الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ٤
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء الرابع من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان الا على الظالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله أجمعين
كتاب المناسك
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي
سهل السرخسي رحمه الله تعالى اعلم أن الحج في اللغة القصد ومنه قول القائل
وأشهد من عوف حلولا كثيرة * يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي يقصدون له معظمين إياه وفى الشريعة عبارة عن زيارة البيت على وجه التعظيم لأداء
ركن من أركان الدين عظيم ولا يتوصل إلى ذلك الا بقصد وعزيمة وقطع مسافة بعيدة فالاسم
شرعي فيه معنى اللغة والمناسك جمع النسك والنسك اسم لكل ما يتقرب به إلى الله عز وجل
ومنه سمى العابد ناسكا ولكنه في لسان الشرع عبارة عن أركان الحج قال الله تعالى فإذا
قضيتم مناسككم وفرضية الحج ثابتة بالكتاب والسنة اما الكتاب فقوله تعالى ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وآكد ما يكون من ألفاظ الالزام كلمة على وأما
السنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم
يحج حتى مات فليمت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا وفى رواية فليمت على أي ملة شاء
سوى ملة الاسلام وتلا قوله تعالى ومن كفر فان الله غنى عن العالمين وسبب وجوب
الحج ما أشار الله تعالى إليه في قوله حج البيت فالواجبات تضاف إلى أسبابها ولهذا
لا يجب في العمر الا مرة واحدة لان سببه وهو البيت غير متكرر والأصل فيه حديث
الأقرع بن حابس رضي الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله الحج في كل عام أم مرة
فقال صلى الله عليه وسلم بل مرة فما زاد فتطوع والوقت فيه شرط الأداء وليس بسبب
ولهذا لا يتكرر بتكرر الوقت إلا أن أركان هذه العبادة متفرقة على الأمكنة والأزمنة
2

فلا يجوز الا بمراعاة الترتيب فيها ولهذا لا يتأدى طواف للزيادة قبل الوقوف كما لا يتأدى
السجود في فصل الصلاة قبل الركوع والمال شرط يتوصل به إلى الأداء ولهذا لا يتحقق
الأداء من فقير لا مال له فرضا وأركان هذه العبادة الأفعال والمال ليس بسبب فيه ولكنه
معتبر ليتيسر به الوصول إلى مواضع أداء أركانه ثم بدأ الكتاب فقال إذا أردت أن تحرم
بالحج إن شاء الله اقتد بكتاب الله تعالى في ذكر الاستثناء في قوله تعالى لتدخلن المسجد
الحرام إن شاء الله وقيل إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى خاطب أبا يوسف رحمه الله تعالى والواحد
يشك في حاله أنه يحج أو لا يحج فقيد بالاستثناء وتفرس فيه أنه يحج فما أخطأت فراسته
(قال) فاغتسل أو توضأ والغسل فيه أفضل هكذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد
لاهلاله فاغتسل رواه خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه وهذا الاغتسال ليس بواجب
لما روى أن أبا بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان أسماء قد نفست
قال مرها فلتغتسل ولتحرم بالحج ومعلوم أن الاغتسال الواجب مع النفاس والحيض
لا يتأدى فعرفنا أن هذا الاغتسال لمعنى النظافة وما كان لهذا المقصود فالوضوء يقوم مقامه
كما في العيدين والجمعة ولكن الغسل أفضل لان معنى النظافة فيه أكمل ثم البس ثوبين إزارا
ورداء جديدين أو غسلين هكذا ذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
ائتزر وارتدي عند احرامه ولان المحرم ممنوع من لبس المخيط ولا بدله من ستر العورة
فتعين للستر الارتداء والائتزار والجديد والغسيل في هذا المقصود سواء غير أن الجديد أفضل
لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه تزين لعبادة ربك (قال) وادهن بأي دهن
شئت وهو الظاهر من المذهب عندنا أنه لا بأس بأن بتطيب ويدهن قبل احرامه بما شاء
وروى عن محمد رحمه الله تعالى قال كنت لا أرى بذلك بأسا حتى رأيت أقواما يحضرون طيبا
كثيرا ويصنعون شيئا شنعا فكرهت ذلك وهو قول مالك رحمه الله تعالى وقد نقل عن عمر
وعثمان رضي الله عنهما كراهة ذلك وحجة هذا القول حديث الاعرابي حيث جاء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة متضمخة أبى متلطخة بالخلوق فسأله عن العمرة فلم يجبه حتى
نزل عليه الوحي فلما سرى عنه قال أين السائل عن العمرة فقال الاعرابي ها أنا ذا يا رسول الله
فقال صلى الله عليه وسلم أما جبتك فانزعها وأما الخلوق فاغسله واصنع في عمرتك ما أنت صانع
في حجتك فقد أمره بإزالة الطيب عن نفسه عند الاحرام ولنا حديث عائشة رضي الله عنها
3

قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن
يزور البيت وفي رواية كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد احرامه فتطيبوا وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنا نخرج مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم متضمخا جباهنا بالمسك ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ورسول الله صلى
الله عليه وسلم يرى ذلك ولا يكرهه وتأويل حديث الاعرابي انه كره الخلوق له لكونه
بمنزلة الثوب المورس والمزعفر ومعنى كراهة محمد رحمه الله تعالى لاستعمال الطيب الكثير
انه بعد الاحرام ربما ينتقل على بدنه من موضع إلى موضع فيكون ذلك بمنزلة التطيب ابتداء
بعد الاحرام في الموضع الثاني ولكن هذا ليس بقوى فإنه لا تلزمه الكفارة بهذا ولو كان
بهذه المنزلة لوجوب عليه الكفارة واختلف مشايخا رحمهم الله تعالى فيما إذا تطيب بعد
احرامه وكفر ثم تحول الطيب مع عرقه من موضع إلى موضع فمنهم من يقول لا تلزمه كفارة
جديدة لان أصل فعله قد انقطع بالتكفير فلا معتبر بأثره كما لو فعله قبل الاحرام ومنهم
من قال تلزمه كفارة أخرى هنا لان أصل فعله كان محظورا فتحوله من موضع إلى موضع
يكون جناية أيضا في حكم الكفارة بخلاف ما قبل الاحرام فان أصل فعله لم يكن محظورا ثم
لا معتبر ببقاء الأثر بعد الاحرام إذا كان أصل فعله قبل الاحرام كالحلق ثم قال وصلى
ركعتين لحديث عمر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني آت من ربى وأنا
بالعقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة وعمرة معا وفيما ذكر
جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين عند احرامه ثم قال وقل
اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله منى لأنه محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة ويبقى
في ذلك أياما فيطلب التيسير من الله تعالى إذ لا يتيسر للعبد الا ما يسره الله تعالى ويسأل
القبول كما فعله الخليل وإسماعيل صلوات الله عليهما في قولهما ربنا تقبل منا انك أنت السميع
العليم ولم يأمر بمثل هذا الدعاء لمن يريد افتتاح الصلاة لان أداءها يسير عادة ولا تطول في
أدائها المدة فاما أركان الحج متفرقة على الأمكنة والأزمنة ولا يؤمن فيها اعتراض الموانع عادة
فلهذا أمر بتقديم سؤال التيسير (قال) ثم لب في دبر صلواتك تلك فإن شئت بعد ما يستوى بك
بعيرك والكلام فيه في فصول أحدها في اشتقاق التلبية لغة فقيل هو مشتق من قولهم ألب
الرجل إذا أقام في مكان فمعنى قول القائل لبيك أنا مقيم على طاعتك وقيل هو مشتق من قولهم
4

داري تلب دارك أي تواجهها فمعنى قوله لبيك اتجاهي لك يا رب وقيل هو مشتق من قولهم
امرأة لبة أي محبة لزوجها فمعناه محبتي لك يا رب والثاني ان المختار عندنا ان يلبي من دبر صلواته
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول يلبى حين تستوى به
راحلته وذكر جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم لبى حين علا البيداء الا ان ابن
عمر رضي الله عنه رد هذا فقال إن بيداءكم هذه تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإنما لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته وعن سعيد بن جبير
رضي الله عنه قال قلت لابن عباس رضي الله عنه كيف اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله
صلى الله عليه وسلم وما حج الا مرة واحدة قال لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دبر صلواته
فسمع ذلك قوم من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فنقلوه وكانوا القوم يأتونه أرسالا فلبى
حين استوت به راحلته فسمع تلبيته قوم فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا ثم لبى حين علا
البيداء فسمه آخرون فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا ذلك وأيم الله ما أوجبها الا في مصلاه
والثالث انه لا خلاف ان التلبية جواب الدعاء والكلام في أن الداعي من هو فقيل الداعي
هو الله تعالى كما قال تعالى فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم وقيل
الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلوات الله عليه ان سيدا بنى دارا واتخذ فيها
مأدبة وبعث داعيا وأراد بالداعي نفسه والأظهر ان الداعي هو الخليل صلوات الله عليه على ما
روى أنه لما فرغ من بناء البيت أمر بأن يدعو الناس إلى الحج فصعد بأبي قبيس وقال الا ان
الله تعالى أمر ببناء بيت له وقد بنى الا فحجوه فبلغ الله صوته الناس في أصلاب آبائهم وأرحام
أمهاتهم فمنهم من أجاب مرة ومنهم من أجاب مرتين وأكثر من ذلك وعلى حسب جوابهم
يحجون وبيان هذا في قوله تعالى وأذن في الناس بالحج الآية فالتلبية إجابة لدعاء الخليل صلوات
الله عليه وسلامه ثم صفة التلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة
لك والملك لا شريك لك هكذا رواه ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في صفة تلبية رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومن أهل اللغة من اختار نصب الألف في قوله ان الحمد ومعناه لان
الحمد أو بان الحمد فأما المختار عندنا الكسر وهو المروى عن محمد رحمه الله تعالى ووافقه الفراء
لان بكسر الألف يكون ابتداء الثناء وبنصب الألف يكون وصفا لما تقدم وابتداء الثناء
أولى ولا بأس عندنا في الزيادة على هذه التلبية وبين العلماء اختلاف يأتي في موضعه ان
5

شاء الله تعالى فظاهر المذهب عندنا ان غير هذا اللفظ من الثناء والتسبيح يقوم مقامه في حق
من يحسن التلبية أو لا يحسن وكذلك لو أتى به بالفارسية فهو والعربية سواء اما على قول
أبي حنيفة فظاهر لأنا قد بينا مذهبه في التكبير عند افتتاح الصلوات أن المعتبر ذكر الله
تعالى على سبيل التعظيم وان لفظ الفارسية والعربية فيه سواء فكذلك هنا ومحمد رحمه الله
تعالى يقول لا يتأدى بالفارسية ممن يحسن العربية وهنا يتأدى لان غير الذكر هنا
يقوم مقام الذكر وهو تقليد الهدى فكذلك غير العربية يقوم مقام العربية بخلاف الصلوات
وبهذا يفرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين التلبية والتكبير عند افتتاح
الصلوات. وقد روى الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن غير التلبية من الأذكار
لا يقوم مقام التلبية هنا كما في الصلوات على قوله ولا يصير محرما بمجرد النية ما لم يأت
بالتلبية أو ما يقوم مقامها خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله
تعالى (قال) والمستحب رفع الصوت بالتلبية هكذا روى خلاد بن السائب أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال أمرني جبريل عليه السلام أن آمر أمتي أو من معي بأن يرفعوا أصواتهم
بالتلبية وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الحج العج والثج فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة
الدم والمستحب عندنا في الأذكار والدعاء الخفية الا فيما تعلق باعلانه مقصود كالأذان للاعلام
والخطبة للوعظ وتكبيرات الصلوات لا علام التحرم والانتقال والقراءة لا سماع المؤتم
فالتلبية للشروع فيما هو من اعلام الدين فلهذا كان المستحب رفع الصوت به (قال) فإذا
لبيت فقد أحرمت يعنى إذا نويت ولبيت إلا أنه لم يذكر النية لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني
أريد الحج قال فاتق ما نهى الله عنه من قتل الصيد والرفث والفسوق والجدال أما قتل
الصيد فالمحرم منهى عنه في قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم والصيد محرم عليه ما دام
محرما لقوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وأما الرفث والفسوق والجدال فالنهي
عنها في قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج فهو نهى بصيغة النفي وهذا آكد
ما يكون من النهى وفى تفسير الرفث قولان أحدهما الجماع بيانه في قوله تعالى أحل لكم ليلة
الصيام الرفث والثاني الكلام الفاحش الا ان ابن عباس رضي الله عنه كأن يقول إنما يكون
الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روى أنه كان ينشد في احرامه
وهن يمشين بنا هميسا * ان تصدق الطير ننك لميسا
6

(لميس اسم جاريته) فقيل له أترفث وأنت محرم فقال إنما الرفث بحضرة النساء وقال أبو
هريرة رضي الله عنه كنا ننشد الاشعار في حالة الاحرام فقيل له مثل ماذا فقال مثل قول
القائل
قامت تريك رهبة ان تصر ما * ساقا بحناء وكعبا أدرما
ذكر في كفاية المتحفظ وأما الفسوق فهو اسم للمعاصي وذلك منهى عنه في الاحرام وغير
الاحرام الا ان الحظر في الاحرام أشد لحرمة العبادة وفي تفسير الجدال قولان أحدهما
ان يجادل رفيقه في الطريق والثاني ان المراد مجادلة المشركين في تقديم وقت الحج وتأخيره
وذلك هو النسئ الذي قال الله تعالى النسئ زيادة في الكفر الآية وذلك منفى بعد
الاسلام (قال) ولا يشير إلى صيد ولا يدل عليه لحديث أبي قتادة رضي الله عنه ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضوان الله عليهم وكانوا محرمين هل أشرتم هل أعنتم
هل دللتم فقالوا لا فقال إذن فكلوا ولان المحرم على المحرم التعرض للصيد بما يزيل الامن
عنه وذلك يحصل بالدلالة والإشارة وربما يتطرق به إلى القتل وما يكون محرم العين فهو
محرم بدواعيه كالزنا (قال) ولا تغط رأسك ولا وجهك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى
لا بأس للرجل بان يغطى وجهه ولا يغطى رأسه والمرأة تغطي رأسها لا وجهها واستدل بقوله
صلى الله عليه وسلم احرام الرجل في رأسه واحرام المرأة في وجهها (ولنا) حديث الاعرابي
حين وقصت به ناقته في أخافيق جردان وهو محرم فقال صلى الله عليه وسلم لا تخمروا رأسه
ووجهه وفى هذا تنصيص على أن المحرم لا يغطى رأسه ووجهه ورخص رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه حين اشتكت عينه في حال الاحرام أن يغطى وجهه فتخصيصه
حالة الضرورة بالرخصة دليل على أن المحرم منهى عن تغطية الوجه ولأن المرأة لا تغطي
وجهها بالاجماع مع أنها عورة مستورة فان في كشف الوجه منها خوف لفتنة فلأن لا يغطى
الرجل وجهه لأجل الاحرام أولى وتأويل الحديث بيان الفرق بين الرجل والمرأة في تغطية
الرأس (قال) ولا تلبس قباء ولا قميصا ولا سراويل ولا قلنسوة لحديث ابن عمر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلبس المحرم القباء ولا القميص ولا السراويل ولا
القلنسوة ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تتنقب المرأة
الحرام (قال) ولا تلبس ثوبا مصبوغا بالعصفر ولا بالزعفران ولا بالورس لما روى عن النبي
7

صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يلبس المحرم ثوبا مسه زعفران أو ورس وان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لما رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا بعد احرامه علاه بالدرة فقال
لا تعجل يا أمير المؤمنين فإنما هو بمشق فقال نعم ولكن من ينظر لك من بعد لا يعرف
ذلك فيرجع إلى قبيلته ويقول رأيت على طلحة في احرامه ثوبا مصبوغا فيعيرك الناس بذلك
فإن كان قد غسل حتى لا ينفض فلا بأس بلبسه لان المنهي نفس الطيب لا لونه وبعد
الغسل بهذه الصفة لا يبقى من عين الطيب فيه شئ (قال) ولا تمس طيبا بعد احرامك
ولا تدهن لقوله صلى الله عليه وسلم الحاج الشعث التفل واستعمال الدهن والطيب يزيل
هذه الصفة فيكون محرما بعد الاحرام (قال) وإذا حككت رأسك فارفق بحكه حتى
لا يتناثر الشعر فان إزالة ما ينمو من البدن حرام على المحرم لان أوان قضاء التفث عند
التحلل من الاحرام كما قال الله تعالى بعد ذبح الهدى ثم ليقضوا تفثهم (قال) ولا تغسل
رأسك ولحيتك بالخطمي لان الخطمي تقتل هوام الرأس وتزيل الشعث الذي جعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم صفة الحاج وهو من نوع قضاء التفث أيضا (قال) ولا تقص
أظفارك لأنه إزالة ما ينمو من البدن فكان من نوع قضاء التفث (قال) وأكثر من
التلبية في دبر كل صلاة وكلما لقيت ركبا وكلما علوت شرفا وكلما هبطت واديا وبالأسحار
هكذا نقل ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم كانوا يلبون في هذه
الأحوال ثم تلبية المحرم في أدبار الصلوات كتكبير غير المحرم في أيام الحج في أدبار الصلوات
فكما يؤتى بالتكبير بعد السلام فكذلك بالتلبية وكما أن المصلى يكبر عند الانتقال من ركن
إلى ركن فكذلك لمحرم يلبى عند الانتقال من حال إلى حال. وروى الأعمش عن خثعمة
قال كانوا يستحبون التلبية عند ست في أدبار الصلوات وإذا استعطف الرجل براحلته وإذا
صعد شرفا وإذا هبط واديا وإذا لقي بعضهم بعضا وبالأسحار (قال) وإذا قدمت مكة
فلا يضرك ليلا دخلتها أو نهارا لان هذا دخول بلدة فيستوى فيه الليل والنهار كسائر
البلدان والرواة اختلفوا في وقت دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فروى جابر
رضي الله عنه انه صلى الله عليه وسلم صلى العشاء بذي طوى ثم هجع هجعة ثم دخل
مكة فطاف ليلا وروى ابن عمر رضي الله عنه انه بات بذي طوى فلما أصبح دخل مكة
نهارا والذي روى عن عمر رضي الله عنه انه كان ينهى الناس عن دخول مكة ليلا كان
8

ذلك للاشفاق مخافة السرق ليرى الانسان أين ينزل ويضع رحله وروى عن عمر رضي الله عنه
انه حين قدم مكة معتمرا في رمضان وجد الناس يصلون التراويح فصلى معهم وعن
عائشة والحسن والحسين رضوان الله عليهم انهم كانوا يدخلون مكة ليلا (قال) فادخل
المسجد لأنه قصد زيارة البيت والبيت في المسجد وروى جابر رضي الله عنه ان النبي صلى
الله عليه وسلم لما دخل مكة دخل المسجد فلما وقع بصره على البيت قال اللهم زد بيتك
تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة ولم يذكر في الكتاب تعيين شئ من الأدعية في
مشاهد الحج لما قال محمد رحمه الله تعالى التوقيت في الدعاء يذهب رقة القلب فاستحبوا ان
يدعو كل واحد بما يحضره ليكون أقرب إلى الخشوع وان تبرك بما نقل عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهو حسن وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا لقي البيت بسم الله والله
أكبر وعن عطاء رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي البيت يقول أعوذ
برب البيت من الدين والفقر ومن ضيق الصدر وعذاب القبر (قال) ثم ابدأ بالحجر الأسود
فاستلمه هكذا روى جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالحجر الأسود
فاستلمه وعن عمر رضي الله عنه انه استلم الحجر الأسود وقال رأيت أبا القاسم بك حفيا
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر ووضع شفتيه عليه
وبكى طويلا ثم نظر فإذا هو بعمر رضي الله عنه فقال يا عمر هنا تسكب العبرات وان عمر
رضي الله عنه في خلافته لما أتى الحجر الأسود وقف فقال اما انى أعلم أنك حجر لا تضر ولا
تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك فبلغت مقالته عليا
رضي الله عنه فقال اما ان الحجر ينفع فقال له عمر رضي الله عنه وما منفعته يا ختن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى لما أخذ
الذرية من ظهر آدم عليه السلام وقررهم بقوله ألست بربكم قالوا بلى أودع اقرارهم الحجر
فمن يستلم الحجر فهو يجدد العهد بذلك الاقرار والحجر يشهد له يوم القيامة واستلام الحجر
للطواف بمنزلة التكبير للصلوات فيبدأ به طوافه (قال) ان استطعت من غير أن تؤذى
مسلما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه انك رجل أيد تؤذى
الضعيف فلا تزاحم الناس على الحجر ولكن ان وجدت فرجة فاستلمه والا فاستقبله
وكبر وهلل ولان استلام الحجر سنة والتحرز عن أذى المسلم واجب فلا ينبغي له ان يؤذى
9

مسلما لإقامة السنة ولكن ان استطاع تقبيله فعل والأمس الحجر بيده وقبل يده وإن لم
يستطع ذلك أمس الحجر شيئا من عرجون أو غيره ثم قبل ذلك الشئ جاء في الحديث
ان النبي صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه وإن لم يستطع شيئا من
ذلك استقبله وكبر وهلل وحمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا استقبال
مستحب غير واجب لان استقبال البيت عند الطواف لو كان واجبا كان في جميعه كاستقبال
القبلة في الصلوات ولكنه مستحب لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال إن الحجر يبعث
يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به فيشهد بالحق لمن استلمه أو استقبله (قال)
ثم خذ عن يمينك على باب البيت فطف سبعة أشواط هكذا رواه جابر رضي الله عنه ان النبي
صلى الله عليه وسلم أخذ على يمينه من باب الكعبة فطاف سبعة أشواط ومقادير العبادة تعرف
بالتوقيف لا بالرأي (قال) يرمل في الثلاثة الأول في كل شوط منها من الحجر الأسود
إلى الحجر الأسود فالحاصل ان كل طواف بعده سعى فالرمل في الثلاثة الأول منها سنة
وكل طواف ليس بعدة سعى فلا رمل فيه والرمل هو الاضطباع وهز الكتفين وهو ان
يدخل أحد جانبي ردائه تحت إبطه ويلقيه على المنكب الاخر ويهز الكتفين في مشيه كالمبارز
الذي يتبختر بين الصفين وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول لا رمل في الطواف وإنما فعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار للجلادة للمشركين على ما روى أن في عمرة القضاء لما
أخلوا له البيت ثلاثة أيام وصعدوا الجبل طاف رسول الله عليه وسلم مع أصحابه فسمع بعض
المشركين يقول لبعض أضناهم حمى يثرب فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه
فرمل فقال لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين رحم الله امرأ أرى من نفسه قوة وجلدا فإذا
كان ذلك لاظهار الجلادة يومئذ وقد انعدم ذلك المعنى الآن فلا معنى للرمل والمذهب عندنا
أن الرمل سنة لحديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم
النحر في حجة الوداع فرمل في الثلاثة الأول ولم يبق المشركون بمكة عام حجة الوداع. وروى
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد الرمل في طوافه فقال علام أهز كتفي وليس هنا أحد
أرائيه ولكنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله فأفعله اتباعا له وأكثر ما فيه أن سببه
ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه ولكنه صار سنة بذلك السبب فيبقى بعد زواله كرمى
الجمار سببه رمى الخليل صلوات الله عليه الشيطان ثم بقي بعد زوال ذلك السبب والرمل من
10

الحجر الأسود إلى الحجر الأسود عندنا. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه لا رمل بين
الركن اليماني والحجر وإنما الرمل من الحجر إلى الركن اليماني وروى في بعض الآثار أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمل من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لان المشركين كانوا
يطلعون عليه فإذا تحول إلى الجانب الآخر حال البيت بينه وبينهم فكأن لا يرمل وبهذا أخذ
سعيد بن جبير وعطاء رحمهما الله تعالى ولكنا نأخذ بحديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم
أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر (قال) وان زحمك
الناس في رملك فقم فإذا وجدت مسلكا فارمل لأنه تعذر عليه إقامة السنة في الطواف للزحام
فليصبر حتى يتمكن من إقامة السنة كالمزحوم يوم الجمعة يصبر حتى يتمكن من السجود وتطوف
الأربعة الأشواط الاخر مشيا على هينتك على هذا اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكلما مررت بالحجر الأسود في طوافك هذا فاستلمه ان استطعت من غير أن تؤذى
مسلما فإن لم تستطع فاستقبله وكبر وهلل لان أشواط الطواف كركعات الصلوات فكما
تفتتح كل ركعة تقوم إليها بالتكبير فكذلك تفتتح كل شوط باستلام الحجر وان أفتتحت به
الطواف وختمت به أجزأك كما في الصلوات فترك تكبيرات الانتقال لا يمنع الجواز فكذلك
لا بأس بترك استلام الحجر عند افتتاح كل شوط فإذا كان افتتاحه للطواف باستلام
الحجر وختمه بذلك ففيما بين ذلك يجعل كالمستلم حكما (قال) وليكن طوافك في كل
شوط وراء الحطيم والحطيم اسم لموضع بينه وبين البيت فرجة يسمى ذلك الموضع حطيما
وحجرا فتسميته بالحجر على معنى أنه حجر من البيت أي منع منه وتسميته بالحطيم على معنى أنه
محطوم من البيت أي مكسور منه فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى مقتول وقيل بل فعيل
بمعنى فاعل أي حاطم كالعليم بمعنى عالم وبيانه فيما جاء في الحديث من دعى على من ظلمه فيه
حطمه الله تعالى فينبغي لمن يطوف أن لا يدخل في تلك الفرجة في طوافه ولكنه يطوف
ورواء الحطيم كما يطوف وراء البيت لان الحطيم من البيت وهكذا روى أن عائشة رضي الله عنه
ا نذرت ان فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى في البيت ركعتين فأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأدخلها الحطيم وقال صلى هنا فان الحطيم من البيت
إلا أن قومك قصرت بهم النفقة فأخرجوه من البيت ولولا حدثان عهد قومك بالجاهلية
لنقضت بناء الكعبة وأظهرت قواعد الخليل صلوات الله عليه وأدخلت الحطيم في البيت
11

وألصقت العتبة بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ولئن عشت إلى قابل لا فعلن
ذلك فلم يعش صلى الله عليه وسلم ولم يتفرغ لذلك أحد من الخلفاء الراشدين رضوان الله
عليهم حتى كان زمن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وكان سمع الحديث فيها ففعل ذلك
وأظهر قواعد الخليل صلوات الله عليه وبنى البيت على قواعد الخليل صلوات الله عليه
بمحضر من الناس وأدخل الحطيم في البيت فلما قتل كره الحجاج أن يكون بناء البيت على
ما فعله ابن الزبير فنقض بناء الكعبة واعاده على ما كان عليه في الجاهلية فإذا ثبت ان الحطيم من
البيت فالطواف بالبيت كما قال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ينبغي له أن يطوف من وراء
الحطيم ولا يقال لو استقبل الحطيم في الصلاة لا تجوز صلاته ولو كان الحطيم من البيت لجازت
لان كون الحطيم من البيت إنما يثبت بخبر الواحد وفرضية استقبال القبلة بالنص فلا يتأدى
بما ثبت بخبر الواحد والحاصل أنه يحتاط في الطواف والصلاة جميعا لان خبر الواحد يوجب
العمل ولا يوجب علم اليقين (قال) ثم ائت المقام فصل عنده ركعتين أو حيثما تيسر عليك
من المسجد هكذا روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه
أتى المقام وصلى ركعتين وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله لو صليت في
مقام إبراهيم فأنزل الله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عند المقام ركعتين وهاتان الركعتان عند الفراغ من الطواف واجب لقول
النبي صلى الله عليه وسلم وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين والامر للوجوب ولان
عمر رضي الله عنه نسي ركعتي الطواف حين خرج من مكة فلما كان بذي طوى صلاهما
وقال ركعتان مكان ركعتين وقال أو حيث تيسر عليك من المسجد ومراده ان الزحام يكثر
عند المقام فلا ينبغي أن يتحمل المشقة لذلك ولكن المسجد كله موضع الصلاة فيصلى
حيث تيسر عليه (قال) فإذا فرغت منها فعد إلى الحجر فاستلمه فإن لم تستطع فاستقبل
وهلل وكبر والأصل ان كل طواف بعده سعى يعود إلى استلام الحجر فيه بعد الفراغ
من الصلاة وكل طواف ليس بعده سعى لا يعود إلى استلام الحجر فيه بعد الصلاة لان
الطواف الذي ليس بعده سعى عبادة قد تم فراغه منها حين فرغ من الركعتين فلا معنى
للعود إلى ما به بدء الطواف فاما الطواف الذي بعده سعى فكما يفتتح طوافه باستلام الحجر
فكذلك السعي يفتتح باستلام الحجر فلهذا يعود إلى الحجر فيستلمه (قال) ثم اخرج
12

إلى الصفا فمن أي باب شاء خرج الا ان جابرا رضي الله عنه روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم خرج من باب بنى مخزوم وليس ذلك بسنة بل إنما فعله لأنه كان أقرب الأبواب إلى
الصفا فهو الذي يسمى الآن باب الصفا فإذا خرج بدأ بالصفا لما روى أن الصحابة رضي الله عنه
م قالوا يا رسول الله بأيهما نبدأ قال ابدأوا بما بدأ الله تعالى به يريد قوله تعالى ان الصفا
والمروة من شعائر الله (قال) وقم عليها مستقبل الكعبة فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتكبر
وتهلل وتلبي وتصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وتدعو الله تعالى بحاجتك لما روى عن ابن عمر
رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا حتى إذا نظر إلى البيت قام مستقبل
البيت يدعو وروى جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا استقبل
البيت وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل
شئ قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قرأ مقدار
خمسة وعشرين آية من سورة البقرة ثم نزل وجعل يمشي نحو المروة فلما انتصب قدماه في
بطن الوادي سعى حتى التوى إزاره بساقيه وهو يقول رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم
انك أنت الأعز الأكرم حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف
بينهما سبعة أشواط ثم الصعود على الصفا ليصير البيت بمرأى العين منه فإنما يصعد بقدر ما
يحصل به هذا المقصود وهذا المقصود كان ليستقبل البيت فينبغي ان يستقبله فيأتي بالتحميد
والثناء والتكبير والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لان قصده ان يسأل حاجته
من الله تعالى فيجعل الثناء مقدمة دعائه وبعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعله
الداعي عند ختم القرآن وغير ذلك ثم ذكر الدعاء هنا ولم يذكره عند استلام الحجر لان تلك
الحالة حال ابتداء العبادة وهذا حال ختم العبادة فان ختم الطواف بالسعي يكون والدعاء عند
الفراغ من العبادة لا عند ابتدائها كما في فصل الصلاة (قال) ثم اهبط منها نحو المروة وامش
على هينتك مشيا حتى تأتي بطن الوادي فاسع في بطن الوادي سعيا فإذا خرجت منه تمشى
على هينتك مشيا حتى تأتي المروة فتصعد عليها وتقوم مستقبل الكعبة فتحمد الله تعالى وتثنى
عليه وتهلل وتكبر وتلبي وتصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو الله تعالى بحاجتك
وللناس في أصل السعي في بطن الوادي كلام فقد قيل بان أصله من فعل أم إسماعيل هاجر
حين كانت في طلب الماء كلما صار الجبل حائلا بينهما وبين النظر إلى ولدها كانت تسعى
13

حتى تنظر إلى ولدها شفقة منها على الولد فصار ذلك سنة والأصح ان يقال فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم في نسكه وأمر أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ان يفعلوا ذلك فنفعله
اتباعا له ولا نشتغل بطلب المعنى فيه كما لا نشتغل بطلب المعنى في تقدير الطواف والسعي سبعة
أشواط (قال) فطف بينهما هكذا سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة وتسعى في بطن
الوادي في كل شوط وظاهر ما قال في الكتاب ان ذهابه من الصفا إلى المروة شوط ورجوعه
من المرة إلى الصفا شوط آخر واليه أشار في قوله يبدأ بالصفا ويختم بالمروة وذكر الطحاوي
رحمه الله تعالى انه يطوف بينهما سبعة أشواط من الصفا إلى الصفا وهو لا يعتبر
رجوعه ولا يجعل ذلك شوطا آخر والأصح ما ذكر في الكتاب لان رواة نسك رسول
الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على أنه طاف بينهما سبعة أشواط وعلى ما قاله الطحاوي
رحمه الله تعالى يصير أربعة عشر شوطا (قال) ثم تقيم بمكة حراما لا تحل منه بشئ وهذا لأنه
أحرم بالحج فلا يتحلل ما لم يأت بأفعال الحج (قال) وتطوف بالبيت كلما بدا لك وتصلى
لكل أسبوع ركعتين فان الطواف بالبيت مشبه بالصلوات قال صلى الله عليه وسلم الطواف
بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق الا بخير والصلاة خير
موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر وكذلك الطواف ولكنه لا يسعى عقيب سائر
الأطوفة في هذه المدة لان السعي الواحد من الواجبات للحج وقد أتي به فلو سعى بعد
ذلك كان متنفلا به والتنفل بالسعي غير مشروع (قال) حتى تروح مع الناس إلى منى
يوم التروية فتبيت بها ليلة عرفة وتصلى بها الغداة يوم عرفة هكذا روى جابر وابن عمر رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم التروية بمكة فلما طلعت الشمس راح
إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يوم عرفة ثم راح إلى عرفات
(قال) ثم تغدو إلى عرفات لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ان جبرائيل صلوات الله عليه
أتى إبراهيم يوم التروية فأمره فراح إلى منى وبات بها ثم غدا به إلى عرفات (قال) وتنزل
بها مع الناس لأنه من الناس فينزل حيث ينزلون ومراده أنه لا ينزل على الطريق كيلا
يضيق على المارة ولا يتأذى هو بهم (قال) فان صليت الظهر والعصر مع الامام فحسن
والحاصل أنه كما زالت الشمس يوم عرفة يصلى الامام بالناس الظهر والعصر بعرفات هكذا
روى جابر رضي الله عنه في حديثه قال لما زالت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
14

بالناس الظهر والعصر بأذان وإقامتين وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن لا يخالف
ابن عمر رضي الله عنه في شئ من أمر المناسك فلما زالت الشمس أتى ابن عمر رضي الله عنه
سرادقه فقال أين هذا فخرج الحجاج فقال إن أردت السنة فالساعة فقال انتظرني حتى اغتسل
فانتظره فاغتسل وراح إلى المصلى والاغتسال في هذا الوقت بعرفات سنة فان اكتفي
بالوضوء أجزأه وان اغتسل فهو أفضل كما عند الاحرام وكما في العيدين والجمعة ثم يخطب
قبل الصلاة خطبتين بينهما جلسة كما في الجمعة والعيدين هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهذا لان المقصود تعليم الناس المناسك والجمع بين الصلاتين من المناسك فيقدم
الخطبة عليه لتعليم الناس ولأنهم بعد الفراغ من الصلاة يتفرقون في الموقف ولا يجتمعون
لاستماع الخطبة وفى ظاهر المذهب إذا صعد الامام المنبر فجلس أذن المؤذن كما في الجمعة
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يؤذن قبل خروج الامام لان هذا الأذان لأداء الظهر
كما في سائر الأيام وهذا قوله الأول فإذا فرغ من الخطبة أقام المؤذن وصلى الامام بالناس
الظهر ركعتين إذا كان مسافرا ثم يقوم المؤذن فيقوم ثانية فيصلى بهم العصر من غير أن
يتنفل بين الصلاتين هكذا رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه في صفة نسك رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهذا لان تقديم العصر على وقته ليتوصل إلى الوقوف المقصود ولئلا
ينقطع وقوفه فلأن لا يشتغل بالنافلة بين الصلاتين ليحصل هذا المقصود أولى وإنما
يعيد الإقامة للعصر لأنه معجل على وقته المعهود فيعيد الإقامة له اعلاما للناس وان اشتغل
بالتطوع بين الصلاتين أعاد الأذان للعصر الا في رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى
أنه قال ما دام في وقت الظهر لا يعيد الأذان للعصر فأما في ظاهر الرواية فاشتغاله بالنفل
أو بعمل آخر يقطع فور الأذان الأول فيعيد الأذان للعصر (قال) وإن لم يدرك الجمع
مع الامام وأراد أن يصلى وحده صلى كل صلاة لوقتها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وعلى قول أبى يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى يجمع بينهما كما يفعل مع الإمام قال
في الكتاب بلغنا ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم وعلل فقال لان العصر إنما
قدمت لأجل الوقت ومعنى هذا الكلام أن الجمع بين الصلاتين إنما جاز لحاجته إلى امتداد
الوقوف فان الموقف هبوط وصعود لا يمكن تسوية الصفوف فيها فيحتاجون إلى الخروج
منها والاجتماع لصلاة العصر فنقطع وقوفهم وامتداد الوقوف إلى غروب الشمس واجب
15

فللحاجة إلى ذلك جوز له الجمع بين الصلاتين وفى هذا المنفرد والذي يصلى مع الامام
سواء وقاس هذا الجمع بالجمع الثاني بالمزدلفة فان الامام فيه ليس بشرط بالاتفاق وهذا النسك
معتبر بسائر المناسك في أنه لا يشترط فيه الامام وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى
ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي فرضا مؤقتا فالمحافظة على الوقت في الصلاة
فرض بيقين فلا يجوز تركه الا بيقين وهو الموضوع الذي ورد النص به وإنما ورد النص
بجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين والخلفاء من بعده فلا يجوز الجمع الا
بتلك الصفة وكأن المعنى فيه أن هذا الجمع مختص بمكان وزمان ومثله لا يجوز الا بامام كإقامة
الخطبة مقام ركعتين في الجمعة لما كان مختصا بمكان وزمان كان الامام شرطا فيه بخلاف الجمع
الثاني فإنه أداء المغرب في وقت العشاء وذلك غير مختص بمكان وزمان فأما هذا تعجيل
العصر على وقته وذلك لا يجوز الا في هذا المكان وهذا الزمان ثم يسلم ان هذا الجمع لأجل
لوقوف ولكن الحاجة إلى الجمع للجماعة لا للمفرد لان يمكنه أن يصلى العصر في وقته
في موضع وقوفه فان المصلى واقف فلا ينقطع وقوفه بالاشتغال بالصلاة وإنما يحتاجون إلى
الخروج لتسوية الصفوف إذا أدوها بالجماعة ولأنه يشق عليهم الاجتماع فإنهم بعد الفراغ
من الصلاة يتفرقون في الموقف فيختار كل واحد منهم موضعا خاليا يناجي فيه ربه عز وجل
وهذا المعنى ينعدم في حق المنفرد لأنه يمكنه أداء العصر في وقته في موضع خلوته وحديث
عائشة وابن عمر رضى الله تعالى عنهم محمول على الامام الاجل وهو الخليفة أنه ليس بشرط
ثم يعارضه قول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه يصلى المنفرد كل صلاة لوقتها (قال) ولو
فاته الظهر مع الامام وأدرك العصر معه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يجمع بينهما أيضا
وعند زفر رحمه الله تعالى يجمع بينهما لان التغيير إنما وقع في العصر فإنها معجلة على وقتها
واشتراط الامام لوقوع التغيير فيقتصر على ما وقع فيه التغيير وجه قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ان العصر في هذا اليوم كالتبع للظهر لأنهما صلاتان أديتا في وقت واحد والثانية منهما
مرتبة على الأولى فكان بمنزلة العشاء مع الوتر فكما أن الوتر تبع للعشاء فكذلك العصر تبع
للظهر هنا ولما جعل الامام شرطا في التبع كان شرطا في الأصل بطريق الأولى ودليل التبعية
أنه لا يجوز العصر في هذا اليوم الا بعد صحة أداء الظهر حتى لو تبين في يوم الغيم انهم صلوا
الظهر قبل الزوال والعصر بعده لزمهم إعادة الصلاتين وكذلك لو جدد الوضوء بين
16

الصلاتين ثم تبين أنه صلى الظهر بغير وضوء لزمه إعادة الصلاتين بخلاف سائر الأيام وعلى
هذا الاحرام بالحج شرط لأداء هاتين الصلاتين حتى أن الحلال إذا صلى الظهر مع الامام
ثم أحرم بالحج فصلى العصر والمحرم بالعمرة صلى الظهر مع الامام ثم أحرم بالحج فصلى العصر
معه لم يجزه العصر الا في وقتها وعند زفر رحمه الله تعالى يجزيه وفى احدى الروايتين يشترط
لهذا الجمع أن يكون محرما بالحج قبل زوال الشمس لان بزوال الشمس يدخل وقت الجمع
ويختص بهذا الجمع المحرم بالحج فيشترط تقديم الاحرام بالحج على الزوال وفى الرواية الأخرى
وان أحرم بالحج بعد الزوال فله ان يجمع بين الصلاتين لان اشتراط الاحرام بالحج لأجل
الصلاة لا لأجل الوقت فإذا صلى العصر راح إلى الموقف فوقف به ويحمد الله تعالى ويثني
عليه ويهلل ويكبر ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويلبى ويدعو الله تعالى بحاجته والحاصل
فيه أنه يقف في أي موضع شاء من الموقف والأفضل ان يقف بالقرب من الامام لان
الامام يعلم الناس ما يحتاجون إليه ويدعو فمن كان أقرب إليه كان أقرب إلى الاستماع
والتأمين على دعائه فيكون أفضل (قال) وينبغي ان يقف مستقبل القبلة ان شاء راكبا
وان شاء على قدميه وقد ذكر جابر رضي الله عنه في حديثه ان النبي صلى الله عليه وسلم
وقف على راحلته وجعل نحرها إلى بطن المحراب فوقف عليها مستقبل القبلة يدعو وفي
الحديث خير المواقف ما استقبلت به القبلة وان اختار بوقوفه موضعا آخر بالبعد من الامام
جاز لحديث عطاء رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرفة كلها موقف وفجاج
مكة كلها منحر وفى حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف
وارتفعوا عن وادى محسر وفي وقوفه يدعو هكذا رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال أفضل دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك
له إلى آخره اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفى بصرى نورا اللهم اشرح لي
صدري ويسر لي أمري حديث فيه طول وقد بينا أنه يختار من الدعاء ما يشاء واجتهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في هذا الموقف لامته فاستجيب له الا في الدماء
والمظالم (قال) ويلبى في هذا الموقف عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى الحاج يقطع التلبية
كما يقف بعرفة لان اجابته باللسان إلى أن يحضر وقد تم حضوره فان معظم أركان الحج الوقوف
17

بعرفة قال صلى الله عليه وسلم الحج عرفة ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أنه لبى عشية عرفة فقال له رجل يا شيخ ليس هذا موضع التلبية فقال ابن مسعود
رضي الله عنه أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك حججت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فما زال يلبى حتى رمى جمرة العقبة ولان التلبية في هذه العبادة
كالتكبير في الصلوات وكما يأتي بالتكبير إلى آخر الصلاة فكذلك يأتي بالتلبية هنا إلى وقت
الخروج من الاحرام وذلك عند الرمي يكون (قال) وإذا غربت الشمس دفع على هبنته
على هذا اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف بعرفة حتى إذا غربت
الشمس دفع منها وروى أنه خطب عشية عرفة فقال أيها الناس ان أهل الجاهلية والأوثان
يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس إذا تعممت بها رؤس الجبال كعمائم الرجال في وجوههم
وان هدينا ليس كهديهم فادفعوا بعد غروب الشمس فقد باشر ذلك وأمر به إظهارا لمخالفة
المشركين فليس لأحد أن يخالف ذلك إلا أنه ان خاف الزحام فتعجل قبل الامام فلا بأس
به إذا لم يخرج من حدود عرفة قبل غروب الشمس وكذلك أن مكث قليلا بعد غروب
الشمس وذهاب الامام مع الناس لخوف الزحام فلا بأس به بعد أن لا يطوله لحديث عائشة
رضى الله تعالى عنها أنها بعد إفاضة الامام دعت بشراب فأفطرت ثم أفاضت (قال) ويمشى
على هينته في الطريق هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس ليس البر في ايجاف
الخيل ولا في ايضاع الإبل عليكم بالسكينة والوقار. وروى جابر رضى الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي على راحلته في الطريق على هينته حتى إذا كان في بطن
الوادي أوضع راحلته وجعل يقول
إليك تعدو قلقا وضينها * مفارقا دين النصارى دينها
* معترضا في بطنها جنينها *
فزعم بعض الناس أن الايضاع في هذا الموضع سنة ولسنا نقول به وتأويله ان راحلته كلت
في هذا الموضع فبعثها فانبعثت كما هو عادة الدواب لا أن يكون قصده الايضاع (قال) ولا
يصلى المغرب في الطريق حتى يأتي المزدلفة لما روى أن أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه
كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق من المزدلفة فقال الصلاة يا رسول الله
فقال عليه الصلاة والسلام الصلاة أمامك ومراده من هذا اللفظ اما الوقت أو المكان ولم
18

يصل حتى انتهى إلى المزدلفة فكان ذلك دليلا ظاهرا على أنه لا يشتغل بالصلاة قبل الاتيان
إلى المزدلفة فإذا أتى المزدلفة نزل بها مع الناس وإنما ينزل عن يمين الطريق أو عن يساره ويتحرز
عن النزول على الطريق كيلا يضيق على المارة ولا يتأذى هو بهم فيصلى المغرب والعشاء
باذان وإقامة واحدة وقال زفر رحمه الله تعالى باذان وإقامتين هكذا رواه ابن عمر رضي الله عنهما
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاما جابر رضي الله عنه يروى أنه جمع بينهما
بأذان وإقامة واحدة والمراد بحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أيضا إلا أنه سمى الأذان
إقامة وكل واحد منهما يسمى باسم صاحبه قال صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين
صلاة لمن شاء يريد بين الأذان والإقامة ثم العشاء هنا مؤداة في وقتها المعهود فلا تقع
الحاجة إلى افراد الإقامة لها بخلاف العصر بعرفات فإنها معجلة على وقتها وان صح أن النبي
صلى الله عليه وسلم أفرد الإقامة فتأويله أنه اشتغل بين الصلاتين بنفل أو شغل آخر
وعندنا في مثل هذا الموضع تفرد الإقامة للعشاء وقد ذكر في بعض روايات ابن عمر رضي الله عنه
أنه تعشى بعد المغرب ثم أفرد الإقامة للعشاء (قال) ثم يبيت بها فإذا انشق
الفجر صلى الفجر بغلس هكذا رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
صلى العشاء بالمزدلفة بسط له شئ فبات عليه فلما طلع الفجر صلى الفجر. وقال ابن
مسعود رضي الله عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قبل ميقاتها
إلا صلاة الفجر صبيحة الجمع فإنه صلاها يومئذ بغلس ولان الاسفار بالفجر وإن كان أفضل
في سائر المواضع ففي هذا الموضع التغليس أفضل لحاجته إلى الوقوف بعده وفي الاسفار
بعض التأخير في الوقوف فإذا كان يجوز تعجيل العصر على وقتها للحاجة إلى الوقوف بعدها
فلان يجوز التغليس بالفجر كان أولى (قال) ثم يقف بالمشعر الحرام مع الناس يحمد الله
تعالى ويثنى عليه ويهلل ويكبر ويلبى ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله تعالى
بحاجته وهذا الوقوف منصوص عليه في القرآن والوقوف بعرفات مشار إليه في قوله تعالى
فإذا أفضتم من عرفات الآية وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع
يدعو حتى قال ابن عباس رضي الله عنه رأيت يديه عند نحره بالمشعر الحرام وهو يدعو
كالمستطعم المسكين وإنما تم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف فإنه
دعا لامته فاستجيب له في الدماء والمظالم أيضا والناس في الجاهلية كانوا متفقين على هذا
19

الموقف مختلفين في الوقوف بعرفة فان الحمس كانوا لا يقفون بعرفة ويقولون لا يعظم غير
الحرم حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف بعرفة جعل الناس تعجبون ويقولون فما
بينهم هذا من الحمس فما باله خرج من الحرم فعرفنا أنه ينبغي أن لا يترك الوقوف بالمشعر
الحرام حتى إذا أسفر جدا دفع قبل أن تطلع الشمس هكذا رواه جابر وابن عمر رضي الله عنه
ما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمشعر الحرام حتى إذا كادت الشمس ان تطلع دفع إلى
منى وان أهل الجاهلية كانوا لا يدفعون من هذا الموقف حتى تطلع الشمس فإذا طلعت
وصارت كالعمائم على رؤس الجبال دفعوا وكانوا يقولون أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ودفع قبل طلوع الشمس فيجب الاخذ بفعله لما فيه من إظهار مخالفة
المشركين كما في الدفع من عرفات فإذا أتى منى يأتي جمرة العقبة ويرميها من بطن الوادي
بسبع حصيات مثل حصى الحذف لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى منى يوم النحر
لم يعرج على شئ حتى رمى جمرة العقبة وقال أول نسكنا هنا بمنى ان نرمى ثم نذبح ثم نحلق
ويرميها من بطن الوادي لما روى أن ابن مسعود رضي الله عنه وقف في بطن الوادي
فرمى سبع حصيات فقيل له ان ناسا يرمونها من فوقها أجهل الناس أم نسوا هذا والله
الذي لا اله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهكذا نقل عن ابن عمر رضي الله عنهما
انه رمى جمرة العقبة من بطن الوادي وقال هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يرمى
مثل حصى الحذف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما ان يناوله
سبع حصيات فأخذهن بيده وجعل يقول للناس بمثل هذا فارموا وفى رواية عليكم بحصى الحذف
لا يؤذى بعضكم بعضا والقصود اتباع سنة الخليل عليه السلام وبهذا القدر يحصل المقصود فلو
رمي بأكبر من حصى الحذف ربما يصيب انسانا فيؤذيه ويكبر مع كل حصاة ويقطع التلبية عند
أول حصاة يرمى بها جمرة العقبة اما قطع التلبية عند الرمي فقد رواه ابن مسعود رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه جابر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
قطع التلبية عند أول حصاة رمي بها جمرة العقبة وأما التكبير عند كل حصاة فقد رواه ابن
عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن سالم بن عبد الله انه لما أراد الرمي
وقف في بطن الوادي وجعل يقول عند رمى كل حصاة بسم الله والله أكبر اللهم اجعله حجا
مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا ثم قال هكذا حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه
20

وسلم أنه قال عند كل حصاة مثل ما قلت (قال) وابتداء وقت الرمي عندنا من وقت طلوع
الفجر من يوم النحر وعلى قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى من وقت طلوع الشمس وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يجوز الرمي بعد النصف الأول من ليلة النحر واستدل الثوري رحمه
الله تعالى بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله من
المزدلفة وجعل يلطخ أفخاذهم ويقول أغيلمة بنى عبد المطلب لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع
الشمس وحجتنا في ذلك ما روى أنه لما قدم ضعفة أهله قال أي بني لا ترموا جمرة العقبة
الا مصبحين فنعمل بالحديثين جميعا فنقول بعد الصبح يجوز وتأخيره إلى ما بعد طلوع
الشمس أولى واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص
للرعاة أن يرموا ليلا وتأويل ذلك عندنا في الليلة الثانية والثالثة دون الأول والمعنى فيه أن
دخول وقت الرمي بخروج وقت الوقوف إذ لا يجتمع الرمي والوقوف في وقت واحد
ووقت الوقوف يمتد إلى طلوع الفجر فوقت الرمي يكون بعده أو وقت الرمي هو وقت
التضحية وإنما يدخل وقت التضحية بطلوع الفجر الثاني فكذلك وقت الرمي (قال) ولا
يرمى يومئذ من الجمار غيرها لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم في
اليوم الأول الا جمرة العقبة (قال) ولا يقوم عندها لأنه قد بقي عليه أعمال يحتاج إلى
أدائها في هذا اليوم ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عند جمرة العقبة ولكنه يأتي منزله
فيحلق أو يقصروا لحلق أفضل لأنه جاء أوان التحلل عن الاحرام والتحلل بالحلق أو بالتقصير
كما أشار الله عز وجل إليه في قوله ثم ليقضوا تفثهم وقضاء التفث بالحلق يكون وروى أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح هداياه دعى بالحلاق فأهوى إليه الشق الأيمن من رأسه
فحلقه وقسم شعره على أصحابه رضى الله تعالى عنهم ثم حلق الشق الأيسر وأعطى شعره أم
سليم رضى الله تعالى عنها ولم يذكر الذبح هنا لأنه من حكم المفرد بالحج وليس عليه هدي
وهو مسافر أيضا لا تلزمه التضحية ولكنه لو تطوع بذبح الهدى فهو حسن يذبح بعد
الرمي قبل الحلق لما روينا أن أول نسكنا أن نرمى ثم نذبح ثم نحلق والحلق أفضل من التقصير
لان الله تعالى بدأ به في كتابه في قوله محلقين رؤوسكم ومقصرين وقال ولا تحلقوا رؤوسكم
حتى يبلغ الهدى محله فهذا بيان أنه ينبغي أن يتحلل بالحلق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
رحمه الله المحلقين فقيل والمقصرين فقال رحمه الله المحلقين حتى قال في الرابعة والمقصرين فقد
21

ظاهر في هذا الدعاء ثلاث مرات للمحلقين فدل أنه أفضل (قال) ثم قد حل له كل شئ
الا النساء فالحاصل أن في الحج احلالين أحدهما بالحلق والثاني بالطواف فبالحق يحل له كل
شئ كان حراما على المحرم الا النساء وقال مالك رحمه الله تعالى الا النساء والطيب. وقال
الليث رحمه الله تعالى الا النساء وقتل الصيد لأنهما محرمان بنص القرآن فلا ترتفع حرمتهما
الا بتمام الاحلال ولكنا نقول قتل الصيد ليس نظير الجماع الا يري أن الاحرام يفسد
بالجماع وقتل الصيد لا يفسده فكان هو نظير سائر المحظورات يرتفع بالحلق ومالك رحمه
الله تعالى يقول استعمال الطيب من دواعي الجماع فلا يحل الا بالطواف كنفس الجماع وحجتنا
حديث عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل
أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت واستعمال الطيب لا يفسد الاحرام بحال بخلاف
النساء فكان قياس سائر المحظورات ولهذا الأصل قال الشافعي رحمه الله تعالى حرمة الجماع
فيما دون الفرج ترتفع بالحلق أيضا لأنه لا يفسد الاحرام بحال ولكنا نقول ما يقصد منه
قضاء الشهوة بالنساء فحله مؤخر إلى تمام الاحلال بالطواف شرعا وفي ذلك الجماع في الفرج
وفيما دون الفرج سواء (قال) ثم يزور من يومه ذلك البيت إن استطاع أو من الغد
أو من بعد الغد ولا يؤخره إلى ما بعد ذلك فيطوف به أسبوعا ويصلى ركعتين لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق أفاض إلى مكة فطاف بالبيت ثم عاد إلى منى وصلى الظهر
بمنى وفى بعض الروايات أنه أتى بمكة ليلا فطاف ووجه التوفيق أنه في أيام منى كان يأتي
مكة بالليل مستترا فيطوف فمن رأى ذلك منه ظن أن طوافه ذلك للزيارة فنقل كما وقع
عنده وإنما طاف للزيارة قبل الظهر وطواف الزيارة ركن الحج وهو الحج لا كبر في تأويل
قوله تعالى واذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ووقته أيام النحر فلا ينبغي
أن يؤخره عن أيام النحر والأفضل أداؤه في أول أيام النحر كالتضحية لقوله صلى الله عليه
وسلم أيام النحر ثلاثة أفضلها أو لها ثم لم يذكر السعي عقيب هذا الطواف لأنه قد سعى
عقيب طوافه التحية وليس عليه في الحج الا سعى واحد فان قيل السعي واجب أو ركن
وطواف التحية سنة فكيف يترتب ما هو واجب على ما هو سنة قلنا نعم لكن الشرع جوز
له أداء هذا الواجب عقيب طواف هو سنة للتيسير فان الطواف الذي هو ركن
لا يجوز قبل يوم النحر وفى يوم النحر على الحاج أعمال كثيرة ولو وجب عليه أداء السعي
22

في هذا اليوم لحقته المشقة فللتيسير جوز له أداء السعي عقيب طواف التحية فلا يعيده يوم
النحر وكذلك لا يرمل في طوافه يوم النحر لان الرمل سنة أول طواف يأتي به في الحج
فقد أتى به في طواف فلا يعيده في طواف الزيارة لكنه يصلى ركعتين عقيب الطواف
لان ختم كل طواف يكون بركعتين واجبا كان الطواف أو نفلا ثم قد حل له النساء لأنه تم
احلاله ثم يرجع إلى منى فإذا كان الغد من يوم النحر رمي الجمار الثلاثة بعد زوال الشمس
يبدأ بالتي تلى المسجد فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه
الناس فيقوم فيه فيحمد الله جلت قدرته ويثنى عليه ويهلل ويكبر ويصلى على النبي صلى الله
عليه وسلم ويدعو بحاجته ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات كذلك ثم يقوم حيث
يقوم الناس فيصنع في قيامه كما صنع في الأول ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها من بطن الوادي
بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ولا يقيم عندها هكذا رواه جابر رضي الله عنه مفسرا
فيما نقل من نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث المشهور ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال لا ترفع الأيدي الا في سبعة مواطن عند افتتاح الصلاة وعند القنوت في الوتر وفي
العيدين وعند استلام الحجر وعلى الصفا والمروة وبعرفات وبجمع عند المقامين عند الجمرتين
وهذا دليل على أنه إنما يقيم عند الجمرتين الأولى والوسطى ولا يقيم عند جمرة العقبة والمراد
من رفع اليدين الرفع للدعاء دل على أن الدعاء عند المقامين وينبغي للحاج أن يستغفر
للمؤمنين والمؤمنات في دعائه في هذا الموقف قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للحاج
ولمن استغفر له الحاج والحاصل أن كل رمى بعده رمي فحال الفراغ منه حال وسط العبادة
فيأتي بالدعاء فيه وكل رمي ليس بعده رمى فبالفراغ منه قد فرغ من العبادة فلا يقيم بعده
للدعاء ولم يذكر في الكتاب ان الرمي ماشيا أفضل أم راكبا وحكي عن إبراهيم الجراح
قال دخلت على أبي يوسف رحمه الله تعالى في مرضه الذي مات فيه ففتح عينيه وقال الرمي
راكبا أفضل أم ماشيا فقلت ماشيا فقال أخطأت فقلت راكبا فقال أخطأت ثم قال كل
رمي كان بعده وقوف فالرمي فيه ماشيا أفضل وما ليس بعده وقوف فالرمي راكبا أفضل
فقمت من عنده فما انتهيت إلى باب الدار حتى سمعت الصراخ لموته فتعجبت من حرصه
على العلم في مثل تلك الحالة والذي رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
رمى الجمار كلها راكبا إنما فعله ليكون أشهر للناس حتى يقتدوا به فيما يشاهدون منه الا ترى
23

أنه قال خذوا عنى مناسككم فلا أدرى لعلى لا أحج بعد هذا العام فإذا كان من الغد رمى
الجمار الثلاث حين تزول الشمس كذلك ثم ينفر إن أحب من يومه فان أقام إلى الغد وهو
آخر أيام التشريق فعل كما فعل بالأمس لقوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن
تأخر فلا اثم عليه (قال) وقد كان يكره له أن ينفر قبل أن يقدم ثقله لما روى عن عمر
رضي الله عنه أنه كان يمنع الناس منه ويؤدب عليه ولأنه شغل قلبه بهم إذ قدمهم قبله وربما
يمنعه شغل القلب من اتمام سنة الرمي ولا يأمن أن يضيع شئ من أمتعتهم فلهذا كره له
أن يقدم ثقله (قال) ثم يأتي الا بطح فينزل به ساعة وهذا اسم موضع قد نزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين انصرف من منى إلى مكة يسمى المحصب والأبطح وكان ابن
عباس رضي الله عنها يقول ليس النزول فيه ولكنه موضع نزله رسول الله صلى الله
عليه وسلم اتفاقا ولا صح عندنا أنه سنة وإنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا
على ما روى أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم بمنى انا نازلون غدا بالخيف خيف بنى كنانة
حيث تقاسم المشركون فيه على شركهم يريد به الإشارة إلى عهد المشركين في ذلك الموضع
على هجران بني هاشم فعرفنا أنه نزوله إراءة للمشركين لطيف صنع الله تعالى به فيكون
النزول فيه سنة بمنزلة الرمل في الطواف (قال) ثم يطوف طواف الصدر ويصلى ركعتين
لقوله صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف ورخص
للنساء الحيض ويسمى هذا الطواف طواف الوداع وطواف الصدر لأنه يودع به البيت
ويصدر به عن البيت (قال) ثم يرجع إلى أهله وقد قال شيخنا الامام رحمه الله تعالى
يستحب له أن يأتي الباب ويقبل العتبة ويأتي الملتزم فيلتزمه ساعة يبكي ويتشبث بأستار
الكعبة ويلصق جسده بالجدار أن تمكن ثم يأتي زمزم فيشرب من مائه ثم يصب منه على
بدنه ثم ينصرف وهو يمشي وراءه ووجهه إلى البيت متباكيا متحسرا على فوات البيت
حتى يخرج من المسجد فهذا بيان تمام الحج الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله
من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقال العمرة إلى
العمرة كفارة لما بينهما والحجر المبرور ليس له جزاء الا الجنة (قال) وإن كان الذي أتى
مكة لطواف الزيارة بات بها فنام متعمدا أو في الطريق فقد أساء وليس عليه شئ الا الإساءة
لما روى أن عمر رضي الله عنه كان يؤدب الناس على ترك المقام بمنى في ليالي الرمي ولكن
24

