الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ٨
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء الثامن من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب المكاتب)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله الكتابة لغة هو الضم والجمع يقول كتب البغلة إذا جمع بين سفريها بحلقة
ومنه فعل الكتابة لما فيها من الضم والجمع بين الحروف فسمى العقد الذي يجرى بين
المولى وعبده بطريق المعاوضة كتابة إما لأنه لا يخلو عن كتبة الوثيقة عادة ولهذا
سمى مكاتبة على ميزان المفاعلة لان العبد يكتب لمولاه كما يكتب المولى لعبده ليكون
في يد كل واحد منهما ما يتوثق به أو سمى كتابة لان المولى به يضم العبد إلى نفسه
في اثبات صفة المالكية له يدا فان موجب هذا العقد ثبوت المالكية للعبد يدا في نفسه
وكسبه لان المالكية عبارة عن ضرب قوة وقد ثبتت له هذه القوة بنفس العقد حتى يختص
بالتصرف في منافعه ومكاسبه ويذهب للتجارة حيث شاء ولهذا لا يمنعه المولى من
الخروج للسفر ولو شرط عليه أن لا يخرج كان الشرط باطلا لان ذلك ثابت له بضرورة
هذه المالكية ومقصود المولى من اثبات هذه المالكية له أن يتمكن من أداء المال بالتكسب
وربما لا يتمكن منه الا بالخروج من بلدة إلى بلدة وموجب العقد ما يثبت بالعقد المطلق ثم
عتقه عند أداء المال لاتمام هذه المالكية لأن العقد معاوضة فيقتضى المساواة بين المتعاقدين
وأصل البدل يجب للمولى في ذمته بنفس العقد ولكن لا يتم ملكه الا بالقبض لان الذمة
تضعف بسبب الرق فان صلاحية الذمة لوجوب المال فيها من كرامات البشر وذلك
ينتقض بالرق كالحل الذي ينبنى عليه ملك النكاح ولهذا لا يثبت الدين في ذمة العبد الا
متعلقا بمالكية رقبته وهذا لا يتحقق فيما كان واجبا للمولى لان المالكية حقه فلهذا كان
ما يجب له ضعيفا في ذمته فثبت للعبد بمقابلته مالكية ضعيفه أيضا ثم إذا تم الملك المولى
بالقبض تتم المالكية للعبد أيضا وتمام المالكية لا يكون الا بالعتق فيعتق لضرورة اتمام المالكية
2

ثم جواز هذا العقد ثبت بالنص قال الله تعالى والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم ان علمتهم فيهم خيرا وبظاهر الآية يقول داود ومن تابعه إذا طلب العبد من مولاه
أن يكاتبه وقد علم المولى فيه خيرا يجب عليه أن يكاتبه لان الامر يفيد الوجوب وقال
بعض مشايخنا الامر قد يكون لبيان الجواز والإباحة كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا
وقوله ان علمتم فيهم خيرا مذكور على وفاق العادة والعادة ان المولى إنما يكاتب عبده إذا
علم فيه خيرا ولكن هذا ضعيف فإنه إذا حمل على هذا لم يكن مفيدا شيئا وكلام الله تعالى
منزه عن هذا ولكن نقول الامر قد يكون للندب والإباحة ثابتة بدون هذا الشرط
والندب متعلق بهذا الشرط فإنما ندب المولى إلى أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا ثم الكتابة قد تكون
ببدل منجم مؤجل وقد تكون ببدل حال عندنا بظاهر الآية فالتنجيم والتأجيل زيادة على
ما يتلى في القرآن ومثل هذه الزيادة لا يمكن اثباتها بالرأي فعرفنا أنه ليس بشرط بل هو
ترفيه والشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز الكتابة الا مؤجلا منجما أقله نجمان قال لان العبد
يلتزم الأداء بالعقد والقدرة على التسليم شرط لصحة التزام التسليم بالعقد وهو يخرج من يد
مولاه مفلسا فلا يقدر على التسليم الا بالتأجيل والاكتساب في المدة فإذا كان مؤجلا
منجما كان ملتزما تسليم ما يقدر على تسليمه فيصح وإذا كان حالا فإنما يلتزم تسليم ما لا يقدر
على تسليمه فلا يصح العقد توضيحه أن صفة الحلول تفوت ما هو المقصود بالكتابة لأنه
يثبت للمولى حق المطالبة عقيب العقد والعبد عاجز عن الأداء ويتحقق عجزه بفسخ العقد
فيفوت ما هو المقصود وكل وصف يفوت ما هو المقصود بالعقد يجب نفيه عن العقد وذلك
لا يكون الا بالتنجيم والتأجيل قال وهذا بخلاف السلم على أصله فان المسلم إليه قبل العقد
كان من أهل الملك والعاقل لا يلتزم الا تسليم ما يقدر على تسليمه فعرفنا قدرته على التسليم
بهذا الطريق وهنا العبد قبل العقد لم يكن أهلا للملك فيتيقن بعجزه عن التسليم في الحال
ولان بعقد السلم يدخل ملك المسلم إليه بدل بقدرته على تسليم المسلم فيه في الحال وهو
رأس المال وهنا بالعقد لا يدخل في ملك العبد شئ بقدرته على تسليم البدل في الحال (وحجتنا)
في ذلك أن البدل في باب الكتابة معقود به كالثمن في باب البيع والقدرة على تسليم الثمن ليس
بشرط لصحة الشراء فالقدرة على تسليم البدل في باب الكتابة مثله وهذا لأن العقد إنما يرد على
المعقود عليه فتشرط القدرة على تسليم المعقود عليه ولهذا لا يجوز البيع الا بعد أن يكون المبيع
3

مملوكا للبائع مقدور التسليم له ولهذا شرطنا الاجل في السلم لان المسلم فيه معقود عليه وهو
غير مقدور التسليم في الحال لأنه غير مملوك للمسلم إليه وقدرته على التسليم لا تتحقق الا بملكه
فلا يجوز الا مؤجلا ليثبت قدرته على التسليم بالتحصيل في المدة ولان الكتابة عقد ارفاق
فالظاهر أن المولى لا يضيق على المكاتب ولا يطالبه بالأداء ما لم يعلم قدرته عليه الا انه لا يذكر
الاجل ليكون متفضلا في تأخير المطالبة منعما عليه كما كان في الأصل العقد وليمتحنه بما تفرس
فيه من الخير حتى إذا تبين له خلافه تمكن من فسخ العقد وبه فارق السلم لأنه مبنى على الضيق
والمماكسة فالظاهر أنه لا يؤخر عنه بعد توجه المطالبة له اختيارا فلهذا لا يجوز الا بذكر
الاجل ليثبت به قدرته على التسليم ثم يعتق المكاتب بأداء المال سواء قال له إذا أديت إلى
فأنت حر أو لم يقل له وللشافعي قول انه لا بد من أن يضمر هذا بقلبه ويظهر بلسانه وهذا
بعيد لما بينا ان العتق عند الأداء حكم العقد وثبوت الحكم بثبوت السبب والقصد إلى الحكم
والتكلم به بعد مباشره العقد ليس بشرط كما في البيع فان اضمار التمليك بالقلب واظهاره باللسان
ليس بشرط لثبوته عند مباشرة البيع فهذا مثله وان عجز عن أول نجم منها أو كانت حالة فلم
يؤدها حين طالبه بها رد في الرق لتغير شرط العقد وتمكن الخلل في مقصود المولى وقد بينا
خلاف أبى يوسف في كتاب العتاق ويستوى ان شرط ذلك في الكتابة أو لم يشرط وحكي
ابن أبي ليلى قال هذا إذا شرط عند العقد ان يرده في الرق إذا كسر نجما فإن لم يشترط
ذلك فما لم يكسر نجمين لا يرد في الرق وهذا فاسد لان تمكن الخلل فيما هو مقصود العاقد
يمكنه من الفسخ سواء شرط ذلك في العقد أو لم يشترط كوجود العيب بالمبيع وهذا لان
موجب العقد الوفاء بمقتضاه وبدونه ينعدم تمام الرضا وانعدام تمام الرضا في العقد المحتمل
للفسخ يمنع ثبوت صفة اللزوم والعاقد في العقد الذي لا يكون لازما متمكن من الفسخ
شرط ذلك أو لم يشترط كما في الوكالة والشركة فان كاتبه على ألف منجمة فان عجز عن نجم
فمكاتبته ألفا درهم لم تجز هذه المكاتبة لان هذا العقد لا يصح الا بتسمية البدل كالبيع وفى
باب البيع لا تصح التسمية بهذه الصفة لكونها مترددة بين الألف والألفين فكذلك في
المكاتبة وهذا في معنى صفقتين في صفقة واحدة وقد ورد النهي في ذلك ثم فيه تعليق
وجوب بعض البدل بالخطر وهو عجزه عن أداء نجم وهذا شرط فاسد تمكن فيما هو من
صلب العقد وهو البدل فيفسد به العقد وقد قررنا هذا الأصل في العتاق وان كاتبه على ألف
4

درهم على نفسه وماله وللعبد ألف درهم أو أكثر فهو جائز ولا يدخل بينه وبين عبده ربا
قال عليه الصلاة والسلام لا ربا بين العبد وسيده ثم مقصود المولى الارفاق بعبده واشتراط
مال العبد للعبد في الكتابة يحقق هذا المقصود لأنه كما لا يتمكن من الكسب الا بمنافعه لا يتمكن
من تحصيل الربح الا برأس مال له فلتحقق معني الارفاق صح اشتراط ماله له والربا هو
الفضل الخالي عن العوض والمقابلة إذا كان مستحقا بمعاوضة محضة فما يكون بطريق
الارفاق كما قررنا لا يكون ربا فإن كان في يده مال سيده لم يدخل ذلك في الكتابة لأنه شرط
له في العقد مالا مضافا إليه وإضافة المال إلى المرء اما أن يكون بكونه ملكا له أو لكونه
كسبا له والعبد ليس من أهل الملك فالإضافة إليه لكونه كسبا له بل يده فيه يد مولاه
فهو كسائر الأموال التي في يد المولى وإنما يدخل في هذه التسمية كسبه من مال ورقيق
وغير ذلك لأنه مضاف إليه شرعا قال عليه الصلاة والسلام من باع عبدا وله مال وكذلك
ما كان سيده وهبه له أو وهبه له غيره بعلمه أو بغير علمه لان ذلك كله كسبه فإنه حصل له
بقبوله وعدم علم المولى لا يخرجه من أن يكون كسبا له فيدخل ذلك كله في هذه التسمية
ثم موجب عقد الكتابة أن يكون هو أحق بكسبه واشتراط ما اكتسبه قبل العقد ليس من
جنس ما هو موجب العقد فيكون داخلا في هذا الايجاب فاما مال المولى الذي ليس من
كسب العبد ليس بجنس ما هو موجب العقد فلا يستحقه بهذه التسمية وان كاتبه على أن
يخدمه شهرا فهو جائز استحسانا وفى القياس لا يجوز لان الخدمة غير معلومة وفيما لا يصح
الا بتسمية البدل لا بد من أن يكون المسمى معلوما ثم خدمته مستحقة لمولاه بملكه رقبته
وإنما يجوز عقد الكتابة إذا كان يستحق به المولى ما لم يكن مستحقا له ولكنه استحسن فقال
أصل الخدمة معلوم بالعرف ومقداره ببيان المدة وإنما تكون الجهالة في الصفة وذلك لا يمنع
صحة تسميته في الكتابة كما لو كاتبه على عبد أو ثوب هروي ثم المولى وإن كان يستخدمه قبل
الكتابة فلم يكن ذلك دينا له في ذمة العبد وبتسميته في العقد يصير واجبا له في ذمته فهو بمنزلة
الكسب كان مستحقا لمولاه قبل العقد وإنما يؤدى بدل الكتابة من ذلك الكسب ولكن
لما كان وجوبه في الذمة بالتسمية في العقد صح العقد بتسميته وكذلك أن كاتبه على أن يحفر
له بئرا قد سمى طولها وعرضها وأراه مكانها أو على أن يبني له دارا قد أراه آجرها
وجصها وما يبني بها فهو على القياس والاستحسان الذي قلنا وان كاتبه على أن يخدم رجلا
5

شهرا فهو جائز في القياس لان المولى إنما يشترط الخدمة لنفسه ثم يجعل غيره نائبا في
الاستيفاء فهو واشتراطه الاستيفاء بنفسه سواء إلا أنه قال هنا يجوز في القياس بخلاف
الأول لان خدمته لم تكن مستحقة لذلك الرجل قبل العقد وإنما تصير مستحقة بقبوله
بالعقد فأما خدمته لمولاه وحفر البئر وبناء الدار كان مستحقا له قبل العقد بملك رقبته وذلك
الملك يبقى بعد الكتابة فبهذا الحرف يفرق بينهما في وجه القياس وان كاتبه على ألف
درهم يؤديها إلى غريم له فهو جائز لأنه شرط المال لنفسه بالعقد ثم أمره بأن يقضى به دينا
عليه وجعل الغريم نائبا في قبضه منه وقبض نائبه كقبضه بنفسه وكذلك أن كاتبه على ألف
درهم يضمنها لرجل عن سيده فالكتابة والضمان جائزان وهذا ليس بضمان هو تبرع من
المكاتب بل هو التزام أداء مال الكتابة إلى من أمره المولى بالأداء إليه ولا فرق في حقه بين
أن يلتزم الأداء إلى المولى وبين أن يلتزم الأداء إلى من أمره المولى بالأداء إليه وان ضمن
لرجل مالا بغير إذن سيده سوى الكتابة لم يجز لأنه إنما يضمن المال ليؤديه من كسبه وكسبه
لا يحتمل التبرع فكذلك التزامه بطريق التبرع ليؤديه من كسبه لا يجوز وهذا لأنه بقي
عبدا بعد الكتابة ولا يجب المال في ذمة العبد الا شاغلا لمالية رقبته أو كسبه فإذا كان
بطريق التبرع لم يكن شغل كسبه فلا يثبت دينا في ذمته للحال وكذلك أن أذن له المولى
في ذلك لان المولى ممنوع من التبرع بكسبه فلا يعتبر اذنه في ذلك وبه فارق القن فإنه لو كفل
بإذن مولاه صح لان المولى مالك للتبرع بمالية رقبته وكسبه فإذا إذا أذن له في هذا
الالتزام يثبت المال في ذمته متعلقا بمالية رقبته فكان صحيحا وان ضمن عن السيد لغريم له
بمال على أن يؤديه من المكاتبة أو قبل الحوالة به فهو جائز لأنه لا يتحقق معنى التبرع في هذا
الالتزام فإنه مطلوب ببدل الكتابة سواء كان طالبه به المولى أو المضمون له ولان دين
الكتابة وجب في ذمته شاغلا لكسبه حتى يؤديه من كسبه فما يلتزم أداؤه من الكتابة فهو
متمكن من أداء ذلك من كسبه فلهذا صح هذا الضمان وان كاتبه على مال منجم ثم صالحه
على أن يجعل بعضها ويحط عنه ما بقي فهو جائز لأنه عبده ومعنى الارفاق فيما يجرى بينهما أظهر
من معنى المعاوضة فلا يكون هذا مقابلة الاجل ببعض المال ولكنه ارفاق من المولى بحط
بعض البدل وهو مندوب إليه في الشرع ومساهلة من المكاتب في تعجيل ما بقي قبل حل
الاجل ليتوصل به إلي (إلى) شرف الحرية وهو مندوب إليه في الشرع أيضا بخلاف ما لو جرت
6

هذه المعاملة بين حرين لان معنى المعاوضة فيما بينهما يغلب على معنى الارفاق فيكون هذا
مبادلة الاجل بالدراهم ومبادلة الاجل بالدراهم ربا وكذلك أن صالحه من الكتابة على شئ
بعينه فهو جائز لان دين الكتابة يحتمل الاسقاط بالابراء وقبضه غير مستحق فالاستبدال به
صحيح كالثمن في البيع وهذا لان في الاستبدال اسقاط القبض بعوض وإذا جاز اسقاط القبض
بما هو ابراء حقيقة وحكما بغير عوض فكذلك بالعوض وان فارقه قبل القبض لم يفسد
الصلح لأنه افتراق عن عين بدين ألا ترى أنه لو اشترى ذلك الشئ بعينه بما عليه من الكتابة
جاز وإن لم يقبضه في المجلس وان صالحه على عرض أو غيره مؤجل لم يجز لأنه دين بدين
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ فان كاتبه على ألف ردهم منجمة
على أن يؤدى إليه مع كل نجم ثوبا قد سمى جنسه أو على أن يؤدى مع كل نجم عشرة
دراهم فذلك جائز لان ما ضمه إلى المسمى في كل نجم يكون بدلا مشروطا عليه بمنزلة
الألف الذي ذكره أولا والثوب الذي هو مسمى الجنس يصلح أن يكون بدلا في الكتابة
لأنه مبنى على التوسع فكان هذا بمنزلة قوله كاتبتك على كذا وكذا وهو صحيح يتضح فيما
ذكر بعده أنه لو قال له على أن تؤدى مع مكاتبتك ألف درهم لأنه لا فرق بين أن يقول
كاتبتك على ألف درهم مع ألف درهم أو يقول على ألف درهم وألف درهم وإذا ثبت ان
جميع ذلك بدل فإذا عجز عن أداء شئ منه بعد حله رد في الرق وان كاتبه على ألف درهم
فأداها ثم استحقت من يد المولى فالمكاتب حر لوجود شرط عتقه وهو الأداء والعتق بعد
وقوعه لا يحتمل الفسخ فالأداء وان بطل بالاستحقاق بعد الوجود لا يبطل العتق ولان
المكاتبة لم تقع على هذه الألف بعينها يريد به أن بدل الكتابة كان في ذمته وما يؤديه عوض
عن ذلك فان الديون تقضى بأمثاله لا بأعيانها وبدل المستحق مملوك للمولى بالقبض والمكاتب
قابض لما في ذمته فيكون مملوكا له وإن كان بدله مستحقا ومن ملك ما في ذمته سقط عنه
ذلك فلهذا كان حرا ويرجع عليه السيد بألف مكانها لان قبضه قد انتقض بالاستحقاق
فكأنه لم يقبض أو وجد المقبوض زيوفا فرده فلهذا رجع بألف مكانها والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
7

(باب مالا يجوز من المكاتبة)
(قال) رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل عبده على قيمته لم يجز لان عقد الكتابة لا يصح
الا بتسمية البدل كعقد البيع والقيمة مجهول الجنس والقدر عند العقد فلم تصح تسميته وهو
تفسير العقد الفاسد فان موجب الكتابة الفاسدة القيمة بعد تمامها فإذا أدى إليه القيمة عتق
لأن العقد انعقد مع الفساد فينعقد موجبا لحكمه والأصل أن العقد الفاسد معتبر بالجائز
في الحكم لان صفة الفساد لا تمنع انعقاد أصل العقد بل تدل على انعقاده فان قيام الوصف
بالموصوف فان الصفة تبع وبانعدام التبع لا ينعدم الأصل ثم العقود الشرعية لا تنعقد الا
مفيدة للحكم في الحال أو في الثاني ولا يمكن تعرف حكم العقد الفاسد من نفسه لان
الشرع لم يرد بالاذن فيه فلا بد من أن يتعرف حكمه من الجائز ولان الحكم يضاف إلى
أصل العقد لا إلى صفة الجواز والذي يتعلق بصفة الجواز لزوم العقد بنفسه وذلك لا يثبت
مع الفساد فأما حكم العتق عند أداء البدل مضاف إلى أصل العقد وأصل العقد منعقد وقد
وجد أداء البدل لأنا ان نظرنا إلى المسمى فهو القيمة وان نظرنا إلى الواجب شرعا عند
فاسد العقد فهو القيمة فلهذا يعتق بأداء القيمة وان كاتبه على ثوب لم يسم جنسه لم يجز لان
الثياب أجناس مختلفة وما هو مجهول الجنس لا يثبت دينا في الذمة في شئ من المعاوضات كما
في النكاح وان أدى إليه ثوبا لم يعتق لأنا لم نعلم بأداء المشروط حقيقة فاسم الثوب كما يتناول
ما أدى يتناول غيره ولم يوجد أداء بدل الكتابة أيضا حكما لان بدل الكتابة هو القيمة في
العقد الفاسد وبأداء الثوب لا يصير مؤديا القيمة فلهذا لا يعتق (فان قيل) المسمى ثوب
وهذا الاسم حقيقة لما أدى فينبغي أن يعتق وإن لم يكن هذا هو البدل حكما كما لو كاتبه
على خمر فأدى (قلنا) نعم المسمى ثوب ولكنا نقول الثياب متفاوتة تفاوتا فاحشا فلا وجه
لتعيين هذا الثوب مسمى لأنه لو تعين لم يكن للمولى أن يرجع عليه بشئ آخر فإنه مال
متقوم وقد سلم له وفى هذا ضرر عليه فلدفع الضرر عنه لا يتعين هذا مسمى ولان هذا بمنزلة
الاسم المشترك وفى المشترك لا يتعين بمطلق الاسم ولا عموم للاسم المشترك فلهذا لا يعتق
بأداء الثوب وكذلك لو كاتبه على خمر أو خنزير أو دار بغير عينها لان الدار لا تثبت في
الذمة في شئ من العقود ولان اختلاف البلدان والمحال في الدار كاختلاف الأجناس في
8

الثياب ولهذا لو وكله بشراء دار له لم يصح التوكيل وان كاتب أمته على ألف درهم على أن
يطأها ما دامت مكاتبة لم تجز الكتابة وقد بينا هذه المسألة بما فيها من الاختلاف والطعن في
كتاب العتاق فان وطئها السيد ثم أدت الكتابة فعليه عقرها لما بينا أن العقد الفاسد معتبر
بالجائز في الحكم وفى الكتابة الجائزة يلزمه العقر بالوطئ ويتقرر عليه إذا أدت الكتابة
فكذلك في الفاسد وهذا بخلاف البيع الفاسد فان البائع إذا وطئ الجارية المبيعة قبل التسليم
ثم سلمها إلى المشترى فأعتقها لم يكن على البائع عقر في الوطئ والفرق بينهما ان الملك للمشترى
في البيع الفاسد يحصل عند القبض مقصورا عليه لان السبب ضعيف فلا يفيد الحكم
حتى يتقوى بالقبض فلا يتبين بقبض المشترى أن وطئ البائع كان في غير ملكه بل كان
وطؤه في ملكه فلا يلزمه العقر ولهذا لو وطئها غير البائع قبل التسليم بشبهة كان العقر
للبائع ولو اكتسب كسبا كان ذلك للبائع بخلاف الكتابة فإنها إذا تمت بأداء البدل
يثبت الاستحقاق لها من وقت العقد حتى لو وطئت بشبهة كان العقر لها ولو
اكتسبت كانت الاكتسابات كلها لها فلهذا يجب العقر على المولى بوطئها وحقيقة
المعنى في الفرق أن موجب الكتابة اثبات المالكية لها في اليد والمكاسب وذلك في
حكم المسلم إليها بنفس العقد لما لها من اليد في نفسها إلا أن المولى كان متمكنا من الفسخ
والاسترداد لفساد السبب فإذا زال ذلك بالعتق تقرر الاستحقاق لها بأصل العقد
ووزانه (ووزنه) المبيع بعد قبض المشترى فإنه يكون مملوكا له ويتمكن البائع من فسخ العقد لفساد
السبب فإذا زال ذلك بالاعتاق تقرر الملك له من وقت القبض وإذا كاتب عبده مكاتبة فاسدة
ثم مات المولى فأدى المكاتبة إلى الورثة عتق استحسانا وفى القياس لا يعتق لأن العقد
الفاسد لكونه ضعيفا في نفسه لا يمنع ملك الوارث ومن ضرورة انتقاله إلى الوارث بطلان
ذلك العقد ولو عتق بالأداء إنما يعتق من جهة الوارث والوارث لم يكاتبه ولكنه استحسن
فقال ما هو المعقود عليه مسلم إلى العبد بنفس العقد فيموت المولى لا يبطل حقه
وان تمكن الوارث من ابطاله لفساد السبب كالمبيع في البيع الفاسد بعد التسليم فان البائع إذا
مات لا يملكه وارثه ولا يبطل ملك المشتري فيه وإن كان الوارث يتمكن من استرداده وتملكه
لفساد السبب حتى لو أعتقه المشترى نفذ عتقه فكذلك هنا بعد الموت يبقى العقد ما لم
يفسخ الوارث وإذا بقي العقد كان أداء البدل إلى الوارث القائم مقام المورث كأدائه إلى
9

المورث في حياته فلهذا يعتق به وان كاتب أمته مكاتبة فاسدة فولدت ولدا ثم أدت المكاتبة
عتق ولدها معها اعتبارا للعقد الفاسد بالجائز في الحكم لما بينا أن الاستحقاق إذا تم لها
بالأداء فإنه يحكم بثبوته من وقت العقد كما في استحقاق الكسب وان ماتت قبل أن تؤدى
فليس على ولدها أن يسعى في شئ لأنه إنما يلزمه السعاية فيما كان واجبا على أمه ومع فساد
العقد لم يكن عليها شئ من المال فكذلك لا يكون على ولدها فان استسعاه في مكاتبة الأم
فأداه لم يعتق في القياس لأن العقد فاسد والاستحقاق به ضعيف والحق الضعيف في الأم
لا يسرى إلى الولد وفى الاستحسان يعتق هو وأمه مستندا إلى حال حياتها اعتبارا للعقد
الفاسد بالجائز في الحكم ولان الولد جزء منها وكان أداؤه في حياة الأم كأدائها فكذلك
بعد موت الأم أداؤه كأدائها وان كاتبها على ألف درهم على أن كل ولد تلده فهو للسيد
أو على أن تخدمه بعد العتق فالكتابة فاسدة لان هذا الشرط مخالف لموجب العقد وهو
متمكن في صلب العقد فيفسد به العقد ولأنها بالكتابة تصير أحق بأولادها واكسابها ولو
شرط عليها مع الألف شيئا مجهولا من كسبها لم تصح الكتابة فكذلك إذا شرط مع
الألف ما تلده لنفسه لان ذلك مجهول ثم إن أدت مكاتبتها تعتق وفيه طعن بشر وقد بيناه
في كتاب العتاق وان كاتبها على ألف درهم إلى العطاء أو الدياس أو إلى الحصاد أو إلى نحو
ذلك مما لا يعرف من الاجل جاز ذلك استحسانا وفي القياس لا يجوز لان عقد الكتابة
لا يصح الا بتسمية البدل كالبيع وهذه الآجال المجهولة إذا شرطت في أصل البيع فسد بها
العقد فكذلك الكتابة ولكنه استحسن فقال الكتابة فيما يرجع إلى البدل بمنزلة العقود
المبنية على التوسع في البدل كالنكاح والخلع ومثل هذه الجهالة في الاجل لا يمنع صحة
التسمية في الصداق فكذلك في الكتابة وهذا لان الجهالة المستدركة في الاجل نظير الجهالة
المستدركة في البدل وهو جهالة الصفة بعد تسمية الجنس فكما لا يمنع ذلك صحة التسمية
في الكتابة فكذلك هذا فان تأخر العطاء فإنه يحل المال إذا جاء أجل العطاء في مثل ذلك
الوقت الذي يخرج فيه لان المقصود وقت العطاء لا عينه فان الآجال تقدر بالأوقات ولها
أن تعجل المال وتعتق لان الاجل حقها فيسقط باسقاطها ولها في هذا التعجيل منفعة أيضا
وهو وصولها إلى شرف الحرية في الحال ولو كاتبها على ميتة فولدت ولدا ثم أعتق السيد
الأم لم يعتق ولدها معها لان أصل العقد لم يكن منعقدا فان الكتابة لا تنعقد الا بتسمية
10

مال متقوم والميتة ليست بمال متقوم ألا ترى أن البيع به لا ينعقد حتى لا يملك المشترى
المبيع بالقبض فكذلك الكتابة وإذا لغى العقد يبقى اعتاق الأم بعد انفصال الولد عنها
فلا يوجب ذلك عتق ولدها بخلاف ما إذا كاتبها على ألف درهم مكاتبة فاسدة فولدت
ولدا ثم أعتق السيد الأم عتق ولدها معها لأن العقد هناك منعقد مع الفساد فثبت حكمه
في الولد اعتبارا للفاسد بالجائز ثم عتق الأم باعتاق السيد إياها بمنزلة عتقها بأداء البدل
فيعتق ولدها معها وان كاتبها على ألف درهم وهي قيمتها على أنها إذا أدت فعتقت فعليها
ألف أخرى جاز على ما قال لأنه جعل بدل الكتابة عليها ألفي درهم إلا أنه علق عتقها بأداء
الألف من الألفين وذلك صحيح فإذا أدت الألف عتقت وعليها آلاف الأخرى كما كان
الشرط بينهما إذ لا يبعد أن تكون مطالبة ببدل الكتابة بعد عتقها كما لو استحق البدل بعد
ما أدت إلى المولى تبقى مطالبة ببدل الكتابة وقد عتقت بالأداء وان كاتبها على حكمه أو حكمها
لم تجز المكاتبة لأنه ما سمى في العقد مالا متقوما فحكمه قد يكون بغير المال كما يكون بالمال فإذا
أدت قيمتها لم تعتق لان أصل العقد لم يكن منعقدا باعتبار أنه لم يسم فيه مالا متقوما فهذا
والكتابة على الميتة سواء وان كاتبها على عبد بعينه لرجل لم يجز وكذلك ما عينه من مال غيره
من مكيل أو موزون وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يجوز حتى أنه ان
ملك ذلك العين فأداه إلى المولى عتق أو عجز عن أدائه رد في الرق لان المسمى مال متقوم
وقدرته على التسليم بما يحدث له من ملك فيه موهوم فتصح التسمية كما في الصداق إذ سمى
عبد غيره فتصح التسمية بهذا الطريق فاما في ظاهر الرواية يقول بأن العتق في عقد
المعاوضة يكون معقودا عليه وقدرة العاقد على تسليم المعقود عليه شرط لصحة العقد في
العقود التي تحتمل الفسخ وملك الغير ليس بمقدور التسليم للعبد فلا تصح تسميته بخلاف
النكاح فشرط صحة التسمية هناك أن يكون المسمى مالا متقوما لا أن يكون مقدور التسليم
لان القدرة على التسليم فيما هو المقصود بالنكاح ليس بشرط لصحة العقد ففيما ليس
بمقصود أولى ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى انه ان ملك ذلك العين
فأدى لم يعتق إلا أن يكون المولى قال له إذا أديت إلي فأنت حر فحينئذ يعتق بحكم التعليق
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى ان قول زفر رحمه الله تعالى كذلك وهو
رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وروى أصحاب الاملاء عن أبي
11

يوسف رحمه الله تعالى أنه قال يعتق بالأداء قال له المولى ذلك أو لم يقل لأن العقد منعقد
مع الفساد لكون المسمى مالا متقوما وقد وجد الأداء فيعتق كما لو كاتبه على خمر فأدى
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان ملك الغير لم يصر بدلا في هذا العقد بتسميته لأنه
غير مقدور التسليم له إذا لم يسم شيئا اخر معه فلم ينعقد العقد أصلا فإنما يكون العتق باعتبار
التعليق بالشرط فإذا لم يصرح بالتعليق قلنا بأنه لا يعتق كما لو كاتبه على ثوب أو على ميتة
وان قال كاتبتك على هذه الألف درهم وهي لغيرها جازت المكاتبة لان النقود لا تتعين في
عقود المعاوضات فإنما ينعقد العقد بألف هي دين في ذمتها ألا ترى ان تلك الألف لو كانت
من كسبها لم تجبر على أدائها بعينها وإذا أدت غيرها عتقت وكذلك أن قالت كاتبني على ألف
درهم على أن أعطيها من مال فلان فالعقد جائز وهذا الشرط لغو لان الألف تجب
في ذمتها فالتدبير في أداء ما في ذمتها إليها وإذا كاتبها واشترط فيها الخيار لنفسه أو لهما
جاز ذلك لان عقد الكتابة يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ بعد انعقاده ويعتمد تمام الرضا
فيكون كالبيع في حكم شرط الخيار لهما أو لأحدهما لان اشتراط الخيار للفسخ بعد الانعقاد
ينعدم به تمام الرضا باللزوم فان ولدت ولدا ثم أسقط صاحب الخيار خياره فالولد مكاتب معها
لان لزوم العقد عند اسقاط الخيار يثبت من وقت العقد الا ترى ان في البيع تسلم الزوائد
المنفصلة والمتصلة للمشترى إذا تم العقد بالإجازة فكذلك في الكتابة وان مات المولى قبل
اسقاط الخيار والخيار له أو ماتت الأمة والخيار لها فالخيار يسقط بموت من له كما في البيع
ويسعى الولد فيما عليها لأنه مولود في كتابتها وان أعتق المولى نصفها قبل أن يسقط خياره
فهذا منه فسخ الكتابة كما لو أعتق جميعها وإذا انفسخت الكتابة فعليها السعاية في نصف
قيمتها في قول أبي حنيفة وكذلك لو أعتق السيد ولدها كان هذا فسخا للكتابة لان الولد
جزء منها وهو داخل في كتابتها فاعتاقه الولد كاعتاق بعضها وإن كان الخيار لها فالولد يعتق
باعتاق المولى ولا يسقط عنها به شئ من البدل لان الولد تبع لا يقابله شئ من البدل ولهذا
لو مات لا يسقط عنها شئ من البدل وان كاتبها على ألف درهم تؤديها إليه نجوما واشترط
أنها ان عجزت عن نجم فعليها مائة درهم سوى النجم فالكتابة فاسدة لتعلق بعض البدل
بشرط فيه خطر وقد تقدم نظير هذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع
والمآب
12

(باب مكاتبة العبدين
(قال) رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل عبدين له مكاتبة واحدة على ألف درهم وكل
واحد منهما كفيل عن صاحبه على أنهما ان أديا عتقا وان عجزا ردا في الرق فهو جائز
استحسانا وقد بيناه في العتاق فان أدى أحدهما جميع الألف عتقا لوصول جميع المال إلى
المولى ولان أداء أحدهما كأدائهما فان كل واحد منهما مطالب بجميع المال وهما كشخص
واحد في حكم الأداء حتى ليس للمولى أن يأبى قبول المال من أحدهما ثم يرجع المؤدى
على صاحبه بحصته حتى إذا كانت قيمتها سواء رجع بنصفه لأنه تحمل عنه بأمره وكذلك
لو أدى أحدهما شيئا رجع على صاحبه بنصفه قل ذلك أو كثر اعتبارا للبعض بالكل بخلاف
مال على حرين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فان أدى أحدهما هناك النصف
بكون عن نفسه خاصة لأنه في النصف أصيل والمال على الأصيل أقوى منه على الكفيل
وصرف المؤدى إلى الأقوى ممكن لأنه يجوز الحكم ببراءة ذمة أحدهما عن نصيبه قبل
براءة الآخر وهنا لا يمكن جعل المؤدى من نصيب المؤدى خاصة لأنه إذا جعل كذلك
برئت ذمته عما عليه من البدل فيعتق والحكم بعتق أحدهما قبل وصول جميع المال إلى المولى
متعذر فلهذا جعلنا المؤدى عنهما فيرجع على صاحبه بنصفه وللسيد أن يأخذ أيهما شاء بجميع
المال لان كل واحد منهما التزم جميع المال على أن يكون أصيلا في النصف كفيلا في
النصف وان مات أحدهما لم يسقط عن الحي شئ منها لأنه مات عن كفيل فيبقى عقد
الكتابة في حق الميت ببقاء كفيله ولان الحي منهما محتاج إلى تحصيل العتق لنفسه
ولا يتوصل إلى ذلك الا بأداء جميع المال فلحاجته بقي مطالبا بجميع المال وان أدى يحكم
بعتقهما جميعا وان أعتق المولى أحدهما تسقط حصته لوقوع الاستغناء له باعتاق المولى إياه
ولان المولى باعتاقه إياه يصير مبرئا له عن حصته من بدل الكتابة وابراء الأصيل إبراء
الكفيل أو يجعل اعتاقه كقبض حصته من البدل منه بطريق انه أتلفه بتصرفه فلهذا
يعتق الآخر بأداء حصته من البدل ولو كانتا أمتين فولدت إحداهما وأعتق السيد ولدها
لم يسقط شئ من المال عنهما لان الولد تبع لا يقابله شئ من البدل والمولى باعتاقه لا يكون
مبرئا ولا يكون قابضا لشئ من بدل الكتابة والمسألة على ثلاثة أوجه أحدهما ما بينا والثاني
13

أن يكاتبهما على ألف درهم مكاتبة واحدة ولم يزد على هذا وفي هذا إذا أدى أحدهما حصته
من المال يعتق لان المولى حين أوجب العقد لهما ببدل واحد فقد شرط على كل واحد منهما
حصته من المال وكذلك هما بالقبول إنما يلتزم كل واحد منهما حصته فلا يكون للمولى أن
يطالب كل واحد منهما الا بقدر حصته وبالأداء برئت ذمته فيحكم بحريته والثالث أن يقول
المولى إذا أديا عتقا وان عجز ردا في الرق ولا يذكر كفالة كل واحد منهما عن صاحبه
فعند زفر رحمه الله تعالى جواب هذا الفصل كجواب الثاني يعتق أحدهما بأداء حصته لان
كل واحد منهما لم يلتزم بالقبول الا حصته ألا ترى أنه ليس للمولى أن يطالب أحدهما
بجميع المال وان أحدهما إذا أدى جميع المال لم يرجع على صاحبه بشئ بخلاف ما إذا شرط
كفالة كل واحد منهما عن صاحبه ولكنا نقول لا يعتق واحد منهما ما لم يصل جميع المال
إلى المولى لان ما شرط المولى في العقد يجب مراعاته إذا كان صحيحا شرعا وقد شرط العتق
عند أدائهما جميع المال نصا فلو عتق إحداهما بأداء حصته كان مخالفا لشرطه ولان كلام العاقل
محمول على الفائدة ما أمكن ولو عتق أحدهما بأداء حصته لم يبق لقول المولى ان أديا عتقا
وان عجزا ردا فائدة وما استدل به زفر رحمه الله تعالى ممنوع فان عندنا هذا كالفصل الأول
في جميع الأحكام فلهذا قلنا ما لم يصل جميع المال إلى المولى لا يعتق واحد منهما رجل كاتب
عبدا له على نفسه وعلى عبد له غائب بألف درهم جاز ذلك استحسانا وفى القياس الحاضر
منهما يصير مكاتبا بحصته من الألف إذا قسم على قيمته وقيمة الغائب لأنه لا ولاية للحاضر
على الغائب في قبول العقد في حقه فإنما يصح قبوله في حق نفسه فلا يلزمه الا حصته من
البدل والدليل عليه أنه ليس للمولى ان يطالب الغائب بشئ من البدل فعرفا ان حكم الكتابة
لم يثبت في حقه وإنما يثبت في حق الحاضر خاصة وجميع البدل ليس بمقابلته فلا يلزمه الا
حصته من البدل وجه الاستحسان أن المولى شرط للعتق وصول جميع المال إليه فلا
يحصل هذا المقصود إذا أوجبنا على الحاضر حصته فقط ولكن اما ان يجعل كأنه كاتب
الحاضر على الألف وعلق عتق الغائب بأدائه وهذا التعليق ينفرد به المولى أو يجعل العقد
كأنه بقبول الحاضر منعقدا فيما لا يضر بالغائب لان تأثير انعدام الولاية للحاضر على الغائب
في دفع الضرر عنه لا في منع أصل العقد فان انعقاد العقد بكلام المتعاقدين وهو مملوك لهما
ولهذا جعلنا البيع الموقوف سببا تاما قبل إجازة المالك ولكن لا يثبت به ما يضر بالمالك وهو
14

إزالة ملكه فكذلك هنا لا ضرر على الغائب في انعقاد العقد في حقه ولا في عتقه عند أداء
الحاضر إنما الضرر في وجوب البدل عليه فلا يثبت هذا الحكم بقبول الحاضر وهذا هو
الأصح فان أدى الحاضر المال عتقا لانعقاد العقد في حقهما ووصول جميع البدل إلى المولى
سواء قال في الكتابة إذا أديت فأنتما حران أو لم يقل ولا يرجع على الغائب بشئ لأنه لم يجب
في ذمته شئ من البدل ولو كان واجبا وأدى هذا بغير أمره لم يرجع عليه فإذا لم يكن واجبا
فأولى وان مات الغائب لم يرفع عن الحاضر شئ منه لأنه ما كان على الغائب شئ من البدل
ولان العقد بقي في حق الغائب بعد موته ببقاء من يؤدى بدل الكتابة عنه وان مات
الحاضر فليس للمولى أن يطالب الغائب بشئ من البدل لأنه لم يلتزم له شيئا ولهذا كأن لا
يطالبه بشئ في حياة الحاضر فكذلك بعد موته ولكن ان قال الغائب انا أؤدي جميع المكاتبة
وجاء بها وقال المولى لا أقبلها ففي القياس للمولى أن لا يقبل لأنه متبرع غير مطالب بشئ
من البدل فيسقط بموت من عليه حين لم يترك وفاء وانفسخ العقد فبقي الغائب عبدا قنا
للمولى وكسبه له فيكون له أن لا يقبل المؤدى منه بجهة الكتابة ولكنه استحسن فقال
ليس للمولى أن لا يقبل منه ويعتقان جميعا بأداء هذا الغائب لان حكم العقد ثبت في حق
الغائب فيما لا يضر به وذلك بمنزلة البيع بحكم العقد في حق الحاضر فيكون الحاضر مع الغائب
هنا بمنزلة مكاتب اشترى ولده ثم مات وقد بينا أن الولد هناك لا يطالب بالبدل ولكن ان جاء به
حالا فأدى عتقا جميعا فهذا مثله والمعنى ان الحاضر مات عمن يؤدى البدل ويختار ذلك لتحصيل
الحرية لنفسه وهو الغائب فتبقى الكتابة ببقائه بهذه الصفة حتى إذا اختار الأداء يكون أداؤه
كأداء الحاضر ولكن لا يثبت الاجل في حقه لان الاجل ينبنى على وجوب المال فإنه تأخير
للمطالبة ولا وجوب على الغائب وإذا كانا حيين فأراد المولى بيع الغائب لم يكن له ذلك في
الاستحسان لما بينا أن بقبول الحاضر تم السبب في حق الغائب فيما لا يضره وامتناع بيعه على
المولى لا يضره فيجعل قبول الحاضر عنه في هذا الحكم كقبوله بنفسه وبهذا تبين أن الأصح
هذا الطريق دون طريق تعليق عتقه بأداء الحاضر لان مجرد تعليق العتق بالشرط لا يمنع بيع
المولى فيه قبل وجود الشرط رجل قال لعبده قد كاتبت عبدي فلانا الغائب على كذا على أن تؤديها
عنه فرضي بذلك الحاضر فهذا لا يجوز لان الحاضر هنا مملوك قن لم يدخله المولى في الكتابة
والمولى لا يستوجب على عبده دينا وقد بينا أن بقبول الحاضر لا يمكن ايجاب المال في ذمة الغائب
15

وجواز عقد الكتابة لا ينفك عن وجوب البدل وإذا لم يجب البدل هنا على أحد لم يجز
العقد بخلاف الأول فقد وجب المال هناك على الحاضر لما صار مكاتبا ولكن ان أدى
الحاضر هنا المال إلى المولى عتق الغائب استحسانا وفى القياس لا يعتق لأن العقد صار لغوا
حين لم يتعلق به وجوب البدل على أحد وجه الاستحسان أن هذا التصرف من المولى إما
أن يجعل كتعليقه عتق الغائب بأداء الحاضر وهو ينفرد بهذا التعليق أو يجعل العبد بمباشرة
المولى وقبول الحاضر منعقدا في حق الغائب فيما لا يضر به وعتقه عند أداء الحاضر ينفعه ولا
يضره فيثبت حكم العقد في حقه بمباشرتهما لان المولى يستبد بالتصرف الموجب لعتق العبد
لا في إلزام المال في ذمته والأداء يتحقق بدون تقدم الوجوب كما يتحقق ممن ليس بواجب
عليه وهو المتبرع وان كاتب الحر على عبد لرجل على أن ضمن عنه المكاتبة لم يجز لأنه لم
يجب البدل بقبول الحر على العبد ولا يمكن ايجاب بدل الكتابة على الحر ابتداء بقبوله ولان
الحر لا يضمن عنه ما لم يجب عليه ولو ضمن عنه لسيده ما كان واجبا عليه من بدل الكتابة لم
يجز فإذا ضمن ما لم يجب عليه أولى وكذلك أن كان هذا العبد ابنا لهذا الحر وهو صغير أو
كبير لأنه لا ولاية للحر على ولده المملوك في إلزام المال عليه فهو كالأجنبي في ذلك
وكذلك عبد وابن له صغير لرجل واحد كاتب الأب على ابنه لم يجز لان الأب لما لم يدخل
في الكتابة لم يلزمه البدل وليس له ولاية على الابن في إلزام البدل إياه لكونه مملوكا
إلا أنه ان أدى الأب عنه في الوجهين يعتق استحسانا لما بينا رجلان لكل واحد منهما عبد
فكاتباهما معا على ألف درهم كتابة واحدة ان أديا عتقا وان عجزا ردا في الرق قال يكون
كل واحد منهما مكاتبا بحصته لصاحبه حتى إذا أدى حصته من البدل إلى مولاه يعتق
لان كل واحد منهما إنما يستوجب البدل على مملوكه ويعتبر شرطه في حق مملوكه لا في
حق مملوك الغير فإنما وجب لكل واحد منهما على مملوكه بقبوله حصته من الألف فإذا
أدى فقد برئت ذمته من بدل الكتابة فيعتق بخلاف ما إذا كانا لشخص واحد لان شرط
المولى في حقهما معتبر وقد شرط انهما لا يعتقان الا بوصول جميع المال إليه فلهذا لا يعتق
واحد منهما هناك بأداء حصته ولو كاتب عبدا له صغيرا يعقل ويعبر عن نفسه جاز لأنه
من أهل العبارة وقول معتبر عند اذن المولى ألا ترى أنه لو أذن له في التجارة نفذ تصرفه
فكذلك إذا أوجب له الكتابة وإذا أذن له في القبول فيعتبر قبوله لان فيه منفعة له وإن كان
16

صغيرا لا يعقل فلا معتبر بقبوله والكتابة لا تنعقد بمجرد الايجاب بدون القبول حر كاتب
على عبد لرجل فأدى إليه المكاتبة يعتق ولا يرجع الحر بالمال على العبد ولا على المولى أما على
العبد فلانه لم يلتزم شيئا من المال ولا أمر الحر بالأداء عنه وأما على المولى ففي القياس له أن
يسترد المال لأنه رشاه حيث أعتق عبده فيثبت له حق الرجوع عليه كما لو قال له أعتق عبدك
بألف درهم وأعطاها إياه فأعتقه كان له أن يرجع فيما أعطاه ويضمنه إن كان قد استهلكه
فكذلك فيما سبق توضيحه أن المال لو كان واجبا على العبد فضمنه عنه الحر للسيد وأدى كان
له أن يرجع عليه فيسترد منه ما أدى إليه فإذا لم يجب المال على العبد أولى ولكنه استحسن
وقال إنه تبرع بأداء المال عنه ولو كان العبد قبل الكتابة ثم أدى حر عنه على سبيل التبرع لم
يرجع بالمؤدى على المولى فكذلك الحر إذا كان هو القابل للعقد لان قبوله كقبول العبد
فيما لا يضر به ولأنه لو رجع صار المولى مغرورا من جهته بقبوله وأدائه ودفع الضرر والغرور
واجب فلهذا جعلناه متبرعا بأداء بدل الكتابة فلا يرجع به على أحد رجل كاتب عبدين له
كتابة واحدة ان أديا عتقا وان عجزا ردا ثم عجز أحدهما فرده المولى في الرق أو قدمه
إلى القاضي فرده وهو لا يعلم بمكاتبة المولى الآخر معه ثم أدى الآخر جميع المكاتبة فإنهما
يعتقان جميعا لأنهما كشخص واحد ألا ترى أنهما لا يعتقان الا بأداء جميع المال معا وكما
جعلا في حق العتق كشخص واحد فكذلك في العجز فبعجز أحدهما لا يتحقق تغير
شرط الكتابة على المولى ما لم يظهر عجز الآخر فلهذا لا ينفذ قضاء القاضي برده في الرق
ولان في هذا القضاء اضرارا بالغائب لأنه يسقط حصة الغائب من البدل لا محالة إذا نفذ
قضاء القاضي بعجزه والغائب لا يعتق بأداء حصته فيتضرر من هذا الوجه والحاضر ليس
بخصم عن الغائب فيما يضره وكذلك أن استسعى الغائب بعد ذلك في نجم أو نجمين ثم عجز
فرده هو أو القاضي فهذا باطل لان رد الأول في الرق لما لم يصح صار ذلك كالمعدوم فلا
يتحقق العجز بهذا الآخر لتوهم قدرة الأول بالأداء بعد العجز فلهذا لا يصح ردهما في الرق
الا معا وكذلك إذا كاتب الرجلان عبدا واحدا مكاتبة واحدة فغاب أحدهما وقدم الآخر
العبد إلى القاضي وقد عجز لم يرده في الرق ما لم يجتمع الموليان لأن العقد واحد باتحاد القابل
ولان من ضرورة الحكم بعجزه في نصيب الحاضر الحكم بعجزه في نصيب الغائب أيضا
والحاضر ليس بخصم عن الغائب فلا يرد في الرق ما لم يجتمعا ولو كان المولى واحدا فمات عن
17

ورثة كان لبعضهم ان يرده في الرق بقضاء القاضي اما لان كل واحد منهم خصم عن الميت
ورده في الرق قضاء على الميت لأنه يبطل به حقه في الولاء ولان بعض الورثة خصم عن بعض
فيما هو ميراث بينهم الا ترى ان أحد الورثة إذا أثبت دينا على انسان بالبينة للميت ثبت في
حق الكل وكذلك إذا ثبت عليه دين ولكن لورده بغير قضاء لم يصح ذلك منه لان للآخرين
رأيا في المسامحة والمهلة معه فلا يكون له ولاية الاستبداد بقطع رأيهم وإن كان المكاتب هو الميت
عن ولدين لم يكن للمولى أن يرد أحدهما في الرق حتى يجتمعا لان كل واحد منهما بانفراده
كاف لبقاء عقد الكتابة باعتباره فبعجز أحدهما لا يظهر عجز الميت كما لا يظهر عجزه بعدم أحدهما
عند وجود الآخر الا ترى أنه لو عجز أحدهما وأدى الآخر عتقا جميعا فلهذا لا يردهما في
الرق حتى يجتمعا وإذا كاتب عبدين له مكاتبة واحدة فارتد أحدهما وقتل الآخر فان الحي لا
يعتق ما لم يؤد جميع المكاتبة مراعاة لشرط المولى كما في حال حياة الآخر وان أدى عتقا جميعا
لأنهما في حكم الأداء كشخص واحد فبعد موت أحدهما يبقى العقد في حقه ببقاء من يؤدى
بدل الكتابة وهو الحي فلهذا عتقا بأدائه وإن كان المرتد حين قتل ترك له كسبا اكتسبه في ردته
فان المولى يأخذ من ذلك المال جميع المكاتبة لأنه مات عن وفاء فيبقى عقد الكتابة لحاجته إلى
تحصيل الحرية ولا يحصل ذلك الا بأداء جميع المال فلهذا أخذ المولى جميع المكاتبة من تركته
ويعتقان جميعا ثم يرجع ورثته على الحي بحصته كما لو أداه في حياته وهذا لأنه مضطر في الأداء
حيث لا يتوصل إلى العتق الا به وبهذا تبين فساد استدلال زفر فان عنده أحدهما إذا أدى
لا يرجع على صاحبه وان عندنا يرجع بعد مقالة المولى إذا أديا عتقا وان عجزا ردا ثم بقية
الكسب ميراث لهم لما بينا في العتاق أن قيام حق المولى في كسبه يمنعنا أن نجعل كسب ردته
فيئا فيكون ميراثا لورثته وكذلك أن كان المرتد لحق بدار الحرب أخذ الباقي بجميع المكاتبة
لان أكثر ما فيه أن لحاقه بدار الحرب كموته والآخر لا يتوصل إلى العتق الا بأداء جميع البدل
فإذا أدى رجع على المرتد بحصته إذا رجع كما يرجع في تركته أن لو مات وإن لم يرجع حتى
مات في دار الشرك عن مال وظهر المسلمون على ماله لم يرجع هذا المؤدى فيه بشئ لان
ذلك المال صار فيئا للمسلمين إذ لم يبق فيه للمولى حق حين حكم بحريته والدين لا يبقى في
المال الذي صار فيئا وان وجده قبل القسمة ألا ترى أن حرا لو استدان دينا ثم ارتد
والعياذ بالله ولحق بدار الحرب ولم يخلف مالا هنا فظهر المسلمون عليه وعلى ماله فقتلوه لم
18

يكن لغرمائه على ماله سبيل لأنه صار فيئا وهذا لان السبي يوجب صفاء الحق في
المسبي للسابي ولا يصفو له الحق إذا بقي الدين فيه وان عجز المكاتب الحاضر والآخر مرتد
في دار الحرب لم يرده القاضي في الرق لان لحاقه بدار الحرب لم يتم لما بقي حق المولى في
كسبه ورقبته فهو بمنزلة الغائب في دار الاسلام وقد بينا أنه إذا كان أحدهما غائبا لا يحكم
بعجز الحاضر قبل رجوعه فهذا مثله فان رد القاضي هذا في الرق لم يكن ردا للآخر حتى
إذا رجع مسلما لم يرد إلى مولاه رقيقا لما بينا أن الحاضر ليس بخصم عن الغائب وان عجز
الغائب لم يظهر بعجز الحاضر فلهذا لا تنفسخ الكتابة في حق الغائب وإن كان مرتدا في
دار الحرب رجل كاتب عبدا له وامرأته مكاتبة واحدة وكل واحد منهما كفيل عن
صاحبه ثم ولدت ولدا فقتل الولد فقيمته للأم دون الأب لأنه جزء منها يتبعها في الرق
والحرية فيتبعها في الكتابة أيضا فلهذا كان بدل نفسه لها وكسبه وأرش الجناية عليه كله لها
وان قتله المولى فعليه قيمته وكان قصاصا بالكتابة ان كانت قد حلت أو رضيت هي بالقصاص
إن لم تكن حلت لان الاجل حقها فيسقط باسقاطها كما لو عجلت المال ثم ترجع على الزوج
بحصته إذا حلت الكتابة لأنها صارت مؤدية جميع البدل بالمقاصة فترجع على الزوج بحصته
بحكم الكفالة ولكن رضاها بسقوط الاجل يعتبر في حقها دون حق الزوج فلهذا لا ترجع
عليه الا بعد حل المال وإن كان في القيمة فضل على الكتابة فذلك الفضل وما ترك الولد من مال
فهو للأم دون الأب لان الولد قتل وهو مملوك وقد كان تبعا للأم في الكتابة فكسبه وما
فضل من قيمته يكون لها خاصة وكذلك أن كان الولد جارية فكبرت وولدت ابنة ثم قتلت
الابنة السفلى كانت قيمتها للجدة لان السفلى كالعليا في أنها تابعة للجدة داخلة في كتابتها وان
ماتت الجدة وبقي الولدان والزوج كان على الولدين من السعاية ما كان على الجدة لأنهما في حكم
جزء منها فيسعيان فيما كان عليها وان أدى أحد الولدين لم يرجع على صاحبه بشئ لأنه مؤد عن
الجدة وكسبه في حكم أداء بدل الكتابة بمنزلة كسب الجدة فلا يرجع على صاحبه بشئ لهذا
ولكنه يرجع على الزوج بحصته كما لو أدت الجدة في حياتها جميع البدل رجعت على الزوج
بحصته ثم يسلم له ذلك دون الآخر لأنه كسبه وإنما يسلم للجدة من كسبه قدر ما يحتاج إليه
لأداء بدل الكتابة وتحصيل الحرية لنفسها فما فضل من ذلك يسلم للمكتسب وهذا هو الذي
رجع به فاضل عن حاجتها فيكون للمكتسب خاصة رجل كاتب عبدين له مكاتبة واحدة
19

بألف درهم وقيمتهما سواء فأدى أحدهما مائتي درهم ثم أعتقه المولى بعد ذلك فإنه يرجع
بنصف ما أدى على صاحبه لأنه قبل العتق كان قد استوجب الرجوع على صاحبه بنصف
ما أدى قل ذلك أو كثر فلا يبطل ذلك بعتقه لان عتقه مقرر لحقه لا مبطل له ثم يرفع عن
الآخر نصف ما بقي من الكتابة اعتبارا للبعض بالكل وقد بينا أنه لو أعتق أحدهما في حال
بقاء جميع الكتابة صار كالقابض للنصف أو كالمبرئ له عن النصف فكذلك في حق الباقي
هنا وكذلك لو أعتق الذي لم يؤد لان أداء أحدهما كأدائهما فلا يختلف حكم عتقهما وأيهما
عتق فإنه يؤخذ على حاله بمكاتبة صاحبه لأنه بمنزلة الكفيل عنه وقد صحت هذه الكفالة تبعا
لعقد الكتابة حين كان مطالبا بجميع المال قبل عتق صاحبه فكذلك يبقى مطالبا بنصيب
صاحبه بعد عتقه فإذا أدي رجع به عليه وليس من ضرورة امتناع صحة كفالته ابتداء بما يبقي
على صاحبه بعد حريته امتناع بقاء ما كان ثابتا ألا ترى أن الإباق يمنع ابتداء البيع ولا
يمنع بقاءه والعدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع بقاءه والله سبحانه أعلم بالصواب واليه
المرجع والمآب
(باب مكاتبة المكاتب)
(قال) رضي الله عنه قد بينا ان للمكاتب ان يكاتب استحسانا فان أعتقه بعد الكتابة لم ينفذ
عتقه كما قبله لأنه لا يملكه حقيقة وهو متبرع في اعتاقه وكذلك أن وهب له نصف المكاتبة
أو كلها لأنه ابراء بطريق التبرع وكذلك لو قال المكاتب لعبده إذا أعطيتني ألف درهم فأنت
حر فهذا باطل ولو أدى لم يعتق لان تعليق العتق بالشرط لا يصح ممن ليس باهل للتنجيز
كالصبي وهذا بخلاف الكتابة لأنه عقد معاوضة بمنزلة البيع أو أنفع منه في حق المكاتب
ولهذا احتمل الفسخ بالتراضي ولو اعتبر معنى التعليق فيه لم يحتمل الفسخ مكاتب كاتب جاريته
ثم وطئها فعلقت منه فإن شاءت مضت على الكتابة لان الاستيلاد لا ينافي ابتداء الكتابة
فكذلك بقاءها وإذا اختارت ذلك أخذت عقرها لان المكاتب فيما يلزمه من العقر بالوطئ
كالحر وقد بينا أن الحر إذا وطئ مكاتبته يلزمه عقرها لأنها صارت أحق بنفسها فكذلك
المكاتب وإن شاءت عجزت نفسها فتكون بمنزلة أم ولده لا يبيعها كما لو استولد المكاتب جاريته
فان عجزت نفسها فأعتقها المولى لم يجز كما لو أعتق جارية من كسب مكاتبه بخلاف ما لو أعتق
20

ولدها لان الولد داخل في كتابته حتى يعتق بعتقه فيكون مملوكا للمولى فأما الأم لم تدخل في
كتابته ألا ترى أنها لا تعتق بعتقه ولكنها أم ولد له يطأها ويستخدمها فلم تصر مملوكة للمولى
لان ثبوت ملك المولى لضرورة التبعية في الكتابة وامتناع بيعها لأنها تابعة للولد في هذا الحكم
لا أنها داخلة في الكتابة وان مات الولد لم يكن للمكاتب أن يبيعها أيضا لان امتناع البيع فيها
كان تبعا لحق الولد وحق الولد بموته لا يبطل فكذلك حق الأم وإنما امتنع بيعها تبعا لثبوت
نسب ولدها منه وذلك باق بعد موته مكاتب كاتب جاريته ثم استولدها المولى فعليه العقر
لها لأنها صارت أحق بنفسها والولد مع أمه بمنزلتها لأنه جزء منها وقد بينا في كتاب العتق
أنه لا يمكن الحكم بحرية ولدها مجانا ولا بالقيمة فان عجزت أخذ المولى الولد بالقيمة
استحسانا لأنها بالعجز صارت أمة قنة للمكاتب والمولى إذا استولد أمة مكاتبه يكون الولد
حرا بالقيمة استحسانا والجارية مملوكة للمكاتب بمنزلة المغرور وإن كان المكاتب هو الذي
وطئها ثم مات ولم يترك مالا فإن لم تلد مضت على الكتابة لان المكاتب مات عن وفاء باعتبار
ما عليها من البدل وقد بينا ان الوفاء بمال هو دين له معتبر كالوفاء بالمال العين وان كانت
ولدت خيرت فإن شاءت رفضت مكاتبتها وسعت هي وولدها في مكاتبة الأول وإن شاءت
مضت على مكاتبتها لأنه تلقاها جهتا حرية اما أداء كتابة نفسها لتعتق مع ولدها به أو أداء
كتابة المكاتب بعد رفض مكاتبتها لأنها بمنزلة أم الولد والمكاتب إذا مات عن أم ولد له
ومعها ولد مولود في الكتابة سعت هي مع ولدها في المكاتبة ويعتقان بالأداء فهذا مثله ولو
كان ترك مالا فيه وفاء بالمكاتبة أديت مكاتبته وحكم بحريته وحرية ولده وتبطل المكاتبة
عنها لأنها صارت أم ولد للمكاتب فعتق بموته حين حكمنا بحريته ووقع الاستغناء لها عن
أداء مكاتبتها وان عجزت هي والمولى هو المدعى للولد والمكاتب الأول ميت فالولد حر وعلى
المولى قيمته لان كتابة المكاتب باق بعد موته للوفاء بها وبولدها وقد بينا انها لو عجزت في
حياة المكاتب أخذ المولى ابنه بالقيمة فكذلك بعد موته وإن كان بالقيمة وفاء بالمكاتبة
عتق المكاتب لان المولى صار مستوفيا لبدل الكتابة بالمقاصة وكانت الأم مملوكة لورثة
المكاتب إن كان له وارث سوى المولى وإن لم يكن صارت للمولى بالإرث وكانت أم ولد
له لأنه ملكها وله منها ولد ثابت النسب مكاتب كاتب عبده ثم كاتب عبده أمته فاستولدها
المكاتب الأول أخذت منه عقرها لما سقط الحد عنده بشبهة حق الملك له فيها بعد عجزها
21

وعجز من كاتبها ومضت على كتابتها لأنها أحق بنفسها ومكاسبها وولدها بمنزلتها لأنه جزء
منها فان عجزت كان الولد للمكاتب الأول بالقيمة لان حق المكاتب في كسب مكاتبه كحق
الحر فان الثابت له حق الملك وفي حق الملك المكاتب والحر سواء فكما أن الحر يأخذ ولده
بالقيمة في هذه الصورة استحسانا فكذلك المكاتب الا ان الحر إذا أخذه بالقيمة كان حرا
مثله والمكاتب إذا أخذه بالقيمة كان مثله أيضا داخلا في كتابته لان كسب المكاتب يحتمل
الكتابة ولا يحتمل الحرية فان أعتق المولى هذا الولد نفذ عتقه لأنه لما دخل في كتابته صار
ملكا للمولى فان كاتب المكاتب عبده ثم كاتب الثاني أيضا عبدا له ثم عجز الأوسط
فالمكاتب الآخر يصير للمكاتب الأول لان الأوسط صار عبدا قنا له ومكاتبه أيضا يصير
مكاتبا له ولا يكون عجز الأوسط عجزا للآخر فإذا أدى عتق وان عجز كان عبدا له ثم
ذكر مسألة العتاق إذا ولدت المكاتبة ابنتا ثم ولدت الابنة ابنتا ثم أعتق المولى إحداهن
وقد بينا ذلك بتمامه هناك رجل كاتب جاريتين له مكاتبة واحدة ثم استولد إحداهما
فالولد حر والأم مع الجارية الأخرى مكاتبة كما كانت ولا خيار لها في ذلك بخلاف
ما إذا كاتب مكاتبة وحدها لان هناك لها أن تعجز نفسها قبل الاستيلاد وتفسخ
الكتابة به فكذلك بعد الاستيلاد وهنا لم يكن لها أن تعجز نفسها قبل الاستيلاد وتفسخ
الكتابة لحق الأخرى فإنهما كشخص واحد فلا يظهر العجز في حق إحداهما دون الأخرى
ألا ترى أن الأخرى لو أدت المكاتبة بعد ما عجزت هذه نفسها عتقا فلهذا لا تخير وكذلك
لو كانت إحداهما ولدت بنتا فاستولد السيد البنت لم تصر أم ولد له والولد حر بغير قيمة لان
المكاتبة تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وأولادها وأولاد أولادها وفى هذا تحصيل مقصودها
ولأنه لو تحقق عجزها كان ولد الولد الولد حرا بغير قيمة لثبوت نسبه فكذلك قبل عجزها ومعنى
قوله ان الابنة لا تصير أم ولد انه لا يبطل عنها حكم تبعية الأم في الكتابة لان مقصود
الأم في حقها لا يحصل بالاستيلاد ألا ترى أنا لو أخرجناها من المكاتبة وجعلناها أم
ولد للمولى لم تعتق بأداء المال لان في هذا تفويت مقصوده فلهذا أبقينا حكم الكتابة
فيها حتى تعتق الأم بالأداء مكاتبة كاتبت عبدا ثم ولدت ولدا ثم ماتت ولم تدع شيئا قال
يسعى الولد فيما على أمه لأنه مولود في كتابتها ولا يجوز ان يعتبر ما على المكاتب في اسقاط
السعاية عنه لان ذلك دين لا يمكن أداء كتابتها منه قبل حله ألا ترى أنه لو كان لها على حر
22

دين إلى أجل قضى على الولد بالسعاية فكذلك هنا فإن كان نجم الكتابة إلى سنة فقضى على
الولد بالسعاية فعجز عنها عند حله قبل حلول ما على المكاتب أو قبل حلول الدين الذي على
الأجنبي فإنه يرد في الرق لأنه قائم مقام الأم ولو عجزت هي في حياتها عن أداء نجم حل
عليها ردت في الرق ولا يلتفت إلى مالها من الدين المؤجل على غيرها لأنها لا تصل إلى
ذلك الا بعد حله فقبل الحلول بمنزلة المعدوم في تحقق عجزها حتى ترد في الرق فكذلك
ولدها بعد موتها فان رد في الرق ثم خرج الدين من الأجنبي أو المكاتب فهو للمولى
والولد رقيق له لان كتابتها قد بطلت بقضاء القاضي برد الولد في الرق فهذا المال كسب أمته
فيكون للمولى مع ولدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب كتابة العبد على نفسه وولده الصغار)
(قال) رضي الله عنه رجل كاتب عبده على نفسه وولده الصغار قال هو جائز لأنه
لو كاتب عبدا حاضرا نفسه وعلى غائب جاز إذا قبل الغائب فهذا مثله أو أولى لان
ولده إليه أقرب من الأجنبي فان عجز قبل ادراك الولد أو بعده فرد في الرق كان
ذلك ردا للولد أيضا لان الأولاد صغار عاجزون عن الكسب ولأنه ليس عليهم شئ من
المال إنما المال على الأب وقد تحقق عجزه فيرد في الرق ويكون ذلك ردا في حق من
من دخل في العقد تبعا له لان ثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل وهذا بخلاف المكاتبين
إذا عجز أحدهما لان هناك الآخر مطالب بالمال فبعجز أحدهما لا يظهر العجز في حق
الاخر وهنا الأولاد لا يطالبون بشئ من المال لان الأب مملوك لا ولاية له على أولاده
في إلزام المال إياهم فلهذا يتم العجز به كما تم العقد بقبوله فان أدرك ولده فقالوا نحن نسعى في
المكاتبة لم يلتفت إليهم لان المكاتبة قد سقطت برد الأب في الرق وكذلك لو كانوا بالغين حين
عجز الأب لأنه ليس عليهم شئ من المال فقدرتهم على السعاية وعجزهم عنها سواء وان مات
الأب ولم يدع شيئا سعوا في المكاتبة على النجوم وكان ينبغي في القياس أن لا يثبت النجوم
في حقهم ولكن ان جاؤوا بالمال حالا والا ردوا في الرق كما بينا في العبد الغائب والحاضر إذا
مات الحاضر ولكن قال هنا قبول الأب الكتابة في حق أولاده صحيح فيما يرجع إلى مقصوده
وعتق الأولاد من مقاصده كعتق نفسه فكما يثبت الاجل ويبقي باعتبار بقائه لتحصيل
23

