الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ١٢
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء الثاني عشر من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الذبائح)
قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام السرخسي رحمه الله تعالى
(لا يحل ما ذبح بسن أو ظفر غير منزوع لأنه قتل وتخنيق وليس بذبح) ففي الذبح الانقطاع
بحدة الآلة وفي هذا الموضع الانقطاع بقوته لا بحدة الآلة ولان آلة الذبح غير الذابح
وسنه وظفره منه ولا بأس بأكله إذا كان منزوعا عندنا ولا يحل عند الشافعي رحمه الله
لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل ما خلا السن والظفر
فإنها مدى الحبشة ولكنا نقول المراد غير المنزوع فان الحبشة يستعملون في ذلك سنهم
وظفرهم قبل النزع وذكر في بعض الروايات ما خلا العض بالسن والقرض بالظفر والعض
والقرض إنما يتحقق في غير المنزوع عادة ثم المنزوع آلة محددة يحصل بها تسييل الدم النجس
فكانت كالسكين إلا أنه يكره الذبح بها لزيادة إيلام ومشقة على الحيوان ولا يعد هذا
الفصل من الاحسان في الذبح قال عليه الصلاة والسلام إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح الحديث.
قال (وما أنهر الدم وأفرى الأوداج فلا بأس بأن يذبح به حديدا كان أو قصبا أو حجرا
محددا أو غير ذلك) لما روى أن عدى بن حاتم رضي الله عنه قال أرأيت يا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ان صاد أحدنا صيدا وليس معه سكين فذبحه بشق العصا أو بالمروة أيحل
ذلك فقال عليه الصلاة والسلام أنهر الدم بما شئت وكل. ولان المقصود تمييز الطاهر من
النجس وذلك حاصل بكل آلة محددة ثم تمام الذكاة بقطع الحلقوم والمرئ والودجين فان
قطع الأكثر من ذلك فذلك كقطع الجميع في الجل لحصول المقصود في الأكثر من ذلك *
واختلف الروايات في تفسير ذلك فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إذا قطع ثلاثا
منها أي ثلاث كان فقد قطع الأكثر. وعن محمد رحمه الله قال إن قطع الأكثر من كل
2

واحدة منها فذلك يقوم مقام قطع الجميع فأما بدون ذلك بتوهم البقاء فلا تتم الذكاة وعن أبي
يوسف رحمه الله قال وان قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين حل وشرط ثلاثة فيها الحلقوم
والمرئ وأحد الودجين لان الحلقوم مجرى العلف والمرئ مجرى النفس والودجان مجرى
الدم فبقطع أحد الودجين يحصل ما هو المقصود من تسييل الدم فأما قطع مجرى النفس لابد
منه ولا يقوم غيره مقامه في ذلك والشافعي رحمه الله يقول وإذا قطع الحلقوم والمرئ حل
وإن لم يقطع الودجين لأنه لا بقاء بعد قطع الحلقوم والمرئ ولكن هذا فاسد لان المقصود
تسييل الدم النجس وبدون حصول المقصود لا يثبت الحل. قال (وإذا ذبحت شاة من
قبل القفا فقطع الأكثر من هذه الأشياء قبل أن تموت حلت) لتمام فعل الذكاة وان
ماتت قبل قطع الأكثر لم تحل لأنها ماتت بالجرح لا بالذبح في المذبح ولأنه لا يثبت الحل
عند القدرة على الذبح في المذبح ويكره هذا الفعل لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه
قال (وكذلك أن ضربها بسيف فأبان رأسها حلت ويكره وكذلك أن ذبحها متوجهة لغير
القبلة حلت ولكن يكره ذلك) لان السنة في الذبح استقبال القبلة هكذا روى ابن عمر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل بأضحيته القبلة لما أراد ذبحها وهكذا نقل عن
علي رضى الله تعالى عنه وهذا لان أهل الجاهلية ربما كانوا يستقبلون بذبائحهم الأصنام فأمرنا
باستقبال القبلة لتعظيم جهة القبلة ولكن تركه لا يفسد الذبيحة بخلاف ترك التسمية لان في
التسمية تعظيم الله تعالى وذلك فرض فأما استقبال القبلة لتعظيم الجهة وذلك مندوب إليه
في غير الصلاة فلهذا كان تركه موجبا للكراهة غير مفسد للذبيحة. قال (وان نحر البقرة
حلت ويكره ذلك) لما بينا أن السنة في البقرة الذبح قال الله تعالى ان يأمركم أن تذبحوا بقرة
(بخلاف الإبل فالسنة فيها النحر) وهذا لان موضع النحر من البعير لا لحم عليه وما سوى
ذلك من حلقه عليه لحم غليظ فكان النحر في الإبل أسهل فأما في البقر أسفل الحلق وأعلاه
فاللحم عليه سواء كما في الغنم فالذبح فيه أيسر والمقصود تسييل الدم والعروق من أسفل
الحلق إلى أعلاه فالمقصود يحل بالقطع في أي موضع كان منه فلهذا حل وهو معنى قوله
عليه الصلاة والسلام الذكاة ما بين اللبة واللحيين ولكن ترك الأسهل مكروه في كل جنس
لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه. قال (وان ذبح الشاة فاضطربت فوقعت في ماء أو تردت
في موضع لم يضرها شئ) لان فعل الذكاة قد استقر فيها فإنما انزهق حياتها به ولا معتبر
3

باضطرابها بعد استقرار الذكاء فهذا لحم وقع في ماء أو سقط من موضع. قال (وان أراد أن
يذبح عددا من الذبائح لم تجز التسمية للأولى عاما بعدها) لما بينا أن الشرط أن يسمى على
الذبح وذبحه للشاة الثانية غير ذبحه للشاة الأولى. قال (ولو أضجعها للذبح وسمى عليها ثم
القى تلك السكين وأخذ أخرى فذبح بها تؤكل) لوجود التسمية منه على فعلى الذبح بخلاف
الرمي لأنه لو أخذ سهما وسمى عليه ووضعه وأخذ سهما آخر جدد عليه التسمية لما بينا ان
المعتبر هناك التسمية على فعل الرمي وذلك يحل والسهم الثاني غير الأول وهنا الشرط التسمية
علي الذبح دون السكين وفعل الذبح يختلف باختلاف المذبوح لا باختلاف السكين
فوزان هذا من ذلك أن لو ترك تلك الشاة وذبح أخرى بتلك التسمية. قال (ولو كلم انسانا
أو شرب ماء أو حد سكينا وما أشبه ذلك من عمل لم يكثر ثم ذبح جاز تلك التسمية)
لوجود التسمية على الذبح فبالعمل اليسير لا يقع الفصل بين التسمية والذبح بخلاف ما إذا
طال الحديث أو طال العمل ثم ذبح فإنه مكروه لحصول الفصل بين التسمية والذبح ألا
ترى أن بالعمل الكثير ينقطع المجلس وباليسير لا ينقطع وكذلك الكلام. قال (وان قال
مكان التسمية الحمد لله أو سبحان الله أو الله أكبر يريد به التسمية أجزأه) لان الشرط
ذكر الله تعالى على التعظيم وقد حصل وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين التكبير
فيقول المأمور به هنا الذكر قال الله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف وهناك المأمور
به التكبير وبهذا الألفاظ لا يكون تكبيرا فلا يصير شارعا في الصلاة إذا كان يحسن التكبير
وان أراد بذلك التحميد دون التسمية لا يحل لان الشرط تسمية الله تعالى على الذبح وإنما يتميز
الذكر على الذبح وغيره يقصد منه التسمية فإذا لم يقصد التسمية لا يحل حتى إذا عطس
فقال الحمد لله يريد التحميد على العطاس لم يحل بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله في الخطيب
إذا عطس على المنبر فقال الحمد لله يجوز أن يصلي الجمعة بذلك القدر على احدى الروايتين
لان المأمور به هناك ذكر الله تعالى مطلقا لقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وهنا المأمور به
ذكر الله علي الذبح وبمعرفة حدود كلام الشرع يحسن الفقه. قال (ويكره أن ينخع وقد نهى
عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك) وبينا أن معناه أن يبلغ الحد النخاع وهو عرق أبيض
في وسط عظم الرقبة ولكن مع هذا تؤكل لان النهى ليس النقصان فيما هو المطلوب للذبح
وهو تسييل الدم بل لزيادة إيلام غير محتاج إليه. قال (ويكره أن يجر الشاة إلي مذبحها) وقد
4

بينا النهى عن ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عمر رضى الله تعالى عنه وكذلك
يكره أن يحد الشفرة بعد ما أضجعها وقد روينا النهى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن عمر رضى الله تعالى عنه إلا أن النهى ليس لنقصان فيما هو المطلوب للذبح فلا يوجب
الحرمة. قال (ويكره أن يسمى مع اسم الله تعالى شيئا فيقول اللهم تقبل من فلان) لقول
ابن مسعود رضي الله عنه جردوا التسمية ولان الشرط بتسمية الله تعالى على الخلوص عند
الذبح قبل فما يكون منه من الدعاء فينبغي أن يكون قبل الذبح أو بعده كما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذبح أضحيته قال اللهم هذا منك واليك صلاتي ونسكي
ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين باسم الله والله
أكبر ثم يذبح وهكذا روي عن علي رضي الله عنه. قال (ولا بأس بذبيحة المسلمة والكتابية)
لان تسمية الله تعالى علي الخلوص يتحقق من النساء كما يتحقق من الرجال وكذلك الصبي
الذي يعقل ويضبط فهو من أهل تسمية الله تعالى على الخلوص ولهذا صح اسلامه وإن كان
لا يعقل فلا يتحقق منه تسمية الله تعالى على الخلوص وهو شرط الحل فهذا لا خير في
ذبيحته. قال (ولا بأس بذبيحة أهل الكتاب من أهل الحرب) هكذا روى عن علي
رضى الله تعالى عنه وهذا لأنهم يدعون التوحيد سواء كانوا أهل الذمة أو أهل الحرب وإنما
أباح الشارع ذبائحهم لأنهم أهل الكتاب قال الله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم والحربي والذمي في ذلك سواء. قال (وذبيحة الأخرس حلال مسلما كان أو كتابيا)
لان عذره أبين من عذر الناس فإذا كان في حق الناس تقام ملته مقام تسميه ففي حق
الأخرس أولى. قال (وما أدركت من المتردية والنطيحة وما أكل السبع ونظائر هذا
فذكيته حل لقوله تعالى الا ما ذكيتم) ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إذا علم أنها كانت حية
حين ذبحت حلت سواء كانت الحياة فيها متوهمة البقاء أو غير متوهمة البقاء لان المقصود
تسييل الدم النجس بفعل ذكاة وقد حصل وقال أبو يوسف رحمه الله إن كان يتوهم ان يعيش
يوما أو أكثر تحل بالذكاة وفى رواية اعتبر توهم البقاء أكثر من نصف يوم لان ما دون
ذلك اضطراب المذبوح فلا معتبر به وعن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نقر الذئب بطن شاة
وأخرج ما فيها ثم ذبحت لم تحل لأنه ليس فيها حياة مستقرة فإنه لا يتوهم ان تعيش بعدها فما
بقي فيها الا اضطراب مذبوح وذلك غير معتبر. قال (ومن ذبح شاة أو غيرها فخرج من
5

بطنها جنين ميت لم يؤكل الجنين) في قول أبي حنيفة وزفر وهو قول إبراهيم وحكم ابن
عيينة رحمهم الله وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يؤكل إلا أنه روى عن محمد
رحمه الله أنه قال إنما يؤكل الجنين إذا أشعر وتمت خلقته فأما قبل ذلك فهو بمنزلة المضغة فلا
يؤكل واحتجوا بقول الله تعالى ومن الانعام حمولة وفرشا قيل الفرش الصغار من الأجنة
والحمولة الكبار فقد من الله تعالى على عباده بأكل ذلك لهم وفى المشهور أن النبي عليه الصلاة
والسلام قال ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه ذكاة الأم نائبة عن ذكاة الجنين كما يقال لسان
الوزير لسان الأمير وبيع الوصي بيع اليتيم * وروى ذكاة أمه بالنصب ومعناه بذكاة
أمه إلا أنه صار منصوبا بنزع حرف الخفض عنه كقوله تعالى ما هذا بشرا أي ببشر
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا
انا لننحر الجزور فيخرج من بطنها جنين ميت أفنلقيه أم نأكله فقال صلوات الله وسلامه عليه
كلوه فان ذكاة الجنين ذكاة أمه والمعنى فيه أن الذكاة تنبنى على التوسع حتى يكون في
الأهل بالذبح في المذبح فإذا ند فبالجرح في أي موضع أصابه لان ذلك وسع مثله
والذي في وسعه في الجنين ذبح الأم لأنه ما دام مخبيا في البطن لا يتأتى فيه فعل الذبح مقصودا
وبعد الاخراج لا يبقى حيا فتجعل ذكاة الأم ذكاة له لان تأثير الذبح في الأم في زهوق
الحياة عن الجنين فوق تأثير الجرح بحل رجل الصيد فالغالب هناك السلامة وهنا الهلاك
ثم اكتفى بذلك الفعل لأنه وسع مثله فهنا أولي ولان الجنين في حكم جزء من اجزاء الأم
حتى يتغذى بغذائها وينمو بنمائها ويقطع عنها بالمقراض كما في بيان الجزء من الجملة ويتبعها في
الاحكام تبعية الاجزاء حتى لا يجوز استثناء في عنقها وبيعها كاستثناء يدها ورجلها ثبوت
الحل في البيع لوجود فعل الذكاة في الأصل والدليل عليه انه يحل ذبح الشاة الحامل ولو لم
يحل الجنين بذبح الأم لما حل ذبحها حاملا لما فيه من اتلاف للحيوان لا للمأكلة ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالي والمنخنقة
فان أحسن أحواله أن يكون حيا عند ذبح الأم فيموت باحتباس نفسه وهذا هو المنخنقة
وقال عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم رضي الله عنه إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك
لا تدرى أن الماء قتله أم سهمك. فقد حرم الأكل عند وقوع الشك في سبب زهوق
الحياة وذلك موجود في الجنين فإنه لا يدرى أنه مات بذبح الأم أو باحتباس نفسه وقد
6

يتأتى الاحتراز عنه في الجملة لأنه قد يتوهم انفصاله حيا ليذبح * وعلل إبراهيم فقال ذكاة نفس
لا تكون ذكاة نفسين ومعنى هذا ان الجنين في حكم الحياة نفس على حدة مودعة في الأم
حتى ينفصل حيا فيبقى ولا يتوهم بقاء الجزء حيا بعد الانفصال وكذلك بعد موت الأم يتوهم
انفصال الجنين حيا ولا يتوهم بقاء حياة الجزء بعد موت الأصل والذكاة تصرف في الحياة
فإذا كان في حكم الحياة نفسا على حدة فيشترط فيه ذكاة على حدة ولا نقول يتغذى بغذاء
الأم بل يبقيه الله تعالى في بطن الأم من غير غذاء أو يوصل الله إليه الغذاء كيف شاء ثم بعد
الانفصال قد يتغذى أيضا بغذاء الأم بواسطة اللبن ولم يكن في حكم الجزء ولما جعل
في سائر الأحكام تبعا لم يتصور تقرر ذلك الحكم في الأم دونه حتى لا يتصور انفصاله
حيا بعد موت الأم ولو انفصل حيا ثم مات لم يحل عندهم فعرفنا انه ليس يتبع في هذا
الحكم وحقيقة المعنى فيه ما بينا ان المطلوب بالذكاة تسييل الدم لتمييز الطاهر من النجس
وبذبح الأم لا يحصل هذا المقصود في الجنين أو المقصود تطييب اللحم بالنضج الذي يحصل
بالتوقد والتلهيب ولا يحصل ذلك في الجنين بذبح. وهذا الجواب عما قالوا إن الذكاة تنبنى
علي التوسع. قلنا نعم ولكن لا يسقط بالعذر وكما لو قتل الكلب الصيد غما أو اختفاء وهذا
لان المقصود لا يحصل بدون الجرح وإباحة ذبح الحامل لأنه يتوهم ان ينفصل الجنين
حيا فيذبح ولان المقصود لحم الأم وذبح الحيوان لغرض صحيح حلال كما لو ذبح ما ليس
بمأكول لمقصود الجلد والمراد بالحديث التنبيه لا النيابة أي ذكاة الجنين كذكاة أمه ألا
ترى أنه ذكر الجنين أولا ولو كان المراد النيابة لذكر النائب أولا دون المنوب عنه كما قيل
في الألفاظ التي استشهد بها ومثل هذا يذكر للتشبيه يقال فلان شبه أبيه وحظ فلان حظ
أبيه وقال القائل
وعيناك عيناها وجيدك جيدها * سوى أن عظم الساق منك دقيق
والمراد التشبيه ويصح هذا التأويل في الرواية بالنصب فان المنزوع حرف الكاف
قال الله تعالى وهي تمر مر السحاب أي كمر السحاب ويحتمل الباء أيضا ولكن ان جعلنا
المنزوع حرف الكاف لم يحل الجنين وان جعلناه حرف الباء يحل ومتى اجتمع الموجب للحل
والموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة والحديث مع القصة لا يكاد يصح ولو ثبت فالمراد
من قولهم فيخرج من بطنها جنين ميت أي مشرف على الموت قال الله تعالى انك ميت وانهم
7

ميتون ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم كلوه أي اذبحوه وكلوه والمراد بالفرش الصغار
فلا يتناول الجنين ولئن كان المراد به الجنس ففيه بيان أن الجنين مأكول وبه نقول ولكن
عند وجود الشرط فيه وهو ان ينفصل حيا فيذبح فيحل به والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب الأضحية)
قال رحمه الله تعالى اعلم بأن القرب المالية نوعان نوع بطريق التمليك كالصدقات ونوع
بطريق الاتلاف كالعتق ويجتمع في الأضحية معنيان فإنه تقرب بإراقة الدم وهو اتلاف ثم
بالتصدق باللحم وهو تمليك. قال (وهي واجبة على المياسير والمقيمين عندنا) وذكر في الجامع
عن أبي يوسف أنها سنة وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام كتبت علي الأضحية
ولم تكتب عليكم وقال عليه الصلاة والسلام خصصت بثلاث وهي لكم سنة الأضحية
وصلاة الضحى والوتر. وقال صلى الله عليه وسلم ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام وعن أبي
بكر وعمر رضي الله عنهما انهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يراها الناس واجبة
وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه انه ليغدو على ألف شاة ويراح فلا أضحي مخافة أن
يراها الناس واجبة ولأنها لا تجب على المسافر وكل دم لا يجب على المسافر لا يجب على المقيم
كالعنبرة وهذا لأنه لا يفرق بين المسافر والمقيم في العبادات المالية كالزكاة وصدقة الفطر لأنهما
لا يستويان في ملك المال وإنما الفرق بينهما في البدن لان المسافر يلحقه المشقة بالأداء بالبدن
والدليل عليه ان يحل له التناول منه واطعام الغنى ولو كان واجبا لم يحل له التناول كما في جزاء
الصيد ونحوه ولان التقرب بالاتلاف لا يجب ابتداء بل بسبب من العبد كالعتق في الكفارات
ولهذا أوجبنا الأضحية بالنذر. وحجتنا في ذلك قوله تعالى فصل لربك وانحر أي وانحر
الأضحية والامر يقتضي الوجوب وقال عليه الصلاة والسلام من وجد سعة ولم يضح فلا
يقربن مصلانا والحاق الوعيد لا يكون الا بترك الواجب وقال عليه الصلاة والسلام من
ضحى قبل الصلاة فليعد ومن لم يضح فليذبح على اسم الله تعالى والامر يفيد الوجوب وفى قوله
عليه الصلاة والسلام ضحوا أمر وقوله فإنها سنة أبيكم إبراهيم أي طريقته فالسنة الطريقة في
الدين وذلك لا ينفى الوجوب ولا حجة في قوله عليه الصلاة والسلام ولم تكتب عليكم فانا نقول
بأنها غير مكتوبة بل هي واجبة فالمكتوب ما يكون فرضا يكفر جاحده فقد كان رسول الله
8

صلى الله عليه وسلم مخصوصا بكون الأضحية مكتوبة عليه كما قال وتأويل حديث أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما انهما لا يضحيان في حال الاعسار مخافة أن يراها الناس واجبة على
المعسرين أو في حال السفر وهو تأويل حديث أبي مسعود رضي الله عنه ولا كلام في المسألة
على سبيل المقايسة والعبادات لا تثبت قياسا ولكن على سبيل الاستدلال نقول هذه قربة
يضاف إليها وفيها فتكون واجبة كالجمعة وبيان الوصف انه يقال يوم الأضحى وتأثيره أن
إضافة الوقت إليه لا تتحقق الا وأن يكون موجودا فيه ولا يكون موجودا فيه لا محالة
الا وأن تكون واجبة لجواز ان يجتمع الناس على ترك ما ليس بواجب ولا يجتمعون علي ترك
الواجب وان اجتمعوا على ذلك لم يخرج من أن يكون موجودا فيه استحقاقا ولجواز الأداء
فيه لا يصير الوقت مضافا إليه كسائر الأيام يجوز فيها الصوم ثم لا يسمى شهر الصوم الا
رمضان فعرفنا ان إضافة الوقت إلي القربة تدل على وجوبها فيه وإنما لا تجب على المسافر
لمعنى المشقة فان الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استصحاب ذلك في السفر
ويفوت بمضي الوقت فلدفع المشقة لا تلزمه كالجمعة بخلاف سائر العبادات المالية وإباحة التناول
باذن من له الحق فإنه بالتضحية يجعلها الله تعالى وقد قال الله تعالى فكلوا منها ولما كان من
جنس التقرب بالتمليك ما هو واجب ابتداء فكذلك من جنس التقرب بالاتلاف ما هو
واجب ابتداء وليس ذلك الا في الأضحية وفى الوجوب بالنذر دليل على أن من جنسه واجبا
شرعا فان ما ليس من جنسه واجبا شرعا لا يصح التزامه بالنذر كعبادة المريض * ثم يختص
جواز الأداء بأيام النحر وهي ثلاثة أيام عندنا قال عليه الصلاة والسلام أيام النحر ثلاثة
أفضلها أولها فإذا غربت الشمس من اليوم الثالث لم تجز التضحية بعد ذلك. وقال الشافعي
رضي الله تعالى عنه تجوز في اليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق وهذا ضعيف فان هذه
القربة تختص بأيام النحر دون أيام التشريق ألا ترى ان الأفضل أداؤها في اليوم الأول
وهو العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر لا أيام التشريق علي ما قيل الأيام المعدودات
ثلاثة وهي أيام النحر والمعلومات ثلاثة وهي أيام التشريق وتمضي هذه السنة في أربعة أيام
فاليوم الأول من المعدودات خاصة واليوم الآخر من المعلومات خاصة وقيل المعلومات عشر
ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق * ثم يختص جواز الأضحية بالإبل والبقر والغنم
ولا يجزئه الا الثني من ذلك في الإبل والبقر والمعز ويجزى الجذع من الضأن إذا كان
9

عظيما سمينا لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ضحوا بالثنيات ولا تضحوا بالجذعان
ولان الجذع ناقص وقد أمرنا في الضحايا بالاستعظام والاستشراف قال عليه الصلاة
والسلام عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم. فأما الجذع من الضأن يجزئ لحديث
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ان رجلا ساق جذعا إلي منى فبادت عليه فروى أبو هريرة
رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعمت الأضحية الجذع من الضأن فانتهبوها
ثم الثني من الغنم وهو الذي تم له سنتان عند أهل الأدب وعند أهل الفقه الذي تمت له سنة
والثنى من البقر الذي تم له حولان وطعن في الثالث عند جمهور الفقهاء رحمهم الله ومن الإبل
الذي تم له خمس سنين والجذع من الإبل ما تم له خمس سنين ومن البقر ما تم له حولان
وهكذا من الغنم عند أهل الأدب وعند أهل الفقه إذا تم له سبعة أشهر فهو جذع بعد ذلك
ولا خلاف ان الجذع من المعز لا يجوز وإنما ذلك من الضأن خاصة * ثم أول وقت الأضحية
عند طلوع الفجر الثاني من يوم النحر إلا أن في حق أهل الأمصار يشترط تقديم الصلاة
على الأضحية فمن ضحى قبل الصلاة في المصر لا تجزئه لعدم الشرط لا لعدم الوقت ولهذا جازت
التضحية في القرى بعد انشقاق الفجر * ودخول الوقت لا يختلف في حق أهل الأمصار
والقرى إنما يختلفون في وجوب الصلاة فليس على أهل القرى صلاة العيد وإنما عرفنا هذا
في حق أهل الأمصار بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال في خطبته من ضحي قبل الصلاة فليعد فقام خالي أبو بردة بن بشار رضي الله عنه قال إني
عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني فقال عليه الصلاة والسلام تلك شاة لحم فأعد نسيكتك
فقال عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله وسلامه عليه تجزئك ولا تجزئ أحدا
بعدك وقال عليه الصلاة والسلام ان أول نسكنا في هذا اليوم أن نصلى ثم نذبح ومن يذبح
من أهل الأمصار أضحيته قبل أن يصلي الامام لم تجزه عندنا وقال الشافعي رحمه الله إذا مضى
من الوقت مقدار ما يصلى فيه صلاة العيد عادة جازت الأضحية بعد ذلك لأنهم لو صلوا
جازت التضحية فلا يتغير ذلك بتأخير الامام الصلاة كما لو زالت الشمس ولكن نقول
الواجب مراعاة الترتيب المنصوص وما بقي وقت الصلاة فمراعاة الترتيب ممكن بخلاف
ما بعد الزوال فقد خرج وقت صلاة العيد بزوال الشمس في هذا اليوم ولهذا تجوز التضحية
بعد ذلك. قال (وإذا ذبحها بعد ما انصرف أهل المسجد قبل أن يصلى أهل الجبانة أجزأه
10

استحسانا) ومعنى هذا ان للامام أن يخرج بالناس إلى الجبانة ويستخلف من يصلى بالضعفة
في الجامع هكذا فعله على رضى الله تعالى عنه حين قدم الكوفة. قال (وإذا ذبح بعد ما فرغ أهل
المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة ففي القياس لا تجزئه) لان اعتبار جانب أهل الجبانة يمنع
الجواز واعتبار جانب أهل المسجد يجوز ذلك وفى العبادات يؤخذ بالاحتياط ولكنا
استحسنا وقلنا قد أديت صلاة العيد في المصر حتى لو اكتفوا بذلك أجزأهم فتجوز التضحية
بعد ذلك لان الترتيب المشروط قد وجد حين ضحى بعد صلاة العيد في هذا المصر ولم
يذكر ما لو سبق أهل الجبانة بالصلاة فضحى رجل قبل أن يصلى أهل المسجد. وقيل في هذا
الموضع يجوز قياسا واستحسانا لان المسنون في العيد الخروج إلى الجبانة فأهل الجبانة هم
الأصل وقد صلوا وقيل للقياس والاستحسان فيهما لان أداء الصلاة في المسجد أفضل منه بالجبانة
وإذا كان في الموضع الذي صلى فيه أهل المسجد قياسا واستحسانا لما ذكرنا فهنا أولى. قال
(ولا بأس بأن يضحي بالجماء وبمكسور القرن) أما الجماء فلان ما فات منها غير مقصود لان
الأضحية من الإبل أفضل ولا قرن له وإذا ثبت جواز الجماء فمكسور القرن أولى وقد روى
في ذلك عن عمار بن ياسر رضى الله تعالى عنه. وكذلك الخصي لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوين أو موحوين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته.
والمراد خصيان وكان إبراهيم يقول ما يزاد في لحمه بالخصاء أنفع للمساكين مما يفوت بالأنثيين
إذ لا منفعة للفقراء في ذلك. قال (ولا بأس أن يضحى بالجرباء والتولاء إذا كانت سمينة)
والجرباء التي بها جرب وإذا كانت سمينة فالجرب في جلدها لا في لحمها ونهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يضحى بالعجفاء التي لا تبقى. والتولاء هي المجنونة والجنون عيب في القضاة
لا في الشاة فإذا كانت سمينة فما هو المقصود منها باق واشتراط السمن في الحديث الذي
روينا ان النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين يرعيان في سواد وينظران في سواد
ويأكلان في سواد ومقصود الراوي من هذه المبالغة بيان السمن. قال (ولا بأس أن يشترك
سبعة نفر في بقرة أو بدنة) وقال مالك رحمه الله يجوز عن أهل بيت واحد بقرة واحدة وان
كانوا أكثر من سبعة ولا تجوز عن أهل بيتين وان كانوا أقل من سبعة لقوله عليه الصلاة
والسلام على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعنبرة ومذهبنا مروى عن ابن مسعود
وحذيفة رضي الله عنهما والاستدلال بحديث جابر رضي الله عنه قال اشتركنا يوم الحديبية في
11

البقرة والبدنة فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة والمراد
بذكر أهل البيت قيم البيت لان اليسار له عادة. وقد ذكر في بعض الروايات على كل مسلم
في كل عام أضحاة وعنبرة ويستوى إن كان قصدهم جميعا التضحية أو قصد بعضهم قربة أخرى
عندنا وعند زفر لا يجوز الا إذا قصدوا جميعا التضحية وقال الشافعي يجوز وإن كان قصد
بعضهم للحم وقد بينا هذا في المناسك. فإن كان الشركاء في البدنة ثمانية لم تجزهم لان نصيب
كل واحد منهم دون السبع وكذلك أن كان نصيب أحدهم دون السبع حتى لو سئل عن
رجل مات وترك ابنا وامرأة وبقرة وضحى بها يوم العيد هل يجوز * والجواب انه لا يجوز
لان نصيب المرأة الثمن فإذا لم يجز ثمنها في نصيبها لا يجوز في نصيب الابن أيضا. فان مات
أحد الشركاء في البدنة ورضى ورثته بالتضحية بها عن الميت مع الشركاء في القياس لا يجوز
وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لان نصيب الميت صار ميراثا والتضحية تقرب بطريق
الاتلاف فلا يصح التبرع به من الوارث عن الميت كالعتق وإذا لم يجز في نصيبه لم يجز في
نصيب الشركاء وفى الاستحسان يجوز لان معنى القربة حصل في إراقة الدم فان التبرع من
الوارث عن مورثه بالقرب المالية صحيح كالتصدق وإنما لا يجوز العتق لما فيه من إلزام الولاء
وذلك غير موجود في الأضحية وعلى هذا إذا كان أحد الشركاء أم ولد ضحى عنها مولاه
أو صغير ضحى عنه أبوه ولا خلف انه ليس علي المولى ان يضحى عن أحد من مماليكه
فان تبرع بذلك جاز وإذا جعله شريكا في البدنة ففيه قياس واستحسان لما بينا وأما الأب
ليس عليه أن يضحى عن ولده الصغار في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما
الله أن ذلك عليه كصدقة الفطر لأنه جزء منه فكما يلزمه أن يضحى عن نفسه عند يساره
فكذلك عن جزئه. وجه ظاهر الرواية ان مالا يلزمه عن مملوكه لا يلزمه عن ولده كسائر
القرب بخلاف صدقة الفطر وهذا لان كل واحد منهما كسبه ولو كانت التضحية عن
أولاده واجبة لامر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك كما أمر بصدقة الفطر وإن كان
للصبي مال فقال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى على الأب والوصي أن يضحى من
ماله عند أبي حنيفة رضي الله عنه على قياس صدقة الفطر الأصح أنه لا يجب ذلك وليس
له أن يفعله من ماله لأنه إن كان المقصود الاتلاف فالأب لا يملكه في مال الولد كالعتق
وإن كان المقصود التصدق باللحم بعد إراقة الدم فذاك تطوع غير واجب ومال الصبي
12

لا يحتمل صدقة التطوع. قال (وإذا اشترى أضحية ثم باعها فاشترى مثلها فلا بأس بذلك) لان
بنفس الشراء لا تتعين الأضحية قبل أن يوجبها وبعد الايجاب يجوز بيعها في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله ويكره وفى قول أبى يوسف رحمه الله لا يجوز لتعلق حق الله تعالى بعينها ولكنهما
يقولان تعلق حق الله تعالى بها لا يزيل ملكه عنها ولا يعجزه عن تسليمها وجواز البيع باعتبار
الملك والقدرة على التسليم ألا ترى انا نجوز بيع مال الزكاة لهذا والأصل فيه ما روى أن
النبي عليه الصلاة والسلام دفع دينارا إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه ليشترى له شاة
للأضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم بارك الله في صفقتك أما الشاة فضح
بها وأما الدينار فتصدق به فقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعه بعد ما اشتراها للأضحية
وان كانت الثانية شرا من الأولى وقد كان أوجب الأولى فتصدق بالفضل فيما بين القيمتين
أما جواز الثانية عن الأضحية فلاستجماع شرائط الجواز وأما التصدق فإنه لما أوجب الأولى
فقد جعل ذلك القدر من ماله لله تعالى فلا يكون له ان يستفضل شيئا منه لنفسه فيتصدق
بفضل القيمة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام رضي الله عنه بالتصدق
بالدينار ومن أصحابنا رحمهم الله من قال هذا إذا كان فقيرا أما إذا كان غنيا ممن يجب عليه
الأضحية فليس عليه ان يتصدق بفضل بالقيمة لان في حق الغنى الوجوب عليه بايجاب الشرع
فلا يتعين بتعيينه في هذا المحل ألا ترى أنها لو هلكت بقيت الأضحية عليه فإذا كان ما يضحى
به محلا صالحا لم يلزمه شئ آخر وأما الفقير فليس عليه أضحية شرعا وإنما لزمه بالتزامه
في هذا المحل بعينه ولهذا لو هلكت لم يلزمه شئ آخر فإذا استفضل لنفسه شيئا مما التزمه
كان عليه أن يتصدق به. قال الشيخ الامام والأصح عندي أن الجواب فيهما سواء لان
الأضحية وان كانت واجبة على الغنى في ذمته فهو متمكن من تعيين الواجب في محل فيتعين
بتعيينه في هذا المحل من حيث قدر المالية لأنه تعيين مقيد وان كأن لا يتعين ممن حيث فراغ
الذمة. قال (والأضحية أحب إلى من التصدق بمثل ثمنها) والمراد في أيام النحر لان الواجب
التقرب بإراقة الدم ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة ففي حق الموسر الذي لزمه ذلك لا اشكال
أنه لا يلزمه التصدق بقيمته وهذا لأنه لا قيمة لإراقة الدم وإقامة المتقوم مقام ما ليس بمتقوم
لا تجوز وارقة الدم خالص حق الله تعالى ولا وجه للتعليل فيما هو خالص حق الله تعالى وأشرنا
13

بهذا إلى الفرق بين هذا والزكاة وصدقة الفطر وأما في حق الفقير التضحية أفضل لما فيه
من الجمع بين التقرب بإراقة الدم والتصدق ولأنه متمكن من التقرب بالتصدق في سائر
الأوقات ولا يتمكن من التقرب بإراقة الدم الا في هذا الأيام فكان أفضل وأما بعد مضى
أيام النحر فقد سقط معنى التقرب بإراقة الدم لأنها لا تكون قربة الا في مكان مخصوص وهو
الحرم وفى زمان مخصوص وهو أيام النحر ولكن يلزمه التصدق بقيمة الا ضحية إذا كان
ممن تجب عليه الأضحية لان تقربه في أيام النحر كان باعتبار المالية فيبقى بعد مضيها
والتقرب بالمال في غير أيام النحر يكون بالتصدق ولأنه كان يتقرب بسببين إراقة الدم
والتصدق باللحم وقد عجز عن أحدهما وهو قادر على الآخر فيأتي بما يقدر عليه. قال (وليس
على الرجل أن يضحى عن أولاده الكبار ولا عن امرأته كما ليس عليه صدقة الفطر عنهم في يوم
الفطر) وهذا لان عليهم أن يضحوا عن أنفسهم فلا يجب عليه أن يضحى عنهم. قال (وإذا
ولدت الأضحية قبل أن يذبحها ذبح ولدها معها) لان حكم التقرب بإراقة الدم ثبت في
عينها فيسرى إلى ولدها لأنه متولد من عينها والولد وإن لم يكن محلا للتقرب بإراقة الدم
مقصودا يثبت الحكم فيه تبعا للأم ولان الشرائط تعتبر فيما هو أصل ووجودها في الأصل
يغنى عن اعتبارها في البيع فان باعه تصدق بثمنه لان معنى القربة يثبت فيه فلا يكون له ان
يصرف ماليته إلي نفسه كما في حق الأم وكذلك أن أمسك ولدها حتى مضت أيام النحر
تصدق به قال الامام ويكره ان يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها لأنه أعدها
للقربة بجميع أجزائها فلا ينبغي له أن يصرف شيئا منها إلى حاجة نفسه لان ذلك في معنى
الرجوع في الصدقة وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه فيما دون هذا لا تعد في
صدقتك. قال (ويكره ان يبيع جلد الأضحية بعد الذبح) لقوله عليه الصلاة والسلام من باع
جلد أضحيته فلا أضحية له وقال لعلي رضي الله عنه تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار
منها شيئا فكما يكره له ان يعطى جلدها الجزار فكذلك يكره له ان يبيع الجلد فان فعل ذلك
تصدق بثمنه كما لو باع شيئا من لحمها. قال (ولا بأس بأن يشترى بجلد الأضحية متاعا للبيت)
لأنه لو دبغه وانتفع به في بيته جاز وكذلك إذا اشترى به ما ينتفع به في بيته لان للبدل حكم
المبدل وهذا استحسان وقد ذكر في نوادر هشام قال يشترى به الغربال والجراب
وما أشبه ذلك ولا يشترى به الخل والمرى والملح وما أشبه ذلك والقياس في الكل واحد
14

ولكنه استحسن فقال ما يكون طريق الانتفاع به تناول العين فهو من باب التصرف على
قصد التمول فليس له أن يفعل ذلك في جلد الأضحية وما ينتفع به في البيت مع بقاء العين
فهو نظير عين بالجلد وكان له أن يفعل ذلك. قال (ويكره له أن يحلب الأضحية إذا كان لها
لبن فينتفع بلبنها كما يكره له الانتفاع بصوفها) لان اللبن يتولد من عينها وقد جعلها للقربة
فلا يصرف شيئا منها إلى منفعة نفسه قبل أن يبلغ محله ولكنه ينضح ضرعها بالماء البارد
حتى يتقلص منه اللبن ولا يتأدى به إلا أن هذا إنما ينفع إذا كان يقرب من أيام النحر
فأما إذا كان بالبعد فلا يفيد هذا لأنه ينزل ثانيا وثالثا بعد ما يتقلص ولكنه ينبغي له أن
يحلبها ويتصدق باللبن كالهدي إذا عطبت قبل أن يبلغ محله فان عليه أن يذبحها ويتصدق
بلحمها وقد بيناه في المناسك. قال (وان اشترى بقرة يريد أن يضحى بها عن نفسه ثم
اشترك معه ستة أجزأه استحسانا) وفي القياس لا يجزئه وهو قول زفر رحمه الله لأنه أعدها
للقربة فلا يكون له أن يبيع شيئا منها بعد ذلك على قصد التمول والاشتراك بهذه الصفة
يوضحه أن هذا رجوع منه عن بعض ما تقرب به وذلك حرام شرعا. وجه الاستحسان انه
لو أشر كهم معه في الابتداء بأن اشتروا جملة جاز فكذلك إذا أشركهم بعد الشراء قبل إتمام
المقصود وهذا لان الانسان قد يبتلى بهذا فإنه قد يجد بقرة سمينة فيشتريها ثم يطلب شركاءه
فيها فلو لم يجز ذلك أدى إلى الحرج. قال (ولو فعل ذلك قبل أن يشترى كان أحسن) لأنه
أبعد عن الاختلاف وليس فيه معنى الرجوع في القربة لا صورة ولا معنى فكان ذلك
أفضل. قال (ولا تجوز العوراء في الأضحية) لقوله عليه الصلاة استشرفوا العين والاذن
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى
بأربعة العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تبقى
ثم الأصل أن العيب الفاحش مانع لقوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون واليسير من
العيب غير مانع لان الحيوان قلما ينجو من العيب اليسير فاليسير مالا أثر له في لحمها
وللعور أثر في ذلك لأنه لا يبصر بعين واحدة من العلف ما يبصر بالعينين وعند قلة العلف
يتبين العجف ثم العين والاذن منصوص على اعتبارها فإذا كانت مقطوعة الأذن لم تجز
لانعدام شرط منصوص وإذا كانت مقطوعة الطرف فكذلك بطريق الأولى. قال وإن كان
المقطوع بعض ذلك ففي ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه إن كان المقطوع
(2 ثاني عشر مبسوط)
15

أكثر من الثلث لا يجزئه وإن كان الثلث أو أقل يجزئه وهكذا روى هشام عن محمد رحمهما الله
اعتبار بالوصية فان الثلث في الوصية كما دونه ولا يجوز الوصية بأكثر من الثلث وفى
رواية بشر عن أبي حنيفة رحمه الله إذا كان الذاهب أقل من الثلث يجوز وإن كان أكثر من
الثلث لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام الثلث والثلث كثير وفي رواية ابن شجاع إذا
كان الذاهب الربع لا يجزئ لان للربع حكم الكمال كما في مسح الرأس وقال أبو يوسف
رحمه الله إذا بقي الأكثر من العين والاذن أجزأه قال وذكرت قولي لأبي حنيفة فقال قولي
قولك. قيل هذا رجوع من أبي حنيفة إلى قوله وقيل معناه قولي قريب من ذلك. وجه القول
أبى يوسف ان القلة والكثرة من الأسماء المقابلة فإذا كان الذاهب أقل من النصف قلنا إذا
قابلت الذاهب بالباقي كان الباقي أكثر وإذا كان الذاهب أكثر من النصف فإذا قابلته بالباقي
كان الذاهب أكثر فإذا كان الذاهب النصف قال لا يجوز لأنه لما استوى المانع والمجوز
يترجح المانع احتياطا. فأما الشق في الاذن فهو عيب يسير ألا ترى أنه يفعل ذلك للعلامة
بمنزلة السمة فلا يمنع الجواز ومن العلماء رحمهم الله من لا يجوز لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن يضحي بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة. فالشرقاء أن يكون الخرق في أذنها
طولا والخرقاء أن يكون عرضا والمقابلة قطع في مقدم أذنها والمدابرة في مؤخر أذنها وتأويل
ذلك عندنا إذا كانت بعض الاذن مقطوعة وكان الذاهب أكثر من الثلث لما بينا فأما
العرجاء إذا كانت تمشى فلا بأس به لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن العرجاء فقال إذا كانت
تبلغ فلا بأس به فإذا كانت لا تقوم ولا تمشي لا يجوز لان ذلك يؤثر في لحمها فإنها لا تعلف
الا ما حولها وإذا كانت تمشى فهي تذهب إلى العلف فلا يؤثر في لحمها. ولا تجزئ العجفاء التي
لا تبقى للنهي الذي روينا ولان هذا عيب فاحش أثر في لحمها ويستوى ان اشتراها كذلك
أو صارت عنده كذلك وهو موسر لان الواجب في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى بالناقص
فأما إذا كان معسرا أجزأه لأنه لا واجب في ذمته بل يثبت الحق في العين فيتأدى بالعين على
أي صفة كانت وذلك مروى عن علي رضي الله عنه وكذلك لو ماتت عنده أو سرقت فعليه
بدلها إن كان موسرا ولا شئ عليه إن كان معسرا وعلى هذا قالوا الموسر إذا ضلت أضحيته
فاشترى أخرى ثم وجد الأولى فله ان يضحى بأيهما شاء وإن كان معسرا فاشتراه وأوجبها
فضلت ثم اشترى أخرى فأوجبها ثم وجد الأولى فعليه ان يضحى بهما لان الوجوب في العين
16

بايجابه وقد وجد ذلك في الثانية كالأولى وان أصابها شئ من هذه العيوب في اضطرابها حين
أضجعها للذبح وذبحها على مكانها ففي القياس لا تجزئه لأنه تأدى الواجب بالأضحية لا بالاضجاع
وهي معيبة عند التضحية بها وفي الاستحسان تجزئه لان هذا لا يستطاع الامتناع منه فقد ينقلب
السكين من يده فتصيب عينها فيجعل ذلك عفوا لدفع الحرج ولأنه أضجعها ليتقرب باتلافها
فتلف جزء منها في هذه الحالة من عمل التقرب فلا يمنع الجواز بخلاف ما قبل الاضجاع وعن أبي
يوسف قال إذا أصابها ذلك في يوم النحر ثم ضحى بها بعد ذلك بيوم أو يومين جاز لأنه جاء
وقت اتلافها تقربا فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يمنع الجواز قال (ولا يجوز أن يضحى بشاة
ليس لها أذنان خلقت كذلك وهي السكاء) لان قطع الاذن لما كان مانعا من الجوز فعدم
الاذن أصلا أولى بعض فأما صغيرة الاذن تجزى لان الاذن منها صحيحة وان كانت صغيره
وأما الهتماء فكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا لا يجوز أن يضحى بها وان كانت تعتلف ثم رجع
وقال يجوز إذا كانت تعتلف لأنه وقع عنده في أن يضحى بها لان الهتماء ليس لها أسنان ثم علم بعد
ذلك أن الهتماء مكسورة بعض الأسنان فإذا كانت تعتلف فالباقي من الأسنان أكثر من
الذاهب وذلك لا يمنع الجواز عنده ثم قال والتي لا أسنان لها بمنزلة التي لا اذن لها فكل واحد
منهما مقصود في البدن بل السن في الانعام أقرب إلى المقصود من الاذن لأنها تعتلف بالأسنان.
قال (ولا يجوز في الضحايا والواجبات بقر الوحش وحمر الوحش والظبي) لان الأضحية عرفت
قربة بالشرع وإنما ورد الشرع بها من الانعام ولان إراقة الدم من الوحشي ليس بقربة أصلا
والقربة لا تتأدى بما ليس بقربة وإذا كان الولد بين وحشي وأهلي فإن كانت الأم أهلية جازت
التضحية بالولد وان كانت وحشية لا تجوز لان الولد جزء من الأم فان ماء الفحل يصير مستهلكا
بحضانتها وإنما ينفصل الولد منها ولهذا يتبعها في الرق والملك فكذلك في التضحية وهذا لأنه
ينفصل من الفحل وهو ماء غير محل لهذا الحكم وينفصل من الأم وهو حيوان محل لهذا
الحكم فلهذا جعلناه معتبرا بالأم. قال (رجل ذبح أضحية غيره بغير إذنه ففي القياس هو
ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الأضحية) وهو قول زفر لأنه متعد في ذبح شاة الغير فكان
ضامنا كمن ذبح شاة القصاب ثم الأضحية لا تتأدى الا بعمل المضحي وبيته ولم يوجد ذلك
حين فعله الغير بغير إذنه ففي القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الأضحية. ولكنا نستحسن
ونقول يجزئه ولا ضمان علي الذابح لأنه لما عينها للأضحية فقد صار مستغنيا بكل واحد
17

بالتضحية بها في أيام النحر لان ذلك يفوته بمضي الوقت وربما يعرض له عارض في أيام النحر
والاذن دلالة كالاذن إفصاحا كما في شرب ماء في السقاية ونظائرها. وقال الشافعي رحمه الله
يجزئه من الأضحية ولكن الذابح ضامن لقيمتها وهذا بعيد فالجواز لا يكون الا بعد وجود
الاذن دلالة ولو وجد الاذن افصاحا لم يضمن فكذلك إذا وجد الاذن دلالة وعلى هذا
لو أن رجلين غلطا فذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه على نفسه أجزأ كل واحد منهما
استحسانا ويأخذ كل واحد منهما مسلوخه من صاحبه فإن كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد
منهما صاحبه ويجزئهما لأنه لو أطعم كل واحد منهما صاحبه لحم أضحيته جاز ذلك غنيا كان أو
فقيرا. قال أبو يوسف رحمه الله ان تشاحا فلكل واحد منهما تضمين صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق
بتلك القيمة كما لو باع لحم أضحيته فعليه أن يتصدق بالثمن. قال (ولو أمر مجوسيا فذبح أضحيته
لم تجزه) لان هذا افساد لا تقرب فان ذبيحة المجوسي لا تؤكل ولو أمر يهوديا أو نصرانيا بذلك
أجزأه لأنهما من أهل الذبح ولكنه مكروه لان هذا من عمل القربة وفعله ليس بقربة. قال
(فان ذبح أضحيته بنفسه فهو أفضل) لان النبي عليه الصلاة والسلام لما ساق مائة بدنة نحر
منها ثلاثا وستين بنفسه ثم ولى الباقي عليا رضي الله عنه وحين ضحى بالشاتين ذبحهما بنفسه
ولكن هذا إذا كان يحسن ذلك فإن كان يخاف أن يعجز عن ذلك فالأفضل أن يستعين
بغيره ولكنه ينبغي له أن يشهدها بنفسه لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لفاطمة
رضي الله تعالى عنها قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب
اما أنه يجاء بلحمها ودمها يوم القيامة فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا قال أبو سعيد الخدري
رضى الله تعالى عنه أهذا لآل محمد عليه الصلاة والسلام فهم أهل لما خصوا به من الخير أم
للمسلمين عامة قال عليه الصلاة والسلام لآل محمد خاصة وللمسلمين عامة. قال (والأضحية
تجب على أهل السواد كما تجب على أهل الأمصار) لأنهم مقيمون مياسير وإنما لم تجب
على المسافرين لما يلحقهم من المشقة في تحصيلها وذلك غير موجود في حق أهل القرى وفى
الأصل ذكر عن إبراهيم قال هي واجبة على أهل الأمصار ما خلا الحاج وأراد بأهل الأمصار
المقيمين وبالحاج المسافرين فاما أهل مكة فعليهم الا ضحية وان حجوا. قال (ولا بأس لأهل
القرى أن يذبحوا الأضاحي بعد انشقاق الفجر) لما بينا أن دخول الوقت بانشقاق الفجر من
يوم النحر الا ان أهل الأمصار عليهم الصلاة فيلزمهم مراعاة الترتيب ولا صلاة على
18

أهل القرى لقوله عليه الصلاة والسلام لا جمعة ولا تشريق الا في مصر جامع * ثم المعتبر
المكان الذي فيه الأضحية حتى إذا كان الرجل بالمصر وأضحيته بالسواد يجوز أن يضحى
بها بعد انشقاق الفجر فأما إذا كان هو بالسواد وأضحيته بالمصر لا يجوز أن يضحى بها الا
بعد فراغ الامام من الصلاة وقد بينا أن أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وذلك مروى عن عمر
وعلى وابن عباس رضى الله تعالى عنهم. قال (ويجزيه الذبح في لياليها الا انهم كرهوا الذبح
في الليالي) لأنه لا يأمن أن يغلط فتفسد الظلمة الليل ولكن هذا لا يمنع الجواز. قال (وليس
على أهل منى يوم النحر صلاة العيد) لأنهم في وقت صلاة العيد مشغولون بأداء المناسك فلا
يلزمهم صلاة العيد ويجوز لهم التضحية بعد انشقاق الفجر كما لا يجوز لأهل القرى والله
سبحانه وتعالى أعلم
باب من الصيد أيضا
قال رحمه الله تعالى ومن أنفلت من يده صيد بعد ما أحرزه فأخذه غيره فهو للأول)
لأنه مال مملوك له فلا يزول ملكه بالانفلات من يده ولا يملكه الثاني بالأخذ لأنه بالأخذ
يملك الصيد المباح لا المال المملوك كمن أبق عبده فأخذه انسان آخر لا يملكه ومن نصب
شبكة فوقع فيها صيد وصار بحيث لا يقدر علي الذهاب فأخذه رجل فصاحب الشبكة أحق
به لأنه صار آخذا له بالوقوع في شبكته وهذا بخلاف ما لو ضرب فسطاطا فتعلق به صيد
فأخذه انسان فهو للآخذ لان ناصب الشبكة يقصد الاصطياد فيصير هذا آخذا للصيد
بالوقوع في شبكته ولهذا لو فعله محرم كان ضامنا وضارب الفسطاط ما قصد الاصطياد فلا
يكون آخذا له وان تعلق بفسطاطه ولهذا لو فعله مخرم لم يضمن. قال (ومن أخذ بازيا أو شبهه
في مصر أو سواد وفى رجليه سيرا أو جلاجل وهو يعرف انه أهلي فعليه ان يعرفه ليرده على
صاحبه) لأنه تيقن بثبوت يد الغير عليه قبله فإنه لا يخرج من البيضة مع الجلاجل فاما أن يكون
انفلت من يد صاحبه أو أرسله فلا يزول ملكه في الوجهين كمن سيب دابته فعرفنا انه ملك
الغير في يده بمنزلة اللقطة فعليه أن يعرفه ليرده على صاحبه وكذلك أن أخذ ظبيا وفى عنقه
قلادة وكذلك لو أخذ حمامة في المصر يعرف ان مثلها لا يكون وحشية فعليه أن يعرفها لأنها
بمنزلة اللقطة. وبهذا تبين ان من اتخذ برج حمام فأوكرت فيه حمام الناس فما يأخذ من فراخها لا
19

يحل له لان الفرخ يملك بملك الأصل فهو بمنزلة اللقطة في يده الا انه إن كان فقيرا يحل له
التناول لحاجته وإن كان غنيا ينبغي له أن يتصدق بها علي فقير ثم يشترى منه بشئ فيتناول
وهكذا كان يفعله شيخنا الامام شمس الأئمة رحمه الله تعالى وكان مولعا بأكل الحمام. قال (ومن
كان عنده صيد فأرسله عند احرامه فأخذه حلال ثم حل الأول فله أن يسترده منه) لان
الواجب عليه رفع يده عن الصيد لا إزالة ملكه ألا ترى أن الرجل يحرم وله صيود في
بيته فلا يلزمه شئ وإذا كان بعد الارسال باقيا على ملكه لم يملكه الآخذ فله أن يسترده
قال (ومن قتل بازيا معلما أو كلبا معلما لرجل فعليه قيمته) وقد بينا في هذه المسألة ان
الكلب المعلم مال متقوم يجوز بيعه عندنا ويضمن متلفه وإنما تعتبر قيمته كذلك بخلاف المحرم
إذا قتل بازيا معلما فلا يعتبر في ايجاب القيمة عليه كونه معلما لان الجزاء على المحرم يجب حقا
لله تعالى لمعنى الصيد في يد المقتول وبكونه معلما ينتقص ذلك لأنه يخرج به من أن يكون
متوحشا فلا يزاد به قيمته في حق الله تعالى فأما وجوب الضمان للآدمي لكونه مالا منتفعا
به ويزداد ذلك بكونه معلما فلهذا اعتبر قيمته كذلك فإن كان الكلب ليس بكلب صيد ولا
ماشية فقتله رجل غرم قيمته أيضا ومراده إذا كان بحيث يقبل التعليم حتى يكون مالا
منتفعا به وإن كان عقورا لا يقبل التعليم فمتلفه لا يضمن شيئا لأنه غير مؤدى وليس بمال
منتفع به وقد بينا جواز بيع كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لأنه يقبل
التعليم ويتأتى الانتفاع به ولا يجوز بيع لحم شئ من ذلك لأنه لا منفعة في اللحم سوى الأكل
فإذا لم يكن مالا مأكولا لا يكون مالا متقوما وجواز البيع يختص بمال متقوم حتى إذا
كان له ثمن بأن كان يرغب فيه لاطعام الكلاب والسنانير جاز بيعه إذا كان مذكى إلا أن
يكون ميتة وما كان من جلودها إذا دبغها رجل وباعها جاز بيعها لأنه مال منتفع به وان
كانت غير مدبوغة لم يجز ومراده إذا كانت ميتة فأما إذا كانت مذكاة يجوز وقد بينا أن
عمل الذكاة في الحل والطهارة في مأكول اللحم وفى طهارة الجلد في غير مأكول اللحم
كالدباغ. قال (وان وجد في الماء سمكة مقطوعة لا يدرى من قطعها فلا بأس بأكلها) لأنه
ليس فيها ما يدل علي سبق يد إليها لتوهم أن يكون فعله بها سمكة أخرى وان أصاب في
وسطها أو في موضع منها خيطا مربوطا لم يأكلها ويعرفها لأنه علم أن يدا أخرى سبقت
إليها فكانت بمنزلة اللقطة فيعرفها. قال (ومن سمع حسا ظن أنه حس صيد فرماه أو
20

أرسل كلبه فأصاب صيدا فإن كان ذلك الحس حس صيد فلا بأس بما أصاب ذلك وإن كان
حس انسان أو غيره من الأهليات لم يحل له ذلك الصيد) لأنه رمى إلى الحس والرمي
إلى الأهلي لا يكون اصطيادا وحل الصيد بوجود فعل الاصطياد فاما إذا كان الحس حس
صيد فرميه وارساله الكلب كان اصطيادا فيحل تناوله إذا أصاب صيدا مأكولا سواء
كان الحس حس صيد مأكول أو غير مأكول وعن زفر رحمه الله قال إن كان الحس حس
صيد مأكول لم يحل تناوله وان أصاب صيدا مأكولا لان فعله لم يكن مبيحا ألا ترى أنه
لو أصاب ما قصده لم يفد الحل وعن أبي يوسف رحمه الله قال إذا كان الحس حس خنزير لم
يحل وان أصاب رميه الصيد بخلاف السباع لان الخنزير من المحترم العين فأما في سائر
السباع فان فعله مؤثر في طهارة الجلد فإذا أصاب ما يحل تناوله كان مؤثرا في إباحة اللحم أيضا
والصحيح ما بينا ان فعل الانسان في كل متوحش اصطياد فأما حل التناول باعتبار صفة في
المحل فإذا أصاب فعله في الاصطياد محلا مأكولا قلنا يباح تناوله وإن لم يتبين ما كان ذلك
الحس لم يحل له أكله لاجتماع المعنى الموجب للحل والمعنى الموجب للحرمة وفي النوادر إذا
رمى طيرا فأصاب صيدا وذهب الطير فلم يعرف إن كان أهليا أو وحشيا حل له أن يتناول
الصيد لان الطير في الأصل وحشي بخلاف ما لو رمى بعيرا فأصاب صيدا وذهب البعير فلم
يعرف إن كان أهليا أو متوحشا فإنه لا يحل تناول الصيد لأنه مألوف في الأصل والتوحش منه
نادر فتمسك بالأصل حتى يظهر خلافه وان سمع حسا فظن أنه انسان فرماه فأصاب ما رماه
وتبين انه كان صيدا يحل تناوله لان حقيقة فعله اصطياد وظنه بخلاف حقيقة فعله لغو. قال (ولو
رمى خنزيرا أهليا فأصاب صيدا لم يؤكل) لان الخنزير الأهلي ليس بصيد فهو وما لو رمى شاة
سواء وكذلك لو رمى حربيا مختفيا موثقا فأصاب صيدا لم يأكله لان رميه إلى الحربي ليس باصطياد
ولا هو مؤثر في الحل فلهذا لا يحل تناول ما أصابه من الصيد والله سبحانه وتعالى أعلم
باب الصيد في الحرم
قال رحمه الله تعالى (وإذا خرج الصيد من الحرم إلى الحل فلا بأس باصطياده) لأنه صيد
الحل كما كان قبل دخوله الحرم وهذا لان المانع من اصطياده كان حرمة الحرم وقد زال
بخروجه إلى الحل فهو نظير محرم حل من احرامه وفيه نص وهو قوله تعالى وإذا حللتم
21

فاصطادوا. قال (وان رمى رجل صيدا في الحل فأصابه ثم دخل الصيد الحرم فمات منه لم
يكن عليه جزاء) لان وجوب الجزاء باعتبار فعل المحظور وفعله كان مباحا وهو الرمي إلى
صيد في الحل أو باعتبار حرمة المحل ولم يكن محترما حين ما أصاب السهم الصيد فهو كما لو
رمى إلى حربي أو مرتد فأصابه ثم أسلم وفى القياس لا بأس بأكله لان فعله كان مذكيا له ألا
ترى أنه لو مات في الحل حل تناوله فكذلك إذا مات بعدما دخل الحرم لأنه دخله وهو
مذكى وحرمة الحرم إنما تظهر في حق الصيد لا في حق المذكى ولكنه استحسن فقال يكره
أكله لان حل التناول عند زهوق الروح وهو عند ذلك في الحرم والحكم يضاف إلى
الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فاعتبار هذه الحالة يوجب الحرمة واعتبار
حالة الإصابة يبيح فيغلب الموجب للحرمة وبه فارق الجزاء لان الجزاء بالشك لا يجب
ولان الجزاء باعتبار الفعل فان الحل صفة في المحل والمحل في الحرم عند ثبوت صفة الحل
فيه. قال (وان أصابه في الحرم فمات في الحل فلا خير في أكله) لان الحل باعتبار الإصابة
وقد أصابه وهو صيد الحرم وهذه هي المسألة المستثناة من أصلنا ان المعتبر لحالة الرمي فيما
يبنى عليه الاحكام دون حالة الإصابة فان في حل التناول يعتبر حالة الإصابة أيضا لان الحل صفة
للمحل وإنما يثبت في المحل عند الإصابة فلا بد من اعتبار تلك الحالة فيه وكذلك أن أصابه في
الحل وقد رماه من الحرم لان الرمي من الحرم قيل محظور قال الله تعالى لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم قيل معناه وأنتم في الحرم لأنه يقال أحرم إذا دخل في الحرم كما يقال أشأم إذا
دخل الشام والموجب للحل الذكاة لا القتل المحظور والدليل عليه وجوب الجزاء على الرامي
فهو من هذا الوجه بمنزلة محرم يقتل صيدا وكذلك أن رماه من الحل في الحرم لان الصيد إذا
كان في الحرم فهو ممنوع من الرمي إليه وإن كان في الحل فيكون فعله فعلا محظورا ألا ترى ان
عليه قيمة الجزاء ولو كان الرامي في الحل والصيد في الحل فمر السهم في الحرم حتى أصاب
الصيد فلا بأس بأكله وان تعمد ذلك لان الرمي مباح له فكان فعله ذكاة شرعا وهذا
لان الحرمة باعتبار معنى في الحل وفى الرامي ولم يوجد ذلك لان أصل السبب فعل الرامي
وثبوت الحكم عند الإصابة وما بين ذلك غير معتبر أصلا في إضافة الحكم إليه. قال (فان رمى
نصراني من الحرم صيدا في الحل فمات فلا خير في أكله) لان النصراني في حكم الذكاة
لا يكون أعلى من المسلم فإذا كان هذا الفعل من المسلم لا يبيح الصيد فكذلك من النصراني
22

كما لو ترك التسمية عمدا (فان قيل) المنع من الرمي صوب الحرم حق الشرع والنصراني
لا يخاطب بذلك ولهذا لا يلزمه الجزاء (قلنا) حرمة الحرم تظهر في حق الكافر كما تظهر
في حق المسلم ولهذا لا يقتل الحربي والمرتد في الحرم ثم النصراني في حكم الذكاة تبع للمسلم
والتبع يلحق بالأصل في حكمه وإن لم يشاركه في علته * وكذلك لو ذبح نصراني أو صبي صيدا
في الحرم لم يؤكل لأنهما في حكم الذكاة تبع للمسلم البالغ فإذا لم يكن هذا الفعل من المسلم
البالغ واجبا للحل فكذلك من النصراني والصبي. قال (ولو أن رجلا أخرج صيدا من الحرم
فذبحه في الحل فعليه جزاؤه) لأنه كان في الحرم آمنا صيدا وقد زال ذلك بأخذه واخراجه
وكان مطالبا شرعا بإعادته إلى مأمنه وإرساله فيه وقد فوت ذلك بذبحه فعليه الجزاء والتنزه
عن أكله أفضل بخلاف ما إذا ذبحه في الحرم فان ذلك حرام تناوله لأنه حين ذبحه كان صيد
الحرم ففعله فيه يكون قتلا ولا يكون ذكاة وهنا حين ذبحه كان صيد الحل فيكون فعله فيه
ذكاة وباعتبار هذا الفعل لا يلزمه الجزاء وإنما يلزمه بالأخذ السابق فلهذا لا يحرم تناوله إلا
أن التنزه عنه أفضل لان تقرر الجزاء عليه بفعل الذبح وإن كان الوجوب سبب الاخذ
فباعتبار هذا المعنى يمكن شبهة فيه ولأنا لو أطلقنا له حق التناول تطرق الناس إلى ذلك
فيخرجون الصيد من الحرم ويذبحونه في الحل وفي ذلك تعليل صيد الحرم فللمنع من هذا
قلنا التنزه عن أكله أفضل. وكذلك أن كان صاده أولا في الحل ثم أدخله الحرم ثم أخرجه
إلى الحل لأنه حين أدخله الحرم فقد صار صيد الحرم فهو والمأخوذ في الحرم سواء بدليل
وجوب الجزاء عليه وهذا عندنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى حرمة الحرم لا تظهر في حق
صيد مملوك فإذا ملكه بالأخذ في الحل ثم أدخله الحرم لم يثبت له حرمة الحرم وعندنا حرمة
الحرم في حق الصيد كحرمة الاحرام فكما يحرم عليه بالاحرام إمساك الصيد المملوك ويلزمه
إرساله فكذلك يحرم بسبب الحرم إمساكه وقد بينا هذا في المناسك * وكذلك حلال أحرم
وفى يده صيد ثم حل ثم ذبحه فهذا والأول سواء لأنه لما أحرم فقد وجب عليه إرساله وحين
ذبحه تقرر عليه جزاؤه وإن كان بعد الحل فلهذا كره أكله. قال (محرم صاد صيدا فدفعه
إلي حلال فذبحه فهو والأول سواء) لأنه بما صنع مفوت ما لزمه من الارسال ومقرر للجزاء
على نفسه فهو كما لو ذبحه بنفسه بعد ماحل من إحرامه ولو ذبحه بنفسه بعد ماحل من احرامه
وهو محرم أو في الحرم كان ذلك أشد من هذا حالا فان ذلك بمنزلة الميتة وهذا مكروه
23

التناول لان الحل باعتبار فعل الذكاة وفعل المحرم أو الذي في الحرم محظور فلا يكون ذكاة
شرعا فاما المدفوع إليه حلال فعل في حق نفسه ذكاة ولكن باعتبار أنه مفوت للارسال
و مقرر للجزاء على الآخذ يلحقه نوع خطر وذلك ليس لمعنى في نفس الفعل فلا يثبت به
الحرمة مطلقا وإنما تثبت الكراهة. قال (وان أرسله المحرم فذبحه حلال فلا بأس به) لان المحرم
أتى بما هو المستحق عليه فيخرج به من عهدة أخذه وذبح الحلال إياه كذبح صيد آخر في
الحكم. قال (ولو أن حلالا أخرج صيدا من الحرم إلى الحل فأرسله فصاده حلال فذبحه
فلا بأس بأكله) لأنه صيد الحل فإنه بالارسال قد خرج من يد الذي أخرجه من الحرم فهو
والذي خرج بنفسه من الحرم سواء في حل التناول ولكن علي الذي أخرجه الجزاء لان
المستحق عليه شرعا اعادته إلى مأمنه فإنه بالاخراج من الحرم أزال الا من عنه فإذا تلف قبل
العود إلى مأمنه تقرر الجزاء عليه لانعدام ما ينسخ فعله بخلاف الأول فان على المحرم رفع اليد
عنه بالارسال فينفسخ حكم فعله بمجرد إرساله ووزان هذا من ذاك ما لو عاد الصيد إلى الحرم
بعد ما أرسله ثم أصابه وكذلك لو كان الذي أخرجه من الحرم هو الذي صاده بعد
ما أرسله فذبحه لم يكن بأكله بأس لأنه حلال ذبح صيد في الحل فهو وغيره في الحالين
سواء قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو وغيره سواء في ذلك إلا أن عليه الجزاء وأبو حنيفة
رحمه الله في هذا لا يخالفهما والمعنى فيه أن الحل باعتبار الفعل الثاني ووجوب الجزاء عليه باعتبار
فعله الأول وهو اخراجه من الحرم ولم يبق ذلك الاخراج بعد ما أرسله فلهذا لا تثبت الحرمة
ولكن بقاء الفعل غير معتبر في بقاء ما وجب به من الجزاء بخلاف ما إذا ذبحه في الحل قبل أن
يرسله ودفعه إلى غيره فذبحه لان تلك اليد باقية حقيقة وحكما وإنما تمكن من الذبح
باعتبارها فلهذا كره أكلها. قال (محرم أصاب صيدا فأدخله منزله في الحل فجاء بعض أهله
فذبحه فلا بأس بأكله) وأضاف الجواب إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأنه لم يحفظ جواب
أبي حنيفة رحمه الله لان جوابه يخالف جوابهما وهذا لان الذابح حلال وقد ذبحه في الحل
ولو أرسله المحرم في غير منزله فذبحه حلال حل تناوله فكذلك إذا أرسله في منزله إلا أن على
المحرم الجزاء لأنه ما نسخ حكم فعله بارساله إياه من منزله فان معنى الصيدية من حيث التنفير
والاستيحاش لمن بعد إليه كما كان قبل أخذه فلهذا كان عليه الجزاء بخلاف ما لو أرسل جارحا
من منزله. قال ولا يعجبنا هذا الفعل لان فعل بعض أهله في الذبح كفعله من وجه فإنه ينفق
24

عليهم ليفعلوا له مثل هذه الأفعال فمن هذا الوجه الذابح كالمأمور من جهته فلهذا قال لا يعجبنا
هذا الفعل وكذلك أن أرسله في منزله فخرج من منزله فتبعه بعض أهله وذبحه ولم يأمره بذلك
فهذا والأول سواء ولا أكره أكله وفى رواية أبى حفص قال وأكره أكله وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله لا بأس بأكله * والحاصل أنه لم يتم إرساله بعد في حق نسخ الفعل لان
الذي تبعه إنما يتمكن من أخذه باعتبار الفعل الموجود من المحرم فكان عليه الجزاء لذلك الا
ان في إباحة التناول هما يقولان لو أرسله خارجا من منزله حل تناوله إذا ذبحه انسان بعد ذلك
فكذلك إذا أرسله في منزله فخرج هكذا وجه رواية أبى سليمان حيث قال ولا أكره أكله
ووجه رواية أبى حفص وهو انه لما أرسله بمرأى العين من بعض أهله فقد طلب منه دلالة
أن يتبعه فيأخذه ولو أمره بذلك نصا كان تناوله مكروها فكذلك إذا كان طالبا لذلك الفعل
دلالة. قال (وان انفلت من المحرم في جوف المصر أو أرسله فأخذه انسان فذبحه فهذا كأنه
في يده حتى يرسله) لان بالارسال في جوف المصر لم يعد إليه التنفير والاستيحاش علي الوجه
الذي كان قبل أخذه فلا ينسخ به حكم فعله وهذا لان ما في جوف المصر يمكن أخذه بغير
اصطياده عادة ولهذا قلنا لو ندت شاة في المصر لم تحل بالرمي. قال (وإذا انفلت منه في
الصحراء لا يقدر على أخذه الا بصيد فرماه حلال فلا بأس به كما لو أرسله في الصحراء)
وهذا لان حكم فعله قد انتسخ حين عاد صيدا متوحشا كما كان فكأنه لم يأخذه قط. قال
(حلال أرسل كلبه على صيد في الحل فتبعه الكلب حتى أدخله الحرم فقتله فيه كرهت له
أكله) لما بينا ان الحل يثبت عند الإصابة وعند ذلك هو صيد الحرم وإن كان أصل الارسال
في الحل فكذلك إذا أدركه صاحبه حيا فأخذه وأخرجه إلى الحل وذبحه لأنه حين أخذه من
فم الكلب فهو صيد الحرم وقد بطل حكم ذلك الارسال حين وقع في يده حيا (فجواب) هذا
الفصل كجواب ما لو أخرج صيدا من الحرم وذبحه في الحل. وان أرسل كلبه من الحرم على
صيد في الحل كرهت له أكله وعليه الجزاء لان إرساله الكلب على الصيد اصطياد ومن
هو داخل الحرم ممنوع من الاصطياد فارسال الكلب عليه والرمي إليه سواء كما بينا. قال (وان
أرسله في الحل على صيد في الحرم فتبعه حتى أخرجه إلى الحل ثم أخذه وقتله كرهته أيضا)
لأنه أرسله عليه صيد الحرم وذلك فعل محظور فهو كما لو رمى الصيد في الحرم فخرج من الحرم
قبل الإصابة. قال (وان أخذه من الكلب حيا في الحل فذبحه كرهت له هذا الصنع ولا
25

بأس بأكله في القياس) لأنه حين أخذه حيا فقد بطل حكم إرسال الكلب حتى لا يحل
الا بذكاة الاختيار فإنما بقي المعتبر أخذه وذبحه وقد حصل في صيد الحل فلا بأس
بأكله وإنما كره له هذا الصنع لتمكنه من أخذه بذلك الارسال السابق وقد كان حراما
بكون الصيد في الحرم عند ذلك. قال (ظبي بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم رماه
حلال في الحرم فقتله فإنه يكره أكله لوجوب الجزاء عليه) وهذا لان قوام الصيد
بقوائمه واعتبار ما في الحرم من قوائمه يجعله صيد الحرم وهذا الجانب يترجح لأنه جانب
الحظر وجانب الحرمة لحق الشرع وان كانت قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فلا بأس
بأكله لأنه صيد الحل فان قوام الصيد بقوائمه. وقيل هذا إذا كان قائما فإن كان نائما فهذا
والأول سواء لان استمساكه على الأرض في حال نومه باعتبار جميع بدنه فإذا كان جانب
منه في الحرم فهو صيد الحرم وقد بينا في المناسك في الشجرة ان المعتبر موضع أصلها لا
موضع أغصانها وفي الصيد الواقع على بعض أغصانها يعتبر موضع ذلك الغصن لان قوام
الصيد ليس بغصن الشجرة قال الله تعالى ما يمسكهن الا الله فأما قوام عصن الشجرة فبأصلها
ففي حق ضمان المحصن يعتبر موضع أصل الشجرة وفى حتى ضمان الصيد يعتبر الموضع الذي
فيه الصيد فإن كان في هواء الحرم فهذا الصيد صيد الحرم. قال (وان اشترك الحلال
والمحرم في رمى الصيد لم يحل أكله) لان اعتبار فعل المحرم محرم والموجب للحرمة يغلب
على الموجب للحل كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل الصيد. قال (رجل أرسل بازيا على
صيد في الحرم فتبعه حتى أخرجه إلى الحل فقتله كرهت أكله) لان أصل السبب إرسال
البازي وقد كان محظورا فان أرسله على صيد في الحرم فاعتباره يثبت الكراهة. قال
(حلال أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا ثم ذبحها وأولادها فليس أكلها وأكل
أولادها بحرام) لان الحل بالذبح وقد حصل من حلال في صيد في الحل. ولكن
لا يعجبني هذا الفعل لأنه لو أذن في ذلك تطرق الناس إليه ولأنه تمكن من الذبح بالأخذ
السابق وقد كان ذلك الاخذ حراما عليه وعليه الجزاء فيها وفى أولادها لان الارسال والإعادة
إلى الماء من مستحق عليه فيها وفى أولادها فإذا فوت ذلك بالذبح كان عليه الجزاء ولأنه
إنما يضمن جزاء الأم لاتلافه معنى الصيدية فيها باثبات اليد عليها وهذا المعنى موجود في
ولدها وكذلك أن أدى عنها ثم ذبحها فهذا والأول سواء لأنه مطالب بارسالها واعادتها
26

إلى الماء من بعد أداء الجزاء فان البدل إنما يظهر حكمه عند فوات الأصل فأما مع القدرة
على الأصل فلا معتبر بالبدل وما ولدت في يده بعد أداء الجزاء فليس عليه في ذلك الولد
جزاء لأنه لو ماتت هي في يده بعد أداء الجزاء لم يلزمه شئ آخر فعرفنا انه ليس في عينها حق
مستحق بعد أداء الجزاء ليسري إلى الولد بخلاف ما قبل أداء الجزاء (فان قيل) فأين ذهب
قولكم انه لا معتبر بالبدل حال قيام الأصل وانه مطالب بإعادتها إلى الماء من بعد أداء الجزاء
(قلنا) نعم لا معتبر بالبدل حال قيام البدل ولكن لا يجمع الأصل والبدل فيبقى بعد أداء
الجزاء الحق مترددا بين الارسال الذي هو الأصل وبين المؤدى من الجزاء ولهذا لو باعه
بعد بيعه يظهر ذلك عند فوات الأصل وباعتبار جانب المؤدى من الجزاء لا يظهر في الولد
الحادث بعد ذلك استحقاق شئ فلهذا لا يلزمه الجزاء فيه ولأنه يتملك ذلك الصيد بما أدى
من الجزاء ولهذا لو باعه نفذ بيعه فالولد إنما يتولد بعد ذلك من ملكه فلهذا لا يلزمه الجزاء
فيه * وكذلك لو كان محرما صاد ظبية ثم حل من احرامه وهي في يده فحالها وحال أولادها
كما بينا في الفصل الأول من الفرق بين ما قبل أداء الجزاء أو بعد أداء الجزاء فان ما قررناه
من المعنى يشتمل على الفصلين جميعا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
(كتاب الوقف)
قال الشيخ الإمام الزاهد الاجل شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله إملاء: اعلم بان الوقف لغة الحبس والمنع وفيه لغتان أوقف يوقف ايقافا
ووقف يقف وقفا قال الله تعالى وقفوهم انهم مسؤولون. وفى الشريعة عبارة عن حبس المملوك
عن التمليك من الغير وظن بعض أصحابنا رحمهم الله انه غير جائز علي قول أبي حنيفة واليه
يشير في ظاهر الرواية. فنقول أما أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه فكأن لا يجيز ذلك ومراده
أن لا يجعله لازما فأما أصل الجواز ثابت عنده لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه
صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة ولهذا قال
لو أوصي به بعد موته يكون لازما بمنزلة الوصية بالمنفعة بعد الموت وذكر الطحاوي رحمه
الله تعالى ان عنده لو نفذه في مرضه فهو كالمضاف بالمنفعة إلى ما بعد الموت لان تصرف المريض
مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلثه وخصوصا فيما لا
27

يكون تمليكا كالعتق كأنه يجعله موقوفا على ما يظهر عند موته والصحيح أن ما باشره في المرض
بمنزلة ما لو باشره في الصحة في أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يمتنع الإرث بمنزلة العارية إلا أن
يقول في حياتي وبعد موتى فحينئذ يلزم إذا كان مؤبدا وصار الأبد فيه كعمر الموصى له
بالخدمة في لزوم الوصية بعد الموت فأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا الوقف يزيل ملكه
وإنما يحبس العين عن الدخول في ملك غيره وليس من ضرورة ذلك امتناع زوال ملكه
فلزوال الملك في حقه يلزم حتى لا يورث عنه بعد وفاته لان الوارث يخلف المورث في ملكه
وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا يقول بقول أبي حنيفة رحمه الله ولكنه لما حج مع الرشيد
رحمه الله فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فأفتى بلزوم الوقف
فقد رجع عند ذلك عن ثلاث مسائل (إحداها) هذه (والثانية) تقدير الصاع بثمانية أرطال
(والثالثة) أذان الفجر قبل طلوع الفجر. وحجتهم في ذلك الآثار المشهورة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم عمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير
وعائشة وحفصة رضى الله تعالى عنهم فإنهم باشروا الوقف وهو باق إلى يومنا هذا وكذلك
وقف إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه باق إلى يومنا هذا وقد أمرنا باتباعه قال الله تعالى
واتبعوا ملة إبراهيم حنيفا والناس تعاملوا به من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا
هذا يعنى اتخاذ الرباطات والخانات وتعامل الناس من غير نكير حجة وقد استبعد محمد
رحمه الله قول أبي حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما علي الناس من غير حجة فقال ما أخذ
الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه الا بتركهم التحكم على الناس فإذا كانوا هم الذين يتحكمون
على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء ولو جاز التقليد كان من مضي من
قبل أبي حنيفة مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله أحرى أن يقلدوا ولم يحمد
على ما قال. وقيل بسبب ذلك أنقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف حتى خاض
في الصكوك واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف كالخصاف وهلال رحمهما الله
ولو كان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه في الاحياء حين قال ما قال لدمر عليه فإنه كما قال مالك
رضى الله تعالى عنه رأيت رجلا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه ولكن كل مجرى
بالجلاء يسر * ثم استدل بالمسجد فقال اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو اخراج لتلك البقعة عن
ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها فكذلك
28

في الوقف وبهذا تبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه
عن ملكه * ثم للناس حاجة إلى ما يرجع إلي مصالح معاشهم ومعادهم فإذا جاز هذا النوع من
الاخراج والحبس لمصلحة المعاد فكذلك لمصلحة المعاش كبناء الخانات والرباطات واتخاذ
المقابر ولو جاز الفرق بين هذا الأشياء لكان الأولى أن يقال لا يلزم المسجد وتلزم المقبرة حتى
لا يورث لما في النبش من الاضرار والاستبعاد عند الناس أو كان ينبغي أن يلتزم الوقف
دون المسجد لان في الوقف وان انعدم التمليك في عينه فلذلك يوجد فيما هو المقصود به
وهو التصدق بالغلة وذلك لا يوجد في المسجد فكان هذا الفرق أبعد عن التحكم مما ذهب
إليه أبو حنيفة رحمه الله هذا معنى ما احتج به محمد رحمه الله وقد طوله في الكتاب * ويستدلون
بالعتق أيضا ففيه إزالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك وصح ذلك على قصد التقرب
فكذلك في الوقف وحجة أبي حنيفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن ادم مالي
مالي وهل لك من مالك الا أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما
سوى ذلك فهو مال الوارث فبين النبي عليه الصلاة والسلام ان الإرث إنما ينعدم في الصدقة
التي أمضاها وذلك لا يكون الا بعد التمليك من غيره (وسئل) الشعبي عن الحبس فقال
جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبس فهذا بيان أن لزوم الوقف كان في شريعة من قبلنا
وان شريعتنا ناسخة لذلك وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم لا حبس عن
فرائض الله تعالى ولكنهم يحملون هذا الأثر علي ما كان أهل الجاهلية يصنعونه من البحيرة
والسائبة والوصيلة والحام ويقولون الشرع أبطل ذلك كله ولكنا نقول النكرة في موضع النفي
تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث الا ما قام عليه دليل (واستدل) بعض
مشايخنا رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة فقالوا
معناه ما تركنا صدقة لا يورث ذلك عنا وليس المراد أن أموال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
لا تورث وقد قال الله تعالى وورث سليمان داود وقال تعالى فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث
من آل يعقوب فحاشا ان يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف المنزل فعلى هذا التأويل
في الحديث بيان أن لزوم القوف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة بناء على أن الوعد
منهم كالعهد من غيرهم. ولكن في هذا الكلام نظر فقد استدل أبو بكر رضي الله عنه على
فاطمة رضي الله عنها حين ادعت فدك بهذا الحديث على ما روى أنها ادعت ان رسول الله
29

صلى الله عليه وسلم وهب فدك لها وأقامت رجلا وامرأة فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه
ضمي إلى الرجل رجلا أو إلى المرأة امرأة فلما لم تجد ذلك جعلت تقول من يرثك فقال أبو
بكر رضى الله تعالى عنه أولادي فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها أيرثك أولادك ولا
أرث أنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة فعرفنا أن المراد بيان ان
ما تركه يكون صدقة ولا يكون ميراثا عنه. وقد وقعت الفتنة بين الناس بسبب ذلك فترك
الاشتغال به أسلم والمعنى فيه أن العين الموقوفة فيه كانت مملوكة قبل الوقف وبقيت بعده
مملوكة والمملوك بغير مالك لا يكون فمن ضرورة بقائها مملوكة أن يكون هو المالك أو غيره
ولم تصر مملوكة لغيره فكانت باقية على ملكه والوارث يخلف المورث في ملكه. وبيان قولنا
انها بقيت مملوكة انه ينتفع بها على وجه الانتفاع بالمملوكات من حيث السكنى والزراعة وسائر
وجوه الانتفاعات ولأنها خلقت مملوكة في الأصل وقد تقرر ذلك بتمام الاحراز فلا يتصور
اخراجها عن أن تكون مملوكة إلا أن يجعلها لله تعالي خالصا وبالوقف لا يتحقق ذلك. وفى هذه
التسمية ما يدل علي انها مملوكة محبوسة وبه فارق العتق فالآدمي خلق في الأصل ليكون
مالكا فصفة المملوكية فيه عارض محتمل للرفع وإذا رفع كان مالكا كما كان. ومن ضرورة اثبات
قوة المالكية انعدام المملوكية وبخلاف المسجد فان تلك البقعة تخرج من أن تكون مملوكة
وتصير لله تعالى ألا ترى أنه لا ينتفع بها بشئ من منافع الملك وان كانت تصلح لذلك وقد
وجدنا لهذا الطريق أصلا في الشرع وهو الكعبة فتلك البقعة لله تعالى خالصة متحرزة عن
ملك العباد فألحقنا سائر المساجد بها ولم نجد مثل ذلك في الوقف بل الوقف بمنزلة تسبيب
أهل الجاهلية من حيث إنه لا تخرج به العين من أن تكون مملوكة منتفعا بها ولو سبب
دابته لم تخرج من ملكه فكذلك إذا وقف أرضه أو داره وإذا بقيت مملوكة له لا يمتنع
الإرث فيها الا باعتبار حق يستثنيه لنفسه بعد وفاته وذلك فيما إذا أضاف الوقف إلى ما بعد
الموت فإنه تبقى العين على حكم ملكه لشغله إياه بحاجته والناس لم يأخذوا قول أبي حنيفة في
المسألة الا باشتهار الآثار فأما من حيث المعنى كلامه قوى وهو يحمل الآثار على الوقف المضاف
إلى ما بعد الموت أو المنفعة في الحياة وبعد الموت، قال رحمه الله تعالى قد تم الكتاب على قول
أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه وإنما البيان بعد هذا على قولهما * ثم بدأ الكتاب بحديث رواه
30