ليس عليه شئ عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى ان ترك البيتوتة ليلة فعليه مد وان ترك
ليلتين فعليه مدان وان ترك ثلاث ليال فعليه دم وقاس ترك البيتوتة في وجوب الجزاء به
بترك الرمي ولكنا نستدل بحديث العباس رضي الله عنه انه استأذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في البيتوتة بمكة في ليالي الرمي لأجل السقاية فأذن له في ذلك ولو كان ذلك واجبا
ما رخص له في تركه لأجل الساقية ولأن هذه البيتوتة غير مقصودة بل هي تبع للرمي في
هذه الأيام فتركها لا يوجب الا الإساءة كالبيتوتة بمزدلفة ليلة يوم النحر والله أعلم
باب القران
(قال) رضي الله عنه ومن أراد القران فعل مثل ذلك (والكلام هنا في فصول) أحدها
في تفسير القران والتمتع والافراد فالقران هو الجمع بين الحج والعمرة بأن يحرم بهما أو يحرم
بالحج بعد احرام العمرة قبل أداء الاعمال من قولهم قرن الشئ إلى الشئ إذا جمع بينهما
والتمتع هو الترفق بأداء النسكين في سفر واحد من غير أن يلم بينهما باهله الماما صحيحا
والافراد بالحج ان يحج أولا ثم يعتمر بعد الفراغ من الحج أو يؤدى كل نسك في سفر
على حدة أو يكون أداء العمرة في غير أشهر الحج (والفصل الثاني) في بيان الأفضل
فعندنا الأفضل هو القران ثم بعده التمتع وعلى رواية ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى الافراد أفضل من التمتع وعن محمد رحمه الله تعالى قال حجة كوفية وعمرة كوفية
أفضل عندي من القران وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى الافراد أفضل من القران وعلى
قوله مالك رحمه الله تعالى لتمتع أفضل من القران فالشافعي استدل بحديث جابر رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحج وانا ممن كنت أفرد وهكذا روت عائشة
رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وإنما حج رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد الهجرة مرة فما كان يترك ما هو الأفضل فيما يؤديه مرة واحدة ولان القران
رخصة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها إنما أجرك على قدر
تعبك ونصبك وإنما القران رخصة والافراد عزيمة والتمسك بالعزيمة خير من التمسك
بالرخصة ولان في الافراد زيادة الاحرام والسعي والحلق فان القارن يؤدى النسكين
بسفر واحد ويلبى لهما تلبية واحدة ويحلق لهما حلقا واحدا ولأجل هذا النقصان يجب عليه
25

الدم جبرا والمفرد يؤدى كل نسك بصفة الكمال وأداء النسك بصفة الكمال يكون أفضل
من ادخال النقصان والجبر فيها ومالك رحمه الله تعالى استدل بحديث عثمان رضي الله عنه ان
النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج وعلماؤنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث على
وابن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين
الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين. وعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه
قال كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقصع بجرتها ولعابها يسيل
على كتفي وهو يقول لبيك بحجة وعمرة معا وأهل الحديث جمعوا رواة نسك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فكانوا ثلاثين نفرا فعشرة منهم تروى أنه كان قارنا وعشرة انه كان
مفردا وعشرة انه كان متمتعا فنوفق بين هذه الروايات فنقول لبى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أولا بالعمرة فسمعه بعض الناس ثم رأوه بعد ذلك حج فظنوا أنه كان متمتعا
فنقلوا كما وقع عندهم ثم لبى بعد ذلك بالحج فسمعه قوم آخرون فظنوا أنه كان مفردا بالحج ثم
لبى بهما فسمعه قوم آخرون فعلموا أنه كان قارنا وكل نقل ما وقع عنده وهو نظير ما روينا
من توفيق ابن عباس رضي الله عنه في اختلاف الروايات في وقت تلبية رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم لما وقع الاختلاف في فعله نصير إلى قوله وقد قال صلى الله عليه وسلم
أتاني آت من ربى وأنا بالعقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة
وعمرة معا وقال صلى الله عليه وسلم يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا ولان في القران
معنى الوصل والتتابع في العبادة ومعنى الجمع بين العبادتين وهو أفضل من إفراد كل
واحد منهما كالجمع بين الصوم والاعتكاف والجمع بين الحراسة في سبيل الله تعالى
مع صلوات الليل ولان في القران زيادة نسك وهو إراقة دم الهدى وقد قال صلى الله
عليه وسلم أفضل الحج العج والثج والثج إراقة الدم والكلام في الحقيقة ينبنى على هذا
الحرف فان دم القران عنده دم جبر حتى لا يباح التناول منه وعندنا هو دم نسك
يباح التناول منه والدليل على أنه دم نسك أنه يتوقت بأيام النحر كالأضحية ودم الجبر
لا يتوقت به وان سببه مباح محض ودم الجبر يستدعى سببا محظورا لان النقصان إنما
يتمكن بارتكاب مالا يحل وقد تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداياه على ما روى أنه
ساق مائة بدنة فنحر نيفا وستين بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه ثم امر يؤخذ
26

من كل واحدة قطعة فتطبخ له فأكل من لحما وحسا من مرقها وقد صح عندنا أنه صلى الله
عليه وسلم كان قارنا فدل ان دم القران يباح التناول منه وإذا ثبت أنه دم نسك فما يكون
فيه زيادة نسك فهو أفضل ولهذا جعل التمتع أفضل من الافراد في ظاهر الرواية لان فيه
زيادة نسك الا ان القران أفضل منه لما فيه من زيادة التعجيل بالاحرام بالحج واستدامة
احرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما وفى حق المتمتع العمرة ميقاتية والحجة مكية وعلى
رواية ابن شجاع رحمه الله تعالى الافراد أفضل من التمتع لهذا المعنى ان حجة المتمتع مكية
يحرك بها من الحرم والمفرد يحرم بكل واحد منهما من الحل ولهذا جعل محمد رحمه الله
تعالى الافراد بكل واحد منهما من الكوفة أفضل لأنه ينشئ سفرا مقصودا لكل واحد
منهما وقد صح ان عمر رضي الله عنه نهى الناس عن المتعة فقال متعتان كانتا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا أنهى الناس عنهما متعة النساء ومتعة الحج وتأويله أنه كره
أن يخلو البيت عن الزوار في غير أشهر الحج فأمرهم أن يعتمروا بسفر مقصود في غير
أشهر الحج كيلا يخلو البيت من الزوار في شئ من الأوقات لا أن يكون التمتع مكروها
عنده بدليل حديث الصبي بن معبد قال كنت امرأ نصرانيا فأسلمت فوجدت الحج
والعمرة واجبتين على فقرنت بينهما فلقيت نفرا من الصحابة فيهم زيد بن صوحان وسلمان
ابن ربيعة رضي الله عنهما فقال أحدهما لصاحبة هو أضل من بعيره فلقيت عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فأخبرته بذلك فقال ما قالا ليس بشئ هديت لسنة نبيك صلى الله عليه
وسلم إذا عرفنا هذا فنقول من أراد القران فتأهبه للاحرام كتأهب المفرد على ما بينا إلا أنه
في دعائه بعد الفراغ من الركعتين يقول اللهم إني أريد العمرة والحج وكذلك يلبى بهما
ويقول لبيك بعمرة وحجة معا وإنما يقدم ذكر العمرة لان الله تعالى قدمها في قوله تعالى
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ولأنه في أداء الأفعال يبدأ بالعمرة فكذلك في الاحرام يبدأ
في التلبية بذكر العمرة وان اكتفي بالنية ولم يذكرهما في التلبية أجزأه على قياس الصلاة
إذا نوى بقلبه الصلاة وكبر (قال) ثم يبدأ إذا دخل مكة بطواف العمرة بالبيت
وسعى بين بين الصفا والمروة على نحو ما وصفنا في الحج ثم يطوف للحج بالبيت ويسعي له بين
الصفا والمروة وهذا عندنا ان القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين وعند الشافعي رحمه الله
تعالى يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا واحتج بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي
27

صلى الله عليه وسلم طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا هكذا رواه الشافعي
وهو منه تناقض بين فإنه روى عن عائشة رضي الله عنها في المسألة الأولى أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان مفردا ثم روى في هذه المسألة أنه كان قارنا وطاف لهما طوافا واحدا
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها طوافك بالبيت يكفيك
لحجك ولعمرتك وقال صلى الله عليه وسلم دخلت العمرة في الحجة إلى يوم القيامة والمعنى
فيه أن مبنى القران على التداخل ألا ترى أنه يكتفي لهما بتلبية واحدة وسفر واحد وحلق
واحد فكذلك يثبت التداخل في الأركان ولأن العمرة تبع للحج فهي من الحج بمنزلة
الوضوء مع الاغتسال فكما يدخل الوضوء في الاغتسال فكذلك العمرة في الحج وحجتنا
حديث علي رضي الله عنه وابن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهم أن النبي صلى
الله عليه وسلم قرن وطاف لهما طوافين وسعى سعيين وحديث الصبي بن معبد أنه قرن
وطاف طوافين وسعى سعيين فقال له عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك صلى الله عليه
وسلم وفى الكتاب ذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال يطوف القارن طوافين ويسعى سعيين
والمعنى فيه أن القران ضم الشئ إلى الشئ وإنما يتحقق ذلك لأداء عمل كل نسك بكماله
ولان كل واحد منهما عبادة محضة ولا تداخل في اعمال العبادات إنما التداخل فيما يندرئ
بالشبهات ألا ترى أنه لا يتداخل أشواط طواف واحد وسعى واحد ومعنى الدخول
المذكور في الحديث الوقت أي دخل وقت العمرة في وقت الحج على معنى أنه يؤديهما
في وقت واحد والسفر والتلبية والحلق غير مقصودة إنما السفر للتوصل إلى أداء النسك
والتلبية للتحرم والحلق للتحلل فلا تكون مقصودة وإنما المقصود أركان العبادة ألا ترى
أن أداء شفعين من التطوع بتكبيرة واحدة مقصودة واحدة وتسليمة واحدة يجوز ولا يدخل أحد الشفعين
في الآخر والوضوء مع الاغتسال غير مقصود بل المقصود تطهير البدن ليقوم إلى المناجاة
طاهرا وقد حصل ذلك بالاغتسال وهنا كل نسك مقصود فيلزمه أداء اعمال كل واحد منهما
والحديث الذي رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضى الله تعالى عنها طوافك
بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك لا يكاد يصح فإنها قد رفضت العمرة بأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين حاضت بسرف على ما نبينه من بعد أن شاء الله تعالى (قال) ثم
يأتي بالاعمال حتى إذ رمى جمرة العقبة يوم النحر ذبح هدى القران وتجزئه الشاة لقوله تعالى
28

فما استيسر من الهدي قال ابن عباس رضى الله تعالى عنه ما استيسر من الهدى شاة. وفي
حديث جابر رضى الله تعالى عنه قال اشتركنا حين كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في البقرة سبعة وفى البدنة سبعة وفي الشاة واحد والبقرة أفضل من الشاة والجزور
أفضل من البقرة لقوله تعالى ومن يعظم شعائر الله فما كان أقرب في التعظيم فذلك أفضل
وقد نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة في حجة الوداع ولو كان ساق هداياه مع
نفسه كان أفضل من ذلك كله لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق الهدايا مع نفسه
وقلدها هكذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كنت أفتل قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلدها بيده وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما انى قلدت هديي ولبدت رأسي
فلا أحل حنى أحل منهما جميعا. وفى رواية فلا أحل حتى أنحر ولهذه الرواية قال الشافعي
رحمه الله تعالى تحلل القارن بالذبح لا بالحلق ولكنا نقول التحلل يحصل بالحلق كما في حق
المفرد وتأويل الحديث حتى أنحر ثم أحلق بعده على ما روينا أنه حلق رأسه بعد ذبح الهدايا
ولان التحلل من العبادة بما لا يحل في أثنائها كالسلام في الصلاة وذلك بالحلق أو التقصير
دون الذبح (قال) وإذا طاف الرجل بعد طواف الزيارة طوافا ينوى به التطوع أو
طواف الصدر وذلك بعد ما حل النفر فهو طواف الصدر لأنه أتى به في وقته فيكون عنه
وان نوى غيره كمن نوى بطواف الزيارة يوم النحر التطوع يكون للزيارة بل أولى لان
ذلك ركن وهذا واجب (قال) ولا بأس بان يقيم بعد ذلك ما شاء ثم يخرج ولكن الأفضل
أن يكون طوافه حين يخرج وعن أبي يوسف والحسن رحمهما الله تعالى قالا إذا اشتغل
بعمل مكة بعد طواف الصدر يعيد طواف الصدر لأنه كاسمه يكون للصدر فإنما يحتسب
به إذا أداه حين يصدر وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم وليكن آخر عهده الطواف بالبيت
يشهد لهذا ولكنا نقول ما قدم مكة الا لأداء النسك فعند ما تم فراغه منها جاء أوان الصدر
فطوافه بعد ذلك يكون للصدر وتأويل الحديث ان آخر نسكه طواف الصدر لا آخر عمله
بمكة وأما العمرة المفردة إذا أرادها يتأهب لها مثل ما وصفنا في الحج إذا أراد الاحرام بها
عند الميقات وكذلك أن كان بمكة وأراد أن يعتمر خرج من الحرم إلى الحل من أي جانب
شاء وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها وسبب ذلك أنها قالت
يا رسول الله أو كل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا بنسك واحد فامر أخاها عبد الرحمن أن
29

يعمرها من التنعيم مكان عمرتها يعنى مكان العمرة التي رفضتها على ما نبينه إن شاء الله تعالى
فمن ذلك الوقت عرف الناس موضع احرام العمرة فيخرجون إليه إذا أرادوا الاحرام بالعمرة
وهو من جملة ما قيل ما نزل بعائشة رضي الله عنها أمر تكرهه الا كان للمسلمين فيه فرج
ثم بعد احرامه يتقى ما يتقيه في احرام الحج على ما ذكرنا حتى يقدم مكة ويدخل المسجد فيبدأ
بالحجر فيستلمه ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم يحلق أو يقصر وقد فرغ من
عمرته وحل له كل شئ هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء حين اعتمر
من الجعرانة والاختلاف في فصول أحدها ان عندنا يقطع التلبية في العمرة حين يستلم الحجر
الأسود عند أول شوط من الطواف بالبيت وعند مالك رحمه الله تعالى كما وقع بصره على
البيت يقطع التلبية لأن العمرة زيارة البيت وقد تم حضوره بوقوع بصره على البيت ولان
هذا الطواف هو الركن في العمرة بمنزلة طواف الزيارة في الحج فكما يقدم قطع التلبية هناك
على الاشتغال بالطواف فهنا يقدم قطع التلبية على الاشتغال بالطواف ولكنا نستدل بحديث ابن
مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء قطع التلبية حين استلم
الحجر الأسود والمعنى فيه أن قطع التلبية هنا عند الطواف بالاتفاق لان مالكا رحمه الله
تعالى اعتبر وقوع بصره على البيت ورؤية البيت غير مقصودة إنما المقصود الطواف فينبغي
أن يكون القطع مع افتتاح الطواف وذلك عند استلام الحجر كما قلنا في الحج ان قطع
التلبية عند الرمي وذلك مع أول حصاة يرمي بها (والثاني) أن في العمرة بعد الطواف
والسعي يحلق عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى لا حلق عليه إنما العمرة الطواف والسعي
فقط وحجتنا قوله تعالى محلقين رؤوسكم ومقصرين وهو بشرى لهم بما عاينوه في عمرة القضاة
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالحلق وحلق رأسه في عمرة القضاء ولان
التحرم للاحرام بالتلبية والتحلل بالحلق فكما سوى بين احرام العمرة واحرام الحج في التحرم
فكذلك في التحلل ألا ترى أن في باب الصلاة سوى بين المكتوبة والنافلة في التحرم
بالتكبير والتحلل بالتسليم فكذلك هذا (قال) وكذا ان أراد التمتع ولم يسق هديا ويقيم
بمكة بعد الفراغ من العمرة حلالا وقد بينا صورة التمتع وهو أن يعتمر في أشهر الحج ويحج
من عامة ذلك من غير أن يلم بأهله بين النسكين الماما صحيحا وكان مالك رحمه الله تعالى
يقول إن أتى بالعمرة قبل أشهر الحج ولم يتحلل من احرامه العمرة حتى دخلت أشهر الحج
30

فهو متمتع. وقال الشافعي رحمه الله إذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج لم يكن متمتعا وإن كان
أداء أعمال العمرة في أشهر الحج فعنده المعتبر وقت الاحرام بالعمرة وعند مالك رحمه
الله تعالى وقت التحلل من الاحرام ونحن نقول إن كان أداء الاعمال قبل أشهر الحج لم يكن
متمتعا لان احرامه في غير أشهر الحج صار بحيث لا يفسد بالجماع فهو بمنزلة ما لو لم يحل
منه وإن لم يأت بالاعمال حتى دخلت أشهر الحج فاحرامه للعمرة في أشهر الحج بحيث يفسد
بالجماع فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج لأنه مترفق بأداء النسكين في أشهر الحج ثم هو
على ثلاثة أوجه اما أن يصبر بمكة بعد الفراغ من العمرة حتى يؤدى الحج فيكون متمتعا
بالاتفاق واما أن يعود إلى أهله بعد ما حل من عمرته ثم حج من عامه ذلك فلا يكون
متمتعا باجماع بين أصحابنا وفى أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى يكون متمتعا ويقول لا أعرف
ذلك الا لمام ماذا يكون فهو بناء على أصله في أن المكي له المتعة والقران ويأتي بيان هذا
في موضعه إن شاء الله تعالى واعتمادنا فيه على حديث ابن عباس رضي الله عنه قال إذا ألم
بأهله بين النسكين الماما صحيحا فهو متمتع وهكذا روى عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما
وكان المعنى فيه وهو أنه أنشأ لكل نسك سفرا من أهله والمتمتع من يترفق بأداء النسكين
في سفر واحد فاما إذا جاوز الميقات بعد الفراغ من العمرة فأتى بلدة أخرى غير بلدته
بأن يكون كوفيا فأتى البصرة ثم عاد وحج من عامه ذلك كان متمتعا في قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى ولم يكن متمتعا في قولهما ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه وجه قولهما ان
صورة المتمتع أن تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية وهذا حجته وعمرته ميقاتيتان لأنه بعد
ما جاوز الميقات حلالا إذا عاد يلزمه الاحرام من الميقات فهو والذي ألم بأهله سواء وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى استدل بحديث ابن عباس رضي الله عنه فان قوما سألوه فقالوا اعتمرنا في أشهر
الحج ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون ولأنه مترفق بأداء النسكين في سفر واحد لأنه
ماض على سفره ما لم يعد إلى أهله فهو بمنزلة ما لو لم يخرج من الميقات حتى حج وعاد فيكون
متمتعا (قال) وإذا كان يوم التروية وهو بمكة وهو بمكة فأراد الرواح إلى منى ليس الإزار والرداء ولبي
بالحج ان شاء المسجد أو من الأبطح أو من أي موضع من الحرم شاء لان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر أصحابه الذين فسخوا احرام الحج بالعمرة أن يحرموا بالحج يوم التروية من المسجد
الحرام وفي حديث جابر رضي الله عنه قال فخرجنا من مكة فلما جعلناها بظهر أحرمنا بالحج
31

والحاصل ان من بمكة حلال إذا أراد الاحرام بالحج يحرم من الحرم وإذا أراد الاحرام
بالعمرة يحرم من الحل لان موضع أداء الأفعال غير موضع الاحرام وركن العمرة
الطواف وهو مؤدى في الحرم فالاحرام بها يكون في الحل ومعظم الركن في الحج الوقوف
وهو في الحل فالاحرام به يكون في الحرم (قال) وان شاء أحرم بالحج قبل يوم التروية
وما قدم احرامه بالحج فهو أفضل لان فيه إظهار المسارعة والرغبة في العبادة ولأنه أشق
على البدن وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها إنما أجرك على قدر نصبك ولما
سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها (قال) ويروح مع الناس إلى منى فيبيت بها ليلة عرفة
ويعمل على ما وصفناه في الحج في حق المفرد غير أن عليه دم المتعة يوم النحر بعد رمى
جمرة العقبة لقوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى ثم يحلق بعد الذبح
ويزور البيت فيطوف به أسبوعا يرمل في الثلاثة الأول ويمشى في الأربعة الأواخر على هينته
ويصلى ركعتين ويسعى بين الصفا والمروة على قياس ما بيناه في الحج لان هذا أول طواف
يأتي به في الحج وقد بينا أن الرمل في أول طواف الحج سنة والسعي عقيب أول طواف
في الحج وهذا بخلاف المفرد لأنه طاف للقدوم في الحج هناك وسعى بعده فلهذا لا يرمل
في طواف يوم النحر ولا يسعى بعده ولو كان هذا المتمتع بعد ما أحرم بالحج طاف وسعى
قبل أن يروح إلى منى لم يرمل في طواف الزيارة يوم النحر ولم يطف بين الصفا والمروة
أيضا لأنه قد أتى بذلك في الحج مرة وإن كان حين اعتمر في أشهر الحج ساق هديا للمتعة
فينبغي له أن يقلد هديه لقوله تعالى لا تحلوا شعائر الله إلى قوله ولا القلائد ولكن السنة
أن يقلد الهدى بعد ما يحرم بالعمرة لأنه لو قلد الهدى قبل الاحرام وساقه بنية الاحرام صار
محرما هكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفى سياق الآية ما يدل عليه لأنه بعد ذكر
القلائد قال وإذا حللتم فاصطادوا فدل أنه بالتقليد يصير محرما والأولى أن يحرم بالتلبية فلهذا
كان الأفضل أن يلبى أولا ثم يقلد هديه فإذا طاف للعمرة وسعى أقام حراما لان سوق
هدى المتعة يمنعه من التحلل بين النسكين على ما قال صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من
أمري ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة وتحللت منها وقال في حديث آخر أما إني
قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر فإذا كانت عشية التروية أحرم بالحج وان
أحب أن يقدم الاحرام ويطوف بالبيت والصفا والمروة لحجته فعل كما بينا في المتمتع الذي
32

لم يسق الهدى إلا أنه إن لم يطف بعد الاحرام بالحج وسعى لم يرمل في طواف يوم النحر ولم يطف بين الصفا
والمروة (قال) ولا يدع الحلق في جميع ذلك ملبدا أو مضفرا أو عاقصا والتلبيد أن يجمع
شعر رأسه على هامته ويشده بصمغ أو غيره حتى يصير كاللبد والتضفير أن يجعل شعره
ضفائر والعقص هو الاحكام وهو أن يشد شعره حول رأسه وقد بينا أن الحلق أفضل ولا
يدع ما هو الأفضل بشئ من هذه الأسباب وقد لبد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه
كما روينا من قوله ولبدت رأسي ومع ذلك حلق (قال) والمرأة بمنزلة الرجل في جميع
ما وصفناه لأنها مخاطبة كالرجل ألا ترى ان أم سلمة رضي الله عنها لما سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الاغتسال من الجنابة وصف لها حال نفسه في الاغتسال فدل أن حال الرجل
والمرأة سواء غير أنها تلبس ما بدا لا من الدروع والقمصان والخمار والخف والقفازين لأنها
عورة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عورة مستورة وفي لبس الإزار والرداء
ينكشف بعض البدن عادة وهي مأمورة بأداء العبادة على استر الوجوه كما بينا في الصلاة
فلهذا تلبس المخيط والخفين وتغطي رأسها ولا تغطي وجهها لان الرأس منها عورة وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم احرام الرجل في رأسه واحرام المرأة في وجهها فعرفنا أنها لا تغطي
وجهها إلا أن لها أن تسدل على وجهها إذا أرادت ذلك على وجه تجافى عن وجهها هكذا
روى عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا في الاحرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
نكشف وجوهنا فإذا استقبلنا أسدلنا من غير أن نصيب وجوهنا ولا تلبس المصبوغ
بورس ولا زعفران ولا عصفر إلا أن يكون قد غسل لان ما حل في حقها من اللبس كان
للضرورة ولا ضرورة في لبس المصبوغ وهي في ذلك بمنزلة الرجل ولان هذا تزين وهي
من دواعي الجماع وهي ممنوعة من ذلك في الاحرام كالرجل ولا حلق عليها إنما عليها
التقصير هكذا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى النساء عن الحلق وأمرهن
بالتقصير عند الخروج من الاحرام ولان الحلق في حقها مثلة والمثلة حرام وشعر الرأس
زينة لها كاللحية للرجل فكما لا يحلق الرجل لحيته عند الخروج من الاحرام لا تحلق هي
رأسها ولا رمل عليها في الطواف بالبيت ولا بين الصفا والمروة لان الرمل لاظهار التجلد
والقوة والمرأة ليست من أهل القتال لتظهر الجلادة من نفسها ولا يؤمن أن يبدو شئ
33

من عورتها في رملها وسعيها أو تسقط لضعف بنيتها فلهذا تمنع من ذلك وتؤمر بأن تمشى
مشيا فهذا القدر ذكره في الكتاب في الفرق وقد قال مشايخنا انها لا ترفع صوتها بالتلبية
أيضا لما في رفع صوتها من الفتنة وكذلك لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن
مماسة الرجال والزحمة معهم فلا تستلم الحجر الا إذا وجدت ذلك الموضع خاليا عن الرجال
والله سبحانه وتعالى أعلم
باب الطواف
اعلم بان الطواف أربعة ثلاثة في الحج وواحد في العمرة أما أحد الا طوفه في الحج فهو
طواف التحية ويسمى طواف القدوم وطواف اللقاء وذلك عند ابتداء وصوله إلى البيت وهو
سنة عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى هو واجب لان النبي صلى الله عليه وسلم أتى به ثم قال
لأصحابه رضي الله عنهم خذوا عنى مناسككم فهذا أمروا لامر على الوجوب ولان المقصود
زيارة البيت للتعظيم فالنسك الذي يكون عند ابتداء الزيارة يكون واجبا بمنزلة الذكر عند
افتتاح الصلاة وهو التكبير وحجتنا في ذلك أن الله عز وجل أمر بالطواف والامر المطلق
لا يقتضى التكرار وبالإجماع طواف يوم النحر واجب فعرفنا ان ما تقدم ليس بواجب ولأنه
ثبت بالاجماع ان الطواف الذي هو ركن في الحج مؤقت بيوم النحر حتى لا يجوز قبله فما
يؤتى به قبل يوم النحر لا يكون واجبا لأنه يؤتى به في الاحرام ولا يتكرر ركن واحد في
الاحرام واجبا كالوقوف بعرفة فجعلناه سنة لهذا بخلاف طواف الصدر فإنه يؤتى به بعد تمام
التحلل فلو جعلناه واجبا لا يؤدى إلى تكرار الطواف واجبا في الاحرام والطواف في
الحج بمنزلة ثناء الافتتاح في الصلاة لان التلبية عند الاحرام هنا كالتكبير هناك وكما أن
ثنا الافتتاح الذي يؤتى به عقيب التكبير سنة فكذلك الطواف الذي يؤتى به عقيب
الاحرام سنة ومما يحتج به مالك رحمه الله تعالى ان السعي الذي بعد هذا الطواف واجب ولا
يكون الواجب بناء على ما ليس بواجب وقد بينا العذر عن هذا فيما مضى والطواف الثاني
طواف الزيارة وهو ركن الحج ثبت بقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق وبقوله تعالى يوم
الحج الأكبر والمراد به طواف الزيارة والطواف الثالث طواف الصدر وهو واجب عندنا
سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى قال لأنه بمنزلة طواف القدوم الا ترى ان كل واحد منهما
34

يأتي به الآفاقي دون المكي وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء (ولنا)
في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت
الطواف ورخص للنساء الحيض والامر دليل الوجوب وتخصيص الحائض برخصة الترك
دليل على الوجوب أيضا وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل عن احرام الحج فطواف الصدر
لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهى مقامه بها وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى
أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر ويسمى هذا طواف الوداع فإنما يجب على من
يودع البيت دون من لا يودعه فاما الطواف الرابع فهو طواف العمرة وهو الركن في العمرة
وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم أما طواف القدوم فلانه كما وصل إلى
البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك فلا يشتغل بغيره بخلاف
الحج فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن
يجئ وقت الطواف الذي هو ركن وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى في
العمرة طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج
ولكنا نقول إن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر
عند الصدر كالوقوف في الحج لان الشئ الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك
وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك ولان ما هو معظم الركن مقصود وطواف الصدر تبع
يجب لقصد توديع البيت والشئ الواحد لا يكون مقصودا وتبعا (قال) وإذا قدم القارن
مكة فلم يطف حتى وقف بعرفات كان رافضا لعمرته عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون
رافضا لعمرته وهو بناء على ما سبق فان عنده طواف العمرة يدخل في طواف الحج فلا يلزمه
طواف مقصود للعمرة وعندنا لا يدخل طواف العمرة في طواف الحج بل عليه ان يأتي بطواف
كل واحد منهما ويقدم العمرة في الأداء على الحج وهذا يفوته بالوقوف لان معظم أركان
الحج الوقوف ويصير به مؤديا للحج على وجه يأمن الفوت فلو بقيت عمرته لكان يأتي
باعمالها فيصير بانيا أعمال العمرة على الحج وهذا ليس بصفة القران فجعلناه رافضا للعمرة لهذا
والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها فان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بسرف
وهي تبكي قال ما يبكيك لعلك نفست فقالت نعم فقال هذا شئ كتبه الله تعالى علي بنات آدم
فدعى عنك العمرة أو قال ارفضي عمرتك وانقضى رأسك وامتشطي واصنعي جميع ما يصنع
35

الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فقد أمرها برفض العمرة لما تعذر عليها الطواف فلولا أنها
بالوقوف تصير رافضة لعمرتها لما أمرها برفض العمرة فان توجه إلى عرفات بعد ما دخل
وقت الوقوف فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى روايتان في ذلك في الكتاب يقول لا يصير
رافضا حتى إذا عاد من الطريق إلى مكة وطاف للعمرة فهو قارن والحسن يروى عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى انه يصير رافضا للعمرة بالتوجه إلى عرفات وهذا هو القياس على
مذهبه كما جعل التوجه إلى الجمعة قبل فراغ الامام بمنزلة الشروع في الجمعة في ارتفاض
الظهر والذي ذكره في الكتاب استحسان والفرق بينه بين تلك المسألة انه هناك مأمور
بالسعي إلى الجمعة فيتقوى السعي بمشيه وهنا هو منهى عن التوجه إلى عرفات قبل طواف
العمرة ولان الموجب هنا للارتفاع صيرورة ركن الحج مؤدي حتى يكون ما بعده بناء
العمرة على الحج وهذا بنفس التوجه لا يحصل وهناك الموجب لرفض الظهر المنافاة بينه
وبين الجمعة والسعي من خصائص الجمعة فأقيم مقام الشروع في ارتفاض الظهر به فلو طاف
للعمرة ثلاثة أشواط ثم ذهب فوقف بعرفات فهو رافض للعمرة أيضا لان ركن العمرة
الطواف فإذا بقي أكثره غير مؤدى جعل كأنه لم يؤد منه شيئا ولو كان طاف أربعة أشواط
ثم وقف بعرفات لم يكن رافضا للعمرة لأنه قد أدى أكثر الطواف فيكون ذلك كأداء الكل
ولهذا قلنا إن بعد أداء أربعة أشواط من طواف العمرة يأمن فسادها بالجماع وبعد أداء ثلاثة
أشواط لا يأمن من ذلك وهذا لان المؤدى إذا كان أكثر فالأقل في مقابلته كالعدم فكان
جانب الأداء راجحا فإذا ترجح جانب الأداء فهو بالوقوف بعد ذلك وان صار مؤديا للحج
فإنما يصير مؤديا بعد أداء العمرة وإذا كان طاف ثلاثة أشواط فلم يصر رافضا بالوقوف كان
مؤديا للعمرة بأداء الأشواط الأربعة بعد الوقوف فيكون بانيا للعمرة على الحج وكما يأمن
الفساد في العمرة بطواف أربعة أشواط يأمن ارتفاضها بالوقوف وبعد ما طاف ثلاثة أشواط
لا يأمن فسادها بالجماع فلا يأمن ارتفاضها بالوقوف وفى الموضع الذي صار رافضا لها عليه
دم لرفضها لأنه خرج منها بعد صحة الشروع قبل أداء الاعمال فيلزمه دم اعتبارا بالمحصر
وعليه قضاء العمرة لخروجه منها بعد صحة الشروع فيها والأصل فيه حديث عائشة رضى
الله تعالى عنها حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من
التنعيم مكان عمرتها التي فاتتها ويسقط عنه دم القران لأنه وجب بالجمع بين النكسين في
36

الأداء قد انعدم وفى الموضع الذي لم يصر رافضا للعمرة يتم بقية طوافها وسيعها يوم النحر
وعليه دم القران لأنه تحقق الجمع بينهما أداء وإن لم يطف لعمرة حين قدم مكة ولكنه
طاف وسعى لحجته ثم وقف بعرفة لم يكن رافضا لعمرته وكان طوافه وسعيه للعمرة دون
الحج لان المستحق عليه البداية بطواف العمرة فلا تعتبر نيته بخلاف ذلك لان الأصل ان
كل طواف مستحق عليه في وقت بجهة فأداؤه يقع عن تلك الجهة وان نوى جهة أخرى
كطواف الزيارة يوم النحر وهذا لاعتبار الطواف بالوقوف فإنه لو وجد منه الوقوف في
وقته ونوى شيئا آخر سوى الوقوف للحج يتأدى به ركن الحج ولا تعتبر نيته بخلاف
ذلك فكذلك في الطواف إلا أن في الطواف أصل النية شرط حتى لو عدا خلف غريم له
حول البيت لا يتأدى به طوافه بخلاف الوقوف فإنه يتأدى بغير النية لان الوقوف ركن
عبادة وليس بعبادة مقصودة ولهذا لا يتنفل به فوجود النية في أصل تلك العبادة يغنى عن
اشتراط النية في ركنها والطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط النية
فيه ويسقط اعتبار نية الجهة لتعينه كما قلنا في صوم رمضان ولان الوقوف يؤدى في احرام
مطلق فأما طواف الزيارة فإنه يؤدى بعد التحلل من الاحرام بالحلق فوجود النية في الاحرام
لا يغنى عن النية في الطواف ولكن هذا الفرق الثاني يتأتى في طواف الزيارة دون طواف
العمرة والفرق الأول يعم الفصلين فإذا ثبت أن طوافه وسعيه للعمرة فهذا رجل لم يطف
لحجته وترك طواف التحية لا يضره فعليه أن يرمل في طواف يوم النحر ويسعى بين
الصفا والمروة وإن كان طاف للحج وسعى أولا ثم طاف للعمرة وسعى فليس عليه شئ
وطوافه الأول للعمرة كما هو المستحق عليه ونيته بخلاف ذلك لغو فلا يلزمه به شئ وان
طاف طوافين لهما ثم سعى سعيين فقد أساء بتقديمه طواف التحية على سعى العمرة ولا شئ
عليه أما عندهما فظاهر لان من أصل أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه لا يجب
بتقديم النسك وتأخيره شئ سوى الإساءة على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقديم نسك
على نسك يوجب الدم عليه على ما نبينه إن شاء الله تعالى ولكن في هذا الموضع لا يلزمه دم
لان تقديم طواف التحية على سعى العمرة لا يكون أعلى من طواف التحية أصلا واشتغاله
بطواف التحية قبل سعي العمرة لا يكون أكثر تأثيرا من اشتغاله بأكل أو نوم ولو أنه بين
طواف العمرة وسعيها اشتغل بنوم أو أكل لم يلزمه دم فكذا إذا اشتغل بطواف التحية (قال)
37

وان طاف لعمرته على غير وضوء وللتحية كذلك ثم سعى يوم النحر فعليه دم من أجل
طواف العمرة من غير وضوء والحاصل أنه يبني المسائل بعد هذا على أصل وهو أن طواف
المحدث معتد به عندنا ولكن الأفضل أن يعيده وإن لم يعده فعليه دم. وقال الشافعي رحمه
الله تعالى لا يعتد بطواف المحدث أصلا لان الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة من حيث إنها
عبادة متعلقة بالبيت ولان النبي صلى الله عليه وسلم شبه الطواف بالصلاة فقال الطواف
بالبيت صلاة فقالوا فيه الكلام ثم الطهارة في الصلاة شرط الاعتداد به فكذلك
الطهارة في الطواف وحجتنا في ذلك أن المأمور به بالنص هو الطواف قال الله تعالى
وليطوفوا وهو اسم للدوران حول البيت وذلك يتحقق من المحدث والطاهر فاشتراط الطهارة
فيه يكون زيادة على النص ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد ولا بالقياس لان الركنية
لا تثبت الا بالنص فاما الوجوب يثبت بخبر الواحد لأنه يوجب العمل ولا يوجب علم اليقين
والركنية إنما تثبت بما يوجب علم اليقين فاصل الطواف ركن ثابت بالنص والطهارة فيه
تثبت بخبر الواحد فيكون موجب العمل دون العلم فلم تصر الطهارة ركنا ولكنها واجبة والدم
يقوم مقام الواجبات في باب الحج وهو الصحيح من المذهب ان الطهارة في الطواف واجبة
وكان ابن شجاع رحمه الله تعالى يقول إنه سنة وفى ايجاب الدم عند تركه دليل على وجوبه ثم
المراد تشبيه الطواف بالصلاة في حق الثواب دون الحكم ألا ترى أن الكلام الذي هو
مفسد للصلاة غير مؤثر في الطواف وان الطواف يتأدى بالمشي والمشي مفسد للصلاة
ولان الطواف من حيث أنه ركن الحج لا يستدعى الطهارة كسائر الأركان ومن حيث أنه
متعلق بالبيت يستدعي الطهارة كالصلاة وما يتردد بين أصلين فيوفر حظه عليهما فلشبهه
بالصلاة تكون الطهارة فيه واجبة ولكونه ركنا من أركان الحج يعتد به إذا حصل بغير
طهارة والأفضل فيه الإعادة ليحصل الجبر بما هو من جنسه وإن لم يعد فعليه دم للنقصان
المتمكن فيه بترك الواجب فان نقائص الحج تجبر بالدم وعلى هذا لو طاف للزيارة جنبا يعتد
بهذا الطواف في حكم التحلل عن الاحرام وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد به ثم عليه
الإعادة عندنا وإن لم يعد حتى رجع إلى أهله فعليه بدنة لان النقصان بسبب الجنابة أعظم
من النقصان بسبب الحدث. ألا ترى أن المحدث لا يمنع من قراءة القرآن والجنب يمنع
من ذلك ولان المنع من الجنابة من وجهين من حيث الطواف ومن حيث دخول المسجد
38

ومنع المحدث من وجه واحد فلتفاحش النقصان هنا قلنا يلزمه الجبر بالبدنة وهو مروى
عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال البدنة في الحج تجب في شيئين على من طاف جنبا
وعلى من جامع بعد الوقوف وان أعاد طواف سقطت عنه البدنة واختلف مشايخنا رحمهم
الله تعالى أن المعتبر طوافه الثاني أم الأول وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول المعتبر هو الأول
والثاني جبر للأول وكان يستدل على هذا بما قال في الكتاب أنه لو طاف لعمرته جنبا في
رمضان ثم أعاد طوافه في أشهر الحج وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا فلو كان المعتبر
هو الطواف الثاني كان متمتعا ووجه هذا القول إن المعتد به ما يتحلل به من الاحرام والتحلل
حصل بالطواف الأول فهو المعتد به والثاني جبر للنقصان المتمكن فيه كالبدنة وكما لو كان
محدثا في الطواف الأول كان هو المعتد به والثاني جبر للنقصان والأصح ان المعتد به هو
الثاني وان الأول ينفسخ بالثاني ألا ترى أنه قال في الكتاب لو طاف للزيارة جنبا في أيام النحر
ثم أعاد طوافه بعد أيام التشريق فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لتأخير طواف
الزيارة عن وقته ولو كان المعتد به هو الأول لم يلزمه دم التأخير لان الأول مؤدى في وقته
وأما مسألة التمتع فلانه بما أدى من الطواف في رمضان وقع له الا من عن فساد العمرة فإذا
أمن فسادها قبل دخول وقت الحج لا يكون بها متمتعا وهذا لان الأول كان حكمه مراعى
لتفاحش النقصان فان أعاده انفسخ الأول وصار المعتد به هو الثاني وإن لم يعد كان معتدا
به في التحلل كمن قام في صلاته ولم يقرأ حتى ركع كان قيامه وركوعه مراعى على سبيل
التوقف فان عاد فقرأ ثم ركع انفسخ الأول حتى أن من أدرك معه الركوع الثاني كان مدركا
للركعة وإن لم يعد وقرأ في الركعتين الأخريين كان الأول معتدا به وهذا بخلاف المحدث
لان النقصان هناك يسير فلا يتوقف به حكم الطواف الأول بل بقي معتدا به على الاطلاق فكان
الثاني جابرا للنقصان المتمكن فيه وعلى هذا لو طافت المرأة للزيارة حائضا فهذا والطواف
جنبا سواء ولو طاف للزيارة وفي ثوبه نجاسة كان مسيئا ولا يلزمه شئ لان حكم النجاسة في
الثوب أخف الا ترى ان الصلاة مع قليل النجاسة في الثوب تجوز وكذلك مع النجاسة
الكثيرة في حالة الضرورة فلا يتمكن بنجاسة الثوب نقصان في طوافه وهذا بخلاف
ما إذا طاف عريانا فإنه يؤمر بالإعادة وإن لم يعد فعليه الدم لان ستر العورة من واجبات
الطواف والكشف محرم لأجل الطواف على ما قال صلى الله عليه وسلم ألا لا يطوفن
39

بالبيت بعد العام مشرك ولا عريان فبسبب الكشف يتمكن نقصان في الطواف فأما
اشتراط طهارة الثوب ليس لأجل الطواف على الخصوص فلا يتمكن بتركه نقصان في
الطواف ولو كان طاف للعمرة جنبا ففي القياس عليه بدنة أيضا كما في طواف الزيارة لان
كل واحد منهما ركن ولكنه ترك القياس هنا وقال عليه الدم فقد لأنه لا مدخل للبدنة
في العمرة ألا ترى أن بالجماع لا تجب البدنة في احرام العمرة بخلاف الحج ولان الدم يقوم
مقام العمرة فان فات الحج يتحلل بأفعال العمرة ثم الدم في حق المحصر يقوم مقام أفعال
العمرة للتحلل فلان يقوم الدم مقام النقصان المتمكن في طواف العمرة بسبب الجنابة كان
أولى فأما الدم لا يقوم مقام طواف الزيارة والبدنة قد تقوم مقامه حتى إذا مات بعد الوقوف
وأوصى بالاتمام عنه تجب بدنة لطواف الزيارة فكذلك البدنة تقوم مقام النقصان المتمكن
بسبب الجنابة في طواف الزيارة إذا عرفنا هذا فنقول القارن إذا طاف حين قدم مكة طوافين
محدثا ثم وقف بعرفات فعليه دم للنقصان المتمكن بسبب الحدث في طواف العمرة ولا شئ
عليه بطواف التحية مع الحدث لان ذلك لا يكون أعلى من ترك طواف التحية أصلا
ولكنه يرمل في طواف الحج في يوم النحر ويسعى بين الصفا والمروة استحسانا وإن لم
يفعل لم يضره ولا شئ عليه لان طوافه الأول للتحية معتد به مع الحدث فالسعي بعده معتد
به أيضا والطهارة في السعي ليست بشرط ولكن المستحب إعادة ذلك الطواف فكذلك يستحب
إعادة ذلك الرمل والسعي يوم النحر وإن لم يفعل لم يضره ولا شئ عليه (قال) وقال محمد
رحمه الله تعالى ليس عليه أن يعيد طواف العمرة وان أعاد فهو أفضل والدم عليه على كل
حال لأنه يمكن ان يجعل المعتد به الطواف ا لثاني لأنه حصل بعد الوقوف ولا يجوز
طواف العمرة بعد الوقوف على ما بينا فالمعتبر هو الأول لا محالة وهو ناقص فعليه دم ولم
يذكر قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقيل على قولهما ينبغي أن يسقط عنه
الدم بالإعادة لان رفع النقصان عن طواف العمرة بعد الوقوف صحيح كما لو طاف للعمرة
قبل الوقوف أربعة أشواط ثم أتم طوافه يوم النحر كان صحيحا فكذا هذا وإذا ارتفع النقصان
بالإعادة لا يلزمه الدم وان طافهما جنبا فعليه دم لطواف العمرة ويعيد السعي للحج لأنه أداه
عقيب طواف التحية جنبا فعليه اعادته بعد طواف الزيارة قال فإن لم يعد فعليه دم وهذا
دليل على أن طواف الجنب للتحية غير معتبر أصلا فإنه جعله كمن ترك السعي حين أوجب
40

عليه الدم فدل ان الصحيح ان الجنب إذا أعاد الطواف كان المعتد به الثاني دون الأول
مفرد أو قارن طاف للزيادة محدثا ولم يطف للصدر حتى رجع إلى أهله فعليه دمان أحدهما
للحدث في طواف الزيارة والآخر لترك طواف الصدر وإن كان للصدر فعليه دم
واحد لترك الطهارة في طواف الزيارة ولا يجعل طوافه للصدر إعادة منه لطواف الزيارة
لان إقامة هذا الطواف مقام طواف الزيارة غير مفيد في حقه فإنه إذا جعل هذا إعادة
لطواف الزيارة صار تاركا لطواف الصدر فيلزمه الدم لأجله وإذا لم يكن مفيدا لا يشتغل
به وإن كان طاف للزيارة جنبا ولم يطف للصدر حتى رجع إلى أهله فإنه يعود إلى مكة ليطوف
طواف الزيارة وإذا عاد فعليه احرام جديد لان طوافه الأول معتد به في حق التحلل
وليس له ان يدخل مكة بغير احرام فيلزمه احرام جديد لدخول مكة ثم يلزمه دم لتأخيره طواف
الزيارة عن وقته وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو أخر الطواف حتى مضت
أيام التشريق وسنبين هذا الفصل إن شاء الله تعالى وهذه المسألة تدل على أن المعتبر هو
الطواف الثاني وإن لم يرجع إلى مكة فعليه بدنة لطواف الزيارة وشاة لترك طواف الصدر
وعلى الحائض مثل ذلك للزيارة وليس عليها لترك طواف الصدر شئ لان للحائض رخصه
في ترك طواف الصدر والأصل فيه حديث صفية رضي الله عنها فإنه أخبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أيام النحر انها حاضت فقال صلى الله عليه وسلم عقرى حلقي
أحابستنا فقيل إنها قد طافت قال فلتنفر اذن فهذا دليل على أن الحائض ممنوعة عن
طواف الزيارة وانه ليس عليها طواف الصدر لأنه لما أخبر انها طافت للزيارة أمرها بان
تنفر معهم وان طاف للزيارة جنبا وطاف للصدر طاهرا في آخر أيام التشريق كان طواف
الصدر مكان طواف الزيارة لان الإعادة مستحقة عليه فيقع عما هو المستحق وان نواه عن
غيره وفى إقامة هذا الطواف مقام طواف الزيارة فائدة وهي اسقاط البدنة عنه ثم يجب
عليه دمان أحدهما لترك طواف الصدر عندهم جميعا والآخر لتأخير طواف الزيارة إلى
آخر أيام والتشريق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك الجواب في الحائض إذا طافت
للزيارة ثم طهرت فطافت للصدر في آخر أيام التشريق والحاصل ان طواف الزيارة مؤقت
بأيام النحر فتأخيره عن أيام النحر يوجب الدم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا يوجب
الدم في قولهما وعلى هذا من قدم نسكا على نسك كأن حلق قبل الرمي أو نحر القارن قبل
41

الرمي أو حلق قبل الذبح فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا يلزمه الدم
بالتقديم والتأخير وحجتهما في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه ان رجلا قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم النحر حلقت قبل أن أرمى فقال أرم ولا حرج وقال آخر حلقت قبل أن
أذبح فقال اذبح ولا حرج وما سئل عن شئ يومئذ قدم أو أخر الا قال افعل ولا حرج
فدل ان التقديم والتأخير لا يوجب شيئا ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حديث ابن مسعود
رضي الله عنه قال من قدم نسكا علي نسك فعليه دم وتأويله الحديث المرفوع ان النبي
صلى الله عليه وسلم عذرهم في ذلك الوقت لقرب عهدهم بتعلم الترتيب وما يلحقهم من
المشقة في مراعاة ذلك ومعنى قوله افعل ولا حرج أي لا حرج فيما تأتي به وبه يقول وإنما
الدم عليه بما قدمه على وقته والمعنى فيه أن توقت النسك بزمان كتوقته بالمكان لأنه لا يتأدى
النسك الا بمكان وزمان ثم ما كان مؤقتا بالمكان إذا أخره عن ذلك المكان يلزمه الدم
كالاحرام المؤقت بالميقات إذا أخره عنه بان جاوز الميقات حلالا ثم أحرم فكذلك ما
كان مؤقتا بالزمان وهو طواف الزيارة الذي هو مؤقت بأيام النحر بالنص إذا أخره قلنا
يلزمه الدم وهذا لان مراعاة الوقت في الأركان واجب كمراعاة المكان الا ترى ان الوقوف
لا يجوز في غير وقته كما لا يجوز في غير مكانه فبتأخر الطواف عن وقته يصير تاركا لما هو
واجب وترك الواجب في الحج يوجب الجبر بالدم ثم الأصل بعد هذا ان أكثر أشواط
الطواف بمنزلة الكل في حكم التحلل به عن الاحرام عندنا وكذلك في حكم الطهارة وغيرها
من الاحكام وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقوم الأكثر مقام الكمال بناء على أصله في
اعتبار الطواف بالصلاة فكما أن أكثر عدد ركعات الصلاة لا يقوم مقام الكمال فكذلك
أشواط الطواف لا تقوم مقام الكمال وهذا لان تقدير الطواف بسبعة أشواط ثابت بالنصوص
المتواترة فكان كالمنصوص عليه في القرآن وما يقدر شرعا بقدر لا يكون لما دون ذلك
القدر حكم ذلك القدر كما في الحدود وغيرها ولنا أن المنصوص عليه في القرآن الطواف بالبيت
وهو عبارة عن الدوران حوله ولا يقتضى ظاهره التكرار إلا أنه ثبت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا تقدير كمال الطواف بسبعة أشواط فيحتمل أن يكون
ذلك التقدير للاتمام ويحتمل أن يكون للاعتداد به فيثبت منه القدر المتيقن وهو أن يجعل
ذلك شرط الاتمام ولئن كان شرط الاعتداد يقام الأكثر فيه مقام الكمال لترجح جانب
42

الوجود على جانب العدم إذا أتى بالأكثر منه ومثله صحيح في الشرع كمن أدرك الامام في
الركوع يجعل اقتداؤه في أكثر الركعة كالاقتداء في جميع الركعة في الاعتداد به والمتطوع
بالصوم إذ نوى قبل الزوال يجعل وجود النية في أكثر اليوم كوجودها في جميع اليوم وكذلك
في صوم رمضان عندنا ومن أصحابنا من يقول الطواف من أسباب التحلل وفي أسباب التحلل
يقام البعض مقام الكل كما في الحلق إلا أنا اعتبرنا هنا الأكثر ليترجح جانب الوجود فان
الطواف عبادة مقصودة والحلق ليس بعبادة مقصودة فيقام الربع مقام الكل هناك إذا عرفنا
هذا فنقول إذا طاف للزيارة أربعة أشواط يتحلل به من الاحرام عندنا حتى لو جامع بعد ذلك
لا يلزمه شئ بخلاف ما لو طاف ثلاثة أشواط وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يتحلل
ما بقي عليه خطوة من شوط ولو طاف ثلاثة أشواط للزيارة ولم يطف للصدر ورجع إلى أهله
فعليه ان يعود بالاحرام الأول ويقضى بقية طواف الزيارة لان الأكثر باق عليه فكان احرامه
في حق النساء باقيا ولا يحتاج هذا إلى احرام جديد عند العود ولا يقوم الدم مقام ما بقي عليه
ولكن يلزمه العود إلى مكة لبقية الطواف عليه ثم يريق دما لتاخيره عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لان تأخير أكثر الأشواط عن أيام النحر كتا خير الكل ويطوف للصدر وإن كان
طاف أربعة أشواط أجزأه أن لا يعود ولكن يبعث بشاتين أحداهما لما بقي عليه من
أشواط الطواف لان ما بقي أقل وشرط الطواف الكمال فيقوم الدم مقامه والدم الآخر
لطواف الصدر وان اختار العود إلى مكة يلزمه احرام جديد لان التحلل قد حصل له من
الاحرام الأول فإذا عاد بإحرام جديد وأعاد ما بقي من طواف الزيارة وطاف للصدر أجزأه
وكان عليه لتأخير كل شوط من أشواط طواف الزيارة صدقة لان تأخير الكل لما كان
يوجب الدم عنه فتأخير الأقل لا يوجب الدم ولكن يوجب الصدقة وفى كل موضع يقول
تلزمه صدقة فالمراد طعام مسكين مدين من حنطة إلا أن يبلغ قيمة ذلك قيمة شاة فحينئذ
ينقص منه ما أحب (قال) وان طاف الأقل من طواف الزيارة وطاف للصدر في آخر
أيام التشريق يكمل الطواف الزيارة من طواف الصدر لان استحقاق الزيارة عليه أقوى فما
أتى به مصروف إلى اكماله وان نواه عن غيره وعليه لتأخير ذلك دم عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى ثم قد بقي من طوافه للصدر ثلاثة أشواط فصار تاركا للأكثر من طواف الصدر
وذلك ينزل منزلة ترك الكل فعليه دم لذلك وإن كان المتروك من طواف الزيارة ثلاثة
43

أشواط أكمل ذلك من طواف الصدر كما بينا وعليه لكل شوط منه صدقة بسبب التأخير
عن وقته لأنه لا يجب في تأخير الأقل ما يجب في تأخير الكل ثم قد بقي من طواف الصدر
أربعة أشواط فإنما ترك الأقل منها فيكفيه لكل شوط صدقة لان الدم يقوم مقام جميع طواف
الصدر فلا يجب في ترك أقله ما يجب في ترك كله ولو طاف للصدر جنبا فعليه دم لتفاحش
النقصان بسبب الجنابة ويكون هو كالتارك لطواف الصدر أصلا ولو طاف للصدر وهو
محدث فعليه صدقة لقلة النقصان بسبب الحدث. وفي رواية أبى حفص رحمه الله تعالى
سوى بين الحدث والجنابة في ذلك لان طواف الجنب معتد به ألا ترى أن التحلل من
الاحرام يحصل به في طواف الزيارة فلا يجب بسبب هذا النقصان ما يجب بتركه أصلا
(قال) ولو طاف بالبيت منكوسا بأن استلم الحجر ثم أخذ على يسار الكعبة وطاف
كذلك سبعة أشواط عندنا يعتد بطوافه في حكم التحلل وعليه الإعادة ما دام بمكة فان
رجع إلى أهله قبل الإعادة فعليه دم وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتد بطوافه بناء على
أصله ان الطواف بمنزلة الصلاة فكما أنه لو صلى منكوسا بأن بدأ بالتشهد لا يجزيه فكذلك الطواف
ولنا لأصل الذي قلنا أن الثابت بالنص الدوران حول البيت وذلك حاصل من أي جانب
أخذ ولكن بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ على يمينه على باب الكعبة تبين
ان الواجب هذا فكانت هذه صفة واجبة في هذا الركن بمنزلة شرط الطهارة عندنا فتتركه
لا يمنع الاعتداد به ولكن يمكن فيه نقصانا يجبر بالدم وهذا لان المعنى فيه معقول وهو تعظيم
البقعة وذلك حاصل من أي جانب أخذ فعرفنا ان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في
البداية بالجانب الأيمن لبيان صفة الاتمام لا لبيان الركنية بخلاف أركان الصلاة واستدل
الشافعي رحمه الله تعالى علينا بما لو بدأ بالمروة في السعي حيث لا يعتد به لما أنه أداه مكنوسا
فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال يعتد به ولكن يكون مكروها والأصح أنه لا يعتد
بالشوط الأول لا لكونه منكوسا ولكن لان الواجب هناك صعود الصفا أربع مرات
والمروة ثلاث مرات فإذا بدأ بالمروة فإنما صعد الصفا ثلاث مرات فعليه ان يصعد الصفا مرة
أخرى ولا يمكن أن يأمر بذلك الا بإعادة شوط واحد من الطواف بين الصفا والمروة فاما
هنا ما ترك شيئا من أصل الواجب عليه فقد دار حول البيت سبع مرات فلهذا كان
طوافه معتدا به (قال) وان طاف راكبا أو محمولا فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه
44

شئ وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة فان رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا وعلى قول
الشافعي رضي الله عنه لا شئ عليه لأنه صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف
للزيارة يوم النحر على ناقته واستلم الأركان بمحجنه ولكنا نقول التوارث من لدن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا وعلى هذا على قول من يجعله كالصلاة الدم
لان أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من
غير عذر ولكنا نقول المشي شرط الكمال فيه فتركه من غير عذر يوجب الدم لما بينا فأما
تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل رحمه الله تعالى أنه طاف راكبا لوجع أصابه وهو أنه
وثبت رجله فلهذا طاف راكبا وذكر ابن الزبير عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم إنما طاف راكبا ليشاهده الناس فيسألوه عن حوادثهم وقيل إنما طاف راكبا
لكبر سنة وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة
محمولا أو راكبا وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل
على ما بينا (قال) وإذا طاف المعتمر أربعة أشواط من طواف العمرة في أشهر الحج بأن
كان أحرم للعمرة في رمضان فطاف ثلاثة أشواط ثم دخل شوال فأتم طوافه وحج من
عامه ذلك كان متمتعا وإن كان طاف لأكثر في رمضان لم يكن متمتعا لما بينا أن الأكثر
يقوم مقام الكل وعلى هذا لو جامع المعتمر بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط لم تفسد عمرته
ويمضى فيها وعليه دم وان جامع بعد ما طاف لها ثلاثة أشواط فسدت عمرته فيمضي في
الفاسد حتى يتمها وعليه دم للجماع وعمرة مكانها لما ذكرنا أن الأكثر يقوم مقام الكمال
وجماعه بعد اكمال طواف العمرة غير مفسد لأنها صارت مؤداة بأداء ركنها فكذلك بعد
أداء الأكثر من الطواف (قال) وان طاف للعمرة في رمضان جنبا أو على غير وضوء
لم يكن متمتعا ان أعاده في شوال أو لم يعده وبهذه المسألة استدل الكرخي رحمه الله تعالى
وقد بينا العذر فيه أنه إنما لا يكون متمتعا لوقوع الا من له من الفساد بما أداه في رمضان
ولو كان ذلك موقوفا لبطل بالإعادة في شوال (قال) كوفي اعتمر في أشهر الحج فطاف
لعمرته ثلاثة أشواط ورجع إلى الكوفة ثم ذكر بعد ذلك فرجع إلى مكة فقضى ما بقي عليه
من عمرته من الطواف والسعي وحج من عامه ذلك كان متمتعا لأنه لما أتى بأكثر الأشواط بعد
ما رجع ثانيا فكأنه أتى بالكل بعد رجوعه ولو كان طاف أولا أربعة أشواط لم يكن متمتعا
45

