الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ١
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة شيخ الاسلام موفق الدين
* (أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة) * المتوفي سنة 620
على مختصر * (أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي) *
المتوفى سنة 334 ه‍
على مذهب إمام الأئمة ومحيي السنة الإمام * (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل
الشيباني رضي الله عنه وعنهم وجزاهم عن أنفسهم وعن المسلمين أفضل الجزاء
الجزء الأول
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(قال الإمام العالم الأوحد، الصدر الكامل، السيد الفاضل، شيخ الاسلام سيد العلماء إمام أهل
السنة بقية السلف مفتي الأمة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي
الله عنه وأرضاه كما اختاره لنصر دينه وارتضاه).
الحمد لله بارئ البريات، وغافر الخطيئات، وعالم الخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل
شئ علما، ووسع كل شئ رحمة وحلما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا
يحيطون به علما) لا تدركه الابصار، ولا تغيره الاعصار، ولا تتوهمه الأفكار (وكل شئ عنده بمقدار)
أتقن ما صنع وأحكمه، وأحصى كل شئ وعلمه وخلق الانسان وعلمه، ورفع قدر العلم وعظمه، وحظره على من
استرذله وحرمه، وخص به من خلقه من كرمه، وحض عباده المؤمنين على النفير للتفقه في الدين فقال
تعالى وهو أصدق القائلين (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ندبهم إلى انذار بريته، كما ندب إلى ذلك أهل رسالته، ومنحهم ميراث
أهل نبوته، ورضيهم للقيام بحجته، والنيابة عنه في الاخبار بشريعته، واختصهم من بين عباده بخشيته،
فقال تعالى (أنما يخشى الله من عباده العلماء) ثم أمر سائر الناس بسؤالهم، والرجوع إلى أقوالهم، وجعل
علامة زيغهم وضلالهم، ذهاب علمائهم، واتخاذ الرؤوس من جهالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله لا يقبض
العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء
جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " وصلى الله على خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، وإمام العلماء،
وأكرم من مشى تحت أديم السماء، محمد نبي الرحمة، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة، والكاشف برسالته
جلابيب الغمة، وخير نبي بعث إلى خير أمة، أرسله الله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه
وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
2

أما بعد فإن الله برحمته وطوله، وقوته وحوله، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم
من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم، واقتداؤهم بأئمتهم
وفقهائهم. وجعل هذه الأمة مع علمائها، كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة
يقتدى بها، وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الاعلام، مهد بهم قواعد الاسلام،
وأوضح بهم مشكلات الأحكام. اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، تحيا القلوب بأخبارهم،
وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم، ثم اختص منهم نفرا أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم،
فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يفتى فقهاء الاسلام، وكان إمامنا [أبو عبد الله أحمد بن محمد بن محمد
ابن حنبل رضي الله عنه] من أوفاهم فضيلة، وأقربهم إلى الله وسيلة، وأتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وأعلمهم به، وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه، فلذلك وقع اختيارنا على مذهبه. وقد أحببت أن أشرح
مذهبه واختياره، ليعلم ذلك من اقتفى آثاره، وأبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه،
وأذكر لكل إمام ما ذهب إليه، تبركا بهم، وتعريفا لمذاهبهم، وأشير إلى دليل بعض أقوالهم على سبيل
الاختصار، والاقتصار من ذلك على المختار، وأعزو ما أمكنني عزوه من الاخبار، إلى كتب الأئمة من علماء
الآثار، ليحصل الثقة بمدلولها، والتمييز بين صحيحها ومعلولها، فيعتمد على معروفها، ويعرض عن مجهولها
ثم بنيت ذلك على شرح مختصر (أبى القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي) رحمه الله لكونه
كتابا مباركا نافعا، ومختصرا موجزا جامعا، ومؤلفه إمام كبير صالح ذو دين أخو ورع، جمع العلم والعمل،
فنتبرك بكتابه، ونجعل الشرح مرتبا على مسائله وأبوابه، ونبدأ في كل مسألة بشرحها وتبيينها، وما دلت
عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها، ثم نتبع ذلك ما يشابهها مما ليس بمذكور في الكتاب، فتحصل المسائل
كتراجم الأبواب: وبالله أستعين فيما أقصده، وأتوكل عليه فيما أعتمده، وإياه أسأل أن يوفقنا ويجعل سعينا
مقربا إليه، ومزلفا لديه برحمته، فنقول وبالله التوفيق.
قال أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي رحمة الله عليه
قال القاضي الإمام أبو يعلى رحمه الله كان الخرقي علامة بارعا في مذهب أبي عبد الله وكان ذا دين وأخا
ورع. وقال القاضي أبو الحسين: كانت له المصنفات الكثيرة في المذهب ولم ينشر منها إلا المختصر في الفقه لأنه
خرج من مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة بها وأودع كتبه في دار سليمان فاحترقت الدار والكتب
3

فيها - قرأ العلم على من قرأه على أبي بكر المروذي وحرب الكرماني وصالح وعبد الله ابني أحمد وروى عن
أبيه أبي علي الحسين بن عبد الله وكان أبو علي فقيها صحب أصحاب أحمد وأكثر صحبته لأبي بكر المروذي
وقرأ على أبي القاسم الخرقي جماعة من شيوخ المذهب منهم أبو عبد الله بن بطة وأبو الحسن التميمي وأبو
الحسين بن سمعون: وقال أبو عبد الله بن بطة: توفي أبو القاسم الخرقي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ودفن
بدمشق وزرت قبره وسمعت من يذكر ان سبب موته أنه أنكر منكرا بدمشق فضرب وكان موته بذلك
وقال رحمه الله (اختصرت هذا الكتاب) يعني قربته وقللت ألفاظه وأوجزته. والاختصار
تقليل الشئ فقد يكون اختصار الكتاب بتقليل مسائله وقد يكون بتقليل ألفاظه مع تأدية المعنى،
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا " ومن ذلك
مختصرات الطرق وفي الحديث " الجهاد مختصر طريق الجنة " وقد نهي عن اختصار السجود ومعناه
جمع آي السجدات فيقرؤها في وقت واحد. وقيل هو أن يحذف الآية التي فيها السجدة فلا يقرأها.
وفائدة الاختصار التقريب والتسهيل على من أراد تعلمه وحفظه فإن الكلام يختصر ليحفظ ويطول ليفهم.
وقد ذكر رحمه الله مقصوده بالاختصار فقال
(ليقرب على متعلمه) أي يسهل عليه ويقل تعبه في تعلمه
وقوله (على مذهب أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه) فهو الإمام أبو عبد الله
أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن ذهل
ابن شيبان بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن
دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان يلتقي نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في نزار لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد مضر بن نزار وأحمد من ولد ربيعة بن نزار. قال عبد الله
ابن أحمد: قال أبي ولدت سنة أربع وستين ومائة. وقال عبد الله ومات في ربيع الآخر سنة إحدى
وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. حملت به أمه بمرو وولدته ببغداد ونشأ بها وسافر في طلب العلم
أسفارا كثيرة ثم رجع إلى بغداد وتوفي بها بعد أن ساد أهل عصره ونصر الله به دينه. قال أبو عبيد القاسم
ابن سلام ليس في شرق ولا غرب مثل أحمد بن حنبل ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه. وقال الإمام أبو عبد الله
محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه: أحمد بن حنبل إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث
4

إمام في الفقه إمام في القرآن إمام في اللغة إمام في الفقر إمام في الزهد إمام في الورع إمام في السنة. وقال
عبد الرحمن بن مهدي فيه وهو صغير لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماما في بطن أمه. وقال أبو عمر
ابن النحاس الرملي - وذكر أحمد بن حنبل -: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه،
وبالصالحين رحمه الله ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها، واختصه الله سبحانه بنصر
دينه، والقيام بحفظ سنته، ورضيه لإقامة حجته، ونصر كلامه حين عجز عنه الناس. قيل لبشر بن الحارث
حين ضرب أحمد يا أبا نصر لو أنك خرجت فقلت إني على قول أحمد بن حنبل! فقال بشر أتريدون
أن أقوم مقام الأنبياء؟ ان أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء. وقال علي بن شعيب الطوسي كان احمد
ابن حنبل عندنا المثل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم " انه كائن في أمتي ما كان في بني إسرائيل حتى أن
المنشار ليوضع على مفرق رأس أحدهم ما يصده ذلك عن دينه " ولولا أن أبا عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل قام بهذا الشأن لكان عارا وشنارا علينا إلى يوم القيامة ان قوما سئلوا فلم يخرج منهم
أحد. وفضائله وما قاله الأئمة في مدحه كثير وليس هاهنا موضع استقصائه وقد صنف فيه غير واحد
من الأئمة كتبا مفردة وإنما غرضنا هنا الإشارة إلى نكتة من فضله، وذكر نسبه ومولده ومبلغ عمره
إذ لا يحسن من متمسك بمذهبه ومتفقه على طريقته أن يجهل هذا القدر من إمامه. ونسأل الله الكريم أن
يجمع بيننا وبينه في دار كرامته، والدرجات العلى من جنته، وأن يجعل عملنا صالحا، ويجعله لوجهه خالصا،
ويجعل سعينا مقربا إليه مبلغا إلى رضوانه انه جواد كريم.
قال أبو القاسم رحمه الله * (باب ما تكون به الطهارة من الماء) *
التقدير هذا باب ما تكون به الطهارة من الماء فحذف المبتدأ للعلم به وقوله تكون الطهارة أي
يحصل وتحدث وهي هاهنا تامة غير محتاجة إلى خبر ومتى كانت تامة كانت بمعنى الحدث والحصول نقول كان
5

الامر أي حدث ووقع قال الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) أي ان وجد ذو عسرة وقال الشاعر
إذا كان الشتاء فادفئوني * فإن الشيخ يهرمه الشتاء
أي إذا جاء الشتاء وفي نسخة مقروءة على ابن عقيل (باب ما تجوز به الطهارة من الماء) ومعناهما متقارب
الطهارة في اللغة النزاهة عن الأقذار وفي الشرع رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع
حكمه بالتراب فعند اطلاق لفظ الطهارة في لفظ الشارع أو كلام الفقهاء ينصرف إلى الموضوع الشرعي
دون اللغوي (1) وكذلك كل ماله موضوع شرعي ولغوي إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعي
كالوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوه لأن الظاهر من صاحب الشرع التكلم بموضوعاته
والطهور بضم الطاء المصدر قاله اليزيدي والطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو الذي يطهر
غيره مثل الغسول الذي يغسل به وقال بعض الحنفية هو من الأسماء اللازمة بمعنى الطاهر سواء لأن
العرب لا تفرق بين الفاعل والفعول في التعدي واللزوم فما كان فاعله لازما كان فعوله لازما بدليل
قاعد وقعود ونائم ونؤوم وضارب وضروب. وهذا غير صحيح فإن الله تعالى قال (ليطهركم به) وروى
جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي نصرت بالرعب مسيرة
شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " متفق عليه ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية لأنه
طاهر في حق كل أحد وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فقال " هو الطهور ماؤه الحل
ميتته " ولو لم يكن الطهور متعديا لم يكن ذلك جوابا للقوم حيث سألوه عن التعدي إذ ليس كل طاهر
مطهرا. وما ذكروه لا يستقيم لأن العرب فرقت بين الفاعل والفعول فقالت قاعد لمن وجد منه
القعود، وقعود لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق بينهما هاهنا وليس الا من حيث التعدي واللزوم (2)
6

* (مسألة) * قال أبو القاسم رحمه الله (والطهارة بالماء الطاهر المطلق الذي لا يضاف إلى
اسم شئ غيره مثل ماء الباقلا وماء الورد وماء الحمص وماء الزعفران وما أشبهه مما لا يزايل
اسمه اسم الماء في وقت).
قوله (والطهارة) مبتدأ خبره محذوف تقديره والطهارة مباحة أو جائزة أو نحو ذلك والألف واللام
للاستغراق فكأنه قال وكل طهارة جائزة بكل ماء طاهر مطلق. والطاهر ما ليس بنجس والمطلق
ما ليس بمضاف إلى شئ غيره وهو معنى قوله لا يضاف إلى اسم شئ غيره وإنما ذكره صفة له وتبيينا
ثم مثل الإضافة فقال: مثل ماء الباقلا وماء الورد وماء الحمص وماء الزعفران وما أشبهه وقوله (مما لا يزايل
اسمه اسم الماء في وقت) صفة للشئ الذي يضاف إليه الماء ومعناه لا يفارق اسمه اسم الماء - والمزايلة
المفارقة قال الله تعالى (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) وقال أبو طاب * وقد طاوعوا أمر
العدو المزايل * أي المفارق - أي لا يذكر الماء إلا مضافا إلى المخالط له في الغالب ويفيد هذا الوصف
الاحتراز من المضاف إلى مكانه ومقره كماء النهر والبئر فإنه إذا زال عن مكانه زالت النسبة في الغالب
وكذلك ما تغيرت رائحته تغيرا يسيرا فإنه لا يضاف في الغالب وقال القاضي: هذا احتراز من المتغير
بالتراب لأنه يصفو عنه ويزايل اسمه. وقد دلت هذه المسألة على أحكام (منها) إباحة الطهارة بكل
7

ماء موصوف بهذه الصفة التي ذكرها على أي صفة كان من أصل الخلقة من الحرارة والبرودة والعذوبة
والملوحة نزل من السماء أو نبع من الأرض في بحر أو نهر أو بئر أو غدير أو غير ذلك وقد دل على ذلك
قول الله (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) وقوله سبحانه (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شئ " وقوله في البحر " هو الطهور ماؤه الحل
ميتته " وهذا قول عامة أهل العلم إلا أنه حكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو انهما قالا في
البحر: التيمم أعجب إلينا منه وهو نادر وحكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب والأول أولى لقول الله
تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وماء البحر ماء فلا يجوز العدول إلى التيمم مع وجوده، وروي عن
أبي هريرة قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل
من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل
ميتته " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح، وروي عن عمر
رضي الله عنه أنه قال: من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله - ولأنه ماء باق على أصل خلقته فجاز
الوضوء به كالعذب وقولهم هو نار إن أريد به انه نار في الحال فهو خلاف الحس وإن أريد انه بصير
نارا لم يمنع ذلك الوضوء به حال كونه ماء.
(ومنها) ان الطهارة من النجاسة لا تحصل إلا بما يحصل به طهارة الحدث لدخوله في عموم الطهارة
وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وزفر وقال أبو حنيفة يجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر
8

مزيل العين والأثر كالخل وماء الورد ونحوهما وروي عن أحمد ما يدل على مثل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا " أطلق الغسل فتقييده بالماء يحتاج إلى دليل ولأنه
مائع طاهر مزيل فجازت إزالة النجاسة به كالماء فاما مالا يزيل كالمرق واللبن فلا خلاف في أن النجاسة
لا تزال به، ولنا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاسماء بنت أبي بكر " إذا أصاب ثوب إحداكن
الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه " أخرجه البخاري وعن أنس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذنوب من ماء فاهريق على بول الاعرابي متفق عليه وهذا أمر يقتضي الوجوب
ولأنها طهارة تراد للصلاة فلا تحصل بغير الماء كطهارة الحدث ومطلق حديثهم مقيد بحديثنا والماء
يختص بتحصيل إحدى الطهارتين فكذلك الأخرى (1).
(ومنها) اختصاص حصول الطهارة بالماء لتخصيصه إياه بالذكر فلا يحصل بمائع سواه وبهذا قال:
مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو يوسف، وروي عن علي رضي الله عنه - وليس بثابت عنه - أنه كان
لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وبه قال الحسن والأوزاعي وقال عكرمة النبيذ وضوء من لم يجد الماء وقال
إسحاق النبيذ حلوا أحب إلي من التيمم وجمعهما أحب إلي وعن أبي حنيفة كقول عكرمة وقيل عنه
يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر لما روى ابن مسعود، أنه كان مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فأراد أن يصلي صلاة الفجر فقال " أمعك وضوء؟ فقال لا معي إداوة
9

فيها نبيذ فقال (تمرة طيبة وماء طهور) ولنا قول الله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا نص في
الانتقال إلى التراب عند عدم الماء (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الصعيد الطيب وضوء المسلم وان لم يجد
الماء عشر سنين " رواه أبو داود ولأنه لا يجوز الوضوء به في الحضر أو مع وجود الماء فأشبه الخل والمرق
وحديثهم لا يثبت وراوية أبو زيد مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث ولا يعرف
بصحبة عبد الله قاله الترمذي وابن المنذر، وقد روي عن ابن مسعود أنه سئل هل كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال ما كان معه منا أحد رواه أبو داود وروى مسلم باسناده عن ابن مسعود قال لم
أكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وودت أني كنت معه.
* (فصل) * فاما غير النبيذ من المائعات غير الماء كالخل والدهن والمرق واللبن فلا خلاف بين أهل العلم
فيما نعلم أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل لأن الله تعالى أثبت الطهورية للماء بقوله تعالى (وينزل عليكم من
السماء ماء ليطهركم به) وهذا لا يقع عليه اسم الماء.
(ومنها) أن المضاف لا تحصل به الطهارة وهو على ثلاثة أضرب (أحدها) مالا تحصل به الطهارة
رواية واحدة وهو على ثلاث أنواع (أحدها) ما اعتصر من الطاهرات كماء الورد وماء القرنفل وما ينزل
من عروق الشجر إذا قطعت رطبة (الثاني) ما خالطه طاهر فغير اسمه وغلب على أجزائه حتى صار صبغا
أو حبر أو خلا أو مرقا ونحو ذلك (الثالث) ما طبخ فيه طاهر فتغير به كماء الباقلا المغلي فجميع هذه الأنواع
لا يجوز الوضوء بها ولا الغسل. لا نعلم فيه خلافا إلا ما حكي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة

(1) فيه أنه خاص بالوضوء والغسل وفيهما معنى التعبد ولذلك اشترط الجمهور فيهما النية والتيمم يقوم مقامها في المعنى التعبدي دون النظافة.
10

أنها طهور يرتفع بها الحدث ويزال بها النجس، ولأصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلا المغلي وسائر
من بلغنا قوله من أهل العلم على خلافهم. قال أبو بكر بن المنذر أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم
أن الوضوء غير جائز بماء الورد وماء الشجر وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه
اسم الماء، ولأن الطهارة إنما تجوز بالماء وهذا لا يقع عليه اسم الماء باطلاقه (1).
* (الضرب الثاني) * ما خالطه طاهر يمكن التحرز منه فغير إحدى صفاته - طعمه أو لونه أو ريحه كماء
الباقلا وماء الحمص وماء الزعفران، واختلف أهل العلم في الوضوء به واختلفت الرواية عن إمامنا رحمه
الله في ذلك فروي عنه لا تحصل الطهارة به وهو قول مالك والشافعي وإسحاق. قال القاضي أبو يعلى

(1) مدرك غير الجمهور في هذا الماء المضاف انه ماء قطعا خالصه طاهر قليل لا يزيل قوته المرادة للتطهير وإنما يضاف إلى غيره
للتمييز كماء الورد وماء الزهر فهو كالخمر التي يخالطها ماء وطيب لا نخرج عن كونها خمرا فهو كالضرب الثاني بخلاف الخل والنبيذ إذا حلا أو ثخن فإنه لا يسمى ماء البتة باطلاق ولا إضافة
11

وهي أصح وهي المنصورة عند أصحابنا في الخلاف، ونقل عن أحمد جماعة من أصحابه منهم أبو الحارث
والميموني وإسحاق بن منصور جواز الوضوء به وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه لأن الله تعالى قال
(فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا عام في كل ماء لأنه نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم فلا
يجوز التيمم مع وجوده، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر " التراب كافيك ما لم تجد الماء "
وهذا واجد للماء، ولان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الادم والغالب أنها
تغير الماء فلم ينقل عنهم تيمم مع وجود شئ من تلك المياه، ولأنه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم
الماء ولا رقته ولا جريانه فأشبه المتغير بالدهن - ووجه الأولى أنه ماء تغير بمخالطة ما ليس بطهور يمكن
الاحتراز منه فلم يجز الوضوء به كماء الباقلا المغلي، ولأنه زال عن اطلاقه فأشبه المغلي. إذا ثبت هذا
فإن أصحابنا لم يفرقوا بين المذرور في الماء مما يختلط بالماء كالزعفران والعصفر والأشنان ونحوه وبين
الحبوب من الباقلا والحمص والثمر كالتمر والزبيب والورق وأشباه ذلك، وقال أصحاب الشافعي ما كان
مذرورا منع إذا غير الماء وما عداه لا يمنع إلا أن ينحل في الماء، وإن غيره من غير انحلال لم يسلب
طهوريته لأنه تغير مجاورة أشبه تغيير الكافور، ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان وخالفوهم في
سائر ما ذكرنا لأن تغير الماء به إنما كان لانفصال أجزاء منه إلى الماء وانحلالها فيه فوجب أن يمنع كما لو
طبخ فيه، ولأنه ماء تغير بمخالطة طاهر يمكن صونه عنه أشبه ما لو أغلي فيه.
* (الضرب الثالث) * من المضاف ما يجوز الوضوء به رواية واحدة وهو أربعة أنواع (أحدها) ما أضيف
إلى محله ومقره كماء النهر والبئر وأشباههما لهذا لا ينفك منه ماء وهي إضافة إلى غير مخالط وهذا
لا خلاف فيه بين أهل العلم (الثاني) مالا يمكن التحرز منه كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء
وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء أو تحمله الريح فتلقيه فيه وما تجذبه السيول من العيدان
والتبن نحوه فتلقيه في الماء وما هو قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به أو
12

كان في الأرض التي يقف الماء فيها وهذا كله يعفى عنه لأنه يشق التحرز منه فإن أخذ شئ من ذلك
فألقي في الماء وغيره كان حكمه حكم ما يمكن التحرز منه من الزعفران ونحوه لأن الاحتراز منه ممكن
(الثالث) ما يوافق الماء في صفتيه الطهارة والطهورية كالتراب إذا غير الماء لا يمنع الطهورية لأنه طاهر
مطهر كالماء فإن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء لم تجز الطهارة به لأنه طين وليس بماء ولا فرق في
التراب بين وقوعه في الماء عن قصد أو غير قصد وكذلك الملح الذي أصله الماء كالبحري والملح
الذي ينعقد من الماء الذي يرسل على السبخة فيصير ملحا فلا يسلب الطهورية لأن أصله الماء فهو كالجليد
والثلج وإن كان معدنيا ليس أصله الماء فهو كالزعفران وغيره (الرابع) ما يتغير به الماء بمجاورته من
غير مخالطة كالدهن على اختلاف أنواعه والطاهرات الصلبة كالعود والكافور والعنبر إذا لم يهلك في
الماء ولم يمع فيه لا يخرج به عن اطلاقه لأنه تغيير مجاورة أشبه ما لو تروح الماء بريح شئ على جانبه
ولا نعلم في هذه الأنواع خلافا. وفي معنى المتغير بالدهن ما تغير بالقطران والزفت والشمع لأن في ذلك
دهنية يتغير بها الماء تغير مجاورة فلا يمنع كالدهن.
(فصل) والماء الآجن وهو الذي يتغير بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شئ يغيره باق على
اطلاقه في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على أن الوضوء
بالماء الآجن من غير نجاسة حلت فيه جائز غير ابن سيرين فإنه كره ذلك وقول الجمهور أولى فإنه
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر كأن ماءه نقاعة الحناء ولأنه تغير من غير مخالطة
13

(فصل) وإذا كان على العضو طاهر كالزعفران والعجين فتغير به الماء وقت غسله لم يمنع حصول
الطهارة به لأنه تغير في محل التطهير أشبه ما لو تغير الماء الذي تزال به النجاسة في محلها.
" مسألة " قال (وما سقط فيه مما ذكرنا أو من غيره وكان يسيرا فلم يوجد له طعم ولا
لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضئ به).
(قوله) مما ذكرنا يعني الباقلا والحمص والورد والزعفران وغيره يعني من الطاهرات سواه وقوله
حتى ينسب الماء إليه أي يضاف إليه على ما قدمنا واعتبر الكثرة في الرائحة دون غيرها من الصفات
لأن لها سراية ونفوذا فإنها تحصل عن مجاورة تارة وعن مخالطة أخرى فاعتبر الكثرة فيها ليعلم أنها
عن مخالطة قال ابن عقيل غير الخرقي من أصحابنا ذهب إلى التسوية بين الرائحة واللون والطعم لأنها
صفة من صفات الماء فأشبهت اللون والطعم وقال القاضي يجب التسوية بين الرائحة واللون والطعم
فإن عفي عن اليسير في بعضها عفي عنه في بقيتها وان لم يعف عن اليسير في بعضها لم يعف عنه في بقيتها
وقد ذكرنا معنى يقتضي الفرق إن شاء الله تعالى - ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز الوضوء بما خالطه
طاهر لم يغيره إلا ما حكي عن أم هانئ في ماء بل فيه خبز لا يتوضأ به ولعلها أرادت ما تغير به،
14

وحكى ابن المنذر عن الزهري في كسر بلت بالماء غيرت لونه أو لم تغير لونه لم يتوضأ به والذي عليه
الجمهور أولى لأنه طاهر لم يغير صفة الماء فلم يمنع كبقية الطاهرات إذا لم تغيره وقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم
وزوجته من جفنة فيها أثر العجين رواه النسائي وابن ماجة والأثرم
(فصل) وإذا وقع في الماء مائع لا يغيره لموافقة صفته صفته - وهذا يبعد إذ الظاهر أنه لابد أن ينفرد
عنه بصفة - فيعتبر التغير بظهور تلك الصفة فإن اتفق ذلك اعتبرناه بغيره مما له صفة تظهر على الماء كالحر
إذا جني عليه دون الموضحة قومناه كأنه عبد وإن شك في كونه يمنع بني على يقين الطهورية لأنها
الأصل فلا يزول عنها بالشك.
(فصل) وإن كان الواقع في الماء ماء مستعملا عفي عن يسيره قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد
الرجل يتوضأ فينتضح من وضوئه في إنائه؟ قال لا بأس به، إبراهيم النخعي لابد من ذلك.
ونحوه عن الحسن. وهذا ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم كانوا يتوضؤن من
الاقداح والأتوار ويغتسلون من الجفان. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو
وميمونة من جفنة فيها أثر العجين واغتسل هو وعائشة من إناء واحد تختلف أيديهما فيه كل واحد
منهما يقول لصحابه أبق لي. ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء، وان كثر الواقع وتفاحش منع
على إحدى الروايتين. وقال أصحاب الشافعي إن كان الأكثر المستعمل منع وإن كان الأقل لم يمنع
15

وقال ابن عقيل إن كان الواقع بحيث لو كان خلا غير الماء منع والا فلا. وما ذكرنا من الخبر وظاهر
حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يمنع من اعتباره بالخل لأنه من أسرع المائعات نفوذا وأبلغها
سراية فيؤثر قليله في الماء والحديث دل على العفو عن يسيره فإذا يرجع في ذلك إلى العرف فما كان
كثيرا متفاحشا منع وإلا فلا، وإن شك فالماء باق على الطهورية لأنها الأصل فلا يزول عنها بالشك
(فصل) فإن كان معه ماء لا يكفيه لطهارته فكمله بمائع لم يغيره جاز الوضوء به في إحدى
الروايتين لأنه طاهر لم يغير الماء فلم يمنع كما لو كان الماء قدرا يجزي في الطهارة (والثانية) لا يجوز لأننا
نتيقن حصول غسل بعض أعضائه بالمائع (والأولى) أولى لأنه لما لم تظهر صفة المائع على الماء صار
حكم الجميع حكم الماء وما ذكرناه للرواية الثانية يبطل بما إذا كان الماء قدرا يجزئ في الطهارة فخلطه بمائع
ثم توضأ به وبقي قدر المائع أو دونه فإنه يجوز مع العلم بأن المستعمل بعض الماء وبعض المائع،
وكذلك الباقي لاستحالة انفراد الماء عن المائع والله أعلم.
(فصل) ولا يكره الوضوء بالماء المسخن بطاهر إلا أن يكون حارا يمنع اسباغ
الوضوء لحرارته، وممن روي عنه أنه رأى الوضوء بالماء المسخن عمر وابنه وابن عباس وأنس رضي
الله عنهم وهو قول أهل الحجاز وأهل العراق جميعهم غير مجاهد ولا معنى لقوله فإن زيد بن أسلم
رضي الله عنه روى أن عمر كان له قمقمة يسخن فيها الماء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل
16

حماما بالجحفة. وذكر ابن عقيل حديثا عن شريك رحال النبي صلى الله عليه وسلم قال: أجنبت وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجمعت
حطبا فأحميت الماء فاغتسلت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر علي. ولأنها صفة خلق عليها الماء فأشبه ما لو برده
(فصل) ولا تكره الطهارة بالماء المشمس وقال الشافعي تكره الطهارة بماء قصد إلى تشميسه في
الأواني ولا أكرهه إلا من جهة الطب (1) لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت له الماء في الشمس فقال " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص " واختاره
أبو الحسن التميمي - ولنا انه سخن بطاهر أشبه ما في البرك والأنهار وما سخن بالنار وما لم يقصد
تشميسه فإن الضرر لا يختلف بالقصد وعدمه. والحديث غير ثابت يرويه خالد بن إسماعيل وهو
متروك الحديث وعمر بن محمد الأعسم وهو منكر الحديث قاله الدارقطني قال ولا يصح عن الزهري
وحكي عن أهل الطب انهم لا يعرفون لذلك تأثيرا في الضرر.
(فصل) فأما الماء المسخن بالنجاسة فهو على ثلاثة أقسام (أحدها) أن يتحقق وصول شئ
من أجزاء النجاسة إلى الماء فينجسه إذا كان يسيرا (والثاني) أن لا يتحقق وصول شئ من أجزاء
النجاسة إلى الماء والحائل غير حصين فالماء على أصل الطهارة ويكره استعماله وقال الشافعي لا يكره
لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حماما بالجحفة.

(1) قيدوا الأواني بالمعادن المنطبعة كالنحاس لما يتحلل من صدئها في الماء وصدأ النحاس والرصاص سام باتفاق الأطباء فينبغي تقييد الاحتراز منه بذلك
17

ولنا أنه ماء تردد بين الطهارة والنجاسة مع وجود سببها فأقل أحواله الكراهة والحديث لا يثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يروى عن ابن عباس ولم يثبت أن الوفود كان نجسا ولا أن الحائل كان غير حصين والحديث
قضية في عين لا يثبت به نفي الكراهة إلا في مثلها ولا يثبت به نفي الكراهة على الاطلاق (1) (القسم الثالث) إذا
كان الحائل حصينا فقال القاضي يكره واختار الشريف أبو جعفر وابن عقيل إنه لا يكره لأنه غير متردد في
نجاسته بخلاف التي قبلها: وذكر أبو الخطاب في كراهة المسخن بالنجاسة روايتين على الاطلاق.
(فصل) ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم لأنه ماء طهور فأشبه سائر المياه وعنه يكره لقول
العباس: لا أحلها لمغتسل لكن للمحرم حل وبل. ولأنه يزيل به مانعا من الصلاة أشبه إزالة النجاسة
به والأول أولى وقول العباس لا يؤخذ بصريحه في التحريم ففي غيره أولى وشرفه لا يوجب الكراهة
لاستعماله كالماء الذي وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم كفه أو اغتسل منه.
(فصل) الذائب من الثلج والبرد طهور لأنه ماء نزل من السماء وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم
طهرني بالماء والثلج والبرد " متفق عليه. فإن أخذ الثلج فأمره على أعضائه لم تحصل الطهارة به ولو
انبل به العضو لأن الواجب الغسل وأقل ذلك أن يجري الماء على العضو إلا أن يكون خفيفا فيذوب
ويجري ماؤه على الأعضاء فيحصل به الغسل فيجزئه.
* (مسألة) * قال (ولا يتوضأ بماء قد وضئ به)
يعني الماء المنفصل عن أعضاء المتوضئ. والمغتسل في معناه. وظاهر المذهب ان المستعمل
في رفع الحدث طاهر غير مطهر لا يرفع حدثا ولا يزيل نجسا. وبه قال الليث والأوزاعي
وهو المشهور عن أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وظاهر مذهب الشافعي وعن أحمد رواية
أخرى أنه طاهر مطهر وبه قال الحسن وعطاء والنخعي والزهري ومكحول وأهل الظاهر، والرواية
الثانية لمالك والقول الثاني للشافعي. وروي عن علي وابن عمر وأبي أمامة فيمن نسي مسح رأسه
إذا وجد بللا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الماء

(1) فيه أن الأصل عدم الكراهة وهي حكم شرعي يتوقف على الدليل
18

لا يجنب " وقال " الماء ليس عليه جنابة " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم
يصبها الماء فعصر شعره عليها رواهما الإمام أحمد في المسند وابن ماجة وغيرهما ولأنه غسل به محل
طاهر فلم تزل به طهوريته كما لو غسل به الثوب ولأنه لاقى محلا طاهرا فلا يخرج عن حكمه بتأدية
الفرض به كالثوب يصلي فيه مرارا.
وقال أبو يوسف هو نجس وهو رواية عن أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة " رواه أبو داود فاقتضى ان الغسل فيه كالبول فيه
ولأنه يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة إذ تطهير الطاهر لا يعقل.
ولنا على طهارته ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه رواه
البخاري ولأنه صلى الله عليه وسلم صب على جابر من وضوئه إذ كان مريضا ولو كان نجسا لم يجز
فعل ذلك - ولان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساءه كانوا يتوضؤن في الاقداح والأتوار
ويغتسلون في الجفان ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل ولهذا قال إبراهيم
النخعي ولابد من ذلك فلو كان المستعمل نجسا لنجس الماء الذي يقع فيه. وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم انه قدمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضأ منها فقالت امرأة: اني غمست يدي
19

فيها وأنا جنب فقال " الماء لا يجنب " ورواه الإمام أبو عبد الله في المسند " الماء لا ينجس " وعندهم
الحدث يرتفع من غير نية ولأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا فكان طاهرا كالذي غسل به الثوب
الطاهر والدليل على أن المحدث طاهر ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال لقيني رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأنا جنب فانخنست منه فاغتسلت ثم جئت فقال " أين كنت يا أبا هريرة؟ " قلت يا رسول
الله كنت جنبا فكرهت أن أجالسك فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال " سبحان الله! المسلم لا ينجس "
متفق عليه ولأنه لو غمس يده في الماء لم ينجسه ولو مس شيئا رطبا لم ينجسه ولو حمله مصل لم تبطل
صلاته وقولهم انه نهى عن الغسل من الجنابة في الماء الدائم كنهيه عن البول فيه قلنا النهي يدل على أنه
يؤثر في الماء وهو المنع من التوضؤ به والاقتران يقتضي التسوية في أصل الحكم لا في تفصيله وإنما
سمي الوضوء والغسل طهارة لكونه ينقي الذنوب والآثام كما ورد في الاخبار بدليل ما ذكرنا. إذا
ثبت هذا فالدليل على خروجه عن الطهورية قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو
جنب " رواه مسلم. منع من الغسل فيه كمنعه من البول فيه فلولا انه يفيده منعا لم ينه عنه ولأنه أزيل به
مانع من الصلاة فلم يجز استعماله في طهارة أخرى كالمستعمل في إزالة النجاسة.
(فصل) وجميع الاحداث سواء فيما ذكرنا - الحدث الأصغر والجنابة والحيض والنفاس وكذلك
المنفصل من غسل الميت إذا قلنا بطهارته واختلفت الرواية في المنفصل عن غسل الذمية من الحيض
فروي أنه مطهر لأنه لم يزل مانعا من الصلاة أشبه ماء تبرد به، وروي أنه غير مطهر لأنها أزالت به
المانع من وطئ الزوج أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة، فإن اغتسلت به من الجنابة كان مطهرا وجها
20

واحدا لأنه لم يزل مانعا من الصلاة ولا استعمل في عبادة أشبه ما لو تبرد به - ويحتمل أن يمنع استعماله
لأنه استعمل في الغسل من الجنابة أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة.
(فصل) وإن استعمل في طهارة مستحبة غير واجبة كالتجديد والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء
والغسل للجمعة والعيدين وغيرهما ففيه روايتان (إحداهما) أنه كالمستعمل في رفع الحدث لأنها طهارة
مشروعة أشبه ما لو اغتسل به من جنابة (والثانية) لا يمنع لأنه لم يزل مانعا من الصلاة أشبه ما لو تبرد
به فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر استعمال الماء فيها شيئا وكان كما لو تبرد به أو غسل به ثوبه ولا
تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد التنظيف انه باق على اطلاقه ولا نعلم فيه خلافا.
(فصل) فأما المستعمل في تعبد من غير حدث كغسل اليدين من نوم الليل، فإن قلنا ليس
ذلك بواجب لم يؤثر استعماله في الماء، وإن قلنا بوجوبه فقال القاضي هو طاهر غير مطهر وذكر أبو
الخطاب فيه روايتين (إحداهما) أنه يخرج عن اطلاقه لأنه مستعمل في طهارة تعبد أشبه المستعمل في
رفع الحدث، ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الاناء قبل غسلها فدل
ذلك على أنه يفيد منعا (والرواية الثانية) أنه باق على اطلاقه لأنه لم يرفع حدثا أشبه المتبرد به وعلى
قياسه المستعمل في غسل الذكر والأنثيين من المذي إذا قلنا بوجوبه لأنه في معناه.
21

(فصل) إذا انغمس الجنب أو المحدث فيما دون القلتين ينوي رفع الحدث صار مستعملا ولم
يرتفع حدثه. وقال الشافعي: يصير مستعملا ويرتفع حدثه لأنه إنما يصير مستعملا بارتفاع حدثه فيه
ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " رواه مسلم والنهي يقتضي فساد
المنهي عنه ولأنه بانفصال أول جزء من الماء عن بدنه صار الماء مستعملا فلم يرتفع الحدث عن سائر البدن
كما لو اغتسل فيه شخص آخر فإن كان الماء قلتين فصاعدا ارتفع حدثه ولم يتأثر به الماء لأنه لا يحمل الخبث
(فصل) إذا اجتمع ماء مستعمل إلى قلتين غير مستعمل صار الكل طهورا لأنه لو كان
المستعمل نجسا لكان الكل طهورا فالمستعمل أولى، وإن انضم إلى ما دون القلتين وكثر المستعمل
ولم يبلغ قلتين منع، وإن بلغ قلتين باجتماعه فكذلك، ويحتمل أن يزول المنع لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " وإن انضم مستعمل إلى مستعمل ولم يبلغ القلتين فهو
باق على المنع، وإن بلغ قلتين ففيه وجهان لما ذكرنا.
22

* (مسألة) * قال * (وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب فوقعت فيه نجاسة فلم يوجد
لها طعم ولا لون ولا رائحة فهو طاهر) *.
القلة هي الجرة سميت قلة لأنها تقل بالأيدي أي تحمل ومنه قوله تعالى (حتى إذا أقلت سحابا
ثقالا) ويقع هذا الاسم على الكبيرة والصغيرة والمراد بها هاهنا قلتان من قلال هجر وهما خمس قرب
كل قربة مائة رطل بالعراقي فتكون القلتان خمسمائة رطل بالعراقي هذا ظاهر المذهب عند أصحابنا
وهو مذهب الشافعي لأنه روي عن ابن جريج أنه قال رأيت قلال هجر القلة تسع قربتين أو قربتين
وشيئا والاحتياط أن يجعل قربتين ونصفا روى الأثرم وإسماعيل بن سعيد عن أحمد أن القلتين أربع
قرب وحكاه ابن المنذر عن أحمد في كتابه وذلك لما روى الجوزجاني باسناده عن يحيى بن عقيل قال
رأيت قلال هجر وأظن كل قلة تأخذ قربتين وروي نحو هذا عن ابن جريج واتفق القائلون بتحديد
الماء بالقرب على تقدير كل قربة بمائة رطل بالعراقي ولا أعلم بينهم في ذلك خلافا ولعلهم أخذوا
ذلك ممن اختبر قرب الحجاز وعرف أن ذلك مقدارها وإنما خصصنا هذا بقلال هجر لوجهين (أحدهما)
انه قد روي في حديث مبينا رواه الخطابي في معالم السنن باسناده إلى ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا " إذا كان الماء قلتين بقلال هجر " وذكر الحديث (والثاني) أن قلال هجر أكبر ما يكون
من القلال وأشهرها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الخطابي قال وهي مشهورة الصنعة معلومة
23

المقدار لا تختلف كما لا تختلف الصيعان والمكاييل ولان الحد لا يقع بالمجهول وقال أبو عبيد هي الحباب
وهي مستفيضة معروفة فينبغي أن يحمل لفظ القلتين عليها لشهرتها وكبرها فإن كل معدود جعل
مقدارا وحدا لم يتناول إلا أكبرها لأنها أقرب إلى العلم وأقل في العدد ولذلك جعل نصاب الزكاة
بالأوسق دون الآصع والامداد. قد دلت هذه المسألة بصريحها على أن ما بلغ القلتين فلم يتغير بما وقع
فيه لا ينجس و بمفهومها على أن ما تغير بالنجاسة نجس وان كثر وان ما دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة
النجاسة وان لم يتغير - فاما نجاسة ما تغير بالنجاسة فلا خلاف فيه. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن
الماء القليل والكثير إذا وقت فيه نجاسة فغيرت للماء طعما أو لونا أو رائحة انه نجس ما دام كذلك
وقد روى أبو أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الماء طهور لا ينجسه شئ الا ما غلب على ريحه
وطعمه ولونه " رواه ابن ماجة وقال حرب بن إسماعيل سئل احمد عن الماء إذا تغير طعمه وريحه
قال لا يتوضأ به ولا يشرب وليس فيه حديث ولكن الله تعالى حرم الميتة فإذا صارت الميتة في الماء
فتغير طعمه أو ريحه فذلك طعم الميتة و ريحها فلا يحل له وذلك أمر ظاهر وقال الخلال إنما قال احمد ليس
فيه حديث لأن هذا الحديث يرويه سليمان بن عمر ورشدين بن سعد وكلاهما ضعيف وابن ماجة
رواه من طريق رشدين - وأما ما دون القلتين إذا لاقته النجاسة فلم يتغير بها فالمشهور في المذهب انه
ينجس وروي عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيد وروي عن
24

أحمد رواية أخرى أن الماء لا ينجس الا بالتغير قليله وكثيره، وروي ذلك عن حذيفة وأبي هريرة
وابن عباس قالوا: الماء لا ينجس، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وعطاء وجابر
ابن زيد وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وابن
المنذر وهو قول للشافعي لحديث أبي أمامة الذي أوردناه وروى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله
أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن - فقال " ان الماء طهور لا
ينجسه شئ " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن قال الخلال قال أحمد حديث
بئر بضاعة صحيح (1) وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع
والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال " لها ما حملت في بطونها ولنا ما غير طهور " (2) ولم يفرق بين
القليل والكثير ولأنه لم يظهر عليه إحدى صفات النجاسة فلم ينجس بها كالزائد عن القلتين - ووجه الرواية
الأولى ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع
فقال " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وفي لفظ " إذا بلغ الماء
قلتين لم ينجسه شئ " وتحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما ينجس إذ لو استوى حكم القلتين
وما دونهما لم يكن التحديد مفيدا وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا
يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده " فلولا أنه يفيده منعا لم ينه عنه
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يغسل الاناء من ولوغ الكلب وإراقة سؤره ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير مع

(1) لكن أعله ابن القطان بجهالة رواية عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه وأجيب بأن هذه ليست علة وله طريق آخر
(2) الرواية " ولنا ما بقي شراب وطهور " رواه الدارقطني والبيهقي في المعرفة وقال له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية
25

أن الظاهر عدم التغير وخبر أبي أمامة ضعيف وخبر بئر بضاعة والخبر الآخر محمولان على الماء الكثير
بدليل أن ما تغير نجس أو نخصهما بخبر القلتين فإنه أخص منهما والخاص يقدم على العام وأما الزائد
عن القلتين إذا لم يتغير ولم تكن النجاسة بولا أو عذرة فلا يختلف المذهب في طهارته، وروي ذلك عن
ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وهو قول الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وهو قول من حكينا
عنهم أن اليسير لا ينجس الا بالتغير وحكي عن ابن عباس أنه قال إذا كان الماء ذنوبين لم يحمل الخبث
وقال عكرمة: ذنوبا أو ذنوبين، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الكثير ينجس بالنجاسة الا أن
يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه، واختلفوا في حده فقال بعضهم ما إذا حرك أحد طرفيه
لم يتحرك الآخر، وقال بعضهم ما بلغ عشرة أذرع في عشرة أذرع وما دون ذلك ينجس وإن بلغ الف
قلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه " متفق عليه فنهى عن الوضوء
من الماء الراكد بعد البول فيه ولم يفرق بين قليله وكثيره ولأنه ماء حلت فيه نجاسة لا يؤمن انتشارها
إليه فينجس بها كاليسير - ولنا خبرا القلتين وبئر بضاعة اللذان ذكرناهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" الماء طهور لا ينجسه شئ " مع قولهم له أتتوضأ من بئر بضاعة؟ (1) وهي بئر يلقى فيها الحيض
ولحوم الكلاب والنتن، وبئر بضاعة لا يبلغ الحد الذي ذكروه قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة
بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها
عما كانت عليه؟ قال لا وسألت قيمها عن عمقها فقلت أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال إلى العانة قلت فإذا
نقص قال دون العورة. ولأنه ماء يبلغ قلتين فأشبه ما زاد على عشرة أذرع. وحديثهم عام وحديثنا خاص

(1) أي قاله (ص جوابا عن هذا السؤال
26

فيجب تقديمه. الثاني أن حديثهم لابد من تخصيصه فإن ما زاد على الحد الذي ذكروه لا يمنع من الوضوء
به اتفاقا وإذا وجب تخصيصه كان تخصيصه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تخصيصه بالرأي والتشهي
من غير أصل يرجع إليه، ولا دليل يعتمد عليه - ولان ما ذكروه من الحد تقدير طريقه التوقيف
لا يصار إليه إلا بنص أو اجماع وليس معهم نص ولا إجماع. ولان حديثهم خاص في البول ونحن نقول
به على إحدى الروايتين ونقصر الحكم على ما تناوله النص وهو البول لأن له من التأكيد والانتشار
في الماء ما ليس لغيره على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. فإن قيل المراد بقوله " لم يحمل الخبث " أي لم يدفع
الخبث عن نفسه أي انه ينجس بالواقع فيه قلنا هذا فاسد لوجوه (أحدها) ان في بعض ألفاظه لم ينجس
رواه أبو داود وابن ماجة واحتج به احمد (والثاني) انه لو أراد أن ما بلغ القلتين في القلة ينجس لكان
ما فوقهما لا ينجس لتحقق الفرق بينهما فإنه جعل القلتين فصلا بين ما يتنجس وبين ما لم يتنجس فلو
سوينا بينهما لم يبق فصل (الثالث) ان مقتضاه في اللغة انه يدفع الخبث عن نفسه من قولهم فلان لا يحتمل
الضيم أي يدفعه عن نفسه والله أعلم.
* (فصل) * اختلف أصحابنا هل القلتان خمسمائة رطل تحديدا أو تقريبا قال أبو الحسن
الآمدي: الصحيح انها تحديد وهو ظاهر قول القاضي وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اعتبار
ذلك كان احتياطا وما اعتبر احتياطا كان واجبا كغسل جزء من الرأس مع الوجه. وامساك جزء من
27

الليل مع النهار في الصوم ولأنه قدر يدفع النجاسة عن نفسه فاعتبر تحقيقه كالعدد في الغسلات والصحيح
أن ذلك تقريب لأن الذين نقلوا تقدير القلال لم يضبطوهما بحد إنما قال ابن جريح القلة تسع قربتين
أو قربتين وشيئا وقال يحيى بن عقيل: أظنها تسع قربتين وهذا لا تحديد فيه فإن قولهما يدل على أنهما
قربا الامر والشئ الزائد عن القربتين مشكوك فيه مع أنه يقع على المجهول والظاهر قلته لأن لفظه يدل
على تقارب ما بين الامرين المذكورين وكلما قل الشئ كان أقرب إلى القربتين وكلام أحمد يدل على
هذا فإنه روي عنه ان القلة قربتان وروي قربتان ونصف وروي وثلث وهذا يدل على أنه لم يحد
في ذلك حدا. ثم ليس للقربة حد معلوم فإن القرب تختلف اختلافا. كثيرا فلا يكاد قربتان يتفقان
في حد واحد لهذا لو اشترى منه شيئا مقدرا بالقرب أو أسلم في شئ محدود بالقرب لم يجز ذلك
ولان النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الناس لا يكيلون الماء ولا يزنونه فلم يكن ليعرفهم الحد بما لا يعرف
به وإنما أراد أن من وجد ماء فيه نجاسة فظنه مقاربا للقلتين توضأ منه وان ظنه ناقصا عنهما من غير
مقاربة لهما تركه. وفائدة هذا ان من اعتبر التحديد فنقص عن الحد شيئا يسيرا لم يعف عنه ونجس
بورود النجاسة عليه، ومن قال بالتقريب عفي عن النقص اليسير عنده وتعلق الحكم بما يقارب القلتين
وإن شك في بلوغ الماء قدرا يدفع النجاسة أو لا يدفعها ففيه وجهان (أحدهما) يحكم بطهارته لأنه كان
28

طاهرا قبل وقوع النجاسة فيه وشك هل ينجس به أو لا فلا يزول اليقين بالشك (والثاني) يحكم بنجاسته
لأن الأصل قلة الماء فنبني عليه ويلزم من ذلك النجاسة.
(فصل) فأما غير الماء من المائعات ففيه ثلاث روايات (إحداهن) أنه ينجس بالنجاسة وان
كثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن قال " إن كان مائعا فلا تقربوه " رواه الإمام أحمد
في مسنده اسناده صحيح على شرط الصحيحين ولم يفرق بين كثيره وقليله (1) ولأنها لا قوة
لها على دفع النجاسة فإنها لا تطهر غيرها فلا تدفعها عن نفسها كاليسير (والثانية) أنها كالماء لا ينجس
منها ما بلغ القلتين الا بالتغير قال حرب سألت أحمد قلت كلب ولغ في سمن أو زيت قال إذا كان في
آنية كبيرة مثل حب أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس ويؤكل وإن كان في آنية صغيرة فلا يعجبني.
وذلك لأنه كثير فلم ينجس بالنجاسة من غير تغيير كالماء (والثالثة) ما أصله الماء كالخل التمري يدفع
النجاسة لأن الغالب فيه الماء ومالا فلا والأولى أولى (2).
(فصل) فاما الماء المستعمل وما كان طاهرا غير مطهر من الماء فإنه يدفع النجاسة عن نفسه إذا
كثر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا " ويحتمل أن ينجس لأنه طاهر غير مطهر فأشبه الخل
(فصل) إذا كان الماء كثيرا فوقع في جانب منه نجاسة فتغير بها نظرت فيما لم يتغير فإن نقص
عن القلتين فالجميع نجس لأن المتغير نجس بالتغير والباقي تنجس بملاقاته وان زاد عن

(1) هذه رواية معمر وقد جزم البخاري وغيره بأنها غلط وأنه اضطراب في متنها وسندها وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألقوها وما حولها وكلوه "
(2) اختار الأشد الأعسر وفاته أن النجاسة لا تسري في الدهن كما تسري في الماء والخل والتحقيق قول الشيخ تقي الدين بن تيمية أن قول معمر في الحديث الضعيف "
فلا تقربوه " متروك عند عامة السلف والخلف وأن السمن ونحوه لا ينجس الا بالتغير كالماء وانه إذا تنجس يطهر بالغسل وذكر أدلة من قال بذلك مفصلة في الفتاوي
29

القلتين فهو طاهر وقال ابن عقيل وبعض الشافعية يكون نجسا أيضا وان كبر وتباعدت أقطاره لأنه
ماء راكد بعضه نجس فكان جميعه نجسا كما لو تقاربت أقطاره ولان المتغير مائع نجس فينجس ما
يلاقيه ثم تنجس بذلك ما يلاقيه إلى آخره فإن اضطرب فزال التغير زال التنجيس لزوال علته
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شئ " وقوله عليه الصلاة والسلام " الماء طهور
لا ينجسه شئ " وغير المتغير قد بلغ القلتين ولم يتغير فيدخل في عموم الأحاديث ولأنه ماء كثير
لم يتغير بالنجاسة فكان طاهرا كما لو لم يتغير منه شئ ولان العلة في نجاسة الماء الكثير التغير فقط
فيختص التنجيس بمحل العلة كما لو تغير بعضه بطاهر فلا يصح القياس على ما إذا كان غير المتغير
ناقصا عن القلتين لأنه قليل ينجس بمجرد الملاقاة للنجاسة بخلاف الكبير وأما تباعد الأقطار وتقاربها
فلا عبرة بها إنما العبرة بكون غير المتغير قليلا أو كثيرا فلا يمتنع الحكم بطهارة الماء الملاصق للنجاسة
بدليل ما لو كان فيه كلب أو ميتة فإن الملاصق له طاهر وان منعت طهارته فالملاصق للملاصق طاهر
وعلى قياس قولهم ينبغي أن يتنجس البحر إذا تغير جانبه والماء الجاري وكل ما تغير بعضه ولا قائل
به وقد قال أحمد في المصانع التي بطريق مكة لا ينجس تلك شئ.
(فصل) ولا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها وسواء كان اليسير مما يدركه الطرف أو لا يدركه
من جميع النجاسات الا أن ما يعفى عن يسيره في الثوب كالدم ونحوه - حكم الماء المتنجس به -
حكمه في العفو عن يسيره وكل نجاسة ينجس بها الماء يصير حكمه حكمها لأن نجاسة الماء ناشئة
30

عن نجاسة الواقع وفرع عليها والفرع يثبت له حكم أصله، وقيل عن الشافعي إن مالا يدركه الطرف
من النجاسة معفو عنه للمشقة اللاحقة به ونص في موضع على أن الذباب إذا وقع على خلاء رقيق
أو بول ثم وقع على الثوب غسل موضعه لنجاسة الذباب مما لا يدركه الطرف ولان دليل التنجيس
لا يفرق بين يسير النجاسة وكثيرها ولا بين ما يدركه الطرف وما لا يدركه فالتفريق تحكم بغير
دليل وما ذكروه من المشقة غير صحيح لأننا إنما نحكم بنجاسة ما علمنا وصول النجاسة إليه ومع العلم
لا يفترقان في المشقة ثم إن المشقة حكمة لا يجوز تعليق الحكم بها بمجردها وجعل مالا يدركه
الطرف ضابطا لها غير صحيح فإن ذلك أنما يعرف بتوقيف أو اعتبار الشرع له في موضع ولم
يوجد واحد منهما (1).
(فصل) والغديران إذا اتصل أحدهما بالآخر بساقية بينهما فيها ماء قليل أو كثير فهما ماء
واحد حكمهما حكم الغدير الواحد ان بلغا جميعا قلتين لم يتنجس واحد منهما إلا بالتغير وان لم
يبلغاها تنجس كل واحد منهما بوقوع النجاسة في أحدهما لأنه ماء راكد متصل بعضه ببعض -
أشبه الغدير الواحد.
(فصل في الماء الجاري) نقل عن أحمد رحمه الله ما يدل على الفرق بين الماء الجاري والراكد
فإنه قال في حوض الحمام قد قيل إنه بمنزلة الماء الجاري وقال في البئر يكون لها مادة: هو

(1) هذا تعسير يدفعه مجموع ما ورد في التطهير من الأحاديث الصحيحة فإنها صريحة في كون المراد منها اذهاب القذر أو اضعافه كتطهير النعل بالفرك
والمني الرطب بإماطته بإذخرة والجاف بالفرك من أين جاء وجوب تطهير مالا يدرك الحس فيه قذرا؟ إن هذه إلا فلسفة ما كانت تخطر لأهل الصدر الأول ببال
31

واقف لا يجري ليس هو بمنزلة ما يجري فعلى هذا لا يتنجس الجاري إلا بتغيره لأن الأصل طهارته
ولا نعلم في تنجيسه نصا ولا إجماعا فبقي على أصل الطهارة ولأنه يدخل في عموم قوله عليه السلام
" الماء طهور لا ينجسه شئ " وقوله " الماء طهور لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه وطعمه
ولونه " فإن قيل قد ورد الشرع بتنجيس قليله لقوله عليه السلام " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل
الخبث " قلنا هذا حجة على طهارته لأن ماء الساقية بمجموعه قد بلغ القلتين فلا يحمل الخبث
وتخصيص الجرية منه بهذا التقدير تحكم لا دليل عليه ثم الخبر إنما ورد في الماء الراكد ولا يصح
قياس الجاري عليه لقوته بجريانه واتصاله بمادته ثم الخبر إنما يدل بمنطوقه على نفي النجاسة عما بلغ
القلتين وإنما يستدل هاهنا بمفهومه وقضاء حق المفهوم يحصل بمخالفة ما دون القلتين لما بلغهما وقد
حصلت المخالفة بكون ما دون القلتين يفترق فيه الماء الجاري والراكد في التنجيس وما بلغهما لا
يختلف وهذا كاف وقال القاضي وأصحابه كل جرية من الماء الجاري معتبرة بنفسها فإذا كانت
النجاسة جارية مع الماء فما أمامها طاهر لأنها لم تصل إليه وما خلفها طاهر لأنه لم يصل إليها والجرية
التي فيها النجاسة ان بلغت قلتين فهي طاهرة الا أن تتغير بالنجاسة وان كانت دون القلتين فهي
نجسة، وان كانت النجاسة واقفة في جانب النهر أو قراره أو في وهدة منه فكل جرية تمر عليها ان
كانت دون القلتين فهي نجسة وإن بلغت قلتين فهي طاهرة الا أن تتغير. والجرية هي الماء الذي
فيه النجاسة وما قرب منها من خلفها وأمامها - مما العادة انتشارها إليه ان كانت مما ينتشر - مع ما يحاذي
32

ذلك كله مما بين طرفي النهر فإن كانت النجاسة ممتدة فلكل جزء منها مثل تلك الجرية المعتبرة للنجاسة
القليلة. ولا يجعل جميع ما يحاذيها جرية واحدة لئلا يفضي إلى تنجيس الماء الكثير بالنجاسة القليلة
ونفي التنجيس عن الكثير مع وجود النجاسة الكثيرة فإن المحاذي للكثيرة كثير فلا يتنجس، والمحاذي
للقليلة قليل يتنجس فإننا لو فرضنا كلبا في جانب نهر وشعرة منه (1) في الجانب الآخر لكان المحاذي
للشعرة لا يبلغ قلتين لقلة ما يحاذيها والمحاذي للكلب يبلغ قلالا. وقد ذكر القاضي وابن عقيل إن
الجرية المحاذية للنجاسة فيما بين طرفي النهر. ويتعين حمله على ما ذكرنا لما بيناه.
فإن قيل فهذا يفضي إلى التسوية بين النجاسة الكثيرة والقليلة قلنا الشرع سوى بينهما في الماء
الراكد وهو أصل فتجب التسوية بينهما في الجاري الذي هو فرع (2).
(فصل) فإن كان في جانب النهر ماء واقف مائل عن سنن الماء متصل بالجاري أو كان في أرض
النهر وهدة فيها ماء واقف وكان ذلك مع الجرية المقابلة له دون القلتين نجسا جميعا بوجود النجاسة
في أحدهما لأنه ماء متصل دون القلتين فينجس بها جميعه كالراكد، وإن كان أحدهما قلتين لم ينجس
واحد منهما ماداما متلاقيين إلا بالتغير لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها وعما لاقته، ثم لا يخلو
من كون النجاسة في النهر أو في الواقف، فإن كانت في النهر وهو قلتان فهو طاهر على كل حال
وكذلك الواقف، وإن كان دون القلتين فهو نجس قبل ملاقاته للواقف فإذا حاذاه طهر باتصاله به
فإذا فارقه عاد إلى التنجس لقلته مع وجود النجاسة فيه. وان كانت النجاسة في الواقف لم ينجس
بحال لأنه لا يزال هو وما لاقاه قلتين، فإن كان الواقف دون القلتين والجرية كذلك إلا أنهما
بمجموعهما يزيدان عن القلتين وكانت النجاسة في الواقف لم ينجس واحد منهما لأنها مع ما تلاقيه
أكثر من قلتين وإن كانت في النهر فقياس قول أصحابنا أن ينجس الواقف والجرية التي فيها النجاسة
وكل ما يمر بعدها بالواقف لأن الجرية التي فيها النجاسة كانت نجسة قبل ملاقاة الواقف ثم تنجس
بها الواقف لكونه ماء دون القلتين ورد عليه ماء نجس ولم تطهر الجرية لأنها بمنزلة ماء نجس صب
على ما دون القلتين فلما صار الواقف نجسا نجس ما يمر عليه ويحتمل أن يحكم بطهارة الجرية حال
ملاقاتها للواقف ولا يتنجس الواقف بها لأنه ماء كثير لم يتغير فلا ينجس لقول النبي صلى الله عليه
وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شئ " وهذا مذهب الشافعي وهذا كله ما لم يتغير فإن تغير

(1) في الشعر النابت في المحل النجس ثلاث روايات عن أحمد إحداها
انها طاهرة واختارها أبو بكر بن عبد العزيز ورجحها ابن تيمية القائل بأن الشعور كلها طاهرة
(2) المخالف يمنع القول بهذه التسوية كما يمنع ما بنيت عليه فللماء الجاري من
القوة على دفع النجاسة ما ليس للراكد ولا يسلم ان للجرية منه حكم غير حكم
المجموع والتحقيق ان الماء لا ينجس إلا بالتغير بالنجاسة وان المتغير لا يسري حكمه
إلى غيره وهذا مذهب مالك وبعض المحققين من علماء الشافعية كالغزالي
والحنابلة وأهل الحديث كشيخ الاسلام ابن تيمية، وبهذا يستغنى عن كل تلك
الفروع الدقيقة المستنبطة من مفهوم حديث القلتين
33

فهو نجس وحكمه حكم أعيان النجاسة فإذا كان الواقف متغيرا وحده فالجرية التي تمر به إن كانت
قلتين فهي طاهرة وإن كانت دون القلتين فهي نجسة، وان كانت الجرية متغيرة والواقف قلتان
فهو طاهر وإلا فهو نجس، وإن كان بعض الواقف متغيرا وبعضه غير متغير وكان غير المتغير مع
الجرية الملاقية له قلتين لم ينجس لأنه ماء زائد عن القلتين لم يتغير فكان طاهرا كما لو كانت الجرية
قلتين، وإن كان المتغير منه الواقف يلي الجاري وغير المتغير لا يليه ولا يتصل به من أعلى الماء ولا
من أسفله ولا من ناحية من نواحيه وكل واحد منهما دون القلتين فينبغي أن يكون الكل نجسا لأن
كل ما يلاقي الماء النجس لا يلغ القلتين، وإن اتصل به من ناحية فكل ما لم يتغير طاهر إذا بلغ
القلتين لأنه كالغديرين اللذين بينهما ساقية. وإن شك في ذلك فالماء طاهر لأن الأصل الطهارة فلا
تزول بالشك والله أعلم.
(فصل) إذا اجتمعت الجريات في موضع فإن كان متغيرا بالنجاسة فهو نجس وإن كثر، وإن كان
في بعض الجريات ماء طاهر متوال يبلغ قلتين إما سابقا وإما لاحقا فالجميع طاهر ما لم يتغير لأن القلتين
تدفع النجاسة عن نفسها وعما اجتمعت معه، وإن كان المجتمع دون القلتين وفي بعض الجريات شئ
نجس فالكل نجس في ظاهر المذهب، وإن كان قلتين إلا أن الجريات كلها نجسة أو بعض الجريات
طاهر وبعضها نجس ولا يتوالى من الطاهر قلتان فظاهر المذهب ان الجميع نجس وإن كثر ويحتمل أن
يكون طاهرا وهو مذهب الشافعي لقوله عليه السلام " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " ولأنه
ماء كثير لم يتغير بالنجاسة فكان طاهرا كما لو كان متغيرا فزال تغيره بمكثه.
ولنا انه انضم النجس إلى النجس فصار الجميع نجسا كغير الماء، وإن كان بعض الجريات طاهرا
لكنه قليل فهو مما لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى، فإن كان الماء كثيرا متغيرا بالنجاسة فزال
تغيره بنفسه طهر الجميع وإن زال بماء طاهر دون القلتين أو باجتماع ماء نجس إليه فظاهر المذهب انه
نجس لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فلا يدفعها عن غيره ويحتمل أن يطهر لأنه أزال علة التنجيس
فأزال التنجيس كما لو زال بنزح أو بمكثه.
(فصل) في تطهير الماء النجس وهو ثلاثة أقسام (أحدها) ما دون القلتين فتطهيره بالمكاثرة
بقلتين طاهرتين إما أن يصب فيه أو ينبع فيه فيزول بهما تغيره إن كان متغيرا وان لم يكن متغيرا
طهر بمجرد المكاثرة لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير ولذلك لو ورد عليها ماء نجس
لم ينجسها ما لم تتغير به فكذلك إذا كانت واردة ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلطا به
34

(القسم الثاني) أن يكون وفق القلتين فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة
المذكورة لا غير (الثاني) أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير
أو بتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه (القسم الثالث) الزائد عن القلتين فله حالان (أحدهما)
أن يكون نجسا بغير التغير فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة (الثاني) أن يكون متغيرا بالنجاسة
فتطهيره بأحد أمور ثلاثة المكاثرة أو زوال تغيره بمكثه أو أن ينزح منه ما يزول به التغير ويبقى بعد
ذلك قلتان فصاعدا، فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره لم يبق التغير علة تنجيسه لأنه
تنجس بدونه فلا يزول التنجيس بزواله ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث ولم يطهر القليل،
فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته كالخمرة إذا انقلبت خلا والقليل علة
تنجيسه الملاقاة لا التغير فلم يؤثر زواله في زوال التنجيس.
(فصل) ولا يعتبر في المكاثرة صب الماء دفعة واحدة لأن ذلك غير ممكن، لكن يوصل
الماء على ما يمكنه من المتابعة اما من ساقية وإما دلوا فدلوا أو يسيل إليه ماء المطر أو ينبع قليلا قليلا
حتى يبلغ قلتين فيحصل به التطهير.
(فصل) فإن كوثر بما دون القلتين فزال تغيره أو طرح فيه تراب أو مائع غير الماء أو غير ذلك
فزال تغيره به ففيه وجهان (أحدهما) لا يطهر بذلك لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى
ولأنه ليس بطهور فلا يحصل به الطهارة كالماء النجس (والثاني) يطهر لأن علة نجاسته التغير وقد
زال فيزول التنجيس كما لو زال بمكثه وكالخمرة إذا انقلبت خلا (1).
(فصل) ولا يطهر غير الماء من المائعات بالتطهير في قول القاضي وابن عقيل، قال ابن عقيل
إلا الزئبق فإنه لقوته وتماسكه يجري مجرى الجامد لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السمن إذا
وقعت فيه الفأرة فقال " إن كان مائعا فلا تقربوه " (2) رواه أبو داود، ولو كان إلى تطهيره طريق
لم يأمر بإراقته، واختار أبو الخطاب أن ما يتأنى تطهيره كالزيت يطهر به لأنه أمكن غسله بالماء فيطهر
به كالجامد وطريق تطهيره جعله في ماء كثير ويخاض فيه حتى يصيب الماء جميع أجزائه ثم يترك حتى
يعلو على الماء فيؤخذ، إن تركه في جرة فصب عليه ماء فخاضه به وجعل لها بزالا يخرج منه الماء
جاز. والخبر ورد في السمن، ويحتمل أن لا يمكن تطهيره لأنه يجمد في الماء، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم
ترك الامر بتطهيره لمشقة ذلك وقلة وقوعه.

(1) هذا التحقيق ونختاره لأنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما
(2) راجع حاشية ص 29
35

(فصل) وإذا وقعت النجاسة في غير الماء وكان مائعا نجس، وإن كان جامدا كالسمن الجامد
أخذت النجاسة بما حولها فألقيت والباقي طاهر لما روت ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال " القوها وما حولها وكلوا سمنكم " رواه
البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في
السمن فقال " إن كان جامدا فالقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه " أخرجه الإمام أحمد
في مسنده واسناده على شرط الصحيحين (1) وحد الجامد الذي لا تسري النجاسة إلى جميعه هو
المتماسك الذي فيه قوة تمنع انتقال أجزاء النجاسة عن الموضع الذي وقعت عليه النجاسة إلى ما سواه
قال المروذي قيل لأبي عبد الله في الدوشاب يعني يقع فيه نجاسة؟ قال إذا كان كثيرا أخذوا ما حوله
مثل السمن. وقال ابن عقيل: حد الجامد ما إذا فتح وعاؤه لم تسل أجزاؤه، وظاهر ما رويناه عن
أحمد خلاف هذا فإن الدوشاب لا يكاد يبلغ هذا، وسمن الحجاز لا يكاد يبلغه والمقصود بالجمود أن
لا تسري أجزاء النجاسة وهذا حاصل بما ذكرنا فيقتصر عليه.
(فصل) وإن تنجس العجين ونحوه فلا سبيل إلى تطهيره لأنه لا يمكن غسله، وكذلك أن
نقع السمسم أو شئ من الحبوب في الماء النجس حتى انتفخ وابتل لم يطهر قيل لأحمد في سمسم
نقع في تغار فوقعت فيه فأرة فماتت، قال لا ينتفع بشئ منه، قيل أفيغسل مرارا حتى يذهب ذلك
الماء؟ قال أليس قد ابتل من ذلك الماء لا ينقى منه وإن غسل - إذا ثبت هذا فإن أحمد قال في
العجين والسمسم يطعم النواضح ولا يطعم لما يؤكل لحمه، يعني لما يؤكل لحمه قريبا، وقال مجاهد وعطاء
والثوري وأبو عبيد: يطعم الدجاج، وقال مالك والشافعي يطعم البهائم، وقال ابن المنذر لا يطعم شيئا
لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس
فقال " لا، هو حرام " متفق عليه وهذا في معناه.
ولنا ما روى أحمد باسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن قوما اختبزوا من آبار الذين ظلموا
أنفسهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اعلفوه النواضح " واحتج به أحمد وقال في كسب الحجام
" أطعمه ناضحك أو رقيقك " وقال أحمد ليس هذا بميتة يعني ان نهي رسول الله صلى الله عليه
وسلم إنما تناول الميتة وليس هذا بداخل في النهي ولا في معناها، ولان استعمال شحوم الميتة فيما
سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم يفضي إلى تعدي نجاستها واستعمال ما دهنت به من الجلود فيكون مستعملا
للنجاسة وليس كذلك ههنا فإن نجاسة هذا لا تتعدى أكله، قال أحمد ولا يطعم لشئ يؤكل في الحال
ولا يحلب لبنه لئلا يتنجس به ويصير كالجلال.

(1) راجع حاشية ص 29
36

* (مسألة) * قال * (الا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة فإنه ينجس الا أن يكون
مثل المصانع التي بطريق مكة وما أشبهها من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها فذاك الذي
لا ينجسه شئ) *
يعني بالمصانع البرك التي صنعت موردا للحاج يشربون منها ويجتمع فيها ماء كثير ويفضل عنهم فتلك
لا تتنجس بشئ من النجاسات ما لم تتغير لا نعلم أحدا خالف في هذا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على
أن الماء الكثير مثل الرجل (1) من البحر ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا
أنه بحاله يتطهر منه. فأما ما يمكن نزحه إذا بلغ قلتين فلا يتنجس بشئ من النجاسات الا ببول الآدميين أو
عذرتهم المائعة فإن فيه روايتين عن أحمد أشهرهما أنه ينجس بذلك روي نحو هذا عن علي والحسن
البصري. وقال الخلال وحدثنا عن علي رضي الله عنه باسناد صحيح أنه سئل عن صبي بال في بئر
فأمرهم أن ينزفوها ومثل ذلك عن الحسن البصري ووجه ذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " متفق عليه وفي لفظ
" ثم يتوضأ منه " صحيح وللبخاري " ثم يغتسل فيه " وهذا متناول للقليل والكثير وهو خاص
بالبول وأصح من حديث القلتين فيتعين تقديمه. والرواية الثانية: أنه لا ينجس ما لم يتغير كسائر
النجاسات اختارها أبو الخطاب وابن عقيل وهذا مذهب الشافعي، وأكثر أهل العلم لا يفرقون
بين البول وغيره من النجاسات لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس " ولان بول
الآدمي لا يزيد على نجاسة بول الكلب وهو لا ينجس القلتين فبول الآدمي أولى وحديث أبي هريرة
لابد من تخصيصه بدليل مالا يمكن نزحه فيقاس عليه ما بلغ القلتين أو يخص بخبر القلتين فإن تخصيصه
تخبر النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم من غير دليل لأنه لو تساوى الحديثان لوجب
العدول إلى القياس على سائر النجاسات.
(فصل) ولم أجد عن إمامنا رحمه الله ولا عن أصحابنا تحديد ما يمكن نزحه بأكثر من تشبيهه
بمصانع مكة قال احمد: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الراكد آبار المدينة على قلة ما فيها لأن
المصانع لم تكن إنما أحدثت وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن المصانع التي بطريق مكة
فقال: ليس ينجس تلك عندي البول ولا شئ إذا كثر الماء حتى يكون مثل تلك المصانع وقال إسحاق

(1) هو الخليج وراؤه مكسورة
37

ابن منصور سئل أحمد عن بئر بال فيها انسان قال تنزح حتى تغلبهم قلت ما حده قال لا يقدرون
على نزحها وقيل لأبي عبد الله الغدير يبال فيه قال الغدير أسهل ولم ير به بأسا وقال في البئر يكون لها مادة هو واقف لا يجري ليس بمنزلة ما يجري يعني أنه يتنجس بالبول فيه إذا أمكن نزحه (1).
(فصل) ولا فرق بين البول القليل والكثير قال مهنا سألت احمد عن بئر غزيرة وقعت فيها
خرقة أصابها بول قال تنزح وقال في قطرة بول وقعت في ماء لا يتوضأ منه وذلك لأن سائر
النجاسات لا فرق بين قليلها وكثيرها.
(فصل إذا كانت بئر الماء ملاصقة لبئر فيها بول أو غيره من النجاسات وشك في وصولها
إلى الماء فهو على أصله في الطهارة قال احمد يكون بين البئر والبالوعة ما لم يغير طعما ولا ريحا، وقال
الحسن ما لم يتغير لونه أو ريحه فلا بأس أن يتوضأ منها وذلك لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك
وان أحب علم حقيقة ذلك فليطرح في البئر النجسة نفطا فإن وجد رائحته في الماء علم وصوله إليه والا فلا،
وان تغير الماء تغيرا يصلح أن يكون من النجاسة ولم يعلم له سببا آخر فهو نجس لأن الملاصقة سبب
فيحال الحكم عليه وما عداه مشكوك فيه، ولو وجد ماء متغيرا في غير هذه الصورة ولم يعلم سبب
تغيره فهو طاهر وان غلب على ظنه نجاسته لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك، وان وقعت فيه
نجاسة فوجده متغيرا تغيرا يصلح أن يكون منها فهو نجس الا أن يكون التغير لا يصلح أن يكون
من النجاسة الواقعة فيه لكثرته وقلتها أو لمخالفتها لونها أو طعمها فهو طاهر لأننا لا نعلم للنجاسة سببا
فأشبه ما لو لم يقع فيه شئ.
(فصل) وان توضأ من الماء القليل وصلى ثم وجد فيه نجاسة أو توضأ من ماء كثير ثم وجده
متغيرا بنجاسة وشك هل كان قبل وضوئه أو بعده فالأصل صحة طهارته، وان علم أن ذلك كان قبل
وضوئه بامارة أعاد وان علم أن النجاسة قبل وضوئه ولم يعلم أكان دون القلتين أو كان قلتين فنقص
بالاستعمال أعاد لأن الأصل نقص الماء.
(فصل) إذا نزح ماء البئر النجس فنبع فيه بعد ذلك ماء أو صب فيه فهو طاهر لأن أرض البئر
من جملة الأرض التي تطهر بالمكاثرة بمرور الماء عليها وان نجست جوانب بالبئر فهل يجب غسلها؟
على روايتين (إحداهما) يجب لأنه محل نجس فأشبه رأس البئر (والثانية) لا يجب للمشقة اللاحقة بذلك
فعفي عنه كمحل الاستنجاء وأسفل الحذاء.
(فصل) قال محمد بن يحيى سألت عبد الله عن قبور الحجارة التي للروم يجئ المطر

(1) كيف يتفق ماهنا مع حديث بئر بضاعة الذي كان يلقى فيها أغلظ النجاسات راجع حاشية ص 31
38

فيصير فيها ويشربون من ذلك ويتوضؤون قال لو غسلت كيف تغسل الماء يجئ المطر إلا أن يكون
قد غسلها مرة أو مرتين والأولى الحكم بطهارتها لأن هذه قد أصابها الماء مرات لا يحصى عددها
وجرى على حيطانها من ماء المطر ما يطهرها بعضه ولأن هذه يشق غسلها فأشبهت الأرض التي
تطهر بمجئ المطر عليها.
* (مسألة) * قال (وإذا مات في الماء اليسير ما ليس له نفس سائلة مثل الذباب والعقرب
والخنفساء وما أشبه ذلك فلا ينجسه).
النفس هاهنا الدم يعني ما ليس له دم سائل والعرب تسمي الدم نفسا قال الشاعر:
أنبئت أن بني سحيم أدخلوا * أبياتهم تامور نفس المنذر
يعني دمه ومنه قيل للمرأة نفساء لسيلان دمها عند الولادة وتقول العرب: نفست المرأة إذا
حاضت ونفست من النفاس. وكل ما ليس له دم سائل كالذي ذكره الخرقي من الحيوان البري أو
حيوان البحر منه العلق والديدان والسرطان ونحوها لا ينجس بالموت ولا ينجس الماء إذا مات فيه
في قول عامة الفقهاء، قال ابن المنذر لا أعلم في ذلك خلافا إلا ما كان من أحد قولي الشافعي قال فيها
قولان (أحدهما) ينجس قليل الماء قال بعض أصحابه وهو القياس (والثاني) لا ينجس وهو
الأصلح للناس. فأما الحيوان في نفسه فهو عنده نجس قولا واحدا لأنه حيوان لا يؤكل لا لحرمته
فينجس بالموت كالبغل والحمار.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه
داء وفي الآخر شفاء " رواه البخاري وأبو داود وفي لفظ " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم
فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفا " قال ابن المنذر: ثبت ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ذلك قال الشافعي: مقله ليس بقتله قلنا اللفظ عام في كل شراب بارد أو حار
أو دهن مما يموت بغمسه فيه فلو كان ينجس الماء كان أمرا بافساده وقد روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لسلمان " يا سلمان أيما طعام أو شراب ماتت فيه دابة ليست لها نفس سائلة فهو الحلال
أكله وشربه ووضوؤه " وهذا صريح أخرجه الترمذي والدارقطني، قال الترمذي: يرويه بقية وهو
مدلس فإذا روى عن الثقاة جود ولان مالا نفس له سائلة لم يتولد من النجاسة فأشبه دود الخل إذا
مات فيه فإنهم سلموا ذلك ونحوه انه لا ينجس المائع الذي تولد منه إلا أن يؤخذ ثم يطرح فيه أو
39

يشق الاحتراز منه أشبه ما ذكرنا، فإذا ثبت أنه لا ينجس لزم أن لا يكون نجسا لأنه لو كان نجسا
لنجس كسائر النجاسات.
(فصل) فإن غير الماء فحكمه حكم الطاهرات إن كان مما لا يمكن التحرز منه كالجراد يتساقط
في الماء ونحوه فهو كورق الشجر المتناثر في الماء يعفى عنه، وإن كان مما يمكن التحرز منه كالذي يلقى
في الماء قصدا فهو كالورق الذي يلقى في الماء، ولو تغير الماء بحيوان مذكى من غير أن يصيب نجاسة
فقد نقل إسحاق بن منصور قال سئل أحمد عن شاة مذبوحة وقعت في ماء فتغير ريح الماء؟ قال
لا بأس، إنما ذلك إذا كان من نجاسة، وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي وأما السمك إذا غير الماء
فأرجو أن لا يكون به بأس.
(فصل) ذكر ابن عقيل فيمن ضرب حيوانا مأكولا فوقع في ماء ثم وجده ميتا ولم يعلم هل مات
بالجراحة أو بالماء فالماء على أصله في الطهارة والحيوان على أصله في الحظر إلا أن تكون الجراحة موجبة
فيكون الحيوان أيضا مباحا لأن الظاهر موته بالجراح والماء طاهر الا أن يقع فيه دم.
(فصل) الحيوان ضربان ما ليست له نفس سائلة وهو نوعان ما يتولد من الطاهرات فهو طاهر
حيا وميتا وهو الذي ذكرناه. الثاني: ما يتولد من النجاسات كدود الحش وصراصره فهو نجس حيا
وميتا لأنه متولد من النجاسة فكان نجسا كولد الكلب والخنزير. قال أحمد في رواية المروذي صراصر
الكنيف والبالوعة إذا وقع في الاناء أو الحب صب وصراصر البئر ليست بقذرة ولا تأكل العذرة
(الضرب الثاني) ماله نفس سائلة وهو ثلاثة أنواع (أحدها) ما تباح ميتته وهو السمك وسائر
حيوان البحر الذي لا يعيش الا في الماء فهو طاهر حيا وميتا لولا ذلك لم يبح أكله فإن غير الماء لم يمنع
لأنه لا يمكن التحرز منه (النوع الثاني) مالا تباح ميتته غير الآدمي كحيوان البر المأكول وغيره كحيوان
البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والتمساح وشبههما فكل ذلك ينجس بالموت فينجس الماء القليل
إذا مات فيه والكثير إذا غيره، وبهذا قال ابن المبارك والشافعي وأبو يوسف، وقال مالك وأبو حنيفة
ومحمد بن حسن في الضفدع إذا ماتت في الماء لا تفسده لأنها تعيش في الماء أشبهت السمك.
ولنا أنها تنجس غير الماء فتنجس الماء كحيوان البر ولأنه حيوان له نفس سائلة لا تباح ميتته
فأشبه طير الماء ويفارق السمك فإن مباح ولا ينجس غير الماء (النوع الثالث) الآدمي الصحيح في
المذهب انه طاهر حيا وميتا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن لا ينجس " متفق عليه، وعن
أحمد أنه سئل عن بئر وقع فيها انسان فمات قال ينزح حتى يغلبهم وهو مذهب أبي حنيفة قال ينجس
40

ويطهر بالغسل لأنه حيوان له نفس سائلة فنجس بالموت كسائر الحيوانات وللشافعي قولان كالروايتين
والصحيح ما ذكرنا أولا للخبر ولأنه آدمي فلم ينجس بالموت كالشهيد ولأنه لو نجس بالموت لم يطهر
بالغسل كسائر الحيوانات التي تنجس ولم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر لاستوائهما في الآدمية
وفي حال الحياة، ويحتمل أن ينجس الكافر بموته لأن الخبر إنما ورد في المسلم ولا يصح قياس الكافر
عليه لأنه لا يصلى عليه وليس له حرمة كحرمة المسلم.
(فصل) وحكم أجزاء الآدمي وابعاضه حكم جملته سواء انفصلت في حياته أو بعد موته لأنها
أجزاء من جملته فكان حكمها كسائر الحيوانات الطاهرة والنجسة ولأنها يصلى عليها فكانت طاهرة
كجملته، وذكر القاضي انها نجسة رواية واحدة لأنها لا حرمة لها بدليل انه لا يصلى عليها ولا يصح
هذا فإن لها حرمة بدليل ان كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ويصلى عليها إذا وجدت من الميت
ثم تبطل بشهيد المعركة فإنه لا يصلى عليه وهو طاهر.
(فصل) وفى الوزغ وجهان (أحدهما) لا ينجس بالموت لأنه لا نفس له سائلة أشبه العقرب
ولأنه إن شك في نجاسته فالماء يبقى على أصله في الطهارة (والثاني) انه ينجس لما روي عن علي
رضي الله عنه انه كان يقول: إن ماتت الوزغة أو الفأرة في الحب يصب ما فيه، وإذا ماتت في بئر
فانزعها حتى تغلبك.
(فصل) وإذا مات في الماء حيوان لا يعلم هل ينجس بالموت أم لا؟ فالماء طاهر لأن الأصل
طهارته والنجاسة مشكوك فيها فلا نزول عن اليقين بالشك وكذلك الحكم إن شرب منه حيوان يشك
في نجاسة سؤره وطهارته لما ذكرنا.
* (مسألة) * قال (ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها إلا السنور وما دونها في الخلقة)
السؤر فضلة الشرب - والحيوان قسمان نجس وطاهر فالنجس نوعان (أحدهما) ما هو نجس
رواية واحدة وهو الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فهذا نجس عينه وسؤره وجميع
ما خرج منه وروي ذلك عن عروة وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد وهو قول أبي حنيفة في السؤر
خاصة، وقال مالك والأوزاعي وداود: سؤرهما طاهر يتوضأ به ويشرب وإن ولغا في طعام لم يحرم أكله
وقال الزهري: يتوضأ به إذا لم يجد غيره وقال عبدة بن أبي لبابة والثوري وابن الماجشون وابن مسلمة
41

يتوضأ ويتيمم قال مالك: ويغسل الاناء الذي ولغ فيه الكلب تعبدا. واحتج بعضهم على طهارته بأن
الله تعالى قال (فكلوا مما أمسكن عليكم) ولم يأمر بغسل ما أصابه فمه وروى ابن ماجة باسناده عن
أبي سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها
السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال " لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور " ولأنه حيوان
فكان طاهرا كالمأكول.
ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
فليغسله سبعا " متفق عليه ولمسلم " فليرقه (1) ثم ليغسله سبع مرات " ولو كان سؤره طاهرا لم تجز إراقته
ولا وجب غسله (فإن قبل) إنما وجب غسله تعبدا كما تغسل أعضاء الوضوء وتغسل اليد من نوم الليل
قلنا الأصل وجوب الغسل من النجاسة بدليل سائر الغسل. ثم لو كان تعبدا لما أمر بإراقة الماء ولما
اختص الغسل بموضع الولوغ لعموم اللفظ في الاناء كله. وأما غسل اليد من النوم فإنما أمر به للاحتياط
لاحتمال أن تكون يده قد أصابتها نجاسة فيتنجس الماء ثم تنجس أعضاؤه به. وغسل أعضاء الوضوء
شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله تعالى على أحسن حال وأكملها.
ثم إن سلمنا ذلك فإنما عهدنا التعبد في غسل اليدين، أما الآنية والثياب فإنما يجب غسلها من
النجاسات وقد روي في لفظ " طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا " أخرجه أبو داود (2)
ولا يكون الطهور إلا في محل الطهارة (وقولهم) ان الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل غسله
قلنا الله تعالى أمر بأكله والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسله فيعمل بأمرهما، وإن سلمنا أنه لا يجب غسله فلانه يشق
فعفي عنه. وحديثهم قضية في عين يحتمل ان الماء المسؤول عنه كان كثيرا ولذلك قال في موضع آخر
حين سئل عن الماء وما ينوبه من السباع " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " ولأن الماء لا ينجس
إلا بالتغير على رواية لنا وشربها من الماء لا يغيره فلم ينجسه ذلك.
(النوع الثاني) ما اختلف فيه وهو سائر سباع البهائم إلا السنور وما دونها في الخلقة وكذلك
جوارح الطير والحمار الأهلي والبغل فعن أحمد ان سؤرها نجس إذا لم يجد غيره تيمم وتركه، روي
عن ابن عمر انه كره سؤر الحمار وهو قول الحسن وابن سيرين والشعبي والأوزاعي وحماد وإسحاق.
وعن أحمد أنه قال في البغل والحمار إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم معه وهو قول أبي حنيفة والثوري

(1) اختلفوا في الكلمة فقيل إنها زائدة في الحديث قيل لا
(2) الحديث في صحيح مسلم فكان الاقتصار عليه أولى، وإلا فقد أخرجه أحمد أيضا
42

وهذا الرواية تدل على طهارة سؤرهما لأنه لو كان نجسا لم تجز الطهارة به. وروي عن إسماعيل بن سعيد
لا بأس بسؤر السباع لأن عمر قال في السباع: ترد علينا ونرد عليها - ورخص في سؤر جميع ذلك
الحسن وعطاء والزهري ويحيى الأنصاري وبكير بن الأشج وربيعة وأبو الزناد ومالك والشافعي وابن
المنذر لحديث أبي سعيد في الحياض وقد روي عن جابر أيضا. وفي حديث آخر عن جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال " نعم وبما أفضلت السباع كلها " رواه الشافعي في مسنده
وهذا نص، ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة فكان طاهرا كالشاة.
ووجه الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال " إذا
بلغ الماء قلتين لم ينجس " ولو كانت طاهرة لم يحده بالقلتين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر يوم خيبر
" انها رجس " ولأنه حيوان حرم أكله لا لحرمته يمكن التحرز منه غالبا أشبه الكلب، ولان السباع
والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فتنجس أفواهها ولا يتحقق وجود مطهرها فينبغي
أن يقضى بنجاستها كالكلاب وحديث أبي سعيد قد أجبنا عنه ويتعين حمله على الماء الكثير عند من
يرى نجاسة سؤر الكلب والحديث الآخر يرويه ابن أبي حبيبة وهو منكر الحديث. قاله البخاري
وإبراهيم بن يحيى وهو كذاب - والصحيح عندي طهارة البغل والحمار لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يركبها وتركب في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسا لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك،
ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما فأشبها السنور، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " انها رجس " أراد أنها
محرمة كقوله تعالى في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام انها (رجس) ويحتمل انه أراد لحمها الذي
كان في قدورهم فإنه رجس، فإن ذبح مالا يحل أكله لا يطهره.
(القسم الثاني) طاهر في نفسه وسؤره وعرقه وهو ثلاثة أضرب (الأول) الآدمي فهو طاهر
وسؤره طاهر سواء كان مسلما أو كافرا عند عامة أهل العلم الا أنه حكي عن النخعي أنه كره سؤر
الحائض وعن جابر بن زيد لا يتوضأ منه، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المؤمن
ليس بنجس " (1) وعن عائشة أنها كانت تشرب من الاناء وهي حائض فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيضع فاه على موضع فيها فيشرب وتتعرق العرق فيأخذه فيضع فاه على موضع فيها. رواه مسلم وكانت

(1) لا أذكر له رواية بهذا اللفظ ولكن رواه الجماعة كلهم بلفظ " ان المؤمن لا ينجس " وله أول وتتمة ورواه بعضهم بألفاظ أخرى وبعضها بلفظ المسلم ولا مفهوم له عند الجمهور وفي بعضها زيادة " حيا ولا ميتا " رواه الشافعي
43

تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض. متفق عليه، وقال لعائشة " ناوليني الخمرة من المسجد "
قالت اني حائض قال " ان حيضتك ليست في يدك " (1).
(الضرب الثاني) ما أكل لحمه، فقال أبو بكر بن المنذر أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز
شربه والوضوء به، فإن كان جلالا يأكل النجاسات فذكر القاضي روايتين (إحداهما) انه نجس
(والثانية) طاهر فيكون هذا من النوع الثاني من القسم الأول المختلف فيه.
(الضرب الثالث) السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس فهذا ونحوه من حشرات الأرض
سؤره طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل
المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي إلا أبا حنيفة فإنه كره الوضوء بسؤر الهر فإن فعل أجزأه وقد
روي عن ابن عمر أنه كرهه وكذلك يحيى الأنصاري وابن أبي ليلى، وقال أبو هريرة يغسل مرة أو مرتين
وبه قال ابن المنذر وقال الحسن وابن سيرين يغسل مرة، وقال طاوس يغسل سبعا كالكلب وقد روى أبو داود
باسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وقال " إذا ولغت فيه الهرة
غسل مرة " ولنا ما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة ان أبا قتادة دخل عليها
فسكبت له وضوءا قالت فجاءت هرة فأصغى لها الاناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال
أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت نعم فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " انها ليست بنجس انها من الطوافين
عليكم والطوافات " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وهذا أحسن
شئ في الباب وقد دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما
يطوف علينا، وروى ابن ماجة عن عائشة قالت كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء قد
أصابت منه الهرة قبل ذلك، وعن عائشة أنها قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " انها ليست بنجس
انها من الطوافين عليكم " وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها. رواه أبو داود. (فصل) إذا أكلت الهرة نجاسة ثم شربت من ماء يسير بعد أن
غابت فالماء طاهر لأن النبي
صلى الله عليه وسلم نفى عنها النجاسة وتوضأ بفضلها مع علمه بأكلها النجاسات وإن شربت قبل أن
تغيب فقال القاضي وابن عقيل: ينجس لأنه وردت عليه نجاسة متيقنة أشبه ما لو أصابه بول. وقال
أبو الحسن الآمدي: طاهر مذهب أصحابنا أنه طاهر وإن لم تغب لأن النبي صلى الله عليه وسلم عفى

(1) رواه الجماعة إلا البخاري والخمرة بضم الخاء هي سجادة الصلاة تصنع من سعف النخل وتكون على قدر المصلي فإن زادت سميت حصيرة وقيل سجادة الصلاة مطلقا
44

عنها مطلقا وعلل بعدم أمكن الاحتراز عنها ولأننا حكمنا بطهارة سؤرها مع الغيبة في مكان لا يحتمل
ورودها على ماء كثير يطهر فاها، ولو احتمل ذلك فهو شك لا يزيل يقين النجاسة فوجب إحالة
الطهارة عليه العفو عنها وهو شامل لما قبل الغيبة.
(فصل) وان وقعت الفأرة أو الهر ونحوهما في مائع أو يسير ثم خرجت حية فهو طاهر نص
عليه أحمد فإنه سئل عن الفأرة تقع في السمن الذائب فلم تمت قال لا بأس بأكله وفي رواية قال إذا كان
حيا فلا شئ إنما الكلام في الميت وقيل يحتمل أن ينجس إذا أصاب الماء مخرجها لأن مخرج النجاسة
نجس فينجس به الماء، ولنا أن الأصل الطهارة وإصابة الماء لموضع النجاسة مشكوك فيه فإن المخرج
ينضم إذا وقع الحيوان في الماء فلا يزول اليقين بالشك.
(فصل) كل حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه - حكم سؤره في الطهارة والنجاسة
لأن السؤر إنما يثبت فيه حكم النجاسة في الموضع الذي ينجس لملاقاته لعاب الحيوان وجسمه فلو كان
طاهرا كان سؤره طاهرا وإذا كان نجسا كان سؤرها نجسا.
" مسألة " قال (وكل اناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب أو بول أو غيره فإنه يغسل سبع
مرات إحداهن بالتراب).
النجاسة تنقسم قسمين (أحدهما) نجاسه الكلب والخنزير والمتولد منهما فهذا لا يختلف المذهب في
أنه يجب غسلها سبعا إحداهن بالتراب وهو قول الشافعي، وعن أحمد أنه يجب غسلها ثمانيا إحداهن
بالتراب روي ذلك عن الحسن لحديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب
في الاناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب " رواه مسلم والرواية الأولى أصح (1) ويحمل هذا
الحديث على أنه عد التراب ثامنة لأنه وان وجد مع إحدى الغسلات فهو جنس آخر فيجمع بين الخبرين
وقال أبو حنيفة لا يجب العدد في شئ من النجاسات إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من

(1) رواه جماعة الا البخاري والترمذي وقال ابن منده إسناده مجمع على صحته وأقره الحافظ في الفتح
45

النجاسة لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكلب يلغ في الاناء " يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا "
فلم يعين عددا لأنها نجاسة فلم يجب فيها العدد كما لو كانت على الأرض.
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا "
متفق عليه ولمسلم وأبي داود " أولاهن بالتراب وحديث عبد الله بن المغفل الذي ذكرناه يرويه عبد
الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف (1) وقد روى غيره من الثقات " فليغسله سبعا " وعلى أنه يحتمل الشك
من الراوي فينبغي أن يتوقف فيه ويعمل بغيره وأما الأرض فإنه سومح في غسلها للمشقة بخلاف غيرها
(فصل) فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان والصابون والنخالة ونحو ذلك أو غسله غسلة
ثامنة فقال أبو بكر فيه وجهان (أحدهما) لا يجزئه لأنه طهارة أمر فيها بالتراب فلم يقم غيره مقامه
كالتيمم ولان الامر به تعبد غير معقول فلا يجوز القياس فيه (والثاني) يجزئه لأن هذه الأشياء أبلغ من
التراب في الإزالة فنصه على التراب تنبيه عليها ولأنه جامد أمر به في إزالة النجاسة فالحق به ما يماثله
كالحجر في الاستجمار (2) [فأما الغسلة الثامنة فالصحيح أنها لا تقوم مقام التراب لأنه إن كان القصد به
تقوية الماء في الإزالة فلا يحصل ذلك بالثامنة لأن الجمع بينهما أبلغ في الإزالة وان وجب تعبدا امتنع
ابداله والقياس عليه وقال بعض أصحابنا إنما يجوز العدول إلى غير التراب عند عدمه أو افساد المحل
المغسول به فأما مع وجوده وعدم الضرر فلا وهذا قول ابن حامد.
(القسم الثاني) نجاسة غير الكلب والخنزير ففيها روايتين (إحداهما) يجب العدد فيها قياسا على نجاسة
الولوغ وروي عن ابن عمر أنه قال أمرنا بغسل الأنجاس سبعا فينصرف إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم (والثانية) لا
يجب العدد بل يجزئ فيها المكاثرة بالماء من غير عدد بحيث تزول عين النجاسة وهذا قول الشافعي لما
روي عن ابن عمر قال كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات والغسل من البول سبع مرات
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا والغسل من البول مرة والغسل من الجنابة مرة
رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وهذا نص الا أن في رواته أبوب بن جابر وهو
ضعيف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ثم

(1) هذا غلط فقد رواه مسلم وغيره من طرق ليس عبد الوهاب هذا منها بل هي مجمع على صحتها
(2) كل ما بين القوسين هنا وفيما يأتي ساقط من النسخة التي أرسلت من نجد
46

لتصل فيه " رواه البخاري ولم يأمر فيه بعدد وفي حديث آخر أن امرأة ركبت ردف النبي صلى الله عليه وسلم
على ناقته فلما نزلت إذا على حقيبته شئ من دمها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تجعل في الماء
ملحا ثم تغسل به الدم، رواه أبو داود ولم يأمرها بعدد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصب على بول
الاعرابي سحل من ماء متفق عليه ولم يأمر بالعدد [ولأنها نجاسة غير الكلب فلم يجب فيها
العدد] وروي أن العدد لا يعتبر في غير محل الاستنجاء من البدن، ويعتبر في محل الاستنجاء
كبقية المحال قال الخلال هذه الرواية وهم ولم يثبتها فإذا قلنا بوجوب العدد ففي قدره روايتان
(إحداهما) سبع لما قدمنا (والثانية) ثلاث لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم من نومه فلا
يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده " متفق عليه إلا قوله ثلاثا انفرد
به مسلم - أمر بغسلها ثلاثا ليرتفع وهم النجاسة ولا يرفع وهم النجاسة الا ما يرفع حقيقتها وقد روي
أن النجاسة في محل الاستنجاء تطهر بثلاث وفي غيره تطهر بسبع لأن محل الاستنجاء تتكرر فيه
النجاسة فاقتضى ذلك التخفيف وقد اجتزئ فيها بثلاثة أحجار مع أن الماء أبلغ في الإزالة فأولى أن
يجتزي. فيها بثلاث غسلات، قال القاضي: الظاهر من قول احمد ما اختار الخزقي وهو وجوب العدد
في جميع النجاسات فإن قلنا لا يجب العدد لم يجب التراب وكذلك أن قلنا لا يجب الغسل سبعا لأن
الأصل عدم وجوبه ولم يرد الشرع به الا في نجاسة الولوغ وإن قلنا بوجوب السبع ففي وجوب التراب
وجهان (أحدهما) يجب قياسا على الولوغ (والثاني) لا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل
للدم وغيره ولم يأمر بالتراب إلا في نجاسة الولوغ فوجب أن يقتصر عليه ولان التراب ان أمر به
تعبدا وجب قصره على محله وان أمر به لمعنى في الولوغ للزوجة فيه لا تنقلع إلا بالتراب فلا يوجد ذلك
في غيره والمستحب أن يجعل التراب في الغسلة الأولى لموافقته لفظ الخبر أو ليأتي الماء عليه بعده فينظفه
ومتى غسل به أجزأه لأنه روي في حديث " إحداهن بالتراب " وفي حديث " أولاهن " وفي حديث
في الثامنة فيدل على أن محل التراب من الغسلات غير مقصود.
(فصل) إذا أصاب المحل نجاسات متساوية في الحكم فهي كنجاسة واحدة وإن كان بعضها أغلظ
كالولوغ مع غيره فالحكم لأغلظها ويدخل فيه ما دونه ولو غسل الإناء دون السبع ثم ولغ فيه مرة
أخرى فغسله سبعا أجزأه لأنه إذا أجزأ عما يماثل فعما دونه أولى.
(فصل) وإذا غسل محل النجاسة فأصاب ماء بعض الغسلات محلا آخر قبل تمام السبع ففيه
وجهان (أحدهما) يجب غلسه سبعا وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد لأنها نجاسة فلا يراعى
47

فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه كنجاسة الأرض ومحل الاستنجاء وظاهر قول الخرقي انه يجب
غسلها بالتراب وإن كان المحل الذي انفصلت عنه قد غسل بالتراب لأنها نجاسة أصابت غير الأرض
فأشبهت الأولى (والثاني) يجب غسله من الأولى ستا ومن الثانية خمسا ومن الثالثة أربعا كذلك إلى آخره
لأنها نجاسة تطهر في محلها بدون السبع فطهرت في مثله كالنجاسة على الأرض ولان المنفصل بعض
المتصل والمتصل يطهر بذلك فكذا المنفصل (وتفارق المنفصل عن الأرض ومحل الاستنجاء لأن العلة
في خفتها المحل وقد زالت عنه فزال التخفيف والعلة في تخفيفها ههنا قصور حكمها بما مر عليها من
الغسل وهذا لازم لها حسب ما كان، ثم إن كانت قد انفصلت عن محل غسل بالتراب غسل محلها بغير
تراب وإن كانت الأولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب وهذا اختيار القاضي وهو أصح إن شاء الله تعالى
(فصل) ولا فرق بين النجاسة من ولوغ الكلب أو يده أو رجله أو شعره أو غير ذلك من أجزائه
لأن حكم كل جزء من أجزاء الحيوان حكم بقية أجزائه على ما قررناه وحكم الخنزير حكم الكلب لأن النص وقع
في الكلب والخنزير شر منه وأغلظ لأن الله تعالى نص على تحريمه وأجمع المسلمون على ذلك وحرم اقتناؤه (1).
(فصل وغسل النجاسة يختلف باختلاف محلها ان كانت جسما لا يتشرب النجاسة كالآنية
فغسله بمرور الماء عليه كل مرة غسلة سواء كان بفعل آدمي أو غير فعله مثل ان ينزل عليه ماء المطر أو
يكون في نهر جار فتمر عليه جريات النهر فكل جرية تمر عليه غسلة لأن القصد غير معتبر فأشبه ما لو
صبه آدمي بغير قصد وان وقع في ماء قليل راكد نجسه ولم يطهر وإن كان كثيرا احتسب بوضعه فيه
ومرور الماء على أجزائه غسلة فإن خضخضه في الماء وحركه بحيث يمر عليه أجراء غير التي كانت
ملاقية له احتسب بذلك غسلة ثانية كما لو مرت عليه جريات من الماء الجاري، وإن كان المغسول اناء
فطرح فيه الماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغه منه لأنه العادة في غسله الا أن يكون يسع قلتين فصاعدا
فملأه فيحتمل أن إدارة الماء فيه تجري مجرى الغسلات لأن أجزاءه تمر عليها جريات من الماء غير التي
كانت ملاقية له فأشبه ما لو مرت عليها جريات من ماء جار، وقال ابن عقيل لا يكون غسله إلا بتفريغه
منه أيضا وإن كان المغسول جسما تدخل فيه أجزاء النجاسة لم يحتسب برفعه من الماء غسلة إلا بعد
عصره وعصر كل شئ بحسبه فإن كان بساطا ثقيلا أو زليا فعصره بتقليبه ودقه.
(فصل) ما أزيلت به النجاسة ان انفصل متغيرا بالنجاسة أو قبل طهارة المحل فهو نجس لأنه
تغير بالنجاسة أو ماء قليل لاقى محلا نجسا لم يطهره فكان نجسا كما لو وردت عليه، وان انفصل غير
متغير من الغسلة التي طهر بها المحل فإن كان المحل أرضا فهو طاهر رواية واحدة لأن النبي صلى الله

(1) جمهور السلف وأكثر الفقهاء على طهارة كل حيوان حي وعلى كون الغسل من ولوغ الكلب لا يقاس عليه غيره من أجزائه ولا ما هو شر منه كالخنزير وهذا هو الذي رجحه شيخ الاسلام والنووي من الشافعية من حيث الدليل لا المذهب
48

عليه وسلم أمر أن يصب على بول الاعرابي ذنوب من ماء ليطهر الأرض التي بال عليها فلو كان المنفصل
نجسا لنجس به ما انتشر إليه من الأرض فتكثر النجاسة، وإن كان غير الأرض ففيه وجهان قال أبو
الخطاب أصحهما أنه طاهر وهو مذهب الشافعي لأنه انفصل عن محل محكوم بطهارته فكان طاهرا
كالغسلة الثامنة وأن المنفصل بعض المتصل والمتصل طاهر وكذلك المنفصل - والثاني أنه نجس وهو
قول أبي حنيفة واختاره أبو عبد الله بن حامد لأنه ماء قليل لاقى محلا نجسا أشبه ما لو لم يطهرها قال
أبو الخطاب إنما يحكم بطهارة المنفصل من الأرض إذا كانت قد نشفت أعيان البول فإن كانت
أعيانها قائمة فجرى الماء عليها طهرها وقي المنفصل روايتان كالمنفصل عن غير الأرض قال وكونه نجسا أصح
في كلامه والأولى الحكم بطهارته لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل بول الاعرابي عقيب بوله ولم يشترط نشافه
(فصل) إذا غسل بعض الثوب النجس جاز ويطهر المغسول دون غيره فإن كان يغمس بعضه
في ماء يسير راكد يعركه فيه نجس الماء ولم يطهر منه شئ لأنه بغمسه في الماء صار نجسا فلم يطهر منه
شيئا وإن كان يصب على بعضه في جفنة طهر ما طهره وكان المنفصل نجسا لأنه لابد من أن يلاقي الماء
المنفصل جزء غير المغسول فينجس به.
(فصل) إذا أصاب ثوب المرأة دم حيضها استحب أن تحته بظفرها لتذهب خشونته ثم تقرصه
ليلين للغسل ثم تغسله بالماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم لاسماء في دم الحيض " حتيه ثم اقرصيه ثم
غسليه بالماء " متفق عليه، فإن اقتصرت على ازالته بالماء جاز فإن لم يزل لونه وكانت ازالته تشق أو
يتلف الثوب وبضره عفي عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يضرك أثره " وان استعملت في ازالته شيئا
يزيله كالملح وغيره فحسن لما روى أبو داود باسناده عن امرأة من غفار ان النبي صلى الله عليه وسلم
ردفها على حقيبته فحاضت قالت فنزلت فإذا بها دم مني فقال " مالك؟ لعلك نفست " قلت نعم قال
49

" فاصلحي من نفسك ثم خذي اناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم " قال
الخطابي فيه من الفقه جواز استعمال الملح وهو مطعوم في غسل الثوب وتنقيته من الدم فعلى هذا يجوز
غسل الثياب بالعسل إذا كان يفسدها الصابون وبالخل إذا أصابها الحبر والتدلك بالنخالة وغسل
الأيدي بها والبطيخ ودقيق الباقلا وغيرها من الأشياء التي لها قوة الجلاء والله أعلم.
(فصل) فإذا كان في الاناء خمر أو شبهه من النجاسات التي يتشربها الاناء ثم متى جعل فيه
مائع سواه ظهر فيه طعم النجاسة أو لونها لم يطهر بالغسل لأن الغسل لا يستأصل أجزاء النجاسة من
جسم الاناء فلم يطهره كالسمسم إذا ابتل بالنجاسة قال الشيخ أبو الفرج المقدسي في المبهج: آنية الخمر
منها المزفت فتطهر بالغسل لأن الزفت يمنع وصول النجاسة إلى جسم الاناء ومنها ما ليس بمزفت
فيتشرب أجزاء النجاسة فلا يطهر بالتطهير فإنه متى ترك فيه مائع ظهر فيه طعم الخمر ولونه.
* (مسألة) * قال (وإذا كان معه في السفر إناءان نجس وطاهر واشتبها عليه أراقهما ويتيمم)
إنما خص حالة السفر بهذه المسألة لأنها الحالة التي يجوز التيمم فيها ويعدم فيها الماء غالبا وأراد
إذا لم يجد ماء غير الإناءين المشتبهين فإنه متى وجد ماء طهورا غيرهما توضأ به ولم يجز التحري ولا
التيمم بغير خلاف ولا تخلو الآنية المشتبهة من حالين (أحدهما) أن لا يزيد عدد الطاهر على النجس
فلا خلاف في المذهب انه لا يجوز التحري فيهما (والثاني) أن يكثر عدد الطاهرات فذهب أبو علي
النجاد من أصحابنا إلى جواز التحري فيهما وهو مذهب أبي حنيفة لأن الظاهر إصابة الطاهر ولان
جهة الإباحة قد ترجحت فجاز التحري كما لو اشتبهت عليه أخته في نساء مصر، وظاهر كلام أحمد انه
لا يجوز التحري فيها بحال وهو قول أكثر أصحابه وهو قول المزني وأبي ثور، وقال الشافعي يتحرى
ويتوضأ بالأغلب عنده في الحالين [لأنه شرط للصلاة فجاز التحري من أجله كما لو اشتبهت القبلة
ولأن الطهارة تؤدى باليقين تارة وبالظن أخرى ولهذا جاز التوضؤ بالماء القليل المتغير الذي لا يعلم
50

سبب تغيره وقال ابن الماجشون يتوضأ من كل واحد منهما وضوء ويصلي به وبه قال محمد بن مسلمة
إلا أنه قال يغسل ما أصابه من الأول لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين فلزمه [كما لو اشتبه طاهر بطهور
وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها أو اشتبهت عليه الثياب].
ولنا انه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري كما لو استوى العدد عند
أبي حنيفة وكما لو كان أحدهما بولا عند الشافعي فإنه قد سلمه. واعتذر صحابه بأنه لا أصل له في
الطهارة - قلنا وهذا الماء قد زال عنه أصل الطهارة وصار نجسا فلم يبق للأصل لزائل أثر [على أن البول
قد كان ماءا فله أصل في الطهارة كهذا الماء النجس] وقولهم إذا كثر الطاهر ترجحت الإباحة يبطل
بما إذا اشتبهت أخته في مائة أو ميتة بمذكيات فإنه لا يجوز التحري وإن كثر المباح، وأما إذا اشتبهت
في نساء مصر فإنه يشق اجتنابهن جميعا ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر [وأما القبلة فيباح تركها
للضرورة كحالة الخوف ويجوز أيضا في السفر في صلاة النافلة، ولان قبلته ما يتوجه إليه بظنه، ولو
بان له يقين الخطأ لم يلزمه الإعادة بخلاف مسئلتنا. وأما المتغير من غير سبب يعلمه فيجوز الوضوء به
استنادا إلى أصل الطهارة وإن غلب على ظنه نجاسته ولا يحتاج إلى تحر. وفي مسئلتنا عارض يقين
الطهارة يقين النجاسة فلم يبق له حكم، ولهذا لا يجوز له استعماله من غير تحر ثم يبطل قياسهم بما إذا
كان أحدهما بولا والآخر ماء ويدل على صحة ما قلنا أنه لو توضأ من أحد الإناءين وصلى ثم غلب
على ظنه في الصلاة الثانية أن الآخر هو الطاهر فتوضأ به وصلى من غير غسل أثر الأول فقد علمنا
أنه صلى بالنجاسة يقينا، وإن غسل أثر الأول ففيه حرج ونقض لاجتهاده باجتهاده ونعلم أن إحدى
الصلاتين باطلة لا بعينها فيلزمه اعادتهما، فإن توضأ من الأول فقد توضأ بما يعتقده نجسا وما قاله ابن
الماجشون فباطل فإنه يفضي إلى تنجيس نفسه يقينا وبطلان صلاته اجماعا وما قاله ابن مسلمة ففيه حرج
ويبطل بالقبلة فإنه لا يلزمه أن يصلي إلى أربع جهات.
51

(فصل) وهل يجوز له التيمم قبل اراقتهما؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز لأن معه ماء طاهرا
بيقين فلم يجز له التيمم مع وجوده فإن خلطهما أو أراقهما جاز له التيمم لأنه لم يبق معه ماء طاهر
(والثانية) يجوز التيمم قبل ذلك اختاره أبو بكر وهو الصحيح لأنه غير قادر على استعمال الطاهر أشبه
ما لو كان في بئر لا يمكنه استقاؤه، وإن احتاج إليهما للشرب لم تجب اراقتهما بغير خلاف فإنه يجوز
له التيمم لو كانا طاهرين فمع الاشتباه أولى، وإذا أراد الشرب تحرى وشرب من الطاهر عنده لأنها
ضرورة تبيح الشرب من النجس إذا لم يجد غيره فمن الذي يظن طهارته أولى، وإن لم يغلب على ظنه
طهارة أحدهما شرب من أحدهما وصار هذا كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة في حال الاضطرار ولم يجد
غيرها فإنه إذا جاز استعمال النجس فاستعمال ما يظن طهارته أولى، وإذا شرب من أحدهما أو أكل
من المشتبهات ثم وجد ماء طهورا فهل يلزمه غسل فيه؟ يحتمل وجهين (أحدهما) لا يلزمه لأن
الأصل طهارة فيه فلا تزول عن ذلك بالشك (والثاني) يلزمه لأنه محل منع استعماله من أجل النجاسة
فلزمه غسل أثره كالمتيقن.
(فصل) وإذا علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك عن نفسه، وإن احتاج إلى الشرب
شرب من الطاهر ويتيمم إذا لم يجد غير النجس، وإن خاف العطش في ثاني الحال فقال القاضي يتوضأ
بالماء الطاهر ويحبس النجس لأنه غير محتاج إلى شربه في الحال فلم يجز التيمم مع وجوده، والصحيح
إن شاء الله أنه يحبس الطاهر ويتيمم لأن وجود النجس كعدمه عند الحاجة إلى الشرب في الحال
وكذلك في المآل وخوف العطش في إباحة التيمم كحقيقته.
(فصل) وإذا اشتبه ماء طهور بماء قد بطلت طهوريته توضأ من كل واحد منهما وضوءا كاملا
52

وصلى بالوضوءين صلاة واحدة لا أعلم فيه خلافا لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين من غير حرج فيه فلزمه
كما لو كانا طاهرين ولم يكفه أحدهما وفارق ما إذا كان نجسا لأنه ينجس أعضاءه يقينا ولا يأمن أن
يكون النجس هو الثاني فيبقى نجسا ولا تصح صلاته، فإن احتاج إلى أحد الإناءين في الشرب تحرى
فتوضأ بالطهور عنده ويتيمم معه ليحصل له اليقين والله أعلم.
(فصل) وإن اشتبهت عليه ثياب طاهرة بنجسة لم يجز التحري وصلى في كل ثوب بعدد النجس
وزاد صلاة. وهذا قول ابن الماجشون، وقال أبو ثور والمزني لا يصلي في شئ منها كالا واني وقال
أبو حنيفة والشافعي يتحرى فيها كقولهم في الأواني والقبلة.
ولنا أنه أمكنه أداء فرضه بيقين من غير حرج فلزمه كما لو اشتبه الطهور بالطاهر وكما لو نسي
صلاة من يوم لا يعلم عينها والفرق بين هذا وبين الأواني النجسة من وجهين (أحدهما) ان استعمال
النجس يتنجس به ويمنع صحة صلاته في الحال والمال وهذا بخلافه (الثاني) أن الثوب النجس تباح
له الصلاة فيه إذا لم يجد غيره والماء النجس بخلافه، والفرق بينه وبين القبلة من، وجوه (أحدها) ان
القبلة يكثر الاشتباه فيها فيشق اعتبار اليقين فسقط دفعا للمشقة وهذا بخلافه (الثاني) ان الاشتباه
ههنا حصل بتفريطه لأنه كان يمكنه تعليم النجس أو غسله ولا يمكنه ذلك في القبلة (الثالث) ان
القبلة عليها أدلة من النجوم والشمس والقمر وغيرها فيصح الاجتهاد في طلبها ويقوى دليل الإصابة
لها بحيث لا يبقى احتمال الخطأ إلا وهما ضعيفا بخلاف الثياب.
53

(فصل) فإن لم يعلم عدد النجس صلى فيما يتيقن به أنه صلى في ثوب طاهر فإن كثر ذلك وشق
فقال ابن عقيل يتحرى في أصح الوجهين دفعا للمشقة. والثاني: لا يتحرى لأن هذا يندر جدا فلا
يفرد بحكم ويسحب عليه دليل الغالب.
(فصل) وان ورد ماءا فأخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره لأنه ليس
من أهل الشهادة ولا الرواية فلا يلزمه قبول خبره كالطفل والمجنون وإن كان المخبر بالغا عاقلا مسلما
غير معلوم فسقه وعين سبب النجاسة لزم قبول خبره سواء كان رجلا أو امرأة حرا أو عبدا معلوم العدالة
أو مستور الحال لأنه خبر ديني فأشبه الخبر بدخول وقت الصلاة، وان لم يعين سببها فقال القاضي
لا يلزم قبول خبره لاحتمال اعتقاده نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر كالحنفي يرى نجاسة الماء الكثير
والشافعي يرى نجاسة الماء اليسير بما لا نفس له سائلة والموسوس الذي يعتقد نجاسة بما لا ينجسه ويحتمل
أن يلزم قبول خبره إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه.
(فصل) فإن أخبره أن كلبا ولغ في هذا الاناء لزم قبول خبره سواء كان بصيرا أو ضريرا لأن
للضرير طريقا إلى العلم بذلك بالخبر والحس وان أخبره أن كلبا ولغ في هذا الاناء ولم يلغ في هذا
وقال آخر لم يلغ في الأول وإنما ولغ في الثاني وجب اجتنابهما فيقبل قول كل واحد منهما، في الاثبات
دون النفي لأنه يجوز أن يعلم كل واحد منهما ما خفي على الآخر، الا أن يعينا وقتا معينا وكلبا واحدا
يضيق الوقت عن شربه منهما فيتعارض قولهما ويسقطان ويباح استعمال كل واحد منهما فإن قال أحدهما
شرب من هذا الاناء وقال الآخر نزل ولم يشرب قدم قول المثبت الا أن يكون لم يتحقق شربه مثل
الضرير الذي يخبر عن حسه فيقدم قول البصير لأنه أعلم.
(فصل) إذا سقط على انسان من طريق ماء لم يلزمه السؤال عنه لأن الأصل طهارته قال صالح
سألت أبي عن الرجل يمر بالموضع فيقطر عليه قطرة أو قطرتان فقال إن كان مخرجا يعني خلاء فاغسله
وان لم يكن مخرجا فلا يسأل عنه فإن عمر رضي الله عنه مر هو وعمرو بن العاص على حوض فقال
عمرو يا صاحب الحوض أترد على حوضك السباع؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فانا نرد عليها
وترد علينا رواه مالك في الموطأ، فإن سأل فقال ابن عقيل لا يلزم المسؤول رد الجواب لخبر عمر ويحتمل
54

أن يلزمه لأنه سأل عن شرط الصلاة فلزمه الجواب إذا علم كما لو سأل عن القبلة وخبر عمر رضي الله
عنه يدل على أن سؤر السباع غير نجس والله أعلم.
باب الآنية
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله * (وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس) *
لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ ولا نعلم أحدا خالف فيه، وأما بعد الدبغ
فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضا وهو إحدى الروايتين عن مالك، ويروى ذلك عن عمر وابنه
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعمران بن حصين وعائشة رضي الله عنهم وعن أحمد رواية أخرى
أنه يطهر منها جلد ما كان طاهرا في حال الحياة، وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشعبي والنخعي
وقتادة ويحيى الأنصاري وسعيد بن جبير والأوزاعي والليث والثوري وابن المبارك وإسحاق
وروي ذلك عن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم مع اختلافهم فيما هو طاهر
في الحياة وهو مذهب الشافعي وهو يرى طهارة الحيوانات كلها إلا الكلب والخنزير فيطهر عنده
كل جلد الا جلدهما وله في جلد الآدمي وجهان، وقال أبو حنيفة يطهر كل جلد بالدبغ الا جلد الخنزير
وحكي عن أبي يوسف أنه يطهر كل جلد، وهو رواية عن مالك ومذهب من حكم بطهارة
الحيوانات كلها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا دبغ الاهاب فقد طهر " متفق عليه ولان رسول الله
صلى الله عليه وسلم وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" هلا انتفعتم بجلدها " قالوا إنها ميتة قال " إنما حرم أكلها " وفي لفظ " الا أخذوا إهابها فدبغوه
55

فانتفعوا به " متفق عليه ولأنه إنما نجس باتصال الدماء والرطوبات به بالموت، والدبغ يزيل ذلك
فيرتد الجلد إلى ما كان عليه في حال الحياة، ولنا ما روى عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه
وسلم كتب إلى جهينة " اني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا
من الميتة باهاب ولا عصب " رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده، وقال الإمام أحمد
اسناد جيد يرويه يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن
عكيم وفي لفظ " أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أو شهرين " (1) وهو ناسخ لما قبله
لأنه في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه دال على سبق الترخيص وأنه متأخر عنه لقوله
" كنت رخصت لكم " وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل هذا مرسل
لأنه من كتاب لا يعرف حامله قلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كلفظه ولولا ذلك لم يكتب
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد وقد كتب إلى ملوك الأطراف وإلى غيرهم فلزمتهم الحجة به وحصل
له البلاغ ولو لم يكن حجة لم تلزمهم الإجابة ولا حصل به بلاغ ولكان لهم عذر في ترك الإجابة
لجهلهم بحامل الكتاب وعدالته، وروى أبو بكر الشافعي باسناده عن أبي الزبير عن جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " لا تنتفعوا من الميتة بشئ " واسناده حسن ولأنه جزء من الميتة فكان محرما
لقوله تعالى (حرمت عليكم الميتة) فلم يطهر بالدبغ كاللحم ولأنه حرم بالموت فكان نجسا كما قبل الدبغ
وقولهم انه إنما نجس باتصال الدماء والرطوبات به غير صحيح لأنه لو كان نجسا لذلك لم ينجس ظاهر
الجلد ولا ما ذكاه المجوسي والوثني ولا ما قد نصفين ولا متروك التسمية لعدم علة التنجيس ولوجب الحكم بنجاسة
الصيد الذي لم تنسفح دماؤه ورطوباته ثم كيف يصح هذا عند الشافعي وهو يحكم بنجاسة الشعر والصوف
والعظم؟ وأبو حنيفة يطهر جلد الكلب وهو نجس في الحياة.

(1) التحقيق ان هذا الحديث ضعيف بعلل فيه غير الارسال وهي انقطاع سنده واضطراب متنه وسنده والاطلاق تارة والتقييد أخرى فيه بشهر أو شهرين واضطراب إسناده ثم إن اسم الاهاب خاص بالجلد
الذي لم يدبغ وبذلك يجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة في تطهير الدبغ وقال الترمذي ان أحمد ترك أخيرا هذا الحديث لاضطرابهم في إسناده
56

(فصل) هل يجوز الانتفاع به في اليابسات؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لقوله " لا تنتفعوا
من الميتة بشئ " وقوله " لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب " (والثانية) يجوز الانتفاع به لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " الا أخذوا إهابها فانتفعوا به " وفي لفظ " الا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به " ولان
الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة ولأنه انتفاع من
غير ضرر أشبه الاصطياد بالكلب وركوب البغل والحمار.
(فصل) فأما جلود السباع فقال القاضي لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ ولا بعده وبذلك قال الأوزاعي
ويزيد بن هارون وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور، وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما كراهة الصلاة في جلود
الثعالب وكرهه سعيد بن جبير والحكم ومكحول وإسحاق، وكره الانتفاع بجلود السنانير عطاء وطاوس ومجاهد
وعبيدة السلماني ورخص في جلود السباع جابر وروي عن ابن سيرين وعروة أنهم رخصوا في الركوب على جلود
النمور ورخص فيها الزهري، وأباح الحسن والشعبي وأصحاب الرأي الصلاة في جلود الثعالب لأن الثعالب
تفدى في الاحرام فكانت مباحة ولما ثبت من الدليل على طهارة جلود الميتة بالدباغ.
ولنا ما روى أبو ريحانة: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النمور. أخرجه أبو داود وابن
ماجة، وعن معاوية والمقدام بن معديكرب. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع
والركوب عليها. رواه أبو داود، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش جلود السباع رواه الترمذي
ورواه أبو داود ولفظه إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع. مع ما سبق من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
الانتفاع بشئ من الميتة. وأما الثعالب فيبنى حكمها على حلها وفيها روايتان كذلك يخرج في جلودها
فإن قلنا بتحريمها فحكم جلودها حكم جلود بقية السباع وكذلك السنانير البرية فاما الأهلية فمحرمة
وهل تطهر جلودها بالدباغ؟ يخرج على روايتين.
57

(فصل) إذا قلنا بطهارة الجلود بالدباغ لم يطهر منها جلد ما لم يكن طاهرا في الحياة نص احمد
على أنه يطهر وقال بعض أصحابنا لا يطهر إلا ما كان مأكول اللحم وهو مذهب الأوزاعي وأبي ثور
وإسحاق لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " دباغ الأديم ذكاته " فشبه الدبغ بالذكاة والذكاة إنما
تعمل في مأكول اللحم ولأنه أحد المطهرين للجلد فلم يؤثر في غير مأكول كالذبح، وظاهر كلام أحمد أن
كل طاهر في الحياة يطهر بالدبغ لعموم لفظه في ذلك ولان قوله عليه السلام " أيما اهاب دبغ فقد طهر "
يتناول المأكول وغيره خرج منه ما كان نجسا في الحياة لكون الدبغ إنما يؤثر في دفع نجاسة حادثة
؟؟ فيبقى فيما عداه على قضية العموم وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة التطييب من قولهم رائحة
ذكية أي طيبة وهذا يطيب الجمع ويدل على هذا انه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة والذي يختص به
الجلد هو تطييبه وطهارته أما الذكاة التي هي الذبح فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله ويحتمل انه أراد بالذكاة
الطهارة فسمى الطهارة ذكاة فيكون اللفظ عاما في كل جلد فيتناول ما اختلفنا فيه.
(فصل) ولا يحل أكله بعد الدبغ في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن ابن حامد انه يحل
وهو وجه لأصحاب الشافعي لقوله " دباغ الأديم ذكاته " ولأنه معنى يفيد الطهارة في الجلد فأباح الاكل
كالذبح ولنا قوله تعالى (حرمت عليكم الميتة) والجلد منها وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما حرم من الميتة أكلها "
متفق عليه ولأنه جزء من الميتة فحرم أكله كسائر أجزائها ولا يلزم من الطهارة إباحة الاكل بدليل الخبائث
مما لا ينجس بالموت ثم لا يسمع قياسهم في ترك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(فصل) ويجوز بيعه واجارته والانتفاع به في كل ما يمكن الانتفاع به فيه سوى الاكل لأنه صار
بمنزلة المذكي في غير الاكل ولا يجوز بيعه قبل دبغه لأنه نجس متفق على نجاسة عينه فأشبه الخنزير
(فصل) ويفتقر ما يدبغ به إلى أن يكون منشفا للرطوبة منقيا للخبث كالشب والقرظ قال ابن
عقيل: ويشترط كونه طاهرا فإن كان نجسا لم يطهر الجلد لأنها طهارة من نجاسة فلم تحصل بنجس كالاستجمار
58

والغسل وهل يطهر الجلد بمجرد الدبغ قبل غسله بالماء؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تحصل لقول النبي صلى الله عليه وسلم
في جلد الشاة الميتة " يطهرها الماء والقرظ " رواه أبو داود ولان ما يدبغ به نجس بملاقاة الجلد فإذا اندبغ
الجلد بقيت الآلة نجسة فتبقى نجاسة الجلد لملاقاتها له فلا يزول إلا بالغسل (والثاني) يطهر لقوله عليه السلام
" أيما اهاب دبغ فقد طهر " ولأنه طهر بانقلابه فلم يفتقر إلى استعمال الماء كالخمرة إذا انقلبت خلا والأول
أولى والخبر والمعنى يدلان على طهارة عينه ولا يمنع ذلك من وجوب غسله من نجاسة تلاقيه كما لو أصابته
نجاسة سوى آلة الدبغ أو اصابته آلة الدبغ بعد فصله عنها.
(فصل) ولا يفتقر الدبغ إلى فعل لأنها إزالة نجاسة فأشبهت غسل الأرض فلو وقع جلد ميتة في
مدبغة بغير فعل فاندبغ طهر كما لو نزل ماء السماء على أرض نجسة طهرها.
(فصل) وإذا ذبح مالا يؤكل لحمه كان جلده نجسا وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يطهر
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " دباغ الأديم ذكاته " أي كذكاته فشبه الدبغ بالذكاة والمشبه به أقوى من المشبه
فإذا طهر الدبغ مع ضعفه فالذكاة أولى ولان الدبغ يرفع العلة بعد وجودها والذكاة تمنعها والمنع أقوى
من الرفع. ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش جلود السباع وركوب النمور وهو عام في المذكى
وغيره ولأنه ذبح لا يطهر اللحم فلم يطهر الجلد كذبح المجوسي أو ذبح غير مشروع فأشبه الأصل،
والخبر قد أجبنا عنه فيما مضى، ثم نقول إن الدبغ إنما يؤثر في مأكول اللحم فكذلك ما شبه به ولو سلمنا
انه يؤثر في تطهير غيره فلا يلزم حصول التطهير بالذكاة لكون الدبغ مزيلا للخبث والرطوبات كلها
مطيبا للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير والذكاة لا يحصل بها ذلك فلا يستغنى بها عن
الدبغ وقولهم المشبه أضعف من المشبه به غير لازم فإن الله تعالى قال في صفة الحور (كأنهن بيض
مكنون) وهن أحسن من البيض والمرأة الحسناء تشبه بالظبية وبقرة الوحش وهي أحسن منهما،
وقولهم ان الدبغ برفع العلة ممنوع فإننا قد بينا ان الجلد لم ينجس لما ذكرناه وإن سلمنا فإن الذبح لا يمنع
59

منها ثم يبطل ما ذكروه بذبح المجوسي والوثني والمحرم وبترك التسمية وما شق نصفين.
(فصل) ظاهر المذهب أنه لا يطهر شئ من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا وما عداه
لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت فصارت رمادا والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا والدخان المترقي من
وقود النجاسة والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثم قطر فهو نجس
ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة قياسا على الخمرة إذا انقلبت وجلود الميتة إذا دبغت والجلالة إذا
حبست والأول ظاهر المذهب وقد نهى إمامنا رحمه الله عن الخبز في تنور شوي فيه خنزير.
* (مسألة) * قال (كذلك آنية عظام الميتة)
يعني انها نجسة وجملة ذلك أن عظام الميتة نجسة سواء كانت ميتة ما يؤكل لحمه أو مالا يؤكل لحمه
كالفيلة ولا يطهر بحال وهذا مذهب مالك والشافعي وإسحاق، وكره عطاء وطاوس والحسن وعمر بن
عبد العزيز رضي الله عنهم عظام الفيلة ورخص في الانتفاع بها محمد بن سيرين وغيره وابن جريج
لما روى أبو داود باسناده عن ثوبان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة رضي الله عنها قلادة من
عصب وسوارين من عاج.
ولنا قول الله تعالى (حرمت عليكم الميتة) والعظم من جملتها فيكون محرما (1) والفيل لا يؤكل لحمه
فهو نجس على كل حال وأما الحديث فقال الخطابي قال الأصمعي العاج الذبل ويقال هو عظم ظهر
السلحفاة البحرية وذهب مالك إلى أن الفيل ان ذكي فعظمه طاهر وإلا فهو نجس لأن الفيل مأكول
عنده وهو غير صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع رواه مسلم والفيل
أعظمها نابا (2) فأما عظام بقية الميتات فذهب الثوري وأبو حنيفة إلى طهارتها لأن الموت لا يحلها فلا
تنجس به كالشعر ولأن علة التنجيس في اللحم والجلد اتصال الدماء والرطوبات به ولا يوجد ذلك
في العظام. ولنا قول الله تعالى (قال من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة

(1) احتج آنفا بحديث " إنما يحرم من الميتة اكلها " وهو حصر فيخرج العظم وقد أطال شيخ الاسلام الكلام في تصويب طهارة العظم والقرن والظفر ذكر أنه مذهب أبي حنيفة وقول لمالك وأحمد
(2) الفيل ليس من السباع والنهي عن أكل السباع للكراهة لأن المحرم محصور في عدة آيات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله وهو مذهب مالك
60

وهو بكل خلق عليم) وما يحيا فهو يموت ولان دليل الحياة الاحساس والألم. والألم في العظم أشد من
الألم في اللحم والجلد، والضرس يألم ويلحقه الضرس ويحس ببرد الماء وحرارته وما تحله الحياة يحله الموت
إذ كان الموت مفارقة الحياة وما يحله الموت ينجس به كاللحم. قال الحسن لبعض أصحابه لما سقط ضرسه
أشعرت ان بعضي مات اليوم؟ وقولهم ان سبب التنجيس اتصال الدماء والرطوبات قد أجبنا عنه فيما مضى.
(فصل) والقرن والظفر والحافر ان أخذ من مذكى فهو طاهر وان أخذ من حي
فهو نجس لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه الترمذي وقال حديث
حسن غريب، وكذلك ما يتساقط من قرون الوعول في حياتها، ويحتمل ان هذا طاهر لأنه طاهر
متصل مع عدم الحياة فيه فلم ينجس بفصله من الحيوان ولا بموت الحيوان كالشعر. والخبر أريد به ما يقطع
من البهيمة مما فيه حياة لأنه بفصله يموت فتفارقه الحياة بخلاف هذا فإنه لا يموت بفصله فهو أشبه بالشعر
ومالا ينجس بالموت لا بأس بعظامه كالسمك لأن موته كتذكية الحيوانات المأكولة.
(فصل) ولبن الميتة وإنفحتها نجس في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي، وروي أنها
طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود لأن الصحابة رضي الله عنهم أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن وهو
يعمل بالإنفحة وهي تؤخذ من صغار المعز فهو بمنزلة اللبن وذبائحهم ميتة.
ولنا أنه مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو حلب في وعاء نجس، ولأنه لو أصاب الميتة بعد
فصله عنها لكان نجسا فكذلك قبل فصله، وأما المجوس فقد قيل إنهم ما كانوا يتولون الذبح بأنفسهم
وكان جزاروهم اليهود والنصارى ولو لم ينقل ذلك عنهم لكان الاحتمال موجودا فقد كان فيهم اليهود
والنصارى والأصل الحل فلا يزول بالشك، وقد روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قدموا العراق
مع خالد كسروا جيشا من أهل فارس بعد أن نصبوا الموائد ووضعوا طعامهم ليأكلوا، فلما فرغ المسلمون
منهم جلسوا فأكلوا ذلك الطعام والظاهر أنه كان لحما، فلو حكم بنجاسة ما ذبح ببلدهم لما أكلوا من
لحمهم شيئا، فإذا حكموا بحل اللحم فالجبن أولى، وعلى هذا لو دخل أرضا فيها مجوس وأهل كتاب
61

كان له أكل جبنهم ولحمهم احتجاجا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
(فصل) وإن ماتت الدجاجة وفي بطنها بيضة قد صلب قشرها فهي طاهرة وهذا قول أبي
حنيفة وبعض الشافعية وابن المنذر وكرهها علي بن أبي طالب وابن عمر وربيعة ومالك والليث وبعض
الشافعية لأنها جزء من الدجاجة.
ولنا أنها بيضة صلبة القشر طرأت النجاسة عليها فأشبه ما لو وقعت في ماء نجس وقولهم انها جزء
منها غير صحيح، وإنما هي مودعة فيها غير متصلة بها فأشبهت الولد إذا خرج حيا من الميتة ولأنها
خارجة من حيوان يخلق منها مثل أصلها أشبهت الولد الحي وكراهة الصحابة لها محمولة على كراهية التنزيه
استقذارا لها، ولو وضعت البيضة تحت طائر فصارت فرخا كان طاهرا بكل حال، فإن لم تكمل البيضة
فقال بعض أصحابنا ما كان قشره أبيض فهو طاهر، وما لم يبيض قشره فهو نجس لأنه ليس عليه حائل
حصين، واختار ابن عقيل إنه لا ينجس لأن البيضة عليها غاشية رقيقة كالجلد وهو القشر قبل أن يقوى
فلا ينجس منها الا ما كان لاقى النجاسة كالسمن الجامد إذا ماتت فيه فأرة الا أن هذه تطهر إذا غسلها
لأن لها من القوة ما يمنع تداخل أجزاء النجاسة فيها بخلاف السمن.
* (مسألة) * قال (ويكره أن يتوضأ بآنية الذهب والفضة فإن فعل كره)
أراد بالكراهة التحريم ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام
وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافا (1) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة "
ونهى عن الشرب في آنية الفضة قال " من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة " وقال عليه
الصلاة والسلام " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " متفق عليهن
فنهى والنهى يقتضي التحريم، وذكر في ذلك وعيدا شديدا يقتضى التحريم ويروى " نار جهنم " برفع

(1) الخلاف ثابت عن داود حتى في الاكل وعن معاوية ابن قرة حتى الشرب والحديث خاص بالأكل والشرب فقياس كل استعمال عليه قياس مع الفارق كما حققه الشوكاني في نيل الأوطار
وقال إن الأصل الحل المعتضد بالبراءة الأصلية وقد أيده حديث " ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبا " رواه أحمد وأبو داود
62

الراء ونصبها فمن رفعها نسب الفعل إلى النار ومن نصبها أضمر الفاعل في الفعل وجعل النار مفعولة
تقديره يجرجر الشارب في بطنه نار جهنم والعلة في تحريم الشرب فيها ما يتضمنه ذلك من الفخر
والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهو موجود في الطهارة منها واستعمالها كيفما كان بل إذا حرم
في غير العبادة ففيها أولى فإن توضأ منها أو اغتسل فعلى وجهين (أحدهما) تصح طهارته وهو قول
الشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن فعل الطهارة وماءها لا يتعلق بشئ من ذلك
أشبه الطهارة في الدار المغصوبة (والثاني) لا يصح اختاره أبو بكر لأنه استعمل المحرم في العبادة
فلم يصح كالصلاة في الدار المغصوبة والأول أصح، ويفارق هذا الصلاة في الدار المغصوبة لأن أفعال
الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم لكونه تصرفا في ملك غيره بغير
اذنه وشغلا له وافعال الوضوء من الغسل والمسح ليس بمحرم إذ ليس هو استعمالا للاناء ولا تصرفا فيه
وإنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الاناء وفصله عنه فأشبه ما لو غرف بآنية الفضة في إناء غيره ثم
توضأ به ولان المكان شرط الصلاة إذ لا يمكن وجودها في غير مكان والاناء ليس بشرط فأشبه
ما لو صلى وفى يده خاتم ذهب.
(فصل) فإن جعل آنية الذهب والفضة مصبا لماء الوضوء ينفصل الماء عن أعضائه إليه صح
الوضوء لأن المنفصل الذي يقع في الآنية قد رفع الحدث فلم يزل ذلك بوقوعه في الاناء ويحتمل ان
63

تكون كالتي قبلها لأن الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء يحصل باستعماله ههنا كحصوله في التي قبلها وفعل
الطهارة يحصل ههنا قبل وصول الماء إلى الاناء وفي التي قبلها بعد فصله عنه فهي مثلها في المعنى وان افترقا في الصورة
(فصل) ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة، وحكي عن الشافعي أن ذلك لا يحرم لأن الخبر إنما ورد
بتحريم الاستعمال فلا يحرم الاتخاذ كما لو اتخذ الرجل ثياب الحرير.
ولنا أن ما حرم استعماله مطلقا حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور، وأما ثياب الحرير فإنها
لا تحرم مطلقا فإنها تباح للنساء وتباح للتجارة فيها ويحرم استعمال الآنية مطلقا في الشرب والاكل وغيرهما
لأن النص ورد بتحريم الشرب والاكل وغيرهما في معناهما ويحرم ذلك على الرجال والنساء لعموم النص
فيهما ووجود معنى التحريم في حقهما وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل
عنده وهذا يختص الحلي فتختص الإباحة به.
(فصل) فاما المضبب بالذهب أو الفضة فإن كان كثيرا فهو محرم بكل حال ذهبا كان أو فضة لحاجة ولغيرها
وبهذا قال الشافعي، وأباح أبو حنيفة المضبب وإن كان كثيرا لأنه صار تابعا للمباح فأشبه المضبب باليسير
ولنا أن هذا فيه سرف وخيلاء فأشبه الخالص ويبطل ما قاله بما إذا اتخذ أبوابا من فضة أو ذهب
أو رفوفا فإنه يحرم وإن كان تابعا أو فارق اليسير فإنه لا يوجد فيه المعنى المحرم، إذا ثبت هذا فاختلف
أصحابنا فقال أبو بكر يباح اليسير من الذهب والفضة لما ذكرنا، وأكثر أصحابنا على أنه لا يباح اليسير
64

من الذهب ولا يباح منه إلا ما دعت الضرورة إليه كأنف الذهب وما ربط به أسنانه.
وأما الفضة فيباح منها اليسير لما روى أنس ان قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ
مكان الشعب سلسلة من فضه رواه البخاري. ولان الحاجة تدعو إليه وليس فيه سرف ولا خيلاء فأشبه
الضبة من الصفر، قال القاضي ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها لما ذكرنا إلا أن ما يستعمل من ذلك لا يباح
كالحلقة ومالا يستعمل كالضبة يباح، وقال أبو الخطاب: لا يباح اليسير إلا لحاجة لأن لخبر إنما ورد
في تشعيب القدح في موضع الكسر وهو لحاجة ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به وإن كان
غيره يقوم مقامه. وتكره مباشرة موضع الفضة بالاستعمال كيلا يكون مستعملا لها وسنذكر ذلك في
غير هذا الموضع بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى.
(فصل) فأما سائر الآنية فمباح اتخاذها واستعمالها سواء كانت ثمينة كالياقوت والبلور والعقيق
والصفر والمخروط من الزجاج أو غير ثمينة كالخشب والخزف والجلود ولا يكره استعمال شئ منها في
قول عامة أهل العلم، إلا أنه روي عن ابن عمر انه كره الوضوء في الصفر والنحاس والرصاص وما أشبه
ذلك واختار ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي لأن الماء يتغير فيها وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس،
وقال الشافعي في أحد قوليه ما كان ثمينا لنفاسة جوهره فهو محرم لأن تحريم الأثمان تنبيه على تحريم
ما هو أعلا منه ولان فيه سرفا وخيلاء وكسر قلوب الفقراء فكان محرما كالأثمان.
ولنا ما روي عن عبد الله بن زيد قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماء في تور
من صفر فتوضأ متفق عليه. وروى أبو داود في سننه عن عائشة قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في تور من شبه (1) ولان الأصل الحل فيبقى عليه ولا يصح قياسه على الأثمان

(1) الشبه بفتحتين من المعادن ما يشبه الذهب في لونه وهو أرفع الصفر (مصباح) والصفر بضم الصاد " كقفل " وكسرها النحاس وتقدم ذكره
65

لوجهين (أحدهما) ان هذا لا يعرفه إلا خواص الناس فلا تنكسر قلوب الفقراء باستعماله بخلاف الأثمان
(والثاني) أن هذه الجواهر لقلتها لا يحصل اتخاذ الآنية منها إلا نادرا فلا تفضي إباحتها إلى اتخاذها
واستعمالها وتعلق التحريم بالأثمان التي هي واقعة في مظنة الكثرة فلم يتجاوزه كما تعلق حكم التحريم في
اللباس بالحرير وجاز استعمال القصب من الثياب وان زادت قيمته على قيمة الحرير ولأنه لو جعل
فص خاتمه جوهرة ثمينة جاز، وخاتم الذهب حرام ولو جعل فصه ذهبا كان حراما وان قلت قيمته.
" مسألة " قال (وصوف الميتة وشعرها طاهر)
يعني شعر ما كان طاهرا في حياته وصوفه، وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين وأصحاب عبد الله
قالوا إذا غسل وبه قال مالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وروي
عن أحمد ما يدل على أنه نجس وهو قول الشافعي لأنه ينمي من الحيوان فينجس بموته كأعضائه.
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل "
رواه الدارقطني وقال لم يأت به الا يوسف بن السفر وهو ضعيف ولأنه لا تفتقر طهارة منفصلة إلى
ذكاة أصله فلم ينجس بموته كاجزاء السمك والجراد ولأنه لا يحله الموت فلم ينجس بموت الحيوان كبيضه
والدليل على أنه لا حياة فيه أنه لا يحس ولا يألم وهما دليلا الحياة ولو انفصل في الحياة كان طاهرا ولو
كانت فيه حياة لنجس بفصله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أبين من حي فهو ميت " رواه أبو داود بمعناه وما
ذكروه ينتقض بالبيض، ويفارق الأعضاء فإن فيها حياة وتنجس بفصلها في حياة الحيوان، والنمو
بمجرده ليس بدليل الحياة فإن الحشيش ينمي ولا ينجس.
(فصل) والريش كالشعر فيما ذكرنا لأنه في معناه فأما أصول الريش والشعر إذا كان رطبا إذا نتف
من الميتة فهو نجس لأنه رطب في محل نجس وهل يكون طاهرا بعد غسله؟ على وجهين (أحدهما) أنه
طاهر كرؤس الشعر إذا تنجس (والثاني) أنه نجس لأنه جزء من اللحم لم يستكمل شعرا ولا ريشا
(فصل) وشعر الآدمي طاهر متصله ومنفصله في حياة الآدمي وبعد موته وقال الشافعي في
66

أحد قوليه إذا انفصل فهو نجس لأنه جزء من الآدمي انفصل في حياته فكان نجسا كعضوه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره بين أصحابه قال أنس: لما رمى النبي صلى الله عليه وسلم ونحر نسكه ناول
الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر قال احلقه فحلقه
وأعطاه أبا طلحة فقال " أقسمه بين الناس " رواه مسلم وأبو داود، وروي أن معاوية أوصى أن يجعل
نصيبه منه في فيه إذا مات وكانت في قلنسوة خالد شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان نجسا لما ساغ
هذا ولما فرقه النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنهم يأخذونه يتبركون به ويحملونه معهم تبركا به وما كان طاهرا
من النبي صلى الله عليه وسلم كان طاهرا من سواه كسائره (1) ولأنه شعر متصله طاهر فمنفصله طاهر كشعر
الحيوانات كلها، وكذلك نقول في أعضاء الآدمي ولئن سلمنا نجاستها فإنها تنجس من سائر الحيوانات
بفصلها في حياته بخلاف الشعر.
(فصل) وكل حيوان فشعره مثل بقية أجزائه ما كان طاهرا فشعره طاهر وما كان نجسا فشعره
كذلك ولا فرق بين حالة الحياة وحالة الموت الا أن الحيوانات التي حكمنا بطهارتها لمشقة الاحتراز
منها كالسنور وما دونها في الخلقة فيها بعد الموت وجهان (أحدهما) أنها نجسة لأنها كانت طاهرة مع
وجود علة التنجيس لمعارض وهو الحاجة إلى العفو عنها للمشقة وقد انتفت الحاجة فتنتفي الطهارة
(والثاني) هي طاهرة وهذا أصح لأنها كانت طاهرة في الحياة والموت لا يقتضي تنجيسها فتبقى الطهارة
وما ذكرناه للوجه الأول لا يصح لأننا لا نسلم وجود علة التنجيس، ولئن سلمناه غير أن الشرع ألغاه
ولم يثبت اعتباره في موضع فليس لنا اثبات حكمه بالتحكم.
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في الخرز بشعر الخنزير فروي عنه كراهته، وحكي ذلك
عن ابن سيرين والحكم وحماد وإسحاق والشافعي لأنه استعمال للعين النجسة ولا يسلم من التنجيس
بها فحرم الانتفاع بها كجلده (والثانية) يجوز الخرز به قال: وبالليف أحب إلينا ورخص فيه الحسن ومالك
والأوزاعي وأبو حنيفة لأن الحاجة تدعو إليه وإذا خرز به شيئا رطبا أو كانت الشعرة رطبة نجس ولم

(1) المعتمد عند الشافعية أن شعر الآدمي طاهر والقول بنجاسته متروك والقائلون به من أصحاب الشافعي العراقيين يقولون إن شعر النبي " ص " مكرم لا يقاس عليه وقد زل المصنف زلة فظيعة بنقله عنهم ما لو قالوه لما جاز أن يحكى ولا فائدة بحكايته فنسأله تعالى أن يغفر له
67

يطهر إلا بالغسل قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد انه لا بأس به ولعله قال ذلك لأنه لا يسلم الناس
منه وفي تكليف غسله إتلاف أموال الناس فالظاهر أن أحمد إنما عنى لا بأس بالخرز، فأما الطهارة
فلا بد منها والله أعلم.
(فصل) والمشركون على ضربين أهل كتاب وغيرهم فأهل الكتاب يباح أكل طعامهم
وشرابهم والاكل في آنيتهم ما لم يتحقق نجاستها قال ابن عقيل لا تختلف الرواية في أنه لا يحرم
استعمال أوانيهم وذلك لقول الله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم)
وروي عن عبد الله بن المغفل قال دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي
أحدا منه شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم. رواه مسلم وأخرجه البخاري بمعناه
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي يخبز وإهالة سنخة رواه الإمام أحمد في المسند وكتاب
الزهد. وتوضأ عمر من جرة نصرانية - وهل يكره له استعمال أوانيهم؟ على روايتين (إحداهما) لا يكره
لما ذكرنا (والثانية) يكره لما روي أبو ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله: إنا بأرض قوم أهل كتاب
أفنأكل في آنيتهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وان لم تجدوا
غيرها فاغسلوها وكلوا فيها " متفق عليه وأقل أحوال النهي الكراهة ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة
ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة: وأما ثيابهم فما لم يستعملوه أو علا منها كالعمامة
والطيلسان والثوب الفوقاني فهو طاهر لا بأس بلبسه وما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السفلاني
والإزار فقال أحمد: أحب إلي أن يعيد يعني من صلى فيه فيحتمل وجهين (أحدهما) وجوب الإعادة
وهو قول القاضي، وكره أبو حنيفة والشافعي الأزر والسراويلات لأنهم يتعبدون (1) بترك النجاسة
ولا يتحرزون منها فالظاهر نجاسة ما ولي مخرجها (والثاني) لا يجب وهو قول أبي الخطاب لأن
الأصل الطهارة فلا تزول بالشك.
* (الضرب الثاني) * غير أهل الكتاب وهم المجوس وعبدة الأوثان ونحوهم فحكم ثيابهم حكم

(1) كذا بالنسخ التي بأيدينا ولعل الأصل (لا يتعبدون)
68

ثياب أهل الذمة، وأما أوانيهم فقال القاضي لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم لأن أوانيهم لا تخلو
من أطعمتهم. وذبائحهم ميتة فلا تخلو أوانيهم من وضعها فيها وقال أبو الخطاب حكمهم حكم أهل الكتاب
وثيابهم وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم يتيقن نجاستها وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
توضأوا من مزادة مشركة. متفق عليه ولان الأصل الطهارة فلا تزول بالشك فظاهر كلام احمد رحمه
الله مثل قول القاضي فإنه قال في المجوس لا يؤكل من طعامهم الا الفاكهة لأن الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة
في أطعمتهم فأشبهت السراويلات من ثيابهم، ومن يأكل الخنزير من النصارى في موضع يمكنهم أكله أو
يأكل الميتة أو يذبح بالسن والظفر ونحوه فحكمه حكم غير أهل الكتاب لاتفاقهم في نجاسة أطعمتهم.
ومتى شك في الاناء هل استعملوه في أطعمتهم أو لم يستعملوه فهو طاهر لأن الأصل طهارته ولا نعلم خلافا بين
أهل العلم في إباحة الصلاة في الثوب الذي نسجه الكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كان لباسهم من نسج
الكفار. فأما ثيابهم التي يلبسونها فأباح الصلاة فيها الثوري وأصحاب الرأي وقال مالك في ثوب الكفار
يلبسه على كل حال ان صلى فيه يعيد ما دام في الوقت. ولنا أن الأصل الطهارة ولم تترجح جهة التنجيس
فيه أشبه ما نسجه الكفار.
(فصل) وتباح الصلاة في ثياب الصبيان ما لم تتيقن نجاستها وبذلك قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأن
أبا قتادة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع متفق عليه وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وتكره الصلاة فيه لما فيه من احتمال غلبة النجاسة وتصح الصلاة في
ثوب المرأة الذي تحيض فيه إذا لم تتحقق إصابة النجاسة له لأن الأصل الطهارة والتوقي لذلك أولى لأنه يحتمل
69

إصابة النجاسة إياه وقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا
ولحفنا. ولعاب الصبيان طاهر وقد روى أبو هريرة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل الحسين على عاتقه
ولعابه يسيل عليه وحمل أبو بكر الحسن بن علي على عاتقه ولعابه يسيل وعلي إلى جانبه وجعل أبو بكر يقول:
وابأبي شبه النبي لا شبيها بعلي. وعلي يضحك.
(فصل) وإذا صبغ في حب صباغ لم يجب غسل الثوب المصبوغ سواء كان الصباغ مسلما أو كافرا
نص عليه احمد لأن الأصل الطهارة فإذا تحققت نجاسته طهر بالغسل وان بقي اللون بدليل قوله عليه السلام في
الدم " لا يضرك أثره ".
* (فصول في الفطرة) * روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الفطرة خمس - الختان والاستحداد
وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط " متفق عليه وروى عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عشر من الفطرة - قص الشارب واعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء
وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء " قال بعض الرواة ونسيت
العاشرة الا أن تكون المضمضة - الاستحداد حلق العانة استفعال من الحديد وانتقاص الماء
الاستنجاء به لأن الماء يقطع البول ويرده قال أبو داود وقد روي عن ابن عباس نحو حديث عائشة
قال " خمس كلها في الرأس " ذكر منها الفرق ولم يذكر اعفاء اللحية قال احمد الفرق سنة قيل يا أبا عبد الله
يشهر نفسه قال: النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق وأمر بالفرق.
(فصل) فاما الختان فواجب على الرجال ومكرمة في حق النساء وليس بواجب عليهن هذا
قول كثير من أهل العلم قال احمد: الرجل أشد وذلك أن الرجل إذا لم يختن فتلك الجلدة مدلاة على
الكمرة ولا ينقى ماتم. والمرأة أهون قال أبو عبد الله وكان ابن عباس يشدد في أمره وروي عنه أنه
لا حج له ولا صلاة يعني إذا لم يختتن والحسن يرخص فيه يقول إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن ويقول
أسلم الناس الأسود والأبيض لم يفتش أحد منهم ولم يختتنوا والدليل على وجوبه ان ستر العورة
70

واجب فلولا ان الختان واجب لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته من أجله ولأنه من شعار
المسلمين فكان واجبا كسائر شعارهم، وإن أسلم رجل كبير فخاف على نفسه من الختان سقط عنه لأن
الغسل والوضوء وغيرهما يسقط إذا خاف على نفسه منه فهذا أولى وإن أمن على نفسه لزمه فعله، قال
حنبل سألت أبا عبد الله عن الذمي إذا أسلم ترى له أن يطهر بالختان؟ قال: لابد له من ذلك. قلت إن
كان كبيرا أو كبيرة قال أحب إلي أن يتطهر لأن الحديث " اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة "
قال تعالى (ملة أبيكم إبراهيم) ويشرع الختان في حق النساء أيضا قال أبو عبد الله وحديث النبي صلى الله عليه وسلم
" إذا التقى الختانان وجب الغسل " فيه بيان ان النساء كن يختتن وحديث عمر إن ختانة ختنت فقال:
ابقي منه شيئا إذا خفضت، وروى الخلال باسناده عن شداد بن أوس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " الختان
سنة للرجال ومكرمة للنساء " وعن جابر بن زيد مثل ذلك موقوفا عليه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
للخافضة " أشمي ولا تنهكي فإنه أحظى للزوج وأسرى للوجه " والخفض ختانة المرأة.
(فصل) والاستحداد حلق العانة وهو مستحب لأنه من الفطرة ويفحش بتركه فاستحبت
إزالته وبأي شئ أزاله صاحبه فلا بأس لأن المقصود إزالته، قيل لأبي عبد الله ترى أن يأخذ الرجل
سفلته بالمقراض وان لم يستقص؟ قال أرجو أن يجزئه إن شاء الله. قيل يا أبا عبد الله ما تقو في الرجل
إذا نتف عانته؟ فقال وهل يقوى على هذا أحد؟ وأن أطلى بنورة فلا بأس إلا أنه لا يدع أحدا يلي
عورته إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجة أو أمة، قال أبو العباس النسائي ضربت لأبي عبد الله
نورة ونورته بها فلما بلغ إلى عانته نورها هو. وروى الخلال باسناده عن نافع قال كنت أطلي ابن عمر
فإذا بلغ عانته نورها هو بيده وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المروذي: كان أبو عبد الله
لا يدخل الحمام وإذا احتاج إلى النورة تنور في البيت وأصلحت له غير مرة نورة تنور بها واشتريت
له جلدا ليديه فكان يدخل يديه فيه وينور نفسه والحلق أفضل لموافقته الخبر وقد قال ابن عمر هو
مما أحدثوا من النعيم - يعني النورة.
71

(فصل) ونتف الإبط سنة لأنه من الفطرة ويفحش بتركه وان أزال الشعر بالحلق والنورة جاز
ونتفه أفضل لموافقته الخبر قال حرب: قلت لإسحاق نتف الإبط أحب إليك أو بنورة؟ قال نتفه إن قدر
(فصل) ويستحب تقليم الأظفار لأنه من الفطرة ويتفاحش بتركه وربما حك به الوسخ فيجتمع
تحتها من المواضع المنتنة فتصير رائحة ذلك في رؤس الأصابع وربما منع وصول الطهارة إلى ما تحته،
وقد روينا في خبر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " مالي لا أسهو وأنتم تدخلون علي قلحا ورفغ أحدكم بين
ظفره وأنملته " ومعناه ان أحدكم يطيل أظفاره ثم يحك بها رفغه ومواضع النتن فيصير رائحة ذلك تحت
أظفاره وروى في حديث مسلسل قد سمعناه أن عليا قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره يوم الخميس ثم قال
" يا علي قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة " وروى في
حديث " من قص أظفاره مخالفا لم ير في عينيه رمدا " وفسره أبو عبد الله بن بطة بأن يبدأ بخنصر اليمنى
ثم الوسطى ثم الابهام ثم البنصر ثم السبابة ثم بابهام اليسرى ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر
(فصل) ويستحب غسل رؤس الأصابع بعد قص الأظفار، وقد قيل إن الحك بالأظفار قبل
غسلها يضر بالجسد وفي حديث عائشة غسل البراجم في تفسير الفطرة فيحتمل انه أراد ذلك، وقال
الخطابي البراجم العقد التي في ظهور الأصابع والرواجب ما بين البراجم ومعناه تنظيف المواضع التي
تتسخ ويجتمع فيها الوسخ، ويستحب دفن ما قلم من أظفاره أو أزال من شعره لما روى الخلال باسناده
عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها ويقول رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفعل ذلك، وعن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان يعجبه دفن الدم، وقال
مهنا سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال يدفنه، قلت بلغك فيه شئ؟
72

قال: كان ابن عمر يدفنه وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال " لا يتلعب به سحرة بني آدم "
(فصل) واتخاذ الشعر أفضل من إزالته. قال أبو إسحاق سئل أبو عبد الله عن الرجل يتخذ الشعر
فقال سنة حسنة لو أمكننا اتخذناه وقال كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمة وقال: تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
لهم شعر وقال عشرة لهم جمم وقال في بعض الحديث: ان شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان إلى شحمة أذنيه،
وفي بعض الحديث إلى منكبيه، وروى البراء بن عازب قال ما رأيت ذا لمة في حلة حمراء أحسن من
رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يضرب منكبيه. متفق عليه. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رأيت
ابن مريم له لمة " قال الخلال سألت أحمد بن يحيى - يعني ثعلبا - عن اللمة فقال ما ألمت بالاذن والجمة
ما طالت، وقد ذكر البراء بن عازب في حديثه أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم يضرب منكبيه وقد سماه لمة،
ويستحب أن يكون شعر الانسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إذا طال فإلى منكبيه وإن قصره فإلى
شحمة أذنيه وان طوله فلا بأس نص عليه أحمد. وقال أبو عبيدة كانت له عقيصتان وعثمان كانت
له عقيصتان. وقال وائل بن حجر أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل فلما رآني قال " ذباب
ذباب " فرجعت فجرزته ثم أتيته من الغد فقال " لم أعنك " وهذا حسن رواه ابن ماجة. ويستحب
ترجيل الشعر وإكرامه لما روى أبو هريرة يرفعه " من كان له شعر فليكرمه " رواه أبو داود،
ويستحب فرق الشعر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره وذكره من الفطرة في حديث ابن عباس وفي شروط
عمر على أهل الذمة: أن لا يفرقوا شعورهم لئلا يتشبهوا بالمسلمين.
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في حلق الرأس فعنه انه مكروه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال في الخوارج " سيماهم التحليق " فجعله علامة لهم وقال عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقا لضربت
الذي فيه عيناك بالسيف وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة " رواه
73

الدارقطني في الافراد. وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم " ليس منا من حلق " رواه أحمد. وقال ابن
عباس الذي يحلق رأسه في المصر شيطان، قال أحمد كانوا يكرهون ذلك، وروي عنه لا يكره ذلك لكن
تركه أفضل، قال حنبل كنت انا وأبي نحلق رؤسنا في حياة أبي عبد الله فيرانا ونحن نحلق فلا ينهانا
وكان هو يأخذ رأسه بالجلمين ولا يحفيه ويأخذه وسطا، وقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى غلاما قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك رواه مسلم، وفي لفظ قال " احلقه كله أو
دعه كله " وروي عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء نعي جعفر أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم
أتاهم فقال " لا تبكون على أخي بعد اليوم - ثم قال - ادعوا بني أخي - فجئ بنا قال - ادعوا لي الحلاق "
فأمر بنا فحلق رؤسنا. رواه أبو داود الطيالسي ولأنه لا يكره استئصال الشعر بالمقراض وهذا في معناه
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس منا من حلق " يعني في المصيبة لأن فيه " أو صلق أو خرق " قال ابن عبد البر
وقد أجمع العلماء على إباحة الحلق وكفى بهذا حجة، وأما استئصال الشعر بالمقراض فغير مكروه رواية
واحدة قال أحمد إنما كرهوا الحلق بالموسى وأما بالمقراض فليس به بأس لأن أدلة الكراهة تختص بالحلق
(فصل) فأما حلق بعض الرأس فمكروه ويسمى القزع لما ذكرنا من حديث ابن عمر ورواه أبو داود
ولفظه إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال " احلقه كله أودعه كله " وفي شروط عمر على أهل الذمة أن
يحلقوا مقادم رؤسهم ليتميزوا بذلك عن المسلمين فمن فعله من المسلمين كان متشبها بهم.
(فصل) ولا تختلف الرواية في كراهة حلق المرأة رأسها من غير ضرورة قال أبو موسى:
برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالقة والحالقة. متفق عليه، وروى الخلال باسناده عن
قتادة عن عكرمة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم ان تحلق المرأة رأسها، قال الحسن هي مثلة قال
الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته أتأخذه على حديث ميمونة
74

قال لأي شئ تأخذه؟ قيل له لا تقدر على الدهن وما يصلحه وتقع فيه الدواب قال إذا كان لضرورة
فأرجو أن لا يكون به بأس.
(فصل) ويكره نتف الشيب لما روى عمرو بن شعيب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن نتف الشيب وقال " انه نور الاسلام " وعن طارق بن حبيب ان حجاما أخذ من شارب النبي
صلى الله عليه وسلم فرأى شيبة في لحيته فاهوى إليها ليأخذها فامسك النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال " من شاب شيبة في
الاسلام كانت له نورا يوم القيامة " رواه الخلال في جامعه.
(فصل) ويكره حلق القفا لمن لم يحلق رأسه ولم يحتج إليه. قال المروذي سألت أبا عبد الله عن حلق
القفا فقال: هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة
فاما حف الوجه فقال مهنا سألت أبا عبد الله عن الحف فقال ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال.
(فصل) ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد إني لأرى الشيخ المخضوب فافرح
به وذاكر رجلا فقال لم لا تختضب؟ فقال أستحي. قال سبحان الله سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قال المروذي قلت يحكي عن بشر بن الحارث أنه قال: قال لي ابن داود خضبت قلت أنا
لا أتفرغ لغسلها فكيف أتفرغ لخضابها؟ فقال أنا أنكر أن يكون بشر كشف عمله لابن داود ثم
قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " غيروا الشيب " وأبو بكر وعمر خضبا والمهاجرون فهؤلاء لم يتفرغوا
لغسلها النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالخضاب فمن لم يكن على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس
من الدين في شئ وحديث أبي ذر وحديث أبي هريرة وحديث أبي رمثة وحديث أم سلمة.
ويستحب الخضاب بالحناء والكتم لما روى الخلال وابن ماجة باسنادهما عن قيم (1) بن عبد الله
ابن موهب قال: دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) كذا بالأصل والصواب " عثمان ابن عبد الله "
75

مخضوبا بالحناء والكتم (1) - وخضب أبو بكر بالحناء والكتم، ولا بأس بالورس والزعفران لأن أبا مالك
الأشجعي قال كان خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الورس والزعفران، وعن الحكم بن عمر
الغفاري قال دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء وأخي مخضوب بالصفرة
فقال عمر بن الخطاب هذا خضاب الاسلام وقال لأخي رافع هذا خضاب الايمان ويكره الخضاب
بالسواد قيل لأبي عبد الله تكره الخضاب بالسواد؟ قال أي والله قال وجاء أبو بكر بأبيه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته كالنعامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غيروهما وجنبوه
السواد " (2) وروى أبو داود باسناده عن ابن عباس مرفوعا " يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد
كحواصل الحمام لا يربحون رائحة الجنة " ورخص فيه إسحاق للمرأة تتزين به لزوجها.
(فصل) ويستحب أن يكتحل وتراويدهن غبا وينظر في المرآة ويتطيب قال حنبل: رأيت
أبا عبد الله وكانت له صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط فإذا فرغ من حزبه نظر في المرآة واكتحل
وامتشط، وقد روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت
الشعر " قيل لأبي عبد الله كيف يكتحل الرجل؟ قال وترا وليس له إسناد، وروى أبو داود باسناده
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج " والوتر ثلاث
في كل عين وقيل ثلاث في اليمنى واثنتان في اليسرى ليكون الوتر حاصلا في العينين معا، وروى الخلال
باسناده عن عبد الله بن المغفل قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجل الاغبا قال أحمد معناه يدهن يوما ويوما لا وكان أحمد يعجبه الطيب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجب الطيب ويتطيب كثيرا.
(فصل) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة
والواشرة والمستوشرة فهذه الخصال محرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعلها، ولا يجوز لعن
فاعل المباح، والواصلة هي التي تصل شعرها بغيره أو شعر غيرها والمستوصلة الموصل شعرها بأمرها

(1) الكتم بالتحريك نبات يخرج باليمن قالوا إن الصبغ به يخرج اسودا ضاربا إلى الحمرة والصبغ به وبالحناء معا يخرج بين السواد والحمرة
(2) استنبط منه ابن أبي عاصم أن الخضاب كان من عاداتهم. وروي الخضاب بالسواد عن عثمان وسعد بن أبي وقاص والسبطين وجرير وغيرهم
من كبار الصحابة والتابعين كما في الفتح للحافظ ابن حجر: وقال ابن أبي عاصم في حديث ابن عباس إنه لا يدل على كراهة الخضاب بالسواد بل هو اخبار عن قوم هذه صفتهم
76

فهذا لا يجوز للخبر لما روت عائشة رضي الله عنها أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن ابنتي عرس
قد تمزق شعرها أفأصله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لعنت الواصلة والمستوصلة " فلا يجوز وصل شعر المرأة
بشعر آخر لهذه الأحاديث، ولما روى معاوية أنه أخرج كبة من شعر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهى عن مثل هذا وقال " إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذا نساؤهم " وأما وصله بغير الشعر
فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس به لأن الحاجة داعية إليه ولا يمكن التحرز منه، وإن كان أكثر
من ذلك ففيه روايتان (إحداهما) أنه مكروه غير محرم لحديث معاوية في تخصيص التي تصله بالشعر
فيمكن جعل ذلك تفسير اللفظ العام وبقيت الكراهة لعموم اللفظ في سائر الأحاديث، وروي عنه
أنه قال لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال فكل شئ
يصل فهو وصال، وروي عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئا وقال المروذي
جاءت امرأة من هؤلاء الذين يمشطون إلى أبي عبد الله فقالت: انى أصل رأس المرأة بقرامل
وأمشطها فترى لي أن أحج مما اكتسبت؟ قال لا وكره كسبها وقال لها يكون من مال أطيب من
هذا والظاهر أن المحرم إنما هو وصل الشعر بالشعر لما فيه من التدليس واستعمال المختلف في نجاسته،
وغير ذلك لا يحرم لعدم هذه المعاني فيها وحصول المصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة والله أعلم
(فصل) فاما النامصة فهي التي تنتف الشعر من الوجه والمتنمصة المنتوف شعرها بأمرها فلا يجوز
للخبر وان حلق الشعر فلا بأس لأن الخبر إنما ورد في النتف نص على هذا أحمد، وأما الواشرة
فهي التي تبرد الأسنان بمبرد ونحوه لتحددها وتفلجها وتحسنها والمستوشرة المفعول بها ذلك باذنها
وفي خبر آخر " لعن الله الواشمة والمستوشمة " والواشمة التي تغرز جلدها بإبرة ثم تحشوه كحلا
والمستوشمة التي يفعل بها ذلك.
77

باب السواك وسنة الوضوء
" مسألة " قال أبو القاسم (والسواك سنة يستحب عند كل صلاة)
أكثر أهل العلم يرون السواك سنة غير واجب، ولا نعلم أحدا قال بوجوبه الا إسحاق وداود
لأنه مأمور به والامر يقتضي الوجوب وقد روي أبو داود باسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل
صلاة طاهرا وغير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا
أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلاة " متفق عليه يعني لامرتهم أمر إيجاب لأن المشقة
إنما تلحق بالايجاب لا بالندب وهذا يدل على أن الامر في حديثهم أمر ندب واستحباب، ويحتمل
أن يكون ذلك واجبا في حق النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص جمعا بين الخبرين، واتفق أهل العلم على أنه
سنة مؤكدة لحث النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليه وترغيبه فيه وندبه إليه وتسميته إياه من الفطرة. فيما
روينا من الحديث وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " السواك
مطهرة للفم مرضاة للرب " رواه الإمام أحمد في مسنده، وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك رواه مسلم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني لاستاك حتى لقد
خشيت أن أحفي مقادم فمي " رواه ابن ماجة، ويتأكد استحبابه في مواضع ثلاثة عند الصلاة للخبر
الأول. وعند القيام من النوم لما روى حذيفة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه
بالسواك متفق عليه يعني يغسله يقال شاصه يشوصه وماصه إذا غسله وعن عائشة رضي الله عنها قالت
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا نسوك قبل أن يتوضأ رواه أبو داود ولأنه إذا نام
ينطبق فوه فتتغير رائحته وعند تغير رائحة فيه بمأكول أو غيره لأن السواك مشروع لإزالة رائحته وتطييبه
78

(فصل) ويستاك على أسنانه ولسانه، قال أبو موسى أتينا رسول الله فرأيته يستاك على لسانه
متفق عليه، وقال عليه السلام " اني لاستاك حتى لقد خشيت أن أحفى مقادم فمي " ويستاك عرضا
لقوله عليه السلام " استاكوا عرضا، وادهنوا غبا، واكتحلوا وترا " لأن السواك طولا من أطراف
الأسنان إلى عمودها ربما أدمى اللثة وأفسد العمود، ويستحب التيامن في سواكه لأن عائشة رضي الله
عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. متفق عليه ويغسله
بالماء ليزيل ما عليه، قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك لأغسله فابدأ
به فاستاك ثم أغسله ثم أدفعه إليه. رواه أبو داود، وروي عنها قالت كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة
آنية مخمرة من الليل: اناء لطهوره، واناء لسواكه، واناء لشرابه. أخرجه ابن ماجة.
(فصل) ويستحب أن يكون السواك عودا لينا ينقي الفم ولا يجرحه ولا يضره ولا يتفتت فيه
كالاراك والعرجون ولا يستاك بعود الرمان ولا الآس ولا الأعواد الذكية لأنه روي عن قبيصة
ابن ذؤيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تخللوا بعود الريحان ولا الرمان فإنهما يحركان
عرق الجذام " رواه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ باسناده، وقيل السواك بعود الريحان يضر بلحم
الفم، وإن استاك بأصبعه أو خرقة فقد قيل لا يصيب السنة لأن الشرع لم يرد به ولا يحصل الانقاء
به حصوله بالعود، والصحيح أنه يصيب بقدر ما يحصل من الانقاء ولا يترك القليل من السنة للعجز عن
كثيرها والله أعلم. وقد أخبرنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي أخبرنا أبو
الحسين بن يسران أخبرنا ابن البختري حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح حدثنا خالد بن خداش حدثنا
محمد بن المثنى حدثني بعض أهلي عن أنس بن مالك أن رجلا من بني عمرو بن عوف قال يا رسول الله
انك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شئ؟ قال " إصبعيك سواك عند وضوئك أمرهما على
أسنانك انه لا عمل لمن لانية له ولا أجر لمن لا حسنة له ".
* (مسألة) * قال (الا أن يكون صائما فيمسك من وقت صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس)
79

قال ابن عقيل لا يختلف المذهب أنه لا يستحب للصائم السواك بعد الزوال وهل يكره؟ على روايتين
(إحداهما) يكره وهو قول الشافعي وإسحاق وأبي ثور، وروي ذلك عن عمر وعطاء ومجاهد لما
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك ولان السواك
إنما استحب لإزالة رائحة الفم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لخلوف فم الصائم عند الله أطيب
من ريح المسك " قال الترمذي هذا حديث حسن وإزالة المستطاب مكروه كدم الشهداء وشعث
الاحرام (والثانية) لا يكره ورخص فيه غدوة وعشيا النخعي وابن سيرين وعروة ومالك وأصحاب
الرأي وروي ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم لعموم الأحاديث المروية في السواك
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من خير خصال الصائم السواك " رواه ابن ماجة، وقال عامر بن ربيعة
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مالا أحصي يتسوك وهو صائم. قال الترمذي هذا حديث حسن.
" مسألة " قال (وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل ان يدخلهما الاناء ثلاثا)
غسل اليدين في أول الوضوء مسنون في الجملة سواء قام من النوم أو لم يقم لأنها التي تغمس في
الاناء وتنقل الوضوء إلى الأعضاء ففي غسلهما احراز لجميع الوضوء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله،
فإن عثمان رضي الله عنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعي بالماء فأفرغ على كفيه
ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يده في الاناء. متفق عليه، وكذلك وصف علي وعبد الله بن زيد
وغيرهما وليس ذلك بواجب عند غير القيام من النوم بغير خلاف نعلمه، فأما عند القيام من نوم الليل
80