مقصوده فكذلك يبقى باعتبار بقاء الولد لأنه من مقاصده بخلاف العبد الغائب فإنه لا مقصود
للحاضر في عنقه توضيحه ان حال الأولاد هنا كحال ولد مولود في الكتابة لان ذلك الولد
كما حدث حدث مكاتبا وهذا الولد كما عقد عقد الكتابة صار مكاتبا ثم ذلك الولد يسعي على النجوم
فهذا الولد مثله يقرره ان سبب الولاية وهو الأبوة ثابت هنا حتى إذا تم سقوط حق المولى
بعتقهما كان له الولاية فيعتبر قيام السبب أيضا فيما ينفعهما ولا يضر بالمولى وفي القول بان الولد
يسعى في النجوم منفعة لهما فإن كانوا صغارا لا يقدرون على السعاية ردوا في الرق لتحقق
العجز في حق الأب حين لم يخلف ما يؤدى به بدل الكتابة ولا من يؤدى عنه وان كانوا
يقدرون عليها فسعى بعضهم في المكاتبة فأداها لم يرجع على اخوته بشئ لأنه ما أدى عنهم إذ لم
يكن عليهم شئ من المال وإنما أدى عن الأب لان المال عليه الا ترى أنه لو أدى في حياة الأب
لم يرجع على إخوته بشئ فكذلك بعد موته فان ظهر للأب مال كان ميراثا بينهم لاستناد
حريتهم إلى ما استند إليه حرية أبيهم ولم يكن لهذا ان يأخذ من تركه الأب ما أدى لأنه
متبرع فيما أدى إذ لم يكن مطالبا بشئ من المال كما في حال حياة الأب ولأنه بمنزلة الأب في
المكاتبة فإنما يؤدى لتحصيل العتق لنفسه وكسبه فيما يؤدى به البدل ككسب أبيه فلهذا
لا يرجع بالمؤدى في تركة أبيه وكان للمولى أن يأخذ كل واحد من الأولاد بجميع
المال لا باعتبار أنه دين في ذمته ولكن باعتبار انه قائم مقام أبيه وفيما هو من حقوق الأب
كان قبوله صحيحا في حق الأولاد فيأخذ كل واحد منهما بجميع المال كأنه ليس معه غيره
ولهذا لو مات بعضهم لا يرفع عن بقيتهم شئ من المكاتبة كما لو كان معدوما في الابتداء
وهذا لان المكاتبة واحدة في حقهم وفي حق الأب فلا يعتق أحد منهم الا بوصول جميع
المال إلى المولى فان أعتق المولى بعضهم رفع عنهم بحصة قيمة المعتق لان اعتاق المولى بعضهم
بمنزلة القبض منه لحصته وفيما يرجع إلى منفعتهم لكل واحد منهم حصة من البدل وإن كان
الأب هو القابل لأن العقد مضاف إلى الكل قصدا بخلاف الولد المولود في الكتابة
إذا أعتقه المولى فإنه لا يسقط شئ من البدل لأنه كان تبعا في العقد وشئ من البدل لا يقابل
التبع وإن كان فيهم جارية فاستولدها السيد أخذت عقرها وهي مكاتبة على حالها ليس لها
ان تعجز نفسها لمكان إخوتها ألا ترى أنهم لو أدوا عتقت هي أيضا وإن كان الولد كبارا
حين كاتب على نفسه وعليهم بغير أمرهم وأدى الكتابة عتقوا ولم يرجع بشئ منها عليهم
24

في هذا الوجه ولا في الوجه الأول لان بقبوله لم يلزمهم شئ من البدل فكان هو مؤديا المال
عن نفسه لا عنهم رجل كاتب عبدا له وامرأته مكاتبة واحدة على أنفسهما وأولادهما وهم
صغار ثم إن انسانا قتل الولد فقيمته للأبوين جميعا يستعينان بها في الكتابة لأنهما قبلا الكتابة
عليهم وحالهما في ذلك على السواء إذ لا ولاية لواحد منهما عليه ولا يمكن جعل هذه القيمة
للمولى لان الولد صار مكاتبا لقبولهما فلا يبقى للمولى سبيل على كسبه ولا على قيمة رقبته
فلا بد من أن تؤخذ القيمة منه فتكون للأبوين لأنهما كانا ينفقان عليه في حياته فكانا أحق
بحضانته وهذا بخلاف الولد المولود بينهما بعد الكتابة فان قيمته للأم خاصة لان ثبوت
الكتابة في الولد هناك بطريق التبعية وجانب الأم يترجح في ذلك لأنه جزء منها وهنا
ثبوت الكتابة في حق الولد بالقبول والقبول منهما جميعا وان غاب الأب فأراد المولى
سعاية الولد لم يكن له ذلك لان وجوب المال بقبولهما كان عليهما دون الولد فما بقيا حيين
لم يكن على الولد شئ من المال وليس للأبوين سبيل على كسب الولد لأنه مكاتب للمولى
مقصودا بالعقد معهما وليس للأبوين سبيل على كسب المكاتب بخلاف الولد المولود في
الكتابة فإنه تبع للأم فكانت أحق بكسبه لتستعين به على أداء البدل وان مات الولد وترك
مالا فماله للأبوين مثل قيمته على ما بينا أنه مكاتب معهما فلا سبيل للمولى على ماله ولكنهما
يأخذان ماله فيستعينان به على أداء البدل وان أعتق السيد الولد رفعت حصته عن الأبوين
لما بينا أن العقد تناوله مقصودا فكان له من البدل حصته وإن لم يكن للمولى أن يطالبه به
لانعدام القبول من جهته وصار المولى قابضا بعتقه حصته وإن لم يعتقه وأراد أن يأخذه بشئ
من الكتابة لم يكن له ذلك ما بقي أحد الوالدين لان قبولهما عليه غير معتبر في الالزام والأبوان
هما الأصلان في وجوب المال عليهما بالقبول فما بقي شئ من الأصل لا يظهر حكم الخلف فإذا
ماتا قلنا إن وقعت الكتابة والولد صغير سعى فيها على النجوم بعد موتهما كما يسعى الولد
المولود في الكتابة وان وقعت وهو كبير فعليه أن يؤدى المكاتبة حالة والا رد في الرق
بمنزلة العبد الحاضر والغائب لأنه لا ولاية للأبوين على الولد الكبير بعد سقوط حق المولى
عنه فهو بمنزلة الأجنبي في حقهما فلا يبقى الاجل بعد موتهما لان الاجل لتأخير المطالبة وهو
غير مطالب لانعدام القبول منه أو ممن له ولاية عليه فقلنا إن جاء بالمال حالا والا رد في
الرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
25

(باب مكاتبة الوصي)
(قال) رضي الله عنه وللوصي أن يكاتب عبد اليتيم استحسانا وفى القياس لا يصح ذلك
منه لأنه ارفاق للحال واعتاق باعتبار المآل وجه الاستحسان أن الوصي قائم مقام اليتيم فيما
فيه النظر له والكتابة أنظر له من البيع لان بالبيع يزول ملكه عن العين قبل وصول البدل
إليه وبالكتابة لا يزول ملكه عن العين الا بعد وصول المال إليه وتسقط نفقته عنه في الحال
وإذا تعذر وصول المال إليه بعجزه تفسخ للكتابة فكان عبدا له على حاله فإذا ملك البيع ملك
الكتابة بالطريق الأولى فان وهب المال له بعد الكتابة لم يجز لأنه تبرع بما لا يملكه فلا
يصح من جهته ولا من جهة الصبي لأنه ليس بقائم مقامه في التبرع وان أقر بالقبض صدق
لأنه المال وجب بعقده وهو يملك مباشرة قبضه فيصح اقراره بالقبض أيضا (فان قيل)
فعلى قياس هذا ينبغي أن تصح هبته في حق المكاتب لما كان الوجوب بعقده كما لو باعه من
انسان ثم أبرأ المشترى عن الثمن جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى (قلنا)
لان في البيع هو كالعاقد لنفسه فيما هو من حقوق عقده ولهذا كان قبض الثمن إليه بعد
بلوغ اليتيم فأما في الكتابة هو معبر عن اليتيم ولهذا لا يملك قبض البدل بعد بلوغ اليتيم
فيكون هو بالهبة متبرعا بما لا يملكه ولان هبة البدل من المكاتب اعتاق له والوصي
لا يملك الاعتاق فأما الاقرار بالقبض ليس باعتاق ولكنه إقرار بما يملك الانشاء فيه وان
قال قد كنت كاتبته وأدى إلى لم يصدق لان الاقرار بالكتابة وقبض البدل اعتاق له
(فان قيل) أليس انه يملك انشاء الكتابة واستيفاء البدل فينبغي أن يصح اقراره به
(قلنا) إنما يملك الانشاء لأنه يدخل بتصرفه في ملك اليتيم ظاهرا مثل ما يخرجه عن
ملكه وذلك لا يوجد في الاقرار (فان قيل) فكذلك إذا أقر باستيفاء البدل بعد ما باشر
الكتابة (قلنا) هناك بمباشرة الكتابة يدخل في ملكه ظاهرا مثل ما يخرجه من ملكه
ثم بالاقرار بالقبض ليس يخرج من ملكه شيئا إنما يقرر ملكه في البدل بقبضه ولو
وكل الوصي بقبض بدل الكتابة جاز لأنه يملك مباشرة القبض بولايته فيصح توكيله به
غيره كالأب فان كاتبه ثم أدرك اليتيم فلم يرض به فالكتابة ماضية لأنه تصرف نفذ من
الوصي في حال قيام ولايته فلا يملك اليتيم ابطاله بعد البلوغ كالبيع وهذا لان فعله في حال
26

بقاء ولايته كفعل اليتيم بنفسه غير أنه لا يدفع المال إلى الوصي لأن ولاية القبض له كان
بطريق نيابته عن اليتيم وقد زال ذلك فهو كدين وجب ليتيم لا بعقد الوصي لا يملك الوصي
قبضه بعد بلوغه وهذا لان العاقد في باب الكتابة سفير ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يملك
القبض وأنه ليس عليه تسليم المعقود عليه فلا يقبض البدل بحكم العقد أيضا ولكن القبض
إلى اليتيم بعد بلوغه ولا يعتق المكاتب الا بالأداء إليه أو إلى وكيله وكذلك لو كان القاضي
عزل الوصي الذي كان كاتب وجعل غيره وصيا كان قبض البدل إلى الثاني دون الأول
حتى لو أدى إلى الأول أو أدى إلى اليتيم لم يعتق ولا يجوز لاحد الوصيين ان يكاتب
بغير إذن صاحبه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويجوز في قول أبى يوسف رحمه
الله تعالى بمنزلة بيع أحد الوصيين عبدا ليتيم فان عندهما لا ينفرد به أحدهما لان الأب أقام
رأيهما مقام رأى نفسه ورأي المثنى لا يكون كرأي الواحد وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول
تصرف الوصي بحكم ولايته ولكل واحد من الوصيين ولاية تامة ولا يجوز للوصي أن يعتق
على مال كما لا يعتق بغير مال لان العبد يخرج من ملك اليتيم بنفس القبول والبدل في ذمة
مفلسة كالتاوي وكذلك لا يبيع نفس العبد منه بمال لأنه اعتاق بجعل ألا ترى أنه إذا صح
عتق بنفس القبول قبل أداء المال بخلاف الكتابة ولا يجوز للوصي ان يكاتب إذا كانت
الورثة كبارا غيبا كانوا أو حضورا لأنه ليس له على الورثة الكبار ولاية وإنما له حفظ المال
عليهم فإنما يملك التصرفات فيما يرجع إلى الحفظ والكتابة ليست من هذه الجملة ألا ترى أنه
لا يبيع العقار (قال) وكذلك لو كانوا صغارا فأدركوا ثم كاتبه الوصي لم يجز كما لو كانوا
كبارا ألا ترى أنهم لو كاتبوه بأنفسهم صح منهم وإنما ثبت الولاية للوصي في حال لا يملك
المولى عليهم مباشرة التصرف بنفسه وكذا إن كان بعض الورثة كبارا فأبوا أن يجيزوا
كتابة الوصي لم تجز مكاتبته لأنه لا ولاية له في نصيب الكبار والصغير لو كان بالغا
فكاتب نصيبه بنفسه كان للآخر أن يفسخ الكتابة فكذا إذا فعله الوصي وان كانت الورثة
صغارا وعلى الميت دين فكاتب الوصي عبدا من تركته لم يجز وإن كان الدين لا يحيط بماله
لان حق الغريم مقدم وما لم يصل إليه كمال حقه لا يسلم شئ من التركة إلى الوارث فلا يمكن تصحيح
كتابته للغريم إذ ليس للوصي عليه ولاية ولا لليتيم لأنه لا يسلم له شئ الا بعد وفاء الدين ولا
للميت لان حقه في تفريغ ذمته ويتأخر ذلك في كتابته فلهذا لم يجز عقده الا ان يستوفى الغريم
27

حقه من بقية التركة فحينئذ تنفذ الكتابة لان المانع قيام حق الغريم وقد زال ذلك بوصول دينه
إليه وكذلك أن كان مكان الدين وصية بالثلث لأنه لا ولاية للوصي على الموصى له في
كتابة نصيبه وثلث العبد بالوصية صار له فلا تنفذ الكتابة من الوصي فيه كما لو كان بعض
الورثة كبارا رجل أوصى بثلث ماله وله عبيد لا مال له غيرهم وترك يتامى صغارا فكاتب
الوصي بعض الرقيق فأدي إليه جميع المكاتبة فإنه يعتق حصة الورثة منه لان ثلثي المكاتب
كان مملوكا لهم والوصي قائم مقامهم في الكتابة ولو كانوا بالغين فكاتبوا واستوفوا البدل
عتق نصيبهم فكذلك إذا فعله الوصي فيأخذ الموصى له من المكاتب حصته لان ثلث العبد
بموت الوصي صار له وإنما أدى بدل الكتابة من كسبه وثلث الكسب حقه فكان له أن يستوفي
ذلك من الوصي وله أن يضمن الورثة حصته من العبد ان كانوا أغنياء لأنهم معتقون له
وأحد الشريكين إذا أعتق وهو موسر يكون ضامنا لنصيب شريكه والصبي لا ينفى اليسار
فلا يمنع وجوب ضمان العتق أيضا وقد بينا في العتاق أن الرق لا يمنع وجوب ضمان العتق
فالصبي أولى لان الرق ينافي حقيقة الملك والصبي لا ينافيه وليس له أن يضمن الوصي
شيئا لان الوصي نائب عن الورثة بمنزلة الوكيل لهم بعد البلوغ فلا يكون معتقا وإنما يجب
الضمان على المعتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب مكاتبة الأمة الحامل)
(قال) رضى الله تعالى عنه رجل كاتب أمة له حاملا فما في بطنها داخل في كتابتها ذكر
أو لم يذكر كما يدخل في بيعها لأنه جزء منها ولأنها لو حبلت بعد الكتابة وولدت كان
الولد داخلا في كتابتها فإذا كان موجودا عند العقد أولى فان استثنى ما في بطنها لم تجز
الكتابة كما لو باعها واستثنى ما في بطنها وهذا لأنه بالاستثناء يشترط ما في بطنها لنفسه وهو
شرط فاسد متمكن في صلب العقد فتبطل به الكتابة كما لو استثنى وطأها أو خدمتها لنفسه
وان كاتب ما في بطنها دونها لم يجز كما لو باع ما في البطن وهذا لان ما في البطن بمنزلة جزء
منها فلا يحتمل الكتابة مقصودا ولان الكتابة لا تتم الا بالقبول والقبول من الجنين
لا يتحقق وليس لاحد عليه ولاية القبول الأم وغيرها فيه سواء لان القابل لا يمكن أن
يجعل نائبا فان نيابة الغير شرعا فيما يكون متصورا من المنوب عنه وان كاتبها وهي حامل
28

فولدت ثم ماتت سعى الولد في مكاتبتها على نجومها لأنه جزء منها انفصل بعد ثبوت
حكم الكتابة فيها والنجوم تبقي ببقاء مثل هذا الجزء وإن كان عليها دين سعى فيه أيضا لان
هذا الجزء قائم مقامها وهي في حياتها كانت تسعى في الدين والكتابة جميعا فان أدى الولد
المكاتبة قبل الدين عتق وأخذه الغرماء بالدين حتى يسعى لهم فيه استحسانا وفي القياس لا
يعتق لان كسب الولد فيما يرجع إلى حاجتها ككسبها وإنما يبدأ من كسبها بالدين قبل الكتابة
لان الدين أقوى من الكتابة ألا ترى أنه لا يسقط عنها بالعجز ولكنه استحسن فقال الولد
قائم مقامها وهي في حياتها لو أدت الكتابة قبل الدين عتقت وكان للغرماء أن يطالبوها
بالدين فكذلك الولد إذا أدى وهذا لان ذمة الولد خلف عن ذمتها ولهذا بقيت النجوم
ببقاء الولد فهما دينان في ذمته فإذا قضي أحدهما من كسبه صح قضاؤه ولا سبيل للغرماء
على ما أخذه المولى لان حقهم في ذمته فيطالبونه بأن يسعى لهم كما لو كانت هي التي أدت
الكتابة في حياتها وان عجز عن المكاتبة رده القاضي رقيقا وبيع في الدين للغرماء كما لو
عجزت هي في حياتها وهذا لان الدين ثابت في ذمته والدين في ذمة الرقيق يثبت متعلقا
بمالية الرقبة فيباع فيه وإن كان المولى قد قبض منه شيئا من المال فهو سالم له كما لو كان أخذ
منها في حياتها وهذا لأنه بمنزلة غريم من الغرماء وللمكاتب أن يقضى بعض غرمائه ويسلم
المقبوض للقابض عتق المكاتب أو عجز لأنه في قضاء الدين بكسبه كالحر وإذا قتل الولد
خطأ أخذت الدية من عاقلة القاتل فيبدأ منها بقضاء الدين لان بدل نفس الولد بمنزلة كسبه
وذلك في حاجتها بمنزلة مالها فيبدأ منه بقضاء الدين ثم بالكتابة لان الذمة لما خربت تعلقت
الحقوق بالمال فيبدأ بالأقوى والدين أقوى من الكتابة ثم تقضى الكتابة بعد ذلك والباقي
يكون لورثة الابن دون ورثة الأم لأنه يحكم بعتقها وعتق الولد بأداء المكاتبة ولا حق لها
فيما كان فاضلا عن حاجتها من بدل نفس الولد وكسبه ألا ترى أن الولد لو كان حيا كان
الفضل سالما له فكذا يسلم لورثته بعد موته ويستوى ان كاتبها وهي حامل أو ولدت في
كتابتها وان ماتت الأم وتركت مالا وفاء بالدين الذي عليها فقبض المولى ذلك من الكتابة
تعتق الأم والولد إذا كان الولد هو الذي أدى إليه لأنه خلف عنها فأداؤه كأدائها إلا أن الغرماء
أحق بذلك المال يأخذونه من المولى لان حقهم تعلق بمالها بعد الموت كما يتعلق حق غرماء
الحر بماله بعد موته وحقهم أقوى من حق المولى وليس للابن ولاية ابطال حقهم فلهذا
29

أخذوا المال منه ثم يرجع هو على الابن ببدل الكتابة ولكن لا يبطل العتق كما لو استحق
المقبوض من البدل وهذا بخلاف ما إذا لم تترك مالا وأدى الولد الكتابة من كسبه لان
هناك حق الغرماء في ذمته كحق المولى وهو مكاتب قائم مقام الأم فيملك تخصيص بعض
الغرماء بقضاء الدين من كسبه وإن كان المولى هو الذي قبض مالها من غير أداء الولد إليه لم
يعتق لان هذا مال الغرماء فالمولى غاصب في أخذه لا مستوف لبدل الكتابة بخلاف ما إذا
أدى الولد لأنه يكون مؤديا بدل الكتابة بمال هو حق غيره ألا ترى أنه لو كان في يدها مال
مغصوب لإنسان فغصب المولى ذلك منها لم تعتق ولو أدت إليه بجهة الكتابة عتقت فكذلك
بعد موتها وإن كان القاضي دفعه إليه وهو لا يعلم أن عليها دين فهو بمنزلة الباب الأول تعتق هي
وولدها لان أداء القاضي كأداء الولد أو أقوى منه لان القاضي له ولاية قضاء دين الميت من
ماله كما يكون لمن يخلفه ذلك وان أعتق المولى ولدها في حياتها عتق ولم يرفع عنها شئ من
الكتابة لأنه تبع محض لا يقابله شئ من البدل إذا لم يكن من أهل القبول وقت عقد الكتابة
فهو كالولد المولود في الكتابة وان ماتت ولم تترك مالا فأعتق المولى الولد جاز العتق لأنه قائم
مقامها ولو أعتقها المولى جاز العتق وإن كان عليها دين وبقي حق الغرماء في ذمتها فكذلك إذا
أعتق ولدها وهذا لان حق غرمائها لا يتعلق بذمة الولد ما بقيت الكتابة إنما يتعلق بالكسب
وبالعتق لا يفوت شئ من محل حقهم فلا يمنع نفوذ العتق من المولى ولا يفوت الغرماء شئ
من محل حقهم ولا يضمن للغرماء شيئا ولكن الولد يسعى لهم في الدين كما كان يفعله قبل
العتق رجل كاتب أمته وهي حبلى أو حبلت من بعد ثم أعتق نصفها قبل أن تلد عتق من
الولد مثل ذلك لان الجنين تبع لها وثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل فلهذا يعتق منه
بقدر ما عتق منها وهي بالخيار ان شاءت سعت في نصف المكاتبة وإن شاءت سعت في
نصف القيمة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان العتق عنده يتجزى وقد تلقاها جهتا حرية
الكتابة والسعاية فتختار أيتهما شاءت فان ماتت بعد ما ولدت يسعى الولد فيما على أمه لأنها
بمنزلة المكاتبة سواء اختارت السعاية في نصف المكاتبة أو نصف القيمة والولد مولود في
كتابتها فيسعى فيما عليها ولا يسعى في شئ من قيمة نفسه لان ثبوت العتق في نصفه
بطريق التبعية للأم فلا ينقلب مقصودا فيما كان فيه تبعا وإن كان عليها دين يسعى الولد
في جميع الدين أيضا لأنه قائم مقامها فيما كان عليها من الدين والكتابة وهذا لأنه لا يعتق
30

الا بعتقها فكان هذا والولد المولود في الكتابة سواء وان أعتقه المولى لم يبطل عنه الدين لان
الدين قد ثبت في ذمته على أن يؤدى من سعايته باعتبار خلافته عنها فلا يبطل باعتاق المولى
إياه كما لا يبطل باعتاق المولى إياها وإن كان هذا الولد جارية فعلقت من المولى ثم مات المولى
عتقت بجهة الاستيلاد لأنها كانت كالمكاتبة للمولى وسعت في الدين الذي على أمها كما لو كان
المولى أعتقها في حياته ولم تسع في المكاتبة لان سعايتها في المكاتبة كان لتحصيل العتق لنفسها
وقد عتقت ولان المولى باعتاقه إياها بعد موت الأم يصير مبرئا لها عن بدل الكتابة ألا ترى
أنه لو أعتق أمها في حياتها كان مبرئا لها عن بدل الكتابة فكذلك الولد ويستوى ان أعتقها
قصدا أو بالاستيلاد وإذا كاتب الرجل أمة فولدت ولدا فجنى على الولد جناية أو اكتسب
مالا فجميع ذلك للأم لأنه تابع لها في الكتابة فكسبه وأرش طرفه لها وليس للولد
أن يمنع شيئا منها وإن كان كبيرا فان عتقا ثم ماتت الأم فذلك ميراث عنها سواء كانت
أخذت منه أو لم تأخذ بخلاف ما يكتسبه الولد بعد موتها وهذا لان في حال بقاء الأصل
لا عبرة للتبع فكان كسب الولد ككسبها ولو اكتسبت ثم عتقت وماتت كان كسبها ميراثا
عنها سواء كان في يدها أو في يد غيرها فكذلك كسب ولدها فأما بعد الموت فات ما هو
الأصل ولكن بقي الولد خلفا عنها فيما كان من حاجتها وحاجتها إلى أداء البدل لتعتق به فلهذا
كان ما وراء ذلك من كسب الولد له وان مات الولد بعد العتق من تلك الجراحة كان جميع
قيمته للأم لان الجاني صار قاتلا له فان بالعتق لا تنقطع السراية هنا حين لم يتبدل المستحق وإذا
صار قاتلا له وهو مكاتب وقت جنايته فيكون الواجب عليه القيمة ويكون ذلك سالما للأم
وان مات الولد عن مال وورثة أحرار ثم ماتت الأم قبل أن تأخذه ولم تترك شيئا فذلك المال
مالها لان سبب الاستحقاق تم لها في حياتها فلا يبطل حقها بموتها ولكن القيمة مالها ويأخذ
المولى منه المكاتبة والباقي ميراث عنها ويجوز لولد المكاتبة ان يبيع ويشترى لأنه بمنزلة أمه
مكاتب فيملك التصرف وإن كان كسبه لها بحكم التبعية في الكتابة فان لحقه دين ثم ماتت
الأم سعى في جميع ذلك كما كان يسعى في حياتها فان أكتسب مالا قضى منه الدين الذي عليه
وعلى أمه وسعى في الكتابة لأنه مع لحوق الدين إياه هو قائم مقام الأم بعد موتها فيسعى في
جميع ما عليها وان مات بدئ بدينه لان دينه في ذمته أقوى من حيث إنه أسبق تعلقا وانه أصيل
فيه لمباشرة سببه فيبدأ من كسبه بدينه ثم بدين أمه ألا ترى ان المكاتبة لو أذنت لعبدها في
31

التجارة فلحقه دين ثم ماتت كان غرماء العبد أحق بمالية الرقبة من غرمائها فكذلك الولد
وهذا لان كسبه لها بعد ما يفرغ من حاجته فان حاجة المكتسب في كسبه مقدم على حاجة
غيره مكاتبة ولدت بنتا فكبرت وارتدت ولحقت بالدار ثم أسرت لم تكن فيئا لأنها مكاتبة
تبع لامها والمكاتبة لا تملك بالأسر فتحبس حتى تتوب أو تموت كما لو كانت الأم هي التي
فعلت ذلك وبهذا ونحوه يتبين فساد قول من يقول من أصحابنا ان أحدا لا يتكاتب على
أحد فان الابنة لو لم تصر مكاتبة حقيقة لصارت فيئا بالأسر فان ماتت المكاتبة عن غير
وفاء فان القاضي يخرج الابنة من الحبس حتى تسعى فيما على أمها لان حبسها لحق الشرع
وحق الأمة والمولى فيها وفي سعايتها مقدم على حق الشرع الا ترى ان الأمة إذا ارتدت
لم تحبس ولكنها تدفع إلى المولى يستخدمها ويحبسها فكذلك الابنة هنا تخرج لتسعى فيما
على أمها مكاتبة ولدت ولدا ثم قتلها الولد فقتلها بمنزلة موتها وليس عليه من جنايته شئ
لأنه جزء منها فكأنها جنت على نفسها ولأنه لو جنى على غيرها كان موجب جنايته في
كسبه وكسبه لها فلو وجب لها بجنايته شئ إنما يجب فيما هو من حقها فلا يكون مفيدا
وان جنت الأم جناية على انسان ثم ماتت قبل أن يقضى عليها بشئ سعى الولد في الجناية
والكتابة لأنه قائم مقامها وهي في حياتها كانت تسعى فيها فان عجز نظر فإن كان القاضي
قضى لولى الجناية بالقيمة فهو بمنزلة الدين على الولد يباع فيه وإن كان القاضي لم يقبض لولى
الجناية بشئ بطلت الجناية بعجزه كما لو عجزت في حال حياتها قبل قضاء القاضي ثم ماتت وهذا
لان حق ولى الجناية في رقبتها وإنما يصير دينا في ذمتها بقضاء القاضي فإذا ماتت قبل القضاء
بطل حقه لفوات محله فكذلك هنا والله أعلم بالصواب
(باب مكاتبة الرجلين)
(قال) وإذا كاتب الرجلان عبدهما مكاتبة واحدة فأدى إلى أحدهما حصته لم يعتق نصيبه
منه ما لم يؤد جميع المكاتبة إليهما لأن العقد واحد في حق المكاتب فلا يعتق شئ منه بأداء
بعض البدل كما لو كان لرجل واحد وهذا لان المقبوض غير سالم للقابض بل لشريكه أن
يستوفي منه نصفه لأنه مال وجب لهما بسبب واحد عوضا عما هو مشترك بينهما فكان
أداؤه إلى أحدهما كأدائه إليهما وان أعتقه أحدهما جاز لأنه مالك لنصيبه متمكن من اعتاقه
32

بعد الكتابة كما كان متمكنا منه قبل ذلك وكذلك أن وهب له نصيبه من المكاتبة أو أبرأه
عنه عتق لأنه لو كان مالكا لجميعه كان معتقا له بابرائه عن جميع البدل فكذلك إذا كان مالكا
لبعضه كان معتقا لحصته بابرائه إياه عن حصته من البدل بمنزلة ما لو قال له أنت حر بخلاف ما لو
استوفى حصته وهذا لان ما أسقط بالهبة والابراء نصيبه خاصة فيتحقق به براءة ذمة المكاتب
عن نصيبه فأما المستوفي ليس بنصيبه خاصة حتى كان لشريكه ان يشاركه فلا يتم براءة ذمته عن
نصيبه بهذا الاستيفاء وكذلك أن سلم الشريك للقابض ما قبض أو كان قبض نصيبه باذن
شريكه لأنه لا يتم سلامة المقبوض له بهذا أيضا حتى لو عجز الغلام كان المأخوذ بينهما نصفين
وهذا لأنه إنما سلم المقبوض بشرط أن يسلم له ما في ذمة المكاتب فإذا فات شرطه بالعجز رجع
بنصف ما قبض كالمحال عليه إذا مات مفلسا يعود الدين إلى ذمة المحيل ثم المكاتب بالخيار بعد
اعتاق أحدهما إياه ان شاء عجز ويكون الشريك بالخيار بين التضمين والسعاية في نصف
القيمة والعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبين العتق والسعاية إن كان المعتق معسرا
لأنه بتعجيزه نفسه انفسخت الكتابة فيكون حكمه حكم عبد مشترك بين اثنين يعتقه
أحدهما وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يضمن المعتق نصف قيمته إن كان موسرا ويسعى
العبد في نصف قيمته إن كان معسرا كما هو مذهبه في العبد المشترك وعلى قول محمد رحمه الله
يضمن الأقل من نصف القيمة ونصف ما بقي من الكتابة وكذلك يسعى العبد في الأقل
عند عسرة المعتق لان وجوب الضمان والسعاية لدفع الضرر عن الشريك ويندفع الضرر عنه
بايجاب الأقل كأن حقه وقت الاعتاق كان في الأقل ألا ترى أنه يعتق نصيبه باتصال ذلك
إليه والضرر يندفع عنه باتصال حقه إليه وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول اعتبار الأقل
بحكم بقاء الكتابة وحين عجز نفسه فقد انفسخت الكتابة فكان حق الساكت في نصف العبد
عينا ولا يندفع الضرر عنه الا باتصال نصف القيمة إليه ولا معنى لاعتبار الأقل بعد ذلك
وان اختار المضي على المكاتبة ثم مات عن مال كثير أخذ المولى الذي لم يعتق نصف المكاتبة
من ماله كما كان يطالبه به في حياته ثم الباقي بعد ذلك لورثته وإذا كاتب الرجلان عبدين بينهما
مكاتبة واحدة ان أديا عتقا وان عجزا ردا فإنه يكون كل واحد منهما مكاتبا بينهما على حدة
بحصته وذلك بأن يقسم المسمى على قيمتهما فيكون كل واحد منهما مكاتبا بحصته وإذا
أدى أحدهما حصته إليهما عتق بخلاف ما لو كانا لرجل واحد لان هناك كل واحد منهما
33

يمكن أن يجعل ملتزما لجميع البدل البعض بطريق الأصالة والبعض بطريق الكفالة مراعاة
لشرط المولى والمالك واحد فلا يكون ذلك منهما كفالة على الحقيقة فأما هنا نصف كل واحد
منهما لمالك على حدة فلو جعلنا كل واحد منهما مطالبا بجميع البدل كان بحكم الكفالة في
البعض وفى نصف ذلك كفالة من كل واحد منهما عن مملوك هو لغير مولاه فيكون كفالة
حقيقة ولا تصح الكفالة من المكاتب ولا ببدل الكتابة فلهذا كان كل واحد منهما مطالبا
بحصته خاصة يعتق بأداء ذلك إليهما كما لو كاتبه كل واحد منهما بعقد على حدة عبد بين
رجلين كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه فللشريك أن يرد المكاتبة وقال ابن أبي ليلى
رحمه الله تعالى ليس له ذلك بمنزلة ما لو أعتق أحدهما نصيبه أو بمنزلة ما لو باع أحدهما
نصيبه لان تصرف المكاتب لاقى خالص ملكه ولكنا نقول هذا عقد محتمل للفسخ وفى
ابقائه ضرر على الشريك الآخر أما في الحال فلانه يتعذر عليه بيع نصيبه وأما بعد الأداء
فلانه يتعذر عليه استدامة الملك في نصيبه فلدفع الضرر عن نفسه يتمكن من فسخ عقد
شريكه وإذا جاز فسخ الكتابة لدفع الضرر عن المتعاقدين فلان يجوز فسخه لدفع الضرر عن
غيرهما ممن لم يرض بعقدهما أولى ولا يبعد أن يلاقى تصرف الانسان ملكه ثم للغير أن
يفسخه لدفع الضرر عن نفسه كالراهن يبيع المرهون أو الآجر يبيع المؤاجر فان أعتقه
الشريك الآخر بعد ذلك نفذ عتقه عندنا وقال ابن أبي ليلى لا ينفذ عتقه حتى ينظر ماذا
يصنع في المكاتبة فان أداها عتق وضمن الذي كاتبه نصيب شريكه والولاء كله له وان
عجز ينفذ عتقه وهذا بناء على أصله أن الكتابة لا تتجزى وأن المولى بعقد الكتابة يستحق
الولاء فإذا صار المكاتب مستحقا لجميع ولائه لا يملك الآخر ابطاله عليه بالاعتاق ولكن
يتوقف حكم اعتاقه لتوقف ملكه في نصيبه فان أدى الكتابة تبين أن نصيب الشريك
كان منتقلا إلى المكاتب فيضمن المكاتب له نصف قيمته والولاء كله له وان عجز تبين أنه
كان مشتركا بينهما فينفذ عتق المعتق في نصيبه فأما عندنا نصيب الشريك باق على ملكه عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى غير مكاتب وعندهما مكاتب كان متمكنا من فسخ الكتابة فيعتق نصيبه
باعتاقه وإذا أعتق فالمكاتب بالخيار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان شاء مضى على
الكتابة وادى البدل وكان ولاؤه لهما وإذا اختار ذلك فليس للمكاتب ان يضمن المعتق شيئا
لأنه ما أتلف عليه شيئا من حقه وان شاء عجز نفسه فعند ذلك يخير الذي كاتبه بين عتقه
34

واستسعائه وتضمين شريكه لما بينا وعندهما يعتق كله باعتاق أحدهما وإن كان المعتق موسرا
فللآخر حق التضمين فإن كان معسرا فللآخر حق الاستسعاء على ما بينا من الاختلاف بينهما وعلى
هذا لو كاتب الآخر نصيبه أيضا عند أبن أبي ليلي لا ينفذ منه وعندنا ينفذ ويكون مكاتبا بينهما
وليس للمكاتب الأول أن يفسخ عقد الثاني وان باشره بغير إذنه لان ثبوت حق الفسخ
لمعنى دفع الضرر ولا ضرر عليه هنا لان نصيبه مكاتب ثم المسألة في كتابة أحد الشريكين
على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون بغير إذن شريكه ويستوفى البدل قبل أن يفسخ الشريك الكتابة
فنقول على قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصيبه لوجود شرط العتق وهو أداء البدل ثم يكون
للساكت ان يأخذ من المكاتب نصف ما أخذ من العبد لان المؤدى كسبه وكسبه كان
مشتركا بينهما فله ان يأخذ نصف ذلك منه ونصف ما بقي من الكسب في يد العبد أيضا
ثم يرجع المكاتب على العبد بما أخذه منه شريكه لان جميع البدل كان بمقابلة نصيبه وقد سلم
نصيبه للعبد أيضا ولم يسلم للمولى نصف البدل فيرجع به عليه كما لو استحقه مستحق آخر من
يده ثم إن كان المكاتب موسرا فللشريك خير بين ثلاثة أشياء وإذا اختار التضمين يرجع
المكاتب بما ضمن على العبد ويكون الولاء كله له وان اختار الاستسعاء أو الاعتاق أو كان
المكاتب معسرا فالولاء بينهما وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الجواب كذلك إلا أن
المكاتب لا يرجع على العبد بالنصف الذي أخذه شريكه منه لان عندهما صار الكل
مكاتبا فان جميع البدل مقابل بجميع الكسب ولم يسلم له الا النصف وقد سلم للمولى من
جهته نصف البدل أيضا ثم إن كان المكاتب موسرا فليس للساكت الا التضمين وإن كان
معسرا فليس له الا الاستسعاء والوجه الثاني أن يكاتب أحدهما نصيبه باذن شريكه فعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا استوفي البدل عتق نصيبه وللشريك أن يرجع عليه
بنصف ما أخذ أيضا وبنصف ما بقي من الكسب في يد العبد لأنه أداه من كسبه واذنه
في العقد لا يكون اذنا في قبض البدل ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يملك قبض البدل
فلهذا كان هذا الفصل والفصل الأول سواء عنده الا في حكمين أحدهما أنه لا يكون
للآخر حق فسخ الكتابة والآخر أنه لا يكون له أن يضمن المكاتب بعد العتق لوجود
الرضا منه بالسبب وعلى قولهما اذنه في كتابة نصيبه يكون اذنا في كتابة الكل فيصير الكل
مكاتبا بينهما إلا أن بقبض أحدهما جميع البدل لا يعتق ما لم يصل إلى الآخر نصيبه لان
35

المكاتب في نصيبه كان وكيلا والوكيل بالكتابة لا يملك القبض للبدل فإذ وصل إلى الآخر
نصيبه حينئذ يعتق وما بقي من الكسب كله سالم للعبد والوجه الثالث أن يأذن أحدهما
لشريكه في أن يكاتب نصيبه ويقبض البدل فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا قبض
المكاتب البدل فليس للشريك أن يرجع بشئ من المقبوض لأنه قبضه برضاه وصار هو
آذنا للعبد في أن يقضى دينه بكسبه فلا يثبت له حق استرداد شئ من القابض بخلاف
الأول وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق كله بقبض المكاتب سواء وصل إلى
الشريك نصيبه أو لم يصل لأنه كان وكيلا من جهته في قبض البدل فيعتق العبد بالأداء
إليه والمقبوض مشترك بينهما ولا سبيل للشريك على ما بقي من كسب العبد في يده سواء
وصل إليه نصيبه مما قبضه المكاتب أو لم يصل بأن هلك في يده لان هلاك نصيبه في يد
وكيله كهلاكه في يده وإن كان أحد الشريكين كاتب جميع العبد فقول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى في هذا كقولهما حتى إذا عتق بالأداء إليه رجع الشريك عليه بنصف المقبوض وإذا
كان بغير إذنه لم يكن له أن يرجع على العبد بشئ من ذلك لان جميع البدل هنا بمقابلة جميع
الكسب والرقبة ولم يسلم له من جهة المكاتب الا النصف وقد سلم للمكاتب نصف البدل
أيضا فلا يرجع عليه بشئ آخر فان أذن أحدهما لصاحب أن يكاتب نصيبه ويقبض البدل
ثم نهاه بعد ما قبض بعضه صح نهيه لان أذنه للمكاتب في قضاء دينه بنصيبه من الكسب
لا يكون ملزما شيئا إياه فيكون له أن يرجع عن ذلك حتى يشاركه فيما يقبض بعده ولا
يشاركه فيما كان قبض قبل النهى اعتبارا للبعض بالكل وان كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن
شريكه فلم يعلم به شريكه حتى كاتبه نصيبه باذن الأول ثم علم بكتابة الأول فأراد ردها لم يكن
له ذلك لأنه بمباشرة الكتابة في نصيبه صار مسقطا لخياره فان الخيار له كان لدفع الضرر وقد
التزم ذلك الضرر ثم ما يأخذ واحد منهما بعد هذا منه فهو سالم له لا يشاركه الآخر فيه لان
نصيب كل واحد منهما صار مكاتبا بعقد باشره بنفسه فلا يكون بينهما في البدل شركة كما لو
باع كل واحد منهما نصيبه بعقد على حدة بخلاف ما إذا كاتباه معا لان البدل هناك وجب
لهما بعقد واحد وإن كان الأول أخذ منه شيئا قبل كتابة الثاني كان للثاني أن يشاركه فيه لان
الثاني إنما يكون مسقطا حقه عن كسبه بكتابة نفسه فيقتصر ذلك على ما يكتسبه بعد كتابته فلا
يتعدى إلى ما كان قبله وان أذن كل واحد منهما لصاحبه في مكاتبة نصيبه منه فهذا اذن له
36

في القبض ولا يرجع أحدهما فيما قبض الآخر ولا يشركه وقوله وهذا اذن له في القبض
تجوز في العبارة فان الاذن في الكتابة لا يكون اذنا في القبض ولكن إنما لا يرجع واحد
منهما على صاحبه لان المكاتب صار أحق بجميع كسبه ونصيب كل واحد منهما من البدل
واجب بعقد على حدة فلا شركة بينهما في المقبوض وان كاتب أحدهما نصيبه منه بعد
ما أذن له صاحبه في الكتابة والقبض فقبض بعض الكتابة ثم عجز الغلام ففي القياس
للشريك أن يرجع على القابض بنصف المقبوض لأنه إنما رضى بقبضه ليعتق نصيبه به ولم
يعتق حين عجز الغلام ولأنه إنما رضى الآذن بأن يقضي العبد دينه بنصيبه من الكسب
وبعد العجز لا دين فبقي هو كسب عبد مشترك بينهما فله أن يأخذ منه نصفه وفى
الاستحسان لا سبيل له عليه فيما قبض اعتبارا للبعض بالكل وهذا لأنه صار مسقطا حقه
عن المقبوض حين أذن له في قبضه فلا يعود حقه فيه بعجز الغلام ألا ترى أنه لو تبرع
انسان بقضاء بعض البدل عن المكاتب ثم عجز المكاتب عما بقي لم يكن للمتبرع استرداد
ما تبرع به فهذا مثله وإذا كاتب أحدهما كله بغير إذن شريكه ثم وهب للعبد نصف
المكاتبة لم يعتق منه شئ كما لو كان العبد كله له وهذا لأنه أضاف الهبة إلى نصف شائع
فلا يتعين لذلك حصة نصيبه خاصة فلهذا لا يعتق وان قال وهبت لك جميع حصتي من هذه
المكاتبة عتق إما لان جميع البدل وجب بعقده فكان هذا وقوله وهبت لك المكاتبة كلها
سواء أو لأنه برئ من حصته من البدل حين أضاف الهبة إلى نصيبه خاصة بمنزلة ما لو كاتباه
ثم وهب أحدهما جميع حصته إلا أن الأول أصح لان العبد هنا لا يعتق الا بأداء جميع البدل
إليه فعلم أن هبة جميع حصته تكون هبة لجميع المكاتبة مكاتبة بين رجلين علقت من أحدهما
فهي بالخيار لأنه تلقاها جهتا حرية فإن شاءت عجزت فكانت أم ولد له ويضمن لشريكه
نصف قيمتها ونصف عقرها لأنها أمة بينهما وقد استولدها وإن شاءت مضت على الكتابة
وأخذت عقرها فان مضت على الكتابة ثم علقت من الآخر ثم عجزت فالولد الأول
للأول والولد الثاني للثاني لان نصفها في الظاهر مكاتب له حين استولدها وذلك يكفي لثبوت
نسب الولد الثاني منه وهي أم ولد للأول لأنه استحق حق أمية الولد في جميعها إلا أن
المكاتبة في نصيب الآخر كان مانعا من ظهور هذا الاستحقاق قبل العجز وقد ارتفع
هذا المانع بالعجز فصارت أم ولد له من ذلك الوقت ألا ترى أن الخيار إذا سقط في البيع
37

بشرط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يستحق الزوائد وإذا صارت
أم ولد له فعليه نصف قيمتها للثاني وعلى الثاني جميع قيمة الولد لأنه تبين أنه استولد مملوكة
الغير ولكنه كان مغرورا باعتبار ظاهر الملك فيكون ولده حرا بالقيمة ولم يذكر حكم
العقر لأنه على رواية هذا الكتاب وجب نصف العقر على الثاني ونصف العقر على الأول
فيكون أحدهما قصاصا بالآخر وقد بينا في كتاب الدعوى أن الأصح وجوب جميع
العقر على الثاني ثم يكون النصف بالنصف قصاصا ويبقي للأول نصف العقر على الثاني
وبينا هناك ان قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أيضا انه حين استولدها أحدهما صار
الكل أم ولد له وهي مكاتبة فلا يصح استيلاد الثاني بعد ذلك ولا يثبت النسب منه بالدعوى
مكاتبة بين رجلين ولدت بنتا ثم وطئ أحدهما الابنة فعلقت منه قال ثبت نسبه منه لان
الابنة بمنزلة أمة مكاتبة بينهما فيثبت نسب ولدها من أحدهما بالدعوى كما ثبت نسب ولد
المكاتبة والابنة على حالها ليس لها أن تخرج نفسها من المكاتبة لتكون أم ولد للمستولد لأنها
تابعة في العقد فلا تملك فسخ العقد في حق نفسها مقصودا ولا ولاية لها على فسخ العقد في
حق أمها ولان الأم إنما كانت تعجز نفسها عما عليها من البدل وليس على الولد شئ من البدل
وقد كان للأم منفعة في التخيير فخيرناها ولا منفعة للابنة في ذلك وعلى المستولد عقرها لأنه
وطئها وهي مكاتبة ولكن عقرها للأم بمنزلة كسبها وانها تابعة للأم في الكتابة فان عجزت
المكاتبة صارت الابنة أم ولد للواطئ لان المانع من ظهور أمية الولد في نصيب شريكه منها
قد ارتفع بعجز الأم وإنما تصير أم ولد له من حين علقت منه فلهذا يضمن لشريكه نصف
قيمتها يوم علقت منه وإن لم تعجز فاعتق الشريك الآخر الابنة بعد علوقها من الأول عتقت
عند أبي حنيفة رحمه الله لان نصيبه من الابنة باق على ملكه ما بقيت الكتابة فيها فينفذ
عتقه ولا سعاية عليها لان نصيب المعتق عتق باعتاقه ونصيب الآخر بمنزلة أم الولد ولا سعاية
على أم الولد للمستولد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة أم ولد بين شريكين أعتقها
أحدهما وولدها حر لأنه ثابت النسب من المستولد وقد عتقت بذلك لكونه متمكنا من
اعتاقه ولا سعاية عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا لان اعتاق الشريك نصيبه
من الأم يكون اعتاقا لنصيبه منه كما بينا من عتق السفلى باعتاق العليا على أصله والمكاتبة
باقية على حالها تعتق بالأداء أو تعجز فتكون أمة بينهما مكاتبة بين رجلين ولدت فاعتق
38

أحدهما الولد عتق نصيبه منه لكونه مالكا لنصيبه بسبب دخوله في مكاتبة الأم وهو على
حاله حتى تعجز الأم أو تعتق لأنه لما صار تبعا لامه في الكتابة لا ينقلب مقصودا ما بقي حكم
التبعية ولان الأم لها حق في كسب الولد فلا يتمكن المعتق من ابطال حقها في كسبه فان
عتقت عتق معها لبقاء حكم التبعية في النصف الذي بقي رقيقا منه فان عجزت فقد زال معنى
التبعية وصار الولد مقصودا وهو مشترك بينهما أعتقه أحدهما وقد بينا حكم العبد المشترك
يعتقه أحد الشريكين وإذا اختار التضمين يضمنه نصف قيمته وقت اعتاقه لا وقت عجز
الأم لان وجوب الضمان بسبب الاعتاق فتعتبر القيمة عند ذلك كما تعتبر قيمة المغصوب
وقت الغصب مكاتبة بين رجلين ولدت بنتا فوطئا الابنة فعلقت فولدت منهما ثم ماتا
فالابنة حرة لأنها كانت أم ولد لهما فتعتق بموتهما كما لو أعتقاها وهذا لأنها استغنت
عن تبعية الأم لما ظهر لها من سبب العتق مجانا وتبقي الأم على مكاتبتها لان نفوذ العتق
في التبع لا يوجب عتق الأصل ولو كانت الأم هي التي ولدت منهما ثم ماتا عتقت
هي بجهة الاستيلاد وعتق ولدها أيضا لأنه تبع لها وثبوت العتق في التبع بثبوته في الأصل
ولان عتقها بالاستيلاد كعتقها باعتاق منهما ابتداء وقد بينا أنهما إذا أعتقاها عتق الولد معها
لان اعتاقهما إياها بمنزلة الاستيفاء لما عليها من المكاتبة وان عجزت ثم ولدت منهما بعد
ذلك فالولد الأول رقيق لان بعجزها انفسخت الكتابة وصار الولد الأول رقيقا ثم يثبت
فيها حق أمية الولد بعد انفصال هذا الولد عنها وحق العتق لا يسري إلى الولد المنفصل
كحقيقة العتق وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كاتب أحد الشريكين بغير إذن
شريكه ثم علقت منه فهي أم ولد له وأبو حنيفة رحمه الله تعالى في هذا لا يخالفهما
لان نصيب الشريك عنده لم يصر مكاتبا فتصير أم ولد للمشترى ولكنه حفظ جوابهما
ولم يحفظ جواب أبي حنيفة وهي مكاتبة على حالها لان الكتابة لا تنافى الاستيلاد
سابقا ولا طارئا ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها للشريك وهذه إجازة للمكاتبة لأن العقد
في حق الشريك لدفع الضرر عنه وقد زال ذلك بتحول نصيبه إلى المستولد قال
وهذا بمنزلة رجل له أم ولد كاتبها يريد به التشبيه في حكم لزوم الكتابة فأما في مسألة الأصل
المستولد ضامن نصف العقر لان كتابته في نصيبه كان نافذا ومن استولد مكاتبته يلزمه
العقر لها وقد فسره بعد هذا فقال جارية بين رجلين كاتبها أحدهما بغير إذن شريكه ثم
39

وطئ الذي كاتبها قبل أن يعلم شريكه بالمكاتبة فولدت منه فهي أم ولد له والمكاتبة جائزة
ويضمن الواطئ نصف قيمتها ونصف عقرها للشريك ونصف العقر لها وللمكاتبة الخيار لأنه
تلقاها جهتا حرية فان اختارت الكتابة أخذت نصف العقر منه وان اختارت أن تكون أم
ولد له لم يكن لها نصف العقر لان استحقاقها نصف العقر لكونها أحق بنفسها بعقد الكتابة
وقد زال ذلك حين اختارت الاستيلاد فان أم الولد لا تستوجب على مولاها دينا وان أجاز
شريكه المكاتبة بعدما علقت منه فاجازته باطلة وهي مكاتبة لأنه أجاز عقدا باطلا ولان
نصيبه تحول إلى المكاتب بالاستيلاد وإنما كان يعتبر اجازته باعتبار ملكه فان وطئها الذي لم
يكاتب فعلقت منه فهي أم ولد الذي علقت منه لأنه مالك لنصيبه منها فصح استيلاده فيها
والمكاتبة على حالها جائزه حتى يردها الواطئ لأنه لا منافاة بين الاستيلاد والكتابة وكل
واحد منهما يطرأ على صاحبه فلم يكن اقدامه على الاستيلاد إبطالا منه للكتابة ولكنه لو
انفسخت الكتابة بعد ذلك صار الكل أم ولد له لان المانع من انتقال نصيب الشريك إليه
بالاستيلاد هو الكتابة وقد ارتفعت وان كاتبها أحدهما باذن شريكه ثم استولدها الآخر
فإن شاءت عجزت وكانت أم ولد المستولد لزوال المانع في نصيب الشريك وإن شاءت
مضت على كتابتها وأخذت منه نصف العقر لان الكتابة في نصيب الشريك لازمة حين
باشرها باذن شريكه وتأخذ منه نصف العقر لأنها أحق بنفسها في ذلك النصف فإذا أدت
المكاتبة عتقت ولم تسع للمستولد في شئ لان نصيبه منها أم ولد ولا سعاية على أم الولد
للمستولد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وان كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه
فاكتسبت مالا وقضت منه الكتابة فعتقت ثم اكتسبت مالا ثم حضر الذي لم يكاتب
فله نصف ما اكتسبته قبل أداء الكتابة ولها نصفه لان نصيب المكاتب منها مكاتب
ونصيب الشريك مملوك له والكسب يملك بملك الأصل وما اكتسبته بعد أداء الكتابة
فهو لها لان عندهما تعتق كلها بعتق البعض وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعتق نصيب
المكاتب ونصيب الشريك بمنزلة المكاتب لما عليها من السعاية والمكاتب أحق بكسبه من
المولى فلهذا لم يكن للشريك شئ مما اكتسبت بعد أداء الكتابة فان ماتت قبل أن تؤدى
شيئا وتركت مالا فنصفه للذي لم يكاتب لأنه كسب نصيبه منها ويأخذ الذي كاتب النصف
الباقي في المكاتبة لان كسب نصيبه منها والمكاتبة كانت نافذة في نصيبه فيأخذ بدل
40

الكتابة من تركتها بعد موتها ثم يأخذ الذي لم يكاتب نصف قيمتها مما بقي إن كان شريكه
معسرا لأنه يثبت له حق استسعائها في نصف القيمة ان كانت حية وقد ماتت عن مال
فيأخذ تلك السعاية من مالها والباقي ميراث لورثتها الأحرار لأنه حكم بعتقها بأداء السعاية
مستندا إلى حال حياتها فإن لم يكن لها وارث غيرهما كان ما بقي بينهما نصفين لان نصيب
كل واحد منهما عتق على ملكه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فهي مولاة لهما وان شاء
أن يضمن شريكه لأنه موسرا كان له ذلك لان المكاتب صار معتقا لنصيبه ثم يرجع به المكاتب
في مالها كما يرجع عليها لو كانت حية ويكون ولاؤها وميراثها له إن لم يكن لها وارث لأنه
تملك نصيب شريكه بالضمان وان كانت ماتت بعد ما أدت المكاتبة وقد تركت مالا لا يدرى
متى اكتسبته قبل الأداء أو بعده فالمال له لان الكسب حادث فيحال حدوثه إلى أقرب
الأوقات وهو ما بعد أداء الكتابة ولان سبب الاستحقاق لها لأنه قد ظهر وهو اكتسابها
واستحقاق النصف لشريكه لم يعلم سببه وهو كون نصيبه قنا حين اكتسب ولا يقال قد عرفنا
نصيبه مملوكا قنا له فيجب التمسك بذلك حتى يتبين خلافه لان هذا ظاهر علم زواله بعد ما أدت
الكتابة واستصحاب الحال إنما يعتبر إذا لم يكن خلافه معلوما في الحال جارية بين رجلين كاتبها
أحدهما بغير إذن شريكه فأدت إليه الكتابة ثم وطئها الآخر فعلقت منه قال تسعى له في نصيبه
لان نصيبه بمنزلة المكاتب لما عليها من السعاية ولا تصير أم ولد له أما عندهما لأنها عتقت
بأداء الكتابة وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه تعذر استدامة الملك لما نفذ فيها من العتق
من جهة المكاتب وإنما تكون أم ولد له إذا عجزت عن السعاية وليس لها ذلك ههنا حتى لو
مات المستولد قبل أن تؤدى السعاية عتق نصيبه بجهة الاستيلاد وسقط عنها السعاية عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى رجل كاتب جارية ثم مات عن ابنين فاستولدها أحدهما فهي
بالخيار ان شاءت عجزت فكانت أم ولد له ويضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه
لان الكتابة انفسخت بالعجز فصارت مشتركة بينهما إرثا قد استولدها أحدهما وإن شاءت
مضت على كتابتها وأخذت عقرها لان المكاتب لا يورث ما بقيت الكتابة وقد سقط الحد
عن الواطئ بشبهة حق الملك الثابت له فيها بانعقاد سببه فيجب العقر لها وإذا كاتب الرجلان
جارية بينهما مكاتبة واحدة ثم ارتد أحدهما عن الاسلام فأدت المكاتبة إليهما ثم
قتل مرتدا قال لا تعتق وليس أداؤها إلى المرتد بشئ في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
41

وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تعتق لان قبض المرتد عندهما جائز كقبض المسلم
بمنزلة قولهما في تصرفات المرتد وأما في قول أبي حنيفة تصرفات المرتد تتوقف وتبطل
بقتله فكذلك قبضه نصيبه من البدل كان موقوفا وبالقتل تبين أنه كان حق الوارث فكان
قبضه باطلا وترجع الورثة على الشريك بنصف ما أخذ كما لو كان هو أخذ نصيبه وحده
ولهذا لا يعتق نصيب الشريك منها أيضا ثم يستسعونها في النصف الباقي فان عجزت ردت
في الرق بمنزلة مكاتبة أدت نصف البدل إلى الموليين ثم عجزت ثم أشار في الأصل إلى أنه
وان كاتبه في حالة الردة لم يجز قبضه لبدل الكتابة بخلاف ما إذا باعه في حالة الردة وقبض
ثمنه كان جائزا من قبل أن بالردة صار ماله كأنه للوارث والعاقد في باب الكتابة لا يستحق
قبض البدل بعقده إذا كانت المكاتبة لغيره بخلاف العاقد في باب البيع فان حق قبض
الثمن له وإن كان البيع لغيره وكان في هذا الكلام نظر لان بيعه في كسب اسلامه لا ينفذ
بعد الردة ما لم يسلم وبعد الاسلام يجوز قبضه في المكاتبة وفى الثمن جميعا وإنما هذا الفرق
فيما إذا كان البيع والكتابة قبل الردة فلا يجوز قبضه لبدل الكتابة بعد الردة ويجوز قبضه
الثمن بحق العقد ونما لحقه الحجر بالردة كالعبد المأذون إذا باع شيئا ثم حجر عليه مولاه
كان قبضه الثمن صحيحا ولو لحق المرتد منهما بدار الحرب فأدت جميع الكتابة إلى الشريك
الآخر لم تعتق لان قبضه نصيب ورثة المرتد باطل وان أدت إلى الشريك الباقي والى ورثة
المرتد عتقت إذا كان قد قضى بلحاقه كما لو مات فدفعت الكتابة إلى الشريك الحي والى
ورثة الميت وان عجزت بعد ما ارتد أحدهما فردها في الرق ثم قتل المرتد على ردته
فهي على مكاتبتها لان فسخ الكتابة في نصيب المرتد باطل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ككتابته والكتابة إذا كانت واحدة لا يمكن فسخها في البعض دون البعض بسبب
العجز كما لو كان أحد الموليين غائبا فعجزت عن المكاتبة لم يفسخ القاضي العقد بخصومة
الشاهد منهما حتى يحضر الآخر وإذا ارتد الشريكان معا ثم عجزت المكاتبة فرداها في
الرق فان أسلما فهي أمة قنة بينهما وان قتلا على الردة فهي على مكاتبتها وان كانت
المكاتبة بين رجلين فولدت بنتا ثم إن أحد الموليين وطئ الابنة فعلقت منه ووطئ
الآخر الأم فعلقت منه فقالتا نحن نعجز فذلك لهما ومراده أن للأم ان تعجز نفسها لأنه
تلقاها جهتا حرية وأما الولد فليس من هذا الخيار في شئ لأنه ليس عليه شئ من البدل
42

فإذا اختارت الأم المضي على الكتابة أخذت كل واحدة منهما عقرها من الواطي وعقر الابنة
يكون للأم بمنزلة الكسب وان عجزت كانت كل واحدة منهما أم ولد للذي وطئها ويضمن
نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كاتب
الرجل نصيبه من عبده بغير إذن شريكه فللشريك أن يرد ذلك ولا يرده الا بقضاء
القاضي إلا أن يرضى العبد ومولاه الذي كاتبه أن ينقض الكتابة وهذا قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أيضا لان ثبوت حق الفسخ للآخر مختلف فيه بين العلماء فلا يتم الا بقضاء
القاضي أو التراضي كالرجوع في الهبة وهذا لان الفاسخ إنما يفسخ باعتبار ملكه والعاقد
يمنعه من ذلك باعتبار ملكه أيضا فإذا استوت الاقدام كان الفضل إلى القاضي والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب مكاتبة الرجل شقصا من عبده)
(قال) رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل نصف عبده جاز ذلك وصار كله مكاتبا بذلك
في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لان الكتابة عندهما لا تتجزأ كالعتق وعند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقتصر على القدر الذي كاتب منه فان أدى المكاتبة عتق منه
ذلك القدر ويسعى فيما بقي من قيمته على قدر ما يطيق بمنزلة رجل أعتق بعض عبده ومعنى
هذا أنه ليس للمولى أن يطالبه بالسعاية في الحال ولكن بجعله منجما عليه بحسب ما يعلم أنه
يطيق أداءه لأنه معسر فيستحق النظرة إلى الميسرة بالنص ولان مقصود تكميل العتق
دون التضييق عليه وان اكتسب العبد مالا قبل الأداء إليه فنصفه له ونصفه للمولى لان
نصفه مملوك للمولى غير مكاتب والكسب يملك بملك الأصل وما اكتسب بعد الأداء
ليس للمولى منه شئ لان النصف منه عتق بالأداء والنصف الآخر يستسعى كالمكاتب
فيكون هو أحق بجميع كسبه بعد الأداء وإذا كاتب نصفه ثم أراد أن يحول بينه وبين
الكسب لم يكن له ذلك لان مقصود المولى بالكتابة تمكينه من التقلب والتكسب ليؤدي
به البدل وقد ثبت هذا الحق للمكاتب بكتابة النصف لازما فكما لا يكون له أن يفسخ
الكتابة لا يكون له أن يحول بينه وبين الكسب وإذا أراد أن يخرج من المصر فله أن يمنعه في
القياس لان نصفه مملوك له وللمولى أن يمنع ملكه من السفر ولا يتأتي (يتأتى) السفر في قدر ما صار مكاتبا
43

منه وحده فكان للمولى أن يمنع دفعا للضرر عن ملكه كمن استأجر دابة ليركبها هو ليس
له أن يركب غيره أو استأجر ثوبا ليلبسه هو ليس له أن يلبس غيره لان الركوب واللبس
يتفاوت فيه الناس فيصير المستأجر ممنوعا من التصرف فيما يملكه من المنفعة على وجه يلحق
الضرر بصاحب الثوب ولكنه في الاستحسان لا يمنع من ذلك لان المولى أثبت له حق
التقلب والتكسب وربما لا يحصل له هذا المقصود في المصر والخروج من المصر للطلب
طريق ظاهر بين الناس فيصير مثبتا له ذلك الحق حين كاتب نصفه فلا يمنعه بعد ذلك منه
وهذا أولى الوجهين بالأخذ به لان المقصود من هذا العقد الارفاق به وكذلك لو أراد
أن يستخدمه أو يستسعيه يوما ويخلى عنه يوما للكسب فله ذلك في القياس لان خدمته
ومنفعته ككسبه فكما أن للمولى أن يأخذ نصف كسبه فكذلك له أن يجعل نصف خدمته
لنفسه بالتهايؤ بينه وبين نفسه وفى الاستحسان لا يعرض له في شئ حتى يؤدى أو يعجز
لأنه أثبت له حق التقلب والتكسب وذلك بمنافعه يكون فمن ضرورة ثبوت هذا الحق له
لازما أن يكون أحق بمنافعه وهذا أولى الوجهين بالأخذ به لأنه ارفاق به وليس فيه ضرر
على مولاه فإنه إذا اكتسب بمنافعه كان للمولى أن يأخذ نصفه فيكون هذا تحويلا لحقه من
المنفعة إلى الكسب ولا ضرر فيه ولو جعلنا المكاتب أحق بكسبه كان فيه ابطال حق المولى
عن نصف الكسب فلهذا لا يعتبر الارفاق في ذلك وإذا كاتب نصف جاريته فولدت ولدا
كان ولدها بمنزلتها ونصف كسبه للمولى لان نصف الولد مملوك كنصف الأم ونصف كسبه
للأم لأنه داخل في كتابتها فتأخذ حصة ذلك من كسبه فان أدت عتق نصفها ونصف الولد
معها ويسعى كل واحد منهما في نصف قيمته لان كل واحد منهما معتق البعض وقد احتبس
ما بقي من ملك المولى فيه عنده وكل واحد منهما مقصود في هذه السعاية فإذا اكتسب
الولد بعد ذلك فذلك الكسب له دون أمه ومولاه لأنه صار كالمكاتب بما لزمه من السعاية
في نصف قيمته مقصودا وان ماتت الأم قبل أن تؤدى شيئا من كتابتها يسعى الولد في
المكاتبة لان نصفه تبع للأم في الكتابة فيقوم مقامها بعد موتها في السعاية وفى المكاتبة
فإذا أداها عتق نصفها كما لو أدت في حال حياتها ويسعى بعد ذلك في نصف قيمته ولا
يسعى في نصف قيمة أمه لان في السعاية في نصف القيمة كل واحد منهما مقصود فلا
يجب عليه ما كان واجبا عليها من السعاية لان ذلك في حكم التبعية ولا تبعية هنا في حق
44

ذلك النصف وهو بمنزلة رجل أعتق نصف جاريته ونصف ولدها ثم ماتت الأم فلا سعاية
على الولد من قبل الأم ولو كان أعتق نصف أمته وهي حبلى فولدت بعد ذلك أو حبلت
بعد العتق فهذا الولد يسعى فيما على أمه إذا ماتت لان جميع الولد تبع لها ألا ترى أنه ليس
عليه شئ من السعاية مقصودا فيسعى فيما عليها بعد موتها وإذا كاتب نصف أمته فولدت
ولدا ثم ماتت الأم وتركت مالا وعليها دين قضى الدين من جميع تركتها أولا لان نصفها
مكاتب ونصفها مأذون ودين المأذون في كسبه مقدم على حق المولى ويكون للمولى نصف
ما بقي بعد الدين لان نصفه ملكه وكسب ذلك النصف له بعد الفراغ من الدين ونصف
المكتسب لها فيؤدى من ذلك كتابتها فان بقي شئ أخذ المولى نصف قيمتها لأنه كان يستسعيها
في نصف القيمة بعد أداء الكتابة لو كانت حية فيأخذ ذلك من تركتها بعد موتها والباقي
ميراث لورثتها لأنا حكمنا بموتها حرة ولا يرث هذا الولد منها شيئا لان استناد العتق في الولد
إلى حال حياتها كان في النصف الذي هو تبع لها وفى النصف الباقي الولد مقصود فان عليه
أن يسعى في نصف قيمته ولا يعتق الا بعد أداء سعايته فكان بمنزلة المملوك عند موت أمه
فإن لم تدع الأم شيئا سعى الولد في الدين كله لان في حكم الدين الولد قائم مقام لام كولد
المأذونة وولد المكاتبة يسعى في الكتابة أيضا لهذا المعنى ثم يسعى في نصف قيمة نفسه لأنه
معتق النصف بعد أداء الكتابة ولا يسعى في نصف قيمة الأم لما بينا أنه ليس بتبع لها في
هذا النصف فان أدى الكتابة قبل أن يؤدى دين الغرماء عتق نصفه ونصف أمه كما لو
أدت في حياتها ولم يرجع الغرماء على المولى بما أخذ لكنهم يتبعون الولد بالدين لأنه قائم
مقامها فأخذه بدل الكتابة منه كأخذه منها وإذا أخذ منها كان المأخوذ سالما والغرماء
يتبعونها بديونهم فكذلك الولد وما اكتسب الولد قبل أن يؤدى الكتابة فنصفه للمولى
بعد الدين لان الولد بمنزلتها وقد بينا أنه يبدأ بالدين من كسبها ثم يسلم للمولى نصف ما بقي
باعتبار ملكه في نصفها فكذلك الولد رجل كاتب نصف أمته فاستدانت دينا سعت
في جميع الدين لان كتابة النصف من المولى يتضمن الاذن للنصف الآخر في التجارة على ما
بينا أنه تمليك لها من التقلب والتكسب ومن ضرورته الاذن في التجارة فان عجزت كان جميع
الدين في جميع رقبتها تباع في ذلك لان جميع الدين ظهر وجوبه في حق المولى باعتبار الاذن
45

فتباع فيه بعد العجز وكذلك أن كانت لشريكين وكاتبها أحدهما باذن شريكه فاستدانت دينا
ثم عجزت فالدين في جميع رقبتها تباع فيه لان رضا الشريك بالكتابة يتضمن الاذن لها في
التجارة في نصيب نفسه ضرورة عبد بين رجلين اذن له أحدهما في التجارة فاستدان دينا فهو
في نصيب الآذن خاصة لان الاذن رضى بتعلق الدين بمالية رقبته وذلك منه صحيح في نصيبه
دون نصيب شريكه وكذلك أن كاتب أحدهما بغير إذن شريكه لان الشريك لم يرض بتعلق
الدين بنصيبه ولا بثبوت حكم الاذن في نصيبه بخلاف ما إذا كانت الكتابة باذنه فان اشترى
الذي أذن له في التجارة نصيب شريكه بعد ما لحقه الدين فالدين في النصف الأول خاصة
كما لو كان قبل شرائه وكذلك ما استدان بعد هذا بغير علم مولاه لان حكم الاذن لم يثبت
في المشترى بنفس شرائه وهذا النصف كان محجورا قبل الشراء وتأثير الشراء في رفع
الاذن الثابت لا في اثباته وان علم أنه يشترى ويبيع فلم ينهه فالقياس كذلك لان شراءه
وبيعه صحيح باعتبار الاذن في نصفه وتأثير سكوت المولى في اثبات الرضا بتصرفه لينفذ
ذلك دفعا للضرر والغرور عمن عامله وذلك حاصل بدون ثبوت الاذن في النصف الباقي
فلا يجعل سكوته اذنا وفى الاستحسان يلزمه جميع ذلك في جميع الرقبة اعتبارا للبعض
بالكل فإنه لو كان الكل محجورا فرآه المولى يبيع ويشترى فلم ينهه صار الكل مأذونا
فكذلك إذا كان النصف محجورا لان سكوته عن النهى بعد العلم بتصرفه بمنزلة التصريح
بالاذن وإذا كاتب نصف عبده لم يكن له أن يبيع الباقي لأنه ثبت للعبد حق التكسب
والتقلب لازما وفى بيع الباقي ابطال هذا الحق عليه فان باعه من العبد عتق النصف الذي
باعه لان بيع النصف من نفسه اعتاق وكتابة البعض لا تمنع اعتاق ما بقي منه لان في الاعتاق
تقرير حقه لا ابطاله وله الخيار ان شاء عجز وسعى في نصف قيمته وان شاء مضى على الكتابة
فان مضى على الكتابة وأدى بعضها ثم عجز حسب له ما أدى من نصف القيمة وسعى فيما بقي
منه لان بعتق النصف صار هو أحق بجميع كسبه وللمولى عليه اما الكتابة واما نصف القيمة
فما سبق فيه يكون محسوبا مما له عليه وكذلك بدل الكتابة في حال قيام العقد أو نصف القيمة
بعد العجز عنه وما كان كسبه قبل أن يشترى نفسه فله نصفه وللمولى نصفه لان نصفه
كان مملوكا للمولى حين اكتسب هذا المال فإن كان أدى إلى المولى شيئا قبل أن يشترى
نفسه فقال المولى اطرح نصف ذلك المؤدى لان لي نصف الكسب فله ذلك أن كان أداه
46