كما لو أكمل الطواف وهذا لوجود الالمام بأهله بين النسكين وانشائه السفر لأداء كل
نسك من بيته (قال) وترك الرمل في طواف الحج والعمرة والسعي في بطن الوادي
بين الصفا والمروة لا يوجب عليه شيئا غير أنه مسئ إذا كان لغير عذر وكذلك ترك
استلام الحجر فالرمل واستلام الحجر وهذه الخلال من آداب الطواف أو من السنن وترك
ما هو سنة أو أدب لا يوجب شيئا الا الإساءة إذا تعمد (قال) وإذا طاف الطواف الواجب
في الحج والعمرة في جوف الحطيم قضى ما ترك منه إن كان بمكة وإن كان رجع إلى أهله
فعليه دم لان المتروك هو الأقل فإنه إنما ترك الطواف على الحطيم فقط وقد بينا أنه لو ترك
الأقل من أشواط الطواف فعليه إعادة المتروك وإن لم يعد فعليه الدم عندنا فهذا مثله ثم
الأفضل عندنا أن يعيد الطواف من الأصل ليكون مراعيا للترتيب المسنون وان أعاده على
الحطيم فقط أجزأه لأنه أتى بما هو المتروك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه إعادة
الطواف من الأصل بناء على أصله في أن مراعاة الترتيب في الطواف واجب كما هو في
الصلاة فإذا ترك لم يكن طوافه معتدا به وعندنا الواجب هو الدوران حول البيت وذلك
يتم بإعادة المتروك فقط ولكن الترتيب سنة والإعادة من الأصل أفضل ويلزمون علينا بما
لو ابتدأ الطواف من غير موضع الحجر لا يعتد بذلك القدر حتى ينتهى إلى الحجر ولو لم يكن
الترتيب واجبا لكان ذلك القدر معتدا به ومن أصحابنا من يقول بأنه معتد به عندنا ولكنه
مكروه ولكن ذكر محمد رحمه الله تعالى في الرقيات أنه لا يعتبر طوافه إلى الحجر لا لترك
الترتيب ولكن لان مفتاح الطواف من الحجر الأسود على ما روى أن إبراهيم صلوات
الله وسلامه عليه قال لإسماعيل عليه السلام ائتني بحجر أجعله علامة افتتاح الطواف فأتاه
بحجر فألقاه ثم بالثاني ثم بالثالث فناداه قد أتاني بالحجر من أغناني عن حجرك ووجد
الحجر الأسود في موضعه فعرفنا أن افتتاح الطواف منه فما أداه قبل الافتتاح لا يكون
معتدا به (قال) فان طاف لعمرته ثلاثة أشواط وسعى بين الصفا والمروة ثم طاف لحجته
كذلك ثم وقف بعرفة فالأشواط التي طافها للحج محسوبة عن طواف العمرة لأنه هو
المستحق عليه قبل طواف التحية فإذا جعلنا ذلك من طواف العمرة كان الباقي عليه شوطا
واحدا حين وقف بعرفة فيكون قارنا ويعيد طواف الصفا والمروة لعمرته ولحجته لان
ما أدى من السعي بين الصفا والمروة لعمرته كان عقيب أقل الأشواط فلا يكون معتدا به
46

فيجب أن يعيده مع السعي للحج ومع الشوط الواحد عن طواف العمرة وان رجع إلى
الكوفة قبل أن يفعل ذلك فعليه دم لترك ذلك الشوط ودم لترك سعى الحج ولا يلزمه
شئ لسعى العمرة لأنه قد سعي لعمرته عقيب ستة أشواط لان موضوع المسألة فيما إذا كان
سعى للحج وذلك يقع عن سعى العمرة وإن لم يكن سعي أصلا فعليه دم لترك السعي في كل
نسك قال الحاكم رحمه الله تعالى قوله يعيد الطواف لعمرته غير سديد إلا أن يريد به
الاستحباب يريد به بيان ان موضوع المسألة فيما إذا كان سعى بعد طواف التحية ثلاثة أشواط
فكان ذلك سعيا معتدا به للعمرة فلا يلزمه اعادته وإن كان يستحب له إعادة ذلك بعد ما أكمل
طواف العمرة بالشوط المتروك (قال) ويكره أن يجمع بين أسبوعين من الطواف
قبل أن يصلى في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
لا بأس بذلك إذا انصرف على وتر ثلاثة أسابيع أو خمسة أسابيع لحديث عائشة رضي الله عنه
ا انها طافت ثلاثة أسابيع ثم صلت لكل أسبوع ركعتين ولان مبنى الطواف على
الوتر في عدد الأشواط فإذا انصرف على وتر لم يخالف انصرافه مبنى الطواف واشتغاله
بأسبوع آخر قبل الصلاة كاشتغاله بأكل أو نوم وذلك لا يوجب الكراهة فكذا هنا إذا
انصرف على ما هو مبنى الطواف بخلاف ما إذا انصرف على شفع لان الكراهة هناك
لانصرافه على ما هو خلاف مبنى الطواف لا لتأخيره الصلاة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى قالا اتمام كل أسبوع من الطواف بركعتين فيكره له الاشتغال بالأسبوع الثاني قبل اكمال
الأول كما أن اكمال كل شفع من التطوع لما كان بالتشهد يكره له الاشتغال بالشفع الثاني
قبل اكمال الأول (قال) وإذا طاف قبل طلوع الشمس لم يصل حتى تطلع الشمس وقد
بينا في كتاب الصلاة ان ركعتي الطواف سنة أو واجب بسبب من جهته كالمنذور وذلك
لا يؤدى عندنا بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس ولا بعد العصر قبل غروب الشمس وقد
روى أن عمر رضي الله عنه طاف قبل طلوع الشمس ثم خرج من مكة حتى إذا كان بذي
طوى وارتفعت الشمس صلى ركعتين ثم قال ركعتان مكان ركعتين وكذلك بعد غروب
الشمس يبدأ بالمغرب لان أداء ما ليس بمكتوبة قبل صلاة المغرب مكروه ولا تجزئه المكتوبة
عن ركعتي الطواف لأنه واجب كالمنذور أو سنة كسنن الصلاة فالمكتوبة لا تنوب عنه
(قال) ويكره له ان ينشد الشعر في طوافه أو يتحدث أو يبيع أو يشترى فان فعله لم يفسد
47

عليه طوافه لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة الا ان الله تعالى أباح فيه
المنطق فمن نطق فلا ينطق الا بخير وقد بينا ان المراد تشبيه الطواف بالصلاة في الثواب
لا في الاحكام فلا يكون الكلام فيه مفسدا للطواف (قال) ويكره له ان يرفع صوته بقراءة
القرآن فيه لان الناس يشتغلون فيه بالذكر والثناء فقل ما يستمعون لقراءته وترك الاستماع عند
رفع الصوت بالقراءة من الجفاء فلا يرفع صوته بذلك صيانة للناس عن هذا الجفاء ولا بأس
بقراءته في نفسه هكذا روى عن عمر رضي الله عنه انه كان في طوافه يقرأ القرآن في نفسه
ولان المستحب له الاشتغال بالذكر في الطواف وأشرف الأذكار قراءة القرآن (قال)
وان طافت المرأة مع الرجل لم تفسد عليه طوافه يريد به بسبب المحاذاة لان الطواف في
الاحكام ليس كالصلاة ومحاذاة المرأة الرجل إنما يوجب فساد الصلاة إذا كان يشتركان في
الصلاة فاما إذا لم يشتركا في الصلاة فلا وهنا لا شركة بينهما في الطواف (قال) وإذا خرج
الطائف من طوافه لصلاة مكتوبة أو جنازة أو تجديد وضوء ثم عاد بني على طوافه لما بينا
انه ليس كالصلاة في الاحكام فالاشتغال في خلاله بعمل لا يمنع البناء عليه وروى عن ابن
عباس رضي الله عنه انه خرج لجنازة ثم عاد فبنى على الطواف (قال) وان أخر الطائف ركعتين
حتى خرج من مكة لم يضره لما روينا من حديث عمر رضي الله عنه (قال) والصلاة لأهل مكة
أحب إلى وللغرباء الطواف فان التطوع من الصلاة عبادة بجميع البدن تشتمل على أركان
مختلفة فالاشتغال بهذا أفضل من الاشتغال بطواف التطوع الا ان في حق الغرباء الطواف
يفوته والصلاة لا تفوته لأنه يتمكن من الصلاة إذا رجع إلى أهله ولا يتمكن من الطواف
الا في هذا المكان والاشتغال في هذا المكان بما يفوته أولى كالاشتغال بالحراسة في سبيل
الله أولى من صلاة الليل إذا تعذر عليه الجمع بينهما فاما المكي لا يفوته الطواف ولا الصلاة
فكان الاشتغال بالصلاة في حقه أولى لما بينا (قال) رجل طاف أسبوعا وشوطا أو
شوطين من أسبوع آخر ثم ذكر له انه لا ينبغي ان يجمع بين أسبوعين قال يتم الأسبوع
الذي دخل فيه وعليه لكل أسبوع ركعتان لأنه صار شارعا في الأسبوع الثاني المؤكدا له بشوط
أو شوطين فعليه ان يتمه كمن قال إلى الركعة الثالثة قبل التشهد وقيد الركعة بالسجدة كان عليه
اتمام الشفع الثاني ثم كل أسبوع سبب التزام ركعتين بمنزلة النذر فعليه لكل أسبوع ركعتان
(قال) ولا بأس بان يطوف وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرين وإنما أورد هذا ردا على
48

المتشفعة فإنهم يقولون لا يطوف الا حافيا وإذا كان يجوز الصلاة مع الخفين أو النعلين إذا
كانا طاهرين فالطواف أولى (قال) واستلام الركن اليماني حسن وتركه لا يضره وروى
عن محمد رحمه الله تعالى أنه يستلمه ولا يتركه وقال الشافعي رحمه الله تعالى يستلمه ويقبل
يده ولا يقبل الركن هكذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ولم يقبله وابن
عباس رضي الله عنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني ووضع خده عليه
وابن عمر رضي الله عنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركنين يعنى الحجر
الأسود واليماني فهو دليل لمحمد رحمه الله تعالى ووجه ظاهر الرواية أن كل ركن يكون
استلامه مسنونا فتقبيله كذلك مسنون كالحجر الأسود وبالاتفاق هنا التقبيل ليس بمسنون
فكذا الاستلام (قال) ولا يستلم الركنين الآخرين الا على قول معاوية رضي الله عنه
فإنه استلم الأركان الأربعة فقال له ابن عباس رضي الله عنهما لا تستلم الركنين فقال ليس
شئ منه بمهجور ولكنا نقول القياس ينفى استلام الركن لان ذلك ليس من تعظيم البقعة كسائر
المواضع من البيت ولكنا تركنا القياس في الحجر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي
ما سواه على أصل القياس ثم الركنان الآخران ليسا من أركان البيت لان أهل الجاهلية قصروا
البيت عن قواعد الخليل صلوات الله عليه على ما بينا فلا يستلمهما (قال) وان رمل في
طوافه كله لم يكن عليه شئ لان المشي على هينته في الأشواط الأربعة من الآداب وبترك
الآداب لا يلزمه شئ (قال) وان مشى في الثلاثة الأول أو في بعضها ثم ذكر ذلك لم
يرمل فيما بقي لان الرمل في الأشواط الثلاثة سنة فإذا فاتت من موضعها لا تقضى والمشي على
هينته في الأربعة الاخر من آداب الطواف أو من السنن فان ترك في الثلاثة الأول ما هو
سنتها لا يترك في الأربعة الاخر ما هو سنتها (قال) وان جعل لله عليه أن يطوف زحفا
فعليه أن يطوف ماشيا لأنه إنما يلتزم بالنذر ما يتنفل به أو ما يكون قربة في نفسه وأصل
الطواف قربة فأما الزحف من أفعال أهل الجاهلية وليس بقربة في شريعتنا فلا تلزمه هذه
الصفة بالنذر وان طاف كذلك زحفا فعليه الإعادة ما دام بمكة وان رجع إلى أهله فعليه دم
بمنزلة ما لو طاف محمولا أو راكبا على ما بينا (قال) وان طاف بالبيت من وراء زمزم أو
قريبا من ظلة المسجد أجزأه عن ذلك لأنه إذا كان في المسجد فطوافه يكون بالبيت فيصير
به ممتثلا للامر فأما إذا طاف من وراء المسجد فكانت حيطانه بينه وبين الكعبة لم يجزه
49

لأنه طاف بالمسجد لا بالبيت والواجب عليه الطواف بالبيت أرأيت لو طاف بمكة كان يجزئه
وإن كان البيت في مكة أرأيت لو طاف في لدنيا أكان يجزئه من الطواف بالبيت لا يجزئه
شئ من ذلك فهذا مثله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
باب السعي بين الصفا والمروة
(قال) رضي الله عنه وإذا سعى بين الصفا والمروة ورمل في سعيه كله من الصفا إلى
المروة ومن المروة إلى الصفا فقد أساء ولا شئ عليه وكذلك أن مشى في جميع ذلك لان
الواجب عليه الطواف بينهما قال الله تعالى فلا جناح عليه أن يطوف بهما فأما السعي في بطن
الوادي والمشي فيما سوى ذلك أدب أو سنة فتركه لا يوجب الا الإساءة كترك الرمل في
الطواف (قال) وان بدأ بالمروة وختم بالصفا حتى فرغ أعاد شوطا واحدا لان الذي بدأ
بالمروة فيه ثم أقبل منها إلى الصفا لا يعتد به ومعنى هذا أن افتتاح هذا الطواف مشروع من
الصفا على ما روينا أنه لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيهما نبدأ فقال ابدأوا بما بدأ الله
تعالى به وإذا افتتح من غير موضع الافتتاح لا يعتد بطوافه حتى يصل إلى موضع الافتتاح
ثم المعتد به يبقى بعد ذلك فعليه إتمامه بشوط آخر كما لو افتتح الطواف من غير الحج (قال)
وان ترك السعي فيما بين الصفا والمروة رأسا في حج أو عمرة فعليه دم عندنا وهذا لان
السعي واجب وليس بركن عندنا الحج والعمرة في ذلك سواء وترك الواجب يوجب الدم وعند
الشافعي رحمه الله تعالى السعي ركن لا يتم لاحد حج ولا عمرة لا به واحتج في ذلك بما
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سعى بين الصفا والمروة وقال لأصحابه رضي الله عنه
م ان الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا والمكتوب ركن وقال صلى الله عليه وسلم ما أتم
الله تعالى لامرئ حجة ولا عمرة لا يطوف لها بين الصفا والمروة وحجتنا في ذلك قوله تعالى
فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما ومثل هذا اللفظ للإباحة لا للإيجاب
فيقتضى ظاهر الآية أن لا يكون واجبا ولكنا تركنا هذا الظاهر في حكم الايجاب بدليل
الاجماع فبقي ما وراءه على ظاهره وإنما ذكر هذا اللفظ والله أعلم لأصحابه لأنهم كانوا
يتحرزون عن الطواف بهما لمكان الصنمين عليهما في الجاهلية إساف ونائلة فأنزل الله تعالى
هذه الآية ثم بين في الآية ان المقصود حج البيت بقوله تعالى فمن حج البيت أو اعتمر فلا
50

جناح عليه فكان ذلك دليلا على أن مالا يتصل بالبيت من الطواف يكون تبعا لما هو متصل
بالبيت ولا تبلغ درجة التبع درجة الأصل فتثبت فيه صفة لوجوب لا الركنية فكان السعي مع
الطواف بالبيت نظير الوقوف بالمشعر الحرام مع الوقوف بعرفة وذلك واجب لا ركن فهذا
مثله وهو نظير رمى الجمار من حيث أنه مقدر بعدد السبع غير مختص بالبيت ولا يصح استدلاله
بظاهر الحديث الذي رواه لان في ظاهره ما يدل على أن السعي مكتوب وبالاتفاق عين السعي
غير مكتوب فإنه لو مشى في طوافه بينهما أجزأه وفى الحديث الآخر ما يدل على الوجوب
دون الركنية لأنه علق التمام بالسعي وأداء أصل العبادة يكون بأركانها فصفة التمام بالواجب
فيها وكذلك لو ترك منها أربعة أشواط فهو كترك الكل في أنه يجب عليه الدم به لان
الأكثر يقوم مقام الكمال وان ترك ثلاثة أشواط أطعم لكل شوط مسكينا إلا أن يبلغ
ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء وهو نظير طواف الصدر في ذلك وكذلك أن فعله
راكبا فإن كان لعذر فلا شئ عليه وإن كان لغير عذر فعليه الدم في الأكثر والصدقة في
الأقل لما بينا (قال) ويجوز سعى الجنب والحائض لأنه غير مختص بالبيت فلا تكون
الطهارة شرطا فيه كالوقوف وغيره من المناسك وإنما اشتراط الطهارة في الطواف خاصة
لاختصاصه بالبيت (قال) ولا يجوز السعي قبل الطواف لأنه إنما عرف قربة بفعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإنما سعي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الطواف وهكذا
توارثه الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهو في المعنى متمم
للطواف فلا يكون معتدا به قبله كالسجود في الصلاة أو شرط الاعتداد به تقدم الطواف
فإذا انعدم هذا الشرط لا يعتد به كالسجود لما كان شرط الاعتداد به تقدم الركوع فإذا
سبق الركوع لا يعتد به (قال) ويجوز السعي بعد أن يطوف الأكثر من الطواف لان
الأكثر يقوم مقام الكل (قال) ويكره له ترك الصعود على الصفا والمروة فان النبي صلى الله
عليه وسلم صعد عليهما وأمرنا بالاقتداء به بقوله خذوا عني مناسككم وكذلك الصحابة
رضي الله عنهم أجمعين ومن بعدهم توارثوا الصعود على الصفا والمروة بقدر ما يصير البيت
بمرأى العين منهم فهو سنة متبعة يكره تركها وروى أن عمر رضي الله عنه في نزوله من الصفا
كأن يقول اللهم استعملني بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وتوفني على ملته وأعذني من
معضلات الفتن أو من معضلات يوم القيامة ولا يلزمه بترك الصعود شئ لان الواجب
51

عليه الطواف بينهما وقد أتى بذلك (قال) وان طاف لحجته وواقع النساء ثم سعى بعد
ذلك أجزأه لان تمام التحلل بالطواف بالبيت يحصل على ما جاء في الحديث فإذا طاف
بالبيت حل له النساء فاشتغاله بالجماع بعد الطواف قبل السعي كاشتغاله بعمل آخر من نوم
أو أكل فلا يمنع صحة أداء السعي بعده وان أخر السعي حتى رجع إلى أهله فعليه دم
لتركه كما بينا وان أراد أن يرجع إلى مكة ليأتي بالسعي يرجع بإحرام جديد لان تحلله
بالطواف قد تم وليس له ان يدخل مكة الا بإحرام (قال) والدم أحب إلى من الرجوع
لأنه إذا رجع كان مؤديا السعي في احرام آخر غير الاحرام الذي أدى به الحج وان أراق
دما انجبر به النقصان الواقع في الحج ولان في إراقة الدم توفير منفعة اللحم على المساكين
فهو أولى من الرجوع للسعي وان رجع وسعى أو كان بمكة وسعى بعد أيام النحر فليس عليه
شئ لان السعي غير مؤقت بأيام النحر إنما التوقيت في الطواف بالنص فلا يلزمه بتأخير
السعي شئ (قال) ولا ينبغي له في العمرة ان يحل حتى يسعى بين الصفا والمروة لان
الأثر جاء فيها انه إذا طاف وسعى وحلق أو قصر حل وإنما أراد به الفرق بين سعى العمرة
وسعى الحج فان أداء سعى الحج بعد تمام التحلل بالطواف صحيح ولا يؤدى سعى العمرة الا
في حال بقاء الاحرام لان الأثر في كل واحد منهما ورد بهذه الصفة وفى مثله علينا الاتباع
إذ لا يعقل فيه معنى ثم من واجبات الحج ما هو مؤدي بعد تمام التحلل كالرمي فيجوز السعي
أيضا بعد تمام التحلل وليس من أعمال العمرة ما يكون مؤدى بعد تمام التحلل والسعي من
أعمال العمرة فعليه ان يأتي به قبل التحلل بالحلق والله سبحانه وتعالى أعلم
باب الخروج إلى منى
(قال) ويستحب للحاج ان يصلى الظهر يوم التروية بمنى ويقيم بها إلى صبيحة عرفة هكذا علم
جبرائيل عليه السلام إبراهيم صلوات الله عليه حين وقفه على المناسك فإنه خرج به يوم التروية
إلى منى فيصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم عرفة بمنى وإنما سمى يوم
التروية لان الحاج يروون فيه بمنى أو لأنهم يروون ظهورهم فيه بمنى ففي هذه التسمية ما يدل
على أنه ينبغي لهم أن يكونوا بمنى يوم التروية وان صلى الظهر بمكة ثم راح إلى منى لم يضره لأنه
لا يتعلق بمنى في هذا اليوم نسك مقصود فلا يضره تأخير إتيانه وان بات بمكة ليلة عرفة
52

وصلى بها الفجر ثم غدا منها إلى عرفات ومر بمنى أجزأه لما بينا وقد أساء في تركه الاقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أقام بمنى يوم التروية كما رواه جابر رضي الله عنه مفسرا
(قال) ثم ينزل حيث أحب من عرفات ويصعد الامام المنبر بعد الزوال ويؤذن المؤذن
وهو عليه فإذا فرغ قام الامام يخطب فحمد الله وأثنى عليه ولبى وهلل وكبر وصلى على النبي
صلى الله عليه وسلم ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم ودعى الله تعالى بحاجته وقد بينا هذا
فيما سبق والحاصل ان في الحج عندنا ثلاث خطب إحداها قبل التروية بيوم والثانية يوم
عرفة بعرفات الثالثة في الغد من يوم النحر بمنى فيخطب بمكة قبل التروية بيوم يعلمهم كيف
يحرمون بالحج وكيف يخرجون منها إلى منى وكيف يتوجهون إلى عرفات وكيف ينزلون
بها ثم يمهلهم يوم التروية حتى يعملوا بما علمهم ثم يخطب يوم عرفة خطبة يعلمهم فيها ما
يحتاجون إليه في هذا اليوم وفى يوم النحر ثم يمهلهم يوم النحر ليعملوا بما علمهم ثم يخطب
في اليوم الثاني من أيام النحر خطبة يعلمهم فيها بقية ما يحتاجون إليه من أمور المناسك وعن زفر
رحمه الله تعالى قال يخطب يوم التروية بمنى ويوم عرفة بعرفات ويوم النحر بمنى لأنه يوم
التروية يحرم بالحج ويوم عرفة يقف ويوم النحر يطوف بالبيت وأركان الحج هذه الأشياء
الثلاثة فيخطب في كل يوم يأتي فيه بذلك الركن ثم بين في الكتاب كيفية الجمع بين
الصلاتين بعرفة واشتراط الامام فيها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقد تقدم بيان هذا
الفصل بتمامه (قال) ومن أدرك مع الامام شيئا من كل صلاة فهو كادراك جميع الصلاة
في أنه يجوز له الجمع بينهما على قياس الجمعة إذا أدرك الامام في التشهد منها كان مدركا
الجمعة (قال) وإن كان الامام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا فإنه يصلي
بهم الظهر والعصر لان الامام أقامه مقام نفسه فيما كان عليه أداؤه وكان عليه أداء الصلاتين
فيقوم خليفته مقامه في ذلك (قال) فان رجع الامام فأدرك معه جزء من صلاة العصر
جمع بين الصلاتين لأنه مدرك لأول الظهر ومدرك لآخر العصر وإن لم يرجع حتى فرغ
خليفته من العصر فان الامام لا يصلى العصر ما لم يدخل وقتها في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وهذه المسألة تدل على أن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الجماعة شرط في الجمع
بين الصلاتين هنا كالامام وانه بمنزلة الجمعة في هذا وقد ذكر بعد هذا أنه إذا نفر الناس
عنه فصلى وحده الصلاتين أجزأه فهو دليل على أن الجماعة فيه ليس بشرط وقيل ما ذكر
53

بعد هذا قولهما لأنه أطلق الجواب وهنا نص على قول أبي حنيفة وقيل بل فيه روايتان عن
أبي حنيفة رحمه الله تعالى في احدى الروايتين جعلها كالجمعة في اشتراط الجماعة فيها وفي
الرواية الأخرى فرق بينهما فقال اشتراط الجماعة هناك لتسمية تلك الصلاة جمعة وفى
هذا لموضع إنما سمى هاتين الصلاتين الظهر والعصر وليس في هذا الاسم ما يدل على
اشتراط لجماعة ومعنى الجمع هنا منصرف إلى الصلاتين لا إلى المؤدين لهما فلا تشترط الجماعة
فيهما (قال) وليس في هاتين الصلاتين القراءة جهرا الا على قول مالك رحمه الله تعالى
فإنه يقول يجهر بالقراءة فيها لأنها صلاة مؤداة بجمع عظيم فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة
والعيدين ولكنا نقول إن رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا أنه جهر في
هاتين الصلاتين بالقراءة وهما يؤديان في هذا المكان كما يؤديان في غيره من الأمكنة وفى غير
هذا اليوم فلا يجهر بالقراءة فيهما عملا بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة النهار عجماء أي ليس
فيها قراءة مسموعة (قال) وان خطب قبل الزوال أو ترك الخطبة وصلى الصلاتين معا أجزأه
وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فان الخطبة ليس من شرائط هذا الجمع
بخلاف الجمعة وقد بينا ذلك فهذه خطبة وعظ وتذكير وتعليم لبعض ما يحتاج إليه في الوقت فتركها
لا يوجب الا إساءة كترك الخطبة في العيدين (قال) وإن كان يوم غيم فاستبان انه صلى
الظهر قبل الزوال والعصر بعده فالقياس انه يعيد الظهر وحدها لان العصر مؤداة في وقتها
وحين أدى العصر ما كان ذاكرا للظهر فيكون في معنى الناسي والترتيب يسقط بالنسيان
ولكن استحسن ان يعيد الخطبة والصلاتين جميعا لان شرط صحة العصر في هذا اليوم
تقديم الظهر عليه على وجه الصحة فان العصر معجل على وقته وهذا التعجيل للجمع فإنما
يحصل الجمع بأداء العصر إذا تقدم أداء الظهر بصفة الصحة فإذا تبين ان الظهر لم يكن
صحيحا كان عليه إعادة الصلاتين جميعا (قال) وان أحدث الامام بعد الخطبة قبل أن يدخل
في الصلاة فامر رجلا قد شهد الخطبة أو لم يشهد ان يصلى بهم أجزأهم لان الخطبة ليست
من شرائط هذا الجمع (قال) وان تقدم رجل من الناس بغير أمر الامام فصلى بهم
الصلاتين جميعا لم يجزهم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان هذا الامام شرط هذا الجمع
عنده (قال) وان مات الامام فصلى بهم خليفته أو ذو سلطان أجزأهم لان خليفته قائم
مقامه فهو بمنزلة ما لو صلى الامام بنفسه وإن لم يكن فيهم ذو سلطان صلى كل صلاة لوقتها
54

بمنزلة الجمعة (قال) ولا جمعة بعرفة يعنى إذا كان الناس يوم الجمعة بعرفات لا يصلون الجمعة
بها لان المصر من شرائط الجمع وعرفات ليس في حكم المصر إذ ليس لها أبنية إنما هي فضاء
وليست من فناء مكة لأنها من الحل بخلاف منى عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأبى يوسف
لأنها من فناء مكة ولأنها بمنزلة المصر في هذه الأيام لما فيها من الأبنية والأسواق المركبة وقد
بينا هذا في الصلاة (قال) ومن وقف بعرفة قبل الزوال لم يجزه ومن وقف بعد زوال
الشمس أو ليلة النحر قبل انشقاق الفجر أو مر بها مجتازا وهو يعرفها أو لا يعرفها أجزأه
فالحاصل ان ابتداء وقت الوقوف بعد الزوال عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى من طلوع
الشمس لان هذا اليوم مسمي بأنه يوم عرفة فإنما يصير اليوم مطلقا من وقت طلوع الفجر
فتبين ان وقت الوقوف من ذلك الوقت واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة فمن
وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه والنهار اسم للوقت من طلوع الشمس
سمى نهارا لجريان الشمس فيه كالنهر يسمى نهرا لجريان الماء فيه وحجتنا في ذلك أن النبي صلى
الله عليه وسلم إنما وقف بعد الزوال فكان مبينا وقت الوقوف بفعله فدل ان ابتداء الوقوف
بعد الزوال والدليل عليه ما روينا من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال للحجاج بعد
الزوال ان أردت السنة فالساعة ولا يبعد أن يسمي اليوم بهذا الاسم وإن كان وقت الوقوف بعد
الزوال كيوم الجمعة صار وقتا لأداء الجمعة بعد الزوال مع أن اليوم مسمي بهذا الاسم ثم الأصل
فيما قلنا حديث عروة بن مضرس بن لام الطائي رحمه الله تعالى انه جاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم صبيحة الجمع وهو بالمشعر الحرام فقال أكللت راحلتي وأجهدت نفسي وما مررت
بجبل من الجبال الا وقفت عليه فهل لي من حج فقال صلى الله عليه وسلم من وقف معنا هذا
الموقف وصلى معنا هذه الصلاة وقد كان أفاض قبل ذلك من عرفات ساعة من ليل أو نهار
فقد تم حجه (قال) ومن وقف بعرفة بعد الزوال ثم أفاض من ساعته أو أفاض قبل غروب الشمس
أو صلى بها الصلاتين ولم يقف وأفاض أجزأه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى لا يجزئه
إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل وذلك بأن تكون إفاضته بعد غروب الشمس واستدل
بقوله صلى الله عليه وسلم من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد
فاته الحج ولكنا نقول هذه الزيادة غير مشهورة وإنما المشهور ما رواه في الكتاب
ومن فاته عرفة فقد فاته الحج وفيما روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم ساعة من ليل أو
55

نهار دليل على أن بنفس الوقوف في وقته يصير مدركا للحج وإن لم يستدم الوقوف إلى
وقت غروب الشمس ثم يجب عليه الدم إذا أفاض قبل غروب الشمس لان نفس الوقوف
ركن واستدامته إلى غروب الشمس واجبة لما فيها من إظهار مخالفة المشركين فعله رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأمر به وترك الواجب يوجب الجبر بالدم فان رجع ووقف بها بعد
ما غابت الشمس لم يسقط الدم الا في رواية ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فإنه
يقول يسقط عنه الدم قال لأنه استدرك ما فاته وأتى بما عليه لان الواجب عليه الإفاضة
بعد غروب الشمس وقد أتى به فيسقط عنه الدم كمن جاوز الميقات حلالا ثم عاد إلى الميقات
وأحرم وفى ظاهر الرواية لا يسقط عنه الدم لان الواجب على من وصل إلى عرفات بعد
الزوال استدامة الوقوف إلى غروب الشمس ولم يتدارك ذلك بالانصراف بعد الشمس فلا
يسقط عنه الدم وان عاد قبل غروب الشمس حتى أفاض مع الامام فذكر الكرخي في
مختصره أن الدم يسقط عنه لان الواجب عليه الإفاضة مع الامام بعد غروب الشمس وقد
تدارك ذلك في وقته ومن أصحابنا من يقول لا يسقط الدم هنا أيضا لان استدامة الوقوف
قد انقطعت بذهابه فبرجوعه لا يصير وقوفه مستداما بل ما فات منه لا يمكنه تداركه فلا
يسقط عنه الدم (قال) وإذا أغمي على المحرم فوقف به أصحابه بعرفات أجزأه لأنه تأدى
الوقوف بحصوله في الموقف في وقت الوقوف. ألا ترى أنه لو مر بعرفات مار وهو لا يعلم
بها في وقت الوقوف أجزأه ولا يبعد أن يتأدى ركن العبادة من المغمى عليه كما يتأدى ركن
الصوم وهو الامساك بعد النية من المغمى عليه (قال) وقوف الجنب والحائض ومن صلى
صلاتين ومن لم يصل جائز لان لوقوف غير مختص بالبيت فلا تكون الطهارة شرطا فيه
وفرضية الصلاة عليه غير متصل بالوقوف فتركها لا يؤثر في الوقوف كما لا يؤثر في الصوم
(قال) وان وقف القارن بعرفة قبل أن يطوف للعمرة فهو رافض لها ان نوى الرفض وإن لم
ينو لان المعنى المعتبر أداء العمرة بعد الوقوف وهذا متحقق نوى الرفض أو لم ينو ولم
يذكر في الكتاب ما إذا اشتبه يوم عرفة على الناس بأن لم يروا هلال ذي الحجة وهو
مروى عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نحروا وقفوا بعرفة مروى عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نحروا ووقفوا بعرفة في يوم فان تبين انهم وقفوا
في يوم التروية لا يجزيهم وان تبين أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم استحسانا وفى القياس
لا يجزيهم لان الوقوف مؤقت بوقت مخصوص فلا يجوز بعد ذلك الوقت كصلاة الجمعة
56

ولكنه استحسن لقوله صلى الله عليه وسلم عرفتكم يوم تعرفون وفى رواية حجكم يوم
تحجون والحاصل انهم بعد ما وقفوا بيوم إذا جاء الشهود ليشهدوا انهم رأوا الهلال قبل ذلك
لا ينبغي للقاضي أن يستمع لي هذه الشهادة ولكنه يقول قد تم للناس حجهم ولا مقصود
في شهادتهم سوى ابتغاء الفتنة فان جاؤوا فشهدوا عشية عرفة فإن كان بحيث يتمكن فيه
الناس من الخروج إلى عرفات قبل طلوع الفجر قبل شهادتهم وأمر الناس بالخروج ليقفوا
في وقت الوقوف وإن كان بحيث لا يتمكن من ذلك لا يستمع إلى شهادتهم ويقف الناس
في اليوم الثاني ويجزئهم (قال) وان جامع القارن بعرفة قبل زوال الشمس وقد طاف
لعمرته فعليه دمان ويفرغ من حجته وعمرته وعليه قضاء الحج وهنا فصول (أحدها) في المفرد
بالحج إذ جامع قبل الوقوف يفسد حجه لقوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج فهو دليل على المنافاة بين الحج والجماع فإذا وجد الجماع فسد الحج وعليه المضي في
الفاسد والقضاء من قابل على هذا اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من شرع
في الاحرام لا يصير خارجا عنه الا بأداء الاعمال فاسدا كان أو صحيحا وعليه دم عندنا وعند
الشافعي رحمه الله تعالى عليه بدنة بمنزلة ما لو جامع بعد الوقوف ولكنا نقول هذا الدم لتعجيل
هذا الاحلال والشاة تكفى فيه كما في المحصر وجزاء فعله هنا وجوب القضاء عليه لأنه
أهم ما يجب في الحج فلا يجب معه كفارة أخرى فأما إذا جامع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد
حجه عندنا ولكن يلزمه بدنة ويتم حجه وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إذا جامع قبل
الرمي يفسد حجه لان احرامه قبل الرمي مطلق ألا ترى أنه لا يحل له شئ مما هو حرام على
المحرم والجماع في الاحرام المطلق مفسد للنسك كما قبل الوقوف بعرفة بخلاف ما بعد الرمي
فقد جاء أوان التحلل وحل له الحلق الذي كان حراما قبل على المحرم والحجة لنا في ذلك
حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال إذا جامع قبل الوقوف فسد نسكه وعليه بدنة
وإذا جامع بعد الوقوف فحجته تامة وعليه دم. وقال صلى الله عليه وسلم الحج عرفة فمن
وقف بعرفة فقد تم حجه وبالاتفاق لم يرد التمام من حيث أداء الأفعال فقد بقي عليه بعض
الأركان وإنما أراد به الاتمام من حيث أنه يأمن الفساد بعده وهو المعنى الفقهي أن بالوقوف
تأكد حجه ألا ترى أنه يأمن الفوات بعد الوقوف فكما يثبت حكم التأكد في الامن من
الفوات فكذلك في الامن من الفساد فأما قبل الوقوف حجه غير متأكد ألا ترى أنه
57

يفوته بمضي وقت الوقوف فكذلك يفسد بالجماع وهذا لان الجماع محظور كسائر المحظورات
وارتكاب محظورات الحج غير مفسد له فكان ينبغي أن لا يكون الجماع مفسدا تركنا
هذا الأصل فيما إذا حصل الجماع قبل تأكد الاحرام بدليل الاجماع وما بعد التأكد ليس
في معنى ما قبله فيبقى على أصل القياس وهذا على أصله أظهر فإنه يقول إذا بلغ الصبي قبل
الوقوف جاز حجه عن الفرض بخلاف ما بعد الوقوف توضيحه أن عنده لو جامع قبل الرمي
يفسد الحج وإذا جامع بعده لا يفسد والجماع قبل الرمي لا يكون أكثر تأثيرا من ترك
الرمي وترك الرمي غير مفسد للحج فكيف يكون الجماع قبله مفسدا (والفصل الثاني) المفرد
بالعمرة إذا جامع قبل أن يطوف أكثر الأشواط فسدت عمرته وعليه دم وان جامع بعد ما
طاف أكثر الأشواط لا تفسد عمرته لان ركن العمرة هو الطواف فيتأكد احرامه بأداء
أكثر الأشواط كما يتأكد احرام الحج بالوقوف ولكن عليه دم عندنا وعلى قول الشافعي
رحمه الله تعالى في الوجهين جميعا تفسد عمرته وعليه بدنة لان الجماع محظور كل واحد من
النسكين فكما أن في الحج تجب البدنة بالجماع فكذلك بالعمرة وعندنا لا مدخل للبدنة في
العمرة بخلاف الحج على ما بينا في طواف الحج ففي الحقيقة إنما ينبنى هذا على الخلاف المعروف
بيننا وبينهم في العمرة عندنا العمرة سنة وعلى قوله فريضة كفريضة الحج واحتج بقوله تعالى
وأتموا الحج والعمرة لله فقد قرن بينهما في الامر بالاتمام فدل على فرضيتهما وفى حديث
ابن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال العمرة فريضة الحج وقال صبي بن معبد
فوجدت الحج والعمرة واجبين على وقال صلى الله عليه وسلم للخثعمية حجى عن أبيك
واعتمري وحقيقة الامر للوجوب (ولنا) حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال الحج جهاد والعمرة تطوع وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن العمرة أواجبة هي فقال لا وإن تعتمر خير لك ولأن العمرة لا تتوقت بوقت
معلوم في السنة وإنما باين النفل الفرض بهذا فان الفرض يتوقت بوقت والنفل لا يتوقت
ولأنه يتأدى بنية غيره فان عنده المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بالعمرة وبالإجماع
فائت الحج يتحلل باعمال العمرة والفرض إنما باين النفل بهذا فان النفل يتأدى بنية الفرض
والفرض الذي هو غير معين لا يتأدى بنية النفل فاما الآية فقد قرئت بالنصب وبالرفع
والعمرة لله فالقراءة بالرفع ابتداء خبر العمرة لله والنوافل لله تعالى كالفرائض ثم هذا أمر
58

بالاتمام بعد الشروع ولا خلاف فيه وما عرفنا ابتداء فرضية الحج بهذه الآية بل عرفناه
بقوله تعالى ولله على الناس حج البيت وبهذا تبين ان المقصود زيارة البيت وهذا المقصود
حاصل بفرضية نسك واحد فلا تثبت صفة الفرضية في عدد منه ولهذا لا تتكرر فرضية
الحج ومعنى قوله فريضة أي مقدرة باعمال كالحج فان الفرض هو التقدير وبه نقول إنها
مقدوره فأكثر ما في الباب أن الآثار قد اشتبهت فيه ولكن صفة الفرضية مع اشتباه الأدلة
لا تثبت فإذا ثبت عندنا ان أصله ليس بفرض بل هو تبع للحج لا يكون وجوب البدنة بالجماع
في الحج دليلا على وجوبها في العمرة وعنده لما كان فرضا وجب بالجماع فيه ما يجب في
الحج (والفصل الثالث) القارن إذا جامع قبل الزوال وقد طاف لعمرته فإنما جامع بعد أكد
احرام العمرة فلا تفسد عمرته بهذا الجماع وعليه دم لأجله وجامع قبل تأكد احرام الحج
فيفسد حجه وعليه دم لتعجيل الاحلال وقضاء الحج وقد سقط عنه دم القران بفساد
أحد النسكين وان جامع بعد الوقوف فعليه للعمرة دم وللحج جزور وعليه دم القران لأنه
لم يفسد واحد من النسكين بهذا الجماع (قال) وكذلك لو جامع بعد الحلق قبل أن
يطوف بالبيت يريد به في وجوب الجزور عليه لان احرامه للحج في حق النساء باق حتى
يطوف بالبيت ولكن لا يلزمه دم العمرة هنا لان تحلله للعمرة قد تم بالحلق (قال) ومن
جامع ليلة عرفة قبل أن يأتي عرفة فسد حجه وعليه شاة لان احرامه لا يتأكد بدخول
وقت الوقوف وإنما يتأكد بفعل الوقوف. ألا ترى أن الامن من الفوات لا يحصل
بدخول وقته وإنما يحصل بالوقوف فكان هذا وما لو جامع قبل دخول وقت الوقوف
سواء (قال) وإذا وقف القارن بعرفة قبل طواف العمرة ثم جامع فقد بينا أن احرامه للعمرة
قد ارتفض بالوقوف ولزمه دم لرفض العمرة وعليه جزور للجماع لان جماعه صادف احرام
الحج بعد ما تأكد فيتم حجه وعليه قضاء العمرة بعد أيام التشريق (قال) ومن دخل
مكة بغير احرام فخاف الفوت إن رجع إلى الميقات فأحرم ووقف أجزأه وعليه دم لترك
الوقت هكذا نقل عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة رضى الله تعالى عنهم أنهم قالوا
إذا جاوز الميقات بغير احرام فعليه دم لترك الوقت وكان المعنى فيه أن الشرع عين الميقات
للاحرام فبتأخيره الاحرام عن الميقات يتمكن فيه النقصان ونقائص الحج تجبر بالدم ولما ابتلى
ببليتين يختار أهونهما والتزام الدم أهون من الرجوع إلى الميقات لتفويته الحج (قال) وإذا
59

وقف الحاج بعرفة ثم أهل وهو واقف بحجة أخرى فإنه برفضها وعليه دم لرفضها وحجة وعمرة
مكانها ويمضي في التي هو فيها وهذا قول أبي حنيفة وأبى ويوسف رحمهما الله تعالى فاما عند
محمد فاحرامه باطل بمنزلة اختلافهم فيمن أحرم بحجتين على ما نبينه وإنما يرفضها لأنه لو لم
يرفضها ووقف لها لبقاء وقت الوقوف يصير مؤديا حجتين في سنة واحدة ولا يجوز ان يؤدى
في سنة أكثر من حجة واحدة وإذا رفضها فعليه الدم لرفضها لأنه خرج من الاحرام بعد صحة
الشروع قبل أداء الأفعال فلزمه الدم كالمحصر وعليه قضاء حجة وعمرة مكانها بمنزلة المحصر
بالحج إذا تحلل وهذا لأنه في معنى فائت الحج وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة وهذا لم يأت
باعمال العمرة فكان عليه قضاؤها مع قضاء الحج (قال) وكذلك أن أهل بعمرة أيضا
يرفضها لان وقوفه لو طرأ على عمرة صحيحة أوجب رفضها على ما بينا في القارن إذا وقف قبل أن
يطوف لعمرته فكذلك إذا اقترن بوقوفه احرام العمرة وهذا لأنه لو لم يرفضها أدى أفعالها
فيكون بانيا أعمال العمرة على أعمال الحج فلهذا يرفضها وعليه دم وقضاؤها لخروجه منها بعد
صحة الشروع (قال) وكذلك لو كان أهل بالحج ليلة المزدلفة بالمزدلفة فهو رافض ساعة
أهل لأنه لو لم برفضها عاد إلى عرفات فوقف فيصير مؤديا حجتين في سنة واحدة وهذا
بخلاف ما إذا أهل بحجتين فان هناك إذا عجل في عمل أحدهما لا يصير رافضا للاخر وهنا هو
مشغول بعمل أحدهما بل هو مؤد له فلهذا يرتفض الآخر في الحال فكذلك أن أهل بعمرة
ليلة المزدلفة فهو رافض لها وفي الكتاب أضاف هذا القول أبى أبى يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يخالفهما في هذا لما قلنا أنه لو لم يصر رافضا كان بانيا أعمال
العمرة على أعمال الحج فاما إذا أهل بحجة أخرى بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يرفضها
لان وقت قد فات فلو بقي احرامه هذا لا يكون مؤديا حجتين في سنة واحدة
ولكنه يتم أعمال الحجة الأولى ويمكث حراما إلى أن يحج في السنة الثانية إلا أنه إن حلق
للحجة الأولى يلزمه دم لجنايته على الاحرام الثاني بذلك الحلق وإن لم يحلق فعليه الدم عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى أيضا لتأخير الحلق في الحجة الأولى عن وقته وعندهما بهذا التأخير
لا يلزمه دم واصل المسألة ان من أحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بالحج عندنا وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يكون محرما بالعمرة وهكذا روى الحسن بن أبي مالك عن أبي
يوسف رحمهما الله تعالى وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا وقال
60

مالك رحمه الله تعالى جميع ذي الحجة استدلا لا بقوله تعالى الحج أشهر معلومات وأقل الجمع
المتفق عليه ثلاثة ولكنا نستدل بقول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنه
م ان أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة فأقاموا أكثر الثلاثة مقام
الكمال في معنى الآية لمعنى وهو ان بالاتفاق يفوت الحج بطلوع الفجر من يوم النحر
وفوات العبادة يكون بمضي وقتها فاما مع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات ولهذا قال أبو
يوسف رحمه الله تعالى ان من ذي الحجة عشر ليال وتسعة أيام فاما اليوم العاشر ليس
بوقت الحج لان الفوات يتحقق بطلوع الفجر من اليوم العاشر وهو يوم النحر وفى ظاهر
المذهب اليوم العاشر من وقت الحج لان الصحابة رضي الله عنهم قالوا وعشر من ذي الحجة
وذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضى دخول ما بإزائه من العدد
الآخر ولان الله تعالى سمى هذا اليوم يوم الحج الأكبر قال الله تعالى وأذان من الله
ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر والمراد يوم النحر لا وقت الحج لأداء الطواف فيه
دون الوقوف فلهذا يتحقق الفوات بطلوع الفجر منه لفوات ركن الوقوف (فأما) الشافعي
رحمه الله تعالى احتج بقوله صلى الله عليه وسلم المهل بالحج في غير أشهر الحج مهل بالعمرة
ولان الاحرام بالحج كالتكبير للصلاة فكما لا يجوز الشروع في الفريضة قبل دخول
وقت الصلاة في الصلاة فكذلك في الحج والاحرام أحد أركان الحج فلا يتأدى في غير
وقت الحج كسائر الأركان وإذا لم يصح احرامه بالحج كان محرما بالعمرة لان الوقت وقت
العمرة ألا ترى أنه لو فات حجه بمضي الوقت يبقى احرامه للعمرة فكذلك إذا حصل
ابتداء احرامه في غير أشهر الحج (ولنا) أن الاحرام للحج بمنزلة الطهارة للصلاة فإنه
من الشرائط لا من الأركان حتى يكون مستداما إلى الفراغ منه وهذا حد شرط العبادة
لاحد ركن العبادة ولأنه لا يتصل به أداء الأفعال فالاحرام يكون عند الميقات وأداء الأفعال
بمكة ولو أحرم في أول يوم من أشهر الحج يصح وأداء الأفعال بعد ذلك بزمان فعرفنا أنه
بمنزلة الشرط فلا يستدعى صحة الوقت بخلاف الصلاة فان أداء الأركان هناك يتصل
بالتكبير فإذا حصل قبل دخول لوقت لا يتصل أداء الأركان به والحديث في الباب شاذ
جدا فلا يعتمد على مثله ولكن يكره له أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج من أصحابنا رحمهم
الله تعالى من يقول الكراهة لمعنى أن الاحرام من وجه بمنزلة الأركان ولهذا لو حصل
61

قبل العتق لا يتأدى به فرض الحج بعد العتق وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلشبهه
بالشرائط يجوز قبل الوقت ولشبهه بالأركان يكون مكروها وقيل بل الكراهة لأنه لا يأمن
من مواقعة المحظور إذا طال مكثه في الاحرام (قال) ويجمع الامام بين صلاة المغرب
والعشاء بمزدلفة باذان وإقامة فان تطوع بينهما أقام للعشاء إقامة أخرى وقال زفر رحمه
الله تعالى إذا تطوع بينهما اذن وأقام للعشاء لان الفصل بينهما قد تحقق بالاشتغال بالتطوع
فهو بمنزلة من يؤدى كل صلاة في وقتها فعليه الاذن والإقامة لكل صلاة ولكنا نقول
الجمع بينهما لا ينقطع بهذا الفصل كما لا ينقطع إذا اشتغل بالأكل ولكنه يحتاج إلى
اعلام الناس انه يصلى العشاء وبالإقامة يتم هذا الاعلام والأصل فيه حديث ابن عمر
رضي الله عنه فإنه صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة للعشاء فان صلى المغرب
بعرفات بعد غروب الشمس أو صلاها في طريق المزدلفة قبل غيبوبة الشفق أو بعده
فعليه ان يعيدها بمزدلفة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه
الله تعالى يكره ما صنع ولا يلزمه الإعادة لأنه أدى الفرض في وقته فان ما بعد غروب
الشمس وقت المغرب بالنصوص الظاهرة وأداء الصلاة في وقتها صحيح الا ترى أنه لو لم
يعد حتى طلع الفجر لم يلزمه الإعادة ولو لم يقع ما أدى موقع الجواز لما سقطت عنه الا عادة
بطلوع الفجر ولكنا نستدل بحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه فإنه كان رديف رسول الله
صلى الله عليه وسلم في طريق المزدلفة فلما غربت الشمس قال الصلاة يا رسول الله فقال صلى
الله عليه وسلم الصلاة امامك ولم يرد بهذا فعل الصلاة لان فعل الصلاة حركات المصلى وهو
معه فاما أن أراد به الوقت أو المكان فإن كان المراد به المكان فقد بين بهذا النص اختصاص
أداء الصلاة بمكان وهو المزدلفة فلا يجوز في غيرها وإن كان المراد به الوقت فقد تبين ان
وقت المغرب في حق الحاج لا يدخل بغروب الشمس وأداء الصلاة قبل الوقت لا يجوز
والدليل عليه انه مأمور بالتأخير لا لان في الاشتغال بالصلاة انقطاع سيره فان أداء الصلاة في
وقتها فريضة فلا يسقط بهذا العذر ولكن الامر بالتأخير للجمع بينهما بالمزدلفة وهذا المعنى
يفوت بأداء المغرب في طريق المزدلفة فعليه الإعادة بعد الوصول إلى المزدلفة ليصير جمعا
بين الصلاتين كما هو المشروع نسكا ولهذا سقطت عنه الإعادة بطلوع الفجر لان وجوب
الإعادة لمكان ادراك فضيلة الجمع بينهما وهذا يفوت بفوات وقت العشاء ولهذا قلنا إذا بقي
62

في الطريق حتى صار بحيث يعلم أنه لا يصل إلى المزدلفة قبل طلوع الفجر يصلى المغرب ولا
يؤخرها بعد ذلك (قال) ويغلس بصلاة الفجر بالمزدلفة حين ينشق له الفجر الثاني
لحديث ابن مسعود رضي الله عنه كما بينا ثم يغفي حتى إذا أسفر دفع قبل طلوع الشمس
وهذا الوقوف واجب عندنا وليس بركن حتى إذا تركه لغير علة يلزمه دم وحجه تام وعلى
قول الليث بن سعد رحمه الله تعالى هذا الوقوف ركن لا يتم الحج الا به لأنه مأمور به في
كتاب الله تعالى قال الله تعالى فاذكروا الله عند المشعر الحرام وقال صلى الله عليه وسلم
في حديث عروة بن مضرس رحمه الله تعالى من وقف معنا هذا الموقف فقد تم حجه
علق تمام حجه بهذا الوقوف فعرفنا انه لا يتم الا به (ولنا) قوله صلى الله عليه
وسلم الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه ولأنه يجوز ترك هذا الوقوف بعذر فان
ضباعة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنها كانت شاكية فاستأذنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم في المصير إلى منى ليلة المزدلفة فأذن لها وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد ضعفة أهله من المزدلفة بليل ولو كان ركنا لم يجز تركه لعذر وبهذا تبين أن هذا
الوقوف مع الوقوف بعرفة بمنزلة طواف الزيارة مع طواف الصدر ثم طواف الصدر واجب
وليس بركن ويجوز تركه بعذر الحيض فكذا هذا والمزدلفة كلها موقف الا محسر وعرفة كلها
موقف الا بطن عرفة وقد بينا الأثر المروى في هذا الباب فيما سبق (قال) وأحب إلى
أن يكون وقوفه بمزدلفة عند الجبل الذي يقال له قزح من وراء الامام لان النبي صلى الله
عليه وسلم اختار لوقوفه ذلك الموضع وقد بينا في الوقوف بعرفة أن الأفضل أن يقف من
ورواء الامام قريبا منه ليؤمن على دعائه فكذلك في الوقوف بمزدلفة فان تعجل من المزدلفة
بليل فإن كان لعذر من مرض أو امرأة خافت الزحام فلا شئ عليه لما روينا وإن كان لغير
عذر فعليه دم لتركه واجبا من واجبات الحج فان أفاض منها بعد طلوع الفجر قبل أن يصلى
مع الناس فلا شئ عليه لأنه أتى بأصل الوقوف في وقته ولكنه مسئ فيما صنع لتركه امتداد
الوقوف (قال) فان مر بالمشعر الحرام مرا بعد طلوع الفجر فلا شئ عليه لان وقوفه
تأدى بهذا المقدار وكذا إن كان مر بها نائما أو مغمى عليه فلم يقف مع الناس حتى أفاضوا لان
حصوله في موضع الوقوف في وقته يكون بمنزلة وقوفه وقد بينا هذا في الوقوف بعرفة فكذلك
في الوقوف بالمشعر الحرام وإن لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر بأن نام في الطريق فلا شئ عليه
63

لان البيتوتة بالمزدلفة ليست بنسك مقصود ولكن المقصود الوقوف بالمشعر الحرام بعد
طلوع الفجر وقد أتى بما هو المقصود فلا يلزمه بترك ما ليس بمقصود شئ كما بينا في ترك
البيتوتة بها في ليالي الرمي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
باب رمى الجمار
(قال) رضى الله تعالى عنه ويبدأ إذا وافي منى برمي جمرة العقبة ثم بالذبح إن كان قارنا
أو متمتعا ثم بالحلق لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن
أول نسكنا في هذا اليوم أن نرمي ثم نذبح ثم نحلق ولان الذبح والحلق من أسباب التحلل
الا ترى أن تحلل المحصر بالذبح فيقدم الرمي عليهما ثم الذبح في معنى التحلل دون الحلق
فان الحلق محظور الاحرام والذبح لا فكان الذبح مقدما على الحلق وقد بينا اختلاف العلماء في
وقت ابتداء الرمي في هذا اليوم وكذلك يختلفون في آخر وقته ففي ظاهر المذهب وقته إلى
غروب الشمس ولكنه لو رمي بالليل لا يلزمه شئ وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى وقته إلى
زوال الشمس وما بعد الزوال يكون قضاء وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان في أحد القولين
إنما يرمي ذلك إلى غروب الشمس فإذا غربت تعين عليه الفدية بفوات الوقت في هذا الرمي
وما عرف الرمي قربة الا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت فيتحقق فواته
بفوات الوقت كالوقوف بعرفة وفى القول الآخر يقول يمتد وقته إلى آخر أيام التشريق
حتى يأتي بما ترك من الرمي في أخر أيام التشريق ولا شئ عليه لان الرمي كله في حكم
نسك واحد وان اختلف مكانه وزمانه فلا يتحقق الفوات فيه الا بفوات وقته وذلك بمضي
آخر أيام التشريق وقاس بالتكبيرات فان من ترك شيئا من الصلوات في هذه الأيام يقضيها
بالتكبيرات إلى آخر أيام التشريق وحجتنا في ذلك أن وقت رمى جمرة العقبة يوم النحر
بالنص قال صلى الله عليه وسلم ان أول نسكنا في هذا اليوم وذهاب تمام اليوم بغروب
الشمس إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقيس الرمي في هذا اليوم بالرمي في اليوم الثاني فيقول
كما أن في اليوم الثاني وقت الرمي نصف اليوم وهو ما بعد الزوال فكذا في هذا اليوم وقت
الرمي نصف اليوم وذلك إلى زوال الشمس إلا أنه إذا رمى بالليل لم يغرم شيئا لان رسول الله
صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة ان يرموا ليلا ولان اليوم لما كان وقتا للرمي فالليل يتبعه في
64

ذلك كليلة النحر تجعل تبعا ليوم عرفة في حكم الوقوف فإن لم يرمها حتى يصبح من الغد
رماها لبقاء وقت جنس الرمي ولكن عليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولآدم عليه
عندهما وهو نظير ما بينا في تأخير طواف الزيارة عن أيام النحر فأبو حنيفة رحمه الله تعالى
هنا جعل تأخير الرمي عن وقته بمنزلة تركه ورمى جمرة العقبة يوم النحر نسك تام فكما أن
تركه يوجب الدم فكذلك تأخيره عن وقته وكذلك إن ترك الأكثر منها لان الأكثر بمنزلة
الكل وان ترك منها حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى الغد رماها وتصدق لكل حصاة بنصف
صاع من حنطة على مسكين إلا أن يبلغ دما فحينئذ ينقص منه ما شاء لان المتروك أقل
فتكفيه الصدقة وقد بينا نظيره في تأخير طواف الزيارة وان ترك رمى احدى الجمار في اليوم
الثاني فعليه صدقة لان رمى الجمار الثلاث في اليوم الثاني نسك واحد فإذا ترك أحدها كان
المتروك أقل فتكفيه الصدقة إلا أن المتروك أكثر من النصف فحينئذ يلزمه الدم وجعل
ترك الأكثر كترك الكل (قال) وان ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أيام الرمي
رماها على التأليف لان وقت الرمي باق فعليه ان يتدارك المتروك ما بقي وقته كالأضحية إذا
أخرها إلى آخر أيام النحر وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولآدم عليه
في قولهما فان تركها حتى غابت الشمس من آخر أيام الرمي سقط عنه الرمي بفوات الوقت
لان معنى القربة في الرمي غير معقول وإنما عرفناه قربة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو إنما رمي في هذه الأيام فلا يكون الرمي قربة بعد مضى وقتها كما لا يكون إراقة الدم قربة
بعد مضى أيام النحر وإذا لم يكن قربة كان عبثا فلا يشتغل به وعليه دم واحد عندهم جميعا
لان الرمي كله نسك واحد وهو واجب فتركه يوجب الجبر بالدم كما هو مذهبنا في ترك
السعي بين الصفا والمروة ولا يبعد أن يكون ترك البعض موجبا للدم ثم لا يجب بترك
الكل الا دم واحد كما أن حلق ربع الرأس في غير أوانه يوجب الدم ثم حلق جميع الرأس
لا يوجب الا دما واحدا وقص أظافر يد واحدة يوجب الدم ثم قص الا ظافر كلها لا يوجب
الا دما واحدا (قال) وان بدأ في اليوم الثاني بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلى
المسجد ثم ذكر ذلك في يومه قال يعيد على الجمرة الوسطى وجمرة العقبة لأنه نسك شرع
مرتبا في هذا اليوم فما سبق أوانه لا يعتد به فكان رمى الجمرة الأولى بمنزلة الافتتاح للجمرة
الوسطى والوسطى بمنزلة الافتتاح لجمرة العقبة فما أدى قبل وجود مفتاحه لا يكون معتدا به
65

كمن سجد قبل الركوع أو سعى قبل الطواف بالبيت فالمعتد من رميه هنا الجمرة الأولى فلهذا
يعيد على الوسطى وعلى جمرة القبة (قال) وان رمى من كل جمرة ثلاث حصيات ثم ذكر
بعد ذلك فإنه يبدأ من الأولى بأربع حصيات ليتمها ثم يعيد على الوسطى بسبع حصيات
وكذلك على جمرة العقبة ولا يعتد بما رمى من الوسطى وجمرة العقبة لان ذلك سبق أوانه فإنه
حصل قبل أن يأتي بأكثر الرمي عند الجمرة الأولى فكأنه لم يرم منهما شيئا (قال) وان
رمى من كل واحدة بأربع أربع فإنه يرمى لكل واحدة بثلاث حصيات لان رمى أكثر الجمرة
الأولى بمنزلة كماله في الاعتداد برمي الجمرة الوسطى كما أن أكثر أشواط الطواف ككماله
في الاعتداد بالسعي بعده وإذا كان ما رمى من كل جمرة معتدا به فعليه اكمال رمى كل جمرة
بثلاث حصيات فان استقبل رميها فهو أفضل لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإنه ما اشتغل بالثانية الا بعد اكمال الأولى (قال) وان رمى جمرة
العقبة من فوق العقبة أجزأه وقد بينا أن الأفضل أن يرميها من بطن الوادي ولكن
ما حول ذلك الموضع كله موضع الرمي فإذا رماها من فوق العقبة فقد أقام النسك في
موضعه فجاز (قال) وكذلك لو لم يكبر مع كل حصاة أو جعل مكان التكبيرات
تسبيحا أجزأه لان المقصود ذكر الله تعالى عند كل حصاة وذلك يحصل بالتسبيح كما
يحصل بالتكبير ثم هو من آداب الرمي فتركه لا يوجب شيئا (قال) وان رماها بحجارة
أو بطين يابس جاز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى الا بالحجر اتباعا لما ورد
به الأثر فان فيما لا يعقل المعني فيه أنما يحصل الامتثال بعين المنصوص ولكنا نقول المنصوص
عليه فعل الرمي وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر والأصل فيه فعل الخليل صلوات الله
عليه ولم يكن له في الحجر بعينه مقصود إنما مقصوده فعل الرمي اما لإعادة الكبش أو
لطرد الشيطان على حسب ما اختلف فيه الرواة فقلنا بأي شئ حصل فعل الرمي أجزأه
بمنزلة أحجار الاستنجاء فكما يحصل الاستنجاء بالحجر يحصل الاستنجاء بالطين وغيره
وبعض المتشفعة يقولون إن رمي بالبعرة أجزأه وان رمى بالفضة أو الذهب أو اللؤلؤ
والجواهر لا يجوز لان المقصود إهانة الشيطان وذلك يحصل بالبعر دون الذهب والفضة
والجواهر ولسنا نقول بهذا ولكن نقول الرمي بالفضة والذهب يسمى في الناس نثارا
لا رميا والواجب عليه الرمي فعليه أن يرمي بكل ما يسمى به راميا (قال) فان رمى احدى
66