فاختلفت الرواية في وجوبه فروي عن أحمد وجوبه وهو الظاهر عنه واختيار أبي بكر وهو مذهب
ابن عمر وأبي هريرة والحسن البصري لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استيقظ أحدكم من نومه
فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الاناء ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " متفق عليه وفي لفظ
لمسلم " فلا يغمس يده في وضوء حتى يغسلهما ثلاثا " وأمره يقتضى الوجوب ونهيه يقتضي التحريم
وروي أن ذلك مستحب وليس بواجب وبه قال عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب
الرأي وابن المنذر لأن الله تعالى قال " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية قال زيد بن أسلم
في تفسيرها إذا قمتم من نوم ولان القيام من النوم داخل في عموم الآية وقد أمره بالوضوء من غير غسل
الكفين في أوله والامر بالشئ يقتضي حصول الاجزاء به ولأنه قائم من نوم فأشبه القائم من نوم النهار
والحديث محمول على الاستحباب لتعليله بما يقتضي ذلك وهو قوله " فإنه لا يدري أين باتت يده " وطريان
الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها كما لو تيقن الطهارة وشك في الحدث فيدل ذلك على أنه أراد الندب
(فصل) ولا تختلف الرواية في أنه لا يجب غسلهما من نوم النهار وسوى الحسن بين نوم الليل
ونوم النهار في الوجوب لعموم قوله: إذا قام أحدكم من نومه " ولنا أن في الخبر ما يدل على إرادة نوم
الليل لقوله " فإنه لا يدري أين باتت يده " والمبيت يكون بالليل خاصة، ولا يصح قياس غيره عليه
لوجهين (أحدهما) ان الحكم ثبت تعبدا فلا يصح تعديته (الثاني) ان الليل مظنة النوم والاستغراق
فيه وطول مدته فاحتمال إصابة يده لنجاسة لا يشعر بها أكثر من احتمال ذلك في نوم النهار، قال أحمد
في رواية الأثرم: الحديث في المبيت بالليل فأما النهار فلا بأس به.
(فصل) فإن غمس يده في الاناء قبل غسلها فعلى قول من لم يوجب غسلها لا يؤثر غمسها شيئا
ومن أوجبه قال: إن كان الماء كثيرا يدفع النجاسة عن نفسه لم يؤثر أيضا لأنه يدفع الخبث عن
نفسه وإن كان يسيرا فقال أحمد: أعجب إلي أن يهريق الماء فيحتمل أن تجب إراقته وهو قول الحسن
81

لأن النهى عن غمس اليد فيه يدل على تأثيره فيه وقد روى أبو حفص عمر بن المسلم العكبري في
الخبر زيادة عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أدخلها قبل الغسل أراق الماء " ويحتمل أن لا تزول طهوريته ولا
تجب إراقته لأن طهورية الماء كانت ثابتة بيقين والغمس المحرم لا يقتضي ابطال طهورية الماء لأنه إن
كان لو هم النجاسة فالوهم لا يزول به يقين الطهورية لأنه لم يزل يقين الطهارة فكذلك لا يزيل الطهورية
فإننا لم نحكم بنجاسة اليد ولا الماء، ولان اليقين لا يزول بالشك فبالوهم أولى، وإن كان تعبدا
فنقتصر على مقتضى الأمر والنهي وهو وجوب الغسل وتحريم الغمس ولا يعدى إلى غير ذلك، ولا
يصح قياسه على رفع الحدث لأن هذا ليس بحدث ولان من شرط تأثير غمس المحدث أن ينوي رفع
الحدث ولا فرق ههنا بين أن ينوي أو لا ينوي وقال أبو الخطاب ان غمس يده في الماء قبل غسلها
فهل تبطل طهوريته؟ على روايتين.
(فصل) وحد اليد المأمور بغسلها من الكوع لأن اليد المطلقة في الشرع تتناول ذلك بدليل
قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع وكذلك في
التيمم يكون في اليدين إلى الكوع، والدية الواجبة في اليد تجب على من قطعها من مفصل الكوع،
وغمس بعضها ولو أصبع أو ظفر منها كغمس جميعها في أحد الوجهين لأن ما تعلق المنع بجميعه
تعلق ببعضه كالحدث والنجاسة (والثاني) لا يمنع وهو قول الحسن لأن النهي تناول غمس جميعها ولا
يلزم من كون الشئ مانعا كون بعضه مانعا كما لا يلزم من كون الشئ سببا كون بعضه سببا، وغمسها بعد
غسلها دون الثلاث كغمسها قبل غسلها لأن النهي لا يزول حتى يغسلها ثلاثا.
(فصل) ولا فرق بين كون يد النائم مطلقة أو مشدودة بشئ أو في جراب أو كون النائم عليه
سراويله أو لم يكن. قال أبو داود سئل أحمد إذا نام الرجل وعليه سراويله قال: السراويل وغيره
واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا انتبه أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا " يعني
ان الحديث عام فيجب الاخذ بعمومه ولان الحكم إذا تعلق على المظنة لم يعتبر حقيقة الحكمة كالعدة
82

الواجبة لاستبراء الرحم يجب في حق الآيسة والصغيرة وكذلك الاستبراء مع أن احتمال النجاسة لا ينحصر
في مس الفرج فإنه قد يكون في البدن بثرة أو دمل وقد يحك جسده فيخرج منه دم بين أظفاره أو يخرج
من أنفه دم وقد تكون نجسة قبل نومه فينسى نجاستها لطول نومه على أن الظاهر عند من أوجب الغسل
أنه تعبد لا لعلة التنجيس ولهذا لم يحكم بنجاسة اليد ولا الماء فيعم الوجوب كل من تناوله الخبر.
(فصل) فإن كان القائم من النوم صبيا أو مجنونا أو كافرا ففيه وجهان (أحدهما) أنه كالمسلم البالغ
العاقل لأنه لا يدري أين باتت يده (والثاني) أنه لا يؤثر غمسه شيئا لأن المنع من الغمس إنما يثبت
بالخطاب ولا خطاب في حق هؤلاء، ولان وجوب الغسل هاهنا تعبد ولا تعبد في حق هؤلاء ولان
غمسهم لو أثر في الماء لاثر في جميع زمانهم لأن الغسل المزيل من حكم المنع من شرطه النية وما هم
من أهلها ولا نعلم قائلا بذلك.
(فصل) والنوم الذي يتعلق به الامر بغسل اليد ما نقض الوضوء ذكره القاضي لعموم الخبر في
النوم وقال ابن عقيل هو ما زاد على نصف الليل لأنه لا يكون بائتا الا بذلك بدليل أن من دفع من مزدلفة
قبل نصف الليل لا يكون بائتا بها ولهذا يلزمه دم بخلاف من دفع بعد نصف الليل والأول أصح وما ذكره
يبطل بما إذا جاء مزدلفة بعد نصف الليل فإنه يكون بائتا بها ولآدم عليه وإنما بات بها دون النصف
(فصل) وغسل اليدين يفتقر إلى النية عند من أوجبه في أحد الوجهين لأنه طهارة تعبدية فأشبه
الوضوء والغسل (والثاني) لا يفتقر إلى النية لأنه معلل بوهم النجاسة ولا تعتبر في غسلها النية ولان
المأمور به الغسل وقد أتى به والامر بالشئ يقتضي حصول الاجزاء به ولا يفتقر الغسل إلى تسمية
وقال أبو الخطاب يفتقر إليها قياسا على الوضوء وهذا بعيد فإن التسمية في الوضوء غير واجبة في الصحيح
ومن أوجبها فإنما أوجها تعبدا فيجب قصرها على محلها فإن التعبد به فرع التعليل ومن شرطه كون المعنى
معقولا ولا يمكن الحاقه به لعدم الفرق فإن الوضوء آكد وهو في أربعة أعضاء وسببه غير سبب غسل اليد
(فصل) ولو انغمس الجنب في ماء كثير أو توضأ في ماء كثير يغمس فيه أعضاءه ولم ينو غسل اليدين
83

من نوم الليل صح غسله ووضوؤه ولم يجزه عن غسل اليد من نوم الليل عند من أوجب النية في غسلهما لأن
بقاء النجاسة على العضو لا يمنع رفع الحدث فلو غسل أنفه أو يده في الوضوء وهو نجس لارتفع حدثه وبقاء
الحدث على الوضوء لا يمنع رفع حدث آخر بدليل ما لو توضأ الجنب ينوي رفع الحدث الأصغر أو اغتسل ولم ينو
الطهارة الصغرى صحت المنوية دون غيرها وهذا لا يخرج عن شبهه بأحد الامرين.
(فصل) إذا وجد ماء قليلا ليس معه ما يغترف به ويداه نجستان فقال احمد: لا بأس أن يأخذ
بفيه ويصب على يده وهكذا لو أمكنه غمس خرقة أو غيرها وصبه على يده فعل ذلك فإن لم يمكنه
شئ من ذلك تيمم وتركه لئلا ينجس الماء ويتنجس به، فإن كان لم يغسل يديه من نوم الليل توضأ
منه عند من يجعل الماء باقيا على اطلاقه ومن جعله مستعملا قال يتوضأ به ويتيمم معه، ولو استيقظ
المحبوس من نومه فلم يدر أهو من نوم النهار أو الليل لم يلزمه غسل يديه لأن الأصل عدم الوجوب
فلا نوجبه بالشك.
* (مسألة) * قال (والتسمية عند الوضوء)
ظاهر مذهب أحمد رضي الله عنه أن التسمية مسنونة في طهارة الاحداث كلها رواه عنه جماعة
من أصحابه وقال الخلال الذي استقرت الروايات عنه أنه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية وهذا قول
الثوري ومالك والشافعي وأبي عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعنه أنها واجبة فيها كلها الوضوء
والغسل والتيمم وهو اختيار أبي بكر ومذهب الحسن وإسحاق لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " رواه أبو داود والترمذي ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة
من أصحابه قال الإمام أحمد حديث أبي سعيد أحسن حديث في هذا الباب وقال الترمذي حديث
سعيد بن زيد أحسن وهذا نفي في نكرة يقتضي أن لا يصح وضوؤه بدون التسمية ووجه الرواية
الأولى انها طهارة فلا تفتقر إلى التسمية كالطهارة من النجاسة أو عبادة فلا تجب فيها التسمية كسائر
84

العبادات ولان الأصل عدم الوجوب وإنما ثبت بالشرع والأحاديث قال أحمد ليس يثبت في هذا حديث
ولا أعلم فيها حديثا له إسناد جيد، وقال الحسن بن محمد ضعف أبو عبد الله الحديث في التسمية وقال
أقوى شئ فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح يعني حديث أبي سعيد ثم ذكر ربيحا أي من هو ومن أبوه
فقال يعني الذي يروي حديث سعيد بن زيد، يعني انهم مجهولون وضعف إسناده، وإن صح ذلك
فيحمل على تأكيد الاستحباب ونفي الكمال بدونها كقوله " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ".
(فصل) وإن قلنا بوجوبها فتركها عمدا لم تصح طهارته لأنه ترك واجبا في الطهارة أشبه ما لو
ترك النية وإن تركها سهوا صحت طهارته نص عليه أحمد في رواية أبي داود قال سألت أحمد بن
حنبل إذا نسي التسمية في الوضوء قال أرجو أن لا يكون عليه شئ، وهذا قول إسحاق فعلى هذا
إذا ذكر في أثناء طهارته أتى بها حيث ذكرها لأنه لما عفي عنها مع السهو في جملة الوضوء، ففي بعضه أولى
وإن تركها عمدا حتى غسل عضوا لم يعتد بغسله لأنه لم يذكر اسم الله عليه مع العمد، وقال الشيخ
أبو الفرج: إذا سمى في أثناء الوضوء أجزأه يعني على كل حال لأنه قد ذكر اسم الله على وضوئه، وقال
بعض أصحابنا لا تسقط بالسهو لعموم الخبر وقياسا لها على سائر الواجبات، والأول أولى لقوله عليه
السلام " عفي لامتي عن الخطاء والنسيان " ولان الوضوء عبادة تتغاير أفعالها فكان في واجباتها ما يسقط
بالسهو كالصلاة ولا يصح قياسها على سائر واجبات الطهارة لأن تلك تأكد وجوبها بخلاف التسمية
إذا ثبت هذا فإن التسمية هي قول: بسم الله لا يقوم غيرها مقامها كالتسمية المشروعة على الذبيحة وعند أكل
الطعام وشرب الشراب وموضعها بعد النية قبل أفعال الطهارة كلها لأن التسمية قول واجب في الطهارة فيكون بعد
النية لتشمل النية جميع واجباتها وقبل أفعال الطهارة ليكون مسميا على جميعها كما يسمى على الذبيحة وقت ذبحها
85

* (مسألة) * قال (والمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائما).
معنى المبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الانف ولا يجعله سعوطا وذلك سنة
مستحبة في الوضوء إلا أن يكون صائما فلا يستحب لا نعلم في ذلك خلافا والأصل في ذلك ما روى
عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال " أسبغ الوضوء وخلل
بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " رواه أبو داود الترمذي وقال حديث حسن
صحيح ولأنه من أعضاء الطهارة فاستحبت المبالغة فيه كسائر أعضائها.
(فصل) المبالغة مستحبة في سائر أعضاء الوضوء لقوله عليه السلام " أسبغ الوضوء " والمبالغة في
المضمضة إدارة الماء في أعماق الفم وأقاصيه وأشداقه ولا يجعله وجودا لم يمجه وإن ابتلعه جاز لأن الغسل
قد حصل والمبالغة في سائر الأعضاء بالتخليل ويتبع المواضع التي ينبو عنها الماء بالدلك والعرك ومجاوزة
موضع الوجوب بالغسل، وقد روى نعيم بن عبد الله انه رأى أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى
كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقو ل " ان أمتي يأتون
يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء " فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. متفق عليه وروى أبو حازم عنه
قريبا من هذا وقال سمعت خليلي يقول " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " متفق عليه.
* (مسألة) * (وتخليل اللحية)
وجملة ذلك أن اللحية ان كانت خفيفة تصف البشرة وجب غسل باطنها وان كانت كثيفة لم
يجب غسل ما تحتها. ويستحب تخليلها وممن روي عنه انه كان يخلل لحيته ابن عمر وابن عباس
والحسن وأنس وابن أبي ليلى وعطاء بن السائب، وقال إسحاق إذا ترك تخليل لحيته عامدا أعاد لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، رواه عنه عثمان بن عفان قال الترمذي: هذا حديث حسن
صحيح وقال البخاري هذا أصح حديث في الباب، وروى أبو داود عن أنس ان النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه وقال " هكذا أمرني ربي عز وجل " وعن
ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته
86

بأصابعه من تحتها رواه ابن ماجة، وقال عطاء وأبو ثور يجب غسل باطن شعور الوجه وإن كان كثيفا
كما يجب في الجنابة ولأنه مأمور بغسل الوجه في الوضوء كما أمر بغسله في الجنابة فما وجب في أحدهما
وجب في الآخر مثله، ومذهب أكثر أهل العلم أن ذلك لا يجب ولا يجب التخليل وممن رخص في
ترك التخليل ابن عمر والحسن بن علي وطاوس والنخعي والشعبي وأبو العالية ومجاهد وأبو القاسم
ومحمد بن علي وسعيد بن عبد العزيز والمنذر لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر التخليل وأكثر
من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحكه ولو كان واجبا لما أخل به في وضوء ولو فعله
في كل وضوء لنقله كل من حكى وضوءه أو أكثرهم وتركه لذلك يدل على أن غسل ما تحت الشعر
الكثيف ليس بواجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيف اللحية فلا يبلغ الماء ما تحت شعرها
بدون التخليل والمبالغة وفعله التخليل في بعض أحيانه يدل على استحباب ذلك والله أعلم.
(فصل) قال يعقوب سألت أحمد عن التخليل فأراني من تحت لحيته فخلل بالأصابع وقال حنبل
من تحت ذقنه من أسفل الذقن يخلل جانبي لحيته جميعا بالماء ويمسح جانبيها وباطنها، وقال أبو الحارث
قال أحمد إن شاء خللها مع وجهه وإن شاء إذا مسح رأسه، ويستحب أن يتعهد بقية شعور وجهه
ويمسح مآقيه ليزول ما بهما من كحل أو غمص وقد روى أبو داود باسناده عن أبي أمامة أنه ذكر
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وكان يمسح الماقين.
* (مسألة) * قال (وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما)
المستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديدا قال أحمد أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديدا كان
ابن عمر يأخذ لأذنيه ماء جديدا وبهذا قال مالك والشافعي وقال ابن المنذر هذا الذي قالوه غير
موجود في الاخبار، وقد روى أبو أمامة وأبو هريرة وعبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال الأذنان
87

من الرأس " رواهن ابن ماجة، وروى ابن عباس والربيع بنت معوذ والمقدام بن معديكرب أن
النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة رواهن أبو داود. ولنا ان افرادهما بماء جديد قد روي
عن ابن عمر، وقد ذهب الزهري إلى أنهما من الوجه، وقال الشعبي ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما
من الرأس، وقال الشافعي وأبو ثور ليس من الوجه ولا من الرأس ففي افرادهما بماء جديد خروج
من الخلاف فكان أولى، وان مسحهما بماء الرأس أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
(فصل) قال المروذي: رأيت أبا عبد الله مسح رأسه ولم أره يمسح على عنقه فقلت له أتمسح
على عنقك؟ قال إنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت أليس قد روي عن أبي هريرة قال هو
موضع الغل. قال نعم ولكن هكذا يمسح النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله وقال أيضا هو زيادة، وذكر القاضي
وغيره ان فيه رواية أخرى أنه مستحب واحتج بعضهم أن في خبر ابن عباس امسحوا أعناقكم مخافة
الغل والذي وقفت عليه عن أحمد في هذا أن عبد الله قال رأيت أبي إذا مسح رأسه وأذنيه في الوضوء
مسح قفاه ووهن الخلال هذه الرواية وقال هي وهم وقد أنكر أحمد حديث طلحة بن مصرف عن أبيه
عن جده رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القذال وهو أول القفا وذكر أن
سفيان كان ينكره وأنكره يحيى أيضا وخبر ابن عباس لا نعرفه ولم يروه أصحاب السنن.
(فصل) وذكر بعض أصحابنا من سنن الوضوء غسل داخل العينين وروي عن ابن عمر أنه
عمي من كثرة ادخال الماء في عينيه، وقال القاضي إنما يستحب ذلك في الغسل نص عليه أحمد في
مواضع وذلك لأن غسل الجنابة أبلغ فإنه يعم جميع البدن وتغسل فيه بواطن الشعور الكثيفة وما
تحت الجفنين ونحوهما وداخل العينين من جملة البدن الممكن غسله فإذا لم تجب فلا أقل من أن
يكون مستحبا والصحيح ان هذا ليس بمسنون في وضوء ولا غسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر
به وفيه ضرر. وما ذكر عن ابن عمر فهو دليل على كراهته لأنه ذهب ببصره وفعل ما يخاف منه ذهاب
البصر أو نقصه من غير ورود الشرع به إذا لم يكن محرما فلا أقل من أن يكون مكروها.
88

* (مسألة) * قال (وتخليل ما بين الأصابع)
تخليل أصابع اليدين والرجلين في الوضوء مسنون وهو في الرجلين آكد لقول النبي صلى الله
عليه وسلم للقيط بن صبرة " أسبغ الوضوء وخلل الأصابع " وهو حديث صحيح، وقال المستورد بن
شداد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجله بخنصره: رواه أبو داود وابن
ماجة والترمذي وقال لا نعرفه الا من حديث ابن لهيعة ويستحب أن يخلل أصابع رجليه بخنصره لهذا
الحديث ويبدأ في تخليل اليمنى من خنصرها إلى ابهامها، وفي اليسرى من ابهاما إلى خنصرها لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في وضوئه وفي هذا تيمن.
(فصل) يستحب أن يعرك رجله بيده ويتعهد عقبه والمواضع التي يزلق عنها الماء، قال أبو داود
قلت لأحمد: إذا توضأ فأدخل رجله في الماء وأخرجها؟ قال ينبغي أن يمر يده على رجله ويخلل أصابعه
قلت فإن لم يفعل يجزئه، قال أرجو أن يجزئه من التخليل أن يحرك رجله في الماء فإنه ربما زلق الماء
عن الجسد في الشتاء قيل له: من توضأ يحرك خاتمه؟ قال إن كان ضيقا لابد أن يحركه وإن كان
واسعا يدخل فيه الماء أجزأه، وقد روى أبو رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ
حرك خاتمه، وإذا شك في وصول الماء إلى ما تحته وجب تحريكه ليتيقن وصول الماء إليه لأن الأصل
عدم وصوله وإن التف بعض أصابعه على بعض وكان متصلا لم يجب فصل إحداهما من الأخرى لأنهما
صارتا كإصبع واحدة وإن لم يكن ملتصقا وجب إيصال الماء إلى ما بينهما.
89

" مسألة " قال (وغسل الميامن قبل المياسر)
لا خلاف بين أهل العلم فيما علمنا في استحباب البداءة باليمنى وممن روي ذلك عنه أهل المدينة
وأهل العراق وأهل الشام وأصحاب الرأي وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه،
وأصل الاستحباب في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه ذلك ويفعله فروت عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم " رواه ابن ماجة، وحكى عثمان وعلي
رضي الله عنهما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فبدءا باليمنى قبل اليسرى. رواهما أبو داود ولا يجب ذلك لأن اليدين
بمنزلة العضو الواحد وكذا الرجلان فإن الله تعالى قال (وأيديكم وأرجلكم) ولم يفصل. والفقهاء يسمون
أعضاء الوضوء أربعة يجعلون اليدين عضوا والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب في العضو الواحد.
" باب فرض الطهارة ".
* (مسألة) * قال (وفرض الطهارة ماء طاهر وإزالة الحدث)
أراد بالطاهر الطهور وقد ذكرنا فيما مضى أن الطهارة لا تصح الا بالماء الطهور وعنى بإزالة الحدث
الاستنجاء بالماء أو بالأحجار وينبغي أن يتقيد ذلك بحالة وجود الحدث كما تقيد اشتراط الطهارة بحالة
وجوده وسمى هذين فرضين لأنهما من شرائط الوضوء وشرائط الشئ واجبة له والواجب هو
الفرض في إحدى الروايتين وظاهر كلام الخرقي اشتراط الاستنجاء لصحة الوضوء فلو توضأ قبل
الاستنجاء لم يصح كالتيمم (والرواية الثانية) يصح الوضوء قبل الاستنجاء ويستجمر بعد ذلك بالأحجار
90

أو يغسل فرجه بحائل بينه وبين يديه ولا يمس الفرج وهذا الرواية أصح وهي مذهب الشافعي لأنها
إزالة نجاسة فلم تشترط لصحة الطهارة كما لو كانت على غير الفرج فاما التيمم قبل الاستجمار فقال القاضي
لا يصح وجها واحدا لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما أبيح للصلاة ومن عليه نجاسة يمكنه ازالتها لا تباح
له الصلاة فلم تصح نية الاستباحة كالتيمم قبل الوقت وقال القاضي فيه وجه آخر انه يصح لأن التيمم
طهارة فأشبهت الوضوء والمنع من الإباحة لمانع آخر لا يقدح في صحة التيمم كما لو تيمم في موضع نهي
عن الصلاة فيه أو تيمم من على ثوبه نجاسة أو على بدنه في غير الفرج، وقال ابن عقيل لو كانت
النجاسة على غير الفرج من بدنه فهو كما لو كانت على الفرج لما ذكرنا من العلة، والأشبه التفريق
بينهما كما لو افترقا في طهارة الماء ولان نجاسة الفرج سبب وجوب التيمم فجاز أن يكون بقاؤها مانعا
منه بخلاف سائر النجاسات.
* (مسألة) * قال (والنية للطهارة)
يعني نية الطهارة والنية القصد يقال نواك الله بخير أي قصدك به ونويت السفر أي قصدته
وعزمت عليه، والنية من شرائط الطهارة للاحداث كلها لا يصح وضوء ولا غسل ولا تيمم إلا بها
وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال ربيعة ومالك والشافعي والليث وإسحاق وأبو عبيدة
وابن المنذر، وقال الثوري وأصحاب الرأي لا تشترط النية في طهارة الماء وإنما تشترط في التيمم لأن
الله تعالى قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية ذكر الشرائط ولم يذكر النية ولو كانت
91

شرطا لذكرها ولان مقتضى الامر حصول الاجزاء بفعل المأمور به فتقتضي الآية حصول الاجزاء بما
تضمنته ولأنها طهارة بالماء فلم تفتقر إلى النية كغسل النجاسة - ولنا ما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " متفق عليه فنفى أن يكون له عمل شرعي بدون النية ولأنها
طهارة عن حدث فلم تصح بغير نية والآية حجة لنا فإن قوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) أي للصلاة
كما يقال إذا لقيت الأمير فترجل - أي له - وإذا رأيت الأسد فاحذر - أي منه وقولهم ذكر كل الشرائط قلنا
إنما ذكر أركان الوضوء وبين النبي صلى الله عليه وسلم شرطه كآية التيمم وقولهم مقتضى الامر حصول الاجزاء قلنا بل
مقتضاه وجوب الفعل وهو واجب فاشترط لصحته شرط آخر بدليل التيمم وقولهم انها طهارة قلنا إلا أنها عبادة
والعبادة لا تكون الا منوية لأنها قربة إلى الله تعالى وطاعة له وامتثال لامره ولا يحصل ذلك بغير نية
(فصل) ومحل النية القلب إذ هي عبارة عن القصد ومحل القصد القلب فمتى اعتقد بقلبه أجزأه وان
لم يلفظ بلسانه وان لم تخطر النية بقلبه لم يجزه، ولو سبق لسانه إلى غير ما اعتقده لم يمنع ذلك صحة ما اعتقده بقلبه
(فصل) وصفتها أن يقصد بطهارته استباحة شئ لا يستباح إلا بها كالصلاة والطواف ومس
المصحف وينوي رفع الحدث ومعناه إزالة المانع من كل فعل يفتقر إلى الطهارة وهذا قول من
92

وافقنا على اشتراط النية لا نعلم بينهم فيه اختلافا، فإن نوى بالطهارة مالا تشرع له الطهارة كالتبرد والاكل
والبيع والنكاح ونحوه ولم ينو الطهارة الشرعية لم يرتفع حدثه لأنه لم ينو الطهارة ولا ما يتضمن نيتها فلم يحصل
له شئ كالذي لم يقصد شيئا، وان نوى تجديد الطهارة فتبين أنه كان محدثا فهل تصح طهارته؟ على روايتين
(إحداهما) تصح لأنه نوى طهارة شرعية فينبغي أن يحصل له ما نواه للخبر وقياسا على ما لو نوى رفع
الحدث (والثانية) لا تصح طهارته لأنه لم ينو رفع الحدث ولا ما تضمنه أشبه ما لم نوى التبرد، وان نوى
ما تشرع له الطهارة ولا تشترط كقراءة القرآن والآذان والنوم فهل يرتفع حدثه؟ على وجهين أصلهما إذا
نوى تجديد الوضوء وهو محدث والأولى صحة طهارته لأنه نوى شيئا من ضرورة صحة الطهارة وهو
لفضيلة الحاصلة لمن فعل ذلك وهو على طهارة فصحت طهارته كما لو نوى بها ما لا يباح الا بها ولأنه
نوى طهارة شرعية فصحت للخبر، فإن قيل يبطل هذا بما لو نوى بطهارته مالا تشرع له الطهارة. قلنا إن
نوى طهارة شرعية مثل ان قصد أن يأكل وهو متطهر طهارة شرعية أو قصد أن لا يزال على وضوء
فهو كمسئلتنا وتصح طهارته. وان قصد بذلك نظافة أعضائه من وسخ أو طين أو غيره لم تصح طهارته
لأنه لم يقصدها. وان نوى وضوءا مطلقا أو طهارة ففيه وجهان أصحهما صحته لأن الوضوء والطهارة
إنما ينصرف اطلاقهما إلى المشروع فيكون ناويا لوضوء شرعي. والوجه الثاني لا تصح طهارته في هذه المواضع
كلها لأنه قصد ما يباح بدون الطهارة أشبه قاصد الاكل - والطهارة تنقسم إلى ما هو مشروع والى غيره
فلم تصح مع التردد، وان نوى بطهارته رفع الحدث وتبريد أعضائه صحت طهارته لأن التبريد يحصل
بدون النية فلم يؤثر هذا الاشتراك كما لو قصد بالصلاة الطاعة والخلاص من خصمه، وان قصد الجنب
بالغسل اللبث في المسجد ارتفع حدثه لأنه شرط لذلك.
(فصل) ويجب تقديم النية على الطهارة كلها لأنها شرط لها فيعتبر وجودها في جميعها فإن وجد
شئ من واجبات الطهارة قبل النية لم يعتد به، ويستحب أن ينوي قبل غسل كفيه لتشمل النية مسنون
الطهارة ومفروضها فإن غسل كفيه قبل النية كان كمن لم يغسلهما، ويجوز تقديم النية على الطهارة بالزمن
اليسير كقولنا في الصلاة وان طال الفصل لم يجزه ذلك، ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر طهارته
93

لتكون أفعاله مقترنة بالنية فإن استصحب حكمها أجزاه ومعناه أن لا ينوي قطعها وان عزبت عن خاطره
وذهل عنها لم يؤثر ذلك في قطعها لأن ما اشترطت له النية لا يبطل بعزوبها والذهول عنها كالصلاة
والصيام وان قطع نيته في أثنائها مثل أن ينوي أن لا يتم طهارته وان نوى جعل الغسل لغير الطهارة
لم يبطل ما مضى من طهارته لأنه وقع صحيحا فلم يبطل يقطع النية بعده كما لو نوى قطع النية بعد الفراغ
من الوضوء وما أتى من الغسل بعد قطع النية لم يعتد به لأنه وجد بغير شرطه فإن أعاد غسله بنية
قبل طول الفصل صحت طهارته لوجود أفعال الطهارة كلها منوية متوالية وان طال الفصل
انبنى ذلك على وجوب الموالاة في الوضوء فإن قلنا هي واجبة بطلت طهارته لفواتها وان قلنا هي غير واجبة أتمها
(فصل) وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها لأنها عبادة شك في شرطها وهو فيها
فلم تصح كالصلاة إلا أن النية إنما هي القصد ولا يعتبر مقارنتها فمهما علم أنه جاء ليتوضأ وأراد فعل
94

الوضوء مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية، وإن شك في وجود ذلك في أثناء الطهارة
لم يصح ما فعله منها، وهكذا إن شك في غسل عضو أو مسح رأسه كان حكمه حكم من لم يأت به لأن
الأصل عدمه إلا أن يكون ذلك وهما كالوسواس فلا يلتفت إليه، وإن شك في شئ من ذلك بعد فراغه
من الطهارة لم يلتفت إلى شكه لأنه شك في العبادة بعد فراغه منها أشبه الشك في شرط الصلاة،
ويحتمل أن تبطل الطهارة لأن حكمها باق بدليل بطلانها بمبطلاتها بخلاف الصلاة والأول أصح لأنها كانت
محكوما بصحتها قبل شكه فلا يزول ذلك بالشك كما لو شك في وجود الحدث المبطل.
(فصل) وإذا وضأه غيره اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ لأن المتوضئ هو المخاطب
بالوضوء والوضوء يحصل له بخلاف الموضي فإنه آلة لا يخاطب ولا يحصل له فأشبه الاناء أو حامل الماء إليه
(فصل) وإذا توضأ وصلى الظهر ثم أحدث وتوضأ وصلى العصر ثم علم أنه ترك مسح رأسه أو واجبا في الطهارة
في أحد الوضوئين لزمه إعادة الوضوء والصلاتين معا لأنه تيقن بطلان أحد الصلاتين لا بعينها وكذا لو ترك
واجبا في وضوء إحدى الصلوات الخمس ولم يعلم عينه لزمه إعادة الوضوء والصلوات الخمس لأنه يعلم أن
95

عليه صلاة من خمس لا يعلم عينها فلزمته كما لو نسي صلاة في يوم لا يعلم عينها وإن كان الوضوء تجديدا
لاعن حدث وقلنا إن التجديد لا يرفع الحدث فكذلك لأن وجوده كعدمه وان قلنا يرفع الحدث لم يلزمه
إلا الأولى لأن الطهارة الأولى ان كانت صحيحة فصلاته كلها صحيحة لأنها باقية لم تبطل بالتجديد وإن
كانت غير صحيحة فقد ارتفع الحدث بالتجديد.
* (مسألة) * قال (وغسل الوجه وهو من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين
والذقن والى أصول الاذنين ويتعاهد المفصل وهو ما بين اللحية والاذن)
غسل الوجه واجب بالنص والاجماع وقوله من منابت شعر الرأس أي في غالب الناس ولا يعتبر كل واحد
بنفسه بل لو كان أجلح ينحسر شعره عن مقدم رأسه غسل إلى حد منابت الشعر في الغالب والأقرع الذي
96

ينزل شعره إلى الوجه يجب عليه غسل الشعر الذي ينزل عن حد الغالب، وذهب الزهري إلى أن الاذنين
من الوجه يغسلان معه لقوله عليه السلام " سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره " أضاف
السمع إليه كما أضاف البصر. وقال مالك: ما بين اللحية والاذن ليس من الوجه ولا يجب غسله لأن الوجه
ما تحصل به المواجهة وهذا لا يواجه به. قال ابن عبد البر لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا
ولنا على الزهري قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " وفي حديث ابن عباس والربيع والمقدام
ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه مع رأسه وقد ذكرناهما ولم يحك أحد انه غسلهما مع الوجه وإنما
أضافهما إلى الوجه لمجاورتهما له والشئ يسمى باسم ما جاوره. ولنا على مالك ان هذا من الوجه في حق
من لا لحية له فكان منه في حق من له لحية كسائر الوجه، وقوله ان الوجه ما يحصل به المواجهة قلنا
97

وهذا يحصل به المواجهة في الغلام، ويستحب تعاهد هذا الموضع بالغسل لأنه مما يغفل الناس عنه،
قال المروذي: أراني أبو عبد الله ما بين أذنه وصدغه وقال هذا موضع ينبغي أن يتعاهد وهذا الموضع
مفصل اللحي من الوجه فلذلك سماه الخرقي مفصلا.
(فصل) ويدخل في الوجه العذار وهو الشعر الذي على العظم الناتئ الذي هو سمت صماخ
الاذن وما انحط عنه إلى وتد الاذن. والعارض وهو ما نزل عن حد العذار وهو الشعر الذي على اللحيين
قال الأصمعي والمفضل بن سلمة: ما جاوز وتد الاذن عارض والذقن مجمع اللحيين. فهذه الشعور الثلاثة
من الوجه يجب غسلها معه وكذلك الشعور الأربعة وهي الحاجبان وأهداب العينين والعنفقة والشارب
فأما الصدغ وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار وهو ما يحاذي رأس الاذن وينزل عن رأسها قليلا
والنزعتان وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس فهما من الرأس، وذكر بعض
أصحابنا في الصدغ وجها آخر انه من الوجه لأنه متصل بالعذار أشبه العارض وليس بصحيح فإن
الربيع بنت معوذ قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه ومسح ما أقبل منه وما
98

أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة. فمسحه مع الرأس ولم ينقل انه غسله مع الوجه، ولأنه شعر متصل
بشعر الرأس فكان منه، فأما التحذيف وهو الشعر الداخل في الوجه ما بين انتهاء العذار والنزعة فهو
من الوجه ذكره ابن حامد، ويحتمل انه من الرأس لأنه شعر متصل به والأول أصح لأن محله لو لم يكن
عليه شعر لكان من الوجه فكذلك إذا كان عليه شعر كسائر الوجه.
(فصل) وهذه الشعور كلها إن كانت كثيفة لا تصف البشرة أجزأه غسل ظاهرها وإن كانت
تصف البشرة وجب غسلها معه وإن كان بعضها كثيفا وبعضها خفيفا وجب غسل بشرة الخفيف معه
وظاهر الكثيف أومأ إليه أحمد رحمه الله تعالى، ومن أصحابنا من ذكر في الشارب والعنفقة والحاجبين
99

وأهداب العينين ولحية المرأة وجها آخر في وجوب غسل باطنها وإن كانت كثيفة لأنها لا تستر ما تحتها
عادة وإن وجد ذلك كان نادرا فلا يتعلق به حكم وهذا مذهب الشافعي، ولنا أنه شعر ساتر لما تحته
أشبه لحية الرجل ودعوى الندرة في الحاجبين والشارب والعنفقة غير مسلم بل العادة ذلك.
(فصل) ومتى غسل هذه الشعور ثم زالت عنه أو انقلعت جلدة من يديه أو قص ظفره أو انقلع
لم يؤثر في طهارته قال يونس بن عبيد: ما زاده إلا طهارة وهذا قول أكثر أهل العلم، وحكي عن
ابن جرير أن ظهور بشرة الوجه بعد غسل شعره يوجب غسلها قياسا على ظهور قدم الماسح على الخف
ولا يصح لأن الفرض انتقل إلى الشعر أصلا بدليل أنه لو غسل البشرة دون الشعر لم يجزه بخلاف
الخفين فإنهما بدل يجزئ غسل الرجلين دونهما.
(فصل) ويجب غسل ما استرسل من اللحية، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لا يجب
غسل ما نزل منها عن حد الوجه طولا وعرضا لأنه شعر خارج عن محل الفرض فأشبه ما نزل من
شعر الرأس عنه، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب غسل اللحية الكثيفة لأن الله تعالى إنما أمر بغسل
الوجه وهو اسم للبشرة التي تحصل بها المواجهة والشعر ليس ببشرة وما تحته لا تحصل به المواجهة
وقد قال الخلال الذي ثبت عن أبي عبد الله في اللحية انه لا يغسلها وليست من الوجه البتة قال وروى
100

بكر بن محمد عن أبيه قال سألت أبا عبد الله أيما أعجب إليك غسل اللحية أو التخليل؟ فقال غسلها
ليس من السنة. وإن لم يخلل أجزأه وهذا ظاهره مثل مذهب أبي حنيفة في الرواية التي ذكرت عنه، ويحتمل
أنه أراد ما خرج عن حد الوجه منها وهو قول أبي حنيفة واحد قولي الشافعي والمشهور عن أبي حنيفة
أن عليه غسل الربع من اللحية بناء على أصله في مسح الرأس، وظاهر مذهب احمد الذي عليه أصحابه وجوب
غسل اللحية كلها مما هو نابت في محل الفرض سواء حاذى محل الفرض أو تجاوزه وهو ظاهر كلام الشافعي
وقول احمد في نفي الغسل أراد به غسل باطنها أي غسل باطنها ليس من السنة، وقد روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم رأى رجلا قد غطى لحيته في الصلاة فقال " اكشف وجهك فإن اللحية من الوجه " ولأنه نابت
في محل الفرض يدخل في اسمه ظاهرا فأشبه اليد الزائدة ولأنه يواجه به فيدخل في اسم الوجه ويفارق
شعر الرأس فإن النازل عنه لا يدخل في اسمه والخف لا يجب مسح جميعه بخلاف ما نحن فيه
(فصل) يستحب أن يزيد في ماء الوجه لأن فيه غضونا وشعورا ودواخل وخوارج ليصل الماء
إلى جميعه، وقد روى علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. ثم أدخل
يديه في الاناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك ثم أخذ بكفه
اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه رواه أبو داود وقوله تستن أي تسيل وتنصب قال أحمد رحمه الله
يؤخذ للوجه أكثر مما يؤخذ لعضو من الأعضاء، وقال محمد بن الحكم كره أبو عبد الله أن يأخذ الماء ثم يصبه
101

ثم يغسل وجهه، وقال هذا مسح ولكنه يغسل غسلا، وروى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه وقال " هكذا أمرني ربي عز وجل ".
* (مسألة) * قال (والفم والأنف من الوجه)
يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعا - الغسل والوضوء فإن غسل الوجه
واجب فيهما هذا المشهور في المذهب، وبه قال ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق وحكي عن عطاء
وروي عن أحمد رواية أخرى في الاستنشاق وحده أنه واجب قال القاضي الاستنشاق واجب في
الطهارتين رواية واحدة وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
توضأ فليستنثر " وفي رواية " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر " متفق عليه ولمسلم " من توضأ
فليستنشق " وعن ابن عباس مرفوعا " استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا " وهذا أمر يقتضي الوجوب ولان
الانف لا يزال مفتوحا وليس له غطاء يستره بخلاف الفم وقال غير القاضي: عن أحمد رواية أخرى ان
المضمضة والاستنشاق واجبان في الكبرى مسنونان في الصغرى وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي
لأن الكبرى يجب فيها غسل كل ما أمكن من البدن كبواطن الشعور الكثيفة ولا يمسح فيها على الحوائل
فوجبا فيها بخلاف الصغرى وقال مالك والشافعي لا يجبان في الطهارتين وإنما هما مسنونان فيهما وروي
102

ذلك عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والأوزاعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " عشر من الفطرة " وذكر منها المضمضة والاستنشاق - والفطرة السنة - وذكره لهما من
الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء ولان الفم والأنف عضوان باطنان فلا يجب غسلهما كباطن
اللحية وداخل العينين ولان الوجه ما تحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما، ولنا ماروت
عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي
لابد منه " رواه أبو بكر في الشافي باسناده عن ابن المبارك عن ابن جريج عن عروة عن عائشة
وأخرجه الدارقطني في سننه. ولان كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقصيا ذكر
أنه تمضمض واستنشق. ومداومته عليهما تدل على وجوبهما لأن فعله يصلح أن يكون بيانا وتفصيلا
للوضوء المأمور به في كتاب الله وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما الاشتمال الفطرة على الواجب والمندوب
ولذلك ذكر فيها الختان وهو واجب.
103

(فصل) والمضمضة إدارة الماء في الفم والاستنشاق اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الانف
والاستنثار اخراج الماء من أنفه لكن يعبر بالاستنثار عن الاستنشاق لكونه من لوازمه ولا يجب
إدارة الماء في جميع الفم ولا إيصال الماء إلى جميع باطن الانف وإنما ذلك مبالغة مستحبة في حق غير
الصائم وقد ذكرناه في سنن الطهارة، وإذا أدار الماء في فيه فهو مخير بين مجه وبلعه لأن المقصود قد حصل
به، فإن جعله في فيه ينوي رفع الحدث الأصغر ثم ذكر أنه جنب فنوى رفع الحدثين ارتفعا جميعا لأن
الماء لا يثبت له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال ولو كان الماء قد لبث في فيه حتى تحلل من ريقه ماء
يغيره لم يمنع لأن التغير في محل الإزالة لا يمنع أشبه ما لو تغير الماء على عضوه بعجين عليه.
(فصل) ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمناه ثم يستنثر بيسراه لما روي عن عثمان رضي
الله عنه أنه توضأ فدعا بماء فغسل يديه ثلاثا ثم غرف بيمينه ثم رفعها إلى فيه فمضمض واستنشق
بكف واحدة واستنثر بيسراه فعل ذلك ثلاثا ثم ذكر سائر الوضوء ثم قال إن النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ لنا كما توضأت لكم فمن كان سائلا عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا وضوؤه. رواه سعيد
ابن منصور باسناده. وعن علي رضي الله عنه أنه أدخل يده اليمنى في الاناء فملا كفه فتمضمض
واستنشق ونثر بيده اليسرى فعل ذلك ثلاثا ثم قال هذا وضوء نبي الله صلى الله عليه وسلم،
104

رواه أبو بكر في الشافي والنسائي، ويستحب أن يتمضمض ويستنشق من كف واحدة يجمع بينهما
قالا الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل أيما أعجب إليك المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو كل
واحدة منهما على حدة؟ قال بغرفة واحدة وذلك لما ذكرنا من حديث عثمان وعلي رضي الله عنهما وفي حديث
عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل يديه في التور فتمضمض واستنثر ثلاث مرات
يتمضمض ويستنثر من غرفة واحدة رواه سعيد، وفي لفظ تمضمض واستنثر ثلاثا ثلاثا من غرفة واحدة رواه
البخاري، وفي لفظ فتمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثا، متفق عليه وفي لفظ أنه
مضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات، متفق عليه وفي لفظ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا
من كف واحدة رواه الأثرم وابن ماجة فإن شاء المتوضئ تمضمض واستنشق من ثلاث غرفات، وان
شاء فعل ذلك ثلاثا بغرفة واحدة لما ذكرنا من الأحاديث، وان أفرد المضمضة بثلاث غرفات
105

والاستنشاق بثلاث جاز لأنه قد روي في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم
انه فصل بين المضمضة والاستنشاق رواه أبو داود ولان الكيفية في الغسل غير واجبة.
(فصل) ولا يجب الترتيب بينهما وبين غسل بقية الوجه لأنهما من أجزائه ولكن المستحب
أن يبدأ بهما قبل الوجه لأن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه بدأ بهما الا شيئا
نادرا، وهل يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء غير الوجه؟ على روايتين (إحداهما)
تجب وهو ظاهر كلام الخرقي لأنهما من الوجه فوجب غسلهما قبل غسل اليدين للآية وقياسا على سائر
أجزائه (والثانية) لا تجب بل لو تركهما في وضوئه وصلى تمضمض واستنشق وأعاد الصلاة ولم يعد الوضوء
لما روى المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بوضوء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه
ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق رواه أبو داود ولان وجوبهما بغير القرآن وإنما
وجب الترتيب بين الأعضاء المذكورة لأن في الآية ما يدل على إرادة الترتيب ولم يوجد ذلك فيهما
قيل لأحمد فنسي المضمضة وحدها قال الاستنشاق عندي آكد وذلك لصحة الأخبار الواردة
فيه بخصوصه، قال أصحابنا وهل يسميان فرضا مع وجوبهما؟ على روايتين وهذا ينبني على اختلاف
الروايتين في الواجب هل يسمى فرضا أولا والصحيح أن يسمى فرضا فيسميان ههنا فرضا والله أعلم
106

* (مسألة) * قال (وغسل اليدين إلى المرفقين ويدخل المرفقين في الغسل)
لا خلاف بين علماء الأمة في وجوب غسل اليدين في الطهارة وقد نص الله تعالى عليه بقوله
سبحانه (وأيديكم إلى المرافق) وأكثر العلماء على أنه يجب إدخال المرفقين في الغسل منهم عطاء
ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال بعض أصحاب مالك وابن داود لا يجب وحكي
ذلك عن زفر لأن الله تعالى أمر بالغسل إليهما وجعلهما غايته بحرف إلى وهو لانتهاء الغاية فلا يدخل
المذكور بعده كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) - ولنا ما روى جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
توضأ أدار الماء إلى مرفقيه وهذا بيان للغسل المأمور به في الآية فإن إلى تستعمل بمعنى مع قال الله
107

تعالى (ويزدكم قوة إلى قوتكم) أي مع قوتكم (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) و (من أنصاري إلى
الله) فكان فعله مبينا وقولهم إن إلى للغاية قلنا وقد تكون بمعنى مع قال المبرد إذا كان الحد من جنس
المحدود فيه كقولهم بعت هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف.
(فصل) وان خلق له أصبع زائدة أو يد زائدة في محل الفرض وجب غسلها مع الأصلية لأنها
نابتة فيه أشبهت الثؤلول وان كانت نابتة في غير محل الفرض كالعضد أو المنكب لم يجب غسلها
سواء كانت قصيرة أو طويلة لأنها في غير محل الفرض فأشبهت شعر الرأس إذا نزل عن الوجه وهذا
قول ابن حامد وابن عقيل، وقال القاضي إن كان بعضها يحاذي محل الفرض غسل ما يحاذيه منها
والأول أصح، واختلف أصحاب الرأي في ذلك كنحو مما ذكرنا، وإن لم يعلم الأصلية منهما وجب
غسلهما جميعا لأن غسل إحداهما واجب ولا يخرج عن عهدة الواجب يقينا الا بغسلهما فوجب غسلهما
كما لو تنجست إحدى يديه ولم يعلم عينها.
108

(فصل) وإن تعلقت جلدة من غير محل الفرض حتى تدلت من محل الفرض وجب غسلها
لأن أصلها في محل الفرض فأشبهت الإصبع الزائدة، وإن تعلقت من محل الفرض حتى صارت متدلية
من غير محل الفرض لم يجب غسلها قصيرة كانت أو طويلة بلا خلاف لأنها في غير محل الفرض، وإن
تعلقت من أحد المحلين فالتحم رأسها في الآخر وبقي وسطها متجافيا صارت كالنابتة في المحلين
يجب غسل ما حاذى محل الفرض منها من ظاهرها وباطنها وغسل ما تحتها من محل الفرض.
(فصل) وإن قطعت يده من دون المرفق غسل ما بقي من محل الفرض، وإن قطعت من
المرفق غسل العظم الذي هو طرف العضد لأن غسل العظمين المتلاقيين من الذراع والعضد واجب
فإذا زال أحدهما غسل الآخر وإن كان من فوق المرفقين سقط الغسل لعدم محله، فإن كان أقطع
اليدين فوجد من يوضئه متبرعا لزمه ذلك لأنه قادر عليه، وإن لم يجد من يوضئه إلا بأجر يقدر عليه
لزمه أيضا كما يلزمه شراء الماء، وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يلزمه كما لو عجز عن القيام في الصلاة لم
يلزمه استئجار من يقيمه ويعتمد عليه، وإن عجز عن الاجر أو لم يقدر على من يستأجره صلى على
حسب حاله كعادم الماء والتراب، وإن وجد من ييممه ولم يجد من يوضئه لزمه التيمم كعادم الماء
إذا وجد التراب وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا.
109

(فصل) إذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته فقال ابن عقيل لا تصح
طهارته حتى يزيله لأنه محل من اليد استتر بما ليس من خلقة الأصل سترا منع إيصال الماء إليه مع
امكان إيصاله وعدم الضرر به فأشبه ما لو كان عليه شمع أو غيره، ويحتمل أن لا يلزمه ذلك لأن هذا يستر
عادة فلو كان غسله واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وقد عاب
النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كونهم يدخلون عليه قلحا ورفغ أحدهم بن أنملته وظفره يعني ان وسخ ارفاغهم
تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها فعاب عليهم نتن ريحها لا بطلان طهارتهم، ولو كان مبطلا للطهارة
كان ذلك أهم من نتن الريح فكان أحق بالبيان ولان هذا يستتر عادة أشبه ما يستره الشعر من الوجه
(فصل) ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه بيده فغرف منه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك
في الماء، وقال بعض أصحاب الشافعي يصير الماء مستعملا بغرفه منه لأنه موضع غسل اليد وهو ناو
للوضوء بغسلها فأشبه ما لو غمسها في الماء ينوي غسلها فيه. ولنا ان في حديث عبد الله بن زيد في صفة
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم انه دعا بماء فذكر وضوءه إلى أن قال وغسل وجهه ثلاثا ثم
أدخل يده فاستخرجها وغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، وفي حديث عثمان ثم غرف بيده اليمنى
على ذراعه اليمنى فغسلها إلى المرفقين ثلاثا ثم غرف بيمينه فغسل يده اليسرى رواهما سعيد وحديث
عبد الله بن زيد رواه مسلم وغيره وكل من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحك انه تحرز
110

من اغتراف الماء بيده في موضع غسلها، ولو كان هذا يفسد الماء كان النبي صلى الله عليه وسلم أحق
بمعرفته ولوجب عليه بيانه لمسيس الحاجة إليه إذ كان هذا لا يعرف بدون البيان ولا يتوقاه إلا متحذلق،
وما ذكره لا يصح لأن المغترف لم يقصد بغمس يده إلا الاغتراف دون غسلها فأشبه من يغوص
في البئر لترقية الدلو وعليه جنابة لا يقصد غير ترقيته ونية الاغتراف عارضت نية الطهارة فصرفتها والله أعم
* (مسألة) * (ومسح الرأس)
لا خلاف في وجوب مسح الرأس وقد نص الله تعالى عليه بقوله (وامسحوا برؤوسكم) واختلف
في قدر الواجب فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب
مالك وروي عن أحمد يجزئ مسح بعضه، قال أبو الحارث قلت لأحمد: فإن مسح برأسه وترك
بعضه؟ قال يجزئه ثم قال: ومن يمكنه أن يأتي على الرأس كله؟ وقد نقل عن سلمة بن الأكوع انه كان
يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ، وممن قال بمسح البعض الحسن والثوري والأوزاعي
والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن الظاهر عن أحمد رحمه الله في حق الرجل وجوب الاستيعاب وان المرأة
يجزئها مسح مقدم رأسها، قال الخلال العمل في مذهب أحمد أبى عبد الله انها إن مسحت مقدم رأسها أجزأها
وقال مهنا قال أحمد أرجو أن تكون المرأة في مسح الرأس أسهل. قلت له ولم؟ قال كانت عائشة
تمسح مقدم رأسها، واحتج من أجاز مسح البعض بأن المغيرة بن شعبة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح
111

بناصيته وعمامته وان عثمان مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا حين حكى
وضوء النبي صلى الله عليه وسلم. رواه سعيد، ولان من مسح بعض رأسه يقال مسح برأسه كما يقال
مسح برأس اليتيم وقبل رأسه. وزعم بعض من ينصر ذلك أن الباء للتبعيض فكأنه قال: وامسحوا
بعض رؤسكم، ولنا قول الله تعالى (وامسحوا برؤوسكم) والباء للالصاق فكأنه قال وامسحوا
رؤسكم فيتناول الجميع كما قال في التيمم (وامسحوا بوجوهكم) وقولهم الباء للتبعيض غير صحيح، ولا
يعرف أهل العربية ذلك، قال ابن برهان من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما
لا يعرفونه. وحديث المغيرة يدل على جواز المسح على العمامة ونحن نقول به، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما
توضأ مسح رأسه كله وهذا يصلح أن يكون مبينا للمسح المأمور به وما ذكروه من اللفظ مجاز لا يعدل
إليه عن الحقيقة الا بدليل.
(فصل) وإذا قلنا بجواز مسح البعض فمن أي موضع مسح أجزأه لأن الجميع رأس. الا أنه لا يجزئ
مسح الاذنين عن الرأس لأنهما تبع فلا يجتزئ عن الأصل. والظاهر عن أبي عبد الله أنه لا يجب
مسحهما وإن وجب الاستيعاب لأن الرأس عند اطلاق لفظه إنما يتناول ما عليه الشعر.
واختلف أصحابنا في قدر البعض المجزئ فقال القاضي قدر الناصية لحديث المغيرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم مسح ناصيته، وحكى أبو الخطاب وبعض أصحاب الشافعي عن أحمد أنه لا يجزي الا مسح أكثره
112

لأن الأكثر ينطلق عليه اسم الشئ الكامل. وقال أبو حنيفة يجزئ مسح ربعه. وقال الشافعي
يجزئ مسح ما يقع عليه الاسم وأقله ثلاث شعرات وحكي عنه لو مسح ثلاث شعرات - وحكي عنه
لو مسح شعرة - أجزأه لوقوع الاسم عليها. ووجه ما قاله القاضي ان فعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بيانا
لما أمر به فيحمل عليه.
(فصل) والمستحب في مسح الرأس أن يبل يديه ثم يضع طرف إحدى سبابتيه على طرف الأخرى
ويضعهما على مقدم رأسه ويضع الابهامين على الصدغين ثم يمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي
بدأ منه كما روى عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فمسح رأسه بيديه
فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي منه بدأ. متفق
عليه، وكذلك وصف المقدام بن معد يكرب رواه أبو داود، فإن كان ذا شعر يخاف أن ينتفش برد
يديه لم يردهما نص عليه أحمد فإنه قيل له من له شعر إلى منكبيه كيف يمسح في الوضوء؟ فأقبل أحمد
بيديه على رأسه مرة وقال هكذا كراهية أن ينتشر شعره، يعني أن يمسح إلى قفاه ولا يرد يديه.
قال أحمد حديث علي هكذا وإن شاء مسح كما روي عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ
عندها فمسح رأسه كله من فرق الشعر كل ناحية لمصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته رواه أبو داود
وسئل احمد كيف تمسح المرأة؟ فقال هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها
113

فوضعها حيث منه بدأ ثم جرها إلي مؤخره. وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه.
(فصل) ولا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من المذهب وهو قول أبي حنيفة ومالك وروي
ذلك عن ابن عمر وابنه سالم والنخعي ومجاهد وطلحة بن مصرف والحكم قال الترمذي: والعمل عليه
عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وعن أحمد أنه يسن تكراره ويحتمله
كلام الخرقي لقوله: الثلاث أفضل وهو مذهب الشافعي وروي عن أنس، قال ابن عبد البر كلهم يقول
مسح الرأس مسحة واحدة، وقال الشافعي يمسح برأسه ثلاثا لأن أبا داود روى عن شقيق بن سلمة
قال رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثا ومسح برأسه ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فعل مثل هذا وروي مثل ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى
عثمان وعلي وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وأبو مالك والربيع وأبي بن كعب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا. وفي حديث أبي قال " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي " رواه ابن ماجة ولان
الرأس أصل في الطهارة فسن تكرارها فيه كالوجه.
ولنا أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ومسح برأسه مرة واحدة
متفق عليه. وروى علي رضي الله أنه توضأ ومسح برأسه مرة واحدة وقال هذا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذا قال الترمذي هذا حديث
114

حسن صحيح وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى وابن عباس وسلمة بن الأكوع والربيع كلهم
قالوا ومسح برأسه مرة واحدة. وحكايتهم لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم إخبار عن الدوام ولا
يداوم الا على الأفضل الأكمل، وحديث ابن عباس حكاية وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل حال
خلوته ولا يفعل في تلك الحال الا الأفضل ولأنه مسح في طهارة فلم يسن تكراره كالمسح في التيمم
والمسح على الجبيرة وسائر المسح ولم يصح من أحاديثهم شئ صريح. قال أبو داود أحاديث عثمان
الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا وقالوا فيها ومسح برأسه ولم
يذكروا عددا كما ذكروا في غيره والحديث الذي ذكر فيه مسح رأسه ثلاثا رواه يحيى بن آدم وخالفه
وكيع فقال توضأ ثلاثا فقط. والصحيح عن عثمان أنه توضأ ثلاثا ثلاثا ومسح رأسه ولم يذكر عددا هكذا
رواه البخاري ومسلم وقال أبو داود وهو الصحيح ومن روي عنه ذلك سوى عثمان فلم يصح فإنهم
الذين رووا أحاديثنا وهي صحاح فيلزم من ذلك ضعف ما خالفها والأحاديث التي ذكروا فيها أن
النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا أرادوا بها ما سوى المسح فإن رواتها حين فصلوها قالوا ومسح برأسه
115

مرة واحدة والتفصيل يحكم به على الاجمال ويكون تفسيرا له ولا يعارض به كالخاص مع العام، وقياسهم
منقوض بالتيمم (فإن قيل) يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح مرة ليبين الجواز ومسح ثلاثا ليبين الأفضل كما
فعل في الغسل فنقل الأمران نقلا صحيحا من غير تعارض بين الروايات (قلنا) قول الراوي: هذا طهور
رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل على أنه طهوره على الدوام. ولان الصحابة رضي الله عنهم إنما ذكروا صفة وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعريف سائلهم ومن حضرهم كيفية وضوئه في دوامه فلو شاهدوا وضوءه على صفة
أخرى لم يطلقوا هذا الاطلاق الذي يفهم منه انهم لم يشاهدوا غيره لأن ذلك يكون تدليسا وايهاما
بغير الصواب فلا يظن ذلك بهم وتعين حمل حال الراوي لغير الصحيح على الغلط لاغير ولان الرواة
إذا رووا حديثا واحدا عن شخص واحد فاتفق الحفاظ منهم على صفة وخالفهم فيها واحد حكموا عليه
بالغلط وإن كان ثقة حافظا فكيف إذا لم يكن معروفا بذلك.
(فصل) إذا وصل الماء إلى بشرة الرأس ولم يمسح على الشعر لم يجزئه لأن الفرض انتقل إليه فلم يجز
مسح غيره كما لو أوصل الماء إلى باطن اللحية ولم يغسل ظاهرها، وان نزل شعره عن منابت شعر الرأس فمسح
على النازل من منابته لم يجزئه لأن الرأس ما ترأس وعلا. ولو رد هذا النازل وعقده على رأسه لم يجزئه
116

المسح عليه لأنه ليس من الرأس وإنما هو نازل رده إلى أعلاه، ولو نزل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض
فمسح عليه أجزأه لأنه شعر على محل الفرض فأشبه القائم على محله ولان هذا لابد منه لكل ذي شعر. ولو
خضب رأسه بما يستره أو طينه لم يجزئه المسح على الخضاب والطين نص عليه في الخضاب لأنه لم يمسح على
محل الفرض فأشبه ما لو ترك على رأسه خرقة فمسح عليها، والله أعلم.
(فصل) ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فصل عن ذراعيه وهو قول أبي حنيفة والشافعي والعمل عليه
عن أكثر أهل العلم قاله الترمذي. وجوزه الحسن وعروة والأوزاعي لما ذكرنا من حديث عثمان، ويتخرج
لنا مثل ذلك إذا قلنا المستعمل لا يخرج عن طهوريته سيما الغسلة الثانية والثالثة.
ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بماء غير فضل يديه وكذلك حكى
علي ومعاوية رواهن أبو داود قال الترمذي وقد روي من وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لرأسه
ماء جديد ولان البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ المسح به كما لو فصله في إناء ثم استعمله.
(فصل) فإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين (أحدهما) لا يجزئه لأن الله تعالى أمر
بالمسح والنبي صلى الله عليه وسلم مسح وأمر بالمسح ولأنه أحد نوعي الطهارة فلم يجزئ عن النوع
الآخر كالمسح عن الغسل (والثاني) يجزئ لأنه لو كان جنبا فانغمس في ماء ينوي الطهارتين أجزأه
مع عدم المسح فكذلك إذا كان الحديث الأصغر منفردا ولان في صفة غسل النبي صلى الله عليه
117

وسلم انه غسل وجهه ويديه ثم افرغ على رأسه ولم يذكر مسحا ولان الغسل أبلغ من المسح فإذا أتى
به ينبغي أن يجزئه كما لو اغتسل ينوي به الوضوء، وهذا فيما إذا لم يمر يده على رأسه فأما إن أمر يده
على رأسه مع الغسل أو بعده أجزأه لأنه قد أتى بالمسح. وقد روي عن معاوية انه توضأ للناس كما
رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فلما بلغ رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه
حتى قطر الماء أو كاد يقطر. ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخره إلى مقدمه رواه أبو داود.
ولو حصل على رأسه ماء المطر أو صب عليه انسان ثم مسح عليه يقصد بذلك الطهارة أو كان قد صمد
للمطر أجزأه، وإن حصل الماء على رأسه من غير قصد أجزأه أيضا لأن حصول الماء على رأسه بغير قصد
لم يؤثر في الماء، فمتى وضع يده على ذلك البلل ومسح به فقد مسح بماء غير مستعمل فصحت طهارته
كما لو حصل بقصده، فإن لم يمسح بيده وقلنا إن الغسل يقوم مقام المسح نظرنا فإن قصد حصول الماء على
رأسه أجزأه إذا جرى الماء عليه وإلا لم يجزه وإن قلنا لا يجزئ الغسل عن المسح لم يجزه بحال (1)
(فصل) وإن مسح رأسه بخرقة مبلولة أو خشبة أجزأه في أحد الوجهين لأن الله تعالى أمر
بالمسح وقد فعله فأجزأه كما لو مسح بيده أو بيد غيره ولان مسحه بيده غير مشترط بدليل ما لو
مسحه بيد غيره (والثاني) لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بيده، وإن وضع على رأسه خرقة
مبلولة فابتل بها رأسه أو وضع خرقة ثم بلها حتى ابتل شعره لم يجزئه لأن ذلك ليس بمسح ولا غسل،
ويحتمل أن يجزئه لأنه بل شعره قاصدا للوضوء فأجزأه كما لو غسله وإن مسح بأصبع أو إصبعين أجزأه

(1) أجزأ يجزئ مهموز يجوز تسهيله بان يقال اجزى يجزى وهو معهود من
الفقهاء ولا ندري هل الأصل هنا التزام أحد الوجهين والاختلاف من الناسخ أم لا فيه
انه كان متنعلا ولو غسل لخلع نعليه والحق ان هذه تأويلات وان المسح ثابت
بقراءة متواترة عمل بها بعض السلف وان مشقة غسل الرجلين قد تكون أشد من مشقة
غسل الرأس ولا سيما في السفر وان الغسل في العصر الأول كان يقتضي الوحل لأن أرض
المسجد كانت ترابا وكذا ما حولها واما في زماننا فالغسل هو الذي تحصل به حكمة الوضوء وهي النظافة على أكمل وجه وهو أحوط لعدم الخلاف فيه
118

إذا مسح بهما ما يجب مسحه كله ونقل محمد بن الحكم عن أحمد انه لا يجزئه، قال القاضي هذا محمول على وجوب
الاستيعاب فإنه لا يمكنه استيعاب الرأس بأصبعه فأما إن استوعبه أجزأه لأنه مسح ببعض يده أشبه مسحه بكفه
(فصل) والاذنان من الرأس فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه وقال الخلال كلهم حكوا
عن أبي عبد الله فيمن تركه مسحهما عامدا أو ناسيا انه يجزئه وذلك لأنهما تبع للرأس لا يفهم من
اطلاق اسم الرأس دخولهما فيه ولا يشبهان بقية أجزاء الرأس ولذلك لم يجزه مسحهما عن مسحه عند
من اجتزأ بمسح بعضه والأولى مسحهما معه لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسحهما مع رأسه فروت الربيع أنها رأت
النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة. وروى ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وقال الترمذي حديث ابن عباس وحديث الربيع صحيحان
وروى المقدام بن معديكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه رواه
أبو داود فيستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي اذنيه ويمسح ظاهر اذنيه بابهاميه ولا يجب مسح
ما استتر بالغضاريف لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر. والاذن أولى
119

* (مسألة) * قال (وغسل الرجلين إلى الكعبين وهما العظمان الناتئان)
غسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى أجمع أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه ثم دخل المسجد فخلع نعليه
ثم صلى، وحكي عن ابن عباس أنه قال ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين وروي عن أنس بن
مالك أنه ذكر له قول الحجاج اغسلوا القدمين ظاهرهما وباطنهما وخللوا ما بين الأصابع فإنه ليس شئ
من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فقال أنس صدق الله وكذب الحجاج وتلا هذه الآية (فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء
مغسولان وممسوحان فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم يعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين
120

غير من ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخير بين المسح والغسل، واحتج بظاهر الآية
وبما روى ابن عباس قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وأدخل يده في الاناء فمضمض واستنشق مرة واحدة ثم
أدخل يده فصب على وجهه مرة واحدة وصب على يديه مرة واحدة، ومسح برأسه وأذنيه مرة
واحدة، ثم أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه وهو منتعل رواه سعيد، وقال أيضا حدثنا هشيم
أخبرنا يعلى بن عطاء عن أبيه قال أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أتى كظامة
قوم بالطائف فتوضأ ومسح على قدميه. قال هشيم كان هذا في أول الاسلام.
ولنا أن عبد الله بن زيد وعثمان حكيا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: فغسل قدميه
وفي حديث عثمان ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا متفق عليه. وفي لفظ ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين
ثلاثا ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم
121

فقال ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا وكذلك قالت الربيع بنت معوذ والبراء بن عازب
وعبد الله بن عمر رواهن سعيد وغيره. وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر من
قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ارجع فأحسن وضوءك " فرجع فتوضأ ثم صلى رواه مسلم، وفى لفظ
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد
الوضوء والصلاة رواه أبو داود والأثرم قال الأثرم ذكر أبو عبد الله اسناد هذا الحديث قلت له اسناد
جيد؟ قال نعم. وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضؤن وأعقابهم تلوح فقال " ويل
للأعقاب من النار " وعن عائشة وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ويل للأعقاب من النار " رواهن مسلم (1)
وقد ذكرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتخليل الأصابع وأنه كان يعرك أصابعه بخنصره بعض العرك وهذا كله
يدل على وجوب الغسل فإن الممسوح لا يحتاج إلى الاستيعاب والعرك. وأما الآية فقد روى عكرمة عن
ابن عباس أنه كان يقرأ (وأرجلكم) قال عاد إلى الغسل. وروى عن علي وابن مسعود والشعبي أنهم كانوا

(1) بل رواه الجماعة كلهم ولكن انفرد مسلم دون البخاري بقول الراوي: وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء
122

يقرؤونها كذلك وروى ذلك كله سعيد، وهي قراءة جماعة من القراء منهم ابن عامر فتكون معطوفة
على اليدين في الغسل ومن قرأها بالجر فللمجاورة كما قال وأنشدوا:
كأن ثبيرا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل
وأنشد: فظل طهاة اللحم من بن منضج * صفيف شواء أو قدير معجل
جر قديرا مع العطف للمجاورة وفي كتاب الله تعالى (إني أخاف عليكم عذاب يوم اليم) جر أليما
وهو صفة العذاب المنصوب لمجاورته المجرور وتقول العرب: جحر ضب خرب. وإذا كان الامر فيها
محتملا وجب الرجوع إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على صحة هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث عمرو بن عنبسة ثم غسل رجليه كما أمره الله عز وجل فثبت بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما أمر بالغسل لا بالمسح ويحتمل أنه أراد بالمسح الغسل الخفيف قال أبو علي الفارسي: العرب
123

تسمي خفيف الغسل مسحا فيقولون تمسحت للصلاة أي توضأت وقال أبو زيد الأنصاري نحو ذلك.
وتحديده بالكعبين دليل على أنه أراد الغسل فإن المسح ليس بمحدود (فإن قيل) فعطفه على الرأس دليل
على أنه أراد حقيقة المسح قلنا قد افترقا من وجوه (أحدها) ان الممسوح في الرأس شعر يشق غسله
والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات (والثاني) انهما محدودان بحد ينتهى إليه فأشبها اليدين (والثالث)
انهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس أن النبي
صلى الله عليه وسلم مسح على قدميه فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك حديث ابن عباس ولذلك قال أخذ ملء كف
من ماء فرش على قدميه والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.
فأما قول الخرقي: وهما العظمان الناتئان فأراد ان الكعبين هما اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم
وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال هما في مشط القدم وهو معقد الشراك من الرجل بدليل أنه قال إلى الكعبين
فيدل على أن في الرجلين كعبين لا غير، ولو أراد ما ذكرتموه كانت كعاب الرجلين أربعة فإن لكل
124

قدم كعبين. ولنا أن الكعاب المشهورة في العرف هي التي ذكرناها. قال أبو عبيد الكعب. الذي في
أصل القدم منتهى الساق إليه بمنزلة كعاب القنا كل عقد منها يسمى كعبا. وقد روى أبو القاسم الحدلي
عن النعمان بن بشير قال كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة ومنكبه بمنكب صاحبه رواه الخلال
وقاله البخاري. وروي أن قريشا كانت ترمي كعبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه حتى تدميها. ومشط
القدم أمامه وقوله (إلى الكعبين) حجة لنا فإنه أراد كل رجل تغسل إلى الكعبين إذ لو أراد كعاب جميع
الأرجل لقال الكعاب كما قال (وأيديكم إلى المرافق).
(فصل) ويلزمه ادخال الكعبين في الغسل كقولنا في المرافق فيما مضى
* (مسألة) * قال (ويأتي بالطهارة عضوا بعد عضو كما أمر الله تعالى) وجملة ذلك أن الترتيب في الوضوء على ما في الآية واجب عند أحمد لم أر عنه فيه اختلافا وهو
مذهب الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد، وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد انه غير واجب
وهذا مذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي وروي أيضا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، وروي عن علي
ومكحول والنخعي والزهري والأوزاعي فيمن نسي مسح رأسه فرأى في لحيته بللا يمسح رأسه به ولم يأمروه
بإعادة غسل رجليه واختاره ابن المنذر لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بواو الجمع
125

وهي لا تقتضي الترتيب فكيفما غسل كان ممتثلا. وروي عن علي وابن مسعود ما أبالي أعضائي بدأت،
وقال ابن مسعود لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء.
ولنا أن في الآية قرينة تدل على أنه أريد بها الترتيب فإنه أدخل ممسوحا بين مغسولين والعرب
لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة والفائدة ههنا الترتيب (فإن قيل) فائدته استحباب
الترتيب (قلنا) الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب ولهذا لم يذكر فيها شيئا من السنن ولأنه متى
اقتضى اللفظ الترتيب كان مأمورا به والامر يقتضي الوجوب ولان كل من حكى وضوء رسول الله
صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبا وهو مفسر لما في كتاب الله تعالى: وتوضأ مرتبا وقال " هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة إلا به " أي بمثله وما روي عن علي وابن مسعود قال احمد إنما عنا به اليسرى قبل اليمنى لأن
مخرجهما من الكتاب واحد. ثم قال احمد حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه ان عليا سئل فقيل له
أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شئ قال لا حتى يكون كما أمر الله تعالى. والرواية الأخرى عن
ابن مسعود ولا يعرف لها أصل.
126

(فصل) ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى ولا نعلم فيه خلافا لأن مخرجهما في الكتاب واحد قال
الله تعالى (وأيديكم وأرجلكم) والفقهاء يعدون اليدين عضوا والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب في العضو
الواحد وقد دل على ذلك قول علي وابن مسعود
(فصل) وإذا نكس وضوءه فبدأ بشئ من أعضائه قبل وجهه لم يحتسب بما غسله قبل وجهه، فإذا غسل
وجهه مع بقاء نيته أو بعدها بزمن يسير احتسب له به ثم يرتب الأعضاء الثلاثة. وان غسل وجهه
ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ورجليه أعاد مسح رأسه وغسل رجليه، وإن غسل وجهه ويديه ثم غسل
رجليه ثم مسح رأسه صح وضؤه الاغسل رجليه، وإن نكس وضوءه جميعه لم يصح إلا غسل وجهه
وان توضأ منكسا أربع مرات صح وضوءه يحصل له من كل مرة غسل عضوا إذا كان متقاربا. ومذهب
الشافعي مثل ما ذكرنا، ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح له إلا غسل وجهه لأنه لم يترتب. وإن انغمس
في ماء جار فلم يمر على أعضائه إلا جرية واحدة فكذلك وإن مر عليه أربع جريات وقلنا الغسل يجزئ
عن المسح أجزأه كما لو توضأ أربع مرات، وإن كان الماء راكدا فقال بعض أصحابنا إذا أخرج وجهه
ثم يديه ثم مسح رأسه ثم خرج من الماء أجزأة لأن الحدث إنما يرتفع بانفصال الماء عن العضو ونص
أحمد في رجل أراد الوضوء فاغتمس في الماء ثم خرج من الماء فعليه مسح رأسه وغسل رجليه. وهذا
127

يدل على أن الماء إذا كان جاريا فمرت عليه جرية واحدة انه يجزئه مسح رأسه وغسل رجليه، وإن
اجتمع الحدثان سقط الترتيب والموالاة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) ولم يذكر الخرقي الموالاة وهي واجبة عند أحمد نص عليها في مواضع وهذا قول الأوزاعي
وأحد قولي الشافعي. قال القاضي ونقل حنبل عن أحمد أنها غير واجبة وهذا قول أبي حنيفة لظاهر الآية، ولان
المأمور به غسل الأعضاء فكيفما غسل جاز ولأنها إحدى الطهارتين فلم تجب الموالاة فيها كالغسل، وقال
مالك أن تعمد التفريق بطل والا فلا، ولنا ما ذكرنا من رواية عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا
يصلي في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة، ولو لم
تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة، ولأنها عبادة يفسدها الحدث فاشترطت الموالاة كالصلاة
والآية دلت على وجوب الغسل والنبي صلى الله عليه وسلم بين كيفيته وفسر مجمله بفعله وأمره. فإنه لم يتوضأ الا
متواليا وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء، وغسل الجنابة بمنزلة غسل عضو واحد بخلاف الوضوء.
(فصل) والموالاة الواجبة أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله
في الزمان المعتدل لأنه قد يسرع جفاف العضو في بعض الزمان دون بعض، ولأنه يعتبر ذلك فيما
بين طرفي الطهارة، وقال ابن عقيل في رواية أخرى ان حد التفريق المبطل ما يفحش في العادة لأنه
لم يحد في الشرع فيرجع فيه إلى العادة كالاحراز والتفرق في البيع.
128

(فصل) وإن نشفت أعضاؤه لاشتغاله بواجب في الطهارة أو مسنون لم يعد تفريقا كما لو طول
أركان الصلاة. قال أحمد: إذا كان في علاج الوضوء فلا بأس، وإن كان لوسوسة تلحقه فكذلك
لأنه في علاج الوضوء، وإن كان ذلك لعبث أو شئ زائد على المسنون وأشباهه عد تفريقا ويحتمل
أن تكون الوسوسة كذلك لأنه مشتغل بما ليس بمفروض ولا مسنون.
* (مسألة) قال (والوضوء مرة مرة يجزئ والثلاث أفضل)
هذا قول أكثر أهل العلم الا أن مالكا لم يوقت مرة ولا ثلاثا قال إنما قال الله تعالى (فاغسلوا
وجوهكم) وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز الوضوء ثلاثا ثلاثا الا غسل الرجلين فإنه ينقيهما
وقد روي عن ابن عباس قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة رواه البخاري وروى أبو هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين رواه الترمذي. وقال هذا حديث حسن غريب وعن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ ثلاثا ثلاثا قال الترمذي حديث علي أحسن شئ في هذا الباب وأصح. وقال سعيد حدثنا سلام
الطويل عن زيد العمى عن معاوية بن قرة عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة
ثم قال " هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به " ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ
مرتين مرتين فقال " هذا وضوء من توضأه ضاعف الله له الاجر مرتين " ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء
129

فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال " هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي " وروى ابن ماجة باسناده عن أبي
ابن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى مسلم في صحيحه أن عثمان دعا بوضوء فتوضأ وغسل
كفيه ثلاث مرات ثم تمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث
مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات
ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه "
قال ابن شهاب وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة.
(فصل) وإن غسل بعض أعضائه مرة وبعضها أكثر جاز لأنه إذا جاز ذلك في الكل جاز في
البعض وفي حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا وغسل يديه
مرتين ومسح برأسه مرة متفق عليه.
(فصل) قال أحمد رحمه الله: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى. وقال ابن المبارك: لا آمن
من ازداد على الثلاث أن يأثم وقال إبراهيم النخعي تشديد الوضوء من الشيطان لو كان هذا فضلا
لأوثر به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء اعرابي إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم "
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
130

(فصل) وإذا فرغ من وضوئه استحب أن يرفع نظره إلى السماء ثم يقول ما رواه مسلم في صحيحه
عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم
يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من
أيها شاء " رواه أبو بكر الخلال باسناده وفيه " من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء - وفيه -
اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ".
(فصل) ولا بأس بالمعاونة على الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة انه افرغ على النبي صلى الله
عليه وسلم في وضوئه رواه مسلم، وروي عن صفوان بن عسال قال صببت على النبي صلى الله عليه وسلم في
السفر والحضر. وعن أم عياش وكانت أمة لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت كنت أوضئ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا قائمة وهو قاعد رواهما ابن ماجة، وروي عن أحمد أنه قال: ما أحب أنه يعينني
على وضوئي أحد لأن عمر قال ذلك:
(فصل) ولا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل قال الخلال المنقول عن
أحمد أنه لا بأس بالتنشيف بعد الوضوء وممن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن
علي وأنس وكثير من أهل العلم، ونهى عنه جابر بن عبد الله وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة
من أهل العلم لأن ميمونة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم أغتسل فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء
بيده متفق عليه والأول أصح لأن الأصل الإباحة وترك النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الكراهة فإن النبي صلى الله عليه وسلم
131

قد يترك المباح كما يفعله وقد روى أبو بكر في الشافي باسناده عن عروة عن عائشة قالت كان للنبي
صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال منكر منكر وروي عن قيس
ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ثم أتيناه بملحفة ودسية فالتحف بها الا أن الترمذي قال لا يصح
في هذا الباب شئ، ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه لحديث ميمونة.
* (مسألة) * قال (وإذا توضأ لنافلة صلى فريضة)
لا أعلم في هذه المسألة خلافا وذلك لأن النافلة تفتقر إلى رفع الحدث كالفريضة وإذا ارتفع
الحدث تحقق شرط الصلاة وارتفع المانع فأبيح له الفرض وكذلك كل ما يفتقر إلى الطهارة كمس المصحف
والطواف إذا توضأ له ارتفع حدثه وصحت طهارته وأبيح له سائر ما يحتاج إلى الطهارة وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
(فصل) يجوز أن يصلي بالوضوء ما لم يحدث ولا نعلم في هذا خلافا قال أحمد بن القاسم سألت أحمد
عن رجل صلى أكثر من خمس صلوات بوضوء واحد قال ما بأس بهذا إذا لم ينتقض وضوؤه ما ظننت
أن أحدا أنكر هذا وقال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، وروى أنس قال
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قلت وكيف كنتم تصنعون؟ قال يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث
132

رواه البخاري وأبو داود. وفي مسلم بريدة قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء
واحد ومسح على خفيه فقال له عمر إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال " عمدا صنعته ".
(فصل) وتجديد الوضوء مستحب نص أحمد عليه في رواية موسى بن عيسى ونقل حنبل عنه أنه
كان يفعله وذلك لما روينا من الحديث وعن غطيف الهذلي قال: رأيت ابن عمر يوما توضأ لكل
صلاة فقلت أصلحك الله أفريضة أم سنة الوضوء عند كل صلاة؟ فقال لا لو توضأت لصلاة الصبح
لصليت به الصلوات كلها ما لم أحدث ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من توضأ
على طهر فله عشر حسنات " وإنما رغبت في الحسنات أخرجه أبو داود وابن ماجة. وقد نقل علي
ابن سعيد عن أحمد لا فضل فيه والأول أصح.
(فصل) ولا بأس بالوضوء في المسجد إذا لم يؤذ أحدا بوضوئه ولم يبل موضع الصلاة قال ابن المنذر
أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وأبو بكر بن محمد
وابن عمر وابن حزم وابن جريج وعوام أهل العلم، قال وبه نقول الا أن يبل مكانا يجتاز الناس فيه فاني أكرهه
الا أن يفحص الحصى عن البطحاء كما فعل لعطاء وطاوس فإذا توضأ رد الحصى عليه فاني لا أكرهه، وقد
روى عن أحمد انه يكرهه صيانة للمسجد عن البصاق والمخاط وما يخرج من فضلات الوضوء.
133

* (مسألة) * قال (ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء)
رويت الكراهية لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب
الرأي، وقال الأوزاعي: لا يقرأ الا آية الركوب والنزول (سبحان الذي سخر لنا هذا * وقل رب أنزلني
منزلا مباركا) وقال ابن عباس يقرأ ورده، وقال سعيد بن المسيب يقرأ القرآن أليس هو في جوفه؟
وحكي عن مالك للحائض القراءة دون الجنب لأن أيامها تطول فإن منعناها من القراءة نسيت
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه - أو قال - يحجزه
عن قراءة القرآن شئ ليس الجنابة، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " رواه
أبو داود والترمذي وقال يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع وقد ضعف البخاري روايته عن أهل الحجاز وقال إن
ما روايته عن أهل الشام، وإذا ثبت هذا في الجنب ففي الحائض أولى لأن حدثها آكد ولذلك حرم الوطئ
ومنع الصيام وأسقط الصلاة وساواها في سائر أحكامها.
(فصل) ويحرم عليهم قراءة آية فأما بعض آية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية
والحمد لله وسائر الذكر فإن لم يقصد به القرآن فلا بأس فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى،
ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم ولا يمكنهم التحرز من هذا، وان قصدوا به القراءة أو كان ما
قرأوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز وروي عن علي رضى
134

الله عنه أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال لا ولا حرفا وهذا مذهب الشافعي لعموم الخبر في النهي
ولأنه قرآن فمنع من قراءته كالآية (والثانية) لا يمنع منه وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يحصل به الاعجاز ولا
يجزئ في الخطبة ويجوز إذا لم يقصد به القرآن وكذلك إذا قصد.
(فصل) وليس لهم اللبث في المسجد لقول الله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا)
وروت عائشة قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال " وجهوا هذه البيوت عن
المسجد فاني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود، ويباح العبور للحاجة من أخذ شئ أو تركه
أو كون الطريق فيه فاما لغير ذلك فلا يجوز بحال، وممن نقلت عنه الرخصة في العبور ابن مسعود وابن
عباس وابن المسيب وابن جبير والحسن ومالك والشافعي، وقال الثوري وإسحاق: لا يمر في المسجد الا
أن لا يجد بدا فيتيمم وهو قول أصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " ولنا
قول الله تعالى (الا عابري سبيل) والاستثناء من المنهي عنه إباحة، وعن عائشة (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لها " ناوليني الخمرة (2) من المسجد " قالت اني حائض قال " ان حيضتك ليست في يدك " رواه
مسلم، وعن جابر قال كنا نمر في المسجد ونحن جنب رواه ابن المنذر، وعن زيد بن أسلم قال كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب رواه ابن المنذر أيضا وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا
(فصل) فأما المستحاضة ومن به سلس البول فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث
المسجد لما روي عن عائشة ان امرأة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكفت معه وهي مستحاضة

(1) في بعض النسخ زيادة الترضي هنا وعند ذكر كل صحابي
(2) الخمرة بضم المعجمة شبه حصيرة يصلى عليها
135

فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي رواه البخاري ولأنه حدث لا يمنع الصلاة
فلم يمنع اللبث كخروج الدم اليسير من أنفه، فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور فإن المسجد
يصان عن هذا كما يصان عن البول فيه. ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك
(فصل) وان خاف الجنب على نفسه أو ماله أو لم يمكنه الخروج من المسجد أو لم يجد مكانا
غيره أولم يمكنه الغسل ولا الوضوء تيمم ثم أقام في المسجد، وروي عن علي وابن عباس وسعيد
ابن جبير ومجاهد والحسن بن مسلم بن يناق في تأويل قوله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل) يعني
مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون، وقال بعض أصحابنا يلبث بغير تيمم لأن التيمم لا يرفع الحدث
وهذا غير صحيح لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة، ولان هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب
التيمم له عند العجز عنها كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة، وقولهم لا يرفع الحدث قلنا إلا أنه يقوم
مقام ما يرفع الحدث في إباحة ما يستباح به.
(فصل) إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق، وقال أكثر أهل العلم
لا يجوز للآية والخبر. واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون
في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث وهذا إشارة إلى جميعهم
136

فيكون إجماعا يخص به العموم، ولأنه إذا توضأ خف حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء. ودليل خفته
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب به وإذا أراد النوم واستحبابه لمن أراد الاكل ومعاودة الوطئ. فأما الحائض
إذا توضأت فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح.
* (مسألة) * قال (ولا يمس المصحف إلا طاهر).
يعني طاهرا من الحدثين جميعا روي هذا عن ابن عمر والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والقاسم
ابن محمد وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم مخالفا لهم الا داود فإنه أباح مسه واحتج بان
النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه آية إلى قيصر، وأباح الحكم وحماد مسه بظاهر الكف لأن آلة المس باطن
اليد فينصرف النهي إليه دون غيره، ولنا قوله تعالى (لا يمسه الا المطهرون) وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم
لعمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن الا طاهر " وهو كتاب مشهور رواه أبو عبيد في فضائل القرآن
وغيره ورواه الأثرم، فأما الآية التي كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم فإنما قصد بها المراسلة والآية في الرسالة
أو كتاب فقه أو نحوه لا تمنع مسه ولا يصير الكتاب بها مصحفا ولا تثبت له حرمته، إذا ثبت هذا فإنه
لا يجوز له مسه بشئ من جسده لأنه من جسده فأشبه يده وقولهم إن المس إنما يختص باطن اليد ليس
بصحيح فإن كل شئ لاقى شيئا فقد مسه.
137

(فصل) ويجوز حمله بعلاقته وهذا قول أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن وعطاء وطاوس والشعبي
والقاسم وأبي وائل والحكم وحماد ومنع منه الأوزاعي ومالك والشافعي قال مالك أحسن ما سمعت أنه
لا يحمل المصحف بعلاقته ولا في غلافه الا وهو طاهر وليس ذلك لأنه يدنسه ولكن تعظيما للقرآن،
واحتجوا بأنه مكلف محدث قاصد لحمل المصحف فلم يجز كما لو حمله مع مسه.
ولنا أنه غير ماس له فلم يمنع منه كما لو حمله في رحله ولان النهي إنما يتناول المس والحمل ليس بمس
فلم يتناوله النهي وقياسهم فاسد فإن العلة في الأصل مسه وهو غير موجود في الفرع والحمل لا اثر له فلا
يصح التعليل به وعلى هذا لو حمله بعلاقة أو بحائل بينه وبينه مما لا يتبعه في البيع جاز لما ذكرنا، وعندهم
لا يجوز ووجه المذهبين ما تقدم، ويجوز تقليبه بعود ومسه به وكتب المصحف بيده من غير أن يمسه، وفي
تصفحه بكمه روايتان وخرج القاضي في مس غلافه وحمله بعلاقته رواية أخرى أنه لا يجوز بناء على
مسه بكمه. والصحيح جوازه لأن النهي إنما يتناول مسه والحمل ليس بمس.
(فصل) ويجوز مس كتب التفسير والفقه وغيرهما والرسائل وإن كان فيها آيات من القرآن
بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر كتابا فيه آية ولأنها لا يقع عليها اسم مصحف ولا تثبت لها
حرمته. وفي مس صبيان الكتاتيب ألواحهم التي فيها القرآن وجهان (أحدهما) الجواز لأنه موضع حاجة
فلو اشترطنا الطهارة أدى إلى تنفيرهم عن حفظه (والثاني) المنع لدخولهم في عموم الآية. وفي الدراهم
المكتوب عليها القرآن وجهان (أحدهما) المنع وهو قول أبي حنيفة. وكرهه عطاء والقاسم والشعبي لأن
138

القرآن مكتوب عليها فأشبهت الورق (والثاني) الجواز لأنه لا يقع عليها اسم المصحف فأشبهت كتب
الفقه ولان في الاحتراز منها مشقة أشبهت ألواح الصبيان.
(فصل) وان احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء تيمم وجاز مسه ولو غسل
المحدث بعض أعضاء الوضوء لم يجز له مسه به قبل اتمام وضوئه لأنه لا يكون متطهرا إلا بغسل الجميع
(فصل) ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم ".
139

باب الاستطابة والحدث
الاستطابة هي الاستنجاء بالماء أو بالأحجار يقال استطاب وأطاب إذا استنجى سمي استطابة
لأنه يطيب جسده بإزالة الخبث عنه قال الشاعر يهجو رجلا
يا رخما قاظ على عرقوب * يعجل كف الخارئ المطيب
والاستنجاء استفعال من نجوت الشجرة أي قطعتها فكأنه قطع الأذى عنه وقال ابن قتيبة هو
مأخوذ من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها والاستجمار استفعال
من الجمار وهي الحجارة الصغار لأنه يستعملها في استجماره.
* (مسألة) * قال (وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء)
ولا نعلم في هذا خلافا قال أبو عبد الله ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسوله
إنما عليه الوضوء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " من استنجى من ريح فليس منا " رواه الطبراني
في معجمه الصغير وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) إذا قمتم
من النوم ولم يأمر بغيره فدل على أنه لا يجب ولان الوجوب من الشرع ولم يرد بالاستنجاء ههنا نص
ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة ولا نجاسة ههنا.
140

* (مسألة) * قال (والاستنجاء لما خرج من السبيلين)
هذا فيه اضمار وتقديره والاستنجاء واجب فحذف خبر الابتداء اختصارا وأراد ما خرج غير
الريح لأنه قد بين حكمها وسواء كان الخارج معتادا كالبول والغائط أن نادرا كالحصى والدود والشعر
رطبا أو يابسا، ولو احتقن فرجعت أجزاء خرجت من الفرج أو وطئ رجل امرأته دون الفرج فدب ماؤه
إلى فرجها ثم خرج منه فعليهما الاستنجاء على ظاهر كلام الخرقي وقد صرح به القاضي وغيره، ولو أدخل
الميل في ذكره ثم أخرجه لزمه الاستنجاء لأنه خارج من السبيل فأشبه الغائط المستحجر، والقياس أن
لا يجب من ناشف لا ينجس المحل للمعنى الذي ذكرنا في الريح وهو قول الشافعي وهكذا الحكم
في الطاهر وهو المني إذا حكمنا بطهارته، والقول بوجوب الاستنجاء في الجملة قول أكثر أهل العلم، وحكي
عن ابن سيرين فيمن صلى بقوم ولم يستنج لا أعلم به بأسا وهذا يحتمل أن يكون فيمن لم يلزمه
الاستنجاء كمن لزمه الوضوء لنوم أو خروج ريح أو من ترك الاستنجاء ناسيا فيكون موافقا
لقول الجماعة، ويحتمل أنه لم ير وجوب الاستنجاء وهذا قول أبي حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " رواه أبو داود، ولأنها نجاسة
يكتفى فيها بالمسح فلم تجب ازالتها كيسير الدم.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه "
رواه أبو داود وقال " لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار " رواه مسلم وفي لفظ لمسلم: لقد نهانا أن نستنجي
بدون ثلاثة أحجار. فأمر والامر يقتضي الوجوب وقال " فإنها تجزئ عنه " والاجزاء إنما يستعمل في
141

الواجب ونهى عن الاقتصار على أقل من ثلاثة والنهى يقتضي التحريم وإذا حرم ترك بعض النجاسة فترك
جميعها أولى. وقال ابن المنذر ثبت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يكفي أحدكم دون ثلاثة أحجار " وأمر
بالعدد في اخبار كثيرة وقوله " لا حرج " يعني في ترك الوتر لا في ترك الاستجمار لأن المأمور به في الخبر الوتر
فيعود نفي الحرج إليه وأما الاجتزاء بالمسح فيه فلمشقة الغسل لكثرة تكرره في محل الاستنجاء.
(فصل) وهو مخير بين الاستنجاء بالماء أو الأحجار في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعد بن
أبي وقاص وابن الزبير أنهما أنكر الاستنجاء بالماء، وقال سعيد بن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا
النساء؟ وقال عطاء غسل الدبر محدث، وكان الحسن لا يستنجي بالماء وروي عن حذيفة القولان جميعا
وكان ابن عمر لا يستنجي بالماء ثم فعله وقال لنافع جربناه فوجدناه صالحا وهو مذهب رافع بن خديج
وهو الصحيح لما روى أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من
ماء وعنزة فيستنجى بالماء متفق عليه. وعن عائشة أنها قالت مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فاني
أستحييهم وان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله قال الترمذي هذا حديث صحيح ورواه سعيد.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت هذه الآية في أهل قباء (فيه رجال يحبون أن يتطهروا)
قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه يطهر المحل ويزيل النجاسة
فجاز كما لو كانت النجاسة على محل آخر فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لما روينا من الحديث ولأنه
142

يطهر المحل ويزيل العين والأثر وهو أبلغ في التنظيف. وإن اقتصر على الحجر أجزأه بغير خلاف بين أهل
العلم لما ذكرنا من الاخبار ولأنه اجماع الصحابة رضي الله عنهم، والأفضل أن يستجمر بالحجر ثم يتبعه الماء
قال احمد إن جمعهما فهو أحب إلي لأن عائشة قالت مرن أزواجكن ان يتبعن الحجارة الماء من أثر الغائط
والبول فاني أستحييهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. احتج به احمد ورواه سعيد ولان الحجر يزيل عين النجاسة
فلا تصيبها يده ثم يأتي بالماء فيطهر المحل فيكون أبلغ في التنظيف وأحسن.
* (مسألة) * قال (فإن لم يعدوا مخرجهما أجزأه ثلاثة أحجار إذا أنقى بهن فإن أنقى بدون
الثلاثة لم يجزه حتى يأتي بالعدد وان لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي).
قوله يعدوا مخرجهما يعني الخارجين من السبيلين إذا لم يتجاوزا مخرجهما. يقال عداك الشر أي
تجاوزك والمراد والله أعلم إذا لم يتجاوز المخرج بما لم تجر العادة به فإن اليسير لا يمكن التحرز منه
والعادة جارية به فإذا كان كذلك فإنه يجزئه ثلاثة أحجار منقية. ومعنى الانقاء إزالة عين النجاسة
وبلتها بحيث يخرج الحجر نقيا وليس عليه أثر إلا شيئا يسيرا ويشترط الأمران جميعا: الانقاء وإكمال
الثلاثة أيهما وجد دون صاحبه لم يكف وهذا مذهب الشافعي وجماعة، وقال مالك وداود الواجب
الانقاء دون العدد لقوله عليه السلام " من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج "
ولنا قول سلمان لقد نهانا يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وما ذكرنا من
الأحاديث وحديثهم قد أجبنا عنه فيما مضى.
(فصل) وإذا زاد على الثلاثة استحب أن لا يقطع الا على وتر لقوله عليه السلام " من استجمر
143

فليوتر " متفق عليه فيستجمر خمسا أو سبعا أو تسعا أو ما زاد على ذلك فإن اقتصر على شفع منقية
فيما زاد على الثلاثة جاز لقوله عليه السلام " ومن لا فلا حرج ".
(فصل) وكيفما حصل الانقاء في الاستجمار أجزأه. وذكر القاضي أن المستحب أن يمر الحجر
الأول من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها. ثم يديره على اليسرى. ثم يرجع به إلى الموضع الذي بدأ
منه ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين وحجرا للمسربة؟ " رواه الدارقطني وقال اسناده حسن،
وينبغي أن يعم المحل بكل واحد من الأحجار لأنه إذا لم يعم به كان ذلك تلفيقا فيكون بمنزلة مسحة
واحدة ولا يكون تكرارا ذكر هذا الشريف أبو جعفر وابن عقيل وقالا معنى الحديث البداية بهذه
المواضع، ويحتمل أن يجزئه لكل جهة مسحة لظاهر الخبر والله أعلم.
(فصل) ويجزئه الاستجمار في النادر كما يجزئ في المعتاد، ولأصحاب الشافعي وجه أنه لا
يجزئ في النادر قال ابن عبد البر ويحتمل أن يكون قول مالك - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل
الذكر من المذي والامر يقتضي الوجوب. قال ابن عبد البر واستدلوا بأن الآثار كلها على
اختلاف ألفاظها وأسانيدها ليس فيها ذكر استنجاء إنما هو الغسل ولان النادر لا يتكرر فلا يبقى
اعتبار الماء فيه فوجب كغسل غير هذا المحل.
ولنا أن الخبر عام في الجميع وان الاستجمار في النادر إنما وجب لما صحبه من بلة المعتاد ثم إن لم
144

يشق فهو في محل المشقة فتعتبر مظنة المشقة دون حقيقتها كما جاز الاستجمار على نهر جار، وأما المذي
فمعتاد كثير وربما كان في بعض الناس أكثر من البول. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنت رجلا
مذاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ذاك ماء الفحل ولكل فحل ماء " وقال سهل بن حنيف: كنت رجلا مذاء
فكنت أكثر منه الاغتسال. ولهذا أوجب مالك منه الوضوء وهو لا يوجبه من النادر فليس هو من
مسألتنا، ويجب غسل الذكر منه والأنثيين في إحدى الروايتين تعبدا. والأخرى أنه لا يجب وأمر
صلى الله عليه وسلم بغسله للاستحباب قياسا على سائر ما يخرج والله أعلم.
(فصل) ولا يستجمر بيمينه لقول سلمان في حديثه انه لينهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه. رواه
مسلم، وروى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ولا يتمسح من
الخلاء بيمينه " متفق عليه. فإن كان يستنجي من غائط أخذ الحجر بشماله فمسح به. وإن كان يستنجي
من البول وكان الحجر كبيرا أخذ ذكره بشماله فمسح به وإن كان صغيرا فأمكنه أن يضعه بين عقبيه أو
بين أصابعه ويمسح ذكره عليه فعل وإن لم يمكنه أمسكه بيمينه ومسح بيساره لموضع الحاجة. وقيل
يمسك ذكره بيمينه ويمسح بشماله ليكون المسح بغير اليمين. والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يمسكن
أحدكم ذكره بيمينه " وإذا أمسك الحجر باليمين ومسح الذكر عليه لم يكن ماسحا باليمين ولا ممسكا للذكر
بها، وإن كان أقطع اليسرى أو بها مرض استجمر بيمينه للحاجة ولا يكره الاستعانة بها في الماء لأن الحاجة
داعية إليه، وإن استجمر بيمينه مع الغنى عنه أجزأه في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه
لا يجزئه لأنه منهي عنه فلم يفد مقصوده كما لو استنجى بالروث والرمة فإن النهي يتناول الامرين والفرق
145

بينهما ان الروث آلة الاستجمار المباشرة للحمل وشرطه فلم يجز استعمال المنهي عنه فيها واليد ليست المباشرة
للمحل ولا شرطا فيه إنما يتناول بها الحجر الملاقي للمحل فصار النهي عنها نهي تأديب لا يمنع الاجزاء
(فصل) ويبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر لأن قبله بارز
تصيبه اليد إذا مدها إلى الدبر. والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها.
ويستحب أن يمكث بعد البول قليلا ويضع يده على أصل الذكر من تحت الأنثيين ثم يسلته إلى
رأسه فينتر ذكره ثلاثا برفق قال أحمد: إذا توضأت فضع يدك في سفلتك ثم اسلت ماثم حتى ينزل
ولا تجعل ذلك من همك، ولا تلتفت إلى ظنك، وقد روى يزداد اليماني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا مرات " رواه الإمام أحمد، وإذا استنجى بالماء ثم فرغ استحب له
دلك يده بالأرض لما روى عن ميمونة ان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك رواه البخاري وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى حاجته ثم استنجى من تور ودلك يده بالأرض أخرجه ابن ماجة. وإن استنجى عقب انقطاع
البول جاز لأن الظاهر انقطاعه. وقد قيل إن الماء يقطع البول ولذلك سمي الاستنجاء انتقاص الماء
ويستحب أن ينضح على فرجه وسراويله ليزيل الوسواس عنه قال حنبل سألت أحمد قلت أتوضأ
وأستبرئ وأجد في نفسي اني قد أحدثت بعده قال: إذا توضأت فاستبرئ ثم خذ كفا من ماء
فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه فإنه يذهب إن شاء الله. وقد روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
" جاءني جبريل فقال يا محمد إذا توضأت فانتضح " وهو حديث غريب.
146

* (مسألة) * قال (والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار)
هذا الصحيح من المذهب وهو قول أكثر أهل العلم، وفيه رواية أخرى لا يجزئ إلا الأحجار
اختارها أبو بكر وهو مذهب داود لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار وأمره يقتضي الوجوب ولأنه
موضع رخصة ورد الشرع فيها بآلة مخصوصة فوجب الاقتصار عليها كالتراب في التيمم.
ولنا ما روى أبو داود عن خزيمة قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال " بثلاثة
أحجار ليس فيها رجيع " فلولا انه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع لأنه لا يحتاج إلى ذكره
ولم يكن لتخصيص الرجيع بالذكر معنى، وفي حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم انه لينهانا أن
نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وأن نستجمر برجيع أو عظم رواه مسلم، وتخصيص هذين بالنهي
عنهما يدل على أنه أراد الحجارة وما قام مقامها. وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها وليستطب بثلاثة أحجار أو ثلاثة
أعواد أو ثلاث حثيات من تراب " رواه الدارقطني، وقال وقد روي عن ابن عباس مرفوعا والصحيح
أنه مرسل ورواه سعيد في سننه موقوفا على طاوس، ولأنه متى ورد النص بشئ لمعنى معقول وجب
تعديته إلى ما وجد فيه المعنى والمعنى ههنا إزالة عين النجاسة وهذا يحصل بغير الأحجار كحصوله
بها وبهذا يخرج التيمم فإنه غير معقول ولابد أن يكون ما يستجمر به منقيا لأن الانقاء مشترط في الاستجمار
147

فأما الزلج كالزجاج والفحم الرخو وشبههما مما لا ينقي فلا يجزئ لأنه لا يحصل منه المقصود، ويشترط كونه
طاهرا فإن كان نجسا لم يجزه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يجزئه لأنه يجفف كالطاهر.
ولنا أن ابن مسعود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستجمر بها فأخذ الحجرين والقى الروثة
وقال " هذا ركس " رواه البخاري، وفي لفظ رواه الترمذي قال " انها ركس " يعني نجسا وهذا
تعليل من النبي صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه، ولأنه إزالة نجاسة فلا يحصل بالنجاسة كالغسل، فإن استنجى
بنجس احتمل أن لا يجزئه الاستجمار بعده لأن المحل تنجس بنجاسة من غير المخرج فلم يجزئ فيها
غير الماء كما لو تنجس ابتداء. ويحتمل أن يجزئه لأن هذه النجاسة تابعة لنجاسة المحل فزالت بزوالها
* (مسألة) * قال (إلا الروث والعظام والطعام)
وجملته أنه لا يجوز الاستجمار بالروث ولا العظام ولا يجزئ في قول أكثر أهل العلم وبهذا قال
الثوري والشافعي وإسحاق، وأباح أبو حنيفة الاستنجاء بهما لأنهما يجففان النجاسة وينقيان المحل
فهما كالحجر. وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منهما، وقد ذكرنا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنهما، وروى مسلم
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد اخوانكم من
الجن " وروى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بروث أو عظم وقال أنهما لا يطهران.
وقال اسناد صحيح، وروى أبو داود عنه عليه السلام أنه قال لرويفع بن ثابت " أخبر الناس أنه من
استنجى برجيع أو عظم فهو برئ من دين محمد " وهذا عام في الطاهر منها والنهي يقتضي الفساد
148

وعدم الاجزاء، فأما الطعام فتحريمه من طريق التنبيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي عن الروث والرمة
في حديث ابن مسعود بكونه زاد إخواننا من الجن فزادنا مع عظم حرمته أولى، فإن قيل فقد نهي
عن الاستنجاء باليمين كنهيه ههنا فلم يمنع ذلك الاجزاء ثم كذا ههنا، قلنا قد بين في الحديث أنهما
لا يطهران ثم الفرق بينهما أن النهي ههنا لمعنى في شرط الفعل فمنع صحته كالنهي عن الوضوء بالماء
النجس وثم لمعنى في آلة الشرط فلم يمنع كالوضوء من إناء محرم.
(فصل) ولا يجوز الاستنجاء بماله حرمة كشئ كتب فيه فقه أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها فهو في الحرمة أعظم من الروث والرمة. ولا يجوز بمتصل
بحيوان كيده وعقبه وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها، قال بعض أصحابنا يجمع المستجمر به ست خصال
أن يكون طاهرا جامدا منقيا غير مطعوم ولا حرمة له ولا متصل بحيوان
* (مسألة) * قال (والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار)
وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى، لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار
وهو قول أبى بكر وابن المنذر لقوله عليه السلام " لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار. ولا يكفي
149

أحدكم دون ثلاثة أحجار " ولأنه إذا بحجر تنجس فلا يجوز الاستجمار به ثانيا كالصغير
ولنا أنه استجمر ثلاثا منقية بما وجدت فيه شروط الاستجمار فأجزأه كما لو فصله ثلاثة صغارا
واستجمر بها إذ لا فرق بين الأصل والفرع إلا فصله ولا أثر لذلك في التطهير والحديث يقتضي ثلاث
مسحات بحجر دون عين الأحجار كما يقال ضربته ثلاثة أسواط أي ثلاث ضربات بسوط وذلك لأن
معناه معقول ومراده معلوم، ولذلك لم نقتصر على لفظه في غير الأحجار بل أجزنا الخشب والخرق
والمدر والمعني من ثلاثة حاصل من ثلاث شعب أو مسحه ذكره في صخرة عظيمة ثلاثة مواضع منها
أو في حائط أو أرض فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه من كل وجه، وقولهم ينجس
قلنا إنما ينجس ما أصاب النجاسة والاستجمار حاصل بغيره فأشبه ما لو تنجس جانبه بغير الاستجمار
ولأنه لو استجمر به ثلاثة لحصل لكل واحد منهم مسحة وقام مقام ثلاثة أحجار فكذلك إذا استجمر
به الواحد، ولو استجمر ثلاثة بثلاثة أحجار لكل حجر منها ثلاث شعب فاستجمر كل واحد منهم
من كل حجر بشعبة أجزأهم ويحتمل على قول أبي بكر أن لا يجزئهم.
(فصل) ولو استجمر بحجر ثم غسله أو كسر ما تنجس منه واستجمر به ثانيا ثم فعل ذلك
واستجمر به ثالثا أجزأه لأنه حجر يجزئ غيره الاستجمار به فأجزأه كغيره، ويحتمل على قول
أبي بكر أن لا يجزئه محافظة على صورة اللفظ وهو بعيد.
150

* (مسألة) * قال (وما عدا المخرج فلا يجزئ فيه الا الماء)
وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر يعنى إذا تجاوز المحل بما لم تجربه العادة مثل أن ينتشر
إلى الصفحتين وامتد في الحشفة لم يجزه الا الماء لأن الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة
في غسله لتكرر النجاسة فيه فما لا تتكرر النجاسة فيه لا يجزئ فيه الا الغسل كساقه وفخذه ولذلك قال
علي رضي الله عنه: انكم كنتم تبعرون بعرا وأنتم اليوم تثلطون ثلطا فأتبعوا الماء الأحجار وقوله عليه
السلام " يكفي أحدكم ثلاثة أحجار " أراد ما لم يتجاوز محل العادة لما ذكرنا.
(فصل) والمرأة البكر كالرجل لأن عذرتها تمنع انتشار البول فأما الثيب فإن خرج البول بحدة فلم
ينتشر فكذلك، وان تعدى إلى مخرج الحيض فقال أصحابنا يجب غسله لأن مخرج الحيض والولد
غير مخرج البول. ويحتمل أن لا يجب لأن هذا عادة في حقها فكفى فيه الاستجمار كالمعتاد في غيرها
ولان الغسل لو لزمها مع اعتياده لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه لكونه مما يحتاج إلى معرفته، وان شك في
انتشار الخارج إلى ما يوجب الغسل لم يجب لأن الأصل عدمه والمستحب الغسل احتياطا.
(فصل) والأقلف إن كان مرتتقا لا تخرج بشرته من قلفته فهو كالمختتن، وإن كان يمكنه كشفها
كشفها فإذا بال واستجمر أعادها فإن تنجست بالبول لزمه غسلها كما لو انتشر إلى الحشفة.
151

(فصل) وان انسد المخرج المعتاد وانفتح آخر لم يجزه الاستجمار فيه لأنه غير السبيل المعتاد وحكى
عن بعض أصحابنا أنه يجزئه لأنه صار معتادا.
ولنا أن هذا نادر بالنسبة إلى سائر الناس فلم تثبت فيه أحكام الفرج فإنه لا ينقض الوضوء مسه
ولا يجب بالايلاج فيه حد ولا مهر ولا غسل ولا غير ذلك من الأحكام فأشبه سائر البدن.
(فصل) ظاهر كلام أحمد أن محل الاستجمار بعد الانقاء طاهر فإن أحمد بن الحسين قال سألت
أبا عبد الله عن الرجل يبول فيستبرئ ويستجمر يعرق في سراويله قال إذا استجمر ثلاثا فلا بأس،
وسأله رجل فقال إذا استنجيت من الغائط يصيب ذلك الماء موضعا مني آخر فقال أحمد قد جاء في
الاستنجاء ثلاثة أحجار فاستنج أنت بثلاثة أحجار ثم لا تبالي ما أصابك من ذلك الماء، قال وسألت
أحمد عن رش الماء على الخف إذا لم يستجمر الرجل قال أحب إلي أن يغسله ثلاثا وهذا قول ابن حامد،
وظاهر قول المتأخرين من أصحابنا أنه نجس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة فلو قعد المستجمر في ماء
قليل نجسه ولو عرق كان عرقه نجسا لأنه مسح للنجاسة فلم يطهر به محلها كسائر المسح.
ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تستنجوا بروث ولا عظم فإنهما لا يطهران "
فمفهومه أن غيرهما يطهر ولان الصحابة رضي الله عنهم كان الغالب عليهم الاستجمار حتى إن جماعة
منهم أنكروا الاستنجاء بالماء وسماه بعضهم بدعة وبلادهم حارة والظاهر أنهم لا يسلمون من العرق
فلم ينقل عنهم توقي ذلك ولا الاحتراز منه ولاذكر ذلك أصلا وقد نقل عن ابن عمر أنه بال بالمزدلفة
فادخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه وعن إبراهيم النخعي نحو ذلك ولولا أنهما اعتقدا طهارته ما فعلا ذلك
152

(فصل) إذا استنجى بالماء لم يحتج إلى تراب قال أحمد يجزئه الماء وحده ولم ينقل عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه استعمل التراب مع الماء في الاستنجاء ولا أمر به، فأما عدد الغسلات فقد اختلف عن أحمد
فيها فقال في رواية ابنه صالح أقل ما يجزئه من الماء سبع مرات وقال في رواية محمد بن الحكم ولكن
المقعدة يجزئ أن تمسح بثلاثة أحجار أو يغسله ثلاث مرات ولا يجزئ عندي إذا كان في الجسد أن
يغسله ثلاث مرات وذلك لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثا رواه ابن ماجة
وقال أبو داود سئل أحمد عن حد الاستنجاء بالماء فقال ينقي وظاهر هذا أنه لا عدد فيه إنما الواجب
الانقاء، وهذا أصح لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عدد ولا أمر به ولا بد من الانقاء على
الروايات كلها وهو أن يذهب لزوجة النجاسة وآثارها.
فصول في آداب التخلي
لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة في قول أكثر أهل العلم لما روى أبو أيوب قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره ولكن شرقوا أو غربوا قال أبو أيوب فقدمنا الشام
فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل متفق عليه. ولمسلم عن أبي هريرة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " وقال عروة بن ربيعة وداود
يجوز استقبالها واستدبارها لما روى جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن
يقبض بعام يستقبلها قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وهذا دليل على النسخ فيجب تقديمه.
153

ولنا أحاديث النهي وهي صحيحة. وحديث جابر يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستترا بشئ
ولا يثبت النسخ بالاحتمال ويتعين حمله على ما ذكرنا ليكون موافقا للأحاديث التي نذكرها، فأما في
البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شئ يستره ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز أيضا وهو قول
الثوري وأبي حنيفة لعموم الأحاديث في النهي (والثانية) يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان،
روي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهما وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر وهو الصحيح
لحديث جابر وقد حملناه على أنه كان في البنيان، وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن
قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوقد فعلوها؟ استقبلوا
بمقعدتي القبلة " رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد منهم أبو داود الطيالسي رواه عن
خالد بن الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة قال أبو عبد الله: أحسن ما روي في الرخصة حديث
عائشة وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن. قال أحمد: عراك لم يسمع من عائشة فلذلك سماه مرسلا
وهذا كله في البنيان وهو خاص يقدم على العام، وعن مروان بن الأصفر قال رأيت ابن عمر أناخ
راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقلت يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال بلى إنما
نهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس، رواه أبو داود. وهذا
تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه، وعن أحمد أنه يجوز
154

استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعا لما روى ابن عمر قال رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي
صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة متفق عليه.
(فصل) ويكره أن يستقبل الشمس والقمر بفرجه لما فيهما من نور الله تعالى فإن استتر عنهما بشئ فلا
بأس لأنه لو استتر عن القبلة جاز فههنا أولى، ويكره أن يستقبل الربح لئلا ترد عليه رشاش البول فينجسه
(فصل) ويستحب أن يستتر عن الناس فإن وجد حائطا أو كثيبا أو شجرة أو بعيرا استتر
به وان لم يجد شيئا أبعد حتى لا يراه أحد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أتى
الغائط فليستتر فإن لم يجد الا أن يجمع كثيبا من الرمل فليستدبره " وروي عنه عليه السلام أنه خرج ومعه
درقة ثم استتر بها ثم بال. وعن جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد،
والبراز الموضع البارز سمي قضاء الحاجة به لأنها تقضى فيه، وعن المغيرة بن شعبة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا ذهب أبعد، روى أحاديث هذا الفصل كلها أبو داود وابن ماجة. وقال عبد الله بن جعفر كان أحب
ما استتر به النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل. رواه ابن ماجة.
(فصل) ويستحب أن يرتاد لبوله موضعا رخوا لئلا يترشش عليه، قال أبو موسى كنت مع
النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يتبول فأتى دمثا في أصل حائط فبال ثم قال " إذا أراد
أحدكم أن يتبول فليرتاد لبوله " رواه الإمام أحمد.
155

ويستحب أن يبول قاعدا لئلا يترشش عليه. قال ابن مسعود من الجفاء أن تبول وأنت قائم.
وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائما، قالت عائشة من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا. قال الترمذي هذا أصح شئ في الباب وقد رويت
الرخصة فيه عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة.
وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما. رواه البخاري وغيره، ولعل
النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أنه كان في موضع
لا يتمكن من الجلوس فيه وقيل فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه - والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان
(فصل) ويستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى أبو داود عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض ولان ذلك أستر له فيكون أولى
(فصل) ولا يجوز أن يبول في طريق الناس ولا مورد ماء ولا ظل ينتفع به الناس لما روى معاذ
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا الملاعن الثلاثة - البراز في الموارد، وقارعة الطريق
والظل " رواه أبو داود، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا اللاعنان. قالوا وما اللاعنين
يا رسول الله؟ قال الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم " أخرجه مسلم والمورد طريق.
ولا يبول تحت شجرة مثمرة في حال كون الثمرة عليها لئلا تسقط عليه الثمرة فتتنجس به فأما في غير
حال الثمرة فلا بأس فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب ما استتر به إليه لحاجته هدف أو حائش نخل.
156

ولا يبول في الماء الدائم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد متفق عليه ولأن الماء
إن كان قليلا تنجس به وإن كان كثيرا فربما تغير بتكرار البول فيه فأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه لأنه
يؤذى من يمر به، وان بال فيه وهو كثير لا يؤثر فيه البول فلا بأس لأن تخصيص النبي صلى الله عليه
وسلم الراكد بالنهي عن البول فيه دليل على أن الجاري بخلافه، ولا يبول على ما نهي عن الاستجمار به
لأن هذا أبلغ من الاستجمار به فالنهي ثم تنبيه على تحريم البول عليه، ويكره على أن يبول في شق أو
ثقب لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر رواه أبو داود
لأن عبد الله بن المغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في مستحمه " ولأنه لا يأمن أن
يكون فيه حيوان يلسعه أو يكون مسكنا للجن فيتأذى بهم، فقد حكي أن سعد بن عبادة بال في جحر
بالشام ثم استلقى ميتا فسمعت الجن تقول:
نحن قتلنا سيد الخز * رج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين * فلم نخطئ فؤاده
ولا يبول في مستحمه فإن عامة الوسواس منه رواه أبو داود وابن ماجة وقال سمعت علي بن
محمد الطنافسي يقول إنما هذا في الحفيرة فأما اليوم فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير فإذا بال
وأرسل عليه الماء فلا بأس به. وقد قيل إن البصاق على البول يورث الوسواس وان البول على النار
يورث السقم وتوقي ذلك كله أولى، ويكره أن يتوضأ على موضع بوله أو يستنجي عليه لئلا يتنجس به
(فصل) ويعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى لما روى سراقة بن مالك قال " أمرنا
157

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى رواه الطبراني في المعجم ولأنه أسهل
لخروج الخارج، ولا يطيل المقام أكثر من قدر الحاجة لأن ذلك يضره وقد قيل: انه يورث الباسور
وقيل إنه يدمي الكبد وربما آذى من ينتظره.
ويستحب أن يغطي رأسه لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولأنه حال كشف
العورة فيستنجي فيها ويلبس حذاءه لئلا تتنجس رجلاه. ولا يذكر الله تعالى على حاجته إلا بقلبه وكره
ذلك ابن عباس وعطاء وعكرمة، وقال ابن سيرين والنخعي لا بأس به لأن الله تعالى ذكره محمود على كل حال
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام في هذه الحال فذكر الله أولى. فإذا عطس حمد الله
بقلبه ولم يتكلم. وقال ابن عقيل فيه رواية أخرى أنه يحمد الله بلسانه والأول أولى لما ذكرناه فإنه
إذا لم يرد السلام الواجب فما ليس بواجب أولى ولا يسلم ولا يرد على مسلم لما روى ابن عمر أن
رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم فلم يرد عليه السلام، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وعن جابر أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا
رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك " رواه ابن ماجة، ولا يتكلم
لما روى أبو سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط
كاشفين عن عورتيهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك " رواه أبو داود.
(فصل إذا أراد دخول الخلاء ومعه شئ فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه وقال أنس بن مالك
158

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. رواه ابن ماجة وأبو داود وقال هذا حديث منكر
وقيل إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه لأن فيه محمد رسول الله ثلاثة أسطر، فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله تعالى
واحترز عليه من السقوط أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه فلا بأس. قال أحمد الخاتم إذا كان فيه اسم الله
يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء وقال عكرمة قلبه هكذا في باطن كفك فاقبض عليه وبه قال إسحاق، ورخص
فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين. وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء معه الدراهم أرجو أن لا يكون به بأس
(فصل) ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ويقول عند دخوله بسم الله أعوذ
بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم، قال أحمد يقول إذا دخل الخلاء:
أعوذ بالله من الخبث والخبائث. وما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره، وعن أنس
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث "
متفق عليه، وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ستر ما بين الجن وعورات بني آدم
إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله " وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يعجز
أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان
الرجيم " رواهما ابن ماجة. قال أبو عبيد: الخبث بسكون الباء الشر والخبائث الشياطين وقيل الخبث
بضم الباء والخبائث ذكران الشياطين وإناثهم فإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك الحمد لله الذي
159

أذهب عني الأذى وعافاني. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك
الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " أخرجه ابن ماجة. وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا خرج من الخلاء قال " غفرانك " قال الترمذي هذا حديث حسن
(فصل) ولا بأس أن يبول في الاناء قالت أميمة بنت رقيقة كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان
يبول فيه ويضعه تحت السرير رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
باب ما ينقض الطهارة
* (مسألة) * قال أبو القاسم (والذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر)
وجملة ذلك أن الخارج من السبيلين على ضربين - معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح
فهذا ينقض الوضوء إجماعا قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر وخروج البول من ذكر
الرجل وقبل المرأة وخروج المذي وخروج الريح من الدبر أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة. ويوجب
الوضوء ودم الاستحاضة ينقض الطهارة في قول عامة أهل العلم إلا في قول ربيعة.
(الضرب الثاني) نادر كالدم والدود والحصا والشعر فينقض الوضوء أيضا وبهذا قال الثوري والشافعي
وإسحاق وأصحاب الرأي وكان عطاء والحسن وأبو مجلز والحكم وحماد والأوزاعي وابن المبارك يرون الوضوء
من الدود يخرج من الدبر، ولم يوجب مالك الوضوء من هذا الضرب لأنه نادر أشبه الخارج من غير السبيل
160

ولنا أنه خارج من السبيل أشبه المذي ولأنه لا يخلو من بلة تتعلق به فينتقض الوضوء بها. وقد
أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة ودمها خارج غير معتاد.
(فصل) وقد نقل صالح عن أبيه في المرأة يخرج من فرجها الريح: ما خرج من السبيلين ففيه
الوضوء. وقال القاضي: خروج الريح من الذكر وقبل المرأة ينقض الوضوء. وقال ابن عقيل يحتمل أن
يكون الأشبه بمذهبنا في الريح يخرج من الذكر أن لا ينقض لأن المثانة ليس لها منفذ إلى الجوف ولا جعلها
أصحابنا جوفا ولم يبطلوا الصوم بالحقنة فيه ولا نعلم لهذا وجودا. ولا نعلم وجوده في حق أحد. وقد قيل أنه يعلم
وجوده بأن يحس الانسان في ذكره دبيبا. وهذا لا يصح فإن هذا لا يحصل به اليقين والطهارة لا تنتقض بالشك
فإن قدر وجود ذلك يقينا نقض الطهارة لأنه خارج من أحد السبيلين فنقض قياسا على سائر الخوارج
(فصل) وإن قطر في إحليله دهنا ثم عاد فخرج نقض الوضوء لأنه خارج من السبيل ولا يخلو
من بلة نجسة تصحبه فينتقض بها الوضوء كما لو خرجت منفردة. ولو احتشى قطنا في ذكره ثم خرج
وعليه بلل نقض الوضوء لأنه لو خرج منفردا لنقض فكذلك إذا خرج مع غيره فإن خرج ناشفا ففيه
وجهان (أحدهما) ينقض لأنه خارج من السبيل فأشبه سائر الخوارج (والثاني) لا ينقض لأنه
ليس بين المثانة والجوف منفذ فلا يكون خارجا من الجوف. ولو احتقن في دبره فرجعت أجزاء
خرجت من الفرج نقضت الوضوء وهكذا لو وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه فدخل الفرج ثم
خرج نقض الوضوء وعليهما الاستنجاء لأنه خارج من السبيل لا يخلو من بلة تصحبه من الفرج فإن
161

لم يعلما خروج شئ منه احتمل وجهين (أحدهما) النقض فيهما لأن الغالب أنه لا ينفك عن الخروج
فنقض كالنوم (والثاني) لا ينقض لأن الطهارة متيقنة فلا نزول عنها بالشك لكن إن كان المحتقن
قد ادخل رأس الزراقة ثم أخرجه نقض الوضوء: وكذلك لو أدخل فيه ميلا أو غيره ثم خرج نقض
الوضوء لأنه خارج من السبيل فنقض كسائر الخارج.
(فصل) قال أبو الحارث سألت أحمد عن رجل به علة ربما ظهرت مقعدته قال: ان علم أنه يظهر معها
ندى توضأ. وان لم يعلم فلا شئ عليه، ويحتمل أن أحمد إنما أراد ندى ينفصل عنها لأنه خارج من الفرج
متصل فنقض كالخارج على الحصى فأما الرطوبة اللازمة لها فلا تنقض لأنها لا تنفك عن رطوبة فلو نقضت
لنقض خروجها على كل حال ولأنه شئ لم ينفصل عنها فلم ينقض كسائر أجزائها وقد قالوا فيمن أخرج
لسانه وعليه بلل ثم أدخله وابتلع ذلك البلل انه لا يفطر لأنه لم يثبت له حكم الانفصال والله أعلم
(فصل) قد ذكرنا أن المذي ينقض الوضوء وهو ما يخرج زلجا متسبسبا عند الشهوة فيكون
على رأس الذكر واختلفت الرواية في حكمه فروي أنه يوجب الوضوء وغسل الذكر والأنثيين لما
روي أن عليا رضي الله عنه قال كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان
ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ " رواه أبو داود وفي
لفظ " يغسل ذكره ويتوضأ " متفق عليه. وفي لفظ " توضأ وانضح فرجك " والامر يقتضي الوجوب ولأنه
خارج بسبب الشهوة فأوجب غسلا زائدا على موجب البول كالمني فعلى هذا يجزئه غسلة واحدة لأن
162

المأمور به غسل مطلق فيوجب ما يقع عليه اسم الغسل وقد ثبت في قوله في اللفظ الآخر " وانضح
فرجك " وسواء غسله قبل الوضوء أو بعده لأنه غسل غير مرتبط فلم يترتب عليه كغسل النجاسة
(والرواية الثانية) لا يجب أكثر من الاستنجاء والوضوء روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أكثر
أهل العلم وظاهر كلام الخرقي لما روى سهل بن حنيف قال كنت ألقى من المذي شدة وعنا. فكنت
أكثر منه الاغتسال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إنما يجزئك من ذلك الوضوء " أخرجه
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولأنه خارج لا يوجب الاغتسال أشبه الودي، والامر
بالنضح وغسل الذكر والأنثيين محمول على الاستحباب لأنه يحتمله وقوله " إنما يجزيك من ذلك الوضوء "
صريح في حصول الاجزاء بالوضوء فيجب تقديمه فأما الودي فهو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول
كدرا فليس فيه وفي بقية الخوارج إلا الوضوء. وروى الأثرم باسناده عن ابن عباس قال: المني
والودي والمذي أما المني ففيه الغسل وأما المذي والودي ففيهما إسباغ الطهور.
* (مسألة) * (قال وخروج البول والغائط من غير مخرجهما)
لا تختلف الرواية أن الغائط والبول ينتقض الوضوء بخروجهما من السبيلين ومن غيرهما ويستوي
قليلهما وكثيرهما سواء السبيلان منسدين أو مفتوحين من فوق المعدة أو من تحتها وقال أصحاب
الشافعي ان انسد المخرج وانفتح آخر دون المعدة لزم الوضوء بالخارج منه قولا واحدا. وان انفتح
163

فوق المعدة ففيه قولان (أحدهما) ينقض الوضوء (والثاني) لا ينقضه وإن كان المعتاد باقيا فالمشهور
أنه لا ينتقض الوضوء بالخارج من غيره وبناه على أصله في أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض
ولنا عموم قوله تعالى (أو جاء أحد منكم من الغائط) وقول صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا كنا مسافرين أو - سفرا (1) أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وحقيقة الغائط المكان المطمئن سمي الخارج به لمجاورته إياه فإن
المتبرز يتحراه لحاجته كما سمي عذرة وهي في الحقيقة فناء الدار لأنه كان يطرح بالأفنية فسمي بها للمجاورة
وهذا من الأسماء العرفية التي صار المجاز فيها أشهر من الحقيقة وعند الاطلاق يفهم منه المجاز ويحمل
عليه الكلام لشهرته ولان الخارج غائط وبول فنقض كما لو خرج من السبيل.
* (مسألة) * قال (وزوال العقل الا أن يكون بنوم يسير جالسا أو قائما)
وزوال العقل على ضربين نوم وغيره فاما غير النوم وهو الجنون والاغماء والسكر وما أشبهه من
الأدوية المزيلة للعقل فينقض الوضوء يسيره وكثيره إجماعا. قال ابن المنذر أجمع العلماء على وجوب
الوضوء على المغمى عليه ولان هؤلاء حسهم أبعد من حس النائم بدليل أنهم لا ينتبهون بالانتباه ففي
إيجاب الوضوء على النائم تنبيه على وجوبه بما هو آكد منه.
(الضرب الثاني) النوم وهو ناقض للوضوء في الجملة في قول عامة أهل العلم إلا ما حكي عن أبي

(1) السفر بالفتح جماعة المسافرين كالركب. والشك من الراوي
164

موسى الأشعري وأبى مجلز وحميد الأعرج انه لا ينقض. وعن سعيد بن المسيب انه كان ينام مرارا مضطجعا
ينتظر الصلاة ثم يصلي ولا يعيد الوضوء ولعلهم ذهبوا إلى أن النوم ليس بحدث في نفسه والحدث
مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك.
ولنا قول صفوان بن عسال " لكن من غائط وبول ونوم " وقد ذكرنا انه صحيح وروى علي رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " العين وكاء السه (1) فمن نام فليتوضأ " رواه أبو داود وابن ماجة ولان النوم
مظنة الحدث فأقيم مقامه كالنقاء الختانين في وجوب الغسل أقيم مقام الانزال.
(فصل) والنوم ينقسم ثلاثة أقسام نوم المضطجع فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من
يقول بنقضه بالنوم (الثاني) نوم القاعد إن كان كثيرا نقض رواية واحدة وإن كان يسيرا لم ينقض
وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي لا ينقض وان كثر إذا كان القاعد
متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض لما روى أنس قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يقومون
فيصلون ولا يتوضؤن قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي لفظ قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤن وهذا إشارة إلى جميعهم وبه يتخصص
عموم الحديثين الأولين ولأنه متحفظ عن خروج الحدث فلم ينقض وضوءه كما لو كان نومه يسيرا.
ولنا عموم الحديثين الأولين وإنما خصصناهما في اليسير لحديث انس وليس فيه بيان كثرة ولا قلة
فإن النائم يخفق رأسه من يسير النوم فهو يقين في اليسير فيعمل به وما زاد عليه فهو محتمل لا يترك

(1) اسم من أسماء الدبر وهي بالتشديد وكسر الهاء
165

له العموم المتيقن ولان نقض الوضوء بالنوم يعلل بافضائه إلى الحدث ومع الكثرة والغلبة يفضي إليه
ولا يحس بخروجه منه بخلاف اليسير ولا يصح قياس الكثير على اليسير لاختلافهما في الافضاء إلى الحدث
(الثالث) ما عدا هاتين الحالتين وهو نوم القائم والراكع والساجد فروي عن أحمد في جميع ذلك
روايتان (إحداهما) ينقض وهو قول الشافعي لأنه لم يرد في تخصيصه من عموم أحاديث النقض
نص ولا هو في معنى المنصوص لكون القاعد متحفظا لاعتماده بمحل الحدث إلى الأرض والراكع
والساجد ينفرج محل الحدث منهما (والثانية) لا ينقض الا إذا كثر وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم
في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وان كثر لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد
وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي فقلت له صليت ولم تتوضأ وقد نمت فقال " إنما الوضوء على من نام
مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله " رواه أبو داود ولأنه حال من أحوال الصلاة فأشبهت
حال الجلوس، والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس لأنهما يشتبهان في الانخفاض واجتماع
المخرج وربما كان القائم أبعد من الحدث لعدم التمكن من الاستثقال في النوم فإنه لو استثقل لسقط
والظاهر عنه في الساجد التسوية بينه وبين المضطجع لأنه ينفرج محل الحدث ويعتمد بأعضائه على
الأرض ويتهيأ لخروج الخارج فأشبه المضطجع والحديث الذي ذكروه منكر قاله أبو داود، وقال ابن المنذر
لا يثبت وهو مرسل يرويه قتادة عن أبي العالية قال شعبة لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي فعنه لا ينقض يسيره قال أبو داود
166

سمعت أحمد قيل له الوضوء من النوم قال إذا طال، قيل فالمحتبي قال يتوضأ، قيل فالمتكئ قال الاتكاء شديد
والمتساند كأنه أشد - يعني من الاحتباء - ورأي منها كلها الوضوء الا أن يغفو - يعني قليلا - وعنه ينقض
يعني بكل حال لأنه معتمد على شئ فهو كالمضطجع، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض
أن لا ينقض منه الا الكثير لأن دليل انتفاء النقض في القاعد لا تفريق فيه فيسوى بين أحواله.
(فصل) واختلف أصحابنا في تحديد الكثير من النوم الذي ينقض الوضوء فقال القاضي ليس للقليل
حد يرجع إليه وهو على ما جرت به العادة، وقيل حد الكثير ما يتغير به النائم عن هيئته مثل أن يسقط
على الأرض. ومنها أن يرى حلما، والصحيح أنه لاحد له لأن التحديد إنما يعرف بتوقيف ولا
توقيف في هذا فمتى وجدنا ما يدل على الكثرة مثل سقوط المتمكن وغيره انتقض وضوؤه وان شك في
كثرته لم ينتقض وضوؤه لأن الطهارة متيقنة فلا تزول بالشك.
(فصل) ومن لم يغلب على عقله فلا وضوء عليه لأن النوم الغلبة على العقل قال بعض أهل اللغة في
قوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم) السنة ابتداء النعاس في الرأس فإذا وصل إلى القلب صار نوما قال الشاعر:
وسنان أقصده النعاس فرنقت * في عينه سنة وليس بنائم
ولان الناقض زوال العقل ومتى كان العقل ثابتا وحسه غير زائل مثل من يسمع ما يقال عنده ويفهمه فلم يوجد
سبب النقض في حقه، وإن شك هل نام أم لا أو خطر بباله شئ لا يدري أرؤيا أو حديث نفس فلا وضوء عليه
167

(مسألة) قال (والارتداد عن الاسلام)
وجملة ذلك أن الردة تنقض الوضوء وتبطل التيمم وهذا قول الأوزاعي وأبي ثور، وهي الاتيان بما
يخرج به عن الاسلام إما نطقا أو اعتقادا أو شكا ينقل عن الاسلام، فمتى عاود اسلامه ورجع إلى دين
الحق فليس له الصلاة حتى يتوضأ وإن كان متوضئا قبل ردته، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يبطل الوضوء
بذلك، وللشافعي في بطلان التيمم به قولان لقول الله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر
فأولئك حبطت أعمالهم) فشرط الموت ولأنها طهارة فلا تبطل بالردة كالغسل من الجنابة.
ولنا قوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) والطهارة عمل وهي باقية حكما تبطل بمبطلاتها فيجب
أن تحبط بالشرك ولأنها عبادة يفسدها الحدث فأفسدها الشرك كالصلاة والتيمم ولان الردة حدث
بدليل قول ابن عباس الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وأشدهما حدث اللسان وإذا أحدث
لم تقبل صلاته بغير وضوء لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " متفق
عليه وما ذكروه تمسك بدليل الخطاب والمنطوق مقدم عليه ولأنه شرط الموت لجميع المذكور في الآية
وهو حبوط العمل والخلود في النار، وأما غسل الجنابة فلا يتصور فيه الابطال وإنما يجب الغسل بسبب
جديد وجبه وهنا يجب الغسل أيضا عند من أوجب على من أسلم الغسل.
(فصل) ولا ينقض الوضوء ما عدا الردة من الكلام من الكذب والغيبة والرفث والقذف وغيرها
168

نص عليه أحمد، وقال ابن المنذر أجمع من نحفظ قوله من علماء الأمصار على أن القذف وقول الزور
والكذب والغيبة لا توجب طهارة ولا تنقض وضوءا، وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا
بالوضوء من الكلام الخبيث وذلك استحباب عندنا ممن أمر به ولا نعلم حجة توجب وضوءا في شئ من
الكلام وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من حلف باللات والعزى فليقل لا إله الا الله " ولم يأمر في ذلك بوضوء
(فصل) وليس في القهقهة وضوء روي ذلك عن عروة وعطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق
وابن المنذر، وقال أصحاب الرأي يجب الوضوء من القهقهة داخل الصلاة دون خارجها، وروي ذلك
عن الحسن والنخعي والثوري لما روى أبو العالية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فجاء
ضرير فتردى في بئر فضحك طوائف فامر النبي صلى الله عليه وسلم الذين ضحكوا أن يعيدوا الوضوء
والصلاة، وروي عن غير طريق أبي العالية بأسانيد ضعاف وحاصله يرجع إلى أبي العالية كذلك
قال عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد والدارقطني.
ولنا أنه معنى لا يبطل الوضوء خارج الصلاة فلم يبطله داخلها كالكلام وأنه ليس بحدث ولا
يفضي إليه فأشبه سائر مالا يبطل ولان الوجوب من الشارع ولم يصف عن الشارع في هذا إيجاب
للوضوء ولا في شئ يقاس هذا عليه. وما رووه مرسل لا يثبت وقد قال ابن سيرين لا تأخذوا بمراسيل
الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا، والمخالف في هذه المسألة يرد الأخبار الصحيحة لمخالفتها
الأصول فكيف يخالفها ههنا بهذا الخبر الضعيف عند أهل المعرفة.
169

* (مسألة) * قال * (ومس الفرج) *
الفرج اسم لمخرج الحدث ويتناول الذكر والدبر وقبل المرأة. وفي نقض الوضوء بجميع ذلك خلاف
في المذهب وغيره فنذكره إن شاء الله مفصلا، ونبدأ بالكلام في مس الذكر فإنه آكدها فعن أحمد فيه
روايتان (إحداهما) ينقض الوضوء وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وأبان بن عثمان
وعروة وسليمان بن يسار والزهري والأوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك وقد روي أيضا عن
عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن سيرين وأبي العالية (والرواية الثانية) لا وضوء فيه روي ذلك عن علي
وعمار وابن مسعود وحذيفة وعمران بن حصين وأبي الدرداء وبه قال ربيعة والثوري وابن المنذر
وأصحاب الرأي لما روى قيس بن طلق عن أبيه قال قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي
فقال يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال وهل هو الا بضعة منك - أو مضغة
منك " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة. ولأنه عضو منه فكان كسائره، ووجه الرواية الأولى
ما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مس ذكره فليتوضأ " وعن جابر مثل ذلك وعن أم
حبيبة وأبي أيوب قالا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مسه فرجه فليتوضأ " وفي الباب عن أبي هريرة رواهن
ابن ماجة وقال أحمد حديث بسرة وحديث أم حبيبة صحيحان. وقال الترمذي حديث بسرة حسن صحيح
وقال البخاري أصح شئ في هذا الباب حديث بسرة. وقال أبو زرعة حديث أم حبيبة أيضا صحيح
وقد روي عن بضعة عشر من الصحابة، فأما خبر قيس فقال أبو زرعة وأبو حاتم قيس ممن لا تقوم بروايته
170

حجة ثم إن حديثنا متأخر لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الاسلام صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين
وكان قدوم طلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يؤسسون المسجد أول زمن الهجرة فيكون حديثنا ناسخا له وقياس
الذكر على سائر البدن لا يستقيم لأنه تتعلق به أحكام ينفرد بها من وجوب الغسل بايلاجه والحد والمهر وغير ذلك
(فصل) فعلى رواية النقض لا فرق بين العامد وغيره وبه قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو
أيوب وأبو خيثمة لعموم الخبر، وعن أحمد لا ينتقض الوضوء الا بمسه قاصدا مسه قال أحمد بن الحسين
قيل لأحمد الوضوء من مس الذكر فقال هكذا وقبض على يده يعني إذا قبض عليه وهذا قول مكحول
وطاوس وسعيد بن جبير وحميد الطويل قالوا إن مسه يريد وضوءا وإلا فلا شئ عليه لأنه لمس فلا
ينقض الوضوء من غير قصد كلمس النساء.
(فصل) ولا فرق بين بطن الكف وظهره وهذا قول عطاء والأوزاعي، وقال مالك والليث والشافعي
وإسحاق لا ينقض مسه الا بباطن كفه لأن ظاهر الكف ليس بآلة اللمس فأشبه ما لو مسه بفخذه واحتج
أحمد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أفضي أحدكم بيده إلى فرجه ليس بينهما سترة فليتوضأ " وفي لفظ
" إذا أفضى أحدكم إلى ذكره فقد وجب عليه الوضوء " رواه الشافعي في مسنده وظاهر كفه من يده، والافضاء
اللمس من غير حائل ولأنه جزء من يده تتعلق به الأحكام المعلقة على مطلق اليد فأشبه باطن الكف
171

(فصل) ولا ينقض مسه بذراعه وعن أحمد أنه ينقض لأنه من يده وهو قول عطاء والأوزاعي
والصحيح الأول لأن الحكم المعلق على مطلق اليد في الشرع لا يتجاوز الكوع بدليل قطع السارق وغسل
اليد من نوم الليل والمسح في التيمم وإنما وجب غسله في الوضوء لأنه قيده بالمرافق ولأنه ليس بآلة للمس
أشبه العضد. وكونه من يده يبطل بالعضد فإنه لا خلاف بين العلماء فيه.
(فصل) ولا فرق بين ذكره وذكر غيره، وقال داود لا ينقض مس ذكر غيره لأنه لا نص فيه
والاخبار إنما وردت في ذكر نفسه فيقتصر عليه. ولنا أن مس ذكر غيره معصية وأدعى إلى الشهوة
وخروج الخارج وحاجة الانسان تدعو إلى مس ذكر نفسه فإذا انتقض بمس ذكر نفسه فيمس ذكر غيره أولى.
وهذا تنبيه يقدم على الدليل، وفي بعض ألفاظ خبر بسرة " من مس الذكر فليتوضأ ".
(فصل) ولا فرق بين ذكر الصغير والكبير وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور. وعن الزهري
والأوزاعي لا وضوء على من مس ذكر الصغير لأنه يجوز مسه والنظر إليه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قبل زبيبة الحسن وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مس زبيبة الحسن ولم يتوضأ. ولنا عموم قوله " من مس
الذكر فليتوضأ " ولأنه ذكر آدمي متصل به أشبه الكبير والخبر ليس بثابت. ثم إن نقض اللمس لا يلزم منه كون القبلة
ناقضة. ثم ليس فيه انه صلى ولم يتوضأ فيحتمل أنه لم يتوضأ في مجلسه. وجواز اللمس والنظر يبطل بذكر نفسه.
(فصل) وفرج الميت كفرج الحي لبقاء الاسم والحرمة لاتصاله بجملة الآدمي وهو قول الشافعي
وقال إسحاق لا وضوء عليه. وفي الذكر المقطوع وجهان (أحدهما) ينقض لبقاء اسم الذكر (والآخر) لا ينقض
لذهاب الحرمة وعدم الشهوة بمسه، فأشبه ثيل (1) الجمل، ولو مس القلفة التي تقطع في الختان قبل قطعها

(1) الثيل بالكسر والفتح وعاء قضيب البعير وغيره أو القضيب نفسه وليس بمراد هنا
172

انتفض وضوؤه لأنها من جلدة الذكر، وإن مسها بعد القطع فلا وضوء عليه لزوال الاسم والحرمة
(فصل) فأما مس حلقة الدبر فعنه روايتان (إحداهما) لا ينقض الوضوء وهو مذهب مالك
قال الخلال العمل والأشيع في قوله: وحجته انه لا يتوضأ من مس الدبر لأن المشهور من الحديث " من مس ذكره
فليتوضأ " وهذا ليس في معناه لأنه لا يقصد مسه ولا يفضي إلى خروج خارج (والثانية) ينقض نقلها أبو داود
وهو مذهب عطاء والزهري والشافعي لعموم قوله " من مس فرجه فليتوضأ " ولأنه أحد الفرجين أشبه الذكر
(فصل) وفي مس المرأة فرجها أيضا روايتان (إحداهما) ينقض لعموم قوله " من مس فرجه
فليتوضأ " وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ "
ولأنها آدمي مس فرجه فانتقض وضوؤه كالرجل (والأخرى) لا ينتقض. قال المروذي: قيل لأبي
عبد الله فالجارية إذا مست فرجها أعليها وضوء؟ قال لم أسمع في هذا بشئ، قلت لأبي عبد الله حديث
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ " فتبسم وقال هذا حديث
الزبيدي وليس إسناده بذاك ولان الحديث المشهور في مس الذكر وليس مس المرأة فرجها في معناه
لكونه لا يدعو إلى خروج خارج فلم ينقض.
(فصل) فأما لمس فرج الخنثى المشكل فلا يخلو من أن يكون اللمس منه أو من غيره فإن كان
اللمس منه فلمس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه لأنه يحتمل أن يكون الملموس خلقة زائدة. وإن لمسهما
جميعا وقلنا لا ينقض وضوء المرأة مس فرجها لم ينتقض وضوؤها لجواز أن يكون امرأة مست فرجها
أو خلقة زائدة، وإن قلنا ينقض انتقض وضوؤه لأنه لابد أن يكون أحدهما فرجا، وإن كان اللامس
173

رجلا فمس الذكر لغير شهوة لم ينتقض وضوؤه وإن مسه لشهوة انتقض وضوؤه في ظاهر المذهب. فإنه
إن كان ذكرا فقد مسه وإن كان أنثى فقد مسها لشهوة، وان مس قبل المرأة لم ينتقض وضوؤه لجواز
أن يكون خلقة زائدة من رجل، وان مسهما جميعا لشهوة انتقض وضوؤه لما ذكرنا في الذكر. وإن كان
لغير شهوة انتقض وضوؤه في الظاهر لأنه لا يخلو من أن يكون مس ذكر رجل أو فرج امرأة. وإن كان
اللامس امرأة فلمست أحدهما لغير شهوة لم ينتقض وضوؤها وان لمست الذكر لشهوة لم ينتقض وضوؤها
لجواز أن يكون خلقة زائدة من امرأة، فإن مست فرج المرأة لشهوة انبنى على مس المرأة الرجل لشهوة
فإن قلنا ينقض انتقض وضوؤها ههنا لذلك وإلا لم ينتقض. وان مستهما جميعا لغير شهوة وقلنا إن
مس فرج المرأة ينقض الوضوء انتقض وضوؤها ههنا وإلا فلا. وإن كان اللامس خنثى مشكلا لم
ينتقض وضوؤه إلا أن يجمع بين الفرجين في اللمس، ولو مس أحد الخنثيين ذكر الآخر ومس الآخر
فرجه وكان اللمس منهما لشهوة أو لغيرها فلا وضوء على واحد منهما لأن كل واحد منهما على انفراده
يقين الطهارة باق في حقه والحدث مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك لأنه يحتمل أن يكونا جميعا
امرأتين فلا ينتقض وضوء لامس الذكر. ويحتمل أن يكونا رجلين فلا ينتقض وضوء لامس الفرج.
وان مس كل واحد منهما ذكر الآخر احتمل أن يكونا امرأتين وقد مس كل واحد منهما خلقة زائدة
من الآخر. وان مس كل واحد منهما قبل الآخر احتمل أن يكونا رجلين.
(فصل) ولا ينتقض الوضوء بمس ما عدا الفرجين من سائر البدن كالرفغ والأنثيين والإبط في
174

قول عامة أهل العلم إلا أنه روي عن عروة قال: من مس أنثييه فليتوضأ. وقال الزهري أحب إلي أن يتوضأ
وقال عكرمة: من مس ما بين الفرجين فليتوضأ. وقول الجمهور أولى لأنه لا نص في هذا ولا هو في معنى المنصوص
عليه فلا يثبت الحكم فيه، ولا ينتقض وضوء الملموس أيضا لأن الوجوب من الشرع وإنما وردت السنة في اللامس
ولا ينتقض الوضوء بمس فرج بهيمة، وقال الليث بن سعد عليه الوضوء، وقال عطاء من مس قنب (1)
حمار عليه الوضوء، ومن مس ثيل جمل لا وضوء عليه. وما قلناه قول جمهور العلماء وهو أولى لأن هذا
ليس بمنصوص على النقض به ولا هو في معنى المنصوص عليه فلا وجه للقول به.
* (مسألة) * قال (والقئ الفاحش والدم الفاحش والدود الفاحش يخرج من الجروح)
وجملته أن الخارج من البدن من غير السبيل ينقسم قسمين طاهرا ونجسا، فالطاهر لا ينقض
الوضوء على حال ما، والنجس ينقض الوضوء في الجملة رواية واحدة روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر
وسعيد بن المسيب وعلقمة وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، وكان مالك وربيعة
والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يوجبون منه وضوءا وقال مكحول: لا وضوء إلا فيما خرج من قبل
أو دبر لأنه خارج من غير المخرج مع بقاء المخرج فلم يتعلق به نقض الطهارة كالبصاق ولأنه لا نص
فيه ولا يمكن قياسه على محل النص وهو الخارج من السبيلين لكون الحكم فيه غير معلل ولأنه لا يفترق
الحال بين قليله وكثيره، وطاهره ونجسه وههنا بخلافه فامتنع القياس

(1) القنب كقفل جراب قضيب ذي الحافر من الدواب
175

ولنا ما روى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك
فقال ثوبان: صدق أنا صببت له وضوءه. رواه الأثرم والترمذي وقال هذا أصح شئ في هذا الباب قيل
لأحمد حديث ثوبان ثبت عندك؟ قال نعم. وروى الخلال باسناده عن ابن جريج عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا قلس أحدكم فليتوضأ " قال ابن جريج وحدثني ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك
وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون اجماعا ولأنه خارج يلحقه حكم
التطهير فنقض الوضوء كالخارج من السبيل. وقياسهم منقوض بما إذا انفتح مخرج دون المعدة.
(فصل) وإنما ينتقض الوضوء بالكثير من ذلك دون اليسير، وقال بعض أصحابنا فيه رواية
أخرى أن اليسير ينقض ولا نعرف هذه الرواية ولم يذكرها الخلال في جامعه إلا في القلس واطرحها
وقال القاضي: لا ينقض رواية واحدة وهو المشهور عن الصحابة رضي الله عنهم قال ابن عباس في
الدم إذا كان فاحشا فعليه الإعادة. وابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى. وابن عمر عصر بثرة فخرج
دم وصلى ولم يتوضأ. قال أبو عبد الله: عدة من الصحابة تكلموا فيه فأبو هريرة كان يدخل أصابعه
في أنفه. وابن عمر عصر بثرة وابن أبي أوفى عصر دملا وابن عباس قال إذا كان فاحشا. وجابر أدخل
أصابعه في أنفه. وابن المسيب أدخل أصابعه العشرة أنفه وأخرجها متلطخة بالدم يعني وهو في الصلاة
وقال أبو حنيفة: إذا سال الدم ففيه الوضوء وإن وقف على رأس الجرح لم يجب لعموم قوله عليه
السلام " من قاء أو رعف في صلاته فليتوضأ ".
ولنا ما روينا عن الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا وقد روى الدارقطني باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
176

قال " ليس الوضوء من القطرة والقطرتين " وحديثهم لا تعرف صحته. ولم يذكره أصحاب السنن
وقد تركوا العمل به. فإنهم قالوا: إذا كان دون ملء الفم لم يجب الوضوء منه.
(فصل) وظاهر مذهب أحمد أن الكثير الذي ينقض الوضوء لا حد له أكثر من أنه يكون
فاحشا وقيل: يا أبا عبد الله ما قدر الفاحش؟ قال ما فحش في قلبك. وقيل له مثل أي شئ يكون
الفاحش؟ قال قال ابن عباس ما فحش في قلبك، وقد نقل عنه أنه سئل كم الكثير؟ فقال شبر في شبر
وفي موضع قال قدر الكف فاحش. وفي موضع قال الذي يوجب الوضوء من ذلك إذا كان مقدار
ما يرفعه الانسان بأصابعه الخمس من القيح والصديد والقئ فلا بأس به. فقيل له إن كان مقدار عشرة
أصابع فرآه كثير. قال الخلال والذي استقر قوله في الفاحش أنه على قدر ما يستفحشه كل انسان
في نفسه قال ابن عقيل إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس لا المتبذلين ولا الموسوسين كما رجعنا
في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى مالا تبيعه نفوس أوساط الناس ونص أحمد في هذا كما حكيناه
وذهب إلى قول ابن عباس رضي الله عنه.
(فصل) والقيح والصديد كالدم فيما ذكرنا وأسهل وأخف منه حكما عند أبي عبد الله لوقوع
الاختلاف فيه فإنه روي عن ابن عمر والحسن أنهم لم يروا القيح والصديد كالدم، وقال أبو مجلز في
الصديد لا شئ إنما ذكر الله الدم المسفوح، وقال الأوزاعي في قرحة سال منها كغسالة اللحم لا وضوء
177

فيه. وقال إسحاق: كل ما سوى الدم لا يوجب وضوءا. وقال مجاهد وعطاء وعروة والشعبي والزهري
وقتادة والحكم والليث: القيح بمنزلة الدم فلذلك خف حكمه عنده واختياره مع ذلك إلحاقه بالدم
واثبات مثل حكمه فيه لكن الذي يفحش منه يكون أكثر من الذي يفحش من الدم.
(فصل) والقلس كالدم ينقض الوضوء منه ما فحش، قال الخلال الذي أجمع عليه أصحاب أبي
عبد الله عنه أنه إذا كان فاحشا أعاد الوضوء منه، وقد حكي عنه فيه الوضوء إذا ملا الفم، وقيل عنه
إذا كان أقل من نصف الفم لا يتوضأ والأول المذهب، وكذلك الحكم في الدود الخارج من الجسد
إذا كان كثيرا نقض الوضوء، وإن كان يسيرا لم ينقض والكثير ما فحش في النفس.
(فصل) فأما الجشاء فلا وضوء فيه لا نعلم فيه خلافا قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن الرجل
يخرج من فيه الريح مثل الجشاء الكثير؟ قال لا وضوء عليه وكذلك النخاعة لا وضوء فيها سواء كانت
من الرأس أو الصدر لأنها طاهرة أشبهت البصاق.
178

* (مسألة) * قال (وأكل لحم الجزور)
وجملة ذلك أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال نيئا ومطبوخا عالما كان أو جاهلا،
وبهذا قال جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وإسحاق وأبو خيثمة ويحيى بن يحيى وابن المنذر وهو أحد قولي
الشافعي. قال الخطابي ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث، وقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب
الرأي لا ينقض الوضوء بحال لأنه روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الوضوء مما يخرج
لا مما يدخل " وروي عن جابر قال كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار
رواه أبو داود. ولأنه مأكول أشبه سائر المأكولات. وقد روي عن أبي عبد الله أنه قال في الذي يأكل
من لحوم الإبل: إن كان لا يعلم ليس عليه وضوء فإن كان الرجل قد علم وسمع فهذا عليه واجب لأنه
قد علم فليس هو كمن لا يعلم ولا يدري. قال الخلال: وعلى هذا استقر قول أبي عبد الله في هذا الباب
ولنا ما روى البراء بن عازب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل فقال " توضؤا منها "
وسئل عن لحوم الغنم فقال " لا يتوضأ منها " رواه مسلم وأبو داود، وروى جابر بن سمرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثله أخرجه مسلم، وروى الإمام أحمد باسناده عن أسيد بن حضير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" توضؤا من لحوم الإبل ولا تتوضؤا من لحوم الغنم ".
179

وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال أحمد وإسحاق
ابن راهويه فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث البراء وحديث جابر بن سمرة
وحديثهم عن ابن عباس لا أصل له، وإنما هو من قول ابن عباس موقوف عليه ولو صح لوجب تقديم
حديثنا عليه لكونه أصح منه وأخص والخاص يقدم على العام. وحديث جابر لا يعارض حديثنا
أيضا لصحته وخصوصه فإن قيل فحديث جابر متأخر فيكون ناسخا، قلنا لا يصح النسخ به لوجوه
أربعة (أحدها) أن الامر بالوضوء من لحوم الإبل متأخر عن نسخ الوضوء مما مست النار أو مقارن
له بدليل أنه قرن الامر بالوضوء من لحوم الإبل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم وهي مما مست النار
فاما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي وإما أن يكون بشئ قبله فإن كان به والامر بالوضوء من لحوم
الإبل مقارن لنسخ الوضوء مما غيرت النار فكيف يجوز أن يكون منسوخا به. ومن شروط النسخ تأخر
الناسخ وإن كان الناسخ قبله لم يجز أن ينسخ بما قبله.
الثاني أن أكل لحوم الإبل إنما نقض لكونه من لحوم الإبل لا لكونه مما مست النار، ولهذا
ينقض، وإن كان نيئا فنسخ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى. كما لو حرمت المرأة
للرضاع ولكونها ربيبة فنسخ التحريم بالرضاع لم يكن نسخا لتحريم الربيبة.
الثالث: ان خبرهم عام وخبرنا خاص. والعام لا ينسخ به الخاص لأن من شروط النسخ تعذر
الجمع والجمع بين الخاص والعام ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل التخصيص (الرابع) ان خبرنا صحيح
180

مستفيض ثبتت له قوة الصحة والاستفاضة والخصوص. وخبرهم ضعيف لعدم هذه الوجوه الثلاثة فيه
فلا يجوز أن يكون ناسخا له، فإن قيل الامر بالوضوء في خبركم يحتمل الاستحباب فنحمله عليه ويحتمل
أنه أراد بالوضوء قبل الطعام وبعده غسل اليدين لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى غسل اليد
كما كان عليه السلام يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده، وخص ذلك بلحم الإبل لأن فيه من الحرارة
والزهومة ما ليس في غيره (قلنا) أما الأول فمخالف للظاهر من ثلاثة أوجه (أحدها) ان مقتضى الامر
الوجوب (الثاني) أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم هذا اللحم فأجاب بالامر بالوضوء منه فلا يجوز حمله
على غير الوجوب لأنه يكون تلبيسا على السائل لا جوابا (الثالث) أنه عليه السلام قرنه بالنهي عن الوضوء من
لحوم الغنم والمراد بالنهي ههنا نفي الايجاب لا التحريم فيتعين حمل الامر على الايجاب ليحصل الفرق
وأما الثاني فلا يصح لوجوه أربعة (أحدها) أنه يلزم منه حمل الامر على الاستحباب فإن غسل
اليد بمفرده غير واجب وقد بينا فساده (الثاني) أن الوضوء إذا جاء في لسان الشارع وجب حمله على
181

الموضوع الشرعي دون اللغوي لأن الظاهر منه أنه إنما يتكلم بموضوعاته (الثالث) أنه خرج جوابا لسؤال
السائل عن حكم الوضوء من لحومها والصلاة في مباركها فلا يفهم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة
(الرابع) أنه لو أراد غسل اليد لما فرق بينه وبين لحم الغنم، فإن غسل اليد منهما مستحب ولهذا
قال " من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شئ فلا يلومن الا نفسه " وما ذكروه من زيادة الزهومة
فامر يسير لا يقتضي التفريق والله أعلم، ثم لابد من دليل نصرف به اللفظ عن ظاهره ويجب أن يكون
الدليل له من القوة بقدر قوة الظواهر المتروكة وأقوى منها وليس لهم دليل وقياسهم فاسد فإنه طردي لا
معنى فيه وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانتفاء المقتضي لا لكونه مأكولا فلا أثر لكونه مأكولا ووجوده كعدمه
ومن العجب أن مخالفينا في هذه المسألة أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الأصول فأبو حنيفة
أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها بحديث من مراسيل أبي العالية ومالك والشافعي أوجباه بمس
الذكر بحديث مختلف فيه معارض بمثله دون مس بقية الأعضاء وتركوا هذا الحديث الصحيح الذي
لا معارض له مع بعده عن التأويل وقوة الدلالة فيه لمخالفته لقياس طردي.
182

(فصل) وفي شرب لبن الإبل روايتان (إحداهما) ينقض الوضوء لما روى أسيد بن حضير أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " توضؤا من لحوم الإبل وألبانها) رواه الإمام أحمد في المسند وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن ألبان الإبل فقال " توضؤا من ألبانها " وسئل عن ألبان الغنم فقال " لا تتوضؤا من ألبانها " رواه
ابن ماجة، وروي نحوه عن عبد الله بن عمرو (والثانية) لا وضوء فيه لأن الحديث الصحيح إنما ورد في
اللحم، وقولهم فيه حديثان صحيحان يدل على أنه لا صحيح فيه سواهما فالحكم ههنا غير معقول فيجب
الاقتصار على مورد النص فيه، وفيما سوى اللحم من أجزاء البعير من كبده وطحاله وسنامه ودهنه ومرقه
وكرشه ومصرانه وجهان (أحدهما) لا ينقض لأن النص لم يتناوله (والثاني) ينقض لأنه من جملة الجزور واطلاق
اللحم في الحيوان يراد به جملته لأنه أكثر ما فيه ولذلك لما حرم الله تعالى لحم الخنزير كان تحريما لجملته كذا ههنا
(فصل) وما عدا لحم لجزور من الأطعمة لا وضوء فيه سواء مسته النار أو لم تمسه، هذا قول
أكثر أهل العلم وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين وأبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وعامر
183

ابن ربيعة وأبي الدرداء وأبي أمامة وعامة الفقهاء ولا نعلم اليوم فيه خلافا. وذهب جماعة من السلف إلى
ايجاب الوضوء مما غيرت النار منهم ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو طلحة وأبو موسى وأبو هريرة وأنس وعمر
ابن عبد العزيز وأبو مجلز وأبو قلابة والحسن والزهري لما روى أبو هريرة وزيد وعائشة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " توضؤوا مما مست النار " وفي لفظ " إنما الوضوء مما مست النار " رواهن مسلم.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تتوضؤا من لحوم الغنم " وقول جابر كان آخر الامرين من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار رواه أبو داود والنسائي.
* (مسألة) * قال (وغسل الميت)
اختلف أصحابنا في وجوب الوضوء من غسل الميت فقال أكثرهم بوجوبه سواء كان المغسول
صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى مسلما أو كافرا وهو قول إسحاق والنخعي وروي ذلك عن ابن عمرو ابن
184

عباس وأبي هريرة فروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء وعن أبي
هريرة قال أقل ما فيه الوضوء ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة ولان الغالب فيه أنه لا يسلم أن تقع يده على
فرج الميت فكان مظنة ذلك قائما مقام حقيقته كما أقيم النوم مقام الحدث. وقال أبو الحسن التميمي
لا وضوء فيه وهذا قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله لأن الوجوب من الشرع ولم يرد في
هذا نص ولا هو في معنى المنصوص عليه فبقي على الأصل ولأنه غسل آدمي فأشبه غسل الحي، وما روي
عن أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الايجاب فإن كلامه يقتضي نفي الوجوب فإنه ترك العمل
185

بالحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " من غسل ميتا فليغتسل " وعلل ذلك بان الصحيح أنه موقوف
على أبي هريرة وإذا لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة مع احتمال أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم فلان لا
يوجب الوضوء بقوله مع عدم ذلك الاحتمال أولى وأحرى.
" مسألة " قال (وملاقاة جسم الرجل للمرأة لشهوة)
المشهور من مذهب أحمد رحمه الله أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة
وهذا قول علقمة وأبي عبيدة والنخعي والحكم وحماد ومالك والثوري وإسحاق والشعبي فإنهم قالوا يجب
186

الوضوء على من قبل لشهوة ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء في القبلة ابن مسعود
وابن عمر والزهري وزيد بن أسلم ومكحول ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي وسعد بن عبد العزيز
والشافعي. قال احمد: المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء حتى
كان بآخرة وصار فيهم أبو حنيفة فقالوا لا تنقض الوضوء ويأخذون بحديث عروة ونرى أنه غلط.
وعن أحمد رواية ثانية لا ينقض اللمس بحال وروي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء وطاوس
والحسن ومسروق وبه قال أبو حنيفة الا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها لما روى حبيب عن
عروة عن عائشة أو النبي صلى الله عليه وسلم قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. رواه أبو داود
187

وابن ماجة وغيرهما وهو حديث مشهور رواه إبراهيم التيمي عن عائشة أيضا ولان الوجوب من
الشرع ولم يرد بهذا ولا هو في معنى ما ورد الشرع به وقوله (أو لامستم النساء) أراد به الجماع بدليل
أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين،
وعن أحمد رواية ثالثة أن اللمس ينقض بكل حال وهو مذهب الشافعي لعموم قوله تعالى (أو لامستم
النساء) وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين. قال الله تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا (وأنا لمسنا السماء)
وقال الشاعر * لمست بكفي كفه أطلب الغنى * وقرأها ابن مسعود (أو لمستم النساء) وأما حديث القبلة
فكل طرقه معلولة قال يحيى بن سعيد احك عني أن هذا الحديث شبه لا شئ، قال أحمد: نرى أنه غلط
الحديثين جميعا يعني حديث إبراهيم التيمي وحديث عروة فإن إبراهيم التيمي لا يصح سماعه من عائشة
وعروة المذكور ههنا عروة المزني ولم يدرك عائشة كذلك قاله سفيان الثوري قال ما حدثنا حبيب إلا عن
188

عروة المزني ليس هو عروة بن الزبير. وقال إسحاق لا تظنوا أن حبيبا لقي عروة وقال قد يمكن أن يقبل
الرجل امرأته لغير شهوة برا بها وإكراما لها ورحمة ألا ترى إلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم من
سفر فقبل فاطمة. فالقبلة تكون لشهوة ولغير شهوة، ويحتمل أنه قبلها من وراء حائل واللمس لغير
شهوة لا ينقض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسه ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله.
قالت عائشة: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي واني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة فإذا أراد أن
يسجد غمزني فقبضت رجلي. متفق عليه، وفي حديث آخر فإذا أراد أن يوتر مسني برجله، وروى
الحسن قال كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في مسجده في الصلاة فقبض على قدم عائشة غير
متلذذ رواه إسحاق باسناده والنسائي. وعن عائشة قالت فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعلت أطلبه
فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد وهو يقول " أعوذ برضاك من سخطك،
وبمعافاتك من عقوبتك " رواهما النسائي ورواه مسلم. وصلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة بنت
189

أبي العاص بن الربيع إذا سجد وضعها وإذا قام حملها. متفق عليه والظاهر أنه لا يسلم من مسها ولأنه
لمس لغير شهوة فلم ينقض كلمس ذوات المحارم يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه وإنما نقض لأنه يفضي
إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تفضي إلى الحدث فيها وهي حالة الشهوة.
(فصل) ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم والكبيرة والصغيرة، وقال الشافعي: لا ينقض لمس
ذوات المحارم ولا الصغيرة في أحد القولين لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج أشبه لمس الرجل الرجل
ولنا عموم النص. واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع فأما
لمس الميتة ففيه وجهان (أحدهما) ينقض لعموم الآية (والثاني) لا ينقض اختاره الشريف أبو جعفر
وابن عقيل لأنها ليست محلا للشهوة فهي كالرجل.
(فصل) ولا يختص اللمس الناقض باليد بل أي شئ منه لاقى شيئا من بشرتها مع الشهوة انتقض
وضوؤه به سواء كان عضوا أصليا أو زائدا، وحكي عن الأوزاعي لا ينقض اللمس الا بأحد أعضاء الوضوء
ولنا عموم النص، والتخصيص بغير دليل تحكم لا يصار إليه. ولا ينقض مس شعر المرأة ولا ظفرها ولا
سنها وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ولا ينقض لمسها بشعره ولا سنه ولا ظفره لأن ذلك مما لا يقع الطلاق
على المرأة بتطليقه ولا الظهار. ولا ينجس الشعر بموت الحيوان ولا بقطعه منه في حياته.
190

(فصل) وان لمسها من وراء حائل لم ينقض وضوؤه في قول أكثر أهل العلم، وقال مالك والليث
ينقض إن كان ثوبا رقيقا، وكذلك قال ربيعة إذا غمزها من وراء ثوب رقيق لشهوة لأن الشهوة موجودة،
وقال المروذي لا نعلم أحدا قال ذلك غير مالك والليث، ولنا أنه لم يلمس جسم المرأة فأشبه ما لو لمس ثيابها
والشهوة بمجردها لا تكفي كما لو مس رجلا بشهوة أو وجدت الشهوة من غير لمس.
(فصل) وإن لمست امرأة رجلا ووجدت الشهوة منهما فظاهر كلام الخرقي نقض وضوئهما
بملاقاة بشرتهما، وقد سئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها قال: ما سمعت فيه شيئا ولكن هي شقيقة الرجل
يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس فهي كالرجل وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت
منه الشهوة لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس كالتقاء الختانين، وفيه رواية
191

أخرى: لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه عدم النقض
أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء فيتناول اللامس من الرجال فيختص به النقض كلمس الفرج
ولأن المرأة والملموس لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص لأن اللمس من الرجل مع الشهوة مظنة لخروج
المذي الناقض فأقيم مقامه ولا يوجد ذلك في حق المرأة والشهوة من اللامس أشد منها في الملموس وأدعى
إلى الخروج فلا يصح القياس عليهما وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.
(فصل) ولا ينتقض الوضوء بلمس عضو مقطوع من المرأة لزوال الاسم وخروجه عن أن يكون
محلا للشهوة ولا بمس رجل ولا صبي ولا بمس المرأة المرأة لأنه ليس بداخل في الآية. ولا هو في معنى
ما في الآية لأن المرأة محل لشهوة الرجل شرعا وطبعا وهذا بخلافه، ولا بمس البهيمة لذلك، ولا بمس
192

خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا ولا امرأة، ولا بمس الخنثى لرجل أو امرأة لذلك والأصل الطهارة
فلا تزول بالشك ولا أعلم في هذا كله خلافا والله أعلم.
" مسألة " قال (ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو تيقن الحدث وشك في
الطهارة فهو على ما تيقن منهما)
يعني إذا علم أنه توضأ وشك هل أحدث أو لا بنى على أنه متطهر، وإن كان محدثا فشك هل توضأ
أو لا فهو محدث يبني في الحالتين على ما علمه قبل الشك ويلغي الشك وبهذا قال الثوري وأهل العراق
والأوزاعي والشافعي وسائر أهل العلم فيما علمنا إلا الحسن ومالكا فإن الحسن قال إن شك في الحدث
في الصلاة مضى فيها، وإن كان قبل الدخول فيها توضأ، وقال مالك إن شك في الحدث إن كان يلحقه
كثيرا فهو على وضوئه، وإن كان لا يلحقه كثيرا توضأ لأنه لا يدخل في الصلاة مع الشك.
ولنا ما روي عبد الله بن زيد قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه وهو في الصلاة أنه يجد
الشئ قال " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " متفق عليه، ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أوجر أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه أم لم يخرج فلا يخرج من
193

المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " ولأنه إذا شك تعارض عنده الأمران فيجب سقوطهما
كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى التيقن. ولا فرق بين أن يغلب على ظنه أحدهما أو يتساوى الأمران
عنده لأن غلبة الظن إذا لم تكن مضبوطة بضابط شرعي لا يلتفت إليها كما لا يلتفت الحاكم إلى قول أحد
المتداعيين إذا غلب على ظنه صدقه بغير دليل.
(فصل) إذا تيقن الطهارة والحدث معا ولم يعلم الآخر منهما مثل من تيقن أنه كان في وقت
الظهر متطهرا مرة ومحدثا أخرى ولا يعلم أيهما كان بعد صاحبه فإنه يرجع إلى حاله قبل الزوال. فإن كان
194

محدثا فهو الآن متطهر لأنه متيقن أنه قد انتقل عن هذا الحدث إلى الطهارة ولم يتيقن زوالها والحدث
المتيقن بعد الزوال يحتمل أن يكون قبل الطهارة ويحتمل أن يكون بعدها فوجوده بعدها مشكوك فيه
فلا يزول عن طهارة متيقنة بشك كما لو شهدت بينة لرجل أنه وفى زيدا حقه وهو مائة فأقام المشهود
عليه بينة باقرار خصمه له بمائة - لم يثبت له بها حق لاحتمال أن يكون اقراره قبل الاستيفاء منه. وإن
كان قبل الزوال متطهرا فهو الآن محدث لما ذكرنا في الطرف الآخر.
(فصل) وإن تيقن أنه في وقت الظهر نقض طهارته وتوضأ عن حدث وشك في السابق منهما
195

نظر فإن كان قبل الزوال متطهرا فهو على طهارة لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة ثم توضأ إذ لا يمكن
أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة. ونقض هذه الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين
بالشك، وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى الطهارة ثم نقضها
والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها والله أعلم. فهذا جميع نواقض الطهارة ولا تنتقض بغير ذلك في قول
عامة العلماء الا أنه قد حكي عن مجاهد والحكم وحماد في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط
الوضوء وقول جمهور العلماء بخلافهم ولا نعلم لهم فيما يقولون حجة والله سبحانه أعلم.
196

باب ما يوجب الغسل
قال أبو محمد بن بري النحوي: غسل الجنابة بفتح الغين. وقال ابن السكيت الغسل الماء الذي
يغتسل به. والغسل ما غسل به الرأس (1)
* (مسألة) * قال أبو القاسم رحمه الله (والموجب للغسل خروج المني)
الألف واللام هنا للاستغراق ومعناه أن جميع موجبات الغسل هذه الستة المسماة (أولها) خروج
المني وهو الماء الغليظ الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة ومني المرأة رقيق أصفر، وروى مسلم في
صحيحه باسناده أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها
ما يرى الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل " فقالت أم سليم
واستحيت من ذلك وهل يكون هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم فمن أين يكون الشبه؟
ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه " وفي لفظ أنها
قالت هل على المرأة من غسل إذ هي احتملت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " نعم إذا رأت الماء " متفق
عليه فخروج المني الدافق بشهوة يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم وهو قول عامة
الفقهاء قاله الترمذي ولا نعلم فيه خلافا.