عن صخر بن جويرة عن نافع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت له أرض تدعى ثمغا وكان
نخلا نفيسا فقال عمر رضى الله تعالى عنه يا رسول الله انى استفدت مالا وهو عندي نفيس
أفأتصدق به فقال صلوات الله وسلامه عليه تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن
لينفق من ثمره. فتصدق به عمر رضي الله عنه في سبيل الله تعالى وفى الرقاب والضيف والمساكين
وأين السبيل ولذي القربى منه ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف أو يؤكل صديقا
له غير متمول منه. وهذه الأرض سهم عمر رضي الله عنه بخيبر حين قسم رسول الله صلى الله
عليه وسلم خيبر بين أصحابه رضي الله عنهم وثمغ لقب لها. وقد كانت لاملاكهم ألقاب حتى كان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها العضباء وبغلة يقال لها دلدل وفرس يقال له السكب
وحمار يقال له يعفور وعمامة تسمى السحابة * ثم في هذا دليل أن من قصد التقرب إلى الله سبحانه
وتعالى فينبغي أن يختار لذلك أنفس أمواله وأطيبها قال الله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما
تحبون وقال الله سبحانه وتعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون فلهذا اختار عمر رضي الله عنه
أنفس أمواله وأطيبها لما أراد التصدق. وفيه دليل على أن من أراد التقرب إلى الله تعالى فالأولى
ان يقدم السؤال عن ذلك وان الربا لا يدخل في هذا السؤال بخلاف ما يقوله جهال المتقشفة. ثم
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقف بقوله تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث
فهو من حجة من يقول بلزوم الوقف وقد روى عن علي رضي الله عنه انه وقف كما فعله عمر
رضي الله عنه ولكن لم يستثن للوالي شيئا وفيه دليل على أن كل ذلك واسع ان استثنى للوالي ان
يأكل بالمعروف كما فعله عمر رضي الله عنه وهو صواب وإن لم يستثن ذلك كما فعله علي رضي
الله عنه فهو صواب أيضا وللوالي ان يأكل منه بالمعروف مقدار حاجته كما أن للامام فعل
ذلك في بيت المال ولوصي اليتيم ذلك في مال اليتيم إذا عمل له قال الله تعالى ومن كان فقيرا
فليأكل بالمعروف ولكن لا يكون له أن يؤكل غيره ممن ليس في عياله الا إذا شرط الواقف
ذلك كما فعله عمر رضي الله عنه أو يؤكل صديقا له (وقوله) غير متمول منه يعنى يكتفى بما
يأكل ولا يكتسب به المال بالبيع لنفسه وهو نظير الغازي في طعام الغنيمة يباح له أن يتناول
بقدر حاجته ولا يتمول ذلك بالبيع والاقراض من غيره وفيه دليل محمد رحمه الله ان الوقف
لا يتم الا بالتسليم إلى المتولي. وفى قوله لا جناح على من وليه إشارة إلى ذلك وقد روى أنه
جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضى الله تعالى عنهما قال محمد رحمه الله ولهذا يأخذ إذا
(3 ثاني عشر مبسوط)
31

تصدق بها في حياته في صحته كان ذلك من جميع ماله وإذا تصدق به في مرضه كان ذلك من
ثلاثة لأنه إزالة الملك بطريق التبرع. ثم لا خلاف أنه لو قال تصدقت بأرضى هذه على الفقراء
والمساكين انه لا يكون وقفا بل يكون ذلك نذرا بالصدقة إذا قصد به الالزام فان عين
انسانا فهو تصدق عليه بطريق التمليك ولا يتم الا بالتسليم ولو قال وقفت أرضى هذه
أو حبستها أو حرمتها أو هي موقوفة أو محبوسة أو محرمة فهذا باطل بالاتفاق لان كلامه يحتمل
فعل مراده وقفتها على ملكي لتكون مصروفة في حاجتي أو على قضاء ديوني فان قال
لإنسان بعينه وقفتها لك أو حبستها لك أو قال هي لك وقف أو حبس فهو باطل أيضا الا على
قول أبى يوسف فإنه يقول يكون تمليكا منه يتم بالتسليم إليه بقوله لك. وقول وقف أو حبس
باطل. ووجه ظاهر الرواية أن قوله وقف أو حبس تفسير لقوله لك فيمنع ذلك تمليك الغير
منه والكلام المبهم إذا اقترن به تفسير كان الحكم لذلك التفسير كقوله داري لك سكنى
تكون عارية فان قال هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين أخرجها من يده إلى يد قيم
يقوم بها وينفق عليها في مرمتها واصلاح مجاريها ويزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها
ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة وليس له أن يرجع
فيها لاستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم واخراج
الأصل عن ملكه والتأييد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا وإنما يبدأ من غلتها بمرمتها
واصلاح مجاريها لأنها لا تبقى منتفعا بها الا بعد ذلك ومقصود الواقف أن تكون الصدقة
جارية له إلى يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام كل عمل ابن آدم ينقطع بموته الا ثلاثة
علم علمه الناس فهم يعملون به بعد موته وولد صالح يدعو له وصدقة جارية له إلي يوم القيامة
وفى بعض الروايات قال الا سبعا وذكر من جملة ذلك نهرا أكراه وخانا بناه ومصحفا سبله
وإنما يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها لأنه لا يتمكن من الزراعة الا بذلك ولان الغلة
لا تطيب من الأراضي الخراجية الا بأداء الخراج وإنما قصد الواقف أن يكون التصدق عنه
بأطيب المال وذلك عند أداء النوائب فلهذا يرفع الوالي من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم
الباقي بعد ذلك في كل سنة وليس هذا بتوقيت لازم ولكن يقسم عند حصول الغلة ومن
الأراضي ما يغل في السنة مرتين ومنها ما يغل في السنة مرة فكما حصلت الغلة ينبغي له أن
يقسم ما يحصل من النوائب في الفقراء والمساكين ولا يؤخر لما في التأخير من الآفات وفى
32

التعجيل من القربة تحصيل مقصود الواقف ولذلك إذا جعل أرضا له مقبرة للمسلمين
ويأذن لهم أن يقبروا فيها فيفعلون فليس له بعد ما يخلي بين المسلمين وبينها ويقبروا فيها
إنسانا واحدا أو أكثر يرجع فيها لان التسليم على قول من يشترط التسليم يتم بهذا
فان ما هو المقصود قد حصل إذا قبروا فيها انسانا واحدا وكذلك إذا جعلها خانا للمسلمين
وخلى بينهم وبينها فدخلها باذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها لان التسليم
يتم بهذا وهذا لأنه لا يتحقق القبض من جميع المسلمين ففعل الواحد منهم كفعل الجماعة
للمساواة بين الكل فيما يثبت به من الحق وهو نظير ما جعل الشرع أمان الواحد من
المسلمين كأمان الجماعة * ثم النزول في الخان والدفن في المقبرة من مصالح الناس قال الله
تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجواز الوقف لمعنى المصلحة فيه للناس من
حيث المعاش والمعاد وكذلك الرجل يكون له الدار بمكة فيجعلها سكنى للحاج والمعتمرين
ويدفعها إلى ولى يقوم عليها ويسكن فيها من زار فليس له بعد ذلك أن يرجع فيها وان مات لم
تكن ميراثا وإن لم يسكنها أحد لأنه حين سلمها إلى ولى يقوم عليها فقد أخرجها من
ملكه ويده * والتسليم على قول من يشترط يكون بأحد الطريقين إما باثبات يد القيم
عليها أو بأن يحصل المقصود بسكنى بعض الناس فيها باذنه. وكذلك أن جعل دارا له في غير مكة
سكنى للمساكين ودفعها إلى ولى يقوم بذلك. وكذلك أن جعلها سكنى للغزاة والمرابطين
في ثغر من الثغور أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى ولى يقوم
به فهو جائز ولا سبيل له إلى رده لأنه قصد التقرب بما صنع فأما السكنى فلا بأس بأن
يسكنها الغنى والفقير من الغزاة والمرابطين والحاج. وكذلك نزول الخان والدفن في المقبرة
فأما الغلة التي جعلت للغزاة فلا يعجبني أن يأخذ منها إلا محتاج إليها لان الغلة مال يملك
والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغنى بخلاف السكنى *
وحقيقة المعنى في الفرق أن الغنى مستغن عن مال الصدقة بمال نفسه وهو لا يستغنى بماله
عن الخان لينزل فيه وعن الدفن في المقبرة فلا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما
يستأجره فلهذا يستوي فيه الغنى والفقير وهو نظير ماء السقاية والحوض والبئر فإنه يستوى
فيه الغنى والفقير لهذا المعنى وهذا لأن الماء ليس بمال قبل الاحراز والناس يتوسعون فيه
عادة ولا يخصون به الفقراء دون الأغنياء بخلاف المتصدق بالمال * ثم الواقف وان أطلق
33

الغزاة في سبيل الله فمراده التقرب وذلك بصرف المال إلى المحتاجين منهم وفي اللفظ ما يدل
عليه شرعا قال الله تعالى من أصناف الصدقات وفي سبيل الله * ثم يصرف الصدقة إلى
الفقراء من الغزاة دون الأغنياء * والحاصل انه متى ذكر مصرفا فيه تنصيص علي الفقر
والحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون لان المطلوب وجه الله تعالى ومتى
ذكر مصرفا يستوى فيه الأغنياء والفقراء فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم
وان كانوا لا يحصون فهو باطل إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس
لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فحينئذ ان كانوا يحصون فالفقراء والأغنياء فيه سواء وان
كانوا لا يحصون فالوقف صحيح وتصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم لان الاستعمال بمنزلة
الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره وتمام بيان هذه الفصول في كتاب الوصايا. قال (وان
جعل أرضا له مسجدا لعامة المسلمين وبناها وأذن للناس بالصلاة فيها وأبانها من ملكه فأذن
فيه المؤذن وصلى الناس جماعة صلاة واحدة أو أكثر لم يكن له أن يرجع فيه وان مات لم
يكن ميراثا) لأنه حرزها عن ملكه وجعلها خالصة لله تعالى قال الله تعالى وأن المساجد لله
وقال عليه الصلاة والسلام من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة
ولا رجوع له فيما جعله لله تعالي خالصا كالصدقة التي أمضاها. ثم عند أبي يوسف يصير
مسجدا إذا أبانه عن ملكه وأذن للناس بالصلاة فيه وإن لم يصل فيه أحدكما في الوقف على
مذهبه ان الوقف يتم بفعل الواقف من غير تسليم إلى المتولي وعند محمد لا يصير مسجدا ما
لم يصل الناس فيه بالجماعة. بنى على مذهبه ان الوقف لا يتم الا بالتسليم إلى المتولي وعن أبي حنيفة
فيه روايتان في رواية الحسن عنه يشترط إقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي رواية غيره عنه قال إذا صلى
فيه واحد يصير مسجدا وإن لم يصل بالجماعة. وجه رواية الحسن أن تمام التبرع بحصول
المقصود به بدليل الصدقة فالمقصود بها اغناء المحتاج ثم لا يتم ما لم يحصل هذا المقصود بالتسليم
إليه فهنا المقصود من المساجد إقامة الصلاة فيها بالجماعة لان جميع وجه الأرض موضع الصلاة
وإنما تبنى المساجد لإقامة الصلاة فيها بالجماعة فلا تصير مسجدا قبل حصول هذا المقصود.
وجه الرواية الأخرى أن المقصود أن المسجد موضع السجود وقد حصل ذلك بالصلاة
فيه منفردا كان أو بجماعة وقد بينا ان الواحد من المسلمين ينوب عن جماعتهم فيما هو حقهم
فتجعل صلاة الواحد فيه كصلاة الجماعة * وقد بينا نظيره في نزول الخان والدفن في المقبرة
34

(وروى) عن معاذ بن جبل وابن عباس وشريح والحسن والشعبي رضي الله عنهم قالوا لا تجوز
الصدقة حتى يقبض وبه نأخذ فنقول ان الصدقة لا تتم الا بالقبض بخلاف ما يقوله مالك رحمه
الله تعالى وهذا لان المتصدق يجعل ما يتصدق به خالصا لله تعالى باخراجه عن ملكه وحقه
ولا يتم ذلك الا بالاخراج من يده ولا خلاف فيه بين العلماء رحمهم الله تعالى في الصدقة المنفذة
وقال أهل المدينة رحمهم الله مجرد الاعلام يكفي لذلك لما جاء في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه
وغيره إذا أعلمت الصدقة جازت وجعلوا ذلك قياس العتق فان العتق يزيل المعتق عن ملكه
ويجعله لله تعالى ثم يتم ذلك بنفسه فكذلك الصدقة ولان الآخذ للصدقة هو الله تعالى قال
الله تعالى ويأخذ الصدقات وقال عليه الصلاة والسلام ان الصدقة ان الصدقة تقع في كف الرحمن فيربيها
كما يربى أحدكم فلوه حتى تصير مثل أحد. ولكنا نقول هذا في ضمن الاتصال إلى الفقير
ليكون الفقير آخذا كفايته من الله تعالى فإنه عبد الله وكفاية العبد على مولاه وقد وعدله
ذلك بقوله تعالى وما من دابة في الأرض الأعلى الله رزقها ولهذا لم يكن للمعطى منة على
القابض وهذا المقصود لا يحصل قبل التسليم إلى الفقير فلا تتم الصدقة بخلاف العتق فالعبد
في يد نفسه فيصير قابضا نفسه مع أن المعتق متلف للملك والرق فيه والاتلاف يتم بالتلف
والمتصدق غير متلف للملك بل جاعل الملك لله تعالى خالصا وذلك في ضمن التمليك من الفقير
فكما أن التمليك من الفقير لا يتم إلا بالتسليم إليه فكذلك جعله الله تعالى. فأما الصدقة الموقوفة
على قول أبى يوسف رحمه الله تلزم بالاعلام وإن لم يخرجها من يده إلى يد المتولي وعلي قول محمد
رحمه الله لا يتم الا بالاخراج من يده والتسليم إلى المتولي وهو قول ابن أبي ليلى. وحجته في ذلك
أن إزالة الملك بطريق التبرع فتمامه بالتسليم كما في الصدقة المنفذة وهذا لأنه لو لزمه قبل التسليم
لصارت يده مستحقة عليه والتبرع لا يصلح سببا للاستحقاق على المتبرع في غير ما تبرع به
فينبغي أن يكون متبرعا في إزالة بده كما في إزالة ملكه وذلك بأن لم تتم الصدقة قبل التسليم بل هذا
أولى من الصدقة المنفذة فان جواز ذلك متفق عليه بين العلماء رحمهم الله وفى جواز الصدقة الموقوفة
ولزومها خلاف ظاهر ثم تلك الصدقة مع قوتها لا تتم الا بالتسليم فهذا أولى * وقال في الكتاب
من جوز الصدقة غير مقبوضة لم يفصل بين الصدقة الموقوفة والمنفذة وهو قول أهل المدينة
رحمهم الله وكذلك من لم يجوزها الا مقبوضة والفرق بينهما من نوع التحكم وقد بينا أن ذلك
لا يجوز وأبو يوسف رحمه الله يقول هذه إزالة ملك لا تتضمن التمليك فتتم بدون القبض
35

كالعتق بخلاف الصدقة المنفذة فإنها تتضمن التمليك وهذا لان القبض إنما يعتبر من المتملك
أو من نائبه ليتأكد به ملكه ألا نرى أنه لا يعتبر قبض غيره له بغير اذنه والصدقة الموقوفة
لا يتملكها أحد فلا معنى لاشتراط القبض فيها. يوضحه أن المتولي مختار الواقف فيده
تقوم مقام يد الواقف لا مقام يد الموقوف عليه فإنه ما اختاره وربما لم يعلم به أيضا فإذا كانت
تتم بيد من اختاره الواقف فبيد الواقف أولي بخلاف العدل في الرهن فان يده كيد المرتهن
هناك لأنه لا يصير عدلا الا برضا المرتهن واختياره ولهذا يصير المرتهن مستوفيا دينه
بهلاكه في يد العدل ولان حق المرتهن ثبت في العين فتمكن فيجعل العدل نائبا عنه وهنا
الموقوف عليه في الغلة لا في العين فلا يمكن جعل المتولي نائبا عنه في قبض العين بل هو نائب
عن الواقف فلا معنى لاشتراط قبضه. واستدل محمد رحمه الله في الكتاب بحديث عمر رضي
الله عنه فإنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله عنها وإنما فعل ذلك ليتم الوقف ولكن
أبو يوسف رحمه الله يقول فعل ذلك لكثرة اشتغاله وخاف التقصير منه في أوانه أو ليكون
في يدها بعد موته فأما أن يكون فعله لاتمام الوقف فلا وكان القاضي أبو عاصم رحمه الله يقول
قول أبى يوسف من حيث المعنى أقوى لمقاربته بين الوقف والعتق من حيث إنه ليس في كل
واحد منهما معنى التمليك وقول محمد رحمه الله أقرب إلى موافقة الآثار. وعلى هذا الخان
والرباط يتم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى بالتخلية بينه وبين الناس وإن لم ينزل فيه أحد ولا
يتم عند محمد رحمه الله الا بالتسليم إلى المتولي أو بنزول الناس فيه. وكذلك المقبرة والسقاية عند
محمد لا تتم الا بالتسليم إلى قيم يقوم عليه أو بأن يدفنوا في المقبرة رجلا واحدا أو يسقى من
السقاية رجل واحد. وكذلك المسجد إلا أن في المسجد تمامه عند محمد رحمه الله بأن يصلي الناس فيه
بالجماعة لان التسليم إلى المتولي في المسجد لا يتحقق إذ لا تدبير فيه للمتولى في اختيار من يصلى
بالمسجد أو الاستغلال لان المسجد قد تحرز عن ذلك وكذلك لا تدبير لاحد في سد باب
المسجد لأنه ان كره لأهل المسجد أن يغلقوا باب المسجد فكيف بغيرهم فلهذا يوقف التمام
على إقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي سائر الوقف للمتولى تدبير في ذلك فجعل التسليم إلى المتولي متمما
للصدقة ولان المقصود في سائر الوقف منفعة العباد فيمكن جعل يد المتولي في ذلك بمنزلة
يدهم والمقصود هنا إقامة العبادة لله تعالى في المسجد خالصا ولا يحصل ذلك الا بإقامة الصلاة
فيه. قال (ولو وقف نصف أرض أو نصف دار مشاعا على الفقراء فذلك جائز في قول
36

أبى يوسف رحمه الله لان القسمة من تتمة القبض فان القبض للحيازة وتمام الحيازة فيما يقسم
بالقسمة. ثم أصل القبض عنده ليس بشرط في الصدقة الموقوفة فكذلك ما هو من تتمة الوقف
وهذا لان الوقف على مذهبه قياس العتق والشيوع لا يمنع العتق فكذلك لا يمنع الوقف إلا أن
العتق لا يتجزأ عنده لما في التجزء من تضاد الاحكام عنده في محل واحد وذلك لا يوجد
في الوقف فيحتمل التجزء ويتم مع الشيوع في القدر الذي أوقفه وأما عند محمد رحمه الله
لا يتم الوقف مع الشيوع فيما يحتمل القسمة لان على مذهبه أصل القبض شرط لتمام الوقف
فكذلك ما يتم به القبض وتمام القبض فيما يحتمل القسمة بالقسمة واعتبره بالصدقة
المنفذة فإنها لا تتم في مشاع يحتمل القسمة كالهبة ويتم في مشاع لا يحتمل القسمة لأنه
بالقسمة يتلاشى فلا تكون القسمة فيه حيازة فكذلك الصدقة الموقوفة تجوز في مشاع
لا يحتمل القسمة ولا تجوز في مشاع يحتمل القسمة ما لم يقسم. وعلي هذا الخان والمقبرة والمسجد
والسقاية يعنى فيما يحتمل القسمة لأنه لا يتم من الشيوع عند محمد رحمه الله تعالى. فأما المسجد
والمقبرة لا تتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لان بقاء الشركة يمنع أن تكون البقعة لله تعالى
خالصا ولأنا لو جوزنا ذلك وقعت الحاجة إلى المهاياة فتقبر فيه الموتى في سنة ثم تنبش في سنة
أخرى ويزرع لمراعاة حق المالك ويصلى النساء في المسجد في وقت ويتخذ إصطبلا في وقت
آخر بحكم المهاياة وذلك ممتنع بخلاف الوقف فالمقصود هناك الاستغلال فيما بقي منه ملكا وفيما
صار منه وقفا فلو جاز مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يؤدى إلى تضاد الاحكام بل
يستغل وتقسم الغلة على قدر الملك والوقف منه وذلك صحيح وكذلك لو جعل الأرض
أو الدار لشئ من ذلك وأخرجه من يده ثم استحق بعضه مشاعا بطل في الكل ورجع الباقي
إليه في حياته والي وارثه بعد وفاته لان بالاستحقاق يتبين بطلان تصدقه في القدر المستحق
لأنه لم يكن مملوكا له يومئذ ولا أجازه مالكه ولو جاز في القدر المملوك لكان لزومه ابتداء
في الجزء الشائع وقد بينا أن ذلك لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة وهذا بخلاف ما إذا فعله في
مرضه ثم مات ولا مال له سواه فأبطله الوارث فيما زاد عن الثلث بقي الثلث صحيحا لان حق
الوارث إنما يثبت بعد الموت فابطاله في القدر الذي له ابطاله يقتصر على هذه الحالة فلا يتبين
به ان ابتداء الوقف في الجزء الشائع وأصل هذا الفرق في الهبة والصدقة المنفذة فان رجوع
الوارث في البعض كرجوع الواهب وذلك لا يمنع بقاء الهبة فيما بقي لأنه شيوع طارئ
37

فكذلك في الصدقة الموقوفة وان استحق بعضه مميزا بعينه كان ما فعله جائزا فيما بقي ماضيا
لوجهه لان بهذا الاستحقاق لم يتبين الشيوع فيما بقي فان المستحق مميز مما بقي فهو بمنزلة دارين
وقفهما فاستحقت إحداهما وكذلك الحكم في الصدقة المنفذة إذا كان المستحق مميزا يقرر
الصدقة فيما بقي وكذلك الحكم في الهبة بخلاف ما إذا استحق جزأ شائعا ولا فرق عند
استحقاق الجزء الشائع بين أن يكون المستحق كثيرا أولم يكن لان المانع الشيوع وقد تحقق
ذلك باستحقاق جزء قل ذلك أو كثر. قال (وإذا كانت الأرض بين رجلين فتصدقا بها
صدقة موقوفة على بعض الوجوه التي وصفناها ودفعاها إلى ولي يقوم بها كان ذلك جائزا) لان
مثله في الصدقة المنفذة جائز إذا تصدق رجلان على واحد والمعنى فيه أن المانع من تمام الصدقة
شيوع في المحل ولا شيوع هنا فقد صار الكل صدقة مع كثرة المتصدقين بها والقبض للمتولى
في الكل وجد جملة واحدة فهو وما لو تصدق رجل واحد سواء ولو تصدق كل واحد منهما
بنصفها شائعا على حدة صدقة موقوفة وجعل لها واليا على حدة لم يجز لأنهما صدقتان متفرقتان
لان كل واحد منهما تصدق بنصيبه بعقد على حدة ألا ترى أنه جعل لنصيبه واليا علي حدة
ومثله في الصدقة المنفذة لا يجوز حتى لو تصدق أحدهما بنصفها مشاعا على رجل وسلم ثم
تصدق الآخر بالنصف عليه وسلم لم يجز شئ من ذلك وهذا لان قبضه في نصيب كل واحد
منهما لاقى جزأ شائعا فكذلك قبض كل واحد من الواليين هنا لاقى جزأ شائعا. قال (ولو
تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على المساكين وجعلا الوالي لذلك رجلا
واحدا فسلماها إليه جميعا جاز) لان تمام الصدقة بالقبض والقبض مجتمع فقد حصل قبض الكل
من واحد في محل عين والدليل على أن المعتبر هو القبض في الهبة والصدقة المنفذة أنه لو باشر
ذلك مع رجل في النصف ثم في النصف ثم سلم الكل إليه جاز ولو باشره في الكل ثم سلم
إليه النصف لم يجز وكذلك أن جعلاها جميعا إلى رجلين لان الواليين هنا كوال واحد حيث
جعلهما كل واحد منهما والباقي صدقة بخلاف ما تقدم هناك من أن كل واحد من المتصدقين خص
واحدا من الواليين فجعله واليا في صدقته فإنما يلاقى قبض كل واحد منهما جزأ شائعا ألا
ترى أن في الرهن لو أن رجلين رهنا عينا من رجلين بدين لهما عليهما جاز ولو قال على أن
نصيب أحد الراهنين رهن عند أحدهما ونصيب الآخر عند الآخر لم يجز وكذلك في
الهبة والصدقة المنفذة ولو وهبا من رجلين أو تصدقا عليهما جاز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
38

ولو قالا نصيب الواهبين لأحدهما بعينه ونصيب الاخر للآخر لم يجز وكذلك في الصدقة
الموقوفة. قال (ولو تصدقا بها على واحد فوكل المتصدق عليه رجلين بقبضها كل واحد منهما
يقبض نصيب أحدهما خاصة فقبضا ذلك معا جاز وإن كان القابض اثنين لأنهما إنما قبضاها لواحد
فكل واحد منهما وكيل من جهته وقبض الوكيل كقبض الموكل فكان القبض مجتمعا حكما وإن كان
متفرقا صورة (فان قيل) ففي الصدقة الموقوفة الوليان كل واحد منهما يقبض للموقوف عليه فينبغي
أن يجوز وان تفرق الوالي لاتحاد جهة الصرف (قلنا) لا كذلك بل كل واحد من الواليين عامل
لمن جعله واليا في صدقته ولهذا لو لحقه عهدة فيما قبض رجع به عليه فإذا اختار كل واحد
منهما في صدقته قيما على حدته كان قبض كل واحد منهما في جزء شائع ولو تصدقا به على
رجلين صدقة واحدة فوكل المتصدق عليهما رجلين كل واحد منهما يقبض ما تصدق به
عليه أحد الرجلين دون الآخر فقبض الوكيلان جميعا أو أحدهما قبل صاحبه جاز ذلك لان
فعل الوكيلين كفعل الموكلين فان كل واحد منهما نائب وكيله في القبض ولو قبض الموكلان
معا أو أحداهما قبل صاحبه جاز ذلك لا تحاد الصدقة في جانب المتصدقين وتمامها عند قبض
الآخر منهما فكذلك الوكيلان ألا ترى أنه لو كان المتصدق والمتصدق عليه واحدا
فقبض النصف ثم النصف كان هذا وما لو قبض الكل جملة سواء وان قبضا أحد النصيبين
كان لصاحبه ان يرجع فيه ما لم يقبضا نصيب الآخر لان تمام الصدقة بتمام القبض ولا يتم
القبض في مشاع يحتمل القسمة فلم تتم به الصدقة وكان لصاحبه ان يرجع فيه كما قبل التسليم
فان قبضا نصيب الآخر قبل رجوع الأول فيه فقد تمت الصدقة لتمام القبض منهما في الكل
ولا رجوع فيه لواحد منهما بعد ذلك * ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة
على حدة ووكلا فيها رجلا واحدا فقبض نصيبهما مجتمعا أو متفرقا كانت الصدقة جائزة لأنه
حين قبض الكل فلا شيوع في المحل وإن كان قبض نصيب أحدهما فله أن يرجع فيه ما لم
يقبص نصيب الآخر لما بينا ان قبضه في نصيبه لاقى جزأ شائعا فلا تتم به الصدقة قال (فان
باعه وهو في يد الوكيل جاز بيعه) لان الصدقة في نصيبه لم تتم حين لم يقبض الوكيل نصيب
الاخر وكان وجود القبض في نصيبه كعدمه فلهذا جاز بيعه وان مات فهو ميراث عنه
فان قبض الوكيل نصيب الآخر بعد موت الأول فقبضه باطل والصدقة مردودة لان بموت
الأول بطلت الصدقة في نصيبه وصار ميراثا لورثته فلو جازت الصدقة في النصف الآخر
39

بالقبض بعد ذلك كان ذلك في جزء شائع وذلك غير جائز ويستوى إن كان قبضه باذن الثاني
أو بغير إذن الثاني بخلاف ما قبل موت الأول لان حكم الصدقة في نصيب الأول موقوف
على أن تتم بتمام القبض وذلك يحصل بقبضه نصيب الثاني فلهذا تمت الصدقة في الكل. قال
(دار بين رجلين تصدق أحدهما بنصيبه منها على رجل وسلمه إليه أو إلى وكيله ثم تصدق
الآخر أيضا عليه بنصيبه وسلمه إليه أو إلى وكيله لم يجز شئ من ذلك) لأنهما صدقتان
متفرقتان فان تمام الصدقة بالقبض وقبضه في كل واحد من النصيبين لاقى جزأ شائعا وإن لم
يقبض نصيب الأول حتى تصدق الآخر بنصيبه عليه أيضا وقد أذن كل واحد منهما له في
القبض فقبضهما جملة جاز لما بينا أن المانع افتراق القبض وقد قبض الكل جملة فكأن الصدقة
منهما عليه كانت جملة بعقد واحد وكذلك لو قبض نصيب كل واحد منهما على حدة بيده أو
بيد وكيله فهو جائز لان قبضه تم حين قبض نصيب الآخر منهما وقبض وكيله له كقبضه وهذا
بخلاف الأول فان هناك حين قبض نصيب الأول ما كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب
الآخر أصلا فتعين جهة البطلان في نصيب الأول فيبطل حكم قبضه في نصيب الثاني بعد
ما بطل حكم الصدقة في نصيب الأول وبطل حكم قبضه في نصيب الثاني لملاقاته جزأ شائعا
وهنا حين قبض نصيب الأول كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر فيتوقف حكم تمام
الصدقة في نصيب الأول على تمام القبض وقد تم ذلك بقبض الثاني. يوضحه ان هناك حين
قبض نصيب الأول لم يكن متمكنا من قبض نصيب الثاني فإنما يعتبر حكم قبضه فيما تمكن
منه خاصة وهو جزء شائع وهنا حين قبض نصيب الأول كان متمكنا من قبض نصيب الثاني
فيجعل ما تفرق من قبضه كالمجتمع لتمكنه من قبض الكل. قال (وإذا كانت الأرض لرجل
أو رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة وسلماها إلى رجل واحد وجعل أحدهما نصيبه
موقوفا على ولده وولده ولده أبدا ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين وجعل
الآخر نصيبه وقفا على اخوته وأهل بيته فإذا انقرضوا كانت غلته في الحج يحج بها في كل
سنة أو كان المتصدق واحدا فجعل نصف الأرض مشاعا على الأمر الأول ونصفها على الامر
الآخر فذلك جائز) لأنها صدقه واحدة يقبضها وال واحد فلا يضرهم على أي الوجوه فرقوا
غلها ومعنى هذا ان تمام الصدقة بالقبض وإذا كان الوالي واحدا فهو يقبض الكل جملة فتتم
الصدقة بالكل بقبضه ثم بتفرق جهات الصدقة لا تتفرق الصدقة ألا ترى ان المتصدق لو
40

كان واحدا وفرق الغلة سهما بعضها في الحج وبعضها في الغزو وبعضها في أهل بيته وبعضها
في المساكين كان ذلك صدقة جائزة فكذلك إذا كان المتصدق اثنين وعين كل واحد منهما
لنصيبه مصرفا وهذا كله قول محمد فأما عند أبي يوسف الصدقة الموقوفة في جميع هذه الوجوه
جائزة لأنه يجوزها غير مقبوضة فكذلك غير مقسومة. فالحاصل أن أبا يوسف يوسع في أمر
الصدقة الموقوفة في قوله الآخر غاية التوسع وفى قوله الأول ضيق فيها غاية التضييق كما هو
قول أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه فقال لا تلزم في الحياة أصلا وتوسط قول محمد رحمه الله في ذلك
ولهذا أفتى عامة المشايخ رحمهم الله فيها بقول محمد رحمه الله ومما توسع فيه أبو يوسف رحمه
الله انه لا يشترط التأبيد فيها حتى لو وقفها على جهة يتوهم انقطاعها يصح عنده وإن لم يجعل
آخرها للمساكين ومحمد رحمه الله يشترط التأبيد فيها فقال إذا كانت الجهة بحيث يتوهم
انقطاعها لا تصح الصدقة إذا لم يجعل آخرها للمساكين لان موجب الوقف زوال الملك بدون
التمليك وذلك يتأبد كالعتق وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها فلم يتوفر على العقد موجبه
والتوقيت في هذا العقد كالتوقيت في البيع فكان مبطلا وأبو يوسف رحمه الله يقول المقصود
هو التقرب إلي الله تعالى والتقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة يتوهم انقطاعها وتارة
بالصرف إلى جهة لا يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة لتحصيل مقصود الواقف * ومن ذلك
أنه لو جعل مصرف الغلة لنفسه ما دام حيا فذلك جائز عند أبي يوسف أيضا اعتبار للابتداء
بالانتهاء لأنه يجوز الوقف علي جهة يتوهم انقطاعها وإذا انقطعت عادت الغلة إليه في الانتهاء
فكما يجوز ذلك في الانتهاء فكذلك في الابتداء لجواز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة
وهذا لان معنى التقرب لا ينعدم بهذا قال عليه الصلاة والسلام نفقة الرجل على نفسه صدقة
وقال عليه الصلاة والسلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول فأما عند محمد رحمه الله إذا جعله وقفا على
نفسه أو جعل شيئا من الغلة لنفسه ما دام حيا فالوقف باطل وهو مذهب أهل البصرة رحمهم
الله لان التقرب بإزالة الملك واشتراط الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال ملكه فلا يكون ذلك
صحيحا وكذلك لو شرط الغلة لإمائه فهو كاشتراطه لنفسه ولكن ذكر محمد أنه إذا اشترط الغلة
لأمهات أولاده فذلك جائز وهذا على أصل أبى يوسف غير مشكل وعلى قول محمد رحمه الله
هو مستحسن على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى * ومن ذلك أنه إذا شرط في الوقف ان
يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد وهو قول
41

أهل البصرة رحمهم الله الوقف جائز والشرط باطل لان هذا الشرط لا يؤثر في المنع من
زواله والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد في أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه
ويبقى الاستبدال شرطا فاسدا فيكون باطلا في نفسه كالمسجد إذا شرط الاستبدال به أو
شرط أن يصلي فيه قوم دون قوما فالشرط باطل واتخاذ المسجد صحيح فهذا مثله. قال (ولو
شرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام في الوقف فعلى قول أبى يوسف الوقف جائز والشرط جائز كما
هو مذهبه في التوسع في الوقف وقال هلال بن يحيى الوقف باطل وهو قول محمد وقال يوسف
ابن خالد السمني الوقف جائز والشرط باطل لأنه إزالة ملك لا إلى مالك فيكون بمنزلة الاعتاق
واشتراط الخيار في العتق باطل والعتق صحيح وكذلك في المسجد اشتراط الخيار باطل
واتخاذ المسجد صحيح فكذلك في الوقف ومحمد يقول إن تمام الوقف يعتمد تمام الرضا ومع
اشتراط الخيار لا يتم الرضا فيكون ذلك مبطلا للوقف بمنزلة الاكراه على الوقف * ثم تمام الوقف
على مذهبه بالقبض وشرط الخيار يمنع تمام القبض ألا ترى ان في الصرف والسلم لا يتم القبض
مع شرط الخيار وبه فارق المسجد فالقبض هناك ليس بشرط إنما الشرط إقامة الصلاة فيه
بالجماعة وقد وجد ذلك مع شرط الخيار فلهذا كان مسجدا ثم شرطه غير معتبر في اتخاذ
المسجد فلا يفسد بفساد الشرط وشرطه في الوقف مراعى وما يتعلق بالجائز من الشرط
الفاسد فالفاسد من الشروط يبطله وأبو يوسف رحمه الله يقول الوقف يتعلق به اللزوم ويحتمل
الفسخ ببعض الأسباب واشتراط الخيار للفسخ فيكون بمنزلة البينة في أنه يجوز اشتراط الخيار
فيه وهذا في الحقيقة بناء على الأصل الذي ذكرنا له فإنه يجوز أن يستثنى الواقف الغلة لنفسه
ما دام حيا فكذلك يجوز أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام لتروى النظر فيه. قال (فان خرب
ما حول المسجد واستغنى الناس عن الصلاة فيه فعلى قول أبى يوسف رحمه الله لا يعود إلى ملك
الثاني ولكنه مسجد كما كان وعند محمد رحمه الله يعود إلى ملك الثاني والى ملك وارثه وإن كان
ميتا) لأنه جعل هذا الجزء من ملكه مصروفا إلى قربة بعينها فإذا انقطع ذلك عاد إلى
ملكه كالمحصر إذا بعث بالهدى ثم زال الاحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه
ما شاء * قال (ولو اشترى حصر المسجد أو حشيشا فوقع الاستغناء عنه كان له أن يضع به ما شاء
وأبو يوسف رحمه الله يقول إذا تم زوال العين عن ملكه وصار خالصا لله تعالى فلا يعود إلى
ملكه بحال) كما لو أتق عبده وهذا لان القربة التي قصدها لم تنعدم بخراب ما حولها فان
42

الناس في المساجد شرعا سواء فيصلى في هذا الموضع المسافرون ومارة الطريق وهكذا يقول
في الحصير والحشيش انه لا يعود إلى ملكه ولكن يصرف إلى مسجد آخر بالقرب من ذلك
المسجد وهدى الاحصار لم يزل عن ملكه قبل الذبح * واستدل أبو يوسف رحمه الله بالكعبة
فان في زمان الفترة قد كان حول الكعبة عبدة الأصنام ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن
يكون موضع الطاعة والقربة خالصا لله تعالى فكذلك سائر هذه المساجد في الحقيقة إنما ينبنى
هذا على ما بينا فان أبا يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط في الابتداء إقامة الصلاة فيه ليصير
مسجدا فكذلك في الانتهاء وان ترك الناس الصلاة فيه لا يخرج من أن يكون مسجدا ومحمد
يشترط في الابتداء إقامة الصلاة فيه بالجماعة ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء إذا ترك الناس
الصلاة فيه بالجماعة يخرج من أن يكون مسجدا * وحكى ان محمدا رحمه الله مر بمزبلة فقال
هذا مسجد أبى يوسف يريد به انه لما لم يقل بعوده إلي ملك الثاني يصير مزبلة عند تطاول
المدة * ومر أبو يوسف بإصطبل فقال هذا مسجد محمد يعنى انه لما قال يعود ملكا فربما
يجعله المالك إصطبلا بعد أن كان مسجدا فكل واحد منهما استبعد مذهب صاحبه بما أشار
إليه * ثم ذكر في الأصل بعض صكوك الوقف وشرح ما هو من رسم الصكوك في ذلك
بذكره في كتاب الشروط وإنما نذكر هنا من ذلك ما يتصل بالوقف * فمنه انه ذكر في
المصارف وعلى ذوي الحاجة من موالي فلان بن فلان ومولياته ولم يذكر الأسفل أو
الأعلى وتأويل هذا إذا كان فلان من هؤلاء العرب لا ولاء عليه فإن كان عليه ولاء فالوقف
بهذا اللفظ لا يصح ما لم يبين الأعلى أو الأسفل على قياس الوصية فإنه لو أوصى لموالي فلان
ولفلان موال أعتقوه وأعتقهم فإنه لا تصح الوصية ما لم يبين الأسفل أو الأعلى. منصوص
عليه في الوصايا في الجامع فكذلك الوقف * ومن ذلك أنه يشترط فيه أن يرفع الوالي من غلته
كل عام ما يحتاج إليه لأداء العشر والخراج وما يحتاج إليه لبذر الأرض ومؤنتها وأرزاق
الولاة لها ووكلائها وأجور وكلائها ممن يحصدها ويدرسها وغير ذلك من نوائبها لان
مقصود الواقف استدامة الوقف وأن تكون المنفعة واصلة إلي الجهات المذكورة في
كل وقت ولا يحصل ذلك الا برفع هذا المؤن من رأس الغلة وذلك وإن كان يستحق بغير
الشرط عندنا الا انه لا يؤمن جعل بعض القضاة فربما يذهب رأى القاضي إلى قسمة جميع
الغلة بناء على الظاهر وإذا شرط ذلك يقع الا من بالشرط والمقصود بالكتاب التوثق فينبغي
43

أن يكتب على أحوط الوجوه فيتحرز فيه من طعن كل طاعن وجهل كل جاهل * ومن ذلك
قال وان مات القيم فيه في حياة الواقف فالامر فيه إلى الموقف يقيم فيه من أحب ولا شك
في جواز هذا الشرط على أصل أبى يوسف لأنه يجوز اشتراط الواقف الرأي لنفسه في
الاستدلال بالوقف ففي نصب القيم أولى وكذلك عند محمد رحمه الله لأنه لا يجوز شرط الاستبدال
بالوقف لما فيه من شرط إعادة العين الأولى إلي ملكه وذلك يوجد هنا وقد بينا ان القيم
نائب عن الواقف بمنزلة الوكيل له في نصيبه ليعمل للموقوف عليهم باعتبار أنه جعل منفعتهم
كمنفعته فاشتراط رأيه في نصب قيم آخر بعد موت الأول يحقق المقصود بالوقف ولا يغيره
قال (فان مات بعده فأوصي إلى غيره فوصيه بمنزلته) لان الواقف نصبه ليكون ناظرا له محصلا
لمقصوده وقد يعجز عن ذلك بموته فيكون آذنا له في استعانة بغيره بعد موته كما أن للوصي
أن يوصي إلى غيره وهذا المعنى يخفى على بعض القضاة كما خفى على بعض العلماء فلم يجوزوا
للوصي أن يوصي إلى غيره فيشترط ذلك في الكتاب للتحرز عن هذا. قال (وان مات ولم
يوص إلى أحد فالرأي فيه إلى القاضي) لأنه نصب ناظرا لكل من عجز بنفسه عن النظر
والواقف ميت ومصرف الغلة عاجز عن التصرف في الوقف لنفسه فالرأي في نصب القيم
إلى القاضي. قال (ولا يجعل القيم من الأجانب ما وجد من أهل ميت الموقف وولده من يصلح
لذلك) لأنه لو لم يذكر هذا الشرط كان للقاضي أن ينصب أجنبيا إذا رأى المصلحة في ذلك
ومقصودا واقف أن يكون ذلك في أهل بيته وولده اما ليكون الوقف منسوبا إليه ظاهرا
أو لان ولده أشفق على وقف أبيه من غيره ويذكر هذا في الكتاب ليتحرز القاضي عن
خلاف شرطه. قال (وإن لم يجد فيهم من يصلح له فجعله إلى أجنبي ثم صار فيهم من يصلح
لذلك صرفه إليه) لأنه بدون الشرط لا يستحق على القاضي أن يفعل ذلك والانتهاء لا يعتبر
بالابتداء في بعض الأحكام ألا ترى أن العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء والإباق في
المبيع كذلك فإذا ذكر هذا في كتابه وجب علي القاضي مراعاة شرطه لقوله تعالى فإنما اثمه
على الذين يبدلونه وكونه في يد ولده إذا كان يصلح لذلك أنفع وان خاف أن يبطل بعض
القضاة وقفه ونقضه فأحب إلي أن يتحرز من ذلك * وفيه طريقان (أحدهما) أن يكتب في
صكه. وان أبطله قاض أو غيره بوجه من الوجوه فهذه الأرض بأصلها وجميع ما فيها وصية من
مال فلان تباع فيتصدق بثمنها على من سمينا في كتابنا وهذا لان القاضي إنما يبطل عند
44

خصومة وارث أو غريم لاتصال المنفعة إليه وذلك ينعدم بما يذكره الموقف فلا يشتغل أحد
بابطاله والوصية تحتمل التعليق بالشرط فإنها في الأصل اثبات الخلافة بعد الموت والتعليق
بالشرط يليق به (والوجه الثاني. ان الموقف بعد اتمام الوقف بالتسليم إلى المتولي يخاصم فيه
إلى قاض يرى اجازته ويطلب منه ابطاله حتى يقضى القاضي بإجازته فينفذ قضاؤه لأنه قضي
عن اجتهاد في مجلسه وليس لاحد بعد ذلك ابطاله فاما أن يكون اجازته في نسخة على حدة
ويشهد الشهود على ذلك ويكتب ذلك في آخر صك الوقف. والذي جرى الرسم به لآن أنهم
يكتبون اقرار الواقف بذلك والمقصود لا يحصل فاقراره لا يكون حجة في حق الذي يرى
ابطاله وربما يكتبون وقد رفع هذا إلى قاض من القضاة وهذا كذب إن لم يكن رفع إلى أحد
ولا رخصة في الكذب والمقصود لا يتم به أيضا فربما يذهب اجتهاد قاض إلى أن القضاء والإجارة
من المجهول لا تعتبر فإنما يتم المقصود بما ذكرنا. قال (ولا يجوز أن يوقف على تجهيز الرجل بالكراع
والسلاح والنفقات في سبيل الله تعالى وبين ذلك في صك) وهذا لأنه من باب القربة والطاعة
فإنه جهاد بالمال والجهاد سنام الدين وهذه جهة لا انقطاع لها ما بقيت الدنيا قال عليه الصلاة
والسلام الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال فلهذا
يجوز الوقف على هذه الجهة. قال (وإن كان في الضيعة مماليك وأزواجهم وأولادهم يعملون
فيها فوقفها بمن فيها منهم وسماهم جاز ذلك) لان المقصود وهو الغلة بعملهم يحصل والوقف
فإن كان يختص بالعقار فيجوز أن يثبت في المنقول تبعا للعقار وعلى هذا آلات الحراثة إذا
ذكرها في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا وهو كالشرب والطريق يدخل في البيع
تعبا وان كأن لا يجوز البيع فيه مقصودا ثم في وقف المنقول مقصودا اختلاف بين أبى يوسف
ومحمد رحمهما الله ذكره في السير الكبير (والجواب) الصحيح فيه أن ما جرى العرف بين الناس
بالوقف فيه من المنقولات يجوز باعتبار العرف وذلك كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من
القدور والأواني في غسل الميت والمصاحف والكراع والسلاح للجهاد فإنه روى أنه اجتمع
في خلافة عمر رضي الله عنه ثلاثمائة فرس مكتوب على أفخاذها جبيس في سبيل الله تعالى وهذا
الأصل معروف أن ما تعارفه الناس وليس في عينه نص يبطله فهو جائز وهذا الطريق جوزنا
الاستبضاع فيما فيه تعامل لقوله على الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله
حسن. قال (وإذا وقفها على أمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك وسمى
45

لكل واحدة منهن كل سنة شيئا معلوما في حياة فلان وبعد وفاته ما لم يتزوجن فهو جائز)
وعلى هذا أصل أبى يوسف ظاهر وقد بينا ان عنده لو شرط بعض الغلة لنفسه في حيائه جاز
فلأمهات أولاده أولى وإنما الاشكال علي قول محمد رحمه الله فإنه لا يجوز أن يشترط ذلك لنفسه
واشتراطه لأمهات أولاده في حياته بمنزلة الاشتراط لنفسه ولكنه جوز ذلك استحسانا
للعرف ولأنه لا بد من تصحيح هذا الشرط لهن لأنهن يعتقن بموته واشتراطه لهن كاشتراطه
لسائر الأجانب فيجوز ذلك في حياته أيضا تبعا لما بعد الوفاة كما قال أبو حنيفة وأصل الوقف
إذا قال في حياتي وبعد مماتي مما يتعلق به اللزوم وكذلك أن سمى في ذلك لمدبريه لأنهم يعتقون
بموته كأمهات الأولاد بخلاف العبيد والإماء على قول محمد. وأبو يوسف يجوز ذلك كله
وإنما يشترط ما لم يتزوجن لان مقصوده توفير المنفعة عليهن ما دمن في بيته مشغولات بخدمة
أولاده وذلك ينعدم بالتزوج. أو مقصوده من ذلك التحرز عن ضياعهن لعجزهن عن
التكسب ويختص ذلك بما قبل التزوج فمن تزوجت منهن تستحق النفعة على زوجها فلهذا قال ما لم
يتزوجن. قال (فان جعل الرأي في توزيع الغلة على الفقراء أو القرابة في الزيادة والنقصان إلى
القيم جاز ذلك) لان رأى القيم قائم مقام رأيه وكان له في ذلك التفضيل عند الوقف رأيا فيجوز أن
يشترط ذلك في القيم بعده وهذا لان المصارف تتفاوت في الحاجة باختلاف الأوقات والأمكنة
فمقصوده أن تكون الغلة مصروفة إلى المحتاجين في كل وقت وإنما يتحقق ذلك بالزيادة
والنقصان بحسب حاجتهم والصرف إلى البعض دون البعض إذا استغنى البعض عنه فلهذا جوز
له أن يجعل الرأي في ذلك إلى القيم * وان كتب لأمهات أولاده وجواريه اللاتي جعلن حرائر
بعد موته كتابا أنه تصدق عليهن في حياته وجعل لهن بعد وفاته سكنى منازل وسماهن وبين
حدودها ومواضعها تسكن كل امرأة منهن من ذلك بقدر ما يكفيها ما عاشت وأي امرأة منهن
تزوجت أو خرجت منتقلة إلى غير هذا المنازل فلا حق لها في السكنى ونصيبها مردود علي من
بقيت منهن فذلك جائز اعتبار للسكنى بالغلة فان الغلة تدل علي المنفعة وإذا صح منه هذا الشرط
لهن في الغلة فكذلك في المنفعة وهذا لان مقصوده اتصال حاجتهن إليهن لكيلا يضعن
بعده وربما تكون حاجتهن إلى السكنى دون الغلة وقد أعطاهن في حياته من المال ما يكفيهن وإنما
وضع هذه المسائل في أمهات الأولاد لان الحكم في الزوجات الحرائر بخلافه لان الزوجات
يرجعن إلى قراباتهن ولا قرابة لأمهات الأولاد في دار الاسلام فلهذا ذكر المسائل فيهن. قال
46

وإن لم يحتج من بقي منهن كان ذلك ميراثا على فرائض الله تعالى) ولكن هذا الشرط يجوز
عند أبي يوسف رحمه الله في الحياة والموت لما بينا أنه يتوسع في أمر الوقف فلا يشترط التأبيد
واشتراط العود إلى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يفوت موجب العقد عنده فأما
عند محمد رحمه الله التأبيد شرط للزوم الوقف في الحياة فاشتراط العود إلى الورثة يعدم هذا
الشرط فيكون مبطلا للوقف إلا أن يجعل ذلك وصية من ثلثه بعد موته فحينئذ يجوز ذلك
بمنزلة الوصية المعلوم بسكنى داره بعد موته مدة معلومة فان ذلك جائز من ثلثه ويعود إلى الورثة
إذا سقط حق الموصى له فكذلك في حق أمهات الأولاد إذا سماهن وان كتب انه جعل
لهن في حياته وأوصى لهن من بعد وفاته لكل واحد منهن بخدمها ومتاعها وحليها وثيابها
وجوهرها وسمي ما جعل لكل واحدة منهن من ذلك وبين قيمته ووزنه وأنه قد جعل لها في
حياته وصحته ذلك ودفعه إليها وأوصى لها بعد وفاته فإنه تجوز الوصية من الثلث ولا تجوز في
الحياة عندهم جميعا وأما عند محمد رحمه الله لا يشكل وعند أبي يوسف رحمه الله لأنه يملكهن
الأعيان هنا والمملوكة ليست من أهل التمليك فلا يصح التمليك منهن الا باعتبار حريتهن
وذلك بعد وفاته فعرفنا أنه تمليك مضاف إلي ما بعد الموت فيكون وصية من الثلث وفيما سبق
لا يملك بالوقف أحد شيئا ولكن يخرج العين عن ملكه فيجعله موقوفا عليهن لحاجتهن إلى
السكنى وذلك يتم منه في الحال فإذا كان صحيحا حين أخرج الوقف من ملكه تم ذلك معتبرا
من جميع ماله ومحمد رحمه الله هكذا يقول فيما لا يعود إليه والى ورثته بعد ذلك بحال بأن جعل
آخر وقفه على جهة لا تنقطع فإن كان بحيث يعود إليه والى ورثته بعد وفاته لا يتم زواله عن
ملكه فإنما يبقى تمليكه منهن وذلك لا يجوز في حياته وإنما يجوز بعد وفاته فيكون بمنزلة الوصية
بالسكنى تعتبر بالثلث من ماله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
كتاب الهبة
قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمه الله تعالى إملاء: اعلم بأن الهبة عقد جائز ثبت جوازه بالكتاب والسنة
أما الكتاب فقوله تعالى وإذا حبيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها والمراد بالتحية العطية
وقيل المراد بالتحية السلام والأول أظهر فان قوله أو ردوها يتناول ردها بعينها وإنما يتحقق
(4 ثاني عشر مبسوط)
47

ذلك في العطية وقال الله تعالى فان طبن لحكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وإباحة
الأكل بطريق الهبة دليل جواز الهبة. والسنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها ولأنه من باب الاحسان واكتساب
سبب التودد بين الاخوان وكل ذلك مندوب إليه بعد الايمان واليه أشار رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقوله تهادوا تحابوا * ثم الملك لا يثبت في الهبة بالعقد قبل القبض عندنا وقال
مالك رحمه الله تعالى يثبت لأنه عقد تمليك فلا يتوقف ثبوت الملك به علي القبض كعقد
البيع بل أولى لان هناك الحاجة إلى اثبات الملك من الجانبين وهنا من جانب واحد فإذا
كان مجرد القول يوجب الملك من الجانبين فمن جانب واحد أولى وحجتنا في ذلك ما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز الهبة الا مقبوضة معناه لا يثبت الحكم وهو الملك إذ
الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على هذا فقد ذكر
أقاويلهم في الكتاب ولان هذا عقد تبرع فلا يثبت الملك فيه بمجرد القبول كالوصية وتأثيره
ان عقد التبرع ضعيف في نفسه ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم والملك الثابت للواهب كان
قويا فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتأيد به وهو موته في الوصية لكون
الموت منافيا لملكه وتسليمه في الهبة لإزالة يده عنه بعد ايجاب عقد التمليك لغيره. ويوضحه
أن له في ماله ملك العين وملك اليد فتبرعه بإزالة ملك العين بالهبة لا يوجب استحقاق ما لم
يتبرع به عليه هو اليد ولو أثبتنا الملك للموهوب له قبل التسليم وجب علي الواهب تسليمه
إليه وذلك يخالف موضوع التبرع بخلاف المعاوضات. والصدقة كالهبة عندنا في أنه لا يوجب
الملك للمتصدق عليه الا بالقبض خلافا لمالك رحمه الله. وفى الصدقة خلاف بين الصحابة ومن
بعدهم رضى الله تعالى عنهم وكان على وابن مسعود رضي الله عنهما يقولان إذا أعلمت الصدقة
جازت وكان ابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم يقولان لا تجوز الصدقة الا مقبوضة وعن
شريح وإبراهيم النخعي رحمهما الله تعالى فيه روايتان ذكرهما في الكتاب فأخذنا بحديث ابن
عباس رضي الله عنهما وحملنا قول على وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما على صدقة الرجل
على ولده الصغير وذلك بالاعلام يتم لأنه يصير قابضا له والأصل فيه قوله عليه الصلاة
والسلام يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك الا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت
أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث. فقد شرط النبي عليه الصلاة والسلام
48

الامضاء في الصدقة وذلك بالقبض يكون وقد بينا هذا في كتاب الوقف * ثم الهبة والصدقة
قد تكون من الأجانب وقد تكون من القرابات وذلك أفضل لما فيه من صلة الرحم واليه
أشار النبي صلى الله عليه وسلم فقال أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاسح ولهذا بدأ الكتاب
بحديث رواه عن إبراهيم عن عمر رضي الله عنه قال من وهب لذي رحم محرم هبة فقبضها
فليس له أن يرجع فيها. وذكر بعد هذا عن عطاء ومجاهد عن عمر رضي الله عنه قال من
وهب هبة لذي رحم محرم فقبضها فليس له أن يرجع فيها ومن وهب هبة لغير ذي رحم فله أن
يرجع فيها ما لم يثب منها. والمراد بقوله ذي رحم محرم قد ذكر ذلك في بعض الروايات وهذا
لأنه يفترض صلة القرابة المتأبدة بالمحرمية دون القرابة المتحرزة عن الحرمية وهو كما يتلى في
القرآن في قوله سبحانه وتعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أي اتقوا الأرحام أن
تقطعوها وقال الله تعالى وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم والمراد
الرحم المتأبد بالمحرمية * ثم إن الحديث دليل أن الهبة لا تتم الا بالقبض لأنه اعتبر القبض للمنع
عن الرجوع وهو دليل لنا أن الوالد إذا وهب لولده هبة ليس له أن يرجع فيها كالولد إذا وهب
لوالده وهذا لان المنع من الرجوع لحصول المقصود وهو صلة الرحم أو لما في الرجوع
والخصومة فيه من قطعية الرحم والولاد في ذلك أقوي من القرابة المتأبدة بالمحرمية. وفيه
دليل على أن من وهب لأجنبي هبة فلم أن يرجع فيها ما لم يعوض منها لقوله عليه الصلاة والسلام
ما لم يثب والمراد بالثواب العوض فعمر رضي الله عنه إمامنا في المسألتين يحتج بقوله رضي الله عنه
على الخصم وقد قال عليه الصلاة والسلام أينما دار الحق فعمر معه وان ملكا ينطق على
لسان عمر (وعن) عائشة رضي الله عنها قالت نحلني أبو بكر رضي الله عنه جذاذ عشرين وسقا
من ماله بالعالية فلما حضره الموت حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال يا بنية ان أحب الناس إلى
غنى أنت وأعزهم على فقرا أنت وانى كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالعالية
وانك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه وإنما هو مال الورثة وإنما هما أخواك وأختاك قالت فقلت
فإنما هي أم عبد الله يعنى أسماء قال إنه ألقى في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية. ثم ذكر
عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها ان أبا بكر رضي الله عنه نحلها أرضا له. وفى هذا دليل
ان الهبة لا تتم الا بالقبض وانه يستوى في ذلك الأجنبي والولد إذا كانا بالغين. وفيه دليل
على أن الهبة لا تتم الا بالقسمة فيما يحتمل القسمة لان أبا بكر رضي الله عنه أبطل لعدم القبض
49

والحيازة جميعا بقوله وانك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه والمراد بالحيازة القسمة لأنه يقال حاز
كذا أي جعله في حيزه بقبضه وحاز كذا أي جعله في حيزه بالقسمة ولو حملناه علي القبض
هنا كان تكرارا وحمل اللفظ على ما يستفاد به فائدة جديدة أولى من حمله علي التكرار
وفيه دليل أن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا تكون باطلة لان أبا بكر رضي الله عنه باشرها
ولكن لا يحصل الملك الا بعد القسمة كما لا يحصل الملك الا بعد القبض ولا نقول الهبة قبل
القبض باطلة. وفيه دليل ان التسليم كالتمليك المبتدأ لان أبا بكر رضي الله عنه امتنع من ذلك
لمرضه فان المريض ممنوع من ايثار بعض ورثته بشئ من ماله بطريق التبرع ولكن طيب
قلبها بما قال انتدابا إلى ما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله رحم الله امرأ أعان
ولده على بره بدأ كلامه بالحمد والثناء على الله تعالى وكل مسلم مندوب إلى ذلك خصوصا في
وصيته. ثم يستدل بقوله ان أحب الناس إلي غنى أنت وأعزهم على فقرا أنت أي أشدهم من
تفضيل الغين الشاكر على الفقير الصابر ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحب لها أعلي
الدرجات ولكن المذهب عندنا أن الأفضل ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
قال عليه الصلاة والسلام اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين
وقال صلوات الله وسلامه عليه الفقر أزين بالمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس. وكذلك
أبو بكر رضي الله عنه اختار الفقر لنفسه حين أنفق جميع ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعرفنا أنه إنما قال ذلك تطييبا لقلبها أو أحب الغنى لعجزها عن الكسب أو ظن أنه يشق
عليها الصبر على الفقر فلهذا قال أحب الناس إلى غنى أنت وانى كنت نحلتك جذاذ عشرين
وسقا من مالي بالعالية وذلك اسم موضع وقد كان وهب لها قدر عشرين وسقا من ماله في ذلك
الموضع قال وإنما هو مال الورثة. وفيه دليل على أن حق الوارث يتعلق بمال المريض مرض
الموت وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام وما سوى ذلك فهو مال الوارث أو قال ذلك
باعتبار أن مآله إلى ذلك كقوله تعالى انك ميت وانهم ميتون. وإنما هما أخواك وأختاك وإنما
ذكر ذلك ليطيب قلبها انه كأن لا يسلم لك فلا يبعد عنك فأشكل على عائشة رضي الله عنها
قوله وأختاك لأنها ما عرفت لها الا أختا واحدة وهي أم عبد الله فقال أبو بكر رضي الله عنه
أنه ألقى في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية يعنى أم حبيب امرأته وكانت حاملا. وفيه دليل
أن الحمل من جملة الورثة وانه لا بأس للانسان أن يتكلم بمثل هذا بطريق الفراسة فان أبا بكر
50

رضي الله عنه قال ذلك بفراسته ولم يكن ذلك منه رجما بالغيب فان ما في الرحم لا يعلم حقيته
الا الله تعالى كما قال الله تعالى ويعلم ما في الأرحام * ولهذا قيل أفرس الناس أبو بكر رضي الله عنه
حيث تفرس في حبل امرته أنها جارية فكان كما تفرس وتفرس في عمر رضي الله عنه
حين استخلفه بعده (وعن) عمر وعثمان رضي الله عنهما قالا إذا وهب الرجل لابنه الصغير
هبة فأعلمها فهو جائز وبه نأخذ فان حق القبض فيما يوهب لهذا الصغير إلى الأب لو كان
الواهب أجنبيا فكذلك إذا كان الواهب يصير قابضا له من نفسه فتتم الهبة بالقبض ولا بد من
الاعلام ليحصل المقصود به فالولد لا يتمكن من المطالبة به ما لم يكن معلوما له وهو معنى
ما روى شريح انه سئل ما يجوز للصبي من نحل أبيه قال المشهود عليه والمراد الاعلام
فالاشهاد في الهبة ليس بشرط للاتمام وإنما ذكر ذلك للتوثق حتى يتمكن الولد من اثبات ملكه
بالحجة بعد موته على سائر الورثة (وعن) إبراهيم قال الرجل والمرأة بمنزلة ذي الرحم المحرم إذا
وهب أحدهما لصاحبه هبة لم يكن له ان يرجع فيها وبه نأخذ فان ما بينهما من الزوجية نظير
القرابة القريبة ولهذا يتعلق بها التوارث من الجانبين بغير حجب ويمتنع قبول شهادة كل واحد
منهما لصاحبه وهذا لان المقصود حصل بالهبة وهو تحقيق ما بينهما من معنى السكن والازدواج
وفى الرجوع ايقاع العدواة فيما بينهما والنفرة. والزوجية بمعنى الألفة والمودة فلا يجوز لأحدهما
الاقدام على ما يضاده وهذا كان مانعا من الرجوع فيما بين القرابات (وقال) في الرجل يهب
لامرأته أو لبعض ولده وقد أدرك وهو في عياله ان ذلك جائز إذا أعلمه وإن لم يقبض ذلك
الموهوب له. وبه يأخذ ابن أبي ليلى فيقول إذا كان الموهوب له في عياله فيده في قبض
الهبة كيده كما في الصغار. ولسنا نأخذ بذلك لأنه لا بد من نوع ولاية له ليجعل قبضه
بذلك كقبض الموهوب له ولا ولاية له عليهم بعد البلوغ وإن كان يعولهم ألا ترى أن الغنى
يعول بعض المساكين فينفق عليهم ثم لو تصدق عليهم لا يتم ذلك الا بالاعلام ما لم يسلمه
إليه (وعن) عطاء بن السائب عن شريح رحمهما الله انه سأله عن الحبيس فقال إنما أقضي
ولست أفتى فأعدت عليه المسألة فقال لا حبس عن فرائض الله تعالى. وبه يأخذ من يقول
لا ينبغي للقاضي ان يفتى وهذا فصل تكلم فيه العلماء رحمهم الله. فمنهم من يقول في
العبادات لا بأس بأن يفتى وفي المعاملات لا يفتى لكيلا يقف الخصم على مذهبه فيشتغلوا
بالحيل على مذهبه. ومنهم من يقول لا يفتى في مجلس القضاء وله أن يفتى في غير مجلس القضاء
51

لأنه لو اشتغل بها في مجلس القضاء وكل واحد منهما أمر عظيم فربما يتمكن الخلل في أحدهما
وهو متعين للقضاء فيشتغل بما تعين له ويدع الفتوى لغيره. والأصح عندنا انه لا بأس له أن
يفتى إذا كان أهلا لذلك وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يقضون بين الناس
ويفتون. والقضاء في الحقيقة فتوى إلا أنه فتوى فيه إلزام ولهذا كان القاضي في الصدر الأول
يسمى مفتيا ألا ترى ان شريحا أفتى لما أعاد السؤال بقوله لا حبيس عن فرائض الله تعالى فهو
دليل أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه في أن الوقف لا يتعلق به اللزوم وقد روى هذا عن ابن
مسعود رضي الله عنه بيناه في الوقف (وعن) ابن عباس وشريح رضي الله عنهما قالا جاء محمد
عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس وهكذا عن الشعبي. وفيه بيان أنه كان معروفا فيما بينهم
أن الوقف لا يتعلق به اللزوم (وعن) عمر رضي الله عنه قال ما بال أحدكم يتصدق على ولده
بصدقة لا يجوزها ولا يقسمها يقول إن أنامت كانت له وان مات هو رجعت إلى وأيم الله
لا يتصدق منكم رجل على ولده بصدقة لم يحزها ولم يقسمها ثم مات الا صارت ميراثا لورثته
وهكذا نقل عن عثمان رضي الله عنه. وفيه دليل أن الصدقة لا تتم الا بالقبض والقسمة لان
المراد بالحيازة المذكورة في هذا الحديث القبض فإنها قرنت بالقسمة فلو حملنا الحيازة على
القسمة كانت تكرارا ولو حملناها على القبض كنا قد استفدنا بكل لفظ فائدة جديدة. وفيه
دليل انه إذا مات بعدما تصدق على ولده قبل أن يسلمها إليه فهو ميراث للورثة وتأويله إذا
كان الولد بالغا فهو حجة علي ابن أبي ليلى لأنه لم يفصل بين أن يكون في عيال الأب أولا
يكون ولو كان المراد الولد الصغير فإذا لم يقسمها لم يثبت الملك للولد فكان ميراثا عن الأب
بعد موته (وعن) علي رضي الله عنه قال إذا وهبت المرأة لزوجها هبة فإن شاءت رجعت فيها
إذا هي ادعت انه استكرهها وان وهب هولها شيئا فليس له أن يرجع في الهبة وليس مراده
الفرق بينهما في الرجوع بحكم الزوجية وإنما مراده أن الدعوى من المرأة أنها كانت مكرهة
مسموع ومن الزوج لا لاعتبار الظاهر فالظاهر أن الزوج يتمكن من اكراه زوجته والمرأة
لا تتمكن من اكراه زوجها والظاهر أن المرأة تخاف على نفسها من جهة الزوج بما يثبت
به الاكراه من الضرب والحبس والزوج لا يخاف ذلك من جهة امرأته. وفيه دليل أن الهبة
من المكره لا تصح لان شرط صحة الهبة تمام الرضا والاكراه بعدم الرضا. قال (ومن وهب
هبة مقسومة لذي رحم محرم وسلمها إليه فليس له أن يرجع فيها وان وهبها لا جنبي أو لذي
52

رحم ليس بمحرم فله أن يرجع فيها) وهما فصلان (أحدهما) إذا وهب لأجنبي شيئا فله أن يرجع
في الهبة عندنا ما لم يعوض منها في الحكم وان كأن لا يستحب له ذلك بطريق الديانة وعند الشافعي
ليس له أن يرجع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام لا يرجع الواهب في هبته الا الوالد فيما يهب
لولده وفي رواية قال لا يحل. فقد نفى الرجوع أو حرم ولا يجوز الاقدام على ارتكاب الحرام
شرعا وقال عليه الصلاة والسلام العائد في هبته كالعائد في قيئه وفى رواية كالكلب يقئ ثم يعود
في قيئه والعود في القئ حرام فكذلك الرجوع في الهبة والمعنى فيه أن الهبة عقد تمليك فمطلقه
لا يقتضى الرجوع فيه كالبيع وهذا لان الرجوع يضاد المقصود بالتمليك والعقد لا ينعقد
موجبا ما يضاد المقصود به وإنما يثبت حق الرجوع قبل تمامه كما فيما بين الوالد والولد باعتبار
أن الولد كسبه علي ما نبينه أو أنه بعضه فلا يتم اخراجه عن ملكه لما جعلها محرزة وهذا
لا يوجد فيما بين الأجانب وهو معنى قولهم ليس بين الواهب والموهوب له حزونة فلا
يرجع أحدهما فيما يهب لصاحبه كالأخوين. وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه موقوفا
عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها
والمراد حق الرجوع بعد التسليم لأنها لا تكون هبة حقيقة قبل التسليم واضافتها إلى الواهب
علي معنى أنها كانت له كالرجل يقول أكلنا خبز فلان الخباز وإن كان قد اشتراه منها ولأنه
مد هذا الحق إلي وصول العوض إليه وذلك في حق الرجوع بعد التسليم وفى قوله تعالى
فحيوا بأحسن منها أوردوها ما يدل على ذلك وقد بينا أن المراد بالتحية العطية قال القائل
* تحيتهم بيض الولائد بينهم * يريد عطاياهم وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه
الصلاة والسلام من وهب هبة ثم أراد أن يرجع فيها فليوقف وليعرف قبح فعله وفى رواية
حسن فعله فان أبى يرد عليه والمراد حسن فعله في الهبة وقبح فعله في الرجوع (وعن) فضالة بن
عبيد أن رجلين اختصما إليه فقال أحدهما انى وهبت لهذا بازيا ليثيبني ولم يثبني فأنا أرجع فيه فقال
فضالة لا يرجع في الهبة الا النساء والشراء من الناس أردد (وعن) أبى الدرداء رضي الله عنه
قال الواهبون ثلاثة رجل وهب على وجه الصدقة فليس له أن يرجع فيها ورجل استوهب
فوهب فله أن يرجع فيها ما لم يعوض ورجل وهب بشرط العوض فهي دين له في حياته
وبعد موته والمعنى فيه أنه يمكن الخلل في المقصود بالعقد فيتمكن العاقد من الفسخ كالمشترى
إذا وجد بالمبيع عيبا. وبيان ذلك أن المقصود من الهبة للأجانب العوض والمكافأة والمرجع
53

في ذلك إلى العرف والعادة الظاهرة أن الانسان يهدى إلى من فوقه ليصونه بجاهه والى
من دونه ليخدمه والي من يساويه ليعوضه واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله
لوفد ثقيف لما أتوه بشئ أصدقة أم هبة فالصدقة يبتغي بها وجه الله تعالى والهبة يبتغي فيها
وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة ومنه يقال للأيادي قروض وقال القائل
وإذا جوزيت قرضا فاجزه * إنما يجزى الفتى ليس الحمل
وبهذا يتبين أن حق الرجوع أليس بمقتضى العقد عندنا بل لتمكن الخلل في المقصود بالعقد علي
معنى أن المعروف كالمشروط ولا يقال إنما يقصد العوض بالتجارات فأما المقصود بالهبة إظهار
الجود والسخاء والتودد والتحبب وقد حصل ذلك وهذا لان العوض في التجارات مشروط
وفى التبرعات مقصود ومعنى إظهار الجود أيضا مقصود فإنما يمكن الخلل في بعض المقصود
وذلك يكفي للفسخ مع أن إظهار الجود مقصود كريم الخلق ولهذا يقول الراجع في الهبة لا
يكون كريم الخلق فاما مقصود طيبة النفس العوض ومعنى التودد إنما يحصل بالعوض كما
قال عليه الصلاة والسلام تهادوا تحابوا فان التفاعل يقتضى وجود الفعل من الجانبين كالمفاعلة
فأما الحديث فالمراد به أن لا ينفرد بالرجوع من غير قضاء ولا رضا الا الوالد إذا احتاج
إلي ذلك فينفرد بالأخذ لحاجته وسمى ذلك رجوعا باعتبار الظاهر وإن لم يكن رجوعا في
الحكم كما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمل على فرس سبيل الله ثم رأى ذلك
الفرس يباع فأراد أن يشتريه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال لا تعد في
صدقتك والشراء لا يكون رجوعا في الصدقة حكما والمراد لا يحل الرجوع بطريق الديانة
والمروءة وهو كقوله عليه الصلاة والسلام لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت
شبعان وجاره إلى جنبه طاو اي لا يليق ذلك بالديانة والمروءة وإن كان جائزا في الحكم
إذا لم يكن عليه حق واجب. والمراد بالحديث الآخر التنبيه في معنى الاستقباح والاستقذار
ألا ترى أنه شبه بعود الكلب في قيئه وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة وبه نقول وانه
يستقبح. وقد بينا الفرق بين هذا وبين الأخوين والزوجين لحصول ما هو المقصود هناك
وتمكن الخلل فيما هو المقصود هنا ولهذا يحتاج إلى القضاء أو الرضا في الرجوع لأنه بمنزلة
الرد بالعيب بعد القبض من حيث إن السبب تمكن الخلل في المقصود فلا يتم الا بقضاء أو
رضا والله سبحانه وتعالى أعلم (والفصل الثاني) إذا وهب الوالد لولده فليس له أن يرجع فيه
54

عندنا وقال الشافعي له ذلك لما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام الا الوالد فيما يهب لولده
والاستثناء من النفي اثبات ومن التحريم إباحة * وفي حديث نعمان بن بشير رضي الله عنه
قال نحلني أبى غلاما وانا ابن سبع سنين فأبت أمي إلا أن يشهد على ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فحملني أبى على عاتقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال صلوات
الله وسلامه عليه ألك ولد سواه فقال نعم فقال عليه الصلاة والسلام أوكل ولدك نحلته مثل
هذا فقال لا فقال عليه الصلاة والسلام هذا جور وانا لا نشهد على جور أردد فقد امره
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع فيه وأقل أحوال الامر أن يفيد الإباحة ولأنه جاد
بكسبه على كسبه فيتمكن من الرجوع فيه كما لو وهب لعبده. ومعنى هذا أن الولد كسبه.
قيل في معنى قوله تعالى ما أغنى عنه ماله وما كسب وما ولد وقال عليه الصلاة والسلام وان
ولده من كسبه. وتأثيره ما بينا أنه لا يتميز عن ملكه إذا كان الموهوب له كسباله كالموهوب
به وإذا كان الموهوب له جزأ منه فلا يشكل أنه لا يتم خروجه عن ملكه ولا يبعد أن
يختص الوالد بما لا يشاركه الولد فيه كالتملك بالاستيلاد فإنه يثبت للأب في جارية ابنه ولا
يثبت للابن في جارية أبيه. وحجتنا ما روينا من حديث عمر رضي الله عنه فهو الامام لنا في
المسألتين ولان الهبة قد تمت لذي الرحم المحرم ملكا وعقدا فلا يملك الرجوع فيه كالابن
إذا وهب لا بيه أو الأخ لأخيه وهذا لان المقصود قد حصل وهو صلة الرحم ولان في
الرجوع معنى قطيعة الرحم وهذا موجود في حق الوالد مع ولده لأنه بالرجوع يحمله على
العقوق وإنما أمر الوالد أن يحمل ولده على بره. ولا يقال مقصود الوالد أن يخدمه الولد
ولما رجع فالظاهر أنه لم ينل ذلك لان شفقة الأبوة تمنعه من الرجوع بعد حصول المقصود
وهذا لان هذا المعنى خفى لا ينبنى الحكم عليه وهو موجود في الولد إذا وهب لوالده
فالظاهر أنه قصد أن يخصه باكرام وإنما يرجع لأنه لم ينل ذلك ولا معتبر بما ذكر من
الكسب فإنه لو وهب لمكاتبه أو لمعتقه لا يرجع فيه وهو كسبه أيضا وهذا لان الولد كسبه
لا ملكه بخلاف عبده. فأما الحديث فقد قيل معنى قوله عليه الصلاة والسلام الا الوالد ولا
الوالد فان كلمة الا تذكر بمعنى ولا قال الله تعالى إلا الذين ظلموا منهم أي ولا الذين ظلموا منهم
وقوله تعالى وما كان مؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ أي ولا خطأ. أو المراد الا الوالد فإنه
ينفرد بأخذه عند حاجته على ما قررنا وحديث النعمان بن بشير رضى الله تعالى عنه قيل
55

قوله وانا ابن سبع سنين وقوله فحملني أبى على عاتقه لم ينقل في شئ من المشاهير فيحتمل انه كان
بالغا ولم يسلمه إليه. وعندنا في مثله له أن يرجع ويحتمل انه كان صغيرا ولكن كان فوض
ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهبه له ان رآه صوابا. ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام
أردد أي أمسك مالك وارجع إلى رحلك. وقيل كان هذا منه بطريق الوصية بعد موته ألا
ترى أنه اعتبر التسوية بين الأولاد وإنما تجب التسوية في الوصية بعد الموت فأما في الهبة
في الصحة فلا ألا ترى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه خص عائشة بالهبة لها في صحته كما
روينا والدليل عليه أن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال فرجع أبى في وصيته * وفى هذا
التأويل كلام فالمذهب انه ينبغي للوالد ان يسوى بين الأولاد في العطية عند محمد رحمه الله
على سبيل الإرث للذكر مثل حظ الأنثيين وعند أبي يوسف رحمه الله يسوى بين الذكور
والإناث قال عليه الصلاة والسلام ساووا بين أولادكم حتى في القتل ولو كنت مفضلا أحدا
لفضلت الإناث والاعتماد على التأويل الأول * وذو الرحم الذي ليس بمحرم كالأجنبي في حق
الهبة لان ما بينهما من القرابة لا يفترض وصلها ولهذا لا يتعلق بها استحقاق العتق وحرمة
النكاح وكذلك المحرم الذي ليس برحم لأنه لا تأثير للرضاع والمصاهرة في استحقاق
الصلة فكانت الهبة بينهما المقصود العوض فإذا لم ينل كان له أن يرجع فيها ان كانت قائمة
لم يزدد خيرا * والموانع من الرجوع في الهبة إما أخذ العوض لان المقصود به قد تم وفى قوله
ما لم يثب منها دليل على أنه لا رجوع بعد نيل العوض وأن يزداد الموهوب في ندمه خيرا
فان حق الرجوع فيما تتناوله الهبة وتلك الزيادة لم تتناولها الهبة ولا يتأتى الرجوع في الأصل
بدون الزيادة المتصلة وهذا بخلاف ما لو زاد في سعره لان ذلك ليس بزيادة في العين فإنه
عبارة عن كثرة رغبات الناس فيه فأما العين علي حاله كما كان. ومنها أن يخرج الموهوب
من ملك الموهوب له لان تبدل الملك كتبدل العين ولان حق الرجوع في الملك المستفاد في
الهبة على معنى أن بالرجوع ينتهى ذلك الملك فلا يمكن اثباته في ملك آخر. ومنها ان يموت
الواهب فليس لوارثه أن يرجع فيه لان التمليك بعقد الهبة لم يكن منه فلا يخلف مورثه فيما لم
يكن على ملكه عند موته ومنها ان يموت الموهوب له فان الملك ينتقل من الموهوب إلى
وارثه ولو أنتقل الملك في حياته إلى غيره لم يرجع الواهب فيه وكذلك بعد موته. قال (فان
مات أحدهما إما الواهب أو الموهوب له قبل التسليم بطلت الهبة لان تمام الهبة بالقبض
56

وكان القبض في الهبة كالقبول في البيع من حيث إن الملك يثبت به فكما أن موت أحدهما
بعد الايجاب قبل القبول يبطل البيع فكذلك الهبة. قال (وإن كان الموهوب حاضرا
في المجلس فقبضه الموهوب له باذن الواهب ملكه وان قبضه بغير إذنه في القياس لا يملكه
وفى الاستحسان يملكه نص على ذلك في الزيادات). وجه القياس أن العين باقية علي
ملك الواهب وليس لاحد أن يقبض ملك غيره بغير إذنه فكان متعديا في القبض لا متملكا
ولان ايجاب العقد لا يكون اذنا في القبض كالبيع فان المشترى لو قبض المبيع بغير إذن البائع
قبل نقد الثمن لم يكن هذا قبضا باذن وإن كان المبيع حاضرا حتى لا يسقط حق البائع في الحبس
بل أولى فان هناك قد ملكه المشترى بالعقد فإنما يقبض ملك نفسه وهنا الموهوب له لم يملك
بالعقد. ووجه الاستحسان أن القبض في الهبة كالقبول في البيع ثم ايجاب البيع يكون اذنا في
القبول فكذلك ايجاب الهبة يكون اذنا في القبض لان مقصود الموجب اتمام تبرعه وذلك يكون
بالقبض فكان في القبض تحصيل مقصوده فلهذا جعلنا مسلطا للموهوب له على ذلك إذا
كان الموهوب حاضرا بخلاف البيع والقبض هناك لاسقاط حقه في الحبس ولم يكن ذلك
مقصوده بالبيع وإنما كان مقصوده أن يسلم العوض له فلهذا لا يجعله بايجاب البيع راضيا بسقوط
حقه في الحبس ولو لم يكن الموهوب حاضرا في المجلس فقبضه الموهوب له بعد ما افترقا
بغير إذن الواهب لا يملكه وان قبضه باذن الواهب فقياس الاستحسان الأول أن لا يملكه
أيضا لان القبض هنا بمنزلة القبول في البيع والقبول بعد الافتراق لا يوجب الملك باذن الموجب
كان أو بغير إذنه فكذلك القبض هنا وفي الاستحسان يملكه لأن العقد انعقد لوجود الايجاب
والقبول والقبض محتاج إلى ذلك ليتقوى به السبب فيكون موجبا للملك وذلك حاصل بعد
الافتراق واذنه يحتاج في القبض إلى اذن المالك صريحا أو دلالة فإذا كان الموهوب غائبا لم يثبت الاذن بقبضه دلالة فلا بد من التصريح بذلك فإذا قبضه باذن ملكه. والأصل فيه
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر هداياه قال من شاء ان يقتطع فليقتطع وانصرف
فكان إذنا بالقبض لمجهول يملكه بالقبض فلان يصح ذلك للمعلوم كان أولى وله أن يرجع
قبل أن يقبضه الموهوب له سواء كان حاضرا وغائبا أذن له في قبضه أولم يأذن له ومراده
التفرد بالرجوع فان الملك لم يحصل للموهوب له فكان الراجع مستديما لملكه والمالك ينفرد
باستدامة ملكه فأما بعد القبض لا يرجع في الهبة الا بقضاء أو رضا بمنزلة الاخذ بالشفعة
57

