل وهذا المعنى موجود هنا فحكم الذكاة استقر في الصيد بعد ما مات وهذا العضو مبان
من حين مات فلا يسرى حكم الذكاة إلى ذلك العضو ولا يمكن اثبات حكم الذكاة في
ذلك العضو مقصودا بالإبانة كما لو بقي الصيد حيا فلهذا لا يؤكل ذلك العضو وإن لم يكن
بان ذلك العضو منه أكل كله لان بقاء الاتصال يسرى حكم الذكاة إلى ذلك العضو فيكون
حلالا كغيره وإن كان تعلق منه بجلدة فإن كان بمنزلة ما قد بان منه فلا يؤكل ومراده من
ذلك إذا كان بحيث لا يتوهم اتصاله بعلاج فهو المبان سواء وإن كان بحيث يتوهم ذلك فهذا
جرح وليس بإبانة فيؤكل كله وان قطعه نصفين يؤكل كله لان فعله أثمر ما يكون من الذكاة
إذ لا يتوهم بقاؤه حيا بعد ما قطعه نصفين طولا وان قطع الثلث منه مما يلي العجز فأبانه
فإنه يؤكل الثلثان اللذان مما يلي الرأس ولا يؤكل الثلث مما يلي العجز فان قطع الثلث مما يلي
الرأس فأبانه فإنه يؤكل كله لان ما بين النصف إلى العنق مذبح يريد به أن الأوداج من
القلب إلى الدماغ وان قطع الثلث مما يلي العجز لم يستقر فعل الذكاة بهذا حين لم تقطع
الأوداج وإنما استقر بموته وهذا الجرح مبان عنه عند ذلك فأما إذا أبان الثلث مما يلي الرأس
فقد استقر حكم الذكاة بقطع الأوداج بنفسه وكذلك أن قده نصفين فقد استفز فعل الذكاة
بقطع الأوداج فلهذا يؤكل كله فان أبان طائفة من رأسه فإن كان أقل من النصف
لم يؤكل ما بان منه لان الرأس ليس بمذبح فهو كما لو أبان جزأ من الذنب وإن كان النصف
أو أكثر أكل لأنه يتقطع الأوداج به فيكون فعله ذكاة بنفسه. قال (ولو ضرب وسمى وقطع
ظلفه فان أدماه فلا بأس بأكله وإن لم يكن أدماه لم يؤكل) لان تسييل الدم النجس لم يحصل
وعلى هذا لو ضرب عنق شاة بسيف فأبانه من قبل الأوداج فإنه يؤكل وفى الكتاب رواه
عن عمران بن حصين رضي الله عنه وقد أساء فيما صنع حين ترك الاحسان في الذبح *
واختلف المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله فيمن ذبح شاة في المذبح فلم يسل الدم منها
وقد يكون ذلك إذا كانت قد أكلت العناب وكان أبو القاسم الصفار رضى الله تعالى عنه
يقول لا يحل لانعدام معنى الذكاة وهو تسييل الدم النجس وقد قال عليه الصلاة والسلام
254

ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل وكان أبو بكر الإسكاف رحمه الله تعالى يقول لا بأس
بأكله لوجود فعل الذكاة على ما قال عليه الصلاة والسلام الذكاة ما بين اللبة واللحيين وقد
يمتنع بعض الدم في العروق لحابس يحبسه وذلك غير موجب للحرمة بالاتفاق وهذا مثله لم
يبن ما يؤكل ومالا يؤكل من الصيود وقد تقدم بيان ذلك. وذكر في جملة ما لا يؤكل
اليربوع والقنفذ وما أشبههما من الهوام لان الطباع السليمة تستخبثها فيدخل تحت قوله تعالى
ويحرم عليهم الخبائث. قال (ولا يجوز بيع الضفدع والسرطان وما أشبههما وكذلك جمل الماء
ولا يجوز بيع شئ من ذلك الا السمك) لأنه ليس له ثمن ومعنى هذا ما بينا أن البيع لا يجوز
الا فيما هو مال متقوم والمال ما يتمول والتقوم به يكون منتفعا به وسائر حيوانات الماء سوى
السمك غير مأكول اللحم ولا منفعة لها سوى الأكل فلم يكن مالا متقوما فإن كان شيئا له
ثمن كجلود الحمر ونحوها فبيعة جائز لان هذا منتفع به بوجه حلال فيكون متقوما فيجوز
بيعه. قال (ولا خير في أكل النسر والعقاب وأشباههما من صيد البر) لنهى النبي عليه الصلاة
والسلام عن كل ذي مخلب من الطير فأما العقعق والسودانية وأشباه ذلك مما لا مخلب
له فلا بأس بأكله وقد بينا الكلام في الغراب فيما سبق. قال (ولا تكره الصلاة على جلد ما
يكره أكله من ذي الناب) لان الزكاة تعمل فيما يؤكل لحمه في طيبة اللحم وطهارة الجلد
وفيما لا يؤكل لحمه يعمل في طهارة الجلد وان كأن لا يعمل في طيبة اللحم لان الجلد محل قابل
لهذا الحكم إلا ترى أنه يظهر بالدباغ قال عليه الصلاة والسلام إيماء إهاب دبغ فقد طهر فكذلك
بالذكاة وقد بينا هذا الفصل في كتاب الصلاة وتكره لحوم الا بل الجلالة والعمل عليها وتلك
حالها إلى أن تحبس أياما لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل لحم الجلالة
وفى رواية أن يحج على الجلالة ويعتمر عليها وينتفع بها وتفسير الجلالة التي تعتاد أكل الجيف
ولا تخلط فيتعين لحمها ويكون لحمها منتنا فحرم الأكل لأنه من الخبائث والعمل عليها لتأذى
الناس بنتنها وأما ما يخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه يظهر أثر ذلك من لحمه فلا
بأس بأكله والعمل عليه حتى ذكر في النوادر لو أن جديا غذى بلبن خنزير فلا بأس بأكله
لأنه لم يتغير لحمه وما غذى به صار مستهلكا ولم يبق له أثر وعلى هذا نقول لا بأس بأكل
الدجاجة وان كانت تقع على الجيف لأنها تخلط ولا يتغير لحمها ولا ينتن وقيل هي تنقش
الجيف تبتغى الحب فيها لا أن تتناول الجيف وكان ابن عمر رضي الله عنه يكره أكل الدجاج
255

لأنه يتناول الجيف. ولسنا نأخذ بهذا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من
لحم الدجاج ولو كان فيه أدنى خبث لامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تناوله والذي
روى أنه كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يذبحها فذلك على سبيل التنزه من غير أن يكون
ذلك شرطا في الدجاجة وغيرها مما يخلط وإنما يشترط ذلك في الجلالة التي لا تأكل الا الجيف
وفى الكتاب قال تحبس أياما على علف طاهر قيل ثلاثة أيام وقيل عشرة أيام والأصلح
انها تحبس إلى أن تزول الرائحة المنتنة عنها لان الحرمة لذلك وهو شئ محسوس ولا يتقدر
بالزمان لاختلاف الحيوانات في ذلك فيصار فيه إلى اعتبار زوال المضر فإذا زال بالعلف
الطاهر حل تناوله والعمل عليه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
(تم الجزء الحادي عشر ويليه الجزء الثاني عشر وأوله كتاب الذبائح)
256