(1) التحقيق ان مصدر غسل بفتح الغين لأنه من باب ضرب قيل ويضم والمستعمل ان الغسل بالضم اسم للاغتسال ومنه غسل الجمعة وغسل الجنابة وقوله ان الغسل بالكسر ما غسل به اي كالأشنان والخطمي من النبات والصابون من المصنوعات
197

(فصل) فإن خرج شبيه المني لمرض أو برد لا عن شهوة فلا غسل فيه، وهذا قول أبي حنيفة
ومالك، وقال الشافعي يجب به الغسل ويحتمله كلام الخرقي لقوله عليه السلام " إذا رأت الماء " وقوله " الماء
من الماء " ولأنه مني خارج فأوجب الغسل كما لو خرج حال الاغماء.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المني الموجب للغسل بكونه أبيض غليظا وقال لعلي " إذا
فضخت الماء فاغتسل " رواه أبو داود والأثرم " إذا رأيت فضخ الماء فاغتسل " والفضخ خروجه على وجه
الشدة وقال إبراهيم الحربي خروجه بالعجلة. وقوله إذا رأت الماء يعني الاحتلام وإنما يخرج في الاحتلام
بالشهوة والحديث الآخر منسوخ على أن هذا يجوز أن يمنع كونه منيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وصف المني بصفة غير موجودة في هذا.
(فصل) فإن أحس بانتقال المني عند الشهوة فأمسك ذكره فلم يخرج فلا غسل عليه في ظاهر
قول الخرقي وإحدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء، والمشهور عن أحمد وجوب الغسل وأنكر
أن يكون الماء يرجع وأحب أن يغتسل ولم يذكر القاضي في وجوب الغسل خلافا، قال لأن الجنابة
تباعد الماء عن محله وقد وجد فتكون الجنابة موجود فيجب الغسل بها ولان الغسل تراعى فيه الشهوة
وقد حصلت بانتقاله فأشبه ما لو ظهر.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على الرؤية وفضخه بقوله " إذا رأت الماء وإذا
فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه وما ذكره من الاشتقاق لا يصح لأنه يجوز أن يسمى
198

جنبا لمجانبته الماء ولا يحصل إلا بخروجه منه ولمجانبته الصلاة أو المسجد أو غيرهما مما منع منه ولو سمي
بذلك مع الخروج لم يلزم وجود التسمية من غير خروج. فإن الاشتقاق لا يلزم منه الاطراد ومراعاة
الشهوة للحكم لا يلزم منه استقلالها به فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراعى له ولا يستقل بالحكم
ثم يبطل بلمس النساء وبما إذا وجدت الشهوة ههنا من غير انتقال فإن الشهوة لا تستقل بالحكم في
الموضعين مع مراعاتها فيه، وكلام أحمد ههنا إنما يدل على أن الماء إذا انتقل لزم منه الخروج وإنما
يتأخر، وذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه. فعلى هذا إذا خرج المني بعد ذلك لزمه الغسل سواء
اغتسل قبل خروجه أو لم يغتسل لأنه مني خرج بسبب الشهوة فأوجب الغسل كما لو خرج حال انتقاله
وقد قال أحمد رحمه الله في الرجل يجامع ولم ينزل فيغتسل ثم يخرج منه المني عليه الغسل، وسئل عن
رجل رأى في المنام أنه يجامع فاستيقظ فلم يجد شيئا فلما مشى خرج منه المني قال يغتسل، وقال القاضي
في الذي أحس بانتقال المني فأمسك ذكره فاغتسل ثم خرج منه المني من غير مقارنة شهوة بعد البول
فلا غسل عليه رواية واحدة، وإن كان قبل البول فعلى روايتين لأنه بعد البول غير المني المنتقل خرج
بغير شهوة فأشبه الخارج لمرض، وإن كان قبله فهو ذلك المني الذي انتقل، ووجه ما قلنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل عند رؤية الماء وفضخه وقد وجد، ونص أحمد على وجوب الغسل على
المجامع الذي يرى الماء بعد غسله وهذا مثله، وقد دللنا على أن من أحس بانتقال المني ولم يخرج لا
199

غسل عليه ويلزم من ذلك وجوب الغسل عليه بظهوره لئلا يفضي إلى نفي الوجوب عنه بالكلية مع
انتقال المني لشهوة وخروجه.
(فصل) فاما ان احتلم أو جامع فأمنى ثم اغتسل ثم خرج منه مني فالمشهور عن أحمد أنه لا
غسل عليه. قال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء بال أولم يبل فعلى
هذا ستقر قوله. وروي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء والزهري ومالك والليث والثوري وإسحاق
وقال سعيد بن جبير لأغسل عليه الا عن شهوة وفيه رواية ثانية ان خرج بعد البول فلا غسل فيه
وان خرج قبله اغتسل وهذا قول الأوزاعي وأبي حنيفة ونقل ذلك عن الحسن لأنه بقية ماء خرج
بالدفق والشهوة فأوجب الغسل كالأول وبعد البول خرج بغير دفق وشهوة ولا نعلم أنه بقية الأول
لأنه لو كان بقيته لما تخلف بعد البول. وقال القاضي فيه رواية ثالثة عليه الغسل بكل حال. وهو مذهب
الشافعي لأن الاعتبار بخروجه كسائر الاحداث. وقال في موضع آخر لأغسل عليه رواية واحدة لأنه
جنابة واحدة فلم يجب به غسلان كما لو خرج دفعة واحدة، والصحيح أنه يجب الغسل لأن الخروج
يصلح موجبا للغسل وما ذكره يبطل بما إذا جامع فلم ينزل فاغتسل ثم أنزل فإن أحمد قد نص على
وجوب الغسل عليه بالانزال مع وجوبه بالتقاء الختانين.
(فصل) إذا رأى أنه قد احتلم ولم يجد منيا فلا غسل عليه، قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من
أحفظ عنه من أهل العلم لكن إن مشى فخرج منه المني أو خرج بعد استيقاظه فعليه الغسل نص عليه
200

احمد لأن الظاهر أنه كان انتقل وتخلف خروجه إلى ما بعد الاستيقاظ وان انتبه فرأى منيا ولم يذكر
احتلاما فعليه الغسل لا نعلم فيه خلافا أيضا وروي نحو ذلك عن عمر وعثمان وبه قال ابن عباس
وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي والحسن ومجاهد وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق لأن
الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى الفجر بالمسلمين ثم
خرج إلى الجرف فرأى في ثوبه احتلاما فقال ما أراني إلا قد احتلمت فاغتسل وغسل ثوبه وصلى.
وروي نحوه عن عثمان، وروت عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر
احتلاما قال " يغتسل " وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد بللا فقال " لأغسل عليه " رواه أبو داود
وابن ماجة وروت أم سلمة أن أم سليم قالت يا رسول الله هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟
قال " نعم إذا رأت الماء " متفق عليه وهذا يدل على أنه لأغسل عليها الا أن ترى الماء.
(فصل) إذا انتبه من النوم فوجد بللا لا يعلم هل هو مني أو غيره فقال أحمد إذا وجد بلة
اغتسل إلا أن يكون به أبردة أو لاعب أهله فإنه ربما خرج منه المذي فأرجو أن لا يكون به بأس
وكذلك أن كان انتشر من أول الليل بتذكر أو رؤية لأغسل عليه وهو قول الحسن لأنه مشكوك فيه
يحتمل أنه مذي وقد وجد سببه فلا يوجب الغسل مع الشك، وان لم يكن وجد ذلك فعليه الغسل
لخبر عائشة لأن الظاهر أنه احتلام، وقد توقف أحمد في هذه المسألة في مواضع. وقال مجاهد وقتادة
لأغسل عليه حتى يوقن بالماء الدافق قال قتادة يشمه وهذا هو القياس ولان اليقين بقاء الطهارة فلا يزول
بالشك والأولى الاغتسال لموافقة الخبر وإزالة الشك.
201

(فصل) فإن رأى في ثوبه منيا وكان مما لا ينام فيه غيره فعليه الغسل لأن عمر وعثمان اغتسلا
حين رأياه في ثوبهما ولأنه لا يحتمل أن يكون إلا منه ويعيد الصلاة من أحدث نومة نامها فيه إلا أن
يرى أمارة تدل على أنه قبلها فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها. وإن كان الرائي له غلاما يمكن
وجود المني منه كابن اثنتي عشرة سنة فهو كالرجل لأنه وجد دليله وهو محتمل للوجود. وإن كان أقل
من ذلك فلا غسل عليه لأنه لا يحتمل فيتعين حمله على أنه من غيره، فأما ان وجد الرجل منيا في ثوب
ينام فيه هو وغيره ممن يحتلم فلا غسل على واحد منهما لأن كل واحد منهما بالنظر إليه مفردا يحتمل
أن لا يكون منه فوجوب الغسل عليه مشكوك فيه وليس لأحدهما أن يأتم بصاحبه لأن أحدهما جنب
يقينا فلا تصح صلاتهما كما لو سمع كل واحد منهما صوت ريح يظن أنها من صاحبه أو لا يدري من أيهما هي
(فصل) إذا وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج أو وطئها في الفرج
فاغتسلت ثم خرج ماء الرجل من فرجها فلا غسل عليها وبهذا قال قتادة والأوزاعي وإسحاق، وقال
الحسن يغتسل لأنه مني خرج فأشبه ماءها والأول أولى لأنه ليس منيها فأشبه غير المني.
* (مسألة) * قال (والتقاء الختانين)
يعني تغييب الحشفة في الفرج فإن هذا هو الموجب للغسل سواء كانا مختتنين أو لا وسواء أصاب
202

موضع الختان منه موضع ختانها أو لم يصبه ولو مس الختان الختان من غير ايلاج فلا غسل بالاتفاق
واتفق الفقهاء على وجوب الغسل في هذه المسألة ما حكي عن داود أنه قال لا يجب لقوله عليه
السلام " الماء من الماء " وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون لا غسل على من جامع فأكسل
يعني لم ينزل ورووا في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رخصة رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أمر بالغسل، قال سهل بن سعد حدثني أبي بن كعب ان " الماء من الماء " كان رخصة أرخص فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنها متفق عليه، رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال
حديث حسن صحيح. وروي عن أبي موسى الأشعري قال " اختلف في ذلك رهط من المهاجرين
والأنصار فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الماء الدافق أو من الماء، وقال المهاجرون بل إذا
خالط فقد وجب الغسل، فقال أبو موسى فأنا أشفيكم من ذلك فقمت فاستأذنت على عائشة فقلت يا أماه
أو يا أم المؤمنين اني أريد أن أسألك عن شئ وأنا أستحييك، فقالت لا تستحي أن تسألني عن شئ كنت
سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك. قلت فما يوجب الغسل؟ قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جلس
بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل " متفق عليه. وفي حديث عن عمر رضي الله عنه أنه
قال من خالف في ذلك جعلته نكالا، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قعد
بين شعبها الأربع وجهدها فقد وجب عليه الغسل " متفق عليه، زاد مسلم وان لم ينزل، قال الأزهري
203

أراد بين شعبتي رجليها وشعبتي شفريها وحديثهم منسوخ بدليل حديث سهل بن سعد والحمد لله.
(فصل) ويجب الغسل على كل واطئ وموطوء إذا كان من أهل الغسل سواء كان الفرج قبلا
أو دبرا من كل آدمي أو بهيمة، حيا أو ميتا، طائعا أو مكرها، نائما أو يقظان، وقال أبو حنيفة لا يجب
الغسل بوطئ الميتة والبهيمة لأنه ليس بمقصود ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص.
ولنا أنه ايلاج في فرج فوجب به الغسل كوطئ الآدمية في حياتها ووطئ الآدمية الميتة داخل
في عموم الأحاديث المروية وما ذكروه ينتقض بوطئ العجوز والشوهاء.
(فصل) وإن أولج بعض الحشفة أو وطئ دون الفرج أو في السرة ولم ينزل فلا غسل عليه
لأنه لم يوجد التقاء الختانين ولا ما في معناه، وان انقطعت الحشفة فأولج الباقي من ذكره وكان بقدر
الحشفة وجب الغسل وتعلقت به أحكام الوطئ من المهر وغيره، وإن كان أقل من ذلك لم يجب شئ
(فصل) فإن أولج في قبل خنثى مشكل أو أولج الخنثى ذكره في فرج أو وطئ أحدهما الآخر
في قبله فلا غسل على واحد منهما لأنه يحتمل أن تكون خلقة زائدة فإن أنزل الواطئ أو أنزل الموطوء
من قبله فعلى من أنزل الغسل، ويثبت لمن أنزل من ذكره حكم الرجال ولمن أنزل من قبله حكم النساء
لأن الله تعالى أجرى العادة بذلك في حق الرجال والنساء، وذكر القاضي في موضع أنه لا يحكم له
بالذكورية بالانزال من ذكره ولا بالأنوثية بالحيض من فرجه ولا بالبلوغ بهذا.
204

ولنا أنه أمر خص الله تعالى به أحد الصنفين فكان دليلا عليه كالبول من ذكره أو من قبله
ولأنه أنزل الماء الدافق لشهوة فوجب عليه الغسل لقوله عليه السلام " الماء من الماء " وبالقياس على
من تثبت له الذكورية أو الأنوثية.
(فصل) فإن كان الواطئ أو الموطوء صغيرا فقال أحمد: يجب عليهما الغسل وقال إذا أتى على
الصبية تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل. وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع المرأة يكون
عليهما جميعا الغسل؟ قال نعم. قيل له أنزل أو لم ينزل؟ قال نعم. وقال ترى عائشة حين كان يطؤها
النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تغتسل ويروى عنها: إذا التقى الختانان وجب الغسل. وحمل القاضي
كلام أحمد على الاستحباب وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور لأن الصغيرة لا يتعلق بها المأثم ولا
هي من أهل التكليف ولا تجب عليها الصلاة التي تجب الطهارة لها فأشبهت الحائض ولا يصح حمل
كلام أحمد على الاستحباب لتصريحه بالوجوب وذمه قول أصحاب الرأي. وقوله هو قول سوء.
واحتج بفعل عائشة وروايتها للحديث العام في الصغير والكبير، ولأنها أجابت بفعلها وفعل النبي
صلى الله عليه وسلم بقولها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فكيف تكون خارجة منه
وليس معنى وجوب الغسل في الصغير التأثيم بتركه بل معناه أنه شرط لصحة الصلاة والطواف وإباحة
قراءة القرآن واللبث في المسجد وإنما يأثم البالغ بتأخيره في موضع يتأخر الواجب بتركه ولذلك لو
أخره في غير وقت الصلاة لم يأثم والصبي لا صلاة عليه فلم يأثم بالتأخير وبقي في حقه شرطا كما في
205

حق الكبير وإذا بلغ كان حكم الحدث في حقه باقيا كالحدث الأصغر ينقض الطهارة في حق الكبير
والصغير والله أعلم.
" مسألة " قال (وإذا أسلم الكافر)
وجملته أن الكافر إذا أسلم وجب عليه الغسل سواء كان أصليا أو مرتدا اغتسل قبل اسلامه
أو لم يغتسل وجد منه في زمن كفره ما يوجب الغسل أو لم يوجد وهذا مذهب مالك وأبي ثور وابن
المنذر، وقال أبو بكر يستحب الغسل وليس بواجب إلا أن يكون قد وجدت منه جنابة زمن كفره
فعليه الغسل إذا أسلم سواء كان قد اغتسل في زمن كفره أولم يغتسل وهذا مذهب الشافعي ولم يوجب
عليه أبو حنيفة الغسل بحال لأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل
نقلا متواترا أو ظاهرا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال " أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا
الله وأن محمدا عبده ورسوله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد
على فقرائهم " ولو كان الغسل واجبا لأمرهم به لأنه أول واجبات الاسلام.
ولنا ما روى قيس به عاصم قال اتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الاسلام فأمرني ان اغتسل
بماء وسدر، رواه أبو داود والنسائي وأمره يقتضي الوجوب وما ذكروه من قلة النقل فلا يصح ممن
206

أوجب الغسل على من أسلم بعد الجنابة في شركه فإن الظاهر أن البالغ لا يسلم منها، ثم إن الخبر إذا
صح كان حجة من غير اعتبار شرط آخر على أنه قد روي أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير حين
أرادا الاسلام سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الامر؟ قالا نغتسل
ونشهد شهادة الحق وهذا يدل على أنه كان مستفيضا. ولان الكافر لا يسلم غالبا من جنابة تلحقه
ونجاسة تصيبه. وهولا يغتسل ولا يرتفع حدثه إذا اغتسل فأقيمت مظنة ذلك مقام حقيقته كما أقيم
النوم مقام الحدث والتقاء الختانين مقام الانزال.
(فصل) فإن أجنب الكافر ثم أسلم لم يلزمه غسل الجنابة سواء اغتسل في كفره أو لم يغتسل
وهذا قول من أوجب غسل الاسلام وقول أبي حنيفة، وقال الشافعي: عليه الغسل في الحالين وهذا
اختيار أبي بكر. لأن عدم التكليف لا يمنع وجوب الغسل كالصبا والجنون (1) واغتساله في كفره لا
يرفع حدثه لأنه أحد الحدثين فلم يرتفع في حال كفره كالحدث الأصغر. وحكي عن أبي حنيفة. واحد
الوجهين لأصحاب الشافعي أنه يرفع حدثه لأنه أصح نية من الصبي وليس بصحيح لأن الطهارة عبادة
محضة فلم تصح من كافر كالصلاة.
ولنا على أنه لا يجب أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحدا بغسل الجنابة مع كثرة من

(1) وعبارة الشرح الكبير كالصبي والمجنون وهو ينقل عبارة المغني بنصها في الغالب فيحرر
207

أسلم من الرجال والنساء البالغين المتزوجين ولان المظنة أقيمت مقام حقيقة الحدث فسقط حكم
الحدث كالسفر مع المشقة.
(فصل) ويستحب أن يغتسل المسلم بماء وسدر كما في حديث قيس. ويستحب إزالة شعره لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أسلم فقال " احلق " وقال لآخر معه " ألق عنك شعر الكفر واختتن " رواه
أبو داود وأقل أحوال الامر الاستحباب.
" مسألة " (والطهر من الحيض والنفاس)
قال ابن عقيل هذا تجوز فإن الموجب للغسل في التحقيق هو الحيض والنفاس لأنه هو الحدث
وانقطاعه شرط وجوب الغسل وصحته فسماه موجبا لذلك وهذا كقولهم انقطاع دم الاستحاضة مبطل
للصلاة والمبطل إنما هو الحدث الخارج لكن عفي عنه للضرورة فإذا انقطع الدم زالت الضرورة
فظهر حكم الحدث حينئذ وأضيف الحكم إلى الانقطاع لظهوره عنده ولا خلاف في وجوب الغسل
بالحيض والنفاس. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل من الحيض في أحاديث كثيرة فقال لفاطمة
بنت أبي حبيش " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي " متفق عليه.
208

وأمر به في حديث أم سلمة وحديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رواهما أبو داود وغيره
وأمر به في حديث أم حبيبة وسهلة بنت سهل وحمنة بنت جحش وغيرهن وقد قيل في قول الله تعالى
(فإذا تطهرن فائتوهن) يعني إذا اغتسلن. منع الزوج وطأها قبل الغسل فدل على وجوبه عليها.
والنفاس كالحيض سواء فإن دم النفاس هو دم الحيض إنما كان في مدة الحمل ينصرف إلى غذاء الولد
فحين خرج الولد خرج الدم لعدم مصرفه وسمي نفاسا.
(فصل) فأما الولادة إذا عريت عن دم فلا يجب فيها الغسل في ظاهر كلام الخرقي وقال غيره
فيها وجهان (أحدهما) يجب الغسل بها لأنها مظنة للنفاس الموجب فقامت مقامه في الايجاب كالتقاء
الختانين ولأنها يستبرئ بها الرحم أشبهت الحيض، ولأصحاب الشافعي وجهان كالوجهين، والأول
الصحيح فإن الوجوب بالشرع ولم يرد بالغسل ههنا ولا هو في معنى المنصوص فإنه ليس بدم ولا مني
وإنما ورد الشرع بالايجاب بهذين الشيئين. وقولهم انه مظنة قلنا المظان إنما يعلم جعلها مظنة بنص أو اجماع
ولا نص في هذا ولا اجماع والقياس الآخر مجرد طرد لا معنى تحته ثم قد اختلفا في أكثر الأحكام
فليس تشبهه به في هذا الحكم أولى من مخالفته في سائر الأحكام.
(فصل) إذا كان على الحائض جنابة فليس عليها أن تغتسل حتى ينقطع حيضها نص عليه أحمد
وهو قول إسحاق وذلك لأن الغسل لا يفيد شيئا من الأحكام، فإن اغتسلت للجنابة في زمن حيضها
209

صح غسلها وزال حكم الجنابة نص عليه أحمد وقال تزول الجنابة والحيض لا يزول حتى ينقطع الدم قال
ولا أعلم أحدا قال لا تغتسل الا عطاء فإنه قال الحيض أكبر قال ثم نزل عن ذلك وقال تغتسل وهذا
لأن أحد الحدثين لا يمنع ارتفاع الآخر كما لو اغتسل المحدث الحدث الأصغر.
(فصل) ولا يجب الغسل من غسل الميت وبه قال ابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن والنخعي
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن علي وأبي هريرة أنهما قالا من غسل
ميتا فليغتسل، وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين والزهري واختاره أبو إسحاق الجوزجاني لما
روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمل ميتا فليتوضأ "
قال الترمذي هذا حديث حسن، وذكر أصحابنا رواية أخرى عن أحمد في وجوب الغسل على من غسل
الميت الكافر خاصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا أن يغتسل لما غسل أباه.
ولنا قول صفوان بن عسال الرازي قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن
إلا من جنابة ولأنه غسل آدمي فلم يوجب الغسل كغسل الحي، وحديثهم موقوف على أبي هريرة قاله
الإمام أحمد وقال ابن المنذر ليس في هذا حديث يثبت ولذلك لا يعمل به في وجوب الوضوء على من
حمله، وقد ذكر لعائشة قول أبي هريرة " ومن حمله فليتوضأ " قالت وهل هي إلا أعواد حملها؟
ذكره الأثرم باسناده ولا نعلم أحدا قال به في الوضوء من حمله، وأما حديث علي رضي الله عنه فقال
أبو إسحاق الجوزجاني ليس فيه أنه غسل أبا طالب إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فواره ولا
210

تحدثن شيئا حتى تأتيني " قال فأتيته فأخبرته فأمرني فاغتسلت وقد قيل يجب الغسل من غسل الكافر الحي
ولا نعلم لقائل هذا القول حجة توجبه وأهل العلم على خلافه.
(فصل) ولا يجب الغسل على المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام ولا أعلم في هذا
خلافا قال ابن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل من الاغماء وأجمعوا على أنه لا
يجب ولان زوال العقل في نفسه ليس بموجب للغسل ووجود الانزال مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين
بالشك، فإن تيقن منهما الانزال فعليهما الغسل لأنه يكون من احتلام فيدخل في جملة الموجبات
المذكورة، ويستحب الغسل من جميع ما نفينا وجوب الغسل منه لوجود ما يدل عليه من فعل النبي
صلى الله عليه وسلم له والخروج من الخلاف.
" مسألة " قال (والحائض والجنب والمشرك إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر)
أما طهارة الماء فلا إشكال فيه إلا أن يكون على أيديهم نجاسة فإن أجسامهم طاهرة وهذه
الاحداث لا تقتضي تنجيسها قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر ثبت ذلك
عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم من الفقهاء، وقالت عائشة عرق الحائض
طاهر وكل ذلك قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا يحفظ عن غيرهم خلافهم، وقد روى أبو
211

هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدنية وهو جنب. قال فانخنست منه
فاغتسلت ثم جئت قال " أين كنت يا أبا هريرة؟ " قال يا رسول الله كنت جنبا فكرهت أن أجالسك
وأنا على غير طهارة فقال " سبحان الله ان المؤمن لا ينجس " متفق عليه، وروي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قدم إليه بعض نسائه قصعة ليتوضأ منها فقالت امرأة إني غمست يدي فيها وأنا جنب فقال " الماء
لا يجنب " وقال لعائشة " نوليني الخمرة (1) من المسجد " فقالت إني حائض قال " إن حيضتك ليست في يدك "
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من سؤر عائشة وهي حائض ويضع فاه على موضع فيها وتتعرق
العرق وهي حائض فيأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ويضع فاه على موضع فيها، وكانت تغسل رأس
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة متفق
عليه، وتوضأ عمر من جرة نصرانية، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم يهوديا دعاه إلى خبز وإهالة
سنخة ولان الكفر معنى في قلبه فلا يؤثر في نجاسة ظاهره كسائر ما في القلب والأصل الطهارة
ويتخرج التفريق بين الكتابي الذي لا يأكل الميتة والخنزير وبين غيره ممن يأكل الميتة والخنزير
ومن لا تحل ذبيحتهم كما فرقنا بينهم في آنيتهم وثيابهم (2).
(فصل) وأما طهورية الماء فإن الحائض والكافر لا يؤثر غمسهما يديهما في الماء شيئا لأن حدثهما
لا يرتفع، وأما الجنب فإن لم ينو بغمس يده في الماء رفع الحدث منها فهو باق على طهوريته بدليل
حديث المرأة التي قالت غمست يدي في الماء وأنا جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الماء لا يجنب "

(1) الخمرة بضم الخاء المعجمة الحصيرة التي يصلى عليها
(2) التخريج معارض بأصل الطهارة ووضوء النبي صلى الله عليه وسلم وعمر (رض) المذكور آنفا فهو ضعيف
212

ولان الحدث لا يرتفع من غير نية فأشبه غمس الحائض، وإن نوى رفع حدثها فحكم الماء حكم ما لو
اغتسل الجنب فيه للجنابة. وقال بعض أصحابنا: إذا نوى رفع الحدث ثم غمس يده في الماء ليغترف
بها صار الماء مستعملا، والصحيح إن شاء الله أنه إذا نوى الاغتراف لم يصر مستعملا لأن قصد الاغتراف
منع قصد غسلها على ما بيناه في المتوضئ إذا اغترف من الاناء بعد غسل وجهه. وإن انقطع حيض
المرأة ولم تغتسل فهي كالجنب فيما ذكرنا من التفصيل. وقد اختلف عن أحمد في هذا فقال في موضع في
الجنب والحائض يغمس يده في الاناء إذا كانا نظيفين فلا بأس به. وقال في موضع آخر كنت لا أرى
به بأسا ثم حدثت عن شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر وكأني تهيبته. وسئل عن جنب
وضع له ماء فأدخل يده ينظر حره من برده قال: إن كان أصبعا فأرجو أن لا يكون به بأس، وان
كانت اليد أجمع فكأنه كرهه. وسئل عن الرجل يدخل الحمام وليس معه أحد ولا ما يصب به على
يده أترى له أن يأخذ بفمه؟ قال لا. يده وفمه واحد. وقياس المذهب ما ذكرناه وكلام أحمد محمول على
الكراهة المجردة لما فيه من الخلاف. وقال أبو يوسف: ان أدخل الجنب يده في الماء لم يفسد وان أدخل
213

رجله فسد لأن الجنب نجس وعفي عن يده لموضع الحاجة، وكره النخعي الوضوء بسؤر الحائض، وقال
جابر بن زيد لا يتوضأ به للصلاة، وأكثر أهل العلم لا يرون بسؤرها بأسا منهم الحسن ومجاهد والزهري
ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبو عبيد، وقد دللنا على طهارة الجنب والحائض والتفريق بين
اليد والرجل لا يصح لأنهما استويا فيما إذا أصابتهما نجاسة فاستويا في الجنابة. ويحتمل أن نقول به
لأن اليد يراد بها الاغتراف وقصده هو المانع من جعل الماء مستعملا وهذا لا يوجد في الرجل لأنها
لا يغترف بها فكان غمسها بعد إرادة الغسل استعمالا للماء والله أعلم
* (مسألة) * قال (ولا يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت بالماء)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت به، والمشهور
عنه أنه لا يجوز ذلك وهو قول عبد الله بن سرجس والحسن وغنيم بن قيس وهو قول ابن عمر في
الحائض والجنب، قال أحمد: قد كرهه غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا كانا جميعا
فلا بأس (والثانية) يجوز الوضوء به للرجال والنساء اختارها ابن عقيل وهو قول أكثر أهل
العلم لما روى مسلم في صحيحه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بفضل وضوء ميمونة، وقالت ميمونة:
اغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل فقلت إني قد اغتسلت منه فقال
" الماء ليس عليه جنابة " ولأنه ماء طهور جاز للمرأة الوضوء به فجاز للرجل كفضل الرجل.
ووجه الرواية الأولى ما روى الحكم بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور
المرأة قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه أبو داود وابن ماجة، قال الخطابي قال محمد بن إسماعيل خبر
الأقرع لا يصح، والصحيح في هذا خبر عبد الله بن سرجس وهو موقوف ومن رفعه فقد أخطأ، قلنا
قد رواه أحمد واحتج به وهذا يقدم على التضعيف (1) لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح
خفي على من ضعفه وأيضا فإنه قول جماعة من الصحابة، قال أحمد أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) فيه ان الجرح مقدم على التعديل والاحتمال ليس بصحيح
214

يقولون إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه. فأما حديث ميمونة فقد قال أحمد أنفيه لحال سماك ليس أحد
يرويه غيره وقال هذا فيه اختلاف شديد بعضهم يرفعه وبعضهم لا يرفعه ولأنه يحتمل أنها لم تخل
به فيحمل عليه جمعا بين الخبرين.
(فصل) واختلف أصحابنا في تفسير الخلوة به فقال الشريف أبو جعفر قولا يدل على أن
الخلوة هي أن لا يحضرها من لا تحصل الخلوة في النكاح بحضوره سواء كان رجلا أو امرأة أو صبيا
عاقلا لأنها إحدى الخلوتين فنافاها حضور أحد هؤلاء كالأخرى وقال القاضي هي أن لا يشاهدها
رجل مسلم فإن شاهدها صبي أو امرأة أو رجل كافر لم تخرج بحضورهم عن الخلوة. وذهب بعض
الأصحاب إلى أن الخلوة استعمالها للماء من غير مشاركة الرجل في استعماله لأن أحمد قال إذا خلت به
فلا يعجبني أن يغتسل هو به وإذا شرعا فيه جميعا فلا بأس به لقول عبد الله بن سرجس: اغتسلا
جميعا هو هكذا وأنت هكذا. قال عبد الواحد في إشارته كان الاناء بينهما وإذا خلت به فلا تقربنه
رواه الأثرم. وقد كانت عائشة تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يغترفان منه جميعا متفق
عليه. فيخص بهذا عموم النهي وبقينا فيما عداه على العموم.
(فصل) فإن خلت به في بعض أعضائها أو في تجديد طهارة أو استنجاء أو غسل نجاسة ففيه
وجهان (أحدهما) المنع لأنه طهارة شرعية (والثاني) لا يمنع لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث
الكاملة. وان خلت به ذمية في اغتسالها ففيه وجهان (أحدهما) هو كخلوة المسلمة لأنها أدنى حالا
من المسلمة وأبعد من الطهارة وقد تعلق بغسلها حكم شرعي وهو حل وطئها إذا اغتسلت من الحيض
وأمرها به إذا كان من جنابة (والثاني) لا يؤثر لأن طهارتها لا تصح فهي كتبردها. وان خلت المرأة
بالماء في تبردها أو تنظيفها أو غسل ثوبها من الوسخ لم يؤثر لأنه ليس بطهارة.
(فصل) وإنما تؤثر خلوتها في الماء القليل وما بلغ القلتين لا يؤثر خلوتها فيه لأن حقيقة النجاسة
والحدث لا تؤثر فيه فوهم ذلك أولى.
(فصل) ومنع الرجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبدي غير معقول المعنى نص عليه أحمد
ولذلك يباح لامرأة سواها التطهر به في طهارة الحدث وغسل النجاسة وغيرهما لأن النهي اختص
الرجل ولم يعقل معناه فيجب قصره على محل النهي، وهل يجوز للرجل غسل النجاسة به؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز وهو قول القاضي لأنه مانع لا يرفع حدثه فلم يزل النجس كسائر المائعات.
215

(والثاني) يجوز وهو الصحيح لأنه ماء يطهر المرأة من الحدث والنجاسة ويزيلها من المحال كلها إذا فعلته
فيزيلها إذا فعله الرجل كسائر المياه ولأنه ماء يزيل النجاسة بمباشرة المرأة فيزيلها إذا فعله الرجل كسائر المياه
والحديث لاتعقل علته فيقتصر على ما ورد به لفظه ونحو هذا يحكي عن ابن أبي موسى والله أعلم.
بال الغسل من الجنابة
* (مسألة) * قال أبو القاسم (وإذا أجنب غسل ما به من أذى وتوضأ وضوءه للصلاة
ثم أ فرغ على رأسه ثلاثا يروي أصول الشعر ثم يفيض الماء على سائر جسده).
قال الفراء يقال جنب الرجل وأجنب وتجنب واجتنب من الجنابة. ولغسل الجنابة صفتان صفة
اجزاء وصفة كمال، فالذي ذكره الخرقي ههنا صفة الكمال. قال بعض أصحابنا الكامل يأتي فيه بعشرة
أشياء: النية. والتسمية، وغسل يديه ثلاثا، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثا
يروي بها أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيده،
وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه. ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل افاضته
عليه، قال أحمد الغسل من الجنابة على حديث عائشة وهو ما روي عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثا وتوضأ وضوءه للصلاة ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد
أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده متفق عيه. وقالت ميمونة: وضع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل
مذاكيره. ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه
ثم أفاض الماء على رأسه ثم غسل جسده ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل
216

ينفض الماء بيديه متفق عليه، وفي هذين الحديثين كثير من الخصال المسماة، وأما البداية بشقه
الأيمن فلان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في طهوره، وفي حديث عن عائشة كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشئ نحو الحلاب فأخذ بكفيه بدأ بشق
رأسه الأيمن ثم الأيسر. ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه متفق عليه، وأما غسل الرجلين بعد الغسل
فقد اختلف عن أحمد في موضعه فقال في رواية أحب إلي أن يغسلهما بعد الوضوء لحديث ميمونة
وقال في رواية: العمل على حديث عائشة وفيه أنه توضأ للصلاة قبل اغتساله وقال في موضع: غسل
رجليه في موضعه وبعده وقبله سواء ولعله ذهب إلى أن اختلاف الأحاديث فيه يدل على أن موضع الغسل
ليس بمقصود وإنما المقصود أصل الغسل والله تعالى اعلم.
" مسألة " قال (وان غسل مرة وعم بالماء رأسه وجسده ولم يتوضأ أجزأه بعد أن
يتمضمض ويستنشق وينوي به الغسل والوضوء وكان تاركا للاختيار).
هذا المذكور صفة الاجزاء والأول هو المختار ولذلك قال وكان تاركا للاختيار يعني إذا اقتصر
على هذا أجزأه مع تركه للأفضل والأولى، وقوله وينوي به الغسل والوضوء يعني أنه يجزئه الغسل
عنهما إذا نواهما نص عليه أحمد، وعنه رواية أخرى لا يجزئه الغسل عن الوضوء حتى يأتي به قبل
217

الغسل أو بعده وهو أحد قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ولان الجنابة والحدث وجدا منه
فوجبت لهما الطهارتان كما لو كانا منفردين.
ولنا قول الله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري
سبيل حتى تغتسلوا) جعل الغسل غاية للمنع من الصلاة، فإذا اغتسل يجب أن لا يمنع منها ولأنهما عبادتان
من جنس واحد فتدخل الصغرى في الكبرى كالعمرة في الحج. قال ابن عبد البر المغتسل من الجنابة
إذا لم يتوضأ وعم جميع جسده فقد أدى ما عليه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل من الجنابة
دون الوضوء بقوله (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وهو اجماع لا خلاف فيه بين العلماء إلا أنهم أجمعوا
على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه أعون على الغسل وأهذب فيه. وروى
باسناده عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة، فإن لم ينو الوضوء لم
يجزه إلا عن الغسل، فإن نواهما ثم أحدث في أثناء غسله أتم غسله ويتوضأ، وبهذا قال عطاء وعمرو
ابن دينار والثوري ويشبه مذهب الشافعي، وقال الحسن يستأنف الغسل ولا يصح لأن الحدث لا ينافي
الغسل فلا يؤثر وجوده فيه كغير الحدث.
(فصل) ولا يجب عليه امرار يده على جسده في الغسل والوضوء إذا تيقن أو غلب على ظنه
وصول الماء إلى جميع جسده وهذا قول الحسن والنخعي والشعبي وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي
وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك امرار يده إلى حيث تنال يده واجب ونحوه قال أبو العالية وقال
218

عطاء في الجنب يفيض عليه الماء؟ قال لا بل يغتسل عسلان لأن الله تعالى قال (حتى تغتسلوا) ولا يقال
اغتسل الا لمن دلك نفسه ولان الغسل طهارة عن حدث فوجب امرار اليد فيها كالتيمم.
ولنا ماروت أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله اني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟
فقال " لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " رواه مسلم
ولأنه غسل واجب فلم يجب فيه امرار اليد كغسل النجاسة وما ذكروه في الغسل غير مسلم فإنه يقال
غسل الإناء وإن لم يمر يده ويسمى السيل الكبير غاسولا والتيمم أمرنا فيه بالمسح لأنه طهارة بالتراب
ويتعذر في الغالب امرار التراب الا باليد، فإن قيل فهذا الحديث لم تذكر فيه النية وهي واجبة ولا
المضمضة والاستنشاق وهما واجبان عندكم. قلنا أما النية فإنها سألته عن الجنابة ولا يكون الغسل للجنابة
الا بالنية. وأما المضمضة والاستنشاق فقد دخلا في عمومه لقوله " ثم تفيضين عليك الماء " والفم
والأنف من جملتها.
(فصل) ولا يجب الترتيب ولا الموالاة في أعضاء الوضوء إذا قلنا الغسل يجزئ عنهما لأنهما
عبادتان دخلت إحداهما في الأخرى فسقط حكم الصغرى كالعمرة مع الحج نص على هذا احمد قال
حنبل سألته عن جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق قال يغسل موضع الخاتم قلت فإن جف غسله؟ قال يغسله
ليس هو بمنزلة الوضوء الوضوء محدود. وهذا على الجملة قال الله تعالى (وان كنتم جنبا فاطهروا)
219

قلت فإن صلى ثم ذكر قال يغسل موضعه ثم يعيد الصلاة. وأكثر أهل العلم لا يرون تفريق الغسل
مبطلا له إلا أن ربيعة قال من تعمد ذلك فأرى عليه أن يعيد الغسل وبه قال الليث واختلف فيه
عن مالك، وفيه وجه لأصحاب الشافعي. وما عليه الجمهور أولى لأنه غسل لا يجب فيه الترتيب فلا تجب
الموالاة كغسل النجاسة فلو اغتسل إلا أعضاء وضوئه لم يجب الترتيب فيها لأن حكم الجنابة باق. وقال
ابن عقيل والآمدي فيمن غسل جميع بدنه الا رجليه ثم أحدث يجب الترتيب في الأعضاء الثلاثة
لانفرادها بالحدث الأصغر ولا يجب الترتيب في الرجلين لاجتماع الحدثين فيهما.
(فصل) فعلى هذا يكون واجبات الغسل شيئين لاغير النية وغسل جميع البدن، فأما التسمية
فحكمها حكم التسمية في الوضوء على ما مضى بل حكمها في الجنابة أخف لأن حديث التسمية إنما تناول
بصريحه الوضوء لا غير.
(فصل) إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة أو التقاء الختانين والانزال ونواهما
بطهارته أجزأه عنهما قاله أكثر أهل العلم منهم عطاء وأبو الزناد وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق
وأصحاب الرأي. ويروى عن الحسن والنخعي في الحائض الجنب يغتسل غسلين.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغتسل من الجماع إلا غسلا واحدا وهو يتضمن شيئين إذ هو
لازم للانزال في غالب الأحوال ولأنهما سببان يوجبان الغسل فأجزأ الغسل الواحد عنهما
كالحدث والنجاسة. وهكذا الحكم ان اجتمعت احداث توجب الطهارة الصغرى كالنوم وخروج
220

النجاسة واللمس فنواها بطهارته أو نوى رفع الحدث أو استباحة الصلاة أجزأه عن الجميع وإن نوى
أحدها أو نوت المرأة الحيض دون الجنابة فهل تجزئه عن الآخر؟ على وجهين (أحدهما) تجزئه عن
الآخر لأنه غسل صحيح نوى به الفرض فأجزأه كما لو نوى استباحة الصلاة (والثاني) يجزئه عما نواه
دون ما لم ينوه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما لكل امرئ ما نوى " وكذلك لو اغتسل للجمعة هل
تجزئه عن الجنابة؟ على وجهين مضى توجيههما فيما مضى.
(فصل) إذ بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فروي عن أحمد أنه سئل عن حديث العلاء
ابن زياد أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة لم يصبها الماء فدلكها بشعره قال نعم آخذ به ورواه ابن
ماجة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن علي قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اني
اغتسلت من الجنابة وصليت ثم أضحيت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لو كنت مسحت عليه بيدك أجزاك " رواه ابن ماجة أيضا، قال مهنا وذكر لي أحمد عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى على رجل موضعا لم يصبه الماء فأمره أن يعصر شعره عليه، وروي عن أحمد أنه قال
يأخذ ماء جديدا فيه حديث لا يثبت بعصره شعره وذكر له حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عصر لمته على لمعة
كانت في جسده قال ذاك ولم يصححه والصحيح أن ذلك يجزئه إذا كان من بلل الغسلة الثانية أو الثالثة
وجرى ماؤه على تلك اللمعة لأن غسلها بذلك البلل كغسلها بماء جديد مع ما فيه من الأحاديث والله أعلم
* (مسألة) * قال (ويتوضأ بالمد وهو رطل وثلث ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد)
ليس في حصول الاجزاء بالمد في الوضوء والصاع في الغسل خلاف نعلمه وقد روى سفينة قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد رواه مسلم، وروي أن قوما
221

سألوا جابرا عن الغسل فقال يكفيك صاع فقال رجل ما يكفيني فقال جابر: كان يكفي من هو
أو في شعرا منك وخير منك، يعني النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وفيه أخبار كثيرة صحاح، والصاع خمسة
أرطال وثلث بالعراقي، والمد ربع ذلك وهو رطل وثلث وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق
وأبي عبيد وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة الصاع ثمانية أرطال لأن أنس بن مالك قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وهو رطلان ويغتسل بالصاع.
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة " أطعم ستة مساكين فرقا من طعاما " متفق عليه، قال
أبو عبيد ولا اختلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع والفرق ستة عشر رطلا فثبت أن الصاع
خمسة أرطال وثلث، وروي أن أبا يوسف دخل المدينة فسألهم عن الصاع فقالوا خمسة أرطال وثلث
فطالبهم بالحجة فقالوا غدا فجاء من الغد سبعون شيخا كل واحد منهم آخذ صاعا تحت ردائه فقال
صاعي ورثته عن أبي وورثة أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجع أبو يوسف عن قوله،
وهذا اسناد متواتر يفيد القطع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المكيال مكيال أهل المدينة " ولم يثبت
لنا تغييره، وحديث أنس هذا انفرد به موسى بن نصر وهو ضعيف الحديث قاله الدارقطني.
(فصل) والرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهو تسعون
مثقالا والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم هكذا كان قديما ثم إنهم زادوا فيه مثقالا فجعلوه إحدى وتسعين
222

مثقالا وكمل به مائة وثلاثون درهما وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم والعمل على الأول لأنه الذي
كان موجودا وقت تقدير العلماء المد به فيكون المد حينئذ مائة درهم وإحدى وسبعين درهما وثلاثة أسباع
درهم وذلك بالرطل الدمشقي الذي وزنه ستمائة درهم - ثلاثة أواقي وثلاثة أسباع أوقية، والصاع
أربعة أمداد فيكون رطلا وأوقية وخمسة أسباع أوقية وإن شئت قلت هو رطل وسبع رطل.
" مسألة " قال (فإن أسبغ بدونهما أجزأه)
معنى الاسباغ أن يعم جميع الأعضاء بالماء بحيث يجري عليها لأن هذا هو الغسل وقد أمرنا بالغسل
قال أحمد إنما هو الغسل ليس المسح فإذا أمكنه أن يغسل غسلا وإن كان مدا أو أقل من مد أجزأه
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، وقد قبل لا يجزئ دون الصاع في الغسل والمد في الوضوء
وحكي هذا عن أبي حنيفة لأنه روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزئ من الوضوء مد
ومن الجنابة صاع " والتقدير بهذا يدل على أنه لا يحصل الاجزاء بدونه.
ولنا أن الله تعالى أمر بالغسل وقد أتى به فيجب أن يجزئه، وقد روي عن عائشة أنها كانت
تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك. رواه مسلم
وعن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد، وحديثهم إنما دل بمفهومه وهم
لا يقولون به ثم إنه إنما يدل بشرط أن لا يكون للتخصيص فائدة سوى تخصيص الحكم به، وههنا
إنما خصه لأنه خرج مخرج الغالب لأنه لا يكفي في الغالب أقل من ذلك ثم ما ذكرناه منطوق وهو
مقدم على المفهوم اتفاقا، وقد روى الأثرم عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء
أنه سمع سعيد بن المسيب ورجلا من أهل العراق يسأله عما يكفي الانسان من غسل الجنابة فقال
223

سعيد إن لي تورا يسع مدين من ماء ونحو ذلك فاغتسل به ويكفيني ويفضل منه فضل فقال الرجل
فوالله اني لأستنثر وأتمضمض بمدين من ماء ونحو ذلك، فقال سعيد بن المسيب فبم تأمرني إن كان
الشيطان يلعب بك فقال له الرجل فإن لم يكفني فاني رجل كما ترى عظيم فقال له سعيد بن المسيب
ثلاثة أمداد، فقال ثلاثة أمداد قليل، فقال له سعيد فصاع. وقال سعيد إن لي ركوة أو قدحا ما يسع
إلا نصف المد ماء أو نحوه ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلا. قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث
الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال سليمان وأنا يكفيني مثل ذلك. قال عبد الرحمن
فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال إبراهيم النخعي اني لأتوضأ من كوز الحب مرتين.
(فصل) وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل جاز فإن عائشة قالت: كنت أغتسل
أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قد يقال له الفرق. رواه البخاري والفرق ثلاثة آصع، وعن
أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. رواه البخاري أيضا، ويكره
الاسراف في الماء والزيادة الكثيرة فيه لما روينا من الآثار. وروى عبد الله بن عمرو أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال " ما هذا السرف " فقال أفي الوضوء اسراف؟ فقال " نعم وإن
كنت على نهر جار " رواه ابن ماجة، وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للوضوء
شيطانا يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء " وكان يقال من قلة فقه الرجل ولوعه بالماء.
224

" مسألة " قال " وتنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض وليس عليها نقضه من
الجنابة إذا أروت أصوله).
نص على هذا أحمد قال مهنا سألت أحمد عن المرأة تنقض شعرها إذا اغتسلت من الجنابة؟
فقال: لا. فقلت له في هذا شئ قال نعم حديث لم سلمة قلت فتنقض شعرها من الحيض؟ قال نعم
قلت له وكيف تنقضه من الحيضة ولا تنقضه من الجنابة؟ فقال حديث أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " لا تنقضه " ولا يختلف المذهب في أنه لا يجب نقضه من الجنابة ولا أعلم فيه خلافا بين
العلماء إلا ما روي عن عبد الله بن عمرو: روى أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي
الزبير عن عبيد بن عمير قال بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن
رؤسهن فقالت: يا عجبا لابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن أفلا يأمرهن أن
يحلقن رؤسهن؟ لقد كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نغتسل فلا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث
افراغات (1). واتفق الأئمة الأربعة على أن نقضه غير واجب وذلك لحديث أم سلمة أنها قالت
للنبي صلى الله عليه وسلم اني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال " لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك
ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " رواه مسلم. الا أن يكون في رأسها حشو أو سدر يمنع
وصول الماء إلى ما تحته فيجب إزالته وإن كان خفيفا لا يمنع لم يجب والرجل والمرأة في هذا سواء وإنما
اختصت المرأة بالذكر لأن العادة اختصاصها بكثرة الشعر وتوفيره وتطويله، واما نقضه للغسل من
الحيض فاختلف أصحابنا في وجوبه فمنهم من أوجبه، وهو قول الحسن وطاوس لما روي عن عائشة

(1) رواه مسلم أيضا
225

رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إذا كانت حائضا " خذي ماءك وسدرك وامتشطي "
ولا يكون المشط الا في شعر غير مضفور وللبخاري " انقضي رأسك وامتشطي " ولابن ماجة " انقضي
شعرك واغتسلي " ولان الأصل وجوب نقض الشعر ليتحقق وصول الماء إلى ما يجب غسله فعفي عنه
في غسل الجنابة لأنه يكثر فيشق ذلك فيه والحيض بخلافه فبقي على مقتضى الأصل في الوجوب، وقال
بعض أصحابنا هذا مستحب غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله لأن في
بعض ألفاظ حديث أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم اني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه
للحيضة وللجنابة؟ فقال " لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء
فتطهرين " رواه مسلم وهذه زيادة يجب قبولها وهذا صريح في نفي الوجوب، وروت أسماء أنها
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض فقال " تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر
فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليها الماء "
رواه مسلم ولو كان النقض واجبا لذكره لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأنه موضع من
البدن فاستوى فيه الحيض والجنابة كسائر البدن. وحديث عائشة الذي رواه البخاري ليس فيه أمر
بالغسل ولو أمرت بالغسل لم يكن فيه حجة لأن ذلك ليس هو غسل الحيض إنما أمرت بالغسل في
حال الحيض للاحرام بالحج فإنها قالت أدركني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال " دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي " وان ثبت الامر بالغسل حمل على
الاستحباب بما ذكرنا من الحديث وفيه ما يدل على الاستحباب لأنه أمرها بالمشط وليس بواجب
فما هو من ضرورته أولى.
226

(فصل) وغسل بشرة الرأس واجب سواء كان الشعر كثيفا أو خفيفا وكذلك كل ما تحت الشعر
كجلد اللحية وغيرها لما روت أسماء أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال " تأخذ ماء فتطهر
فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تفيض عليها الماء "
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء
فعل به من النار كذا وكذا " قال علي فمن ثم عاديت شعري قال وكان يجز شعره رواه أبو داود
ولان ما تحت الشعر بشرة أمكن ايصال الماء إليها من غير ضرر فلزمه كسائر بشرته.
(فصل) فأما غسل ما استرسل من الشعر وبل ما على الجسد منه ففيه وجهان (أحدهما) يجب
وهو ظاهر قول الأصحاب ومذهب الشافعي لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تحت
كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة " رواه أبو داود وغيره ولأنه شعر نابت في محل الغسل
فوجب غسله كشعر الحاجبين وأهداب العينين (والثاني) لا يجب ويحتمله كلام الخرقي وهو قول
أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات " مع إخبارها
إياه بشد ضفر رأسها ومثل هذا لا يبل الشعر المشدود ضفره في العادة ولأنه لو وجب بله لوجب
نقضه ليعلم أن الغسل قد أتى عليه ولان الشعر ليس من أجزاء الحيوان بدليل انه لا ينجس بموته ولا
حياة فيه ولا ينقض الوضوء مسه من المرأة ولا تطلق بطلاقه فلم يجب غسله للجنابة كثيابها، وأما
حديث " بلوا الشعر " فيرويه الحارث بن وجيه وحده وهو ضعيف الحديث عن مالك بن دينار، وأما
227

الحاجبان فيجب غسلهما لأن من ضرورة غسل بشرتهما غسلهما وكذا كل شعر من ضرورة غسل
بشرته غسله فيجب غسله ضرورة أن الواجب لا يتم إلا به وإن قلنا يوجب غسله فترك غسل بعضه
لم يتم غسله فإن قطع المتروك تم غسله لأنه لم يبق في بدنه شئ غير مغسول ولو غسله ثم انقطع لم يجب
غسل موضع القطع ولم يقدح ذلك في غسله.
(فصل) وغسل الحيض كغسل الجنابة إلا في نقض الشعر وانه يستحب أن يغتسل بماء وسدر
وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها مجرى الدم والموضع الذي يصل إليه الماء. من فرجها ليقطع عنها زفورة
الدم ورائحته فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب فإن لم تجد فالماء شاف كاف، قالت عائشة رضي الله
عنها إن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض قال " تأخذ إحداكن سدرتها وماءها فتطهر فتحسن
الطهور ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها " فقالت أسماء وكيف أتطهر بها؟ فقال " سبحان الله تطهري بها "
فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك تتبعي أثر الدم رواه مسلم. الفرصة هي القطعة من كل شئ.
(فصل) ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أو يطأ ثانيا أو يأكل أن يغسل فرجه ويتوضأ وروي
ذلك عن علي وعبد الله بن عمرو. وكان عبد الله بن عمر يتوضأ إلا غسل قدميه، وقال ابن المسيب
إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه ويتمضمض وحكي نحوه عن إمامنا وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال
مجاهد يغسل كفيه لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه
228

رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقال مالك يغسل يديه إن كان أصابهما أذى. وقال ابن المسيب
وأصحاب الرأي ينام ولا يمس ماء لما روى الأسود عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو
جنب ولا يمس ماء. رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما. وروى أحمد في المسند حدثنا أبو بكر بن
عياش حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجنب
ثم ينام ولا يمس ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل
واحد رواه البخاري، ولأنه حديث يوجب الغسل فلا يستحب الوضوء مع بقائه كالحيض.
ولنا ما روي أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال " نعم إذا توضأ " متفق
عليه. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ "
رواه مسلم، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ يعني وهو جنب رواه
أبو داود. فأما حديث عائشة ينام وهو جنب ولا يمس ماء فرواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة
ورواه غير واحد عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ قبل أن ينام. رواه شعبة والثوري
ويرون أنه غلط من أبي إسحاق، قال أحمد أبو إسحاق روى عن الأسود حديثا خالف فيه الناس
فلم يقل أحد عن الأسود مثل ما قد قال فلو أحاله على غير الأسود. والحديث الآخر ليس فيه أنه لم
يتوضأ حين أراد أن يعود، على أن هذه الأحاديث محمولة على الجواز وأحاديثنا تدل على الاستحباب
فالحائض حدثها قائم فلا وضوء مع ما ينافيه فلا معنى للوضوء.
229

فصول في الحمام
بناء الحمام وبيعه وشراؤه وكراؤه مكروه عند أبي عبد الله قال في الذي يبني حماما للنساء ليس بعدل
قال أبو داود سألت أحمد عن كرى الحمام قال أخشى كأنه كرهه. وقيل له فإن اشترط على المكتري
أن لا يدخله أحد بغير ازار فقال ويضبط هذا؟ وكأنه لم يعجبه وإنما كرهه لما فيه من فعل المنكرات
من كشف العورات ومشاهدتها ودخول النساء إياها.
(فصل) فأما دخوله فإن كان الداخل رجلا يسلم من النظر إلى العورات ونظر الناس إلى عورته
فلا بأس بدخوله فإنه يروى أن ابن عباس دخل حماما بالجحفة. ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ويروى عن خالد بن الوليد أنه دخل الحمام، وكان الحسن وابن سيرين يدخلان الحمام رواه الخلال
وإن خشي أن لا يسلم من ذلك كره له ذلك لأنه لا يأمن وقوعه في المحظور فإن كشف العورة
ومشاهدتها حرام بدليل ما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال يا رسول الله عوراتنا ما نأتي
منها وما نذر قال " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قال يا رسول الله فإذا كان
أحدنا خاليا قال " وفالله أحق أن يستحيى منه من الناس " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الرجل إلى عورة
الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة " وقال عليه السلام " لا تمشوا عراة " رواهما مسلم. قال أحمد:
إن علمت أن كل من في الحمام عليه ازار فادخله وإلا فلا تدخل، وقال سعيد بن جبير دخول الحمام بغير إزار حرام
(فصل) فأما النساء فليس لهن دخوله مع ما ذكرنا من الستر إلا لعذر من حيض أو نفاس
أو مرض أو حاجة إلى الغسل ولا يمكنها أن تغتسل في بيتها لتعذر ذلك عليها أو خوفها من مرض أو
ضرر فيباح لها ذلك إذا غضت بصرها وسترت عورتها، وأما مع عدم العذر فلا لما روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " ستفتح أرض العجم وستجدون فيها حمامات فامنعوا نساءكم إلا حائضا
230

أو نفساء " وروي أن عائشة دخل عليها نساء من أهل حمص فقالت لعلكن من النساء اللاتي
يدخلن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها
هتكت سترها بينها وبين الله عز وجل ".
(فصل) ومن اغتسل عريانا بين الناس لم يجز له ذلك لأن كشفها للناس محرم لما ذكرنا. وإن كان
خاليا جاز لأن موسى عليه السلام اغتسل عريانا رواه البخاري وأيوب عليه السلام اغتسل عريانا.
وان ستره انسان بثوب فلا بأس فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر بثوب ويغتسل، ويستحب التستر وإن كان
خاليا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فالله أحق أن يستحيى منه من الناس ".
(فصل) ويجزئه الغسل بماء الحمام، قال الخلال ثبت عن أصحاب أبي عبد الله أن ماء الحمام
يجزئ أن يغتسل به ولا يغتسل منه وذلك أن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك، وقال أحمد: لا بأس
بالوضوء من ماء الحمام، وروي عنه أنه قال: لا بأس أن يأخذ من الأنبوبة وهذا على سبيل الاحتياط
ولو لم يفعله جاز لأن الأصل الطهارة، وقد قال أحمد: ماء الحمام عندي طاهر وهو بمنزلة الماء الجاري
وقد روي عن الأثرم أنه قال من الناس من يشدد فيه ومنهم من يقول هو بمنزلة الماء الجاري لأنه
ينزف يخرج الأول فالأول قلت يكون كالجاري وهو يستقر في مكان قبل أن يخرج؟ فقال قد قلت
لك فيه اختلاف وأراه قد ظهر منه أنه يستحب أن يحتاط بماء آخر ولم يبين ذلك وهذا يدل على أن
الماء الجاري لا ينجسه إلا التغير لأنه لو كان يتنجس لم يكن لكونه جاريا أثر. ويدل أيضا على استحباب
الاحتياط مع الحكم بطهارة الماء لأن ماء الحمام طاهر لما ذكرنا من قبل وإنما جعله بمنزلة الماء الجاري
إذا كان الماء يفيض من الحوض ويخرج فإن الذي يأتي أخيرا يدفع ما في الحوض ويثبت في مكانه
231

بدليل أنه لو كان ما في الحوض كدرا وتتابعت عليه دفع من الماء صافيا لزالت كدورته والله أعلم
(فصل) ولا بأس بذكر الله في الحمام فإن ذكر الله حسن في كل مكان ما لم يرد المنع منه،
وقد روي أن أبا هريرة دخل الحمام فقال: لا إله إلا الله، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر الله
على كل أحيائه، فاما قراءة القرآن فقال أحمد: لم يبن لهذا وكره قراءة القرآن فيه أبو وائل والشعبي
والحسن ومكحول وقبيصة بن ذؤيب ولم يكرهه النخعي ومالك لما ذكرنا في ذكر الله فيه.
ووجه الأول أنه محل للتكشف ويفعل فيه مالا يستحسن عمله في غيره فاستحب صيانة القرآن
عنه والأولى جواز القراءة فيه لأننا لا نعلم فيه حجة تمنع من قراءته، فاما التسليم فيه فقال أحمد لا أعلم
انني سمعت فيه شيئا والأولى جوازه لدخوله في عموم قوله عليه السلام " أفشوا السلام بينكم ".
(فصل) قال أحمد لا يعجبني أن يدخل الماء الا مستترا ان للماء سكانا وذلك لما روي عن الحسن
والحسين أنهما دخلا الماء وعليهما بردان فقيل لهما في ذلك فقالا: إن للماء سكانا، ولأن الماء لا يستر
فتبدو عورة من دخله عريانا.
232

باب التيمم
التيمم في اللغة القصد قال الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) وقال امرؤ القيس:
تيممت العين التي عند ضارج * يفئ عليها الظل عرمضها طامي
وقول الله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا) أي اقصدوه ثم نقل في عرف الفقهاء إلى مسح الوجه
واليدين بشئ من الصعيد وهو جائز بالكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (فلم تجدوا
ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) وأما السنة فحديث عمار وغيره، وأما
الاجماع فأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة.
(مسألة) قال (ويتيمم في قصير السفر وطويله)
طويل السفر ما يبيح القصر والفطر، وقصيره ما دون ذلك مما يقع عليه اسم سفر مثل أن يكون
بين قريتين متقاربتين أو متباعدتين. قال القاضي لو خرج إلى ضيعة له ففارق البنيان والمنازل ولو
بخمسين خطوة جاز له التيمم والصلاة على الراحلة وأكل الميتة للضرورة فيباح له التيمم فيهما جميعا وهذا قول
مالك والشافعي وقد قيل لا يباح الا في السفر الطويل وقول الله عز وجل (وان كنتم مرضى أو على
سفر - إلى قوله - فتيمموا) يدل بمطلقه على إباحة التيمم في كل سفر ولان السفر القصير يكثر فيكثر
عدم الماء فيه فيحتاج إلى التيمم فيه فينبغي أن يسقط به الفرض كالطويل.
(فصل) ولا فرق بين سفر الطاعة والمعصية لأن التيمم عزيمة فلا يجوز تركه بخلاف بقية الرخص
ولأنه حكم لا يختص السفر فأبيح في سفر المعصية كمسح يوم وليلة.
233

(فصل) فإن عدم الماء في الحضر بأن القطع الماء عنهم أو حبس في مصر فعليه التيمم والصلاة، وهذا
قول مالك والثوري والأوزاعي والشافعي، وقال أبو حنيفة في رواية عنه: لا يصلي لأن الله تعالى شرط
السفر لجواز التيمم فلا يجوز لغيره، وقد روي عن أحمد أنه سئل عن رجل حبس في دار وأغلق عليه
الباب بمنزل المضيف أيتيمم؟ قال لا، ولنا ما روى أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الصعيد الطيب طهور
المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير " قال الترمذي هذا حديث
حسن صحيح فيدخل تحت عمومه محل النزاع، ولأنه عادم للماء فأشبه المسافر، والآية يحتمل أن يكون
ذكر السفر فيها خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن الماء إنما يعدم فيه كما ذكر السفر وعدم وجود
الكاتب في الرهن وليسا شرطين فيه ولو كان حجة فالمنطوق مقدم عليه. على أن أبا حنيفة لا يرى
دليل الخطاب حجة والآية إنما يحتج بدليل خطابها، فعلى هذا إذا تيمم في الحضر وصلى ثم قدر على
الماء فهل يعيد؟ على روايتين (إحداهما) يعيد وهو مذهب الشافعي لأن هذا عذر نادر فلا يسقط به
القضاء كالحيض في الصوم (والثانية) لا يعيد وهو مذهب مالك لأنه أتى بما أمر فخرج من عهدته،
ولأنه صلى بالتيمم المشروع على الوجه المشروع فأشبه المريض والمسافر مع أن عموم الخبر يدل عليه،
وقال أبو الخطاب ان حبس في المصر صلى ولم يذكر إعادة وذكر الروايتين في غيره، ويحتمل أنه إن كان
عدم الماء لعذر نادر أو يزول قريبا كرجل أغلق عليه الباب مثل الضيف ونحوه أو ما أشبه
234

هذا من الاعذار التي لا تتطاول فعليه الإعادة لأن هذا بمنزلة المتشاغل بطلب الماء وتحصيله. وإن كان
عذرا ممتدا ويوجد كثيرا كالمحبوس أو من أنقطع الماء في قريته واحتاج إلى استقاء الماء من مسافة
بعيدة فله التيمم ولا إعادة عليه، ولان هذا عادم للماء بعذر متطاول معتاد فهو كالمسافر، ولان عدم
هذا الماء أكثر من عدم المسافر له فالنص على التيمم للمسافر تنبيه على التيمم ههنا والله أعلم.
(فصل ومن خرج من المصر إلى أرض من أعماله لحاجة كالحراث والحصاد والخطاب والصياد
وأشباههم ممن لا يمكنه حمل الماء معه لوضوئه فحضرت الصلاة ولا ماء معه ولا يمكنه الرجوع ليتوضأ
الا بتفويت حاجته فله أن يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه لأنه مسافر فأشبه الخارج إلى قرية أخرى
ويحتمل أن يلزمه الإعادة لكونه في أرض من أعمال المصر فأشبه المقيم فيه فإن كانت الأرض التي
يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه وجها واحدا لأنه مسافر.
* (مسألة) * قال (إذا دخل وقت الصلاة وطلب الماء فأعوزه)
هذه ثلاثة شروط لصحة التيمم (أحدها) دخول وقت الصلاة فإن كانت الصلاة مكتوبة مؤداة
لم يجز التيمم قبل دخول وقتها، وان كانت نافلة لم يجز التيمم لها في وقت نهي عن فعلها فيه لأنه ليس
بوقت لها. وان كانت فائتة جاز التيمم لها في كل وقت لأن فعلها جائز في كل وقت وبهذا قال مالك والشافعي،
وقال أبو حنيفة يصح التيمم قبل وقت الصلاة لأنها طهارة تبيح الصلاة فأبيح تقديمها على وقت الصلاة كسائر
الطهارات وروي عن أحمد أنه قال: القياس أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء أو يحدث فعلى هذا يجوز
235

قبل الوقت. والمذهب الأول لأنه طهارة ضرورة فلم يجز قبل الوقت كطهارة المستحاضة، أو نقول
يتيمم للفرض في وقت هو مستغن عنه فأشبه ما لو تيمم عند وجود الماء وقياسهم ينتقض بطهارة المستحاضة
ويفارق التيمم سائر الطهارات لكونها ليست لضرورة. (الشرط الثاني) طلب الماء وهذا الشرط
وإعواز الماء إنما يشترط لمن يتيمم لعذر عدم الماء والمشهور عن أحمد اشتراط طلب الماء لصحة التيمم
وهو مذهب الشافعي، وروي عن أحمد لا يشترط الطلب وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام
" التراب كافيك ما لم تجد الماء " ولأنه غير عالم بوجود الماء قريبا منه فأشبه ما لو طلب فلم يجد.
ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ولا يثبت أنه غير واجد الا بعد الطلب لجواز أن يكون
بقربه ماء لا يعلمه، ولذلك لما أمر في الظهار بتحرير رقبة قال (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) لم
يبح له الصيام حتى يطلب الرقبة ولم يعد قبل ذلك غير واجد ولأنه سبب للصلاة مختص بها فلزمه
الاجتهاد في طلبه عند الاعواز كالقبلة.
(فصل) وصفة الطلب أن يطلب في رحله ثم إن رأى خضرة أو شيئا يدل على الماء قصده فاستبرأه
وإن كان بقربه ربوة أو شئ قائم أتاه وطلب عنده وان لم يكن نظر أمامه ووراءه وعن يمينه ويساره
وان كانت له رفقة يدل عليهم طلب منهم وان وجد من له خبرة بالمكان سأله عن مياهه فإن لم يجد
فهو عادم وان دل على ماء لزمه قصده إن كان قريبا ما لم يخف على نفسه أو ماله أو يخشى فوات
رفقته ولم يفت الوقت وهذا مذهب الشافعي.
236

(فصل) فإن طلب الماء قبل الوقت فعليه إعادة الطلب بعده قاله ابن عقيل لأنه طلب قبل
المخاطبة بالتيمم فلم يسقط فرضه كالشفيع إذا طلب الشفعة قبل البيع وإن طلب بعد الوقت ولم يتيمم
عقيبه جاز التيمم بعد ذلك من غير تجديد طلب.
(الشرط الثالث) اعواز الماء بعد الطلب. ولا خلاف في اشتراطه لأن الله تعالى قال (فلم تجدوا
ماء فتيمموا) وقال عليه السلام " التراب كافيك ما لم تجد الماء " فاشترط أن لا يجد الماء ولان التيمم
طهارة ضرورة ولا يرفع الحدث فلا يجوز إلا عند الضرورة ومع وجود الماء لا ضرورة.
(فصل) وإذا وجد الجنب ما يكفي بعض أعضائه لزمه استعماله ويتيمم للباقي، نص عليه أحمد
فيمن وجد ما يكفيه لوضوئه وهو جنب قال: يتوضأ ويتيمم. وبه قال عبدة بن أبي لبابة ومعمر ونحوه
قال عطاء وهو أحد قولي الشافعي، وقال الحسن والزهري وحماد ومالك وأصحاب الرأي وابن المنذر
والشافعي في القول الثاني يتيمم ويتركه لأن هذا الماء لا يطهره فلم يلزمه استعماله كالمستعمل.
ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وخبر أبي ذر شرط في التيمم عدم الماء وهذا واجد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " رواه البخاري، ولأنه وجد
237

من الماء ما يمكنه استعماله في بعض جسده فلزمه ذلك كما لو كان أكثر بدنه صحيحا وباقيه جريحا ولأنه
قدر على بعض الشرط فلزمه كالسترة وإزالة النجاسة وإذا كان أكثر بدنه صحيحا، ولا يسلم الحكم
في المستعمل وإن سلمنا فلانه لا يطهر شيئا منه بخلاف هذا، إذا ثبت هذا فإنه يستعمل الماء قبل
التيمم ليتحقق الاعواز المشترط.
(فصل) وإن وجد المحدث الحدث الأصغر بعض ما يكفيه فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين
(أحداهما) يلزمه استعماله لما ذكرنا في الجنب ولأنه قدر على بعض الطهارة بالماء فلزمه كالجنب وكما لو
كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا (والثاني) لا يلزمه لأن الموالاة شرط فيها فإذا غسل بعض
الأعضاء دون بعض لم يفد بخلاف الجنابة ولذلك إذا وجد الماء لزمه غسل ما لم يغسله فقط وفي
الحدث يلزمه استئناف الطهارة، وفارق ما إذا كان بعض أعضائه صحيحا وبعضه جريحا لأن العجز
ببعض البدن يخالف العجز ببعض الواجب بدليل أن من بعضه حر إذا ملك رقبة لزمه اعتاقها في كفارته
ولو ملك الحر بعض رقبة لم يلزمه اعتاقه وللشافعي قولان كالوجهين
(فصل) ومن حال بينه وبين الماء سبع أو عدو أو حريق أو لص فهو كالعادم، ولو كان الماء
بمجمع الفساق تخاف المرأة على نفسها منهم فهي عادمة وقد توقف احمد عن هذه المسألة. وقال ابن أبي
موسى تتيمم ولا إعادة عليها في أصح الوجهين، والصحيح أنها تتيمم ولا إعادة عليها وجها واحدا
بل لا يحل لها المضي إلى الماء لما فيه من التعرض للزنا وهتك نفسها وعرضها، وتنكيس رؤوس أهلها
238

وربما أفضى إلى قتلها، وقد أبيح لها التيمم حفظا للقليل من مالها المباح لها بذله وحفظا لنفسها من
مرض أو تباطؤ برء فههنا أولى، ومن كان في موضع عند رحله فخاف ان ذهب إلى الماء ذهب شئ
من رحله أو شردت دابته أو سرقت أو خاف على أهله لصا أو سبعا خوفا شديدا فهو كالعادم، ومن
كان خوفه جبنا لا عن سبب يخاف من مثله لم تجزه الصلاة بالتيمم. نص عليه أحمد في رجل يخاف بالليل
وليس شئ يخاف منه فقال: لابد من أن يتوضأ، ويحتمل أن تباح له بالتيمم ويعيد إذا كان ممن يشتد
خوفه لأنه بمنزلة الخائف لسبب ومن كان خوفه لسبب ظنه فتبين عدم السبب مثل من رأى سوادا
بالليل ظنه عدوا فتبين أنه ليس بعدو أو رأى كلبا فظنه أسدا أو نمرا فتيمم وصلى ثم بان خلافه فهل
يلزمه الإعادة؟ على وجهين (أحدهما) لا يلزمه الإعادة لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته (والثاني) يلزمه
الإعادة لأنه تيمم من غير سبب يبيح التيمم فأشبه من نسي الماء في رحله وتيمم.
(فصل) ومن كان مريضا لا يقدر على الحركة ولا يجد من يناوله الماء فهو كالعادم قاله ابن أبي
موسى وهو قول الحسن لأنه لا سبيل له إلى الماء فأشبه من وجد بئرا ليس له ما يستقي به منها، وإن كان
له من يناوله الماء قبل خروج الوقت فهو كالواجد لأنه بمنزلة من يجد ما يستقي به في الوقت
وان خاف خروج الوقت قبل مجيئه فقال ابن أبي موسى: له التيمم ولا إعادة عليه وهو قول الحسن
لأنه عادم في الوقت فأشبه العادم مطلقا، ويحتمل أن ينتظر مجئ من يناوله لأنه حاضر ينتظر حصول
239

الماء قريبا فأشبه المشتغل باستقاء الماء وتحصيله
(فصل) إذا وجد بئرا وقدر على التوصل إلى مائها بالنزول من غير ضرر أو الاغتراف بدلو
أو ثوب يبله ثم يعصره لزمه ذلك وان خاف فوت الوقت لأن الاشتغال به كالاشتغال بالوضوء حكم من
في السفينة في الماء كحكم واجد البئر، وان لم يمكنه الوصول إلى مائها الا بمشقة أو تغرير بالنفس فهو
كالعادم وهذا قول الثوري والشافعي ومن تبعهم، ومن كان الماء قريبا منه يمكنه تحصيله الا أنه يخاف
فوت الوقت لزمه السعي إليه والاشتغال بتحصيله وان فات الوقت لأنه واجد للماء فلا يباح له التيمم
لقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا).
(فصل) وان بذل له ماء لطهارته لزمه قبوله لأنه قدر على استعماله ولا منة في ذلك في العادة
وان لم يجده الا بثمن لا يقدر عليه فبذل له الثمن لم يلزمه قبوله لأن المنة تلحق به وان وجده يباع
بثمن مثله في موضعه أو زيادة يسيرة يقدر على ذلك مع استغنائه عنه لقوته ومؤنة سفره لزمه شراؤه
وان كانت الزيادة كثيرة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه لأن عليه ضررا وان كانت كثيرة لا تجحف
بماله فقد توقف احمد فيمن بذل له ماء بدينار ومعه مائة فيحتمل إذا وجهين (أحدهما) يلزمه شراؤه
لأنه واجد للماء قادر عليه فيلزمه استعماله بدلالة قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (والثاني) لا يلزمه
شراؤه لأن عليه ضررا في الزيادة الكثيرة فلم يلزمه بذلها كما لو خاف لصا يأخذ من ماله ذلك المقدار
وقال الشافعي لا يلزمه شراؤه بزيادة يسيرة ولا كثيرة لذلك.
ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماءا فتيمموا) وهذا واجد فإن القدرة على ثمن العين كالقدرة على العين
240

في المنع من الانتقال إلى البدل بدليل ما لو بيعت بثمن مثلها، وكالرقبة في كفارة الظهار ولان ضرر
المال دون ضرر النفس، وقد قالوا في المريض يلزمه الغسل ما لم يخف التلف فتحمل الضرر اليسير في
المال أحرى، فإن لم يكن معه ثمنه فبذل له بثمن في الذمة يقدر على آدائه في بلده فقال القاضي يلزمه
شراؤه لأنه قادر على أخذه بما لا مضرة فيه وقال أبو الحسن الآمدي: لا يلزمه شراؤه لأن عليه ضررا
في بقاء الدين في ذمته وربما يتلف ماله قبل آدائه وإن لم يكن في بلده ما يؤدي ثمنه لم يلزمه شراؤه لأن
عليه ضررا وإن لم يبذله له وكان فاضلا عن حاجته لم يجز له مكاثرته عليه (1) لأن الضرورة لا تدعو
إليه لأن هذا له بدل وهو التيمم بخلاف الطعام في المجاعة.
(فصل) إذا كان معه ماء فأراقه قبل الوقت أو مر بماء قبل الوقت فتجاوزه وعدم الماء في
الوقت صلى بالتيمم من غير إعادة، وبه يقول الشافعي وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في
الوقت كقولنا وإلا صلى بالتيمم وعليه الإعادة لأنه مفرط.
ولنا أنه لم يجب عليه استعماله فأشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت، وإن أراق الماء في الوقت
أومر به في الوقت فلم يستعمله ثم عدم الماء يتيمم ويصلي وفي الإعادة وجهان (أحدهما) لا يعيد
لأنه صلى بتيمم صحيح تحققت شرائطه فهو كما لو أراقه قبل الوقت (والثاني) يعيد لأنه وجبت

(1) عبارة الشرح الكبير في المسألة: لم يجز له اخذه منه قهرا
241

عليه الصلاة بوضوء وهو فوت القدرة على نفسه فبقي في عهدة الواجب، وإن وهبه بعد دخول
الوقت لم تصح الهبة والماء باق على ملكه فلو تيمم مع بقاء الماء لم يصح تيممه وان تصرف فيه الموهوب
له فهو كما لو أراقه.
(فصل) إذا نسي الماء في رحله أو موضع يمكنه استعماله وصلى بالتيمم فقد توقف أحمد رحمه الله
في هذه المسألة وقطع في موضع أنه لا يجزئه وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأبو ثور يجزئه، وعن
مالك كالمذهبين لأنه مع النسيان غير قادر على استعمال الماء فهو كالعادم.
ولنا أنها طهارة تجب مع الذكر فلم تسقط بالنسيان كما لو صلى ناسيا لحدثه ثم ذكر أو صلى الماسح
ثم بان له انقضاء مدة المسح قبل صلاته ويفارق ما قاسوا عليه فإنه غير مفرط وههنا هو مفرط بترك الطلب
(فصل) وان ضل عن رحله الذي فيه الماء أو كان يعرف بئرا فضاعت عنه ثم وجدها؟ فقال
ابن عقيل يحتمل أن يكون كالناسي والصحيح أنه لا إعادة عليه وهو قول الشافعي، لأنه ليس بواجد
للماء فيدخل في عموم قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ولأنه غير مفرط بخلاف الناسي، وإن كان
الماء مع عبده فنسيه العبد حتى صلى سيده احتمل أن يكون كالناسي واحتمل أن لا يعيد لأن التفريط من غيره
(فصل) إذا صلى ثم بان أنه كان بقربه بئر أو ماء نظرت (1) فإن كانت خفية بغير علامة وطلب
فلم يجدها فلا إعادة عليه لأنه غير مفرط وان كانت أعلامه ظاهرة فقد فرط فعليه الإعادة.

(1) كذا في الأصل وعبارة الشرح الكبير في المسألة أظهر فلتنظر
242

* (مسألة) * قال (والاختيار تأخير التيمم)
ظاهر كلام الخرقي أن تأخير التيمم أولى بكل حال وهو المنصوص عن أحمد، وروي ذلك عن
علي وعطاء، والحسن وابن سيرين والزهري والثوري وأصحاب الرأي، وقال أبو الخطاب: يستحب
التأخير ان رجي وجود الماء وان يئس من وجوده استحب تقديمه وهو قول مالك، وقال الشافعي
في أحد قوليه: التقديم أفضل إلا أن يكون واثقا بوجود الماء في الوقت - لأنه لا يستحب ترك فضيلة
أول الوقت وهي متحققة لأمر مظنون.
ولنا قول علي رضي الله عنه في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء وإلا تيمم.
ولأنه يستحب التأخير للصلاة إلى بعد العشاء وقضاء الحاجة كيلا يذهب خشوعها وحضور القلب
فيها، ويستحب تأخيرها لادراك الجماعة فتأخيرها لادراك الطهارة المشترطة أولى.
* (مسألة) * قال (فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه وان أصاب الماء في الوقت)
وجملة ذلك أن العادم للماء في السفر إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء، ان وجده بعد خروج الوقت
فلا إعادة عليه اجماعا، قال أبو بكر بن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تيمم وصلى ثم وجد الماء
243

بعد خروج وقت الصلاة أن لا إعادة عليه، وإن وجده في الوقت لم يلزمه أيضا إعادة سواء يئس من
وجود الماء في الوقت أو غلب على ظنه وجوده فيه، وبهذا قال أبو سلمة والشعبي والنخعي والثوري
ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، قال عطاء وطاوس والقاسم بن محمد ومكحول
وابن سيرين والزهري وربيعة يعيد الصلاة.
ولنا ما روى أبو داود عن أبي سعيد أن رجلين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء
فتيمما صعيدا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال للذي لم يعد " أصبت السنة وأجزأتك صلاتك " وقال للذي
أعاد " لك الاجر مرتين " واحتج أحمد بأن ابن عمر تيمم وهو يرى بيوت المدينة وصلى العصر ثم
دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد، ولأنه أدى فرضه كما أمر فلم يلزمه الإعادة كما لو وجده بعد
الوقت، ولان عدم الماء عذر معتاد فإذا تيمم معه يجب أن يسقط فرض الصلاة كالمرض ولأنه أسقط
فرض الصلاة فلم يعد إلى ذمته كما لو وجده بعد الوقت.
244

" مسألة " قال (والتيمم ضربة واحدة)
المسنون عند أحمد التيمم بضربة واحدة فإن تيمم بضربتين جاز، وقال القاضي الاجزاء يحصل
بضربة والكمال ضربتان والمنصوص ما ذكرناه، قال الأثرم. قلت لأبي عبد الله التيمم ضربة واحدة؟
فقال: نعم ضربة للوجه والكفين ومن قال ضربتين فإنما هو شئ زاده. قال الترمذي وهو قول غير
واحد من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم منهم علي وعمار وابن عباس وعطاء والشعبي
ومكحول والأوزاعي ومالك وإسحاق، قال الشافعي: لا يجزئ التيمم الا بضربتين للوجه واليدين
إلى المرفقين، وروي ذلك عن ابن عمر وابنه سالم والحسن والثوري وأصحاب الرأي لما روى ابن
الصمة أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه، وروى ابن عمر وجابر وأبو أمامة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " ولأنه بدل
يؤتى به في محل مبدله وكان حده عنهما واحدا كالوجه.
ولنا ما روى عمار قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت
في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " إنما يكفيك
أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر
كفيه ووجهه متفق عليه، ولأنه حكم علق على مطلق اليدين فلم يدخل فيه الذراع كقطع السارق
ومس الفرج، وقد احتج ابن عباس بهذا فقال: ان الله تعالى قال في التيمم (فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم) وقال (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وكانت السنة في القطع من الكفين، إنما هو الوجه
والكفان يعني التيمم، وأما أحاديثهم فضعيفة قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعيفة جدا ولم يرو
245

منها أصحاب السنن إلا حديث ابن عمر، وقال أحمد: ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
هو عن ابن عمر وهو عندهم حديث منكر، وقال الخطابي: يرويه محمد بن ثابت وهو ضعيف، وقال
ابن عبد البر لم يروه غير محمد بن ثابت وبه يعرف ومن أجله ضعف عندهم وهو حديث منكر.
وحديث ابن الصمة صحيح لكن إنما جاء في المتفق عليه فمسح وجهه ويديه فيكون حجة لنا لأن ما
علق على مطلق اليدين لا يتناول الذراعين. ثم أحاديثهم لا تعارض حديثنا فإنها تدل على جواز التيمم
بضربتين ولا ينفي ذلك جواز التيمم بضربة كما أن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثلاثا لا ينفي
الاجزاء مرة واحدة، وإن قيل فقد روي في حديث عمار إلى المرفقين ويحتمل أنه أراد بالكفين
اليدين إلى المرفقين (قلنا) أما حديثه إلى المرفقين فلا يعول عليه إنما رواه سلمة وشك فيه، فقال له
منصور ما تقول فيه فإنه لا يذكر الذراعين أحد غيرك؟ فشك وقال: لا أدي أذكر الذراعين أم لا
قال ذلك النسائي. فلا يثبت مع الشك وقد أنكر عليه وخالف به سائر الرواة الثقاة فكيف يلتفت
إلى مثل هذا وهو لو انفرد لم يعول عليه ولم يحتج به، وأما التأويل فباطل لوجوه (أحدها) ان عمارا
الراوي له الحاكي لفعل النبي صلى الله عليه وسلم أفتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم للوجه
والكفين عملا بالحديث وقد شاهد فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل لا احتمال فيه (والثاني) أنه
قال ضربة واحدة وهم يقولون ضربتان (الثالث) أننا لا نعرف في اللغة التعبير بالكفين عن الذراعين
(والرابع) أن الجمع بين الخبرين بما ذكرناه من أن كل واحد من الفعلين جائز أقرب من تأويلهم.
246

وأسهل وقياسهم ينتقض بالتيمم عن الغسل الواجب فإنه ينقص عن المبدل. وكذلك في الوضوء فإنه
في أربعة أعضاء والتيمم في عضوين وكذا نقول في الوجه فإنه لا يجب مسح ما تحت الشعور الخفيفة
ولا المضمضة والاستنشاق.
(فصل) ولا يختلف المذهب أنه يجزئ التيمم بضربة واحدة وبضربتين وان تيمم بأكثر
من ضربتين جاز أيضا لأن المقصود إيصال التراب إلى محل الفرض فكيفما حصل جاز كالوضوء
(فصل) فإن وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب نحو أن ينسف الريح عليه غبارا يعمه
فإن كان عمد ذلك وأحضر النية احتمل أن يجزئه كما لو صمد للمطر حتى جرى على أعضائه، والصحيح
أنه لا يجزئه لأنه لم يمسح به وقد أمر الله تعالى بالمسح به، فإن مسح وجهه بما على وجهه احتمل أن
يجزئه لأنه مسح بالتراب واحتمل أن لا يجزئه لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به ولم يأخذ
الصعيد. وان لم يكن قصد الريح ولا صمد لها فأخذ غير ما على وجهه فمسح وجهه به جاز وان أمر ما
على وجهه منه على وجهه لم يجزه لأنه لم يأخذ التراب لوجهه.
(فصل) إذا علا على يديه تراب كثير لم يكره نفخه فإن في حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم
ضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما، قال احمد: لا يضره فعل أو لم يفعل وإن كان خفيفا
فقال أصحابنا يكره نفخه رواية واحدة فإن ذهب ما عليها بالنفخ لم يجزه حتى يعيد الضرب لأنه
مأمور بالمسح بشئ من الصعيد.
247

" مسألة " قال (يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب)
وجملة ذلك أنه لا يجوز التيمم الا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد لأن الله تعالى قال (فتيمموا
صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) قال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث وقيل في قوله
تعالى (فتصبح صعيدا زلقا) تابا أملس والطيب الطاهر، وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو يوسف
وداود، وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز بكل حال ما كان من جنس الأرض كالنورة والزرنيخ
والحجارة، وقال الأوزاعي: الرمل من الصعيد، وقال حماد بن أبي سليمان: لا بأس أن يتيمم بالرخام
لما روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " وعن أبي هريرة
أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نكون بالرمل فتصيبنا الجنابة والحيض والنفاس
ولا نجد الماء أربعة أشهر أو خمسة أشهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بالأرض " وانه من جنس
الأرض فجاز التيمم به كالتراب.
ولنا الآية فإن الله سبحانه أمر بالتيمم بالصعيد وهو التراب، فقال (فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم منه) ولا يحصل المسح بشئ منه إلا أن يكون ذا غبار يعلق باليد، وروي عن علي رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله جعل لي التراب
248

طهورا " وذكر الحديث رواه الشافعي في مسنده ولو كان غير التراب طهورا ذكره فيما من الله تعالى به
عليه، وقد روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا " فخص ترابها
بكونه طهورا (1) ولأن الطهارة اختصت بأعم المائعات وجودا وهو الماء فتختص بأعم الجامدات وجودا
وهو التراب، وخبر أبي ذر نخصه بحديثنا وخبر أبي هريرة يرويه المثنى بن الصباح وهو ضعيف.
(فصل) وعن أحمد رواية أخرى في السبخة والرمل أنه يجوز التيمم به. قال أبو الحرث:
قال أحمد: أرض الحرث أحب إلي وإن تيمم من أرض السبخة أجزأه، قال القاضي: الموضع الذي
أجاز التيمم بها إذا كان لها غبار والموضع الذي منع إذا لم يكن لها غبار. قال: ويمكن ان يقال في
الرمل مثل ذلك وعنه أنه يجوز ذلك مع الاضطرار خاصة قال وفي رواية سندي: أرض الحرث أجود
من السبخ ومن موضع النورة والحصى إلا أن يضطر إلى ذلك فإن اضطر أجزأه، قال الخلال: إنما
سهل احمد فيها إذا اضطر إليها إذا كانت غبرة كالتراب فأما إذا كانت قلحة كالملح فلا يتيمم بها أصلا.
وقال ابن أبي موسي يتيمم عند عدم التراب بكل طاهر تصاعد على وجه الأرض مثل الرمل والسبخة
والنورة والكحل وما في معنى ذلك ويصلي وهل يعيد على روايتين.
(فصل) فإن دق الخرف أو الطين المحرق لم يجز التيمم به لأن الطبخ أخرجه عن أن يقع عليه

(1) فيه ان ذكر بعض أفراد العام غير مخصص وانه عمل بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة عند الأصوليين ولم يقل به الا الدقاق
249

اسم التراب. وكذا ان نحت المرمر والكذان حتى صار غبارا لم يجز التيمم به لأنه غير تراب،
وإن دق الطين الصلب كالأرمني جاز التيمم به لأنه تراب.
(فصل) فإن ضرب بيده على لبد أو ثوب أو جوالق أو برذعة أو في شعير فعلق بيديه غبار
فتيمم به جاز نص أحمد على ذلك كله. وكلام احمد يدل على اعتبار التراب حيث كان. فعلى هذا
لو ضرب بيده على صخرة أو حائط أو حيوان أو أي شئ كان فصار على يديه غبار جاز له التيمم به
وإن لم يكن فيه غبار فلا يجوز. وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يديه على الحائط ومسح
بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه رواه أبو داود، وروى الأثرم عن عمر رضي الله
عنه أنه قال: لا يتيمم بالثلج. فمن لم يجد فضفة سرجه أو معرفة دابته، وأجاز مالك وأبو حنيفة
التيمم بصخرة لا غبار عليها وتراب ندي لا يعلق باليد منه غبار، وأجاز مالك التيمم بالثلج والجبس
وكل ما تصاعد على وجه الأرض ولا يجوز عنده التيمم بغبار اللبد والثوب لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لما ضرب بيده نفخهما.
ولنا قول الله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ومن للتبعيض فيحتاج أن يمسح يجزء
منه والنفخ لا يزيل الغبار الملاصق وذلك يكفي.
250

(فصل) إذا خالط التراب مالا يجوز التيمم به كالنورة والزرنيخ والجص، فقال القاضي حكمه
حكم الماء إذا خالطته الطاهرات ان كانت الغلبة للتراب جاز وان كانت الغلبة للمخالط لم يجز، وقال
ابن عقيل يمنع وإن كان قليلا وهو مذهب الشافعي لأنه ربما حصل في العضو فمنع وصول التراب إليه
وهذا فيما يعلق باليد فاما ما لا يعلق باليد فلا يمنع فإن أحمد قد نص على أنه يجوز التيمم من الشعير
وذلك لأنه لا يحصل على اليد منه ما يحول بين الغبار وبينها.
(فصل) إذا كان في طين لا يجد ترابا فحكي عن ابن عباس أنه قال يأخذ الطين فيطلي به جسده
فإذا جف تيمم به وان خاف فوات الوقت قبل جفافه فهو كالعادم ويحتمل أنه إن كان يجف قريبا
انتظر جفافه وان فات الوقت لأنه كطالب الماء القريب والمشتغل بتحصيله من بئر ونحوه. وان لطخ
وجهه بطين لم يجزه لأنه لم يقع عليه اسم الصعيد ولأنه لا غبار فيه أشبه التراب الندي.
(فصل) وان عدم بكل حال صلى على حسب حاله وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري
والأوزاعي لا يصلي حتى يقدر ثم يقضي لأنها عبادة لا تسقط القضاء فلم تكن واجبة كصيام الحائض
وقال مالك: لا يصلى ولا يقضي لأنه عجز عن الطهارة فلم تجب عليه الصلاة كالحائض، وقال ابن
عبد البر هذه رواية منكرة عن مالك. وذكر عن أصحابه قولين (أحدهما) كقول أبي حنيفة (والثاني)
يصلي حسب حاله ويعيد
ولنا ما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أناسا لطلب قلادة أضلتها عائشة
فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم
251

ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا أمرهم بالإعادة فدل على أنها غير واجبة ولأن الطهارة شرط
فم تؤخر الصلاة عند عدمها كالسترة واستقبال القبلة. وإذا ثبت هذا فإذا صلى على حسب حاله ثم
وجد الماء أو التراب لم يلزمه إعادة الصلاة في إحدى الروايتين، والأخرى عليه الإعادة وهو مذهب
الشافعي لأنه فقد شرط الصلاة أشبه ما لو صلى بالنجاسة والصحيح الأول لما ذكرنا من الخبر ولأنه أتى
بما أمر فخرج عن عهدته ولأنه شرط من شرائط الصلاة فيسقط عند العجز عنه كسائر شروطها وأركانها
ولأنه أدى فرضه على حسبه فلم يلزمه الإعادة كالعاجز عن السترة إذا صلى عريانا والعاجز عن الاستقبال
إذا صلى إلى غيرها والعاجز عن القيام إذ صلى جالسا. وقياس أبي حنيفة على الحائض في تأخير الصيام
لا يصح لأن الصوم يدخله التأخير بخلاف الصلاة بدليل أن المسافر يؤخر الصوم دون الصلاة ولان
عدم الماء لو قام مقام الحيض لا سقط الصلاة بالكلية لأن قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها
على الصيام، وأما قياس مالك فلا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه
ما استطعتم " وقياس الطهارة على سائر شرائط الصلاة أولى من قياسها على الحائض فإن الحيض أمر
معتاد يتكرر عادة والعجز ههنا عذر نادر غير معتاد فلا يصح قياسه على الحيض ولان هذا عذر نادر
فلم يسقط الفرض كنسيان الصلاة وفقد سائر الشروط والله تعالى أعلم.
" مسألة " قال (وينوي به المكتوبة)
252

لا نعلم خلافا في أن التيمم لا يصح إلا بنية غير ما حكي عن الأوزاعي والحسن بن صالح أنه يصح
بغير نية وسائر أهل العلم على إيجاب النية فيه وممن قال ذلك ربيعة ومالك والليث والشافعي وأبو عبيد
وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وذلك لما ذكرنا في الوضوء، وينوي استباحة الصلاة فإن نوى
رفع الحدث لم يصح لأنه لا يرفع الحدث. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن طهارة التيمم
لا ترفع الحدث إذا وجد الماء، بل متى وجده أعاد الطهارة جنبا كان أو محدثا وهذا مذهب مالك
والشافعي وغيرهما، وحكي عن أبي حنيفة أنه يرفع الحدث لأنه طهارة عن حدث يبيح الصلاة فيرفع
الحدث كطهارة الماء.
253

ولنا أنه لو وجد الماء لزمه استعماله لرفع الحدث الذي كان قبل التيمم إن كان جنبا أو محدثا أو
امرأة حائضا ولو رفع الحدث لاستوى الجميع لاستوائهم في الوجدان ولأنها طهارة ضرورة فلم ترفع
الحدث كطهارة المستحاضة وبهذا فارق الماء. إذا ثبت هذا فإنه ان نوى بتيممه فريضة فله أن يصلي
ما شاء من الفرض والنفل سواء نوى فريضة معينة أو مطلقة. فإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة لم يجز
أن يصلي به إلا نافلة وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: له أن يصلي ما شاء لأنها طهارة يصح بها
النفل فصح بها الفرض كطهارة الماء.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " وهذا لم ينو
254

الفرض فلا يكون له وفارق طهارة الماء لأنها ترفع الحدث المانع من فعل الصلاة فيباح له جميع
ما يمنعه الحدث. ولا يلزم استباحة النفل بنية الفرض لأن الفرض أعلى ما في الباب فنيته تضمنت نية
ما دونه. وإذا استباحه استباح ما دونه تبعا.
(فصل) إذا نوى الفرض استباح كل ما يباح بالتيمم من النفل قبل الفرض وبعده وقراءة القرآن
ومس المصحف واللبث في المسجد، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يتطوع قبل
الفريضة بصلاة غير راتبة وحكي نحوه عن أحمد لأن النفل تبع للفرض فلا يتقدم المتبوع.
ولنا أنه تطوع فأبيح له فعله إذا نوى الفرض كالسنن الراتبة وكما بعد الفرض، وقوله انه تبع
قلنا إنما هو تبع في الاستباحة لا في الفعل كالسنن الراتبة وقراءة القرآن وغيرهما. وان نوى نافلة
أبيحت له وأبيح له قراءة القرآن ومس المصحف والطواف لأن النافلة آكد من ذلك كله لأن
الطهارتين مشترطتان لها بالاجماع وفي اشتراطهما لما سواها خلاف فيدخل الأدنى في الأعلى كدخول
255

النافلة في الفريضة، ولان النفل يشتمل على قراءة القرآن فنية النفل تشمله وان نوى شيئا من ذلك
لم يبح له التنفل بالصلاة لأنه أدنى فلا يستبيح الاعلى بنيته كالفرض مع النفل وان تيمم للطواف أبيح
له قراءة القرآن واللبث في المسجد لأنه أعلا منهما فإنه صلاة. ويشترط له الطهارتان وله نفل وفرض
ويدخل في ضمنه اللبث في المسجد لأنه لا يكون الا في المسجد. وان نوى أحدهما لم يستبح
الطواف لأنه أعلى منهما. وان نوى فرض الطواف استباح نفله وان نوى نفله لم يستبح فرضه
كالصلاة. وان نوى بتيممه قراءة القرآن لكونه جنبا أو اللبث في المسجد أو مس المصحف لم يستبح
غير ما نواه لقوله عليه السلام " وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأنه لم ينو ذلك ولا ما هو أعلى منه فلم
يستبحه كما لا يستبيح الفرض إذا لم ينوه.
(فصل) وان تيمم الصبي لاحدى الصلوات الخمس ثم بلغ لم يستبح بتيممه فرضا لأن ما نواه
كان نفلا ويباح أن يتنفل به كما لو نوى به البالغ النفل. فأما ان توضأ قبل البلوغ ثم بلغ فله أن يصلي
فرضا ونفلا لأن الوضوء للنفل يبيح فعل الفرض.
256

" مسألة " (فيمسح بهما وجهه وكفيه)
لا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين، لقول الله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)
ويجب مسح جميعهما واستيعاب ما يأتي عليه الماء منهما لا يسقط منها إلا المضمضة والاستنشاق وما
تحت الشعور الخفيفة، وبهذا قال الشافعي. وقال سليمان بن داود: يجزئه إن لم يصب إلا بعض
وجهه وبعض كفيه.
ولنا قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) والباء زائدة فصار كأنه قال: فامسحوا
وجوهكم وأيديكم منه. فيجب تعميمهما كما يجب تعميمهما بالغسل لقوله (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق) فيضرب ضربة واحدة فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه وظاهر كفيه إلى الكوعين
بباطن راحتيه، ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين الأصابع وليس بفرض
لأن فرض الراحتين قد سقط بامرار كل واحدة على ظهر الكف، قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة
257

واحدة قد أسقط ترتيبا مستحقا في الوضوء وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه وكيفما مسح
بعد استيعاب محل الفرض أجزأه سواء كان بضربة أو ضربتين أو ثلاث أو أكثر.
(فصل) وان تيمم بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين فإنه يمسح بالأولى وجهه ويمسح بالثانية
يديه فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف فإذا بلغ
الكوع قبض أطراف أصابعه على حرف الذراع ويمرها إلى مرفقه ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع
ويمرها عليه ويرفع إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر الابهام على ظهر ابهام يده اليمنى، ويمسح بيده اليمنى يده
اليسرى كذلك ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين أصابعهما، ولو مسح إلى المرفقين بضربة
واحدة أو ثلاثا أو أكثر جاز لأنه مسح محل التيمم بالغبار فجاز كما لو مسحه بضربتين.
(فصل) فإن بقي من محل الفرض شئ لم يصله التراب أمر يده عليها ما لم يفصل راحته فإن
فصل راحته وكان قد بقي عليها غبار جاز أن يمسح بها وإن لم يبق عليها غبار احتاج إلى ضربة أخرى
وإن كان المتروك من الوجه مسحه وأعاد مسح يديه ليحصل الترتيب، وان تطاول الفصل بينهما
وقلنا بوجوب الموالاة استأنف التيمم لتحصل الموالاة ويرجع في طول الفصل وقصره إلى القدر
الذي ذكرناه في الطهارة لأن التيمم فرع عليها والحكم في التسمية كالحكم في التسمية في الوضوء على
ما مضى من الخلاف فيه لأنه بدل منه.
(فصل) ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق أومأ أحمد إلى هذا لما سئل
258

عن التيمم فأومأ إلى كفيه ولم يجاوزه وقال: قال الله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)
من أين تقطع يد السارق؟ أليس من ههنا وأشار إلى الرسغ. وقد روينا عن ابن عباس نحو هذا،
فعلى هذا إن كان أقطع من فوق الرسغ سقط مسح اليدين، وإن كان من دونه مسح ما بقي. وإن كان
من المفصل، فقال ابن عقيل: يمسح موضع القطع قال: ونص عليه أحمد لأن الرسغين في التيمم
كالمرفقين في الوضوء فكما أنه إذا قطع من المرفقين في الوضوء غسل ما بقي، كذا ههنا يمسح العظم
الباقي، وقال القاضي: يسقط الفرض لأن محله الكف الذي يؤخذ في السرقة وقد ذهب لكن يستحب
امرار التراب عليه ومسح العظم الباقي مع بقاء الكف إنما كان ضرورة استيعاب الواجب لأن الواجب
لا يتم الا به فإذا زال الأصل المأمور به سقط ما وجب لضرورته كمن سقط عنه غسل الوجه لا يجب
عليه غسل جزء من الرأس ومن سقط عنه الصيام لا يجب عليه امساك جزء من الليل.
(فصل) فإن أوصل التراب إلى محل الفرض بخرقة أو خشبة فقال القاضي: يجزئه لأن الله تعالى
أمر بالمسح ولم يعين آلته فلا يتعين، وقال ابن عقيل: فيه وجهان بناء على مسح الرأس بخرقة رطبة
وإن مسح محل الفرض بيد واحدة أو ببعض يده أجزأه إذ كانت يده أقرب إليه من غيرها، وان
يممه غيره جاز كما لو وضأه غيره وتعتبر النية في المتيمم دون الميمم لأنه الذي يتعلق الاجزاء والمنع به
259

* (مسألة) * قال (وإن كان ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزه)
لا نعلم في هذا خلافا وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي الا أن الأوزاعي قال: ان تيمم
بتراب المقبرة وصلى مضت صلاته.
ولنا قول الله تعالى (فتيمموا صعيدا طيبا) والنجس ليس بطيب، ولان التيمم طهارة فلم يجز
بغير طاهر كالوضوء فاما المقبرة فإن كانت لم تنبش فترابها طاهر وإن كان نبشها والدفن فيها تكرر لا يجوز
التيمم بترابها لاختلاطه بصديد الموتى ولحومهم، وان شك في تكرر الدفن فيها أوفي نجاسة التراب الذي
تيمم به جاز التيمم به لأن الأصل الطهارة فلا يزول بالشك كما لو شك في طهارة الماء.
(فصل) ويجوز أن يتيمم جماعة من موضع واحد بغير خلاف كما يجوز أن يتوضأ جماعة من حوض
واحد وأما ما تناثر من الوجه واليدين بعد مسحهما به ففيه وجهان (أحدهما) يجوز التيمم به لأنه لم
يرفع الحدث وهذا قول أبي حنيفة (والثاني) لا يجوز لأنه مستعمل في طهارة أباحت الصلاة أشبه الماء
المستعمل في الطهارة. وللشافعي وجهان كهذين.
260

* (مسألة) *
قال (وإذا كان به قرح أو مرض مخوف وأجنب فخشي على نفسه ان اصابه
الماء - غسل الصحيح من جسده وتيمم لما لم يصبه الماء).
هذه المسألة دالة على أحكام منها إباحة التيمم للجنب وهو قول جمهور العلماء منهم علي وابن
عباس وعمرو بن العاص وأبو موسى وعمار وبه قال الثوري ومالك والشافعي وأبو ثور وإسحاق
وابن المنذر وأصحاب الرأي، وكان ابن مسعود لا يرى التيمم للجنب. ونحوه عن عمر رضي الله عنهما
وروى البخاري عن شقيق بن سلمة أن أبا موسى ناظر ابن مسعود في ذلك واحتج عليه بحديث
عمار وبالآية التي في المائدة قال فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنا لو رخصنا لهم في هذا لا وشك
إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم، قال الترمذي: ويروى عن ابن مسعود أنه رجع عن
قوله، ومما يدل على إباحة التيمم للجنب ما روى عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال " يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟ " فقال أصابتني جنابة
ولا ماء. قال " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " متفق عليه، وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص،
وحديث جابر في الذي أصابته الشجة ولأنه حدث فيجوز له التيمم كالحدث الأصغر، ومنها أن
الجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء فله التيمم هذا قول أكثر أهل العلم منهم
ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس والنخعي وقتادة ومالك والشافعي، ولم يرخص له عطاء في
261

التيمم إلا عند عدم الماء لظاهر الآية ونحوه عن الحسن في المجدور الجنب قال: لابد من الغسل، ولنا
قول الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) وحديث عمرو بن العاص حين تيمم من خوف البرد، وحديث
ابن عباس وجابر في الذي أصابته الشجة، ولأنه يباح له التيمم إذا خاف العطش أو خاف من سبغ
فكذلك ههنا فإن الخوف لا يختلف وإنما اختلفت جهاته.
(فصل) واختلف في الخوف المبيح للتيمم فروي عن أحمد لا يبيحه الا خوف التلف وهذا
أحد قولي الشافعي، وظاهر المذهب أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء أو خاف
شيئا فاحشا أو ألما غير محتمل وهذا مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي وهو الصحيح لعموم
قوله تعالى (وان كنتم مرضى أو على سفر) ولأنه يجوز له التيمم إذا خاف ذهاب شئ من ماله أو
ضررا في نفسه من لص أو سبع أو لم يجد الماء الا بزيادة على ثمن مثله كثيرة فلان يجوز ههنا أولى
ولان ترك القيام في الصلاة وتأخير الصيام لا ينحصر في خوف التلف وكذلك ترك الاستقبال فكذا
ههنا، فأما المريض أو الجريح الذي لا يخاف الضرر باستعمال الماء مثل من به الصداع والحمى الحارة أو
أمكنه استعمال الماء الحار ولا ضرر عليه فيه لزمه ذلك لأن إباحة التيمم لنفي الضرر ولا ضرر عليه ههنا،
وحكي عن مالك وداود إباحة التيمم للمريض مطلقا لظاهر الآية.
ولنا أنه واجد للماء لا يستضر باستعماله فلم يجزله التيمم كالصحيح والآية اشترط فيها عدم الماء
فلم يتناول محل النزاع على أنه لابد فيها من اضمار الضرورة والضرورة إنما تكون عند الضرر، ومنها
أن الجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض جسده دون بعض لزمه غسل ما أمكنه وتيمم للباقي وبهذا
قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن كان أكثر بدنه صحيحا غسله ولا تيمم عليه وإن كان
أكثره جريحا تيمم ولا غسل عليه لأن الجمع بين البدل والمبدل لا يجب كالصيام والاطعام.
ولنا ما روى جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا شجة في وجهه ثم احتلم فسأل أصحابه
هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا
262

على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال.
إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ثم يغسل سائر جسده " رواه أبو داود.
وعن ابن عباس مثله. ولان كل جزء من الجسد يجب تطهيره بشئ إذا استوى الجسم كله في المرض
أو الصحة فيجب ذلك فيه وإن خالفه غيره كما لو كان من جملة الأكثر فإن حكمه لا يسقط بمعنى في غيره
وما ذكروه ينتقض بالمسح على الخفين مع غسل بقية أعضاء الوضوء. ويفارق ما قاسوا عليه فإنه جمع بين
البدل والمبدل في محل واحد بخلاف هذا فإن التيمم بدل عما لم يصبه الماء دون ما أصابه.
(فصل) ما لا يمكن غسله من الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح حكمه حكم الجريح فإن لم يمكنه
ضبطه وقدر أن يستنيب من يضبطه لزمه ذلك فإن عجز عن ذلك تيمم وصلى وأجزأه لأنه عجز عن
غسله فأجزأه التيمم عنه كالجريح.
(فصل) إذا كان الجريح جنبا فهو مخير إن شاء قدم التيمم على الغسل وإن شاء أخره بخلاف
ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لجميع أعضائه فإنه يلزمه استعمال الماء أولا لأن التيمم للعدم ولا
يتحقق مع وجود. وههنا التيمم للعجز عن استعماله في الجرح وهو متحقق على كل حال، ولان
الجريح يعلم أن التيمم بدل عن غسل الجرح والعادم لما يكفي جميع أعضائه لا يعلم القدر الذي يتيمم
له الا بعد استعمال الماء وفراغه فلزمه تقديم استعماله، وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر فذكر القاضي
أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلا عنه، فإنه كان الجرح في وجهه
بحيث لا يمكنه غسل شئ منه لزمه التيمم أولا ثم يتمم الوضوء وإن كان في بعض وجهه خير بين
263

غسل صحيح وجهه ثم تيمم وبين أن يتيمم ثم يغسل صحيح وجهه ويتمم وضوءه، وإن كان الجرح
في عضو آخر لزمه غسل ما قبله، ثم كان فيه على ما ذكرنا في الوجه، فإن كان في وجهه ويديه ورجليه
احتاج في كل عضو إلى تيمم في محل غسله ليحصل الترتيب، ولو غسل صحيح وجهه ثم تيمم له
وليديه تيمما واحدا لم يجزه لأنه يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حالة واحدة
فإن قيل يبطل هذا بالتيمم عن جملة الطهارة حيث يسقط الفرض عن جميع الأعضاء جملة واحدة قلنا
إذا كان عن جملة الطهارة فالحكم له دونها وإن كان عن بعضها ناب عن ذلك البعض فاعتبر فيه
ما يعتبر فيما ينوب عنه من الترتيب، ويحتمل أن لا يجب هذا الترتيب لأن التيمم طهارة مفردة فلا يجب
الترتيب بينها وبين الطهارة الأخرى كما لو كان الجريح جنبا، ولأنه تيمم عن الحدث الأصغر فلم يجب
أن يتيمم عن كل عضو في موضع غسله كما لو تيمم عن جملة الوضوء، ولان في هذا حرجا وضررا
فيندفع بقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وحكى الماوردي عن مذهب الشافعي مثل
هذا وحكى ابن الصباغ عنه مثل القول الأول.
(فصل) وإن تيمم الجريح لجرح في بعض أعضائه ثم خرج الوقت بطل تيممه ولم تبطل طهارته
بالماء إن كانت غسلا لجنابة أو نحوها لأن الترتيب والموالاة غير واجبين فيها وإن كانت وضوءا وكان
الجرح في وجهه خرج بطلان الوضوء على الوجهين اللذين في الفصل الذي قبل هذا فمن أوجب
الترتيب أبطل الوضوء ههنا لأن طهارة العضو الذي ناب التيمم عنه بطلت فلو لم يبطل فيما بعده
لتقدمت طهارة ما بعده عليه فيفوت الترتيب ومن لم يوجب الترتيب لم يبطل الوضوء وجوز له أن
264

يتيمم لا غير. وإن كان الجرح في إحدى رجليه أو فيهما فعلى قول من لا يوجب الترتيب بين الوضوء
والتيمم لا تجب الموالاة بينهما أيضا. وعليه التيمم وحده. ومن أوجب الترتيب فقياس قوله أن يكون
في الموالاة وجهان بناء على الموالاة في الوضوء وفيها روايتان (إحداهما) تجب فتجب ههنا ويبطل
الوضوء لفواتها. (والثانية) لا تجب فيكفيه التيمم وحده ويحتمل أن لا تجب الموالاة بين الوضوء
والتيمم وجها واحدا لأنهما طهارتان فلم تجب الموالاة بينهما كسائر الطهارات ولان في إيجابها حرجا
فينتفي بقوله سبحانه (وما جعل عليكم في الدين من حرج)
(فصل) وإن خاف من شدة البرد وأمكنه أن يسخن الماء أو يستعمله على وجه يأمن الضرر
مثل ان يغسل عضوا عضوا كلما غسل شيئا ستره لزمه ذلك وإن لم يقدر تيمم وصلى في قول أكثر
أهل العلم. وقال عطاء والحسن: يغتسل وإن مات لم يجعل الله له عذرا ومقتضى قول ابن مسعود
أنه لا يتيمم فإنه قال: لو رخصنا لهم في هذا لاوشك أحدهم إذا برد عليه الماء أن يتيمم ويدعه.
ولنا قول الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وروى
أبو داود وأبو بكر الخلال باسنادهما عن عمرو بن العاص قال. احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات
السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم فقال " يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من
الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما).
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز لأنه لا يقر
على الخطأ ولأنه خائف على نفسه فأبيح له التيمم كالجريح والمريض وكما لو خاف على نفسه عطشا
أو لصا أو سبعا في طلب الماء وإذا تيمم وصلى فهل يلزمه الإعادة؟ على روايتين (إحداهما) لا يلزمه
وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة وابن المنذر لحديث عمرو فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة
ولو وجبت لامره بها ولأنه خائف على نفسه أشبه المريض ولأنه أتى بما أمر به فأشبه سائر من
يصلي بالتيمم (والثانية) يلزمه الإعادة وهو قول أبي يوسف ومحمد لأنه عذر نادر غير متصل فلم
يمنع الإعادة كنسيان الطهارة والأول أصح ويفارق نسيان الطهارة لأنه لم يأت بما أمر به وإنما ظن
أنه أتى به بخلاف مسألتنا. وقال أبو الخطاب لا إعادة عليه إن كان مسافرا وإن كان حاضرا فعلى
265

روايتين. وذلك لأن الحضر مظنة القدرة على تسخين الماء ودخول الحمامات بخلاف السفر. وقال
الشافعي: يعيد إن كان حاضرا وإن كان مسافرا فعلى قولين.
* (مسألة) * قال (وإذا تيمم صلى الصلاة التي حضر وقتها وصلى به فوائت ان كانت
عليه والتطوع إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى).
المذهب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ودخوله ولعل الخرقي إنما علق بطلانه بدخول وقت
صلاة أخرى تجوزا منه إذا كان خروج وقت الصلاة ملازما لدخول وقت الأخرى الا في موضع
واحد وهو وقت الفجر فإنه يخرج منفكا عن دخول وقت الظهر. ويبطل التيمم بكل واحد منهما
فلا يجوز أن يصلي به صلاتين في وقتين روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم
والشعبي والنخعي وقتادة ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك والشافعي والليث وإسحاق. وروى الميموني
عن أحمد في المتيمم قال: إنه ليعجبني أن يتيمم لكل صلاة ولكن القياس أنه بمنزلة الطهارة حتى
يجد الماء أو يحدث لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الجنب يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر الصعيد الطيب
طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك " وهو مذهب سعيد
ابن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي. وروي عن ابن عباس وأبي جعفر لأنها
طهارة تبيح الصلاة فلم تتقدر بالوقت كطهارة الماء.
ولنا ما روى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال. التيمم لكل صلاة. وابن عمر قال: تيمم
لكل صلاة ولأنها طهارة ضرورة فتقيدت بالوقت كطهارة المستحاضة وطهارة الماء ليست للضرورة
بخلاف مسئلتنا والحديث أراد به أن يشبه الوضوء في إباحة الصلاة ولا يلزم التساوي في جميع الأحكام
. إذا ثبت هذا فإنه إذا نوى بتيممه مكتوبة فله أن يصلي به ما شاء من الصلاة فيصلي الحاضرة
ويجمع بين الصلاتين ويقضي فوائت ويتطوع قبل الصلاة وبعدها. هذا قول أبي ثور. وقال مالك
والشافعي: لا يصلي به فرضين، وقد روي عن أحمد أنه قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة
ثم يتيمم للأخرى وهذا يحتمل أن يكون مثل قولهما لما روي عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن
لا يصلي بالتيمم الا صلاة واحدة ثم يتيمم للأخرى وهذا مقتضى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها طهارة ضرورة
فلا يجمع بها بين فريضتين كما لو كانا في وقتين.
266

ولنا أنه طهارة صحيحة أباحت فرضا فأباحت فرضين كطهارة الماء ولأنه بعد الفرض الأول تيمم
صحيح مبيح للتطوع نوى به المكتوبة فكان له أن يصلي به فرضا كحالة ابتدائه ولأن الطهارة في الأصول
إنما تتقيد بالوقت دون الفعل كطهارة الماسح على الخف وهذه في النوافل وطهارة المستحاضة ولان كل
تيمم أباح صلاة أباح ما هو من نوعها بدليل صلاة النوافل، وأما حديث ابن عباس فيرويه الحسن
ابن عمارة وهو ضعيف. ثم يحتمل أنه أراد أن يصلي به صلاتين في وقتين بدليل أنه يجوز أن يصلي
به صلوات من التطوع ويجمع بين صلاتين فرض ونفل، وإنما امتنع الجمع بين فرضي وقتين لبطلان
التيمم بخروج وقت الأولى منهما - إذا ثبت هذا فإن الخرقي إنما ذكر قضاء الفوائت والتطوع ولم يذكر
الجمع بين الصلاتين وكذا ذكر الإمام أحمد فيحتمل أن لا يجوز الجمع بين الصلاتين وهو مذهب أبي
ثور، والصحيح جواز الجمع لما ذكرنا من الأدلة ولان ما أباح فرضين فائتين أباح فرضين في الجمع كسائر
الطهارات، وقال الماوردي ليس للمتيمم أن يجمع بين صلاتين بحال لأن الصلاة الثانية تفتقر إلى
تيمم، والتيمم يفتقر إلى طلب، والطلب يقطع الجمع ومن شرطه الموالاة يعني على مذهب الشافعي
وهذا ينبغي أن يتقيد بالجمع في وقت الأولى فأما الجمع في وقت الثانية فلا تشترط له الموالاة في الصحيح،
فإن قيل فيكف يمكن قضاء الفوائت والترتيب شرط فيجب تقديم الفائتة على الحاضرة فكيف تتأخر
الفائتة عنها؟ قلنا يمكن ذلك لوجوه (أحدها) أن يقدم الفائتة على الحاضرة (الثاني) أن ينسى
الفائتة ثم يذكرها بعد الحاضرة (الثالث) أن يخشى فوات وقت الحاضرة فيصليها ثم يصلي في بقية
الوقت فوائت (الرابع) أنه إذا كثرت الفوائت بحيث لا يمكن قضاؤها قبل خروج وقت الحاضرة فله
أن يصلي الحاضرة في الجماعة في أول الوقت ويقدمها على الفوائت في إحدى الروايتين فإنه
لابد من تقديمها على بعض الفوائت فلا فائدة في تأخيرها ولأنه لو لزم تأخيرها إلى آخر وقتها للزم
ترك الجماعة للحاضرة بالكلية.
" مسألة " قال (وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم ولا إعادة عليه).
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا كان معه ماء وخشي
العطش أنه يبقي ماءه للشرب ويتيمم. منهم علي وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وطاوس وقتادة
والضحاك والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، ولأنه خائف على نفسه من استعمال
الماء فأبيح له التيمم كالمريض.
267

(فصل) وان خاف على رفيقه أو رقيقة أو بهائمه فهو كما لو خاف على نفسه. لأن حرمة رفيقه
كحرمة نفسه والخائف على بهائمه خائف من ضياع ماله فأشبه ما لو وجد ماء بينه وبينه لص أو سبع يخافه
على بهيمته أو شئ من ماله، وان وجد عطشان يخاف تلفه لزمه سقيه ويتيمم. قيل لأحمد الرجل معه
إداوة من ماء للوضوء فيرى قوما عطاشا أحب إليك أن يسقبهم أو يتوضأ؟ قال يسقيهم. ثم ذكر
عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم، وقال أبو بكر
والقاضي لا يلزمه بذله لأنه محتاج إليه.
ولنا أن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة بدليل ما لو رأى حريقا أو غريقا في الصلاة عند ضيق
وقتها لزمه ترك الصلاة والخروج لانقاذه فلان يقدمها على الطهارة بالماء أولى، وقد روي في الخبر
أن بغيا أصابها العطش فنزلت بئرا فشربت منه فلما صعدت رأت كلبا يلحس الثرى من العطش
فقالت لقد أصاب هذا من العطش مثل ما أصابني فنزلت فسقته بموقها فغفر الله لها. فإذا كان هذا
الاجر في سقي الكلب فغيره أولى.
(فصل) وإذا وجد الخائف من العطش ماء طاهرا وماء نجسا يكفيه أحدهما لشربه فإنه يحبس
الماء الطاهر لشربه ويريق النجس ان استغنى عن شربه، وقال القاضي يتوضأ بالطاهر ويحبس النجس
لشربه لأنه وجد ماء طاهرا مستغنى عن شربه فأشبه ما لو كان ماء كثيرا طاهرا.
ولنا أنه لا يقدر على ما يجوز الوضوء به ولا على ما يجوز له شربه سوى هذا الطاهر فجاز له حبسه
إذا خاف العطش كما لو لم يكن معه سواه، وإن وجدهما وهو عطشان شرب الطاهر وأراق النجس إذا
استغنى عنه سواء كان في الوقت أو قبله، وقال بعض الشافعية: إن كان في الوقت شرب النجس لأن
الطاهر مستحق الطهارة فهو كالمعدوم. وليس بصحيح لأن شرب النجس حرام وإنما يصير الطاهر
مستحقا للطهارة إذا استغنى عن شربه وهذا غير مستغن عن شربه ووجود النجس كعدمه لتحريم شربه
(فصل) وإذا كان الماء موجودا إلا أنه إذا اشتغل بتحصيله واستعماله فات الوقت لم يبح له
التيمم سواء كان حاضرا أو مسافرا في قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب
الرأي، وعن الأوزاعي والثوري له التيمم رواه عنهما الوليد بن مسلم. قال الوليد: فذكرت ذلك لمالك
وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز فقالوا: يغتسل وان طلعت الشمس وذلك لقول الله تعالى (فلم
تجدوا ماء فتيمموا) وحديث أبي ذر وهذا واجد للماء ولأنه قادر على الماء فلم يجز له التيمم كما لو لم
يخف فوت الوقت ولأن الطهارة شرط فلم يبح تركها خيفة فوت وقتها كسائر شرائطها وان خاف
268

فوت العيد لم يجز له التيمم، وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي: له التيمم لأنه يخاف فوتها بالكلية فأشبه العادم
ولنا الآية والخبر وما ذكرنا من المعنى، وان خاف فوت الجنازة فكذلك في إحدى الروايتين
لما ذكرنا، والأخرى يباح له التيمم ويصلي عليها وبه قال النخعي والزهري والحسن ويحيى الأنصاري
وسعد بن إبراهيم والليث والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي لأنه لا يمكن استدراكها
بالوضوء فأشبه العادم، وقال الشعبي يصلي عليها من غير وضوء ولا تيمم لأنها لا ركوع فيها ولا سجود
وإنما هي دعاء فأشبهت الدعاء في غير الصلاة.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " وقوله " لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى
يتوضأ " وقول الله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية ثم أباح ترك الغسل مشروطا
بعدم الماء بقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) فما لم يوجد الشرط يبقى على قضية العموم.
* (مسألة) * قال (وإذا نسي الجنابة وتيمم للحدث لم يجزه)
وبهذا قال مالك وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والشافعي يجزئه لأن طهارتهما واحدة فسقطت إحداهما
بفعل الأخرى كالبول والغائط.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لا مرئ ما نوى " وهذا لم ينو الجنابة فلم يجزه
عنها، ولأنهما سببان مختلفان فلم تجز نية أحدهما عن الآخر كالحج والعمرة، ولأنهما طهارتان فلم تتأد
إحداهما بنية الأخرى كطهارة الماء عند الشافعي، وفارق ما قاسوا عليه فإن حكمهما واحد وهو الحدث
الأصغر ولهذا تجزئ نية أحدهما عن نية الآخر في طهارة الماء.
(فصل) وان تيمم للجنابة لم يجزه عن الحدث الأصغر لما ذكرنا والخلاف فيها كالتي قبلها،
فعلى هذا يحتاج إلى تعيين ما تيمم له من الحدث الأصغر والجنابة والحيض والنجاسة، فإن نوى الجميع
بتيمم واحد أجزأه لأن فعله واحد فأشبه طهارة الماء وان نوى بعضها أجزأه عن المنوي دون ما سواه
وإن كان التيمم عن جرح في عضو من أعضائه نوى التيمم عن غسل ذلك العضو.
(فصل) وإذا تيمم للجنابة دون الحدث أبيح له ما يباح للمحدث من قراءة القرآن واللبث في
269

المسجد ولم تبح له الصلاة والطواف ومس المصحف وإن أحدث لم يؤثر ذلك في تيممه لأنه نائب عن
الغسل فلم يؤثر الحدث فيه كالغسل، وإن تيمم للجنابة والحدث ثم أحدث بطل تيممه للحدث وبقي
تيمم الجنابة بحاله، ولو تيممت المرأة بعد طهرها من حيضها لحدث الحيض ثم أجنبت لم يحرم وطؤها
لأن حكم تيمم الحيض باق ولا يبطل بالوطئ لأن الوطئ إنما يوجب حدث الجنابة، قال ابن عقيل:
وإن قلنا كل صلاة تحتاج إلى تيمم احتاج كل وطئ إلى تيمم يخصه والأول أصح.
* (مسألة) * قال (وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ أو اغتسل
إن كان جنبا واستقبل الصلاة).
المشهور في المذهب أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل تيممه سواء كان في الصلاة أو
خارجا منها، فإن كان في الصلاة بطلت لبطلان طهارته ويلزمه استعمال الماء فيتوضأ إن كان محدثا
ويغتسل إن كان جنبا، وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة، وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر
إن كان في الصلاة مضى فيها، وقد روي ذلك عن أحمد إلا أنه روي عنه ما يدل على رجوعه عنه،
قال المروذي: قال أحمد كنت أقول يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج وهذا
يدل على رجوعه عن هذه الرواية، واحتجوا بأنه وجد المبدل بعد التلبس بمقصود البدل فلم يلزمه
الخروج كما لو وجد الرقبة بعد التلبس بالصيام ولأنه غير قادر على استعمال الماء لأن قدرته تتوقف
على ابطال الصلاة وهو منهي عن ابطالها بقوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم)
ولنا قوله عليه السلام " الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين. فإذا وجدت
الماء فأمسه جلدك " أخرجه أبو داود والنسائي، دل بمفهومه على أنه لا يكون طهورا عند وجود الماء
وبمنطوقه على وجوب امساسه جلده عند وجوده ولأنه قدر على استعمال الماء فبطل تيممه كالخارج من
الصلاة ولان التيمم طهارة ضرورة فبطلت بزوال الضرورة كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها، يحققه
أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما أبيح للمتيمم ان يصلي مع كونه محدثا لضرورة العجز عن الماء فإذا وجد
الماء زالت الضرورة فظهر حكم الحدث كالأصل. ولا يصح قياسهم فإن الصوم هو البدل نفسه فنظيره
إذا قدر على الماء بعد تيممه ولا خلاف في بطلانه. ثم الفرق بينهما أن مدة الصيام تطول فيشق الخروج
270

منه لما فيه من الجمع بين فرضين شاقين بخلاف مسئلتنا. وقولهم: انه غير قادر غير صحيح، فإن الماء
قريب وآلته صحيحة والموانع منتفية، وقولهم انه منهي عن ابطال الصلاة قلنا لا يحتاج إلى
ابطال الصلاة، بل هي تبطل بزوال الطهارة كما في نظائرها، فإذا ثبت هذا فمتى خرج فتوضأ لزمه
استئناف الصلاة، وقيل فيه وجه آخر أنه يبني على ما مضى منها كالذي سبقه الحدث. والصحيح أنه
لا يبني لأن الطهارة شرط وقد فاتت ببطلان التيمم فلا يجوز بقاء الصلاة مع فوات شرطها ولا يجوز
بقاء ما مضى صحيحا مع خروجه منها قبل اتمامها، وكذا نقول فيمن سبقه الحدث وان سلمنا فالفرق
بينهما أن ما مضى من الصلاة انبنى على طهارة ضعيفة ههنا فلم يكن له البناء عليه كطهارة المستحاضة
بخلاف من سبقه الحدث.
(فصل) والمصلي على حسب حاله بغير وضوء ولا تيمم إذا وجد ماء في الصلاة أو ترابا خرج
منها بكل حال لأنها صلاة بغير طهارة ويحتمل أن يخرج فيها مثل ما في التيمم إذا وجد الماء إذا قلنا إنه
لا تلزمه الإعادة ولأن الطهارة شرط سقط اعتباره فأشبهت السترة إذا عجز عنها فصلى عريانا ثم وجد السترة
في أثناء الصلاة قريبا منه. وكل صلاة يلزمه اعادتها فإنه يلزمه الخروج منها إذا زال العذر ويلزمه استقبالها
وان قلنا لا يلزمه اعادتها فإنها تشبه صلاه المتيمم إذا وجد الماء على ما مضى من القول فيها.
(فصل) ولو يمم الميت ثم قدر على الماء في أثناء الصلاة عليه لزمه الخروج لأن غسل الميت
ممكن غير متوقف على ابطال المصلي صلاته بخلاف مسئلتنا، ويحتمل أن تكون كمسئلتنا لأن الماء
وجد بعد الدخول في الصلاة.
(فصل) وإذا قلنا لا يلزم المصلي الخروج لرؤية الماء فهل يجوز له الخروج؟ فيه وجهان (أحدهما)
له ذلك لأنه شرع في مقصود البدل فخير بين الرجوع إلى المبدل وبين اتمام ما شرع فيه كمن شرع في
صوم الكفارة ثم أمكنته الرقبة (والثاني) لا يجوز له الخروج لأن ما يوجب الخروج من الصلاة لا يبيح
الخروج كسائر الأشياء ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين.
(فصل) إذا رأي ماء في الصلاة ثم انقلب قبل استعماله فإن قلنا يلزمه الخروج من الصلاة فقد
271

بطلت صلاته وتيممه برؤية الماء والقدرة عليه ويلزمه استئناف التيمم والصلاة، وان قلنا لا تبطل صلاته
واندفق وهو فيها فقال ابن عقيل: ليس له ان يصلي بذلك التيمم صلاة أخرى وهذا مذهب الشافعي
لأن رؤية الماء حرمت عليه افتتاح صلاة أخرى، ولو تلبس بنافلة ثم رأى ماء فإن كان نوى عددا
أتى به وان لم يكن نوى عددا لم يكن له أن يزيد على ركعتين لأنه أقل الصلاة على ظاهر المذهب،
ويقوى عندي أننا إذا قلنا لا تبطل الصلاة برؤية الماء فله افتتاح صلاة أخرى لأن رؤية الماء لم تبطل
التيمم ولو بطل لبطلت الصلاة وما وجد بعدها لا يبطله فأشبه ما لو رآه وبينه وبينه سبع ثم اندفق قبل
زوال المانع وله أن يصلي ما يشاء كما لو لم ير الماء.
(فصل) إذا تيمم ثم رأى ركبا يظن أن معه ماء وقلنا بوجوب الطلب أو رأى خضرة أو شيئا
يدل على الماء في موضع يلزمه الطلب فيه بطل تيممه وكذلك أن رأى سرابا ظنه ماء بطل تيممه وهذا
مذهب الشافعي لأنه لما وجب الطلب بطل التيمم وسواء تبين له خلاف ظنه أو لم يتبين فأما ان رأى
الركب أو الخضرة في الصلاة لم تبطل صلاته ولا تيممه لأنه دخل فيها بطهارة متيقنة فلا تزول
بالشك ويحتمل أن لا يبطل تيممه أيضا إذا كان خارجا من الصلاة لأن الطهارة المتيقنة لا تبطل
بالشك كطهارة الماء، ووجوب الطلب ليس بمبطل للتيمم لأن كونه مبطلا إنما يثبت بدليل شرعي
272

وليس في هذا نص ولا معنى نص فينتفي الدليل.
(فصل) وان خرج وقت الصلاة وهو فيها بطل تيممه وبطلت صلاته لأن طهارته انتهت بانتهاء
وقتها فبطلت صلاته كما لو انقضت مدة المسح وهو في الصلاة.
(فصل) ويبطل التيمم عن الحدث بكل ما يبطل الوضوء ويزيد برؤية الماء المقدور على استعماله
وخروج الوقت وزاد بعض أصحابنا ظن وجود الماء على ما ذكرنا وزاد بعضهم ما لو نزع عمامة
أو خفا يجوز له المسح عليه فإنه يبطل تيممه وذكر أن أحمد نص عليه لأنه مبطل للوضوء فأبطل التيمم
كسائر مبطلاته، والصحيح أن هذا ليس بمبطل للتيمم وهذا قول سائر الفقهاء لأن التيمم طهارة لم
يمسح فيها عليه فلا يبطل بنزعه كطهارة الماء وكما لو كان الملبوس مما لا يجوز المسح عليه ولا يصح قولهم
إنه مبطل للوضوء لأن مبطل الوضوء نزع ما هو ممسوح عليه فيه ولم يوجد ههنا ولان إباحة المسح
لا يصير بها ماسحا ولا بمنزلة الماسح كما لو لبس عمامة يجوز المسح عليها ومسح على رأسه من تحتها
فإنه لا تبطل طهارته بنزعها فأما التيمم للجنابة فلا يبطله الا رؤية الماء وخروج الوقت وموجبات
الغسل وكذلك التيمم لحدث الحيض والنفاس لا يزول حكمه إلا بحدثهما أو بأحد الامرين.
(فصل) يجوز التيمم لكل ما يتطهر له من نافلة أو مس مصحف أو قراءة قرآن أو سجود
تلاوة أو شكر أو لبث في مسجد. قال أحمد: يتيمم ويقرأ جزأه يعني الجنب وبذلك قال عطاء
ومكحول والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك والشافعي والثوري وأصحاب الرأي وقال
أبو مخرمة: لا يتيمم إلا لمكتوبة وكره الأوزاعي أن يمس المتيمم المصحف
273

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الصعيد الطيب طهور المسلم وان لم يجد الماء عشر سنين "
وقوله عليه السلام " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ولأنه يستباح بطهارة الماء فيستباح بالتيمم كالمكتوبة
(فصل) وإن كانت على بدنه نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله تيمم
لها وصلى. قال أحمد: هو بمنزلة الجنب يتيمم وروي معنى ذلك عن الحسن. وروي عن الأوزاعي
والثوري وأبي ثور يمسحها بالتراب ويصلي لأن طهارة النجاسة إنما تكون في محل النجاسة دون غيره
وقال القاضي: يحتمل أن يكون معنى قول أحمد إنه بمنزلة الجنب الذي يتيمم أي انه يصلي على
حسب حاله كما يصلي الجنب الذي يتيمم وهذا قول الأكثرين من الفقهاء لأن الشرع إنما ورد بالتيمم
للحدث. وغسل النجاسة ليس في معناه لأنه إنما يؤتى به في محل النجاسة لا في غيره ولان مقصود
الغسل إزالة النجاسة ولا يحصل ذلك بالتيمم.
ولنا قوله عليه السلام " الصعيد الطيب طهور المسلم وان لم يجد الماء عشر سنين " وقوله " جعلت
274

لي الأرض مسجدا وطهورا " ولأنها طهارة في البدن تراد للصلاة فجاز لها التيمم عند عدم الماء أو خوف
الضرر باستعماله كالحدث. ويفارق الغسل التيمم فإنه في طهارة الحدث يؤتى به في غير محله فيما إذا
تيمم لجرح في رجله أو موضع من بدنه غير وجهه ويديه بخلاف الغسل، وقولهم لم يرد به الشرع قلنا هو
داخل في عموم الاخبار وفي معنى طهارة الحدث لما ذكرنا. فإذا ثبت هذا فإنه إذا تيمم للنجاسة وصلى فهل
يلزمه الإعادة؟ على روايتين. وقال أبو الخطاب إن كان على جرحه نجاسة يستضر بإزالتها تيمم وصلى
ولا إعادة عليه وإن تيمم للنجاسة عند عدم الماء وصلى لزمته الإعادة عندي، وقال أصحابنا لا تلزمه
الإعادة لقوله عليه السلام " التراب كافيك ما لم تجد الماء " ولأنها طهارة ناب عنها التيمم فلم تجب الإعادة فيها
كطهارة الحدث وكما لو تيمم لنجاسة على جرحه يضره إزالتها ولأنه لو صلى من غير تيمم لم تلزمه الإعادة فمع
التيمم أولى، فأما إن كانت النجاسة على ثوبه أو غير بدنه فإنه لا يتيمم لها لأن التيمم طهارة في البدن فلا
ينوب عن غير البدن كالغسل ولان غير البدن لا ينوب فيه الجامد عند العجز بخلاف البدن.
275

(فصل) فإن اجتمع عليه نجاسة وحدث ومعه مالا يكفي الا أحدهما غسل النجاسة وتيمم
للحدث نص على هذا أحمد. وقال الخلال: اتفق أبو عبد الله وسفيان على هذا ولا نعلم فيه خلافا
وذلك لأن التيمم للحدث ثابت بالنص والاجماع ومختلف فيه للنجاسة، وان كانت النجاسة على ثوبه
قدم غسلها وتيمم للحدث، وروي عن أحمد أنه يتوضأ ويدع الثوب لأنه واجد للماء والوضوء أشد
من غسل الثوب وحكاه أبو حنيفة عن حماد في الدم والأول أولى لما ذكرناه، ولأنه إذا قدم غسل نجاسة
البدن مع أن للتيمم فيها مدخلا فتقديم طهارة الثوب أولى، وان اجتمع نجاسة على الثوب ونجاسة على
البدن وليس معه الا ما يكفي أحدهما غسل الثوب وتيمم لنجاسة البدن لأن للتيمم فيها مدخلا.
276

(فصل) إذا اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض ومعهم ماء لا يكفي إلا أحدهم فإن
كان ملكا لأحدهم فهو أحق به لأنه يحتاج إليه لنفسه فلا يجوز له بذله لغيره سواء كان مالكه الميت
أو أحد الحيين، وإن كان الماء لغيرهم وأراد أن يجود به على أحدهم فعن أحمد رحمه الله روايتان
(إحداهما) الميت أحق به لأن غسله خاتمة طهارته فيستحب أن تكون طهارة كاملة والحي يرجع إلى
الماء فيغتسل ولان القصد بغسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتيمم والحي يقصد بغسله إباحة الصلاة
ويحصل ذلك بالتراب (والثانية) الحي أولى لأنه متعبد بالغسل مع وجود الماء والميت قد سقط
الفرض عنه بالموت. اختار هذا الخلال وهل يقدم الجنب أو الحائض؟ فيه وجهان (أحدهما) الحائض
لأنها تقضي حق الله تعالى وحق زوجها في إباحة وطئها (والثاني) الجنب إذا كان رجلا لأن الرجل
277

أحق بالكمال من المرأة ولأنه يصلح إماما لها وهي لا تصلح لإمامته، وإن كان على أحدهم نجاسة فهو
أولى به وإن وجدوا الماء في مكان فهو للاحياء لأن الميت لا يجد شيئا وإن كان للميت ففضلت منه
فضلة فهو لورثته، فإن لم يكن له وارث حاضر فللحي أخذه بقيمته لأن في تركه اتلافه، وقال بعض
أصحابنا: ليس له أخذه لأن مالكه لم يأذن له فيه إلا أن يحتاج إليه للعطش فيأخذه بشرط الضمان
وان اجتمع جنب ومحدث فالجنب أحق إن كان الماء يكفيه لأنه يستفيد به مالا يستفيده المحدث،
وإن كان وفق حاجة المحدث فهو أولى لأنه يستفيد به طهارة كاملة، وإن كان لا يكفي واحدا منهما
فالجنب أولى به لأنه يستفيد به تطهير بعض أعضائه، وإن كان يكفي كل واحد منهما ويفضل منه
فضلة لا تكفي الآخر فالمحدث أولى لأن فضلته يمكن الجنب استعمالها ويحتمل أن الجنب أولى لأنه
يستفيد بغسله مالا يستفيده المحدث، وإذا تغلب من غيره أولى منه على الماء فاستعمله كان مسيئا
وأجزأه لأن الآخر لم يملكه وإنما رجح لشدة حاجته.
(فصل) وهل يكره للعادم جماع زوجته إذا لم يخف العنت؟ فيه روايتان (إحداهما) يكره لأنه
يفوت على نفسه طهارة ممكنا بقاؤها (والثانية) لا يكره وهو قول جابر بن زيد والحسن وقتادة
والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر. وحكي عن الأوزاعي أنه إن كان بينه
وبين أهله أربع ليال فليصب أهله وإن كان ثلاث فما دونها فلا يصبها والأولى جواز اصابتها من غير
كراهة، لأن أبا ذر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اني أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة
278

فأصلي بغير طهور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الصعيد الطيب طهور " رواه أبو داود والنسائي
وأصاب ابن عباس من جارية له رومية وهو عادم للماء وصلى بأصحابه وفيهم عمار فلم ينكروه. قال
إسحاق بن راهويه: هو سنة مسنونة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي ذر وعمار وغيرهما فإذا فعلا
ووجدا من الماء ما يغسلان به فرجيهما غسلاهما ثم تيمما وان لم يجدا تيمما للجنابة والحدث الأصغر
والنجاسة وصليا.
* (ومسألة) * قال (وإذا شد الكسير الجبائر وكان طاهرا ولم يعد بها موضع الكسر
مسح عليها كلما أحدث إلى أن يحلها).
279

الجبائر ما يعد لوضعه على الكسر لينجبر وقوله: ولم يعد بها موضع الكسر أراد لم يتجاوز الكسر
الا بما لابد من وضع الجبيرة عليه فإن الجبيرة إنما توضع على طرفي الصحيح ليرجع الكسر قال الخلال
كأن أبا عبد الله استحب أن يتوقى أن يبسط الشد على الجرح بما يجاوزه ثم سهل في مسألة الميموني
والمروذي لأن هذا مما لا ينضبط وهو شديد جدا ولا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها والصحيح
ما ذكرناه إن شاء الله لأنه إذا شدها على مكان يستغني عن شدها عليه كان تاركا لغسل ما يمكنه غسله
من غير ضرر فلم يجز كما لو شدها على مالا كسر فيه، فإذا شدها على طهارة وخاف الضرر بنزعها فله
أن يمسح عليها إلى أن يحلها وممن رأى المسح على العصائب ابن عمر وعبيد بن عمير وعطاء، وأجاز
المسح على الجبائر الحسن والنخعي ومالك وإسحاق والمزني وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في
أحد قوليه يعيد كل صلاة صلاها لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يأت به.
ولنا ما روى علي رضي الله عنه قال: انكسرت إحدى زندي فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم
أن أمسح على الجبائر، رواه ابن ماجة. وحديث جابر في الذي أصابته الشجة ولأنه قول ابن عمر
280

ولم يعرف له في الصحابة مخالف ولأنه مسح على حائل أبيح له المسح عليه فلم تجب معه الإعادة كالمسح على الخف
(فصل) ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من خمسة أوجه (أحدها) أنه لا يجوز المسح عليها
إلا عند الضرر بنزعها والخف بخلاف ذلك (والثاني) أنه يجب استيعابها بالمسح لأنه لا ضرر في تعميمها
به بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه ويتلفه المسح، وإن كان بعضها في محل الفرض وبعضها في
غيره مسح ما حاذى محل الفرض. نص عليه أحمد (الثالث) أنه يمسح على الجبيرة من غير توقيت
بيوم وليلة ولا ثلاثة أيام لأن مسحها للضرورة فيقدر بقدرها والضرورة تدعو في مسحها إلى حلها
فيقدر بذلك دون غيره (الرابع) أنه يمسح عليها في الطهارة الكبرى بخلاف غيرها لأن الضرر
يلحق بنزعها فيها بخلاف الخف (الخامس) أنه لا يشترط تقدم الطهارة على شدها في إحدى الروايتين.
اختاره الخلال وقال قد روى حرب وإسحاق والمروذي في ذلك سهولة عن أحمد واحتج بابن عمر
وكأنه ترك قوله الأول وهو أشبه لأن هذا مما لا ينضبط ويغلظ على الناس جدا فلا بأس به، ويقوي
هذا حديث جابر في الذي أصابته الشجة فإنه قال " إنما كان يجزئه أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح
عليها " ولم يذكر الطهارة وكذلك أمر عليا أن يمسح على الجبائر ولم يشترط طهارة، ولان المسح عليها
جاز دفعا لمشقة نزعها ونزعها يشق إذا لبسها على غير طهارة كمشقته إذا لبسها على طهارة (والرواية الثانية)
لا يمسح عليها إلا أن يشدها على طهارة وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه حائل يمسح عليه فكان من
شرط المسح عليه تقدم الطهارة كسائر الممسوحات. فعلى هذا إذا لبسها على غير طهارة ثم خاف من
نزعها تيمم لها، وكذا إذا تجاوز بالشد عليها موضع الحاجة وخاف من نزعها تيمم لها لأنه موضع
يخاف الضرر باستعمال الماء فيه فيتيمم له كالجرح نفسه.
(فصل) ولا يحتاج مع مسحها إلى تيمم، ويحتمل أن يتيمم مع مسحها فيما إذا تجاوز بها موضع
الحاجة لأن ما على موضع الحاجة يقتضي المسح والزائد يقتضى التيمم وكذلك فيما إذا شدها على غير
طهارة لأنها مختلف في إباحة المسح عليها فإذا قلنا لا يمسح عليها كان فرضها التيمم وعلى القول الآخر
281

يكون فرضها المسح فإذا جمع بينهما خرج من الخلاف، ومذهب الشافعي في الجمع بينهما قولان في الجملة
لحديث جابر في الذي أصابته الشجة.
ولنا أنه محل واحد فلا يجمع فيه بين بدلين كالخف ولأنه ممسوح في طهارة فلم يجب له التيمم كالخف
وصاحب الشجة الظاهر أنه لبسها على غير طهارة.
(فصل) ولا فرق بين كون الشد على كسر أو جرح. قال أحمد إذا توضأ وخاف على جرحه
الماء مسح على الخرقة، وحديث جابر في صاحب الشجة إنما هو في المسح على عصابة جرح لأن الشجة
اسم لجرح الرأس خاصة ولأنه حائل موضع يخاف الضرر بغسله فأشبه الشد على الكسر وكذلك إن
وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه مسح عليه، نص عليه أحمد. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله
عن الجرح يكون بالرجل يضع عليه الدواء فيخاف إن نزع الدواء إذا أراد الوضوء أن يؤذيه قال:
ما أدري ما يؤذيه؟ ولكن إذا خاف على نفسه أو خوف من ذلك مسح عليه. وروى الأثرم باسناده
عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة فألقمها مرارة فكان يتوضأ عليها.
ولو انقطع ظفر انسان أو كان بأصبعه جرح خاف إن أصابه الماء أن يزرق الجرح جاز المسح عليه
نص عليه أحمد، وقال القاضي في اللصوق على الجرح إن لم يكن في نزعه ضرر نزعه وغسل الصحيح
ويتيمم للجرح ويمسح على موضع الجرح، فإن كان في نزعه ضرر فحكمه حكم الجبيرة يمسح عليه.
(فصل) فإن كان في رجله شق فجعل فيه قيرا فقال أحمد ينزعه ولا يمسح عليه وقال هذا أهون
هذا لا يخاف منه فقيل له متى يسع صاحب الجرح أن يمسح على الجرح؟ فقال إذا خشي أن يزداد
وجعا أو شدة. وتعليل أحمد في القير بسهولته يقتضي أنه متى كان على شئ يخاف منه جاز المسح
عليه كما قلنا في الإصبع المجروحة إذا جعل عليها مرارة أو عصبها مسحها وقال مالك في الظفر يسقط
يكسوه مصطكا ويمسح عليه وهو قول أصحاب الرأي.
(فصل) وإذا لم يكن على الجرح عصاب فقد ذكرنا فيما تقدم أنه يغسل الصحيح ويتيمم للجرح
وقد روى حنبل عن أحمد في المجروح والمجدور بخاف عليه يمسح موضع الجرح ويغسل ما حوله يعني
يمسح إذا لم يكن عليه عصاب.
282

باب المسح على الخفين
المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم حكي ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح
على الخفين اختلاف أنه جائز. وعن الحسن قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. وروى البخاري عن سعد بن مالك والمغيرة وعمرو بن
أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. وروى أبو داود عن جرير بن عبد الله أنه توضأ ومسح على
الخفين فقيل له أتفعل هذا؟ قال ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح فقيل له قبل
نزول المائدة أو بعده فقال ما أسلمت الا بعد نزول المائدة. وفي رواية أنه قال: اني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا لأن اسلام جرير كان
بعد نزول المائدة، متفق عليه رواه حذيفة والمغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليهما. قال أحمد: ليس
في قلبي من المسح شئ فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما وقفوا
(فصل) وروي عن أحمد أنه قال: المسح أفضل يعني من الغسل لأن النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه إنما طلبوا الفضل وهذا مذهب الشافعي والحكم وإسحاق لأنه روي عن النبي
283

صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله يحب أن يؤخذ برخصه " وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين الا اختار
أيسرهما ولان فيه مخالفة أهل البدع وقد روي عن سفيان الثوري أنه قال لشعيب بن حرب:
لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين أفضل من الغسل. وروى حنبل عن أحمد أنه قال
كله جائز المسح والغسل ما في قلبي من المسح شئ ولا من الغسل وهذا قول ابن المنذر وروي عن
ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا على خفافهم وخلع خفيه وتوضأ وقال حبب إلي الوضوء. وقال ابن
عمر. اني لمولع بغسل قدمي فلا تقتدوا بي.
وقيل الغسل أفضل لأنه المفروض في كتاب الله تعالى والمسح رخصة وقد ذكرنا من حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله يحب أن تقبل رخصه ".
* (مسألة) * قال أبو القاسم رحمه الله (ومن لبس خفيه وهو كامل الطهارة ثم أحدث
مسح عليهما).
لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح خلافا. ووجهه ما روى المغيرة قال: كنت مع النبي
284

صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال " دعهما فاني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما. متفق عليه
فأما إن غسل إحدى رجليه فأدخلهما الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف لم يجز المسح أيضا وهو
قول الشافعي وإسحاق ونحوه عن مالك، وحكى بعض أصحابنا رواية أخرى عن أحمد انه يجوز المسح
رواها أبو طالب عنه وهو قول يحيى بن آدم وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه أحدث بعد كمال الطهارة
واللبس فجاز المسح كما لو نزع الخف الأول ثم عاد فلبسه، وقيل أيضا فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم
غسل بقية أعضائه يجوز له المسح وذلك مبني على أن الترتيب غير واجب في الوضوء وقد سبق.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " دعهما فاني أدخلتهما طاهرتين " وفي لفظ لأبي داود " دع الخفين فاني
أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان " فجعل العلة وجود الطهارة فيهما جميعا وقت إدخالهما ولم توجد
طهارتهما وقت لبس الأول ولان ما اعتبرت له الطهارة اعتبر له كمالها كالصلاة ومس المصحف، ولان
الأول خف ملبوس قبل رفع الحدث فلم يجز المسح عليه كما لو لبسه قبل غسل قدميه، ودليل بقاء
الحدث أنه لا يجوز له مس المصحف بالعضو المغسول، فأما إذا نزع الخف الأول ثم لبسه فقد لبسه
بعد كمال الطهارة، وقول الخرقي ثم أحدث - يعني الحدث الأصغر - فإن جواز المسح مختص به، ولا
يجزئ المسح في جنابة ولا غسل واجب ولا مستحب لا نعلم في هذا خلافا، وقد روى صفوان بن عسال
المرادي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا (1) أن لا ننزع خفافنا ثلاثة
أيام ولياليهن الا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم، رواه الترمذي وقال حديث صحيح، ولان
وجوب الغسل يندر فلا يشق ايجاب غسل القدم بخلاف الطهارة الصغرى ولذلك وجب غسل

(1) السفرة بفتح المهملة المشددة وسكون الفاء جماعة المسافرين
285

ما تحت الشعور الكثيفة وهكذا الحكم في العمامة وسائر الحوائل الا الجبيرة وما في معناها.
(فصل) فإن تطهر ثم لبس الخف فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف لم يجز له المسح لأن الرجل
حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ اللبس وهو محدث.
(فصل) فإن تيمم ثم لبس الخف لم يكن له المسح لأنه لبسه على طهارة غير كاملة ولأنها طهارة
ضرورة بطلت من أصلها فصار كاللابس له على غير طهارة ولان التيمم لا يرفع الحدث فقد لبسه وهو محدث
وان تطهرت المستحاضة ومن به سلس البول وشبههما ولبسوا خفافا فلهم المسح عليها نص عليه أحمد لأن
طهارتهم كاملة في حقهم قال ابن عقيل: لأنها مضطرة إلى الترخص وأحق من ترخص المضطر فإن
انقطع الدم وزالت الضرورة بطلت الطهارة من أصلها ولم يكن لها المسح كالمتيمم إذا وجد الماء.
(فصل) إذا لبس خفين ثم أحدث ثم لبس فرقهما خفين أو جر موقين لم يجز المسح عليهما بغير
خلاف لأنه لبسهما على حدث وان مسح على الأولين ثم لبس الجر موقين لم يجز المسح عليهما أيضا
ولأصحاب الشافعي وجه في تجويزه لأن المسح قائم مقام غسل القدم.
ولنا أن المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فكأنه لبسه على حدث ولان الخف الممسوح
عليه بدل والبدل لا يكون له بدل ولأنه لبسه على طهارة غير كاملة فأشبه المتيمم. وان لبس الفوقاني
286

قبل أن يحدث جاز المسح عليه بكل حال سواء كان الذي تحته صحيحا أو مخرقا وهو قول الحسن
ابن صالح والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي ومنع منه مالك في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد
قوليه لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب فلا يتعلق به رخصة عامة كالجبيرة.
ولنا أنه خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه أشبه المفرد وكما لو كان الذي تحته مخرقا. وقوله الحاجة
لا تدعو إليه ممنوع، فإن البلاد الباردة لا يكفي فيها خف واحد غالبا ولو سلمنا ذلك ولكن الحاجة
معتبرة بدليلها وهو الاقدام على اللبس لا بنفسها فهو كالخف الواحد.
إذا ثبت هذا فمتى نزع الفوقاني قبل مسحه لم يؤثر ذلك وكان لبسه كعدمه، وإن نزعه بعد مسحه
بطلت الطهارة ووجب نزع الخفين وغسل الرجلين لزوال محل المسح ونزع أحد الخفين كنزعهما لأن
الرخصة تعلقت بهما فصار كانكشاف القدم، ولو أدخل يده من تحت الفوقاني ومسح الذي تحته جاز
لأن كل واحد منهما محل للمسح، فجاز المسح على ما شاء منهما كما يجوز غسل قدمه في الخف مع أن له
المسح عليه ولو لبس أحد الجرموقين في إحدى الرجلين دون الأخرى جاز المسح عليه وعلى الخف
الذي في الرجل الأخرى لأن الحكم تعلق به وبالخف في الرجل الأخرى فهو كما لو لم يكن تحته شئ
(فصل) فإن لبس خفا مخرقا فوق صحيح فعن أحمد جواز المسح قال في رواية حرب: الخف
المخرق إذا كان في رجليه جورب مسح وإن كان الخف منخرقا، وأما إن كان تحته لفائف أو خرق
فلا يجوز المسح نص عليه أحمد في مواضع - ووجهه أن القدم مستور بما يجوز المسح عليه فجاز المسح
287

كما لو كان السفلاني مكشوفا بخلاف ما إذا كان تحته لفافة، وقال القاضي وأصحابه: لا يجوز المسح إلا على التحتاني
لأن الفوقاني لا يجوز المسح عليه مفردا فلم يجز المسح عليه مع غيره كالذي تحته لفافة، وإن لبس مخرقا على مخرق
فاستتر القدم بهما احتمل أن يكون كالتي قبلها لأن القدم مستور بالخفين فأشبه المستور بالصحيحين
أو صحيح ومخرق واحتمل أن لا يجوز لأن القدم لم يستتر بخف صحيح بخلاف التي قبلها.
(فصل) وان لبس الخف بعد طهارة مسح فيها على العمامة أو العمامة بعد طهارة مسح فيها على الخف
فقال بعض أصحابنا ظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز المسح لأنه لبس على طهارة ممسوح فيها على بدل
فلم يستبح المسح باللبس فيها كما لو لبس خفا على طهارة ومسح فيها على خف، وقال القاضي: يحتمل
جواز المسح لأنها طهارة كاملة وكل واحد منهما ليس ببدل عن الآخر بخلاف الخف الملبوس على
خف ممسوح عليه.
(فصل) وإن لبس الجبيرة على طهارة مسح فيها على خف أو عمامة وقلنا ليس من شرطها
الطهارة جاز المسح بكل حال، وإن اشترطنا لها الطهارة احتمل أن يكون كالعمامة الملبوسة على طهارة
288

مسح فيها على الخف. واحتمل جواز المسح بكل حال لأن مسحها عزيمة، وان لبس الخف على طهارة
مسح فيها على الجبيرة جاز المسح عليه لأنها عزيمة ولأنها ان كانت ناقصة فهو لنقص لم يزل فلم يمنع
جواز المسح كنقص طهارة المستحاضة قبل زوال عذرها وان لبس الجبيرة على طهارة مسح فيها على
الجبيرة جاز المسح لما ذكرناه.
* (مسألة) * قال (يوما وليلة للمقيم وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر)
قال أحمد: التوقيت ما أثبته في المسح على الخفين قيل له تذهب إليه؟ قال نعم، وهو من
وجوه وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو زيد وشريح وعطاء والثوري وإسحاق
وأصحاب الرأي وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال الليث: يمسح ما بدا له وكذلك قال مالك في
المسافر وله في المقيم روايتان (إحداهما) يمسح من غير توقيت (والثانية) لا يمسح لما روى أبي بن
عمارة قال: قلت يا رسول الله أتمسح على الخفين؟ قال " نعم " قلت يوما قال " ويومين " قلت وثلاثة؟
قال " وما شئت " رواه أبو داود ولأنه مسح في طهارة فلم يتوقت كمسح الرأس والجبيرة
289

ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة
للمقيم رواه مسلم. وحديث صفوان بن عسال وقد ذكرناه وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم رواه
الإمام أحمد وقال هو أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك وهي آخر غزاة غزاها
النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخر فعله وحديثهم ليس بالقوي قاله أبو داود وفي اسناده مجاهيل منهم عبد الرحمن
ابن رزين وأيوب بن قطن ومحمد بن زيد، ويحتمل أنه يمسح ما شاء إذا نزعهما عند انتهاء مدته
ثم لبسهما. ويحتمل أنه قال وما شئت من اليوم واليومين والثلاثة. ويحتمل أنه منسوخ بأحاديثنا لأنها
متأخرة لكون حديث عوف في غزوة تبوك وليس بينها وبين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شئ
يسير وقياسهم ينتقض بالتيمم.
(فصل) إذا انقضت المدة بطل الوضوء وليس له المسح إلا أن ينزعهما ثم يلبسهما على طهارة
كاملة. وفيه رواية أخرى أنه يجزئه غسل قدميه كما لو خلعهما وسنذكر ذلك والخلاف فيه إن شاء الله
. وقال الحسن: لا يبطل الوضوء ويصلي حتى يحدث ثم لا يمسح بعد حتى ينزعهما، وقال داود ينزع
خفيه ولا يصلي فيهما فإذا نزعهما صلى حتى يحدث لأن الطهارة لا تبطل الا بحدث ونزع الخف ليس
بحدث وكذلك انقضاء المدة.
ولنا أن غسل الرجلين شرط للصلاة وإنما قام المسح مقامه في المدة فإذا انقضت لم يجز أن يقوم
290

مقامه إلا بدليل و لأنها طهارة لا يجوز ابتداؤها فيمنع من استدامتها كالمتيممم عند رؤية الماء
* (مسألة) * قال (فإن خلع قبل ذلك أعاد الوضوء)
يعني قبل انقضاء المدة إذا خلع خفيه بعد المسح عليهما بطل وضوؤه وبه قال النخعي والزهري
ومكحول والأوزاعي وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي. وعن أحمد رواية أخرى أنه يجزئه غسل
قدميه وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي ولان مسح الخفين ناب عن غسل الرجلين خاصة
فطهورهما يبطل ما ناب عنه كالتيمم إذا بطل برؤية الماء وجب ما ناب عنه. وهذا الاختلاف مبني
على وجوب الموالاة في الوضوء فمن أجاز التفريق جوز غسل القدمين لأن سائر أعضائه مغسولة
ولم يبق إلا غسل قدميه فإذا غسلهما كمل وضوؤه. ومن منع التفريق أبطل وضوءه لفوات
الموالاة فعلى هذا لو خلع الخفين قبل جفاف الماء عن يديه أجزأه غسل قدميه وصار كأنه خلعهما قبل
مسحه عليهما. وقال الحسن وقتادة وسليمان بن حرب لا يتوضأ ولا يغسل قدميه لأنه أزال الممسوح
عليه بعد كمال الطهارة فأشبه ما لو حلق رأسه بعد المسح عليه أو قلم أظفاره بعد غسلها، ولان النزع
ليس بحدث والطهارة لا تبطل إلا بالحدث.
291

ولنا أن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث وما ذكروه يبطل بنزع
أحد الخفين فإنه يبطل الطهارة في القدمين جميعا وإنما ناب مسحه عن إحداهما، وأما التيمم عن بعض
الأعضاء إذا بطل فقد سبق القول فيه في موضعه، وحكي عن مالك أنه إذا خلع خفيه غسل قدميه مكانه
وصحت طهارته وان أخره استأنف الطهارة لأن الطهارة كانت صحيحة في جميع الأعضاء إلى حين
نزع الخفين أو انقضاء المدة وإنما بطلت في القدمين خاصة فإذا غسلهما عقب النزع لم تفت الموالاة
لقرب غسلهما من الطهارة الصحيحة في بقية الأعضاء بخلاف ما إذا تراخى غسلهما ولا يصح لأن المسح
قد بطل حكمه وصار الآن نضيف الغسل إلى الغسل فلم يبق للمسح حكم ولأن الاعتبار في الموالاة
إنما هو لقرب الغسل من الغسل لا من حكمه فإنه متى زال حكم الغسل بطلت الطهارة ولم ينفع قرب
الغسل شيئا لكون الحكم لا يعود بعد زواله الا بسبب جديد
(فصل) وإن نزع العمامة بعد مسحها بطلت طهارته أيضا وعلى الرواية الأخرى يلزمه مسح
رأسه وغسل قدميه ليحصل الترتيب، ولو نزع الجبيرة بعد مسحها فهو كنزع العمامة الا انه إن كان مسح عليها
في غسل يعم البدن لم يحتج إلى إعادة غسل ولا وضوء لأن الترتيب والموالاة ساقطان فيه.
(فصل) ونزع أحد الخفين كنزعهما في قول أكثر أهل العلم منهم مالك والثوري والأوزاعي
292

وابن المبارك والشافعي وأصحاب الرأي ويلزمه نزع الآخر، وقال الزهري: يغسل القدم الذي نزع
الخف منه ويمسح الآخر لأنهما عضوان فأشبها الرأس والقدم.
ولنا أنهما في الحكم كعضو واحد ولهذا لا يجب ترتيب أحدهما على الآخر فيبطل مسح أحدهما
بظهور الآخر كالرجل الواحدة وبهذا فارق الرأس والقدم.
(فصل) وانكشاف بعض القدم من خرق كنزع الخف فإن انكشفت ظهارته وبقيت بطانته
لم تضر لأن القدم مستورة بما يتبع الخف في البيع فأشبه ما لو لم ينكشط.
(فصل) وإن أخرج رجله إلى ساق الخف فهو كخلعه، وبهذا قال إسحاق وأصحاب الرأي.
وقال الشافعي: لا يبين لي أن عليه الوضوء لأن الرجل لم تظهر، وحكى أبو الخطاب في رؤس المسائل
عن أحمد رواية أخرى كذلك.
ولنا أن استقرار الرجل في الخف شرط جواز المسح بدليل ما لو أدخل الخف فأحدث قبل
استقرارها فيه لم يكن له المسح. فإذا تغير الاستقرار زال شرط جواز المسح فيبطل المسح لزوال شرطه
كزوال استتاره، وإن كان إخراج القدم إلى ما دون ذلك لم يبطل المسح لأنها لم تزل عن مستقرها.
(فصل) كره أحمد لبس الخفين وهو يدافع الأخبثين أو أحدهما لأن الصلاة مكروهة بهذه الطهارة
واللبس يراد ليمسح عليه للصلاة، وكان إبراهيم النخعي إذا أراد أن يبول لبس خفيه ولا يرى الامر
في ذلك واسعا (1) لأن الطهارة كاملة فأشبه ما لو لبسه إذا خاف غلبة النعاس وإنما كرهت الصلاة

(1) وفي نسخة الا واسعا
293

لأن اشتغال قلبه بمدافعة الأخبثين يذهب بخشوع الصلاة ويمنع الاتيان بها على الكمال وربما حمله ذلك
على العجلة فيها ولا يضر ذلك في اللبس
* (مسألة) * قال (ولو أحدث وهو مقيم فلم يمسح حتى سافر أتم على مسح مسافر
منذ كان الحدث)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من لم يمسح حتى سافر أنه يتم مسح المسافر وذلك لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وهو حال ابتدائه بالمسح كان مسافرا، وقوله
منذ كان الحدث يعني ابتداء المدة من حين أحدث بعد لبس الخف، هذا ظاهر مذهب أحمد وهو
مذهب الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد رواية أخرى ان ابتداءها من حين
مسح بعد أن أحدث، ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه فروى الخلال عنه أنه قال: امسح إلى مثل
ساعتك التي مسحت. وفي لفظ قال: يمسح المسافر إلى الساعة التي توضأ فيها، واحتج أحمد بظاهر
الحديث قوله يمسح المسافر على خفيه ثلاثة أيام ولياليهن. ولان ما قبل المسح مدة لم تبح الصلاة بمسح
الخف فيها فلم تحسب من المدة كما قبل الحدث، وقال الشعبي وأبو ثور وإسحاق: يمسح المقيم خمس
صلوات لا يزيد عليها.
294

ولنا ما نقله القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان " من الحدث إلى الحدث " ولان ما بعد
الحدث زمان يستباح فيه المسح فكان من وقته كبعد المسح والخبر أراد أنه يستبيح المسح دون فعله
والله أعلم، وأما تقديره بعدد الصلوات فلا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قدره بالوقت
دون الفعل فعلى هذا يمكن المقيم أن يصلي بالمسح ست صلوات وهو أن يؤخر الصلاة ثم يمسح ويصليها
وفي اليوم الثاني يعجلها فيصليها في أول وقتها قبل انقضاء مدة المسح وإن كان له عذر يبيح الجمع من
سفر أو غيره أمكنه أن يصلي سبع صلوات.
* (مسألة) * قال (ولو أحدث مقيما ثم مسح مقيما ثم سافر أتم على مسح مقيم ثم خلع)
اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروى عنه مثل ما ذكر الخرقي وهو قول الثوري والشافعي
وإسحاق، وروي عنه أنه يمسح مسح المسافر سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن لا
تنقضي مدة المسح وهو حاضر، وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام " يمسح المسافر ثلاثة أيام
ولياليهن " وهذا مسافر ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث وهذا
اختيار الخلال وصاحبه أبو بكر وقال الخلال رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا.
وجه قول الخرقي أنها عبادة تختلف بالحضر والسفر وجد أحد طرفيها في الحضر فغلب فيها حكم الحضر
295

كالصلاة والخبر يقتضي أن يمسح المسافر ثلاثا في سفره وهذا يتناول من ابتدأ المسح في سفره وفي
مسئلتنا يحتسب بالمدة التي مضت في الحضر.
(فصل) فإن شك هل ابتدأ المسح في السفر أو الحضر بني على مسح حاضر لأنه لا يجوز المسح
مع الشك في إباحته فإن ذكر بعد أنه كان قد ابتدأ المسح في السفر جاز البناء على مسح مسافر، وإن كان
قد صلى بعد اليوم والليلة مع الشك ثم تيقن فعليه إعادة ما صلى مع الشك لأنه صلى بطهارة لم
يكن له أن يصلي بها فهو كما لو صلى يعتقد أنه محدث ثم ذكر أنه كان على وضوء كانت طهارته صحيحة
وعليه إعادة الصلاة. وإن كان مسح مع الشك صح لأن الطهارة تصح مع الشك في سببها ألا ترى أنه
لو شك في الحدث فتوضأ ينوي رفع الحدث ثم تيقن أنه كان محدثا أجزأه وعكسه ما لو شك في
دخول الوقت فصلى ثم تيقن أنه كان قد دخل لم يجزه وكذلك إن شك الماسح في وقت الحدث بنى على
الأحوط عنده. وهذا التفريع على الرواية الأولى فأما على الثانية فإنه يمسح مسح المسافر على كل حال
* (مسألة) * قال (وإذا مسح مسافر أقل من يوم وليلة ثم أقام أو قدم أتم على مسح مقيم
وخلع، وإذا مسح مسافر يوما وليلة فصاعدا ثم أقام أو قدم خلع)
وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا لأنه صار مقيما لم يجز له أن يمسح مسح
296

المسافر كمحل الوفاق ولان المسح عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر فإذا ابتدأها في السفر ثم حضر
في أثنائها غلب حكم الحضر كالصلاة فعلى هذا لو مسح أكثر من يوم وليلة ثم دخل في الصلاة فنوى
الإقامة في أثنائها بطلت صلاته لأنه قد بطل المسح فبطلت طهارته فبطلت صلاته لبطلانها ولو تلبس
بالصلاة في سفينة فدخلت البلد في أثنائها بطلت صلاته لذلك.
* (مسألة) * قال (ولا يمسح الا على خفين أو ما يقوم مقامهما من مقطوع أو ما
أشبهه مما يجاوز الكعبين) *
معناه والله أعلم يقوم مقام الخفين في ستر محل الفرض وامكان المشي فيه وثبوته بنفسه والمقطوع
هو الخف القصير الساق وإنما يجوز المسح عليه إذا كان ساترا لمحل الفرض لا يرى منه الكعبان لكونه
ضيقا أو مشدودا، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور ولو كان مقطوعا من دون الكعبين لم يجز المسح عليه
وهذا الصحيح عن مالك، وحكي عنه وعن الأوزاعي جواز المسح لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه
فأشبه السائر. ولنا أنه لا يستر محل الفرض فأشبه اللالكة والنعلين.
(فصل) ولو كان للخف قدم وله شرج محاذ لمحل الفرض جاز المسح عليه إذا كان الشرج
مشدودا يستر القدم ولم يكن فيه خلل يبين منه محل الفرض، وقال أبو الحسن الآمدي لا يجوز.
ولنا أنه خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه فأشبه غير ذي الشرج.
297

(فصل) فإن كان الخف محرما كالغصب والحرير لم يستبح المسح عليه في الصحيح من المذهب
وإن مسح عليه وصلى أعاد الطهارة والصلاة لأنه عاص بلبسه فلم تستبح به الرخصة كما لا يستبيح المسافر
رخص السفر لسفر المعصية، ولو سافر لمعصية لم يستبح المسح أكثر من يوم وليلة لأن يوما وليلة غير
مختصة بالسفر ولا هي من رخصة فأشبه غير الرخص بخلاف ما زاد على يوم وليلة فإنه من رخص السفر
فلم يستبحه بسفر المعصية كالقصر والجمع.
(فصل) ويجوز المسح على كل خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه سواء كان من جلود أو لبود
وما أشبهها فإن كان خشبا أو حديدا أو نحوهما فقال بعض أصحابنا: لا يجوز المسح عليها لأن الرخصة
وردت في الخفاف المتعارفة للحاجة ولا تدعو الحاجة إلى المسح على هذه في الغالب. وقال القاضي:
قياس المذهب جواز المسح عليها لأنه خف ساتر (1) يمكن المشي فيه أشبه الجلود.
* (مسألة) * قال (وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه)
إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف (أحدهما) أن يكون صفيقا
لا يبدو منه شئ من القدم (الثاني) أن يمكن متابعة المشي فيه. هذا ظاهر كلام الخرقي قال أحمد في
المسح على الجوربين بغير نعل إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس، وفي موضع قال يمسح

(1) هذا الظاهر فإن علة المسح ستر الرجلين طاهرتين لا صفة الخف ومادته ولا امكان المشي عليه
298

عليهما إذا ثبتا في العقب. وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه فإنه إذا
انثنى ظهر موضع الوضوء. ولا يعتبر أن يكونا مجلدين قال أحمد يذكر المسح على الجوربين عن سبعة
أو ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن المنذر ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وعمار وابن مسعود وأنس وابن عمر والبراء وبلال وابن أبي
أوفى وسهل بن سعد وبه قال عطاء والحسن وسعيد بن المسيب والنخعي وسعيد بن جبير والأعمش
والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وإسحاق ويعقوب ومحمد. وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي
ومجاهد وعمرو بن دينار والحسن بن مسلم والشافعي: لا يجوز المسح عليهما الا أن ينعلا لأنهما لا يمكن
متابعة المشي فيهما فلم يجز المسح عليهما كالرقيقين.
ولنا ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين. قال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح وهذا يدل على أن النعلين لم يكونا عليهما لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر
النعلين فإنه لا يقال مسحت على الخف ونعله. ولان الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب
ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم فكان اجماعا ولأنه ساتر لمحل الفرض يثبت في القدم فجاز المسح عليه
كالنعل. وقولهم لا يمكن متابعة المشي فيه قلنا لا يجوز المسح عليه إلا أن يكون مما يثبت بنفسه ويمكن
متابعة المشي فيه وأما الرقيق فليس بساتر.
299

(فصل) وقد سئل أحمد عن جورب الخرق يمسح عليه فكره الخرق ولعل أحمد كرهها لأن
الغالب عليها الخفة وأنها لا تثبت بأنفسها فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت فلا
فرق. وقد قال أحمد في موضع لا يجزئه المسح على الجورب حتى يكون جوربا صفيقا يقوم قائما في رجله
لا ينكسر مثل الخفين إنما مسح القوم على الجوربين انه كان عندهم بمنزلة الخف يقوم مقام الخف في
رجل الرجل يذهب فيه الرجل ويجئ.
* (مسألة) * قال (فإن كان يثبت بالنعل مسح فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة)
يعني أن الجورب إذا لم يثبت بنفسه وثبت بلبس النعل أبيح المسح عليه وتنتقض الطهارة بخلع
النعل لأن ثبوت الجورب أحد شرطي جواز المسح وإنما حصل بلبس النعل فإذا خلعها زال الشرط
فبطلت الطهارة كما لو ظهر القدم والأصل في هذا حديث المغيرة. وقوله مسح على الجوربين والنعلين قال
القاضي: ويمسح على الجورب والنعل كما جاء الحديث والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما مسح على سيور
النعل التي على ظاهر القدم فأما أسفله وعقبه فلا يسن مسحه من الخف فكذلك من النعل.
* (مسألة) * قال (وإذا كان في الخف خرق يبدو منه بعض القدم لم يجز المسح عليه)
وجملته انه إنما يجوز المسح على الخف ونحوه إذا كان ساترا لمحل الفرض فإن ظهر من محل الفرض
300