الجمار بسبع حصيات جملة فهذه واحدة لان المنصوص عليه تفرق الاعمال لا عين الحصيات
فإذا أتى بفعل واحد لا يكون إلا عن حصاة واحدة كما لو أطعم كفارة اليمين مسكينا
واحدا مكان اطعام عشرة مساكين جملة لم يجزه إلا عن طعام مسكين واحد (قال)
وان رماها بأكثر من سبع حصيات لم تضره تلك الزيادة لأنه أتى بما هو الواجب عليه
فلا يضره الزيادة عليه بعد ذلك (قال) وان نقص حصاة لا يدرى من أيتهن نقصها أعاد
على كل واحدة منهن حصاة واحدة أخذا بالاحتياط في باب العبادة كما لو ترك سجدة من
صلاة من الصلوات الخمس ولا يدرى من أيها ترك فعليه قضاء الصلوات الخمس (قال)
وان قام عند الجمرة ووضع الحصاة عندها وضعا لم يجزه لان الواجب عليه فعل الرمي
والواضع غير رام وان طرحها طرحا أجزأه وقد أساء لان الطارح رام إلا أن الرمي تارة
يكون امامه وتارة يكون عند قدميه بالطرح ولكنه مسئ لمخالفة فعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصفا (قال) فان رماها من بعيد فلم تقع الحصاة عند الجمرة فان وقعت قريبا
منها أجزأه لان هذا القدر مما لا يتأتي التحرز عنه خصوصا عند كثرة الزحام وان وقعت
بعيدا منها لم يجزه لان الرمي قربة في مكان مخصوص ففي غير ذلك المكان لا يكون قربة
(قال) وان رماها بحصاة أخذها من عند الجمرة أجزأه وقد أساء لان ما عند الجمرة من الحصى
مردود فيتشاءم به ولا يتبرك به وبيانه في حديث سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس
رضي الله عنه ما بال الجمار ترمى من وقت الخليل صلاة الله عليه ولم تصر هضابا تسد الأفق
فقال اما علمت أن من يقبل حجه رفع حصاه ومن لم يقبل حجه ترك حصاه حتى قال مجاهد
لما سمعت هذا من ابن عباس رضي الله عنه جعلت على حصياتي علامة ثم توسطت الجمرة
فرميت من كل جانب ثم طلبت فلم أجد بتلك العلامة شيئا من الحصا فهذا معنى قولنا ان
ما بقي في موضع الرمي مردود ولكن مع هذا يجزئه لوجود فعل الرمي ومالك رحمه الله
تعالى يقول لا يجزئه وهذا عجب من مذهبه فإنه يجوز التوضؤ بالماء المستعمل ولا يجوز الرمي
بما قد رمي به من الأحجار ومعلوم ان فعل الرمي لا يغير صفة الحجارة (قال) فإن لم يقم
عند الجمرتين اللتين يقوم الناس عندهما لم يلزمه شئ لان القيام عند الجمرتين سنة فتركه لا
يوجب الا الإساءة (قال) وإن كان أقام أيام منى بمكة غير أنه يأتي مني في كل يوم فيرمى
الجمار فقد أساء ولا شئ عليه لأنه ما ترك الا السنة وهي البيتوتة بمنى في ليالي الرمي وقد
67

بينا ان العباس رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لأجل السقاية
فأذن له فدل انه ليس بواجب (قال) فان رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الفجر
قبل طلوع الشمس أجزأه قال بلغنا ذلك عن عطاء رحمه الله تعالى والمروى عنه أنه قال يجعل
منى عن يمينه والكعبة عن يساره ويرمى جمرة العقبة بسبع حصيات والأفضل ان يرميها
بعد طلوع الشمس وان رماها قبل طلوع الشمس أجزأه وان رماها في اليوم الثاني من أيام
النحر قبل الزوال لم يجزه لان وقت الرمي في هذا اليوم بعد لزوال عرف بفعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلا يجزئه قبله وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله تعالى في المنتقى ان ما قبل
الزوال يوم النحر وقت الرمي حتى لو رمي أجزأه (قال) وكذلك في اليوم الثالث من
يوم النحر وهو اليوم الثاني من أيام التشريق وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إن كان
من قصده ان يتعجل النفر الأول فلا بأس بان يرمى في اليوم الثالث قبل الزوال وان
رمى بعد الزوال فهو أفضل وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجزئه الرمي الا بعد الزوال لأنه إذا كان
من قصده التعجيل فربما يلحقه بعض الحرج في تأخير الرمي إلى ما بعد الزوال بأن لا يصل
إلى مكة الا بالليل فهو محتاج إلى أن يرمى قبل الزوال ليصل إلى مكة بالنهار فيرى موضع
نزوله فيرخص له في ذلك والأفضل ما هو العزيمة وهو الرمي بعد الزوال وفي ظاهر الرواية
يقول هذا اليوم نظير اليوم الثاني فان النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيه بعد الزوال فلا يجزئه
الرمي فيه قبل الزوال (قال) فان رمى في اليوم الثالث يخير بين النفر وبين المقام إلى أن
يرمى في اليوم الرابع لقوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه
وخياره هذا يمتد إلى طلوع الفجر من اليوم الرابع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى إلى
غروب الشمس من اليوم الثالث لان المنصوص عليه الخيار في اليوم وامتداد اليوم إلى
غروب الشمس ولكنا نقول الليل ليس بوقت لرمي اليوم الرابع فيكون خياره في النفر
باقيا قبل غروب الشمس من اليوم الثالث بخلاف ما بعد طلوع الفجر من اليوم الرابع فإنه
وقت الرمي على ما نبينه إن شاء الله تعالى فلا يبقى خياره بعد ذلك وقد بينا ان الليالي هنا
تابعة للأيام الماضية فكما كان خياره ثابتا في اليوم الثالث فكذلك في الليلة التي بعده (قال)
وان صبر إلى اليوم الرابع جاز له أن يرمى الجمار فيه قبل الزوال استحسانا في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وعلى قولهما لا يجزئه بمنزلة اليوم الثاني والثالث لأنه يوم ترمي فيه الجمار
68

الثلاث فلا يجوز الا بعد الزوال بخلاف يوم النحر وأبو حنيفة احتج بحديث ابن عباس
رضى الله تعالى عنه إذا انتفح النهار في آخر أيام التشريق فارموا يقال انتفح النهار إذ علا واعتبر
آخر الأيام بأول الأيام فكما يجوز الرمي في اليوم الأول قبل زوال الشمس فكذا في اليوم
الآخر وهذا لان الرمي في اليوم الرابع يجوز تركه أصلا فمن هذا الوجه يشبه النوافل والتوقيت
في النفل لا يكون عزيمة فلهذا جوز الرمي فيه قبل الزوال ليصل إلى مكة قبل الليل (قال)
وأحب إلى أن يرمي الجمار مثل حصاة الحذف هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
فإنه جعل طرف احدى سبابتيه عند الأخرى فرمى بمثل حصى الحذف وقال هكذا فارموا
وان رمى بأكبر من ذلك أجزأه ولكن لا ينبغي أن يرمي الكبار من الأحجار لأنه ربما يصيب
أحدا فيتأذى به وقال صلى الله عليه وسلم عليكم بحصى الحذف وإياكم والغلو في الدين فإنما
هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين (قال) وليس في القيام عند الجمرتين دعاء مؤقت لما بينا
ان التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب ويرفع يديه عندهما حذاء منكبيه للحديث لا ترفع
الأيدي الا في سبع مواطن وفى المقامين عند الجمرتين (قال) والرجل والمرأة في رمى
الجمار سواء كما في سائر المناسك وان رماها راكبا أجزأه لحديث جابر رضي الله عنه ان
النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار راكبا وقد بينا ما هو المختار عند كل جمرة (قال)
وقد بينا ما هو المختار عند كل جمرة (قال) والمريض الذي لا يستطيع رمى الجمار يوضع
الحصى في كفه حتى يرمى به لأنه فيما يعجز عنه يستعين بغيره وان رمى عنه أجزأه بمنزلة
المغمى عليه فان النيابة تجرى في النسك كما في الذبح (قال) والصبي الذي يحج به أبوه يقضى
المناسك ويرمى الجمار لأنه يأتي به للتخلق حتى يتيسر له بعد البلوغ فيؤمر به بمثل ما يؤمر به
البالغ وان ترك الرمي لم يكن عليه شئ وكذلك المجنون يحرم عنه أبوه لان فعلهما للتخلق
فلا يكون واجبا إذ ليس للأب عليهما ولاية الايجاب فيما لا منفعة لهما فيه عاجلا ولهذا
لا يجب الدم بترك الرمي عليهما وهو معتبر بالكفارات لا يجب شئ منها على الصبي
والمجنون عندنا والأصل في جواز الرمي هكذا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ان
امرأة رفعت صبيا من هودجها إليه فقالت ألهذا حج فقال نعم ولك أجره فدل ذلك على أنه
يجوز للأب ان يحرم عن ولده الصغير والمجنون بمنزلة الصغير والله أعلم بالصواب
69

باب الحلق
(قال) رضي الله عنه الحلق أفضل من التقصير لما روينا من الأثر فيه ولان المأمور به بعد
الذبح قضاء التفث قال الله تعالى ثم ليقضوا تفثهم وهو في الحلق أتم والتقصير فيه بعض الحلق
فلهذا كان الحلق أفضل والتقصير يجزى وهو ان يأخذ شيئا من أطراف شعره ورواه في
الكتاب عن ابن عمر رضي الله عنه انه سئل كم تقصر المرأة فقال مثل هذه يعني مثل
الا نملة وهذا لأنه لو لم يكن على رأسه من الشعر إلا ذلك القدر كان يتم تحلله بأخذه فكذلك
إذا كان على رأسه من الشعر أكثر من ذلك يتم تحلله بأخذ ذلك المقدار والتقصير قائم
مقام الحلق في حكم التحلل فإذا فعل ذلك في أحد جانبي رأسه أجزأه بمنزلة ما لو حلق نصف
رأسه وكذلك أن فعله في أقل من النصف وكان بقدر الثلث أو الربع فكذلك يجزئه لان كل
حكم تعلق بالرأس فالربع منه ينزل منزلة الكمال كالمسح بالرأس ولكنه مسئ في الاكتفاء
بهذا المقدار لان النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه وأمرنا بالاقتداء به فما كان أقرب
إلى موافقة فعله فهو أفضل ولأنه إنما يفعل هذا ضنة منه بشعره وفيما هو نسك تكره الضنة
فيه بالمال والنفس فكيف بالشعر (قال) وإذا جاء يوم النحر وليس على رأسه شعر
أجرى الموسى على رأسه تشبها بمن يحلق لأنه وسع مثله والتكليف بحسب الوسع الا ترى
ان الأخرس يؤمر بتحريك الشفتين عند التكبير والقراءة في الصلاة فينزل ذلك منه
منزلة قراءة الناطق فهذا مثله (قال) وان حلق رأسه بالنورة أجزأه لان قضاء التفث فيه
يحصل والموسى أحب إلى لأنه أقرب إلى موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
(قال) وأكره له ان يؤخر الحلق حتى تذهب أيام النحر والحاصل ان عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى الحلق للتحلل في الحج مؤقت بالزمان وهو أيام النحر وبالمكان وهو الحرم
وعلى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لا يتوقف بالزمان ولا بالمكان وعند محمد رحمه الله تعالى
يتوقت بالمكان دون الزمان وعند زفر رحمه الله تعالى يتوقت بالزمان دون المكان فزفر
رحمه الله تعالى يقول التحلل عن الاحرام معتبر بابتداء الاحرام وابتداء الاحرام مؤقت
بالزمان غير مؤقت بالمكان حتى يكره له ان يحرم بالحج في غير أشهر الحج ولا يكره له
ان يحرم بالحج في أي مكان شاء قبل أن يصل إلى الميقات فكذلك التحلل عنه بالحلق
70

يتوقت من حيث الزمان دون المكان حتى إذا أخره عن أيام النحر يلزمه الدم وإذا خرج من
الحرم ثم حلق لا يلزمه شئ وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما كان للتحلل في الحج يتوقت
بالزمان والمكان جميعا كالطواف الذي يتم به التحلل لا يكون الا في المسجد ويتوقت بأيام
النحر فكما أنه لو أخر الطواف عن وقته يلزمه دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكذلك
إذا أخر الحلق عن وقته وعلى هذا كان ينبغي أن لا يعتد بحلقه خارج الحرم كما لا يعتد بطوافه
ولكن جعلناه معتدا به لان محل فعله الرأس دون الحرم فيحصل به التحلل ولكنه جان
بتأخيره عن مكانه فيلزمه دم بالتأخير عن المكان كما يلزمه بتأخيره عن وقته وهذا لان
الحلق لا يعقل فيه معنى القربة وإنما عرفناه قربه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
ما حلق للحج الا في الحرم يوم النحر فما وجد بهذه الصفة يكون قربة وما خالف هذا لا
يتحقق فيه معنى القربة فيلزمه الجبر فيه بالدم وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى الحلق الذي
هو نسك في أوانه بمنزلة الحلق الذي هو جناية قبل أوانه فكما أن ذلك لا يختص بزمان ولا
مكان فكذلك هذا لا يختص بزمان ولا مكان لأنه لو اختص بزمان ومكان لم يكن معتدا به
في غير ذلك المكان ولا في غير ذلك الزمان كالوقوف بعرفة فسواء أخره عن أيام النحر أو
خرج من الحرم فحلق لا يلزمه شئ ومحمد رحمه الله تعالى يقول تعلق المناسك بالمكان آكد
من تعلقها بالزمان الا ترى ان الطواف المختص بمكان لا يعتد به في غير ذلك المكان والمؤقت
من الطواف بزمان يكون معتدا به في غير ذلك الزمان فعرفنا ان تعلقه بالمكان أشد فالحلق
الذي هو مختص بالحرم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى به خارج الحرم يتمكن فيه النقصان
فيلزمه الجبر بالدم وبتأخيره عن أيام النحر لا يتمكن فيه كثير نقصان فلا يلزمه الجبر بالدم فأما
في العمرة فلا يتوقت الحلق بزمان حتى لو أخر الحلق فيه شهرا لا يلزمه شئ لان أصل العمرة
لا يتوقت بالزمان وما هو الركن وهو الطواف فيه أيضا لا يتوقت من حيث الزمان فكذلك
الحلق فيه لا يتوقت بخلاف الحج ولكنه يتوقت بالحرم حتى لو حلق للعمرة خارج الحرم
فعليه دم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى كما في الحج وعند أبي يوسف رحمه الله
لا شئ ء عليه (قال) وليس على المحصر حلق إذا حل وان حلق أو قصر فحسن وهذا قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى أرى عليه الحلق وإن لم
يفعل فلا شئ عليه واحتج أبو يوسف رحمه الله تعالى بالحديث فان النبي صلى الله عليه وسلم
71

أحصر بالحديبية مع أصحابه فأمرهم بالحلق بعد بلوغ الهدايا محلها وكره لهم تأخير ذلك
حتى ذكر ذلك لام سلمة رضي الله عنها فقالت ابدأ بنفسك يا رسول الله فإنهم يظنون أن
في نفسك رجاء الوصول إلى البيت للحال فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فلما رأوا
ذلك منه بادروا إلى الحلق ولأنه لو لم يحصر لكان يتحلل بالحلق عند أداء الاعمال فكذلك
بعد الاحصار ينبغي أن يتحلل بالحلق لقدرته على أن يأتي به وان عجز عن سائر الأفعال وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الحلق إنما يكون نسكا بعد أداء الأفعال فأما قبل أداء
الأفعال فهو جناية فإذا تحقق عجزه عن ترتيب الحلق على سائر الأفعال لا يلزمه أن يأتي به
وإنما تحلله بالهدى هنا والدليل عليه أن الله تعالى نهى المحصر عن الحلق حتى يبلغ الهدى
محله بقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله فذلك دليل الإباحة بعد
بلوغ الهدى محله لا دليل الوجوب فأما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فقد
ذكر أبو بكر الرازي ان عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إنما لا يحلق المحصر إذا أحصر
في الحل أما إذا أحصر في الحرم يحلق لان الحلق عندهما مؤقت بالحرم ورسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما كان محصرا بالحديبية وبعض الحديبية من الحرم على ما روى أن مضارب
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه في الحرم فإنما حلق في الحرم وبه نقول
على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالحلق ليحقق به عزمهم على الانصراف
ويأمن المشركون من جانبهم ولا يشتغلون بمكيدة أخرى بعد الصلح (قال) وليس على
الحاج إذا قصر أن يأخذ شيئا من لحيته أو شاربه أو أظفاره أو يتنور لان التقصير قائم
مقام الحلق ولو أراد الحلق لم يكن عليه ذلك في لحيته ولا في شاربه فكذلك التقصير وان
فعل لم يضره لأنه جاء أوان التحلل وهذا كله مما يحصل به التحلل لأنه من جملة قضاء
التفث (قال) وان حلق المحرم رأس حلال تصدق بشئ عندنا. وقال الشافعي رضي الله عنه
لا شئ عليه لان المحرم ممنوع عن إزالة ما ينمو من البدن عن نفسه لما فيه من معنى
الراحة والزينة له ولا يحصل شئ من ذلك بحلق رأس الحلال فلا يلزمه به شئ ألا
ترى أن الحلال لو حلق بنفسه لم يلزمه شئ ولكنا نقول إن إزالة ما ينمو من بدن الآدمي
من محظورات الاحرام فيكون المحرم ممنوعا عن مباشرة ذلك من بدن غيره كما يكون
ممنوعا من مباشرته في نفسه بمنزلة قتل الصيد فإنه جان في قتل صيد غيره كما يكون جانيا
72

في قتل صيد نفسه إلا أن كمال جنايته بانضمام معنى الراحة والزينة إلى فعله فإذا فعل ذلك
في نفسه تكاملت جنايته فلزمه الدم وإذا فعله بغيره لا تتكامل فتكفيه الصدقة (قال)
وإذا حلق المحرم رأس محرم آخر فان فعله بأمره فعلى المحلوق دم لان فعل الغير بأمره
كفعله بنفسه ومعنى الراحة والزينة له متحقق فيلزمه دم وعلى الحالق رأسه صدقة لما بينا
أنه جان في أصل فعله وان حلق بغير أمره بأن كان المحرم نائما فجاء وحلق رأسه أو أكرهه
على ذلك فعلى المحلوق رأسه دم عندنا ولا شئ عليه عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله
ان الاكراه يخرج المكره من أن يكون مؤاخذا بحكم الفعل والنوم أبلغ من الاكراه لان
الاكراه يفسد قصده وبالنوم ينعدم القصد أصلا وعندنا بسبب الاكراه والنوم ينتفي عنه
الاثم ولكن لا ينتفى حكم الفعل إذا تقرر سببه والسبب هنا ما نال من الراحة والزينة بإزالة
التفث عن بدنه وذلك حصل له فيلزمه الدم ولا يتخير هنا بين أجناس الكفارات الثلاث
بخلاف المضطر لان هناك العذر سماوي وجد ممن له الحق وهنا العذر كان بسبب وجد من
جهة العباد فيؤثر في اسقاط الذنب ولا يخرج به الدم من أن يكون متعينا عليه ثم لا يرجع
المحلوق رأسه بهذا الدم على الحالق وقال بعض العلماء يرجع به لأنه هو الذي أوقعه في هذه
العهدة وألزمه هذا الغرم ولكنا نقول إنما لزمه ذلك لمعنى الراحة والزينة وهو حاصل له فلا
يرجع به على غيره كما لا يرجع المغرور بالعقر لأنه بمقابلة اللذة الحاصلة له بالوطئ والجواب
في قص الأظفار هنا كالجواب في الحلق (قال) وإذا أخذ المحرم من شاربه أو من رأسه شيئا
أو مس من لحيته فانتثر منها شعر فعليه في ذلك كله صدقة لوجود أصل الجناية بما أزاله من
بدنه ولكن لم تتم جنايته حين فعله لأنه لم يكن مقصودا لتحصيل الراحة والزينة فتكفيه
الصدقة (قال) وان أخذ ثلث رأسه أو ثلث لحيته فعليه دم ولم يذكر الربع في الكتاب
والجواب في الربع كذلك لما بينا ان ما يتعلق بالرأس فالربع فيه بمنزلة الكمال كما في الحلق
عند التحلل وهذا لان حلق بعض الرأس لمعنى الراحة والزينة معتاد فان الا تراك يحلقون
أوساط رؤسهم وبعض العلوية يحلقون نواصيهم لابتغاء الراحة والزينة فتتكامل الجناية بهذا
المقدار والجناية المتكاملة توجب الجبر بالدم ثم الأصل بعد هذا أنه متى حلق عضوا
مقصودا بالحلق من بدنه قبل أوان التحلل فعليه دم وان حلق ما ليس بمقصود فعليه الصدقة
ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر أو الساق ومما هو مقصود حلق الرأس أو الإبطين
73

فان حلق أحدهما أو نتف أو طلى بنورة فعليه الدم أيضا لان كل واحد منهما مقصود بالحلق
لمعنى الراحة وفيما ذكر إشارة إلى أن السنة في الإبطين النتف دون الحلق فإنه قال نتف
إبطيه أو أحدهما ولم يذكر الحلق فان حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وفى قولهما عليه صدقة لان ذلك الموضع غير مقصود بالحلق وإنما يحلق
للتمكن من الحجامة فهو بمنزلة حلق شعر الصدر والساق وصح في الحديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم احتجم وهو محرم وما كان يرتكب في احرامه الجناية المتكاملة وأبو حنيفة رحمه
الله تعالى يقول إنه حلق مقصود لأنه لا يتوصل إلى المقصود الا به وما لا يتوصل إلى المقصود
إلا به يكون مقصودا فتتكامل الجناية ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق موضع
المحاجم إنما نقل عنه الحجامة وليس من ضرورته الحلق فان الحجام إذا كان حاذقا يشرط
طولا فلا يحتاج إلى الحلق وكذلك إذا لم يكن المحجوم أشعر البدن ولم ينقل في صفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشعر البدن والدليل عليه أنه كان يتحرز عن الجناية الموجبة
للصدقة كما كان يتحرز عن الجناية الموجبة للدم وعندهما هذه الجناية موجبة للصدقة (قال)
فان حلق الرقبة كلها فعليه دم لأنه حلق مقصود للراحة والزينة فان العلوية يفعلون ذلك ولم
يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه إنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة فمن أصحابنا
من يقول إذا حلق شاربه يلزمه الدم لأنه مقصود بالحلق يفعله الصوفية وغيرهم والأصح
أنه أنه لا يلزمه الدم لأنه طرف من أطراف اللحية وهو مع اللحية كعضو واحد وان كانت
السنة قص الشارب واعفاء اللحى وإذا كان الكل عضوا واحدا لا يجب بما دون الربع منه
الدم والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه (قال) وعلى القارن في
ذلك كله كفارتان لأنه محرم باحرامين ففعله جناية على كل واحد منهما فيلزمه جزاءان
عندنا على ما نبينه في باب جزاء الصيد إن شاء الله تعالى (قال) وان أصاب المحرم أذى
في رأسه فحلق قبل يوم النحر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء والأصل فيه حديث كعب
ابن عجرة رضي الله عنه قال مربى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتهافت على وجهي
وأنا أوقد تحت قدر لي فقال أتؤذيك هو أم رأسك فقلت نعم فأنزل الله عز وجل قوله ففدية
من صيام أو صدقة أو نسك فقلت ما الصيام يا رسول الله فقال ثلاثة أيام فقلت وما الصدقة
قال ثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين فقلت وما النسك قال شاة وفي الآية دليل
74

على أنه يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة لأنها ذكرت بحرف أو وذلك يوجب التخيير كما في
كفارة اليمين ولو لم يرد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير الصوم بثلاثة أيام لكنا
نقدره بستة أيام لأنه لما تقدر الطعام بطعام ستة مساكين وصوم يوم بمنزلة طعام مسكين فينبغي
أن يلزمه صوم ستة أيام ولكن ثبت ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصوم ثلاثة أيام
فسقط اعتبار كل قياس بمقابلته وكذلك الجواب في كل ما اضطر إليه مما لو فعله غير مضطر
لزمه الدم فإذا فعله المضطر فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لأنه في معنى المنصوص عليه من
كل وجه فيكون ملحقا به فان اختار الصيام يصوم في أي موضع شاء من الحرم أو غير الحرم
لأن الصوم عبادة في كل مكان وان اختار الطعام يجزئه ذلك أيضا في الحرم أو غير الحرم عندنا
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزئه ذلك الا في الحرم لان المقصود به رفق فقراء الحرم
ووصول المنفعة إليهم ولكنا نقول التصدق بالطعام قربة في أي مكان كان فهو بمنزلة الصيام وان
اختار النسك كان مختصا بالحرم بالاتفاق لان إراقة الدم لا تكون قربة الا في وقت مخصوص
وهو أيام النحر أو مكان مخصوص وهو الحرم وهذا الدم غير مؤقت بالزمان فيكون مختصا
بالمكان وهو الحرم ليتحقق معنى القربة فيه فيكون كفارة لفعله قال الله تعالى ان الحسنات
يذهبن السيئات ولان الله تعالى قال في جزاء الصيد هديا بالغ الكعبة وذلك واجب بطريق
الكفارة فصار أصلا في كل هدى وجب بطريق الكفارة في اختصاصه بالحرم ولأنه بعد ذكر
الهدايا قال ثم محلها إلى البيت العتيق والمراد به الحرم ومعلوم أنه ليس المراد من الاختصاص
بالحرم عين إراقة الدم لان فيه تلويث الحرم إنما المقصود التصدق باللحم بعد الذبح فعليه أن
يتصدق بلحمه وكذلك كل دم وجب عليه بطريق الكفارة في شئ من أمر الحج أو العمرة
فإنه لا يجزئه ذبحه الا في الحرم وعليه التصدق بلحمه بعد الذبح على فقراء الحرم وان
تصدق على غيرهم من الفقراء أجزأه عندنا لان الصدقة على كل فقير قربة (قال) وان سرق
المذبوح لم يكن عليه شئ لان بالذبح قد بلغ محله ووجوب التصدق كان متعلقا بالعين فيسقط
بهلاك العين كما إذا هلك مال الزكاة سقطت عنه الزكاة (قال) وان سرق قبل الذبح فعليه بدله
لأنه ما بلغ محله بعد وهو نظير الأضحية الواجبة إذا سرقت قبل الذبح فعلى صاحبها مثلها
ولا خلاف أن دماء الكفارات لا يختص بيوم النحر وان دم المتعة والقران مختص بيوم
النحر لأنه نسك يباح التناول منه كالأضحية وهو من أسباب التحلل في أوانه كالحلق فاما
75

دم الاحصار لا يتوقت بيوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قولهما يختص بيوم
النحر لأنه مشروع للتحلل فكان بمنزلة دم المتعة والقران وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنه
في معنى دماء الكفارات بدليل انه لا يباح التناول منه الا للفقراء بخلاف دم المتعة
والقران فإنه يباح التناول منه للأغنياء ثم وجوب هذا الدم للتحلل قبل أوانه فان أوان
التحلل ما بعد أداء الأفعال والمحصر يتحلل قبل أداء الأفعال فكان في فعله معنى الجناية وان
أبيح له ذلك للعذر فالدم الواجب عليه يكون كفارة لا يتوقت بيوم النحر كالدم في حق من
كان برأسه أذى فاما التطوعات من الدماء يجوز ذبحها قبل يوم النحر وذبحها في يوم النحر
أفضل لان التطوعات هدايا والواجب في الهدايا تبليغها إلى الحرم فإذا وجد ذلك يجوز
ذبحها في غير أيام النحر وفى أيام النحر أفضل لان معنى القربة في إراقة الدم في هذه الأيام
أظهر (قال) ويباح التناول من هدى المتعة والقران والتطوع بمنزلة الأضحية والجواب في
الأضحية معلوم وهو ان الواجب يتأدى بإراقة الدم فإنه يباح التناول منه للمضحى ولمن شاء
المضحي من غنى أو فقير فان أكل المضحي كلها لم يكن عليه شئ والأفضل له ان يتصدق
بالثلث ويأكل الثلثين فكذلك فيما هو في معنى الأضحية من الهدايا الا ترى ان النبي صلى
الله عليه وسلم تناول من هداياه حتى أمر ان يؤخذ من كل بدنة قطعة فتطبخ له ولو كان
الواجب التصدق بها على الفقراء لما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئا فكما
يباح له تناول لحوم هذه الهدايا يباح له الانتفاع بجلودها أيضا ولا ينتفع بجلود غيرها من
دماء الكفارات بل يتصدق بذلك كله كما يتصدق بلحمها هكذا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لناجية حين بعث بالهدايا على يديه وقال تصدق بجلالها وخطمها فذلك دليل على
وجوب التصدق بجلودها بطريق الأولى (قال) ولا يعطى أجرة الجزاء منها ولا من غيرها
شيئا لان ما يأخذه الجزار إنما يأخذه عوضا عن عمله فيكون ذلك بمنزلة البيع (قال) ولا
ينبغي له أن يبيع شيئا من لحوم الهدايا بثمن لأنها صارت لله تعالى خالصا فلا ينبغي له أن يشتغل
بالتجارة فيها ولولا الاذن من قبل من له الحق لما أبيح له تناول بعضها وليس من ضرورة
الاذن في التناول الاذن في التجارة والمنصوص عليه الاذن في التناول بقوله تعالى فكلوا
منها وأطعموا البائس الفقير (قال) وإذا باع شيئا من لحمهما بثمن أو أعطى الجزار أجرة عمله
من اللحم فعليه أن يتصدق بقيمة ذلك لأنه مناف حق الفقراء في ذلك القدر بصرفه إلى
76

قضاء ما هو مستحق عليه أو بتحصيل عوضه لنفسه وهو الثمن فيلزمه التصدق بقيمته
كمن قضى بنصاب الزكاة دينا عليه (قال) وإذا لم يبق على المحرم غير التقصير فبدأ بقص
أظفاره فعليه كفارة ذلك لان احرامه باق ما لم يحلق أو يقصر ففعله في قص الأظفار
يكون جناية على الاحرام وعلى قول الشافعي لا يلزمه شئ بناء على مذهبه أن تحلل الحاج
يكون بالرمي فقص الأظفار بعد الرمي لا يكون جناية منه والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب واليه المرجع والمآب
باب كفارة قص الأظفار
(قال) رضي الله عنه وإذا قص المحرم أظفار يديه ورجليه فعليه دم عندنا وقال عطاء رضي الله عنه
لا شئ عليه لان قص الأظفار من الفطرة ولم يصح حديث في النهى عنه بسبب
الاحرام فكان نظير الختان ولا بأس بالختان في الاحرام فكذلك قص الأظفار ومذهبنا
مروى عن ابن عباس رضي الله عنه ولان قص الأظفار من قضاء التفث فإنه إزالة ما ينمو
من البدن لمعنى الزينة والراحة كحلق الرأس فيكون مؤخرا إلى ما بعد التحلل ومباشرته
قبل ذلك جناية على الاحرام فيوجب الجبر بالدم وان قص ظفرا واحدا أو ظفرين فعليه لكل
ظفر صدقة الا ان يبلغ دما فينقص عنه ما شاء وعن محمد رحمه الله تعالى قال في كل ظفر خمس
الدم لأنه لما وجب الدم في قص خمسة أظافر ففي كل ظفر بحساب ذلك ولكنا نقول إن جنايته
لم تتكامل لان معنى الراحة والزينة لا يحصل بقص ظفر أو ظفرين والجناية الناقصة في
الاحرام توجب الجبر بالصدقة (قال) وان قص ثلاثة أظافر فعليه دم في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى الأول استحسانا وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفي قوله الآخر وهو قول
أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه لكل ظفر صدقة وجه قوله الأول ان قص أظافر يد
واحدة يوجب الدم بالاتفاق والأكثر منها ينزل منزلة الكمال فالثلاث أكثر الأظافر من
اليد الواحدة ولكنه رجع عن هذا فقال الدم في الأصل إنما يجب بقص أظافر اليدين
والرجلين واليد الواحدة ربع ذلك فتعجل بمنزلة الكمال كربع الرأس في الحلق فكان هذا أدنى
ما يتعلق به الدم فلا يمكنه ان يقام الأكثر فيه مقام الكمال إذ لو فعل أذى إلى ما لا يتناهى فيقال
إذا قص الظفر فقد قص أكثر الثلاثة ثم إذا قص ظفرا ونصفا فقد قص أكثر الظفرين
77

ولكن يقال ما كان أدنى المقدار شرعا لا يتعلق بما دونه الحكم المتعلق به (قال) ولو قص
خمسة أظافر متفرقة من اليدين والرجلين يلزمه لكل ظفر صدقة في قول أبي حنيفة وأبى
يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يلزمه الدم لان المقصوص خمسة أظافر فلا
فرق بين أن يكون من عضو واحد أو عضوين أو من أعضاء متفرقة كما في الحلق لأنه
لا فرق بين ان يحلق ربع الرأس من جانب واحد أو من جوانب متفرقة في ايجاب الدم
وكما في حكم الأرش لا فرق في ايجاب دية اليدين بين قطع خمسة أصابع من يد واحدة أو من
يدين فهذا مثله وهما يقولان جنايته لم تتكامل لان معنى الزينة والراحة لا يحصل بقص
بعض الأظفار من كل عضو لأنه لا يحسن في النظر أن يكون بعض الأظافر مقصوصا دون
البعض فيزداد به شغل قلبه لا أن ينال به الراحة فإذا لم تتكامل الجناية كان عليه لكل ظفر
صدقة حتى قالوا لو قص ستة عشر ظفرا من كل عضو أربعة فعليه لكل ظفر طعام مسكين الا
ان يبلغ ذلك دما فحينئذ ينقص منه ما شاء بخلاف الحلق فان تفريق الحلق من جوانب الرأس
عادة فيتم به معني الراحة (قال) وإذا انكسر ظفر المحرم فانقطع منه شظية فقلعه لم يكن
عليه شئ لان ذلك المنكسر لا ينمو من البدن فقلعه لا يكون جناية بمنزلة ما لو تكسر من
شجر الحرم ويبس إذا أخذه انسان لا يجب فيه شئ لانعدام معنى النمو (قال) وان قص
الأظافر كلها في مجالس متفرقة فإن كان حين قص أظافر يد واحدة كفر ثم قص أظافر يد
أخرى فعليه كفارة أخرى لان الجناية الأولى قد ارتفعت بالتكفير ففعله الثاني يكون جناية
مبتدأة فيوجب كفارة أخرى وإن لم يكفر حتى قص الا ظافر كلها فعليه دم واحد في قول
محمد رحمه الله تعالى بمنزلة ما لو قص الأظافر كلها في مجلس واحد لأن هذه الجنايات تستند
إلى سبب واحد فلا توجب الا كفارة واحدة كما في حلق جميع الرأس لا فرق بين أن يكون
في مجالس متفرقة أو في مجلس واحد وهذا لان مبنى الواجب على التداخل وفيما ينبنى على
التداخل المجلس الواحد والمجالس المتفرقة فيه سواء كما في كفارة الفطر وكما في الحدود وفى
قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى عليه أربعة دماء باعتبار كل عضو في مجلس دم
لأن هذه الأفعال في محال مختلفة وكل واحد منها جناية متكاملة فتوجب الدم وكان بمنزلة ما لو
حلق في مجلس وقص الأظافر في مجلس آخر وهذا لان كفارات الاحرام يغلب فيها معنى
العبادة ولا يجزى التداخل في العبادة إلا أنه إذا كان في مجلس واحد فالمقصود واحد والمحال
78

مختلفة فرجحنا جانب اتحاد المقصود بسبب اتحاد المجلس وأما إذا اختلف المجالس يترجح
جانب اختلاف المحال فيوجب بكل فعل دما بمنزلة من تلا آية السجدة مرارا فإن كان في مجلس
واحد فعليه سجدة واحدة وإن كان في مجالس متفرقة فعليه بكل تلاوة سجدة وبه فارق
الحلق فان محل الفعل هناك واحد والمقصود واحد وعلى هذا الاختلاف لو جامع مرة بعد
أخرى امرأة واحدة أو نسوة إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى قالوا في الجماع بعد الوقوف
في المرة الأولى عليه بدنة وفي المرة الثانية عليه شاة لأنه قد دخل فيه نقصان بالجناية الأولى
فالجناية الثانية صادفت احراما ناقصا فيجب الدم ويكون قياس الجماع في احرام العمرة وان
أصابه أذى في أظفاره حتى قصها فعليه أي الكفارات الثلاث شاء للأصل الذي تقدم بيانه
ان ما يكون موجبا للدم إذا فعله لعذر تخير فيه المعذور بين الكفارات الثلاث والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
باب جزاء الصيد
(قال) رضي الله عنه محرم دل محرما أو حلالا على صيد فقتله المدلول فعلى الدال الجزاء
عندنا استحسانا وفى القياس لا جزاء على الدال وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى قال لان
الجزاء واجب بقتل الصيد بالنص قال الله تعالى ومن قتله منكم متعمدا الآية والدلالة
ليست في معنى القتل لان القتل فعل متصل من القاتل بالمقتول فاما الدلالة والإشارة غير
متصل بالمحل وهو الصيد والحكم الثابت بالنص لا يجوز إثباته فيما ليس في معنى المنصوص
والدليل عليه جزاء صيد الحرم يجب على القاتل الحلال ولا يجب على الدال إذا كان حلالا
بالاتفاق للمعنى الذي قلنا والدليل عليه ان حرمة الصيد في حق المحرم لا تكون أقوى من
حرمة مال المسلم ونفسه ولا يضمن الدال على مال المسلم ولا على نفسه شيئا بسبب الدلالة
فكذلك هنا الا انا تركنا القياس باتفاق الصحابة رضي الله عنهم فان رجلا سأل عمر رضي الله عنه
فقال إني أشرت إلى ظبي وانا محرم فتقله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه ماذا ترى عليه فقال أرى عليه شاة فقال عمر رضي الله عنه وانا أرى عليه ذلك
وان عليا وابن عباس رضي الله عنهما سئلا عن محرم دل على بيض نعامة فأخذه المدلول
عليه فشواه فقالا على الدال جزاؤه والقياس يترك بقول الفقهاء من الصحابة رضي الله عنهم وما
79

نقل عنهم في هذا الباب كالمنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا يظن بهم انهم قالوا
جزافا والقياس لا يشهد لقولهم حتى يقول قالوا ذلك قياسا فلم يبق الا السماع ثم ثبت باتفاقهم
ان الدلالة على الصيد من محظورات الاحرام وذلك ثابت بالنص أيضا فان النبي صلى الله
عليه وسلم قال لأصحاب أبى قتادة رضي الله عنهم في صيد أخذه أبو قتادة وكانا محرمين
هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم فجعل الإشارة كالإعانة فعرفنا انه من محظورات الاحرام
وذلك يوجب الجزاء وبه فارق صيد الحرم فان الموجب للحظر هناك معنى في الحل وهو
أمن الصيد بسبب الحرم فلا بد من أن يكون فعله متصلا بالمحل حتى يكون جنايته في إزالة
الامن عن المحل وهنا الحظر بسبب معنى في الفاعل وهو انه محرم فكان فعله محظور الاحرام
وإن لم يتصل بالمحل ولهذا كان معنى الجزاء هنا راجحا ومعنى غرامة المحل هناك راجح على
ما نبينه إن شاء الله تعالى ثم الاحرام عقد خاص وقد ضمن له ترك التعرض بعقده فإذا تعرض
له بالدلالة فقد باشر بخلاف ما التزمه فكان قياس المودع يدل سارقا على سرقة الوديعة بخلاف
الدلالة على مال المسلم ونفسه فإنه ما التزم ترك التعرض لذلك بعقد خاص ثم الواجب هناك
ضمان الحيوان فيكون بمقابلة المحل فيجب على من اتصل فعله بالمحل والدلالة المعتبرة
لايجاب الجزاء أن لا يكون المدلول عالما بمكان الصيد فاما إذا كان المدلول عالما به فلا جزاء على
الدال لان المدلول ما تمكن من قتله بدلالته وعلى هذا لو أعار المحرم سكينا من غيره ليقتل
صيدا فإن لم يكن مع ذلك الغير ما يقتل به الصيد فعلى المعير الجزاء وإن كان معه ما يقتل به الصيد
فلا شئ على المعير لان تمكنه من قتله لم يكن بإعارة السكين وإنما يجب على الدال الجزاء إذا
صدقه المدلول في دلالته فاما إذا كذبه ولم يتبع الصيد بدلالته حتى دله عليه آخر فصدقه وقتل
الصيد فالجزاء على الدال الثاني إذا كان محرما دون الأول وكذلك لو أمر المحرم انسانا بأخذ
الصيد فأمر المأمور به انسانا اخر فالجزاء على الآمر الثاني دون الأول لان المأمور الأول لم
يمتثل أمر الآمر فإنه أمره بالأخذ دون الامر وإنما يجب الجزاء على الدال الأول إذا أخذ
المدلول الصيد والدال محرم فاما إذا حل الدال عن احرامه قبل أن يأخذ المدلول الصيد فلا
جزاء على الدال لان فعله إنما يتم جناية عند زوال معنى النفرة باثبات يد الاخذ عليه فإذا
كان الدال عند ذلك حلالا لم يكن أخذ الغير في حقه أكثر تأثيرا من أخذه بنفسه ولو أخذه
بنفسه لم يلزمه شئ فكذا إذا أخذه غيره بدلالته (قال) وإذا اشترك رهط محرمون في
80

قتل صيد فعلى كل واحد منهم جزاء كامل عندنا وقال الشافعي عليهم جزاء واحد لان من أصله
ان المعتبر هو المحل ولهذا قال الدال الذي لم يتصل فعله بالمحل لا يلزمه شئ والمحل هنا واحد
فلا يلزمهم الاجزاء واحد وقاس بصيد الحرم فان جماعة من الحلالين إذا اشتركوا في
قتل صيد الحرم لا يلزمهم الاجزاء واحد وقاس بحقوق العباد أيضا فان الصيد إذا كان
مملوكا لا يجب على الذين قتلوه الا قيمة واحدة لصاحبه كذلك فيما يجب لحق الله تعالى
وحجتنا ما بينا ان الواجب على المحرم جزاء فعله وفعل كل واحد من الفاعلين كامل جنى به
على احرام كامل فيجعل في حق كل واحد منهم كأنه ليس معه غيره كما في كفارة القتل
وكما في القصاص الواجب بطريق جزاء الفعل يجعل كل قاتل كالمنفرد به وبه فارق
صيد الحرم لان وجوب الضمان هناك باعتبار المحل ويسلك بضمان الصيد مسلك الغرامات
ولهذا لا مدخل للصوم فيه وفى إباحة الدم روايتان أيضا فالغرامات تكون واجبة بدلا
عن المتلف فإذا كان المتلف واحدا لا يجب الا بدل واحد كالدية فإنها لا تتعدد بتعدد
القاتلين فاما هذه كفارة تجب بطريق جزاء الفعل والفعل يتعدد بتعدد الفاعلين يوضح
الفرق ان المعتبر هنا حرمة الاحرام واحرام زيد غير احرام عمرو وهناك المعتبر حرمة الحرم
وهي متحدة في حق الفاعلين فأما ضمان حقوق العباد فوجوبه بطريق الجبران وذلك
يتم بايجاب بدل واحد وما يجب لحق الله تعالى لا يكون بطريق الجبر أن لان الله تعالى
يتعالى عن أن يلحقه نقصان ليكون ما يجب له جبرانا وعلى هذا الأصل القارن إذا قتل
صيدا فعليه جزاءان عندنا وعنده جزاء واحد لان المعتبر عنده اتحاد المحل وعندنا هو الجناية
على الاحرام والقارن جان على احرامين وحقيقة المسألة تنبنى على الأصل الذي أشرنا إليه
فان عنده يدخل احرام العمرة في احرام الحج ولهذا قال يطوف القارن طوافا واحدا
فيدخل أحدهما في الآخر وعندنا لا يدخل أحدهما في الآخر فان القران ينبئ عن الضم
والجمع دون التداخل فصار القارن بقتل الصيد جانيا على احرامين فيلزمه جزاءان ثم قال
الشافعي رحمه الله تعالى احرام العمرة في حكم التبع لاحرام الحج ولهذا يتحقق الجمع بين
النسكين أداء فان الأصلين لا يجتمعان أداء كالحجتين والعمرتين وإذا كان تبعا لا يظهر مع
الأصل كحرمة الحرم مع حرمة الاحرام فإن لمحرم إذا قتل صيدا في الحرم لا يلزمه الا جزاء
واحد وقيل إن حرمة الحرم تبع لحرمة الاحرام فلا يظهر تأثيره مع الاحرام ولكنا نقول
81

كل واحد من الاحرامين أصل مثل صاحبه لان كل واحد منهما يعم البقاع كلها فلا يكون
أحدهما تبعا للآخر بل يعتبر كل واحد منهما في ايجاب موجبه كأنه ليس منه صاحبه كما أن
حرمة الجماع بسبب حرمة الصوم وعدم الملك إذا اجتمعا بأن زنى الصائم في رمضان يجب عليه
الحد والكفارة جميعا وكذلك حرمة الخمر ثابتة لعينها فيثبت باليمين إذا حلف لا يشربها حرمة
أخرى ثم عند الشرب يلزمه الحد والكفارة جميعا وهذا بخلاف حرمة الحرم فإنها دون
حرمة الاحرام. ألا ترى أنه لا يعم البقاع كلها وانه لا بد من اعتباره في حق المحرم فان المحرم
لا يستغنى عن دخول الحرم وإذا كان في حكم التبع لم يعتبر في حق المحرم ولأنه لا مقصود
هناك سوى وجوب ترك التعرض للصيد وذلك حاصل في حق المحرم باحرامه فلا يزداد
بالحرم في حقه فأما هنا العمرة بعقد مقصود يحوي ترك التعرض للصيد فوجب اعتباره في
حق المحرم بالحج كما يجب اعتباره في حق غير المحرم بالحج (قال) فان قتل حلالان صيدا في
الحرم بضربة واحدة فعلى كل واحد منهما نصف جزاء كامل بخلاف ما إذا ضربه كل واحد
منهما ضربة فإنه يجب على كل واحد منهما ما تقتضيه ضربته ثم يجب على كل واحد منهما نصف
قيمته مضروبا بضربتين لان عند اتحاد فعلهما جميع الصيد صار متلفا بفعلهما فيضمن كل واحد
منهما نصف الجزاء وعند اختلاف محل الفعل الجزء الذي تلف بضربة كل واحد منهما كان
هو المختص باتلافه فعليه جزاؤه والباقي متلفا بفعلهما فضمانه عليهما وقد قررنا هذا الفرق
فيما أمليناه من شرح الجامع (قال) وإذا قتل المحرم صيدا فعليه فعليه قيمة الصيد في الموضع
الذي قتله فيه أن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك الموضع والا ففي أقرب المواضع من
ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشتري في ذلك الموضع مما له نظير من النعم أولا نظير
له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي رحمهما
الله تعالى فيما له نظير ينظر إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة حتى يجب
في النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفى الظبي شاة وفى الأرنب عناق وفى اليربوع
جفرة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الحمامة شاة وهو قول ابن أبي ليلى وزعم أن بينهما
مشابهة من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر وفيما لا نظير له تعتبر القيمة واحتجا في
ذلك بقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وحقيقة المثل ما يماثل الشئ صورة ومعنى ولا
يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر العمل بالحقيقة والنظير مثل صورة ومعنى
82

والقيمة مثل معنى لا صورة وفى قوله من النعم تنصيص على أن المعتبر هو المثل صورة
وعلى هذا اتفقت الصحابة رضى الله تعالى عنهم نقل ذلك عن علي عمر وعبد الله بن مسعود
رضى الله تعالى عنهم انهم أوجبوا ما سمينا من النظائر وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله
تعالى أخذ بقول ابن عباس رضى الله تعالى عنه فإنه فسر المثل بالقيمة والمعنى الفقهي يشهد له
فان الحيوان لا مثل له من جنسه ألا ترى أن في حق حقوق العباد يكون الحيوان مضمونا
بالقيمة دون المثل فكذلك في حقوق الله تعالى وكما أن المثل منصوص عليه هنا فكذلك في
حقوق العباد في قوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم يوضحه ان المماثلة بين
الشيئين عند اتحاد الجنس أبلغ منه عند اختلاف الجنس فإذا لم تكن النعامة مثلا للنعامة
كيف تكون البدنة مثلا للنعامة والمثل من الأسماء المشتركة فمن ضرورة كون الشئ مثلا
لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له ثم لا تكون النعامة مثلا للبدنة عند الاتلاف
فكذلك لا تكون البدنة مثلا للنعامة وإذا تعذر اعتبار المماثلة صورة وجب اعتبارها بالمعنى
وهو القيمة فاما قوله من النعم فقد قيل فيه تقديم وتأخير ومعناه فجزاء مثل ما قتل يحكم به ذوا
عدل منكم من النعم هديا بالغ الكعبة ثم ذكر الأصمعي وأبو عبيدة ان اسم النعم يتناول الأهلي
والوحشي جميعا ومعناه فجزاء قيمة ما قتل من النعم الوحشي وحمله على هذا أولى لان قوله
فجزاء مصدر وما ذكر بعده وصف فإنما يكون وصفا للمذكور وذلك إذا حمل على ما بينا
وايجاب الصحابة رضي الله عنهم لهذه النظائر لا باعتبار أعيانها بل باعتبار القيمة إلا أنهم كانوا
أرباب المواشي فكان ذلك أيسر عليهم من النقود وهو نظير ما قال علي رضي الله عنه في
ولد المغرور يفك الغلام بالغلام والجارية بالجارية المراد القيمة والاختلاف في هذه المسألة في
فصول أحدها ما بينا والثاني ان الذي أتى الحكمين يقوم الصيد فإذا ظهرت قيمته فالخيار
إلى المحرم بين التكفير بالهدى والاطعام والصيام في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما
الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى الخيار إلى الحكمين فإذا عينا نوعا عليه يلزمه التكفير به
بعينه فاما اعتبار الحكمين بالنص وهو قوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم وعلى طريقة القياس
يكفي الواحد للتقويم وإن كان المثنى أحوط ولكن يعتبر المثنى بالنص وبيانه في حديث عمر
رضي الله عنه فان رجلين أتياه فقال أحدهما ان صاحبي هذا كان محرما وأنه رمى إلى ظبي
وأصاب أحشاءه فماذا يجب عليه فسار عمر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما بشئ
83

ثم قال عليه شاة فقاما من عنده وجعل السائل يقول لصاحبه ان فتوى أمير المؤمنين لا تغنى
عنك شيئا الا ترى أنه لم يعرفه حتى سأل غيره فأرى ان تنحر راحلتك هذه وتعظم شعائر الله
فسمع ذلك عمر رضي الله عنه فدعاه وعلاه بالدرة فقال أمير المؤمنين أنى لا أحل لك من
نفسي شيئا حرم الله عليك فانظر لنفسك فقال عمر رضي الله عنه أراك حسن اللهجة والبيان
أما سمعت الله يقول يحكم به ذوا عدل منكم فأنا ذو عدل وعبد الرحمن ذو عدل ومن يعمل
بكتاب الله تعالى يسمي جاهلا فيكم فتاب الرجل عن مقالته ثم احتج محمد رحمه الله تعالى
بظاهر الآية فإنه قال يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة فذكر الهدى منصوبا على أنه
تفسير لقوله يحكم أو مفعول حكم الحكم فهو تنصيص على أن التعيين إلى الحاكم وفي
تسمية الله تعالى فعلهما حكما دليل ظاهر على أن الالزام إليهما وليس إليهما إلزام أصل
الواجب فعرفنا ان إليهما التعيين وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا الحاجة
إلى الحكمين لاظهار قيمة الصيد فبعد ما ظهرت القيمة فهي كفارة واجبة على المحرم فإليه
التعيين لما يؤدى به الواجب كما في كفارة اليمين وكما في ضمان قيم المتلفات فان تعيين ما
يؤدى به الضمان إليه دون المقومين فكذا في هذا الموضع فان اختار التكفير بالهدى فعليه
الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء لقوله تعالى هديا بالغ الكعبة فالهدى اسم
لما يهدى إلى موضع معين وان اختار الاطعام اشترى بالقيمة طعاما فيطعم المساكين كل
مسكين نصف صاع من حنطة وان اختار الصيام يصوم مكان طعام كل مسكين يوما وإن كان
الواجب دون طعام مسكين فاما أن يطعم قدر الواجب واما أن يصوم يوما كاملا فالصوم
لا يكون أقل من يوم وعندنا يجوز له أن يختار الصوم مع القدرة على الهدى والاطعام لقوله
تعالى أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره وحرف أو للتخيير وعلى قول زفر رحمه
الله تعالى لا يجوز له الصيام مع القدرة على التكفير بالمال وقاس بكفارة اليمين وهدى المتعة
والقران وقال حرف أو لا ينفي الترتيب في الواجب كما في حق قطاع الطريق في قوله تعالى
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف الآية ولكن هذا خلاف الحقيقة والتمسك بالحقيقة
واجب حتى يقوم دليل المجاز وقياس المنصوص باطل وإذا اختار الطعام فالمعتبر
قيمة الصيد يشترى به الطعام عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى المعتبر قيمة النظير وهو قول
محمد رحمه الله تعالى بناء على أصلهما أن الواجب هو النظير فإنما يحوله إلى الطعام باختياره
84

فتعتبر قيمة الواجب وهو النظير كمن أتلف شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي
الناس فإنه يجب قيمة المثل وعندنا الواجب قيمة الصيد والأصل كما بينا فإذا اختار أداء الواجب
بالطعام تعتبر قيمة الصيد لأنه هو الواجب الأصلي وان اختار الصيام صام مكان كل نصف
صاع يوما عند الشافعي رحمه الله تعالى يصوم مكان كل مد يوما وهذا بناء على
الاختلاف في طعام الكفارة لكل مسكين عندنا يتقدر بنصف صاع وعنده بمد ومذهبه في
هذا مروى عن ابن عباس رضي الله عنه (قال) فان أخرج الحلال صيد الحرم ولم يقتله فعليه
جزاء استحسانا وان أرسله في الحل ما لم يعلم عوده إلى الحرم لأنه بالحرم كان آمنا وقد زال هذا
الامن باخراجه فيكون كالمتلف له إلا أن يعلم عوده إلى الحرم فحينئذ يعود إليه الامن على
ما كان وهو كالمحرم يأخذ صيدا فيموت في يده لزمه جزاؤه لأنه متلف معنى الصيدية فان
معنى الصيدية في نفره وبعده عن الأيدي (قال) وإذا رمى الحلال صيدا من الحل في الحرم
أو من الحرم في الحل فعليه جزاؤه هكذا روى عن جابر وابن عمر رضي الله عنهما وهذا
لأنه إذا كان الصيد في الحرم فهو آمن بالحرم وإن كان الرامي في الحرم فهو منهى عن الرمي
إلى الصيد من الحرم قال الله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يقال أحرم إذا عقد عقد
الا حرام وأحرم إذا دخل الحرم كما قال الشأم إذا دخل الشأم فكان في الوجهين مرتكبا
للنهي فيلزمه الجزاء إلا أن يكون الصيد والرامي في الحل فرماه ثم دخل الصيد الحرم
فيصيبه فيه فحينئذ لا يلزمه الجزاء لأنه في الرمي غير مرتكب للنهي ولكن لا يحل تناول
ذلك الصيد وهذه هي المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فان عنده المعتبر
حالة الرمي الا في هذه المسألة خاصة فإنه اعتبر في حل التناول حالة الإصابة احتياطا لان
الحل بالذكاة يحصل وإنما يكون ذلك عند الإصابة فإن كان عند الإصابة الصيد صيد الحرم
لم يحل تناوله وعلى هذا إرسال الكلب (قال) ولا يحل تناول ما ذبحه المحرم لاحد من
الناس وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحل للمحرم القاتل تناوله ويحل لغيره من الناس
وحجته في ذلك أن معنى الذكاة في تسييل الدم النجس من الحيوان وشرط الحل التسمية ندبا
أو واجبا على اختلاف الأصلين وذلك يتحقق من المحرم كما يتحقق من الحلال إلا أن الشرع
حرم التناول على المحرم القاتل بطريق العقوبة ليكون زجرا له وهذا لا يدل على حرمة التناول
في حق غيره كما يجعل المقتول ظلما حيا في حق القاتل حتى لا يرثه وهو ميت في حق غيره
85

وحجتنا في ذلك قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم والفعل الموجب للحل مسمى باسم الذكاة
شرعا فلما سماه قتلا هنا عرفنا أن هذا الفعل غير موجب للحل أصلا والدليل عليه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لأصحاب أبى قتادة رضى الله تعالى عنهم هل أعنتم هل أشرتم هل دللتم فقالوا
لا فقال صلى الله عليه وسلم اذن فكلوا فإذا ثبت بالأثر أن الإعانة من المحرم توجب الحرمة
فمباشرة القتل هنا أولى فان قيل كيف يصح هذا الاستدلال وعندكم الصيد لا يحرم تناوله
بإشارة المحرم ودلالته قلنا فيه روايتان وقد بينا هما في الزيادات ومن ضرورة حرمة التناول
عند الإشارة حرمة التناول عند مباشرة القتل فان قام هذا الدليل على انتساخ هذا الحكم عند
الإشارة فذلك لا يدل على انتساخه عند المباشرة والمعنى فيه أن هذا الاصطياد محرم لمعنى الدين
ولهذا حرم التناول عليه فيكون نظير اصطياد المجوسي وذلك موجب للحرمة في حق الكل
فهذا مثله (قال) فان أدى المحرم جزاءه ثم أكل فعليه قيمة ما أكل في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وإن كان قتله غيره لم يكن عليه شئ فيما أكل وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى لا يلزمه شئ آخر سوى الاستغفار وحجتهما أن صيد المحرم كالميتة أو كذبيحة المجوسي
وتناول الميتة لا يوجب الا الاستغفار. ألا ترى أنه إذا أكل منه حلال أو محرم آخر لم
يلزمه الا الاستغفار فكذا إذا أكل هو منه. والدليل عليه ان الحلال إذا ذبح صيدا
في الحرم فأدى جزاءه ثم أكل منه لا يلزمه شئ آخر وكذلك المحرم إذا كسر بيض صيد فأدى
جزاءه ثم شواه فأكله لا يلزمه شئ آخر كذا هذا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى انه
تناول محظور احرامه فيلزمه الجزاء كسائر المحظورات وبيانه ان قتل هذا الصيد من
محظورات احرامه والقتل غير مقصود لعينه بل للتناول منه فإذا كان ما ليس بمقصود
محظور احرامه حتى يلزمه الجزاء به فما هو المقصود بذلك أولى بخلاف محرم آخر فان هذا
التناول ليس من محظورات احرامه وبخلاف الحلال في الحرم لان وجوب الجزاء هناك
باعتبار الامن الثابت بسبب الحرم وذلك للصيد لا للحم وكذلك البيض وجوب الجزاء
فيه باعتبار انه أصل الصيد وبعد الكسر انعدم هذا المعنى يقرره ان المقتول بغير حق في
حق القاتل كالحي من وجه حتى لا يرث وكالميت من وجه حتى تعتق أم الولد إذا قتلت
مولاها ففيما ينبنى أمره على الاحتياط جعلناه كالحي في حق القاتل وهو جزاء الاحرام فيلزمه
بالتناول جزاء آخر وأما جزاء صيد الحرم غير مبنى على الاحتياط في الايجاب فلهذا اعتبرنا معنى
86