لان الراجع يعيد إلى نفسه ملكا هو لغيره فلا ينفرد به من غير قضاء ولا رضا لأنه إن كان
هو يطلب لحقه فالموهوب له يمنع تملك فكان الفصل بينهما إلى القاضي كما في الاخذ
بالشفعة والفرقة بين العنين وامرأته. قال (وإذا أودع الرجل الرجل شيئا ثم لقيه فوهبه له
وليس الشئ بحضرتهما فالهبة جائزة إذا قال الموهوب له قبلت ولا يحتاج فيه إلى قبض
جديد) لان الشئ في يد الموهوب له واليد مستدامة فاستدامتها كانشائها بعد قبول الهبة
وهذا لان القبض يحكم الهبة ليس بموجب للضمان فيد الأمانة تنوب عنه بخلاف الشراء
فان المودع إذا اشترى الوديعة من المودع وهي ليست بحاضرة لا يصير قابضا بنفس الشراء
فان القبض بحكم الشراء قبض ضمان وقبض الأمانة دون قبض الضمان والضعيف لا ينوب
عن القوى. وكذلك هذا في العارية والإجارة لان قبض المستعير والمستأجر قبض أمانة
كقبض المودع أو أقوى منه. قال (والنحلى والعمرى والعطية بمنزلة الهبة فيما ذكرنا) لأن هذه
عبارات عن شئ واحد وهو التمليك بطريق الهبة وإنما يعتبر المقصود لا العبارة عنه
ألا ترى أن لفظ الفارسية والعربية فيه سواء والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم أجاز العمرى وأبطل الشرط يعنى شرط العود إليه بعد موت الموهوب له أما الصدقة
إذا تمت بالقبض فليس له أن يرجع فيها سواء كانت لقرابته أو لأجنبي لان المطلوب بالصدقة
نيل الثواب وقد حصل ذلك ولا رجوع بعد حصول المقصود بتمامه ولان المتصدق يجعل
ذلك المال لله تعالى ثم يصرفه إلى الفقير فيكون كفاية له من الله تعالى ولهذا لم يكن للمعطى
فيه منة على القابض وإنما له حق الرجوع في ملك ذلك المال المتملك من جهته وقد انعدم
ذلك في الصدقة فلهذا لا يرجع فيها ويستوى في الهبة حكم الرجوع إن كان الموهوب له مسلما
أو كافر لان المقصود لا يختلف بذلك فإنه إن كان أجنبيا فالمقصود العوض وإن كان قريبا له
فالمقصود صلة الرحم وفى هذا المسلم والكفار سواء. قال (وإذا وهب عبدا لأخيه ولا جنبي
وقبضاه فله أن يرجع في نصيب الأجنبي اعتبارا للبعض بالكل) وهذا لان في نصيب الأجنبي
مقصوده العوض ولم ينل ذلك. قال (وان وهب لأخيه هبة وهو عبد فقبضها فله أن يرجع
فيها) لان الملك بالهبة وقع للمولي والعبد ليس من أهل الملك والمولى أجنبي فعرفنا ان
مقصوده العوض والمكافأة ولم ينل ذلك ولأنه إنما يخاصم في الرجوع المولى باعتبار أن
الملك واليد له فلا يتمكن بينهما قطعية رحمه إذا كان المولى أجنبيا. قال (وان وهب لعبد أخيه
58

هبة فله أن يرجع فيها في قول أبي حنيفة) وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ليس له أن يرجع
فيها. وجه قولهما ان الملك بحكم الهبة وقع لذي الرحم المحرم فلا رجوع فيها كما لو كان وهب
للمولى وهذا لأنه وان أضاف العقد إلى العبد فالمقصود المولى وهو قريبه فعرفنا أن مقصوده
صلة الرحم ألا ترى أنه لو أوصى لعبد وارثه أو لعبد قاتله كان ذلك كالوصية لمولاه حتى لا يصح
ولأنه في الرجوع يخاصم المالك وهو قريب له وفي مخاصمته في الرجوع فيها قطيعة الرحم وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول الصلة ما تمت لذي الرحم المحرم عقدا وملكا فيكون له أن يرجع
فيما كما لو كان وهب لأخيه وهو عبد لغيره وهذا لان الرجوع باعتبار العقد والملك حتى إذا
كان العقد معاوضة فليس فيه حق الرجوع وبعد زوال الملك لا رجوع والعقد هنا للعبد
ألا ترى أن القبول والرد يعتبر منه دون المولى وان المعتبر منه دين العبد حتى إذا كان
الموهوب خمرا صحت الهبة إذا كان العبد كافرا وإن كان مولاه مسلما. والملك بحكم الهبة يقع
للعبد على أحد الطريقين لان الحكم إنما يثبت لمن باشر سببه ولهذا يقدم فيه حاجة العبد
حتى يقضي منه ديونه ثم ينتقل إلى المولى عند استغناء العبد عنه لأنه مالك لرقبته فيخلفه في
كسبه خلافة الوارث المورث. وعلى الطريق الآخر الملك يقع للمولى ولكن بطريق الخلافة
عن العبد لأنه ليس بأهل للملك فيخلف القاتل في ذلك مولاه وهو نظير الطريقين في الوكيل
بالشراء * إذا ثبت هذا فنقول لما وقع العقد للعبد وهو أجنبي فلا ينفك هذا العقد عن مقصود
العوض فيثبت حق الرجوع فيه إذا لم يعوض (فان قيل) فإذا وقع الملك للعبد ثم انتقل
منه إلي المولى ينبغي أن لا يثبت حق الرجوع فيه (قلنا) هذا ان لو كان الثابت له ملكا
مستقرا وهو ليس من أهل ذلك وعند العقد هذا الانتقال كان معلوما فلا يكون مانعا من
الرجوع (فان قيل) كيف يقصد بالهبة من العبد العوض وهو ليس من أهل العوض
فينبغي أن لا يثبت الرجوع في الهبة من العبد أصلا لعلمنا أنه لم يقصد العوض به كما لا يرجع
في الهبة من الفقير (قلنا) العبد من أهل أن يعوض بمنافعه وخدمته ومن أهل أن يعوض
بكسبه عند اذن المولى فكان المقصود بالهبة منه ما هو المقصود بالهبة من الحر وهو العوض
وهذا بخلاف الوصية فالبطلان هناك لايثار بعض الورثة وذلك بالملك لا بالعقد فاعتبرنا
من يقع له الملك وهنا الرجوع لفوات المقصود بالعقد فان العوض مقصود بعقد التبرع
أيضا فإنما ينظر إلى من وقع العقد أو الملك له فأيهما كان أجنبيا ثبت حق الرجوع له لأنه لم
59

ينفك عن قصد العوض * فإن كان المولى والعبد كل واحد منهما ذا رحم محرم منه بان كان
أخوه لأبيه عبدا لأخيه لامه فقد ذكر الكرخي عن محمد رحمه الله ان في قياس قول أبي حنيفة
رضي الله عنه أن لا يرجع فيه أيضا لأنه لا معتبر بقرابه العبد في المنع من الرجوع بدليل
الفصل الأول فكان هذا وما لو كان العبد أجنبيا سواء كان أبو جعفر الهندواني رحمه الله
يقول لا يرجع هنا وهو الصحيح عندنا لأنا علمنا أنه لم يقصد العوض بهذا العقد فان تخصيصه
هذا العبد من بين عبيد مولاه دليل على أنه قصد صلة الرحم دون العوض وكذلك تخصيصه
عند هذا المولى دليل على أنه قصد صلة رحم مولاه فسواء اعتبرنا العقد أو الملك أو اعتبرنا هما
فالمقصود صلة الرحم دون العوض. قال (حربي دخل علينا بأمان وله عندنا أخ مسلم فوهب
أحدهما لصاحبه شيئا وسلمه فلا رجوع له فيه) لان المقصود لا يختلف بكون أحدهما مسلما
أو مستأمنا ولان الرحم مع المحرمية مانع من الرجوع في الهبة كما أنه موجب العتق عند
دخوله في ملكه ويستوى في ذلك المستأمن والذمي والمسلم فكذلك في حق الرجوع فإن لم
يقبض الموهوب له حتى رجع الحربي إلى دار الحرب بطلت الهبة لان رجوعه إلى دار الحرب
حربيا كموته فان من في دار الحرب في حق من هو في دار الاسلام كالميت وموت الموهوب له
قبل القبض يبطل الهبة وكذلك أن كان الحربي هو الواهب فقد بطلت الهبة وبقي المال على
ملكه فيوقف حتى يحضر هو أو نائبه فيأخذ ولا يبعث به إلي دار الحرب بمنزلة مال خلفه في
دارنا وهذا لبقاء حكم الأمان في المال الذي خلفه هنا * فإن كان الحربي اذن للمسلم في قبضه
وقبضه بعد رجوعه إلى دار الحرب جاز استحسانا وفي القياس لا يجوز لأنه لما صار بمنزلة
الميت بطلت الهبة ولا يبقى حكم اذنه في القبض كما لو مات حقيقة بعد الاذن في القبض
وهذا لأنه اذن له في قبض متمم للهبة وذلك لا يكون الا مع بقائه حيا حقيقة وحكما. ووجه
الاستحسان ان اذنه في القبض باق بعد لحاقه لان ابتداء اذنه في قبض هذا المال بعد لحاقه
معتبر فإنه لو أرسل هذا الرجل ليأخذ ماله يجب تسليمه إليه فلان يبقى اذنه كان أولى وإذا بقي
اذنه يجعل في الحكم كأنه سلمه إليه بنفسه. وحقيقة الفرق بين هذا والموت الحقيقي أن هناك
المال صار حقا لوارثه وليس له اذن معتبر في ملك الغير وهذا المال بقي موقوفا على حقه
فكان اذنه فيه معتبرا فلهذا يملك بالقبض باذنه استحسانا. قال (رجل وهب لامرأة هبة ثم
تزوجها فله أن يرجع فيها) لأنها لما كانت أجنبية منه حين وهب لها علمنا أن مقصوده العوض ولم
60

ينل ذلك (فان قيل) بل كان مقصوده أن تزوج نفسها منه وقد فعلت فينبغي أن لا يرجع في
الهبة (قلنا) هذا ليس بمقصود شرعي فيما شرعت الهبة له فلا معتبر به وبالنكاح وان حصل له الملك
فقد وجب عليه البدل فلا يعتبر ذلك في المنع من الرجوع في الهبة. قال (وان وهب لامرأته
هبة ثم أبانها فليس له أن يرجع فيها) لان الهبة لما كانت في حال قيام الزوجية بينهما عرفنا أنه
لم يكن مقصوده العوض فلهذا لا يرجع فيها. قال (رجل وهب لابنه الكبير عبدا وهو في عياله
ولم يسلمه إليه أو وهب لزوجته لم تجز الهبة الا على قول ابن أبي ليلى) فإنه يقول من في عياله
تحت يده فيقوم قبضه لهم مقام قبضهم كما لو وهب لولده الصغير والدليل عليه أن الصغير إذا
كان في عيال أجنبي فوهب هوله أو غيره هبة وقبضه من يعوله تمت الهبة ولا نسب بينهما سوى
أنه يعوله ولكنا نقول لا ولاية له على ولده البالغ ولا على زوجته فيما وراء حقوق النكاح
وقبض الهبة ليس من حقوق النكاح في شئ وكان هو والأجنبي في ذلك سواء ولأنه
متبرع بالانفاق على ولده البالغ فهو كالغنى إذا تبرع بالانفاق على بعض المساكين ويعولهم
فلا ينوب قبضه عن قبضهم في اتمام الصدقة والهبة بخلاف الأب في حق ولده الصغير فإنه وليه
وهكذا نقول فيمن يعول يتيما إنما يعتبر قبضه له إذا لم يكن لليتيم ولى يقبض له وهنا
الموهوب له ولى نفسه فلا حاجة إلى قبض من يعوله في حقه كما إذا كان الصغير في عيال
أجنبي وله أب أو جد فإنه لا يعتبر قبض من يعوله في اتمام الهبة له. قال (وكل شئ وهبه لابنه
الصغير واشهد عليه وذلك الشئ معلوم فهو جائز) والقبض فيه باعلام ما وهبه له والاشهاد
عليه والاشهاد له ليس بشرط بل الهبة تتم بالاعلام الا انه ذكر الاشهاد احتياطا للتحرز عن
جحود سائر الورثة بعد موته أو عن جحوده بعد ادراك الولد أما إذا اتفقوا على ذلك فالهبة
تامة بدون الاشهاد. وكذلك أن كان هذا الولد في عيال أمه لان لها عليه نوع ولاية ألا ترى أنه
ا تحفظه وتحفظ ماله وهذا القدر من الولاية يكفي لقبض الهبة. والصدقة في هذا قياس الهبة
لان تمام كل واحد منهما بالقبض. قال (وإن كان اليتيم في عيال أمه فوهبت له عبدا وأشهدت
عليه وأبوه ميت ولا وصي له جازت الهبة وقبض الأم بمنزلة الأب لو كان حيا) لان في
القبض معنى الاحراز كالحفظ وللأم ولاية حفظ مال اليتيم فكانت في قبض الهبة كالأب. قال
(وكذلك أن كان اليتيم في عيال عمه فقبضه العم له وإن كان له أخ أو أم فقبض العم له قبض
أيضا) لأنه يستوي بالأخ في ثبوت ولاية الحفظ له في ماله فكان ذلك محض منفعة له وبسبب
61

قرابته القريبة يثبت هذا القدر من الولاية كقرابة العم لقرابة الأخ ثم تأيدت قرابة العم
بكون اليتيم في عياله فتتم الهبة له بقبضه * قال وكذلك أن كان له وصى فوهب له هبة وهو
في عياله وأشهد على ذلك وأعلمه جاز وقبل مراده وصى الأم أو الأخ فأما وصي الأب والجد
فله أن يقبض ما يوهب له سواء كان في عياله أولم يكن لأنه قائم مقام الوصي في الولاية في
ماله مطلقا سواء كان هو الواهب له أو غيره. قال (فإن كان رجل أجنبي يعول يتيما وليس
بوصي له ولا بينهما قرابة وليس لهذا الوصي أحد سواه جاز له ان يقبض ما يوهب له
استحسانا) وفى القياس لا يجوز لأنه لا ولاية له عليه وهو متبرع في تربيته والانفاق عليه
فكان كسائر الأجانب فيما ينبنى على الولاية ولكنه استحسن فقال فيما يتمحض منفعة لليتيم
فمن يعوله خلف عن وليه ألا ترى أنه أحق بحفظه وتربيته لو أراد أجنبي آخر ان ينتزعه من
يده لم يكن له ذلك وأن يسلمه في تعليم الاعمال فيكون في ذلك بمنزلة وليه والخلف يعمل
عمل الأصل عند عدم الأصل. وإنما أثبتنا هذه الخلافة توفيرا للمنفعة على الصغير لأنه يقرب
إلى المنافع ويبعد عن المضار وفى قبض الهبة محض منفعة له فإذا ثبت أن له أن يقبض هبة
الغير له فكذلك إذا كان هو الواهب فأعلمها وأبانها فهو جائز وقبضه له قبض ويستوى إن كان
الصبي يعقل أو لا يعقل. وفيه نوع اشكال لأنه إذا كان يعقل فهو من أهل ان يقبض بنفسه
فلا حاجة إلى اعتبار الخلف هاهنا * ولكن الجواب أن يقول يقبض لا باعتبار الولاية على
نفسه فالصغير تبقى ولايته عن نفسه ولكن لتوفير المنفعة عليه وفى اعتبار قبض من يعوله
مع ذلك معنى توفير المنفعة أظهر لأنه ينفتح عليه بابان لتحصيل هذه المنفعة بخلاف الولد
الكبير لأنه يقبض هناك بولايته على نفسه وولاية الغير خلف فلا يظهر عند ظهور الأصل.
قال (وكل يتيم في حجر أخ أو ابن أخ أو عم يعوله فوهب له رجل هبة فإنما يقبضها الذي
يعوله إذا كان هو صغيرا لا يحسن القبض) وكذلك أن كان عاقلا يحسن القبض قبض له
من يعوله جاز لما بينا وان قبض الصغير بنفسه ففي القياس لا يجوز قبضه وهو قول الشافعي
لأنه لا معتبر بقبضه قبل البلوغ خصوصا فيما يمكن تحصيله له بغيره فان اعتبار عقله للضرورة
وذلك فيما لا يمكن تحصيله له بغيره فأما فيما يمكن تحصيله له بغيره فلا تتحقق الضرورة ولهذا
لم يعتبر الشافعي رحمه الله عقله في صحة اسلامه واعتبره في وصيته واختياره أحد الأبوين لان
ذلك لا يمكن تحصيله له بغيره. وجه الاستحسان انه إنما لا يعتبر عقله لدفع الضرر عنه
62

فالظاهر أنه لا يتم في عواقب الأمور بماله من العقل الناقص قبل بلوغه وهذا فيما
يتردد بين المضرة والمنفعة فأما فيما يتمحض منفعته لا يتحقق هذا المعنى وقد بينا أن في اعتبار
عقله توفير المنفعة عليه وإذا كان فيما لا يمكن تحصيله له بغيره إذا كان محض منفعة يعتبر
عقله لتوفير المنفعة عليه بطريقتين * ثم العادة الظاهرة بين الناس التصدق على الصبيان من
غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير منكر أصل من الأصول كبير ولان حقيقة
القبض توجد منه وهو محبوس فإنما يسقط اعتباره في حق حكمه لحجر شرعي ولا حجر
عليه فيما يتمحض منفعته له. قال (والصبية التي دخل بها زوجها فان زوجها يقبض الهبة لها لأنه
يعولها (فان قيل) الولاية عليها للأب دون الزوج (قلنا) نعم ولكن الأب أقام الزوج
مقام نفسه في حفظها وحفظ مالها إذا زفها إلى بيت الزوج وقبض الهبة من باب الحفظ
فيقوم الزوج فيه مقام الأب ولكن لهذا لا تنعدم ولاية الأب فإذا قبضها الأب صح قبضة لقيام
ولايته وان قبضت بنفسها جاز لأنها تعقل القبض وان قبض الزوج جاز لما بينا ولا يكون
الزوج في هذا بمنزلة ما لو سلم الأب ولده الصغير إلي من يعوله لان ذلك لا يثبت به الاستحقاق
فعرفنا انه لا يقوم فيه مقام الأب والزوج فحكم النكاح يثبت له عليها استحقاق اليد حتى يصير
أولى بها من أبيها وان كانت لم تزف إلى زوجها لم يعتبر قبض الزوج لها لان اعتبار ذلك بحكم
أنه يعولها وان له عليها يدا مستحقة وذلك لا يوجد قبل الزفاف وان أدركت لم يجز قبض
الزوج لها لان اعتبار ذلك بحكم انه يعولها لأنها صارت ولية نفسها حين بلغت عاقلة. قال
(ولا يجوز قبض الأخ والجد على الصغير إذا كان الأب حيا حاضرا) لان من هو الأصل
في هذه الولاية حاضر فلا حاجة إلى اعتبار من هو خلف في ذلك فإن كان الأب غائبا غيبة
منقطعة فقد خرج الصغير من أن يكون منتفعا برأي الأب فيصير هو كالمعدوم فتكون ولاية
القبض للأخ إذا كان الصغير في عياله وهذا نظير ولاية التزويج ونظير حق الحضانة والانفاق
من المال فإنه لا يعتبر مال الجد ما دام الصغير منتفعا بمال الأب فإذا انعدم ذلك بغيبة ماله
جعل في حكم المعدوم أصلا ألا تري أن التيمم لما جعل خلفا عن الماء في حكم الطهارة فحال
عدم الماء وحال نجاسة الماء الموجود في ذلك سواء لان ما هو المقصود وهو الطهارة لا يحصل
بالماء النجس فإن كان الأب دفعه إلى غير الأخ وغاب غيبة منقطعة فكان في حجر الرجل
وعياله جاز له قبض الهبة ولو قبض الأخ لم يجز قبضه لان الأب أقامه مقام نفسه في النظر
(5 ثاني عشر مبسوط)
63

له فكان هو منتفعا برأيه قائما مقامه ولو كان منتفعا برأيه بأن كان حاضرا لم يجز قبض الأخ
فهذا مثله وهذا لما بينا ان مجرد قرابة الأخ لا تثبت له الولاية بدون اليد * وإذا كان في
عيال من اختاره الأب فليس للأخ عليه يد موجودة ولا مستحقة حتى أنه ليس له ان
يسترده ممن يعوله فكان كالأجنبي ولمن يعوله يد مستحقة ما لم يحضر الأب فهو الذي يقبض
الهبة له والله أعلم بالصواب
باب ما يجوز من الهبة وما لا يجوز
قال (وإذا وهب الرجل للرجل نصيبا مسمى من دار غير مقسومة وسلمه إليه مشاعا
أو سلم إليه جميع الدار لم يجز) يعنى لا يقع الملك للموهوب له بالقبض قبل القسمة عندنا
وقال الشافعي يقع الملك وتتم الهبة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة نظر
إلى موضع المسجد فوجده بين أسعد بن زرارة وبين رجلين من قومه فوهب أسعد رضي الله عنه
نصيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وهب الرجلان نصيبهما منه أيضا فبنى المسجد
(وقال) عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أتاه بكبة من شعر فقال أخذت هذه من الغنيمة
لأخيط بها بردعة بعير لي أما نصيبي منها فهو لك فقد وهب المشاع (وعن) أنس بن مالك
رضي الله عنه انه جوز الهبة في المشاع ولأنه عقد تمليك للمال فيصح في المشاع كالبيع
وتأثيره أن الجزء المشاع محل لما هو موجب هذا العقد وهو الملك وإنما يشترط في المحل
المضاف إليه العقد كونه محلا لحكم العقد وبه فارق الصوف على ظهر الغنم فإنه مملوك
وصفا وتبعا لا مقصودا وموجب الهبة الملك مقصودا ولهذا لا يجوز إضافة البيع إليه
بخلاف الجزء الشائع ولان الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع تمام الهبة وما يؤثر فيه
الشيوع فيما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة فيه سواء كالرهن عندكم والنكاح عندي ولان
الهبة عقد تبرع فتكون بمنزلة القرض والوصية والشيوع لا يمنع صحة الوصية وهي تبرع
بعد الموت فكذلك التبرع في الحياة ولا يمنع القرض أيضا فإنه لو دفع ألف درهم إلى
رجل على أن يكون نصفها قرضا عليه ويعمل في النصف الآخر بشركته يجوز ذلك
وبفضل القرض يبطل اعتمادكم على اشتراط القبض فاصل القبض شرط لوقوع الملك في
القرض ثم لا تشترط القسمة والدليل على أن القبض مع الشيوع يتم انه ينتقل الضمان إلي
64

المشترى بالقبض مع الشيوع ويملك المشاع عندكم بالبيع الفاسد والمشاع يصلح أن يكون
رأس مال السلم وبدل الصرف. واعتمادنا في المسألة على اجماع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
فقد روينا في أول الكتاب شرط القسمة عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعن علي رضي الله عنه
من وهب ثلث كذا أو ربع كذا لا يجوز حتى يقاسم والمعنى فيه أن شرط
القبض منصوص عليه في الهبة فيراعى وجوده علي أكمل الجهات التي تمكن كشرط استقبال
القبلة في الصلاة لما كان منصوصا على يشترط ذلك فيه حتى لو استقبل الحطيم لا تجوز صلاته
والحطيم من البيت من وجه دون وجه وهذا لان الثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا
مطلقا وبدون الاطلاق لا يثبت الكمال. ثم القبض مع الشيوع ثابت من وجه دون وجه
لان القبض عبارة عن الحيازة وهو ان يصير الشئ في حيز القابض والمشاع في حيزه من
وجه وفى حيز شريكه من وجه لأنه لا يمكن ان يشار إلى شئ منه بعينه فيقال إنه في يد هذا
دون هذا ولان القسمة من تتمة القبض ألا ترى ان الشفيع لا ينقض قسمة المشترى كما لا ينقض
قبضه وله حق نقض تصرفات المشترى فان للمشترى ان يطالب البائع بالقسمة بعد الشراء
وإنما يثبت له حق المطالبة بالقبض بالشراء فعرفنا أن القسمة من تتمة القبض فبدونها لا يتم
ولكن هذا فيما يتأتى فيه القسمة فأما فيما لا يقسم القسمة لا يكون حيازة لان المقصود الانتفاع
وبالقسمة يتلاشى فعرفنا أن القسمة فيه ليست من تتمة القبض ولان اشتراط أصل القبض في
وقوع الملك هنا لمعنى ذلك المعنى موجود في القسمة وهو أن لا يصير عقد التبرع سببا
لوجوب الضمان للمتبرع عليه على المتبرع في عين ما تبرع به لأنه لو ملك قبل القبض طالبه
بالتسليم إليه وكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه بالتسليم إليه فكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه
بالقسمة فيصير عقد التبرع موجبا ضمان القسمة عليه وهو خلاف موضوع التبرع بخلاف مالا
يحتمل القسمة فإنه لا يستوجب به حق المطالبة بالقسمة (فان قيل) يستوجب به المهاياة
(قلنا) المهاياة قسمة المنفعة وعقد التبرع لاقى العين فلم يكن ذلك ضمانا في عين ما تبرع به *
ولا يرد علي هذا ما لو أتلف الواهب الموهوب بعد التسليم ضمن قيمته للموهوب له لان ذلك
الضمان يلزمه بالاتلاف لا بعقد التبرع وضمان المقاسمة هنا وإن كان بالملك فذلك الملك حكم
الهبة فلا يمنع إضافة الضمان إلى الهبة ألا ترى ان شراء القريب اعتاق وإن كان العتق بسبب
الملك لان ذلك الملك حكم الشراء وبه فارق البيع فإنه عقد ضمان فيجوز أن يتعلق به ضمان
65

المقاسمة ولان أصل القبض هناك لا يشترط لوقوع الملك فذلك ما يتممه وبه فارق الوصية
فأصل القبض هناك ليس بشرط للملك فكذلك ما يتممه وكما يستحق هناك ضمان التسليم على
المالك يستحق ضمان المقاسمة أيضا والقرض تبرع من وجه ومن وجه هو عقد الضمان حتى
كان المستقرض مضمونا بالمثل فلا يبعد أن يتعلق به ضمان المقاسمة وشرط القبض هناك ليس
بمنصوص ليراعى وجوده على أكمل الجهات * ثم لشبهه بالتبرع شرطنا فيه القبض ولشبهه
بعقد الضمان لا يشترط فيه القسمة وذلك اعتبار صحيح فيما له سببان وحديث الكبة فإنما
قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المبالغة في النهى عن الغلول أي لا أملك
الا نصيبي فكيف أطيب لك هذه الكبة من الغنيمة ألا ترى أنه ليس لواحد من الغانمين أن
يهب نصيبه قبل القسمة لأنه لا يدري أين يقع نصيبه أو كان ذلك مما لا يحتمل القسمة فالكبة
من الشعر إذا قسمت على جند عظيم لا يصيب كل واحد منهم ما ينتفع به وحديث المسجد
فذكر الواقدي ان أبا بكر رضي الله عنه هو الذي اشترى موضع المسجد باثني عشر
دينارا ولئن تثبت الهبة فيحتمل أن أسعد رضي الله عنه وهب نصيبه ولم يسلم حتى وهب
الرجلان نصيبهما ثم سلموا جملة. وعندنا هذا يجوز فان المؤثر الشيوع عند القبض لا عند
العقد حتى لو وهب الكل وسلم النصف لا يجوز ولو وهب النصف ثم النصف وسلم الكل
جاز. قال (ولو وهب أحد الشريكين نصيبه من شريكه مشاعا فيما يحتمل القسمة لا يجوز
عندنا أيضا) وقال ابن أبي ليلى يجوز لقوله تعالى فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو
الذي بيده عقدة النكاح فهذا يقتضي أن الصداق إذا كان عينا يتنصف بالطلاق فان المرأة تندب
إلى أن تترك الكل للزوج والزوج يندب إلى أن يسلم الكل إليها وذلك من كل واحد منهما
هبة في المشاع (وعن) أبى السباع مولى عطاء قال أقرضت ابن عمر رضي الله عنهما خمسمائة
درهم فقضاني في كيس فوجدته يزيد على حقي ثمانين فقلت في نفسي لعله جربني بهذا فأتيته
وأخبرته بذلك فقال هولك فهذا كان منه هبة للمشاع في تلك الزيادة من الشريك ولان
المانع استحقاق ضمان المقاسمة وذلك لا يجوز في الهبة من الشريك. وحجتنا في ذلك ما بينا
أن اشتراط القسمة في الهبة فيما يحتمل القسمة كاشتراط القبض وفى ذلك يستوى الهبة
من الشريك ومن الأجنبي فكذلك في القسمة وهذا لان القبض في الهبة لا يتم في الجزء
الشائع فقبض الشريك لا يتم اعتبار ما لاقاه في الهبة وإنما يتم به وبغيره وهو ما كان مملوكا
66

له وما يشترط لاتمام العقد فإنما يعتبر ثانيا فيما تناوله العقد دون غيره فأما الاستدلال بالآية قلنا
العفر حقيقته اسقاط وذلك في الدين دون العين ثم في العين كل واحد منهما مندوب إلى
العفو عندنا ولكن بطريقة وذلك في أن يهب نصيبه من صاحبه بعد القسمة وليس في الآية
ما يمنع ذلك وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما فمن وجد ما يستوفى أكثر من
حقه يميز له الفضل ويأتي به ليرده فيحتمل انه فعل ذلك فوهبه له ابن عمر رضي الله عنهما
وعدنا هذا يجوز. قال (ولو وهب دارا لرجلين وسلمها إليهما فالهبة لا تجوز في قول أبي حنيفة
رضي الله عنه وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز) لأن العقد والتسليم لاقى مقسوما
فإنه حصل في الدار جملة فيجوز كما لو وهبها لرجل واحد وهذا لان تمكن الشيوع باعتبار
تفرق المالك والملك هنا حكم الهبة وحكم الشئ يعقبه فالشيوع الذي ينبنى علي ملك يقع
للموهوب لهما لا يكون مقترنا بالعقد ولا تأثير للشيوع الطارئ في الهبة كما لو رجع الواهب
بالنصف ولان المعنى استحقاق ضمان المقاسمة على المتبرع وذلك لا يوجد هنا فالعين تخرج من
ملك المتبرع جملة وإنما ضمان المقاسمة بين الموهوب لهما باعتبار تفرق ملكهما ولان تأثير
الشيوع في الرهن أكثر منه في الهبة حتى لا يجوز الرهن في مشاع لا يحتمل القسمة بخلاف
الهبة ثم لو رهن من رجلين جاز فالهبة أولى وكذلك الإجارة عند أبي حنيفة رضي الله عنه
لا تصح مع الشيوع * ثم إذا أجر داره من رجلين يجوز فكذلك الهبة وأبو حنيفة رضي
الله عنه يقول قبض كل واحد منهما لاقى جزأ شائعا وذلك غير موجب للملك فيما يحتمل
القسمة بحكم الهبة كما لو وهب النصف من كل واحد منهما بعقد على حدة وهذا لان تأثير
الشيوع باعتبار أن القبض لا يتم معه وذلك موجود هنا فكل واحد منهما لا يقبض
الا نصبه ولا يتم قبضه مع الشيوع والدليل عليه أن المانع تمكن الشيوع في الملك المستفاد
بعقد الهبة حتى لو وهب من رجل النصف ثم النصف وسلم الكل جملة يجوز لأنه لا شيوع
في الملك المستفاد بالهبة * ولو وهب رجلان من واحد يجوز مع وجود الشيوع في الواهبين
لأنه لا شيوع في الملك المستفاد بالهبة وان وهب أحدهما نصيبه من زيد والآخر نصيبه
من عمرو لا يجوز لتمكن الشيوع في الملك المستفاد بالهبة فثبت أن المانع هذا وهو موجود في
الهبة من رجلين. والدليل علي أن المعتبر جانب المتملك دون المملك حكم الشفعة فان رجلين
لو اشتريا دارا من واحد لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين بالشفعة لتفرق الملك
67

في جانب المتملك فظهر بهذا أن المعتبر جانب المتملك لا جانب المملك. ولا اعتماد عن انتفاء ضمان
المقاسمة عن الواهب فان رجلين لو وهبا من رجلين على أن يكون نصيب أحدهما لأحدهما
بعينه ونصيب الآخر للآخر لا يجوز وليس على الواهبين ضمان المقاسمة وليس هذا كالرهن
لان المانع هناك تمكن الشيوع في المحل فان موجب الرهن الحبس والحبس في الجزء الشائع
لا يتأتى وفى الرهن من رجلين لا شيوع في الحبس لان الحبس ثبت لكل واحد منهما في الكل
حتى لو قضى دين أحدهما لا يكون له ان يسترد شيئا من الرهن ما لم يقبض دين الآخر
وهذا لأنه لا مضايقة في الحبس فكما لا يجوز أن يكون الشخص الواحد كله محبوسا بدين زيد
وكله محبوسا بدين عمرو فكذلك العين الواحدة وهنا موجب العقد الملك ولا يتأتى اثباته
بكماله لكل واحد منهما فعرفنا ان كل واحد منهما يتملك جزأ شائعا وهذا بخلاف الإجارة
فالمانع هناك تعذر استيفاء المنفعة التي تناولها العقد من الجزء الشائع وذلك لا يوجد في الإجارة
من الرجلين أو المانع استحقاق عود المستأجر إلى يد المؤجر في مدة الإجارة بحكم المهاياة وذلك
لا يوجد وفى الإجارة من الرجلين ولهذا جازت إجارة أحد الشريكين من شريكه بخلاف الهبة
ثم قال في الأصل وكذلك في الصدقة وهذا يدل على أنه إذا تصدق بما يقسم على رجلين انه
لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه كالهبة. وفي الجامع الصغير قال لو تصدق بعشرة دراهم
على فقيرين يجوز قال الحاكم رحمه الله يحتمل أن يكون مراده من قوله وكذلك الصدقة على
الغنيين فيكون ذلك بمنزلة الهبة لان فعل الهبة من الفقير صدقة والصدقة على الغنى تكون
هبة. والأظهر أن في المسألة روايتين. وجه رواية الأصل ما بينا ان تمام الصدقة بالقبض
كالهبة وقبض كل واحد منهما يلاقى جزأ شائعا فلا يتم به الصدقة كما لا تتم به الهبة ووجه
الرواية الأخرى أن المتصدق يجعل ماله لله تعالى خالصا ولا يملكه الفقير من جهة نفسه وإنما
يملكه الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى بعد ما تمت الصدقة من جهته وإذا تصدق على
رجلين فلا شيوع في الصدقة لأنه جعل جميع العين لله سبحانه وتعالى خالصا بخلاف الهبة ألا
ترى ان الجهالة في المصروف إليه لا تمنع صحة الصدقة حتى إذا أوصى بثلث ماله صدقة على
الفقراء يجوز بخلاف ما لو أوصي به لقوم لا يحصون من الأغنياء وكذلك إذا أوصى بعين
للفقراء أو لفلان ونصفه لفلان واعتبر للفقراء سهم واحد باعتبار ان الصدقة لله تعالى لا للفقراء
. قال (وان وهب رجل دارا لرجلين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها وقبضاها لم يجز في قول أبى
68

حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ويجوز عند محمد رحمه الله) وهذا على أصل أبي حنيفة لا
يشكل فإنه عند الاطلاق لا يجوز هذا الاطلاق فعند التفصيل أولى وإنما الخلاف بينهما لو
قال على أن يكون النصف لهذا يجوز عندهما ذكره ابن سماعة في نوادره
فأبو يوسف رحمه الله يقول حالة التفصيل متى كانت لا تخالف حالة الاجمال فالتفصيل
لغو ومتى كانت تخالف حالة الاجمال فلا بد من اعتبار التفصيل لان كلام العاقل معتبر
لفائدته لا لعينه فإذا لم يكن مفيدا لا يعتبر وإذا نصف بينهما فالتفصيل لا يخالف الاجمال لان
موجب العقد عند الاجمال أن يملك كل واحد منهما النصف فلا يعتبر تفصيله وإذا تفاوت
بينهما فالتفصيل يخالف الاجمال فيجب اعتباره فإذا اعتبر بتفرق العقد فكأنه أوجب لكل
واحد منهما العقد في جزء شائع على حدة وقاس الرهن فإنه لو رهن من رجلين مطلقا يجوز
وإذا فصل لا يجوز لان بالتفصيل يتفرق العقد الا ان هناك يستوى ان فصل أو سوى
في التفصيل لمخالفة حالة التفصيل حالة الاجمال في الوجهين فان عند الاجمال يثبت حق
الحبس لكل واحد منهما في الكل وعند التفصيل لا يثبت ومحمد رحمه الله يقول العقد
والتسليم من الواهب جملة وان فصل وفصل يجوز إذا أطلق أو سوى في التفصيل.
وهذا لوجهين (أحدهما) أن الاطلاق في الهبة كالتفصيل حتى لو وهب لرجلين عينا لا
تحتمل القسمة فقبل أحدهما دون الاخر لا يجوز كما لو فرق العقد (والثاني) أن العقد متى
كان جملة عند الاطلاق فبالتفصيل لا يتفرق في عقود التمليكات كما في البيع فان رجلا
لو باع ثوبين من رجل بعشرين درهما فقبل المشترى العقد في أحدهما لا يجوز ولو قبل
فيهما ثم نقد الثمن في أحدهما لا يكون له أن يقبض ما نقد ثمنه وكذلك لو فصل وسمى لكل
واحد منهما ثمنه. فعرفنا أن بالتفصيل لا يتفرق العقد فالشيوع باعتباره لا يفرق العقد وإنما
يكون طارئا بعد ملك الموهوب لهما وذلك غير مؤثر في المنع من الهبة فاما في الرهن
فالمانع تمكن الشيوع في المحل فيما هو موجب العقد وهو الحبس وذلك يتحقق عند
التفصيل وان كانت الصفقة واحدة ألا ترى أنه لو وهبه عينا بدينين نصفه بأحد الدينين
ونصفه بالدين الآخر لا يجوز وقد بينا ان في الهبة عند اتحاد العقد لا يمنع صحته لتمكن
الشيوع فيما هو موجب العقد وهو الملك المستفاد لكل واحد منهما. قال (ولو وهب أحد
الشريكين نصيبه من الدار من أجنبي لم يجز) لان الايجاب والتسليم لاقى جزأ شائعا وإنما
69

أورد هذا الاشكال وهو ان ضمان المقاسمة هنالك لا يستحق على المتبرع إنما يستحق على
الشريك ولكن قد بينا أن هذا المعنى لا يتمشى في جميع الفصول كالهبة من الشريك ويجوز ذلك
وان الحرف الذي يتمشى ان القبض لا يتم مع الشيوع فيما يحتمل القسمة. قال (وان وهب رجل
لرجلين ألف درهم لأحدهما ستمائة وللآخر أربعمائة فذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله ويجوز عند محمد رحمه الله) وهذا وما تقدم من هبة الدار إذا فصل وفصل سواء. قال
(رجل وهب لرجل دينارا له على رجل وامرأة يقبضه جاز ذلك استحسانا) وفي القياس لا
يجوز وهو قول زفر لان الدين ليس بمال حتى أن من حلف لا مال له وله دين على انسان
لا يحنث في يمينه والهبة عقد مشروع لتمليك المال فإذا أضيف إلى ما ليس بمال لا يصح
باعتبار مآله كما لو وهب مسلم خمرا من مسلم لا يصح باعتبار مآله وهو التحلل والدليل عليه
أن بيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز لأنه عقد مشروع لتمليك المال فالهبة مثله أو
أولى لان الهبة لا تتم الا بالقبض وقبض ما في ذمة الغير لا يتصور ولا وجه لتصحيحه
إذا قبضه لان تمام عقد الهبة بقبض ما أضيف إليه العقد إلى الدين والمقبوض عين والعين
غير الدين. ووجه الاستحسان انه أنابه في القبض مناب نفسه فيجعل قبض الموهوب له
كقبض الواهب ولو قبضه بنفسه ثم وهبه وسلمه جاز وكذلك إذا أمر أن يقبضه له ثم
لنفسه وهذا لان في باب الهبة المعتبر وقت القبض فان الملك عنده يثبت. دليل ما بينا من فصل
الشيوع وعند القبض هو مال قابل للتمليك كسائر الأسباب فكذلك بالهبة والمقبوض وإن كان
غير الدين حقيقة جعل في الحكم كأنه هو بدليل جواز القبض في الصرف والسلم مع
حرمة الاستبدال فيهما وليس البيع نظير الهبة فإنه يوجب الملك بنفسه قبل القبض فكان
المعتبر فيه وقت العقد فإذا لم يكن عين مال لم يجز بيعه مع أن الدين في الذمة يقبل التمليك
بالعقد فإنه لو باعه ممن عليه الدين بعوض جاز ولو وهبه منه جاز فعرفنا أنه مال قابل للتمليك
حكما ولهذا تجب الزكاة فيه قبل القبض والشرط في عقد التمليك ان يضاف إلي محل قابل
له وقد وجدتم لزومه قبل القبض وعند القبض بحكم الهبة هو عين فيتم العقد. قال (رجل
رهن عبده من رجل وسمله إليه ثم وهبه لابنه الصغير لم يجز) لأنه ليس في يده فاليد بعقد
الرهن مستحقة عليه للمرتهن فلا يكون الأب قابضا لولده ما ليس في يده ولأنه يبطل به
حق المرتهن وهو حق مستحق عليه فلا يملك ابطاله وكذلك لو غصب عبده غاصب فوهبه
70

لابنه لأنه ليس في يد المغصوب منه حقيقة ولا حكما فإنه مضمون على الغاصب وإنما يضمن
بتفويت يد المغصوب منه بخلاف الوديعة إذا وهبها من أبيه لان يد المودع في الحكم كيد
المودع فيمكن أن يجعل قابضا لولده باليد التي هي قائمة مقام يده (فان قيل) فقد قلتم إذا
وهب الوديعة من المودع جاز ولو كانت يده كيد المودع لم يكن قابضا لنفسه بحكم يده
(قلنا) في الحقيقة اليد للمودع فباعتبار هذه الحقيقة يجعله قابضا لنفسه ثم إنما قامت يده
مقام يد المودع ما دام هو في الحفظ عاملا للمودع وذلك قبل التمليك بالهبة فأما بعد ذلك
فهو عامل لنفسه * ولو باعه بيعا فاسدا وسلمه أو باعه بشرط الخيار للمشترى ثم وهبه لابنه
الصغير لا يجوز لأنه خرج من ملكه بتصرفاته فإنما وهب مالا يملك ولان اليد لغيره
حقيقة وحكما حين كان في ضمان الغير. قال (ولا يجوز هبة المكاتب كما لا يجوز عتقه)
لأنه تبرع محض ولو اجازه المولى فكذلك لان إجازة المولى إنما يعمل فيها بملك المولى أنشأه
وهو لا يملك ذلك في كسب المكاتب. قال (رجل وهب لرجل ما على ظهر غنمه من الصوف
أوما في ضروع غنمه من اللبن لم يجز ذلك) لان الصوف واللبن ما دام متصلا بالحيوان فهو
ليس بمال مقصود بنفسه ولكنه وصف الحيوان وعقد التمليك مقصودا لا يتم فيما ليس بمال
مقصود فان أمره بجز الصوف وحلب اللبن وقبض ذلك استحسنت أن أجيزه وهذا لوجهين
(إحداهما) أن الصوف على ظهر الغنم واللبن في الضرع محل للتمليك بدليل جواز الوصية
به وجواز الصلح عليه عند أبي يوسف رحمه الله في الصوف وتمام عقد الهبة بالقبض فإذا
كان قبضه بعد الجزاز وهو مال متقوم في هذه الحال يتم فيه الهبة كما بينا في الدين (والثاني) أن
امتناع جواز الهبة لان الموهوب متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب مع امكان الفصل
فيكون ذلك بمنزلة الشائع وقد بينا أنه لوهب شيئا مشاعا ثم قسم وسلم مقسوما تمت الهبة فهذا
مثله وكذلك ثمر الشجرة والزرع إذا حصده فهو على القياس والاستحسان الذي ذكرنا. قال
(ولا يجوز هبة العبد المأذون) لأنه منفك الحجر عنه في التجارات دون التبرعات فان اجازه
مولاه ولا دين عليه جاز لان كسبه خالص حقه يملك مباشرة الهبة فيه فينفذ بإجازته أيضا
وإن كان عليه دين لم يجز ذلك وان اجازه المولى والغرماء لان حق الغرماء في دينهم لا يسقط
بإجازة الهبة فلا معتبر بإجازتهم والمولى لا يملك مباشرة الهبة بنفسه فلا تعمل اجازته أيضا
قال (ولو وهب له ما يثمر النخيل العام لم يجز) لأنه معدوم في الحال والمعدوم ليس بشئ
71

بنفوذ العتق وفى الهبة لو استثنى ما في البطن قصدا لم تبطل الهبة فكذلك إذا صار مستثنى حكما
وذكر في كتاب العتاق انه لو دبر ما في بطن جاريته ثم وهب الجارية لم يجز. وقيل في
الفصلين روايتان. في احدى الروايتين لا يجوز فيهما لان الموهوب مشغول بما ليس بموهوب
فهو كما لو وهب دارا فيما متاع الواهب. وفى الرواية الأخرى يجوز فيهما لأنه لو استثنى
الولد قصدا لم تبطل به الهبة في الأم فكذلك إذا صار مستثنى حكما والأصح هو الفرق
بينهما فان التدبير لا يزيل ملك المدبر. والموهوب متصل بما ليس بموهوب في ملك
الواهب فكان ذلك في معنى هبة المشاع فيما يحتمل القسمة فأما العتق فإنه يزيل ملك
المعتق فإذا وهب الأم بعد اعتاق الجنين فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب في ملك
الواهب فهو كما لو وهب أرضا فيها ابن الواهب واقف وسلمها إلى الموهوب له تمت الهبة
فكذلك هنا. قال (ولا يجوز للأب ان يهب من ماله ابنه الصغير شيئا) لأنه صار نائبا عن
الصغير في التصرف في ماله لتوفير المنفعة عليه وذلك بالتبرع لا يحصل فهو كسائر الأجانب
كما لو طلق امرأته. قال (عبد مأذون عليه دين كثير وهبه مولاه لرجل لم تجز هبته والدين
في رقبته يباع فيه إلا أن يؤدى عند مولاه الذي في يده) ومعنى قوله لم يجز ان الهبة
لا تتم وللغرماء أن يبطلوا هبته لان المولى مالك لرقبته ولكن حق الغرماء سابق على حقه
في ماليته وفى اتمام الهبة ابطال هذا الحق عليهم ولكن ليس في أصل التمليك إبطال حقهم
فيصير مملوكا للموهوب له مشغولا عن الغرماء على الوجه الذي كان في ملك الواهب لأنه
إقامة مقام نفسه في ملك الرقبة وله هذه الولاية فيما هو خالص حقه ولهذا لو قضي الموهوب
له دينه كان سالما له لان تمكن الغرماء من إبطال ملكه لقيام دينهم وقد وصل إلى الغريم حقه
قال (فان ذهب الموهوب له بالعبد ولم يقدر عليه فللغرماء أن يأخذوا الواهب بقيمته يوم وهب)
لأنه هو الذي أتلف حقهم بالتمليك من الموهوب له والتسليم فيصير ضامنا قيمته لهم كما لو
أعتقه. قال (ولو وهب له ما في بطن أمته وسلطه على قبضه بعد الوضع فقبضه لم يجز) وقد
بينا الفرق بين هذا وبين هبة الدين والصوف على ظهر الغنم * وفى الكتاب قال من قيل إنه
وهب له ما لم يكن بعد فإنه وهب له الولد وقبل الانفصال لا يكون ولدا ألا ترى أنه لو
وهب له دهن سمسم قبل أن يعتصر وسلطه على قبضه إذا عصر أو وهب الزيت في الزيتون
والدقيق في الحنطة قبل الطحن والسمن في اللبن قبل أن يتمخض فهذا كله باطل لأنه هبة
72

وإضافة عقد التمليك إلى غير محله لغو (فان قيل) لا كذلك فالوصية بما يثمر نخيله العام
صحيح (قلنا) الوصية ليست بعقد تمليك مال وإنما شرعت للخلافة عن الموصى ثم الملك من
ثمراته ولهذا لا يتوقف ثبوت الملك فيه على القبض وهنا العقد التمليك فلا بد من اضافته
إلى ما هو مملوك ليعتبروا الملك لا يسبق الوجود وبه فارق ما سبق من الصوف واللبن فإنه
موجود مملوك وإن كان متصلا بالحيوان فإنما يمتنع جواز بيعه لتمكن المنازعة بينهما عند
التسليم وذلك لا يوجد في الهبة * ثم الجزاز والحلب والقبض في اللبن في وسعه فيمكن أن
يجعل فيه نائبا عن الواهب ثم قابضا لنفسه بعد ذلك فأما الايجاب في الثمار ليس إليه. قال
(وكذلك لو وهب له ما في بطن جاريته وهي حبلى أو ما في بطن غنمه فهو باطل) من أصحابنا
رحمهم الله من يقول إن أمره بقبضه بعد الولادة فقبض ينبغي ان يجوز استحسانا كما في
الصوف واللبن والأصح أنه لا يجوز لان ما في البطن ليس بمال أصلا ولا يعلم وجوده
حقيقة ولان اخراج الولد من البطن ليس إليه فلا يمكن أن يجعل في ذلك نائبا عن الواهب
بخلاف الجزاز في الصوف والحلب في اللبن. ومعنى هذا الفرق ان فيما ليس في وسعه لو جاز
العقد باعتباره كان تعليقا للهبة بالخطر وذلك غير جائز وما في وسعه يكون تأخيرا لملكه إلى
قبضه لا تعليقا للهبة بالخطر وذلك جائز. قال (ولو أعتق ما في بطن جاريته ثم وهبها لرجل وسلمها
إليه جازت الهبة في الأم فان باعها لم يجز بيعه) لأنه لو باع جاريته واستثنى ما في بطنها لم يجز
البيع ولو وهبها واستثنى ما في بطنها جازت الهبة في الأم والولد والاستثناء باطل * أما مسألة
استثناء ما في البطن تنقسم إلى ثلاثة أقسام (قسم منها) لا يجوز أصل التصرف وهو البيع
والإجارة والرهن لان موجب إضافة العقد إلى الامر دخول الولد فيه واستثناء موجب
العقد في هذه العقود مبطل للعقد لأنه شرط فاسد وما يتعلق بالجائز من الشرط فالشرط
الفاسد يبطله (وقسم منها) يجوز التصرف ويبطل الشرط وهو النكاح والخلع والصلح عن دم
العمد والهبة لان الشرط الفاسد لا يبطل هذه العقود بل العقد صحيح والشرط باطل والأصل
فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أجاز العمرى وأبطل الرقبي (وقسم) يجوز التصرف
والاستثناء جميعا وهو لوصية لان في حكم الوصية ما في البطن كأنه شخص على حدة حتى يجوز
افراده بالوصية فيجوز استثناؤه أيضا لأنه غير مبنى على السراية بخلاف العتق * فإذا عرفنا هذا
فنقول في البيع لو استثنى ما في البطن قصدا لم يجز البيع فكذلك إذا صار مستثنى حكما
73

المعدوم فان الدهن حادث بالعصير والدقيق بالطحن ولهذا لو فعله الغاصب كان مملوكا له وهذا
لأنه قبل الطحن في الحنطة والدقيق غير الحنطة وكون الشئ الواحد مثنى في وقت واحد
مستحيل فعرفنا أنه أضاف العقد إلى المعدوم وكان لغوا. بخلاف الوصية فان هذا كله يجوز
في الوصية لأنه خلافه وليس بايجاب للملك * ثم قال في بعض النسخ وكذلك اللبن في ضرع
الشاة والصوف على ظهرها وهذا غلط فقد قيل هذا في الصوف واللبن إذا أذن له في الحلب
والجز وقبض ذلك جاز استحسانا وبما بينا يظهر الفرق بينهما. قال (وإذا وهب الرجل للرجل
نصف عبد أو ثلثه وسلمه جاز) لأنه مما لا يقسم وقد بينا ان هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة
صحيحة فإذا وهب جزأ مسمى وسلمه بالتخلية جاز وهذا لان الحاجة تمس إلى ايجاب التبرع
فيما لا يحتمل القسمة فلو لم يجز ذلك ضاق الامر على الناس لابطال هذا النوع من التصرف
عليهم فيما لا يحتمل القسمة أصلا بخلاف ما يحتمل القسمة فإنه يتأخر فيه التصرف إلى القسمة
ولا يبطل أصلا فلا يتحقق فيه الضرورة. قال (وان وهب عبده لرجلين أو وهب رجلان
لرجل أو وهب أحدهما نصيبه لشريكه أو لأجنبي وسلمه فهو جائز كله) لان الموهوب
معلوم ولا أثر في الشيوع في المنع من الهبة في هذا المحل * وان قال أحد الشريكين لرجل
قد وهبت لك نصيبي من هذا العبد فاقبضه ولم يسمه له ولم يعلمه إياه لم يجز لجهالة
الموهوب وهذه الجهالة تفضى إلى المنازعة بينه وبين الشريك الآخر ولان المجهول لا يجوز
تمليكه بشئ من العقود قصدا قال (ولو وهب رجل لرجلين نصف عبدين أو نصف
ثوبين مختلفين أو نصف عشرة أثواب مختلفة نمطي ومروي وهروي ونحو ذلك جاز) لان
مثل هذه الثياب لا تقسم قسمة واحدة فكان واهبا لنصيبه من نصف كل ثوب وكل ثوب
ليس بمحتمل للقسمة في نفسه وكذلك الدواب المختلفة علي هذا فإن كان ذلك من نوع واحد
لم تجز هبته الا مقسوما لان الثياب إذا كانت من نوع واحد تقسم قسمة واحدة والدواب
كذلك فإنما وهب النصف مشاعا فيما يحتمل القسمة وذلك لا يجوز. قال (وان وهب
نصيبا له في حائط أو طريق أو حمام وسمى وسلطه فهو جائز) لأنه غير محتمل للقسمة فإنه
إذا قسم لا يمكن الانتفاع به على الوجه الذي ينتفع به قبل القسمة وهذا هو صفة مالا
يحتمل القسمة. قال (ولو وهب نصف داره لرجل وسلمها إليه ثم وهب نصفها الآخر لرجل
لم يجز شئ من ذلك) لان كل واحد من العقدين لو تم إنما يتم في مشاع يحتمل القسمة وإن لم
74

يسلم النصف الأول حتى وهب النصف الثاني للثاني ثم سلم الدار إليهما جازت الهبة لهما عند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة ما لو وهب الدار لهما جملة (وان وهب لرجل نصفها ثم قسمها
ودفع النصف إليه جاز) لان المعتبر عند القبض ولا شيوع عند ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
باب العوض في الهبة
قال (وإذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضا وقبضه الواهب لم يكن للواهب.
ان يرجع في هبته ولا للمعوض أن يرجع في عوضه) والحاصل ان العوض في الهبة نوعان
متعارف ومشروط فبدأ الباب ببيان ما هو متعارف من العوض غير مشروط والأصل
أن المعوض بمنزلة الواهب حتى يشترط في العوض ما يشترط في ابتداء الهبة فلا يحصل
الملك للواهب الا بالقبض بعد القسمة لان المعوض متبرع مختار في هذا التمليك كالواهب
وبعد وصول العوض إلى الواهب لا رجوع له في الهبة لقوله صلى الله عليه وسلم ما لم يثب
منها وحكم ما بعد الغاية بخلاف ما قبله ولان حق الرجوع له في الهبة كان لخلل في مقصوده
وقد انعدم ذلك لوصول العوض إليه فهو كالمشتري يجد بالمبيع عيبا فيزول العيب قبل أن يرده
ولا يرجع المعوض في عوضه أيضا لان مقصوده بالتعويض اسقاط حق الواهب في الرجوع
وقد نال هذا المقصود ولأنه مجازى في التعويض وبقاء جزء الشئ ببقاء أصله فإذا كان
الموهوب سالما له فينبغي أن يكون الجزء سالما لصاحبه أيضا. قال (وان وهب عبدا
لرجلين فعوضه أحدهما من حصته كان له أن يرجع في حصة الآخر) لأنه لم يصل إليه
العوض عن حصة الآخر والجزء معتبر بالكل والرجوع في النصف شائعا صحيح بخلاف
ابتداء الهبة لان الراجع ليس يتملك بالرجوع بل يعيده إلى قديم ملكه والشيوع من ذلك
لا يمنع وبالرجوع في النصف لا تبطل الهبة فيما بقي لأنه شيوع طرأ بعد تمام الهبة فلا يكون
مؤثرا فيه فان ما يتمم القبض معتبر بأصل العقد وعود الموهوب إلى يد الواهب لا يمنع بقاء
الهبة فالشيوع كذلك فان عوضه أحدهما عن نفسه وعن صاحبه لم يكن للواهب أن يرجع
في شئ من العبد لأنه في نصيب صاحبه أجنبي والتعويض من الأجنبي صحيح وإن كان بغير
أمر الموهوب له لأنه تصرف في المعوض في ملكه وإنما يسقط به حق الواهب في الرجوع
ومثل هذا التصرف يصح من الأجنبي كصلح الأجنبي مع صاحب الدين من دينه على مال
75

نفسه يجوز ويسقط به الدين عن المديون فهذا مثله ولا يكون للمعوض أن يرجع في شئ
من العوض لان مقصوده قد حصل حتى سقط حق الواهب عن الرجوع في الكل ولا
يرجع على صاحبه أيضا بشئ سواء عوضه بأمره أو بغير أمره وكذلك لو عوضه أجنبي
عن الهبة شيئا أما إذا كان بغير أمره فلا يشكل وإن كان بأمره فالتعويض لم يكن مستحقا
على الموهوب له فإنما أمره بأن يتبرع بمال نفسه على غيره وذلك لا يثبت له حق الرجوع
عليه من غير ضمان ولأنه مالك للتعويض بدون أمره فلا معتبر بأمره فيه وهذا بخلاف
الدين فإنه إذا كان أمر انسانا بقضاء دينه يرجع عليه بما أدى لان الدين كان معلوما
في ذمته وهو كان مطالبا به فقد أمره أن يسقط عنه المطالبة بمال يستحق عليه وأمره أن
يملكه ما في ذمته بعوض ولو أمره أن يملكه عينا بعوض رجع عليه بما أدى فيه من ملك
نفسه فهذا مثله وهنا لم يكن للواهب في ذمة الموهوب له ملك فالمعوض غير مملوك منه ولا
هو مسقط عنه مطالبة مستحقة لأنه ما كان يستحق عليه العوض إنما كان للواهب حق
الرجوع فقط والموهوب له كان متمكنا من اسقاط حقه بدون التعويض بان يتصرف فيه
فلهذا لا يرجع عليه المعوض بأمره إذا لم يضمن له ألا ترى أنه فيما هو فوق هذا لا يرجع بالأمر
بدون الشرط نحو ما إذا قال كفر يميني من طعامك أو أد زكاة مالي بمالك فهذا أولى. قال
(إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضا فقال هذا عوض من هبتك أو ثواب
من هبتك أو بدلها أو مكانها فهذا كله عوض) لان الشرط في التعويض أن يضيفه إلى
الموهوب ليندفع به الغرر عن الواهب ويعلم الواهب أنه يعطيه جزاء صنعه واتماما لمقصوده
وقد حصل ذلك بهذه الألفاظ فإنما ينبنى الحكم على ما هو المقصود فإذا حصل ذلك فالعبارات
فيه سواء فان استحقت الهبة كان للمعوض أن يرجع في عوضه لأنه إنما عوضه ليتم سلامة
الموهوب له باسقاط حق الواهب في الرجوع وقد فات ذلك عليه باستحقاق الموهوب فيتمكن
من الرجوع في العوض أو لان المعوض كالواهب فإذا استحق الموهوب فلم يبق له بمقابلة هبته
شئ فكان له أن يرجع بالهبة وإن كان المعوض هالكا ضمنه قيمته وروى بشر عن أبي يوسف
رحمهما الله أنه لا يضمنه شيئا لان المعوض واهب وقبض الهبة ليس بقبض ضمان ولأنه تبين
أنه بمنزلة الواهب ابتداء فيكون حقه في الرجوع مقصورا على العين لحق الواهب ابتداء.
وجه ظاهر الرواية أن المعوض إنما رضى بالتعويض ليتم له به سلامة الهبة فإذا استحق فقد
76

تمكن الخلل في رضاه فيجعل كما لو قبض الواهب بغير رضاه وهلك في يده فعليه ضمان القيمة
ولان الواهب عاد له في هبة المستحق ولولا ذلك ما عوضه وللمغرور أن يدفع الغرر عن
نفسه بالرجوع على الغار بما لحقه من الخسران. يوضحه أن التعويض لا يكون الا مضافا إلى
الهبة والتمليك مضافا إلى بدل مستحق يكون فاسدا فتبين أن الواهب قبضه لنفسه بسبب
فاسد وكان مستحق الرد عليه عند قيامه مضمونا بالقيمة بعد هلاكه وان استحق العوض كان
للواهب أن يرجع في هبته إذا كانت قائمة بعينها لم تزدد خيرا لان التعويض بطل بالاستحقاق
من الأصل فظهر الحكم الذي كان قبل التعويض. قال (وان استحق نصف الهبة كان للمعوض
أن يرجع في نصف العوض اعتبارا للجزء بالكل وان استحق نصف العوض فليس للواهب
أن يرجع في شئ من الهبة الا ان يشاء أن يرد ما بقي من العوض ويرجع في الهبة فيكون له
ذلك) وقال زفر إذا استحق نصف العوض فله أن يرجع في نصف الهبة اعتبار للجزء بالكل
واعتبار للعوض بالهبة فإنه لو استحق نصف الهبة كان له أن يرجع في نصف العوض فكذلك
إذا استحق نصف العوض وهذا لان كل واحد منهما يصير مقابلا بالآخر في حكم سلامته
لصاحبه فهو كبيع العوض بالعوض إذا استحق نصف أحدهما يكون للمستحق عليه أن يرجع
على صاحبه بنصف ما يقابله. وجه قولنا ان المستحق يخرج من أن يكون عوضا فيصير كأن لم
يكن ولو كان عوضه في الابتداء نصف العبد لم يرجع في شئ من الهبة فكذلك هنا وهذا
لان ما بقي يصلح أن يكون عوضا عن الكل وإنما يتمكن الخلل في رضاء الواهب فكان تأثيره
في اثبات الخيار له فإن شاء رد ما بقي ليدفع الضرر به عن نفسه وان شاء أمسك ما بقي ولم
يرجع بشئ (فان قيل) في الابتداء يجعل تمليك النصف عوضا له عن جميع الهبة فأما في الاستحقاق
فهو قد يجعل تمليك الكل عوضا عن جميع الهبة فيكون ذلك تنصيصا منه على أن النصف
عوض نصف الهبة فلا يجوز أن يجعل بالاستحقاق النصف عوضا عن الجميع (قلنا) هذا
مستقيم في المبادلات لان البعض ينقسم على البعض لتحقق المقابلة وهذا ليس بمبادلة على سبيل
المقابلة فلا يثبت هذا التقسيم في حقه ولكن كل جزء من آخر العوض يكون عوضا عن
جميع الهبة فلا يكون له أن يرجع في شئ من الهبة مع سلامة جزء العوض له * ثم الفرق بين
استحقاق نصف العوض ونصف الهبة بهذا الحرف وهو أن المعوض ملك العوض الا جزأ فيعتبر
حكم المقابلة في حقه فإذا استحق نصف الهبة من يده رجع ينصف العوض فأما الواهب
77

فقد ملك الهبة ابتداء من غير أن يقابله شئ ثم تأثير العوض في اسقاط حقه في الرجوع والجزء
من العوض في ذلك بمنزلة الكل إذا تم رضاه به * والحاصل ان للعوض شبهين شبه ابتداء الهبة
من حيث إن العوض مختار فيه متبرع وشبه المبادلة له من حيث إنه ملكه مضافا إلى الهبة
فتوفر حظه عليهما فنقول لشبهه بالمبادلات إذا استحق الكل رجع في الهبة ولشبهه بابتداء
الهبة إذا استحق النصف لا يرجع في شئ من الهبة إلا أن يرد ما بقي. قال (وسواء كان العوض
شيئا قليلا أو كثيرا من جنس الهبة أو من غير جنسها) لأن هذه ليست بمعاوضة محضة فلا
يتحقق فيها الربا وإنما تأثير العوض في قطع الحق وفي الرجوع لتحصيل المقصود ولا فرق
في ذلك بين القليل والكثير إذا بينه للواهب ورضى الواهب به قال (فإن كانت الهبة ألف
درهم والعوض درهم واحد من تلك الدراهم لم يكن عوضا وكان للواهب أن يرجع في
الهبة وكذلك أن كانت الهبة دارا والعوض بيت منها) وعن زفر أن هذا يكون عوضا لان
ملك الموهوب له قد تم في الموهوب بالقبض والتحق المقبوض بسائر أمواله فكما يصلح
سائر أمواله عوضا عن الهبة قل ذلك أو كثر فكذلك هذا. وجه قولنا ان مقصود الواهب
بهذا لا يحصل لأنا نعلم يقينا انه يهبه ألف درهم منه ما قصد تحصيل درهم من تلك الدراهم
لنفسه لان ذلك كان سالما له وسقوط حقه في الرجوع باعتبار حصول مقصوده بالهبة ولأنه
إنما يجوز أن يجعل عوضا بالتراضي في الانتهاء ما يجوز ان يجعل عوضا شرطا في الابتداء
فكذلك لا يستقيم أن يجعل عوضا في الانتهاء بخلاف مال آخر من ملك الموهوب له. قال
(ولو أن نصرانيا وهب للمسلم هبة فعوضه المسلم منها خمرا أو خنزيرا لم يكن ذلك عوضا) لما
بينا أن هذا لا يصلح عوضا شرطا في الابتداء ولان المعوض مملك ابتداء وتمليك المسلم الخمر
أو الخنزير من النصراني بالعقد باطل وإذا بطل التعويض كان للنصراني ان يرجع في هبته.
قال (عبد مأذون له في التجارة وهب لرجل هبة فعوضه من هبته كان لكل واحد منهما ان
يرجع في الذي له) لان الهبة من العبد باطلة فإنه غير منفك عنه الحجر بالتبرع وبالتعويض الهبة
الباطلة لا تنقلب صحيحة وإنما تأثير العوض في اسقاط حق الرجوع في هبة صحيحة وإذا رجع
العبد في الهبة لبطلانها فللمعوض أن يرجع في العوض لأنه عوضه ليسلم له الهبة ولم يسلم. قال
(وكذلك والد الصغير إذا وهب من مال ابنه شيئا لرجل فعوضه الموهوب له) لان هذا
تعويض عن هبة باطلة. قال (فإن كان الواهب هو الرجل فعوضه الأب من مال الصغير لم يجز
78

العوض) لأنه ملك مال الصغير بالتبرع ابتداء وليس للأب ذلك في مال الولد وقد بينا أن
المعوض كالواهب ابتداء وإذا لم يسلم العوض للواهب فله ان يرجع في هبته كما قبل التعويض.
قال (وإذا تصدق الموهوب له على الواهب يصدقه أو نحله أو أعمره فقال هذا عوض من هبتك
فهو عوض لان المقصود قد حصل ولا معتبر لاختلاف العبارة بعد حصول المقصود فبأي
لفظ ملكه العوض أو أعلمه انه عوض من هبته فهو عوض قال (رجل وهب لرجل عبدا
على أن يعوضه عوضا يوما أو اتفقا على ذلك ولم يقبض واحد منهما حتى امتنع أحدهما منه فله
ذلك فان تقابضا جاز ذلك) بمنزلة البيع وليس لواحد منهما أن يرجع فيه وهذا مذهبنا
فان الهبة بشرط العوض هبة ابتداء بيع انتهاء وقال زفر رحمه الله ابتداء وانتهاء بيع وفى
أحد أقاويل الشافعي رضي الله عنه هو فاسد لان هذا شرط يخالف مقتضى العقد
فيكون مبطلا للعقد. وبيانه أن عقد الهبة عقد تبرع واشتراط العوض فيه يخالف مقتضاه
وزفر رحمه الله تعالى يقول هذا تمليك مال بمال شرطا وكان بيعا فاسدا ابتداء كما لو عقد
بلفظ البيع أو التمليك وهذا لان في العقود يعتبر المقصود وعليه ينبنى الحكم. ألا ترى
أنه لو قال اشتريت منك كرا من حنطة صفتها كذا بهذا الثوب وبين شرائط السلم يكون
سلما وإن لم يذكر لفظ السلم وانه لو وهب ابنته من رجل كان نكاحا. ولو وهب امرأته من
نفسها كان طلاقا. ولو وهب عبده من نفسه كان عتقا. ولو وهب الدين ممن عليه كان ابراء
فاللفظ واحد ثم اختلف العقد لاختلاف المقصود. والدليل عليه أنه لو قال وهبت منك
منفعة هذه الدار شهرا بعشرة دراهم يكون إجارة يلزم بنفسه. وكذلك لو قال أعرتك والإعارة
تمليك المنفعة بغير عوض فإذا شرط فيه البدل كان إجارة فكذلك الهبة تمليك الموهوب بغير عوض
فإذا شرط العوض يكون بيعا والدليل عليه أن المكره على الهبة بشرط العوض لو باع كان مكرها
وكذلك المكره على البيع والتسليم إذا وهب بشرط العوض ولو لم يكونا في الحكم سواء
لم يكن المكره على أحدهما مكرها على الآخر. وحجتنا في ذلك أن هذا تمليك المال بلفظ
يخالف ظاهره معناه فيكون ابتداؤه معتبرا بلفظه وانتهاؤه معتبرا بمعناه كالهبة في المرض
فان ظاهره تمليك في الحال بطريق التبرع ومعناه معنى الوصية فيعتبر ابتداؤه بلفظه حتى يبطل
بعدم القبض ولا يتم مع الشيوع فيما يحتمل القسمة وانتهاؤه معتبر بمعناه حتى يكون من
الثلث بعد الدين وهذا لان الألفاظ قوالب المعاني فلا يجوز إلغاء اللفظ وان وجب
(6 ثاني عشر مبسوط)
79

اعتبار المعنى الا إذا تعذر الجمع للمنافاة ولا منافاة هنا فشرط العوض لا يكون أبلغ من حقيقة
التعويض وبحقيقة التعريض لا ينتفى معنى الهبة فبشرط العوض أولى بخلاف النكاح والطلاق
والعتاق فان هناك بين اللفظ والمعنى منافاة وقد وجب اعتبار المعنى فيسقط اعتبار اللفظ لذلك
ثم انعقاد العقد باللفظ والمقصود هو الحكم وأوانه بعد تمام العقد فعند الانعقاد اعتبرنا اللفظ
لأن العقد به ينعقد وعند التمام اعتبر المقصود وما تردد بين أصلين توفر حظه عليهما فالمكاتب
لما كان بمنزلة الحر من وجه وبمنزلة المملوك من وجه اعتبر الشبهان * فأما لفظ الإعارة أو الهبة
في المنفعة فقد حكى عن ابن طاهر الدباس قال كنا في تدبر جواب هذه المسألة فوجدت رواية
عن أبي حنيفة أنه لا يلزم قبل استيفاء المنفعة وبعد التسليم يقول هناك يتعذر اعتبار الجانبين
لان المنفعة لا تبقى وقتين فلا يمكن جعل العقد عليها تبرعا ابتداء معاوضة انتهاء فجعلناه
معاوضة ابتداء بخلاف العين على ما قررناه. وأما مسألة الاكراه قلنا المكره مضار متعنت
ومعنى الاضرار في حكم السبب لا في نفسه فلهذا استوفي في حقه البيع والهبة بشرط
العوض ولهذا جعل الاكراه على الهبة اكراها على التسليم وبعد التسليم البيع والهبة بشرط
العوض سواء * إذا ثبت هذا الأصل فنقول قبل التقابض العقد تبرع فان لكل واحد منهما
أن يرجع عنه ولا يملك كل واحد منهما متاع صاحبه ما لم يقبضه ولا يجوز في مشاع يحتمل
القسمة وبعد التقابض هو بمنزلة البيع فليس لواحد منهما أن يرجع فيه ويجب للشفيع
به الشفعة ولكل واحد منهما أن يرد ما في يده بعيب ان وجد فيه كما هو الحكم في البيع
وان استحق ما في يد أحدهما يرجع على صاحبه بما في يده إن كان قائما وبقيمته إن كان
هالكا لأنه ما رضي بسقوط حقه عن متاعه الا بشرط سلامة العوض له فإذا لم يسلم رجع
بمتاعه إن كان قائما وبماليته إن كان هالكا. وكذلك لو كان الاستحقاق بعد موت أحدهما
وهو معنى ما ذكرنا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فهو دين عليه في حياته وبعد موته
. قال (رجل وهب لرجل ثوبا لغيره وسلمه إليه فأجاز رب الثوب جازت الهبة) لان الإجازة
في الانتهاء بمنزلة الاذن في الابتداء من حيث إنه يتم رضا المالك بها. ثم العاقد في الهبة يكون
معيرا لا يتعلق به حقوق العقد والمجيز يكون كالمباشر لعقد الهبة فله أن يرجع فيما لا يعوضه
الموهوب له أو يكون ذا رحم محرم منه * وان عوض الرجل الذي وهب له أو كان بينهما
قرابة لم يمنع ذلك رب الثوب من الرجوع لان العاقد معتبر كالرسول فلا معتبر بحاله وإنما
80

المعتبر حال المالك فإذا لم يكن بينهما قرابة عرفنا أن مقصوده العوض ما لم ينل العوض كان له
أن يرجع فيه. قال (رجل وهب لرجل خمسة دراهم وثوبا وقبض ذلك الموهوب له ثم عوضه
الثوب أو الدراهم من جميع الهبة لم يكن ذلك عوضا لأنها هبة واحدة) وقد بينا أن عقد
الشئ في عقد واحد لا يكون عوضا ومعوضا وقد علمنا أن هذا لم يكن مقصود الواهب في
الهبة. قال (وان كانا في عقدين مختلفين في مجلس أو مجلسين فعوضه إحداهما على الأخرى فهذا
عوض نأخذ فيه بالقياس) وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله انه لا يكون عوضا لأنا نعلم
أن الواهب لم يقصد هذا فقد كان مملوكا له فالعقد الواحد والعقدان في هذا المعنى سواء
وجه ظاهر الرواية أن اختلاف العقد كاختلاف العين ويستقيم جعل أحدهما عوضا عن
الآخر شرطا عند اختلاف العقد فكذلك مقصودا وقد يقصد الواهب هذا بأن يهب
شيئا ثم يحتاج إليه فيندم فيستقبح الرجوع فيه فيهب منه شيئا آخر على أن يعوضه الأول
فيحصل منه مقصوده ويندفع عنه مذمة لرجوع في الهبة. أرأيت لو كان الأول منهما
صدقة والآخر هبة فعوضه الصدقة عن الهبة أما كان ذلك عوضا * وذكر في اختلاف زفر
ويعقوب رحمهما الله تعالى لو وهب نصف داره من رجل وتصدق عليه بنصفها وسلم الكل
لم يجز في قول زفر لان اختلاف السبب كتفرق العقد والتسليم فكأنه وهب النصف
وسلم ثم النصف وقال أبو يوسف رحمه الله التسليم حصل جملة واحدة بعقد هو تبرع كله فيجوز
كما لو وهب الكل وهذا لان الفرق بين الصدقة والهبة في مقصود العوض ففي الصدقة
المقصود الثواب دون العوض وفي الهبة المقصود العوض فأما في اخراج العين عن ملكه
وتمليك القابض بطريق التبرع لا فرق بينهما. قال (وان وهب له حنطة فطحن بعضها
وعوض دقيق تلك الحنطة كان جائزا) لان الدقيق حادث بالطحن وهو غير الحنطة ولهذا
يكون مملوكا للغاصب فكان تعويضه دقيق هذه الحنطة ودقيق حنطة أخرى سواء ولان
حقه في الرجوع قد انقطع بالطحن فتعويضه إياه لا يكون رجوعا فأما قبل الطحن حق
الواهب في الرجوع ثابت والرد مستحق على الموهوب له إذا رجع فيه الواهب فيقع فعله
على الوجه المستحق وعلى هذا لو وهب له ثيابا فصبغ منها ثوبا بعصفر أو خاطه قميصا ثم
عوضه أو كان وهب له سويقا فلت بعضه ثم عوضه لان حقه في الرجوع قد انقطع بهذا
الصنع والتحق هذا بسائر أموال الموهوب له فكما أنه لو عوضه مالا آخر كان ذلك عوضا
81

فكذلك هذا المال. قال (وإذا وهب للواهب شيئا ولم يقل هذا عوض من هبتك فللواهب
أن يرجع في هبته) لأنه لما لم يضف تمليكه إلى هبته كان فعله هبة متبدأة لا تعويضا فلكل
واحد منهما أن يرجع فيه ولان سقوط حق الرجوع لحصول مقصود الواهب وإنما يعلم
ذلك إذا بين له أنه عوض ويرضى به فأما بدونه لا يحصل المقصود * وان قال قد كافيتك هذا
من هبتك أو جازيتك أو أثبتك كان عوضا) لان المقصود يحصل بهذه الألفاظ والغرور
يندفع. قال (وان عوض من نصف الهبة شيئا كان له أن يرجع فيما بقي اعتبار للبعض
بالكل) وهذا لان التعويض مما يحتمل التحري في الموهوب فإذا أضاف العوض إلي بعض
الهبة اقتصر حكمه عليه بخلاف الطلاق والنكاح فإنه لا يحتمل التحري في المحل ويجوز أن
يثبت حق الرجوع في النصف دون النصف ابتداء كما لو وهب منه النصف وتصدق عليه
بالنصف فلان يجوز ذلك بقاء أولى. قال (وليس للواهب أن يرجع في هبته عند غير قاض
إلا أن يرد عليه الموهوب له فيجوز) لما بينا أن الرجوع في الهبة مختلف فيه بين العلماء رحمهم
الله منهم من رأى ومنهم من أبى وفى أصله وهي فيكون الفصل بينهما في القضاء والرضا لان
الواهب إن كان يطالب بحقه فالموهوب له يمنع ملكه والملك مطلق له ذلك فلا بد من اعتبار
قضاء القاضي بينهما. قال (ولو كانت الهبة عبدا فباعه الوهوب له أو أعتقه قبل أن يقضى
به القاضي للواهب أجاز ما صنع الموهوب له فيه من ذلك) لان ملكه قائم ما لم يقض القاضي
عليه بالرجوع والملك في المحل منفذ للبيع فيه والعتق إذا صدر من أهله في محله ينفذ ولا
يجوز ذلك أن فعله بعد قضاء القاضي عليه بالرد قبل أن يرده لان بقضاء القاضي عاد العبد إلى
ملك الواهب وتصرف ذي اليد في ملك الغير لا يكون نافذا إلا أن يجيز المالك. قال (وان
مات في يد الموهوب له قبل أن يقبضه الواهب بعد ما قضى القاضي له لم يكن للواهب ان
يضمنه قيمته) لان أصل قبضه لم يكن موجبا ضمان المقبوض عليه واستدامة الشئ معتبر
بأصله وكذلك منعه قبل قضاء القاضي منع بسبب ملكه فلا يكون موجبا للضمان عليه ولم
يوجد بعد القضاء في الموهوب سبب موجب للضمان عليه والضمان لا يجب بدون السبب
إلا أن يكون صنعه بعد القضاء وقد طلب منه الواهب فهذا المنع يتقرر بسبب الضمان وهو
قصر يد المالك عن ملكه بإزالة تمكنه من اخذه وهو حد الغصب الموجب للضمان. قال
(فإن كانت الهبة هالكة أو مستهلكة أو خارجة من ملك الموهوب له إلى ولده الصغير أو
82

إلى أجنبي بهبة أو غيرها أو زادت عنده خيرا فلا رجوع فيها للواهب) وقد بينا هذه الموانع
والفرق بين زيادة العين وزيادة السعر وبين الزيادة في البدن والنقصان في حكم الرجوع
قال (وان كانت الهبة دارا أو أرضا فبنى في طائفة منها أو غرس شجرا أو كانت جارية صغيرة
فكبرت وازدادت خيرا أو كان غلاما فصار رجلا فلا رجوع له في شئ من ذلك) وقال
ابن أبي ليلى له أن يرجع في جميع ذلك لان حق الرجوع كان ثابتا في الأصل فيثبت في البيع
فان ثبوت الحكم في البيع بثبوته في الأصل ولا يجوز أن يبطل الحكم الثابت في الأصل
بسبب المنع ولكنا نقول حق الرجوع للواهب مقصور على الموهوب بعينه فلا يثبت فيما
ليس بموهوب تبعا كان أو أصلا وهنا الحق في الأصل ضعيف وحق صاحب الزيادة في
الزيادة قوى فإذا تعذر التمييز بينهما رجحنا أقوى الحقين وجعلنا الضعيف مرفوعا بالقوى
والبناء في بعض الأرض كالبناء في جميعها لان البناء في جانب من الأرض يعد زيادة في
جميع الأرض ألا ترى أنه يزداد به مالية الكل وهذا إذا كان ما بنى بحيث يعد زيادة فإن كان
لا يعد زيادة كالآري أو يعد نقصانا كالتنور في الكاشانة فإنه لا يمنع الرجوع لانعدام
المانع وهو زيادة مالية الموهوب بزيادة في عينه. قال (وان كانت الهبة دارا فهدم بناءها كان
له أن يرجع في الأرض) وكذلك في غير الدار إذا استهلك بعض الهبة ببيع أو غيره وبقي بعضها
كان له أن يرجع في الباقي اعتبارا للبعض بالكل وهذا لان ما فعله من هدم البناء نقصان في
الأرض وليس بزيادة. قال (وان كانت الهبة ثوبا فصبغه أحمر أو أصفر وخاطه لم يكن له أن
يرجع فيه) لان ما فعله زيادة وصف قائم في العين ولو قطعة ولم يخطه فله أن يرجع فيه
لان القطع قبل الخياطة نقصان ولم يذكر ما لو صبغه أسود (والجواب) أن عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى له أن يرجع فيه لان السواد عنده نقصان. وعند هما ليس له أن يرجع
وقد بينا المسألة في كتاب الغصب. قال (وإذا وهب دينا له عليه فقبله لم يكن له أن يرجع
فيه) لأنه سقط عنه فإنه قابض للدين بذمته فيملك بالقبول ومن ملك دينا عليه سقط ذلك
عنه والساقط يكون متلاشيا فلا يتحقق الرجوع فيه كما لو كان عينا فهلك عنده. قال (فان
قال الموهوب له مكانها لا أقبلها فالدين عليه بحاله) والحاصل ان هبة الدين ممن عليه الدين
لا تتم الا بالقبول والابراء يتم من غير قبول ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء الله
وعن زفر رحمه الله انه يسوي بينهما وقال تتم الهبة والا برء قبل القبول بناء علي أصلة انه
83

يعتبر ما هو المقصود والمقصود في الوجهين الاسقاط دون التمليك لان ما في الذمة ليس بمحل
للتمليك ولكنه مجرد مطالبة يحتمل الاسقاط ولكن عند زفر رحمه الله ان رده المديون صح
رده في الوجهين جميعا وكان ابن شجاع رحمه الله يقول لا يعمل رده لان الاسقاط يتم بالمسقط
والمسقط يكون متلاشيا فلا يتصور فيه الرد وقاس ذلك بالطلاق والعتاق والعفو عن القصاص
ولكنا نقول الدين مملوك للطالب في ذمة المديون فيكون قابلا للتمليك بملك العين ويجعل
ذلك في الحكم كأنه ذلك الدين خصوصا في السلم والصرف فإذا ثبت انه قابل للتمليك والهبة
عقد تمليك فإذا ذكر لفظ الهبة وجب اعتبار معنى التمليك فيه والتمليك لا يتم بالمملك قبل قبول
الآخر لان أحدا لا يملك ادخال الشئ في ملك غيره قصدا من غير قبوله وهو محتمل للاسقاط
أيضا لأنه في الحقيقة ليس إلا مجرد حق المطالبة وابراء اسقاط إذا ذكر لفظ الابراء وكان
تصرفه اسقاطا والاسقاط تصرف من المسقط في خالص حقه فلهذا يتم بنفسه ولكنه يتضمن
معنى التمليك من وجه لما بينا ان الدين مملوك في ذمته فإنما يسقط عنه إذا ملكه فلاعتبار هذا
المعنى قلنا له أن يرده بخلاف الطلاق والعتاق فإنه اسقاط محض لا يتضمن معنى التمليك حتى أن
الابراء لو كان اسقاطا محضا لم يرتدا بالرد أيضا و هو ابراء الكفيل فإنه اسقاط محض
لان الدين يبقى على الأصل علي حاله فلا يرتد برد الكفيل والهبة من الكفيل تمليك منه حتى
يرجع على المكفول عنه فلا يتم الا بقبوله فإن كان الموهوب له غائبا ولم يعلم بالهبة حتى مات
جازت الهبة وبرئ مما عليه وهذا استحسان فأما في القياس لا يبرأ فأصله في الموصى له إذا
مات بعد موت الموصى قبل قبوله في القياس تبطل الوصية لأنه قبل القبول لم يملك وإنما يخلفه
وارثه في ملكه بعد موته. وفي الاستحسان جعل موته بمنزلة القبول فكذلك هنا في
الاستحسان يجعل موت الموهوب له بمنزلة قبوله قال (وان وهبه له وهو معه قائم فسكتا حتى
افترقا جازت الهبة) وهذا استحسان أيضا فان سكوته عن الرد دليل على رضاه بالهبة منه عرفا
ودليل الرضا كصريح الرضا ألا ترى ان السكوت من البكر جعل إجازة لعقد الولي استحسانا
فهذا مثله ومن مشايخنا رحمهم الله من بنى الجواب في هذا الفصل على الظاهر ويقول هبة الدين
ممن عليه الدين بمنزلة الابراء يتم بنفسه من غير قبول وإن كان له حق الرد فيها فالموت قبل
الرد يبطل حقه في الرد ويبقى تاما في نفسه وكذلك بالسكوت حتى افترقا ينعدم الرد فتبقى
الهبة تامة ولكن الأول وهو الفرق بين الهبة والابراء من حيث المعنى أصح ويتضح ذلك
84