شئ لم يجز المسح وإن كان يسيرا من موضع الخرز أو من غيره إذا كان يرى منه القدم، وإن كان فيه
شق ينضم ولا يبدو منه القدم لم يمنع جواز المسح نص عليه وهو مذهب معمر وأحد قولي الشافعي،
وقال الثوري ويزيد بن هارون وإسحاق وابن المنذر: يجوز المسح على كل خف، وقال الأوزاعي
يمسح على الخف المخرق وعلى ما ظهر من رجله. وقال أبو حنيفة إن تخرق قدر ثلاث أصابع لم يجز وإن
كان أقل جاز ونحوه قال الحسن، وقال مالك إن كثر وتفاحش لم يجز وإلا جاز وتعلقوا بعموم الحديث
وبأنه خف يمكن متابعة المشي فيه فأشبه الصحيح ولان الغالب على خفاف العرب كونها مخرقة وقد أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بمسحها من غير تفصيل فينصرف إلى الخفاف الملبوسة عندهم غالبا
ولنا أنه غير ساتر للقدم فلم يجز المسح عليه كما لو كثر وتفاحش أو قياسا على غير الخف ولان حكم
ما ظهر الغسل وما استتر المسح فإذا اجتمعا غلب حكم الغسل كما لو انكشفت إحدى قدميه.
(فصل) ولا يجوز المسح على اللفائف والخرق نص عليه أحمد. وقيل إن أهل الجبل يلفون
301

على أرجلهم لفائف إلى نصف الساق قال لا يجزئه المسح على ذلك إلا أن يكون جوربا وذلك لأن
اللفافة لا تثبت بنفسها إنما تثبت بشدها ولا نعلم في هذا خلافا (1)
* (مسألة) * قال (ويمسح على ظاهر القدم)
السنة مسح أعلا الخف دون أسفله وعقبه فيضع يده على موضع الأصابع ثم يجرها إلى ساقه خطا
بأصابعه، وان مسح من ساقه إلى أصابعه جاز والأول المسنون، ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه بذلك
قال عروة وعطاء والحسن والنخعي والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر.
وروي عن سعد أنه كان يرى مسح ظاهره وباطنه، وروي أيضا عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والزهري
ومكحول وابن المبارك ومالك والشافعي لما روى المنيرة بن شعبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح
أعلى الخف وأسفله رواه ابن ماجة، ولأنه يحاذي محل الفرض فأشبه ظاهره

(1) الذي حققه شيخ الاسلام ابن تيمية جواز المسح على كل ما يستر الرجلين في الجملة سواء ثبت بنفسه أو بشدة بشئ آخر وان علة المسح الحاجة إلى سترهما
والمشقة في نزع الساتر في الغسل وأنه ليس لشكل الساتر ولا لجنسه ولا لثبوته بنفسه أو بغيره دخل في ذلك فليراجع فتاواه من شاء تفصيل ذلك
302

ولنا قول علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره
وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه رواه أبو داود. وعن المغيرة قال رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما رواه أبو داود والترمذي وقال حديث
حسن صحيح، وعن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالمسح على ظاهر الخفين إذا لبسهما
وهما طاهرتان: رواه الخلال باسناده ولان باطنه ليس بمحل لفرض المسح فلم يكن محلا لمسنونه كساقه
ولان مسحه غير واجب ولا يكاد يسلم من مباشرة أذى فيه تتنجس يده به فكان تركه أولى،
وحديثهم معلول قاله الترمذي قال وسألت أبا زرعة ومحمدا (1) عنه فقالا ليس بصحيح. وقال أحمد هذا
من وجه ضعيف رواه رجاء بن حياة عن وراد كاتب المغيرة ولم يلقه. وأسفل الخف ليس بمحل

(1) كلما قال الترمذي سألت محمدا عن حديث كذا فهو يعني شيخه البخاري صاحب الصحيح
303

لفرض المسح بخلاف أعلاه.
(فصل) والمجزئ في المسح أن يمسح أكثر مقدم ظاهره خطوطا بالأصابع، وقال الشافعي:
يجزئه أقل ما يقع عليه اسم المسح لأنه أطلق لفظ المسح ولم ينقل فيه تقدير فوجب الرجوع إلى ما يتناوله
الاسم، وقال أبو حنيفة: يجزئه قدر ثلاث أصابع لقول الحسن: سنة المسح خطط بالأصابع فينصرف
إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقل لفظ الجمع ثلاث.
ولنا أن لفظ المسح ورد مطلقا وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله فيجب الرجوع إلى تفسيره
وقد روى الخلال باسناده عن المغيرة بن شعبة فذكر وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم توضأ
ومسح على الخفين فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح
أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين، قال ابن عقيل: سنة المسح
هكذا أن يمسح خفيه بيديه اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى، وقال أحمد: كيفما فعله فهو جائز
304

باليد الواحدة أو باليدين وقول الحسن مع ما ذكرنا لا يتنافيان
(فصل) فإن مسح بخرقة أو خشبة احتمل الاجزاء لأنه مسح على خفيه واحتمل المنع لأن
النبي صلى الله عليه وسلم مسح بيده وان مسح بأصبع أو إصبعين أجزأه إذا كرر لمسح بها حتى يصير
مثل المسح بأصابعه وقيل لأحمد يمسح بالراحتين أو بالأصابع؟ قال بالأصابع قيل له أيجزئه بأصبعين؟
قال: لم أسمع.
(فصل) وإن غسل الخف فتوقف أحمد وأجازه ابن حامد لأنه أبلغ من المسح قال القاضي:
لا يجزئه لأنه أمر بالمسح ولم يفعله فلم يجزه كما لو طرح التراب على وجهه ويديه في التيمم لكن ان أمر
يديه على الخفين في حال الغسل أو بعده أجزأه لأنه قد مسح
" مسألة " قال (وان مسح أسفله دون أعلاه لم يجزه)
لا نعلم أحدا قال يجزئه مسح أسفل الخف إلا أشهب من أصحاب مالك وبعض أصحاب
الشافعي لأنه مسح بعض ما يحاذي محل الفرض فاجزأه كما لو مسح ظاهره والمنصوص عن الشافعي
305

أنه لا يجزئه لأنه ليس محلا لفرض المسح فلم يجزئ مسحه كالساق وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
مسح ظاهر الخف ولا خلاف في أنه يجزئ مسح ظاهره قال ابن المنذر لا أعلم أحدا يقول بالمسح على
الخفين يقول لا يجزئ المسح على أعلى الخف
(فصل) والحكم في المسح على عقب الخف كالحكم في مسح أسفله لأنه ليس بمحل لفرض
المسح فهو كأسفله.
" مسألة " قال (والرجل والمرأة في ذلك سواء)
يعنى في المسح على الخفاف وسائر أحكامه وشروطه لعموم الخبر ولأنه مسح أقيم مقام الغسل
306

فاستوى فيه الرجال والنساء كالتيمم ولا فرق بين المستحاضة ومن به سلس البول وغيرهما. وقال
بعض الشافعية ليس لهما أن يمسحا على الخف أكثر من وقت صلاة لأن الطهارة التي لبسا الخف
عليها لا يستباح بها أكثر من ذلك
ولنا عموم قوله عليه السلام " يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن " ولان المسح
لا يبطل بمبطلات الطهارة فلا يبطل بخروج الوقت لكن إن زال عذرهما كملا في بابهما فلم يكن لهما
المسح بتلك الطهارة كالمتيمم إذا أكمل بالقدرة على الماء لا يمسح بالخف الملبوس على التيمم.
(فصل) ويجوز المسح على العمامة قال ابن المنذر وممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه
قال عمر وأنس وأبو أمامة، وروي عن سعيد بن مالك وأبي الدرداء رضي الله عنهم وبه قال عمر بن
307

عبد العزيز والحسن وقتادة ومكحول والأوزاعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال عروة والنخعي والشعبي
والقاسم ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا يمسح عليها لقول الله تعالى (وامسحوا برءوسكم) ولأنه
لا تلحقه المشقة في نزعها فلم يجز المسح عليها كالكمين. ولنا ما روى المغيرة بن شعبة قال: توضأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وفي مسلم أن النبي
صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار قال أحمد هو من خمسة وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى الخلال باسناده
عن عمر رضي الله عنه أنه قال من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ولأنه حائل في محل ورد
الشرع بمسحه فجاز المسح عليه كالخفين، ولان الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح
308

على حائله كالقدمين والآية لا تنفي ما ذكرناه فإن النبي صلى الله عليه وسلم مبين لكلام الله مفسر له وقد مسح
النبي صلى الله عليه وسلم على العمامة وأمر بالمسح عليها وهذا يدل على أن المراد بالآية المسح على الرأس أو حائله
ومما يبين ذلك أن المسح في الغالب لا يصيب الرأس. وإنما يمسح على الشعر وهو حائل بين اليد
وبينه فكذلك العمامة فإنه يقال لمن لمس عمامته أو قبلها قبل رأسه ولمسه وكذلك أمر بمسح الرجلين
واتفقنا على جواز مسح حائلهما،
(فصل) ومن شروط جواز المسح على العمامة أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة
بكشفه كمقدم الرأس والأذنين وشبههما من جوانب الرأس فإنه يعفى عنه بخلاف الخرق اليسير في
الخف فإنه لا يعفى عنه لأن هذا الكشف جرت العادة به لمشقة التحرز عنه فإن كان تحت العمامة
قلنسوة يظهر بعضها فالظاهر جواز المسح عليهما لأنهما صارا كالعمامة الواحدة، ومن شروط جواز المسح
عليها أن تكون على صفة عمائم المسلمين بأن يكون تحت الحنك منها شئ لأن هذه عمائم العرب
وهي أكثر سترا من غيرها ويشق نزعها فيجوز المسح عليها سواء كانت لها ذؤابة أو لم يكن قاله القاضي
وسواء كانت صغيرة أو كبيرة وان لم يكن تحت الحنك منها شئ ولا لها ذؤابة لم يجز المسح عليها
لأنها على صفة عمائم أهل الذمة ولا يشق نزعها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتلحي ونهى
309

عن الاقتعاط رواه أبو عبيد قال: والاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شئ وروي أن عمر
رضي الله عنه رأى رجلا ليس تحت حنكه من عمامته شئ فحكه بكور منها وقال: ما هذه الفاسقية؟
فامتنع المسح عليها للنهي عنها وسهولة نزعها وان كانت ذات ذؤابة ولم تكن محنكة ففي المسح عليها
وجهان (أحدهما) جوازه لأنها لا تشبه عمائم أهل الذمة إذ ليس من عادتهم الذؤابة (والثاني) لا
يجوز لأنها داخلة في عموم النهي ولا يشق نزعها.
(فصل) وإذا كان بعض الرأس مكشوفا مما جرت العادة بكشفه استحب أن يمسح عليه مع
العمامة نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وناصيته في حديث المغيرة بن شعبة وهو
حديث صحيح قاله الترمذي، وهل الجمع بينهما واجب؟ وقد توقف أحمد عنه فيخرج فيها وجهان
(أحدهما) وجوبه للخبر ولان العمامة نابت عما استتر فبقي الباقي على مقتضى الأصل كالجبيرة
(والثاني) لا يجب لأن العمامة نابت عن الرأس فتعلق الحكم بها وانتقل الفرض إليها فلم يبق لما ظهر
حكم ولان وجوبهما معا يفضي إلى الجمع بين بدل ومبدل في عضو واحد فلم يجز من غير ضرورة
كالخف وعلى هذا تخرج الجبيرة ولا خلاف في أن الاذنين لا يجب مسحهما لأنه لم ينقل ذلك
وليسا من الرأس إلا على وجه التبع.
(فصل) وان نزع العمامة بعد المسح عليها بطلت طهارته نص عليه أحمد وكذلك أن انكشف
310

رأسه إلا أن يكون يسيرا مثل أن حك رأسه أو رفعها لأجل الوضوء فلا بأس، قال أحمد: إذا زالت
العمامة عن هامته لا بأس ما لم ينقضها أو يفحش ذلك، وذلك لأن هذا مما جرت العادة به فيشق
التحرز عنه، وان انتقضت العمامة بعد مسحها بطلت طهارته لأن ذلك بمنزلة نزعها، وان انتقض بعضها
ففيه روايتان ذكرهما ابن عقيل (إحداهما) لا تبطل طهارته لأنه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء
العضو مستورا فلم تبطل الطهارة ككشط الخف مع بقاء البطانة (والثانية) تبطل، قال القاضي: لو
انتقض منها كور واحد بطلت لأنه زال الممسوح عليه فأشبه نزع الخف.
(فصل) واختلف في وجوب استيعاب العمامة بالمسح فروي عن أحمد أنه قال: يمسح على
العمامة كما يمسح على رأسه فيحتمل أنه أراد التشبيه في صفة المسح دون الاستيعاب وأنه يجزئ مسح
بعضها لأنه ممسوح على وجه الرخصة فأجزأ مسح بعضه كالخف. ويحتمل أنه أراد التشبيه في
الاستيعاب فيخرج فيها من الخلاف ما في وجوب استيعاب الرأس وفيه روايتان أظهرهما وجوب
استيعابه بالمسح فكذلك في العمامة لأن مسح العمامة بدل من الجنس فيقدر بقدر المبدل كقراءة غير
الفاتحة من القرآن بدلا من الفاتحة يجب أن يكون بقدرها ولو كان البدل تسبيحا لم يتقدر بقدرها
ومسح الخف بدل من غير الجنس لأنه بدل عن الغسل فلم يتقدر به كالتسبيح بدلا عن القرآن.
وقال القاضي: يجزئ مسح بعضها كاجزاء المسح في الخف على بعضه ويختص ذلك بأكوارها وهي
دوائرها دون وسطها وحده، فإن مسح وسطها ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه كما يجزئ مسح بعض دوائرها
311

(والثاني) لا يجزئه كما لو مسح أسفل الخف.
(فصل) والتوقيت في مسح العمامة كالتوقيت في مسح الخف لما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " يمسح على الخفين والعمامة ثلاثا في السفر ويوما وليلة للمقيم " رواه الخلال باسناده إلا أنه من
رواية شهر بن حوشب ولأنه ممسوح على وجه الرخصة فتوقت بذلك كالخف.
(فصل) والعمامة المحرمة كعمامة الحرير والمغصوبة لا يجوز المسح عليها لما ذكرنا في الخف
المغصوب وإن لبست المرأة عمامة لم يجز المسح عليها لما ذكرنا من التشبه بالرجال (1) فكانت محرمة
في حقها، وإن كان لها عذر فهذا يندر فلم يرتبط الحكم به.
(فصل) ولا يجوز المسح على القلنسوة (الطاقية) نص عليه أحمد، قال هارون الحمال: سئل أبو
عبد الله عن المسح على الكلتة فلم يره، وذلك لأنها لا تستر جميع الرأس في العادة ولا يدور (2) عليه،
وأما القلانس المبطنات كدنيات القضاة والمنوميات فقال إسحاق بن إبراهيم قال أحمد: لا يمسح على
القلنسوة. وقال ابن المنذر: ولا نعلم أحدا قال بالمسح على القلنسوة إلا أن أنسا مسح على قلنسوته
وذلك لأنها لا مشقة في نزعها فلم يجز المسح عليها كالكلتة ولأنها أدنى من العمامة غير المحنكة التي
ليست لها ذؤابة. وقال ابن بكر الخلال إن مسح انسان على القلنسوة لم أر به بأسا لأن أحمد قال في
رواية الميموني: أنا أتوقاه وإن ذهب إليه ذاهب لم يعنفه، قال الخلال وكيف يعنفه وقد روي عن

(1) وفي نسخة: لأنها منهية عن التشبه بالرجال
(2) وفي نسخة " تدوم "
312

رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحاح ورجال ثقات، فروى الأثرم باسناده عن عمر
أنه قال إن شاء حسر عن رأسه وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته. وروى باسناده عن أبي موسى
أنه خرج من الخلاء فمسح على القلنسوة ولأنه ملبوس معتاد يستر الرأس فأشبه العمامة المحنكة وفارق
العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها لأنها منهي عنها.
(فصل) وفي مسح المرأة على مقنعتها روايتان (إحداهما) بجوز لأن أم سلمة كانت تمسح على
خمارها ذكره ابن المنذر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالمسح على الخفين والخمار ولأنه ملبوس
للرأس معتاد يشق نزعه فأشبه العمامة (والثانية) لا يجوز المسح عليه فإن أحمد سئل كيف تمسح المرأة
على رأسها؟ قال من تحت الخمار ولا تمسح على الخمار، قال وقد ذكروا أن أم سلمة كانت تمسح على خمارها
وممن قال لا تمسح على خمارها نافع والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز
لأنه ملبوس لرأس المرأة فلم يجز المسح عليه كالوقاية ولا يجزئ المسح على الوقاية رواية واحدة. ولا
نعلم فيه خلافا لأنها لا يشق نزعها فهي كالطاقية للرجل والله أعلم.
باب الحيض
الحيض دم يرخيه الرحم إذا بلغت المرأة ثم يعتادها في أوقات معلومة لحكمة تربية الولد فإذا
حملت انصرف ذلك الدم بإذن الله إلى تغذيته ولذلك لا تحيض الحامل فإذا وضعت الولد قلبه الله
تعالى بحكمته لبنا يتغذى به الطفل ولذلك قلما تحيض المرضع فإذا خلت المرأة من حمل ورضاع
313

بقي ذلك الدم لا مصرف له فيستقر في مكان ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة وقد
يزيد على ذلك ويقل ويطول شهر المرأة ويقصر على حسب ما ركبه الله تعالى في الطباع. وسمي حيضا
من قولهم حاض السيل قال عمارة بن عقيل:
أجالت حصاهن الذراري وحيضت * عليهن حيضات السيول الطواحم (1)
وقد علق الشرع على الحيض أحكاما (فمنها) أنه يحرم وطئ الحائض في الفرج لقول الله تعالى
(ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن
فائتوهن من حيث أمركم الله) (ومنها) أنه يمنع فعل الصلاة والصوم بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم
" أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي؟ " رواه البخاري، وقالت حمنة للنبي صلى الله
عليه وسلم إني أستحاض حيضة شديدة منكرة قد منعتني الصوم والصلاة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت أبي حبيش " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة " (ومنها) أنه يسقط وجوب الصلاة دون
الصيام لما روي أن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟
فقالت أحرورية أنت؟ فقلت لست بحرورية ولكني أسأل فقالت: كنا نحيض على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة متفق عليه. إنما قالت لها عائشة

(1) أي الدوافع واحدها " طحمة " بالفتح والضم وهي دفعة السيل ومعظمه
314

ذلك لأن الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة (ومنها) أنه يمنع قراءة القرآن لقوله عليه السلام
" لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " ومنها أنه يمنع اللبث في المسجد والطواف بالبيت لأنه
في معنى الجنابة (ومنها) أنه يحرم الطلاق لقول الله تعالى (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) ولما
طلق ابن عمر امرأته وهي حائض أمره النبي صلى الله عليه وسلم برجعتها وامساكها حتى تطهر (ومنها)
أنه يمنع صحة الطهارة لأن حدثها مقيم (ومنها) أنه يوجب الغسل عند انقطاعه، لقوله عليه السلام
315

امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي " متفق عليه، وهو علم على البلوغ لقوله
عليه السلام " لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار " ولا تنقضي العدة في حق المطلقة وأشباهها إلا به
316

لقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وأكثر هذه الأحكام مجمع عليها بين علماء
317

الأمة. وإذا ثبت هذا فالحاجة داعيه إلى معرفة الحيض ليعلم ما يتعلق به من الأحكام قال أحمد رحمه
318

الله: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة. وفي رواية: حديث أم سلمة
مكان حديث أم حبيبة وسنذكر هذه الأحاديث وغيرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
319

* (مسألة) * قال (وأقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما)
هذا الصحيح من مذهب أبي عبد الله. وقال الخلال: مذهب أبي عبد الله لا اختلاف فيه أن أقل
الحيض يوم وأكثره خمسة عشر يوما. وقيل عنه أكثره سبعة عشر يوما وللشافعي قولان كالروايتين
في أقله وأكثره، وقال إسحاق بن راهويه قال عطاء الحيض يوم واحد، وقال سعيد بن جبير أكثره
ثلاثة عشر يوما، وقال الثوري وأبو حنيفة وصاحباه أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة لما روى واثلة بن
الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة " وقال أنس: قرة المرأة ثلاث
أربع خمس ست سبع ثمان تسع عشرة، ولا يقول أنس ذلك الا توقيفا، وقال مالك بن أنس: ليس
لأقله حد يجوز أن يكون ساعة لأنه لو كان لأقله حد لكانت المرأة لا تدع الصلاة حتى يمضي ذلك
الحد، ولنا أنه ورد في الشرع مطلقا من غير تحديد ولا حد له في اللغة ولا في الشريعة فيجب
320

الرجوع فيه إلى العرف والعادة كما في القبض والاحراز والتفرق وأشباهها، وقد وجد حيض معتاد يوما
قال عطاء رأيت من النساء من تحيض يوما وتحيض خمسة عشر، وقال أحمد حدثني يحيى بن آدم
قال: سمعت شريكا يقول عندنا امرأة تحيض كل شهر خمسة عشر يوما حيضا مستقيما. وقال ابن
المنذر: قال الأوزاعي عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشيا يرون أنه حيض تدع له الصلاة، وقال
الشافعي رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوما لا تزيد عليه وأثبت لي عن نساء أنهن
لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام. وذكر إسحاق بن راهويه عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال تحيض
امرأتي يومين، وقال إسحاق قالت امرأة من أهلنا معروفة لم أفطر منذ عشرين سنة في شهر رمضان
إلا يومين وقولهن يجب الرجوع إليه لقوله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن)
فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن الكتمان وجرى ذلك مجرى قوله (ولا تكتموا الشهادة) ولم يوجد
321

حيض أقل من ذلك عادة مستمرة في عصر من الاعصار فلا يكون حيضا بحال. وحديث واثلة يرويه
محمد بن أحمد الشامي وهو ضعيف عن حماد بن المنهال وهو مجهول. وحديث أنس يرويه الجلد بن أيوب
وهو ضعيف قال ابن عيينة هو محدث لا أصل له. قال أحمد في حديث أنس: ليس هو شيئا هذا
من قبل الجلد بن أيوب، قيل إن محمد بن إسحاق رواه وقال ما أراه سمعه إلا من الحسن بن دينار
وضعفه جدا قال: وقال يزيد بن زريع ذاك أبو حنيفة لم يحتج إلا بالجلد بن أيوب وحديث الجلد قد
روي عن علي رضي الله عنه ما يعارضه فإنه قال ما زاد على خمسة عشر استحاضة وأقل الحيض يوم وليلة
(فصل) وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما لأن كلام أحمد لا يختلف أن العدة تصح
أن تنقضي في شهر واحد إذا قامت به البينة، وقال إسحاق توقيت هؤلاء بالخمسة عشر باطل قال أبو
بكر أقل الطهر مبني على أكثر الحيض، فإن قلنا أكثره خمسة عشر يوما فأقل الطهر خمسة عشر، وإن
قلنا أكثره سبعة عشر فأقل الطهر ثلاثة عشر وهذا كأنه بناه على أن شهر المرأة لا يزيد على ثلاثين
يوما يجتمع لها فيه حيض وطهر، وأما إذا زاد شهرها على ذلك تصور أن يكون حيضها سبعة عشر
322

وطهرها خمسة عشر وأكثر. وقال مالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة. أقل الطهر خمسة عشر،
وذكر أبو ثور أن ذلك لا يختلفون فيه.
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته وقد طلقها زوجها فزعمت أنها حاضت في
شهر ثلاث حيض طهرت عند كل قرء وصلت فقال علي لشريح قل فيها؟ فقال شريح ان جاءت ببينة
من بطانة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته فشهدت بذلك وإلا فهي كاذبة. فقال علي " قالون " وهذا
بالرومية ومعناه جيد وهذا لا يقوله إلا توقيفا ولأنه قول صحابي انتشر ولم نعلم خلافه رواه الإمام أحمد
باسناده. ولا يجئ إلا على قولنا أقله ثلاثة عشر وأقل الحيض يوم وليلة وهذا في الطهر بين الحيضتين،
فأما الطهر في أثناء الحيضة فلا توقيت فيه فإن ابن عباس قال: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي
وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل، وروي أن الطهر إذا كان أقل من يوم لا يلتفت إليه لقول عائشة:
لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. ولان الدم يجري مرة وينقطع أخرى فلا يثبت الطهر بمجرد انقطاعه
كما لو انقطع أقل من ساعة.
" مسألة " قال (فمن أطبق بها الدم فكانت ممن تميز فتعلم اقباله بأنه أسود ثخين منتن
323

وإدباره رقيق أحمر تركت الصلاة في اقباله فإذا أدبر اغتسلت وتوضأت لكل صلاة وصلت)
قوله أطبق بها الدم يعني امتد وتجاوز أكثر الحيض فهذه مستحاضة قد اختلط حيضها باستحاضتها
فتحتاج إلى معرفة الحيض من الاستحاضة لترتب على كل واحد منهما حكمه ولا تخلو من أربعة أحوال
مميزة لا عادة لها، ومعتادة لا تمييز لها، ومن لها عادة وتمييز، ومن لا عادة لها ولا تمييز. أما المميزة
فهي التي ذكرها الخرقي في هذه المسألة وهي التي لدمها اقبال وادبار بعضه أسود ثخين منتن وبعضه أحمر
مشرق أو أصفر أو لا رائحة له ويكون الدم الأسود أو الثخين لا يزيد على أكثر الحيض ولا ينقص
عن أقله فحكم هذه أن حيضها زمان الدم الأسود أو الثخين أو المنتن. فإن انقطع فهي مستحاضة
تغتسل للحيض وتتوضأ بعد ذلك لكل صلاة وتصلي، وذكر أحمد المستحاضة فقال لها سنن وذكر
324

المعتادة ثم قال: وسنة أخرى إذا جاءت فزعمت أنها تستحاض فلا تطهر قيل لها أنت الآن ليس
لك أيام معلومة فتجلسيها ولكن انظري إلى اقبال الدم وادباره فإذا أقبلت الحيضة واقبالها أن ترى
دما أسود يعرف فإذا تغير دمها وكان إلى الصفرة والرقة فذلك دم استحاضة فاغتسلي وصلي وبهذا
قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا اعتبار بالتمييز إنما الاعتبار بالعادة خاصة لما روت أم سلمة أن
امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لتنظر عدة الأيام والليالي
التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك
فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وهو أحد الأحاديث الثلاثة
التي قال الإمام أحمد إن الحيض يدور عليها.
ولنا ماروت عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله
إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت
الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " متفق عليه وللنسائي وأبي داود " إذا كان
دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فامسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق " وقال
ابن عباس أما ما رأت الدم البحراني فإنها تدع الصلاة، وقال إنها والله لن ترى الدم الذي هو الدم
بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم وحديث أم سلمة إنما يدل على اعتبار العادة ولا نزاع فيه
وحديث فاطمة هو أحد الثلاثة التي يدور عليها الحيض.
(فصل) ظاهر كلام الخرقي أن المميزة إذا عرفت التمييز جلسته من غير اعتبار تكرار وهو ظاهر
325

كلام أحمد فيما روينا عنه وكذلك قال ابن عقيل لأن معنى التمييز أن يتميز أحد الدمين عن الآخر
في الصفة وهذا يوجد بأول مرة وبهذا قال الشافعي وقال القاضي وأبو الحسن الآمدي إنما تجلس المميزة
من التمييز ما تكرر مرتين أو ثلاثا بناء على الروايتين فيما تثبت به العادة.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي "
أمرها بترك الصلاة إذا أقلبت الحيضة من غير اعتبار أمر آخر ثم مده إلى حين ادباره ولان التمييز
امارة بمجرده فلم يحتج إلى ضم غيره إليه كالعادة، وعند القاضي إنما تجلس من التمييز ما وافق العادة لأنه
يعتبر التكرار ومتى تكرر صار عادة.
(فصل) فإن لم يكن الأسود مختلفا مثل أن ترى في كل شهر ثلاثة أسود ثم يصير أحمر ويعبر أكثر الحيض
فالأسود وحده حيض ولو لم يعبر أكثر الحيض كان جميع الدم حيضا لأنه دم أمكن أن يكون حيضا فكان
حيضا كما لو كان كله احمر. وإن كان مختلفا مثل ان يرى في الشهر الأول خمسة اسود وفي الثاني أربعة وفي
الثالث ثلاثة أو في الأول خمسة وفي الثاني ستة وفي الثالث سبعة أو في الأول خمسة وفي الثاني أربعة وفي الثالث
ستة أو غير ذلك من الاختلاف فعلى قولنا الأسود حيض في كل حال، وعلى قول القاضي الأسود حيض فيما
وافق العادة فقط وهو ثلاث في الأولى وخمس في الثانية وأربع في الثالثة وما زاد عليه ان تكرر فهو حيض وان
لم يتكرر فليس بحيض وعلى قوله لا تجلس منه في الشهر الأول والثاني الا اليقين الذي تجلسه من لا تمييز لها فإن كانت
مبتدأة لم تجلس الا يوما وليلة وهل تجلس الذي يتكرر في الشهر الثالث أو الرابع؟ ينبني على الروايتين فيما
326

تثبت به العادة ويكون حكمها حكم المبتدأة التي ترى دما لا يعبر أكثر الحيض. الأحمر ههنا كالطهر هناك
والأسود كالدم هناك فإن كانت ناسية وكان الأسود في أثناء الشهر وقلنا إنها تجلس من أول الشهر جلست
ههنا من أول الشهر ما تجلسه الناسية وإن كان أحمر. ولا تنتقل إلى الأسود حتى يتكرر فإذا تكرر انتقلت
إليه وعلمنا أنه حيض فتقضي ما صامته من الفرض فيه
(فصل) فإذا رأت أسود بين أحمرين أو أحمر بين أسودين وانقطع لدون أكثر الحيض فالجميع
حيض إذا تكرر لأن الأحمر أشبه بالحيض من الطهر وان عبر أكثر الحيض وكان الأسود بمفرده
يصلح أن يكون حيضا فهو حيض والأحمر كله استحاضة لأن الأحمر الأول أشبه بالأحمر الثاني الذي
حكمنا بأنه استحاضة وتلفق الأسود إلى الأسود فيكون حيضا ولا فرق بين كون الأسود قليلا أو
كثيرا إذا كان بانضمامه إلى بقية الأسود يبلغ أقل الحيض ولا يزيد عل أكثره ولا يكون بين طرفيهما
زمن يزيد على أكثر الحيض، وكذلك لافرق بين كون الأحمر قليلا أو كثيرا إذا كان زمنه يصلح
أن يكون طهرا فأما إن كان زمنه لا يصلح أن يكون طهرا مثل الشئ اليسير أو ما دون اليوم على
إحدى الروايتين فإنه يلحق بالدمين الذي هو بينهما لأنه لو كان الدم منقطعا لم يحكم بكونه طهرا فإذا
كان الدم جاريا كان أولى، فلو رأت يوما دما أسود ثم رأيت الثاني دما أحمر ثم رأت الثالث أسود ثم
صار أحمر وعبر لفقت الأسود إلى الأسود فصار حيضها يومين وباقي الدم استحاضة، وان رأت
نصف يوم أسود ثم صار أحمر ثم رأت الثاني كذلك ثم رأت الثالث كله أسود ثم صار أحمر وعبر
فإن قلنا إن الطهر يكون أقل من يوم لفقت الأسود إلى الأسود وكان حيضها يومين، وان قلنا
لا يكون أقل من يوم فحيضها الأيام الثلاثة الأول والباقي استحاضة. وان رأت نصف يوم أسود ثم
صار أحمر وعبر إلى العاشر ثم رأته كله أسود ثم صار أحمر وعبر فالأسود حيض كله ونصف اليوم الأول
ولو رأت بين الأسود وبين الأحمر نقاء يوما أو أكثر لم يتغير الحكم الذي ذكرناه لأن الأحمر محكوم
بأنه استحاضة مع اتصاله بالأسود فمع انفصاله عنه أولى.
327

(فصل) إذا رأت في شهر خمسة اسود ثم صار احمر واتصل وفي الثاني كذلك ثم صار الثالث
كله احمر ثم رأت في الرابع مثل الأول ثم رأت في الخامس خمسة احمر ثم صار اسود واتصل فحيضها
الأسود من الأول والثاني والرابع واما الثالث والخامس فلا تمييز لها فيهما لأن حكم الأسود في الخامس
سقط لعبوره فإن قلنا العادة تثبت بمرتين جلست ذلك من الأشهر الثلاثة وهي الثالث والرابع والخامس
وان قلنا لا تثبت الا بثلاثة جلست ذلك من الخامس لأنها قد رأت ذلك في ثلاثة أشهر، وقيل لا تثبت لها
عادة وتجلس ما تجلسه من الخامس من الدم الأسود لأنه أشبه بدم الحيض
(فصل) إذا رأت في كل شهر خمسة عشر يوما دما اسود وخمسة عشر احمر فالأسود كله حيض
لأنه يصلح أن يكون حيضا وقد رأت فيه امارة الحيض فيثبت كونه حيضا
* (مسألة) * قال (فإن لم يكن دمها منفصلا وكانت لها أيام من الشهر تعرفها أمسكت عن
الصلاة فيها واغتسلت إذا جاوزتها)
هذا القسم الثاني وهي من لها عادة ولا تمييز لها لكون دمها غير منفصل أي على صفة لا تختلف ولا
يتميز بعضه من بعض على ما ذكرنا في المميزة وكذلك إن كان منفصلا الان أن الدم الذي يصلح للحيض دون
أقل الحيض أو فوق أكثره فهذه لا تمييز لها. فإذا كانت لها عادة قبل أن تستحاض جلست أيام عادتها
واغتسلت عند انقضائها ثم تتوضأ بعد ذلك لوقت كل صلاة وتصلي وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال مالك لا اعتبار بالعادة إنما الاعتبار بالتمييز فإن لم تكن مميزة استطهرت بعد زمان عادتها بثلاثة أيام
ان لم تجاوز خمسة عشر يوما وهي بعد ذلك مستحاضة واحتج بحديث فاطمة الذي ذكرناه ولنا حديث
أم سلمة وقد روي في حديث فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم
اغتسلي وصلي " متفق عليه. وفي لفظ قال: فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك
الدم وصلي " متفق عليه. وروت أم حبيبة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم فقال لها " امكثي قدر ما كانت تحبسك
حيضتك ثم اغتسلي وصلي " رواه مسلم. وروى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
328

المستحاضة " تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة " أخرجه أبو داود
والترمذي ولا حجة له في الحديث على ترك العادة في حق من لا تمييز لها (1).
(فصل) ولا يختلف المذهب أن العادة لا تثبت بمرة، وظاهر مذهب الشافعي أنها تثبت بمره
وقال بعضهم تثبت بمرتين لأن المرأة التي استفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إلى الشهر الذي
يلي شهر الاستحاضة ولان ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه.
ولنا أن العادة مأخوذة من المعاودة ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة والحديث حجة لنا لأنه قال
" لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها " و (كان) يخبر
بها عن دوام الفعل وتكراره ولا يحصل ذلك بمرة ولا يقال لمن فعل شيئا مرة كان يفعل وفي الحديث
الآخر " تدع الصلاة أيام أقرائها " والأقراء جمع وأقله ثلاثة. وسائر الأحاديث الدالة على العادة تدل
على هذا ولا نفهم من اسم العادة فعل مرة بحال. واختلفت الرواية هل تثبت بمرتين أو ثلاث فعنه
أنها تثبت بمرتين لأنها مأخوذة من المعاودة وقد عاودتها في المرة الثانية. وعنه لا تثبت إلا بثلاث
لظاهر الأحاديث ولان العادة لا تطلق إلا على ما كثر وأقله ثلاثة ولان أكثر ما يعتبر له التكرار
اعتبر ثلاثا كأيام الخيار في المصراة.

(1) هذا الحديث ضعيف لا يحتج به لضعف راويه عن عدي وللاختلاف في توثيق عدي نفسه ولجهالة جده
329

(فصل) وتثبت العادة بالتمييز فإذا رأت دما أسود خمسة أيام في ثلاثة أشهر أو شهرين على
الرواية الأخرى ثم صار أحمر واتصل ثم صار في سائر الأشهر دما مبهما كانت عادتها زمن الدم الأسود
(فصل) والعادة على ضربين متفقة ومختلفة فالمتفقة أن تكون أياما متساوية كأربعة في كل شهر
فإذا استحيضت جلست الأربعة فقط. وأما المختلفة فإن كانت على ترتيب مثل ان كانت ترى في
شهر ثلاثة وفي الثاني أربعة وفي الثالث خمسة ثم تعود إلى ثلاثة ثم إلى أربعة على ما كانت فهذه
إذا استحيضت في شهر فعرفت نوبته عملت عليه ثم على الذي بعده ثم على الذي بعده على العادة
وإن نسيت نوبته حيضناها اليقين وهو ثلاثة أيام ثم تغتسل وتصلي بقية الشهر. وان أيقنت أنه غير
الأول وشكت هل هو الثاني أو الثالث جلست أربعة لأنها اليقين ثم تجلت من الشهرين الآخرين
ثلاثة ثلاثة ثم تجلس في الرابع أربعة ثم تعود إلى الثلاثة كذلك أبدا ويجزئها غسل واحد عند انقضاء
330

المدة التي جلستها كالناسية إذا جلست أقل الحيض لأن ما زاد على اليقين مشكوك فيه فلا نوجب
عليها الغسل بالشك، ويحتمل وجوب الغسل عليها أيضا عند مضي أكثر عادتها لأن يقين الحيض
ثابت وحصول الطهارة بالغسل مشكوك فيه فلا تزول عن اليقين بالشك ولأن هذه متيقنة وجوب
الغسل عليها في أحد الأيام الثلاثة في اليوم الخامس وقد اشتبه عليها وصحة صلاتها تقف على الغسل
فيجب عليها لتخرج عن العهدة بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها. وهذا الوجه أصح لما ذكرنا
وتفارق الناسية فإنها لا تعلم لها حيضا زائدا على ما جلسته وهذه تتيقن لها حيضا زائدا على ما جلسته
تقف صحة صلاتها على غسلها منه فوجب ذلك. فعلى هذا يلزمها غسل ثان عقيب اليوم الخامس في
كل شهر، وإن جلست في رمضان ثلاثة أيام قضت خمسة أيام لأن الصوم كان في ذمتها ولا نعلم أن
اليومين اللذين صامتهما أسقطا الفرض من ذمتها فيبقى على الأصل، ويحتمل أن يلزمها في كل شهر
ثلاثة أغسال غسل عقب اليوم الثالث وغسل عقب الرابع وغسل عقب الخامس لأن عليها عقيب
الرابع غسلا في أحد الأشهر وكل شهر يحتمل أن يكون هو الشهر الذي يجب الغسل فيه بعد الرابع
فيلزمها ذلك كما قلنا في الخامس.
وإن كان الاختلاف على غير ترتيب مثل أن تحيض من شهر ثلاثة ومن الثاني خمسة ومن الثالث
أربعة وأشباه ذلك فإن كان هذا يمكن ضبطه ويعتادها على وجه لا يختلف فالحكم فيه كالذي قبله وإن
كان غير مضبوط جلست الأقل من كل شهر وهي الثلاثة إن لم يكن لها أقل منها واغتسلت عقيبه.
وذكر ابن عقيل في هذا الفصل أن قياس المذهب أن فيه رواية ثانية وهي اجلاسها أكثر عادتها في كل
شهر كالناسية للعدد تجلس أكثر الحيض وهذا لا يصح إذ فيه أمرها بترك الصلاة واسقاطها عنها مع
يقين وجوبها عليها فإننا متى أمرناها بترك الصلاة خمسة أيام في كل شهر ونحن نعلم وجوبها عليها
في يومين منها في شهر وفي يوم في شهر آخر فقد أمرناها بترك الصلاة الواجبة يقينا فلا يحل ذلك
ولا تسقط الصلاة الواجبة بالاشتباه كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وفارق الناسية فإننا لا نعلم
331

عليها صلاة واجبة يقينا والأصل بقاء الحيض وسقوط الصلاة فتبقى عليه.
(فصل) ولا تكون المرأة معتادة حتى تعرف شهرها ووقت حيضتها وطهرها، وشهر المرأة عبارة
عن المدة التي لها فيها حيض وطهر وأقل ذلك أربعة عشر يوما تحيض يوما وتطهر ثلاثة عشر وإن قلنا
أقل الطهر خمسة عشر يوما فأقصر ما يكون الشهر ستة عشر يوما وأكثره لاحد له لكون أكثر الطهر
لاحد له والغالب أنه الشهر المعروف بين الناس فإذا عرفت أن شهرها ثلاثون يوما وأن حيضها منه
خمسة أيام وطهرها خمسة وعشرون وعرفت أوله فهي معتادة، وإن عرفت أيام حيضها وأيام طهرها
فقد عرفت شهرها، وإن عرفت أيام حيضها ولم تعرف أيام طهرها أو أيام طهرها ولم تعرف أيام حيضها
فليست معتادة لكنها متى جهلت شهرها رددناها إلى الغالب فحيضناها من كل شهر حيضة كما رددناها
في عدد أيام الحيض إلى ست أو إلى سبع لكونه الغالب
(فصل) القسم الثالث من أقسام المستحاضة من لها عادة وتمييز وهي من كانت لها عادة
فاستحيضت ودمها متميز بعضه أسود وبعضه أحمر فإن كان الأسود في زمن العادة فقد اتفقت
العادة والتمييز في الدلالة فيعمل بهما. وإن كان أكثر من العادة أو أقل ويصلح أن يكون حيضا ففيه
روايتان (إحداهما) يقدم التمييز فيعمل به وتدع العادة وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله: فكانت ممن
تميز تركت الصلاة في اقباله ولم يفرق بين معتادة وغيرها واشترط في ردها إلى العادة أن لا يكون
دمها متصلا وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن صفة الدم أمارة قائمة به والعادة زمان منقض ولأنه خارج
يوجب الغسل فرجع إلى صفته عند الاشتباه كالمني، وظاهر كلام أحمد اعتبار العادة وهو قول أكثر
الأصحاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد أم حبيبة والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة ولم
يفرق ولم يستفصل بين كونها مميزة أو غيرها. وحديث فاطمة قد روي فيه ردها إلى العادة وفي لفظ
آخر ردها إلى التمييز فتعارضت روايتان وبقيت الأحاديث الباقية خالية عن معارض فيجب العمل
بها على أن حديث فاطمة قضية عين وحكاية حال يحتمل أنها أخبرته انها لإعادة لها أو علم ذلك من
غيرها أو قرينة حالها وحديث عدي بن ثابت عام في كل مستحاضة فيكون أولى ولان العادة أقوى لكونها
332

لا تبطل دلالتها واللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته فما لا تبطل دلالته أقوى وأولى.
(فصل) ومن كان حيضها خمسة أيام من أول كل شهر فاستحيضت وصارت ترى ثلاثة أيام
دما أسود في أول كل شهر فمن قدم العادة قال: تجلس خمسة في كل شهر كما كانت تجلس قبل
الاستحاضة، ومن قدم التمييز جعل حيضها الثلاثة التي ترى الدم الأسود فيها إلا أنها لا تترك الصلاة
في الشهر الأول فيما زاد على الثلاثة لأنا لا نعلم أنها مستحاضة إلا بتجاوز الدم أكثر الحيض ولا نعلم
ذلك في الشهر الأول فإذا عبر الدم أكثر الحيض في الشهر الأول علمنا أنه استحاضة فلا تجلس في
الثاني ما زاد على الدم الأسود. فإن رأت في كل شهر عشرة دما أسود ثم صار أحمر واتصل فمن قال
إنها لا تلتفت إلى ما زاد على العادة حتى تتكرر لم يحيضها في الشهرين الأولين أو الثلاثة إلا خمسة
قدر عادتها. ومن قال إنها إذا زادت على العادة جلسته بأول مرة أجلسها في الشهر الأول خمسة عشر
يوما ثم تغتسل وتصلي، وفي الثاني تجلس أيام العادة وهي الخمسة الأولى من الشهر عند من يقدم
العادة على التمييز ومن قدم التمييز ولم يعتبر فيه التكرار اجلسها العشرة كلها. فإذا تكرر ثلاثة أشهر على
هذا الوصف فقال القاضي: تجلس العشرة في الشهر الرابع على الروايتين جميعا لأن الزيادة على
333

العادة تثبت بتكرر الأسود. ويحتمل أن لا تجلس زيادة على عادتها على قول من يقدم العادة على التمييز
لأنا لو جعلنا الزائد على العادة من التمييز حيضا بتكرره لجعلنا الناقص عنها استحاضة بتكرره فكانت
لا تجلس فيما إذا رأت ثلاثة أسود ثم صار أحمر أكثر من الثلاثة والامر بخلاف ذلك.
(فصل) فإن كان حيضها خمسا من أول شهر فاستحيضت فصارت ترى خمسة أسود ثم يصير
أحمر ويتصل فالأسود حيض بلا خلاف لموافقته زمن العادة والتمييز، وإن رأت مكان الأسود أحمر
ثم صار اسود وعبر سقط حكم الأسود لعبوره أكثر الحيض وكان حيضها الأحمر لموافقته زمن العادة
334

وان رأت مكان العادة أحمر ثم خمسة أسود ثم صار أحمر واتصل فمن قدم العادة حيضها أيام العادة
وإذا تكرر الأسود فقال القاضي يصير حيضا، وأما من يقدم التمييز فإنه يجعل الأسود وحده حيضا.
335

* (مسألة) * قال (فإن كانت لها أيام أنسيتها فإنها تقعد ستا أو سبعا في كل شهر)
هذه من القسم الرابع من أقسام المستحاضة وهي من لإعادة لها ولا تمييز وهذا القسم نوعان
(أحدهما) الناسية ولها ثلاثة أحوال (أحدها) أن تكون ناسية لوقتها وعددها وهذه يسميها الفقهاء
المتحيرة (والثانية) أن تنسى عددها وتذكر وقتها (والثالثة) أن تذكر عددها وتنسى وقتها فالناسية
لهما هي التي ذكر الخرقي حكمها وأنها تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة يكون ذلك حيضها ثم تغتسل
وهي فيما بعد ذلك مستحاضة تصوم وتصلي وتطوف، وعن أحمد أنها تجلس أقل الحيض ثم إن كانت
336

تعرف شهرها وهو مخالف للشهر المعروف جلست ذلك من شهرها وان لم تعرف شهرها جلست من
الشهر المعروف لأنه الغالب. وقال الشافعي في الناسية لهما: لا حيض لها بيقين وجميع زمنها مشكوك
فيه تغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها. وله قول آخر انها تجلس اليقين. وقال
بعض أصحابه الأول أصح لأن هذه لها أيام معروفة ولا يمكن ردها إلى غيرها فجميع زمانها
مشكوك فيه. وقد روت عائشة ان أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها
ان تغتسل لكل صلاة. متفق عليه (1)
ولنا ماروت حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه
فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله اني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما تأمرني فيها؟
قد منعتني الصيام والصلاة، قال " انعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم " قلت هو أكثر من ذلك أنما اثج ثجا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سآمرك أمرين أيهما صنعت أجزأ عنك فإن قويت عليهما فأنت اعلم - فقال -
إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي فإذا رأيت انك قد
طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك
وكذلك فافعلي كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن. فإن قويت ان تؤخري الظهر
وتعجلي العصر ثم تغتسلين حتى تطهرين وتصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين
العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين وتغتسلين للصبح فافعلي وصومي ان قويت على ذلك "
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وهو أعجب الامرين إلي " رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث
حسن صحيح. قال وسألت محمدا عنه (2) فقال هو حديث حسن. وحكي ذلك عن أحمد أيضا
وهو بظاهره يثبت الحكم في حق الناسية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها هل هي مبتدأة أو ناسية ولو

(1) هذا غلط فليس في الصحيحين أنه قال (لكل صلاة) بل ورد ذلك في روايات ضعيفة. وفي مسلم انها كانت تغتسل لكل صلاة وحقق النووي في شرحه وغيره ان ذلك كان تطوعا منها ونقله الشافعي ونجد لفظ حديث مسلم في الصفحة الثالثة من الشرح الكبير
(2) يعني محمدا البخاري صاحب الصحيح ولكن النقاد قد أعلوا هذا الحديث بعدة علل منها الخلاف في ابن عقيل الذي انفرد به
337

افترق الحال لاستفصل وسأل واحتمال أن تكون ناسية أكثر فإن حمنة امرأة كبيرة كذلك قال أحمد ولم
يسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن تمييزها لأنه قد جرى من كلامها من تكثير الدم وصفته ما أغنى عن السؤال عنه
ولم يسألها هل لها عادة فيردها إليها لاستغنائه عن ذلك لعلمه إياه إذ كان مشتهرا وقد أمر به أختها
أم حبيبة فلم يبق إلا أن تكون ناسية، ولان لها حيضا لا تعلم قدره فيرد إلى غالب عادات النساء
كالمبتدأة، ولأنها لا عادة لها ولا تمييز فأشبهت المبتدأة. وقولهم: لها أيام معروفة. قلنا: قد زالت
المعرفة فصار وجودها كالعدم. وأما امره أم حبيبة بالغسل لكل صلاة فإنما هو ندب كأمره لحمنة في
هذا الخبر فإن أم حبيبة كانت معتادة ردها إلى عادتها وهي التي استفتت لها أم سلمة على أن حديث
أم حبيبة إنما روي عن الزهري وأنكره الليث بن سعد فقال: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة ولكنه شئ فعلته هي.
(فصل) قوله ستا أو سبعا الظاهر أنه ردها إلى اجتهادها ورأيها فيما يغلب على ظنها انه أقرب
إلى عادتها أو عادة نسائها أو ما يكون أشبه بكونه حيضا ذكره القاضي في بعض المواضع وذكر في
موضع آخر أنه خيرها بين ست وسبع لا على طريق الاجتهاد كما خير واطئ الحائض بين التكفير
بدينار أو نصف دينار بدليل ان حرف أو للتخيير. والأول إن شاء الله أصح لأنا لو جعلناها مخيرة افضى
338

إلى تخييرها في اليوم السابع بين أن تكون الصلاة عليها واجبة وبين كونها محرمة وليس لها في ذلك
خيرة بحال أما التكفير ففعل اختياري يمكن التخيير بين اخراج دينار أو نصف دينار والواجب
نصف دينار في الحالين لأن الواجب لا يتخير بين فعله وتركه، وقولهم ان " أو " للتخيير قلنا وقد
يكون للاجتهاد كقول الله تعالى (فاما منا بعد وإما فداء) واما (كأو) في وضعها وليس للإمام في
في الاسرى إلا فعل ما يؤديه إليه اجتهاده انه الأصلح.
(فصل) ولا تخلو الناسية من أن تكون جاهلة بشهرها أو عالمة به، فإن كانت جاهلة بشهرها
رددناها إلى الشهر الهلالي فحيضناها في كل شهر حيضة لحديث حمنة ولأنه الغالب فترد إليه كردها
إلى الست والسبع، وان كانت عالمة بشهرها حيضناها في كل شهر من شهورها حيضة لأن ذلك عادتها
فترد إليها كما ترد المعتادة إلى عادتها في عدد الأيام إلا أنها متى كان شهرها أقل من عشرين يوما لم
نحيضها منه أكثر من الفاضل عن ثلاثة عشر يوما أو خمسة عشر يوما لأنها لو حاضت أكثر من ذلك
لنقص طهرها عن أقل الطهر ولا سبيل إليه وهل تجلس أيام حيضها من أول كل شهر أو بالتحري
والاجتهاد؟ فيه وجهان (أحدهما) تجلس من أول كل شهر إذا كان يحتمل لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لحمنة " تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا
وعشرين ليلة وأيامها " فقدم حيضها على الطهر ثم أمرها بالصلاة والصوم في بقيته، ولان المبتدأة
تجلس من أول الشهر مع أنه لا عادة لها فكذلك الناسية، ولان دم الحيض دم جبلة والاستحاضة
339

عارضة فإذا رأت الدم وجب تغليب دم الحيض (والوجه الثاني) أنها تجلس أيامها من الشهر بالتحري
والاجتهاد وهذا قول أبي بكر وابن أبي موسى لأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى اجتهادها في القدر بقوله:
" ستا أو سبعا " فكذلك في الزمان. ولان للتحري مدخلا في الحيض بدليل ان المميزة ترجع إلى
صفة الدم فكذلك في زمنه فإن تساوى عندها الزمان كله ولم يغلب على ظنها شئ تعين اجلاسها من
أول الشهر لعدم الدليل فيما سواه.
(القسم الثاني) الناسية لعددها دون وقتها كالتي تعلم أن حيضها في العشر الأول من الشهر ولا
تعلم عدده فهي في قدر ما تجلسه كالمتحيرة تجلس ستا أو سبعا في أصح الروايتين إلا أنها تجلسها من
العشر دون غيرها. وهل تجلسها من أول العشر أو بالتحري؟ على وجهين، وإن قالت أعلم أنني
كنت أول الشهر حائضا ولا أعلم آخره أو انني كنت آخر الشهر حائضا ولا أعلم أوله أو لا أعلم هل
كان ذلك أول حيضي أو آخره حيضناها اليوم الذي علمته وأتمت بقية حيضها مما بعده في الصورة
الأولى ومما قبله في الثانية وبالتحري في الثالثة أو مما بلي أول الشهر على اختلاف الوجهين
(القسم الثالث) الناسية لوقتها دون عددها وهذه تتنوع نوعين (أحدهما) أن لا تعلم لها وقتا أصلا
مثل أن تعلم أن حيضها خمسة أيام فإنها تجلس خمسة من كل شهر إما من أوله أو بالتحري على اختلاف الوجهين
(والثاني) أن تعلم لها وقتا مثل أن تعلم أنها كانت تحيض أياما معلومة من العشر الأول من كل شهر فإنها تجلس عدد
أيامها من ذلك الوقت دون غيره ثم لا يخلو عدد أيامها إما أن يكون زائدا على نصف ذلك الوقت أو لا يزيد فإن
كان زائدا على نصفه مثل أن تعلم أن حيضها ستة أيام من العشر الأول من كل شهر أضعفنا الزائد
340

فجعلناه حيضا بيقين وتجلس بقية أيامها بالتحري في أحد الوجهين وفي الآخر من أول العشر ففي هذه
المسألة الزائد يوم وهو السادس فنضعفه ويكون الخامس والسادس حيضا بيقين لأننا متى عددنا لها
ستة أيام من أي موضع كان من العشر دخل فيه الخامس والسادس يبقى لها أربعة أيام فإن أجلسناها
من الأول كان حيضها من أول العشر إلى آخر السادس. منها يومان حيض بيقين والأربعة حيض
مشكوك فيه والأربعة الباقية طهر مشكوك فيه، وإن أجلسناها بالتحري فأداها اجتهادها إلى أنها من
أول الشهر فهي كالتي ذكرنا، وإن جلست الأربعة من آخر الشهر كانت حيضا مشكوكا فيه والأربعة
الأولى طهر مشكوك فيه. وإن قالت حيضي سبعة أيام من العشر الأول فقد زادت يومين على نصف
الوقت فنضعفهما فيصير لها أربعة أيام حيضا بيقين وهي من أول الرابع إلى آخر السابع ويبقى لها
ثلاثة أيام تجلسها من أول العشر أو بالتحري فيكون ذلك حيضا مشكوكا فيه ويبقى لها ثلاثة طهرا
مشكوكا فيه وسائر الشهر طهر، وحكم الحيض المشكوك فيه حكم الحيض المتيقن في ترك العبادات وإن
كان حيضها نصف الوقت فما دون فليس لها حيض بيقين لأنها متى كانت تحيض خمسة أيام احتمل
أن تكون الخمسة الأولى وأن تكون الثانية، وأن تكون بعضها من الأولى وباقيها من الثانية فتجلس
خمسة بالتحري أو من أول العشر على اختلاف الوجهين.
(فصل) ولا يعتبر التكرار في الناسية لأنها عرفت استحاضتها في الشهر الأول فلا معنى للتكرار
341

(فصل) وإذا ذكرت الناسية عادتها بعد جلوسها في غيره رجعت إلى عادتها لأن تركها لعارض
النسيان فإذا زال العارض عادت إلى الأصل وإن تبين انها كانت تركت الصلاة في غير عادتها لزمها
اعادتها ويلزمها قضاء ما صامته من الفرض في عادتها فلو كانت عادتها ثلاثة من آخر العشر الأول فجلست
السبعة التي قبلها مدة ثم ذكرت لزمها قضاء ما تركت من الصلاة والصيام المفروض في السبعة وقضاء
ما صامت من الفرض في الثلاثة لأنها صامته في زمن حيضها.
* (مسألة) * قال (والمبتدأ بها الدم تحتاط فتجلس يوما وليلة وتغتسل وتتوضأ لكل
صلاة وتصلي. فإن انقطع دمها في خمسة عشر يوما اغتسلت عند انقطاعه وتفعل مثل ذلك
ثانية وثالثة. فإن كان بمعنى واحد عملت عليه. وأعادت الصوم إن كانت صامت في هذه
الثلاث مرار لفرض)
هذا النوع الثاني من القسم الرابع وهي من لإعادة لها ولا تمييز وهي التي بدأ بها الحيض ولم
تكن حاضت قبله، والمشهور عن أحمد فيها أنها تجلس إذا رأت الدم وهي ممن يمكن أن تحيض وهي
التي لها تسع سنين فصاعدا فتترك الصوم والصلاة، فإن زاد الدم على يوم وليلة اغتسلت عقيب اليوم
342

والليلة وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي وتصوم. فإن انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون اغتسلت غسلا
ثانيا عند انقطاعه وصنعت مثل ذلك في الشهر الثاني والثالث فإن كانت أيام الدم في الأشهر الثلاثة
متساوية صار ذلك عادة وعلمنا أنها كانت حيضا فيجب عليها قضاء ما صامت من الفرض لأنا تبينا
أنها صامته في زمن الحيض. قال القاضي المذهب عندي في هذا رواية واحدة قال: وأصحابنا يجعلون
في قدر ما تجلسه المبتدأة في الشهر الأول أربع روايات (إحداهن) أنها تجلس أقل الحيض (والثانية)
غالبه (والثالثة) أكثره (والرابعة) عادة نسائها قال: وليس ههنا موضع الروايات وإنما موضع ذلك
إذا اتصل الدم وحصلت مستحاضة في الشهر الرابع. وقد نقل عن أحمد ما يدل على صحة قول الأصحاب
فروى صالح قال: قال أبي أول ما يبدأ الدم بالمرأة تقعد ستة أيام أو سبعة أيام وهو أكثر ما تجلسه
النساء على حديث حمنة. فظاهر هذا أنها تجلس ذلك في أول حيضها وقوله: أكثر ما تجلسه النساء
يعني أن الغالب من النساء هكذا يحضن. وروى حرب عنه قال: سألت أبا عبد الله قلت: امرأة
أول ما حاضت استمر بها الدم كم يوما تجلس؟ قال: إن كان مثلها من النساء من يحضن فإن شاءت
جلست ستا أو سبعا حتى يتبين لها حيض ووقت وإن أرادت الاحتياط جلست يوما واحدا أول مرة
حتى يتبين وقتها. وقال في موضع آخر: قالوا هذا وقالوا هذا فأيها أخذت فهو جائز. وروى الخلال
باسناده عن عطاء في البكر تستحاض ولا تعلم لها قرءا قال: لتنظر قرء أمها أو أختها أو عمتها أو خالتها
فلتترك الصلاة عدة تلك الأيام وتغتسل وتصلي، قال حنبل: قال أبو عبد الله هذا حسن واستحسنه
343

جدا. وهذا يدل على أنه أخذ به وهذا قول عطاء والثوري والأوزاعي. وروي عن أحمد انها تجلس
أكثر الحيض إلا أن المشهور في الرواية عنه مثل ما ذكر الخرقي. وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك
تجلس جميع الأيام التي ترى الدم فيها إلى أكثر الحيض فإن انقطع لأكثره فما دون فالجميع حيض لأنا
حكمنا بأن ابتداء الدم حيض مع جواز أن يكون استحاضة فكذلك أثناؤه ولأننا حكمنا بكونه حيضا
فلا ننقض ما حكمنا به بالتجويز كما في المعتادة ولان دم الحيض دم جبلة والاستحاضة دم عارض
لمرض عرض وعرق انقطع، والأصل فيها الصحة والسلامة وان دمها دم الجبلة دون العلة
ولنا ان في اجلاسها أكثر من أقل الحيض حكما ببراءة ذمتها من عبادة واجبة عليها فلم يحكم به
أول مرة كالمعتدة لا يحكم ببراءة ذمتها من العدة بأول حيضة ولا يلزم اليوم والليلة لأنها اليقين فلو لم
نجلسها ذلك أدى إلى أن لا نجلسها أصلا، ولأنها ممن لإعادة لها ولا تمييز فلم تجلس أكثر الحيض كالناسية
(فصل) والمنصوص في المبتدأة اعتبار التكرار ثلاثا فعلى هذا لا تنتقل عن اليقين في الشهر
الثالث. وقد نص في المعتادة ترى الدم زيادة على عادتها على جلوسها الزائد بمرتين في إحدى الروايتين
عنه فكذا ههنا وقد مضى توجيههما. وعلى الروايات كلها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وكان
في الأشهر الثلاثة على قدر واحد انتقلت إليه وعملت عليه وصار ذلك عادة لها وأعادت ما صامته من
الفرض فيه لأننا تبينا أنها صامته في حيضها:
344

(فصل) وان انقطع في الأشهر الثلاثة مختلفا ففي شهر انقطع على سبع وفي شهر على ست وفي
شهر على خمس نظرت إلى أقل ذلك وهو الخمس فجعلته حيضا وما زاد عليه لا يكون حيضا حتى يأتي
عليه التكرار نص عليه، وإن جاء في الشهر الرابع ستا أو أكثر صارت الستة حيضا لتكررها ثلاثا
وكذلك الحكم في السابع إذا تكرر ثلاثا، ومن قال باجلاسها ستا أو سبعا فإنها تجلس ذلك من غير
تكرار ولا تجلس ما زاد عليه حتى يتكرر. ولذلك من أجلسها عادة نسائها فإنه يجلسها ما وافق عادتهن
من غير تكرار.
(فصل) ومتى أجلسناها يوما وليلة أو ستا أو سبعا أو عادة نسائها فرأت الدم أكثر من ذلك
لم يحل لزوجها وطؤها فيه حتى ينقطع أو يتجاوز أكثر الحيض لأنه يحتمل أن يكون حيضا احتمالا
ظاهرا وإنما أمرناها بالصوم فيه والصلاة احتياطا لبراءة ذمتها فيجب ترك وطئها احتياطا أيضا. وان
انقطع الدم واغتسلت حل وطؤها وهل يكره؟ على روايتين (إحداهما) لا يكره لأنها رأت النقاء
الخالص أشبه غير المبتدأة (والثانية) يكره لأننا لا نأمن معاودة الدم فكره وطؤها كالنفساء إذا انقطع
دمها لأقل من أربعين يوما. فإن عاودها الدم في زمن العادة لم يطأها نص عليه لأنه زمن صادف زمن
الحيض فلم يجز الوطئ فيه كما لو لم ينقطع. وعنه لا بأس بوطئها. قال الخلال: الأحوط في قوله على ما
اتفقوا عليه دون الأنفس الثلاثة أنه لا يطؤها.
345

* (مسألة) * قال (فإن استمر بها الدم ولم يتميز قعدت في كل شهر ستا أو سبعا لأن
الغالب من النساء هكذا يحضن)
قوله: استمر بها الدم يعني زاد على أكثر الحيض، وقوله: لم يتميز يعني لم يكن دمها منفصلا
على الوجه الذي ذكرناه فهذه حكمها أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد ذكر الخرقي علته
وهو أن الغالب من النساء هكذا يحضن (والظاهر أن يحضن) (1) والظاهر أن حيض هذه كحيض
غالب النساء فيجب ردها إليه كردها في الوقت إلى حيضة في كل شهر وهذا أحد قولي الشافعي، وعن
أحمد أنها تجلس يوما وليلة من كل شهر، وهذا القول الثاني للشافعي لأن ذلك اليقين وما زاد عليه
مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك، وعنه رواية ثالثة أنها تجلس أكثر الحيض وهو مذهب أبي
حنيفة لأنه زمان الحيض فإذا رأت الدم فيه جلسته كالمعتادة وعنه انها تجلس عادة نسائها، وهو قول
عطاء والثوري والأوزاعي لأن الغالب انها تشبههن في عادتهن، والأول أولى لحديث حمنة فإن النبي
صلى الله عليه وسلم ردها إلى ست أو سبع ولم يردها إلى اليقين ولا إلى عادة نسائها ولا إلى أكثر الحيض ولأن هذه
ترد إلى غالب عادات النساء في وقتها لكونها تجلس في كل شهر مرة، فكذلك في عدد أيامها
وبهذا يبطل ما ذكرناه لليقين ولعادة نسائها
(فصل) وهل ترد إلى ذلك إذا استمر بها الدم في الشهر الرابع أو الثاني؟ المنصوص أنها لا

(1) هذه العبارة في احدى النسخ فقط
346

ترد إلى ست أو سبع الا في الشهر الرابع لأنا لم نحيضها أكثر من ذلك إذا لم تكن مستحاضة فأولى
أن نفعل ذلك إذا كانت مستحاضة قال القاضي ويحتمل أن تنتقل إليها في الشهر الثاني بغير تكرار لأنا
قد علمنا استحاضتها فلا معنى للتكرار في حقها.
(فصل) وإن كانت التي استمر بها الدم مميزة على ما ذكرناه فيما مضى جلست بالتمييز فيما بعد
الأشهر الثلاثة وتجلس في الثلاثة اليقين يوما وليلة الا أن نقول العادة ثبت بمرتين فإنها تعود إلى
التمييز في الشهر الثالث ويعمل به. وقال ابن عقيل وعن أحمد أنها ترد إلى التمييز في الشهر الثاني ولا
يعتبر التكرار فإنه قال: إذا بدأ بها الحيض ولم ينقطع عنها الدم ولم تعرف أيامها قعدت اقبال الدم إذا
أقبل سواده وغلظه وريحه فإذا أدبر وصفا وذهب ريحه صلت وصامت وذلك لأنها مستحاضة مميزة
فترد إلى تمييزها كما في الشهر الرابع. ولا يعتبر التكرار في التمييز بعد أن تعلم كونها مستحاضة على ما
نصرناه، وقال القاضي: لا تجلس منه الا ما تكرر فعلى هذا إذا رأت في كل شهر خمسة أحمر ثم خمسة
أسود ثم أحمر واتصل جلست زمان الأسود فكان حيضها والباقي استحاضة، وهل تجلس زمان الأسود
في الشهر الثاني أو الثالث أو الرابع؟ يخرج ذلك على الروايات الثلاث. ولو رأت عشرة أحمر ثم خمسة
أسود ثم احمر واتصل فالحكم فيها كالتي قبلها، فإن اتصل الأسود وعبر أكثر الحيض فليس لها تمييز
ونحيضها من الأسود لأنه أشبه بدم الحيض ولو رأت أقل من يوم دما أسود فلا تمييز لها لأن الأسود
لا يصلح أن يكون حيضا لقلته عن أقل الحيض، وإن رأت في الشهر الأول أحمر كله وفي الثاني
347

والثالث والرابع خمسة أسود ثم احمر واتصل وفي الخامس كله احمر فإنها تجلس في الأشهر الثلاثة
اليقين وفي الرابع أيام الدم الأسود وفي الخامس تجلس خمسة أيضا لأنها قد صارت معتادة. وقال
القاضي لا تجلس من الرابع إلا اليقين إلا أن نقول بثبوت العادة بمرتين، وهذا فيه نظر فإن أكثر ما
يقدر فيها انها لإعادة لها ولا تمييز، ولو كانت كذلك لجلست ستا أو سبعا في أصح الروايات فكذا
ههنا. ومن لم يعتبر التكرار في التمييز فهذه مميزة، ومن قال إن المميزة تجلس بالتمييز في الشهر الثاني
قال إنها تجلس الدم الأسود في الشهر الثالث لأنها لا تعلم أنها مميزة قبله، ولو رأت في شهر خمسة
أسود ثم صار احمر واتصل في الثاني كذلك وفي الثالث كله احمر والرابع رأت خمسة احمر ثم
صار اسود واتصل جلست اليقين من الأشهر الثلاثة والرابع لا تمييز لها فيه فتصير فيه إلى ستة أيام أو
سبعة في أشهر الروايات. الا أن نقول العادة تثبت بمرتين فتجلس من الثالث والرابع خمسة خمسة.
وقال القاضي لا تجلس في الأشهر الأربعة الا اليقين، وهذا بعيد لما ذكرناه، ولو كانت رأت في الرابع
خمسة أسود والباقي كله احمر صار عادة بذلك.
348

* (مسألة) * قال (والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض)
يعني إذا رأت في أيام عادتها صفرة أو كدرة فهو حيض. وان رأته بعد أيام حيضها لم يعتد به
نص عليه أحمد وبه قال يحيى الأنصاري وربيعة ومالك والثوري والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي
والشافعي وإسحاق. وقال أبو يوسف وأبو ثور لا يكون حيضا الا أن يتقدمه دم اسود لأن أم عطية وكانت
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئا رواه أبو داود وقال بعد الطهر
ولنا قوله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو اذى) وهذا يتناول الصفرة والكدرة،
وروى الأثرم باسناده عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تبعث إليها النساء بالدرجة فيها الكرسف
فيها الصفرة والكدرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة،
وحديث أم عطية إنما تناول ما بعد الطهر والاغتسال ونحن نقول به وقد قالت عائشة: ما كنا نعد
الكدرة والصفرة حيضا مع قولها المتقدم الذي ذكرناه
(فصل) وحكم الصفرة والكدرة حكم الدم العبيط في أنها في أيام الحيض حيض وتجلس منها
المبتدأة كما تجلس من غيرها، وان رأتها فيما بعد العادة فهو كما لو رأت غيرها على ما سيأتي ذكره إن شاء الله
. وإن طهرت ثم رأت كدرة أو صفرة لم يلتفت إليها لخبر أم عطية وعائشة. وقد روى النجاد
باسناده عن محمد بن إسحاق عن فاطمة عن أسماء قالت كنا في حجرها مع بنات بنتها فكانت إحدانا
تطهر ثم تصلي ثم تنكس بالصفرة اليسيرة فنسألها فتقول اعتزلن الصلاة حتى لا ترين إلا البياض خالصا
والأول أولى لما ذكرناه وقول عائشة وأم عطية أولى من قول أسماء، وقال القاضي معنى هذا انها لا تلتفت إليه
قبل التكرار وقول أسماء فيما إذا تكرر فجمع بين الاخبار والله أعلم
349

* (مسألة) * قال (ويستمتع من الحائض بما دون الفرج)
وجملته ان الاستمتاع من الحائض فيما فوق السرة ودون الركبة جائز بالنص والاجماع والوطئ
في الفرج محرم بهما. واختلف في الاستمتاع بما بينهما فذهب أحمد رحمه الله إلى اباحته. وروي ذلك
عن عكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق ونحوه قال الحكم فإنه قال لا بأس أن تضع على فرجها ثوبا
ما لم يدخله، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يباح لما روي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض رواه البخاري. وعن عمر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما
يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال " فوق الإزار ".
ولنا قول الله تعالى (فاعتزلوا النساء في المحيض) والمحيض اسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت
فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على اباحته فيما عداه. فإن قيل بل المحيض الحيض مصدر
حاضت المرأة حيضا ومحيضا بدليل قوله تعالى في أول الآية (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى)
والأذى هو الحيض المسؤول عنه وقال تعالى (واللائي يئسن من المحيض) قلنا اللفظ يحتمل المعنيين
وإرادة مكان الدم أرجح بدليل أمرين (أحدهما) انه لو أراد الحيض لكان أمرا باعتزال النساء في
مدة الحيض بالكلية والاجماع بخلافه (والثاني) أن سبب نزول الآية ان اليهود كانوا إذا حاضت
المرأة اعتزلوها فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي
صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اصنعوا كل شئ غير النكاح " رواه مسلم
في صحيحه وهذا تفسير لمراد الله تعالى ولا تتحقق مخالفة اليهود بحملها على إرادة الحيض لأنه
يكون موافقا لهم ومن السنة قوله عليه السلام " اصنعوا كل شئ غير النكاح " وروي عنه
عليه السلام أنه قال " اجتنب منها شعار الدم " ولأنه منع الوطئ لأجل الأذى فاختص مكانه
كالدبر، وما رووه عن عائشة دليل على حل ما فوق الإزار لا على تحريم غيره وقد يترك النبي
صلى الله عليه وسلم بعض المباح تقذرا كتركه أكل الضب والأرنب. وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا. ثم ما ذكرناه منطوق وهو أولى من المفهوم
(فصل) فإن وطئ الحائض في الفرج اثم ويستغفر الله تعالى، وفي الكفارة روايتان (إحداهما)
يجب عليه كفارة لما روى أبو داود والنسائي باسنادهما عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم
350

قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض " يتصدق بدينار أو بنصف دينار " (والثانية) لا كفارة عليه
وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أتى كاهنا فصدقه بما قال أو اتى
امرأته في دبرها أو اتى حائضا فقد كفر بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه ابن ماجة ولم يذكر كفارة.
ولأنه وطئ نهي عنه لأجل الأذى فأشبه الوطئ في الدبر. وللشافعي قولان كالروايتين. وحديث
الكفارة مداره على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب. وقد قيل لأحمد في نفسك منه
شئ؟ قال: نعم، لأنه من حديث فلان أظنه قال عبد الحميد وقال: لو صح ذلك الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم كنا نرى عليه الكفارة، وقال في موضع ليس به بأس قد روى الناس عنه، فاختلاف الرواية
في الكفارة مبني على اختلاف قول احمد في الحديث، وقد روي عن أحمد أنه قال: ان كانت له
مقدرة تصدق بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو عبد الله بن حامد: كفارة وطئ الحائط تسقط بالعجز
عنها أو عن بعضها ككفارة الوطئ في رمضان.
(فصل) وفي قدر الكفارة روايتان (إحداهما) أنها دينار أو نصف دينار على سبيل التخيير
أيهما أخرج أجزأه، روي ذلك عن ابن عباس (والثانية) أن الدم إن كان احمر فهي دينار وإن كان
اصفر فنصف دينار، وهو قول إسحاق، وقال النخعي: إن كان في فور الدم فدينار وإن كان في
آخره فنصف دينار لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن كان دما احمر فدينار وإن كان
دما اصفر فنصف دينار " رواه الترمذي والأول أصح، قال أبو داود الرواية الصحيحة يتصدق بدينار
أو بنصف دينار ولأنه حكم تعلق بالحيض فلم يفرق بين أوله وآخره كسائر أحكامه، فإن قيل فكيف تخير
بين شئ ونصفه؟ قلنا كما تخير المسافر بين قصر الصلاة واتمامها فأيهما فعل كان واجبا كذا ههنا.
(فصل) وان وطئ بعد طهرها وقبل غسلها فلا كفارة عليه، وقال قتادة والأوزاعي: عليه نصف
دينار، ولو وطئ في حال جريان الدم لزمه دينار لأنه حكم تعلق بالوطئ في الحيض فثبت قبل الغسل كالتحريم
ولنا ان وجوب الكفارة بالشرع وإنما ورد بها الخبر في الحائض وغيرها لا يساويها لأن الأذى
المانع من وطئها قد زال بانقطاع الدم وما ذكروه يبطل بما لو حلف لا يطأ حائضا فإن الكفارة تجب
351

بالوطئ في الحيض ولا تجب في غيره.
(فصل) وهل تجب الكفارة على الجاهل والناسي؟ على وجهين (أحدهما) تجب لعموم الخبر ولأنها
كفارة تجب بالوطئ أشبهت كفارة الوطئ في الصوم والاحرام (والثاني) لا تجب لقوله عليه السلام
" عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " ولأنها تجب لمحو المأثم فلا تجب مع النسيان ككفارة اليمين، فعلى
هذا لو وطئ طاهرا فحاضت في أثناء وطئه لا كفارة عليه وعلى الرواية الأولى عليه كفارة وهو قول
ابن حامد قال: ولو وطئ الصبي لزمته الكفارة لعموم الخبر وقياسا على كفارة الاحرام، ويحتمل أن
لا يلزمه كفارة لأن أحكام التكليف لا تثبت في حقه وهذا من فروعها فلا تثبت.
(فصل) وهل تلزم المرأة كفارة؟ المنصوص ان عليها الكفارة قال أحمد في امرأة غرت زوجها
أن عليه الكفارة وعليها وذلك لأنه وطئ يوجب الكفارة فأوجبها على المرأة المطاوعة ككفارة الوطئ
في الاحرام، وقال القاضي في وجوبها على المرأة وجهان (أحدهما) لا يجب لأن الشرع لم يرد بايجابها
عليها وإنما يتلقى الوجوب من الشرع، وان كانت مكرهة أو غير عالمة فلا كفارة عليها لقوله عليه السلام
" عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
(فصل) والنفساء كالحائض في هذا لأنها تساويها في سائر أحكامها ويجزئ نصف دينار من
أي ذهب كان إذا كان صافيا من الغش ويستوي تبره ومضروبه لوقوع الاسم عليه. وهل يجوز
اخراج قيمته؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز لأن المقصود يحصل باخراج هذا القدر من المال على أي
صفة كان من المال فجاز بأي مال كان كالخراج والجزية (والثاني) لا يجوز لأنه كفارة فاختص ببعض
أنواع المال كسائر الكفارات، فعلى هذا الوجه هل يجوز اخراج الدراهم مكان الدينار؟ فيه وجهان
بناء على اخراجها عنه في الزكاة. والصحيح جوازه لما ذكرنا ولأنه حق يجزئ فيه أحد الثمنين فأجزأ
فيه الآخر كسائر الحقوق ومصرف هذه الكفارة إلى مصرف سائر الكفارات لكونها كفارة.
ولان المساكين مصرف حقوق الله تعالى وهذا منها.
* (مسألة) * قال (فإن انقطع دمها توطأ حتى تغتسل)
352

وجملته ان وطئ الحائض قبل الغسل حرام وان انقطع دمها في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر:
هذا كالاجماع منهم. وقال أحمد بن محمد المروذي: لا أعلم في هذا خلافا. وقال أبو حنيفة: ان انقطع
الدم لا كثر الحيض حل وطؤها وان انقطع لدون ذلك لم يبح حتى تغتسل أو تتيمم أو يمضي عليها
وقت صلاة لأن وجوب الغسل لا يمنع من الوطئ بالجنابة.
ولنا قول الله تعالى (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فائتوهن من حيث أمركم الله) يعني
إذا اغتسلن هكذا فسره ابن عباس ولان الله تعالى قال في الآية (ويحب المتطهرين) فأثنى عليهم
فيدل على أنه فعل منهم اثنى عليهم به وفعلهم هو الاغتسال دون انقطاع الدم، فشرط لإباحة الوطئ
شرطين انقطاع الدم والاغتسال فلا يباح إلا بهما كقوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) لما اشترط لدفع المال إليهم بلوغ النكاح والرشد لم يبح
إلا بهما. كذا ههنا ولأنها ممنوعة من الصلاة لحدث الحيض فلم يبح وطؤها كما لو انقطع لأقل الحيض
وما ذكروه من المعنى منقوض بما إذا انقطع لأقل الحيض ولان حدث الحيض آكد من حدث
الجنابة فلا يصح قياسه عليه.
" مسألة " قال (ولا توطأ مستحاضة الا أن يخاف على نفسه)
اختلف عن أحمد في وطئ المستحاضة فروي ليس له وطؤها إلا أن يخاف على نفسه الوقوع في
محظور. وهو مذهب ابن سيرين والشعبي والنخعي والحاكم لما روى الخلال باسناده عن عائشة أنها
قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها، ولان بها أذى فيحرم وطؤها كالحائض فإن الله تعالى منع وطئ
الحائض معللا بالأذى بقوله (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) أمر باعتزالهن عقيب الأذى
مذكورا بفاء التعقيب. ولان الحكم إذا ذكر مع وصف يقتضيه ويصلح له علل به كقوله تعالى (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) والأذى يصلح أن يكون علة فيعلل به وهو موجود في المستحاضة فيثبت
التحريم في حقها فروي عن أحمد إباحة وطئها مطلقا من غير شرط وهو قول أكثر الفقهاء لما روى
أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها. وقال كانت
353

أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها ولان حمنة كانت تحت طلحة وأم حبيبة تحت عبد الرحمن
ابن عوف وقد سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحكام المستحاضة فلو كان حراما بينه لهما، وإن خاف على
نفسه الوقوع في محظور ان ترك الوطئ أبيح على الروايتين لأن حكمها أخف من حكم الحائض ولو
وطئها من غير خوف فلا كفارة عليه لأن الوجوب من الشرع ولم يرد بايجابها في حقها لا هي في
معنى الحائض لما بينهما من الاختلاف وإذا انقطع دمها أبيح وطؤها من غير غسل لأن الغسل ليس
بواجب عليها أشبه سلس البول.
" مسألة " قال (والمبتلى بسلس البول وكثرة المذي فلا ينقطع كالمستحاضة يتوضأ لكل
صلاة بعد أن يغسل فرجه)
وجملته أن المستحاضة ومن به سلس البول أو المذي أو الجريح الذي لا يرقأ دمه وأشباههم ممن
يستمر منه الحدث ولا يمكنه حفظ طهارته عليه الوضوء لكل صلاة بعد غسل محل الحدث وشده
والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه فالمستحاضة تغسل المحل ثم تحشوه بقطن أو ما أشبهه ليرد الدم
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم " أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم " فإن
لم يرتد الدم بالقطن استثفرت بخرقة مشقوقة الطرفين تشدها على جنبيها ووسطها على الفرج وهو
المذكور في حديث أم سلمة " لتستثفر بثوب " وقال لحمنة " تلجمي " لما قالت إنه أكثر من ذلك فإذا
فعلت ذلك ثم خرج الدم فإن كان لرخاوة الشد فعليها إعادة الشد والطهارة وإن كان لغلبة الخارج
وقوته وكونه لا يمكن شده أكثر من ذلك لم تبطل الطهارة لأنه لا يمكن التحرز منه فتصلي ولو
قطر الدم قالت عائشة: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت
ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي، رواه البخاري. وفي حديث " صلي وان قطر الدم
على الحصير " وكذلك من به سلس البول أو كثرة المذي يعصب رأس ذكره بخرقة ويحترس حسب
ما يمكنه ويفعل ما ذكر، وكذلك من به جرح يفور منه الدم أو به ريح أو نحو ذلك من الاحداث
ممن لا يمكنه قطعه عن نفسه فإن كان مما لا يمكن عصبه مثل من به جرح لا يمكن شده أو به باسور
354

أو ناصور لا يتمكن من عصبه صلى على حسب حاله، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حين طعن
صلى وجرحه يثعب دما.
(فصل) ويلزم كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن لا يخرج منه شئ، وبهذا
قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا يجب الوضوء على المستحاضة، وروي
ذلك عن عكرمة وربيعة واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة إلا أن يؤذيه
البرد فإن آذاه قال: فأرجو أن لا يكون عليه ضيق في ترك الوضوء، واحتجوا بأن في حديث هشام
ابن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش " فاغتسلي
وصلي " ولم يأمرها بالوضوء ولأنه ليس بمنصوص على الوضوء منه ولا في معنى المنصوص لأن المنصوص
عليه الخارج المعتاد وليس هذا بمعتاد
ولنا ما روي عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة " تدع
الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة " رواه أبو داود والترمذي
وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت خبرها ثم
قال " اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
ولأنه خارج من السبيل فنقض الوضوء كالمذي، إذا ثبت هذا فإن طهارة هؤلاء مقيدة بالوقت لقوله
355

" تتوضأ عند كل صلاة " وقوله " ثم توضئي لكل صلاة " ولأنها طهارة عذر وضرورة فتقيدت
بالوقت كالتيمم.
(فصل) فإن توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت وخرج منه شئ بطلت طهارته لأن دخوله يخرج
به الوقت الذي توضأ فيه وخروج الوقت مبطل لهذه الطهارة كما قررناه ولان الحدث مبطل للطهارة
وإنما عفي عنه لعدم امكان التحرز عنه مع الحاجة إلى الطهارة. وان توضأ بعد الوقت صح وارتفع
حدثه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه، فإن دخل في الصلاة عقيب طهارته
أو أخرها لأمر يتعلق بمصلحة الصلاة كلبس الثياب وانتظار الجماعة أو لم يعلم أنه خرج منه شئ جاز
وان أخرها لغير ذلك ففيه وجهان (أحدهما) الجواز لأنها طهارة أريدت للصلاة بعد دخول وقتها
فأشبهت التيمم ولأنها طهارة ضرورة فتقيدت بالوقت كالتيمم (والثاني) لا يجوز لأنه إنما أبيح له الصلاة
بهذه الطهارة مع قيام الحدث للحاجة والضرورة ولا ضرورة ههنا. وان خرج الوقت بعد أن خرج
منها شئ أو أحدثت حدثا سوى هذا الخارج بطلت الطهارة، قال احمد في رواية أحمد بن القاسم
إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والصلاة الفائتة حتى يدخل وقت الصلاة
الأخرى فتتوضأ أيضا. وهذا يقتضي الحاقها بالتيمم في أنها باقية ببقاء الوقت يجوز لها أن تتطوع بها
وتقضي بها الفوائت وتجمع بين الصلاتين ما لم تحدث حدثا آخر أو يخرج الوقت
(فصل) ويجوز للمستحاضة الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
حمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد. وأمر به سهلة بنت سهيل وغير المستحاضة من
أهل الاعذار مقيس عليها وملحق بها
(فصل) إذا توضأت المستحاضة ثم انقطع دمها فإن تبين أنه انقطع لبرئها باتصال الانقطاع
تبينا أن وضوءها بطل بانقطاعه لأن الحدث الخارج مبطل للطهارة عفي عنه للعذر فإذا زال العذر زالت
الضرورة وظهر حكم الحدث. وان عاد الدم فظاهر كلام احمد أنه لا عبرة بهذا الانقطاع. قال أحمد
ابن القاسم سألت أبا عبد الله فقلت إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير ويؤقتون بوقت يقولون إذا
توضأت للصلاة وقد انقطع الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة تعيد الوضوء. ويقولون
356

إذا كان الدم سائلا فتوضأت ثم انقطع الدم قولا آخر قال: لست أنظر في انقطاعه حين توضأت سال
أم لم يسل إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة حتى يدخل وقت
الصلاة الأخرى وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالوضوء لكل صلاة من غير تفصيل
فالتفصيل يخالف مقتضى الخبر ولان اعتبار هذا يشق والعادة في المستحاضة وأصحاب هذه الاعذار
أن الخارج يجري وينقطع واعتبار مقدار الانقطاع فيما يمكن فعل العبادة فيه يشق وإيجاب الوضوء به
حرج لم يرد الشرع به ولا سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة التي استفتته فيدل ذلك ظاهرا
على عدم اعتباره مع قول الله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ولم ينقل عن النبي صلى الله
عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة هذا التفصيل. وقال القاضي وابن عقيل إن تطهرت المستحاضة
حال جريان دمها ثم انقطع قبل دخولها في الصلاة ولم يكن لها عادة بانقطاعه لم يكن لها الدخول في
الصلاة حتى تتوضأ لأنها طهارة عفي عن الحدث فيها لمكان الضرورة فإذا انقطع الدم زالت الضرورة
فظهر حكم الحدث كالمتيمم إذا وجد الماء، فإن دخلت في الصلاة فاتصل الانقطاع زمنا يمكن الوضوء
والصلاة فيه فهي باطلة لأننا تبينا بطلان طهارتها بانقطاعه. وإن عاد قبل ذلك فطهارتها صحيحة
لأنا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة فأشبه ما لو ظن أنه أحدث ثم تبين أنه لم يحدث وفى صحة الصلاة
وجهان (أحدهما) يصح لأننا تبينا صحة طهارتها لبقاء استحاضتها (والثاني) لا يصح لأنها صلت
بطهارة لم يكن لها أن تصلي بها ولم تصح كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة فصلى ثم تبين أنه كان
متطهرا، وإن عاودها الدم قبل دخولها في الصلاة لمدة تتسع للطهارة بطلت الطهارة، وان
كانت لا تتسع لم تبطل لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة فأشبه ما لو ظن أنه أحدث فتبين أنه لم
يحدث، وإن كان انقطاعه في الصلاة ففي بطلان الصلاة به وجهان مبنيان على المتيمم يرى الماء في
الصلاة ذكر ذلك ابن حامد وإن عاود الدم فالحكم فيه على ما مضى في انقطاعه في غير الصلاة وإن
توضأت في زمن انقطاعه ثم عاودها الدم قبل الصلاة أو فيها أو كانت مدة انقطاعه تتسع للطهارة والصلاة
بطلت طهارتها بعود الدم لأنها بهذا الانقطاع صارت في حكم الطاهرات فصار عود الدم كسبق
الحدث وإن كان انقطاعا لا يتسع لذلك لم يؤثر عوده لأنها مستحاضة ولا حكم لهذا الانقطاع وهذا
357

مذهب الشافعي وقد ذكرنا من كلام أحمد ما يدل على أنه لا عبرة بهذا الانقطاع، بل متى كانت مستحاضة
أو بها عذر من هذه الاعذار فتحرزت وتطهرت فطهارتها صحيحة وصلاتها بها ماضية ما لم يزل عذرها
وتبرأ من مرضها أو يخرج وقت الصلاة أو تحدث حدثا سوى حدثها.
(فصل) فإن كانت لها عادة بانقطاع الدم زمنا لا يتسع للطهارة والصلاة فتوضأت ثم انقطع دمها
لم يحكم ببطلان طهارتها ولا صلاتها إن كانت فيها لأن هذا الانقطاع لا يفيد المقصود، وإن اتصل
الانقطاع وبرأت وكان قد جرى منها دم بعد الوضوء بطلت طهارتها والصلاة لأنا تبينا أنها صارت في
حكم الطاهرات بذلك الانقطاع، وإن اتصل زمنا يتسع للطهارة والصلاة فالحكم فيها كالحكم في التي
لم يجر لها عادة بانقطاعه على ما ذكر فيه، وإن كانت لها عادة بانقطاعه زمنا يتسع للطهارة والصلاة لم
تصل حال جريان الدم وتنتظر امساكه الا أن تخشى خروج الوقت فتتوضأ وتصلي، فإن شرعت في
الصلاة في آخر الوقت بهذه الطهارة فأمسك الدم عنها بطلت طهارتها لأنها أمكنتها الصلاة بطهارة
غير ضرورية فلم تصح صلاتها بغيرها كغير المستحاضة. فإن كان زمن امساكه يختلف فتارة يتسع
وتارة لا يتسع فهي كالتي قبلها الا أن تعلم أن انقطاعه في هذا الوقت لا يتسع، ويحتمل أنها إذا شرعت
في الصلاة ثم انقطع الدم لا تبطل صلاتها لأنها شرعت فيها بطهارة يقينية وانقطاع الدم يحتمل أن يكون
متسعا فتبطل ويحتمل أن يكون ضيقا فلا تبطل ولا يزول اليقين بالشك، فإن اتصل الانقطاع تبينا
أنه كان مبطلا فبطلت الطهارة والصلاة به.
* (مسألة) * (وأكثر النفاس أربعون يوما)
هذا قول أكثر أهل العلم، قال أبو عيسى الترمذي أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما الا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي.
وقال أبو عبيد وعلى هذا جماعة الناس، وروي هذا عن عمر وابن عباس وعثمان بن أبي العاص
وعائذ بن عمرو وأنس وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك
والشافعي أكثره ستون يوما، وحكى ابن عقيل عن أحمد رواية مثل قولهما لأنه روي عن الأوزاعي
358

أنه قال. عندنا امرأة ترى النفاس شهرين. وروي مثل ذلك عن عطاء أنه وجده، والمرجع في ذلك
إلى الوجود، قال الشافعي: غالبه أربعون يوما
ولنا ما روى أبو سهل كثير بن زياد عن مسة الأزدية عن أم سلمة قالت: كانت النفساء تجلس
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوما وأربعين ليلة، رواه أبو داود والترمذي وقال هذا الحديث لا نعرفه
إلا من حديث أبي سهل وهو ثقة، قال الخطابي أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث، وروى
الحكم بن عتيبة عن مسة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها سألته كم تجلس المرأة إذا ولت؟ قال
" أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك " رواه الدارقطني. ولأنه قول من سمينا من الصحابة
ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان إجماعا، وقد حكاه الترمذي إجماعا ونحوه حكى أبو عبيد
وما حكوه عن الأوزاعي يحتمل أن الزيادة كانت حيضا أو استحاضة كما لو زاد دمها عن الستين أو كما
لو زاد دم الحائض على خمسة عشر يوما
(فصل) فإن زاد دم النفساء على أربعين يوما فصادف عادة الحيض فهو حيض وإن لم يصادف
عادة فهو استحاضة. قال احمد إذا استمر بها الدم فإن كان في أيام حيضها الذي تقعده أمسكت عن
الصلاة ولم يأتها زوجها، وان لم يكن لها أيام كانت بمنزلة المستحاضة يأتيها زوجها وتتوضأ لكل صلاة
وتصوم وتصلي إن أدركها رمضان ولا تقضي وهذا يدل على مثل ما قلنا.
* (مسألة) * قال (وليس لأقله حد أي وقت رأت الطهر اغتسلت وهي طاهر.
ولا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين استحبابا)
وبهذا قال الثوري والشافعي، وقال مالك والأوزاعي وأبو عبيد: إذا لم ترد ما تغتسل وتصلي،
وقال محمد بن الحسن وأبو ثور: أقله ساعة، وقال أبو عبيد: أقله خمسة وعشرون يوما
ولنا أنه لم يرد في الشرع تحديده فيرجع فيه إلى الوجود وقد وجد قليلا وكثيرا وقد روي أن
امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر دما فسميت ذات الجفوف، قال أبو داود
ذاكرت أبا عبد الله حديث جرير كانت امرأة تسمى الطاهر تضع أول النهار وتطهر آخره فجعل يعجب
359

منه وقال علي رضي الله عنه لا يحل للنفساء إذا رأت الطهر إلا أن تصلي ولان اليسير دم وجد عقيب
سببه وهو الولادة فيكون نفاسا كالكثير وقد روي عن أحمد أنها إذا رأت النقاء لدون اليوم لا تثبت
لها أحكام الطاهرات، قال يعقوب سألت أبا عبد الله عن المرأة إذا ضربها المخاض فتكون أيامها عشرا
فترى النقاء قبل ذلك فتغتسل ثم ترى الدم من يومها؟ قال: هذا أقل من يوم ليس عليها شئ فعلى
هذا لا تثبت لها أحكام الطاهرات حتى ترى الطهر يوما كاملا، ووجه ذلك أن الدم يجري تارة
وينقطع أخرى فلا يخرج عن حكم النفاس بمجرد انقطاعه لأن ذلك يفضي إلى أن لا تسقط الصلاة
عنها في نفاسها إذ ما من وقت صلاة إلا يوجد فيه طهر يجب عليها الصلاة به وهذا يخالف النص
والاجماع، وإذا لم يعتبر مجرد انقطاع الدم فلابد من ضابط للانقطاع المعدود طهرا واليوم يصلح أن
يكون ضابطا لذلك فتعلق الحكم به.
(فصل) وان ولدت ولم تر دما فهي طاهر لا نفاس لها لأن النفاس هو الدم ولم يوجد وفي
وجوب الغسل عليها وجهان (أحدهما) لا يجب لأن الوجوب من الشرع وإنما ورد الشرع بايجابه على
النفساء وليست هذه نفساء ولا في معناها لأن النفساء قد خرج منها دم يقتضي خروجه وجوب
الغسل ولم يوجد ذلك فيمن لم يخرج منها (والثاني) يجب لأن الولادة مظنة للنفاس فتعلق الايجاب بها
كتعلقه بالتقاء الختانين وان لم يوجد الانزال
(فصل) وإذا طهرت لدون الأربعين اغتسلت وصلت وصامت ويستحب أن لا يقربها زوجها
قبل الأربعين، قال احمد: ما يعجبني أن يأتيها زوجها على حديث عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل
الأربعين فقال: لا تقربيني ولأنه لا يأمن عود الدم في زمن الوطئ فيكون واطئا في نفاس وهذا على
سبيل الاستحباب فانا حكمنا لها بأحكام الطاهرات ولهذا يلزمها أن تغتسل وتصلي وتصوم وإن عاد
دمها في مدة الأربعين ففيه روايتان (إحداهما) أنه من نفاسها تدع له الصوم والصلاة نقل عنه أحمد بن
القاسم أنه قال: فإن عاودها الدم قبل الأربعين أمسكت عن الصلاة والصوم فإن طهرت أيضا اغتسلت
وصلت وصامت وهذا قول عطاء والشعبي لأنه دم في زمن النفاس فكان نفاسا كالأول وكما لو اتصل
360

(والثانية) أنه مشكوك فيه تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم احتياطا وهذه الرواية المشهورة عنه نقلها
الأثرم وغيره ولا يأتيها زوجها وإنما ألزمها فعل العبادات في هذا الدم لأن سببها متيقن وسقوطها بهذا
الدم مشكوك فيه فلا يزول اليقين بالشك وأمرها بالقضاء احتياطا لأن وجوب الصلاة والصوم متيقن
وسقوط الصوم بفعله في هذا الدم مشكوك فيه فلا يزول بالشك والفرق بين هذا الدم وبين الزائد على
الست والسبع في حق الناسية حيث لا يجب قضاء ما صامته فيه مع الشك أن الغالب مع عادات النساء
ست أو سبع وما زاد عليه نادر بخلاف النفاس ولان الحيض يتكرر فيشق ايجاب القضاء فيه والنفاس
بخلافه وكذلك الدم الزائد عن العادة في الحيض، وقال مالك: ان رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة فهو
نفاس وان تباعد ما بينهما فهو حيض، ولأصحاب الشافعي وجهان فيما إذا رأت الدم يوما وليلة بعد طهر
خمسة عشر يوما (أحدهما) يكون حيضا (والثاني) يكون نفاسا، وقال القاضي: ان رأت الدم أقل من
يوم وليلة بعد طهر خمسة عشر يوما فهو دم فساد تصلي وتصوم ولا تقضي وهذا قول أبي ثور. وإن كان
الدم الثاني يوما وليلة فالحكم فيه كما قلناه من أنها تصوم وتصلي وتقضي الصوم
ولنا أنه دم صادف زمن النفاس فكان نفاسا كما لو استمر ولا فرق بين قليله وكثيره لما ذكرناه
من جعله حيضا فإنما خالف في العبارة فإن حكم الحيض والنفاس واحد وأما ما صامته في زمن الطهر
فلا إعادة عليها فيه.
(فصل) إذا رأت امرأة الدم بعد وضع شئ يتبين فيه خلق الانسان فهو نفاس نص عليه. وان
رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس وإن كان الملقى بضعة لم يتبين فيها شئ من خلق الانسان
ففيها وجهان (أحدهما) هو نفاس لأنه بدء خلق آدمي فكان نفاسا كما لو تبين فيها خلق آدمي (والثاني)
ليس بنفاس لأنه لم يتبين فيها خلق آدمي فأشبهت النطفة.
(فصل) إذا ولت المرأة توأمين فذكر أصحابنا عن أحمد روايتين فيها (إحداهما) أن النفاس من
الأول كله أوله وآخره قالوا وهي الصحيحة وهذا قول مالك وأبي حنيفة فعلى هذا متى انقضت مدة النفاس
من حين وضعت الأول لم يكن ما بعده نفاسا لأن ما بعد ولادة الأول دم بعد الولادة فكان نفاسا كالمنفرد
وآخره منه لأن أوله منه فكان آخره منه كالمنفرد. واختلف أصحابنا في الرواية الثانية. فقال الشريف أبو جعفر
361

وأبو الخطاب في رؤوس المسائل هي: ان أوله من الأول وآخره من الثاني وهذا قول القاضي في كتاب
الروايتين لأن الثاني ولد فلا تنتهي مدة النفاس قبل انتهائها منه كالمنفرد فعلى هذا تزيد مدة النفاس
على الأربعين في حق من ولدت توأمين. وقال القاضي أبو الحسين في مسائله وأبو الخطاب في الهداية
(الرواية الثانية) أنه من الثاني فقط وهذا قول زفر لأن مدة النفاس مدة تتعلق بالولادة فكان ابتداؤها
وانتهاؤها من الثاني كمدة العدة، فعلى هذا ما تراه من الدم قبل ولادة الثاني لا يكون نفاسا، ولأصحاب
الشافعي ثلاثة أوجه كالأقوال الثلاثة. وذكر القاضي أنه منهما رواية واحدة وإنما الخلاف في الدم
الذي بين الولادتين هل هو نفاس أولا. وهذا ظاهره انكار لرواية من روى أن آخر النفاس من الأول
(فصل) وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها ويسقط عنها لا نعلم في هذا خلافا
وكذلك تحريم وطئها وحل مباشرتها والاستمتاع بما دون الفرج منها والخلاف في الكفارة بوطئها
وذلك لأن دم النفاس هو دم الحيض إنما امتنع خروجه مدة الحمل لكونه ينصرف إلى غذاء الحمل
فإذا وضع الحمل وانقطع العرق الذي كان مجرى الدم خرج من الفرج فيثبت حكمه كما لو خرج من
الحائض ويفارق النفاس الحيض في أن العدة لا تحصل به لأنها تنقضي بوضع الحمل قبله ولا يدل على
البلوغ لحصوله بالحمل قبله
* (مسألة) * قال (ومن كانت لها أيام فزادت على ما كانت تعرف لم تلتفت إلى الزيادة
الا أن تراه ثلاث مرات فتعلم حينئذ أن حيضها قد انتقل فتصير إليه فتترك الأول. وإن
كانت صامت في هذه الثلاث مرار أعادته إذا كان صوما واجبا. وإذا رأت الدم قبل
أيامها التي كانت تعرف فلا تلفت إليه حتى يعاودها ثلاث مرات)
وجملة ذلك أن المرأة إذا كانت لها عادة مستقرة في الحيض فرأت الدم في غير عادتها لم تعتد
بما خرج من العادة حيضا حتى يتكرر ثلاثا في إحدى الروايتين أو مرتين في الأخرى نقل حنبل عن
أحمد في امرأة لها أيام معلومة فتقدمت الحيضة قبل أيامها لم تلتفت إليها تصوم وتصلي فإن عاودها
362

في الثانية مثل ذلك فإنه دم حيض منتقل. ونقل الفضل بن زياد لا تنتقل إليه إلا في الثالثة فلتمسك
عن الصلاة والصوم. وفي لفظ له قال سألت أبا عبد الله عن المرأة أيام أقرائها معلومة فربما زاد في
الأشهر الكثيرة على أيام أقرائها أتمسك عن الصلاة أو تصلي؟ قال بل تصلي ولا تلتفت إلى ما زاد
على أقرائها إلا أن يكون دم حيض تنتقل إليه أو نحو هذا. قلت أتصلي إلى أن يصيبها ثلاث مرار
ثم تدع الصلاة بعد ثلاث؟ قال نعم بعد ثلاث. ففي هذه الرواية تصريح بأنها لا تعد الزيادة من حيضها
إلا في المرة الرابعة وانها تصلي وتصوم في المرات الثلاث. وفي روايته الأولى يحتمل انها تحتسبه من
حيضها في المرة الثالثة لقوله لا تنتقل إليه إلا في الثالثة، ويحتمل انه أراد بعد الثالثة. وفي رواية حنبل
احتمالان (أحدهما) انها تنتقل إليه في المرة الثانية وتحتسبه من حيضها (والثاني) انها لا تنتقل إليه إلا
في الثالثة. وأكثر الروايات عنه اعتبار التكرار ثلاثا فيما خرج عن العادة سواء رأت الدم قبل عادتها
أو بعدها مع بقاء العادة أو انقطاع الدم فيها أو في بعضها فإنها لا تجلس في غير أيامها حتى تتكرر مرتين
أو ثلاثا فإذا تكرر علمنا أنه حيض منتقل فتصير إليه أي تترك الصلاة والصوم فيه وتصير عادة لها
وتترك الأول أي العادة الأولى لأنها قد انتقلت عنها وصارت العادة أكثر منها أو غيرها، ثم يجب عليها
قضاء ما صامته من الفرض في هذه المرات الثلاث التي أمرناها بالصيام فيها لأننا تبينا انها صامته في
حيض والصوم في الحيض غير صحيح، فأما الصلاة فليس عليها قضاؤها لأن الحائض لا تقضي الصلاة. قال
أبو عبد الله ولا يعجبني أن يأتيها زوجها في الأيام التي تصلي فيها لأننا لا نأمن كونها حيضا وإنما تصلي
وتصوم احتياطا للعبادة وترك الوطئ احتياطا أيضا فيجب كما تجب الصلاة، وإن تجاوزت الزيادة أكثر
الحيض فهي استحاضة ولا تجلس غير أيام العادة بكل حال. ومثال ذلك امرأة عادتها ثلاثة أيام في
أول كل شهر فرأت خمسة في أول الشهر أو رأت يومين من آخر الشهر الذي قبله والثلاثة المعتادة
أو طهرت الثلاثة ورأت ثلاثة بعده أو أكثر منها أو أقل قبلها أو بعدها أو طهرت اليوم الأول
ورأت ثلاثة بعده أو أكثر منها أو طهرت يومين ورأت يومين بعدهما أو أكثر منها أو رأت الدم يومين
في آخر الشهر ويوما في أوله وما أشبه ذلك فإنها لا تجلس في جميع هذه الصور ما عدا الأول من الشهر
حتى تتكرر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اجلسي قدر ما كانت تحبسك حيضتك " ولان لها عادة فردت إليها
363

كالمستحاضة. وقال أبو حنيفة: ما رأته قبل العادة ليس بحيض حتى يتكرر مرتين وما تراه بعدها فهو
حيض. وقال الشافعي جميعه حيض ما لم تتجاوز أكثر الحيض وهذا أقوى عندي لأن عائشة رضي
الله عنها كانت يبعث إليها النساء بالدرجة فيها الصفرة والكدرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة
البيضاء ومعناه لا تعجلن بالغسل حتى ينقطع الدم وتذهب الصفرة والكدرة ولا يبقى شئ يخرج
من المحل بحيث إذا دخلت فيه قطنة خرجت بيضاء ولو لم تعد الزيادة حيضا للزمها الغسل عند انقضاء
العادة وإن كان الدم جاريا، ولان الشارع علق على الحيض أحكاما ولم يحده فعلم أنه رد الناس فيه
إلى عرفهم. والعرف بين النساء أن المرأة متى رأت دما يصلح أن يكون حيضا اعتقدته حيضا ولو كان
عرفهن اعتبار العادة على الوجه المذكور لنقل ولم يجز التواطؤ على كتمانه مع دعاء الحاجة إليه ولذلك
لما كان بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معه في الخميلة فجاءها الدم فانسلت من الخميلة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم
" مالك أنفست؟ " قالت نعم فأمرها أن تأتزر ولم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم هل وافق العادة أو جاء قبلها ولا
هي ذكرت ذلك ولا سألت عنه وإنما استدلت على الحيضة بخروج الدم فأقرها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك
حين حاضت عائشة في عمرتها في حجة الوداع إنما علمت الحيضة برؤية الدم لا غير ولم تذكر عادة ولا
ذكرها لها النبي صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه لم يأت في العادة لأن عائشة استكرهته واشتد عليها وبكت حين رأته
وقالت وددت أني لم أكن حججت العام ولو كانت تعلم لها عادة تعلم مجيئه فيها وقد جاء فيها ما أنكرته
ولا صعب عليها ولو كانت العادة معتبرة على الوجه المذكور في المذهب لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لامته ولما
وسعه تأخير بيانه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقته. وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في
كل وقت فلم يكن ليغفل بيانه وما جاء عنه عليه السلام ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لاغير
وأما امرأة طاهر ترى الدم في وقت يمكن أن يكون حيضا ثم ينقطع عنها فلم يذكر في حقها عادة
أصلا ولأننا لو اعتبرنا التكرار فيما خرج عن العادة أدى إلى خلو نساء عن الحيض بالكلية مع رؤيتهن
الدم في زمن الحيض وصلاحية أن يكون حيضا، بيانه ان المرأة إذا رأت الدم في غير أيام عادتها
364

وطهرت أيام عادتها لم تمسك عن الصلاة ثلاثة أشهر فإذا انتقلت في الشهر الرابع إلى أيام أخر لم نحيضها
أيضا ثلاثة أشهر وكذلك أبدا فيفضي إلى اخلائها من الحيض بالكلية ولا سبيل إلى هذا، فعلى هذا
القول تجلس ما تراه من الدم قبل عادتها وبعدها ما لم يزد على أكثر الحيض فإن زاد على أكثره علمنا
أنه استحاضة فرددناها إلى عادتها ويلزمها قضاء ما تركته من الصلاة والصيام فيما زاد على عادتها لأننا
تبينا أنه ليس بحيض وإنما هو استحاضة.
(فصل) فإن كانت لها عادة فرأت الدم أكثر منها وجاوز أكثر الحيض فهي مستحاضة وحيضها
منه قدر العادة لا غير ولا تجلس بعد ذلك من الشهور المستقبلة الا قدر العادة ولا أعلم في هذا خلافا
عند من اعتبر العادة، فأما ان كانت عادتها ثلاثة من كل شهر فرأت في شهر خمسة أيام ثم استحيضت
في الشهر الآخر فإنها لا تجلس مما بعده من الشهور الا ثلاثة ثلاثة وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي
تجلس خمسة من كل شهر وهذا مبني على أن العادة لا تثبت بمرة فإن رأت خمسة في شهرين فهل تنتقل
عادتها إلى خمسة؟ يخرج على الروايتين فيما تثبت به العادة وان رأت الخمسة في ثلاثة أشهر ثم استحيضت
انتقلت إليها وجلست من كل شهر خمسة بغير خلاف بينهم
* (مسألة) * قال (ومن كانت لها أيام فرأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر تغتسل
وتصلي. فإن عاودها الدم لم تلتفت إليه حتى تجئ أيامها)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدها) في الطهر بين الدمين (والثاني) في حكم الدم العائد
بعده، اما الأول فإن المرأة متى رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتلزمها الصلاة والصيام سواء رأته في
العادة أو بعد انقضائها ولم يفرق أصحابنا بين قليل الطهر وكثيره لقول ابن عباس أما ما رأت الطهر
ساعة فلتغتسل، ويتوجه أن انقطاع الدم متى نقص عن اليوم فليس بطهر بناء على الرواية التي حكيناها
في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم وهو الصحيح إن شاء الله لأن الدم يجري مرة وينقطع أخرى
وفي ايجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج ينتفي بقوله (وما جعل عليكم في الدين من حرج)
365

ولأننا لو جعلنا انقطاع الدم ساعة طهرا ولا تلتفت إلى ما بعده من الدم أفضى إلى أن لا يستقر لها حيض
فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهرا إلا أن ترى ما يدل عليه مثل أن يكون انقطاعه في
آخر عادتها أو ترى القصة البيضاء وهو شئ يتبع الحيض أبيض يسمى (الترية) روي ذلك عن إمامنا،
وروي عنه أن القصة البيضاء هي القطنة التي تحشوها المرأة إذا خرجت بيضاء كما دخلت لا تغير
عليها فهي القصة البيضاء (بضم القاف) حكي ذلك عن الزهري وروي عن إمامنا أيضا، وقال أبو
حنيفة. ليس النقاء بين الدمين طهرا بل لو صامت فيه فرضا لم يصح ولزمها قضاؤها ولا يجب عليها
فيه صلاة ولا يأتيها زوجها فيكون الدمان وما بينهما حيضا وهو أحد قولي الشافعي لأن الدم يسيل
تارة وينقطع أخرى ولأنه لو لم يكن من الحيض لم يحتسب من مدته.
ولنا قول الله تعالى (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) وصف الحيض بكونه أذى فإذا
ذهب الأذى وجب أن يزول الحيض، وقال ابن عباس اما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلى
وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل. وقالت عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ولأنها صامت
وهي طاهر فلم يلزمها القضاء كما لو لم يعد الدم. فأما قولهم ان الدم يجري تارة وينقطع أخرى قلنا لا عبرة
بالانقطاع اليسير، وإنما إذا وجد انقطاع كبير يمكن فيه الصلاة والصيام وتتأدى العبادة فيه وجبت
عليها لعدم المانع من وجوبها (الفصل الثاني) إذا عاودها الدم فلا يخلو اما ان يعاودها في العادة
أو بعدها فإن عاودها في العادة ففيه روايتان (إحداهما) أنه من حيضها لأنه صادف زمن العادة
فأشبه ما لو لم ينقطع وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي والشافعي (والثانية) ليس بحيض وهو
ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن أبي موسى ومذهب عطاء لأنه عاد بعد طهر صحيح فأشبه ما لو عاد بعد
العادة وعلى هذه الرواية يكون حكمه حكم ما لو عاد بعد العادة على ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله
وقد روي عن أحمد رحمه الله إذا كانت أيامها عشرا فقعدت خمسا ثم رأت الطهر فإنها تصلى فإذا
كان اليوم التاسع أو الثامن فرأت الدم صلت وصامت وتقضي الصوم وهذا على سبيل الاحتياط
366

لوجود التردد في هذا الدم فأشبه دم النفساء العائد في مدة النفاس فإن رأته في العادة وتجاوز العادة
لم يخل من أن يعبر أكثر الحيض أو لا يعبر فإن عبر أكثر الحيض فليس بحيض لأن بعضه ليس بحيض
فيكون كله استحاضة لأن متصل به فكان أقرب إليه فالحاقه بالاستحاضة أقرب من إلحاقه بالحيض
لانفصاله عنه، وإن انقطع لأكثره فما دون فمن قال إن ما لم يعبر العادة ليس بحيض فهذا أولى أن
لا يكون حيضا ومن قال هو حيض ففي هذا على قوله ثلاثة أوجه (أحدها) أن جميعه حيض بناء على
الوجه الذي ذكرنا في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر أكثر الحيض (والثاني) أن ما وافق العادة
حيض لموافقته العادة وما زاد عليها فليس بحيض لخروجه عنها (والثالث) أن الجميع ليس بحيض
لاختلاطه بما ليس بحيض فإن تكرر فهو حيض على الروايتين جميعا. فأما ان عاد بعد العادة لم يخل
من حالين (أحدهما) أن لا يمكن كونه حيضا (والثاني) أن يمكن ذلك فإن لم يمكن كونه حيضا لعبوره
أكثر الحيض وانه ليس بينه وبين الدم أقل الطهر فهذا استحاضة كله سواء تكرر أو لم يتكرر لأنه لا يمكن
جعل جميعه حيضا فكان جميعه استحاضة لأن الحاق بعضه ببعض أولى من الحاقة بغيره (والثاني)
أن يمكن جعله حيضا وذلك يتصور في حالين (أحدهما) أن يكون بضمه إلى الدم الأول لا يكون بين
طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما فإذا تكرر جعلناهما حيضة واحدة ويلفق أحدهما إلى الآخر ويكون
الطهر الذي بينهما طهرا في خلال الحيض (والصورة الثانية) أن يكون بينهما أقل الطهر اما ثلاثة عشر
يوما أو خمسة عشر يوما ويكون كل واحد من الدمين يصلح أن يكون حيضا بمفرده بأن يكون يوما
وليلة فصاعدا فهذا إذا تكرر كان الدمان حيضتين وإن نقص أحدهما عن أقل الحيض فهو دم فساد إذا
لم يمكن ضمه إلى ما بعده، ومثال ذلك ما لو كانت عادتها عشرة من أول الشهر فرأت خمسة منها دما
وطهرت خمسة ثم رأت خمسة دما وتكرر ذلك فالخمسة الأولى والثانية حيضة واحدة تلفق الدم الثاني
إلى الأول وان رأت الثاني ستة أو سبعة لم يمكن أن يكون حيضا لأن بين طرفيها أكثر من خمسة عشر
367

يوما وليس بينهما أقل الطهر، وان رأت يوما دما وثلاثة عشر طهرا ثم رأت يوما دما وتكرر هذا
كانا حيضتين وصار شهرها أربعة عشر يوما وكذلك أن رأت يومين دما وثلاثة عشر طهرا ثم رأت
يومين دما وثلاثة عشر طهرا ثم رأت يومين دما وتكرر شهرها خمسة عشر يوما وإن كان الطهر بينهما
أحد عشر يوما فما دون وتكرر فهما حيضة واحدة لأنه ليس بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما
ولا بينهما أقل الطهر، وإن كان بينهما اثنا عشر يوما طهرا لم يمكن كونهما جميعا حيضا لأنه لا يمكن
كونهما حيضة واحدة لزيادتهما بما بينهما من الطهر على أكثر الحيض، ولا يمكن جعلهما حيضتين لأنه
ليس بينهما أقل الطهر فيكون حيضها منهما ما وافق العادة والآخر استحاضة، وعلى هذا كل ما يتفرع من
المسائل الا أنها لا تلتفت إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثا فإن تكرر
وأمكن جعله حيضا فهو حيض والا فلا وكل موضع رأت الدم ولم تترك العبادة فيه ثم تبين أنه كان حيضا
فعليها قضاء الصوم المفروض فيه وكل موضع عدته حيضا وتركت فيه العبادة ثم تبين أنه طهر فعليها
قضاء ما تركته من الواجبات فيه
(فصل) واختلف أصحابنا في مراد الخرقي رحمه الله بقوله: فإن عاودها الدم فلا تلتفت إليه
فقال أبو الحسن التميمي والقاضي وابن عقيل: أراد إذا عاودها بعد العادة وعبر أكثر الحيض بدليل أنه
منعها أن تلتفت إليه مطلقا ولو أراد غير ذلك لقال حتى يتكرر قال القاضي: ويحتمل أنه أراد إذا عاودها
بعد العادة ولم يعبر فإنها لا تلتفت إليه قبل التكرار. وقال أبو حفص العكبري أراد معاودة الدم في
كل حال سواء كان في العادة أو بعدها لأن لفظه مطلق يتناول باطلاقه الزمان كله، وهذا أظهر إن شاء الله
. وما ذكروه من الترجيح معارض بمثله وهو أن قولهم يحتاج إلى اضمار عبور أكثر الحيض وليس
هذا أولى من اضمار التكرار فيتساويان ويسلم الترجيح الذي ذكرناه.
368

* (فصل في التلفيق) *
ومعناه ضم الدم إلى الدم الذين بينهما طهر وقد ذكرنا ان الطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح فإذا
رأت يوما طهرا ويوما دما ولم يجاوز أكثر الحيض فإنها تضم الدم إلى الدم فيكون حيضا وما بينهما من
النقاء طهر على ما قررناه ولا فرق بين أن يكون زمن الدم أكثر من زمن الطهر أو مثله أو أقل منه مثل أن
ترى يومين دما ويوما طهرا أو يومين طهرا ويوما دما أو أقل أو أكثر فإن جميع الدم حيض إذا تكرر
ولم يجاوز لمدة أكثر الحيض، فإن كان الدم أقل من يوم مثل ان ترى نصف يوم دما ونصفه طهرا أو
ساعة وساعة فقال أصحابنا: هو كالأيام يضم الدم إلى الدم فيكون حيضا وما بينهما طهر إذا بلغ المجتمع
منه أقل الحيض فإن لم يبلغ ذلك فهو دم فساد وفيه وجه آخر لا يكون الدم حيضا إلا أن يتقدمه
حيض صحيح متصل وهذا كله مذهب الشافعي، وله قول في النقاء بين الدمين أنه حيض وقد ذكرناه
وذكرنا أيضا وجها لنا في أن النقاء متى كان أقل من يوم لم يكن طهرا، فعلى هذا متى نقص النقاء عن
يوم كان الدم وما بينه حيضا كله، فإن جاوز الدم أكثر الحيض بأن يكون بين طرفيه أكثر من
خمسة عشر يوما مثل أن يرى يوما دما ويوما طهرا إلى ثمانية عشر يوما فهي مستحاضة لا تخلو من
أن تكون معتادة أو مميزة أو لا عادة لها ولا تمييز أو يوجد في حقها الأمران. فإن كانت معتادة مثل
أن يكون حيضها خمسة أيام في أول كل شهر فهذه تجلس أول يوم ترى الدم فيه في العادة وتغتسل
عند انقطاعه، وما بعد ذلك مبني على الروايتين في الطهر في أثناء الحيضة هل يمنع ما بعده أن يكون
حيضا أو لا؟ فإن قلنا يمنع فحيضها اليوم الأول خاصة وما بعده استحاضة وإن قلنا لا يمنع فحيضها
اليوم الأول والثالث والخامس فيحصل لها من عادتها ثلاثة أيام والباقي استحاضة، وفي وجه آخر
انه يلفق لها الخمسة من أيام الدم جميعها فتجلس السابع والتاسع، والصحيح الأول لأن هذين اليومين
ليسا من عادتها فلا تجلسهما كغير الملفقة. وان كانت مميزة جلست زمان الدم الأسود من الأيام فكان
369

حيضها وباقيه استحاضة، وإن كانت مبتدأة جلست اليقين في ثلاثة أشهر من أول دم تراه أو في شهرين
ثم تنتقل بعد ذلك إلى ستة أيام أو سبعة، وهل يلفق لها السبعة من خمسة عشر يوما أو تجلس أربعة
أيام من سبعة أيام؟ على وجهين كما قلنا فيمن عادتها سبعة أيام. فإذا قلنا تجلس زمان الدم من سبعة جلست
الأول والثالث والخامس والسابع. وإن أجلسناها ستة أيام سقط السابع. وان قلنا تلفق لها زادت التاسع
والحادي عشر إن قلنا تجلس ستة وإن جلست سبعة زادت الثالث عشر وهكذا الحكم في الناسية
وهذا أحد قولي الشافعي إلا أنه لا يلفق لها عدد أيامها في أحد الوجهين، وقال القاضي في المعتادة
كما ذكرنا، وفي غيرها ما عبر الخمسة عشر استحاضة وأيام الدم من الخمسة عشر حيض كلها إذا تكرر
فإن كان يوما ويوما فلها ثمانية أيام حيض وسبعة طهر، وان كانت انصافا فلها سبعة أيام ونصف حيض
ومثلها طهر وهذا قول ابن بنت الشافعي لأن الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وما بعده
فإنها فيما بعده في حكم الطاهرات نأمرها بالصلاة والصيام.
ولنا أن الطهر لو ميز بعد الخامس عشر لميز قبله كتميز اللون، والحكم فيما إذا كان أنصافا أو
مختلفا يوما دما واياما طهرا أو يوما طهرا واياما دما كالحكم في الأيام الصحاح المتساوية إلا أنه إذا كان
الجزء الذي ترى الدم فيه أولا أقل من أقل الحيض ففيه وجه انه لا يكون حيضا حتى يسبقه دم متصل
يصلح أن يكون حيضا، وإن قلنا الطهر يمنع ما بعده من كونه حيضا قبل التكرار وجاء في العادة فإنها
تضم إلى الأول ما تكمل به أقل الحيض فإذا كانت ترى الدم يوما ويوما ضمت الثالث إلى الأول
فكان حيضا في المرة الأولى والثانية ثم تنتقل إلى ما تكرر في المرة الثالثة أو الرابعة على اختلاف
الوجهين. وإذا رأت أقل من أقل الحيض ثم طهرت ثلاثة عشر يوما ثم رأت دما مثل ذلك وقلنا أقل
الطهر ثلاثة عشر يوما فهو دم فساد لأنه لا يصلح أن يكون حيضة واحدة لفصل أقل الطهر بينهما
ولا حيضتين لنقصان كل واحد منهما عن أقل الحيض. وإن قلنا أقل الطهر خمسة عشر ضممنا الأول
إلى الثاني فكانا حيضة واحدة إذا بلغا بمجموعهما أقل الحيض وإن كان كل واحد من الدمين يبلغ
أقل الحيض فهما حيضتان إن قلنا أقل الطهر ثلاثة عشر وإن قلنا أقله خمسة عشر ضممنا الثاني إلى
370

الأول فكانا حيضا واحدا إذا لم يكن بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما فإن كان بين طرفيهما
خمسة عشر يوما لم يمكن جعلهما جميعا حيضا فيجعل أحدهما حيضا والآخر استحاضة وعلى هذا فقس
* (مسألة) * قال (والحامل لا تحيض الا ان تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون
دم نفاس)
مذهب أبي عبد الله رحمه الله أن الحامل لا تحيض وما تراه من الدم فهو دم فساد وهو قول
جمهور التابعين منهم سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وجابر بن زيد وعكرمة ومحمد بن المنكدر
والشعبي ومكحول وحماد والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن المنذر وأبو عبيد وأبو ثور. وروي
عن عائشة رضي الله عنها، والصحيح عنها أنها إذا رأت الدم لا تصلي. وقال مالك والشافعي والليث
ما تراه من الدم حيض إذا أمكن وروي ذلك عن الزهري وقتادة وإسحاق لأنه دم صادف عادة
فكان حيضا كغير الحامل
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " فجعل وجود
الحيض علما على براءة الرحم فدل ذلك على أنه لا يجتمع معه. واحتج إمامنا بحديث سالم عن أبيه انه
طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا "
فجعل الحمل علما على عدم الحيض كما جعل الطهر علما عليه ولأنه زمن لا يعتادها الحيض فيه غالبا فلم يكن
ما تراه فيه حيضا كالآيسة. قال احمد. إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم. وقول عائشة يحمل على الحبلى
التي قاربت الوضع جمعا بين قوليها فإن الحامل إذا رأت الدم قريبا من ولادتها فهو نفاس تدع له الصلاة
كذلك قال إسحاق. وقال الحسن: إذا رأت الدم على الولد أمسكت عن الصلاة، وقال يعقوب بن بختان:
سألت أحمد عن المرأة إذا ضربها المخاض قبل الولادة بيوم أو يومين تعيد الصلاة؟ قال: لا، وقال إبراهيم
371

النخعي: إذا ضربها المخاض فرأت الدم قال: هو حيض. وهذا قول أهل المدينة والشافعي وقال
عطاء: تصلي ولا تعده حيضا ولا نفاسا
ولنا أنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاسا كالخارج بعده وإنما يعلم خروجه بسبب الولادة
إذا كان قريبا منها ويعلم ذلك برؤية أماراتها من المخاض ونحوه في وقته: فأما ان رأت الدم من غير علامة
على قرب الوضع لم تترك له العبادة لأن الظاهر أنه دم فساد فإن تبين كونه قريبا من الوضع كوضعه بعده
بيوم أو بيومين أعادت الصوم المفروض إن صامته فيه. وإن رأته عند علامة على الوضع تركت العبادة
فإن تبين بعده عنها أعادت ما تركته من العبادات الواجبة لأنها تركتها من غير حيض ولا نفاس.
* (مسألة) * قال (وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة فلا تدع الصوم ولا الصلاة
وتقضي الصوم احتياطا فإن رأته بعد الستين فقد زال الاشكال وتيقن أنه ليس بحيض
فتصوم وتصلي ولا تقضي)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة فالذي نقل الخرقي ههنا أنها لا تيأس من
الحيض يقينا إلى ستين سنة وما تراه بين فيما الخمسين والستين مشكوك فيه لا تترك له الصلاة ولا الصوم
لأن وجوبهما متيقن فلا يسقط بالشك وتقضي الصوم المفروض احتياطا لأن وجوبه كان متيقنا وما
صامته في زمن الدم مشكوك في صحته فلا يسقط به ما تيقن وجوبه. وروي عنه ما يدل على أنها
بعد الخمسين لا تحيض وكذلك قال إسحاق بن راهويه: ولا يكون حيضا بعد الخمسين ويكون
حكمها فيما تراه من الدم حكم المستحاضة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا بلغت خمسين
سنة خرجت من حد الحيض. وروي عنها أنها قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد الخمسين. وروي
عنه ان نساء الأعاجم يئسن من المحيض في خمسين ونساء بني هاشم وغيرهم من العرب إلى ستين
سنة وهو قول أهل المدينة لما روى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال: لا تلد
لخمسين سنة إلا العربية ولا تلد لستين إلا قرشية. وقال إن هندا بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة
ولدت موسى بن عبد الله بن حسين بن حسن بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة. وقال احمد
في امرأة من العرب رأت الدم بعد الخمسين إن عاودها مرتين أو ثلاثا فهو حيض، وذلك لأن المرجع
372

في هذا إلى الوجود وقد وجد حيض من نساء ثقات أخبرن به عن أنفسهن بعد الخمسين فوجب
اعتقاد كونه حيضا كما قبل الخمسين، ولان الكلام فيما إذا وجد من المرأة دم في زمن عادتها على
وجه كانت تراه قبل ذلك فالوجود ههنا دليل الحيض كما كان قبل الخمسين دليلا فوجب جعله حيضا،
وأما ايجاب الصلاة والصوم فيه فللاحتياط لوقوع الخلاف فيه، والصحيح أنه لا فرق بين نساء العرب
وغيرهن لأنهن لا يختلفن في سائر أحكام الحيض فكذلك في هذا، وما ذكر عن عائشة لا حجة
فيه لأن وجود الحيض أمر حقيقي المرجع فيه إلى الوجود والوجود لا علم لها به ثم قد وجد بخلاف
ما قالته فإن موسى بن عبد الله بن حسن قد ولدته أمه بعد الخمسين ووجد الحيض فيما بعد الخمسين
على وجهه فلا يمكن انكاره، فإن قيل هذا الدم ليس بحيض مع كونه على صفته وفي وقته وعادته
بغير نص فهذا تحكم لا يقبل، فأما بعد الستين فقد زال الاشكال وتيقن أنه ليس بحيض لأنه لم
يوجد، وقد علم أن للمرأة حالا تنتهي فيه إلى الإياس لقول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من
نسائكم) قال أحمد في المرأة الكبيرة ترى الدم لا يكون حيضا هو بمنزلة الجرح وان اغتسلت فحسن
وقال عطاء هي بمنزلة المستحاضة ومعنى القولين واحد وذلك لأن هذا الدم إذا لم يكن حيضا فهو دم
فساد وحكمها حكم المستحاضة ومن به سلس البول على ما مر حكمهما
(فصل) وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين لأن الصغيرة لا تحيض بدليل قول الله تعالى
(واللائي لم يخضن) ولان المرجع فيه إلى الوجود ولم يوجد من النساء من يحضن عادة فيما دون هذا
السن، ولان دم الحيض إنما خلقه الله لحكمة تربية الحمل به فمن لا تصلح للحمل لا توجد فيها حكمته
فينتفي لانتفاء حكمته كالمني فإنهما متقاربان في المعنى فإن أحدهما يخلق منه الولد والآخر يربيه
ويغذيه، وكل واحد منهما لا يوجد من صغير ووجوده علم على البلوغ وأقل سن تبلغ له الجارية
تسع سنين فكان ذلك أقل سن تحيض له، وقد روي عن عائشة أنها قالت إذا بلغت الجارية تسع
سنين فهي امرأة وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به حكمها حكم المرأة وهذا قول
الشافعي وقد حكي عنه أنه قال: رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة وهذا يدل على أنها حملت
373

لدون عشر سنين وحملت ابنتها لمثل ذلك فعلى هذا إذا رأت بنت تسع سنين دما تركت الصلاة
لأنها رأته في زمن يصلح للحيض. فإن اتصل يوما وليلة فهو حيض يثبت به بلوغها وتثبت فيه أحكام
الحيض كلها وإن انقطع لدون ذلك فهو دم فساد لا يثبت به شئ مما ذكرنا. وإن رأت الدم لدون تسع سنين فهو
دم فساد على كل حال لأنه لا يجوز أن يكون حيضا وقد روى الميموني عن أحمد في بنت عشر رأت الدم قال ليس
بحيض فعلى هذا ليس التسع ولا العشر زمنا للحيض، قال القاضي فيجب على هذا ان يقال أول زمن يصح فيه
وجود الحيض ثنتا عشرة سنة لأنه الزمان الذي يصح فيه بلوغ الغلام والأول أصح
" مسألة " قال (والمستحاضة ان اغتسلت لكل صلاة فهو أشد ما قيل فيها. وان
توضأت لكل صلاة أجزأها)
اختلف أهل العلم في المستحاضة فقال بعضهم: يجب عليها الغسل لكل صلاة روي ذلك عن علي
وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وهو أحد قولي الشافعي في المتحيرة لأن عائشة روت ان أم حبيبة
استحيضت فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل لكل صلاة. متفق عليه. وروى أبو داود
ان امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بالغسل عند
كل صلاة. وقال بعضهم تغتسل كل يوم غسلا. وروي ذلك عن عائشة وعن ابن عمر وأنس وسعيد
ابن المسيب فإنهم قالوا تغتسل من ظهر إلى ظهر. قال مالك: إني أحسب حديث ابن المسيب إنما
هو من طهر إلى طهر ولكن الوهم دخل فيه - يعني ان الطاء غير المعجمة أبدلت بالظاء المعجمة،
وقال بعضهم: تجمع بين كل صلاتي جمع بغسل واحد وتغتسل للصبح على ما في حديث حمنة وقد
ذكرناه. وكذلك أمر به سهلة بنت سهيل وبه قال عطاء والنخعي، وأكثر أهل العلم على أن الغسل
عند انقضاء الحيض، ثم عليها الوضوء لكل صلاة ويجزئها ذلك ويروي هذا عن عروة وبه قال
الشافعي وأصحاب الرأي، وقال عكرمة وربيعة ومالك: إنما عليها الغسل عند انقضاء حيضها وليس
عليها للاستحاضة وضوء لأن ظاهر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في حديث فاطمة
بنت أبي حبيش الغسل فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " فاغتسلي وصلي " ولم يذكر الوضوء لكل صلاة
374

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة " إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت فدعي الصلاة فإذا
أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي وتوضئي لكل صلاة " وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وهذه زيادة يجب قبولها، وفي حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة
تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة، ولأنه دم خارج من الفرج فأوجب
الوضوء كدم الحيض وهذا يدل على أن الغسل المأمور به في سائر الأحاديث مستحب غير واجب
والغسل لكل صلاة أفضل لما فيه من الخروج من الخلاف والاخذ بالثقة والاحتياط وهو أشد ما قيل
ثم يليه في الفضل والمشقة الجمع بين كل صلاتين بغسل واحد والاغتسال للصبح ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم
فيه " وهو أعجب الامرين إلي " ثم يليه الغسل كل يوم مرة بعد الغسل عند انقضاء الحيض ثم تتوضأ
لكل صلاة وهو أقل الأمور ويجزئها والله أعلم
(فصل) وحكم طهارة المستحاضة حكم التيمم في أنها إذا توضأت في وقت الصلاة صلت بها
الفريضة ثم قضت الفوائت وتطوعت حتى يخرج الوقت نص على هذا أحمد وعلى قياس ذلك لها الجمع
بين الصلاتين بوضوء واحد، وقال الشافعي لا تجمع بين فرضين بطهارة واحدة فلا تقضي به فوائت
ولا تجمع بين صلاتين كقوله في التيمم ويحتمله قول الخرقي لقوله لكل صلاة وحجتهم قول النبي
صلى الله عليه وسلم " توضئي لكل صلاة ".
ولنا أنه قد روي في بعض ألفاظ حديث فاطمة " توضئي لوقت كل صلاة " ولأنه وضوء يبيح النفل
فيبيح الفرض كوضوء غير المستحاضة وحديثهم محمول على الوقت كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أينما أدركتك
الصلاة فصل " أي وقتها وحديث حمنة ظاهر في الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد لأنه لم يأمرها بالوضوء
بينهما وهو مما يخفى ويحتاج إلى بيانه ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
(فصل) روي عن أحمد رحمه الله أنه قال لا بأس أن تشرب المرأة دواء يقطع عنها الحيض
إذا كان دواء معروفا.
375

كتاب الصلاة
الصلاة في اللغة الدعاء. قال الله تعالى (وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم) أي ادع لهم وقال
النبي صلى الله عليه وسلم " إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل " وقال الشاعر
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا * يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وهي في الشرع عبارة عن الافعال المعلومة فإذا ورد في الشرع أمر بصلاة أو حكم معلق عليها
انصرف بظاهره إلى الصلاة الشرعية وهي واجبة بالكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله
تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين
القيمة) وأما السنة فما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " بنى الاسلام على خمس: شهادة أن
لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من
استطاع إليه سبيلا " متفق عليه مع آي وأخبار كثيرة نذكر بعضها في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى
وأما الاجماع فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة.
376

(فصل) والصلوات المكتوبات خمس في اليوم والليلة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها ولا
يجب غيرها الا لعارض من نذر أو غيره هذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة: الوتر واجب لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله قد زادكم صلاة وهي الوتر " وهذا يقتضي وجوبه وقال عليه
السلام " الوتر حق " رواه ابن ماجة
ولنا ما روى ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فرض
الله على أمتي خمسين صلاة " فذكر الحديث إلى أن قال " فرجعت إلى ربي فقال هي خمس وهي
خمسون لم يبدل القول لدي " متفق عليه وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول " خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن جاء بهن لم ينقص منهن شيئا
استخفافا بهن فإن الله جاعل له يوم القيامة عهدا أن يدخله الجنة، ومن جاء بهن وقد نقص منهن
شيئا لم يكن له عند الله عهد ان شاء عذبه وان شاء غفر له " وروي عن طلحة بن عبيد الله أن
أعرابيا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ماذا فرض الله علي من الصلاة قال
" خمس صلوات " قال فهل غيرها؟ قال " لا، الا ان تطوع شيئا " فقال الرجل: والذي بعثك
بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفلح الرجل ان صدق "
متفق عليه وزيادة الصلاة يجوز أن تكون في السنن فلا يتعين كونها فرضا ولأنها صلاة تصلى على الراحلة
من غير ضرورة فكانت نافلة كالسنن الرواتب
377

باب المواقيت
أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، وقد ورد في ذلك
أحاديث صحاح جياد نذكر أكثرها في مواضعها إن شاء الله تعالى
" مسألة " قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا زالت الشمس وجبت صلاة الظهر)
بدأ الخرقي بذكر صلاة الظهر لأن جبريل بدأ بها حين أم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن
عباس وجابر وبدأ بها صلى الله عليه وسلم حين علم الصحابة مواقيت الصلاة في حديث بريدة وغيره
وبدأ بها الصحابة حين سئلوا عن الأوقات في حديث أبي برزة وجابر وغيرهما، تسمى الأولى والهجير
والظهر وقال أبو برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الهجيرة التي يدعونها الأولى حين
تدحض الشمس. متفق عليه يعني حين تزول الشمس، وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر
إذا زالت الشمس قاله ابن المنذر وابن عبد البر وقد تظاهرت الاخبار بذلك فمنها ما روى ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " امني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين
كان الفئ مثل الشراك ثم صلى العصر حين صار ظل كل شئ مثله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس
378

وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على
الصائم، وصلى في المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شئ مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر
حين صار ظل كل شئ مثليه، ثم صلى المغرب لوقت الأولى، ثم صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث
الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ثم التفت إلي جبريل وقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من
قبلك والوقت فيما بين هذين " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن، وروى
جابر نحوه ولم يذكر فيه " لوقت العصر بالأمس " وقال البخاري: أصح حديث في المواقيت حديث جابر
وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال " صل معنا هذين
اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الظهر ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة
بيضاء نقية لم يخالطها صفرة ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق
ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد في الظهر - فأنعم أن يبرد بها -
وصلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة آخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب حين غاب الشفق، وصلى العشاء
حين غاب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال " أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل أنا
يا رسول الله. فقال " وقت صلاتكم بين ما رأيتم " رواه ومسلم وغيره. وروى أبو داود عن أبي موسى نحوه
إلا أنه قال بدأ فأقام الفجر حين انشق الفجر فصلى حين كان الرجل لا يعرف وجه صاحبه أو ان الرجل
لا يعرف من إلى جنبه فلما كان الغد صلى الفجر وانصرف فقلنا طلعت الشمس، وفي الباب أحاديث كثيرة
379

(فصل) ومعنى زوال الشمس ميلها عن كبد السماء ويعرف ذلك بطول ظل الشخص بعد تناهي قصره
فمن أراد معرفة ذلك فليقدر ظل الشمس ثم يصبر قليلا ثم يقدره ثانيا، فإن كان دون الأول فلم تزل
وإن زاد ولم ينقص فقد زالت، وأما معرفة ذلك بالاقدام فتختلف باختلاف الشهور والبلدان فكلما
طال النهار قصر الظل وإذا قصر طال الظل فكل يوم يزيد أو ينقص فنذكر ذلك في وسط كل شهر
على ما حكى أبو العباس السنجي رحمه الله تقريبا قال: ان الشمس تزول في نصف (حزيران) على قدم
وثلث وهو أقل ما تزول عليه الشمس وفى نصف (تموز) ونصف (أيار) على قدم ونصف وثلث وفي
نصف (آب ونيسان) على ثلاثة أقدام. وفي نصف (آذار وأيلول) على أربعة أقدام ونصف وهو
وقت استواء الليل والنهار، وفي نصف (تشرين الأول وشباط) على ستة أقدام ونصف، وفي نصف
(تشرين الثاني وكانون الثاني) على تسعة أقدام، وفي نصف (كانون الأول) على عشرة أقدام وسدس
وهذا أنهى ما تزول عليه الشمس. فهذا ما تزول عليه الشمس في أقاليم العراق والشام وما سامتهما
من البلدان فإذا أردت معرفة ذلك فقف على مستو من الأرض وعلم الموضع الذي انتهي إليه ظلك
ثم ضع قدمك اليمنى بين يدي قدمك اليسرى والصق عقبك بابهامك فما بلغت مساحة هذا القدر
بعد انتهاء النقص فهو الوقت الذي زالت عليه الشمس ووجبت به صلاة الظهر.
(فصل) وتجب صلاة الظهر بزوال الشمس وكذلك جميع الصلوات تجب بدخول وقتها في حق
380

من هو من أهل الوجوب، فأما أهل الاعذار كالحائض والمجنون والصبي والكافر فتجب في حقه
بأول جزء أدركه من وقتها بعد زوال عذره وبهذا قال الشافعي رحمه الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله
يجب تأخير وقتها إذا بقي منه مالا يتسع لأكثر منها لأنه في أول الوقت يتخير بين فعلها وتركها
فلم تكن واجبة كالنافلة.
ولنا أنه مأمور بها في أول الوقت بقوله تعالى (أقم الصلاة لدلوك الشمس) والامر يقتضي الوجوب
على الفور ولان دخول الوقت سبب للوجوب فيترتب عليه حكمه حين وجوده، ولأنها يشترط لها
نية الفريضة ولو لم تجب لصحت بدون نية الواجب كالنافلة وتفارق النافلة. فإنها لا يشترط لها ذلك
ويجوز تركها غير عازم على فعلها وهذه إنما يجوز تأخيرها مع العزم على فعلها كما تؤخر صلاة المغرب ليلة
مزدلفة عن وقتها وكما تؤخر سائر الصلوات عن وقتها إذا كان مشتغلا بتحصيل شرطها.
(فصل) ويستقر وجوبها بما وجبت به فلو أدرك جزءا من أول وقتها ثم جن أو حاضت المرأة
لزمهما القضاء إذا أمكنهما. وقال الشافعي وإسحاق: لا يستقر الا بمضي زمن يمكن فعلها فيه ولا يجب
القضاء بما دون ذلك واختاره أبو عبد الله بن بطه لأنه لم يدرك من الوقت ما يمكنه أن يصلي فيه فلم
يجب القضاء كما لو طرأ العذر قبل ذلك الوقت
ولنا أنها صلاة وجبت عليه فوجب قضاؤها إذا فاتته كالتي أمكن أداؤها وفارقت التي طرأ العذر
قبل دخول وقتها فإنها لم تجب وقياس الواجب على غيره غير صحيح.
381

* (مسألة) * قال (وإذا صار ظل كل شئ مثله فهو آخر وقتها)
يعني ان الفئ إذا زاد على ما زالت عليه الشمس قدر ظل طول الشخص فذلك آخر وقت الظهر
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله وأي شئ آخر وقت الظهر؟ قال أن يصير الظل مثله قيل له فمتى
يكون الظل مثله؟ قال: إذا زالت الشمس فكان الظل بعد الزوال مثله فهو ذاك. ومعرفة ذلك أن
يضبط ما زالت عليه الشمس ثم تنظر الزيادة عليه فإن كانت قد بلغت قدر الشخص فقد انتهى وقت
الظهر، ومثل شخص الانسان ستة أقدام ونصف بقدمه أو يزيد قليلا فإذا أردت اعتبار الزيادة
بقدمك مسحتها على ما ذكرناه في الزوال ثم أسقطت منه القدر الذي زالت عليه الشمس فإذا بلغ
الباقي ستة أقدام ونصف فقد بلغ المثل فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، وبهذا قال مالك
والثوري والشافعي والأوزاعي ونحوه قال أبو يوسف ومحمد وأبو ثور وداود، وقال عطاء: لا تفريط
للظهر حتى تدخل الشمس صفرة، وقال طاوس: وقت الظهر والعصر إلى الليل، وحكي عن مالك
وقت الاختيار إلى أن يصير ظل كل شئ مثله ووقت الأداء إلى أن يبقى من غروب الشمس قدر
ما يؤدى فيه العصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في الحضر. وقال أبو حنيفة
وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شئ مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما مثلكم ومثل أهل
382

الكتابين كمثل رجل استأجر أجيراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟
فعملت اليهود ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟
فعملت النصارى
ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضب اليهود والنصارى
وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء: قال هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا؟ قال: فذلك فضلي
أوتيه من أشاء " أخرجه البخاري وهذا يدل على أن من الظهر إلى العصر أكثر من العصر إلى المغرب
ولنا أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر حين كان الفئ مثل الشراك في اليوم
الأول. وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شئ مثله ثم قال " الوقت ما بين هذين " وحديث مالك
محمول على العذر بمطر أو مرض، وما احتج به أو حنيفة لا حجة له فيه لأنه قال: إلى صلاة العصر،
وفعلها يكون بعد دخول الوقت وتكامل الشروط على أن أحاديثنا قصد بها بيان الوقت وخبرهم
قصد به ضرب المثل فالأخذ بأحاديثنا أولى قال ابن عبد البر: خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار
والناس وخالفه أصحابه.
* (مسألة) * قال (وإذا زاد شيئا وجبت العصر)
وجملته أن وقت العصر من حين الزيادة على المثل أدنى زيادة متصل بوقت الظهر لا فصل
383

بينهما. وغير الخرقي قال: إذا صار ظل الشئ مثله فهو آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وهو قريب
مما قال الخرقي وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إذا زاد على المثلين لما تقدم من الحديث ولقوله
تعالى (أقم الصلاة طرفي النهار) ولو كان على ما ذكرتموه لكان وسط النهار. وحكي عن ربيعة أن
وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس. وقال إسحاق. آخر وقت الظهر أول وقت العصر يشتركان
في قدر الصلاة فلو أن رجلين يصليان معا أحدهما يصلي الظهر والآخر العصر حين صار ظل كل شئ
مثله كان كل واحد منهما مصليا لها في وقتها. وحكي ذلك عن ابن المبارك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
ابن عباس " صلى بي الظهر لوقت العصر بالأمس "
ولنا ما تقدم في حديث جبريل عليه السلام. وقوله تعالى (أقم الصلاة طرفي النهار) لا ينفي ما
قلنا فإن الطرف ما تراخى عن الوسط وهو موجود في مسئلتنا وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لوقت العصر
بالأمس " أراد مقاربة الوقت يعني أن ابتداء صلاته اليوم العصر متصل بوقت انتهاء صلاة الظهر
في اليوم الثاني أو مقارب له لأنه قصد به بيان المواقيت وإنما تبين أول الوقت بابتداء فعل الصلاة
وتبين آخره بالفراغ منها وقد بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو " وقت الظهر ما لم
يحضر وقت العصر " رواه مسلم وأبو داود. وفي حديث رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" ان للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت
العصر " أخرجه الترمذي
384

* (مسألة) * قال (وإذا صار ظل كل شئ مثليه خرج وقت الاختيار)
اختلفت الرواية عن أحمد رضي الله عنه في آخر وقت الاختيار فروي حين يصير ظل كل شئ
مثليه وهو قول مالك والثوري والشافعي لقوله في حديث ابن عباس وجابر: الوقت ما بين هذين.
وروي عن أحمد رحمه الله أن آخره ما لم تصفر الشمس وهي أصح عنه حكاه عنه جماعة منهم الأثرم
قال: سمعته يسأل عن آخر وقت العصر، فقال هو تغير الشمس. قيل ولا تقول بالمثل والمثلين؟
قال لا هذا عندي أكثر، وهذا قول أبي ثور وأبي يوسف ومحمد ونحوه عن الأوزاعي لحديث عبد الله
ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وقت العصر ما لم تصفر الشمس " رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم " وان آخر وقتها حين تصفر الشمس " وفي حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
العصر في اليوم الثاني والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن
من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها، وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم
استحاب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر.
(فصل) ولا يجوز تأخير العصر عن وقت الاختيار لغير عذر لما تقدم من الاخبار، وروى
مسلم وأبو داود باسنادهما عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس
385

فكانت بين قرني شيطان - أو على قرني شيطان - قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا "
ولو أبيح تأخيرها لما ذمه عليه وجعله علامة النفاق.
* (مسألة) * قال (ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها مع الضرورة)
وجملة ذلك أن من أخر الصلاة ثم أدرك منها ركعة قبل غروب الشمس فهو مدرك لها ومؤد لها
في وقتها سواء أخرها لعذر أو لغير عذر إلا أنه إنما يباح تأخيرها لعذر وضرورة كحائض تطهر أو
كافر يسلم أو صبي يبلغ أو مجنون يفيق أو نائم يستيقظ أو مريض يبرأ وهذا معنى قوله مع الضرورة.
فأما إدراكها بادراك ركعة منها فيستوي فيه المعذور وغيره وكذلك سائر الصلوات يدركها بادراك
ركعة منها في وقتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة "
متفق عليه. وفي رواية " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "
متفق عليه ولا أعلم في هذا خلافا.
(فصل) وهل يدرك الصلاة بادراك ما دون ركعة فيه روايتان (إحداهما) لا يدركها بأقل من
ذلك وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب مالك لظاهر الخبر الذي رويناه فإن تخصيصه الادراك بركعة
يدل على أن الادراك لا يحصل بأقل منها ولأنه إدراك للصلاة فلا يحصل بأقل من ركعة كادراك
386

الجمعة (والثانية) يدركها بادراك جزء منها أي جزء كان، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يكون
مدركا لها بادراكه. وقال أبو الخطاب: من أدرك من الصلاة مقدار تكبيرة الاحرام قبل أن يخرج
الوقت فقد أدركها وهذا مذهب أبي حنيفة، وللشافعي قولان كالمذهبين ولان أبا هريرة روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم
صلاته وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " متفق عليه وللنسائي
فقد أدركها ولان الادراك إذا تعلق به حكم في الصلاة استوى فيه الركعة وما دونها كادراك الجماعة
وادراك المسافر صلاة المقيم. ولفظ الحديث الأول يدل بمفهومه والمنطوق أولى منه والقياس يبطل
بادراك ركعة دون تشهدها.
(فصل) وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى في قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم وغيرهم منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أيوب وأبو سعيد وعبيدة السلماني والحسن
والضحاك وأبو حنيفة وأصحابه. وروي عن زيد بن ثابت وعائشة أنها صلاة الظهر وبه قال عبد الله
ابن شداد لما روي عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة
ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت (حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى) رواه أبو داود، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) (1) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث

(1) التحقيق ان مثل هذه الزيادة تفسير وليست قرآنا
387

صحيح، وقال طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد والشافعي. هي الصبح لقول الله تعالى (والصلاة
الوسطى وقوموا لله قانتين) والقنوت طول القيام وهو مختص بالصبح ولأنها من أثقل الصلاة على
المنافقين ولهذا اختصت بالوصية وبالمحافظة عليها، وقال الله تعالى (فسبح بحمد ربك قبل طلوع
الشمس وقبل الغروب) يعنى صلاة الفجر والعصر، وروى جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال " أما انكم سترون ربكم كما ترون
هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها "
متفق عليه. وللبخاري " فافعلوا " ثم قرأ جرير (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة
الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون
تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى البردين دخل الجنة " يريد
هاتين الصلاتين، وقال " لو يعلمون ما في صلاة العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا " متفق على هذه
الأحاديث، وقيل هي المغرب لأن الأولى هي الظهر فتكون المغرب الثالثة والثالثة من كل خمس هي الوسطى
ولأنها وسطى في عدد الركعات ووسطى في الأوقات لأن عدد ركعاتها ثلاث فهي وسطى بين الأربع
والاثنين ووقتها في آخر النهار وأول الليل وخصت من بين الصلاة بأنها وتر والله وتر يحب الوتر وبأنها تصلى في أول
388

وقتها في جميع الأمصار والاعصار. ويكره تأخيرها عنه وكذلك صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين
لوقت واحد ولذلك ذهب بعض الأئمة إلى أنها ليس لها إلا وقت واحد لذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" لا تزال أمتي - أو قال - هذه الأمة بخير - أو قال - على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم "
رواه أبو داود. وقيل هي العشاء لما روى ابن عمر قال: مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء
الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده وقال " انكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم
ولولا أن أشق على أمتي لصليت بهم هذه الساعة؟ وقال " ان أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الغداء
والعشاء الآخرة ولو يعلمون ما فيهما لاتوهما ولو حبوا " متفق عليهما.
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " شغلونا عن
صلاة الوسطى صلاة العصر ملا الله بيوتهم وقبورهم نارا " متفق عليه. وعن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الوسطى صلاة العصر " وعن سمرة مثله قال الترمذي في كل واحد
منهما: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص لا يجوز التعريج معه على شئ يخالفه، ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " الذي يفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " متفق عليه، وقال " من فاتته
صلاة العصر حبط عمله " رواه البخاري وابن ماجة وقال " ان هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم
389

فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد " - يعني النجم -
رواه البخاري: وما ذكر في صلاة الصبح فقد شاركته صلاة العصر في أكثره. ورواية عائشة وصلاة
العصر فالواو زائدة كالواو في قوله تعالى (وليكون من الموقنين) وفي قوله (وخاتم النبيين) وقوله (وقوموا
لله قانتين) فالقنوت قيل هو الطاعة أي قوموا لله مطيعين. وقيل القنوت السكوت. قال زيد بن
أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ثم
ما روينا نص صريح فكيف يترك بمثل هذا الوهم أو يعارض به.
* (مسألة) * قال (وإذا غابت الشمس وجبت المغرب ولا يستحب تأخيرها إلى أن
يغيب الشفق)
أما دخول وقت المغرب بغروب الشمس فاجماع أهل العلم لا نعلم بينهم خلافا فيه والأحاديث
دالة عليه وآخره مغيب الشفق وبهذا قال الثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وبعض
أصحاب الشافعي، وقال مالك والأوزاعي والشافعي: ليس لها إلا وقت واحد عند مغيب
الشمس لأن جبريل عليه السلام صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد في بيان مواقيت
الصلاة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن يشتبك النجم " ولان
390

المسلمين مجمعون على فعلها في وقت واحد في أول الوقت، وعن طاوس لا تفوت المغرب والعشاء حتى
الفجر ونحوه عن عطاء لما ذكرناه في الظهر والعصر.
ولنا حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، وفي لفظ
رواه الترمذي فأخر المغرب إلى أن يغيب الشفق، وروى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر المغرب في
اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق، رواه مسلم وأبو داود، وحديث عبد الله بن عمرو أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " وقت المغرب ما لم يغب الشفق " رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " ان للصلاة أولا وآخرا، وان أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وان آخر وقتها
حين يغيب الأفق " رواه الترمذي وهذه نصوص صحيحة لا يجوز مخالفتها بشئ محتمل، ولأنها
إحدى الصلوات فكان لها وقت متسع كسائر الصلوات، ولأنها إحدى صلاتي جمع فكان وقتها
متصلا بوقت التي تجمع إليها كالظهر والعصر ولان ما قبل مغيب الشفق وقت لاستدامتها فكان وقتا
لابتدائها كأول وقتها وأحاديثهم محمولة على الاستحباب والاختيار وكراهة التأخير ولذلك قال الخرقي
ولا يستحب تأخيرها، فإن الأحاديث فيها تأكيد لفعلها في أول وقتها وأقل أحوالها تأكيد الاستحباب
وان قدر أن الأحاديث متعارضة وجب حمل أحاديثهم على أنها منسوخة لأنها في أول فرض الصلاة
بمكة وأحاديثنا بالمدينة متأخرة فتكون ناسخة لما قبلها مما يخالفها والله أعلم.
391

* (مسألة) * قال (فإذا غاب الشفق وهو الحمرة في السفر، وفي الحضر البياض لأن في
الحضر قد تنزل الحمرة فتواريها الجدران فيظن أنها قد غابت فإذا غاب البياض فقد تيقن
ووجبت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل)
لا خلاف في دخول وقت العشاء بغيبوبة الشفق وإنما اختلفوا في الشفق ما هو فمذهب إمامنا أن
الشفق الذي يخرج به وقت المغرب ويدخل به وقت العشاء هو الحمرة وهذا قول ابن عمر وابن عباس
وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والزهري ومالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وإسحاق وصاحبي
أبي حنيفة. وعن أنس وأبي هريرة الشفق البياض وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال
الأوزاعي وأبو حنيفة وابن المنذر لأن النعمان بن بشير قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة صلاة
العشاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الثالثة. رواه أبو داود، وروي عن ابن مسعود
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هذه الصلاة حين يسود الأفق
ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ناداه
عمر بالصلاة نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما ينتظرها أحد غيركم "
قال: ولا يصلى يومئذ الا بالمدينة وكان يصلون فيما بين أن يغيب الشفق الأول إلى ثلث الليل،
392

رواه البخاري، والشفق الأول هو الحمرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم " وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق "
رواه أبو داود. وروي " ثور الشفق " وفور الشفق فورانه وسطوعه وثوره ثوران حمرته وإنما
يتناول هذا الحمرة، وآخر وقت المغرب أول وقت العشاء. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت العشاء " رواه الدارقطني وما رووه لا حجة لهم فيه
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر الصلاة عن أول الوقت قليلا وهو الأفضل والأولى ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال لبلال " اجعل بين أذانك واقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من
وضوئه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " إذا ثبت هذا فإنه إن كان في مكان يظهر له الأفق
ويبين له مغيب الشفق فمتى ذهبت الحمرة وغابت دخل وقت العشاء وإن كان في مكان يستتر عنه
الأفق بالجدران والجبال استظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبته على مغيب الحمرة فيعتبر غيبة
البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه
" مسألة " قال (فإذا ذهب ثلث الليل ذهب الاختيار ووقت الضرورة مبقى إلى أن
يطلع الفجر الثاني وهو البياض الذي يرى من قبل المشرق فينتشر ولا ظلمة بعده)
اختلفت الرواية في آخر وقت الاختيار فروي عن أحمد أنه ثلث الليل نص عليه أحمد في
رواية الجماعة وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز ومالك لأن
393

في حديث جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية ثلث الليل وقال " الوقت ما بين هذين " وفي
حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في اليوم الثاني ثلث الليل وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" صلوا فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل " وفي حديثها الآخر وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب
الشفق الأول إلى ثلث الليل، ولان ثلث الليل يجمع الروايات والزيادة تعارضت الاخبار فيها فكان
ثلث الليل أولى (الرواية الثانية) ان آخره نصف الليل وهو قول الثوري وابن المبارك وأبي ثور وأصحاب
الرأي وأحد قولي الشافعي لما روي عن أنس بن مالك قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى
نصف الليل، رواه البخاري وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا ضعف الضعيف
وسقم السقيم لأمرت بهذه الصلاة أن تؤخر إلى شطر الليل " رواه أبو داود والنسائي وفي حديث
عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وقت العشاء إلى نصف الليل " رواه أبو داود والأولى - إن شاء الله
تعالى - أن لا يؤخرها عن ثلث الليل وان أخرها إلى نصف الليل جاز وما بعد النصف وقت
ضرورة الحكم فيه حكم وقت الضرورة في صلاة العصر على ما مضى شرحه وبيانه ثم لا يزال الوقت
ممتدا حتى يطلع الفجر الثاني.
(فصل) وتسمى هذه الصلاة العشاء ولا يستحب تسميتها العتمة. وكان ابن عمر إذا سمع
394

رجلا يقول العتمة صاح وغضب وقال: إنما هو العشاء، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم فإنها العشاء وانهم يعتمون بالإبل " وعن أبي هريرة مثله
رواهما ابن ماجة. وإن سماها العتمة جاز فقد روى أبو داود باسناده عن معاذ أنه قال: أبقينا يعني
انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة ولان هذا نسبة لها إلى الوقت الذي تجب فيه فأشبهت صلاة
الصبح والظهر وسائر الصلوات.
* (مسألة) * قال (وإذا طلع الفجر الثاني وجبت صلاة الصبح والوقت مبقى إلى ما قبل
أن تطلع الشمس، ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع فقد أدركها وهذا مع الضرورة)
وجملته أن وقت الصبح يدخل بطلوع الفجر الثاني إجماعا. وقد دلت عليه أخبار المواقيت وهو
البياض المستطير المنتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح وبينه لك، والصبح
ما جمع بياضا وحمرة ومنه سمي الرجل الذي في لونه بياض وحمرة أصبح. فأما الفجر ب الأول فهو
البياض المستدق صعدا من غير اعتراض فلا يتعلق به حكم ويسمى الفجر الكاذب ثم لا يزال وقت
الاختيار إلى أن يسفر النهار لما تقدم في حديث جبريل وبريدة وما بعد ذلك وقت عذر وضرورة
حتى تطلع الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر " ووقت الفجر ما لم
تطلع الشمس ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع الشمس كان مدركا لها " وفي إدراكها بما دون ذلك
395

اختلاف قد ذكرناه، وقال أصحاب الرأي: فيمن طلعت الشمس وقد صلى ركعة تفسد صلاته لأنه
صار في وقت نهي عن الصلاة فيه. وهذا لا يصح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من
الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " متفق عليه، وفي رواية " من أدرك سجدة من صلاة
الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " متفق عليه ولأنه أدرك ركعة من الصلاة في وقتها فكان
مدركا لها في وقتها كبقية الصلوات وإنما نهي عن النافلة، فأما الفرائض فتصلى في كل وقت بدليل أن
قبل طلوع الشمس وقت نهي أيضا ولا يمنع من فعل الفجر فيه.
(فصل) إذا شك في دخول الوقت لم يصل حتى يتيقن دخوله أو يغلب على ظنه ذلك مثل
من هو ذو صنعة جرت عادته بعمل شئ مقدر إلى وقت الصلاة أو قارئ جرت عادته بقراءة جزء
فقرأه وأشباه هذا فمتى فعل ذلك وغلب على ظنه دخول الوقت أبيحت له الصلاة، ويستحب تأخيرها
قليلا احتياطا لتزداد غلبة ظنه إلا أن يخشى خروج الوقت أو تكون صلاة العصر في وقت الغيم فإنه
يستحب التبكير بها لما روى بريدة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال " بكروا بصلاة العصر
في الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله " رواه البخاري وابن ماجة ومعناه والله أعلم التبكير بها
إذا دخل وقت فعلها ليقين أو غلبة ظن وذلك لأن وقتها المختار في زمن الشتاء يضيق فيخشى خروجه
(فصل) ومن أخبره ثقة عن علم عمل به لأنه خبر ديني فقيل فيه قول الواحد كالرواية وإن
أخبره عن اجتهاده لم يقلده واجتهد لنفسه حتى يغلب على ظنه لأنه يقدر على الصلاة باجتهاد نفسه
396

فلم يصل باجتهاد غيره كحالة اشتباه القبلة، والبصير والأعمى والمطمور القادر على التوصل إلى الاستدلال
سواء لاستوائهم في إمكان التقدير بمرور الزمان كما بينا، فمتى صلى في هذه المواضع فبان أنه وافق الوقت
أو بعده أجزأه لأنه أدى ما فرض عليه وخوطب بأدائه، وإن بان أنه صلى قبل الوقت لم يجزه لأن
المخاطبة بالصلاة وسبب الوجوب وجد بعد فعله فلم يسقط حكمه بما وجد قبله وان صلى من غير
دليل مع الشك لم تجزه صلاته سواء أصاب أو أخطأ لأنه صلى مع الشك في شرط الصلاة من غير
دليل فلم يصح كما لو اشتبهت عليه القبلة فصلى من غير اجتهاد
(فصل) وإذا سمع الاذان من ثقة عالم بالوقت فله تقليده لأن الظاهر أنه لا يؤذن الا بعد
دخول الوقت فجري مجرى خبره وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " المؤذن مؤتمن " رواه أبو داود، ولولا
أنه يقلد ويرجع إليه ما كان مؤتمنا، وجاء عنه عليه السلام أنه قال " خصلتان معلقتان في أعناق
المؤذنين للمسلمين: صلاتهم وصيامهم " رواه ابن ماجة. ولان الاذان مشروع للاعلام بالوقت فلو لم
يجز تقليد المؤذن لم تحصل الحكمة التي شرع الاذان من أجلها، ولم يزل الناس يجتمعون في مساجدهم
وجوامعهم في أوقات الصلاة فإذا سمعوا الاذان قاموا إلى الصلاة وبنوا على أذان المؤذن من غير
اجتهاد في الوقت ولا مشاهدة ما يعرفونه من غير نكير فكان اجماعا
* (مسألة) * قال (والصلاة في أول الوقت أفضل إلا عشاء الآخرة، وفي شدة الحر الظهر)
وجملته ان الأوقات ثلاثة أضرب وقت فضيلة، وجواز، وضرورة، فأما وقت الجواز والضرورة
397

فقد ذكرناهما، وأما وقت الفضيلة فهذا الذي ذكره الخرقي، قال أحمد أول الوقت أعجب إلي الا في
صلاتين صلاة العشاء، وصلاة الظهر يبرد بها في الحر، رواه الأثرم، وهكذا كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم قال
سيار بن سلامة دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي فسأله أبي كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟
قال: كان يصلي الهجير التي يدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى
رحله في أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي
تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل
جليسه ويقرأ بالستين إلى المائة، وقال جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس
نقية، والمغرب إذا وجبت والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد أبطؤا أخر
والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس، متفق عليهما، وقد روى الأموي في المغازي حديثا أسنده
إلى عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا معاذ بن جبل قال لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال " أظهر
كبير الاسلام وصغيره وليكن من أكبرها الصلاة فإنها رأس الاسلام بعد الاقرار بالدين، إذا كان
الشتاء فصل صلاة الفجر في أول الفجر ثم أطل القراءة على قدر ما تطيق ولا تملهم وتكره إليهم أمر
398

الله ثم عجل الصلاة الأولى بعد أن تميل الشمس وصل العصر والمغرب في الشتاء والصيف على ميقات
واحد العصر والشمس بيضاء مرتفعة، والمغرب حين تغيب الشمس وتوارى بالحجاب وصل العشاء
فأعتم بها فإن الليل طويل فإذا كان الصيف فاسفر بالصبح فإن الليل قصير وان الناس ينامون فامهلهم
حتى يدركوها وصل الظهر بعد أن ينقص الظل وتتحرك الريح فإن الناس يقيلون فامهلهم حتى يدركوها
وصل العتمة فلا تعتم بها ولا تصلها حتى يغيب الشفق " وروي أيضا في كتابه عن عمر أنه قال: والصلاة
لها وقت شرطه الله لا تصح الا به: وقت صلاة الفجر حين يزايل الرجل أهيله ويحرم على الصائم
الطعام والشراب فاعطوها نصيبها من القراءة، ووقت صلاة الظهر إذا كان القيظ واشتد الحر حين يكون
ظلك مثلك وذلك حين يهجر المهجر وذلك لئلا يرقد عن الصلاة. فإذا كان في الشتاء فحين تزيغ عن
الفلك حتى تكون على حاجبك الأيمن والعصر والشمس بيضاء نقية قبل أن تصفر والمغرب حين يفطر
الصائم والعشاء حين يغسق الليل وتذهب حمرة الأفق إلى أن يذهب ثلث الليل الأول، من نام عنها
بعد ذلك فلا أرقد الله عينه. هذه مواقيت الصلاة (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)
(فصل) ولا نعلم في استحباب تعجيل الظهر في غير الحر والغيم خلافا قال الترمذي: وهو الذي
اختاره أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم وذلك لما ثبت من حديث
أبي برزة وجابر وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أشد
تعجيلا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر ولا من عمر. قال الترمذي: هذا
399

حديث حسن، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الوقت الأول من الصلاة
رضوان الله، والوقت الأخير عفو الله تعالى " قال الترمذي هذا حديث غريب، وأما في شدة الحر
فكلام الخرقي يقتضي استحباب الايراد بها على كل حال وهو ظاهر كلام احمد قال الأثرم: وعلى
هذا مذهب أبي عبد الله سواء يستحب تعجيلها في الشتاء والابراد بها في الحر، وهو قول إسحاق
وأصحاب الرأي وابن المنذر لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة
فإن شدة الحر من فيح جهنم " رواه الجماعة عن أبي هريرة وهذا عام، وقال القاضي: إنما يستحب
الابراد بثلاثة شروط، شدة الحر وأن يكون في البلدان الحارة ومساجد الجماعات، فاما من صلاها
في بيته أو في مسجد بفناء بيته فالأفضل تعجيلها وهذا مذهب الشافعي لأن التأخير إنما يستحب لينكسر
الحر ويتسع في الحيطان ويكثر السعي إلى الجماعات ومن لا يصلي في جماعة لا حاجة به إلى التأخير،
وقال القاضي في الجامع: لا فرق بين البلدان الحارة وغيرها ولان بين كون المسجد ينتابه الناس
أو لا فإن احمد رحمه الله كان يؤخرها في مسجده ولم يكن بهذه الصفة والاخذ بظاهر الخبر أولى
ومعنى الابراد بها تأخيرها حتى ينكسر الحر ويتسع في الحيطان وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " أبرد حتى رأينا فئ التلول " وهذا إنما يكون مع كثرة تأخيرها ولا يؤخرها إلى
آخر وقتها بل يصليها في وقت إذا فرغ يكون بينه وبين آخر الوقت فضل، وقد روى ابن مسعود
400

قال: كان قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى تسعة أقدام.
رواه أبو داود والنسائي، فأما الجمعة فيسن تعجيلها في كل وقت بعد الزوال من غير إبراد لأن سلمة
ابن الأكوع قال: كنا تجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس. متفق عليه، ولم يبلغنا أنه أخرها
بل كان يعجلها حتى قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل ولا نتغذى الا بعد الجمعة. أخرجه البخاري،
ولان السنة التبكير بالسعي إليها ويجتمع الناس لها فلو أخرها لتأذى الناس بتأخير الجمعة.
(فصل) ذكر القاضي أنه يستحب تأخير الظهر والمغرب في الغيم وتعجيل العصر والعشاء فيه
قال: ونص عليه أحمد رحمه الله في رواية الجماعة منهم المروذي فقال: يؤخر الظهر في يوم الغيم
ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء وعلل القاضي ذلك بأنه وقت يخاف منه العوارض
والموانع من المطر والريح والبرد فتلحق المشقة في الخروج لكل صلاة. وفي تأخير الصلاة الأولى من
صلاتي الجمع وتعجيل الثانية دفع لهذه المشقة لكونه يخرج إليهما خروجا واحدا فيحصل به الرفق
كما يحصل بجمع الصلاتين في وقت إحداهما، وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي. وروي عن عمر رضي
الله عنه مثل ذلك في الظهر والعصر، وعن ابن مسعود يعجل الظهر والعصر ويؤخر المغرب. وقال
الحسن يؤخر الظهر. وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب تعجيل الظهر في غير الحر، والمغرب في كل حال
401

وهو مذهب الشافعي قال متى غلب على ظنه دخول الوقت باجتهاده استحب له التعجيل، ويحتمل أن
أحمد رحمه الله إنما أراد بتأخير الظهر والمغرب ليتيقن دخول وقتهما ولا يصلي مع الشك، وقد نقل
أبو طالب كلاما يدل على هذا قال: يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت ويعجل العصر
والمغرب يؤخرها حتى يعلم أنه سواد الليل ويعجل العشاء
(فصل) وأما العصر فتعجيلها مستحب بكل حال وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وعائشة
وأنس وابن المبارك وأهل المدينة والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وروي عن أبي قلابة وابن شبرمة
أنهما قالا إنما سميت العصر لتعصر - يعنيان أن تأخيرها أفضل. وقال أصحاب الرأي: الأفضل
فعلها في آخر وقتها المختار لما روى نافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير العصر. وعن علي
ابن شيبان قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر العصر ما دامت بيضاء نقية. رواه أبو داود
ولأنها آخر صلاتي جمع فاستحب تأخيرها كصلاة العشاء
ولنا ما ذكرناه من حديث أبي برزة وقال رافع بن خديج: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلاة العصر ثم ينحر الجزور فيقسم عشرة أجزاء ثم يطبخ فيؤكل لحما نضيجا قبل مغيب
الشمس. متفق عليه، وعن أبي أمامة قال: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتى
دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر فقلنا يا أبا عمارة ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال:
العصر وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصليها معه. رواه البخاري ومسلم، وعن أبي المليح
402

قال: كنا مع أني بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: بكروا الصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من فاتته صلاة العصر حبط عمله " رواه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الوقت
الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله " يرويه عبد الله بن عمر العمري، قال أبو عيسى
هذا حديث غريب. وأما حديث رافع الذي احتجوا به فلا يصح قاله الترمذي. وقال الدارقطني:
يرويه عبد الواحد بن نافع وليس بالقوي ولا يصح عن رافع ولا عن غيره من الصحابة، والصحيح
عنهم تعجيل صلاة العصر والتبكير بها.
(فصل) وأما المغرب فلا خلاف في استحباب تقديمها في غير حال العذر وهو قول أهل العلم
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم قاله الترمذي. وقد ذكرنا في حديث جابر
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها إذا وجبت، وقال رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب
مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وانه ليبصر مواقع نبله، متفق عليه. وعن أنس مثله رواه أبو داود
وعن سلمة بن الأكوع قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها،
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وهذا لفظ أبي داود. وفعل جبريل لها في اليومين
في وقت واحد دليل على تأكيد استحباب تقديمها
(فصل) وأما صلاة العشاء فيستحب تأخيرها إلى آخر وقتها إن لم يشق وهو اختيار أكثر أهل
العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، قاله الترمذي. وحكي عن الشافعي أن الأفضل
403