من شئ اكتسبه وإن كان أداه من دين استدانه فلا شئ للمولى من ذلك لما قلنا إنه في
النصف الآخر مأذون له ولا يسلم كسبه للمولى الا بعد الفراغ من دينه ولو كاتب نصف
عبده ثم اشترى السيد من المكاتب شيئا جاز الشراء في نصفه لان النصف منه مكاتب
والنصف مأذون وشراء المولى من مكاتبه مفيد وشراؤه من المأذون إذا لم يكن عليه دين غير
مفيد فلهذا كان نصف المشترى للسيد بنصف لثمن والنصف الآخر للسيد بقديم ملكه
وان اشترى المكاتب من مولاه عبدا ففي الاستحسان جاز شراؤه في الكل كما لو اشتراه
من غيره لان النصف منه مكاتب والنصف مأذون وفى القياس لا يجوز شراؤه الا في
النصف لان النصف منه مكاتب والنصف مملوك للمولى وشراء المملوك من مولاه لا يجوز
إذا لم يكن عليه دين لأنه غير مفيد ويجوز إذا كان عليه دين لأنه مفيد فكذلك هنا
وبالقياس نأخذ لأنه أقوى الوجهين فالعقود الشرعية غير مطلوبة بعينها بل لفائدتها والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب كتابة العبد المأذون)
(قال) رضي الله عنه وإذا كاتب الرجل عبده المأذون جاز إذا لم يكن عليه دين وإن كان
عليه دين يحيط برقبته أو لا يحيط بها فللغرماء أن يردوا الكتابة بمنزلة ما لو باعه المولى لان
هناك الغرماء يتوصلون إلى حقهم من الثمن في الحال وهنا لا يتوصلون إلى حقهم لان بدل
الكتابة منجم مؤجل عليه فإذا كان لهم أن ينقضوا البيع لدفع الضرر عنهم فلأن يكون لهم أن
ينقضوا الكتابة أولى فان أخذ المولى الكتابة أو بعضها ثم علم الغرماء بذلك فلهم أن يأخذوا
ذلك من المولى لان حق الغرماء في كسبه مقدم على حق المولى فلا يسلم للمولى شئ من
كسبه ما بقي حق الغرماء ولكن العبد قد عتق إن كان أدى جميع الكتابة لوجود الشرط بمنزلة
ما لو أعتقه المولى فان قيام الدين عليه لا يمنع صحة اعتاق المولى إياه فان بقي من دينهم شئ كان
لهم أن يضمنوا المولى قيمته لان مالية رقبته كان حقا للغرماء حتى يبيعوه في دينهم وقد أبطل
المولى ذلك عليهم بالاعتاق فيضمن قيمته ثم يتبعون العبد ببقية دينهم لأنه كان في ذمته وبالعتق
تقوى ذمته ولا يرجع المولى على العبد بالمكاتبة لأنه إنما كاتبه ليؤدي البدل من كسبه وهو
كان عالما في ذلك الوقت أن كسبه مشغول بالدين فيكون راضيا بقبض البدل مشغولا ولان
47

البدل للمولى بما أوجبه للعبد من الحق في كسبه وإنما أوجب له الحق في كسبه مشغولا
بالدين فإذا سلم البدل للمولى مشغولا بالدين تتحقق المساواة وإن لم يأخذ المولى المكاتبة
ولم يردها الغرماء حتى قضى المولى دينهم جازت الكتابة لان المانع دينهم وقد ارتفع بوصول
دينهم فجازت الكتابة كما لو باعه ثم قضى الدين وهذا لان المانع حق الغرماء وقد ارتفع
بوصول دينهم إليهم ولا يرجع على العبد بما أدى عنه من الدين لأنه ظهر ملكه بما أدى فهو
كما إذا أدى الفداء عن العبد الجاني ولأنه أصلح مكاتبته فيكون عاملا لنفسه في ذلك ولأنه لم
يكن مطالبا بأداء هذا الدين وكان هو في الأداء كمتبرع آخر وكذلك أن أبى المولى أن يؤدى
الدين فأداه الغلام عاجلا لأنه سقط حقهم بوصول دينهم إليهم من جهة العبد رجل كاتب
أمته وعليها دين فولدت ولدا وأدت المكاتبة ثم حضر الغرماء فلهم أن يأخذوا المكاتبة من
السيد لأنه كسبها ويضمنونه قيمة الجارية لأنه أتلف ماليتها عليهم بالعتق ويرجعون بفضل
الدين ان شاؤوا على الجارية وان شاؤوا على الولد لان حق الغرماء كان متعلقا بمالية الولد لما
انفصل بعد لحوق الدين إياها ألا ترى أنه يباع في ديونهم وقد احتبست تلك المالية عند
الولد بالعتق فيبيعونه بدينهم ان شاؤوا ولكن لا يأخذون منه الا مقدار قيمته لان وجوب
الدين عليه باحتباس ماليته عنده فيتقدر بذلك القدر وان شاؤوا رجعوا على الجارية بجميع
ديونهم لان ذمتها تأكدت بالعتق وليس لهم أن يضمنوا المولى قيمة الولد لأنه ما صنع في
الولد شيئا وإنما عتق الولد تبعا للأم بجهة الكتابة وان ماتت الأم بعد أداء بدل الكتابة فعلى الولد
الأقل من قيمته ومن الدين لما قلنا أمة بين رجلين أذن لهما أحدهما في التجارة فاستدانت دينا
ثم كاتب الآخر نصيبه منها باذن شريكه فأبى الغرماء أن يجيزوا ذلك فلهم ذلك لأنهم استحقوا
بيع نصيب الآذن في ديونهم وفى لزوم الكتابة في النصف الآخر ابطال هذا الحق عليهم
لان مكاتب البعض لا يباع ولان اذن الشريك غير معتبر في حق الغرماء لان حقهم في
نصيبه مقدم على حقه فيجعل وجود اذنه كعدمه فان رضوا به جاز لان المانع حقهم وإن لم
يحضر الغرماء حتى أخذ المولى الكتابة عتق نصيبه لوجود شرطه ويأخذ الغرماء نصف
ما أخذ من كسبه ونصف حصة نصيب الآذن وهو مشغول بديونهم ثم يرجع به الذي
كتابه على المكاتبة لان نصيب المكاتب من الكسب قد سلم لها ولم يسلم له جميع البدل
48

من جهتها فكان له أن يرجع عليها بما استحق من ذلك من يده أمة مأذون لها في التجارة
عليها دين فولدت ولدا وكاتب السيد الولد فللغرماء أن يردوا ذلك إن لم يكن بالأم وفاء بالدين
لان حقهم تعلق بمالية الولد حتى يباع به في ديونهم وفى الكتابة ابطال ذلك الحق عليهم
وإن كان فيها وفاء جازت الكتابة لان حقهم يصل إليهم من مالية الأم ببيعها في ديونهم وهذا
لان الأم أصل والولد تبع وإذا كان في الأصل وفاء بالدين لم يكن شئ من التبع مشغولا
بالدين ألا ترى أنه إذا كان في كسبها وفاء بالدين لا تباع رقبتها فيه فكذلك إذا كان فيها
وفاء بالدين لا يباع ولدها فيه فلهذا جازت الكتابة فان أعتق السيد الولد كان لهم أن يضمنوه
قيمته إذا لم يكن في الأم وفاء بالدين لان حقهم تعلق بماليته عند عدم الوفاء في الأم وقد
أتلف ذلك عليهم بالاعتاق فيضمن لهم قيمته كما لو أعتق الأم فإن كان السيد معسرا فلهم أن
يستسعوا الابن فيما بقي من الدين لان حقهم كان متعلقا بماليته وقد احتبس ذلك عنده
بالعتق فكان لهم أن يستسعوه في الأقل من قيمته ومما بقي من الدين وان كانت الأم عليها
دين فولدت ولدا فشب الولد وباع واشترى ولزمه دين ثم جاء الغرماء الأولون فردوا
المكاتبة فقد بطلت المكاتبة بردهم لقيام حقهم في مالية الأم تباع الأم لغرمائها ويباع الولد
لغرمائه خاصة دون غرماء أمه لان دينه في ذمته وقد تعلق بماليته فهو آكد من دين غرماء
الأم إذ ليس في ذمته من ديونهم شئ ألا ترى أن دين العبد ودين المولى إذا اجتمعا في مالية
العبد بعد موت المولى يقدم دينه على دين المولى (فان قيل) هناك دينه أسبق تعلقا بماليته
وهنا دين غرماء الأم أسبق تعلقا بمالية الولد (قلنا) الترجيح بالسبق إنما يكون بعد المساواة
في القوة وقد بينا أن دين الولد أقوى حتى يبقى كله بعد العتق والضعيف لا يظهر في
مقابلة القوى ولا معنى للترجيح بالسبق مع التفاوت في القوة والضعف وكذلك إن لم
يكن كاتب الأم ولكنه اذن للولد في التجارة لان بالاذن يتعلق دينه بمالية رقبته كما يتعلق
بثبوت حكم الكتابة فيه رجل كاتب عبدين له تاجرين عليهما دين مكاتبة واحدة فغاب
أحدهما ثم جاء الغرماء فليس لهم أن يردوا الحاضر في الرق لان كتابتهما واحدة فلا يردان
في الرق الا معا والحاضر لا ينتصب خصما عن الغائب فكان غيبة أحدهما كغيبتهما ألا ترى
أنه لورد الحاضر في الرق وبيع في الدين ثم أدى الغائب البدل عتقا جميعا وبطل البيع فعرفنا
ان رد الحاضر في الرق غير مفيد شيئا ولكنهم يستسعونه فيما عليه من الدين لان ديونهم ثابتة
49

في ذمته فيأخذون ذلك من كسبه وما أدى من المكاتبة فالغرماء أحق به لان ذلك من
كسبه أيضا وليس لهم أن يضمنوا المولى قيمتها لان المولى ما أتلف ماليتهما على الغرماء
ولا كسبهما ألا ترى أنهما لو حضرا ردا في الرق وبيعا للغرماء في الدين وهذا لان اتلاف
المالية على الغرماء يكون بثبوت حقيقة العتق في الرقبة أو حق العتق وبمجرد الكتابة
لم يثبت شئ من ذلك ولهذا احتمل الكتابة الفسخ ألا ترى ان حق الغرماء بمنزلة حق
الشريك ولو كاتب أحد الشريكين لم يكن للشريك الآخر أن يضمنه شيئا قبل أداء بدل
الكتابة فكذلك الغرماء ولكنهم ان شاؤوا ضمنوه قيمة هذا العبد الشاهد لأنه منعهم من
بيعه بتصرفه والتأخير كالابطال في ايجاب الضمان ولو أبطل حق البيع بتصرفه بالتدبير كان ضامنا
لهم فكذلك إذا أخره وليس لهم ان يضمنوه قيمة الغائب لان امتناع بيعه ليس بتصرفه
بدليل أنه لو حضر تمكنوا من بيعه ولو حضر العبدان فأجاز الغرماء مكاتبة أحدهما لم يكن
لهم أن يردوا الاخر في الرق لان مكاتبتهما واحدة فإجازتهم العقد في أحدهما يكون إجازة
في الآخر والله أعلم بالصواب
(باب ميراث المكاتب)
(قال) وإذا مات المكاتب عن وفاء وعليه دين وله وصايا من تدبير وغيره وترك ولدا حرا
وولدا ولد في المكاتبة من أمته بدئ من تركته بديون الأجانب لان دين الأجنبي أقوى
من دين المولى حتى يبقى دين الأجنبي عليه بعد العجز دون دين المولى ثم بدين المولى إن كان
ثم بالمكاتبة لان دين المولى أقوى من بدل الكتابة إذ ليس لبدل الكتابة حكم الدين ما لم
يقبض ولأنه يملك أن يعجز نفسه عن المكاتبة فيسقطها عن نفسه ولا يملك أن يعجز نفسه عن
سائر الديون سوى المكاتبة ثم بالمكاتبة بعد ذلك فان أديت حكم بحريته والباقي ميراث
بين أولاده وبطلت وصاياه لأنه تبرع وقد بينا أن استناد العتق إنما يظهر في حكم الكتابة
دون وصاياه ووصايا المكاتب في الحاصل على ثلاثة أوجه (أحدها) أن يوصى بشئ من
أعيان كسبه فهذه الوصية باطلة سواء أدى الكتابة في حال حياته أو مات قبل الأداء لان
في الوصية بالعين يراعي قيام ملك الموصى وقت الايصاء وملكه وقت الايصاء لا يحتمل
الوصية (والثاني) أن يقول إذا عتقت فثلث مالي وصية لك فان أدعى بدل الكتابة وعتق ثم
50

مات جازت الوصية لان المتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز وإن لم يؤد حتى مات فهذه
لوصية باطلة (والثالث) أن يقول ثلث مالي وصية لفلان ثم يؤدى بدل الكتابة ثم يموت
فهذه الوصية باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى صحيحة عندهما وهو نظير ما تقدم في العلق
إذا قال كل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر ثم عتق فملك مملوكا فان مات المكاتب
وترك ألفا وعليه للمولى ألف درهم دين وبدل الكتابة بدئ ببدل الكتابة استحسانا وفي
القياس يبدأ بالدين لان الدين أقوى من بدل الكتابة وللاستحسان وجهان (أحدهما)
أن المولى لو قبض هذا المال بجهة الكتابة يسلم له من تلك الجهة ولو قبضه من جهة الدين
لا يسلم له من تلك الجهة لأنه تبين أنه مات عاجزا والمولى لا يستوجب على عبده دينا (والثاني)
أنه إذا قبض بجهة الكتابة سلم المال له ووصل المكاتب إلى شرف الحرية وإذا قبض بجهة
الدين لا يسلم له الا ذلك المال أيضا ولا تحصل الحرية للعبد فكان قبضه من جهة يحصل
بها للعبد الحرية أولى وإن لم يترك مالا الا دينا على انسان فاستسعى الولد المولود في الكتابة
ولا دين على المكاتبة سواها فعجز عنه وقد أيس من الدين أن يخرج فإنه يرد في الرق لان
الدين المأيوس ناو فلا يثبت باعتباره القدرة على الأداء وبدونه قد تحقق عجز الولد
ولو تحقق عجز الأم في حياتها لكانت ترد في الرق ولا معتبر بالدين المأيوس عن خروجه
فكذلك إذا تحقق عجز الولد فإذا خرج الدين بعد ذلك كان للمولى لأنه كسب أمته وإذا
ماتت المكاتبة عن وفاء وولد قد كوتب عليه مكاتبة واحدة وهو صغير أو كبير أو عن ولد
مولود في مكاتبتها ورثه بعد قضاء مكاتبتها لان عتق الولد لا يستند إلى ما يستند إليه عتق
الأب اما لأنه مكاتب معه مضموم إليه في العقد أو لأنه تبع له وإن كان الولد مفردا بكتابته
فأداها بعد موت الأب قبل قضاء مكاتبة الأب أو بعده لم يرثه لأنه مقصود بالكتابة فإنما
يعتق من وقت أداء البدل مقصورا عليه لان الاستناد للضرورة ولا ضرورة في حقه هنا
فإذا لم يستند عتقه كان هو عبدا عند موت أبيه فلهذا لا يرثه وان مات المولى عن مكاتبه
وله ورثة ذكور وإناث ثم مات المكاتب عن وفاء فإنه يؤدى كتابته فيكون ذلك بين جميع
ورثة المولى لأنه ماله فيكون ميراثا لهم عنه كسائر أمواله وما فضل عنها فللذكور منهم
دون الإناث إن لم يكن للمكاتب وارث سوى ورثة المولى لان بأداء مكاتبته بعد موته
بحكم بحريته وكان ولاؤه للمولى لأنه مستحق ولاءه بكتابته في حياته فإنما يخلفه في الميراث
51

بالولاء الذكور من عصبته دون الإناث وكذلك إن لم يمت المكاتب حتى أدى المكاتبة
إليهم أو وهبوها له أو أعتقوه ثم مات فميراثه للذكور من ورثة المولى لان بهذه الأسباب
عتق على ملكه فإنه عتق وهو مكاتب والمكاتب لا يورث فلهذا كان ولاؤه للمولى والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب مكاتبة الصغير)
(قال) رضي الله عنه رجل كاتب عبدا صغيرا لم يعقل لم تجز لان الكتابة لا تنعقد إلا
بالقبول والذي لا يعقل ليس من أهل القبول فإن كان يعقل جاز لأنه من أهل القبول ألا
ترى أن اذن المولى له في التجارة يصح وانه يقبل الهبة والصدقة لأنه نفع فكذلك الكتابة
وإذا صح العقد كان هو بمنزلة الكبير في جميع الأحكام وان كأن لا يعقل فكاتبه ثم أداها
عنه رجل فقبلها المولى لم يعتق لان أداء البدل إنما يعتبر بعد انعقاد العقد ولم ينعقد العقد
حين لم يقبله أحد فلا يحصل العتق بالأداء كما لو كاتب ما في بطن جاريته فجاء رجل وأدى
عنه المال لم يعتق ثم يرد المال على صاحبه لان أداءه لمقصود ولم يحصل ذلك المقصود ولأنه
أداه باعتبار سبب باطل وإذا كاتب عبدين صغيرين يعقلان مكاتبة واحدة فهما كالكبيرين
في ذلك لان الصغير الذي يعقل من أهل قبول الكتابة فكان كالكبير فيما ينبني عليه
وقد بينا ان حقيقة الكفالة لا تثبت في هذه الكتابة إذا كان العبدان لرجل واحد
والصغيران فيه كالكبيرين رجل كاتب على عبد لرجل رضيع رضى المولى بذلك لا يجوز لأنه لا
ولاية للقابل على عبد الغير ولا يلزمه البدل بالقبول في كتابة الغير ولكن ان أدى إليه المكاتبة
عتق استحسانا وفى القياس لا يعتق لما بينا في الفصل الأول لان قبول الرجل على الرضيع غير
معتبر ولكنه استحسن هنا فقال يعتق وقال في وجه الاستحسان أجعل هذا بمنزلة قوله إذا
أديت إلى كذا فعبدي حر ومعنى هذا أنه خاطب الأجنبي هنا بالعقد فيمكن أن يجعل
معلقا عتقه بأداء الأجنبي وفى الأول ما خاطب الأجنبي بعقد إنما خاطب به الذي لا يعقل
فلا يمكن أن يجعل معلقا عتقه بأداء الأجنبي وحقيقة المعني فيه أن العقد هنا منعقد
لقبول الأجنبي ولكن لم يلزم مراعاة لحق المولى حتى لم يجب له البدل على أحد فإذا أدى
إليه المكاتبة فقد وصل إليه حقه فقلنا بأنه يعتق ألا ترى أنه لو كاتب حرا على عبد له غائب
52

ثم رجع الغائب فأجاز كان العقد جائزا ولو أدى القابل قبل رجوع الغائب عتق الغائب ولو
أدى البدل الا درهما ثم رجع الغائب فأجاز فعليه أداء الدراهم الباقي ويعتق إذا أدى فبهذا
تبين معنى الاستحسان في الرضيع والله أعلم بالصواب
(باب مكاتبة عبده على نفسه)
(قال رضي الله عنه رجل كاتب عبده على نفسه وعلى عبد له آخر غائب بغير أمره
على ألف درهم مكاتبة واحدة وضمنها الحاضر فان مكاتبته على نفسه جائزه ولا يجوز
على الغائب لأنه لا ولاية له على الغائب في الالزام وقد بينا أن على طريقة القياس الحاضر
يصير مكاتبا بحصته من البدل وعلى طريقة الاستحسان يصير مكاتبا بجميع البدل ويثبت
حكم العقد في حق الغائب فيما لا يضره حتى يمتنع بيعه ويعتق بأداء الحاضر جميع المال ولا
يرجع هو على الغائب بشئ لأنه لم يكن له على الغائب شئ من البدل ولا كان هو مأمورا
بالأداء عنه وان عجز الحاضر رد في الرق لان المال عليه خاصة وقد تحقق عجزه ولا قول
للغائب في ذلك من قبول ولا رد لأن العقد غير موقوف على اجازته بل قد نفذ حين
وجب جميع المال على الحاضر وإنما ثبت حكم العقد في حقه تبعا ولا قول للتبع في القبول
والرد وان أدى الحاضر حصته لم يعتق استحسانا لأنه ملتزم جميع البدل والمولى غير راض
بعتقه ما لم يؤد جميع البدل وان مات عن غير وفاء فان عجل الآخر جميع المكاتبة قبل منه
استحسانا لأنه تبع في حكم العقد بمنزلة الولد المشترى في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وكذلك أن وقع العقد مع هذا والآخر حاضر ساكت لان سكوته لا يكون التزاما للبدل
وإذا لم يكن عليه شئ من البدل فحضوره وغيبته سواء وكذلك المكاتب على نفسه وولد له
صغير إذ لا ولاية للمملوك على ولده في إلزام البدل الا في وجه واحد ان مات الوالد سعى
الولد في المكاتبة على نجومها بمنزلة الولد المولود في الكتابة وقد بينا معنى هذا رجل كاتب جارية له
على نفسها وعلى جارية أخرى ثم استولد السيد المكاتبة فاختارت العجز فلها ذلك لأنها مقصودة
في الكتابة والمال كله عليها وقد تلقاها جهتا حرية فلها الخيار وان استولد الأخرى فعلى
طريقة القياس تصير أم ولد له لأنها غير داخلة في الكتابة وتسعى المكاتبة في حصتها من
المال وعلى طريقة الاستحسان تكون على حالها حتى ينظر ما تصنع الأخرى لان حكم الكتابة
53

قد تناولها تبعا ولهذا امتنع بيعها وقد بينا أن قول التابع لا يعتبر وان ظهر له حق عتق لجهة
أخرى فإذا أدت الأخرى عتقا جميعا وان عجزت فحينئذ تصير أم ولد له وإن كان دبر لم
يرفع عن المكاتبة شئ من الكتابة لان بالتدبير لا يتغير حكم الكتابة فيها بخلاف ما لو أعتقها
فإنه يسقط حصتها من البدل لتغير حكم العقد فيها بالاعتاق ألا ترى أنه لو أعتق الحاضرة
منهما سقط حصتها وجعل كالقابض للمال منهما فكذلك إذا أعتق الأخرى يجعل كالقابض
لحصتها من البدل لان الأخرى إنما التزمت المال عنهما ولو أدت الغائبة وجب القبول منها
فكذلك تسقط حصتها باعتاقه إياها وإن لم يدبرها ولكنها ولدت ولدا لم يكن له أن يبيع ولدها
لان الولد بمنزلة الأم وما كان له أن يبيعها لثبوت حكم الكتابة فيها فكذلك لا يبيع ولدها
واكره للمولى ان يطأها لان حكم الكتابة قد ثبت فيها على وجه الاستحسان ألا ترى أنه
امتنع بيعها فكذلك يحرم وطؤها كالولد المولود في الكتابة وان قتلت فأخذ المولى قيمتها
وفيها وفاء بالكتابة عتقت المكاتبة لان قيمة نفسها ككسبها ولو ماتت عن كسب كان يوفي
بدل الكتابة من كسبها ويحكم بحريتها فكذلك يجعل المولى مستوفيا لبدل الكتابة بما أخذ
من قيمتها ولم يرجع المولى على المكاتبة بشئ منه لأنها لو كانت حية فأدت الكتابة لم يرجع
على المكاتبة بشئ فكذلك من خلفها وهو الولي بسبب الولاء لا يكون له أن يرجع على
المكاتبة بشئ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب الكتابة على الحيوان وغيره)
(قال) رجل كاتب عبده على عبد مؤجل أو على وصيف جاز استحسانا وفي القياس لا
يجوز لان هذا العقد لا يصح الا بتسمية البدل فلا يثبت الحيوان دينا في الذمة كالبيع والإجارة
وفى الاستحسان قال هذا عقد مبنى على التوسع في حكم البدل والبدل بمقابلة ما يثبت للعبد
من صفة المالكية وذلك ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال كما في
الصداق ثم قيمة الوصيف أربعون دينارا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما على
قدر الغلاء والرخص وان جاء بوصيف وسط أو قيمته أجبر المولى على القبول كما في الصداق
وقد بينا معنى هذا في النكاح وان كاتبه على دابة أو ثوب لم يجز حتى يبين الجنس لان اسم
الدابة والثوب يشتمل على أجناس ومع جهالة الجنس لا تصح التسمية في شئ من العقود
54

كما في الصداق والخلع رجل كاتب عبده على جارية فدفعها إليه فوطئها المولى فولدت منه ثم
استحقها رجل قال يأخذها المستحق وعلى المولى عقرها وقيمة ولدها لأنه مغرور فإنه استولدها
على أنها مملوكته ثم يرجع المولى بقيمة الولد على المكاتب ولا يرجع بالعقر لأنه مغرور من
جهة المكاتب والمغرور يرجع على الغار بقيمة الولد دون العقر وهذا لان المكاتب في حكم
الغرور من المولى كالأجنبي ألا ترى أنه لو ابتاع من مكاتب له جارية فاستولدها ثم استحقها
مستحق أخذها وعقرها وقيمة ولدها ويرجع المولى على المكاتب بالثمن وبقيمة الولد كما لو
اشتراها من أجنبي آخر ثم لا يبطل عتق المكاتب لأنه قد عتق بتسليم الجارية إلى المولى
والعتق بعد وقوعه لا يبطل باستحقاق البدل ولكن يرجع المولى على المكاتب بالجارية
التي كاتب عليها لان قبضه انتقض بالاستحقاق من الأصل فيما يحتمل النقض فيكون
رجوعه بموجب العقد كما لو كانت الكتابة على دراهم فاستحقت بعد القبض وان كاتب
على دار قد سماها ووصفها أو على أرض لم يجز لان الدار والأرض لا تثبت دينا في الذمة
في شئ من العقود وهو مجهول جهالة فاحشة والى نحو هذا أشار فإذا لم يعين الدار فقد
كاتب على شئ لا يعرف وإذا عينها فقد كاتب على ما لا يملك دينا وقد بينا اختلاف
الروايات في الكتابة على الأعيان ولو كاتبها على ياقوتة أو لؤلؤة أو ما أشبه ذلك من العروض
لم يجز أما إذا كانت بعينها فلانه لا يملك وان كانت بغير عينها فان الياقوتة واللؤلؤة لا تثبت
دينا في الذمة صداقا فكذلك في الكتابة وهذا لان التفاوت في اليواقيت واللؤلؤ عظيم في المالية
وهذه الجهالة فوق جهالة الجنس في معنى التفاوت في المالية وهو مقصود وان كاتبه على
كر حنطة أو ما أشبه ذلك من المكيل والموزون جاز وله الوسط من جنسه لان جنس
المسمى معلوم وجهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية في الكتابة بخلاف السلم وان كاتبه على
وصيف فأعطاه وصيفا وعتق به ثم أصاب السيد به عيبا فاحشا رده على المكاتب ويرجع
بمثله لان بدل الكتابة كالصداق يرد بالعيب الفاحش ولم يرجع المكاتب رقيقا بعد ما عتق
وكذلك أن استحق نصف الوصيف كان للمولى أن يرد ما بقي لان الشركة عيب فاحش
يرد الصداق به فكذلك بدل الكتابة فيرده انشاء ويطالبه بموجب العقد وهو وصيف
وسط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
55

(باب كتابة أهل الكفر)
(قال) رضي الله عنه ذمي ابتاع عبدا مسلما فكاتبه فهو جائز ولا يرد لان شراءه صحيح
عندنا فإنما كاتب ملكه وكان مجبرا على بيعه ليزول به ذل الكفر عن المسلم وقد حصل
هذا بالكتابة لان المكاتب بمنزلة الحر يدا وان كاتبه على خمر أو خنزير لم يجز لان القابل
مسلم وهو ليس من أهل أن يلتزم في ذمته الخمر بالعقد ولكنه ان أدى الخمر عتق لان
الكتابة انعقدت مع الفساد فيعتق بأداء البدل المشروط وعليه قيمته لان رقبته سلمت له بحكم عقد
فاسد فيلزمه قيمته وكذلك أن كان المولى هو المسلم وقد بينا هذا الحكم فيما إذا كانا مسلمين فإذا
كان أحدهما مسلما أولى ذمي كاتب عبدا كافرا على خمر فهو جائز لان الخمر في حقهم مال
متقوم بمنزلة الخل والعصير في حقنا فان أسلم العبد فالمكاتبة جائزة وعليه قيمه الخمر وهذا
استحسان وفى القياس يبطل العقد لان الاسلام ورد والحرام مملوك بالعقد غير مقبوض
فيجعل كالمقترن بالعقد كما في البيع ولكنه استحسن فقال قد صحت الكتابة بصحة التسمية في
الابتداء وباعتبار صحة العقد يثبت للعبد صفة المالكية يدا فباسلامه يتأكد ملك المالكية ولا
يجوز أن يكون اسلامه مبطلا مالكيته وإذ بقيت الكتابة وقد تعذر عليه تسليم الخمر باسلامه
مع بقاء السبب الموجب للتسليم فيجب قيمته كما لو تزوج الذمي ذمية على خمر بغير عينها ثم
أسلم أحدهما إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى هناك يوجب مهر المثل لان بقاء العقد بعد
فساد التسمية هناك ممكن فيجعل الاسلام الطارئ كالمقارن وهنا لا يمكن ابقاء العقد مع
فساد التسمية ولا بد من ابقاء العقد لما قلنا فتبقي التسمية معتبرة أيضا فلهذا يجب قيمة الخمر
وان كاتبه على ميتة أو دم لم يجز لان هذا ليس بمال في حقهم وشرط حصة التسمية في
الكتابة أن يكون المسمى مالا ثم قد بينا حكم هذا في حق المسلمين أنه لا يعتق بالأداء لأن العقد
غير منعقد أصلا إلا أن يكون المولى قال في الكتابة إذا أديت إلي فأنت حر ثم أداه
وقبله السيد فيعتق بقوله أنت حر لا بالأداء ولا يرجع عليه السيد بشئ فكذلك في حق
الذمي لان معنى انعدام المالية في الميتة يعمهما وإذا كاتب النصراني أم ولده فأدت بعض
الكتابة ثم أسلمت ثم عجزت فردها القاضي وقضى عليها بالقيمة لتعذر بيعها بسبب الاستيلاد
فإنه لا يحتسب بما أخذه بالسيد منها بهذه القيمة وكذلك أن أدته بعد اسلامها لأنها حين
56

ردت في الرق صارت مملوكة له وصار هو أحق بجميع مكاسبها ألا ترى أنه لو أسلم كان
متمكنا من استدامة الملك فيها وكسبها سالم له فإنما قضى عليها بالسعاية بعد ما صار هذا المال
للسيد فلهذا لا يحتسب بذلك المال من هذه القيمة ذمي وطئ مكاتبته فولدت منه فهي بالخيار
ان شاءت مضت على الكتابة وإن شاءت عجزت وكذلك أن أسلمت فهي على خيارها فان
مضت على الكتابة أخذت عقرها من سيدها وان عجزت نفسها قضى عليها بالسعاية في
قيمتها لأنها أسلمت وهي أم ولده ولا عقر على السيد لان عقرها ككسبها وقد بينا حكم
الكسب في الفصل الأول فكذلك هنا عبد كافر بين مسلم وذمي فكاتب الذمي نصيبه
باذن شريكه على خمر تجوز المكاتبة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا تجوز في قول
أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لان عندهما الكتابة لا تتجزى ولا يمكن تنفيذها في
نصيب المسلم بالخمر فكذلك في نصيب الكافر وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الكتابة تتجزى
فيقتصر العقد على نصيب الكافر خاصة ولو باعه من كافر بخمر جاز فكذلك إذا كاتبه
على خمر ولا يضمن للمسلم فيما أخذ النصراني من الخمر سواء كاتب باذنه أو بغير إذنه لان
الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم والعبد قضى به دينا عليه وقد استهلكه القابض فلا
يكون له ان يرجع عليه بشئ منه لان الذمي لا يضمن الخمر للمسلم بالاستهلاك وان كاتباه
جميعا على خمر مكاتبة واحدة لم يجز في نصيب واحد منهما لأن العقد واحد ألا ترى أنه
لا يعتق الا بأداء جميع البدل لو كان دراهم وقد تعذر تصحيحه في نصيب المسلم إذا كان
البدل خمرا فلا يصح في نصيب الآخر أيضا إذ لو صححناه يعتق بأداء نصيب الآخر من
الخمر إليه وذلك خلاف شرطهما فان أدى إليهما عتق لوجود الشرط وعليه نصف قيمته للمسلم
لأن العقد في نصيبه فاسد وقد تقرر بالأداء مع صفة الفساد فيرجع على العبد بقيمة نصيبه
وللذمي نصف الخمر لان المفسد قد زال في نصيبه حين عتق بالأداء وتسمية الخمر في حقه
كان صحيحا وقد سلم له نصف الخمر كما شرط فلهذا لا يرجع على العبد بشئ ولو أن ذميين كاتبا
عبدا على خمر ثم أسلم أحدهما فلهما جميعا قيمة الخمر يوم أسلم لأن العقد واحد فيجعل اسلام
أحدهما في تعذر قبض الخمر كاسلامهما ولو أسلما تحول الخمر قيمة عليه ولا يعتق بأداء الخمر
بعد ذلك فكذلك إذا أسلم أحدهما وهذا لان نصيب المسلم تحول إلى الدراهم باسلامه
ومن ضرورته تحول نصيب الآخر إلى الدارهم أيضا لأن العقد في نصيبهما واحد فلهذا
57

لا يعتق نصيب واحد منهما بأداء الخمر وإذا قبض أحدهما حصته من القيمة كان المقبوض
مشتركا بينهما والباقي مشترك بينهما كما لو قبض أحدهما الخمر قبل الاسلام وهذا لان القيمة
إنما سميت قيمة لقيامها مقام العين وإذا مات عبد المكاتب فالمكاتب أحق بالصلاة عليه
لأنه كسبه وقد كان أحق به في حياته وعليه كفنه بعد موته فيكون هو أحق بالصلاة عليه
إلا أنه إن كان حضر مولاه فينبغي له أن يقدمه للصلاة عليه لأنه ملك مولاه فلا ينبغي له
أن يتقدم عليه للصلاة على الجنازة وإن كان الحق له حربي دخل دار الاسلام بأمان فاشترى
عبدا مسلما وكاتبه جاز لأنه ملكه بالشراء حتى لو أعتقه أو دبره جاز ذلك فكذلك إذا كاتبه
فان أدخله معه دار الحرب فهو حر ساعة أدخله في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لأنه لو أدخله قبل الكتابة عتق عنده فكذلك إذا أدخله بعد الكتابة لان عنده لو أعتقه
جاز عتقه وادخاله إياه في دار الحرب بمنزلة اعتاقه وهذا لان الحربي لا يثبت له الملك في دار
الحرب على من هو من أهل دار الاسلام فكذلك لا يبقى له عليه الملك وتمام بيان هذا في
السير الكبير وكذلك لو كان دبره فقضى القاضي عليه بالسعاية في قيمته أو لم يقض حتى
أدخله في دار الحرب أو كانت جارية فاستولدها ثم أدخلها دار الحرب فإنها تعتق وتسقط
السعاية عنها وعن المدبر كما لو أعتقها وكذلك أن كان العبد ذميا أو الأمة ذمية لأنهما من
أهل دار الاسلام كالمسلم وإن كان اشترى عبدين فكاتبهما مكاتبة واحدة ثم رجع إلى دار
الحرب بأحدهما فالذي أدخله مه دار الحرب حر كما لو أعتقه قصدا والآخر لا يعتق باعتاق
أحدهما قصدا ولكنه على مكاتبته يسعى في حصته منها فان رجع الحربي إلى دار الاسلام أداها
إليه وإن لم يرجع فأداها إلى القاضي عتق لان من في دار الحرب حربي في حق من هو في دار
الاسلام كالميت وللقاضي ولاية في قبض ديون الميت فلهذا يعتق المكاتب بأداء البدل إلى
القاضي ويكون ذلك المال للحربي إذا جاء أخذه لبقاء حكم الأمان له في المال الذي خلفه في
دارنا وولاء العبد له لأنه استحق ولاءه حين عتق على ملكه فهو كما لو أعتقه ثم رجع إلى
دار الحرب ثم عاد إلى دار الاسلام فان ولاء العبد يكون له حربي مستأمن في دارنا اشترى
عبدا فأدخله دار الحرب عتق ولم يكن له ولاؤه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان عنده
حين أدخله دار الحرب فقد سقطت حرية ملكه وبقي العبد في يد نفسه ويده محترمة
فيعتق بذلك لأنه لو قهر مولاه صار هو مالكا والمولى مملوكا فكذلك إذا استولى على نفسه
58

ومتى كان عتق العبد لتملكه نفسه لم يكن عليه ولاء كالمراغم وعلى قول أبى يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى لا يعتق العبد المسلم إذا أدخله دار الحرب حتى يظهر عليه المسلمون أو يهرب
منه الينا بمنزلة العبد الحربي إذا أسلم في دار الحرب وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا أعتق الحربي
في دار الحرب عبدا مسلما فالعتق جائز لأنه لا يملكه بعد العتق بالقهر فان حريته تتأكد
باسلامه فلهذا نفذ اعتاقه في دار الحرب وله ولاؤه لان لولاء كالنسب والنسب يثبت ممن
باشر سببه في دار الحرب كما يثبت في دار الاسلام وكذلك الولاء وقد باشر الحربي هنا
اكتساب سبب الولاء وهو إعتاقه إياه وكل معتق يجرى عليه السبي بعد العتق والمولى
حربي أو مسلم في دار الحرب فان في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى للمعتق أن يوالي من شاء
وقد بينا في كتاب العتاق ان عتق الحربي عبده في دار الحرب لا ينفذ في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وان الطحاوي رضي الله عنه جعل
هذا الخلاف في الولاء وكأنه أخذ ذلك من رواية كتاب المكاتب فإنه نص هنا على الخلاف
في الولاء أن للمعتق أن يوالي من شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعلى قول
أبى يوسف ولاؤه الذي أعتقه استحسانا وفي بعض النسخ جعل ذلك الاستحسان من أبى
يوسف رحمه الله تعالى في المسلم خاصة يعتق الحربي أن له ولاءه بمنزلة الحربيين يعتق أحدهما
صاحبه ثم أسلما قال لان الحكم على المولى إذا كان مسلما حكم أهل الاسلام ففي التعليل
أشار إلى أن الاستحسان فيما إذا كان المولى مسلما وفى قوله هو بمنزلة الحربيين يعتق أحدهما
صاحبه ثم أسلما أشار إلى الاستحسان في الفصلين جميعا فاشتبه مذهب أبي يوسف رحمه الله
تعالى في هذا وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى (ان؟) الفصلين له أن يوالي من شاء لان
العبد حربي فما دام في دار الحرب لا يلزمه حكم الاسلام وإلزام الولاء عليه من حكم
الاسلام فلا يلزمه ذلك في دار الحرب وان خرج الينا فقد خرج ولا ولاء عليه فله أن
يوالي من شاء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب ضمان المكاتب)
(قال) رضي الله عنه ولا يجوز كفالة المكاتب بالمال بأمر المكفول عنه ولا بغير أمره لأنه تبرع
واصطناع معروف فإنه يلتزم للغرماء مالا في ذمته من غير منفعة له في ذلك وهو ليس من صنيع
59

التجار عادة بل يحترزون عنها وكذلك كفالته بالنفس لأنه التزام بطريق التبرع وهو يتضرر
بذلك من حيث أنه يحبس إذا غاب المطلوب ويستوى إن كان بإذن مولاه أو بغير إذنه لأنه
لا ملك للمولى في منافعه ومكاسبه فوجود اذنه فبما هو تبرع كعدمه ولأنه لا ولاية للمولى
في إلزام شئ في ذمته وكذلك قبول الحوالة فان معنى التزام المال في قبول الحوالة أظهر
منه في الكفالة فان كفل بمال باذن سيده ثم عجز لم تلزمه تلك الكفالة لان أصل ضمانه
كان باطلا في حالة رقه لانعدام أهلية التبرع مع الرق وبالعجز يتأكد رقه ولا معتبر
باذن سيده حين كفل وان أدى فعتق لزمته الكفالة لان التزامه صحيح في ذمته باعتبار
أنه مخاطب له قول ملزم ولا يكون هو في هذا الالتزام أدون من العبد ولو أن عبدا محجورا
كفل بكفالة ثم عتق لزمته فالمكاتب مثله إلا أن العبد إذا كفل باذن سيده يطالب به
في حال رقه لان له ولاية إلزام المال في رقبته بخلاف المكاتب ولو كان المكاتب صغيرا حين
كفل لم يؤخذ بها وان عتق لان الصغير ليس له قوم ملزم في التبرعات في حق نفسه ألا
ترى أنه لو كان حرا لم يلزمه بذلك شئ فكذلك إذا أعتق بعد الكفالة وكذلك ابن
المكاتب وأبوه وقرابته لان من دخل في كتابته فحاله كحال المكاتب ومن لم يدخل في
كتابته فهو عبد محجور عليه فلا تصح كفالته وإن كان باذن المكاتب لان اذنه إنما يعتبر
فيما يملك مباشرته بنفسه وان كفل له سيده بمال على انسان جاز لأنه بمنزلة الأجنبي عنه
حتى يشترى منه ويبيع كسائر الأجانب وكفالة الأجنبي له بالمال صحيح لأنه تبرع عليه
لا منه فكذلك كفالة المولى فان عجز المكاتب رجع السيد بالمال على المكفول عنه إن كان
كفل بأمره وإن كان كفل بغير أمره بطل المال عنهما جميعا ولم يرجع عليه بشئ لان
ما في ذمة الأجنبي وهو المال المكفول به كسب المكاتب وكسبه بالعجز يصير ملكا لمولاه
فكان ملك المولى المال المكفول به بهذا الطريق كملكه والهبة منه وهناك يسقط عنهما جميعا
ويرجع على المكفول عنه إن كان كفل بأمره ولم يرجع إذا كفل بغير أمره فهذا مثله ولو
كان أدى السيد المال ثم عجز المكاتب رجع به المولى على الذي ضمنه بأمره لأنه بالأداء
استوجب الرجوع عليه وصار ذلك دينا له في ذمته فلا يسقط بعجز المكاتب بعد ذلك
ويستوى إن كان المقبوض قائما بعينه في يد المكاتب أو مستهلكا لان ما قبضه المكاتب التحق
بسائر أمواله فكما أن عود ماله إلى المولى بالعجز لا يمنعه من الرجوع على المكفول عنه
60

فكذلك عود هذا المال إليه وكذلك لو حلت المكاتبة فصارت قصاصا بماله على المولى من
الضمان لان المولى بالمقاصة يصير قاضيا دين الكفالة للمكاتب أو يصير متملكا ما في ذمته
فيثبت له حق الرجوع على المكفول عنه إذا كان كفل بأمره ولا تجوز مكاتبة ما في البطن
وان قبلتها الأم عليه لان ما في البطن غير معلوم الوجود والحياة ولا ولاية لاحد عليه في
القبول والقبول منه لا يتصور وقد بينا أن كتابة الصبي الذي لا يعقل باطل فما في البطن
أولى وكذلك أن تولى قبول ذلك حر على ما في البطن وضمنه لأنه لا ولاية له عليه في
القبول وما في البطن ليس بمحل الكتابة والعقد متى أضيف إلى غير محله كان باطلا وإنما
يجعل قبول الغير كقبول من هو المقصود في موضع يتحقق القبول فيه ممن هو المقصود إلا أن
المولى إن كان قال للحر إذا أديت إلي ألفا فهو حر فأداه عتق إذا وضعت لأقل من ستة أشهر
حتى يتيقن بوجوده في البطن يومئذ وهذا لان ما في البطن محل تنجيز العتق فيكون محلا
لتعليق عتقه بالشرط ويعتق بوجود شرطه ثم يرجع صاحب المال بماله لان المؤدى لم يملكه من
المولى بسبب صحيح وعتق الجنين كان بوجود الشرط والشرط هو الأداء إلى المولى دون التمليك
منه فبقي المال على ملك المؤدى فلهذا يرجع به عليه وان عتق الجنين وإذا وهب المكاتب هبة
أو تصدق بصدقة فهو باطل لأنه تبرع فان عتق بالأداء ردت الهبة والصدقة حيث كانت لأنه
لم يكن أهلا لما صنع ولا كان كسبه محتملا له فلغا فعله وبقي المال على ملكه فيأخذه حيث ما
يجده بعد العتق بخلاف كفالته فان ذلك التزام في ذمته وله ذمة صالحة لالتزام الحقوق فينفذ
ذلك بعد عتقه وان استهلك الموهوب له أو المتصدق عليه فهو ضامن لقيمته باستهلاكه
مالا لا حق له فيه يستوفى ذلك منه المكاتب في حال قيام الكتابة وبعد العتق
ويستوفيه المولى بعد عجز المكاتب بطريق الأولى لان الحق في كسبه خلص له وإذا اشترى
المكاتب عبدا من مولاه أو من غيره فوجد به عيبا فله ان يرده على البائع لأنه في حقوق
عقد الشراء كالحر والمولى منه في ذلك كأجنبي آخر فان عجز ثم وجد السيد به عيبا وقد اشتراه
المكاتب من غير السيد فلسيده ان يرده بالعيب لان الحق يخلص له بعجز المكاتب كما يخلص
للمكاتب بعتقه ثم لا يمتنع عليه الرد بالعيب بعد العتق فكذلك على المولى بعد العجز والمولى
يخلفه في كسبه بعد العجز خلافة الوارث المورث وللوارث حق الرد بالعيب فيما اشتراه مورثه
فكذلك للمولى ذلك ولكن المكاتب هو الذي يلي رده لان الرد بالعيب من حقوق العقد
61

وذلك إلى العاقد خاصة ما بقي حيا وهو كالعبد المأذون يشترى شيئا ثم يحجر عليه مولاه مكاتب
اشترى عبدا ثم باعه من سيده ثم عجز فوجد به السيد عيبا لم يستطع رده على عبده لأنه
لا يستوجب بالرد عليه شيئا فان المولى لا يستوجب على عبده دينا ولان حق الرد بالعيب
بناء على ثبوت المطالبة بتسليم الجزء الفائت وذلك غير ثابت للمولى على عبده ولا يرده على
بائعه من عبده لأنه ما عامله بشئ ولا كان ملكه مستفادا بذلك العقد وإنما كان المستفاد
بعقده ملك المكاتب فما لم يعد ذلك الملك لا تتصور الخصومة معه في العيب وكذلك أن
مات المكاتب بعد العجز ثم وجد السيد بالعبد عيبا لم يرده لان إعادة الملك المستفاد للمكاتب
متعذر بعد موته عاجزا عما كان متعذرا بعد عجزه في حياته فإذا عجز المكاتب وعليه دين
لمولاه ودين لأجنبي فإنه يبطل دين المولى عنه لان الدين في ذمة العبد لا يثبت الا شاغلا
ماليته وماليته ملك مولاه وهو لا يستوجب الدين في ملكه ويباع في دين الأجنبي لأنه كان
ثابتا في ذمته وبقي بعد العجز كذلك فان العجز لا ينافي وجوب الدين عليه للأجنبي ابتداء
إذا وجد سببه فكذلك لا ينافي بقاءه وإذا بقي الدين عليه كان متعلقا بماليته فيباع فيه وإن لم
يعجز ولكنه مات عن مال كثير بدئ بدين الأجنبي لأنه أقوى ثم بقضاء دين المولى ومكاتبته
وفي هذا أشار إلى التسوية بين المكاتبة والدين الآخر للمولى وقد ذكر قبل هذا مفسرا أن
دين المولى مقدم في القضاء على المكاتبة وهو الصحيح وقد بينا وجهه وإذا عجز المكاتب
وفى رقبته دين فجاء رجل بعبد اشتراه منه يريد رده عليه بالعيب له ذلك لأنه حق
استوجبه عليه قبل العجز فلا يبطل بالعجز فان رده وسلمه إليه كان الثمن دينا له في ذمته
كسائر الديون والعبد المردود كسبه فيباع ويقسم ثمنه بين الراد وسائر الغرماء بالحصص
لاستواء حقهم في كسبه وان قال الراد لا أرده حتى آخذ ثمنه كان له ذلك لان حال
المشترى مع البائع عند الرد كحال البائع مع المشترى في ابتداء العقد وقد كان له أن يحبس المبيع
لاستيفاء الثمن فكذلك المشترى بعد الرد له ان يحبسه لاسترداد الثمن وباعتبار بقاء يده
هو أحق بماليته من سائر الغرماء فيباع له خاصة وإذا سبى المكاتب فاستدان دينا فهو بمنزلة
ما استدانه في أرض الاسلام لان المكاتب لا يملك بالأسر فهو باق على ملك مولاه مكاتبا
سواء كان في دار الحرب أو في دار الاسلام وان ارتد المكاتب وعليه دين واستدان في ردته
أيضا علم ذلك باقراره ثم قتل على ردته فهو بمنزلة دين المرض حتى يبدأ بما استدانه في حال
62

الاسلام من اكسابه ثم ما بقي للذي أدانه في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف
رضوان عليهم أجمعين الكل في ذلك سواء لان من أصل أبى يوسف أن الحر بعد الردة في
التصرفات بمنزلة الصحيح لتمكنه من دفع ما نزل به عن نفسه بالتوبة فكذلك المكاتب ومن
أصل محمد رحمه الله تعالى أنه في التصرفات بمنزلة المريض لكونه مشرفا على الهلاك فكذلك
المكاتب ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الحر بالردة تتوقف تصرفاته ويصير في حكم
المحجور عليه والمكاتب إنما ينفذ تصرفه بعد الردة لمراعاة حق مولاه لان كسبه قد تعلق
به حق مولاه فأما في حق نفسه السبب الموجب للحجر متقرر فلهذا كان بمنزلة المريض
فيما يلزمه باقراره ويقدم دين الاسلام عليه ويستوى في هذا كسب الاسلام وما اكتسبه
بعد الردة لان حق المولى ثابت في ذلك كله لبقاء عقد الكتابة فلهذا يستوى الكسبان فيه
وما بقي بعد قضاء ديونه وأداء مكاتبته يكون لورثته المسلمين لان قيام حق المولى يمنع من
أن يجعل كسب ردته فيئا فيكون موروثا عنه بعد عتقه ككسب اسلامه ولو ارتد العبد
المأذون ثم استدان في ردته ثم أسلم فجميع ذلك في رقبته لأنه باق على اذنه بعد الردة فإذا
أسلم صار كأنه الردة لم تكن فيكون هذا وما استدانه في حال اسلامه سواء ولو قتل
مرتدا عن مال كان غرماؤه أحق به من المولى لأنهم في حال حياته كانوا أحق بكسبه من
المولى فكذلك بعد موته وإذا سعى ولد المكاتب المولود في مكاتبته وقضى مكاتبته وعتق
ثم حضر غرماء أبيه لم يكن لهم أن يأخذوا من المولى ما أخذ ولكنهم يتبعون الولد بدينهم
لأنه بعد موت أبيه قائم مقامه والمكاتب في حياته لو أدى المكاتبة أولا عتق ولا سبيل للغرماء
على ما أخذه المولى فكذلك ولده بعد موته استحسانا نقول فإن كان المكاتب ترك مالا فأداه
الابن إلى السيد فان الغرماء يرجعون بذلك المال على السيد لان حقهم ثبت في ذلك المال بموت
المكاتب وهو مقدم على حق المولى فلا يملك الولد ابطال ذلك الحق عليهم ثم قال ويعود الابن
مكاتبا كما كأن لان أداءه لما بطل صار كأن لم يؤد بدل الكتابة إلى المولى وقد قال قبل هذا
في الفصل بعينه أنه يكون حرا وهكذا يذكر في آخر الكتاب ويضيفه إلى أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى ان ابن المكاتب إذا أدى من تركة المكاتب مالا في المكاتبة ولحقه
دين كان على الميت فالعتق ماض فيؤخذ من المولى ما أخذ ويرجع على الابن ببدل الكتابة
وهذا هو الأصح لان شرط عتقه قد وجد وهو الأداء فيعتق وإن كان المال مستحقا
63

للغرماء ولكن على الرواية الأخرى يقول هو لا يخلف أباه في كسبه ما بقي الرق فيه فلا معتبر
بأدائه في ذلك ولكن يخلفه فيما يكتسبه بنفسه فيعتبر أداؤه في ذلك ولهذا يسلم للمولى ما يقبضه
من تركة المكاتب وقد بينا فيما سبق وجوه وصية المكاتب فان أوصى لعبد له فقال بيعوه
بعد موتى نسمة فهذا باطل لان هذا وصية للعبد بقدر ثلثه فان البيع نسمة يكون للعتق
والمشتري لا يرغب فيه بمثل الثمن ألا ترى أن الحر لو أوصى بهذا يحط عنه من الثمن بقدر
ثلث ماله إذا لم يكن يرغب في الشراء بأكثر منه ووصية المكاتب بالثلث باطلة وان مات
عن وفاء لما بينا أن كسبه لا يحتمل التبرع فان أجازوا بعد الموت ثم أرادوا أن يدفعوه إلى
صاحبهم فلهم ذلك لأن العقد كان لغوا باعتبار أنه لم يصادف محله فلا تعمل الإجازة في لزومه
بخلاف ورثة الحر إذا أجازوا وصيته بما زاد على الثلث لان ذلك صادف محله لكونه مملوكا
له ولكنه امتنع نفوذه لحق الورثة فإجازتهم تكون اسقاطا لحقهم فلهذا يتم بنفسه وهنا لم
يصادف محله فلا تعمل الإجازة فيه ولكنهم لو دفعوه إلى صاحبه بعد الإجازة ففي القياس
لهم الاسترداد أيضا لان الإجازة لا ينعقد بها العقد ابتداء ألا ترى أن الصبي لو طلق
امرأته ثم أجازه بعد البلوغ كان لغوا ولكنه استحسن فقال دفعهم المال إلى صاحبه تمليك
منه لذلك المال وتمليكهم صحيح بعد ما خلص المال لهم من الوجه الذي قصد تمليكه فلهذا
يصح ذلك ليحصل مقصودهم وإذا تصدق على المكاتب بصدقة فقضى منها الكتابة أو لم
يكن فيها وفاء فعجز عن المكاتبة والصدقة في يده فهي طيبة للمولى لان الصدقة تمت وصار
المقبوض كسبا للمكاتب فإنما يسلم للمولى اما بجهة الكتابة أو بجهة الخلافة عنه في كسبه بعد
العجز فيكون طيبا له كسائر أكسابه والأصل فيه حديث بريرة وقول النبي صلى الله عليه
وسلم ورضي الله عنها هي لها صدقة ولنا هدية وكذلك ما يتصدق به على عبد المكاتب فهو جائز
لان المكاتب في حكم الصدقة كالفقير المحتاج ويجوز التصدق على عبد الفقير بزكوة المال ويحل
ذلك لمولاه فكذلك على العبد المكاتب والله أعلم بالصواب
(باب الاختلاف في المكاتب)
(قال) رضي الله عنه قد بينا في كتاب العتاق الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله
فيما إذا اختلف المولى مع المكاتب في مقدار البدل أو جنسه في حكم التحالف ثم فرع على
64

قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى (قال) إذا قال المكاتب كاتبتني على ألف درهم وقال المولى
على ألفين فجعل القاضي القول قول المكاتب مع يمينه وألزمه ألف درهم كما هو قول المكاتب
ثم أقام السيد البينة على أنه كاتبه على ألفين فبينته مقبولة لما فيها من اثبات زيادة المال وهو حقه
ثم إن كان المكاتب لم يؤد شيئا بعد لم يعتق الا بأداء الألفين لان الثابت بالبينة كالثابت باتفاق
الخصمين وإن كان أدى ألفا وأمضى القاضي عتقه ثم أقام المولى البينة ففي القياس هذا والأول
سواء لأنه تبين بالحجة أن بدل الكتابة ألفان وأن القاضي مخطئ في امضاء عتقه بعد أداء
الألف ولكنه استحسن فقال هو حر وعليه ألف درهم لان القاضي قضى بعتقه بدليل شرعي
والعتق بعد وقوعه لا يحتمل النقض ثم بينة المولى بعد ذلك مقبولة على اثبات الزيادة له في
ذمته غير مقبولة على نفي العتق المقضى به إذ ليس من ضرورة وجوب المال على المكاتب
بطلان العتق كما لو استحق البدل من المولى لأنا قد بينا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم
في وقت عتق المكاتب فمنهم من يقول يعتق بنفس العقد ومنهم من يقول يعتق بأداء قدر
قيمته وقضاء القاضي بعتقه صادف موضع الاجتهاد فكان نافذا فان أدى المكاتب ألف
درهم ولم يخاصمه إلى القاضي حتى أقام المولى البينة على الألفين لم يعتق حتى يؤدى الألف
الباقية لأنه تبين أن بدل الكتابة ألفان فلا يعتق بأداء بعض المال ولما لم يخاصمه إلى القاضي
لا يمكن اثبات العتق له محالا به على قضاء القاضي في المجتهدات لان القاضي لم يقض بشئ
فلهذا لا يعتق حتى يؤدى جميع المال وإذا اختلفا فقال المولى كاتبتك على ألفين وقال العبد
كاتبتني على ألف إذا أديت فأنا حر فأقاما البينة فإنه يقضى عليه بألفين فيؤخذ ببينة المولي (المولى) على
المال وببينة العبد على العتق فإذا أدى ألفا عتق وعليه ألف أخرى لان العبد قد أقام البينة
على عتقه بعد أداء الألف حين شهد شهوده أنه قال إذا أدى ألفا فهو حر بمنزلة رجل أعتق
عبده على ألف وقد بينا معنى هذه المسألة في كتاب العتاق إلا أن هناك أبهم الجواب وهنا
فسر وفرق بينما إذا شهد شهود العبد أنه قال إذا أديت إلى فأنت حر وبين ما إذا لم يشهدوا
بذلك ولكن شهدوا أنه كاتبه على ألف ونجمها عليه نجوما فإنه لا يعتق هنا حتى يؤدى ألفا
أخرى وهذا الفرق صحيح لان في الفصل الأول عتقه عند أداء الألف بحكم الشرط مصرح
به في شهادته ولا يوجد ذلك في الفصل الثاني فإنه يعتق بحكم العقد وقد ثبت ببينة المولى ان
البدل بحكم العقد ألفان فلا يعتق إلا بأداء الألفين ألا ترى أنه لو كاتبه على ألف ثم جدد
65

الكتابة على الفين أو زاده في المكاتبة ألفا أخرى فإنه لا يعتق الا بأداء الألفين فكذلك عند
إقامة البينة لأنا نجعل كان الامرين كانا وان اختلفا فقال العبد كاتبتني على نفسي ومالي على ألف درهم
وقال المولى بل كاتبتك على نفسك دون مالك فالقول قول المولى والبينة بينة العبد لان العبد في هذا
الفصل يدعى زيادة في حقه والمولى ينكر تلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه لانكاره والبينة
بينة العبد لما فيها من اثبات الزيادة وكذلك لو قال المولى كاتبتك على نفسك خاصة وقال العبد
بل على نفسي وولدي فان قال المولى كان هذا المال في يدك حين كاتبتك فهو مالي وقال العبد
أصبته بعد ذلك فالقول قول العبد والبينة بينة المولى لان المال في يد العبد فهو مستحق بحكم
يده والمولى يحتاج إلى اثبات الاستحقاق عليه بالبينة ولان الكسب حادث فيحال بحدوثه
على أقرب الأوقات وهو ما بعد الكتابة ويحتاج المولى إلى اثبات التاريخ السابق بالبينة
وان ادعى أحدهما فسادا في المكاتبة وأنكر الآخر فالقول قول المنكر لان اتفاقهما على
العقد يكون اتفاقا منهما على ما يصح به العقد فان مطلق فعل المسلم محمول على الصحة فلا
يقبل قول من يدعى الفساد الا بحجة ولان المفسد شرط زائد على ما به تتم المكاتبة فلا
يثبت بمجرد الدعوى قبل إقامة الحجة ولهذا لو أقاما البينة كانت البينة بينة من يدعى الفساد
لأنه يثبت زيادة شرط ببينته وان قال المولى كاتبتك على ألف إلى سنة وقال العبد إلى سنتين
فالقول قول المولى والبينة بينة العبد لان الاجل حق العبد فهو يدعى زيادة في حقه وهو منكر
ألا ترى أن المولى لو أنكر أصل الاجل كان القول قوله والبينة بينة العبد فكذلك إذا أنكر
زيادة في الاجل وان ادعى أنه كاتبه نجوما على ألف كل شهر مائة وقال المولى نجومك مائتان
كل شهر فالقول قول المولى والبينة بينة العبد لان الاختلاف بينهما في الحقيقة في فصل الاجل
العبد يدعى ان الاجل عشرة أشهر والمولى يدعى أن الاجل خمسة أشهر ولو قال العبد كاتبتني
على مائة دينار وأقام البينة وقال المولى على ألف درهم وأقام البينة فالبينة بينة المولى لان حق
المكاتب ثابت بانفاقهما وإنما قامت البينتان فيما هو حق المولى وبينته على اثبات حق نفسه
أولى بالقبول من بينة غيره على حقه ولو قال المولى لمكاتبته ولدت هذا الولد قبل أن أكاتبك
فهو عبدي وقالت بل ولدته في مكاتبتي فالقول قول من في يده الولد منهما لأنه مستحق
له باعتبار يده والآخر يريد استحقاقه عليه فلا يستحقه الا بإقامة البينة (فان قيل) إذا كان
في يد السيد فلماذا يجعل القول قوله وولادتها الولد حادث ويحال بالحادث على أقرب الأوقات
66

(قلنا) نعم ولكن هذا نوع ظاهر والظاهر يصلح حجة لدفع الاستحقاق ولكن لا يثبت
به الاستحقاق والمكاتب يحتاج إلى استحقاق اليد على المولى في الولد والظاهر لهذا لا يكفي
فان أقاما البينة فالبينة بينة المكاتبة أما إذا كان الولد في يد المولى فلانه يثبت الاستحقاق بينتها
والمولى ينفى ذلك الاستحقاق وأما إذا كان في يد المكاتبة فإنها ببينتها تثبت حكم الكتابة في
الولد وحريته عند أدائها والمولى ينفي ذلك ببينته فكان المثبت من البينتين أولى كما لو أعتق
جاريته ثم اختلفا في ولدها هذا الاختلاف وأقاما البينة فالبينة بينة الجارية لما فيها من اثبات
العتق للولد وإذا ماتت المكاتبة ثم اختلف ولدها والمولى في المكاتبة فهو كاختلاف المولى
والأم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر لان الولد قام مقام الأم فاختلافه مع المولى
في مقدار البدل بمنزلة اختلاف الأم ولهذا لو ادعى الولد أنه أدى البدل أو أن الأم أدت
البدل لم يصدق الا بحجة كما لو ادعت الأم ذلك في حياتها وكذلك إذا كان الاختلاف
بين المكاتبة وابن المولى بعد موت المولى ولو كاتب الذمي عبدا له مسلما ثم اختلفا في مقدار
البدل وأقام المولى بينة من النصارى لم تقبل لان الخصم مسلم وشهادة الكافر ليست بحجة
على المسلم حربي دخل دار الاسلام بأمان فاشترى عبدا ذميا وكاتبه ثم اختلفا في المكاتبة
فأقام المولى البينة من أهل الحرب ممن دخل معه بأمان لم تقبل شهادتهم على العبد الذمي
لأنه من أهل دارنا وشهادة أهل الحرب على من هو من أهل دارنا لا تكون حجة كشهادة
الكفار على المسلمين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب
(باب مكاتبة المريض)
(قال) رضي الله عنه مريض كاتب عبده على ألف درهم نجمها عليه نجوما وقيمته ألف
درهم وهو لا يخرج من ثلثه فإنه يخير العبد ان شاء عجل ما زاد من القيمة على ثلث مال الميت
والا رد في الرق لأنه بتأجيل المال عليه أخر حق الورثة إلى مضي الاجل وفيه ضرر عليهم
فلا يصح فيما هو من حقهم وهذا لان ضرر التأجيل كضرر الابطال من حيث إن الحيلولة
تقع بين الورثة وبين حقهم عقيب موته ألا ترى أن المريض إذا أجل في دين له على الأجنبي
يعتبر له من الثلث كما لو أبرأ وان شهود التأجيل في الدين إذا رجعوا ضمنوا كشهود الابراء فان
عجل ما زاد على الثلث حسب ذلك من كل نجم بحصته لان التنجيم كان ثابتا في جميع المال وان
67

عجل شيئا عند اعتراض الورثة يشيع المعجل في جميع النجوم فيكون من كل نجم بحصته إذ
ليس بعض النجوم بأن يجعل المؤجل عنه أولى من البعض وان كاتبه على ألفين وقيمته ألف
درهم لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي الألفين في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله
وقال محمد رحمه الله يقال له عجل ثلثي قيمتك لان من أصلهما أن مال المولى بدل الكتابة
فلا يصح تأجيله الا في قدر الثلث ومن أصل محمد رحمه الله تعالى أن ما زاد على ثلثي قيمته
كان المريض متمكنا من أن لا يتملكه أصلا فإذا تملكه مؤجلا لا يثبت للأولياء حق
الاعتراض على الاجل فيه وقد بيناه في كتاب العتاق وان كاتبه على ألف وقيمته ألفان ولا مال
له غيره قيل له عجل ثلثي قيمتك وأنت حر والا رددناك في الرق لأنه حاباه بنصف المال
والمحاباة في المرض وصية فلا يجوز الا بقدر ثلثه وإذا استغرقت المحاباة للثلث لا يمكن
تصحيح التأجيل في شئ منه فيؤمر بأن يعجل ثلثي قيمته أو يرد في الرق رجل كاتب
عبده في صحته على ألف درهم ثم أقر في مرضه أنه استوفى بدل الكتابة فهو مصدق يعتق
المكاتب لأنه استحق براءة ذمته عند اقرار المولى باستيفاء البدل منه لما كان العقد في
صحته ومرضه لا يبطل الاستحقاق الثابت للمكاتب كما لو باعه من انسان في صحته ثم أقر في
مرضه باستيفاء الثمن بخلاف ما لو كاتبه في مرضه ثم أقر باستيفاء البدل فإنه لا يصح الا بقدر
ثلثه لأنه ما استحق هنا براءة ذمته عند اقراره وإنما استحق براءة ذمته عند ايصال المال إليه
ظاهرا ليتعلق به حق ورثته كما كان حقهم متعلقا برقبته ثم تتمكن تهمة المواضعة هنا أنه
قصد بتصرفه تحصيل العتق له فيجعل في حق الورثة كان المولى أعتقه مكان الكتابة فلهذا
كان معتبرا من ثلثه ولو كاتبه في صحته على ألف درهم وقيمته خمسمائة ثم أعتقه في مرضه
ثم مات ولم يقبض شيئا فإنه يسعى في ثلثي قيمته لان مال المولى في مرضه الأقل من قيمته
ومن بدل الكتابة فان ما زاد على الأقل غير متيقن بأنه له ألا ترى أنه يتمكن من أن يعجز
نفسه فلا يكون حقه الا في القيمة فلهذا يعتبر الثلث والثلثان في الأقل وهو قيمته فعليه
أن يسعى في ثلثي قيمته ولان اعتاقه إياه ابطال للكتابة لان الاعتاق المبتدأ في حق المولى
غير العتق بجهة الكتابة وإذا كان هذا ابطالا للكتابة جعل كأنه لم يكاتبه وكذلك أن وهب
جميع ما عليه من الكتابة في مرضه وهو حر ويسعى في ثلثي قيمته لان مال المولى هو الأقل
فإنما يعتبر تبرعه بالهبة من الثلث فيما يعلم أنه حقه وهو الأقل وفي الكتاب قال لأنه متى
68