في الفرق بين ابراء الكفيل وبين هبة الدين منه. قال (رجل وهب لرجل هبة وقبضها
الموهوب له ثم وهبها الموهوب له لآخر وسلمها إليه ثم رجع فيها أوردها عليه الآخر
فللواهب الأول ان يرجع فيها) أما إذا رجع فيها بقضاء القاضي فلان القاضي يفسخ بقضائه
العقد الثاني فيعود إلى الأول ملكه المستفاد بالهبة من الأول وقد كان حق الرجوع ثابتا له
في ذلك الملك وما سقط بزواله تعذر استيفاؤه لانعدام محله فإذا عاد المحل كما كان عاد حقه في
الرجوع وان رده عليه بغير قضاء القاضي فكذلك عندنا وقال زفر رحمه الله ليس للأول ان
يرجع لان هذا ملك حادث له ثابت بتراضيهما فهو بمنزلة ما لو وهبه له ابتداء أو تصدق
به عليه أو أوصى به له أو مات فورثه والدليل عليه انه لورده في مرضه بغير قضاء ومات من
ذلك المرض اعتبر من ثلثه. والدليل على الفرق بين القضاء والرضا الرد بالعيب فإنه إذا كان
بقضاء القاضي كان فسخا وإن كان بغير قضاء فهو كالبيع المبتدأ ولكنا نقول حق
الواهب في الرجوع مقصور على العين وفى مثله القضاء وغير القضاء سواء كالأخذ بالشفعة
وهذا لأنهما فعلا بدون القاضي عين ما يأمر به القاضي أن لو رفعا الامر اليه وإنما يكون التراضي
موجبا ملكا مبتدأ إذا تراضيا على سبب موجب للملك منه كالهبة والصدقة والوصية وهنا
تراضيا على دفع السبب الأول وذلك لا يصح موجبا ملكا مبتدأ بخلاف الرد بالعيب فحق
المشترى ليس في عين الرد بل بالمطالبة في الجزء الثابت ولهذا لو تعذر الرد رجع بحصة العيب
من الثمن وهنا حق الواهب في فسخ العقد مقصور على العين. قال (وإذا رجع في مرض
الموهوب له ففيه روايتان كلاهما في الكتاب) في احدى الروايتين قال يعتبر من جميع ماله وذكر
ابن سماعة فيه القياس والاستحسان في القياس يعتبر من جميع ماله وفى الاستحسان يعتبر من
الثلث لا لأنه تمليك ابتداء ولكن الراد في مرضه باختياره يتم بالقصد إلى ابطال حق الورثة
كما تعلق حقهم به فلرد قصده جعل معتبرا من ثلثه. قال (رجل وهب عبدا لرجلين فله أن يرجع
في نصيب أحدهما وكذلك أن جعل نصيب أحدهما هبة ونصيب الآخر صدقة كان له أن
يرجع في الهبة اعتبارا للجزء بالكل) وهذا في العبد غير مشكل فان الشيوع فيما لا يحتمل
القسمة لا يمنع ابتداء الهبة فكذلك الرجوع. وفيما يحتمل القسمة كالدار ونحوها الجواب
كذلك وهو دليلنا على زفر فان الرجوع بغير قضاء القاضي لو كان بمنزلة الهبة ابتداء لما صح في
مشاع يحتمل القسمة وحيث صح عرفنا انه فسخ وأن العقد يبقى في النصف الآخر فيكون
85

ذلك شيوعا طارئا ولا أثر للشيوع الطارئ في الهبة. والدليل عليه أن بالرد بالتراضي يعود
الملك إلى الواهب قبل القبض وابتداء الهبة لا يوجب الملك الا بالقبض وهو الدليل على أن
الشيوع لا يمنع منه لان تأثير الشيوع في المنع من اتمام القبض فلا يؤثر فيما لا يشترط فيه القبض
قال (فان وهب لمكاتب رجل هبة ثم عتق المكاتب أو عجز فله أن يرجع في الهبة في قول أبى يوسف)
وقال محمد فله أن يرجع فيها إذا عتق وليس له أن يرجع فيها إذا عجز فلا خلاف ان قبل العتق
والعجز له أن يرجع فيها. وفيه نوع اشكال فالمكاتب فقير والهبة من الفقير صدقة ولا رجوع
فيها. قال (ولكنا نقول المكاتب فقير ملكا ولكنه غنى يدا وكسبا فالهبة منه لا تنفك عن
قصد العوض إما بمنافعه أو كسبه كالهبة من العبد فله أن يرجع فيها إذا لم ينل العوض وكذلك
بعد العتق لان حق الرجوع ثبت له في ملك المكاتب فقد تقرر ذلك بعتقه فأما إذا عجز
فالأصل عند أبي يوسف ان عجز المكاتب يقرر ملك المولى في كسبه كما أن عتقه يقرر ملكه
لان لكل واحد منهما حق الملك في الكسب وعند محمد عجز المكاتب ناقل للملك من كسبه
إلى مولاه بمنزلة موت الحر فكما أن موت الحر الموهوب له يقطع حق الواهب في الرجوع
فكذلك عجز المكاتب والدليل على الفرق أن المكاتب إذا استبرأ جارية محيضة ثم عتق فليس
عليه فيها استبراء جديد ولو عجز كان على المولى أن يستبرئها وسنقرر هذا الأصل في كتاب
الإجارات إن شاء الله تعالى. قال (فإن كان المكاتب أخ الواهب لم يرجع فيها في حال قيام
للكتابة ولا بعد عتقه لان الحق للمكاتب والمانع من الرجوع وهو الاخوة بينهما قائم
وبعد العجز كذلك عند محمد رحمه الله وعند أبي يوسف يرجع فيها بعد العجز لأنه يقرر الملك
للمولى والمولى أجنبي عنه وقد بينا أنه لو وهب لأخيه وهو عبد كان له أن يرجع فيها والمكاتب
بعد العجز بمنزلة العبد وكان أبو يوسف يعتبر معنى قطيعة الرحم بسبب المنازعة في الرجوع
فيقول قبل العجز خصومته في الرجوع مع المكاتب فيؤدى إلى قطيعة الرحم وبعد العجز
خصومته مع المولى وليس فيه قطيعة الرحم ولان هبته تنفك عن قصد العوض ما دام الحق
فيها لقريبه فإذا تقرر الحق لأجنبي لم ينفك عن قصد العوض. قال (رجل وهب لرجل أرضا
فبنى فيها الموهوب له ثم أراد الرجوع فيها وخاصمه إلى القاضي فقال له القاضي ليس لك أن
ترجع فيها ثم هدمها الموهوب له فعادت كما كانت فللواهب أن يرجع فيها لزوال المانع وهو
البناء) وفرق بين هذا وبين ما إذا اشترى عبدا علي انه بالخيار ثلاثة أيام فحم العبد في الأيام
86

الثلاثة وخاصمه في الرد فأبطل القاضي حقه للحمى ثم أقلعت قبل مضى الأيام الثلاثة ليس
له أن يرده لان هناك حقه في الخيار بعرض السقوط حتى يسقط باسقاطه فكذلك يسقط
بقضاء القاضي وهنا حق الواهب في الرجوع ليس بعرض السقوط حتى لا يسقط باسقاطه
فكذلك القاضي لا يسقط بقضائه حقه في الرجوع ولكن يكف عن القضاء بالرجوع لتعذر
ذلك بسبب البناء فإذا زال ذلك فقد زال المانع وحقه قائم وكان له الرجوع فيها يوضحه أن
السبب هناك للفسخ عدم لزوم العقد فبقضائه يصير لازما لان صفة اللزوم تليق بالبيع وهنا
السبب كون العقد تبرعا ويمكن الخلل في مقصوده وهو العوض وبقضائه لا يرتفع هذا السبب
فكان له أن يرجع إذا زال المانع. قال (رجلان وهبا لرجل عبدا وقبضه ثم أراد أحدهما أن
يرجع في حصته والآخر غائب فله ذلك) لان كل واحد منهما مباشر للتصرف في نصيب
نفسه فيكون متمكنا من الرجوع فيه كما لو انفرد بهبة نصيبه. قال (وإذا أراد الواهب الرجوع
في الهبة وقال الموهوب له أنا أخوك أو قال قد عوضتك أو قال إنما تصدقت بها على وكذبه
الواهب فالقول قول الواهب) لان السبب المثبت لحق الواهب في الرجوع ظاهر والموهوب
له يدعى المانع فالقول فيه قول المنكر * ثم إذا قال تصدقت على فالتمليك من جهة الواهب اتفاقهما
والقول قول المملك في بيان سبب التمليك وإذا قال عوضتك فهو يدعى تسليم شئ من ماله
إليه وهو منكر وإذا قال أنا أخوك فالاخوة لا تثبت بمجرد دعواه ولا يتبين به أنه لم يكن
قصد الواهب العوض. قال (وان كانت الهبة خادما فقال وهبتها لي وهي صغيرة فكبرت
عندي وازدادت خيرا وكذبه الواهب فالقول قول الواهب عندنا) وقال زفر القول قول الموهوب
له لأنه مالك لها في الحال وهو منكر حق الواهب في الزيادة الحادثة فيها فيكون القول قوله
كما إذا كان الموهوب أرضا وفيها بناء أو شجر وقال الواهب وهبتها لك وقال الموهوب
له لم يكن فيها بناء ولا شجر حين وهبتها فالقول قول الموهوب له. ولكنا نقول الموهوب
له يدعى تاريخا سابقا في الهبة والهبة حادثة فمن يدعى فيها تاريخا سابقا لا يقبل قوله الا بحجة
ثم ليس فيها زيادة من غيرها وحق الواهب ثابت في عينها باتفاقهما فكان الموهوب له يدعى
انتفاء حقه من الزيادة المتولدة من العين مثل السمن والكبر بخلال البناء والشجر فإنه غير
متولد من الأرض ولكنه ملك مبتدأ للموهوب له في الحال وهو ينكر تملكه من جهة
الواهب وثبوت حقه فيه يوضح الفرق أن البناء من وجه أصل حتى يجوز افراده بالبيع
87

فالظاهر فيه شاهد للموهوب له دون الواهب والسمن والكبر وصف وهو بيع محض
وثبوت الحق في البيع بثبوته في الأصل فكان الظاهر شاهدا للمواهب * وذكر في اختلاف
زفر ويعقوب رحمهما الله لو وهب له عبدا فعلمه الموهوب له الكتابة أو الخبز فليس للواهب
أن يرجع فيه عند أبي يوسف وقال زفر له أن يرجع لأنه لا زيادة في عين الموهوب فهو كزيادة
القيمة بتغيير السعر وقال أبو يوسف رحمه الله تعلم الكتابة والخبز معنى في العبد تزداد به ماليته
فهو بمنزلة السمن بخلاف زيادة السعر فان ذلك ينبنى على كثرة الرغائب فيه إلا أن يكون
معنى في العين. والدليل عليه ان صفة الكتابة والخبز يصير مستحقا للمشترى بالشرط ويثبت
له الخيار عند فواته بمنزله صفة السلامة عند اطلاق العقد فبه يتبين أنه وصف في العين وكل
شئ زاد فيه من غيره نحو الثوب يصبغه والسويق يلته والثوب يخيطه فالقول فيه قول
الموهوب له بمنزلة البناء والغرس وأما ما كان من حيوان فالقول فيه قول الواهب بمنزلة الكبر
في الخادم. قال (وإذا كانت الهبة جارية فولدت عند الموهوب له من زوج أو فجور فللواهب
أن يرجع فيها دون الولد لأن الولد ليس بموهوب وحق الرجوع مقصور على عين الموهوب
والولادة في الجارية نقصان وقد بينا أن النقصان لا يمنع الرجوع والزيادة المنفصلة ليست
كالزيادة المتصلة لان الأصل هناك لا يتميز عن الزيادة ليرجع فيها وهنا الزيادة منفصلة عن
الأصل فله أن يرجع فيه وهذا بخلاف البيع فان بعد الزيادة المنفصلة هناك لو رد الأصل
ردها بجميع الثمن فيسلم له الولد مجانا بحكم عقد المعاوضة وذلك في المعاوضات ربا وفى الهبة
يسلم له الولد مجانا وهذا غير ممتنع في التبرعات وقد كان الأصل سالما له مجانا. قال (وإذا أراد
الواهب الرجوع وهي حبلى فإن كانت قد ازدادت خيرا فليس له ان يرجع فيها وان كانت
قد ازدادت شرا فله أن يرجع فيها) والجواري في هذا تختلف فمنهن من إذا حبلت سمنت
وحسن لونها فكان ذلك زيادة في عينها فيمنع الرجوع ومنهن من إذا حبلت اصفر لونها
ورق ساقها فيكون ذلك نقصانا فيها فلا يمنع حق الواهب من الرجوع قال (وإذا وهب
جاريتين فولدت إحداهما فعوضه الولد عنهما لم يكن له ان يرجع في واحدة منهما) لأنه لاحق
للواهب في الولد فهو كسائر املاك الموهوب له في صلاحية العوض فإذا عوضه عنهما ورضى به
الواهب فقد تم مقصوده. قال (وان وهب له حديدا فضرب منه سيفا أو غزلا فنسجه أو وهب
له دفاتر فكتب فيها لم يكن له أن يرجع فيها في شئ من ذلك أبدا) اما لتبدل العين أو للزيادة
88

الحادثة في العين أو في ماليته بفعله فان ذلك مانع من الرجوع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
باب الرقبي
قال (رجل حضره الموت فقال داري هذه حبيس لم تكن حبيسا وكان ذلك ميراثا)
لان قوله حبيس أي محبوس فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقول ومعناه محبوس عن
سهام الورثة وسهام الورثة في ماله بعد موته حكم ثابت بالنص فلا يتمكن من ابطاله بقوله
وهو معنى قول شريح لا حبيس عن فرائض الله تعالى وجاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع
الحبيس. وكذلك أن قال داري هذه حبيس على عقبى بعد موتى فهو باطل لان معناه محبوس على
ملكهم لا يتصرفون فيه بالإزالة كما يفعله المالك وهو مخالف لحكم الشرع فكان باطلا. قال
(ولو قال داري هذه لك رقبي فهو باطل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف
رحمه الله هي هبة صحيحة إذا قبضها وكذلك لو قال لك حبيس) فأبو يوسف استدل بحديث ابن
الزبير عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى والرقبي والمعنى فيه أن
قوله داري لك تمليك صحيح وقوله حبيس أو رقبي باطل فكأنه لم يذكر ذلك يوضحه ان
معنى قوله داري لك رقبي ملكتك داري هذه فأرقب موتك لتعود إلي فيكون بمنزلة العمرى
في معنى الانتظار والتعليق بالعود إليه دون التمليك فيبقى التمليك في الحال صحيحا. وحجتهما في
ذلك حديث الشعبي عن شريح رحمهما الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى ورد الرقبي
والحديثان صحيحان فلا بد من التوفيق بينهما. فنقول الرقبي قد تكون ممن الا رقاب وقد تكون
من الترقب حيث قال أجاز الرقبي يعنى إذا كان من الا رقاب بأن يقول رقبة داري لك
وحيث قال رد الرقبي إذا كان من الترقب وهو أن يقول أراقب موتك فراقب موتى فان مت
فهي لك وان مت فهي لي فيكون هذا تعليق التمليك بالخطر وهو موت المملك قبله وذلك باطل
ثم لما احتمل المعنيان جميعا والملك لذي اليد فيها يقينا فلا يزيله بالشك وإنما يكون قوله داري
لك تمليكا إذا لم يفسر هذا الإضافة بشئ أما إذا فسرها بقوله رقبى أو حيس يتبين أنه ليس
بتمليك كما لو قال داري لك سكنى تكون عارية وهذا لان الكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم
لذلك التفسير. قال (رجل قال لرجلين عبدي هذا لأطولكما حياة أو حبيس على أطولكما
حياة فهذا باطل) لأنه لايراد بهذا اللفظ طول الحياة فيما مضى حتى لو كان أحدهما شابا والآخر
89

شيخا لا يتعين الشيخ بالتمليك منه بهذا اللفظ ولكن المراد طول الحياة في المستقبل معناه
للذي يبقى منكما بعد موت الآخر فهو تعليق التمليك بالخطر وهو معنى الرقبي من حيث إنه يأمر
كل واحد منهما أن يراقب موت صاحبه لتكون الدار له وذلك باطل والله سبحانه وتعالى أعلم
باب الشهادة في الهبة
قال (وإذا شهد شاهدان على الهبة ومعاينة القبض جازت الهبة) لان الثابت بالبينة
كالثابت بالمعاينة والهبة مع القبض سبب ملك تام وان شهدا على اقرار الواهب بالقبض وهو
يجحده لم تجز شهادتهما في قول أبي حنيفة الأول ثم رجع فقال الشهادة جائزة وهو قول أبى
يوسف ومحمد رحمهما الله والصدقة والرهن على الخلاف أيضا. وجه قوله الأول ان تمام هذه
العقود بقبض يوجد وهو فعل لا قول والاقرار يحتمل الصدق والكذب والمخبر به إذا كان
كذبا فبالاخبار لا يصير صدقا وما لم يكن موجدا من القبض فباقراره لا يصير موجودا
فظهر أن هذه الشهادة ليست بما هو سبب ملك تام. وجه قوله الآخر ان القبض في هذه
العقود لا يكون أقوى من القتل والغصب ثم فعل القتل والغصب كما يثبت بالشهادة على
معاينته يثبت بالشهادة على الاقرار به وهذا لان الثابت من الاقرار بالبينة كالمسموع من المقر
في مجلس الحكم. ولو أقر الخصم بأنه وهبه وسلمه إليه قضي بالملك له فكذلك إذا ثبت
اقراره بالبينة. قال (وإن كان لعبد في يد الموهوب له فشهد على اقرار الواهب بالهبة والقبض
جازت الشهادة كما لو سمع القاضي اقراره بذلك وكذلك أن كان العبد في يد الواهب فأقر
عند القاضي أنه وهبه منه وسلمه إليه أخذ باقراره) لان كون العبد في يده لا ينافي ما أقربه من
الهبة وقبض الموهوب والمقر يعامل في حق نفسه كأن ما أقربه حق وفرق أبو حنيفة على
القول الأول بين ما إذا أقر بنفسه وبين ما إذا شهد الشهود على اقراره لان الاقرار موجب
بنفسه من غير قضاء والشهادة لا توجب الا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضى الا ان يشهدوا
بسبب ملك تام. قال (وإذا استودع الرجل رجلا وديعة ثم وهبها له ثم جحده فشهد بذلك
عليه شاهد ان ولم يشهدا بالقبض فهو جائز) لأن العقد يثبت بالبينة وقبضه معلوم بالمعاينة
فيتم به سبب الملك. قال (فان جحد الواهب أن تكون في يده يومئذ وقد شهد الشهود على
الهبة ولم يشهدوا على معاينة القبض ولا على اقرار الواهب والهبة في يد الموهوب له يوم
90

تخاصم إلي القاضي فذلك جائز إذا كان الواهب حيا) لأنه في الحال قابض وقد أثبت عقده
بالبينة فيجعل قبضه صادرا عن ذلك العقد لان القبض حكم العقد أو متمم للعقد الذي هو
سبب الملك والثابت من العقد بالبينة كالثابت معاينة فكما يجعل القبض هنا متمما للسبب
فكذلك هنا ولكن هذا إذا كان الواهب حيا فإن كان ميتا فشهادتهما باطلة لان الملك
في الحال للوارث فلا يكون اثبات العقد على الواهب بعد موته سبب للملك ألا ترى أنه ما دام
الواهب حيا إذا قبض الموهوب باذنه تتم الهبة ويملكه بعد موته لا يملكه بالقبض وإن كان
قد أذن له في ذلك إلا أن يشهدا على أنها كانت في يده في حياة الواهب أو على اقرار الواهب
بذلك فحينئذ يثبت الملك للموهوب له لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة. قال (رجل وهب
لرجل عبدا وقبضه الموهوب له ثم جاء رجل وأقام البينة انه كان اشتراه من الواهب قبل
الهبة والقبض أبطلت الهبة) لأنه أثبت الشراء من المالك والشراء يوجب الملك بنفسه فتبين
به أنه وهب وسلم مالا يملك. قال (فان شهدوا على الشراء ولم يذكروا انه كان قبل الهبة فهو
للموهوب له) لأنه في يده والاستحقاق له ثابت باعتبار يده وليس في هذه الهبة ما يوجب
الاستحقاق عليه لان شراءه محتمل فإنه لو كان قبل الهبة ثبت استحقاقه وإن كان بعد الهبة لا
يثبت وبالاحتمال لا يثبت الاستحقاق * وكذلك أن أرخ شهود الشراء شهرا أو سنة لان اليد
للموهوب له معاين وهو دليل سبق عقده فان تمكنه من القبض دليل يدل عليه ذلك والتاريخ
في حق الآخر مشهود به وليس الخبر كالمعاينة. فإن كان العبد في يد الواهب فأقام الموهوب
له البينة انه وهبه له وقبضه قبل الشراء وأقام المشترى البينة انه اشتراه قبل الهبة وقبضه
فالعبد لصاحب الشراء لان سبب ملكه أقوى من حيث إن الشراء يوجب الملك بنفسه وانه
عقد ضمان وانه يوجب الملك في البدلين وعند المعاوضة يترجح أقوى السببين فان الضعيف
مدفوع بالقوي ولا يظهر عند المقابلة بالقوى. قال (رجل وهب لرجل متاعا ثم قال إنما كنت
استودعتك فالقول قول صاحب المتاع مع اليمين) لان المستودع يدعي تملك العين عليه بسبب
وهو منكر فعليه أن يثبت السبب بالبينة والقول قول المنكر مع اليمين فإذا حلف أخذ المتاع
وان وجده هالكا فإن كان قد هلك بعد ما ادعى المستودع الهبة فهو ضامن للقيمة لأنه بدعوى
التملك بالهبة يكون جاحدا للوديعة والمودع يضمن الوديعة بالجحود ولأنه صار مفوتا لليد
الحكمية التي كانت للمودع حين زعم أنه قابض لنفسه متملك فكان ضامنا القيمة لهذا
91

(فان قيل) هذا أن لو ثبت الايداع (قلنا) لا حاجة إلى ذلك بقبض مال الغير لنفسه
علي وجه التملك موجب للضمان إلا أن يثبت تمليك من صاحبه إياه ولم يثبت ذلك والله
سبحانه وتعالى أعلم
باب الصدقة
قال (الصدقة بمنزلة الهبة في المشاع وغير المشاع وحاجتها إلى القبض) وقد بينا اختلاف
ابن أبي ليلي فيها إلا أنه لا رجوع في الصدقة إذا أتمت لان المقصود بها نيل الثواب وقد
حصل وإنما الرجوع عند تمكن الخلل فيما هو المقصود ويستوى ان تصدق علي غنى أو فقير
في أنه لا رجوع له فيها. ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول الصدقة على الغنى والهبة سواء إنما
يقصد به العوض دون الثواب ألا ترى ان في حق الفقير جعل الهبة والصدقة سواء في أن
المقصود الثواب فكذلك في حق الغنى الهبة والصدقة سواء فيما هو المقصود ثم له أن يرجع
في الهبة فكذلك في الصدقة ولكنا نقول ذكره لفظ الصدقة يدل على أنه لم يقصد العوض
ومراعاة لفظه أولى من مراعاة حال المتملك * ثم التصدق على الغنى يكون قربة يستحق بها
الثواب فقد يكون غنيا يملك نصابا ولكن عيال كثيرة والناس يتصدقون على مثل هذا لنيل
الثواب ألا ترى ان عند اشتباه الحال يتأدى الواجب من الزكاة بالتصدق عليه ولا رهن
ولا رجوع فيه بالاتفاق فكذلك عند العلم بحاله لا يثبت له حق الرجوع عليه. قال (رجل
تصدق على رجل بصدقه وسلمها إليه ثم مات المتصدق عليه والمتصدق وارثه فورثه تلك
الصدقة فلا بأس عليه فيها) بلغنا في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا تصدق
بصدقة ثم مات المتصدق عليه فورثه النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الصدقة والحديث فيه
ما روى أن طلحة رضي الله تعالى عنه تصدق على أمه بحديقة ثم ماتت قال صلى الله عليه وسلم
ان الله تعالى قبل منك صدقتك ورد عليك حديقتك وفي المشهور ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال لا تحل الصدقة لغنى الا بخمسة وذكر من جملتها رجلا تصدق بصدقة ثم مات المتصدق عليه
فورث ثلث الصدقة. قال (رجل قال في صحته جعلت غلة داري هذه صدقة للمساكين ثم مات
أو قال داري هذه صدقة في المساكين ثم مات قال هي ميراث عنه) لأنها صدقة لم تتصل بهذا
القبض ولان هذا اللفظ منه بمنزلة النذر سواء التزم الصدقة بعينها أو بغلتها والمنذور لا يزول
92

عن ملكه قبل تنفيذ الصدقة فيه وإنما عليه الوفاء بنذره حقا لله تعالي ولهذا يفتي به ولا يجبر عليه
في الحكم ومثله لا يمنع الإرث فلا يبقى بعد الموت وإن كان حيا وتصدق بقيمتها أجزأه لان
ما لزمه من التصدق في عين مال بالتزامه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وهو الزكاة والواجب
هناك يتأدى بالقيمة كما يتأدى بالعين فهذا مثله لان المقصود في حق المتصدق عليه اغناؤه
وسد خلته. قال (فان قال جميع ما أملك صدقة في المساكين فعليه أن يتصدق بجميع ما يملك
من الصامت وأموال السوائم وأموال الزكاة ولا يتصدق بالعقار والرقيق وغير ذلك استحسانا)
وفي القياس عليه أن يتصدق بجميع ذلك وهو قول زفر رحمه الله وزعم بعض مشايخنا رحمهم
الله ان في قوله جميع ما أملك يتصدق بالكل قياسا واستحسانا وإنما القياس والاستحسان في
قوله مالي صدقة أو جميع مالي صدقة والأصح انهما سواء وجه القياس ان اسم الملك حقيقة
لكل مملوك له واسم المال لكل ما يتموله الانسان ومال الزكاة في ذلك وغير مال الزكاة سواء
ألا ترى أن في الإرث والوصية بالمال يستوى فيه ذلك كله وهذا لان اللفظ معمول به في
حقيقته ما أمكن ولكنه استحسن فقال إنما ذكر المال والملك عند ذكر الصدقة فيختص بمال
الزكاة بدليل شرعي وهو ان ما يوجبه علي نفسه معتبر بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليه والله
تعالي أوجب الحق في المال ولذلك يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه بخلاف
الوصية وهذا لان الصدقة شرعا إنما تكون عن غنى قال صلى الله عليه وسلم لا صدقه إلا عن
ظهر غنى والغنى شرعا يختص بمال الزكاة حتى لا يكون مالك العقار والرقيق لغير التجارة غنيا
شرعا فلهذا الدليل تركنا اعتبار حقيقة اللفظ وأو جبنا عليه التصدق بمال الزكاة وبخلاف الوصية
والميراث فان ذلك خلافه والحاجة إليه في مال الزكاة وغير مال الزكاة سواء ثم يمسك من
ذلك قوته فإذا أصاب شيئا بعد ذلك تصدق بما أمسك لان حاجته في هذا القدر مقدمة
إذ لو لم يسمك احتاج أن يسأل الناس ولا يحسن أن يتصدق بماله ثم يسأل الناس من ساعته
ولم يبين في الكتاب مقدار ما يسمك لان ذلك يختلف بقلة عياله وكثرة عياله. وقيل إن كان
محترفا فإنما يمسك قوت يوم وإن كان صاحب غلة امسك قوت شهر وإن كان صاحب ضياع
أمسك قوت سنة لان يد الدهقان إلى ما ينفق إنما تتصل سنة فسنة ويد صاحب الغلة شهرا
فشهرا ويد العامل يوما فيوما قال (رجل وهب للمساكين هبة ودفعها إليهم لم يرجع فيها
استحسانا وفى القياس يرجع) لأنه ملكه بطريق الهبة وفي أسباب الملك الغنى والفقير سواء
93

كالبيع وغيره. ووجه الاستحسان أن قصده بالهبة من الفقير الثواب دون العوض إذ لو كان
قصده العوض لاختار للهبة من يكون أقدر على أداء العوض ولما اختار الفقير مع عجزه عن
أداء العوض عرفنا ان مقصوده الثواب وقد نال ذلك. قال (وكذلك أن أعطى سائلا
أو محتاجا علي وجه الحاجة) فان العطية بمنزلة الهبة وإنما قصده بفعله سد خلة المحتاج وذلك
يفعل لابتغاء مرضاة الله تعالى ونبل ثوابه وهو معنى ما روي عن عمر رضي الله عنه من
وهب هبة لصلة رحم أو علي وجه الصدقة لم يكن له أن يرجع فيها. قال (رجل جعل في
داره مسجدا يصلى فيه الناس ثم مات قال هو ميراث لورثته) لأنه لم يميزه عن ملكه فيكون
هذه بمعنى صدقة المشاع. ثم الأصل في المساجد المسجد الحرام وهذا ليس في معنى ذلك
لان ذلك يدخله من شاء من كل جانب وهذا ملكه محيط بكل جانب منه فلا يتمكن أحد
من الدخول فيه بغير إذنه. فإن كان أخرجه من داره وعزله وجعله مسجدا وأظهره للناس ثم
مات فهو مسجد لا يورث وقد بينا تمام هذا الفصل في كتاب الوقف. قال (وان بنى على
منزله مسجدا وسكن أسفله أو جعله سردابا ثم مات فهو ميراث) وكذلك أن جعل أسفله
مسجدا وفوقه مسكنا لان المسجد ما يحرز أصله عن ملك العباد وانتفاعهم به على قياس
المسجد الحرام وذلك غير موجود فيما اتخذه حين استثنى العلو أو السفل لمنفعة نفسه * وعن
محمد قال إن جعل السفل مسجدا جاز وان جعل العلو مسجدا دون الفسل لا يجوز لان
المسجد ماله قرار وتأبيد وذلك في السفل دون العلو وعن الحسن بن زياد رحمه الله أنه إذا
دخل العلو مسجدا والسفل مستغلا للمسجد فهذا يجوز استحسانا وعن أبي يوسف أن
ذلك كله جائز رجع إليه حين قدم بغداد ورأي ضيق المنازل بأهلها فجوز أن يجعل العلو
مسجدا دون السفل والسفل دون العلو وهو مستقيم على أصله وقد بينا أنه يوسع في
الوقف فكذلك في المسجد. قال (رجل وهب لمسكين درهما وسماه هبة ونواه من
زكاته أجزأه) لما بينا ان في حق المسكين لفظة الهبة كلفظة الصدقة ولأنه لا معتبر باللفظ في
أداء الزكاة إنما المعتبر الاعطاء بنية الزكاة ألا ترى أنه لو أعطاه ولم يتكلم بشئ كان ذلك زكاة
له فلا يتغير ذلك الحكم بذكر الهبة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
باب العطية
(وإذا قال الرجل لغيره قد أعمرتك هذه الدار وسلمها إليه فهي هبة صحيحه) لحديث ابن
94

الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال امسكوا عليكم أموالكم
لا تعمروها فمن أعمر عمري فهي للمعمر له ولورثته بعده. وروى سلمة عن جابر رضي الله عنه
ما ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى للمعمر له ولعقبه بعده وقال عليه الصلاة والسلام
من أعمر عمري قطع قوله حقه يعنى قطع قوله وهبت لك عمرك حقه في الرجوع بعد موته
والمعنى فيه أنه ملكه في الحال والوارث يخلفه في ملكه بعد موته فشرط الرجوع إليه بعد
الموت فاسد والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة. قال (وكذلك لو قال نحلتك هذا الثوب أو
أعطيتك هذا الثوب عطية فهذه عبارات عن تمليك العين بطريق التبرع وذلك يكون هبة)
وكذلك لو قال قد كسوتك هذا الثوب فان هذا اللفظ لتمليك العين بدليل قوله تعالى أو
كسوتهم فالكفارة لا تتأدى الا بتمليك الثوب من المسكين ويقال في العرف كسا الأمير
فلانا أي ملكه * وان قال حملتك على هذه الدابة كانت عراية لان الحمل على الدابة إركاب وهو
تصرف في منافعها لا في عينها فتكون عارية إلا أن يقول صاحب الدابة أردت الهبة لان
هذا اللفظ قد يذكر للتمليك يقال حمل الأمير فلانا على فرسه أي ملكه فإذا نوى ما يحتمله
لفظه وفيه تشديد عليه عملت نيته. وكذلك لو قال قد أخدمتك هذه الجارية فهي عارية
لان معناه مكنتك من أن تستخدمها وذلك تصرف في منافعها لا في عينها. وقال قد منحتك
هذه الجارية أو هذه الأرض فهي عارية لان المنحة بدل المنفعة بغير بدل قال صلى الله عليه
وسلم المنحة مردودة والعارية مؤداة فيكون معنى كلامه جعلت لك منفعة هذه العين وهو
نفس العارية. فان قال قد أطعمتك هذه الأرض فإنما أطعمه غلتها والرقبي لصاحبها لان عينها
لا تطعم فمعناه أطعمتك ما يحصل منها فيكون تمليكا لمنفعة الأرض دون عينها وله أن يأخذها
متى شاء يعنى إذا كانت فارغه فأما بعد الزراعة إذا أراد أن يستردها فان رضى المستعير بأن
يقلع زرعها ويردها فله ذلك وان أبى تركت في يده بأجرة مثلها إلى وقت ادراك الغلة لأنه
محق في زراعتهما غير متعد فلا بد من مراعاة حقه بخلاف الغاصب وإنما يعتدل النظر من
الجانبين بأن تترك في يده بأجر إلى ادراك الغلة وان قال قد أطعمتك هذا الطعام فاقبضه فقبضه
فهذه هبة لان عين الطعام تطعم فإضافة لفظة الاطعام إلى ما يطعم عينه يكون تصرفا في العين
تمليكا بغير عوض وذلك يكون هبة. وكذلك لو قال جعلت هذه الدار لك فاقبضها لان معنى
كلامه ملكتك هذه الدار ألا ترى ان في التمليك ببدل لا فرق بين لفظ الجعل والتمليك
(7 ثاني عشر مبسوط)
95

فكذلك في التمليك بغير بدل * فان قال داري لك عمري سكنى فهذا عارية لان قوله سكنى
تفسير لقوله عمري والكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم للتفسير. وبيان هذا وهو ان
قوله لك عمري يحتمل تمليك عينها منه عمره ويحتمل تمليك منفعتها فكان قوله سكنى تفسيرا
أي لك سكناها عمرك وكذلك قوله نحلى سكنى. وقوله هبة سكنى أو سكنى هبة أو سكني
صدقة فهذا كله عارية لما بينا أن قوله سكنى تفسير للمحمل من كلامه ألا ترى أنه لو قال
هي لك فاقبضها كانت هبة ولو قال هي لك سكنى كانت عارية وجعل قوله سكنى تفسير أو ذلك
إذا زاد لفظه العمرى والهبة والصدقة. وان قال هي لك هبة عارية أوهى عارية هبة فهي عارية قدم
لفظة الهبة أو أخرها لأنه محتمل لجواز أن يكون مراده هبة العين ويجوز أن يكون مراده هبة
المنفعة وقوله عارية تفسير لذلك المبهم لأنه في نفسه محكم لا يتناول الا المنفعة فسواء قدمه أو
أخره فالحكم له. وأن قال هي لك هبة إجارة كل شهر بدرهم أو إجارة هبة فهي إجارة في
الوجهين لان لفظة الإجارة في حق المحل محكم فإنه لا يتناول الا المنفعة ولفظة الهبة تحتمل تناول
العين تارة والمنفعة تارة أخرى فكان الحكم للفظ المحكم قدمه أو أخره وتمليك المنفعة ببدل
معلوم إلى مدة معلومة تكون إجارة. وان قال داري هذه لك عمري تسكنها وسلمها إليه
فهي هبة لان قوله تسكنها ليس بتفسير لقوله عمري فالفعل لا يصلح تفسيرا للاسم ولكنه
مشورة أشار عليه في ملكه فإن شاء قبل مشورته وسكنها وان شاء لم يقبل وهو بيان لمقصوده
انه ملكه الدار عمره ليسكنها وهذا معلوم. وإن لم يذكره فلا يتغير به حكم التمليك بمنزلة قوله هذا
الطعام لك تأكله أو هذا الثوب لك تلبسه. قال (وان قال وهبت لك العبد حياتك وحياته وقبضه
فهي هبة جائزة) لأنه ملكه في الحال بقوله وهبت لك وقوله حياتك وحياته فضل من الكلام
غير محتاج إليه فكان لغوا أو فيه ايهام شرط الرجوع إليه بعد موته وقد بينا ان هذا الشرط
باطل. وكذلك لو قال أعمرتك داري هذه حياتك أو أعطيتها حياتك أو وهبت لك هذا العبد
حياتك فإذا مت فهي لي وإذا مت أنا فهي لورثتي فهذا كله تمليك صحيح في الحال وشرط
الرجوع إليه أو إلى الورثة باطل. وكذلك لو قال هي هبة لك ولعقبك بعدك لأنه ملك العين بأول
كلامه وذكر العقب لغو واشتغال بما لا يفيد فهو يعلم أن عقبه من ورثته يخلفه في ملكه
وان قال أسكنتك داري هذه حياتك ولعقبك من بعدك فهذه عارية لأنه صرح بلفظ الاسكان
وهو تصرف في المنفعة دون العين وقوله بعدك عطف والعطف للاشتراك فمعناه
96

سكناها لعقبك من بعدك فهي هبة له وذكر العقب لغو لان قوله هي لك تمليك لعينها منه وبعد
ما هلك عنها منه لا يبقى له ولاية ايجابها لغيره فكان قوله ولعقبك من بعدك لغو بخلاف الأول
فان بعد ايجاب المنفعة له بطريق العارية يبقى له ولاية الايجاب لغيره فكان كلامه عارية في
حقه وفى حق عقبه بعده وله أن يأخذها متى شاء. قال رجل وهب لرجل عبدا على أن يعتقه
ويسلمه إليه فالهبة جائزة والشرط باطل لان شرط العتق عليه بعد تمام ملكه في الموهوب باطل
ولكن الهبة لا تبطل بالشرط كما قلنا. قال رجل وهب لرجل عبدا مريضا به جرح فداواه
الموهوب له فبرأ لم يكن للواهب أن يرجع فيه للزيادة الحاصلة في العين عند الموهوب له
وكذلك لو كان أصم أو أعمى فسمع وأبصر لأنه زوال للعين فزواله يكون بوجود ذلك الجزء
والزيادة في العين تمنع الرجوع كما لو كان مهر ولم بسم. قال مريض وهب عبده لرجل ولا
مال له غير فتبعه الموهوب له فأعتقه أو باعه ثم مات من مرضه أو فعل ذلك بعد موت المريض
قبل أن يقضي القاضي فيه بشئ فعتقه وبيعه جائز لان تصرف المريض إذا كان على وجه
يحتمل النقض بعد صحته فحكم بصحته في الحال لوجود العلة المطلقة للتصرف وهو الملك
وكون المانع محتملا لان المانع مرض الموت وهو ما يتصل به الموت ولا يدرى أن مرضه
هذا يتصل به الموت أم لا والموهوم لا يعارض المتحقق فحكم بنفوذ تصرفه لهذا وثبت
الملك للموهوب له بالقبض وإنما تصرف في ملكه بالبيع والعتق وكذلك أن كان تصرفه
بعد موت المريض لان أكثر ما فيه أن الهبة فكت بموته في البعض أوفى الكل وفساد
السبب لا يمنع ابتداء الملك عند القبض فلا يمنع بقاءه بطريق الأولى الا ان يقضي القاضي عليه
بالرد لاستغراق تركة الميت بالعين فحينئذ يبطل ملكه بقضاء القاضي ولا ينفذ تصرفه بعد
ذلك فأما قبل ذلك إذا نفذ تصرفه فهو ضامن قيمة العبد إذا كان على الميت دين مستغرق
لتركته لان الهبة في المرض وصية فيتأخر عن الدين ولزمه رد العين لرد الوصية وقد تعذر رده
باخراجه إياه من ملكه فكان ضامنا قيمته إن لم يكن عليه دين ولكن لا مال للميت سواه
فقد بطلت الوصية في قدر الثلثين منه فيضمن ثلثي قيمته لورثة الميت وإن كان الموهوب
له معسرا وقد كان أعتق العبد فلا سبيل لغرماء الواهب ولا لورثته علي العبد لان القيمة
دين في ذمة الموهوب له لزمه باكتساب سببه وهو الاتلاف ودين الحر الصحيح في ذمته
لا تعلق له بملكه وإنما يجب على العبد السعاية بعد العتق في دين كان تعلق بماليته قبل العتق
97

فإن كان الموهوب له أعتقه وهو مريض ثم مات ولا مال له غيره وعليه دين فعلى العبد
السعاية في قيمته لان عتق الموهوب له إياه في مرضه وصية فيجب ردها للدين المستغرق
عليه وقد تعذر رد الرقبة بالعتق فيجب عليه السعاية في قيمته وتكون تلك القيمة بين غرماء
الموهوب له وغرماء الواهب يضرب فيه غرماء الموهوب له بديونهم وغرماء الواهب بقيمة
العبد لا بديونهم لان تلك القيمة تركة الموهوب فيقسم بين غرمائه بحسب ديونهم عليه ودين
غرماء الموهوب له كان عليه فأما دين غرماء الواهب أصله كان على الواهب وإنما استوجبوا على
الموهوب له مقدار قيمة العبد لاتلاف مالية الرقبة عليهم فلهذا ضربوا بقيمة العبد وتعلق حق
الفريقين بمالية العبد لان باعتبار مرض الموت له فلهذا لا يقدم إحداهما على الآخر. قال رجل
وهب لرجل عبدا وسلمه فدبره فليس للواهب ان يرجع فيه لان بالتدبير يجب له حق العتق
على وجه لا يمكن نقله من ملك إلى ملك بعد ذلك فاعتبر ذلك بحقيقة العتق في المنع من
الرجوع وان كاتبه ثم عجز فرد رقيقا فله ان يرجع فيه لأنه عاد قنا كما كان وقد بينا ان
بالكتابة لا يبطل حق الرجوع بل يتعذر لمعنى في المحل فإذا زال ذلك صار كأن لم يكن
وان جنى العبد على الموهوب له فللواهب أن يرجع فيه والجناية باطلة لأنه حين جنا كان
مملوكا للموهوب له وجناية المملوك على مالكه فيما يوجب المال تكون هدرا وبالرجوع
لا يتبين انه لم يكن مملوكا له حين جنى فالرجوع من وجه ينهى الملك المستفاد بالهبة ألا ترى أنه
لو وطئها الموهوب له ثم رجع فيها الواهب فلا عقر على الموهوب له بعد رجوع الواهب
فيها وإن كان الولد سلم للموهوب له بعد رجوع الواهب فيها فكذلك لا تعتبر جنايته عليه
بعد رجوع الواهب وكذلك لو أبق العبد عند الموهوب له فرده راد فللواهب أن يرجع فيه
لان الإباق عيب والنقصان لا يمنع الرجوع في الهبة والجعل علي الموهوب له لأنه رد عليه ملكه
وإنما يستوجب الجعل باحياء الملك بالرد فإذا أحياه ملك الموهوب له كان الجعل عليه. قال رجل
وهب لرجل شجرة بأصلها فقطعها فله ان يرجع فيها قال أبو عصمة هذا غلط إلا أن يريد
بقوله بأصلها بعروقها ويأذن له في قطعها لان اتصال الموهوب بما ليس بموهوب في ملك
الواهب في معنى الشيوع فلا تتم الهبة الا بعد القطع وإذا تمت الهبة فيها وهي مقطوعة فله
ان يرجع فيها فأما إذا كان المراد بقوله بأصلها بعروقها من الأرض وذلك معلوم مميز فالهبة
تمت في الحال ثم القطع بعد ذلك يجعل الشجرة في حكم شئ آخر لأنها كانت نامية وقد
98

صارت حطبا فليس له أن يرجع فيها ألا ترى أنه قال لو قطعها فجعلها أبوابا أو جذوعا لم يكن
له أن يرجع فيها إذا عمل فيها شيئا قل أو كثر لأنها الآن ليست بشجرة كما وهبها له وله أن
يرجع في موضعها من الأرض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لان مجرد القطع في الشجرة
نقصان وإن كان يزيد في ماليتها فهو باعتبار رغائب الناس فيه بمنزلة الذبح في الشاة والنقصان
في الموهوب لا يمنعه من الرجوع بخلاف ما إذا جعلها أبوابا أو جزوعا فذلك زيادة صفة حادثة
في الموهوب بفعل الموهوب له فيمنعه من الرجوع فيها. قال ولو وهبها له بغير أصلها وأذن
له في قبضها فقطعها وقبضها كان له أن يرجع فيها لان الهبة جازت وهي مقطوعة وفي الباب
الأول جاز بالهبة وهي شجرة وهذا إشارة إلى ما ذكره أبو عصمة انه بعد القطع لا يكون
له أن يرجع فيها إذا تمت الهبة قبل القطع وإنما يرجع فيها إذا كان تمام الهبة بعد القطع قال
وان وهب له ثمرة في نخل وأذن له في قبضها كان له أن يرجع فيها لما بينا ان تمام الهبة إذا
كان معرض الفصل. قال رجل وهب لرجل عبدا فجنى عبد الموهوب له جناية بلغت قيمته
ففداه الموهوب له فللواهب أن يرجع في هبته لان بالفداء يظهر عن الجناية وعاد كما كان
قبل الجناية ولم يتمكن في عينه زيادة فكان للواهب أن يرجع فيه ولا يرد على الموهوب له
شيئا من الفداء لأنه فدى ملكه باختياره وقد بينا أن بالرجوع ينتهى ملكه المستفاد بالهبة
وان رجع قبل أن يفديه كانت الجناية في عتق البعد يدفعه الواهب بها أو يفديه لان المستحق
بالجناية نفس العبد واستحقاق نفسه بالجناية نقصان فيه فلا يمنع الواهب من الرجوع ثم
برجوعه بقضاء القاضي ينعدم ملك الموهوب له بغير اختياره فلا يصير هو مستهلكا ولا
مختارا ولكن الجناية تبقى في رقبة العبد فيخاطب مالكه بالدفع أو الفداء ومالكه الواهب
في الحال فهو المخاطب بذلك كما لو مات مولى العبد الجاني فورثه وارثه. قال ولو وهبه ثوبا
فشقه نصفين فخاط نصفا قباء ونصفه الآخر علي حاله كان له أن يرجع في النصف الباقي
لان الشق نقصان في الثوب وخياطة القباء زيادة في النصف الذي حدثت الزيادة بفعله فيه
تعذر الرجوع وقد بينا أن تعذر الرجوع في النصف لا يمنعه من الرجوع في النصف الباقي
وان قال وان وهب له شاة فذبحها كان له أن يرجع فيها لان الذبح نقصان في العين فان عمله
في ازهاق الحياة قال وان ضحى بها أو ذبحها في هدى المتعة لم يكن له أن يرجع فيها في قول
أبى يوسف وقال محمد يرجع فيها وتجزئه الأضحية والمتعة للذابح ولم يذكر قول أبي حنيفة
99

وقيل قوله كقول أبى يوسف أما محمد يقول ملك الموهوب له لم يزل عن عينها والذبح ونقصان
فيها فلا يمنع الرجوع فيها بقي كالشاة للقصاب وهذا لان معنى القربة في نيته وفعله دون
العين والموجود في العين قطع الحلقوم والأوداج سواء كان علي نية اللحم أو نية القربة والذي
حدث في العين أنه تعلق به حكم الشرع من حيث التصدق به وذلك لا يمنع الرجوع كرجوع
الزكاة في المال الموهوب في يد الموهوب له بل أولى لان التصدق هنا ليس بمتحتم حتى يكون
له أن يأكله ويطعم من شاء من الأغنياء بخلاف الزكاة وأبو يوسف يقول في التضحية
جعلها الله تعالى خالصا وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه بعد ذلك كما لو كان الموهوب له أرضا
فجعلها مسجدا وبيان قولنا أن في التقرب بإراقة الدم وقد حصل ذلك ألا ترى أنه لو سرق
المذبوح أو هلك كان مجزئا عنه وإباحة التناول منه بأذن من له الحق بقوله تعاليا أفطرا منها
ألا ترى أنه يجوز له أن يتصرف فيها على غير الوجه المأذون فيه وهو بطريق التجارة
ويمنع من ذلك ولو فعله كان ضامنا فعرفنا انه تم معنى التقرب به فيكون نظير هذا من
الزكاة ما إذا أداه إلى الفقير بنية الزكاة وليس للواهب أن يرجع فيه بعد ذلك وهذا الفعل
في صورة ذبح شاة القصاب ولكن في المعنى والحكم غيره ولا تعتبر الصور ألا ترى ان
الذبح يتحقق من المسلم والمجوسي والتضحية لا تتحقق الا ممن هو أهل فعرفنا انه في المعنى
غير الذبح ثم عند محمد برجوع الواهب لا تبطل التضحية لان رجوعه في القائم دون ما يلاشى
منه وقد بينا ان الرجوع ينهى ملك الموهوب له فإنما انعدم ملكه بغير اختياره وهو في
حق نظير ما لو هلك بعد الذبح. قال رجل وهب لرجل درهما فقبضه الموهوب له وجعله صدقة
لله تعالى فللواهب أن يرجع فيه ما لم يقضه المتصدق عليه لأنه التزم فيه الصدقة بنذره فلا
يكون ذلك أقوي من وجوب الصدقة عليه فيه بايجاب الله تعالى وهو الزكاة وذلك لا
يمنعه من الرجوع وهذا لان قبض المتصدق عليه لا يتم معنى العبادة والتقرب فيه (وكذلك)
لو وهب له ناقة فجعلها الموهوب له بدنة وقلدها فللواهب أن يرجع فيها قبل أن ينحرها
الموهوب له وفرق أبو يوسف بين هذا والأول فقال بالتقليد رأيتم جعلها لله تعالى ألا
ترى أنه لو قلدها عن هدى واجب فهلكت قبل أن ينحرها فإنه عليه أخرى بخلاف
ما بعد النحر وان وهب له أجزاعا فكسرها وجعلها حطبا فله أن يرجع فيها لان هذا نقصان
في العين وإن كان يزيد في المالية بزيادة رغائب الناس فيه لا لمعنى في العين فلهذا كان
100

له أن يرجع فيها (وكذلك) لو وهب له لبنها فجعله طينا فهذا نقصان فان أعاده لبنا لم
يرجع فيها لان هذا اللبن حادث بفعله أو ضرب اللبن من الطين زيادة في عينه فإذا كان حادثا
في يد الموهوب له منع ذلك الواهب من الرجوع وان وهب له نجيحا فجعله خلا لم يرجع
فيه لان مالية الخل غير مالية النجيح وهذه مالية حدثت بصنعة حادثة في العين في يد
الموهوب له وان وهب له سيفا فجعله سكاكين أو سكينا لم يكن له أن يرجع فيه لان
السكين غير السيف (وكذلك) ان كسره فجعل منه سيفا آخر لان هذا الثاني حادث بعلمه
ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك كان ضامنا قيمة السيف المغصوب منه ويجعل ما ضربه له
قال وان وهب له دارا فبناها على غير ذلك البناء وترك بعضها على حالها لم يكن له أن يرجع
في شئ منها لان ما زاد في البناء في جانب منها يكون زيادة في جميعها كما في الأرض إذا
بنى في ناحية منها قال وان وهب له حماما فجعله مسكنا أو وهب له شيئا فجعله حماما فإن كان
البناء على حاله لم يزد فيه شئ فله أن يرجع فيه لان تصرفه في المنفعة دون العين والمانع
من الرجوع زيادة في العين وإن كان زاد عليه بناء أو غلق عليه بابا أو جصصه أو أصلحه
أو جعله بصاروج أو طنية فليس له أن يرجع فيه لان هذا كله زيادة في عينها. قال مريض
وهب لصحيح عبدا يساوى ألفا ولا مال له غيره فعوضه الصحيح منه عوضا وقبضه
المريض ثم مات والعوض عنده فإن كان العوض مثل ثلثي قيمة العبد أو أكثر فالهبة
ماضية لان العوض المقبوض بمنزلة المشروط أو أقوى والثلث منه كان من خالص حقه
والثلثان حق الورثة فإذا كان العوض مثل ثلثي قيمة العبد عرفنا انه لم يبطل شيئا من حق
الورثة بتصرفه وإنما تصرف فيما هو خالص حقه فكانت الهبة ماضية وان كانت قيمته
قيمة العوض نصف قيمة الهبة يرجع ورثة الواهب في سدس الهبة لان حقهم في ثلثي العبد
وقد وصل إليهم من العوض بقدر مالية نصف العبد فإنما تبقى لا تمام حقهم سدس العبد
فلهذا يرجع الوارث بسدس الهبة وإن كان العوض شرطا في أصل الهبة فإن شاء الموهوب
له رد الهبة كلها وأخذ العوض وان شاء رد سدس الهبة وأمسك الباقي لأنه ما رضى بسقوط
حقه عن عوضه الا بأن يسلم له جميع الموهوب ولم يسلم ولان التبعيض في الملك المجتمع
عيب فاستحقاق جزء من العبد وان قل بتعيب ما بقي منه وحق الرد بالعيب ثابت بعد التقابض
إذا كان العوض مشروطا لان الهبة بشرط العوض تصير بيعا بالقياس فلهذا ثبت له الخيار
101

في رد ما بقي فإذا لم يكن العوض مشروطا فإنه لا يصير معاوضة بالتقابض في حكم الرد
بالعيب فيرد سدس الهبة ولا يكون له أن يسترد العوض لان ملكه على سبيل الهبة وقد
مات الموهوب له فلا رجوع له فيه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
باب هبة المريض
(قال ولا يجوز هبة المريض ولا صدقته الا مقبوضة فإذا قبضت جازت) وقال ابن أبي
ليلى تجوز غير مقبوضة لأنها وصية بدليل انها تعتبر من الثلث فالوصية تتأكد بالموت
قبضت أو لم تقبض ولا تبطل به فكذلك الهبة في المرض وهذا لان المرض سبب الموت
وجعل ما يباشره المريض في الحكم كالثابت بعد موته حتى لو طلق زوجته ثلاثا ورثته بمنزلة
ما لو وقعت الفرقة بينهما بالموت فهذا مثله وكلنا نقول المعنى الذي له ولأجله لا تتم الهبة
والصدقة من الصحيح الا بالقبض موجود في حق المريض وهو أنه تمليك بعقد تبرع فيكون
ضعيفا في نفسه لا يفيد حكمه حتى ينضم إليه ما يؤيده وهذا في حق المريض أظهر لان
تصرفه أضعف من تصرف الصحيح واعتباره من الثلث لا يدل على أنه غير ثابت في الحال
ككفالته فاعتاقه وهذا بخلاف الوصية فإنها خلافة ثم الملك من ثمراتها والخلافة لا تكون
الا بعد الموت وهذا عقد تمليك لا يحتمل الإضافة فإذا لم يتفق قبل الموت تبطل بالموت
كالبيع الموقوف إذا لم يتصل به الإجازة حتى مات أحدهما ولا يقول الطلاق يصير كالمضاف
ولكن تقام العدة عند الموت مقام حقيقة النكاح أنها لحقها في ماله بعد تعلقه ولهذا اعتبرنا
هبته من الثلث هنا وان حق الوارث تعلق بثلثي ماله بمرضه فلابقاء حقهم جعلنا هبته من
الثلث. قال فإن كانت الهبة دارا فقبضها ثم مات ولا مال له غيرها جازت الهبة في ثلثها ورد
الثلثين إلى الورثة (وكذلك) سائر ما يقسم ومالا يقسم الا فيما لا ينقسم فلا اشكال وأما
فيما يقسم فلان الموهوب له ملك الكل بالقبض ثم بطل ملكه في الثلثين بعد موته إذا لم
تجز الورثة فكان هذا شيوعا طارئا فيما بقي بخلاف ما إذا استحق نصف الدار فإنه يتبين
انه لا يملك المستحق بالقبض وقد بطل العقد فيه من الأصل فلو جاز في الباقي كان شائعا فيما
يحتمل القسمة وذلك يمنع ابتداء الملك بالهبة. قال فإن كانت الهبة جارية فكاتبها الموهوب له
ثم مات المريض ولا مال له غيرها فعلى الموهوب له ثلثا قيمته للورثة ولا ترد الكتابة لان
102

الكتابة منه صحيحة لازمة لكونه مالكا لها حين كانت فما دامت باقية لا تحتمل النقل من
ملك إلى ملك ولان في رد ثلثها على الورثة ابطال الحق الثابت لها في نفسها وكسبها وذلك
لا يجوز وان تعذر رد عينها بسبب باشره الموهوب له كان ضامنا للورثة قيمة حصتهم منها
كما لو كان أعتقها أو دبرها فان قضى القاضي عليه بثلثي قيمتها ثم عجزت المكاتبة لم يكن
للورثة عليه سبيل لان القاضي قضى بالقيمة والسبب الموجب للقضاء به وهو العجز عن رد
العين يتحقق فانتقل حقهم إلى القيمة ثم لا يعود في العين بعد ذلك بزوال العجز كالمغصوب
إذا عاد من إباقه بعد ما قضى القاضي بقيمته على الغاصب وإذا عجزت قيل القضاء أخذوا
ثلثيها لان المانع زوال قبل انتقال حقهم من عينها إلى محل آخر فهو كالمغصوب إذا عاد قبل
قضاء القاضي بالقيمة (وكذلك) ان كاتبها بد موت المريض (فالجواب) على ما تقدم
ما لم يقض القاضي بثلثيها للورثة لان ملك الموهوب له بان ببقاء قبضه وإذا فسد السبب
ما لم يقض القاضي عليه بالرد فان فضي القاضي بذلك عاد الملك له في ثلثيها إلى الورثة بقضاء
القاضي فان أعتقها الموهوب له بعد ذلك فهو بمنزلة عتق أحد الشريكين الجارية المشتركة
وقد بينا ذلك في كتاب العتق. قال مريض وهب لمريض عبدا وسلمه إليه فأعتقه
وليس لواحد منهما مال غيره ثم مات الواهب ثم مات الموهوب له قال يسعى العبد في ثلثي
قيمته لورثة الواهب لان عتق الموهوب له في مرض موته بمنزلة الوصية فيتأخر عن الدين
وثلثا قيمته دين لورثة الواهب على الموهوب له فإنه أتلف عليهم حقهم في ثلثي العبد بالاعتاق
فعلى العبد أن يسعى في ذلك لهم وإنما بقي مال الموهوب له ثلث رقبته فسلم له بطريق الوصية
ثلث هذا الثلث ويسعى في ثلثي هذا الثلث لورثة الموهوب له وكان جميع ما عليه السعاية في
ثمانية أتساع قيمته وإنما يسلم له التسع وإن كان على الموهوب له دين ألف درهم وقيمة العبد
ألف درهم سعى العبد في قيمته يضرب فيها غيرها الموهوب له بدينهم وورثة الواهب بثلثي
قيمة العبد لان دين الموهوب له محيط بتركته فعلى العبد السعاية في جميع القيمة لرد الوصية
ثم هذه القيمة تركة الموهوب له فيضرب فيها غرماؤه بديونهم ودين ورثة الواهب عليه ثلثا
قيمته ودين الغريم الآخر ألف فتقسم التركة بينهما بالحصة. قال مريض وهب لمريض عبدا
وهو ثلث ماله وسلمه إليه ثم إن الموهوب له قتل الواهب في مرضه فالهبة مردودة إلى
وارثه لان الهبة في المرض في حكم التنفيذ معتبر بالوصية ولهذا ينفذ من الثلث بعد الدين
103

ولا وصية للقاتل عند عدم إجازة الورثة فكذلك الهبة في المرض وهذا لان بطلان الوصية
للقاتل الدفع المعاضلة عن الورثة حتى لا يزاحمهم قاتل أبيهم في مال أبيهم وهذا المعنى موجود
فيما وهبه في مرضه. قال رجل وهب لرجل عبدا في مرضه وقيمته ألف درهم وسلمه إليه
ولا مال له غيره ثم إن العبد قتل الواهب يقال للموهوب له ادفعه أو افده لان الموهوب له
ملك العبد بالقبض فإنما جنى على الواهب ملكه وفى جناية المملوك خطأ على غير المالك يخاطب
المالك بالدفع أو الفداء كما لو جنى على انسان آخر ودليل تمام ملك الموهوب له أنها لو كانت
جارية حل له وطؤها بعد الاستبراء فان اختار الفداء فداؤه بعشرة آلاف لان الفداء بأرش
الجناية وهو دية النفس ثم بدل نفس الواهب بمنزلة مال خلفه حتى يقضى منه ديونه وتنفذ
وصاياه فتبين أن ماله عند موته احدى عشر ألفا وأن العبد خارج من ثلثه وزيادة فكانت
الهبة صحيحة في جميعه وان اختار الدفع دفعه ولا شئ عليه لان المولى يتخلص عن عهدة الجناية
بدفع الجاني ولم يبين كيفية الدفع هنا وإنما بين ذلك في كتاب الدور فقال يدفع نصفة إليهم
على وجه رد الهبة ونصفه على وجه الدفع للجناية لان الهبة تجوز في نصف العبد وكان ينبغي
أن يكون جواز الهبة في ثلث العبد لأنه لا مال للواهب سواه ولكن لضرورة الدور
جوز الهبة في نصف العبد وبيان ذلك أنما يجعل العبد علي ثلاثة أسهم وتجوز الهبة في سهم
وتبطل في سهمين ثم يدفع الموهوب له هذا السهم بالجناية فيزداد مال الواهب ويجب
بحسابه الزيادة في تنفيذ الهبة وإذا زدنا في تنفيذ الهبة يزداد ماله بالدفع بالجناية أيضا فلا
يزال يدور هكذا وسهم الدور ساقط لأنه شاع بالفساد فالسبيل يقيد وإنما يطرح هذا السهم
من قبل من خرج الدور من جهتهم وإنما الدور هناك بزيادة ظهرت في نصيب الورثة فالسبيل
أن تطرح من أصل حقهم بينهما وحق الموهوب له في سهم وبه يظهر أن العبد يكون في
الأصل على سهمين تنفذ الهبة في أحدهما وهو النصف ثم يدفع الموهوب له ذلك السهم
بالجناية فسلم للورثة سهمان وقد نفذ بالوصية في سهم فاستقام الثلث والثلثان والعبد وإن كان
واحدا في الصورة ففي الحكم صار بمنزلة عبد ونصف فكان تنفيذ الوصية في نصف العبد
ولما بطلت الهبة في النصف بالرد سقط حكم الجناية فيه لان جناية المملوك على مالكه خطأ
واعتبر في النصف الآخر وقد دفعه المالك بالجناية فلهذا لا شئ عليه سواه قال وإذا رجع
الواهب في هبته والموهوب له مريض وقد كانت الهبة في الصحة فإن كان بقضاء قاض
104

فالرجوع فيه صحيح ولا سبيل لغرماء الموهوب له وورثته بعد موته على الواهب لان الواهب
يستحقه بحق سابق له على حقهم وإن كان ذلك بغير قضاء قاض كان رد المريض لها حين
طلب الواهب فيها بمنزلة هبة جديدة من المريض فيكون من الثلث إن لم يكن عليه دين
وإن كان عليه دين يحيط بماله أبطل ذلك الرجوع وردت الهبة إلى تركة الميت وقد تقدم
بيان ما في هذه المسألة من اختلاف الروايات والقياس والاستحسان ووجهه انه بالرد
باختياره ورضاه قصد ابطال حق الغرماء والورثة عنه بعد تعلق حقهم به يوضحه ان حق
الواهب في الرجوع ضعيف حتى يتمكن الموهوب له من اسقاطه بتصرفه فإذا اتصل قضاء
القاضي به يقوي فيقدم على حق غرماء الموهوب له وورثته لقوته وإذا لم يتصل به القضاء
يقدم حق الغرماء والورثة على حقه لقوة حقهم وضعف حق الواهب. قال مريض له عبد
يساوى خمسة آلاف درهم وهبه لرجل وقبضه الموهوب له ولا مال له غيره ثم إن العبد
قتل المريض خطأ فإنه يقال للموهوب له ادفعه أو افده لما بينا أنه مالك للعبد حين جنى
فان اختار الدفع فقد بينا التخريج وان اختار الفداء فداه بالدية وسلم له العبد كله لان الدية
بدل نفس الواهب بمنزلة ما خلفه فتبين به ان مال خمسة عشر ألفا وقيمة العبد خمسة آلاف
فهو خارج من ثلثه فلهذا تنفذ الهبة في جميعه وإذا ظهر نفوذ الهبة في جميع العبد ظهر أن
على الموهوب له دية كاملة للورثة باختياره فإن كان يساوى ستة آلاف درهم واختار الفداء
فإنه يرد على ورثة الواهب ربعه ويفدى ما بقي بثلاثة أرباع الدية وذكر محمد في كتاب الدور
طريقا في تخرج هذا الجنس من المسائل هو أسهل الطرق. قال ولو كان للواهب سوى
ألفي درهم كانت الهبة صحيحة في جميع العبد لان اختيار الفداء يؤدى الدية عشرة آلاف
درهم فيسلم ذلك للورثة مع الألفين فيكون اثنى عشر ألفا وقد نفذ بالهبة في العبد وهو
يساوى ستة آلاف فيسلم للورثة ضعف ما نفذنا فيه الهبة فإذا عدمنا الألفين تعذر علينا
تنفيذ الهبة في جميع العبد فالسبيل ان يضم ما عدمنا وهو الألفان إلى قيمة العبد وهو ستة
آلاف ثم يبطل من الهبة بقدر ما عدمنا وتجوز بقدر الموجود والذي عدمنا من الجملة مقدار
الربع فتبطل الهبة في ربع العبد ويجوز هنا وقيمة ذلك أربعة آلاف وخمسمائة ثم يفدى
ذلك بثلاثة أرباع الدية وذلك سبعة آلاف وخمسمائة فيسلم ذلك للورثة مع ربع العبد
وقيمته ألف وخمسمائة وجملة ذلك تسعة آلاف وقد نفذنا الهبة في نصف ذلك أربعة
105

آلاف وخمسمائة فيستقيم الثلث والثلثان فهذا طريق ظاهر من غير دور فأما بيان طريق
الدور ان العبد في الابتداء على ثلاثة أسهم صحت الهبة في سهم منه ثم على الموهوب له ان
يفدى السهم بمثله ومثل ثلثيه فعرفنا ان كل سهم من العبد يقابله من الدية مثله ومثل ثلثيه
فإذا فداه بسهم وثلثين ازداد مال الورثة وجاء الدور من الوجه الذي قررنا فالسبيل ان
يطرح من أصل حق الورثة مقدار الزيادة وهو سهم وثلثا سهم وقد كان حقهم في سهمين
فإذا طرحنا سهما وثلثي سهم بقي حقهم في ثلث سهم وحق الموهوب له في سهم فيكون
العبد على سهم وثلث انكسر بالأثلاث فاصرفه في ثلثه وسهم وثلث في ثلثه يكون أربعة
فتبين ان العبد على أربعة أسهم وان الهبة تنفذ في ثلاثة أرباعه فيقدر ذلك بثلاثة أرباع الدية
ثم التخريج إلى آخره كما بينا وتخرج هذه المسألة على طريق الحساب من الجبر والمقابلة
وغيرها ولكن يؤخر بيان ذلك إلى كتاب الدور وهذه المسألة وأخواتها تعود هناك إن شاء الله
تعالى قال وأهل الذمة في حكم الهبة بمنزلة المسلمين لأنهم التزموا أحكام الاسلام
فيما يرجع إلى المعاملات إلا أنه لا يجوز المعاوضة بالخمر عن الهبة فيما بين المسلم والذمي سواء
كان المسلم هو المعوض للخمر أو الذمي لان الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وهو
ممنوع من تمليكه وتملكها فهي في حقه كالميتة والدم لا تصلح عوضا قال وان صارت الخمر خلا
في يد القابض لم تصر معوضا ويرده إلى صاحبها لان تمليكها على وجه التعويض باطل فتثبت
على ملك صاحبها فإذا تخللت كان الخل مملوكا له مردودا عليه وأصل التعويض لما بطل
لا ينقلب صحيحا بالتخلل كما لو باع خمرا من انسان فتخللت في يد المشترى وتجوز المعاوضة
بالخمر والخنزير فيما بين الذميين كما يجوز ابتداء المبايعة لان ذلك مال متقوم في حقهم ولا
يجوز بالميتة والدم لان ذلك ليس بمال في حقهم كما في حقنا وصحة التعويض تختص بمال متقوم.
قال مسلم وهب لمرتد هبة فعوضه منها المرتد ثم قتل أو لحق بدار الحرب جازت الهبة ولم يجز
تعويضه في قول أبي حنيفة لان التعويض تصرف من المرتد في ماله ومن أصل أبي حنيفة ان
تصرف المرتد في ماله يبطل إذا قتل أو مات أو ألحق بدار الحرب وأما هبة المسلم من المرتد صحيحة
لان قبول الهبة من المرتد ليس بتصرف في ماله والحجر بسبب الردة لأن يكون فوق الحجر
بسبب الرق وذلك لا يمنع قبول الهبة فهذا أولى إلا أنه إذا كان للواهب حق الرجوع في حال
حياة الموهوب له وقد مات حقيقة أو حكما لحاقه بدار الحرب فكانت الهبة جائزة وقد
106

بطل التعويض وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعوضه صحيح كسائر تصرفاته إلا أن عندا
أبى يوسف يكون من جميع ماله وعند محمد من ثلثه بمنزلة سائر تصرفات المرتد على وجه التبرع
فإن كان المرتد هو الواهب وقد عوضه الموهوب له من هبته ثم قتل أو لحق بدار الحرب فإنه
يرد هبته إلى ورثته لأنه كان تصرفا منه في ماله وإذا كان تصرفه في ماله بيعا يبطل عنده إذا
مات فتصرفه هبة أولى فترد هبته إلى ورثته ويرد عوضه إلى صاحبه إن كان قائما وإن كان قد
استهلكه كان ذلك دينا في مال المرتد لأنه قبضه على وجه العوض ولم يسلم الموهوب
للموهوب له فلا يسلم العوض له أيضا ولكن إن كان قائما رده على الموهوب له بعينه وإن كان
مستهلكا فقد تعذر رده مع قيام السبب الموجب للرد فتجب قيمته دينا في ماله سواء
كان الآخر علم بارتداده أو لم يعلم لان حكم تصرف المرتد لا يختلف بعلم من عامله بردته وجهله
فان التوقف لحق الورثة وحقهم ثابت في الحالين. قال وإذا وهب المرتد للنصراني هبة أو النصراني
للمرتد على أن عوضه عنها خمرا فذلك باطل لان المرتد في حكم التصرف في الخمر كالمسلم فإنه
مجبر على العود إلي الاسلام غير مقر علي ما اعتقده فيبطل تصرفه في الخمر تعويضا عن
الهبة كما يبطل من المسلم قال وإذا وهب الحربي المستأمن هبة لمسلم أو وهبها له مسلم فقبضها
ثم رجع إلى دار الحرب ثم عاد مستأمنا فلكل واحد منهما ان يرجع في هبته لبقاء الملك المستفاد
بالهبة وبقاء العين على حاله فأن المستأمن وإن كان في دارنا صورة فهو في أهل دارا الحرب حكما
فلا يتبدل ملكه بالرجوع إلى دار الحرب وان سبى وأخذت الهبة منه لم يكن للواهب ان
يرجع فيها لزوال الملك المستفاد بالهبة فان نفسه بالسبي قد تبدلت وخرج هو من أن يكون
أهلا للملك والموهوب صار ملكا للسابي بمنزلة سائر أمواله إذا أخذه معه فلا سبيل
للواهب عليه وان حضر قبل القسمة لأنه إنما يتمكن من أخذ ما بقي ووقع الظهور عليه من
ماله وهذا مال أزاله عن ملكه باختيار فلا يأخذه من الغنيمة وان حضر قبل القسمة
قال وان وقع الحربي في سهم رجل فأعتقه ثم وصلت تلك الهبة إليه بشراء أو غيره لم يكن
للواهب أن يرجع فيها لان هذا ملك حادث له وحق الواهب كان في الملك المستفاد بالهبة
فلا يثبت في ملك حدث بسبب آخر وصار اختلاف سبب الملك كاختلاف العين قال وإن كان
الحربي هو الواهب فسبي ووقع في سهم رجل لم يكن له أن يرجع في هبته لان نفسه
تبدلت بالرق وذلك بمنزلة موته فان الحرية حياة والرق تلف وبموت الواهب يبطل الحق
107

في الرجوع ولأنه لو رجع كان معيد اللعين إلي ملك مولاه لا إلي ملك نفسه وبالهبة لم يخرج
من ملك ولاه وكذلك أن أعتق لا يستطيع الرجوع فيها لان حق الرجوع قد بطل
بتبدل نفسه كما قلنا والساقط من الحق يكون متلاشيا لا يتصور عوده. قال حربي
وهب لحربي هبة ثم أسلم أهل الدار أو أسلما جميعا وخرجا إلى دار الاسلام فله أن يرجع
في هبته لبقاء الملك المستفاد بالهبة فان بالاسلام يتأكد الملك الذي كان قبله ولا يتبدل
وكذلك العين علي حالة في يد الموهوب له فإن كان عوضه من هبته لم يكن له أن يرجع فيها
لحصول ما هو المقصود له بالهبة وهو وصول العوض إليه ثم كتاب الهبة ولله الحمد والمنة والله
أعلم قال رحمه الله انتهى شرح الصفار من الفروع من الاستحسان إلى البيوع. بالمؤثر من
المعاني مع الخبر المسموع باملاء الملتمس لرفع الباطل الموضوع. المنفى لأجله المحصور الممنوع
عن الأهل والولد والكتاب المجموع الطالب للفرج بالدعاء والخشوع في ظلم
الليالي بالبكاء والدموع. مقرونا بالصلاة على سيد أهل الجموع. وعلى آله وأصحابه
أهل التقى والخضوع
كتاب البيوع
قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بان الله سبحانه وتعالى جعل المال سببا لإقامة
مصالح العباد في الدنيا وشرع طريق التجارة لاكسابها لان ما يحتاج إليه كل أحد
لا يوجد مباحا في كل موضع وفى الاخذ على سبيل التغالب فساد والله لا يحب الفساد والى
ذلك أشار الله سبحانه وتعالى في قوله (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) والتجارة نوعان حلال يسمى في الشرع بيعا وحرام
يسمى ربا كل واحد منهما تجارة فان الله أخبر عن الكفرة انكارهم الفرق بين البيع والربا
عقلا فقال عز وجل (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا) ثم فرق بينهما في الحل والحرمة
بقوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) فعرفنا أن كل واحد منهما تجارة وان الحلال الجائز منها
بيع شرعا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتعاملونه فأقر هم عليه وانعقاد هذا
البيع بلفظين هما عبارة عن الماضي وهو بقوله بعث واشتريت في محلين كل واحد منهما مال
108

متقوم على طريق الاكتساب حتى أن ما يدخله معنى التبرع كالهبة بشرط العوض لا يكون
بيعا ابتداء ولو كان أحد اللفظين عبارة عن المستقبل بأن يقول أحدهما بعني فيقول الآخر
بعت أو يقول اشترى سى فيقول الآخر اشتريت لا ينعقد البيع عندنا بخلاف النكاح
والشافعي يسوى بينهما باعتبار ان كل واحد منهما عقد تمليك بعوض من الجانبين والفرق
لنا من وجهين (أحدهما) أن النكاح يتقدمه خطبة عادة فقوله زوجيني نفسك في مجلس
العقد لا يجعل خطبة لان الخطبة قد تقدمته فيجعل أحد شطرى العقد فأما البيع يقع
بغتة من غير تقدم استيام فيجعل قوله بعني استياما فلا بد من لفظ العقد بعده (والثاني)
ان قوله زوجيني نفسك تفويض للعقد إليها فيجعل قولها زوجت عقدا تاما لان كلام
الواحد يصلح للعقد من الجانبين في النكاح إذا كان مأمورا به وفى البيع لا يتأتى مثل
هذا لان كلام الواحد لا ينعقد به البيع من الجانبين إذا لم يكن أحدهما موليا عليه من الآخر
فأما الربا في اللغة هو الزيادة يقال أربى فلان على فلان أي زاد عليه ويسمى المكان المرتفع ربوة
لزيادة فيه على سائر الأمكنة وفى الشريعة الربا هو الفضل الخالي عن العوض المشروط في
البيع لما بينا أن البيع الحلال مقابلة مال متقوم بمال متقوم فالفضل الخالي عن العوض ذا
دخل في البيع كان ضد ما يقتضيه البيع فكان حراما شرعا واشتراطه في البيع مفسد للبيع
كاشتراط الخمر وغيرها والدليل على حرمة الربا الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى (وحرم
الربا) وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمسا من العقوبات (أحدها) التخبط قال الله تعالى
(لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) قيل معناه ينتفخ بطنه يوم القيامة
بحيث لا تحمله قدماه وكلما رام القيام يسقط فيكون بمنزله الذي أصابه مس من الشيطان
فيصير كالمصروع الذي لا يقدر على أن يقوم وقد ورد بنحوه أثر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال يملأ بطنه نارا بقدر ما أكل من الربا والمراد أن يفتضح على رؤس
الاشهاد كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر ان لواء ينتصب يوم
القيامة لآكلة الربا فيجتمعون تحته ثم يساقون إلى النار (والثاني) المحق قال الله تعالى (يمحق
الله الربا) والمراد الهلاك والاستيصال وقيل ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع هو
به ولا ولده بعده (والثالث) الحرب قال الله تعالى (فأذنوا بحرب من الله ورسوله)
والمعنى من القراءة بالمد أعلموا الناس أكلة الربا إنكم حرب الله ورسوله بمنزلة قطاع
109

الطريق والقراءة بالقصر اعلموا ان أكلة الربا حرب الله ورسوله (والرابع) الكفر قال الله
تعالى (وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين) وقال تعالى (والله لا يحب كل كفار أثيم) أي
كفار باستحلال الربا أثيم فاجر بأكل الربا (والخامس) الخلود في النار قال الله تعالى (ومن عاد
فاؤلئك أصحاب النار هم فيما خالدون) والسنة جاءت بتأييد ما قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أكل درهم واحد من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية يزنيها الرجل من نبت لحمه من
حرام فالنار أولى به والمقصود من هذا الكتاب بيان الحلال الذي هو بيع شرعا والحرام
الذي هو ربا ولهذا قيل لمحمد لا تصف في الزهد شيئا قال قد صنفت كتاب البيوع ومراده
بينت فيه ما يحل ويحرم وليس الزهد الا الاجتناب عن الحرام والرغبة في الحلال ولهذا
بدأ الكتاب بحديث رواه عن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والفضة بالفضة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والحنطة بالحنطة مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا
والملح بالملح مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا والتمر
بالتمر مثل بمثل يدا بيد والفضل ربا وهذا حديث مشهور تلقته العلماء رحمهم الله تعالى بالقبول
والعمل به ولشهرته بدأ محمد ببعضه كتاب البيوع وببعضه كتاب الإجارات وببعضه كتاب
الصرف ومثله حجة في الاحكام تجوز به الزيادة على الكتاب عندنا ودار هذا الحديث على
أربعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت وأبى سعيد
الخدري ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم مع اختلاف ألفاظهم ثم الحديث يشتمل على
تفسير وحكم ومعنى يتعلق به الحكم في الفرع أما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم الذهب
بالذهب أي بيع الذهب بالذهب أو بيعوا الذهب بالذهب لان الباء تصحب الأعواض
والابدال فإنه للالصاق فهو دليل فعل مضمر كقولنا بسم الله وقوله مثل بمثل روى بالرفع
والنصب فمعنى الرواية بالرفع بيع الذهب بالذهب مثل بمثل ومعنى الرواية بالنصب بيعوا
الذهب بالذهب مثل بمثل والمراد به المماثلة في القدر دون الصفة وإن كان مطلق اسم المماثلة
يتناولهما ولكنه ذكر هذا الحديث في أول كتاب الصرف وذكر مكان قوله مثل بمثل وزن
بوزن فبذلك اللفظ يتبين أن المراد من هذا اللفظ المماثلة في الوزن وبهذا اللفظ يتبين أن
المراد قوله وزن بوزن المماثلة قدرا لا وصف وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه
110

بعضا وفى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال تبره وعينه سواء فهذا تنصيص علي
أن المراد المماثلة في الوزن دون الصفة لان التبر لا يساوي العين في الصفة وإنما يساويه من
حيث المقدار وقوله يدا بين يجوز أن يكون المراد به عين بعين لان التعيين يكون بالإشارة
باليد ويجوز أن يكون المراد قبض بقبض لان القبض يكون باليد وزعم بعض أصحابنا رحمهم
الله ان المراد به القبض هنا لبيانه في حديث عمر رضي الله تعالى عنه فإنه قال في الصرف
من يدك إلى يده وان استنظرك إلى خلف السارية فلا تنتظره وان وثب من السطح فثب
معه ولكن الأصح ان المراد التعيين لأنه لو كان المراد به القبض لقال من يد إلى يد لأنه
يقبض من يد غيره فعرفنا ان المراد التعيين إلا أن التعيين في النقود لا يتم الا بالقبض لأنها
لا تتعين في العقود بالإشارة فكان اشتراط القبض لتحقيق التعيين المنصوص عليه واليه
أشار في حديث عمر رضي الله تعالى عنه بقوله ها وها أي هذا بهذا وقوله والفضل
ربا يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال بأن يكون أحدهما نقدا والآخر
نسيئة وكل واحد منهما مراد باللفظ وقوله ربا أي حرام أي فضل خال عن العوض
والمقابلة اما متيقنا به عند فضل القدر أو موهوم الوجود عادة لتفاوت بين النقدين والنسبة
في المالية وكذلك تفسير قوله الفضة بالفضة فأما قوله الحنطة بالحنطة مثل بمثل يحتمل
المماثلة في الكيل ويحتمل المماثلة في الصفة ولكنه في كتاب الصرف الصرف ذكر مكان قوله مثلا
بمثل كيلا بكيل فتبين به أن المراد المماثلة من حيث القدر وفى حديث عبادة بن الصامت
رضى الله تعالى عنه قال جيدها ورديها سواء فهو بيان أن المراد المماثلة في القدر وقوله يدا
بيد معناه عندنا عين بعين ولهذا لا يشترط التقابض في بيع الحنطة بالحنطة لان التعيين
فيها يتم بالإشارة وقوله والفضل ربا يحتمل الفضل في القدر ويحتمل الفضل في الحال وكل
واحد منهما مراد وقد فسر ذلك في حديث عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه فقال
من زاد أو ازداد فقد أربى وكذلك الشعير والتمر والملح فأما الحكم ففي الحديث حكمان
حرمة النساء في هذه الأموال عند المبايعة بجنسها وهو متفق عليه وحرمة التفاضل وهو
قول الجمهور من الصحابة رضى الله تعالى عنهم الا التي روي عن ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما انه كان يجوز التفاضل في هذه الأموال ولا معتبر بهذا القول فان الصحابة
رضي الله تعالى عنهم لم يسوغوا له هذا الاجتهاد على ما روى أن أبا سعيد الخدري رضى الله
(8 ثاني عشر مبسوط)
111