اللحمية فلا يوجب فيه الجزاء (قال) وإذا أصاب الحلال صيدا في الحل فذبحه فلا بأس
بأن يأكل المحرم منه وهو قول عثمان وابن عباس رضي الله عنهما وكان ابن عمر رضي الله عنه
يكره ذلك حتى روى أن عثمان رضي الله عنه دعاه إلى طعام وكان محرما فرأى اليعاقيب في
القصعة فقام فقيل لعثمان رضي الله عنه إنما قام كراهة لطعامك فبلغ ذلك ابن عمر رضي الله عنه
فقال ما كرهت طعامه ولكن كنت محرما فمن أخذ بقوله استدل بما روي أن رجلا أهدى
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش فرده فرأى الكراهة في وجهه فقال
صلى الله عليه وسلم ما بنا رد لهديتك ولكنا حرم (ولنا) في ذلك حديث طلحة رضي الله عنه
قال تذاكرنا لحم الصيد في حق المحرم فارتفعت أصواتنا ورسول الله صلى الله عليه
وسلم نائم في حجرته فخرج الينا فقال فيم كنتم فذكرنا ذلك له فقال صلى الله عليه وسلم
لا بأس به وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء مع أصحابه رضوان الله
عليهم أجمعين وهم محرمون فرأى حمار وحش عقيرا وفيه سهم ثابت فأراد أصحابه رضي الله عنه
م أخذه فقال صلى الله عليه وسلم دعوه حتى يأتي صاحبه فجاء رجل من بهز فقال يا رسول
الله هذه رميتي فهي لك فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمها بين الرفاق والحديث الذي
روى أنه رده تصحيف وقع من الراوي والصحيح أنه أهدى إليه حمار وحش ولئن صح
فليس المراد بالرجل القطعة من اللحم بل هو العدد من حمار الوحش كما يقال رجل جراد
للجماعة منه وكان مالك رحمه الله تعالى يقول إن اصطاد الحلال لأجل المحرم فليس للمحرم
أن يتناول منه لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمحرمين صيد البر حلال لكم الا
ما اصطدتموه أو صيد لكم ولكنا نقول هذه اللام لام التمليك فإنما يتناول ما كان مملوكا
للمحرم صيدا وسواء اصطاد الحلال لنفسه أو لمحرم فهو لم يصر مملوكا للمحرم صيدا وإنما
يصير مملوكا للمحرم حين يهديه إليه بعد الذبح وهو عند ذلك لحم لا صيد فيه فلهذا حل
تناوله (قال) محرم كسر بيض صيد فعليه قيمته وقال ابن أبي ليلى رضي الله عنه عليه
درهم ومذهبنا مروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم والمعنى فيه وهو ان البيض أصل
الصيد فإنه معد ليكون صيدا ما لم يفسد فيعطى له حكم الصيد في ايجاب الجزاء المحرم
بافساده كما أن الماء في الرحم جعل بمنزلة الولد في حكم العتق والوصية ولأنه منع حدوث
معنى الصيدية فيه فيجعل كالمتلف بعد الحدوث بمنزلة المغرور يضمن قيمة الولد لأنه منع
87

حدوث الرق فيه فإن كان فيه فرخ ميت فعليه قيمة الفرخ حيا وهذا استحسان وفى القياس
لا يغرم الا قيمة البيضة لأنه لم تعلم حياة الفرخ قبل كسره ولكنه استحسن فقال البيض
ما لم يفسد فهو معد ليخرج منه فرخ حي والتمسك بهذا الأصل واجب حتى يظهر خلافه ولان
كسر البيضة سبب لموت الفرخ إذا حصل قبل أوانه فإذا ظهر الموت عقيب هذا السبب يحال
به عليه وكذلك لو ضرب بطن ظبية فطرحت جنينا ميتا ثم ماتت فعليه جزاؤهما جميعا أخذا
فيه بالثقة لان الضرب سبب صالح لموتهما وقد ظهر الموت عقيبه وإنما أراد بقوله أخذا
بالثقة الإشارة إلى الفرق بين هذا وبين الضمان الواجب لحق العباد فان من ضرب
بطن جارية فألقت جنينا ميتا وماتت لما وجب هناك ضمان الأصل لم يجب ضمان الجنين
لان الجنين في حكم الجزء من وجه وجه وفى حكم النفس من وجه والضمان الواجب لحق
العباد غير مبنى على الاحتياط فلا يجب في موضع الشك فاما جزاء الصيد مبنى على
الاحتياط فلهذا رجح شبه النفس في الجنين فأوجب عليه جزاءهما (قال) وإذا عطب الصيد
بفسطاط المحرم أو بحفيرة حفرها للماء فلا شئ عليه بخلاف ما إذا نصب شبكة أو حفر
حفيرة لاخذ الصيد لأنه متسبب في الموضعين إلا أن التسبب إذا كان تعديا يكون موجبا
للضمان كحفر البئر على الطريق وإذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان كحفر البئر في ملك
نفسه ونصب الشبكة من المحرم تعد لأنه قصد به الاصطياد فاما ضرب الفسطاط ليس بتعد
إذ لم يقصد به الاصطياد الا ترى ان الحلال لو نصب شبكة فتعقل بها صيد ملكه حتى لو أخذه
غيره كان له ان يسترده منه بخلاف ما إذا ضرب فسطاطا وعلى هذا إذا فزع منه الصيد فاشتد
فانكسر لم يلزمه شئ بخلاف ما إذا أفزعه هو أو حركه فإنه وجد بسبب هو فيه متعد فيكون
هو ضامنا (قال) محرم اصطاد صيدا فأرسله محرم آخر من يده فلا شئ عليه لان الصيد
محرم العين على المحرم بالنص قال الله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فلم يملكه بالأخذ
كمن اشترى خمرا لا يملكها لأنها محرمة العين فإذا لم يملكه لم يكن المرسل من يده متلفا عليه شيئا
ولأنه فعل عين ما يحق عليه فعله شرعا فهو كمن أراق الخمر على لمسلم (قال) ولو قتله في يده
فعلى كل واحد منهما جزاؤه اما القاتل فلانه جنى على احرامه بقتل الصيد واما الآخذ فلانه
كان متلفا لمعنى الصيدية فيه حكما باثبات يده ثم يرجع الآخذ بما ضمن من الجزاء على القاتل
عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يرجع عليه بشئ لان الآخذ لم يملك الصيد ولا كانت له
88

فيه يد محترمة ووجوب الضمان له على القاتل باعتبار أحد هذين المعنيين ولأنه بالقتل لزمته
كفارة يفتى بها ويخرج بالصوم منها فلو رجع عليه إنما يرجع بضمان المالية ويطالب به
ويحبس به ولا يجوز له ان يرجع عليه بأكثر مما لزمه وحجتنا في ذلك أن اليد على
هذا الصيد كانت يدا معتبرة لحق الآخذ لأنه يتمكن به من الارسال واسقاط
الجزاء به عن نفسه والقاتل يصير مفوتا عليه هذه اليد فيكون ضامنا له وإن لم يملكه الآخذ
كغاصب المدبر إذا قتله انسان في يده يدل عليه انه قرر عليه ما كان على شرف السقوط
وذلك سبب مثبت للرجوع عليه كشهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول والذي قال يفتى
به ويخرج عنه بالصوم فذلك ليس لمعنى راجع إلى نفس الحق بل لمعنى ممن له الحق
فان حقوق الله تعالى على عباده بطريق الفتوى والخروج عنه بالصوم لان الله تعالى غني
عن مال عباده إنما يطلب منهم التعظيم لامره ومثل هذا التفاوت لا يمنع الرجوع كالأب
إذا غصب مدبر ابنه فغصبه منه آخر ثم إن الابن ضمن أباه رجع الأب على الغاصب
منه وإن كان هو لا يحبس فيما لزمه لابنه ويكون له أن يحبس الغاصب منه فيما يطالبه به
(قال) ولو أحرم وفي يده ظبي فعليه أن يرسله لان استدامة اليد عليه بعد الاحرام بمنزلة
الانشاء فان اليد مستدامة وكما أن انشاء اليد متلف معنى الصيدية فيه فالاستدامة كذلك
(قال) فان أرسله انسان من يده فعلى المرسل قيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لذي اليد
وهو القياس وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا شئ عليه استحسانا وهو نظير
اختلافهم فيمن أتلف على غيره شيئا من المعازف فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا
فعله أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لأنه مأمور شرعا بارساله فإذا كان ذلك مما يلزمه
شرعا ففعل ذلك غيره لا يكون مستوجبا للضمان كمن أراق خمر مسلم وأبو حنيفة رحمه الله
تعالى يقول الصيد قبل الاحرام كان ملكا له متقوما ولم يبطل ذلك بالاحرام. ألا ترى
أن الصيد لو كان في بيته بقي مملوكا متقوما على حاله فالذي أرسله من يده أتلف عليه
ملكا متقوما فيضمن له بخلاف إراقة الخمر على المسلم ثم الواجب عليه رفع يده ولو رفع بنفسه
يرفعه عليه وجه لا يفوت ملكه بعد ما يحل من احرامه فإذا فوت هذا المرسل ملكه فقد
زاد على ما يحق عليه فعله فيكون ضامنا له وهذا طريقه أيضا في اتلاف المعازف وفرق
بين هذا وبين ما إذا أخذ الصيد وهو محرم فقال هناك لم يملكه بالأخذ فالمرسل لا يكون
89

مفوتا عليه ملكا متقوما وهنا بالاحرام لم يبطل ملكه على ما قررنا والدليل على الفرق أن
المحرم إذا أخذ صيدا ثم أرسله فأخذه غيره ثم وجده المحرم في يده بعد ما حل فليس له
أن يسترده منه ولو أحرم وفى يده صيد فأرسله ثم وجده بعد ما حل في يد غيره كان له أن
يسترده منه فدل على الفرق بين الفصلين (قال) محرم قتل سبعا فإن كان السبع هو الذي
ابتدأه فآذاه فلا شئ عليه والحاصل أن نقول ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المؤذيات بقوله خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم وفي حديث آخر يقتل المحرم الحية
والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور فلا شئ على المحرم ولا على الحلال في الحرم بقتل
هذه الخمس لان قتل هذه الأشياء مباح مطلقا وهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه
وسلم كالملحق بنص القرآن فلا يكون موجبا للجزاء والمراد من الكلب العقور الذئب
فأما ما سوى الخمس من السباع التي لا يؤكل لحمها إذا قتل المحرم منها شيئا ابتداء فعليه جزاؤه
عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا شئ عليه لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما استثنى
الخمس لان من طبعها الأذى فكل ما يكون من طبعه الأذى فهو بمنزلة الخمس مستثنى من
نص التحريم فصار كان الله تعالى قال لا تقتلوا من الصيود غير المؤذى ولو كان النص بهذه
الصفة لم يتناول الا ما هو مأكول اللحم غير المؤذى ولان النبي صلى الله عليه وسلم استثنى
الكلب العقور وهذا يتناول الأسد الا ترى أنه حين دعا على عتبة بن أبي لهب قال اللهم سلط
عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد بدعائه صلى الله عليه وسلم ولان الثابت بالنص حرمة
ممتدة إلى غاية وهو الخروج من الاحرام لان الله تعالى قال وحرم عليكم صيد البر ما دمتم
حرما وهذا يتناول مأكول اللحم فاما غير مأكول اللحم محرم التناول على الاطلاق فلا
يتناوله هذا النص وحجتنا في ذلك قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم واسم الصيد يعم
الكل لأنه يسمى به لتنفره واستيحاشه وبعده عن أيدي الناس وذلك موجود فيما لا يؤكل
لحمه والدليل عليه ان لفظة الاصطياد بهذا المعنى تطلق على اخذ الرجال قال القائل
صيد الملوك ثعالب وأرانب * وإذا ركبت فصيدي الابطال
ثم النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن المستثنى من النص خمس فهو دليل على أن ما سوى
الخمس فحكم النص فيه ثابت والدليل عليه وهو أنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الايذاء
خرج المستثنى من أن يكون محصورا بعدد الخمس فكان هذا تعليلا مبطلا للنص ثم ما سوى
90

الخمس في معنى الأذى دون الخمس لان الخمس من طبعها البداءة بالأذى وما سواها لا يؤذى
الا ان يؤذى فلم يكن في معنى المنصوص ليلحق به والذي قال الحرمة ثابتة بالنص إلى غاية
فحرمة الاصطياد هكذا لان النص يثبت حرمة لاصطياد لا حرمة التناول وحرمة الاصطياد
بهذه الصفة تثبت في غير مأكول اللحم كما تثبت في مأكول اللحم ثم لا اختلاف بيننا وبين
الشافعي رحمه الله تعالى ان الجزاء يجب بقتل الضبع على؟؟ لان عنده الضبع مأكول اللحم
وعندنا هو من السباع التي لم يتناولها الاستثناء وفيه حديث جابر رضي الله عنه حين سئل عن
الضبع أصيد هو فقال نعم فقيل أعلى المحرم الجزاء فيه قال نعم فقيل له أسمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال نعم ولكن السبع إن كان هو الذي ابتدأ المحرم فلا شئ عليه في قتله
عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه الجزاء لان فعل الصيد هدر قال صلى الله عليه وسلم العجماء
جبار من غير ذكر الجرح أي جرح العجماء جبار فوجوده كعدمه فيما يجب من الجزاء بقتله
على المحرم. ألا ترى أن في الضمان الواجب لحق العباد إذا كان السبع مملوكا لا فرق
بين أن تكون البداءة منه أو من السبع فكذلك فيما يجب لحق الله تعالى وحجتنا في ذلك
حديث عمر رضى الله تعالى عنه فإنه قتل ضبعا في الاحرام فأهدى كبشا وقال إنا ابتدأناه
ففي هذه التعليل بيان ان البداءة إذا كانت من السبع لا يوجب شيئا ولان صاحب الشرع
جعل الخمس مستثناة لتوهم الأذى منها غالبا وتحقق الأذى يكون أبلغ من توهمه فتبين بالنص
أن الشرع حرم عليه قتل الصيد وما ألزمه تحمل الأذى من الصيد فإذا جاء الأذى من
الصيد صار مأذونا في دفع أذاه مطلقا فلا يكون فعله موجبا للضمان عليه وبهذا فارق ضمان
العباد فان الضمان يجب لحق العباد ولم يوجد الاذن ممن له الحق في اتلافه مطلقا حتى
يسقط به الضمان بخلاف ما نحن فيه ولا يدخل على ما ذكرنا قتل المحرم القمل فإنه يوجب الجزاء
عليه وإن كان يؤذيه لان المحرم إذا قتل قملة وجدها على الطريق لم يضمن شيئا لأنها مؤذية
ولكن إذا قتل القمل على نفسه إنما يضمن لمعنى قضاء التفث بإزالة ما ينمو من بدنه عن نفسه
وهذا بخلاف المحرم إذا كان مضطرا فقتل صيدا لان الاذن ممن له الحق هناك مقيد وليس
بمطلق فان الاذن في حق المضطر في قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه
الآية والاذن عند الأذى ثابت بالنص مطلقا في حق الصيد فلا يكون موجبا للضمان عليه
فاما إذا كان هو الذي ابتدأ السبع يلزمه قيمته لا يجاوز بقيمته شاة عندنا وعلى قول زفر
91

رحمه الله تعالى تجب قيمته بالغة ما بلغت على قياس ما يؤكل لحمه من الصيود هكذا ذكر أصحابنا
هذا الخلاف وذكر ابن شجاع رحمه الله تعالى في شرح اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله
تعالى ان عند زفر فيما هو مأكول اللحم لا يجاوز بقيمته شاة والحاصل ان زفر رحمه الله تعالى
يقول بان الضمان الواجب لحق الله تعالى معتبر بالواجب لحق العباد وهناك لا فرق بين
مأكول اللحم وبين غير مأكول اللحم فهنا لا فرق بينهما أيضا فاما ان يقال تجب القيمة
بالغة ما بلغت في الموضعين جميعا أو لا يجاوز بالقيمة شاة في الموضعين جميعا وحجتنا في ذلك أن
فيما لا يؤكل لحمه وجوب الجزاء باعتبار معنى الصيدية فقط لا باعتبار عينه فإنه غير مأكول
وباعتبار معنى الصيدية يكون مرتكبا محظور احرامه فلا يلزمه أكثر من شاة كسائر
محظورات الاحرام فاما في مأكول اللحم وجوب الجزاء باعتبار عينه لأنه مفسد للحمه بفعله
فتجب قيمته بالغة ما بلغت وكذلك في حقوق العباد وجوب الضمان باعتبار ملك العين فيتقدر
بقيمة العين وهذا لان زيادة القيمة في الفهد والنمر والأسد لمعنى تفاخر الملوك به لا لمعنى الصيدية
وذلك غير معتبر في حق المحرم فلهذا لا يلزمه أكثر من شاة إن كان مفردا بالحج أو العمرة
وإن كان قارنا لا يجاوز بما يجب عليه شاتين لأنه محرم باحرامين (قال) وكل ذي ناب من
السباع وكل ذي مخلب من الطير في هذا الحكم سواء على ما بينا. وذكر في بعض الروايات
في الحديث المستثني مكان الحدأة الغراب والمراد به الأبقع الذي يأكل الجيف ويخلط
فإنه يبتدئ بالأذى فأما العقعق يجب الجزاء بقتله على المحرم لأنه لا يبتدئ بالأذى غالبا
والخنزير والقرد يجب الجزاء بقتلهما على المحرم في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وقال
زفر رضى الله تعالى عنه لا يجب لان الخنزير بمنزلة الكلب العقور مؤذ بطبعه وقد ندب الشرع
إلى قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت لكسر الصليب وقتل الخنزير ولكن أبو يوسف
رحمه الله تعالى يقول بأنه متوحش لا يبتدئ بالأذى غالبا فيكون نص التحريم متناولا له
وكذلك السمور والدلق يجب الجزاء بقتلهما على المحرم والفيل كذلك إذا كان وحشيا فأما
الفأرة مستثناة في الحديث وحشيها وأهليها سواء والسنور كذلك في رواية الحسن عن
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب الجزاء بقتله أهليا كان أو وحشيا. وفى رواية هشام عن
محمد رحمهما الله تعالى ما كان منه بريا فهو متوحش كالصيود يجب الجزاء بقتله على المحرم فأما
الضب فليس في معنى الخمسة المستثناة لأنه لا يبتدئ بالأذى فيجب الجزاء على المحرم
92

بقتله وكذلك الأرنب واليربوع يجب بقتلهما القيمة على المحرم فأما ما كان من هوام
الأرض فلا شئ على المحرم في قتله غير أن في القنفذ روايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
في احدى الروايتين قال هو نوع من الفأرة وفى رواية جعله كاليربوع فإذا بلغت قيمة شئ من
هذه الحيوانات حملا أو عناقا لم يجزه الحمل ولا العناق من الهدى في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وأدنى ما يجزى في ذلك الجذع العظيم من الضأن أو الثني من غيرها فإن كان الواجب
دون ذلك كفر بالاطعام أو الصيام وجعل هذا قياس الأضحية فكما لا يجزى هناك التقرب
بإراقة دم الحمل والعناق مقصودا فكذلك هنا ولان الواجب بالنص هنا الهدى قال الله تعالى
هديا بالغ الكعبة فهو بمنزلة هدى المتعة والقران فكما لا يجزئ الحمل والعناق في هدى
المتعة والقران لا يجزئ هنا وأبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى رحمهم الله تعالى جوزوا ذلك
في جزاء الصيد استحسانا بالآثار التي جاءت به فان الصحابة رضي الله عنهم قالوا في الأرنب
عناق وفى اليربوع جفرة ولان الرجل قد يسمى الدراهم والثوب هديا ألا ترى أن الرجل لو
قال الله علي أن أهدى هذه الدراهم يلزمه أن يفعل ذلك فالحمل والعناق أولى في ذلك ولا يستقيم
قياسه على هدى المتعة لأنه قياس المنصوص بالمنصوص ولان الهدى قد يكون عناقا وفصيلا
وجديا ألا ترى أنه لو أهدى ناقة فنتجت كان ولدها هديا معها ينحر ولو كان غير هدى
لكان يتصدق به كذلك قبل النحر ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أجوزه هديا
تبعا لا مقصودا كما يجوز به التضحية تبعا لا مقصودا إذا نتجت الأضحية (قال) وفى بيض النعامة
على المحرم القيمة وفى الكتاب رواه عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما أوجبا في
بيض النعامة القيمة (قال) ولو أن المحرم رمى صيدا فجرحه ثم كفر عنه ثم رآه بعد ذلك فقتله
فعليه كفارة أخرى لأنه صيد على حاله بعد الجرح الأول وقد انتهى حكم ذلك الجرح
بالتكفير فقتله الآن جناية أخرى مبتدأة فيلزمه به كفارة أخرى وإن لم يكفر عنه في الأولى
لم يضره ولم يكن عليه في ذلك شئ إذا كفر في هذه الأخيرة الا ما نقصه الجرح الأول
يريد به إذا كفر بقيمة صيد مجروح فاما إذا كفر بقيمة صيد صحيح فليس عليه شئ آخر
لان الفعلين منه جناية في احرام واحد على محل واحد فيكون بمنزلة فعل واحد فلهذا لا يجب
عليه الا كفارة واحدة وهذا لان حكم الفعل الأول قبل التكفير باق فيجعل الثاني اتماما
له فاما بعد التكفير قد انتهى حكم الفعل الأول فيكون الفعل الثاني جناية مبتدأة (قال)
93

محرم جرح صيدا ثم كفر عنه قبل أن يموت ثم مات أجزأته الكفارة التي أداها لان
سبب الوجوب عليه جنايته على الاحرام بجرح الصيد فإنما أدى الواجب بعد ما تقرر سبب
الوجوب فإذا تم الوجوب بذلك السبب جاز المؤدى كما لو جرح مسلما ثم كفر ثم مات
المجروح (قال) وإذا أحرم الرجل وله في منزله صيد لم يكن عليه إرساله عندنا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه إرساله لأنه متعرض للصيد بإمساكه في ملكه وذلك حرام
عليه بسبب الاحرام فيلزمه إرساله كما لو كان الصيد في يده بحضرته ولكنا نستدل عليه
بالعادة الظاهرة لان الناس يحرمون ولهم في بيوتهم بروج الحمامات وغيرها ولم يتكلف
أحد الارسال ذلك قبل الاحرام ولا أمر بذلك وهذا لان المستحق عليه ترك التعرض
للصيد لا إزالة الصيد عن ملكه وتعرضه إنما يتحقق إذا كان الصيد في يده بحضرته فاما إذا
كان الصيد غائبا عنه في بيته لا يكون هو متعرضا له فلا يلزمه إرساله الا ترى أنه كما يحرم عليه التعرض
للصيد يحرم عليه التطيب ولبس المخيط ولا يلزمه اخراج شئ من ذلك من ملكه (قال)
وللمحرم ان يذبح الشاة والدجاجة لان هذا ليس من الصيود فان الصيد اسم لما يكون ممتنعا
متوحشا فما لا يكون جنسه ممتنعا متوحشا لا يكون صيدا (قال) وكذلك البط الذي
يكون عند الناس والمراد منه الكسكرى الذي يكون في الحياض هو كالدجاج مستأنس
بجنسه فاما البط الذي يطير فهو صيد يجب الجزاء فيه على المحرم والحمام أصله صيد يجب على
المحرم الجزاء في كل نوع منه وقال مالك رحمه الله تعالى ليس في المسرول من الحمام شئ على
المحرم لأنه مستأنس لا يفر من الناس ولكنا نقول الحمام بجنسه ممتنع متوحش فكان صيدا
وإن كان بعضه قد استأنس كالنعامة وحمار الوحش وغيرهما (قال) والذي يرخص للمحرم
من صيد البحر هو السمك خاصة فاما طير البحر لا يرخص فيه للمحرم ويجب الجزاء
بقتله وهذا لان الله تعالى أباح صيد البحر مطلقا بقوله عز وجل أحل لكم صيد البحر الآية
فالمحرم والحلال فيه سواء ولان المحرم بالنص قتل الصيد على المحرم والقتل في صيد البحر لا يتحقق
ولان صيد البحر ما يكون بحري الأصل والمعاش كالسمك فاما الطير فهو برى الأصل
بحري المعاش لان توالده يكون في البر دون الماء فيكون من صيد البر الا ترى ان ما يكون
مائي الأصل وإن كان قد يعيش في البر كالضفدع جعل مائيا باعتبار أصله حتى لا يجب على
المحرم بقتله شئ فكذلك ما يكون برى الأصل لا يرخص للمحرم فيه (قال) محرم اصطاد
94

ظبية فولدت عنده قبل أن يحل أو بعد ما حل ثم ذبحها وولدها في الحل أو في الحرم فعليه
جزاؤها جميعا لأنه حين أخذ الظبية وجب عليه إرسالها لإزالة جنايته وذلك حق مستحق
عليه في الحل شرعا فيسرى إلى الولد ويجب عليه إرسال ولدها معها وما كان من الحق
المستحق عليه في العين أو في المعنى لا يرتفع بخروجه عن الاحرام فإذا ذبحهما فقد فوت
الحق المستحق فيهما شرعا فلهذا وجب عليه جزاؤهما جميعا الا ترى أنه لو كان الصيد مملوكا
لغيره لكان الرد فيهما مستحقا عليه لحق المالك فبذبحهما يلزمه قيمتهما فهذا مثله أو أولى
(قال) وأكره للمحرم أن يشترى الصيد وأنهاه عنه لان الصيد في حقه محرم العين فلا
يكون مالا متقوما كالخمر فلهذا لا يجوز شراؤه أصلا وان اشتراه من محرم أو حلال فعليه
أن يخلي سبيله بمنزلة ما لو أخذه فان عطب في يده فعليه جزاؤه لجنايته على الصيد باثبات
يده عليه وانه اتلاف لمعنى الصيدية فيه ويجب على البائع جزاؤه أيضا إن كان محرما لأنه
جان على الصيد بتسليمه إلى المشترى مفوت لما كان مستحقا عليه من تخلية سبيله فكان
ضامنا للجزاء (قال) وان اصطاد المحرم صيدا فحبسه عنده حتى مات فعليه جزاؤه وإن لم يقتله
لأنه متلف معنى الصيدية فيه معنى باثبات يده عليه والاتلاف الحكمي بمنزلة الاتلاف
الحقيقي في ايجاب الضمان عليه كما لو قطع إحدى قوائم الظبي (قال) محرم أو حلال أخرج
صيدا من الحرم فإنه يؤمر برده على الحرم لأنه كان بالحرم آمنا صيدا وقد أزال ذلك الامن
عنه باخراجه فعليه إعادة أمنه بأن يرده إلى الحرم فيرسله فيه وهذا لان كل فعل هو متعد
في فعله نسخ ذلك الفعل قال صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى ترد ونسخ
فعله بأن يعيده كما كان (قال) فان أرسله في الحل فعليه جزاؤه لأنه ما أعاده آمنا كما كان
فان الامن كان ثابتا بسبب الحرم فما لم يصل إلى الحرم لا يعود إليه ذلك الامن ولا يخرج الجاني
عن عهدة فعله بمنزلة الغاصب إذا رده على غير المغصوب منه إلا أن يحيط العلم بأنه وصل إلى
الحرم سالما فحينئذ يبرأ عن جزائه كما إذا وصل المغصوب إلى يد المغصوب منه (قال) وكل
شئ صنعه المحرم بالصيد مما يتلفه أو يعرضه للتلف فعليه جزاؤه إلا أن يحيط علمه بأنه سلم
منه فحينئذ يتم انتساخ حكم فعله وذلك بأن يجرحه فتندمل الجراحة بحيث لا يبقى لها أثر
أو ينتف ريشه فينبت مكانه آخر أو يقلع سنه فينبت مكانه آخر فحينئذ لا يلزمه شئ
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقاسا هذا بالضمان الواجب في حق العباد فان
95

ذلك يسقط إذا لم يبق للفعل أثر في المحل فكذا هنا وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يلزمه
صدقة باعتبار ما أوصل من الألم إلى الصيد لان باندمال الجراحة لم يتبين أن الألم لم يصل
إليه وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى اعتبار الألم أيضا في الجناية على حقوق العباد
حتى أوجب على الجاني ثمن الدواء وأجرة الطبيب إلى أن تندمل الجراحة (قال) ولا ينبغي
للحلال أن يعين المحرم على قتل الصيد لان فعل المحرم معصية والإعانة على المعصية معصية
فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المعين شريكا ولان لواجب عليه أن يأمره بالمعروف
وينهاه عن التعرض للصيد فإذا اشتغل بالإعانة فقد أتى بضد ما هو واجب عليه فكان عاصيا
فيه ولكن ليس عليه شئ سوى الاستغفار لان الاصطياد ليس بحرام عليه إنما المحرم
عليه الإعانة على المعصية وذلك موجب للتوبة (قال) وكذلك لا ينبغي له أن يشتريه منه
لان بيعه حرام على المحرم ولان في امتناعه عن الشراء زجرا للمحرم عن اصطياده فإنه تقل
رغبته في الاصطياد إذا علم أنه لا يشترى منه الصيد وسواء أصاب المحرم الصيد عمدا أو خطأ
فعليه الجزاء عندنا وهو قول عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس على المحرم في قتل الصيد خطأ جزاء لظاهر قوله تعالى
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم الآية فالتقييد بالعمدية لايجاب الجزاء يمنع
وجوبه على المخطئ ولكنا نقول هذا ضمان يعتمد وجوبه الاتلاف فيستوى فيه العامد
والخاطئ كغرامات الأموال وهذه كفارة تجب جزاء للفعل فيكون واجبا على المخطئ
كالكفارة بقتل المسلم وهذا لان الله تعالى حرم على المحرم قتل الصيد مطلقا وارتكاب ما هو
محرم بسبب الاحرام موجب للجزاء عمدا كان أو خطأ فاما تقييده بالعمد في الآية فليس
لأجل الجزاء بل لأجل الوعيد المذكور في آخر الآية بقوله عز وجل ليذوق وبال أمره
إلى قوله ومن عاد فينتقم الله منه وهذا الوعيد على العامد دون المخطئ ثم ذكر العمد هنا
للتنبيه لان الدلالة قد قامت على أن صفة العمدية في القتل مانعة من وجوب الكفارة
لتمحض الحظرية فذكره الله هنا حتى يعلم أنه لما وجبت الكفارة هنا إذا كان الفعل عمدا
وجب إذا كان خطأ بطريق الأولى وكذلك أن كان هذا القتل أول ما أصاب أو أصاب
قبله شيئا فعليه الجزاء في الوجهين جميعا وكأن ابن عباس رضي الله عنه يقول يجب الجزاء على
المبتدى بقتل الصيد فأما العائد إليه لا يلزمه الجزاء ولكن يقال له اذهب فينتقم الله منك لظاهر
96

قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه ولكنا نقول بأن الاتلاف لا يختلف بين الابتداء والعود
إليه وجزاء الجناية يجب عند العود إليها بطريق الأولى لان جناية العائد أظهر من جناية المبتدى
بالفعل مرة فاما الآية فالمراد من عاد بعد العلم بالحرمة كما في قوله تعالى في آية الربا ومن عاد
فأولئك أصحاب النار يعنى من عاد إلى المباشرة بعد العلم بالحرمة لا أن يكون المراد العود
إلى القتل بعد القتل (قال) وإذا قتل الحلال الصيد في الحرم فعليه قيمته الا على قول
أصحاب الظواهر وهذا قول غير معتد به لكونه مخالفا للكتاب والسنة والاجماع اما
الكتاب فقوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يقال في اللغة أحرم إذا دخل في أحرم كما
يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وقال صلى الله عليه وسلم ان مكة حرام حرمها الله تعالى
يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها فإذا ثبت
أمن صيد الحرم بهذه النصوص كان القاتل جانيا باتلافه محلا محترما متقوما فيلزمه جزاؤه
والجزاء قيمة الصيد كما في حق المحرم إلا أن المذهب عندنا ان جزاء صيد الحرم يتأدى باطعام
المساكين ولا يتأدى بالصوم وفى التأدي بالهدى روايتان وعلى قول زفر رحمه الله تعالى
يتأدى بالصوم أيضا والمذهب عنده ان الواجب هنا الكفارة كالواجب على المحرم
لان الوجوب لمحض حق الله تعالى فيكون الواجب جزاء الفعل بطريق الكفارة بمنزلة
ما يجب على المحرم فكما أن ذلك يتأدى بالصوم إذا لم يجد المال عنده فكذلك هنا والمذهب
عند الشافعي رحمه الله تعالى ان معنى الغرامة والمقابلة بالمحل يغلب في الفصلين جميعا لان
الواجب مثل المتلف بالنص اما من حيث الصورة أو من حيث القيمة ومثل الشئ إنما يجب
في الأصل ليقوم مقامه فكان جانب المحل هو المراعى في الفصلين جميعا وقد ثبت في حق
المحرم ان الواجب يتأدى بالصوم بالنص فكذلك في صيد الحرم واما عندنا الواجب على
المحرم بطريق الكفارة فالمعتبر فيه معنى جزاء الفعل لأنه لا حرمة في المحل إنما المحرم في
المباشر وهو احرامه الا ترى أنه بعد ما حل من احرامه يجوز له الاصطياد وإن لم يتبدل
وصف المحل وجزاء الفعل يجب بطريق الكفارة فأما في صيد الحرم وجوب الجزاء باعتبار
وصف ثابت في المحل وهو صفة الامن من الثابت للصيد بسبب الحرم ألا ترى أنه إنما يتغير هذا
الحكم بتغير وصف المحل بخروجه من الحرم الا الحل ألا ترى أنه كما يجب ضمان الصيد بسبب
الحرم يجب ضمان النامي من الأشجار النامية في الحرم لما فيها من حياة مثلها وثبوت الامن
97

لها بسبب الحرم ولا شك أن ما يجب بقطع الأشجار يكون غرم المحل فكذلك ما يجب
بقتل صيد الحرم يكون غرم المحل فكان هذا بغرامات المالية أشبه فكما لا مدخل للصوم في
غرامات الأموال وإن كان وجوبها لحق الله تعالى كاتلاف مال الزكاة والعشر فكذلك
لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم يقرره وهو انه لما أزال الامن عن محل أمن لحق الله
تعالى فيلزمه بمقابلته اثبات صفة الامن عن الجوع للمسكين حقا لله تعالى وذلك بالاطعام
يحصل دون الصيام فاما في صيد الاحرام لما كان الواجب لارتكابه فعلا محرما حقا لله
تعالى يتأدى ذلك بفعل ما هو مأمور به حقا لله تعالى وهو الصيام وفي الهدى روايتان
هنا في احدى الروايتين يقول لا يتأدى الواجب بإراقة الدم بل بالتصدق باللحم حتى يشترط
أن تكون قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد فإن كان دون ذلك لا يتأدى الواجب
به وكذلك أن سرق المذبوح لأنه لا مدخل لإراقة الدم في الغرامات وإنما المعتبر فيه التمليك
من المحتاج وذلك يحصل في اللحم وفى الرواية الأخرى يقول يتأدى الواجب بإراقة الدم
حتى إذا سرق المذبوح لا يلزمه شئ ويشترط أن تكون قيمة قبل الذبح مثل قيمة الصيد
لان الهدى مال يجب لله تعالى وإراقة الدم طريق صالح لجعل المال خالصا لله تعالى بمنزلة
التصدق ألا ترى أن المضحي يجعل الأضحية خالصا لله تعالى بإراقة دمها فكذلك هنا (قال)
ومن دخل الحرم بصيد فعليه ان يرسله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس عليه إرساله
لان الامن بسبب الحرم يثبت لحق الشرع فإنما يثبت في المباح دون المملوك كالأشجار فان
ما ينبته الناس في الحرم لا يثبت فيه حرمة الحرم وقاس هذا بالاسترقاق فان الاسلام يمنع
الاسترقاق لحق الشرع ثم لا يزيل الرق الثابت قبله فكذا هذا ولكنا نقول حرمة الحرم في
حق الصيد كحرمة الاحرام فكما أن الحرمة بسبب الا حرام تثبت في حق الصيد المملوك
حتى يجب إرساله فكذلك الحرمة بسبب الحرم وليس هذا نظير الأشجار لان ما ينبته الناس
ليس بمحل لحرمة الحرم أصلا بمنزلة الأهلي من الحيوانات كالإبل والبقر والغنم فاما الصيد
مملوكا كان أو غير مملوك فهو محل لثبوت الامن له بسبب الحرم فان باع الصيد بعد ما أدخله
الحرم كان البيع فاسدا يرد إن كان الصيد قائما وإن كان فائتا فعليه جزاؤه لان حرمة الحرم
في الصيد مانعة من بيعه كحرمة الاحرام (قال) رجل أدخل الحرم بازيا أو صقرا فعليه
إرساله لأنه صيد ممتنع فيثبت فيه الامن بسبب الحرم فعليه إرساله كما لو أخذه في الحرم
98

فان أرسله فجعل يقتل حمامات الحرم لم يكن عليه في ذلك شئ لأنه بارسال ما قصد الاصطياد
وإنما قصد مباشرة ما هو مستحق عليه وهو رفع اليد عن الصيد الآمن فلا يكون عليه عهدة
ما يفعله الصيد بعد ذلك كمن أعتق عبدا عن كفارته فجعل العبد يرتكب الكبائر لا يكون
على المعتق شئ من ذلك فهذا مثله (قال) ولا خير فيما يرخص فيه أهل مكة من الحجل
واليعاقيب ولا يدخل الحرم شيئا منها لحديث ابن عمر رضي الله عنه ان عبد الله بن عامر
رضي الله عنه أهدى إليه بمكة بيض نعام وظبيين حيين فلم يقبلهما وقال أهديتهما إلى آمنين
ما كانا أي ما داما يريد به أنهما صارا آمنين بادخالهما في الحرم حيين والحجل واليعاقيب من
الصيود فبادخال الحرم إياهما حيين يثبت الامن فيهما فلا يحل تناول شئ منهما وذلك مروى
عن عائشة والحسين بن علي رضى الله تعالى عنه وعادة أهل مكة في هذا الترخيص بخلاف
النص فيكون ساقط الاعتبار فان ذبحهما قبل أن يدخلهما الحرم فلا بأس بتناولهما في الحرم
لأنه إنما أدخل اللحم في الحرم واللحم ليس بصيد (قال) وان رمي صيدا بعض قوائمه في
الحل وبعضها في الحرم فعليه جزاؤه لان جزاء صيد الحرم مبنى على الاحتياط ولأنه إذا اجتمع
المعنى الموجب للإباحة في شئ واحد يغلب الموجب للحظر لقوله صلى الله
عليه وسلم ما اجتمع الحلال والحرام في شئ الا غلب الحرام الحلال فلا يحل تناول هذا الصيد
لهذا المعنى أيضا قال وإن كان الرامي في الحرم والصيد في الحل فقد بينا أن الاصطياد محرم
على من كان في الحرم كما هو محرم على المحرم فهذا وما لو كان الصيد في الحرم سواء وإن كان
الرامي في الحل والصيد في الحل إلا أن بينهما قطعة من الحرم فمر فيها السهم فلا شئ عليه
ولا بأس بأكله لأنا ان اعتبرنا الرامي فهو حلال في الحل وان اعتبرنا جانب الصيد فهو
صيد الحل وبمرور السهم في هواء الحرم لا تثبت حرمة الحرم في حق الصيد ولا في حق
الرامي والسهم ليس بمحل حرمة الحرم فلهذا لا يجب على الرامي شئ ولا بأس بأكله (قال)
وان جرح صيدا في الحل وهو حلال فدخل الحرم ثم مات فيه لم يكن عليه جزاؤه لان فعله
في وقت الجرح كان مباحا والسراية أثر الفعل فإذا لم يكن أصل فعله موجبا للجزاء لا يكون
أثره موجبا كمن جرح مرتدا فأسلم ثم مات وفى القياس لا بأس بأكل هذا الصيد لان
فعله كان مذكيا له موجبا للحل حتى لو مات منه في الحل حل تناوله ولكنه كره أكله
استحسانا لما بينا أن حل التناول حكم يثبت عند زهوق الروح عنه وعند ذلك هو صيد
99

الحرم فاعتبار هذا الجانب يحرم التناول واعتبار جانب الجرح يبيع تناوله فيترجح الموجب
للحرمة على الموجب للحل (قال) وإذا ذبح الهدى في جزاء الصيد بالكوفة وتصدق به لم
بجزه من الهدى لان إراقة الدم لا يكون قربة الا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص
وهو الحرم كيف وقد نص الله تعالى على التبليغ إلى الحرم هنا بقوله عز وجل هديا بالغ
الكعبة ولكن ان كانت قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد أجزأه من الطعام إذا أصاب
كل مسكين قيمة نصف صاع على قياس كفارة اليمين إذا كسى عشرة مساكين ثوبا واحدا
أجزأه من الطعام دون الكسوة ان كانت قيمة ما أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع من
حنطة أو أكثر (قال) وإذا أراد الصوم بالكوفة فذلك جائز في حق المحرم لأن الصوم
قربة في أي موضع كان فأما صيد الحرم في حق الحلال فقد بينا أنه لا مدخل للصوم فيه
إلا أن يكون محرما أصاب الصيد في الحرم فحينئذ تتأدى كفارته بالصوم لان في حق
المحرم لا يظهر حرمة الحرم فالواجب عليه كفارة ألا ترى أنها لا تتجزى فلهذا يتأدى
بالصوم وعلى هذا لو دل محرم على صيد في الحرم وجب عليه الجزاء بخلاف الحلال إذا
دل على صيد في الحرم لا يلزمه الجزاء كالمحرم بناء على أصله أن الواجب عليه كفارة
حتى تتأدى بالصوم فيكون الدال فيه كالمباشر وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في
هذا الفصل مثل قول زفر رحمه الله تعالى (قال) وإذا أكل المحرم من جزاء الصيد فعليه
قيمة ما أكل لان حق الله تعالى بالتصدق تعلق بالمذبوح فإذا صرفه إلى حاجته صار ضامنا
قيمته للمساكين وكذلك أن أكله بعد ما ذبحه بمكة فعليه قيمته مذبوحا بخلاف ما إذا
سرق فان الهدى قد بلغ محله حين ذبحه بمكة وبقي وجوب التصدق معلقا بعين المذبوح
فإذا هلك من غير صنعه لا يلزمه شئ وإذا استهلكه بالأكل فعليه ضمان قيمته للفقراء بمنزلة
مال الزكاة فإذا تصدق بهذه القيمة على مسكين واحد أجزأه بمنزلة اللحم إذا تصدق به على
مسكين بخلاف ما إذا اختار التكفير بالاطعام فإنه لا يجزيه إلا أن يطعم كل مسكين نصف
صاع لان طعام الكفارة في حق كل مسكين مقدر بنصف صاع كما في كفارة ليمين فاما في
الهدى التكفير يحصل بإراقة الدم دون التصدق باللحم ثم التصدق بعد ذلك يلزمه باعتبار
أنه صار لله تعالى خالصا فهو بمنزلة الزكاة فإن شاء صرف الكل إلى مسكين واحد وان
شاء فرقه على المساكين وفى التكفير بالطعام إذا أعطى كل مسكين نصف صاع ففضل
100

مد تصدق به على مسكين واحد بمنزلة ما لو كان الواجب هذا المقدار يتصدق به على
مسكين واحد وان اختار الصوم يصوم باعتبار هذا المد يوما كاملا أو يطعم لأن الصوم
لا يكون أقل من يوم وله أن يفرق الصوم في جزاء الصيد لأنه مطلق في كتاب الله عز
وجل قال الله تعالى أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره فإن شاء تابع وان شاء فرق
(قال) وإذا قتل المحرم الجراد فعليه فيه القيمة لان الجراد من صيد البر وقد روي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال تمرة خير من جرادة وقصة هذا الحديث ان أهل حمص
أصابوا جرادا كثيرا في احرامهم فجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم فقال عمر رضي الله عنه
أرى دراهمكم كثيرة يا أهل حمص تمرة خير من جرادة (قال) وليس على المحرم
في قتل البعوض والذباب والنمل والحلمة والقراد شئ لأن هذه الأشياء ليست من الصيود
فإنها لا تنفر من بني آدم ولو كانت من الصيود كانت مؤذية بطبعها فلا شئ على المحرم فيها
وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرد بعيره في إحرامه وقال ابن عباس رضى الله
لعكرمة مولاه قم فقرد البعير فقال أنا محرم فقال لو أمرتك بنحره هل كنت تنحره قال نعم
فقال كم من قراد وحمنانة تقتل بالنحر بين انه ليس على المحرم في القراد والحمنانة شئ
ويكره له قتل القملة لا لأنه صيد ولكن لأنه ينمو من بدنه فيكون قتله من قضاء التفث
والمحرم ممنوع من ذلك بمنزلة إزالة الشعر فان قتلها فما تصدق به فهو خير من القملة إذ لا
خير في القمل كما قال علي رضي الله عنه القملة ضالة لا تلتمس فلهذا يخرج عن الواجب بما
يتصدق به من قليل أو كثير (قال) ولا بأس للمحرم ان يغتسل فان عمر رضي الله عنه
اغتسل وهو محرم وإنما أورد هذا لان من الناس من كره ذلك ويقول إن الماء يقتل هوام
الرأس وليس كذلك بل الماء لا يزيده الا شعثا (قال) ولو أن حلالا أصاب بيضا من
بيض الصيد فأعطاه محرما فشواه فعلى المحرم جزاؤه لان البيض أصل الصيد وقد أفسده
المحرم بفعله فعليه جزاؤه ولا بأس بأكله بخلاف الصيد إذا قتله المحرم لأنه إنما يحرم بفعل
المحرم ما يحتاج في حله إلى الذكاة ولا حاجة إلى الذكاة في حل تناول البيض الا ترى ان
المسلم والمجوسي فيه سواء فكذا المحرم والحلال ووجوب الجزاء على المحرم لا يوجب الحرمة
كما لو دل حلالا على صيد يلزمه الجزاء ولا يحرم به تناول الصيد (قال) محرم أصاب صيدا
كثيرا عمل قصد الاحلال والرفض لاحرامه فعليه لذلك كله دم عندنا وقال الشافعي رحمه
101

الله تعالى عليه جزاء كل صيد لأنه مرتكب محظور الاحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاؤه
كما لو لم يقصد رفض الاحرام وهذا لان قصده هذا ليس بشئ لان احرامه لا يرتفض بقتل
الصيد فكان وجود هذا القصد كعدمه وهو بناء على أصله ان في وجوب الجزاء العبرة للمحل
دون الفعل فلا معتبر بقصده إلى الرفض بفعله ولكنا نقول إن قتل الصيد من محظورات
الاحرام وارتكاب محظورات العبادة يوجب ارتفاضها كالصوم والصلاة الا ان الشرع جعل
الاحرام لازما لا يخرج منه الا بأداء الاعمال الا ترى أنه حين لم يكن لازما في الابتداء كان
يرتفض بارتكاب المحظور وكذلك الأمة إذا أحرمت بغير إذن مولاها أو المرأة إذا أحرمت
بغير إذن زوجها بحجة التطوع لما لم يكن ذلك لازما في حق الزوج كان له ان يحللها بفعل شئ من
المحظورات بها فكان هو في قتل الصيود هنا قاصدا إلى تعجيل الاحلال لا إلى الجناية على
الاحرام وتعجيل الاحلال يوجب دما واحدا كما في حق المحصر بخلاف ما إذا لم يكن على
قصد رفض الاحرام لأنه قصد الجناية على الاحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاء كل صيد
وقد بينا ان حكم جزاء الصيد في حق المحرم ينبني على قصده حتى أن ضارب الفسطاط لا
يكون ضامنا للجزاء بخلاف ناصب الشبكة (قال) ولا يتصدق من جزاء الصيد على والده
وولده بمنزلة الزكاة وصدقة الفطر فإنه مال وجب التصدق به لحق الله تعالى وان أعطى منه
ذميا أجزأه الا ان في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى حيث كل صدقة واجبة
لا يجوز صرفها إلى فقراء أهل الذمة وقد بينا هذه الفصول في كتاب الصوم فهو على ما
ذكرناه ثمة (قال) وإذا بلغ جزاء الصيد جزورا فهو أحب إلى من أن يشترى بقيمته أغناما
لان المندوب إليه التعظيم في الهدايا قال الله تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
فما كان أقرب إلى التعظيم فهو أولى وان اشترى أغناما فذبحها تصدق بها أجزأه على قياس
سائر الهدايا نحو هدى الاحصار وهدى المتعة (قال) وليس عليه أن يعرف بالجزور
في جزاء الصيد ولا أن يقلده لان سنة التقليد والتعريف فيما يكون نسكا وهذا دم كفارة
فلا يسن فيه التعريف والتقليد وإن كان لو فعل ذلك لا يضره وعلى هذا هدى الاحصار
والكفارات وكان المعنى فيه أن ما يكون نسكا فالتشهير فيه أولى ليكون باعثا لغيره على أن يفعل
مثل ما فعله فأما ما يكون كفارة فسببه ارتكاب المحظور فالستر على نفسه في مثله أولى من
التشهير قال صلى الله عليه وسلم من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر يستر الله
102

تعالى عليه (قال) وإذا رمى الصيد وهو حلال ثم أحرم فليس عليه في ذلك شئ لان فعله
في الرمي كان مباحا مطلقا ولان الجناية على الاحرام بما يتعقبه لا بما يسبقه قال وإذا رمى
طائرا على غصن شجرة أصلها في الحرم أو في الحل لم ينظر إلى أصلها ولكن ينظر إلى موضع
الطائر فإن كان ذلك الغصن في الحل فلا جزاء عليه وإن كان في الحرم فعليه فيه الجزاء
لان قوام الصيد ليس بالغصن قال الله تعالى أو لم يروا إلى الطير مسخرات في جو سماء
ما يمسكهن الا الله فكان المعتبر فيه موضع الصيد فإن كان ذلك الموضع من هواء الحرم
فالصيد صيد الحرم وإن كان من هواء الحل فالصيد صيد الحل فأما في قطع الغصن فينظر إلى
أصل الشجرة فإن كان في الحل فله أن يقطعه وإن كان في الحرم فليس له أن يقطعه لان
قوام الأغصان بالشجرة فينظر إلى أصل الشجرة فيجعل حكم الأغصان حكم أصلها وإن كان
بعض الأصل في الحرم وبعضه في الحل فهو من شجر الحرم أيضا لأنه اجتمع فيه
المعنى الموجب للحظر والموجب للحل فهو بمنزلة صيد قائم بعض قوائمه في الحل وبعضها في
الحرم يكون من صيد الحرم بخلاف ما إذا كانت قوائم الصيد في الحل ورأسه في الحرم فان
قوامه بقوائمه دون رأسه إلا أن يكون نائما ورأسه في الحرم فحينئذ قوامه بجميع بدنه فإذا كان
جزء منه في الحرم فهو بمنزلة صيد الحرم ثم الأصل في حرمة أشجار الحرم قوله صلى الله
عليه وسلم لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها. قال هشام سألت محمدا رحمه الله تعالى عن
معنى هذا اللفظ فقال كل ما لا يقوم على ساق. وروى أن عمر رضى الله تعالى عنه قطع دوحة
كانت في موضع الطواف تؤذى الطائفين فتصدق بقيمتها وحرمة أشجار الحرم كحرمة
صيد الحرم فان صيد الحرم يأوى إلى أشجار الحرم ويستظل بظلها ويتخذ الأوكار على أغصانها
فكما تجب القيمة في صيد الحرم على من أتلفه فكذلك تجب القيمة على من قطعه وشجر
الحرم ما ينبت بنفسه لا ما ينبته فأما ما ينبته الناس عادة ليس له حرمة الحرم سواء أنبته
انسان أو نبت بنفسه لان الناس يزرعون ويحصدون في الحرم من لدن رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر فأما مالا ينبته الناس
عادة إذا أنبته انسان فلا شئ عليه في قطعه أيضا لأنه ملكه والتحق فعله بما ينبته الناس
عادة فأما إذا نبت بنفسه فله حرمة الحرم وإن كان مملوكا لإنسان بأن نبت في ملكه حتى
قالوا لو نبت في ملك رجل أم غيلان فقطعه انسان فعليه قيمته لمالكه وعليه قيمة لحق الشرع
103

بمنزلة ما لو قتل صيدا مملوكا في الحرم (قال) وان قطع رجلان شجرة من شجر الحرم
فعليهما قيمة واحدة على قياس صيد الحرم إذا قتله رجلان الا ان هنا يستوى ان كانا محرمين
أو حلالين بخلاف صيد الحرم لان حرمة الصيد في حق ا لمحرم بسبب الاحرام فيتكامل على
كل واحد منهما فاما حرمة الشجرة بسبب الحرم لان الاحرام يمنع قطع الشجرة فلهذا
كان المحرم والحلال في ذلك سواء ويكون الواجب على كل واحد منهما نصف القيمة ولا يجزى
فيه الصيام إنما يهدى أو يطعم على قياس ما بينا في صيد الحرم في حق الحلال (قال) ولا أحب
له ان ينتفع بتلك الشجرة التي أدى قيمتها لأنه لو أبيح له ذلك لتطرق الناس إلى مثله فلا تبقى
أشجار الحرم وفى ذلك ايحاش صيد الحرم ولكنه لو انتفع بها فلا شئ عليه لان المقطوع صار
مملوكا له بما غرم من القيمة وليس للمقطوع حرمة الحرم بعد القطع فلا شئ عليه في الانتفاع
الا ترى أنه لو ذبح صيد الحرم ثم تناوله بعد ما أدى الجزاء لم يلزمه بالتناول شئ فهذا مثله
فان غرسها فنبتت فله أن يقطعها ويصنع بها ما شاء لان المقطوع ملكه وهو الذي أنبته وقد
بينا ان ما ينبته الناس لا يثبت فيه حرمة الحرم (قال) وما تكسر من شجر الحرم ويبس
حتى سقط فلا بأس بالانتفاع به لان ثبوت الحرمة بسبب الحرم بما يكون ناميا فيه حياة مثله
والمتكسر وما يبس ليس فيه معنى النمو فلا بأس بالانتفاع به (قال) ولا يختلى حشيش الحرم
ولا يقطع الا الإذخر فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه رخص فيه وإنما أراد به
ما روى أن العباس رضي الله عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلى خلاها
ولا يعضد شوكها قال الا الإذخر يا رسول الله فإنها لقبورهم وبيوتهم أو لبيوتهم وقبورهم
فقال صلى الله عليه وسلم الا الإذخر وتأويل هذا أنه كان من قصده صلى الله عليه وسلم ان
يستثنى إلا أن العباس سبقه لذلك أو كان أوحى إليه أن يرخص فيما يستثنيه العباس رضي الله عنه
وكما لا يرخص في قطع الحشيش في الحرم بالمنجل فكذلك لا يرخص في رعى الدواب في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بالرعي لان
الذين يدخلون الحرم للحج أو العمرة يكونون على الدواب ولا يمكنهم منع الدواب من رعى
الحشيش ففي ذلك من الحرج ما لا يخفى فيرخص فيه لدفع الحرج وعلى قول ابن أبي ليلى
رحمه الله تعالى لا بأس بأن يحتش ويرعى لأجل البلوى والضرورة فيه فإنه يشق على الناس
حمل علف الدواب من خارج الحرم ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بقوله
104

صلى الله عليه وسلم لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها وفى الاحتشاش ارتكاب النهى وكذلك
في رعي الدواب لان مشافر الدواب كالمناجل وإنما تعتبر البلوى فيما ليس فيه نص بخلافه
فاما مع وجود النص لا معتبر به (قال) ولا بأس بأخذ الكمأة في الحرم لأنه ليس من
نبات الأرض بل هو مودع فيه وكذلك لا بأس بأخذ حجارة الحرم وقد نقل عن ابن عباس
وابن عمر رضي الله عنهما انهما كرها ذلك ولكنا نأخذ بالعادة الجارية الظاهرة فيما بين الناس
باخراج القدور ونحوها من الحرم ولان الانتفاع بالحجر في الحرم مباح وما يجوز الانتفاع
به في الحرم يجوز اخراجه من الحرم أيضا ثم حرمة الحرم خاصة بمكة عندنا وليس للمدينة
حرمة الحرم في حق الصيود والأشجار ونحوها وقال الشافعي رحمه الله تعالى للمدينة حرمة
الحرم حتى أن من قبل صيدا فيها فعليه الجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم ان إبراهيم عليه
السلام حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها يعنى المدينة وقال من رأيتموه يصطاد في المدينة
فخذوا ثيابه وحجتنا في ذلك ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بعض الصبيان
بالمدينة طائرا فطار من يده فجعل يتأسف على ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أبا
عمير ما فعل النغير اسم ذلك الطير وهو طير صغير مثل العصفور ولو كان للصيد في المدينة حرمة
الحرم لما ناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا ولأن هذه بقعة يجوز دخولها بغير احرام
فتكون قياس سائر البلدان بخلاف الحرم فإنه ليس لأحد ان يدخلها الا محرما (قال) وإذا
قتل المحرم البازي المعلم فعليه فيه الكفارة غير قيمته معلما لان وجوب الجزاء باعتبار معني
الصيدية فكونه معلما صفة عارضة ليس من الصيدية في شئ لان معني الصيدية في تنفره
وبكونه معلما ينتقص ذلك ولا يزداد لان توحشه من الناس يقل إذا كان معلما فلا يجوز أن يكون
ذلك زائدا في الجزاء بخلاف ما إذا كان مملوكا لإنسان فان متلفه يغرم قيمته معلما
لان وجوب القيمة هناك باعتبار المالية وماليته بكونه متنفعا به وذلك يزداد بكونه معلما
وكذلك الحمامة إذا كانت تجئ من موضع كذا ففي ضمان قيمتها على المحرم لا يعتبر ذلك المعنى
وفى ضمان قيمتها للعباد يعتبر فاما إذا كانت تصوت فتزداد قيمتها لذلك ففي اعتبار ذلك في
الجزاء روايتان في احدى الروايتين لا يعتبر لأنه ليس من معنى الصيدية في شئ وفى رواية
أخرى يعتبر لأنه وصف ثابت بأصل الخلقة بمنزلة الحمام إذا كان مطوقا (قال) وإذا اضطر
المحرم إلى قتل الصيد فلا بأس بان يقتله ليأكل من لحمه ويؤدى الجزاء وقد بينا هذا فيما
105

سبق أورد في كتاب اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى انه إذا اضطر إلى ميتة أو صيد
فعلى قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى يتناول من هذا الصيد ويؤدى الجزاء وعلى
قول زفر رحمه الله تعالى يتناول من الميتة لأنه لو قتل الصيد صار ميتة فيكون جامعا بين أكل
الميتة وقتل الصيد وله عن أحدهما غنية بان يتناول الميتة ولكنا نقول حرمة الميتة أغلظ الا
ترى ان حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الاحرام وحرمة الميتة لا فعليه أن يتحرز عن أغلظ
الحرمتين بالاقدام على أهونهما وقتل الصيد وإن كان محظور الاحرام ولكنه عند الضرورة
لا بأس به كالحلق عند الأذى فلهذا يقتل الصيد ويتناول من لحمه ويؤدى الجزاء والله سبحانه
وتعالى أعلم
باب المحصر
(قال) رضي الله عنه الأصل في حكم الاحصار قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فان
أحصرتم أي منعتم من اتمامهما فما استيسر من الهدى شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح ثم
تحلقون لقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله فعلى المحصر إذا كان محرما
بالحج أن يبعث بثمن هدى يشترى له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من احرامه وهذا
قول علمائنا رحمهم الله تعالى أن هدى الاحصار مختص بالحرم وعلى قول الشافعي رضي الله عنه
لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدى في الموضع الذي يحصر فيه وحجته في ذلك حديث
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرا
فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلو له مكة ثلاثة
أيام بغير سلاح فيقضى عمرته فإنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدى في الموضع الذي
أحصر فيه ولأنه لو بعث بالهدى لا يأمن أن لا يفي المبعوث على يده أو يهلك الهدى في
الطريق وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدى إلى محله وخروجه من الاحرام بعد
إراقة دمه فكان هذا أولى وحجتنا في ذلك قوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى
محله والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى ثم محلها إلى البيت العتيق بعد ما ذكر الهدايا ولان
التحلل بإراقة دم هو قربة وإراقة الدم لا يكون قربة الا في مكان مخصوص وهو الحرم أو
زمان مخصوص وهو أيام النحر ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة ونقيس هذا
106

الدم بدم المتعة من حيث إنه تحلل به عن الاحرام وذلك يختص بالحرم فكذا هذا وأما
ما روى فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا حين أحصر
فروى أنه بعث الهدايا على يدي ناجية لنحرها في الحرم حتى قال ناجية ماذا أصنع فيما يعطب
منها قال انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحة سنامها وخل بينها وبين
الناس ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله
تعالى هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله فأما الرواية
الثانية ان صحة فنقول الحديبية من الحرم فان نصفها من الحل ونصفها من الحرم ومضارب
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه كان في الحرم فإنما سيقت الهدايا إلى
جانب الحرم منها ونحرت في الحرم فلا يكون للخصم فيه حجة وقيل إن النبي صلى الله عليه
وسلم كان مخصوصا بذلك لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى
الحرم (قال) ثم إذا بعث بالهدى إلى الحرم فذبح عنه فليس عليه حلق ولا تقصير في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بينا هذا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى تعالى الحلق نسك فعلى المحصر أن يأتي به ثم عليه عمرة وحجة هكذا
روى عن ابن عباس وابن عمر رضى الله تعالى عنهما أما قضاء الحج فإن كان محرما بحجة
الاسلام فقد بقيت عليه حين لم تصر مؤداة وإن كان محرما بحجة التطوع فعليه قضاؤها عندنا
لأنه صار خارجا منها بعد صحة الشروع قبل أدائها وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجب عليه
القضاء وهو نظير الشارع في صوم التطوع إذا أفسده وقد بيناه في كتاب الصوم وأما
قضاء العمرة فلانه صار في معنى فائت الحج حين كان خروجه بعد صحة الشروع قبل
أداء الاعمال وعلى فائت الحج أعمال العمرة فإذا لم يأت بها كان عليه قضاء العمرة أيضا
(قال) وإذا بعث بالهدى فإن شاء أقام مكانه وان شاء رجع لأنه لما صار ممنوعا من الذهاب
يخير بين المقام والانصراف وهذا إذا كان محصرا بعدو فإن كان محصرا بمرض أصابه فعندنا
هو والمحصر بالعدو سواء يتحلل ببعث الهدي وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمريض أن
يتحلل إلا أن يكون شرط ذلك عند احرامه ولكنه يصبر إلى أن يبرأ فان هذا حكم ثابت بالنص
من الكتاب والسنة والآية في الاحصار بالعدو بدليل قوله تعالى في آخر الآية فإذا أمنتم
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محصرا بالعدو ففيما لم يرد
107