أدى ثلثي قيمته عتق وإن كان على المكاتبة في قول يعقوب ومراده قول يعقوب في أنه
إذا كان لعتقه وجهان سعى في أقل ما يلزمه من جهة السعاية ومن جهة المكاتبة ولا يخير
بينهما لان التخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد غير مفيد وعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى إذا كاتبه في صحته ثم أعتقه في مرضه فهو بالخيار ان شاء سعى في ثلثي قيمته
وان شاء سعى في ثلثي ما عليه وقد بينا هذا في كتاب العتاق وإن كان المولى قد قبض منه
قبل ذلك خمسمائة ثم أعتقه في مرضه سعى في ثلثي قيمته ولم يحتسب له شئ مما أدى
قبل ذلك لأنه لما عتق بالاعتاق المبتدأ بطل حكم الكتابة في حق المولى فما أدى قبل
ذلك كسب عبده فيكون سالما له غير محسوب مما عليه من السعاية وهذا عندهما وكذلك
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وان اختار فسخ الكتابة والسعاية في ثلثي قيمته (قال)
وان أدى المكاتبة الا مائة درهم ثم أعتقه في مرضه أو وهب له الباقي سعى في ثلثي
المائة لان ما بقي من بدل الكتابة هنا أقل وقد بينا أن مال المولى القدر المتيقن به وهو الأقل
فلهذا يعتبر الثلث والثلثان هنا من بدل الكتابة لأنه أقل وإذا ولدت المكاتبة ولدا واشترت
ولدا آخر لها ثم ماتت سعيا في الكتابة على النجوم لان المولود في الكتابة قائم مقام الأم
في بقاء النجوم ببقائه وهو المطالب ببدل الكتابة وهو الذي يلي الأداء إلى المولى عند
حلول كل نجم دون المشترى لان المشترى لو كان وحده لا يطالب بالمال على النجوم ولكن
إذا لم يؤد المال حالا فهو بمنزلة عبدها يباع فعرفنا أنه غير قائم مقامها وإنما القائم مقامها هو
المولود في الكتابة ألا ترى أنه لو كان وحده كان المال في ذمته وإنما يطالب به عند حلول الأجل
فصار المولود في الكتابة في حق الولد الآخر كالأم وفى حال حياتها كانت هي التي
تطالب بالمال وتلي الأداء دون الولد فكذا هنا فان سعى الولد في الكتابة وأدى لم يرجع على
أخيه بشئ لأنه أدى عن أمه ولان كسبه في أداء بدل الكتابة منه بمنزلة تركتها وعند
الأداء من التركة لا يرجع على أخيه بشئ فكذلك إذا أدى من كسبه ولو اكتسب هذا
الابن المشترى كسبا فلأخيه أن يأخذه فيستعين به في كتابته لأنه قائم مقام أمه وكان لها
في حياتها أن تأخذ كسبه فكذلك لمن قام مقامها وهذا لأنه لما بقي الاجل باعتبار بقاء
المولود في الكتابة ولا يبقي الاجل الا باعتبار من هو أصل عرفنا أنه أصل في هذا العقد
والمشترى تبع له وعلى هذا لو أراد أن يسلمه في عمل ليأخذ كسبه فيستعين به في مكاتبته
69

كان له ذلك ويأمره القاضي أن يؤاجر نفسه أو يأمر أخاه أن يؤاجره كما لو كانت الأم
حية كان لها أن تؤاجره بأمر القاضي إذا أبى أن يؤاجر نفسه ليؤدي المكاتبة من اجارته
وما اكتسب المولود في المكاتبة بعد موت الأم قبل الأداء فهو له خاصة وما اكتسب
أخوه حسب من تركتها فقضى منه الكتابة والباقي ميراث بينهما لان المشترى بمنزلة
عبدها فيكون كسبه لها بمنزلة مال خلفته يقضى منه بدل الكتابة والباقي ميراث عنها بين
الاثنين فأما المولود في الكتابة قد انتصب أصلا فإذا حكم بعتقه مستندا إلى وقت
عتق أمه كان ما اكتسب بعد ذلك له خاصة وهذا كله مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فأما عندهما الولد المشترى والولد المولود في الكتابة وكل من تكاتب عليها في حكم
السعاية على النجوم سواء فلا يكون لأخيه أن يأخذ منه شيئا من كسبه إذ كل واحد منهما
قائم مقام الأم وليس أحدهما بتبع لصاحبه وإذا كان العبد بين رجلين فمرض أحدهما ثم
كاتب الصحيح باذنه جاز ذلك وليس للوارث إبطاله لأنه قائم مقام مورثه ولم يكن للمورث
ابطاله فكذلك لا يكون ذلك لوارثه وهذا لأنه ليس في هذا الاذن ابطال شئ من حق
الورثة عما تعلق حقهم به إنما هو مجرد اسقاط خيار ثبت له وكذلك أن اذن له في القبض
فقبض بعض المكاتبة ثم مات المريض لم يكن للوارث أن يأخذ منه شيئا من أصحابنا رضي الله عنهم
من قال هذا غلط وينبغي أن يكون للوارث أن يأخذ منه ما زاد على الثلث لان اذنه
في القبض رضا منه بأن يقضى المكاتب دينه بنصف الكسب الذي هو حق المريض وهذا
تبرع منه فإنما يعتبر من ثلثه ولكنا نقول المريض يتمكن من اسقاط حق ورثته عن كسبه بأن
يساعده على الكتابة فيعمل رضاه أيضا بقضاء بدل الكتابة من كسبه ولا يكون للورثة سبيل
على ابطال ذلك وهذا لان الكسب بدل المنفعة وتبرعه بمنفعة نصيبه لا يكون معتبرا من
ثلثه فكذلك تبرعه من بدل المنفعة ولا يجوز للمكاتب ان يزوج أمته من عبده لان فيه
تعييبا لهما فان النكاح عيب في العبيد والإماء جميعا ولا يسقط بهذا العقد نفقتها عنه ولا يجب
المهر أيضا فكان هذا ضررا في حق المكاتب فلهذا لا يصح منه وللمكاتب أن يأذن لعبده
في التجارة لأنه من صنيع التجار ويقصد به اكتساب المال والمكاتب منفك الحجر عنه في مثله
ولان الفك الثابت بالكتابة فوق الثابت بالاذن وإذا جاز للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة
فلان يجوز للمكاتب أولى فان لحقه دين بيع إلا أن يؤدى عنه المكاتب ويجوز أن يؤدى عنه
70

الدين وإن كان أكثر من قيمته لان هذا تصرف تناوله الفك الثابت بالكتابة والمكاتب في
مثله كالحر ألا ترى أن فيما يبيع ويشترى بنفسه جعل كالحر لهذا فان عجز المكاتب وقد لحق
كل واحد منهما دين بيع كل واحد منهما في دين نفسه لا أن يفديهما المولى لان بعجز المكاتب
صار كل واحد منهما مملوكا للمولى فيكون الرأي إليه في أن يؤدى عنهما الدين أو يباع كل
واحد منهما في دينه فان فضل من ثمن المكاتب شئ لم يصرف في دين عبده لان حق
غرماء العبد إنما تعلق بمالية العبد وكسبه والمكاتب ليس من ذلك في شئ بل المكاتب في
حق العبد بمنزلة الحر فكما لا يقضى دين العبد من مال مولاه الحر فكذلك لا يقضي من
ثمن المكاتب وان فضل من ثمن العبد شئ صرف في دين المكاتب لان العبد كسبه وحق
غرمائه ثبت في كسبه إلا أن دين العبد كان مقدما في مالية رقبته فما يفضل من دينه صرف
في دين المكاتب فان قضي المولى بعض غرماء العبد دينه ثم جاء الآخرون لم يكن لهم على
من اقتضى دينه سبيل إذا لم يكن الدين مشتركا بينهم لان المولى إنما قضى من خالص
ملكه ولا حق للغرماء في خالص ملكه فهو بمنزلة متبرع آخر يتبرع بقضاء بعض دينه فلا
يكون للباقين على المقتضى سبيل ولكنهم يأخذون العبد بدينهم لتعلق حقهم بمالية رقبته
ولا يخاصمهم المولى بما قضى من دينه في رقبته لأنه لا يستوجب دينا في ذمة عبده ولا في مالية
رقبته فكان هو في الأداء بمنزلة متبرع آخر وعجز المكاتب حجر على عبده لان ثبوت الاذن
باعتبار الفك الثابت للمكاتب وقد زال ذلك بعجزه فيكون عجزه كموت الحر وبموت الحر
يصير العبد محجورا عليه فكذلك بعجز المكاتب وكذلك بموته لأنه ان مات عاجزا فقد
انفسخت الكتابة وان مات عن وفاء فهو كموت الحر فيكون حجرا على العبد في الوجهين
جميعا فإن كان له ولد فأذن له في التجارة وعليه دين لم يصح اذنه لان غرماء العبد أحق بمالية
رقبته والولد المولود في الكتابة إنما يخلف أباه فيما هو حقه فأما فيما هو حق
غرمائه فلا فلهذا لا يصح اذنه له في التجارة وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة فاستدان
دينا فدفعه المولى إلى الغرماء بدينهم جاز ذلك والمراد بالمولي هو المكاتب دون مولى
المكاتب لأنه لا حق لمولى المكاتب في التصرف في كسبه ما بقيت الكتابة والمكاتب في
التصرف في كسبه كالحر فيما تناوله الفك ودفع العبد إلى الغرماء بدينهم يجوز من الحر
فكذلك من المكاتب ولو أذن لعبده في التزويج لم يجز لأنه لا يملك مباشرته بنفسه لما فيه من
71

الضرر عليه فكذلك لا يأذن العبد فيه وان أذن لامته في التزويج جاز ذلك استحسانا كما لو
زوجها بنفسه لأنه يأخذ مهرها ويسقط نفقتها عن نفسه وفى القياس لا يجوز أيضا لان هذا
التصرف ليس من صنع التجار عادة والله أعلم بالصواب
(باب الخيار في الكتابة)
(قال) رضي الله عنه ويجوز من اشتراط الخيار في الكتابة ما يجوز في البيع لأنه عقد
معاوضة يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ بعد نفوذه كالبيع فان اشترط المولى لنفسه فيها
الخيار ثلاثا فاكتسب العبد كسبا أو كانت جارية فوطئت بشبهة أو ولدت ولدا ثم أجاز
الكتابة كان ذلك كله للمكاتب والمكاتبة لان الخيار كان مانعا من نفوذ حكم الكتابة فإذا
زال المانع باسقاط الخيار صار كأن لم يكن فيتم العقد من حين عقد كما في البيع إذا أجاز من
له الخيار يسلم المبيع للمشترى بزوائده المتصلة والمنفصلة ولان ولدها في حكم جزء منها
وهي صارت أحق بنفسها عند سقوط الخيار فكذلك بما هو جزء منها والعقر بدل جزء
منها والكسب بدل منافعها وهي أحق بمنافعها بحكم الكتابة كما أنها أحق بنفسها ولو باع
المولى الولد أو وهبه وسلم أو أعتقه فهو جائز وهو رد للمكاتبة كما في البيع ولو ولدت الجارية
المبيعة في مدة الخيار للبائع فأعتق الولد أو باعه كان ردا للبيع والمعنى في الكل واحد ان الولد
جزء منها ولو باشر هذا التصرف فيها كان ردا للمكاتبة فكذلك في جزء منها وهذا لان الولد
يسلم لها بنفوذ الكتابة بالإجازة ومقصود المولى تصحيح بيعه وهبته ولا يمكن تصحيحه الا بفسخ
الكتابة فجعلناه فاسخا لهذا ولكن فيه بعض الاشكال في العتق لأنه لا منافاة بين عتق الولد
وبين نفوذ الكتابة فيها ألا ترى أنه لو أعتق ولدها بعد نفوذ الكتابة ولزومها كان عتقه صحيحا
نافذا فينبغي أن لا يجعل اعتاقه الولد ردا للكتابة على هذا الطريق ولكنه مستقيم على الطريق
الأول رجل كاتب عبده على نفسه وولده صغار على أنه بالخيار ثلاثة أيام فمات بعض ولده ثم أجاز
الكتابة جازت ولا يسقط عنه شئ من البدل لان البدل كله عليه دون الولد إذ لا ولاية له
على ولده في إلزام البدل إياه فكذلك موته لا يؤثر في كتابته ولا يسقط عنه شئ من البدل
وان كاتب أمته على أنها بالخيار ثلاثا فولدت فأعتق السيد الولد فهي على خيارها لان تنفيذ
عتق السيد الولد مع بقاء الكتابة فيها ممكن ألا ترى أنه لو أعتق ولدها بعد لزوم الكتابة
72

نفذ عتقه ثم لا يحط عنها شئ من البدل لان في هذا تحصيل بعض مقصودها ألا ترى
أنها لو ولدت بعد نفوذ الكتابة فأعتق المولى الولد لم يحط عنها شئ من البدل فكذلك قبل تمام
الكتابة إذا أعتق الولد وهذا بخلاف ما إذا كان الخيار للمولى فان اقدامه على العتق هناك
فسخ منه للعقد ألا ترى أنه لو أعتق الأم كان فسخا للعقد حتى لا يعتق الولد معها فكذلك
اعتاقه الولد لأنه جزء منها وهو متمكن من فسخ الكتابة بخياره فأما إذا كان الخيار لها
فالعقد لازم من جانب المولى ألا ترى أنه لو أعتقها لم يكن فسخا للكتابة حتى يعتق الولد
معها وكذلك إذا أعتق ولدها فان ماتت بعد الولادة والخيار للمولى فله الإجازة ثم الولد
بمنزلة الأم استحسانا وفى القياس المكاتبة باطلة وبالقياس يأخذ محمد رحمه الله تعالى لان
أوان لزوم العقد عند اسقاط الخيار فلا بد من بقاء من هو الأصل والمقصود بالعقد عند
ذلك وهذا لان البدل إنما يجب عند اسقاط الخيار ولا يمكن ايجابه على الميت ولا على الولد ابتداء
لأنه خلف فما لم يثبت الوجوب في حق من هو الأصل لا يظهر حكمه في حق الخلف
ووجه الاستحسان أن الولد جزء منها فبقاؤه عند اسقاط الخيار كبقائها ألا ترى أن بعد
نفوذ العقد لو ماتت جعل الولد قائما مقامها في السعاية على النجوم فكذلك قبل تمام العقد
بالإجازة إذا ماتت يجعل الولد قائما مقامها في تنفيذ العقد بالإجازة وإنما استحسنا ذلك
لحاجتها ولحاجة ولدها إلى تحصيل العتق عند أداء البدل ولو كان الخيار لها فموتها بمنزلة
قبول المكاتبة لان الخيار لا يورث ممن هو حر فكيف يورث من المكاتبة ولكنها لما
أشرفت على الموت وعجزت عن التصرف بحكم الخيار سقط خيارها فلو كان الخيار للمولى
فاشترت وباعت في مدة لخيار ثم رد المولى المكاتبة لم يجز شئ مما صنعت لان المكاتبة بطلت
بفسخ المولى قبل تمامها والاذن في التجارة من ضرورة نفوذ الكتابة ولزومها فإذا لم يثبت ذلك
لم تكن مأذونة في التجارة فلا ينفذ تصرفها إلا أن يكون المولى رآها فلم يغير عليها فيكون
ذلك منه إجازة ألا ترى أن رجلا لو باع عبدا على أن البائع بالخيار ثلاثا وقبضه المشترى
فأذن له في التجارة واستدان دينا ثم رد البائع البيع لم يلزمه شئ من ذلك فكذلك في المكاتبة
فأما إذا رآه يتصرف فقد قامت الدلالة لنا على أن سكوته عن النهى بعد العلم بتصرفه يكون
دليل الرضا ودليل الرضا كصريح الرضا ولو صرح بذلك كان إجازة منه للكتابة وإن كان
الخيار للمكاتب كان شراؤه وبيعه رضا منه بالكتابة لأنه تصرف منه في المعقود عليه على
73

ما هو مقتضي العقد منه فيتضمن الإجازة للعقد منه وهو نظير ما لو اشترى عبدا على أنه
بالخيار ثم أذن له المشترى في التجارة كان هذا رضا منه بالبيع فكذلك الكتابة والله أعلم
بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب مكاتبة أم الولد والمدبر)
(قال) رضي الله عنه رجل باع أم ولد له أو مدبرته خدمتها من نفسها جاز ذلك وهما
حرتان والثمن دين عليهما بمنزلة ما لو باع رقبتهما من نفسهما وهذا لان المملوك للمولى
عليهما الخدمة بملك الرقبة فهو بكل واحد من هذين اللفظين يكون مسقطا حقه عنهما
بعوض ومضيفا لتصرفه إلى ما هو المملوك له عليهما فيصح ويجب البدل بنفس القبول أم
ولد بين شريكين كاتبها أحدهما بغير إذن شريكه فللآخر أن ينقض الكتابة كما لو كانت
قنة ولا يقال هنا ليس لهما أن يبيعاها قبل الكتابة فلماذا ثبت للساكت حق فسخ كتابة
صاحبه لان لهما أن يستخدماها ويؤاجراها ولان لهما أن يستديما الملك فيها وإذا ردت
الكتابة تعذر على الشريك استدامة الملك فيها فكان له أن يفسخ الكتابة لدفع هذا الضرر
عن نفسه ولو كاتب أم ولده وأمة له وقيمتهما سواء ثم أعتق أم الولد أو عتقت بموته
فالأخرى تسعى في نصف البدل لان البدل يتوزع على قيمتهما وقيمتهما سواء وباعتاق أم
الولد يصير مستوفيا حصتها من البدل وكذلك لو كاتب مدبرا له وقنا وقيمتهما سواء ثم
مات المولى فان خرج المدبر من الثلث فإنه يسقط نصف البدل وسعي الآخر في نصف
البدل وإنما يعني بهاتين المسألتين أن تكون قيمته مدبرا أو قيمتها أم ولد مثل قيمة القن
لان في الانقسام إنما تعتبر القيمة على الصفة التي تناولها العقد والله أعلم بالصواب
(باب دعوة المكاتب)
(قال) رضي الله عنه جارية بين مكاتب وحر ولدت فادعاه المكاتب فالولد ولده والجارية
أم ولده ويضمن نصف عقرها ونصف قيمتها للحر يوم علقت منه ولا يضمن من قيمة الولد
شيئا لان المكاتب بماله من حق الملك في كسبه يملك الدعوة كالحر فبقيام الملك له في نصفها هنا
ثبت نسب الولد منه من وقت العلوق وثبت لها حق أمية الولد في حق امتناع البيع تبعا
74

لثبوت حق الولد ويصير متملكا نصيب صاحبه منها من حين علقت فيضمن نصف
عقرها لشريكه ونصف قيمتها من ذلك الوقت ولا يضمن من قيمة الولد شيئا لأنه حادث
على ملكه والحر في نظير هذا لا يكون ضامنا شيئا من قيمة الولد فكذلك المكاتب وأشار
في الأصل إلى أن الجنين تبع ألا ترى ان أمة إذا كانت بين رجلين وهي حبلى فاشترى
أحدهما نصيب صاحبه منها كان ما في بطنها أيضا للمشترى فان ضمن ذلك ثم عجز كانت
الجارية وولدها مملوكا للمولى لأنهما كسبه وقد خرجا من حكم الكتابة بعجزه فكانا مملوكين له
وإن لم يخاصمه ولم يضمنه شيئا حتى عجز كان نصف الجارية ونصف الولد لشريكه الحر لأنهما
خرجا من حكم الكتابة بعجزه ونصفهما على ملك الشريك الحر ما لم يصل إليه الضمان إذ لا منافاة
بين ثبوت النسب منه وبقاء الملك للشريك بخلاف الأول فان المكاتب بالضمان هناك يصير
متملكا نصيب الشريك والضمان كان واجبا ما بقيت الكتابة وقد زال ذلك بالعجز وصار الحر
متمكنا من التصرف في نصيب نفسه منها ولكن عليه نصف العقر لإقراره بوطئها بسبب
الملك وهي مشتركة بينهما فإن كانت مكاتبة بينهما فادعى المكاتب ولدها جازت الدعوة لبقاء حق
ملكه في نصفها بعد الكتابة وهي بالخيار ان شاءت مضت على الكتابة وأخذت العقر من
المكاتب بوطئه إياها وإن شاءت عجزت وضمن المكاتب لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها
ألا ترى أن الحر لو ادعى الولد كان الحكم فيه كذلك فكذلك المكاتب إلا أنه إذا كان
الحر هو المدعى واختارت أن تعجز نفسها فهي بمنزلة أم الولد وإذا كان المكاتب هو المدعي
فهي بمنزلة أم الولد في امتناع بيعها ولكن لا تثبت أمية الولد فيها حقيقة ما لم يعتق المكاتب
بالأداء فإن كانا ادعيا الولد فالدعوة دعوة الحر لان له حقيقة الملك في نصفها وحق الملك
لا يعارض حقيقة الملك ولان في تصحيح دعوة الحر اثبات الحرية للولد في الحال وحقيقة
أمية الولد للأم وذلك لا يوجد في دعوة المكاتب فان اختارت المضي على الكتابة ثم مات الحر
سقط نصيب الحر من المكاتبة عنها لان نصيبه عتق بموته فكأنه عتق باعتاقه وسعت في
أقل من حصة المكاتب من المكاتبة ومن نصف قيمتها وهذا قول محمد رحمه الله تعالى فأما
عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تسعى في نصف قيمتها كما بينا في مكاتبة بين شريكين يعتقها
أحدهما وان اختارت العجز سعت في نصف قيمتها إن كان المعتق معسرا وإن كان موسرا
ضمن نصف القيمة للمكاتب أما عندهما ظاهر وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان
75

أمية الولد لم تثبت في نصيب المكاتب بعد ألا ترى أنه لو عجز كان نصيبه ملكا للمولى فلهذا
بقي قيمة رقها في حكم الضمان والسعاية ثم لا يرجع عليها بما ضمن لأنه لما ملك نصيب المكاتب
بالضمان صارت أم ولد له ومن أعتق نصف أم ولده عتق كلها ولا سعاية عليها فإن كان المكاتب
وطئها أولا فولدت له ثم وطئها الحر فولدت له فادعيا الولدين معا ولم يعلم الا بقولهما فولد كل
واحد منهما له بغير قيمة ويغرم كل واحد منهما لها الصداق وبهذا اللفظ تبين ان عقر المملوكة
هو الصداق وانه في كل موضع يستعمل لفظ العقر فإنما يريد به الصداق وهي بالخيار بين
العجز والمضي على المكاتبة فان عجزت كانت أم ولد للحر خاصة لان دعوتهما التقت فيها
بالولدين ولو التقت دعوتهما فيها في ولد واحد كان الحر أولى بها لان في دعوته اثبات أمية
الولد لها في الحال فكذلك هنا وعليه نصف قيمتها للمكاتب لأنه تملك نصيب المكاتب منها فإنه
لم يثبت فيها حق أمية الولد للمكاتب بعد وولد المكاتب ثابت النسب منه لان حين وطئها كان
نصفها مملوكا له وعليه نصف قيمته للحر لان الولد صار مقصودا في حق المكاتب بالدعوة حين
لم يتملك نصيب صاحبه من الأم فيضمن قيمة نصيب شريكه من الولد له بخلاف الحرفان
عجزت وعجز المكاتب معها كان ولد المكاتب رقيقا بين مولاه وبين الحر لان وجوب ضمان
نصف قيمة الولد للحر على المكاتب باعتبار تملكه إياه بالاستتباع في الكتابة وقد زال ذلك
بعجزه وإن كان وطئ المكاتب بعد وطئ الحر فهي أم ولد للحر كما بينا وولد المكاتب بمنزلة
أمه لا يثبت نسبه من المكاتب لأنه تبين أنه استولد أم ولد الحر وقال محمد رحمه الله تعالى
استحسن ان أثبت نسبه وهو للحر بمنزلة أمه لأنه حين وطئها كان نصفها مملوكا له في
الظاهر وذلك يكفي لثبوت النسب ولا خلاف بينهم في هذه المسألة وإنما فيها القياس
والاستحسان كما نص عليه في كتاب الدعوى والزيادات في الحرين لا أن هناك مدعى
الأصغر يضمن قيمة الولد لشريكه لأنه حر بحكم الغرور ولا يثبت فيه حكم أمية الولد إذ
علق حر الأصل وهنا لا يعتق الأصغر على المكاتب لأنه ليس من أهل الاعتاق فيبقى
مملوكا لمدعى الأكبر بمنزلة أمه ومحمد رحمه الله تعالى يثبت الحرية بسبب الغرور في حق
المكاتب في النكاح دون ملك اليمين لان ما ظنه المكاتب هنا لو كان حقيقة لم يكن الولد
حرا والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
76

(باب كتابة المرتد)
(قال) رضي الله عنه مرتد كاتب عبده ثم لحق بدار الحرب ثم رجع مسلما فان رفع
المكاتب إلى القاضي فرده في الرق فالمكاتبة باطلة والا فهو على مكاتبته لان عقده كان
موقوفا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بطل بقضاء القاضي فلا يعود بعد ذلك وان عاد
الملك إليه وإذا كاتب المسلم عبده ثم ارتد المولى فهو على مكاتبته وان لحق بدار الحرب لان
لحوقه بدار الحرب مرتدا كموته وبموت المولى لا تبطل الكتابة بعد ما صحت ولكن يؤدى
المكاتبة إلى ورثته وإن كان المرتد قبض منه مكاتبته فان أسلم فهو حر وان قتل مرتدا لم
يجز اقراره بالقبض في قول أبي حنيفة رحمه الله وهو على حاله إذا لم يعلم ذلك الا بقوله لان
اقراره كسائر تصرفاته قولا فيبطل إذا قتل على ردته عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال
فإن كان يعلم ذلك يجوز أخذه للدين بشهادة الشهود في كل ما وليه ولا يجوز أن يخرج شيئا
من ملكه بثمن وغير ذلك وأكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون إن هذا الجواب غلط
في الكتابة وإنما يستقيم هذا في ثمن المبيع لان ثمن المبيع حق القبض فيه للعاقد فأما في بدل
الكتابة حق القبض ليس للعاقد ولكنه للمالك ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يقبض البدل
فكان هذا دين وجب له لا بمباشرة سببه فلا يصح قبضه في براءة المديون إذا قتل على ردته
(قال) رضي الله عنه عندي أن ما ذكره في الكتاب صحيح لان حق القبض هنا يثبت
له بعقد الكتابة فإنه باشر العقد في ملكه فلهذا يستحق ولاءه وان قبض ورثته البدل وإذا
ثبت أن حق القبض له بالعقد لا يبطل ذلك بردته كما في البيع وهذا لان المكاتب يستحق
الحرية عند تسليم المال إليه وردته لا تبطل استحقاق المكاتب (فان قيل) لماذا لا يقول في
الاقرار هكذا استحق براءة قيمته عند اقراره بالقبض منه فلا يبطل ذلك بردته (قلنا)
إنما يستحق براءة ذمته عند اقراره بقبض ملكه منه والملك هنا صار لورثته وهذا لان الاقرار
مخرج لبدل الكتابة من ملك ورثته بغير عوض وهو لا يملك ذلك بعد الردة والقبض مقرر
حق ورثته في المقبوض فيمكن تنفيذ ذلك في حقهم فإن لم يقبض شيئا حتى لحق بدار الحرب
فجعل القاضي ماله ميراثا لورثته فاخذوا المكاتبة ثم رجع مسلما فولاء العبد له لأنه يستحق
الولاء بعقد الكتابة وإذا رجع مسلما فهو من أهل أن يثبت الولاء له عليه ألا ترى أنه لو
77

كان دبر عبده فأعتقه القاضي بعد لحوقه بدار الحرب ثم رجع مسلما كان ولاؤه له دون
الورثة وهذا لان الولاء أثر من آثار الملك فيعاد إليه ما يجد من ملكه قائما بعد اسلامه فكذلك
الولاء الذي هو أثر الملك ويأخذ من الورثة ما قبضوه من بدل الكتابة ان وجد بعينه سواء
قبضوا جميع البدل أو بعضه لأنه قد وجد عين ماله وقال عليه الصلاة والسلام من وجد عين
ماله فهو أحق به والله أعلم بالصواب
(باب شركة المكاتب وشفعته)
(قال) وليس للمكاتب أن يشارك حرا شركة مفاوضة لأنها تنبنى على المساواة في
التصرف ولا مساواة بين الحر والمكاتب في التصرفات ولان شركة المفاوضة تتضمن الكفالة
العامة فان كل واحد منهما كفيل عن صاحبه بما يلزمه والمكاتب ليس من أهل الكفالة
وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أظهر فان عنده كفالة أحد المتفاوضين تلزم شريكه
فلو صححنا المفاوضة بينهما لكان إذا كفل الحر بمال يلزم ذلك المكاتب ولا يجوز أن يلزم المال
على المكاتب بعقد الكفالة ويجوز له أن يشارك الحر شركة عنان لأنها تتضمن توكيل كل
واحد منهما صاحبه بالشراء والبيع والمكاتب في ذلك كالحر فان عجز المكاتب بعد ذلك
انقطعت الشركة بينهما لأنه لما رد في الرق صار عبدا محجورا عليه لا يملك مباشرة التصرف
لنفسه فكذلك لا يملك شريكه أن يشترى له بحكم الوكالة فلهذا تبطل الشركة (قال) وله الشفعة
فيما اشتراه المولى وللمولى فيما اشتراه المكاتب لأنه بعد الكتابة التحق بسائر الأجانب في
حقه في حكم البيع والشراء ألا ترى ان كل واحد منهما يشترى من صاحبه فيجوز فكذلك
في حكم الاخذ بالشفعة لان الاخذ بالشفعة شراء (قال) ولو أعتق المكاتب بعد شركة
العنان بقيت الشركة على حالها لان ملكه تأكد بالعتق وكذلك قدرته على التصرف فيبقى
شريكه على وكالته (قال) وان شارك الغير شركة مفاوضة بغير إذن سيده أو باذنه ثم
عتق لم تصح تلك الشركة لان المكاتب ليس من أهل المفاوضة والعقد إذا بطل لانعدام
الأهلية لا يصح بحدوث الأهلية بعد ذلك (قال) وان اشترى المكاتب دارا على أنه بالخيار
ثلاثة أيام فعجز ورد في الرق انقطع خياره لأنه مجرد رأي كان ثابتا له بين الفسخ والامضاء
فلا يبقى بعد العجز له لما صار محجورا عليه عن التصرف كما لو مات ولا يخلفه المولى في ذلك
78

لان رأى الانسان لا يحتمل النقل إلى غيره ولان الدار بعجزه خرجت من حكم ملكه
وصارت مملوكة للمولى وذلك مسقط لخيار المشترى فإن كان البائع بالخيار فهو على خياره
بعد عجز المكاتب كما بعد موته وإن كان الخيار للمكاتب المشترى فبيعت دار إلى جنبها فله أن
يأخذ تلك الدار بالشفعة لأنه صار أحق بما اشترى حتى يملك التصرف فيه فتجب الشفعة له
باعتباره واخذه بالشفعة يكون اسقاطا منه لخياره لأنه تقرر به ملكه في المشترى حين حصل
ثمرة ذلك الملك لنفسه وإن لم يأخذها بالشفعة حتى رد المشترى على البائع فلا شفعة في الدار
الأخرى لواحد منهما أما المكاتب فلانه زال جواره برد المشترى وأما البائع فلانه لم يكن
جارا حين بيعت هذه الدار (قال) ولا يقطع المكاتب في سرقته من مولاه لأنه مملوك
له يدخل بيته من غير حشمة ولا استئذان فلا يتم احراز المال عنه والقطع لا يجب الا
بسرقة مال محرز قد تم احرازه وكذلك أن سرق من ابن مولاه أو من امرأة مولاه أو
من ذي رحم محرم من مولاه لان المولى لو سرق من أحد من هؤلاء أو سرق أحد من
هؤلاء من المولى لم يقطع باعتبار ان بعضهم يدخل دار بعض من غير استئذان ولا حشمة
وكذلك المكاتب لأنه ملكه يدخل عادة في كل بيت يدخل فيه مالكه من غير استئذان
فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنه وكذلك لو سرق واحد من هؤلاء من المكاتب لأنه
لو سرق واحد من هؤلاء من المولى لم يقطع فكذلك من المكاتب لان المكاتب ملك المولى
وله في كسبه حق الملك (قال) فان سرق المكاتب من أجنبي ثم رد في الرق فاشتراه ذلك
الرجل لم يقطع لان القطع عقوبة تندرئ بالشبهات وفي مثله المعترض بعد الوجوب قبل
الاستيفاء كالمقترن بالسبب الا ترى ان السارق لو ملك المسروق بعد وجوب القطع عليه
يسقط عنه القطع وان ملكه بسبب حادث فكذلك المسروق منه إذا ملك السارق بعد
وجوب القطع (قال) وان سرق المكاتب من رجل ولذلك الرجل عليه دين فإنه يقطع
لأنه لا شبهة بينهما بسبب وجوب الدين للمسروق منه على السارق فان عجز المكاتب
فطلب المسروق منه دينه فقضى القاضي ان يباع له في دينه وقد أبى المولى ان يفديه فإنه يقطع
في القياس لان المسروق منه لم يصر مالكا وان قضي القاضي بأن يباع في دينه ولم يذكر
الاستحسان وقيل في الاستحسان ينبغي أن لا يقطع لان مالية العبد صارت له بقضاء
القاضي فإنه إذا بيع في الدين يصرف ثمنه إليه فيجعل هذا بمنزلة ما لو صار الملك له في رقبته
79

في ايراث الشبهة ولكنه استحسان ضعيف فلهذا لم يذكره وكذلك العبد المأذون في جميع
ما ذكرنا (قال) وان سرق المكاتب من مكاتب آخر لمولاه لم يقطع كما لو سرق من
مولاه لان كسب ذلك المكاتب من وجه لمولاه أو يجعل سرقة المكاتب كسرقة مولاه
ولو سرق المولى من ذلك المكاتب لا يقطع فكذلك مكاتبه وكذلك أن سرق من عبد كان
بين مولاه وبين آخر وقد أعتق المولى نصيبه منه لان هذا كالمكاتب لمولاه من وجه
ألا ترى أن الشريك إذا اختار ضمان المولى رجع المولى به عليه فيكون بمنزلة المكاتب له
(قال) وإذا سرق المكاتب من مضارب مولاه من مال المضاربة لا يقطع لأنه مال المولى
لو سرقه منه لا يقطع فكذا من مضاربه وكذلك لو سرق المكاتب من مال رجل لمولاه
عليه مثل ذلك دين لان فعله في السرقة كفعل المولى ولو سرق المولى هذا المال لم يقطع
وكيف يقطع وإنما أخذه بحق لان صاحب الحق إذا ظفر بجنس حقه له أن يأخذه فأما
إذا كانت السرقة عروضا قطعا جميعا لان دين المولى ثابت في ذمة المديون وذلك لا يوجب
له حقا ولا شبهة فيما ليس من جنس حقه في مال المديون فلهذا يقطع المولى والمكاتب
بسرقته والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب
(قال) شمس الأئمة الزاهد انتهى شرح كتاب المكاتب باملاء المحصور
المعاتب والمحبوس المعاقب وهو منذ حولين على الصبر مواظب
وللنجاة بلطيف صنع الله مراقب والحمد لله وحده وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
80

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الولاء)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله تعالى اعلم بأن الولاء نوعان ولاء نعمة وولاء موالاة فولاء النعمة ولاء
العتاقة وإنما اخترنا هذه العبارة اقتداء بكتاب الله إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت
عليه أي أنعم الله عليه بالاسلام وأنعمت عليه بالعتق والآية في زيد بن حارثة مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه وأكثر أصحابنا رضي الله عنهم يقولون سبب هذا
الولاء الاعتاق ولكنه ضعيف فان من ورث قريبه فعتق عليه كان مولى له ولا اعتاق هنا
والأصح أن سببه العتق على ملكه لان الحكم يضاف إلى سببه يقال ولاء العتاقة ولا يقال
ولاء الاعتاق وولاء الموالاة ما ثبت بالعقد فان الموالاة عقد يجرى بين اثنين والحكم يضاف
إلى سببه والمطلوب بكل واحد منهما التناصر وقد كانوا في الجاهلية يتناصرون بأسباب
منها الحلف والمحالفة فالشرع قرر حكم التناصر بالولاء حتى قال صلى الله عليه وسلم مولى
القوم من أنفسهم وحليفهم منهم فالمراد بالحليف مولى الموالاة فإنهم كانوا يؤكدون
ذلك بالحلف ولمعنى التناصر أثبت الشرع حكم التعاقد بالولاء وبنى على ذلك حكم الإرث وفى
حكم الإرث تفاوت بين السببين أما ثبوت أصل الميراث بالسببين ففي كتاب الله تعالى
إشارة إليه فقال الله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت
أيمانكم فآتوهم نصيبهم والمراد الموالاة وفيه تحقيق مقابلة الغنم بالغرم من حيث أنه يعقل
جنايته ويرث ماله إلا أن الإرث بولاء العتاقة أقوى لكونه متفقا عليه ولهذا قلنا مولى العتاقة
آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام وهو قول على رضى الله تعالى عنه وكان ابن مسعود
رضي الله عنه يقول مؤخر عن ذوي الأرحام لقوله صلى الله عليه وسلم للمعتق في معتقه وان
مات ولم يدع وارثا كنت أنت عصبته فقد شرط لتوريثه عدم الوارث وذوو الأرحام من جملة
81

الورثة وقال صلى الله عليه وسلم الولاء مشبه بالنسب وقال صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة
النسب وما أشبه الشئ لا يزاحمه ولا يقدم عليه بل يخلفه عند عدمه ولكنا نحتج بما روى أن
بنت حمزة رضي الله عنها أعتقت عبدا فمات المعتق وترك بنتا فجعل رسول اله صلى الله عليه وسلم
نصف المال للبنت ونصفه لبنت حمزة رضي الله عنها والباقي بعد نصيب صاحب الفرض للعصبة
فتبين بهذا ان المعتق عصبة ورد الباقي على صاحب الفرض عند عدم العصبة مقدم على حق
ذوي الأرحام ثم لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي على البنت بل جعله للمعتقة عرفنا أنها
عصبة مقدم على ذوي الأرحام وفى حديثه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى هذا فإنه
قال كنت أنت عصبته فتبين بهذا اللفظ ان مراده ولم يدع وارثا هو عصبة وقوله والولاء
كالنسب دليلنا عند التحقيق لان العتق يضاف إلى المعتق بالولاء من حيث أنه سبب لاحيائه
فان الحرية حياة والرق تلف حكما فكان كالأب الذي هو سبب لايجاد الولد فتستحق العصوبة
بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة فأما قرابة ذوي الأرحام لا يستحق بها الإضافة
على كل حال والانسان لا يضاف إلى عمته وخالته حقيقة فكان مؤخرا عن الولاء وكان الولاء
خلفا عن الأبوة في حكم الإضافة فتستحق به العصوبة بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة
ثم تقدم الورثة على ذوي الأرحام فأما ولاء الموالاة سبب لاستحقاق الإرث عندنا ولكنه
مؤخر عن ذوي الأرحام وعند الشافعي رضي الله عنه ليس بسبب الإرث أصلا وهو بناء
على أن من أوصى بجميع ماله فيمن لا وارث له عندنا يكون للموصى له جميع المال وعنده يكون
له الثلث لان من أصله ان ما زاد على الثلث حق بيت المال عند عدم الورثة العصبة فلا يملك
ابطال ذلك الحق بعقده بطريق الوصية أو الموالاة وعندنا المال ملكه وحقه وإنما يمتنع
تصرفه فيما زاد على الثلث لتعلق حق الورثة والصرف إلى بيت المال عند عدم الوارث لأنه
لا مستحق له لا لأنه مستحق لبيت المال فإذا انعدم الوارث كان له أن يوجبه بعقده لمن
شاء بطريق الوصية أو الموالاة قال ابن مسعود رضى لله عنه السائبة يضع ماله حيث أحب
وتمام هذه المسألة في الوصايا والفرائض إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب بما رواه عن الصحابة
عمر وعلى وابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبى مسعود الأنصاري وأسامة بن
زيد رضوان الله عليهم أجمعين انهم قالوا الولاء للكبر وهو قول إبراهيم وبه أخذ علماؤنا
رحمهم الله تعالى وكان شريح رحمه الله تعالى يقول الولاء بمنزلة المال ولسنا نأخذ بهذا وفائدة هذا
82

الاختلاف أن ميراث المعتق بالولاء بعد المعتق يكون لابن المعتق دون بنته عندنا وعند شريح
رحمه الله تعالى بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين هو يقول الولاء أثر من آثار
الملك وكما أن أصل ملك الأب في هذا العبد بعد موته بين الابن والبنت للذكر مثل حظ
الأنثيين فكذلك الولاء الذي هو أثر من آثار الملك فكأنه بالعتق يزول بعض الملك ويبقى
بعضه فهذا معنى قوله الولاء بمنزلة المال ولكنه ضعيف فان النبي صلى الله عليه وسلم قال
الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا يورث وإنما يورث به فكذلك الولاء وهذا لان
ثبوت الولاء للمعتق باحداث قوة المالكية في المعتق ونفي المملوكية فكيف يكون الولاء
جزءا من الملك ومعنى قول الصحابة رضي الله عنهم الولاء للكبر للقرب والكبر بمعنى العظم
وبمعنى القرب فدخل كل واحد من المعنيين في قوله تعالى ومكروا مكرا كبارا وتفسيره
رجل أعتق عبدا ثم مات وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا ثم مات المعتق فميراثه
لابن المعتق لصلبه دون ابن ابنه لان ابن المعتق لصلبه أقرب إلى المعتق من ابن ابنه ولهذا
كان أحق بميراثه فكذلك بالإرث بولائه وهذا لان الولاء عينه لم يصر ميراثا بين
الابنين حتى يخلف ابن الابن أباه في نصيبه ولكنه للأب على حاله ألا ترى أن المعتق
ينسب بالولاء إلى المعتق دون أولاده فكان استحقاق الإرث بالولاء لمن هو منسوب إليه
حقيقة ثم يخلفه فيه أقرب عصبته كما يخلفه في ماله لو مات الأب فيكون لابنه دون ابن ابنه
ودون ابنته لان هذا الاستحقاق بطريق العصوبة والبنت لا تكون عصبة بنفسها إنما تكون
عصبة بالابن فعند وجوده لا تزاحمه وعند عدمه هي لا تكون عصبة وهذا لان السبب
هو النصرة كما بينا والنصرة لا تحصل بالنساء ألا ترى أن النساء لا يدخلن في العاقلة عند
حمل أرش الجناية فكذلك في الإرث بولاء الغير وإن كان للمعتق بنت فلها النصف والباقي
لابن المعتق لان الإرث بالولاء طريقه العصوبة وحق أصحاب الفرائض مقدم فلهذا
يعطى نصيب بنت المعتق أولا وكذلك نصيب زوجته ان كانت ثم حكم الباقي هنا كحكم
جميع المال في المسألة الأولى فيكون لابن المعتق دون ابن ابنه فإذا مات هذا الابن بعد ذلك
عن ابن ثم ماتت بنت المعتق فميراثها لابني ابن المعتق جميعا لأنها تابعة لأبيها في الولاء فان
الولاء كالكسب والولد منسوب إلى أبيه حقيقة له فكذلك يكون مولى لموالي أبيه فكان
ميراثها بهذا الطريق لمعتق الأب يخلفه في ذلك ابنا ابنه كما في ماله لو مات الأب وكذلك
83

هذا القول في كل عصبه للمعتق وقد طول محمد رحمه الله ذلك في الأصل وحاصله يرجع
إلى ما ذكرنا أن أقرب عصبة المعتق عند موت المعتق يخلفه في ميراث المعتق في ذلك
الوقت وهو معنى قول الصحابة رضى الله تعالى عنهم الولاء للكبر (قال) فإن كأن لاحد
الابنين ابنان وللآخر ابن واحد فالميراث بينهم على عدد رؤسهم لان الجد لو مات الآن
كان ميراثه بينهم بالسوية فكذلك ميراث المعتق وكذلك الحكم في ولاء المدبر وميراثه
وولاء أم الولد والمكاتب وميراثهما لان المدبر والمكاتب والمستولد استحق ولاءهم لما باشر
من السبب ولا فرق بين أن يكون نزول العتق بهذا السبب بعد موته أو قبله وكذلك في
العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وبعتقه بعد موته لأنه يستحق الولاء بما أوصى به وفعل وصيته
بعد موته كفعله في حياته فإن كانت بنت المعتق ماتت عن بنت ثم ماتت ابنتها فليس لابني
ابن المعتق من ميراث هذه الأخيرة شئ لان المعتق لو كان حيا لم يرثها لأنه ليس بمولى لها إنما
هو مولى لامها وقد بينا ان الولاء كالنسب والولد في النسب لا يتبع أمه إذا كان له نسب
من جانب الأب فكذلك في الولاء ثم روى عن عمر وعلى وابن مسعود وأبي بن كعب
وزيد بن ثابت وأبى مسعود الأنصاري وأسامة بن زيد رضوان الله عليهم أجمعين أنهم
قالوا ليس للنساء من الولاء الا ما أعتقن وعن إبراهيم أنه قال ليس للنساء من الولاء
الا ما أعتقن أو كاتبن أو أعتق من أعتقن وعن شريح ليس للنساء من الولاء شئ الا ما أعتقن
أو كاتبن وهذا الحديث مخالف لما ذكره الأعمش عن إبراهيم عن شريح رحمهم الله تعالى ان
الولاء بمنزلة المال وبهذه الآثار نأخذ فقد روى مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال ليس للنساء من الولاء الا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن أو
جره ولاء معتق معتقهن والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد بما اشتهر من أقاويل الكبار من
الصحابة رضي الله عنهم وبالحديث المشهور الذي روينا أن بنت حمزة رضي الله عنهما أعتقت
مملوكا فمات وترك بنتا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته النصف وبنت حمزة
رضي الله عنهما النصف فبهذا تبين ان المرأة تكون عصبة لمعتقها وهذا لان سبب النسبة
للولاء إحداث قوة المالكية بالعتق وقد تحقق ذلك منها كما يتحقق من الرجل بخلاف النسب
فان سببه الفراش والفراش للرجل على المرأة فلا تكون المرأة صاحبة فراش ولأنها أصل في
هذا الولاء لمباشرتها سببه وكما أن المرأة في ملك المال تساوى الرجل فكذلك فيما يترتب عليه
84

بخلاف النسب فان سببه وهو الفراش يثبت بالنكاح في الأصل والمرأة لا تساوى الرجل في ملك
النكاح لأنها بصفة الأنوثة مملوكة نكاحا فلا تكون مالكة نكاحا وإذا ثبت أنها أصل في
هذا الولاء كان ميراث معتقها لها فكذلك ميراث معتق معتقها لان معتق المعتق ينسب إلى
معتقه بالولاء وهي مثل الرجل في الولاء الذي هو الأصل على المعتق الأول ولان ميراث
معتق المعتق يكون لمعتقه بالعصوبة ومعتقه معتقها في هذا الفصل فتخلفه في استحقاق ذلك
المال كما تخلفه في استحقاق المال بالعصوبة لو مات الأب وعلى هذا مكاتبها ومكاتب مكاتبها
لان الكتابة سبب في استحقاق الولاية كالعتق وعلى هذا جر ولاء معتق معتقها لان سببه
العتق على ما نبينه فتستوي هي بالرجل في استحقاق ذلك (قال) وإذا أعتقت المرأة عبدا
ثم ماتت عن زوجها وابن وبنت ثم مات المعتق فميراثه لابن المرأة خاصة لأنه أقرب عصبتها
إذ ليس لزوجها في العصوبة حظ والبنت لا تكون عصبة بنفسها فكان أقرب عصبتها الابن
فيخلفها في ميراث معتقها ويستوى ان كانت أعتقته بجعل أو بغير جعل لان ثبوت الولاء لها
باحداث قوة المالكية في المعتق وفى هذا يستوي العتق بجعل أو بغير جعل (قال) وإذا
اشترت امرأتان أباهما فعتق عليهما ثم اشترت إحداهما مع الأب أخالها من الأب فعتق ثم
مات الأب فميراثه بينهم جميعا للذكر مثل حظ الأنثيين لأنه مات عن ابن وابنتين فان مات
الأخ بعد ذلك فلهما من ميراثه الثلثان بالنسب لأنهما أختاه لأب وللأختين الثلثان ثم للتي
اشترت الأخ مع الأب بالولاء نصف الثلث الباقي لأنها معتقة نصفه بالشراء فان شراء
القريب اعتاق وهي المشترية لنصف الأخ ولهما جميعا نصف الثلث الباقي بولاء الأب لان
الأب كان هو المعتق لهذا النصف من الأخ بشرائه وهما كانتا معتقتين الأب بشرائهما إياه وقد
بينا أن المرأة في ميراث معتق معتقها كالرجل ولهذا كان نصف الثلث الباقي لهما بطريق الخلافة
عن أبيهما (قال) امرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنها وأباها ثم مات العبد فميراثه للابن
خاصة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبى يوسف رحمه الله الأول ثم رجع فقال
لأبيها السدس والباقي للابن وجه قول أبى يوسف رحمه الله أن الأبوة تستحق بها العصوبة
كالبنوة ألا ترى ان الأب عصبة عند عدم الابن واستحقاق الميراث بالولاء ينبنى على العصوبة
ووجود الابن لا يكون موجبا حرمان الأب أصلا عن الميراث الا ترى أنه لم يصر محروما
عن ميراثها بهذا فكذلك عن ميراث معتقها فالأحسن ان يجعل ميراث المعتق بينهما كميراثهما
85

لو ماتت الآن فيكون للأب السدس والباقي للابن وهذا لان كل واحد منهما ذكر في
نفسه ويتصل بها بغير واسطة فلا يجوز أن يكون أحدهما محجوبا بالآخر فهذا شبه
الاستحسان من أبى يوسف رحمه الله تعالى فاما القياس ما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى لان أقرب عصبة المعتق يقوم مقام المعتق بعد موته في ميراث المعتق والابن هو
العصبة دون الأب واستحقاق الأب السدس منها بالفريضة دون العصوبة فهو كاستحقاق
البنت نصف مالها بالفريضة مع الأب وذلك لا يكون سببا لمزاحمتها مع الأب في ميراث
معتقها فكذلك هنا (قال) رجل أعتق أمة ثم غرقا جميعا لا يدرى أيهما مات أولا لم
يرث المولى منها شيئا لان الوراثة خلافة فشرط استحقاق ميراث لغير بقاؤه حيا بعد موته
وذلك غير معلوم هنا ولان كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا
إذ ليس أحدهما بالتقديم بأولى من الآخر ولو علمنا موتهما معا لم يرث المولى منها فهذا مثله
ولكن ميراثها لأقرب عصبة المولى إن لم يكن لها وارث لان المولى لما لم يرثها جعل كالمعدوم
فكأنه كان كافرا أو ميتا قبلها فيكون ميراثها لأقرب عصبته (قال) وإذا أعتق الرجل الأمة
ثم مات وترك ابنا ثم مات الابن وترك أخا من أمه ثم ماتت الأمة فميراثها لعصبة المعتق
وليس للأخ لام من ذلك شئ سواء كان أخ المعتق لامه أو أخ لابنه لان الولاء للمعتق
وأخ ابن المعتق لامه أجنبي من المعتق وأخ المعتق لامه ليس بعصبة له إنما هو صاحب
فريضة ولا يخلف المعتق في ميراث معتقه الا من كان عصبة له (قال) امرأة أعتقت عبدا
ثم ماتت وتركت ابنها وأخاها ثم مات العبد ولا وارث له غيرهما فالميراث للابن لأنه أقرب
عصبتها يقدم على الأخ بالإرث عنها فكذلك في الخلافة في ميراث معتقها وان جني جناية
فعقله على عاقلة الأخ لان جناية معتقها كجنايتها وجنايتها على قوم أبيها فكذلك جناية معتقها
وابنها ليس من قوم أبيها واستدل عليه بحديث إبراهيم عن علي بن أبي طالب والزبير بن
العوام رضى الله تعالى عنهم أنهما اختصما إلى عمر رضي الله تعالى عنه في مولى لصفية بنت
عبد المطلب رضي الله عنها مات فقال علي رضي الله عنه عمتي وأنا أرث مولاها وأعقل عنه
وقال الزبير رحمه الله تعالى أمي وأنا أرث مولاها فقضي عمر بالميراث للزبير وبالعقل على
على رضى الله تعالى عنه وقال الشعبي شهدت على الزبير أنه ذهب بموالي صفية وشهدت
على جعدة بن هبيرة أنه ذهب بموالي أم هانئ رضي الله عنها وكان ابنا لها فخاصمه على
86

ميراث مولاها فبهذين الحديثين يثبت أن ميراث المعتق يكون لابن المعتقة وإن كان عقل
جنايته على قوم أبيها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب
(باب جر الولاء)
(قال) رضي الله عنه روى عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه قال إذا كانت الحرة تحت
مملوك فولدت عتق الولد بعقتها فإذا أعتق أبوهم جر الولاء وبه نأخذ لان الولد جزء من
أجزائها وهي حرة بجميع اجزائها فينفصل الولد منها حرا ثم الولاء كالنسب والولد ينسب
إلى أبيه بالنسب فكذلك في الولاء يكون منسوبا إلى من ينسب إليه أبوه والأب بعد
العتق ينسب بالولاء إلى معتقه فكذلك ولده واستدل على اثبات جر الولاء بحديث الزبير
أيضا فإنه أبصر بخيبر فتية لعسا أعجبه ظرفهم وأمهم مولاة لرافع بن خديج وأبوهم عبد لبعض
الحرقة من جهينة أو لبعض أشجع فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ثم قال انتسبوا إلى وقال رافع
بل هم موالي فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى بالولاء للزبير وفى هذا دليل أن الولد
منسوب إلى موالي أمه ما لم يظهر له ولاء من جانب أبيه فإذا ظهر بالعتق جر الأب ولاء الولد
إلى مواليه وهذا لان في النسب الولد منسوب إلى أمه إذا لم يكن له نسب من أبيه للضرورة
كالولد من الزنا وولد الملاعنة بعد ما انقطع نسبه من أبيه ثم إذا ظهر له نسب من جانب
الأب بأن أكذب الملاعن نفسه صار الولد منسوبا إليه وكذلك في الولاء وقوله فتية لعسا
بيان لملاحتهم فهو حمرة تضرب إلى السواد قال الشاعر
لمياء في شفتيها حوة لعس وفى اللثات وفي أنيابها شنب
وقوله أعجبني ظرفهم أي ملاحتهم وقيل كياستهم فمن كان بهذا اللون فهو كيس عادة ثم
ذكر الشعبي قال إذا أعتق الجد جر الولاء وهكذا يروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وفى ظاهر الرواية الجد لا يجر الولاء بخلاف الأب وقد بينا في صدقة الفطر فان هذه
أربع مسائل جر الولاء وصدقة الفطر وصيرورته مسلما باسلام جده ودخول الجد في
الوصية للقرابة بخلاف الأب في الفصول الأربعة روايتان بينا وجه الروايتين هناك واستبعد
محمد رحمه الله تعالى قول من نقول النافلة باسلام الجد يصير مسلما فقال لو كان كذلك
لكان بنو آدم مسلمين باسلام آدم صلوات الله عليه ولا يسبى صغير أبدا وهذا باطل
87

وكذلك في جر الولاء بعتق الجد لو أعتق الأب فلا بد من القول بأن الأب جر ولاء
الولد إلى مواليه والجد أب وبعد ما ثبت جر الولاء بالأبوة لا يتحقق نقله إلى غيره (قال)
وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه ثم أسر أبوه فاعتق فان الابن يكون مولى لموالي
الأب لان ولاء الموالاة ضعيف والضعيف لا يظهر في مقابلة القوى فكأنه لا ولاء
على الولد لاحد وهذا بخلاف ما لو كان الابن معتق انسان فأعتق أباه انسان آخر فإنه
لا ينجر ولاء الابن إليه لان الولاء الثابت على الابن مثل الولاء الذي ظهر للأب وهو في
هذا مقصود فبعد ما صار مقصودا في حكم لا يمكن جعله تبعا في عين ذلك (قال) وإذا
تزوج العبد حرة فولدت له أولادا فأولادها موال لموالي الأم معتقة كانت أو موالية
فمتى أعتق أبوهم جر ولاءهم إلى مولاه أما إذا كانت موالية فلان الولد لو كان
مقصودا بولاء الموالاة كان يسقط اعتباره بظهور ولاء العتق للأب فكيف إذا كان
تبعا وأما كانت معتقة فلان الولد هنا تبع في الولاء وإنما كان تبعا للأم لضرورة عدم
الولاء للأب والثابت بالضرورة لا يبقي بعد ارتفاع الضرورة وإذا كانت الأم معتقة انسان
والأب حر مسلم نبطي لم يعتقه أحد فالولد مولى لموالي الأم في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى وكذلك أن كان الأب والى رجلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى في
الفصلين لا يكون الولد مولى لموالي الأم ولكنه منسوب إلى قوم أبيه قال وكيف ينسب
إلى قوم أمه وأبوه حر له عشيرة وموال بخلاف ما إذا كان الأب عبدا وتقرير هذا من
وجهين أحدهما أن العبد رقيق بجميع أجزائه وماؤه جزء منه فإنما تثبت الحرية لمائه لاتصاله
برحمها فلهذا كان الولد مولى لمواليها حتى يعتق الأب وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا
ألا ترى أنه لو كان حرا عربيا كان الولد منسوبا إلى قوم أبيه ولا يكون مولى لموالي أمه
فكذلك إذا كان أعجميا لان العرب والعجم في حرية الأصل سواء والثاني ان الرق تلف حكما
فإذا كان الأب عبدا كان حال هذا الولد في الحكم كحال من لا أب له فيكون منسوبا إلى
مولى الأم وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا لان الحرية حياة باعتبار صفة المالكية
والعرب والعجم فيه سواء وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن ولاء العتاقة ولاء
نعمة وهو قوى معتبر في الاحكام والحرية والنسب في حق العجم ضعيف ألا ترى أن
حريتهم تحتمل الابطال بالاسترقاق بخلاف حرية العرب ولان العجم ضيعوا أنسابهم
88

ألا ترى أن تفاخرهم ليس بالنسب ولكن تفاخرهم كان قبل الاسلام بعمارة الدنيا وبعد
الاسلام بالدين واليه أشار سلمان رضى الله تعالى عنه حين قيل سلمان ابن من قال سلمان
ابن الاسلام فإذا ثبت هذا الضعف في جانب الأب كان هذا وما لو كان الأب عبدا سواء
وكذلك أن كان الأب مولى الموالاة لان ولاء الموالاة ضعيف لا يظهر في مقابلة ولاء
العتاقة فوجوده كعدمه فأما إذا كان الأب عربيا فله نسب معتبر ألا ترى أن الكفاءة
بالنسب تعتبر في حق العرب ولا تعتبر في حق العجم والأصل في النسبة النسب فإذا كان
في جانب الأب نسب معتبر أو ولاء قوى كان الولد منسوبا إليه وإذا عدم ذلك كان الولد
مولى لموالي الأم واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى بعربية تزوجها رجل من الموالي
فولدت له ابنا فان الولد ينسب إلى قوم أبيه دون قوم أمه فكذلك إذا كانت معتقة
لان كونها عربية وكونها معتقة سواء كما سوينا بينهما في جانب الأب ولكن أبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى فرقا بينهما وقالا في الفرق ان العربية لم تجر عليها نعمة عتاق ومعنى
هذا أن الأم إذا كانت معتقة فالولد ينسب إلى قومها بالولاء والنسبة بالولاء أقوى لأنه معتبر
شرعا وإذا كانت عربية فلو انتسب الولد إلى قومها إنما ينسب بالنسب والانتساب بالنسبة إلى
الأم ضعيف جدا وكذلك بواسطة الأم إلى أبيها حتى لا تستحق العصوبة بمثل هذا النسب
فلهذا رجحنا جانب الأب لان النسبة إليه بالنسب وإذا كان نسبه ضعيفا لا يستحق به العصوبة
(قال) وإذا أعتق الرجل أمة وولدها أو كانت حبلى حين أعتقها أو أعتقت وولدت بعد
العتق لأقل من ستة أشهر وقد أعتق الأب رجل آخر كان الولد مولى الذي أعتقه مع أمه دون
من أعتق أباه أما إذا كان الولد منفصلا عنها فهو مملوك لمالك الأم فتناوله العتق مقصودا
والولد إذا صار مقصودا بولاء العتق لا يكون تبعا للأب وكذلك أن كانت حبلى به لان
الجنين باعتاقها يعتق مقصودا فان الجنين في حكم العتق كشخص على حدة حتى يفرد
بالعتق فهو والمنفصل سواء وكذلك لو ولدت لأقل من ستة أشهر بيوم من حين أعتقت
لأنا تيقنا أنه كان موجودا في البطن حين أعتقت وكذلك لو ولدت ولدين أحدهما لأقل
من ستة أشهر بيوم لان التوأم خلقا من ماء واحد فمن ضرورة التيقن بوجود أحدهما حين
أعتقت التيقن بوجود الآخر فاما إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر فلم يتيقن بوجود هذا
الولد حين أعتقت فكان مولى لموالي الأم تبعا وهذا لان الحل إذا كان قائما بين الزوجين فإنما
89

يسند العلوق إلى أقرب الأوقات إذا لا ضرورة في الاسناد إلى ما وراءه الا إذا كانت معتدة
من موت أو طلاق فحينئذ إذا جاءت به لتمام سنتين منذ يوم مات أو طلق فالولد مولى لموالي
الأم لان الحل ليس بقائم في المعتدة من طلاق بائن أو موت فيسند العلوق إلى أبعد الأوقات
لضرورة الحاجة إلى إثبات النسب وإذا حكمنا بذلك ظهر أن الولد كان موجودا في البطن
حين أعتقت وكذلك إذا كانت معتدة من طلاق رجعي لأنا لا نثبت الرجعة بالشك ومن
ضرورة اثبات النسب إلى سنتين من غير أن يجعل مراجعا الحكم بأن العلوق قبل الطلاق
وان جاءت به لأكثر من سنتين كان الولد مولى لموالي الأب فصار مراجعا لتيقننا
ان العلوق حصل بعد الطلاق وان كانت أقرت بانقضاء العدة فان جاءت بالولد لأقل من
ستة أشهر بعد ذلك ولتمام سنتين منذ طلق فالولد مولى لموالي الأم لأنا علمنا مجازفتها في
الاقرار بانقضاء العدة حين أقرت وهي حامل فيسند العلوق إلى أبعد الأوقات ولا يصير
مراجعا إلا أن تكون جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلق فحينئذ يصير مراجعا لان
اقرارها بانقضاء العدة صار لغوا حين تيقنا انها كانت حاملا يومئذ فكان ولاء الولد لموالي
الأب لأنا لم نتيقن بكونه موجودا في البطن حين أعتقت ولا يصير مقصودا بالولاء الا بذلك
(قال) أمة معتقة ولدت من عبد فالولد مولى لموالي أمه فان أعتق الولد وأمه فموالاته موالاة
لموالي الأم بمنزلة موالاة الأم لو كانت هي التي أعتقها وكذلك أن أسلم على يد الولد رجل
ووالاه فهو مولى لموالي الأم أيضا يعقلون عنه ويرثونه لان ولدها كنفسها ولو أسلم على
يدها ووالاها كان مولى لمواليها فهذا مثله فان أعتق الأب بعد ذلك جر ولاؤها ولاء كلهم
حتى يكون مولى لموالي الأب لان ولاء الأم أنجر إلى قوم الأب فكذلك ما ينبنى عليه من
ولاء معتقه ومولاه وهذا لان نسبة معتقه ومولاه إلى قوم الأم كان بواسطة وقد انقطعت
هذه الواسطة حين صار هو منسوبا إلى قوم الأب ويستوى إن كان ولد المعتقة حيا أو ميتا
له ولد أوليس له ولد لأنه تبع في حكم الولاء لمعتق أمه وبقاء الأصل يغنى عن اعتبار بقاء
التبع لان ثبوت الحكم في التبع بثبوته في الأصل ولا يرجع عاقلة الأم على عاقلة الأب
بما غرموا من أرش جنايته لأنهم غرموا ذلك حين كان مولى لهم حقيقة فان حكم جر الولاء
في الولد ثبت مقصورا على الحال لان سببه وهو عتق الأب مقصور غير مستند إلى وقت
سابق وكذلك حكمه بخلاف الملاعن إذا أكذب نفسه وقد عقل جناية الولد قوم أمه
90

فإنهم يرجعون على عاقلة الأب بذلك لان النسب يثبت من وقت العلوق فتبين
باكذابه نفسه انه كان ثابت النسب منه من حين علق وقوم الأم كانوا مجبرين على أداء
الأرش فلا يكونون متبرعين في ذلك ولو لم يعتق الأب فأراد المولى الذي أسلم على يدي
أبيه أن يتحول بولائه إلى مالك أبيه وقد عقل عنه موالي الأم لم يكن له ذلك لان عقده مع
الابن تأكد بحصول المقصود به فلا يحتمل الفسخ وفى التحول إلى غيره فسخ الأول
بخلاف ما إذا أعتق الأب فإنه ليس في تحول ولائه إلى موالي الأب فسخ ذلك العقد الذي
جرى بينه وبين الابن بل فيه تأكيد ذلك ولان هذا التحول يثبت حكما لضرورة اتباع
التبع الأصل والأول يكون عن قصد منه وقد يثبت الشئ حكما في موضع لا يجوز اثباته
قصدا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب ولاء الموالاة)
(قال) إبراهيم رضي الله عنه إذا أسلم الرجل على يد الرجل ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه
وله أن يتحول بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه فإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول عنه إلى غيره
وبهذا نأخذ والإسلام على يديه ليس بشرط لعقد الموالاة وإنما ذكره على سبيل العادة
وسواء أسلم على يده أو أتاه مسلما وعاقده عقد الولاء كان مولى له وكان الشعبي يقول
لا ولاء الا لذي نعمة يعنى العتاق وبه يأخذ الشافعي رحمه الله تعالى وإنما أخذنا فيه بقول
إبراهيم رضى الله تعالى عنه لحديث أبي الأشعث حيث سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
عن رجل أسلم على يديه ووالاه فمات وترك مالا فقال عمر رضي الله عنه ميراثه لك فان أبيت
فلبيت المال ولحديث زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ان رجلا من أهل الأرض
أتاه بواليه فأبى علي رضي الله عنه ذلك فأتى ابن عباس رضي الله عنه فوالاه ولحديث مسروق
رضي الله عنه أن رجلا من أهل الأرض والى ابن عم له وأسلم على يديه فمات وترك مالا فسأل
ابن مسعود رضي الله عنه عن ميراثه فقال هو لمولاه وأيد أقاويل الصحابة حديث تميم
الداري رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يسلم على يدي
الرجل ما السنة فيه قال هو أولى الناس بمحياه ومماته وأيد هذا قوله تعالى والذين عقدت
أيمانكم فآتوهم نصيبهم وقد بينا في أول الكتاب فان أسلم على يديه ولم يواله لم يعقل عنه ولم
91

يرثه الا على قول الروافض فإنهم يقولون بالاسلام على يديه يكون مولى له لأنه أحياه
باخراجه إياه من ظلمة الكفر لان الكفار كالموتى في حق المسلمين فهو كما لو أحياه بالعتق
وعلى هذا يزعمون أن الناس موالي علي وأولاده رضي الله عنهم فان السيف كان بيده وأكثر
الناس أسلموا من هيبته وهذا باطل عندنا فان الله تعالى هو الذي أحياه بالاسلام بأن هداه
لذلك وبيان ذلك في قوله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه أي كافرا فرزقناه الهدى وقال تعالى
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه يعنى بالاسلام فدل أن المنعم بالاسلام هو الله تعالى فلا يجوز
أن يضاف ذلك إلى الذي عرض عليه الاسلام لأنه بما صنع نائب عن الشرع مباشر ما يحق
عليه لله تعالى فهو في حقه كغيره من المسلمين لا يكون مولى له ما لم يعاقده عقد الولاء ثم
من أين لهم هذا التحكم ان أكثر الناس أسلموا من هيبة علي وهو كان صغيرا حين أسلم
الكبار من الصحابة وأبو بكر وعمر كانا مقدمين عليه رضي الله عنهم في أمور القتال وغير
القتال لا يخفى ذلك على من يتأمل في أحوالهم ولكن الروافض قوم بهت لا يحترزون عن
الكذب بل بناء مذهبهم على الكذب فان أسلم رجل على يدي رجل ووالى رجلا آخر فهو
مولى هذا الذي والاه يرثه ويعقل عنه لأنه بالاسلام على يدي الأول لم يصر مولى له
ولو كان مولى بأن عاقده كان له أن يتحول عنه وقد فعل ذلك حين عاقد مع الثاني فكيف
إذا لم يكن مولى للأول فان مات عن عمة أو خالة أو غيرهما من القرابة كان ميراثه
لقرابته دون المولى لما بينا أنه لا يملك ابطال حق المستحق عن ماله بعقده كما لو أوصى
بجميع ماله وله وارث وذوو الأرحام من جملة الورثة قال صلى الله عليه وسلم الخال وارث
من لا وارث له فلا يملك ابطال حقه بعقده توضيحه أن سبب ذي الرحم وهو القرابة أقوى
لأنه متفق على ثبوته شرعا وان اختلفوا في الإرث به وعقد الولاء مختلف في ثبوته شرعا فلا
يظهر الضعيف في مقابلة القوى (فان قيل) ينبغي أن يكون للمولى الثلث لأنه خالص حقه
يملك وضعه فيمن شاء (قلنا) نعم ولكنه بعقد الولاء ما وضع شيئا من ماله فيه أنما جعله وارثا
منه وفى سبب الوراثة ذو القرابة يترجح فلا يظهر استحقاق المولى معه بهذا السبب في شئ
من المال بخلاف الوصية بالثلث فإنه خلافة في المال مقصودا توضيحه أن التملك بالوصية غير
التملك بالإرث الا ترى أن الموصى له لا يرد بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصى بخلاف
الوارث فلا يمكن جعل الثلث له لا بطريق الوصية لأنه ما أوجب له ذلك ولا بطريق الإرث
92