تقديمها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الوقت الأول رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله " وروى القاسم بن
غنام عن بعض أمهاته عن أم فروة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أحب
الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها " ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤخرها وإنما أخرها ليلة
واحدة ولا يفعل إلا الأفضل
ولنا قول أبي برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يؤخر من العشاء التي يدعونها
العتمة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا أن أشق على أمتي لامرتهم أن يؤخروا العشاء إلى
ثلث الليل أو نصفه " وهو حديث حسن صحيح وأحاديثهم ضعيفة. أما خبر " الوقت الأول
رضوان الله " فيرويه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف. وحديث أم فروة رواته مجاهيل. قال
أحمد رحمه الله: لا أعلم شيئا ثبت في أوقات الصلاة أولها كذا وأوسطها كذا وآخرها كذا يعني
مغفرة ورضوانا وقال ليس ذا ثابتا. ولو ثبت فالأخذ بأحاديثنا الخاصة أولى من الاخذ بالعموم مع صحة
أخبارنا وضعف أخبارهم.
(فصل) وإنما يستحب تأخيرها للمنفرد والجماعة راضين بالتأخير، فاما مع المشقة على المأمومين
أو بعضهم فلا يستحب بل يكره نص عليه أحمد رحمه الله. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله كم قدر
تأخير العشاء؟ فقال ما قدر يؤخرها بعد أن لا يشق على المأمومين وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
404

تأخير العشاء والامر بتأخيرها كراهية المشقة على أمته وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من شق على أمتي شق
الله عليه " وإنما نقل التأخير عنه مرة أو مرتين ولعله كان لشغل أو اتيان آخر الوقت وأما في سائر
أوقاته فإنه كان يصليها على ما رواه جابر أحيانا وأحيانا - إذا رآهم قد اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد أبطؤا
أخر، وعلى ما رواه النعمان بن بشير أنه كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة فيستحب للإمام الاقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم في إحدى هاتين الحالتين ولا يؤخرها تأخيرا يشق على المأمومين فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يأمر بالتخفيف رفقا بالمأمومين وقال " إني لادخل في الصلاة وأنا أريد اطالتها فأسمع بكاء الصبي
فأخففها كراهية أن أشق على أمه " متفق عليه
(فصل) وأما صلاة الصبح فالتغليس بها أفضل وبهذا قال مالك والشافعي وإسحاق، وروي عن
أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي موسى وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ما يدل على ذلك قال ابن
عبد البر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر وعثمان انهم كانوا يغسلون ومحال أن يتركوا
الأفضل ويأتوا الدون وهم النهاية في إتيان الفضائل. وروي عن أحمد رحمه الله أن الاعتبار بحال
المأمومين فإن أسفروا فالأفضل الاسفار لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في العشاء كما ذكر جابر
فكذلك في الفجر. وقال الثوري وأصحاب الرأي: الأفضل الاسفار لما روى رافع بن خديج
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للاجر " قال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح:
405

ولنا ما تقدم من حديث جابر وأبي برزة وقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، متفق عليه. وعن أبي مسعود
الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الاسفار حتى قبضه الله،
رواه أبو داود قال الخطابي: وهو صحيح الاسناد. وقالت عائشة رضي الله عنها ما صلى النبي
صلى الله عليه وسلم صلاة لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله، وهذا حديث غريب وليس اسناده بمتصل
فأما الاسفار المذكور في حديثهم فالمراد به تأخيرها حتى يتبين طلوع الفجر وينكشف يقينا من قولهم
أسفرت المراة إذا كشفت وجهها.
(فصل) ولا يأثم بتعجيل الصلاة التي يستحب تأخيرها ولا بتأخير ما يستحب تعجيله إذا أخره
عازما على فعله ما لم يخرج الوقت أو يضيق عن فعل العبادة جميعها لأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم
في أول الوقت وآخره وصلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت وآخره وقالا " الوقت ما بين هذين " ولان
الوجوب موسع فهو كالتكفير يجب موسعا بين الأعيان فإن أخر غير عازم على الفعل أثم بذلك التأخير
المقترن بالعزم. فإن أخرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتسع لجميع الصلاة أثم أيضا لأن الركعة الأخيرة
من جملة الصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الوقت كالأولى.
(فصل) فإن أخر الصلاة عن أول وقتها بنية فعلها فمات قبل فعلها لم يكن عاصيا لأنه فعل ما
406

يجوز له فعله والموت ليس من فعله فلا يأثم به
(فصل) ومن صلى قبل الوقت لم تجز صلاته في قول أكثر أهل العلم سواء فعله عمدا أو خطأ
كل الصلاة أو بعضها وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عمر
وأبي موسى أنهما أعادا الفجر لأنهما صلياها قبل الوقت، وروي عن ابن عباس في مسافر صلى الظهر
قبل الزوال يجزئه ونحوه قال الحسن والشعبي، وعن مالك كقولنا وعنه فيمن صلى العشاء قبل مغيب
الشفق جاهلا أو ناسيا يعيد ما كان في الوقت فإن ذهب الوقت قبل علمه أو ذكر فلا شئ عليه
ولنا أن الخطاب بالصلاة يتوجه إلى المكلف عند دخول وقتها وما وجد بعد ذلك ما يزيله
ويبرئ الذمة منه فيبقى بحاله
" مسألة " قال (وإذا تطهرت الحائض وأسلم الكافر وبلغ الصبي قبل أن تغرب
الشمس صلوا الظهر فالعصر، وان بلغ الصبي وأسلم الكافر وطهرت الحائض قبل أن يطلع
الفجر صلوا المغرب وعشاء الآخرة)
وروي هذا القول في الحائض تطهر عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد
والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور. قال الإمام أحمد: عامة
التابعين يقولون بهذا القول الا الحسن وحده قال: لا تجب الا الصلاة التي أطهرت في وقتها وحدها
407

وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأن وقت الأولى خرج في حال عذرها فلم تجب كما لو لم يدرك من
وقت الثانية شيئا، وحكي عن مالك أنه إذا أدرك قدر خمس ركعات من وقت الثانية وجبت الأولى لأن
قدر الركعة الأولى من الخمس وقت للصلاة الأولى في حال العذر فوجبت بادراكه كما لو أدرك ذلك
من وقتها المختار بخلاف ما لو أدرك دون ذلك
ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما باسنادهم عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس
أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء فإذا طهرت قبل أن تغرب
الشمس صلت الظهر والعصر جميعا ولان وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور
لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية
(فصل) والقدر الذي يتعلق به الوجوب قدر تكبيرة الاحرام، وقال الشافعي: قدر ركعة لأن
ذلك هو الذي روي عن عبد الرحمن وابن عباس ولأنه ادراك تعلق به ادراك الصلاة فلم يكن بأقل من
ركعة كادراك الجمعة، وقال مالك خمس ركعات
ولنا أن ما دون الركعة تجب به الثانية فوجبت به الأولى كالركعة والخمس عند مالك ولأنه ادراك
فاستوى فيه القليل والكثير كادراك المسافر صلاة المقيم. فاما الجمعة فإنما اعتبرت الركعة بكمالها لكون
408

الجماعة شرطا فيها فاعتبر إدراك ركعة كي لا يفوته شرطها في معظمها بخلاف مسئلتنا
(فصل) وان أدرك المكلف من وقت الأولى من صلاتي الجمع قدرا تجب به ثم جن أو كانت
امرأة فحاضت أو نفست ثم زال العذر بعد وقتها لم تجب الثانية في إحدى الروايتين. ولا يجب قضاؤها
وهذا اختيار ابن حامد، والأخرى يجب ويلزم قضاؤها لأنها إحدى صلاتي الجمع فوجبت بادراك
جزء من وقت الأخرى كالأولى، ووجه الأولى أنه لم يدرك جزءا من وقتها ولا وقت تبعها فلم تجب
كما لو لم يدرك من وقت الأولى شيئا. وفارق مدرك وقت الثانية فإنه أدرك وقت تبع الأولى فإن
الأولى تفعل في وقت الثانية متبوعة مقصودة يجب تقديمها والبداية بها بخلاف الثانية مع الأولى،
ولان من لا يجوز الجمع الا في وقت الثانية ليس وقت الأولى عنده وقتا للثانية بحال فلا يكون مدركا
لشئ من وقتها ووقت الثانية وقت لهما جميعا لجواز فعل الأولى في وقت الثانية، ومن جوز الجمع في
وقت الأولى فإنه يجوز تقديم الثانية رخصة تحتاج إلى نية التقديم وترك التفريق. ومتى أخر الأولى
إلى الثانية كانت مفعولة واجبة لا يجوز تركها ولا يجب نية جمعها ولا يشترط ترك التفريق بينهما فلا يصح
قياس الثانية على الأولى والأصل أن لا تجب صلاة الا بادراك وقتها
(فصل) وهذه المسألة تدل على أن الصلاة لا تجب على صبي ولا كافر ولا حائض إذ لو كانت
الصلاة واجبة عليهم لم يكن لتخصيص القضاء بهذه الحال معنى وهذا الصحيح في المذهب، فأما الحائض
فقد ذكرنا حكمها في بابها. وأما الكافر فإن كان أصليا لم يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال
409

كفره بغير خلاف نعلمه وقد قال الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
وأسلم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير وبعده فلم يؤمر أحد منهم بقضاء، ولان في إيجاب القضاء
عليه تنفيرا عن الاسلام فعفي عنه، واختلف أهل العلم في خطابه بفروع الاسلام في حال كفره مع
إجماعهم على أنه لا يلزمه قضاؤها بعد إسلامه، حكي عن أحمد في هذا روايتان. فأما المرتد فذكر
أبو إسحاق بن شاقلا عن أحمد في وجوب القضاء عليه روايتين (إحداهما) لا يلزمه وهو ظاهر
كلام الخرقي في هذه المسألة فعلى هذا لا يلزمه قضاء ما ترك في حال كفره ولا في حال إسلامه قبل
ردته ولو كان قد حج لزمه استئنافه لأن عمله قد حبط بكفره بدليل قوله (لئن أشركت ليحبطن
عملك) فصار كالكافر الأصلي في جميع أحكامه (والثانية) يلزمه قضاء ما ترك من العبادات
في حال ردته وإسلامه قبل ردته ولا يجب عليه إعادة الحج لأن العمل إنما يحبط بالاشراك مع الموت
لقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة)
فشرط الامرين لحبوط العمل وهذا مذهب الشافعي، ولان المرتد أقر بوجوب العبادات عليه
واعتقد ذلك وقدر على التسبب إلى أدائها فلزمه ذلك كالمحدث، ولو حاضت المرأة المرتدة لم
يلزمها قضاء الصلاة في زمن حيضها لأن الصلاة غير واجبة عليها في تلك الحال وذكر القاضي رواية
ثالثة أنه لا قضاء عليه لما ترك في حال ردته لأنه تركه في حال لم يكن مخاطبا بها لكفره وعليه قضاء
410

ما ترك في اسلامه قبل الردة ولأنه كان واجبا عليه ومخاطبا به قبل الردة فيبقى الوجوب عليه بحاله،
قال وهذا المذهب وهو قول أبي عبد الله بن حامد وعلى هذا لا يلزمه استئناف الحج إن كان قد حج
لأن ذمته برئت منه بفعله قبل الردة فلا يشتغل به بعد ذلك كالصلاة التي صلاها في اسلامه ولان
الردة لو أسقطت حجه وأبطلته لا بطلت سائر عباداته المفعولة قبل ردته.
(فصل) فأما الصبي العاقل فلانه تجب عليه في أصح الروايتين وعنه أنها تجب على من بلغ عشرا
وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فعلى قولنا انها لا تجب عليه متى صلى في الوقت ثم بلغ فيه بعد فراغه
منها وفي أثنائها فعليه اعادتها وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يجزئه ولا يلزمه اعادتها في
الموضعين لأنه أدى وظيفة الوقت فلم يلزمه اعادتها كالبالغ
ولنا أنه صلى قبل وجوبها فلم تجزه عما وجد سبب وجوبها عليه كما لو صلى قبل الوقت ولأنه صلى
نافلة فلم تجزه عن الواجب كما لو نوى نفلا ولأنه بلغ في وقت العبادة وبعد فعلها فلزمته اعادتها كالحج
ووظيفة الوقت في حق البالغ ظهرا واجبة ولم يأت بها
(فصل) والمجنون غير مكلف ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه إلا أن يفيق في وقت الصلاة
فيصير كالصبي يبلغ ولا نعلم في ذلك خلافا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم
حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي
وقال حديث حسن ولان مدته تطول غالبا فوجوب القضاء عليه يشق فعفي عنه.
* (مسألة) * قال (والمغمى عليه يقضي جميع الصلوات التي كانت في حال اغمائه)
وجملة ذلك أن المغمى عليه حكمه حكم النائم لا يسقط عنه قضاء شئ من الواجبات التي يجب
411

قضاؤها على النائم كالصلاة والصيام، وقال مالك والشافعي: لا يلزمه قضاء الصلاة إلا أن يفيق في
جزء من وقتها لأن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغمى عليه فيترك الصلاة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه فيفيق في وقتها فيصليها "
وقال أبو حنيفة: ان أغمي عليه خمس صلوات قضاها وان زادت سقط فرض القضاء في الكل لأن
ذلك يدخل في التكرار فأسقط القضاء كالجنون
ولنا ما روي أن عمارا غشي عليه أياما لا يصلي ثم استفاق بعد ثلاث فقال: هل صليت؟ فقيل
ما صليت منذ ثلاث، فقال أعطوني وضوءا فتوضأ ثم صلى تلك الليلة. وروى أبو مجلز أن سمرة بن
جندب قال: المغمى عليه يترك الصلاة أو فيترك الصلاة يصلى مع كل صلاة صلاة مثلها، قال: قال
عمران زعم ولكن ليصليهن جميعا، وروى الأثرم هذين الحديثين في سننه وهذا فعل الصحابة،
وقولهم ولا يعرف لهم مخالفا فكان اجماعا. ولان الاغماء لا يسقط فرض الصيام ولا يؤثر في استحقاق
الولاية على المغمي عليه فأشبه النوم، فأما حديثهم فباطل يرويه الحاكم بن سعد وقد نهى أحمد
رحمه الله عن حديثه وضعفه ابن المبارك وقال البخاري: تركوه وفي إسناده خارجة بن مصعب
وهو ضعيف أيضا. ولا يصح قياسه على المجنون لأن المجنون تتطاول مدته غالبا وقد رفع القلم عنه ولا
412

يلزمه صيام ولا شئ من أحكام التكليف وتثبت الولاية عليه ولا يجوز على الأنبياء عليهم السلام
والاغماء بخلافه ومالا يؤثر في اسقاط الخمس لا يؤثر في اسقاط الزائد عليها كالنوم
(فصل) ومن شرب دواء فزال عقله به نظرت (1) فإن كان زوالا لا يدوم كثيرا فهو كالاغماء
وإن كان يتطاول فهو كالجنون. وأما السكر ومن شرب محرما يزيل عقله وقتا دون وقت فلا يؤثر في
اسقاط التكليف وعليه قضاء ما فاته في حال زوال عقله لا نعلم فيه خلافا. ولأنه إذا وجب عليه القضاء
بالنوم المباح فبالسكر المحرم أولى.
(فصل) وما فيه السموم من الأدوية إن كان الغالب من شربه واستعماله الهلاك به أو الجنون لم
يبح شربه، وإن كان الغالب منه السلامة ويرجى منه المنفعة فالأولى إباحة شربه لدفع ما هو أخطر منه
كغيره من الأدوية، ويحتمل أن لا يباح لأنه يعرض نفسه للهلاك فلم يبح كما لو لم يرد به التداوي
والأول أصح لأن كثيرا من الأدوية يخاف منه وقد أبيح لدفع ما هو أضر منه، فإذا قلنا يحرم شربه
فهو كالمحرمات من الخمر ونحوه، وإن قلنا يباح فهو كسائر الأدوية المباحة والله أعلم
باب الاذان
الاذان اعلام بوقت الصلاة والأصل في الاذان الاعلام، قال الله عز وجل (وأذان من الله
ورسوله) أي اعلام و (آذنتكم على سواء) أعلمتكم فاستوينا في العلم، وقال الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء * رب ثاو يمل منه الثواء
أي أعلمتنا - والاذان الشرعي هو اللفظ المعلوم المشروع في أوقات الصلوات للاعلام بوقتها
وفيه فضل كثير وأجر عظيم، بدليل ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلم الناس ما في

(1) كذا في نسختي المغني اللتين في أيدينا والظاهر أن يقال نظر بضم النون
413

النداء والصف الأول ثم لم يجدوا الا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه " وقال أبو سعيد الخدري:
إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن
ولا انس ولا شئ الا شهد له يوم القيامة. قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخرجهما البخاري، وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المؤذنون أطول
الناس أعناقا يوم القيامة " أخرجه مسلم. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ثلاثة على كثبان المسك - أراه قال يوم القيامة - يغبطهم الأولون والآخرون، رجل نادى بالصلوات
الخمس في كل يوم وليلة، ورجل يؤم قوما وهم به راضون، وعبد أدى حق الله وحق مواليه " أخرجه
الترمذي وقال: حديث حسن غريب
(فصل) واختلفت الرواية هل الاذان أفضل من الإمامة أو لا؟ فروي أن الإمامة أفضل لأن
النبي صلى الله عليه وسلم تولاها بنفسه، وكذلك خلفاؤه ولم يتولوا الاذان، ولا يختارون الا الأفضل، ولان
الإمامة يختار لها من هو أكمل حالا وأفضل، واعتبار فضيلته دليل على فضيلة منزلته (والثانية)
الاذان أفضل وهو مذهب الشافعي لما روينا من الاخبار في فضيلته ولما روى أبو هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الأئمة، واغفر للمؤذنين " أخرجه
أبو داود والنسائي. والأمانة أعلى من الضمان والمغفرة أعلى من الارشاد، ولم يتوله النبي صلى الله عليه وسلم ولا
خلفاؤه لضيق وقتهم عنه، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لولا الخلافة لأذنت وهذا اختيار القاضي
وابن أبي موسى وجماعة من أصحابنا والله أعلم
(فصل) والأصل في الاذان ما روى محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن
الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: حدثني أبي عبد الله بن زيد قال: لما
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به لجمع الناس للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل
414

ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال
أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك فقلت له: بلى، فقال: تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله
أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا
رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر أشهد
أن لا إله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت
الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال
" انها رؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك " فقمت
مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر
رداءه فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله
الحمد " رواه الأثرم وأبو داود وذكر الترمذي آخره بهذا الاسناد وقال: هو حديث حسن صحيح،
وأجمعت الأمة على أن الاذان مشروع للصلوات الخمس
* (مسألة) * قال أبو القاسم (ويذهب أبو عبد الله رحمه الله إلى اذان بلال رضي الله عنه
وهو: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد ان لا إله الا الله، أشهد ان لا اله
415

الا الله، اشهد ان محمدا رسول الله، اشهد ان محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على
الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)
وجملة ذلك أن اختيار احمد رحمه الله من الاذان أذان بلال رضي الله عنه وهو كما وصف الخرقي
وجاء في خبر عبد الله بن زيد وهو خمس عشرة كلمة لا ترجيع فيه. وبهذا قال الثوري وأصحاب
الرأي وإسحاق وقال مالك والشافعي ومن تبعهما من أهل الحجاز: الاذان المسنون أذان أبي محذورة
وهو مثل ما وصفنا الا أنه يسن الترجيع وهو أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين يخفض بذلك صوته
ثم يعيدهما رافعا بهما صوته إلا أن مالكا قال: التكبير في أوله مرتان حسب. فيكون الاذان عنده سبع
عشرة كلمة. وعند الشافعي تسع عشرة كلمة. واحتجوا بما روى أبو محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقنه
الاذان وأبقاه عليه فقال له " تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا
رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله. تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله الا
الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله " أخرجه مسلم ثم ذكر
سائر الاذان وهو حديث متفق عليه. واحتج مالك بان ابن محيريز قال: كان الاذان الذي يؤذن
به أبو محذورة: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله متفق عليه
ولنا حديث عبد الله بن زيد والاخذ به أولى لأن بلالا كان يؤذن به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
دائما سفرا وحضرا وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على أذانه بعد أذان أبي محذورة قال الأثرم:
سمعت أبا عبد الله يسأل إلى اي الاذان يذهب؟ قال إلى اذان بلال. رواه محمد بن إسحاق عن
محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن زيد ثم وصفه. قيل لأبي عبد الله: أليس حديث أبي
416

محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة؟ فقال: أليس قد رجع
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد؟ وهذا من الاختلاف المباح فإن رجع فلا
بأس نص عليه أحمد، وكذلك قال إسحاق فإن الامرين كلاهما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر أبا محذورة بذكر الشهادتين سرا ليحصل له الاخلاص بهما فإن الاخلاص في
الاسرار بهما أبلغ من قولهما اعلانا للاعلام. وخص أبا محذورة بذلك لأنه لم يكن مقرا بهما حينئذ
فإن في الخبر أنه كان مستهزئا يحكي أذان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فدعاه فأمره
بالاذان، قال ولا شئ عندي أبغض من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به فقصد النبي صلى الله عليه وسلم نطقه
بالشهادتين سرا ليسلم بذلك ولا يوجد هذا في غيره. ودليل هذا الاحتمال كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر
به بلالا ولا غيره ممن كان مسلما ثابت الاسلام والله أعلم
" مسألة " قال (والإقامة الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا
رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة،
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله)
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة الإقامة مثل الاذان ويزيد الإقامة مرتين لحديث عبد الله
ابن زيد أن الذي علمه الاذان أمهل هنيهة ثم قام فقال مثلها. رواه أبو داود، وروى ابن محيريز عن
417

أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الإقامة سبع عشرة كلمة. قال الترمذي هذا حديث صحيح، وقال
مالك الإقامة عشر كلمات تقول قد قامت الصلاة مرة واحدة لما روى أنس قال أمر بلال أن يشفع
الاذان ويوتر الإقامة متفق عليه
ولنا ما روى عبد الله بن عمر أنه قال إنما كان الاذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين
والإقامة مرة مرة الا أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. أخرجه النسائي، وفي حديث
عبد الله بن زيد أنه وصف الإقامة كما ذكرنا. رواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن
أبيه عن محمد بن إسحاق بالاسناد الذي ذكرناه وما احتجوا به من قوله فقام فقال مثلها فقد قال الترمذي
الصحيح مثل ما رويناه وقال ابن خزيمة الصحيح ما رواه محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه ثم استأخر
غير كثير ثم قال مثل ما قال وجعلها وترا الا أنه قال قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة وهذه زيادة
بيان يجب الاخذ بها وتقديم العمل بهذه الرواية المشروحة. وأما خبر أبي محذورة في تثنية الإقامة
فإن ثبت كان الاخذ بخبر عبد الله بن زيد أولى لأنه أذان بلال، وقد بينا وجوب تقديمه في الاذان
وكذا في الإقامة وخبر أبي محذورة متروك بالاجماع في الترجيع في الإقامة ولذلك عملنا نحن وأبو حنيفة
بخبره في الاذان وأخذ بأذانه مالك والشافعي وهما يريان إفراد الإقامة
* (مسألة) * (قال ويترسل في الاذان ويحدر الإقامة)
الترسل التمهل والتأني من قولهم جاء فلان على رسله، والحدر ضد ذلك وهو الاسراع، وقطع
418

التطويل وهذا من آداب الاذان ومستحباته لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر "
رواه أبو داود والترمذي وقال هو حديث غريب وروى أبو عبيد باسناده عن عمر رضي الله عنه أنه
قال لمؤذن بيت المقدس: إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم. قال الأصمعي وأصل الحذم في المشي
إنما هو الاسراع وأن يكون مع هذا كأنه يهوي بيديه إلى خلفه ولان هذا معنى يحصل به الفرق بين
الأذان والإقامة فاستحب كالافراد ولان الاذان اعلام الغائبين والتثبيت فيه أبلغ في الاعلام. والإقامة
اعلام الحاضرين فلا حاجة إلى التثبت فيها
(فصل) ذكر أبو عبد الله بن بطة أنه حال ترسله ودرجه لا يصل الكلام بعضه ببعض معربا بل
جزما وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة، قال وروي عن إبراهيم النخعي قال شيئان مجزومان
كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة. قال وهذه إشارة إلى جماعتهم
* (مسألة) * قال (ويقول في أذان الصبح الصلاة خير من النوم مرتين)
وجملته أنه يسن أن يقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم - مرتين - بعد قوله حي على الفلاح
ويسمى التثويب وبذلك قال ابن عمر والحسن البصري وابن سيرين والزهري ومالك والثوري
419

والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والشافعي في الصحيح عنه، وقال أبو حنيفة: التثويب بين الأذان والإقامة
في الفجر أن يقول: حي على الصلاة - مرتين. حي على الفلاح - مرتين
ولنا ما روى النسائي باسناده عن أبي محذورة قال: قلت يا رسول الله علمني سنة الاذان فذكر
إلى أن قال بعد قوله حي على الفلاح " فإن كان في صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم - مرتين -
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " وما ذكروه فقال إسحاق: هذا شئ أحدثه الناس، وقال أبو عيسى
هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم وهو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لما سمعه
(فصل) ويكره التثويب في غير الفجر سواء ثوب في الاذان أو بعده لما روي عن بلال أنه
قال. أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب في الفجر ونهاني أن أثوب في العشاء. رواه ابن ماجة،
ودخل ابن عمر مسجدا يصلي فيه فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له أين فقال أخرجتني
البدعة. ولان صلاة الفجر وقت ينام فيه عامة الناس ويقومون إلى الصلاة عن نوم فاختصت
بالتثويب لاختصاصها بالحاجة إليه
(فصل) ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الاذان إلا لعذر، قال الترمذي: وعلى هذا
العمل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الاذان
الا من عذر، قال أبو الشعثاء: كنا قعودا مع أبي هريرة في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من
المسجد يمشي فاتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى
420

أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وعن عثمان بن عفان رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أدركه الاذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد
الرجعة فهو منافق " رواه ابن ماجة. فأما الخروج لعذر فمباح بدليل أن ابن عمر خرج من أجل
التثويب في غير حينه وكذلك من نوى الرجعة لحديث عثمان رضي الله عنه
* (مسألة) * قال (ومن أذن لغير الفجر قبل دخول الوقت أعاد إذا دخل الوقت)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في أن الاذان قبل الوقت في غير الفجر لا يجزئ
وهذا لا نعلم فيه خلافا، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يؤذن للصلوات بعد
دخول وقتها إلا الفجر، ولان الاذان شرع للاعلام بالوقت فلا يشرع قبل الوقت لئلا يذهب مقصوده
(الفصل الثاني) أنه يشرع الاذان للفجر قبل وقتها وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق
ومنعه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن لما روي ابن عمر أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره
النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي " الا إن العبد نام الا إن العبد نام " وعن بلال أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال له " لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا ومد يديه عرضا " رواهما أبو داود
وقال طائفة من أهل الحديث: إذا كان له مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعده فلا
بأس لأن الاذان قبل الفجر يفوت المقصود من الاعلام بالوقت فلم يجز كبقية الصلوات إلا أن يكون
له مؤذنان يحصل اعلام الوقت بأحدهما كما كان النبي صلى الله عليه وسلم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم
421

مكتوم " متفق عليه. وهذا يدل على دوام ذلك منه والنبي صلى الله عليه وسلم أقره عليه ولم ينهه
عنه فثبت جوازه. وروى زياد بن الحارث الصدائي قال: لما كان أول أذان الصبح أمرني النبي
صلى الله عليه وسلم فأذنت فجعلت أقول: أقيم أقيم يا رسول الله؟ فجعل ينظر إلى ناحية الشرق ويقول
لا، حتى إذا طلع الفجر نزل فبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه فتوضأ فأراد بلال أن يقيم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن أخا صداء قد أذن ومن أذن فهو يقيم " قال: فأقمت، رواه
أبو داود والترمذي. وهذا قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاذان قبل طلوع الفجر وهو حجة على
من قال: إنما يجوز إذا كان له مؤذنان فإن زيادا أذن وحده، وحديث ابن عمر الذي احتجوا به
قال أبو داود: لم يروه إلا حماد بن سلمة ورواه حماد بن زيد والدراوردي فخالفاه وقالا مؤذن لعمر
وهذا أصح: وقال علي بن المديني: أخطأ فيه يعني حمادا، وقال الترمذي: هو غير محفوظ وحديثهم
الآخر قال ابن عبد البر: لا يقوم به ولا بمثله حجة لضعفه وانقطاعه، وإنما اختص الفجر بذلك
لأنه وقت النوم لينتبه الناس ويتأهبوا للخروج إلى الصلاة وليس ذلك في غيرها وقد روينا في حديث
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان بلالا ليؤذن بليل لينتبه نائمكم ويرجع قائمكم " رواه أبو داود، ولا ينبغي
أن يتقدم ذلك على الوقت كثيرا إذ كان المعنى فيه ما ذكرناه فيفوت المقصود منه. وقد روي أن بلالا
كان بين اذانه وأذان ابن أم مكتوم أن ينزل هذا ويصعد هذا.
ويستحب أيضا أن لا يؤذن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذن آخر يؤذن إذا أصبح كفعل
بلال وابن أم مكتوم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يحصل الاعلام
بالوقت المقصود بالاذان فإذا كانا مؤذنين حصل الاعلام بالوقت بالثاني وبقربه بالمؤذن الأول.
(فصل) وينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يجعل أذانه في وقت واحد في الليالي كلها ليعلم الناس
422

ذلك من عادته فيعرفوا الوقت بأذانه ولا يؤذن في الوقت تارة وقبله أخرى فيلتبس على الناس ويغتروا
بأذانه فربما صلى بعض من سمعه الصبح بناء على أذانه قبل وقتها وربما امتنع المتسحر من سحوره
والمتنفل من صلاته بناء على اذانه ومن علم حاله لا يستفيد بأذانه فائدة لتردده بين الاحتمالين ولا يقدم
الاذان كثيرا تارة ويؤخره أخرى فلا يعلم الوقت بأذانه فتقل فائدته
(فصل) قال بعض أصحابنا: ويجوز الاذان للفجر بعد نصف الليل وهذا مذهب الشافعي لأن
بذلك يخرج وقت العشاء المختار ويدخل وقت الدفع من مزدلفة، ووقت رمي الجمرة وطواف الزيارة
وقد روى الأثرم عن جابر قال: كان مؤذن مسجد دمشق يؤذن لصلاة الصبح في السحر بقدر ما يسير
الراكب ستة أميال فلا ينكر ذلك مكحول ولا يقول فيه شيئا
(فصل) ويكره الاذان قبل الفجر في شهر رمضان، نص عليه احمد في رواية الجماعة لئلا يغتر
الناس به فيتركوا سحورهم ويحتمل أن لا يكره في حق من عرف عادته بالاذان في الليل لأن بلالا
كان يفعل ذلك بدليل قوله عليه السلام " ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم
مكتوم " وقال عليه السلام " لا يمنعكم من سحورهم أذان بلال فإنه يؤذن بليل لينبه نائمكم ويرجع قائمكم "
(فصل) ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس فيأخذوا أهبتهم للصلاة. وروى
جابر بن سمرة قال: كان بلال لا يؤخر الاذان عن الوقت وربما اخر الإقامة شيئا، رواه ابن ماجة
وفي رواية قال. كان بلال يؤذن إذا مالت الشمس لا يؤخر ثم لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا خرج أقام حين يراه، رواه أحمد في المسند ويستحب أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر
الوضوء وصلاة ركعتين يتهيؤون فيها. وفي المغرب يفصل بجلسة خفيفة وحكي عن أبي حنيفة
والشافعي انه لا يسن في المغرب
ولنا ما روى الإمام أحمد في مسنده باسناده عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " يا بلال، اجعل بين أذانك واقامتك نفسا يفرغ الآكل من طعامه في مهل، ويقضي حاجته
423

في مهل وعن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال " اجعل بين أذانك واقامتك قدر ما
يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته " رواه أبو داود
والترمذي. وروى تمام في فوائده باسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " جلوس المؤذن
بين الأذان والإقامة في المغرب سنة " قال إسحاق بن منصور رأيت احمد خرج عند المغرب فحين
انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس. وروى الخلال باسناده عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ان النبي صلى الله عليه وسلم جاء وبلال في الإقامة فقعد. وقال احمد يقعد الرجل مقدار ركعتين إذا أذن
المغرب، قيل من أين؟ قال: من حديث أنس وغيره كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذن
المؤذن ابتدروا السواري وصلوا ركعتين ولان الاذان مشرع للاعلام فيسن الانتظار ليدرك الناس
الصلاة ويتهيؤوا لها دليله سائر الصلوات.
" مسألة " قال (ولا يستحب أبو عبد الله أن يؤذن الا طاهرا فإن أذن جنبا أعاد)
المستحب للمؤذن أن يكون متطهرا من الحدث الأصغر والجنابة جميعا لما روى أبو هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤذن الا متوضئ " رواه الترمذي. وروي موقوفا على أبي هريرة وهو أصح
من المرفوع فإن أذن محدثا جاز لأنه لا يزيد على قراءة القرآن والطهارة غير مشروطة له. وان أذن جنبا
فعلى روايتين (إحداهما) لا يعتد به وهو قول إسحاق (والأخرى) يعتد به قال أبو الحسن الآمدي
هو المنصوص عن أحمد وقول أكثر أهل العلم لأنه أحد الحدثين فلم يمنع صحته كالآخر
ووجه الأولى ما روي عن وائل بن حجر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " حق وسنة أن لا يؤذن
424

أحد إلا وهو طاهر " ولأنه ذكر مشروع للصلاة فأشبه القرآن والخطبة
(فصل) ولا يصح الاذان إلا من مسلم عاقل ذكر. فأما الكافر والمجنون فلا يصح منهما
لأنهما ليسا من أهل العبادات، ولا يعتد بأذان المرأة لأنها ليست ممن يشرع له الاذان فأشبهت الجنون
ولا الخنثى لأنه لا يعلم كونه رجلا وهذا كله مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وهل يشترط العدالة
والبلوغ للاعتداد به؟ على روايتين في الصبي ووجهين في الفاسق (إحداهما) يشترط ذلك ولا يعتد
بأذان صبي ولا فاسق لأنه مشروع للاعلام ولا يحصل الاعلام بقولهما لأنهما ممن لا يقبل خبره ولا
روايته ولأنه قد روي " ليؤذن لكم خياركم " (والثانية) يعتد بأذانه وهو قول عطاء والشعبي وابن
أبي ليلى والشافعي. وروى ابن المنذر باسناده عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس قال: كان عمومتي
يأمرونني أن أؤذن لهم وأنا غلام ولم أحتلم وأنس بن مالك شاهد لم ينكر ذلك، وهذا مما يظهر ولا
يخفى ولم ينكر فيكون إجماعا، ولأنه ذكر تصح صلاته فاعتد بأذانه كالعدل البالغ ولا خلاف في
الاعتداد بأذان من هو مستور الحال وإنما الخلاف فيمن هو ظاهر الفسق. ويستحب أن يكون المؤذن
عدلا أمينا بالغا لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة والصيام فلا يؤمن أن يغرهم بأذانه إذا لم يكن كذلك
ولأنه يؤذن على موضع عال فلا يؤمن منه النظر إلى العورات، وفي الاذان الملحن وجهان (أحدهما)
يصح لأن المقصود يحصل منه فهو كغير الملحن (والآخر) لا يصح لما روى الدارقطني باسناده عن
ابن عباس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الاذان سهل
سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن "
(فصل) ويستحب أن يكون المؤذن بصيرا لأن الأعمى لا يعرف الوقت فربما غلط فإن
أذن الأعمى صح أذانه فإن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمرو: كان رجلا أعمى لا ينادي
حتى يقال له أصبحت أصبحت. رواه البخاري، ويستحب أن يكون معه بصير يعرفه الوقت أو
يؤذن بعد مؤذن بصير كما كان ابن أم مكتوم يؤذن بعد أذان بلال. ويستحب أن يكون عالما بالأوقات
425

ليتحراها فيؤذن في أولها، وإذا لم يكن عالما فربما غلط وأخطأ فإن أذن الجاهل صح أذانه فإنه إذا صح
أذان الأعمى فالجاهل أولى، ويستحب أن يكون صيتا يسمع الناس واختار النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة
للاذان لكونه صيتا وفي حديث عبد الله بن زيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له " ألقه على بلال فإنه أندى
صوتا منك " ويستحب أن يكون حسن الصوت لأنه أرق لسامعه
(فصل) ولا يجوز أخذ الأجرة على الاذان في ظاهر المذهب وكرهه القاسم بن عبد الرحمن
والأوزاعي وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص " واتخذ مؤذنا لا يأخذ
على أذانه أجرا " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن ولأنه قربة لفاعله لا يصح
إلا من مسلم فلم يستأجره عليه كالإمامة. وحكي عن أحمد رواية أخرى أنه يجوز أخذ الأجرة عليه
ورخص فيه مالك وبعض الشافعية لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر
الأعمال ولا نعلم خلافا في جواز أخذ الرزق عليه وهذا قول الأوزاعي والشافعي لأن بالمسلمين حاجة إليه
وقد لا يوجد متطوع به وإذا لم يدفع الرزق فيه يعطل، ويرزقه الإمام من الفئ لأنه المعد للمصالح فهو كارزاق
القضاة والغزاة وان وجد متطوع به لم يرزق غيره لعدم الحاجة إليه
(فصل) وينبغي أن يتولى الإقامة من تولى الاذان وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك:
لا فرق بينه وبين غيره لما روى أبو داود في حديث عبد الله بن زيد أنه رأى الاذان في المنام فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ألقه على بلال فألقاه عليه فأذن بلال فقال عبد الله: أنا رأيته وأنا كنت أريده قال
" أقم أنت " ولأنه يحصل المقصود منه فأشبه ما لو تولاهما معا
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زياد بن الحارث الصدائي " ان أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم "
ولأنهما فعلان من الذكر يتقدمان الصلاة فيسن أن يتولاهما واحد كالخطبتين وما ذكروه يدل على الجواز
وهذا على الاستحباب فإن سبق المؤذن بالاذان فأراد المؤذن أن يقيم فقال احمد لو أعاد الاذان كما
صنع أبو محذورة كما روى عبد العزيز بن رفيع قال رأيت رجلا أذن قبل أبي محذورة قال فجاء أبو محذورة
فأذن ثم أقام أخرجه الأثرم. فإن أقام من غير إعادة فلا بأس وبذلك قال مالك والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي لما ذكروه من حديث عبد الله بن زيد
426

(فصل) ويستحب أن يقيم في موضع أذانه قال احمد أحب إلي أن يقيم في مكانه ولم يبلغني فيه
شئ إلا حديث بلال: لا تسبقني بآمين. يعنى لو كان يقيم في موضع صلاته لما خاف أن يسبقه بالتأمين لأن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما كان يكبر بعد فراغه من الإقامة ولان الإقامة شرعت للاعلام فشرعت في موضعه ليكون أبلغ
في الاعلام. وقد دل على هذا حديث عبد الله بن عمر قال: كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا
إلى الصلاة إلا أن يؤذن في المنارة أو مكان بعيد من المسجد فيقيم في غير موضعه لئلا يفوته بعض الصلاة
(فصل) ولا يقيم حتى يأذن له الإمام فإن بلالا كان يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي
حديث زياد بن الحارث الصدائي أنه قال فجعلت أقول للنبي صلى الله عليه وسلم أقيم أقيم؟ وروى أبو حفص باسناده
عن علي قال: المؤذن أملك بالاذان والإمام أملك بالإقامة
* (مسألة) * قال (ومن صلى بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك ولا يعيد)
يكره ترك الاذان للصلوات الخمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلواته بأذان وإقامة والأئمة بعده
وأمر به. قال مالك بن الحويرث أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجل نودعه فقال " إذا حضرت الصلاة فليؤذن
أحدكما وليؤمكما أكبركما " متفق عليه وظاهر كلام الخرقي ان الاذان سنة مؤكدة وليس بواجب -
لأنه جعل تركه مكروها وهذا قول أبي حنيفة والشافعي لأنه دعاء إلى الصلاة فأشبه قوله الصلاة جامعة
وقال أبو بكر بن عبد العزيز هو من قروض الكفايات. وهذا قول أكثر أصحابنا وقول بعض أصحاب
مالك. وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي هو فرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به مالكا وصاحبه وداوم عليه
هو وخلفاؤه وأصحابه والامر يقتضي الوجوب ومداومته على فعله دليل على وجوبه، ولأنه من شعائر
الاسلام الظاهرة فكان فرضا كالجهاد، فعلى قول أصحابنا إذا قام به من تحصل به الكفاية سقط عن
الباقين لأن بلالا كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فيكتفي به، وإن صلى مصل بغير اذان ولا إقامة فالصلاة صحيحة
على القولين لما روي عن علقمة والأسود أنهما قالا: دخلنا على عبد الله فصلى بنا بلا أذان ولا إقامة
رواه الأثرم ولا أعلم أحدا خالف في ذلك إلا عطاء قال ومن نسي الإقامة بعيد. والأوزاعي قال مرة
يعيد ما دام في الوقت فإن مضى الوقت فلا إعادة عليه وهذا شذوذ، والصحيح قول الجمهور لما ذكرنا
427

ولان الإقامة أحد الأذانين فلم تفسد الصلاة بتركها كالآخر
(فصل) ومن أوجب الاذان من أصحابنا فإنما أوجبه على أهل المصر كذلك قال القاضي لا
يجب على أهل غير المصر من المسافرين، وقال مالك إنما يجب النداء في مساجد الجماعة التي يجمع فيها
للصلاة وذلك لأن الاذان إنما شرع في الأصل للاعلام بالوقت ليجتمع الناس إلى الصلاة ويدركوا
الجماعة. ويكفي في المصر أذان واحد إذا كان بحيث يسمعهم، وقال ابن عقيل يكفي أذان واحد في
المحلة ويجتزئ بقيتهم بالإقامة، وقال أحمد في الذي يصلي في بيته يجزئه أذان المصر وهو قول الأسود
وأبي مجلز ومجاهد والشعبي والنخعي وعكرمة وأصحاب الرأي، وقال ميمون بن مهران والأوزاعي
ومالك تكفيه الإقامة، وقال الحسن وابن سيرين إن شاء أقام، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
الذي علمه الصلاة " إذا أردت الصلاة فأحسن الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " ولم يأمره بالاذان وفي
لفظ رواه النسائي " فأقم ثم كبر " وحديث ابن مسعود، والأفضل لكل مصل أن يؤذن ويقيم الا أنه
إن كان يصلي قضاء أو في غير وقت الاذان لم يجهر به، وإن كان في الوقت في بادية أو نحوها استحب
له الجهر بالاذان لقول أبي سعيد إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء
فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا انس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعت
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغير إذا طلع الفجر وكان إذا سمع
أذانا أمسك وإلا أغار فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " على الفطرة "
فقال أشهد ان لا إله إلا الله أشهد ان لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرجت من النار " فنظروا
فإذا صاحب معز أخرجه مسلم
(فصل) ومن فاتته صلوات استحب له ان يؤذن للأولى ثم يقيم لكل صلاة إقامة، وإن لم
يؤذن فلا بأس قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يقضي صلاة كيف يصنع في الاذان؟
فذكر حديث هشيم عن أبي الزبير عن نافع بن جبير عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه أن المشركين
شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله قال:
فأمر بلالا فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام فصلى المغرب، ثم امره
428

فأقام فصلى العشاء، قال أبو عبد الله وهشام الدستوائي لم يقل كما قال هشيم جعلها إقامة إقامة قلت
فكأنك تختار حديث هشيم؟ قال نعم هو زيادة أي شئ يضره وهذا في الجماعة فإن كان يقضي وحده
كان استحباب ذلك أدنى في حقه لأن الأذان والإقامة للاعلام ولا حاجة إلى الاعلام ههنا، وقد
روي عن أحمد في رجل فاتته صلوات فقضاها ليؤذن ويقيم مرة واحدة يصليها كلها فسهل في ذلك
ورآه حسنا، وقال الشافعي نحو ذلك وله قولان آخران (أحدهما) أنه يقيم ولا يؤذن وهذا قول مالك
لما روى أبو سعيد قال حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب يهوي من الليل قال
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها ثم أمره فأقام العصر فصلاها ولان الاذان
للاعلام بالوقت وقد فات، والقول الثالث ان رجى اجتماع الناس أذن وإلا فلا لأن الاذان مشروع
للاعلام فلا يشرع إلا مع الحاجة، وقال أبو حنيفة يؤذن لكل صلاة ويقيم لأن ما سن للصلاة في أدائها
سن في قضائها كسائر المسنونات
429

ولنا حديث ابن مسعود رواه الأثرم والنسائي وغيرهما وهو متضمن للزيادة والزيادة من الثقة
مقبولة. وعن أبي قتادة انهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فناموا حتى طلعت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم
يا بلال " قم فأذن الناس بالصلاة " متفق عليه، ورواه عمران بن حصين أيضا قال فأمر بلالا فأذن فصلينا
ركعتين ثم أمره فأقام فصلينا متفق عليه
ولنا على أبي حنيفة حديث ابن مسعود وأبي سعيد ولان الثانية من الفوائت صلاة وقد أذن
لما قبلها فأشبهت الثانية من المجموعتين وقياسهم منتقض بهذا
(فصل) فإن جمع بين صلاتين في وقت أولاهما استحب أن يؤذن للأولى ويقيم، ثم يقيم للثانية
وإن جمع بينهما في وقت الثانية فهما كالفائتتين لا يتأكد الاذان لهما لأن الأولى منهما تصلى في غير
وقتها والثانية مسبوقة بصلاة قبلها وإن جمع بينهما بإقامة واحدة فلا بأس، وقال أبو حنيفة في المجموعتين
لا يقيم للثانية لأن ابن عمر روى أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بمزدلفة
430

بإقامة واحدة صحيح، وقال مالك يؤذن للأولى والثانية ويقيم لأن الثانية منهما صلاة يشرع لها الاذان
وهي مفعولة في وقتها فيؤذن لها كالأولى
ولنا على الجمع في وقت الأولى ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر
بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة باذان وإقامتين رواه مسلم ولان الأولى منهما في وقتها فيشرع لها
الاذان كما لو لم يجمعهما، وأما إذا كان الجمع في وقت الثانية فقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم جمع بين المغرب والعشاء يجمع كل واحدة منهما بإقامة رواه البخاري، وان جمع بينهما بإقامة
فلا بأس لحديث آخر ولان الأولى مفعولة في غير وقتها فأشبهت الفائتة والثانية منهما مسبوقة بصلاة
فلا يشرع لها الاذان كالثانية من الفوائت وما ذهب إليه مالك يخالف الخبر الصحيح وقد رواه في
موطئه وذهب إلى ما سواه اه‍
431

(فصل) ويشرع الاذان في السفر للراعي وأشباهه في قول أكثر أهل العلم، وكان ابن عمر يقيم
لكل صلاة إقامة إلا الصبح فإنه يؤذن لها ويقيم وكان يقول إنما الاذان على الأمير والإقامة على الذي
يجمع الناس. وعنه أنه كان لا يقيم في أرض تقام فيها الصلاة. وعن علي أنه قال إن شاء أذن وأقام وان
شاء أقام وبه قال عروة والثوري، وقال الحسن وابن سيرين تجزئه الإقامة وقال إبراهيم في المسافرين
إذا كانوا رفاقا أذنوا وأقاموا وإذا كان وحده أقام للصلاة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في الحضر والسفر وقد ذكرنا ذلك في حديث أبي
قتادة وعمران وزياد بن الحارث وأمر به مالك بن الحويرث وصاحبه وما نقل عن السلف في هذا
فالظاهر أنهم أرادوا الواحد وحده وقد بينه إبراهيم النخعي في كلامه، والاذان مع ذلك أفضل لما
ذكرنا من حديث أبي سعيد وحديث أنس، وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول " يعجب ربك من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله
عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " رواه
النسائي وقال سلمان الفارسي إذا كان الرجل بأرض قي (1) فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان فإن أذن

(1) بالكسر والتشديد هي الأرض القفر الخالية
432

وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى قطراه (1) يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ويؤمنون على دعائه، وكذلك قال سعيد بن المسيب إلا أنه قال: صلى خلفه من الملائكة أمثال الجبال
(فصل) ومن دخل مسجدا قد صلي فيه فإن شاء أذن وأقام نص عليه أحمد لما روى الأثرم وسعيد
ابن منصور عن أنس أنه دخل مسجدا قد صلوا فيه فأمر رجلا فأذن وأقام فصلى بهم في جماعة، وان شاء صلى
من غير أذان ولا إقامة فإن عروة قال إذا انتهيت إلى مسجد قد صلى فيه ناس أذنوا وأقاموا فإن أذانهم
وإقامتهم تجزئ عمن جاء بعدهم وهذا قول الحسن والشعبي والنخعي إلا أن الحسن قال كان أحب إليهم أن
يقيم، وإذا أذن فالمستحب أن يخفي ذلك ولا يجهر به ليغر الناس بالاذان في غير محله
(فصل) وليس على النساء أذان ولا إقامة وكذلك قال ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب
والحسن وابن سيرين والنخعي والثوري ومالك وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه خلافا، وهل
يسن لهن ذلك؟ فقد روي عن أحمد قال إن فعلن فلا بأس وإن لم يفعلن فجائز. وقال القاضي هل
يستحب لها الإقامة؟ على روايتين، وعن جابر انها تقيم وبه قال عطاء ومجاهد والأوزاعي، وقال الشافعي

(1) بضم القاف مثنى قطر أي طرفاه وجانباه
433

إن أذن وأقمن فلا بأس، وعن عائشة انها كانت تؤذن وتقيم وبه قال إسحاق وقد روي عن أم ورقة
أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن يؤذن لها ويقام وتؤم نساء أهل دارها، وقيل إن هذا الحديث يرويه
الوليد بن جميع وهو ضعيف وروى النجاد باسناده عن أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول " ليس على النساء أذان ولا إقامة " ولان الاذان في الأصل للاعلام ولا يشرع لها
ذلك، والاذان يشرع له رفع الصوت ولا يشرع لها رفع الصوت ومن لا يشرع في حقه الاذان لا
يشرع في حقه الإقامة كغير المصلي وكمن أدرك بعض الجماعة
* (مسألة) * قال (ويجعل أصابعه مضمومة على أذنيه)
المشهور عن أحمد انه يجعل أصبعيه في أذنيه وعليه العمل عند أهل العلم يستحبون أن يجعل
المؤذن أصبعيه في أذنيه قال الترمذي لما روى أبو جحيفة أن بلالا أذن ووضع إصبعيه في أذنيه،
متفق عليه. وعن سعد مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
بلالا أن يجعل أصبعيه في أذنيه قال " انه أرفع لصوتك " وروى أبو طالب عن أحمد أنه قال أحب إلي
434

أن يجعل يديه على أذنيه على حديث أبي محذورة وضم أصابعه الأربع ووضعها على أذنيه وحكى أبو
حفص عن ابن بطة قال سألت أبا القاسم الخرقي عن صفة ذلك فأرانيه بيديه جميعا فضم أصابعه على
راحتيه ووضعهما على أذنيه، واحتج لذلك القاضي بما روى أبو حفص باسناده عن ابن عمر انه كان
إذا بعث مؤذنا يقول له اضمم أصابعك مع كفيك واجعلها مضمومة على أذنيك، وبما روى الإمام أحمد
عن أبي محذورة انه كان يضم أصابعه، والأول أصح لصحة الحديث وشهرته وعمل أهل العلم به
وأيهما فعل فحسن وإن ترك الكل فلا بأس
(فصل) ويستحب رفع الصوت بالاذان ليكون أبلغ في إعلامه، وأعظم لثوابه كما ذكر في خبر
أبي سعيد، ولا يجهد نفسه في رفع صوته زيادة على طاقته لئلا يضر بنفسه وينقطع صوته، فإن أذن
لعامة الناس جهر بجميع الاذان ولا يجهر ببعض ويخافت ببعض لئلا يفوت مقصود الاذان وهو الاعلام
وإن أذن لنفسه أو لجماعة خاصة حاضرين جاز أن يخافت ويجهر وان يخافت ببعض ويجهر ببعض الا
أن يكون في وقت الاذان فلا يجهر بشئ منه لئلا يغر الناس بأذانه
(فصل) وينبغي أن يؤذن قائما، قال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن السنة
435

أن يؤذن قائما وفي حديث أبي قتادة الذي رويناه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال " قم
فأذن " وكان مؤذنو رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنون قياما، وإن كان له عذر فلا بأس أن يؤذن
قاعدا، قال الحسن العبدي رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رجله أصيبت
في سبيل الله يؤذن قاعدا. رواه الأثرم، فإن أذن قاعدا لغير عذر فقد كرهه أهل العلم ويصح فإنه
ليس بآكد من الخطبة وتصح من القاعد، قال الأثرم وسمعت أبا عبد الله يسئل عن الاذان على
الراحلة فسهل فيه وقال أمر الاذان عندي سهل. وروي عن ابن عمر انه كان يؤذن على الراحلة ثم
ينزل فيقيم، وإذا أبيح التنفل على الراحلة فالاذان أولى
(فصل) ويستحب أن يوذن على شئ مرتفع ليكون أبلغ لتأدية صوته، وقد روى أبو داود عن
عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت كان بيتي من أطول بيت حول المسجد وكان بلال
يؤذن عليه الفجر فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم إني
436

أستعينك وأستعديك على قريش أن يقيموا دينك. قالت ثم يؤذن وفي حديث بدء الاذان فقال
رجل من الأنصار يا رسول الله رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد
قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول قد قامت الصلاة.
(فصل) ولا يستحب أن يتكلم في أثناء الاذان وكرهه طائفة من أهل العلم قال الأوزاعي لم نعلم
أحدا يقتدى به فعل ذلك، ورخص فيه الحسن وعطاء وقتادة وسليمان بن صرد فإن تكلم بكلام يسير
جاز وان طال الكلام بطل لأنه يقطع الموالاة المشروطة في الاذان فلا يعلم أنه أذان وكذلك لو سكت سكوتا
طويلا أو نام نوما طويلا أو أغمي عليه أو أصابه جنون يقطع الموالاة بطل أذانه، وإن كان الكلام يسيرا محرما
كالسب ونحوه فقال بعض أصحابنا فيه وجهان (أحدهما) لا يقطعه لأنه لا يخل بالمقصود فأشبه المباح (والثاني)
يقطعه لأنه محرم فيه، وأما الإقامة فلا ينبغي أن يتكلم فيها لأنها يستحب حدرها وأن لا يفرق بينها قال
أبو داود قلت لأحمد الرجل يتكلم في أذانه؟ فقال نعم فقلت له يتكلم في الإقامة فقال لا.
437

(فصل) وليس للرجل أن يبني على أذان غيره لأنه عبادة بدنية فلا يصح من شخصين كالصلاة
والردة تبطل الآذان ان وجدت في أثنائه، وان وجدت بعده فقال القاضي قياس قوله في الطهارة ان
تبطل أيضا. والصحيح انها لا تبطل لأنها وجدت بعد فراغه وانقضاء حكمه بحيث لا يبطله شئ من
مبطلاته فأشبه سائر العبادات إذا وجدت بعد فراغه منها بخلاف الطهارة فإنها تبطل بمبطلاتها فالاذان
أشبه بالصلاة في هذا الحكم منه بالطهارة والله تعالى أعلم.
(فصل) ولا يصح الاذان إلا مرتبا لأن المقصود منه يختل بعدم الترتيب وهو الاعلام فإنه إذا
لم يكن مرتبا لم يعلم أنه أذان ولأنه شرع في الأصل مرتبا وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة مرتبا.
* (مسألة) * قال (ويدير وجهه على يمينه إذا قال: حي على الصلاة، وعلى يساره إذا
قال: حي على الفلاح. ولا يزيل قدميه).
438

المستحب أن يؤذن مستقبل القبلة لا نعلم فيه خلافا فإن مؤذني النبي كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة
ويستحب أن يدير وجهه على يمينه إذا قال حي على الصلاة، وعلى يساره إذا قال حي على الفلاح، ولا
يزيل قدميه عن القبلة في التفاته لما روى أبو جحيفة قال رأيت بلالا يؤذن وأتتبع (1) فاه ههنا وههنا
وإصبعاه في أذنيه. متفق عليه، وفي لفظ قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم
فخرج بلال فأذن فلما بلغ حي على الصلاة حي على الفلاح التفت يمينا وشمالا ولم يستدر رواه أبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستدير سواء كان على الأرض أو فوق المنارة وهو قول الشافعي، وذكر أصحابنا
عن أحمد فيمن أذن في المنارة روايتين (إحداهما) لا يدور للخبر ولأنه يستدبر القبلة فكره كما لو كان على
وجه الأرض (والثانية) يدور في مجالها لأنه لا يحصل الاعلام بدونه وتحصيل المقصود بالاخلال بأدب أولى من

(1) في الصحيحين فجعلت أتتبع
439

العكس، ولو أخل باستقبال القبلة أو مشى في أذانه لم يبطل فإن الخطبة آكد من الاذان ولا تبطل
بهذا، وسئل أحمد عن الرجل يؤذن وهو يمشي فقال نعم أمر الاذان عندي سهل وسئل عن المؤذن
يمشي وهو يقيم قال يعجبني أن يفرغ ثم يمشي، وقال في رواية حرب وفي المسافر أحب إلي أن يؤذن
ووجهه إلى القبلة وأرجو أن يجزئ
* (مسألة) * قال (ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول)
لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب ذلك والأصل فيه ما روى أبو سعيد ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " متفق عليه ورواه جماعة عن النبي صلى الله
عليه وسلم منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص وابنه وأم حبيبة، وقال غير الخرقي من أصحابنا يستحب
أن يقول عند الحيعلة لا حول ولا قوة إلا بالله، نص عليه أحمد لما روى الأثرم باسناده عن أبي رافع
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع الاذان قال مثل ما يقول المؤذن فإذا بلغ حي على
440

الصلاة قال " لا حول ولا قوة إلا بالله " وروى حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال
أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا
رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا
قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله -
من قلبه دخل الجنة " رواه مسلم وأبو داود قال أبو بكر الأثرم هذا من الأحاديث الجياد يعني هذا
الحديث وهذا أخص من حديث أبي سعيد فيقدم عليه أو يجمع بينهما.
(فصل) ويستحب أن يقول في الإقامة مثل ما يقول ويقول عند كلمة الإقامة: أقامها الله وأدامها
لما روى أبو داود باسناده عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة فلما ان قال قد قامت
الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " أقامها الله وأدامها " وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الاذان
441

(فصل) وروى سعيد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قال حين
يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله، رضيت بالله ربا
وبالاسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، غفر له ذنبه " رواه مسلم وعن جابر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة
والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته - حلت له شفاعتي يوم القيامة " رواه البخاري وعن أم سلمة
قالت علمني النبي صلى الله عليه وسلم ان أقول عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وادبار نهارك
وأصوات دعائك فاغفر لي. رواه أبو داود وروى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يرد الدعاء
بين الأذان والإقامة " رواه أبو داود أيضا.
(فصل) وإذا سمع الاذان وهو في قراءة قطعها ليقول مثل ما يقول لأنه يفوت والقراءة لا تفوت
وان سمعه في الصلاة لم يقل مثل قوله لئلا يشتغل عن الصلاة بما ليس منها وقد روي " ان في الصلاة لشغلا "
وان قاله ما عدا الحيعلة لم تبطل الصلاة لأنه ذكر، وان قال الدعاء إلى الصلاة فيها بطلت لأنه خطاب آدمي
442

(فصل) روي عن أحمد أنه كان إذا أذن فقال كلمة من الاذان قال مثلها سرا فظاهر هذا
انه رأى ذلك مستحبا ليكون ما يظهره أذانا ودعاء إلى الصلاة وما يسره ذكرا لله تعالى فيكون
بمنزلة من سمع الاذان.
(فصل) قال الأثرم وسمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يقوم حين يسمع المؤذن مبادرا يركع
فقال يستحب أن يكون ركوعه بعد ما يفرغ المؤذن أو يقرب من الفراغ لأنه يقال إن الشيطان ينفر حين
يسمع الاذان فلا ينبغي أن يبادر بالقيام وإن دخل المسجد فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول
مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس نص عليه أحمد.
(فصل) ولا يستحب الزيادة على مؤذنين لأن الذي حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له مؤذنان
بلال وابن أم مكتوم إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز، فقد روي عن عثمان رضي الله
عنه أنه كان له أربعة مؤذنين. وإن دعت الحاجة إلى أكثر منه كان مشروعا، وإذا كان أكثر من واحد
وكان الواحد يسمع الناس فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهما
443

يؤذن بعد الآخر، وإن كان الاعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه إما أن يؤذن كل
واحد في منارة أو ناحية أو دفعة واحدة في موضع واحد، قال أحمد إن أذن عدة في منارة فلا بأس
وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات أول الوقت أذنوا جميعا دفعة واحدة.
(فصل) ولا يؤذن قبل المؤذن الراتب إلا أن يتخلف ويخاف فوات وقت التأذين فيؤذن
غيره كما روي عن زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم حين غاب بلال وقد ذكرنا حديثه
وأذن رجل حين غاب أبو محذورة قبله فأما مع حضوره فلا يسبق بالاذان فإن مؤذني النبي صلى الله
عليه وسلم لم يكن غيرهم يسبقهم بالاذان.
(فصل) وإذا تشاح نفسان في الاذان قدم أحدهما في الخصال المعتبرة في التأذين فيقدم من
كان أعلى صوتا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد " ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك " وقدم
أبا محذورة لصوته. وكذلك يقدم من كان أبلغ في معرفة الوقت وأشد محافظة عليه ومن يرتضيه الجيران
لأنهم أعلم بمن يبلغهم صوته ومن هو أعف عن النظر. فإن تساويا من جميع الجهات أقرع بينهما لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا "
متفق عليه ولما تشاح الناس في الاذان يوم القادسية أقرع بينهم سعد.
444

(فصل) ويكره اللحن في الاذان فإنه ربما غير المعنى فإن من قال أشهد أن محمدا رسول الله ونصب
لام رسول أخرجه عن كونه خبرا ولا يمد لفظة أكبر لأنه يجعل فيها ألفا فيصير جمع كبر وهو الطبل
ولا تسقط الهاء من اسم الله تعالى واسم الصلاة ولا الحاء من الفلاح لما روى أبو هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤذن لكم من يدغم الهاء " قلنا وكيف يقول؟ قال يقول " أشهد أن لا إله إلا
الله (1) أشهد ان محمدا رسول الله " أخرجه الدارقطني في الافراد، فاما إن كان ألثغ لثغة لا تتفاحش جاز
اذانه فقد روي أن بلالا كان يقول أسهد يجعل الشين سينا وان سلم من ذلك كان أكمل وأحسن
(فصل) وإذا أذن في الوقت كره له أن يخرج من المسجد الا أن يكون لحاجة ثم يعود لأنه
ربما احتيج إلى إقامة الصلاة فلا يوجد. وان أذن قبل الوقت للفجر فلا بأس بذهابه لأنه لا يحتاج
إلى حضوره قال احمد في الرجل يؤذن في الليل وهو على غير وضوء فيدخل المنزل ويدع المسجد
أرجو أن يكون موسعا عليه ولكن إذا أذن وهو متوضئ في وقت الصلاة فلا أرى له أن يخرج من
المسجد حتى يصلي إلا أن تكون له الحاجة.

(1) إذا كان هذا حكاية قول من يدغم الهاء أي يخفيها في اللام فيجب أن يكتب لفظ الجلالة بدون هاء هكذا (اللا) وهو الظاهر
445

(فصل) فإن أذن المؤذن في بيته وكان قريبا من المسجد فلا بأس وإن كان بعيدا فلا لأن
القريب أذانه من عند المسجد فيأتيه السامعون للاذان. والبعيد ربما سمعه من لا يعرف المسجد فيغتر
به ويقصده فيضيع عن المسجد. وقد روي في الذي يؤذن في بيته وبينه وبين المسجد طريق يسمع
الناس: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال في رواية إبراهيم الحربي فيمن يؤذن في بيته على سطح: معاذ الله
ما سمعنا ان أحدا يفعل هذا، فالأول المراد به القريب ولهذا كان بلال يؤذن على سطح امرأة من
قريش لما كان قريبا من المسجد عاليا والثاني محمول على البعيد لما ذكرناه.
(فصل) إذا أذن المؤذن وأقام لم يستحب لسائر الناس أن يؤذن كل انسان منهم في نفسه ويقيم
بعد فراغ المؤذن ولكن يقول مثل ما يقول المؤذن لأن السنة إنما وردت بهذا والله أعلم.
446

* (باب استقبال القبلة) *
استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في الحالتين اللتين ذكرهما الخرقي رحمه الله والأصل في
ذلك قول الله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) يعني نحوه، كما أنشدوا:
ألا من مبلغ عنا رسولا * وما تغني الرسالة شطر عمرو
أي نحو عمرو، وتقول العرب هؤلاء القوم يشاطروننا إذا كانت بيوتهم تقابل بيوتهم، وقال علي
رضي الله عنه شطره قبله، وروي عن البراء قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس
ستة عشر شهرا ثم إنه وجه إلى الكعبة فمر رجل وكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من
الأنصار فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا إلى الكعبة. أخرجه النسائي
* (مسألة) * قال أبو القاسم: (إذا اشتد الخوف وهو مطلوب ابتدأ الصلاة إلى القبلة
وصلى إلى غيرها راجلا وراكبا يومئ إيماءا على قدر الطاقة ويجعل سجوده أخفض من ركوعه)
447

وجملة ذلك أنه إذا اشتد الخوف بحيث لا يتمكن من الصلاة إلى القبلة أو احتاج إلى المشي أو
عجز عن بعض أركان الصلاة إما لهرب مباح من عدو أو سيل أو سبع أو حريق أو نحو ذلك مما
لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب أو المسابقة أو التحام الحرب والحاجة إلى الكر والفر والطعن والضرب
والمطاردة فله أن يصلي على حسب حاله راجلا وراكبا إلى القبلة إن أمكن أو إلى غيرها إن لم يمكن
وإذا عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما وينحني إلى السجود أكثر من الركوع على قدر طاقته،
وإن عجز عن الايماء سقط وإن عجز عن القيام أو القعود أو غيرهما سقط، وإن احتاج إلى الطعن
والضرب والكر والفر فعل ذلك ولا يؤخر الصلاة عن وقتها لقول الله تعالى (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا)
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على
أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، قال نافع: لا أرى ابن عمر حدثه إلا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وإذا أمكن افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يجب ذلك؟ قال أبو بكر: فيه روايتان
(إحداهما) لا يجب لأنه جزء من أجزاء الصلاة فلم يجب الاستقبال فيه كبقية أجزائها، قال:
وبه أقول (والثانية) يجب لما روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كان
448

في السفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة ثم كبر ثم صلى حيث توجهت به رواه الدارقطني
ولأنه أمكنه ابتداء الصلاة مستقبلا فلم يجز بدونه كما لو أمكنه ذلك في ركعة كاملة. وتمام شرح هذه
الصلاة نذكره في باب صلاة الخوف إن شاء الله.
* (مسألة) * قال (وسواء كان مطلوبا أو طالبا يخشى فوات العدو وعن أبي عبد الله
رحمه الله رواية أخرى أنه إن كان طالبا فلا يجزئه أن يصلي إلا صلاة آمن)
اختلفت الرواية عن أبي عبد الله رحمه الله في طالب العدو الذي يخاف فواته فروي أنه يصلي على حسب
حاله كالمطلوب سواء، روي ذلك عن شرحبيل بن حسنة وهو قول الأوزاعي وعن أحمد انه لا يصلي الا
صلاة آمن وهو قول أكثر أهل العلم لأن الله تعالى قال (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) فشرط الخوف
وهذا غير خائف ولأنه آمن فلزمته صلاة الامن كما لو لم يخش فوتهم، وهذا الخلاف فيمن يأمن رجوعهم
عليه ان تشاغل بالصلاة ويأمن على أصحابه. فأما الخائف من ذلك فحكمه حكم المطلوب، ولنا ما روى
أبو داود في سننه باسناده عن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي
449

وكان نحو عرفة أو عرفات قال " اذهب فاقتله " فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت إني لأخاف أن
يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه قال لي من
أنت؟ قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك لذلك، قال إني لعلى ذلك فمشيت معه
ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد، وظاهر حاله أنه أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو كان قد علم جواز
ذلك من قبله فإنه لا يظن به أنه يفعل مثل ذلك مخطئا وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يخبره به ولا يسأله عن
حكمه وروى الأوزاعي عن سابق البريدي عن كتاب الحسن ان الطالب ينزل فيصلي بالأرض فقال
الأوزاعي وجدنا الامر على غير ذلك قال شرحبيل بن حسنة: لا تصلوا الصبح الا على ظهر فنزل
الأشتر فصلى على الأرض فمر به شرحبيل فقال مخالف خالف الله به، قال فخرج الأشتر في الفتنة.
وكان الأوزاعي يأخذ بهذا في طلب العدو، ولأنها إحدى حالتي الحرب أشبه حالة الهرب. والآية
لا دلالة فيها على محل النزاع لأن مدلولها إباحة القصر وقد أبيح القصر حالة الا من بغير خلاف وهو
أيضا غير محل النزاع ثم وان دلت على محل النزاع فقد أبيحت صلاة الخوف من غير خوف فتنة
الكفار للخوف من سبع أو سيل أو حريق لوجود معنى المنطوق فيها وهذا في معناه لأن فوات الكفار
ضرر عظيم فأبيحت صلاة الخوف عند فوته كالحالة الأخرى.
450

* (مسألة) * قال (وله أن يتطوع في السفر على الراحلة على ما وصفنا من صلاة الخوف)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في إباحة التطوع على الراحلة في السفر الطويل. قال الترمذي:
هذا عند عامة أهل العلم، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه جائز لكل من سافر سفرا يقصر فيه
الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت يومئ بالركوع والسجود يجعل السجود أخفض من
الركوع، وأما السفر القصير وهو ما لا يباح فيه القصر فإنه تباح فيه الصلاة على الراحلة عند إمامنا
والليث والحسن بن حيي والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا يباح إلا في سفر
طويل لأنه رخصة سفر فاختص بالطويل كالقصر.
ولنا قول الله تعالى (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال ابن عمر: نزلت هذه
الآية في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك وهذا مطلق يتناول باطلاقه محل النزاع، وعن ابن
عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره، وفي رواية كان يسبح على ظهر راحلته
حيث كان وجهه يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله متفق عليهما، وللبخاري الا الفرائض، ولمسلم
451

وأبي داود: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. ولم يفرق بين قصير السفر وطويله ولان إباحة الصلاة على
الراحلة تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعها وتقليلها وهذا يستوي فيه الطويل والقصير. والقصر
والفطر يراعى فيه المشقة وإنما توجد غالبا في الطويل. قال القاضي: الأحكام التي يستوي فيها
الطويل من السفر والقصير ثلاثة التيمم وأكل الميتة في المخمصة والتطوع على الراحلة وبقية الرخص
تختص الطويل - الفطر والجمع والمسح ثلاثا.
(فصل) وحكم الصلاة على الراحلة حكم الصلاة في الخوف في أنه يومئ بالركوع والسجود
ويجعل السجود أخفض من الركوع. قال جابر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة
فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع، رواه أبو داود، ويجوز أن
يصلي على البعير والحمار وغيرهما. قال ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه
إلى خيبر رواه أبو داود والنسائي، لكن إن صلى على حيوان نجس فلابد أن يكون بينهما سترة طاهرة.
(فصل) فإن كان على الراحلة في مكان واسع كالمنفرد في العمارية (1) يدور فيها كيف شاء ويتمكن
من الصلاة إلى القبلة والركوع والسجود فعليه استقبال القبلة في صلاته ويسجد على ما هو عليه ان
أمكنه ذلك لأنه كراكب السفينة وان قدر على الاستقبال دون الركوع والسجود استقبل القبلة
وأومأ بهما نص عليه. وقال أبو الحسن الآمدي يحتمل أن لا يلزمه شئ من ذلك كغيرة لأن
الرخصة العامة تعم ما وجدت فيه المشقة وغيره كالقصر والجمع وان عجز عن ذلك سقط بغير خلاف

(1) في نسخة " العمادية "
452

وإن كان يعجز عن استقبال القبلة في ابتداء صلاته كراكب راحلة لا تطيعه أو كان في قطار (1) فليس
عليه استقبال القبلة في شئ من الصلاة وإن أمكنه افتتاحها إلى القبلة كراكب راحلة منفردة تطيعه فهل
يلزمه افتتاحها إلى القبلة؟ يخرج فيه روايتان (إحداهما) يلزمه لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجهة ركابه، رواه الإمام أحمد
في مسنده وأبو داود ولأنه أمكنه استقبال القبلة في ابتداء الصلاة فلزمه ذلك كالصلاة كلها (والثانية)
لا يلزمه لأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه سائر أجزائها ولان ذلك لا يخلو من مشقة فسقط، وخبر
النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على الفضيلة والندب.
(فصل) وقبلة هذا المصلي حيث كانت وجهته فإن عدل عنها نظرت فإن كان عدوله إلى جهة
الكعبة جاز لأنها الأصل وإنما جاز تركها للعذر فإذا عدل إليها أتى بالأصل كما لو ركع فسجد في مكان
الايماء، وإن عدل إلى غيرها عمدا فسدت صلاته لأنه ترك قبلته عمدا، وإن فعل ذلك مغلوبا أو
نائما أو ظنا منه أنها جهة سفره فهو على صلاته ويرجع إلى جهة سفره عند زوال عذره لأنه مغلوب

(1) المراد بالقطار جماعة الإبل التي تربط بعضها ببعض ومثلها في الحكم ما سمي باسمها وهو قطار مركبات السكك الحديدية
453

على ذلك فأشبه العاجز عن الاستقبال فإن تمادى به ذلك بعد زوال عذره فسدت صلاته لأنه ترك
الاستقبال عمدا ولا فرق بين جميع التطوعات في هذا فيستوي فيه النوافل المطلقة والسنن الرواتب
والمعينة والوتر وسجود التلاوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على بعيره وكان يسبح على
بعيره إلا الفرائض. متفق عليهما.
(فصل) فأما الماشي في السفر فظاهر كلام الخرقي انه لا تباح له الصلاة في حال مشيه لقوله ولا
يصلي في غير هاتين الحالتين فرضا ولا نافلة الا متوجها إلى الكعبة. وهو إحدى الروايتين عن أحمد
فإنه قال: ما أعلم أحدا قال في الماشي يصلي الا عطاء ولا يعجبني أن يصلي الماشي وهذا مذهب
أبي حنيفة (والرواية الثانية) له أن يصلي ماشيا نقلها مثنى بن جامع وذكرها القاضي وغيره، وعليه
أن يستقبل القبلة لافتتاح الصلاة ثم ينحرف إلى جهة سيره ويقرأ وهو ماش ويركع ثم يسجد على
الأرض، وهذا مذهب عطاء والشافعي. وقال الآمدي: يومئ بالركوع والسجود كالراكب لأنها
حالة أبيح فيها ترك الاستقبال فلم يجب عليه الركوع والسجود كالراكب، وعلى قول القاضي: الركوع
والسجود ممكن من غير انقطاعه عن جهة سيره فلزمه كالوقف. واحتجوا بأن الصلاة أبيحت
454

للراكب لئلا ينقطع عن القافلة في السفر وهذا المعنى موجود في الماشي ولأنه إحدى حالتي سير المسافر
فأبيحت الصلاة فيها كالأخرى.
ولنا أنه لم ينقل ولا هو في معنى المنقول لأنه يحتاج إلى عمل كثير ومشي متتابع يقطع الصلاة
ويقتضي بطلانها وهذا غير موجود في الراكب فلم يصح إلحاقه به ولان قوله تعالى (وحيثما كنتم
فولوا وجوهكم شطره) عام ترك في موضع الاجماع بشروط غير موجودة ههنا فيبقى وجوب الاستقبال
فيما عداه على مقتضى العموم.
(فصل) وإذا دخل المصلي بلدا ناويا للإقامة فيه لم يصل بعد دخوله إلا صلاة المقيم وإن دخله
مجتازا به غير ناو للإقامة فيه ولا نازل به أو نازلا به ثم يرتحل من غير نية إقامة مدة يلزمه بها اتمام
الصلاة استدام الصلاة ما دام سائرا فإذا نزل فيه صلى إلى القبلة وبنى على ما مضى من صلاته كقولنا
في الخائف إذا أمن في أثناء صلاته. ولو ابتدأها وهو نازل إلى القبلة ثم أراد الركوب أتم صلاته ثم ركب
وقيل يركب في الصلاة ويتمها إلى جهة سيره كالآمن إذا خاف في أثناء صلاته، والفرق بينهما أن حالة
الخوف حالة ضرورة أبيح فيها ما يحتاج إليه من العمل وهذه رخصة ورد الشرع بها من غير ضرورة
455

إليها فلا يباح فيها غير ما نقل فيها ولم يرد بإباحة الركوب الذي يحتاج فيه إلى عمل وتوجه إلى غير
جهة القبلة ولا جهة سيره فيبقى على الأصل والله أعلم.
" مسألة " قال (ولا يصلي في غير هاتين الحالتين فرضا ولا نافلة إلا متوجها إلى الكعبة
فإن كان يعاينها فبالصواب وإن كان غائبا عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها)
قد ذكرنا أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة ولا فرق بين الفريضة والنافلة لأنه شرط
للصلاة فاستوى فيه الفرض والنفل كالطهارة والستارة ولان قوله تعالى (وحيثما كنتم قولوا وجوهكم
شطره) عام فيهما جميعا، ثم إن كان معاينا للكعبة ففرضه الصلاة إلى عينها لا نعلم فيه خلافا. قال
ابن عقيل: إن خرج بعضه عن مسامتة الكعبة لم تصح صلاته، وقال بعض أصحابنا: الناس في
استقبالها على أربعة أضرب: منهم من يلزمه اليقين وهو من كان معاينا للكعبة أو كان بمكة من أهلها
أو ناشئا بها من وراء حائل محدث كالحيطان ففرضه التوجه إلى عين الكعبة يقينا وهكذا إن كان
بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه متيقن صحة قبلته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على الخطأ
456

وقد روى أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين قبل القبلة وقال " هذه القبلة " (الثاني) من فرضه
الخبر وهو من كان بمكة غائبا عن الكعبة من غير أهلها ووجد مخبرا يخبره عن يقين أو مشاهدة
مثل أن يكون من وراء حائل وعلى الحائل من يخبره أو كان غريبا نزل بمكة فأخبره أهل الدار
وكذلك لو كان في مصر أو قرية ففرضه التوجه إلى محاريبهم وقبلتهم المنصوبة لأن هذه القبل
ينصبها أهل الخبرة والمعرفة فجرى ذلك مجرى الخبر فأغنى عن الاجتهاد. وان أخبره مخبر من أهل
المعرفة بالقبلة اما من أهل البلد أو من غيره صار إلى خبره وليس له الاجتهاد كما يقبل الحاكم النص
من الثقة ولا يجتهد (الثالث) من فرضه الاجتهاد وهو من عدم هاتين الحالتين وهو عالم بالأدلة.
(الرابع) من فرضه التقليد وهو الأعمى ومن لا اجتهاد له وعدم الحالين ففرضه تقليد المجتهدين
والواجب على هذين وسائر من بعد من مكة طلب جهة الكعبة دون إصابة العين قال أحمد: ما بين
المشرق والمغرب قبلة فإن انحرف عن القبلة قليلا لم يعد ولكن يتحرى الوسط وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي في أحد قوليه كقولنا، والآخر الفرض إصابة العين لقول الله تعالى (وحيثما كنتم
457

فولوا وجوهكم شطره) ولأنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما بين المشرق قبلة " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة ولأنه لو كان الفرض إصابة العين لما صحت صلاة أهل الصف الطويل
على خط مستو ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع
طول الصف الا بقدرها فإن قيل مع البعد يتسع المحاذي قلنا إنما يتسع مع تقوس الصف اما مع استوائه
فلا - وشطر البيت نحوه وقبله.
(فصل) فاما محاريب الكفار فلا يجوز أن يستدل بها لأن قولهم لا يستدل به فمحاريبهم أولى الا أن يعلم
قبلتهم كالنصارى يعلم أن قبلتهم المشرق فاذار أي محاريبهم في كنائسهم علم أنها مستقبلة المشرق وان وجد محرابا
لا يعلم هل هو للمسلمين أو لغيرهم اجتهد ولم يلتفت إليه لأن الاستدلال إنما يجوز بمحاريب المسلمين ولا يعلم
وجود ذلك ولو رأى على المحراب آثار الاسلام لم يصل إليه لاحتمال أن يكون الباني له مشركا مستهزئا يغر به
المسلمين الا أن يكون ذلك مما لا يتطرق إليه الاحتمال ويحصل له العلم أنه من محاريب المسلمين فيستقبله
458

(فصل) ولو صلى على جبل عال يخرج عن مسامتة الكعبة صحت صلاته وكذلك لو صلى في
مكان ينزل عن مسامتتها لأن الواجب استقبالها وما يسامتها من فوقها وتحتها بدليل ما لو زالت الكعبة
والعياذ بالله صحت الصلاة إلى موضع جدارها.
(فصل) والمجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها وإن كان جاهلا بأحكام الشرع فإن كل من علم أدلة شئ كان
من المجتهدين فيه وان جهل غيره، ولأنه يتمكن من استقبالها بدليله فكان مجتهدا فيها كالفقيه ولو جهل الفقيه
أدلتها أو كان أعمى فهو مقلد وان علم غيرها. وأوثق أدلتها النجوم قال الله تعالى (وبالنجم هم يهتدون)
وقال تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) وآكدها القطب الشمالي
وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى في أحد طرفيها الفرقدان وفي الآخر الجدي وبين ذلك
أنجم صغار منقوشة كنقوش الفراشة ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل تدور هذه الفراشة حول القطب دوران
459

فراشة الرحى حول سفودها في كل يوم وليلة دورة في الليل نصفها وفي النهار نصفها فيكون الجدي عند طلوع
الشمس في مكان الفرقدين عند غروبها، ويمكن الاستدلال بها على ساعات الليل وأوقاته والأزمنة لمن عرفها
وعلم كيفية دورانها وحولها بنات نعش مما يلي الفرقدين تدور حولها، والقطب لا يبرح مكانه في جميع الأزمان
ولا يتغير كما لا يتغير سفود الرحى بدورانها وقيل إنه يتغير تغيرا يسيرا لا يتبين ولا يؤثر وهو نجم خفي يراه حديد
النظر إذا لم يكن القمر طالعا فإذا قوي نور القمر خفي، فإذا استدبرته في الأرض الشامية كنت مستقبلا
الكعبة، وقيل إنه ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلا وكلما قرب إلى المغرب كان انحرافه
أكثر، وإن كان بحران وما يقاربها اعتدل وجعل القطب خلف ظهره معتدلا من غير انحراف وقيل
أعدل القبل قبلة حران، وإن كان بالعراق جعل القطب حذو ظهر أذنه اليمنى على علوها فيكون
460

مستقبلا باب الكعبة إلى المقام ومتى استدبر الفرقدين أو الجدي في حال علو أحدهما ونزول الآخر
على الاعتدال كان ذلك كاستدبار القطب وان استدبره في غير هذه الحال كان مستقبلا للجهة فإذا
استدبر الشرقي منها كان منحرفا إلى الغرب قليلا، وإذا استدبر الغربي كان منحرفا إلى الشرق وان
استدبر بنات نعش كان مستقبلا للجهة أيضا الا ان انحرافه أكثر.
(فصل) ومنازل الشمس والقمر وهي ثمانية وعشرون منزلا وهي: الشرطان، والبطين،
والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة،
والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعايم، والبلدة، وسعد
الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، وبطن الحوت.
منها أربعة عشر شامية تطلع من وسط المشرق أو مائلة عنه إلى الشمال قليلا أولها الشرطان وآخرها
السماك ومنها أربعة عشر يمانية تطلع من المشرق أو ما يليه إلى التيامن أولها الغفر وآخرها بطن الحوت
461

ولكل نجم من الشامية رقيب من اليمانية إذا طلع أحدهما غاب رقيبة. وينزل القمر كل ليلة بمنزلة منها
قريبا منه ثم ينتقل في الليلة الثانية إلى المنزل الذي يليه قال الله تعالى (والقمر قدرناه منازل حتى عاد
كالعرجون القديم) والشمس تنزل بكل منزل منها ثلاثة عشر يوما فيكون عودها إلى المنزل الذي
نزلت به عند تمام حول كامل من أحوال السنة الشمسية وهذه المنازل يكون منها فيما بين غروب
الشمس وطلوعها أربعة عشر منزلا ومن طلوعها إلى غروبها مثل ذلك، ووقت الفجر منها منزلان
ووقت المغرب منزل وهو نصف سدس سواد الليل وسواد الليل اثنا عشر منزلا وكلها تطلع من
المشرق وتغرب في المغرب إلا أن أوائل الشامية وأواخر اليمانية تطلع من وسط المشرق بحيث إذا طلع
جعل الطالع منها محاذيا لكتفه الأيسر كان مستقبلا للكعبة وكذلك آخر الشامية وأول اليمانية يكون
مقاربا لذلك والمتوسط من الشامية وهو الذراع وما يليه من جانبيه يميل مطلعه إلى ناحية الشمال والمتوسط
من اليمانية نحو العقرب والنعايم والبلدة والسعود تميل مطالعها إلى اليمين فاليماني منها يجعله من أمام
462

كتفه اليسرى والشامي يجعله خلف كتفه قريبا منها والغارب منها يجعله عند كتفه الأيمن - كذلك وإن
عرف المتوسط منها بأن يرى بينه وبين أفق السماء سبعة من ههنا وسبعة من ههنا استقبله ولكل نجم
من هذه المنازل نجوم تقاربه وتسير بسيره من عن يمينه وشماله يكثر عددها حكمها حكمه ويستدل بها
عليه وعلى ما تدل عليه كالنسرين والشعريين والنظم المقارن للهقعة والسماك الرامح والفكة وغيرها وكلها
تطلع من المشرق وتغرب في المغرب. وسهيل نجم كبير مضئ يطلع من نحو مهب الجنوب ثم يسير
حتى يصير في قبلة المصلي ثم يتجاوزها ثم يغرب قريبا من مهب الدبور والناقة أنجم على صورة الناقة
تطلع في المجرة من مهب الصبا ثم تغيب في مهب الشمال.
(فصل) والشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب وتختلف مطالعها ومغاربها على حسب
اختلاف منازلها وتكون في الشتاء في حال توسطها في قبلة المصلي وفي الصيف محاذية لقبلته.
463

(فصل) والقمر يبدو أول ليلة من الشهر هلالا في المغرب عن يمين المصلي (1) ثم يتأخر كل ليلة نحو
المشرق منزلا حتى يكون ليلة السابع وقت المغرب في قبلة المصلي أو مائلا عنها قليلا ثم يطلع ليلة الرابع عشر من
المشرق قبل غروب الشمس بدرا تاما وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي أو قريبا منها وقت الفجر
وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر كالهلال من المشرق وتختلف مطالعه باختلاف منازله
(فصل) والرياح كثيرة يستدل منها بأربع تهب من زوايا السماء، الجنوب تهب من الزاوية
التي بين القبلة والمشرق مستقبلة بطن كتف المصلي الأيسر مما يلي وجهه إلى يمينه والشمال مقابلتها
تهب من الزاوية التي بين المغرب والشمال مارة إلى مهب الجنوب والدبور تهب من الزاوية التي بين
المغرب واليمن مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن مارة إلى الزاوية المقابلة لها، والصبا مقابلتها تهب
من ظهر المصلي وربما هبت الرباح بين الحيطان والجبال فتدور فلا اعتبار بها. وبين كل ريحين

(1) أي بالنسبة إلى بلاد الشام وطن المؤلف. ويعتبر مثل في كل إطلاقاته المماثلة لما هنا
464

ريح تسمى النكباء لتنكبها طريق الرياح المعروفة وتعرف الرياح بصفاتها وخصائصها. فهذا أصح
ما يستدل به على القبلة. وذكر أصحابنا الاستدلال بالمياه، وقالوا الأنهار الكبار تجري عن يمنة المصلي
إلى يسرته على انحراف قليل وذلك مثل دجلة والفرات والنهروان ولا اعتبار بالأنهار المحدثة لأنها
تحدث بحسب الحاجات إلى الجهات المختلفة ولا بالسواقي والأنهار الصغار لأنها لا ضابط لها ولا
بنهرين يجريان من يسرة المصلي إلى يمينه (أحدهما) العاصي بالشام (والثاني) سيحون بالمشرق، وهذا
الذي ذكروه لا ينضبط بضابط فإن كثيرا من أنهار الشام تجري على غير السمت الذي ذكروه
فالأردن يجري نحو القبلة وكثير منها يجري نحو البحر حيث كان منها حتى يصب فيه، وان اختصت
الدلالة بما ذكروه فليس شئ منها في الشام سوى العاصي، والفرات حد الشام من ناحية المشرق
فمن علم هذه الأدلة فهو مجتهد (1) وقد يستدل أهل كل بلدة بأدلة تختص ببلدتهم من جبالها وأنهارها
وغير ذلك مثل من يعلم أن جبلا بعينه يكون في قبلتهم أو على أيمانهم وغير ذلك من الجهات وكذلك

(1) اي في أمر القبلة
465

ان علم مجرى نهر بعينه، فمن كان من أهل الاجتهاد إذا خفيت عليه القبلة في السفر ولم يجد مخبرا ففرضه
الصلاة إلى جهة يؤديه اجتهاده إليها فإن خفيت عليه الأدلة لغيم أو ظلمة تحرى فصلى والصلاة صحيحة لما نذكره
من الأحاديث ولأنه بذل وسعه في معرفة الحق مع علمه بأدلته فأشبه الحاكم والعالم إذا خفيت عليه النصوص
(فصل) إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم أراد صلاة أخرى لزمه إعادة الاجتهاد كالحاكم إذا اجتهد
في حادثة ثم حدث مثلها لزمه إعادة الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي، فإن تغير اجتهاده عمل بالثاني ولم يعد
ما صلى بالأول، كما لو تغير اجتهاد الحاكم عمل بالثاني في الحادثة الثانية ولم ينقض حكمه الأول وهذا لا نعلم
فيه خلافا، فإن تغير اجتهاده في الصلاة استدار إلى الجهة الثانية وبنى على ما مضى من صلاته. نص عليه
احمد في رواية الجماعة، وقال ابن أبي موسى والآمدي لا ينتقل ويمضي على اجتهاده الأول لئلا
ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.
466

ولنا أنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة فلم يجز له الصلاة إلى غيرها كما لو أراد صلاة أخرى ولأنه
أداه اجتهاده إلى غير هذه الجهة فلم يجز له الصلاة إليها كسائر محال الوفاق وليس هذا نقضا للاجتهاد
وإنما يعمل به في المستقبل كما في الصلاة الأخرى. وإنما يكون نقضا للاجتهاد أن لو ألزمناه إعادة
ما مضى من صلاته ولم نعتد له به، فإن لم يبق اجتهاده وظنه إلى الجهة الأولى ولم يؤده اجتهاده إلى
الجهة الأخرى فإنه يبني على ما مضى من صلاته لأنه لم يظهر له جهة أخرى يتوجه إليها. فإن بان له يقين
الخطأ في الصلاة بمشاهدة أو خبر عن يقين استدار إلى جهة الصواب وبنى كاهل قباء لما أخبروا بتحويل
القبلة استداروا إليها وبنوا، وان شك في اجتهاده لم يزل عن جهته لأن الاجتهاد ظاهر فلا يزول عنه
بالشك، وان بان له الخطأ ولم يعرف جهة القبلة كرجل كان يصلي إلى جهة فرأى بعض منازل القمر في
قبلته ولم يدر أهو في المشرق أو المغرب واحتاج إلى الاجتهاد بطلت صلاته لأنه لا يمكنه استدامتها
إلى غير القبلة وليست له جهة يتوجه إليها فبطلت لتعذر اتمامها.
467

* (مسألة) * قال (وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه)
وجملته أن المجتهدين إذا اختلفا ففرض كل واحد منهما الصلاة إلى الجهة التي يؤديه اجتهاده إليها
أنها القبلة لا يسعه تركها ولا تقليد صاحبه سواء كان أعلم منه أو لم يكن كالعالمين يختلفان في الحادثة
ولو أن أحدهما اجتهد فأراد الآخر تقليده من غير اجتهاد لم يجز له ذلك ولا يسعه الصلاة حتى يجتهد
سواء اتسع الوقت أو كان ضيقا يخشى خروج وقت الصلاة كالحاكم لا يسوغ له الحكم في حادثة
بتقليد غيره، وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد في المجتهد الذي بضيق الوقت عن اجتهاده أن له
تقليد غيره وأشار إلى قول أحمد فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة في بيت يعيد لأن عليه
أن يسأل قال: فقد جعل فرض المحبوس السؤال وهذا غير صحيح وكلام أحمد إنما دل على أنه ليس
468

لمن في المصر الاجتهاد لأنه يمكنه التوصل إلى القبلة بطريق الخبر والاستدلال بالمحاريب بخلاف
المسافر وليس فيه دليل على أنه يجوز له تقليد المجتهدين في محل الاجتهاد عند ضيق الوقت ألا ترى
أن أبا عبد الله لم يفرق بين ضيق الوقت وسعته مع اتفاقنا على أنه لا يجوز له التقليد مع سعة الوقت
ولان الاجتهاد في حقه شرط لصحة الصلاة فلم يسقط بضيق الوقت مع امكانه كسائر الشروط (1)

(1) هذه المسألة من فروع أصل منع التقليد. للقادر على الاجتهاد ولو
في بعض المسائل كتقليد أبي عبد الله في المسألة بعدم التفرقة بين ضيق الوقت
وسعته ولكن بعض دلائل القبلة يقيني كالقطب الشمالي وبيت الإبرة فالأخذ بقول من
عرف القبلة بهما ليس تقليدا لمجتهد عرفها بالظن بل أخذ بخبر عالم كاخبار من
يحمل الآلة المعروفة بالساعة عن وقت الصلاة والصوم وكتبه محمد رشيد رضا
469

(فصل) وإذا اختلف اجتهاد رجلين فصلى كل واحد منهما إلى جهة فليس لأحدهما الائتمام
بصاحبه وهذا مذهب الشافعي لأن كل واحد يعتقد خطأ صاحبه فلم يجز أن يأتم به كما لو خرجت من
أحدهما ريح واعتقد كل واحد منهما أنها من صاحبه فإن لكل واحد منهما أن يصلي وليس له أن
يأتم بصاحبه. وقياس المذهب جواز ذلك وهو مذهب أبي ثور لأن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة
470

الآخر فإن فرضه التوجه إلى ما توجه إليه فلم يمنع اقتداءه به اختلاف جهته كالمصلين حول الكعبة
مستديرين حولها وكالمصلين حال شدة الخوف. وقد نص أحمد على صحة الصلاة خلف المصلي في
جلود الثعالب إذا كان يتأول قوله عليه السلام " أيما إهاب دبغ فقد طهر " مع كون أحمد لا يرى طهارتها
وفارق ما إذا اعتقد كل واحد منهما حدث صاحبه لأنه يعتقد بطلان صلاته بحيث لو بان له يقينا حدث
471

نفسه لزمته إعادة الصلاة وههنا صلاته صحيحة ظاهرا وباطنا بحيث لو بان له يقين الخطأ لم يلزمه الإعادة
فافترقا، فأما إن كان أحدهما يميل يمينا ويميل الآخر شمالا مع اتفاقهما في الجهة فلا يختلف المذهب في
أن لأحدهما الائتمام بصاحبه لأن الواجب استقبال الجهة وقد اتفقا فيها.
* (مسألة) * قال (ويتبع الأعمى أوثقهما في نفسه)
472

يعني إذا اختلف مجتهدان في القبلة ومعهما أعمى قلد أوثقهما في نفسه وهو أعلمهما عنده وأصدقهما
قولا وأشدهما تحريا لأن الصواب إليه أقرب. وكذلك الحكم في البصير الذي لا يعلم الأدلة ولا يقدر
على تعلمها قبل خروج الوقت فرضه أيضا التقليد ويقلد أوثقهما في نفسه. فإن قلد المفضول فظاهر قول
الخرقي أنه لا تصح صلاته لأنه ترك ما يغلب على ظنه أن الصواب فيه فلم يسغ له ذلك كالمجتهد إذا
473

ترك جهة اجتهاده. والأولى صحتها وهو مذهب الشافعي لأنه أخذ بدليل له الاخذ به لو انفرد فكذلك
إذا كان معه غيره كما لو استويا ولا عبرة بظنه فإنه لو غلب على ظنه أن المفضول مصيب لم يمنع ذلك
من تقليد الأفضل. فأما ان استويا عنده فله تقليد من شاء منهما كالعامي مع العلماء في بقية الأحكام.
(فصل) والمقلد من لا يمكنه الصلاة باجتهاد نفسه اما لعدم بصره واما لعدم بصيرته وهو
العامي الذي لا يمكنه التعلم والصلاة باجتهاده. قبل خروج وقت الصلاة فأما من يمكنه فإنه يلزمه التعلم
فإن صلى قبل ذلك لم تصح صلاته لأنه قدر على الصلاة باجتهاده فلم يصح بالتقليد كالمجتهد. ولا يلزم
على هذا العامي حيث لا يلزمه تعلم الفقه لوجهين (أحدهما) أن الفقه ليس بشرط في صحة الصلاة
(والثاني) أن مدته تطول فهو كالذي لا يقدر على تعلم الأدلة في مسئلتنا وان أخر هذا التعلم والصلاة
474

إلى حال يضيق وقتها عن التعلم والاجتهاد أو عن أحدهما صحت صلاته بالتقليد كالذي يقدر
على تعلم الفاتحة فيضيق الوقت عن تعلمها.
(فصل) فإن كان المجتهد به رمد أو عارض يمنعه رؤية الأدلة فهو كالأعمى في جواز التقليد لأنه
عاجز عن الاجتهاد وكذلك لو كان محبوسا في مكان لا يرى فيه الأدلة ولا يجد مخبرا الا مجتهدا آخر
475

في مكان يرى العلامات فيه فله تقليده لأنه كالأعمى.
(فصل) وإذا شرع في الصلاة بتقليد مجتهد فقال له قائل: قد أخطأت القبلة وإنما القبلة هكذا
وكان يخبر عن يقين مثل من يقول قد رأيت الشمس أو الكواكب وتيقنت انك مخطئ فإنه يرجع
إلى قوله ويستدير إلى الجهة التي أخبره أنها جهة الكعبة لأنه لو أخبر بذلك المجتهد الذي قلده الأعمى
476

لزمه قبول خبره فالأعمى أولى. وان اخبره عن اجتهاده أو لم يبين له عن أي شئ أخبره ولم يكن في
نفسه أوثق من الأول مضى على ما هو عليه لأنه شرع في الصلاة بدليل يقينا فلا يزول عنه بالشك
وإن كان الثاني أوثق في نفسه من الأول وقلنا لا يتعين عليه تقليد الأفضل فكذلك، وان قلنا عليه
تقليده خاصة رجع إلى قوله كالبصير إذا تغير اجتهاده في أثناء صلاته.
477

(فصل) ولو شرع مجتهد في الصلاة باجتهاده فعمي فيها بنى على ما مضى من صلاته لأنه إنما
يمكنه البناء على اجتهاد غيره فاجتهاده أولى فإن استدار عن تلك الجهة بطلت صلاته. وان أخبره
مخبر بخطئه عن يقين رجع إليه وان أخبره عن اجتهاد لم يرجع إليه لما ذكرنا. وان شرع فيها وهو أعمى
فأبصر في أثنائها فشاهد ما يستدل به على صواب نفسه مثل أن يرى الشمس في قبلته في صلاة الظهر
478

ونحو ذلك مضى عليه لأن الاجتهادين قد اتفقا. وإن بان له خطؤه استدار إلى الجهة التي أداه إليها
وبنى على ما مضى من صلاته. فإن لم يبن له صوابه ولا خطؤه بطلت صلاته واجتهد لأن فرضه الاجتهاد
فلم يجز له أداء فرضه بالتقليد كما لو كان بصيرا في ابتدائها. وإن كان مقلدا مضى في صلاته لأنه ليس
في وسعه إلا الدليل الذي بدأ به فيها.
479

* (مسألة) * قال (وإذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم علم أنه قد أخطأ القبلة لم يكن
عليه إعادة)
وجملته أن المجتهد إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له أنه صلى إلى غير جهة الكعبة يقينا لم يلزمه
480

الإعادة وكذلك المقلد الذي صلى بتقليده وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه. وقال
في الآخر يلزمه الإعادة لأنه بان له الخطأ في شرط من شروط الصلاة فلزمته الإعادة كما لو بان له أنه
صلى قبل الوقت أو بغير طهارة أو ستارة
ولنا ما روى عامر بن ربيعة عن أبيه قال. كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة
481

فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل (فأينما
تولوا فثم وجه الله) رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن إلا أنه من حديث أشعث السمان
وفيه ضعف. وعن عطاء عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم
فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا
482

فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة وقال " قد أجزأتكم صلاتكم " رواه الدارقطني وقال: رواه
محمد بن سالم عن عطاء ويروى أيضا عن محمد بن عبد الله العمري عن عطاء وكلاهما ضعيف وقال العقيلي:
لا يروى متن هذا الحديث من وجه يثبت. وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت
المقدس فنزلت (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام)
483

فمر رجل ببني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا ان القبلة قد حولت فمالوا كلهم نحو
القبلة ومثل هذا لا يختفي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يترك إنكاره إلا وهو جائز وقد كان ما مضى من صلاتهم بعد
تحويل القبلة إلى الكعبة وهو صحيح ولأنه أتى بما أمر فخرج عن العهدة كالصيب. ولأنه صلى إلى غير الكعبة
484

للعذر فلم تجب عليه الإعادة كالخائف يصلي إلى غيرها ولأنه شرط عجز عنه فأشبه سائر الشروط،
وأما المصلي قبل الوقت فإنه لم يؤمر بالصلاة وإنما أمر بعد دخول الوقت ولم يأت مما أمر بخلاف مسئلتنا
فإنه مأمور بالصلاة بغير شك ولم يؤمر إلا بهذه الصلاة وسائر الشروط إذا عجز عنها سقطت كذا ههنا،
وأما إذا ظن وجودها فأخطأ فليست في محل الاجتهاد فنظيره إذا اجتهد في مسئلتنا في الحضر فأخطأ.
485

(فصل) لا فرق بين أن تكون الأدلة ظاهرة مكشوفة واشتبهت عليه أو مستورة بغيم أو شئ
يسترها عنه بدليل الأحاديث التي رويناها فإن الأدلة استترت عنهم بالغيم فلم يعيدوا ولأنه أتى
بما أمر به في الحالين وعجز عن استقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الإعادة.
486

(فصل) وإن بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة استدار إلى جهة الكعبة وبني على ما مضى من
الصلاة لأن ما مضى منها كان صحيحا فجاز البناء عليه كما لو لم يبن له الخطأ، وإن كانوا جماعة قد أداهم
اجتهادهم إلى جهة فقدموا أحدهم ثم بان لهم الخطأ في حال واحدة استداروا إلى الجهة التي بان لهم
الصواب فيها كبني سلمة لما بان لهم تحول الكعبة. وإن بان للإمام وحده أو للمأمومين دونه أو لبعضهم
استدار من بان له الصواب وحده وينوي بعضهم مفارقة بعض الا على الوجه الذي قلنا إن لبعضهم
أن يقتدي بمن خالفه في الاجتهاد. وإن كان فيهم مقلد تبع من قلده وانحرف بانحرافه وإن قلد الجميع
487

لم ينحرف الا بانحراف الجميع لأنه شرع بدليل يقيني فلا ينحرف بالشك الا من يلزمه تقليد أوثقهم
فإنه ينحرف بانحرافه.
* (مسألة) * قال (وإذا صلى البصير في حضر وأخطأ أو الأعمى بلا دليل أعادا)
أما البصير إذا صلى إلى غير الكعبة في الحضر ثم بان له الخطأ فعليه الإعادة سواء إذا صلى بدليل
أو غيره لأن الحضر ليس بمحل الاجتهاد لأن من فيه يقدر على المحاريب والقبل المنصوبة ويجد من يخبره
عن يقين غالبا فلا يكون له الاجتهاد كالقادر على النص في سائر الأحكام. فإن صلى من غير دليل
488

فأخطأ لزمته الإعادة لتفريطه وان أخبره مخبر فأخطأه فقد غره وتبين أن خبره ليس بدليل فإن كان
محبوسا لا يجد من يخبره فقال أبو الحسن التميمي: هو كالمسافر يتحرى في محبسه ويصلي من غير إعادة
لأنه عاجز عن الاستدلال بالخبر والمحاريب فهو كالمسافر. وأما الأعمى فإن كان في حضر فهو
كالبصير لأنه يقدر على الاستدلال بالخبر والمحاريب فإن الأعمى إذا لمس المحراب وعلم أنه محراب
وأنه متوجه إليه فهو كالبصير وكذلك إذا علم أن باب المسجد إلى الشمال أو غيرها من الجهات جاز
له الاستدلال به ومتى أخطأ فعليه الإعادة وحكم المقلد حكم الأعمى في هذا. وإن كان الأعمى أو المقلد
489

مسافرا ولم يجد من يخبره ولا مجتهدا يقلده فظاهر كلام الخرقي أنه يعيد سواء أصاب أو أخطأ لأنه
صلى من غير دليل فلزمته الإعادة وان أصاب كان كالمجتهد إذا صلى من غير اجتهاد. وقال أبو بكر
يصلي على حسب حاله وفي الإعادة روايتان سواء أصاب أو أخطأ (إحداهما) يعيد لما ذكرنا
(والثانية) لا إعادة عليه لأنه أتى بما أمر فأشبه المجتهد ولأنه عاجز عن غير ما أتى به فسقط عنه
كسائر العاجزين عن الاستقبال ولأنه عادم للدليل فأشبه المجتهد في الغيم والحبس. وقال ابن
حامد: ان أخطأ أعاد وان أصاب فعلى وجهين، وحكم المقلد لعدم بصيرته كعادم بصره. فأما ان وجد
من يقلده أو من يخبره فلم يستخبره ولم يقلد أو خالف المخبر والمجتهد فصلى فصلاته باطلة بكل حال
وكذلك المجتهد إذا صلى من غير اجتهاد فأصاب أو أداه اجتهاده إلى جهة فصلى إلى غيرها فإن صلاته
باطلة بكل حال سواء أخطأ أو أصاب لأنه لم يأت بما أمر به فأشبه من ترك التوجه إلى الكعبة مع علمه بها
490

" مسألة " قال (ولا يتبع دلالة مشرك بحال وذلك لأن الكافر لا يقبل خبره ولا روايته
ولا شهادته لأنه ليس بموضع أمانة)
ولذلك قال عمر رضي الله عنه: لا تأتمنوهم بعد إذ خونهم الله تعالى ولا يقبل خبر الفاسق لقلة
دينه وتطرق التهمة إليه ولأنه أيضا لا تقبل روايته ولا شهادته ولا يقبل خبر الصبي لذلك ولأنه لا يلحقه
مأثم بكذبه فتحرزه من الكذب غير موثوق به، وقال التميمي: يقبل خبر الصبي المميز، وإذا لم يعرف
حال المخبر فإن شك في إسلامه وكفره لم يقبل خبره كما لو وجد محاريب لا يعلم هل هي للمسلمين أو
أهل الذمة. وان لم يعلم عدالته وفسقه قبل خبره لأن حال المسلم يبنى على العدالة لم يظهر خلافها
ويقبل خبر سائر الناس من المسلمين البالغين العقلاء سواء كانوا رجالا أو نساء ولأنه خبر من أخبار
الدين فأشبه الرواية ويقبل من الواحد كذلك والله أعلم
491

آداب المشي إلى الصلاة
يستحب للرجل إذا أقبل إلى الصلاة أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع وعليه السكينة
والوقار وإن سمع الإقامة لم يسع إليها لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا
سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة (1) والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاتموا " وعن أبي قتادة
قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: " ما شأنكم؟ "
قالوا: استعجلنا إلى الصلاة قال " فلا تفعلوا إذا أتيتم إلى الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما
فاتكم فاتموا " متفق عليهما، وفي رواية فاقضوا قال الإمام أحمد: ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة
الأولى أن يسرع شيئا ما لم يكن عجلة تقبح جاء الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا خافوا فوات التكبيرة الأولى، ويستحب أن يقارب بين خطوه

(1) ولبعض رواة البخاري بالسكينة في الحديثين كليهما
492

لتكثر حسناته فإن كل خطوة يكتب له بها حسنة. وقد روى عبد بن حميد في مسنده باسناده عن زيد بن
ثابت قال: أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه فقارب في الخطا ثم قال " أتدري
لم فعلت هذا؟ لتكثر خطانا في طلب الصلاة " ويكره أن يشبك بين أصابعه لما روي عن
كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى
المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة " رواه أبو داود.
493

(فصل) ويستحب أن يقول ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو
يقول " اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا واجعل في سمعي نورا واجعل في بصري نورا
واجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا وأعطني نورا "
أخرجه مسلم. وروى الإمام أحمد في المسند وابن ماجة في السنن باسنادهما عن أبي سعيد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين (1) المراد بحق السائلين ما وعد الله تعالى من إجابتهم بمثل قوله (ادعوني استجب لكم) فليس توسلا باشخاصهم كما يتوهمه بعض أدعياء العلم
494

عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فاني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء
سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي انه لا يغفر الذنوب الا
أنت - أقبل الله عليه يوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك " (1) ويقول (بسم الله، الذي خلقني فهو
يهديني - إلى قوله - الا من أتى الله بقلب سليم)
(فصل) فإذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى وقال: ما رواه مسلم عن أبي حميد أو أبي أسيد

(1) قال في مسند الزوائد هذا الحديث مسلسل بالضعفاء. ورواه ابن خزيمة بسند آخر من طريق الفضيل بن مرزوق وصححه لتوثيقه للفضيل وقد ضعفه آخرون فالحديث ضعيف السند
495

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك
وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك " وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال " رب اغفر لي
ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وقال: رب اغفر لي وافتح لي أبواب
فضلك " رواه الترمذي، ولا يجلس حتى يركع ركعتين لما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
496

قال " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " متفق عليه ثم يجلس مستقبل القبلة
ويشتغل بذكر الله تعالى أو قراءة القرآن أو يسكت ولا يخوض في حديث الدنيا ولا يشبك أصابعه لما
روى أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من
الشيطان وان أحدكم لا يزال في صلاة ما كان في المسجد حتى يخرج منه " رواه أحمد في المسند.
(فصل) وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بنافلة سواء خشي فوات الركعة الأولى أولم يخش
497

وبهذا قال أبو هريرة وابن عمر وعروة وابن سيرين وسعيد بن جبير والشافعي وإسحاق وأبو ثور،
وروي عن ابن مسعود أنه دخل والإمام في صلاة الصبح فركع ركعتي الفجر وهذا مذهب الحسن
ومكحول ومجاهد وحماد بن أبي سليمان، وقال مالك: ان لم يخف فوات الركعة ركعهما خارج المسجد
وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأبو حنيفة: يركعهما إلا أن يخاف فوات الركعة الأخيرة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة " رواه مسلم
498

ولان ما يفوته مع الإمام أفضل مما يأتي به فلم يشتغل به كما لو خاف فوات الركعة. قال ابن عبد البر
في هذه المسألة: الحجة عند التنازع السنة فمن أدلى بها فقد فلج ومن استعملها فقد نجا قال: وقد
روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت الصلاة فرأى ناسا يصلون فقال
" أصلاتان معا " وروى نحو ذلك أنس وعبد الله بن سرجين وابن بحينة وأبو هريرة عن النبي
499

صلى الله عليه وسلم ورواهن كلهن ابن عبد البر في كتاب التمهيد قال: وكل هذا انكار منه لهذا الفعل فأما إن
أقيمت الصلاة وهو في النافلة ولم يخش فوات الجماعة أتمها ولم يقطعها لقول الله تعالى (ولا تبطلوا
أعمالكم) وإن خشي فوات الجماعة فعلى روايتين (إحداهما) يتمها لذلك (والثانية) يقطعها
لأن ما يدركه من الجماعة أعظم أجرا وأكثر ثوابا مما يفوته بقطع النافلة لأن صلاة الجماعة تزيد
500

على صلاة الرجل وحده سبعا وعشرين درجة
(فصل) قيل لأحمد قبل التكبير يقول شيئا؟ قال لا يعني ليس قبله دعاء مسنون إذ لم ينقل
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولان الدعاء يكون بعد العبادة لقول الله تعالى (فإذا فرغت
فانصب وإلى ربك فارغب)
501

باب صفة الصلاة
روى محمد بن عمر وابن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا: فأعرض قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي
بهما منكبيه ثم يكبر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلا ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ثم يعتدل فلا يصوب رأسه ولا يقنعه ثم يرفع رأسه ويقول
سمع الله لمن حمده ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلا ثم يقول: الله أكبر ثم يهوي إلى الأرض
فيجافي يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد
ويسجد ثم يقول الله أكبر ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه
ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعة كبر فرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما
كبر عند افتتاح الصلاة ثم يفعل ذلك في بقية صلاته حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله
اليسرى وقعد متوركا على شقة الأيسر. قالوا: صدقت هكذا كان يصلي صلى الله عليه وسلم. رواه
مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي لفظ رواه البخاري قال:
502

فإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى قائما حتى يعود كل فقار مكانه
وإذا سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة فإذا جلس في
الركعتين جلس على اليسرى ونصب الأخرى فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى
وجلس متوركا على شقه الأيسر وقعد على مقعدته.
(فصل) ويستحب أن يقوم إلى الصلاة عند قول المؤذن قد قامت الصلاة وبهذا قال مالك.
قال ابن المنذر: على هذا أهل الحرمين، وقال الشافعي: يقوم إذا فرغ المؤذن من الإقامة، وكان
عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب وسالم وأبو قلابة والزهري وعطاء يقومون في أول بدوة من الإقامة.
وقال أبو حنيفة: يقوم إذا قال حي على الصلاة، فإذا قال قد قامت الصلاة كبر وكان أصحاب عبد الله
يكبرون إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة وبه قال سويد بن غفلة والنخعي واحتجوا بقول بلال:
لا تسبقني بآمين، فدل على أنه يكبر قبل فراغه، ولا يستحب عندنا أن يكبر إلا بعد فراغه من الإقامة
وهو قول الحسن ويحيى بن وثاب وإسحاق وأبو يوسف والشافعي وعليه جل الأئمة في الأمصار وإنما
قلنا إنه يقوم عند قوله: قد قامت الصلاة لأن هذا خبر بمعنى الامر ومقصوده الاعلام ليقوموا فيستحب
المبادرة إلى القيام امتثالا للامر وتحصيلا للمقصود ولا يكبر حتى يفرغ المؤذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان
يكبر بعد فراغه دل على ذلك ما روي عنه أنه كان يعدل الصفوف بعد إقامة الصلاة ويقول في الإقامة
مثل قول المؤذن فروى أنس قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال " أقيموا
صفوفكم وتراصوا فاني أراكم من وراء ظهري " رواه البخاري. وعنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام
503

إلى الصلاة قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله استووا وتعادلوا، وفيما رواه أبو داود عن بعض أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة فلما ان قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " أقامها
الله وأدامها " وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الاذان، فأما حديثهم فإن بلالا كان يقيم
في موضع أذانه وإلا فليس بين لفظ الإقامة والفراغ منها ما يفوت بلالا " آمين " مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا ثبت هذا فإنما يقوم المأمومون إذا كان الإمام في المسجد أو قريبا منه. وإن لم يكن في مقامه قال أحمد
في رواية الأثرم: أذهب إلى حديث أبي هريرة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقمنا الصفوف.
اسناد جيد: الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال في رواية أبي داود سمعت أحمد يقول: ينبغي
أن تقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام فلا يحتاج أن يقف. وعن أبي هريرة قال كانت الصلاة تقام
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه رواه مسلم، فإن أقيمت
والإمام في غير المسجد ولم يعلموا قربه لم يقوموا لما روى أبو قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " (1) متفق عليه وللبخاري " قد خرجت " وخرج علي رضي
الله عنه والناس ينتظرونه قياما للصلاة فقال مالي أراكم سامدين
(فصل) ويستحب للإمام تسوية الصفوف يلتفت عن يمينه فيقول استووا رحمكم الله وعن
يساره كذلك لما ذكرنا من الحديث، وعن محمد بن مسلم قال صليت إلى جنب أنس بن مالك يوما

(1) هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم وغيره " حتى يروني قد خرجت " فلينظر قوله بعده وللبخاري قد خرجت
504

فقال: هل تدري لم صنع هذا العود قلت: لا والله فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه فقال " اعتدلوا وسووا صفوفكم " ثم أخذه بيساره وقال " اعتدلوا
وسووا صفوفكم " وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سووا صفوفكم فإن تسوية الصف
من تمام الصلاة " متفق عليه
* (مسألة) * قال أبو القاسم (إذا قام إلى الصلاة فقال الله أكبر)
وجملته أن الصلاة لا تنعقد الا بقول الله أكبر عند إمامنا ومالك، وكان ابن مسعود وطاوس
وأيوب ومالك والثوري والشافعي يقولون: افتتاح الصلاة التكبير وعلى هذا عوام أهل العلم في القديم
والحديث إلا أن الشافعي قال: تنعقد بقوله الله الأكبر لأن الألف واللام لم تغيره عن بنيته ومعناه وإنما
أفادت التعريف، وقال أبو حنيفة: تنعقد بكل اسم لله تعالى على وجه التعظيم كقوله الله عظيم أو
كبير أو جليل وسبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله ونحوه قال الحاكم لأنه ذكر لله تعالى على وجه التعظيم
أشبه قوله الله أكبر واعتبر ذلك بالخطبة حيث لم يتعين لفظها
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تحريمها التكبير " رواه أبو داود، وقال للمسئ في صلاته
إذا قمت إلى الصلاة فكبر متفق عليه، وفي حديث رفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقبل
الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة فيقول الله أكبر " وكان النبي صلى الله عليه
505

وسلم يفتتح الصلاة بقوله " الله أكبر " لم ينقل عنه عدول عن ذلك حتى فارق الدنيا وهذا يدل على أنه لا
يجوز العدول عنه وما قاله أبو حنيفة يخالف دلالة الاخبار فلا يصار إليه ثم يبطل بقوله: اللهم اغفر لي
ولا يصح القياس على الخطبة لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها لفظ بعينه في جميع خطبه
ولا أمر به ولا يمنع من الكلام فيها والتلفظ بما شاء من الكلام المباح والصلاة بخلافه وما قاله الشافعي
عدول عن المنصوص فأشبه ما لو قال: الله العظيم وقولهم لم تغير بنيته ولا معناه لا يصح لأنه نقله عن
التنكير إلى التعريف وكان متضمنا لاضمار أو تقدير فزال فإن قوله الله أكبر التقدير من كل شئ ولم
يرد في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله عليه السلام ولا في المتعارف في كلام الفصحاء الا هكذا
فاطلاق لفظ التكبير ينصرف إليها دون غيرها كما أن اطلاق لفظ التسمية ينصرف إلى قول بسم الله
دون غيره وهذا يدل على أن غيرها ليس مثلا لها (1)
(فصل) والتكبير ركن في الصلاة لا تنعقد الصلاة الا به سواء تركه عمدا أو سهوا، وهذا قول
ربيعة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب والحسن
والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي من نسي تكبيرة الافتتاح أجزأته تكبيرة الركوع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " تحريمها التكبير " يدل على أنه لا يدخل في الصلاة بدونه
(فصل) ولا يصح التكبير الا مرتبا فإن نكسه لم يصح لأنه لا يكون تكبيرا ويجب على المصلي
أن يسمعه نفسه إماما أو غيره الا أن يكون به عارض من طرش أوما يمنعه السماع فيأتي به بحيث لو

(1) يزاد على هذا أن العبادات المحضة توقيفية لا يثبت شئ منها بالقياس والعلل ولا سيما الصلاة والشارع لم يلتزم في الخطبة ألفاظا لأنها للوعظ الذي يختلف باختلاف الأحوال
وأما الصلاة فقد قال فيها " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري وهو عمدة الفقهاء كلهم وكتبه محمد رشيد رضا
506

كان سميعا أو لا عارض به سمعه لأنه ذكر محله اللسان ولا يكون كلاما بدون الصوت والصوت
ما يتأتى سماعه وأقرب السامعين إليه نفسه فمتى لم يسمعه لم يعلم أنه أتى بالقول ولا فرق بين الرجل
والمرأة فيما ذكرناه
(فصل) ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير بحيث يسمع المأمومون ليكبروا فإنهم لا يجوز لهم
التكبير الا بعد تكبيره فإن لم يمكنه اسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم أو ليسمع من لا يسمع الإمام
لما روى جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
كبر أبو بكر ليسمعنا متفق عليه
(فصل) ويبين التكبير ولا يمد في غير موضع المد فإن فعل بحيث تغير المعنى مثل أن يمد الهمزة
الأولى فيقول الله فيجعلها استفهاما أو يمد أكبر فيزيد ألفا فيصير جمع كبر وهو الطبل لم يجز لأن المعنى
يتغير به، وإن قال الله أكبر وأعظم وأجل ونحوه لم يستحب نص عليه وانعقدت الصلاة بالتكبيرة الأولى
(فصل) ولا يجزئه التكبير بغير العربية مع قدرته عليها، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد
وقال أبو حنيفة يجزئه لقول الله تعالى (وذكر اسم ربه فصلى) وهذا قد ذكر اسم ربه
ولنا ما تقدم من النصوص وان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنها وهذا يخص ما ذكروا فإن لم يحسن العربية
لزمه تعلم التكبير بها فإن خشي فوات الوقت كبر بلغته ذكره القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي
وقال القاضي في الجامع لا يكبر بغير العربية ويكون حكمه حكم الأخرس كمن عجز عن القراءة بالعربية
507

لا يعبر عنها بغيرها، والأول أصح لأن التكبير ذكر لله وذكر الله تعالى يحصل بكل لسان وأما القرآن
فإنه عربي فإذا عبر عنه بغير العربية لم يكن قرآنا والذكر لا يخرج بذلك عن كونه ذكرا
(فصل) فإن كان أخرس أو عاجزا عن التكبير بكل لسان سقط عنه، وقال القاضي عليه تحريك
لسانه لأن الصحيح يلزمه النطق بتحريك لسانه فإذا عجز عن أحدهما لزمه الآخر ولا يصح هذا لأنه
قول عجز عنه فلم يلزمه تحريك لسانه في موضعه كالقراءة. وإنما لزمه تحريك لسانه بالتكبير مع القدرة
عليه ضرورة بوقف التكبير عليها فإذا سقط التكبير سقط ما هو من ضرورته كمن سقط عنه القيام سقط
عنه النهوض وإن قدر عليه، ولان تحريك اللسان من غير نطق عبث لم يرد الشرع به فلا يجوز
في الصلاة كالعبث بسائر جوارحه
(فصل) وعليه أن يأتي بالتكبير قائما فإن انحنى إلى الركوع بحيث يصير راكعا قبل إنهاء التكبير
لم تنعقد صلاته إلا أن تكون نافلة لسقوط القيام فيها، ويحتمل أن لا تنعقد أيضا لأن صفة الركوع غير
صفة القعود ولم يأت بالتكبير قائما ولا قاعدا، ولو كان ممن تصح صلاته قاعدا كان عليه الاتيان بالتكبير
قبل وجود الركوع منه وقال القاضي: إن كبر في الفريضة في حال انحنائه إلى الركوع انعقدت نفلا
لأنها امتنع وقوعها فرضا وأمكن جعلها نفلا فأشبه من أحرم بفريضة فبان أنه لم يدخل وقتها.
508

(فصل) ولا يكبر المأموم حتى يفرغ إمامه من التكبير. وقال أبو حنيفة: يكبر معه كما يركع معه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا " متفق عليه والركوع مثل
ذلك فإنه إنما يركع بعده إلا أنه لا تفسد صلاته بالركوع معه لأنه قد دخل في الصلاة وههنا بخلافه فإن
كبر قبل إمامه لم ينعقد تكبيره وعليه استئناف التكبير بعد تكبير الإمام
(فصل) والتكبير من الصلاة. وقال أصحاب أبي حنيفة: ليس هو منها بدليل اضافته إليها بقوله
" تحريمها التكبير " ولا يضاف الشئ إلى نفسه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة " إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " رواه مسلم وأبو داود
وما ذكروه غلط فإن أجزاء الشئ تضاف إليه كيد الانسان ورأسه وأطرافه.
* (مسألة) * قال " (وينوي بها المكتوبة يعني بالتكبيرة ولا نعلم خلافا بين الأمة في
وجوب النية للصلاة وأن الصلاة لا تنعقد إلا بها والأصل فيه قول الله تعالى (وما أمروا
الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
والاخلاص عمل القلب وهو النية وإرادة الله وحده دون غيره. وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما
الأعمال بالنيات وإنما لا مرئ ما نوى " ومعنى النية القصد ومحلها القلب وان لفظ بما نواه كان
تأكيدا فإن كانت الصلاة مكتوبة لزمته نية الصلاة بعينها ظهرا أو عصرا أو غيرهما فيحتاج إلى نية
شيئين الفعل والتعيين. واختلف أصحابنا في نية الفرضية فقال بعضهم لا يحتاج إليها لأن التعيين
يغني عنها لكون الظهر مثلا لا يكون إلا فرضا من المكلف. وقال ابن حامد: لابد من نية الفرضية
لأن المعينة قد تكون نفلا كظهر الصبي والمعادة فيفتقر إلى ثلاثة أشياء الفعل والتعيين والفرضية
ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله: ينوي بها المكتوبة أي الواجبة المعينة والألف واللام هنا للمعهود
أي إنها المكتوبة الحاضرة. وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يفتقر إلى التعيين لأنه إذا
509

نوى المفروضة انصرفت النية إلى الحاضرة والصحيح أنه لابد من التعيين والألف واللام هنا للمعهود
كما ذكرنا والحضور لا يكفي عن النية بدليل أنه لم يغن عن نية المكتوبة وقد يكون عليه صلوات
فلا تتعين إحداهن بدون التعيين. فأما الفائتة فإن عينها بقلبه أنها ظهر اليوم لم يحتج إلى نية القضاء ولا
الأداء بل لو نواها أداء فبان أن وقتها قد خرج وقعت قضاء من غير نية، ولو ظن أن الوقت قد
خرج فنواها قضاء فبان أنها في وقتها وقعت أداء من غير نية كالأسير إذا تحرى وصام شهرا يريد
به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه. وان ظن أن عليه ظهرا فائتة فقضاها في وقت ظهر اليوم ثم تبين
أنه لا قضاء عليه فهل يجزئه عن ظهر اليوم؟ يحتمل وجهين (أحدهما) يجزئه لأن الصلاة معينة وإنما
أخطأ في نية الوقت فلم يؤثر كما إذا اعتقد أن الوقت قد خرج فبان أنه لم يخرج أو كما لو نوى ظهر
أمس وعليه ظهر يوم قبله (والثاني) لا يجزئه لأنه لم ينو عين الصلاة فأشبه ما لو نوى قضاء عصر لم يجزه
عن الظهر ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة لم يجزه عنها ويتخرج فيها كالتي قبلها. فأما إن كانت
عليه فوائت فنوى صلاة غير معينة لم يجزه عن واحدة منها لعدم التعيين ولو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها
لزمه خمس صلوات ليعلم أنه أدى الفائتة ولو نسي صلاة لا يدري أظهر هي أم عصر لزمه صلاتان فإن
صلى واحدة ينوي أنها الفائتة لم يجزه لعدم التعيين.
(فصل) فأما النافلة فتنقسم إلى معينة كصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح والوتر والسنن
الرواتب فيفتقر إلى التعيين أيضا وإلى مطلقة كصلاة الليل فيجزئه نية الصلاة لا غير لعدم التعيين فيها
(فصل) وإذا دخل في الصلاة بنية مترددة بين اتمامها وقطعها لم تصح لأن النية عزم جازم ومع
التردد لا يحصل الجزم. وان تلبس بها بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة: لا تبطل بذلك لأنها عبادة صح دخوله فيها فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج
ولنا أنه قطع حكم النية قبل اتمام صلاته ففسدت كما لو سلم ينوي الخروج منها ولان النية شرط في
جميع الصلاة وقد قطعها بما حدث ففسدت لذهاب شرطها. وفارقت الحج فإنه لا يخرج منه بمحظوراته
ولا بمفسداته بخلاف الصلاة. فأما ان تردد في قطعها فقال ابن حامد: لا تبطل لأنه دخل فيها بنية متيقنة
فلا تزول بالشك والتردد كسائر العبادات. وقال القاضي: يحتمل أن تبطل وهو مذهب الشافعي لأن
استدامة النية شرط مع التردد لا يكون مستديما لها فأشبه ما لو نوى قطعها.
(فصل) والواجب استصحاب حكم النية دون حقيقتها بمعنى أنه لا ينوي قطعها ولو ذهل عنها وعزبت
عنه في أثناء الصلاة لم يؤثر ذلك في صحتها لأن التحرز من هذا غير ممكن ولان النية لا تعتبر حقيقتها في
أثناء العبادة بدليل الصوم وغيره وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان،
وله حصاص فإذا قضي التثويب أقبل يخطر بين المرء ونفسه يقول: أذكر كذا، أذكر كذا حتى يظل
أحدكم أن يدري كم صلى " متفق عليه ورواه مالك في الموطأ. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى
صلاة فلم يقرأ فيها فقيل له إنك لم تقرأ فقال: اني جهزت جيشا للمسلمين حتى بلغت به وادي القرى.
510

(فصل) فإن شك في أثناء الصلاة هل نوى أو لا أوشك في تكبيرة الاحرام استأنفها لأن
الأصل عدم ما شك فيه فإن ذكر أنه كان قد نوى أو كبر قبل قطعها أو أخذ في عمل فله البناء لأنه
لم يوجد مبطل لها، وان عمل فيها عملا مع الشك فقال القاضي: تبطل وهذا مذهب الشافعي لأن هذا
العمل عري عن النية وحكمها فإن استصحاب حكمهما مع الشك لا يوجد، وقال ابن حامد لا تبطل ويبني
أيضا لأن الشك لا يزيل حكم النية بدليل ما لو لم يحدث عملا فإنه يبني ولو زال حكم النية لبطلت الصلاة
كما لو نوى قطعها، وان شك هل نوى فرضا أو نفلا أتمها نفلا إلا أن يذكر أنه نوى الفرض قبل أن
يحدث عملا وإن ذكر ذلك بعد احداث عمل خرج فيه الوجهان المذكوران في التي قبلها، فإن شك
هل أحرم بظهر أو عصر فحكمه حكم ما لو شك في النية، لأن التعيين شرط وقد زال بالشك، ويحتمل
أن يتمها نفلا كما لو أحرم بفرض فبان أنه قبل وقته.
(فصل) وإذا أحرم بفريضة ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى بطلت الأولى لأنه قطع نيتها ولم
تصح الثانية لأنه لم ينوها من أولها فإن نقلها إلى نفل لغير غرض فقال القاضي: لا يصح رواية واحدة
لما ذكرناه، وقال في الجامع يخرج على روايتين. وقال أبو الخطاب: يكره ويصح لأن النفل يدخل
في نية الفرض بدليل ما لو أحرم بفرض فبان أنه لم يدخل وقته وصحة نقلها إذا كان لغرض، وللشافعي
قولان كالوجهين، فأما ان نقلها لغرض صحيح مثل من أحرم بها منفردا فحضرت جماعة فجعلها نفلا
ليصلي فرضه في جماعة فقال أبو الخطاب تصح من غير كراهة، وقال القاضي: فيه روايتان (إحداهما)
لا يصح لأنه لم ينو النفل من أولها (والثانية) يصح لأنه لفائدة وهي تأدية فرضه في الجماعة مضاعفة
للثواب بخلاف من نقلها لغير غرض فإنه أبطل عمله لغير سبب ولا فائدة.
* (مسألة) * قال (وان تقدمت النية قبل التكبير وبعد دخول الوقت ما لم يفسخها أجزأه)
قال أصحابنا: يجوز تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير، وان طال الفصل أو فسخ نيته بذلك
لم يجزه، وحمل القاضي كلام الخرقي على هذا وفسره به وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال الشافعي
وابن المنذر يشترط مقارنة النية للتكبير لقوله تعالى (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) فقوله
مخلصين حال لهم في وقت العبادة فإن الحال وصف هيئة الفاعل وقت الفعل والاخلاص هو النية، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " ولان النية شرط فلم يجز أن تخلو العبادة عنها كسائر شروطها
ولنا أنها عبادة فجاز تقديم نيتها عليها كالصوم وتقديم النية على الفعل لا يخرجه عن كونه منويا ولا
يخرج الفاعل عن كونه مخلصا بدليل الصوم والزكاة إذا دفعها إلى وكيله وكسائر الافعال في أثناء العبادة
* (مسألة) * قال (ويرفع يديه إلى فروع أذنيه أو إلى حذو منكبيه)
511

لا نعلم خلافا في استحباب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وقال ابن المنذر لا يختلف أهل العلم
في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وقد ذكرنا حديث أبي حميد، وروى
ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه وإذا أراد
أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع بين السجدتين متفق عليه. وهو مخير في رفعهما إلى
فروع أذنيه أو حذو منكبيه. ومعناه أن يبلغ بأطراف أصابعه ذلك الموضع وإنما خير لأن كلا الامرين
مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرفع إلى حذو المنكبين في حديث أبي حميد وابن عمرو رواه علي
وأبو هريرة وهو قول الشافعي وإسحاق، والرفع إلى حذو الاذنين رواه واثلة بن حجر ومالك بن
الحويرث رواه مسلم وقال به ناس من أهل العلم وميل أحمد إلى الأول أكثر، قال الأثرم قلت لأبي
عبد الله إلى أين يبلغ بالرفع؟ قال: أما أنا فأذهب إلى المنكبين لحديث ابن عمر، ومن ذهب إلى
أن يرفع يديه إلى حذو أذنيه فحسن وذلك لأن رواة الأول أكثر وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجوز الآخر
لأن صحة روايته تدل على أنه كان يفعل هذا مرة وهذا مرة
(فصل) ويستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع ويضم بعضها إلى بعض لما روى أبو هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا، وقال الشافعي السنة أن يفرق أصابعه لما روي
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشر أصابعه للتكبير
ولنا ما ذكرناه وحديثهم قال الترمذي هذا خطأ والصحيح ما رويناه. ثم لو صح كان معناه مد أصابعه
قال أحمد: أهل العربية قالوا: هذا الضم - وضم أصابعه - وهذا النشر - ومد أصابعه - وهذا التفريق -
512

وفرق أصابعه، ولان النشر لا يقتضي التفريق كنشر الثوب ولهذا يستعمل في الشئ الواحد ولا تفريق فيه
(فصل) ويبتدئ رفع يديه مع ابتداء التكبير ويكون انتهاؤه مع انقضاء تكبيره ولا يسبق
أحدهما صاحبه فإذا انقضى التكبير حط يديه فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير لم يرفعهما لأنه
سنة فات محلها وإن ذكره في أثناء التكبير رفع لأن محله باق فإن لم يمكنه رفع يديه إلى المنكبين رفعهما
قدر ما يمكنه وإن أمكنه رفع إحداهما دون الأخرى رفعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا
منه ما استطعتم " وإن لم يمكنه رفعهما الا بالزيادة على المسنون رفعهما لأنه يأتي بالسنة وزيادة مغلوب
عليها وقول الشافعي كقولنا في هذا الفصل جميعه
(فصل) وإن كانت يداه في ثوبه رفعهما بحيث يمكن لما روى وائل بن حجر قال: أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم في الشتاء فرأيت أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم في الصلاة، وفي رواية قال ثم جئت في زمان
فيه برد شديد فرأيت الناس عليهم جل الثياب تتحرك أيديهم تحت الثياب رواهما أبو داود وفي رواية
فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم
(فصل) والإمام والمأموم والمنفرد في هذا سواء وكذلك الفريضة والنافلة لأن الاخبار لا تفريق
فيها فأما المرأة فذكر القاضي فيها روايتين عن أحمد (إحداهما) ترفع لما روى الخلال باسناده عن أم
الدرداء وحفصة بنت سيرين أنهما كانتا ترفعان أيديهما وهو قول طاوس ولان من شرع في حقه التكبير
شرع في حقه الرفع كالرجل فعلى هذا ترفع قليلا، قال أحمد رفع دون الرفع (والثانية) لا يشرع لأنه
في معنى التجافي ولا يشرع ذلك لها بل تجمع نفسها في الركوع والسجود وسائر صلاتها
* (مسألة) * قال (ثم يضع يده اليمنى على كوعه اليسرى)
513

أما وضع اليمين على اليسرى في الصلاة فمن سنتها في قول كثير من أهل العلم يروى ذلك عن علي
وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز وسعيد بن جبير والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وحكاه ابن المنذر
عن مالك وظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه ارسال اليدين وروي ذلك عن ابن الزبير والحسن
ولنا ما روى قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه رواه
الترمذي وقال حديث حسن وعليه العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن
بعدهم، وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه
اليسرى في الصلاة، قال أبو حازم لا أعلمه الا ينمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وعن
ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو واضع شماله على يمينه فأخذ يمينه فوضعها على
شماله رواه أبو داود ورواهما الأثرم، وفي المسند عن غطيف قال ما نسيت من الأشياء فلم أنس أني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة ويستحب أن يضعها على كوعه
وما يقاربه لما روى وائل بن حجر أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال في وصفه ثم وضع يده اليمنى على
ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد
* (مسألة) * قال (ويجعلهما تحت سرته)
514

اختلفت الرواية في موضع وضعهما، فروي عن أحمد انه يضعهما تحت سرته وروي ذلك عن
علي وأبي هريرة وأبي مجلز والنخعي والثوري وإسحاق لما روي عن علي أنه قال من السنة وضع اليمين
على الشمال تحت السرة، رواه الإمام أحمد وأبو داود وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه قول
من ذكرنا من الصحابة، وعن أحمد انه يضعهما فوق السرة وهو قول سعيد بن جبير والشافعي،
لما روى وائل بن حجر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فوضع يديه على صدره إحداهما على الأخرى
وعنه انه مخير في ذلك لأن الجميع مروي والامر في ذلك واسع
* (مسألة) * قال (ويقول سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك
ولا إله غيرك)
وجملته أن الاستفتاح من سنن الصلاة في قول أكثر أهل العلم، وكان مالك لا يراه بل يكبر
ويقرأ لما روى أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله
رب العالمين متفق عليه.
515

ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بما سنذكره وعمل به الصحابة رضي الله عنهم وكان عمر يستفتح
به في صلاته يجهر به ليسمعه الناس وعبد الله بن مسعود. وحديث أنس أراد به القراءة كما جاء في
حديث أبي هريرة " ان الله تعالى قال: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " وفسر ذلك بالفاتحة.
وهذا مثل قول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ويتعين
حمله على هذا لأنه قد ثبت عن الذين روى عنهم أنس الاستفتاح بما ذكرناه. إذا ثبت هذا فإن أحمد
ذهب إلى الاستفتاح بهذا الذي ذكره الخرقي وقال: لو أن رجلا استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
من الاستفتاح كان حسنا أو قال جائزا وكذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود
والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي قال الترمذي وعليه العمل عند أهل العلم من التابعين وغيرهم. وذهب
الشافعي وابن المنذر إلى الاستفتاح بما قد روي عن علي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة
كبر ثم قال " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، أنت الملك لا إله
516

إلا أنت، انا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب، إلا أنت
واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا
أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك واليك تباركت ربنا وتعاليت
أستغفرك وأتوب إليك " رواه مسلم (1) وأبو داود والنسائي، وروى أبو هريرة قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة أسكت إسكاتة - حسبته قال هنيهة - بين التكبير والقراءة فقلت
يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال " أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي
كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم
اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد " متفق عليه
ولنا ماروت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال " سبحانك اللهم
وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي، وعن

(1) الصواب أنه رواه الجماعة كلهم الا البخاري ولكن بعضهم رواه مطولا وبعضهم مختصرا
517

أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله رواه النسائي والترمذي ورواه أنس واسناد حديثه كلهم ثقات رواه
الدارقطني وعمل به السلف فكان عمر رضي الله عنه يستفتح به بين يدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فروى الأسود انه صلى خلف عمر فسمعه كبر فقال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى
جدك ولا إله غيرك، فلذلك اختاره احمد وجوز الاستفتاح بغيره لكونه قد صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في حديث علي بعضهم يقول في صلاة الليل، ولان العمل به
متروك فانا لا نعلم أحدا يستفتح به كله وإنما يستفتحون بأوله
(فصل) قال احمد ولا يجهر الإمام بالافتتاح وعليه عامة أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر به وإنما
جهر به عمر ليعلم الناس، وإذا نسي الاستفتاح أو تركه عمدا حتى شرع في الاستعاذة لم يعد إليه لأنه سنة
فات محلها وكذلك أن نسي التعوذ حتى شرع في القراءة لم يعد إليه لذلك
* (مسألة) * قال (ثم يستعيذ)
518

وجملة ذلك أن الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة سنة وبذلك قال الحسن وابن سيرين وعطاء
والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك: لا يستعيذ لحديث أنس
ولنا قول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وعن أبي سعيد عن
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول " أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " قال الترمذي هذا أشهر حديث في الباب، وقال ابن المنذر
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وحديث
أنس قد مضى جوابه، وصفة الاستعاذة أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا قول أبي حنيفة
والشافعي لقول الله تعالى (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وعن أحمد أنه يقول أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم لخبر أبي سعيد ولقول الله تعالى (فاستعذ بالله انه هو السميع العليم) وهذا متضمن
للزيادة ونقل حنبل عنه أنه يزيد بعد ذلك أن الله هو السميع العليم، وهذا كله واسع وكيفما استعاذ
فهو حسن ويسر الاستعاذة ولا يجهر بها لا أعلم فيه خلافا
519

" مسألة " قال " (ثم يقرأ الحمد لله رب العالمين)
وجملة ذلك أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وركن من أركانها لا تصح الا بها في المشهور
عن أحمد نقله عنه الجماعة وهو قول مالك والثوري والشافعي، وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان
ابن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب، وروي عن أحمد
رواية أخرى أنها لا تتعين وتجزئ قراءة آية من القرآن من أي موضع كان، وهذا قول أبي حنيفة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وقول الله تعالى (فاقرءوا
ما تيسر من القرآن) وقوله (فاقرءوا ما تيسر منه) ولان الفاتحة وسائر القرآن سواء في سائر الأحكام
فكذا في الصلاة
ولنا ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
متفق عليه ولان القراءة ركن في الصلاة فكانت معينة كالركوع والسجود وأما خبرهم فقد روى الشافعي
باسناده عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للاعرابي " ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء
الله أن تقرأ " ثم نحمله على الفاتحة وما تيسر معها مما زاد عليها. ويحتمل أنه لم يكن يحسن الفاتحة أما
الآية فتحتمل أنه أريد الفاتحة وما تيسر معها ويحتمل أنها نزلت قبل نزول الفاتحة لأنها نزلت بمكة
والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بقيام الليل فنسخه الله تعالى عنه بها. والمعنى الذي ذكروه أجمعنا على خلافه
فإن من ترك الفاتحة كان مسيئا بخلاف بقية السور
" مسألة " قال (ويبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم)
وجملة ذلك أن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم مشروعة في الصلاة في أول الفاتحة وأول كل
سورة في قول أكثر أهل العلم، وقال مالك والأوزاعي لا يقرؤها في أول الفاتحة لحديث أنس. وعن ابن
عبد الله بن المغفل قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني محدث؟ أياك
والحدث، قال ولم أر واحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في
520

الاسلام - يعني منه - فاني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها
فلا تقلها. إذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين أخرجه الترمذي وقال حديث حسن
ولنا ما روي عن نعيم المجمر أنه قال صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ
بأم القرآن وقال والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي، وروى ابن
المنذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم، وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ
في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية والحمد لله رب العالمين، اثنين فأما حديث أنس فقد سبق
جوابه ثم نحمله على أن الذي كان يسمع منهم الحمد لله رب العالمين، وقد جاء مصرحا به روى شعبة
وشيبان عن قتادة قال سمعت أنس بن مالك قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع
أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وفي لفظ وكلهم يخفي بسم الله الرحمن الرحيم وفي لفظ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر بسم الله الرحمن الرحيم وأبا بكر وعمر رواه ابن شاهين وحديث ابن
عبد الله بن المغفل محمول على هذا أيضا جمعا بين الاخبار (1) ولان بسم الله الرحمن الرحيم يستفتح بها
سائر السور فاستفتاح الفاتحة بها أولى لأنها أول القرآن وفاتحته وقد سلم مالك هذا فإنه قال في قيام
رمضان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة ويستفتح بها بقية السور (2)
" مسألة " قال (ولا يجهر بها)
يعني بسم الله الرحمن الرحيم ولا تختلف الرواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون قال الترمذي
وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، منهم أبو بكر
وعمر وعثمان وعلي وذكره ابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير وعمار وبه يقول الحكم وحماد
والأوزاعي والثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي. ويروى عن عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد

(1) وقد أعلوه بجهالة ابن عبد الله بن مغفل وصرح الخطيب بان الحديث ضعيف
(2) فيه أن قراءتها في أول الفاتحة أولى لأن إجماع الصحابة وسائر الأمة بالتبع
لهم على كتابتها في أول الفاتحة يدل على أنها منها أو فاتحة مستقلة لها والأول
هو المتبادر وأما ما عداها فيحتمل ما قيل من أنها للفصل بين السور وهذه الحجة أي
كتابة المصحف قطعية ومثلها روايات القراء السبعة المتواترة وكل منها ترجح
بكل ما ينافيها من أحاديث الآحاد الظنية ولو لم تكن متعارضة وقابلة للتأويل
فكيف وهي كذلك ولاجله اختلف فيها السلف والخلف فالحق الصريح مع القائلين بأن البسملة آية من
الفاتحة وان قراءتها واجبة فإنه لا يوجد في ديننا ولا في شئ مما تناقله البشر خلفا عن سلف أصح من نقل هذا القرآن بالكتابة ثم بحفظ
الألوف له ولا سيما فاتحته في عصر التنزيل ثم حفظ كل من دخل في الاسلام لها جيلا بعد جيل. وأظهر ما قيل في الأحاديث النافية لقراءة
بسملتها في الصلاة ان المراد عدم الجهر بها أو عدم سماع الراوي وأكثر الناس لا يسمعون أول قراءة الإمام لاشتغالهم بالتكبير ودعاء
الافتتاح ولان العادة الغالبة على الناس ان القارئ يرفع صوته بالتدريج. ثم إن هذا النفي معارض باثبات قراءتها وسماع المأمومين
لها ومنهم أنس رضي الله عنه.
521

ابن جبير - الجهر بها وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة أنه قرأها في الصلاة وقد صح أنه
قال ما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى علينا أخفيناه عليكم - متفق عليه وعن
أنس أنه صلى وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وقال أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولما تقدم من حديث أم سلمة وغيره ولأنها آية من الفاتحة فيجهر بها الإمام في صلاة الجهر كسائر آياتها
ولنا حديث أنس وعبد الله بن المغفل، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح
الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين متفق عليه. وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا
قال العبد (الحمد لله رب العالمين) قال الله حمدني عبدي " وذكر الخبر أخرجه مسلم وهذا يدل على
أنه لم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم ولم يجهر بها (1) وحديث أبي هريرة الذي احتجوا به ليس فيه انه
جهر بها ولا يمتنع أن يسمع منه حال الاسرار كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلى الله عليه وسلم مع
إسراره بهما. وقد روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر متفق
عليه. وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها وسائر أخبار الجهر ضعيفة فإن رواتها هم رواة الاخفاء
واسناد الاخفاء صحيح ثابت بغير خلاف فيه فدل على ضعف رواية الجهر. وقد بلغنا أن الدارقطني
قال لم يصح في الجهر حديث (2)
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد هل هي آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة أولا؟ فعنه
من الفاتحة وذهب إليها أبو عبد الله بن بطة وأبو حفص وهو قول ابن المبارك والشافعي وإسحاق
وأبي عبيد. قال ابن المبارك من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية.
وكذلك قال الشافعي: هي آية من كل سورة لحديث أم سلمة. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم الكتاب وانها السبع
المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها " ولان الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها في المصاحف بخطها
ولم يثبتوا بين الدفتين سوى القرآن. وروي عن أحمد أنها ليست من الفاتحة ولا آية من غيرها
ولا يجب قراءتها في الصلاة وهي المنصورة عند أصحابه وقول أبي حنيفة ومالك والأوزاعي وعبد الله
ابن معبد الرماني. واختلف عن أحمد فيها فقيل عنه هي آية مفردة كانت تنزل بين سورتين فصلا
بين السور. وعنه إنما هي بعض آية من سورة النمل كذلك قال عبد الله بن معبد والأوزاعي ما أنزل
الله بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (والدليل

(1) هذا الاستدلال ممنوع لما تقدم فيما كتبناه على الحديث في حاشية الشرح الكبير (ص 523)
(2) لعل الصواب ما قاله المحقق ابن القيم في الهدي النبوي من أنه صلى الله عليه وسلم
كان يسر بها تارة ويجهر أخرى ونقل الحافظ في شرح البخاري عن القرطبي معنى ما
رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن سعيد بن جبير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزؤن بمكاء وتصدية ويقولون
محمد يذكر إله اليمامة وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن - فأنزل الله
(ولا تجهر بصلاتك) فتسمع المشركين فيهزؤا بك (ولا تخافت) عن أصحابك فلا تسمعهم رواه ابن جبير
عن ابن عباس، ذكره النيسابوري في التيسير قال: وهذا جمع حسن ان صح ان هذا
كان السبب في ترك الجهر وقد قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون
522

على أنها ليست من الفاتحة ما روى أبو هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله تعالى
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين
قال الله تعالى حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال: مالك
يوم الدين قال الله مجدني عبدي فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين
عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
ولا الضالين) قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " أخرجه مسلم. فلو كانت بسم الله الرحمن الرحيم
آية لعدها وبدأ بها ولم يتحقق التنصيف لأن آيات الثناء تكون أربعا ونصفا وآيات الدعاء اثنتين
ونصفا وعلى ما ذكرنا يتحقق التنصيف، فإن قيل فقد روى عبد الله بن زياد بن سمعان " يقول عبدي
إذا افتتح الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فيذكرني عبدي " قلنا ابن سمعان متروك الحديث لا يحتج
به قاله الدارقطني واتفاق الرواة على خلاف روايته أولى بالصواب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" سورة هي ثلاثون آية شفعت لقارئها الا وهي تبارك الذي بيده الملك " وهي ثلاثون آية سوى
بسم الله الرحمن الرحيم وأجمع الناس على أن سورة الكوثر ثلاث آيات بدون بسم الله الرحمن الرحيم ولو كانت منها
لكانت أربعا (1) ولان مواضع الآي تجري مجرى الآي أنفسها في أنها لا تثبت الا بالتواتر ولم ينقل في ذلك
تواتر (2) فأما قول أم سلمة فمن رأيها ولا ينكر الاختلاف في ذلك على أننا نقول هي آية مفردة للفصل
بين السور. وحديث أبي هريرة موقوف عليه فإنه من رواية أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن
نوح بن أبي بلال قال: قال أبو بكر راجعت فيه نوحا فوقفه وهذا يدل على أن رفعه كان وهما من
عبد الحميد، وأما اثباتها بين السور في المصحف فللفصل بينها ولذلك أفردت سطرا على حدتها (3)
(فصل) يلزمه أن يأتي بقراءة الفاتحة مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحنا يحيل المعنى فإن ترك
ترتيبها أو شدة منها أو لحن لحنا يحيل المعنى مثل أن يكسر كاف إياك أو يضم تاء أنعمت أو يفتح
ألف الوصل في اهدنا لم يعتد بقراءته الا أن يكون عاجزا عن غير هذا ذكر القاضي نحو هذا في المجرد
وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي في الجامع: لا تبطل بترك شدة لأنها غير ثابتة في خط المصحف،
هي صفة للحرف ويسمى تاركها قارئا، والصحيح الأول لأن الحرف المشدد أقيم مقام حرفين بدليل أن
شدة راء الرحمن أقيمت مقام اللام وشدة ذال الذين أقيمت مقام اللام أيضا فإذا أخل بها أخل بالحرف
وما يقوم مقامه وغير المعنى الا أن يريد أنه أظهر المدغم مثل من يقول الرحمن مظهرا للام فهذا تصح
صلاته لأنه إنما ترك الادغام وهو معدود لحنا لا يغير المعنى قال: ولا يختلف المذهب أنه إذا لينها ولم
يحققها على الكمال أنه لا يعيد الصلاة لأن ذلك لا يحيل المعنى ويختلف باختلاف الناس، ولعله إنما أراد

(1) قد أجيب عن هذا وما قبله بأن عد آيات السور لا يذكر فيه البسملة لأنها مشتركة بين الجميع ويؤيده ما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أنس من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بنزول سورة الكوثر قرأها مع البسملة
(2) هذا غلط وقع فيه كثيرون فقد اتفق عليها القراء السبعة وقراءاتهم متواترة ورسم المصحف دليل علمي على التواتر كما قال العضد بل هو أقوى من الرواية القولية وقد تقدم آنفا في حاشية " ص 525 "
(3) مسألة الفصل لا ترد على سورة الفاتحة كما تقدم لنا. ورد هذا الرأي أيضا بسورة براءة (التوبة) فلم يفصل بينها وبين الأنفال بالبسملة وذكروا ان سبب نزولها معها انها نزلت بالسيف والعقوبة لا بالرحمة. وافرادها بسطر لا يدل على شئ
523

في الجامع هذا المعنى فيكون قوله متفقا، ولا يستحب المبالغة في التشديد بحيث يزيد على قدر حرف
ساكن لأنها في كل موضع أقيمت مقام حرف ساكن فإذا زادها على ذلك زادها عما أقيمت مقامه فيكون
مكروها وفي بسم الله الرحمن الرحيم ثلاث شدات وفيما عداها إحدى عشرة تشديدة بغير اختلاف
(فصل) وأقل ما يجزئ فيها قراءة مسموعة يسمعها نفسه أو يكون بحيث يسمعها لو كان سميعا
كما قلنا في التكبير فإن ما دون ذلك ليس بقراءة والمستحب أن يأتي بها مرتلة معربة يقف فيها عند كل
آية ويمكن حروف المد واللين ما لم يخرجه ذلك إلى التمطيط لقول الله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا)
وروي عن أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان يقطع قراءته آية آية بسم الله
الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. رواه الإمام أحمد في مسنده
وعن أنس قال: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد
بالرحمن ويمد بالرحيم. أخرجه البخاري، فإن انتهى ذلك إلى التمطيط والتلحين كان مكروها لأنه
ربما جعل الحركات حروفا قال أحمد: يعجبني من قراءة القرآن السهلة وقال قوله " زينوا القرآن
بأصواتكم " قال يحسنه بصوته من غير تكلف، وقد روي في خبر آخره أحسن الناس قراءة من إذا
سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله وروي " إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن "
(فصل) فإن قطع قراءة الفاتحة بذكر من دعاء أو قراءة أو سكوت يسير أو فرغ الإمام من
الفاتحة في أثناء قراءة المأموم قال آمين ولا تنقطع قراءته لقول أحمد إذا مرت به آية رحمة سأل، وإذا
مرت به آية عذاب استعاذ، وإن كثر ذلك استأنف قراءتها الا أن يكون السكوت مأمورا به
كالمأموم يشرع في قراءة الفاتحة ثم يسمع قراءة الإمام فينصت له فإذا سكت الإمام أتم قراءتها وأجزأه
أومأ إليه احمد، وكذلك أن كان السكوت نسيانا أو نوما أو لانتقاله إلى غيرها غلطا لم يبطل فمتى ذكر
أتى بما بقي منها، فإن تمادى فيما هو فيه بعد ذكره أبطلها ولزمه استئنافها كما لو ابتدأ بذلك فإن نوى
قطع قرائتها من غير أن يقطعها لم تنقطع لأن فعله مخالف لنيته والاعتبار بالفعل لا بالنية، وكذا إن
سكت مع النية سكوتا يسيرا لما ذكرناه من أنه لا عبرة بالنية فوجودها كعدمها. وذكر القاضي في الجامع
أنه متى سكت مع النية أبطلها، ومتى عدل إلى قراءة غير الفاتحة عمدا أو دعاء غير مأمور به بطلت
قراءته ولم يفرق بين قليل أو كثير، وان قدم آية منها في غير موضعها عمدا أبطلها وإن كان غلطا رجع
إلى موضع الغلط فأتمها. والأولى إن شاء الله ما ذكرناه لأن المعتبر في القراءة وجودها لا نيتها فمتى قرأها
متواصلة تواصلا قريبا صحت كما لو كان ذلك عن غلط
524

(فصل) ويجب قراءة الفاتحة في كل ركعة في الصحيح من المذهب وهذا مذهب مالك والأوزاعي
والشافعي، وعن أحمد أنها لا تجب الا في ركعتين من الصلاة ونحوه عن النخعي والثوري وأبي حنيفة
لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين ولان القراءة لو وجبت
في بقية الركعات لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين. وعن الحسن أنه ان قرأ في ركعة واحدة
أجزأه لقول الله تعالى (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) وعن مالك أنه ان قرأ في ثلاث أجزأه لأنها معظم الصلاة
ولنا ما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب
وسورتين ويطول الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحيانا وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب
متفق عليه: وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " متفق عليه. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب " وعنه وعن عبادة قالا أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة رواهما إسماعيل بن سعيد الشالنجي ولان
النبي صلى الله عليه وسلم علم المسئ في صلاته كيف يصلي الركعة الأولى ثم قال " وافعل ذلك في
صلاتك كلها " فيتناول الامر بالقراءة، وعن جابر قال: من صلى ركعة فلم يقرأ فيها فلم يصل إلا
خلف الإمام (1) رواه مالك في الموطأ. وحديث علي يرويه الحارث الأعور قال الشعبي: كان كذابا
ثم هو من قول علي وقد خالفه عمر وجابر والاسرار لا ينفي الوجوب بدليل الأوليين من الظهر والعصر

(1) أي من صلى ركعة لم يقرأ فيها فهو لم يصل لأن الصلاة لا تصح بغير قراءة الا خلف الإمام
525

(فصل) ولا تجزئه القراءة بغير العربية ولا ابدال لفظها بلفظ عربي سواء أحسن قراءتها بالعربية
أو لم يحسن وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. وقال بعض أصحابه
إنما يجوز لمن لم يحسن العربية واحتج بقوله تعالى (وأوحي إلي هذا القرآن لا نذركم به ومن بلغ)
ولا ينذر كل قوم إلا بلسانهم (1)
ولنا قول الله تعالى (قرآنا عربيا) وقوله تعالى (بلسان عربي مبين) ولان القرآن معجزة لفظه
ومعناه فإذا غير خرج عن نظمه فلم يكن قرآنا ولا مثله وإنما يكون تفسيرا له ولو كان تفسيره مثله لما عجزوا
عنه لما تحداهم بالاتيان بسورة مثله. أما الانذار فإنه إذا فسره لهم كان الانذار بالمفسر دون التفسير:
(فصل) فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته
فإن لم يقدر أو خشي فوات الوقت وعرف من الفاتحة آية كررها سبعا، قال القاضي: لا يجزئه غير
ذلك لأن الآية منها أقرب إليها من غيرها وكذلك إن أحسن منها أكثر من ذلك كرره بقدره، ويحتمل
أن يأتي ببقية الآي من غيرها لأن هذه الآية يسقط فرضها بقراءتها فيعدل عن تكرارها إلى غيرها

(1) نقل الحنفية عن أبي حنيفة انه رجع عن هذا القول ولم يعمل به أحد
من مقلديه ولامن غيرهم فاستمر الاجماع العملي على قراءة جميع المسلمين القرآن في
الصلاة وغيرها بالعربية كأذكارها وسائر الأذكار والأدعية المأثورة على كثرة
الأعاجم حتى قام بعض المرتدين من أعاجم هذا العصر يدعون إلى ترجمة القرآن
وغيره من الأذكار والتعبد بالترجمة وإنما مرادهم التوسل بذلك إلى تسهيل الردة
على قومهم ونبذ القرآن المنزل من عند الله وراء ظهورهم وهو إنما نزل باللسان
العربي كما هو مصرح به في الآيات المتعددة وإنما كان تبليغه والدعوة إلى الاسلام به والانذار
به كما أنزله الله تعالى لم يترجمه النبي صلى الله عليه وسلم
ولا أذن بترجمته ولم يفعل ذلك الصحابة ولا خلفاء المسلمين وملوكهم. ولو كتب النبي صلى الله عليه وسلم
كتبه إلى قيصر وكسرى والمقوقس بلغاتهم لصح التعليل
الذي علل به ذلك القول الشاذ الذي قيل إن أبا حنيفة قاله وعلله به وأصرح ما يراه
من الآيات قوله تعالى (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) وقد بين الإمام الشافعي في رسالته
الشهيرة في الأصول ان الله تعالى فرض على جميع الأمم تعلم اللسان العربي بالتبع لمخاطبتهم بالقران والتعبد به ولم ينكر ذلك عليه أحد من
علماء الاسلام لأنه أمر مجمع عليه وان أهمله الأعاجم بعد ضعف الدين والعلم
526

كمن وجد بعض الماء فإنه يغسل به ويعدل إلى التيمم، وذكر القاضي هذا الاحتمال في الجامع
ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا، فأما ان عرف بعض آية لم يلزمه تكرارها وعدل إلى غيرها لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي لا يحسن القرآن أن يقول: الحمد لله وغيرها، وهي بعض آية لم يأمره
بتكرارها، وان لم يحسن شيئا وكان يحفظ غيرها من القرآن قرأ منه بقدرها ان قدر لا يجزئه غيره لما
روى أبو داود عن رفاعة بن رافع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قمت إلى الصلاة فإن كان
معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وهلله وكبره " ولأنه من جنسها فكان أولى ويجب أن يقرأ بعدد
آياتها وهل يعتبر أن يكون بعدد حروفها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يعتبر لأن الآيات هي المعتبرة
بدليل أنه لا يكفي عدد الحروف دونها فأشبه من فاته صوم يوم طويل فلا يعتبر أن يكون القضاء
في يوم على قدر ساعات الأداء (والثاني) يلزمه ذلك لأن الحرف مقصود بدليل تقدير الحسنات به
ويخالف الصوم إذ لا يمكن اعتبار المقدار في الساعات الا بمشقة، فإن لم يحسن إلا آية كررها سبعا فإن
لم يحسن شيئا من القرآن ولا أمكنه التعلم قبل خروج الوقت لزمه أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا
إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى أبو داود قال جاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني منه فقال " قل: سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله " قال هذا لله فمالي؟ قال " تقول: اللهم اغفر
527

لي وارحمني وارزقني واهدني وعافني " ولا يلزمه الزيادة على الخمس الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر
عليها وإنما زاده عليها حين طلب الزيادة، وذكر بعض أصحاب الشافعي انه يزيد على هذه الخمس
كلمتين حتى تكون مقام سبع آيات ولا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه ذلك جوابا لقوله
علمني ما يجزيني والسؤال كالمعتاد في الجواب فكأنه قال يجزئك هذا وتفارق القراءة من غير الفاتحة
لأنه بدل من غير الجنس فأشبه التيمم فإن لم يحسن هذه الكلمات كلها قال ما يحسن منها. وينبغي أن
يلزمه تكرار ما يحسن منها بقدرها كمن يحسن بعض الفاتحة، ويحتمل أن يجزئه التحميد والتهليل والتكبير
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وهلله وكبره " رواه أبو داود
" مسألة " قال (فإذا قال ولا الضالين قال آمين)
وجملته أن التأمين عند فراغ الفاتحة سنة للإمام والمأموم وروي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير
وبه قال الثوري وعطاء والشافعي ويحيى بن يحيى وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وسليمان بن داود
وأصحاب الرأي، وقال أصحاب مالك لا يحسن التأمين للإمام لما روى مالك عن سمي عن أبي صالح
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذ قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا
آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له " وهذا دليل على أنه لا يقولها
ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من
وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له " متفق عليه. وروى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا قال " ولا الضالين " قال " آمين " ورفع بها صوته رواه أبو داود ورواه الترمذي وقال: ومد بها صوته
528

وقال هو حديث حسن وقد قال بلال للنبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين وحديثهم لا حجة لهم
فيه وإنما قصد به تعريفهم موضع تأمينهم وهو عقيب قول الإمام ولا الضالين لأنه موضع تأمين الإمام
ليكون تأمين الإمام والمأمومين في وقت واحد موافقا لتأمين الملائكة وقد جاء هذا مصرحا به كما
قلنا وهو ما روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال الإمام
ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين والإمام يقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له
ما تقدم من ذنبه " وقول النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر " إذا أمن الإمام " يعني إذا شرع في التأمين (فصل) ويسن أن يجهر به الإمام والمأموم فيما يجهر فيه بالقراءة وإخفاؤها فيما يخفي فيه. وقال
أبو حنيفة ومالك في إحدى الروايتين عنه يسن إخفاؤها لأنه دعاء فاستحب اخفاؤه كالتشهد. ولنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " آمين " ورفع بها صوته ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتأمين عند تأمين الإمام فلو لم يجهر به لم
لم يعلق عليه كحالة الاخفاء، وما ذكروه يبطل بآخر الفاتحة فإنه دعاء ويجهر به، ودعاء التشهد
تابع له فيتبعه في الاخفاء وهذا تابع للقراءة فيتبعها في الجهر
529

(فصل) فإن نسي الإمام التأمين أمن المأموم ورفع صوته ليذكر الإمام فيأتي به لأنه سنة قولية
إذا تركها الإمام أتى بها المأموم كالاستعاذة وان أخفاها الإمام جهر بها المأموم لما ذكرناه، وان ترك
التأمين نسيانا أو عمدا حتى شرع في قراءة السورة لم يأت به لأنه سنة فات محلها
(فصل) في " آمين " لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف فيهما. قال الشاعر
تباعد مني فطحل إذ دعوته * أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وأنشدوا في الممدود
يا رب لا تسلبني حبها أبدا * ويرحم الله عبدا قال آمينا
530

ومعنى آمين اللهم استجب لي قاله الحسن وقيل هو اسم من أسماء الله عز وجل ولا يجوز التشديد
فيها لأنه يحيل معناها فيجعله بمعنى قاصدين كما قال الله تعالى (ولا آمين البيت الحرام)
(فصل) يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة سكتة يستريح فيها ويقرأ فيها من خلفه
الفاتحة كيلا ينازعوه فيها وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وإسحاق، وكرهه مالك وأصحاب الرأي
ولنا ما روى أبو داود وابن ماجة أن سمرة حدث أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة
إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فأنكر عليه عمران فكتبا في ذلك
إلى أبي بن كعب فكان في كتابه إليهما ان سمرة قد حفظ، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام
سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا دخل في الصلاة وإذا قال ولا الضالين، وقال
عروة بن الزبير أما أنا فاغتنم من الإمام اثنتين إذا قال (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فاقرأ عندها
وحين يختم السورة فاقرأ قبل أن يركع وهذا يدل على اشتهار ذلك فيما بينهم رواه الأثرم
531

* (مسألة) * قال (ثم يقرأ سورة في ابتدائها بسم الله الرحمن الرحيم)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أنه يسن قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل
صلاة ويجهر بها فيما يجهر فيه بالفاتحة، ويسر فيما يسر بها فيه. والأصل في هذا فعل النبي صلى الله
عليه وسلم فإن أبا قتادة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر
بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية يسمع الآية أحيانا وكان يقرأ في الركعتين
الأوليين من العصر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وكان يطول في
532

الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية، وفي رواية في الظهر كان يقرأ في الركعتين الأخريين بأم
الكتاب. متفق عليه، وروى أبو برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح من الستين إلى
المائة، وقد اشتهرت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للسورة مع الفاتحة في صلاة الجهر ونقل نقلا متواترا
وأمر به معاذا فقال " اقرأ بالشمس وضحاها وبسبح اسم ربك الاعلى، والليل إذا يغشى " متفق عليه
ويسن أن يفتتح السورة بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ووافق مالك على هذا فإنه قال في قيام رمضان
533

لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة ويستفتح بها في بقية السور ويسر بها في السورة كما يسر
بها في أول الفاتحة والخلاف ههنا كالخلاف ثم وقد سبق القول فيه.
(فصل) ويقرأ بما في مصحف عثمان، ونقل عن أحمد أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل
ابن جعفر قال فإن لم يكن فقراءة عاصم من طريق أبي بكر بن عياش وأثنى على قراءة أبي عمرو بن
العلاء ولم يكره قراءة أحد من العشرة إلا قراءة حمزة والكسائي لما فيها من الكسر والادغام
والتكلف وزيادة المد وروي عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نزل القرآن
534

بالتفخيم وعن ابن عباس قال أنزل القرآن بالتفخيم والتثقيل نحو الجمعة وأشباه ذلك ونقل عنه التسهيل
في ذلك وان قراءتهما جائزة قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله إمام كان يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه؟
قال لا يبلغ به هذا كله ولكنها لا تعجبني قراءة حمزة
(فصل) فأما ما يخرج عن مصحف عثمان كقراءة ابن مسعود وغيرها فلا ينبغي أن يقرأ بها
في الصلاة لأن القرآن ثبت بطريق التواتر وهذه لم يثبت التواتر بها فلا يثبت كونها قرآنا، فإن قرأ
بشئ منها مما صحت به الرواية واتصل اسنادها ففيه روايتان (إحداهما) لا تصح صلاته لذلك
(والثانية) تصح لأن الصحابة كانوا يصلون بقراءتهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وكانت صلاتهم
صحيحة بغير شك، وقد صح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه
على قراءة ابن أم عبد " وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهشام بن حكيم حين اختلفا في قراءة القرآن فقال
" اقرؤوا كما علمتم " وكان الصحابة رضي الله عنهم قبل جمع عثمان المصحف يقرءون بقراءات لم يثبتها
في المصحف ويصلون بها لا يرى أحد منهم تحريم ذلك ولا بطلان صلاتهم به
(فصل) ولا تكره قراءة أواخر السور وأوساطها في إحدى الروايتين. نقلها عن أحمد جماعة
لأن أبا سعيد قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. وعن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم " اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب " أخرجهما
أبو داود، وهذا يدل على أنه لا يتعين الزيادة. وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ في الآخرة
من صلاة الصبح آخر آل عمران وآخر الفرقان رواه الخلال باسناده، وعن إبراهيم النخعي قال:
كان أصحابنا يقرأون في الفريضة من السورة بعضها ثم يركع ثم يقوم فيقرأ في سورة أخرى. وقول
535

أبي برزة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح من الستين إلى المائة دليل على أنه لم يكن
يقتصر على قراءة سورة (والرواية الثانية) يكره ذلك نقل المروذي عن أحمد أنه كان يكره أن يقرأ
في صلاة الفرض بآخر سورة، وقال: سورة أعجب إلي فقال المروذي: كان لأبي عبد الله قرابة يصلى به
فكان يقرأ في الثانية من الفجر بآخر السورة فلما أكثر قال أبو عبد الله: تقدم أنت فصل فقلت له
هذا يصلي بك منذ كم قال: دعنا منه يجئ بآخر السور وكرهه، ولعل أحمد إنما أحب اتباع النبي
صلى الله عليه وسلم فيما نقل عنه وكره المداومة على خلاف ذلك والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم
قراءة السورة أو بعض سورة من أولها فأعجبه موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعجبه مخالفته
ونقل عنه في الرجل يقرأ من أوسط السور وآخرها فقال: أما آخر السور فأرجو وأما أوسطها فلا
ولعله ذهب في آخر السورة إلى ما روي فيه عن عبد الله وأصحابه ولم ينقل مثل ذلك في أوسطها،
وقد نقل عنه الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله الرجل يقرأ آخر السورة في الركعة فقال: أليس قد
روي في هذا رخصة عن عبد الرحمن بن زيد وغيره، وأما قراءة بعض السورة من أولها فلا خلاف
في أنه غير مكروه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون ثم أخذته سعلة
فركع وقرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب فرقها مرتين رواه النسائي.
(فصل) ولا بأس بالجمع بين السور في صلاة النافلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة
سورة البقرة وآل عمران والنساء، وقال ابن مسعود: لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة، متفق عليه. وكان عثمان رضي الله
عنه يختم القرآن في ركعة وروي ذلك عن جماعة من التابعين، وأما الفريضة فالمستحب أن يقتصر
على سورة مع الفاتحة من غير زيادة عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا كان يصلي أكثر صلاته وأمر معاذا
أن يقرأ في صلاته كذلك، وإن جمع بين سورتين في ركعة ففيه روايتان (إحداهما) يكره لذلك
(والثانية) لا يكره لأن حديث عبد الله بن مسعود مطلق في الصلاة فيحتمل أنه أراد الفرض، وقد
روى الخلال باسناده عن ابن عمر أنه كان يقرأ في المكتوبة بالسورتين في ركعة وإن قرأ في ركعة
سورة ثم أعادها في الثانية فلا بأس لما روى أبو داود باسناده عن رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ في صلاة الصبح إذا زلزلت في الركعتين كليهما.
(فصل) والمستحب أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى
536

في النظم لأن ذلك هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن ابن مسعود انه سئل
عمن يقرأ القرآن منكوسا قال: ذلك منكوس القلب وفسره أبو عبيدة بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها
أخرى هي قبلها في النظم فإن قرأ بخلاف ذلك فلا بأس به، قال أحمد لما سئل عن هذه المسألة لا بأس
به أليس يعلم الصبي على هذا؟ وقال في رواية مهنا أعجب إلي أن يقرأ من البقرة إلى أسفل وقد روى أن
الأحنف قرأ بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف وذكر انه صلى مع عمر الصبح بهما استشهد به البخاري.
(فصل) إذا فرغ من القراءة قال أحمد رحمه الله يثبت قائما ويسكت حتى يرجع إليه نفسه
قبل أن يركع ولا يصل قراءته بتكبيرة الركوع جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له سكتتان سكتة عند
افتتاح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من القراءة وهذا هو حديث سمرة كذلك رواه أبو داود وغيره
* (مسألة) * قال (فإذا فرغ كبر للركوع)
أما الركوع فواجب بالنص والاجماع قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا)
وأجمعت الأمة على وجوبه في الصلاة على القادر عليه. وأكثر أهل العلم يرون أن يبتدئ الركوع بالتكبير
وأن يكبر في كل خفض ورفع منهم ابن مسعود وابن عمر وجابر وأبو هريرة وقيس بن عباد ومالك
والأوزاعي وابن جابر والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعوام العلماء من الأمصار. وروي عن عمر بن
عبد العزيز وسالم والقاسم وسعيد بن جبير أنهم كانوا لا يتمون التكبير ولعلهم يحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يعلمه المسئ في صلاته ولو كان منها لعلمه إياه ولم تبلغهم السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولنا ما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر
حين يركع ثم يقول " سمع الله لمن حمده " حين يرفع صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم " ربنا ولك الحمد "
ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل
ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
" إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا " متفق عليهما. وكان أبو هريرة يكبر في كل خفض ورفع
ويقول أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري. وعن ابن مسعود قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود وأبو بكر وعمر قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولأنه شروع في ركن فشرع فيه التكبير كحالة ابتداء الصلاة
ولأنه انتقال من ركن إلى ركن فشرع فيه ذكر يعلم به المأموم انتقاله ليقتدي به كحالة الرفع من الركوع.
(فصل) ويسن الجهر به للإمام ليسمع المأموم فيقتدي به في حال الجهر والاسرار جميعا كقولنا
في تكبيرة الاحرام، فإن لم يجهر الإمام بحيث يسمع الجميع استحب لبعض المأمومين رفع صوته ليسمعهم
537

كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم في مرضه قاعدا وأبو بكر إلى جنبه يقتدي
به والناس يقتدون بأبي بكر.
* (مسألة) * قال (ويرفع يديه كرفعه الأول)
يعني يرفعهما إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه كفعله عند تكبيرة الاحرام ويكون ابتداء
رفعه عند ابتداء تكبيره، وانتهاؤه عند انتهائه. وبهذا قال ابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وابن
الزبير وأنس والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم وسعيد بن جبير وغيرهم من التابعين وهو مذهب
ابن المبارك والشافعي وإسحاق ومالك في إحدى الروايتين عنه. وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يرفع
يديه إلا في الافتتاح وهو قول إبراهيم النخعي لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: الا أصلي
لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة قال الترمذي: حديث ابن مسعود
حسن. وروى يزيد بن زياد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع
يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود، قالوا والعمل بهذين الحديثين أولى لأن ابن مسعود كان فقيها ملازما
لرسول الله صلى الله عليه وسلم عالما بأحواله وباطن أمره وظاهره فتقدم روايته على رواية من لم يكن حاله كحاله.
قال إبراهيم النخعي لرجل روى حديث وائل بن حجر لعل وائلا لم يصل مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا تلك
الصلاة فترى أن نترك رواية عبد الله الذي لعله لم يفته مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ونأخذ برواية هذا أو كما قال
538

ولنا ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع
يديه حتى يحاذي بهما منكبيه وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع ولا يفعل ذلك
في السجود، قال البخاري: قال علي بن المديني وكان أعلم أهل زمانه: حق على المسلمين أن يرفعوا
أيديهم لهذا الحديث وحديث أبي حميد الذي ذكرنا في أول الباب وقد رواه في عشرة من الصحابة
منهم أبو قتادة فصدقوه وقالوا: هكذا كان يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه سوى هذين عمر وعلي
ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأنس وأبو هريرة وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة
وأبو موسى وجابر بن عمير الليثي فصار كالمتواتر الذي لا يتطرق إليه شك مع كثرة رواته وصحة
سنده وعمل به الصحابة والتابعون وأنكروا على من لم يعمل به. قال الحسن رأيت أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا كبروا وإذا ركعوا وإذا رفعوا رؤوسهم كأنها المراوح. قال أحمد وقد
سئل عن الرفع: أي لعمري ومن يشك في هذا؟ كان ابن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه
وأمره أن يرفع فأما حديثاهم فضعيفان: فأما حديث ابن مسعود فقال ابن المبارك لم يثبت،
وحديث البراء قال ابن عيينة حدثنا يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى ولم يقل ثم لا يعود فلما
539

قدمت الكوفة سمعته يحدث به فيقول لا يعود فظننت أنهم لقنوه، وقال الحميدي وغيره يزيد بن
أبي زياد ساء حفظه في آخر عمره وخلط ثم لو صحا كان الترجيح لأحاديثنا أولى لخمسة أوجه (أحدها)
لأنها أصح اسنادا، وأعدل رواة فالحق إلى قولهم أقرب (الثاني) أنها أكثر رواة فظن الصدق في
قولهم أقوى، والغلط منهم أبعد (الثالث) أنهم مثبتون والمثبت يخبر عن شئ شاهده ورواه فقوله:
يجب تقديمه لزيادة علمه والنافي لم ير شيئا فلا يؤخذ بقوله ولذلك قدمنا قول الجارح على المعدل
(والرابع) انهم فصلوا في روايتهم ونصوا على الرفع في الحالتين المختلف فيهما والمخالف لهم عمم
بروايته المختلف فيه وغيره فيجب تقديم أحاديثنا لنصها وخصوصها على أحاديثهم العامة التي لا نص
فيها كما يقدم الخاص على العام، والنص على الظاهر المحتمل (الخامس) ان أحاديثنا عمل بها السلف
من الصحابة والتابعين فيدل ذلك على قوتها. وقولهم إن ابن مسعود إمام قلنا لا ننكر فضله لكن
بحيث يقدم على أميري المؤمنين عمر وعلي وسائر من معهم! كلا ولا يساوي واحدا منهم فكيف
يرجح على جميعهم؟ مع أن ابن مسعود قد ترك قوله في الصلاة في أشياء منها أنه كان يطبق في الركوع
يضع يديه بين ركبتيه فلم يؤخذ بفعله وأخذ برواية غيره في وضع اليدين على الركبتين وتركت قراءته
وأخذ بقراءة زيد بن ثابت وكان لا يرى التيمم للجنب فترك ذلك برواية من هو أقل من رواة
أحاديثنا وأدنى منهم فضلا فههنا أولى.
540

* (مسألة) * قال (ثم يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه ويمد ظهره ولا يرفع رأسه ولا يخفضه)
وجملته أنه يستحب للراكع أن يضع يديه على ركبتيه ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله عمر
وعلي وسعد وابن عمر وجماعة من التابعين وبه يقول الثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب
الرأي، وذهب قوم من السلف إلى التطبيق وهو أن يجعل المصلي إحدى كفيه على الأخرى ثم يجعلهما
بين ركبتيه إذا ركع وهذا كان في أول الاسلام ثم نسخ. قال مصعب بن سعد: ركعت فجعلت
يدي بين ركبتي فنهاني أبي وقال: انا كنا نفعل هذا فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب،
متفق عليه. وذكر أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم
هصر ظهره - يعني عصره حتى يعتدل ولا يبقى محدودبا، وفي لفظ ثم اعتدل فلم يصوب ولم يقنع
ووضع يديه على ركبتيه. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه ولكن
بين ذلك، متفق عليه. قال أحمد ينبغي له إذا ركع أن يلقم راحتيه ركبتيه ويفرق بين أصابعه ويعتمد على
ضبعيه وساعديه ويسوي ظهره ولا يرفع رأسه ولا ينكسه، وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا
ركع لو كان قدح ماء على ظهره ما تحرك وذلك لاستواء ظهره والواجب من ذلك الانحناء بحيث يمكنه
مس ركبتيه بيديه لأنه لا يخرج عن حد القيام إلى الركوع الا به ولا يلزمه وضعهما وإنما ذلك مستحب
فإن كانتا عليلتين لا يمكنه وضعهما انحنى ولم يضعهما، وإن كانت إحداهما عليلة وضع الأخرى.
(فصل) ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه فإن أبا حميد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على
ركبتيه كأنه قابض عليهما ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه حديث صحيح.
(فصل) ويجب أن يطمئن في ركوعه ومعناه أن يمكث إذا بلغ حد الركوع قليلا وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة: الطمأنينة غير واجبة لقوله تعالى (اركعوا واسجدوا) ولم يذكر الطمأنينة
والامر بالشئ يقتضي حصول الاجزاء به.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم اركع حتى تطمئن راكعا " متفق عليه. وروى أبو قتادة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته " قيل وكيف يسرق من صلاته؟ قال
" لا يتم ركوعها ولا سجودها " وقال " لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع والسجود " رواه
البخاري. والآية حجة لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الركوع بفعله وقوله، فالمراد بالركوع ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) وإذا رفع رأسه وشك هل ركع أولا أو هل أتى بقدر الاجزاء أو لا؟ لم يعتد به وعليه
أن يعود فيركع حتى يطمئن راكعا لأن الأصل عدم ما شك فيه إلا أن يكون ذلك وسواسا فلا يلتفت
541

إليه وهكذا الحكم في سائر الأركان
* (مسألة) * قال (ويقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وهو أدنى الكمال، وإن
قال مرة أجزأه)
وجملة ذلك أنه يشرع أن يقول في ركوعه: سبحان ربى العظيم وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي
وقال مالك ليس عندنا في الركوع والسجود شئ محدود وقد سمعت أن التسبيح في الركوع والسجود
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال النبي صلى الله عليه
وسلم اجعلوها في ركوعكم " وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا ركع أحدكم
فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه " أخرجهما أبو داود وابن ماجة. وروى حذيفة
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ركع " سبحان ربي العظيم " ثلاث مرات رواه
الأثرم ورواه أبو داود ولم يقل ثلاث مرات ويجزئ تسبيحة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بالتسبيح في حديث عقبة ولم يذكر عددا فدل على أنه يجزئ أدناه، وأدنى الكمال ثلاث لقول
النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود " وذلك أدناه " قال أحمد في رسالته جاء الحديث عن الحسن
البصري أنه قال " التسبيح التام سبع، والوسط خمس، وأدناه ثلاث " وقال القاضي الكامل في
التسبيح إن كان منفردا مالا يخرجه إلى السهو، وفي حق الإمام مالا يشق على المأمومين، ويحتمل
أن يكون الكمال عشر تسبيحات لأن أنسا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي كصلاة عمر
ابن عبد العزيز فحزروا ذلك بعشر تسبيحات. وقال بعض أصحابنا الكمال أن يسبح مثل قيامه لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قد روى عنه البراء قال قد رمقت محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوجدت
542

قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته ما بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين
التسليم والانصراف قريبا من السواء، متفق عليه. إلا أن البخاري قال ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء
(فصل) وان قال سبحان ربي العظيم وبحمده فلا بأس فإن أحمد بن نصر روى عن أحمد انه
سئل عن تسبيح الركوع والسجود، سبحان ربي العظيم أعجب إليك أو سبحان ربي العظيم وبحمده؟
فقال قد جاء هذا وجاء هذا وما أدفع منه شيئا: وقال أيضا ان قال وبحمده في الركوع والسجود
أرجو أن لا يكون به بأس وذلك لأن حذيفة روى في بعض طرق حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
في ركوعه " سبحان ربي العظيم وبحمده، وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى وبحمده " وهذه زيادة
يتعين الاخذ بها. وروي عن أحمد أنه قال أما أنا فلا أقول وبحمده، وحكى ذلك ابن المنذر عن
الشافعي وأصحاب الرأي، ووجه ذلك أن الرواية بدون هذه الزيادة أشهر وأكثر وهذه الزيادة قال
أبو داود: نخاف أن لا تكون محفوظة. وقيل هذه الزيادة من رواية ابن أبي ليلى، ويحتمل أن أحمد
تركها لضعف ابن أبي ليلى عنده
(فصل) والمشهور عن أحمد أن تكبير الخفض والرفع وتسبيح الركوع والسجود وقول سمع الله
لمن حمده ربنا ولك الحمد وقول ربي اغفر لي بين السجدتين والتشهد الأول - واجب وهو قول
إسحاق وداود. وعن أحمد انه غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسئ في
صلاته ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأنه لو كان واجبا لم يسقط بالسهو كالأركان
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وأمره للوجوب وفعله وقال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقد روى
أبو داود عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تتم صلاة لاحد من الناس
حتى يتوضأ. إلى قوله، ثم يكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى
يستوي قائما، ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا، ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه
حتى يستوي قاعدا، ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر
فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته " وهذا نص في وجوب التكبير، ولان مواضع هذه الأذكار
أركان الصلاة فكان فيها ذكر واجب كالقيام. وأما حديث المسئ في صلاته فقد ذكر في
الحديث الذي رويناه تعليمه ذلك وهي زيادة يجب قبولها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه كل
الواجبات بدليل أنه لم يعلمه التشهد ولا السلام، ويحتمل انه اقتصر على تعليمه ما رآه أساء فيه ولا يلزم
543

من التساوي في الوجوب التساوي في الأحكام بدليل واجبات الحج
(فصل) وإذا كان إماما لم يستحب له التطويل ولا الزيادة في التسبيح. قال القاضي لا يستحب
له التطويل ولا الزيادة على ثلاث كيلا يشق على المأمومين وهذا إذا لم يرضوا بالتطويل فإن كانت الجماعة
يسيرة ورضوا بذلك استحب له التسبيح الكامل على ما ذكرناه وكذلك إن كان وحده.
(فصل) ويكره أن يقرأ في الركوع والسجود لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم
" اني نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا فاما الركوع فعظموا الرب فيه وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء
فقمن أن يستجاب لكم " رواه أبو داود وقوله قمن معناه جدير وحري
(فصل) ومن أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الركوع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك
الركوع فقد أدرك الركعة " رواه أبو داود ولأنه لم يفته من الأركان الا القيام وهو يأتي به مع تكبيرة
الاحرام ثم يدرك مع الإمام بقية الركعة، وهذا إذا أدرك الإمام في طمأنينة الركوع أو انتهى إلى
قدر الاجزاء من الركوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الاجزاء فهذا يعتد له بالركعة ويكون مدركا لها
فاما إن كان المأموم يركع والإمام يرفع لم يجزه وعليه أن يأتي بالتكبيرة منتصبا، فإن أتى بها بعد أن
انتهى في الانحناء إلى قدر الركوع أو ببعضها لم يجزه لأنه أتى بها في غير محلها الا في النافلة ولأنه يفوته
القيام وهو من أركان الصلاة ثم يأتي بتكبيرة أخرى للركوع في حال انحطاطه إليه فالأولى ركن لا تسقط
بحال والثانية تكبيرة الركوع. والمنصوص عن أحمد انها تسقط ههنا ويجزئه تكبيرة واحدة نقلها أبو داود
وصالح وروى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وميمون بن مهران
والنخعي والحكم والثوري والشافعي ومالك وأصحاب الرأي. وعن عمر بن عبد العزيز عليه تكبيرتان
وهو قول حماد بن أبي سليمان والظاهر أنهما أرادا ان الأولى له ان يكبر تكبيرتين فلا يكون قولهما مخالفا
لقول الجماعة فإن عمر بن عبد العزيز قد نقل عنه انه كان ممن لا يتم التكبير ولأنه قد نقلت تكبيرة واحدة
عن زيد بن ثابت وابن عمر ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف فيكون ذلك إجماعا ولأنه اجتمع واجبان
من جنس في محل واحد وأحدهما ركن فسقط به الآخر كما لو طاف الحاج طواف الزيارة عند خروجه
من مكة أجزأه عن طواف الوداع وقال القاضي ان نوى بالتكبير الاحرام وحده أجزأه وان نوى به
الاحرام والركوع فظاهر كلام احمد انه لا يجزئه لأنه شرك بين الواجب وغيره في النية فأشبه ما لو عطس
544

عند رفع رأسه من الركوع فقال ربنا ولك الحمد ينويهما. وقال نص أحمد في هذا انه لا يجزئه وهذا
القول يخالف نصوص احمد فلا يعول عليه. وقد قال في رواية ابنه صالح فيمن جاء والإمام راكع
كبر تكبيرة واحدة، قيل له ينوي بها الافتتاح؟ قال نوى أو لم ينو أليس قد جاء وهو يريد الصلاة؟
ولان نية الركوع لا تنافي نية الافتتاح ولهذا حكمنا بدخوله في الصلاة بهذه النية فلم تؤثر نية الركوع في
فسادها ولأنه واجب يجزئ عنه وعن غيره إذا نواه فلم يمنع صحة نية الواجبين كما لو نوى بطواف
الزيارة له وللوداع ولا يجوز ترك نص الإمام ومخالفته بقياس ما نصه في موضع آخر كما لا يترك نص
كتاب الله تعالى ورسوله بقياس، والمستحب تكبيرة نص عليه احمد، قال أبو داود قلت لأحمد
يكبر مرتين أحب إليك؟ قال: ان كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف.
(فصل) وان أدرك الإمام في ركن غير الركوع لم يكبر إلا تكبيرة الافتتاح وينحط بغير تكبير
لأنه لا يعتد له به وقد فاته محل التكبير. وان أدركه في السجود أو التشهد الأول كبر في حال قيامه مع
الإمام إلى الثالثة لأنه مأموم له فيتابعه في التكبير كمن أدرك معه الركعة من أولها، وان سلم الإمام
قام إلى القضاء بتكبير وبهذا قال مالك والثوري وإسحاق وقال الشافعي: يقوم بغير تكبير لأنه قد
كبر في ابتداء الركعة ولا إمام له يتابعه في التكبير
ولنا أنه قام في الصلاة إلى ركن معتد له به فيكبر كالقائم من التشهد الأول وكما لو قام مع الإمام
ولا يسلم أنه كبر في ابتداء الركعة فإن ما كبر فيه لم يكن من الركعة إذ ليس في أول الركعة سجود
ولا تشهد وإنما ابتداء الركعة قيامه فينبغي أن يكبر فيه.
(فصل) ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته فيه وان لم يعتد له به لما روى أبو هريرة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا،
ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة " رواه أبو داود. وروى الترمذي عن معاذ قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام " والعمل على هذا عند أهل العلم
قالوا إذا جاء الرجل والإمام ساجد فليسجد ولا تجزئه تلك الركعة. قال بعضهم: لعله أن لا يرفع
رأسه من السجدة حتى يغفر له.
* (مسألة) * قال (ثم يقول: سمع الله لمن حمده ويرفع يديه كرفعه الأول)
545

وجملة ذلك أنه إذا فرغ من الركوع رفع رأسه واعتدل قائما حتى يرجع كل عضو إلى موضعه
ويطمئن ويبتدئ الرفع قائلا سمع الله لمن حمده، ويكون انتهاؤه عند انتهاء رفعه، ويرفع يديه لما
روينا من الاخبار. وفي موضع الرفع روايتان (إحداهما) بعد اعتداله قائما، قال أحمد بن الحسين:
رأيت أبا عبد الله إذا رفع رأسه من الركوع لا يرفع يديه حتى يستتم قائما، ووجهه ان في بعض ألفاظ
حديث ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وبعد
ما يرفع رأسه من الركوع، ولأنه رفع فلا يشرع في غير حالة القيام كرفع الركوع والاحرام (والثانية)
يبتدئه حين يبتدئ رفع رأسه لأن أبا حميد قال: في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال
سمع الله لمن حمده ورفع يديه، وفي حديث ابن عمر المتفق عليه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك
ويقول سمع الله لمن حمده، وظاهره انه رفع يديه حين أخذ في رفع رأسه كقوله إذا كبر أي أخذ في
التكبير ولأنه حين الانتقال فشرع الرفع منه كحال الركوع ولأنه محل رفع المأموم فكان محلا لرفع
الإمام كالركوع ولا تختلف الرواية في أن المأموم يبتدئ الرفع عند رفع رأسه لأنه ليس في حقه ذكر
بعد الاعتدال والرفع إنما جعل هيئة للذكر بخلاف الإمام، ثم ينتصب قائما ويعتدل، قال أبو حميد في
صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا رفع رأسه استوى قائما حتى يعود كل فقار إلى مكانه
546

متفق عليه. وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: فكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما
رواه مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم ارفع حتى تعتدل قائما " متفق عليه
(فصل) وهذا الرفع والاعتدال عنه واجب وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك
لا يجب لأن الله تعالى لم يأمر به وإنما أمر بالركوع والسجود والقيام فلا يجب غيره، ولأنه لو كان واجبا
لتضمن ذكرا واجبا كالقيام الأول، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به المسئ في صلاته ودوام على فعله
فيدخل في عموم قوله " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقولهم لم يأمر الله به، قلنا قد أمر بالقيام وهذا قيام
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم يجب امتثاله وقد أمر به، وقولهم لا يتضمن ذكرا واجبا ممنوع ثم هو باطل بالركوع
والسجود فإنهما ركنان ولا ذكر فيهما واجب على قولهم.
(فصل) ويسن الجهر بالتسميع للإمام كما يسن الجهر بالتكبير لأنه ذكر مشروع عند الانتقال
من ركن فيشرع الجهر به للإمام كالتكبير
* (مسألة) * قال (ثم يقول: ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء
ما شئت من شئ بعد)
وجملته انه يشرع قول ربنا ولك الحمد في حق كل مصل في المشهور عن أحمد وهذا قول أكثر
أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وبه قال الشعبي وابن سيرين وأبو بردة والشافعي
547

وإسحاق وابن المنذر، وعن أحمد رواية أخرى لا يقوله المنفرد فإنه قال في رواية إسحاق في الرجل
يصلي وحده فإذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا ولك الحمد فقال إنما هذا للإمام جمعهما وليس
هذا لاحد سوى الإمام، ووجهه ان الخبر لم يرد به في حقه فلم يشرع له كقول سمع الله لمن حمده
في حق المأموم. وقال مال وأبو حنيفة لا يشرع قول هذا في حق الإمام ولا المنفرد لما روى
أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد فإنه
من وافق قوله قول الملائكة غفر له " متفق عليه
ولنا ان أبا هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من
الركوع، ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد، وعن أبي سعيد وابن أبي أوفى ان النبي صلى الله عليه وسلم كان
إذا رفع رأسه قال " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من
شئ بعد " متفق عليه، ولأنه حال من أحوال الصلاة فيشرع فيه ذكر كالركوع والسجود، وما
ذكروه لا حجة لهم فيه فإنه ان ترك ذكره في حديثهم فقد ذكره في أحاديثنا ورواية أبو هريرة قد
صرح بذكره في روايته الأخرى، فحديثهم لو انفرد لم يكن فيه حجة فكيف تترك به الأحاديث
الصحيحة الصريحة. والصحيح ان المنفرد يقول كما يقول الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه
أنه قال لبريدة " يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده ربنا ولك
548

الحمد ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد " رواه الدارقطني وهذا عام في جميع
أحواله، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، رواه أبو هريرة وأبو سعيد وابن أبي أوفى وعلي
ابن أبي طالب وغيرهم وكلها أحاديث صحاح، ولم تفرق الرواية بين كونه إماما ومنفردا ولان ما شرع
من القراءة والذكر في حق الإمام شرع في حق المنفرد كسائر الأذكار
(فصل) والسنة أن يقول " ربنا ولك الحمد " بواو، نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال:
سمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو، وقال روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس وعن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة وعن سالم عن أبيه، وفي حديث علي الطويل وهذا قول مالك، ونقل ابن منصور
عن أحمد إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد فإنه لا يجعل فيها الواو، ومن قال ربنا
قال ولك الحمد وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه أنه قال " ربنا ولك الحمد " كما نقل الإمام، وفي
حديث ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد " وكذلك في
حديث بريدة فاستحب الاقتداء به في القولين، وقال الشافعي السنة أن يقول ربنا لك الحمد لأن الواو
للعطف وليس ههنا شئ يعطف عليه
ولنا أن السنة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولان اثبات الواو أكثر حروفا ويتضمن الحمد مقدرا
ومظهرا فإن التقدير ربنا حمدناك ولك الحمد فإن الواو لما كانت للعطف ولا شئ ههنا تعطف عليه
ظاهرا دلت على أن في الكلام مقدرا كقوله (سبحانك اللهم وبحمدك) أي وبحمدك سبحانك
وكيفما قال جاز وكان حسنا لأن كلا قد وردت السنة به
549

* (مسألة) * قال (فإن كان مأموما لم يزد على قول ربنا ولك الحمد)
لا أعلم في المذهب خلافا أنه لا يشرع للمأموم قول سمع الله لمن حمده وهذا قول ابن مسعود وابن
عمر وأبي هريرة والشعبي ومالك وأصحاب الرأي، وقال ابن سيرين وأبو بردة وأبو يوسف ومحمد والشافعي
وإسحاق يقول ذلك كالإمام لحديث بريدة ولأنه ذكر شرع للإمام فيشرع للمأموم كسائر الأذكار.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد "
وهذا يقتضي أن يكون قولهم: ربنا ولك الحمد عقيب قوله سمع الله لمن حمده بغير فصل لأن الفاء
للتعقيب وهذا ظاهر يجب تقديمه على القياس وعلى حديث بريدة لأن هذا صحيح مختص بالمأموم
وحديث بريدة في اسناده جابر الجعفي (1) وهو عام وتقديم الصحيح الخاص أولى، فأما قول " ملء
السماء " وما بعده فظاهر المذهب أنه لا يسن للمأموم نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره وهو
قول أكثر الأصحاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أمرهم بقول: ربنا ولك الحمد. فدل على أنه
لا يشرع في حقهم سواه، ونقل الأثرم عن أحمد كلاما يدل على أنه مسنون، قال وليس يسقط خلف
الإمام عنه غير سمع الله لمن حمده، وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأنه ذكر مشروع
في الصلاة أشبه سائر الأذكار
(فصل) وموضع قول ربنا ولك الحمد في حق الإمام والمنفرد بعد الاعتدال من الركوع لأنه

(1) أي وهو ضعيف عند الجمهور وان وثقه الثوري وغيره
550

في حال رفعه يشرع في حقه قول سمع الله لمن حمده. فأما المأموم ففي حال رفعه لأن قول النبي صلى
الله عليه وسلم " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده. فقولوا ربنا ولك الحمد " يقتضي تعقيب قول الإمام
قول المأموم والمأموم يأخذ في الرفع عقيب قول الإمام سمع الله لمن حمده فيكون قوله ربنا ولك
الحمد حينئذ والله أعلم.
(فصل) إذا زاد على قول ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد. فقد نقل
أبو الحارث عن أحمد انه ان شاء قال أهل الثناء والمجد قال أبو عبد الله وأنا أقول ذلك فظاهر هذا أنه
يستحب ذلك وهو اختيار أبي حفص وهو الصحيح لأن أبا سعيد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " ربنا
ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال
العبد وكلنا لك عبد: لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " رواه أبو داود
والأثرم، وعن ابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد " اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني
من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " رواه مسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل
القيام بين الركوع والسجود، قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال " سمع الله لمن حمده " قام
حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم، رواه مسلم وليست حالة
سكوت فيعلم أنه عليه السلام قد كان يزيد على هذه الكلمات لكونها لا تستغرق هذا القيام
551

كله، وروي عن أحمد أنه قيل له أفلا يزيد على هذا فيقول: أهل الثناء والمجد فقال قد
روي ذلك وأما أنا فأقول هذا إلى ما شئت من شئ بعد فظاهر هذا أنه لا يستحب ذلك في الفريضة
اتباعا لأكثر الأحاديث الصحيحة
(فصل) إذا قال مكان سمع الله لمن حمده: من حمد الله سمع له لم يجزه. وقال أصحاب الشافعي
يجزئه لأنه أتى باللفظ والمعنى
ولنا أنه عكس اللفظ المشروع فلم يجزه كما لو قال في التكبير الأكبر الله، ولا نسلم أنه أتى بالمعنى
فإن قوله سمع الله لمن حمده صيغة خبر تصلح دعاء، واللفظ الآخر صيغة شرط وجزاء لا تصلح
لذلك فهما متغايران
(فصل) إذا رفع رأسه من الركوع فعطس فقال ربنا ولك الحمد ينوي بذلك لما عطس وللرفع
فروي عن أحمد انه لا يجزئه لأنه لم يخلصه للرفع من الركوع، والصحيح أن هذا يجزئه لأن هذا ذكر
لا تعتبر له النية وقد أتى به فأجزأ كما لو قاله ذا هلا وقلبه غير حاضر وقول احمد يحمل على الاستحباب
لا على نفي الاجزاء حقيقة.
(فصل) إذا أتى بقدر الاجزاء من الركوع فاعترضته علة منعته القيام سقط عنه الرفع لتعذره
ويسجد عن الركوع، فإن زالت العلة قبل سجوده فعليه القيام لا مكانه. فإن زالت بعد سجوده إلى الأرض
سقط القيام لأن السجود قد صح وأجزأ فسقط ما قبله. فإن قام من سجوده عالما بتحريم ذلك بطلت
صلاته وإن فعله جهلا أو نسيانا لم تبطل ويعود إلى جلسة الفصل ويسجد للسهو
(فصل) وإن أراد الركوع فوقع إلى الأرض فإنه يقوم فيركع وكذلك أن ركع وسقط قيل
552

طمأنينته لزمته إعادة الركوع لأنه لم يأت بما يسقط فرضه. وان ركع فاطمأن ثم سقط فإنه يقوم منتصبا
ولا يحتاج إلى إعادة الركوع لأن فرضه قد سقط والاعتدال عنه قد سقط بقيامه
(فصل) إذا ركع ثم رفع رأسه فذكر أنه لم يسبح في ركوعه لم يعد إلى الركوع سواء ذكره قبل
اعتداله قائما أو بعده لأن التسبيح قد سقط برفعه والركوع قد وقع صحيحا مجزئا فلو عاد إليه زاد ركوعا
في الصلاة غير مشروع فإن فعله عمدا أبطل الصلاة كما لو زادة لغير عذر. وان فعله جاهلا أو ناسيا لم
تبطل الصلاة كما لو ظن أنه لم يركع ويسجد للسهو، فإن أدرك المأموم الإمام في هذا الركوع لم يدرك الركعة
لأنه ليس بمشروع في حقه ولأنه لم يدرك ركوع الركعة فأشبه ما لو لم يدركه راكعا
* (مسألة) * قال (ثم يكبر للسجود ولا يرفع يديه)
أما السجود فواجب بالنص والاجماع لما ذكرنا في الركوع، والطمأنينة فيه ركن لقول النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث المسئ في صلاته " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا " والخلاف فيه كالخلاف في طمأنينة الركوع
وينحط إلى السجود مكبرا لما ذكرنا من الاخبار ولان الهوي إلى السجود ركن فلا يخلو من
ذكر كسائر الأركان ويكون ابتداء تكبيره مع ابتداء انحطاطه وانتهاؤه مع انتهائه، والكلام في
التكبير ووجوبه قد مضى، ولا يستحب رفع يديه فيه في المشهور من المذهب. ونقل عنه الميموني
أنه يرفع يديه وسئل عن رفع اليدين في الصلاة فقال: في كل خفض ورفع. وقال: فيه عن ابن
553

عمر وأبي حميد أحاديث صحاح، والصحيح الأول لأن ابن عمر قال: ولا يفعل ذلك في السجود في
حديثه الصحيح. ولما وصف أبو حميد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر رفع اليدين في السجود والأحاديث
العامة مفسرة بالأحاديث المفصلة التي رويناها فلا يبقى فيها اختلاف
* (مسألة) * قال (ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم يداه ثم جبهته وأنفه)
هذا المستحب في مشهور المذهب وقد روي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال مسلم بن
يسار والنخعي وأبو حنيفة والثوري والشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أن يضع يديه قبل ركبتيه واليه
ذهب مالك لما روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سجد أحدكم فليضع يديه
قبل ركبتيه ولا يبرك بروك البعير " رواه النسائي
ولنا ما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه
قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. قال الخطابي:
هذا أصح من حديث أبي هريرة. وروي عن أبي سعيد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا
554

وضع الركبتين قبل اليدين، وهذا يدل على نسخ ما تقدمه، وقد روى الأثرم حديث أبي هريرة
" إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك الفحل "
(فصل) والسجود على جميع هذه الأعضاء واجب إلا الانف فإن فيه خلافا سنذكره إن شاء الله
وبهذا قال طاوس والشافعي في أحد قوليه وإسحاق. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي في القول الآخر
لا يجب، والسجود على الجبهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سجد وجهي " وهذا يدل على أن
السجود على الوجه ولان الساجد على الوجه يسمى ساجدا ووضع غيره على الأرض لا يسمى به
ساجدا والامر بالسجود ينصرف إلى ما يسمى به ساجدا دون غيره ولأنه لو وجب السجود على
هذه الأعضاء لوجب كشفها كالجبهة. وذكر الآمدي هذا رواية عن أحمد قال القاضي في الجامع: هو
ظاهر كلام أحمد فإنه قد نص في المريض يرفع شيئا يسجد عليه انه يجزئه، ومعلوم انه قد أخل
بالسجود على يديه
ولنا ما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت بالسجود على سبعة أعظم:
اليدين والركبتين والقدمين والجبهة " متفق عليه، وروي عن ابن عمر رفعه " ان اليدين يسجدان
كما يسجد الوجه فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه وإذا رفعه فليرفعهما " رواه الإمام أحمد
وأبو داود والنسائي، وسجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه وسقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود
فانا نقول كذلك في الجبهة على رواية، وعلى الرواية الأخرى فإن الجبهة هي الأصل وهي مكشوفة
عادة بخلاف غيرها، فإن أخل بالسجود بعضو من هذه الأعضاء لم تصح صلاته عند من أوجبه وان
555

عجز عن السجود على بعض هذه الأعضاء سجد على بقيتها وقرب العضو المريض من الأرض غاية
ما يمكنه ولم يجب عليه أن يرفع إليه شيئا لأن السجود هو الهبوط ولا يحصل ذلك برفع المسجود عليه
وان سقط السجود على الجبهة لعارض من مرض أو غيره سقط عنه السجود على غيره لأنه الأصل وغيره
تبع له فإذا سقط الأصل سقط التبع ولهذا قال أحمد في المريض يرفع إلى جبهته شيئا يسجد عليه انه يجزئه.
(فصل) في الانف روايتان (إحداهما) يجب السجود عليه وهذا قول سعيد بن جبير وإسحاق
وأبي خيثمة وابن أبي شيبة لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت أن أسجد
على سبعة أعظم، الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين " متفق عليه.
واشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده، وفي لفظ رواه النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت أن أسجد
على سبعة أعظم، الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين " وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما تصيب الجبهة " رواه الأثرم والإمام أحمد
ورواه أبو بكر بن عبد العزيز والدارقطني في الافراد متصلا عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم والصحيح انه مرسل
(والرواية الثانية) لا يجب السجود عليه وهو قول عطاء وطاوس وعكرمة والحسن وابن سيرين
والشافعي وأبي ثور وصاحبي أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمرت ان أسجد على سبعة أعظم "
ولم يذكر الانف فيها. وروي أن جابرا قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على
قصاص الشعر. رواه تمام في فوائده وغيره. وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الانف. وروي عن
556

أبي حنيفة انه ان سجد على أنفه دون جبهته أجزأه. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا سبقه إلى هذا
القول ولعله ذهب إلى أن الجبهة والأنف عضو واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجبهة أشار
أنفه والعضو الواحد يجزئه السجود على بعضه وهذا قول يخالف الحديث الصحيح والاجماع
الذي قبله فلا يصح.
(فصل) ولا تجب مباشرة المصلي بشئ من هذه الأعضاء. قال القاضي: إذا سجد على كور
العمامة أو كمه أو ذيله فالصلاة صحيحة رواية واحدة وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وممن رخص في
السجود على الثوب في الحر والبرد عطاء وطاووس والنخعي والشعبي والأوزاعي ومالك وإسحاق
وأصحاب الرأي. ورخص في السجود على كور العمامة الحسن ومكحول وعبد الرحمن بن يزيد. وسجد
شريح على برنسه، وقال أبو الخطاب لا يجب مباشرة المصلى بشئ من أعضاء السجود الا الجبهة
فإنها على روايتين، وقد روى الأثرم قال: سألت أبا عبد الله عن السجود على كور العمامة فقال:
لا يسجد على كورها ولكن يحسر العمامة وهذا يحتمل المنع وهو مذهب الشافعي لما روي عن خباب
قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا، رواه مسلم ولأنه سجد
على ما هو حامل له أشبه ما إذا سجد على يديه
ولنا ما روى أنس قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر
في مكان السجود، رواه البخاري ومسلم. وعن ثابت بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلى في بني عبد الأشهل وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه يقيه برد الحصى، وفي رواية
فرأيته واضعا يديه على قرنه إذا سجد، رواه ابن ماجة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
557

سجد على كور العمامة وهو ضعيف. وقال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويده
في كمه ولأنه عضو من أعضاء السجود فجاز السجود على حائله كالقدمين، فأما حديث خباب
فالظاهر أنهم طلبوا منه تأخير الصلاة أو تسقيف المسجد أو نحو ذلك مما يزيل عنهم ضرر الرمضاء
في جباههم وأكفهم، وأما الرخصة في السجود على كور العمامة فالظاهر أنهم لم يطلبوه لأن ذلك أنما
طلبه الفقراء ولم يكن لهم عمائم ولا أكمام طوال يتقون بها الرمضاء فكيف يطلبون منه الرخصة فيها؟
ولو احتمل ذلك لكنه لا يتعين فلم يحمل عليه دون غيره ولذلك لم يعملوا به في الأكف، قال أبو إسحاق
المنصوص عن الشافعي أنه لا يجب كشفهما قال: وقد قيل فيه قول آخر أنه يجب وان سجد على
يديه لم يصح رواية واحدة لأنه سجد على عضو من أعضاء السجود فالسجود يؤدي إلى تداخل السجود
بخلاف مسئلتنا وقال القاضي في الجامع: لم أجد عن أحمد نصا في هذه المسألة ويجب أن تكون مبنية
على السجود على غير الجبهة هل هو واجب؟ على روايتين ان قلنا لا يجب جاز كما لو سجد على العمامة
وان قلنا يجب لم يجز لئلا يتداخل محل السجود بعضه في بعض، والمستحب مباشرة المصلى بالجبهة
واليدين ليخرج من الخلاف ويأخذ بالعزيمة قال أحمد: لا يعجبني إلا في الحر والبرد وكذلك قال
إسحاق: وكان ابن عمر يكره السجود على كور العمامة. وكان عبادة بن الصامت يحسر عمامته إذا
قام إلى الصلاة وقال النخعي: أسجد على جبيني أحب إلي
" مسألة " قال (ويكون في سجوده معتدلا)
قال الترمذي أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود وروي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
558

قال " إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب " وقال هو حديث حسن صحيح
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه رواه أبو داود، وفي لفظ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اعتدلوا
في السجود ولا يسجد أحدكم وهو باسط ذراعيه كالكلب " وهذا هو الافتراش المنهي عنه في الحديث
وهو أن يضع ذراعيه على الأرض كما تفعل السباع وقد كرهه أهل العلم وفي حديث أبي حميد " وإذا
سجد سجد غير مفترش ولا قابضهما "
* (مسألة) * قال (ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه،
ويكون على أطراف أصابعه)
وجملته أن من السنة أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه إذا سجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يفعل ذلك في سجوده، قال أبو عبد الله في رسالته جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سجد لو
مرت بهيمة لنفدت وذلك لشدة مبالغته في رفع مرفقيه وعضديه، ورواه أيضا أبو داود في حديث
أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه، ولأبي داود ثم سجد فأمكن أنفه
وجبهته ونحى يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه، وقال أبو إسحاق الشعبي: وصف لنا
البراء السجود فوضع يديه بالأرض ورفع عجيزته وقال هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وقال كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا سجد جخ - والجخ الخاوي رواهما أبو داود والنسائي. ويستحب أن يكون على أطراف
أصابع رجليه ويثنيهما إلى القبلة، قال احمد ويفتح أصابع رجليه ليكون أصابعهما إلى القبلة ويسجد
على صدور قدميه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " ذكر منها أطراف القدمين، وفي لفظ
أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف رجليه القبلة من رواية البخاري
559

ومن رواية الترمذي وفتح أصابع رجليه وهذا معناه ومن رواية أبي داود سجد فانتصب على كفيه
وركبتيه وصدور قدميه وهو ساجد
(فصل) ويستحب أن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين مضمومتي الأصابع بعضها إلى بعض
مستقبلا بهما القبلة ويضعهما حذو منكبيه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لقول أبي حميد ان النبي
صلى الله عليه وسلم وضع كفيه حذو منكبيه. وروى الأثرم قال رأيت أبا عبد الله سجد ويداه بحذاء أذنيه وروي
ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فجعل كفيه بحذاء
أذنيه رواه الأثرم وأبو داود ولفظه ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه والجميع حسن
(فصل) والكمال في السجود على الأرض أن يضع جميع بطن كفيه وأصابعه على الأرض ويرفع
مرفقيه فإن اقتصر على بعض باطنها أجزأه، قال احمد ان وضع من اليدين بقدر الجبهة أجزأه، وإن جعل
ظهور كفيه إلى الأرض وسجد عليهما أو سجد على أطراف أصابع يده فظاهر الخبر أنه يجزئه لأنه أمر
بالسجود على اليدين وقد سجد عليهما وكذلك لو سجد على ظهور قدميه فإنه قد سجد على القدمين
ولا يخلو من إصابة بعض أطراف قدميه الأرض فيكون ساجدا على أطراف قدميه ولكنه يكون تاركا
للأفضل الأحسن لما ذكرنا من الأحاديث في ذلك
(فصل) ويستحب أن يفرق بين ركبتيه ورجليه لما روى أبو حميد قال: وإذا سجد فرج بين
فخذيه غير حامل بطنه على شئ من فخذيه
(فصل) وإذا أراد السجود فسقط على وجهه فماست جبهته الأرض أجزأه ذلك وإن لم ينو
560

إلا أن يقطع نية السجود فلا يجزئه. وإن انقلب على جنبه ثم انقلب فماست جبهته الأرض لم يجزه ذلك إلا أن
ينوي السجود. والفرق بين المسئلتين ان ههنا خرج عن سنن الصلاة وهيآتها ثم كان انقلابه الثاني عائدا
إلى الصلاة فافتقر إلى تجديد النية وفي التي قبلها هو على هيئة الصلاة وسنتها باستدامة النية
" مسألة " قال (ثم يقول سبحان ربي الأعلى ثلاثا وإن قال مرة أجزأه)
الحكم في هذا التسبيح كالحكم في تسبيح الركوع على ما شرحناه، والأصل فيه حديث عقبة
ابن عامر قال: لما نزل (سبح اسم ربك الاعلى) قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في سجودكم "
وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سجد أحدكم فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه "
وعن حذيفة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال " سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات " رواهن ابن ماجة
وأبو داود ولم يقل ثلاث مرات. والحكم في عدده وتطويل السجود على ما ذكرنا في الركوع
(فصل) وان زاد دعاءا مأثورا أو ذكرا مثل ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده " سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر
لي " يتأول القرآن متفق عليه، وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معاذ إذا وضعت
وجهك ساجدا فقل اللهم أعني على شكرك وحسن عبادتك " وقال علي رضي الله عنه " أحب الكلام
إلى الله أن يقول العبد وهو ساجد: رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي، رواهما سعيد في سننه، وعن
561

أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله،
وأوله وآخره، وسره وعلانيته رواه مسلم - فحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقد قال " وأما
السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " حديث صحيح، وقال القاضي لا تستحب
الزيادة على سبحان ربي الأعلى في الفرض، وفي التطوع روايتان لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيه سوى الامر بالتسبيح، وقد ذكرنا هذه الأخبار الصحيحة وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم أحق أن تتبع والامر بالتسبيح لا ينفي الامر بغيره كما أن أمره بالتشهد في الصلاة لم ينف
كون الدعاء مشروعا، ولو ساغ كون الامر بالشئ نافيا لغيره لكان الامر بالدعاء نافيا للتسبيح
لصحة الامر به وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له فيه
* (مسألة) * قال (ثم يرفع رأسه مكبرا)
يعني إذا قضى سجوده رفع رأسه مكبرا وجلس واعتدل ويكون ابتداء تكبيره مع ابتداء رفعه
وانتهاؤه مع انتهائه. وهذا الرفع والاعتدال عنه واجب وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة
562

ليس بواجب بل يكفي عند أبي حنيفة أن يرفع رأسه مثل حد السيف لأن هذه جلسة فصل بين
متشاكلين فلم تكن واجبة كجلسة التشهد الأول.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته " ثم اجلس حتى تطمئن جالسا " متفق عليه ولان النبي
صلى الله عليه وسلم كان يفعله ولم ينقل أنه أخل به. قالت عائشة: وكان - تعني النبي صلى الله عليه وسلم - إذا رفع من السجدة لم
يسجد حتى يستوي قاعدا، متفق عليه. ولأنه رفع واجب فكان الاعتدال عنه واجبا كالرفع من
السجدة الأخيرة ولا يسلم لهم أن جلسة التشهد غير واجبة.
* (مسألة) * قال (فإذا جلس واعتدل يكون جلوسه على رجله اليسرى وينصب
رجله اليمنى)
السنة أن يجلس بين السجدتين مفترشا وهو أن يثني رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها
وينصب رجله اليمنى ويخرجها من تحته ويجعل بطون أصابعه على الأرض معتمدا عليها لتكون أطراف
أصابعها إلى القبلة قال أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها
ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه ثم هوى ساجدا. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي روته
عائشة وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى متفق عليه، ويستحب أن يفتح أصابع رجله اليمنى
فيستقبل بها القبلة ومعناه أن يثنيها نحو القبلة قال الأثرم: تفقدت أبا عبد الله فرأيته يفتح أصابع
رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة. وروى باسناده عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا نعلم إذا جلسنا
في الصلاة أن يفترش الرجل منا قدمه اليسرى وينصب قدمه اليمنى على صدر قدمه فإن كانت
ابهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى يعدلها. وعن ابن عمر قال من سنة الصلاة أن ينصب القدم
اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة رواه النسائي. وقال نافع كان ابن عمر إذا صلى استقبل القبلة
563

بكل شئ حتى بنعليه رواه الأثرم
(فصل) ويكره الاقعاء وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه بهذا وصفه أحمد قال أبو عبيد
هذا قول أهل الحديث. والاقعاء عند العرب جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل الاقعاء الكلب
والسبع. ولا أعلم أحدا قال باستحباب الاقعاء على هذه الصفة، فاما الأول فكرهه علي وأبو هريرة وقتادة
ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وعليه العمل عند أكثر أهل العلم وفعله ابن عمر وقال لا تقتدوا بي
فاني قد كبرت. وقد نقل مهنا عن أحمد أنه قال لا أفعله ولا أعيب من فعله وقال العبادلة كانوا يفعلونه وقال
طاووس رأيت العبادلة يفعلونه ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وعن ابن عباس أنه قال من السنة ان تمس
أليتيك قدميك. وقال طاوس قلنا لابن عباس في الاقعاء على القدمين في السجود فقال هي السنة قال
قلنا انا لنراه جفاء بالرجل فقال هي سنة نبيك رواه مسلم وأبو داود
ولنا ما روى الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقع بين السجدتين " وعن أنس
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب " رواهما
ابن ماجة. وفي صفة جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها وفي
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى وينهى عن عقبة الشيطان وهذه
الأحاديث أكثر وأصح فتكون أولى: وأما ابن عمر فإنه كان يفعل ذلك لكبره ويقول لا تقتدوا بي
* (مسألة) * قال (ويقول رب اغفر لي رب اغفر لي)
المستحب عند أبي عبد الله أن يقول بين السجدتين رب اغفر لي رب اغفر لي يكرر ذلك مرارا
والواجب منه مرة وأدنى الكمال ثلاث. والكمال منه مثل الكمال في تسبيح الركوع والسجود على ما
مضى من اختلاف الروايتين واختلاف أهل العلم مثل ما ذكرنا في تسبيح الركوع والسجود
564

والأصل في هذا ما روى حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السجدتين " رب اغفر لي
رب اغفر لي " احتج به أحمد ورواه النسائي وابن ماجة وروي عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين " اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني " رواه أبو داود وابن
ماجة إلا أنه قال في صلاة الليل وان قال رب اغفر لنا أو اللهم اغفر لنا مكان رب اغفر لي جاز.
* (مسألة) * قال (ثم يكبر ويخر ساجدا)
وجملته أنه إذا فرغ من الجلسة بين السجدتين سجد سجدة أخرى على صفة الأولى سواء وهي
واجبة إجماعا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد سجدتين لم يختلف عنه في ذلك
(فصل) والمستحب أن يكون شروع المأموم في أفعال الصلاة من الرفع والوضع بعد فراغ الإمام
منه ويكره فعله معه في قول أكثر أهل العلم واستحب مالك أن تكون أفعاله مع أفعال الإمام
ولنا ما روى البراء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال " سمع الله لمن حمده " لم نزل
قياما حتى نراه قد وضع جبهته في الأرض ثم نتبعه متفق عليه. وللبخاري لم يحن أحد منا ظهره حتى
يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا ثم نقع سجودا بعده وعن أبي موسى قال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا فقال " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم وليؤمكم أحدكم فإذا
كبر فكبروا - إلى قوله - فإذا ركع فاركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم " فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " فتلك بتلك " رواه مسلم وفي لفظ " فمهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت " وروى
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا، وإذا
ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا
فصلوا جلوسا أجمعون " متفق عليه وقوله " فإذا ركع فاركعوا " يقتضي أن يكون ركوعهم بعد ركوعه
لأنه عقبه به بفاء التعقيب فيكون بعده كقولك جاء زيد فعمرو أي جاء بعده وان وافق إمامه في أفعال
الصلاة فركع وسجد معه أساء وصحت صلاته
(فصل) ولا يجوز أن يسبق أمامه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبقوني بالركوع
ولا بالسجود لا بالقيام ولا بالانصراف " رواه مسلم وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله صورته صورة حمار " متفق
565

عليه ولما روينا من الاخبار في الفصل الذي قبله ولأنه تابع له فلا ينبغي أن يسبقه كما في تكبيرة
الاحرام. فإن سبق إمامه فعليه أن يرفع ليأتي بذلك مؤتما بإمامه. وقد روي عن عمر أنه قال إذا رفع
أحدكم رأسه والإمام ساجد فليسجد وإذا رفع الإمام برأسه فليمكث قدر ما رفع فإن لم يفعل حتى لحقه
الإمام سهوا أو جهلا فلا شئ عليه لأن هذا سبق يسير، وان سبق إمامه عمدا عالما بتحريمه فقال احمد
في رسالته ليس لمن سبق الإمام صلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أما يخشى الذي يرفع رأسه
قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار " ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب
وعن ابن مسعود أنه نظر إلى من سبق الإمام: فقال لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت. وعن ابن
عمر نحو من ذلك قال وأمره بالإعادة لأنه لم يأت بالركن مؤتما بإمامه فأشبه ما لو سبقه بتكبيرة الاحرام
أو السلام. وقال ابن حامد في ذلك وجهان قال القاضي عندي أنه تصح صلاته لأنه اجتمع معه في
الركن فصحت صلاته كما لو ركع معه ابتداء
(فصل) فإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه فقال أبو الخطاب ان فعله عمدا فهل تبطل صلاته؟ على
وجهين لأنه سبقه بركن واحد فأشبه ما لو ركع قبله حسب. وان فعله سهوا فصلاته صحيحة وهل
يعتد بتلك الركعة؟ فيه روايتان فأما ان سبقه بركنين فركع قبله فلما أراد أن يركع رفع فلما أراد
أن يرفع سجد عمدا بطلت صلاته لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة وان فعله سهوا لم تبطل صلاته
لأنه معذور ولم يعتد بتلك الركعة لعدم اقتدائه بإمامه فيها
(فصل) فإن سبق الإمام المأموم بركن كامل مثل أن ركع ورفع قبل ركوع المأموم لعذر من
نعاس أو زحام أو عجلة الإمام فإنه يفعل ما سبق به ويدرك إمامه ولا شئ عليه نص عليه احمد قال
المروذي قلت لأبي عبد الله الإمام إذا سجد فرفع رأسه قبل ان أسجد قال إن كان سجده واحدة
فاتبعه إذا رفع رأسه وهذا لا أعلم فيه خلافا. وان سبقه بركعة كاملة أو أكثر فإنه يتبع إمامه ويقضي
ما سبقه الإمام به قال احمد في رجل نعس خلف الإمام حتى صلى ركعتين قال: كأنه أدرك ركعتين
فإذا سلم الإمام صلى ركعتين، وان سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة ثم زال عذره فالمنصوص عن أحمد
انه يتبع إمامه ولا يعتد بتلك الركعة فإنه قال في رجل ركع إمامه وسجد وهو قائم لا يشعر
ولم يركع حتى سجد الإمام فقال: يسجد معه ويأتي بركعة مكانها، وقال المروذي: قلت لأبي عبد
الله الإمام إذا سجد ورفع رأسه قبل ان اسجد قال إن كانت سجدة واحدة فاتبعه إذا رفع رأسه
566

وإن كان سجدتان فلا يعتد بتلك الركعة، وظاهر هذا انه متى سبقه بركنين بطلت تلك الركعة
وإن سبقه بأقل من ذلك فعله وأدرك إمامه، وقال أصحابنا فيمن زحم عن السجود يوم الجمعة ينتظر
زوال الزحام ثم يسجد ويتبع الإمام ما لم يخف فوات الركوع في الثانية مع الإمام وهذا يقتضي أنه يفعل
ما فاته وإن كان أكثر من ركن واحد وهذا قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله بأصحابه في صلاة
عسفان حين أقامهم خلفه صفين فسجد بالصف الأول والصف الثاني قائم حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى
الثانية فسجد الصف الثاني ثم تبعه وكان ذلك جائزا للعذر فهذا مثله، وقال مالك: ان أدركهم المسبوق
في أول سجودهم سجد معهم واعتد بها وإن علم أنه لا يقدر على الركوع وادراكهم في السجود حتى
يستووا قياما فليتبعهم فيما بقي من صلاتهم ثم يقضي ركعة ثم يسجد للسهو، ونحوه قال الأوزاعي
ولم يجعل عليه سجدتي السهو، والأولى في هذا والله أعلم ما كان على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة
الخوف فإن مالا نص فيه يرد إلى أقرب الأشياء به من المنصوص عليه، وان فعل ذلك لغير عذر
بطلت صلاته لأنه ترك الائتمام بإمامه عمدا والله أعلم.
* (مسألة) * قال (ثم يرفع رأسه مكبرا ويقوم على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه)
وجملته أنه إذا قضى سجدته الثانية نهض للقيام مكبرا والقيام ركن والتكبير واجب في إحدى
الروايتين. واختلفت الرواية عن أحمد هل يجلس للاستراحة فروي عنه لا يجلس وهو اختيار الخرقي
وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وبه يقول مالك والثوري وإسحاق
وأصحاب الرأي، وقال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا وذكر عن عمر وعلي وعبد الله، وقال النعمان
ابن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك أي لا يجلس
قال الترمذي وعليه العمل عند أهل العلم، وقال أبو الزناد: تلك السنة (والرواية الثانية) أنه يجلس
اختارها الخلال وهو أحد قولي الشافعي قال الخلال: رجع أبو عبد الله إلى هذا يعني ترك قوله بترك
الجلوس لما روى مالك بن الحويرث ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود
قبل أن ينهض، متفق عليه. وذكره أيضا أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
567

حديث حسن صحيح فيتعين العمل به والمصير إليه. وقيل إن كان المصلي ضعيفا جلس للاستراحة
لحاجته إلى الجلوس وإن كان قويا لم يجلس لغناه عنه، وحمل جلوس النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان في آخر
عمره عند كبره وضعفه وهذا فيه جمع بين الاخبار، وتوسط بين القولين. فإذا قلنا يجلس فيحتمل
أنه يجلس مفترشا على صفة الجلوس بين السجدتين وهو مذهب الشافعي لقول أبي حميد في صفة صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عضو في موضعه ثم نهض وهذا صريح
في كيفية جلسة الاستراحة فيتعين المصير إليه. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة
أنه يجلس على أليتيه، قال القاضي: يجلس على قدميه وأليتيه مفضيا بهما إلى الأرض لأنه لو جلس
مفترشا لم يأمن السهو فيشك هل جلس عن السجدة الأولى أو الثانية؟ وبهذا يأمن ذلك. وقال
أبو الحسن الآمدي لا يختلف أصحابنا انه لا يلصق أليتيه بالأرض في جلسة الاستراحة بل يجلس
معلقا عن الأرض. وعلى كلتا الروايتين ينهض إلى القيام على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه ولا
يعتمد على يديه، قال القاضي: لا يختلف قوله أنه لا يعتمد على الأرض سواء قلنا يجلس للاستراحة
أو لا يجلس. وقال مالك والشافعي: السنة أن يعتمد على يديه في النهوض لأن مالك بن الحويرث
قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعدا ثم اعتمد على
الأرض رواه النسائي. ولان ذلك أعون للمصلي.
ولنا ما روى وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه
قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه، رواه النسائي والأثرم. وفي لفظ وإذا نهض نهض على
ركبتيه واعتمد على فخذيه. وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل
على يديه إذا نهض في الصلاة، رواهما أبو داود. وقال علي كرم الله وجهه ان من السنة في الصلاة
المكتوبة إذا نهض الرجل في الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخا
كبيرا لا يستطيع، رواه الأثرم. وقال أحمد بذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة ينهض على صدور قدميه، رواه الترمذي
وقال يرويه خالد بن الياس، قال أحمد ترك الناس حديثه ولأنه أشق فكان أفضل كالتجافي والافتراش
568

وحديث مالك محمول على أنه كان من النبي صلى الله عليه وسلم لمشقة القيام عليه لضعفه وكبره فإنه قال عليه السلام
" اني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود "
* (مسألة) * قال (الا أن يشق ذلك عليه فيعتمد بالأرض)
يعني إذا شق عليه النهوض على الصفة التي ذكرناها فلا بأس باعتماده على الأرض بيديه لا نعلم
أحدا خالف في هذا وقد دل عليه حديث مالك بن الحويرث وقول علي رضي الله عنه إلا أن يكون
شيخا كبيرا. ومشقة ذلك تكون لكبر أو ضعف أو مرض أو سمن ونحوه
(فصل) يستحب أن يكون ابتداء تكبيره مع ابتداء رفع رأسه من السجود وانتهاؤه عند اعتداله قائما ليكون
مستوعبا بالتكبير جميع الركن المشروع فيه. وعلى هذا بقية التكبيرات الا من جلس جلسة الاستراحة
569

فإنه ينتهي تكبيره عند انتهاء جلوسه ثم ينهض للقيام بغير تكبير. وقال أبو الخطاب: ينهض مكبرا وليس
بصحيح فإنه يفضي إلى أن يوالي بين تكبيرتين في ركن واحد لم يرد الشرع بجمعهما فيه
* (مسألة) * قال (ويفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى)
يعني يصنع في الركعة الثانية من الصلاة مثل ما صنع في الركعة الأولى على ما وصف لأن النبي
صلى الله عليه وسلم وصف بالركعة الأولى للمسئ في صلاته ثم قال " افعل ذلك في صلاتك كلها " وهذا لا خلاف فيه
نعلمه إلا أن الثانية تنقص النية وتكبيرة الاحرام والاستفتاح لأن ذلك يراد لافتتاح الصلاة وقد روى
مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد
لله رب العالمين ولم يسكت وهذا يدل على أنه لم يكن يستفتح ولا يستعيذ ولا نعلم في ترك هذه الأمور
الثلاثة خلافا فيما عدا الركعة الثالثة، فأما الاستعاذة فاختلفت الرواية عن أحمد فيها في كل ركعة فعنه
أنها تختص بالركعة الأولى وهو قول عطاء والحسن والنخعي والثوري لحديث أبي هريرة هذا ولان
الصلاة جملة واحدة فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة ولذلك اعتبرنا الترتيب في القراءة في
الركعتين فأشبه ما لو سجد للتلاوة في أثناء قراءته فإذا أتى بالاستعاذة في أولها كفى ذلك كالاستفتاح
فعلى هذه الرواية إذا ترك الاستعاذة في الأولى لنسيان أو غيره أتى بها في الثانية والاستفتاح بخلاف
ذلك نص عليه لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة فإذا فات في أولها فات محله والاستعاذة للقراءة وهو
يستفتحها في الثانية، وإن شرع في القراءة قبل الاستعاذة لم يأت بها في تلك الركعة لأنها سنة فات
570

محلها (والرواية الثانية) يستعيذ في كل ركعة وهو قول ابن سيرين والشافعي لقوله (فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) فيقتضي ذلك تكرير الاستعاذة عند تكرير القراءة لأنها مشروعة
للقراءة فتكرر بتكررها كما لو كانت في صلاتين
(فصل) المسبوق إذا أدرك الإمام فيما بعد الركعة الأولى لم يستفتح، وأما الاستعاذة فإن قلنا
تختص بالركعة الأولى لم يستعذ لأن ما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته، فإذا قام للقضاء استفتح
واستعاذ نص على هذا أحمد وان قلنا يستعيذ في كل ركعة استعاذ لأن الاستعاذة في أول قراءة كل
ركعة فإذا أراد المأموم القراءة استعاذ لقول الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)
* (مسألة) * قال (فإذا جلس فيها للتشهد يكون كجلوسه بين السجدتين)
وجملته أنه إذا صلى ركعتين جلس للتشهد وهذا الجلوس والتشهد فيه مشروعان بلا خلاف وقد
نقله الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا متواترا والأمة تفعله في صلاتها. فإن كانت الصلاة مغربا
أو رباعية فهما واجبان فيها على إحدى الروايتين وهو مذهب الليث وإسحاق، والأخرى ليسا بواجبين
وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنهما يسقطان بالسهو فأشبها السنن
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به في حديث ابن عباس فقال: قولوا " التحيات
لله " وسجد للسهو حين نسيه وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وإنما سقط بالسهو إلى بدل فأشبه
جبرانات الحج تجبر بالدم بخلاف السنن ولأنه أحد التشهدين فكان واجبا كالآخر، وصفة الجلوس لهذا
التشهد كصفة الجلوس بين السجدتين يكون مفترشا كما وصفنا وسواء كان آخر صلاته أو لم يكن وبهذا
قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، قال مالك يكون متوركا على كل حال لما روى ابن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركا وقال الشافعي إن كان متوسطا كقولنا
وإن كان آخر صلاته كقول مالك
ولنا حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يعني للتشهد فافترش رجله اليسرى
وأقبل بصدر اليمنى على قبلته. وقال وائل بن حجر قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلما جلس يعني للتشهد افترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ونصب
رجله اليمنى، وهذان حديثان صحيحان حسنان يتعين الاخذ بهما وتقديمهما على حديث ابن مسعود
571

لصحتهما وكثرة رواتهما فإن أبا حميد ذكر حديثه في عشرة من الصحابة فصدقوه وهما متأخران عن
ابن مسعود وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين أبو حميد في حديثه الفرق
بين التشهدين فتكون زيادة والاخذ بالزيادة واجب
" مسألة " قال (ثم يبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى ويده اليمنى على فخذه اليمنى
ويحلق الابهام مع الوسطى ويشير بالسبابة)
وجملته أنه يستحب للمصلي إذا جلس للتشهد وضع اليد اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة
مضمومة الأصابع مستقبلا بجميع أطراف أصابعها القبلة ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى يقبض منها
الخنصر والبنصر ويحلق الابهام مع الوسطى ويشير بالسبابة وهي الإصبع التي تلي الابهام لما روى
وائل بن حجر ان النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم عقد من أصابعه
الخنصر والتي تليها وحلق حلقة بأصبعه الوسطى والابهام ورفع السبابة مشيرا بها قال أبو الحسن
572

الآمدي، وقد روي عن أبي عبد الله انه يجمع أصابعه الثلاث ويعقد الابهام كعقد الخمسين لما
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة
رواه مسلم. وقال الآمدي وروي أنه يبسط الخنصر والبنصر ليكون مستقبلا بهما القبلة، والأول
أولى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ويشير بالسبابة برفعها عند ذكر الله تعالى في تشهده لما رويناه
ولا يحركها لما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه ولا يحركها رواه أبو داود
وفي لفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على
فخذه اليسرى وأشار بأصبعه
* (مسألة) * قال (ويتشهد فيقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك
أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله الا
الله، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، وهو التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم
لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
هذا التشهد هو المختار عند إمامنا وعليه أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن
بعدهم من التابعين قاله الترمذي وبه يقول الثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وكثير من أهل
المشرق، وقال مالك: أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، التحيات لله، الزاكيات لله
573

الصلوات لله، وسائره كتشهد ابن مسعود لأن عمر قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم فلم
ينكروه فكان إجماعا. وقال الشافعي: أفضل التشهد ما روى ابن عباس قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول قولوا " التحيات المباركات، الصلوات
الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله " أخرجه مسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح
إلا أن في رواية مسلم: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد - كفي بين كفيه
كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله. وفي لفظ " إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله - وفيه - فإنكم إذا فعلتم ذلك
فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض " وفيه " فليتخير من المسألة ما شاء " متفق عليه
قال الترمذي حديث ابن مسعود قد روي من غير وجه وهو أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
في التشهد، وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم معه ابن عمر وجابر وأبو موسى وعائشة وعليه أكثر أهل
العلم فتعين الاخذ به وتقديمه، فأما حديث عمر فلم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قوله، وأكثر
أهل العلم على خلافه فكيف يكون اجماعا؟ على أنه ليس الخلاف في اجزائه في الصلاة إنما الخلاف
في الأولى والأحسن، والأحسن تشهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه أصحابه وأخذوا به. وأما
حديث ابن عباس فانفرد به واختلف عنه في بعض ألفاظه ففي رواية مسلم أنه قال وأشهد ان محمدا عبده
574

ورسوله كرواية ابن مسعود ثم رواية ابن مسعود أصح إسنادا وأكثر رواة وقد اتفق على روايته
جماعة من الصحابة فيكون أولى ثم هو متضمن للزيادة وفيه العطف بواو العطف وهو أشهر في كلام
العرب وفيه السلام بالألف واللام وهما للاستغراق، وقال عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال حدثنا
عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد في الصلاة قال وكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ
حروف القرآن الواو والألف وهذا يدل على ضبطه فكان أولى
(فصل) وبأي تشهد تشهد مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز نص عليه أحمد فقال:
تشهد عبد الله أعجب إلي وإن تشهد بغيره فهو جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه الصحابة مختلفا دل
على جواز الجميع كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف. قال القاضي. وهذا يدل على أنه إذا
أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهدات المروية صح تشهده، فعلى هذا يجوز أن يقال أقل ما يجزئ
من التشهد: التحيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أو أن محمدا رسول الله. وقد قال أحمد في
رواية أبي داود إذا قال وأن محمدا عبده ورسوله ولم يذكر وأشهد أرجو أن يجزئه. وقال ابن حامد
رأيت بعض أصحابنا يقول: لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصلاة لقول الأسود فكنا نتحفظه عن عبد الله
كما نتحفظ حروف القرآن، والأول أصح لما ذكرنا. وقول الأسود يدل على أن الأولى والأحسن
الاتيان بلفظه وحروفه وهو الذي ذكرنا أنه المختار، وعلى أن عبد الله كان يرخص في ابدال لفظات
من القرآن فالتشهد أولى فقد روي عنه أن انسانا كان يقرأ عليه (ان شجرة الزقوم طعام الأثيم) فيقول
575

طعام اليتيم فقال له عبد الله: قل طعام الفاجر، فأما ما اجتمعت عليه التشهدات كلها فيتعين الاتيان به
وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولا تستحب الزياة على هذا التشهد ولا تطويله وبهذا قال النخعي والثوري وإسحاق
وعن الشعبي أنه لم ير بأسا أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وكذلك قال الشافعي، وعن
عمر أنه كان إذا تشهد قال: بسم الله خير الأسماء، وعن ابن عمر أنه كان يسمي في أوله وقال زدت
فيه: وحده لا شريك له، وأباح الدعاء فيه بما بدا له، وقال أيوب ويحيى بن سعيد وهشام بقول
عمر في التسمية، وقد روى جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا
السورة من القرآن " بسم الله التحيات لله " وذكر التشهد كتشهد ابن مسعود " أسأل الله الجنة وأعوذ
بالله من النار " رواه النسائي وابن ماجة. وقال مالك: ذلك واسع، وسمع ابن عباس رجلا يقول
بسم الله فانتهره وبه قال مالك وأهل المدينة وابن المنذر والشافعي وهو الصحيح لما روى ابن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم، رواه
أبو داود، والرضف هي الحجارة المحماة يعني لما يخففه، وهذا يدل على أنه لم يطوله ولم يزد على التشهد
شيئا، وروي عن مسروق قال: كنا إذا جلسنا مع أبي بكر كأنه على الرضف حتى يقوم، رواه الإمام أحمد
، وقال حنبل: رأيت أبا عبد الله يصلي فإذا جلس في الجلسة بعد الركعتين أخف الجلوس ثم يقوم
كأنه على الرضف وإنما قصد الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ولأن الصحيح من التشهدات
ليس فيه تسمية ولا شئ من هذه الزيادات فيقتصر عليها ولم تصح التسمية عند أصحاب الحديث
576

ولا غيرها مما وقع الخلاف فيه وان فعله جاز لأنه ذكر.
(فصل) وإذا أدرك بعض الصلاة مع الإمام فجلس الإمام في آخر صلاته لم يزد المأموم على
التشهد الأول بل يكرره نص عليه أحمد فيمن أدرك مع الإمام ركعة قال: يكرر التشهد ولا يصلي
على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدعو بشئ مما يدعى به في التشهد الأخير لأن ذلك إنما يكون في التشهد الذي
يسلم عقيبه وليس هذا كذلك.
* (مسألة) * قال (ثم ينهض مكبرا كنهوضه من السجود)
يعني إذا فرغ من التشهد الأول نهض قائما على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه على ما ذكرناه
في نهوضه من السجود في الركعة الأولى ولا يقدم إحدى رجليه عند النهوض كذلك قال ابن عباس
وكرهه إسحاق وروي عن ابن عباس أن ذلك يقطع الصلاة ورخص فيه مجاهد وإسحاق للشيخ
ولنا أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كرهه ابن عباس ويمكن الشيخ أن يعتمد على يديه فيستغني
عنه ولا تبطل الصلاة به لأنه ليس بعمل كثير ولا وجد فيه ما يقتضي البطلان
(فصل) ثم يصلي الثالثة والرابعة كالثانية إلا أنه لا يقرأ فيهما شيئا بعد الفاتحة ولا يجهر فيهما في
صلاة الجهر وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى
* (مسألة) * قال (فإذا جلس للتشهد الأخير تورك فنصب رجله اليمنى وجعل باطن
رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى ويجعل أليتيه على الأرض)
السنة عند إمامنا رحمه الله التورك في التشهد الثاني واليه ذهب مالك والشافعي وقال الثوري
وأصحاب الرأي يجلس مفترشا كجلوسه في الأول لما ذكرنا من حديث وائل بن حجر وأبي حميد
في صفة جلوس النبي صلى الله عليه وسلم
ولنا قول أبي حميد: حتى إذا كانت الركعة التي يقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وجلس
متوركا على شقه الأيسر. وهذا بيان الفرق بين التشهدين، وزيادة يجب الاخذ بها والمصير إليها
والذي احتجوا به في التشهد الأول ولا نزاع بيننا فيه. وأبو حميد راوي حديثهم بين في حديثه أن
افتراشه كان في التشهد الأول وانه تورك في الثاني فيجب المصير إلى قوله وبيانه. فأما صفة التورك
فقال الخرقي ينصب رجله اليمنى ويجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى ويجعل أليتيه على الأرض
وذكر القاضي مثل ذلك لما روي عن عبد الله بن الزبير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في
الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى رواه مسلم وأبو داود وفي بعض
577

ألفاظ حديث أبي حميد قال جلس النبي صلى الله عليه وسلم على أليتيه وجعل بطن قدمه عند مأبض اليمنى ونصب
قدمه اليمنى، وروى الأثرم في صفته قال رأيت أبا عبد الله يتورك في الرابعة في التشهد فيدخل رجله
اليسرى يخرجها من تحت ساقه الأيمن ولا يقعد على شئ منها وينصب اليمنى ويفتح أصابعه وينحي
عجزه كله ويستقبل بأصابعه اليمنى القبلة وركبته اليمنى على الأرض ملزقة وهكذا ذكر أبو الخطاب
وأصحاب الشافعي وأن أبا حميد قال في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى
إلى الأرض وأخرج قدمه من ناحية واحدة رواه أبو داود وأيهما فعل فحسن
(فصل) وهذا التشهد والجلوس له من أركان الصلاة وممن قال بوجوبه عمر وابنه وأبو مسعود
البدري والحسن والشافعي ولم يوجبه مالك ولا أبو حنيفة الا أن أبا حنيفة أوجب الجلوس قدر التشهد
وتعلقا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه الاعرابي فدل على أنه غير واجب
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقال " قولوا التحيات لله " وأمره يقتضي الوجوب وفعله وداوم
عليه. وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل
عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقولوا السلام على الله ولكن
قولوا التحيات لله " إلى آخره وهذا يدل على أنه فرض بعد أن لم يكن مفروضا وحديث الاعرابي
يحتمل أنه كان قبل أن يفرض التشهد ويحتمل أنه ترك تعليمه لأنه لم يره أساء في تركه
* (مسألة) * قال (ولا يتورك الا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما)
وجملته أن جميع جلسات الصلاة لا يتورك فيها إلا في تشهد ثان. وقال الشافعي يسن التورك في
كل تشهد يسلم فيه وان لم يكن ثانيا كتشهد الصبح والجمعة وصلاة التطوع لأنه تشهد يسن تطويله
فسن فيه التورك كالثاني.
ولنا حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس للتشهد افترش رجله اليسرى ونصب
رجله اليمنى ولم يفرق بين ما يسلم فيه وما لا يسلم. وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كل
ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، رواه مسلم وهذان يقضيان على
كل تشهد بالافتراش إلا ما خرج منه لحديث أبي حميد في التشهد الثاني فيبقى فيما عداه على قضية
الأصل ولان هذا ليس بتشهد ثان فلا يتورك فيه كالأول وهذا لأن التشهد الثاني إنما تورك فيه
للفرق بين التشهدين وما ليس فيه إلا تشهد واحد لا اشتباه فيه فلا حاجة إلى الفرق وما ذكروه من
المعنى إن صح فيضم إليه هذا المعنى الذي ذكرناه ونعلل الحكم بهما. والحكم إذا علل بعلتين لم يجز
تعديه لتعدى أحدهما دون الآخر والله أعلم.
578

(فصل) قيل لأبي عبد الله فما تقول في تشهد سجود السهو فقال يتورك فيه أيضا هو من بقية
الصلاة يعني إذا كان من السجود في صلاة رباعية لأن تشهدها يتورك فيه وهذا تابع له. وقال القاضي
يتورك في كل تشهد لسجود السهو بعد السلام سواء كانت الصلاة رباعية أو ركعتين لأنه تشهد ثان
في الصلاة ويحتاج إلى الفرق بينه وبين تشهد صلب الصلاة. وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل
يجئ فيدرك مع الإمام ركعة فيجلس الإمام في الرابعة أيتورك معه الرجل الذي جاء في هذه الجلسة؟
فقال إن شاء تورك. قلت فإذا قام يقضي يجلس في الرابعة هو فينبغي له أن يتورك؟ فقال نعم يتورك
هذا لأنها هي الرابعة له نعم يتورك ويطيل الجلوس في التشهد الأخير. قال القاضي قوله إن شاء تورك
على سبيل الجواز لأنه مسنون وقد صرح في رواية مهنا فيمن أدرك من صلاة الظهر ركعتين لا يتورك
الا في الأخيرتين ويحتمل أن يكون هذان روايتين.
" مسألة " قال (ويتشهد بالتشهد الأول ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم انك حميد مجيد، وبارك على
محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم انك حميد مجيد)
وجملته أنه إذا جلس في آخر صلاته فإنه يتشهد بالتشهد الذي ذكرناه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
كما ذكر الخرقي، وهي واجبة في صحيح المذهب وهو قول الشافعي وإسحاق، وعن أحمد أنها
غير واجبة. قال المروذي: قيل لأبي عبد الله ان ابن راهويه يقول: لو أن رجلا ترك الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بطلت صلاته قال ما أجترئ أن أقول هذا، وقال في موضع هذا
579

شذوذ، وهذا يدل على أنه لم يوجبها، وهذا قول مالك والثوري وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم
قال ابن المنذر: هو قول جل أهل العلم الا الشافعي وكان إسحاق يقول لا يجزئه إذا ترك ذلك عامدا
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول لأنني لا أجد الدلالة موجودة في ايجاب الإعادة عليه، واحتجوا
بحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد ثم قال " إذا قلت هذا أو قضيت هذا
فقد تمت صلاتك " وفي لفظ " وقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم، وان شئت أن تقعد
فاقعد " رواه أبو داود، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع "
رواه مسلم أمرنا بالاستعاذة عقيب التشهد من غير فصل ولان الصحابة كانوا يقولون في التشهد قولا
فنقلهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلى التشهد وحده فدل على أنه لا يجب غيره ولان الوجوب من
الشرع ولم يرد بايجابه، وظاهر مذهب أحمد وجوبه فإن أبا زرعة الدمشقي نقل عن أحمد أنه قال: كنت
أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة واجبة فظاهر هذا أنه رجع عن قوله الأول إلى هذا لما روى كعب
ابن عجرة قال: ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم فكيف
نصلي عليك قال " قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم انك حميد مجيد
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم انك حميد مجيد " متفق عليه، وروى
الأثرم عن فضالة بن عبيد: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد ربه ولم
يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " عجل هذا " ثم دعاه النبي صلى الله
عليه وسلم فقال " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم
ثم ليدع بعد بما شاء " ولان الصلاة عبادة شرط فيها ذكر الله تعالى بالشهادة فشرط ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم كالاذان. فأما حديث ابن مسعود. فقال الدارقطني: الزيادة فيه من كلام ابن مسعود
580

(فصل) وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الخرقي لما روينا من حديث كعب
ابن عجرة، وقد رواه النسائي كذلك إلا أنه قال " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وكما باركت
على إبراهيم وآل إبراهيم " وفي رواية " كما صليت على إبراهيم انك حميد مجيد، وكما باركت على
إبراهيم انك حميد مجيد " قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. وفي رواية ابن مسعود " كما
صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين انك حميد مجيد "
رواه مسلم، وعن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قولوا اللهم صلى على محمد وعلى أزواجه وذريته
كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم انك
حميد مجيد " رواه البخاري. والأولى أن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الصفة التي
ذكر الخرقي لأن ذلك حديث كعب بن عجرة وهو أصح حديث روي فيها، وعلى أي صفة أتى بالصلاة
عليه مما ورد في الاخبار جاز كقولنا في التشهد، وظاهره أنه إذا أخل بلفظ ساقط في بعض الأخبار
جاز لأنه لو كان واجبا لما أغفله النبي صلى الله عليه وسلم، قال القاضي أبو يعلى: ظاهر كلام أحمد
أن الصلاة واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حسب (1) لقوله في خبر أبي زرعة الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم أمر من تركها أعاد الصلاة ولم يذكر الصلاة على آله وهذا مذهب الشافعي ولهم في
وجوب الصلاة على آله وجهان، وقال بعض أصحابنا: تجب الصلاة على الوجه الذي في خبر كعب
لأنه أمر به والامر يقتضي الوجوب والأول أولى، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بهذا حين
سألوه تعليمهم ولم يبتدئهم به.

(1) يقابل كلام القاضي هنا بما في الشرح الكبير وهو في أدنى الصفحة
581

(فصل) آل النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه كما قال الله تعالى (ادخلوا آل فرعون * يعني أتباعه
من أهل دينه وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل من آل محمد؟ فقال " كل تقي " أخرجه
تمام في فوائده (1) وقيل آله أهله الهاء منقلبة عن الهمزة كما يقال: أرقت الماء وهرقته، فلو قال وعلى
أهل محمد مكان آل محمد أجزأه عند القاضي وقال معناهما واحد ولذلك لو صغر قيل أهيل قال ومعناهما
جميعا أهل دينه، وقال ابن حامد وأبو حفص لا يجزئ لما فيه من مخالفة لفظ الأثر وتغيير المعنى
فإن الأهل إنما يعبر به عن القرابة والآل يعبر به عن الاتباع في الدين.
(فصل) وأما تفسير التحيات فروي عن ابن عباس قال التحية العظمة والصلوات الصلوات الخمس
والطيبات الأعمال الصالحة، وقال أبو عمرو: التحيات الملك وأنشد
ولكل ما نال الفتى * قد نلته إلا التحية
وقال بعض أهل اللغة: التحية البقاء واستشهد بهذا البيت، وقال ابن الأنباري: التحيات
السلام والصلوات الرحمة والطيبات من الكلام.
(فصل) والسنة إخفاء التشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر به إذ لو جهر به لنقل
كما نقلت القراءة، وقال عبد الله بن مسعود: من السنة اخفاء التشهد، رواه أبو داود ولأنه ذكر غير
القراءة لا ينتقل به من ركن إلى ركن فاستحب اخفاؤه كالتسبيح ولا نعلم في هذا خلافا
(فصل) ولا يجوز لمن قدر على العربية التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها
لما ذكرنا في التكبير فإن عجز عن العربية تشهد بلسانه (2) كقولنا في التكبير ويجئ على قول القاضي

(1) هو ضعيف كما أشار إليه في الجامع الصغير. وفي كتاب الفروع.
وآله قيل أتباعه على دينه وقيل أزواجه وعشيرته وقيل بنو هاشم وقال شيخنا: أهل
بيته وانه نص أحمد واختيار الشريف أبي جعفر وغيره الخ وشيخه أحمد تقي الدين
بن تيمية ويؤيده روايات وضع الأزواج والذرية موضع الآل وهي متفق عليها
(2) العجز إنما يكون لبعض الافراد الثقيلي اللسان موقتا في الغالب ودائما
في النادر وهو لاحكم له ولا يأتي ذلك في الجماعات والشعوب بل يجب على جميع
المسلمين التشهد وسائر الأذكار بالعربية كتلاوة القرآن كما تقدم بسطه في الكلام على قراءة الفاتحة في الصلاة وصرح به المصنف هنا أيضا في السطرين الذين بعد هذا
582

أن لا يتشهد وحكمه حكم الأخرس. ومن قدر على تعلم التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لزمه ذلك لأنه
من فروض الأعيان فلزمه كالقراءة فإن صلى قبل تعلمه مع إمكانه لم تصح صلاته وإن خاف فوات
الوقت أو عجز عن تعلمه أتى بما يمكنه منه وأجزأه للضرورة وإن لم يحسن شيئا بالكلية سقط كله
(فصل) والسنة ترتيب التشهد وتقديمه على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعل وأتى به منكسا من غير
تغيير شئ من معانيه ولا إخلال بشئ من الواجب فيه ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه ذكره القاضي
وهو مذهب الشافعي لأن المقصود المعنى وقد حصل فصح كما لو رتبه (والثاني) لا يصح لأنه أخل
بالترتيب في ذكر ورد الشرع به مرتبا فلم يصح كالاذان (1)
* (مسألة) * قال (ويستحب أن يتعوذ من أربع فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، أعوذ بالله
من عذاب القبر، أعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال، أعوذ بالله من فتنة المحيا والممات)
وذلك لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو " اللهم إني أعوذ بك من
عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " متفق عليه
ولمسلم إذا تشهد أحدكم فليستعذ من أربع وذكره
* (مسألة) * قال (وإن دعا في تشهده بما ذكر في الاخبار فلا بأس)
وجملته أن الدعاء في الصلاة بما وردت به الاخبار جائز. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله ان

(1) هذا هو الحق ومقتضى الأول جواز قراءة السورة قبل الفاتحة
ودعاء الافتتاح بعدهما وهو باطل اجماعا بل بداهة لأنه قلب لصورة الصلاة:
والترتيب هنا أولى من الترتيب في الوضوء الذي يوجبه الشافعية إذ المقصود به
النظافة ولادخل للترتيب فيها وإنما وجب لأن الله تعالى ذكره مرتبا وهو عبادة
لا مجال للرأي فيها والاتباع فيها تعبد وأذكار الصلاة أعرق فيه من مقدماتها ووسائلها كالطهارة
583

هؤلاء يقولون لا يدعو في المكتوبة إلا بما في القرآن، فنقض يده كالمغضب فقال: من يقف على هذا
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قالوا؟ قلت لأبي عبد الله إذا جلس في الرابعة يدعو
بعد التشهد بما شاء؟ قال بما شاء لا أدري ولكن يدعو بما يعرف وبما جاء، فقلت على حديث عمرو بن سعد
قال سمعت عبد الله يقول إذا جلس أحدكم في صلاته ذكر التشهد ثم ليقل: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت
منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه ومال لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون
وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم
القيامة إنك لا تخلف الميعاد. رواه الأثرم، وعن عبد الله قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة
من القرآن، قال وعلمنا أن نقول: اللهم أصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور،
واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أبصارنا وأسماعنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا
وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين عليك بها قابليها وأتمها علينا.
رواه أبو داود، وعن أبي بكر الصديق أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي،
قال " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب الا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك
584

وارحمني انك أنت الغفور الرحيم " متفق عليه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل
" ما تقول في الصلاة؟ قال أتشهد ثم اسأل الله الجنة وأعوذ به من النار. أما والله ما أحسن دندنتك
ولا دندنة معاذ فقال " حولها ندندن " رواه أبو داود. وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد
فقال في آخره اسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار " وقول الخرقي بما ذكر في الاخبار يعني أخبار النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف رحمة الله عليهم، فإن احمد ذهب إلى حديث ابن مسعود في الدعاء وهو
موقوف عليه. وقال يدعو بما جاء وبما يعرف ولم يقيده بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الله بن أحمد
سمعت أبي يقول في سجوده: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك
وقال كان عبد الرحمن يقوله في سجوده، وقال سمعت الثوري يقوله في سجوده
(فصل) ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها بما يشبه كلام الآدميين
وأمانيهم مثل اللهم ارزقني جارية حسناء، ودارا قوراء وطعاما طيبا وبستانا أنيقا، وقال الشافعي:
يدعو بما أحب لقوله عليه السلام في حديث ابن مسعود في التشهد " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه "
متفق عليه ولمسلم " ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء أو ما أحب " وفي حديث أبي هريرة " إذا تشهد
أحدكم فليتعوذ من أربع ثم يدعو لنفسه ما بدا له "
ولنا قوله عليه السلام " ان صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين إنما هي التسبيح
585

والتكبير وقراءة القرآن أخرجه مسلم وهذا من كلام الآدميين ولأنه كلام آدمي يخاطب بمثله أشبه
تشميت العاطس ورد السلام (1) والخبر محمول على أنه يتخير من الدعاء المأثور وما أشبهه
(فصل) فأما الدعاء بما يتقرب به إلى الله عز وجل مما ليس بمأثور ولا يقصد به ملاذ الدنيا
فظاهر كلام الخرقي وجماعة من أصحابنا أنه لا يجوز ويحتمله كلام أحمد، لقوله ولكن يدعو بما جاء
وبما يعرف وحكى عنه ابن المنذر أنه قال لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه من حوائج دنياه وآخرته
وهذا هو الصحيح إن شاء الله لظواهر الأحاديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم ليتخير من الدعاء " وقوله
ثم يدعو لنفسه بما بداله، وقوله ثم يدعو بعد بما شاء. وروي عن أنس قال جاءت أم سليم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال " احمدي الله عشرا وسبحي الله عشرا
ثم سلي ما شئت " يقول نعم نعم نعم رواه الأثرم، ولان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون في صلاتهم
بما لم يتعلموه فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل " ما تقول في صلاتك؟ " قال
أتشهد ثم اسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ذلك من غير أن يكون علمه
إياه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء " لم يعين لهم ما يدعون به فدل على
أنه أباح لهم كل الدعاء الا ما خرج منه بالدليل في الفصل الذي قبل هذا، وقد روي عن عائشة أنها
كانت إذا قرأت (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) قالت: من علينا وقنا عذاب السموم، وعن
جبير بن نفير أنه سمع أبا الدرداء وهو يقول في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد أعوذ بالله من النفاق
ولأنه دعاء يتقرب به إلى الله تعالى فأشبه الدعاء المأثور.
(فصل) وهل يجوز أن يدعو لانسان بعينه في صلاته على روايتين (إحداهما) يجوز قال الميموني
سمعت أبا عبد الله يقول لابن الشافعي: أنا أدعو لقوم منذ سنين في صلاتي أبوك أحدهم. وقد روي

(1) المراد بكلام الناس في الحديث مخاطبتهم بتوجيه الكلام إليهم
لا مخاطبة الله تعالى بالدعاء المأذون به في الأحاديث الصحيحة بدليل ان سبب
الحديث الذي ذكره هو أن معاوية بن الحكم السلمي رواية شمت عاطسا وهو يصلي مع
النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه الصحابة بالضرب على أفخاذهم فلما فرغ
النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال له ما ذكر. فإن سلمنا انه يدخل في عمومه
ما ذكر خلافا للظاهر المتبادر كان لنا أن نقول أن الأحاديث الصحيحة بالأدعية
المعينة والمطلقة قد خصصت هذا العموم وقد كان تحريم الكلام بمكة وأكثر ما ورد من الأدعية كان في المدينة وقد صحح المصنف هذا
وأطال في ايراد الروايات فيه وبهذا يفضل هؤلاء الفقهاء الحنابلة غيرهم في ايثار الدليل على المذهب
586

ذلك عن علي وأبي الدرداء واختاره ابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته " اللهم انج الوليد بن
الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين " ولأنه دعاء لبعض المؤمنين
فأشبه ما لو قال " رب اغفر لي ولوالدي " (والأخرى) لا يجوز وكرهه عطاء والنخعي لشبهه بكلام
الآدميين ولأنه دعاء لمعين فلم يجز كتشميت العاطس وقد دل على المنع من تشميت العاطس حديث
معاوية بن الحكم السلمي.
(فصل) ويستحب للمصلي نافلة إذا مرت به آية رحمة أن يسألها أو آية عذاب أن يستعيذ
منها لما روى حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي
سجوده " سبحان ربي الأعلى " وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها وسأل ولا بآية عذاب إلا وقف
عندها فتعوذ. رواه أبو داود. وعن عوف بن مالك قال قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام
فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ قال: ثم ركع بقدر
قيامه يقول في ركوعه " سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة " رواه أبو داود ولا يستحب
ذلك في الفريضة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في فريضة مع كثرة من وصف قراءته فيها.
(فصل) ويستحب للإمام أن يرتل القراءة والتسبيح والتشهد بقدر ما يرى أن من خلفه ممن
يثقل لسانه قد أتى عليه وأن يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يرى أن الكبير والصغير والثقيل قد
أتى عليه فإن خالف وأتى بقدر ما عليه كره وأجزأه ولا يستحب له التطويل كثيرا فيشق على من
خلفه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أم الناس فليخفف " وأما المنفرد فله الإطالة في ذلك كله
ما لم يخرجه إلى حال يخاف السهو فتكره الزيادة عليه فقد روي عن عمار أنه صلى صلاة أوجز فيها
فقيل له في ذلك فقال: أنا أبادر الوسواس. ويستحب للإمام إذا عرض في الصلاة عارض لبعض
المأمومين يقتضي خروجه أن يخفف فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني لا قوم في الصلاة وأنا أريد
أن أطول فيها فاسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه " رواه أبو داود
587

* (مسألة) * قال (ثم يسلم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك)
وجملته أنه إذا فرغ من صلاته وأراد الخروج منها سلم عن يمينه وعن يساره وهذا التسليم واجب
لا يقوم غيره مقامه وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يتعين السلام للخروج من الصلاة
بل إذا خرج بما ينافي الصلاة من عمل أو حدث أو غير ذلك جاز إلا أن السلام مسنون وليس بواجب
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسئ في صلاته ولو وجب لامره به لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
ولان إحدى التسليمتين غير واجبة فكذلك الأخرى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " ولان النبي صلى الله عليه وسلم
كان يسلم من صلاته ويديم ذلك ولا يخل به وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولان الحدث ينافي
الصلاة فلا يجب فيها وحديث الاعرابي أجبنا عنه فيما مضى
(فصل) ويشرع أن يسلم تسليمتين عن يمينه ويساره روي ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي
وعمار وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال نافع بن عبد الحارث وعلقمة وأبو عبد الرحمن السلمي
وعطاء والشعبي والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال ابن عمر وأنس وسلمة
ابن الأكوع وعائشة والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي يسلم تسليمة واحدة
588

وقال عمار بن أبي عمار كان مسجد الأنصار يسلمون فيه تسليمتين وكان مسجد المهاجرين يسلمون
فيه تسليمة ولما روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه،
وعن سلمة بن الأكوع قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فسلم تسليمة واحدة، رواهما ابن
ماجة، ولان التسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة فلم يشرع ما بعدها كالثانية
ولنا ما روى ابن مسعود قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه ويساره وعن
جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من
على يمينه وشماله " رواهما مسلم، وفي لفظ لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه " السلام
عليكم ورحمة الله " وعن يساره " السلام عليكم ورحمة الله " قال الترمذي حديث ابن مسعود حديث
حسن صحيح، وحديث عائشة يرويه زهير بن محمد وقال البخاري يروي مناكير، وقال أبو حاتم
الرازي هذا حديث منكر، وسأل الأثرم أحمد عن هذا الحديث فقال: كان يقول هشام كان يسلم
تسليمة يسمعنا، قيل له انهم مختلفون فيه عن هشام بعضهم يقول تسليما وبعضهم يقول تسليمة، قال
هذا أجود فقد بين أحمد أن معنى الحديث يرجع إلى أنه يسمعهم التسليمة الواحدة ومن روى تسليما
فلا حجة لهم فيه فإنه يقع على الواحدة والثنتين وعلى أن أحاديثنا تتضمن زيادة على أحاديثهم والزيادة
من الثقة مقبولة ويجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين ليبين الجائز والمسنون ولان الصلاة عبادة ذات
احرام واحلال فجاز أن يكون لها تحللان كالحج
(فصل) والواجب تسليمة واحدة والثانية سنة، قال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من
589

أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وقال القاضي في رواية أخرى أن الثانية
واجبة وقال هي أصح لحديث جابر بن سمرة ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها ويداوم عليها ولأنها عبادة لها
تحللان فكانا واجبين كتحللي الحج، ولأنها إحدى التسليمتين فكانت واجبة كالأولى، والصحيح ما ذكرناه
وليس نص أحمد بصريح بوجوب التسليمتين إنما قال: التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه. ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية والاستحباب دون الايجاب
كما ذهب إلى ذلك غيره وقد دل عليه قوله في رواية مهنا أعجب إلي التسليمتان، ولان عائشة وسلمة بن
الأكوع وسهل بن سعد قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة وكان المهاجرون
يسلمون تسليمة واحدة ففيما ذكرناه جمع بين الاخبار وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في
أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين والواجب واحدة وقد دل على صحة هذا الاجماع الذي
حكاه ابن المنذر فلا معدل عنه. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يحمل على المشروعية والسنة فإن
أكثر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة مسنونة غير واجبة (1) فلا يمتنع حمل فعله لهذه التسليمة على
السنة عند قيام الدليل عليها والله أعلم، ولان التسليمة الواحدة يخرج بها من الصلاة فلم يجب عليه شئ
آخر فيها، ولأن هذه صلاة فتجزئه فيها تسليمة واحدة ولأن هذه واحدة كصلاة الجنازة والنافلة،
وأما قوله في حديث جابر " إنما يكفي أحدكم " فإنه يعني في إصابة السنة بدليل أنه قال أن يضع يده على
فخذه ثم يسلم على أخيه عن يمينه وشماله وكل هذا غير واجب، وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الصلاة
المفروضة. أما صلاة الجنازة والنافلة وسجود التلاوة فلا خلاف في أنه يخرج منها بتسليمة واحدة،

(1) في هذا نظر وإن كان مراده بالافعال ما يشمل الأقوال بقرينة ذكرها في سياق الكلام على التسليم
590

قال القاضي هذا رواية واحدة نص عليه احمد في صلاة الجنازة وسجود التلاوة ولان أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم لم يسلموا في صلاة الجنازة إلا تسليمة واحدة والله أعلم
(فصل) والسنة أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم كذلك في رواية
ابن مسعود وجابر بن سمرة وغيرهما وقد روى وائل بن حجر قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان
يسلم عن يمينه " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - وعن شماله - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " رواه أبو داود،
وإن قال ذلك فحسن والأول أحسن لأن رواته أكثر وطرقه أصح. فإن قال السلام عليكم ولم يزد
فظاهر كلام أحمد انه يجزئه نص عليه أحمد في صلاة الجنازة وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " تحليلها التسليم " والتحليل يحصل بهذا القول وقد روي عن سعد قال: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسلم عن يمينه وشماله حتى أرى بياض خده " السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله "
رواه أبو داود، وروى عبد الله بن زيد نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن علي رضي الله عنه انه كان يسلم
عن يمينه وعن يساره السلام عليكم السلام عليكم رواهما سعيد، ولان ذكر الرحمة تكرير للثناء فلم يجب كقوله
وبركاته، وقال ابن عقيل: الأصح انه لا يجزئه لأن الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول " السلام عليكم
ورحمة الله " ولأنه سلام في الصلاة ورد مقرونا بالرحمة فلم يجز بدونها كالتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد
(فصل) فإن نكس السلام فقال عليكم السلام لم يجزه. قال القاضي: فيه وجه آخر أنه يجزئ
وهو قول الشافعي لأن المقصود يحصل وليس هو بقرآن يعتبر فيه النظم
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله مرتبا وأمر به كذلك قال لأبي تميمة " لا تقل عليك السلام فإن عليك
السلام تحية الموتى " رواه أحمد في المسند ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة فلم يجز منكسا كالتكبير
591

(فصل) فإن قال سلام عليكم بالتنوين فهل يجزئه؟ فيه وجهان (أحدهما) يجزئه وهو مذهب
الشافعي لأن التنوين قام مقام الألف واللام ولان أكثر ما ورد في القرآن من السلام بغير ألف ولام كقوله تعالى
(سلام عليكم بما صبرتم) وقوله (يقولون سلام عليكم) وقوله (وقال لهم خزنتها سلام عليكم) ولأنا أجزنا التشهد
بتشهد ابن عباس وأبي موسى وفيهما سلام عليك بغير ألف ولام والتسليمتان واحد (والآخر) لا يجزئ
لأنه بغير صيغته ويخل بالألف واللام المقتضية للاستغراق فلا يقوم التنوين مقامها كما في التكبير، قال
أبو الحسن الآمدي: لافرق بين التنوين وعدمه لأن حذف التنوين لا يخل بالمعنى بدليل ما لو وقف عليه
(فصل) ويسن أن يلتفت عن يمينه في التسليمة الأولى وعن يساره في الثانية كما جاءت السنة
قال ابن مسعود: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره، ويكون
التفاته في الثانية أوفى لما روى يحيى بن محمد بن صاعد باسناده عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم
عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن وإذا سلم عن يساره يرى بياض خده الأيمن والأيسر، ورواه
أبو بكر باسناده عن ابن مسعود. وقال عبد الله بن أحمد قال أبي: ثبت عندنا من غير وجه عن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خديه. قال ابن عقيل: يبتدئ بقوله
السلام عليكم إلى القبلة ثم يلتفت قائلا ورحمة الله عن يمينه ويساره لقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تلقاء
وجهه معناه ابتداء السلام ورحمة الله يكون في حال التفاته
(فصل) وقد روي عن أحمد رحمه الله انه يجهر بالتسليمة الأولى وتكون الثانية أخفى من الأولى
يعني بذلك في حق الإمام، قال صالح بن علي: سئل أحمد أي التسليمتين أرفع؟ قال: الأولى وفي
لفظ قال: قال أبو عبد الله: التسليمة الأولى أرفع من الأخرى، قال القاضي أبو الحسين واختار
هذه الرواية أبو بكر الخلال وأبو حفص العكبري، وحمل أحمد حديث عائشة انه كان يسلم تسليمة
592

واحدة على أنه كان يجهر بواحدة فتسمع منه. والمعنى في ذلك أن الجهر في غير القراءة إنما شرع للاعلام
بالانتقال من ركن إلى ركن وقد حصل العلم بالجهر بالتسليمة الأولى فلا يشرع الجهر بغيرها وكان ابن
حامد يخفي الأولى ويجهر بالثانية لئلا يسبقه المأمومون بالسلام
(فصل) وقد روى أبو داود والترمذي باسنادهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حذف السلام
سنة. قال ابن المبارك معناه ان لا يمده مدا. قال أحمد هذا حديث حسن صحيح وهذا الذي يستحبه
أهل العلم، قال إبراهيم النخعي التكبير جزم والسلام جزم وقد روي أن معنى هذا الحديث إخفاء التسليمة
الثانية، والصحيح الأول لأن الحذف إسقاط بعض الشئ والجزم قطع له فيتفق معناهما والاخفاء بخلافه
ويختص ببعض السلام دون جملته. قال أحمد بن أثرم سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول حذف
السلام سنة هو أن لا يطول بها صوته وطول أبو عبد الله صوته
(فصل) وينوي بسلامه الخروج من الصلاة فإن لم ينو فقال ابن حامد تبطل صلاته وهو ظاهر نص
الشافعي لأنه نطق في أحد طرفي الصلاة فاعتبرت له النية كالتكبير، والمنصوص عن أحمد رحمه الله أنه لا تبطل
صلاته وهو الصحيح لأن نية الصلاة قد شملت جميع الصلاة والسلام من جملتها ولأنه لو وجبت النية في السلام
لوجب تعيينها كتكبيرة الاحرام ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقياس الطرف
الأخير على الطرف الأول غير صحيح فإن النية اعتبرت في الطرف الأول لينسحب حكمها على بقية الأجزاء
593

بخلاف الأخير ولذلك أفرق الطرفان في سائر العبادات. قال بعض أصحابنا ينوي بالتسليمتين معا الخروج
من الصلاة فإن نوى مع ذلك الرد على الملكين وعلى من خلفه إن كان إماما أو على الإمام ومن معه إن كان
مأموما فلا بأس نص عليه أحمد فقال يسلم في الصلاة وينوي في سلامه الرد على الإمام لما روى مسلم عن
جابر بن سمرة قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا سلمنا السلام عليكم السلام عليكم (1) فنظر
إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت
إلى صاحبه ولا يومئ بيده " وفي لفظ " إنما يكفي أحدكم ان يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من
على يمينه وشماله " وروى أبو داود قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام وأن يسلم بعضنا على
بعض. وهذا يدل على أنه يسن أن ينوي بسلامه على من معه من المصلين وهو مذهب الشافعي
وأبي حنيفة. وقال أبو حفص بن المسلم من أصحابنا ينوي بالأولى الخروج من الصلاة وينوي بالثانية
السلام على الحفظة والمأمومين إن كان إماما والرد على الإمام والحفظة إن كان مأموما. وقال ابن حامد
ان نوى ذلك في السلام مع نية الخروج من الصلاة فهل تبطل صلاته؟ على وجهين. والصحيح ما ذكرناه
فإن أحمد رحمه الله قال في رواية يعقوب يسلم للصلاة وينوي في سلامه الرد على الإمام. رواها أبو بكر
الخلال في كتابه. وقال في رواية إسحاق بن هاني إذا نوى بتسليمه الرد على الحفظة أجزأه. وقال أيضا
ينوي بسلامه الخروج من الصلاة قيل له فإن نوى الملكين من خلفه؟ قال لا بأس والخروج من الصلاة نختار
وقد ذكرنا من الحديث ما يدل على مشروعية ذلك والله أعلم
(فصل) ويستحب ذكر الله والدعاء عقيب سلامه ويستحب من ذلك ما ورد به الأثر مثل

(1) هذه رواية مسلم من طريق مسعر ولفظه " قلنا إذا سلمنا " السلام
عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بعده إلى الجانبين فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " علام تومون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي
أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله " والرواية
الأخرى له من طريق الفرات القزاز بلفظ " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم السلام عليكم " وباقيه كما ذكره
المصنف فقد لفق ما ذكره من الروايتين ولم يذكر محل الشاهد من هذه ولا تلك وهو أنهم كانوا يشيرون بأيديهم.
وكتبه محمد رشيد رضا
594

ما روى المغيرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة مكتوبة " لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا
ينفع ذا الجد منك الجد " متفق عليه، وقال ثوبان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته
استغفر ثلاثا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام. قال الأوزاعي:
يقول استغفر الله استغفر الله، رواه مسلم وقال أبو هريرة: جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل
الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل
أموالهم يحجون بها ويعتمرون ويتصدقون فقال " ألا أحدثكم بحديث ان أخذتم به أدركتم من سبقكم
ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم الا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون
وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين " فاختلفنا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا
وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين فرجعت إليه فقال: يقول " سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون
منهن كلهن ثلاث وثلاثون " قال في رواية أبي داود يقول هكذا ولا يقطعه سبحان الله والحمد لله ولا إله
الا الله والله أكبر، فإن عدل إلى غيره جاز لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره رواه البخاري وروى
595

مسلم والنسائي عن عبد الله بن الزبير أنه حدث على المنبر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، لا إله الا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة والفضل والثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله،
مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن في دبر الصلاة وعن
سعد أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بها دبر
كل صلاة " اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من البخل وأعوذ بك من أرذل العمر وأعوذ
بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر " من الصحاح، قال ابن عباس: ان رفع الصوت بالذكر حين
ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا
بذلك إذا سمعته رواه البخاري ومسلم
(فصل) إذا كان مع الإمام رجال ونساء فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن
قد انصرفن ويقمن هن عقيب تسليمة قالت أم سلمة ان النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
596

كن إذا سلم من المكتوبة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله فإذا قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال قال الزهري: فنرى والله أعلم لكي يبعد من ينصرف من النساء، رواه البخاري
ولان الاخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء فإن لم يكن معه نساء فلا يستحب
له إطالة الجلوس لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار
ما يقول " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والاكرام " رواه ابن ماجة (1) وعن البراء
قال: رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين
فجلسته بين التسليم للانصراف قريبا من السواء. فإن لم يقم فالمستحب أن ينحرف عن قبلته ولا يلبث مستقبل
القبلة لأنه ربما أفضى به إلى الشك هل فرغ من صلاته أولا. وقد روى البخاري باسناده عن سمرة قال:

(1) بل قال في المنتقى رواه أحمد ومسلم الترمذي وابن ماجة
597

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه، وعن يزيد بن الأسود قال: صليت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم الفجر فلما سلم انحرف، وعن علي أنه صلى بقوم العصر ثم أسند ظهره إلى القبلة فاستقبل
القوم، وقال سعيد بن المسيب لأن يجلس الرجل على رضفة خير له من أن يجلس مستقبل القبلة حين
يسلم ولا ينحرف، وقال إبراهيم: إذا سلم الإمام ثم استقبل القبلة فاحصبوه قال الأثرم: رأيت أبا
عبد الله إذا سلم يلتفت ويتركع وقال أبو داود: ورأيته إذا كان إماما فسلم انحرف عن يمينه وروى
مسلم وأبو داود في السنن عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر يركع في مجلسه
حتى تطلع الشمس حسناء، ولفظ مسلم مصلاه وسئل أحمد عن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم كان لا
يجلس بعد التسليم إلا قدر ما يقول " اللهم أنت السلام " يعني في مقعده حتى ينحرف قال: لا أدرى
وروى الأثرم هذه الأحاديث التي ذكرناها
ويستحب للمأمومين أن لا يثبوا قبل الإمام لئلا يذكر سهوا فيسجد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني
598

إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف " رواه مسلم والنسائي ولفظ مسلم
فلا تسبقوني، فإن خالف الإمام السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة أو انحرف فلا بأس أن يقوم
المأموم ويدعه.
(فصل) وينصرف حيث شاء عن يمين وشمال لقول ابن مسعود: لا يجعل أحدكم للشيطان حظا
من صلاته يرى حقا عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينصرف عن شماله،
رواه مسلم. وعن قبيصة بن هلب عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينصرف عن
شقيه رواهما أبو داود وابن ماجة.
(فصل) قال أحمد: لا يتطوع الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة كذا قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه. قال أحمد: ومن صلى وراء الإمام فلا بأس أن يتطوع مكانه، فعل ذلك ابن عمر
وبهذا قال إسحاق. وروى أبو بكر حديث علي باسناده وباسناده عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي فيه بالناس "
* (مسألة) * قال (والرجل والمرأة في ذلك سواء إلا أن المرأة تجمع نفسها في الركوع
والسجود وتجلس متربعة أو تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها)
الأصل أن يثبت في حق المرأة من أحكام الصلاة ما ثبت للرجال لأن الخطاب يشملها غير أنها
599

خالفته في ترك التجافي لأنها عورة فاستحب لها جمع نفسها ليكون أستر لها فإنه لا يؤمن أن يبدو منها
شئ حال التجافي وذلك في الافتراش، قال أحمد: والسدل أعجب إلي واختاره الخلال. قال علي
كرم الله وجهه: إذا صلت المرأة فلتحتفز ولتضم فخذيها. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان
يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة
* (مسألة) * قال (والمأموم إذا سمع قراءة الإمام فلا يقرأ بالحمد ولا بغيرها لقول الله
تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) ولما روي أبو هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مالي أنازع القرآن " قال: فانتهى الناس أن يقرءوا فيما
جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم)
وجملة ذلك أن المأموم إذا كان يسمع قراءة الإمام لم تجب عليه القراءة ولا تستحب عند إمامنا
والزهري والثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك وإسحاق وأحد قولي الشافعي ونحوه عن سعيد بن
المسيب وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن جبير وجماعة من السلف، والقول الآخر
للشافعي يقرأ فيما جهر فيه الإمام ونحوه عن الليث والأوزاعي وابن عون ومكحول وأبي ثور لعموم
قوله عليه السلام " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " متفق عليه، وعن عبادة بن الصامت قال:
كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال
600

" لعلكم تقرؤون خلف إمامكم! " قلنا نعم يا رسول الله، قال " لا تفعلوا الا بفاتحة الكتاب فإنه
لا صلاة لمن لم يقرأ بها " رواه الأثرم وأبو داود وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام "
قال فقلت يا أبا هريرة اني أكون أحيانا وراء الإمام قال: فغمز ذراعي وقال اقرأ بها في نفسك يا فارسي
رواه مسلم وأبو داود. ولأنه ركن في الصلاة فلم يسقط عن المأموم كالركوع ولان من لزمه القيام لزمته
القراءة مع القدرة كالإمام والمنفرد
ولنا قول الله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) قال أحمد فالناس
على أن هذا في الصلاة. وعن سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم ومحمد بن كعب والزهري أنها نزلت
في شأن الصلاة. وقال زيد بن أسلم وأبو العالية كانوا يقرءون خلف الإمام فنزلت (وإذا قرئ
القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) وقال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه
الآية في الصلاة ولأنه عام فيتناول بعمومه الصلاة، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فانصتوا " رواه مسلم. والحديث
الذي رواه الخرقي رواه مالك عن ابن شهاب عن زاكية الليثي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم انصرف من صلاة فقال " هل قرأ معي أحد منكم؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله قال " مالي
أنازع القرآن " فانتهى الناس (1) عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه من الصلوات

(1) قوله فانتهى الناس الخ من كلام ابن شهاب الزهري قاله الحافظ ابن حجر
601

حين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن
ورواه الدار قطبي بلفظ آخر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم صلاة فلما قضاها قال " هل قرأ أحد
منكم بشئ من القرآن " فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله فقال " مالي أقول مالي أنازع القرآن
إذا أسررت بقراءتي فاقرءوا، وإذا جهرت بقراءتي فلا يقرأن معي أحد " وأيضا فإنه اجماع، قال
أحمد ما سمعنا أحدا من أهل الاسلام يقول إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم
يقرأ وقال هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل
العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر ما قالوا لرجل صلى وقرأ إمامه
ولم يقرأ هو صلاته باطلة، ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق فلم تجب على غيره كالسورة. فأما حديث
عبادة الصحيح فهو محمول على غير المأموم، وكذلك حديث أبي هريرة وقد جاء مصرحا به رواه
الخلال باسناده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي
خداج الا أن تكون وراء الإمام " وقد روي أيضا موقوفا عن جابر. وقول أبي هريرة اقرأ بها في
نفسك من كلامه وقد خالفه جابر وابن الزبير وغيرهما، ثم يحتمل أنه أراد أقرأ بها في سكتات
الإمام أو في حال اسراره فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قرأ الإمام فانصتوا "
والحديث الآخر وحديث عبادة الآخر فلم يروه غير ابن إسحاق كذلك قاله الإمام أحمد.
وقد رواه أبو داود عن مكحول عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري وهو أدنى حالا
602

من ابن إسحاق فإنه غير معروف من أهل الحديث وقياسهم يبطل بالمسبوق.
(فصل) قال أبو داود قيل لأحمد رحمه الله فإنه يعني المأموم قرأ بفاتحة الكتاب ثم سمع قراءة
الإمام قال: يقطع إذا سمع قراءة الإمام وينصت للقراءة وإنما قال ذلك اتباعا لقول الله تعالى (وإذا
قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا قرأ فأنصتوا "
(فصل) وهل يستفتح المأموم ويستعيذ؟ ينظر إن كان في حقه قراءة مسنونة وهو في الصلوات
التي يسر فيها الإمام أو التي له فيها سكتات يمكن فيها القراءة استفتح المأموم واستعاذ، وان لم يسكت
أصلا فلا يستفتح ولا يستعيذ وإن سكت قدرا يتسع للافتتاح فحسب استفتح ولم يستعذ قال ابن منصور
قلت لأحمد سئل سفيان أيستعيذ الانسان خلف الإمام؟ قال إنما يستعيذ من يقرأ قال أحمد صدق،
وقال أحمد أيضا: إن كان ممن يقرأ خلف الإمام قال الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم) وذكر بعض أصحابنا أنه فيه رواية أخرى أنه يستفتح ويستعيذ في حال جهر الإمام
لأن سماعه لقراءة الإمام قام مقام قراءته بخلاف الاستفتاح والاستعاذة والصحيح ما ذكرناه
* (مسألة) * قال (الاستحباب أن يقرأ في سكتات الإمام وفيما لا يجهر فيه)
هذا قول أكثر أهل العلم كان ابن مسعود وابن عمر وهشام بن عامر يقرءون وراء الإمام فيما أسر به
وقال ابن الزبير إذا جهر فلا تقرأ وإذا خافت فاقرأ وروي معنى ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن
603

جبير والحسن والقاسم بن محمد ونافع بن جبير والحكم والزهري. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن
للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب إذا دخل في الصلاة وإذا قال ولا الضالين.
وقال عروة بن الزبير أما أنا فاغتنم من الإمام اثنتين إذا قال (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فاقرأ
عندها وحين يختم السورة فاقرأ قبل أن يركع وقال الثوري وابن عيينة وأبو حنيفة لا يقرأ المأموم
بحال لما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا أسررت بقراءتي فاقرءوا " رواه الترمذي والدارقطني.
ولان عموم الاخبار يقتضي القراءة في حق كل مصل فخصصناها بما ذكرناه من الأدلة وهي مختصة
بحالة الجهر وفيما عداه يبقى على العموم وتخصيص حالة الجهر بامتناع الناس من القراءة فيها تدل على
أنهم كانوا يقرءون في غيرها. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الإمام يقرأ وهو لا يسمع: يقرأ قيل
له أليس قد قال الله تعالى (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) فقال هذا إلى أي شئ يستمع؟
ويسن له قراءة السورة مع الفاتحة في مواضعها
* (مسألة) * قال (فإن لم يفعل فصلاته تامة لأن من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)
وجملة ذلك أن القراءة غير واجبة على المأموم فيما جهر به الإمام ولا فيما أسر به نص عليه أحمد
604

في رواية الجماعة وبذلك قال الزهري والثوري وابن عيينة ومالك وأبو حنيفة وإسحاق. وقال الشافعي
وداود يجب لعموم قوله عليه السلام " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " غير أنه خص في حال
الجهر بالامر بالانصات ففيما عداه يبقى على العموم
ولنا ما روى الإمام أحمد عن وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان له إمام فإن قراءة الإمام له قراءة " ورواه الخلال باسناده عن شعبة عن
موسى مطولا وأخبرناه أبو الفتح بن البطي في حديث ابن البختري باسناده عن منصور عن موسى عن عبد الله
ابن شداد (1) قال كان رجل يقرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رجل يومئ إليه أن لا يقرأ فأبى إلا أن يقرأ
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل مالك تقرأ خلف الإمام؟ فقال مالك تنهاني أن أقرأ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان لك إمام يقرأ فإن قراءته لك قراءة " وقد ذكرنا حديث جابر " إلا وراء
الإمام " وروى الخلال والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر " ولان
القراءة لو كانت واجبة عليه لم تسقط كبقية أركانها
(فصل) إذا قرأ بعض الفاتحة في سكتة الإمام ثم قرأ الإمام فأنصت له ثم قرأ بقية الفاتحة في
السكتة الثانية فظاهر كلام أحمد أن ذلك حسن ولا تنقطع القراءة بسكوته لأنه سكوت مأمور به فلا
يكون مبطلا كقراءته ولأنه لو أبطلها لم يستفد فائدة فإنه لا يقرأ في الثانية زيادة على ما قرأه في الأولى

(1) هذه الرواية مرسلة قال صاحب المنتقى من محدثي الحنابلة وفقهائهم.
وقد روي مسندا من طرق كلها ضعاف والصحيح انه مرسل وقال شارح المنتقى
وهو الشوكاني: قال الحافظ " أي ابن حجر " هو مشهور من حديث جابر وله طرق عن
جماعة من الصحابة كلها معلولة. وقال في الفتح: انه ضعيف عند جميع الحفاظ وقد
استوعب طرقه وعلله الدارقطني " ثم قال " وقد احتج به القائلون بان الإمام يحتمل
القراءة عن المؤتم في الجهرية الفاتحة وغيرها والجواب انه عام لأن القراءة مصدر
مضاف وهو من صيغ العموم وحديث عبادة المتقدم خاص فلا معارضة اه‍ وحديث عبادة صحيح
وهو نص في إنكاره " ص " للقراءة وراء الإمام الا بالفاتحة ونصه " لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن يقرأ بها " وفي رواية
" فلا تقرؤا بشئ من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن " والاستثناء معيار العموم فهو يخصص كل عام في هذا المعنى
605

(فصل) فإن لم يسمعه لبعد قرأ، نص عليه قال الأثرم قيل لأبي عبد الله رحمه الله فيوم الجمعة
قال إذا لم يسمع قراءة الإمام ونغمته قرأ فإذا سمع فلينصت قيل له فالأطروش قال لا أدري
فيحتمل أن يشرع في حقه القراءة لأنه لا يسمع فلا يجب عليه الانصات كالبعيد، ويحتمل أن لا يقرأ
كيلا يخلط على الإمام، فإن سمع همهمته ولم يفهم فقال في رواية الجماعة لا يقرأ ونقل عنه أنه يقرأ إذا
سمع الحرف بعد الحرف
* (مسألة) * قال (ويسر القراءة في الظهر والعصر، ويجهر بها في الأوليين من
المغرب والعشاء وفي الصبح كلها)
الجهر في مواضع الجهر والاسرار في مواضع الاسرار. لا خلاف في استحبابه والأصل فيه فعل
النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف. فإن جهر في موضع الاسرار أو أسر
في موضع الجهر ترك السنة وصحت صلاته إلا أنه ان نسي فجهر في موضع الاسرار ثم ذكر في أثناء
القراءة بنى على قراءته وان أسر في موضع الجهر ففيه روايتان (إحداهما) يمضي في قراءته (والثانية) يعود في
قراءته على طريق الاختيار لا على طريق الوجوب إنما لم يعد إذا جهر لأنه أتى بزيادة وان خافت في
موضع الجهر أعاد لأنه أخل بصفة مستحبة في القراءة يمكنه أن يأتي بها وفوت على المأمومين سماع القراءة
(فصل) وهذا الجهر مشروع للإمام ولا يشرع للمأموم بغير اختلاف وذلك لأن المأموم مأمور
606

بالانصات للإمام والاستماع له بل قد منع من القراءة لأجل ذلك، وأما المنفرد فظاهر كلام أحمد انه يخير
وكذلك من فاته بعض الصلاة فقام ليقضيه، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله: رجل فاتته ركعة مع الإمام من
المغرب أو العشاء فقام ليقضي أيجهر أو يخافت قال إن شاء جهر وان شاء خافت ثم قال إنما الجهر
للجماعة، وكذلك قال طاوس فيمن فاتته بعض الصلاة وهو قول الأوزاعي ولا فرق بين القضاء والأداء،
وقال الشافعي يسن للمنفرد الجهر لأنه غير مأمور بالانصات إلى أحد فأشبه الإمام، ولنا أنه لا يتحمل
القراءة عن غيره فأشبه المأموم في سكتات الإمام ويفارق الإمام فإنه يقصد اسماع المأمومين ويتحمل
القراءة عنهم وإلى هذا أشار أحمد في قوله إنما الجهر للجماعة
(فصل) فأما ان قضى الصلاة في جماعة فإن كانت صلاة نهار فقضاها بليل أسر لأنها صلاة نهار
فسن فيها الاسرار كما لو قضاها بنهار ولا أعلم في هذا خلافا، فإن كانت الفائتة صلاة جهر فقضاها في
ليل جهر في ظاهر كلام أحمد، وإن قضاها في نهار فقال أحمد إن شاء لم يجهر فيحتمل الاسرار وهو
مذهب الأوزاعي والشافعي لأن صلاة النهار عجماء، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم من
يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالبعر " رواه أبو حفص باسناده وهذه قد صارت صلاة نهار ولأنها
صلاة مفعولة بالنهار فأشبه الأداء فيه، ويحتمل أن يجهر فيها ليكون القضاء على وفق الأداء وهو قول أبي حنيفة
وأبي ثور وابن المنذر ولا فرق عند هؤلاء بين المنفرد والإمام
* (مسألة) * قال (ويقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي الظهر في الركعة الأولى بنحو
الثلاثين آية، وفي الثانية بأيسر من ذلك، وفي العصر على النصف من ذلك، وفي المغرب
بسور آخر المفصل، وفي العشاء الآخرة بو الشمس وضحاها وما أشبهها)
وجملة ذلك أن قراءة السورة بعد الفاتحة مسنون ويستحب أن يكون على الصفة التي بين الخرقي
اقتداءا برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا لسنته ففي حديث أبي برزة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الغداة
607

بالستين إلى المائة. متفق عليه، وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن
المجيد ونحوها فكانت صلاته بعد إلى التخفيف. وقال قطعة بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في
الفجر (والنخل باسقات) رواهما مسلم. وروى النسائي أنه قرأ فيها الروم. وروى ابن ماجة عن عبد الله
ابن السائب قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بالمؤمنين فلما أتى على ذكر عيسى أصابته شرقة فركع،
وروى أبو داود وابن ماجة عن عمرو بن حريث قال: كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة
الغداة (فلا أقسم بالخنس الجوار) فأما صلاة الظهر فروى مسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي سعيد -
يعني الخدري - رضي الله عنه قال اجتمع ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تعالوا حتى
نقيس قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لم يجهر فيه من الصلاة فما اختلف منهم رجلان فقاسوا قراءته
في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك وقاسوا ذلك
608

في العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر هذا لفظ ابن ماجة ولفظ أبي داود
حزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية قدر (ألم تنزيل) السجدة وحزرنا قيامه في
الأخريين على النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر
وحزرنا قيامه في الأخريين من العصر على النصف من ذلك ولفظ مسلم كذلك ولم يقل قدر (ألم تنزيل)
وقال والآخرتين من العصر على قدر ذلك، وعن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في
الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك، وفي حديث كان يقرأ في
الظهر بسبح اسم ربك الاعلى وفي الصبح أطول من ذلك أخرجهما مسلم. وروى أبو داود عن جابر
ابن سمرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر (والسماء ذات البروج * والسماء والطارق)
وشبههما. فأما المغرب والعشاء فروى ابن ماجة عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يقرأ في المغرب (قل يا أيها الكافرون * وقل هو الله أحد) وعن البراء ان النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ في العشاء بالتين والزيتون في السفر متفق عليه. روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" أفتان أنت يا معاذ؟ يكفيك أن تقرأ بالشمس وضحاها والضحى والليل إذا سجى * وسبح اسم ربك
الاعلى " وكتب عمر إلى أبي موسى أن اقرأ في الصبح بطوال المفصل، واقرأ في الظهر بأواسط المفصل
واقرأ في المغرب بقصار المفصل. رواه أبو حفص باسناده
" مسألة " قال (ومهما قرأ به بعد أم الكتاب في ذلك كله أجزأه)
609

قد ذكرنا ان قراءة السورة غير واجبة فالتقدير أولى أن لا يجب والامر في هذا واسع قد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه انهم قرأوا بأقل من ذلك وأكثر فقلت إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب
بالمرسلات وقرأ فيها بالتين والزيتون، وعن جبير بن مطعم انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب
بالطور متفق عليه. وقرأ فيها بالاعراف، رواه زيد بن ثابت وأخرجه أبو داود. وعن رجل من
جهينة انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما فلا أدري أنسي رسول الله
صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا رواه أبو داود، وعنه أنه قرأ في الصبح بالمعوذتين وكان عليه السلام يطيل
تارة ويقصر أخرى بحسب الأحوال وقد روينا أنه قال عليه السلام " اني لادخل في الصلاة وأنا
أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف مخافة أن أشق على أمه "
(فصل) ويستحب أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة ليلحقه القاصد للصلاة، وقال الشافعي
يكون الأوليان متساويين لحديث أبي سعيد حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين
الأوليين من الظهر قدر الثلاثين آية ولان الأخريين يتساويان فكذلك الأوليان ووافقنا أبو حنيفة
في الصبح ووافق الشافعي في بقية الصلوات
ولنا ما روى أبو قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر
بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحيانا وكان يقرأ في العصر
في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية وكان يطول في
610

الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية متفق عليه، وروى أبو داود هذا الحديث وفيه قال
فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، وعن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدمه وحديث أبي سعيد قد رواه ابن ماجة
وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك، وهذا أولى لأنه يوافق الأحاديث الصحيحة ثم لو قدرنا
التعارض كان تقديم حديث أبي قتادة أولى لأنه أصح ويتضمن زيادة وهي ضبط التفريق بين الركعتين
قال أحمد رحمه الله في الإمام يطول في الثانية يعني أكثر من الأولى يقال له في هذا تعلم، وقال أيضا
في الإمام يقصر في الأولى ويطول في الآخرة لا ينبغي هذا يقال له ويؤمر
(فصل) قال في رواية أبي طالب وإسحاق بن إبراهيم لا بأس بالسورة في ركعتين وذلك لما روى
زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب في الركعتين بالاعراف وروى الخلال
باسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم البقرة في الركعتين، وباسناده عن
الزهري قال أخبرني أنس قال: صلى بنا أبو بكر رضي الله عنه صلاة الفجر فافتتح سورة البقرة فقرأ
بها في ركعتين فلما سلم قام إليه عمر فقال ما كدت تفرغ حتى تطلع الشمس قال لو طلعت لألفتنا غير
غافلين. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بسورة المؤمنين فلما أتى على ذكر عيسى أخذته شرقة فركع
ولا بأس أيضا بقراءة بعض السورة في الركعة لما روينا من الأحاديث وهي تتضمن ذلك وقد نص
611

عليه أحمد واحتج بما رواه باسناده عن ابن أبزى قال صليت خلف عمر فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ
(وابيضت عيناه من الحزن) وقع عليه البكاء فركع ثم قرأ سورة النجم فسجد فيها ثم قام فقرأ (إذا
زلزلت) ولأنه إذا جاز أن يقتصر على قراءة آية من السورة فهي بعض السورة
(فصل) وسئل أحمد عن الرجل يقرأ في الركعة بسورة ثم يقوم فيقرأ بها في الركعة الأخرى
فقال وما بأس بذلك، وقد روى النجاد باسناده عن أبي الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب فقرأ
بأم الكتاب وقرأ معها إذا زلزلت ثم قام فقرأ في الثانية بأم القرآن وقرأ إذا زلزلت أيضا ورواه أبو
داود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روينا من حديث البخاري أن رجلا كان يقرأ في كل ركعة (قل هو الله
أحد) فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عليه
(فصل) قال حرب قلت لأحمد فالرجل يقرأ على التأليف اليوم سورة وغدا التي تليها ونحوه قال
ليس في هذا شئ الا أنه روي عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصل وحده وقد روي عن أنس قال كان
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقرءون القرآن من أوله إلى آخره في الفرائض إلا أن أحمد قال هذا حديث منكر
وقال مهنا سألت أحمد عن الرجل يقرأ في الصلاة حيث ينتهي جزؤه قال لا بأس به في الفرائض
(فصل) قال أحمد لا بأس أن يصلي بالناس القيام وهو ينظر في المصحف قيل له في الفريضة قال
لا لم أسمع فيه شيئا، وقال القاضي يكره في الفرض ولا بأس به في التطوع إذا لم يحفظ فإن كان حافظا
612

كره أيضا، قال وقد سئل أحمد عن الإمامة في المصحف في رمضان فقال إذا اضطروا إلى ذلك نقله
علي بن سعيد وصالح وابن منصور، وحكي عن ابن حامد أن النفل والفرض في الجواز سواء، وقال
أبو حنيفة تبطل الصلاة به إذا لم يكن حافظا لأنه عمل طويل، وقد روى أبو بكر بن أبي داود في كتاب
المصاحف باسناده عن ابن عباس قال نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصاحف وأن يؤمنا
إلا محتلم، وروي عن ابن المسيب والحسن ومجاهد وإبراهيم وسليمان بن حنظلة والربيع كراهة ذلك
وعن سعيد والحسن قالا تردد ما معك من القرآن ولا تقرأ في المصحف، والدليل على جوازه
ما روى أبو بكر الأثرم وابن أبي داود باسنادهما عن عائشة انها كانت يؤمها عبد لها في المصحف،
وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال كان خيارنا يقرءون في المصاحف،
وروي ذلك عن عطاء ويحيى الأنصاري، وعن الحسن ومحمد في التطوع، ولان ما جاز قراءته ظاهرا
جاز نظيرا كالحافظ، ولا نسلم ان ذلك يحتاج إلى عمل طويل وإن كان كثيرا فهو متصل واختصت
الكراهة بمن يحفظ لأنه يشتغل بذلك عن الخشوع في الصلاة والنصر إلى موضع السجود لغير حاجة
وكره في الفرض على الاطلاق لأن العادة انه لا يحتاج إلى ذلك فيها وأبيحت في غير هذين الموضعين
لموضع الحاجة إلى سماع القرآن والقيام به والله أعلم
* (مسألة) * قال (ولا يزيد على قراءة أم الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر
وعشاء الآخرة والركعة الأخيرة من المغرب)
وجملة ذلك أنه لا تسن زيادة القراءة على أم الكتاب في الركعتين غير الأوليين، قال ابن سيرين
لا أعلمهم يختلفون انه يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة
613

الكتاب، وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وأبي هريرة وعائشة. رواه إسماعيل بن
سعيد الشالنجي عنهم باسناده إلا حديث جابر رواه أحمد وهو قول مالك وأبي حنيفة، واختلف قول
الشافعي فمرة قال كذلك ومرة قال يقرأ بسورة مع الفاتحة في كل ركعة، وروي ذلك عن ابن عمر لما روى
الصنابحي قال صليت خلف أبي بكر الصديق المغرب فدنوت منه حتى أن ثيابي تكاد تمس ثيابه فقرأ
في الركعة الأخيرة بأم الكتاب وهذه الآية (ربنا لا تزغ قلوبنا)
ولنا حديث أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم
الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويسمعنا الآية. وكتب عمر إلى شريح
أن اقرأ في الركعتين الأوليين بأم الكتاب وسورة وفي الأخريين بأم الكتاب، وما فعله الصديق
رحمه الله إنما قصد به الدعاء لا القراءة ليكون موافقا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أصحابه، ولو قدر
انه قصد بذلك القراءة فليس بموجب ترك حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، ثم قد ذكرنا مذهب
عمر وغيره من الصحابة بخلاف هذا، فأما ان دعى انسان في الركعة الآخرة بآية من القرآن مثل ما فعل
614

الصديق فقد روي عن أحمد انه سئل ذلك فقال إن شاء قاله ولا ندري أكان ذلك قراءة من أبي بكر
أو دعاء، فهذا يدل على أنه لا بأس بذلك لأنه دعاء في الصلاة فلم يكره كالدعاء في التشهد (1)
* (مسألة) * قال (ومن كان من الرجال وعليه ما يستر ما بين سرته وركبته أجزأه ذلك)
وجملة ذلك أن ستر العورة عن النظر بما لا يصف البشرة واجب وشرط لصحة الصلاة وبه قال
الشافعي وأصحاب الرأي، وقال بعض أصحاب مالك سترها واجب وليس بشرط لصحة الصلاة
وقال بعضهم هي شرط مع الذكر دون السهو، احتجوا على أنها ليست شرطا بأن وجوبها لا يختص
بالصلاة فلم يكن شرطا كاجتناب الصلاة في الدار المغصوبة
ولنا ما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار " رواه أبو داود
والترمذي وقال حديث حسن، وقال سلمة بن الأكوع: قلت يا رسول الله اني أكون في الصيف فأصلي
في القميص الواحد قال " نعم وازرره ولو بشوكة " حديث حسن وما ذكروه ينتقض بالايمان والطهارة
فإنها تجب لمس المصحف والمسألة ممنوعة، قال ابن عبد البر احتج من قال الستر من فرائض الصلاة
بالاجماع على افساد من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا، قال وهذا أجمعوا عليه
كلهم، إذا ثبت هذا فالكلام في حد العورة والصالح في المذهب انها من الرجل ما بين السرة والركبة
نص عليه أحمد في رواية جماعة وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء، وفيه رواية

(1) فيه أن أحمد قال لا أدري ولم يجزم بأنه دعاء
615

أخرى انها الفرجان قال مهنا سألت أحمد ما العورة؟ قال الفرج والدبر وهذا قول ابن أبي ذئب
وداود لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى أني لأنظر إلى بياض فخذ
النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وقال حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. وروت عائشة قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته كاشفا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على ذلك ثم استأذن عمر
فأذن له وهو على ذلك. وهذا يدل على أنه ليس بعورة ولأنه ليس بمخرج للحدث فلم يكن عورة كالساق
ووجه الرواية الأولى ما روى الخلال باسناده والإمام أحمد في مسنده عن جرهد أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رآه قد كشف عن فخذه فقال " غط فخذك فإن الفخذ من العورة " وروى الدارقطني
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه " لا تكشف فخذك ولا تنظر فخذ حي ولا
ميت " وهذا صريح في الدلالة فكان أولى، وروى أبو بكر باسناده عن أبي أيوب الأنصاري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة " وروى الدارقطني
باسناده عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا زوج
أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظر إلى شئ من عورته فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة " وفي لفظ
" ما بين سرته وركبته من عورته " وهذا نص والحر والعبد في هذا سواء لتناول النص لهما جميعا
(فصل) وليست سرته وركبتاه من عورته نص عليه احمد في مواضع وهذا قال به مالك والشافعي
616

وقال أبو حنيفة الركبة من العورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الركبة من العورة "
ولنا ما تقدم من حديث أبي أيوب وعمرو بن شعيب ولان الركبة حد فلم تكن من العورة كالسرة
وحديثهم يرويه أبو الجنوب لا يثبته أهل النقل. وقد قبل أبو هريرة سرة الحسن ولو كانت عورة لم يفعلا ذلك
(فصل) والواجب الستر بما يستر لون البشرة فإن كان خفيفا يبين لون الجلد من ورائه فيعلم بياضه
أو حمرته لم تجز الصلاة فيه لأن الستر لا يحصل بذلك وإن كان يستر لونها ويصف الخلقة جازت
الصلاة لأن هذا لا يمكن التحرز منه وإن كان الساتر صفيقا
(فصل) فإن انكشف من العورة يسير لم تبطل صلاته نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال
الشافعي تبطل لأنه حكم تعلق بالعورة فاستوى قليله وكثيره كالنظرة
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن أيوب عن عمرو بن سلمة قال انطلق أبي وافدا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلمهم الصلاة وقال " يؤمكم أقرؤكم " فكنت أقرأهم فقدموني فكنت
أؤمهم وعلي بردة لي صفراء صغيرة وكنت إذا سجدت انكشفت عني فقالت امرأة من النساء واروا
عنا عورة قارئكم. فاشتروا لي قميصا عمانيا فما فرحت بشئ بعد الاسلام فرحي به. ورواه أبو داود
والنسائي أيضا عن عاصم الأحول عن عمرو بن سلمة قال فكنت أؤمهم في بردة موصولة فيها فتق
فكنت إذا سجدت فيها خرجت استي. وهذا ينتشر ولم ينكر ولا بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
617

أنكره، ولان ما صحت الصلاة مع كثيره حال العذر فرق بين قليله وكثيره في غير حال العذر كالمشي
ولان الاحتراز من اليسير يشق فعفي عنه كيسير الدم. إذا ثبت هذا فإن حد الكثير ما فحش في النظر
ولافرق في ذلك بين الفرجين وغيرهما واليسير مالا يفحش والمرجع في ذلك إلى العادة. وقال أبو حنيفة
ان انكشف من المغلظة قدر الدرهم أو من المخففة أقل من ربعها لم تبطل وإن كان أكثر بطلت
ولنا أن هذا شئ لم يرد الشرع بتقديره فرجع فيه إلى العرف كالكثير من العمل في الصلاة
والتفرق والاحتراز والتقدير بالتحكم من غير دليل لا يسوغ
(فصل) فإن انكشفت عورته عن غير عمد فسترها في الحال من غير تطاول الزمان لم تبطل
لأنه يسير من الزمان أشبه اليسير في القدر. وقال التميمي في كتابه ان بدت عورته وقتا واستترت
وقتا فلا إعادة عليه لحديث عمرو بن سلمة ولم يشترط اليسير ولابد من اشتراطه لأن الكثير يفحش
انكشاف العورة فيه ويمكن التحرز منه فلم يعف عنه كالكثير من القدر
* (مسألة) * قال (إذا كان على عاتقه شئ من اللباس)
وجملة ذلك أنه يجب أن يضع المصلي على عاتقه شيئا من اللباس إن كان قادرا على ذلك
وهو قول ابن المنذر وحكي عن أبي جعفر أن الصلاة لا تجزئ من لم يخمر منكبيه. وقال أكثر
الفقهاء لا يجب ذلك ولا يشترط لصحة الصلاة وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأنهما ليسا
بعورة فأشبها بقية البدن
618

ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد
ليس على عاتقه منه شئ " رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم وهذا نهي يقتضي
التحريم ويقدم على القياس، وروى أبو داود عن بريدة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يصلي في لحاف ولا يتوشح به ويشترط ذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب. قال القاضي وقد نقل
عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرط وأخذه من رواية مثنى عن أحمد فيمن صلى وعليه سراويل
وثوبه على إحدى عاتقيه والأخرى مكشوفة: يكره قيل له يؤمر أن يعيد؟ فلم ير عليه إعادة، وهذا يحتمل
أنه لم ير عليه الإعادة لستره بعض المنكبين فاجتزئ بستر إحدى العاتقين عن ستر الآخر لامتثاله
للفظ الخبر - ووجه اشتراط ذلك أنه منهي عن الصلاة مع كشف المنكبين والنهي يقتضي فساد المنهي
عنه ولأنها سترة واجبة في الصلاة فالاخلال بها يفسدها كسترة العورة
(فصل) ولا يجب ستر المنكبين جميعهما بل يجزئ ستر بعضهما ويجزئ سترهما بثوب خفيف يصف
لون البشرة لأن وجوب سترهما بالحديث ولفظه " لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه
شئ " وهذا يقع على ما يعم المنكبين وما لا يعمهما وقد ذكرنا نص احمد فيمن إحدى منكبيه مكشوفة فلم
يوجب عليه الإعادة فإن طرح على كتفه حبلا أو نحوه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه لقوله شيئا من
اللباس وهذا لا يسمى لباسا وهو قول القاضي، وقال بعض أصحابنا يجزئه لأن هذا شئ فيكون الحديث
متناولا له وقد روي عن جابر أنه صلى في ثوب واحد متوشحا به كأني أنظر إليه كان على عاتقه ذنب
619

فأرة وعنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد أحدهم ثوبا ألقى على عاتقه عقالا
وصلى والصحيح أنه لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلى أحدكم في ثوب واحد فليخالف
بين طرفيه على عاتقه " من الصحاح ورواه أبو داود ولان الامر بوضعه على العاتقين للستر ولا
يحصل ذلك بوضع خيط ولا يسمى سترة وما روي عن جابر لا يعلم صحته وما روي عن الصحابة ان
صح عنهم فلعدم ما سواه والله أعلم
(فصل) ولم يفرق الخرقي بين الفرض والنفل لأن الحديث عام في كل مصل ولان ما اشترط للفرض
اشترط للنفل كالطهارة ونص أحمد أنه يجزئه في التطوع فإنه قال في رواية حنبل يجزئه أن يأتزر بالثوب
الواحد ليس على عاتقه منه شئ في التطوع لأن النافلة مبناها على التخفيف ولذلك يسامح فيها بهذا المقدار
واستدل أبو بكر على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان الثوب ضيقا فاشدده على حقوك " قال هذا
في التطوع وحديث أبي هريرة في الفرض
* (مسألة) * قال (ومن كان عليه ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك)
وجملة ذلك أن الكلام في اللباس في أربعة فصول (الفصل الأول) فيما يجزئ (والثاني) في
الفضيلة (والثالث) فيما يكره (والرابع) فيما يحرم
* (أما الأول) * فإنه يجزئ ثوب واحد يستر عورته وبعضه أو غيره على عاتقه لما روى عمرو بن سلمة
620

انه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقه
متفق عليه. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان الثوب واسعا فالتحف به وإذا كان
ضيقا فائتزر به رواه البخاري وغيره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن
الصلاة في ثوب واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أو لكلكم ثوبان؟ " رواه مسلم ومالك في
موطئه، وصلى جابر في قميص ليس عليه رداء فلما انصرف قال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي في قميص رواهما أبو داود
(الفصل الثاني في الفضيلة) وهو أن يصلي في ثوبين أو أكثر فإنه إذا أبلغ في الستر يروى عن
عمر رضي الله عنه أنه قال إذا أوسع الله فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في ازار وبرد،
أو في ازار وقميص، في ازار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء،
في تبان وقميص. وروى أبو داود عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال قال عمر: إذا كان لاحدكم ثوبان
فليصل فيهما فإن لم يكن إلا ثوب واحد فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود. قال التميمي الثوب الواحد يجزئ
والثوبان أحسن والأربع أكمل: قميص وسراويل وعمامة وازار. وروى ابن عبد البر عن عمر انه رأى
نافعا يصلي في ثوب واحد قال ألم تكتس ثوبين، قلت بلى قال فلو أرسلت في الدار أكنت تذهب في ثوب
واحد؟ قلت لا قال فالله أحق أن يزين له أو الناس؟ قلت بل الله، وقال القاضي ذلك في الإمام آكد منه في
غيره لأنه بين يدي المأمومين وتتعلق صلاتهم بصلاته. فإن لم يكن إلا ثوب واحد فالقميص لأنه أعم في الستر
621

فإنه يستر جميع الجسد إلا الرأس والرجلين ثم الرداء لأنه يليه في الستر ثم المئزر ثم السراويل ولا
يجزئ من ذلك كله إلا ما ستر العورة عن غيره وعن نفسه فلو صلى في قميص واسع الجيب بحيث لو
ركع أو سجد رأى عورته أو كانت بحيث يراها لم تصح صلاته، ودل على ذلك حديث سلمة بن
الأكوع أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أصلي في القميص الواحد؟ قال " نعم وازرره ولو بشوكة " قال الأثرم سئل أحمد
عن الرجل يصلي في القميص الواحد غير مزرور عليه، قال ينبغي أن يزره، قيل له فإن كانت لحيته تغطيه ولم يكن
متسع الجيب؟ قال إن كان يسيرا فجائز. فعلى هذا متى ظهرت عورته له أو لغيره فسدت صلاته فإن لم تظهر
لكون جيب القميص ضيقا أو شد وسطه بمئزر أو حبل فوق الثوب أو كان ذا لحية تسد الجيب فتمنع
الرؤية أو شد إزاره أو ألقى على جيبه رداء أو خرقة فاستترت عورته به أجزأه ذلك وهذا مذهب الشافعي
(الفصل الثالث فيما يكره) يكره اشتمال الصماء لما روى البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد
عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن لبستين اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين
فرجه وبين السماء شئ، واختلف في تفسير اشتمال الصماء فقال بعض أصحابنا هو أن يضطبع بالثوب
ليس عليه غيره ومعنى الاضطباع أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على منكبه الأيسر
ويبقى منكبه الأيمن مكشوفا، وروي حنبل عن أحمد في اشتمال الصماء أن يضطبع الرجل بالثوب
ولا إزار عليه فيبدو شقه وعورته، أما إن كان عليه ازار فتلك لبسة المحرم فلو كان لا يجزئه لم يفعله
النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أبو بكر باسناده عن ابن مسعود قال: نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يلبس الرجل ثوبا واحدا يأخذ بجوانبه على منكبه فيدعى تلك الصماء، وقال بعض أصحاب
622

الشافعي هو أن يلتحف بالثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره، وقال أبو عبيد اشتمال الصماء عند العرب
أن يشتمل الرجل بثوبه يجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانبا يخرج منه يده كأنه يذهب به إلى أنه
لعله يصيبه شئ يريد الاحتراس منه فلا يقدر عليه. وتفسير الفقهاء أن يشتمل بثوب واحد ليس
عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه والفقهاء أعلم بالتأويل. فعلى هذا
التفسير يكون النهي للتحريم وتفسد الصلاة معه - ويكره السدل وهو أن يلقي طرف الرداء من
الجانبين ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى ولا يضم الطرفين بيديه وكره السدل ابن مسعود
والنخعي والثوري والشافعي ومجاهد وعطاء وعن جابر وابن عمر الرخصة فيه. وعن مكحول والزهري
وعبيد الله بن الحسن بن الحسين أنهم فعلوه، وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يسدلان فوق
قميصهما، قال ابن المنذر لا أعلم فيه حديثا يثبت وقد روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه رواه أبو داود من طريق عطاء ثم روي عن ابن جريج
أنه قال أكثر ما رأيت عطاء يصلي سادلا - ويكره اسبال القمص والازر والسراويلات على وجه الخيلاء
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه " متفق عليه، وروى أبو داود عن ابن
مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله جل
ذكره في حل ولا حرام " - ويكره أن يغطي الرجل وجهه أو فمه لما ذكرنا من حديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه، وهل يكره التلثم على الانف؟ على روايتين (إحداهما) يكره
لأن ابن عمر كرهه (والأخرى) لا يكره لأن تخصيص الفم بالنهي عن تغطيته تدل على إباحة تغطية غيره
وتكره الصلاة في الثوب المزعفر للرجل وكذلك المعصفر لأن البخاري ومسلما رويا أن النبي
623

صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر، وروى مسلم عن علي رضي الله عنه قال: نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس
المعصفر، وقال عبد الله بن عمرو رأى النبي صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال " إن هذا من ثياب
الكفار فلا تلبسهما " وروى أبو بكر باسناده عن عمران بن الحصين أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال " لا أركب
الأرجوان ولا ألبس المعصفر " فأما شد الوسط في الصلاة فإن كان بمنطقة أو مئزر أو ثوب أو شد
قباء فلا يكره رواية واحدة، قال أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يصلي وعليه قميص يأتزر بالمنديل
قال نعم قد نقل ذلك ابن عمر وإن كان بخيط أو حبل مع سرته وفوقها فهل يكره؟ على روايتين (إحداهما)
يكره لما فيه من التشبه بأهل الكتاب وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم وقال " لا تشتملوا اشتمال
اليهود " رواه أبو داود (والرواية الأخرى) قال لا بأس أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يصلي
أحدكم الا وهو محتزم " وقال ابن سعيد سألت أحمد عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا يصلي
أحدكم الا وهو محتزم " قال كأنه من شد الوسط، وروى الخلال باسناده عن الشعبي قال: كان يقال
" شد حقوك في الصلاة ولو بعقال " وعن يزيد بن الأصم مثله
وأما الصلاة في الثوب الأحمر فقال أصحابنا يكره للرجال لبسه والصلاة فيه، وقد اشترى عمر
ثوبا فرأى فيه خيطا أحمر فرده، وقد روى أبو جحيفة قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة
حمراء ثم ركزت له عنزة فتقدم وصلى الظهر، وقال البراء ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن
من رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليهما، وروى أبو داود عن هلال بن عامر قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلي أمامه يعبر عنه، ووجه كراهة ذلك ما روى
أبو داود باسناده عن عبد الله بن عمرو قال دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران
624

فسلم فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وباسناده عن رافع بن خديج قال: خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواحلنا أكسية فيها خيوط
عهن أحمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذه الحمرة قد علتكم " فقمنا سراعا لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفر بعض إبلنا فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها. والأحاديث الأول
أثبت وأبين في الحكم فإن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لرد السلام عليه يحتمل أن يكون لمعنى غير الحمرة ويحتمل أنها
كانت معصفرة وهو مكروه، وحديث رافع يرويه عنه رجل مجهول، ولان الحمرة لون فهي كسائر الألوان
(فصل) وقد روى أبو داود عن أبي دمنة قال انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عليه
بردين أخضرين، وباسناده عن قتادة قال: قلنا لانس أي اللباس كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال الحبرة متفق عليه، وباسناده عن ابن عميرة أنه قيل له لم تصبغ بالصفرة؟ فقال إني رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ولم يكن يعني أحب إليه منها وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى
عمامته وباسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البسوا من ثيابكم البياض
فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم "
* (الفصل الرابع فيما يحرم لبسه والصلاة فيه) * وهو قسمان قسم تحريمه عام في الرجال والنساء
وقسم يختص تحريمه بالرجال (القسم الأول) ما يعم تحريمه وهو نوعان (أحدهما) النجس لا تصح
الصلاة فيه ولا عليه لأن الطهارة من النجاسة شرط وقد فاتت (والثاني) المغصوب وهل تصح الصلاة
فيه؟ على روايتين (إحداهما) لا تصح (والثانية) تصح وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن التحريم لا
يختص الصلاة ولا النهي يعود إليها فلم يمنع الصحة كما لو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب وكما
625

لو صلى وعليه عمامة مغصوبة - ووجه الرواية الأولى أنه استعمل في شرط العبادة ما يحرم عليه استعماله
فلم تصح كما لو صلى في ثوب نجس ولان الصلاة قربة وطاعة وهو منهي عنها على هذا الوجه فكيف
يتقرب بما هو عاص به أو يؤمر بما هو منهي عنه؟ وأما إذا صلى في عمامة مغصوبة أو في يده خاتم
من ذهب فإن الصلاة تصح لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة إذ العمامة ليست شرطا فيها وان صلى
في دار مغصوبة فالخلاف فيها كالخلاف في الثوب المغصوب إلا أن أحمد قال في الجمعة يصلي في المواضع
الغصب لأنها تختص بموضع معين فالمنع من الصلاة فيه إذا كان غصبا يفضي إلى تعطيلها فلذلك أجاز
فعلها فيه كما أجاز صلاة الجمعة خلف الخوارج وأهل البدع والفجور كيلا يفضي إلى تعطيلها
(القسم الثاني) ما يختص تحريمه بالرجال دون النساء وهو الحرير والمنسوج بالذهب والمموه به
فهو حرام لبسه وافتراشه في الصلاة وغيرها لما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " حرم لباس
الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لا تأتهم " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
صحيح وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا
الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " متفق عليه ولا نعلم في تحريم لبس ذلك على
الرجال اختلافا إلا لعارض أو عذر. قال ابن عبد البر هذا إجماع فإن صلى فيه فالحكم فيه كالصلاة
في الثوب الغصب على ما بيناه من الخلاف والروايتين. والافتراش كاللبس في التحريم لما روى البخاري
عن حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وان نأكل فيها وان
نلبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه
(فصل) يباح العلم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دون لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع رواه
626

أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وفي التنبيه يباح وإن كان مذهبا وكذلك القول في
الرقاع ولبنة الجيب وسجف الفراء وغيرها لأنه داخل فيما تناوله الحديث
فإن لبس الحرير للقمل أو الحكة أو مرض ينفعه لبس الحرير جاز في إحدى الروايتين لأن أنسا
روى أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرخص لهما في قميص
الحرير في غداة لهما، وفي رواية شكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرخص لهما في قمص الحرير ورأيته عليهما،
متفق عليهما، وما ثبت في حق صحابي ثبت في حق غيره ما لم يقم دليل التخصيص وغير القمل الذي
ينتفع فيه بلبس الحرير في معناه فيقاس عليه، والرواية الأخرى لا يباح لبسه للمرض لاحتمال أن
تكون الرخصة خاصة لهما وهو قول مالك، والأول أصح إن شاء الله تعالى، والتخصيص على
خلاف الأصل، فأما لبسه للحرب فإن كان به حاجة إليه كأن كان بطانة لبيضة أو درع ونحوه أبيح
قال بعض أصحابنا: يجوز مثل ذلك من الذهب كدرع مموه بالذهب وهو لا يستغني عن لبسه وهو
محتاج إليه وإن لم يكن به حاجة إليه فعلى وجهين (أحدهما) يباح لأن المنع من لبسه للخيلاء وكسر
قلوب الفقراء والخيلاء في وقت الحرب غير مذموم (والثاني) يحرم لعموم الخبر وظاهر كلام احمد رحمه الله
إباحته مطلقا وهو قول عطاء، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن لبس الحرير في الحرب فقال
أرجو أن لا يكون به بأس وروى الأثرم باسناده عن عروة أنه كان له يلمق من ديباج بطانته سندس
محشو قزا كان يلبسه في الحرب
(فصل) فاما المنسوج من الحرير وغيره كثوب منسوج من قطن وإبريسم أو قطن وكتان فالحكم
للأغلب منهما لأن الأول مستهلك فيه فهو كالبيضة من الفضة والعلم من الحرير، وقد روي عن ابن
627

عباس قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير وأما العلم وسدى الثوب فليس به
بأس، رواه الأثرم باسناده وأبو داود. قال ابن عبد البر: مذهب ابن عباس وجماعة من أهل العلم
ان المحرم الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره فإن كان الأقل الحرير فهو مباح وإن كان القطن فهو محرم
فإن استويا ففي تحريمه واباحته وجهان وهذا مذهب الشافعي. قال ابن عقيل الأشبه التحريم لأن النصف
كثير فاما الجباب المحشوة من إبريسم فقال القاضي لا يحرم وهو مذهب الشافعي لعدم الخيلاء فيه
ويحتمل التحريم لعموم الخبر وهكذا الفرش المحشوة بالحرير
(فصل) فأما الثياب التي عليها تصاوير الحيوانات فقال ابن عقيل: يكره لبسها وليس بمحرم
وقال أبو الخطاب: هو محرم لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تدخل الملائكة
بيتا فيه كلب ولا صورة " متفق عليه. وحجة من لم يره محرما أن زيد بن خالد رواه عن أبي طلحة
عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره " إلا رقما في ثوب " متفق عليه
(فصل) ويكره الصليب في ثوب لأن عمران بن حطان روى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب الا قصبه رواه أبو داود
(فصل) قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن لبس الخز فلم ير به بأسا. وروى الأثرم
باسناده عن عمران بن حصين وأنس بن مالك والحسن بن علي وأبي هريرة وقيس ومحمد بن الحنفية
وغيلان بن جرير وسليل بن عوف أنهم لبسوا مطارف الخز، وباسناده عن قتادة ان أنس بن مالك
وعائذ بن عمرو وعمران بن حصين وأبا هريرة وابن عباس وأبا قتادة كانوا يلبسون الخز وباسناده
عن عبد الرحمن بن عوف والحسين بن علي وعبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة والقاسم بن محمد أنهم
لبسوا جباب الخز. وباسناده عن أنس بن مالك وشريح أنهم لبسوا برانس الخز، وباسناده عن
628

عمار بن أبي عمار قال أتت مروان مطارف من خز فكساها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسا أبا هريرة مطرفا
من خز أغبر فكان يلبسه اثنان بسعته وهذا اشتهر فلم يظهر بخلافه فكان إجماعا. وروى أبو بكر باسناده
عن أحمد بن عبد الرحمن الرازي حدثنا أبي قال أخبرني أبي عبد الله بن سعيد عن أبيه سعيد قال: رأيت
رجلا يتجارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء فقال كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى مالك في
موطئه أن عائشة كست عبد الله بن الزبير مطرف خز كانت تلبسه
(فصل) وهل يجوز لولي الصبي أن يلبسه الحرير؟ فيه وجهان أشبههما بالصواب تحريمه لعموم
قول النبي صلى الله عليه وسلم " حرم لباس الحرير على ذكور أمتي وأحل لإناثهم " وروى أبو داود باسناده عن
جابر قال كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري. وقدم حذيفة من سفر وعلى صبيانه قمص من
حرير فمزقها على الصبيان وتركها على الجواري. أخرجه الأثرم. وروي أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد
قال كنت رابع أربعة أو خامس خمسة مع عبد الله فجاء ابن له صغير عليه قمص من حرير فدعاه فقال له
من كساك هذا؟ قال أمي فأخذه عبد الله فشقه. والوجه الآخر ذكره أصحابنا أنه يباح لأنهم غير مكلفين
فلا يتعلق التحريم بلبسهم كما لو ألبسه دابة ولأنه محل الزينة فهم كالنساء. والأول أصح لظاهر الحديث
وفعل الصحابة ويتعلق التحريم بتمكينهم من المحرمات كتمكينهم من شرب الخمر وأكل الربا وغيرهما،
وكونهم محل الزينة مع تحريم الاستمتاع بهم يقتضي التحريم لا الإباحة بخلاف النساء والله أعلم
* (مسألة) * قال (ومن لم يقدر على ستر العورة صلى جالسا يومئ ايماءا)
وجملة ذلك أن العادم للسترة الأولى له أن يصلي قاعدا روي ذلك عن ابن عمر وقال به عطاء
وعكرمة وقتادة والأوزاعي وأصحاب الرأي ويومئ بالركوع والسجود وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال
629

مجاهد ومالك والشافعي وابن المنذر يصلي قائما بركوع وسجود لقوله عليه السلام " صل قائما فإن لم
تستطع فجالسا " رواه البخاري ولأنه مستطيع للقيام من غير ضرر فلم يجز تركه له كالقادر على الستر
ولنا ما روى الخلال باسناده عن ابن عمر في قوم انكسرت مراكبهم فخرجوا عراة قال يصلون
جلوسا يومئون إيماءا برؤوسهم ولم ينقل خلافه ولان الستر آكد من القيام بدليل أمرين (أحدهما) انه لا يسقط
مع القدرة بحال والقيام يسقط في النافلة (والثاني) ان القيام يختص الصلاة والستر يجب فيها وفي غيرها
فإذا لم يكن بد من ترك أحدهما فترك أخفهما أولى من ترك آكدهما ولأنه إذا استتر أتى ببدل عن
القيام والركوع والسجود، والستر لا بدل له والحديث محمول على حالة لا تتضمن ترك السترة. فإن قيل
فالستر لا يحصل إنما يحصل بعضه فلا يفي بترك القيام. قلنا: إذا قلنا العورة الفرجان فقد حصل الستر وان
قلنا العورة ما بين السرة والركبة فقد حصل ستر آكدها وجوبا في الستر وأفحشها في النظر فكان ستره
أولى. وإذا ثبت هذا فليس على من صلى في هذه الحال إعادة لأنه شرط من شرائط الصلاة عجز عنه
فسقط كما لو عجز عن استقبال القبلة فصلى إلى غيرها، وان صلى العريان قائما صحت صلاته في ظاهر
كلام أحمد رحمه الله وهو قول أصحاب الرأي، وقال ابن جريج يتحيرون بين الصلاة قياما وقعودا وقد
روي عن أبي عبد الله رحمه الله ما يدل على أنهم يصلون قياما وقعودا فإنه قد قال في العراة يقوم إمامهم
في وسطهم. وروى عنه الأثرم ان توارى بعضهم ببعض فصلوا قياما فهذا لا بأس به، قيل له فيومئون أو
يسجدون؟ قال سبحان الله السجود لابد منه، فهذا يدل على أنه لا يومئ بالسجود في حال وان
الأفضل في الخلوة القيام الا ان الخلال قال هذا توهم من الأثرم، قال ومعنى قول احمد يقوم وسطهم
اي يكون وسطهم لم يرد به حقيقة القيام. وعلى كل حال فينبغي لمن صلى عريانا ان يضم بعضه إلى
بعض ويستر ما أمكن ستره. قيل لأبي عبد الله: يتربعون أو يتضامون؟ قال: لا بل يتضامون. وإذا قلنا
630

يسجدون بالأرض فإنهم يتضامون أيضا. وعن أحمد انه يتربع موضع القيام والأول أولى
(فصل) إذا وجد العريان جلدا طاهرا أو ورقا يمكنه خصفه عليه أو حشيشا يمكنه أن يربطه
عليه فيستر به لزمه ذلك لأنه قادر على ستر عورته بطاهر فلزمه كما لو قدر على سترها بثوب، وقد ستر
النبي صلى الله عليه وسلم رجلي مصعب بن عمير بالإذخر لما لم يجد سترة، فإن وجد طيبا يطلي به جسده فظاهر
كلام أحمد أنه لا يلزمه ذلك وذلك لأنه يجف ويتناثر عند الركوع والسجود ولان فيه مشقة شديدة
ولم تجر به العادة، واختار ابن عقيل أنه يلزمه ذلك فما تناثر سقط حكمه ويستتر بما بقي وهو قول
بعض الشافعية. والأولى أنه لا يلزمه ذلك لأن عليه فيه مشقة ويلحقه به ضرر ولا يحصل له كمال الستر
فإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه وإن كان كدرا لأن للماء سكانا ولا يتمكن فيه من السجود،
وكذلك لو وجد حفرة لم يلزمه النزول فيها لأنها لا تلصق بجلده فهي كالجدار وإن وجد سترة تضر
بجسمه كبارية القصب ونحوها مما يدخل في جسمه لم يلزمه الاستتار بها لما فيه من الضرر والمنع من
إكمال الركوع والسجود.
(فصل) وإذا بذل له سترة لزمه قبولها إذا كانت عارية لأنه قدر على ستر العورة بما لا منة فيه
وإن وهب له لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه منة، وإن وجد من يبيعه ثوبا بثمن مثله أو يؤجره بأجرة مثله
أو زيادة يتغابن الناس بمثلها وقدر على ذلك العوض لزمه قبوله، وان كانت كثيرة لا يتغابن الناس بمثلها
لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء
(فصل) فإن لم يجد إلا ثوبا نجسا قال أحمد: يصلي فيه ولا يصلي عريانا وهو قول مالك والمزني.
وقال الشافعي وأبو ثور: يصلي عريانا ولا يعيد لأنها سترة نجسة فلم تجز له الصلاة فيها كما لو قدر على
غيرها، وقال أبو حنيفة: إن كان جميعه نجسا فهو مخير في الفعلين لأنه لابد من ترك واجب في كلا الفعلين.
ولنا أن الستر آكد من إزالة النجاسة على ما قررناه في الصلاة جالسا فكان أولى ولان النبي
631

صلى الله عليه وسلم قال " غط فخذك " وهذا عام ولان السترة متفق على اشتراطها والطهارة من النجاسة مختلف
فيها فكان المتفق عليه أولى وما ذكره الشافعي معارض بمثله وهو أنه قدر على ستر عورته فلزمه كما لو
وجد ثوبا طاهرا إذا انفرد أنه يصلي فيه فالمنصوص عن أحمد أنه لا يعيد لأن الطهارة من النجاسة
شرط وقد فاتت وقد نص فيمن صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه أنه لا يعيد فكذا ههنا
وهو مذهب مالك والأوزاعي وهو الصحيح لأنه شرط للصلاة عجز عنه فسقط كالسترة والاستقبال
بل أولى فإن السترة آكد بدليل تقديمها على هذا الشرط. ثم قد صحت الصلاة وأجزأت عند عدمها
فههنا أولى، فإن لم يجد إلا ثوب حرير صلى فيه ولا يعيد. وإن لم يجد إلا ثوبا مغصوبا صلى عريانا لما في
ذلك من حق الآدمي فأشبه ما لو لم يجد ماء يتوضأ به إلا أن يغصبه فإنه يتيمم كذا ههنا والله أعلم
(فصل) فإن لم يجد إلا ما يستر عورته أو منكبيه ستر عورته لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" إذا كان الثوب واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به " وهذا الثوب ضيق. وفي المسند عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عمر قال " لا يشتمل أحدكم اشتمال اليهود ليتوشح، من كان له
ثوبان فليأتزر وليرتد، ومن لم يكن له ثوبان فليتزر ثم ليصل " ولان الستر للعورة واجب متفق على
وجوبه متأكد وستر المنكبين فيه من الخلاف والتخفيف ما فيه فلا يجوز تقديمه. وقد روي عن أحمد
في الرجل يكون عليه الثوب اللطيف لا يبلغ أن يعقده يرى أن يتزر به ويصلي، قال لا أرى ذلك
مجزئا عنه وإن كان الثوب لطيفا صلى قاعدا وعقد من ورائه، وظاهر هذا أنه قدم ستر المنكبين على
القيام وستر ما عدا الفرجين ولأنه ذهب إلى أن الحديث في ستر المنكبين أصح منه في ستر الفرجين
وأن القيام له بدل وستر المنكبين لا بدل له، والصحيح ما ذكرناه أولا لما قدمنا من تأكد ستر العورة
والقيام وما روينا من الحديث وهو صريح في هذه المسألة وفيه قصة رواها أبو داود عن جابر قال:
سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة ذهبت أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لي وكانت لها
دنادب فنكستها ثم خالفت بين طرفيها ثم تواقصت عليها حتى لا تسقط ثم جئت حتى قمت عن يسار
632

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه فجاء ابن صخر حتى قام عن يساره فأخذنا
بيديه جميعا حتى أقامنا خلفه، قال وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقني وأنا لا أشعر ثم فطنت به فأشار
إلي أن اتزر بها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا جابر " قلت لبيك يا رسول الله قال " إذا كان
واسعا فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقا فاشدده على حقوك "
(فصل) فإن لم يجد الا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين لأنهما أفحش وسترهما آكد فإن كان
لا يكفي الا أحدهما ستر أيهما شاء، واختلف في أولاهما بالستر فقيل الدبر لأنه أفحش لا سيما في الركوع
والسجود وقيل القبل لأنه مستقبل به القبلة وليس له ما يستره والدبر مستور بالاليتين
* (مسألة) * قال (فإن صلى جماعة عراة كان الإمام معهم في الصف وسطا يومئون ايماء
ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم)
وجملة ذلك أن الجماعة مشروعة للعراة وبه قال قتادة، وقال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي
يصلون فرادى ويتباعد بعضهم من بعض، وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم إمامهم، وقال
الشافعي في القديم كقولهم، وقال في موضع آخر الجماعة والانفراد سواء لأن في الجماعة الاخلال بسنة
الموقف وفي الانفراد الاخلال بفضيلة الجماعة فيستويان ووافقنا على مشروعية الجماعة في النساء العراة
وفي الرجال إذا كان معهم مكتس يصلح أن يؤمهم
ولنا أنه يمكنهم الجماعة من غير ضرر فلزمهم كالمستترين، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة
الرجل في الجميع تفضل على صلاته وحده بسبع وعشرين درجة (1) عام في كل مصل ولا تسقط الجماعة
لتعذر سببها في الموقف كما لو كانوا في مكان ضيق لا يمكن أن يتقدمهم إمامهم، وإذا شرعت الجماعة
لعراة النساء مع أن الستر في حقهن آكد والجماعة في حقهن أخف فللرجال أولى وأحرى، وغض البصر
يحصل بكونهم صفا واحدا يستر بعضهم بعضا. إذا ثبت هذا فإنهم يصلون صفا واحدا ويكون إمامهم

(1) الحديث في الصحيحين بألفاظ ليس هذا اللفظ منها
633

في وسطهم ليكون أستر لهم، وأغض لأبصارهم عنه. وكذلك سن لإمامة النساء القيام وسطهن في
كل حال لأنهن عورات فإن كان مع الرجال نساء عراة تنحين عنهم لئلا يرى بعضهم بعضا ويصلين
جماعة أيضا كالرجال إلا أن الجماعة في حقهن أدنى منها في حق الرجال كما لو كانوا غير عراة فإن كان
الجميع في مجلس أو في مكان ضيق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال
لئلا يرى بعضهم عورات بعض، فإن كان الرجال لا يسعهم صف واحد والنساء وقفوا صفوفا وغضوا
أبصارهم عمن بين أيديهم لأنه موضع ضرورة
* (مسألة) * قال (وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنهم يسجدون بالأرض)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في العراة إذا صلوا قعودا فروي أنهم يومئون بالركوع
والسجود لأن القيام سقط عنهم لحفظ عوراتهم وظهورها بالسجود أكثر وأفحش فوجب أن يسقط،
وروي أنهم يسجدون بالأرض لأن السجود آكد من القيام لكونه مقصودا في نفسه ولا يسقط فيما
يسقط فيه القيام وهو صلاة النافلة فلهذا لم يسقط
(فصل) فإن كان مع العراة واحد له ثوب لزمته الصلاة فيه لأنه قادر على السترة فإن أعاره وصلى
عريانا لم تصح صلاته لتركه الواجب عليه. ويستحب أن يعيره بعد صلاته فيه لغيره ليصلي فيه لقول
الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولا يجب عليه ذلك بخلاف ما لو كان معه طعام فاضل عن
حاجته ووجد من به ضرورة لزمه اعطاؤه إياه لأنها حال ضرورة فإذا بذله لهم صلى فيه واحد بعد واحد
ولم تجز لهم الصلاة عراة لأنهم قادرون على الستر الا أن يخافوا ضيق الوقت فيصلي فيه واحد والباقون
عراة، وقال الشافعي لا يصلي أحد عريانا وينتظر الثوب وإن خرج الوقت، ولا يصح فإن الوقت آكد
من القيام بدليل ما لو كانوا في سفينة أو في موضع ضيق لا يمكن جميعهم الصلاة فيه قياما صلى واحد بعد
واحد الا أن يخافوا فوات الوقت فيصلون قعودا، نص الشافعي على هذا والقيام آكد من السترة عنده وعلى
634

رواية لنا فأولى أن يكون الوقت مقدما على الستر فإن امتنع صاحب الثوب من إعارتهم أو ضاق الوقت
عن أكثر من صلاة فالمستحب أن يؤمهم صاحب الثوب ويقف بين أيديهم فإن كان أميا وهم قراء صلى
الباقون جماعة على ما أسلفنا. قال القاضي يصلي هو منفردا وإذا أراد صاحب الثوب إعارة ثوبه ومعهم
نساء استحب أن يبد بهن لأنهن آكد في الستر وإذا صلين فيه أخذه فإذا تضايق الوقت وفيهم
قارئ فالمستحب أن يبدأ به ليكون إمامهم وان أعاره لغير القارئ صار حكمه كحكم صاحب الثوب
فإن استووا ولم يكن الثوب لواحد منهم أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة فهو أحق وان لم يستووا
فالأولى به من تستحب البداية بإعارته على ما ذكرنا
* (مسألة) * قال (ومن كان في ماء وطين أومأ ايماء)
وجملة ذلك أنه إذا كان في الطين والمطر ولم يمكنه السجود على الأرض الا بالتلوث بالطين
والبلل بالماء فله الصلاة على دابته يومئ بالركوع والسجود وإن كان راجلا أومأ بالسجود أيضا ولم يلزمه
السجود على الأرض. قال الترمذي: روي عن أنس بن مالك أنه صلى على دابته في ماء وطين والعمل
على هذا عند أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق وفعله جابر بن زيد وأمر به طاوس وعمارة بن عرية
قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد انه يسجد على متن الماء. والأول أولى لما روى يعلى بن أمية عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون إيماء يجعلون
السجود أخفض من الركوع، رواه الأثرم والترمذي، وقال تفرد به عن عمر بن الرماح البلخي وقد
روى عنه غير واحد من أهل العلم، قال القاضي أبو يعلى: سألت أبا عبد الله الدامغاني فقال
مذهب أبي حنيفة أن يصلي على الراحلة في المطر والمرض، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز أن يصلي
الفرض على الراحلة لأجل المطر والمرض وعن مالك كالمذهبين، واحتج من منع ذلك بحديث أبي
635

سعيد الخدري فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء
والطين وهذا حديث صحيح.
ولنا ما رويناه من الحديث وفعل أنس. قال أحمد رحمه الله قد صلى أنس وهو متوجه إلى سرابيط
في يوم مطر المكتوبة على الدابة. ورواه الأثرم باسناده ولم ينقل عن غيره خلافه فيكون إجماعا ولان
المطر عذر يبيح الجمع فأثر في أفعال الصلاة كالسفر يؤثر في القصر. وأما حديث أبي سعيد فيحتمل أن
الطين كان يسيرا لا يؤثر في تلويث الثياب
(فصل) فأما الصلاة على الراحلة لأجل المرض ففيه روايتان (إحداهما) يجوز اختارها أبو بكر
لأن المشقة بالنزول في المرض أشد منها بالنزول في المطر فإذا أثر المطر في إباحة الصلاة على الراحلة
فالمرض أولى (والثانية) لا يجوز ذلك واحتج لها أحمد بأن ابن عمر كان ينزل مرضاه ولأنه قادر على
الصلاة أو على السجود فلم يجز تركه كغير المريض والفرق بينه وبين المطر أن النزول في المطر يبلل ثيابه
ويلوثها ولا يتمكن من الصلاة بالمشقة ونزول المريض يؤثر في حصوله على الأرض وهو أسكن له وأمكن
من كونه على الظهر، وقد اختلفت جهة المشقة فالمشقة على المريض في نفس جهة النزول لا في الصلاة على
الأرض والمشقة على الممطور في الصلاة على الأرض لا في النزول ومع هذا الاختلاف لا يصح الالحاق
فإن خاف المريض من النزول ضررا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة أو العجز عن الركوب أو زيادة
المرض ونحو هذا صلى على الراحلة كما ذكرنا في صلاة الخوف
(فصل) ومتى صلى على الراحلة لمرض أو مطر فليس له ترك الاستقبال وهو ظاهر كلام الخرقي
حيث قال: ولا يصلي في غير هاتين الحالتين فرضا ولا نافلة إلا متوجها إلى الكعبة، ولان قوله تعالى
(وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) عام خرج منه حال الخوف في صلاة الفرض محافظة على بقاء
النفس ففيما عداه يبقى الاستقبال لعموم الآية
* (مسألة) * قال (وإذا انكشف من المرأة الحرة شئ سوى وجهها أعادت الصلاة)
636

لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها
وكفيها وفي الكفين روايتان، واختلف أهل العلم فأجمع أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه،
وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها
مكشوف ان عليها الإعادة، وقال أبو حنيفة القدمان ليسا من العورة لأنهما يظهران غالبا فهما كالوجه
وإن انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم تبطل صلاتها. وقال مالك
والأوزاعي والشافعي جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة لأن
ابن عباس قال في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال الوجه والكفين (1) ولان النبي
صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما ولان
الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للاخذ والاعطاء، وقال بعض أصحابنا المرأة
كلها عورة لأنه قد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " المرأة عورة " رواه الترمذي وقال حديث حسن
صحيح، لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة وأبيح النظر إليه لأجل
الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر بن الحارث بن هشام قال المرأة كلها عورة حتى ظفرها
والدليل على وجوب تغطية القدمين ماروت أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أتصلي المرأة في درع
وخمار ليس عليها إزار؟ قال " نعم إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها " رواه أبو داود وقال وقفه
جماعة على أم سلمة ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" لا ينظر الله (2) إلى من جر ثوبه خيلاء " فقالت أم سلمة فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال " يرخين
شبرا " فقالت إذا تنكشف أقدامهن؟ قال " فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه " (3) رواه الترمذي وقال
حديث حسن صحيح وهذا يدل على وجوب تغطية القدمين ولأنه محل لا يجب كشفه في الاحرام فلم
يجز كشفه في الصلاة كالساقين وما ذكروه من تقدير البطلان بزيادة على ربع العضو فتحكم لا دليل
عليه والتقدير لا يصار إليه بمجرد الرأي، وقد ثبت وجوب تغطية الرأس بقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل

(1) أعاد (قال) للتأكيد ومقول القول تفسير للمستثنى وهو منصوب
(2) في الترمذي زيادة " يوم القيامة "
(3) لفظ الترمذي في هذه الرواية (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه)
637

الله صلاة حائض الا بخمار " أخرجه الترمذي (1) وقال حديث حسن وبالاجماع على ما قدمناه، فأما
الكفان فقد ذكرنا فيهما روايتين (إحداهما) لا يجب سترهما لما ذكرنا (والثانية) يجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" المرأة عورة " وهذا عام الا ما خصه الدليل، وقول ابن عباس الوجه والكفان قد روى أبو حفص
عن عبد الله بن مسعود خلافه قال (ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها) قال الثياب، ولا يجب كشف
الكفين في الاحرام إنما يحرم أن تلبس فيهما شيئا مصنوعا على قدرهما كما يحرم على الرجل لبس
السراويل والذي يستر به عورته
(فصل) والمستحب أن تصلي المرأة في درع - قال الدرع يشبه القميص لكنه سابغ يغطي قدميها -
وخمار يغطي رأسها وعنقها وجلباب تلتحف به من فوق الدرع، روي ذلك عن عمر وابنه وعائشة وعبيدة
السلماني وعطاء وهو قول الشافعي، قال قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار وما زاد فهو خير وأستر ولأنه
إذا كان عليها جلباب فإنها تجافيه راكعة وساجدة لئلا تصفها ثيابها فتبين عجيزتها ومواضع عوراتها
(فصل) ويجزئها من اللباس ما سترها الستر الواجب على ما بينا بحديث أم سلمة أنها سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال " إذا كان الدرع سابغ يغطي ظهور قدميها "
وقد روي عن ميمونة وأم سلمة أنهما كانتا تصليان في درع وخمار ليس عليهما إزار رواه مالك في الموطأ. وقال
أحمد قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار ولأنها سترت ما يجب عليها ستره فأجزأتها صلاتها كالرجل
(فصل) فإن انكشف من المرأة شئ يسير من غير الوجه والكفين فلا أعلم فيها قولا صحيحا
صريحا وظاهر قول الخرقي: إذا انكشف من المرأة شئ سوى وجهها وكفيها أعادت - يقتضي بطلان
الصلاة بانكشاف اليسير لأنه شئ يمكن حمل ذلك على الكثير لما قررناه في عورة الرجل أنه يعفى فيها
عن اليسير فكذا ههنا ولأنه يشق التحرز من اليسير فعفي عنه قياسا على يسير عورة الرجل
(فصل) ويكره أن تنتقب المرأة وهي تصلي لأنه يخل بمباشرة المصلى بجبهتها وأنفها ويجري مجرى

(1) وكذا أحمد وسائر أصحاب السنن وغيرهم، وأعله الدارقطني بالوقف أي على عائشة راويته وقال وقفه أشبه وأعله الحاكم بالارسال
638

تغطية الفم للرجل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال ابن عبد البر وقد أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف
وجهها في الصلاة والاحرام
(فصل) قال وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة لا نعلم أحدا خالف في هذا إلا الحسن فإنه من
بين أهل العلم أوجب عليها الخمار إذا تزوجت أو اتخذها الرجل لنفسه، واستحب لها عطاء أن تتقنع إذا صلت
ولنا أن عمر رضي الله عنه ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة وقال: اكشفي رأسك ولا تشبهي
بالحرائر. وهذا يدل على أن هذا كان مشهورا بين الصحابة لا ينكر حتى أنكر عمر مخالفته وقال أبو قلابة
ان عمر بن الخطاب كان لا يدع أمة تقنع في خلافته وقال إنما القناع للحرائر
(فصل) لم يذكر الخرقي رحمه الله عنه سوى كشف الرأس وهو المنصوص عن أحمد رحمه الله
في رواية عبد الله فقال. وان صلت الأمة مكشوفة الرأس فلا بأس، واختلف أصحابنا فيما عدا ذلك فقال
ابن حامد عورتها كعورة الرجل وقد لوح إليه أحمد رحمه الله وقال القاضي في المجرد ان انكشف منها
في الصلاة ما بين السرة والركبة فالصلاة باطلة وان انكشف ما عدا ذلك فالصلاة صحيحة، وقال في
الجامع عورة الأمة ما عدا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين واحتج عليه بقول احمد
لا بأس أن يقلب الرجل الجارية إذا أراد الشراء من فوق الثوب ويكشف الذراعين والساقين ولان
هذا يظهر عادة عند الخدمة والتقليب للشراء فلم يكن عورة وما سواه لا يظهر عادة ولا تدعو الحاجة
إلى كشفه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي والأظهر عنهم مثل قول ابن حامد لما روي عن أبي موسى
أنه قال على المنبر: ألا لا أعرف أحدا أراد أن يشتري جارية فينظر إلى ما فوق الركبة أو دون السرة
لا يفعل ذلك أحد إلا عاقبته، وقد ذكرنا حديث الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظر إلى شئ من عورته " فإن ما تحت
السرة إلى ركبته من العورة يريد الأمة فإن الأجير والعبد لا ينظر إلى ذلك منه مزوجا وغير مزوج
ولان من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل
639

(فصل) والمكاتبة والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالأمة القن فيما ذكرناه لأنهن إماء يجوز بيعهن
وعتقهن وأما المعتق بعضها فيحتمل وجهين (أحدهما) هي كالحرة احتياطا للعبادة (والثاني) كالأمة
لعدم الحرية الكاملة ولذلك ضمنت بالقيمة
(فصل) والخنثى المشكل كالرجل لأن ستر ما زاد على عورة الرجل محتمل فلا نوجب عليه حكما
بأمر محتمل متردد وعلى قولنا العورة الفرجان الذان في قبله لأن أحدهما فرج حقيقي وليس يمكنه
تغطيته يقينا إلا بتغطيتهما فوجب عليه ذلك كما يجب ستر ما قرب من الفرجين ضرورة سترهما
(فصل) إذا تلبست الأمة بالصلاة مكشوفة الرأس فعتقت في أثنائها فهي كالعريان يجد السترة
في صلاته إن أمكنها أو أمكنه السترة من غير زمن طويل ولا عمل كثير ستر وبنى على ما مضى
من الصلاة كأهل قباء لما علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وبنوا وإن لم يمكن الستر إلا بعمل كثير
أو زمن طويل بطلت الصلاة إذلا يمكن المضي فيها لكون السترة شرطا مع القدرة ووجدت القدرة ولا
يمكن العمل في الصلاة كثيرا لأنه ينافيها فيبطلها والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف من غير تقدير
بالخطوة والخطوتين وذكر القاضي فيمن وجدت من يناولها السترة فانتظرت احتمالين (أحدهما) تبطل
صلاتها (والثاني) لا تبطل لأن الجميع انتظار واحد والأول أولى لأن الفصل طال عليها وهي بادية
العورة بعد القدرة على الستر فلم تصح صلاتها كما لو لم تكن منتظرة فإن لم تعلم بالعتق حتى أتمت صلاتها
لم تصح لأنها صلت عارية جهلا بوجوب الستر فلم تصح كما لو علمت العتق وجهلت الحكم وان عتقت
ولم تجد ما تستتر به صحت صلاتها لأنها لا تزيد على الحرة الأصلية العاجزة عن الاستتار
* (مسألة) * قال (ويستحب لام الولد أن تغطي رأسها في الصلاة)
وجملة ذلك أن أم الولد كالأمة في صلاتها وسترتها صرح بها الخرقي في عتق أمهات الأولاد فقال
وإن صلت مكشوفة الرأس كره لها ذلك وأجزأها. وممن لم يوجب عليها تغطية رأسها النخعي ومالك
640

والشافعي وأبو ثور، وقد نقل الأثرم عن أحمد أنه سأله كيف تصلي أم الولد؟ قال تغطي شعرها وقدمها
لأنها لا تباع. وهي تصلي كما تصلي الحرة، فهذا يحتمل أن يكون على الاستحباب فيكون كما ذكر الخرقي
ويحتمل أن يجري على ظاهره في الوجوب لأنها لا تباع ولا ينقل الملك فيها فأشبهت الحرة وقد أنعقد
سبب حريتها بحيث لا يمكن إبطاله فغلب فيها حكم الحرية في العبادة. والأول أولى لأنها أمة حكمها حكم
الإماء إلا في أنها لا ينقل الملك فيها فهي كالموقوفة وانعقاد السبب للحرية لا يوجب الستر كالكتابة
والتدبير ولكن يستحب لها الستر ويكره لها كشف الرأس لما فيها من الشبه بالحرائر
* (مسألة) * قال (ومن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أتمها وقضى المذكورة
وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت مبقى)
وجملة ذلك أن الترتيب واجب في قضاء الفوائت نص عليه في مواضع. قال في رواية أبي داود
فيمن ترك صلاة سنة يصليها ويعيد كل صلاة صلاها وهو ذاكر لما ترك من الصلاة وقد روي عن ابن
عمر رضي الله عنه ما يدل على وجوب الترتيب ونحوه عن النخعي والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري
ومالك والليث وأبي حنيفة وإسحاق، وقال الشافعي لا يجب
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فاته يوم الخندق أربع صلوات فقضاهن مرتبات وقال " صلوا كما
رأيتموني أصلي " وروى الإمام أحمد باسناده عن أبي جمعة حبيب بن سباع وكان قد أدرك النبي
صلى الله عليه وسلم قال: ان النبي صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب فلما فرغ قال " هل علم أحد منكم أني
صليت العصر؟ " فقالوا: يا رسول الله ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم
أعاد المغرب، وهذا يدل على وجوب الترتيب. وروى أبو حفص باسناده عن نافع عن ابن عمر
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل
مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام، وروي
641

موقوفا عن ابن عمر، ولأنهما صلاتان مؤقتتان فوجب الترتيب فيهما كالمجموعتين. إذا ثبت هذا فإنه
يجب الترتيب فيها وان كثرت وقد نص عليه أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجب الترتيب في
أكثر من صلاة يوم وليلة. ولان اعتباره فيما زاد على ذلك يشق ويفضي إلى الدخول في التكرار
فسقط كالترتيب في قضاء صيام رمضان
ولنا أنها صلوات واجبات تفعل في وقت يتسع لها فوجب فيها الترتيب كالخمس وافضاؤه إلى
التكرار لا يمنع وجوب الترتيب كترتيب الركوع على السجود وهذا الترتيب شرط في الصلاة فلو أخل
به لم تصح صلاته بدليل ما ذكرنا من حديث أبي جمعة وحديث ابن عمر، ولأنه ترتيب واجب في
الصلاة فكان شرطا لصحتها كترتيب المجموعتين. إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب وهو إذا
أحرم بالحاضرة ثم ذكر في أثنائها أن عليه فائتة والوقت متسع فإنه يتمها ويقضي الفائتة ثم يعيد الصلاة
التي كان فيها سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا. هذا ظاهر كلام الخرقي وأبو بكر وهو قول ابن
عمر ومالك والليث وإسحاق في المأموم وهو الذي نقله الجماعة عن أحمد في المأموم. ونقل عنه جماعة
في المنفرد انه يقطع الصلاة ويقضى الفائتة وهو قول النخعي والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري في
المنفرد وغيره. وروى حرب عن أحمد في الإمام ينصرف ويستأنف المأمومون. قال أبو بكر لا ينقلها
غير حرب وقد نقل عنه في المأموم أنه يقطع وفي المنفرد انه يتم الصلاة وكذلك حكم الإمام يجب أن
يكون مثله فيكون في الجميع أداء روايتان (إحداهما) يقطعها (والأخرى) يتمها. وقال طاوس والحسن
والشافعي وأبو ثور يتم صلاته ويقضي الفائتة لا غير. ولنا على وجوب الإعادة حديث ابن عمر وحديث
أبي جمعة، ولأنه ترتيب واجب فوجب اشتراطه لصحة الصلاة كترتيب المجموعتين
ولنا على أنه يتم الصلاة قوله تعالى (ولا تبطلوا أعمالكم) وحديث ابن عمر وحديث أبي جمعة
أيضا قال: يتعين حمله على أنه ذكرها وهو في الصلاة فإنه لو نسيها حتى يفرغ من الصلاة لم يجب
642

قضاؤها ولأنها صلاة ذكر فيها فائتة فلم تفسد كما لو كان مأموما فإن ظاهر المذهب انه يمضي فيها.
قال أبو بكر: لا يختلف كلام أحمد - إذا كان وراء الإمام - انه يمضي مع الإمام ويعيدهما جميعا.
واختلف قوله إذا كان وحده قال: والذي أقول إنه يمضي لأنه يشنع أن يقطع ما دخل فيه قبل أن يتمه،
فإن مضى الإمام في صلاته بعد ذكره انبنت صلاة المأمومين على ائتمام المفترض بالمتنفل والأولى ان
ذلك يصح لما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. وإذا قلنا يمضي في صلاته فليس ذلك بواجب فإن الصلاة
تصير نفلا فلا يلزم ائتمامه. قال مهنا: قلت لأحمد اني كنت في صلاة العتمة فذكرت اني لم أكن
صليت المغرب فصليت العتمة ثم أعدت المغرب والعتمة، قال: أصبت. فقلت: أليس كان ينبغي
أن أخرج حين ذكرتها؟ قال بلى. قلت: فكيف أصبت؟ قال: كل جائز
(فصل) وقول الخرقي: ومن ذكر صلاة وهو في أخرى. يدل على أنه متى صلى ناسيا للفائتة
ان صلاته صحيحة وقد نص أحمد على هذا في رواية الجماعة قال: متى ذكر الفائتة وقد سلم أجزأته
ويقضي الفائتة، وقال مالك: يجب الترتيب مع النسيان، ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بحديث
أبي جمعة وبالقياس على المجموعتين
ولنا عموم قوله عليه السلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " ولان المنسية ليست عليها أمارة
فجاز أن يؤثر فيها النسيان كالصيام. وأما حديث أبي جمعة فإنه من رواية ابن لهيعة وفيه ضعف.
ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها وهو في الصلاة. وأما المجموعتان فإنما لم يعذر بالنسيان لأن عليهما
أمارة وهو اجتماع الجماعة بخلاف مسئلتنا، ولا فرق بين أن لا يكون قد سبق منه ذكر الفائتة أو لم
يسبق منه لها ذكر، نص عليه أحمد لعموم ما ذكرناه من الدليل والله أعلم
* (مسألة) * قال (ومن خشي خروج الوقت اعتقد وهو فيها أن لا يعيدها وقد أجزأته)
يعني إذا خشي فوات الوقت قبل قضاء الفائتة وإعادة التي هو فيها سقط الترتيب حينئذ ويتم
صلاته ويقضي الفائتة فحسب وقوله اعتقد أن لا يعيدها يعني لا يغير نيته عن الفرضية ولا يعتقد أنه
643

يعيدها هذا هو الصحيح من المذهب. وهكذا لو لم يكن دخل فيها لكن لم يبق من وقتها قدر يصليهما
جميعا فيه فإنه يسقط الترتيب ويقدم الحاضرة وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والأوزاعي والثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي. وعن أحمد رواية أخرى ان الترتيب واجب مع سعة الوقت وضيقه اختارها
الخلال وهو مذهب عطاء والزهري والليث ومالك. ولا فرق بين أن تكون الحاضرة جمعة أو غيرها
قال أبو حفص: هذه الرواية تخالف ما نقله الجماعة، فاما أن يكون غلطا في النقل، وإما أن يكون قولا
قديما لأبي عبد الله، وقال القاضي: وعندي ان المسألة رواية واحدة ان الترتيب يسقط لأنه قال في
رواية مهنا في رجل نسي صلاة وهو في المسجد يوم الجمعة عند حضور الجمعة يبدأ بالجمعة هذه يخاف فوتها
فقيل له كنت أحفظ عنك انه إذا صلى وهو ذاكر لصلاة فائتة أنه يعيد هذه وهذه؟ فقال: كنت
أقول هذا. فظاهر هذا انه رجع عن قوله الأول، وفي رواية ثالثة إن كان وقت الحاضرة يتسع
لقضاء الفوائت وجب الترتيب، وإن كان لا يتسع سقط الترتيب في أول وقتها، نقل ابن منصور فيمن
يقضي صلوات فوائت فتحضر صلاة أيؤخرها إلى آخر الوقت فإذا صلاها يعيدها؟ فقال: لا بل
يصليها في الجماعة إذا حضرت إذا كان لا يطمع أن يقضي الفوائت كلها إلى آخر وقت هذه الصلاة
التي حضرت فإن طمع في ذلك قضى الفوائت ما لم يخش فوت هذه الصلاة ولا قضاء عليه إذا صلى مرة
وهذه الرواية اختيار أبي حفص العكبري. وعلل القاضي هذه الرواية بأن الوقت لا يتسع لقضاء ما في
الذمة وفعل الحاضرة فسقط الترتيب، وإن كان يمكنه القضاء والشروع في أداء الحاضرة كذا ههنا
ويمكن أن تحمل هذه الرواية على أنه قدم الجماعة على الترتيب مشروطا لضيق الوقت عن قضاء الفوائت
جميعها. وقد ذكر بعض أصحابنا أن في تقديم الجماعة على الترتيب روايتين، ولعله أشار إلى هذه
الرواية. فأما من ذهب إلى تقديم الترتيب بكل حال فحجته قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة
أو نسيها فليصلها متى ذكرها " وهذا عام في حال ضيق الوقت وسعته ولأنه ترتيب مستحق مع سعة
الوقت فيستحق مع ضيقه كترتيب الركوع والسجود والطهارة
ولنا انها صلاة ضاق وقتها عن أكثر منها فلم يجز له تأخيرها كما لو لم يكن عليه فائتة ولان الحاضرة
آكد من الفائتة بدليل أنه يقتل بتركها ويكفر على رواية، ولا يحل له تأخيرها عن وقتها، والفائتة
644

بخلاف ذلك، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر أخرها شيئا وأمرهم فاقتادوا رواحلهم
ولأنه ركن من أركان الاسلام مؤقت فلم يجز تقديم فائتة على حاضرة يخاف فواتها كالصيام وقوله عليه
السلام " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها " مخصوص بما إذا ذكر فوائت فإنه لا يلزمه
في الحال إلا الأولى فنقيس عليه ما إذا اجتمعت حاضرة يخاف فوتها وفائتة لتأكد الحاضرة بما بيناه، فإن
قيل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن عليه صلاة " قلنا هذا الحديث لا أصل له، قال إبراهيم الحربي
قيل لأحمد حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن عليه صلاة " فقال لا أعرف هذا اللفظ، قال إبراهيم:
ولا سمعت بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذه الرواية يبدأ فيقضي الفوائت على الترتيب حتى إذا خاف
فوت الحاضرة صلاها ثم عاد إلى قضاء الفوائت نص أحمد على هذا، فإن حضرت جماعة في صلاة
الحاضرة فقال أحمد في رواية أبي داود فيمن عليه صلوات فائتة فأدركته الظهر ولم يفرغ من الصلوات
يصلي مع الإمام الظهر ويحسبها من الفوائت ويصلي الظهر في آخر الوقت، فإن كان عليه عصر وأقيمت
صلاة الظهر فقد ذكر بعض أصحابنا فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين (إحداهما) يسقط
الترتيب لأنه اجتمع واجبان: الترتيب والجماعة ولا بد من تفويت أحدهما فكان مخيرا فيهما (والثانية)
لا يسقط الترتيب لأنه آكد من الجماعة بدليل اشتراطه لصحة الصلاة بخلاف الجماعة وهذا ظاهر
المذهب، فإن أراد أن يصلي العصر الفائتة خلف من يؤدي الظهر ابتنى ذلك على جواز ائتمام من
يصلي العصر خلف من يصلي الظهر وفيه روايتان سنذكرهما إن شاء الله تعالى، قال أحمد فيمن ترك
صلاة سنين يعيدها فإذا جاء وقت صلاة مكتوبة صلاها ويجعلها من الفوائت التي يعيدها ويصلي الظهر
في آخر الوقت وقال: ولا يصلي مكتوبة الا في آخر وقتها حتى يقضي التي عليه من الصلوات
(فصل) إذا ترك ظهرا وعصرا من يومين لا يدري أيهما أولا ففي ذلك روايتان، نقل الأثرم
أنه يعمل على أكثر ذلك في نفسه ثم يقضي يعني أنه يتحرى أيهما نسي أو لا فيقضيها ثم يقضي
الأخرى وهذا قول أبي يوسف ومحمد لأن الترتيب مما تبيح الضرورة تركه بدليل ما إذا تضايق الوقت
أو نسي الفائتة فيدخله التحري كالقبلة (والرواية الثانية) أنه يصلي الظهر ثم العصر بغير تحر نقلها
مهنا لأن التحري فيما فيه أمارة وهذا لا أمارة فيه فرجع فيه إلى ترتيب الشرع، ويحتمل أن يلزمه
صلاة الظهر ثم العصر ثم الظهر أو العصر ثم الظهر ثم العصر لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين فلزمه كما لو
نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، وقد نقل أبو داود عن أحمد في رجل فرط في صلاة يوم العصر ويوم
الظهر صلوات لا يعرفها؟ قال يعيد حتى لا يكون في قلبه شئ، وظاهر هذا أنه يقضي حتى يتيقن براءة
ذمته وهذا مذهب أبي حنيفة
645

(فصل) ولا يعذر في ترك الترتيب بالجهل بوجوبه، وقال زفر يعذر بذلك
ولنا أنه ترتيب واجب في الصلاة فلم يسقط بالجهل كالترتيب في المجموعتين ولان الجهل بأحكام
الشرع مع التمكن من العلم لا يسقط أحكامها كالجهل بتحريم الاكل في الصوم
(فصل) إذا كثرت الفوائت عليه يتشاغل بالقضاء ما لم يلحقه مشقة في بدنه أو ماله، أما بدنه
فأن يضعف أو يخاف المرض، وأما في المال فأن ينقطع عن التصرف في ماله بحيث ينقطع عن معاشه
أو يستضر بذلك وقد نص أحمد على معنى هذا، فإن لم يعلم قدر ما عليه فإنه يعيد حتى يتيقن براءة
ذمته قال أحمد في رواية صالح في الرجل يضيع الصلاة: يعيد حتى لا يشك أنه قد جاء بما قد ضيع
فإن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها أعاد صلاة يوم وليلة نص عليه وهو قول أكثر أهل العلم وذلك لأن التعيين
شرط في صحة الصلاة المكتوبة ولا يتوصل إلى ذلك ههنا إلا بإعادة الصلوات الخمس فلزمه
(فصل) إذا نام في منزل في السفر فاستيقظ بعد خروج وقت الصلاة فالمستحب له أن ينتقل
عن ذلك المنزل فيصلي في غيره نص عليه أحمد لما روى أبو هريرة قال: عرسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته فإن
هذا منزل حضر فيه الشيطان " قال ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين (1) ثم أقيمت الصلاة
فصلى الغداة، وروى نحوه أبو قتادة وعمران بن حصين متفق عليها، ويستحب أن يقضي ركعتي
الفجر قبل الفريضة لما تقدم من الحديث فإن أراد التطوع بصلاة أخرى كره له ذلك، وكذلك حكم
الصوم لا يتطوع به وعليه فريضة فإن فعل صح تطوعه بدليل حديث ابن عمر في الذي ينسى فريضة
فلا يذكرها إلا وراء الإمام فإنه يتممها فحكم له بصحتها، فأما السنن الرواتب فلا يكره قضاؤها قبل
الفرائض كما ذكرنا في ركعتي الفجر
(فصل) فإن أخر الصلاة لنوم أو غيره حتى خاف خروج الوقت ان تشاغل بركعتي الفجر
فإنه يبدأ بالفرض ويؤخر الركعتين نص عليه أحمد في رواية جماعة منهم أبو الحارث نقل عنه أنه إذا
انتبه قبل طلوع الشمس وخاف أن تطلع الشمس بدأ بالفريضة فإنه إذا قدمت الحاضرة على الفائتة
مع الاخلال بالترتيب الواجب مراعاة لوقت الحاضرة فتقديمها على السنة أولى، وهكذا إن استيقظ
لا يدري أطلعت الشمس أولا بدأ بالفريضة أيضا نص عليه أحمد لأن الأصل بقاء الوقت وامكان
الاتيان بالفريضة فيه
(فصل) ويستحب قضاء الفوائت في جماعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فاته أربع صلوات
فقضاهن في جماعة، وحديث أبي قتادة وغيره حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة الفجر هو

(1) أي صلى ركعتين وهما راتبة الفجر.
646

وأصحابه فصلى بهم جماعة، ولا يلزمه القضاء أكثر من مرة عند استيقاظه أو ذكره لها لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قضى غير مرة وقال عليه السلام " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها
إذا ذكرها " لم يزد على ذلك وقد روى عمران بن حصين قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعرس بنا من السحر فما استيقظنا إلا بحر الشمس قال فقام القوم دهشين مسرعين لما فاتهم من
صلاتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اركبوا " فركبنا فسرنا حتى طلعت الشمس ثم نزل ونزلنا
وقضى القوم من حوائجهم وتوضؤوا فامر بلال فاذن وصلى ركعتي الفجر وصلينا ثم أمره فأقام فصلى
بنا فقلنا يا رسول الله ألا نصلي هذه الصلاة لوقتها؟ قال " لا. لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم " رواه
الأثرم واحتج به أحمد
(فصل) ومن أسلم في دار الحرب فترك صلوات أو صياما لا يعلم وجوبه لزمه قضاؤه وبذلك
قال الشافعي وعند أبي حنيفة لا يلزمه
ولنا أنها عبادة تجب مع العلم بها فلزمته مع الجهل كما في دار الاسلام
* (مسألة) * قال (ويؤدب الغلام على الطهارة والصلاة إذا تمت له عشر سنين)
معنى التأديب الضرب والوعيد والتعنيف قال القاضي: يجب على ولي الصبي ان يعلمه الطهارة
والصلاة إذا بلغ سبع سنين ويأمره بها ويلزمه أن يؤدبه عليها إذا بلغ عشر سنين، والأصل في ذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم " علموا الصبي الصلاة ابن سبع واضربوه عليها ابن عشر " رواه الأثرم
وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وهذا لفظ رواية الترمذي ولفظ حديث غيره " مروا الصبي
بالصلاة لسبع سنين واضربوه عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وهذا التأديب المشروع في حق
الصبي لتمرينه على الصلاة كي يألفها ويعتادها ولا يتركها عند البلوغ وليست واجبة عليه في ظاهر المذهب
ومن أصحابنا من قال تجب عليه لهذا الحديث فإن العقوبة لا تشرع إلا لترك واجب ولان احمد قد
نقل عنه في ابن أربع عشرة إذا ترك الصلاة: يعيد ولعل احمد رحمه الله أمر بذلك على طريق الاحتياط
فإن الحديث قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ " ولأنه صبي فلم
يجب عليه كالصغير وهذا التأديب للتمرين والتعويد كالضرب على تعلم الخط والقرآن والصناعة وأشباهها
ولا خلاف في أنها تصح من الصبي العاقل ولا فرق بين الذكر والأنثى فيما ذكرناه
(فصل) ويعتبر لصلاة الصبي من الشروط ما يعتبر في صلاة البالغ الا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا
يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " يدل على صحة صلاة غير الحائض بغير خمار
647

* (مسألة) * قال (وسجود القرآن أربع عشر سجدة) المشهور في المذهب أن عزائم سجود القرآن أربع عشرة سجدة وهو قول أبي حنيفة في إحدى
الروايتين والشافعي في أحد القولين وممن روي عنه أن في المفصل ثلاث سجدات أبو بكر وعلي
وابن مسعود وعمار وأبو هريرة وابن عمر وعمر بن عبد العزيز وجماعة من التابعين وبه قال الثوري
والشافعي وأبو حنيفة وإسحاق. وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنها خمس عشرة سجدة منها سجدة
ص - وروي ذلك عن عقبة بن عامر وهو قول إسحاق لما روى ابن ماجة وأبو داود عن عمرو بن
العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج
سجدتان. وقال مالك في رواية الشافعي في قول عزائم السجود إحدى عشرة. قال ابن عبد البر
هذا قول ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وابن جبير والحسن وعكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس
ومالك وطائفة من أهل المدينة لأن أبا الدرداء قال قد سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة
ليس فيها من المفصل شئ رواه ابن ماجة وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شئ
من المفصل منذ تحول إلى المدينة رواه أبو داود
ولنا ما روى أبو رافع قال صليت خلف أبي هريرة العتمة فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد فقلت
ما هذه السجدة؟ قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه
رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والأثرم. وروى مسلم وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة
قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في (إذا السماء انشقت) و (اقرأ باسم ربك) وروى عبد الله بن
مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها وما بقي أحد من القوم الا سجد رواه البخاري
ومسلم وأبو داود، وأبو هريرة إنما أسلم بالمدينة وهو أولى من حديث ابن عباس لأنه اثبات ثم إن ترك
السجود يدل على أنه ليس بواجب والسجود يدل على أنه مسنون ولا تعارض بينهما وحديث أبي
الدرداء قال أبو داود اسناده واه ثم لا دلالة فيه إذ يجوز أن يكون سجود غير المفصل إحدى عشرة
فيكون مع سجدات المفصل أربع عشرة
(فصل) فعلى الرواية الأولى ليست صلى الله عليه وسلم من عزائم السجود وهو قول علقمة والشافعي وروي
ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. والرواية الثانية هي من العزائم وهو قول الحسن ومالك والثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي لحديث عمرو بن العاص وروي عن عمر وابنه وعثمان أنهم كانوا يسجدون
فيها وروى أبو داود باسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وحديث أبي الدرداء
يدل على أنه سجد فيها
648

ولنا ما روى أبو داود عن أبي سعيد قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم فلما
بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزى الناس
للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزيتم للسجود " فنزل فسجد
وسجدوا وروى النسائي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال " سجدها داود توبة
ونحن نسجدها شكرا " وروى أبو داود عن ابن عباس قال: ليس ص من عزائم السجود،
والحديث الذي ذكرناه للرواية الأخرى يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها فيكون سجوده للشكر
كما بينه في حديث ابن عباس.
* (مسألة) * قال (في الحج منها سجدتان)
وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وممن كان يسجد في الحج سجدتين عمر وعلي
وعبد الله بن عمر وأبو الدرداء وأبو موسى وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وزر وقال ابن عباس:
فضلت سورة الحج بسجدتين وقال الحسن وسعيد بن جبير وجابر بن زيد والنخعي ومالك وأبو حنيفة
ليست الأخيرة سجدة لأنه جمع فيها بين الركوع والسجود فقال (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا)
فلم تكن سجدة كقوله (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)
ولنا حديث عمرو بن العاص الذي ذكرناه وروى أبو داود والأثرم عن عقبة بن عامر قال قلت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج سجدتان؟ قال " نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأ هما " وأيضا فإنه قول من
سمينا من الصحابة لم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا وقد قال أبو إسحاق أدركت الناس
منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين. وقال ابن عمر لو كنت تاركا إحداهما تركت الأولى وذلك
لأن الأولى إخبار والثانية أمر واتباع الامر أولى وذكر الركوع لا يقتضي ترك السجود كما ذكر البكاء
في قوله (خروا سجدا وبكيا) وقوله (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)
(فصل) ومواضع السجود آخر الأعراف (وله يسجدون) وفي الرعد (وظلالهم بالغدو
والآصال) وفي النحل (ويفعلون ما يؤمرون) وفي بني إسرائيل (ويزيدهم خشوعا) وفي مريم
(خروا سجدا وبكيا) وفي الحج (إن الله يفعل ما يشاء) وقوله (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) وفي
الفرقان (وزادهم خشوعا) وفي النمل (رب العرش العظيم) وفي ألم تنزيل. (وهم لا يستكبرون)
وفي حم السجدة (وهم لا يسأمون) وآخر النجم (فاسجدوا الله واعبدوا) وفي الانشقاق (وإذا قري
عليهم القرآن لا يسجدون) وآخر (اقرأ باسم ربك) وقال مالك: السجود في حم عند (ان كنتم
649

إياه تعبدون) لأن الامر بالسجود هناك فيها
ولنا أن تمام الكلام في الثانية فكان السجود بعدها كما في سورة النحل عند قوله (ويفعلون
ما يؤمرون) وذكر السجود في التي قبلها كذا ههنا.
* (مسألة) * قال (ولا يسجد الا وهو طاهر)
وجملة ذلك أنه يشترط للسجود ما يشترط لصلاة النافلة من الطهارتين من الحدث والنجس وستر
العورة، واستقبال القبلة، والنية، ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في
الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها وبه قال سعيد بن المسيب قال ويقول: اللهم لك سجدت. وعن
الشعبي فيمن سمع السجدة على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " فيدخل في عمومه السجود ولأنه صلاة فيشترط
له ذلك كذات الركوع
(فصل) إذا سمع السجدة غير متطهر لم يلزمه الوضوء ولا التيمم، وقال النخعي: يتيمم ويسجد
وعنه يتوضأ ويسجد وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي
ولنا أنها تتعلق بسبب فإذا فات لم يسجد كما لو قرأ سجدة في الصلاة فلم يسجد فإنه لا يسجد بعدها
* (مسألة) * قال (ويكبر إذا سجد)
وجملة ذلك أنه إذا سجد للتلاوة فعليه التكبير للسجود والرفع منه سواء كان في صلاة أو في غيرها
وبه قال ابن سيرين والحسن وأبو قلابة والنخعي ومسلم بن يسار وأبو عبد الرحمن السلمي والشافعي
وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك: إذا كان في صلاة واختلف عنه إذا كان في غير صلاة.
ولنا ما روى ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد
وسجدنا معه. قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث قال أبو داود: يعجبه لأنه كبر
ولأنه سجود منفرد فشرع له التكبير في ابتدائه والرفع منه كسجود السهو بعد السلام وقد صح
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر فيه للسجود والرفع ولم يذكر الخرقي التكبير للرفع وقد ذكره غيره من
أصحابنا وهو القياس كما ذكرنا ولا يشرع في ابتداء السجود أكثر من تكبيرة قال يكبر للافتتاح
واحدة وللسجود أخرى
ولنا حديث ابن عمر وظاهره أن يكبر واحدة وقياسه على سجود السهو بعد السلام
650

(فصل) ويرفع يديه مع تكبيرة السجود إن سجد في غير صلاة وهو قول الشافعي لأنها تكبيرة
افتتاح، وإن كان السجود في الصلاة فنص أحمد أنه يرفع يديه لأنه يسن له الرفع لو كان منفردا
فكذلك مع غيره، قال القاضي: وقياس المذهب لا يرفع لأن محل الرفع في ثلاثة مواضع ليس هذا
منها، ولان في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفعل في السجود يعني رفع يديه، وهو حديث
متفق عليه. واحتج أحمد بما روي وائل بن حجر قال: قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكان يكبر إذا خفض ويرفع يديه في التكبير، قال أحمد: هذا يدخل في هذا كله وهو قول
مسلم بن يسار ومحمد بن سيرين
(فصل) ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة. قال أحمد: أما أنا فأقول سبحان ربي الأعلى
، وقد روت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل " سجد
وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وروى الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي
فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك
ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد فقال
ابن عباس: فسمعته يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة، قال الترمذي: وهذا حديث
غريب، ومهما قال ذلك فحسن
* (مسألة) * قال (ويسلم إذا رفع)
اختلفت الرواية عن أحمد في التسليم في سجود التلاوة فرأى أنه واجب وبه قال أبو قلابة وأبو
عبد الرحمن وروي أنه غير واجب، قال ابن المنذر: قال أحمد أما التسليم فلا أدري ما هو. قال النخعي
والحسن وسعيد بن جبير ويحيى بن وثاب ليس فيه تسليم، وروي ذلك عن أبي حنيفة واختلف قول
الشافعي فيه، ووجه الرواية التي اختارها الخرقي قول النبي صلى الله عليه وسلم " تحريمها التكبير وتحليلها
التسليم " ولأنها صلاة ذات احرام فافتقرت إلى سلام كسائر الصلوات ولا تفتقر إلى تشهد، نص عليه
أحمد في رواية الأثرم لأنه لم ينقل ولأنه لا ركوع فيه فلم يكن له تشهد كصلاة الجنازة ويجزئه تسليمة
واحدة نص عليه أحمد في رواية حرب وعبد الله قال: يسلم تسليمة واحدة، قال القاضي يجزئه رواية
651

واحدة، قال إسحاق: يسلم عن يمينه فقط السلام عليكم. وقال في المجرد عن أبي بكر ان فيه رواية
أخرى لا يجزئه إلا ثنتان
* (مسألة) * قال (ولا يجسد في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعا)
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عمن قرأ سجود القرآن بعد الفجر وبعد العصر أيسجد؟
قال لا. وبهذا قال أبو ثور وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وإسحاق وكره مالك قراءة
السجدة وقت النهي، وعن أحمد رواية أخرى انه يسجد وبه قال الشافعي وروي ذلك عن الحسن
والشعبي وسالم والقاسم وعطاء وعكرمة ورخص فيه أصحاب الرأي قبل تغير الشمس
ولنا عموم قوله عليه السلام " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولابعد العصر حتى تغرب
الشمس " وروى أبو داود عن أبي تميمة الهجيمي قال: كنت أقص بعد صلاة الصبح فأسجد فنهاني
ابن عمر فلم أنته ثلاث مرات ثم عاد فقال: اني صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم
يسجدوا حتى تطلع الشمس، وروى الأثرم عن عبد الله بن مقسم ان قاصا كان يقرأ السجدة بعد
العصر فيسجد فنهاه ابن عمر وقال إنهم لا يعقلون
* (مسألة) * قال (ومن سجد فحسن ومن ترك فلا شئ عليه)
وجملة ذلك أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب عند إمامنا ومالك والأوزاعي والليث
والشافعي وهو مذهب عمر وابنه عبد الله وأوجبه أبو حنيفة وأصحابه لقول الله عز وجل (فما لهم
لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) ولا يذم إلا على ترك واجب ولأنه سجود يفعل
في الصلاة فكان واجبا كسجود الصلاة
ولنا ما روى زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد منا أحد متفق عليه.
ولأنه إجماع الصحابة، وروى البخاري والأثرم عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل
حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت
السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد
عمر. وفي لفظ: ان الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وفي رواية الأثرم فقال: على رسلكم
ان الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا، وهذا بحضرة الجمع
الكثير فلم ينكره أحد ولا نقل خلافه، فأما الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ولا
مشروعيته وقياسهم ينتقض بسجود السهو فإنه عندهم غير واجب
652

(فصل) ويسن السجود للتالي والمستمع لا نعلم في هذا خلافا وقد دلت عليه الأحاديث التي رويناها
وقد روى البخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة في غير
الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته، فأما السامع غير القاصد للسماع فلا
يستحب له روي ذلك عن عثمان وابن عباس وعمران وبه قال مالك. وقال أصحاب الرأي: عليه
السجود وروي نحو ذلك عن ابن عمر والنخعي وسعيد بن جبير ونافع وإسحاق لأنه سامع للسجدة
فكان عليه السجود كالمستمع. وقال الشافعي لا أؤكد عليه السجود وان سجد فحسن
ولنا ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه مر بقاص فقرأ القاص سجدة ليسجد عثمان معه فلم
يسجد وقال: إنما السجدة على من استمع. وقال ابن مسعود وعمران: ما جلسنا لها. وقال سلمان:
ما عدونا لها ونحوه عن ابن عباس ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه الا قول ابن عمر: إنما السجدة على
من سمعها فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد فيحمل عليه كلامه جمعا بين أقوالهم ولا يصح قياس
السامع على المستمع لافتراقهما في الاجر
(فصل) ويشترط لسجود المستمع أن يكون التالي ممن يصلح أن يكون له إماما فإن كان صبيا
أو امرأة فلا يسجد السامع رواية واحدة الا أن يكون ممن يصح له أن يأتم به. وممن قال لا يسجد
إذا سمع المرأة قتادة ومالك والشافعي وإسحاق. وقال النخعي: هي إمامك، وقد روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتى إلى نفر من أصحابه فقرأ رجل منهم سجدة ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " انك كنت إمامنا ولو سجدت سجدنا " رواه الشافعي في مسنده والجوزجاني في المترجم عن
عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا لم يسجد التالي لم يسجد المستمع. وقال الشافعي يسجد
ولنا الحديث الذي رويناه ولأنه إمام له فلم يسجد بدون إمامه كما لو كانا في صلاة. وان قرأ الأمي
سجدة فعلى القارئ المستمع السجود معه لأن القراءة ليست بركن في السجود. فإن كان التالي في
صلاة والمستمع في غير صلاة سجد معه وإن كان المستمع في صلاة أخرى لم يسجد معه ان كانت فرضا
رواية واحدة، وان كانت نفلا فعلى روايتين الصحيح أنه لا يسجد ولا ينبغي له أن يستمع بل يشتغل
بصلاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان في الصلاة لشغلا " متفق عليه، ولا يسجد إذا فرغ من الصلاة،
وقال أبو حنيفة يسجد عند فراغه، وليس بصحيح فإنه لو ترك السجود لتلاوته في الصلاة لم يسجد
إذا فرغ فلان لا يسجد بحكم سماعه أولى، وهكذا الحكم إن كان التالي في غير صلاة والمستمع في الصلاة
(فصل) ولا يقوم الركوع مقام السجود، وقال أبو حنيفة يقوم مقامه استحبابا لقوله تعالى (وخر
راكعا وأناب) ولنا انه سجود مشروع فلا ينوب عنه الركوع كسجود الصلاة، والآية المراد بها
653

السجود لأنه قال (وخر) ولا يقال للراكع خر وإنما روي عن داود عليه السلام السجود لا الركوع الا أنه
عبر عنه بالركوع، على أن سجدة صلى الله عليه وسلم ليست من عزائم السجود
(فصل) وان قرأ السجدة في الصلاة في اخر السورة فإن شاء ركع وان شاء سجد ثم قام فركع
نص عليه، قال ابن مسعود: ان شئت ركعت وان شئت سجدت وبه قال الربيع بن خيثم وإسحاق
وأصحاب الرأي ونحوه عن علقمة وعمرو بن شرحبيل ومسروق، قال مسروق قال عبد الله: إذا قرأ
أحدكم سورة آخرها سجدة فليركع ان شاء وان شاء فليسجد فإن الركعة مع السجدة وان سجد فليقرأ
إذا قام سورة ثم ليركع، وروي عن عمر رضي الله عنه انه قرأ بالنجم فسجد فيها ثم قام فقرأ سورة أخرى
(فصل) وإذا كان على الراحلة في السفر جاز أن يومئ بالسجود حيث كان وجهه كصلاة النافلة
فعل ذلك علي وسعيد بن زيد وابن عمر وابن الزبير والنخعي وعطاء، قال به مالك والشافعي
وأصحاب الرأي، وقد روى أبو داود عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة فسجد
الناس كلهم منهم الراكب والساجد في الأرض حتى أن الراكب ليسجد على يده، ولأنها لا تزيد على
صلاة التطوع وهي تفعل على الراحلة، وإن كان ماشيا سجد على الأرض وبه قال أبو العالية وأبو زرعة
وابن عمر وابن جرير وأصحاب الرأي لما ذكرنا من الحديث والقياس وقال الأسود بن يزيد وعطاء ومجاهد
يومئ وفعله علقمة وأبو عبد الرحمن، وعلى ما حكاه أبو الحسن الآمدي في الصلاة الماشي في التطوع أنه
يومئ فيها ولا يلزمه السجود بالأرض يكون ههنا مثله
(فصل) يكره اختصار السجود وهو أن ينتزع الآيات التي فيها السجود فيقرؤها ويسجد فيها
وكرهه الشعبي والنخعي والحسن وإسحاق، ورخص فيه النعمان وصاحبه محمد وأبو ثور، ولنا أنه ليس
بمروي عن السلف فعله بل كراهته ولا نظير له يقاس عليه
(فصل) قال بعض أصحابنا يكره للإمام قراءة السجدة في صلاة لا يجهر فيها وإن قرأ لم يسجد وهو
قول أبي حنيفة ولم يكرهه الشافعي لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في الظهر ثم قام فركع
فرأى أصحابه أنه قرأ سورة السجدة. رواه أبو داود واحتج أصحابنا بأن فيه إبهاما على المأموم،
واتباع النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وإذا سجد الإمام سجد المأموم وقال بعض أصحابنا هو مخير بين اتباعه وتركه
والأولى اتباعه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا سجد فاسجدوا " ولأنه لو كان
بعيدا لا يسمع أو أطروشا في صلاة الجهر لسجد بسجود إمامه كذا ههنا
(فصل) ويستحب سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور
وابن المنذر، وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أيامه الفتوح واستسقى
فسقي ولم ينقل انه سجد ولو كان مستحبا لم يخل به
654

ولنا ما روى ابن المنذر باسناده عن أبي يكره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسر به خر ساجدا
ورواه أبو داود ولفظه قال: كان إذا أتاه أمر يسر به أو بشر به خر ساجدا شكرا لله وقال الترمذي هذا
حديث حسن غريب. وسجد الصديق حين فتح اليمامة وعلي حين وجد ذا الثدية (1) وروي عن جماعة
من الصحابة فثبت ظهوره وانتشاره فبطل ما قالوه وتركه تارة لا يدل على أنه ليس بمستحب فإن المستحب
يفعل تارة ويترك أخرى ويشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود التلاوة والله أعلم
(فصل) ولا يسجد للشكر وهو في الصلاة لأن سبب السجدة ليس منها فإن فعل بطلت صلاته
إلا أن يكون ناسيا أو جاهلا بتحريم ذلك فأما سجدة صلى الله عليه وسلم إذا سجدها في الصلاة وقلنا ليست من
العزائم فيحتمل أن تبطل بها الصلاة لأنها سجدة شكر ويحتمل أن لا تبطل لأن سببها من الصلاة وتتعلق
بالتلاوة فهي كسجود التلاوة والله أعلم
* (مسألة) * قال (وإذا حضرت الصلاة والعشاء بدأ بالعشاء)
وجملة ذلك أنه إذا حضر العشاء في وقت الصلاة فالمستحب أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة ليكون
أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا يستحب أن يعجل عن عشائه أو غدائه فإن أنسا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم "
وقالت عائشة اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان "
رواهما مسلم وغيره ولا فرق بين أن يحضر صلاة الجماعة ويخاف فوتها في الجماعة أولا يخاف ذلك فإن
في بعض ألفاظ حديث أنس " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء " وعن ابن عمر
رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قرب عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء
ولا يعجلن حتى يفرغ منه " رواهما مسلم، وقوله وأقيمت الصلاة يعني الجماعة وتعشى ابن عمر وهو
يسمع قراءة الإمام، قال أصحابنا إنما يقدم العشاء على الجماعة إذا كانت نفسه تتوق إلى الطعام كثيرا
ونحوه قال الشافعي وقال مالك يبدؤون بالصلاة إلا أن يكون طعاما خفيفا وقال بظاهر الحديث عمر
وابنه وإسحاق وابن المنذر، وقال ابن عباس لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شئ. قال ابن عبد البر
أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته ان صلاته تجزئه كذلك إذا صلى حاقبا، وقال
الشافعي وأبو حنيفة والعنبري يكره أن يصلي وهو حاقن وصلاته جائزة مع ذلك إن لم يترك شيئا من
فروضها، وقال مالك أحب أن يعيد إذا شغله ذلك قال الطحاوي لا يختلفون أنه لو شغل قبله بشئ
من الدنيا أنه لا يستحب له الإعادة كذلك إذا شغله البول
* (مسألة) * قال (وإذا حضرت الصلاة وهو يحتاج إلى الخلاء بدأ بالخلاء)
يعنى إذا كان حاقنا كرهت له الصلاة حتى يقضي حاجته سواء خاف فوت الجماعة أو لم يخف لما

(1) أي حين وجده في الخوارج لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به ووصفه
655

ذكرنا من حديث عائشة. وروى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يحل لامرئ أن ينظر في
جوف بيت امرئ حتى يستأذن ولا يقوم إلى الصلاة وهو حاقن " قال الترمذي هذا حديث حسن
والمعنى في ذلك أن يقوم إلى الصلاة وبه ما يشغله عن خشوعها وحضور قلبه فيها، فإن خالف وفعل
صحت صلاته في هذه المسألة وفي التي قبلها، وقال ابن أبي موسى إن كان به من مدافعة الأخبثين
ما يزعجه ويشغله عن الصلاة أعاد في الظاهر من قوله لظاهر الحديثين الذين رويناهما وقد ذكرنا
ذلك فيما مضى، وقال ابن عبد البر في حديث ثوبان لا يقوم به حجة عند أهل العلم بالحديث. فهذان
من الاعذار التي يعذر بها في ترك الجماعة والجمعة لعموم اللفظ فإن قوله " وأقيمت الصلاة " عام في كل
صلاة وقوله " لا صلاة " عام أيضا
(فصل) ويعذر في تركهما المريض في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر لا أعلم خلافا بين أهل
العلم أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر - قالوا وما العذر يا رسول الله؟ قال - خوف أو
مرض لم يقبل منه الصلاة التي صلى " رواه أبو داود وقد كان بلال يؤذن بالصلاة ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم
وهو مريض فيقول " مروا أبا بكر فليصل بالناس "
(فصل) ويعذر في تركهما الخائف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " العذر خوف أو مرض "
والخوف ثلاثة أنواع: خوف على النفس، وخوف على المال، وخوف على الأهل (فالأول) أن يخاف
على نفسه سلطانا يأخذه أو عدوا أو لصا أو سبعا أو دابة أو سيلا أو نحو ذلك بما يؤذيه في نفسه وفي
معنى ذلك أن يخاف غريما له يلازمه ولا شئ معه يوفيه فإن حبسه بدين هو معسر به ظلم له فإن
كان قادرا على أداء الدين لم يكن عذرا له، وكذلك إن وجب عليه حد لله تعالى أوحد قذف فخاف
أن يؤخذ به لم يكن عذرا له لأنه يجب ايفاؤه، وهكذا إن تأخر عليه قصاص لم يكن له عذر في التخلف
من أجله. وقال القاضي: إن كان يرجو الصلح على مال فله التخلف حتى يصالح بخلاف الحدود
فإنه لا تدخلها المصالحة ولا العفو وحد القذف ان يرجي العفو عنه فليس بعذر في التخلف لأنه يرجو
اسقاطه بغير بدل، ويعذر في تركهما بالمطر الذي يبل الثياب والوحل الذي يتأذى به في نفسه وثيابه
قال عبد الله بن الحارث: قال عبد الله بن عباس لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمدا رسول
الله فلا تقل حي على الصلاة وقل صلوا في بيوتكم قال: فكأن الناس استنكروا ذلك، قال ابن
عباس: أتعجبون من ذلك قد فعل ذلك من هو خير مني ان الجمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم
فتمشوا في الطين والدحض. متفق عليه، ويعذر في ترك الجماعة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة
الباردة وقد روى ابن ماجة عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في
الليلة المطيرة أو الليلة الباردة " صلوا في رحالكم " واسناده صحيح ورواه أبو داود ونحوه واتفق عليه
656

البخاري ومسلم الا أن فيه في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر، وروى أبو المليح أنه شهد النبي صلى
الله عليه وسلم زمن الحديبية يوم جمعة وأصابهم مطر لم يبل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم
رواه أبو داود. ويعذر أيضا من يريد سفرا ويخاف الرفقة (النوع الثاني) الخوف على ماله بخروجه
مما ذكرناه من السلطان واللصوص وأشباههما أو يخاف أن يسرق منزله أو يحرق أو شئ منه أو
يكون له خبز في تنور أو طبيخ على نار يخاف حريقه باشتغاله عنه أو يكون له غريم ان ترك ملازمته
ذهب بماله أو يكون له بضاعة أو وديعة عند رجل ان لم يدركه ذهب فهذا وأشباهه عذر في التخلف
عن الجمعة والجماعات (النوع الثالث) الخوف على ولده وأهله أن يضيعوا أو يكون ولده ضائعا فيرجو
وجوده في تلك الحال أو يكون له قريب يخاف أن تشاغل بهما مات فلم يشهده قال ابن المنذر ثبت
أن ابن عمر استصرخ على سعيد بن زيد بعد ارتفاع الضحى فاتاه بالعقيق وترك الجمعة وهذا مذهب
عطاء والحسن والأوزاعي والشافعي
(فصل) ويعذر في تركهما من يخاف عليه النعاس حتى يفوتاه فيصلي وحده وينصرف
باب ما يبطل الصلاة إذا تركه عامدا أو ساهيا
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي
صلى الله عليه وسلم فقال " ارجع فصل فإنك لم تصل " فرجع فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ارجع فصل
فإنك لم تصل " ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني قال " إذا قمت إلى الصلاة فكبر
ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى
تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك
كلها " متفق عليه زاد مسلم " إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر "
* (مسألة) * قال (ومن ترك تكبيرة الاحرام أو قراءة الفاتحة وهو إمام أو منفرد
أو الركوع أو الاعتدال بعد الركوع أو السجود أو الاعتدال بعد السجود أو التشهد الأخير
أو السلام بطلت صلاته عامدا كان أو ساهيا)
وجملة ذلك أن المشروع في الصلاة ينقسم قسمين: واجب ومسنون. فالواجب نوعان (أحدهما)
لا يسقط في العمد ولا في السهو وهو الذي ذكر الخرقي في هذه المسألة وهو عشرة أشياء تكبيرة
الاحرام وقراءة الفاتحة للإمام والمنفرد والقيام والركوع حتى يطمئن والاعتدال عنه حتى يطمئن
657

والسجود حتى يطمئن والاعتدال عنه بين السجدتين حتى يطمئن والتشهد في آخر الصلاة والجلوس
له والسلام وترتيب الصلاة على ما ذكرناه، فهذه تسمى أركانا للصلاة لا تسقط في عمد ولا سهو وفي وجوب
بعض ذلك اختلاف ذكرناه فيما مضى وقد دل على وجوبها حديث أبي هريرة عن المسئ في صلاته فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال له " لم تصل " وأمره بإعادة الصلاة فلما سأله أن يعلمه علمه هذه الأفعال فدل على أنه
لا يكون مصليا بدونها ودل الحديث على أنها لا تسقط بالسهو فإنها لو سقطت بالسهو لسقطت عن
الاعرابي لكونه جاهلا بها والجاهل كالناسي. فأما بطلان الصلاة بتركها ففيه تفصيل وذلك أنه
لا يخلو اما أن يتركها عمدا أو سهوا فإن تركها عمدا بطلت الصلاة في الحال وان ترك شيئا منها سهوا
ثم ذكره في الصلاة أتى به على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله. وان لم يذكره حتى فرغ من الصلاة فإن
طال الفصل ابتدأ الصلاة وان لم يطل بنى عليها نص أحمد على هذه في رواية جماعة وبهذا قال الشافعي
ونحوه قال مالك. ويرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة والعرف. واختلف أصحاب الشافعي
فقال بعضهم كقولنا وقال بعضهم الفصل الطويل قدر ركعة وهو المنصوص عن الشافعي، وقال بعضهم
قدر الصلاة التي نسي فيها والذي قلنا أصح لأنه لاحد له في الشرع فيرجع إلى العرف فيه ولا يجوز
التقدير بالتحكم، وقال جماعة من أصحابنا متى ترك ركنا فلم يدركه حتى سلم بطلت صلاته. قال
النخعي والحسن من نسي سجدة من صلاة ثم ذكرها في الصلاة سجدها متى ذكرها فإذا قضى صلاته
سجد سجدتي السهو وعن مكحول ومحمد بن أسلم الطوسي في المصلي ينسى سجدة أو ركعة يصليها
متى ما ذكرها ويسجد سجدتي السهو. وعن الأوزاعي في رجل نسي سجدة من صلاة الظهر فذكرها
في صلاة العصر: يمضي في صلاته فإذا فرغ سجدها
ولنا على أن الصلاة لا تبطل مع قرب الفصل أنه لو ترك ركعة أو أكثر فذكر قبل أن يطول
الفصل أتى بما ترك ولم تبطل صلاته إجماعا: وقد دل عليه حديث ذي اليدين فإذا ترك ركنا واحدا
فأولى أن لا تبطل الصلاة فإنه لا يزيد على ترك ركعة والدليل على أن الصلاة تبطل بتطاول الفصل
أنه أخل بالموالاة فلم تصح صلاته كما لو ذكر في يوم ثان
(فصل) ويلزمه أن يأتي بركعة إلا أن يكون المنسي التشهد والسلام فإنه يأتي به ويسلم ثم يسجد
للسهو. وقال الشافعي يأتي بالركن وما بعده لا غير ويأتي الكلام على هذا في باب سجود السهو قال
أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فيمن نسي سجدة من الركعة الرابعة ثم سلم وتكلم: إذا كان الكلام
الذي تكلم به من شأن الصلاة قضى ركعة لا يعتد بالركعة الأخيرة لأنها لا تتم الا بسجدتيها فلما لم
يسجد مع الركعة سجدتيها وأخذ في عمل بعد السجدة الواحدة قضى ركعة ثم تشهد وسلم وسجد
سجدتي السهو وان تكلم بشئ من غير شأن الصلاة ابتدأ الصلاة. قال أبو عبد الله وبهذا كان يقول
مالك زعموا ولعل أحمد رحمه الله ذهب إلى حديث ذي اليدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم وسأل أبا بكر
658

وعمر " أحق ما يقول ذو اليدين؟ " وثم بنى على ما مضى من صلاته وفي الجملة الحكم في ترك ركن من ركعة
كالحكم في ترك الركعة بكمالها والله أعلم
(فصل) وتختص تكبيرة الاحرام من بين الأركان بأن الصلاة لا تنعقد بتركها لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" تحريمها التكبير " ولا يدخل في الصلاة بدونها ويختص القيام بسقوطه في النوافل لأنه يطول فيشق
فسقط في النافلة مبالغة في تكثيرها كما سقط التوجه فيها في السفر على الراحلة مبالغة في تكثيرها وتختص
القراءة بسقوطها عن المأموم لأن قراءة إمامه له قراءة ويختص السلام بأنه إذا تركه أتى به خاصة
* (مسألة) * قال (ومن ترك شيئا من التكبير غير تكبيرة الاحرام أو التسبيح في
الركوع أو السجود أو قول سمع الله لمن حمده أو قول ربنا ولك الحمد أو رب اغفر لي أو
التشهد الأول أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير عامدا بطلت صلاته، ومن ترك
شيئا منه ساهيا أتى بسجدتي السهو)
هذا النوع الثاني من الواجبات وهي ثمانية وفي وجوبها روايتان (إحداهما) انها واجبة وهو قول
إسحاق والأخرى ليست واجبة وهو قول أكثر أهل العلم إلا أن الشافعي أوجب منها الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم وضمه إلى الأركان وعن أحمد رواية أخرى كذلك. وقد ذكرنا الدليل على
وجوبها فيما مضى وذكرنا حديث يحيى بن خلاد عن عمه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " انه لا تتم
الصلاة لاحد من الناس حتى يتوضأ ويضع الوضوء - يعني مواضعه - ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه
ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى تطمئن مفاصله ثم يقول سمع الله لمن حمده
حتى يستوي قائما ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه حتى
يستوي قاعدا ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك
فقد تمت صلاته " وفي رواية " لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك " رواه أبو داود. وحكم هذه
الواجبات إذا قلنا بوجوبها أنه إن تركها عمدا بطلت صلاته وإن تركها سهوا وجب عليه السجود للسهو
والأصل فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قام إلى ثالثة وترك التشهد الأول فسبحوا به فلم يرجع حتى
إذا جلس للتسليم سجد سجدتين وهو جالس ولولا أن التشهد سقط بالسهو لرجع إليه ولولا أنه واجب
لما سجد جبرا لنسيانه وغير التشهد من الواجبات مقيس عليه ومشبه به ولا يمتنع أن يكون للعبادة
واجبات يتخير إذا تركها، وأركان لا تصح العبادة بدونها كالحج في واجباته وأركانه
(فصل) وضم بعض أصحابنا إلى ذلك نية الخروج من الصلاة والتسليمة الثانية وقد دللنا على
أنهما ليستا بواجبتين وهو اختيار الخرقي لكونه لم يذكرهما في عدد الواجبات ويختص ربنا ولك الحمد
بالمأموم والمنفرد وفي المنفرد رواية أخرى أنه لا يجب عليه، ويختص سمع الله لمن حمده بالإمام والمنفرد
659

(القسم الثاني) من المشروع في الصلاة المسنون وهو ما عدا ما ذكرناه وهو اثنان وثلاثون: رفع اليدين
عند الاحرام والركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وحطها تحت السرة، والنظر إلى موضع سجوده،
والاستفتاح، والتعوذ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة،
والجهر والاسرار في مواضعهما، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والانحناء في الركوع
والسجود، وما زاد على التسبيحة الواحدة فيهما، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد
التحميد، والبداية بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفعهما في القيام، والتفريق بين ركبتيه
في السجود، ووضع يديه حذو منكبيه أو حذو أذنيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس،
والافتراش في التشهد الأول والجلوس بين السجدتين، والتورك في الثاني، ووضع اليد اليمنى على
الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة والإشارة بالسبابة، ووضع اليد الأخرى على الفخذ الأخرى مبسوطة،
والالتفات على اليمين والشمال في التسليمتين، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة، والتسليمة
الثانية، ونية الخروج من الصلاة في سلامه على إحدى الروايتين فيهن، وحكم هذه السنن جميعها ان
الصلاة لا تبطل بتركها عمدا ولا سهوا وفي السجود لها عند السهو عنها تفصيل نذكره في موضعه إن شاء الله
(فصل) ويشترط للصلاة ستة أشياء: الطهارة من الحدث والنجاسة، والسترة، والموضع، واستقبال
القبلة، ودخول الوقت، والنية. فمتى أخل بشئ من هذه الشروط لم تنعقد صلاته وتختص النية بأنها
لا تصح الصلاة مع عدمها بحال لا في حق معذور ولا غيره ويختص الوقت ببعض الصلوات وكل
ما اعتبر له وقت فلا يصح قبل وقته إلا الثانية من المجموعتين تفعل في وقت الأولى حال العذر إذا
جمع بينهما وبقية الشروط تسقط بالعذر على تفصيل ذكر في مواضعه فيما مضى
(فصل) يستحب للمصلي أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، قال أحمد في رواية حنبل: الخشوع
في الصلاة أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، وروي ذلك عن مسلمة بن يسار وقتادة. وحكي عن
شريك أنه قال: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده في ركوعه إلى قدميه، وفي حال سجوده إلى
أنفه، وفي حال التشهد إلى حجره. وقد روى أبو طالب العشاري في الافراد قال: قلت يا رسول الله
أين أجعل بصري في الصلاة؟ قال " موضع سجودك " قال: قلت يا رسول الله ان ذلك لشديد،
إن ذلك لا أستطيع؟ قال " ففي المكتوبة إذا " ويستحب أن يفرج بين قدميه ويراوح بينهما يعتمد
على هذه مرة وعلى هذه مرة، ولا يكثر ذلك لما روى الأثرم عن أبي عبيدة قال: رأى عبد الله رجلا
يصلي صافا بين قدميه فقال لو زاوج هذه بين قدميه كان أفضل ورواه النسائي ولفظه فقال أخطأ السنة
لو راوح بينهما كان أعجب إلي. قال الأثرم رأيت أبا عبد الله يفرج بين قدميه ورأيته يراوح بينهما
وروي نحو هذا عن ابن ميمون والحسن ويحتمل أن يكون هذا عند طول القيام كما قال عطاء قال إني
لأحب أن يقل فيه التحريك وأن يعتدل قائما على قدميه إلا أن يكون انسانا كبيرا لا يستطيع ذلك،
660

وأما التطوع فإنه يطول على الانسان فلا بد من التوكؤ على هذه مرة وعلى هذه مرة
(فصل) يكره أن يترك شيئا من سنن الصلاة، ويكره أن يلتفت في الصلاة لغير حاجة لما روت
عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل فقال " هو اختلاس
يختلسه الشيطان من صلاة العبد " من الصحاح رواه سعيد بن منصور. وفي المسند عن أبي ذر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه "
رواهما أبو داود. ولأنه يشغل عن الصلاة فكان تركه أولى. فإن كان لحاجة لم يكره لما روى أبو داود
عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب.
قال أبو داود أرسل فارسا إلى الشعب يحرس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يلتفت يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره. ولا تبطل الصلاة بالالتفات إلا أن يستدبر
بجملته عن القبلة أو يستدبر القبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وبهذا قال أبو ثور. قال ابن عبد البر وجمهور
الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرا.
ويكره رفع البصر لما روى البخاري أن أنسا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام يرفعون
أبصارهم إلى السماء في صلاتهم - فاشتد قوله في ذلك حتى قال - لينتهن أو لتخطفن أبصارهم "
ويكره أن ينظر إلى ما يلهيه أو ينظر في كتاب لما روت عائشة رضي الله عنها قالت صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام فقال " شغلتني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم بن حذيفة وائتوني
بانبجانيته " رواه البخاري ومسلم وأبو داود. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة " أميطي عنا قرامك هذا فإنه
لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " رواه البخاري
ويكره أن يصلي ويده على خاصرته لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصرا
رواه البخاري ومسلم. وعن زناد بن صبيح الحنفي قال صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي
فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه رواهما أبو داود. ويكره أن يصلي وهو
معقوص أو مكتوف لما روى مسلم عن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص
من ورائه فقام فجعل يحله فلما انصرف أقبل على ابن عباس فقال مالك ورأسي؟ فقال إني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف "
ويكره أن يكف شعره وثيابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكف
شعرا ولا ثوبا " متفق عليه، ويكره التشبك في الصلاة لما روى ابن ماجة عن كعب بن عجرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وقال ابن عمر في
الذي يصلي وهو مشبك يديه: تلك صلاة المغضوب عليهم، ويكره فرقعة الأصابع لما روى ابن ماجة
661

عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تفرقع أصابعك وأنت في الصلاة " ويكره أن يعتمد على يده في
الجلوس في الصلاة لما روي عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو
معتمد على يده، ويكره مسح الحصى لما روى أحمد في المسند عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى " وعن معيقيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مسح الحصى في الصلاة " ان كنت فاعلا فمرة واحدة " رواه مسلم ورواهما ابن ماجة وأبو داود
ويكره العبث كله وما يشغل عن الصلاة ويذهب بخشوعها. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
رجلا يعبث في الصلاة فقال " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " ولا نعلم بين أهل العلم في كراهة هذا
كله اختلافا وممن كرهه الشافعي ونقل كراهة بعضه عن ابن عباس وعائشة ومجاهد والنخعي وأبي مجلز ومالك
والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي. ويكره أن يلصق إحدى قدميه بالأخرى في حال قيامه لما روى
الأثرم عن عيينة بن عبد الرحمن قال كنت مع أبي في المسجد فرأى رجلا يصلي قد صف بين قدميه وألزق إحداهما
بالأخرى فقال أبي لقد أدركت في هذا المسجد ثمانية عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت أحدا
منهم فعل هذا قط، وكان ابن عمر لا يفرج بين قدميه ولا يمس إحداهما بالأخرى ولكن بين ذلك
لا يقارب ولا يباعد، ويكره أن يغمض عينيه في الصلاة نص عليه أحمد وقال هو فعل اليهود وكذلك
قال سفيان، وروي ذلك عن مجاهد والثوري والأوزاعي، وعن الحسن جوازه من غير كراهة وقد روي
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه " رواه
الطبراني في معجمه وعبد الرحمن بن أبي حاتم وقال هذا حديث منكر
ويكره أن يكثر الرجل مسح جبهته في الصلاة لما روى ابن المنذر عن ابن معسود قال: من الجفاء
أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من الصلاة وروي أيضا مرفوعا وكرهه الأوزاعي. وقال
سعيد بن جبير: هومن الجفاء. وروى الأثرم عن ابن عباس قال: لا تمسح جبهتك ولا تنفخ ولا تحرك
الحصى، ورخص فيه مالك وأصحاب الرأي، وكره أحمد التروح في الصلاة إلا من الغم الشديد وبذلك قال
إسحاق وكرهه عطاء وأبو عبد الرحمن ومسلم بن يسار ومالك ورخص فيه ابن سيرين ومجاهد والحسن
وعائشة بنت سعد، وكره التميل في الصلاة لما روى النجاد باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم
في صلاته فليسكن أطرافه ولا يتميل مثل اليهود " ولا يبطل الصلاة جميع ذلك إلا ما كان منها فعلا
كالعبث وفرقعة الأصابع إذا كثر متواليا فإنه يبطل الصلاة
(فصل) ولا بأس بعد الآي في الصلاة وتوقف أحمد عن عد التسبيح، قال أبو بكر: لا بأس به
لأنه في معنى عد الآي، وهو قول ابن أبي مليكة وطاوس وابن سيرين والشعبي والمغيرة بن حكيم وإسحاق
وكرهه أبو حنيفة والشافعي لأنه يشغل عن خشوع الصلاة المأمور به
662

ولنا أنه اجماع، رواه الأثرم باسناده عن يحيى بن وثاب وطاوس والحسن ومحمد بن سيرين
وإبراهيم النخعي والمغيرة بن حكيم ومجاهد وسعيد بن جبير ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف مع أن
الظاهر أن ذلك ينتشر ولا يخفى فيكون إجماعا. وإنما توقف أحمد عن عد التسبيح لأن المنقول عمن
ذكرناهم عد الآي. قال أحمد: أما عد الآي فقد سمعنا وأما عد التسبيح فما سمعنا وكان الحسن
لا يرى بعد الآي في الصلاة بأسا وكره أن يحسب في الصلاة شيئا سواه ولا بأس بالإشارة في الصلاة
باليد والعين لأن معمرا روى عن الزهري عن أنس وعن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة، رواه الديري عن عبد الرزاق عن معمر ولا بأس بقتل الحية والعقرب
وبه قال الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وكرهه النخعي ولا معنى لقوله فإن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بقتل الأسودين في الصلاة - الحية والعقرب، رواه أبو داود ورأي ابن عمر ريشة حسبها
عقربا فضربها بنعله. فأما القمل فقال القاضي: الأولى التغافل عنه فإن قتلها فلا بأس لأن انسا
كان يقتل القمل والبراغيث في الصلاة وكان الحسن يقتل القمل وقال الأوزاعي: تركه أحب إلي
وكان عمر يقتل القمل في الصلاة، رواه سعيد. وإذا تثاءب في الصلاة استحب أن يكظم ما استطاع
فإن لم يقدر استحب له أن يضع يده على فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا تثاب أحدكم في الصلاة
فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل " من الصحاح وفي رواية قال " إذا تثاءب أحدكم فليضع
يده على فيه فإن الشيطان يدخل " رواه سعيد في سننه. قال الترمذي: هو حديث حسن. وإذا
بدره البصاق وهو في المسجد يبصق في ثوبه ويحك بعضه ببعض وإن كان في غير المسجد يبصق
عن يساره أو تحت قدمه
ولنا ما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة فأقبل على الناس فقال
" ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم
فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا " ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه
على بعض: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها " رواه مسلم أيضا.
ولا بأس بالعمل اليسير في الصلاة للحاجة لما روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي والباب عليه مغلق فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي ثم رجع إلى مصلاه. وعن
جابر رضي الله عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بحاجة فأدركته وهو يشير فسلمت عليه فأشار إلي فلما
فرغ دعاني فقال " إنك سلمت علي آنفا وأنا أصلي " ولا تبطل الصلاة بجميع ذلك الا أن يتوالى
ويكثر كالذي قبله والله أعلم
663

باب سجدتي السهو
قال الإمام أحمد: يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء سلم من اثنتين فسجد، سلم من ثلاث فسجد
وفي الزيادة والنقصان وقام من اثنتين ولم يتشهد: وقال الخطابي: المعتمد عند أهل العلم هذه
الأحاديث الخمسة يعني حديثي ابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وابن بحينة.
* (مسألة) * قال أبو القاسم (ومن سلم وقد بقي عليه شئ من صلاته أتى بما بقي عليه
من صلاته وسلم ثم سجد سجدتي السهو ثم تشهد وسلم كما روي أبو هريرة وعمران بن
حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك)
وجملة ذلك أن من سلم قبل اتمام الصلاة ساهيا ثم علم قبل طول الفصل ونقض وضوءه فعليه
أن يأتي بما بقي ثم يتشهد ويسلم ثم يسجد سجدتين ويتشهد ويسلم. وان لم يذكر حتى قام فعليه أن
يجلس لينهض إلى الاتيان بما بقي عن جلوس فإن هذا القيام واجب للصلاة ولم يأت به قاصدا لها
فكان عليه الاتيان به مع القصد ولا نعلم في جواز اتمام الصلاة في حق من نسي الركعة فما زاد اختلافا
والأصل في ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي
العشي قال ابن سيرين سماها أبو هريرة ولكن أنا نسيت فصلي ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة
664

معروضة في المسجد فوضع يده عليها كأنه غضبان فشبك أصابعه ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى
وخرجت السرعان من المسجد فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه
وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال
" لم أنس ولم تقصر - فقال - أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم قال فتقدم فصلى ما ترك من صلاته ثم سلم
ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم
رفع رأسه فكبر قال فربما سألوه ثم سلم، قال ثبت أن عمران بن حصين قال ثم سلم، متفق عليه رواه
أبو داود وزاد قال قلت فالتشهد؟ قال لم أسمع في التشهد وأحب إلي أن يتشهد وروى مسلم باسناده
عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين قال: سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر
ثم قام فدخل الحجرة فقام رجل بسيط اليدين فقال أقصرت الصلاة يا رسول الله؟ فخرج مغضبا فصلى
الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم. وروى ابن عمر وابن عباس رضي الله
عنهم وذو اليدين مثل حديث أبي هريرة
(فصل) فإن طال الفصل أو انتقض وضوؤه استأنف الصلاة، وكذلك قال الشافعي إن ذكر
قريبا مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذي اليدين، ونحوه قال مالك وقال يحيى الأنصاري والليث
والأوزاعي يبني ما لم ينقض وضوؤه
ولنا أنها صلاة واحدة فلم يجز بناء بعضها على بعض مع طول الفصل كما لو انتقض وضوؤه ويرجع
665

في طول الفصل إلى العادة من غير تقدير بمدة وهو مذهب الشافعي في أحد الوجوه، وعنه يعتبر قدر
ركعة وقال بعضهم يعتبر بقدر مضي الصلاة التي نسي فيها والصحيح لاحد له لأنه لم يرد الشرع بتحديده
فيرجع فيه إلى العادة والمقاربة لمثل حال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين
(فصل) فإن لم يذكر حتى شرع في صلاة أخرى نظرت فإن كان ما عمل في الثانية قليلا ولم يطل
الفصل عاد إلى الأولى فأتمها، وإن طال بطلت الأولى وهذا مذهب الشافعي. وقال الشيخ أبو الفرج
في المبهج يجعل ما شرع فيه من الصلاة الثانية تماما للأولى فيبنى إحداهما على الأخرى ويكون وجود
السلام كعدمه لأنه سهو معذور فيه وسواء كان ما شرع فيه نفلا أو فرضا، وقال الحسن وحماد بن أبي
سليمان فيمن سلم قبل اتمام المكتوبة وشرع في تطوع يبطل المكتوبة قال مالك أحب إلي أن يبتدئها
ونص عليه أحمد فقال في رواية أبي الحارث إذا صلى ركعتين من المغرب وسلم ثم دخل في التطوع أنه
بمنزلة الكلام يستأنف الصلاة
ولنا أنه عمل عملا من جنس الصلاة سهوا فلم تبطل كما لو زاد خامسة وأما بناء الثانية على الأولى فلا يصح
لأنه قد خرج من الأولى ولم ينوها بعد ذلك ونية غيرها لا تجزئ عن نيتها كحالة الابتداء
* (مسألة) * قال (ومن كان إماما فشك فلم يدركم صلى تحرى فبنى على أكثر وهمه ثم
سجد بعد السلام كما روي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم)
666

قوله على أكثر وهمه أي ما يغلب على ظنه انه صلاة وهذا في الإمام خاصة، وروي عن أحمد رحمه الله
رواية أخرى انه يبني على اليقين ويسجد قبل السلام كالمنفرد سواء، اختارها أبو بكر وروي ذلك عن
ابن عمر وابن عباس و عبد الله بن عمرو وشريح والشعبي وعطاء وسعيد بن جبير وهو قول سالم بن
عبد الله وربيعة ومالك وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والشافعي وإسحاق والأوزاعي لما روى
أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى أثلاثا أم أربعا؟
فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان
صلى تمام الأربع كانتا ترغيما للشيطان " أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة، وعن عبد الرحمن بن عوف
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أزاد أو نقص فإن كان شك
في الواحدة والاثنتين فليجعلهما واحدة حتى يكون الوهم في الزيادة ثم ليسجد سجدتين وهو جالس
قبل أن يسلم ثم يسلم " رواه الأثرم وابن ماجة ولان الأصل عذر الاتيان بما شك فيه فلزمه الاتيان
به كما لو شك هل صلى أولا. وذكر ابن أبي موسى في الارشاد عن أحمد رواية أخرى في المنفرد انه
يبني على غالب ظنه كالإمام وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية من قال بين التحري واليقين فرق.
أما حديث عبد الرحمن بن عوف فيقول إذا لم يدر ثلاثا أو اثنتين جعلها اثنتين قال فهذا عمل على اليقين
فبني عليه والذي يتحرى يكون قد صلى ثلاثا فيدخل قلبه شك انه إنما صلى اثنتين إلا أن يكون أكثر
ما في نفسه انه قد صلى ثلاثا وقد دخل قلبه شئ فهذا يتحرى أصوب ذلك ويسجد بعد السلام، قال
667

فبينهما فرق، فظاهر هذا أنه إنما يبني على اليقين إذا لم يكن له ظن ومتى كان له غالب ظن عمل عليه
لا فرق بين الإمام والمنفرد، روي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وبنحوه قال النخعي
وقاله أصحاب الرأي إن تكرر ذلك عليه، وإن كان أول ما أصابه أعاد الصلاة لقوله عليه السلام
" لا غرار في الصلاة " ووجه هذه الرواية ما روى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين " متفق عليه. وللبخاري
بعد التسليم، وفي لفظ فلينظر أحرى ذلك للصواب، وفي لفظ فليتحر أقرب ذلك للصواب، وفي لفظ
فليتحر الذي يرى أنه الصواب، رواه كله مسلم، وفي لفظ رواه أبو داود قال: إذا كنت في صلاة
فشككت في ثلاث أو أربع وأكثر ظنك على أربع تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس، فعلى
هذا يحمل حديث أبي سعيد على من استوى عنده الأمران فلم يكن له ظن، وحديث ابن مسعود على من
له رأي وظن يعمل بظنه جمعا بين الحديثين وعملا بهما فيكون أولى ولان الظن دليل في الشرع فوجب اتباعه
كما لو اشتبهت عليه القبلة، واختار الخرقي التفريق بين الإمام والمنفرد فجعل الإمام يبني على الظن والمنفرد
يبني على اليقين وهو الظاهر في المذهب نقله عن أحمد الأثرم وغيره والمشهور عن أحمد البناء على اليقين
في حق المنفرد لأن الإمام له من ينبهه ويذكره إذا أخطأ الصواب فليعمل بالأظهر عنده فإن أصاب
أقره المأمومون فيتأكد عنده صواب نفسه، وإن أخطأ سبحوا به فرجع إليهم فيجعل له الصواب
على كلتا الحالتين وليس كذلك المنفرد إذ ليس له من يذكره فيبني على اليقين ليحصل له إتمام صلاته
668

ولا يكون مغرورا بها وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام " لا غرار في الصلاة " وعلى هذا يحمل
حديث أبي سعيد وعبد الرحمن بن عوف على المنفرد وحديث ابن مسعود على الإمام جمعا بين
الاخبار وتوفيقا بينها فإن استوى الأمران عند الإمام بنى على اليقين أيضا وعلى الرواية الثانية يحمل
حديث أبي سعيد وعبد الرحمن على من لا ظن له وحديث ابن مسعود على من له ظن. فاما قول
أصحاب الرأي فيخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " ان أحدكم إذا قام فصلى جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك
أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس " متفق عليه ولأنه شك في الصلاة فلم يبطلها كما لو تكرر ذلك
منه وقوله عليه الصلاة والسلام " لا غرار " يعني لا ينقص من صلاته ويحتمل أنه أراد لا يخرج منها
وهو في شك من تمامها ومن بنى على اليقين لم يبق في شك من تمامها وكذلك من بنى على غالب ظنه فوافقه
المأمومون أو ردوا عليه غلطه فلا شك عنده
(فصل) ومتى استوى عنده الأمران بنى على اليقين إماما كان أو منفردا وأتى بما بقي من صلاته
وسجد للسهو قبل السلام لأن الأصل البناء على اليقين وإنما جاز تركه في حق الإمام لمعارضته الظن
للغالب فإذا لم يوجد وجب الرجوع إلى الأصل
(فصل) وإذا سها الإمام فاتى بفعل في غير موضعه لزم المأمومين تنبيهه فإن كانوا رجالا سبحوا
به وان كانوا نساء صفقن ببطون أكفهن على ظهور الأخرى وبهذا قال الشافعي وقال مالك: التسبيح
669

للرجال والنساء ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نابه شئ في صلاته فليقل سبحان الله " متفق
عليه وحكي عن أبي حنيفة أن تنبيه الآدمي بالتسبيح أو القرآن أو الإشارة يبطل الصلاة لأن ذلك
خطاب آدمي وقد روى أبو غطفان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أشار بيده
في الصلاة إشارة تفقه أو تفهم فقد قطع الصلاة "
ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التسبيح للرجال والتصفيق
للنساء " وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نابكم في صلاتكم شئ
فليسبح الرجال وليصفق النساء " متفق عليهما، وروى عبد الله بن عمر قال: قلت لبلال: كيف
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده.
وعن صهيب قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي إشارة.
وقال لا أعلم إلا أنه قال إشارة بأصبعه. قال الترمذي: كلا الحديثين صحيح وقد ذكرنا حديث
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة فأما حديث مالك ففي حق الرجال فإن حديثنا يفسره
لأن فيه تفصيلا وزيادة بيان يتعين الاخذ بها، وأما حديث أبي حنيفة فضعيف يرويه أبو غطفان وهو
مجهول فلا يعارض به الأحاديث الصحيحة
(فصل) إذا سبح به اثنان يثق بقولهما لزمه قبوله والرجوع إليه سواء غلب على ظنه صوابهما أو
خلافه وقال الشافعي ان غلب على ظنه خطؤهما لم يعمل بقولهما لأن من شك في فعل نفسه لم يعمل بقول
670

غيره كالحاكم إذا نسي حكما حكم به فشهد به شاهدان وهو لا يذكره
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حديث ذي اليدين لما سألهما
" أحق ما يقول ذو اليدين؟ " فقالا نعم مع أنه كان شاكا بدليل أنه أنكر ما قاله ذو اليدين وسألهما
عن صحة قوله وهذا دليل على شكه ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتسبيح ليذكروا الإمام ويعمل بقولهم
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فزاد ونقص إلى قوله " إنما أنا بشر أنسى فإذا نسيت
فذكروني " يعني بالتسبيح كما روي عنه في الحديث الآخر وكذا نقول في الحاكم أنه يرجع إلى قول
الشاهدين، وإن كان الإمام على يقين من صوابه وخطأ المأمومين لم يجز له متابعتهم وقال أبو الخطاب
يلزمه الرجوع إلى قولهم كالحاكم يحكم بالشاهدين ويترك يقين نفسه وليس بصحيح فإنه يعلم خطأهم
فلا يتبعهم في الخطأ وكذا نقول في الشاهدين متى علم الحاكم كذبهما لم يجز له الحكم بقولهما لأنه
يعلم أنهما شاهدا زور فلا يحل له الحكم بقول الزور وإنما اعتبرت العدالة في الشهادة ليغلب على
الظن صدق الشهود وردت شهادة غيرهم لأنه لا يعلم صدقهم فمع يقين العلم بالكذب أولى أن لا يقبل
وإذا ثبت هذا فإنه إذا سبح به المأمومون فلم يرجع في موضع يلزمه الرجوع بطلت صلاته نص عليه
أحمد وليس للمأمومين اتباعه فإن اتبعوه لم يخل من أن يكونوا عالمين بتحريم ذلك أو جاهلين
به فإن كانوا عالمين بطلت صلاتهم لأنهم تركوا الواجب عمدا، وقال القاضي في هذا ثلاث
روايات (إحداها) أنه لا يجوز لهم متابعته ولا يلزمهم انتظاره إن كان نسيانه في زيادة يأتي بها
671

وان فارقوه وسلموا صحت صلاتهم وهذا اختيار الخلال (والثانية) يتابعونه في القيام استحسانا
(والثالثة) لا يتابعونه ولا يسلمون قبله لكن ينتظرونه ليسلم بهم وهو اختيار ابن حامد والأول أولى
لأن الإمام مخطئ في ترك متابعتهم فلا يجوز اتباعه على الخطأ (الحال الثاني) ان تابعوه جهلا بتحريم
ذلك فإن صلاتهم صحيحة لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه في التسليم في حديث ذي
اليدين، وفي الخامسة في حديث ابن مسعود فلم تبطل صلاتهم، وروى الأثرم باسناده عن الزبير أنه
صلى صلاة العصر فلما سلم قال له رجل من القوم: يا أبا عبد الله انك صليت ركعات ثلاثا قال: أكذاك
قالوا نعم فرجع فصلى ركعة ثم سجد سجدتين. وعن إبراهيم قال: صلى بنا علقمة الظهر خمسا فلما
سلم قال القوم: يا أبا شبل قد صليت خمسا قال: كلا، ما فعلت قالوا: بلى، قال وكنت في ناحية
القوم وأنا غلام فقلت بلى قد صليت خمسا، قال لي يا أعور وأنت تقول ذلك أيضا قلت نعم فسجد
سجدتين فلم يأمروا من وراءهم بالإعادة فدل على أن صلاتهم لم تبطل بمتابعتهم، ومتى عمل الإمام
بغالب ظنه فسبح به المأمومون فرجع إليهم فإن سجوده قبل السلام لما فعله من الزيادة في الصلاة
سهوا. قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل جلس في الركعة الأولى من الفجر فسبحوا به
فقام متى يسجد للسهو؟ فقال قبل السلام
(فصل) فإن سبح بالإمام واحد لم يرجع إلى قوله الا أن يغلب على ظنه صدقه فيعمل بغالب
ظنه لا يستبيحه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول ذي اليدين وحده فإن سبح فساق لم يرجع
672

إلى قولهم لأن قولهم غير مقبول في أحكام الشرع وان افترق المأمومون طائفتين وافقه قوم وخالفه آخرون
سقط قولهم لتعارضهم كالبينتين إذا تعارضتا ومتى لم يرجع وكان المأموم على يقين من خطأ الإمام لم
يتابعه في أفعال الصلاة وليس هذا منها وينبغي أن ينتظره ههنا لأن صلاة الإمام صحيحة لم تفسد
بزيادة فينتظره كما ينتظر الإمام المأمومين في صلاة الخوف
* (مسألة) * قال (وما عدا هذا من السهو فسجوده قبل السلام مثل المنفرد إذا شك في صلاته
فلم يدركم صلى فبنى على اليقين أو قام في موضع جلوس أو جلس في موضع قيام أو جهر في موضع
تخافت أو خافت في موضع جهر أو صلى خمسا أو ما عدا ذلك من السهو فكل ذلك يسجد له قبل السلام)
وجملة ذلك أن السجود كله عند أحمد قبل السلام الا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما
بعد السلام وهما إذا سلم من نقص في صلاته أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه وما عداهما
يسجد له قبل السلام نص على هذا في رواية الأثرم قال أنا أقول كل سهو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يسجد فيه بعد السلام وسائر السجود يسجد فيه قبل السلام هو أصح في المعنى وذلك أنه من
شأن الصلاة فيقضيه قبل أن يسلم، ثم قال سجد النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة مواضع بعد السلام وفي
غيرها قبل السلام. قلت اشرح الثلاثة مواضع التي بعد السلام، قال سلم من ركعتين فسجد بعد
673

السلام. هذا حديث ذي اليدين، وسلم من ثلاث فسجد بعد السلام، هذا حديث عمران بن حصين
وحديث ابن مسعود في موضع التحري سجد بعد السلام. قال القاضي: لا يختلف قول أحمد في
هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد السلام. واختلف فيمن سها فصلى خمسا هل يسجد قبل السلام
أو بعده على روايتين وما عدا هذه المواضع يسجد لها قبل السلام رواية واحدة وبهذا قال سليمان بن
داود وأبو خيثمة وابن المنذر. وحكى أبو الخطاب عن أحمد روايتين أخريين (إحداهما) أن السجود
كله قبل السلام روي ذلك عن أبي هريرة ومكحول والزهري ويحيى الأنصاري وربيعة والليث
والأوزاعي وهو مذهب الشافعي لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، وقال الزهري كان آخر الامرين
السجود قبل السلام، ولأنه تمام الصلاة وجبر لنقصها فكان قبل سلامها كسائر أفعالها (والثانية)
أن ما كان من نقص سجد له قبل السلام لحديث ابن بحينة وما كان من زيادة سجد له بعد السلام
لحديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وهذا مذهب مالك وأبي ثور
وروي عن ابن مسعود أنه قال: كل شئ شككت فيه من صلاتك من نقصان من ركوع
أو سجود أو غير ذلك فاستقبل أكثر ظنه واجعل سجدتي السهو من هذا النحو قبل التسليم،
فأما غير ذلك من السهو فاجعله بعد التسليم. رواه سعيد، وقال أصحاب الرأي. سجود السهو كله
بعد السلام. وله فعلهما قبل السلام يروى نحو ذلك عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار
وابن عباس وابن الزبير وأنس والحسن والنخعي وابن أبي ليلي لحديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود
674

في التحري؟ وروى ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل سهو سجدتان بعد التسليم " رواه
سعيد، وعن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شك في صلاته فليسجد سجدتين
بعد ما يسلم " رواهما أبو داود
ولنا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام وبعده في أحاديث صحيحة
متفق عليها ففيما ذكرناه عمل بالأحاديث كلها وجمع بينها من غير ترك شئ منها وذلك واجب مهما
أمكن فإن خبر النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجب المصير إليه والعمل به ولا يترك إلا لعارض مثله
أو أقوى منه. وليس في سجوده بعد السلام أو قبله في صورة ما ينفي سجوده في صورة أخرى في غير
ذلك الموضع، وذكر نسخ حديث ذي اليدين لا وجه له. فإن راوييه أبا هريرة وعمران بن حصين
هجرتهما متأخرة وقول الزهري مرسل لا يقتضي نسخا فإنه لا يجوز أن يكون آخر الامرين سجوده
قبل السلام لوقوع السهو في آخر الامر فيما سجوده قبل السلام، وحديث ثوبان راويه إسماعيل بن
عياش وفي روايته عن أهل الحجاز ضعف، وحديث ابن جعفر فيه ابن أبي ليلي وهو ضعيف، وقال
الأثرم: لا يثبت واحد منهما
(فصل) في تفصيل المسائل التي ذكرها الخرقي في هذه المسألة قوله: مثل المنفرد إذا شك في صلاته
فلم يدر كم صلى فبنى على اليقين. قد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن المنفرد يبني على اليقين ومعناه أنه
ينظر ما تيقن أنه صلاه من الركعات فيتم عليه ويلغي ما شك فيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
675

حديث عبد الرحمن بن عوف " إذا شك أحدكم في الثنتين والواحدة فليجعلها واحدة، وإذا شك في
الثنتين والثلاث فليجعلهما اثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا ثم ليتم ما بقي من صلاته
حتى يكون الوهم في الزيادة ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم " رواه ابن ماجة هكذا
وسواء غلب على ظنه خلاف ذلك أم لم يغلب على ظنه إلا أن يكون هذا الوهم مثل الوسواس فقد
قال ابن أبي موسى إذا كثر السهو حتى يصير مثل الوسواس لها عنه وذكرنا أن في المنفرد رواية
أخرى أنه يبني على ما يغلب على ظنه، والصحيح في المذهب ما ذكر الخرقي رحمه الله والحكم في الإمام
إذا بنى على اليقين أنه يسجد قبل السلام كالمنفرد وإذا تحرى المنفرد على الرواية الأخرى سجد بعد السلام
(فصل) قوله: أو قام في موضع جلوس أو جلس في موضع قيام. أكثر أهل العلم يرون أن هذا
يسجد له، وممن قال ذلك ابن مسعود وقتادة والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وكان
علقمة والأسود يقعدان في الشئ يقام فيه ويقومان في الشئ يقعد فيه فلا يسجدان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين " وقال " إذا زاد الرجل
أو نقص فليسجد سجدتين " رواهما مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله عليه
الصلاة السلام " لكل سهو سجدتان بعد السلام " رواه أبو داود ولأنه سهو فسجد له كغيره مع
ما نذكره في تفصيل المسائل، فأما القيام في موضع (الجلوس) ففي ثلاث صور (إحداها) أن يترك التشهد
الأول ويقوم وفيه ثلاث مسائل
676

(الأولى) ذكره قبل اعتداله قائما فيلزمه الرجوع إلى التشهد وممن قال يجلس علقمة والضحاك
وقتادة والأوزاعي والشافعي وابن المنذر وقال مالك: إن فارقت أليتاه الأرض مضى وقال حسان
ابن عطية إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى
ولنا ما روى المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائما
فليجلس، فإذا استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو " رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه أخل
بواجب ذكره قبل الشروع في ركن مقصود فلزمه الاتيان به كما لو لم تفارق أليتاه الأرض
(المسألة الثانية) ذكره بعد اعتداله قائما وقبل شروعه في القراءة فالأولى له أن لا يجلس وإن جلس
جاز نص عليه قال النخعي يرجع ما لم يستفتح القراءة وقال حماد بن أبي سليمان ان ذكر ساعة يقوم جلس
ولنا حديث المغيرة وما نذكره فيما بعد ولأنه ذكره بعد الشروع في ركن فلم يلزمه الرجوع كما لو
ذكره بعد الشروع في القراءة ويحتمل أنه لا يجوز له الرجوع لحديث المغيرة ولأنه شرع في ركن فلم يجز
له الرجوع كما لو شرع في القراءة
(المسألة الثالثة) ذكره بعد الشروع في القراءة فلا يجوز له الرجوع ويمضي في صلاته في
قول أكثر أهل العلم. وممن روي عنه أنه لا يرجع عمر وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود والمغيرة
ابن شعبة والنعمان بن بشير وابن الزبير والضحاك بن قيس وعقبة بن عامر وهو قول أكثر الفقهاء،
وقال الحسن يرجع ما لم يركع وليس بصحيح لحديث المغيرة، وروى أبو بكر الآجري باسناده عن
معاوية أنه صلى بهم فقام في الركعتين وعليه الجلوس فسبح به فأبى أن يجلس حتى إذا جلس يسلم سجد
سجدتين وهو جالس ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا، ولأنه شرع في ركن
677

مقصود فلم يجز له الرجوع كما لو شرع في الركوع. إذا ثبت هذا فإنه يسجد قبل السلام في جميع هذه
المسائل لحديث معاوية ولما روى عبد الله بن مالك بن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في
الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس
فسجد سجدتين قبل أن يسلم متفق عليه
(فصل) إذا علم المأمومون بتركه التشهد الأول قبل قيامهم وبعد قيام إمامهم تابعوه في القيام ولم
يجلسوا للتشهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سها عن التشهد الأول وقام قام الناس معه، وفعله جماعة من
الصحابة ممن صلى بالناس نهضوا في الثانية عن الجلوس فسبحوا بهم فلم يلتفتوا إلى من سبح بهم،
وبعضهم أومأ إليهم بالقيام فقاموا، قالوا ومما احتج به أحمد من فعل الصحابة أنهم كانوا يقومون معه قال:
حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا المسعودي عن هلال بن علاثة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما
صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد
سجدتين وسلم ثم قال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحدثنا وكيع قال أخبرنا عمران بن
حدير عن مضر بن عاصم الليثي قال: أوهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القعدة فسبحوا به فقال
سبحان الله هكذا أي قوموا، وروى باسناده مثل ذلك عن سعد ورواه الآجري عن ابن مسعود
وعن عقبة بن عامر وقال إني سمعتكم تقولون سبحان الله لكيما أجلس فليست تلك السنة إنما
السنة التي صنعت، وقد ذكرنا حديث ابن بحينة فأما إن سبحوا به قبل قيامه ولم يرجع تشهدوا لأنفسهم
678

ولم يتبعوه في تركه لأنه ترك واجبا تعين فعله عليه فلم يكن لهم متابعته في تركه ولو رجع إلى التشهد
بعد شروعه في القراءة لم يكن لهم متابعته في ذلك لأنه أخطأ، فأما الإمام فمتى فعل ذلك عالما بتحريمه
بطلت صلاته لأنه زاد في الصلاة من جنسها عمدا أو ترك واجبا عمدا، وإن كان جاهلا بالتحريم أو
ناسيا لم تبطل لأنه زاد في الصلاة سهوا ومتى علم بتحريم ذلك وهو في التشهد نهض ولم يتم الجلوس
ولو ذكر الإمام التشهد قبل انتصابه وبعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة فرجع لزمهم الرجوع لأن
الإمام رجع إلى واجب فلزمهم متابعته ولا اعتبار بقيامهم قبله
(فصل) وإن نسي التشهد دون الجلوس له فحكمه في الرجوع إليه حكم ما لو نسيه مع الجلوس
لأن التشهد هو المقصود، فأما ان نسي شيئا من الأذكار الواجبة: تسبيح الركوع والسجود، وقول رب
اغفر لي بين السجدتين، وقول ربنا ولك الحمد، فإنه لا يرجع إليه بعد الخروج من محله لأن محل الذكر
ركن قد وقع مجزئا صحيحا فلو رجع إليه لكان زيادة في الصلاة وتكرارا لركن ثم يأتي بالذكر في
ركوع أو سجود زائد غير مشروع بخلاف التشهد ولكنه يمضي ويسجد للسهو لتركه قياسا على ترك
التشهد (السورة الثانية) قام من السجدة الأولى ولم يجلس للفصل بين السجدتين فهذا قد ترك ركنين
جلسة الفصل والسجدة الثانية فلا يخلو من حالين (أحدهما) أن يذكر قبل الشروع في القراءة فيلزمه
الرجوع وهذا قول مالك والشافعي ولا أعلم فيه مخالفا، فإذا رجع فإنه يجلس جلسة الفصل ثم يسجد
السجدة الثانية ثم يقوم إلى الركعة الأخرى، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحتاج إلى الجلوس لأن
679

الفصل قد حصل بالقيام وليس بصحيح لأن الجلسة واجبة ولا ينوب عنها القيام كما لو عمد ذلك فأما
إن كان جلس للفصل ثم قام ولم يسجد فإنه يسجد ولا يلزمه الجلوس وقيل يلزمه ليأتي بالسجدة عن جلوس
ولا يصح لأنه أتى بالجلسة فلم تبطل بسهو بعدها كالسجدة الأولى ويصير كأنه سجد عقيب الجلوس
فإن كان يظن أنه سجد سجدتين وجلس جلسة الاستراحة لم يجزه عن جلسة الفصل لأنها هيئة فلا تنوب
عن الواجب كما لو ترك سجدة من ركعة ثم سجد للتلاوة وهكذا الحكم في ترك ركن غير السجود مثل
الركوع أو الاعتدال عنه فإنه يرجع إليه متى ذكره قبل الشروع في قراءة الركعة الأخرى فيأتي به
ثم بما بعده لأن ما أتى به بعده غير معتد به لفوات الترتيب (الحال الثاني) ترك ركنا اما سجدة أو
ركوعا ساهيا ثم ذكره بعد الشروع في قراءة الركعة التي يليها بطلت الركعة التي ترك الركن منها وصارت
التي شرع في قراءتها مكانها نص على هذا أحمد في رواية الجماعة، قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن رجل
صلى ركعة ثم قام ليصلي أخرى فذكر أنه إنما سجد للركعة الأولى سجدة واحدة فقال إن كان أول ما قام
قبل أن يحدث عمله للأخرى فإنه ينحط ويسجد ويعتد بها، وإن كان أحدث عمله للأخرى ألغى
الأولى وجعل هذه الأولى قلت يستفتح أو يجزئ الاستفتاح الأول؟ قال لا يستفتح ويجزئه الأول
قلت فنسي سجدتين من ركعتين قال لا يعتد بتينك الركعتين والاستفتاح ثابت. وهذا قول إسحاق
وقال الشافعي إذا ذكر الركن المتروك قبل السجود في الثانية فإنه يعود إلى السجدة الأولى، وإن
ذكره بعد سجوده في الثانية وقعتا عن الأولى لأن الركعة الأولى قد صح فعلها وما فعله في الثانية
680

سهوا لا يبطل الأولى كما لو ذكر قبل القراءة وقد ذكر أحمد هذا القول عن الشافعي وقربه وقال هو
أشبه يعني من قول أصحاب أبي حنيفة إلا أنه اختار القول الذي حكاه عنه الأثرم، وقال مالك إن
ترك سجدة فذكرها قبل رفع رأسه من ركوع الثانية ألغى الأولى، وقال الحسن والنخعي والأوزاعي
من نسي سجدة ثم ذكرها سجدها في الصلاة متى ما ذكرها، وقال الأوزاعي يرجع إلى حيث كان من
الصلاة وقت ذكرها فيمضي فيها، وقال أصحاب الرأي فيمن نسي أربع سجدات من أربع ركعات
ثم ذكرها في التشهد سجد في الحال أربع سجدات وتمت صلاته
ولنا ان المزحوم في الجمعة إذا زال الزحام والإمام راكع في الثانية فإنه يتبعه ويسجد معه ويكون
السجود من الثانية دون الأولى كذا ههنا
(فصل) فإن مضى في موضع يلزمه الرجوع أو رجع في موضع يلزمه المضي عالما بتحريم ذلك فسدت
صلاته لأنه ترك واجبا في الصلاة عمدا، وإن فعل ذلك معتقدا جوازه لم تبطل لأنه تركه من غير تعمد أشبه
ما لو مضى قبل ذكر المتروك لكن إذا مضى في موضع يلزمه الرجوع فسدت الركعة التي ترك ركنها كما لو لم
يذكره إلا بعد شروعه في قراءة غيرها فلم يعد إلى الصحة بحال (الصورة الثالثة) قام عن التشهد الأخير إلى
زائد فإنه يرجع إليه متى ما ذكره لأنه قام إلى زيادة غير معتد له بها فلزمه الرجوع كما لو ذكر قبل السجود.
ويأتي تفصيل هذه الصورة فيما إذا صلى خمسا، وفي هذه الصور الثلاث يلزمه السجود قبل السلام
681

(فصل) قوله أو جلس في موضع قيام فهذا يتصور بأن يجلس عقيب الأولى أو الثالثة يظن أنه
موضع التشهد أو جلسة الفصل فمتى ما ذكر قام، وإن لم يذكر حتى قام أتم صلاته وسجد للسهو لأنه زاد
في الصلاة من جنسها ما لو فعله عمدا أبطلها فلزمه السجود إذا كان سهوا كزيادة ركعة
(فصل) والزيادات على ضربين، زيادة أفعال، وزيادة أقوال. فزيادات الافعال قسمان:
(أحدهما) زيادة من جنس الصلاة مثل أن يقوم في موضع جلوس أو يجلس في موضع قيام أو يزيد
ركعة أو ركنا فهذا تبطل الصلاة بعمده ويسجد لسهوه قليلا كان أو كثيرا لقول النبي صلى الله عليه
وسلم " إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين " رواه مسلم (والثاني) من غير جنس الصلاة كالمشي
والحك والتروح فهذا تبطل الصلاة بكثيره ويعفى عن يسيره ولا يسجد له ولا فرق بين عمده وسهوه
(الضرب الثاني) زيادات الأقوال، وهي قسمان أيضا (أحدهما) ما يبطل عمده الصلاة كالسلام
وكلام الآدميين فإذا أتى به سهوا فسلم في غير موضعه سجد على ما ذكرناه في حديث ذي اليدين،
وإن تكلم في الصلاة سهوا فهل تبطل الصلاة به أو يسجد للسهو؟ على روايتين (القسم الثاني)
مالا يبطل عمده الصلاة وهو نوعان (أحدهما) أن يأتي بذكر مشروع في الصلاة في غير محله كالقراءة
في الركوع والسجود، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول، وقراءة
السورة في الأخريين من الرباعية أو الأخيرة من المغرب وما أشبه ذلك إذا فعله سهوا فهل يشرع
له سجود السهو؟ على روايتين (إحداهما) لا يشرع له سجود لأن الصلاة لا تبطل بعمده فلم يشرع
682

السجود لسهوه كترك سنن الافعال (والثانية) يشرع له السجود لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا نسي
أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس " رواه مسلم. فإذا قلنا يشرع له السجود فذلك مستحب غير
واجب لأنه جبر لغير واجب فلم يكن واجبا كجبر سائر السنن. قال احمد: إنما السهو الذي يجب فيه
السجود ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولان الأصل عدم وجوب السجود (النوع الثاني) أن يأتي فيها بذكر
أو دعاء لم يرد الشرع به فيها كقوله آمين رب العالمين: وقوله في التكبير الله أكبر كبيرا - ونحو ذلك
فهذا لا يشرع له السجود (1) لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سمع رجلا يقول في الصلاة: الحمد لله حمدا
كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلم يأمره بالسجود
(فصل) وإذا جلس في غير موضع التشهد (2) قدر جلسة الاستراحة فقال القاضي يلزمه السجود
سواء قلنا جلسة الاستراحة مسنونة أو لم نقل ذلك لأنه لم يردها بجلوسه إنما أراد غيرها وكان سهوا. ويحتمل
أن لا يلزمه لأنه فعل لو تعمده لم تبطل صلاته فلا يسجد لسهوه كالعمل اليسير من غير جنس الصلاة
(فصل) قوله أو جهر في موضع تخافت أو خافت في موضع جهر. وجملة ذلك أن الجهر والاخفات
في موضعهما من سنن الصلاة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا وان تركه سهوا فهل يشرع له السجود من
أجله؟ فيه عن أحمد روايتان (إحداهما) لا يشرع قال الحسن وعطاء وسالم ومجاهد والقاسم والشعبي
والحاكم لا سهو عليه وجهر أنس في الظهر والعصر ولم يسجد وكذلك علقمة والأسود وهذا
مذهب الأوزاعي والشافعي لأنه سنة فلا يشرع السجود لتركه كرفع اليدين (والثانية) يشرع وهو

(1) وفي نسخة دار الكتب سجود (2) وفي نسخة دار الكتب: وإذا جلس للتشهد في غير موضعه الخ
683

مذهب مالك وأبي حنيفة في الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين " ولأنه
خل بسنة قولية فشرع السجود لها كترك القنوت، وما ذكروه يبطل بالقنوت وبالتشهد الأول فإنه
عند الشافعي سنة ويسجد تاركه فإذا قلنا بهذا كان السجود مستحبا غير واجب، نص عليه أحمد
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل سها فجهر فيما يخافت فيه فهل عليه سجدتا السهو؟
قال أما عليه فلا أقول عليه ولكن ان شاء سجد، وذكر أبو عبد الله الحديث عن عمر أو غيره أنه
كان يسمع منه نغمة في صلاة الظهر قال وأنس جهر فلم يسجد وقال إنما السهو الذي يجب فيه السجود
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صالح: قال أبي ان سجد فلا بأس وان لم يسجد فليس عليه، ولأنه
جبر لما ليس بواجب فلم يكن واجبا كسائر السنن
(فصل) قوله أو صلى خمسا يعني في صلاة رباعية فإنه متى قام إلى الخامسة في الرباعية أو إلى
الرابعة في المغرب أو إلى الثالثة في الصبح لزمه الرجوع متى ما ذكر فيجلس فإن كان قد تشهد عقيب
الركعة التي تمت بها صلاته سجد للسهو ثم يسلم وإن كان تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه ثم
سجد للسهو وسلم، وان لم يكن تشهد تشهد وسجد للسهو ثم سلم، فإن لم يذكر حتى فرغ من الصلاة
سجد سجدتين عقيب ذكره وتشهد وصلاته صحيحة وبهذا قال علقمة والحسن وعطاء والزهري
والنخعي ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ان ذكر قبل أن يسجد جلس
للتشهد وان ذكر بعد السجود وكان جلس عقيب الرابعة قدر التشهد صحت صلاته ويضيف إلى
684

الزيادة أخرى لتكون نافلة فإن لم يكن جلس في الرابعة بطل فرضه وصارت صلاته نافلة ولزمه إعادة الصلاة
ونحوه قال حماد بن أبي سليمان وقال قتادة والأوزاعي فيمن صلى المغرب أربعا يضيف إليها أخرى
فتكون الركعتان تطوعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد فيمن سجد سجدتين " فإن كانت صلاته
تامة كانت الركعة والسجدتان نافلة " رواه أبو داود وابن ماجة. وفي رواية " فإن كان صلى خمسا
شفعن له صلاته " رواه مسلم
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا فلما انفتل توشوش القوم
بينهم فقال " ما شأنكم؟ " قالوا يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال " لا " قالوا فإنك قد صليت خمسا
فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم ثم قال " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسي أحدكم فليسجد
سجدتين " وفي رواية قال " إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون " ثم سجد
سجدتي السهو وفي رواية فقال " فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين " رواه كله مسلم.
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقيب الرابعة لأنه لم ينقل ولأنه قام إلى الخامسة معتقدا أنه قام
عن ثالثة ولم تبطل صلاته بهذا ولم يضف إلى الخامسة أخرى وحديث أبي سعيد حجة عليهم أيضا
فإنه جعل الزائدة نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس وجعل السجدتين يشفعانها
ولم يضم إليها ركعة أخرى وهذا كله خلاف لما قالوه فقد خالفوا الخبرين جميعا وقولنا يوافق الخبرين
جميعا والحمد لله رب العالمين.
685

* (مسألة) * قال (فإن نسي أن عليه سجود سهو وسلم كبر وسجد سجدتي السهو
وتشهد وسلم ما كان في المسجد وان تكلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام)
الكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول:
(الفصل الأول) أنه إذا نسي سجود السهو ثم ذكره قبل طول الفصل في المسجد فإنه يسجد سواء
تكلم أو لم يتكلم وبهذا قال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وكان الحسن وابن سيرين يقولان
إذا صرف وجهه عن القبلة لم يبن ولم يسجد وقال أبو حنيفة: ان تكلم بعد الصلاة سقط عنه سجود
السهو ولأنه أتى بما ينافيها فأشبه ما لو أحدث
ولنا ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام، رواه مسلم، وأيضا الحديث
الذي ذكرناه في المسألة التي قبل هذه فإنه عليه الصلاة والسلام تكلم وتكلم المأمومون ثم سجد
وسجدوا معه وهذا حجة على الحسن وابن سيرين لقوله فلما انفتل توشوش القوم بينهم ثم سجد
بعد انصرافه عن القبلة ولأنه إذا جاز اتمام ركعتين من الصلاة بعد الكلام والانصراف كما في حديث
ذي اليدين فالسجود أولى.
(الفصل الثاني) أنه لا يسجد بعد طول المدة واختلف في ضبط المدة التي يسجد فيها ففي قول الخرقي
686

يسجد ما كان في المسجد وان خرج لم يسجد، نص عليه أحمد وهو قول الحكم وابن شبرمة، وقال
القاضي: يرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة وهذا قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المسجد
بعد خروجه منه في حديث عمران بن حصين فالسجود أولى، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية
أخرى أنه يسجد وان خرج وتباعد وهو قول ثان للشافعي لأنه جبران يأتي به بعد طول الزمان كجبران
الحج وهذا قول مالك إن كان لزيادة وإن كان النقص أتى به ما لم يطل الفصل لأنه لتكميل الصلاة
ولنا أنه لتكميل الصلاة فلا يأتي به بعد طول الفصل كركن من أركانها وكما لو كان من نقص
وإنما ضبطناه بالمسجد لأنه محل الصلاة وموضعها فاعتبرت فيه المدة كخيار المجلس
(الفصل الثالث) أنه متى سجد للسهو فإنه يكبر للسجود والرفع منه سواء كان قبل السلام أو
بعده فإن كان قبل السلام سلم عقبه وإن كان بعده تشهد وسلم سواء كان محله بعد السلام أو كان قبل
السلام فنسيه إلى ما بعده وبهذا قال ابن مسعود والنخعي وقتادة والحكم وحماد والثوري والأوزاعي
والشافعي وأصحاب الرأي في التشهد والسلام، وقال أنس والحسن وعطاء ليس فيهما تشهد ولا تسليم وقال
ابن سيرين وابن المنذر فيهما تسليم بغير تشهد. قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجه وفي
ثبوت التشهد نظر وعن عطاء ان شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل
ولنا على التكبير قول ابن بحينة فلما قضى الصلاة سجد سجدتين كبر في كل سجدة وهو جالس
687

قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه. وهو حديث صحيح وقول أبي هريرة ثم كبر وسجد مثل سجوده
أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل رفع وخفض، وأما التسليم
فقد ذكره عمران بن حصين في حديثه الذي رواه مسلم قال فيه سجد سجدتي السهو ثم سلم وفي
حديث ابن مسعود ثم سجد سجدتين ثم سلم. وأما التشهد فقد روى أبو داود في حديث عمران بن
حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذي هذا
حديث حسن غريب ولأنه سجود يسلم له فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة ويحتمل أن لا يجب
التشهد لأن ظاهر الحديثين الأولين أنه سلم من غير تشهد وهما أصح من هذه الرواية ولأنه سجود
مفرد فلم يجب له تشهد كسجود التلاوة
(فصل) وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل لم تبطل الصلاة وبذلك قال الشافعي وأصحاب
الرأي وعن أحمد انه ان خرج من المسجد أعاد الصلاة وهو قول الحكم وابن شبرمة وقول مالك وأبي
ثور في السجود الذي قبل السلام
ولنا أنه جابر للعبادة بعدها فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج ولأنه مشروع للصلاة خارج منها فلم
تفسد بتركه كالاذان
(فصل) ويقول في سجوده ما يقول في سجود صلب الصلاة ولأنه سجود مشروع في الصلاة
أشبه سجود صلب الصلاة
688

(فصل) وإن نسي السجود حتى شرع في صلاة أخرى سجد بعد فراغه منها في ظاهر كلام
الخرقي لأنه في المسجد وعلى قول غيره إن طال الفصل لم يسجد والا سجد
(فصل) وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب، وعن أحمد غير واجب ولعل مبناها على
أن الواجبات التي شرع السجود لجبرها غير واجبة فيكون جبرها غير واجب وهذا قول الشافعي
وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كانت الركعة والسجدتان نافلة له "
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في حديث ابن مسعود وأبي سعيد وفعله وقال " صلوا كما رأيتموني
أصلي " وقوله نافلة يعني ان له ثوابا فيه كما أنه سمى الركعة أيضا نافلة وهي واجبة على الساهي بلا خلاف
فأما المشروع (1) لما لا يبطل عمده الصلاة فغير واجب قال أحمد: إنما يجب السجود فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
يعني وما كان في معناه فنقيس على زيادة خامسة سائر زيادات الافعال من جنس الصلاة وعلى ترك
التشهد ترك غيره من الواجبات وعلى التسليم من نقصان زيادات الأقوال المبطلة عمدا
(فصل) فإن ترك الواجب عمدا فإن كان قبل السلام بطلت صلاته لأنه أخل بواجب في الصلاة
عمدا، وإن ترك الواجب بعد السلام لم تبطل صلاته لأنه جبر للعبادة خارج منها فلم تبطل بتركه كجبرانات
الحج وسواء كان محله بعد السلام أو قبله فنسيه فصار بعد السلام، وقد نقل عن أحمد ما يدل على بطلان
الصلاة ونقل عنه التوقف فنقل عنه الأثرم فيمن نسي سجود السهو فقال إن كان في سهو خفيف فأرجو

(1) كذا في الأصل هنا وفيما سيأتي من الشرح الكبير والمعنى يقتضي أن يقال فأما السجود الخ لأنه مقابل لما في أول الفصل فإن لم يكن غلطا فالمراد السجود المشروع لما لا يبطل عمده
689

أن لا يكون عليه. قلت فإن كان فيما سها فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هاه، ولم يجب فبلغني عنه أنه يستحب
أن يعيد، فإن كان هذا في السهو ففي العمد أولى
* (مسألة) * قال (وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات وذكر وهو في التشهد
سجد سجدة تصح له ركعة ويأتي بثلاث ركعات ويسجد للسهو في إحدى الروايتين عن
أبي عبد الله رحمه الله، والرواية الأخرى قال: كان هذا يلعب، يبتدئ الصلاة من أولها)
هذه المسألة مبنية على من ترك ركنا من ركعة فلم يذكره إلا في التي بعدها وقد ذكرنا أنه إذا لم
يذكره حتى شرع في قراءة التي بعدها بطلت فلما شرع في قراءة الثانية ههنا قبل ذكر سجدة الأولى
بطلت الأولى، ولما شرع في قراءة الثالثة قبل ذكر سجدة الثانية بطلت الثانية، وكذلك الثالثة تبطل
بالشروع في قراءة الرابعة فلم يبق الا الرابعة ولم يسجد فيها الا سجدة فيسجد الثانية حين ذكر ويتم
له ركعة ويأتي بثلاث ركعات وهذا قول مالك والليث لأن كل ركعة بطلت بشروعه في الثانية قبل
اتمام الأولى، وفيه رواية أخرى عن أحمد أن صلاته تبطل ويبتدئها لأن هذا يؤدي إلى أن يكون
متلاعبا بصلاته ثم يحتاج إلى إلغاء عمل كثير في الصلاة فإن بين التحريمة والركعة المعتد بها ثلاث
ركعات لاغية، وهذا قول إسحاق وأبي بكر الآجري. وقال الشافعي: يصح له ركعتان لأنه لما قام
إلى الثانية سهوا قبل اتمام الأولى كان عمله فيها لاغيا، فلما سجد فيها انضمت سجدتها إلى سجدة
690

الأولى فكملت له ركعة وهكذا الثالثة والرابعة يحصل له منها ركعة وحكى أبو عبد الله هذا القول عن
الشافعي ثم قال: هو أشبه مما يقول هؤلاء - يعني أصحاب الرأي - قال الأثرم: فقلت له فإنه إذا فعل
لا يستقيم لأنه إنما نوى بهذه السجدة عن الثانية لا عن الأولى قال فكذلك أقول إنه يحتاج أن يسجد
لكل ركعة سجدتين، ويحتمل أن يكون هذا القول المحكي عن الشافعي هو الصحيح وأن يكون
مذهبا لأحمد لأنه قد حسنه وإنما اعتذر عن المصير إليه لكونه إنما نوى بالسجدة الثانية عن الركعة
الثانية وهذا لا يمنع جعلها عن الأولى كما لو سجد في الركعة الأولى يحسب أنه في الثانية أو سجد في
الثانية يحسب أنه في الأولى والله أعلم. وقال الثوري وأصحاب الرأي يسجد في الحال أربع سجدات
وقال الحسن بن صالح فيمن نسي من كل ركعة سجدتيها يسجد في الحال ثماني سجدات وهذا فاسد
لأن ترتيب الصلاة شرط فيها فلا يسقط بالنسيان كما لو قدم السجود على الركوع ناسيا وان لم يذكر
حتى سلم ابتدأ الصلاة فإنه لم يبق له غير ركعة تنقص سجدة فإذا سلم بطلت أيضا نص أحمد على بطلانها
في رواية الأثرم فحينئذ يستأنف الصلاة.
(فصل) وإذا ترك ركنا ثم ذكره ولم يعلم موضعه بنى الامر على أسوأ الأحوال مثل أن يترك
سجدة لا يعلم أمن الركعة الرابعة أم من الركعة التي قبلها؟ جعلها من التي قبلها لأنه يلزمه حينئذ ركعة
كاملة ولو حسبها من الركعة الرابعة أجزأته سجدة واحدة فإن ترك سجدتين لا يعلم أمن الركعتين أم
691

من ركعة جعلهما من ركعتين ليلزمه ركعتان. وان علم أنه ترك ركنا من ركعة هو فيها لا يعلم أركوع هو أم
سجود جعله ركوعا ليلزمه الاتيان به وبما بعده وعلى قياس هذا يأتي بما تيقن به اتمام الصلاة لئلا يخرج
منها وهو شاك فيها فيكون مغررا بها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا غرار في صلاة ولا تسليم " رواه
أبو داود. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن تفسير هذا الحديث قال أما أنا فأرى أن لا يخرج
منها إلا على يقين لا يخرج منها على غرر حتى يتيقن أنها قد تمت ولو ترك سجدة من الأولى فذكرها
في التشهد أتى بركعة وأجزأته وقد روى الأثرم باسناده عن الحسن في رجل صلى العصر أو غيرها
فنسي أن يركع في الثانية حتى ذكر ذلك في الرابعة قال: يمضي في صلاته ويتمها أربع ركعات ولا
يحتسب بالتي لم يركع فيها ثم يسجد للوهم.
(فصل) وان شك في ترك ركن من أركان الصلاة وهو فيها هل أخل به أولا؟ فحكمه حكم من
لم يأت به إماما كان أو منفردا لأن الأصل عدمه، وان شك في زيادة توجب السجود فلا سجود عليه
لأن الأصل عدمها فلا يجب السجود بالشك فيها، وان شك في ترك واجب يوجب تركه سجود السهو
فقال ابن حامد: لا سجود عليه لأنه شك في سببه فلم يلزمه بالشك كما لو شك في الزيادة، وقال القاضي:
يحتمل أن يلزمه السجود لأن الأصل عدمه، ولو شك في عدد الركعات أو في ركن في الصلاة لم يسجد
لأن السجود لزيادة أو نقص أو احتمال ذلك ولم يوجد.
(فصل) إذا سها سهوين أو أكثر من جنس كفاه سجدتان للجميع لا نعلم أحدا خالف فيه
692

وإن كان السهو من جنسين فكذلك حكاه ابن المنذر قولا لأحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم
النخعي والثوري ومالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي، وذكر أبو بكر فيه وجهين (أحدهما)
ما ذكرنا (والثاني) يسجد سجودين، وقال الأوزاعي وابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة إذا
كان عليه سجودان أحدهما قبل السلام والآخر بعده سجدهما في محليهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لكل
سهو سجدتان " رواه أبو داود وابن ماجة، وهذان سهوان فلكل واحد منهما سجدتان ولان كل
سهو يقتضي سجودا وإنما تداخلا في الجنس الواحد لاتفاقهما وهذان مختلفان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين " وهذا يتناول السهو
في موضعين ولان النبي صلى الله عليه وسلم سها فسلم وتكلم بعد صلاته فسجد لها سجودا واحدا
ولان السجود أخر إلى آخر الصلاة ليجمع السهو كله وإلا فعله عقيب سببه ولأنه شرع للجبر فجبر
نقص الصلاة وإن كثر بدليل السهو مرات من جنس واحد وإذا انجبرت لم يحتج إلى جابر آخر فنقول
سهوان فأجزأ عنهما سجود واحد كما لو كانا من جنس (1) وقوله " لكل سهو سجدتان " في إسناده مقال
ثم إن المراد به لكل سهو في صلاة والسهو وإن كثر فهو داخل في لفظ السهو لأنه اسم جنس فيكون
التقدير لكل صلاة فيها سهو سجدتان ولذلك قال " لكل سهو سجدتان " بعد السلام هكذا في رواية
أبي داود ولا يلزمه بعد السلام سجودان، إذا ثبت هذا فإن معنى الجنسين أن يكون أحدهما قبل
السلام والآخر بعده لأن محليهما مختلفان وكذلك سبباهما وأحكامهما، وقال بعض أصحابنا: الجنسان
* (هامش) 8 (1) لعل أصله من جنس واحد وهذه الجملة ساقطة من نسخة دار الكتب (*)
693

أن يكون أحدهما من نقص والآخر من زيادة والأولى ما قلناه إن شاء الله تعالى، فعلى هذا إذا اجتمعا
سجد لهما قبل السلام لأنه أسبق وآكد ولان الذي قبل السلام قد وجب لوجوب سببه ولم يوجد
قبله ما يمنع وجوبه ولا يقوم مقامه فلزمه الاتيان به كما لو لم يكن عليه سهو آخر. وإذا سجد له سقط
الثاني لاغناء الأول عنه وقيامه مقامه.
(فصل) ولو أحرم منفردا فصلى ركعة ثم نوى متابعة الإمام وقلنا بجواز ذلك فسها فيما انفرد
فيه وسها إمامه فيما تابعه فيه فإن صلاته تنتهي قبل صلاة إمامه، فعل قولنا هما من جنس واحد إن كان
محلهما واحدا، وعلى قول من فسر الجنسين بالزيادة والنقص يحتمل كونهما من جنسين وهكذا لو صلى من
الرباعية ركعة ودخل مع مسافر فنوى متابعته فلما سلم إمامه قام ليتم ما عليه فقد حصل مأموما في وسط
صلاته منفردا في طرفيها، فإذا سها في الوسط والطرفين جميعا فعلى قولنا إن كان محل سجودهما واحدا
فهي جنس واحد، وإن اختلف محل السجود فهي جنسان، وقال بعض أصحابنا: هي جنسان هل
يجزئه لها سجدتان أو أربع سجدات، على وجهين ولأصحاب الشافعي فيها وجهان كهذين، ووجه
ثالث أنه يحتاج أن يسجد ست سجدات لكل سهو سجدتان.
" مسألة " قال (وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه)
694

وجملته أن المأموم إذا سها دون إمامه فلا سجود عليه في قول عامة أهل العلم، وحكي عن مكحول أنه قام
عن قعود إمامه فسجد. ولنا أن معاوية بن الحكم تكلم خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بسجود، وروى الدارقطني
في سننه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس على من خلف الإمام سهو فإن سها إمامه فعليه وعلى من
خلفه " ولان المأموم تابع للإمام وحكمه حكمه إذا سها وكذلك إذا لم يسه وإذا سها الإمام فعلى
المأموم متابعته في السجود سواء سها معه أو انفرد الإمام بالسهو. وقال ابن المنذر: أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وذكر إسحاق أنه اجماع أهل العلم سواء كان السجود قبل السلام
السلام أو بعده لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا سجد فاسجدوا " ولحديث
ابن عمر الذي رويناه. وإذا كان المأموم مسبوقا فسها الإمام فيما لم يدركه فيه فعليه متابعته في السجود
سواء كان قبل السلام أو بعده روي هذا عن عطاء والحسن والنخعي والشعبي وأبي ثور وأصحاب
الرأي. وقال ابن سيرين وإسحاق يقضي ثم يسجد. وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي في
السجود قبل السلام كقولنا وبعده كقول ابن سيرين وروي ذلك عن أحمد ذكره أبو بكر في زاد
المسافر لأنه فعل خارج من الصلاة فلم يتبع الإمام فيه كصلاة أخرى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا سجد فاسجدوا " وقوله في حديث ابن عمر " فإن سها إمامه فعليه
وعلى من خلفه " ولان السجود من تمام الصلاة فيتابعه فيه كالذي قبل السلام وكغير المسبوق،
695

وفارق صلاة أخرى فإنه غير مؤتم به فيها، إذا ثبت هذا فمتى قضى ففي إعادة السجود روايتان
(إحداهما) يعيده لأنه قد لزمه حكم السهو وما فعله من السجود مع الإمام كان متابعا له فلا يسقط به
ما لزمه كالتشهد الأخير (والثانية) لا يلزمه السجود لأن سجود إمامه قد كملت به الصلاة في حقه
وحصل به الجبران فلم يحتج إلى سجود ثان كالمأموم إذا سها وحده، وللشافعي قولان كالروايتين
فإن نسي الإمام السجود سجد المسبوق في آخر صلاته رواية واحدة لأنه لم يوجد من الإمام ما يكمل به
صلاة المأموم، وإذا سها المأموم فيما تفرد فيه بالقضاء سجد رواية واحدة لأنه قد صار منفردا فلم يتحمل
عنه الإمام وهكذا لو سها فسلم مع إمامه قام فأتم صلاته ثم سجد بعد السلام كالمنفرد سواء
(فصل) فأما غير المسبوق إذا سها إمامه فلم يسجد فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان (إحداهما)
يسجد وهو قول ابن سيرين والحكم وحماد وقتادة ومالك والليث والشافعي وأبي ثور. قال ابن عقيل
وهي أصح لأن صلاة المأموم نقصت بسهو الإمام ولم تنجبر بسجوده فيلزم المأموم جبرها (والثانية)
لا يسجد، روي ذلك عن عطاء والحسن والنخعي والقاسم وحماد بن أبي سليمان والثوري وأصحاب
الرأي لأن المأموم إنما يسجد تبعا فإذا لم يسجد الإمام لم يوجد المقتضي لسجود المأموم وهذا إذا تركه
الإمام لعذر، فإن تركه قبل السلام عمدا وكان الإمام ممن لا يرى أن السجود واجب فهو كتاركه
696

سهوا وإن كان يعتقد وجوبه بطلت صلاته وهل تبطل صلاة المأموم؟ فيه وجهان (أحدهما) تبطل
لأنه ترك واجبا في الصلاة عمدا فبطلت صلاة المأموم كترك التشهد الأول (والثاني) لا تبطل لأنه لم
يبق من الصلاة إلا السلام
(فصل) إذا قام المأموم لقضاء ما فاته فسجد أمامه بعد السلام فحكمه حكم القائم عن التشهد
الأول إن سجد إمامه قبل انتصابه قائما لزمه الرجوع وان انتصب قائما ولم يشرع في القراءة لم يرجع
وإن رجع جاز وإن شرع في القراءة لم يكن له الرجوع نص عليه أحمد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله
رجل أدرك بعض الصلاة فلما قام ليقضي إذا على الإمام سجود سهو فقال: إن كان عمل في قيامه
وابتدأ في القراءة مضى ثم سجد قلت فإن لم يستتم قائما قال: يرجع ما لم يعمل قيل له قد استتم قائما
فقال: إذا استتم قائما وأخذ في عمل القضاء سجد بعد ما يقضي وذلك لأنه قام عن واجب إلى ركن أشبه
القيام عن التشهد الأول. وذكر ابن عقيل أن فيه روايات ثلاث وهذا أولى وهو منصوص عليه بما قد رويناه.
(فصل) وليس على المسبوق ببعض الصلاة سجود لذلك في قول أكثر أهل العلم ويروى عن
ابن عمر وابن الزبير وأبي سعيد وعطاء وطاوس ومجاهد وإسحاق فيمن أدرك وترا من صلاة إمامه
سجد للسهو لأنه يجلس للتشهد في غير موضع التشهد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما فاتكم فأتموا " وفي رواية " فاقضوا " ولم يأمر بسجود ولا نقل
697

ذلك وقد فات النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصلاة مع عبد الرحمن بن عوف فقضاها ولم يكن لذلك سجود
والحديث متفق عليه وقد جلس في غير موضع تشهده ولان السجود يشرع للسهو ههنا ولان متابعة
الإمام واجبة فلم يسجد لفعلها كسائر الواجبات
(فصل) ولا يشرع السجود لشئ فعله أو تركه عامدا وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي:
يسجد لترك التشهد والقنوت عمدا لأن ما تعلق الجبر بسهوه تعلق بعمده كجبرانات الحج
ولنا أن السجود يضاف إلى السهو فيدل على اختصاصه به، والشرع إنما ورد به في السهو فقال
" إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين " ولا يلزم من انجبار السهو به انجبار العمد لأنه معذور في السهو
غير معذور في العمد وما ذكروه يبطل بزيادة ركن أو ركعة أو قيام في موضع جلوس أو جلوس في
موضع قيام ولا يشرع لحديث النفس لأن الشرع لم يرد به فيه ولان هذا لا يمكن التحرز منه ولا تكاد
صلاة تخلو منه ولأنه معفو عنه
(فصل) وحكم النافلة حكم الفرض في سجود السهو في قول عامة أهل العلم لا نعلم فيه مخالفا
الا أن ابن سيرين قال: لا يشرع في النافلة وهذا يخالف عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نسي
أحدكم فليسجد سجدتين " وقال " إذا نسي أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين " ولم يفرق
ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود فيسجد لسهوها كالفريضة ولو قام في صلاة الليل فحكمه حكم
698

القيام إلى ثالثة في الفجر نص عليه أحمد، وقال مالك يتمها أربعا ويسجد للسهو ليلا كان أو نهارا،
وقال الشافعي بالعراق كقوله، وقال الأوزاعي في صلاة النهار كقوله، وفي صلاة الليل إن ذكر قبل
ركوعه في الثالثة جلس وسجد للسهو وإن ذكر بعد ركوعه أتمها أربعا
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل مثنى " ولأنها صلاة شرعت ركعتين فكان حكمها ما ذكرنا
في صلاة الفجر فأما صلاة النهار فيتمها أربعا
(فصل) ولا يشرع السجود للسهو في صلاة جنازة لأنها لا سجود في صلبها ففي جبرها أولى ولا
في سجود تلاوة لأنه لو شرع لكان الجبر زائدا على الأصل ولا في سجود سهو نص عليه أحمد وقال إسحاق
هو اجماع لأن ذلك يفضي إلى التسلسل ولو سها بعد سجود السهو لم يسجد لذلك والله تعالى أعلم
* (مسألة) * قال (ومن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته)
أما الكلام عمدا وهو أن يتكلم عالما أنه في الصلاة مع علمه بتحريم ذلك لغير مصلحة الصلاة
ولا لأمر يوجب الكلام فتبطل الصلاة اجماعا، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من تكلم في
صلاته عامدا وهو يريد صلاح صلاته أن صلاته فاسدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان هذه
الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " رواه مسلم. وعن
699

زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت (وقوموا لله
قانتين) فأمرنا بالسكوت، متفق عليه. ولمسلم ونهينا عن الكلام، وعن ابن مسعود قال كنا نسلم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم
يرد علينا، فقلنا يا رسول الله كنا نسلم في الصلاة فترد علينا قال " إن في الصلاة لشغلا " متفق عليه
ورواها أبو داود ولفظه في حديث ابن مسعود فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال " إن الله يحدث
من أمره ما يشاء وان الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " فأما الكلام غير ذلك فيقسم خمسة
أقسام (أحدها) أن يتكلم جاهلا بتحريم الكلام في الصلاة فقال القاضي في الجامع لا أعرف عن أحمد
نصا في ذلك، ويحتمل أن لا تبطل صلاته لأن الكلام كان مباحا في الصلاة بدليل حديث ابن مسعود
وزيد بن أرقم ولا يثبت حكم النسخ في حق من لم يعلمه بدليل أن أهل قباء لم يثبت في حقهم حكم
نسخ القبلة قبل علمهم فبنوا على صلاتهم بخلاف الناسي فإن الحكم قد ثبت في حقه وبخلاف الاكل
في الصوم جاهلا بتحريمه فإنه لم يكن مباحا، وقد دل على صحة هذا حديث معاوية بن الحاكم السلمي
قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله،
فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أبينا ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على
أفخاذهم، فلما رأيتهم يصموني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي
700

ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال " ان هذه
الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " أو كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة فدل على صحتها، وهذا مذهب الشافعي والأولى
أن يخرج هذا على الروايتين في كلام الناسي لأنه معذور مثله (القسم الثاني) أن يتكلم ناسيا وذلك
نوعان (أحدهما) أن ينسى أنه في صلاة ففيه روايتان (إحداهما) لا تبطل الصلاة وهو قول مالك
والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في حديث ذي اليدين ولم يأمر معاوية بن الحكم
بالإعادة إذ تكلم جاهلا وما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان (والثانية) تفسد صلاته وهو قول
النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي لعموم أحاديث المنع من الكلام ولأنه ليس
من جنسه ما هو مشروع في الصلاة فلم يسامح فيه بالنسيان كالعمل الكثير من غير جنس الصلاة
(النوع الثاني) أن يظن أن صلاته تمت فيتكلم فهذا إن كان سلاما لم تبطل الصلاة رواية واحدة
لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه وبنوا على صلاتهم ولان جنسه مشروع في الصلاة فأشبه
الزيادة فيها من جنسها وإن لم يكن سلاما فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة من أصحابه أنه إذا
تكلم بشئ مما تكمل به الصلاة أو شئ من شأن الصلاة مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين
لم تفسد صلاته، وإن تكلم بشئ من غير أمر الصلاة كقوله يا غلام اسقني ماء فصلاته باطلة،
وقال في رواية يوسف بن موسى: من تكلم ناسيا في صلاته يظن أن صلاته قد تمت إن كان كلامه
701

فيما تتم به الصلاة بنى على صلاته كما كلم النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، وإذا قال: يا غلام
اسقني ماء أو شبهها أعاد، وممن تكلم بعد أن سلم وأتم صلاته الزبير وابناه عبد الله وعروة وصوبه
ابن عباس ولا نعلم عن غيرهم في عصرهم خلافه، وفيه رواية ثانية أن الصلاة تفسد بكل حال. قال
في رواية حرب: أما من تكلم اليوم أعاد الصلاة وهذه الرواية اختيار الخلال وقال: على هذا
استقرت الروايات عن أبي عبد الله بعد توقفه، وهذا مذهب أصحاب الرأي لعموم الاخبار في منع
الكلام، وفيه رواية ثالثة أن الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال بحال سواء كان من شأن الصلاة
أو لم يكن، إماما كان أو مأموما، وهذا مذهب مالك والشافعي لأنه نوع من النسيان فأشبه المتكلم
جاهلا، ولذلك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبنوا على صلاتهم، وفيه رواية رابعة وهو
أن المتكلم إن كان إماما تكلم لمصلحة الصلاة لم تفسد صلاته وإن تكلم غيره فسدت صلاته، ويأتي
الكلام على الفرق بينهما فيما بعد إن شاء الله تعالى (القسم الثالث) أن يتكلم مغلوبا على الكلام وهو ثلاثة
أنواع (أحدها) أن تخرج الحروف من فيه بغير اختياره مثل أن يتثاءب فيقول هاه أو يتنفس فيقول آه
أو يسعل فينطق في السعلة بحرفين وما أشبه هذا أو يغلط في القراءة فيعدل إلى كلمة من غير القرآن
أو يجيئه البكاء فيبكي ولا يقدر على رده فهذا لا تفسد صلاته نص عليه أحمد في الرجل يكون في الصلاة
فيجيئه البكاء فيبكي فقال إذا كان لا يقدر على رده يعني لا تفسد صلاته وقال قد كان عمر يبكي حتى
يسمع له نشيج. وقال مهنا: صليت إلى جنب أحمد فتثاءب خمس مرات وسمعت لتثاؤبه هاه هاه،
وهذا لأن الكلام ههنا لا ينسب إليه ولا يتعلق به حكم من أحكام الكلام. وقال القاضي فيمن تثاءب
فقال آه آه تفسد صلاته، وهذا محمول على من فعل ذلك غير مغلوب عليه لما ذكرنا من فعل أحمد خلافه
(والنوع الثاني) أن ينام فيتكلم فقد توقف أحمد عن الجواب فيه، وينبغي أن لا تبطل صلاته لأن
القلم مرفوع عنه ولا حكم لكلامه فإنه لو طلق أو أقر أو أعتق لم يلزمه حكم ذلك (النوع الثالث) أن
يكره على الكلام فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينها في العفو
702

بقوله عليه الصلاة والسلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقال القاضي: هذا
أولى بالعفو وصحة الصلاة لأن الفعل غير منسوب إليه، ولهذا لو أكره على إتلاف مال لم يضمنه ولو
أتلفه ناسيا ضمنه، والصحيح إن شاء الله ان هذا تفسد صلاته لأنه أتى بما يفسد الصلاة عمدا فأشبه
ما لو أكره على صلاة الفجر أربعا أو على أن يركع في كل ركعة ركوعين. ولا يصح قياسه على الناسي
لوجهين (أحدهما) أن النسيان يكثر ولا يمكن التحرز منه بخلاف الاكراه (والثاني) أنه لو نسي
فزاد في الصلاة أو نسي في كل ركعة سجدة لم تفسد صلاته ولم يثبت مثل هذا في الاكراه (القسم
الرابع) أن يتكلم بكلام واجب مثل أن يخشي على صبي أو ضرير الوقوع في هلكة أو يري حية
ونحوها تقصد غافلا أو نائما أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شئ ونحو هذا ولا يمكن التنبيه بالتسبيح
فقال أصحابنا تبطل الصلاة بهذا وهو قول بعض أصحاب الشافعي لما ذكرنا في كلام المكره، ويحتمل أن
لا تبطل الصلاة به وهو ظاهر قول أحمد رحمه الله فإنه قال في قصة ذي اليدين إنما كلم القوم النبي صلى الله عليه وسلم
حين كلمهم لأنه كان عليهم أن يجيبوه فعلل صحة صلاتهم بوجود الإجابة عليهم وهذا متحقق ههنا
وهذا ظاهر مذهب الشافعي، والصحيح عند أصحابه أن الصلاة لا تبطل بالكلام في جميع هذه الأقسام
ووجه صحة الصلاة ههنا أنه تكلم بكلام واجب عليه أشبه كلام المجيب للنبي صلى الله عليه وسلم (القسم الخامس)
أن يتكلم لاصلاح الصلاة ونذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
(فصل) وكل كلام حكمنا بأنه لا يفسد الصلاة فإنما هو في اليسير منه فإن كثر وطال أفسد الصلاة
وهذا منصوص الشافعي، وقال القاضي في المجرد كلام الناسي إذا طال يعيد رواية واحدة وقال في
الجامع لا فرق بين القليل والكثير في ظاهر كلام أحمد لأن ما عفي عنه بالنسيان استوى قليله وكثيره
كالأكل في الصيام وهذا قول بعض الشافعية
ولنا أن دلالة أحاديث المنع من الكلام عامة تركت في اليسير بما ورد فيه من الاخبار فتبقى
فيما عداه على مقتضى العموم ولا يصح قياس الكثير على اليسير لأنه لا يمكن التحرز منه وقد عفي
703

عنه في العمل من غير جنس الصلاة بخلاف الكثير
* (مسألة) * قال * (إلا الإمام خاصة فإنه إذا تكلم لمصلحة الصلاة لم تبطل صلاته (1) (ومن ذكر
وهو في التشهد أنه قد ترك سجدة من ركعة فليأت بركعة بسجدتيها ويسجد للسهو) *
وجملته أن من سلم عن نقص من صلاته يظن أنها قد تمت ثم تكلم ففيه ثلاث روايات (إحداهن)
أن الصلاة لا تفسد إذا كان الكلام في شأن الصلاة مثل الكلام في بيان الصلاة مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه في حديث ذي اليدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تكلموا ثم بنوا على صلاتهم
ولنا في رسول الله أسوة حسنة (والرواية الثانية) تفسد صلاتهم وهو قول الخلال وصاحبه ومذهب
أصحاب الرأي لعموم أحاديث النهي (والثالثة) أن صلاة الإمام لا تفسد لأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إماما فتكلم وبنى على صلاته وصلاة المأمومين الذين تكلموا تفسد فإنه لا يصح اقتداؤهم بأبي
بكر وعمر رضي الله عنهما لأنهما تكلما مجيبين للنبي صلى الله عليه وسلم واجابته واجبة عليهما، ولا
بذي اليدين لأنه تكلم سائلا عن نقص الصلاة في وقت يمكن ذلك فيها وليس بموجود في زماننا،
وهذه الرواية اختيار الخرقي، واختص هذا بالكلام في شأن الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه إنما تكلموا في شأنها فاختصت إباحة الكلام بورود النص لأن الحاجة تدعو إلى ذلك
دون غيره فيمتنع قياس غيره عليه. فأما من تكلم في صلب الصلاة من غير سلام ولا ظن التمام فإن
صلاته تفسد إماما كان أو غيره لمصلحة الصلاة أو غيرها، وذكر القاضي في ذلك الروايات الثلاث
ويحتمله كلام الخرقي لعموم لفظه وهو مذهب الأوزاعي فإنه قال لو أن رجلا قال للإمام وقد جهر
بالقراءة في العصر إنها العصر لم تفسد صلاته ولان الإمام قد تطرقه حال يحتاج إلى الكلام فيها وهو
ما لو نسي القراءة في ركعة فذكرها في الثانية فقد فسدت عليه ركعة فيحتاج ان يبدلها بركعة هي في
ظن المأمومين خامسة ليس لهم موافقته فيها ولا سبيل إلى إعلامهم بغير الكلام وقد شك في

(1) ما بعد القوس الصغير ساقط في بعض النسخ
704

صلاته فيحتاج إلى السؤال فلذلك أبيح له الكلام ولم أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن
الإمام نصا في الكلام في غير الحال التي سلم فيها معتقدا تمام الصلاة ثم تكلم بعد السلام وقياس الكلام
في صلب الصلاة عالما بها على هذه الحالة ممتنع لأن هذه حال نسيان غير ممكن التحرز من الكلام
فيها وهي أيضا حال يتطرق الجهل إلى صاحبها بتحريم الكلام فيها فلا يصح قياس ما يفارقها في
هذين الامرين عليها ولا نص فيها وإذا عدم النص والقياس والاجماع امتنع ثبوت الحكم لأن اثباته
يكون ابتداء حكم بغير دليل ولا سبيل إليه
(فصل) والكلام المبطل ما انتظم حرفين هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي لأن بالحرفين
تكون كلمة كقوله: أب وأخ ودم، وكذلك الافعال والحروف ولا تنتظم كلمة من أقل من حرفين ولو
قال لا - فسدت صلاته لأنها حرفان لام وألف. وان ضحك فبان حرفان فسدت صلاته وكذلك أن
قهقه ولم يكن حرفان، وبهذا قال جابر بن عبد الله وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة والنخعي والأوزاعي
والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة
وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها وقد روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " القهقهة
تنقض الصلاة ولا تنقض الوضوء " رواه الدارقطني في سننه
(فصل) فأما النفخ في الصلاة فإن انتظم حرفين أفسد صلاته لأنه كلام والا فلا يفسدها وقد قال
أحمد النفخ عندي بمنزلة الكلام وقال أيضا: قد فسدت صلاته لحديث ابن عباس من نفخ في الصلاة
فقد تكلم. وروي عن أبي هريرة أيضا وسعيد بن جبير وقال ابن المنذر لا يثبت عن ابن عباس
ولا أبي هريرة رضي الله عنهما وروي عن أحمد أنه قال أكرهه ولا أقول يقطع الصلاة ليس هو
كلاما. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وابن سيرين والنخعي ويحيى بن أبي كثير وإسحاق
قال القاضي الموضع الذي قال احمد يقطع الصلاة إذا انتظم حرفين لأنه جعله كلاما ولا يكون كلاما
705

بأقل من حرفين والموضع الذي قال لا يقطع الصلاة إذا لم ينتظم منه حرفان، وقال أبو حنيفة ان سمع
فهو بمنزلة الكلام والا فلا يضر، والصحيح أنه لا يقطع الصلاة ما لم ينتظم منه حرفان لما روى عبد الله
ابن عمر قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال " ثم نفخ في سجوده فقال
أف أف " رواه أبو داود. وأما قول أبي حنيفة فإن أراد مالا يسمعه الانسان من نفسه فليس ذلك بنفخ
وان أراد مالا يسمعه غيره فلا يصح لأن ما أبطل الصلاة اظهاره أبطلها إسراره وما لا فلا كالكلام
(فصل) فأما النحنحة فقال أصحابنا ان بان منها حرفان بطلت الصلاة بها كالنفخ ونقل المروذي
قال كنت آتي أبا عبد الله فيتنحنح في صلاته لا علم أنه يصلي، وقال مهنا رأيت أبا عبد الله يتنحنح
في الصلاة، قال أصحابنا هذا محمول على أنه لم ينتظم حرفين وظاهر حال احمد أنه لم يعتبر ذلك لأن
النحنحة لا تسمى كلاما وتدعو الحاجة إليها في الصلاة وقد روي عن علي رضي الله عنه قال: كانت
لي ساعة في السحر أدخل فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان في صلاة تنحنح فكان ذلك إذني وإن
لم يكن في صلاة أذن لي رواه الخلال باسناده، واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة تنبيه المصلي
بالنحنحة في صلاته، فقال في موضع لا تنحنح في الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا نابكم شئ في صلاتكم
فليسبح الرجال، ولتصفق النساء " وروى عنه المروذي أنه كان يتنحنح ليعلمه أنه في صلاة وحديث
علي يدل عليه وهو خاص فيقدم على العام
(فصل) فأما البكاء والتأوه والأنين الذي ينتظم منه حرفان فما كان مغلوبا عليه لم يؤثر على ما ذكرنا
من قبل وما كان من غير غلبة فإن كان لغير خوف الله أفسد الصلاة، وإن كان من خشية الله فقال
أبو عبد الله بن بطة في الرجل يتأوه في الصلاة ان تأوه من النار فلا بأس، وقال أبو الخطاب إذا تأوه
أو أن أو بكى لخوف الله لم تبطل صلاته قال القاضي التأوه ذكر مدح الله تعالى به إبراهيم عليه
الصلاة والسلام فقال (ان إبراهيم لاواه حليم) والذكر لا يفسد الصلاة، ومدح الباكين بقوله تعالى
(خروا سجدا وبكيا) وقال (ويخرون للأذقان يبكون) وروي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير
706

عن أبيه أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. رواه الخلال،
وقال عبد الله بن شداد سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، ولم أر عن أحمد في التأوه شيئا ولا في
الأنين والأشبه بأصولنا أنه متى فعله مختارا أفسد صلاته فإنه قال في رواية مهنا في البكاء الذي لا يفسد الصلاة
انه ما كان عن غلبة، ولان الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس أو إجماع، والنصوص العامة تمنع من الكلام
كله ولم يرد في التأوه والأنين ما يخصهما ويخرجهما من العموم. والمدح على التأوه لا يوجب تخصيصه
كتشميت العاطس ورد السلام والكلمة الطيبة التي هي صدقة
(فصل) إذا أتى بذكر مشروع يقصد به تنبيه غيره فذلك ثلاثة أنواع (الأول) مشروع في الصلاة مثل
أن يسهو إمامه فيسبح به ليذكره، أو يترك إمامه ذكرا فيرفع المأموم صوته ليذكره، أو يستأذن عليه إنسان في
الصلاة أو يكلمه أو ينوبه شئ فيسبح ليعلم أنه في صلاة أو يخشى على انسان الوقوع في شئ فيسبح به ليوقظه
أو يخشى أن يتلف شيئا فيسبح به ليتركه فهذا لا يؤثر في الصلاة في قول أكثر أهل العلم منهم الأوزاعي
والشافعي وإسحاق وأبو ثور. وحكي عن أبي حنيفة ان من أفهم غير إمامه بالتسبيح فسدت صلاته لأنه
خطاب آدمي فيدخل في عموم أحاديث النهي عن الكلام. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نابه شئ في الصلاة
فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد يقول سبحان الله إلا الفت - وفي لفظ - إذا نابكم أمر فليسبح
الرجال ولتصفق النساء " متفق عليه وهو عام في كل أمر ينوب المصلي. وفي المسند عن علي: كنت إذا
استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم إن كان في صلاة سبح وإن كان في غير صلاة أذن. ولأنه نبه بالتسبيح أشبه ما لو نبه
الإمام ولو كان تنبيه غير الإمام كلاما مبطلا لكان تنبيه الإمام كذلك
(فصل) وفي معنى هذا النوع إذا فتح على الإمام إذا ارتج عليه أو رد عليه إذا غلط فلا بأس به
في الفرض والنفل، روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال عطاء والحسن وابن سيرين
وابن معقل ونافع بن جبير بن مطعم وأبو أسماء الرحبي وأبو عبد الرحمن السلمي، وكرهه ابن مسعود
707

وشريح والشعبي والثوري، وقال أبو حنيفة تبطل الصلاة به لما روى الحارث عن علي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يفتح على الإمام "
ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال
لأبي " أصليت معنا؟ " قال نعم قال " فما منعك؟ " رواه أبو داود قال الخطابي واسناده جيد، وعن
ابن عباس قال: تردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة في صلاة الصبح فلم يفتحوا عليه فلما قضى الصلاة
نظر في وجوه القوم فقال " أما شهد الصلاة معكم أبي بن كعب؟ " قالوا لا، فرأى القوم أنه إنما تفقده
ليفتح عليه، رواه الأثرم، وروى مسور بن يزيد المالكي قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة
فترك آية من القرآن فقيل يا رسول الله آية كذا وكذا تركتها قال " فهلا ذكرتنيها؟ " رواه أبو داود
والأثرم. ولأنه تنبيه لإمامه بما هو مشروع في الصلاة فأشبه التسبيح، وحديث علي يرويه الحارث
وقال الشعبي: كان كذابا، وقد قال عن نفسه: إذا استطعمك الإمام فاطعمه، يعني إذا تعايا فاردد عليه
رواه الأثرم، وقال الحسن: ان أهل الكوفة يقولون لا تفتح على الإمام وما بأس به أليس يقول سبحان
الله؟ وقال أبو داود لم يسمع أبو إسحاق من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها
(فصل) وإذا ارتج على الإمام في الفاتحة لزم من وراءه الفتح عليه كما لو نسي سجدة لزمهم تنبيهه
بالتسبيح، فإن عجز عن اتمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلي بهم لأنه عذر فجاز أن يستخلف
من أجله كما لو سبقه الحدث: وكذلك لو عجز في أثناء الصلاة عن ركن يمنع الائتمام كالركوع أو السجود
فإنه يستخلف من يتم بهم الصلاة كمن سبقه الحدث بل هذا أولى بالاستخلاف لأن من سبقه الحدث
قد بطلت صلاته وهذا صلاته صحيحة ويسقط عنه ما عجز عنه وتصح صلاته لأن القراءة ركن عجز
عنه في أثناء الصلاة فسقط كالقيام فأما المأموم فإن كان أميا عاجزا عن قراءة الفاتحة صحت صلاته
أيضا، وإن كان قارئا نوى مفارقته وأتم وحده ولا يصح له إتمام الصلاة خلفه لأن هذا قد صار حكمه
حكم الأمي، والصحيح انه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة ان صلاته تفسد لأنه قادر على الصلاة بقراءتها
708

فلم تصح صلاته بدون ذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
ولا يصح قياس هذا على الأمي لأن الأمي لو قدر على تعلمها قبل خروج الوقت لم تصح صلاته بدونها،
وهذا يمكنه أن يخرج فيسأل عما وقف عليه ويصلي ولا قياسه على أركان أفعال لأن خروجه عن الصلاة
لا يزيل عجزه عنها ولا يأمن عود مثل ذلك لعجز بخلاف هذا
(النوع الثاني) مالا يتعلق بتنبيه آدمي الا أنه لسبب من غير الصلاة مثل أن يعطس فيحمد الله أو تلسعه
عقرب فيقول بسم الله، أو يسمع أو يرى ما يغمه فيقول (إنا لله وإنا إليه راجعون) أو يرى عجبا فيقول سبحان الله -
فهذا لا يستحب في الصلاة ولا يبطلها نص عليه أحمد في رواية الجماعة فيمن عطس فحمد الله لم تبطل
صلاته، وقال في رواية مهنا فيمن قيل له وهو يصلي ولد لك غلام فقال الحمد لله، أو قيل له احترق دكانك قال
لا إله الا الله، أو ذهب كيسك فقال لاحول ولا قوة الا بالله، فقد مضت صلاته ولو قيل له مات أبوك
فقال (إنا لله وانا إليه راجعون) فلا يعيد صلاته وذكر حديث علي حين أجاب الخارجي وهذا قول
الشافعي وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة تفسد صلاته لأنه كلام آدمي وقد روي عن أحمد مثل هذا
فإنه قال فيمن قيل له ولد لك غلام فقال الحمد لله رب العالمين، أو ذكر مصيبة فقال إنا لله وإنا إليه راجعون،
قال يعيد الصلاة، وقال القاضي هذا محمول على من قصد خطاب آدمي
ولنا ما روى عامر بن ربيعة قال: عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
الصلاة فقال الحمد لله حمدا كثير طيبا مباركا فيه حتى يرضي ربنا وبعد ما يرضي من أمر الدنيا
والآخرة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من القائل هذه الكلمة؟ فإنه لم يقل بأسا ما تناهت
دون العرش " رواه أبو داود، وعن علي رضي الله عنه أنه قال له رجل من الخوارج وهو في صلاة
الغداة فناداه (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) قال فأنصت له حتى فهم ثم أجابه
وهو في الصلاة (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) احتج به أحمد ورواه أبو بكر
النجاد باسناده ولان مالا يبطل الصلاة ابتداء لا يبطلها إذا أتى به عقيب سبب كالتسبيح لتنبيه إمامه
709

قال الخلال اتفق الجميع عن أبي عبد الله على أنه لا يرفع صوته يعني العاطس لا يرفع صوته بالحمد وان
يرفع فلا بأس بدليل حديث الأنصاري، وقال أحمد في الإمام يقول " لا إله الا الله " فيقول من خلفه
" لا إله إلا الله " يرفعون بها أصواتهم قال يقولون ولكن يخفون ذلك في أنفسهم، وإنما لم يكره أحمد ذلك
كما كره القراءة خلف الإمام لأنه يسير لا يمنع الانصات فجرى مجرى التأمين، قيل لأحمد فإن رفعوا
أصواتهم بهذا؟ قال أكرهه، قيل فينهاهم الإمام قال لا ينهاهم، قال القاضي إنما لم ينههم لأنه قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بمثل ذلك في صلاة الاخفاء فإنه كان يسمعهم الآية أحيانا
(فصل) قيل لأحمد رحمه الله إذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) هل يقول
(سبحان ربي الأعلى) قال إن شاء قاله فيما بينه وبين نفسه ولا يجهر به في المكتوبة وغيرها، وقد روي
عن علي رضي الله عنه أنه قرأ في الصلاة (سبح اسم ربك الاعلى) فقال سبحان ربي الأعلى، وعن ابن
عباس أنه قرأ في الصلاة (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) فقال سبحانك وبلى، وعن موسى بن أبي
عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال
سبحانك فبلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود ولأنه ذكر ورد
الشرع به فجاز التسبيح في موضعه (النوع الثالث) أن يقرأ القرآن يقصد به تنبيه آدمي مثل أن يقول
(ادخلوها بسلام) يريد الاذن، أو يقول لرجل اسمه يحيى (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أو (يا نوح قد
جادلتنا فأكثرت جدالنا) فقد روي عن أحمد أن صلاته تبطل بذلك، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه خطاب
آدمي فأشبه ما لو كلمه، وروي عنه ما يدل على أنها لا تبطل لأنه قال فيمن قيل له مات أبوك فقال (إنا لله
وانا إليه راجعون) لا يعيد الصلاة، واحتج بحديث علي حين قال للخارجي (فاصبر ان وعد الله حق) وروي
نحو هذا عن ابن مسعود وابن أبي ليلى. وروى أبو بكر الخلال باسناده عن عطاء بن السائب قال استأذنا
على عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو يصلي فقال (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) فقلنا كيف صنعت فقال
استأذنا على عبد الله بن مسعود وهو يصلي فقال (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) ولأنه قرأ القرآن فلم
710

تفسد صلاته كما لو لم يقصد به التنبيه، وقال القاضي: إن قصد التلاوة دون التنبيه لم تفسد صلاته، وإن
قصد التنبيه دون التلاوة فسدت صلاته لأنه خاطب آدميا، وإن قصدهما جميعا ففيه وجهان (أحداهما)
لا تفسد صلاته وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا من الآثار والمعنى (والثاني) تفسد صلاته لأنه خاطب
آدميا أشبه ما لو لم يقصد التلاوة. فأما إن أتى بمالا يتميز به القرآن من غيره كقوله لرجل اسمه إبراهيم
يا إبراهيم أو لعيسى يا عيسى ونحو ذلك فسدت صلاته لأن هذا كلام الناس ولم يتميز عن كلامهم بما
يتميز به القرآن فأشبه ما لو جمع بين كلمات متفرقة في القرآن فقال يا إبراهيم خذ الكتاب الكبير
(فصل) يكره أن يفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى أو على من ليس في صلاة
لأن ذلك يشغله عن صلاته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان في الصلاة لشغلا " وقد سئل أحمد عن رجل
جالس بين يدي المصلي يقرأ فإذا أخطأ فتح عليه المصلي. فقال كيف يفتح إذا أخطأ هذا؟ ويتعجب
من هذه المسألة فإن فعل لم تبطل صلاته لأنه قرآن وإنما قصد قراءته دون خطاب الآدمي بغيره
ولا بأس أن يفتح على المصلي من ليس معه في الصلاة، وقد روى النجاد باسناده قال: كنت قاعدا
بمكة فإذا رجل عند المقام يصلي وإذا رجل قاعد خلفه يلقنه فإذا هو عثمان رضي الله عنه
(فصل) إذا سلم على المصلي لم يكن له رد السلام بالكلام، فإن فعل بطلت صلاته، روي نحو ذلك
عن أبي ذر وعطاء والنخعي، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وكان سعيد بن المسيب والحسن
وقتادة لا يرون به بأسا. وروي عن أبي هريرة أنه أمر بذلك وقال إسحاق إن فعله متأولا جازت صلاته
ولنا ما روى جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فرجعت وهو يصلي على راحلته
ووجهه إلى غير القبلة فسلمت عليه فلم يرد علي فلما انصرف قال " اما انه لم يمنعني أن أرد عليك
إلا أني كنت أصلي " وقول ابن مسعود: قلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ قال
" ان في الصلاة لشغلا " رواهما مسلم ولأنه كلام آدمي فأشبه تشميت العاطس - إذا ثبت هذا فإنه يرد السلام
بالإشارة وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور: وعن ابن عباس انه سلم عليه موسى بن جميل
711

وهو يصلي فقبض ابن عباس على ذراعه فكان ذلك ردا من ابن عباس عليه، وإن رد عليه بعد فراغه
من الصلاة فحسن. روي هذا عن أبي ذر وعطاء والنخعي وداود لما روي عن ابن مسعود قال: قدمت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فأخذني ما قدم وما حدث فلما قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال " ان الله يحدث من أمره ما يشاء وان الله قد أحدث أن لا تكلموا
في الصلاة " فرد علي السلام. وقد روى صهيب قال مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت
عليه وكلمته فرد إشارة، قال بعض الرواة ولا أعلمه إلا قال إشارة بأصبعه. وعن ابن عمر قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فصلى فيه قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي، قال فقلت
لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال يعقوب
هكذا وبسط يعني كفه وجعل بطنه أسفل وظهره إلى فوق. قال الترمذي: كلا الحديثين صحيح.
رواهما أبو داود والأثرم وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
(فصل) وإذا دخل قوم على قوم وهم يصلون فسئل أحمد عن الرجل يدخل على القوم وهم يصلون
أيسلم عليهم؟ قال نعم. وروى ابن المنذر عن أحمد انه سلم على مصل، فعل ذلك ابن عمر وكرهه عطاء
وأبو مجلز والشعبي وإسحاق لأنه ربما غلط المصلي فرد عليه السلام، وقد روى مالك في موطئه ان
ابن عمر سلم على رجل وهو يصلي فرد عليه السلام فرجع إليه ابن عمر فنهاه عن ذلك. ومن ذهب إلى
تجويزه احتج بقول الله تعالى (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) أي على أهل دينكم ولان النبي
صلى الله عليه وسلم حين سلم أصحابه عليه رد عليهم إشارة ولم ينكر ذلك عليهم
(فصل) إذا أكل أو شرب في الفريضة عامدا بطلت صلاته رواية واحدة ولا نعلم فيه خلافا
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن المصلي ممنوع من الأكل والشرب وأجمع كل من نحفظ عنه من
أهل العلم على أن من أكل أو شرب في صلاة الفرض عامدا ان عليه الإعادة وأن ذلك يفسد الصوم
الذي لا يفسد بالافعال فالصلاة أولى فإن فعل ذلك في التطوع أبطله في الصحيح من المذهب وهو
712

قول أكثر الفقهاء لأن ما أبطل الفرض أبطل التطوع كسائر مبطلاته. وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يبطلها،
ويروي عن ابن الزبير وسعيد بن جبير أنهما شربا في التطوع وعن طاوس أنه لا بأس به، وكذلك قال إسحاق
لأنه عمل يسير فأشبه غير الاكل فاما ان أكثر فلا خلاف في أنه يفسدها، لأن غير الاكل من الأعمال يفسد إذا
كثر، فالأكل والشرب أولى. وان أكل أو شرب في فريضة أو تطوع ناسيا لم يفسد، بهذا قال عطاء والشافعي
وقال الأوزاعي تفسد صلاته لأنه فعل مبطل من غير جنس الصلاة فاستوى عمده وسهوه كالعمل الكثير
ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " ولأنه يسوى بين قليله وكثيره
حال العمد ويعفى عنه في الصلاة كالعمل من جنسها، ويشرع لذلك سجود السهو وهذا قول الشافعي، فإن
ما يبطل عمده الصلاة إذا عفي عنه لأجل السهو شرع له السجود كالزيادة من جنس الصلاة ومتى كثر
ذلك أبطل الصلاة بغير خلاف، لأن الافعال المعفو عن يسيرها إذا كثرت أبطلت فهذا أولى
(فصل) إذا ترك في فيه ما يذوب كالسكر فذاب منه شئ فابتلعه أفسد صلاته لأنه أكل وان بقي
بين أسنانه أو في فيه من بقايا الطعام يسير يجري به الريق فابتلعه لم تفسد صلاته لأنه لا يمكن الاحتراز
منه وان ترك في فيه لقمة ولم يبتلعها كره لأنه يشغله عن خشوع الصلاة والذكر والقراءة فيها ولا يبطلها
لأنه عمل يسير فأشبه ما لو أمسك شيئا في يده والله أعلم
باب الصلاة بالنجاسة وغير ذلك
* (مسألة) * قال (وإذا لم تكن ثيابه طاهرة وموضع صلاته طاهرا أعاد)
وجملة ذلك أن الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم
منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى عن ابن
عباس أنه قال: ليس على ثوب جنابة ونحوه عن أبي مجلز وسعيد بن جبير والنخعي وقال الحارث
713

العكلي وابن أبي ليلى ليس في ثوب إعادة، ورأي طاوس دما كثيرا في ثوبه وهو في الصلاة فلم يباله، وسئل
سعيد بن جبير عن الرجل يرى في ثوبه الأذى وقد صلى فقال اقرأ علي الآية التي فيها غسل الثياب
ولنا قول الله تعالى (وثيابك فطهر) قال ابن سيرين هو الغسل بالماء وعن أسماء ابنة أبي بكر
الصديق رضي الله عنه قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب قال
" اقرصيه وصلي فيه " وفي لفظ قالت سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا
رأت الطهر أتصلي فيه؟ قال " تنظر فيه فإن رأت فيه دما فلتقرصه بشئ من ماء وتنضح ما لم تر ولتصل
فيه " رواه أبو داود. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " انهما يعذبان وما يعذبان في كثير اما أحداهما
فكان لا يستتر من بوله " متفق عليه وفي رواية " لا يستنزه من بوله " ولأنها إحدى الطهارتين فكانت
شرطا للصلاة كالطهارة من الحدث (1)
(فصل) وطهارة موضع الصلاة شرط أيضا وهو الموضع الذي تقع عليه أعضاؤه وتلاقيه ثيابه التي
عليه فلو، كان على رأسه طرف عمامة وطرفها الآخر يسقط على نجاسة لم تصح صلاته. وذكر ابن عقيل
احتمالا فيما تقع عليه ثيابه خاصة أنه لا يشترط طهارته، لأنه يباشرها بما هو منفصل عن ذاته أشبه ما لو
صلى إلى جانبه انسان نجس الثوب فالتصق ثوبه به والأول المذهب لأن سترته تابعة له فهي كأعضاء سجوده
فأما إذا كان ثوبه يمس شيئا نجسا كثوب من يصلي إلى جانبه أو حائط لا يستند إليه فقال ابن عقيل لا
تفسد صلاته بذلك لأنه ليس بمحل لبدنه ولا سترته، ويحتمل أن يفسد لأن سترته ملاقية لنجاسة أشبه
ما لو وقعت عليها، وإن كانت النجاسة محاذية لجسمه في حال سجوده بحيث لا يلتصق بها شئ من بدنه
ولا أعضائه لم يمنع صحة صلاته لأنه لم يباشر النجاسة فأشبه ما لو خرجت عن محاذاته
(فصل) وإذا صلى ثم رأى عليه نجاسة في بدنه أو ثيابه لا يعلم هل كانت عليه في الصلاة أولا؟
فصلاته صحيحة لأن الأصل عدمها في الصلاة، وان علم أنها كانت في الصلاة لكن جهلها حتى فرغ
من الصلاة ففيه روايتان (إحداهما) لا تفسد صلاته هذا قوله ابن عمر وعطاء وسعيد بن المسيب

(1) التحقيق كما في نيل الأوطار ان الآية والأحاديث التي ذكرها ليس فيها ما يدل على الشرطية ولا يصح قياس طهارة الثوب على الوضوء سواء كان اشتراط الوضوء تعبديا أو كان لمعنى فيه، وحسبك الفرق بين بدنك وثوبك ولكننا نلتزمها احتياطا ولأنها أكمل
714

وسالم ومجاهد والشعبي والنخعي والزهري ويحيى الأنصاري وإسحاق وابن المنذر (والثانية) يعيد،
وهو قول أبي قلابة والشافعي لأنها طهارة مشترطة للصلاة فلم تسقط بجهلها كطهارة الحدث وقال ربيعة
ومالك يعيد ما كان في الوقت ولا يعيد بعده. ووجه الرواية الأولى ما روى أبو سعيد قال: بينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فخلع الناس نعالهم فلما قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال " ما حملكم على القائكم نعالكم؟ " قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا
نعالنا قال " ان جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا " رواه أبو داود، ولو كانت الطهارة شرطا
مع عدم العلم بها لزمه استئناف الصلاة، وتفارق طهارة الحدث لأنها آكد لأنها لا يعفى عن يسيرها
وتختص البدن، وإن كان قد علم بالنجاسة ثم نسيها وصلى فقال القاضي: حكى أصحابنا في المسئلتين
روايتين وذكر هو في مسألة النسيان أن الصلاة باطلة لأنه منسوب إلى التفريط بخلاف الجاهل بها
قال الآمدي: يعيد إذا كان قد توانى رواية واحدة، والصحيح التسوية بينهما، لأن ما عذر فيه بالجهل
عذر فيه بالنسيان بل النسيان أولى لورود النص بالعفو فيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ
والنسيان " وان علم بالنجاسة في أثناء الصلاة فإن قلنا لا يعذر بالجهل والنسيان فصلاته باطلة ويلزمه
استئنافها، وان قلنا يعذر فصلاته صحيحة. ثم إن أمكنه طرح النجاسة من غير زمن طويل ولا عمل كثير
ألقاها وبنى كما خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه حين أخبره جبريل بالقذر فيهما، وان احتاج إلى أحد هذين
بطلت صلاته لأنه يفضي إلى أحد أمرين، إما استصحاب النجاسة مع العلم بها زمنا طويلا أو يعمل في
الصلاة عملا كثيرا فتبطل به الصلاة فصار كالعريان يجد السترة بعيدة منه
(فصل) وإذا سقطت عليه نجاسة ثم زالت عنه أو أزالها في الحال لم تبطل صلاته، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لما علم بالنجاسة في نعليه خلعهما وأتم صلاته، ولأن النجاسة يعفى عن يسيرها فعفي عن
يسير زمنها ككشف العورة وهذا مذهب الشافعي
715

(فصل) وإذا صلى على منديل طرفه نجس أو كان تحت قدمه حبل مشدود في نجاسة وما يصلي
عليه طاهر فصلاته صحيحة سواء تحرك النجس بحركته أولم يتحرك لأنه ليس بحامل للنجاسة ولا
بمصل عليها وإنما اتصل مصلاه بها أشبه ما لو صلى على أرض طاهرة متصلة بأرض نجسة. وقال بعض
أصحابنا إذا كان النجس يتحرك بحركته لم تصح صلاته والمعول على ما ذكرنا، فأما إن كان الحبل
أو المنديل متعلقا به بحيث ينجر معه إذا مشى لم تصح صلاته، لأنه مستبع لها فهو كحاملها ولو كان في
يده أو وسطه حبل مشدود في نجاسة أو حيوان نجس أو سفينة صغيرة فيها نجاسة تنجر معه إذا مشى
لم تصح صلاته لأنه مستتبع لها فهو كحاملها، وان كانت السفينة كبيرة لا يمكنه جرها أو الحيوان كبيرا
لا يقدر على جره إذا استعصى عليه لم تفسد صلاته لأنه ليس بمستتبع لها. قال القاضي: هذا إذا كان
الشد في موضع طاهر فإن كان مشدودا في موضع نجس فسدت صلاته لأنه حامل لما هو ملاق للنجاسة
والأولى أن صلاته لا تفسد لأنه لا يقدر على استتباع ما هو ملاق للنجاسة فأشبه ما لو أمسك سفينة
عظيمة فيها نجاسة أو غصنا من شجرة عليها نجاسة
(فصل) وإذا حمل في الصلاة حيوانا طاهرا أو صبيا لم تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو
حامل إمامة ابنة أبي العاص. متفق عليه. وركب الحسن والحسين على ظهره وهو ساجد، ولان ما في
الحيوان من النجاسة في معدته فهي كالنجاسة في معدة المصلى، ولو حمل قارورة فيها نجاسة مسدودة لم
تصح صلاته. وقال بعض أصحاب الشافعي لا تفسد صلاته لأن النجاسة لا تخرج منها فهي كالحيوان
وليس بصحيح لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه ما لو حملها في كمه
* (مسألة) * قال (وكذلك أن صلى في المقبرة أو الحش أو الحمام أوفي أعطان الإبل أعاد)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في الصلاة في هذه المواضع فروي أن الصلاة لا تصح فيها
بحال وممن روي عنه أنه كره الصلاة في المقبرة علي وابن عباس وابن عمر وعطاء والنخعي وابن المنذر
716

وممن رأى أن يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مبارك الإبل ابن عمر وجابر بن سمرة والحسن
ومالك وإسحاق وأبو ثور. وعن أحمد رواية أخرى أن الصلاة في هذه صحيحة ما لم تكن نجسة وهو
مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي لقوله عليه السلام " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " وفي لفظ
" فحيثما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد " وفي لفظ " أينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد " متفق
عليها، ولأنه موضع طاهر فصحت الصلاة فيه كالصحراء
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأرض كلها مسجد الا الحمام والمقبرة " رواه أبو داود وهذا خاص
مقدم على عموم ما رووه، وعن جابر بن سمرة أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصلي في مرابض الغنم؟
قال " نعم " قال أنصلي في مبارك الإبل؟ قال " لا " رواه مسلم. وعن البراء قال " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين " رواه أبو داود. وعن أسيد بن حضير أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في مبارك الإبل " رواه الإمام أحمد في مسنده والنهي
يقتضي التحريم. وهذا خاص يقدم على عموم ما رووه، وروي هذا الحديث عن ابن عمر وأبي هريرة
وعبد الله بن مغفل رواهن الأثرم، فأما الحش فإن الحكم يثبت فيه بالتنبيه لأنه إذا منع من الصلاة في هذه
المواضع لكونها مظان للنجاسة فالحش معد للنجاسة ومقصود لها فهو أولى بالمنع فيه. وقال بعض أصحابنا إن كان
المصلي عالما بالنهي في هذه المواضع لم تصح صلاته فيها لأنه عاص بصلاته فيها والمعصية لا تكون قربة
ولا طاعة، وإن لم يكن عالما فهل تصح صلاته؟ على روايتين (إحداهما) لا تصح لأنه صلى فيما لا تصح
الصلاة فيه مع العلم فلا تصح مع الجهل كالصلاة في محل نجس (والثانية) تصح لأنه معذور
(فصل) وذكر بعض أصحابنا مع هذه المواضع المزبلة والمجزرة ومحجة الطريق وظهر بيت الله
الحرام والموضع المغصوب لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سبع مواطن
لا تجوز فيها الصلاة، ظهر بيت الله والمقبرة والمزبلة والمجزرة والحمام وعطن الإبل ومحجة الطريق " رواه
717