تعالى عنه مشى إليه فقال يا ابن عباس إلى متى تؤكل الناس الربا أصحبت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما لم يصحب أسمعت منه ما لم يسمع فقال لا ولكن حدثني أسامة بن زيد
رضي الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ربا الا في النسيئة فقال والله لا آواني
وإياك ظل بيت ما دمت على هذا القول وقال جابر بن زيد رضى الله تعالى عنه ما خرج بن
عباس رضى الله تعالى عنه من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فإن لم يثبت رجوعه
فاجماع التابعين رحمهم الله بعده يرفع قوله فهذا معنى قولنا لا يعتد بهذا القول وتأويل حديث
أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير
والذهب بالفضة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ربا الا في النسيئة فهذا بناء على ما تقدم
من السؤال فكان الراوي سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع
ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله وأما المعنى فنقول اتفق فقهاء الأمصار رحمهم الله علي
ان حكم الربا غير مقصود على الأشياء الستة وان فيها معنى يتعدى الحكم بذلك المعنى
إلى غيرها من الأموال الا داود من المتأخرين وعثمان البتي من المتقدمين فان داود
يقول حكم الربا مقصور على هذا الأشياء الستة لأنه لا يجوز قياس غير المنصوص علي المنصوص
لاثبات الحكم وعند فقهاء الأمصار رحمهم الله القياس حجة لتعدية الحكم الثابت بالنص
والبتي يقول بأن القياس حجة ولكن من أصله أن لا يجوز القياس على الأصول إلا أن
يقوم دليل في كل أصل على جواز القياس عليه ولم يعم ذلك الدليل هنا وعند فقهاء الأمصار
رحمهم الله يجوز القياس علي الأصول إلا أن يقوم دليل يمنع القياس على كل أصل ثم قد قام
الدليل هنا علي جواز القياس فان مالك بن أنس وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي رحمهما الله رويا
هذا الحديث وذكر في آخره وكذلك كل ما يكال ويوزن فهو تنصيص على تعدية الحكم
إلى سائر الأموال وفى حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فانى أخشى عليكم الربا أي الربا ولم يرد به
عين الصاع وإنما أراد به ما يدخل تحت الصاع كما يقال خذ هذا الصاع أي ما فيه ووهبت
لفلان صاعا أي من الطعام وفى حديث عامل خيبر رضى الله تعالى عنه انه أهدي إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيا فقال صلى الله عليه وسلم أوكل تمر خيبر هكذا فقال لا ولكني
دفعت صاعين من عجوة بصاع من هذا فقال صلى الله عليه وسلم أربيت هلا بعت تمرك
112

بسلعة ثم اشتريت بسلعتك تمرا ثم قال صلى الله عليه وسلم وكذلك الميزان يعنى ما يوزن بالميزان
فتبين بهذا الآثار قيام الدليل على تعدية الحكم من الأشياء الستة لا غيرها وهذا بخلاف قوله
صلى الله عليه وسلم خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ثم لم يجوز قياس ما سوى هذا الخمس
على الخمس لان التعليل لتعدية حكم النص إلى غير المنصوص لابطال المنصوص وقد نص في
ذلك الحديث على أن الفواسق خمس فلوا اشتغلنا بالتعليل كان أكثر من خمس فيكون ابطالا
للمنصوص وهنا ليس في الحديث أن مال الربا ستة أشياء ولكن ذكر حكم الربا في الأشياء
الستة فالاشتغال بالتعليل لا يؤدى إلى ابطال المنصوص عليه فلهذا جوزنا ذلك وفائدة
تخصيص هذه الأشياء بالذكر أن عامة المعاملات يومئذ كان بها علي ما جاء في الحديث كنا
نتبايع في الأسواق بالأوساق والمراد به ما يدخل تحت الوسق مما يكثر الحاجة إليه وهي
الأشياء المذكورة ثم اختلفوا بعد ذلك في المعنى الذي يتعدى الحكم به إلى سائر الأموال
قال علماؤنا رحمهم الله تعالى الجنسية والقدر عرفت الجنسية بقوله صلى الله عليه وسلم الذهب
بالذهب والحنطة بالحنطة. والقدر بقوله صلى الله عليه وسلم مثل بمثل ويعنى بالقدر الكيل
فيما يكال والوزن فيما يوزن وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى ان العلة مع الجنس الفضل
علي القدر وذلك محكى عن الكرخي ولكنه ليس بقوى فإنه لا يجوز اسلام قفيز حنطة في
قفيز شعير ولا تثبت حرمة النساء الا بوجود أحد الوصفين ولو كانت العلة هي الفضل لما
حرم النساء هنا لانعدام الفضل فعرفنا ان العلة نفس القدر مع الجنس وقال مالك رضي الله عنه
العلة الاقتيات والادخال مع الجنس وقال ابن سيرين تقارن المنفعة مع الجنس وقال الشافعي
رضى الله تعالى عنه في القديم العلة في الأشياء والأربعة الكيل والطعم وقال في الجديد العلة
هي الطعم وفى الذهب والفضة العلة الثمنية وهو انهما جوهر الأثمان والجنسية عنده شرط
لا تعمل العلة إلا عند وجودها ولهذا لا يجعل للجنسية أثرا في تحريم النساء فحاصل المسألة
أن بيع كل مكيل أو موزون بجنسه لا يجوز عندنا الا بعد وجود المخلص وهو المماثلة في
القدر وأن يكون عينا بعين وعنده بيع كل مطعوم بجنسه وكل ثمن بجنسه حرام إلا عند
وجود المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي وأن يكون قبضا بقبض في المجلس والحاصل
ان حرمة البيع في هذه الأموال أصل عنده والجواز يعارض المساواة في المعيار مع القبض
في المجلس وعندنا إباحة البيع في هذه الأموال أصل كما في سائر الأموال والفساد يعارض
113

انعدام المماثلة بوجود الفضل الخالي عن العوض متيقنا به أو موهوما احتياطا والمقصود من
التعليل عنده منع قياس غير المطعومات علي المطعومات وغير الثمن علي الثمن بناء علي أصله
أن التعليل صحيح لاثبات حكم الأصل والمنع من الحاق غيره به وعندنا التعليل لتعدية حكم
النص إلى غير المنصوص فالحكم في المنصوص ثابت بالنص لا بالعلة لان الثابت بالنص
مقطوع به والمنع بظاهر النص ثابت فالاشتغال بالتعليل يكون لغوا عندنا وبيان هذا الأصل
إذا باع تفاحة بتفاحتين عنده لا يجوز لان الحرمة هي الأصل في بيعها والحل يثيب بعارض
بوجود المساواة في المعيار الشرعي ولم يوجد فلا يجوز وعندنا يجوز لانعدام الفضل علي القدر
وهو المعيار الشرعي والحرام هو الفضل على القدر ولم يوجد فيجوز لان الجواز أصل في البيع
والحرمة تثبت بعارض انعدام المماثلة في القدر وهو المعيار الشرعي وهذا لا معيار له فيجوز
العقد ولو باع قفيز جبس بقفيزي جص عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده يجوز
لعدم الطعم ولو باع حفنة بحفنتين عنده لا يجوز لكونه مطعوما وقد عدمت المساواة في المعيار
الشرعي وعندنا يجوز لعدم الكيل مع الجنس ولو باع منا سكر بمنوي سكر عندنا لا يجوز
لوجود الجنس مع القدر وعنده لا يجوز أيضا لوجود الطعم مع الجنس ولو باع منا قطن بمنوي
قطن عندنا لا يجوز لوجود الجنسية والقدر وعنده يجوز لعدم الطعم وحجة الشافعي لاثبات
أصله ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام الا سواء بسواء وفى
رواية قال لا تبيعوا البر بالبر الا سواء بسواء ففي هذا بداية ببيان النهى والمنع لو اقتصر على قوله
لا تبيعوا لم يجز بيع أحدهما بالآخر بحال. فبه تبين أن حرمة البيع أصل وان الجواز يعارض
المساواة بين ذلك بقوله الا سواء بسواء والمراد المساواة في القدر ثم اسم الطعام يتناول القليل
والكثير وما يكال من الأطعمة ومالا يكال فثبت حرمة البيع في جميع ذلك وتبين بهذا أن
التعليل بالقدر يوجب تخصيص الأصل المعلل وذلك باطل وكذلك في الحديث المشهور قال
الحنطة بالحنطة فهذا اللفظ يتناول القليل والكثير وقوله صلى الله عليه وسلم مثلا بمثل نصب
على الحال أي إنما يكون بيعا في حالة ما يكون مثلا بمثل والمراد المماثلة في القدر فتبين به أيضا
أن الحرمة أصل فيها وأن الحل يعارض المماثلة في القدر وليس المراد بالربا الزيادة فقد قال عمر
رضي الله عنه ان آية الربا آخر ما نزل وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أيبين لنا شأنها
وان من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في السن فتبين بهذا انه علم أن الاسم غير
114

عما عليه مقتضى اللغة وانه ليس المراد من الربا الزيادة فإنه ليس في السلم في السن زيادة
خالية عن العوض وقد جعله من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد ولئن كان المراد الزيادة
فإنما أراد فضلا قائما في الذات لان المطعوم إذا قوبل بجنسه لا يتساويان في الطعم الا نادرا
ولا ينبنى الحكم عن النادر فذلك الفضل القائم في الذات حرام وربا إلا أنه سقط اعتباره
شرعا بالمساواة في القدر تيسيرا على الناس فتبين بهذا أن الحرمة أصل أيضا وفى ذكر الطعام
ما يدل على أن العلة هي الطعم لان الطعام اسم مشتق منه معنى والحكم إذا علق باسم مشتق
من معنى فالمعنى الذي اشتق منه الاسم هو العلة للحكم كما في قوله تعالى (الزانية والزاني) وفى
قوله تعالى (السارق والسارقة) ومن حيث الاستدلال وهو أن الشرع شرط لجواز
البيع في هذه الأموال شرطين المساواة واليد باليد فعرفنا أن الموجب لهذين الشرطين معنى
في المحل ينبئ عن زيادة شرطين الولي والشهود كان ذلك دليلا على أن الموجب للشرطين
معنى في المحل ينبئ عن زيادة خطر وهو أن المستحق به ما في حكم النفوس ثم هنا المعنى
ينبئ عن الخطر في الذهب والفضة الثمنية لأنهما خلقا لذلك وبالثمنية حياة الأموال والمعنى
ان الذي ينبئ عن زيادة الخطر في الأشياء الأربعة الطعم لان بالطعم حياة النفوس فعرفنا
ان العلة الموجبة لهذين الشرطين الطعم والثمنية ولهذا جعلنا الجنسية شرطا لا علة لان الحكم
يدور مع الشرط وجودا وعدما كما يدور مع العلة والفرق بينهما بالتأثير فإذا لم يكن في
الجنسية ما ينبئ عن زيادة الخطر ولا يثبت الحكم إلا عند وجوده جعلنا شرطا لا علة وبهذا
تبين فساد التعليل بالقدر فإنه لا ينبئ عن زيادة خطر في المحل لان الجص شئ هين يكال
فلا يتعلق به حياة نفس ولا مال إنما هو معد لتزين البناء ولان الشرع ذكر عند بيان حكم
الربا جميع الأثمان وهي الذهب والفضة وذكر من المطعومات أنفس كل نوع فالحنطة
أنفس مطعوم بني آدم والشعير أنفس علف الدواب والتمر أنفس الفواكه والملح أنفس التوابل
فلما أراد المبالغة في بيان حكم الربا ولم يمكنه ذكر جميع المطعومات نص من كل نوع على أعلاه
ليبن بذلك أن العلة هي الطعم فاما إذا جعل العلة القدر يتمحض ذكر هذه الأشياء تكرارا
لان صفة القدر لا تختلف في الأشياء الأربعة وحمل كلام صاحب الشرع على ما يفيد أولى
ولهذا قال مالك العلة الاقتيات لأنه خص بالذكر كل مقتات مدخر وقال ابن سيرين العلة
تقارب المنفعة لوجود ذلك في الأشياء المذكورة فان الحنطة مع الشعير تتقارب في المنفعة
115

فإذا ثبت ان العلة هي الطعم والثمنية امتنع قياس غير المطعوم على المطعومات وغير الأثمان
على الأثمان لانعدام العلة فيها ولما جعل الشرع القدر معتبرا في الخلاص عن الربا لا يجوز
اعتبار ذلك بعينه في الوقوع في الربا لاستحالة ان يتضمن الشئ حكمين متضادين بل القدر
في المقدرات بمنزله العدد في المعدودات والزروع في المزروعات فكما لا يصلح جعل علة ذلك للربا
فكذلك القدر وحجتنا في المسألة ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر الأشياء
الستة بصفة الكيل والوزن فذلك دليل على أن العلة فيها الكيل والوزن وإن لم تثبت هذه الزيادة
فقوله الحنطة بالحنطة معناه بيع الحنطة بالحنطة والبيع لا يجرى باسم الحنطة فالاسم يتناول
الحبة الواحدة ولا يبيعها أحد وإنما يعرف ماليتها ولو باعها لم يجوز لأنها ليست بمال متقوم فعلم
ضرورة أن المراد الحنطة التي هي مال متقوم ولا يعلم ماليتها الا بالكيل فصارت صفة الكيل
ثابتة بمقتضى النص وكذلك قوله الذهب بالذهب فالاسم قائم بالذرة ولا يبيعها أحد وإنما تعرف
ماليتها بالوزن كالشعيرة ونحو ذلك فصارت صفة الوزن ثابتة بمقتضى النص فكأنه قال الذهب
الموزون بالذهب والحنطة المكيلة بالحنطة والصفة من اسم العلم يجرى مجرى العلة للحكم كقوله
صلى الله عليه وسلم في خمس من الإبل السائمة شاة وما ثبت بمقتضى النص فهو كالمنصوص ألا ترى أنه
لو قال غصبت من فلان شيئا يلزمه ان يبين مالا متقوما لثبوت صفة المالية بمقتضى
الغصب وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الطعام بالطعام ذكر الطعام عند ذكر
البيع فلا يتناول الا الحنطة ودقيقها كمن وكل وكيلا بان يشترى له طعاما فاشترى فاكهة
يصير مشتريا لنفسه وهذا لان سوق الطعام الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من
يبيع الحنطة ودقيقها وهذا من أبواب الكتاب ليس من فقه الشريعة في شئ وأما الكلام
في المسألة من حيث الاستدلال فينبنى على معرفة النص فنقول حكم نص الربا وجوب
المماثلة في المعيار شرط لجواز العقد ثم ضرورة الفضل لعدم تلك المماثلة وربا لوجوب المماثلة لا
كما قاله الخصم ان الحكم حرمة فضل في الذات ثم المماثلة شرط لإزالة فضل حرام والدليل
على ما قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحنطة بالحنطة مثل بمثل فقد أوجب المماثلة لجواز
القعد ثم جعل الفضل بعد تلك المماثلة بقوله عليه الصلاة والسلام والفضل ربا وفى الحديث
الآخر قال لا تبيعوا البر بالبر الا سواء بسواء وبالإجماع المساواة في الكيل فعرفنا ان المراد
اشتراط المماثلة لجواز العقد لان الكلام المقيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى فيكون
116

المعنى فساد البيع عند عدم المماثلة التي هي واجبة وإذا ثبت ان الحكم وجوب المماثلة
ولا يتصور ثبوت الحكم بدون محله عرفنا ان المحل الذي لا يقبل المماثلة لا يكون مال الربا
أصلا والحفنة والتفاحة لا تقبل المماثلة بالاتفاق فلم يكن مال الربا والدليل عليه أن صاحب
الشرع صلى الله عليه وسلم ما نص على حكم الربا الا مقرونا بالمخلص فكل علة توحب الحكم
في محل لا يقبل المخلص أصلا فهي علة باطلة والطعم بهذا الصفة فإنها توجب الحكم في الرمان
والسفرجل ولا يتصور فيه المخلص وكذلك قوله لا تبيعوا البر بالبر الا سواء بسواء كلام
مقيد بالاستثناء والمستثنى من جنس المستثنى منه لان الاستثناء لاخراج ما لولاه لكان
الكلام متناولا له وإن كان المستثنى الكثير القابل للماثلة لا يتناوله الحديث أصلا فان قال
هو استثناء مقطوع بمعنى لكن أي جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر قلنا هذا
مجاز ولا يترك العمل بالحقيقة إلا عند قيام الدليل وباعتبار الحقيقة يتبين أن حكم النص
وجوب المماثلة فيما يختص بمحل قابل للمماثلة والدليل عليه أنه لو باع قفيز حنطة يملكه بقفيز
حنطة رخوة أو قد أكلها السوس يجوز وقد تيقنا بفضل في الذات ومع ذلك جاز العقد
لوجود المماثلة في القدر فان قال سقط اعتبار الفضل القائم في الذات لوجود المساواة في القدر
قلنا هذا جائز ولكن عند قيام الدليل فإذا أمكن أن يجعل الحكم في الذات وجوب المماثلة
والفضل الذي هو ربا بعد تلك المماثلة فلا حاجة بنا إلى اسقاط ما هو موجود حقيقة خصوصا
فيما إذا بنى أمره على الاحتياط وهو الربا والذي قال إن الاسم غير عما عليه مقتضي اللغة
ممنوع فإنه دعوى المجاز أيضا فلا يمكن اثباته أيضا الا بدليل فاما حديث عمر رضي الله عنه
فله تأويلان (أحدهما) أن المراد بقوله وان من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد. منها السلم
في السن ما كانوا اعتادوا في الجاهلية أن الواحد منهما يسلم في ابنة مخاض فإذا حل الاجل
زاده في السن وجعله ابنة لبون ليزيده في الاجل ثم يزيده إلى سن الحقة والجذعة وفي ذلك
نزل قوله تعالى (ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) فتلك الزيادة خالية عن عوض هو مال
ولهذا قال إنه من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد (والثاني) أن المراد السلم في الحيوان
والحيوان مما يتفاوت والمسلم فيه دين فإنما يصير معلوما بذكر الوصف ورأس المال بمقابلة
الأوصاف المذكورة عند العقد ثم عند القبض يتمكن التفاوت في المالية بين المقبوض
والموصوف عند العقد لا محالة فتلك الزيادة كأنها خالية عن عوض هو مال ولهذا جعل
117

من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد وان سلموا أن حكم النص وجوب المماثلة لا يبقى لهم
شئ لان وجوب المماثلة لا تكون الا في محل قابل للمماثلة وإن لم يسلموا فالدليل على اثبات هذه
القاعدة أن الأموال أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسه كالثياب والدواب فلا تجب المماثلة فيها
للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب الماثلة فيها أيضا للمبايعة وأمثال متساوية كالفلوس
الرائجة وتجب المماثلة فيها حيت إذا باع فلسا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز للرسنة فان
بيع فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فان احدى الفلسين يبقى بغير شئ لما كانت أمثالا
متساوية بصفة الرواج فيكون ذلك ربا وإذا كان كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا
عن الاصطلاح على كونها أمثالا متساوية ولهذا يتعين بالتعيين فتصير أمثلا متقاربة كالجوز
والبيض إذا عرفنا هذا فنقول الشرع هنا نص على اشتراط المماثلة في هذه الأموال فسرفنا
أنها أمثال متساوية وإنما تكون أمثالا متساوية بالجنس والقدر لان كل حادث في الدنيا
موجود بصورته ومعناه فإنما بطلت المماثلة من هذين الوجهين والمماثلة صورة باعتبار القدر
لان المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض والمماثلة معنى باعتبار الجنسية ولكن هذه المماثلة
لا تكون قطعا الا بشرط وهو سقوط قيمة الجودة منها لجواز أن يكون أحدهما أجود من
الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالا متساوية قطعا فإنما يقابل البعض بالبعض
في البيع من حيث الذات فإذا كان في أحد الجانبين فضل كان ذلك الفضل خاليا عن المقابلة
كالخيطين إذا تقابلا وأحدهما أطول فتلك الزيادة تكون خاليه عن المقابلة والفضل الخالي عن
المقابلة ربا فإذا جعل شرطا في العقد فسد به العقد وهكذا في سائر الأموال الا ان الفضل
الخالي عن المقابلة هناك إنما يظهر بالشرط حتى لو باع ثوبا بثوب بشرط ان يسلم له مع ذلك ثوبا
آخر لا يجوز لان هناك الفضل يظهر بالشرط وهنا يظهر شرعا لوجوب المماثلة فثبت بما قررنا
ان العلة لهذا الحكم بالتأثر في ايجاب المماثلة وهو الجنس والقدر وان شرط عمل العلة
سقوط قيمة الجودة منها وهذا شرط عرفناه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم جيدها
ورديها سواء وبدليل مجمع عليه وهو انه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة ردية ودرهم
لا يجوز وما كان مالا متقوما يجوز الاعتياض عنه كالبيع وإنما يجوز الاعتياض عما فسد
بتقومه شرعا كالخمر ونحو ذلك فلما لم يجز الاعتياض عن الجودة هنا عرفنا انه لا قيمة
للجودة عند المقابلة بالجنس ثم اثبات الحكم بهذا الطريق يكون على موافقة الأصول وعلى
118

ما يدعيه الخصم ان الحكم حرمة فضل في الذات يكون اثبات الحكم على مخالفة الأصول
فالبيع ما شرع الا لطلب الربح والفضل فأفضل الذي يقابله العوض حلال ككسبه بالبيع
فكيف يستقيم ان يجعل حراما بالرأي وإن أردت تحرير النكتة قلت التفاح والرمان مال لم
يسقط قيمة الجودة منه عند المبايعة فيجوز بيع بعضه ببعض كيف ما كان كالثياب
والدواب ثم تقريره من الوجه الذي ذكرنا وبهذا يعلل في القليل من الحنطة كالحفنة
ونحوها فان قيل كيف يستقيم هذا ولو غصب من آخر حفنة من حنطة فنقصت عنده ليس
للمغصوب منه ان يضمنه النقصان مع أخذ حنطته ولو كان للجودة منها قيمة لكان له ذلك
كما في التفاح والرمان والثياب ونحوها قلنا الواجب على الغاصب ضمان القيمة لان الحفنة ليست
من ذوات الأمثال فان المماثلة بالمعيار وليس للحفنة معيار فعرفنا ان الواجب هو القيمة وقد
بينا ان المالية والقيمة في الحنطة لا تعلم الا بالكيل فلا بد من إظهار قيمة هذا المغصوب من
اعتبار الكثير وهو القفيز وعند اعتبار ذلك لا قيمة للجودة فلا يمكن معرفة النقصان
ليوجب ذلك على الغاصب ويمكن معرفة القيمة بالحرز فيوجب القيمة ويكون شرط
الاستيفاء تسليم العين إلى الغاصب فإذا أراد استرداد العين لم يكن له أن يرجع بشئ كما لو
قطع يد عبد عند انسان فأراد المولى إمساك العبد لم يرجع بشئ على قول أبي حنيفة وعلى هذا
الأصل قلنا لو باع حفنة بقفيز لا يجوز أيضا لان القفيز لا قيمة للجودة منه فتكون
المقابلة باعتبار الذات فيظهر الفضل الخالي عن المقابلة بخلاف الحفنة بالحفنتين فكل واحد
منهما يقابل الآخر في البيع والشراء من غير اعتبار القفيز وبدون اعتباره للجودة قيمة فلا
يظهر الفضل الخالي عن المقابلة ويتبين بما ذكرنا فساد علة الخصم بالطعم والثمنية فإنها علة قاصرة
لا تتعدى إلى الفروع ولأنها تثبت الحكم على مخالفة الأصول ولان الطعم عبارة عن أعظم
وجوه الانتفاع بالمال وكذلك الثمنية فإنها تنبئ عن شدة الحاجة إليه وتأثير الحاجة في الإباحة
لا في الحرمة كتناول الميتة تحل باعتبار الضرورة ولا معنى لما قال إن الشرع ما حرم البيع في
هذه الأموال الا ما حرم في سائر الأموال وهو الفضل الخالي عن المقابلة وهذا لأن هذه
الأموال بذلة كسائر الأموال حتى يجوز تناولها بدون الملك بالإباحة وبالملك بغير عوض
وهو الهبة بخلاف البضع فإنه مصون عن الابتذال يلحق بالنفوس فيجوز ان يشترط
في النكاح زيادة شرط لاظهار خطر المحل وبهذا تبين فساد ما قال إن الاسم المشتق
119

من فعل إذا علق به الحكم يصير ذلك الفعل علة لأنه إنما يكون ذلك الفعل علة إذا
كان صالحا له كالزنا والسرقة وإذا كانت الثمنية والطعم ينبئان عن شدة الحاجة فلا يصلحان
أن يكونا علة للحرمة والذي قال إن صاحب الشرع نص على الأشياء الأربعة قلنا قد نص على
الأشياء الستة وعطف بعضها على البعض فينبغي أن تكون العلة في الكل واحدة وذلك الجنس
والقدر ثم الكيل والوزن اختلاف عبارة في القدر كالصاع والقفيز ونحوه فاما إذا كانت
العلة في النقود الثمنية وفى سائر الأشياء الأربعة الطعم لم يستقيم عطف بعضها على البعض إذ
لا موافقة بين الثمنية والطعم والذي قال القدر علة للخلاص لا كذلك قد بينا أن جواز البيع
في هذه الأموال أصل فحيث مفسد إنما يفسد لوجود العلة المفسدة لذلك فاما جواز باعتبار
الأصل لا باعتبار المخلص ولئن كان هذا مخلصا فهو مخلص في حالة التساوي وعلة الربا في
حالة الفضل والشئ الواحد يتضمن حكمين في محلين كالنكاح يثبت المحل للمنكوحة
والحرمة في أمها وإنما جعلنا القدر مخلصا لان الخلاص عن الربا بالمساواة في القدر وذلك
لا يعرف الا بالكيل والوزن فكذلك الوقوع في الربا بالفضل علي القدر وذلك لا يعرف
الا بالكيل والوزن وربما يقول بعضهم ان الحفنة مقدرة إلا أنه لا يمكن معرفة مقدارها الا
بضم أمثالها إليها ولا تخرج به من أن تكون مقدارا كالصرة وهذا فاسد فان المقدر لا يمكن
معرفة مقداره فإذا ضم إلى الحفنة أمثالها وكيلت يصير مقدار القفيز معلوما لا مقدار
الحفنة بخلاف الصبرة فإنها إذا فرقت جزاء وكيلت يصير مقدار الصبرة معلوما فأما علة
ربا النساء أحد هذين الوصفين اما الجنس أو القدر ثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم بعد
الأشياء الستة وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد فقد الغي ربا
النساء بعد انعدام الجنسية لبقاء أحد الوصفين والشافعي لا يخالفنا فيما هو العلة عنده أيضا
وإنما يخالفنا في الجنسية بهاء علي أصله ان الجنسية شرط لا علة وسنبين هذا الفضل في
الفصل الثاني إن شاء الله تعالى وعن إبراهيم قال أسلم ما يكال فيما يوزن وأسلم ما يوزن فيما
يكال ولا تسلم بالوزن فيما يوزن ولا ما يكال فيما يكال وإذا اختلف النوعان مما لا يكال ولا
يوزن فلا بأس وبه واحدا باثنين يدا بيد ولا بأس به نسيئة وإن كان من نوع واحد مما لا يكال
ولا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد يدا بيد ولا خير في نسيئته ونقول أما قوله أسلم ما يكال
فيما يوزن غير مجري على ظاهره بل المراد إذا كان الموزون مما يصلح أن يكون مسلما فيه
120

بأن يكون مبيعا مضبوطا بالوصف حتى إذا أسلم الحنطة في الذهب والفضة لا يجوز عندنا
وللشافعي قول في القديم ان ذلك يجوز بناء على مذهبه ان النقد يصلح أن يكون مبيعا حتى
يتعين بالتعين فأما عند الذهب والفضة لا يصلح أن يكون مبيعا حتى يتعين بالتعيين
والمسلم فيه مبيع فإذا لم يكن هذا أسلما. قال عيسى ابن أبان يكون هذا عقدا باطلا وكان
أبو بكر الأعمش يقول إنه بيع الحنطة بدراهم مؤجلة فيكون صحيحا لان تحصيل
مقصود المتعاقدين بحسب الامكان واجب وقد قصدا مبادلة الحنطة بالدراهم مؤجلة
وما ذكره عيسى أصح لان المعقود عليه في السلم المسلم فيه فإنما يشتغل بتصحيح العقد
في المحل الذي أو جبنا العقد فيه وذلك غير ممكن ولا وجه لتصحيحه في محل آخر لأنهما
لم يوجبا العقد فيه وقوله وأسلم ما يوزن فيما يكال مجرى على ظاهره فان إسلام المكيل في
الموزون جائز على كل حال لانعدام الوصفين جميعا إذ لاتفاق بين البدلين في الجنس ولا
في القدر والموزون غير المكيل وقوله ولا تسلم ما يوزن فيما يوزن غير مجرى على ظاهره
أيضا بل المراد إذا كانا متفقين في المعنى بان كانا مثمنين كالزعفران مع القطن فاما إذا
كان مختلفين في المعنى فذلك جائز كما لو أسلم النقود في الزعفران أو الحديد أو القطن فإنه
يجوز والعراقيون من مشايخنا رحمهم الله يقولون الجواز للحاجة لان رأس المال يكون
من النقود عادة والحاجة تمس إلي اسلامها في الموزونات والمكيلات جميعا ولكن هذا كلام
من يجوز تخصيص العلل الشرعية ولسنا نقول به بل نقول اتفاقهما في الوزن صورة لا معنى
وحكما فان الوزن في النقود ليس نظير الوزن في الزعفران فان الزعفران يوزن بالامناء
ويكون مثمنا يتعين في العقود والنقد يوزن بالصنجات ويكون ثمنا لا يتعين في العقد ومن
حيث الحكم صفة الوزن يلزم في الزعفران حتى لو اشترى زعفرانا بشرط الوزن ليس له
أن يتصرف فيه قبل أن يزنه ولا يلزم في النقود حتى لو باع شيئا بدرهم بشرط الوزن كان
له ان يتصرف فيه قبل أن يزنه فما كان هذا الا نظير الموزون مع المكيل فإنهما استويا من حيث إن
كل واحد منهما مقدر صورة ولكن لما اختلفا في المعنى والحكم جوز اسلام أحدهما في
الآخر فكذلك النقود مع سائر الموزونات وقوله ولا ما يكال فيما يكال مجرى على ظاهره
فان إسلام المكيل في المكيل لا يجوز بحال لاتفاقهما في قدر واحد وقوله وإذا اختلفا النوعان
مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به واحدا باثنين يدا بيد هذا مجرى على ظاهره لانعدام
121

العلة المحرمة للفضل وقوله ولا بأس به نسيئة هذا غير مجرى على ظاهره ولكن المراد إذا
كان ما يجعل مسلما فيه يصير مضبوطا بالوصف على وجه يلتحق بذكر الوصف بذوات
الأمثال حتى لو أسلم ثوبا في جوهرة أو درة لا يجوز وكذلك في الحيوان عندنا وقوله وإن كان
من نوع واحد مما لا يكال ولا يوزن فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد هذا مجرى على
ظاهره وهو متفق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم لا بأس ببيع النجيبة بالإبل والفرس
بالأفراس يدا بيد وقوله لا خير فيه نسيئة هو قول علماؤنا رحمهم الله فان الجنس عندنا يحرم
النساء بانفراده حتى لو أسلم ثوبا هروبا في ثوب هروي لا يجوز عندنا وعند الشافعي يجوز
وكان مالك رحمه الله يقول إن اختلفا في الصفة يجوز فكأنه يجعل اختلاف الجنس باختلاف
الصفة ولو أسلم هرويا في مروى جاز عندنا وعند ابن أبي ليلى لا يجوز فكأنه يجعل اختلاف
الجنس باختلاف الأصل فاما إذا اتحد الأصل فالكل عنده جنس واحد أو باعتبار تقارب
المنفعة يجعل الهروي والمروى جنسا واحدا وقد نقل ذلك عنه في الحنطة والشعير أيضا أنهما
من جنس واحد لتقارب المنفعة لكن هذا بعيد فان النبي صلى الله عليه وسلم عطف الشعير على
الحنطة ثم. قال (وإذا اختلفا النوعان فكذلك بيان أنهما جنسان) وكذلك المصنوع من أصل
لا يكون جنسا للأصل كالقطن مع الثوب فكيف يكون جنسا لمصنوع آخر على هيئة أخرى
من ذلك الأصل فعرفنا أن باتحاد الأصل لا تثبت المجانسة وباختلاف الصفة لا تنعدم المجانسة
أيضا كما في الأموال الربوية فالحنطة العفنة مع الحنطة الجيدة جنس واحد وكذلك السقي مع
التجنبي والفارسي مع الدقل في التمر جنس واحد مع اختلاف الوصف فأما الشافعي فإنما بنى
مذهبه على ما قلنا أن الجنسية عنده شرط وقد بينا فساد ذلك وعلى سبيل الابتداء يحتج
بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن الني صلى الله عليه وسلم جهز
جيشا ففرت الإبل فأمرني أن اشترى بعيرا ببعيرين إلى أجل وعن علي رضى الله تعالى
عنه انه باع بعيرا يقال له عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
انه باع بعيرا بأربعة أبعرة إلي أجل ولان هذا عقد جمع بين بدلين لو قوبل كل واحد
منهما بجنسه عينا حل التفاضل بينهما فيجوز اسلام أحدهما في الاخر كالهروي مع المروى
وتأثير هذا الكلام أن باعتبار التأجيل في أحد البدلين يظهر التفاوت في المالية حكما والتفاوت
في المالية حقيقة أكثر تأثيرا من التفاوت في المالية حكما فإذا كان التفاوت في المالية في هذه
122

الأموال حقيقة لا أثر له في المنع من جواز العقد فالتفاوت حكما أو إلى وهذا لان حكم
الربا في خاص من الأموال وجعل الجنسية علة تؤدى إلى تعميم حكم الربا في كل مال فما من
مال الا وله جنس فما كانت الجنسية الا نظير المالية ثم لا يجوز جعل المالية علة الربا فكذلك
الجنسية وحجتنا في ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الحيوان
بالحيوان نسيئة ولا يحمل هذا علي النسيئة من الجانبين لان ذلك يستفاد بنهيه صلى الله عليه
وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ ولأنه إذا قيل باع فلان بعده بالحيوان نسيئة فإنما يفهم منه
النسيئة في البدل خاصة ومطلق الكلام محمول على ما يتفاهمه الناس وتأويل ما رووا من
الآثار أنه كان قبل نزول آية الربا وكان ذلك في دار الحرب وعندنا لا يجوز الربا بين المسلم
والحربي في دار الحرب فتجهيز الجيش وإن كان في دار الاسلام تقل الآلات كما لو كان في
دار الحرب لعزتها في دار الاسلام يومئذ ولان النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الجنسية
والقدر في أول الحديث ثم. قال (وإذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون بدا
بيد فقد أبقى ربا النساء لبقاء ما هو قريبه وهو الجنس فكان ذلك تنصيصا على ثبوت ربا
النساء عند وجود الجنسية) لا نهم متى ثبتت المساواة بين الشيئين بالنص ثم خص جنس أحدهما
بحكم كان ذلك تنصيصا علي ذلك الحكم في الآخر كالرجل يقول اجعل زيدا وعمرا في العطية
سواء ثم يقول اعط زيدا درهما يكون ذلك تنصيصا على أن يعطى عمرا أيضا درهما ولا يستقيم
اعتبار ربا النساء بربا الفضل لاتفاقنا على أن ربا النساء أعم حتى يثبت في بيع الحنطة بالشعير
وان كأن لا يثبت ربا الفضل وليس الجنس كالمالية لان جعل المالية علة تؤدى إلى تعميم الربا في
البيوع كلها لان البيع لا يجوز الا في مال متقوم والشرع فصل بين البيع والربا فعرفنا أن
المالية ليست بعلة فيه وليس في جعل الجنسية علة تعميم الربا في العقود كلها والقياس على أصول
تنعدم فيها الجنسية باطل لان انعدام الحكم عند عدم العلة دليل صحة العلة لا دليل فسادها
ولان إسلام الشئ في جنسه يؤدى إلى اخلاء العقد عن الفائدة والى أن يكون الشئ الواحد
عوضا ومعوضا والى فضل خال عن العوض مستحق بالبيع وذلك باطل بيانه أنه إذا أسلم ثوبا
هرويا في ثوب هروي فإنه يلزم تسليم رأس المال في الحال ثم إذا حل لأجل يرد ذلك الثوب
بعينه والمقبوض بحكم السلم في حكم عين ما يتناوله العقد فلو جوزنا هذا العقد لم يكن مفيدا
شيئا ويكون الثوب الواحد عوضا ومعوضا وإذا أسلم ثوبا هرويا في ثوبين هرويين لو جوزنا
123

ذلك لكان إذا حل الاجل أخذ منه ذلك الثوب بعينه وثوبا آخر فالثوب الآخر يكون
فضلا خاليا عن العوض مستحقا بالبيع وهو الربا بعينه قال (وإذ أسلم الرجل في الطعام كيلا
معلوما وأجلا معلوما وضربا من الطعام وسطا أو رديا أو جيدا واشترط المكان الذي يوفيه فيه
فهو جائز). قال رحمه الله تعالى (إعلم بان السلم أخذ عاجل بآجل وهو نوع بيع لمبادلة المال بالمال
اختص باسم) لاختصاصه بحكم بدل الاسم عليه وهو تعجيل أحد البدلين وتأخير الآخر
كالصرف وقيل السلم والسلف بمعنى واحد وإنما سمى هذا العقد به لكونه معجلا علي وقته فان
أوان البيع ما بعد وجود المعقود عليه في ملك العاقد وإنما يقبل السلم في العادة فيما ليس بموجود
في ملكه فلكون العقد معجلا على وقته سمى سلما وسلفا والقياس يأبى جوازه لأنه بيع المعدوم
وبيع ما هو موجود غير مملوك للعاقد باطل فبيع المعدوم أولى بالبطلان ولكنا تركنا القياس
بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه) وقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أشهد ان السلم المؤجل في كتاب الله تعالى
أنزل فيه أطول آية وتلي هذه الآية والسنة ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع ما ليس عند الأسنان ورخص في السلم ففي هذا دليل أنه جوزه للحاجة مع قيام السبب
المعجز له عن التسليم وهو عد وجوده في ملكه ولكن بطريق إقامة الاجل مقام الموجود
في ملكه رخصة لان بالوجود في ملكه يقدر على التسليم وبالأجل كذلك فإنه يقدر على
التسليم إما بالتكسب في المدة أو مجئ أو ان الحصاد في الطعام وفى الحديث عن ابن عباس رضى
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة
والسنتين فقال صلوات الله تعالى عليه من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل
معلوم فقد قررهم علي أصل العقد وبين شرائطه فذلك دليل جواز العقد ثم الشرائط التي
يحتاج إلى ذكرها في السلم عند أبي حنيفة سبعة (اعلام) الجنس في المسلم فيه (واعلام النوع)
(واعلام القدر) و (اعلام الصفة) و (اعلام الاجل) و (اعلام المكان) الذي يوفيه فيه فيما له حمل ومؤنة
واعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد علي قدره والأصل في هذه الشرائط الحديث الذي
روينا فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باعلام القدر بأن ترك إعلامه يفضي إلى المنازعة
التي تمنع البائع عن التسليم والتسلم فدل ذلك عن أن كل جهالة تفضى إلى المنازعة المانعة عن
التسليم والتسلم يجب ازالتها بالاعلام وجهالة الجنس تفضى إلى ذلك لأنه إذا أسلم في شئ
124

فرب السلم يطالبه باعلام الأشياء والمسلم إليه لا يعطى إلا أدنى الأشياء ويحتج كل واحد منهما
على صاحبة بمطلق الاسم فلا بد من اعلام الجنس لقطع هذه المنازعة وذلك اعلام النوع فإنه
إذا أسلم إليه في تمر فالمسلم إليه يعطيه الدقل ورب السلم يطالبه بالفارسي ويحتج كل واحد منهما
على صاحبه بمطلق الاسم فلا بد من اعلام النوع لقطع هذه المنازعة وكذلك اعلام الصفة
لأنه إذا أسلم إليه في الحنطة فرب السلم يطالبه بحنطة جيدة والمسلم إليه لا يسلم الا الردئ
ويحتج كل واحد منهما باسم الحنطة فلا بد من بيان الصفة لقطع هذه الخصومة واعلام
القدر منصوص عليه في الحديث وجهالته تفضى إلى المنازعة ولان المقصود بهذا العقد
الاسترباح ولا يعرف ذلك الا بمعرفه مقدار المالية والمالية تختلف باختلاف الجنس والنوع
والصفة والقدر فلا بد من اعلام ذلك كله ليصير ما هو المقصود لكل واحد منهما معلوما
له فأما الاجل فهو من شرائط السلم عندنا وقال الشافعي الاجل يثبت ترفيها لا شرطا حتى يجوز
السلم عندنا حالا في الموجود فأما في المعدوم لا يجوز السلم الا مؤجلا واحتج في ذلك
بالحديث ورخص في السلم فاثبت في السلم رخصة مطلقة واشتراط التأجيل فيه لا يكون
زيادة على النص والمعنى فيه أنه صار معاوضة مال بمال فيكون الاجل فيه ترفيها لا شرطا
كالبيع والإجارة وهذا لان المسلم فيه دين وشرط جواز العقد القدرة على التسليم وتسليم
الدين بالمثل الموجود في العالم والظاهر من حال العاقل انه لا يقدم علي التزام تسليم مالا يقدر
علي تسليمه فإذا قيل السلم فيما هو موجود في العالم فالظاهر أنه قادر علي تسليمه وذلك
يكفي لجواز العقد وإن لم يكن قادرا علي التسليم فيما يدخل في ملكه من رأس المال يقدر علي
التحصيل والتسليم ولهذا أوجبنا تسليم رأس المال علي رب السلم أولا قبل قبض المسلم فيه وبهذا
فارق الكتابة الحالة. قال (فانى لا أجوز الكتابة الحالة فان العبد يخرج من يد مولاه غير
مالك لشئ) فلا يكون قادرا على تسليم البدل وربما يدخل في ملكه بالعقد لا يقدر على التحصيل
الا بمدة فلهذا لا أجوزه الا مؤجلا فأما المسلم إليه حر من أهل الملك قبل العقد فالظاهر
قدرته على التسليم إلا أن يكون معدما في العالم فحينئذ لا يقدر علي التسليم الا بوجوده في أوانه فلا
يجوز السلم فيه الا مؤجلا وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من أسلم فليسلم
في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فقد شرط لجواز السلم اعلام الاجل كما شرط
اعلام القدر والمراد بيان أن الاجل من شرائط السلم كالرجل يقول من أراد الصلاة فليتوضأ
125

إلا أن يكون المراد به إذا أسلم مؤجلا ينبغي أن يكون الاجل معلوما وفي قوله صلى الله عليه
وسلم رخص في السلم ما يدل علي الاجل أيضا لان الرخصة في الشئ تيسير مع قيام المانع
والمانع هو العجز عن التسليم فعرفنا أنه رخص فيه مع قيام العجز عن التسليم بإقامة الاجل
مقامه لان به يقدر علي التسليم اما بالتكسب أو بمجئ زمان الحصاد وهو كالرخصة في المسح
على الخفين فان إقامة المسح مقام الغسل للتيسير وهو المعنى في قوله في المسألة فانا نقول باع مالا يقدر
على تسليمه عند وجوب التسليم فلا يجوز العقد كما لو قيل السلم في المعدوم حالا وبيان
ذلك أن عقد السلم من عقود المفاليس فإنه يكون بدون ثمن المثل ولو كان موجودا في ملكه
لكان يبيعه بأوفى الأثمان ولا يقبل السلم فيه بدون القيمة ولا يقال إنه إنما يقبل السلم فيه
لاسقاط مؤنة الاحضار والإراءة للمشترى فيه لان صاحب الشرع استثنى السلم من بيع ما ليس
عند الانسان وبالإجماع المراد بيع ما ليس في ملكه فان ما في ملكه وإن لم يكن حاضرا يجوز بيعه
إذا كان المشترى رآه قبل ذلك وما ليس في ملكه وان كن حاضرا لا يجوز بيعه فعرفنا
أن المراد قبول السلم فيما لا يقدر على تسليمه وبالعقد لا يصير قادرا علي التسليم لأن العقد
سبب للوجوب عليه لا له فلا تثبت به قدرته على التسليم وإنما تكون قدرته بالاكتساب
ويحتاج ذلك إلى مدة فإذا كان مؤجلا لا يظهر المانع وهو عجزه عن التسليم وإذا كان حالا يظهر
المانع والدليل عليه أن بالاتفاق يحب تسليم رأس المال أولا فلو جاز أن يكون المسلم فيه حالا لم
يجب تسليم رأس المال أولا لان قيضة المعاوضة التسوية بين المتعاقدين في التمليك والتسليم
ويتضح هذا فيما إذا كان رأس المال عينا فان أول التسلمين في البدل الذي هو دين كالثمن في
بيع العين والدليل عليه ان السلم اختص بالدين مع مشاركة العين الدين فيما هو المقصود فما
كان ذلك الا لاختصاصه بحكم يختص به الدين وليس ذلك الا الاجل وبه يبطل قولهم ان السلم
الحال أبعد عن الغرر من المؤجل لان السلم في العين أبعد عن الغرر من السلم في الدين ومع
ذلك اختص السلم بالدين وهذا بخلاف الكتابة عندنا فان البدل في الكتابة معقود به لا معقود
عليه والقدرة علي تسليم المعقود به ليس بشرط لجواز العقد كالثمن في المبيع فاما المسلم فيه
معقود عليه والقدرة علي تسليم المعقود عليه شرط لجواز العقد كما في بيع العين لان الكتابة
عقد ارفاق فالظاهر أن المولى لا يضيق عليه في المطالبة بالبدل وأما السلم عقد تجارة وهو
مبنى على الضيق فالظاهر أنه يطالبه بالتسليم عقيب العقد وهو عاجز عن ذلك فلهذا لم يجوزه
126

الا مؤجلا ولم يبين في الكتاب أدنى الاجل في السلم وذكر أحمد بن أبي عمران من
أصحابنا رحمهم الله تعالى أن أدنى الاجل فيه ثلاثة أيام اعتبار للأجل بالخيار الذي ورد الشرع
فيه بالتقدير بثلاثة أيام وكان أبو بكر الرازي يقول أدنى الاجل فيه أن يكون أكثر من
نصف يوم لان المعجل ما كان مقبوضا في المجلس والمؤجل ما يتأخر قبضه عن المجلس ولا
يبقى المجلس بينهما في العادة أكثر من نصف يوم ومن مشايخنا رحمهم الله تعالى من قال
أدنى الاجل شهرا استدلالا بمسألة كتاب الايمان إذا حلف المدين ليقضين دينه عاجلا
فقضاه قبل تمام الشهر بر في يمينه فإذا كان ما دون الشهر في حكم العاجل كان الشهر فما فوقه
في حكم الآجل فاما تعجيل رأس المال فنقول إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير يكون
التعجيل فيه شرطا قياسا واستحسانا لان الدارهم والدنانير لا يتعينان في العقود فيكون
هذا بيع الدين الدين وذلك لا يجوز لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ
بالكالئ يعنى النسيئة بالنسيئة فاما إذا كان رأس المال عروضا هل يكون التعجيل شرطا القياس
أن لا يكون شرطا وفى الاستحسان يكون شرطا وجه القياس ان العروض سلعة تتعين
في العقود بخلاف الدراهم فلو لم يشترط التعجيل لا يؤدي إلى بيع الدين بالدين وجه الاستحسان
ان السلم أخذ عاجل بآجل والمسلم فيه آجل فوجب أن يكون رأس المال عاجلا ليكون حكمه
ثابتا على ما يقتضه الاسم لغة كالصرف والحوالة والكفالة فان هذه العقود تثبت أحكامها
بمقتضيات أساميها لغة ومن علماؤنا رحمهم الله تعالى من عبر وقال شرط جواز السلم اعلام قدر
رأس المال وتعجيله واعلام المسلم فيه وتأجيله وبعضهم عبر بعبارة أخرى شرط جواز السلم
أن يكون المسلم فيه مضبوط الوصف معلوم القدر موجودا من وقت العقد إلى وقت التسليم
فاما بيان ما كان الايفاء فيما له حمل ومؤنة من شرائط جواز السلم في قول أبي حنيفة الآخر
وكأن يقول أولا ليس بشرط ولكن ان بين مكانا ان تعين ذلك المكان للايفاء وإن لم يبين
يتعين موضع العقد للايفاء وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وحجتهما في ذلك أن
موضع العقد موضع الالتزام فيتعين لايفاء ما التزمه في ذمته كموضع الاستقراض والاستهلاك
وهذا لان المسلم فيه دين ومحله الذمة فإنما يصير مملوكا لرب السلم في ذلك المكان والتسليم
إنما يجب في الموضع الذي ثبت الملك له فيه ألا ترى أن من باع حنطة بعينها بالسواد يجب
تسليمها موضع الحنطة لأنه ملكها في ذلك الموضع ولان أحد البدلين وهو رأس المال يجب
(9 ثاني عشر مبسوط)
127

تسليمه في موضع العقد فكذلك البدل الآخر لأن العقد في حكم مكان التسليم مطلق فيقتضى
المساواة بين البدلين وبأن جاز تعبيره بالشرط فذلك لا يدل على أنه غير ثابت بمطلق العقد
ويجوز تعبره باشتراط الاجل والمطلق بمطلق البيع ثبت عقيب العقد ويجوز تعبيره بشرط
الخيار وتوجه المطالبة بتسليم المثن ثابت بمطلق العقد عقيبه ثم يجوز تعبيره باشتراط بالأجل
وأبو حنيفة يقول مكان الايفاء مجهول وجهالته تفضى إلى المنازعة فيجب التحرز عن ذلك
باعلامه كزمان التسليم وإنما قلنا ذلك لان موضع الالزام إنما يتعين للتسليم بسبب يستحق
به التسليم بنفس الالتزام كالقرض والغصب والاستهلاك والسلم لا يجوز الا
مؤجلا فعرفنا انه لا يستحق التسليم عقيب العقد فيه بحالي وإنما استحقاق التسليم
عند حلول الأجل وعند ذلك لا ندري أنه في أي مكان يكون ثم. قال (أرأيت لو عقدا عقد
السلم في السفينة في لجة البحر أكان يتعين موضع العقد للتسليم عند حلول الأجل) هذا مالا
يقوله عاقل والدليل عليه أن مكان العقد لو تعين لتسليم المسلم فيه لم يجز تعبيره بالشرط كمكان
البيع في بيع العين فإنه لو باع حنطة في السواد على أن يسلمها في المصر لا يجوز العقد ولما
أجاز هنا بيان مكان الايفاء عرفنا ان موضع العقد غير متعين له وهذا بخلاف رأس المال فإنه
لما تعين مجلس العقد بتسليمه لم يجز تعبيره بالشرط ثم هناك موضع العقد غير متعين ولكن
الشرط تسليم رأس المال قبل الافتراق حتى لو مشيا فرسخا ثم سلم إليه رأس المال قبل أن
يفارقه كان صحيحا فأما فيما لا حمل له ولا مؤنة فلا خلاف أن بيان مكان الايفاء ليس بشرط
ولكن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في أظهر الروايتين يجب تسليمه في موضع العقد
لأنه موضع الالتزام وفى رواية أخرى عنهما يسلم إليه حيث ما لقيه وهو قول أبي حنيفة
سواء بينا المكان أو لم نبين لان الشرط الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا والمالية فيما لاحمل
له ولا مؤنه لا تختلف باختلاف الأمكنة إنما تختلف لعزة الوجود وكثرة الوجود فاما فيما له حمل
ومؤنة تختلف ماليته باختلاف المكان فان الحنطة والحطب موجود في المصر والسواد جميعا
ثم يشترى في المصر بأكثر مما يشترى به في السواد وما كان ذلك الا لاختلاف المكان وقد
عينا أن ما يختلف مالية المسلم فيه باختلافه فاعلامه شرط لجواز العقد وهذا الخلاف في فصول
أربعة (أحدها) السلم (والثاني) إذا باع عبدا بحنطة موصوفة في الذمة إلي أجل يشترط بيان مكان
الايفاء لجواز العقد عند أبي حنيفة وعندهما لا يشترط بيان مكان الايفاء (والثالث) إذا استأجر
128

دارا بماله حمل ومؤنة دينا في ذمته عند أبي حنيفة رحمه الله يشترط بيان مكان الايفاء عندهما
يتعين موضع الدار للاستيفاء لا موضع العقد (والرابع) إذا اقتسما دارا وشرط أحدهما علي
صاحبه شيئا له حمل ومؤنة فهو على هذا الخلاف ويأتي بيان ذلك في الإجارات والقسمة إن شاء الله
تعالى فاما اعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على قدره كالمكيل والموزون فشرط
السلم عند أبي حنيفة وعندهما ليس بشرط والإشارة إلى عينه تكفى وكذلك إذا كان رأس المال
عدديا متقاربا كالفلوس والجوز والبيض وجه قولهما ان المقصود من اعلام القدر القدرة
على التسليم وانقطاع المنازعة وذلك حاصل بالإشارة إلى العين فيغنى ذلك عن اعلام القدر كما
في الثمن والأجرة وكما في المضاربة لو دفع إليه دراهم غير معلومة المقدار مضاربة بالنصف
كان جائزا والدليل عليه أن رأس المال لو كان ثوبا لا يشترط إعلام ذرعانه والذرع في
المذروعات للاعلام بمنزلة القدر في المقدرات الا ترى أن في المسلم فيه كما يشترط اعلام
القدر يشترط اعلام الذراع إذا كان ثوبا ثم في رأس المال لا يشترط اعلام الذرع في المذروعات
لكونه عينا فكذلك لا يشترط اعلام القدر في المقدرات ومذهب أبي حنيفة مروى عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكره في كتاب الصلح وقول الفقيه من الصحابة رضى الله
تعالى عنهما مقدم على القياس والمعنى فيه أن هذا مقدر يتناوله عقد السلم فلا بد من اعلام
قدره كالسلم فيه وتحققه أن جهالة قدر رأس المال تؤدى إلى جهالة المسلم فيه لان المسلم
إليه ينفق رأس المال شيئا فشيئا وربما يجد بعد ذلك زيوفا فيرده ولا يستند له في مجلس
الرد فيبطل العقد بقدر ما ردوا لا لم يكن مقدار رأس المال معلوما لا يعلم في كم انتقض
السلم وفى كم بقي وإذا كان مقدار رأس المال معلوما يوزن المردود فيعلم أنه في كم انتقض
العقد وما يؤدى إلى جهالة المسلم فيه يجب الاحتراز عنه وإن كان ذلك موهوما ألا ترى أنه
لو أسلم في مكيل بمكيال رجل بعينه لا يجوز العقد لأنه يتوهم هلاك ذلك المكيال وهو
مخالف لغيره من المكاييل فإذا هلك صار مقدار المسلم فيه مجهولا فكذلك هنا يجب التحرز
عن الجهالة بأعلام مقدار رأس المال بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا لان الذرعان في
الثوب المعين صفة ولهذا لو اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع فوجده أحد عشر ذراعا تسلم له
الزيادة ولو وجده تسعة أذرع لا يحط عنه شيئا من الثمن فالمسلم فيه لا ينقسم على عدد
الذرعان فيشترط فيه اعلامه ثم لا يتصور استحاق ذرع بعينه من الثوب وإنما يتصور استحقاق
129

النصف أو الثلث وذلك لا يؤدى إلى جهالة المسلم فيه وإن لم يكن معلوم الذرع بخلاف
المقدار علي ما بينا وإنما لم يذكر في جملة الشرائط تعجيل رأس المال في المجلس لأنا عددنا
الشرائط التي يحتاج إلى ذكرها في العقد وتعجيل رأس المال ليس من ذلك في شئ لان
فلك شرط بقاء العقد لا شرط انعقاده صحيحا فان العقد بينهما لازم قبل تعجيل رأس المال
ما داما في المجلس فلهذا لم يذكره من جملة الشرائط. قال (وإذا شرط طعام قربة بعينها أو
أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد) لما روى أن زيد بن شعبة أسلم
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمر فقال أسلمت إليك في تمر حائط فلان فقال صلى الله عليه
وسلم أما حائط فلان فلا أسلم إلى في تمر جيد وفى مثله قال صلى الله عليه وسلم
أرأيت لو أذهب الله ثمرته بم يستحل أحدكم مال أخيه لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو
صلاحها وفى هذا إشارة إلى المعنى وهو ان قدرة العاقد على التسليم عند وجوب التسليم شرط
لجواز العقد ولا يعلم قدرته على التسليم عند حلول الأجل الا بوجود الثمار في تلك النخلة
أو الحائط الذي عينه ووجود ذلك موهوم وبالموهوم لا تثبت القدرة على التسليم وكذلك
إذا عين أرضا لا يبقى طعامها في أيدي الناس فقدرته على التسليم عند وجوب التسليم
موهوم. قال (ولا بأس بان يأخذ بعض رأس ماله وبعض ما أسلم فيه إذا حل الاجل عندنا)
وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يجوز ذلك
وبه أخذ ابن أبي ليلى. قال (وإذا أخذ بعض رأس ماله فسد العقد ويسترد ما بقي من رأس
المال) لقوله صلى الله عليه وسلم لا تأخذ الا سلمك أو رأس مالك فإذا أخذ بعض كل واحد
منهما فلم يأخذ لا هذا ولا ذاك فلا يتمكن منه شرعا ولأنه حين أخذ بعض رأس المال فقد
اختار فسخ العقد فينفسخ في الكل وحجتنا في ذلك أن أخذ رأس المال إقالة ولو أقاله في
الكل جاز فلذلك إذا أقاله البعض يجوز أيضا كما في بيع العين وتأويل الحديث أن النهى عن
أخذ شئ آخر سوى رأس المال والمسلم فيه وأنه في هذا الموضع ما أخذ غير رأس المال
وغيره المسلم فيه وإنما يكون ذلك عند الاستبدال وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
ذلك المعروف الحسن الجميل وكان يكفيه أن يقول جائز وإنما ذكر هذا اللفظ لان السلم
بدون ثمن المثل يكون عادة والمسلم إليه بندم عند محل الاجل وقال صلى الله عليه وسلم من
أقال نادما بيعته أقال الله عثراته يوم القيامة إلا أنه لو أقاله في الكل فات مقصود رب السلم وهو
130

الربح فأقاله في البعض انتدابا إلى ما ندب إليه واستوفى بعض المسلم فيه ليحصلا مقصوده في
الربح ففيه النظر لهما وهو المعروف الحسن الجميل. قال (والسلم جائز فيما يكال أو يوزن مما
لا ينقطع من أيدي الناس) والأصل فيه أن كل ما كان مضبوطا بوصفه معلوما بقدره
موجودا من وقت عقده إلى حين أجله يجوز السلم فيه ومالا فلا وقيل كل ما يمكن أن
يؤتى على حصر متقاربة ويكون مقدور التسليم يجوز السلم فيه وقيل كل ما يمكن معرفة
كميته اجتهادا وكيفيته ضرورة يجوز السلم فيه والمكيلات والموزونات بهذه الصفة. قال (ولا
خير في السلم في الرطبة ولا في الحطب حزما ولا جرزا وأوقارا لان هذا مجهول لا يعرف
طوله وعرضه وغلظه فان الأوقار تختلف وبسبب هذه الجهالة تتمكن المنازعة بينهما وقد
بينا أن كل جهالة تفضي إلى المنازعة فهي مفسده للعقد وان عرف ذلك فهو جائز) معناه إذا
بين طول ما تشد به الحزمة أنه ذراع أو شبر فإن كان ذلك على وجه لا يتفاوت فحينئذ
يجوز السلم لكون المسلم فيه معلوما مقدور التسليم. قال (ولا خير في السلم في جلود الإبل
والبقر والغنم عندنا) وقال مالك بأنه يجوز لأنه مقدور التسليم معلوم المقدار بالوزن والصفة
بالذكر ولكنا نقول الجلود لا توزن عادة ولكنها تباع عددا وهي عددية متفاوتة فيها الصغير
والكبير فلا يجوز السلم فيها وفي الحاصل هذا مبنى على السلم في الحيوان فقد قامت الدلالة
لنا على أن السلم في الحيوان لا يجوز فكذلك في أبعاض الحيوان ولهذا لا يجوز السلم في
الأكارع والرؤس وكذلك لا يجوز السلم في الأدم والورق لأنه مجهول فيه الصغير والكبير
إلا أن يشترط من الورق والصحف والادم ضربا معلوم الطول والعرض والجودة فحينئذ
يجوز السلم فيه كالثياب وكذلك الأدم إذا كان يباع وزنا فإنه يجوز السلم فيه بذكر الوزن
إذا كن على وجه لا تتمكن المتنازعة بينهما في التسليم والتسلم. قال (ولا خير في السلم
في شئ من الحيوان عندنا) وعند الشافعي يجوز إذا بين الجنس والنوع والصفة وللسن
واحتج في ذلك بما روينا من الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا وقضاه
رباعيا وقال خيركم أحسنكم قضاء والسلم أقرب إلى الجواز من الاستقراض فإذا ثبت جواز
استقراض الحيوان بهذا الحديث ثبت جواز السلم فيه بطريق الأولى والمعنى فيه أنه مبيع
معلوم مقدور التسليم فيجوز السلم فيه كالثياب والمكيلات والموزونات وبيان الوصف انه
يجوز بيعه عينا والدليل على أنه معلوم فإنه إذا سمى الإبل صار الجنس معلوما وإذا قال حيوان
131

صار النوع معلوما وإذا قال جذع أو ثنى يصير السن معلوما وإذا قال ثمين تصير الصفة معلومة
واعلام الشئ من الأعيان بهذا الأشياء وشرط جواز العقد اعلام العين ولا يعتبر بعد ذلك
جواز نفع في المالية كما في الذبائح والثياب الفاخرة والدليل عليه أن بني إسرائيل استوصفوا
البقرة فوصفها الله تعالى لهم وأدركوها بتلك الصفة حيث قالوا الآن جئت بالحق وقال
صلى الله عليه وسلم لا يصف الرجل الرجل بين يدي امرأته حتى كأنها تنظر إليه فقد جعل
الموصوف من الحيوان كالمرئي والدليل عليه انه يثبت في الذمة مهرا وان الدعوى
والشهادة في الحيوان تسمع بذكر الصفة فدل أنها تصير معلومة بذكر الوصف بخلاف
اللآلئ والجواهر فالسلم في الصغار من اللآلئ يجوز وزنا أما الكبار منها فلا يمكن
إعلامها لكون المقصود التدوير والصفا والماء وليس لذلك حد معلوم يوقف عليه فإذا بالغ
في بيانه يصير بذلك عديم النظير وفي مثله لا يجوز السلم ولهذا لا يثبت مهرا في الذمة
وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن السلم في الحيوان وفى الكتاب. قال (بلغنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه)
وإنما فسر هذا الحديث في أول كتاب المضاربة أن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه دفع
مالا مضاربة إلى زيد بن خليدة فأسلمها زيد إلي عتويس بن عرقوب في قلانص معلومة
فقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أردد مالنا لا نسلم أموالنا في الحيوان وقد روينا
عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال إن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد
منها السلم في السن وقد بينا تأويل آثارهم وما روى أنه استقرض بكرا فالمراد استعجل في
الصدقة ثم لم تجب الزكاة على صاحبها فردها رباعيا أو استقرض لبيت المال وكما يجوز أن
يثبت لبيت المال حق مجهول يجوز أن يثبت ذلك علي بيت المال أيضا والمعنى فيه أنه أسلم
في مجهول فلا يجوز كما لو أسلم في الحلقات أو الجواهر وهذا لان المسلم فيه مبيع وشرط
جواز العقد القدرة على التسليم ولا يوجد ذلك إذا كان المسلم فيه مجهولا وبيان الوصف ان
بعد ذكر الأوصاف التي يشترطها الخصم يبقى تفاوت عظيم في المالية فإنك تجد فرسين
مستويين في السن والصفة ثم تشترى أحدهما بأضعاف ما تشترى به الآخر لتفاوت بينهما
في المعاني الباطنة كالهملجة وشدة العدو وكذلك في البعيرين وهذا في بني آدم لا يخفى فان
العبدين والأمتين يتساويان في السن والصفة ويختلفان في المالية لتفاوتهما في الذهن
132

والكياسة وفيه يقول القائل
رب واحد يعدل ألفا زائدا * وألوف تراهم لا يساوون واحدا
وكما أن العين مقصود فالمالية أيضا مقصودة بل أكثر لان المقصود هو الاسترباح
وذلك بالمالية يكون فإذا كان الحيوان بذكر الأوصاف لا يلتحق بذوات الأمثال في معنى
المالية قلنا لا يجوز السلم فيها بخلاف الثياب فإنها مصنوع بني آدم فما لم يكن معلوما لهم لا
يتمكنون من اتخاذها والثياب إذا نسجت في منوال واحد على هيئة واحدة لا تتفاوت في
المالية الا يسيرا ولا معتبر بذلك القدر كالتفاوت بين الجيد والردى في الحنطة في المالية فأما
الحيوان مصنوع الله تعالى وذلك يكون على ما يريده فقد يكون علي وجه لا نظير له ولو بالغ
فاستقصى في بيان وصفه يصير عديم النظير وذلك لا يجوز السلم فيه بالاتفاق ويوضحه
ان أقرب الحيوانات إلي الثياب الغنم وما هو المقصود من الغنم غير مرئى بل هو تحت الجلد
ويقع فيه تفاوت عظيم وما هو المقصود في الثياب ظاهر مرئى وقد ذكر عمرو بن أبي عمرو
عن محمد رحمهما الله تعالى قال قلت له إنما لا يجوز السلم في الحيوان لأنه غير مضبوط بالوصف
. قال (لا فانا نجوز السلم في الذبائح ولا نجوز في العصافير) ولعل ضبط العصافير بالوصف
أهون من ضبط الذبائح ولكنه للسنة وإنما ذكر الله تعالى لبنى إسرائيل الأوصاف الظاهرة
وذلك يمكن أعلامه عندنا ثم كان المقصود التشديد عليهم لما استقصوا في الاستيصاف هكذا
قاله ابن عباس رضي الله عنه وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستيصاف لخوف
الفتنة وذلك يقع بالأوصاف الظاهرة وكذلك سماع الدعوى والشهادة لان الأوصاف
الظاهرة منها تصير معلومة وثبوتة في الذمة مهر الكون النكاح مبنيا على التوسع فان المقصود
به شئ آخر سوى المالية بخلاف السلم ولهذا يجوز من غير بيان الوصف هناك. قال
(ولا بأس السلم في الثياب كلها بعد أن يشترط ضربا معلوما وطولا وعرضا بذراع معلوم
وأجلا وصفة معلومة) لان مقدار المالية بذكر هذه الأوصاف يصير معلوما عادة والتفاوت
الذي يقع بعد هذا يسير واليسير من التفاوت غير معتبر لأنه لا يتمكن بسببه منازعة
مانعة من التسليم والتسلم ولا يشترط الوزن بخلاف الحرير فإنه إذا أسلم في الحرير ينبغي أن
يشترط الوزن لان قيمة الحرير تختلف باختلاف الوزن وينبغي ان يشترط الطول والعرض مع
الوزن لان المسلم إليه ربما يأتي وقت حلول الأجل يقطع الحرير بذلك الوزن ونحن نعلم يقينا انه
133

لم يرد به قطع الحرير. قال (وكل شئ ينقطع من أيدي الناس فلا خير في السلم فيه) وهذه المسألة
على أربعة أوجه (أحدها) أن يكون المسلم فيه موجودا عند العقد منقطعا عن أيدي الناس عند
حلول الأجل فلهذا لا يجوز بالاتفاق لان السلم إليه بالعقد يلتزم التسليم عند حلول الأجل
فإذا لم يكن مقدور التسليم عند ذلك لا يجوز العقد (الثاني) أن يكون منقطعا وقت العقد
موجودا في أيدي الناس عند حلول الأجل فهذا لا يجوز عندنا ويجوز عند الشافعي (الثالث)
أن يكون موجودا عند العقد وعند حلول الأجل ولكنه ينقطع عن أيدي الناس فيما بين ذلك
فهذا لا يجوز عندنا وعلى قول مالك والشافعي رحمهما الله (الرابع) أن يكون موجودا من
وقت العقد إلى وقت المحل على وجه لا ينقطع فيما بين ذلك فيكون العقد صحيحا بالاتفاق
وحجتهم في ذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
المدينة فوجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين وربما قال ثلاث سنين فقال من أسلم منكم
فليسلم في كيل معلوم ومعلوم أن الثمار الرطبة لا تبقى إلى هذه المدة الطويلة ومع هذا قرهم
علي السلم فيها والمعنى فيه وهو ان المسلم فيه معلوم مقدور التسلم عند وجوب التسليم فيجوز
العقد كما لو كان موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل وبيان الوصف أن وجوب التسليم
بحكم العقد عند حلول الأجل وعند ذلك هو موجود في العالم والقدرة على تسليم الدين
بوجود جنسه في العالم ولا معنى لقول من يقول من الجائز أن يموت المسلم إليه عقيب العقد
فيحل الاجل لان هذا موهوم ولا يبنى العقد على الموهومات الا ترى أن اعتبار هذا الموهوم
يؤدى إلى الحلول أو جهالة الاجل وذلك مبطل لعقد السلم وإن كان موجودا في الحال فدل أنه
لا يعتبر ذلك وكذلك أن كان ينقطع فيما وراء ذلك المحل يجوز العقد وإن كان يتوهم أن يتأخر
التسليم إلى أن ينقطع وليس هذا نظير ما لو عين مكيالا أو قيما تخالف ما بين الناس لان بطلان
العقد ليس باعتبار هلاك ما عينه بل باعتبار جهالة قدر المسلم فيه كتعيين المسلم فيه لا لأنه
يتوهم أو يصيب ثمار تلك النخلة آفة والدليل أن وجود السلم فيه في مكان العقد ليس بشرط
بجواز العقد فكذلك في زمان العقد لا التسليم لا يتأتى الا بمكان أو زمان فكل يسقط اعتبار
وجوده في مكان العقد فكذلك في زمان العقد وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها وفى الحديث المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ولم يرد به النهى عن بيعها سلما والمعنى فيه أن قدرة العاقد
134

على تسليم المعقود عليه شرط لجواز العقد كما في بيع العين وهذا لان الملتزم للتسليم هو العاقد
فيشترط قدرته على التسليم ولا يوجد ذلك إذا كان المسلم فيه معدوما في الحال لان العاقد
لا يقدر على تسليمه الا بايصال حياته وأن ذلك الشئ وايصال حياته بأوان الوجود موهوم
وبالموهوم لا تثبت القدرة على التسليم فان قيل حياته معلومة في الحال والأصل بقاؤه حيا إلى
ذلك الوقت وإنما الموت موهوم قبله قلنا نعم ولكن بقاؤه حيا إلى ذلك الوقت باستصحاب
الحال فيكون معتبرا في ابقاء ماله على ملكه لا في توريثه من مورثه فبهذا الطريق لا تثبت
قدرته على التسليم إلا أن يكون موجودا في الحال حتى تكون حياته متصلة بأوان ذلك الشئ
ثم عجزه بالموت أو بآخر التسليم إلى أن ينقطع موهوم فلا يعتبر ذلك في افساد العقد يقرره ان
ما بعد العقد بمنزلة حالة المحل لان زمان المحل وقت وجوب التسليم بشرط بقائه حيا إلى ذلك
الوقت وذلك موهوم وما بعد العقد وقت وجوب التسليم يشترط موته وذلك موهوم أيضا
فاستويا من هذا الوجه ثم يشترط الوجود وقت المحل بالاتفاق فلذلك يشترط الوجود
من وقت العقد إلى وقت المحل بخلاف ما وراء المحل لان ذلك ليس بزمان وجوب التسليم
ابتداء وإنما هو زمان بقاء ما وجب من التسليم ولا يعتبر في حالة البقاء ما يعتبر في حالة
الابتداء كخلو المحل عن الردة والعدة في النكاح والشهود تعتبر عند ابتداء العقد لا عند
البقاء واعتبار الزمان بالمكان ساقط لأنه يتحقق نقله من مكان إلى مكان فبانعدامه في مكان
العقد لا تنعدم القدرة على التسليم ولا يتحقق نقله من زمان إلي زمان فتنعدم القدرة على التسليم
لعدم الوجود في زمان العقد الا ترى أنه لا يشترط وجوده في المكان الذي جعلاه محل
التسليم ويشترط وجوده في زمان المحل وما افترقا الا لما قلنا وإذا كان المسلم فيه موجودا
من وقت العقد إلي وقت المحل ثم لم يأخذه بعد محل الاجل حتى أنقطع فرب السلم بالخيار
ان شاء أخذ رأس المال وان شاء صبر حتى يجيئ حينه فيأخذ ما أسلم فيه عند علمائنا الثلاثة
رحمهم الله تعالى وقال زفر يبطل العقد ويسترد رأس المال لان الانقطاع من أيدي الناس
في العجز عن تسليم الدين بمنزلة هلاك العين في العجز عن التسليم ولو هلك المبيع في بيع العين
قبل التسليم بطل به البيع فكذلك إذا انقطعت من أيدي الناس وقاس بما لو اشترى بفلوس
شيئا فكسدت قبل القبض يبطل العقد لهذا المعنى فكذلك إذا انقطع المسلم فيه من أيدي
الناس وحجتنا في ذلك أنه يعذر بتسليم المعقود عليه بعارض على شرف الزوال فيتخير فيه
135

العاقد كما لو أبق العبد المبيع قبل القبض وهذا لان المعقود عليه دين وبقاء الدين ببقاء محله
ومحل الدين إنما هو الذمة فكان المعقود عليه باقيا ببقاء الذمة ولكن تأخر تسليمه إلى أوان
وجوده وفيه يعتبر شرط العقد فيثبت للعاقد الخيار بين أن يفسخ العقد ويسترد رأس المال
وبين أن يصبر حتى يأتي أوانه فيأخذ المسلم فيه وبه فارق هلاك العين فالمعقود عليه هناك
يفوت أصلا وكذلك الفلوس إذا كسدت فان العقد إنما تناول فلوسا هي ثمن فبعد الكساد
لا يبقى ثمنا أصلا يوضحه أن ما يكسد من الفلوس لا يروج بعد ذلك أو لا يدرى متى يروج
فلم يكن للقدرة فيه على التسليم أو ان معلوم فلهذا يبطل العقد هنا لادراك الثمار للقدرة على
التسليم أو ان معلوم فيخير رب السلم ان شاء رضى بالتأخير وان شاء فسخ العقد وأخذ رأس
ماله. قال ولا خير في السلم في الرمان والسفرجل والبطيخ والقثا والخيار وما أشبه ذلك مما
لا يكال ولا يوزن) لأنه يختلف فيه الصغير والكبير فلا يمكن أن يؤتى على حصر متقاربة وأصل
هذا الجنس مروى عن أبي يوسف. قال (ما يتفاوت آحاده في القيمة فهو عددي متفاوت لا يجوز
السلم فيه عددا) ومالا يتفاوت آحاده في القيمة وان ما يتفاوت أنواعه فهو عددي متفاوت
لا يجوز السلم فيه عددا والرمان والبطيخ تتفاوت في المالية آحاده والبادنجان وما أشبه ذلك
لا يتفاوت آحاده في المالية وعلى هذا الأصل يجوز السلم في البيض والجوز عددا لان آحاده
في المالية لا تتفاوت فإنك لا ترى جوزة بفلس وجوزة بفلسين وإنما تتفاوت أنواعه في
المالية وذلك التفاوت يزول بذكر العد في العدديات كالقدر في المقدرات وروى الحسن
عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى انه لا يجوز السلم في بيض النعام لأنه تتفاوت آحاده في
المالية وعلى قول زفر لا يجوز السلم في البيض والجوز عددا لان فيه الصغير والكبير وتجرى
فيه المنازعة بينهما في التسليم والتسلم وإنما يجوز السلم في البيض وزنا وفى الجوز كيلا
بعد أن يكون بمكيال معروف له ونحن نجوز السلم فيه كيلا أيضا لأنه يكال تارة ويعد
أخرى فتنقطع فيه المنازعة بينهما بذكر الكيل كما ينقطع بذكر العدد. قال (ولا بأس بالسلم في
الفلوس عددا لأنه عددي متقارب أو هي أمثال متساوية قطعا ما دامت متساوية رائجة لسقوط
قيمة الجودة منها باصطلاح الناس وذكر أبو الليث الخوازم عن محمد انه لا يجوز السلم في الفلوس
لأنها ثمن ما دامت رائجة والمسلم فيه مبيع فما هو ثمن لا يجوز أن يكون مسلما فيه كالذهب والفضة
وبعد الكساد هي قطع صغار موزنة فلا يجوز السلم فيها عددا ولكن ما ذكره في الكتاب
136

أصح لان صفة الثمنية في الفلوس عارضة باصطلاح الناس والمتعاقدان أعرض عن هذا الاصطلاح
حين عقد السلم وما أعرض على الاصطلاح على كونه عدديا ولكن ليس من ضرورة خروجه
في حقهما من أن يكون ثمنا خروجه من أن يكون عدديا كالجوز والبيض فاما الذهب والفضة
ثمن بأصل الحقه فلا ينعدم ذلك بجعلهما إياه مبيعا ألا ترى أن الفلوس تروج تارة وتكسد أخرى
وتروج في ثمن الخسيس من الأشياء دون النفيس بخلاف النقود ولا خير في السلم في اللحم
لأنه مختلف في قول أبي حنيفة ولا بأس به في قول ابن أبي ليل وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله إذا أسلم في موضع منه معلوم وسمى صفة معلومة فهو جائز وقيل لا خلاف بينهما وبين
أبي حنيفة بل جواب أبي حنيفة فيما إذا أطلق السلم في اللحم وهما لا يجوز ان ذلك وجوابهما
فيما إذا بين منه موضعا معلوما وأبو حنيفة يجوز ذلك والأصح ان الخلاف ثابت وان عند
أبي حنيفة لا يجوز السلم فيه وان بين منه موضعا معلوما وجه قولهما انه موزون معلوم فيجوز
السلم فيه كسائر الموزونات وبيان الوصف أن الناس اعتادوا بيعه وزنا ويجوز استقراضه
وزنا ويجري فيه الربا بعلة الوزن ثم الموزون المثمن معتبر بالمكيل المثمن ويجوز السلم فيه
وان اشتمل على ما هو مقصود وعلى ما ليس بمقصود كالتمر فيما فيه من النوى غير مقصود
ولا يمنع ذلك جواز السلم فكذلك ما في اللحم من العظم لان كل واحد منهما ثابت بأصل
الخلقة والدليل عليه جواز السلم في الالية مع ما فيها من العظم وكذلك يجوز السلم في الشحم لأنه
موزون فكذلك في اللحم ولأبي حنيفة طريقان (أحدهما) ان اللحم يشتمل على ما هو المقصود
وعلى ما ليس بمقصود وهو العظم فيتفاوت ما هو المقصود بتفاوت ما ليس بمقصود منه ألا
ترى أنه تجرى المماكسة بين البائع والمشترى في ذلك فالمشترى يطالبه بالنزع والبائع يدسه
فيه وهذا نوع من الجهالة والمنازعة بينهما لا ترتفع ببيان الموضع وذكر الوزن بخلاف النوى
الذي في التمر فالمنازعة لا تجرى في نزع ذلك وكذلك العظم الذي في الالية وعلى هذا
الطريق إذا أسلم في لحم منزوع العظم يجوز عند أبي حنيفة وهو اختيار ابن شجاع والطريق
الآخر أن اللحم يشتمل علي السمن والهزال ومقاصد الناس في ذلك مختلفة وذلك يختلف
باختلاف فصول السنة وبقلة الكلاء وبكثرة الكلاء والسلم لا يكون الا مؤجلا فلا يدرى
ان عند حلول الحول على أي صفة تكون وهذه الجهالة لا ترتفع بذكر الوصف فكان السلم
في اللحم بمنزلة السلم في الحيوان وبه فارق الاستقراض فالقرض لا يكون الا حالا وفى الحال
137

صفة السمن والهزال معلومة وبخلاف الشحم والالية فالتفاوت فيهما من حيث القلة والكثرة
وبذكر الوزن يزول ذلك وعلى هذا الطريق منزوع العظم سواء وهو الأصح. قال (ولا خير
في السلم في السمك الطري في غير حينه) لأنه ينقطع عن أيدي الناس ولأنه مختلف فالنكتة
الأولى تدل علي أنه إذا أسلم في حينة يجوز والنكتة الثانية تمنع من ذلك وحاصل الجواب
أن السلم فيه في غير حينه لا يجوز وزنا ولا عددا وفى حينه يجوز وزنا ولا يجوز عددا لان
فيه الصغير والكبير إلا أن الناس اعتادوا بيعه وزنا والتفاوت في المالية ينعدم بذكر الوزن
وأبو حنيفة يفرق بين هذا وبين السلم في اللحم لما بينا أن العظم ليس بمقصود من اللحم حتى
يجرى المماكسة في نزعه فإنه يشتمل على السمن والهزال وذلك لا يوجد في السمك وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ان الكبار من السمك الذي يقطع لا يجوز السلم فيها وزنا
بمنزلة السلم في اللحم فإنه إذا كان يقطع تجرى المماكسة في نزع العظم منه وتختلف رغائب
الناس باختلاف الموضع منه فاما السمك المالح فلا بأس بالسلم فيه وزنا معلوما ولا خير فيه
عددا أما الصغار منه فإنه يباع وزنا ولا سمن له وهو مما لا ينقطع عن أيدي الناس فيجوز
السلم فيه وزنا وفي الكبار لا يجوز السلم عددا للتفاوت ويجوز وزنا وعن أبي يوسف أنه
لا يجوز ذلك بخلاف اللحم فهناك يتمكن من اعلام موضع الخبث أو الطهر ولا يتأتى ذلك
في السمك فلا يجوز السلم فيه وزنا. قال (وإذا أسلم في الجذوع ضربا معلوما وسمى طوله
وغلظه وأجله والمكان الذي يوفيه فيه فهو جائز) لأنه مذروع معلوم كالثياب وكذلك الساج
وصنوف العيدان والخشب والقصب واعلام الغلظ في القصب باعلام ما يسد به الظن بشبر
أو ذراع أو نحو ذلك فعند ذلك لا تجرى المنازعة بينهما. قال (وإذا استصنع الرجل عند الرجل
خفين أو قلنسوة أو طستا أو كوزا أو آنية من أواني النحاس فالقياس أن لا يجوز ذلك) لان
المستصنع فيه مبيع وهو معدوم وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما
ليس عند الانسان ثم هذا في حكم بيع العين ولو كان موجودا غير مملوك للعاقد
لم يجز بيعه فكذلك إذا كان معدوما بل أولى ولكنا نقول نحن تركنا القياس لتعامل
الناس في ذلك فإنهم تعاملوه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير
نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير أصل من الأصول كبير لقوله صلى الله عليه وسلم
ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وقال صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي علي ضلالة
138

وهو نظير دخول الحمام بأجر فإنه جائز لتعامل الناس وإن كان مقدار المكث فيه وما يصب
من الماء مجهولا وكذلك شرب الماء من السقا بفلس والحجامة بأجر جائز لتعامل الناس وإن لم
يكن له مقدار فما يشترط أن يصنع من الكنة على ظهره غير معلوم وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم استصنع خاتما واستصنع المنبر فإذا ثبت هذا يترك كل قياس في مقابلته وكان
الحاكم الشهيد يقول الاستصناع مواعدة وإنما ينعقد العقد بالتعاطي إذا جاء به مفروغا عنه
ولهذا ثبت فيه الخيار لكل واحد منهما والأصح انه معاقدة فإنه أجرى فيه القياس
والاستحسان والمواعيد تجوز قياسا واستحسانا ثم كان أبو سعيد البردعي يقول المعقود عليه
هو العمل لان الاستصناع اشتغال من الصنع وهو العمل فتسمية العقد به دليل على أنه
هو المعقود عليه والأديم والصرم فيه بمنزلة الآلة للعمل والأصح أن المعقود عليه المستصنع
فيه وذكر الصنعة لبيان الوصف فان المعقود هو المستصنع فيه ألا ترى أنه لو جاء به مفروغا
عنه لامن صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه كان جائزا والدليل عليه أن محمدا قال إذا
جاء به مفروغا عنه فللمستصنع الخيار لأنه اشترى شيئا لم يره وخيار الرؤية إنما يثبت في بيع
العين فعرفنا أن البيع هو المستصنع فيه. قال (وإذا عمله الصانع فقبل أن يراه المستصنع باعه يجوز
بيعه من غيره) لأن العقد لم يتعين في هذا بعد ولكن إذا أحضره ورآه المستصنع فهو بالخيار
لأنه اشترى ما لم يره وقال صلى الله عليه وسلم من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه وعن أبي
يوسف قال إذا جاء به كما وصفه له فلا خيار للمستصنع استحسانا لدفع الضرر عن الصانع
في افساد أديمه وآلاته فربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة فلدفع الضرر عنه قلنا
بأنه لا يثبت له الخيار وفرق في ظاهر الرواية بين هذا والسلم. وقال لا فائدة في اثبات الخيار
في السلم لان المسلم فيه دين في الذمة وإذا رد المقبوض عاد دينا كما كان وهنا اثبات الخيار
مقيد لأنه مبيع عين فبرده ينفسخ العقد ويعود إليه رأس ماله ويوضح الفرق أن اعلام الدين
بذكر الصفة إذ لا يتصور فيه المعاينة فقام ذكر الوصف في المسلم فيه مقام الرؤية في بيع العين
فاما إعلام العين فتمامه بالرؤية والمستصنع فيه مبيع عين فلهذا يثبت فيه خيار الرؤية. قال (فان
ضرب لذلك أجلا وكانت تلك الصناعة معروفة فهو سلم) في قول أبي حنيفة تعتبر فيه شرائط
السلم من قبض رأس المال في المجلس ولا خيار فيه لرب السلم إذا أحضره المسلم إليه وهو
عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى استصناع علي حاله لأنه بدون ذكر الا حل عقد
139