لترجح استحقاق القريب عليه وإذا والى رجل رجلا ثم ولد له ابن من امرأة قد والت
رجلا فولاء الولد لموالي الأب لان الأب هو الأصل في النسب والولاء فإذا كان للولد في
جانب الأب ولاء هو مساو للولاء الذي في جانب الأم يترجح جانبه كما في ولاء العتق
(قال) وكذلك أن كانت والت وهي حبلى به وهذا بخلاف ولاء العتاقة فإنها إذا أعتقت
وهي حبلى به كان ولاء الولد لموالي أمه لان الولد هناك يكون مقصودا بالسبب وهو العتق
فان الجنين محل للعتق مقصودا وهنا الجنين لم يصر مقصودا بالولاء لأنه ما دام في البطن
فهو ليس بمحل لعقد الموالاة مقصودا لان تمام هذا القعد (العقد) بالايجاب والقبول وليس
لاحد عليه ولاية القبول وإذا كان تبعا فاتباعه الأب أولي كما بينا وكذلك لو كان لهما أولاد
صغار حين والى الأب انسانا وقد والت الأم قبل ذلك آخر فالأولاد موال لموالي الأب
لأنه ليس للأم ولاية عقد الولاء على الأولاد في قولهما وفى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لها ذلك عند عدم الأب اما مع وجود الأب فلا ولئن كان لها ذلك مع وجود الأب فهي
ما عقدت عليهم إنما عقدت على نفسها خاصة ولئن جعل عقدها على نفسها عقدا على الأولاد
فعقد الأب كذلك على نفسه عقد على الأولاد وولاء الموالاة يقبل التحول فيجعل الأب
محولا لولائهم إلى من والاه وذلك صحيح منه ولهذا كان الأولاد موال لموالي الأب فان جنى
الأب جناية فعقل الذي والاه عنه فليس لولده أن يتحول عنه إلى غيره بعد الكبر لان ولاء
الأب تأكد بعقد الجناية ويتأكد (وبتأكد) التبع يتأكد الأصل وكما ليس للأب أن يتحول عنه إلى
غيره بعد ما عقل جنايته فكذلك ليس لولده ذلك إذا كبر وكذلك إذا كان هذا الولد جني
أو جني بعض اخوته فعقل عنه مولاه فليس له أن يتحول عنه لان الأب مع أولاده كالشخص
الواحد في حكم الولاء فبعقل جناية أحدهم بتأكد العقد في حقهم جميعا بخلاف
ما قبل عقل الجناية عن أحد منهم لان هناك ولاؤهم لم يتأكد فان تأكد العقد
بحصول المقصود به وإنما لم يجعل هذا العقد متأكدا قبل حصول المقصود به لأنه ليس
فيه معنى المعاوضة بل أحدهما متبرع على صاحبه بالقيام على نصرته وعقل جنايته
والآخر متبرع على صاحبه في جعله إياه خليفته في ماله بعد وفاته وعقد التبرع لا يلزم
بنفسه ما لم يتصل به القبض ولو كان هذا معاوضة باعتبار المعنى لم يخرج من أن يكون متبرعا
صورة فيكون كالهبة بشرط العوض لا يتم بنفسه ما لم يتصل به القبض فإن كان له ابن كبير
93

حين والى الأب فأسلم الابن على يدي رجل آخر ووالاه فولاؤه له لأنه مقصود باكتساب
سبب الولاء هنا بمنزلة اكتساب أبيه فهو كما لو أعتق الأب انسان والابن انسان آخر
فيكون كل واحد منهما مولى لمن أعتقه وأن أسلم الابن ولم يوال أحدا فولاؤه موقوف نعنى
به انه لا يكون مولى لموالي الأب بخلاف المولود في ولائه والصغير عند عقد الأب لان عقد
الولاء ترتب على الاسلام عادة والابن الكبير لا يتبع أباه في الاسلام بخلاف الصغير والمولود
بعد الاسلام فكذلك في حكم الولاء الذي ترتب عليه وهذا لان الصغير ليس بأصل في
اكتساب سبب الولاء ألا ترى أنه لا يصح هذا العقد منه بدون اذن وليه فيجعل فيه تبعا
لأبيه أما الكبير أصل في اكتساب سبب هذا الولاء حتى يصح منه عقد الولاء بدون اذن
أبيه وبين كونه أصلا في حكم وتبعا فيه منافاة ولهذا لا يصير مولى للذي والاه أبوه وإذا
أسلمت الذمية ووالت رجلا ولها ولد صغير من رجل ذمي لم يكن ولاء ولدها لمولاها في
قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يكون
ولاء ولدها لمولاها فمنهم من جعل هذه المسألة قياس ولاية التزويج ان عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى يثبت ذلك للأم على ولدها الصغير حتى يصح عقدها ولا يتعلق به صفة اللزوم
حتى يثبت للولد خيار البلوغ فكذلك يصح هذا العقد منها في حق الولد لأنه لا يتعلق به
صفه اللزوم بنفسه وعندهما ليس للأم ولاية التزويج مع اختلاف في الرواية عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى هناك وكذلك ولاء الموالاة والأظهر أن هذه مسألة على حدة ووجه قولهما
أن حكم الولاء يثبت بعقد فيستدعى الايجاب والقبول ويتردد بين المنفعة والمضرة والولد بعد
الانفصال لا يكون تبعا للأم في مثل هذا العقد ولا يكون لها عليه ولاية المباشرة لهذا العقد
كعقد الكتابة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ولاء الموالاة اما أن يعتبر بالاسلام من
حيث أنه يترتب عليه عادة أو بولاء العتاقة فان اعتبر بالاسلام فالولد الصغير يتبع
أمه في الاسلام فكذا في هذا الولاء وان اعتبر بولاء العتاقة فالولد يتبع أمه فيه إذا لم يكن
له ولاء من جانب أبيه وهذا لأنه يتمحض منفعة في حق هذا الولد لأنه ما دام حيا فمولاه
يقوم بنصرته ويعقل جنايته وإذا بلغ قبل أن يعقل جنايته كان له أن يتحول عنه ان شاء
فعرفنا أنه منفعة محضة في حقه فيصح من الأم كقبول الهبة والصدقة بخلاف عقد الكتابة
فان فيه إلزام الدين في ذمته ولا يتمحض منفعة في حقه وإذا أسلم حربي أو ذمي على يدي
94

رجل ووالاه ثم أسلم ابنه على يدي آخر ووالاه كان كل واحد منهما مولى الذي والاه
ولا يجر بعضهم ولاء بعض وليس هذا كالعتاق وأشار إلى الفرق ولا فرق في الحقيقة لان
كل واحد منهما مقصود في سبب الولاء وهو العقد ولو كان مقصودا في سبب ولاء العتق
أيضا لم يجر أحدهما ولاء الآخر وإنما مراده من الفرق ان الولد الكبير لما أسلم على يدي
الثاني لا يصير مولى لموالي أبيه لان هناك سبب الولاء العقد لا الاسلام وهو أصل في العقد
يتمكن من مباشرته بنفسه فلهذا لا يجعل فيه تبعا لأبيه حربي أسلم ووالى مسلما في دار الحرب
أو في دار الاسلام فهو مولاه لان سببه هو العقد الذي جرى بين المسلمين والعقد بين
المسلمين صحيح سواء كان في دار الحرب أو كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار
الاسلام كعقد النكاح وهذا لان المقصود التناصر والمسلم يقوم بنصرته حيث يكون أو يعتبر
ولاء الموالاة بولاء العتق ولو أن مسلما في دار الاسلام أعتق عبدا مسلما له في دار الحرب كان
مولى له فكذلك في الموالاة فان سبي ابنه فاعتق لم يجر ولاء الأب لان الوالد لا يتبع ولده
في الولاء فان الولاء كالنسب والوالد لا ينسب إلى ولده لأنه فرعه والأصل لا ينسب إلى
الفرع فلهذا لا يجر الابن ولاء الأب وان سبي أبوه فاعتق جر ولاءه لما بينا ان ولاء الموالاة
لا يظهر في مقابلة ولاء العتق فكان الابن بعد عتق الأب بمنزلة من لا ولاء له فيجر الأب
ولاءه بخلاف ما إذا أسلم الأب ووالى رجلا لان ولاء الابن هنا مساو لولاء الأب فيظهر في
مقابلته فيكون كل واحد منهما مولى لمولاه ولو كان ابن ابنه لم يسب ولكنه أسلم على يدي
رجل ووالاه ثم سبى الجد فاعتق لم يجر ولاء نافلته لما بينا ان الجد لا يجر الولاء إلا أن يجر
ولاء ابنه فان تحقق ذلك فحينئذ يجر ولاء ابنه وإنما يتصور جره ولاء ابنه فيما إذا سبي أبوه
فاشتراه هذا الجد حتى عتق عليه فيصير ابنه مولى لمواليه وينجر إليه ولاء النافلة بهذه
الواسطة فأما إذا أعتق الابن غيره فالجد لا يجر ولاءه لكونه مقصودا بالعتق ولا يجر ولاء
ولده أيضا (قال) وموالاة الصبي باطلة يعنى إذا أسلم على يدي صبي ووالاه لان بالعقد
يلتزم نصرته في الحال والصبي ليس من أهل النصرة ولهذا لا يدخل في العاقلة وهو ليس من
أهل الالتزام بخلاف ما إذا أسلم على يدي امرأة ووالاها لأن المرأة من أهل الالتزام بالعقد
ومن أهل اكتساب سبب الولاء بالعتق فكذلك بالعقد وان والى رجل عبدا لم نجزه إلا أن يكون
بإذن المولى فحينئذ يكون مولى له لأنه عقد التزام النصرة والعبد لا يملكه بنفسه بدون
95

اذن مولاه فإن كان باذنه فحينئذ يكون عقده كعقد مولاه فيكون الولاء للمولى كما إذا أعتق
عبدا من كسبه بإذن مولاه وهذا لان المقصود به النصرة والميراث بعد الموت ونصرة
العبد لمولاه وهو ليس بأهل للملك بالإرث ولهذا يجعل المولى خلفا عنه فيما هو من حكم هذا
العقد وان والى صبيا باذن أبيه أو وصيه يجوز لان عبارة الصبي إذا كان يعقل معتبرة في
العقود والتزامه بالعقد بإذن وليه صحيح فيما لا يكون محض مضرة كالبيع والشراء ونحوه
لان الولي يملك عليه هذا العقد فإنه لو قبل الولاء لولده على انسان كان صحيحا فكذلك يملكه
الولد باذن أبيه ثم يكون مولى للصبي لأنه أهل للولاء بنفسه إذا صح سببه ألا ترى أنه إذا
ورث قريبه يعتق عليه ويكون مولى له فكذا حكم ولاء الموالاة بخلاف العبد ولو أسلم على
يدي مكاتب ووالاه كان جائزا لان المكاتب من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل مباشرة سبب
الولاء ألا ترى أنه يكاتب عبده فيكون صحيحا منه وإذا أدى مكاتبته فعتق قبل أدائه كان مولى
لمولاه فكذا هنا يكون مولى لمولاه لأنه مع الرق ليس بأهل لموجب الولاء وهو الإرث
فيخلفه مولاه فيه ولو والى ذمي مسلما أو ذميا جاز وهو مولاه وان أسلم الأسفل لان الذمي
من أهل الالتزام بالعقد ومن أهل اكتساب سبب الولاء كالمسلم وإذا صح العقد فاسلام
الأسفل لا يزيده الا وكادة ويبقى مولى له بعد اسلامه حتى يتحول إلى غيره ولو أسلم رجل
من نصارى العرب على يدي رجل من غير قبيلته ووالاه لم يكن مولاه ولكن ينسب إلى
عشيرته وأصله هم يعقلون عنه ويرثونه وكذلك المرأة لما بينا ان النسب في حق العرب معتبر
وانه يضاهى ولاء العتق ومن كان عليه ولاء العتق لم يصح منه عقد الموالاة مع أحد
فكذلك من كان له نسب من العرب لا يصح منه عقد الموالاة مع أحد وهذا بخلاف ولاء
العتق فان من ثبت عليه الرق من نصارى العرب إذا أعتق كان مولى لمعتقه لان ولاء العتق
قوى كالنسب في حق العرب أو أقوى منه فيظهر مع وجوده ويتقرر حكمه بتقرر سببه فأما
ولاء الموالاة ضعيف لا يتقرر سببه مع وجود النسب في حق العربي والحكم ينبني على السبب
ذمي أسلم ولم يوال أحد ثم أسلم آخر على يديه ووالاه فهو مولاه لأنه من أهل الالتزام
بالعقد ومن أهل المقصود بالولاء وإن لم يكن لاحد عليه ولاء وان أسلم ذمي على يد حربي
فإنه لا يكون مولاه وان أسلم الحربي بعد ذلك وهذا ظاهر لأنه لو أسلم على يدي مسلم لم
يكن مولى له ولكن فائدة هذه المسألة بيان أن الحربي الذي يعرض الاسلام على غيره
96

ويلقنه لا يصير مسلما بذلك ألا ترى أنه قال وان أسلم الحربي بعد ذلك لم يكن مولاه وهذا
لان من يلقن غيره شيئا لا يكون مباشرا لذلك الشئ بنفسه كالذي يلقن غيره طلاق
امرأته وعتق عبده (قال) رجل والى رجلا فله أن يتحول عنه ما لم يعقل عنه ولكن إنما
ينتقض العقد بحضرته لأن العقد تم بهما ومثل هذا العقد لا يفسخه أحدهما الا بمحضر من
صاحبه كعقد الشركة والمضاربة والوكالة وهذا لان تمكن كل أحد منهما من الفسخ باعتبار
أن العقد غير لازم بنفسه لا باعتبار أنه غير منعقد بنفسه ففي فسخ أحدهما إلزام الآخر حكم
الفسخ في عقد كان منعقدا في حقه فلا يكون الا بمحضر منه لما عليه من الضرر لو ثبت
حكم الفسخ في حقه قبل علمه وهو نظير الخطاب بالشرعيات فإنه لا يظهر حكم الخطاب
في حق المخاطب ما لم يعلم به لدفع الضرر عنه وكذلك لو أن الأعلى تبرأ من ولاء الأسفل
صح ذلك إذا كان بمحضر منه لأن العقد غير لازم من الجانبين ولكل واحد منهما أن
ينفرد بفسخه بغير رضاء صاحبه بعد أن يكون بمحضر منه وان والى الأسفل رجلا آخر
كان ذلك نقضا للعقد مع الأول وإن لم يكن بمحضر منه لان انتقاض العقد في حق الأول
هنا يثبت حكما لصحة العقد مع الثاني وفي العقد مع الثاني لا يشترط حضرة الأول فكذلك
فيما يثبت حكما له بخلاف الفسخ مقصودا وهو نظير عزل الوكيل حال غيبته لا يصح
مقصودا ويصح حكما لعتق العبد الذي وكله ببيعه (فان قيل) فلماذا يجعل صحة العقد
مع الثاني موجبا فسخ العقد الأول ولو والاهما جملة صح (قلنا) لان الولاء كالنسب ما دام ثابتا
من انسان لا يتصور ثبوته من غيره فكذلك الولاء فعرفنا ان من ضرورة صحة العقد مع
الثاني بطلان العقد الأول ثم ولاء الموالاة بعد صحته معتبر بولاء العتق حتى إذا أعتق
الأسفل عبدا ووالاه رجل فولاء معتقه وولاؤه للأعلى الذي هو مولاه ولو مات الأعلى
ثم مات الأسفل فإنما يرثه الذكور من أولاد الأعلى دون الإناث على نحو ما بيناه في ولاء
العتق والله أعلم بالصواب
(باب بيع الولاء)
(قال) ذكر عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهما قال الولاء لحمة
كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب وبهذا نأخذ دون ما روى عن سليمان بن يسار أنه كان
97

مولى لميمونة بنت الحارث فوهبت ولاءه لابن العباس وهذا لان الهبة عقد تمليك فيستدعي
شيئا مملوكا يضاف إليه عقد الهبة ليصح التمليك فيه وليس للمعتق على معتقه شئ مملوك
وعلى هذا لو تصدق بولاء العتاقة أو أوصى به لإنسان فهو باطل وكذلك لو باع ولاء العتاقة
فهو باطل لما قلنا ولان البيع يستدعي مالا متقوما والولاء ليس بمال متقوم وقد بينا
في أول الكتاب أو الولاء نفسه لا يورث إنما يورث به كالنسب والإرث قد يثبت فيما
لا يحتمل البيع والهبة كالقصاص فإذا كأن لا يورث فلأن لا يتحقق فيه البيع والهبة والصدقة
كان أولى وولاء الموالاة قياس ولاء العتق لا يجوز بيعه من أحد ولا هبته لما قلنا بل أولى
لان ولاء الموالاة يعتمد التراضي والأسفل غير راض بأن يكون ولاؤه لغير من عاقده
وولاء العتق لا يعتمد التراضي فإذا لم يصح التحويل هناك فهنا أولى وإن كان الذي أسلم ووالى
هو الذي باع ولاءه من آخر أو وهبه كان ذلك نقضا للولاء الأول وموالاة مع هذا الثاني
إن لم يكن عقل عنه الأول لان قصده بتصرفه أن يكون ولاؤه للثاني فيجب تحصيل مقصوده
بطريق الامكان ألا ترى أنه لو عقد مع الثاني بغير محضر من الأول كان ذلك نقضا منه للولاء
الأول بخلاف الأعلى فإنه لا يملك نقض ولائه بغير محضر منه بحال ولكن بيع الأسفل من
الثاني باطل حتى يرد عليه ما قبض من الثاني من الثمن لان البيع لا ينعقد الا على مال متقوم
والولاء ليس بمال فلا ينعقد به البيع مضافا إليه كالميتة والدم وإذا لم ينعقد البيع لا يملك البدل
بالقبض فلا ينفذ عتقه فيه والله أعلم بالصواب
(باب عتق الرجل عبده عن غيره)
(قال) ذكر في الأصل حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن
بريرة اتتها تسألها في مكاتبتها فقالت لها أشتريك فأعتقك وأوفي عنك أهلك فذكرت
ذلك لهم فقالوا إلا أن نشترط الولاء لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق فاشترتها فأعتقتها وقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم خطيبا فقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى كل شرط
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ما بال أقوام يقولون
أعتق يا فلان والولاء لي إنما الولاء لمن أعتق ثم قال هذا وهم من هشام بن عروة ولا يأمر
98

النبي صلى الله عليه وسلم بباطل ولا بغرور وهو شاذ من الحديث لا يكاد يصح إنما القدر
الذي صح ما ذكره إبراهيم رحمه الله تعالى لما ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لها الولاء لمن أعتق وهو بيان للحكم الذي بعث لأجله رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأما ما زاد عليه هشام فهو وهم لان النبي صلى الله عليه وسلم كأن لا يأمر بالعقد
الفاسد والشراء بهذا الشرط فاسد واستدل بحديث الزهري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
اشترى من امرأته الثقفية جارية وشرط لها أنها لها بالثمن إذا استغنى عنها فسأل
عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال أكره أن أطأها ولأحد فيها شرط فكان عمر رضي الله عنه
أوثق وأعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره وفى البيع مع الشرط
اختلاف بين العلماء نذكره في كتاب البيوع وفائدة هذا الحديث أن بيع المكاتبة برضاها
يجوز وأن الولاء يثبت لمن حصل العتق على ملكه لا لمن شرطه لنفسه بدون ملك المحل فإنه
قال الولاء لمن أعتق ولأجله روى الحديث في هذا الكتاب وإذا أعتق الرجل عن حي أو
ميت قريب أو أجنبي باذنه أو بغير إذنه فالعتق جائز عن المعتق والولاء له دون المعتق عنه
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أما إذا كان بغير إذنه فهو قول الكل لأنه ليس لأحد
ولاية ادخال الشئ في ملك غيره بغير رضاه سواء كان قريبا أو أجنبيا حيا أو ميتا
فإنما ينفذ العتق على ملك المعتق فيكون الولاء له وهذا بخلاف ما إذا تصدق الوارث عن
مورثه فان ذلك يجزيه لان نفوذ الصدقة لا يستدعى ملك من تكون الصدقة عنه لا محالة
ولأنه بالتصدق عنه يكتسب له الثواب ولا يلزمه شيئا وبالعتق عنه يلزمه الولاء وليس
للوارث أن يلزم مورثه الولاء بعد موته بغير رضاه فأما إذا كان باذنه فعلى قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى كذلك لان التمليك من المعتق عنه بغير عوض لا يحصل الا بالقبض
ولم يوجد وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى يكون الولاء للمعتق عنه وقد بينا في باب
الظاهر من كتاب الطلاق وكذلك إذا قال الرجل أعتق عبدك على ألف درهم أضمنها لك
ففعل لم يكن العتق عن الآمر بخلاف ما لو قال أعتق عبدك عنى على ألف لان هناك
التمليك يندرج فيه وذلك يستقيم إذا كان في لفظه ما يدل عليه وهو قوله أعتقه عنى
فأما هنا فليس في لفظه ما يدل على التماس التمليك منه فلا يندرج فيه التمليك وبدونه يكون
العتق عن المعتق دون الآمر وليس على الآمر من المال شئ لأنه ضمن ما ليس بواجب
99

على أحد ولأنه التزام له مالا بانتفاعه بملك نفسه وتحصيله والولاء لنفسه وهذا باطل قد بيناه في
كتاب العتاق وإن كان أدى المال رجع عنه لأنه أدى بطريق الرشوة ولو أن امرأة تزوجها
رجلا على أن يعتق أباها ففعل فالولاء للزوج ولها مهر مثلها بخلاف ما إذا تزوجها على أن يعتق
أباها عنها فان التمليك منها يندرج هناك فيتقرر فيها رقبة الأب صداقا لها وهنا لا يندرج التمليك
حين لم يكن في اللفظ عليه دليل فيبقى النكاح بغير تسمية المهر فلها مهر مثلها (قال) وكذلك
الخلع يعنى أن تختلع من زوجها على أن تعتق أباه فالعتق عنها والأب مولى لها لأنه عتق
على ملكها ولم يبين أن الزوج هل يرجع عليها بشئ فمن أصحابنا من يقول يرجع عليها بما ساق
إليها لأنه شرط عليها منفعة الولاء لنفسه ولم ينل والأصح أنه لا يرجع عليها بشئ لان الولاء
ليس بمال متقوم ولو خلعها على خمر لم يرجع عليها فهذا مثله ولو قال أعتق عبدك عنى على
ألف درهم ففعل فهو حر على الآخر والمال لازم له والولاء له وفى هذا خلاف زفر رحمه
الله تعالى وقد بيناه في باب الظهار وكذلك أن كان الآمر بذلك امرأة العبد فسد النكاح
لأنها قد ملكت الرقبة وذكر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى
عنها أنها حلفت أن لا تكلم عبد الله بن الزبير رضى الله تعالى عنه فشفع عليها حتى كلمته
فأعتق عنها ابن الزبير رضى الله تعالى عنه خمسين رقبة في كفارة يمينها وبهذا استدل
أبو يوسف رحمه الله تعالى فان البدل ليس بمذكور في الحديث ولكنا نقول كما لم يذكر
البدل في الحديث فلم يذكر أنها امرأته بذلك وبالاتفاق بدون الامر لا يكون العتق عن
المعتق عنه فإنما يحمل هذا على أنها كفرت يمينها وابن الزبير رحمه الله تعالى إنما أعتق شكرا
لله تعالى حيث كلمته وذكر عن عائشة رضى الله تعالى عنها انها أعتقت عن عبد الرحمن
ابن أبي بكر رضى الله تعالى عنهم عبيدا من تلاده بعد موته وإنما يحمل هذا على أن
عبد الرحمن رحمه الله تعالى كان أوصى بعتقهم وجعل إليها ذلك والله أعلم بالصواب
(باب الشهادة في الولاء)
(قال) رضي الله عنه رجل مات وترك مالا ولا وارث له فادعى رجل انه وارثه بالولاء
فشهد له شاهدان ان الميت مولاه ووارثه لا وارث له غيره لم تجز الشهادة حتى يفسر الولاء
لان اسم المولى مشترك قد يكون بمعنى الناصر قال الله تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا
100

وأن الكافرين لا مولى لهم وقد يكون بمعنى ابن العم قال الله تعالى وانى خفت الموالي من
ورائي وقد يكون بالعتق وقد يكون بالموالاة فما لم يفسروا لم يتمكن القاضي من القضاء بشئ
وكذا لو شهدا أن الميت مولى هذا مولى عتاقة لان اسم مولى العتاقة يتناول الأعلى ويتناول
الأسفل فلا يدري القاضي بأي الامرين يقضى وأيهما كان أعتق صاحبه (فان قيل)
هذا الاحتمال يزول بقولهما ووارثه فان الأسفل لا يرث من الأعلى وإنما يرث الأعلى
من الأسفل (قلنا) بهذا لا يزول الاحتمال فمن الناس من يرى توريث الأسفل من
الأعلى وهو باطل عندنا ولعل الشاهدين اعتقدا ذلك وقصدا به التلبيس على القاضي يعلمهما
انهما لو فسرا لم يقض القاضي له بالميراث ثم قد يكون مولى عتاقة له باعتاق منه وباعتاق
من أبيه أو بعض أقاربه وبين الناس كلام في الإرث بمثل هذا الولاء يختص به العصبة أم
يكون بين جميع الورثة فلهذا لا يقضى بشهادتهما ما لم يفسرا فان شهدا ان هذا الحي أعتق
هذا الميت وهو يملكه وهو وارثه لا يعلمون له وارثا سواه جازت الشهادة لأنهم فسروا
ما شهدوا به على وجه لم يبق فيه تهمة التلبيس ويستوى في هذا الشهادة على الشهادة وشهادة
الرجال مع النساء لأنهم يشهدون بسبب استحقاق المال فهو بمنزلة شهادتهم على النسب وإن لم
يشهدوا أنه وارثه لم يرث منه شيئا لان استحقاق الإرث بولاء العتاقة مقيد بشرط وهو
أن لا يكون للميت عصبة نسبا ولا يثبت ذلك الشرط الا بشهادتهم وقولهم لا نعلم له وارثا
غيره ليس بشهادة إنما الشهادة على ما يعلمون وكما أنهم لا يعلمون فالقاضي لا يعلم فعرفنا أن
هذا ليس هو المشهود به فلا بد من أن يشهدوا أنه وارثه وكذلك أن شهدوا على عتق
كان من أبيه وفسروا على وجه يثبت وراثته منه فان قالا لم ندرك أباه هذا المعتق ولكنا
قد علمنا هذا لم نجز شهادتهما على هذا اما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
فلأنهما لا يجوز ان الشهادة على الولاء بالتسامع وأما أبو يوسف رحمه الله تعالى يجوز ذلك
ولكن إذا أطلقا الشهادة عند القاضي فاما إذا بينا أنهما لم يدركا وإنما يشهدان بالتسامع
فالقاضي لا يقبل ذلك وبيان هذا في كتاب الشهادات ولو أقام المدعى شاهدين أنه أعتق
أم هذا الميت وانها ولدته بعد ذلك بمدة من عبد فلان وان أباه مات عبدا أو ماتت أمه ثم مات
وهو وارثه فقد فسروا الامر على وجهه فان القاضي يقضى له بالميراث (قال) فان أقام رجل
البينة أنه كان أعتق أباه قبل أن يموت وهو يملكه وانه وارثه فإنه يقضى له بالميراث لأنه أثبت
101

سبب جر الولاء إليه وهو عتق الأب فتبين أن القاضي أخطأ في قضائه بالميراث لموالي
الأم وكذلك هذا في ولاء الموالاة إذا أثبت الثاني خطأ القاضي في القضاء به للأول فإنه
يبطل ما قضى به ويكون الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم أو بالمعاينة ولو ادعى رجلان
ولاء ميت بالعتق وأقام كل واحد منهما البينة جعلت ميراثه بينهما لاستوائهما في سبب
الاستحاق ولأنه لا يبعد ارث رجلين بالولاء من واحد كما لو أعتقا عبدا بينهما والبيات
حجج فيجب العمل بها بحسب الامكان فان وقتت كل واحدة من البينتين وقتا وكان أحدهما
سابقا فهو أولى لأنه أثبت الولاء لنفسه في وقت لا ينازعه الغير فيه فهو كالنسب إذا أقام
رجلان البينة عليه وأحدهما أسبق تاريخا ولأنه بعدما ثبت العتق من الأول في الوقت الذي
أرخ شهوده لا يتصور ملك الثاني فيه حتى يعتقه فتبين بشهادة الذين أرخوا تاريخا سابقا
بطلان شهادة الفريق الثاني وإن كان ذلك في ولاء الموالاة فصاحب العقد الآخر أولى لأنه
بعد عقد الموالاة مع الأول يتحقق منه العقد مع الثاني ويكون ذلك نقضا للولاء الأول
فشهود الآخر أثبتوا بشهادتهم ما يفسخ الولاء الأول فالقضاء بشهادتهم أولى إلا أن يشهد
شهود صاحب الوقت الأول انه كان عقل عنه فحينئذ قد تأكد ولاؤه ولا ينتقض بالعقد
مع الآخر بل يبطل الثاني ويبقي الأول بحاله فلهذا كان الأول أولى وان أقام رجل البينة أنه
أعتقه وهو يملكه وقضى له القاضي بولائه وميراثه ثم أقام آخر البينة على مثل ذلك لم يقبل
القاضي ذلك كما في النسب إذا ترجح أحد المدعيين بتقدم القضاء من القاضي ببينته لم تقبل
البينة من الآخر بعد ذلك وهذا لان القاضي يعلم كذب أحد الفريقين وقد تأكدت شهادة
الفريق الأول بانضمام القضاء إليها فإنما يحال بالكذب على شهادة الفريق الثاني إلا أن
يشهدوا أنه كان اشتراه من الأول قبل أن يعتقه ثم أعتقه وهو يملكه فحينئذ يقضى القاضي
له بالميراث ويبطل قضاؤه للأول لأنهم أثبتوا سبب كونه مخطئا في القضاء الأول وهو أن
الأول لم يكن مالكا حين أعتقه لان الثاني كان اشتراه منه قبل ذلك رجل مات
وأدعى رجل ان أباه أعتقه وهو يملكه وأنه لا وراث لأبيه ولا لهذا الميت غيره وجاء
بابني أخيه فشهدا على ذلك قال لم تجز شهادتهما لأنهما يشهدان لجدهما على ما بينا ان الولاء
للمعتق والإرث به كان للمعتق بطريق العصوبة على أن يخلفه في ذلك أقرب عصبته وشهادة
النافلة للجد لا تقبل وكذلك شهادة ابني المعتق بذلك لا تجوز لأنهما يشهدان لأبيهما وإذا
102

ادعى رجل ولاء رجل وأقام البينة انه أعتقه وهو يملكه وأقام الآخر البينة ان هذا حر
الأصل أسلم على يديه ووالاه والغلام يدعى أنه حر الأصل يقضى به للذي والاه دون الذي
أعتقه لان حرية الأصل تثبت له بالبينة وحرية الأصل لا ناقض لها فبعد ثبوتها تندفع بينة
العتق ضرورة لان العتق ينبنى على الملك وقد انتفى الملك بثبوت حرية الأصل ولهذا قضى
بولائه للذي والاه وكذلك لو كان ميتا عن تركة لان إحدى البينتين تقوم على رقه والأخرى
على حريته فالمثبت للحرية أولى ولان صاحب الموالاة أثبت ببينته أنه عاقده عقد الولاء وذلك
اقرار منه بأنه حر ولا ولاء عليه فثبوت هذا الاقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة أن لو كان حيا
أو ادعى ذلك فإن كان حيا فأقر أنه مولى عتاقة لهذا أجزت بينة العتاقة وكان هذا نقضا من
الغلام للموالاة لو كان والى هذا الآخر لان العبد مكذب للذين شهدوا بحريته في الأصل
ومدعى الموالاة خرج من أن يكون خصما في اثبات ذلك لان العبد باقراره بولاء العتاقة
على نفسه يصير نافضا لولاء الموالاة لما بينهما من المنافاة وهو متمكن من نقض ولائه ما لم
يعقل عنه فإذا لم يبق خصم يدعى حرية الأصل له صح اقراره بالملك وولاء العتاقة ومن
أصحابنا من يقول هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان من أصله أن البينة على حرية العبد
لا تقبل من غير الدعوى وعندهما تقبل فيثبت له حرية الأصل بحجة حكمية وذلك لا يحتمل
النقض باقراره فينبغي أن لا يثبت عليه ولاء العتاقة عندهما والأصح ان هذا قولهم جميعا لان
بينة العتاقة تعارض بينة حرية الأصل فيما لأجله تقبل البينة عندهما وهو اثبات حقوق الشرع
عليه ثم تترجح بخصم يدعيها أو لما انتفي ولاء الموالاة فهذا حر لا ولاء عليه وقد أقر بأنه مولى
هذا الذي يدعى ولاء العتق عليه فيكون اقراره صحيحا لأنه يقر بما هو من خالص حقه كما
لو أقر بالنسب لإنسان ولا نسب له رجل مات عن بنين وبنات فادعى رجل أن أباه أعتقه
وهو يملكه وشهد ابنا الميت على ذلك وادعى آخر أن أباه أعتقه فأقرت بذلك بنت الميت
فالاقرار باطل والشهادة جائزة لان الابنين يشهدان على أبيهما بالولاء ولا تهمة في شهادة
الولد على والده ثم الاقرار لا يعارض البينة لان الاقرار لا يعد و المقر والشهادة حجة في حق
الناس كافة فلا بد من أن يقضى القاضي بأن الميت معتق أب المدعى ومن ضرورة هذا القضاء
تكذيب الابنة فيما أقرت به فسقط اعتبار اقرارها وهو بمنزلة ما لو مات عن ألف درهم
وابنين وابنة وادعى رجل دينا ألف درهم على الميت وشهد له ابنا الميت وادعى آخر دينا
103

ألف درهم وأقرت ابنة الميت بذلك فإنه لا يلتفت إلى اقرارها ويجعل المال كله للذي أثبت
دينه بالبينة ولو شهد للآخر ابن له وابنتان ولم يوقتوا وقتا كان الولاء بينهما نصفين للمساواة
بين الحجتين فان شهادة النساء مع الرجال في الولاء مثل شهادة الرجال ولا ترجيح من حيث
التاريخ في احدى البينتين فلهذا كان الولاء بينهما نصفين ولو جاء رجل من الموالي فادعى
على عربي أنه مولاه وان أباه أعتق أباه وجاء باخويه لأبيه يشهدان بذلك والعربي ينكره
لم تقبل شهادتهما لان في الحقيقة هذا منهم دعوى فان المدعى مع أخويه في هذا الولاء سواء
لأنهما يشهدان لأبيهما مالا فان الولاء كالنسب تتحقق الدعوى فيه من الجانبين فإذا كان
العربي منكرا كان المدعى هو الابن الذي يدعى الولاء بطريق الخلافة عن أبيه فيجعل كان
الأب حي يدعيه وشهادة الابنين لأبيهما فيما يدعيه لا تكون مقبولة وان ادعى العربي ذلك
وأنكره المولى جازت الشهادة لان انكار الابن كانكار أبيه لو كان حيا فإنهما يشهدان على
أبيهما بالولاء للعربي ولا تهمة في هذه الشهادة وان ادعى رجل ولاء رجل فجاء بشاهدين
فشهد أحدهما أن أباه أعتقه في مرضه ولا وارث له غيره وشهد الآخر ان أباه أعتقه عن
دبر موته وهو يملكه فالشهادة باطلة لاختلافهما في المشهود به لفظا ومعنى فان التدبير غير
العتق المنجز في المرض ومثل هذا لو شهد أحدهما ان أباه قد علق عتقه بدخول الدار وقد
دخل والآخر أنه قد علق عتقه بكلام فلان وقد فعل أو شهد أحدهما ان أباه كاتبه واستوفى
البدل والآخر أنه أعتقه بمال فان الكتابة غير العتق بمال ألا ترى أنه يملك الكتابة من لا يملك
العتق فكان هذا اختلافا في المشهود به لفظا ومعنى بخلاف ما لو اختلفا في الزمان والمكان
حيث تقبل شهادتهما لان العتق قول ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان إذ القول يعاد
ويكرر ويكون الثاني هو الأول ولو مات رجل فأخذ رجل ماله وادعى أنه وارثه لم يؤخذ
منه لأنه لا منازع له في ذلك وخبر المخبر محمول على الصدق في حقه إذا لم يكن هناك من
يعارضه ولان المال في يده في الحال وهو يزعم أنه ملكه فالقول قوله في ذلك فان خاصمه
فيه انسان سألته البينة لأنه يدعى استحقاق اليد عليه في هذا المال ولا يثبت الاستحقاق
الا ببينة فما لم تقم البينة على سبب استحقاقه لا يؤخذ المال من يد ذي اليد فان ادعى رجل أنه
أعتق الميت وهو يملكه وأنه لا وارث له غيره وأقام الذي في يديه المال البينة على مثل ذلك
قضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين لان المقصود بهذه البينة اثبات السبب وهو الولاء
104

وإنما قامت بينة كل واحد منهما على الميت وقد استوت البينتان في ذلك فيقضى بينهما
بالولاء ثم استحقاق المال يترتب على ذلك (فان قيل) لا كذلك بل المقصود اثبات استحقاق
المال وأحدهما فيها صاحب اليد والآخر خارج فاما ان يجعل هذا كبينة ذي اليد والخارج
على الملك المطلق فيقضى للخارج أو يجعل كما لو أدعيا تلقى الملك من واحد وأقاما البينة
فتكون بينة ذي اليد أولى (قلنا) لا كذلك بل الولاء حق مقصود يستقيم اثباته بالبينة وإن لم
يكن هناك مال وإنما ينظر إلى إقامتهما البينة على الولاء أولا وهما في ذلك سواء ثم
استحقاق الميراث ينبنى على ذلك وليس هذا نظير ما لو ادعيا تلقي الملك من واحد بالشراء
لان السبب هناك غير مقصود حتى لا يمكن اثباته بدون الحكم وهو الملك ولان السبب
هناك يتأكد بالقبض فذو اليد يثبت شراء متأكدا بالقبض فلهذا كانت بينته أولى وهنا
الولاء متأكد بنفسه ولا تأثير لليد على المال في تأكيد السبب فلهذا قضى بينهما فان أقام
مسلم شاهدين مسلمين انه أعتقه وهو يملكه وانه مات وهو مسلم لا وارث له غيره وأقام
ذو اليد الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه وانه مات كافرا لا وارث له غيره
فللمسلم نصف الميراث ونصف الميراث لأقرب الناس إلى الذمي من المسلمين فإن لم يكن له
منهم قرابة جعلته لبيت المال لما بينا أن المقصود اثبات الولاء وقد استوت الحجتان في ذلك
فان شهود الذمي مسلمون وهو حجة على المسلم كشهود المسلم فيثبت الولاء بينهما نصفين ثم
احدى البينتين توجب كفره عند الموت والأخرى توجب اسلامه عند الموت والذي يثبت
اسلامه أولى وإذا ثبت أنه مات مسلما فالمسلم يرثه المسلم دون الكافر ولكن الإرث بحسب
السبب وللمسلم نصف ولاية فلا يرث به الا نصف الميراث ونصف الولاء للذمي وهو ليس
بأهل أن يرثه فيجعل كالميت ويكون هذا النصف لأقرب عصبة له من المسلمين فإذا لم يوجد
ذلك فهو لبيت المال بمنزلة ما لو مات الذمي ولا وارث له فالولاء في هذا مخالف للنسب
فان النسب لا يتجزأ بحال فيتكامل السبب في حق كل واحد منهما فإذا لم يكن أحدهما ممن
يرثه فللآخر جميع المال لتكامل السبب في حقه فاما الولاء يحتمل التجزء حتى لو أعتق
رجلان عبدا كان لكل واحد منهما نصف ولائه فلهذا لا يرث المسلم الا نصف الميراث
فإن كان شهود الذمي نصارى لم تجز شهادتهم على المسلم لان اسلام الميت يثبت بشهادة الشهود
المسلمين والحجة في الولاء تقوم عليه وشهادة النصارى ليست بحجة عليه ولان المسلم أثبت
105

دعواه بما هو حجة على خصمه والذمي أثبت دعواه بما ليس بحجة على خصمه فلا تتحقق
المعارضة بينهما ولكن يقضي بولائه للمسلم وبجميع الميراث له فان وقت كل واحدة من
البينتين وقتا في العتق وهو حي والشهود كلهم مسلمون فصاحب الوقت الأول أحق لان
صاحب الوقت الأول أثبت عتقه من حين أرخ شهوده فلا تصور للعتق من الآخر بعد
ذلك ومتى كانت أحد البينتين طاعنة في الأخرى دافعة لها فالعمل بها أولى ذمي في يديه
عبد أعتقه فأقام مسلم شاهدين مسلمين أنه عبده وأقام الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه
وهو يملكه أمضيت العتق والولاء للذمي لان في بينته اثبات العتق وفى بينة المسلم اثبات
الملك وكل واحد منهما حجة على الخصم فيترجح بينة العتق كما لو كان كل واحد من
المدعيين مسلما وإذا كان شهود الذمي كفارا قضيت به للمسلم لان بينته في اثبات الملك حجة
على خصمه وبينة الذمي في اثبات العتق ليس بحجة على خصمه فكأنها لم تقم في حقه وإن كان
المسلم أقام شاهدين مسلمين انه عبده دبره أو كانت جارية وأقام البينة انه استولدها وأقام
الذمي شاهدين مسلمين على الملك والعتق فبينة الذمي أولى لان المسلم يثبت ببينته حق العتق
والذمي حقيقة العتق وحق العتق لا يعارض حقيقة العتق ولو قبلنا بينة المسلم وطأها بالملك
بعد ما قامت البينة على حريتها وذلك قبيح ولهذا كانت بينة الذمي أولى ولو كانت أمة في
يدعى ذمي قد ولدت له ولدا فادعى رجل أنها أمته غصبها هذا منه وأقام البينة على ذلك
وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا منه في ملكه قضيت بها وبولدها للمدعى لان
بينته طاعنة في بينة ذي اليد دافعة لها فإنهم إنما شهدوا بالملك لذي اليد باعتبار يده إذ لا طريق
لمعرفة الملك حقيقة سوى اليد وقد أثبتت بينة المدعى أن يده كانت يد غصب من جهته لا يد
ملك فلهذا كانت بينة المدعى أولى وإذا قضى بالملك للمدعى قضى له بالولد أيضا لأنه جزء
منها وولادتها في يدي الآخر بعد ما ثبت أنه ليس بمالك لها لا يوجب أمية الولد لها
وكذلك لو ادعى المدعى أنها أمته أجرها من ذي اليد أو أعارها منه أو وهبها منه وسلمها
إليه لان بهذه الأسباب يثبت أن وصولها إلى يده كان من جهته وان يده فيها ليست يد
ملك فهذا وفصل الغصب سواء ولو كان المدعى أقام البينة أنها أمته ولدت في ملكه قضيت
بها لذي اليد لأنه ليس في بينة المدعى هنا ما يدفع بينة ذي اليد لان ولادتها في ملكه لا ينفي
ملك ذي اليد بعد ذلك فيبقي الترجيح لذي اليد من حيث أنه يثبت الحرية للولد وحق أمية
106

الولد لها وكذلك لو ادعى ذو اليد أنها أمته أعتقها وأقام المدعى البينة أنها أمته ولدت في
ملكه فبينة المعتق أولى لان فيها اثبات حريتها ولا يجوز أن توطأ بالملك بعدما قامت البينة
على حريتها ولو شهد شهود كل واحد منهما مع ذلك بالغصب على الآخر كان شهود
العتق أيضا أولى لان البينتين تعارضتا في أن كل واحدة منهما دافعة للأخرى طاعنة
فيها وللمعارضة لا تندفع واحدة منهما بالأخرى ثم في بينة ذي اليد زيادة اثبات الحرية
لها واستحقاق الولاء عليها وهذا لان الولاء أقوى من الملك لأنه لا يحتمل النقض بعد
ثبوته وإذا كان في احدى البينتين اثبات حق قوى ليس ذلك في الأخرى تترجح هذه البينة
والله أعلم بالصواب
(باب ولاء المكاتب والصبي)
(قال) رضى الله تعالى عنه وإذا كاتب المسلم عبدا كافرا ثم إن المكاتب كاتب أمة مسلمة
ثم أدى الأول فعتق فولاؤه لمولاه وإن كان كافرا لان الولاء كالنسب ونسب الكافر قد
يكون ثابتا من المسلم فكذلك يثبت الولاء للمسلم على الكافر إذا تقرر سببه ولان الولاء
أثر من آثار الملك وأصل الملك يثبت للمسلم على الكافر فكذلك أثره ولكنه لا يرثه لكونه
مخالفا له في الملة وشرط الإرث الموافقة في الملة ولا يعقل عنه جنايته لان عقل الجناية باعتبار
النصرة والمسلم لا ينصر الكافر فإذا أدت الأمة فعتقت فولاؤها للمكاتب الكافر لأنها عتقت
من جهته على ملكه وهو من أهل أن يثبت الولاء له لكونه حرا وكما يثبت الملك للكافر على
المسلم فكذلك الولاء أو يعتبر بالنسب ونسب المسلم قد يكون ثابتا من الكافر فان ماتت فميراثها
للمولى المسلم وان جنت فعقل جنايتها على عاقلة المولى المسلم لان مولاها وهو المكاتب
الكافر ليس من أهل أن يرثها ولا أن يعقل جنايتها فيجعل كالميت وعند الموت معتقه يقوم
مقامه في ولاء معتقه في حكم الإرث وعقل الجناية فهذا مثله (فان قيل) فأي فائدة في اثبات
الولاء للمسلم على الكافر وللكافر على المسلم إذا كأن لا يرثه ولا يعقل جنايته بعد ذلك (قلنا)
أما فائدته النسبة إليها بالولاء كالنسب مع أن الكافر قد يسلم فيرثه ويعقل جنايته بعد ذلك
وبعد الاسلام قد ظهرت من الوجه الذي قلنا أن المولى المسلم معتقه فيرثه ويعقل
جنايتها عاقلته رجل باع مكاتبا فبيعه باطل لأنه استحق نفسه بالكتابة وفي بيعه أبطل هذا
107

الحق الثابت له وقد صار بمنزلة الحر يدا فلا يقدر المولى على تسليمه بحكم البيع ومالية رقبته
صار كالتاوي لان حق المولى في بدل الكتابة دون مالية الرقبة فان أعتقه المشترى بعد
القبض فقبضه باطل وهو مكاتب على حاله لأنه مع بقاء الكتابة ليس بمحل للبيع كالحر
والبيع لا ينفذ بدون المحل والملك لا يثبت بالقبض إذا لم يكن العقد منعقدا فلهذا كان عتق
المشترى باطلا وان قال المكاتب قد عجزت وكسر المكاتبة فباعه المولى فبيعه جائز لان
المكاتب يملك فسخ الكتابة بأن يعجز نفسه فإنما صادفه البيع من المولى وهو قن وكذلك
لو باع المكاتب برضاه يجوز في ظاهر الرواية لما روينا من حديث بريرة ولأنهما قصدا تصحيح
البيع ولا وجه لذلك الا بتقديم فسخ الكتابة فيتقدم فسخ الكتابة ليصح البيع وقد بينا ما في
هذا الفصل من اختلاف الروايات فيما أمليناه من شرح الجامع رجل كاتب عبده على
ألف وهي حالة فكاتب العبد أمة على الفين ثم وكل العبد مولاه بقبض الألفين منها على أن
ألفا منها قضاء له من مكاتبته ففعل فان ولاء الأمة للمولى لان المولى وكيل عبده في قبض
الألفين منها فتعتق هي بالأداء إليه ثم المولى يقبض احدى الألفين لنفسه بعد ما يقبضه
للمكاتب فتبين بهذا ان عتقها يسبق عتق المكاتب ولو أدت إلى المكاتب فعتقت قبل عتق
المكاتب كان ولاؤها للمولى لان المكاتب ليس من أهل ان يثبت له الولاء فيخلفه مولاه في
ذلك فهذا مثله ولأنا نعلم أن المكاتب لم يعتق قبلها وما لم يعتق قبلها لا يكون هو أهلا لولائها
وليس للعبد المأذون له أن يعتق وان أذن له مولاه فيه إذا كان عليه دين لان كسبه حق
غرمائه وكما لا يكون للمولى أن يعتق كسبه إذا كان عليه دين فكذلك لا يكون له أن يأذن
للعبد فيه أو ينيبه مناب نفسه وان فعل والدين على العبد يحبط (يحيط) بكسبه ورقبته ففي نفوذه اختلاف
بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى بناء على أن المولى هل يملك كسب العبد المديون وهي
مسألة المأذون وإن لم يكن عليه دين جاز ذلك منه بإذن المولى لان المولى يملك مباشرته بنفسه
فان كسبه خالص ما كه (ملكه) فيملك ان ينيب العبد مناب نفسه وكذلك الكتابة فان كاتب عبدا
بإذن المولى ثم أعتقه مولاه ثم أدى المكاتب المكاتبة عتق وولاؤه للمولى دون العبد المعتق لان
العبد كان نائبا عن المولى في عقد الكتابة كالوكيل الا ترى ان المولى هو الذي يقبض بدل
الكتابة منه فإنما عتق عند الأداء على ملك المولى ولهذا كان الولاء له وهذا بخلاف مكاتب
المكاتب إذا أدي بعد ما أعتق الأول لان الثاني مكاتب من جهة الأول باعتبار حق الملك
108

الذي له في كسبه وقد انقلب ذلك بالعتق حقيقة ملك وكان حق قبض البدل له فإنما عتق
على ملك الأول فكان له ولاؤه وليس للعبد في كسبه ملك ولا حق وبعد عتقه يكون كسبه
الذي اكتسبه في حالة الرق لمولاه وللصبي أن يكاتب عبده باذن أبيه أو وصيه وليس له أن
يعتقه على مال لان وليه يملك مباشرة الكتابة في عبده دون العتق بمال فكذلك يصح اذنه
في الكتابة دون العتق بمال وإذا أدى المكاتب إليه البدل فولاؤه للصبي لأنه عتق على ملكه
وإذا ثبت أن الصبي من أهل ولاء العتق فكذلك ولاء الموالاة للصبي ان يقبل ولاء من
يواليه باذن وصيه أو أبيه ولهما أن يقبلا عليه هذا الولاء لما بينا أن عقد الولاء يتردد بين
المنفعة والمضرة ومعنى المنفعة فيه أظهر ومثل هذا العقد يملكه الوصي على الصبي ويصح من
الصبي بإذن المولى لأنه يتأيد رأيه بانضمام رأى الولي إليه كما في التجارات وان أسلم صبي على
يدي رجل ووالاه لم يجز عقد الموالاة لان حق الاستبداد باعتبار ما ظهر له من العقل والتمييز
يثبت فيما يتمحض منفعة له دون ما يتردد بين المنفعة والمضرة والإسلام يتمحض منفعة له
فيصح منه وأما عقد الولاء متردد بين المنفعة والمضرة فلا يصح منه مباشرته ما لم ينضم رأى
وليه إلى رأيه وكذلك أن فعله بإذن وليه الكافر لأنه لما حكم باسلامه فلا ولاية للأب الكافر
عليه بل هو كأجنبي آخر منه في مباشره هذا العقد عليه فكذلك في الاذن له فيه وان أسلم
رجل على يدي رجل على أن يكون ولاؤه لما في بطن امرأته أو على أن يكون لأول ولد تلده
لم يجز له ذلك لأنه لا ولاية لاحد على ما في البطن في ايجاب العقد ولا في قبوله وبدونه لا يثبت
عقد الولاء فلهذا كان الحكم في الموجود في البطن هذا ففي المعدوم أصلا أولى رجل أعطى
رجلا ألف درهم على أن يعتق عبده عن ابن المعطى وهو صغير ففعل فالعتق عن المولى الذي
أعتق ولا يكون عن الصبي لان الصبي ليس له ولاية العتق في ملكه ولا لوليه ذلك عليه ولا
يمكن اضمار التمليك من الصبي في هذا الالتماس لان الاضمار لتصحيح ما صرح به ان أعتقه
فيكون العتق عنه ويرد الألف إن كان قبض فإذا لم يكن في الاضمار تصحيح ما صرح به فلا
معنى للاشتغال به ولا يمكن اضمار التمليك من المعطى للمال في كلامه أيضا لأنه ما التمس اعتاقه
عن نفسه والتمليك في ضمن هذا الالتماس فظهر أن العبد باق على ملك مولاه إلى أن أعتقه
فيكون العتق عنه ويرد الألف إن كان قبض وكذلك أن كان الآمر بذلك مكاتبا أو عبدا
تاجرا بأن قال لحر أعتق عبدك عني على ألف درهم لأنه ليس في اضمار التمليك هنا تصحيح
109

ما صرح به فان المكاتب والعبد ليس لهما أهلية العتق في كسبهما وإن كان العبد للصبي
فقال رجل لأبيه أو وصيه أعتقه عني على ألف درهم ففعله الأب جاز لأنه يصير مملكا
العبد من الملتمس بالألف ثم نائبا عنه في العتق وللولي حق هذا التصرف في مال الصبي كالبيع
وكذلك لو قال هذا حر لمكاتب أو عبد مأذون له عبد فقال أعتقه عنى على ألف درهم
لأنه يصير مملكا العبد منه بألف وذلك صحيح من المكاتب والمأذون في كسبهما ثم ينوب
عن الملتمس في العتق وذلك صحيح منهما أيضا وان قال ذلك مكاتب لمكاتب لم يجز ولم يعتق
لان اضمار التمليك إنما يجوز لتصحيح ما صرح به والمكاتب الملتمس ليس بأهل للعتق فلما
ثبت التمليك منه بهذا الالتماس بقي المأمور معتقا ملك نفسه وهو مكاتب فيكون الاعتاق
باطلا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب الولاء الموقوف)
(قال) رضى الله تعالى عنه رجل اشترى من رجل عبدا ثم شهد أن البائع كان أعتقه
قبل أن يبيعه فهو حر وولاؤه موقوف إذا جحد ذلك البائع لان المشترى مالك له في الظاهر
وقد أقر بحريته بعتق نفذ فيه ممن يملكه ولو أنشأ فيه عتقا نفذ منه فكذلك إذا أقر بحريته
بسبب صحيح ثم كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه فالبائع يقول المشترى كاذب وإنما
عتق عليه باقراره والمشترى يقول عتق على البائع وولاؤه له وليس لواحد منهما ولاية إلزام
صاحبه الولاء فبقي موقوفا فان صدقه البائع بعد ذلك لزمه الولاء ورد الثمن لأنه أقر ببطلان
البيع وانه كان حرا من جهته حين باعه وكذلك أن صدقه ورثته بعد موته اما في حق رد
الثمن فلانه أوجب من التركة والتركة حقهم وأما في حق الولاء ففي القياس لا يعتبر تصديق
الورثة لأنهم يلزمون الميت ولاء قد أنكره وليس لهم عليه ولاية إلزام الولاء ألا ترى
أنهم لو أعتقوا عنه عبدا لم يلزمه ولاؤه فكذلك هذا ولكنه استحسن فقال ورثته يخلفونه
بعد موته ويقومون مقامه في حقوقه فيكون تصديقهم كتصديقه في حياته ألا ترى أن في
النسب يجعل اقرار جميع الورثة إذا كانوا عددا كاقرار المورث فكذلك في الولاء وإن كان
أقر بالتدبير فأنكره البائع فهو موقوف لا يخدم واحدا منهما لان كل واحد منهما تبرأ
عن خدمته ولكنه يكتسب فينفق على نفسه فإذا مات البائع عتق لان المشترى مقر أنه
110

مدبر البائع قد عتق بموته والبائع كان مقرا أنه ملك المشتري وان اقراره فيه نافذ فيحكم
بعتقه وولاؤه موقوف فان صدقه الورثة لزم الولاء البائع استحسانا لما قلنا أمة بين رجلين
شهد كل واحد منهما أنها ولدت من صاحبه وصاحبه ينكر فإنها تبقى موقوفة لا تخدم
واحدا منهما لان كل واحد منهما يتبرأ عنها ويزعم أنها أم ولد صاحبه وان حقه في ضمان
نصف القيمة على صاحبه فتبقي موقوفة حتى يموت أحدهما فإذا مات أحدهما عتقت لان
الحي منهما مقر بأنها كانت أم ولد للميت وقد عتقت بموته والميت منهما كان مقرا بأنها أم ولد
الحي وان اقراره فيها نافذ فيعتق باتفاقهما وولاؤها موقوف لان كل واحد منهما ينفيه عن
نفسه أمة لرجل معروفة انها له ولدت من آخر فقال رب الأمة بعتكها بألف وقال
الآخر بل زوجتنيها فالولد حر لان في زعم والده أنه ملك لمولى الأمة فإنه استولدها
بالنكاح ومولى الأمة يزعم أنه حر لأنه باعها من أب الولد وإنما استولد ملك نفسه فيثبت
حرية الولد لاتفاقهما على ذلك عند اقرار مولى الأمة به وولاؤه موقوف لان مولى
الأمة ينفي ولاءه عن نفسه ويقول هو حر الأصل علق في ملك أبيه والجارية موقوفة
بمنزلة أم الولد لا يطأها واحد منهما ولا يستخدمها ولا يستغلها لان أب الولد يتبرأ عنها
لانكاره الشراء ويزعم أنها أمة لمولاها ومولاها يقول هي أم ولد لأب الولد لأني قد بعتها
منه فتبقي موقوفة بمنزلة أم الولد لان مولاها أقر بذلك وأب الولد مقر بأن اقرار مولاها
فيها نافذ فإذا مات أب الولد عتقت لان مولاها مقر بأنها عتقت بعد موت أب الولد
لكونها أم ولد وأب الولد كان مقرا بأن اقرار مولاها فيها نافذ فلهذا عتقت وولاؤها
موقوف لان كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويأخذ البائع العقر من أب الولد قصاصا من
الثمن لتصادقهما على وجوب هذا القدر من المال له عليه فان أب الولد يزعم أنه دخل بها
بالنكاح فعليه صداقها لمولاها ومولاها يزعم أنه باعها منه فعليه الثمن وبعد ما تصادقا على
وجوب المال في ذمته لا يعتبر اختلافهما في السبب ولكن يؤمر من عليه بأن يؤدى ذلك
من الوجه الذي يدعيه ويقبضه الآخر من الوجه الذي يدعى أنه واجب له رجل أقر أن
أباه أعتق عبده في صحته أو في مرضه ولا وارث له سواه فولاؤه موقوف في القياس ولا
يصدق على الأب لأنه أقر بما لا يملك انشاءه فإنه لا يملك أن يلزم ولاءه أباه بانشاء العتق
فلا يصدق في الاقرار به لكونه متهما في حق أبيه ولان الولاء كالنسب وبإقرار الوارث
111

إذا كان واحدا لا يثبت النسب عن أبيه فكذلك لا يثبت الولاء له ولكنه استحسن وألزم
ولاءه الأب إذا كان عصبتهما واحدا وقومهما من حي واحد لان الولاء أثر الملك واقراره
في أصل الملك بعد موت الأب كاقرار الأب له في حياته فكذلك في أثره ثم الإرث بحكم ذلك
الولاء إنما يثبت للابن المقر كما لو أعتقه بنفسه وعقد الجناية يكون على قومه فإذا كانا من
حي واحد فهو غير متهم في حق قومه لأنه لو أنشأ عتقه بنفسه يلزمهم عقل جنايته فكذلك
إذا أقر به على أبيه وإن كان الأب أعتقه قوم والابن أعتقه آخرون فالولاء موقوف لأنه
متهم في حق موالي الأب فإنه لا يملك أن يلزمهم عقل جنايته بانشاء العتق فيكون متهما
في الاقرار به وهذا الفصل نظير النسب لأنه لا يملك اثبات حكمه في حق الأب وقومه
بطريق الانشاء فلا يصدق في الاقرار به أيضا وإن كان معه ابن آخر فكذبه كان له أن
يستسعى العبد في حصته لان نصف العبد مملوك وهو يزعم أن صاحبه قد أفسده عليه باقراره
كاذبا ولم يصر بذلك ضامنا كما لو شهد على شريكه بالعتق بل احتبس نصيبه عند العبد فله
ان يستسعيه في نصف قيمته ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولاء هذا النصف للذي
استسعاه لأنه يدعيه ويزعم أنه عتق على ملكه بأداء السعاية وولاء النصف الآخر للميت لان
الولد المقر يزعم أن ولاء الكل للميت واقراره صحيح فيما هو من حقه كما لو لم يكن معه غيره
ولهذا جعلنا ولاء حصته للميت إذا كان قومهما واحدا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى ولاء النصف الذي هو نصيب المقر للميت لهذا المعنى أيضا وولاء النصف الذي استسعاه
موقوف لان عندهما العتق لا يتجزى فالذي استسعاه يتبرأ من الولاء ويقول إنما عتق هذا
النصف باقرار شريكي لان اقراره كالعتق فالولاء في الكل له والمقر بزعم أنه ليس له بل
هو للميت فيعارض قولهما في نصيب الذي استسعاه فيبقى موقوفا حتى يرجع أحدهما إلى
تصديق صاحبه وكذلك أن كان في الورثة رجال ونساء فأقرت امرأة منهم بذلك (فان
قيل) على قولهما لما أقر المستسعى بولاء نصيبه لصاحبه وصاحبه مقر به للميت فينبغي ان
يثبت ولاء العبد كله من الميت (قلنا) نعم ولكن من ضرورة اثبات كل الولاء من الميت
الحكم بأنه عتق من جهة الميت وذلك يسقط حق المستسعى في السعاية فلابقاء حقه في السعاية
جعلنا ولاء هذا النصف موقوفا عبد بين رجلين قال أحدهما إن لم يكن دخل أمس
المسجد فهو حر وقال الآخر إن كان دخل فهو حر قد بينا هذه المسألة في كتاب العتاق
112

في الاسقاط نصف السعاية عن المملوك أعادها لبيان حكم الولاء وهو انهما إذا كانا معسرين
يسعى العبد في نصف قيمته بينهما والولاء بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان
نصيب كل واحد عتق على ملكه باعتبار ما أدى إليه من السعاية وما سقط باسقاطه لا باعتبار
الأحوال فيكون لكل واحد منهما ولاء نصيبه وفى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الولاء
موقوف لان كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويزعم أن صاحبه حانث وأن الكل عتق من
جهته لان العتق عنده لا يتجزى فلهذا كان الولاء موقوفا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يسعي
في قيمته كاملة لهما والولاء موقوف لان العتق عند محمد رحمه الله تعالى لا يتجزأ فكل واحد
منهما يزعم أن صاحبه حانث وان الولاء كله له فلهذا يتوقف الولاء وكل ولاء موقوف
فميراثه يوقف في بيت المال لأنه لصاحب الولاء وهو غير معلوم والمال الذي لا يعرف مستحقه
يوقف في بيت المال حتى يظهر مستحقه وجنايته على نفسه لا يعقل عنه بيت المال لان
بيت المال لا يرث ماله إنما يوقف المال فيه ليظهر مستحقه فلا يعقل جنايته أيضا وهذا لان
بيت المال إنما يعقل جناية من يكون ولاؤه للمسلمين ومن عليه ولاء عتاقة لا يكون ولاؤه
للمسلمين ونحن نتيقن أن على هذا الرجل ولاء عتاقة فلهذا لا يجعل عقل جنايته على بيت
المال والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب آخر من الولاء)
(قال) رضي الله عنه واللقيط حر يرثه بيت المال ويعقل عنه هكذا نقل عن عمر وعلي
رضي الله عنهما وهذا لان الحرية والإسلام تثبت له باعتبار الدار فيكون ولاؤه لأهل دار
الاسلام يرثونه ويعقلونه جنايته ومال بيت المال مال المسلمين بخلاف مال من عليه ولاء
موقوف لان ذلك منسوب إلى المعتق وهذا غير منسوب إلى أحد حتى لو والى اللقيط
انسانا قبل أن يعقل عنه بيت المال جنايته فولاؤه له لأنه صار منسوبا إليه بالولاء حين عاقده
وولاؤه لبيت المال لم يتأكد بعقل الجناية حتى لو تأكد بعقل الجناية لم يملك أن يوالي أحدا
(فان قيل) الولاء عليه للمسلمين ثبت شرعا فلا يملك ابطاله بعقده كولاء العتق (قلنا) نعم
ولكن ثبوته لمعنى ذلك المعنى يزول بالعقد وهو أنه غير منسوب إلى أحد بخلاف مولى
العتاقة فان ثبوت الولاء عليه لمعنى لا يزول ذلك بالعقد وحكم موالي اللقيط كحكم اللقيط
113

لأنهم ينسبون إليه بولاء العتق أو الموالاة وولاؤه للمسلمين فكذلك ولاء مواليه كما في معتق
المعتق وكذلك الكافر أسلم ولا يوالي أحدا لأنه غير منسوب إلى أحد بالولاء وهو من
أهل دار الاسلام فهو كاللقيط فإن كان بينه وبين رجل من العرب عبد فأعتقاه فجنى جناية
كان نصف الجناية على عاقله العربي لان نصف ولائه له ونصفها على بيت المال لان نصف
ولائه لمن هو مولى المسلمين وكذلك إذا ادعيا ولدا وأقاما البينة فهو ولدهما ونصف جنايته
على قبيلة العربي ونصفه على بيت المال باعتبار ثبوت نسبه من اللقيط والعربي جميعا (قال)
ذمي أعتق مسلما أو كافرا فأسلم الكافر كان ميراثه لبيت المال لأنه مولى الكافر ولكن
الكافر لا يرث المسلم وعقله على نفسه لأنه منسوب بالولاء إلى انسان ولا يمكن ايجاب
عقل جنايته على بيت المال ولا وجه لايجابه على الكافر لان الكافر لا ينصر المسلم فكان
عقل جنايته على نفسه ألا ترى أنه لو مات مولاه ولا عشيرة له من الكافر كان ماله
مصروفا إلى بيت المال (قال) ولو جني جناية كان عقل جنايته على نفسه فكذلك حال
المعتق وهذا إذا لم يكن للذمي عشيرة من المسلمين فإن كان له ذلك فميراثه له لأنه أقرب
عصبة من المعتق وان والى هذا المعتق رجلا لم يجز لان عليه ولاء عتاقه لكافر فلا يتمكن
من ابطاله بعقد الموالاة وان أسلم مولاه المعتق ووالى رجلا صار هذا المعتق مولاه لأنه
كان منسوبا إليه بالولاء وقد صار مولى لمن عاقده نصراني أعتق عبدا له مسلما كان
ولاؤه لقبيلة مولاه الذي أعتقه إن كان من بنى تغلب فهو تغلبي منسوب إليهم يعقلون عنه
ويرث المسلمون منهم أقربهم إلى مولاه عصوبة لان الولاء يثبت للمعتق وإن كان نصرانيا
إلا أنه لا يرث لكونه مخالفا له في الدين فيقوم أقرب عصبته مقامه في استحقاق ميراثه
وعقل جنايته على قبيلة مولاه كعقل جناية مولاه لأنه منسوب إليهم بالولاء وكل معتق
جرى عليه الرق بعد العتق انتقض به الولاء الأول وكان حكم الولاء للعتق الذي يحدث من بعد
عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه لا ينتقض الأول بالاسترقاق فربما يقول لا يسترق من
عليه ولاء لمسلم لان الولاء كالنسب ولا يبطل النسب بالاسترقاق أو لمراعاة حق المسلم في
الولاء لا يجوز استرقاقه كالحرية المتأكدة بالاسلام لا يجوز ابطالها بالرق (ولكنا) نقول
سبب الولاء الأول قد انعدم بالاسترقاق وهو العتق وقوة المالكية التي حدثت فيه ولا بقاء
للحكم بعد بطلان السبب ولا يجوز أن يمتنع الاسترقاق لان سببه قد تقرر فلا يمتنع الا لمانع
114