فيه النص يتمسك بالأصل وهو لزوم الاحرام إلى أن يؤدى الأفعال إلا أن يشترط ذلك عند
الاحرام فحينئذ يصير التحلل له حقا بالشرط لما روى أن ضباعة عمة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورضي الله عنها كانت شاكية فقال لها أهلي بالحج واشترطي أن تحلى حيث حبست فلو
كان لها أن تتحلل من غير شرط لما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرط والمعني فيه
أن ما ابتلى به لا يزول بالتحلل فلا يكون له أن يتحلل كالذي ضل الطريق أو أخطأ العدد أو
سرقت نفقته بخلاف المحصر بالعدو فان ما ابتلى به هناك يزول بالتحلل لأنه يرجع إلى أهله
فيندفع شر العدو عنه وحجتنا في ذلك قوله تعالى فان أحصرتم فان أهل اللغة يقولون إن الاحصار
لا يكون الا في المرض ففي العدو يقال حصر فهو محصر وفى المرض يقال أحصر فهو محصر
وقال الفراء رحمه الله تعالى يقال في العدو والمرض جميعا أحصر وحصر في العدو خاصة فقد
اتفقوا على أن لفظة الاحصار تتناول المرض وقوله فإذا أمنتم لا يمنع من حمله على المرض
ومعناه إذا برئتم قال صلى الله عليه وسلم الزكام أمان من الجذام والدمامل أمان من الطاعون
فعرفنا ان لفظة الامن تطلق في المرض. وفي الحديث عن الحجاج بن عمر رحمه الله تعالى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل فذكر ذلك لابن
عباس وأبي هريرة رضى الله تعالى عنهما فقالا صدق وعن الأسود بن يزيد قال خرجنا من
البصرة عمارا أي معتمرين فلدغ صاحب لنا فأعرضنا الطريق لنسأل من نجده فإذا نحن
بركب فيهم ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فسألناه عن ذلك فقال ليبعث صاحبكم بدم
ويواعد المبعوث على يديه أي يوم شاء فإذا ذبح عنه حل والمعنى فيه أن المعنى الذي
لأجله ثبت حق التحلل للمحصر بالعدو موجود هنا وهو زيادة مدة الاحرام عليه لأنه
إنما التزم إلى أن يؤدى أعمال الحج وبتعذر الأداء تزداد مدة الاحرام عليه ويلحقه في
ذلك ضرب مشقة فأثبت له الشرع حق التحلل وهذا المعنى موجود هنا فقد يزداد عليه
مدة الاحرام بسبب المرض والمشقة عليه في المكث محرما المرض أكثر فيثبت له حق
التحلل بطريق الأولى والدليل على أن المعنى هذا لاما قال إن العدو إذا أحاطوا به من الجوانب
الأربعة أو حبسوه في موضع لا يزول ما به بالتحلل بأن ان كأن لا يمكنه الرجوع إلى أهله
مع ذلك يثبت له حق التحلل عرفنا أن المعنى ما قلنا فأما الذي ضل الطريق عندنا فليس محصرا
لأنه ان وجد من يبعث بالهدى على يده فذلك الرجل يهديه إلى الطريق فلا حاجة به إلى
108

التحلل وإن لم يجد من يبعث بالهدى على يديه فإنما يتحلل لعجزه عن تبليغ الهدى محله والذي
أخطأ العدد فائت الحج وفائت الحج يتحلل باعمال العمرة فأما إذا سرقت نفقته فذكر ابن سماعة
عن محمد رحمه الله تعالى أنه إن كان يقدر على المشي فليس له أن يتحلل بالهدى وان
كأن لا يقدر على المشي فهو محصر يتحلل بالهدي وهكذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى
إلا أنه قال إن كان يعلم أنه يقدر على المشي إلى البيت يلزمه المشي وإلا فلا ولا يبعد أن لا يلزمه
المشي في الابتداء ويلزمه بعد الشروع كما لا يلزمه حجة التطوع ابتداء ويلزمه الاتمام إذا شرع
فيها والفقير لا يلزمه حجة الاسلام ويلزمه الاتمام إذا شرع فيها (قال) وإذا كان محرما
بعمرة فأحصر يتحلل بالهدى الا على قول مالك رحمه الله تعالى فإنه يقول حكم الاحصار لمن
يخاف الفوت والمعتمر لا يخاف الفوت ولكنا نقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر
بالحديبية كان محرما بالعمرة وقد بينا حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الملدوغ والمعنى فيه
زيادة مدة الاحرام عليه والمعتمر في هذا كالحاج فيتحلل بالهدى الا انه إذا بعث بالهدى هنا
يواعد صاحبه يوما أي يوم شاء لان عمل العمرة لا يختص بوقت فكذا الهدى الذي يتحلل به
عن احرام العمرة بخلاف المحصر بالحج على قولهما لان اعمال الحج مختصة بوقت الحج فكذلك
الهدى الذي به يتحلل مؤقت بيوم النحر وإذا حل من عمرته فعليه عمرة مكانها لان الشروع
فيها قد صح (قال) والقارن يبعث بهديين لأنه محرم باحرامين وتحلله عن كل واحد
منهما يحصل قبل أداء الاعمال فلهذا يبعث بهديين وإذا تحلل بهما فعليه عمرتان وحجة يقضيهما
بقران أو افراد لما بينا ان احدى العمرتين تلزمه للتحلل عن العمرة بعد الشروع فيها والأخرى
للتحلل عن احرام الحج وقد بينا في المفرد بالحج ان عليه عمرة وحجة إذا تحلل بالهدى
(قال) وان بعث القارن بهدى واحد ليتحلل به من أحد الاحرامين لا يصح ذلك ولا
يتحلل به لان أوان التحلل من الاحرامين في حق القارن واحد كما قال صلى الله عليه وسلم فلا
أحل منهما وبالهدى الواحد لا يتحلل منهما فلا يكون له ان يتحلل أصلا (قال) وإذا بعث بهديين
فلا يحتاج إلى أن يعين الذي للعمرة منهما والذي للحج لان هذا التعيين غير مفيد فلا يعتبر
أصلا ثم المذهب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان دم الاحصار لا يختص بيوم النحر حتى لو
واعد المبعوث على يده بان يذبح عنه في أول أيام العشر جاز وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى يختص بيوم الحر فالاهداء دم يتحلل به من احرام الحج فيختص بيوم النحر كهدى
109

المتعة والقران وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إن الله تعالى نص في هدى الاحصار على
مكان بقوله حتى يبلغ الهدى محله فالتقييد بالزمان يكون زيادة عليه فلا يثبت بالرأي ثم هذا
بمنزلة دماء الكفارات فإنه يجب للاحلال قبل أوانه ولهذا لا يباح التناول منه ودماء
الكفارات تختص بالحرم ولا تختص بيوم النحر بخلاف دم المتعة والقران فإنه نسك يباح
التناول منه بمنزلة الأضحية إذا عرفنا هذا فنقول إذا بعث بالهدى ثم زال الاحصار فالمسألة
على ثلاثة أوجه إن كان يقدر على ادراك الحج والهدى جميعا فعليه ان يتوجه لأداء الحج
وليس له ان يتحلل بالهدى لان ذلك كان للعجز عن أداء الحج فكان في حكم البدل وقد قدر
على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فسقط اعتبار البدل ويلزمه ان يتوجه فإذا أدرك
هديه صنع به ما شاء لأنه ملكه وقد كان عينه لمقصود وقد استغني عنه وان كأن لا يقدر على
ادراك الحج والهدي جميعا لا يلزمه التوجه لان العجز عن أداء الاعمال لم ينعدم بزوال
الاحصار فكان له ان يتحلل بالهدي وان توجه ليتحلل باعمال العمرة فله ذلك لأنه فائت الحج
وفائت الحج يتحلل باعمال العمرة وله في هذا التوجه غرض وهو أن لا يلزمه قضاء العمرة
وأما إذا قدر على ادراك الحج ولم يقدر على ادراك الهدى وإنما يتصور هذا عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لا عندهما لان عندهما هذا الهدى يختص بيوم النحر فلا يتصور ادراك الحج
دون الهدى ثم في القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يلزمه أن يتوجه وليس له أن
يتحلل بالهدى وهو قول زفر رحمه الله تعالى لان العجز عن أداء الاعمال قد ارتفع بزوال
الاحصار وقد بينا أن حكم البدل يسقط اعتباره إذا قدر على الأصل فيلزمه أن يتوجه ولكنه
استحسن فقال له أن يتحلل بالهدى لأنه لو توجه ضاع ماله فان الهدى ملكه جعله لمقصود
وهو التحلل فإن كأن لا يدركه ولا يتحلل به يضيع ماله وحرمة المال كحرمة النفس فكما
كان الخوف على نفسه عذرا له في التحلل فكذلك الخوف على ماله والأفضل له أن يتوجه
لأنه أقرب إلى الوفاء بما وعد وهو أداء ما شرع فيه (قال) وكذلك المرأة تحرم بالحج
وليس لها محرم ولا زوج يخرج معها فهي بمنزلة المحصر وهذا بناء على أن المرأة لا يجوز لها
أن تخرج لسفر الحج الا مع محرم أو زوج عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا وجدت
رفقة نساء ثقات فلها أن تخرج وإن لم تجد محرما واحتج في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم
فسر الاستطاعة بالزاد أو الراحلة فاشتراط المحرم يكون زيادة على النص ومثل هذه الزيادة
110

تعدل عندكم النسخ ثم هذا سفر لإقامة الفرض فلا يشترط فيه المحرم كسفر الهجرة فان التي
أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دار الاسلام بغير محرم وهذا لان شرائط إقامة الفرض
ما يكون في وسع المرء عادة ولا ولاية لها على المحرم في احرامه ولا يجب على المحرم الخروج
معها وليس عليها أن تتزوج لأجل هذا الخروج بالاتفاق فعرفنا أن المحرم ليس بشرط إلا أن
عليها أن تتحرز عن الفتنة وفي اختلاطها بالرجال فتنة وهي تستوحش بالوحدة فتخرج مع رفقة
نسوة ثقات لتستأنس بهن ولا تحتاج إلى مخالطة الرجال وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها الا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها فقام رجل فقال إن
ى أريد الخروج في غزوة كذا وان امرأتي تريد الحج فماذا أصنع فقال صلى الله عليه وسلم
أخرج معها لا تفارقها ففي هذا دليل على أنهم فهموا من السفر الذي ذكره سفر الحج حتى قال
السائل ما قال وفى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوج بأن يترك الغزو ويخرج معها دليل
على أنه ليس لها أن تخرج الا مع زوج أو محرم والمعني في ذلك أنها تنشئ سفرا عن اختيار فلا
يحل لها ذلك الا مع زوج أو محرم كسائر الاسفار بخلاف المهاجرة فإنها لا تنشئ سفرا
ولكنها تقصد النجاة. ألا ترى أنه لو وصلت إلى جيش من المسلمين في دار الحرب حتى
صارت آمنة لم يكن لها أن تسافر بعد ذلك من غير محرم ولأنها مضطرة هناك لخوفها على
نفسها. ألا ترى أن العدة هناك لا تمنعها من الخروج وهنا لو كانت معتدة لم يكن لها أن
تخرج للحج وتأثير فقد المحرم في المنع السفر كتأثير العدة فإذا منعت من الخروج
لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقد المحرم وهذا لأن المرأة عرضة للفتنة وباجتماع
النساء تزداد الفتنة ولا ترتفع إنما ترتفع بحافظ يحفظها ولا يطمع فيها وذلك المحرم وتفسيره
من لا يحل له نكاحها على التأييد بسبب قرابة أو رضاع أو مصاهرة. ألا ترى أنه يجوز له أن
يخلو بها لأنه لا يطمع فيها إذا علم أنه محرمة عليه أبدا فكذلك يسافر بها (قال) ويستوى
أن يكون المحرم حرا أو مملوكا مسلما أو كافرا لان كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه إلا أن
يكون مجوسيا فحينئذ لا تخرج معه لأنه يعتقد اباحتها له فلا ينقطع طمعه عنها فلهذا لا تسافر
معه ولا يخلو بها إذا عرفنا هذا فنقول إذا لم تجد المحرم وقد أحرمت بحجة الاسلام فهي ممنوعة
من الخروج شرعا فصارت كالمحصر تبعث بالهدى فتتحلل به وان كانت ذات زوج وأرادت
111

أن تخرج لحجة الاسلام مع المحرم فليس للزوج أن يمنعها من الخروج عندنا وقال الشافعي رحمه
الله تعالى له أن يمنعها من الخروج لأنها صارت كالمملوكة له بعقد النكاح وثبت له حق الاستمتاع
بها فهي بهذا الخروج تحول بين الزوج وبين حقه أو تلزمه مشقة السفر فكان له أن يمنعها
من ذلك كما يمنعها من الخروج لزيارة الأقارب وكما يمنعها من الخروج لحجة التطوع لكنا نقول
فرض الحج يتوجه عليها باستجماع الشرائط فكان ذلك مستثنى من حق الزوج وبسبب عقد
النكاح لا يثبت عليها للزوج ولاية المنع من أداء الفرائض ألا ترى أنه لا يمنعها من صيام
شهر رمضان والمولى لا يمنع مملوكه من أداء الصلاة لان ذلك مستثنى من حقه فهذا مثله
بخلاف ما إذا لم تجد محرما فان هناك الفرض لم يتوجه عليها لانعدام شرائطه حتى لو كانت
لا تحتاج إلى سفر بان كان بينها وبين مكة دون مسيرة ثلاثة أيام فليس للزوج أنه يمنعها
وإن لم تجد محرما لان اشتراط المحرم للسفر لا لما دونه وأما حج التطوع فالخروج لأجله
لم يصر مستثنى من حق الزوج لان ذلك ليس بفرض عليها فإذا أحرمت بحجة التطوع
كان للزوج أن يمنعها ويحللها إلا أن هنا لا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدى ولكن يحللها
من ساعته وعليها هدى لتعجيل الاحلال وعمرة وحجة لصحة شروعها في الحج بخلاف
حجة الاسلام لان هناك لا تتحلل الا بالهدى لان هناك لا حق للزوج في منعها لو وجدت
محرما وإنما تعذر عليها الخروج لفقد المحرم فلا تتحلل الا بالهدى وهنا تعذر الخروج لحق
الزوج وكما لا يكون لها أن تبطل حق الزوج لا يكون لها أن تؤخر حق الزوج فكان له أن
يحللها من ساعته وتحليله لها أن ينهاها ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها في الاحرام من قص
ظفر ونحوه ولا يكون التحليل بالنهي ولا بقوله حللتك لان عقد الاحرام قد صح فلا يصح
الخروج الا بارتكاب محظوره وذلك لا يحصل بقوله حللتك وهو نظير الصوم إذا صح
الشروع فيه لا يصير خارجا الا بارتكاب محظوره حتى أن الزوج لو نهاها عن صوم التطوع
لا تصير خارجة عن الصوم بمجرد نهيه وكذلك المملوك يهل بغير إذن مولاه فللمولى أن يحلله لقيام
حقه في خدمته ومنافعه والمملوك في هذا كالزوجة في حجة التطوع على ما بينا (قال) والمحصر
بالحج إذا بعث بهديين حل بأولهما لأنه ما لزمه للتحلل الا هدى واحد والأول منهما معين
لأداء الفرض والثاني يكون تطوعا والاحلال لا يتوقف على هدى التطوع (قال) وان حل
المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم لا حلاله لأنه حل قبل أوانه كما قال الله تعالى ولا تحلقوا
112

رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه لان ذبح الهدى متعين
للتحلل فلا يحل بغيره كطواف الزيارة لما كان متعينا للاحلال به في حق النساء لا يحصل
الاحلال بغيره (قال) وإن كان المحصر معسرا لم يحل أبدا الا بدم الآن الدم متعين
لاحلاله بالنص كما أن طواف الزيارة متعين لاحلاله في حق النساء فكما لا يحصل الاحلال
بغيره هناك فكذلك هذا وكان عطاء رحمه الله تعالى يقول إذا عجز عن الهدى نظر إلى قيمة
الهدى فجعل ذلك طعاما يطعم به المساكين كل مسكين نصف صاع أو يصوم مكان طعام
كل مسكين يوما فيتحلل به بمنزلة الهدى في جزاء الصيد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى
في الأمالي وهذا أحب إلى وللشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان أحدهما هكذا والثاني أنه إذا
عجز عن الهدي صام مكانه عشرة أيام على قياس هدي المتعة لكنا نقول هذا كله قياس
المنصوص على المنصوص ولا يجوز ذلك بل المرجع في كل موضع إلى ما وقع التنصيص
عليه ولا يجوز العدول عنه إلى غيره (قال) وكل شئ صنعه المحصر قبل أن يحل فهو بمنزلة
المحرم الذي ليس بمحصر وكذلك أن ذبح عن المحصر هديه في غير الحرم فإنه يبقى حراما
على حاله حتى يبعث بهدى فيذبح عنه في الحرم وإن كان قد حل قبل ذلك فعليه دم لا حلاله
سواء كان عالما به أو لم يكن عالم (قال) ويجزئه في هدى الاحصار الجذع العظيم من الضأن
والثني من غيرها لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما استيسر من الهدى شاة
وعن جابر رضى عنه قال أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سبعة من الصحابة في
بدنة عام الحديبية فتبين بهذا أن الواجب هنا ما يجزى في الضحايا والذي يجزي في الضحايا
ما سمينا فكذا هنا وان سرق الهدي بعد ما ذبح عنه فليس عليه شئ لأنه بلغ محله فان أكل
منه الذي ذبحه بعد ما ذبح فهو ضامن لقيمة ما أكل يتصدق به عن المحصر لان النبي
صلى الله عليه وسلم قال للمبعوث على يده لا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا ولأنه قد
لزمه التصدق بجميع اللحم عن المحصر فإذا أكل منه شيئا كان ضامنا بدله وحكم البدل حكم
المبدل فعليه أن يتصدق ببدله عن المحصر أيضا (قال) وان قدم مكة قارنا فطاف وسعى
لعمرته وحجته ثم خرج إلى بعض الآفاق قبل أن يقف بعرفة فأحصر فإنه يبعث بالهدي
ويحل به وعليه حجة وعمرة مكان حجته وليس عليه عمرة مكان عمرته لأنه فرغ من عمرته
حين طاف لها وسعى وإنما بقي عليه للعمرة الحلق أو التقصير فلهذا لا يبعث بهدى لأجل
113

العمرة وإنما يبعث بالهدى للتحلل عن احرام الحج فان قيل أليس انه طاف وسعى لحجته
فينبغي أن يكفيه ذلك للتحلل كما في فائت الحج قلنا ما أتى به من الطواف لم يكن واجبا بل
كان ذلك طواف التحية ولا يجوز أن يتحلل بمثله فلهذا يبعث بالهدى للتحلل من الاحرام
للحج ولهذا كان عليه قضاء عمرة لان ذلك الطواف والسعي صار وجوده كعدمه في حكم
الاحصار فعليه عمرة وحجة وعليه دم لتقصيره في غير الحرم وهذا الدم إنما يلزمه عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان عندهما الحلق للعمرة يتوقت بالحرم خلافا لأبي يوسف
رحمه الله تعالى وقد بينا هذا (قال) فإذا وقف بعرفة ثم أحصر لم يكن محصرا لان معنى
قوله تعالى فان أحصرتم أي منعتم عن اتمام الحج والعمرة وقال صلى الله عليه وسلم من
وقف بعرفه فقد تم حجه فإنما منع هذا بعد الاتمام فلهذا لا يكون محصرا ولان حكم
الاحصار إنما يثبت عند خوف الفوت وبعد الوقوف بعرفة لا يخاف الفوت فلا يكون
محصرا ولكنه يبقى محرما إلى أن يصل إلى البيت فيطوف طواف الزيارة وطواف الصدر
ويحلق أو يقصر وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة ولرمى الجمار دم ولتأخير الطواف دم
ولتأخير الحلق دم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
ليس عليه لتأخير الحلق والطواف شئ وقد تقدم بيان هذه الفصول فان قيل أليس انكم قلتم
إذا ازدادت عليه مدة الاحرام يثبت حكم الاحصار في حقه وقد ازدادت مدة الاحرام هنا
فلما ذا لا يثبت حكم الاحصار في حقه قلنا لا كذلك فإنه يتمكن من التحلل بالحلق الا من
النساء وإن كان يلزمه بعض الدماء فلا يتحقق العذر الموجب للتحلل هنا (قال) وإذا قدم
مكة فأحصر بها لم يكن محصرا وذكر علي بن الجعد عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى قال سألت
أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن المحرم يحصر في الحرم فقال لا يكون محصرا فقلت أليس أن النبي
صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية وهي من الحرم فقال إن مكة يومئذ كانت دار الحرب فأما
اليوم فهي دار الاسلام فلا يتحقق الاحصار فيها قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وإنما أنا أقول
إذا غلب العدو على مكة حتى حالوا بينه وبين البيت فهو محصر والأصح أن يقول إذا كان
محرما بالحج فان منع من الوقوف وطواف الزيارة جميعا فهو محصر وإن لم يمنع من أحدهما
لا يكون محصرا لأنه إن لم يكن ممنوعا من الطواف يمكنه أن يصبر حتى يفوته الحج فيتحلل
بالطواف والسعي وإن لم يكن ممنوعا من الوقوف يمكنه أن يقف بعرفة ليتم حجه وإن كان
114

ممنوعا منهما فقد تعذر عليه الاتمام والتحلل بالطواف فيكون محصرا كما لو أحصر في الحل
(قال) رجل أهل بعمرتين معا فسار إلى مكة ليقضيهما ثم أحصر قال يبعث بالهدى لواحد
والأصل في هذه المسألة أن نقول من أحرم بعمرتين معا أو بحجتين معا انعقد احرامه بهما
في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى ينعقد
احرامه بأحدهما لان الاحرام غير مقصود لعينه بل لأداء الأفعال به ولا يتصور أداء حجتين
في سنة واحدة ولا أداء عمرتين في وقت واحد والعقد إذا خلا عن مقصوده لا يكون منعقدا
أصلا فإذا خلا أحد العقدين هنا عما هو مقصود لم ينعقد الاحرام الا بأحدهما وقاسا بالصوم
والصلاة فان من شرع في صومين في يوم واحد أو في صلاتين بتكبيرة واحدة لا يصير
شارعا الا في أحدهما وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى واضح لان عنده الاحرام
من الأركان ولهذا لا ينعقد الاحرام بالحج في غير أشهر الحج عنده وعند محمد رحمه الله
تعالى وإن كان الاحرام من الشرائط ففي بعض الأحكام جعل من الأركان. ألا ترى أن
فائت الحج ليس له أن يستديم الاحرام إلى أن يؤدى الحج به في السنة القابلة ولو كان من
الشرائط لكان له ذلك كما في الطهارة للصلاة فإذا كان من الأركان فهو بمنزلة سائر الأعمال
لا يتصور اجتماع المثنى منه في وقت واحد كالوقوف لحجتين والطواف لعمرتين وأبو حنيفة
وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا لا تنافي بين العقدين بدليل انه يثبت أحدهما وهما متساويان
والأصل أنه إذا كان منافاة بين العقدين المتساويين أن لا يثبت أحدهما كنكاح الأختين
معا وإذا ثبت أنه لا منافاة انعقد الاحرام ثم أداء الأفعال لا يتصل بالاحرام والتنافي بينهما
في أداء الأفعال وإذا كان أداء الأفعال لا يتصل بالاحرام لا يمنع انعقاد الاحرام بهما بخلاف
الصوم والصلاة فالشروع هناك من الأداء ويتصل به الأداء والوقت معيار الصوم فلا يتصور
أداء الصومين في وقت واحد ثم الاحرام سبب لالتزام الأداء من غير أن يتصل به الأداء
فيكون بمنزلة النذر والنذر بالعمرتين صحيح وقد بينا فيما سبق ان الاحرام من جملة الشرائط
ابتداء وان أعطى له حكم الأركان انتهاء فكان بمنزلة الطهارة فلا تتحقق المنافاة فيه كمن
تطهر لأداء الصلاتين إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله تعالى من عقد احرامه
بهما يصير رافضا لأحدهما لأنه كما فرغ من الاحرام جاء أوان أداء الاعمال والمنافاة متحققة
فيصير رافضا لأحدهما وعليه دم لرفضها ويمضى في الآخر فإن كان أحرم بعمرتين فعليه
115

قضاء العمرة التي رفضها وإن كان احرامه بحجتين فعليه قضاء عمرة وحجة لرفض أحدهما
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يشتغل بالعمل للآخر ففي ظاهر
الرواية كما يسير إلى مكة لأداء الاعمال يصير رافضا لأحدهما وفى الرواية الأخرى ما لم يأخذ
في الطواف لا يصير رافضا لأحدهما لأنه لما لم يتناف الا حرامان ابتداء لا يتنافيان بقاء بل البقاء
أسهل من الابتداء وإنما المنافاة في الاعمال فما لم يشتغل بعمل أحدهما لا يصير رافضا للاخر
وفائدة هذا الاختلاف إنما تظهر فيما إذا أحصر قبل أن يسير إلى مكة فعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى يبعث بهديين للتحلل لأنه محرم باحرامين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
يبعث بهدى واحد لأنه صار رافضا لأحدهما فإنما أحصر وهو حرام بإحرام واحد وعند محمد
رحمه الله تعالى لم ينعقد الا احرام واحد فلا يبعث الا بهدى واحد وإن كان سار إلى مكة ثم
أحصر فإنما يبعث بهدى واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حي سار في عمل الآخر فعليه دم
للرفض ودم آخر للتحلل فاما حكم القضاء فإن كان أهل بعمرتين فعليه قضاء عمرتين وإن كان
أهل بحجتين فعليه قضاء حجتين وعمرتين (قال) رجل أهل بشئ واحد لا ينوى
حجة ولا عمرة ينعقد احرامه مع الابهام لما روى أن عليا وأبا موسى رضي الله عنهما لما قدما
من اليمن قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بم أهللتما قالا أهللنا باهلال كاهلال رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم احرامهما مع الابهام وقد بينا
أن الاحرام بمنزلة الشرط للنسك ابتداء والابهام فيه لا يمنع صحته كالطهارة للصلاة وبعد ما
انعقد الاحرام مبهما فللخروج منه طريقان شرعا إما الحج أو أعمال العمرة فيتخير بينهما ان
شاء خرج عنه بأعمال العمرة وان شاء بأعمال الحج وكان تعيينه في الانتهاء بمنزلة التعيين
في الابتداء فان أحصر قبل أن يعين شيئا فعليه أن يبعث بهدى واحد لأنه محرم بإحرام
واحد فالتحلل عن احرام واحد وعليه قضاء عمرة استحسانا وفى القياس عليه قضاء حجة
وعمرة لان احرامه إن كان للحج فعليه قضاء حجة وعمرة والاخذ بالاحتياط في قضاء
العبادات واجب ولكنه استحسن فقال المتيقن به يصير دينا في ذمته فقط والمتيقن العمرة
ولما كان متمكنا من الخروج عن عهدة هذا الاحرام قبل الاحصار بأداء العمرة فكذلك
بعد الحصار يتمكن من الخروج عن هذه العهدة بأداء العمرة (قال) وإن لم يحصر
فهو على خياره ما لم يطف بالبيت فان طاف بالبيت قبل أن ينوى شيئا فهي عمرة لان طواف
116

العمرة واجب والتحية في الحج ليس بواجب فلا تتحقق المعارضة بين الواجب وبين ما ليس
بواجب فلهذا جعلنا طوافه للعمرة ويحصل التعيين به (قال) وكذلك إذا جامع قبل التعيين
فعليه دم الجماع والمضي في أعمال العمرة وقضاء عمرة لأنه لا يلزمه الا المتيقن به إذا آل الامر إلى أن
يصير دينا والمتيقن هو العمرة فلهذا تعين احرامه للعمرة ولأنه لو تعين للحج وقد أفسدها
بالجماع في هذه السنة فيفوته الحج بصفة الصحة أصلا في هذه السنة وإذا تعين للعمرة
لا يفوته شئ فلهذا تعين احرامه للعمرة (قال) ولو أهل بشئ واحد كما بينا وسمى ثم نسيه
وأحصر بعث بهدى واحد لما بينا انه محرم بإحرام واحد (قال) وإذا تحلل بالهدى فعليه
عمرة وحجة وهذا احتياط وأخذ بالثقة لجواز أن يكون حين أحرم نوى الحج فيلزمه قضاء
عمرة وحجة بخلاف الأول فان هناك يتيقن انه لم ينو الحج عند احرامه ووجوب القضاء عليه
باعتبار نية الحج فإذا تيقن هناك انه لم ينو الحج لا يكون للامر بالاحتياط معنى وهنا هو غير
متيقن فمن الجائز انه حين أحرم نوى الحج فكان هذا أوان الاخذ بالاحتياط فلهذا يحتاط
ويقضى عمرة وحجة والفرق بين ما إذا لم يعين في الابتداء وبين ما إذا عين ثم نسي ظاهر في
المسائل الا ترى ان من أعتق احدى أمتيه بغير عينها لا يجب عليه ان يجتنبهما وبمثله لو أعتق
إحداهما بعينها ثم نسي فعليه ان يجتنبهما الا الا ان يتذكر وكذا إن لم يحصر في هذا الفصل
ولكنه وصل إلى البيت فعليه أن يؤدى عمرة وحجة ويلزمه ما يلزم القارن لأنه يحتمل انه نوى
احرام الحج ويحتمل انه نوى احرام العمرة فيجمع بينهما أخذا بالاحتياط في العبادة الا ترى ان
من نسي صلاة من صلاة اليوم والليلة لا يعرفها يلزمه قضاء صلاة يوم وليلة استحسانا فكذلك
هنا (قال) ولو جامع قبل أن يصل إلى البيت فعليه هدى واحد للجماع لأنه يتقين انه محرم
بإحرام واحد ولكن عليه اتمام عمرة وحجة لان الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن قبل الافساد
عليه عمرة وحجة فكذلك بعد الافساد عليه المضي في عمرة وحجة لأنه لا يخرج من الاحرام
بالافساد قبل أداء الاعمال والفاسد معتبر بالصحيح وليس عليه دم القران لان دم القران إنما
يلزمه عند صحة النسكين (قال) ولو جامع بعد ما نوى ان يجعلها عمرة وحجة ولبي بهما فعليه
دمان لأنه يتيقن بعد ما لبى بهما انه محرم باحرامين بطريقة إضافة أحد الاحرامين إلى الآخر
فعليه دمان للجماع وحكمه في القضاء مثل الأول كما بينا (قال) ولو أهل بشيئين ثم نسيهما
فأحصر بعث بهديين لأنه متيقن انه محرم باحرامين فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان
117

وحجة استحسانا وفى القياس عليه حجتان وعمرتان لان من الجائز انه نوى عند احرامه حجتين
فعليه قضاء عمرتين وحجتين احتياطا ولكنه استحسن فقال فعل المسلم محمول على الصحة
ما أمكن وعلى ما هو الأفضل فلا يحمل على الفساد الا بعد تعذر حمله على الصحة فلو جعلنا
احرامه بحجة وعمرة كان فيه حمل أمره على الصحة وعلى ما هو الأفضل وهو القران ولو
جعلنا احرامه بحجتين كان فيه حمل أمره على الفساد لأنه يتعذر عليه الجمع بينهما أداء
فلهذا جعلناه كالمحرم بالحج والعمرة فإذا تحلل بهديين كان عليه عمرتان وحجة بمنزلة
القارن وإن لم يحصر ووصل إلى البيت فكذلك الجواب يجعل احرامه عمرة وحجة كما يعمل
القارن استحسانا وكان القياس أن يقضى عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران وعليه
دم آخر وحجة وعمرة لان من الجائز أنه كان أحرم بحجتين فعليه دم لرفض إحداهما وقضاء
حجة وعمرة ومن الجائز أنه أحرم بعمرة وحجة فعليه دم القران فقلنا إنه يحتاط من كل
جانب فيقضى عمرته وحجته مع الناس وعليه دم القران لاحتمال أحد الجانبين ثم عليه دم
وقضاء عمرة وحجة لاحتمال الجانب الآخر وإن كان قد أهل بعمرتين فقد أتى باعمال
إحداهما وقضى الأخرى مع قضاء الحج فيصير خارجا مما عليه بيقين هذا هو القياس ولكنه
استحسن فجعله قارنا حملا لامره على الصحة وعلى ما يفعله الناس ثم عليه دم وقضاء عمرة
وحجة وكذلك لو جامع فيهما وهو بمنزلة القارن إذا جامع استحسانا لان الفاسد معتبر
بالصحيح والله أعلم بالصواب
باب الجماع
(قال) وإذا جامع الرجل امرأته وهما مهلان بالحج قبل أن يقفا بعرفة فعلى كل واحد
منهما شاة ويمضيان في حجتهما وعليهما الحج من قابل هكذا روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه سئل عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج قال بريقان دما ويمضيان في حجتهما وعليهما
الحج من قابل وهكذا روى عن الصحابة عمر وعلى وابن مسعود رضي الله عنهم ولكنهم
قالوا إذا رجعا للقضاء يفترقان معناه ان يأخذ كل واحد منهما في طريق غير طريق
صاحبه ومالك رحمه الله تعالى أخذ بظاهر هذا اللفظ فقال كما خرجا من بيتهما فعليهما أن
يفترقا ولكن هذا بعيد من الفقه فان له أن يواقعها ما لم يحرما والافتراق للتحرز عن المواقعة
118

فلا معنى للامر بالافتراق في وقت تحل المواقعة بينهما فيه وزفر رحمه الله تعالى يقول يفترقان
من وقت الاحرام لان الافتراق نسك بقول الصحابة رضي الله عنهم وأوان أدار ما هو
نسك بعد الاحرام وهذا ليس بقوى فان الافتراق ليس بنسك في الأداء فلا يكون نسكا
في القضاء لان القضاء بصفة الأداء وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا قربا من الموضع الذي
جامعها فيه يفترقان لأنهما لا يأمنان إذا وصلا إلى ذلك الموضع أن تهيج بهما الشهوة فيواقعها
فيفترقان للتحرز عن هذا وهذا ليس بصحيح أيضا لأنه إنما واقعها في السنة الأولى بسبب
النكاح القائم بينهما فلو وجب الافتراق إنما يجب عن النكاح وأحد لا يأمر بهذا ثم إذا بلغا
إلى ذلك الموضع فتأملا فيما لحقهما من المشقة بسبب لذة يسيرة ازدادا ندما وتحرزا عن ذلك
ثانيا لكيلا يصيبهما الآن مثل ما أصابهما في المرة الأولى ولكنا نقول مراد الصحابة
رضي الله عنهم انهما يفترقان على سبيل الندب ان خافا على أنفسهما الفتنة لا أن يكون ذلك
واجبا عليهما كما يندب الشاب الا الامتناع عن التقبيل في حالة الصيام إذا كأن لا يأمن على
نفسه ما سوى ذلك (قال) وان كانا قارنين فعلى كل واحد منهما شاتان لان كل واحد
منهما محرم باحرامين وعلى كل واحد منهما قضاء عمرة وحجة إن لم يكن طاف بالبيت قبل
المواقعة وقد سقط دم القران عنهما لفساد نسكهما وان لزمهما المضي في الفاسد لان هذا
دم نسك فلا يجب الا على من جمع بين الحج والعمرة بصفة الصحة وإن كان طاف بالبيت
قبل الجماع فكذلك الجواب في أنه يجب عليه دمان لان بالطواف لم يتحلل عن احرام العمرة
ما لم يحلق ولكن ليس عليه قضاء العمرة هنا لأنه إنما جامع بعد ما أدى عمرته لان ركن العمرة
هو الطواف فلم تفسد عمرته بهذا وإنما فسد حجه فعليه قضاؤه وقد سقط عنه دم القران
بفساد أحد النسكين وان جامع بعد ما وقف بعرفة لم يفسد واحد من النسكين عندنا وقد
بينا هذا ولكن عليه جزور لجماعه بعد الوقوف في احرام الحج وشاة لجنايته على احرام
العمرة وعليه دم القران لأنه أدى النسكين بصفة الصحة (قال) وإذا جامع الحاج بعدما
وقف بعرفة فأهدى جزورا ثم جامع بعد ذلك فعليه شاة لأنه دخل احرامه نقصان بالجماع
الأول فالجماع الثاني صادف احراما ناقصا فيكفيه شاة بخلاف الجماع في المرة الأولى فان
هناك صادف احراما تاما فكان عليه جزور (قال) وان طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة
بعد ما حلق أو قصر ثم جامع فليس عليه شئ لان أكثر أشواط الطواف في حكم التحلل
119

كجميع الطواف فكما أنه لو أتم الطواف تحلل في حق النساء فكذلك إذا أتى بأكثر
أشواط الطواف وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا طاف جنبا ثم جامع بعد
قبل الإعادة في القياس لا شئ عليه كما لو طاف محدثا لان التحلل يحصل بطواف الجنب وفى
الاستحسان عليه دم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين ذلك والفرق ما بينا أن طواف
الجنب غير معتد به الا في حكم التحلل ولهذا لو أعاده انفسخ الأول بالثاني في أصح
الطريقين فصار في المعنى كالجماع قبل الطواف وهنا ما أتى به من أكثر أشواط الطواف
معتد به على الاطلاق توضيحه أن ما بقي هنا يقوم الدم مقامه فيكون هذا نظير النقصان في
طواف المحدث ولو طاف محدثا ثم جامع لم يلزمه شئ بخلاف ما إذا طاف جنبا فان الواجب
هناك لا يجب بمقابلة أصل الطواف عند فوت أدائه وهي البدنة فجماعه في تلك الحالة كجماعه قبل
الطواف وإن لم يكن حلق قبل الطواف حتى جامع بعد ما طاف أربعة أشواط فعليه دم
لارتكاب محظور الاحرام فان التحلل بالطواف لا يحصل إذا لم يحلق (قال) والمس
والتقبيل عن شهوة والجماع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل لا يفسد الاحرام وللشافعي رحمه
الله تعالى قول أنه إذا اتصل به الانزال يفسد به الاحرام على قياس الصوم فإنه يفسد بالتقبيل
إذا اتصل به الانزال ولكنا نقول فساد الاحرام حكم متعلق بعين الجماع ألا ترى أن بارتكاب
سائر المحظورات لا يفسد وما تعلق بعين الجماع من العقوبة لا يتعلق بالجماع فيما دون الفرج
كالحد ثم ما يجب هنا أبلغ مما يجب هناك وهو القضاء فيكون قياس الكفارة في الصوم ولا
يجب بالجماع فيما دون الفرج الكفارة هناك فكذلك لا يجب هنا القضاء ولكن عليه دم
أما إذا أنزل فغير مشكل وكذلك إذا لم ينزل عندنا وللشافعي رحمه الله تعالى قول أنه
لا يلزمه شئ إذا لم ينزل على قياس الصوم فإنه لا يلزمه شئ إذا لم ينزل بالتقبيل فكذلك
في الحج ولكنا نقول الجماع فيما دون الفرج من جملة الرفث فكان منهيا عنه بسبب
الاحرام وبالاقدام عليه يصير مرتكبا محظور احرامه فيلزمه الدم وهكذا ينبغي في الصوم
إلا أن الشرع ورد بالرخصة في التقبيل هناك ثم المحرم هناك قضاء الشهوة ولا يحصل ذلك
بالتقبيل بدون الانزال وهنا المحرم الجماع بدواعيه والتقبيل من جملتها. ألا ترى أن التطيب
محرم هنا ولا يحرم هناك (قال) والنظر لا يوجب على المحرم شيئا وان أنزل لان
النظر بمنزلة التفكر إذا لم يتصل منه صنع بالمحل ولو تفكر فأمنى لا يلزمه شئ فكذلك إذا
120

نظر (قال) وحكم الجماع في الحج والعمرة واحد إذا كان عن نسيان أو عمد أو في حال
نوم أو اكراه أو طوع الا في الاثم أما الناسي عندنا يفسد نسكه بالجماع ويلزمه ما يلزم العامد
إلا أنه لا يأثم بعذر النسيان وللشافعي رضي الله عنه قول انه لا يفسد النسك بجماع الناسي على
قياس الصوم ولكنا نقول هذا الحكم تعلق بعين الجماع وبسبب النسيان لا ينعدم عين الجماع
وهذا لأنه قد اقتران بحالة ما يذكره وهو هيئة المحرمين فلا يعذر بالنسيان كما في الصلاة إذا
أكل أو شرب بخلاف الصوم فإنه لم يقترن بحالة ما ذكره فجعل النسيان فيه عذرا في المنع من
افساد الصوم بخلاف القياس (قال) وان كانت نائمة أو مكرهة يفسد حجها عندنا ولا يفسد
عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أصله ان الاكراه متى أباح الاقدام أعدم أصل الفعل من
المكره في الاحكام والنوم يعدم أصل الفعل من النائم ولهذا قال لا يفسد الصوم بهذا الفعل
في حالة الاكراه أو النوم فكذلك الاحرام وعندنا تأثير الاكراه والنوم في دفع المأثم لا في
اعدام أصل الفعل ألا ترى أنه يلزمه الاغتسال ويثبت به حرمة المصاهرة فكذلك يتعلق
به فساد النسك ويستوى إن كان الزوج محرما أو حلالا بالغا أو صغيرا عاقلا أو مجنونا أو تكون
المرأة مجنونة أو صغيرة لان فساد النسك متعلق بعين الجماع وذلك لا ينعدم بالجنون والصغر
إذا كان يجامع مثله وإنما قلنا إنه يتعلق بعين الجماع لان المنهى عنه في الاحرام الرفث والرفث
اسم الجماع قال (رجل) أهل بعمرة وجامع فيها ثم أحرم بأخرى ينوى قضاءها قال هي هي لأنه
بالجماع وان فسد نسكه فقد لزمه المضي في الفاسد ولا يخرج من الاحرام الا بأداء الاعمال
فنيته في الاحرام بالاهلال الثاني لغو لأنه ينوى ايجاد الموجود ونية القضاء كذلك فان
الاحرام الواحد لا يتسع للقضاء والأداء فكان عليه دم للجماع ويفرغ منها وعليه عمرة وكذلك
هذا الحكم لو كان مهلا بالحجة (قال) وان جامع في العمرة قبل الطواف ثم أضاف إليها حجة
يقضيهما جميعا لان إضافة الحج إلى العمرة الصحيحة جائز فإلى العمرة الفاسدة أولى وليس عليه
دم القران لفساد أحد النسكين وكذلك يسقط عنه دم ترك الوقت إذا أفسد بعد ما أحرم
به يعنى إذا جاوز الميقات حلالا ثم أحرم بعمرة أو حجة فعليه دم لترك الاحرام من الميقات
فان أفسدها بالجماع سقط عنه هذا الدم لأنه وجب عليه قضاء النسك فيعود فيحرم من الميقات
ولان الدم إنما يلزمه بترك الاحرام من الميقات لأنه يؤدى النسك بهذا الاحرام ولم يتأد
نسكه بهذا الاحرام حين أفسده ولهذا لزمه قضاؤه (قال) المحرم بالعمرة إذا جامع النساء
121

ورفض احرامه وأقام حلالا يصنع ما يصنع الحلال من الطيب والصيد وغيره فعليه أن
يعود حراما كما كأن لان بافساد الاحرام لم يصر خارجا منه قبل أداء الاعمال وكذلك بنية
الرفض وارتكاب المحظورات فهو محرم على حاله إلا أن عليه بجميع ما صنع دم واحد لما بينا
أن ارتكاب المحظورات استند إلى قصد واحد وهو تعجيل الاحلال فيكفيه لذلك دم واحد
وعليه عمرة مكان عمرته لأنها لزمنه بالشروع والأداء بصفة الفساد لا ينوب عما لزمه بصفة
الصحة فعليه قضاؤها والله سبحانه وتعالى أعلم
باب الدهن والطيب
(اعلم) بأن المحرم ممنوع من استعمال الدهن والطيب لقوله صلى الله عليه وسلم الحج الشعث
النفل وقال يأتون شعثا غبرا من كل فج عميق واستعمال الدهن والطيب يزيل هذا الوصف
وما يكون صفة العبادة يكره ازالته الا ان في ظاهر الرواية قال إن استعمل الطيب في عضو
كامل يلزمه الدم وقد فسره هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال كالفخذ والساق ونحوهما
وان استعمله فيما دون ذلك فعليه الصدقة وعلى قول محمد رحمه الله تعالى عليه بحصته من الدم
وقال الشعبي رحمه الله تعالى القليل والكثير من الطيب سواء في وجوب الدم به لان
رائحة الطيب توجد منه سواء استعمل القليل أو الكثير ولكنا نقول الجزاء إنما يجب
بحسب الجناية وإنما تتكامل الجناية بما هو مقصود من قضاء التفث والمعتاد استعمال الطيب
في عضو كامل فتم به جنايته وفيما دون ذلك في جنايته نقصان فتكفيه الصدقة ومحمد رحمه
الله تعالى يوجب بحصنه من الدم اعتبارا للجزء بالكل كما هو أصله وذكر في المنتقى إذا طيب
شاربه أو طرفا من أطراف لحيته دون الربع فعليه الصدقة وان استعمل الطيب في ربع رأسه
فعليه الدم وكذلك في ربع عضو آخر وجعل الربع بمنزلة الكمال على قياس الحلق ثم الدهن
إذا كان مطيبا كدهن البان والبنفسج والزنبق فهو طيب يجب باستعماله الدم وكذلك إذا كان
الدهن قد طبخ وجعل فيه طيب فاما إذا ادهن بزيت أو بخل غير مطبوخ فعليه الدم
عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة وقال الشافعي
رحمه الله تعالى لو استعمله في الشعر فعليه دم وان استعمله في غيره لم يلزمه شئ لان استعمال
الدهن في الشعر يزيل الشعث فيكون من قضاء التفث واما في غير الشعر ليس فيه معنى
122

قضاء التفث ولا معنى استعمال الطيب لان الدهن مأكول وليس بطيب فيكون قياس الشحم
والسمن وبهذا يحتج أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولكنهما قالا استعمال الدهن يقتل
الهوام فيكون فيه بعض الجناية فيلزمه الصدقة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الدهن
أصل الطيب فان الروائح تلقى في الدهن فيصير تاما فيجب باستعمال أصل الطيب ما يجب
باستعمال الطيب كما إذا كسر المحرم بيض الصيد يلزمه اجزاء كما يجب بقتل الصيد (قال)
وإذا دهن شقاق رجله بزيت أو شحم أو سمن لم يكن عليه شئ لان قصده التداوي والتداوي
غير ممنوع منه في حال الاحرام ولأنه لو أكله لم يلزمه شئ فان دهن به شقاق
رجله أولى (قال) ويكره للمحرم أن يشم الطيب والزعفران هكذا روى عن عمر وجابر
رضي الله عنهما وكان ابن عباس رضي الله عنه لا يرى به بأسا لأنه إنما يحرم عليه مس الطيب
وهو لم يمسه وان شم رائحته كمن اجتاز في سوق العطارين لم يكره له ذلك وإن كان محرما
مع أن الريحان من جملة نبات الأرض لا من الطيب فهو كالتفاح والبطيخ ونحوهما ولكنا
نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لان في الطيب معنى الرائحة واستعمال عين الطيب غير مقصود
بل المقصود من الطيب رائحته فما يوجد منه رائحة الطيب يكره للمحرم أن يشمه لان ذلك
من قضاء التفث. وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في التفاح هكذا ومن فرق فقال
المقصود هناك الأكل فأما الريحان فليس فيه مقصود سوى رائحته فيمنع منه في حالة الاحرام
ولكن لا يجب عليه شئ لان الاستمتاع لا يتم بمجرد اشتمام الرائحة بمنزلة الجلوس عند العطار
ونحوه وذكر حمران عن ابان عن عثمان رضي الله تعالى عنهم أنه سئل عن المحرم أيدخل
البستان قال نعم ويشم الريحان فهو دليل لمن أخذ بقول ابن عباس رضى الله تعالى عنه (قال)
فإن كان تطيب أو ادهن قبل الاحرام ثم وجد ريحه بعد الاحرام لم يضره وكذلك أن
أجمر ثيابه قبل أن يحرم ثم لبسها بعد الاحرام فلا شئ عليه وذكر هشام عن محمد رحمهما
الله تعالى ان المحرم إذا دخل بيتا قد أجمر فيه فطال مكثه حتى علق ثوبه لا يلزمه شئ ولو
أجمر ثيابه بعد الاحرام فعليه الجزاء لان الاجمار إذا كان في البيت فعين الطيب لم يتصل
بثوبه ولا ببدنه إنما نال رائحته فقط بخلاف ما إذا أجمر ثيابه فان عين الطيب قد علق بثيابه
فإذا كان الاجمار قبل الاحرام لم يكن ممنوعا عن استعمال عين الطيب يومئذ وإنما بقي مع
المحرم رائحته فلا يلزمه شئ (قال) ولا بأس بأن يأكل الطعام الذي فيه الزعفران أو
123

الطيب هكذا روى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه كان يأكل السكباج الأصفر في
احرامه ولان قصده بهذا الطعام التغذي لا التطيب وان أكل الزعفران من غير أن يكون
في الطعام فعليه دم إن كان كثيرا لان الزعفران لا يتغذى به كما هو وإنما يجعل تبعا للطعام
ومن أكل الزعفران كما هو يضحك حتى يموت فكان هو بالأكل مطيبا فمه بالزعفران
وهو عضو فيلزمه الدم فأما إذا جعل في الطعام فقد صار مستهلكا فيه أن كان في طعام قد
مسته النار وإن كان في طعام لم تمسه النار مثل الملح وغيره فلا بأس به أيضا لأنه صار مغلوبا
فيه والمغلوب كالمستهلك إلا أن يكون الزعفران غالبا على الملح فحينئذ هو والزعفران البحت
سواء وان مس طيبا فان لزق بيديه تصدق بصدقة إلا أن يكون ما لزق بيديه كثيرا فحينئذ
يلزمه الدم وقد بينا حد الكثير فيه وإن لم يلتزق به شئ فلا شئ عليه بمنزلة ما لو اجتاز في
سوق العطارين وان استلم الركن فأصاب فمه أو يده خلوق كثير فعليه دم وإن كان قليلا فعليه
صدقة إذ لا فرق بين أن يكون الخلوق التزق به من الركن أو من موضع آخر (قال)
ولا بأس بأن يكتحل المحرم بكحل ليس فيه طيب فإن كان فيه طيب فعليه صدقة إلا أن
يكون كثيرا فعليه الدم لان الكحل ليس بطيب فلا يمنع من استعماله وإن كان فيه طيب
فتتفاوت الجناية باستعماله من حيث القلة والكثرة كما في سائر الأعضاء وإن كان من أذى
فعليه أي الكفارات الثلاث شاء لما بينا أن فيما يجب فيه الدم على المحرم إذا لم يكن معذورا
فإن كان عن عذر وضرورة يتخير بين الكفارات الثلاث وكذلك لو تداوى بدواء فيه طيب
فألزقه بجراحه أو شرب شرابا لان التداوي يكون عن ضرورة وان داوى قرحة بدواء
فيه طيب فألزقه بجراحه ثم خرجت به قرحة أخرى والأولى على حالها فداوى الثانية مع
الأولى فليس عليه الا كفارة واحدة فكأنه فعل الكل دفعة واحدة إذا لم تبرأ الأولى
لان الجنايات استندت إلى سبب واحد (قال) وللمحرم أن يبط القرحة ويجبر الكسر
ويعصب عليه وينزع ضرسه إذا اشتكى ويحتجم ويغتسل ويدخل الحمام لان هذا كله من
باب المعالجة فالمحرم والحلال فيه سواء. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو
صائم محرم بالقاحة ودخل عمر رضى الله تعالى عنه الحمام بالجحفة وهو محرم (قال) وان
غسل رأسه ولحيته بالخطمي فعليه دم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى قول أبى يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى عليه صدقة لان الخطمي ليس بطيب بل هو كالأشنان يغسل به
124

رأسه ولكنه يقتل الهوام فلذلك يلزمه الصدقة وروى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
قال لا يلزمه شئ قالوا وتأويل تلك الرواية انه إذا غسل رأسه بالخطمي بعد الرمي يوم النحر
فاما قبل ذلك يلزمه الصدقة عنده وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الخطمي من الطيب فان
له رائحة وإن لم تكن زكية وهو يقتل الهوام أيضا فتتكامل الجناية باعتبار المعنيين فلهذا يلزمه
الدم (قال) وان خضبت المحرمة بالحناء يدها فعليها دم لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهي المعتدة ان تختضب بالحناء وقال الحناء طيب ولان له رائحة مستلذة وإن لم تكن زكية
وان خضب رأسه بالوسمة رجل أو امرأة فلا دم عليه لان الوسمة ليست بطيب إنما تغير لون
الشعر الا انه روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى انه إذا خضب رأسه بالوسمة فعليه دم لا
للاخضاب ولكن لتغطية الرأس به وهذا هو الصحيح (قال) وان خضب لحيته به فليس
عليه دم ولكن ان خاف ان يقتل الهوام أطعم شيئا لان فيه معنى الجناية من هذا الوجه
ولكنه غير متكامل فتلزمه الصدقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
باب ما يلبسه المحرم من الثياب
(قال) ولا بأس بان يلبس المحرم القباء ويدخل فيه منكبيه دون يديه عندنا وقال زفر
رحمه الله تعالى ليس له ذلك لان القباء مخيط فإذا أدخل فيه منكبيه صار لا بسا للمخيط فان
القباء يلبس هكذا عادة ولكنا نقول لبس القباء إنما يحصل بادخال اليدين في الكمين فإذا
لم يفعل ذلك كان واضعا القباء على منكبيه لا لابسا وهذا لأنه في معنى لبس الرداء لأنه يحتاج إلى
تكلف حفظه على منكبيه عند اشتغاله بعمل كما يحتاج إليه لابس الرداء اما إذا أدخل يديه
في كميه فلا يحتاج في حفظه على نفسه عند الاشتغال بالعمل فيكون لابسا للمخيط وكذلك أن
زره عليه كأن لابسا لأنه لا يحتاج إلى تكلف حفظه عليه بعد ما زره فان فعل ذلك يوما
أو أكثر فعليه دم وهكذا روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله
تعالى إذا لبس المخيط لزمته الكفارة وإن كان في ساعة واحدة لان لبس المخيط محظور
الاحرام فيصير هو مرتكبا محظور الاحرام فيلزمه الدم وان فعله في ساعة واحدة كالتطيب
ولكنا نقول إنما تتم جنايته بلبس مقصود واللبس المقصود في الناس عادة يكون في يوم
كامل فان من أصبح يلبس الثياب ثم لا ينزعها إلى الليل فإذا لبس في هذه المدة تكاملت
125

الجناية باستمتاع مقصود وفيما دون ذلك لم تتكامل جنايته باستمتاع مقصود فتكفيه صدقة
الا ان أبا حنيفة رحمه لله تعالى كأن يقول أولا قد يرجع المرء إلى بيته قبل الليل فينزع
ثيابه التي لبسها للناس فكان للبس في أكثر اليوم استمتاعا مقصودا عادة والأكثر ينزل
منزلة الكمال (قال) ولا بأس بأن يلبس الخز والبرود إذا لم يكن مخيطا كما كان يفعله في
غير الاحرام الا انه لا يلبس البرد المصبوغ بالعصفر أو الزعفران أو الورس فقد روى
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المزعفر والمورس في
حالة الاحرام وكذلك المصبوغ بالمعصفر عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس به
لما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى على عبد الله بن جعفر رضي الله عنه رداء معصفرا
في احرامه فأنكر عليه ذلك فقال علي رضي الله عنه ما أرى أحدا يعلمنا السنة ولان
العصفر ليس بطيب فهو قياس ثوب هروى ولا بأس للمحرم أن يلبسه ولكنا نستدل
بحديث عائشة رضي الله عنها فإنها كرهت لبس المعصفر في الاحرام وكذلك عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنكر على طلحة الرداء المعصفر حتى قال لا تعجل يا أمير المؤمنين فإنه
ممشق ولان العصفر له رائحة وإن لم تكن زكية فكان بمنزلة الورس والزعفران وتأويل
حديث عبد الله رضي الله عنه أنه كان قد غسل وصار بحيث لا ينفض قد عرف عبد الله
ابن جعفر ذلك ولم يعرفه عثمان رضي الله عنه أو كان ذلك مصبوغا بمدر على لون العصفر
وقد عرف ذلك علي رضي الله عنه ولم يعرفه عثمان فلهذا قال ما قال فأما المصبوغ على لون
الهروي وهو أدمى اللون ليس له رائحة فكان قياس المعصفر إذا غسل حتى صار بحيث
لا ينفض وقد بينا هناك أنه لا يلزمه شئ فهذا مثله ثم التقدير في ايجاب الدم عند لبس
المصبوغ بنحو ما بينا في لبس القباء وكذلك لو لبس قميصا أو سراويل أو قلنسوة يوما إلى
الليل فعليه دم وإن كان فيما دون ذلك فعليه صدقة كما بينا وإنما أراد بهذا إذا لبسه على الوجه
المعتاد اما إذا ائتزر بالسراويل أو ارتدى بالقميص أو اتشح به فلا شئ عليه لأنه يحتاج إلى
تكلف حفظه على نفسه عند اشتغاله بالعمل فلا يكون لابسا للمخيط وأما في القلنسوة
فلتغطية الرأس بها يلزمه الجزاء وقد بينا أن المحرم ممنوع عن تغطية الرأس وقد ذكر هشام
عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا لم يجد الإزار ففتق السراويل الا موضع التكة فلا بأس
حينئذ بلبسه بمنزلة المئزر وهو نظير ما ورد به الأثر فيما إذا لم يجد لمحرم نعلين قطع خفيه
126

أسفل من الكعبين ليصير في معنى النعلين وفسر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى الكعب
في هذا الموضع بالمفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك وعلى هذا قال
المتأخرون من مشايخنا لا بأس للمحرم بأن يلبس المشك لأنه لا يستر الكعب فهو بمنزلة
النعلين فان لبس القميص والقلنسوة والقباء والسراويل يوما إلى الليل فعليه دم واحد لان
جنس الجناية واحد والمقصود واحد وهو الاستمتاع بلبس المخيط فعليه دم واحد كما لو
حلق رأسه كله وكذلك أن غطى وجهه يوما فعليه دم وقد بينا فيما سبق أنه ليس للمحرم
أن يغطى وجهه ولا رأسه عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد ورد الأثر بالنهي عن
تغطية اللحية في الاحرام لأنه من الوجه فعرفنا أنه لا يغطى وجهه (قال) ولا بأس بأن
يلبس الهميان والمنطقة يشد بها حقويه فيها نفقته هكذا روى عن عائشة رضي الله عنها أنها
سئلت هل يلبس المحرم الهميان فقالت استوثق من نفقتك بما شئت وفى حديث ابن عباس
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير للمحرم بأسا بأن يعقد الهميان على
وسطه وفيه نفقته وكان مالك رحمه الله تعالى قول إن كان فيه نفقته فلا بأس وإن كان فيه
نفقة غيره كرهت له ذلك لأنه لا حاجة إلى حمل نفقة غيره ولكنا نقول جواز لبس
الهميان والمنطقة باعتبار أنه ليس في معنى لبس المخيط وفي هذا يستوى نفقته ونفقة غيره
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره للمحرم لبس المنطقة المتخذة من الإبريسم فقيل
لأنه في معنى المخيط وقيل هو بناء على أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى في كراهة ما قل
من الحرير وكثر للرجال (قال) ويتوشح المحرم بالثياب ولا يعقد على عنقه لأنه إذا
عقده لا يحتاج في حفظه على نفسه إلى تكلف فكان في معنى لبس المخيط وكذلك
قالوا إذا ائتزر فلا ينبغي له أن يعقد إزاره على نفسه بحبل أو غيره فقد روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شد فوق إزاره حبلا فقال الق ذلك الحبل ويلك
وكذلك يكره له أن يخل رداءه بخلال لأنه لا يحتاج إلى تكلف في حفظه على نفسه ولكنه
مع هذا لو فعل لا شئ عليه لان المحظور عليه الاستمتاع بلبس المخيط ولم يوجد ذلك
(قال) ويكره له أن يعصب رأسه فان فعل يوما إلى الليل فعليه صدقة لأنه غطى بعض
رأسه بالعصابة وهو ممنوع من تغطية الرأس إلا أن ما غطى به جزء يسير من رأسه فتكفيه
الصدقة لعدم تمام جنايته وان عصب شيئا من جسده من علة أو غير علة فلا شئ عليه
127