جائز غير لازم فبذكر الاجل فيه لا يصير لازما لعقد الشركة والمضاربة وهذا لان ذكر
الاجل تيسر فيه وتأخير المطالبة فلا يتغير به العقد من جنس إلى جنس آخر ولو كان
الاستصناع بذكر الاجل فيه يصير سلما لصار السلم بحذف الاجل منه استصناعا ولو كان
هذا سلما لكان سلما فاسدا لأنه شرط فيه صنعة صانع بعينه وذلك مفسد للسلم وأبو حنيفة
يقول هذا مبيع دين والمبيع الدين لا يكون الا سلما كما لو ذكر لفظة السلم وبيانه ما ذكرنا أن
المستصنع فيه مبيع والأجل لا يثبت الا في الديون فلما ثبت فيه الاجل هنا عرفنا أنه مبيع دين
فتأثيره ان المتعبر ما هو المقصود وبه يختلف العقد لا باعتبار اللفظ الا ترى أنه لو قال ملكتك
هذا العين بعشرة دراهم كان بيعا ولو قال بسكنى هذا الدار شهرا كانت إجارة فعرفنا أن
المعتبر ما هو المقصود ثم السلم أقرب إلي الجواز من الاستصناع فان كل واحد منهما
مستحسن ولكن الآثار في السلم مشهورة وهو جائز فيما للناس فيه تعامل وفيما لا تعامل فيه
فكان الأصل فيما قصداه السلم إلا إذا تعذر جعله سلما بأن لم يذكرا فيه أجلا فحينئذ جعل
استصناعا فاما إذا أمكن جعله سلما بأن ذكر الاجل يجعل سلما ولان الاجل مؤخر للمطالبة
ولا يكون ذلك الا بعد لزوم العقد واللزوم في السلم دون الاستصناع فثبوت الاجل
فيه دليل علي انه سلم وذكر الصنعة لبيان وصف المسلم فيه ولهذا لو جاء به مفروغا
عنه لامن صنعته يجبر على القبول وبهذا تبين فساد قولهم انه سلم شرط فيه صنعة
صانع بعينه وما قالا بأن السلم بحذف الاجل لا يصير استصناعا يشكل بالمتعة فإنه لا يصير
نكاحا بحذف المدة عنه ثم النكاح بذكر المدة فيه يصير متعة وهو إذا تزوج امرأة شهرا وهذا
إذا كان ذكر المدة علي سبيل الاستمهال أما إذا كان علي سبيل الاستعجال بأن قال على أن
يفرغ منه غدا أو بعد غدا فهذا لا يكون سلما لان ذكر المدة للفراغ من العمل لا لتأخير
المطالبة بالتسليم ألا ترى أنه ذكر أدنى مدة يمكنه الفراغ فيها من العمل ويحكى عن
الهندواني. قال إن كان ذكر المدة من قبل المستصنع فهو للاستعجال ولا يصير به سلما وإن كان
الصانع هو الذي ذكر المدة فهو سلم لأنه يذكر علي سبيل الاستمهال وقيل إن ذكر
أدنى مدة يتمكن فيها من الفراغ من العمل فهو استصناع وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم
لان ذلك يختلف باختلاف الاعمال فلا يمكن تقديره بشئ معلوم. قال (ولا بأس بالسلم في اللبن
في جبنه وزنا أو كيلا معلوما) لأنه يكال تارة ويوزن أخرى فيصير معلوما بذكر كل واحد
140

منهما علي وجه لا يبقى فيه منازعة في التسليم. قال (في الكتاب وهذا قبل انقطاعه وهذا
في عرف ديارهم) لان اللبن ينقطع عن أيدي الناس في بعض الأوقات فأما في ديارنا
لا ينقطع وان كانت تزاد قيمته في بعض الأوقات ولكن لا يعد ذلك انقطاعا فيجوز السلم فيه في
كل وقت قال (ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا شرط فيه شيئا معلوما) لأنه عددي متقارب
فان آحاده لا تختلف في المالية وإنما تختلف أنواعه وإنما يكون معلوما بذكر الملبن فملبن كل
نوع منه معلوم عند أهل الصنعة وان كأن لا يعرف ذلك فلا خير فيه. قال (ولا بأس بالسلم
في التبن كيلا معلوما وكيمانا معلومة) لأنه مكيل مقدور التسليم وكيله الغرارة إذا كان معلوما
وان كأن لا يعرف ذلك فلا خير فيه. قال (ولا خير في السلم في رؤس الغنم والا كارع) لأنها
عددية متفاوتة ألا ترى ان المشترى ينازع البائع فيقول أريد هذا ولا أريد هذا والمقصود
ما عليها من اللحم وهي تختلف ثم هذا على قول أبي حنيفة غير مشكل لأنها أبعاض
الحيوان كاللحم وهما يقولان اللحم موزون أما الرؤس والا كارع فغير موزونة عادة وبذكر
الوزن لا يصير المقصود منها معلوما فلا يجوز السلم فيها. قال (ولا خير في السلم في كل شئ
مما يكال أو يوزن إذا شرط بمكيال غير معروف أو بإناء بعينه غير معروف أو بوزن حجر غير
معروف) لان مقدار السلم فيه لا بد من أن يكون معلوما عند العقد وبما ذكر لا يصير
مقداره بالمكيال المعروف والميزان المعروف معلوما فكان هذا سلما في المجهول ولان القدرة
على التسليم وقت وجوب التسليم شرط وذلك لا يتحقق الا ببقاء ما عينه من المكيال إلي وقت
حلول الأجل وبقاؤه موهوم فربما يهلك قبل ذلك وإن اشترى بذلك الاناء يدا بيد فلا بأس
به لان في العين يجوز البيع مجازفة فمكيال غير معروف أولى وهذا لان التسليم عقيب العقد
والقدرة علي التسليم للحال ثابتة وهذا لان التسليم عقيب العقد لا بقيام المكيال الذي عينه
وعن أبي حنيفة في غير الأصول أنه لا يجوز لان البيع في المكيلات والموزونات اما أن
تكن مجازفة أو يذكر القدر ففي المجازفة والمعقود عليه ما يشار إليه وعند ذكر القدر المعقود
عليه ما سمى من القدر ولم يوجد واحد منهما هنا فإنه ليس بمجازفة ولا يشترط فيه
الكيل إذا لم يكن المكيال معلوما وعن أبي يوسف قال في بيع العين ان عين
مكيالا لا ينكبس بالكبس فيه كالزنبيل ونحوه لا يجوز العقد فيه فإنه تتمكن المنازعة
بينهما في الكيل وإن كان شيئا لا ينقبض ولا يبسط كالقصعة ونحوها يجوز. قال (ولا بأس
141

بالسلم في العصير في حينه وزنا أو كيلا) لأنه يوزن أو يكال كاللبن وكذلك الخل لا بأس
بالسلم فيه كيلا معلوما أو وزنا معلوما لأنه يكال ويوزن واعلام المقدار بذكر كل واحد
منهما محصل والأصل ان ما عرف كونه مكيلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مكيل
أبدا وان اعتاد الناس بيعه وزنا وما عرف كونه موزونا في ذلك الوقت فهو موزون أبدا
وما لم يعلم كيف كان يعتبر فيه عرف الناس في كل موضع ان تعارفوا فيه الكيل والوزن جميعا
فهو مكيل وموزون وعن أبي يوسف ان المعتبر في جميع الأشياء العرف لأنه نما كان مكيلا
في ذلك الوقت أو موزونا في ذلك الوقت باعتبار العرف لا بنص فيه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولكنا نقول تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم علي ما تعارفوه في ذلك الشئ
بمنزلة النص منه فلا يتغير بالعرف لان العرف لا يعارض النص قال (وان أسلم في تمر ولم يسم
فارسيا ولاد قلا لم يجز) لان التمر أنواع فبدون ذكر النوع لا تنقطع المنازعة فان اشترط
فارسيا فلا بد من أن يشترط جيدا أو وسطا أو رديا لان كل نوع من التمر يشتمل على هذه
الأوصاف الثلاثة والمالية تختلف بجنسها. قال (ولا خير في السلم في شئ من الطيور ولا في
لحومها) لان آحادها تختلف في المالية فكانت عددية متفاوتة وهما فرقا بين هذا وبين السلم في
اللحم لان هناك يمكن اعلام المسلم فيه بذكر الموضع ولا يتأنى ذلك في لحوم الطير وعن أبي
يوسف قال ما لا تتفاوت آحاده في المالية كالعصافير ونحوها يجوز السلم في لحومها. قال (ولا
خير في السلم في شئ من الجواهر واللؤلؤ أما الصغار من اللآلئ التي تباع وزنا وتجعل في
الأدوية يجوز السلم فيها وزنا واما الكبار منها تتفاوت آحادها في المالية وهي عددية متفاوتة
لا يمكن اعلام ما هو المقصود منها فلا يجوز السلم فيها. قال (ولا بأس بالسلم في الجص والنورة
كيلا) لأنه كيل معلوم وهو مقدور التسليم في كل وقت. قال (ولا خير في السلم في الزجاج
إلا أن يكون مكسورا فيشترط وزنا معلوما وكذلك جوهر الزجاج فإنه موزون معلوم على
وجه لا تفاوت فيه اما الأواني المتخذة من الزجاج فهي عددية متفاوتة فلا يجوز السلم فيها
بذكر العدد ولا بذكر الوزن) لان ذلك لا يوزن ولا تعلم ماليته بوزنه إلا أن يكون شيئا
معروفا يعلم أنه لا يتفاوت في المالية كالمكاحل والمطابق فان آحاد ذلك لا تختلف في المالية
إنما تختلف أنواعه وكل نوع منه معلوم عند أهل الصنعة فيجوز السلم فيه بذكر العدد. قال
(وإذا أسلم الرجل إلى رجل ألف درهم في طعام خمسمائة من ذلك كانت دينا عليه وخمسمائة
142

نقدها إياه جازت حصة العين من ذلك وبطلت حصة الدين وعن زفر ان العقد في الكل
باطل أما في حصة الدين فلنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ يعنى الدين
بالدين وهذا فساد قوى يمكن في البعض فيفسد به الكل باعتبار أنه جعل قبول العقد في حصة
الدين شرطا للقبول في حصة العين وهذا شرط فاسد ومذهبنا مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما
تم يعتبر البعض بالكل في الدين والمعنى جميعا وحقيقة المعنى ان العقد انعقد صحيحا
في الكل حتى لو نقد جميع الألف في المجلس كان العقد صحيحا وهذا لأنه لا يتعلق العقد بالدين
المضاف إليه وإنما يتعلق بجنسه ومثله ولو اشترى بالدين شيئا عليه الدين ثم تصادقا على
أن لا دين بقي الشراء صحيحا وإنما فسد العقد هنا بمقدار الخمسمائة بترك القبض في المجلس وهذا
فساد طارئ فيقتصر على ما وجدت فيه علته كما لو هلك بعض المعقود عليه قبل التسليم قال (وإذا
أسلم الرجل مائة درهم في كر حنطة وكر شعير ولم يبين رأس مال كل واحد منهما فلا
خير فيه عند أبي حنيفة) بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهذا بناء على ما بينا
ان اعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد على شرطه شرط عنده وهنا المائة التي تنقسم انقسمت
على الحنطة والشعير باعتبار القيمة وطريق معرفته الحرز فلا يكون مقدار رأس المال لكل
واحد منهما معلوما لو تتاركا السلم في أحدهما لم يعلم يقينا مقدار ما يرده فلا يجوز العقد وعندهما
الإشارة إلى العين تكفى لجواز العقد وقد وجد. قال (ولا يجوز السلم إذا كان فيه شرط
خيار) لان خيار الشرط يعدم الملك ويجعل العقد في حق الحكم كالمتعلق بشرط سقوط الخيار
فكان تأثيره أكثر من تأثير عدم القبض وعدم قبض رأس المال في المجلس مبطل للسلم
فاشتراط الخيار فيه أولى وهذا لان للقبض حكم العقد وقد صار بشرط الخيار في حق
الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبله وبهذا تبين ان القبض لا يتم والافتراق
قبل تمام القبض مبطل للعقد إلا أن يبطل صاحب الخيار خياره قبل أن يتفرقا فيحنئذ ينقلب
العقد صحيحا عندنا خلافا لزفر فان من أصله ان تصحيح العقد الفاسد في استقباله فقط وعندنا
المفسد متى زال قبل تقرره جعل كأن لم يكن وتقرر الفساد هنا بالافتراق قبل تمام القبض
وقد انعدم ذلك متى أسقطا الخيار قبل أن يتفرقا ولا حالة المجلس كحالة العقد ولهذا جعل
قبض رأس المال في المجلس كالمقترن بالعقد فكذلك لزوم العقد باسقاط الخيار في المجلس يجعل
كالمقترن بالعقد وهذا إذا كان رأس المال قائما في يد المسلم إليه عند اسقاط الخيار وإن كان قد أنفقه
(10 ثاني عشر مبسوط)
143

حتى صار دينا عليه لم يصح العقد باسقاط الخيار ذكره في الجامع لان ابتداء العقد برأس
مال هو دين لا يجوز فكذلك إتمامه باسقاط الخيار. قال (وإذا أسلم إليه عشرة دراهم أو ثوبا
أو عبدا في طعام ثم افترقا قبل قبض رأس المال لم يجز السلم) وقال مالك يجوز وإن لم يقبض
رأس المال يوما أو يومين بعد أن لا يكون جلا بمنزلة الثمن في البيع فإنه لا يشترط قبضه
في المجلس الا ان هنا الشرط أن يكون حالا لان ما يقابله مؤجل والنسيئة بالنسيئة حرام
ولا تنعدم صفة الحلول بترك القبض فيه يوما أو يومين ولكنا نقول السلم أخذ عاجل بآجل
فيشترط كون أحد البدلين فيه معجلا كما يشترط أن يكون الآخر مؤجلا ليتوفر على هذا
العقد مقتضاه والتعجيل إنما بحصل بالقبض في المجلس فكان ينبغي أن يشترط اقتران
القبض بالعقد فإنه أتم ما يكون من التعجيل ولكن الشرع جعل ساعات المجلس كحالة العقد
تيسيرا كما في عقد الصرف ثم إن كان رأس المال دينا فالعقد يبطل بالافتراق قبل قبض رأس
المال قياسا واستحسانا لأنه دين بدين وإن كان رأس المال عينا ففي القياس لا يبطل العقد
لأنهما افترقا عن عين بدين وذلك جائز كبيع العين بثمن مؤجل ولكنه استحسن لمراعات
اسم هذا العقد ولأن جواز عقد السلم لحاجة المسلم إليه وإنما يتوفر عليه حاجته إذا وصل رأس
المال إليه فيشترط وصوله إلى يده مقرونا بالعقد ثم حالة المجلس جعلت كحالة العقد فلهذا يفسد
بترك قبض رأس المال في المجلس وإن كان عينا وان قبض الدارهم ثم افترقا فوجدها زيوفا
فإنه يردها وينتقض السلم اما إذا تجوز بها جاز العقد لان الزيوف من جنس الدراهم ولكن
فيه عيب ووجود العيب في الشئ لا يجعله في حكم جنس آخر ثم الزيوف ما زيفه بيت
المال ولكن يروج فيما بين التجار ولتبهرجة ما تبهرجه التجار وربما تسامح فيه بعضهم وربما
يأباه بعضهم لغش فيه وبهذا لا يخرج من أن يكون من جنس الدراهم فقابضه يكون مستوفيا
لحقه فإذا تجوز به تجوز بخلاف ماذا وجد المقبوض ستوقه أو رصاصا فان ذلك ليس من
جنس الدراهم فان الستوقة فلس مموه بالفضة ومعناه من طاقه و الرصاص ليس من جنس
الدراهم فلا يصير بقبضه مستوفيا لرأس المال فإذا تجوز بها كان مستبدلا لا مستوفيا والاستبدال
برأس المال قبل القبض لا يجوز فاما إذا رده في القياس ينتقص السلم سواء استبدل في مجلس
الرد أو لم يستدل وصار الكل زيوفا أو البعض وهو قول زفر لان الرد بعيب الزيافة ينقض
القبض من الأصل بدليل أنه يرجع بموجب العقد وهو الجياد والعقد لا يوجب القبض
144

مرتين فلو لم ينتقص القبض الأول من الأصل لما كان له أن يرجع بموجب العقد وبدليل
أنه لو لم يستبدل في مجلس الرد بطل العقد وبقاء القبض ليس بشرط لبقاء العقد وإذا ثبت
انتقاض القبض من الأصل صار كأن لم يوجد فيبطل العقد بقدر المردود كما لو وجده مستحقا
ولان رأس المال دين والدين يختلف باختلاف الوصف وإنما يكون الزيوف رأس المال باعتبار
اسقاط حقه عن الجودة إذا تجوز به فإذا أتى ذلك بالرد تبين أنه فارقه قبل قبض حقه فبطل
العقد كما لو وجد المقبوض ستوقا أو رصاصا واستحسن أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
فقالا إذا استبدل في مجلس الرد بقي العقد صحيحا سواء وجد الكل زيوفا أو البعض لأنهما
افترقا عن قبض صحيح حتى لو تجوز به جاز فإنما انتقض ذلك القبض بالرد وصار العقد عند
الرد موجبا قبض الجياد وهما مجتمعان في مجلس الرد فيجعل اجتماعهما في مجلس الرد كاجتماعهما
في مجلس العقد فإذا افتراقا بعد قبض موجب القعد وهي الجياد بقي العقد صحيحا كما لو زاد في
رأس المال وافترقا عن مجلس الزيادة قبل القبض وهذا بخلاف الاستحقاق فقبض المشترى
موقوف على إجازة صاحبه ألا ترى ان المسلم إليه لو أراد أن يرضى به لا يتمكن من ذلك
والموقوف إذا بطل صار كأنه لم يكن فإذا نفذ بإجازة المستحق التحق بما لو كان نافذا في
الابتداء كالمبيع الموقوف فلهذا إذا أجاز المستحق بقي العقد صحيحا وإذا أتى وأخذ دراهمه
كان العقد باطلا وأبو حنيفة أخذ بالقياس إذا وجد الكل زيوفا أو كانت الزيوف أكثر
وأخذ بالاستحسان إذا قل المردود بعيب الزيافة لان في القليل بلوى وضرورة فدراهم
الناس لا تخلو عن قليل زيف فيذهب على الناقد وإن كان بصيرا وإقامة مجلس الرد مقام
مجلس العقد لدفع الحرج فان الموجود في هذا المجلس شرط بوجه المطالب بموجب العقد وهو
الرد لا سببه وإقامة الشرط مقام السبب لدفع الحرج وذلك يتحقق فيما تتحقق فيه البلوى
وهو القليل دون مالا بلوى فيه وهو الكثير بل الكثير كالمستحق قل أو كثر لان دراهم
الناس لا تخلو عن المستحق عادة وهذا بخلاف الزيادة لان أصل العقد ما كان موجبا لهذه الزيادة
وإنما صار الآن موجبا فكان هذا المجلس في حق الزيادة مجلس السبب بمنزلة مجلس العقد
في حق رأس المال وإذا وجد القبض في مجلس الزيادة لم يضرهما الافتراق بعد ذلك ثم اختلفت
الروايات عن أبي حنيفة في الفرق بين القليل والكثير ففي كتاب البيوع يقول ما دون النصف
قليل والنصف فما فوقه كثير وفى كتاب الصرف يقول النصف فما دونه قليل وفى رواية عن
145

أبي حنيفة الثلث كثير فان النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد رضى الله تعالى عنه والثلث
كثير فإذا وجد الثلث زيوفا فرده يبطل العقد بقدره ووجه هذه الرواية ان قلة الشئ
وكثرته تتبين بالمقابلة فان العشرة بمقابلة الدرهم كثيرة وبمقابلة المائة قليلة فإذا كانت الزيوف
دون النصف قلنا إذا قوبلت الزيوف بالجياد فالزيوف قليلة وان كانت أكثر من النصف فهي
كثيرة عند المقابلة بالجياد فإذا كان النصف سواء ففي رواية كتاب البيوع قال هذا كثير لا
يقابله ما هو أكثر منه لتتبين قلته بالمقابلة وفى كتاب الصرف قال الشرط كثرة المردود
ولا تتبين كثرته إذا لم يكن ما يقابله أقل منه وقد كان العقد صحيحا في الكل فلا تنتقض
بالشك وكذلك حكم الصرف في جميع ما ذكرنا. قال (رجل أسلم إلي رجل في طعام وأخذ منه
كفيلا بالمسلم فيه ثم صالح الكفيل علي رأس ماله وذلك دين) فالصلح موقوف علي إجازة
المسلم إليه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فان اختار رد رأس المال جاز وان رد الصلح
بطل واسترد الكفيل دراهمه وطالب رب السلم بطعام السلم أيهما شاء وعند أبي يوسف
الصلح جائز بين الكفيل ورب السلم ويرجع الكفيل على المسلم إليه بطعام السلم وهذا إذا
كان رأس المال دراهم أو دنانير فإن كان رأس المال عروضا لا يجوز الصلح بالاتفاق لأنه إذا
كان رأس المال ثوبا فاما ان يصح الصلح عن ذلك الثوب بعينه وهو باطل لأنه ملك المسلم إليه
فلا يكون الكفيل قادرا علي تسليمه واما أن يصح علي ثوب غيره وهو باطل أيضا لأنه
يكون استبدالا برأس المال وكذلك الصلح على قيمة ذلك الثوب يكون استبدالا فلا
يجوز فاما إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير فالخلاف فيه يتحقق وجه قول أبى يوسف
وهو أن صلح الكفيل عن المسلم فيه على رأس المال كالصلح عن سائر الديون على أي بدل
كان بدليل جواز ذلك من الأصل ثم الكفيل في سائر الديون لو صالح على بدل جاز صلحه
ورجع علي المكفول عنه بما كفل عنه فكذلك الكفيل بالسلم إذا صالح على رأس المال وهذا
لان الكفيل مطلوب بالمسلم فيه كالأصيل إذا كان قادرا علي تسليم رأس المال إليه وبهذا فارق
ما لو كان رأس المال عينا في يد المسلم إليه لان الكفيل لا يقدر على تسليمه ولو صالح علي قيمته
كان مستبدلا لا مستردا لرأس المال ولا يقال في هذا الصلح تمليك طعام السلم من الكفيل
لان تمليك الدين من غير من عليه الدين في سائر الديون لا يجوز الصلح أيضا ثم جاز الصلح مع
الكفيل في سائر الديون عرفنا انه ليس بتمليك الدين ولكن يعقد الكفالة كما وجب للطالب على الكفيل
146

وجب للكفيل على الأصيل إلا أنه مؤخر إلى أن يسقط مطالبة عن الأصيل
وقد سقط ذلك بصلحه على رأس المال كما يسقط بايفائه فلهذا كان له أن يرجع
على المسلم إليه بطعام السلم وجه قولهما أن الصلح عن المسلم فيه على رأس المال فسخ للعقد
بدليل أنه يختص برأس المال وأنه يصح بلفظ المتاركة والإقالة فإنه لو لم يكن فسخا كان هذا
استبدالا لبقاء العقد الموجب لطعام السلم والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز
والكفيل أجنبي من العقد فلا يملك الفسخ كسائر الأجانب والكفيل بالثمن في البيع وهذا
لان الفسخ تصرف في العقد فلا يجوز من العاقد أو ممن قام مقام العاقد أو ممن كان وقع
العقد له والكفيل بهذه الصفة وإنما التزم ما التزمه من الكفالة فلا يصير به في حكم العاقد
للسلم بخلاف المسلم إليه فإنه عاقد فيجوز صلحه بطريق الفسخ والدليل على الفرق ان رب
السلم إذا زاد للمسلم إليه درهما جاز ولو زاد الكفيل في رأس المال درهما كان باطلا وبه فارق
سائر الديون فأصلح هناك ليس بتصرف في السبب الموجب للفسخ وإنما هو تصرف في
الدين الواجب ولهذا جاز بأي بدل كان والكفيل مطلوب بالدين كالأصيل ولهذا جاز الصلح
معه. قال (وإذا أسلم الرجلان إلى رجل في طعام فصالحه أحدهما على رأس ماله فالصلح موقوف)
عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فان أجازه الآخر جاز وكان المقبوض من رأس المال مشتركا
بينهما وما بقي ما طعام السلم مشتركا بينهما وإن لم يجزه فالصلح باطل وعند أبي يوسف
الصلح جائز بين المصالح والمسلم إليه لما قلنا في المسألة الأولى ان الصلح عن المسلم فيه على رأس
المال كالصلح عن سائر الديون علي أي بدل كان عنده ثم أخذ رب الدين إذا صالح عن نصيبه
مع المديون على بدل جاز الصلح ويخير الآخر بين أن يشاركه في المقبوض وبين أن يرجع
على المديون بنصيبه من الدين كذلك هنا إذا صالح على رأس المال ولان أكثر ما فيه أن هذا
فسخ العقد ولكل واحد من المتعاقدين حق التفرد بالفسخ في نصيب نفسه كما في بيع العين
لو اشترى رجلان عينا ثم أقال أحدهما البيع في نصيبه مع البائع جاز بدون رضي الآخر
فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قال في هذا الصلح قسمه الدين قبل القبض وذلك
لا يجوز بيانه أنه إن كان صلحه عن نفسه خاصة فلا يتحقق ذلك الا بأن يتميز نصيبه عن نصيب
صاحبه وهذا هو القسمة وإن كان صالحه عن النصف من النصيبين جميعا فلا يمكن
تصحيحه بدون إجازة الآخر لتناوله نصيبه وفقه هذا الكلام أن وجوب المسلم فيه بعقدهما
147

إذا هو لم يمكن موجودا قبل العقد والعقد منهما واحد فكل منهما في التصرف فيه
كشطر العلة وبشطر العلة وبشطر العلة لا يثبت شئ من الحكم ما لم يتم ذلك بإجازة الآخر كالمعتقة بين
رجلين زوجها أحدهما وبه فارق بيع العين فقد كانت العين هناك موجودة قبل العقد محلا
لتصرف كل واحد منهما إلا أن يكون ثبوت ولاية التصرف فيه لكل واحد منهما بالعقد
فلهذا كان الفسخ من كل واحد منهما في نصيبه كأنه كان منفردا به وهناك المسلم فيه لم يكن
موجودا قبل العقد وجواز التصرف باعتبار وجوبه بالعقد فكان كل واحد منهما فيه كشطر
العلة ولأنه لو جاز الصلح من أحدهما هنا يؤدى إلى أن يسقط حق رب السلم عن المسلم فيه
ويتقرر في رأس المال ثم يعود في المسلم فيه وذلك لا يجوز كما لو تقايلا السلم ثم أراد فسخ الإقالة
لم يجز ذلك بخلاف بيع العين وبيان الوصف أن الآخر إذا اختار المشاركة في المقبوض مع
المصالح كان ما بقي من طعام السلم مشتركا بينهما وقد سقط بالصلح حق المصالح عن المسلم
فيه وتقرر في رأس المال فلا يجوز أن يعود حقه بعد ذلك في المسلم فيه وبه فارق سائر الديون
الا ان أبا يوسف يقول إنما أن يعود حقه فيما كان ساقطا لان الساقط مثلا شئ كما
في فصل الإقالة وهنا إنما يعود بحقه فيما هو قائم وهو النصف الباقي من طعام السلم وأما بيان
قول أبى يوسف فإنه يقول للآخر الخيار فإن شاء شارك القابض في المقبوض لان أصل رأس
المال كان مشتركا بينهما فلا يسلم لأحدهما منه شئ الا بتسليم الآخر وإذا شاركه في المقبوض
كان الباقي في ذمة المسلم إليه مشتركا بينهما وان شاء سلم المقبوض للقابض ويرجع على المسلم
إليه بطعام السلم فإذا فعل ذلك ثم أراد الرجوع عن شريكه لم يكن له ذلك لأنه كان مخيرا
بين شيئين فإذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه كالغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار
المغصوب منه تضمين أحدهما فليس له أن يرجع فيضمن للآخر بعد ذلك فان نوى ما
على المسلم إليه كان له أن يرجع على شريكه بنصف المقبوض لأنه إنما سلم له المقبوض بشرط
أن يسلم له ما في ذمة المسلم إليه فإذا نوى بطل تسليمه كالمحتال عليه إذا مات مفلسا عاد الدين
إلى ذمة المحيل. قال (وهذا بمنزلة رجلين لهما على رجل مائة درهم فصالحه أحدهما من حصته
على ثوب وسلم له الآخر واختار اتباع المديون فنوى ما عليه) كان له ان يرجع علي صاحب
الثوب في الثوب فيأخذ منه نصفه الا ان يرضى صاحب الثوب أن يرد عليه خمسة وعشرين
درهما ولا يعطيه شيئا من الثوب كان له ذلك حينئذ والخيار فيه إلى صاحب الثوب كما في
148

الابتداء لو اختار المشاركة معه كان صاحب الثوب بالخيار بين أن يعطيه خمسة وعشرين درهما
وبين أن يعطيه نصف الثوب لان من حجته أن يقول مبنى الصلح علي التجوز بدون الحق
إنما توصلت إلى نصيبي لأني رضيت بدون حقي بخلاف ما إذا اشترى بنصيبه ثوبا وهذا فرق
معروف في كتاب الصلح وكذلك لو كان بالسلم كفيل فصالح أحد صاحب السلم مع الكفيل
علي رأس ماله فهو كالصلح مع الأصيل على الخلاف الذي بينا. قال (وإذا أسلم الرجل إلى رجل
دراهم في طعام ثم صالحه على رأس ماله ثم أراد أن يشترى برأس ماله شيئا قبل أن يقبضه) في
القياس له ذلك وهو قول زفر لان عقد السلم ارتفع بالفسخ بقي رأس المال في ذمته بحكم
القبض لا بحكم العقد وهو دين لا يستحق قبضه في المجلس فيجوز الاستبدال به كسائر الديون
الا ترى أن السلم لو كان فاسدا كان له أن يستبدل برأس المال قبل الاسترداد لهذا المعنى
واستحسن علماؤنا رحمهم الله فقالوا لا يجوز ذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أسلمت في شئ فلا تصرفه في غيره فلو جوزنا هذا
كان صرافا حقه من طعام السلم إلى شئ آخر بهذا الطريق وفي الحديث المعروف لا تأخذ
الا سلمك أو رأس مالك وبهذا الطريق نأخذ شيئا آخر غير رأس المال وغير المسلم فيه وذلك
غير جائز ثم حال رب السلم مع المسلم إليه بعد الفسخ كحال المسلم إليه مع رب السلم حال قيام العقد
قبل قبض رأس المال فكما لا يجوز الاستبدال هناك فكذلك لا يجوز هنا وبه فارق السلم الفاسد
من الأصيل لأنه ما كان موجبا تسليم رأس المال ليعتبر الانتهاء بالابتداء وهنا العقد كان موجبا
تسليم رأس المال فاعتبرنا حال الفسخ بحال العقد في المنع من الاستبدال. قال (وإذا أسلم دراهم
ودنانير في طعام وقد علم وزن أحدهما ولم يعلم وزن الآخر فلا خير فيه) عند أبي حنيفة وجائز
عندهما لان اعلام قدر رأس المال عندهما ليس بشرط والإشارة إلى العين تكفى وعند أبي
حنيفة اعلام القدر فيما يتعلق العقد على قدره شرط فإذا لم يعلم وزن أحدهما بطل العقد في
حصته لانعدام شرط الجواز فيبطل في حصة الآخر أيضا لاتحاد الصفقة أو لجهالة حصة الآخر
والسلم في المجهول لا يصح ابتداء. قال (وإذا أسلم عشرة دراهم في ثوبين أحدهما هروي
والآخر مروى فما لم تتبين حصة كل واحد منهما من رأس المال لا يجوز العقد) عند أبي حنيفة كما
في الحنطة والشعير لان الانقسام باعتبار القيمة وطريق معرفته الحرز فلا يتيقن بحصة كل
واحد من الثوبين الا بالقسمة وان كانا موصوفين بصفة واحدة ففي القياس كذلك لان الثياب
149

ليست من ذوات الأمثال والانقسام على الثوبين باعتبار القيمة كما لو اشتراهما عينا وفي الاستحسان
يجوز لان الموصوفين بصفة واحدة لا يتفاوتان في الظاهر في المالية ما داما في الذمة والانقسام
حال كونهما في الذمة فحصة كل واحد منهما نصف رأس المال بيقين فيجوز العقد من غير اعلام
حصة كل واحد منهما كما لو أسلم عشرة في كرين من حنطة بخلاف ما لو اشتراهما عينا فإنهما
يتفاوتان في المالية إذا كانا عينين فلهذا كان انقسام الثمن عليهما باعتبار القيمة فان قبض الثوبين
في السلم ثم أراد أن يبيع أحدهما مرابحة علي خمسة دراهم فليس له ذلك عند أبي حنيفة إلا أن
يبين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا بأس بذلك لان حصة كل واحد منهما من رأس المال
معلومة بيقين فبيعه مرابحة على ذلك كالكرين وبيانه ما ذكرنا أن الثمن بمقابلة ما تناوله العقد
ولا تفاوت في ذلك ولهذا جاز العقد جاز العقد عند أبي حنيفة والدليل عليه أنهما لو تقايلا السلم في أحدهما
يرد من رأس المال خمسة ولو وجد بأحدهما عيبا فرده يرده بخمسة فعرفنا ان حصة كل واحد
منهما خمسة بيقين فكأنه سمى ذلك في العقد وأبو حنيفة يقول اشترى الثوبين بثمن واحد
فلا يبيع أحدهما مرابحة كما لو اشتراهما عينا بخلاف الكرين فان هناك لو اشتراهما عينا كان له
ان يبيع أحدهما مرابحة وبيان الوصف أن رب السلم مشترى والمسلم فيه مبيع فإذا قبض
المسلم فيه كان المقبوض عين ما تناوله العقد لا غيره لأنه ان جعل غيره كان استبدالا بالمسلم
فيه وذلك لا يجوز فمن هذا الوجه جعل كأنه عين ما تناله العقد فاما في الحقيقة هو غيره لأن العقد
يتناول دينا في الذمة والعين غير الدين فباعتبار هذه الحقيقة لم يكن المقبوض عين
ما تناوله العقد فلا بد من طريق يجعل بذلك الطريق كأنه عين المعقود عليه وذلك الطريق
ن يجعل عند القبض كأنهما جددا ذلك العقد على المقبوض وهو معنى قول المتقدمين رحمهم
الله للقبض في باب السلم حكم عقد جديد والدليل عليه ما قاله في الزيادات لو أسلم إلى رجل
مائة درهم في كر حنطة ثم اشترى المسلم اليمن رب السلم كر حنطة بمائتي درهم إلى سنة وقبضه
فلما حل الطعام في السلم أعطاه ذلك الكر لم يجز لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن
وإنما يكون ذلك إذا جعلا عند القبض كأنهما جددا العقد عليه وإذا تقر هذا فهو وما
لو اشتراهما عينا بثمن واحد سواء وقال في السير الكبير لو أحرز المشركون كرا لرجل
من المسلمين بدراهم فدخل إليهم مسلم وأسلم إليهم مائة درهم في كر حنطة فأعطوه ذلك
الكر فأخرجه فلا سبيل للمالك القديم عليه لأنه أخذه عوضا عن الكر الذي له في ذمتهم فلو
150

أخذه المالك القديم أخذه بمثله وذلك غير مفيد وفي السلم عند القبض يصير كالمجدد للعقد
علي ذلك الكر بالمائة فيأخذه المالك القديم بذلك ثم أكثر ما في الباب أن يثبت شبهة تجديد
العقد بينهما وإن لم يثبت الحقيقة والشبهة في بيع المرابحة بمنزلة الحقيقة ألا ترى أنه لو أشتري
شيئا بثمن مؤجل لا بيعه مرابحة من غير بيان لشبهة الزيادة بسبب الاجل ولو أخذ عينا صلحا
من دين له على انسان لا يبيعه مرابحة على ذلك لشبهة الحط بسبب الصلح والذي يوضح
كلام أبي حنيفة أن الثوبين الموصوفين لا يتفاوتان في الذمة ويتفاوتان بعد التعيين ألا ترى
أنه لو قبضهما وباع أحدهما من انسان ثم استهلك ذلك الثوب علي المشترى لا يجب عليه تسليم
الثوب الآخر وإنما يجب قيمة المستهلك فدل أنهما لا يتماثلان عينا فجاز العقد في الابتداء في
الدين وكذلك الإقالة في أحدهما وأما بيع المرابحة لا يكون الا بعد التعيين فيعتبر التفاوت
في حكم بيع المرابحة فلا يبيع أحدهما مرابحة من غير بيان ولا بأس بأن يبيعهما مرابحة علي
غيره لان ثمنهما مسمى معلوم كما لو اشتراهما عينا. قال (ولا بأس بالسلم في المسوح والأكسية
والعبا والجواليق والكرابيس بصفة معلومة عرضا وطولا ورفعة) لما بينا ان اعلامه علي وجه
لا يبقى فيه تفاوت في المالية ولا يبقي بينهما منازعة في التسليم تمكن. قال (ولا بأس بالرهن
والكفيل في السلم أما برأس المال يجوز أخذ الكفيل والرهن عندنا ولا يجوز عند زفر وله في
السلم روايتان لان الرهن والكفيل مما يتأخر قبضه وقبض رأس المال مستحق في المجلس
فأخذ الكفيل والرهن به لا يفيد ولكنا نقول رأس المال دين واجب على رب السلم فالكفيل
يلتزم المطالبة بما هو مضمون علي الأصيل وهو شرط صحة الكفالة والرهن للاستيفاء ورأس
مال السلم دين يستوفى فان هلك الرهن في المجلس وفى قيمته وفاء برأس المال صار مستوفيا
به رأس المال فان افترقا قبل هلاك الرهن بطل السلم لان الاستيفاء لا يتم الا بهلاك الرهن
والافتراق قبل تمام القبض يبطل السلم وكذا ان نقد الكفيل رأس المال قبل أن يتفرق
المتعاقدان ثم العقد وان افترقا قبل أن ينقد الكفيل بطل العقد ولا معتبر بذهاب الكفيل لأنه
ليس بعاقد حتى لو ذهب وجاء رأس المال قبل افتراق المتعاقدين فادى تم العقد وهذه ثلاثة
فصول الوكالة والكفالة والحوالة والجواب في الكل واحد ان قبض رأس المال من الوكيل
أو المحتال عليه قبل افتراق المتعاقدين تم عقد السلم ولا معتبر بذهاب الوكيل والمحتال عليه
وأما أخذ الرهن والكفيل يجوز بالمسلم فيه وهكذا ذكر ابن شجاع عن زفر رحمهما الله تعالى
151

وذكر الحسن عن زفر رحمهما الله تعالى انه لا يجوز فعلى رواية ابن شجاع قال كل دين
لا يجوز قبضه في المجلس ويجوز التأجيل فيه فأخذ الرهن والكفيل به صحيح للتوثيق والمسلم
فيه بهذه الصفة بخلاف رأس المال وبدل الصرف وعلى الرواية الأخرى قال كل دين لا يجوز
الاستبدال به قبل القبض فأخذ الرهن والكفيل به لا يجوز لان في الكفالة إقامة ذمة
الكفيل مقام ذمة الأصيل فيكون في معنى الاستبدال من حيث المحل والحوالة كذلك وفي
الرهن يصير مستوفيا بالهلاك والرهن ليس من جنس الدين فكان هذا استبدالا فعلى هذا
لا يجوز الرهن بالمسلم فيه ورأس المال وبدل الصرف وحجتنا في ذلك ما روى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم انه اشترى من يهودي طعاما نسيئة ورهنه درعه وشراء الطعام نسيئة
يكون سلما وقد روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه جوز الرهن بالسلم واستدل
فيه بقوله تعالى (يا أيها الذي آمنوا إذا تداينتم بدين إلى قوله تعالى فرهان مقبوضة) والمعنى
فيه أن عند هلاك الرهن يصير مستوفيا عين حقه لا مستبدلا فان عين الرهن لا تكون
مملوكة للمرتهن ولهذا لو كان الرهن عبدا فمات كان كفنه علي الراهن وإنما يصير
مستوفيا دينه من ماليته والأعيان باعتبار صفة المالية جنس واحد ولهذا لو ارتهن أحد
الشريكين بنصيبه من الدين فهلك الرهن يرجع شريكه عليه بنصف نصيبه من الدين وإذا
ثبت انه استيفاء لا استبدال جاز الرهن بكل دين يجب استيفاؤه وفى الحوالة والكفالة لاشك
فان المستوفي من الكفيل والمحتال عليه كالمستوفي من الأصيل في أنه عين حق الطالب لا
بدله. قال (وإذا أسلم في شئ من الثياب واشترط طوله وعرضه بذراع رجل معروف لم يجز
كما في المكيل إذا عين المكيال) وهذا لان مقدار المسلم فيه بالذراع المعروف وربما يموت ذلك
الرجل فيتعذر تسليم المسلم فيه إذا حل الاجل وإذا اشترط كذا وكذا ذراعا فهو جائز وله
ذراع وسط لان مطلق التسمية تنصرف إلي المتعارف كمطلق تسمية الدراهم في الشراء تنصرف
إلي نقد البلد والمتعارف الذراع الوسط ويسمى المكسرة وسمى لذلك لأنه كسره من ذراع
قبضة الملك وان الذراع الوسط سبع قبضات وهي تسع مسببات ومعرفة هذا في كتاب العشر
والخراج. قال (وإذا أسلم في الحرير وزنا ولم يشترط الطول والعرض لم يجز) لان المالية لا تصير
معلومة الا ببيان الطول والعرض في الثياب ولأنه لو جاز هذا لكان يأتيه بقطاع الحرير
بذلك الوزن الذي سمى فيجبر على أخذه ونحن نعلم أنه لم يقصد ذلك فلهذا لا يجوز ما لم يبين
152

الطول والعرض ولا بد من بيان الوزن أيضا فيما تختلف ماليته بالثقل والخفة كالحرير والوذارى
وما أشبه ذلك وان اشترط الطول والعرض بقيمان غير الذراع فإن كان قيمانا معروفا من
قيامين التجار فهو جائز لان المقدار يصير معلوما بذلك وهو المقصود وكذلك القدرة على
التسليم تحصل بتسمية ذلك. قال (وان اشترط الرجل في سلمه ثوبا جيدا ثم جاء به المسلم إليه
فقال رب السلم ليس هذا بجيد وقال المسلم إليه جيد فان الحاكم يريه رجلين من أهل تلك الصناعة)
لأنه لا علم عنده فيما إذا اختلفا فيه فيرجع إلى من له فيه علم كما لو احتاج إلى معرفة قيمة
المستهلك والأصل فيه قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فإذا اجتمعا علي أنه
جيد مما يقع عليه اسم الجودة وإن كان ليس بنهاية في الجودة أجبر رب السلم علي أخذه لان
المسلم إليه وفي بما شرط له فالمستحق بالتسمية أدنى ما يتناوله الاسم إذ لا نهاية للأعلى فإنه ما من
جيد الا وفوقه أجود منه ألا ترى أنه لو اشترط في العبد أنه كاتب أو خباز فإنه يستحق
به أدنى ما يتناوله الاسم وإنما شرط المثنى لأنه يحتاج إلى فصل الخصومة بينهما وإنما يمكنه
ذلك بحجة تامة وهو قول المثنى. قال (وإن كان اشترط وسطا فأتاه المسلم إليه بجيد أجبر
رب السلم على قبوله) وعلى قول زفر لا يجبر لان الجيد غير الوسط وهو متبرع عليه بصفة
الجودة ولو تبرع عليه بزيادة قدر كان له أن لا يقبل تبرعه فكذلك إذا تبرع بالجودة ولكنا
نقول أوفاه حقه بكماله وأحسن في قضاء الدين قال صلى الله عليه وسلم خيركم أحسنكم
قضاء للدين وقال للوزان زن وأرجح فانا معاشر الأنبياء هكذا نزن. قال (فان أتاه بالثوب
الجيد والمشروط عليه ثوب وسط وقال خذ هذا وزدني درهما فلا بأس بذلك أن فعل) وهذه
في الحاصل ثمانية فصول أربعة في الثياب وأربعة في المقدرات أما في الثياب ان أتاه بأزيد
وصفا أو بأدون وصفا أو بأزيد قدرا أو بالنقص قدرا أما في الثياب ان أتاه بأزيد وصفا
أو ذرعا بان أتاه بأحد عشر ذراعا وقد كان المسلم فيه عشرة أذرع فقال خذ هذا وزدني
درهما يجوز وتكون تلك الزيادة بمقابلة صفة الجودة أو الذراع الزائد وذلك مستقيم ألا
ترى أنه لو باعه ثوبا جيد بثوب وسط ودرهم يجوز ولو باعه أحد عشر ذراعا بعشرة
أذرع ودرهم يجوز فكذلك القبض بحكم السلم ولو أتاه بأنقص وصفا بان تاه بثوب ردى
فقال خذ هذا وأرد عليك درهما لا يجوز لان هذا منهما إقالة للعقد في الصفة وحصة الصفة
من رأس المال غير معلومة فلا تجوز الإقالة فيه وكذلك لو أتاه بتسعة أذرع فقال خذ هذا
153

وأرد عليك درهما لان الذرع في الثوب صفة ولا رأس المال لا ينقسم علي ذرعان الثوب
باعتبار الاجزاء فلم تكن حصة الذرع معلومة من رأس المال فلا تجوز الإقالة فيه أما في
المقدرات لو أسلم عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط فأتاه بطعام جيد وقال خذ هذا
وزدني درهما فإنه لا يجوز لان الدرهم الزائد بمقابلة الجودة ولا قيمة للجودة في الأموال
الربوية ألا ترى أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز وسط ودرهم لا يجوز وهذا في معنى ذلك
فإنه يأخذ هذا القفيز الجيد عوضا عن الوسط الذي له في ذمته وعن الدرهم الزائد ولو أتاه
بأحد عشر قفيزا وقال خذ هذا وزدني درهما جاز لان الدرهم الزائد بمقابلة القفيز الزائد وهو
جائز ولو أتاه بعشرة أقفزة رديئة فقال خذ هذا وأرد عليك درهما لا يجوز لأنه لا قيمة للصفة
فكيف تستقيم الإقالة على القيمة فيه ولو أتاه بتسعة أقفزة وقال خذ هذا وأرد عليك درهما
يجوز بخلاف الثوب لان رأس المال ينقسم على القفيزين باعتبار الاجزاء فحصة القفيز من
رأس المال معلومة بخلاف ذرعان الثوب وعن أبي يوسف أنه يجوز في الفصول كلها ذكر قوله
في كتاب الصلح لان رب السلم يزيد في رأس المال فتلحق الزيادة بأصل العقد أو المسلم إليه
يحط شيئا من رأس المال والحط أيضا يلتحق بأصل العقد لا أن يكون بمقابلة الصفة أو
يكون فيه إقالة العقد في شئ ثم المسلم إليه أجنبي في قضاء الدين إذا أتى بالأجود ورب السلم
أحسن إليه حين تجوز بالردئ فإذا أمكن تحصيل مقصود هما بهذا الطريق وجب حمل
تصرفهما عليه عملا بقوله تعالى (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) ولكنا
نقول هذا إذا لم ينصا على النص والمقابلة أما إذا نصا على ذلك لا يمكن حمل فعلهما على التبرع
كما لو باع درهما بدرهمين لا يجوز ولا يجعل أحد الدرهمين هبة وذكر أبو سليمان عن أبي
يوسف رحمهما الله أن أبا حنيفة جوز ذلك في الثياب ولم يجوزه في الطعام وهذه الرواية
تخالف رواية محمد في الثوب إذا أتاه بأردأ مما شرط أو بأنقص مما شرط والاعتماد على
رواية محمد. قال (وإذا اختلفا في السلم فقال الطالب شرطت لي جيدا وقال المطلوب شرطت
لك وسطا أو قال الطالب أسلمت إليك في حنطة وقال المطلوب أسلمت إلى في شعير تحالفا
وترادا) وحكم التحالف ثابت بالسنة بخلاف القياس فان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا اختلف
المتبايعان تحالفا وترادا وفى حديث آخر قال إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها فالقول
ما يقوله البائع أو يترادان وسنقرر هذا في باب التحالف إن شاء الله تعالى فنقول الآن إذا اختلفا
154

في جنس المعقود عليه فتعلق العقد بالمعقود عليه أكثر من تعلقه بالثمن ثم لو اختلفا في جنس
الثمن تحالفا ففي جنس المعقود عليه أولى وكذلك إذا اختلفا في الصفة لان المسلم فيه دين وإنما
يعرف الدين بصفته فالجيد منه غير الوسط ألا ترى أنهما لو أحضرا كانا غيرين والاختلاف
في الصفة فيما هو دين يكون اختلافا في المعقود عليه فيجرى التحالف بينهما بخلاف ما إذا
اختلفا في الصفة في بيع العين فان العين لا تختلف باختلاف صفته فلا يكون ذلك اختلافا
بينهما في المعقود عليه. قال (والذي يبدأ به في اليمين المطلوب في قول أبى يوسف الأول) لأنه
بمنزلة البائع وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام قال فالقول ما يقوله البائع فظاهر هذا
يقتضى أن يكتفى بيمنه وقد قام الدليل علي انه لا يكتفي بذلك فيبقى هذا الظاهر معتبرا
في البداية بيمينه ولأنه أشبه بالمنكرين فإنه ينكر ما ادعاه الطالب من الجنس والصفة لنفسه واليمين
على المنكر ثم رجع وقال يبدأ بيمين الطالب وهو قول محمد لان أول التسليمين في عقد السلم
على الطالب وهو رأس المال فلذلك أول اليمينين عليه ولأنه بنكوله يثبت ما ادعاه المطلوب
منه ويقع الاستغناء عن يمينه وبعض مشايخنا رحمهم الله يقول القاضي يقرع بينهما ويبدأ بيمين
من خرجت قرعته نفيا لتهمة الميل عن نفسه وقيل الرأي في ذلك إلى القاضي وقيل ينظر
أيهما سبق بالدعوة يبدأ بيمين خصمه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه لان نكوله
قائم مقام اقراره وان قامت لهما جميعا بينة أخذت بينة الطالب لان في بينته زيادة اثبات
ولأنه يقيم البينة على حق نفسه فالمطلوب إنما يقيم البينة علي حق الطالب وبينة الانسان على
حق نفسه أولى بالقبول وهذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وعن محمد إن كان افترقا
عن مجلس العقد فكذلك الجواب وإن لم يفترقا عن مجلس العقد يقضي بسلمين عشرة في كر
حنطة ببينة رب السلم وعشرة في كر شعير بينة المسلم إليه ومحمد رحمه الله يقول البينات حجج
فمهما أمكن العلم بها لا يجوز ابطال شئ منها وهنا العمل بالبينتين يمكن إذ لا منافاة بين العقدين
فيجب العمل بهما كحجج الشرع بخلاف ما بعد الافتراق فإنه ما قبض في المجلس الا عشرة
واحدة فلا يمكن القضاء بالعقدين فلهذا رجحنا بينة الطالب وقاس هذا ببيع العين فإنه لو
قال بعت منك هذه الجارية بألف درهم وقال المشترى بعتني العبد بألف درهم وأقاما جميعا
البينة يقضى بالعقد فيهما جميعا بالاتفاق فكذلك في السلم وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله
يقولان مع اختلافهما اتفقا على أنه لم يكن بينهما الا عقد واحد فالقضاء بالعقدين قضاء بما لم
155

يطلبا وليس للقاضي ذلك يقرره انه لا مقصود للمطلوب في هذه البينة اثباتا لان حقه في
رأس المال وهو سالم له ولا مؤنة عليه في ما في ذمته حنطة كان أو شعيرا فإنما مقصوده نفى
بينة الطالب فرجحنا بينة الطالب للاثبات بخلاف بيع العين فالبائع هناك ببينته يثبت إزالة العين
عن ملكه ليسقط مؤنته عن نفسه بالتسليم إلى المشترى فكان هو مثبتا كالمشترى فلهذا قضينا
بالعقدين ثم نص على الخلاف فيما إذا اختلفا في جنس المسلم فيه ولم يذكر ذلك فيما إذا اختلفا
في صفته ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال هو على الخلاف أيضا ومنهم من فرق لمحمد
بينهما فقال باختلافهما في الصفة لا يتحقق الخلاف في العقد ألا ترى أنه قد يسلم في الجيد
ويأخذ مكانه رديئا ويجوز أن يسلم في الردئ فيعطيه مكانه جيدا فعرفنا أن باختلاف الصفة
لا يختلف العقد فلا يمكن القضاء هناك بالعقدين بخلاف الجنس فان بالسلم بالحنطة لا يجوز
أخذ الشعير فكان الاختلاف في ذلك اختلافا في العقد وقد أثبت كل واحد منهما ما ادعي
من العقد بالبينة فيقضى بالعقدين فإن لم يكن لهما بينة وتحالفا فسخ القاضي العقد بينهما إذا
طلب ذلك أحدهما قطعا للمنازعة لما في امتدادها من الفساد ودفع الضرر عن كل واحد
منهما بإعادة رأس ماله إليه وقد بينا في باب اللعان انه يفرق بينهما بعد التلاعن من غير طلبهما
لان حرمة الاجتماع بين المتلاعنين ما داما مصرين حق الشرع فلا يتوقف التفريق علي طلبهما
أو طلب أحدهما وهنا فسخ العقد حقهما فيتوقف على طلبهما أو طلب أحدهما. قال (فإن لم
يختلفا في المسلم فيه ولكن اختلفا في مكان الايفاء) فقال الطالب شرطت لي مكان كذا وكذا
وقال المطلوب بل مكان كذا وكذا فان أقام البينة فالبينة بينة الطالب وإن لم يكن لهما بينة
فالقول قول المطلوب مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه وإن لم ينص عليه في الكتاب
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يتحالفان ويتردان السلم وقيل هذا الاختلاف علي القلب
فان من مذهب أبي حنيفة ان بيان مكان الايفاء شرط كالصفة فلا بد من ذكره فالاختلاف
فيه يوجب التحالف عنده وعندهما ليس بمنزلة الصفة بل هو زائد لا يحتاج إلى ذكره والأصح
أن الخلاف في موضعه فان عندهما متعين مكان الايفاء موجب العقد ولهذا لا يحتاج إلى
ذكره بل يتعين موضع العقد للايفاء والاختلاف في موجب العقد يوجب التحالف وعند
أبي حنيفة هو موجب بالشرط كالأجل والاختلاف فيه لا يوجب التحالف ثم وجه قولهما
أن المالية فيما له حمل ومؤنة تختلف باختلاف الأمكنة فالاختلاف فيه كالاختلاف في
156

الصفة وهذا لان المقصود بالعقد المالية وأبو حنيفة يقول القياس يمنع التحالف تركنا ذلك
بالسنة وإنما جاءت السنة بالتحالف عند الاختلاف فيما هو من صلب العقد وهو البدل فاما
المكان ليس من صلب العقد فالاختلاف فيه كالاختلاف في الاجل وهذا لان المعقود عليه
لا يختلف باختلاف مكان تسليمه بخلاف الصفة فالمعقود عليه إذا كان دينا يختلف باختلاف
صفته فلهذا فرق بينهما في حكم التحالف. قال (وان اختلفا في الاجل فهو على ثلاثة أوجه اما أن
يختلفا في مقدار الاجل أو في مضي الاجل أو في أصل الاجل فان اختلف في مقدار الاجل
فقال الطالب كان الاجل شهرا وقال المطلوب شهرين فالقول قول الطالب مع يمينه) لان الاجل
حق المطلوب قبل الطالب فان باعتباره تتأخر مطالبته عنه فالمطلوب يدعى زيادة في حقه والطالب
ينكر والقول قول المنكر مع يمينه فان أقاما البينة فالبينة بينة المطلوب لاثباته الزيادة في حقه
وان اختلفا في مضيه فقال الطالب كان الاجل شهرا وقد مضى وقال المطلوب إنما عقدنا العقد
اليوم والأجل شهر فالقول قول المطلوب إما لان الطالب يدعى تاريخا سابقا في العقد والمطلوب
منكر لذلك أو لأنهما تصادقا على ثبوت الاجل حقا للمطلوب ثم الطالب يدعى ايفاء حقه
والمطلوب ينكر فالقول قول المنكر وان أقام البينة فالبينة بينة المطلوب أيضا لان المقصود
اثبات الاجل وذلك ببينة المطلوب لأنه يثبت قيام الاجل في الحال والطاب ينفى ذلك
ببينته فكان القول قول من وجه والبينة بينة من وجه كالمودع إذا ادعى رد الوديعة فالقول
قوله لانكاره الضمان وان أقام البينة فالبينة بينته أيضا لاثباته الرد فان اختلفا في شرط الاجل
ففي القياس القول قول من ينكر شرط الاجل والعقد فاسد لان عقد السلم لا يصح الا
باشتراط الاجل فمن ينكر الاجل فهو منكر للعقد في المعنى فالقول قوله ولان الاجل
شرط زائد فإذا اختلفا فيه كان القول قول من ينكره كالخيار في البيع استحسن أبو حنيفة
فقال القول قول من يدعى الاجل أيهما كان وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان
الطالب يدعى الاجل فكذلك وإن كان المطلوب هو الذي يدعي الاجل فالقول قول الطالب
لانكاره قياسا لان الاجل حق المطلوب قبل الطالب فإذا ادعاه المطلوب وأنكر الطالب
فكلاهما خرج مخرج الدعوى والانكار فكان القول قول المنكر وذا ادعى الطالب الاجل
فكلام المطلوب في الانكار تعنت لان الطالب أقر له بحقه وهو أنكر ذلك ليفسد العقد
ولا يلتفت إلى قول المتعنت فهو كما لو اختلفا المضارب ورب المال فقال رب المال شرطت لك
157

نصف الربح الا عشرة وقال المضارب بل شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال لانكاره
الزيادة ولو قال رب المال شرطت لك نصف الربح وقال المضارب الا عشرة فالقول قول رب
المال لان المضارب متعنت في انكاره بعض ما أقربه ليفسد العقد وأبو حنيفة يقول الاجل
من شرائط السلم فاتفاقهما على عقد السلم يكون اتفاقا علي شرائطه فكان المنكر منهما للأجل
راجعا عما أقربه والرجوع عن الاقرار باطل ألا ترى ان الاختلاف لو وقع بين الزوجين في
النكاح أنه كان بشهود أو بغير شهود يجعل القول قول من يدعى أن النكاح بشهود لهذا المعنى
وهذا لان شرط الشئ تبع له وثبوت البتع بثبوت الأصل ألا ترى ان من نذر صلاة
تلزمه الطهارة فاتفاقهما علي أصل العقد يكون اتفاقا على ما هو من شرائطه فان أقام البينة فالبينة
بينة من يثبت الاجل لأنه يثبت ببينته شرط صحة العقد إذا الاجل شرط زائد كالخيار فمن
يثبته بالبينة كانت بينته أولى بالقبول. قال (وإذا تتاركا السلم بعد قبض رأس المال ثم اختلفا
في رأس المال فالقول قول المطلوب مع يمينه والبينة بينة الطالب) لأنه يثبت الزيادة ببينته
والمطلوب ينكر تلك الزيادة فالقول قوله مع يمينه ولا يتحالفان بخلاف بيع العين فإنهما إذا
اختلفا هناك في الثمن بعد الإقالة تحالفا وهذا لان المقصود بالتحالف الفسخ والإقالة كالبيع
في احتمال الفسخ ألا ترى أنه لو هلك المبيع بعد الا قالة قبل الرد تنفسخ الإقالة ولو وجد به
عيبا فان حدث عند المشترى يرده بذلك وإقالة السلم لا تحتمل الفسخ حتى لو كان رأس المال
عينا لم تنفسخ الإقالة بالهلاك في يد المسلم إليه ولا بالرد بالعيب وهذا لان المسلم فيه دين
وبالإقالة يسقط والساقط متلاشي فلا يتصور فسخ السبب فيه وإنما كان وجوبه بالعقد فلا
يبقى بعد انفساخ العقد وبدون بقاء ما تتناوله الإقالة لا يتصور فسخ الإقالة وهناك العقد تناول
العين وهو باقي بعد الإقالة. قال (وإذا أسلم الرجل عشرة دراهم إلى رجل في طعام فوجد فيها
دراهما زايفا بعد ما افترقا فأنكر رب السلم أن يكون ذلك من دراهمه فالقول قول المسلم إليه مع
يمينه) لأنه ينكر استيفاء حقه لان حقه في الجياد وهذا بخلاف بيع العين فان هناك المشترى
إذا طعن بعيب وأنكر البائع أن يكون ما أحضره هو المبيع فالقول قول البائع لأن العقد تناول
العين وقد تصادقا على قبض المشترى لما هو المعقود عليه ثم المشترى يدعى عليه لنفسه حق الرد
والبائع منكر لذلك وهنا حق المسلم إليه يثبت في الجياد دينا وهو منكر لقبض الحياد فالقول
قوله وهذا إذا لم يسبق منه اقرار باستيفاء الجياد أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال بان
158

كان ساكتا أو أقر بقبض الدراهم فاسم الدراهم يتناول الجياد والزيوف فأما إذا أقر بشئ
مما ذكرنا كان هو في دعوى الزيافة بعد ذلك مناقضا فلا يقبل قوله. قال (وإذا أسلم إليه مائة
درهم في طعام وأعطاه بعضها وأحاله على رجل ببعضها وبقي عنده بعضها ثم تفرقا فله من السلم
بحساب ما نقده وقد بطل ما سوى ذلك) لافتراقهما قبل قبض رأس المال فإنه بالحوالة لا يصير
قابضا بل حقه في ذمة المحال عليه كهو في ذمة المحيل وقد بطلت الحوالة لأنها كانت برأس مال السلم
وقد بطل حق المسلم إليه عن ذلك حين افترقا قبل القبض فتبطل الحوالة لذلك ويرجع رب
السلم بالدراهم التي أحاله بها على المحتال عليه يريد به ان ذلك كان دينا للمحيل علي المحتال عليه
فيرجع عليه بدينه كما كان. قال (ويجوز أن يسلم الحيوان ولا مالا يكال ولا يوزن فيما يكال
ويوزن) لان رأس المال معجل في هذا العقد يجوز تعينه فكل ما يصلح مبيعا عينا يصلح أن يكون
رأس المال وإنما يجوز السلم عند انعدام وصفى علة ربا الفضل الجنسية والقدر وقد وجد ذلك
قال (ويسلم الثوب الفوهى في الثوب الهروي والمروى وما أشبه ذلك من الثياب المختلفة باختلاف
البلد ان والصنعة يسلم بعضها في بعض وكذلك الزطي في الهروي والكسا في الطيلسان
والطيلسان في الكسا والثوب من الكتان في الثوب من القطن إما لاختلاف الأصول أو
لاختلاف الصنعة على وجه يوجب تبديل الاسم والمقصود والوذارى يراد به مالا يراد
به البلدي والزنديجي كذلك وإن كان أصل الكل واحدا وهو القطن وهو كالسعلاطوى
مع الخمار الأسود جنسان وان اتحد الأصل وهو الإبريسم واليعفوري مع الكسا جنسان وان
اتحد الأصل وعند اختلاف الجنس فيما لا يكال ولا يوزن يجوز اسلام البعض في البعض. قال
(ولا بأس بالسلم في الكتان والقطن والقزو الإبريسم لأنه موزون معلوم مقدور التسليم وان اشترط
أن يوفيه السلم في مدينة كذا وفى مصر كذا فحيث ما دفعه إليه من ذلك المصر أو من تلك المدينة
فله ذلك وليس لرب السلم أن يكلفه تسليمه إليه في موضع آخر منه لان المستحق بالشرط أدنى ما
يتناوله الاسم كما بينا في شرط الجيد فحيث ما دفعه إليه في ذلك المصر فقد وفى بالشرط ولان
نواحي المصر في المصر كمكان واحد بدليل جواز عقد السلم فإذا لم يعين موضعا من المصر كان له
أن يسلم في أي موضع شاء منه فان (قيل) أليس أنه إذا استأجر دابة إلى مصر كذا فدخلها
كان له ان يتبلغ عليها إلى منزله في المصر (قلنا) هذا مستحسن للعرف والعادة فان الانسان
إذا استأجر دابة إلى مصر من الأمصار أنه لا يستأجر دابة أخرى بعد دخول ذلك المصر
(11 ثاني عشر مبسوط)
159

ليتبلغ عليها إلى منزله فالمستحسن من القياس بالعرف لا يرد نقضا علي القياس ولا يعد والموضع
الذي فيه الغرف. قال (ولا خيار في السلم في المسابق والفرا لأنها تختلف منها الصغيرة والكبيرة
والمسبق ماله كمان طويلان كما يكون للأكراد وبعض العرب والفرو مالا كم له. قال (إلا أن
يشترط من ذلك شيئا معروف الطول والعرض والتقطيع والصفة فحينئذ يجوز لأنه معلوم
مقدور التسليم. قال (ولا خير في السلم في كل شئ اشترط فيه الأوقار والاحمال) لان ذلك يختلف
فبعضها يكون أثقل من بعض وهذه الجهلة تفضى إلى المنازعة بينهما. قال (وان اشترط
على المسلم إليه ان يحمل السلم إلى منزل صاحب السلم بعد ما يوفيه إياه في المكان الذي شرطه
فلا خير فيه على هذا الشرط) لأن العقد ينتهى بالايفاء في المكان المشروط ثم قد شرط
لنفسه منفعة بعد انتهاء العقد وهو الحمل وذلك مفسد للعقد كما لو شرط أن يطحنه وان
اشترط أن يوفيه إياه في منزله فلا بأس به استحسانا والقياس فيه مثل الأول من أصحابنا
رحمهم الله تعالى من يقول موضع هذا القياس والاستحسان إذا اشترط ان يوفيه في منزله
بعد ما يوفيه في مكان كذا ليكون الفصل الثاني على وزان الفصل الأول وفى القياس لا يجوز
لاشتراطه منفعة لنفسه بعد ما انتهى العقد نهايته إذ لا يتأتى ايفاؤه في منزله بعد الايفاء
في المكان المشروط الا بالحمل فلفظ الحمل والايفاء فيه علي السواء وفى الاستحسان. قال (ان
اشترط بلفظة الايفاء فالثاني مثل الأول من جنسه فينفسخ به الشرط الأول ويصير كأنه
اشترط ابتداء هذا فأما الحمل ليس من جنس الايفاء فلا ينفسخ به الشرط الأول وهو نظير
ما لو باعه بألف ثم باعه بألفين انفسخ به العقد الأول ولو وهبه لم ينفسخ به العقد الأول وبيان
المجانسة ان العقد يقتضي الايفاء لا محالة ولا يقتضي الحمل ألا ترى أن رب السلم قد يأتي إلى المسلم
إليه ليوفيه في منزله فلا يحتاج إلى الحمل فعرفنا أن الحمل ليس من جنس الايفاء من حيث أن
العقد قد يخلو منه وقيل بان القياس والاستحسان فيما إذا اشترط ابتداء أن يوفيه في منزله
في القياس لا يجوز لأنه لم يعين منزله وإنما المراد منزله عند حلول الأجل وذلك غير معلوم
وقد يكون في هذا المصر وقد يكون في مصر آخر ولكنه استحسن فقال العادة لم تجر باستبدال
المنزل بالمنزل في كل وقت أو الانتقال من المصر إلى المصر للتوطن ومنزله للحال معلوم فباعتبار
الظاهر يكون هذا منزله عند حلول الأجل والتعين بالعرف كالتعيين بالنص وقيل بل
موضع القياس والاستحسان ما إذا شرط أن يوفيه في منزله ولا يعلم المسلم إليه منزله في المصر
160

في أي محلة هو ففي القياس لا يجوز للجهالة وفي الاستحسان يجوز لان نواحي المصر كمكان واحد
ولكن في هذين الوجهين لا فرق بين أن يكون بلفظ الحمل أو بلفظ الايفاء وفى الكتاب
قال نأخذ بالحمل في القياس وفى هذا بالاستحسان فعرفنا أن مراده الوجه الأول. قال (ولا
بأس بالسلم بالجبن والمصل) لأنه موزون معلوم وبعض المتأخرين رحمهم الله يقولون هذا
في مصل ديار خوارزم فإنه لا يخالطه الدقيق فانا في مصل ديارنا ينبغي أن لا يجوز لأنه
يخالطه دقيق الشعير وقد نقل ذلك وقد يكثر وبجنسه تختلف المالية فكان قياس السلم في الناطف
الممون والأصح أنه إن كان معلوما عند أهل الصنعة علي وجه لا يتفاوت فالسلم صحيح. قال
(وإذا اختلفا فقال رب السلم أسلمت إليك في ثوب يهودي وقال المسلم إليه بل هو في زطي
يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه) لاختلافهما في جنس المعقود عليه وأيهما أقام
البينة وجب قبول بينته وان أقا ما البينة فالبينة بينة الطالب في قول أبى يوسف وفى قول محمد
يقضى بسلمين إذا كانا في المجلس وقد بينا هذا وإذا اتفقا على أنه يهودي غير أن الطالب قال
هو ستة أذرع في ثلاثة أذرع وقال المطلوب خمسة أذرع في ثلاثة أذرع في القياس يتحالفان
ويترادان وبالقياس نأخذ وفي الاستحسان القول قول المطلوب لان المسلم فيه مبيع ولو كان
مبيعا عينا واختلفا في طوله وعرضه لا يتحالفان بل القول قول من ينكر الزيادة فكذلك في
السلم وهذا لان زيادة الطول والعرض لا تستحق الا بالشرط فكان بمنزلة الاجل وقد بينا
أنهما إذا اختلفا في الاجل لم يتحالفا فهذا مثله وفى القياس المسلم فيه دين والذرعان لا علامة
في المذروعات بمنزلة العقد في المقدورات ولو اختلفا في مقدار المسلم فيه تحالفا ثم أكثر ما في
الباب ان الذرعان صفة ولكن المسلم فيه دين فيختلف باختلاف الصفة وقد بينا هذا في
الجيد والردى انهما إذا اختلفا فيه تحالف فكذلك في الذرعان ونأخذ بالقياس لقوة جانب
القياس والاستحسان قياسان فأيهما كان أثره أقوى يؤخذ به ولم يذكر هذا القياس
والاستحسان عند الاختلاف في صفه الجودة والرداءة لتحقق المغايرة بينهما والجيد غير
الردى إذا كان دينا ولا يتحقق مثل تلك المغايرة هنا فالطويل من الثوب قد يصير قصرا
بقطع بعضه والقصير قد يزاد فيه فيصير طويلا فلهذا ذكر القياس والاستحسان هنا ولم
يذكر ثمنه. قال (وإذا اختلفا في السلم أو في رأس المال ولم يقبضه ولم يتفرقا) فالحاصل ان هذه
ثلاثة فصول (أحدها) أن يكون الاختلاف في رأس المال وهو على وجهين أما أن يكون عينا
161

أو دينا فإن كان عينا فقال الطالب أسلمت إليك هذا الثوب في كر حنطة وقال المطلوب بل
هذا الثوب الآخر وأقاما البينة فإنه يقضى بالسلمين بالاتفاق لان كل واحد منهما ببينته
يثبت حقه فالطالب يثبت إزالة الثوب بالذي عينه عن ملكه بكر حنطة والمطلوب يثبت
ملكه في الثوب الآخر فلا بد من القضاء بالعقدين وان قال الطالب أسلمت إليك هذا
الثوب وقال المطلوب مع هذا الثوب الآخر وأقاما البينة فالبينة بينة المطلوب بالاتفاق
لان القضاء بالعقدين غير ممكن فالثوب الواحد لا يكون جميع رأس المال في عقد وبعض
رأس المال في عقد آخر والمطلوب يثبت الزيادة في حقه ببينته فلهذا قضينا ببينته باسلام
الثوبين في كر حنطة وإن كان رأس المال دينا فان اختلفا في جنسه فقال رب السلم عشرة
دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه دينار في كر حنطة وأقاما البينة فلا اشكال على قول
محمد أنه يقضى بالعقدين وقيل هكذا ينبغي في القياس على قول أبى يوسف اعتبارا للدين
بالعين والدنانير غير الدراهم ولكنه استحسن فقال يقض بعقد واحد وتكون البينة بينة
المطلوب لان الطالب لما لم يثبت لنفسه شيئا إذ لا مؤنة عليه فيما في ذمته وحقه في الكر ثابت
باتفاقهما والمطلوب يثبت حقه ببينته فكانت بينته أولى وان اختلفا في قدر رأس المال فقال
الطالب عشرة دراهم وقال المطلوب عشرون وأقاما البينة فهو علي هذا الخلاف وكذلك لو كان
الاختلاف في المسلم فيه في الجنس والقدر وقد بينا الاختلاف وإن كان الاختلاف فيهما
جميعا بأن قال رب السلم عشرة دراهم في كرى حنطة وقال المسلم عشرون درهما في كر حنطة
فعند أبي يوسف تقبل بينة كل واحد منهما علي ما يدعى من الزيادة في حقة ويقضى بعقد
واحد وهو اسلام عشرين درهما في كرى حنطة وعند محمد يقضى بعقدين كما شهد به كل فريق
فالحاصل أن عند محمد يقضى بعقدين ما أمكن الا إذا تعذر فحينئذ يشتغل بالترجيح للضرورة
وعند أبي يوسف يقضى بعقد واحد الا إذا تعذر فحينئذ يقضى بعقدين للضرورة وقول
أبي حنيفة كقول أبى يوسف رحمهما الله. قال (ولو أسلم عبدا أو ثوبا في حنطة أو شعير ولم يسم رأس
مال كل واحد منهما فهو جائز) لما بينا أن الثوب والعبد ليس بمقدر فلا يضر ترك تسمية رأس
مال كل واحد منهما ولكن ينقسم عليهما باعتبار القيمة كما لو اشترى كر حنطة وكر شعير
عينا بثوب واحد أو عبد بعينه فإنه ينقسم باعتبار القيمة للتعارض بينهما وليس أحدها في تخصيصه
بشئ بأولى من الآخر قال (وإذا باع جارية بألف مثقال ذهب وفضة أو دراهم ودنانير كان
162

له من كل واحد منهما النصف لان الواو للعطف ومطلق العطف يوجب الاشتراك على
المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه إلا أنه إذا كان قال ألف مثقال فعليه خمسمائة مثقال
ذهب وخمسمائة مثقال فضة لأنه فسر المثاقيل بالذهب والفضة وان قال ألف من الدراهم
والدنانير فعليه خمسمائة دينار بالمثاقيل وخمسمائة درهم وزن سبعة لأنه هو المتعارف في وزن
الدراهم فينصرف إليه وكل ما يصلح أن يكون عوضا في البيع يصلح ذلك في الإجارة أيضا
لان المنافع في حكم الأموال أو بالعقد يثبت لها حكم المالية حتى لا يثبت الحيوان دينا فيه في
الذمة لا حالا ولا مؤجلا كما في البيع ويثبت المكيل والموزون حالا ومؤجلا والثياب
المرصوفة فيه تثبت مؤجلة لا حالة لان استقراض الثياب لا يجوز والسلم فيها صحيح والقرض
لا يكون الا حالا والسلم لا يكون الا مؤجلا فعرفنا أنها تثبت في الذمة مؤجلة لا حالة لان
استقراض الثياب لا يجوز عوضا عما هو مال واما الحيوان لا يجوز استقراضه ولا السلم فيه
فعرفنا أنه لا يثبت في الذمة مؤجلا ولا حالا بدلا عما هو مال قال (وإذا أسلم إليه عشرة
دراهم في عشرين مختوم شعير أو عشرة مخاتيم حنطة بالشك أنه يعطيه أيهما شاء فلا خير
فيه) لان المسلم فيه مبيع وهو مجهول حين ادخل حرف أو بين الحنطة والشعير ومثل هذه
الجهالة في بيع العين يمتنع جواز العقد ففي السلم أولى وكذلك لو قال إن أعطيتني إلى شهر
فكذا أو ان أعطيتني إلي شهرين فكذا فهو فاسد لجهالة المعقود عليه عند لزوم العقد أما جنسا
وإما قدرا لان النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن صفقتين في صفقة وعن شرطين في بيع
وتفسير ذلك هذا ونحوه قال (ولا يستطيع رب السلم أن يبيع ما أسلم فيه قبل القبض) لان
المسلم فيه مبيع وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز لحديث عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم بقبض ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
غياث بن أسد رضي الله عنه قاضيا وأميرا قال إنهم عن أربعة عن بيع ما لم يقبضوا وعن
ربح ما لم يضمنوا وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف ولأن العين أقبل للتصرف من الدين
ثم المبيع العين إذا كان منقولا لا يجوز التصرف فيه قبل القبض لبقاء الغرر في الملك المطلق
للتصرف فإذا كان دينا أولى وذلك الغرر هنا قائم فان الدين ينوي بفوات محله يعنى إذا مات
المديون مفلسا ولهذا تبطل الحوالة فكما لا بيع المسلم فيه قبل القبض لا يشرك فيه شريكا
ولا يوليه أحدا لان التولية تمليك ما يملك بمثل ما ملك به والا شراك تمليك مثل ما ملكه بمثل
163

نصف ما ملك به فكما لا يجوز هذا التصرف منه في الكل لا يجوز منه في البعض. قال (رجل
قال لرجل أسلمت إلى عشرة دراهم في كر حنطة ثم قال بعد ما سكت ولكني لم أقبض
الدراهم منك وقال رب السلم بل قبضتها فالقول قول رب السلم استحسنا وفى القياس القول
قول المسلم إليه) وكذلك لو كان رأس المال ثوبا وجه القياس ان السلم اسم للعقد واقراره لا يكون
إقرارا بالقبض كالبيع فإنه إذا قال ابتعت منك كذا ثم قال لم أقبض كان القول قوله في ذلك
لأنه منكر للقبض والآخر يدعى عليه التسليم فجعل القول قول المنكر فكذا في السلم ألا
ترى أنه لو قال ذلك موصولا بكلامه كان القول قوله ولو صار بالاقرار بالسلم مقرا بالقبض
لكان هذا رجوعا والرجوع لا يعمل موصولا كان أو مفصولا ولكنه استحسن فقال السلم
أخذ عاجل بآجل فمطلقه يقتضى الاقرار بالعقد والقبض جميعا فكان قوله لم أقبضه بيانا فيه تغيير
لمقتضى مطلق كلامه والبيان المغير للفظه صحيح موصولا بكلامه لا مفصولا وهذا تخصيص
للفظه العلم والتخصيص ممن لا يملك الابطال صحيح موصولا لا مفصولا بمنزلة الاستثناء
قال في الأصل وهذا مثل قوله فد أعطيتني عشرة دراهم في كر حنطة أو أسلفتني أو
أقرضتني عشرة دراهم برؤوسها ثم قال لم أقبض والقياس والاستحسان في الكل ولكن
من عادته الاستشهاد بالأوضح وكذلك لو قال على ألف درهم من ثمن جارية بعتنيها ثم قال
لم أقبضها وقال الآخر قد قبضت فهو غير مصدق في قوله لم أقبضها وصل أم قطع في قول
أبي حنيفة وكان أبو يوسف يقول أولا ان وصل يصدق وان فصل لم يصدق وان فصل لم يصدق ثم رجع وقال
إذا فصل يسأل المقر له عن جهة المال فان أقر بجهة البيع وقال قد قبضتها فالقول قول المقر انى
لم أقبضها وان قال المال عليه من جهة أخرى فالقول قوله والمال لازم على المقر وهو قول محمد
وهذا في الحقيقة ليس برجوع بل تفسير لما أبهمه في الابتداء وجه قولهما انهما تصادقا على
البيع فالبائع يدعي تسليم المعقود عليه والمشترى منكر فالقول قول المنكر كما لو قال ابتعت
منك جارية بألف درهم ثم قال لم أقبضها أو قال لك علي ألف درهم ثمن هذه الجارية التي
بعتها منى ولم أقبضها فالقول قوله في ذلك فإن لم يصدقه المقر له في الجهة فقد أقر بوجوب المال له
عليه ثم ادعى ما يسقط فلا يصدق إذا كان مفصولا لما بينا ان قوله لم أقبضها بيان مغير لموجب
اقراره فيصح موصولا لا مفصولا كالاستثناء إذا قال لفلان على ألف درهم الا مائة أو قال
الا وزن خمسة وأبو حنيفة يقول أقر بالقبض ثم رجع والرجوع باطل موصولا كان أو
164

مفصولا ومعنى هذا انه أقر بكون المال دينا في ذمته بقوله له على ألف درهم ثمن جارية غير
معينة وثمن الجارية التي هي غير معينة لا يكون واجبا الا بالقبض لان التي هي غير معينة
في حكم المستهلكة وثمن الجارية المستهلكة لا يكون واجبا الا بعد القبض فعرفنا أنه أقر
بالقبض ثم رجع بخلاف قوله ابتعت فهنالك ما أقر بان المال واجب في ذمته إنما أقر بالابتياع
وذلك لا يكون اقرارا بالقبض وبخلاف قوله ثمن هذه الجارية لأنه إنما أقر بوجوب المال
عليه بمقابلة جارية معينة وثمن الجارية المعينة يكون واجبا قبل القبض يوضحه انه أقر بالمال
وادعي لنفسه أجلا غير متناه فان المشترى لا يلزمه تسليم الثمن الا بعد احضار البائع المبيع
وما من جارية يحضرها البائع الا وللمشتري أن يقول المبيعة غيرها ولو ادعى لنفسه أجلا
معلوما كشهر أو سنة لم يقبل قوله في ذلك وصل أو فصل فهنا أولي بخلاف الجارية المعينة
فان هناك ما ادعى لنفسه أجلا لأنها حاضرة وإنما أقر علي نفسه بالمال بشرط أن يسلم له
تلك الجارية ألا ترى أن المقر له لو قال الجارية جاريتك ما بعتها ولى عليك ألف درهم
يلزمه المال ولو قال الجارية جاريتي ولي عليك المال لم يلزمه شئ لأنه لم يسلم له شرطه. قال
(وإذا أسلم الرجل إلى رجل في كر حنطة فأعطاه كرا بغير كيل فليس له ان يبيعه ولا يأكله
حتى يكتاله لان المسلم فيه مبيع وإنما اشتراه رب السلم بذكر الكر فلا يتصرف فيه حتى
يكتاله والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجرى
فيه صاعان صاع البائع وصاع المشترى يعنى إذا اشتراه بشرط الكيل فليس له ان يكتفى
بكيل البائع ولا يتصرف فيه بعد القبض حتى يكيله وهذا لأنه إنما بملك المعقود عليه والمعقود
عليه القدر المسمى ولا يعلم ذلك الا بالكيل ألا ترى أنه لو كاله فوجده أزيد يلزمه رد الزيادة
وتصرفه من حيث الأكل والبيع بحكم الملك فما لم يتعين ملكه بمعرفة المقدار لم يكن له
ان يتصرف فيه وان هلك عنده وهو مقر بأنه كرواف فهو مستوف لأنه قبضه على وجه
التملك بعقد السلم فيصير مضمونا عليه بالقبض وقد هلك عنده فيلزمه مثله وقد أقر أنه كان
كرا فيصير مستوفيا بطريق المقاصة لان ما في المقاصة آخر الدينين قضاء عن أولهما وآخره
دين المسلم إليه فيصير رب السلم مقتضيا طعام السلم به ولان القبض تلاقى العين واستيفاء الدين
لا يكون الا من العين فإذا أقر أنه كان كرا فقد علمنا أنه بقبضه صار مستوفيا لحقه وهذا
الحكم في كل مكيل وموزون فأما في المذروعات له أن يتصرف قبل الذرع لان الذرع
165