وهي العصمة ولا عصمة باعتبار الولاء كما لا عصمة له باعتبار نسب المسلم حتى يجوز استرقاق
الحربي وإن كان له والد مسلم وإذا صار رقيقا للثاني فأعتقه فقد اكتسب سبب الولاء
عليه لنفسه فلهذا كان مولى له حربي أعتق عبدا في دار الحرب ثم خرجا مسلمين كان له
ان يوالي من شاء لما بينا ان عتقه في دار الحرب باطل لأنه إن لم يخل سبيله فلا ولاية له عليه
وان خلى سبيله كان عتقه نافذا ولكن لا يثبت الولاء له لان ذلك من حكم الاسلام
فلا يجرى على أهل الحرب ولئن ثبت الولاء فهو أثر من آثار الملك ولا حرمة لملكه
فكذلك لا حرمة لاثر ملكه ولكن باحراز العبد نفسه في دار الاسلام يبطل ذلك كله
فله أن يوالي من شاء حربي دخل دارنا بأمان فاشترى عبدا فأعتقه أو أعتق عبدا جاء
به من دار الحرب معه ثم رجع إلى دار الحرب فأسر وجرى عليه الرق فمعتقه مولاه
لا يتحول عنه أبدا لان سبب ثبوت الولاء له العتق واحداث القوة في المملوك وذلك باق
بعدما صار رقيقا وضعف حاله بسبب الرق لا يكون فوق ضعف حاله بالموت والولاء الثابت
للمعتق لا يبطل بالموت فكذلك برقه (فان قيل) الرق الذي حدث فيه ينافي ابتداء الولاء
بالعتق وان تقرر سببه منه كما بينا في المكاتب فكذلك ينافي بقاءه (قلنا) لا كذلك ولكن
الرق مناف حقيقة الملك وعليه يترتب العتق الذي يعقبه الولاء ولا حاجة إلى ذلك في ابقاء
الولاء وهو نظير الموت في أنه ينافي الملك وابتداء الولاء للميت ولا ينافي بقاء ه فان مات
معتقه كان ميراثه في بيت المال لان مولاه رقيق لا يرثه وليس له عشيرة من المسلمين
فيوضع ماله في بيت المال نصيب كل مال ضائع وعقل جنايته على نفسه لأنه منسوب بالولاء
إلى انسان فان عتق هذا الحربي صار مولى لمعتقه وكذلك معتقه يكون مولى له بواسطة أم
ولد لحربي خرجت الينا مسلمة فهي حرة توالى من شاءت لما بينا انها أحرزت نفسها بدار
الاسلام ولو كانت قنة فأحرزت نفسها بالدار كانت تعتق لملكها نفسها ولا ولاء عليها لاحد
فكذلك إذا كانت أم ولد ولهذا كان لها ان توالى من شاءت والأصل فيه ما روى أن ستة
من عبيد أهل الطائف خرجوا مسلمين حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم
ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أولئك عتقاء الله مسلم دخل
دار الحرب بأمان أو أسلم حربي هناك ثم أعتق عبدا اشتراه في دار الحرب ثم أسلم عبده
لم يكن مولاه في القياس وله أن يوالي من شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
115

لان ثبوت الولاء عليه من حكم الاسلام وحكم الاسلام لا يجرى على الحربي في دار الحرب
فإذا لم يثبت على هذا المعتق الحربي ولاء حين أسلم فله أن يوالي من شاء وقال أبو يوسف
أجعله مولاه استحسانا لما ورد في الخبر من عتقن النبي عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة
وعتق أبى بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله تعالى بمكة منهم صهيب وبلال
وكان ولاؤهم له وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال وقبل أن تصير
مكة دار الحرب وإنما صارت دار حرب بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها
وأمر بالقتال فجرى حكم الاسلام في دار الاسلام على أن أولئك المعتقين كانوا مسلمين
وكانوا يعذبون بمكة والمسلم إذا أعتق عبدا مسلما في دار الحرب فولاؤه له حربي اشترى
في دار الاسلام عبدا فأعتقه ثم رجع الحربي إلى دار الحرب فاسر واسترق فاشتراه معتقه وأعتقه
فولاء الأول للآخر وولاء الآخر للأول لأنه تقرر من كل واحد منهما اكتساب سبب الولاء
في صاحبه ولا منافاة بين الولائين لأنه إذا كان يجوز نسبة كل واحد من الأخوين
بالاخوة إلى صاحبه فكذلك نسبة كل واحد من المعتقين إلى صاحبه بالولاء حربي مستأمن
اشترى عبدا مسلما فأدخله دار الحرب فهو حر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه في
كتاب العتاق ولا يكون ولاؤه للذي أدخله في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه إنما
عتق بعد وصوله إلى دار الحرب وزوال العصمة عن ملك الحربي وثبوت الولاء باعتبار
عصمة الملك فإذا لم يبق لملكه عصمة لا يثبت له ولاؤه وعند أبي يوسف ومحمد ان أعتقه
الذي أدخله فولاؤه له لان المسلم من أهل دار الاسلام وإن كان في دار الحرب فهو ملتزم
لحكم الاسلام فيثبت الولاء له بالعتق ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما عتق
لملكه نفسه لأنه لما دخل دار الحرب حل له قتل مولاه وأخذ ماله وهو قاهر لمولاه في
حق نفسه فيعتق بملكه نفسه ولهذا لا يكون عليه ولاء وإذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب
لم يعتق بنفس الاسلام لأنه لم يكن محرزا نفسه بدار الاسلام قبل هذا وملكه نفسه
بالاحراز بخلاف الأول على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه كان محرزا نفسه بدار
الاسلام ولم يبطل ذلك بادخال الحربي إياه دار الحرب فان باعه الحربي من مسلم أو حربي
مثله فهو حر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان ملك الحربي زال عنه بالبيع وملك
الحربي متى زال عن العبد المسلم في دار الحرب يزول إلى العتق كما لو خرج مراغما وعندهما
116

لا يعتق لان المشترى يخلف البائع في ملكه وهي مسألة السير فان غنمه المسلمون عتق
بالاتفاق لان يده في نفسه أقرب من أيدي المسلمين إليه فيصير محرزا نفسه بمنعة الجيش
حربي خرج مستأمنا في تجارة لمولاه فأسلم لم يعتق ولكن الامام يبيعه ويمسك ثمنه على
مولاه لان مالية الحربي فيه صار معصوما بالأمان فلا يعتق ولكن بعد الاسلام لا يجوز
ابقاء المسلم في ملك الكافر ألا ترى ان مولاه لو كان معه يجبره الامام على بيعه ولم يتركه
ليرجع به إلى دار الحرب فإذا لم يكن المولى معه ناب الامام عنه في البيع ويمسك ثمنه على
مولاه حتى يجئ فيأخذه وكذلك لو كان أسلم في دار الحرب ثم خرج الينا في تجارة لمولاه
لأنه ما قصد بالخروج احراز نفسه على مولاه فهو كما لو خرج مع مولاه في تجارة بخلاف
ما إذا خرج مراغما لأنه قصد احراز نفسه عن مولاه فكان حرا يوالي من شاء ما لم يعقل
عنه بيت المال فان عقل عنه بيت المال لم يكن له أن يوالي أحدا لان ولاءه للمسلمين قد
تأكد بعقد جنايته رجل ارتد ولحق بدار الحرب فمات مولى له قد كان أعتقه قبل ردته
فورثه الرجال من ورثته دون النساء ثم خرج ثانيا أخذ ما وجد من مال نفسه في يد ورثته
ولم يأخذ ما وجد من مال مولاه في أيديهم لأنه كان مرتدا حين مات مولاه والمرتد
لا يرث وأنما يعاد إليه بعد الاسلام المال الذي كان له قبل الردة فأما ما لم يكن مملوكا قط لا
يعاد إليه لأنه لو أسلم كان هذا ملكا مبتدءا له وبسبب اسلامه لا يستحق تملك المال على أحد
ابتداء وكذلك أن كان في دار الاسلام حين مات مولاه لأنه مرتد فلا يرث المسلم ولكن
يجعل هو كالميت في إرث مولاه فيكون ميراثه لأقرب عصبة منه من المسلمين امرأة من بنى
أسد أعتقت عبدا لها في ردتها أو قبل ردتها ثم لحقت بدار الحرب فسبيت فاشتراها رجل
من همدان فأعتقها فإنه يعقل عن العبد بنو أسد في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الأول
وترثه المرأة إن لم يكن له وارث لان قبل ردتها كان عقل جناية هذا المعتق على بنى أسد
باعتبار نسبة المعتقة إليهم وذلك باق بعد السبي فان النسب لا ينقطع بالسبي وبعد ما عتقت
هي منسوبة إليهم بالنسب أيضا فكان عقل جنايته عليهم ألا ترى أنه بعد السبي قبل
العتق كان الحكم هكذا فلا يزداد بالعتق الا وكادة ثم رجع يعقوب عن هذا وقال يعقل عنه
همدان وهو قول محمد رحمه الله تعالى لان المعتقة لما سبيت فأعتقت صارت منسوبة بالولاء
إلى قبيلة معتقها فكذلك معتقها يكون منسوبا إليهم بواسطتها وهذا لان ولاء العتق في
117

الحكم أقوى من النسب ألا ترى ان عقل جنايتها يكون على قوم معتقها ولو أعتقت بعد
هذا عبدا كان مولى لقوم معتقها فكذلك ما سبق وقبل الردة إنما كان المعتبر النسبة
لانعدام ولاء العتق عليها فإذا ظهر ولاء العتق كان الحكم له كما ينسب الولد بالولاء إلى قوم
أمه ما لم يظهر له ولاء في جانب أبيه فإذا ظهر كان الحكم له وكذلك لو كانت معتقة
للأولين لما بينا أن الولاء الثابت عليها للأولين قد بطل حين سبيت وأعتقت فكذلك
ما يبتنى عليه من ولاء معتقها رجل ذمي أعتق عبدا فأسلم العبد ثم نقض الذمي العهد ولحق
بدار الحرب فليس للعبد أن يوالي أحد الآن الولاء ثابت عليه لمعتقه وان صار حربيا
باعتبار أن صيرورته حربيا كموته وان جني جناية لم يعقل عنه بيت المال وكانت عليه
في ماله لأنه منسوب بالولاء للانسان وإنما يعقل بيت المال عمن لا عشيرة له من المسلمين
ولا ورثة وإذا أسلمت امرأة من أهل الذمة ثم أعتقت عبدا ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب
ثم سبى أبوها من دار الحرب كافرا فأعتقه رجل لم يجر ولاء مولاها لأنها حرة حربية فلا
تصير مولى لموالي أبيها لما بينا أن حكم الاسلام لا يجرى على الحربية في دار الحرب وإنما
ينجر ولاء معتقها إلى موالي الأب بواسطتها فإذا لم تثبت هذه الواسطة في حقهم لا ينجر
إليهم الولاء فإن كان مولاها الذي أعتقته مسلما فجنى جناية فعقله على بيت المال لأنها حين
أعتقت العبد كان ولاؤها لبيت المال ألا ترى أنها لو جنت كان عقل جنايتها على بيت المال
فيثبت ذلك الحكم في حق مولاها ثم يبقى بعد ردتها كما يبقي بعد موتها لو ماتت لان من هو
من أهل دار الحرب فهو في حق المسلمين كالميت امرأة من العجم أسلمت ثم أعتقت عبدا ثم
سبى أبوها فاشتراه رجل فأعتقه فان ولاء المرأة وولاء مولاها إلى موالي الأب وينجر بواسطتها
ولاء معتقها إلى موالي الأب أيضا وهذا لان ثبوت الولاء عليها للمسلمين لا يمنعها من أن
توالى انسانا فلا يمنع جر ولائها إلى قوم الأب بعد ما عتق الأب حربي أو مرتد أسلم في دار
الحرب ثم أعتق عبدا مسلما ثم رجع عن الاسلام فأسر فأسلم العبد وأبى المولى ان يسلم فقتل
فولاء العبد للمولى لا يتحول عنه لان قتله بعد الردة كموته والولاء الثابت لا يبطل بموته
فإن كان له عشيرة كان عقله عليهم وإن لم يكن له عشيرة فميراثه لبيت المال وعقله على نفسه
لما بينا أنه منسوب بالولاء إلى انسان بعينه فلا يعقل عنه بيت المال فإذا تعذر ايجاب عقل
جنايته على غيره جعل على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
118

(باب الاقرار بالولاء)
(قال) رضي الله عنه رجل أقر أنه مولى فلان مولى عتاقة من فوق أو من تحت وصدقه
الآخر فهو مولى له ويعقل عنه قومه لان الولاء كالنسب والاقرار بالنسب صحيح من الأب
والابن جميعا فكذلك الاقرار بالولاء وهذا لان الأسفل يقر على نفسه بأنه منسوب إلى
الأعلى بالولاء والأعلى يقر على نفسه بأنه منسوب إليه وأن عليه نصرته واقرار كل واحد
منهما على نفسه نافذ وإن كان له أولاد كبار وأنكروا ذلك وقالوا أبونا مولى عتاقة لفلان آخر
فالأب يصدق على نفسه والأولاد مصدقون على أنفسهم لأنه لا ولاية للأب عليهم بعد
البلوغ في عقد الولاء فكذلك في الاقرار به وهم يملكون مباشرة عقد الولاء على أنفسهم
بعد البلوغ فيملكون الاقرار به وإذا ثبت هذا في ولاء الموالاة فكذلك في ولاء العتاقة
لأنهما في النسبة والنصرة سواء وإن كان الأولاد صغارا كان الأب مصدقا عليهم لأنه
يملك مباشرة عقد الولاء عليهم بولاية الأبوة فينفذ اقراره عليهم أيضا ولان الصغار من
الأولاد يتبعونه في الاسلام ولا يعتبر اعتقادهم بخلافه فإن كانت لهم أم فقالت أنا مولاة
فلان وصدقها مولاها بذلك فالولد مولى موالي الأب لان كل واحد من الأبوين أصل في
حق نفسه ولو كان ولاء كل واحد منهما معروفا كان الولد مولى لموالي الأب ولو قالت
الأم للأب أنت عبد فلان وقال كنت عبد فلان فأعتقني وصدقه فلان فالقول قول الأب
لان بتصادقهما ظهر في جانب الأب ولاء فلا يلتفت إلى قولهما في حق الولد بعد ذلك
وكذلك لو قالت هم ولدى من غيرك لان الولد للفراش وفراش الزوج عليها ظاهر فلا
تصدق فيما تدعى من فراش آخر عليها غير معلوم ولو قالت ولدته بعد عتقي بخمسة أشهر
فهو مولى لموالي وقال الزوج ولدتيه بعد عتقك بستة أشهر فالقول قول الزوج لان الولاء
كالنسب وفى مثل هذا لو اختلفا في النسب بان قالت المرأة ولدته بعد النكاح لأقل من ستة
أشهر وقال الزوج بل لستة أشهر كان القول قول الزوج لظهور فراشه عليها في الحال
فكذلك في الولاء لظهور ولاء الأب في الحال وهو موجب جر ولاء الولد ما لم يعلم أنه كان
مقصودا بالعتق امرأة في يدها ولد لا يعرف أبوه أقرت انها معتقة هذا الرجل وصدقها
ذلك الرجل لم تصدق على الابن في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهي مصدقة
119

في قول أبي حنيفة لان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي تملك مباشرة عقد الولاء على
ولدها ويتبعها الولد في الاسلام فتصدق في الاقرار عليه بالولاء أيضا وكذلك أن قالت
كان زوجي رجلا من أهل الأرض أسلم أو كان عبدا صدقت على الولد في قول أبي حنيفة
ولا تصدق في قولهما لان عندهما لا تملك مباشرة عقد الولاء عليه وإن كان زوجها رجلا من
العرب وهي لا تعرف فأقرت انها مولى عتاقة لرجل صدقت على نفسها ولا تصدق على الولد
في قول أبي حنيفة لان الولد بما له من النسب مستغن عن الولاء واعتبار قولها عليه لمنفعة
الولد فإذا لم توجد المنفعة هنا لا يعتبر قولها عليه بخلاف ما سبق والاقرار بولاء العتاقة والولاء
سواء في الصحة والمرض كالاقرار بالنسب وهذا لان تصرفه في المرض إنما يتعلق بالمحل الذي
يتعلق به حق الغرماء والورثة وذلك غير موجود في الولاء وإذا قال فلان مولى لي قد
أعتقته وقال فلان بل انا أعتقتك لم يصدق واحد منهما على صاحبه في قول أبي حنيفة اعتبارا
للولاء بالسبب ولو قال إنا مولى لفلان وفلان أعتقاني فأقر أحدهما بذلك وأنكر الآخر
وحلف ما أعتقته فهو بمنزلة عبد بين اثنين يعتقه أحدهما وان قال أنا مولى فلان أعتقني
ثم قال لا بل أعتقني فلان فهو مولى للأول لأنه رجع عن الاقرار بالولاء للأول وهو لا يملك
ذلك وبعد ما ثبت عليه الولاء للأول لا يصح اقراره بالولاء للثاني ولو قال أعتقني فلان أو
فلان وادعى كل واحد منهما فهذا الاقرار باطل لجهالة المقر له فان الاقرار للمجهول غير
ملزم إياه شيئا فيقر بعد ذلك لأيهما شاء أو لغيرهما انه مولاه فيجوز ذلك كما لو لم يوجد الاقرار
الأول رجل اقرانه مولى لامرأة أعتقته فقالت لم أعتقك ولكنك أسلمت على يدي وواليتني
فهو مولاها لأنهما تصادقا على ثبوت أصل الولاء واختلفا في سببه والأسباب غير مطلوبة
لأعيانها بل لاحكامها وليس له ان يتحول عنها في قول أبي حنيفة رحمه الله وله ذلك في قول أبى
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه إنما يثبت عليه باقراره مقدار ما وجد فيه التصديق وذلك
لا يمنعه من التحول وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقر يعامل في اقراره كأن ما أقر به حق وفى
زعمه ان عليه ولاء عتاقة لها وذلك يمنعه من التحول وأصل المسألة في النسب إذا أقر لإنسان
فكذبه ثم ادعاه لم يصح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو صحيح في قولهما وقد بيناه
في العتاق وان أقر انه أسلم على يدها ووالاها وقالت بل أعتقتك فهو مولاها وله ان يتحول
عنها ما لم يعقل عنه قومها لان الثابت عند التصديق مقدار ما أقر به المقر وهو إنما أقر بولاء
120

الموالاة وذلك لا يمنعه من التحول ما لم يتأكد بعقل الجناية وان أقر ان فلانا أعتقه وقال
فلان ما أعتقتك ولا أعرفك فأقر انه مولى لآخر لا يجوز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى ويجوز في قولهما اعتبارا للولاء بالنسب وفي النسب في نظيره خلاف ظاهر منهم
فكذلك في الولاء وإذا مات رجلا وادعى رجلان كل واحد منهما انه أعتقه وصدق
بعض أولاده من الذكور والإناث أحدهما وصدق الباقون الآخر فكل مولى للذي صدقه
لان الأولاد البالغين كل واحد منهم أصل في مباشرة الولاء على نفسه ذكرا كان أو أنثى
فكذلك اقرار كل واحد منهما بالولاء للذي صدقه صحيح في حق نفسه والله سبحانه أعلم
بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب عتق ما في البطن)
(قال) رضي الله عنه رجل قال لامته ما في بطنك حر ثم قال إن حبلت فسالم حر فولدت
بعد هذا القول لأقل من سنتين فالقول فيه قول المولى لجواز أن يكون هذا الولد موجودا
في البطن وقت الايجاب فإنما يعتق هذا أو كان من حبل حادث فإنما يعتق سالم وقد بينا
أن العلوق إنما يستند إلى أقرب الأوقات إذا لم يكن فيه اثبات عتق بالشك فأما إذا كان
فيه اثبات عتق بالشك فإنما يعتبر اليقين لان بالشك لا يزول وهنا تيقنا بحرية أحدهما فالبيان
فيه إلي المولى كما لو قال لعبدين له أحدكما حر فان أقر انها كانت حاملا يومئذ فهذا منه
اقرار بعتق الولد وان أقر أنه حبل مستقبل عتق سالم لإقراره به وان جاءت به لأكثر
من سنتين عتق سالم لأنا تيقنا أنه من علوق حادث رجل أوصى بما في بطن أمته لرجل
فأعتقه الموصى له بعد موته فان عتقه جائز وهو مولاه لان الوصية أخت الميراث فكما أن
الجنين يملك بالإرث فكذلك بالوصية وعتق الموصي له في ملكه نافذ فان ضرب انسان
بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة وهو ميراث لمولاه الذي أعتقه لان بدل نفس
الجنين موروث عنه وأبواه مملوكان فكان ميراثا لمولاه ولو أوصى بما في بطن أمته لفلان
فأعتقه الموصى له به وأعتق الوارث الأمة وأعتق مولى الزوج زوج الأمة فولاء الولد
للموصى لأنه مقصود بالعتق من جهته فان ضرب انسان بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين
الحرة ميراثا لأبويه لأنهما حران عند وجوب بدل نفس الجنين فإن كانا أعتقا بعد الضربة
121

قبل أن يسقط أو بعد الاسقاط فالغرة للذي أعتق الولد لأنه يحكم بموت الجنين عند
الضربة ولهذا وجب البدل به وعند ذلك كانا مملوكين فلا يرثانه وان عتقا بعد ذلك بل
الميراث للمعتق وإنما يستقيم هذا الجواب وهو ان ولاء الجنين للمعتق إذ كان عتق
ما في البطن أولا أو كانا سواء فأما إذا أعتق الوارث الأم أولا فان الجنين يعتق بعتق الأم
ويكون الوارث ضامنا للموصى له قيمة الجنين يوم تلد ولا يتصور الاعتاق من جهته في
الجنين بعد ذلك ولا يثبت له ولاؤه وإذا أعتق الرجل ما في بطن أمته فولدت لستة أشهر
فقالت للمولى قد أقررت أنى حامل بقولك ما في بطنك حر وقال المولى هذا حبل حادث
فالقول قول المولى لانكاره العتق وما تقدم لا يكون اقرارا منه بوجود الولد في البطن
يومئذ بل معناه ما في بطنك حر إن كان في بطنك ولد ولو أعتق أمته وهي معتدة فجاءت
بولد لتمام سنتين من وقت وجوب العدة عليها فهو مولى لموالي الأم لأنا حكمنا بأن العلوق
كان سابقا على اعتاقه إياها حين أثبتنا نسب الولد من الزوج فان ولدت ولدين أحدهما لتمام
سنتين والآخر بعد ذلك بيوم فكذلك أيضا هكذا ذكره في الأصل وهو قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى فأما عند محمد رحمه الله تعالى يكون الولد لموالي الأب هنا
وكأنها ولدتهما لأكثر من سنتين قال اتبع الشك اليقين وهما يتبعان الثاني الأول وقد بينا
هذا فيما أمليناه من شرح الزيادات ولا يمين في الولاء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ان ادعى الأعلى أو الأسفل وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فيه اليمين وقد بينا هذا مع
نظائره في كتاب النكاح والدعوى ولا خلاف ان المولى إذا جحد العتق فإنه يستحلف لان
العتق مما يعمل فيه البدل فيجرى فيه الاستحلاف وعند نكوله يقضى بالعتق ثم الولاء ينبنى
عليه وهو نظير المرأة تستحلف في انقضاء العدة ثم إذا نكلت ينبني عليه صحة رجعة الزوج وكذلك
لو ادعى رجل عربي على ورثة ميت قد ترك ابنة ومالا أنه مولاه الذي أعتقه وله نصف
ميراثه فلا يمين على الابنة في الولاء ولكن تحلف أنها ما تعلم له في ميراث أبيها حقا ولا
إرثا لان هذا استحلاف في المال والمال مما يعمل فيه البدل وهو كمن ادعى ميراثا بنسب
لا يستحلف المنكر على النسب عنده ويستحلف على الميراث وان ادعى عربي على نبطي أنه
والاه وجحده النبطي فلا يمين عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وولاء الموالاة
في هذا كولاء العتاقة فان أقر به بعد انكاره فهو مولاه ولا يكون جحوده نقضا للولاء
122

وكذلك لو كان العربي هو الجاحد لان النقض تصرف في العقد بالرفع بعد الثبوت وانكار
أصل الشئ لا يكون تصرفا فيه بالرفع كانكار الزوج لأصل النكاح وان ادعى نبطي على
عربي أنه مولاه الذي أعتقه والعربي غائب ثم ادعى النبطي ذلك على آخر وأراد استحلافه
فإنه لا حلف لوجهين (أحدهما) أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى الاستحلاف في الولاء
(والثاني) أنه قد ادعي ذلك على غيره ولو أقر الثاني له بذلك لم يكن مولاه في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى فكيف يستحلف على ذلك وعندهما ان قدم الغائب فادعى الولاء فهو أحق
به وان أنكر فهو مولى للثاني رجل من الموالي قتل رجلا خطأ فادعى ورثته على رجل من
قبيلة أنه أعتقه وأرادوا استحلافه فليس لهم ذلك لأنه لا يمين في الولاء ولأنه ليس بخصم لهم
وان أقر الرجل به لم يصدق على العاقلة لأنه متهم في حق العاقلة وإنما يريد أن يلزمهم مالا
باقراره وهو لا يملك أن يلزمهم ذلك بانشاء التصرف في هذه الحالة فكذلك بالاقرار
وتكون الدية على القاتل في ماله لان أصل وجوب الدية عليه في ماله وإن كان المقتول من
الموالي فادعى رجل أنه أعتقه قبل القتل وأنه لا وارث له غيره وأراد استحلاف القاتل على
الولاء وهو مقر بالقتل لم يستحلف عليه ولكن يحلف ما يعلم لهذا في دية فلان المسمى عليك
حقا لأنه لو أقر بما ادعاه المدعى أمر بتسليم الدية إليه فإذا أنكر يستحلف على ذلك لرجاء
نكوله فأما أصل الولاء فلا يمين فيه على من يدعيه فكيف على غيره وولد الملاعنة من قوم
أمه وعقل جنايته عليهم لأنه لا نسب له ولا ولاء من جانب الأب فيكون منسوبا إلى قوم
الأم بالنسب ان كانت من العرب وبالولاء ان كانت من الموالي فان أعتق ابن الملاعنة عبدا
فعقل جنايته على عاقلة الأم أيضا لان المعتق منسوب بالولاء إلى من ينسب إليه المعتق
بواسطة وقد بينا ان المعتق منسوب إلى قوم أمه عليهم عقل جنايته فكذلك معتقه وان
مات العبد بعد موت الابن وأمه ولا وارث له غير ورثه أقرب الناس من الأم من العصبات
لان الولد لما كان منسوبا إليها كانت هي في حقه كالأب ولو كان له أب كان ميراث معتقه
لأقرب عصبة الأب بعد موته فكذلك هنا ولو كان لها ابن ثم مات المولى ولا وارث له
غير ابن الأم وهو أخ المعتق لامه فإنه يرث المولى كأنه أخ المعتق لأبيه وأمه ولان هذا
الابن أقرب عصبة الأم في نسبة المعتق إليها كالأب فكذلك ابنها في استحقاق ميراث
المعتق كابن الأب ولو كان للمعتق أخ وأخت كان ميراث المولى للأخ دون الأخت لهذين
123

المعنيين ولو لم يكن له وارث غير أمه لم يكن لها من الميراث شئ لما بينا أنه لا يرث من النساء
بالولاء الا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن وكان الميراث لأقرب الناس منها من العصبات لأنها
لما لم ترث شيئا كانت كالميتة فان ادعاه الأب وهو حي ثبت نسبه منه لان النسب قد استتر
باللعان بعدما كان ثابتا منه بالفراش وبقي موقوفا على حقه فإذا ادعاه في حال قيام حاجته
ثبت نسبه منه ورجع ولاء مواليه العتاقة والموالاة إليه ويرجع عاقلة الأم بما عقلوا عنهم على
عاقلة الأب وما كانوا متبرعين في هذا الأداء بل كانوا مجبرين عليه في الحكم فيرجعون عليهم
وقد بينا الفرق بين هذا وبين ما إذا جر الأب ولاء الولد بعدما عقل عنه موالي الأم وإنما
يرجعون على عاقلة الأب لما بينا أن النسب إنما يثبت من وقت العلوق فتبين أن عاقلة
الأم أدوا ما كان مستحقا على عاقلة الأب وإن كان الابن ميتا لم تجز دعوة الأب إلا أن
يكون بقي له ولد لأنه بالموت استغنى عن النسب فدعوى الأب لا تكون اقرارا
بالنسب بل تكون دعوى للميراث وهو في ذلك متناقض فان خلف الولد ابنا فحاجة
ابن الابن كحاجة الابن في تصحيح دعوى الأب ولو كان ولد الملاعنة بنتا فماتت وتركت
ولدا ثم ادعاه الأب جازت دعوته في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لان موتها
عن ولد كموت ابن الملاعنة عن ولد وهذا لان ولدها محتاج إلى اثبات نسب أمه ليصير
كريم الطرفين وفى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم تجز دعوته لان نسبة هذا الولد إلى أبيه
دون أمه فان الولد من قوم أبيه ألا ترى أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورضي عنه كان من قريش وأن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة فلا معتبر بوجود
هذا الولد لما لم يكن منسوبا إليها فلهذا لا تصح دعوة الأب وإن كان ولد الملاعنة أعتق
عبدا ثم مات لاعن ولد فادعى الأب نسبه لم يصدق باعتبار بقاء مولاه لان الولاء أثر
الملك ولو بقي له أصل الملك على العبد لم يصدق هو في الدعوة باعتباره فبقاء الولاء أولى
وهذا لأنه إنما يعتبر بقاء من يصير منسوبا إليه بالنسب إذا صحت دعوته والمولى لا يصير
منسوبا إليه بالنسب وإذا لاعن بولدي توأم ثم أعتق أحدهما عبدا ومات فادعى الأب
الحي منهما ثبت نسبهما لأنهما خلقا من ماء واحد فبقاء أحدهما محتاجا إلى النسبة كبقائهما
124

وإذا ثبت نسبهما جر الأب ولاء معتق الميت منهما إلى نفسه كما لو كان ثابت النسب منه
حين أعتقه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب
قال الشيخ الامام الاجل الزاهد انتهى شرح كتاب الولاء بطريق
الاملاء من الممتحن بأنواع البلاء يسأل من الله تعالى
تبديل البلاء والجلاء بالعز والعلاء فان ذلك عليه
يسير وهو على ما يشاء قدير وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله
وأصحابه الطاهرين
125

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الايمان)
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رضى الله تعالى عنه اليمين في اللغة القوة ومنه قوله تعالى لاخذنا منه باليمين
وقال القائل
رأيت عرابة الأوسي يسمو * إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
فما يستعمل بالعهود والتوثيق والقوة يسمى يمينا وقيل اليمين الجارحة فلما كانت يستعمل بذلها
في العهود سمى ما يؤكد به العقد باسمها وهي نوعان نوع يعرفه أهل اللغة وهو ما يقصد به
تعظيم المقسم به ويسمون ذلك قسما إلا أنهم لا يخصون ذلك بالله تعالى وفي الشرع هذا
النوع من اليمين لا يكون الا بالله تعالى فهو المستحق للتعظيم بذاته على وجه لا يجوز هتك
حرمة اسمه بحال والنوع الآخر الشرط والجزاء وهو يمين عند الفقهاء لما فيها من معنى
اليمين وهو المنع أو الايجاب ولكن أهل اللغة لا يعرفون ذلك لأنه ليس فيه معنى التعظيم
ثم بدأ الكتاب ببيان النوع الأول فقال الايمان ثلاثة وهذا اللفظ على النحو الذي ذكره
محمد رحمه الله تعالى يروى عن رجلين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أبى مالك
الغفاري وكعب بن مالك رحمهما الله ولم يرد عدد الايمان فان ذلك أكثر من أن يحصى وإنما أراد
أن اليمين بالله تعالى تنقسم في أحكامها ثلاثة أقسام يمين يكفر ويمين لا يكفر ويمين يرجو أن
لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها فأما الذي يكفر فهو اليمين على أمر في المستقبل لاق يجاد فعل
أو نفى فعل وهذا عقد مشروع أمر الله تعالى به في بيعة نصرة الحق وفى المظالم والخصومات
وهي في وجوب الحفظ أربعة أنواع نوع منها يجب اتمام البر فيها وهو أن يعقد على أمر
طاعة أمر به أو الامتناع عن معصية وذلك فرض عليه قبل اليمين وباليمين يزداد وكادة
126

ونوع لا يجوز حفظها وهو أن يحلف على ترك طاعة أو فعل معصية لقوله صلى الله عليه
وسلم من حلف أن يطيع الله فليطعه ومن حلف أن يعصى الله فلا يعصه ونوع يتخير فيه
بين البر والحنث والحنث خير من البر فيندب فيه إلى الحنث لقوله صلى الله عليه وسلم من
حلف على يمين ورأي غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر وأدنى درجات الامر
الندب ونوع يستوي فيه البر والحنث في الإباحة فيتخير بينهما وحفظ اليمين أولى بظاهر
قوله تعالى واحفظوا أيمانكم وحفظ اليمين يكون بالبر بعد وجودها فعرفنا أن المراد حفظ
البر ومن حنث في هذا اليمين فعليه الكفارة كما قال الله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين
ويتخير بين الطعام والكسوة والاعتاق للتنصيص على حرف أو ولان البداية بالأخف
والختم بالأغلظ إشارة إلى ذلك لأنها لو كانت مرتبة كانت البداية بالأغلظ والتي لا تكفر
اليمين الغموس وهي المعقودة على أمر في الماضي أو الحال كاذبة يتعمد صاحبها ذلك وهذه
لبست بيمين حقيقة لان اليمين عقد مشروع وهذه كبيرة محضة والكبيرة ضد المشروع
ولكن سماه يمينا مجازا لان ارتكاب هذه الكبيرة لاستعمال صورة اليمين كما سمى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيع الحر بيعا مجازا لان ارتكاب تلك الكبيرة لاستعمال صورة البيع ثم
لا ينعقد هذا اليمين فيما هو حكمه في الدنيا عندنا ولكنها توجب التوبة والاستغفار وعند
الشافعي رحمه الله تعالى تنعقد موجبة للكفارة فمن أصله محل اليمين نفس الخبر وشرط
انعقادها القصد الصحيح وعندنا محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق لأنها تنعقد موجبة للبر
ثم الكفارة خلف عنه عند فوت البر فالخبر الذي لا يتصور فيه الصدق لا يكون محلا
لليمين والعقد لا ينعقد بدون محله وحجته قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فالله أثبت المؤاخذة في اليمين المكسوبة واليمين
الغموس بهذه الصفة لأنها بالقلب مقصودة ثم فسر هذه المؤاخذة بالكفارة في قوله بما
عقدتم الايمان معناه بما قصدتم والعقد هو القصد ومنه سميت النية عقيدة وأوجب
الكفارة موصولة باليمين بقوله فكفارته لان الفاء للوصل وقال في آخر الآية ذلك كفارة
أيمانكم إذا حلفتم والكفارة بنفس الحلف إنما تجب بالغموس والمراد بقوله واحفظوا
أيمانكم الامتناع من الحلف فان بعد الحلف إنما يتصور حفظ البر وحفظ اليمين يذكر
لمعنى الامتناع قال القائل
127

قليل الألايا حافظ ليمينه * وان بدرت منه الألية برت
ولان قوله خالف فعله في يمين بالله تعالى مقصود فيلزمه الكفارة كما في المعقودة على أمر
في المستقبل وأقرب ما يقيسون عليه إذا حلف ليمسن السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا وهذا
لان وجوب الكفارة في المعقودة على أمر في المستقبل لمعنى الحظر ولهذا سميت كفارة أي
ساترة وهذا الحظر من حيث الاستشهاد بالله تعالى كاذبا وذلك بعينه موجود في الغموس
ولان الغموس إنما يخالف المعقودة على أمر في المستقبل في توهم البر والبر مانع من الكفارة
وانعدام ما يمنع الكفارة يحقق معنى الكفارة فيها ولان في أحد نوعي اليمين وهو الشرط
والجزاء يسوى بين الماضي والمستقبل في موجبه فكذلك في النوع الآخر (وحجتنا)
في ذلك قوله تعالى ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فقد بين جزاء
اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة فلو كانت الكفارة فيها واجبة لكان الأولى بيانها ولان
الكفارة لو وجبت إنما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص وذلك لا يقول به أحد قال عليه الصلاة
والسلام خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وذكر منها اليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ
مسلم وقال اليمين الغموس تدع الديار بلاقع أي خالية من أهلها وقال ابن مسعود رضى الله
تعالى عنه كنا نعد اليمين الغموس من الايمان التي لا كفارة فيها والمعنى فيه أنها غير معقودة
لان عقد اليمين للحظر أو الايجاب وذلك لا يتحقق في الماضي والخبر الذي ليس فيه توهم
الصدق والعقد لا ينعقد بدون محله كالبيع لا ينعقد على ما ليس بمال لخلوه عن موجب البيع
وهو تمليك المال ولأنه قارنها ما يحلها ولو طرأ عليها يرفعها فإذا قارنها منع انعقادها كالردة
والرضاع في النكاح بخلاف مس السماء ونحوه فإنه لم يقارنها ما يحلها لأنها عقدت على فعل في
المستقبل فما يحلها انعدام الفعل في المستقبل ولهذا تتوقت تلك اليمين بالتوقيت ولان الغموس
محظور محض فلا يصلح سببا لوجوب الكفارة كالزنا والردة وهذا لان المشروعات تنقسم
ثلاث أقسام عباده محضة وسببها مباح محض وعقوبة محضة كالحدود وسببها محظور محض
وكفارات وهي تتردد بين العبادة والعقوبة فمن حيث أنها لا تجب الاجزاء تشبه العقوبة
ومن حيث أنه يفتى بها فلا تتأدى الا بنية العبادة وتتأدى بما هو محض العبادة كالصوم تشبه
العبادات فينبغي أن يكون سببها مترددا بين الحظر والإباحة وذلك المعقودة على أمر في
المستقبل لأنه باعتبار تعظيم حرمة اسم الله تعالى باليمين مباح وباعتبار هتك هذه الحرمة
128

بالحنث محظور فيصلح سببا للكفارة فأما الغموس محظور محض لان الكذب بدون الاستشهاد
بالله تعالى محظور محض فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى فلا يصلح سببا للكفارة ثم الكفارة
تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ولهذا يجب في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث
لان قبل الحنث ما هو الأصل قائم فإذا حنث فقد فات الأصل فتجب الكفارة ليكون خلفا
ويصير باعتبارها كأنه على بره وهذا إنما يتصور في خبر فيه توهم الصدق انه ينعقد موجبا
للأصل ثم الكفارة خلف عنه وفي مس السماء هكذا لان السماء عين ممسوسة فلتصور البر
انعقدت اليمين ثم لفواته بالعجز من حيث العادة تلزمه الكفارة في الحال خلفا عن البر
فأما فيما نحن فيه لا تصور للبر فلا ينعقد موجبا لما هو الأصل فلا يمكن أن يجعل موجبا
للخلف ولأنه حينئذ لا يكون خلفا بل يكون واجبا ابتداء ولا يمكن جعل الكفارة واجبة
باليمين ابتداء لأنها حينئذ لا تكون كبيرة بل تكون سبب التزام القربة ومعنى قوله تعالى
ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم ومن أسباب الوجوب ما هو مضمر في الكتاب كقوله
تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ثم إن الله تعالى أوجب
الكفارة بعد عقد اليمين بقوله بما عقدتم الايمان والقراءة بالتشديد لا تتناول الآن المعقودة
وكذلك بالتخفيف لأنه يقال عقدته فانعقد كما يقال كسرته فانكسر وإنما يتصور الانعقاد فيما
يتصور فيه الحل لأنه ضده قال القائل * ولقلب المحب حل وعقد * ولا يتصور ذلك في الماضي
أو المراد بقوله بما كسبت قلوبكم المؤاخذة بالوعيد في الآخرة لان دار الجزاء في الحقيقة
الآخرة فأما في الدنيا قد يؤاخذ المطيع ابتداء وينعم على العاصي استدراجا والمؤاخذة المطلقة
محمولة على المؤاخذة في الآخرة وبفصل الشرط والجزاء يستدل على ما قلنا فإنه إذا أضيف إلى
الماضي يكون تحقيقا للكذب ولا يكون يمينا واليه يشير في الكتاب ويقول أمر الغموس أمر
عظيم والبأس فيه شديد معناه أن ما يلحقه من المأثم فيه أعظم من أن يرتفع بالكفارة والنوع
الثالث يمين اللغو فنفي المؤاخذة بها منصوص في القرآن قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو
في ايمانكم واختلف العلماء في صورتها فعندنا صورتها أن يحلف على أمر في الماضي أو في
الحال وهو يرى أنه حق ثم ظهر خلافه وهو مروي عن زرارة بن أبي أوفى وعن ابن
عباس رضى الله تعالى عنهما في احدى الروايتين وعن محمد رحمه الله قال هو قول الرجل في
كلامه لا والله بلي والله وهو قريب من قول الشافعي رضى الله تعالى عنه فان عنده اللغو
129

ما يجرى على اللسان من غير قصد في الماضي كان أو في المستقبل وهو احدى الروايتين عن
ابن عباس قال اليمين اللغو يمين الغضب وروى عن عائشة رضى الله تعالى عنها ان النبي صلى
الله عليه وسلم قال في تفسير اللغو قول الرجل لا والله بلى ولله وهو قول عائشة رضى الله
تعالى عنها وتأويله عندنا فيما يكون خبرا عن الماضي فان اللغو ما يكون خاليا عن الفائدة
والخبر الماضي خال عن فائدة اليمين على ما قررنا فكان لغوا فأما الخبر في المستقبل عدم
القصد لا يعدم فائدة اليمين وقد ورد الشرع بأن الهزل والجد في اليمين سواء ولما أخذ
المشركون حذيفة بن اليمان رضي الله عنه واستحلفوه أن لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم
أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم أوف لهم بعهودهم ونحن
نستعين بالله عليهم والمكره غير قاصد ومع ذلك أمره بالوفاء به فدل أن عدم القصد لا يمنع
انعقاد اليمين ممن هو من أهله وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان رفع الاثم ومن السلف من قال اللغو هو اليمين المكفرة وهذا باطل فان الله
تعالى عطف اليمين التي فيها الكفارة على اللغو والشئ لا يعطف على نفسه ومنهم من يقول
يمين اللغو اليمين على المعصية وقال بعضهم لا كفارة فيها وقال بعضهم في محبطة بالكفارة
أي لا مؤاخذة فيها بعد الكفارة وهذا أيضا فاسد فان كون الفعل معصية لا يمنع عقد
اليمين عليه ولا يخرجه عن كونه سببا للكفارة كالظهار فإنه منكر من القول وزور ثم كان
موجبا للكفارة عند العود وهذا النوع لا يتحقق الا في اليمين بالله تعالى فأما في الشرط
والجزاء لا يتحقق اللغو هكذا ذكره ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى لأن عدم القصد
لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق (فان قيل) فما معنى تعليق محمد رحمه الله تعالى نفى المؤاخذة
في هذا النوع من الرجاء بقوله نرجو أن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها وعدم المؤاخذة
في اليمين اللغو منصوص عليه وما عرف بالنص فهو مقطوع به (قلنا) نعم ولكن صورة
تلك اليمين مختلف فيها فإنما علق بالرجاء نفي المؤاخذة في اللغو بالصورة التي ذكرها وذلك
غير معلوم بالنص مع أنه لم يرد بهذا اللفظ التعليق بالرجاء إنما أراد به التعظيم والتبرك بذكر
اسم الله تعالى كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالمقابر قال صلى الله عليه وسلم
السلام عليكم ديار قوم مؤمنين وانا إن شاء الله بكم لاحقون وما ذكر الاستثناء بمعنى الشك
فإنه كان متيقنا بالموت وقد قال الله تعالى انك ميت وانهم ميتون ولكن معنى ذكر الاستثناء
130

ما ذكرنا وإذا حلف ليفعلن كذا ولم يوقت لذلك وقتا فهو على يمينه حتى يهلك ذلك الشئ
الذي حلف عليه فيلزمه الكفارة حينئذ وأعلم ان اليمين ثلاثة أنواع مؤبدة لفظا ومعنى بأن
يقول والله لا أفعل كذا أبدا أو يقول لا أفعل مطلقا والمطلق فيما يتأبد يقتضى التأبيد كالبيع
ومؤقته لفظا ومعنى بأن يقول لا أفعل كذا اليوم فيتوقت اليمين بذلك الوقت لان موجبه
الحظر أو الايجاب وذلك يحتمل التوقيت فيتوقت بتوقيته ومؤبد لفظا مؤقت معنى كيمين
الفور إذا قال تعال تغد معي فقال والله لا أتغدى يتوقت يمينه بذلك الغداء المدعو إليه وهذا
النوع من اليمين سبق به أبو حنيفة رحمه الله تعالى ولم يسبق به وأخذه من حديث جابر بن
عبد الله وابنه حين دعيا إلى نصرة انسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا وبناه
على ما عرف من مقصود الحالف وهو الأصل في الشرع أن يبتني الكلام على ما هو معلوم من
مقصود المتكلم قال الله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك والمراد الامكان والاقدار
لاستحالة الامر بالشرك والمعصية من الله تعالى ثم الكفارة لا تجب الا بعد فوت البر في
اليمين المطلقة وإنما يفوت البر بهلاك ذلك الشئ الذي حلف عليه أو بموت الحالف وأما في
اليمين المؤقتة ففوت البر بمضي الوقت مع بقاء ذلك الشئ الذي حلف عليه ومع بقاء الحالف
وأما إذا كان الحالف قد مات قبل مضى ذلك الوقت لا تجب الكفارة وإذا هلك ذلك الشئ
ففيه اختلاف بين أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى نبينه في موضعه إن شاء الله
تعالى وإذا قال ورحمة الله لا أفعل كذا أو غضب الله وسخط الله وعذاب الله وثوابه ورضاه
وعلمه فإنه لا يكون يمينا والحاصل أن نقول اليمين اما أن يكون باسم من أسماء الله تعالى أو بصفة
من صفاته وذلك يبتنى على حروف القسم فلا بد من معرفتها أولا فنقول حروف القسم
الباء والواو والتاء أما الباء فهي للالصاق في الأصل وهي بدل عن فعل محذوف فمعنى قوله بالله
أي احلف بالله قال الله تعالى ويحلفون بالله أو أقسم بالله قال تعالى وأقسموا بالله ولهذا يصح
اقترانها بالكناية فيقول القائل به وبك ثم الواو تستعار للقسم بمعنى الباء لما بينهما من المشابهة
صورة ومعنى أما صورة فلان مخرج كل واحد منهما بضم الشفتين وأما المعنى فلان الواو
للعطف وفى العطف معنى الالصاق إلا أنه لا يستقيم إظهار الفعل مع حرف الواو بأن يقول
احلف والله لان الاستعارة لتوسعة صلات الاسم لا لمعنى الالصاق فإذا استعمل مع إظهار
الفعل يكون بمعنى الالصاق ولهذا لا يستقيم حرف الواو مع الكناية وإنما يستقيم مع التصريح
131

بالاسم سواء ذكر اسم الله تعالى أو اسم غير الله فيقول وأبيك وأبى ثم التاء تستعار لمعنى الواو
لما بينهما من المشابهة فإنهما من حروف الزوائد تستعمل العرب إحداهما بمعنى الأخرى كقولهم
تراث ووارث ولكن هذه الاستعارة لتوسعة صلة القسم بالله خاصة ولهذا لا يستقيم ذكر
التاء الا مع التصريح بالله حتى لا يقال بالرحمن وإنما يقال بالله خاصة قال الله تعالى تالله لقد
اثرك الله علينا تالله لأكيدن أصنامكم ثم الحلف بأسماء الله تعالى يمين في الصحيح من
الجواب ومن أصحابنا من يقول كل اسم لا يسمى به غير الله تعالى كقوله والله والرحمن فهو
يمين وما يسمى به غير الله تعالى كالحكيم والعالم فان أراد به اليمين فهو يمين وإن لم يرد به
اليمين لا يكون يمينا وكان بشر المريسي يقول في قوله والرحمن أن أراد به اسم الله تعالى
فهو يمين وان أراد به سورة الرحمن لا يكون يمينا لأنه حلف بالقرآن وقد بينا في كتاب
الطلاق أن قوله والقرآن لا يكون يمينا ولكن الأول أصح لان تصحيح كلام المتكلم
واجب ما أمكن ومطلق الكلام محمول على ما يفيد دون مالا يفيد وذلك في أن يجعل
يمنا ويستوى ان قال والله أو بالله أو تالله وكذلك إن قال الله لان من عادة العرب حذف
بعض الحروف للإيجاز قال القائل
قلت لها قفى فقالت قاف * لا تحسبن انى نسيت الالحاف
أي وقفت الا ان عند نحويي البصرة عند حذف حرف القسم يذكر منصوبا بانتزاع حرف
الخافض منه وعند نحويي الكوفة يذكر مخفوضا لتكون كسرة الهاء دليلا على محذوفه
وكذلك لو قال لله لان معناه بالله فان الباء واللام يتقاربان قال الله تعالى آمنتم له أي آمنتم
به وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج
وذكر القفال في تفسيره إذا قال له وعنى به اليمين بكون يمينا واستدل بقول القائل
لهنك من عبسية لوسيمة * على هنوات كاذب من يقولها
معناه لله انك ولو قال وأيم الله فهو يمين قال محمد رحمه الله تعالى ومعناه أيمن فهو جمع اليمين
وهذا مذهب نحويي الكوفة وأما البصريون يقولون معناه والله وأيم صلته كقولهم صه ومه
وما شاكله وكذلك لو قال لعمرو الله فهو يمين باعتبار النص قال الله تعالى لعمرك والعمرو
هو البقاء والبقاء من صفات الذات فكأنه قال والله الباقي وأما الحلف بالصفات فالعراقيون
من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والعزة
132

والجلال والكبرياء يمين والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يمينا وقالوا صفات
الذات مالا يجوز أن يوصف بضده كالقدرة وصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده يقال
رحم فلان ولم يرحم فلان وغضب على فلان ورضى عن فلان قالوا وعلى هذا ينبغي في القياس
في قوله وعلم الله أن يكون يمينا لأنه من صفات الذات فإنه لا يوصف بضد العلم ولكنهم
تركوا هذا القياس لان العلم يذكر بمعنى المعلوم كقول الرجل في دعائه اللهم اغفر لنا علمك
فينا أي معلومك ويقال علم أبي حنيفة رحمه الله أي معلومه والمعلوم غير الله (فان قيل)
وقد يقال أيضا انظر إلى قدرة الله والمراد المقدور ثم قوله وقدرة الله يمين (قلنا) معنى
قوله انظر إلى قدرة الله أي إلى أثر قدرة الله تعالى ولكن بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه
مقامه فان القدرة لا تعاين ولكن هذا الطريق غير مرضى عندنا فإنهم يقصدون بهذا الفرق
الإشارة إلى مذهبهم أن صفات الفعل غير الله تعالى والمذهب عندنا أن صفات الله لا هو ولا
غيره فلا يستقيم الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل في حكم اليمين ومنهم من يعلل
فيقول رحمة الله تعالى الجنة قال الله تعالى ففي رحمة الله هم فيها خالدون وإذا كانت الرحمة بمعنى
الجنة فالسخط والغضب بمعنى النار فيكون حلفا بغير الله تعالى وهذا غير مرضى أيضا لان
الرحمة والغصب عندنا من صفة الله تعالى والأصح أن يقول الايمان مبنية على العرف والعادة
فما تعارف الناس الحلف به يكون يمينا وما لم يتعارف الحلف به لا يكون يمينا والحلف بقدرة الله
تعالى وكبريائه وعظمته متعارف فيما بين الناس وبرحمته غضبه غير متعارف فلهذا لم يجعل
قوله وعلم الله يمينا ولهذا قال محمد رحمه الله في قوله وأمانة الله انه يمين ثم سئل عن معناه فقال
لا أدرى فكأنه قال وجد العرب يحلفون بأمانة الله عادة فجعله يمينا وذكر الطحاوي أن
قوله وأمانة الله لا يكون يمينا لأنه عبادة من العبادات والطاعات ولكن أمر الله تعالى بها
وهي غير الله تعالى وجه رواية الأصل أنه يتعذر الإشارة إلى شئ بعينه على الخصوص انه أمانة
الله والحلف به متعارف وعلمنا انهم يريدون به الصفة فكأنه قال والله الأمين فان قال ووجه الله
روى عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى انه يمين لان الوجه يذكر بمعنى الذات قال الله
تعالى ويبقي وجه ربك قال الحسن هو هو وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يكون يمينا قال أبو
شجاع رحمه الله تعالى في حكايته عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو من ايمان السفلة يعنى الجهلة
الذين يذكرونه بمعنى الجارحة وهذا دليل على أنه لم يجعله يمينا وان قال وحق الله فهو يمين
133

في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى واحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
وفى الرواية الأخرى لا يكون يمينا لان حق الله على عباده الطاعات كما فسر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قوله لمعاذ أتدري ما حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا
به شيئا والحلف بالطاعات لا يكون يمينا وجه قوله أن معنى وحق الله والله الحق والحق من
صفات الله تعالى قال الله تعالى ذلك بأن الله هو الحق ولا خلاف أنه لو قال والحق لا
أفعل كذا انه يمين كقوله والله قال الله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم ولو قال حقا لا يكون
يمينا لان التنكير في لفظه دليل على أنه لم يرد به اسم الله وإنما أراد به تحقيق الوعد معناه
أفعل هذا لا محالة فلا يكون يمينا قال الشيخ الامام رحمه الله تعالى وقد بينا في باب الايلاء من
كتاب الطلاق ألفاظ القسم ما اتفقوا عليه وما فيه اختلاف كقولهم هو يهودي أو نصراني
أو مجوسي وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إذا قال هو يهودي إن فعل كذا وهو
نصراني ان فعل كذا فهما يمينان وان قال هو يهودي هو نصراني ان فعل كذا فهي يمين
واحدة لان في الأول كل واحد من الكلامين تام بذكر الشرط والجزاء وفي الثاني الكلام
واحد حين ذكر الشرط مرة واحدة ولو حلف على أمر في الماضي بهذا اللفظ فإن كان
عنده أنه صادق فلا شئ عليه وإن كان يعلم أنه كاذب كان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى
يقول يكفر لأنه علق الكفر بما هو موجود والتعليق بالموجود تنجيز (تنجيز) فكأنه قال هو كافر
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يكفر اعتبارا للماضي بالمستقبل ففي المستقبل هذا
اللفظ يمين يكفرها كاليمين بالله تعالى ففي الماضي هو بمنزلة الغموس أيضا والأصح انه إن كان
عالما يعرف انه يمين فإنه لا يكفر به في الماضي والمستقبل وإن كان جاهلا وعنده انه يكفر
بالحلف يصير كافرا في الماضي والمستقبل لأنه لما أقدم على ذلك الفعل وعنده انه يكفر به
فقد صار راضيا بالكفر ومن هذا الجنس تحريم الحلال فإنه يمين يوجب الكفارة عندنا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون يمينا الا في النساء والجواري لان تحريم الحلال قلب الشريعة
واليمين عقد شرعي فكيف ينعقد بلفظ هو قلب الشريعة ولأنه ليس في هذا المعنى
تعظيم المقسم به ولا معنى الشرط والجزاء من حيث أنه بوجود الشرط لا يثبت عين ما علق
به من الجزاء أو اليمين يتنوع بهذين النوعين (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى قد فرض الله
لكم تحلة أيمانكم قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل على نفسه وقيل حرم مارية على
134

نفسه فيعمل بهما أو لما ثبت بهذه الآية أن التحريم المضاف إلى الجواري يكون يمينا فكذلك
التحريم المضاف إلى سائر المباحات كقوله والله فكما أن هاك عند وجود الشرط لا يثبت
ما علق به من التحريم فكذلك في الجواري ثم معنى اليمين في هذا اللفظ يتحقق بالقصد إلى
المنع أو إلى الايجاب لان المؤمن يكون ممتنعا من تحريم الحلال وإذا جعل ذلك يمينه علامة
فعله عرفنا أنه قصد منع نفسه عن ذلك الفعل كما في قوله والله لأنه ثبت أن الانسان يكون
ممتنعا من هتك حرمة اسم الله تعالى فكان يمينا وعلى هذا القول في قوله هو كافر ان
فعل كذا كان يمينا لان حرمة الكفر حرمة تامة مصمتة كهتك حرمة اسم الله تعالى فإذا
جعل فعله علامة لذلك كان يمينا فأما إذا قال هو يأكل الميتة أو يستحلها أو الدم أو لحكم الخنزير
ان فعل كذا فهذا لا يكون يمينا لأن هذه الحرمة ليست بحرمة تامة مصمتة حتى أنه ينكشف
عند الضرورة وكذلك قوله هو يترك الصلاة والزكاة ان فعل كذا لان ذلك يجوز عند
تحقق الضرورة والعجز فلم يكن في معنى اليمين من كل وجه ولو ألحق به باعتبار بعض
الأوصاف لكان قياسا ولا مدخل للقياس في هذا الباب وكذلك لو حلف بحد من حدود
الله تعالى أو بشئ من شرائع الاسلام لم يكن يمينا لأنه حلف بغير الله تعالى ولان الحلف
بهذه الأشياء غير متعارف وقد بينا أن العرف معتبر في اليمين ولو قال عليه لعنة الله أو غضب
الله أو أماته الله أو عذبه الله بالنار أو حرم عليه الجنة ان فعل كذا فشئ من هذا لا يكون
يمينا إنما هو دعاء على نفسه قال الله تعالى ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير ولان الحلف بهذه
الألفاظ غير متعارف وسئل محمد رحمه الله تعالى عمن يقول وسلطان الله لا يفعل كذا فقال لا
أدرى ما هذا من حلف بهذا فقد أشار إلى عدم العرف والصحيح من الجواب في هذا الفصل
انه إذا أراد بالسلطان القدرة فهو يمين كقوله وقدرة الله ولو جعل عليه حجة أو عمرة أو صوما
أو صلاة أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما هو طاعة ان ففعل كذا فعل لزمه ذلك الذي جعله على
نفسه ولم يجب كفارة اليمين فيه في ظاهر الرواية عندنا وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى
قال إن علق النذر بشرط يريد كونه كقوله ان شفى الله مريضي أو رد غائبي لا يخرج عنه
بالكفارة وان علق بشرط لا يريد كونه كدخول الدار ونحوه يتخير بين الكفارة وبين عين
ما التزمه وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى في الجديد وقد كأن يقول في القديم يتعين عليه
135

كفارة اليمين وروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى رجع إلى التخيير أيضا فان عبد العزيز
ابن خالد الترمذي رضى الله تعالى عنه قال خرجت حاجا فلما دخلت الكوفة قرأت كتاب
النذور والكفارات على أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلما انتهيت إلى هذه المسألة فقال قف فان
من رأيي أن أرجع فلما رجعت من الحج إذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى قد توفى فأخبرني
الوليد بن أبان رحمه الله أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام وقال يتخير وبهذا كان يفتى إسماعيل
الزاهد رحمه الله قال رضي الله عنه وهو اختياري أيضا لكثرة البلوى في زماننا وكان من مذهب
عمر وعائشة رضي الله عنهما أنه يخرج عنه بالكفارة ومن مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن
عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم انه لا يخرج عنه بالكفارة حتى كان ابن عمر يقول لا
أعرف في النذر الا الوفاء وأما وجه قوله الأول قوله صلى الله عليه وسلم من نذر نذرا
وسمى فعليه الوفاء بما سمى ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين والمعنى فيه أنه علق
بالشرط ما يصح التزامه في الذمة فعند وجود الشرط يصير كالمنجز ولو نجز النذر لم يخرج
عنه بالكفارة ألا ترى أن الطلاق المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط كالمنجز فهذا
مثله وتحقيق هذا وهو أن معنى اليمين لا يوجد هنا لأنه ليس فيه تعظيم المقسم به لأنه
جعل دخول الدار علامة التزام الصوم والصلاة وفى الالتزام معنى القربة والمسلم لا يكون
ممتنعا من التزام القربة توضيحه أن الكفارة تجب لمعنى ق الحظر لأنها ستاره للذنب ومعنى
الحظر لا يوجد هنا وفى القول بالخيار له تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد حتى
إذا قال إن دخلت الدار فعلى طعام ألف مسكين فمن يقول بالخيار يخيره بين اطعام عشرة
مساكين وبين اطعام ألف مسكين وكذا العتق والكسوة وان قال المعسر ان دخلت الدار
فعلى صوم سنة يخيره بين صوم سنة وبين صوم ثلاثة أيام والتخيير بين القليل والكثير في جنس
واحد غير مفيد شرعا فلا يجوز أن يكون حكما شرعيا ووجه قوله الآخر قوله صلى الله عليه
وسلم النذر يمين وكفارته اليمين فيحمل هذا على النذر المعلق بالشرط وما رووه
على النذر المرسل أو المعلق بما يريد كونه ليكون جمعا بين الاخبار والمعنى فيه أن كلامه
يشتمل على معنى النذر واليمين جميعا أما معنى النذر فظاهر وأما معنى اليمين فلانه قصد
بيمينه هذا منع نفسه عن ايجاد الشرط لان الانسان يمتنع من التزام هذه الطاعات بالنذر
مخافة أن لا يفي بها فيلحقه الوعيد الذي ذكره الله تعالى في قوله ورهبانية ابتدعوها
136

ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله إلى قوله وكثير منهم فاسقون فإذا جعل دخول
الدار علامة التزام ما يكون ممتنعا من التزامه يكون يمينا وكذلك من حيث العرف يسمى
يمينا يقال حلف بالنذر فلوجود اسم اليمين ومعناها قلنا يخرج بالكفارة ولوجود معنى النذر
قلنا يخرج عنه بعين ما التزمه بخلاف النذر المرسل فاسم اليمين ومعناها غير موجود فيه
وكذلك المعلق بشرط يريد كونه لان معنى اليمين غير موجود فيه وهو الفصد إلى المنع
بل قصده إظهار الرغبة فيما جعله شرطا يقرر هذا ان معنى الحظر يتحقق هنا لان الالتزام
بالنذر قربة بشرط أن يفي بما وعد فأما بدون الوفاء يكون معصية قال الله تعالى لم تقولون
ما لا تفعلون وقال الله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الآية ولا
يدرى أنه هل يفي بهذا أو لا يفي فيكون مترددا دائرا بين الحظر والإباحة بمنزلة اليمين بالله
تعالى فيصلح سببا لوجوب الكفارة (فان قيل) هذا في النذر المرسل موجود (قلنا)
نعم ولكن لا بد من اعتبار اسم اليمين لايجاب الكفارة لأنها تسمى كفارة اليمين واسم
اليمين لا يوجد في النذر المرسل ومنهم من يقول هو يمين يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته
فيخرج عنها بالكفارة كاليمين بالله تعالى بخلاف اليمين بالطلاق والعتاق فإنه لا يتوقف
موجبها على تنفيذ من جهته بل بوجود الشرط يقع الطلاق والعتاق ولو شرعت الكفارة فيها
كانت لرفع ما وقع من الطلاق والعتاق وذلك غير مشروع هنا ولو شرعت الكفارة كانت
مشروعة خلفا عن البر ليصير كأنه تم على بره وذلك مشروع فإنه لو تم على بره لا يلزمه شئ
والتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد باعتبار معنيين مختلفين جائز كالعبد إذا أذن له
مولاه بأداء الجمعة يتخير بين أداء الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعا فهذا مثله وكذلك إذا حلف
بالمشي إلى بيت الله ان فعل كذا ففعل ذلك الفعل لم يلزمه شئ في القياس لأنه إنما يجب
بالنذر ما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله ليس بواجب شرعا ولأنه لا يلزمه
عين ما التزمه وهو المشي فلأن لا يلزمه شئ آخر أولى وهو الحج أو العمرة وفى
الاستحسان يلزمه حجة أو عمرة وهكذا روى عن علي رضي الله عنه ولان في عرف الناس
يذكر هذا اللفظ بمعنى التزام الحج والعمرة وفى النذور والايمان يعتبر العرف فجعلنا هذا
عبارة عن التزام حج أو عمرة مجازا لان المقصود بالكلام استعمال الناس لاظهار ما في باطنهم
فإذا صار اللفظ في شئ مستعملا مجازا يجعل كالحقيقة في ذلك الشئ ثم يتخير بين الحج
137

والعمرة لأنهما النسكان المتعلقان بالبيت لا يتوصل إلى أدائهما الا بالاحرام والا بالذهاب إلى
ذلك الموضع ثم يتخير ان شاء مشى وان شاء ركب وأراق دما لحديث عقبة بن عامر أنه قال
يا رسول الله ان أختي نذرت أن تحج ماشية فقال صلى الله عليه وسلم ان الله غني عن تعذيب
أختك مرها فلتركب ولترق دما ولان النسك بصفة المشي يكون أتم على ما روى أن عبد
الله بن عباس رضي الله عنهما بعدما كف بصره كأن يقول لا أتأسف على شئ كتأسفي على
أن لا أحج ماشيا فان الله تعالى قدم المشاة فقال يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فإذا ركب فقد
أدخل فيه نقصا ونقائص النسك تجبر بالدم وان اختار المشي فالصحيح من الجواب أنه يمشي
من بيته إلى أن يفرغ من أفعال الحج وما سواه فيه من الكلام قد بيناه في المناسك وقد ذكرنا
أنه ثمان فصول في ثلاث يلزم بلا خلاف في المشي إلى بيت الله تعالى أو الكعبة أو مكة وفي
ثلاث لا يلزمه شئ بالاتفاق وهو إذا نذر الذهاب إلى مكة أو السفر إلى مكة أو الركوب وفى
فصلين خلاف وهو ما إذا نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام كان أبو حنيفة رحمه الله
تعالى يأخذ فيهما بالقياس وهما بالاستحسان ولو حلف بالمشي إلى بيت الله وهو ينوى مسجدا
من المساجد سوى المسجد الحرام لم يلزمه شئ لان المنوي من محتملات لفظه فالمساجد
كلها بيوت الله تعالى على معنى أنها تجردت عن حقوق العباد فصارت معدة لإقامة الطاعة
فيها لله تعالى فإذا عملت نيته صار المنوي كالملفوظ به وسائر المساجد يتوصل إليها بغير
احرام فلا يلزمه بالتزام المشي إليها شئ ومسجد بيت المقدس ومسجد المدينة في ذلك سواء
عندنا بخلاف المسجد الحرام فإنه لا يتوصل إليه الا بالاحرام والملتزم بالاحرام يلزمه أحد
النكسين المختص أداؤهما بالاحرام وهو الحج أو العمرة وإذا قال أنا أحرم ان فعلت كذا أو
أنا محرم أو أهدي أو أمشى إلى البيت وهو يريد أن يعد من نفسه عدة ولا يوجب شيئا
فليس عليه شئ لان ظاهر كلامه وعد فإنه يخبر عن فعل يفعله في المستقبل والوعد فيه
غير ملزم وإنما يندب إلى الوفاء بما هو قربة منه من غير أن يكون ذلك دينا عليه
وان أراد الايجاب لزمه ما قال لان المنوي من محتملات لفظه فان الفعل الذي يفعله في
المستقبل قد يكون واجبا وقد يكون غير واجب فإذا أراد الايجاب فقد خص أحد النوعين
بنيته وتعليقه بالشرط دليل على الايجاب أيضا لأنه يدل على أنه يثبت عند وجود الشرط ما لم
يكن ثابتا من قبل وهو الوجوب دون التمكن من الفعل فإنه لا يختلف بوجود الشرط
138

وعدمه وإن لم يكن له نية ففي القياس لا يلزمه شئ لان ظاهر لفظه عدة ولان الوجوب بالشك
لا يثبت وفي الاستحسان يلزمه ما قال لان العرف بين الناس انهم يريدون بها اللفظ الايجاب
ومطلق الكلام محمول على المتعارف والتعليق بالشرط دليل الايجاب أيضا وإنما ذكر محمد رحمه
الله تعالى القياس والاستحسان في المناسك وإذا حلف ان يهدى ما لا يملكه لا يلزمه
شئ لقوله عليه الصلاة والسلام لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم ومراده من هذا اللفظ أن يقول إن
فعلت كذا فلله على أن أهدى هذه الشاة وهي مملوكة لغيره فاما إذا قال والله لأهدين
هذه الشاة ينعقد يمينه لان محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق وذلك بكون الفعل ممكنا ومحل
النذر فعل هو قربة واهداء شاة الغير ليس بقربة الا ان يريد اليمين فحينئذ ينعقد لان في النذر
معنى اليمين حتى ذكر الطحاوي انه لو أضاف النذر إلى ما هو معصية وعني به اليمين بأن
قال لله تعالى على أن أقتل فلانا كان يمينا ويلزمه الكفارة بالحنث لقوله عليه الصلاة والسلام
النذر يمين وكفارته كفارة اليمين وإذا قال لله علي ان أنحر ولدي أو اذبح ولدي لم يلزمه شئ
في القياس وهو قول أبى يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى وفى الاستحسان يلزمه ذبح
شاة وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لكنه ان ذكر بلفظ الهدى فذلك يختص
بالحرم وفي سائر الألفاظ اما أن يذبحها في الحرم أو في أيام النحر وجه القياس انه نذر بإراقة
دم محقون فلا يلزمه شئ كما لو قال أبى أو أمي وهذا لان الفعل الذي سماه معصية ولا نذر
في معصية الله تعالى ولأنه لو نذر ذبح ما يملك ذبحه ولكن لا يحل ذبحه كالحمار والبغل
لا يلزمه شئ ولو نذر ذبح ما يحل ذبحه ولكن لا يملك ذبحه كشاة الغير لا يلزمه شئ فإذا نذر
ذبح ما لا يحل ذبحه ولا يملك ذبحه أولى أن لا يلزمه شئ وجه الاستحسان ما روى أن رجلا سأل ابن
عباس رضي الله عنهما عن هذه المسألة فقال أرى عليك مائة بدنة ثم قال ائت ذلك الشيخ فاسأله
وأشار إلى مسروق فسأله فقال أرى عليك شاة فأخبر بذلك ابن عباس رضي الله عنهما
فقال وأنا أرى عليك ذلك وفى رواية عن ابن عباس انه أوجب فيه كفارة اليمين وعن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه أوجب فيه بدنة أو مائة بدنة وسألت امرأة عبد الله
ابن عمر فقالت انى جعلت ولدى نحيرا فقال أمر الله بالوفاء بالنذر فقالت أتأمرني
بقتل ولدى فقال نهى الله عن قتل الولد وان عبد المطلب نذر ان تم له عشرة بنين أن يذبح
عاشرهم فتم له ذلك بعبد الله أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفرع بينه وبين عشر من
139