لأنه غير ممنوع عن تغطية سائر الجسد سوى الرأس والوجه ولكن يكره له أن يفعل ذلك
من غير علة كما يكره شد الإزار وشد الرداء على ما بينا (قال) وان غطى المحرم ربع رأسه
أو وجهه يوما فعليه دم وإن كان دون ذلك فعليه صدقة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن
غطى أكثر رأسه فعليه دم والا فعليه صدقة لان القليل من تغطية الرأس لا تتم به الجناية
والقلة والكثرة إنما تظهر بالمقابلة وهذا أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى في المسائل وفى ظاهر
الرواية الجواب قال ما يتعلق بالرأس من الجناية فللربع فيه حكم الكمال كالحلق وهذا لان
تغطية بعض الرأس استمتاع مقصود يفعله الا تراك وغيرهم عادة بمنزلة حلق بعض الرأس
فاما المحرمة تغطي كل شئ منها الا وجهها وتلبس كل شئ من المخيط وغيره الا الثوب
المصبوغ فان فيما لا حاجة إلى لبسه فهي بمنزلة الرجل وفيما تحتاج إلى لبسه وستره يخالف
حالها حال الرجل وقد بيناه (قال) ولا بأس لها أن تلبس القفازين هكذا روي عن سعد
ابن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يلبس بناته القفازين في الاحرام ولها أن تلبس الحرير
والحلي وعن عطاء رحمه الله تعالى أنه يكره للنساء لبس الحلي في الاحرام والصحيح أنه لا بأس
به وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس نساءه الحلي في حالة الاحرام ورأي
رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتين تطوفان بالبيت وعليهما سواران من ذهب الحديث
فدل أنه لا بأس بذلك (قال) وكل ما يحل للمرأة ان تلبسه في غير حالة الاحرام فكذلك
يحل في حالة الاحرام الا المصبوغ على ما بينا (قال) ولا بأس بان تسدل الخمار على وجهها من
فوق رأسها على وجه لا يصيب وجهها وقد بينا ذلك عن عائشة رضي الله عنها لان تغطية الوجه
إنما يحصل بما يماس وجهها دون مالا يماسه فيكون هذا في معنى دخولها تحت سقف ويكره لها
ان تلبس البرقع لان ذلك يماس وجهها فان لبس المحرم مالا يحل له من الثياب أو الخفاف يوما
أو أكثر من ذلك لضرورة فعليه أي الكفارات شاء وقد بينا فيما سبق ان ما يجب الدم بلبسه
في غير موضع الضرورة إذا لبسه لأجل الضرورة يتخير فيه بين الكفارات ما شاء وذكر في
الرقيات عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين فعليه أي الكفارات
شاء وإذا اضطر إلى لبس قميص فلبس معه عمامة أو قلنسوة فعليه دم في لبس القلنسوة
ويتخير في الكفارات أيها شاء في لبس القميص لان في الفصل الأول زيادة في موضع الضرورة
فلا تكون جناية مبتدأة كما لو اضطر إلى لبس قميص فلبس جبة وفى الفصل الثاني الزيادة في
128

غير موضع الضرورة فكانت جناية مبتدأة فتعلق بها ما هو موجبها (قال) فان لبس المخيط
للضرورة أياما كان ينزع بالليل للنوم لا للاستغناء عن ذلك فهذه كلها جناية واحدة بخلاف
ما إذا نزع لزوال الضرورة ثم اضطر إليه بعد ذلك فلبس فإنه يلزمه كفارة أخرى لان حكم
الضرورة الأولى قد انتهى بالبرء وهو نظير ما تقدم فيمن يداوى القرحة بدواء فيه طيب مرارا
ان عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ فإذا برئ ثم خرجت به قرحة أخرى فداواها بالطيب فهذه
جناية أخرى ولو كان به حمى غب فكان يلبسه يوم الحمى ولا يلبسه في غير ذلك فهذه كلها
جناية واحدة لا يجب بها الا كفارة واحدة لان العلة المحوجة إلى اللبس قائمة أرأيت لو جلس
في الشمس فاستغنى عن لبس المخيط فلما ذهبت الشمس احتاج إلى المخيط فأعاد اللبس أكانت
هذه جناية أخرى بل الكل جناية واحدة ما دامت العلة قائمة فعليه أي الكفارات شاء فان
اختار الاطعام فدعى المساكين فغداهم وعشاهم أجزأه ذلك في قول أبى يوسف رحمه الله
تعالى ولم يجزه في قول محمد رحمه الله تعالى فأبو يوسف رضى الله تعالى عنه اعتبر المقصود فقال
هذا طعام كفارة فيتأدى بالتغدية والتعشية كسائر الكفارات ومحمد رحمه الله تعالى يعتبر
المنصوص عليه فيقول المنصوص عليه الصدقة هنا لقوله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو
نسك وما ورد بلفظة الصدقة لا يتأدى بطعام الإباحة كالزكاة وصدقة الفطر (قال) فان
لبس المحرم قميصه ولم يزرره فعليه الجزاء لان استمتاعه بلبس المخيط قد تم فإنه يستغنى عن
التكلف لحفظ القميص على نفسه وإن لم يزره (قال) ولا بأس للمحرم بلبس الطيلسان فإنه
بمنزلة الرداء ولكنه يكره له ان يزره عليه وهذا قول ابن عمر رضي الله عنه وكان ابن عباس
رضي الله عنه يقول لا بأس بذلك لان الطيلسان ليس بمخيط ولكنا أخذنا بقول ابن عمر رضي الله عنه
لان الإزار محيط عليه ولأنه إذا زره لا يحتاج إلى التكلف لحفظه على نفسه فكان
بمنزلة لبس المخيط (قال) ولا يلبس المحرم الجوربين كما لا يلبس الخفين وقد بينا هذا
(قال) ولا بأس بأن يضرب المحرم فسطاطا ليستظل فيه عندنا وكان مالك رحمه الله تعالى
يكره ذلك وهذا مروى عن ابن عباس رضي الله عنه ولكنا نأخذ بما روى أن عثمان رضي الله عنه
كان يضرب له فسطاط في احرامه وان عمار بن ياسر رضي الله عنه كان إذا آذاه الحر
القى ثوبه على شجرة واستظل تحته ولأنه لا بأس بأن يستظل بسقف البيت لان ذلك لا
يماس بدنه فكذلك الفسطاط (قال) وان دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فإن كان
129

الستر يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لتغطية الرأس والوجه به وان كأن لا يصيب رأسه
ولا وجهه فلا بأس به ولا شئ عليه لان التغطية إنما تحصل بما يماس بدنه وعلى هذا لو حمل
المحرم شيئا على رأسه فإن كان شيئا من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست والإجانة
ونحوها فلا شئ عليه وإن كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب فعليه الجزاء لان مالا
يغطى به الرأس يكون هو حاملا لا مستعملا الا ترى ان الأمين لو فعل ذلك لا يصير ضامنا
(قال) فإن كان المحرم نائما فغطى رجل وجهه ورأسه بثوب يوما كاملا فعليه دم لان ما فعله
به غيره كفعله في الجزاء وان كانا يفترقان في المأثم وقد بيناه في حلق الرأس والجماع ونحوه
وعذر النوم لا يمنع ايجاب الجزاء عليه كما لو انقلب على صيد في حال نومه فقتله
(قال) صبي أحرم عنه أبوه وجنبه ما يجنب المحرم فلبس ثوبا أو أصاب طيبا أو صيدا
فليس عليه شئ عندنا والشافعي رحمه الله تعالى يوجب الكفارة المالية على الصبي
كالبالغ بناء على أصله في إيجاب الزكاة عليه ويأمر الولي بأدائه من ماله وعندنا المالي
والبدني سواء في أن وجوب ذلك ينبنى على الخطاب والصبي غير مخاطب ثم احرام الصبي
للتخلق فلا تتحقق جنايته في الاحرام بهذه الأفعال وهذا لأنه ليس للأب عليه ولاية الالزام
فيما يضره ولو جعلنا احرامه ملزما إياه في الاجتناب عن المحظورات وموجبا للكفارة عليه
لم يكن تصرف الأب في الاحرام واقعا بصفة النظر له فلهذا جعلناه تخلقا غير ملزم إياه فلا
يلزمه الجزاء بارتكاب المحظور غير أن الأب يمنعه من ذلك لتحقيق معنى التخلق والاعتياد
باب النذر
(قال) وإذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة استحسانا وفي
القياس لا شئ عليه لان الالتزام بالنذر إنما يصح فيما يكون من جنسه واجب والمشي
إلى بيت الله تعالى ليس من جنسه واجب شرعا فلا يصح الالتزام بالنذر توضيحه أن
الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به بالاتفاق وهو المشي فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من
الحج والعمرة أولى ولكنا تركنا القياس بحديث علي رضي الله عنه قال فيمن نذر المشي إلى
بيت الله تعالى فعليه حجة أو عمرة والعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ
ويريدون به التزام النسك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته ويجعل
130

كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه ولأنه لا يتوصل إلى بيت الله تعالى الا بالاحرام فكأنه التزم
الاحرام بهذا اللفظ والاحرام لأداء أحد النسكين اما الحج أو العمرة فكأنه التزم بهذا
اللفظ ما يخرج به عن الاحرام فلهذا يلزمه حجة أو عمرة ويمشى فيها كما التزم فإذا ركب
أراق دما لحديث عقبة بن عامر رضى الله تعالى عنه حيث قال يا رسول الله ان أختي نذرت
أن تحج ماشية فقال صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى غنى عن تعذيب أختك مرها فلتركب
ولترق دما ولان الحج ماشيا أفضل فان الله تعالى قدم المشاة على الركبان فقال يأتوك رجالا
وعلى كل ضامر ولهذا كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه بعد ما كف بصره يتأسف على
تركه الحج ماشيا والحسن بن علي رضى الله تعالى عنه كان يمشي في طريق الحج والجنائب
تقاد بجنبه فقيل له ألا تركب فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من
مشى في طريق الحج كتب الله له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم قيل وما
حسنات الحرم قال الواحدة بسبعمائة ضعف فإذا ثبت أن المشي أفضل قلنا إذا ركب فقد
أدى أنقص مما التزم فعليه لذلك دم فان قيل كيف يستقيم هذا وقد كره أبو حنيفة رحمه الله
تعالى المشي في طريق الحج قلنا لا كذلك وإنما كره الجمع بين الصوم والمشي وقال إذا
جمع بينهما ساء خلقه فجادل رفيقه والجدال منهى عنه فان اختار المشي فالصحيح من المذهب
انه يلزمه المشي من بيته وقال بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى يلزمه المشي من الميقات لأنه
التزم المشي في النسك وذلك عند احرامه من الميقات ولكن العادة الظاهرة أن الناس بهذا
اللفظ يقصدون المشي من بيوتهم وقد قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما في قوله تعالى
وأتموا الحج والعمرة لله قال اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فميقات الرجل في الاحرام
منزله ولكن يرخص له في تأخير الاحرام إلى الميقات ولو أحرم من بيته لا اشكال أنه
يمشي من بيته فكذلك إذا أخر الاحرام قلنا يمشي من بيته كما التزم ثم لا يركب إلى أن يطوف
طواف الزيارة لان تمام الخروج من الاحرام به يحصل فان تمام التحلل في حق النساء إنما يحصل
بالطواف وإذا اختار العمرة مشى إلى أن يحلق فان قرن بهذه العمرة حجة الاسلام أجزأه
لان القارن يأتي بكل واحد من النسكين بكماله فنسك العمرة التزمه بالنذر والحج حجة
الاسلام وقد أداهما بصفة الكمال فعليه دم القران لذلك وإن كان ركب فعليه دم لركوبه مع
دم القران (قال) وكل من وجب عليه دم في المناسك جاز أن يشاركه في بدنة ستة نفر
131

قد وجبت عليهم الدماء فيها ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جوز ذلك في كل سبعة من
أصحابه عام الحديبية ولا فرق بين أن يكون جنس الواجب عليهم واحدا أو مختلفا في حكم
الجواز حتى إذا قصد بعضهم دم المتعة وبعضهم دم الاحصار وجزاء الصيد فذلك جائز
بخلاف ما إذا قصد بعضهم اللحم لان الواجب إراقة دم هو قربة وإراقة الدم في كونه قربة
لا يتجزأ فإذا قصد بعضهم اللحم لم يكن فيه معنى القربة خالصا فأما عند اختلاف جهات القربة
فقصد كل واحد منهم معنى القربة فقط فلهذا يتأدى الواجب به ولو كان كله جنسا واحدا
كان أحب إلى لان دماء القرب مختلفة بعضها لا يحل التناول منه للأغنياء كدماء الكفارات
وبعضها يحل فإذا اتحد الجنس فقد اتحد معنى القربة في المذبوح فيكون أقرب إلى الجواز
(قال) فإذا نذر المشي إلى بيت الله تعالى ونوى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو
مسجد آخر فلا شئ عليه اما صحة نيته فلأنها مطابقة للفظه والمساجد كلها بيوت الله تعالى
قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع وإذا عملت نيته صار ذلك كالملفوظ به فلا يلزمه شئ
لان سائر المساجد يباح دخولها بغير احرام فلا يصير به ملتزما للاحرام وعلى هذا لو قال أنا
أمشى إلى بيت الله تعالى قال فان نوى به العدة فلا شئ عليه لان المواعيد لا يتعلق بها اللزوم
ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد وان نوى به النذر كان نذرا وكذلك إن لم يكن له نية فهو
نذر وكذلك إن لم يكن نوى شيئا من المساجد فهو على الكعبة للعادة الظاهرة فان الناس إذا
أطلقوا هذه اللفظة يريدون بها الكعبة وعلى هذا لو قال على المشي إلى مكة أو إلى الكعبة فهو
وقوله إلى بيت الله سواء وقوله وان قال على المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام فلا شئ
عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أخذا بالقياس فيه لان الناس لا يطلقون هذا اللفظ
عادة لإرادة التزام الحج والعمرة بخلاف ما تقدم من الألفاظ الثلاثة ثم المسجد الحرام بمنزلة الفناء
للكعبة والحرم بمنزلة الفناء لمكة فلا يجعل ذكر الفناء كذكر الأصل في النذر بل يجعل هذا
بمنزلة ما لو قال لله على المشي إلى الصفا أو إلى المروة أو إلى مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه
فلا يلزمه شئ وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا نأخذ بالاحتياط أو بالاستحسان في
هذين الفصلين أيضا لأنه لا يتوصل إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام الا بالاحرام فصار بهما
ملتزما للاحرام (قال) ولو قال على السفر إلى مكة أو الذهاب أو الاتيان إلى مكة أو
الركوب فلا شئ عليه والقياس في الألفاظ كلها واحد ولكن فيما تعارف الناس التزام
132

التمسك به تركنا القياس فيه للعرف فما لا عرف فيه أخذنا بالقياس فان قال إن كلمت فلانا
فلله على حجة يوم أكلمه ينوى انه يجب عليه يوم يكلمه فكلمه وجب عليه حجة يقضيها
متى شاء ولم يكن محرما بها يومئذ ما لم يحرم بمنزلة ما لو قال على حجة اليوم كانت واجبة عليه
يحرم بها متى شاء لأنه التزمها في ذمته والشروع في الأداء لا يتصل بالالتزام في الذمة كسائر
العبادات فان من قال لله على أن أصوم اليوم لا يصير صائما بنذره والاحرام شروع في الأداء
فلا يثبت بالالتزام ولان ما يوجب عل نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ومن وجب عليه
الحج بوجود الزاد والراحلة لا يصير محرما بنفس الوجوب عليه فكذلك لا يصير محرما
بمجرد ما قال وان وصل الاستثناء بنذره لم يلزمه شئ لان الاستثناء يخرج الكلام من أن
يكون عزيمة قال صلى الله عليه وسلم من حلف بطلاق أو عتاق واستثني فلا حنث عليه
ولو قال لآخر على حجة إن شئت فقال قد شئت فهو عليه لان تعليق النذر بالشرط صحيح
فإذا علقه بمشيئته وشاء جعل كأنه أرسل النذر عند ذلك فيلزمه كالطلاق والعتاق وقوله على
حجة مثل قوله لله على حجة لان الحج لا يكون الا لله تعالى والالتزام بقوله على ولو قال إن
فعلت كذا فأنا أحرم فان نوي به العدة فلا شئ عليه وان نوى به الايجاب لزمه إذا فعل
ذلك اما حجة أو عمرة وإن لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شئ لان ظاهر لفظه عدة
وفى الاستحسان يلزمه لان في عرف اللسان يراد بمثله التحقيق للحال. ألا ترى أن
المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله والشاهد يقول بين يدي القاضي أشهد ويريد به التحقيق
لا العدة وقوله أنا أهدى بمنزلة قوله أنها أحرم (قال) وان قال إن فعلت كذا فأنا أحج بفلان
فحنث فإن كان نوى فأنا أحج وهو معنا فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج به وان نوى أن
يحججه فعليه أن يحججه كما نوى لان الباء للالصاق فقد ألصق فلانا بحجه وهذا يحتمل معنيين
أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطى فلانا ما يحج به من المال والتزام الأول بالنذر
غير صحيح والتزام الثاني صحيح لان الحج يؤدى بالمال عند اليأس عن الأداء بالبدن فكان
هذا في الحكم البدل وحكم البدل حكم الأصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالأصل فان
نوى الوجه الأول عملت نيته لاحتمال كلامه ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه
به شئ وإنما عليه أن يحج بنفسه فقط وان نوى الثاني فقد نوى ما يصح التزامه فيلزمه
ذلك وإذا لزمه ذلك فاما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحج به مع نفسه ليحصل به الوفاء
133

بالنذر فإن لم يكن له نية فعليه أن يحج وليس عليه أن يحجج فلانا لان لفظه في حق فلان
محتمل والوجوب لا يحصل باللفظ المحتمل وإن كان قال فعلى أن أحجج فلانا فهذا محكم غير
محتمل فإنه تصريح الالتزام باحجاج فلان وذلك صحيح بالنذر ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدى
فلانا ففعل ذلك الفعل فلا شئ عليه لان النذر بالهدى لا يصح الا في الملك وهو قد نذر
هدى ما لا يملكه وما لا مالية فيه فكان نذره لغوا إذ لا ولاية له على فلان ليهديه إلا أن
يكون فلان ذلك ولده فحينئذ يكون على القياس والاستحسان المعروف في نذر ذبح الولد
(قال) ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدى كذا وسمى شيئا من ماله فعليه أن يهديه
لأنه التزم أن يهدى ما هو مملوك له والهدى قربة والتزام القربة في محل مملوك له صحيح
كما لو نذر أن يتصدق به ثم الاهداء يكون إلى مكان وذلك المكان وإن لم يكن في لفظه
حقيقة ولكن صار معلوما بالعرف أنه مكة فان الله تعالى قال في الهدايا ثم محلها إلى البيت
العتيق فإذا تعين المكان بهذا المعنى فإن كان ذلك الشئ مما يتقرب بإراقة دمه فعليه أن
يذبحه بمكة وان كأن لا يتقرب بإراقة دمه وإنما يتقرب بالتصدق به فإنه يتصدق به على مساكين
مكة وإن كان ذلك الشئ لا يستطيع أن يهديه بنفسه كالدار والأرض فعليه أن يهديه بقيمته
لان التقرب يحصل بالعين تارة ويحصل بمعنى المالية أخرى فإذا كانت العين لا تحول من
مكان إلى مكان عرفنا ان مراده التزام التصدق بماليته فعليه ان يهدى قيمته يتصدق به على
مساكين مكة وان أعطاه حجبة البيت أجزأه بعد أن يكونوا فقراء لأنهم بمنزلة غيرهم من
المساكين (قال) وكذلك أن قال فثوبي هذا ستر البيت أو قال إنا أضرب به حطيم
البيت فعليه أن يهديه استحسانا وفى القياس لا شئ عليه لان ما صرح به في كلامه لا يلزمه
لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى وفى الاستحسان إنما يراد بهذا اللفظ الاهداء به
فصار اللفظ عبارة عما يراد به غيره فكأنه التزم أن يهديه لان اللفظ متى صار عبارة عن غيره
سقط اعتباره في نفسه حقيقة (قال) وان قال مالي هدى فعليه أن يهدى ماله كله قال
بلغنا عن إبراهيم أنه قال في مثل هذا يتصدق بماله كله ويمسك منه قدر قوته فإذا أفاد مالا
يتصدق بقدر ما أمسك وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال مالي صدقة فقال في
القياس ينصرف هذا إلى كل مال له وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفى الاستحسان ينصرف
إلى مال الزكاة خاصة بخلاف إما إذا قال جميع ما أملك فمن أصحابنا من قال ما ذكر هنا جواب
134

القياس لان التزام الهدى في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال والأصح أن يفرق بينهما فيقال
في لفظة الصدقة إنما حمل هذا اللفظ على مال الزكاة خاصة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما
أوجبه الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصدقة في المال مختص بمال الزكاة
فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهنا إنما أوجب الهدى وما أوجب الله تعالى من الهدى
لا يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه فلهذا اعتبرنا فيه حقيقة اللفظ ولكنه
يمسك مقدار قوته لان حاجته مقدمة على حاجة غيره فإذا أفاد ما لا تصدق بمثل ما أمسك
لتعلق حق المساكين به ثم قال وكذلك أن قال كل مالي صدقة في المساكين فهذا مثل الأول
في قول إبراهيم رحمه الله تعالى وهذا العطف يؤيد ما قلنا أولا أن المذكور جواب القياس
فان القياس والاستحسان منصوص عليهما في لفظ الصدقة في كتاب الهبة وان قال إن
فعلت كذا فغلامي هذا هدى فباعه ثم فعل ذلك لم يلزمه شئ لان المعلق بالشرط عند وجوده
كالمنشأ ولو أنشأ النذر عند ذلك الفعل لم يلزمه شئ لان العبد ليس في ملكه فكذلك إذا
وجد الشرط وكذلك أن كان الغلام في غير ملكه حين حلف ثم اشتراه ثم فعل ذلك لان
اليمين بالنذر في محل معين لا يصح الا باعتبار الملك أو الإضافة إلى الملك ولم يوجد الملك
ولا الإضافة إلى الملك في المحل وقت اليمين فلم ينعقد يمينه أصلا (قال) وان قال إن كلمت
فلانا فهذا المملوك هدى ثم اشتراه صحت يمينه لوجود الإضافة إلى الملك ثم عند وجود
الشرط وهو الكلام يصير كأنه أرسل النذر وإنما ينصرف إلى شراء بعده لا إلى شراء
سبقه (قال) وان قال فهذه الشاة هدى إلى بيت الله تعالى أو إلى مكة أو إلى الكعبة
وهو يملكها فعليه أن يهديها لأنه لو أطلق التزام الهدى صح نذره باعتبار هذا المكان
فإذا صرح به كان أولى (قال) وإذا قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يلزمه أن
يهديهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولزمه ذلك عندهما وهو نظير ما سبق من
التزام المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لما جعل ذكر هذين الموضعين عندهما
كذكر مكة ولم يجعل كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كذلك هنا فان قيل فعلى
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينبغي أن يلزمه هنا لان ذكره الحرم والمسجد الحرام غير
ملزم فكأنه لم يذكر ولكنه قال هذه الشاة هدى فتلزمه بخلاف المشي فان هناك لو قال
على مشى لا يلزمه شئ قلنا هذا غير صحيح لأنه إذا قال هذه الشاة هدى إنما يلزمه باعتبار
135

أن ذكر مكة يصير مضمرا في كلامه بدلالة العرف فإذا نص إلى الحرم أو إلى المسجد
الحرام لا يمكن أن يجعل ذكر مكة مضمرا في كلامه فلهذا لا يلزمه شئ عنده (قال) وكل
شئ يجعله على نفسه من المتاع والرقيق فإنما عليه أن يبيعه ويتصدق به على مساكين
أهل مكة وان تصدق به بالكوفة أجزأه وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجزيه
لأنه التزم الهدى والهدى لا يكون الا في موضع فكان من ضرورة ما نص عليه تعيين
مساكين أهل مكة للتصدق عليهم ولكنا نقول هو بهذا اللفظ ملتزم للقربة في هذه المحال
والفعل الذي هو قربة في هذه المحال التصدق بها فكأنه نذر أن يتصدق بها والتصدق على
فقراء الكوفة كالتصدق على فقراء مكة لان معنى القربة في التصدق إنما يحصل بسد خلة المحتاج
وفى هذا فقراء مكة وفقراء الكوفة سواء (قال) وكل هدى جعله على نفسه من الإبل والبقر
والغنم فعليه ان يذبحه بمكة لان فعل القربة في هذه المحال بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة
الا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو يوم النحر وفى لفظه ما ينبئ عن
المكان دون الزمان ولهذا كان عليه ان يذبحه بمكة وبعد الذبح صار المذبوح لله تعالى خالصا
فالسبيل ان يتصدق بلحمه والأولى ان يتصدق به على مساكين مكة وان تصدق على
غيرهم أجزأه عندنا لما بينا في الفصل الأول وإن كان ذلك في أيام النحر فعليه ان ينحر بمنى
كما هو السنة في الهدايا وإن كان في غير أيام النحر فعليه ان يذبح بمكة وهذا على سبيل بيان
الأولى فاما في حكم الجواز إذا ذبحه في الحرم جاز كما قال صلى الله عليه وسلم منى منحر وفجاج
مكة كلها منحر (قال) ولو قال إن فعلت كذا فعلى هدى ففعله كان عليه ما استيسر من
الهدى شاة لان اسم الهدى عند الاطلاق يتناول الإبل والبقر والغنم فان هذه الحيوانات
يتقرب بإراقة دمها الا ان عند الاطلاق يلزمه المتيقن وهو الشاة فان نوى الإبل أو البقر كان
عليه ما نوى لأنه شدد الامر على نفسه في نيته ونوى التعظيم فيما التزمه من الهدى فيلزمه
ما نوى ولا يذبحها الا بمكة لتصريحه بالهدى فإن كان قال على بدنة فإن كان نوى شيئا
من البدن بعينه فعليه ما نوى لان المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به وإن لم
يكن له نية فعليه بقرة أو جزور لان اسم البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والعظم وذلك
لا يتناول الشاة وإنما يتناول البقرة والجزور هكذا نقل عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وعن
ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ان لفظة البدنة لا تتناول الا الجزور فان سائلا سأل
136

ابن مسعود رضي الله عنه ان صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزي البقرة فقال مم صاحبكم فقال
منى بنى رباح فقال ومتى اقتنت بنو رباح البقر وإنما وهم صاحبكم الإبل ثم إن كان نوى ان
ينحرها بمكة فليس له ان ينحرها الا بمكة كما نوى لان المنوي كالمصرح به وإن كان لم يكن له
نية نحرها حيث شاء في قول أبى حنفية ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى لا يجزئه الا ان ينحرها بمكة وجه قوله انه التزم التقرب بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون
قربة الا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص وإذا لم يختص هنا بالزمان يختص بالمكان وهو
الحرم كما لو أوجبه بلفظة الهدى وهما قالا كما لا يختص بالزمان لأنه ليس في لفظه ما يدل عليه
فكذلك لا يختص بالمكان لأنه ليس في لفظة البدنة ما يدل عليه بخلاف لفظه الهدى وإذا لم
يكن في لفظه ما يدل على مكان أو زمان عرفنا ان مراده التزام التقرب والتصدق باللحم
وذلك يحصل في أي موضع نحر وهو قياس ما لو قال لله على جزور كان له ان ينحر في أي
مكان شاء ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول لا عادة في استعمال لفظة الجزور
في معنى الهدى بخلاف لفظة البدنة. ألا ترى أن اسم البدنة. ألا ترى أن اسم البدنة لا ينطق الا على ما هو معد
للقربة كاسم الهدى بخلاف اسم الجزور ولمعنى القربة جعلنا اسم البدنة متناولا للبقرة والجزور
جميعا لان كل واحد منهما يجزى في الهدايا والضحايا عن سبعة فعرفنا أن معنى التقرب بإراقة
الدم معتبر في لفظة البدنة كما هو معتبر في لفظة الهدى فكان مختصا بالحرم (قال) ولا
يقلد الا هدى متعة أو قران أو تطوع من الإبل والبقر دون الغنم والكلام في فصول.
أحدها أن التقليد في الهدايا سنة ثبتت بقوله تعالى ولا الهدى ولا القلائد وصح أن النبي صلى
الله عليه وسلم قلد هداياه في حجة الوداع وصفة التقليد هو أن يعلق على عنق البدنة نعل أو
قطعة أدم أو عروة مزادة قيل والمعني فيه اعلام الناس ان هذا أعد للتطوع بإراقة دمه فيصير
جلده عن قريب مثل هذه القطعة من الجلد والمقصود به التشهير وقد بينا أن التشهير فيما
هو نسك دون ما هو جبر ولهذا لا يقلد الا هدى متعة أو قران أو تطوع والمقصود أن لا يمنع
من الماء والعلف إذا علم أنه هدى وهذا فيما يبعد عن صاحبه في الرعي كالإبل والبقر دون
الغنم فان يعدم إذا لم يكن صاحبه معه فلهذا لا يقلد الغنم وهذا عندنا وعلى قول مالك
رحمه الله تعالى يقلد الغنم أيضا لان التقليد سنة في الهدايا والغنم من الهدايا وقد ورد فيه أثر
ولكنه شاذ فلم نأخذ به وهذا لان تقليد الغنم غير معتاد في الناس ظاهرا بخلاف تقليد الإبل
137

والبقر (قال) والتجليل حسن لان هدايا رسول الله كانت مقلدة مجللة حيث قال لعلي رضي الله عنه
تصدق بجلالها وخطامها وان ترك التجليل لم يضره والتقليد أحب إلى من التجليل
لان للتقليد ذكر في كتاب الله تعالى دون التجليل وأما الاشعار فهو مكروه عند أبي
حنفية رحمه الله تعالى وعندهما هو حسن في البدنة وان ترك لم يضره وصفة الاشعار هو أن
يضرب بالمبضع في أحد جانبي سنام البدنة حتى يخرج الدم منه ثم يلطخ بذلك الدم سنامه
سمى ذلك اشعارا بمعنى أنه جعل ذلك علامة له والاشعار هو الاعلام وكان ابن أبي ليلى
رحمه الله تعالى يقول الاشعار في الجانب الأيسر من السنام وقد صح في الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم أشعر البدن بيده وهو مروى عن الصحابة رضي الله عنهم ظاهر
حتى قال الطحاوي رحمه الله تعالى ما كره أبو حنيفة رحمه الله تعالى أصل الاشعار وكيف
يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار وإنما كره إشعار أهل زمانه لأنه رآهم يستقصون
ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في
سد هذا الباب على العامة لأنهم لا يراعون الحد فأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد
فقط دون الحكم فلا بأس بذلك ثم حجتهما من حيث المعنى لان المقصود من الاشعار والتقليد
اعلام بأنها بدنة حتى إذا ضلت ردت وإذا وردت الماء والعلف لم تمنع لكن هذا المقصود
بالتقليد لا يتم لان القلادة تحل ويحتمل أن تسقط منه فإنما يتم بالاشعار لأنه لا يفارقه فكان
الاشعار حسنا لهذا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول معنى الاعلام بالتقليد يحصل وهو
لاكرام البدنة وليس في الاشعار معنى الاكرام بل ذلك يؤذي البدنة ولان التجليل مندوب
إليه وإنما كان مندوبا لدفع أذى الذباب عن البدنة والاشعار من جوالب الذباب فلهذا
كرهه أبو حنيفة رحمه الله تعالى (قال) ولا يصير بالاشعار والتجليل محرما وإنما يصير
محرما بالتقليد واصل هذا ان الاحرام لا ينعقد بمجرد النية عندنا وفى أحد قولي الشافعي رحمه
الله تعالى ينعقد بمجرد النية وجعل الاحرام قياس الصوم من حيث أنه التزام الكف عن
ارتكاب المحظورات ومثل هذه العبادة يحصل الشروع فيها بمجرد النية كالصوم وعلى
قولنا الاحرام قياس الصلاة لان الاحرام لأداء الحج أو العمرة وذلك يشتمل على أركان
مختلفة كالصلاة فكما لا يصير شارعا في الصلاة بمجرد النية بدون التحريمة فكذلك في
الاحرام بخلاف الصوم فإنه ليس للصوم الا ركن واحد وهو الامساك وذلك معلوم بزمانه
138

فكان الوقت للصوم معيارا ولهذا لا يصح في كل زمان الا صوم واحد فبعد وجود النية
ودخول وقت الأداء لا حاجة إلى مباشرة فعل الأداء فلهذا صار شارعا فيه بمجرد النية وهنا
الزمان ليس بمعيار للحج ولهذا صح أداء النفل في الزمان الذي يؤدى فيه الفرض وإنما داؤه
بأفعاله وبمجرد النية لا يصير مباشرا للفعل فلا يصير شارعا في الأداء أيضا ولكن لو قلد البدنة
بنية الاحرام أو أمر فقلد له وهو ينوى الا حرام صار محرما عندنا وقال الشافعي رحمه الله
تعالى لا يصير محرما الا بالتلبية على القول الذي يقول لا ينعقد الاحرام بمجرد النية وحجته
في ذلك أن الفعل لا يقوم مقام الذكر في التحرم للعبادة كما في الصلاة لما كان الشروع
فيها بالتكبير لا يقوم الفعل فيه مقامه حتى لو ركع أو سجد بنية الشروع في الصلاة لا يصير
شارعا ولا فرق بينهما لان الهدى نسك في هذه العبادة كالركوع والسجود في الصلاة
توضيحه ان تقليد الهدى لا يكون أقوى من إراقة دم الهدى وبإراقة دم الهدي على قصد
الاحرام لا يصير محرما فكذلك بالتقليد وحجتنا في ذلك قوله تعالى ولا الهدى ولا القلائد
إلى أن قال وإذا حللتم فاصطادوا ولم يتقدم ذكر الاحرام ففي قوله وإذا حللتم فاصطادوا
إشارة إلى أن الاحرام يحصل بتقليد الهدى وذلك مروى عن الصحابة عمر وابن مسعود
وابن عباس رضى الله تعالى عنهم حتى روى عن قيس بن سعد أنه كان يغسل رأسه فبعد
ما غسل أحد شقى رأسه نظر فإذا هداياه قد قلدت فقام وترك غسل الشق الآخر وقال
اما إن من قلدت هذه الهدايا له فقدم أحرم والمعنى فيه أن الحج يشبه الصلاة من وجه
والصوم من وجه فمن حيث أنه ليس في أثنائه ذكر مفروض كان مشبها بالصوم ومن
حيث أنه يشتمل على أركان مختلفة كان مشبها بالصلاة فيوفر على الشبهين حظهما من الحكم
فنقول بشبهه بالصلاة لا يصير شارعا فيه بمجرد النية وبشبهه بالصوم يصير شارعا فيه وإن لم
يأت بالذكر إذا أتى بفعل يقوم مقام الذكر وهذا لان المقصود بالتلبية إظهار إجابة
الدعوة وبتقليد الهدى يحصل إظهار الإجابة أيضا وفرق بين التجليل والتقليد فقال
بالتجليل لا يصير محرما وان نوى لان التجليل لا يختص به ما أعد للقربة فقد تجلل البدنة
لا على قصد التقرب بها فلا يكون ذلك دليل الإجابة بخلاف التقليد بالصفة التي ذكرنا
فإنه لا يكون إلا عند قصد التقرب فكان إظهارا للإجابة وكذلك بالاشعار لا يصير محرما
أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا يشكل لان الاشعار مكروه عنده فكيف يصير
139

محرما به وعندهما الاشعار بمنزلة التجليل فإنه أخراج شئ من الدم من البدنة وذلك
لا يختص بحال التقرب بها فلم يكن ذلك دليل الإجابة فلهذا لا يصير محرما ثم إذا نوى عند
التقليد حجة أو عمرة فهو على ما نوى لان التقليد بمنزلة التلبية وإن لم يكن له نية في حجة
أو عمرة إنما نوى الاحرام فقط فهو بمنزلة ما لو أتى بنية الاحرام مطلقا فإن شاء جعله حجا
وان شاء جعله عمرة وان قلد الشاة بنية الاحرام لا يصير محرما لما بينا أن التقليد في الشاة
ليس بقربة فلا يصير به محرما وان قلد الهدى وبعث به وهو لا ينوى الاحرام ثم خرج في
أثره لم يصر محرما حتى يدرك هديه فإذا أدركه وسار معه صار محرما الآن والأصل فيه
حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت كنت أفتل قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيدي فقلدها وبعث بها وأقام بأهله حلالا لا يحرم به ما يحرم على المحرم فعرفنا أنه
لا يصير محرما بمجرد التقليد والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا مختلفين في هذه المسألة على
ثلاثة أقاويل فمنهم من يقول إذا قلدها صار محرما ومنهم من قال إذا توجه في أثرها صار
محرما ومنهم من قال إذا أدركها فساقها محرما فاخذنا بالمتيقن من ذلك وقلنا إذا أدركها
وساقها صار محرما لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم في هذه الحالة الا في بدنة المتعة فإنه
لا يصير محرما حتى يخرج على أثرها وإن لم يدركها استحسانا وفى القياس لا يصير محرما
حتى يدركها فيسوقها كما في هدى التطوع ولكنه استحسن فقال لهدى المتعة نوع
اختصاص لبقاء الاحرام بسببه فان المتمتع إذا ساق الهدى فليس له أن يتحلل من النسكين
بخلاف ما إذا لم يسق الهدى وكما كان له نوع اختصاص ببقاء الاحرام فكذلك بابتداء
الشروع في الاحرام لهدى المتعة نوع اختصاص وذلك في أن يصير محرما بنفس التوجه وإن لم
يدرك الهدى بخلاف هدى التطوع (قال) وان اشترك قوم في هدى المتعة وهم يؤمون
البيت فقلدها بعضهم بأمر أصحابه صاروا محرمين لان فعله بأمر شركائه كفعلهم بأنفسهم وان
قلدها بغير أمرهم صار هو محرما دونهم لان فعله بغير أمرهم لا يقوم مقام فعلهم وبدون فعل
من جهتهم لا يصيرون محرمين ألا ترى أنه لو قلدها أجنبي بغير أمرهم لا يصيرون محرمين
فكذلك إذا قلد بعضهم بغير أمر الشركاء يصير هو محرما دونهم (قال) ويتصدق بجلال
هديه إذا نحره لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه تصدق بجلالها وخطامها
(قال) ولا يعطى شيئا من ذلك في أجر جزارته لا من جلده ولا من لحمه ولا من جلاله
140

هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه ولا تعط الجزار منها شيئا وقال من
باع جلدا ضحيته فلا أضحية له (قال) ويستحب له ان يأكل من هدى المتعة والقران
والتطوع فان الله تعالى أمر به بقوله فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأدنى ما يثبت بالأمر
الاستحباب فلذلك يستحب له ولا ينبغي له ان يتصدق بأقل من الثلث هكذا روى عن ابن
مسعود رضي الله عنه انه بعث بهدى مع علقمة فأمره ان يتصدق بثلث وان يأكل ثلثا وان
يبعث إلى آل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بثلث (قال) وان ساق بدنة لا ينوى
بها الهدي قال إذا كان ساقها إلى مكة فهو هدى وإنما أراد بهذا إذا قلدها وساقها لان هذا
لا يفعل عادة الا بالهدى فكان سوقها بعد إظهار علامة الهدى عليها بمنزلة جعله إياها بلسانه
هديا (قال) ولا يجزى في الهدايا والضحايا الا الجذع من الضأن إذا كان عظيما فما فوق
ذلك أو الثني من المعز والإبل والبقر لقوله صلى الله عليه وسلم ضحوا بالثنيان ولا تضحوا
بالجذعان الا ان الجذع من الضأن إذا كان عظيما يجزى لما روى أن رجلا ساق جذعانا إلى
منى فبادت عليه فقال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول نعمت
الأضحية الجذع من الضأن فانتهزوها ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم النحر من
من ضحي قبل الصلاة فليعد قال أبو بردة بن نيار انى ذبحت نسكي لأطعم أهلي وجيراني
فقال صلى الله عليه وسلم تلك شاة لحم فأعد نسكك فقال عندي عتود خير من شاتين
فقال صلوات الله عليه يجزيك ولا يجزى أحدا بعدك فدل أن ما دون الثني من المعز لا يجوز
والجذع من الضأن عند الفقهاء ما أتى عليه سبعة أشهر وعند أهل اللغة ما تم له ستة أشهر
والثنى من الغنم عند الفقهاء ما أتى عليه سنة وطعن في الثانية وعند أهل اللغة ما تم له سنتان
والثني من المعز والبقر ما تم له سنتان وطعن في الثالثة ومن الإبل الجذع ما تم له أربع سنين
والثني ما تم له خمس سنين (قال) ولا يجزى في الهدايا العوراء أو المقطوعة الذنب أو الاذن
اشتراها كذلك أو جدت عنده بعد الشراء لحديث جابر رضى الله تعالى عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال استشرفوا العين والاذن ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يضحى بالعوراء البين عورها والعجفاء التي لا تبقى والعرجاء التي لا تمشى إلى منسكها
والحادث من هذه العيوب بعد الشراء بمنزلة الموجود وقت الشراء في المنع من الجواز
وهكذا ان أضجعها ليذبحها فأصابها شئ من ذلك في القياس ولكن في الاستحسان هذا
141

لا يمنع الجواز لأنها تضطرب عند الذبح فيصيبها شئ من ذلك ولا يمكن التحرز في هذه الحالة
فجعل عفوا لهذا ولأنه أضجعها ليتلفها فتلف جزء منها في هذه الحالة لا يؤثر في المنع من
الجواز بخلاف ما قبله (قال) وإن كان الذاهب من العين أو الاذن أو الذنب بعضه فإن كان
ما ذهب منه كثيرا يمنع الجواز أيضا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى
بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة فالشرقاء مشقوقة الأذن عرضا والخرقاء طولا والمقابلة
التي ذهب قدام اذنها والمدابرة أن يكون الذاهب خلف أذنها إلا أن القليل لا يمكن التحرز
عنه عادة فجعل عفوا والحد الفاصل بين القليل والكثير عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في
ظاهر الرواية أن يكون الذاهب أكثر من الثلث فان النبي صلى الله عليه وسلم قال الثلث
كثير ولكن جعله من الكثير الذي يجزى في الوصية بخلاف ما وراءه فعرفنا ان ما زاد على
الثلث حكمه مخالف للثلث وما دونه وذكر ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أن
الذاهب إذا كان بقدر الربع يمنع على قياس ما تقدم من المسائل أن الربع ينزل منزلة الكمال
كما في المسح والحلق وعلى قولهما إذا كان الذاهب أكثر من الباقي لم يجز وإن كان الباقي
أكثر من الذاهب أجزأه لان القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فإنما يظهر عند المقابلة
وإن كان الذاهب والباقي سواء لم يجز في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى لان المانع من
الجواز إذا استوى بالمجوز يترجح المانع وقال أبو يوسف أخبرت بقولي أبا حنيفة رحمه الله
تعالى فقال قولي قولك أو مثل قولك قيل هذا رجوع من أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى قوله
وقيل هو إشارة إلى التفاوت بين القولين (قال) ويجزى في الهدى الخصي ومكسورة
القرن لان مالا قرن له يجزى فمكسور القرن أولى وهذا لأنه لا منفعة للمساكين في قرن
الهدى واما جواز الخصي فلانه أطيب لحما وقال الشعبي رحمه الله تعالى ما زاده الخصا في طيبة
لحمه خير للمساكين مما فات من الخصبين والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
ضحي بكبشين أملحين موجوأين ينظر ان في سواد ويمشيان في سواد ويأكلان في سواد
أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته (قال) فان اشترى هديا ثم ضل منه فاشترى مكانه آخر
وقلده وأوجبه ثم وجد الأول فان نحرهما فهو أفضل لأنه أتى بالواجب وزاد ولأنه كان وعد
أن ينحر كل واحد منهما والوفاء بالوعد مندوب إليه وان نحر الأول وباع الثاني جاز لأنه
ما أوجب الثاني ليكون أصلا بنفسه وإنما أوجبه ليكون خلفا عن الأول قائما مقامه فإذا
142

أوجد ما هو الأصل سقط اعتبار الخلف وان باع الأول وذبح الآخر فإن كانت قيمتهما
سواء أو كانت قيمة الثاني أكثر جاز لأنه مثل الأول أو أفضل منه وان كانت قيمة
الأول أكثر فعليه أن يتصدق بالفضل لأنه جعل الأول هديا أصلا فإنما يجوز إقامة الثاني
مقام الأول بشرط أن لا يكون أنقص من الأول فإذا كان أنقص كان عليه أن يتصدق
بقدر النقصان لأنه قصد أن يمنع شيئا مما جعله لله تعالى وليس له ذلك فيتصدق بالفضل ليتم
جعل ذلك القدر من المالية لله تعالى وهدى المتعة والتطوع في هذا سواء لأنهما صار الله
تعالى إذا جعلهما هديا في الوجهين جميعا فان عرف بهدى المتعة فهو حسن لان هدى المتعة
نسك فينبنى أمره على الشهرة وان ترك ذلك لم يضره لان الواجب هو التقرب بإراقة الدم
فالتعريف فيه ليس من الواجب في شئ وإن كان معه للمتعة هديان فنحر أحدهما حل لان
ما زاد على الواحد تطوع فلا يتوقف حكم التحلل عليه (قال) وهدى التطوع إذا بلغ
الحرم فعطب فنحر وتصدق به أجزأه بخلاف هدى المتعة فان ذلك مختص بيوم النحر فلا
يجوز ذبحه قبل يوم النحر فأما هدى التطوع غير مختص بيوم النحر وإنما عليه تبليغه محله بأن
يذبحه في الحرم وقد فعل ذلك (قال) فان اشترى بدنة لمتعته ثم اشترك ستة نفر فيها بعد
ما أوجبها لنفسه خاصة لا يسعه ذلك لأنه لما أوجبها لنفسه صار الكل لازما عليه فان قدر
ما يجزئ من هدى المتعة كان واجبا عليه وما زاد على ذلك وجب بايجابه فاشراكه الغير بعد
ذلك مع نفسه يكون رجوعا عما أوجب في البعض وكما لا يجوز له أن يرجع في الكل
فكذلك لا يجوز له أن يرجع في البعض ولان اشراكه بيع للبعض منهم وليس له أن
يبيع شيئا مما أوجبه هديا وان فعل فعليه أن يتصدق بالثمن وإن كان نوى عند الشراء أن
يشرك فيها ستة نفر أجزأه ذلك لأنه ما أوجب الكل على نفسه بمجرد الشراء فكان هذا
وما لو اشتراه السبعة سواء فإن لم يكن له نية عند الشراء ولكن لم يوجبها حتى أشرك فيها
ستة نفر أجزأه ولكن الأفضل أن يكون ابتداء الشراء منهم أو من أحدهم بأمر الباقين
حتى تثبت الشركة منهم في الابتداء (قال) وإذا ولدت البدنة بعد ما اشتراها لهديه ذبح
ولدها معها لأنه جعلها لله تعالى خالصا والولد جزء منها فإن كان انفصاله بعد ما جعلها لله
تعالى سرى حق الله تعالى إليه فعليه أن يذبحها والولد معها وان باع الولد فعليه قيمته اعتبارا
للجزء بالكل وان اشترى بها هديا فحسن وان تصدق بها فحسن اعتبارا للقيمة بالولد فان
143

الأفضل أن يذبح ولو تصدق به كذلك أجزأه فكذلك بقيمته (قال) وإذا مات أحد
الشركاء في البدنة أو الأضحية فرضى وارثه أن يذبحها معهم عن الميت أجزأهم وهو
الاستحسان وفى القياس لا يجوز لان الميت إذا لم يوص بأن يذبح عنه فقد انقطع حكم القربة
عن نصيبه فصار ميراثا لوارثه والوارث لم يقصد التقرب بذبحه عن نفسه فخرج ذلك القدر
من أن يكون قربة وهذا لان التقرب بالذبح تقرب بطريق الاتلاف وذلك لا يجوز عن
الميت بغير أمره كالعتق ولكنه استحسن فقال يجوز لان المقصود هو التقرب وتقرب الوارث
بالتصدق عن الميت صحيح وإن لم يوص به فكذلك تقربه بإيفاء ما قصد المورث في نصيبه بإراقة
الدم فالتصدق به يكون صحيحا (قال) وإن كان أحد الشركاء في البدنة كافرا أو مسلما يريد
به اللحم دون الهدى لم يجزهم أما إذا كان أحدهم كافرا فلا يتحقق معنى القربة في نفسه لوجود
ما ينافي معنى القربة وهو كفره وإراقة الدم الواحد إذا اجتمع فيه ما ينافي معنى القربة مع
الموجب لها يترجح المنافى وأما إذا كان مراد أحدهم اللحم فلا يجزئ الباقين عندنا. وقال
الشافعي رحمه الله تعالى يجزيهم لان المنافى لمعنى القربة لم يتحقق هنا ليكون معارضا ونصيب
كل واحد منهم بمنزلة هدى على حدة ولكل واحد منهم ما نوى ولكننا نقول الذي نوى
اللحم فكأنه نفى معنى القربة في نصيبه. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ذبحه أبو
بردة قبل الصلاة تلك شاة لحم فعرفنا ان هذه عبارة عما لا يكون قربة وما يمنع الجواز وإراقة
الدم لا يتجزى فإذا اجتمع فيه المانع من الجواز مع المجوز يترجح المانع كما لو كان أحدهم
كافرا فاما إذا نووا القربة ولكن اختلفت جهات قصدهم فعلى قول زفر رحمه الله تعالى
لا يجوز أيضا لان إراقة الدم لا يتبعض فلا تسع فيها الجهات المختلفة ولكنا نقول قصد الكل
التقرب فكانت الإراقة لله خالصا فلا يعتبر فيه اختلاف الجهات بعد ذلك الا ترى ان الواحد
إذا وجبت عليه دماء من جهات مختلفة فنحر بدنة ينوي عن ذلك كله أجزأه فكذلك
الشركاء (قال) ولا يركب البدنة بعد ما أوجبها لأنه جعلها لله جلت قدرته خالصا فلا ينبغي
له ان يصرف شيئا من عينها أو منافعها إلى نفسه قبل أن يبلغ محله الا ان يحتاج إلى ركوبها
فحينئذ لا بأس بذلك لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال
اركبها فقال إنها بدنة يا رسول الله فقال اركبها ويلك وإنما أمره بذلك لأنه رآه عاجزا عن المشي
محتاجا إلى ركوبها فإذا ركبها وانتقص بركوبه شئ ضمن ما نقص ذلك لأنه صرف جزء منها
144

إلى حاجته وكذلك لا يحلب لبنها لان اللبن متولد منها فلا يصرفه إلى حاجة نفسه ولكن ينبغي
ان ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص لبنها ولكن هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح
فاما إذا كان بعيدا ينزل اللبن ثانيا وثالثا فيصير ذلك بالبدنة ضارا فيحلبها ويتصدق بلبنها وان
صرفه إلى حاجة نفسه تصدق بمثل ذلك أو بقيمته وأي الشركاء فيها نحرها يوم النحر أجزأهم
لان كل واحد يستعين بشركائه في نحرها في وقته دلالة فيجعل ذلك بمنزلة الامر به افصاحا
(قال) وإذا عطب الهدى في الطريق نحره صاحبه فإن كان واجبا فهو لصاحبه يصنع
به ما شاء لأنه قصد بهذا اسقاط الواجب عن ذمته فإذا خرج من أن يكون صالحا لاسقاط
الواجب به بقي الواجب في ذمته كما كان وهذا ملكه فيصنع به ما شاء وإن كان تطوعا نحره
وصبغ نعله بدمه ثم ضرب به صفحته ولم يأكل منه شيئا بل يتصدق به وذلك أفضل من أن
يتركه للسباع هكذا نقل عن عائشة رضي الله عنها والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعث عام الحديبية الهدايا على يد ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه وأمره
ان يسلك بها الفجاج والأودية حتى يخرج بها إلى منى فقال ماذا أصنع بما عطب على يدي
منها فقال انحرها واصبغ نعلها بدمها والمراد بالنعل قلادتها واضرب بها صفحة سنامها ثم خل
بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من رفقتك منها شيئا ومقصوده مما ذكر ان
يجعل عليها علامة يعلم بتلك العلامة انها هدى فيتناول منها الفقراء دون الأغنياء وإنما نهاه
أن يتناول منها لأنه كان غنيا مع رفقته ثم المتطوع بالهدايا إنما يتناول باذن من له الحق والاذن
معلق بشرط بلوغه محله قال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها فإذا لم تبلغ محلها
لا يباح له التناول منها ولا ان يطعم غنيا بل يتصدق بها على الفقراء لأنه قصد بها التقرب إلى
إلى الله تعالى فإذا فات معنى التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم يتعين التقرب إلى الله تعالى
بالتصدق وذلك بالصرف إلى الفقراء دون الأغنياء فان أعطى من ذلك غنيا ضمن قيمته
ويتصدق بجلالها وخطمها أيضا كما يفعل ذلك إذا بلغت محلها (قال) وإذا أخطأ الرجلان
فنحر كل واحد منهما هدى صاحبه أو أضحيته عن نفسه أجزأه استحسانا وفى القياس
لا يجزئ لان كل واحد منها غير مأمور بما صنع في هدى صاحبه فكان متعديا ضامنا ولكنه
استحسن فقال كل واحد منهما مأذون بما صنع من صاحبه لأدلة لان صاحب الهدى
والأضحية يستعين بكل أحد أن ينوب عنه في الذبح في وقته دلالة والاذن دلالة بمنزلة
145

الاذن افصاحا كقرب ماء السقاية ونحوها ويأخذ كل واحد منهما هديه من صاحبه
فيصنع به ما شاء بمنزلة ما لو فعله صاحبه بأمره وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال لكل
واحد منهما الخيار بين أن يأخذ من صاحبه هديه فيصنع به ما شاء كما لو ذبحه بنفسه وبين
أن يضمن صاحبه قيمة هدية فيشترى بها هديا آخر ويذبحه في أيام النحر وإن كان بعد أيام
النحر تصدق بالقيمة وان نحر هديه قائما أو أضجعه فأي ذلك فعل فهو حسن. وبلغنا أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينحرونها قياما معقولة الأيدي اليسرى وفى
قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها ما يدل على أنه لا بأس بأن ينحرها قائمة لان وجوب الجنب
السقوط من القيام. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس هدايا أو ستا فطفقن يزدلفن
إليه بأيتهن يبدأ فدل أنه ينحر قياما. وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال نحرت
بيدي بدنة قائمة معقولة فكدت أهلك قوما من الناس لأنها نفرت فاعتقدت أن لا أنحر بعد
ذلك الا باركة معقولة أو أستعين بمن يكون أقوى عليه منى (قال) ولا أحب أن يذكر
مع اسم الله تعالى غيره نحو قوله اللهم تقبل من فلان لقوله صلى الله عليه وسلم جردوا
التسمية يعنى ذكر اسم الله تعالى عند الذبح ويكفى في هذا أن ينويه بقلبه أو يذكره قبل
ذكر التسمية ثم يقول بسم الله والله أكبر وينحر (قال) ولا يذبح البقر والغنم قياما
لأنه مندوب في كل نوع ان يذبحه على وجه يكون أيسر على المذبوح قال صلى الله عليه
وسلم إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة الحديث (قال) ويستحب له أن يذبحه هديه أو أضحيته
بيده لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة في حجة الوداع فنحر نيفا وستين
بنفسه وولى الباقي عليا رضي الله عنه وفي هذا دليل على أن الأولى أن يذبح بنفسه فاما إذا
لم يقدر على ذلك ولم يهتد لذلك فلا بأس بان يستعين بغيره لان فعل الغير بأمره كفعله بنفسه
(قال) ولا أحب أن يذبحه يهودي أو نصراني لان هذا من باب القربة فلا يستعان
فيه بالكافر قال صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعين في امر ديننا بمن ليس على ديننا (قال)
وان ذبح هديه يوم النحر بعد طلوع الفجر أجزأه ولا يجزيه قبل طلوع الفجر إن كان هدى
المتعة لأنه مؤقت بيوم النحر وإنما يدخل يوم النحر بعد طلوع الفجر الثاني وان جعل
ثوبه هديا أجزأه أن يهدى قيمته لأنه جعله لله تعالى وفيما صار لله تعالى صرف العين والقيمة
سواء كما في الزكاة وكذلك لو جعل شاة من غنمه هديا أجزأه ان يهدى قيمتها وفى رواية
146

أبى حفص رحمه الله تعالى أجزأه أن يهدى مثلها قال ألا ترى أنه يعطى في الزكاة قيمة
الشاة فيجوز وذكر في الجامع الكبير إذا قال لله على أن أهدى شاتين وسطين فأهدى
شاة تبلغ قيمتها قيمة شاتين لا يجوز بخلاف الزكاة لأنه التزم إراقة دمين وإراقة دم واحد
لا يقوم مقام إراقة دمين وما ذكر في هذا الموضع أنه لا يجزئه التصدق بالقيمة لأنه إنما
التزم التقرب بإراقة الدم فلا يقوم التصدق بالقيمة مقامه حتى قيل في المسألة روايتان فعلى
ما ذكر هنا يجب أن يجوز هناك أيضا وان قال لله على أن أهدى شاة فأهدى جزورا
يجزئه وهو محسن في ذلك لأنه أدى الواجب عليه وزيادة فان الجزور قائم مقام سبع من
الغنم حتى يجزى عن سبعة نفر ففيه وفاء بالواجب وزيادة وإنما أورد هذا لايضاح أنه إذا
أهدى مثل ما عينه في نذره أو أفضل منه أو أهدى قيمته أجزأه والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب واليه المرجع والمآب
باب الحج عن الميت وغيره
(قال) رضي الله عنه رجل دفع مالا إلى رجل ليحج به عن الميت فلم يبلغ مال الميت
النفقة فأنفق المدفوع إليه من ماله ومال الميت فإن كان أكثر النفقة من مال الميت وكان
ماله بحيث يبلغ ذلك أو عامة النفقة فهو جائز والا فهو ضامن يرده ويحج من حيث يبلغ
لان المعتبر في الحج عن الغير الانفاق من ماله في الطريق والأكثر له حكم الكل والتحرز
عن القليل غير ممكن فقد يضيفه انسان يوما فلا ينفق من مال الميت وقد يستصحب مع
نفسه زادا أو ثوبا من ماله نفسه وقد يشرب الماء فيعطى السقاء شيئا من عند نفسه وما
لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فاعتبرنا الأكثر وقلنا إذا كان أكثر النفقة من مال
الميت فكأن الكل من مال الميت وإن كان أكثر النفقة من مال نفسه كان جميع نفقته
من مال نفسه فيكون الحج عنه ويضمن ما أنفق من مال الميت لأنه مخالف لامره فإنه أمر
بأن ينفق في سفر الحج بذلك السفر عن الميت لا عن نفسه وهذه المسألة تدل على أن الصحيح
من المذهب فيمن حج عن غيره ان أصل الحج يكون عن المحجوج عنه وأن إنفاق الحاج
من مال المحجوج عنه كانفاق المحجوج عنه من مال نفسه أن لو قدر على الخروج بنفسه وبنحوه
جاءت السنة فان النبي صلى الله عليه وسلم قال لسائلة حجي عن أبيك واعتمري وقال رجل
147