صفة حتى لو وجدوه أزيد يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص لا يحط شيئا من الثمن فعرفنا
ان الملك بالعقد إنما يثبت له في العين وقدتم قبضه في العين وفي العدديات المتقاربة أظهر
الروايتين عن أبي حنيفة أنه لا يتصرف قبل العد في العدديات مقدار كالكيل والوزن حتى
لو وجده زائدا لا يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص يحط حصة النقصان من الثمن وقد
روى عنه انه جوز التصرف فيه قبل العد وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لان بصفة
العدد لا يصير مال الربا فهو بمنزلة الذرع في المذروعات والزيادة والنقصان لا يتحققان
فيه الا بغلط في العدد بخلاف الكيل والوزن والزيادة والنقصان هناك يظهران باجتهاد من
الكيال والوزان من غير أن يتيقن بالخطأ فيه وهنا الزيادة والنقصان لا يظهر ان الا بغلط في
العد فكان العقد متنا ولا للعين فيجوز التصرف فيه قبل العد كما في المذروعات وجه
قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن المقصود عليه في العدديات العدد لأنه مقدار كالكيل
والوزن ألا ترى أنه لو وجده أزيد لا يسلم له الزيادة ولو وجده أنقص يحط بحصة النقصان
من الثمن فصار المعقود عليه القدر والقدر لا يصير معلوما الا بالعد إلا أنه لا يجرى فيه الربا
لأنه صار عدديا باصطلاح الناس لا بجعل الشرع أمثال متساوية فإذا باع جوزة بجوزتين فقد
أعرضا عن ذلك الاصطلاح وما ثبت باصطلاح الناس يبطل باصطلاحهم أيضا بخلاف
المكيل والموزون. قال (وان اشترى المسلم إليه من رجل كرا ثم قال لرب السلم اقبضه
قبل أن يكتاله من المشترى فليس ينبغي لرب السلم أن يقبضه حتى يكتاله المشترى) لان
في هذا القبض وكيل المسلم إليه فكما أن المسلم إليه لو قبض بنفسه كان عليه أن يكيله فكذلك
إذا قبضه وكيله كان عليه أن يكتاله للمسلم إليه بحكم الشراء ثم يكيله ثانيا للقبض بنفسه
بحكم السلم وليس له أن يأخذ بكيله ذلك لأنه في ذلك نائب عن المسلم إليه فكأن المسلم
إليه فعله بنفسه ثم سلمه إليه فعليه ان يكتاله لنفسه بحكم السلم وهو المراد من قوله صلى الله عليه
وسلم حتى يجرى فيه الصاعان أي إذا أتلقاه البائع من غيره بشرط الكيل ولقاه غيره
بشرط الكيل واختلف مشايخنا رحمهم الله في فصل وهو ما إذا اشترى طعاما مكايلة فكاله
البائع بمحضر من المشترى ثم سلمه إليه فمنهم من من يقول ليس للمشترى ان يكتفى بذلك
الكيل ولكنه يكيله مرة أخرى استدلالا بهذه المسألة وكيل البائع بحضرته لا يكون أقوى
من كيله بنفسه والأصح له أن يكتفى بذلك الكيل لان استحقاق الكيل بحكم عقده ففعل
166

البائع بحضرته كفلعه بنفسه وفى مسألة السلم استحقاق الأول بالكيل كان بالشراء فلا ينوب
ذلك عن الكيل المستحق بالسلم فلهذا يلزمه الكيل مرة أخرى فان دفع المسلم إليه إلي رب السلم
دراهم فقال اشترى لي بها طعاما فاقبضه لي بكيل ثم كله لنفسك بكيل مستقبل كان جائزا لأنه
وكيل المسلم إليه في الشراء له وفعل الوكيل كفعل الموكل فكأنه اشتراه بنفسه ثم أمر رب
السلم بقبضه وهي المسألة الأولى ولو قال رب السلم للمسلم إليه كل مالي عليك من الطعام
فأعز له في بيتك أوفي غرائرك ففعل ذلك لم يكن رب السلم قابضا بمنزلة قوله اقبضه لي
بيسارك من يمينك وهذا لان المسلم فيه دين على المسلم إليه والمديون لا يصلح أن يكون نائبا
عن صاحب الدين في قبض الدين من نفسه ولو وكل رب السلم بقبض ذلك غلام المسلم إليه
أو ابنه فهو جائز لأنه يصلح نائبا عن رب السلم في قبض حقه وهو في ذلك كأجنبي آخر
والانسان يصير قابضا حقه بيد نائبه كما يصير قابضا بيد نفسه. قال (ولو دفع إليه غرائره فقال
كل مالي عليك اجعله في غرائري ففعل ذلك ورب السلم ليس بحاضر لم يكن ذلك قبضا)
وفرق بين هذا وبين ما إذا اشترى منه طعاما بعينه على أنه كر ثم دفع إليه غرائره وأمره
أن يكيله فيها ففعل فإنه يصير قابضا والفرق بينهما ان القبض في باب السلم موجب بملك
العين وغرائره لا تصلح نائبة عنه في تملك العين وفى باب الشراء قد ملك العين بالعقد وإنما
القبض للاحراز والغرائر تصلح نائبة عنه في الاحراز والثاني أن أمره بالكيل في غرائره
غير معتبر بنفسه في السلم لان المسلم إليه إنما يكيل ملك نفسه وله في ملك نفسه ولاية الكيل
من غيره اذنه فأما في الشراء اذنه معتبر في الكيل لأنه إنما يكيل ملك المشتري وله في ملك
نفسه اذن معتبر فكان كيله في غرائره ككيل المشترى بنفسه ألا ترى أنه لو أمر المسلم
إليه بان يطحن ما عليه من طعام السلم ففعل ذلك كان الدقيق له ولا يكون لرب السلم ان يقبضه
لأنه يصير به مستبدلا وفى الشراء لو أمره ان يطحنه ففعل جاز وكان الدقيق للمشترى
وكذلك في الشراء لو أمره أن يلقيه في البحر ففعل جاز وكان الثمن مقررا عليه ولو أمره
بذلك في السلم لم يجز ثم. قال (في الشراء وله ان يبيعه إذا كان له البائع في غرائر المشترى
بأمره قبل هذا غلط) لان الغرائر نائبة عنه في الاحراز لا في معرفة القدر فكأنه قبضه
بنفسه فلا يتصرف فيه حتى يكيله ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لما بينا أن أمره إياه
بالكيل معتبر لمصادفته ملكه فكان البائع في الكيل كالنائب عنه والغرائر في القبض
167

والاحراز تنوب عنه وفعل نائبه كفعله بنفسه وفي السلم إن كان في الغرائر طعام لرب السلم
فكاله فيه بأمره فقد قيل لا يصير قابضا لما ذكرنا أن أمره غير معتبر في ملك الغير قال
رضي الله عنه والأصح عندي أنه يصير قابضا هنا لأنه أمره بخلط طعام السلم بطعامه على
وجه لا يمكن التميز معتبر فيصير بهذا الخلط قابضا وهو مثل ما ذكر في كتاب الصرف
لو دفع إلي صائغ نصف درهم فضة وقال زد من عندك نصف درهم وصغ لي منهما خاتما
ففعل ذلك جاز وصار بالخلط قابضا له. قال (وإذا أسلم الرجل في كر حنطة ثم أسلم المسلم إليه
إلى رب السلم في كر حنطة وأجلهما واحد وصفتهما واحدة أو مختلفة لم يكن أحدهما
قصاصا بالآخر إذا حلا وان تقاصا) لان المسلم فيه مبيع فيستحق قبضه بحكم العقد ولا يجوز
ان يقضي به دين آخر لان المستحق بعقد السلم قبض بكيل بعد عقد السلم ولا يحصل ذلك
بقضاء دين آخر به فإذا تقاصا منا فلا بد من أن يكون أحدهما قابضا المسلم فيه ويكون دينا عليه
وذلك غير جائز. قال (فإن كان أولهما مسلما والآخر قضاء لا يصير أحدهما قصاصا في الحال
من قبل أن القصاص عبارة عن المساواة ولا مساواة بينهما لان أحدهما معجل والآخر
مؤجل والمعجل خير من المؤجل الا إذا حل الاجل في السلم فحينئذ يكون أحدهما قصاصا
بالآخر ولا بأس بأن يكون قصاصا إذا كان سواء تقاصا أو لم يتقاصا لوجود القبض بكيل بعد
عقد السلم وهو قبض المستقرض ألا ترى ان رب السلم لو غصب من المسلم إليه كرا بعد
ما حل طعام السلم كان مستوفيا حقه بطريق المقاصة فكذلك إذا استقرض وهذا لان في
باب المقاصة آخر الدينين قضاء من أولهما ولا يكون أول الدينين قضاء عن آخرهما
لان القضاء يتلو الوجوب ولا يسبقه ولهذا في الدين المشترك لو وجب للمدين على أحد
الشريكين دين بقدر حصة وصار قصاصا كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصفه لأنه
صار مستوفيا حصته ولو كان دين المديون عليه سابقا علي دينهما فصار قصاصا لم يكن
لشريكه أن يرجع عليه بشئ لأنه صار بنصيبه قاضيا دينا عليه لا مقتضيا إذا ثبت هذا
فنقول إذا كان آخر الدينين قرضا فالمسلم إليه بما أوجب له من القرض يصير قاضيا طعام
السلم ورب السلم يكون مستوفيا وإذا كان القرض أولا لم يكن قصاصا وان تقاصا به لان
رب السلم يصير قاضيا بطعام السلم ما عليه من القرض ودين السلم يجب قبضه ولا يجوز
قضاء دين آخر به فإن كان للمسلم إليه كر حنطة دينا على رجل أو استقرض من
168

رجل كرا فقال لصاحب السلم كله فاكتاله رب السلم كيلا واحدا جاز ويصير قابضا لان
القرض لا يشترط فيه الكيل ألا ترى أن المقرض لو استرد ما أقرض ولم يكله كان له أن
يتصرف فيه والمستقرض لو قبض ولم يكل كان له أن تتصرف فيه ورب السلم في القبض من
المقرض أو المستقرض نائب عن المسلم إليه فكما قبضه تم فيه ملك المسلم إليه قبل أن يكيله
ثم إنما يكيله بعد ذلك لنفسه بحكم السلم فلهذا يكفيه كيل واحد بخلاف ما سبق من الشراء
فان المسلم إليه لما اشتراه بشرط الكيل لا يتعين ملكه الا بالكيل فكان الكيل الأول من
رب السلم كتعيين ملك المسلم إليه فلا بد من أن يكيله لنفسه بعد ذلك كيلا مستقبلا. قال
(وان تتاركا السلم ورأس المال ثوب فهلك عند المسلم إليه فعليه قيمته) وكذلك لو تتاركا بعد
هلاكه وهذه أربعة فصول (أحدها) ان يشترى عينا بدراهم فتقابضا ثم تقايلا ثم هلك المبيع
قبل الرد بطلت الإقالة سواء كان الثمن قائما أو هالكا لان الإقالة رفع العقد وإنما يرفع الشئ
من المحل الوارد عليه ومحل العقد المعقود عليه والمعقود عليه المبيع دون الثمن فان الثمن
معقود به ولهذا شرط قيام الملك في المبيع عند العقد دون الثمن فإن كان المبيع هالكا عند
الإقالة فالاقالة باطلة لفوات محلها وكذلك إذا هلك بعد الإقالة قبل الرد لان العارض من
هلاك المحل بعد الإقالة قبل الرد كالمقترن بالإقالة ألا ترى ان هلاك المعقود عليه بعد العقد
قبل القبض يبطل العقد ويجعل كالمقترن بالعقد (والثاني) لو تبايعا عبدا بجارية وتقابضا ثم تقايلا
ثم هلك أحدهما بقيت الإقالة لان ابتداء الإقالة بعد هلاك أحد العوضين صحيح فان كل واحد
منهما معقود عليه بدليل انه يشترط قيام الملك في العوضين جميعا للمتعاقدين بخلاف الثمن
ألا ترى ان بعد هلاك أحدهما يمكن فسخ العقد برد الآخر بالعيب فكذلك بالإقالة وإذا
جاز ابتداء الإقالة بعد هلاك أحدهما فكذلك تبقى الإقالة في القائم وعليه رد قيمة الهالك
لأنه تعذر رد العين مع بقاء السبب الموجب للرد فترد القيمة إذا القيمة سميت قيمة
لقيامها مقام العين ولو هلكا جميعا بعد الإقالة قبل التراد بطلت الإقالة لان ابتداء الإقالة
بعد هلاكهما باطل إذا لم يبق شئ من المحل الذي تناوله العقد فكذلك لا تبقى الإقالة بعد
هلاكهما (والثالث) السلم إذا تقايلا ورأس المال عين فهلكت بعد الإقالة لم تبطل الإقالة
لان ابتداء الإقالة بعد هلاك رأس المال صحيح فان السلم بمنزلة بيع المقابضة لان المسلم فيه
مبيع معقود عليه فجازت الإقالة بعد هلاك ما يقابله وإذا بقيت الإقالة فعليه رد قيمة
169

رأس المال لتعذر رد العين مع بقاء السبب الموجب له والقول قول المطلوب في مقدار القيمة
إذا اختلفا لان الطالب يدعى عليه زيادة وهو منكر لتلك الزيادة (والرابع) الصرف فإنهما
لو تصارفا دينارا بعشرة دراهم وتقابضا وهلك البدلان جميعا ثم تقايلا ثم هلك البدلان
قبل التراد جازت الإقالة لان المعقود عليه ما استوجب كل واحد منهما في ذمة صاحبه
ألا ترى ان بعد الإقالة لا يلزمه رد المقبوض بعينه ولكن ان شاء رده وان شاء رد مثله فلا
يكون هلاك المقبوض مانعا من الإقالة هذا هو الصحيح في تخريج هذه المسائل وقع في الأصل
تشويش وتقديم وتأخير وألفاظ مختلفة وذلك كله غلط من الكاتب وقد تكلف لتصحيحه
بعض مشايخنا رحمهم الله فإنه قال بعد مسألة القرض ألا ترى أنه لو اشتريا جارية بعبد وتقابضا
فمات أحدهما في يديه ثم تناقضا انه جائز ومعنى هذا الاستشهاد ان القرض وإن كان في معنى
البيع من حيث إنه تمليك الطعام بمثله فليس ببيع حقيقة فلا يشترط فيه من الكيل ما يشترط
في المبيع كما أن الإقالة في حكم البيع ولكن ليس ببيع علي الحقيقة فيجوز بعد هلاك أحد
العوضين وان كأن لا يجوز ابتداء البيع فإنه لو اشترى عبدا بقيمة جارية هالكة لا يجوز واليه
أشار بقوله وليس هذا بمنزلة شراء الحي قبل أن يموت يعنى شراء الحي بقيمة الميت أو شراء
الحي بالحي إذا مات أحدهما قبل القبض ولكن هذا تكلف ولا يليق هذا اللفظ بفصاحة
محمد رحمه الله فان شراء الحي يعلم أنه يكون قبل أن يموت فعرفنا انه غلط من الكاتب ثم
قال وكذلك السلم لان السلم بيع يعنى أن الإقالة بعد هلاك رأس المال يجوز كما يجوز في بيع
المقابضة الإقالة بعد هلاك أحدهما ثم قال ولا يشبه هذا الأثمان الدنانير بالدراهم يعنى ان في
عقد الصرف تجوز الإقالة بعد هلاكهما بخلاف بيع المقابضة وفى بعض النسخ قال الدنانير
والدراهم يعنى إذا اشتريا عينا بنقد ثم تقايلا فهلك المعقود عليه بطلت الإقالة فإن كان الثمن
قائما وقد قررنا هذا الفرق. قال (وإذا أسلم الرجل إلى رجل دراهم في كر حنطة فوجد فيها
دراهم ستوقة فجاء يردها فقال المسلم إليه هذا من نصف رأس المال وقد بطل نصف السلم وقال
رب السلم بل هو ثلث رأس المال فالقول قول المسلم إليه) لان السوقة ليست من جنس
الدراهم فقد علمنا أن السلم لم يتم في جميع الكر وحاصل الاختلاف بينهما في قبض المسلم
إليه مقدار حقه من رأس المال فرب السلم يدعى عليه أنه قبض ثلثي حقه والمسلم إليه ينكر
القبض فيما زاد على النصف فكان القول قول المنكر مع يمينه وعلي المدعى أن يثبت ما يدعيه
170

بالبينة وإذا أسلم عشرة دراهم في كر حنطة فأقام رب السلم البينة أنهما تفرقا قبل قبض المسلم
إليه رأس المال وأقام المسلم إليه البينة أنه قبض رأس المال قبل أن يفترقا فالسلم جائز ويؤخذ
بينة المسلم إليه لأنها تثبت القبض في المجلس وبينة رب السلم تنفى ذلك والبينات تترجح
بالاثبات ولم يذكر في الكتاب أنه لو لم يكن لهما بينة فالقول قول من يكون وأورد
هذا في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله وقال على قول زفر القول قول من يدعى
القبض منهما لأن العقد لا يتم الا بقبض رأس المال فكان اتفاقهما على العقد اتفاقا منهما
على قبض رأس المال والذي ينكر القبض في حكم الراجع عن الاقرار وقد قررنا هذا
المعنى في الاجل فكذلك في قبض رأس المال وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول
الذي في يده رأس المال لان الآخر يدعى تملك ما في يده عليه وهو منكر والقول قول
المنكر فإن كان رأس المال في يد رب السلم فظاهر لان المسلم إليه يدعى أنه يملك ما في
يده بالقبض وانه غصبه منه بعد ذلك وإن كان في يد المسلم إليه فرب السلم يدعى أنه
غصبه منه والمسلم إليه منكر لذلك فكان القول قول المنكر لذلك فلو كانت الدراهم في يد
رب السلم بأعيانها فقال المسلم إليه أو دعتها إياه أو غصبها بعد قبضي لها وقد قامت البينة بالقبض
فكان القول قوله ويقضي له بالدراهم لأنه لما أثبت قبضه بالبينة فقد تم ملكه فيها ثم ظهرت
في يد غيره بعد ذلك فيؤمر بردها عليه سواء زعم أن وصولها إلى يده بالوديعة أو بالغصب
ولو أسلم فلوسا في طعام يجوز لان هذا عددي متقارب يصلح أو يكون ثمنا في باب البيع
فيصلح أن يكون رأس المال في باب السلم ولا يجوز في الصفر رجل باع عبدا أو ثوبا بشئ مما
يكال أو يوزن ثم تفرقا قبل أن يقبض المشترى ما اشترى فالبيع جائز لأنهما تفرقا عن عين بدين
وذلك جائز في البيع كما لو اشترى شيئا بثمن موجل وقبض المشترى وتفرقا أو تفرقا قبل قبض
المشترى وقد بينا أن القياس في السلم هكذا ولكنا تركنا القياس هناك لمقتضي اسم السلم واليه
أشار في الفرق فقال لو باعه ثوبا بحنطة وسمى الكيل ولم يجعل له أجلا كان جائز أو لو أسلم
هذا الثوب في كر حنطة موصوفة ولم يجعل له أجلا كان فاسدا ومعنى هذا الاستشهاد ان
التأجيل في السلم في المسلم فيه جعل شرطا لتحقق معنى الاسم فكذلك التعجيل في رأس المال
مقتضي الاسم بخلاف البيع وقد بينا أن جواز أخذ الرهن بالمسلم فيه وان بهلاك الرهن يصير
المرتهن مستوفيا حقه من مالية الراهن إذا كان فيه وفاء بحقه فسقط حق رب السلم عن المطالبة
171

بعد هلاك الرهن في يده وقد بينا أيضا جواز التوكيل بدفع رأس المال وان القبض من الوكيل
في مجلس العقد بمنزلة القبض من الموكل ويستوى إن كان الوكيل شريكا لرب السلم أو أجنبيا
لان أداءه قام مقام أداء الموكل بحكم الوكالة إذا قبض المسلم إليه حتى لو تبرع أجنبي بأداء رأس
المال وقبضه المسلم إليه قبل أن يفارق رب السلم كان جائزا وإن كان بالمسلم كفيل فاستوفي الكفيل
السلم من المسلم إليه على وجه الاقتضاء ثم باعه وربح فيه فذلك حلال له إذا قضي رب
السلم طعاما مثله لان عقد الكفالة كما يوجب لرب السلم علي الكفيل يوجب للكفيل على
المسلم إليه إلا أن مال الكفيل على المسلم إليه مؤجل إلى وقت أدائه الطعام إلي رب السلم فإذا
استوفي قبل الاجل فقد استعجل دينا له مؤجلا والمقبوض بهذا السبب يملك ملكا صحيحا فإنما
تصرف وربح في ملك حلال له فلهذا طاب له الربح ولا خلاف في هذا إذا تقرر ملكه بأداء
طعام السلم وإنما الخلاف فيما إذا كان المسلم إليه هو الذي قضى رب السلم طعام السلم فإنه يرجع
على الكفيل بطعام مثل ما دفع إليه لأنه إنما أعطاه في ذلك ليسقط دين رب السلم عنه بأدائه ولم
يفعل ذلك فكان له أن يرجع عليه بما أدى ثم قال في هذا الكتاب فما ربح يطيب للكفيل
وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله كما حكاه عنهما في الجامع الصغير وذكر عن أبي حنيفة
أنه قال أحب إلى أن يرده علي الذي قضاه ولا أجبره عليه في القضاء وفي كتاب الكفالة قال له
أن يتصدق بالفضل ووجه تلك الرواية ان المسلم إليه إنما رضي بقبضه ويملكه بشرط أن يؤدى عنه
طعام السلم فإذا لم يفعل لم يتم رضاه وصار هذا كالمقبوض بغير إذنه فإنما حصل له الربح فيه
بسبب خبيث شرعا والسبيل في الكسب الخبيث التصدق ووجه رواية الجامع الصغيران معنى
الخبث ليس في معنى السبب بل لخلل في رضي المسلم إليه فإذا رده عليه مع الربح انعدم الخبث
فكان هذا أولى الوجهين ولكن لا يجوز عليه في القضاء لان المتصرف إنما ربح على ملك
نصيبه ووجه رواية هذا الكتاب ان المقبوض كان مملوكا له صحيحا وكان التصرف فيه
مطلقا له شرعا فالربح الحاصل به يكون حلالا ألا ترى أنه لو أدى طعام السلم كان الربح طيبا له
فإذا لم يؤد فإنما يثبت حق الرجوع للمسلم إليه على الكفيل يكن في ذمته وبان لحقه دين لا يتمكن
فيه خبث فيما حصل له من الكسب كما إذا وجب عليه دين آخر بسبب آخر هذا إذا قبضه
الكفيل على وجه الاقتضاء فاما إذا قبضه على وجه الرسالة بأن يسلم إليه المسلم إليه طعام السلم
ليكون رسوله في تبليغه إلى رب السلم فتصرف فيه وربح فالربح لا يطيب له في قول أبي حنيفة
172

ومحمد رحمهما الله ويطيب له في قول أبى يوسف لأنه أمين فيما قبضه علي وجه الرسالة
كالمودع وقد بينا الخلاف في المودع إذا تصرف في الوديعة وربح في كتاب الوديعة وان
قضي الكفيل السلم من مال قبل أن يقبضه من المكفول عنه ثم صالح المكفول عنه علي
دراهم أو غير ذلك مما يكال أو يوزن أو على عروض أو حيوان فهو جائز ولا يكون
استبدالا لان الكفيل هنا مقرض معناه أن ما يرجع به الكفيل علي المسلم إليه لا يكون مسلما
فيه لان المسلم فيه ما يجب بعقد السلم ووجوب هذا بعقد الكفالة ثم الكفالة توجب طعام
السلم على الكفيل لا للكفيل فعرفنا أنه دين آخر بمنزلة سائر الديون فلم يكن استبدالا
ولأنه يصير كالمقرض لما أدى من المسلم إليه وإن لم يكن قرضا على الحقيقة حتى لو أجل المكفول
عنه فيه لزمه الاجل والأجل في بدل القرض لا يلزم فعرفنا أن مراده أنه دين آخر سوى
السلم فيجوز الاستبدال به قبل القبض وان أكفل رجل لرب السلم برأس ماله قبل أن يترادا
فالكفالة باطلة لان الكفالة بما هو واجب في ذمة الأصيل وقيل الإقالة الواجب في ذمة
الأصيل لرب السلم المسلم فيه لا رأس المال وإنما كفل بما ليس بواجب له ولم يضف الكفالة
إلى سبب الوجوب فكان باطلا بخلاف ما لو قال إذا تقايلتما العقد فأنا كفيل برأس المال لك
ولان رأس المال قبل الإقالة حق المسلم إليه فإنما كفل عنه بما هو حقه وذلك ليس من موضوع
الكفالة في شئ. قال (وإذا أسلم الرجل في بعض الادهان المربى بالبنفسج والزئبق والحنا
وغيره يجوز لأنه موزون مضبوط بالوصف مقدور التسليم من أصحابنا رحمهم الله من قال
هذا يجوز في الدهن الصافي أما المربى بالبنفسج وغيره فلا لان المربى يختلف باختلاف ما يرى
به من الأدوية والرياحين والصحيح أنه يجوز لأنه يمكن اعلامه باعلام قدر ما يؤدى به. قال
(وكل شئ وقع عليه كيل الرطل فهو موزون يريد به الادهان ونحوها لان الرطل إنما يعدل
بالوزن إلا أنه يشق عليهم وزن الدهن بالامناء والسنجات في كل وقت لأنه لا يتمسك الا
في وعاء وفي وزن كل وعاء نوع حرج فاتخذ الرطل لذلك تيسيرا فعرفنا أن ما يقع عليه كيل
الرطل فهو موزون فيجوز السلم فيه بذكر الوزن وإذا أسلم النصراني إلى النصراني في خمر
بكيل معلوم فهو جائز وهذا عندنا بناء علي الأصل الذي بينا في كتاب الغصب أن الخمر مال
متقوم في حقهم بمنزلة الخل والعصير في حقنا فيجوز السلم فيما بينهم بذكر الكيل والوزن
وان أسلم أحدهما قبل قبض خمر السلم بطل السلم ورد المسلم إليه رأس المال لان الاسلام
173

وجد الخمر مملوكة بالعقد غير مقبوضة فيجعل وجود اسلام أحدهما عند القبض كوجوده
عند العقد وهذا لان قبض المسلم فيه قبض تملك فإنه بعقد السلم ملك المسلم فيه دينا وإنما
يتعين ملكه بالقبض فإن كان رجل رب السلم هو الذي أسلم فالمسلم لا يملك الخمر بحكم عقده
فإن كان المسلم إليه هو الذي أسلم فليس له أن يملك الخمر من غيره بعقد فعلمنا أنه تحقق
فوات قبض المسلم فيه وذلك مبطل للعقد فان المسلم فيه مبيع ومتى تحقق فوات قبض
المبيع بطل البيع كما إذا تحقق ذلك بالهلاك في بيع العين وإن كان قبض بعضه بطل ما بقي وجاز
ما قبض لان ملكه تم في المقبوض فباسلامه بعد ذلك لا يبطل ولكن اسلامه يمنع من
قبض ما بقي العقد فيه لفوات القبض وهذا لان السبب الطارئ يلاقى المنتهى بالعفو
عنه والقائم بالرد قال الله تعالى (وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين) فبنزول حكم الربا
إنما لزمهم ترك ما لم يقبضوا لا رد ما قبضوا منه فهذا مثله ثم النصراني والمسلم في حكم
السلم سواء ما خلى الخمر حتى لا يجوز السلم بينهم في المنقطع لان فساد ذلك فيما بين المسلمين
لعجز العاقد عن تسليم المعقود عليه وهم في ذلك كالمسلمين والسلم بينهم في الخنزير لا يجوز
بمنزلة السلم في الشاة بين المسلمين لان امتناع جواز السلم في الحيوان لمعنى الجهالة وهم
يستوون في ذلك بالمسلمين وإذا أسلم في طعام جيد من طعام العراق أو الشام فهو جائز
بخلاف ما لو أسلم في طعام قرية أو قراح بعينه لان ذلك يتوهم انقطاعه بآفة فاما طعام ولاية
كالعراق والشام لا يتوهم انقطاعه عرفا بآفة فإنما أسلم فيما هو مقدور التسليم وقت وجوب
التسليم ولا بأس بالسلم في الصوف وزنا لأنه موزون معلوم في نفسه وان اشترى كذا جزة
بغير وزن لم يجز للجهالة لان مقدار الصوف في كل جزة غير معلوم وذلك يتفاوت على وجه
يفضى إلى المنازعة بينهما وان أسلم في صوف غنم يعينها لم يجز لان ذلك يتوهم انقطاعه بالهلاك
ولان تعين محل المسلم فيه كتعين المسلم فيه ولأنه لو باع الصوف الذي على ظهر الشاة بعينه
لا يجوز فكذلك إذا أسلم فيه وكذلك ألبانها وسمونها لما بينا ولأن هذه الأعيان ما دامت
متصلة بالحيوان فهي وصف للحيوان ولا تثبت فيها المالية مقصودا الا بعد الانفصال فلا تكون
قابلة للعقد مقصودا وكذلك أن أسلم في سمن حديث أو زيت حديث في غير حينه
وجعل أجله في حينه فلا خير فيه لأنه منقطع في الحال من أيدي الناس وكذلك لا خير في
السلم في الحنطة الحديثة لأنها اليوم منقطعة عن أيد الناس ولا يدرى أيكون في تلك السنة أم
174

لا فلا يكون مقدور التسليم له وبدون قدرة التسليم لا يجوز العقد. قال (وإذا أسلم في حنطة من
حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس فلا خير فيه) كما لو أسلم في طعام قراح بعينه قيل
لم يرد بهذا هراة خراسان وإنما مراده قرية من العراق تسمى هراة وتلك القرية يتوهم أن
يصيبها آفة فاما هراة خراسان لا يتوهم انقطاع طعامها فهو والسلم في طعام العراق سواء ثم
. قال (وان أسلم في ثوب هروي فلا بأس به) من أصحابنا رحمهم الله من يقول لان الثوب
الهروي لا يتوهم انقطاعه بخلاف الطعام فالمراد قد يستأصل طعام هراة ولا يستأصل حركة هراة
وهذا ضعيف قالوا قد يستأصل حركة هراة أيضا ولكن المعنى الصحيح في الفرق أن نسبة
الثوب إلى هراة لبيان جنس المسلم فيه لا لتعين المكان فان الثوب الهروي ما ينسج على صفة
معلومة فسواء نسج على تلك الصفة بهراة أو بغير هراة يسمى هرويا بمنزلة الزنديجي والودارى
والي هذا أشار في الكتاب فقال الثوب الهروي من الثياب بمنزلة الحنطة من الحبوب يعنى
بهذا بيان الجنس بخلاف الحنطة فان حنطة هراة ما تنبت بأرض هراة حتى أن النابت في
موضع آخر لا ينسب إلى هراة وإن كان بتلك الصفة فكان هذا تعينا منه للمكان ولذلك يتوهم
انقطاعه وقال مشائخنا رحمهم الله وان نسب الطعام إلى موضع يعلم أن مراده بذلك بيان الصفة
فذلك لا يفسد السلم كالحمراني سحارى فإنه يذكر ذلك لبيان صفة جودة الحنطة فلا يختص
به ما يثبت في تلك القرية فكأنه قال في حنطة جيدة ووقع في الأصل والثوب الهروي لا
يصنع بغير تلك البلاد وهو غلط بل الصحيح أن الثوب الهروي يصنع في غير تلك البلاد
وعلى ما بينا أنه اسم للمنسوج بصفة فيسمى به وان نسج في غير هراة. قال (ولا بأس
بالسلم في البواري والحصير إذا وصف الطول والعرض والصفة) لأنه مذروع معلوم كالثياب
فالحصير ما يتخذ من البردي والحشيش والبوريا ما يتخذ من القصب ولا بأس بالسلم في نصل
السيف إذا كان معلوما الطول والعرض والصفة لان ذلك لا يتفاوت في المالية بعد بيان نوع
الحديد الأشياء يسيرا وذلك غير معتبر كما في الثياب والجيد من الطعام ولا خير في السلم في
الطلع وهو اسم لأول ما يبدو من النخيل قيل هو شئ أحمر مثل لسان البقر يبدو من النخل
ثم يخرج التمر منه وقد يقطع ذلك فيؤكل كما هو أو يطبخ منه المرقة لحموضة فيه وهو عددي
متفاوت يختلف فيه الصغير والكبير وتتفاوت آحاده في المالية فلا يجوز السلم فيه كذلك. قال
(ولا يجوز للشريكين قسمة السلم وغيره من الديون قبل القبض لان القسمة للحيازة وذلك
(12 ثاني عشر مبسوط)
175

بأن يجعل كل واحد منهما نصيبه في حيزه وفى الدين لا يتحقق ذلك ثم القسمة لتوفير المنفعة
على كل واحد منهما في نصيبه وقطع الانتفاع عن نصيبه وذلك لا يتحقق في الدين قبل القبض
فإذا كان الشرط في عقد السلم أن يوفيه في مكان كذا فقال المسلم إليه خذه في مكانه آخر
وخذ منى الكرا إلى ذلك المكان فقبضه كان قبضه جائزا لأنه أخذ حقه ولا يجوز أخذ
الكرا لأنه يملك المقبوض بقبضه وإنما يحمل ملك نفسه والانسان في حمل ملك نفسه
لا يستوجب الاجر على الغير وإنما يستوجب الاجر على الغير بعمل يعمل للغير لا لنفسه فعليه
رد ما أخذ من الكرا وهو بالخيار ان شاء رضي بقبضه وان شاء يرده حتى يوفيه في المكان
الذي شرط لأنه إنما رضى بقبضه في غير ذلك المكان بشرط أن يسلم له الكرا فإذا لم
يسلم لا يكون راضيا به وبدون رضاه لا يسقط ما كان مستحقا له وهو المطالبة بالايفاء في
المكان المشروط فان هلك المقبوض في يده فلا شئ له لأنه تم قبضه للمسلم فيه وإنما كان
الباقي له مجرد خيار وقد سقط ذلك بهلاك المقبوض في يده والخيار ليس بمال فلا يستوجب
حق الرجوع بشئ عند سقوط خياره. قال (ولا خير في أن يسلم العروض في تراب المعدن ولا
في تراب الصواغين) لان عين التراب غير مقصود بل ما فيه من الذهب والفضة وقد بينا
أن السلم في الذهب والفضة لا يجوز ولان بذكر وزن التراب لا يصير ما هو المقصود معلوما
وقد يخلو بعض التراب منه وقد يقل فيه وقد يكثر فعرفنا أنما هو المقصود مجهول جهالة
لا تقبل الاعلام فكان العقد باطلا لذلك ولا بأس بأن يسلم الحنطة وما أشبهها فيما بوزن
أو يكال بالرطل لما بينا أن ما يكال بالرطل فهو موزون واسلام المكيل في موزون هو مبيع
جائز لأنه لا يجتمع في البدلين أحد الوصفين وهو الجنسية والقدر الواحد وإذا اختلف
النوعان مما يكال فلا بأس به اثنان بواحد يدا بيد ولا خير فيه نسيئة وكذلك الموزونات وقد
بينا هذه الفصول في أول الكتاب ولا بأس بالبنفسج بالحنا والزئبق والورد رطلين برطل فان
الادهان أجناس مختلفة عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه ما اتحد أصله منها جنس واحد وفيما
اختلف أصله له قولان لان الاسم والهبة واحد وإنما اختلف فيها الرائجة وباختلاف الرائجة
لا يختلف الجنس كالمنتن من اللحم مع غير المنتن ولكنا نقول بما حل بكل واحد منهما من
الصفة اختلف الأصل والمقصود ومنع عود كل واحد منهما إلى مثل حال صاحبه فيختلف
الجنس كالثياب والودارى مع الزنديجي جنسان مع اتحاد الأصل لاختلاف المقصود وعلى
176

هذا الزبد مع السمن وكذلك الزيت المطبوخ مع غير المطبوخ والدهن المربى بالبنفسج
مع غير المربى يجوز بيع رطل من المطبوخ والمربى برطلين من غير المطبوخ وغير المربى لان
تلك الرائجة بمنزلة زيادة في عينها فكأنه باع رطلا من زيت وبقله برطلين من زيت فيكون
المثل بالمثل والباقي بإزاء الزيادة وعن أبي يوسف رحمه الله قال هذا إذا كان المطبوخ ينتقص
إذا ذهبت تلك الرائجة منه فإن كأن لا ينتقص فقد عرفنا أنه ليس بزيادة في العين فلا يجوز
بيعه بغير المطبوخ الا رطلا برطل بخلاف المربى بالبنفسج مع المربى بالياسمين فهناك كل
واحد منهما لا يصير مثل صاحبه بحال وهنا غير المطبوخ من الزيت يطبخ فيكون مثل المطبوخ
فتعتبر المماثلة باعتبار المال وعلى هذا الألبان فإنها أجناس عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه
الكل جنس واحد لبن الإبل والبقر والغنم لاتفاق الاسم والهيئة وتقارب المقصود ولكنا
نقول أصولها أجناس واللبن يتولد من العين كالولد فكان اختلاف جنس الأصل دليلا على
اختلاف أجناسها ولا تقارب في المقصود أيضا فان مقصود المسلى يحصل بلبن البقر دون
لبن الإبل حتى أن ما يكون أصله جنسا واحدا كالبقر مع الجواميس والعراب مع البخاتي
والمعز مع الضأن فلبنهما جنس واحد ودليل اتحاد جنس الأصل تكميل نصاب البعض
بالبعض في باب الزكاة وكذلك اللحوم أجناس مختلفة عندنا وللشافعي قولان في أحد
القولين يقول كذلك لاختلاف الهيئة هنا ألا ترى أنه يمكن تمييز البعض عن البعض برؤية
الأعيان بخلاف الادهان والألبان وفى القول الآخر يقول الكل جنس واحد لاتفاق
اسم العين وهو اللحم وتقارب المقصود منها فان كلها يصلح لما هو المقصود وهو اتخاذ المرقة
منها وعندنا هي أجناس لان أصولها أجناس حتى لا يضم البعض إلى البعض في حكم الزكاة
وكذلك الأسامي مختلفة لاختلاف الإضافة كدقيق الحنطة مع دقيق الشعير و الثوب الهروي
مع المروى وكذا لحم البقر والغنم والمقصود مختلف أيضا فبعض الناس يرغب في بعض اللحوم
دون البعض فربما ينفعه البعض ويضره البعض ولا تفاوت في المقصود أبلغ من هذا ولكن
مع اختلاف الجنس هي موزونة كلها فكذلك لا يجوز بيع البعض بالبعض نسيئة ويجوز
متفاضلا يدا بيدا لانعدام أحد الوصفين. قال (ولا خير في الحنطة بالدقيق متساويا ولا متفاضلا)
لان من الحنطة والدقيق شبهة المجانسة فان عمل الطحن في الصورة هو تفريق الاجزاء وإن كان
في الحكم الدقيق غير الحنطة ويجعل الدقيق حاصلا الطحن ولهذا كان للغاصب إذا
177

طحن الحنطة الا ان الربا مبنى علي الاحتياط فالشبهة فيه تعمل على الحقيقة وعند وجود
حقيقة المجانسة لا يجوز بيع البعض بالبعض الا متساويا فكذلك إذا وجبت شبهة المجانسة ولا
يعرف التساوي في الكيل بين الدقيق والحنطة فالدقيق لا يصير حنطة قط ولكن الحنطة
تطحن ولا يدرى أن بعد الطحن يتساويان في المكيال أم لا فإذا كان بالتساوي في المعيار في
الحال لا يعلم التساوي بينهما بعد الطحن لا يجوز بيع أحدهما بالآخر وكذلك بيع الحنطة بالنخالة
والنخالة أجزاء الحنطة كالدقيق إلا أنه جزء خشن والدقيق جزء لين فاما بيع الدقيق بالدقيق
عندنا كيلا بكيل يجوز وعند الشافعي لا يجوز لان الدقيق لا يعتدل في الدخول في الكيل
فإنه ينكبس بالكبس والكيل عنده لا يكون معيارا شرعا الا فيما يعتدل في الكيل ولهذا قال
ولا يجوز بيع الباقلاء والرطب بالرطب والمطعوم بالمطعوم إذا قوبل بجنسه فشرط جواز البيع
عنده التساوي في المعيار الشرعي وذلك لا يوجد فيما لا يعتدل بالكيل ولكنا نقول الكيل
فيما هو مكيل معيار شرعي والدقيق مكيل ومعرفة كونه مكيلا بالرجوع إلى عرف الناس
وهم يكيلون الدقيق كالحنطة ويجوز السلم في الدقيق كيلا كما يجوز في الحنطة فكان الكيل
فيه معيارا شرعيا وما يتوهم فيه من التفاوت عند التكلف في كيل الدقيق يتوهم في الحنطة
أيضا ثم يسقط اعتباره ووجب بناء الحكم على الوسط من ذلك فكذلك الدقيق ولا يجوز
بيع السويق بالدقيق في قول أبي حنيفة متساويا ولا متفاضلا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى يجوز البيع تساويا أو تفاضلا بعد أن يكون يدا بيد لأنهما جنسان مختلفان فان
الاسم مختلف والمقصود مختلف لأنه يقصد بالدقيق اتحاد الخبز والعصايد والاطولة منه ولا
يحصل شئ من ذلك بالسويق إنما يلت بالسمن والعسل فيؤكل كذلك أو يضرب بالماء فيشرب
فكان التفاوت بينهما في المقصود أظهر من التفاوت في الهروي والمروى من الثياب وكذلك
كل واحد منهما لا يصير مثل صاحبه بحال فالسويق لا يصير دقيقا والدقيق لا يصير سويقا
بحال واختلاف الجنس يعرف بهذا ثم اتحاد الأصل لا يمنع اختلاف الجنس باعتبار هذه
المعاني كالادهان وعن أبي يوسف انه يجوز البيع متساويا لا متفاضلا لان التدقيق قد يصير
سويقا بأن يرش عليه الماء ثم يقلي فيصير سويقا وببغداد يتخذ السويق بهذه الصفة فتعتبر
المساواة بينهما لجواز العقد باعتبار المال ولأبي حنيفة طريقان (أحدهما) أن السويق أجزاء الحنطة
المقلية والدقيق أجزاء حنطة غير مقلية وبيع الحنطة المقلية بغير المقلية لا يجوز بحال فكذلك
178

بيع السويق بالدقيق وتحقيق هذا أنهما إنما جعلا جنسا واحدا قبل الطحن فعرفنا أنهما جنس
واحد بعد الطحن لان الطحن فيهما عمل بصفة واحدة فلا يوجب اختلاف الجنس وإذا كان
جنسا واحدا تعتبر المماثلة على الوجه الذي صار مال الربا وهو قبل القلى والطحن وبتساويهما
كيلا في الحال لا تظهر تلك المماثلة فلا يجوز العقد والطريق الآخران بيع الحنطة بالسويق
لا يجوز بالاتفاق وربا الفضل لا يثبت إلا باعتبار المجانسة ولا مجانسة بين الحنطة والسويق
صورة فعرفنا أن المجانسة باعتبار ما في الضمن والذي في ضمن الحنطة دقيق فتثبت المجانسة بين
السويق والدقيق بعد الطحن كما تثبت المجانسة بين السويق والحنطة باعتبار ما في الضمن
قبل الطحن يوضحه أن بيع الحنطة بالدقيق ربا وبيع الحنطة بالسويق ربا ومن ضرورة كون
كل واحد منهما جنسا للحنطة أن يكون أحدهما جنسا للآخر وإنما اختلف الاسم للصنعة
لا اسم العين فكل واحد منهما أجزاء متفرقة فيما كان له لت الحنطة قبل التفريق وليس فيه أكثر
من أنه فات بعض المقاصد في السويق وبه لا يختلف الجنس كالحنطة المقلوة بغير المقلوة
والعلكة مع الرخوة والتي أكلها السوس فإنها لا تصلح للزراعة واتخاذ الهريسة والكشك
منها ولا يوجب ذلك اختلاف الجنس فكذلك الدقيق مع السويق ولا خير في الزيت
بالزيتون إلا أن يعلم أن ما في الزيتون أقل فحينئذ يجوز والأصل في جنس هذه المسائل ان
المجانسة بين الشيئين تكون باعتبار العين تارة وباعتبار ما في الضمن أخرى ففيما وجدت المجانسة عينا
لا تعتبر في الضمن حتى يجوز بيع قفيز حنطة علكة بقفيز حنطة أكلها السوس ولا يعتبر ما
في الضمن وفى الحنطة بالدقيق تعتبر المجانسة بما في الضمن حقيقة وإن كان ذلك شيئا آخر حكما
ثم لا مجانسة بين الزيت والزيتون صورة فإنما تعتبر المجانسة بما في الضمن وهو الزيت الذي
في الزيتون وبيع أحدهما بالآخر على أربعة أوجه إن علم أما ما في الزيتون من الزيت أكثر
من المنفصل فقد يتحقق الفضل الخالي عن العوض فلا يجوز البيع وكذلك أن علم أنه مثله
لان تفل الزيتون يكون فضلا خاليا عن العوض وان كأن لا يعلم كيف هو لا يجوز العقد
عندنا وقال زفر يجوز لان الأصل في مقابلة مال بمال متقوم جواز العقد وإنما الفساد بوجود
الفضل الخالي عن العوض فما لم يعلم به لا يفسد البيع وعندنا الفضل الذي هو يتوهم الوجود
كالمتحقق في باب الربا احتياطا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الربا والربية
والربية شبهة الربا وقال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة
179

الحرام فإذا لم تعلم المساواة جعل ذلك لتحقق الفضل احتياطا فيفسد العقد وان علم أن ما في
الزيتون من الزيت أقل من المفصل فالبيع جائز لان المثل يصير بإزاء المثل والباقي من
الزيت بإزاء التفل فلا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة بهذا الطريق وكذلك دهن السمسم
بالسمسم والعصير بالعنب واللبن بالسمن والرطب بالدبس ولا خير في شئ من ذلك نسيئة
لوجود الجنسية بينهما باعتبار ما في الضمن ولا بأس بخل الخمر بخل السكر متفاضلا يدا بيد
لأنهما جنسان فانا أصلهما جنسان لان السكر ماء التمر والخمر بالعنب وكما أن العنب مع التمر
جنسان فكذلك الخل المتخذ منهما فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ولا خير في ذلك
نسيئة لأنه جميعهما قدر واحد وهو الكيل والوزن وان اشترى شاة بصوف وعلى ظهرها
صوف أو شاة في ضرعها لبن بلبن فان ذلك لا يجوز الا بطريق الاعتبار وهو ان يعلم أن اللبن
المنفصل أكثر مما في الضرع وان الصوف المجزوز أكثر مما على ظهر الشاة وذكر
الطحاوي ان هذا على الخلاف وجعله نظير بيع لحم الشاه بالشاة فان عند أبي حنيفة وأبى
يوسف رحمهما الله تعالى يجوز بيع لحم الشاة بالشاة الحية علي كل حال وعند محمد لا يجوز
الا بطريق الاعتبار وهو أن يعلم أن اللحم المنفصل أكثر من اللحم الذي في الشاة فيكون
المثل بالمثل والباقي بإزاء المسقط وهو القياس لان المجانسة بين الشاة واللحم ثابتة باعتبار ما
في الضمن فلا يجوز البيع الا بطريق الاعتبار كما في الفصول المتقدمة وبيان ذلك أن اللحم
موجود في الشاة وهو المقصود وبه تختلف المالية ألا ترى أن الشاة في الغنيمة من جملة
الطعام يباح لكل واحد من الغانمين تناوله وذلك باعتبار ما فيه من اللحم بل وجود اللحم في
الشاة أبين أظهر من وجود الدهن في السمسم فان ذلك حادث بالعصير حكما ولهذا كان
ملكا للغاصب واللحم لا يحدث بالذبح ولهذا لو غصب شاة فذبحها لم يكن اللحم له والذبح
نقصان محض بمنزلة القطع في الثوب فلا يحدث به اللحم وهو ازهاق الحياة فيفوت به
معنى النسل بمنزلة القلى في الحنطة يفوت ما كانت الحنطة باعتباره مثبتة وإذا ثبت أن اللحم
موجود قبل الذبح لا يجوز البيع الا بطريق الاعتبار وجه قولهما أنه باع عدديا متفاوتا بوزني
فيجوز كيف ما كان كما لو باع الثوب بالقطن وبيان الوصف ان الحيوان عددي متفاوت ولهذا
لا يجوز السلم فيها ويجوز بيع الشاة بالشاتين وتأثيره أن المجانسة باعتبار ما في الضمن أنما تطلب
إذا كان كل واحد من البدلين مقدرا فاما إذا لم يكن أحدهما مقدرا لا يشتغل بطلب المجانسة
180

بينهما وبهذا يقع الفرق بين هذا وبين ما تقدم من الفصول ولكن بهذا التقرير لا يتضح
الفرق في جميع الفصول فان بيع دهن الجوز بالجوز لا يجوز الا بطريق الاعتبار والجوز
ليس بمقدر ولهذا يجوز بيع جوزة بجوزتين ولكن نقول اللحم في شراء الحيوان غير مقصود
وإنما المقصود منه الدر والنسل والإسامة ليزداد عينها بالسمن فأما اللحم آخر المقاصد من
الحيوان وإنما تعتبر المجانسة بما في الضمن إذا كان مقصودا والدليل عليه أن المالية في الحيوان
لا تختلف باختلاف اللحم فقد نرى فرسين أو نجبين يتساويان في اللحم و يتفاوتان في القيمة
تفاوتا فاحشا والبيع مبادلة مال بمال فإذا كانت مالية الحيوان لا تعرف بمقدار اللحم لا يعتبر
ذلك في البيع قبل الذبح بخلاف جميع ما تقدم فالمالية هنا تخلف باختلاف مقدار الدقيق في
الحنطة والدهن في السمسم والجوز ونحو ذلك نوضحه ان اللحم في الحيوان وإن كان
موجودا حقيقة فهو كالمعدوم حكما حتى لو أخذ بضعة من لحم الحيوان لا يباح تناولها عرفنا
أن مقصود اللحم حاصل الذبح حكما فلا يعتبر قبله وعلى هذا الحرف نقول في مسألة الصوف
واللبن الجواب قولهم جميعا فإنه مال موجود قبل الفصل ألا ترى أنه مفصل من الحيوان
فيجوز الانتفاع به وهذا لأنه لا حياة في الصوف واللبن فكان الحال فيهما قبل الذبح وبعد
الذبح سواء وعلي الطريق الأول هو على الخلاف كما ذكره الطحاوي لان مالية الشاة لا
تعرف بما على ظهرها من الصوف ولا بما في ضرعها من اللبن كما لا تعرف ماليه الحيوان
بمقدار اللحم فان باع لحم شاة بالبقر والإبل جاز عندنا وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله
لا يجوز بيع اللحم بالحيوان أصلا لحديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان وروى أن جزورا نحر على عهد أبى بكر رضى الله
تعالى عنه فجاء رجل بعناق وقال اعطوني بهذا العنان قطعة من هذا اللحم فقال أبو بكر رضي الله عنه
هذا لا يصلح ولكنا نقول هما جنسان مختلفان فيجوز بيع أحدهما بالآخر كيف
ما كان يدا بيد كما يجوز بيع الشاة بالبقر والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم وإذا اختلف
النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد والمراد بالنهي عن بيع الحيوان إذا كان
أحدهما نسيئة فقد ذكر ذلك في بعض الروايات وبه نقول فان السلم في كل واحد منهما
لا يجوز عند أبي حنيفة وتأويل حديث أبي بكر رضي الله عنه أن ذلك البعير كان من إبل
الصدقة فكره أبو بكر رضي الله عنه بيع لحمه لأنه إنما نحر ليتصدق به على الفقراء فلهذا قال
181

لا يصلح وإذا أسلم الرجل حنطة في شعير وزيت كان باطلا في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز في حصة الزيت لان الفساد بوجود العلة المفسدة وذلك في
الشعير خاصة فان صحة الكيل لما جمع البدلين حرم النساء وفي حصة الزيت لم يوجد ذلك فان
اسلام المكيل في الموزون صحيح وثبوت الحكم بحسب العلة وليس من ضرورة فساد العقد
في أحدهما فساد العقد في الآخر كما لو باع عبدا ومدبرا وكما لو باع عبدين فهلك أحدهما قبل
القبض لا يفسد العقد في الآخر وأبو حنيفة يقول العلة المفسدة للعقد وجدت في الكل أما
في حصة الشعير فظاهر وفى حصة الزيت فقد جعل قبول العقد في الشعير شرطا في قبول
العقد في الزيت لان من جمع بين الشيئين في العقد الواحد فإنه يكون شارطا عليه قبول العقد
في كل واحد منهما ولهذا لو قبل العقد في أحدهما دون الآخر لا يجوز وهذا شرط فاسد
والسلم يفسد بالشرط الفاسد يوضحه أن فساد العقد في الشعير لاشتراط الاجل واشتراط
الاجل في العقد والعقد واحد فإذا تمكن فيه الشرط الفاسد فسد العقد كله بخلاف بيع القن
والمدبر فالعقد في المدبر ليس بفاسد ولهذا لو أجاز القاضي بيعه جاز ولكنه غير نافذ لحق
المدبر وذلك لمعنى فيه لا في العقد فلهذا لا يتعدى إلى الاخر وكذلك لو هلك أحد العبدين
فالمفسد فوت القبض وذلك لمعنى في الهالك لا في العقد ونظائر هذه المسألة تذكر في باب
البيوع الفاسد إن شاء الله تعالى وكذلك أن أسلم فوهبه في فوهية ومروية لان الجنس يحرم
النساء كالكيل وبهذا يتبين ان الطريق ما قلنا دون ما يقوله بعض مشايخنا رحمهم الله لأبي
حنيفة إذا كان الفساد قويا مجمعا عليه ويمكن في البعض تعدى إلي ما بقي فان فساد العقد بسبب
الجنسية غير مجمع عليه وقد سوى بين الفصلين فعرفنا ان الطريق ما قلنا. قال (ولا بأس
بأن يسلم الفلوس فيما يوزن لان الفلوس عددية متقاربة فيجوز اسلامها في كل مكيل أو موزون
الا الصفر خاصة فإنه لا يجوز اسلام الفلوس فيه للجنسية فالفلوس صفر فان قيل إذا كانت
الفلوس صفر أو الصفر موزون فينبغي أن لا يجوز اسلام الفلوس في الموزونات قلت الصفر
موزون في العرف لا بالنص ولا عرف فيه في الفلوس الرائحة ألا ترى أنها لا تتفاوت في
المالية بتفاوت الوزن وكذلك لو أسلم سيفا في شئ مما يوزن كان جائزا لان السيف خرج
من أن يكون موزونا عادة الا في الحديد فإنه لا يجوز اسلام السيف في الحديد للمجانسة
وكذلك كل إناء خرج بالصنعة من الوزن فلا بأس بأن يسلمه في الموزونات الا في نوعه ولا
182

بأس بأن يبيع إناء مصوغا بإناء مصوغ من نوعه يدا بيد وإن كان أكثر منه في الوزن
إذا كان ذلك الا ناء لا يباع وزنا لأنه عددي متفاوت كالثياب وهذا بخلاف أواني الفضة
والذهب فإنه يجرى فيها ربا الفضل وان كانت لاتباع وزنا في العادة لان صفه الوزن في
الذهب والفضة منصوص عليها فلا يتغير ذلك بالصنعة ولا يخرج من أن يكون موزونا بالعادة
والعادة لا تعارض النص فأما في الحديد والشبه وما أشبه ذلك صفة الوزن ثابتة في العرف
فيخرج من أن يكون موزونا بالصنعة وبالعرف وبتعارف الناس بيع المصوغ منه عددا فاما
بيع فلس بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز لان الفلوس الرائجة أمثال متساوية قطعا
لاصطلاح الناس على سقوط قيمة الجودة فيها ليكون أحد الفلسين فضلا خاليا عن العوض
مشروطا في البيع وذلك هو الربا بعينه وان باع فلسا بعينه بفلس بغير أعيانهما لم يجز أيضا
لأنه لو أجاز أمسك الفلس المعين وطالبه بفلسين آخر أو أسلم إليه الفلس المعين ثم قبض
ذلك منه بعينه مع فلس آخر لاستحقاقه فلسين في ذمته فيكون الفلس الآخر فضلا خاليا
عن العوض وكذلك لو باع فلسين بأعيانهما بفلس بغير عينه لا يجوز لأنه لو جاز بقبض المشترى
الفلسين ثم دفع إليه أحدهما فكان ما استوجب في ذمته فيبقى الآخر له بغير عوض فأما
إذا باع فلسا بعينه بفلسين بأعيانهما يجوز في قول أبى يوسف وهو قول أبي حنيفة رحمهما
الله ولا يجوز في قول محمد رضي الله عنه وهذا ينبنى علي أن الفلوس لا تتعين بالتعيين ما دامت
رائجة عند محمد وعلى قولهما تتعين بالتعين إذا قوبلت بجنسها حتى لو هلك أحدهما قبل القبض
بطل العقد عندهما ومحمد رحمه الله يقول الفلوس الرائجة ثمن والأثمان لا تتعين في العقود بالتعيين
كالدراهم والدنانير ألا ترى أنها لو قوبلت بخلاف جنسها لم تتعين حتى لو اشترى بفلوس
معينة شيئا فهلكت قبل التسليم لا يبطل العقد ولو اشترى بها جاز فكذلك إذا قوبلت
بجنسها لان ما يتعين بالتعيين فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالمكيلات والموزونات
ومالا تتعين فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالذهب والفضة وهما يقولان الفلوس عددي
والعددي يتعين بالتعيين فيجوز بيع الواحد منه بالثمني كما لو باع جوزة بجوزتين بأعيانهما
وتحقيقه أن صفه الثمنية في الفلوس ليست بصفة لازمة ولا هو ثابت بأصل الخلقة بل بعارض
اصطلاح الناس والعاقد ان قصد تصحيح العقد ولا وجه لتصحيح العقد الا بأن تتعين
الفلوس وتخرج من أن تكون رائجة ثمنا في حقهما فيجعل كأنهما أعرضا عن ذلك الاصطلاح
183

والدليل علي أن معنى الثمنية في الفلوس بالاصطلاح أنه يصلح ثمن الخسيس من الأشياء دون
النفيس وأنه يروج بعض الأشياء دون البعض ويروج في بعض المواضع دون البعض بخلاف
الذهب والفضة فان قيل تحت هذا الكلام فساد فإنه إذا خرج في حقهما من أيكون ثمنا
كان هذا بيع قطعة صفر بقطعتين من صفر وذلك لا يجوز قلنا الاصطلاح في الفلوس على صفة
الثمنية والعدد فيهما في هذه المبايعة اعراضا عن اعتبار صفة الثمنية فيها وما أعرض عن اعتبار
صفة العدد فيها وليس من ضرورة خروجها من أن تكون ثمنا في حقهما خروجها من أن
تكون عددية كالجوز والبيض فهو عددي وليس بثمن فهذا باتفاقهما يصير بهذه الصفة. قال (ولا
بأس بأن يشترى شقة خز بشقة خز هي أكثر منها وزنا) لأنها لا توزن وإنما تذرع كسائر الثياب
وبيع ما ليس بمكيل أو موزون بجنسه يدا بيد يجوز كيف ما كان. قال (ولا بأس بالتمر بالرطب
مثلا بمثل وإن كان الرطب ينقص إذا جف) وهذه مسائل (أحدها) بيع الرطب بالرطب كيلا
بكيل جائز عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز وكذلك الباقلا وعلل في كتابه فقال
لان بين الباقلتين فضاء ومتسعا معناه أنه لا يعتدل في الدخول في الكيل حتى لا ينضم بعضه إلى
بعض بل يتجافى ويتفاوت مقدار التجافي فيه فلا يكون الكيل فيه معيارا شرعيا والمخلص
عن الربا يكون بالتساوي في المعيار الشرعي وقاس بيع الحنطة المقلية بغير المقلية فان المقلية
لا تعتدل في الدخول في الكيل لانتفاخ يحدث فيها بالقلى أو صخور فإنها إذا قليت رطبة
انتفخت وإذا قليت يابس ضمرت وحجتنا في ذلك قوله صلى اله عليه وسلم التمر بالتمر كيل
بكيل والتمر اسم للثمرة الخارجة من النخل من حين ينعقد عليها صورتها إلى أن تدرك فكان
الرطب تمرا والدليل عليه قول القائل
وما العيش الا نومة وشرق * وتمر على رؤس النخيل وماء
والمراد الرطب والمعنى فيه أن الرطب أمثال متساوية بدليل ثبوت حكم الربا فيها وقد
بينا أن حكم الربا لا يثبت في المال ما لم يصر أمثالا متساوية وإنما صارت أمثالا متساوية بصفة
الكيل فكان الكيل فيها عيارا شرعيا والأصل أنه يراعى وجود المساواة بين المثلين على الوجه
الذي صار مال الربا كما في الحنطة وغيرها وبه فارق المقلوة فان الحنطة لا تخلق كذلك بل
تكون في الأصل غير مقلوة وتصير مال الربا بتلك الصفة فتراعى تلك المماثلة وبعد القلى لا
تعرف تلك المماثلة وان تساويا في الكيل فلهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية ولا بالمقلية فان قيل
184

هذا فساد فقد جوزتم بيع الحنطة الرطبة بالحنطة الرطبة كيلا بكيل والرطوبة صفة حادثة
بصنع العباد كالقلي (قلنا) الحنطة في الأصل تخلق رطبة ويكون مال الربا على هذه الصفة فإذا بلت
بالماء عادت إلى تلك الصفة فإذا وجدت المماثلة علي الوجه الذي صارت مال الربا جاز العقد
وهي لا تخلق في الأصل مقلوة حتى يكون هذا إعادة إلي تلك الصفة فيها فأما بيع الرطب
بالتمر كيلا بكيل يجوز في قول أبي حنيفة ولا يجوز في قول أبى يوسف ومحمد والشافعي رحمهما
الله لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع
الرطب بالتمر فقال صلى الله عليه وسلم أينقص إذا جف قالوا نعم فقال عليه الصلاة والسلام فلا
إذا وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ان النبي عليه السلام نهى عن بيع الرطب بالتمر كيلا
وعن بيع العنب بالزبيب كيلا ثم في قوله عليه السلام أينقص إذا جف إشارة إلى أنه يشترط
لجواز العقد المماثلة في أعدل الأحوال وهو ما بعد الجفاف ولا يعرف ذلك بالمساواة في الكيل
في الحال فهذا الحديث دليل الشافعي رضي الله عنه أيضا في المسألة الأولى من هذا الوجه
واعتبار المماثلة في أعدل الأحوال صحيح كما في بيع الحنطة بالدقيق فإنه لا يجوز لتفاوت بينهما
بعد الطحن ولان العقد جمع بين البدلين أحدهما على هيئة الادخار والآخر ليس علي هيئة
الادخار ولا يتماثلان عند التساوي في الصفة فلا يجوز بيع المقلية بغير المقلية وهذا بخلاف
الجودة والرداءة فالرداءة من نوع العيب والرطوبة في الرطب ليس بعيب فان العيب ما يخلو
عنه أصل الفطرة السليمة فأما مالا يخلو عن أصل الفطرة السليمة لا يكون عيبا كالصغير في
الآدمي وانعدام العقل بسببه وهذا بخلاف الحديث مع العتق وكل واحد من البدلين هناك
علي هيئة الادخار ثم الحديث إذا عتق لا يظهر فيه التفاوت الا شئ يسير لا يمكن التحرز عنه
وذلك عفو كالتراب في الحنطة ودخل أبو حنيفة بغداد فسئل عن هذه المسألة كانوا أشد
يدا عليه لمخالفته الخبر فقال الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرا أوليس بتمر فإن كان تمرا جاز
العقد عليه لقوله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر وإن لم يكن تمرا جاز لقوله صلى الله عليه وسلم
وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم فأورد عليه حديث سعد رضي الله تعالى عنه فقال
مدار هذا الحديث على زيد بن أبي عياش وزيد بن أبي عياش لا يقبل حديثه واستحسن منه
أهل الحديث هذا الطعن حتى قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة لا يعرف الحديث وهو
يقول زيد بن أبي عياش ممن لا يقبل حديثه وهذا الكلام في المناظرة يحسن لدفع شغب
185

الخصم ولكن الحجة لا تتم بهذا لجواز أن يكون هنا قسما ثالثا كما في المقلية بغير المقلية ولكن
الحجة لأبي حنيفة الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر مثل بمثل يد بيد كيل بكيل
وقد بينا أن التمر اسم للثمرة الخارجة من النخيل حين تنعقد صورتها إلى أن تدرك وما يتردد
عليها من الأوصاف باعتبار الأحوال لا يوجب تبدل اسم العين كالآدمي يكون صيبا ثم شابا
ثم كهلا ثم شيخا فإذا ثبت ان الكل تمر يراعى وجود المماثلة حالة العقد علي الصفة التي دخلت
في العقد لان اعتبار المماثلة سبب المقابلة وذلك يكون عند العقد وما كان اعتبار المساواة
الا نظير الأجود فكما لا يعتبر التفاوت في ذلك فكذلك في هذا وقد تحققت المساواة
بينهما في الكيل في الحال لان الرطوبة التي في الرطب مقصودة وهي شاغلة للكيل فلا يظهر
التفاوت الا بعد ذهابها بالجفاف فلا يتبين به أن التفاوت كان موجودا وقت العقد بخلاف
الحنطة بالدقيق فان بالطحن تتفرق الاجزاء ولا يفوت جزء شاغل للكيل فتبين بالتفاوت بينهما
بعد الطحن أنهما لم يكونا متساويين عند العقد وكذا المقلية بغير المقلية فان بالقلى لا يفوت جزء
شاغل للكيل إنما تنعدم اللطافة التي كانت بها الحنطة منبتة ولما ظهر التفاوت بعد القلي عرفنا أن
هذا التفاوت كان موجودا عند العقد ثم صاحب الشرع أسقط اعتبار التفاوت في الجودة بقوله
صلى الله عليه وسلم جيدها ورديئها سواء واعتبر التفاوت بين النقد والنسيئة حتى شرط اليد
باليد وصفة الجودة لا تكون حادثة يصنع العباد والنقاوة بين النقد والنسيئة حادث بصنع العباد
وهو اشتراط الاجل فصار هذا أصلا ان كل تفاوت ينبنى علي صنع العباد فذلك مفسد للعقد
وفى المقلوة بغير المقلوة والحنطة بالدقيق بهذه الصفة وكل تفاوت ينبنى على ما هو ثابت بأصل
الخلقة من غير صنع العباد فهو ساقط الاعتبار والتفاوت بين الرطب والتمر بهذه الصفة فلا يكون
معتبرا كالتفاوت بين الجيد والردئ. قال (وبيع العنب بالزبيب كبيع الرطب بالتمر) فاما بيع الحنطة
المبلولة باليابسة أو الرطبة باليابسة يجوز في قول أبي حنيفة وفي قول محمد لا يجوز وذكر في نسخ
أبى حفص قول أبى يوسف كقول أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وهو قوله الآخر فاما قوله
الأول كقول محمد فأبو حنيفة مر علي أصله وهو اعتبار المساواة في الكيل عند العقد ومحمد مر
على أصله وهو اعتبار المماثلة في أعدل الأحوال كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حديث سعد رضى الله تعالى عنه وذلك لا يوجد في الحنطة الرطبة والمبلولة بعد الجفوف وأبو
يوسف يقول القياس ما قاله أبو حنيفة ولكن تركت القياس في الرطب بالتمر للحديث والمخصوص
186

من القياس بالأثر لا يلحق به الا ما كان في معناه من كل وجه والحنطة الرطبة ليست في معنى
الرطب من كل وجه الرطوبة في الرطب مقصودة وفى الحنطة غير مقصودة بل هو عيب
فلهذا أخذت فيه بالقياس وأبو حنيفة يقول تأويل الحديث ان صح ان النبي صلى الله عليه
وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر نسيئة وقد نقل ذلك في بعض الروايات وفائدة قوله صلى
الله عليه وسلم أينقص إذا جف أن الرطب إذا جف ينقص إلا أن يحل الاجل فلا يكون
هذا التصرف مفيدا وكان السائل وصيا ليتيم فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
التصرف منفعة لليتيم باعتبار النقصان عند الجفوف فمنع الوصي منه علي طريق الاشفاق لا
على وجه بيان فساد العقد فاما الحنطة المبلولة بالمبلولة تجوز عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما
الله تعالى لما قلنا ولا يجوز عند محمد وكذلك الزبيب المنقع بالمنقع والتمر المنقع بالمنقع ومحمد يفرق
بين هذه الفصول وبين بيع الرطب بالرطب فيقول هناك التفاوت يظهر بعد خروج البدلين
عن الاسم الذي عقد به العقد فلا يكون ذلك تفاوتا في المعقود عليه وهذه الفصول تظهر
التفاوت بعد الجفوف مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد به العقد فبهذا الحرف يتضح
مذهبه في هذه الفصول ثم ذكر بيع الحنطة المقلية بغير المقلية وقد بينا الحكم فيه وأهل
الأدب طعنوا عليه في هذا اللفظ فقالوا إنما يقال حنطة مقلوة فاما المقلية المبعضة يقال قلاه
يقليه إذا أبغضه ولكنا نقول محمد كان فصيحا في اللغة الا انه رآى استعمال العوام هذا اللفظ
في الحنطة ومقصود بيان الاحكام لهم فاستعمل فيه اللغة التي هي معروفة عندهم وما كان
يخفى عليه هذا الفرق ولا يجوز الحنطة بالسويق متساويا ولا متفاضلا إلا أن تكون الحنطة
أكثر ومع السويق فضة أو ذهب فيكون ما معه بفضل الحنطة لان الصحة مقصود المتعاقدين
ومتى أمكن تحصيل مقصودهما بطريق جائز شرعا يحمل مطلق كلامهما عليه ويجعل كأنهما
صرحا بذلك كما لو باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره يجوز البيع وينصرف تسمية النصف
مطلقا إلى نصيبة خاصة وكذا لو قال لرجل أوصيت لك بثلثي يجوز ويحمل على ايجاب
ثلث المال لأنه عرف أنه مقصوده فهذا مثله والأصل فيه قوله تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تظنن بكلمة خرجت من فم أخيك
المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ولو أسلم ثوبا فوهيا في ثوب مروى ويجعل من المسلم إليه
فضل دراهم أو متاع جاز لان ما بخص الدراهم أو المتاع من الثوب الفوهي يكون مبيعا وما
187

يخص الثوب الهروي منه يكون رأس المال واسلام الفوهي في المروى جائز وكذلك لو أعطاه ثوبا
في حنطة وشعير فجعل بعضه عاجلا وبعضه إلى أجل فهو جائز لان ما يخص العاجل منه إن كان
بعينه فهو متقابضة وإن كان بغير عينه وكان موصوفا فهو ثمن وما يخص الاجل فهو بيع
الثوب بثمن مؤجل وهذا لان الثوب مبيع والمكيل إذا كان بعينه يكون مبيعا وإذا كان بغير
عينه وما يقابله مبيع فهو ثمن والبيع بثمن مؤجل صحيح إذا كان معلوم الوصف ولو أعطاه
ثوبا فوهيا في ثوب فوهى بنسيئة فهو مردود لأنه لا وجه لتصحيحه بيعا مقابضه فان أحد
البدلين ليس بمعين ولا وجه لتصحيحه سلما لان البدلين من جنس واحد ولا وجه لتصحيحه
قرضا فان استقراض الثوب لا يجوز فان زاد فيه درهما مع الثوب الذي عجل أو زاده الآخر
مع ثوبه درهما عاجلا كان ذلك كله أو آجلا كان ذلك فاسدا لان الزيادة بيع يقصد بها اخرج
العين من العقد وادخال الرخص فيه وقد تعذر تصحيح الأصل هنا فلا يمكن تصحيح البيع لان
ثبوت البيع بثبوت الأصل وإذا أثبتنا الحكم في البيع بدون الأصل لم يكن بيعا وكذا لو
كانت الزيادة دنانير أو ثوبا يهوديا أو كر حنطة أو غير ذلك لأنه بيع للأصل حين أوجبه باسم
الزيادة عينا كان أو دينا وان أسم طعاما في شئ مما يوزن وزاد مع ذلك دراهم أو دنانير أو ثوبا
عاجلا فهو جائز لأن العقد في الأصل المؤاجلة بمقابلة بعضه يكون دينا بدين وان كانت الزيادة
صحيحة هنا فيثبت حكمه في الزيادة أيضا وان جعله مؤجلا لم يجز لان المسلم فيه دين فالزيادة
من الذي عليه السلام دراهم أو دنانير أو ثوبا أو شيئا مما يوزن عاجلا فهو جائز وان جعله مؤجلا
فهو جائز أيضا إذا كان معلوما في نفسه لان رأس المال عين فلا يخص المسلم فيه من رأس
المال يكون عقد السلم فيه صحيحا وما يخص الزيادة يكون بيعا بثمن إلى أجل معلوم وذلك
جائز أيضا فأما إذا أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم إن المسلم إليه زاد كرا آخر أو نصف كر
لا تجوز الزيادة لأنه لا يمكن جعل الزيادة ثمنا وجعل الدراهم مبيعا فلا بد من أن يجعل زيادة
في المسلم فيه والزيادة في المسلم فيه من المسلم إليه على سبيل الالتحاق بأصل العقد لا يجوز لان عقد
السلم جوز بخلاف القياس لحاجة الناس إليه ولا حاجة له إلى الزيادة بل حاجته إلى زيادة رأس
المال فلا جرم الزيادة في رأس المال على سبيل الالتحاق بأصل العقد جائزه في المجلس. قال
(وان أسلم طعاما في ثياب مختلفة أو في أشياء من الوزنيات مختلفة ولم يسم رأس مال كل صنف
منها فهو فاسد) في قول أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله في اشتراط اعلام قدر رأس المال فيما
188

يتعلق العقد على قدره قد سبق بيانه ولا بأس بأن يشترى الرجل الشاة الحية بالشاة المذبوحة
يدا بيد لأنه بيع عددي فورى فالشاة الحية لا توزن ولا خير فيه نسيئة لان النسيئة ان كانت
في الشاه الحية فهو سلم في الحيوان وان كانت في البدل الاخر فهو سلم في اللحم ولو كانتا شاتين
مذبوحتين قد سلختا اشتراهما رجل بشاة مذبوحة لم تسلخ كان ذلك جائزا أيضا لان الثمل
من لحم الشاة بمقابلته من الشاتين والباقي من لحم الشاتين بإزاء الجلد والسقط فيجوز ذلك
ويحمل مطلق كلامهما عليه لتحصيل مقصودهما ولو كانت الشاة ليس معها جلد كان ذلك
فاسدا لأن العقد اشتمل على اللحم فقط من الجانبين واللحم موزون فإذا وجدت الجنسية
والوزن حرم التفاضل. قال (ولا بأس بكر حنطة وكر شعير بثلاثة أكرار حنطة وكر شعير
يدا بيد) فيتكون حنطة هذا بشعير هذا وشعير هذا بحنطة هذا عندنا استحسانا والقياس أن
لا يجوز وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله وكذلك لو باع مد عجوة وزبيب بمدى عجوة
وزبيب أو باع دينارا ودرهما بدرهمين ودينارين فأما إذا باع درهما جيدا ودرهما زيفا بدرهمين
جيدين يجوز عند أصحابنا رحمهم الله وعند الشافعي لا يجوز وكذلك لو باع دينارا نيسابوريا أو
دينارا هرويا بدينارين نسابوريين أو هرويين وهذا بناء على الأصل الذي تقدم فان عند الشافعي
رحمه الله للجودة قيمه في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها فإنما ينقسم الدرهمان الجيد ان
على الجيد والزيف باعتبار القيمة فيصيب الجيد أكثر من وزنه والزيف أقل من وزنة وذلك ربا
وعندنا لا قيمة للجودة في الأموال الربوية عندا لمقابلة بجنسها فالمقابلة باعتبار الاجزاء ويجوز
العقد لوجود المساواة في الوزن عملا بقوله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب مثل بمثل والفضة
بالفضة مثل بمثل يد بيد وبقوله صلى الله عليه وسلم جيدها ورديئها سواء وأما الكلام في الفصل
الثاني فوجه القياس فيه أن العقد متى اشتمل على أعواض من أجناس مختلفه ينقسم البعض على
البعض باعتبار القيمة كما لو باع عبدا أو ثوبا بجارية وحمار وهذا لان الانقسام يكون على وجه
يعتدل فيه النظر من الجانبين حال بقاء العقد وحال انفساخه في البعض يعارض وإنما يكون
ذلك في الانقسام باعتبار القيمة وأما في صرف الجنس إلى خلاف الجنس يتضرر أحدهما عند
انفساخ العقد في البعض بعارض والدليل عليه انه لو باع قفيز تمر بقفيزي تمر لا يجوز ولا يجعل
التمر من كل جانب بمقابلة القوى من الجانب الآخر ولو باع منا من لحم بنوى لحكم لا يجوز ولا
يجعل اللحم من كل جانب بمقابلة العظم من الجانب الآخر حتى يجوز ولو اشترى عبدا بألف
189

درهم نسيئه ثم باعه من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز العقد فيما اشتراه لأنه اشترى
ما باع بأقل مما باع وتصحيح العقد هنا يمكن بان يجعل بمقابلة العبد الأول من الثمن الثاني
مثل الثمن الأول والباقي بإزاء الآخر ومع ذلك اعتبر الانقسام بالقيمة فهذا مثله يدل عليه
ان في الأموال الربوية يصرف الجنس إلى الجنس لا إلى خلاف الجنس فإنه إذا باع ثوبا
وعشرة بثوب وعشرة بشرط قبض الدراهم في المجلس لأنه يجعل صرفا في حق الدراهم ووجه
الاستحسان الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم فإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد
أن يكون يدا بيد وقد اشتمل العقد هنا على نوعين مختلفين فينبغي أن يجوز العقد كيف شاء
المتعاقدان والمعنى فيه ما بينا ان تحصيل مقصود المتعاقدين ممكن بطريق شرعي وهو صرف
الجنس إلى خلاف الجنس فيجب المصير إليه ويجعل ذلك كالمصرح به وهذا لان الانقسام في
سائر المعاوضات باعتبار القيمة ليس بمقتضى العقد بل للمعاوضة والمساواة إذا ليس صرف
البعض أولى من البعض فيصير الانقسام والوزيع باعتبار القيمة للمعاوضة وذلك غير موجود
هنا لأنه لو صرف الجنس إلي الجنس فسد العقد ولو صرف الجنس إلي خلاف الجنس صح
العقد ولا معاوضة بين الجائز والفاسد فالجائز مشروع بأصله ووصفه والفاسد مشروع بأصله
حرام بوصفه فإذا لم تتحقق المعاوضة على وجه المساواة لا يصار إلى الانقسام باعتبار القيمة
ولكن يترجح ما هو مشروع من كل وجه عل ما هو مشروع من وجه دون وجه بخلاف
النوى مع التمر فالتمر والنوى كله مكيل من جنس واحد ولو صرح بصرف التمر إلى النوى
لم يجز العقد وكذلك العظم مع اللحم لأنه مركب فيه خلقه كالنوى في التمر فإذا كان عند
التصحيح لا يصح العقد فعند الاطلاق لا يحمل عليه أيضا فاما مسألة العبدين (قلنا) فصل
المعاوضة يتحقق هناك لان جهات الجواز تكثر فإنه إن جعل بمقابلته مثل الثمن الأول يجوز
وكذلك أن جعل بمقابلته أكثر من الثمن الأول فلكثر جهات الجواز يتحقق معنى المعاوضة ويجب
المصير إلى الانقسام باعتبار القيمة وهنا لا وجه للجواز الا واحد وهو صرف الجنس إلى خلاف
الجنس يوضحه ان شرط الجواز هناك أن لا يكون الثمن الثاني أقل من الثمن الأول فكأنهما ولو
صرحا بهذا لم يصر مقدار الثمن معلوما فلا يجوز العقد فان قيل المعاوضة هنا تتحقق أيضا فإنه إذا
جعل الدراهم بمقابلة الدينارين يجوز وان جعل نصف درهم والنصف الباقي بمقابلة الدينار
ونصف ونصف دينار بمقابلة نصف الدينار والباقي بمقابلة درهم ونصف يجوز أيضا (قلنا) نعم
190

ولكن هذا بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس ونحن ادعينا انه لا وجه للجواز هنا الا
هذا الطريق فكيف ما يشتغل به لا يخرج به الطريق من أن يكون عينا وإذا اشترى ثوبا
وعشرة بثوب وعشرة (قلنا) هناك العقد صحيح من غير أن يصرف الجنس إلى خلاف الجنس
فان القبض في مجلس شرط بقاء العقد صحيحا لا شرط الانعقاد صحيحا ونحن إنما صححنا هذا التصحيح
العقد لا للبقاء صحيحا فلا يلزم. قال (وان اشترى قفيز حنطة بنصف قفيز هو أجود منه فلا خير فيه)
لأنه لا قيمة للجودة فنصف القفيز بمقابلة نصف قفيز والنصف الآخر خال عن العوض
وبهذه المسألة يتبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة نصف قفيز لما بينا انها إنما تصير مال
الربا لكونها مكيلا والمكيل ما يعرف مقداره بالكيل وذلك يوجد في نصف قفيز ولا يوجد
فيما دونه ولا بأس بان يشترى الكفرى بما يناسب من التمر يدا بيد لان الكفرى ليس يتمر
ولا يكال أيضا ولا خير فيه إذا كان الكفرى نسيئة لأنه مجهول فيه الصغير والكبير وهو
عددي متفاوت فان آحاده تتفاوت في المالية. قال (ولا خير في التمر بالبسر اثنان بواحد وإن كان
البسر لم يحمر ولم يصفر لان البسر تمر علي ما بينا ان التمر اسم لتمرة خارجة من النخل من حين
تنعقد صورتها إلى أن تدرك فاما في الكفرى قبل انعقاد صورة التمر فلا يكون تمرا وكذلك
في كل صنف من صنوف التمر فلا خير في بعضه ببعض الا مثلا بمثل يدا بيد ولا خير في أن
يبتاع حنطة مجازفة بحنطة مجازفة وكذلك كل مكيل أو موزون لان المساواة في القدر شرط
لجواز العقد إذا صارت الأموال أمثالا متساوية وعند البيع مجازفة لا تظهر المساواة في القدر
فلا يجوز العقد. قال (فان تبايع صبرة بصبرة مجازفة ثم كلنا بعد ذلك فكانتا مستاويين لم يجز
العقد عندنا) وقال زفر يجوز لان ما هو شرط الجواز وهي المماثلة قد تبين انه كان موجودا
وإن لم يكن معلوما للمتعاقدين فجاز العقد كما لو زوجت امرأة نفسها من رجل وهناك شاهدان
يسمعان كلامهما والمتعاقدان لا يعلمان ذلك كان النكاح جائزا وحجتنا في ذلك أن المعتبر لجواز
العقد العلم بالمساواة عند العقد لأنه إذا لم يعلم ذلك كان الفضل معدوما موهوما وما هو موهوم
الوجود يجعل كالمتحقق فيما بنى أمره على الاحتياط كما في العقوبات التي تندرئ بالشبهات
ولان باب الربا مبنى على الاحتياط فالفضل الموهوم فيه كالمتحقق وكذلك لو باع الحنطة بالحنطة
وزنا بوزن لا يجوز لان الحنطة مكيلة فشرط الجواز فيها المماثلة الكيل وبالمساواة في الوزن
لا تعلم المماثلة في الكيل وهذا بخلاف ما لو أسلم في الحنطة وزنا فإنه يجوز على ما ذكره الطحاوي
(13 ثاني عشر مبسوط)
191

لان في المسلم فيه لا تعتبر المماثلة وإنما يعتبر الاعلام على وجه لا يبقى بينهما منازعة في التسليم وذلك
يحصل بذكر الوزن كما يحصل بذكر الكيل وبهذه المسألة يتبين الجواب عن الاشكال الذي ذكرنا
في مسألة علة الربا على من علل في مسألة بيع الحفنة بالحفنتين انه إنما جاز لان للجودة من الحفنة
فيما عند مقابلتها بجنسها لان سقوط قيمة الجودة باعتبار كون المال من ذوات الأمثال والمماثلة
بالمعيار ولا معيار للحفنة بخلاف القفيز فزد على هذا الكلام مسألة الغصب وهو أن يقال لا قيمة
للجودة من الحفة أيضا حتى إذا غصب حفنة من حنطة وذهبت جودتها عنده فاستردها
صاحبها لم يكن له أن يضمن الغاصب النقصان لأنا نقول لا قيمة للجودة منها لأنها موزونة
لا لأنها مكيلة وكما أن اعتبار بالكيل يسقط قيمة الجودة فكذالك باعتبار الوزن الا ان
الشرع أسقط اعتبار الوزن في الحنطة في حكم الربا حيث نص علي المماثلة فيه كيلا بقوله
صلى الله عليه وسلم الحنطة بالحنطة كيل بكيل فلذا جوزنا بيع الحفنة بالحفنتين ولم يجعل للجودة
من الحفنة قيمة في الغصب لأنها موزونة كما جوزنا السلم في الحنطة بذكر الوزن. قال (ولا
خير في شراء التمر علي رؤس النخل بالتمر كيلا أو مجازفة عندنا) وقال الشافعي يجوز شراء
التمر علي رؤس النخل بتمر مجذوذ على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق ولا يجوز فيما
زاد على خمسة أوسق وله في مقدار خمسة أوسق قولان وحجته في ذلك حديث أبي هريرة
رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن المزابنة ورخص في العرايا وهي
أن تباع بخرصها فيما دون خمسة أوسق والدليل على أن المراد بالعراية التي رخص فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما قلنا قول زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه فإنه لما سئل ما عرايا كم
هذه قال إن الرطب ليأتينا ولم يكن في أيدينا بعد نبتاعه به وعندنا فضالات من التمر فرخص
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاع بخرصها تمرا فنأكل مع اليابس الرطب ولان ما
علي رؤس النخل لا يتأتى فيها الكيل فأقام الشرع الخرص فيها مقام الكيل للحاجة تيسيرا
بخلاف ما إذا كانا موضوعين على الأرض وهذه الحاجة في القليل دون الكثير والتفاوت
مع الخوص ينعدم أو يقل في القليل ويكثر في الكثير والفرق بين التفاوت الكثير واليسير
في التبرع أصل حتى أن الزيادة تدخل في الكيلين يجعل عفوا بخلاف ما زاد علي ذلك وحجتنا
في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر كيل بكيل وما علي رؤس النخل تمر فلا يجوز
بيعه بالتمر الا كيلا بكيل وهذا الحديث عام متفق على قبوله فيترجح على الخاص المختلف
192