الإبل فخرجت القرعة عليه فما زال يزيد عشرا عشرا والقرعة تخرج عليه حتى بلغت الإبل
مائه فخرجت القرعة عليها ثلاث مرات فنحر مائة من الإبل وأرى عليك مائة من الإبل
والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على صحة النذر واختلفوا فيما يخرج به فاستدللنا باجماعهم
على صحة النذر لان من الاجماع أن يشتهر قول بعض الكبار منهم ولا يظهر خلاف ذلك
ولا شك أن رجوع ابن عباس إلى قول مسروق قد اشتهر ولم يظهر من أحد خلاف ذلك
والذي روى عن مروان أخطأ الفتيا لا نذر في معصية الله شاذ لا يلتفت إليه فان
قول مروان لا يعارض قول الصحابة مع أن الاجماع لا يعتبر فيما يكون مخالفا للقياس ولكن
قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة يترك به القياس لأنه لا وجه لحمل قوله الا
على السماع ممن ينزل عليه الوحي ثم أخذنا بفتوى ابن عباس ومسروق في ايجاب الشاة
لها لان هذا القدر متفق عليه فان من أوجب بدنة أو أكثر فقد أوجب الزيادة أو
لان من أوجب الشاة فإنما أوجبها استدلالا بقصة الخليل صلوات الله عليه ومن أوجب
مائة من الإبل فإنما أوجبها استدلالا بفعل عبد المطلب والاخذ بفعل الخليل صلوات الله
عليه أولى من الاخذ بفعل عبد المطلب وهو الاستدلال الفقهي في المسألة فان الشاة محل
لوجوب ذبحها بايجاب ذبح مضاف إلى الولد فكان إضافة النذر بالذبح إلى الولد بهذا الطريق
كالإضافة إلى الشاة فيكون ملزمة وبيانه أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه أمر بذبح
الولد كما أخبر به ولده فقال الله تعالى مخبرا عنه انى أرى في المنام أنى أذبحك أي أمرت
بذبحك بدليل أن ابنه قال في الجواب يا أبت افعل ما تؤمر ولأنهما اعتقدا الامر بذبح
الولد حيث اشتغلا به فأقر عليه وتقرير الرسل على الخطأ لا يجوز خصوصا فيما لا يحل
العمل فيه بغالب الرأي من إراقة دم نبي ثم وجب عليه بذلك الامر ذبح الشاة لان الله
تعالى قال وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي حققت وإنما حقق ذبح الشاة فلا
يجوز أن يقال إنما سماه مصدقا رؤياه قبل ذبح الشاة لان في الآية تقديما وتأخيرا معناه
وفديناه بذبح عظيم وناديناه أن يا إبراهيم وهذا لان قبل ذبح الشاة إنما أتى بمقدمات ذبح
الولد من تله للجبين وامراره السكين على حلقه وبه لم يحصل الامتثال لأنه ليس بذبح ولأنه
لو حصل الامتثال به لم تكن الشاة فداء ولا يجوز أن يقول وجوب الشاة بأمر آخر لان
اثبات أمر آخر بالرأي غير ممكن ولأنه حينئذ لا يكون فداء والله تعالى سمى الشاة فداء
140

على أنه دفع مكروه الذبح عن الولد بالشاة وهذا إذا كان وجوب الشاة بذلك الامر ولا
يجوز أن يقال وجوب عليه ذبح الولد بدليل أنه اشتغل بمقدماته وإنما كانت الشاة
فداء عن ولد وجوب ذبحه وهذا لا يوجد في النذر وهذا لأنه ما وجب عليه ذبح الولد حتى
جعلت الشاة فداء إذا لو كان واجبا لما تأدى بالفداء مع وجود الأصل في يده ولان الولد
كان معصوما عن الذبح وقذ ظهرت العصمة حسا على ما روى أن الشفرة كانت تنبو وتنفل
ولا تقطع وبين كونه معصوما عن الذبح وبين كونه واجب الذبح منافاة فعرفنا أنه ما وجب
ذبح الولد بل أضيف الايجاب إليه على أن ينحل الوجوب بالشاة وفائدة هذه الإضافة
الابتلاء في حق الخليل عليه السلام بالاستسلام واظهار الطاعة فيما لا يضطلع فيه أحد من
المخلوقين وللولد بالانقياد والصبر على مجاهدة بذل الروح إلى مكاشفة الحال وليكون له ثواب
أن يكون قربانا لله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا ابن الذبيحين وما ذبحا بل أضيف
إليهما ثم فديا بالقرابين ولا يقال قد وجب ذبح الولد ثم تحول وجوب ذبح الولد إلى الشاة
بانتساخ المحلية فتكون الشاة واجبة بذلك الامر كالدين يحال من ذمة إلى ذمة فيفرغ المحل
الأول منه بعد الوجوب فيه فيكون واجبا في المحل الثاني بذلك السبب وهذا لان الوجوب
في المحل لا يكون الا بعد صلاحية المحل له وبعد ذلك وان تحول إلى محل آخر يبقى المحل الأول
صالحا لمثله كالدين إذا حول من ذمة إلى ذمة ولم يبق الولد محلا صالحا لذبح هو قربان فعرفنا
أنه لم يكن محلا وان الوجوب بحكم ذلك الايجاب حل بالشاة من حيث أنه يقدم على الولد
في قبول حكم الوجوب ولهذا سمى فداء نظيره من الحياة أن يرمي إلى انسان فيفديه غيره
بنفسه من حيث أنه يتقدم عليه لينفذ السهم فيه لا ان يتحول إليه بعدما وصل إلى المحل
ويقول لغيره فدتك نفس عن المكاره والمراد هذا ومن الشرعيات الخف مقدم على الرجل
في قبول حكم الحدث لا ان يتحول إلى الخف ما حل بالرجل من الحدث ولو سلمنا انه
وجب ذبح الولد فإنما كان ذلك لغيره وهو الفداء لا لعينه ولهذا صار محققا رؤياه بالفداء وفي
مثل هذا ايجاب الأصل في حال العجز عنه يكون ايجابا للفداء كالشيخ الفاني إذا نذر
الصوم يلزمه الفداء لان وجوب الصوم عليه شرعا لغيره وهو الفداء لا لعينه فإنه عاجز عنه
وذكر الطبري في تفسيره ان الخليل عليه السلام كان نذر الذبح لأول ولد يولد له ثم نسي
ذلك فذكر في المنام فان ثبت هذا فهو نص لان شريعة من قبلنا تلزمنا ما لم يظهر ناسخه
141

خصوصا شريعة الخليل صلوات الله عليه قال الله تعالى فاتبع ملة إبراهيم حنيفا فأما إذا نذر
بذبح عبده فمحمد رحمه الله تعالى أخذ فيه بالاستحسان أيضا وقال أيضا يلزمه ذبح الشاة
لان العبد كسبه وملكه فإذا صح إضافة النذر إلى الولد لكونه كسبا له وإن لم يكن ملكا
له فلان يصح اضافته إلى كسبه وهو ملكه أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالقياس
فقال لا يلزمه شئ لان جعل الشاة فداء عن الولد لكرامة الولد والعبد في استحقاق الكرامة
ليس بنظير الولد ولا مدخل للقياس في هذا الباب وان نذر ذبح ابن ابنه ففيه روايتان عن
أبي حنيفة رحمه الله تعالى في احدى الروايتين لا يلزمه شئ وهو الأظهر لان ابن الابن
ليس نظير الابن من كل وجه ولا مدخل للقياس في هذا الباب وفى الرواية الأخرى قال
يلزمه لأنه مضاف إليه بالبنوة كالابن وهو في معنى الكرامة كالابن في حقه وان أضاف
النذر إلى أبيه أو أمه لا يلزمه شئ في الصحيح من الجواب لأنه لا ولاية له عليهما وهما
كالأجانب في حقه في حكم النذر بالذبح وفى الهارونيات يشير إلى أنه يلزمه ذبح الشاة
وكأنه اعتبر أحد الطرفين بالطرف الآخر ثم قد بينا الفرق في المناسك بين النذر بالهدى
والبدنة والجزور وإذا حلف بالنذر فان نوى شيئا من حج أو عمرة فعليه ما نوى لان المنوي
من محتملات لفظه فيكون كالملفوظ به وإن لم يكن له نية فعليه كفارة يمين لقوله صلى الله
عليه وسلم النذر يمين وكفارته كفارة يمين ولأنه التزام بحق الله والحلف في مثله يوجب
الكفارة ساترة للذنب وان حلف على معصية بالنذر فعليه كفارة يمين وقال الشعبي رحمه الله
تعالى لا شئ عليه لان المعاصي لا تلتزم بالنذر والكفارة خلف عن البر الواجب باليمين
أو الوفاء الواجب بالنذر وذلك لا يوجد في المعصية وحكى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى دخل
على الشعبي رضي الله عنه وسأله عن هذه المسألة فقال لا شئ عليه لان المنذور معصية فقال
أبو حنيفة رحمه الله تعالى أليس أن الظهار معصية وقد أمر الله بالكفارة فيه فتحير الشعبي
وقال أنت من الآرائيين وفى الكتاب استدل بهذا وبقوله صلى الله عليه وسلم فليأت الذي
هو خير وليكفر عن يمينه وإذا حلف بالنذر وهو ينوى صياما ولم ينو عددا فعليه صيام ثلاثة
أيام إذا حنث لان ما أوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وأدنى ما أوجب الله
من الصيام ثلاثة أيام وكذلك إذا نوى صدقة ولم ينو عددا فعليه اطعام عشرة مساكين لكل
مسكين نصف صاع من الحنطة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله تعالى عليه من
142

اطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين وقد بينا هذه الفصول في المناسك ولا ينبغي
أن يحلف فيقول وأبيك وأبى فإنه بلغنا أن بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ونهى
عن الحلف بجد من جدوده ومن الحلف بالطواغيت وفى الباب حديثان (أحدهما) حديث
عمر رضي الله عنه قال تبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الاسفار وأنا أحلف
بأبي فقال لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر فما
حلفت بعد ذلك لا ذاكرا ولا آثرا وفى حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من
حلف بغير الله فقد أشرك ومن قال لغيره تعالى أفاخرك فليقل لا إله إلا الله وإذا حلف
على يمين أو نذر وقال إن شاء الله موصولا فليس عليه شئ عندنا وقال مالك يلزمه حكم
اليمين والنذر لأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى ولا يتغير بذكره حكم الكلام ولكنا
نستدل بقوله تعالى ستجدني إن شاء الله صابرا ولم يصبر ولم يعاتبه على ذلك والوعد من
الأنبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم من استثنى فله ثنياه
وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم موقوفا عليهم ومرفوعا من حلف
على يمين وقال إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه ولا كفارة إلا أن ابن عباس كان
يجوز الاستثناء وإن كان مفصولا لقوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت يعنى إذا نسيت
الاستثناء موصولا فاستثن مفصولا ولسنا نأخذ بهذا فان الله تعالى بين حكم الزوج الثاني
بعد التطليقات الثلاث ولو كان الاستثناء المفصول صحيحا لكان المطلق يستثنى إذا ندم
ولا حاجة إلى المحلل وفي تصحيح الاستثناء مفصولا اخراج العقود كلها من البيوع
والأنكحة من أن تكون ملزمة (قال) والى هذا أشار أبو حنيفة رحمه الله تعالى حين
عاتبه الخليفة فقال أبلغ من قدرك أن تخالف جدي قال ففيم يا أمير المؤمنين قال
في الاستثناء المفصول قال إنما خالفته مراعاة لعهودك فإذا جاز الاستثناء المفصول فبارك
الله في عهودك اذن فإنهم يبايعونك ويحلفون ثم يخرجون فيستثنون فلا يبقى عليهم لزوم
طاعتك فندم الخليفة وقال استر هذا علي وتأويل قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت أي
إذا لم تذكر إن شاء الله في أول كلامك فاذكره في آخر كلامك موصولا بكلامك ثم
الاستثناء مبطل للكلام ومخرج له من أن يكون عزيمة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى وفى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى هو بمعنى الشرط وقد بينا هذا فيما أمليناه من
143

ايمان الجامع وإذا حلف على يمين فحنث فيها فعليه أي الكفارات شاء ان شاء أعتق ق ق رقبة
وان شاء أطعم عشرة مساكين وان شاء كسا عشرة مساكين لقول إبراهيم النخعي كل
شئ في القرآن بأو فهو بالخيار وإن لم يجد شيئا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعة عندنا وهو
بالخيار عند الشافعي رحمه الله تعالى ان شاء تابع وان شاء فرق لأن الصوم مطلق في قوله
تعالى فصيام ثلاثة أيام ولكنا نشترط صفة التتابع بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه ثلاثة أيام
متتابعة وقد بينا هذا في كتاب الصوم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين صدقة الفطر فقد
ورد هناك حديثان أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام أدوا عن كل حر وعبد والثاني قوله
أدوا من كل حر وعبد من المسلمين ثم لم يحمل المطلق على المقيد حتى أوجبنا صدقة الفطر
عن العبد الكافر وهذا لأن المطلق والمقيد هناك في السبب ولا منافاة بين السببين
فالتقييد في أحد الحديثين لا يمنع بقاء حكم الاطلاق في الحديث الآخر بناء على أصلنا ان
التعليق بالشرط لا يقتضي نفى الحكم عند عدم الشرط وهنا المطلق والمقيد في الحكم وهو
الصوم الواجب في الكفارة وبين التتابع والتفريق منافاة في حكم واحد ومن ضرورة ثبوت
صفة التتابع بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه لا يبقي مطلقا (قال) ويجوز في كفارة
اليمين من الرقاب ما يجزى في كفارة الظهار والحكم في هذه الرقبة مثل الحكم في تلك
الرقبة سواء على ما ذكرنا في باب الظهار رجل أعتق نصف عبده عن يمينه وأطعم خمسة
مساكين فذلك لا يجزى عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما العتق لا يتجزى
ويتأدى الواجب بالعتق عندهما وعند أبي حنيفة العتق يتجزى والواجب هو اعتاق رقبة أو
اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولم يوجد ذلك لان نصف الرقبة ليس برقبة ولو جوزنا
هذا كان نوعا رابعا فيما يتأدى به الكفارة واثبات مثله بالرأي لا يجوز وهذا بخلاف ما لو
أطعم كل مسكين مدا من بر ونصف صاع من شعير لان التقدير في الطعام غير منصوص
عليه في القرآن واثبات ذلك لمعنى حصول كفاية المسكين به في يومه وفى ذلك لا يفترق
الحال بين الأداء من نوع واحد ومن نوعين وهنا الرقبة في التحرير وعشرة مساكين في
الاطعام منصوص عليه ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان اخلالا بالمنصوص عليه
وذلك لا يجوز وان حنث وهو معسر وأخر الصوم حتى أيسر لم يجزه الصوم هكذا نقل
عن ابن عباس وإبراهيم النخعي رضي الله عنهما إذا صام المكفر يومين ثم وجد في اليوم
144

الثالث ما يطعم أو يكسو لم يجزه الصوم وعليه الكفارة بالاطعام أو الكسوة لأنه قدر على
الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فيسقط به حكم البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت
والمتيمم إذا أبصر الماء قبل أداء الصلاة وهذا لان الله تعالى شرط عدم الوجود بقوله فمن لم
يجد وهذا الشرط ليس لتصحيح الصوم فان أصل الصوم صحيح من الواجد للمال ولكنه
شرط ليكون الصوم كفارة يسقط به الواجب وذلك عند الأداء والفراغ منه فإذا انعدم
هذا الشرط لم يكن الصوم كفارة له وللشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقاويل
في قول مثل قولنا وقول آخر أن المعتبر حالة الوجوب في اليسار والعسرة وما وجب عند
ذلك صار دينا في ذمته لا يتغير بتغير حاله بعد ذلك كالزكاة وصدقة الفطر واعتبره
بالحدود أن المعتبر عند الوجوب بالتنصف بالرق وهذا ضعيف لان الواجب باليمين
الكفارة لا ما يكفر به كالواجب بالحدث الطهارة دون ما يتطهر به من الماء والتراب بل
ذلك يختلف باختلاف حاله في القدرة والعجز عند الأداء ووجوب الحد باعتبار هتك
حرمة المنعم بالجناية والنعمة تختلف بالرق والحرية وذلك عند ارتكاب الجناية لا بعده مع أن
الحدود تندرئ بالشبهات فإذا وجب بصفة النقصان لا يتكامل بالحرية الطارئة من بعدوله
قول آخر أنه لا يجوز الصوم ما لم يكن معسرا من وقت الوجوب إلى وقت الأداء لان
التكفير بالصوم عن ضرورة محضة وذلك لا يتحقق إذا كان موسرا في احدى الحالتين
ولأنه إذا كان موسرا عند الحنث فقد وجب عليه التكفير بالمال فهو بالتأخير إلى أن يعسر
مفرط فلا يستحق التخفيف باعتبار تفريطه ولكنا نقول كما أن هذه كفارة ضرورة فالتيمم
طهارة ضرورة ثم كان المعتبر فيه وقت الأداء لا وقت الوجوب وهذا لان الضرورة باعتبار
حاجته إلى اسقاط الواجب عن ذمته وذلك للأداء وان اشترى عبدا شراء فاسدا فقبضه
وأعتقه عن يمينه أجزأه لأنه ملك العبد بالقبض واعتاقه في ملك نفسه نافذ ونية التكفير به
صحيح لكونه متصرفا فيما يملك وان وجبت عليه كفارات ايمان متفرقة فأعتق رقابا بعددهن
ولا ينوي لكل يمين رقبة بعينها أو نوى في كل رقبة عنهن أجزته استحسانا لان نية
التعيين في الجنس الواحد لغو وقد بيناه في باب الظهار وكذلك لو أعتق عن إحداهن وأطعم
عن الأخرى وكسا عن الثالثة كان كل نوع من هذه الأنواع يتأدى به الكفارة مطلقا
فيكون الحكم في كلها سواء وقد بينا في الظهار ان اعتاق الجنين لا يجزي عن الكفارة وان
145

كان موجودا لكونه في حكم الاجزاء فكذلك في اليمين وكفارة المملوك بالصوم ما لم يعتق
لأنه أعسر من الحر المعسر لأنه لا يملك وان ملك ولا يجزى أن يعتق عنه مولاه أو يطعم
ويكسو الا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول للمولى أن يملكه حتى يتسرى بإذن مولاه
وقد بينا هذا في كتاب الطلاق والنكاح وهذا بخلاف الحر إذا أمر انسانا ان يطعم عنه
لان الحر من أهل ان يملك فيجوز أن يجعل هو متملكا بأن يكون المسكين قابضا له أولا
ثم لنفسه والعبد ليس من أهل الملك لان الرق المنافى فيه موجود وبين صفة المالكية
مالا والمملوكية مالا مغايرة على سبيل المنافاة والمكاتب والمدبر وأم الولد في هذا بمنزلة
القن والمستسعى في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كذلك لأنه بمنزلة المكاتب وان صام
المعسر يومين ثم وجد في اليوم الثالث ما يعتق فعليه التكفير بالمال لانعدام شرط جواز
البدل قبل حصول المقصود به والأولى أن يتم صوم يومه وان أفطر فلا قضاء الا على قول
زفر رحمه الله تعالى وهذا والصوم المظنون سواء ذمي حلف على يمين ثم أسلم ثم حنث في
يمينه لم يكن عليه كفارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه الكفارة لأنه من أهل
اليمين فان المقصود من اليمين الحظر أو الايجاب والذمي من أهله قال الله تعالى ألا تقاتلون قوما
نكثوا أيمانهم فقد جعل للكافرين يمينا والدليل عليه أنه يستحلف في المظالم والخصومات
بالله وانه من أهل الطلاق والعتاق ومن أهل اليمين بالطلاق والعتاق فيكون من أهل اليمين
بالله تعالى وإذا انعقدت يمينه يلزمه الكفارة عند الحنث ان حنث قبل الاسلام كفر بالمال
لأنه ليس من أهل التكفير بالصوم ونظيره العبد يلزمه الكفارة بالتكفير بالصوم لأنه
ليس بأهل للتكفير بالمال وان حنث بعد الاسلام كفر بالصوم إذا لم يجد المال والدليل على
أن الكافر أهل للكفارة ان في الكفارة معنى العقوبة ومعنى العبادة فيجب على الكافر بطريق
العقوبة وعلى المسلم بطريق الطهرة كالحدود فإنها كفارات كما قال صلى الله عليه وسلم
الحدود كفارات لأهلها ثم تقام على المسلم التائب تطهرا وعلى الكافر عقوبة (وحجتنا) في
ذلك حديث قيس بن عاصم المنقري حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني
حلفت في الجاهلية أو قال نذرت فقال صلى الله عليه وسلم هدم الاسلام ما كان في الشرك
ولان وجوب الكفارة باعتبار هتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث وما فيه من
الشرك أعظم من ذلك فقد هتك حرمة اسم الله تعالى باصراره على الشرك بأبلغ الجهات
146

وعقد اليمين لما فيه من الحظر والايجاب تعظيما لحرمة اسم الله تعالى والكافر ليس بأهل له
قال الله تعالى فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا ايمان لهم والاستحلاف في المظالم والخصومات لأنه
من أهل مقصودها وهو النكول أو الاقرار وانعقاد يمينه بالطلاق والعتاق لأنه من أهلها
(تنجيزا) فأما هذه اليمين موجبها البر لتعظيم اسم الله والكافر ليس من أهله وبعد الحنث
موجبها الكفارة والكافر ليس بأهل لها لان الكفارة كاسمها ستارة للذنب قال الله تعالى
ان الحسنات يذهبن السيئات ومعنى العقوبة في الكفارة صورة فأما من حيث المعنى والحكم
المقصود منها العبادة ألا ترى أنه يأتي بها من غير أن تقام عليه كرها وانها تتأدى
بالصوم الذي هو محض العبادة ولا تأدى الا بنية العبادة والمقصود بها التطهر كما بينا
بخلاف الحدود فإنها تقام خزيا وعذابا ونكالا ومعنى التكفير بها إذا جاء تائبا مستسلما مؤثرا
عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة كما فعله ماعز رضي الله عنه فلهذا يستقيم اقامتها على الكافر
بطريق الخزي والنكال رجل أعتق رقبة عن كفارة يمينه ينوى ذلك بقلبه ولم يتكلم بلسانه
وقد تكلم بالعتق أجزأه لأن النية عمل القلب ويتأدى به سائر العبادات فكذلك الكفارات
لان اشتراط النية فيها لمعنى العبادة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ان الله لا ينظر إلى صوركم
وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم (قال) ولا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث عندنا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال دون الصوم وإن كان يمينه على معصية فله في جواز
التكفير قبل الحنث وجهان احتج بقوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته
وحرف الفاء للتعقيب مع الوصل فيقتضى جواز أداء الكفارة موصولا بعقد اليمين وقال
صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأي غيرها خيرا منها فليكفر يمينه وليأت الذي
هو خير وفي رواية فليكفر ثم ليأت بالذي هو خير وهذا تنصيص على الامر بالتكفير
قبل الحنث وأقل أحواله أن يفيد الجواز ولان السبب للكفارة اليمين فإنها تضاف إلى
اليمين والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة ومن قال على يمين تلزمه الكفارة باعتبار أن
التزام السبب يكون كناية عن الواجب به والدليل عليه اليمين بالطلاق فالسبب هناك
اليمين دون الشرط حتى يكون الضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط فكذلك
اليمين بالله تعالى وإذا ثبت هذا فنقول أداء الحق المالي بعد وجود سبب الوجوب قبل
الوجوب جائز كأداء الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول وأما البدني لا يجوز الا بعد تقرر
147

الوجوب لان التكفير بالصوم للضرورة ولا ضرورة قبل تقرر الوجوب ولأن هذه
كفارة مالية توقف وجوبها على معنى فيجوز أداؤها قبله ككفارة القتل في الآدمي والصيد
إذا جرح مسلما ثم كفر بالمال قبل زهوق الروح أو جرح المحرم صيدا ثم كفر قبل موته
يجوز بالمال بالاتفاق (وحجتنا) في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تسأل الامارة فإنك ان
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وان أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على
يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وما رواه الشافعي رحمه
الله تعالى محمول على التقديم والتأخير بدليل ما روينا وهذا لمعنيين أحدهما أن الامر يفيد
الوجوب حقيقة ولا وجوب قبل الحنث بالاتفاق والثاني ان قوله فليكفر أمر بمطلق
التكفير ولا يجوز مطلق التكفير الا بعد الحنث اما قبل الحنث يجوز عنده بالمال دون
الصوم وليس من باب التخصيص لان ما يكفر به ليس في لفظه والتخصيص في الملفوظ
الذي له عموم دون ما يثبت بطريق الاقتضاء والمعنى فيه أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب
الكفارة لان أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الشئ طريقا له واليمين مانعة من الحنث
محرمة له فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث ألا ترى أن الصوم والاحرام لما كان
مانعا مما يجب به الكفارة وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة
بخلاف الجرح فإنه طريق يفضى إلى زهوق الروح وبخلاف كمال النصاب فإنه تحقق الغني
المؤدي إلى النماء الذي به يكون المال سببا لوجوب الزكاة ولان الكفارة لا تجب الا بعد ارتفاع
اليمين فان بالحنث اليمين يرتفع وما يكون سببا للشئ فالوجوب يترتب على تقرره لا على ارتفاعه
والدليل عليه أن اليمين ليست بسبب التكفير بالصوم حتى لا يجوز أداؤه قبل الحنث وبعد
وجود السبب الأداء جائز ماليا كان أو بدنيا الا ترى أن صوم المسافر في رمضان يجوز لوجود السبب
وإن كان الأداء متأخرا إلى أن يدرك عدة من أيام أخر وإضافة الكفارة إلى اليمين لأنها تجب
بحنث بعد اليمين كما تضاف الكفارة إلى الصوم والاحرام بهذا الطريق ولئن سلمنا أن اليمين
سبب فالكفارة إنما تجب خلفا عن البر الواجب ليصير عند أدائها كأنه تم على بره ولا معتبر
بالخلف في حال بقاء الواجب وقبل الحنث ما هو الأصل باق وهو البر فلا تكون الكفارة
خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء يقرره أن الكفارة توبة كما قال الله تعالى
في كفارة القتل توبة من الله والتوبة قبل الذنب لا تكون وهو في عقد اليمين معظم حرمة
148

اسم الله تعالى فأما الذنب في هتك حرمة اسم الله تعالى فالتكفير قبل الحنث بمنزلة الطهارة
قبل الحدث بخلاف كفارة القتل فإنه جزاء جنايته وجنايته في الجرح إذ لا صنع له في زهوق
الروح وبخلاف الزكاة لأنه شكر النعمة والنعمة المال دون مضى الحول فكان حولان
الحول تأجيلا فيه والتأجيل لا ينفي الوجوب فكيف ينفي تقرر السبب (قال) وإذا أعتق
عبدا عند الموت عن كفارة يمينه وليس له مال غيره عتق من ثلثه ويسعى في ثلثي
قيمته لان ما يباشره المريض من العتق كالمضاف إلى ما بعد الموت ولو أوصى به بعد الموت
كان معتبرا من ثلثه على ما بيناه في الزكاة وسائر الحقوق الواجبة لله تعالى وإذا لم يكن
له مال سواه فقد لزمه السعاية في ثلثي قيمته وكان هذا عتقا بعوض فلا يجزيه عن الكفارة
وكذلك أن أعتقه في صحته على مال قليل أو كثير لان العتق بمال لا تمحض قربة والكفارة
لا تتأدى الا بما هو قربة فان أبرأه من المال بعد ذلك لم يجز عن كفارته لان أصل العتق وقع
غير مجزئ عن الكفارة والابراء عن المال بعد ذلك اسقاط للدين ولا مدخل له في الكفارات
فلهذا لا يجزيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(باب الاطعام في كفارة اليمين)
(قال) رضى الله تعالى عنه بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمولى له أرقا وفى رواية (1) برقا
انى أحلف على قوم أن لا أعطيهم ثم يبدو لي فأعطيهم فإذا أنا فعلت ذلك فأطعم عنى عشرة
مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر وفى هذا دليل انه لا بأس
للانسان ان يحلف مختارا بخلاف ما يقوله المتشفعة ان ذلك مكروه بظاهر قوله ولا تجعلوا الله
عرضة لايمانكم ولكنا نقول قد حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة من غير
ضرورة كانت له في ذلك وتأويل تلك الآية انه يجازف في الحلف من غير مراعاة البر والحنث
وفيه دليل على أن الحالف إذا رأى الحنث خيرا يجوز له ان يحنث نفسه وقد روينا فيه حديث
عبد الرحمن بن سمرة وفى حديث أبي مالك الأشعري رحمه الله تعالى قال اتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين نستحمله فحلف أن لا يحملنا ثم رجع قوم من عنده بخمس
ذود وقالوا حملنا عليها فقلت لعله نسي يمينه فاتيته فأخبرته بذلك فقال إني أحلف ثم أرى
غيره خيرا منه فأتحلل يميني وفيه دليل ان أوان التكفير ما بعد الحنث كما هو مذهبنا وأن
149

ما روى فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير محمول على التقديم والتأخير وكذلك قوله ثم يأت
بالذي هو خير لان ثم قد تكون بمعنى الواو قال الله تعالى ثم كان من الذين آمنوا أي وكان
ثم الله شهيد أي والله شهيد وفيه دليل أن التوكيل بالتكفير جائز بخلاف ما يقوله بعض
الناس أنه لا توكيل في العبادة أصلا لظاهر قوله تعالى وان ليس للانسان لا ما سعى ولكنا
نقول المقصود فيما هو مالي الابتداء باخراج جزء من المال عن ملكه وذلك يتحقق بالنائب
وفيه دليل أن الوظيفة لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو صاع من
شعير وهكذا روى عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم وذكر بعده عن علي رضي الله عنه
نصف صاع من حنطة وقد بينا هذه المسألة في كتاب الظهار وكفارة ليمين مثله وقد بينا
ان دقيق الحنطة وسويقها بمنزلة الحنطة لان ما هو المقصود يحصل للفقير بهما مع سقوط
مؤنة الطحن عنه وقد بينا ان طعام الإباحة تتأدى به الكفارة عندنا والمعتبر فيه أكلتان
مشبعتان سواء كان خبز البر مع الطعام أو بغير أدام وان أعطى قيمة الطعام يجوز فكذلك في
كفارة اليمين وكذلك أن غداهم وأعطاهم قيمة العشاء اعتبارا للبعض بالكل وهذا لان
المقصود واحد وقد أتى من كل وظيفة بنصفه وان غداهم وعشاهم وفيهم صبي فطم أو فوق
ذلك شيئا لم يجز لأنه لا يستوفى كمال الوظيفة كما يستوفيه البالغ وعليه طعام مسكين واحد
مكانه فان أعطى عشرة مساكين كل مسكين مدا من حنطة فعليه ان يعيد عليهم مدا مدا وإن لم
يقدر عليهم استقبل الطعام لان الواجب لا يتأدى الا بايصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين
وذلك نصف صاع من حنطة وذكر هشام عن محمد رحمهما الله أنه لو أوصى بأن يطعم عنه
عشرة مساكين في كفارة يمينه فغدى الوصي عشرة مساكين ثم ماتوا قبل أن يعشيهم فعليه
الاستقبال لان الوظيفة في طعام الإباحة الغداء والعشاء فلا يتأدى الواجب الا باتصال وظيفة
كاملة إلى كل مسكين ولا يكون الوصي ضامنا لما أطعم لأنه فيما صنع كان ممتثلا لامره وكان
بقاؤهم إلى أن يعشيهم ليس في وسعه ولو كان أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين غداء
وعشاء ولم يذكر الكفارة فغدى الوصي عشرة فماتوا فإنه يعشى عشرة أخرى ويكفي ذلك
لان الموصى به أكلتان فقط دون اسقاط الكفارة بهما وقد وجد بخلاف الأول ثم قد بينا
في باب الظهار أن المسكين الواحد في الأيام المتفرقة كالمساكين عندنا وعند تفريق الدفعات
في يوم واحد فيه اختلاف بين المشايخ فكذلك في اليمين وبينا هناك أن اطعام فقراء أهل
150

الذمة في الكفارة يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف
والشافعي رحمهما الله تعالى وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بين
المنذور والكفارة فقال إذا نذر اطعام عشرة مساكين فله أن يطعم فقراء أهل الذمة إنما ليس
له أن يطعم في الكفارة فقراء أهل الذمة اعتبارا لما أوجب الله عليه من الكفارة بالزكاة
وقد بينا أنه يجوز صرف الكفارة إلى من يجوز صرف الزكاة إليه ولو أطعم خمسة مساكين
وكسا خمسة مساكين أجزأه ذلك من الطعام إن كان الطعام أرخص من الكسوة وان كانت
الكسوة أرخص من الطعام لم يجزأ مالا يجزئ كل واحد منهما عن نفسه لان المنصوص عليه
ثلاثة أنواع فلو جوزتا اطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة مساكين كان نوعا رابعا فيكون
زيادة على المنصوص وهذا بخلاف ما إذا أدى إلى كل مسكين مدا من حنطة ونصف صاع
من شعير لان المقصود واحد وهو سد الجوعة فلا يصير نوعا رابعا فأما المقصود من
الكسوة غير المقصود من الطعام ألا يرى أن الإباحة تجزى في أحدهما دون الآخر ولو جوزنا
النصف من كل واحد منهما كان نوعا رابعا ثم مراده من هذه المسألة إذا أطعم خمسة مساكين
بطريق الإباحة والتمكين دون التمليك فان التمليك فوق التمكين وإذا كان الطعام أرخص
من الكسوة أمكن اكمال التمكين بالتمليك فتجوز الكسوة مكان الطعام وان كانت الكسوة
أرخص لا يمكن إقامة الطعام مقام الكسوة لان التمكين دون التمليك وفى الكسوة
التمليك معتبر فلا يمكن إقامة الكسوة مقام الطعام لأنه ليس فيهما وفاء بقيمة الطعام فأما
إذا ملك الطعام خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين فإنه يجوز على اعتبار انه إن كان الطعام
أرخص تقام الكسوة مقام الطعام وان كانت الكسوة أرخص يقام الطعام مقام الكسوة
لوجود التمليك فيها إليه أشار في باب الكسوة بعد هذا ولو أطعم خمسة مساكين ثم افتقر
كان عليه أن يستقبل الصيام لان اكمال الأصل بالبدل غير ممكن فإنهما لا يجتمعان وليس له
أن يسترد من المساكين الخمسة ما أعطاهم لأنها صدقة قد تمت بالوصول إلى يد المساكين ومن
كانت له دار يسكنها أو ثوب يلبسه ولا يجد شيئا سوى ذلك أجزأه الصوم في الكفارة لان
المسكن والثياب من أصول حوائجه وما لا بد منه فلا يصير به واجدا لما يكفر به بخلاف ما لو
كان له عبد يخدمه فان ذلك ليس من أصول الحوائج ألا ترى ان كثيرا من الناس يتعيش من
151

غير خادم له ولان الرقبة منصوص عليها فمع وجود المنصوص عليه في ملكه لا يجزيه الصوم
وفي الكتاب علل فقال لان الصدقة تحل له وهذا يؤيد مذهب أبي يوسف رحمه الله الذي
ذكره في الأمالي أنه إذا كان الفاضل من حاجته دون ما يساوي مائتين يجوز له التكفير
بالصوم لان الصدقة تحل له فلا يكون موسرا ولا غنيا فاما ظاهر المذهب أنه إذا كان يملك
فضلا عن حاجته مقدار ما يكفر به لا يجوز له التكفير بالصوم لان المنصوص عليه الوجود
دون الغنى واليسار قال الله تعالى فمن لم يجد وهذا واجد وقد بينا في كتاب الاعتاق أن
المعتبر في وجوب الضمان ملكه مقدار ما يؤدى به الضمان وإن كان اليسار منصوصا عليه
هناك فهنا أولى وبينا في الظهار أنه لو أعطى كل مسكين صاعا عن ظهارين لا يجزيه إلا عن
أحدهما في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى بخلاف ما إذا اختلف جنس
الكفارة فكذلك في كفارة اليمين وان أعطى عشرة مساكين ثوبا عن كفارة يمين لم يجزه
عن الكسوة لان الواجب عليه لكل مسكين كسوته وهو ما يصير به مكتسيا وبعشر الثوب
لا يكون مكتسيا ويجزى من الطعام إذا كان الثوب يساويه وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
لا يجزيه الا بالنية لأنه يجعل الكسوة بدلا عن الطعام وهو إنما نواه بدلا عن نفسه فلا
يمكن جعله بدلا عن غيره الا بنية وجه ظاهر الرواية أنه ناو للتكفير به وذلك يكفيه كما
لو أدى الدراهم بنية الكفارة يجزيه وإن لم ينو أن يكون بدلا عن الطعام إلا أن أبا يوسف
يقول الدراهم ليست بأصل فأداؤها بنية الكفارة يكون قصدا إلى البدل فاما الكسوة أصل
فأداؤها بنية الكفارة لا يكون قصدا إلى جعلها بدلا عن الطعام ولكنا نقول عشر الثوب
ليس بأصل في الكسوة لكل مسكين فهو وأداء الدراهم سواء مسلم حلف على يمين ثم
ارتد ثم أسلم فحنث فيها لم يلزمه شئ لأنه بالردة التحق بالكافر الأصلي ولهذا حبط عمله قال
الله تعالى ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وكما أن الكفر الأصلي ينافي الأهلية لليمين
الموجبة للكفارة فكذلك الردة تنافى بقاء اليمين الموجبة للكفارة وإذا جعل الرجل لله على
نفسه اطعام مسكين فهو على ما نوى من عدد المساكين وكيل الطعام لان المنوي من محتملات
لفظه وهو شئ بينه وبين ربه وإن لم يكن له نية فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف
صاع من حنطة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله عليه من اطعام المساكين وأدنى
ذلك عشرة مساكين في كفارة اليمين الا انه ان قال في نذره اطعام المساكين فليس له ان
152

يصرف الكل إلى مسكين واحد جملة وان قال طعام المساكين فله ذلك لان بهذا اللفظ
يلتزم مقدارا من الطعام وباللفظ الأول يلتزم الفعل لان الاطعام فعل فلا يتأدى الا بأفعال
عشرة ويعطى من الكفارة من له الدار والخادم لأنهما يزيدان في حاجته فالدار تسترم
والخادم يستنفق وقد بينا انه يجوز صرف الزكاة إلى مثله فكذلك الكفارة وان أوصى
بأن يكفر عنه يمينه بعد موته فهو من ثلثه لأنه لا يجب أداؤه بعد الموت الا بوصية ومحل
الوصية الثلث ثم ذكر الاختلاف في مقدار الصاع وقد بيناه في صدقة الفطر والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب
(باب الكسوة)
(قال) رضى الله تعالى والكسوة ثوب لكل مسكين إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء
هكذا نقل عن الزهري في قوله تعالى أو كسوتهم أنه الإزار فصاعدا من ثوب تام لكل
مسكين وعن ابن عباس رضي الله عنه قال لكل مسكين ثوب ويعطى في الكسوة القباء
والذي روى عن أبي موسى الأشعري أنه كان يعطى في كفارة اليمين لكل مسكين ثوبين
فإنما يقصد التبرع بأحدهما فأما الواحد يتأدى به الواجب هكذا نقل عن مجاهد رحمه الله
تعالى قال أدناه ثوب لكل مسكين وأعلاه ما شئت وهذا لان الكسوة ما يكون المرء به
مكتسيا وبالثوب الواحد يكون مكتسيا حتى يجوز له أن يصلى في ثوب واحد وإذا كان في
ثوب واحد فالناس يسمونه مكتسيا لا عاريا والمراد بالإزار الكبير الذي هو كالرداء فأما
الصغير الذي لا يتم به ستر العورة لا يجزى ولو كسا كل مسكين سراويل ذكر في النوادر
عن محمد رحمه الله تعالى أنه يجزئه لأنه يكون به مكتسيا شرعا حتى تجوز صلاته فيه وعن
أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه من الكسوة لأن لابس السراويل وحده يسمى عريانا
لا مكتسيا إلا أن تبلغ قيمته قيمة الطعام فحينئذ يجزئه من الطعام إذا نواه ولو أعطى كل
مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة لان الاكتساء به لا يحصل ولكنه يجزى من
الطعام إذا كان نصف ثوب يساوى نصف صاع من حنطة ولو كسا كل مسكين قلنسوة أو
أعطاه نعلين أو خفين لا يجزيه من الكسوة لان الاكتساء به لا يحصل وان أعطى كل واحد
منهم عمامة فإن كان ذلك يبلغ قميصا أو رداء أجزأه والا لم يجزه من الكسوة لان العمامة كسوة
153

الرأس كالقلنسوة ولكن يجزيه من الطعام إذا كانت قيمته تساوي قيمة الطعام ولو أعطى عشرة
مساكين ثوبا بينهم وهو ثوب كثير القيمة يصيب كل مسكين أكثر من قيمة ثوب لم يجزه
من الكسوة لأنه لا يكتسى به كل واحد منهم ولكن يجزيه من الطعام قال ألا ترى أنه لو
أعطى كل مسكين ربع صاع حنطة وذلك يساوى صاعا من تمر لم يجز عنه من الطعام ولو كان
هذا المد من الحنطة يساوى ثوبا كان يجزئ من الكسوة دون الطعام وهذا تفسير لما أبهمه
قبل هذا من أنه لا يجوز إقامة الطعام مقام الكسوة وتبين بهذا ان المراد هناك التمكين دون
التمليك ولو أعطى مسكينا واحدا عشرة أثواب في مرة واحدة لم يجزه كما في الطعام وان أعطاه
في كل يوم ثوبا حتى استكمل عشرة أثواب في عشرة أيام أجزأه كما في الطعام (فان قيل)
الحاجة إلى الطعام تتجدد بتجدد الأيام والحاجة إلى الكسوة لا تتجدد بتجدد الأيام وإنما تتجدد
في كل ستة أشهر أو نحو ذلك (قلنا) نعم الحاجة إلى الملبوس كذلك ولكنا أقمنا التمليك
مقامه في باب الكسوة والتمليك يتحقق في كل يوم وإذا قام الشئ مقام غيره يسقط اعتبار
حقيقة نفسه وهذا لان الحاجة إلى الملك لا نهاية لها إلا أنا لا نجوز أداء الكل دفعة
واحدة للتنصيص على تفريق الأفعال وذلك بتفرق الأيام في حق الواحد وقد يحصل
أيضا بتفرق الدفعات في يوم واحد إلا أنه ليس لذلك حد معلوم فقدرنا بالأيام وجعلنا
تجدد الأيام في حق الواحد كتجدد الحاجة تيسيرا وان أعطى عشرة مساكين عبدا أو
دابة قيمته تبلغ عشرة أثواب أجزأه من الكسوة باعتبار القيمة كما لو أدى الدراهم وإن لم
تبلغ قيمته عشرة أثواب وبلغت قيمة الطعام أجزأه من الطعام لان مقصوده معلوم وهو
سقوط الواجب به عنه فيحصل مقصوده بالطريق الممكن ولو أقام رجل البينة عليه أنه
ملكه واخذه فعليه استقبال التكفير لان المؤدى استحق من يد المسكين فكأنه لم يصل
إليه ولو كسا عن رجل بأمره عشرة مساكين أجزأ عنه وإن لم يعط عنه ثمنا لان فعل
الغير يتنقل إليه بأمره كفعله بنفسه والمسكين يصير قابضا له أولا ثم لنفسه وقد بينا في
الطعام مثله في الظهار ولو كساهم بغير أمره ورضى به لم يجز عنه لان الصدقة قد تمت من
جهة المؤدي فلا يتصور وقوعها عن غيره بعد ذلك وان رضى به ولو أعطى عن كفارة ايمانه
في أكفان الموتى أو في بناء مسجد أو في قضاء دين ميت أو في عتق رقبة لم يجز عنه لان
الواجب إنما يتأدى بالتمليك إلى الفقير والتمليك لا يحصل بهذا وقد بينا مثله في الزكاة أنه
154

لا يجزئه (فان قيل) في باب الكفارة التمليك غير محتاج إليه عندكم حتى يتأدى بالتمكين من
الطعام بخلاف الزكاة (قلنا) لا يعتبر التمليك عند وجود ما هو المنصوص عليه وهو فعل
الاطعام وهذا لا يوجد في هذه المواضع فلا بد من اعتبار التمليك وذلك لا يحصل بتكفين
الميت وبناء المسجد وان أعطى منها ابن سبيل منقطعا به أجزأه لأنه محل لصرف الزكاة إليه
وقد بينا أن مصرف الكفارة من هو مصرف الزكاة ولو كانت عليه يمينان فكسا عشرة
مساكين كل مسكين ثوبين عنهما أجزأه عن يمين واحدة في قول أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله تعالى كما في الطعام وإذا كسا مسكينا عن كفارة يمينه ثم مات المسكين فورثه هذا
منه أو اشتراه في حياته أو وهبه له لم يفسد ذلك عليه لان الواجب قد تأدى بوصول الثوب
إلى يد المسكين ولم يبطل ذلك بما اعترض له من الأسباب وقد بينا في الزكاة نظيره والأصل
فيه ما روى أن بريرة كان يتصدق عليها وتهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول
هي لها صدقة ولنا هدية فهذا دليل على أن اختلاف أسباب الملك ينزل منزلة اختلاف
الأعيان وفي حديث أبي طلحة أنه تصدق على ابنته بحديقة له ثم ماتت فورثها منها فسأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ان الله قبل منك صدقتك ورد
عليك حديقتك والله أعلم بالصواب
(باب الصيام)
(قال) وإذا حنث الرجل وهو معسر فعليه ثلاثة أيام متتابعة فان أصبح في يوم مفطرا
ثم عزم على الصوم عن كفارة يمينه لم يجزه لأنه دين في ذمته وما كان دينا في الذمة لا يتأدى
الا بنية من الليل وهذا لأنه إنما يتأدى بالنية من النهار صوم يوم توقف الامساك في أول
النهار عليه باعتبار ان النية تستند إليه وهذا فيما يكون عينا في الوقت دون ما يكون دينا في
الذمة وإذا أفطرت المرأة في هذا الصوم لمرض أو حيض فعليها ان تستقبل لأنها تجد ثلاثة
أيام خالية عن الحيض والمرض فلا تعذر فيها بالافطار بعذر الحيض بخلاف الشهرين
المتتابعين وقد بينا هذا في الصوم ولا يجزى الصوم عن هذا في أيام التشريق لأنه واجب
في ذمته بصفة الكمال والصوم في هذه الأيام ناقص لأنه منهى عنه فلا يتأدى به ما وجب
في ذمته بصفة الكمال فإن كان لهذا المعسر مال غائب عنه أو دين وهو لا يجد ما يطعم أو يكسو
155

ولا ما يعتق أجزأه أن يصوم لان المانع قدرته على المال وذلك لا يحصل بالملك دون اليد فما
يكون دينا على مفلس أو غائبا عنه فهو غير قادر على التكفير به إلا أن يكون في ماله الغائب
عبد فحينئذ لا يجزيه التكفير بالصوم لأنه متمكن من التكفير بالعتق فان نفوذ العتق باعتبار
الملك دون اليد وكذلك أن كان العبد أبق وهو يعلم حياته فإنه لا يجزيه التكفير بالصوم لقدرته
على التكفير بالعتق ولو كان له مال وعليه دين مثله أجزأه الصوم بعد ما يقضى دينه عن ذلك
المال وهذا غير مشكل لأنه بعد قضاء الدين بالمال غير واجد لمال يكفر به وإنما الشبهة فيما إذا
كفر بالصوم قبل أن يقضى دينه بالمال فمن مشايخنا من يقول بأنه لا يجوز ويستدل بالتقييد
الذي ذكره بقوله بعد ما يقضى دينه وهذا لان المعتبر هنا الوجود دون الغنى وما لم يقض
الدين بالمال فهو واجد والأصح انه يجزيه التكفير بالصوم لما أشار إليه في الكتاب من
قول الا ترى ان الصدقة تحل لهذا وفى هذا التعليل لا فرق بينما (بينها) قبل قضاء الدين وبعده وهذا
لان المال الذي في يده مستحق بدينه فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا
كان معه ماء وهو يخاف العطش يجوز له التيمم لأن الماء مستحق لعطشه فيجعل كالمعدوم
في حق التيمم وان صام العبد عن كفارة يمينه فعتق قبل أن يفرغ منه وأصاب مالا لم يجزه
الصوم لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل وقد بينا مثله في الحر المعسر إذا
أيسر فكذلك في غيره لان السبب الموجب للكفارة بالمال متحقق في حقه ولكن لانعدام
الملك كان يكفر بالصوم وقد زال ذلك بالعتق فكان هو والحر سواء ولو صام رجل ستة أيام
عن يمينين أجزأه وإن لم ينو ثلاثة أيام لكل واحدة لان الواجب عليه نية الكفارة دون نية
التمييز فان التمييز في الجنس الواحد غير مفيد وإنما يستحق شرعا ما يكون مفيدا والصوم في
نفسه أنواع فلا يتعين نوع من الكفارات الا بالنية فأما كفارات الايمان نوع واحد فلا يعتبر
نية التمييز فيما بينها كقضاء رمضان فان عليه ان ينوى القضاء وليس عليه نية تعيين يوم الخميس
والجمعة ثم فرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين هذا وبين الاطعام والكسوة
من حيث أن هناك لو أعطى كل مسكين صاعا أو ثوبين عن يمينين لم يجز إلا عن واحدة
لان الأداء يكون دفعة واحدة وهنا صوم ستة أيام عن يمينين لا يتصور دفعة واحدة بل
ما لم يفرغ عن صوم ثلاثة أيام لا يتصور صوم ثلاثة أخرى فلهذا جاز كل ثلاثة عن كفارة
ووزان هذا من الطعام والكسوة ما لو فرق فعل الدفع وإن كان عنده طعام احدى
156

الكفارتين فصام لإحداهما ثم أطعم للأخرى لم يجزه الصوم لأنه كفر بالصوم في حال
وجود ما يكفر به من المال وعليه أن يعيد الصوم بعد التكفير بالاطعام لأنه لما كفر بالاطعام
عن يمين فقد صار غير واجد في حق اليمين الأخرى وهو نظير محدثين في سفر وجدا من
الماء مقدار ما يكفي لوضوء أحدهما فتيمم أحدهما أولا ثم توضأ الآخر به فعلى من تيمم
إعادة التيمم بعدما توضأ به الآخر لهذا المعنى ولا يجوز صوم أحد عن أحد حي أو ميت
في كفارة أو غيرها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا لا يصوم أحد
عن أحد ولان معنى العبادة في الصوم في الابتداء بما هو شاق على بدنه وهو الكف عن
اقتضاء الشهوات وهذا لا يحصل في حق زيد بأداء عمرو والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
واليه المرجع والمآب
(باب من الايمان)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبدا ثم حلف في ذلك
المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبدا ثم فعله كانت عليه كفارة يمينين لان اليمين عقد
يباشره بمبتدأ وخبر وهو شرط وجزاء والثاني في ذلك مثل الأول فهما عقدان فبوجود
الشرط مرة واحدة يحنث فيهما وهذا إذا نوى يمينا أخرى أو نوى التغليظ لان معنى
التغليظ بهذا يتحقق أو لم يكن له نية لان المعتبر صيغة الكلام عند ذلك ثم الكفارات لا تندرئ
بالشبهات خصوصا في كفارة اليمين فلا تتداخل وأما إذا نوى بالكلام الثاني اليمين الأول
فعليه كفارة واحدة لأنه قصد التكرار والكلام الواحد قد يكرر فكان المنوي من محتملات
لفظه وهو أمر بينه وبين ربه وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال هذا
إذا كانت يمينه بحجة أو عمرة أو صوم أو صدقة فأما إذا كانت يمينه بالله تعالى فلا تصح نيته
وعليه كفارتان قال أبو يوسف رحمه الله تعالى هذا أحسن ما سمعنا منه ووجهه أن قول فعليه
حجة مذكور بصيغة الخبر فيحتمل أن يكون الثاني هو الأول فأما قوله والله هذا ايجاب
تعظيم المقسم به نفسه من غير أن يكون بصيغة الخبر فكان الثاني ايجابا كالأول فلا يحتمل
معنى التكرار لان ذلك في الاخبار دون الايقاع والايجاب وإذا كانت احدى اليمينين بحجة
والأخرى بالله فعليه كفارة وحجة لان معنى تكرار الأول غير محتمل هنا فانعقدت يمينان
157

وقد حنث فيهما بايجاد الفعل مرة فيلزمه موجب كل واحد منهما فان حلف ليفعلن كذا
إلى وقت كذا وذلك الشئ معصية يحق عليه أن لا يفعله لأنه منهى عن الاقدام على المعصية
ولا يرتفع النهي بيمينه ولكن اليمين منعقدة فإذا ذهب الوقت قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث
فيها بفوت شرط البر فيلزمه الكفارة فإن لم يؤقت فيه وقتا وذلك الفعل مما يقدر على أن يأتي
به كشرب الخمر والزنا ونحوه لم يحنث إلى أن يموت لان الحنث بفوت شرط البر وشرط
البر بوجود ذلك الشئ منه في عمره فإذا مات قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث بفوت شرط
البر حين أشرف على الموت ووجبت عليه الكفارة فينبغي له أن يوصى بها لتقضى بعد موته
كما ينبغي أن يوصي بسائر ما عليه من حقوق الله تعالى كالزكاة ونحوها وإذا حلف بايمان
متصلة معطوفة بعضها على بعض واستثنى في آخرها كان ذلك استثناء جميعها لان
الكلمات المعطوفة بعضها على بعض ككلام واحد فيؤثر الاستثناء في ابطالها كلها اعتبارا
للايمان بالايقاعات وقيل هذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان الاستثناء عندهما
لابطال الكلام وحاجة اليمين الأولى كحاجة اليمين الثانية فأما عند أبي يوسف رحمه الله تعالى
الاستثناء بمنزلة الشرط فإنما يتصرف إلى ما يليه خاصة كما لو ذكر شرطا آخر لان اليمين
الأولى تامه بما ذكر لها من الشرط والجزاء فلا ينصرف الشرط المذكور آخرا إليها وقد
بينا هذا في الجامع وكذلك لو قال إلا أن يبدو لي أو أرى غير ذلك أو إلا أن أرى خيرا
من ذلك فهذا كله من ألفاظ الاستثناء وبه يخرج الكلام من أن يكون عزيمة وايجابا وان
قال إلا أن لا أستطيع فهذا على ثلاثة أوجه فإن كان يعني ما سبق به من القضاء فهو موسع
عليه ولا يلزمه الكفارة لان المنوي من محتملات لفظه فالمذهب عند أهل السنة ان كل
شئ بقضاء وقدر وان الاستطاعة مع الفعل فإذا لم يفعل علمنا أن الاستطاعة التي قد استثنى
بها لم توجد ولكن هذا في اليمين بالله فان موجبه الكفارة وذلك بينه وبين ربه فإن كانت
اليمين بالطلاق أو العتاق فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في الحكم لان العادة
الظاهرة أن الناس يريدون بهذه الاستطاعة ارتفاع الموانع فان الرجل يقول أنا مستطيع لكذا
ولا أستطيع أن أفعل كذا على معنى أنه يمنعني مانع من ذلك قال الله تعالى ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد والراحلة
فإذا كان الظاهر هذا والقاضي مأمور باتباع الظاهر لا يدينه في الحكم فإن كان يعني شيئا يعرض
158

من البلايا لم يسقط عنه يمينه ما لم يعرض ذلك الشئ وكذلك إن لم يكن له نية في الاستطاعة
فهو على أمر يعرض له فلا يكون على القضاء والقدر ما لم ينوه لما بينا أن الكلام المطلق محمول
على ما هو الظاهر والمتعارف ولو قال والله لا أكلم فلانا ووالله لا أكلم فلانا رجلا آخر
إن شاء الله تعالى يعنى بالاستثناء اليمينين جميعا كان الاستثناء عليهما لكون أحد اليمينين
معطوفة على الأخرى وفى بعض النسخ لم يذكر حرف العطف ولكن قال والله لا أكلم
فلانا وهذا صحيح أيضا لان موجب هذه اليمين الكفارة وذلك أمر بينه وبين ربه فإذا لم
يسكت بين اليمينين كان المنوي من محتملات لفظه أو يجعل الواو في الكلام الثاني
للعطف دون القسم فكأنه قال والله والله وكذلك لو قال على حجة ان كلمت فلانا وعلى عمرة
ان كلمت فلانا إن شاء الله فكلمه لم يحنث لان الكلام الثاني معطوف على الأول فأما إذا قال
عبدي حر ان كلمت فلانا عبدي الآخر حر ان كلمت فلانا إن شاء الله ثم كلمه فان عبده
الأول حر في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله لأنه لم يذكر بين الكلامين حرف
العطف فانعدم الاتصال بينهما حكما ووجد الاتصال صورة حين لم يسكت بينهما فان
نوى صرف الاستثناء إليهما كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى للاحتمال ولا يدين في
الحكم لأنه خلاف الظاهر فان الكلام الثاني غير معطوف على الأول فيصير فاصلا
بين الاستثناء والكلام الأول وان قال لامرأته ان حلفت بطلاقك فعبدي حر فهذه يمين
بالعتق لان اليمين تعرف بالجزاء والجزاء عتق العبد لان الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء
وهو الفاء والشرط أن يحلف بطلان امرأته فإذا قال بعد ذلك لعبده ان حلفت بعتقك
فامرأته طالق فان عبده يعتق لان بالكلام الثاني حلف بطلاق امرأته يذكر (بذكر) الشرط
والجزاء طلاقها فوجد به الشرط في اليمين الأول فلهذا يعتق عبده ولا تطلق امرأته
لان الحلف بعتق البعد كان سابقا على الحلف بطلاقها وما يكون سابقا على اليمين لا
يكون شرطا لان الحالف إنما يقصد منع نفسه عن ايجاد الشرط وذلك لا يتحقق فيما كان
سابقا على يمينه ولو قال لامرأته ثلاث مرات ان حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت
اثنتين إن كان دخل بها لأنه باليمين الثانية يحنث في اليمين الأولى فتطلق واحدة ثم باليمين
الثالثة يحنث في اليمين الثانية فتطلق أخرى لأنها في عدته وإن لم يكن دخل بها لا تطلق الا
واحدة لأنها بانت بالأولى لا إلى عدة ولان شرط الحنث في اليمين الثانية لا يوجد باليمين
159

الثالثة لان الشرط هو الحلف بطلاقها وذلك لا يتحقق في غير الملك بدون الإضافة إلى الملك
فلهذا لا تطلق الا واحدة ولو قال عبده حر ان حلف بطلاق امرأته ثم قال لامرأته أنت
طالق إن شئت لا يعتق عبده وليس هذا بيمين وان وجد الشرط والجزاء صورة بل هو
مخير بمنزلة قوله أمرك بيدك أو اختاري فقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه رضى
الله تعالى عنهن مع نهيه عن اليمين بالطلاق والدليل عليه انه يشترط وجود المشيئة منها في
المجلس ولو كان يمينا لم يتوقت بالمجلس كقوله أنت طالق ان كلمت وكذلك إذا قال إذا
حضت حيضة لم يعتق عبده لان هذا تفسير لطلاق السنة بمنزلة قوله أنت طالق للسنة
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يعتق لان هذا ليس بايقاع لطلاق السنة بدليل انه لو جامعها
في الحيض ثم طهرت وقع الطلاق عليها ولو كان هذا كقوله للسنة لم يقع قلنا هو سنى من
وجه فلا يحنث بالحيض وتطليق لوجود الشرط حقيقة واما إذا قال لها إذا حضت فأنت طالق
أو إذا جاء غد فأنت طالق عتق عبده عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق قال لان الحالف
يكون مانعا نفسه من ايجاد الشرط وإنما يكون الكلام يمينا بذكر شرط يتصور المنع عنه
فأما بذكر شرط لا يتصور المنع عنه لا يصير حالفا بطلاقها فلا يعتق عبده كما لو قال أنت
طالق غدا ولكنا نقول الكلام يعرف بصيغته وقد وجد صيغة اليمين بذكر الشرط والجزاء
ولم يغلب عليه غيره فكان يمينا بخلاف قوله أنت طالق غدا لأنه ما ذكر الشرط والجزاء
إنما أضاف الطلاق إلى وقت وبخلاف قوله أنت طالق إن شئت أو إذا حضت حيضة لأنه
غلب عليه معنى آخر كما بينا وبأن لم يكن في وسعه منع هذا الشرط لا يخرج من أن يكون
يمينا كما لو جعل الشرط فعل انسان آخر لا يقدر على منعه من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب المساكنة)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف الرجل لا يساكن فلانا ولا نية له فساكنه في دار كل
واحد منهما في مقصورة على حدة لم يحنث لان المساكنة على ميزان المفاعلة فشرط حنثه
وجود السكنى مع فلان والسكنى المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فتكون
المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا واحدا
160

أو سكنا في دار وكل واحد منهما في بيت منها لان جميع الدار مسكن واحد فأما إذا كان
في الدار مقاصير وحجر فكل مقصورة مسكن على حدة فلا يكون هو مساكنا فلانا
فلا يحنث في يمينه بمنزلة ما لو سكنا في محلة كل واحد منهما على حدة والدليل على الفرق
أن الدار التي تشتمل على المقاصير كل مقصورة منها حرز على حدة حتى لو أخرج السارق
المتاع من مقصورة فاخذ في صحن الدار يقطع ولو سرق من يسكن احدى المقصورتين من
المقصورة الأخرى يقطع والدار التي تشتمل على بيوت حرز واحد حتى لو أخرج السارق
المتاع من بيت واخذ في صحن الدار لا يقطع ومن كان مأذونا في الدخول في أحد البيوت
من الدار إذا سرق من البيت الاخر لا يقطع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال هذا
إذا كانت الدار كبيرة نحو دار الوليد بالكوفة ونظيره دار نوح ببخارى لان ذلك بمنزلة
المحلة فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فإنه يحنث سواء كانت دارا تشتمل على مقاصير أو على
بيوت لان في عرف الناس هذا مسكن واحد ويعد الحالف مساكنا لصاحبه وإن كان
كل واحد منهما في مقصورة وإن كان نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد أو
في حجرة أو في منزل واحد بأن يكونا فيه جميعا لم يحنث حتى يساكنه فيما نوى لان المنوي
من محتملات لفظه (فان قيل) المسكن ليس في لفظه فكيف تعمل نيته في تخصيص المسكن
ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطل (قلنا) نحن لا نعتبر تخصيص المسكن حتى لو
نوى شيئا بعينه لا تعمل نيته ولكن الفعل يقتضى المصدر لا محالة فبذكر الفعل يصير المصدر
كالمذكور لغة وهو إنما نوى أكمل ما يكون من السكنى لان أكمل ذلك أن يجمعهما بيت
واحد وما دون هذا عند المقابلة بهذا يكون قاصرا فيكون هذا منه نية نوع من السكنى وذلك
صحيح نظيره ما قال في الجامع أن خرجت ونوى السفر تعمل نيته لأنه نوى نوعا من الخروج
والخروج الذي هو مصدر كالمذكور بذكر الفعل فتصح نيته في نوع منه بخلاف ما إذا
نوى الخروج إلى بغداد لان المكان ليس في لفظه فلا تعمل نيته في ذلك وإن كان نوى أن
لا يساكنه في مدينة أو قرية وسمى ذلك فان ساكنه في شئ من ذلك حنث ولا تكون
المساكنة في ذلك إلا أن يسكنا بيتا واحدا أو دارا واحدة من دار البلدة أو القرية على
ما بينا أن المساكنة فعل على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك لا يكون الا في مسكن واحد
وفائدة تخصيصه البلدة أو القرية اخراج سائر المواضع عن يمينه وعن أبي يوسف رحمه الله أنه
161

في هذا الفصل يحنث إذا جمعهما المكان الذي سمى في السكنى وإن كان كل واحد منهما في
دار على حدة لأجل العرف فإنه يقال فلان يساكن فلانا قرية كذا وبلدة كذا وإن كان كل
واحد منهما في دار على حدة فأما في ظاهر الرواية لا يحنث في ذلك إلا أن ينويه فحينئذ
تعمل نيته لما فيه من التشديد عليه وان حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو
ضيفا وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث لان هذا ليس بمساكنة إنما المساكنة بالاستقرار
والدوام وذلك بمتاعه وثقله ألا ترى أن الانسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ولا
يسمى ساكنا فيه ويدخل على الأمير ويكون في داره يوما ولا يسمى مساكنا له في داره
فكذلك هذا الذي دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه فلا يحنث إلا أن
ينويه فحينئذ في نيته تشديد عليه فيكون عاملا ألا ترى ان الرجل قد يمر بالقرية فيبيت
فيها ويقول ما سكنتها قط فيكون صادقا في ذلك ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها
ولا نية له ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث لان السكنى فعل مستدام حتى يضرب
له المدة ويقال سكن يوما أو شهرا والاستدامة على ما يستدام كالانشاء قال الله تعالى وإما
ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى أي لا تمكث قاعدا فيجعل استدامة السكنى بعد يمينه
كانشائه وكذلك اللبس والركوب لأنه يستدام كالسكنى فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته
أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا وفي القياس يحنث وهو
قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه
ووجه الاستحسان أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه فيصير مستثنى لما عرف من
مقصود الحالف وهو البر دون الحنث ولا يتأتى البر الا بهذا ولان السكنى هو الاستقرار
والدوام في المكان والخروج ضده فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في
النقلة في الحال ولو خرج منها بنفسه ولم يشتغل بنقل الأمتعة يحنث عندنا وقال الشافعي
رحمه الله تعالى لا يحنث لأنه عقد يمينه على سكناه وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه
عقيب اليمين وحكى عنه في تعليل هذه المسألة قال خرجت من مكة وخلفت فيها دفيترات
أفأكون ساكنا بمكة (وحجتنا) في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله فما لم ينقلهم فهو ساكن
فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام وذلك لا يتأتى الا بالثقل والمتاع
والعرف شاهد لذلك فإنك تسأل السوقي أين تسكن فيقول في محلة كذا وهو في تجارته يكون
162

في السوق ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات فان
السكنى لا تتأتى بها مع أن من مشايخنا من يقول إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا
فخرج منها بنفسه لم يحنث وان خلف ثقله بها وقد روى بعض ذلك عن محمد رحمه الله بخلاف
السكنى في الدار فان من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التي فيها ثقله
ومتاعه وعياله فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخارى وإن كان بها عياله وثقله قال
رضي الله عنه وهذه المسألة تنبنى على أصل في مسائل الايمان بيننا وبين الشافعي رحمه الله
تعالى أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ والعادة بخلافها لا تعتبر لان المجاز لا يعارض الحقيقة
وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارئ على حقيقة اللغة والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل
كلامه عليه ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين والله لأجرينك على الشوك فيحمل
على شدة المطل دون حقيقة اللفظ وكان مالك يقول ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن
وهذا بعيد أيضا فان من حلف لا يستضئ بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث والله تعالى
سمى الشمس سراجا ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الأرض لم يحنث والله
تعالى سمى الأرض بساطا ولو حلف لا يمس وتدا فمس جبلا لا يحنث وقد سمى الله تعالى
الجبال أوتادا فعرفنا أن الصحيح ما قلنا فان نقل بعض الأمتعة فالمروي عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعته فيها لأنه كان ساكنا فيها بجميع الأمتعة
فيبقي ذلك ببقاء بعض الأمتعة فيها وهو أصل لأبي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في
العصير مانعا من أن يكون خمرا وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير
دار حرب إلا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا هذا إذا كان الباقي يتأنى بها السكنى اما ببقاء
مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها لا يبقى ساكنا فيها فلا يحنث وعن أبي يوسف رحمه
الله تعالى قريب من هذا قال إن بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث وإلا فلا وعن محمد
رحمه الله تعالى قال إن نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكنى به لم يحنث لان بهذا صار
ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الأول ولو كان في طلب مسكن آخر
فبقي في ذلك يوما أو أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب لأنه لا يمكنه طرح الأمتعة
في السكة فيصير ذلك القدر مستثني (مستثنى) لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب وكذلك
ان بقي في نقل الأمتعة أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ولم يستأجر لذلك جمالا بل جعل
163

ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث وان بقي في ذلك شهرا إذا لم يفرط لان نقل الأمتعة ضد
الاستقرار في ذلك المكان فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا ولو
حلف لا يساكن فلانا في دار قد سماها بعينها واقتسما وضربا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما
بابا لنفسه ثم سكن الحالف طائفة والآخر طائفة لزمه الحنث لأنه قد ساكنه فيها بعينها
والمعني فيه أن شرط حنثه حين عقد اليمين ان يجمعهما فعل السكنى في الموضع الذي عينه
وقد وجد ذلك بعد القسمة وضرب الحائط كما قبله وهذا بخلاف ما لو كانت يمينه على أن
لا يساكنه في منزل ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها لان هناك بالقسمة وضرب الحائط صار كل
جانب منزلا على حدة ولان في غير العين يعتبر الوصف وفى العين يعتبر العين دون الوصف
كما لو حلف أن لا يكلم شابا فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث بخلاف ما لو حلف أن
لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث وهذا لأنه في الدار المعينة أظهر بيمينه التبرم منها
لا من فلان وفى غير المعين إنما أظهر التبرم من مساكنة فلان ولا يكون مساكنا له إذا لم
يجمعهما منزل واحد ولو حلف أن لا يساكنه وهو ينوى في بيت واحد فساكنه في منزل كل
واحد منهما في بيت لم يحنث لأنه نوى أكمل ما يكون من المساكنة فتصح نيته ويصير
المنوي كالملفوظ به وان حلف أن لا يسكن دارا بعينها فهدمت وبنيت بناء آخر فسكنها
يحنث لأنها تلك الدار بعينها ومعنى هذا ان البناء وصف ورفع البناء الأول واحداث بناء آخر
يغير الوصف وفى العين لا معتبر بالوصف واسم الدار يبقي (يبقى) بعد هدم البناء حتى لو سكنها
كذلك صار حانثا وهذا لان الدار اسم لما أدير عليه الحائط فلا يزول ذلك برفع البناء أما
ترى أن العرب تطلق اسم الدار على الخرابات التي لم يبق منها الا الآثار قال القائل
* عفت بالديار محلها فمقامها * وقال آخر * يا دار مية بالعلياء فالسند *
وهذا بخلاف ما لو حلف لا يسكن بيتا عينه فهدم حتى ترك صحراء ثم بني بيت آخر في ذلك
الموضع فسكنه لم يحنث لان اسم البيت يزول بهدم البناء ألا ترى أنه لو سكنه حين كان
صحراء لم يحنث وهذا لان البيت اسم لما يكون صالحا للبيتوتة فيه والصحراء غير صالح لذلك
واليمين المعقودة باسم لا يبقى بعد زوال الاسم ثم إنما حدث اسم البيت لذلك الموضع بالبناء
الذي أحدث فكان هذا اسما غير ما عقد به اليمين ووزانه من الدار ان لو جعلها بستانا أو
حماما ثم بنى دارا فسكنها لم يحنث لان الاسم زال جعلها بستانا أو حماما ثم حدث اسم الدار
164

بصفة حادثة فلم يكن ذلك الاسم الذي انعقد به اليمين وإذا حلف لا يسكن دار فلان هذه
فباعها فسكن الحالف ولم يكن له نية لم يحنث في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله
تعالى وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحنث وكذلك العبد والثوب وكل ما يضاف إلى انسان
بالملك وجه قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى أنه جمع في كلامه بين الإشارة والإضافة
فيتعلق الحكم بالإشارة لأنها أبلغ في التعريف من الإضافة فإنها تقطع الشركة والإضافة
لا تقطع الشركة فكان هذا بمنزلة قوله لا أسكن هذه الدار والدليل عليه ما لو قال والله لا أكلم
زوجة فلان هذه صديق فلان هذا فكلم بعد ما عاداه وفارقها يحنث لما قلنا وكذلك
لو قال لا أكلم صاحب هذا الطيلسان فكلم بعد ما باع الطيلسان يحنث وأبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول عقد يمينه على ملك يضاف إلى مالك فلا يبقى بعد زوال الملك كما لو كان أطلق
دار فلان وتحقيقه من وجهين (أحدهما) أن الدار لا يقصد هجرانها لعينها بل لأذى حصل
من مالكها واليمين تتقيد بمقصود الحالف فصار بمعرفة مقصوده كأنه قال ما دامت لفلان
بخلاف الزوجة والصديق فإنه يقصد هجرانهما لعينهما وكذلك قوله صاحب الطيلسان لأنه
يقصد هجرانه لعينه لا لطيلسانه فكان ذكر هذه الأشياء للتعريف لا لتقييد اليمين (فان قيل)
في العبد هو آدمي فيقصد هجرانه لعينه ومع ذلك قلتم إذا حلف لا يكلم عبد فلان هذا فكلمه
بعد ما باعه لا يحنث (قلنا) ذكر ابن سماعة في نوادره أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
يحنث بهذا في العبد ووجه ظاهر الرواية أن العبد مملوك ساقط المنزلة عند الأحرار فالظاهر
أنه إذا كان الأذى منه لا يقصد هجرانه باليمين فلا يجعل له هذه المنزلة ولكن إنما يحلف إذا
كان الأذى من مالكه ولان إضافة المملوك إلى المالك حقيقة كالاسم ثم لو جمع في يمينه بين
ذكر الاسم والعين وزال الاسم لم يبق اليمين كما لو حلف لا يدخل هذه الدار بعينها فجعلت بستانا
فدخل لم يحنث لزوال الاسم فكذلك إذا جمع بين الإضافة والتعيين فزالت الإضافة لا يبقى
اليمين بخلاف الزوجة والصديق فالإضافة هناك ليست بحقيقية ولكنه تعريف كالنسبة وكما أنه يتعلق
اليمين بالعين دون النسبة فكذلك هنا يتعلق بالعين دون الإضافة فان نوى أن لا يسكنها وان
زالت الإضافة فله ما نوى لأنه شدد الامر على نفسه بنيته وكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لو
نوى أن لا يسكنها ما دامت لفلان فله ما نوي لان المنوي من محتملات لفظه وإذا حلف أن لا
يسكن دار فلان أو دارا الفلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا له قد باعها بعد
165

يمينه لم يحنث لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد
بخلاف قوله زوجة فلان أو صديق فلأن لان هناك إنما يقصد هجرانهما لعينهما فيتعين ما كان
موجودا وقت يمينه بناء على مقصوده كما لو عينه وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله
تعالى التسوية بينهما ووجهه أنه عقد اليمين بالإضافة وحقيقة ذلك فيما كان موجودا وقت
يمينه ولكن على هذه الرواية لا بد من أن يقال إذا جمع بين الإضافة والتعيين يبقى اليمين بعد
زوال الإضافة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما هو قول محمد رحمه الله تعالى واما إذا سكن
دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى فهو حانث بالاتفاق وان سكن
دارا اشتراها فلان بعد يمينه حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في
قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وكذلك العبد والدابة والثوب ولو حلف لا يأكل طعام فلان
أولا يشرب شراب فلان فتناول شيئا مما استحدثه فلان لنفسه فهو حانث بالاتفاق وقد أشار
ابن سماعة إلى التسوية بين الكل عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لما بينا أنه عقد اليمين على
الإضافة فما لم يوجد حقيقة وقت اليمين لا يتناوله اليمين فاما وجه قوله في الفرق على ظاهر
الرواية أن الطعام والشراب يستحدث الملك فيهما في كل وقت فعرفنا أن مقصود الحالف
وجود الإضافة إلى فلان وقت التناول فأما الدار والعبد والدابة فلا يستحدث الملك فيها في كل وقت
فعرفنا ان مقصوده ما كان موجودا في الحال دون ما يستحدث فيه فكان هذا بمنزلة الزوجة
والصديق وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله انه عقد يمينه على ملك مضاف إلى المالك
فإذا وجدت الإضافة إلى وقت الفعل كان حانثا كما في الطعام والشراب وتحقيقه ان شرط حنثه
وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان بالملك وإنما حمله على اليمين أذى دخله من فلان وفى
هذا لا فرق بين الموجود في ملكه وقت اليمين وما استحدث الملك فيه بخلاف الزوجة
والصديق وقد روى محمد عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى في قوله دارا لفلان انه لا يحنث
إذا سكن دار اشتراها فلان بعد يمينه بخلاف قوله دار فلأن لان اللام دليل على الملك فصار
تقدير كلامه كأنه قال لا أسكن دارا هي مملوكة لفلان فيتعين الموجود في ملكه دون
ما يستحدثه ولا يوجد ذلك في قوله دار فلان وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله على
عكس هذا قال إذا قال دار فلأن لا يتناول ما يستحدث الملك فيه بخلاف قوله دارا لفلان لا
ن في قوله دار فلان تمام الكلام بذكر الإضافة ألا ترى أنه لو لم يذكر فلانا كان كلاما
166

مختلا فلا بد من قيام الملك لفلان وقت اليمين ليتناوله اليمين وفى قوله دارا لفلان الكلام تام
بدون ذكر فلان فإنه لو قال لا أسكن دارا كان مستقيما فذكر فلان لتقييد اليمين بما يكون
مضافا إلى فلان وقت السكنى وان حلف لا يسكن دارا لفلان فسكن دارا بينه وبين آخر لم
يحنث قل نصيب الآخر أو كثر لأنه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار يملكها فلان
والمملوك لفلان بعض هذه الدار وبعض الدار لا يسمى دارا وان حلف لا يسكن دارا اشتراها
فلان فسكن دارا اشتراها لغيره حنث لان المشترى لغيره كالمشترى لنفسه فيما ينبنى على
الشراء ألا ترى ان حقوق العقد تتعلق به وانه يستغني عن إضافة العقد إلى غيره وإنما رتب
الحالف يمينه على الشراء دون الملك فان قال أردت ما اشتراه لنفسه دين فيما بينه وبين الله
تعالى ولا يدين في القضاء إذا كان يمينه بالطلاق لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وان حلف
لا يسكن بيتا ولا نية له فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة لم يحنث إذا كان من أهل
الأمصار وحنث إذا كان من أهل البادية لان البيت اسم لموضع يبات فيه واليمين يتقيد
بما عرف من مقصود الحالف فأهل الأمصار إنما يسكنون البيوت المبنية عادة وأهل البادية
يسكنون البيوت المتخذة من الشعر فإذا كان الحالف بدويا فقد علمنا أن هذا مقصوده بيمينه
فيحنث بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار واسم البيت للمبني حقيقة فلا يختلف فيه حكم
أهل الأمصار وأهل البادية لان أهل البادية يسمون البيت للمبني حقيقة والأصل في هذا ان سائلا
سأل ابن مسعود رضي الله عنه فقال إن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزء البقرة فقال ممن صاحبكم
فقال من بين رياح قال ومتى اقتنت بنو رياح البقر إنما وهم صاحبكم الإبل فدل ان عند
اطلاق الكلام يعتبر عرف المتكلم فيما يتقيد به كلامه وإذا حلف لا يسكن بيتا لفلان فسكن
صفة له حنث لان الصفة بيت إلا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فيدين فيما بينه
وبين الله ولا يدين في القضاء لأنه نوى تخصيص اللفظ العام من أصحابنا من يقول هذا
الجواب بناء على عرف أهل الكوفة لان الصفة عندهم اسم لبيت يسكنونه يسمي (يسمى) صفا
ومثله في ديارنا يسمى كاشانه فأما الصفة في عرف ديارنا غير البيت فلا يطلق عليه اسم
البيت بل ينفي عنه فيقال هذا صفة وليس ببيت فلا يحنث قال والأصح عندي أن مراده
حقيقة ما نسميه الصفة ووجهه أن البيت اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد وهو
مبنى للبيتوتة فيه وهذا موجود في الصفة إلا أن مدخله أوسع من مدخل البيوت المعروفة
167

فكان اسم البيت متناولا له فيحنث بسكناه إلا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فحينئذ
يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه خص العام بنيته ولو حلف لا يسكن دار فلان
هذه فسكن منزلا منها حنث لان السكنى في الدار هكذا تكون فان الانسان يقول أنا
ساكن في دار فلان وإنما يسكن في بعضها فإنه لا يسكن تحت السور وعلى الغرف والحجر
إلا أن يكون نوى أن يسكنها كلها فلا يحنث حينئذ حتى يسكنها كلها لأنه نوى حقيقة
كلامه ومطلق الكلام وإن كان محمولا على المتعارف فنية الحقيقة تصح فيه كما لو قال يوم
يقدم فلان فامرأته طالق حمل على الوقت للعرف فان نوى حقيقة بياض النهار عملت نيته في
ذلك فهذا مثله حتى لو كان حلف بعتق أو طلاق يدين في القضاء لأن هذه حقيقة غير
مهجورة ولو حلف لا يسكن دارا لفلان وهو ينوى بأجر أو عارية وسكنها على غير ما عنى
ولم يجر قبل ذلك كلام فإنه يحنث وما نوي لا يغني عنه شيئا لأنه نوى التخصيص فيما ليس
من لفظه فان في لفظه فعل السكنى وهو نوى التخصيص في السبب الذي يتمكن به من
السكنى إلا أن يكون قبل هذا كلام يدل عليه بان استعاره فأبى فحلف وهو ينوى العارية
ثم سكن بأجر فحينئذ لا يحنث لان مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال ويصير ذلك كالمنصوص
عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(باب الدخول)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف لا يدخل بيتا لفلان ولم يسم بيتا بعينه ولم يكن له نية
فدخل بيتا هو فيه ساكن بأجر أو عارية فهو حانث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى
لا يحنث لان الإضافة إلى فلان بالملك حقيقة وبالسكنى مجاز فلا تجتمع الحقيقة والمجاز
في لفظ واحد والحقيقة مرادة بالاتفاق فيتنحى المجاز واللام في قوله لفلان دليل الملك أيضا
(وحجتنا) في ذلك أنه عقد يمينه على الإضافة إلى فلان وما يسكنه فلان عارية أو إجارة مضاف
إليه بمنزلة ما يسكنه بالملك ألا ترى انك تقول بيت فلان ومنزل فلان وإن كان نازلا فيه باجر
أو عارية فكذلك مع حرف اللام فان النبي عليه الصلاة والسلام حين قال لرافع بن خديج
لمن هذا الحائط فقال لي استأجرته لم ينكر عليه اضافته إلى نفسه بحرف اللام ولا يقول أنه
إذا دخل بيتا هو ملك فلان أنه يحنث بحقيقة الإضافة بالملك لوجود الإضافة بالسكنى
168

وحاصل هذا الكلام أنه يحنث باعتبار عموم المجاز وفى ذلك الملك والمستعار سواء كمن حلف
لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو متنعلا أو راكبا يحنث باعتبار عموم المجاز وهو
الدخول دون حقيقة وضع القدم (فان قيل) كيف يكون للمجاز عموم والمصير إليه بطريق
الضرورة (قلنا) العموم للحقيقة ليس باعتبار أنه حقيقة بل بدليل ذلك الدليل بعينه
موجود في المجاز وهذا لان المجاز كالمستعار ويحصل بلبس الثوب المستعار دفع الحر والبرد
كما يحصل بلبس الثوب المملوك ولا يقال بأن المجاز يصار إليه للضرورة بل هو أحد قسمي
الكلام ألا ترى أن في كتاب الله تعالى مجازا وحقيقة والله تعالى يتعالى أن تلحقه الضرورة
فعرفنا ان العموم يعتبر في المجاز كما في الحقيقة وعلى هذا روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا
حلف لا يدخل بيتا لفلان فدخل بيتا أجره فلان من غيره لم يحنث لأنه مضاف إلى المستأجر
بالسكنى دون الآجر ولو حلف لا يسكن حانوتا لفلان فسكن حانوتا أجره فإن كان فلان
ممن يسكن حانوتا لا يحنث بهذا أيضا وان كأن لا يسكن حانوتا فحينئذ يحنث لما عرف من
مقصود الحالف فان من حلف لا يسكن حانوت الأمير يعلم كل أحد ان مراده حانوت
يملكه الأمير وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم شيئا ولم يكن له نية فدخل عليه في بيته
أو في بيت غيره أو في صفة حنث لأنه وجد الدخول على فلان فان الدخول عليه في موضع
يبيت هو فيه أو يجلس لدخول الزائرين عليه وذلك يكون في بيته تارة وفى بيت غيره
أخرى والصفة في هذه كالبيت فيحنث لهذا وان دخل عليه في مسجد لم يحنث لأنه معد
للعبادة فيه لا للبيتوتة والجلوس لدخول الزائرين عليه وكذلك أن دخل عليه في ظلة أو
سقيفة أو دهليز باب دار لم يحنث لان العرف الظاهر أن جلوسه لدخول الزائرين عليه
لا يكون في مثل هذه المواضع عادة وإنما يكون نادرا عند الضرورة فاما الجلوس عادة يكون
في الصفة والبيت فهو وان أتاه في هذه المواضع لا يكون داخلا عليه ولا يحنث وكذلك
لو دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث إلا أن يكون الحالف من أهل
البادية والحاصل أنه جعل قوله لا أدخل على فلان وقوله لا ادخل عليه بيتا سواء لاعتبار
العرف كما بينا وإذا حلف لا يدخل عليه بيتا فدخل عليه في المسجد أو الكعبة لم يحنث لأنه مصلى
والبيت اسم للموضع المعد للبيتوتة فيه (فان قيل) أليس إن الله تعالى سمى الكعبة بيتا بقوله
ان أول بيت وضع للناس وسمى المساجد بيوتا في قوله في بيوت أذن الله (قلنا) قد بينا أن
169

الايمان لا تنبني على لفظ القرآن وقد سمي بيت العنكبوت بيتا فقال وان أوهن البيوت لبيت
العنكبوت ثم هذا لا يدل على أن مطلق اسم البيت في اليمين يتناوله (قال) وكل شئ من
المساكن يقع عليه اسم بيت حنث فيه أن دخل ومراده ما يطلق عليه الاسم عادة في
الاستعمال وان دخل بيتا هو فيه ولم ينو الدخول عليه لم يحنث لان شرط حنثه الدخول عليه
وذلك بأن يقصد زيارته أو الاستخفاف به بأن يقصد ضربه وهذا لم يوجد إذا لم ينو الدخول
عليه أو لم يعلم أنه فيه ألا ترى أن السقاء يدخل دار الأمير في كل يوم ولا يقال دخل على
الأمير وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يحنث وإن لم يعلم كونه فيه ولم ينو الدخول
عليه بأن دخل على قوم هو فيهم والحالف لا يعلم بمكانه لان حقيقة الدخول عليه قد وجد
ولا يسقط حكمه باعتبار جهله وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم بيتا ولم ينوه فدخل
دارا هو فيها لم يحنث ألا ترى أنه لو كان في بيت منها لا يراه الداخل فإنه لا يكون داخلا
عليه أرأيت أنه لو كانت الدار عظيمة فيها منازل فدخل منزلا منها وفلان في منزل آخر
كان يحنث إنما يقع اليمين في هذا إذا دخل عليه بيتا أو صفة لأنه حينئذ يكون داخلا عليه
حقيقة إلا أن يكون حلف أن لا يدخل عليه دارا فحينئذ يحنث إذا دخل داره لان اعتبار
العرف عند عدم التصريح بخلافه وكذلك أن نوى دارا لأنه يشدد الامر على نفسه بهذه
النية ولو حلف لا يدخل بيتا وهو فيه داخل فمكث فيه أياما لم يحنث لان الدخول هو
الانفصال من الخارج إلى الداخل ولم يوجد ذلك بعد يمينه إنما وجد المكث فيه وذلك
غير الدخول وهذا بخلاف السكنى لأنه فعل مستدام يضرب له مدة فتكون للاستدامة
فيه حكم الانشاء فأما الدخول ليس بمستدام ألا ترى أنه لا يضرب له المدة فإنه لا يقال
دخل يوما أو شهرا إنما يقال دخل ومكث فيه يوما ولو قال والله لأدخلنه غدا فأقام فيه
حتى مضى الغد حنث لان شرط بره وجود فعل الدخول في غد ولم يوجد إنما وجد المكث
فيه فإذا نوى بالدخول الإقامة فيه لم يحنث لان المنوي من محتملات لفظه فان الدخول
لمقصود الإقامة وكأنه جعل ذكر الدخول كناية عما هو المقصود فلهذا لم يحنث وان قال
والله لا أدخلها الا عابر سبيل فدخلها ليقعد فيها أو يعود مريضا أو يطعم حنث لأنه عقد
يمينه على الدخول واستثنى دخولا بصفة وهو أن يكون عابر سبيل أي مجتازا ومار طريق
قال الله تعالى ولا جنبا الا عابري سبيل وقد وجد الدخول لا على الوجه المستثني فيحنث وان
170

دخلها مجتازا ثم بدا له أن يقعد فيها لم يحنث لان دخوله على الوجه المستثنى فلم يحنث به وبقي
ما وراء ذلك مكث في الدار وذلك غير الدخول فلا يحنث به أيضا وان نوى بكلامه أن
لا يدخلها يريد النزول فيها صحت نيته لأنه عابر سبيل يكون مجتازا في موضع ولا يكون
نازلا فيه فجعل هذا مستثنى دليل على أن مراده منع نفسه مما هو ضده وهو الدخول للنزول
فإذا صحت نيته صار المنوي كالملفوظ وإذا دخلها يريد أن يطعم أو يقعد لحاجة ولا يريد المقام
فيها لم يحنث لان شرط حنثه دخول بصفة وهو أن يكون للسكنى والقرار ولم يوجد وإذا
حلف لا يدخل دار فلا ن فجعلها بستانا أو مسجدا ودخلها لم يحنث قال لأنها قد تغيرت عن
حالها ولم يرد تغير الوصف لان ذلك لا يرفع اليمين إذا لم يكن وصفا داعيا إلى اليمين وإنما
أراد تغير الاسم لأنه عقد اليمين باسم الدار والبستان والمسجد والحمام غير الدار فإذا لم يبق
ذلك الاسم لا يبقي اليمين وكذلك لو كانت دارا صغيرة فجعلها بيتا واحدا وأشرع بابه إلى
الطريق أو إلى دار فدخله لم يحنث لأنها قد تغيرت وصارت بيتا وهذه إشارة إلى ما قلنا
أن اسم البيت غير اسم الدار فمن ضرورة حدوث اسم البيت لهذه البقعة زوال اسم الدار وان
حلف لا يدخل بيتا بعينه فهدم سقفه وبقيت حيطانه فدخله يحنث لأنه بيت وان انهدم سقفه
قال الله تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أي ساقطة سقفها ولان البيت اسم لما هو صالح
للبيتوتة فيه وما بقيت الحيطان فهو صالح لذلك وإن لم يكن مسقفا بخلاف ما لو انهدمت
الحيطان لأنه صار صحراء غير صالح للبيتوتة فلا يتناوله اسم البيت وان حلف لا يدخل دار
فلان فاحتمله انسان فأدخله وهو كاره لم يحنث لأنه مدخل لا داخل ألا ترى أن الميت قد
يدخل الدار وفعل الدخول منه لا يتحقق وان أدخله بأمره حنث لان فعل الغير بأمره
كفعله بنفسه فأما إذا لم يأمره ولكنه غير ممتنع راض بقلبه حتى أدخله فقد قال بعض
مشايخنا يحنث لأنه لما كان متمكنا من الامتناع فلم يفعل صار كالآمر به وادخاله مكرها إنما
يكون مستثنى لأنه لا يستطيع الامتناع عنه والأصح أنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على فعل
نفسه وقد انعدم فعله حقيقة وحكما لان فعل الغير بغير أمره واستعماله إياه لا يصير مضافا
إليه حكما الا بأمره ولم يوجد اما بترك المنع والرضا بالقلب فلا وان دخلها على دابة حنث
لان سير الدابة يضاف إلى راكبها ألا ترى أن الراكب ضامن لما تطأ دابته وأنه يتمكن
من ايقافه متى شاء فكان هذا والدخول ماشيا سواء وان حلف لا يضع قدمه فيها فدخلها
171

راكبا أو ماشيا عليه حذاء أو لم يكن حنث لان وضع القدم عبارة عن الدخول عرفا فإذا
نوى حين حلف أن لا يضع قدمه ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث لأنه نوى حقيقة كلامه وهذه
حقيقة مستعملة غير مهجورة وان حلف لا يدخلها فقام على حائط من حيطانها حنث لأنه قد
دخلها فان القائم على حائط من حيطانها ليس بخارج منها فعرفنا أنه داخل فيها ألا ترى ان
السارق لو أخذ في ذلك الموضع ومعه المال لم يقطع كما لو أخذ في صحن الدار توضيحه أن الدار اسم
لما أدير عليه الحائط فيكون الحائط داخلا فيه ألا ترى أنه يدخل في بيع الدار من غير ذكر
وان حلف لا يدخل في الدار فقام على السطح يحنث لان السطح من الدار ألا ترى أن من
نام على سطح الدار يستجيز من نفسه أن يقول بت الليلة في داري ولو قام في طاق باب
الدار والباب بينه وبين الدار لم يحنث لان الباب لاحراز الدار وما فيها فكل موضع إذا رد
الباب بقي خارجا فليس ذلك من الدار فلا يحنث لأنه لم يدخلها وإن كان بحيث لو رد الباب
بقي داخلا فهذا قد دخلها فيحنث ولو كان داخلا فيها فحلف أن لا يخرج فقام في مقام يكون
الباب بينه وبين الدار إذا أغلقت حنث لان الخروج انفصال من الداخل إلى الخارج وقد
وجد ذلك حين وصل إلى هذا الموضع وان أخرج احدى رجليه لم يحنث وكذلك أن
حلف أن لا يدخلها فأدخل احدى رجليه لم يحنث لان قيامه بالرجلين فلا يكون بإحداهما
خارجا ولا داخلا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعد أبي بن كعب رضى
الله تعالى عنه أن يعلمه سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل مثلها قبل أن يخرج من
المسجد فعلمه بعد ما أخرج احدى رجليه ولم يكن مخالفا لوعده من أصحابنا من يقول
هذا إذا كان الداخل والخارج مستويان فإن كان الداخل أسفل من الخارج فبادخال احدى
الرجلين يصير داخلا لان عامة بدنه تمايل إلى الداخل وإن كان الخارج أسفل من الداخل
فباخراج احدى الرجلين يصير خارجا لهذا المعنى والأول أصح لأنه لم يوجد شرط الحنث
حقيقة فلا يحنث واعتبار احدى الرجلين يوجب أن يكون حانثا والرجل الأخرى تمنع
من ذلك فلا يحنث بالشك وان دخل من حائط لها حتى قام على سطح من سطوحها فقد
دخلها لما بينا أن السطح مما أدير عليه الحائط فالداخل إليه يكون داخلا فيها ولو دخل بيتا
من تلك الدار قد أشرع إلى السكة حنث لأنه مما أدير عليه الحائط وهذا إذا كان لذلك
البيت باب في الدار وباب في السكة وان دخل في علوها على الطريق الأعظم أو دخل
172

كنيفا منها شارعا إلى الطريق حنث وهذا إذا كانت مفتحه في الدار لأنه من حجر الدار
ومرافقه فالداخل إليه لا يكون خارجا من الدار وإذا لم يكن خارجا كان داخلا في الدار
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب الخروج)
(قال) رضي الله عنه وإذا حلف على امرأته بالطلاق أن لا تخرج حتى يأذن لها فأذن لها
مره سقطت اليمين لان حتى للغاية قال الله تعالى حتى مطلع الفجر واليمين يتوقت بالتوقيت
ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها بخلاف ما قبلها فإذا انتهت اليمين بالاذن مرة لم يحنث بعد
ذلك وان خرجت بغير إذنه إلا أن ينوى الاذن في كل مرة فيحنئذ يكون مشددا الامر
على نفسه بلفظ يحتمله ولو قال الا باذني فلا بد من الاذن لكل مرة حتى إذا خرجت
مرة بغير إذنه حنث لأنه استثنى خروجا بصفة وهو أن يكون باذنه فان الباء للالصاق
فكل خروج لا يكون بتلك الصفة كان شرط الحنث ومعنى كلامه الا مستأذنة قال الله
تعالى وما نتنزل الا بأمر ربك أي مأمورين بذلك ونظيره ان خرجت الا بقناع أو الا بملاءة
فإذا خرجت مرة بغير قناع أو بغير ملاءة حنث فأما إذا قال الا ان آذن لها فهذا بمنزلته
حتى إذا وجد الاذن مرة لا يبقى اليمين فيه لان إلا أن بمعنى حتى فيما يتوقت قال الله تعالى إلا أن
يحاط بكم أي حتى يحاط بكم ألا ترى أنه لا يستقيم إظهار المصدر هنا بخلاف قوله الا
باذني فإنه يستقيم أن يقول الا خروجا باذني فعرفنا أنه صفة للمستثنى وهنا لو قال الا خروجا
ان آذن لك كان كلاما مختلا فعرفنا أنه بمعنى التوقيت وفيه طعن الفراء وقد بيناه وان حلف عليها
أن لا تخرج من بيته فخرجت إلى الدار حنث لأنه جعل شرط الحنث الخروج من البيت نصا
والبيت غير الدار فبالوصول إلى صحن الدار صارت خارجة من البيت بخلاف ما لو حلف أن لا
تخرج لان مقصوده هنا الخروج إلى السكة والوصول إلى موضع يراها الناس فيه ولا يوجد
ذلك بخروجها إلى صحن الدار وان حلف لا يدخل فلان بيته فدخل داره لم يحنث لما بينا أنه
سمى البيت نصا والدار غير البيت فالداخل في الدار لا يكون داخلا في البيت ألا ترى أن
الانسان قد يأذن لغيره في دخول داره ولا يأذن في دخول بيته ولو حلف على امرأته أن
لا تخرج من باب هذه الدار فخرجت من غير الباب لم يحنث لأنه حلف بتسمية الباب
173

(فان قيل) مقصوده منعها من الخروج لكيلا لا يراها الأجانب وذلك لا يختلف بالباب
وغير الباب (قلنا) اعتبار مقصوده يكون مع مراعاة لفظه ولا يجوز إلغاء اللفظ لاعتبار
المقصود ثم قد يمنعها من الخروج إلى الباب لكيلا يراها الجار المحاذي وربما يتهمها بانسان
إذا خرجت من الباب رآها وإذا خرجت من غير الباب لم يرها وربما يكون على الباب
كلب عقور فكان تقييد الباب مفيدا فيجب اعتباره وكذلك لو حلف على باب بعينه فخرجت
من باب آخر لم يحنث مراعاة للفظه ألا ترى أن يعقوب عليه السلام قال لأولاده عليهم
السلام لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان ذلك منه أمرا بما هو
مفيد وان حلف أن لا تخرج الا باذنه فاذن لها من حيث لا تسمع لم يكن اذنا في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو اذن لان الاذن فعل الآذن
يتم به كالرضا ولو حلف أن لا تخرج الا برضاه فرضى بذلك ولم تسمع فخرجت لم يحنث فهذا
مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قال الاذن اما أن يكون مشتقا من الوقوع في
الاذن وذلك لا يحصل الا بالسماع أو يكون مشتقا من الأذان وهو الاعلام قال الله تعالى
وأذان من الله ورسوله وذلك لا يحصل الا بالسماع بخلاف الرضا فإنه بالقلب يكون توضيحه
ان مقصوده من هذا أن لا تتجاسر بالخروج قبل أن تستأذنه وهذا المقصود لا يحصل إذا
لم تسمع باذنه فكان وجوده كعدمه ولو حلف عليها لا تخرج من المنزل الا في كذا
فخرجت لذلك مرة ثم خرجت في غيره حنث لوجود الخروج لا على الوجه المستثني (المستثنى) فإن كان
عنى لا تخرج هذه المرة الا في كذا فخرجت فيه ثم خرجت في غيره لم يحنث لأنه خص
اللفظ العام بنيته وان خرجت لذلك ثم بدا لها فانطلقت في حاجة أخرى ولم تنطلق في ذلك
الشئ لم يحنث لان خروجها بالصفة المستثني (المستثنى) ثم بعد ذلك وجد منها الذهاب في حاجة أخرى
لا الخروج وشرط حنثه الخروج وان حلف عليها أن لا تخرج مع فلان من المنزل فخرجت
مع غيره أو خرجت وحدها ثم لحقها فلإن لم يحنث لان الخروج الانفصال من الداخل إلى
الخارج ولم تكن مع فلان وذلك شرط حنثه فلهذا لا يحنث وان لحقها فلان بعد ذلك
وكذلك لو حلف لا يدخل فلان عليها بيتا فدخل فلان أولا ثم دخلت هي فاجتمعا فيه لم
يحنث لأنها دخلت على فلان وشرط حنثه دخول فلان عليها وان حلف عليها أن لا تخرج
من الدار فدخلت بيتا أو كنيفا في علوها شارعا إلى الطريق الأعظم لم يكن خروجها إلى هذا
174

الموضع خروجا من الدار على ما بينا ان الواصل إلى هذا الموضع يكون داخلا في الدار فلا
تصير هي خارجة من الدار بالوصول إليه والله أعلم بالصواب
(باب الأكل)
(قال) وإذا حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا فذاق شرابا من ذلك ولم يدخله حلقه
لم يحنث لأنه عقد يمينه على فعل الأكل والشرب والذوق ليس بأكل ولا شرب فان الأكل
ايصال الشئ إلى جوفه بفيه مهشوما أو غير مهشوم ممضوغا أو غير ممضوغ مما يتأتى فيه
الهشم والمضغ والشرب أيضا ايصال الشئ إلى جوفه بفيه مما لا يتأتى فيه الهشم والمضغ في حال
اتصاله والذوق معرفة طعم الشئ بفيه من غير ادخال عينه في حلقه ألا ترى أن الصائم إذا
ذاق شيئا لم يفطره والأكل والشرب مفطر له ومتى عقد يمينه على فعل فأتى بما هو دونه
لم يحنث وان أتي (أتى) بما هو فوقه حنث لأنه أتى بالمحلوف عليه وزيادة وإن كان قال لا أذوق
حنث لوجود الذوق حقيقة وإن لم يدخله حلقه الا إذا تمضمض بماء فحينئذ لا يحنث لان
قصده التطهير لا معرفة طعم الماء فلم يكن ذلك ذوقا وان عني بالذوق الأكل في المأكول
والشرب في المشروب لم يحنث ما لم يدخله في حلقه لان المنوي من محتملات لفظه وفيه عرف
ظاهر فان الرجل يقول ما ذقت اليوم شيئا أي ما أكلت وجاء في الحديث أنهم كانوا لا
يتفرقون إلا عن ذوق فان نوى ذلك عملت نيته وإن لم تكن له نية فيمينه على حقيقة ذلك
لان ذلك متعارف أيضا إلا أنه روى هشام عن محمد ق رحمه الله تعالى أنه إذا تقدم ما يدل على أن
مراده الأكل لا يحنث ما لم يأكل بأن قال تغد معي فحلف أن لا يذوق طعامه فيمينه على
الأكل لان ما تقدم دليل عليه وذلك فوق نيته وان قال لا أذوق طعاما ولا شرابا فذاق
أحدهما حنث لأنه كرر حرف النفي فتبين ان مراده نفى كل واحد منهما على الانفراد كما
قال تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما وكذلك لو قال لا آكل كذا ولا كذا أو لا أكلم
فلانا ولا فلانا وكذلك أن أدخل حرف أو بينهما لان في موضع النفي حرف أو بمعنى ولا قال
الله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا يعنى ولا كفورا فصار كل واحد منهما كأنه عقد عليه
اليمين بانفراده بخلاف ما إذا ذكر حرف الواو بينهما ولم يعد حرف النفي لان الواو للعطف
فيصير في المعنى جامعا بينهما ولا يتم الحنث الا بوجودهما وان حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا
175

طريا أو مالحا لم يحنث الا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يحمل الايمان على ألفاظ القرآن
وقد قال الله تعالى لتأكلوا منه لحما طريا وقد بينا بعد هذا والدليل عليه أن من حلف
لا يركب دابة ركب كافرا لا يحنث وقد قال إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ثم معنى
اللحمية ناقص في السمك لان اللحم ما يتولد من الدم وليس في السمك دم ومطلق الاسم
يتناول الكامل وكذلك من حيث العرف لا يستعمل السمك استعمال اللحم في اتخاذ الباحات
منه وبائع السمك لا يسمى لحاما والعرف في اليمين معتبر إلا أن يكون نوى السمك فحينئذ
تعمل نيته لأنه لحم من وجه وفيه تشديد عليه وهو نظير قوله كل امرأة له طالق لا تدخل
المختلعة فيه الا بالنية وكل مملوك له لا يدخل فيه المكاتب قال ألا ترى أنه أكل رئة أو
كبدا لم يحنث وفي رواية أبى حفص رضى الله تعالى عنه أو طحالا وان أكل لحم غنم أو طير
مشوي أو مطبوخ أو قديد حنث لان المأكول لحم مطلق ألا ترى أن معنى الغذاء تام فيه
ويستوى في ذلك الحرام والحلال حتى لو أكل لحم خنزير أو انسان حنث لأنه لا نقصان في
معنى اللحمية فيه فان كمال معنى اللحمية بتولده من الدم وما يحل وما يحرم من الحيوانات
والطيور فيها دم (قال) وكذلك لو أكل شيئا من الرؤس فإنما على الرأس لحم لا يقصد بأكله
سوى أكل اللحم بخلاف ما لو حلف لا يشترى لحما فاشترى رأسا لم يحنث لان فعل
الشراء لا يتم به بدون البائع وبائع الرأس يسمى رآسا لا لحاما فكذلك هو لا يسمى مشتريا
للحم بشراء الرأس فأما الأكل يتم به وحده فيعتبر فيه حقيقة المأكول وكذلك أن أكل
شيئا من البطون كالكرش والكبد والطحال قيل هذا بناء على عادة أهل الكوفة فإنهم
يبيعون ذلك مع اللحم فأما في البلاد التي لا يباع مع اللحم عادة لا يحنث بكل حال وقيل بل
يحنث بكل حال لأنه يستعمل استعمال اللحم لاتخاذ المرقة واللحم ما يتولد من الدم والكبد
والطحال عينه دم فمعنى اللحمية فيها أظهر وكذلك أن أكل شحم الظهر فإنه لحم إلا أنه سمين
ألا ترى أنه يباع مع اللحم وانه يسمى سمين اللحم ولا يحنث في شحم البطن والالية لأنه ينفي
عنه اسم اللحم ويقال إنه شحم وليس بلحم ولا يستعمل استعمال اللحم في اتخاذ الباحات
والالية كذلك فإنه ليس بلحم ولا شحم بل له اسم خاص وفيه مقصود لا يحصل بغيره
إلا أن ينوى ذلك فحينئذ تعمل نيته لأنه من محتملات لفظه وفيه تشديد عليه ولو حلف لا يأكل
أداما ولا نية له فالادام الخل والزيت واللبن والزبد وأشباه ذلك مما يصطبغ الخبز به ويختلط
176

به فأما الجبن والسمك والبيض واللحم فإنه ليس بادام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وهو الظاهر من قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وعلى قول محمد رحمه الله تعالى وهو رواية
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي وروى هشام عنه أن الجوز اليابس إدام كالجبن
وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن الادام ما يؤكل مع الخبز غالبا فإنه مشتق من المؤادمة
وهو الموافقة قال صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لو نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم
بينكما أي يوفق فما يؤكل مع الخبز غالبا فهو موافق له فيكون أداما وقال صلى الله عليه
وسلم سيد أدام أهل الجنة اللحم وأخذ لقمة بيمينه وتمرة بشماله وقال هذه أدام هذه فعرفنا
أن ما يوافق الخبز في الأكل فهو أدام إلا أنا خصصنا ما يؤكل غالبا وحده كالبطيخ والتمر
والعنب لان الادام تبع فما يؤكل وحده غالبا لا يكون تبعا فأما الجبن والبيض واللحم لا يؤكل
وحده غالبا فكان أداما ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الادام تبع ولكن حقيقة
التبعية فيما يختلط بالخبز ولا يحتاج إلى أن يحمل معه كالخل فان النبي صلى الله عليه وسلم قال
نعم الادام الخل فما يصطبغ به فهو بهذه الصفة فأما اللحم والجبن والبيض يحمل مع الخبز فلا
يكون إداما وإن كان قد يؤكل معه كالعنب توضيحه أن الادام ما لا يتأتى أكله وحده
كالملح فإنه أدام والخل واللبن لا يتأتى فيه الأكل وحده لان ذلك يكون شربا لا أكلا
فعرفنا أنه أدام فأما اللحم والجبن والبيض يتأتي (يتأتى) الأكل فيها وحدها فلم تكن أداما الا ان ينوى
ذلك فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه ولو حلف لا يأكل طعاما ينوى طعاما بعينه أو حلف
لا يأكل لحما ينوى لحما بعينه فأكل غير ذلك لم يحنث الا انه إذا كانت يمينه بالطلاق يدين
فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام لأنه ذكر
الطعام منكرا في موضع النفي والنكرة في موضع النفي تعم وان قال لا آكل وعني طعاما دون
طعام لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى هذا
والأول سواء لان الأكل يقتضى مأكولا فكأنه صرح بذكر الطعام وهو بناء على أصله
ان الثابت بمقتضى اللفظ كالملفوظ فأما عندنا لا عموم للمقتضى ونية التخصيص إنما تصح فيما
له عموم دون ما لا عموم له فالأصل عندنا أنه متى ذكر الفعل ونوى التخصيص في المفعول
أو الحال أو الصفة كانت نيته لغوا لأنه تخصيص ما لا لفظ له أما نية التخصيص في المفعول
كما بينا ونية التخصيص في الحال بأن يقول لا أكلم هذا الرجل وهو قائم بين يديه ونوي (ونوى)
177

حال قيامه فنيته لغو بخلاف ما لو قال هذا الرجل القائم وهو ينوي حال قيامه فان نيته تعمل
فيما بينه وبين الله تعالى وتخصيص الصفة أن يقول لا أتزوج امرأة وهو ينوى كوفية أو
بصرية فان نيته لغو ولو نوى عربية أو حبشية عملت نيته فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى
التخصيص في الجنس وذلك في لفظه ولو حلف لا يأكل شواء ولا نية له فهو على اللحم
خاصة ما لم ينو غيره لان الناس يطلقون هذه اللفظة على اللحم عادة دون الفجل والجزر المشوي
ألا ترى أن الشواء اسم لمن يبيع اللحم المشوي فمطلق لفظه ينصرف إليه للعرف إلا أن ينوى
كل ما يشوى من بيض أو غيره فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه ولو حلف لا يأكل رأسا قال
فهذا على رؤس البقر والغنم وهذا لأنا نعلم أنه لم يرد رأس كل شئ وان رأس الجراد
والعصفور لا يدخل في هذا وهو رأس حقيقة فإذا علمنا أنه لم يرد الحقيقة وجب اعتبار
العرف وهو الرأس الذي يشوى في التنانير ويباع مشويا فكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى
يقول أو لا يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم لأنه رأس عادة أهل الكوفة فإنهم يفعلون
ذلك في هذه الرؤس الثلاثة ثم تركوا هذه العادة فرجع وقال يحنث في رأس البقر والغنم
خاصة ثم إن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم
لا يفعلون ذلك الا في رأس الغنم خاصة فقالا لا يحنث الا في رؤس الغنم فعلم أن الاختلاف
اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم وبيان والعرف الظاهر أصل في مسائل الايمان وان
حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير من الدجاجة والإوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك
ونحوه فيه الا ان ينويه لأنا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شئ فان بيض الدود لا يدخل فيه
فإنما يحمل على ما يطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاجة
ونحوها وان حلف لا يأكل طبيخا فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غير استحسانا وفى القياس
يحنث في اللحم وغيره مما هو مطبوخ ولكن الاخذ بالقياس يفحش فان المسهل من الدواء
مطبوخ ونحن نعلم أنه لم يرد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لأنه هو الذي
يطبخ في العادات الظاهرة فان الطبيخ في العادة ما يتخذ من الألوان والباحات وهو الذي
يسمى متخذ ذلك طباخا فأما من يطبخ الآجر لا يسمى طباخا قالوا وإنما يحنث إذا إذا
أكل اللحم المطبوخ فأما المقلية اليابسة فلا وما طبخ بالماء إذا أكل المرقة مع الخبز يحنث وإن لم
يأكل عين اللحم لان أجزاء اللحم فيه ولان تلك المرقة تسمى طبيخا وإذا حلف لا يأكل
178

فاكهة فأكل عنبا أو رطبا أو رمانا لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحنث في
قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لان الفاكهة ما يؤكل على سبيل التفكه وهو التنعم
وهذه الأشياء أكمل ما يكون من ذلك ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك الفاكهة ما
يقدم بين يدي الضيفان للتفكه به لا للشبع والرمان والرطب من أنفس ذلك كالتين وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذه الأشياء غير الفاكهة قال الله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان
وقال الله تعالى وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا فتارة عطف الفاكهة على هذه
الأشياء وتارة عطف هذه الأشياء على الفاكهة والشئ لا يعطف على نفسه مع أنه
مذكور في موضع المنة ولا يليق بالحكمة ذكر الشئ الواحد في موضع المنة بلفظين
ثم الاسم مشتق من التفكه وهو التنعم قال الله تعالى انقلبوا فكهين أي متنعمين وذلك معنى
زائد على ما به القوام والبقاء والعنب والرطب يتعلق بهما القوام وقد يجتزى بهما في بعض
المواضع والرمان كذلك في الأدوية فلا يتناولها مطلق اسم الفاكهة ألا ترى أن يابس هذه
الأشياء ليس من الفواكه فان الزبيب والتمر قوت وحب الرمان من التوابل دون الفواكه
وما يكون رطبه من الفواكه فيابسه من الفواكه أيضا كالتين والمشمش والخوخ ومالا يكون
يابسه من الفواكه فرطبه لا يكون من الفواكه كالبطيخ فإنه يقدم مع الفواكه بين يدي
الضيفان ولا يتناوله اسم الفاكهة وأما القثاء والفول والجزر ليس من الفواكه إنما هي من
البقول والتوابل بعضها يوضع على المائدة مع البقل وبعضها يجعل في القدر مع التوابل قال
ويدخل في الفاكهة اليابسة اللوز والجوز وأشباه ذلك وقد بينا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى
يجعل الجوز اليابس من الادام دون الفاكهة لأنه لا يتفكه به عادة إنما يأكل مع الخبز
كالجبن أو يجعل مع التوابل في القدر ولكن في ظاهر الرواية يقول رطب الجوز من الفواكه
فكذلك يابسه للأصل الذي بينا وان حلف لا يأكل طعاما فأكل خبزا أو فاكهة أو غير
ذلك حنث ومراده أو غير ذلك مما يسمى طعاما عادة دون ماله طعم حقيقة فان كل أحد
يعلم أنه لا يريد السقمونيا بهذا اللفظ وله طعم عرفنا أن مراده ما يسمى في العادة طعاما
ويؤكل على سبيل التطعم ولو حلف ليأكلن هذا الطعام اليوم فأكله غيره في اليوم لم يحنث في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه يحنث إذا
غابت الشمس والأصل فيه أن اليمين إذا كانت مؤقتة بوقت فانعقادها موجبا للبر في آخر
179

ذلك اليوم الا ان عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وجود ما حلف عليه ليس بشرط لانعقاد
اليمين حتى إذا قال لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه تنعقد اليمين فكذلك هنا انعدام
الطعام في آخر اليوم عنده لا يمنع انعقاد اليمين فإذا انعقدت وتحقق فوت شرط البر حنث
فيها وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انعدام ما حلف عليه يمنع انعقاد اليمين كما في
مسألة الشرب فلا ينعقد اليمين هنا لما انعدم الطعام في آخر الوقت وهذا لان شرط حنثه
ترك أكل الطعام في آخر جزء من أجزاء اليوم ولا يتصور ذلك إذا لم يبق الطعام وقد بينا ان
بدون توهم البر لا ينعقد اليمين وإن لم يكن وقت فيه وقتا حنث لان اليمين انعقدت في الحال
لتوهم البر فيها لكون الطعام قائما في الحال ثم فات شرط البر بأكل الغير إياه فيحنث (قال)
وكذلك أن مات الحالف قبل أن يأكله والطعام قائم بعينه لان شرط البر قد فات بموته
وكذلك أن مضت المدة وهو حي والطعام قائم لان شرط البر فعل الأكل في الوقت وقد تحقق
فوته بمضي الوقت فحنث في يمينه وعلى هذا لو حلف ليقضين حق فلان غدا فقضاه اليوم
لم يحنث في قوم أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويحنث عند أبي يوسف رحمه الله تعالى
كما جاء الغد لان عنده كما جاء الغد انعقدت اليمين فان عدم المحلوف عليه لا يمنع انعقاد اليمين
عنده وان حلف لا يأكل من طعام اشتراه فلان فأكل من طعام اشتراه فلان مع آخر حنث
لان ما اشتراه فلان من ذلك طعام وقد أكله فان كل جزء من الطعام يسمى طعاما بخلاف
ما لو حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها فلان وآخر معه لان نصف
الدار لا يسمى دارا إلا أن يكون نوى في الطعام أن يشترى هو وحده فتعمل نيته لأنه
نوى التخصيص في اللفظ العام فان شراء الطعام قد يكون وحده وقد يكون مع غيره
وكذلك لو حلف لا يأكل من طعام يملكه فلان بخلاف ما لو حلف لا يلبس ثوبا لفلان أو
ثوبا اشتراه فلأن لان اسم الثوب للكل وبعض الثوب ليس بثوب ألا ترى أنه لو قال
هذا الثوب لفلان وهو بينه وبين آخر كان كذبا ولو قال هذا الطعام لفلان وهو يعنى
نصفه كان صدقا ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق شيئا فأكل خبزه حنث لان عين
الدقيق لا يؤكل عادة فتنصرف يمينه إلى ما يتخذ منه كما لو حلف لا يأكل من هذه النخلة
واختلف مشايخنا فيما لو أكل عين الدقيق فمنهم من يقول يحنث لأنه أكل الدقيق حقيقة
والعرف وان اعتبر فالحقيقة لا تسقط به وهذا لان عين الدقيق مأكول والأصح أنه
180

لا يحنث لأن هذه حقيقة مهجورة ولما انصرفت اليمين إلى ما يتخذ منه للعرف يسقط اعتبار
الحقيقة كمن قال للأجنبية ان نكحتك فعبدي حر فزنى بها لم يحنث لأنه لما انصرف إلى
العقد لم يتناول حقيقة الوطئ وإن كان عنى أكل الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز لأنه نوى
حقيقة كلامه ولو حلف لا يأكل من هذه الحنطة شيئا فان نوى يأكلها حبا كما هو فأكل من
خبزها أو سويقها لم يحنث لان المنوي حقيقة كلامه فهو كالملفوظ وإن لم يكن له نية فأكل
من خبزها لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحنث في قول أبى يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى قال في الكتاب يمينه على ما يصنع منها وهذا إشارة إلى أن عندهما لو
أكل من عينها لم يحنث ولكن ذكر في الجامع الصغير وان أكل من خبزها يحنث عندهما
أيضا فهذا يدل على أنه يحنث بتناول عين الحنطة عندهما وهو الصحيح وجه قولهما ان أكل
الحنطة في العادة هكذا يكون فإنك تقول أكلنا أجود حنطة في الأرض تريد الخبز ويقال
أهل بلدة كذا يأكلون الحنطة وأهل بلده كذا يأكلون الشعير والمراد الخبز إلا أن أبا
حنيفة رحمه الله تعالى يقول عين الحنطة مأكول عادة فإنها تقلى فتؤكل وتغلى فتؤكل ويتخذ
منها الهريسة ومن انعقدت يمينه على أكل عين مأكولة ينصرف يمينه إلى اكل عينه دون
ما يتخذ منه كالعنب والرطب وهذا لان لكلامه حقيقة مستعملة ومجازا متعارفا ولا يراد
باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز لان المجاز مستعار والثوب الواحد في حالة واحدة لا يتصور
أن يكون ملكا وعارية فإذا كانت الحقيقة مرادة هنا يتنحى المجاز وهما لا ينكران هذا الأصل
ولكنهما يقولان إذا أكل الحنطة إنما يحنث باعتبار عموم المجاز لا باعتبار الحقيقة وقد بينا
نظائره في وضع القدم وغيره (قال) وإذا أكل من سويقها لم يحنث في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وكذلك قول محمد أيضا لان الموجود في الحنطة لبها وهو
ما يصير بالطحن دقيقا ومن أصل أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ان السويق جنس آخر
غير الدقيق ولهذا جوزا بيع السويق بالدقيق متفاضلا فما تناول ليس من جنس ما كان
موجودا في الحنطة التي عينها فلا يحنث وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يمينه تناولت
الحقيقة فلا يحنث بأكل السويق وان حلف لا يأكل من هذا الطلع شيئا فأكل منه بعد
ما صار بسرا لم يحنث لان الطلع عينه مأكول ومتى عقد يمينه على أكل ما تؤكل عينه
لا ينصرف يمينه إلى ما يكون منه ثم البسر ليس من جنس الطلع ألا ترى أن بيع البسر
181

بالطلع يجوز كيف ما كان وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا البسر فأكل منه بعد ما صار
رطبا لان البسر عينه مأكول ولان الرطب وإن كان من جنس البسر إلا أن الانسان قد
يمتنع من تناول البسر ولا يمتنع من تناول الرطب والأصل أنه متى عقد يمينه على عين
بوصف يدعو ذلك الوصف إلى اليمين يتقيد اليمين ببقاء ذلك الوصف وينزل منزلة الاسم
ولهذا لو حلف لا يأكل من هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرا لم يحنث لان صفة
الرطوبة داعية إلى اليمين فقد يمتنع الانسان من تناول الرطب دون التمر وهذا بخلاف ما لو
حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث لان صفة الشباب ليست بداعية إلى
اليمين وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا الحمل فأكله بعد ما كبر يحنث لان الصفة المذكورة
ليست بداعية إلى اليمين ولو حلف لا يأكل من هذا السويق فشربه لم يحنث لان الشرب
غير الأكل فان الله تعالى قال كلوا واشربوا والشئ لا يعطف على نفسه وقد بينا حد كل واحد
من الفعلين وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فشربه أو حلف لا يشربه فأكله لم
يحنث وأكل اللبن بأن يثرد فيه الخبز وشربه أن يشربه كما هو ولو تناول شيئا مما يصنع
منه كالجبن والأقط لم يحنث لان عينه مأكول وقد عقد اليمين عليه ألا ترى أنه لو حلف
لا يذوق من هذا الخمر فذاقه بعد ما صار خلا لم يحنث ولو حلف ليأكلن هذا السويق
فأكله كله الا حبة منه لم يحنث لأنه يسمى في العادة أكل ولأنه لا يتصور أكل كله على وجه
لا يبقي حبة في الاناء وبين لهواته وأسنانه فتحمل يمينه على ما يتأتى فيه البر إذا كان ذلك
متعارفا بين الناس وعلى هذا لو حلف ليأكلن هذه الرمانة فأكلها كلها الا حبة واحدة كان
قد بر في يمينه لان أكل الرمانة هكذا يكون فإنه لا يمكنه أن يأكلها على وجه لا يسقط منه
حبة إلا أن ينوى ذلك فحينئذ قد شدد على نفسه بنية حقيقة كلامه ولو مص ماءها ورمى
بالحب لم يحنث سواء حلف على أكلها أو شربها لان هذا ليس بأكل ولا شرب ولكنه
مص وان قال لامرأتيه أيتكما أكلت هذه الرمانة فهي طالق فأكلتا جميعا لم تطلقا لان
كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد وشرط الطلاق أكل الواحدة جميع
الرمانة ولم يوجد ذلك فلهذا لم تطلق واحدة منهم وان حلف لا يأكلن سمنا فأكل سويقا
قد لت بسمن وأوسع حتى يستبين فيه طعمه ويرى مكانه حنث وكذلك كل شئ فيه سمن
يوجد طعمه ويستبين فيه وان كأن لا يوجد طعمه ولا يرى مكانه لم يحنث لأنه عقد يمينه
182

على أكل عين السمن فلا بد من قيام عينه عند الأكل ليحنث وقيام عنى المأكول بذاته
أو طعمه فإذا كان يرى مكانه ويستبين فيه طعمه فقد علمنا وجود شرط حنثه زاد هشام في
نوادره أن يكون بحال يمكن عصر السمن فأما إذا كأن لا يرى مكانه ولا يستبين طعمه فيه
فقد صار مستهلكا فيه ولم يذكر في الكتاب ما إذا عقد اليمين على مائع فاختلط بمائع آخر
من جنسه أو من غير جنسه وذكر في النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا حلف
لا يشرب لبنا فصب الماء في اللبن وشربه فإن كان اللون فيما شرب لون اللبن ويوجد طعمه
وهو الغالب فيحنث به وإن كان اللون لون الماء فيه علمنا أن اللبن مغلوب مستهلك فلا يحنث
به ألا ترى أنه يقال للأول لبن مغشوش وللثاني ماء خالطه لبن وهكذا ذكر في نسخ
الأصل وعن محمد رحمه الله تعالى أنه يعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة لان القليل لا يظهر
في مقابلة الكثير وان كانا سواء لم يحنث في القياس للشك والتردد وفى الاستحسان هو
هو حانث لان ما حلف عليه لم يصر مغلوبا بما سواه وان حلف لا يشرب لبن هذه البقرة
فخلطه بلبن بقرة أخرى فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى هذا والأول سواء لان المغلوب
في حكم المستهلك سواء كان الغالب من جنسه أو من خلاف جنسه وعند محمد رحمه الله
تعالى يحنث هنا على كل حال لان الشئ يكثر بجنسه ولا يصير مستهلكا به ولو حلف
لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكل ذلك التمر كله حنث لأنه قد أكل تلك التمرة
حقيقة فإنه يأكل تمرة تمرة وجهله بما حلف عليه لا يمنع حنثه وان حلف لا يأكل شعيرا
فأكل حنطة فيها شعير حبة حبة حنث لأنه قد أكل المحلوف عليه بيقين وهذا بخلاف
ما سبق من السمن إذا كأن لا يرى مكانه في السويق لان هناك يأكل الكل جملة فما
يأكله من السمن مستهلك إذا كأن لا يري (يرى) مكانه وهنا إنما يأكل حبة حبة فإذا أكل
حبة الشعير وحدها فقد وجد شرط الحنث حتى إذا كانت يمينه على الشراء لم يحنث لأنه يشترى
الكل جملة ومشترى الحنطة لا يسمى مشتريا للشعير وإن كان فيها حبات الشعير لان بائعها
لا يسمى بائع الشعير وان حلف لا يأكل شحما فان أكل شحم البطن فهو حانث وان أكل
لحما يخالطه شحم البطن فهو حانث وان أكل لحما يخالطه شحم يعني شحم الظهر لم يحنث في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو حانث في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
وذكر الطحاوي قول محمد مع قول أبي حنيفة وجه قول أبى يوسف رضوان الله عليهم
183

أجمعين ان شحم الظهر شحم بذاته ويصلح لما يصلح له الشحم فكان كشحم البطن قال الله
تعالى ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما والمستثني (والمستثنى) من جنس
المستثنى منه هو الحقيقة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا لحم عند الناس ألا ترى أنه
لو حلف لا يأكل لحما يحنث بهذا وكذلك في العادة يقال في العربية سمين اللحم وبالفارسية
فربهن والدليل عليه أن يمينه لو كان على الشراء لم يحنث بهذا إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى
يفرق بما ذكرنا أن الشراء لا يتم به وحده بخلاف الأكل ثم سمين اللحم يستعمل استعمال
اللحوم في اتخاذ القلايا والباحات كاستعمال الشحوم وقد بينا ان الايمان لا تنبني على ألفاظ
القرآن وفي الآية استثناء الحوايا أيضا وما اختلط بعظم وأحد لا يقول إن مخ العظم يكون
شحما وإذا حلف لا يأكل بسرا فأكل بسرا مذنبا حنث وكذلك لو حلف لا يأكل رطبا
فأكل رطبا فيه بعض البسر فهو حانث لأنه أكل المحلوف عليه حقيقة وعرفا ولو حلف
لا يأكل رطبا فأكل بسرا مذنبا حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث
في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وكذلك لو حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا وفيه شئ
من البسر فهو على الخلاف أبو يوسف رحمه الله يقول المذنب لا يسمى رطبا وإنما يسمى بسرا
حتى يحنث بأكله لو كانت يمينه على البسر فكيف يكون رطبا وبسرا في حالة واحدة وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الجانب الذي أرطب منه رطب ألا ترى أنه لو ميز ذلك
وأكله وحده حنث في يمينه فكذلك إذا أكله مع غيره ولهذا يحنث لو كانت يمينه على
أكل البسر لان أحد الجانبين منه بسر وهذا ينبنى على الأصل الذي بينا فان الرطب
والبسر جنس واحد ومن أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى أن المغلوب مستهلك بالغالب
وإن كان الجنس واحدا فاما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في الجنس الواحد لا يكون
الأقل مستهلكا بالأكثر فيعتبر كل واحد منهما على حدة وان حلف لا يأكل من هذا العنب
شيئا فأكل منه بعد ما صار زبيبا لم يحنث لان الوصف المذكور داع إلى اليمين فقد يمتنع المرء
من تناول العنب دون الزبيب وقد بينا نظيره في الرطب مع التمر ولان الزبيب غير العنب ألا
ترى ان من غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق صاحبه عنه ويمينه على عين مأكول فلا يتناول
ما يتخذ منه ولو حلف لا يأكل جوزا فأكل منه رطبا أو يابسا حنث وكذلك اللوز والفستق
والتين وأشباه ذلك لان الاسم الذي عقد به اليمين حقيقة في الرطب واليابس منه فإنه بعد
184

اليبس لا يتجدد للعين اسم آخر بخلاف الزبيب وان حلف لا يأكل شيئا من الحلو فأي
شئ من الحلو أكله من خبيص أو عسل أو سكر أو ناطف حنث والحلو اسم لكل شئ
حلو لا يكون من جنسه غير حلو وذلك موجود في هذه الأشياء وان أكل عنبا أو
بطيخا لم يحنث وإن كان حلوا لان من جنسه حامض غير حلو خصوصا باوزجند وان حلف
لا يأكل خبيصا فأكل منه يابسا أو رطبا حنث لان الرطب واليابس خبيص حقيقة وعرفا
وان حلف طائعا أو مكرها أن لا يأكل شيئا سماه فأكره حتى أكله حنث وهذا لان الاكراه
لا يعدم القصد ولا يمنع عقد اليمين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بيناه في الطلاق
وبعد انعقاد اليمين شرط حنثه الأكل وذلك فعل محسوس ولا ينعدم بالاكراه ألا ترى
أنه لا يمنع حصول الشيع والري به وكذلك أن أكله وهو مغمى عليه أو مجنون لان شرط
حنثه الأكل والجنون والاغماء لا يعدم فعل الأكل ووجوب الكفارة باليمين لا بالحنث وهو
كان صحيحا عند اليمين فيحنث عند وجود الشرط وان أوجر أو صب في حلقه مكرها وقد
حلف لا يشربه لا يحنث لأنه عقد يمينه على فعل نفسه وهو ليس بفاعل بل هو مفعول به
فلا يحنث ولكن لو شرب منه بعد هذا حنث لان ما سبق غير معتبر في ايجاد شرط الحنث
ولكن لا يرتفع اليمين به لان ارتفاعها بوجود شرط الحنث وان حلف لا يأكل طعاما سماه
فمضغه حتى دخل جوفه من مائه ثم ألقاه لم يحنث لأنه ما وصل إلى جوفه عين الطعام ولا ما
يتأتي (يتأتى) فيه المضغ والهشم وقد بينا ان الأكل لا يتم الا بهذا وان حلف لا يأكل تمرا فأكل
قسبا لم يحنث لان القسب يابس البسر ولو أكله رطبا لم يحنث فكذلك إذا أكله يابسا
وكذلك أن أكل بسرا مطبوخا وان حلف لا يأكل حبا فأي حب أكل من سمسم
أو غيره حنث لان كل شئ يقع عليه اسم الحب مما يأكله الناس فهو داخل في يمينه
باعتبار العادة إلا أن ينوى شيئا بعينه فيكون على ما نوى بينه وبين الله تعالى وكل شئ
يؤكل ويشرب كالسويق والعسل واللبن فان عقد اليمين على أكله لم يحنث بشربه
وان عقد على شربه لم يحنث بأكله لأنهما فعلان مختلفان وإن كان المحل واحدا وشرط
حنثه الفعل دون المحل وان حلف لا يأكل خبزا فأكل خبز حنطة أو شعير حنث
لأنه خبز حقيقة وعرفا وان أكل من خبز غيرهما لم يحنث إلا أن ينويه لأنه لا يسمى خبزا
185

مطلقا ولا يؤكل ذلك عادة في عامة الأمصار وان أكل خبز قطايف لم يحنث إلا أن
يكون نواه لأنه لا يسمى خبزا مطلقا وإنما يسمى قطايف وان نواه فالمنوي من محتملات
لفظه لأنه نوى خبزا مقيدا وان أكل خبز الأرز فإن كان من أهل بلد ذلك طعامهم كأهل
طبرستان فهو حانث فأما في ديارنا لا يحنث لأن لان أكل خبز الأرز غير معتاد في ديارنا
ولا يسمى خبزا مطلقا وان حلف لا يأكل تمرا فأكل حيسا حنث لان هذا هو التمر
بعينه لم يغلب عليه غيره فان الحيس تمر ينقع في اللبن حتى ينتفخ فيؤكل دخل رجل على رجل
فدعاه إلى الغداء فحلف أن لا يتغدى ثم رجع إلى أهله فتغدى لم يحنث لان يمينه إنما وقعت
جوابا لكلامه ومعنى هذا أن مطلق الكلام يتقيد بما سبق فعلا أو قولا حتى لو قامت
امرأته لتخرج فقال لها ان خرجت فأنت طالق كانت يمينه على تلك الخرجة فكذلك إذا
دعاه إلى الغداء فقال إن تغديت معناه الغداء الذي دعوتني إليه ولو صرح بذلك لم يحنث
إذا رجع إلى أهله وتغدى ولا إذا تغدى عنده في يوم آخر فكذلك هنا والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
(باب اليمين في الشراب)
(قال) رضي الله عنه رجل حلف لا يشرب شرابا فأي شراب شربه من ماء أو غيره
حنث في يمينه لان الشراب ما يتأتى فيه فعل الشرب وقد بينا حده والماء في ذلك كغيره فإنه
شراب طهور قال الله تعالى وسقاهم ربهم شرابا طهورا فيدخل في ذلك كل شراب تشتهيه
الأنفس وان عين شرابا بعينه دين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لأنه نوي (نوى) التخصيص
في اللفظ العام وان حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شربه حنث والنبيذ الزبيب أو التمر ينقع
في الماء فتستخرج حلاوتها ثم يجعل شرابا مأخوذ من النبذ وهو الطرح قال الله تعالى
فنبذوه وراء ظهورهم فان شرب سكرا أو فضيخا أو عصيرا لم يحنث لأنه ليس بنبيذ ولا
يطلق عليه اسم النبيذ عادة ولكن هذا إذا كانت يمينه بالعربية اما بالفارسية اسم النبيذ
يطلق على كل مسكر والايمان تنبني على العرف في كل موضع ولو حلف لا يشرب ماء
فشرب نبيذا لم يحنث لأنه غير الماء فإنه قد تغير بما غلب عليه من حلاوة الزبيب والتمر وان
186

طبخ فلا اشكال فيه أنه غير الماء وان حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد
من شراب واحد حنث وإن كان الاناء الذي يشربان منه مختلفا فان شرب الحالف من شراب
والآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد حنث لان مراده الامتناع من منادمته
وقد وجد ذلك إذا جمعهما مجلس واحد سواء كان الشراب واحدا أو مختلفا والاناء الذي
يشربان فيه واحدا أو مختلفا لان الشرب مع الغير هكذا يكون ألا ترى ان الأمير مع
ندمائه يشرب ثم إناؤه الذي يشرب منه غير إنائهم وربما يشرب الصرف ويمزج لهم إلا أن
يكون نوي (نوى) شرابا واحدا حين حلف فحينئذ قد نوى أكمل ما يكون من الشرب مع
فلان ونيته لذلك صحيح ولو حلف لا يأكل الطعام فأكل منه شيئا يسيرا حنث وكذلك
لو حلف لا يشرب الماء لان الاسم حقيقة للقليل والكثير والفعل يتحقق في القليل والكثير
فإذا عني الماء كله والطعام كله لم يحنث بهذا لأن الماء والطعام اسم جنس فإذا عني الكل فإنما
نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته فلا يحنث بهذا لأنه لا يستطيع ان يشرب الماء كله ولا ان
يأكل الطعام كله ولو حلف لا يذوق شرابا وهو يعني لا يشرب النبيذ خاصة فأكله أكلا
لم يحنث لأنه ذكر الشراب والشراب يشرب فنية الشرب فيما ذكر من الذوق صحيح وقد
بينا انه متى عقد يمينه على فعل الشرب لم يحنث بالأكل وان حلف لا يذوق لبنا ولا نية له
فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاقه وزاد عليه ولو حلف لا يشرب من دجلة فغرف منها
بقدح وشربه لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الا ان يضع فاه على دجلة بعينها فيشرب
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحنث لان الشرب من دجلة هكذا يكون في
العادة فإنه يقال أهل بلدة كذا يشربون من دجلة وإنما يراد بطريق الاغتراف في الأواني
ولكن أبو حنيفة يقول حقيقة الشرب من دجلة يكون بالكرع وهذه حقيقة مستعملة
جاء في الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم نزل عندهم هل عندكم ماء بات في شن
والا كرعنا وقد بينا ان الحقيقة إذا كانت مستعملة فاللفظ يحمل عليه دون المجاز والحقيقة
مرادة فإنه لو كرع يحنث وهو حقيقة الشرب من دجلة لان من للتبعيض فالحقيقة ان يضع
فاه على بعض دجلة والحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه ولا
يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه معدولا به عن موضعه فهذا وما تقدم
187

من مسألة الحنطة سواء وأن عندهما في الفصلين إنما يحنث لعموم المجاز (قال)
ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب من هذا الحب فغرف منه بقدح فشرب
فإنه يحنث وهذا عندهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان
ملآنا فيمينه على الكرع خاصة وإن لم يكن ملآنا فحينئذ
الجواب كما قالا لان الكرع لا يتأتى هنا كما لو حلف
لا يشرب من هذا البئر وان تكلف للكرع
من البئر ففيه اختلاف المشايخ كما بيناه
في مسألة الدقيق والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب واليه
المرجع والمآب
(تم الجزء الثامن من كتاب المبسوط ويليه الجزء التاسع)
(وأوله باب الكسوة)
188