ابن ماجة، وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى في سبع مواطن وذكرها وقال:
وقارعة الطريق ومعاطن الإبل وفوق الكعبة وقال: الحكم في هذه المواضع السبعة كالحكم في الأربعة
سواء. ولأن هذه المواضع مظنة النجاسات فعلق الحكم عليها دون حقيقتها كما يثبت حكم نقض الطهارة
بالنوم ووجوب الغسل بالتقاء الختانين
(فصل) قال القاضي المنع من هذه المواضع تعبد لا لعلة معقولة، فعلى هذا يتناول النهي كل
ما وقع عليه الاسم فلا فرق في المقبرة بين القديمة والحديثة وما تقلبت أتربتها أو لم تتقلب لتناول الاسم
لها، فإن كان في الموضع قبر أو قبران لم يمنع من الصلاة فيها لأنها لا يتناولها اسم المقبرة، وإن نقلت
القبور منها جازت الصلاة فيها لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فيه قبور المشركين فنبشت متفق
عليه ولا فرق في الحمام بين مكان الغسل وصب الماء وبين بيت المسلخ الذي ينزع فيه الثياب والأتون
وكل ما يغلق عليه باب الحمام لتناول الاسم له، وأما المعاطن فقال أحمد: هي التي تقيم فيها الإبل وتأوي
إليها، وقيل هي المواضع التي تناخ فيها إذا وردت، والأول أجود لأنه جعله مقابلة مراح الغنم، والحش
المكان الذي يتخذ للغائط والبول فيمنع من الصلاة فيما هو داخل بابه ولا أعلم في منع الصلاة فيه
الا أنه قد منع من ذكر الله تعالى فيه والكلام فمنع الصلاة فيه أولى، ولأنه إذا منع الصلاة في هذه
المواضع لكونها مظان للنجاسات فهذا أولى فإنه بني لها. ويحتمل أن المنع في هذه المواضع معلل بأنها
مظان للنجاسات فإن المقبرة تنبش ويظهر التراب الذي فيه صديد الموتى ودماؤهم ولحومهم ومعاطن
الإبل يبال فيها فإن البعير البارك كالجدار يمكن أن يستتر به ويبول كما روي عن ابن عمر أنه أناخ بعيره
مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليه ولا يتحقق هذا في حيوان سواها لأنه في حال ربضه لا يستر وفي
حال قيامه لا يثبت ولا يستر. والحمام موضع الأوساخ والبول فنهي عن الصلاة فيها لذلك وتعلق الحكم
بها وإن كانت طاهرة لأن المظنة يتعلق الحكم بها وإن خفيت الحكمة فيها ومتى أمكن تعليل الحكم تعين
تعليله وكان أولى من قهر التعبد ومرارة التحكم، يدل على صحة هذا تعدية الحكم إلى الحش المسكوت
718

عنه بالتنبيه من وجود معنى المنطوق فيه والا لم يكن ذلك تنبيها فعلى هذا يمكن قصر الحكم على ما
هو مظنة منها فلا يثبت حكم المنع في موضع المسلخ من الحمام ولا في وسطه لعدم المظنة فيه، وكذلك
ما أشبهه والله أعلم.
(فصل) وزاد أصحابنا المجزرة والمزبلة ومحجة الطريق وظهر الكعبة لأنها في خبر عمر وابنه
وقالوا: لا يجوز فيها الصلاة ولم يذكرها الخرقي فيحتمل أنه جوز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم
لعموم قوله عليه الصلاة والسلام " جعلت لي لأرض مسجدا " وهو صحيح متفق عليه. واستثنى
منه المقبرة والحمام ومعاطن الإبل بأحاديث صحيحة خاصة ففيما عدا ذلك يبقى على العموم وحديث
عمر وابنه يرويهما العمري وزيد بن جبير وقد تكلم فيهما من قبل حفظهما فلا يترك الحديث
الصحيح بحديثهما وهذ أصح. وأكثر أصحابنا فيما علمت عملوا بخبر عمر وابنه في المنع من الصلاة
في المواضع السبعة. ومعنى محجة الطريق الجادة المسلوكة التي تسلكها السابلة وقارعة الطريق يعني
التي تقرعها الاقدام فاعلة بمعنى مفعولة مثل الأسواق والمشارع والجادة للسفر ولا بأس بالصلاة فيما
علا منها يمنة ويسرة ولم يكثر قرع الاقدام فيه وكذلك لا بأس بالصلاة في الطريق التي يقل سالكوها
كطريق الأبيات اليسيرة والمجزرة الموضع الذي يذبح القصابون فيه البهائم وشبههم معروف بذلك معدا
والمزبلة الموضع الذي يجمع فيه الزبل، ولا فرق في هذه المواضع بين ما كان منها طاهرا ونجسا ولا
بين كون الطريق فيها سالكا أو لم يكن ولا في المعاطن بين أن يكون فيها إبل في الوقت أو لم يكن
وأما المواضع التي تبيت فيها الإبل في مسيرها أو تناخ فيها لعلفها ووردها فلا يمنع الصلاة فيها قال
الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن موضع فيه أبعار الإبل يصلى فيه؟ فرخص فيه ثم قال إذا لم يكن
من معاطن الإبل التي نهي عن الصلاة فيها التي تأوي إليها الإبل
(فصل) ويكره أن يصلي إلى هذه المواضع فإن فعل صحت صلاته نص عليه أحمد في رواية
أبي طالب وقد سئل عن الصلاة إلى المقبرة والحمام والحش قال: لا ينبغي أن يكون في القبلة قبر ولا
719

حش ولا حمام فإن كان يجزئه وقال أبو بكر: يتوجه في الإعادة قولان (أحدهما) يعيد لموضع النهي
وبه أقول (والثاني) يصح لأنه لم يصل في شئ من المواضع المنهي عنها وقال أبو عبد الله بن حامد
ان صلى إلى المقبرة والحش فحكمه حكم المصلي فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل لما روى أبو مرثد
الغنوي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها " متفق عليه. وقال
الأثرم ذكر أحمد حديث أبي مرثد ثم قال إسناده جيد وقال أنس: رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر
فجعل يشير إلي: القبر القبر. قال القاضي وفي هذا تنبيه على نظائره من المواضع التي نهي عن الصلاة
فيها. والصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شئ من هذه المواضع الا المقبرة لأن قوله عليه الصلاة والسلام
" جعلت الأرض مسجدا " يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته وقياس ذلك على الصلاة
إلى المقبرة لا يصح لأن النهي إن كان تعبدا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه،
وإن كان لمعنى مختص بها وهو اتخاذ القبور مسجدا والتشبه بمن يعظمها ويصلي إليها فلا يتعداها الحكم
لعدم وجود المعنى في غيرها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصوالحهم مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد اني أنهاكم عن ذلك " وقال " لعنة الله على اليهود
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا متفق عليهما فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى
القبور للنهي عنها ويصح إلى غيرها لبقائها في عموم الإباحة وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه والله أعلم
(فصل) وإن صلى على سطح الحش أو الحمام أو عطن الإبل أو غيرها فذكر القاضي أن حكمه
حكم المصلي فيها لأن الهواء تابع للقرار فيثبت فيه حكمه ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل
سطحها حنث، ولو خرج المعتكف إلى سطح المسجد كان له ذلك لأن حكمه حكم المسجد، والصحيح
إن شاء الله قصر النهي على ما تناوله وأنه لا يعدى إلى غيره لأن الحكم إن كان تعبديا فالقياس فيه
ممتنع وان علل فإنما يعلل بكونه للنجاسة ولا يتخيل هذا في سطحها فأما ان بنى على طريق ساباطا
720

أو أخرج عليه خروجا فعلى قول القاضي حكمه حكم الطريق لما ذكره فيما تقدم. وعلى قولنا إن كان
الساباط مباحا له مثل أن يكون في درب غير نافذ باذن أهله أو مستحقا له أو حدث الطريق بعده
فلا بأس بالصلاة عليه، وإن كان على طريق نافذ فليس ذلك له فيكون المصلي فيه كالمصلي في الموضع
المغصوب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وإن كان الساباط على نهر تجري فيه السفن فهو كالساباط
على الطريق في القولين جميعا وهذا مما يدل على ما ذكرناه لأنه لو كانت العلة كونه تابعا للقرار لجازت
الصلاة ههنا لكون القرار غير ممنوع من الصلاة فيه بدليل ما لو صلى عليه في سفينة أو لو جمد ماؤه
فصلى عليه صح ولأنه لو كانت العلة ما ذكره لصحت الصلاة على ما حاذى ميمنة الطريق وميسرتها
ومالا تقرعه الاقدام منها وهذا فيما إذا كان السطح جاريا على موضع النهي، فإن كان المسجد سابقا
وجعل تحته طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله
لم تمتنع الصلاة فيه بغير خلاف لأنه لم يتبع ما حدث بعده والله أعلم.
(فصل) وان بنى مسجدا في المقبرة بين القبور فحكمه حكمها لأنه لا يخرج بذلك عن أن يكون
في المقبرة، وقد روى قتادة أن أنسا مر على مقبرة وهم يبنون فيها مسجدا فقال أنس: كان يكره
أن يبني مسجد في وسط القبور.
(فصل) ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها وجوزه الشافعي وأبو حنيفة لأنه مسجد
ولأنه محل لصلاة النفل فكان محلا للفرض كخارجها.
ولنا قول الله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) والمصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل
لجهتها والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة بدليل صلاتها قاعدا والى غير القبلة في السفر على الراحلة.
(فصل) وتصح النافلة في الكعبة وعلى ظهرها لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في
البيت ركعتين إلا أنه إن صلى تلقاء الباب أو على ظهرها وكان بين يديه شئ من بناء الكعبة متصل
721

بها صحت صلاته فإن لم يكن بين يديه شئ شاخص أو كان بين يديه آجر معبى غير مبني أو خشب
غير مسمور فيها فقال أصحابنا: لا تصح صلاته لأنه غير مستقبل لشئ منها، وإن كان الخشب
مسمورا والآجر مبنيا صحت صلاته لأن ذلك تابع لها، والأولى أنه لا يشترط كون شئ منها بين
يديه لأن الواجب استقبال موضعها وهوائها دون حيطانها بدليل ما لو انهدمت الكعبة صحت الصلاة
إلى موضعها، ولو صلى على جبل عال يخرج عن مسامتتها صحت صلاته إلى هوائها كذا ههنا
(فصل) وفي الصلاة في الموضع المغصوب روايتان (إحداهما) لا تصح وهو أحد قولي الشافعي
(والثانية) تصح وهو قول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي لأن النهي لا يعود إلى الصلاة فلم
يمنع صحتها كما لو صلى وهو يرى غريقا يمكنه انقاذه فلم ينقذه. أو حريقا يقدر على إطفائه فلم يطفئه
أو مطل غريمه الذي يمكن ايفاؤه وصلى
ولنا أن الصلاة عبارة أتى بها على الوجه المنهي عنه فلم تصح كصلاة الحائض وصومها وذلك
لأن النهي يقتضي تحريم الفعل واجتنابه والتأثيم بفعله فكيف يكون مطيعا بما هو عاص به، ممتثلا بما
هو محرم عليه متقربا بما يبعد به فإن حركاته وسكناته من القيام والركوع والسجود أفعال اختيارية هو
عاص بها منهي عنها، فأما من رأى الحريق فليس بمنهي عن الصلاة إنما هو مأمور باطفاء الحريق وانقاذ
الغريق وبالصلاة إلا أن أحدهما آكد من الآخر، أما في مسئلتنا فإن أفعال الصلاة في نفسها منهي عنها
إذا ثبت هذا فلا فرق بين غصبه لرقبة الأرض بأخذها أو دعواه ملكيتها وبين غصبه منافعها
بأن يدعي إجارتها ظالما أو يضع يده عليها ليسكنها مدة أو يخرج روشنا أو ساباطا في موضع لا يحل له
أو يغصب راحلة ويصلي عليها أو سفينة ويصلي فيها أو لوحا فيجعله في سفينة ويصلي عليه كل ذلك
حكمه في الصلاة حكم الدار على ما بيناه.
(فصل) قال أحمد رحمه الله: تصلى الجمعة في موضع الغصب يعني لو كان الجامع أو موضع منه
مغصوبا صحت الصلاة فيه لأن الجمعة تختص ببقعة فإذا صلاها الإمام في الموضع المغصوب فامتنع
722

الناس من الصلاة فيه فاتتهم الجمعة وان امتنع بعضهم فاتته الجمعة ولذلك أبيحت خلف الخوارج والمبتدعة،
وكذلك تصح في الطرق ورحاب المسجد لدعاء الحاجة إلى فعلها في هذه المواضع، وكذلك في الأعياد والجنازة
(فصل) قال أحمد رحمه الله: أكره الصلاة في أرض الخسف وذلك لأنها موضع مسخوط عليه
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم مر بالحجر " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين
أن يصيبكم (1) مثل ما أصابهم " متفق عليه.
(فصل) ولا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، رخص فيها الحسن وعمر بن عبد العزيز والشعبي
والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وروي أيضا عن عمر وأبي موسى، وكره ابن عباس ومالك
الكنائس من أجل الصور، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور ثم هي داخلة في قوله عليه
السلام " فأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد "
(فصل) وإذا كانت الأرض نجسة وطينها بطاهر أو بسط عليها شيئا طاهرا صحت الصلاة مع
الكراهة في ظاهر كلام أحمد رحمه الله وهو قول طاوس ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق، وذكر
أصحابنا في المسألة روايتين (إحداهما) لا تصح لأنها مدفن النجاسة أشبهت المقبرة
ولنا أن الطهارة إنما تشترط في بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته وقد وجد ذلك كله ولا نسلم
العلة في الأصل فإنه لو صلى بين القبور لم تصح صلاته وان لم يكن مدفنا للنجاسة، وقد قيل إن الحكم
غير معلل فلا يقاس عليه.
(فصل) ويكره تطيين المسجد بطين نجس أو تطبيقه بطوابق نجسة أو بناؤه بلبن نجس أو آجر
نجس فإن فعل وباشر المصلي أرضه النجسة ببدنه أو ثيابه لم تصح صلاته، وأما الآجر المعجون بالنجاسة
فهو نجس لأن النار لا تطهره، فإن غسل طهر ظاهره لأن النار أكلت أجزاء النجاسة الظاهرة وبقي
إثرها فتطهر بالغسل كالأرض النجسة وبقي باطنها نجسا لأن الماء لم يصل إليه فإن صلى عليه بعد الغسل

(1) أي خشية أن يصيبكم أو لئلا يصيبكم الخ
723

فهو كما لو صلى على بساط طاهر مفروش على أرض نجسة وكذلك الحكم في البساط الذي باطنه نجس وظاهره
طاهر، ومتى انكسر من الآجر النجس قطعة فظهر بعض باطنه فهو نجس لا تصح الصلاة عليه
(فصل) ولا بأس بالصلاة على الحصير والبسط من الصوف والشعر والوبر والثياب من القطن
والكتان وسائر الطاهرات وصلى عمر على عبقري وابن عباس على طنفسة وزيد بن ثابت وجابر على
حصير وعلي وابن عباس وابن مسعود وأنس على المنسوج وهو قول عوام أهل العلم إلا ما روي عن
جابر أنه كره الصلاة على كل شئ من الحيوان واستحب الصلاة على كل شئ من نبات الأرض
ونحوه قال مالك إلا أنه قال في بساط الصوف والشعر إذا كان سجوده على الأرض لم أر بالقيام
عليه بأسا، والصحيح أنه لا بأس بالصلاة على شئ من ذلك وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حصير في بيت
عتبان بن مالك وأنس متفق عليهما. وروى عنه المغيرة بن شعبة أنه كان يصلي على الحصير والفروة
المدبوغة وفيما رواه ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ملتفا بكساء يضع يده عليه إذا سجد ولان ما لم تكره
الصلاة فيه لم تكره الصلاة عليه كالكتان والخوص وتصح الصلاة على ظهر الحيوان إذا أمكنه استيفاء
الأركان عليه والنافلة في السفر، وإن كان الحيوان نجسا أو عليه بساط طاهر صحت الصلاة عليه فإن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمار وفعله أنس، وتصح الصلاة على العجلة وهي خشب على بكرات إذا أمكنه
ذلك لأنها محل تستقر عليه أعضاؤه فهي كغيرها
* (مسألة) * قال (وان صلى وفي ثوبه نجاسة وإن قلت أعاد)
قد ذكرنا أن الطهارة من النجاسة شرط لصحة الصلاة ولا فرق بين كثيرها وقليلها إلا فيما نذكره
بعد إن شاء الله تعالى وممن قال لا يعفى عن يسير البول مثل رؤس الابر مالك والشافعي وأبو ثور
وقال أبو حنيفة: يعفي عن يسير جميع النجاسات لأنه يتحرى فيها بالمسح في محل الاستنجاء ولو لم يعف
عنها لم يكف فيها المسح كالكثير ولأنه يشق التحرز منه فعفي عنه كالدم
724

ولنا عموم قوله تعالى (وثيابك فطهر) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " تنزهوا من البول فإن عامة عذاب
القبر منه " ولأنها نجاسة لا تشق إزالتها فوجبت إزالتها كالكثير، وأما الدم فإنه يشق التحرز منه فإن
الانسان لا يكاد يخلو من بثرة أو حكة أو دمل ويخرج من أنفه وفيه وغيرهما فيشق التحرز من يسيره
أكثر من كثيره ولهذا فرق في الوضوء بين قليله وكثيره
* (مسألة) * قال (إلا أن يكون ذلك دما أو قيحا يسيرا مما لا يفحش في القلب)
أكثر أهل العلم يرون العفو عن يسير الدم والقيح، وممن روي عنه ابن عباس وأبو هريرة وجابر
وابن أبي أوفى وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وعروة ومحمد بن كنانة والنخعي
وقتادة والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأصحاب الرأي وكان ابن عمر ينصرف من قليله وكثيره
وقال الحسن: كثيره وقليله سواء ونحوه عن سليمان التيمي لأنه نجاسة فأشبه البول
ولنا ما روي عن عائشة قالت: قد كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة ثم ترى
فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها. وفي لفظ: ما كان لإحدانا إلا ثوب فيه تحيض فإن أصابه شئ من
دمها بلته بريقها ثم قصعته بظفرها، رواه أبو داود. وهذا يدل على العفو عنه لأن الريق لا يطهر به
ويتنجس به ظفرها وهو إخبار عن دوام الفعل ومثل هذا لا يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصدر إلا
عن أمره، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا (1) وما حكي
عن ابن عمر فقد روي عنه خلافه، فروى الأثرم باسناده عن نافع أو ابن عمر كان يسجد فيخرج يديه
فيضعهما بالأرض وهما يقطران دما من شقاق كان في يديه، وعصر بثرة فخرج منها شئ من دم وقيح
فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ وانصرافه منه في بعض الحالات لا ينافي ما رويناه عنه فقد يتورع الانسان
عن بعض ما يرى جوازه ولأنه يشق التحرز منه فعفي عنه كأثر الاستنجاء
(فصل) وظاهر مذهب أحمد أن اليسير مالا يفحش في القلب وهو قول ابن عباس قال: الا

(1) بالغ الشيخ رحمه الله تعالى في المسألة حتى ادعى الاجماع فيها
وأحسن تلميذه في الشرح الكبير بعدم موافقته على هذا كما تقدم في ص (350)
وجملة الأحاديث تدل على وجوب غسل دم الحيض والمبالغة في تنظيفه بالماء
والسدر (وهو كالصابون) كما في حديث أم قيس عند أحمد وأصحاب السنن الا
الترمذي وهو صحيح وما قالته عائشة رخصة لذوات الثوب الواحد على أنه لم يصرح
هنا بعدم غسله فقال بعضهم انها تقصعه بريقها ثم تغسله ثم لم تصرح بأنهن كن
يصلين فيه ولكن قد يدل على هذا قولها بأنها كانت تحيض ثلاث حيض في ثوب
واحد وحمله بعضهم على عدم اشتراط طهارة الثوب في الصلاة
725

إذا كان فاحشا أعاد، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب. وروي عن أحمد أنه سئل عن الكثير فقال
شبر في شبر وفي موضع قال قدر الكف فاحش، وظاهر مذهبه أنه ما فحش في قلب من عليه الدم، وقال
ابن عباس ما فحش في قلبك، قال الخلال: والذي استقر عليه قوله في الفاحش أنه على قدر ما يستفحشه
كل إنسان في نفسه. وقال ابن عقيل إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس، وقال قتادة في
موضع الدرهم فاحش ونحوه عن النخعي وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وأصحاب
الرأي لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم " ولنا أنه لاحد له في
الشرع فرجع فيه إلى العرف كالتفرق والاحراز، وما رووه لا يصح فإن الحافظ أبا الفضل المقدسي قال
هو موضوع ولأنه إنما يدل على محل النزاع بدليل خطابه وأصحاب الرأي لا يرونه حجة
(فصل) والقيح والصديد وما تولد من الدم بمنزلته الا أن أحمد قال: هو أسهل من الدم،
وروي عن ابن عمر والحسن أنهما لم يرياه كالدم. وقال أبو مجلز في الصديد: إنما ذكر الله الدم المسفوح
وقال أمي بن ربيعة: رأيت طاوسا كأن ازاره نطع من قروح كانت برجليه. وقال إسماعيل السراج
رأيت حاشية ازار مجاهد قد ثبتت من الصديد والدم من قروح كانت بساقيه. وقال إبراهيم في الذي
يكون به الحبون (1) يصلي ولا يغسله فإذا برئ غسله. وقال عروة ومحمد بن كنانة مثل ذلك، فعلى هذا
يعفى منه عن أكثر مما يعفى عن مثله من الدم لأنه لا يفحش منه الا أكثر من الدم ولان هذا نص فيه
وإنما ثبتت النجاسة فيه لأنه مستحيل من الدم إلى حال مستقذرة
(فصل) ولا فرق بين كون الدم مجتمعا أو متفرقا بحيث إذا جمع بلغ هذا القدر، ولو كانت النجاسة
في شئ صفيق قد نفذت من الجانبين فاتصل ظاهره بباطنه فهو نجاسة واحدة وان لم يتصلا بل كان بينهما
شئ لم يصبه الدم فهما نجاستان إذا بلغا لو جمعا قدرا لا يعفى عنه لم يعف عنهما كما لو كانا في جانبي الثوب

(1) الحبون الدمامل المقيحة واحدها حبن بكسر الحاء
726

(فصل) ويعفى عن يسير دم الحيض لما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها وعن سائر دماء
الحيوانات الطاهرة، فأما دم الكلب والخنزير فلا يعفى عن يسيره لأن رطوباته الطاهرة من غيره
لا يعفى عن شئ منها (1) فدمه أولى ولأنه أصاب جسم الكلب فلم يعف عنه كالماء إذا أصابه وهكذا
كل دم أصاب نجاسة غير معفو عنها لم يعف عن شئ منه لذلك.
(فصل) ودم مالا نفس له سائلة كالبق والبراغيث والذباب ونحوه فيه روايتان (إحداهما) أنه
طاهر وممن رخص في دم البراغيث عطاء وطاوس والحسن والشعبي والحاكم وحبيب بن أبي ثابت
وحماد والشافعي وإسحاق ولأنه لو كان نجسا لنجس الماء اليسير إذا مات فيه فإنه إذا مكث في الماء
لا يسلم من خروج فضلة منه فيه ولأنه ليس بدم مسفوح وإنما حرم الله الدم المسفوح (والرواية الثانية)
عن أحمد قال في دم البراغيث إذا كثر اني لأفزع منه. وقال النخعي: اغسل ما استطعت. وقال
مالك في دم البراغيث إذا كثر وانتشر فاني أرى أن يغسل. والأول أظهر، وقول أحمد اني لأفزع
منه ليس بصريح في نجاسته وإنما هو دليل في توقفه فيه، وليس المنسوب إلى البراغيث دم إنما هو
بولها في الظاهر وبول هذه الحشرات ليس بنجس والله أعلم. وقال أبو الخطاب: دم السمك طاهر
لأن إباحته لا تقف على سفحه ولو كان نجسا لوقفت الإباحة على إراقته بالذبح كحيوان البر ولأنه
إذا ترك استحال فصار ماء، وقال أبو ثور: هو نجس لأنه دم مسفوح فيدخل في عموم قوله تعالى
(أو دما مسفوحا)
(فصل) واختلفت الرواية في العفو عن يسير القئ فروي عن أحمد أنه قال هو عندي بمنزلة
الدم وذلك لأنه خارج من الانسان نجس من غير السبيل فأشبه الدم، وروي عنه في المذي أنه قال
يغسل ما أصاب الثوب منه إلا أن يكون يسيرا، وروى الخلال باسناده قال: سئل سعيد بن المسيب
وعروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن المذي يخرج فكلهم قال إنه بمنزلة

(1) دم الحيض نجس بالحس ونقلوا الاجماع عليه ورطوبات الكلب
ليست كذلك وقال بعض الأئمة بطهارتها وقد نقل الشيخ وتلميذه في الشرح الكبير
قول من قال بطهارة سؤر الكلب والخنزير وجواز الوضوء منه وجواز أكل ما أكلا منه
كمالك والأوزاعي وداود ومن قال يتوضأ من سؤرهما من لم يجد غيره فجعله بعد هذا
أغلظ من دم الحيض وجعل كل منهما نجس العين تشديد لا دليل عليه الا ما توسعوا فيه
بالاستنباط من حديث غسل سؤر الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب أو تعفيره
الثانية بالتراب وقياس الخنزير عليه وهذا مخالف لجمهور السلف وسبق لأهل
الرأي في القياس فلا علة منصوصة ولا ظاهرة في غير الولوغ إذ يشترك الكلب
والخنزير في أكل القذر ولعابهما مظنة الضرر بل يؤكد الأطباء ضرر لعاب الكلب " راجع حاشية ص 48 "
727

القرحة فما علمت منه فاغسله وما غلبك منه فدعه، ولأنه يخرج من الشباب كثيرا فيشق التحرز منه
فعفي عن يسيره كالدم وكذلك المني إذا قلنا بنجاسته: وروي عنه في الودي مثل ذلك إلا أن
الظاهر عنه أن حكمه حكم البول لأنه من مخرجه. وروي عن أحمد أيضا أنه يعفى عن ريق البغل
والحمار وعرقهما إذا كان يسيرا وهو الظاهر عن أحمد، قال الخلال: وعليه مذهب أبي عبد الله لأنه
يشق التحرز منه، قال أحمد من يسلم من هذا ممن يركب الحمير إلا أني أرجو أن يكون ما خف منه
أسهل: قال القاضي وكذلك ما كان في معناهما من سباع البهائم سوى الكلب والخنزير، وكذلك
الحكم في أبوالها وأرواثها وبول الخفاش، قال الشعبي والحاكم وحماد وحبيب بن أبي ثابت لا بأس
ببول الخفافيش، وكذلك الخشاف لأنه يشق التحرز منه فإنه في المساجد يكثر فلو لم يعف عن يسيره
لم يقر في المساجد وكذلك بول ما يؤكل لحمه إن قلنا بنجاسته لأنه يشق التحرز منه لكثرته، وعن
أحمد لا يعفى عن يسير شئ من ذلك لأن الأصل أن لا يعفى عن شئ من النجاسة خولف في الدم
وما تولد منه فيبقى فيما عداه على الأصل.
(فصل) وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع (أحدها) محل الاستنجاء
فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الانقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه، واختلف أصحابنا في طهارته
فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته. وهو ظاهر كلام أحمد فإنه قال في المستجمر
يعرق في سراويله لا بأس به ولو كان نجسا لنجسه، ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الروث والرمة
" انهما لا يطهران " مفهومه أن غيرهما يطهر ولأنه معنى يزيل حكم النجاسة فيزيلها كالماء، وقال أصحابنا
المتأخرون: لا يطهر المحل بل هو نجس فلو قعد المستجمر في ماء يسير نجسه، ولو عرق كان عرقه
نجسا لأن المسح لا يزيل أجزاء النجاسة كلها فالباقي منها نجس لأنه عين النجاسة فأشبه ما لو وجد
في المحل وحده (الثاني) أسفل الخف والحذاء إذا أصابته نجاسة فدلكها بالأرض حتى زالت
عين النجاسة ففيه ثلاث روايات (إحداهن) يجزئ دلكه بالأرض وتباح الصلاة فيه وهو قول
728

الأوزاعي وإسحاق لما روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا وطئ
أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " وفي لفظ " إذا وطئ بنعليه أحدكم الأذى فإن التراب له طهور "
وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وعن أبي سعيد قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعله قذرا أو أذى فليمسحه وليصل
فيها " وعن ابن مسعود قال كنا لا نتوضأ من موطئ رواهما أبو داود ولان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا
يصلون في نعالهم. قال أبو مسلمة سعيد بن يزيد سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في
نعليه؟ قال نعم متفق عليه والظاهر أن النعل لا تخلو من نجاسة تصيبها فلو لم يجزئ دلكها لم تصح الصلاة
فيها (والثانية) يجب غسله كسائر النجاسات فإن الدلك لا يزيل جميع أجزاء النجاسة (والثالثة) يجب
غسله من البول والعذرة دون غيرهما لتغلظ نجاستهما وفحشهما والأول أولى لأن اتباع الأثر واجب
فإن قيل فقول النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه " ان فيهما قذرا " يدل على أنه لم يجز دلكهما ولم يزل
القذر منهما. قلنا لا دلالة في هذا لأنه لم ينقل أنه دلكهما والظاهر أنه لم يدلكهما لأنه لم يعلم بالقذر فيهما حتى
أخبره جبريل عليه السلام، إذا ثبت هذا فإن دلكهما يطهرهما في قول ابن حامد لظاهر الاخبار، وقال غيره
يعفى عنه مع بقاء نجاسته كقولهم في أثر الاستنجاء وقال القاضي إنما يجزئ دلكهما بعد جفاف نجاستهما
لأنه لا يبقى لها أثر وإن دلكهما قبل جفافهما لم يجزه ذلك لأن رطوبة النجاسة باقية فلا يعفى عنها وظاهر
الاخبار لا يفرق بين رطب ولا جاف ولأنه محل اجتزئ فيه بالمسح فجاز في حال رطوبة الممسوح
كمحل الاستنجاء ولان رطوبة المحل معفو عنها إذا جفت قبل الدلك فيعفى عنها إذ جفت به كالاستجمار
(الثالث) إذا جبر عظمه بعظم نجس فجبر لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر وأجزأته صلاته لأنها نجاسة
باطنة يتضرر بإزالتها فأشبهت دماء العروق، وقيل يلزمه قلعه ما لم يخف التلف، وإن سقط سن
من أسنانه فأعادها بحرارتها فثبتت فهي طاهرة لأنها بعضه والآدمي بجملته طاهر حيا وميتا وكذلك
بعضه، وقال القاضي هي نجسة حكمها حكم سائر العظام النجسة لأن ما أبين من حي فهو ميت فإنما حكم
729

بطهارة الجملة لحرمتها وحرمتها آكد من حرمة البعض فلا يلزم من الحكم بطهارتها الحكم بطهارة ما دونها
(فصل) وإذا كان على الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة نجاسة فعفي عن يسيرها كالدم ونحوه
عفي عن أثر كثيرها بالمسح لأن الباقي بعد المسح يسير وان كثر محله عفى عنه كيسير غيره
" مسألة " قال (وإذا خفي موضع النجاسة من الثوب استظهر حتى يتيقن أن الغسل
قد أتى على النجاسة)
وجملته أن النجاسة إذا خفيت في بدن أو ثوب وأراد الصلاة فيه لم يجز له ذلك حتى يتيقن زوالها
ولا يتيقن ذلك حتى يغسل كل محل يحتمل أن تكون النجاسة أصابته، فإذا لم يعلم جهتها من الثوب
غسله كله، وان علمها في أحدى جهتيه غسل تلك الجهة كلها، وان رآها في بدنه أو ثوب هو لابسه
غسل كل ما يدركه بصره من ذلك وبهذا قال النخعي والشافعي ومالك وابن المنذر. وقال عطاء والحكم
وحماد: إذا خفيت النجاسة في الثوب نضحه كله. وقال ابن شبرمة: يتحرى مكان النجاسة فيغسله
ولعلهم يحتجون بحديث سهل بن حنيف في المذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله
فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال " يجزئك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه "
فأمره بالتحري والنضح.
ولنا أنه متيقن للمانع من الصلاة فلم تبح له الصلاة إلا بتيقن زواله كمن تيقن الحدث وشك في
الطهارة والنضح لا يزيل النجاسة وحديث سهل في المذي دون غيره فلا يعدى لأن أحكام النجاسة
تختلف وقوله " حيث ترى أنه أصاب منه " محمول على من ظن أنه أصاب ناحية من ثوبه من غير
تيقن فيجزئه نضح المكان أو غسله
(فصل) وان خفيت النجاسة في فضاء واسع صلى حيث شاء، ولا يجب غسل جميعه لأن ذلك
730

يشق فلو منع من الصلاة أفضى إلى أن لا يجد موضعا يصلي فيه، فأما إن كان موضعا صغيرا كبيت ونحوه
فإنه يغسله كله لأنه لا يشق غسله فأشبه الثوب
* (مسألة) * قال (وما خرج من الانسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها من بول أو
غيره فهو نجس)
يعني ما خرج من السبيلين كالبول والغائط والمذي والودي والدم وغيره فهذا لا نعلم في نجاسته
خلافا الا أشياء يسيرة نذكرها إن شاء الله تعالى. أما بول الآدمي فقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم في الذي مر به وهو يعذب في قبره " انه كان لا يستبرئ من بوله " متفق عليه
وروي في خبر " ان عامة عذاب القبر من البول " وأما الودي فهو ماء أبيض يخرج عقيب البول
خاثر، فحكمه حكم البول سواء لأنه خارج من مخرج البول وجار مجراه، وأما المذي فهو ماء لزج
رقيق يخرج عقيب الشهوة على طرف الذكر، وظاهر المذهب أنه نجس. قال هارون الحمال: سمعت
أبا عبد الله يذهب في المذي إلى أنه يغسل ما أصاب الثوب منه الا أن يكون يسيرا. وقد ذكرنا
الاختلاف في العفو عن يسيره فيما مضى، وروي عن أحمد رحمه الله أنه بمنزلة المني، قال في رواية
محمد بن الحكم إنه سأل أبا عبد الله عن المذي أشد أو المني؟ قال: هما سواء ليسا من مخرج البول،
إنما هما من الصلب والترائب كما قال ابن عباس هو عندي بمنزلة البصاق والمخاط. وذكر ابن عقيل
نحو هذا وعلل بأن المذي جزء من المني لأن سببهما جميعا الشهوة، ولأنه خارج تحلله الشهوة أشبه
المني، فظاهر المذهب أنه نجس لأنه خارج من السبيل ليس بدءا لخلق آدمي فأشبه البول، ولان
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر منه والامر يقتضي الوجوب، ثم اختلف عن أحمد هل يجزئ فيه
النضح أو يجب غسله؟ قال في رواية محمد بن الحكم: المذي يرش عليه الماء أذهب إلى حديث سهل
ابن حنيف، ليس يدفعه شئ وإن كان حديثا واحدا. وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله حديث سهل
731

ابن حنيف في المذي ما تقول فيه؟ قال الذي يرويه ابن إسحاق؟ قلت نعم قال: لا أعلم شيئا يخالفه
وهو ما روى سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال " يجزئك منه الوضوء " قلت فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال " يكفيك أن تأخذ كفا من ماء
فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه " قال الترمذي هذا حديث صحيح، وروي عنه وجوب غسله
قال محمد بن داود سألت أبا عبد الله عن المذي يصيب الثوب كيف العمل فيه؟ قال الغسل ليس في
القلب منه شئ، وقال حديث محمد بن إسحاق ربما تهيبته، قال ابن المنذر وممن أمر بغسل المذي عمر وابن
عباس وهو مذهب الشافعي وإسحاق وأبي ثور وكثير من أهل العلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر منه في
حديث المقداد، ولأنه نجاسة فوجب غسلها كسائر النجاسات ولحديث سهل بن حنيف، قال أحمد حديث
محمد بن إسحاق لا أعرفه عن غيره ولا أحكم لمحمد بن إسحاق وربما تهيبته وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال
(فصل) وفي رطوبة فرج المرأة احتمالان (أحدهما) أنه نجس لأنه في الفرج لا يخلق منه الولد
أشبه المذي (والثاني) طهارته لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من جماع
فإنه ما احتلم نبي قط وهو يلاقي رطوبة الفرج، ولأننا لو حكمنا بنجاسة فرج المرأة لحكمنا بنجاسة منيها
لأنه يخرج من فرجها فيتنجس برطوبته، وقال القاضي ما أصاب منه في حال الجماع فهو نجس لأنه لا يسلم
من المذي وهو نجس، ولا يصح التعليل فإن الشهوة إذا اشتدت خرج المني دون المذي كحال الاحتلام
(فصل) وبول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر وهذا مفهوم كلام الخرقي وهو قول عطاء والنخعي
والثوري ومالك. قال مالك: لا يرى أهل العلم أبوال ما أكل لحمه وشرب لبنه نجسا. ورخص في
أبوال الغنم الزهري ويحيى الأنصاري، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
على إباحة الصلاة في مرابض الغنم الا الشافعي فإنه اشترط أن تكون سليمة من أبعارها وأبوالها.
ورخص في ذرق الطائر أبو جعفة والحكم وحماد وأبو حنيفة، وعن أحمد أن ذلك نجس وهو قول
الشافعي وأبي ثور ونحوه عن الحسن لأنه داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " تنزهوا من البول "
732

ولأنه رجيع فكان نجسا كرجيع الآدمي
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، والنجس لا يباح شربه ولو أبيح
للضرورة لأمرهم بغسل أثره إذ أرادوا الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم، متفق
عليه. وقال " صلوا في مرابض الغنم " متفق عليه، وهو إجماع كما ذكر ابن المنذر، وصلى أبو موسى
في موضع فيه أبعار الغنم فقيل له لو تقدمت إلى ههنا فقال: هذا وذاك واحد ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ما يصلون عليه من الأوطئة والمصليات وإنما كانوا يصلون على الأرض، ومرابض الغنم
لا تخلو من أبعارها وأبوالها، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم ولأنه متحلل معتاد من
حيوان يؤكل لحمه فكان طاهرا كاللبن وذرق الطائر عند من سلمه، ولأنه لو كان نجسا لتنجست
الحبوب التي تدوسها البقر فإنها لا تسلم من أبوالها فيتنجس بعضها ويختلط النجس بالطاهر فيصير
حكم الجميع حكم النجس
(فصل) فأما الخارج من غير السبيلين فالحيوانات فيه أربعة أقسام (أحدها) الآدمي فالخارج
منه نوعان طاهر وهو ريقه ودمعه وعرقه ومخاطه ونخامته فإنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية أنه
ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه رواه البخاري ولولا طهارتها لم يفعلوا
ذلك. وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال
" ما بال أحدكم يقوم يستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم
فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا " ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه
ببعض رواه مسلم، ولو كانت نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه وهو في الصلاة ولا تحت قدمه، ولا فرق بين
ما يخرج من الرأس والبلغم الخارج من الصدر ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة وقال أبو الخطاب
البلغم نجس لأنه طعام استحال في المعدة أشبه القئ.
ولنا أنه داخل في عموم الخبرين ولأنه أحد نوعي النخامة أشبه الآخر ولأنه لو كان نجسا نجس
733

به الفم ونقض الوضوء ولم يبلغنا عن الصحابة رضي الله عنهم مع عموم البلوى به شئ من ذلك، وقولهم
انه طعام مستحيل في المعدة غير مسلم إنما هو منعقد من الأبخرة فهو كالنازل من الرأس وكالمخاط ولأنه
يشق التحرز منه أشبه المخاط (النوع الثاني) نجس وهو الدم وما تولد منه من القيح والصديد وما يخرج
من المعدة من القئ والقلس فهذا نجس وقد تقدم بيان حكمه (القسم الثاني) ما أكل لحمه فالخارج منه
ثلاثة أنواع (أحدها) نجس وهو الدم وما تولد منه (الثاني) طاهر وهو الريق والدمع والعرق واللبن
فهذا لا نعلم فيه خلافا (الثالث) القئ ونحوه فحكمه حكم بوله لأنه طعام مستحيل فأشبه الروث وقد
دللنا على طهارة بوله فهذا أولى وكذلك منيه
(القسم الثالث) مالا يؤكل لحمه ويمكن التحرز منه وهو نوعان (أحدهما) الكلب والخنزير فهما
نجسان بجميع أجزائهما وفضلاتهما وما ينفصل عنهما (الثاني) ما عداهما من سباع البهائم وجوارح الطير
والبغل والحمار فعن أحمد رحمه الله أنها نجسة بجميع أجزائها وفضلاتها إلا أنه يعفى عن يسير نجاستها
وعنه ما يدل على طهارتها فحكمها حكم الآدمي على ما فصل
(القسم الرابع) مالا يمكن التحرز منه وهو نوعان (أحدهما) ما ينجس بالموت وهو السنور وما
دونه في الخلقة فحكمه حكم الآدمي ما حكمنا بنجاسته من الآدمي فهو منه نجس وما حكمنا بطهارته من
الآدمي فهو منه طاهر إلا منيه فإنه نجس لأن مني الآدمي بدء خلق آدمي فشرف بتطهيره وهذا معلوم
ههنا (النوع الثاني) مالا نفس له سائلة فهو طاهر بجميع أجزائه وفضلاته
* (مسألة) * قال (الا بول الغلام الذي لم يأكل الطعام فإنه يرش الماء عليه)
هذا استثناء منقطع إذ ليس معنى الكلام طهارة بول الغلام إنما أراد أن بول الغلام الذي لم يطعم
الطعام يجزئ فيه الرش وهو أن ينضح عليه الماء حتى يغمره ولا يحتاج إلى رش وعصر، وبول الجارية
يغسل وإن لم تطعم وهذا قول علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والحسن والشافعي وإسحاق وقال
القاضي رأيت لأبي إسحاق بن شاقلا كلاما يدل على طهارة بول الغلام لأنه لو كان نجسا لوجب غسله (1)

(1) بول الغلام قذر شديد القذارة كغيره من البول ولا معنى للنجس في اللغة الا هذا وقول الشافعية انه أرق من بول الأنثى يرده الحس، ولعل سبب الرخصة في الاكتفاء بنضحه ولوع الناس بحمله المفضي إلى كثرة بوله عليهم ومشقة غسل ثيابهم ولم يكن لأكثرهم الا ثوب واحد
734

وقال الثوري وأبو حنيفة يغسل بول الغلال كما يغسل بول الجارية لأنه بول نجس فوجب غسله كسائر
الأبوال النجسة ولأنه حكم يتعلق بالنجاسة فاستوى فيه الذكر والأنثى كسائر أحكامهما
ولنا ما روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم
يغسله وعن عائشة رضي الله عنها قالت أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال على ثوبه فدعا
بماء فأتبعه بوله ولم يغسله متفق عليهما. وعن لبابة بنت الحارث قالت كان الحسين بن علي في حجر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه فقلت البس ثوبا آخر وأعطني ازارك حتى اغسله فقال " إنما
يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الغلام الذكر " رواه أبو داود وعن علي رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل " قال قتادة هذا ما لم يطعما الطعام
فإذا طعما غسل بولهما رواه الإمام أحمد في مسنده وهذه نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها
أولى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح من قول من خالفه
(فصل) قال أحمد الصبي إذا طعم الطعام وأراده واشتهاه غسل بوله وليس إذا طعم لأنه قد
يلعق العسل ساعة يولد والنبي صلى الله عليه وسلم حنك بالتمر ولكن إذا كان يأكل ويريد الاكل فعلى هذا ما
يسقاه الصبي أو يلعقه للتداوي لا يعد طعاما يوجب الغسل وما يطعمه لغذائه وهو يريده ويشتهيه هو
الموجب لغسل بوله والله أعلم
* (مسألة) * قال (والمني طاهر وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه كالدم)
اختلفت الرواية عن أحمد في المني فالمشهور أنه طاهر وعنه أنه كالدم أي انه نجس ويعفى عن
يسيره، وعنه أنه لا يعفى عن يسيره ويجزئ فرك يابسه على كل حال والرواية الأولى هي المشهورة
في المذهب وهي قول سعد بن أبي وقاص وابن عمر وقال ابن عباس امسحه عنك بإذخرة أو خرقة
735

ولا تغسله إن شئت، وقال ابن المسيب إذا صلى فيه لم يعد وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر
وقال مالك: غسل الاحتلام أمر واجب وعلى هذا مذهب الأوزاعي والثوري، وقال أصحاب الرأي:
هو نجس ويجزي فرك يابسه لما روت عائشة أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قالت: ثم أرى فيه بقعة أو بقعا وهو حديث صحيح، قال صالح أبي: غسل المني من الثوب
أحوط وأثبت في الرواية وقد جاء الفرك أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المني
يصيب الثوب " إن كان رطبا فاغسليه، وإن كان يابسا فافركيه " وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأنه
خارج معتاد من السبيل أشبه البول
ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي
فيه، متفق عليه. وقال ابن عباس: امسحه عنك بإذخرة أو بخرقة ولا تغسله إنما هو كالبزاق والمخاط
ورواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه لا يجب غسله إذا جف فلم يكن نجسا كالمخاط ولأنه
بدء خلق آدمي فكان طاهرا كالطين ويفارق البول من حيث إنه بدء خلق آدمي
(فصل) فإن خفي موضع المني فرك الثوب كله إن قلنا بنجاسته وإن قلنا بطهارته استحب فركه
وإن صلى فيه من غير فرك أجزأه وهذا مذهب الشافعي وغيره ممن قال بالطهارة. وقال ابن عباس
ينضح الثوب كله وبه قال النخعي وحماد ونحوه عن عائشة وعطاء وقال ابن عمر وأبو هريرة والحسن
يغسل الثوب كله. ولنا أن فركه يجزئ إذا علم مكانه فكذلك إذا خفي، وأما النضح فلا يفيد فإنه لا يطهره
إذا علم مكانه فكذلك إذا خفي، وأما إذا قلنا بالطهارة فلا يجب شئ من ذلك لكن يستحب كحال العلم به
(فصل) قال أحمد رحمه الله: إنما يفرك مني الرجل أما مني المرأة فلا يفرك لأن الذي للرجل
ثخين والذي للمرأة رقيق (1) والمعنى في هذا أن الفرك يراد للتخفيف والرقيق لا يبقى له جسم بعد
جفافه يزول بالفرك فلا يفيد فيه شيئا فعلى هذا إن قلنا بنجاسته فلا بد من غسله رطبا كان أو يابسا كالبول

(1) لله در الإمام أحمد فقد فقه المراد من الفرك وهو أن لا يرى الأثر في الثوب وليس تطهيرا لنجس كما فهم بعضهم. ومن المعلوم أن غسله أولى وأفضل مطلقا وكذا سائر
الأقذار غير النجسة كالبصاق، والنضح يخفف النجاسة الرطبة فهو من الرخص التي وردت في عدة أحاديث في نجاسات مختلفة
736

وان قلنا بطهارته استحب غسله كما يستحب فرك مني الرجل، وأما الطهارة والنجاسة فلا يفترقان فيه لأن
كل واحد منهما مني وهو بدء لخلق آدمي خارج من السبيل
(فصل) فأما العلقة فقال ابن عقيل فيها روايتان كالمني لأنها بدء خلق آدمي والصحيح نجاستها لأنها
دم ولم يرد من الشرع فيها طهارة، وقياسها على المني ممتنع لكونها دما خارجا من الفرج فأشبهت دم الحيض.
(فصل) ومن أمنى وعلى فرجه نجاسة نجس منيه لإصابته النجاسة ولم يعف عن يسيره لذلك. وذكر
القاضي في المني من الجماع أنه نجس لأنه لا يسلم من المذي وقد ذكرنا فساد هذا فإن مني النبي صلى الله عليه وسلم إنما
كان من جماع وهو الذي وردت الاخبار بفركه، والطهارة لغيره إنما أخذت من طهارته والله أعلم
* (مسألة) * قال (والبول على الأرض يطهرها دلو من ماء)
وجملة ذلك أن الأرض إذا تنجست بنجاسة مائعة كالبول والخمر وغيرهما فطهورها أن
يغمرها بالماء بحيث يذهب لون النجاسة وريحها فما انفصل عنها غير متغير بها فهو طاهر، وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تطهر الأرض حتى ينفصل الماء فيكون المنفصل نجسا لأن النجاسة
انتقلت إليه فكان نجسا كما لو وردت عليه
ولنا ما روى أنس قال: جاء اعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي
صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه. وفي لفظ فدعاه فقال " ان المساجد لا تصلح
لشئ من هذا البول والقذر وإنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن " أو كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمر رجلا فجاء بدلو من ماء فشنه عليه. متفق عليه، ولولا أن المنفصل طاهر
لكان قد أمر بزيادة تنجيسه لأنه كان في موضع فصار في مواضع، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم
737

تطهير المسجد. فإن قيل: فقد روي عن ابن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذوا ما بال عليه من
التراب واهريقوا على مكانه ماء " وروى أبو بكر بن عياش عن سمعان عن أبي وائل عن عبد الله
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فأمر به فحفر. قلنا: ليست هذه الزيادة في خبر متصل، قاله الخطابي، وحديث
ابن مغفل مرسل. قال أبو داود: ابن مغفل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث
سمعان منكر قاله الإمام وقال ما أعرف سمعان، ولان البلة الباقية في المحل بعد غسله طاهرة وهي
بعض المنفصل فكذلك المنفصل. وقولهم: ان النجاسة انتقلت إليه. قلنا بعد طهارتها لأن الماء
لو لم يطهرها لنجس بها حال ملاقاته لها ولو نجس بها لما طهر المحل ولكان الباقي منه في المحل
نجسا. قال القاضي: إنما يحكم بطهارة المنفصل إذا نشفت النجاسة وذهبت أجزاؤها ولم يبق إلا
أثرها فإن كانت أجزاؤها باقية طهر المحل ونجس المنفصل وهذا الشرط الذي ذكره لم أره عن أحمد
ولا يقتضيه كلام الخرقي ولا يصح لأنه إن أراد ببقاء أجزائها بقاء رطوبتها فهو خلاف الخبر فإن
قوله فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه يدل على أنه صب عليه عقيب فراغه منه، وان
أراد بقاء البول متنقعا فلا فرق بينه وبين الرطوبة فإن قليل البول وكثيره في التنجيس سواء،
والرطوبة أجزاء تنجس كما ينجس المتنقع فلا فرق إذا
(فصل) وان أصاب الأرض ماء المطر أو السيول فغمرها وجرى عليها فهو كما لو صب عليها
لأن تطهير النجاسة لا تعتبر فيه نية ولا فعل فاستوى ما صبه الآدمي وما جرى بغير صبه. قال أحمد
رحمه الله في البول يكون في الأرض فتمطر عليه السماء: إذا أصابه من المطر بقدر ما يكون ذنوبا
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب على البول فقد طهر، وقال المروذي سئل أبو عبد الله عن ماء المطر
يختلط بالبول فقال ماء المطر عندي لا يخالط شيئا الا طهره الا العذرة فإنها تقطع، وسئل عن ماء
المطر يصيب الثوب فلم ير به بأسا الا أن يكون بيل فيه بعد المطر. وقال كل ما ينزل من السماء إلى
الأرض فهو نظيف داسته الدواب أو لم تدسه، وقال في الميزاب إذا كان في الموضع النظيف فلا بأس
738

بما قطر عليك من المطر إذا لم تعلم أنه قذر، قيل له فأسأل عنه؟ قال لا تسأل وما دعاك إلى أن تسأل
وهو ماء المطر؟ إذا لم يكن موضع مخرج أو موضع قذر فلا تغسله. واحتج في طهارة طين المطر بحديث
الاعرابي الذي بال في المسجد، قال إسحاق بن منصور وقال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد واحتج
بأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين كانوا يخوضون المطر في الطرقات فلا يغسلون أرجلهم
لما غلب الماء القذر، وممن روي عنه أنه خاض طين المطر وصلى ولم يغسل رجليه عمر وعلي رضي الله
عنهما. وقال ابن مسعود كنا لا نتوضأ من موطئ ونحوه عن ابن عباس وقال بذلك سعيد بن المسيب
وعلقمة والأسود وعبد الله بن مغفل بن مقرن والحسن وأصحاب الرأي وعوام أهل العلم لأن الأصل
الطهارة فلا تزول بالشك.
(فصل) ولا تطهر الأرض حتى يذهب لون النجاسة ورائحتها لأن بقاءهما دليل على بقاء النجاسة
فإن كانت مما لا يزول لونها إلا بمشقة سقط عنه إزالتها كالثوب وكذلك الحكم في الرائحة.
(فصل) إذا كانت النجاسة ذات أجزاء متفرقة كالرميم والروث والدم إذا جف فاختلطت
بأجزاء الأرض لم تطهر بالغسل لأن عينها لا تنقلب ولا تطهر إلا بإزالة أجزاء المكان بحيث يتيقن
زوال أجزاء النجاسة ولو بادر البول وهو رطب فقلع التراب الذي عليه أثره فالباقي طاهر لأن النجس
كان رطبا وقد زال، وإن جف فأزال ما وجد عليه الأثر لم يطهر لأن الأثر إنما يبين (1) على ظاهر
الأرض، لكن إن قلع ما تيقن به زوال ما أصابه البول فالباقي طاهر
(فصل) ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح ولا جفاف وهذا قول أبي ثور وابن المنذر
والشافعي في أحد قوليه، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن تطهر إذا ذهب أثر النجاسة. وقال أبو قلابة
جفوف الأرض طهورها لأن ابن عمر روى أن الكلاب كانت تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم
يكونوا يرشون شيئا من ذلك أخرجه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أهريقوا على بوله سجلا من ماء " والامر يقتضي الوجوب

(1) كذا وفي نسخة دار الكتب ولعل كلا منهما عرق والصواب يبقى
739

ولأنه محل نجس فلم يطهر بغير الغسل كالثياب، وأما حديث ابن عمر فرواه البخاري وليس فيه ذكر
البول ويحتمل أنه أراد أنها كانت تبول ثم تقبل وتدبر في المسجد فيكون اقبالها وادبارها فيه بعد بولها
(فصل) ولا تطهر النجاسة بالاستحالة فلو أحرق السرجين النجس فصار رمادا أو وقع كلب
في ملاحة فصار ملحا لم تطهر لأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر بها كالدم إذا صار قيحا أو
صديدا وخرج عليه الخمر فإنه نجس بالاستحالة فجاز ان يطهر بها.
(فصل) والمنفصل من غسالة النجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام (أحدها) أن ينفصل متغيرا بها
فهو نجس اجماعا لأنه متغير بالنجاسة فكان نجسا كما لو وردت عليه (الثاني) أن ينفصل غير متغير قبل
طهارة المحل فهو نجس أيضا لأنه ماء يسير لاقى نجاسة لم يطهرها فكان نجسا كالمتغير وكالباقي في المحل
فإن الباقي في المحل نجس وهو جزء من الماء الذي غسلت به النجاسة، ولأنه كان في المحل نجسا
وعصره لا يجعله طاهرا (الثالث) أن ينفصل غير متغير من الغسلة التي طهرت المحل ففيه وجهان أصحهما
أنه طاهر وهو قول الشافعي لأنه جزء من المتصل والمتصل طاهر فكذلك المنفصل ولأنه ماء أزال
حكم النجاسة ولم يتغير بها فكان طاهرا كالمنفصل من الأرض (والثاني) هو نجس وهو قول أبي حنيفة
لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فنجس بها كما لو وردت عليه، وإذا حكمنا بطهارته فهل يكون طهورا؟ على
وجهين (أحدهما) يكون طهورا لأن الأصل طهوريته، ولان الحادث فيه لم ينجسه ولم يغيره فلم تزل
طهوريته كما لو غسل به ثوبا طاهرا (والثاني) أنه غير مطهر لأنه أزال مانعا من الصلاة أشبه ما رفع به الحدث
(فصل) إذا جمع الماء الذي أزيلت به النجاسة قبل طهارة المحل وبعده في إناء واحد وكان دون
القلتين فالجميع نجس تغير أو لم يتغير، وقال بعض أصحاب الشافعي: هو طاهر لأنه ما أزيلت به
النجاسة ولم يتغير بها فأشبه ماء الغسلة التي طهرت المحل
ولنا انه اجتمع الماء النجس والطاهر وهو يسير فكان نجسا كما لو اجتمع مع ماء غير الذي غسل به المحل
* (مسألة) * قال (وإذا نسي فصلى بهم جنبا أعاد وحده)
740

وجملته أن الإمام إذا صلى بالجماعة محدثا أو جنبا غير عالم بحدثه فلم يعلم هو ولا المأمومون حتى
فرغوا من الصلاة فصلاتهم صحيحة وصلاة الإمام باطلة، روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر
رضي الله عنهم، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير ومالك والأوزاعي والشافعي وسليمان بن حرب وأبو
ثور، وعن علي أنه يعيد ويعيدون، وبه قال ابن سيرين والشعبي وأبو حنيفة وأصحابه لأنه صلى بهم
محدثا أشبه ما لو علم.
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم روي أن عمر رضي الله عنه صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى
الجرف فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلاما فأعاد ولم يعيدوا، وعن محمد بن عمرو بن المصطلق الخزاعي
أن عثمان صلى بالناس صلاة الفجر فلما أصبح وارتفع النهار فإذا هو بأثر الجنابة فقال كبرت والله
كبرت والله، فأعاد الصلاة ولم يأمرهم أن يعيدوا، وعن علي أنه قال: إذا صلى الجنب بالقوم فأتم
بهم الصلاة آمره أن يغتسل ويعيد ولا آمرهم أن يعيدوا. وعن ابن عمر أنه صلى بهم الغداة ثم ذكر
أنه صلى بغير وضوء فأعاد ولم يعيدوا، رواه كله الأثرم وهذا في محل الشهرة ولم ينقل خلافه فكان
اجماعا ولم يثبت ما نقل عن علي في خلافه، وعن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا صلى الجنب
بالقوم أعاد صلاته وتمت للقوم صلاتهم " أخرجه أبو سليمان محمد بن الحسن الحراني في جزء، ولان
الحدث مما يخفى ولا سبيل للمأموم إلى معرفته من الإمام فكان معذورا في الاقتداء به ويفارق ما إذا كان على
الإمام حدث نفسه لأنه يكون مستهزئا بالصلاة فاعلا لما لا يحل، وكذلك إن علم المأموم فإنه لا عذر له في الاقتداء
به وقياس المعذور على غيره لا يصح والحكم في النجاسة كالحكم في الحدث سواء لأنها إحدى الطهارتين
فأشبهت الأخرى، ولأنها في معناها في خفائها على الإمام والمأموم بل حكم النجاسة أخف وخفاؤها
أكثر إلا أن في النجاسة رواية أخرى أن صلاة الإمام تصح أيضا إذا نسيها.
(فصل) إذا علم بحدث نفسه في الصلاة أو علم المأمومون لزمهم استئناف الصلاة، نص عليه.
741

قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن رجل صلى بقوم وهو غير طاهر بعض الصلاة فذكر؟ قال يعجبني أن
يبتدئوا الصلاة، قلت له يقول لهم استأنفوا الصلاة؟ قال لا ولكن ينصرف ويتكلم ويبتدئون هم
الصلاة. وقال ابن عقيل فيه عن أحمد رحمه الله رواية أخرى إذا علم المأمومون أنهم يبنون على صلاتهم
وقال الشافعي يبنون على صلاتهم سواء علم بذلك أو علم المأمومون لأن ما مضى من صلاتهم صحيح
فكان لهم البناء عليه كما لو قام إلى خامسة فسبحوا به فلم يرجع
ولنا أنه ائتم بمن صلاته فاسدة مع العلم منهما أو من أحدهما أشبه ما لو ائتم بامرأة وإنما خولف
هذا فيما إذا استمر الجهل منهما للاجماع، ولان وجوب الإعادة على المأمومين حال استمرار الجهل
يشق لتفرقهم بخلاف ما إذا علموا في الصلاة، وإن علم بعض المأمومين دون بعض فالمنصوص أن
صلاة الجميع تفسد، والأولى أن يختص البطلان بمن علم دون من جهل لأنه معنى مبطل اختص به
فاختص بالبطلان كحدث نفسه
(فصل) إذا اختل غير ذلك من الشروط في حق الإمام كالستارة واستقبال القبلة لم يعف عنه
في حق المأموم لأن ذلك لا يخفى غالبا بخلاف الحدث والنجاسة، وكذا إن فسدت صلاته لترك ركن
فسدت صلاتهم نص عليه أحمد فيمن ترك القراءة يعيد ويعيدون، وكذلك فيمن ترك تكبيرة الاحرام
(فصل) وإن فسدت لفعل يبطل الصلاة فإن كان عن عمد أفسد صلاة الجميع، وإن كان عن غير
عمد لم تفسد صلاة المأمومين، نص عليه أحمد في الضحك أنه يبطل صلاة الإمام ولا تفسد صلاة
المأمومين. وعن أحمد فيمن سبقه الحدث روايتان (إحداهما) أن صلاة المأمومين تفسد لأنه أمر
أفسد صلاة الإمام فأفسد صلاة المأمومين كترك الشرط، وقد ثبت هذا الحكم في الشرط بما روي
عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بالناس المغرب فلم يسمعوا له قراءة، فلما قضى صلاته قالوا يا أمير المؤمنين
كأنك خفضت من صوتك قال: وما سمعتم؟ قالوا ما سمعنا لك قراءة قال: فما قرأت في نفسي
شغلتني عير جهزتها إلى الشام ثم قال: لا صلاة إلا بقراءة ثم أقام فأعاد وأعاد الناس والصحيح الأول
742

لأن عمر رضي الله عنه لما طعن وهو في الصلاة أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة
ولو فسدت صلاتهم للزمهم استئنافها ولا يصح القياس على ترك الشرط لأن الشرط آكد بدليل أنه
لا يعفى عنه بالنسيان بخلاف المبطل.
(فصل) إذا سبق الإمام الحدث فله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة روي ذلك عن عمر وعلي
وعلقمة وعطاء والحسن والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. وحكي عن أحمد
رواية أخرى أن صلاة المأمومين تبطل لأن أحمد قال: كنت أذهب إلى جواز الاستخلاف وجبنت
عنه. وقال أبو بكر: تبطل صلاتهم رواية واحدة لأنه فقد شرط صحة الصلاة في حق الإمام فبطلت
صلاة المأموم كما لو تعمد الحدث
ولنا أن عمر رضي الله عنه لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة وكان
ذلك بمحضر من الصحابة وغيرهم ولم ينكره منكر فكان اجماعا. وقد احتج أحمد بقول عمر وعلي وقولهما
عنده حجة فلا معدل عنه وقول أحمد جبنت عنه إنما يدل على التوقف وتوقفه مرة لا يبطل ما انعقد
الاجماع عليه، وإذا ثبت هذا فإن للإمام أن يستخلف من يتم بهم الصلاة كما فعل عمر رضي الله عنه
وان لم يستخلف فقدم المأمومون منهم رجلا فأتم بهم جاز وان صلوا وحدانا جاز: قال الزهري في
إمام ينوبه الدم أو رعف أو يجد مذيا ينصرف وليقل أتموا صلاتكم. وقال الشافعي في آخر قوليه
الاختيار أن يصلي القوم فرادى إذا كان ذلك ولعل توقف أحمد إنما كان في الاستخلاف لا في صحة
صلاة المأمومين فإنه قد نص على أن صلاة المأمومين لا تفسد بضحك الإمام فهذا أولى وان قدمت
كل طائفة من المأمومين لهم إماما يصلي بهم فقياس المذهب جوازه وهو مذهب الشافعي. وقال
أصحاب الرأي: تفسد صلاتهم كلهم
ولنا أن لهم أن يصلوا وحدانا فكان لهم أن يقدموا رجالا كحالة ابتداء الصلاة وان قدم بعضهم
رجلا وصلى الباقون وحدانا جاز
743

(فصل) فأما الذي سبقه الحدث فتبطل صلاته ويلزمه استئنافها. قال أحمد: يعجبني أن يتوضأ
ويستقبل هذا قول الحسن وعطاء والنخعي ومكحول. وعن أحمد أنه يتوضأ ويبني روي ذلك عن ابن
عمر وابن عباس لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف
فليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته " وعنه رواية ثالثة إن كان الحدث من السبيلين ابتدأ وإن كان
من غيرهما بنى لأن حكم نجاسة السبيل أغلظ والأثر إنما ورد بالبناء في الخارج من غير السبيل فلا
يلحق به ما ليس في معناه. والصحيح الأول لما روى علي بن طلق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
فسا أحدكم في صلاته فلينصرف فليتوضأ وليعد صلاته " رواه أبو داود والأثرم. وعن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما يصلي بهم فانصرف ثم جاء ورأسه يقطر فقال
" اني قمت بكم ثم ذكرت أني كنت جنبا ولم أغتسل فانصرفت فاغتسلت فمن أصابه منكم مثل الذي
أصابني أو أصابه في بطنه رز فلينصرف فليغتسل أو ليتوضأ وليستقبل صلاته " رواه الأثرم ولأنه فقد
شرط الصلاة في أثنائها على وجه لا يعود إلا بعد زمن طويل وعمل كثير ففسدت صلاته كما لو تنجس
نجاسة يحتاج في إزالتها إلى مثل ذلك أو انكشفت عورته ولم يجد السترة إلا بعيدة منه أو تعمد الحدث
أو انقضت مدة المسح وحديثهم ضعيف
(فصل) قال أصحابنا يجوز أن يستخلف من سبق ببعض الصلاة ولمن جاء بعد حدث الإمام
فيبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءة أو ركعة أو سجدة ويقضي بعد فراغ صلاة المأمومين وحكي
هذا القول عن عمر وعلي وأكثر من وافقهما في الاستخلاف. وفيه رواية أخرى أنه مخير بين أن يبني
أو يبتدئ قال مالك ويصلي لنفسه صلاة تامة فإذا فرغوا من صلاتهم قعدوا وانتظروه حتى يتم ويسلم
معهم لأن اتباع المأمومين للإمام أولى من اتباعه لهم فإن الإمام إنما جعل ليؤتم به. وعلى كلتا الروايتين
إذا فرغ المأمومون قبل فراغ إمامهم وقام لقضاء ما فاته فإنهم يجلسون وينتظرونه حتى يتم ويسلم بهم
لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف فانتظارهم له أولى وإن سلموا ولم ينتظروه جاز. وقال ابن
744

عقيل يستخلف من يسلم بهم والأولى انتظاره وان سلموا لم يحتاجوا إلى خليفة فإنه لم يبق من الصلاة
الا السلام فلا حاجة إلى الاستخلاف فيه، ويقوي عندي أنه لا يصح الاستخلاف في هذه الصورة
لأنه ان بنى جلس في غير موضع جلوسه وصار تابعا للمأمومين، وان ابتدأ جلس المأمومون في غير
موضع جلوسهم ولم يرد الشرع بهذا وإنما ثبت الاستخلاف في موضع الاجماع حيث لم يحتج إلى شئ
من هذا فلا يلحق به ما ليس في معناه والله أعلم
(فصل) وإذا استخلف من لا يدري كم صلى احتمل أن يبني على اليقين فإن وافق الحق والا سبحوا
به فرجع إليهم ويسجد للسهو وقال النخعي ينظر ما يصنع من خلفه. وقال الشافعي يتصنع فإن سبحوا به
جلس وعلم أنها الرابعة. وقال الأوزاعي يصلي بهم ركعة لأنه تيقن بقاء ركعة ثم يتأخر ويقدم رجلا يصلي
بهم ما بقي من صلاتهم فإذا سلم قام الرجل فأتم صلاته وقال مالك يصلي لنفسه صلاة تامة فإن فرغوا
من صلاتهم قعدوا وانتظروه والأقوال الثلاثة الأولى متقاربة
ولنا على أنه لا يستخلف أنه ان شك في عدد الركعات فلم يجز له الاستخلاف لذلك كغير المستخلف
ولنا على أنه يبني على اليقين أنه شك ممن لا ظن له فوجب البناء على اليقين كسائر المصلين
(فصل) ومن أجاز الاستخلاف فقد أجاز نقل الجماعة إلى جماعة أخرى للعذر ويشهد لذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم جاء وأبو بكر في الصلاة فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتم بهم الصلاة وفعل هذا
مرة أخرى جاء حتى جلس إلى جانب أبي بكر عن يساره وأبو بكر عن يمينه قائم يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم
ويأتم الناس بابي بكر وكلا الحديثين صحيح متفق عليهما، وهذا يقوي جواز الاستخلاف والانتقال
من جماعة إلى جماعة أخرى حال العذر. فيخرج من هذا أنه لو أدرك اثنان بعض الصلاة مع الإمام فلما
سلم الإمام ائتم أحدهما بصاحبه ونوى الآخر إمامته ان ذلك يصح لأنه في معنى الاستخلاف، ومن لم
يجز الاستخلاف لم يجز ذلك ولو تخلف إمام الحي من الصلاة لغيبة أو مرض أو عذر وصلى غيره وحضر
745

إمام الحي في أثناء الصلاة فتأخر الإمام وتقدم إمام الحي فبنى على صلاة خليفته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر ففي ذلك وجهان (أحدهما) يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فيجوز لغيره أن يفعل مثل فعله (والثاني)
لا يجوز لاحتمال أن يكون ذلك خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لعدم مساواة غيره له في الفضل
(فصل) إذا وجد المبطل في المأموم دون الإمام مثل أن يكون المأموم محدثا أو نجسا ولم يعلم
بذلك إلا بعد فراغه من الصلاة أو سبقه الحدث في أثناء الصلاة أو ضحك أو تكلم أو ترك
ركنا أو غير ذلك من المبطلات ولم يكن مع الإمام من تنعقد به الصلاة سواه فقياس المذهب أن حكمه
كحكم الإمام معه على ما فصلناه لأن ارتباط صلاة الإمام بالمأموم كارتباط صلاة المأموم بالإمام، فما
فسد ثم فسد ههنا وما صح ثم صح ههنا
(فصل) قال أحمد رحمه الله في رجلين أم أحدهما صاحبه فشم كل واحد منهما ريحا أو سمع صوتا
يعتقد أنه من صاحبه وكل يقول ليس مني: يتوضآن ويصليان إنما فسدت صلاتهما لأن كل واحد
منهما يعتقد فساد صلاة صاحبه وانه صار فذا، وهذا على الرواية التي تقول بفساد صلاة كل واحد من
الإمام والمأموم بفساد صلاة صاحبه لكونه صار فذا. وعلى الرواية المنصورة ينوي كل واحد منهما
الانفراد ويتم صلاته. ويحتمل أنه إنما قضى بفساد صلاتهما إذا أتما الصلاة على ما كان عليه من غير فسخ
النية فإن المأموم يعتقد أنه مؤتم بمحدث والإمام يعتقد أنه يؤم محدثا، وأما الوضوء فلعل أحمد رحمه الله
إنما أراد بقوله يتوضآن لتصح صلاتهما جماعة إذ ليس لأحدهما أن يأتم بصاحبه أو يؤمه مع اعتقاد
حدثه ولعله أمر بذلك احتياطا أما إذا صليا منفردين فإنه لا يجب الوضوء على واحد منهما لأن يقين
الطهارة موجود في كل واحد منهما والحدث مشكوك فيه فلا يزول اليقين بالشك
(فصل) ونقل عن أحمد في إمام صلى بقوم فشهد اثنان عن يمينه انه أحدث وأنكر الإمام وبقية
المأمومين: يعيد ويعيدون. وهذا لأن شهادتهما اثبات يقدم على النفي لاحتمال علمهما به مع خفائه
عنه وعن بقية المأمومين. وقوله يعيدون لأن المأمومين متى علم بعضهم بحدث إمامهم لزمت الجميع الإعادة
على المنصوص. ويحتمل أن تختص الإعادة من علم دون غيره على ما تقدم والله أعلم
746

باب الساعات التي نهى عن الصلاة فيها
روى ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس وعن
أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر
حتى تغرب الشمس " متفق عليهما. وفي لفظ " بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر " رواه مسلم
وعن أبي هريرة مثل حديث عمر إلا أنه قال " وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ". وعن
ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز
وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب " رواهما مسلم. وعن عقبة بن عامر قال: ثلاث
ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيها موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى
ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تتضيف الشمس للغروب حين تغرب. وعن عمرو بن
عنبسة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الصلاة قال " صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حين
تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل
فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم
فإذا أقبل الفئ فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب
الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار " رواهن مسلم
* (مسألة) * قال أبو القاسم (ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض)
وجملته أنه يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها، روي نحو ذلك عن علي رضي الله
747

عنه وغير واحد من الصحابة، وبه قال أبو العالية والنخعي والشعبي والحكم وحماد ومالك والأوزاعي
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال أصحاب الرأي: لا تقضى الفوائت في الأوقات الثلاثة
التي في حديث عقبة بن عامر الا عصر يومه يصليها قبل غروب الشمس لعموم النهي وهو متناول للفرائض
وغيرها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس أخرها حتى ابيضت الشمس،
متفق عليه، ولأنها صلاة فلم تجز في هذه الأوقات كالنوافل، وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه
أنه نام في دالية فاستيقظ عند غروب الشمس فانتظر حتى غابت الشمس ثم صلى، وعن كعب أحسبه
ابن عجرة أنه نام حتى طلع قرن الشمس فأجلسه فما أن تعلت الشمس قال له: صل الآن
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " متفق عليه وفي حديث أبي قتادة
" إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه
لها " متفق عليه، وخبر النهي مخصوص بالقضاء في الوقتين الآخرين وبعصر يومه فنقيس محل النزاع
على المخصوص، وقياسهم منقوض بذلك أيضا، وحديث أبي قتادة يدل على جواز التأخير لا على تحريم الفعل
(فصل) ولو طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح أتمها، وقال أصحاب الرأي: تفسد لأنها
صارت في وقت النهي
ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل
أن تغيب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته "
متفق عليه، وهذا نص في المسألة يقدم على عموم غيره
(فصل) ويجوز فعل الصلاة المنذورة في وقت النهي سواء كان النذر مطلقا أو مؤقتا، وقال
أبو حنيفة: لا يجوز ويتخرج لنا مثله بناء على صوم الواجب في أيام التشريق
ولنا أنها صلاة واجبة فأشبهت الفوائت من الفرائض وصلاة الجنازة، وقد وافقنا فيه فيما بعد
صلاة العصر وصلاة الصبح
748

* (مسألة) * قال (ويركع للطواف)
يعني في أوقات النهي وممن طاف بعد الصبح والعصر وصلى ركعتين ابن عمر وابن الزبير وعطاء
وطاوس وفعله ابن عباس والحسن والحسين ومجاهد والقاسم بن محمد وفعله عروة بعد الصبح وهذا مذهب
عطاء والشافعي وأبي ثور. وأنكرت طائفة ذلك منهم أبو حنيفة ومالك واحتجوا بعموم أحاديث النهي
ولنا ما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا
البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار " رواه الأثرم والترمذي وقال حديث صحيح ولأنه قول
من سمينا من الصحابة ولان ركعتي الطواف تابعة له فإذا أبيح المتبوع ينبغي أن يباح التبع وحديثهم
مخصوص بالفوائت وحديثنا لا تخصيص فيه فيكون أولى
* (مسألة) * قال (ويصلي على الجنازة)
أما الصلاة على الجنازة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تميل للغروب فلا خلاف
فيه قال ابن المنذر اجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد العصر والصبح، وأما الصلاة عليها في الأوقات
الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر فلا يجوز ذكرها القاضي وغيره قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن الصلاة
على الجنازة إذا طلعت الشمس قال: أما حين تطلع فما يعجبني ثم ذكر حديث عقبة ابن عامر، وقد
روي عن جابر وابن عمر نحو هذا القول وذكره مالك في الموطأ عن ابن عمر وقال الخطابي هذا قول أكثر
أهل العلم وقال أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن الصلاة على الجنازة تجوز في جميع أوقات النهي
وهذا مذهب الشافعي لأنها صلاة تباح بعد الصبح والعصر فأبيحت في سائر الأوقات كالفرائض.
ولنا قول عقبة بن عامر ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن
موتانا. وذكره مقرونا بالدفن دليل على إرادة صلاة الجنازة ولأنها صلاة من غير الصلوات الخمس
فلم يجز فعلها في هذه الأوقات الثلاثة كالنوافل المطلقة وإنما أبيحت بعد الصبح والعصر لأن مدتهما
749

تطول فالانتظار يخاف منه عليها وهذه مدتها تقصر، وأما الفرائض فلا يقاس عليها لأنها آكد ولا
يصح قياس هذه الأوقات الثلاثة على الوقتين الآخرين لأن النهي فيها آكد وزمنها أقصر فلا يخاف
على الميت فيها ولأنه نهي عن الدفن فيها والصلاة المقرونة بالدفن تتناول صلاة الجنازة وتمنعها القرينة
من الخروج بالتخصيص بخلاف الوقتين الآخرين والله أعلم
* (مسألة) * قال (ويصلي إذا كان في المسجد وأقيمت الصلاة وقد كان صلاها)
وجملته أن من صلى فرضه ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة استحب له اعادتها أي صلاة كانت
بشرط أن تقام وهو في المسجد أو يدخل المسجد وهم يصلون، وهذا قول الحسن والشافعي وأبي ثور
قان أقيمت صلاة الفجر أو العصر وهو خارج المسجد لم يستحب له الدخول واشترط القاضي لجواز
الإعادة في وقت النهي أن يكون مع إمام الحي ولم يفرق الخرقي بين إمام الحي وغيره ولا بين المصلي
جماعة وفرادى وكلام أحمد يدل على ذلك أيضا. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عمن صلى في
جماعة ثم دخل المسجد وهم يصلون أيصلي معهم؟ قال: نعم. وذكر حديث أبي هريرة أما هذا
فقد عصى أبا القاسم إنما هي نافلة فلا يدخل فإن دخل صلى وإن كان قد صلى في جماعة. قيل لأبي
عبد الله والمغرب قال: نعم، الا أنه في المغرب يشفع. وقال مالك: إن كان صلى وحده أعاد المغرب
وإن كان صلى في جماعة لم يعدها لأن الحديث الدال على الإعادة قال فيه: صلينا في رحالنا وقال أبو
حنيفة: لا تعاد الفجر ولا العصر ولا المغرب لأنها نافلة فلا يجوز فعلها في وقت النهي لعموم الحديث
فيه ولا تعاد المغرب لأن التطوع لا يكون بوتر. وعن ابن عمر والنخعي تعاد الصلوات كلها إلا
الصبح والمغرب. وقال أبو موسى وأبو مجلز ومالك والثوري والأوزاعي: تعاد كلها إلا المغرب لئلا
يتطوع بوتر. وقال الحاكم: إلا الصبح وحدها
750

ولنا ما روى جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة
الفجر في مسجد الخيف وأنا غلام شاب فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه فقال
" علي بهما " فأتي بهما ترعد فرائصهما فقال " ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا يا رسول الله قد صلينا في رحالنا
قال " لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة " رواه أبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح والأثرم. وروى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن بسر بن محجن عن
أبيه انه كان جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن للصلاة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع ومحجن في
مجلسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم؟ " فقال بلى يا رسول
الله ولكني قد صليت في أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت
قد صليت " وعن أبي ذر قال: ان خليلي - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أصلي الصلاة لوقتها فإذا
أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة (1) رواه مسلم. وفي رواية " فإن أدركتها معهم فصل ولا تقل إني
قد صليت فلا أصلي " رواه النسائي. وهذه الأحاديث بعمومها تدل على محل النزاع، وحديث يزيد بن
الأسود صريح في إعادة الفجر والعصر مثلها، والأحاديث باطلاقها تدل على الإعادة سواء كان مع إمام
الحي أو غيره وسواء صلى وحده أو في جماعة. وقد روى أنس قال صلى بنا أبو موسى الغداة في المربد
فانتهينا إلى المسجد الجامع فأقيمت الصلاة فصلينا مع المغيرة بن شعبة. وعن صلة عن حذيفة أنه أعاد
الظهر والعصر والمغرب وكان قد صلاهن في جماعة. رواهما الأثرم

(1) في الحديث حذف وتلفيق وابهام وروي في مسلم بألفاظ منها هذا
اللفظ: ان خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف وأن أصلي
الصلاة لوقتها، فإن أدركت القوم وقد صلوا كنت قد أحرزت صلاتك وإلا كانت لك
نافلة " وأصل الكلام في الامراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها كما في الروايات
الأخرى. والمعنى كما يؤخذ من سائرها: وقال لي " ص " فإن أدركت القوم وقد
صلوا الجماعة مع الأمير منهم فذاك والا كانت صلاتك معهم ثانية نافلة. وقيل
هذه الرواية في أول الباب " يا أبا ذر إنه سيكون
بعدي أمراء يمتون الصلاة فصل الصلاة لوقتها فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة وإلا كنت قد أحرزت صلاتك "
قال النووي: معناه إذا علمت من حالهم تأخيرها عن وقتها المختار فصلها لأول وقتها ثم إن صلوها هم لوقتها المختار فصلها
أيضا معهم وتكون صلاتك معهم نافلة وإلا كنت قد أحرزت صلاتك وصنتها بفعلك في أول الوقت اه‍. والمراد من
مجموع الروايات ان الامراء نواب الإمام الأعظم إذا قصروا في إقامة صلاة الجماعة لوقتها فالاحتياط للافراد أن يصلوها في وقتها
ولو فرادى ومن حضر منهم المسجد صلى مع الجماعة وراء الأمير لإقامة شعار الاسلام وتحسب الثانية له نافلة. وكتبه محمد رشيد
751

(فصل) إذا أعاد المغرب شفعها برابعة نص عليه أحمد وبه قال الأسود بن يزيد والزهري
والشافعي وإسحاق ورواه قتادة عن سعيد بن المسيب. وروى صلة عن حذيفة أنه لما أعاد المغرب
قال: ذهبت أقوم في الثالثة فأجلسني، وهذا يحتمل أنه أمره بالاقتصار على ركعتين لتكون شفعا
ويحتمل انه أمره بالصلاة مثل صلاة الإمام
ولنا أن هذه الصلاة نافلة ولا يشرع التنفل بوتر غير الوتر فكان زيادة ركعة أولى من نقصانها
لئلا يفارق إمامه قبل اتمام صلاته
(فصل) ان أقيمت الصلاة وهو خارج من المسجد فإن كان في وقت نهي لم يستحب له الدخول
وإن كان في غير وقت نهي استحب له الدخول في الصلاة معهم وان دخل وصلى معهم فلا بأس لما
ذكرنا من خبر أبي موسى ولا يستحب لما روى مجاهد قال خرجت مع ابن عمر من دار عبد الله بن
خالد بن أسيد حتى إذا نظر إلى باب المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفا حتى صلى الناس وقال
إني صليت في البيت، رواه الإمام أحمد في المسند.
(فصل) إذا أعاد الصلاة فالأولى فرضه روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الثوري
وأبو حنيفة وإسحاق والشافعي في الجديد، وعن سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي التي صلى معهم المكتوبة
لما روي في حديث يزيد بن الأسود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل
معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة "
ولنا قوله في الحديث الصحيح " تكن لكما نافلة " وقوله في حديث أبي ذر " فإنها لك نافله " ولان الأولى
قد وقعت فريضة وأسقطت الفرض بدليل أنها لا تجب ثانيا وإذا برئت الذمة بالأولى استحال كون
الثانية فريضة وجعل الأولى نافلة. قال حماد قال إبراهيم إذا نوى الرجل صلاة وكتبتها الملائكة فمن
يستطيع أن يحولها؟ فما صلى بعدها فهو تطوع، وحديثهم لا تصريح فيه فيجب أن يحمل معناه على ما في
الأحاديث الباقية سواء فعلى هذا لا ينوي الثانية فرضا لكن ينويها ظهرا معادة وان نواها نافلة صح
(فصل) ولا تجب الإعادة قال القاضي لا تجب رواية واحدة، وقال بعض أصحابنا
752

فيها رواية أخرى أنها تجب مع إمام الحي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها
ولنا أنها نافلة والنافلة لا تجب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصل صلاة في يوم مرتين " رواه أبو داود
ومعناه واجبتان والله أعلم. والامر للاستحباب، فعلى هذا إن قصد الإعادة فلم يدرك إلا ركعتين
فقال الآمدي: يجوز أن يسلم معهم لأنها نافلة، ويستحب أن يتمها لأنه قصدها أربعا، ونص أحمد
رحمه الله على أنه يتمها أربعا لقوله عليه السلام " وما فاتكم فأتموا "
* (مسألة) * قال (في كل وقت نهي عن الصلاة فيه وهو بعد الفجر حتى تطلع الشمس
وبعد العصر حتى تغرب الشمس)
اختلف أهل العلم في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها فذهب أحمد رحمه الله إلى أنها من بعد
الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح وبعد العصر حتى تغرب الشمس وحال قيام الشمس حتى تزول
وعدها أصحابه خمسة أوقات من الفجر إلى طلوع الشمس وقت، ومن طلوعها إلى ارتفاعها وقت،
وحال قيامها وقت، ومن العصر إلى شروع الشمس في الغروب وقت، والى تكامل الغروب وقت.
والصحيح أن الوقت الخامس من حين تتضيف الشمس للغروب إلى أن تغرب لأن عقبة بن عامر قال:
ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس
بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب.
فجعل هذه ثلاثة أوقات، وقد ثبت لنا وقتان آخران بحديث عمر وأبي سعيد فيكون الجميع خمسة.
ومن جعل الخامس وقت الغروب فلان النبي صلى الله عليه وسلم خصه بالنهي في حديث ابن عمر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا
غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب " وفي حديث " ولا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس
ولا غروبها " وعلى كل حال فهذه الأوقات المذكورة منهي عن الصلاة فيها وهو قال الشافعي
753

وأصحاب الرأي، وقال ابن المنذر: إنما المنهي عنه الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بدليل
تخصيصها بالنهي في حديثه وحديث ابن عمر وقوله " لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس
مرتفعة " رواه أبو داود، وقال عائشة: وهم عمر، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى
طلوع الشمس أو غروبها
ولنا ما ذكرنا من الأحاديث في أول الباب وهي صحيحة صريحة والتخصيص في بعض
الأحاديث لا يعارض العموم الموافق له بل يدل على تأكد الحكم فيما خصه، وقول عائشة في رد خبر
عمر غير مقبول فإنه مثبت لروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول برأيها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصح من
قولها ثم هي قد روت ذلك أيضا، فروى ذكوان مولى عائشة أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يصلي بعد العصر وينهى عنه رواه أبو داود. فكيف يقبل ردها لما قد أقرت بصحته، وقد رواه
أبو سعيد وعمر وابن عنبسة وأبو هريرة وابن عمر والصنابحي وأم سلمة كنحو رواية عمر فلا يترك
هذا بمجرد رأي مختلف متناقض
(فصل) والنهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بفعل الصلاة فمن لم يصل أبيح له التنفل وإن
صلى غيره ومن صلى العصر فليس له التنفل وإن لم يصل أحد سواه لا نعلم في هذا خلافا عند من يمنع
الصلاة بعد العصر. فأما النهي بعد الفجر فيتعلق بطلوع الفجر، وبهذا قال سعيد بن المسيب والعلاء
ابن زياد وحميد بن عبد الرحمن وأصحاب الرأي، وقال النخعي كانوا يكرهون ذلك يعني التطوع بعد
طلوع الفجر، ورويت كراهيته عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وعن أحمد رواية أخرى أن
النهي متعلق بفعل لا صلاة أيضا كالعصر، وروي نحو ذلك عن الحسن والشافعي لما روى أبو سعيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى
تطلع الشمس " رواه مسلم، وروى أبو داود حديث عمر بهذا اللفظ، وفي حديث عمرو بن عنبسة قال
" صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة " كذا رواه مسلم، وفي رواية أبي داود قال: قلت يا رسول الله
754

أي الليل أسمع؟ قال " جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مكتوبة مشهودة حتى تصلي الصبح
ثم اقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قدر رمح أو رمحين " ولان لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في العصر علق على
الصلاة دون وقتها فكذلك الفجر، ولأنه وقت نهي بعد صلاة فيتعلق بفعلها كبعد العصر. والمشهور
في المذهب الأول لما روى يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر فقال
يا يسار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة فقال " ليبلغ شاهدكم غائبكم لا تصلوا
بعد الفجر الا سجدتين " رواه أبو داود، وفي لفظ " لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا سجدتان " رواه
الدارقطني، وفي لفظ الا ركعتي الفجر " وقال هو غريب. رواه قدامة بن موسى وقد روى عنه
غير واحد من أهل العلم وقال هذا ما أجمع عليه أهل العلم، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتا الفجر " وهذا يبين مراد النبي صلى الله عليه وسلم من اللفظ المجمل ولا يعارضه
تخصيص ما بعد الصلاة بالنهي فإن ذلك دليل خطاب وهذا منطوق فيكون أولى وحديث عمرو بن
عنبسة قد اختلفت ألفاظ الرواة فيه وهو في سنن ابن ماجة حتى يطلع الفجر
* (مسألة) * قال (ولا يبتدئ في هذه الأوقات صلاة يتطوع بها)
لا أعلم خلافا في المذهب أنه لا يجوز أن يبتدئ صلاة تطوع غير ذات سبب وهو قول الشافعي
وأصحاب الرأي، وقال ابن المنذر رخصت طائفة في الصلاة بعد العصر روينا ذلك عن علي والزبير
وابنه وتميم الداري والنعمان بن بشير وأبي أيوب الأنصاري وعائشة وفعله الأسود بن يزيد وعمر
وابن ميمون ومسروق وشريح وعبد الله بن أبي الهذيل وأبو بردة وعبد الرحمن بن الأسود وابن
البيلماني والأحنف بن قيس، وحكي عن أحمد أنه قال: لا نفعله ولا نعيب فاعله وذلك لقول عائشة
رضي الله عنها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قط، وقولها وهم عمر إنما نهى
755

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها رواهما مسلم. وقول علي عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا صلاة
بعد العصر الا والشمس مرتفعة "
ولنا الأحاديث المذكورة في أول الباب وهي صحيحة صريحة، وروى أبو بصرة قال صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص فقال " ان هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها
فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد " رواه مسلم وهذا خاص في
محل النزاع، وأما حديث عائشة فقد روى عنها ذكوان مولاها أنها حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يصلي بعد العصر وينهى عنها. رواه أبو داود، وروى أبو سلمة أنه سأل عائشة من السجدتين اللتين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد العصر فقالت كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما
فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها. وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ثم رأيته يصليها وقال " يا بنت أبي أمية إنه أتاني ناس من عبد القيس بالاسلام من
قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان " رواهما مسلم وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما فعله لسبب وهو قضاء ما فاته من السنة وانه نهى عن الصلاة بعد العصر كما رواه غيرهما وحديث
عائشة يدل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهيه غيره وهذا حجة على من خالف ذلك فإن النزاع
إنما هو في غير النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك من غير معارض له
(فصل) فأما التطوع لسبب غير ما ذكره الخرقي فالمنصوص عن أحمد رحمه الله في الوتر أنه
يفعله قبل صلاة الفجر، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل أيوتر الرجل بعد ما يطلع الفجر؟ قال
نعم وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت
وفضالة بن عبيد وعائشة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وعمرو بن شرحبيل، وقال أيوب السختياني
وحميد الطويل ان أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وروي
756

عن علي رضي الله عنه أنه خرج بعد طلوع الفجر فقال: لنعم ساعة الوتر هذه وروي عن عاصم قال
جاء ناس إلى أبي موسى فسألوه عن رجل لم يوتر حتى أذن المؤذن قال لا وتر له، فأتوا عليا فسألوه
فقال أغرق في النزع الوتر ما بينه وبين الصلاة، وأنكر ذلك عطاء والنخعي وسعيد بن جبير وهو قول
أبي موسى على ما حكينا واحتجوا بعموم النهي
ولنا ما روى أبو بصرة الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ان الله
زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح الوتر الوتر " رواه الأثرم، واحتج به أحمد ولأنه
قول من سمينا من الصحابة وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر على
ما قدمناه إنما فيه حديث ابن عمر وهو غريب، وقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر " رواه ابن ماجة وهذا صريح
في محل النزاع. إذا ثبت هذا فإنه لا ينبغي لاحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح لهذا الخبر ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة توتر له ما قد صلى " متفق عليه
وهكذا قال مالك وقال من فاتته صلاة الليل فله أن يصلي بعد الصبح قبل أن يصلي الصبح وحكاه
ابن أبي موسى في الارشاد مذهبا لأحمد قياسا على الوتر، ولان هذا الوقت لم يثبت النهي فيه
صريحا فكان حكمه خفيفا.
(فصل) فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز الا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى، وقال إن
صلاهما بعد الفجر أجزأ وأما أنا فاختار ذلك، وقال عطاء وابن جريج والشافعي يقضيهما بعدها
لما روي عن قيس بن فهد قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة
الفجر فقال " ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " قلت يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز ولان
757

النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر وهذه في معناها ولأنها صلاة ذات سبب فأشبهت ركعتي
الطواف، وقال أصحاب الرأي لا يجوز لعموم النهي ولما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس " رواه الترمذي، وقال لا نعرفه إلا من
حديث عمرو بن عاصم. قال ابن الجوزي رحمه الله وهو ثقة أخرج عنه البخاري وكان ابن عمر
يقضيهما من الضحى وحديث قيس مرسل قاله أحمد والترمذي لأنه يرويه محمد بن إبراهيم عن قيس
ولم يسمع منه وروي من طريق يحيى بن سعيد عن جده وهو مرسل أيضا ورواه الترمذي قال: قلت
يا رسول الله اني لم أكن ركعت ركعتي الفجر قال " فلا إذا " وهذا يحتمل النهي وإذا كان الامر هكذا
كان تأخيرها إلى وقت الضحى أحسن لنخرج من الخلاف ولا نخالف عموم الحديث وإن فعلها فهو جائز
لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز والله أعلم
(فصل) وأما قضاء السنن الراتبة بعد العصر فالصحيح جوازه لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فإنه قضى
الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة وقضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها
في حديث عائشة والاقتداء بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم متعين ولان النهي بعد العصر خفيف لما روي في
خلافه من الرخصة وما وقع من الخلاف فيه، وقول عائشة إنه كان ينهى عنها معناه والله أعلم نهى
عنها لغير هذا السبب أو أنه كان يفعلها على الدوام وينهى عن ذلك، وهذا مذهب الشافعي ومنعه
أصحاب الرأي لعموم النهي، وما ذكرناه خاص فالأخذ به أولى الا أن الصحيح في الركعتين قبل
العصر أنها لا تقضى لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما فقلت له أتقضيهما إذا فاتتا؟ قال
" لا " رواه ابن النجار في الجزء الخامس من حديثه
(فصل) فأما قضاء السنن في سائر أوقات النهي وفعل غيرها من الصلوات التي لها
سبب كتحية المسجد وصلاة الكسوف وسجود التلاوة فالمشهور في المذهب أنه لا يجوز ذكره
758

الخرقي في سجود التلاوة وصلاة الكسوف. وقال القاضي: في ذلك روايتان أصحهما أنه لا يجوز
وهو قول أصحاب الرأي لعموم النهي (والثانية) يجوز وهو قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " متفق عليه. وقال في الكسوف " فإذا
رأيتموهما فصلوا " وهذا خاص في هذه الصلاة فيقدم على النهي العام في الصلاة كلها ولأنها صلاة
ذات سبب فأشبهت ما ثبت جوازه
ولنا أن النهي للتحريم والامر للندب وترك المحرم أولى من فعل المندوب، وقولهم إن الامر خاص
في الصلاة قلنا ولكنه عام في الوقت والنهي خاص فيه فيقدم ولا يصح القياس على القضاء بعد العصر
لأن حكم النهي فيه أخف لما ذكرنا ولا على قضاء الوتر بعد طلوع الفجر لذلك ولأنه وقت له بدليل
حديث أبي بصرة ولا على صلاة الجنازة لأنها فرض كفاية ويخاف على الميت ولا على ركعتي الطواف
لأنهما تابعتان لما لا يمنع منه النهي مع أننا قد ذكرنا أن الصحيح أنه لا يصلي على الجنازة في الأوقات
الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر وكذلك لا ينبغي أن يركع للطواف فيها ولا يعيد فيها جماعة وإذا
منعت هذه الصلوات المتأكدة فيها فغيرها أولى بالمنع والله أعلم
(فصل) ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي. وقال الشافعي: لا
يمنع فيها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار "
وعن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يصلين أحد بعد الصبح إلى طلوع الشمس ولا
بعد العصر إلى أن تغرب الشمس إلا بمكة " يقول: قال ذلك ثلاثا رواه الدارقطني
ولنا عموم النهي وانه معني يمنع الصلاة فاستوت فيه مكة وغيرها كالحيض وحديثهم أراد به
ركعتي الطواف فيختص بهما وحديث أبي ذر ضعيف يرويه عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف قاله
يحيى بن معين
759

(فصل) ولا فرق في وقت الزوال بين الجمعة وغيرها ولا بين الشتاء والصيف كان عمر بن
الخطاب ينهى عنه. وقال ابن مسعود كنا ننهى عن ذلك يعني يوم الجمعة وقال سعيد المقبري أدركت
الناس وهم يتقون ذلك. وعن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال كنت أبقي أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا ورخص فيه الحسن وطاوس والأوزاعي وسعيد بن
عبد العزيز والشافعي وإسحاق في يوم الجمعة لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف
النهار إلا يوم الجمعة. وعن أبي قتادة مثله رواه أبو داود ولان الناس ينتظرون الجمعة في هذا الوقت
وليس عليهم قطع النوافل وقال مالك أكرهه إذا علمت انتصاف النهار وإذا كنت في موضع لا أعلمه
ولا أستطيع أن أنظر فاني أراه واسعا وأباحه فيها عطاء في الشتاء دون الصيف لأن شدة الحر من فيح
جهنم وذلك الوقت حين تسجر جهنم
ولنا عموم الأحاديث في النهي وذكر لأحمد الرخصة في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة قال في
حديث النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه حديث عمرو بن عنبسة وحديث عقبة بن عامر وحديث الصنابحي
رواه الأثرم عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان
فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت
فارقها " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات ولأنه وقت نهي فاستوى فيه يوم الجمعة
وغيره كسائر الأوقات وحديثهم ضعيف في إسناده ليث وهو ضعيف وهو مرسل لأن أبا الخليل يرويه
عن أبي قتادة ولم يسمع منه وقولهم انهم ينتظرون الجمعة قلنا إذا علم وقت النهي فليس له أن يصلي فإن
شك فله أن يصلي حتى يعلم لأن الأصل الإباحة فلا تزول بالشك والله أعلم
* (مسألة) * قال (وصلاة التطوع مثنى مثنى)
يعني يسلم من كل ركعتين، والتطوع قسمان: تطوع ليل وتطوع نهار، فأما تطوع الليل فلا
760

يجوز إلا مثنى مثنى. هذا قول أكثر أهل العلم وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: ان
شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستا وان شئت ثمانيا. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة
الليل مثنى مثنى " متفق عليه. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مفتاح الصلاة الطهور،
وبين كل ركعتين تسليمة " رواه الأثرم
* (مسألة) * قال (وان تطوع بأربع في النهار فلا بأس)
الأفضل في تطوع النهار أن يكون مثنى مثنى لما روى علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " صلاة الليل مثنى مثنى " رواه أبو داود والأثرم، ولأنه أبعد عن السهو وأشبه
بصلاة الليل وتطوعات النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحيح في تطوعاته ركعتان، وذهب الحسن وسعيد بن جبير
ومالك والشافعي وحماد بن أبي سليمان إلى أن تطوع الليل والنهار مثنى مثنى لذلك، والصحيح أنه إن
تطوع في النهار بأربع فلا بأس فعل ذلك ابن عمر، وكان إسحاق يقول صلاة النهار أختار أربعا وان
صلى ركعتين جاز ويشبهه قول الأوزاعي وأصحاب الرأي لما روي عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " أربع قبل الظهر لا يسلم فيهن تفتح لهن أبواب السماء " رواه أبو داود، ولان مفهوم قول النبي
صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل مثنى مثنى " أن صلاة النهار رباعية
ولنا على أن الأفضل مثنى ما تقدم، وحديث أبي أيوب يرويه عبيد الله بن معتب وهو ضعيف
ومفهوم الحديث المتفق عليه يدل على جواز الأربع لا على تفضيلها. وأما حديث البارقي فإنه تفرد
بزيادة لفظة النهار من بين سائر الرواة، وقد رواه عن ابن عمر نحو من خمسة عشر نفسا لم يقل
ذلك أحد سواه وكان ابن عمر يصلي أربعا فيدل ذلك على ضعف روايته أو على أن المراد بذلك
الفضيلة مع جواز غيره والله أعلم
761

(فصل) قال بعض أصحابنا: ولا يزاد في الليل على اثنتين ولا في النهار على أربع ولا يصح التطوع
بركعة ولا بثلاث وهذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي: لو صلى ستا في ليل أو نهار كره وصح، وقال
أبو الخطاب في صحة التطوع بركعة روايتان (إحداهما) يجوز لما روى سعيد قال حدثنا جرير عن قابوس عن
أبيه قال دخل عمر المسجد فصلى ركعة ثم خرج فتبعه رجل فقال يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة، قال هو تطوع
فمن شاء زاد ومن شاء نقص، ولنا أن هذا خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الليل مثنى مثنى " ولأنه لم يرد
الشرع بمثله والأحكام إنما تتلقى من الشارع اما من نصه أو معنى نصه وليس ههنا شئ من ذلك
(فصل) والتطوعات قسمان (أحدهما) ما تسن له الجماعة وهو صلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح
ونذكرها إن شاء الله في مواضعها (والثاني) ما يفعل على الانفراد وهي قسمان سنة معينة ونافلة مطلقه
فأما المعينة فتتنوع أنواعا (منها) السنن الرواتب مع الفرائض وهي عشر ركعات - ركعتان قبل الظهر
وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر، وقال أبو الخطاب وأربع
قبل العصر لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا "
رواه أبو داود. وقال الشافعي قبل الظهر أربع لما روى عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة عن
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي
ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي
ركعتين رواه مسلم، ولنا ما روى ابن عمر قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات
ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته،
وركعتين قبل الصبح كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن
المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين. متفق عليه، ولمسلم بعد الجمعة سجدتين، ولم يذكر ركعتين قبل
762

الصبح، وروى الترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وقال: هو حديث صحيح
وقوله " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " ترغيب فيها ولم يجعلها من السنن الرواتب بدليل
أن ابن عمر رواية ولم يحفظها عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث عائشة قد اختلف فيه فروي عنها
مثل رواية ابن عمر.
(فصل) وآكد هذه الركعات ركعتا الفجر، قالت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يكن على شئ من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر. متفق عليه، وفي لفظ
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر أخرجه
مسلم وقال " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها - وفي لفظ - أحب إلي من الدنيا وما فيها " رواه
مسلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلوهما ولو طردتكم الخيل " رواه
أبو داود، ويستحب تخفيفهما فإن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخفف
حتى أني لاقول هل قرأ فيهما بأم الكتاب متفق عليه. ويستحب أن يقرأ فيهما (قل يا أيها
الكافرون - و - قل هو الله أحد) لما روى أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي
الفجر (قل يا أيها الكافرون - و - قل هو الله أحد) رواه مسلم. وقال ابن عمر: رمقت النبي صلى الله
عليه وسلم شهرا فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر (قل يا أيها الكافرون - و - قل هو الله أحد)
قال الترمذي هذا حديث حسن. وعن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في
ركعتي الفجر (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) الآية التي في البقرة وفي الآخرة منهما (آمنا بالله
واشهد بأنا مسلمون) رواه مسلم
(فصل) ويستحب أن يضطجع بعد ركعتي الفجر على جنبه الأيمن، وكان أبو موسى ورافع
ابن خديج وأنس بن مالك يفعلونه وأنكره ابن مسعود، وكان القاسم وسالم ونافع لا يفعلونه واختلف
فيه عن ابن عمر. وروي عن أحمد أنه ليس بسنة لأن ابن مسعود أنكره
763

ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر
فليضطجع " قال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه البزار في مسنده وقال: على شقه الأيمن.
وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن،
متفق عليه. وهذا لفظ رواية البخاري واتباع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله أولى من اتباع
من خالفه كائنا من كان.
(فصل) ويقرأ في الركعتين بعد المغرب (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) لما روى
ابن مسعود قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب
وفي الركعتين قبل الفجر (يقل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) أخرجه الترمذي وابن ماجة
ويستحب فعل السنن في البيت لما ذكرنا من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يصلي ركعتي الفجر والمغرب والعشاء في بيته، وقال أبو داود: ما رأيت أحمد ركعهما يعني
ركعتي الفجر في المسجد قط إنما كان يخرج فيقعد في المسجد حتى تقام الصلاة، وقال الأثرم:
سمعت أبا عبد الله سئل عن الركعتين بعد الظهر أين يصليان؟ قال في المسجد ثم قال: أما الركعتان
قبل الفجر ففي بيته وبعد المغرب في بيته ثم قال ليس ههنا شئ آكد من الركعتين بعد المغرب.
وذكر حديث ابن إسحاق " صلوا هاتين الركعتين في بيوتكم " قيل لأحمد فإن كان منزل الرجل
بعيدا؟ قال: لا أدري. وذلك لما روى سعد بن إسحاق عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في
مسجد بني عبد الأشهل فصلى المغرب فرآهم يتطوعون بعدها فقال " هذه صلاة البيوت " رواه أبو داود
وعن رافع بن خديج قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم في بني عبد الأشهل فصلى بنا المغرب في
مسجدنا ثم قال " اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم " رواه ابن ماجة والأثرم ولفظه قال " صلوا
هاتين الركعتين في بيوتكم "
764

(فصل) كل سنة قبل الصلاة فوقتها من دخول وقتها إلى فعل الصلاة وكل سنة بعدها فوقتها من
فعل الصلاة إلى خروج وقتها، فإن فات شئ من وقت هذه السنن فقال أحمد لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى شيئا من التطوع إلا ركعتي الفجر والركعتين بعد العصر، وقال ابن حامد تقضى جميع السنن
الرواتب في جميع الأوقات الا أوقات النهي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعضها وقسنا الباقي عليه، وقال
القاضي وبعض أصحابنا لا يقضي إلا ركعتا الفجر تقضى إلى وقت الضحى وركعتا الظهر فإن أحمد
قال ما أعرف وترا بعد الفجر وركعتا الفجر تقضى إلى وقت الضحى، قال مالك تقضى ركعتا الفجر
إلى وقت الزوال ولا تقضى بعد ذلك، وقال النخعي وسعيد بن جبير والحسن إذا طلعت الشمس
فلا وتر، وقال بعضهم من صلى الغداة فلا وتر عليه والأول أصح لما ذكرنا، وقال أحمد رحمه الله أحب
أن يكون له شئ من النوافل يحافظ عليه إذا فات قضى (النوع الثاني) تطوعات مع السنن الرواتب
يستحب أن يصلي قبل الظهر أربعا وأربعا بعدها لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار " رواه أبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أربع قبل
الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء " وقد ذكرناه. وعلى أربع قيل العصر لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا " رواه أبو داود، وعن علي رضي الله عنه في صفة
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأربعا قبل الظهر إذا زالت الشمس وركعتين بعدها وأربعا قبل العصر يفصل
بين كل ركعتين بالسلام على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين رواه ابن ماجة،
وعلى أربع بعد سنة المغرب لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى بعد المغرب
ست ركعات لم يتكلم بينهن بسوء عدلن له بعبادة اثنتي عشرة سنة " رواه الترمذي وقال لا نعرفه
إلا من حديث عمر بن أبي خثعم وضعفه البخاري جدا، وعلى أربع بعد العشاء لما روي عن شريح بن
765

هانئ عن عائشة قال سألتها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط
إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات رواه أبو داود
(فصل) واختلف في أربع ركعات منها ركعتان قبل المغرب بعد الاذان فظاهر كلام أحمد
أنهما جائزتان وليستا سنة، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الركعتان قبل المغرب؟ قال ما فعلته قط
إلا مرة حين سمعت الحديث وقال فيهما أحاديث جياد أو قال صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
والتابعين الا أنه قال لمن شاء فمن شاء صلى وقال هذا شئ ينكره الناس، وضحك كالمتعجب وقال
هذا عندهم عظيم، والدليل على جوازهما ما روى أنس قال: كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، قال المختار بن فلفل فقلت له أكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا متفق عليه. وقال أنس: كنا
بالمدينة إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين حتى إن الرجل الغريب
ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة صليت من كثرة من يصليهما. رواه مسلم، وعن عبد الله بن
المغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بين كل أذانين صلاة - قالها ثلاثا ثم قال في الثالثة - لمن
شاء " أخرجهما مسلم، وقال عقبة كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله بن
المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلوا قبل المغرب ركعتين - قال ثم قال - صلوا قبل
المغرب ركعتين - قال ثم قال - صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء " خشية أن يتخذها الناس سنة
متفق عليه (ومنها) الركعتان بعد الوتر فظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب فعلهما وإن فعلهما انسان جاز، قال
الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن الركعتين بعد الوتر قيل له قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه
فما ترى فيها؟ فقال أرجو ان فعله انسان لا يضيق عليه ولكن يكون وهو جالس كما جاء الحديث
قلت تفعله أنت؟ قال لا ما أفعله. وعدهما أبو الحسن الآمدي من السنن الراتبة، والصحيح أنهما
766

ليستا بسنة لأن أكثر من وصف تهجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكرهما. من ذلك حديث ابن عباس وزيد بن
خالد وعائشة فيما رواه عنها عروة وعبد الله بن شقيق والقاسم واختلف فيه عن أبي سلمة وأكثر الصحابة
ومن بعدهم من أهل العلم على تركها، ووجه الجواز ما روى سعد بن هشام عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصلي من الليل تسع ركعات ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك
إحدى عشرة ركعة وقال أبو سلمة سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان يصلي
ثلاث عشرة ركعة يصلي ثماني ركعات ثم يوتر ثم يصلى ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام
فركع ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح رواهما مسلم وروى ذلك أبو أمامة أيضا
وأوصى بهما خالد بن معدان وكثير بن مرة الحضرمي وفعلهما الحسن فهذا وجه جوازهما (النوع
الثالث) صلوات معينة سوى ذلك (منها) صلاة الضحى وهي مستحبة لما روى أبو هريرة قال أوصاني
خليلي بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وان أوتر قبل ان ارقد. متفق عليه وعن
أبي الدرداء رضي الله عنه قال أوصاني حبيبي بثلاث لن أدعهن ما عشت بصيام ثلاثة أيام من كل شهر
وصلاة الضحى وان لا أنام حتى أوتر، وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يصبح على كل سلامي
من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة،
وامر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى "
رواهما مسلم فأقلها ركعتان لهذا الخبر وأكثرها ثمان في قول أصحابنا لما روت أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل بيتها يوم فتح مكة وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود
متفق عليه. ووقتها إذا علت الشمس واشتد حرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الأوابين حين ترمض
الفصال " رواه مسلم، قال بعض أصحابنا لا تستحب المداومة عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها قالت
767

عائشة ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط متفق عليه وعن عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة أكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت لا إلا أن يجئ من مغيبة. رواه مسلم وقال عبد الرحمن بن
أبي ليلى ما حدثني أحد أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانئ فإنها حدثت أن
النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني ركعات ما رأيته قط صلى صلاة أخف منها غير أنه
كان يتم الركوع والسجود متفق عليه. ولان في المداومة عليها تشبيها بالفرائض وقال أبو الخطاب
تستحب المداومة عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بها أصحابه وقال " من حافظ على شفعة الضحى
غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر " قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث النهاس بن فهم ولان
أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه
(فصل) فأما صلاة التسبيح فإن احمد قال ما تعجبني قيل له لم؟ قال ليس فيها شئ يصح ونفض
يده كالمنكر وقد روي عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب " يا عماه ألا أعطيك
ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل بك؟ عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره
وقديمه وحديثه وخطأه وعمده وصغيره وكبيره وسره وعلانيته عشر خصال أن تصلي أربع ركعات تقرأ في
كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القرآن قلت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع وتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي
ساجدا فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا ثم تسجد فتقولها عشرا ثم ترفع
رأسك فتقولها عشرا فذلك خمس وسبعون في كل ركعه تفعل ذلك في الأربع ركعات ان استطعت أن تصليها
في كل يوم مرة فافعل فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة
768

فإن لم تفعل ففي عمرك مرة " رواه أبو داود والترمذي ولم يثبت أحمد الحديث المروي فيها ولم يرها
مستحبة، وإن فعلها انسان فلا بأس فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها (1)
(فصل) في صلاة الاستخارة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا
الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول " إذا هم أحدكم بالامر فليركع ركعتين
من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم
فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم ان كنت تعلم أن هذا الامر خير لي في
ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه،
وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري - أو قال في عاجل أمري وآجله -
فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به - ويسمي حاجته " أخرجه البخاري
(فصل) في صلاة الحاجة عن عبد الله بن أبي أوفى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كانت له إلى الله
حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين وليثن على الله تعالى.
وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب
العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر،
والسلامة من كل اثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا الا قضيتها
يا أرحم الراحمين " رواه الترمذي وقال حديث غريب
(فصل) في صلاة التوبة عن علي رضي الله عنه قال حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر
الله تعالى إلا غفر له " ثم قرأ (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) إلى آخرها
رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب

(1) ولكن اشترط المحققون له 3 شروط 1) لا يكون شديد الضعف - 2)
وان لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم
يقله - 3) أن يكون مندرجا تحت أصل عام فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل.
قال الحافظ ابن حجر والأول متفق عليه ونقل الثاني والثالث عن العز بن عبد
السلام وابن دقيق العيد والضعيف عند احمد كالحسن عند غيره فلا يدخل فيه شديد الضعيف. وكتبه محمد رشيد
769

(فصل) ويسن لمن دخل المسجد أن لا يجلس حتى يصلى ركعتين قبل جلوسه لما روى
أبو قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين "
متفق عليه، فإذا جلس قبل الصلاة سن له أن يقوم فيصلي لما روى جابر قال جاء سليك الغطفاني ورسول الله
صلى الله عليه وسلم يخطب فقال " يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما " رواه مسلم
ويستحب أن يتطوع بمثل تطوع النبي صلى الله عليه وسلم فإن عليا رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا صلى الفجر تمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا - يعني من قبل المشرق - مقدارها من صلاة الظهر
من العصر من ههنا - يعني من قبل المغرب - قام فصلى ركعتين ثم تمهل حتى إذا كانت الشمس
من ههنا - يعني من قبل المشرق - مقدارها من صلاة الظهر من ههنا قام فصلى أربعا وأربعا
قبل الظهر إذا زالت الشمس وركعتين بعدها وأربعا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالسلام
على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين، فتلك ست عشرة ركعة تطوع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالنهار وقل من يداوم عليها
(فصل) فأما النوافل المطلقة فتشرع في الليل كله وفي النهار فيما سوى أوقات النهي، وتطوع
الليل أفضل من تطوع النهار. قال أحمد ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل والنبي
صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك قال الله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) وروى أبو هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " قال الترمذي هذا حديث حسن
وكان قيام الليل مفروضا بدليل قوله تعالى (يا أيها المزمل قم الليل الا قليلا نصفه) ثم نسخ بقوله
(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) الآية
(فصل) وأفضل التهجد جوف الليل الآخر لما روى عمرو بن عنبسة قال قلت يا رسول الله
770

أي الليل أسمع؟ قال " جوف الليل الآخر فصل ما شئت " رواه أبو داود، وقال النبي صلى الله
عليه وسلم " أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه " وفي حديث
ابن عباس في صفة تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نام حتى أنتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل
ثم استيقظ فوصف تهجده حتى قال ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، وعن عائشة رضي الله عنها
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كانت له حاجة إلى أهله
قضى حاجته ثم نام فإذا كان عند النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء وان لم يكن له حاجة توضأ
وقالت: ما ألفي عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر الا على في بيتي الا نائما (1) متفق عليهن
وفى رواية أبي داود: فما يجئ السحر حتى يفرغ من وتره. ولان آخر الليل ينزل فيه الرب تبارك
وتعالى إلى السماء الدنيا لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ينزل ربنا تبارك
وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فاستجيب له؟ ومن يسألني
فأعطيه؟ ومن يستغفرني فاغفر له؟ " متفق عليه، قال أبو عبد الله، إذا أغفى يعني بعد التهجد فإنه لا
يبين عليه أثر السهر وإذا لم يغف يبين عليه. وقال مسروق سألت عائشة أي حين كان يصلي رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالت كان إذا سمع الصارخ قام فصلى. متفق عليه
(فصل) ويقول عند انتباهه ما رواه عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من تعار
من الليل فقال لا إله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، الحمد
لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا
استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته " رواه البخاري، وعن ابن عباس قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال " اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك
الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن

(1) لفظ مسلم عنها ما ألفي رسول الله " ص " السحر الاعلى في بيتي أو عندي الا نائما ولفظ البخاري ما ألفاه السحر عندي الا نائما
تعني النبي صلى الله عليه وسلم وألفي بالفاء وجد أي ما وجده السحر عندي تريد ما جاء عليه السحر الا وهو نائم. وكتبه محمد رشيد
771

ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق
والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت واليك أنبت وبك
خاصمت واليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت
المؤخر لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة الا بك " متفق عليه، وفي مسلم " أنت رب السماوات والأرض "
وفيه " أنت إلهي لا إله إلا أنت " وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح
صلاته " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت
تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك انك تهدي من تشاء
إلى صراط مستقيم " أخرجه مسلم، وعنها قالت: كان - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا قام كبر
عشرا وحمد عشرا وسبح عشرا وهلل عشرا واستغفر عشرا، وقال " اللهم اغفر لي واهدني وارزقني
وعافني " ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة رواه أبو داود
(فصل) ويستحب أن يتسوك لما روى حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص
فاه بالسواك، متفق عليه، وعن ابن عباس أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ فسوك وتوضأ
وعن عائشة (رض) قالت كنا نعد له - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن
يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات. أخرجهما مسلم
(فصل) ويستحب أن يفتح تهجده بركعتين خفيفتين لما روى أبو هريرة (رض) عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم من الليل فليفتح صلاته بركعتين خفيفتين " وعن
زيد بن خالد أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فصلى ركعتين خفيفتين ثم
ركعتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما
دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلها ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر
772

وذلك ثلاث عشرة ركعة، وقال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة
أخرجهما مسلم. وقد اختلف في عدد ركعات تهجد النبي صلى الله عليه وسلم ففي هذين الحديثين أنه ثلاث عشرة
ركعة، وقالت عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا
تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا. وفي لفظ
قالت: كانت صلاته في شهر رمضان وغيره بالليل ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر. وفي لفظ
منها الوتر وركعتا الفجر. وفي لفظ كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر، وفي لفظ كان يصلي
فيما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة متفق عليهن، ولعلها
لم تعد الركعتين الخفيفتين اللتين ذكرهما غيرها ويحتمل أنه صلى في ليلة ثلاث عشرة، وفي ليلة إحدى عشرة
(فصل) ويستحب أن يقرأ المتهجد جزءا من القرآن في تهجده فإن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يفعله، وهو مخير بين الجهر بالقراءة والاسرار بها إلا أنه إن كان الجهر أنشط له في القراءة أو
كان بحضرته من يستمع قراءته أو ينتفع بها فالجهر أفضل، وإن كان قريبا منه من يتهجد أو من يستضر
برفع صوته فالاسرار أولى، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء. قال عبد الله بن أبي قيس:
سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت كل ذلك كان يفعل ربما أسر
وربما جهر، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال أبو هريرة كانت قراءة رسول الله صلى الله
عليه وسلم يرفع طورا ويخفض طورا، وقال ابن عباس: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم
على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت، رواهما أبو داود. وعن أبي قتادة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خرج فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته
قال فلما اجتمعنا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك "
قال إني أسمعت من ناجيت يا رسول الله، قال " فارفع قليلا " وقال لعمر " مررت بك وأنت تصلي
773

رافعا صوتك " قال فقال يا رسول الله أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان، قال " اخفض من صوتك شيئا "
رواه أبو داود، وقال أبو سعيد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون
بالقراءة فكشف الستر وقال " ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على
بعض في القراءة - أو قال - في الصلاة " أخرجه أبو داود
(فصل) ومن كان له تهجد ففاته استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم " من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما
قرأه من الليل " وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته وكان إذا نام من الليل
أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة قالت وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح،
وما صام شهرا متتابعا إلا رمضان. أخرجهما مسلم
(فصل) ويستحب التنفل بين المغرب والعشاء لما روي عن أنس بن مالك في هذه الآية
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الآية، قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء يصلون رواه أبو داود
وعن عائشة (رض) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا
في الجنة " قال أبو عيسى هذا حديث غريب
(فصل) وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفه أو تطويله فالأفضل اتباعه فيه فإنه عليه
السلام لا يفعل إلا الأفضل، وقد ذكرنا بعض ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخففه ويطوله وما
عدا ذلك فاختلفت الرواية فيه، فروي أن الأفضل كثرة الركوع والسجود لقول ابن مسعود: اني
لاعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة عشرون
سورة من المفصل، رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما من عبد سجد سجدة إلا كتب
774

الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة " (والثانية) التطويل أفضل لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الصلاة طول القنوت " رواه مسلم. ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته
التهجد وكان يطيله على ما قد مر ذكره ولا يداوم إلا على الأفضل (والثالثة) هما سواء لتعارض
الاخبار في ذلك والله أعلم.
(فصل) والتطوع في البيت أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن
خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة " رواه مسلم، وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " رواه أبو داود وقال " إذا
قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته
خيرا " رواه مسلم. ولان الصلاة في البيت أقرب إلى الاخلاص، وأبعد من الرياء وهو من عمل السر
وفعله في المسجد علانية والسر أفضل.
(فصل) ويستحب أن يكون للانسان تطوعات يداوم عليها فإذا فاتت يقضيها قال أبو داود سمعت
احمد رحمه الله يقول: يعجبني أن يكون للرجل ركعات من الليل والنهار معلومة فإذا نشط طولها
وإذا لم ينشط خففها وقالت عائشة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال " أدومه وإن
قل " وفي لفظ قال " أحب الأعمال إلى الله الذي يداوم عليه صاحبه وان قل " متفق عليه. وقالت
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وقالت كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملا
أثبته، رواه مسلم. وقال عبد الله بن عمرو: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل
فترك قيام الليل " متفق عليه.
(فصل) يجوز التطوع جماعة وفرادى لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الامرين كليهما وكان أكثر
تطوعه منفردا وصلى بحذيفة مرة وبابن عباس مرة وبأنس وأمه واليتيم مرة وأم أصحابه في بيت
775

عتبان مرة وأمهم في ليالي رمضان ثلاثا، وسنذكر أكثر هذه الأخبار في مواضعها إن شاء الله تعالى
وهي كلها صحاح جياد
* (مسألة) * قال (ويباح أن يتطوع جالسا)
لا نعلم خلافا في إباحة التطوع جالسا وأنه في القيام أفضل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى
قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم " متفق عليه، وفي لفظ مسلم " صلاة الرجل قاعدا
نصف الصلاة " وقالت عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان كثير من صلاته وهو جالس، وروي
نحو ذلك عن حفصة وعبد الله بن عمرو وجابر بن سمرة أخرجهن مسلم. ولان كثيرا من الناس يشق عليه
طول القيام فلو وجب في التطوع لترك أكثره فسامح الشارع في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره كما سامح
في فعله على الراحلة في السفر وسامح في نية صوم التطوع من النهار
* (مسألة) * قال (ويكون في حال القيام متربعا ويثني رجليه في الركوع والسجود)
وجملته أنه يستحب للمتطوع جالسا أن يكون في حال القيام متربعا، روي ذلك عن ابن عمر
وأنس وابن سيرين ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك والثوري والشافعي وإسحاق، وعن أبي حنيفة كقولنا
وعنه يجلس كيف شاء، وروي عن ابن المسيب وعروة وابن عمر يجلس كيف شاء لأن القيام سقط
فسقطت هيئته وروي عن ابن المسيب وعروة وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وعطاء الخراساني أنهم
كانوا يحتبون في التطوع، واختلفت فيه عن عطاء والنخعي
ولنا أن القيام يخالف القعود فينبغي أن تخالف هيئته في بدله هيئة غيره كمخالفة القيام غيره
776

وهو مع هذا أبعد من السهو والاشتباه وليس إذا سقط القيام لمشقته يلزم سقوط مالا مشقة فيه كمن
سقط عنه الركوع والسجود لا يلزم سقوط الايماء بهما وهذا الذي ذكرنا من صفة الجلوس مستحب
غير واجب إذ لم يرد بايجابه دليل. فأما قوله ويثني رجليه في الركوع والسجود - فقد روي عن
أنس قال أحمد يروى عن أنس أنه صلى متربعا فلما ركع ثنى رجله وهذا قول الثوري، وحكى ابن
المنذر عن أحمد وإسحاق أنه لا يثني رجليه إلا في السجود خاصة ويكون في الركوع على هيئة القيام وذكره
أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد وهو أقيس لأن هيئة الراكع في رجليه هيئة القائم فينبغي أن
يكون على هيئته وهذا أصح في النظر إلا أن أحمد ذهب إلى فعل أنس وأخذ به
(فصل) وهو مخير في الركوع والسجود ان شاء من قيام وإن شاء من قعود لأن النبي صلى الله عليه وسلم
فعل الامرين، قالت عائشة لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن فكان يقرأ
قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع. متفق عليه، وعنها
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع
وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد. رواه مسلم، قال الترمذي كلا الحديثين
صحيح قال: وقال أحمد وإسحاق والعمل على كلا الحديثين.
* (مسألة) * قال (والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى قاعدا)
أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام له أن يصلي جالسا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن
حصين " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " رواه البخاري وأبو داود والنسائي
وزاد " فإن لم تستطع فمستلقيا " (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وروى أنس قال سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم
777

عن فرس فخدش أو جحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعدا وصلينا خلفه
قعودا. متفق عليه، وإن أمكنه القيام إلا أنه يخشى زيادة مرضه به أو تباطؤ برئه أو يشق عليه مشقة
شديدة فله أن يصلي قاعدا، ونحو هذا قال مالك وإسحاق وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن
يقوم لدنياه فليصل جالسا، وحكي عن أحمد نحو ذلك
ولنا قول الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وتكليف القيام في هذه الحال حرج،
ولان النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا لما جحش شقه الأيمن والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام بالكلية،
لكن لما شق عليه القيام سقط عنه فكذلك تسقط عن غيره، وإذا صلى قاعدا فإنه يكون جلوسه على
صفة جلوس المتطوع جالسا على ما ذكرنا
(فصل) وإن قدر على القيام بأن يتكئ على عصى أو يستند إلى حائط أو يعتمد على أحد جانبيه
لزمه لأنه قادر على القيام من غير ضرر فلزمه كما لو قدر بغير هذه الأشياء
(فصل) وإن قدر على القيام الا أنه يكون على هيئة الراكع كالأحدب أو من هو في بيت قصير
السقف لا يمكنه الخروج منه أو في سفينة أو خائف لا يأمن أن يعلم به إذا رفع رأسه فإنه إن كان ذلك
لحدب أو كبر لزمه قيام مثله، وإن كان لغير ذلك احتمل أن يلزمه القيام قياسا على الأحدب، واحتمل
أن لا يلزمه فإن أحمد رحمه الله قال في الذي في السفينة لا يقدر على أن يستتم قائما لقصر سماء السفينة
يصلي قاعدا الا أن يكون شيئا يسيرا فيقاس عليه سائر ما في معناه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صل قائما فإن
لم تستطع فقاعدا " وهذا لم يستطع القيام
(فصل) ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام ويصلي قائما فيومئ
بالركوع ثم يجلس فيومئ بالسجود، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يسقط القيام لأنها صلاة
لا ركوع فيها ولا سجود فسقط فيها القيام كصلاة النافلة على الراحلة
778

ولنا قول الله تعالى (وقوموا لله قانتين) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " صل قائما " ولان القيام
ركن قدر عليه فلزمه الاتيان به كالقراءة. والعجز عن غيره لأن يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة
وقياسهم فاسد لوجوه (أحدها) أن الصلاة على الراحلة لا يسقط فيها الركوع (والثاني) أن النافلة
لا يجب فيها القيام فما سقط على الراحلة لسقوط الركوع والسجود (والثالث) أنه منقوض بصلاة الجنازة
(فصل) وان قدر المريض على الصلاة وحده قائما ولا يقدر على ذلك مع الإمام لتطويله
يحتمل أن يلزمه القيام ويصلي وحده لأن القيام آكد لكونه ركنا في الصلاة لا تتم الا به والجماعة تصح
الصلاة بدونها، واحتمل أنه مخير بين الامرين لأننا أبحنا له ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي العاجز
عن القيام مراعاة للجماعة فههنا أولى ولان العجز يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام بدليل
" ان صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " و " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده سبعا
وعشرين درجة " وهذا أحسن وهو مذهب الشافعي
* (مسألة) * قال (فإن لم يطق جالسا فنائما)
يعني مضطجعا سماه نائما لأنه في هيئة النائم وقد جاء مثل هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد "
رواه البخاري هكذا. فمن عجز عن الصلاة قاعدا فإنه يصلي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه وهذا
قول مالك والشافعي وابن المنذر وقال سعيد بن المسيب والحارث العكلي وأبو ثور وأصحاب الرأي يصلي
مستلقيا ووجهه ورجلاه إلى القبلة ليكون ايماؤه إليها فإنه إذا صلى على جنبه كان وجه في الايماء إلى غير القبلة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن لم يستطع فعلى جنب " ولم يقل فإن لم يستطع فمستلقيا،
ولأنه يستقبل القبلة إذا كان على جنبه ولا يستقبلها إذا كان على ظهره وإنما يستقبل السماء ولذلك
779

يوضع الميت في قبره على جنبه قصد التوجيه إلى القبلة وقولهم ان وجهه في الايماء يكون إلى غير القبلة
قلنا استقبال القبلة من الصحيح لا يكون في حال الركوع بوجهه ولا في حال السجود إنما يكون إلى الأرض
فلا يعتبر في المريض أن يستقبل القبلة فيهما أيضا، إذا ثبت هذا فالمستحب أن يصلي على جنبه الأيمن فإن
صلى على الأيسر جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين جنبا بعينه ولأنه يستقبل القبلة على أي الجنبين كان، فإن
صلى على ظهره مع إمكان الصلاة على جنبه فظاهر كلام احمد انه يصح لأنه نوع استقبال ولهذا يوجه الميت
عند الموت كذلك، والدليل يقتضي أن لا يصح لأنه خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله فعلى جنب ولأنه
نقله إلى الاستلقاء عند عجزه عن الصلاة على جنبه فيدل على أنه لا يجوز ذلك مع إمكان الصلاة على جنبه
ولأنه ترك الاستقبال مع إمكانه، وإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيا للخبر، ولأنه عجز عن
الصلاة على جنبه فسقط كالقيام والقعود
(فصل) إذا كان بعينه مرض فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك
فقال القاضي: قياس المذهب جواز ذلك وهو قول جابر بن زيد والثوري وأبي حنيفة. وكرهه عبيد الله
ابن عبد الله بن عتبة وأبو وائل، وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز لما روي عن ابن عباس أنه لما كف
بصره أتاه رجل فقال: لو صبرت على سبعة أيام لم تصل إلا مستلقيا داويت عينك ورجوت أن تبرأ
فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل قال له: ان مت في
هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة؟ فترك معالجة عينه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا لما جحش شقه، والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام لكن كانت
عليه مشقة فيه أو خوف ضرر وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ههنا، ولأنا أبحنا له ترك الوضوء
إذا لم يجد الماء الا بزيادة على ثمن المثل حفظا لجزء من ماله، وترك الصوم لأجل المرض والرمد
ودلت الاخبار على جواز ترك القيام لأجل الصلاة على الراحلة خوفا من ضرر الطين في ثيابه وبدنه
780

وجاز ترك الجمعة والجماعة صيانة لنفسه وثيابه من البلل والتلوث بالطين، وجاز ترك القيام اتباعا لإمام
الحي إذا صلى جالسا، والصلاة على جنبه ومستلقيا في حال الخوف من العدو، ولا ينقص الضرر بفوات
البصر عن الضرر في هذه الأحوال، فأما خبر ابن عباس ان صح فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين
وإنما قال أرجو أو انه لم يقبل خبره لكونه واحدا أو مجهول الحال بخلاف مسئلتنا
(فصل) وان عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما كما يومئ بهما في حالة الخوف ويجعل السجود
أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره
حنى رقبته، وإن تقوس ظهره فصار كأنه واقع فمتى أراد الركوع زاد في انحنائه قليلا ويقرب وجهه
إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه، وان قدر على السجود على صدغه لم يفعل لأنه ليس من أعضاء
السجود، وإن وضع بين يديه وسادة أو شيئا عاليا أو سجد على ربوة أو حجر جاز إذا لم يمكنه تنكيس
وجهه أكثر من ذلك، وحكي ابن المنذر عن أحمد أنه قال اختار السجود على المرفقة وقال هو أحب
إلي من الايماء، وكذلك قال إسحاق وجوزه الشافعي وأصحاب الرأي ورخص فيه ابن عباس وسجدت
أم سلمة على المرفقة وكره ابن مسعود السجود على عود وقال يومئ إيماء
ووجه الجواز أنه أتى بما يمكنه من الانحطاط فأجزأه كما لو أومأ، فأما ان رفع إلى وجهه شيئا فسجد عليه
فقال بعض أصحابنا لا يجزئه، وروي عن ابن مسعود وابن عمر وجابر وأنس أنهم قالوا يومئ ولا يرفع
إلى وجهه شيئا وهو قول عطاء ومالك والثوري، وروى الأثرم عن أحمد أنه قال أي ذلك فعل فلا
بأس يومئ أو يرفع المرفقة فيسجد عليها قيل له المروحة؟ قال لا أما المروحة فلا، وعن أحمد أنه قال
الايماء أحب إلي، وان رفع إلى وجهه شيئا فسجد عليه أجزأه وهو قول أبي ثور ولابد من أن يكون
بحيث لا يمكنه الانحطاط أكثر منه ووجه ذلك أنه أتى بما أمكنه من وضع رأسه فأجزأه كما لو أومأ،
ووجه الأول أنه سجد على ما هو حامل له فلم يجزه كما لو سجد على يديه
781

(فصل) وان لم يقدر على الايماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام
عقله ثابتا، وحكي عن أبي حنيفة أن الصلاة تسقط عنه، وذكر القاضي أن هذا ظاهر كلام أحمد في
رواية محمد بن يزيد لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل له في مرضه الصلاة، قال قد كفاني إنما
العمل في الصحة، ولان الصلاة أفعال عجز عنها بالكلية فسقطت عنه لقول الله تعالى (لا يكلف
الله نفسا الا وسعها)
ولنا ما ذكرناه من حديث عمران وأنه مسلم بالغ عاقل فلزمته الصلاة كالقادر على الايماء برأسه
ولأنه قادر على الايماء أشبه الأصل
(فصل) إذا صلى جالسا فسجد سجدة وأومأ بالثانية مع امكان السجود جاهلا بتحريم ذلك
وفعل مثل ذلك في الثانية ثم علم قبل سلامه سجد سجدة تتم له الركعة الثانية وأتى بركعة كما لو ترك
السجود نسيانا. وذكر القاضي أنه تتم له الركعة الأولى بسجدة الثانية وهذا مذهب الشافعي، وليس
هذا مقتضى مذهبنا فإنه متى شرع في قراءة الثانية قبل اتمام الأولى بطلت الأولى وصارت الثانية
أولاه وقد مضى هذا في سجود السهو
(فصل) ومتى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزا عنه من قيام أو قعود أو ركوع
أو سجود أو ايماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته وهكذا لو كان قادرا فعجز في أثناء الصلاة
أتم صلاته على حسب حاله لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا فيبنى عليه كما لو لم يتغير حاله
* (مسألة) * قال (والوتر ركعة) نص على هذا أحمد رحمه الله وقال إنا نذهب في الوتر إلى ركعة وممن روي عنه ذلك عثمان
ابن عفان وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو موسى
782

ومعاوية وعائشة رضي الله عنهم وفعل ذلك معاذ القارئ ومعه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ينكر ذلك منهم أحد، وقال ابن عمر: الوتر ركعة كان ذلك وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور. وقال هؤلاء
يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بركعة، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" الوتر ركعة من آخر الليل " وقالت عائشة: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات
ويوتر بسجدة. وفي لفظ كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فاوتر بواحدة " أخرجهن مسلم
(فصل) قوله الوتر ركعة يحتمل أنه أراد جميع الوتر ركعة وما يصلى قبله ليس من الوتر كما
قال الإمام أحمد: انا نذهب في الوتر إلى ركعة ولكن يكون قبلها صلاة عشر ركعات ثم يوتر
ويسلم، ويحتمل انه أراد أقل الوتر ركعة فإن أحمد قال إنا نذهب في الوتر إلى ركعة وإن أوتر
بثلاث أو أكثر فلا بأس، وممن روي عنه انه أوتر بثلاث عمر وعلي وأبي وأنس وابن مسعود
وابن عباس وأبو أمامة وعمر بن عبد العزيز وبه قال أصحاب الرأي، قال أبو الخطاب: أقل الوتر
ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة وأدنى الكمال ثلاث ركعات. وقال الثوري وإسحاق: الوتر ثلاث
وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة، وقال أبو موسى ثلاث أحب إلي من واحدة وخمس أحب إلي
من ثلاث وسبع أحب إلي من خمس وتسع أحب إلي من سبع، وقال ابن عباس: إنما هي واحدة أو
خمس أو سبع أو أكثر من ذلك يوتر بما شاء، وقد روى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب
أن يوتر بواحدة فليفعل " أخرجه أبو داود، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع وروت
أنه كان يوتر بسبع وروت أنه كان يوتر بخمس رواهن مسلم، وعن عبد الله بن قيس قال: قلت لعائشة بكم
783

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث
ولم يكن يوتر بأقل من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة. رواه أبو داود
* (مسألة) * (يقنت فيها)
يعني ان القنوت مسنون في الوتر في الركعة الواحدة في جميع السنة. هذا المنصوص عند أصحابنا
وهذا قول ابن مسعود وإبراهيم وإسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك عن الحسن، وعن أحمد رواية
أخرى أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وروي ذلك عن علي وأبي وبه قال ابن سيرين
وسعيد بن أبي الحسن والزهري ويحيى بن ثابت ومالك والشافعي واختاره أبو بكر الأثرم لما روي
عن الحسن أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت إلا في النصف
الثاني. رواه أبو داود وهذا كالاجماع، وقال قتادة: يقنت في السنة كلها إلا في النصف الأول من
رمضان لهذا الخبر، وعن ابن عمر أنه لا يقنت الا في النصف الأخير من رمضان، وعنه لا يقنت في صلاة
بحال، والرواية الأولى هي المختارة عند أكثر الأصحاب، وقد قال أحمد في رواية المروذي: كنت
أذهب إلى أنه في النصف من شهر رمضان ثم إني قنت هو دعاء وخير. ووجهه ما روي عن أبي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع. وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول في آخر وتره " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ
بك منك لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكان للدوام، وفعل أبي يدل على أنه
رآه ولا ينكر اختلاف الصحابة في هذا، ولأنه وتر فيشرع فيه القنوت كالنصف الآخر، ولأنه ذكر
يشرع في الوتر فيشرع في جميع السنة كسائر الأذكار
784

(فصل) ويقنت بعد الركوع نص عليه احمد وروي نحو ذلك عن أبي بكر الصديق وعمرو عثمان
وعلي وأبي قلابة وأبي المتوكل وأيوب السختياني وبه قال الشافعي. وروي عن أحمد أنه قال: أنا أذهب
إلى أنه بعد الركوع فإن قنت قبله فلا بأس ونحو هذا قال أيوب السختياني لما روى حميد قال سئل أنس
عن القنوت في صلاة الصبح فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده. رواه ابن ماجة، وقال مالك وأبو حنيفة
يقنت قبل الركوع وروي ذلك عن أبي وابن مسعود وأبي موسى والبراء وابن عباس وأنس وعمر بن
عبد العزيز وعبيدة وعبد الرحمن بن أبي ليلى وحميد الطويل لأن في حديث أبي ويقنت قبل الركوع.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، رواه مسلم قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل
عن هذه المسألة فقال: اقنت بعد الركوع وذكر حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحد قنت بعد الركوع. وحديث ابن مسعود
يرويه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث. وحديث أبي قد تكلم فيه أيضا وقيل ذكر القنوت
فيه غير صحيح والله أعلم
(فصل) ويستحب أن يقول في قنوت الوتر ما روى الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني
رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني
فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، انك تقضي ولا يقضى عليك، وانه لا يذل
من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت " أخرجه أبو داود والترمذي وقال هذا
حديث حسن ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئا أحسن من هذا، ويقول ما روى علي رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في وتره. وقد ذكرناه. وعن عمر رضي الله عنه انه قنت في صلاة الفجر
785

فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم انا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك
ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد، ولك نصلى ونسجد،
واليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، ان عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب
كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، وهاتان سورتان في مصحف أبي بن كعب، وروى
أبو عبيد باسناده عن عروة أنه قال قرأت في مصحف أبي بن كعب هاتين السورتين " اللهم انا
نستعينك - اللهم إياك نعبد " وقال ابن سيرين كتبهما أبي في مصحفه يعني إلى قوله بالكفار ملحق
قال ابن قتيبة: نحفد نبادر وأصل الحفد مداركة الخطو والاسراع والجد بكسر الجيم أي الحق لا
اللعب ملحق بكسر الحاء لاحق هكذا يروى هذا الحرف يقال لحقت القوم وألحقتهم بمعنى واحد
ومن فتح الحاء أراد ان الله يلحقه إياه وهو معنى صحيح غير أن الرواية هي الأولى، وقال الخلال
سألت ثعلبا عن ملحق وملحق فقال العرب تقولهما معا
(فصل) إذا أخذ الإمام في القنوت أمن من خلفه لا نعلم فيه خلافا وقاله إسحاق، وقال القاضي
وان دعوا معه فلا بأس وقيل لأحمد إذا لم أسمع قنوت الإمام أدعو؟ قال نعم، فيرفع يديه في حال
القنوت، قال الأثرم كان أبو عبد الله يرفع يديه في القنوت إلى صدره واحتج بأن ابن مسعود رفع يديه
في القنوت إلى صدره وروي ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال إسحاق وأصحاب الرأي وأنكره
مالك والأوزاعي ويزيد بن أبي مريم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك ولا تدع بظهورهما فإذا فرغت
فامسح بهما وجهك " رواه أبو داود وابن ماجة، ولأنه فعل من سمينا من الصحابة، وإذا فرغ
من القنوت فهل يمسح وجهه بيده؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يفعل لأنه روي عن أحمد أنه قال
، لم أسمع فيه بشئ ولأنه دعاء في الصلاة فلم يستحب مسح وجهه فيه كسائر دعائها (الثانية)
786

يستحب للخبر الذي رويناه. وروى السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
دعا رفع يديه ومسح وجهه بيديه، ولأنه دعاء يرفع يديه فيه فيمسح بهما وجهه كما لو كان خارجا
عن الصلاة وفارق سائر الدعاء فإنه لا يرفع يديه فيه
(فصل) ولا يسن القنوت في الصبح ولا غيرها من الصلوات سوى الوتر وبهذا قال الثوري
وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبي الدرداء، وقال مالك وابن أبي ليلى
والحسن بن صالح والشافعي: يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان لأن أنسا قال: ما زال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، رواه الإمام أحمد في المسند وكان
عمر يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة وغيرهم
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه. رواه مسلم،
وروى أبو هريرة وأبو مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وعن أبي مالك قال قلت لأبي يا أبة انك قد
صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة نحوا من خمس سنين أكانوا
يقنتون؟ قال أي بني محدث. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم،
وقال إبراهيم النخعي: أول من قنت في صلاة الغداة علي وذلك أنه كان رجلا محاربا يدعو على أعدائه.
وروى سعيد في سننه عن هشيم عن عروة الهمذاني عن الشعبي قال: لما قنت علي في صلاة الصبح أنكر ذلك
الناس فقال علي إنما استنصرنا على عدونا. هذا وعن أبي هريرة (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم. رواه سعيد، وحديث أنس يحتمل أنه أراد
طول القيام فإنه يسمى قنوتا وقنوت عمر يحتمل انه كان في أوقات النوازل فإن أكثر الروايات عنه أنه لم يكن
يقنت، روى ذلك عنه جماعة فدل على أن قنوته كان في وقت نازلة
787

(فصل) فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح نص عليه أحمد، قال الأثرم
سمعت أبا عبد الله سئل عن القنوت في الفجر فقال: إذا نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام وأمن من
خلفه ثم قال مثل ما نزل بالمسلمين من هذا الكافر - يعني بابك - قال أبو داود سمعت أحمد يسئل
عن القنوت في الفجر فقال: لو قنت أياما معلومة ثم يترك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو قنت على
الجرمية أو قنت على الدوام. والجرمية هم أصحاب بابك. وبهذا قال أبو حنيفة والثوري، وذلك لما ذكرنا
من أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على حي من احياء العرب ثم تركه وان عليا قنت وقال إن
ما استنصرنا على عدونا هذا، ولا يقنت آحاد الناس
ويقول في قنوته نحوا مما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان
يقول في القنوت: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم وأصلح ذات
بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك
اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل اقدامهم وانزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، بسم الله الرحمن
الرحيم اللهم إنا نستعينك، ولا يقنت في غير الصبح من الفرائض، قال عبد الله عن أبيه كل شئ يثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت إنما هو في الفجر ولا يقنت في الصلاة إلا في الوتر والغداة إذا كان
مستنصرا يدعو للمسلمين. وقال أبو الخطاب يقنت في الفجر والمغرب لأنهما صلاتا جهر في طرفي النهار.
وقيل يقنت في صلاة الجهر كلها قياسا على الفجر ولا يصح هذا لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا
عن أحد من أصحابه القنوت في غير الفجر والوتر
788

* (مسألة) * قال (مفصولة مما قبلها)
الذي يختاره أبو عبد الله أن يفصل ركعة الوتر بما قبلها، وقال إن أوتر بثلاث لم يسلم فيهن لم
يضيق عليه عندي وقال يعجبني أن يسلم في الركعتين وممن كان يسلم بين الركعتين والركعة ابن عمر
حتى يأمر ببعض حاجته وهو مذهب معاذ القارئ ومالك والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة لا
يفصل بسلام. وقال الأوزاعي ان فصل فحسن وان لم يفصل فحسن، وحجة من لم يفصل قول عائشة
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث. وقولها كان يصلي أربعا فلا تسأل
عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا. فظاهر هذا أنه كان
يصلي الثلاث بتسليم واحد، وروت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس لا يجلس
الا في آخرهن. رواه مسلم
ولنا ما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى
الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة. رواه مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم
" صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فاوتر بواحدة " متفق عليه وقيل لابن عمر ما مثنى مثنى؟
قال يسلم في كل ركعتين وقال عليه السلام " الوتر ركعة من آخر الليل " رواه مسلم وعن ابن أبي ذئب
عن نافع عن ابن عمر ان رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوتر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " افصل بين
الواحدة والثنتين بالتسليم " رواه الأثرم باسناده وهذا نص. فأما حديث عائشة الذي احتجوا به
فليس فيه تصريح بأنها بتسليم واحد وقد قالت في الحديث الآخر يسلم بين كل ركعتين فأما إذا أوتر
بخمس فيأتي الكلام فيه. إذا ثبت هذا فإنه إذا صلى خلف إمام يصلي الثلاث بتسليم واحد تابعه
789

لئلا يخالف إمامه وبه قال مالك، وقد قال أحمد في رواية أبي داود فيمن يوتر فيسلم من الثنتين فيكر هونه
يعني أهل المسجد قال: فلو صار إلى ما يريدون - يعني أن ذلك سهل لا تضر موافقته إياهم فيه
(فصل) يجوز أن يوتر بإحدى عشرة ركعة وبتسع وبسبع وبخمس وبثلاث وبواحدة لما ذكرنا
من الاخبار فإن أوتر بإحدى عشرة سلم من كل ركعتين وان أوتر بثلاث سلم من الثنتين وأوتر بواحدة
وان أوتر بخمس لم يجلس الا في آخرهن وان أوتر بسبع جلس عقيب السادسة فتشهد ولم يسلم ثم
يجلس بعد السابعة فيتشهد ويسلم وان أوتر بتسع لم يجلس الا عقيب الثامنة فيتشهد ثم يقوم فيأتي
بالتاسعة ويسلم ونحو هذا قال إسحاق، وقال القاضي في السبع لا يجلس إلا في آخرهن أيضا كالخمس
فأما الإحدى عشرة والثلاث فقد ذكرناهما، وأما الخمس فقد روي عن زيد بن ثابت أنه كان يوتر
بخمس لا ينصرف إلا في آخرها، وروى عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شئ منها إلا في آخرها متفق
عليه، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن " وفي لفظ
" فتوضأ ثم صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم الا في آخرهن " رواه أبو داود. وقال صالح مولى
التوأمة: أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة ويوترون بخمس يسلمون بين
كل اثنتين ويوترون بواحدة ويصلون الخمس جميعا. رواه الأثرم، وأما التسع والسبع فروى
زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال: قلت يعني لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه فيتسوك
790

ويتوضأ ويصلي سبع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا
يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد
ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة بابني. فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر
بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعه في الأول، قال فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال
صدقت، رواه مسلم وأبو داود، وفي حديث أبي داود فقال ابن عباس هذا هو الحديث وفيه أوتر
بسبع لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم الا في السابعة، وفيه من طريق أخرى ويسلم بتسليمة
شديدة يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه وهذا صريح في أن السبع يجلس فيها عقيب السادسة
ولعل القاضي يحتج بحديث ابن عباس صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم الا في آخرهن، وعن أم
سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع أو خمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام، رواه ابن
ماجة وكلا الحديثين فيه شك في السبع وليس في واحد منهما أنه لا يجلس عقيب السادسة وحديث
عائشة فيه تصريح بذلك وهو ثابت فيتعين تقديمه
(فصل) الوتر غير واجب وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو بكر هو واجب وبه قال أبو حنيفة
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا خفت الصبح فاوتر بواحدة " وأمر به في أحاديث كثيرة والامر يقتضي
الوجوب، وروى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الوتر حق فمن أحب أن يوتر بخمس
فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل " رواه أبو داود
وابن ماجة. وعن بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر
791

حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا " رواه أحمد في المسند من غير تكرار،
وعن أبي هريرة (رض) عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله من المسند أيضا، وعن خارجة بن حذافة
قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة فقال " إن الله قد أمركم بصلاة فهي خير
لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر " رواه أحمد وأبو داود. وعن
أبي بصرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء
إلى صلاة الصبح الوتر الوتر " رواه الأثرم واحتج به أحمد
ولنا ما روى عبد الله بن محيريز أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يدعى
أبا محمد يقول إن الوتر واجب قال فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة كذب أبو محمد
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد فمن جاء
بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن
فليس له عند الله عهد ان شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " رواه أبو داود وأحمد، وعن علي رضي
الله عنه: إن الوتر ليس بحتم ولا كصلواتكم المكتوبة ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر ثم قال
" يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر " رواه أحمد في المسند وقد ثبت أن الاعرابي لما سأل
النبي صلى الله عليه وسلم ما فرض الله علي في اليوم والليلة؟ قال " خمس صلوات " قال " هل علي
غيرهن؟ قال " لا، الا أن تتطوع " فقال الاعرابي والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص
منهن فقال " أفلح الرجل إن صدق " ولأنه يجوز فعله على الراحلة من غير ضرورة فلم يكن واجبا
كالسنن، وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره. متفق عليه، وقال
792

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
رواه مسلم وغيره وأحاديثهم قد تكلم فيها ثم إن المراد بها تأكيد وفضيلته وأنه سنة مؤكدة وذلك
حق وزيادة الصلاة يجوز أن تكون سنة والتوعد على تركه للمبالغة في تأكيده كقوله " من أكل هاتين
الشجرتين فلا يقربن مسجدنا "
(فصل) وهو سنة مؤكدة قال أحمد: من ترك الوتر عمدا فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل
له شهادة، وأراد المبالغة في تأكيده لما قد ورد فيه من الأحاديث في الامر به، والحث عليه فخرج كلامه
مخرج كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فقد صرح في رواية حنبل فقال الوتر ليس بمنزلة الفرض فلو أن رجلا
صلى الفريضة وحدها جاز له وهما سنة مؤكدة الركعتان قبل الفجر والوتر فإن شاء قضى الوتر وإن
شاء لم يقضه وليس هما بمنزلة المكتوبة، واختلف أصحابنا في الوتر وركعتي الفجر فقال القاضي ركعتا
الفجر آكد من الوتر لاختصاصهما بعدد لا يزيد ولا ينقص فاشبها المكتوبة، وقال غيره الوتر آكد
وهو أصح لأنه مختلف في وجوبه وفيه من الاخبار ما لم يأت مثله في ركعتي الفجر لكن ركعتا
الفجر تليه في التأكيد والله أعلم
(فصل) ووقته ما بين العشاء وطلوع الفجر الثاني فلو أوتر قبل العشاء لم يصح وتره وقال
الثوري وأبو حنيفة ان صلاة قبل العشاء ناسيا لم يعده وخالفه صاحباه فقالا يعيد وكذلك قال
مالك والشافعي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الوتر جعله الله لكم ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر "
وفيه حديث أبي بصرة " إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح " وفي المسند
عن معاذ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " زادني ربي صلاة وهي الوتر ووقتها
ما بين العشاء إلى طلوع الفجر " ولأنه صلاة قبل وقته فأشبه ما لو صلى نهارا، وان أخر الوتر حتى
793

يطلع الصبح فات وقته وصلاه قضاء وروي عن ابن مسعود أنه قال: الوتر ما بين الصلاتين وعن علي
(رض) نحوه لحديث أبي بصرة، والصحيح أن وقته إلى طلوع الفجر لحديث معاذ والحديث الآخر وقول
النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة فأوترت له ما قد صلى " وقال " اجعلوا آخر صلاتكم
بالليل وترا " متفق عليه، وقال " أوتروا قبل أن تصبحوا " وقال " الوتر ركعة من آخر الليل " وقال
" من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله " أخرجهن مسلم
(فصل) والأفضل فعله في آخر الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر
من أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة " وذلك أفضل وهذا
صريح وقال عليه السلام " الوتر ركعة من آخر الليل " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر آخر الليل وقالت عائشة
من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السحر ومن كان له تهجد جعل الوتر بعد
تهجده لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك وقال " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " مع ما ذكرنا من الاخبار
فإن خاف أن لا يقوم من آخر الليل استحب أن يوتر أوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة وأبا ذر
وأبا الدرداء بالوتر قبل النوم وقال " من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر من أوله " وهذه الأحاديث
كلها صحاح رواها مسلم وغيره، وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر " متى توتر؟ " قال أوتر من
أول الليل وقال لعمر " متى توتر؟ " قال آخر الليل فقال لأبي بكر " اخذ هذا بالحزم وأخذ هذا بالقوة " وأي
وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأه لا نعلم فيه خلافا وقد دلت الاخبار عليه
(فصل) ومن أوتر من الليل ثم قام للتهجد فالمستحب أن يصلي مثنى مثنى ولا ينقض وتره
794

روي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمار وسعد بن أبي وقاص وعائذ بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة
وعائشة وكان علقمة لا يرى نقض الوتر وبه قال طاوس وأبو مجلز وبه قال النخعي ومالك والأوزاعي
وأبو ثور وقيل لأحمد. ولا ترى نقض الوتر؟ فقال لا، ثم قال وان ذهب إليه رجل فأرجو لأنه قد فعله جماعة
ومروي عن علي وأسامة وأبي هريرة وعمر وعثمان وسعد وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وهو قول
إسحاق ومعناه انه إذا قام للتهجد يصلي ركعة تشفع الوتر الأول ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر في آخر التهجد
ولعلهم ذهبوا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا "
ولنا ما روى قيس بن طلق قال زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان فأمسى عندنا وأفطر ثم قام
بنا تلك الليلة ثم انحدر إلى المسجد فصلى بأصحابه حتى إذا بقي الوتر قدم رجلا فقال أوتر بأصحابك
فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا وتران في ليلة " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال اما أنا فاني أنام على فراشي فإن استيقظت صليت
شفعا حتى الصباح رواه الأثرم وكان سعيد بن المسيب يفعله
(فصل) فإن صلى مع الإمام وأحب متابعته في الوتر وأحب أن يوتر آخر الليل فإنه إذا سلم الإمام
لم يسلم معه وقام فصلى ركعة أخرى يشفع بها صلاته مع الإمام نص عليه وقال إن شاء أقام على وتر وشفع
إذا قام وان شاء صلى مثنى قال ويشفع مع الإمام بركعة أحب إلي وسئل احمد عمن أوتر يصلي بعدها
مثنى مثنى قال نعم ولكن يكون الوتر بعد ضجعة
(فصل) ويستحب أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث في الأولى بسبح. وفى الثانية (قل يا أيها
795

الكافرون) وفي الثالثة (قل هو الله أحد) وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وقال الشافعي
يقرأ في الثالثة (قل هو الله أحد) والمعوذتين وهو قول مالك في الوتر وقال في الشفع لم يبلغني فيه شئ
معلوم. وقد روي عن أحمد انه سئل يقرأ بالمعوذتين في الوتر؟ قال ولم لا يقرأ؟ وذلك لما روت عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الاعلى وفي الثانية (قل يا أيها
الكافرون) وفي الثالثة (قل هو الله أحد) والمعوذتين رواه ابن ماجة
ولنا ما روى أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر (بسبح اسم ربك الاعلى) و (قل
يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) رواه أبو داود وابن ماجة وعن ابن عباس مثله
رواه ابن ماجة وحديث عائشة في هذا لا يثبت فإنه يرويه يحيى بن أيوب وهو ضعيف وقد أنكر احمد
ويحيى بن معين زيادة المعوذتين
(فصل) قال احمد رحمه الله: الأحاديث التي جاءت ان النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة كان قبلها
صلاة متقدمة. قيل له أوتر في السفر بواحدة قال يصلي قبلها ركعتين قيل له يكون بين الركعة وبين
المثنى ساعة قال يعجبني أن يكون بعده ومعه ثم احتج فقال " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي
أحدكم الصبح فليوتر بركعة " فقيل له: رجل تنفل بعد العشاء الآخرة ثم تعشى ثم أراد أن يوتر قال
نعم. وسئل عمن صلى من الليل ثم نام ولم يوتر قال يعجبني أن يركع ركعتين ثم يسلم ثم يوتر
بواحدة وسئل عن رجل أصبح ولم يوتر قال لا يوتر بركعة الا أن يخاف طلوع الشمس قيل يوتر
بثلاث؟ قال نعم يصلي الركعتين الا أن يخاف طلوع الشمس قيل له فإذا لحق مع الإمام ركعة الوتر قال إن
كان الإمام يفصل بينهن بسلام أجزأته الركعة وإن كان الإمام لا يسلم في الثنتين تبعه ويقضي مثل
796

ما صلى فإذا فرغ قام يقضي ولا يقنت، وقيل لأبي عبد الله رجل ابتدأ يصلي تطوعا ثم بدا له فجعل
تلك الركعة وترا؟ فقال لا كيف يكون هذا؟ قد قلب نيته، قبل له أيبتدئ الوتر؟ قال نعم، وقال
أبو عبد الله إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان
إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم كبر حين يركع، وروي ذلك عن علي وابن مسعود والبراء وهو
قول الثوري ولا نعلم فيه خلافا
(فصل) يستحب أن يقول بعد وتره سبحان الملك القدوس ثلاث ويمد صوته بها في الثالثة لما
روى أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الوتر قال " سبحان الملك
القدوس " هكذا رواه أبو داود، وروى عبد الرحمن بن أبزى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر (بسبح
اسم ربك الاعلى) و (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال
" سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات ثم يرفع صوته بها في الثالثة، أخرجه الإمام أحمد في المسند
* (مسألة) * قال (وقيام شهر رمضان عشرون ركعة يعني صلاة التراويح)
وهي سنة مؤكدة وأول من سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب
في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم
من ذنبه " وقالت عائشة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم
صلى من القابلة وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله
797

عليه وسلم فلما أصبح قال " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم "
قال وذلك في رمضان رواهما مسلم. وعن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا
شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت
الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال فقال " إن الرجل
إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " قال فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع
أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال قلت وما الفلاح؟ قال السحور ثم لم يقم بنا
بقية الشهر. رواه أبو داود والأثرم وابن ماجة، وعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الناس في
رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال " ما هؤلاء؟ " قيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب
يصلي بهم وهم يصلون بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أصابوا ونعم ما صنعوا " رواه أبو داود وقال رواه
مسلم بن خالد وهو ضعيف ونسبت التراويح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه جمع الناس على أبي
ابن كعب فكان يصليها بهم فروى عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب
ليلة في رمضان فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط
فقال عمر: اني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب
قال ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها
أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. أخرجه البخاري
(فصل) والمختار عند أبي عبد الله رحمه الله فيها عشرون ركعة وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة
798

والشافعي، وقال مالك: ستة وثلاثون وزعم أنه الامر القديم وتعلق بفعل أهل المدينة فإن صالحا مولى التوأمة قال:
أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس. ولنا أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس
على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة، وقد روى الحسن أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان
يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني فإذا كانت العشر الأواخر تخلف أبي فصلى في
بيته فكانوا يقولون: أبق أبي، رواه أبو داود ورواه السائب بن يزيد. وروي عنه من طرق، وروى مالك
عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة، وعن علي انه أمر
رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة وهذا كالاجماع، فأما ما رواه صالح فإن صالحا ضعيف ثم لا ندري
من الناس الذين أخبر عنهم فلعله قد أدرك جماعه من الناس يفعلون ذلك وليس ذلك بحجة، ثم لو ثبت أن
أهل المدينة كلهم فعلوه لكان ما فعله عمر وأجمع عليه الصحابة في عصره أولى بالاتباع. قال بعض أهل العلم:
إنما فعل هذا أهل المدينة لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة فإن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين فجعل
أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات. وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأحق ان يتبع
(فصل) والمختار عند أبي عبد الله فعلها في الجماعة، قال في رواية يوسف بن موسى: الجماعة في التراويح
أفضل وإن كان رجل يقتدى به فصلاها في بيته خفت أن يقتدي الناس به وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
" اقتدوا بالخلفاء " وقد جاء عن عمر انه كان يصلي في الجماعة وبهذا قال المزني وابن عبد الحكم وجماعة من
أصحاب أبي حنيفة، قال أحمد: كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في جماعة، قال الطحاوي: كل من اختار
التفرد ينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد
799

فلا، ويروى نحو هذا عن الليث بن سعد، وقال مالك والشافعي: قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب
إلينا لما روى زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها فتتبع إليه رجال وجاؤا يصلون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا
فقال " ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت انه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير
صلاة المرء في بيته الا الصلاة المكتوبة " رواه مسلم
ولنا اجماع الصحابة على ذلك وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله في حديث أبي ذر وقوله " ان
القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة " وهذا خاص في قيام رمضان
فيقدم على عموم ما احتجوا به، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم معلل بخشية فرضه عليهم ولهذا ترك النبي
صلى الله عليه وسلم القيام بهم معللا بذلك أيضا أو خشية أن يتخذه الناس فرضا وقد أمن هذا أن يفعل بعده.
فإن قيل: فعلي لم يقم مع الصحابة، قلنا قد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي ان عليا رضي الله عنه قام
بهم في رمضان، وعن إسماعيل بن زياد قال: مر علي على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان
فقال: نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا. رواهما الأثرم
(فصل) قال أحمد رحمه الله يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس ولا يشق عليهم
ولا سيما في الليالي القصار والامر على ما يحتمله الناس، وقال القاضي لا يستحب النقصان عن ختمة
في الشهر ليسمع الناس جميع القرآن ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة على من خلفه والتقدير بحال
الناس أولى فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل كما روى أبو ذر قال قمنا مع
800

النبي صلى الله عليه وسلم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح يعني السحور. وقد كان السلف يطيلون الصلاة حتى قال بعضهم
كانوا إذ انصرفوا يستعجلون خدمهم بالطعام مخافة طلوع الفجر. وكان القارئ يقرأ بالمائتين
(فصل) قال أبو داود سمعت أحمد يقول يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه قال النبي صلى الله عليه وسلم
" ان الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته " قال وكان أحمد يقوم مع الناس
ويوتر معهم، قال الأثرم وأخبرني الذي كان يؤمه في شهر رمضان أنه كان يصلي معهم التراويح
كلها والوتر، قال وينتظرني بعد ذلك حتى أقوم ثم يقوم كأنه يذهب إلى حديث أبي ذر " إذا قام
مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته " قال أبو داود وسئل احمد عن قوم صلوا في رمضان
خمس تراويح لم يتروحوا بينها قال لا بأس قال وسئل عمن أدرك من ترويحة ركعتين يصلي إليهما
ركعتين؟ فلم ير ذلك وقال هي تطوع وقيل لأحمد نؤخر القيام؟ يعني في التراويح إلى آخر الليل قال
لا، سنة المسلمين أحب إلي
(فصل) وكره أبو عبد الله التطوع بين التراويح وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم عبادة وأبو الدرداء وعقبة بن عامر. فذكر لأبي عبد الله فيه رخصة عن بعض الصحابة فقال
هذا باطل إنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير، وقال أحمد يتطوع بعد المكتوبة ولا يتطوع بين التراويح،
وروى الأثرم عن أبي الدرداء أنه أبصر قوما يصلون بين التراويح فقال ما هذه الصلاة أتصلي وإمامك
بين يديك؟ ليس منا من رغب عنا، وقال من قلة فقه الرجل أن يرى في المسجد وليس في صلاة
(فصل) فأما التعقيب وهو أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة أو يصلي التراويح في
801

جماعة أخرى فعن أحمد انه لا بأس به لأن أنس بن مالك قال ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر
يحذرونه، وكان لا يرى به بأسا ونقل محمد بن الحكم عنه الكراهة أنه قول قديم والعمل على ما رواه
الجماعة وقال أبو بكر الصلاة إلى نصف الليل أو إلى آخره لم تكره رواية واحدة وإنما الخلاف فيما إذا رجعوا
قبل النوم والصحيح أنه لا يكره لأنه خير وطاعة فلم يكره كما لو أخره إلى آخر الليل
(فصل) في ختم القرآن قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله فقلت اختم القرآن اجعله في
الوتر أو في التراويح؟ قال اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين قلت كيف أصنع؟ قال
إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام قلت بم
أدعو؟ قال بما شئت قال ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه. قال حنبل سمعت احمد
يقول في ختم القرآن إذا فرغت من قراءة (قل أعوذ برب الناس) فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع
قلت إلى أي شئ تذهب في هذا؟ قال رأيت أهل مكة يفعلونه وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة
قال العباس بن عبد العظيم وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة ويروي أهل المدينة في هذا شيئا
وذكر عن عثمان بن عفان
(فصل) واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك فحكي عن القاضي أنه قال جرت هذه المسألة في
وقت شيخنا أبي عبد الله فصلى وصلاها القاضي أبو يعلى أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله فرض
عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه " فجعل القيام مع الصيام وذهب أبو حفص العكبري إلى ترك
القيام وقال المعول في الصيام على حديث ابن عمر وفعل الصحابة والتابعين ولم ينقل عنهم قيام
تلك الليلة واختاره التميميون لأن الأصل بقاء شعبان وإنما صرنا إلى الصوم احتياطا للواجب
802

والصلاة غير واجبة فتبقى على الأصل
(فصل) قال أبو طالب سألت أحمد إذا قرأ (قل أعوذ برب الناس) يقرأ من البقرة شيئا؟ قال لا
فلم يستحب أن يصل ختمته بقراءة شئ ولعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح يصير إليه قال أبو داود
وذكرت لأحمد قول ابن المبارك إذا كان الشتاء فاختم القرآن في أول الليل وإذا كان الصيف فاختمه
في أول النهار فكأنه أعجبه ذلك لما روي عن طلحة بن مصرف قال: أدركت أهل الخير من صدر
هذه الأمة يستحبون الختم في أول الليل وفي أول النهار يقولون إذا ختم في أول الليل صلت عليه
الملائكة حتى يصبح، وإذا ختم في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وقال بعض أهل
العلم: يستحب أن يجعل ختمة النهار في ركعتي الفجر أو بعدهما وختمة الليل في ركعتي المغرب أو
بعدهما يستقبل يختمه أول الليل وأول النهار
(فصل) ويستحب أن يجمع أهله عند ختم القرآن وغيرهم لحضور الدعاء قال أحمد: كان أنس
إذا ختم القرآن جمع أهله وولده وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره ورواه ابن شاهين مرفوعا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحسن أبو بكر التكبير عند آخر كل سورة من الضحى إلى آخر
القرآن لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك رواه القاضي في الجامع باسناده
(فصل) وسئل أبو عبد الله عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة ترى لمن خلفه أن
يقرأها؟ قال نعم ينبغي أن يفعل قد كان بمكة يوكلون رجلا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها
فإذا كان ليلة الختمة أعاده وإنما استحب ذلك لتتم الختمة ويكمل الثواب
803

(فصل) ولا بأس بقراءة القرآن في الطريق والانسان مضطجع، قال إسحاق بن إبراهيم خرجت
مع أبي عبد الله إلى الجامع فسمعته يقرأ سورة الكهف، وعن إبراهيم التميمي قال كنت أقرأ على أبي
موسى وهو يمشي في الطريق فإذا قرأت السجدة قلت له أتسجد في الطريق؟ قال نعم وعن عائشة أنها
قالت اني لا قرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري، رواه الفريابي في فضائل القرآن عن عائشة
(فصل) يستحب أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ليكون له ختمة في كل أسبوع قال عبد الله
ابن أحمد: كان أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة يقرأ في كل يوم سبعا لا يتركه نظرا، وقال
حنبل: كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة، وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لعبد الله بن عمرو " اقرأ القرآن في سبع ولا تزيدن على ذلك " رواه أبو داود، وعن أوس بن
حذيفة قال: قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أبطأت عنا الليلة قال " إنه طرأ علي حزبي من
القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمة " قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف
تحزبون القرآن قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع واحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده
رواه أبو داود، ويكره أن يؤخر ختمة القرآن أكثر من أربعين يوما لأن النبي صلى الله عليه وسلم
سأله عبد الله بن عمرو في كم تختم القرآن؟ قال: في أربعين يوما ثم قال في شهر ثم قال في عشرين
804

ثم قال في خمس عشرة، ثم قال في عشر، ثم قال في سبع، لم ينزل من سبع، أخرجه أبو داود،
وقال أحمد: أكثر ما سمعت أن يختم القرآن في أربعين، ولان تأخيره أكثر من ذلك يفضي إلى نسيان
القرآن والتهاون به فكان ما ذكرنا أولى وهذا إذا لم يكن له عذر فأما مع العذر فواسع له
(فصل) وإن قرأه في ثلاث فحسن لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ان بي قوة قال " أقرأه في ثلاث " رواه أبو داود. فإن قرأه في أقل من ثلاث فقد روي عن
أبي عبد الله أنه قال: أكره أن يقرأه في أقل من ثلاث وذلك لما روى عبد الله بن عمرو قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث " رواه أبو داود (1) وروي عن أحمد أن ذلك
غير مقدر وهو على حسب ما يجد من النشاط والقوة لأن عثمان كان يختمه في ليلة، وروي ذلك عن
جماعة من السلف. والترتيل أفضل من قراءة الكثير مع العجلة لأن الله تعالى قال (ورتل القرآن ترتيلا)
وعن عائشة أنها قالت: ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة. رواه مسلم، وعنها قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث، رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وقال ابن مسعود
من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهذه كهذ الشعر ونثر كنثر الدقل
(فصل) كره أبو عبد الله القراءة بالألحان وقال: هي بدعة وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
ذكر في أشراط الساعة أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم

(1) وكذا غيره من أصحاب السنن وصححه الترمذي
805

غناء " ولان القرآن معجز في لفظه ونظمه والألحان تغيره. وكلام أحمد في هذا محمول على الافراط
في ذلك بحيث يجعل الحركات حروفا ويمد في غير موضعه، فأما تحسين القراءة والترجيع فغير مكروه
فإن عبد الله بن المغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح،
قال فقرأ ابن المغفل ورجع في قراءته، وفي لفظ قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير
له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته، قال معاوية بن قرة لولا أني أخاف أن تجتمع علي الناس
لحكيت لكم قراءته، رواهما مسلم وفي بعض الألفاظ فقال أأأ وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ما أذن الله لشئ كاذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به " يعني
استمع (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " زينوا القرآن بأصواتكم " (2) وقال النبي صلى الله عليه
وسلم " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " وقد اختلف السلف في معنى قوله يتغنى بالقرآن، فقال ابن عيينة
وأبو عبيد وجماعة غيرهما معناه يستغني بالقرآن، قال أبو عبيد وكيف يجوز أن يحمل على أن من لم
يغن بالقرآن ليس من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقالت طائفة منهم معناه يحسن قراءته ويترنم به ويرفع صوته به
كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا. وقال الشافعي يرفع صوته
به، وقال أبو عبد الله حزنه فيقرؤه بحزن مثل صوت أبي موسى

(1) هذا تفسير لكلمة اذن وهي في الأصل مشتقة من الاذن وهي جارحة السمع والمراد به الرضا والقبول والحديث متفق عليه
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وابن حبان والحاكم عن البراء زاد الحاكم فيه " فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا "
806

وعلى كل حال فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب غير مكروه ما لم يخرج ذلك
إلى تغيير لفظه وزيادة حروفه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أستمع
قراءة رجل في المسجد لم أسمع قراءة أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال " هذا
سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى " انني
مررت بك البارحة وأنت تقرأ فقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود "
فقال أبو موسى لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا
مع ما ذكرنا من الاخبار
والله أعلم
807