في قبوله والعمل به ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة فالمحاقلة بيع الحنطة
في سنبلها بحنطة والمزابنة بيع التمر على رؤس النخل بالتمر خرصا وأما العرية التي فيها الرخصة بقوله
ورخص في العرايا هي العطية دون البيع قال صلى الله عليه وسلم للخراصين حققوا في الخرص
فان في المال العرية والوصية والمخروص له لا يستحق التخفيف بسبب البيع بل بسبب
العطاء وقال القائل شاعر الأنصار
ليست بسيبها ولا رحبيه * ولكن عرايا في السنين الحوائج
والافتخار بالعطاء دون البيع وتفسير العرية أن يهب الرجل ثم نخله من بستانه لرجل
ثم يشق على المعرى دخول المعرى له في بستانه كل يوم لكون أهله في البستان ولا يرضي
من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة فيعطيه مكان ذلك تمرا محدودا بالخرص ليدفع
الضرر عن نفسه ولا يكون مخلفا للوعد وهذا عندنا جائز لان الموهوب لم يصر ملكا للموهوب
له ما دام متصلا بملك الواهب فما يعطيه من التمر لا يكون عوضا عنه بل هبة مبتدأة وإنما
سمى ذلك بيعا مجازا لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن خلف الوعد واتفق ان ذلك
كان فيما دون خمسة أوسق فظن الراوي ان الرخصة مقصورة على هذ فنقل كما وقع عنده
والقياس معنى في المسألة لأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه فلا يجوز لطريق الخرص كما لو
كانا موضوعين على الأرض أو كانا على رؤس النخيل وكما في سائر المكيلات من الحنطة
والشعير فإنه لو باع الشعير المتحصل بشعير مثله بطريق الخرص لم يجز وكذلك الحنطة والشافعي
لا يجوز ذلك في الحنطة لمعنيين (أحدهما) ان شراء الحنطة في سنبلها بالدراهم عنده لا يجوز
لأنه شراء ما لم يره بخلاف الشعير فإنه ظاهر مرئى (والثاني) أنه بيع مطعوم بمطعوم من جنسه
لم يعرف التساوي بينهما في المعيار الشرعي. قال (ولا بأس بشراء فضل الحنطة بحنطة
مجازفة أو كيلا بعد أن يكون بعينه لان الفضل ليس بمكيل ولا موزون إنما هو علف الدواب
بمنزلة الحشيش ثم بيع الزرع النابت قبل أن يصير منتفعا به لا يجوز سواء باعه بالنقد أو
بغيره لان البيع يختص بعين مال متقوم والزرع في أول ما يبدو قبل أن يصير متنفعا به
لا يكون مالا متقوما اما بعد ما صار منتفعا به بحيث يعمل فيه المناجل ومشافر الدواب
يجوز بيعه لأنه مال متقوم منتفع به فان باعه بشرط القطع أو مطلقا جاز لان مقتضى مطلق
البيع تسليم المعقود عليه عقيبه فهو وشرط القطع سواء وان باعه بشرط الترك في أرضه حتى
193

يدرك فلا خير فيه لأنه إن كان بمقابلة منفعة الترك بعض البدل فهو إجارة مشروطة في
البيع وإن لم يكن بمقابلتها شئ من البدل فهو إعارة مشروطة في العقد وكل واحد منهما
مفسد للعقد وان اشتراه مطلقا ثم تركه إلى وقت الادراك فإن كان الترك باذن البائع فالفضل
طيب للمشترى لأنه تبرع عليه بمنافع أرضه وإن كان الترك بغير إذن البائع فعليه أن يتصدق
بالفضل لأنه حصل له بكسب خبيث فإنه غاصب للأرض ولزيادة إنما حصلت بقوة الأرض
فكان بمنزلة من غصب أرضا وزرعها فعليه أن يتصدق بالفضل. قال (وان استأجر الأرض
مدة معلومة بأجر معلوم ليترك الفضل فيها فذلك جائز) لان استئجار الأرض صحيح إذا
كان المستأجر يتمكن من استيفاء منفعتها والتمكن هنا موجود لاشتغالها بزرعه بمعنى أنه
وصلت منفعة الأرض إلي زرعه فصار كأن زرعه استوفي منفعة الأرض وان استأجرها إلي
وقت الادراك فهو فاسد لجهالة المعقود عليه وقد يتقدم الادراك إذا تجعل الحر وقد يتأخر إذا
طال البرد ويلزمه أجر المثل لأنه استوفى في المنفعة بحكم عقد فاسد ولا يجاوز به ما سمى
لانعدام المقوم في الزيادة ثم يرفع من الغلة ما غرم فيه ويتصدق بالفضل لأنه حصل بحكم
عقد فاسد فتمكن فيه نوع خبيث. قال (ولا بأس بأن يبتاع زرع الحنطة بعد ما أدرك بغير
الحنطة عندنا) وعند الشافعي لا يجوز في أحد القولين لأنه اشترى ما لم يره وبيانه يأتي في
موضعه إن شاء الله تعالى. قال (وإذا كان الشئ مما يكال أو يوزن بين رجلين وهما نوعان فاقتسماه
مجازفة فأخذ أحدهما أحد النوعين والآخر النوع الآخر بغير كيل وأخذ كل واحد منهما
نصف نوع مجازفة فهو جائز إذا اصطلحا عليه) لأنهما جنسان مختلفان والمعاوضة عند اختلاف
الجنس يدا بيد يجوز كيف ما كان وكيل واحد منهما يأخذ نصف النوع الذي أخذه بتقديم
ملكه والنصف الآخر عوضا عما تركه لصاحبه من نصيبه في النوع الآخر وبيع الحنطة بالشعير
مجازفة يجوز. قال (ولا يجوز شراء اللبن في الضرع كيلا ولا مجازفة بدراهم أو غير ذلك أنهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر والغرر ما يكون مستور العاقبة ولا يدرى أن ما في الضرع
ريح أو دم أو لبن ولان البيع يختص بعين مال متقوم بنفسه واللبن في الضرع بمنزلة الصفة
في الحيوان ولا يكون مالا متقوما بنفسه قبل الحلب وأوصاف الحيوان لا تقبل البيع كاليد
والرجل ولان اللبن يزداد ساعة فساعة وتلك الزيادة لا يتناولها البيع واختلاط المبيع بما ليس
بمبيع من ملك البائع على وجه يتعذر تمييزه مبطل للبيع ثم تمكن المنازعة بينهما في التسليم
194

لان المشترى يستعصى في الحلب والبائع يطالبه بترك داعية اللبن وكذلك بيع أولادها في
بطونها لا يجوز لمعنى الغرور وانعدام المالية والتقوم فيه مقصودا قبل الانفصال وعجز البائع
عن تسليمه واستدل بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة منهم من يروى
بالكسر الحبلة فيتناول بيع الحمل ومنهم من يروى بالنصب الحبلة فيكون المراد بيع ما يحمل
هذا الحمل بأذن ولدت الناقة ثم حبلت ولدها فالمراد بيع حمل ولدها وقد كانوا في الجاهلية يعتادون
ذلك فأبطل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع المضامين والملاقيح وعن
بيع حبل الحبلة قيل المضامين ما تتضمنه الأصلاب والملاقيح ما تتضمنه الأرحام وقيل على عكس
هذا المضامين ما تضمه الأرحام والملاقيح ما تضمه الأصلاب وكذلك شراء أصوافها علي
ظهورها لان الصوف قبل الجزاز وصف للحيوان وليس بمال متقوم في نفسه ولان المنازعة بينهما
يتمكن في التسليم فان المشترى يستعصى في الجزاز والبائع يمنعه من ذلك وعن أبي يوسف
رحمه الله أنه جوز ذلك لان الصوف عين مال ظاهر وقاسه ببيع قوائم الخلاف وذلك جائز
والفرق بينهما على ظاهر الرواية ان النمو في أغصان الشجرة يكون من رأسه الا من أصلها فلا
يختلط ملك البائع بملك المشترى وأما النمو في الصوف يكون من أصله وذلك يتبين فيما إذا
حصب الصوف على ظهر الشاة ثم تركه حتى نما فالمحصوب يكون على رأسه لا في أصله فيختلط
ملك البائع بملك المشترى مع أن ما يكون متصلا بحيوان فهو وصف محض بخلاف ما يكون
متصلا بالشجرة فهو عين مال مقصود من وجه فيجوز بيعه لذلك. قال (وكل شئ اشتراه
من الثمار على رأس الشجر بصنف من غيره يدا بيد فلا بأس به وشراء الثمار قبل أن تصير
منتفعا بها لا يجوز) لأنه إذا كان بحيث لا يصلح لتناول بني آدم أو علف الدواب فهو ليس بمال
متقوم فان صار منتفعا به ولكن لم يبد صلاحه بعد بأن كأن لا يأمن العاهة والفساد عليه فاشتراه
بشرط القطع يجوز وان اشتراه بشرط الترك لا يجوز وان اشتراه مطلقا يجوز عندنا لان
مطلق العقد يقتضى تسليم المعقود عليه في الحال فهو وشرط القطع سواء وعند الشافعي لا يجوز
هذا العقد انهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبد وصلاحها أو قال حتى يزهى
أو قال حتى تؤمن العاهة وتأويله عندنا في البيع بشرط الترك بدليل قوله أرأيت لو أذهب
الله تعالى الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه المسلم وإنما يتوهم هذا إذا اشتري بشرط الترك
إلي أن يبدو صلاحها أما إذا اشتراها بعد ما بد اصلاحها إلا أنها لم تدرك بعد شرط القطع
195

يجوز وكذلك مطلقا ويؤمر بأن يقطعها في الحال مقتضي مطلق العقد وعند الشافعي رمه
الله يتركها إلى وقت الادراك لأنه هو المتعارف بين الناس ولو اشتراها بشرط الترك
فالعقد فاسد عندنا جائز عند الشافعي رحمه الله لأنه متعارف بين الناس ومن الشرائط في
العقود ما يجوز العرف كما إذا اشترى نعلا وشراكين بشرط أن يحذوها البائع ولكنا نقول إن
كان بمقابلة منفعة الترك شئ من البدل فهذه إجارة مشروطة في البيع وإن لم يكن فهي
إعارة مشروطة في البيع وقد ورد الشرع بالنهي عن ذلك حيث نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن صفقتين في صفقة وعن بيع وشرط وعن بيع وسلف وكل عرف ورد النص
بخلافه فهو غير معتبر ثم إن الثمار على رؤس الأشجار تزداد وهذه الزيادة تحدث من ملك
البائع بعد البيع فكأنه ضم المعدوم إلى الموجود واشتراهما فكان باطلا وفصل النعل مستحسن
من القياس ولا يتمكن في ذلك الشرط شراء المعدوم فاما إذا تناهى عظم الثمار وصار
بحيث لا يزداد ذلك ولكن لم ينضج فان اشتراه بشرط القطع أو مطلقا يجوز وان اشتراه
بشرط الترك ففي القياس العقد فاسد وهو قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لما قلنا وجوز
محمد العقد في هذا الفصل استحسانا لأنه شرط متعارف ومدة الترك يسيره وقد يتحمل
اليسير فيما لا يتحمل فيه الكثير مع أنه لا يؤخذ للزيادة من ملك البائع بعد هذا ولكن
الشمس تنضجه بتقدير الله ويأخذ اللون من القمر بتقدير الله والطعم من الكواكب بتقدير
الله فلم يبق فيه الا عمل الشمس والقمر والكواكب فلهذا قال محمد أستحسن أن أجوزه
بخلاف ما قبل أن يتناهى عظمه فان اشتراه مطلق ثم تركه إلى وقت الادراك فهو على قياس
ما قدمنا من التفصيل في الفصل الا في فصلين (أحدهما) ان هناك لو استأجر الأرض مدة
معلومة يجوز وهنا لو استأجر الأشجار مدة معلومة لا يجوز بحال لان استئجار الأرض
بالدراهم صحيح واستئجار الأشجار لا يجوز بحال (والثاني) ان هناك لو استأجر الأرض إلى
وقت الادراك يلزمه أجر المثل ولا يطيب له الفضل وهنا لا يلزمه شئ من الاجر ويطيب
له الفضل لان استئجار الأشجار لا يجوز له بحال فلا ينعقد العقد عليهما فاسدا أيضا وبدون
انعقاد العقد لا يجب الاجر وإذا صار العقد لغوا بقي مجرد الاذن والترك متى كان بأذن
البائع فالفضل يطيب له ولم يذكر فصلا آخر في الكتاب وهو ما إذا صار بعض الثمار
منتفعا به ولم يخرج البعض بعد أو لم يصر منتفعا به ولم يخرج البعض أو لم يصر منتفعا به
196

كالتين ونحوه فاشترى الكل فظاهر المذهب ان هذا العقد لا يجوز عندنا خلافا لمالك فإنه
يقول وجود صفة المالية والتقوم في شئ مما هو المقصود يجعل كوجوده في الكل للحاجة
إلى ذلك كما أن في باب الإجارة يجعل وجود جزء من المنفعة كوجود الكل في حق جواز
العقد أو يجعل ما خرج أصلا وما لم يخرج منه جعل تبعا له في حق جواز العقد لتعامل الناس
ولكنا نقول جمع في العقد بين المعدوم والموجود والمعدوم لا يقبل البيع وحصة الموجود من
البدل غير معلوم فلا يجوز العقد وجعل المعدوم حقيقة موجودا حكما للضرورة وذلك فيما
لا يقبل العقد بعد الوجود حقيقة فأما الثمار تقبل العقد بعد الوجود قال رضي الله عنه وكان
شيخنا الامام شمس الأئمة يفتى بجواز هذا البيع في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك
وهكذا حكى عن الشيخ الامام أبى بكر محمد بن الفضل قال أجعل الموجود أصلال في العقد
وما يحدث بعد ذلك تبعا قال أستحسن فيه لتعامل الناس فإنهم تعاملوا بيع ثمار الكرم بهذه
الصفة ولهم في ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس عن عادتهم حرج بين. قال وقد رأيت
رواية في هذا عن محمد وهو في بيع الورد على الأشجار فان الورد مثلا حق ثم جوز البيع
في الكل مطلقا بهذا الطريق قال الشيخ الامام ولكن الأول عندي أصح لان المصير إلى
هذا الطريق عند تحقق الضرورة ولا ضرورة في الباذنجان والبطيخ فإنه يمكنه ان يبع أصولها
حتى يكون ما يحدث من ملك المشتري له وفي الثمار كذلك فإنه يمكنه ان يشترى الموجود
المنتفع به ببعض الثمن ثم يؤخر العقد فيما بقي إلى أن يصير منتفعا به أو يشترى الموجود بجميع
الثمن ويحل للبائع ان ينتفع بما يحدث فيحصل مقصودهما بهذا الطريق. (قال وان اشترى
طعاما بطعام مثله فجعله له وترك الذي اشترى ولم يقبض حتى افترقا فلا بأس به عندنا) وقال
الشافعي يبطل البيع والتقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام من جنسه أو من خلاف
جنسه ليس بشرط عندنا وقال الشافعي هو شرط عندي واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم
في الأشياء الأربعة يدا بيد والمراد به القبض ألا ترى ان هذا اللفظ في الذهب والفضة
أفاد شرط القبض ثم قال في آخر الحديث وإذا اختلفا النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن
يكون يدا بيد وهذا ينصرف إلى جميع ما سبق ثم فهم منه في بيع الذهب والفضة شرط القبض
في المجلس فكذلك في الأشياء الأربعة ولان العقد جمع بين بدلين لو قوبل كل واحد منهما
بجنسه عينا يحرم التفاضل بينهما فيشترط القبض فيه في المجلس كبيع الذهب والفضة وهذا
197

لان بالاتفاق يحرم النساء هنا مع اختلاف الجنس وليس ذلك للتفاوت في المالية لان حقيقة
التفاضل عند اختلاف الجنس يجوز فعرفنا ان حرمة النساء لوجوب القبض في المجلس ولنا في
المسألة طريقان (أحدهما) ان القبض حكم للعقد فلا يشترط اقترانه بالعقد كالملك فإنه يجوز ان
يتأخر عن حالة العقد بخيار شرط أو نحوه وهذا لان حكم الشئ يعقبه ولا يقترن به وإنما
يقترن بالشئ شرطه والقبض في كل بيع إنما يستحق العقد فيكون حكم العقد لا شرطه
وساعات المجلس إنما تجعل كحالة العقد فيما هو شرط العقد فأما في الحكم مجلس العقد وما
بعده سواء وهذا بخلاف الصرف فالقبض الذي هو حكم العقد لا يشترط هناك عندنا وإنما
يشترط التعيين لان التعين شرط العقد بدليل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ
والنقود لا تتعين في العقود فكان اشتراط القبض للتعيين وليس أحد البدلين في الصرف بأولى
من الآخر بهذا شرطنا القبض فيهما للتعين وفى باب السلم شرطنا القبض في رأس المال للتعيين
حتى لا يكون دينا بدين ولكن ما يقابله وهو السلم فيه مؤجل فلا يشترط التعيين فيه بمقتضى
العقد ثم قد يرد عقد الصرف والسلم علي ما يتعين بالتعيين إلا أنه يشق على كل تاجر معرفة ما
يتعين ومعرفة مالا يتعين فأقام الشرع اسم الصرف والسلم مقام عدم التعيين في البدلين تيسيرا
علي الناس والطريقة (الثانية) ما علل في الكتاب وقال لأنه حاضر ليس له أجل ومعنى هذا أن
الحرمة باعتبار فضل في المالية حقيقة أو حكما باشتراط الاجل وذلك لا يوجد هنا فالتجار
لا يفصلون في المالية بين المقبوض في المجلس وبين غير المقبوض بعد أن يكون حالا وإذا
لم يتمكن فضل خالي عن المقابلة كان العقد جائزا كما في بيع العبيد والدواب بجنسه أو بغير
جنسه وأما الصرف والسلم فقد اختصا باسم شرعا واختصاصهما باسم لاختصاصهما بحكم
يقتضيه ذلك الاسم وهو صرف ما في يد كل واحد منهما إلى يد صاحبه بالقبض في المجلس
ولهذا شرطنا ذلك مع اختلاف الجنس والسلم أخذ عاجل بآجل فشرطنا التعجيل في أحد
البدلين بمقتضى الاسم وقد يؤخذ حكم العقد من اسمه كالكفالة والحوالة والنكاح فاما هذا
البيع كسائر البيوع في الاسم وكل واحد من العوضين فيه يتعين بالتعيين فيكون حكم العقد فيه
استحقاق التسليم لا وجوب القبض في المجلس كما في سائر البيوع وقد بينا في أول الكتاب
ان المراد من قوله صلى الله عليه وسلم يدا بيد أي عين بعين لان التعيين بالإشارة باليد كما أن
القبض يكون باليد فيصلح ذكر اليد كناية عنهما ولكن لو كان مراده القبض لقال من يد إلى
198

يد فلما قال يدا بيد عرفنا انه بمنزلة قوله عين بعين وأما بيع العبد بالعبدين والثوب بالثوبين
فجائز بدون القبض في المجلس لأنهما يفترقان عن عين بعين وكذلك بيع العبد والثوب بالنقد
لأنهما يفترقان عن عين بدين وذلك جائز ولو شرط فيه أجل يوم في العين كان فاسدا لأن العين
لا تقبل الاجل فالمقصود بالأجل أن يحصل في المدة فيسلمه وذلك في العين لا يتحقق
ولأنه منفعة في اشتراط الاجل في العين لا يدا بيد لا يسقط فيه بالتعرف بعد أن كان
مملوكا لغيره بالعقد لان الاجل لا يمنع الملك ولكن فيه ضرر على المشترى من حيث قصور
يده عن العين إلى مضى الاجل وجواز الشرط في العقد الانتفاع به لا لضرر بغيره. قال (وإذا
اشترى طعاما بطعام مثله واشترط أحدهما على صاحبه أن يوفيه طعامه في منزله لم يجز) لان
شرط المساواة عند اتحاد الجنس ثابت بالنص وبهذا الشرط متمكن في أحد الجانبين فضل
وهو منفعة الحمل إلى منزله ليوفيه فيه فتنعدم به المساواة وإن كان اشتراه بغير جنسه بأن اشتراه
خارجا من المصر وشرط أن يوفيه في منزله في المصر فالعقد فاسد أيضا لان وجوب التسليم
بالعقد في الموضع الذي فيه المعقود عليه فالمشترى يملك بنفس العقد وهو عين فإذا اشترط
لنفسه منفعة الحمل علي البائع فسد به العقد كما لو شرط أن يطحنه وإن كان اشتراه في المصر
وشرط أن يحمله إلى منزله فالعقد فاسد فان شرط ان يوفيه في منزله ففي القياس العقد فاسد
وهو قول محمد وفى الاستحسان هو جائز وهو قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى
وجه القياس ما بينا ان بنفس العقد صار المبيع مملوكا للمشترى في الموضع الذي فيه المعقود
عليه ففي اشتراط تسليمه في مكان آخر شرطه منفعة لا يقبضه العقد فإن كان بمقابلتها شئ
من البدل فهي إجارة مشروطة في البيع والا فهي إعارة مشروطة في البيع وذلك مفسد للبيع
كما لو اشتراها خارج المصر أو كان الشرط بلفظ الحمل وإنما استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف
للعرف فان الانسان يشترى الحطب في المصر ولا يكترى دابة أخرى لتحمله إلى منزله ولكن
البائع هو الذي يتكلف لذلك وما كان متعارفا وليس في عينه نص يبطله فالقول بجوازه
واجب لما في النزع عن العادة من حرج بين ومثل هذه العادة لا توجد خارج المصر بل إذا
اشترى الحنطة أو الحطب خارج المصر فالمشترى هو الذي يتكلف الحمل ذلك يوضحه أن
نواحي المصر كناحية واحدة حتى أن قيمة ماله حمل ومؤنة لا يختلف في نواحي المصر
بخلاف المصر مع القرية فقيمتها في المصر أكثر من قيمتها خارج المصر وما كان ذلك الا لان
199

المشترى هو الذي يتكلف بالنقل ثم هذا الاستحسان عند بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى في
لفظ الحمل والايفاء سواء وقالوا لا فرق خصوصا في لسان الفارسية بين أن يقول يسار نجاته
من أو بيادنخانه من أو يردادبخانه من والأصح هو الفرق من قبل أن الايفاء من مقضيات
العقد فالعقد يوجب ايفاء المعقود عليه لا محالة فكان شرط الايفاء ملائما لمقتضي العقد فاما الحمل
ليس من مقتضيات العقد ألا ترى أن العقد قد يخلو عنه بأن يسلمه إلى المشترى في ذلك
المكان وشرط الحمل لا يلائم مقتضى العقد فلهذا أخذنا فيه بالقياس. قال (وان اشترى شعيرا
بصوف متفاضلا فلا بأس به) لأنهما جنسان لاختلاف الاسم والهيئة والمقصود وأصلهما إن كان
نوعا واحدا ولكن باختلاف هذه المعاني يختلف الجنس مع اتحاد الأصل كالثياب المتخذة
من القطن وكذلك القطن بالكتان والمشاقة بالكتان لا بأس به متفاضلا لأنهما جنسان
مختلفان الا في رواية عن أبي يوسف قال المشاقة والكتان جنس واحد فلا يجوز بيع أحدهما
بالاخر الا وزنا بوزن بمنزلة أنواع التمر والحديد والنحاس كذلك جنسان لا بأس ببيع
أحدهما بالآخر متفاضلا ولا خير في أن يسلم هذا في شئ من الموزونات لان الكل موزون
بثمن وكذلك الأواني والمتخذة من الصفر والنحاس إذا كان يباع وزنا لا يجوز اسلامهما في
الموزونات أما أواني الذهب والفضة فيجوز اسلامهما في الموزونات من الزعفران والكسر
وغيرهما كما يجوز اسلام الدراهم في هذه الأشياء لان صفه الثمنية لها ثابتة بأصل الخلقة فلا
تتغير بالصفة وعند زفر لا يجوز لأنه موزون مثمن حتى يتعين بالعقد في التعيين فهذا كالمتخذ
من الصفر والحديد وإذا كان شرط المسلم طعاما وسطا فأعطاه أجود أو أردأ فرضى به
جاز لأنه ان أعطاه أجود فقد أحسن في قضاء الدين وان أعطاه أردأ فقد أحسن الآخر إلى
أسيره حين رضى منه به وأبرأه من صفة الجودة حين تجوز بدون حقه فجاز ذلك وذكر
الطحاوي انه لو أسلم إليه دراهم في حنطة فقبضها رب السلم فوجد بها عيبا وقد تعيب عنده
فان رضى المسلم إليه أن يقبلها مع العيب الحادث رد المقبوض وطالبه رب السلم بحقه وان أبى
أن يرضى لم يرجع رب السلم عليه بشئ في قول أبي حنيفة لان الفائت وصف ولا قيمة للصفة
في الأموال الربوية منفردة عن الأصل وعند محمد رجع بحصة نقصان العيب من رأس المال
لان بقدر ما يرجع يخرج من أن يكون رأس المال بمنزلة ما لو حط بعضه فلا يؤدى إلى الربا
إذا رجع بحصة العيب بهذا الطريق وقال أبو يوسف ان أبى المسلم إليه أن يقبل المعيب غرم
200

رب السلم طعاما قبل المقبوض ورجع بحقه وهو مستقيم على أصله في رد المثل عند تعذر رد
العين لصاحب الدين إذا وجد المقبوض زيوفا وقنا هلك في يده وفي اختلاف زفر ويعقوب
رحمهما الله. قال (لو قال لآخر اشتريت منك كر حنطة وسط إلى أجل كذا بهذه العشرة
دراهم على أن تؤديها إلى في مكان كذا فهو سلم جائز عندنا) وقال زفر لا يجوز لأنه بيع ما
ليس عند الانسان وهو منهى عنه شرعا وإنما الرخصة في السلم خاصة فإذا ذكر لفظ السلم
جاز بطريق الرخصة والا فهو فاسد ولا كنا نقول قد أتينا بمعنى السلم وذكر شرائطه والعبرة
للمعنى دون الألفاظ ألا ترى أنه لو قال ملكتك هذه العين بعشرة دراهم وقبل الاخر كان
بيعا وإن لم يذكر الفظ البيع وهذا على أصل زفر أظهر فإنه يجعل الهبة بشرط العوض بيعا ابتداءا
ثم ختم الباب بفصل من فصول التحالف وهو ما إذا اشترى عبدين وقبضهما وهلك أحدهما
عنده ثم اختلفا في الثمن فعلى قول أبي حنيفة القول قول المشترى ولا يتحالفان لا في القائم ولا
في الهالك إلا أن يشاء البائع ان يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئا وعند أبي يوسف القول
قول المشترى في حصة الهالك ويتحالفان ويترادان في الحي وعند محمد يتحالفان ويترادان القائم
وقيمة الهالك وهذا بناء على ما إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة فان عند أبي حنيفة وأبى
يوسف رحمهما الله هلاك السلعة يمنع جريان التحالف بينهما وعند محمد لا يمنع وبيان هذا الفصل
يأتي في بابه إن شاء الله فلما كان من أصل محمد أن هلاك جميع السلعة لا يمنع جريان التحالف فكذلك
هلاك البعض ثم بعد التحالف فسخ العقد في القائم منهما على العين ممكن فرد العين وفى الهالك
رد العين متعذر فيقوم رد القيمة مقام رد العين كما لو كان الكل هالكا عنده والقول في قيمة
الهالك قول المشترى مع يمينه لانكاره الزيادة بمنزلة الغاصب مع المغصوب منه إذا اختلفا في
قيمة المغصوب وعند أبي يوسف لو كانا قائمين فسخ العقد فيما بينهما بالتحالف ولو كانا هالكين
لم يجز التحالف بينهما فإذا مات أحدهما يعتبر كل واحد منهما في نفسه كما في الفسخ بسبب
الرد بالعيب ثم تفسير قوله أن المشترى يحلف بالله ما اشتراهما بألفين ثم يحلف البائع بالله
ما باعهما بألف كما يدعيه المشترى ولا يفضل أحدهما عن الآخر في اليمين لأنه إذا فضل
أحدهما عن الآخر في التحالف يفوت مقصود اليمين فكل واحد منهما يكون بارا في يمينه
وإن كان الحال كما يدعيه خصمه فلهذا يجمع بينهما في التحالف فإذا تحالفا ترد العين منهما
ثم يحلف المشترى في حصة الهالك بالله ما عليه من ثمنه الا خمسمائة إذا كانت قيمتهما سواء وإن
201

اختلفا في قيمة الهالك فينبغي أن يكون القول في قيمته قول البائع مع يمينه وان اختلفا في
قيمة الحي لتوزيع الثمن عليهما تحكم قيمته في الحال فإن كانت مثل ما يقوله البائع أو أقل
فالقول قول البائع مع يمينه وان كانت مثل ما يقوله المشترى أو أكثر منه فالقول قول
المشترى مع يمينه وان كانت فيما بين ذلك يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه
فإذا حلفا اعتبرت قيمته في الحال لتوزيع الثمن عليهما وأما بيان قول أبي حنيفة فإنه
يقول الصفقة صفقة واحدة والمقصود بالتحالف هو الفسخ فإذا تعذر ذلك بهلاك بعض
المعقود عليه يجعل بمنزلة ما لو تعذر بهلاك الكل ألا ترى أنهما لو كانا قائمين لم يستقم ثبوت
حكم التحالف والفسخ في أحدهما دون الآخر فكذلك بعد هلاك أحدهما بخلاف الرد
العيب لان العيب مما لا يمنع تمام الصفقة فإذا هلك أحدهما في يده ووجد بالآخر عيبا
فرده يكون هذا تفريقا للصفقة قبل التمام وذلك لم يجز بخلاف ما نحن فيه فان جهالة الثمن
تمنع تمام الصفقة فلو قلنا فإنه يجوز رده يكون القول في الثمن قول المشترى إلا أن شاء
البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الهالك شيئا فحينئذ يصير الهالك كأن لم يتناوله
العقد وكأنه ما اشترى الا القائم ثم عند ذلك يحلف المشترى بالله ما اشتراهما بألفين ثم
يحلف البائع بالله ما باعهما بألف لان من اشترى شيئين بألفين ثم حلف ما اشترى أحدهما
بألف كان صادقا وكذلك من باع شيئين بألف ثم حلف ما باع أحدهما بخمسمائة كان صادقا
فلهذا يجمع بينهما في التحالف فإذا تحالفا رد العين ولا شئ للبائع على المشترى في الهالك من
ثمن ولا قيمة لأنه قد أبرأه من ذلك حين رضى بأن يأخذ الحي فقط والله أعلم
(باب الوكالة في السلم)
قال (وإذا وكل الرجل الرجل أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة فأسلمها الوكيل بشروط
السلم ودفع الدراهم من عنده فهو جائز) لان السلم عقد تمليك الآمر بمباشرته بنفسه فيجوز منه
توكيل غيره به كبيع العين لان الوكيل يقوم مقام الموكل في تحصيل مقصوده وهذا
عقد يملك المأمور مباشرته لنفسه فيصح منه مباشرته لغيره بأمره كالبيع لان العاقد باشر العقد
بأهليته وولايته الأصلية سواء باشر لنفسه أو لغيره والأصل فيه قوله تعالى (فابعثوا أحدكم
202

بورقكم هذه إلى المدينة) الآية ومن دفع إلى آخر دراهم ليشترى بها شيئا فان المدفوع
إليه يكون وكيلا من جهة الدافع ورى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى حكيم
ابن حزام أو إلى عروة البارقي رضي الله عنهما دينارا ليشترى له به أضحية فدل أن التوكيل
جائز في البيع فكذلك في السلم لان السلم نوع بيع على ما عرف وكذلك الناس تعاملوا من
لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا التوكيل في البيع والسلم جميعا فإذا عرفنا
هذا فنقول الوكيل في السلم كالعاقد لنفسه في حقوق العقد حتى تتوجه عليه المطالبة بتسليم
رأس المال دون الموكل وكذلك حق قبض المسلم فيه عند حلول الأجل يكون للوكيل دون
الموكل وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله ذلك للموكل كله وعليه وأصل المسألة في البيع فان
حقوق العقد في البيع والشراء تتعلق بالوكيل عندنا وعند الشافعي رحمه الله بالموكل. قال (لان
الوكيل سفير ومعبر عنه بمنزلة الرسول فإذا عقد العقد خرج من السوط وصار في الحكم
كأن الموكل عقد بنفسه) ألا ترى أن ما هو حكم العقد وهو الملك يثبت للموكل دون
الوكيل فكذلك في سائر أحكامه وشبه هذا بالوكيل بالنكاح فإنه لا يتوجه عليه المطالبة بالصداق
ولا يكون له حق قبض المعقود عليه بل ذلك كله للموكل والجامع بينهما أن كل واحد منها
عقد معاوضة فتتعلق أحكامه بمن قصد تحصيله لنفسه دون من عبر عنه ولنا أن العاقد هو
الوكيل وسبب تعلق حقوق العقد بالمرء مباشرته العقد وثبوت الحكم باعتبار السبب فإذا
كان هو العاقد حقيقة وحكما تتعلق حقوق العقد به كما لو باشر العقد لنفسه وهذا لان ولايته
مباشرة العقد باعتبار أهليته وباعتبار كون ما هو ركن العقد وهو الكلام من خالص حقه
وذلك لا يختلف بمباشرته لنفسه أو لغيره ونفوذه شرعا باعتبار ولايته الأصلية لا أن يثبت
له بأمر الموكل إياه ولاية لم تكن ثابتة من قبل هذا لبيان أنه عاقد حقيقة وشرعا ومن
حيث الحكم فلانه مستغن عن إضافة العقد إلى الموكل ولو كان معبرا عنه لم يستغن عن
ذكره عند العقد فثبت أنه عاقد حكما مباشر للعقد بخلاف لرسول فإنه عبارة عن مبلغ الامر
إلى من أرسل إليه ولا يستغنى عن الإضافة إليه وكذلك الوكيل بالنكاح فإنه لا يستغنى عن
إضافة العقد إلى الموكل حتى لو قال تزوجتك كان النكاح له دون الموكل فاما حكم العقد
وهو الملك ففيه طريقان (أحدهما) أنه يثبت للوكيل ثم ينتقل منه إلى الموكل من ساعته كما اتفقا
عليه بالتوكيل السابق ومباشرته السبب تستدعي ثبوت الحكم إلا أنه يستقر له فيثبت أولا له
203

ثم ينتقل منه إلى غيره ولهذا لو كان قريبه لا يعتق عليه ولو كانت زوجته لا يفسد النكاح لان
ذلك يستدعى ملكا مستقرا ولا يثبت ذلك للوكيل وعلى الطريق الآخر وهو الأصح لسبب
انعقد حكمه موجبا للوكيل إلا أن الموكل قام مقامه في ثبوت الملك له بالتوكيل السابق
فيثبت للموكل على وجه الخلافة عن الوكيل كالعبد يقبل الهبة والصدقة ويصطاد فيقع
الملك فيه لمولاه على وجه الخلافة وإذا ثبت أن الوكيل كالعاقد لنفسه كان هو المطالب
بتسليم رأس المال فإذا نقده من عنده رجع بمثله على الامر لأنه نقد مال نفسه في عقد حصل
مقصود ذلك العقد للآمر فأمره إياه بالعقد يكون أمرا بأداء رأس المال من عنده علي أن
يرجع عليه بمثله وكذلك الوكيل هو الذي يقبض الطعام إذا حل الاجل بمنزلة العاقد لنفسه
والغنم بمقابلة الغرم فإذا كان هو المطالب بتسليم رأس المال كان حق قبض الطعام إليه أيضا
فإذا قبضه كان له حبسه حتى يستوفى الدراهم من الموكل عندنا خلافا لزفر كذلك الوكيل بالشراء
إذا نقد الثمن من مال نفسه وقبض السلعة كان له أن يحبسه أما إذا هلك في يده قبل أن
يحبسه فإنما يهلك من مال الموكل وللوكيل أن يرجع عليه بما أدى من الدراهم لأنه في أصل
القبض عامل له حتى يتعين به ملك الموكل في السلم ويتم ملكه به في المشترى فيكون
هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل فإن لم يهلك وأراد الوكيل حبسه بالثمن فله ذلك
عندنا وقال زفر ليس له ذلك لان الموكل صار قابضا بقبض الوكيل بدليل أن هلاكه في يد
الوكيل كهلاكه في يد الموكل فكأنه قبض حقيقة ثم دفعه إلى الوكيل وهذا لمعنيين
(أحدهما) أن المقبوض أمانة في يد الوكيل والثمن دين له على صاحبه وليس للأمين أن يحبس
الأمانة بدينه على صاحبها والثاني) أن الوكيل لما قبضه مع علمه أن الموكل يصير به قابضا فقد
رضى بقبض الموكل فكان بمنزلة ما لو سلمه إليه ثم أراد أن يسترده منه أو بمنزلة بائع سلم
السلعة إلى المشترى ثم أراد أن يستردها للحبس بالثمن ولنا أن الموكل ملك المشتري بعقد
باشره الوكيل ببدل استوجبه الوكيل عليه حالا والا فكان له أن يحبس العين به كالبائع مع
المشترى وهذا لان الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشترى إما لان الموكل يتلقي الملك
فيه من الوكيل بعوض ولهذا لو اختلف الوكيل والموكل في الثمن تحالفا ولو وجد به الموكل
عيبا رده على الوكيل قوله بأن الموكل صادر قابضا بقبض الوكيل ففيه طريقان (أحدها) أن
قبض الوكيل متردد لجواز أن يكون لضم مقصود الوكيل ويجوز أن يكون لاحياء
204

حق نفسه وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بحبسه فكان الامر فيه موهوما في الابتداء
إن لم يحبسه عنه عرفنا انه كان عاملا للموكل وان حبسه عنه عرفنا انه كان عاملا لنفسه وان
الموكل لم يصر قابضا بقبضه (والثاني) ان هذا قبض لا يمكن التحرز عنه لان الوكيل لا يتوصل
إلى الحبس ما لم يقبض ولا يمكنه أن يقبض على وجه لا يصير الموكل به قابضا وما لا يمكن
التحرز عنه فهو عفو فلا يسقط به حقه في الحبس لان سقوط حقه باعتبار رضاه بتسليمه ولا
يتحقق منه الرضا فيما لا طريق له الا التحرز عنه فإذا حبسه الوكيل وهلك في يده فعلي قول
زفر هو غاصب فعليه ضمان مثله وفى قول أبى يوسف يهلك في يده هلاك الرهن مضمونا
بالأقل من قيمته ومن الثمن وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يهلك هلاك المبيع
مضمونا بالثمن قل أو كثر وهذا الخلاف ذكره في كتاب الوكالة فأبو يوسف يقول إنما
كان مضمونا عليه بالحبس بحقه بعد أن لا يكون مضمونا فيكون في معنى المرهون بخلاف
المبيع فإنه مضمون بنفس العقد حبسه أو لم يحبسه يوضحه أنه يحبسه ليستوفي ما أدى عنه
من الدين والحبس للاستيفاء حكم الرهن ولان بهلاكه لا ينفسخ أصل البيع بخلاف المبيع
إذا هلك في يد البائع وسقوط الثمن هناك لانفساخ البيع وهما يقولان الوكيل مع الموكل
كالبائع مع المشترى بدليل ما بينا فكما أن المبيع إذا هلك في يد البائع سقط الثمن قل أو كثر
فكذلك هنا ولا نقول العقد لا ينفسخ هنا بل انفسخ فيما بين الموكل والوكيل وإن لم ينفسخ
في حق البائع وهو كما لو وجد الموكل بالمشترى عيبا فرده ورضي به الوكيل فإنه يلزم
الوكيل وينفسخ العقد فيما بينه وبين الموكل والدليل على أن هذا ليس نظير الرهن أن
هذا الحبس ثبت في النصف الشائع فيما يحتمل القسمة والحبس بحكم الرهن لا يثبت في
الجزء الشائع فيما يحتمل القسمة وإنما يثبت ذلك بحكم البيع فعرفنا أنه كالمبيع. قال (وإن كان
الوكيل دفع رأس المال من مال الموكل وأخذ بالسلم كفيلا أو رهنا فهو جائز) لان موجب
الرهن بثبوت يد الاستيفاء والوكيل يملك الاستيفاء حقيقة فيملك أخذ الرهن به والكفالة
للتوثيق والوكيل هو المطلب بالمسلم فيه فكان له أن يتوثق بأخذ الكفيل به لأنه ملك
المطالبة فملك التوثق بالمطالبة قال (فان حل السلم فأخره الوكيل مدة معلومة فهو جائز في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويضمن طعام السلم للموكل) وعلى قول أبى يوسف لا يصح
تأخيره وكذلك أن أبرأ المسلم إليه عن طعام السلم وأصل هذا أن طعام السلم أصل يقبل
205

الابراء قبل القبض وأصل هذا فيما إذا عقد لنفسه ثم أبرأه عن طعام السلم صح ابراؤه في
ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصح ما لم يقبل المسلم إليه فإذا قبل كان
فسخا لعقد السلم لأنه المسلم فيه مبيع وتمليك المبيع من البائع قبل القبض لا يجوز ما لم يقبل
فإذا قبل انفسخ العقد كالمشترى إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض ووجه ظاهر الرواية
أن المسلم فيه دين لا يستحق قبضه في المجلس فيصح الابراء عنه كالثمن في البيع بخلاف بدل
الصرف أو رأس مال السلم فان قبضه في المجلس مستحق وهذا لان استحقاق القبض في
المجلس للتعيين الذي هو شرط العقد والابراء مفوت لذلك وأما الدين الذي لا يستحق قبضه في
المجلس فتعيينه ليس شرطا لجواز اسقاط القبض فيه بالابراء يوضحه أن السلم فيه من حيث
أنه دين يجب بالعقد كان بمنزلة الثمن ومن حيث إن العقد يضاف إليه ويورد عليه كان بمنزلة
المبيع فتوفر حظه عليهما فنقول لشبهه بالبيع لا يجوز الاستبدال به قبل القبض ولشبهه بالثمن
يجوز اسقاط القبض فيه بالابراء إذا ثبت هذا فيما إذا كان عقد السلم فنقول لنفسه فكذلك
الجواب إذا كان وكيلا يصح ابراؤه ويضمن مثله للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله ولا يصح ابراؤه في قول أبى يوسف وكذلك الخلاف في المتاركة إذا تارك الوكيل
السلم مع المسلم إليه وكذلك الخلاف في الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشترى عن الثمن أو وهب
له أو أجله فيه صح ذلك وضمنه للموكل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو
يوسف لا يصح شئ من ذلك أستحسن ذلك وأدع القياس فيه قال محمد بن مقاتل وهذا
عجب من أبى يوسف يقول أستحسن والقياس ما قاله لان الثمن والمسلم فيه ملك الموكل فإنه
بدل ملكه وإنما يملك البدل بملك الأصل ألا ترى أن بقبضه يتعين ملك الموكل وإنما يتعين
بالقبض ملك من كان مالكا قبله فالوكيل تصرف في ملك الغير بخلاف ما أمره به فلا ينقذ
تصرفه كما لو قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه بخلاف ما أمره به فلا ينفذ تصرفه كما لو
قبضه فوهبه منه ودليل أن تصرفه ما أمره به ان الوكيل ضامن عندكم ولا يضمن
الا بالخلاف والدليل علي انه ملك الموكل ان الموكل لو كان هو الذي أبرأه عنه صح ولو
قبضه جاز قبضه وكذلك لو اشترى به شيئا أو صالح منه على عين بالثمن صح ولو كان
للمشترى على المكول دين فاشترى من الوكيل شيئا حتى وجب للموكل على المشترى
دين أيضا يصير قصاصا بدينه فبه يتبين أن الثمن الذي يجب بعقد الوكيل ملك الموكل
206

وان الزكاة في هذا المال تجب علي الموكل فعرفنا ان الملك له وجه قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله أن الوكيل تصرف في خالص حقه فينفذ تصرفه كما لو كان عاقدا لنفسه وبيان
الوصف في التأجيل ظاهر لأنه يؤخر المطالبة ولا يسقط أصل الثمن والمطالبة حق الوكيل
حتى ينفرد به عل وجه لا يملك أحد عزله عنه وليس لاحد أن يطالب الا بأمره وكذلك
الابراء فإنه اسقاط حق القبض والقبض خالص حقه لأنه حكم العقد وهو في حكم العقد
بمنزلة العاقد لنفسه بدليل أنه لا يعزله أحد عنه وأن المشترى لا يجبر على التسليم الا إليه
وإنما يخلفه الموكل في ملك المال بمقابلة ملكه والمال هو المقبوض دون الدين والدين ليس بمال حتى
أن من حلف أن لا مال له وله ديون على الناس لا يحنث فعرفنا أن القبض خالص حقه فيصح
اسقاطه بالابراء ثم يتعدى هذا التصرف إلى ابطال حق الموكل في المال باعتبار المال لأنه لو
قبض كان المقبوض ملكه وقد فات ذلك باسقاطه فيكون ضامنا له كالراهن إذا أعتق المرهون
ينفذ تصرفه لمصادفة حقه ويضمن قيمة المالية للمرتهن لأنه تلفه بتصرفه ملك المالية وكذلك أحد
الشريكين إذا أعتق وهو موسرا وهو مسقط للقبض على وجه يتضمن تمليك الدين ممن عليه
فمن حيث أنه اسقاط صح منه وبرئ المشترى ومن حيث أنه تمليك الثمن الذي هو حق
الموكل من المشترى صار ضامنا له كالوكيل بالشراء إذا رضي بالعيب والى الموكل أن يرضى
به فان رضي الوكيل يعتبر بانقطاع منازعته مع البائع غير معتبر في إلزام الموكل فيختص هو
بضرره وهذا لان الاسقاط أصل في الابراء ومعنى التمليك بيع ولهذا صح بدون القبول
وإن كان يرتد بالرد واما قبض الثمن فالمقبوض عين ملك الموكل فهبته بعد ذلك تصرف في
حق الغير وأما فصل المقاصة فهو على ثلاثة أوجه إن كان دين المشترى على الوكيل وهو مثل
الثمن يصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويضمن للموكل مثله وإن كان
دين المشترى على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق لان باعتبار المال الحق للموكل ولهذا لو
أسلم إليه المشترى جاز قبضه فيصير قصاصا بدينه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ويضمن
الموكل مثله وإن كان دين المشترى على الموكل يصير قصاصا بالاتفاق لان باعتبار المال الحق
للموكل فيصير قصاصا بدينه وإن كان الدين له على كل واحد منهما صار قصاصا بدين الوكيل
لأنه لو جعل قصاصا بدين الوكيل كان ضامنا للموكل مثله ثم يحتاج إلى قضاء دينه به وإذا
جعل قصاصا بدين الموكل لم يضمن أحد شيئا فرجحنا هذا الجانب لهذا والأب والوصي
(14 ثاني عشر مبسوط)
207

يصح ابراؤهما وتأجيلهما فيما وجب للصبي بعقدهما عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
وكانا ضامنين له فأما فيما وجب لا بعقد هما لا يصح لأنهما ثابتان أمرا بالتصرف في ماله على
وجه الأحسن وذلك لا يحصل بالابراء. قال (والتأجيل و المتاركة من الوكيل بالثمن صحيح في
حق المسلم إليه بخلاف الوكيل بالشراء فان إقالته لا تصح) لان هناك عين المشترى مملوك للموكل
فالاقالة تصرف منه في محل هو حق الغير وهنا المسلم فيه دين والثابت به حق القبض ما دام
في الذمة وهو حق الوكيل وان احتال بالمسلم فيه على ملي أو غير ملي جاز عليه خاصة ويضمن
للأم طعامه لأنه تصرف في خالص حقه بالتحويل من محل إلى محل فهو على الخلاف الذي
بينا في الابراء ويستوفى في حكم الضمان أن يكون المحتال عليه أعلا أو أسفل بخلاف الأب
والوصي فإنهما لو قبلا الحوالة على من هو أعلا لم يضمنا شيئا لأنه تصرف منهما في حق
الصبي علي وجه الأحسن وهما يملكان المبادلة في حقه بصفة النظر فإذا بادلا ذمة بذمة على
وجه النظر لم يضمنا والوكيل لا يملك مثله في حق الموكل فلهذا ضمنه. قال (وان اقتضى الطعام
أدون من شرطه فهو جائز) لأنه أبرأه عن صفة الجودة ولو أبرأه عن أصله جاز وضمن للموكل
مثل طعامه عندهما فكذلك إذا رضى بدون حقه وإذا عقد الوكيل السلم ثم أمر الموكل بأداء
رأس المال وذهب الوكيل بطل السلم لان وجوب قبض رأس المال قبل الافتراق من حقوق
العقد فيتعلق بالعاقد وهو الوكيل والموكل فيه كأجنبي آخر فلا معتبر ببقائه في المجلس بعد
ذهاب العاقد ولا بذهابه إذا بقي المتعاقدان في المجلس فإذا وكله أن يسلم له عشرة دراهم
في كر حنطة فأسلمها في قفيز حنطة فهو جائز على الوكيل دون الموكل لأنه وكيل بالشراء فالسلم
فيه مبيع ورب السلم مشترى والوكيل بالشراء لا يملك الشراء في حق الموكل بالغبن
الفاحش لما فيه من التهمة أنه باشر التصرف لنفسه ثم لما علم بالغبن أراد أن يلزمه الموكل فإذا نفذ
العقد عليه ضمن للموكل كل دراهمه لأنه قضى بدراهمه دين نفسه فان أسلمها في حنطة يكون
نقصانها عن رأس المال مما يتغابن الناس في مثله جاز على الموكل لان هنا العذر لا يستطاع
الامتناع عنه الا بحرج فكان عفوا في تصرفه لغيره شراء كان أو بيعا. قال (وإذ وكله أن
يسلم له عشره دراهم في طعام فالطعام الدقيق والحنطة عندنا استحسانا وفى القياس هذا
التوكيل باطل) لان اسم الطعام حقيقة لكل مطعوم بدليل ما لو حلف أن لا يأكل طعاما وما
لو أوصى للانسان بطعامه والمطعومات أجناس مختلفة وجهالة الجنس تمنع صحة الوكالة ولكنه
208

استحسن فقال السلم بيع والطعام إذا أطلق عند ذكر البيع والشراء يراد به الحنطة ودقيقها
فان سوق الطعام الموضع الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها وبائع الطعام من بيع الحنطة ودقيقها
دون من يبيع الفواكه وهذا لأن الشراء لا يتم الا بالبائع فكل ما يسمى بائعه بائع الطعام يصير
هو به مشتريا للطعام بخلاف الأكل فإنه يتم بالآكل والوصية تتم بالموصى فاعتبرنا فيهما
حقيقة الاسم قالوا وهذا إذا كانت الدراهم كثيرة فأما إذا كانت قليلة فإنما يتصرف إلى الخبز
فأما الدقيق ففيه روايتان وفى رواية هو بمنزلة الحنطة لأنه يذكر كما تذكر الحنطة وفي
رواية هو بمنزلة الخبز وهذا القياس والاستحسان ثابت في الوكيل بالشراء وإذا ثبت أن اسم
الطعام يتناول الحنطة ودقيقها فالتوكيل صحيح لأنه ان كثرت الدراهم عرفنا ان مراده الحنطة
فإذا قلت عرفنا أن مراده الدقيق والمعلوم دلالة كالمعلوم نصا فنقول إذا وكله بأن يسلم له دراهم في
طعام فأسلم في شعير أو غيره فهو مخالف وللموكل أن يضمن الوكيل دراهمه لان عقده نفذ على نفسه ثم
قضي بدراهم الآمر دين نفسه وان شاء الآمر أخذها من المسلم إليه لان المقبوض من الدراهم
عين ملكه فهو أحق به فان أخذها من المسلم إليه يبطل السلم فيما بينه وبين الوكيل وإن كان
قد فارقه لان رأس المال استحق انتقض القبض فيه من الأصل وإن لم يكن فارقه حتى أعطاه
مثلها كان السلم صحيحا بينهما لان المقبوض لما استحق فكأنه لم يقبض إلى آخر المجلس وعقد
السلم ما تعلق بعين تلك الدراهم بل تعلق بمثلها في ذمته وان أخذها من الوكيل يبقى عقد السلم
بينهما صحيحا لأنه يملك رأس المال بالضمان وإذا وكله بأن يأخذه دراهم في طعام مسمى فأخذها
الوكيل ثم دفعها إلى الموكل فالطعام على الوكيل وللوكيل علي الموكل دراهم قرض لان أصل
التوكيل باطل فان السلم إليه أمره ببيع الطعام في ذمته ولو أمره أن يبيع عين ماله علي أن
يكون الثمن للآمر كان باطلا فكذلك إذا أمره أن يبيع طعاما في ذمته وهذا لأنه إنما يعتبر
أمره فيما لا يملك المأمور بدون أمره وهو في قبول السلم في الطعام مستغنى عن أمر الغير
وقبول السلم من صنيع المفاليس فالتوكيل به باطل كالتكدي فالحاصل ان التوكيل من المسلم
إليه بقبول عقد السلم باطل والتوكيل من رب السلم باعطاء الدراهم في طعام السلم جائز وإذا
بطل التوكيل كان الوكيل عاقدا لنفسه فيجب الطعام في ذمته ورأس المال مملوك فإذا سلمه
إلي الآمر على وجه التمليك منه كان قرضا له عليه. قال (وإذا دفع إليه عشرة دراهم وأمره أن
يسلمها في ثوب لم تصح الوكالة حتى يتبين الجنس) لان الثياب أجناس مختلفة ومع جهالة الجنس
209

لا يقدر الوكيل على تحصيل مقصود الموكل فيبطل التوكيل فان الوكيل كان عاقدا لنفسه وروى
عن أبي يوسف أنه قال ينظر الوكيل إلى لباس الموكل فإذا اشترى الوكيل من جنس لباس
الموكل يجوز ويلزم الموكل لأن الظاهر أن الانسان إنما يأمر غيره بشراء الثوب ليلبسه
فيعتبر بثيابه فان سمى الموكل ثوبا يهوديا أو غيره جاز لان الجنس صار معلوما وإنما بقيت
الجهالة في الصفة ولا تأثير لجهالة الصفة في القعود المبينة على التوسع والوكالة بهذه الصفة فان
خالفه الوكيل فأسلم في غيره أو إلى غير الاجل الذي سماه كان عاقدا لنفسه وللموكل أن يضمنه
دراهمه فان ضمنه إياها جاز السلم وان ضمنها المسلم إليه بطل السلم لانتقاض قبضه في رأس
المال بعد الانتقاص من الأصل. قال (وإذا دفع الوكيل الدراهم سلمها علي ما أمره به الآمر ولم
يشهد على المسلم إليه بالاستيفاء ثم جاء المسلم إليه بدراهم زيوف يردها عليه فقال وجدتها فيها فهو
مصدق) لأنه ينكر استيفاء حقه فالقول قوله مع يمينه ويقضى له علي الوكيل ببدله ويرجع به
الوكيل على الموكل لأنه في تصرفه عامل له فيرجع عليه بما يلحقه بالعهدة وإن كان أشهد عليه
بالاستيفاء لم يصدق بعد ذلك علي ادعائه أنه زيف معناه إذا أقر المسلم إليه باستيفاء الجياد
أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال فهو مناقض بعد ذلك في دعواه أنه زيوف فلا يسمع
بعد ذلك منه ولا تقبل بينته عليه ولا يتوجه اليمين على خصمه فأما إذا أقر باستيفاء الدراهم
فاسم الدراهم يتناول الزيوف والجياد فلا يكون منا قضا في قوله وجدتها زيوفا. قال (وإذ
وكله بأن يسلم له عشرة دراهم من الدين الذي له عليه في حنطة فأسلمها له فهو عاقد لنفسه
حتى يقبض الطعام فيرده إلى الآمر مكان دينه) فحينئذ يسلم للآمر إذا تراضيا عليه في قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو جائز علي الآمر وكذلك لو أمره أن يصرفها
له بدنانير أو يشترى له بها شيئا سماه وجه قولهما أن الدين في ذمة المديون ملك صاحب الدين
بدليل أن يطالبه بالتسليم وينفرد باستيفاء جنسه من ماله ويشترى منها شيئا فيجوز فإنما أضاف
التوكيل إلى ملكه وذلك صحيح كما لو كانت الدراهم وديعة له في يده أو غصبا فوكله أن يشترى
له بها والدليل عليه انه لو عين المسلم إليه بقوله أسلمها في طعام إلي فلان أو عين البائع أو المبيع
بقوله اشترى لي بها عبد فلان فإنه يصح فكذلك إذا أطلق لان تسمية من يعامله الوكيل
ليس بشرط لصحة الوكالة يوضحه أنه لو قال تصدق بمالي عليك علي المساكين يجوز بمنزلة
ما لو قال تصدق به على فلان فكذلك إذا أمره بالشراء به ولأبي حنيفة حرفان (أحدهما) أنه
210

أمره بصرف في الدين إلى من يختاره المديون بنفسه وذلك باطل كما لو قال ادفع مالي عليك
من الدين إلى من يثبت أو ألقه في البحر كان صحيحا والمعنى في الفرق أن المديون إنما يقضى
الدين بملك نفسه وهو في تصرفه في ملك نفسه بالدفع إلى الغير لا يحتاج إلى اذن الآمر
فكان وجود أمره كعدمه فأما في العين تصرفه في ملك الغير ولا يملك ذلك الا باذن
من له الحق وهذا بخلاف ما إذا عين المسلم إليه أو البائع لان من أمره بالصرف إليه هناك
معلوم فكان أمره معتبرا في توكيله ذلك الرجل بالقبض له أولا ثم لنفسه وكذلك إذا عين
المتاع لان بتعينه يتعين المالك فالانسان في العادة يشترى الشئ من مالكه وهنا لا يمكن اعتبار
أمره في توكيل القابض بقبضه لأنه توكيل المجهول وذلك باطل وهذا بخلاف قوله تصدق
بمالي عليك لان المتصدق يجعل المال لله تعالي ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله
تعالى فلا جهالة فيمن أمره أن يجعل ذلك له فهو بمنزلة ما لو أمره بالدفع إلى آدمي عينه (والثاني)
أن بعقد السلم يجب رأس المال على الوكيل ثم يجب له مثله على الموكل فأما أن يكون هو
مقرضا له في ذمته ليقضى به دينا عليه وذلك لا يجوز أو أمره له بان يقبض من نفسه
ثم يقضى به دينا عليه وذلك لا يجوز يوضحه أن يقيم الوكيل مقام نفسه فيما يأمره به من
التصرف وهو بنفسه له أسلم الدين الذي له على زيد إلى عمرو في طعام لا يجوز فكذلك
إذا وكل المديون بان يفعل له ذلك وبه يظهر الفرق بين الدين والعين ولكن الاعتماد على
الحرف الأول قال (وإذا وكل الرجل الرجلين ان يسلما له عشرة دراهم في طعام فأسلمها
أحدهما لم يجز) لان عقد السلم يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير كبيع العين وهو إنما رضى برأي
المثنى ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فان أسلماها ثم تارك أحدهما مع المسلم إليه السلم
لم يجز عندهم جميعا أما عند أبي يوسف لان الوكيل بالسلم لا يملك المشاركة ولو تاركا
لم يجز فكذلك إذا تارك أحدهما وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لان الوكيلين لو
عقدا لأنفسهما ثم تارك أحدهما لم يجز بغير رضى الآخر فإذا كان وكيلين أولى قال
(وإذا عقد الوكيل السلم ثم اقتضى الآمر الطعام فهو جائز استحسانا وفى القياس لا يجوز)
لان القبض من حكم العقد والموكل منه كسائر الأجانب ألا ترى أن الايفاء لم يجب
على المسلم إليه بطلبه فكذلك لا يبرأ بالتسليم إليه وجه الاستحسان أن يقبض الوكيل
بتعين ملك الموكل فكان الموكل في هذا القبض عاملا لنفسه في تعيين ملكه فهو يكفي
211

الوكيل مؤونة القبض والتسليم إليه ولا يلحق به ضرر في تصرفه يوضحه أنا لو نقضنا
قبضه احتجنا إلى اعادته بعينه في الحال لأنه يرده علي المسلم إليه فيقبضه الوكيل منه ثم
يسلمه إلى الموكل وهذا اشتغال بما لا يفيد والقاضي لا يشتغل بما لا لا يفيد ولا ينقص شيئا
ليعيد وان تارك السلم إليه مع الموكل جاز لأنه قائم مقام العاقد في ملك المعقود عليه فتصح
منه المتاركة كما تصح من وارث رب السلم بعد الموت وإن لم يتاركه فأراد قبض الطعام
منه فللمسلم إليه أن يمتنع من دفعه إليه لان المطالبة بالتسليم تتوجه بالعقد والموكل من العقد
أجنبي فمطالبته لا تلزم المسلم إليه الدفع إليه. قال (وإذا دفع إلى رجل عشرة دراهم ليسلمها
في طعام فناول الوكيل رجلا فبايعه فان أضاف العقد إلى دراهم الآمر كان العقد للآمر وان
أضافه إلى دراهم نفسه كان عاقدا لنفسه) لأن الظاهر يدل على ذلك ولان فعله محمول على ما
يحمل وفيما يعقد لنفسه لا يحل له إضافة العقد إلي دراهم غيره وان عقد السلم بعشره مطلقة
ثم نواها للآمر فالعقد له وإن لم تحضره نية فان دفع دراهم نفسه فالعقد له وان دفع دراهم
الآمر فهو للآمر في قول أبى يوسف وقال محمد هو عاقد لنفسه ما لم ينو عند العقد أنه للآمر وان
تكاذبا في النية فقال الآمر نويته لي وقال المأمور نويته لنفسي فالطعام للذي نقد دراهمه
بالاتفاق فمحمد يقول الأصل ان كل أحد يعمل لنفسه إلا أن يقترن بعمله دليل يدل على أنه
يعمل لغيره وذلك بإضافة العقد إلى دراهم الغير أو النية للغير فإذا انعدم ذلك كان عاملا
لنفسه ولا يمكن أن يجعل نقد الدراهم دليلا على ذلك لان نقد الدراهم لا يقترن بالعقد بل
يكون بعده وبعد ما أوقع العقد له لا يتحول إلى غيره وان نقد دراهم الغير وبه فارق التكاذب
لان النقد موجود عند التكاذب فيمكن أن يجعل دليلا من حيث شهادة الظاهر لأحدهما
لأن الظاهر أنه فيما عقد لنفسه لا ينقد دراهم الغير فإذا كان المنقود دراهم الآمر فالظاهر
يشهد له فكان القول قوله يوضحه أن بقبول الوكالة من الغير لا يحيل ولايته علي نفسه وقبل
قبول الوكالة كان مطلق عقده لنفسه فكذلك بعد قبول الوكالة لان تلك الولاية باقية بعد
قبول الوكالة كما كانت قبله ولان موجب العقد وقوع الملك له في الطعام للعاقد إلا أنه إذا نوى
للموكل فالموكل يخلفه في ذلك الملك والمصير إلى الخلف عند فوات ما هو الأصل وعند
اطلاق العقد ما هو الأصل ممكن الاعتبار فلا يضاف إلى الخلف وأبو يوسف يقول العقد
والنقد كشئ واحد حكما لان النقد وإن كان بعد العقد صورة فهو كالمقترن بالعقد إذا لو لم
212

يجعل كذلك كان دينا بدين وذلك لا يجوز والدليل عليه أن بعدما نقد الدراهم لو أراد أن
يستردها ليعطى غيرها لم يملك كما لو اقترن التعيين بالعقد بأن أضاف العقد إلى دراهم الآمر
ثم أراد أن يدفع غيرها ويجعل العقد لنفسه لم يملك ذلك فإذا صار كشئ واحد فهو دليل ظاهر
على من وقع العقد له فيجب تحكمه كما في حالة التكاذب يوضحه أنه بعد قبول الوكالة يعقد
للموكل بولايته الأصلية كما يعقد لنفسه ولهذا تعلق به حقوق العقد في الوجهين فإذا استوى
الجانبان يصار إلى ترجيح أحدهما بالنقد كما يصار إليه عند التكاذب وفرق أبو يوسف بين
هذا وبين المأمور بالحج عن الغير إذا أطلق النية عند الاحرام فإنه يكون عاقدا لنفسه فان
الحج عبادة والعبادات لا تتأدى الا بالنية فكان مأمورا بأن ينوى عن المحجوج عنه ولم يفعل
فصار مخالفا بترك ما هو الركن وأما في المعاملات فالنية ليست بركن فلا يصير بترك النية
عن الآمر مخالفا فيبقي حكم عقده موقوفا على النقد. قال (وان وكله بثوب يبيعه بدراهم
فأسلمه في طعام إلى أجل فهو عاقد لنفسه) لأنه خالف ما أمره به نصا وان أمره ببيعه ولم يسم
له الثمن فأسلمه في طعام جاز على الآمر في قول أبي حنيفة ولم يجز في قولهما وهذه فصول
(أحدها) أن الوكيل في البيع مطلقا يبيع بالنقد والنسيئة عندنا وقال الشافعي لا يبيع الا
بالنقد لان مطلق التوكيل بالبيع معتبر بمطلق ايجاب البيع ومطلق ايجاب البيع ينصرف
إلى الثمن الحال دون النسيئة فكذلك مطلق التوكيل وهذا لان الاجل شرط زائد على ما يتم
به العقد فلا يثبت الاذن فيه الا بالتنصيص ولكنا نقول أمره ببيع مطلق فلا يجوز اثبات
التقييد فيه من غير دليل والتقييد بالثمن الحال بعدم صفة الاطلاق ولا دلالة عليه في كلامه
نصا ولا عرفا فالبيع بالنسيئة معتاد بين التجار كالبيع بالنقد وربما يكون البيع بالنسيئة أقرب
إلى تحصيل مقصودهما وهو الربح والدليل عليه ان المضارب والأب والوصي يملكون البيع
بالنسيئة وأما مطلق ايجاب البيع فإنما يحمله على النقد لتعذر اعتبار الاطلاق فان البيع يستدعى
صفة معينة في الثمن ألا ترى أنه لو قال بعته منك بالنقد والنسيئة لا يجوز وفى التوكيل
لا يوجد مثل هذا فالتوكيل صحيح بدون تعيين أحد الوصفين حتى لو قال بعته بالنقد أو بالنسيئة
يجوز ثم فيل علي قول أبي حنيفة يجوز بيعه بثمن مؤجل طالت المدة أو قصرت وعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله يجوز بأجل متعارف ولو أجله مدة غير متعارفة في مثل تلك السلعة لا يجوز
بمنزلة البيع بالغبن الفاحش عندهما وعند أبي يوسف. قال (ان أمره بالبيع على وجه التجارة فله
213

أن يبيعه بالنسيئة أما إذا أمره بالبيع لحاجته إلى النفقة أو إلى قضاء دينه فليس له أن يبيعه
بالنسيئة ولو باعه بغبن جاز عند أبي حنيفة سواء كان الغبن يسيرا أو فاحشا وعندهما لا
يجوز بيعه بغبن فاحش لان دليل العرف يفيد مطلق التوكيل حتى يتقيد التوكيل بشراء
الأضحية بأيام النحر والتوكيل بشراء الفحم زمان الشتاء والحمد بزمان الصيف فإنه إذا وكله ان
يشترى له حمدا في الشتاء يكون مشتريا لنفسه وإن كان التوكيل مطلقا فصح ما ذكرنا والبيع
بغبن فاحش ليس بمتعارف فالظاهر أنما يستعين بغيره فيما يعجز عن مباشرته بنفسه وهو لا
يعجز عن بيع ما يساوى مائة درهم بعشرة دراهم وقاسا بالوكيل بالشراء فان شراءه بالغبن
الفاحش لا ينفذ على الآمر كذلك الوكيل بالبيع لان كل واحد منهما أمر بما هو من صنيع
التجار وكذلك الأب والوصي لا يملكان بيع مال اليتيم بغبن فاحش لهذا المعنى ولان
المحاباة الفاحشة كالهبة حتى إذا حصلت من المريض تعتبر من الثلث والوكيل بالبيع لا يملك
الهبة وأبو حنيفة يقول أمره بمطلق البيع وقد أتى به لان البيع مبادلة مال بمال شرطا
وقد وجد ذلك فما من جزء من المبيع الا ويقابله جزء من الثمن ألا ترى أن المبيع لو كان
دارا يجب لشفيع الشفعة في جميعه وبه يتبين أنه بيع وليس بهبة وبان اعتبر من الثلث في
حق المريض هذا لا يدل على أنه ليس بيع مطلق وان الوكيل لا يملكه كالبيع بغبن يسير
والدليل عليه أن من حلف لا يبيع فباع بغبن فاحش يحنث ولا يحنث الا بكمال الشرط
فعرفنا أنه بيع مطلق فيصير الوكيل به ممتثلا للآمر فانا لو قيدنا بالبيع بمثل القيمة أبطلنا حكم
الاطلاق من كلامه وذلك لا يجوز من غير دليل فأما العرف الذي قال قلنا هذا مشترك
فالانسان قد يبيع الشئ تبريا منه ولا يبالي عند ذلك بقلة الثمن وكثرته وقد يبيعه لطلب
الربح فعند ذلك لا يبيعه بالغين عادة وبالمشترك لا يبطل حكم الاطلاق ثم البيع بالغبن
متعارف فالمقصود من البيع الربح وذلك لا يحصل الا وأن يصير أحدهما مغبونا والانسان
يرغب في شراء ما يساوى عشرة بدرهم ولكن لا يجد ذلك فأما أن لا يكون متعارفا فلا ثم
العرف لا يعارض النص والاطلاق ثابت بالنص فلا يبطل بالعرف كما في اليمين فان العرف
كما يعتبر في الوكالة يعتبر في اليمين وما ذكر من مسألة الا ضحية وغيرها فهي مروية عن أبي
يوسف فأما عند أبي حنيفة يعتبر الاطلاق في جميع ذلك ودليل التقييد التهمة في الموضع
الذي يثبت التقييد فيه ولهذا قال أبو حنيفة الوكيل بالبيع لا يبيع من أبيه وابنه للتهمة ولا تهمة
214

في بيعه من الأجنبي بقليل القيمة لان ما يستوفى من الثمن يسلمه إلى الآمر قل أو كثر
وبه فارق الوكيل بالشراء فهناك التهمة متمكنة فربما اشتراه لنفسه فلما علم بالغبن أراد أن
يلزمه الآمر ولان الوكيل بالشراء كما يستوجب الثمن في ذمة نفسه يوجب لنفسه مثله في
ذمة الآمر والانسان متهم في حق نفسه فلا يملك أن يلزم ذمة الآمر الثمن ما لم يدخل
في ملكه بإزائه ما يعدله ولهذا لو قال اشتريت وقبضت الثمن وهلك في يدي فهات
الثمن فإنه لا يقبل قوله بخلاف الوكيل بالبيع فإنه لو قال بعت وقبضت الثمن وهلك عندي كان
القول قوله ولان أمره بالشراء يلاقى ملك الغير وليس للانسان ولاية مطلقة في ملك
الغير فلا يعتبر اطلاق أمره فيه بخلاف البيع فان أمره يلاقى ملك نفسه وله في ملك نفسه
ولاية مطلقة ولان اعتبار العموم والاطلاق في الوكيل بالشراء غير ممكن لأنه لو اعتبر
ذلك اشترى ذلك المتاع بجميع ما يملكه الموكل وبما لا يملكه من المال ونحن نعلم أنه لم يقصد
ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو الشراء بالنقد بالغبن اليسير وفى جانب البيع اعتبار
العموم والاطلاق ممكن لأنه لا يتسلط به علي شئ من ماله سوي المبيع الذي رضى بزوال
ملكه وهذا بخلاف الأب والوصي لان ولايتهما مقيدة بالأنظر والأصلح ولا يوجد في
البيع بالغبن الفاحش وعلى هذا الخلاف لو باعه الوكيل بعرض يجوز عند أبي حنيفة لاطلاق
الآمر ولا يجوز عندهما لان البيع بعرض شراء من وجه فكل واحد منهما في بدل صاحبه
مشترى وإنما أمره بالبيع فلا يملك به ما هو متردد بين البيع والشراء وأبو حنيفة يقول فعله
فيما يتناوله الآمر بيع من كل وجه لأنه يزيله عن ملكه بعرض هو مال والبيع ليس إلا هذا ثم
جانب البيع يترجح علي جانب الشراء في البيع ألا ترى أن أحد المضاربين إذا اشترى بغير إذن
صاحبه كان مشتريا لنفسه ولو باع بغير أن صاحبه شيئا من مال المضاربة يتوقف على
إجازة صاحبه فان باعه بعرض يتوقف أيضا فان أجاز صاحبه كان تصرفه على المضاربة فعرفنا
أن جانب البيع يترجح فيه وعلى هذا لو باعه الوكيل بمكيل أو موزون فعند أبي حنيفة يجوز
على الآمر وعندهما لا يجوز إلا أن يبعه بالنقد إذا عرفنا هذا فنقول إذا أسلم الثوب في طعام
إلى أجل فقد أزال الثوب عن ملكه بالطعام وذلك جائز علي الآمر عند أبي حنيفة وعندهما
لا يجوز لأنه لم يبعه بالنقد والتوكيل الصرف إليه خاصة. قال (وإذا وكله بالسلم فادخل الوكيل
في العقد شرطا أفسده لم يضمنه الوكيل لأنه لم يخالف وإنما يضمن الوكيل بالخلاف لا بالافساد)
215

وهذا لأنا لو ضمناه بافساد العقد تحرز الناس عن قبول الوكالات فكل أحد لا يكون كأبي حنيفة
في العلم باحكام والأسباب المقيدة للعقد. قال (وأكره توكيل الذمي يعقد له السلم وان فعله يجوز
لان الذمي لا يتحرز عن الربا وعن مباشرة العقد الفاسد إما لجهله بذلك أو لاعتقاده أو قصده
أن يوكل المسلم الحرام فلهذا يكره له أن يأتمنه على ذلك ويجوز له ان فعله) لان عقد السلم من
المعاملات وهم في ذلك يستوون بالمسلمين. قال (وليس للوكيل بالسلم أن يوكل غيره به) لان
هذا عقد يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير والموكل رضي برأيه دون رأى غيره بخلاف المضارب
يوكل بالسلم فيجوز لان رب المال قد رضي برأيه وبتوكيله حنى فوض إليه الاسترباح عاما وذلك
بتجارة حاضرة وغائبة وإذا اشتغل بأحدهما بنفسه فلا يجد بدا من أن يستعين فيه بالآخر
بخلاف الوكيل إلا أن يكون الآمر قال له ما صنعت فيه من شئ فهو جائز فيجوز حينئذ لأنه
أجاز صنيعه عاما والتوكيل من صنعه فيدخل في عموم اجازته ولا يجوز للمسلم عقد بيع ولا
يسلم لنفسه على الخمر ولا للكافر لان الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وهو العاقد عليها
سواء عقده عل ذلك لنفسه أو لكافر بخلاف المسلم يتوكل عن المجوسي في أن يزوجه
مجوسية فيجوز ذلك لان الوكيل في النكاح معبر لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل
فيعتبر جانب الموكل وفى البيع والسلم هو عاقد لنفسه ليستغني عن الإضافة في العقد إلى غيره
فيعتبر جانبه. قال (وان وكل المسلم الذمي بأن يشترى له خمرا أو يسلم له فيها ففعل ذلك مع
ذمي جاز علي الآمر في قول أبي حنيفة وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو
مشترى لنفسه) لان المسلم لا يملك هذا العقد لنفسه بنفسه فلا يصح توكيل غيره به كما لو
وكل المسلم مجوسيا بان يزوجه مجوسية وهذا لأنه لو نفد عقده علي الآمر ملك المسلم الخمر
بالعقد ولا يجوز أن يملك المسلم الخمر بعقد التجارة وهذا منهما نوع استحسان فكأنهما يقولان
في البيع والشراء طرفان طرف العقد وطرف الملك فكما أن الكافر إذا وكل به المسلم لا
يجوز لاعتبار طرف العقد فكذلك المسلم إذا وكل الكافر به لا يجوز لاعتبار طرف الملك
بل أولى لأن العقد سبب الملك والثابت به الملك في المحل وهو المقصود فإذا وجبت مراعاة
جانب العقد فلان تجب مراعاة جانب الملك أولى وأبو حنيفة يقول الذي ولى الصفقة هو
الوكيل والخمر مال متقوم في حقه يملك أن يشتريها لنفسه فيملك أن يشتريها لغيره وهذا
لان الممتنع ههنا بسبب الاسلام هو العقد علي الخمر لا الملك فالمسلم من أهل أن يملك الخمر ألا ترى
216

أنه ذا تخمر عصير المسلم يبقي مملوكا له وإذا مات قريبه عن خمر يملكها بالإرث وهنا ان اعتبرنا
جانب العقد فالعاقد من أهله وهو في حقوق العقد كالعاقد لنفسه وان اعتبرنا جانب الملك
فللمسلم من أهل ملك الخمر فيصح التوكيل ألا ترى أن في جانب العقد افساد التوكيل إذا
كان الوكيل مسلما يعتبر جانب العقد دون الملك فكذلك في جانب تصيح الوكالة وبه فارق
النكاح فالوكيل في باب النكاح سفير ومعبر فكان العاقد هو الموكل وقوله بأن الموكل يملك
الخمر بالعقد فليس كذلك بل العقد يوجب الملك للعاقد ثم الموكل يخلفه في ذلك على ما قررنا
والمسلم من أهل ان يملك الخمر بهذا الطريق كما إذا أذن لعبده الكافر في التجارة فاشترى العبد
خمرا فان المولى يملكها على سبيل الخلافة عنه وكذلك المكاتب إذا كان كافرا واشترى خمرا
ثم عجز فمولاه المسلم يملكها بطريق الخلافة عنه وفرقهما أن العبد والمكاتب يتصرفان لأنفسهما
ولهذا لا يرجعان على المولى بعهدة تصرفهما فلهذا اعتبرنا حالهما فأما الوكيل فيتصرف للموكل
حتى يرجع عليه بما يلحقه من العهدة ويكون الموكل في قرار العهدة عليه كأنه باشر التصرف
بنفسه فكذلك في عقد الوكيل له على الخمر فإذا تعذر تنفيذ العقد على الآمر نفذ العقد
على الوكيل. قال (وإذا وكل الرجل الرجل بدراهم يسلمها له في طعام فصر فها الوكيل
بدراهم غيرها فقد خالف في العقد فكان مباشرا العقد لنفسه ضامنا لما صرفه من دراهم
الآمر بعد ذلك) وكذلك لو كان المدفوع دينارا فصرفه بدراهم ثم أسلمها في طعام
فهو للوكيل لأنه خالف في العقد والبدل ثم أسلم بدراهم نفسه في الطعام فكان الطعام له
وهو ضامن للدنانير. قال (وإذا وكله رجلان أن يسلم لهما في طعام واحد ولكن من غير
خلط جاز لأنه حصل مقصود كل واحد منهما بكماله) فلا فرق بين أن يفعل ذلك
في عقدة أو عقدتين وإذا خلط الدراهم ثم أسلمها في الطعام كان مخالفا ضامنا لان دراهم كل
واحد منهما في يده أمانة فيصير بالخلط ضامنا متملكا كما هو أصل أبي حنيفة ثم أضاف عقد
السلم إلي دراهم نفسه فكان الطعام له بخلاف الأول فلم يوجد هناك خلط موجب للضمان وإنما
حصل الاختلاط في المسلم فيه حكما لاتحاد العقد حكما وبمثله لا يصير الأمين ضامنا وان
أسلم دراهم كل واحد منهما عن حدة إلى رجل واحد ثم اقتضى شيئا فادعى كل واحد
منهما أي الامرين أنه من حقه فالقول قول المسلم إليه لأنه هو الملك لما يوفي من الطعام
فرجع في بيان ما يتملك إليه فإن كان هو غائبا فالقول قول الوكيل لأنه أحد المتعاقدين ولان
217

كل واحد منهما إنما يتملك بعقد باشره الوكيل فعند الاشتباه يرجع في البيان إليه فإذا قدم
المسلم إليه وكذب الوكيل فالقول قول المسلم إليه لأنه هو الأصل في هذا البيان وسقط
اعتبار الخلف عند ظهور الأصل وان أسلم الوكيل إلى نفسه فهو باطل لان الواحد في عقد
التجارة لا يصلح أن يكون مباشرا للعقد من الجانبين لما فيه من تضاد الاحكام فإنه يكون
مملكا متملكا مسلما متسلما مخاصما متخاصما وذلك لا يجوز ولأنه متهم في حق نفسه وقد بينا
أن التهمة تخصص الامر المطلق * وكذلك * لو أسلم إلي شريك له مفاوض لأنهما بعقد
المفاوضة صار كشخص واحد في عقود التجارة فكل واحد منهما مطالب بما يجب علي صاحبه
فهو وما أسلم إلى نفسه سواء * وكذلك * ان أسلم إلي عبده لان كسب العبد لمولاه
فهو متهم في ذلك * وكذلك * إلى مكاتبه لان له حق الملك في كسب المكاتب وينقلب ذلك
صحيحا حقيقة ملك يعجزه فان أسلم إلى شريك له عنان جاز إذا لم يكن من تجارتهما لان
كل واحد منهما من صاحبه كسائر الأجانب فيما ليس من تجارتهما حق تجوز شهادة كل
واحد منهما لصاحبه فيما ليس من تجارتهما فان أسلمها إلى ابنه أو إلى أحد أبويه أو زوجته
ممن لا تقبل شهادته له لم يجز عند أبي حنيفة وهو جائز في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله
لاثه ليس لواحد منهما في مال صاحبه ملك ولا حق ملك فكان بمنزلة ما لو أسلم إلى أخيه انه يجوز
وهذا بخلاف الشهادة لان ذلك خير ممثل بين الصدق والكذب فلا يترجح جانب الصدق
فيها مع تمكن تهمة الميل وأبو حنيفة يقول مطلق الوكالة تتقيد بالتهمة وكل واحد منهما متهم
في حق صاحبه بدليل أنه لا تقبل شهادته له فكان اسلامه إليه كاسلامه إلى عبده ومكاتبه
وهذا لان تصرف الوكيل إنما يكون في حق الغير والظاهر من حال المرء إيثار ولده
وزوجته علي الأجنبي وسوي هذا في المسألة كلام وخلاف في معاملة الوكيل مع هؤلاء
بمثل القيمة أو بالغبن اليسير وقد أملينا تمام ذلك في كتاب الوكالة وإذا وكل الوكيل بالسلم
رجلا بقبض المسلم فيه ممن عليه فقبضه برئ المسلم إليه منه لان الوكيل في حق القبض
كالعاقد لنفسه حتى يختص بالمطالبة به ولو كان عاقدا لنفسه كان قبض وكيله في براءة
المسلم كقبضه بنفسه فإن كان الوكيل الثاني عبدا للوكيل الأول أو ابنه في عياله أو أجير له فهو
جائز على الآمر حتى لو هلك في يده هلك من مال الآمر والمراد الأجير الخاص الذي استأجره
مشاهرة أو مسانهة لان يد هؤلاء في الحفظ كيده ألا ترى أنه لو قبض بنفسه ثم سلم إلي
218

واحد من هؤلاء ثم هلك لا يجب الضمان على واحد وإن كان الوكيل الثاني أجنبيا فالوكيل
الأول ضامن للطعام إن ضاع في يد وكيله لان قبض وكيله كقبضه بنفسه ولو قبضه بنفسه ثم
دفعه إلى أجنبي كان ضامنا فكذلك هنا وإن لم يذكر ان الوكيل الثاني هل يكون ضامنا في حق
رب المسلم فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا يكون ضامنا بمنزلة مودع المودع وقد بينا
الخلاف فيه وفي الوديعة وان وصل إلى الوكيل الأول برئ هو ووكيله عن ضمانه كما لو قبض
الوكيل الأول بنفسه إذ لا فرق بين أن يصل إلى يده من يد المسلم إليه أو من يد وكيله فلهذا
لا ضمان فيه على أحد فإذا أسلم الوكيل الدراهم إلى امرأة جاز * وكذلك * لو كان الموكل أو
الوكيل امرأة يجوز لان هذا من باب المعاملات فيستوى فيه الرجال النساء والله تعالى أعلم
(تم الجزء الثاني عشر من كتاب المبسوط ويليه الجزء الثالث عشر)
(وأوله باب البيوع الفاسدة)
219