يا رسول الله ان أبى مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه فقال صلى الله عليه وسلم نعم وحديث
الخثعمية مشهور حيث قالت يا رسول الله إن فريضة الله الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع
أن يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه فقال صلوات الله تعالى عليه أرأيت لو كان
على أبيك دين فقضيته أكان يقبل منك قالت نعم فقال صلى الله عليه وسلم الله أحق أن يقبل
فدل ان أصل الحج يقع عن المحجوج عنه وروى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال للمحجوج
عنه ثواب النفقة فاما الحج يكون عن الحاج وهذا لان الحج عبادة بدنية والعبادات البدنية
لا تجرى النيابة في أدائها لان الواجب عليه انفاق المال في الطريق وأداء الحج فإذا عجز عن
أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر عليه وهو انفاق المال في الطريق فلزمه دفع المال لينفقه الحاج
في طريق الحج ولكن الأول أصح فان فرض الحج لا يسقط بهذا عن الحاج وكذلك في
هذه المسألة إذا كان أكثر نفقته من مال نفسه حتى صار حجه عن نفسه كان ضامنا لما أنفق
من مال الميت ولو كان للميت ثواب النفقة فقط لا يصير ضامنا لان ذلك قد حصل للميت
فلما قال يضمن ويحج به عن الميت من حيث يبلغ عرفنا ان الحج عن الميت (قال) وان أنفق
المدفوع إليه من مال نفسه وفى مال الميت وفاء بحجه رجع به في مال الميت إذا كان قد دفع
إليه وجاز الحج عن الميت لأنه قد يبتلى بالانفاق من مال نفسه في طريق الحج بأن لا يكون
مال الميت حاضرا أو يتعذر عليه إظهاره ولا فرق في حق الميت بين ان ينفق من ماله وبين
ان ينفق من مال نفسه فيرجع به في مال الميت كالوصي والوكيل يشترى لليتيم ويعطى الثمن
من مال نفسه يرجع به في مال اليتيم (قال) فان نوى الحاج عن الغير أن يقيم بمكة بعد
النفر خمسة عشر يوما بطلت نفقته من مال الميت لان بهذه النية صار مقيما بمكة وتوطنه بمكة
لحاجة نفسه لا لحاجة الميت فلا يستحق فيه النفقة في مال الميت وإنما استحقاق النفقة في
مال الميت في سفره ذاهبا وجائيا لأنه في ذلك عامل للميت وإن كان أقام دون خمسة عشر
يوما فهو مسافر على حاله فنفقته في مال الميت وقد كان بعض المتقدمين من مشايخنا رحمهم
الله تعالى يقول إن أقام بعد النفر ثلاثا فنفقته في مال الميت لأنه محتاج إلى هذا القدر من المقام
للاستراحة وان أقام أكثر من ذلك فنفقته في مال نفسه ولكن هذا الجواب كان في
زمانهم لأنه كان يقدر ان يخرج من مكة متى شاء فاما في زماننا لا يقدر على الخروج الا مع
الناس فإن كان مقامه بمكة لانتظار خروج قافلته فنفقته في مال الميت سواء أقام خمسة عشر
148

يوما أو أقل أو أكثر لأنه لا يقدر على الخروج الا معهم فلم يكن هو متوطنا بمكة لحاجة
نفسه وان أقام بعد خروج قافلته فحينئذ ينفق من مال نفسه فان بدا له بعد المقام أن يرجع
فنفقته في مال الميت لأنه كان استحق نفقة الرجوع في مال الميت وإنما كان ينفق من مال
نفسه لتأخير الرجوع فإذا أخذ في الرجوع عادت نفقة الرجوع في مال الميت وهو نظير
الناشزة إذا عادت إلى بيت زوجها تستحق النفقة وكذلك المضارب إذا أقام في بلدته أو في
بلدة أخرى ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لحاجة نفسه لم ينفق من مال المضاربة فان خرج
مسافرا بعد ذلك كانت النفقة في مال المضاربة وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه قالا لا تعود نفقته في مال الميت هنا لان القياس أن لا يستوجب نفقة الرجوع في مال
الميت لأنه في حق الرجوع عامل لنفسه لا للميت ولكنا تركنا ذلك وقلنا أصل سفره كان
لعمل الميت فما بقي ذلك السفر تبقى نفقته في مال الميت وبالوصول لم يبق ذلك السفر ثم هو
أنشأ سفرا بعد ذلك لحاجة نفسه وهو الرجوع إلى وطنه فلا يستوجب لهذا السفر النفقة
في مال الميت ولم يذكر في الكتاب أنه إذا وصل إلى مكة قبل وقت الحج بزمان كيف
يكون حاله في الانفاق وقد ذكر في النوادر عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه إذا
قدم في الأيام العشر فنفقته في مال الميت وان قدم قبل ذلك أنفق من مال نفسه إلى أن
تدخل أيام العشر ثم نفقته في مال الميت بعد ذلك لان العادة ان قدوم قوافل مكة يتقدم
ويتأخر ولكنه في الأيام العشر. وافق لما هو العادة فأما قدومه قبل أيام العشر مخالف لما هو
العادة وهو في هذه الإقامة ليس يعمل للميت شيئا فلهذا كانت نفقته في مال نفسه (قال)
فان أوصى أن يحج عنه بألف درهم فبلغت حججا فالوصي بالخيار ان شاء دفع كل سنة حجة
وإن شاء أحج عنه رجالا في سنة واحدة وهو أفضل لان الوصية بالحج بمال مقدر بمنزلة الوصية
بالتصدق بمال مقدر وفي ذلك الوصي بالخيار بين التقديم والتأخير والتعجيل أفضل لأنه
أقرب إلى تحصيل مقصود الموصى وأبعد عن فوات مقصوده بهلاك المال (قال) وإذا
حج العبد بإذن مولاه فان ذلك لا يجزئه عن حجة الاسلام لقوله صلى الله عليه وسلم أيما
عبد حج ولو عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا عتق وأيما صبي حج ولو عشر حجج فعليه
حجة الاسلام إذا بلغ وأيما اعرابي حج ولو عشر حجج فعليه حجة الاسلام إذا هاجر
وإنما قال هذا حين كانت الهجرة فريضة وكان المعنى فيه أن العتق من شرائط وجوب
149

الحج والا يتحقق الوجوب بدون شرطه فيكون المؤدى قبل وجود الشرط نفلا فلا ينوب
عن الفرض وهذا بخلاف الفقير إذا حج ثم استغنى حين جاز ما أدى عن الفرض لان
ملك المال ليس بشرط للوجوب إنما شرط الوجوب التمكن من الوصول إلى موضع الأداء
الا ترى أن المكي الذي هو في موضع الأداء لا يعتبر في حقه ملك المال وفي حق الآفاقي
لا يتقدر المال بالنصاب بل يختلف ذلك باختلاف قربه من موضع الأداء وبعده فعرفنا ان
الشرط هو التمكن من الوصول إلى موضع الأداء فبأي طريق وصل الفقير إلى ذلك
الموضع وجب الأداء فإنما حصل أداؤه بعد الوجوب فكان فرضا فاما العتق من شرائط
الوجوب فان العبد الذي هو بمكة لا يلزمه الحج فالمؤدى قبل العتق لا يكون فرضا توضيحه
أنه إنما أدى الحج بمنافعه ومنافع الفقير حقه فإذا أداه بما هو حقه كان فرضا فأما منافع العبد
لمولاه وباذن مولاه لا تخرج المنفعة من ملكه فإنما أداه بما هو ملك الغير وملك الغير لا يسقط
ما هو فرض العمر عنه وهذا بخلاف الجمعة إذا أداها بإذن المولى لان الجمعة تؤدى في وقت
الظهر ومنافعه لأداء الظهر صارت مستثناة عن حق المولى فإنما أداه بمنافع مملوكة له فهذا جائز
عنه بخلاف ما نحن فيه فان هذا غير مستثنى من حق المولى فلا تتأدى به حجة الاسلام (قال)
فان أصاب صيدا فعليه الصيام لأنه صار جانيا على احرامه بقتل الصيد وهو ليس من أهل
التكفير بإراقة الدم ولا بالاطعام فيكفر بالصوم كما إذا حنث في يمينه كان عليه أن يكفر
بالصوم (قال) وان جامع مضى فيه حتى يفرغ منه لان حجه وان فسد لكن عليه المضي
في الفاسد وان احرامه كأن لازما فلا يخرج عنه الا بأداء أفعال الحج فاسدا كان أو صحيحا
وعليه الهدى إذا عتق لتعجل الاحلال بالجماع وهذا الدم لا يقوم الصوم مقامه والأصل
في كل دم لا يقوم الصوم مقامه يتأخر عن العبد حتى يعتق وكل ما يقوم الصوم مقامه فعليه
أن يؤديه بالصوم وعليه حجة مكان هذه ينوى حجة الاسلام لأنه أفسدها بعد ما صح
شروعه فيها فعليه قضاؤها وإن لم يجامع ولكنه فاته الحج يحل بالطواف والسعي والحلق
لأنه بعد صحة شروعه في الاحرام يتحلل بما يتحلل به الحر والحر إنما يتحلل بعد فوات الحج
باعمال العمرة فكذلك العبد وعليه أن يحج حجة إذا عتق سوى حجة الاسلام لفوات
ما شرع فيه وان أطعم عنه مولاه أو ذبح عنه من الدماء ما يلزمه لا يجزئه لأنه لم يصر مالكا
للطعام الذي يؤدى في الكفارة ولا لما يراق دمه فان الرق ينافي الملك وبدون الملك فيما
150

كفر به لا تسقط عنه الكفارة الا في الاحصار خاصة فان على مولاه أن يبعث بهدى عنه
حتى يحل لأنه هو الذي أدخله في هذه العهدة باذنه بالاحرام فإنه لو أحرم بغير إذنه كان له
أن يحلله بغير هدى فإذا أحرم باذنه كان المولى هو المكتسب لسبب وجوب هذا الدم فعليه
أن يحلله ولا يبعد أن يجب على المولى حق بسبب عبده كما يجب عليه صدقة الفطر عن عبده ثم على
العبد إذا عتق حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر إذا كان حرا ويتحلل بالهدى العبد إذا تحلل
به (قال) وإذا أراد الرجل ان يحج رجلا عن نفسه فأحب إلى أن يحج رجلا قد حج عن
نفسه لأنه أبعد عن اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى ولأنه أهدى في إقامة أعمال الحج لصيرورتها
معهودة عنده فان أحج ضرورة عن نفسه يجوز عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى
لا يجوز ويكون حج الضرورة عن نفسه لا عن الآمر وحجته ما ورى عن النبي صلى الله عليه
وسلم انه رأى رجلا يلبي عن شبرمة فقال عليه الصلاة والسلام من شبرمة فقال أخ لي أو
صديق لي فقال عليه الصلاة والسلام حج عن نفسك ثم عن شبرمة وحجتنا في ذلك حديث
الخثعمية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز لها ان تحج عن أبيها ولم يستفسر انها حجت
عن نفسها أولا وفى الحديث الأخير تعارض فقد روى أنه سمع رجلا يلبى عن نبيشة فقال من
نبيشة فقال صديق لي فقال إذا حججت عن نبيشة فحج عن نفسك وتأويل الحديث الأخير
ان ذلك الرجل لم يحرم بعد ولكن على سبيل التعليم للكيفية في التلبية عن الغير فأشار عليه
عليه الصلاة والسلام بأن يبدأ بالحج عن نفسه وبه نقول إن الأفضل ان يحج عن نفسه أولا
والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في الضرورة إذا حج بنية النفل عندنا حجه يكون نفلا
وعند الشافعي رحمه الله تعالى يكون عن حجة الاسلام وحجته في ذلك أن نية النفل لغو
لأنه عبارة عن الزيادة ولا يتصور ذلك قبل الأصل وإذا لغت نية النفل يبقى مطلق نية الحج
وبمطلق النية يتأدى الفرض بدل عليه ان نية النفل نوع سفه قبل أداء حجة الاسلام
والسفيه مستحق الحجر فجعل نية النفل لغوا تحقيقا لمعنى الحجر فيبقى مطلق النية ويجوز ان
تتأدى حجة الاسلام بغير نية كما في المغمى عليه إذا أحرم عنه أصحابه فبنية النفل أولى
وحجتنا في ذلك أن وقت أداء الفرض في الحج يتسع لأداء النفل فلا يتأدى الفرض منه
بنية النفل كالصلاة بخلاف الصوم عندنا ووقت أداء الصوم لا يتسع لأداء النفل وهذا
لان الحج عبادة معلومة بالأفعال لا بالوقت فكان الوقت ظرفا له لا معيارا وفى مثله
151

لا يتميز الفرض من النفل الا بالتعيين وقوله يتأدى بمطلق النية قلنا عندنا لا يتأدى الا بالتعيين
غير أن التعيين يثبت بالنص تارة وبالدلالة أخرى وفي الحج التعيين حاصل بدلالة العرف
فالظاهر أن الانسان لا يتحمل المشقة العظيمة ثم يشتغل بأداء النفل مع بقاء الفرض عليه والتعيين
بالعرف كالتعيين بالنص كمن اشترى بدراهم مطلقة ينصرف إلى نقد البلد بدلالة العرف وإنما
يعتبر العرف إذا لم يوجد التصريح بخلافه فإذا صرح بنية النفل سقط اعتبار العرف فكان
حجه عما نوى وما قال باطل على أصله في الصوم فإنه لا يلغى اعتبار نية النفل بل يجعله معتبرا
في الاعراض عن الفرض والمغمى عليه آذن لأصحابه بطريق الدلالة في الاحرام عنه فينزل
ذلك منزلة الاذن افصاحا فإنما يتأدى له الحج بالنية وان أراد أن يعين رجلا بماله للحج عن
نفسه فالصرورة أولى بذلك ممن قد حج لان الصرورة بماله يتوسل إلى أداء الفرض ومن قد
حج مرة يتوسل إلى أداء النفل وكما أن درجة أداء الفرض أعلى كانت الإعانة عليه بالمال أولى
(قال) والحج التطوع جائز عن الصحيح يريد به أن الصحيح البدن إذا أحج رجلا بماله
على سبيل التطوع عنه فهو جائز لان هذا انفاق المال في طريق الحج ولو فعله بنفسه كان
طاعة عظيمة فكذلك إذا صرفه إلى غيره ليفعله عنه يكون جائزا وكونه صحيحا لا يمنعه عن
أداء التطوع بهذا الطريق وإن كان يمنعه عن أداء الفرض لان في التطوع الامر موسع
عليه ألا ترى ان في الصلاة يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام وان كأن لا يجوز
ذلك في الفرض فكذا هنا في حجة الاسلام والحاصل ان العبادات المالية المقصود منها
صرف المال إلى سد خلة المحتاج وذلك يحصل نيابة فيجوز الإنابة فيها في حالة الاختيار
والضرورة والعبادات البدنية المحضة المقصود منها اما التعظيم بالجوارح كالصلاة وإما إتعاب
النفس الامارة بالسوء ابتغاء مرضات الله تعالى وذلك لا يحصل بالنائب أصلا ولا تجرى
النيابة في أدائها والحج فيه المعنيان جميعا معنى التعظيم للبقعة وذلك بالنائب يحصل ومعنى
تحمل المشقة للتوسل إلى أدائها وذلك بالنائب الا يحصل فلا تجزئ النيابة فيها عند القدرة
على الأداء بنفسه لانعدام أحد المعنيين في الأداء بالنائب وتجزى النيابة فيها عند تحقق
العجز عن الأداء بالبدن لحصول أحد المعنيين بالنائب وفى العبادات البدنية المعتبر الوسع
ولا يعتبر العجز للحال لان الحج فرض العمر فيعتبر فيه عجز مستغرق لبقية العمر ليقع به
اليأس عن الأداء بالبدن فقلنا إن كان عجزه بمعنى لا يزول أصلا كالزمانة يجوز لأداء بالنائب
152

مطلقا وإن كان عارضا يتوهم زواله بان كان مريضا أو مسجونا فإذا أدى بالنائب كان ذلك
مراعى فان دام به العذر إلى أن مات تحقق اليأس عن الأداء بالبدن فوقع المؤدى موقع
الجواز وان برأ من مرضه تبين انه لم يقع فيه اليأس عن الأداء بالبدن فكان عليه حجة
لاسلام والمؤدي تطوع له والمال جعل خلفا عن القدرة على الأداء بالبدن في جواز الأداء به
بعد تقرر الوجوب فأما في ثبوت حكم الوجوب بسببه ففيه اختلاف العلماء فالمذهب عندنا
ان المعضوب والمقعد والزمن لا يجب عليه الحج باعتبار ملك المال وعلى قول الشافعي رحمه الله
تعالى يجب وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وحجته في ذلك حديث الخثعمية
حيث قالت إن فريضة الله الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على
الراحلة فقولها شيخا كبيرا نصب على الحال يعنى لزمه الحج في هذه الحالة ولم ينكر عليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فدل أن الحج يجب على المعضوب والمقعد والزمن
والمعني فيه أن شرط الوجوب التمكن من أداء الواجب بالمال فإذا جاز أداء الواجب بالمال
عند العجز عن الأداء بالبدن عرفنا أن شرط الوجوب يتم به وإذا جاز بقاء الواجب بعد
وقوع اليأس عن الأداء بالبدن يؤدى بالمال فكذلك يثبت الوجوب بالبدن ابتداء
بهذه الصفة كالصوم في حق الشيخ الفاني يجب باعتبار بدله وهو الفدية وحجتنا
في ذلك قوله تعالى من استطاع إليه سبيلا فإنما أوجب الله تعالى الحج على من يستطيع
الوصول إلى بيت الله تعالى والزمن لا يستطيع الوصول إلى بيت الله تعالى فلا يتناوله
هذا الخطاب ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشرط مالا يوصله إلى البيت
بقوله من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى وزاد المعضوب وراحلته لا يبلغانه بيت
الله تعالى فصار وجوده كعدمه ولان المقصود بهذه العبادة تعظيم البقعة بالزيارة والمال
شرط ليتوسل به إلى هذا المقصود وما هو المقصود فائت في حق المعضوب ولا يعتبر
وجود الشرط لان الشرط تبع والتبع لا يقوم مقام الأصل في اثبات الحكم به ابتداء وإن كان
يبقى الحكم بعد ثبوته باعتباره واعتبار الابتداء بالبقاء فاسد فإنه إذا افتقر بهلاك ماله
بعد ما وجب الحج عليه يبقى واجبا ثم لا يجب ابتداء على الفقير وليس هذا نظير الفدية
في حق الشيخ الفاني لأنه بدل عن أصل الصوم بالنص فيجوز أن يجب الأصل باعتبار
البدل وهناك المال ليس يبدل عن أصل الحج ألا ترى أنه لا يتأدى بالمال وإنما يتأدى
153

بمباشرة النائب بالحج عنه فإذا لم يكن المال بدلا عن أصل الحج لا يثبت الوجوب
باعتباره والروايات اختلفت في الخثعمية ففي بعضها قالت هو شيخ كبير وهذا بيان أنه في
الحال بهذه الصفة لا أنه في وقت لوجوب بهذه الصفة ثم مرادها أن تزول فريضة
الحج عنه في حال كونه شيخا لا انه وجب عليه ولظاهر هذا الحديث قال الشافعي رحمه الله
تعالى المعضوب الذي لا مال له إذا بذل ولده له الطاعة ليحج عنه يلزمه فرض الحج
وبطاعة غيره من القرابات لا يلزمه لان الخثعمية لما بذلت الطاعة جعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم الحج دينا على أبيها بقوله فدين الله أحق ولم يستفسر أنه غنى أو فقير
فدل أن يبذل الولد الطاعة يلزمه الحج وهذا لان الولد كسبه فيكون بمنزلة ما له فكما أن
القدرة على الأداء بالمال تكفى للإيجاب عنده فكذلك القدرة بمنفعة الابن الذي هو كسبه
وهذا لأنه ليس للولد في هذه الطاعة كثير منة على أبيه بخلاف سائر القرابات فان ذلك
لا يخلو عن منة وحجتنا في ذلك أن الولد متبرع في بذل هذه الطاعة كغيره فلا يجوز أن
يكون تبرعه موجبا للحج على الأب. ألا ترى أن الابن لو بذل المال لأبيه لا يلزمه قبوله
ولا يجب الحج باعتبار هذا البذل فكذلك ببذل الطاعة بل أولى لان هناك لم يكن للابن
أن يرجع بعد ذلك ليتمكن الأب من مكافأته إذا استفاد مالا وهنا للابن أن يرجع عما بذل
من الطاعة فإذا لم يجب الحج على الوالد ببذل الولد المال فببذله الطاعة أولى وعلى الأصل
الذي قلنا إن المعتبر استطاعة توصله إلى البيت يتضح الكلام في هذه المسألة وعلى هذا
الأصل قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الأعمى لا يلزمه الحج وان وجد مالا وقائدا وعلى قول
أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يلزمه ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى وجه قولهما أن الأعمى متمكن من الأداء ببدنه ولكنه محتاج إلى قائد يهديه إلى ذلك
فيكون بمنزلة الضال والذي ضل الطريق إذا وجد من يهديه إلى الطريق يلزمه الحج وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى يقول هو عاجز عن الوصول إلى البيت بنفسه فكان بمنزلة المعضوب وهذا لان
ملك المال إنما يعتبر إذا كان يوصله إلى البيت والمال هنا لا يوصله إليه وبذل القائد الطاعة
غير معتبر فكان وجود ذلك كعدمه فلهذا لا يلزمه الحج وأما إذا مات الرجل فأوصى بأن
يحج عنه فعلى الوصي أن يحج بماله لان بموته تحقق العجز عن الأداء بالبدن والوصي قائم
مقامه فكما أنه بعد وقوع اليأس يحج بماله في حياته فكذا وصيه تقوم مقامه بعد موته
154

والأولى أن يحجج الوصي بماله رجلا فان حجج امرأة جاز مع الكراهة لان حج المرأة أنقص
لأنه ليس فيه رمل ولا سعى في بطن الوادي ولا رفع الصوت بالتلبية ولا الحلق فكان احجاج
الرجل عنه أكمل من احجاج المرأة (قال) وان أحج بماله رجلا فجامع ذلك الرجل في احرامه
قبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه وهو ضامن للنفقة لأنه أمر بانفاق المال في سفر يؤدى
به حجا صحيحا فبالافساد يصير مخالفا فيكون ضامنا للنفقة وعليه المضي في الفاسد والدم
وقضاء الحج وبهذا استدل محمد رحمه الله تعالى أن أصل الحج يكون للحاج حتى أن القضاء عليه
عند الافساد دون المحجوج عنه فأما على ظاهر الرواية إذا وافق فالحج عن المحجوج عنه
ألا ترى أنه لا بدله من أن ينوى عن المحجوج عنه ولكن إذا خالف خرج من أن يكون بأمر
المحجوج عنه فكان واقعا عن نفسه فعليه موجبه كالوكيل بالشراء إذا وافق كان مشتريا لامره
ولو خالف كان مشتريا لنفسه (قال) ولو قرن مع الحج عمرة كان مخالفا ضامنا للنفقة عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا يصير مخالفا استحسانا لأنه أتى بالمأمور به وزاد عليه ما يجانسه
فلا يصير به مخالفا كالوكيل بالبيع إذا باع بأكثر مما سمى له من جنسه توضيحه أن القران
أفضل من الافراد فهو بالقران زاد للميت خيرا فلا يكون مخالفا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى
يقول هو مأمور بانفاق المال في سفر مجرد للحج وسفره هذا ما تفرد للحج بل للحج والعمرة
جميعا فكان مخالفا كما لو تمتع ولأن العمرة التي زادها لا تقع عن الميت لأنه لم يأمره بذلك
ولا ولاية عليه للحاج في أداء النسك عنه الا بقدر ما أمره ألا ترى أنه لو لم يأمره بشئ لم
يجز أداؤه عنه فكذلك إذا لم يأمره بالعمرة فإذا لم تكن عمرته عن الميت صار كأنه نوى
العمرة عن نفسه وهناك يصير مخالفا فكذا هنا إلا أنه ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف
رحمهما الله تعالى أنه وان نوى العمرة عن نفسه لا يصير مخالفا ولكن يرد من النفقة بقدر
حصة العمرة التي أداها عن نفسه وذهب في ذلك إلى أنه مأمور بتحصيل الحج للميت بجميع
النفقة فإذا ضم إليه عمرة نفسه فقد حصل الحج للميت ببعض النفقة وبهذا لا يكون مخالفا
كالوكيل بشراء عبد بألف إذا اشتراه بخمسمائة ولكن هذا ليس بشئ فإنه مأمور بأن
يجرد السفر للميت فإذا اعتمر لنفسه لم يجرد السفر للميت ثم الذي يحصل للميت ثواب
النفقة فبقدر ما ينتقص به ينتقص من الثواب فكان هذا الخلاف ضررا عليه لا منفعة له
ثم دم القران عندهما يكون على الحاج من مال نفسه وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
155

إذا كان مأمورا بالقران من جهة الميت حتى لم يصر مخالفا لان دم القران نسك وسائر
المناسك عليه فكذلك هذا النسك ولان لهذا الدم بدلا وهو الصوم ولو كان معسرا لم يشكل ان
الصوم عليه دون المحجوج عنه فكذلك الهدى يكون عليه (قال) وكذلك لو أمر
بالعمرة عن الميت فقرن معها حجة فهو على الخلاف الذي ذكرنا إلا أن على قولهما نفقة
ما بقي من الحج بعد أداء العمرة يكون على الحاج خاصة لأنه في ذلك عامل لنفسه لا للميت
فلا يستوجب النفقة في مال الميت وبهذا الفصل يتضح كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى على
ما بينا (قال) وإذا كان أمر بالحج فبدأ واعتمر في أشهر الحج ثم حج من مكة كان مخالفا
في قولهم جميعا لأنه مأمور بان يحج عن الميت من الميقات والمتمتع يحج من جوف مكة
فكان هذا غير ما أمر به ولأنه مأمور بالاتفاق في سفر يعمل فيه للميت وإنما أنفق في سفر
كان عاملا فيه لنفسه لان سفره إنما كان للعمرة وهو في العمرة عامل لنفسه (قال) وكل
دم يلزمه المجهز يعنى الحاج عن الغير فهو عليه في ماله لأنه إن كان دم نسك فإقامة المناسك
عليه وإن كان دم كفارة فالجناية وجدت منه وإن كان دما وجب بترك واجب فهو الذي
ترك ما كان واجبا عليه فلهذا كانت هذه الدماء عليه في ماله الا دم الاحصار فإنه في مال
المحجوج عنه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
هو على الحاج أيضا لان وجوبه لتعجيل الاحلال فيكون قياس الدم الواجب بالجماع ولأنه في
معنى دم القران لأنه مشروع للتحلل وهما احتجا وقالا دم الاحصار للخروج عن الاحرام وهو
بمباشرة الاحرام كان عاملا للميت فكان الميت هو المدخل له في هذا حكما فعليه اخراجه كما
بينا في العبد إذا أحرم بإذن مولاه ثم أحصر كان عليه اخراجه توضيحه أن دم الاحصار بمنزلة
نفقة الرجوع ونفقة الرجوع في مال الميت وكان الحاج هو المنتفع به فكذلك دم الاحصار
في ماله وإن كان الحاج هو المنتفع به ثم يرد ما بقي من المال على وصى الميت فيحج به انسانا
من حيث يبلغ ولا ضمان عليه فيما أنفق لأنه لم يكن مخالفا لامر الميت فيما أنفق الا ترى أنه
لو مات في الطريق لم يضمن ما أنفق فكذلك إذا أحصر وقوله من حيث يبلغ يعني إذ كان
ما بقي من المال لا يمكن أن يحج به من منزل الميت فيحج به من حيث يمكن وصار هذا كما لو لم
يبلغ في الابتداء ثلث ماله الا هذا القدر فيحج به بحسب الامكان وأصل المسألة ان من أوصى
بأن يحج عنه بثلث ماله فإنما يحج من منزله لأنه لو خرج للحج بنفسه كان يخرج من منزله فكذلك
156

يحج عنه بعد موته من منزله فإن كان ثلث ماله لا يكفي للحج من منزله يحج عنه من حيث يبلغ
استحسانا وفى القياس تبطل هذه الوصية لأنه عجز الوصي عن تنفيذ ما أمر به وهو الحج من
منزله فكان هذا بمنزلة ما إذا أوصي بأن يشترى نسمة بألف درهم فتعتق عنه وكان ثلث ماله دون
الألف درهم تبطل الوصية وجه لاستحسان ان المقصود من الحج ابتغاء مرضاة الله تعالى
ونيل الثواب فيكون بمنزلة الوصية بالصدقة وذلك ينفذ بحسب الامكان بخلاف الوصية بالعتق
فان العبد إن كان معينا فالوصية تقع له وكذلك إن لم يكن معينا فإنما أوصى بعبد يساوى ألفا فلا
يجوز تنفيذه بعبد يساوي خمسمائة فلو وجدوا من يحج عن الميت من منزله بذلك المال ماشيا
لا يجوز لهم ان يحجوا من منزله وإنما يجوز من حيث يبلغ راكبا حتى قال محمد رحمه الله تعالى
في النوادر راكب البعير في ذلك أفضل من راكب الحمار وهذا لأنه لا يلزمه ان يحج بنفسه
ماشيا وان وجد النفقة فكذلك لا يحج عنه ماشيا لان الحاصل للميت ثواب النفقة على ما بينا
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال الخيار إلى الوصي ان شاء أحج عنه من
حيث يبلغ راكبا وان شاء من منزله ماشيا لان في أحد الجانبين زيادة في المسافة ونقصان في
النفقة وفي الجانب الآخر زيادة في النفقة ونقصان في المسافة وفي كل واحد منهما نيل
الثواب فيختار الوصي أي الجانبين شاء فاما المحصر بعد ما تحلل فعليه قضاء الحج والعمرة
بمنزلة ما لو كان أحرم عن نفسه فتحلل بالهدى وهذا شاهد لمحمد رحمه الله تعالى فان المحصر
غير مخالف ومع ذلك كان قضاء الحجة والعمرة عليه فدل ان أصل حجه عن نفسه وان
للميت ثواب النفقة فان أمره رجلان كل واحد منهما بالحج فأهل بحجة عنهما كان ضامنا
لهما جميعا لان كل واحد منهما أمره بأن ينفق من ماله في سفر يخلص له وان ينويه بعينه
عند الاحرام وإذا لم يفعل صار مخالفا ولا يستطيع ان يجعل الحجة لواحد منهما لأنهما قد لزماه
عن نفسه وهذا لأنه حين نواهما ولم يمكن تصحيح نيته عنهما لان الحجة الواحدة لا تكون
عن الاثنين وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت نيته عنهما فبقيت نية أصل الاحرام
فكان محرما عن نفسه فلا يستطيع ان يحوله إلى غيره من بعد وهذا بخلاف من أحرم
عن أبويه كان له أن يجعله عن أيهما شاء لأنه متبرع وكان ذلك أمرا بينه وبين الله تعالى
فلا يتحقق الخلاف في تركه تعيين أحدهما في الابتداء بل يجعل التعيين في الانتهاء كالتعيين
في الابتداء وهنا هو غير متبرع فيما صنع وهذا أمر بينه وبين العباد فبترك التعيين في
157

الابتداء يصير مخالفا وان أمره أحدهما بالحج والآخر بالعمرة ولم يأمراه بالجمع فجمع بينهما
كان مخالفا أيضا لأنه ما أتي بسفر خالص لواحد منهما فلم يكن مستوجبا للنفقة في مال واحد
منهما وان أمراه بالجمع جاز لان كل واحد منهما صرح أن مقصوده تحصيل النسك لا
خلوص السفر له وقد حصل مقصود كل واحد منهما ولا ضمان عليه فيما أنفق من مالهما
وهدى المتعة عليه في ماله وكذلك أن أمره بالقران رجل واحد لان الهدى نسك وسائر
المناسك على الحاج فكذا هذا النسك (قال) رجل استأجر رجلا ليحج عنه لم تجز الإجارة
عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى تجوز واصل المسألة ان الاستئجار على الطاعات التي لا يجوز
أداؤها من الكفار لا يجوز عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه كل مالا يتعين على الأجير أداؤه
يجوز الاستئجار عليه إذا كان تجزى فيه النيابة واستدل بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
حيث رقى الملدوغ بفاتحة الكتاب فأعطى قطيعا من الغنم فسأل عن ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق والرقية بهذه الصفة طاعة
ثم جوز أخذ البدل عليه والمعنى فيه أن الحج تجزى فيه النيابة في الأداء ولا يتعين على الأجير
اقامته فيجوز استئجاره عليه كبناء الرباط والمسجد وبهذا الوصف تبين ان عمل الأجير
وقع للمستأجر والدليل عليه انه استوجب النفقة في ماله عندكم وإنما يستوجب النفقة في ماله
إذا عمل له والدليل عليه أنه إذا خالف لا يستوجب النفقة عليه وإذا وقع عمله له استحق الاجر
عليه بخلاف من استؤجر على الإمامة فان عمله في الصلاة يقع له لا لغيره وكذلك من استؤجر
على الجهاد فان المجاهد يؤدى الفرض لنفسه فلا يكون عمله لغيره وحجتنا في ذلك حديث
مرداس السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياك والخبز الرقاق والشرط
على كتاب الله وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه حين علم سورة من القرآن فأعطى قوسا
فقال صلى الله عليه وسلم أتحب ان يقوسك الله بقوس من النار فقال لا فقال صلوات الله عليه رد
عليه قوسه وفي حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال إذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا ولان المباشر لعمل الطاعة عمله لله
تعالى فلا يصير مسلما إلى المستأجر فلا يجب الاجر عليه بخلاف بناء الرباط والمسجد فالعمل
هناك ليس بعبادة محضة بدليل أنه يصح من الكافر والدليل عليه أن المؤذن والمصلى خليفة
النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما كان يأخذ أجرا كما قال الله تعالى قل لا أسئلكم عليه أجرا
158

الآية فكذلك الخليفة وأما حديث الرقية قلنا كان ذلك مالا أخذه من الحربي بطريق
الغنيمة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اضربوا لي فيها بسهم مع أن ذلك لم يكن
مشروطا بعينه وعندنا ما ليس بمشروط يجوز أخذه وإذا ثبت ان الاستئجار على الحج
لا يجوز قلنا العقد الذي لا جواز له بحال يكون وجوده كعدمه وإذا سقط اعتبار العقد بقي
أمره بالحج فيكون له نفقة مثله في ماله وهذه النفقة ليس يستحقها بطريق العوض ولكن
يستحق كفايته لأنه فرغ نفسه لعمل ينتفع به المستأجر فيستحق الكفاية في ماله كالقاضي
يستحق كفايته في بيت المال والعالم يستحق الكفاية في مال الصدقة والمرأة تستحق
النفقة في مال الزوج لا بطريق العوض (قال) ويجوز حجة الاسلام عن المحبوس إذا مات قبل
أن يخرج لأنه قد تحقق اليأس عن الأداء بالبدن (قال) والحاج عن غيره ان شاء قال لبيك
عن فلان وان شاء اكتفى بالنية بمنزلة الحاج عن نفسه ان شاء صرح بالحج عند الاحرام
وان شاء نوى واكتفى بالنية (قال) وإن كان الميت أوصى بالقران فخرج المجهز يؤم البيت
وساق هديا فقلده يكون محرما بهما جميعا لان احرامه عن غيره معتبر باحرامه عن نفسه
وقد بينا أن ذلك يحصل بسوق الهدى كما يحصل بالتلبية فكذلك احرامه عن غيره وكذلك
إن لم يكن الهدى لقرانه إنما هو من نذر كان عليه أو من جزاء صيد أو من جماع في احرام
قبل هذا أو احصار كان قبل هذا فساق معه لذلك هديا بدنة وقلدها محرم على قياس
ما لو نوى الاحرام عن نفسه فإنه يصير محرما بتقليد هذه الهدايا وسوقها فكذلك إذا نوى
الاحرام عن غيره لأن هذه الهدايا عليه في ماله على كل حال (قال) رجل أمره رجلان أن
يحج عن كل واحد منهما فأهل بحجة عن أحدهما لا ينوى عن واحد منهما قال له أن
يصرفه إلى أيهما شاء في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى أرى ذلك عن نفسه وهو ضامن لنفقتهما وحجته في ذلك أنه مأمور من كل واحد
منهما بتعيين النية له فإذا لم يفعل صار مخالفا كما إذا نوى عنهما جميعا بخلاف الحاج عن
الأبوين فإنه غير مأمور به من جهتهما. ألا ترى أنه يصح نيته عنهما فكذلك عن أحدهما
بغير عينه وهذا لأن النية بمنزلة الركن في العبادات فان قيمة العمل يكون بالنية فبتركه تعيين
النية يكون مخالفا في حق كل واحد منهما وهما قالا الابهام في الابتداء لا يمنع من انعقاد
الاحرام صحيحا والتعيين في الانتهاء بمنزلة التعيين في الابتداء. ألا ترى أنه لو أحرم لا ينوى
159

حجة ولا عمرة بعينها كان له أن يعين في الانتهاء ويجعل ذلك كتعيينه في الابتداء وهذا
لان الاحرام بمنزلة الشرط لأداء النسك. ألا ترى أنه يصح في غير وقت لأداء ولا يتصل
به الأداء فتركه نية التعيين فيه لا يجعله مخالفا وإذا عين قبل الاشتغال بعمل الأداء كان
ذلك كالتعيين في الابتداء حتى أنه لو اشتغل بالطواف قبل التعيين لم يكن له أن يعين
بعد ذلك عن واحد منهما لأنه لما اشتغل بالعمل تعين احرامه عن نفسه فان أداء العمل مع
ابهام النسك لا يكون وليس أحدهما بأولى من الآخر فتعين احرامه عن نفسه فلا يملك
أن يجعله لغيره بعد ذلك (قال) وإذا أهل الرجل عن نفسه وعن ولده الصغير الذي معه
ثم أصاب صيدا فعليه دم واحد ولا يجب عليه من جهة اهلاله عن ابنه شئ لان عبارته
في اهلاله عن ابنه كعبارة ابنه أن لو كان من أهله فيصير الابن محرما بهذا لا أن يصير
الأب محرما عنه بقي للأب احرام واحد فعليه جزاء واحد بخلاف القارن فهو محرم عن
نفسه باحرامين فكان عليه جزاءان (قال) وإذا أم الرجل البيت فأغمى عليه فأهل عنه
أصحابه بالحج ووقفوا به في المواقف وقضوا له النسك كله قال يجزيه ذلك عن حجة الاسلام
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجزيه والقياس
قولهما لأنه لم يأمر أصحابه بالاحرام عنه وليس للأصحاب عليه ولاية فلا يصير هو محرما
باحرامهم عنه لان عقد الاحرام عقد لازم والزام العقد على الغير لا يكون الا بولاية ولان
الاحرام لا ينعقد الا بالنية وقد انعدمت النية من المغمى عليه حقيقة وحكما لان نية الغير عنه
بدون أمره لا تقوم مقام نيته والدليل عليه ان سائر المناسك لا تتأدى بأداء الأصحاب عنه
فكذلك الاحرام وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو أنه لما عاقدهم عقد الرفقة فقد
استعان بهم في كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والاذن دلالة بمنزلة الاذن فصاحا كما في
شرب ماء السقاية وكمن نصب القدر على الكانون وجعل فيه اللحم وأو قد النار تحته فجاء
انسان وطبخه لم يكن ضامنا لوجود الاذن دلالة وإذا ثبت الاذن قامت نيتهم مقام نيته كما
لو كان أمرهم بذلك نصا وأما سائر المناسك فالأصح أن نياتهم عنه في أدائها صحيح إلا أن
الأولى أن يقفوا به وأن يطوفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقا ولو أدوا عنه جاز
ومن أصحابنا من فرق فقال الاحرام بمنزلة الشرط فتجزى النيابة في الشروط وإن كان
لا تجزى في لاعمال. ألا ترى أن المحدث إذا غسل أعضاءه غيره كان له أن يصل بتلك
160

الطهارة وان كانت النيابة لا تجزى في أعمال الصلاة توضيحه ان النيابة عند تحقق العجز ففي
أصل الاحرام تحقق عجزه عنه بسبب الاغماء فينوب عنه أصحابه فأما في أداء الاعمال لم يتحقق
العجز لأنهم إذا أحضروه المواقف كان هو الواقف وإذا طافوا به كان هو الطائف بمنزلة من
طاف راكبا لعذر (قال) فان أصاب الذي أهل عن المغمى عليه صيدا فعليه الجزاء من
قبل اهلاله عن نفسه إن كان محرما وليس عليه من جهة اهلاله عن المغمى عليه شئ لما بينا
أن بهذا الاهلال يصير المغمي عليه محرما كما لو أمره به إفصاحا فأما المهل بهذا الاهلال
لا يصير محرما فلا يلزمه الجزاء باعتبار احرامه (قال) وإذا حج الرجل عن أبيه أو عن أمه
حجة الاسلام من غير وصية أوصى بها الميت أجزأه إن شاء الله تعالى (قال) بلغنا عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك
فقالت نعم فقال صلوات الله عليه الله أحق أن يقبل وفى الحديث الآخر قال صلى الله عليه
وسلم للتي سألته أن تحج عن أبيها حجي واعتمري وأن سعد بن أبي وقاص رضى الله تعالى
عنه قال يا رسول الله ان أمي قد توفيت وانها كانت تحب الصدقة أفأتصدق عنها فقال نعم
فهذه الآثار تدل على أن الوارث يتبرع على مورثه بمثل هذه القرب فان قيل فلماذا قيد
الجواب الاستثناء بعد ما صح الحديث فيه (قلنا) لان خبر الواحد لا يوجب علم اليقين
فان قيل فقد أطلق الجواب في كثير من الأحكام الثابتة بخبر الواحد (قلنا) خبر الواحد
موجب للعمل ففيما طريقه العمل أطلق الجواب فيه فأما سقوط حجة الاسلام عن الميت
بأداء الورثة طريقه العلم فإنه أمر بينه وبين ربه تعالى فلهذا قيد الجواب بالاستثناء (قال)
رجل أوصى بحجة فأحج الوصي عنه رجلا فهلكت النفقة من ذلك الرجل قال يحج عنه
حجة أخرى من ثلث ما بقي من المال وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عند أبي
يوسف رحمه الله تعالى ان بقي من ثلث مال الميت ما يمكن أن يحج به يحج عنه ثانيا والا
فقد بطلت الوصية وعند محمد رحمه الله تعالى الوصية تبطل لان الوصي قائم مقام الموصى
في تعيين المال ولو عين الموصي مالا فهلك بطلت الوصية فكذلك إذا عين الوصي وأبو
يوسف يقول محل الوصية الثلث فتعيين الوصي الثلث صحيح لان به يتميز الثلث للوصية
فاما تعيينه في الثلث غير صحيح لان جميع الثلث محل الوصية فما بقي شئ يجب تنفيذ الوصية
فيه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول تعيين المال ليس بمقصود وإنما المقصود به الحج عن
161

الميت فإذا لم يفد هذا التعيين ما هو المقصود صار كأن التعيين لم يوجد وما هلك من المال
صار كأن لم يكن فلهذا يحج عنه بثلث ما بقي (قال) وان أوصى بحجة وعتق نسمة
والثلث لا يسعهما يبدأ بالذي بدأ به الميت لان البداية تدل على زيادة العناية وقد ثبت
وجوب تنفيذ الوصية الأولى قبل ذكر الثانية فلا يتغير ذلك بذكر الوصية الثانية إذ ليس
في آخر كلامه ما يغير موجب أوله إلا أن يكون الحج حجة الاسلام فحينئذ يبدأ بها وان
أخره الميت لان الترجيح بالبداية بعد المساواة في القوة ولا مساواة بين الفرض والنفل في
القوة ولان الظاهر أن الموصى يقصد تقديم الفرض في الأداء وان أخره في الذكر لان
اسقاط الفرض عن ذمته يترجح عنده على التبرع بما ليس عليه (قال) وان أوصى بان يحج
عنه بثلثه ولم يقل حجة حج عنه بجميع الثلث لأنه جعل الثلث مصروفا إلى هذا النوع من
القربة فيجب تحصيل مقصوده في جميع الثلث كما لو أوصى أن يفعل بثلثه طاعة أخرى
(قال) وان أوصى أن يحج عنه رجل حجة فأحجوه فلما قدم فضل معه كسوة ونفقة فان
ذلك لورثة الميت لان الحاج عن الغير لا يتملك المال المدفوع إليه فان التمليك يكون بطريق
الاستئجار وقد بينا بطلان الاستئجار على الطاعة وإنما ينفق المال على ملك الموصى بطريق
الإباحة لاستحقاقه الكفاية حين فرغ نفسه ليعمل له فما فضل من ذلك يكون باقيا على ملك
الميت فيرد على ورثته (قال) وإذا أوصى لرجل فقال أحجوا فلانا حجة ولم يقل عنى ولم
يسم كم يعطى فإنه يعطى بقدر ما يحجه حجة وله أن لا يحج به إذا أخذه بل يصرفه إلى حاجة
أخرى لأنه ما أمره بالحج عنه إنما جعل ذلك الحج عيارا لما أوصى له به من المال ثم أشار عليه
بان يحج بذلك المال عن نفسه فكانت وصية صحيحة يجب تنفيذها بالدفع إليه ومشورته
غير ملزمة فإن شاء حج به وان شاء لم يحج (قال) وإذا أوصى أن يحج عنه رجل بعينه
أو بغير عينه وأوصى بوصايا لا ناس بأكثر من الثلث قسم الثلث بينهم بالحصص يضرب
للحج فيه بأدنى ما يكون من نفقة الحج لان الوصية بالحج وجب تنفيذها له بنفقة الموصي
ووجب تنفيذ سائر الوصايا حقا للموصي لهم فعند اختلاف الحقوق تجرى المزاحمة بينهم في
الثلث لمراعاة حق كل مستحق بخلاف ما ذكرنا من الحج والعتق لان تنفيذ الوصيتين
هناك لحق الموصى فلهذا كانت البداية بما بدأ به الميت ثم ما خص الحج من الثلث هنا يحج
به من حيث يبلغ لأنه هو الممكن من تحصيل مقصود الموصى بمنزلة ما لو لم يكن ثلث ماله
162

الا هذا وأوصى بان يحج عنه فإنه يحج من حيث يبلغ فان أحجوا به من موضع فرجع الحاج
بفضل نفقة وكسوة فقد تبين أنهم أخطأوا فكان الوصي ضامنا لما أنفقه فيضم ذلك إلى ما بقي
ويحج به عن الميت من حيث يبلغ الا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا فحينئذ هذا والأول سواء
في القياس ولكن في الاستحسان تجزى الحجة عن الميت ولا يكون الوصي ضامنا لان اليسير
من التفاوت لا يمكن الاحتراز عنه فلا بد من أن يبقى بعد رجوعه كسرة أو جراب خلق
أو ثوب خلق فلهذا جعل هذا القدر عفوا ولكن يرد على الورثة أو على الموصى له إن كان
هناك موصى له بالثلث (قال) وإذا أهلت المرأة بحجة الاسلام لم يكن لزوجها أن يمنعها إذا
كان معها محرم وإن لم يكن معها محرم كان له ان يمنعها وهي بمنزلة الحرة المحصرة وقد بينا فيما تقدم
ان من شرائط وجوب الحج عليها في حقها المحرم عندنا ثم يشترط أن تملك قدر نفقة المحرم
لان المحرم إذا كان يخرج معها فنفقته في مالها الا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى يقول نفقة
المحرم في ماله لأنه غير مجبر على الخروج فإذا تبرع به لم يستوجب بتبرعه النفقة عليها ولكن
في ظاهر الرواية هي لا تتوسل إلى الحج الا بنفقة المحرم كما لا تتوسل الا بنفقتها فكما يشترط
لوجوب الحج عليها ملك الزاد والراحلة ويجعل ذلك شرطا لنفسها فكذلك للمحرم الذي يخرج
معها يجعل ذلك شرطا وقد بينا شرائط الوجوب فيما سبق ولم يتعرض في شئ من المواضع
لا من الطريق واختلف مشايخنا أن أمن الطريق شرط للوجوب أم شرط للأداء وكان ابن أبي
شجاع رحمه الله تعالى يقول هو شرط الوجوب لان بدونه يتعذر الوصل إلى البيت الا بمشقة
عظيمة فيكون شرط الوجوب كالزاد والراحلة وكان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول هو شرط
الأداء لان النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الاستطاعة فسرها بالزاد والراحلة ولا تجوز
الزيادة في شرط وجوب العبادة بالرأي ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل
الشرك في ذلك الموضع ولم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الطريق فدل أن ذلك ليس
من شرائط الوجوب إنما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجئ وملك
نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى مع
ذلك زيادة نفقة شهر لأن الظاهر أنه إذا رجع لا يشتغل بالكسب الا بعد مدة فاستحسن
اشتراط ملك نفقة شهر بعد رجوعه ثم بعد استجماع شرائط الوجوب يجب على الفور حتى
يأثم بالتأخير عند أبي يوسف رواه عنه بشر بن المعلى وهكذا ذكره ابن شجاع عن أبي
163

حنيفة رحمهما الله تعالى قال سئل عمن له مال أيحج به أم يتزوج قال بل يحج به فذلك دليل
على أن الوجوب عنده على الفور وعن محمد رحمه الله تعالى يسعه التأخير بشرط أن لا يفوته
بالموت فان أخر حتى مات فهو آثم بالتأخير وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يأثم بالتأخير
وان مات واستدل محمد بتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج بعد نزول فرضيته
فإنها نزلت فرضية الحج في سنة ست من الهجرة وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سنة عشر والمعنى فيه أن الحج فرض العمر فكان جميع العمر وقت أدائه ولا يستغرق جميع
العمر أداؤه فصار جميع الوقت في حق الحج كجميع وقت الصلاة في حق الصلاة وهناك التأخير
يسعه بشرط أن لا يفوته عن وقته ودليل صحة هذا الكلام انه إذا أخره كان مؤديا لا قاضيا فدل
أن جميع العمر وقت أدائه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله صلى الله
عليه وسلم من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج عليه فلا أن يموت يهوديا أو
نصرانيا الحديث وقال عمر رضي الله عنه لقد هممت ان أنظر إلى من ملك الزاد والراحلة ولم
يحج فأحرق عليهم بيوتهم والله ما أراهم مسلمين قالها ثلاثا والمعنى فيه أن السنة الأولى بعد
ما تمت الاستطاعة متعينة لأداء الحج بعد دخول وقت الحج فالتأخير عنه يكون تفويتا
كتأخير الصوم عن شهر رمضان وتأخير الصلاة عن وقتها بيانه وهو أن يمضى هذا
الوقت يعجز عن الأداء بيقين وقدرته على الأداء بمجئ أشهر الحج من السنة الثانية
موهوم فربما لا يعيش إليها وبالموهوم لا تثبت القدرة فبقي مضى هذا الوقت تفويتا له
توضيحه أن وقت أداء أشهر الحج من عمره لا من جميع الدنيا وهذه السنة متعينة لذلك لأن عدم
التعيين لاعتبار المعارضة ولا تتحقق المعارضة إلا أن يتيقن بحياته إلى السنة الثانية ولا
طريق لاحد إلى معرفة ذلك ولهذا قلنا لو أخره كان مؤديا لأنه لما بقي إلى السنة الثانية تحققت
المعارضة فخرجت السنة الأولى من أن تكون متعينة وكانت هذه السنة في حقه تعد لما
أدركها بمنزلة السنة الأولى فأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم فقد منع ذلك بعض مشايخنا
رحمهم الله تعالى فقالوا نزول فريضة الحج بقوله تعالى ولله عليه الناس حج البيت وإنما نزلت
هذه الآية في سنة عشر فأما النازل سنة ست فقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وهذا
أمر بالاتمام لمن شرع فيه فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير إنما لا يحل لما فيه من
من التعريض للفوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمن من ذلك لأنه مبعوث لبيان
164

الاحكام للناس والحج من أركان الدين فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله ولان
تأخيره كان لعذر وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك
وما كان التغيير ممكنا للعهد حتى إذا تمت المدة بعث عليا رضى الله تعال يعنه حتى قرأ عليهم
سورة براءة ونادى أن لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان ثم حج بنفسه
ومن ذلك أنه كأن لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحاب يكونون معه ولم يكن
متمكنا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره أو كان للنسئ الذي كان يفعله
أهل الجاهلية وقد بينا هذه الاعذار في الخلافيات (قال) وان أهلت المرأة بغير حجة
الاسلام فللزوج أن يمنعها من الخروج إن كان لها محرم أو لم يكن لأنها ممنوعة عن التطوع
بغير إذن الزوج قال صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة لا تصومي تطوعا الا بأذن زوجك
ولأنا لو مكناها من ذلك فوتت على الزوج حقه أصلا لأنها كما خرجت عن حجة أحرمت
بأخرى وهي لا تملك تفويت حق الزوج عليه فلهذا كان له أن يمنعها وهي بمنزلة المحصرة
إلا أن للزوج أن يحللها هنا قبل أن تبعث بالهدى ليوفر حقه عليه بخلاف ما إذا عدمت
المحرم في حجة الاسلام وقد بينا هذا فيما سبق وكذلك المملوك إذا أهل بغير إذن المالك
(قال) وإذا أذن لعبده أو لامته في الاحرام كرهت له أن يمنعه بعد ذلك ولو حلله جاز
بخلاف الزوج وقد تقدم بيان هذا الفرق أيضا اعاده للفرق وهو أنه لما باع المملوك بعد الاذن
له فللمشتري أن يحلله بغير كراهة عندنا لان الكراهة في حق البائع كأن لمعنى خلف الوعد
وذلك غير موجود في حق المشترى وعلى قول زفر رحمه الله تعالى ليس للمشترى ان
يحلله ولكون له ان يرده عليه بعيب الاحرام وجعله بمنزلة النكاح إذا زوج أمته ثم باعها
لم يكن للمشترى ان يبطل ذلك النكاح لأنه سبق ملكه ولكن يجوز له ان يردها إذا لم
يكن عالما به فكذلك هنا ولكنا نقول المشترى في ملك الرقبة قائم مقام البائع ولم يكن
للبائع ولاية ابطال النكاح بعد صحته فلا يكون ذلك للمشترى أيضا وقد كان للبائع ولاية
التحليل من الاحرام قبل أن يبيعه فيكون ذلك للمشترى أيضا وإذا ثبت له ولاية التحلل
لم يكن ذلك عيبا لازما توضيحه ان النكاح حق العباد فيكون معارضا لحق المشترى
فيترجح عليه بالسبق فاما الاحرام لزومه ليس لحق العباد العباد وحق العبد في المحل مقدم على
حق الله تعالى فلهذا كان للمشترى ان يحلله وعلى هذا الخلاف إذا أحرمت المرأة ثم
165

تزوجت كان للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير حجة الاسلام عندنا وعند زفر ليس له ذلك
وان أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فحللها ثم جامعها ثم بدا له ان يأذن لها في عامه
ذلك فعليها أن تحج بإحرام مستقبل وعليها دم لأنها قد تحللت من الاحرام الأول باحلال
الزوج قبل أداء الاعمال فعليها الدم وقضاء الحج وليس عليها قضاء العمرة عندنا وقال زفر
رحمه الله تعالى عليها ذلك بمنزلة ما لو أذن لها بعد تحول السنة وهذا لان بالتحلل الأول
وجب عليها قضاء حجة وعمرة كما هو الحكم في المحصر وصار ذلك دينا في ذمتها فلا فرق
بين أن يأذن لها في عامه ذلك أو في عام آخر وحجتنا في ذلك أن وجوب العمرة على
المحصر باعتبار فوت أداء الحج في هذه السنة بالقياس على فائت الحج فان فائت الحج يلزمه
أداء العمرة فإذا أذن لها فحجت في هذه السنة لم يتحقق سبب وجوب العمرة عليها فاما بعد
تحول السنة فقد تحقق سبب وجوب العمرة عليها وهو فوات أداء الحج في السنة الأولى
فلهذا فرقنا بينهما والله أعلم بالصواب
باب المواقيت
(قال) بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل
الشام حجفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق وهذا الحديث
مروى عن عائشة رضي الله عنها فاما ابن عباس روي الحديث وذكر المواقيت الأربعة
ولم يذكر ذات عرق لأهل العراق وابن عمر رضي الله عنه روي الحديث وذكر المواقيت
الثلاث ولم يذكر ذات عرق ولا يلملم وفي هذه الآثار دليل على أن كل من وصل إلى
شئ من هذه المواقيت وهو يريد دخول مكة يلزمه الاحرام لان توقيت النبي صلى الله
عليه وسلم لا يخلو عن فائدة ولا فائدة في هذه المواقيت سوى المنع من تأخير الاحرام بعد
ما انتهى إلى هذه المواقيت فان قبل ذلك كان يسعه التأخير بالاتفاق والشافعي رحمه الله
تعالى لظاهر الحديث يقول الأفضل أن يكون احرامه عند الميقات وعلماؤنا رحمهم الله تعالى
قالوا التأقيت لبيان أنه لا يسعه التأخير عنه لاما الأفضل أن يحرم قبل أن ينتهى إلى المواقيت
لحديث أم سلمة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحرم من المسجد
الأقصى إلى المسجد الحرام غفرت له ذنوبه وان كانت أكثر من زبد البحر ووجبت له
166

الجنة وقال على وابن مسعود رضى الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة
لله ان اتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله قال وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال من وقتنا له وقتا فهو له وقت ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج والعمرة ففي هذا
دليل ان كل من ينتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة ان عليه أن يحرم من ذلك الميقات
سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن ألا ترى أن من دخل مكة من أهل الآفاق
حلالا فأراد أن يحرم بالحج كان ميقاته للاحرام ميقات أهل مكة فكذا هنا ثم أخذ
الشافعي رحمه الله تعالى بظاهر هذا الحديث فقال إنما يجب الاحرام عند الميقات على من
أراد دخول مكة للحج أو العمرة وأما من أراد دخولها لقتال فليس عليه الاحرام عنده قولا
واحدا لان النبي صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح بغير احرام وان أراد دخولها للتجارة أو
طلب غريم له فله فيه قولان في أحد قوليه لا يلزمه الاحرام لان الاحرام غير مقصود
لعينه بل لأداء النسك به وهذا الرجل غير قاصد أداء النسك فكان الحرم في حقه كسائر
البقاع فكان له أن يدخلها بغير احرام فأما عندنا ليس لأحد ينتهى إلى الميقات إذا
أراد دخول مكة أن يجاوزها الا بإحرام سواء كان من قصده الحج أو القتال أو التجارة
لحديث ابن شريح الخزاعي رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته
يوم الفتح ان مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض لم تحل لاحد قبلي
ولا لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة فقد ترخص
للقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما أحلت لي ساعة فلا تحل لاحد بعده فيتبين بهذا
الحديث خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بدخول مكة للقتال بغير احرام وإنما تظهر
الخصوصية إذا لم يكن لغيره أن يصنع كصنيعه وجاء رجل إلى ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما فقال إني جاوزت الميقات من غير احرام فقال ارجع إلى الميقات ولب وإلا فلا حج
لك فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يجاوز الميقات أحد الا محرما ولان
وجوب الاحرام على من يريد الحج والعمرة عند دخول مكة لاظهار شرف تلك البقعة وفى
هذا المعنى من يريد النسك ومن لا يريد النسك سواء فليس لأحد ممن يريد دخول مكة
أن يجاوز الميقات الا محرما فاما من كان وراء الميقات إلى مكة فله أن يدخلها لحاجته بغير احرام
عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى ليس له ذلك فإنه لا يفرق على أحد القولين
167

بين أهل الميقات وأهل الآفاق في أنه لا يدخل أحد منهم مكة الا محرما وحجتنا في ذلك
حديث ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحطابين أن يدخلوا
مكة بغير احرام والظاهر أنهم لا يجاوزون الميقات فدل أن كل من كان داخل الميقات له أن يدخل
مكة بغير احرام وابن عمر رضي الله عنه خرج من مكة يريد المدينة فلما انتهى إلى قديد بلغته
فتنة بالمدينة فرجع إلى مكة ودخلها بغير احرام وكان المعنى فيه أن من كان داخل الميقات فهو
بمنزلة أهل مكة لأنه محتاج إلى الدخول في كل وقت ولان مصالحهم متعلقة باهل مكة ومصالح
أهل مكة متعلقة بهم فكما يجوز لأهل مكة أن يخرجوا لحوائجهم ثم يدخلوها بغير احرام فكذا
لأهل الميقات وهذا لأنا لو ألزمناهم الا حرام في كل وقت كان عليهم من الضرر مالا يخفى فربما
يحتاجون إليه في كل يوم فلهذا جوزنا لهم الدخول بغير احرام الا إذا أرادوا النسك فالنسك
لا يتأدى الا بالاحرام وإرادة النسك لا تكون عند كل دخول وإذا أراد الاحرام وأهله في
الوقت أو دون الوقت إلى مكة فوقته من أهله حتى لو أحرموا من الحرم أجزأهم وليس عليهم
شئ لأن خارج الحرم كله بمنزلة مكان واحد في حقه والحرم حد في حقه بمنزلة الميقات في حق
أهل الآفاق وكما أن ميقات الآفاقي للاحرام من دويرة أهله ويسعه التأخير إلى الميقات فكذا
هنا يسعه التأخير إلى الحرم ولكن الشرط هناك أن لا يجاوز الميقات الا محرما والشرط هنا أن
لا يدخل الحرم الا محرما لان تعظيم الحرم بهذا يحصل فان دخل مكة قبل أن يحرم فاحرم منها
فعليه أن يخرج من الحرم فيلبى فإن لم يفعل حتى يطوف بالبيت فعليه دم لأنه ترك الميقات المعهود
في حقه للاحرام فهو بمنزلة الآفاقي يجاوز الميقات بغير احرام ثم يحرم وراء الميقات وهناك
يلزمه الدم إذا لم يعد لتأخير الاحرام عن مكانه فكذلك هنا يلزمه الدم إذا لم يعد إلى الحل
وان عاد فالخلاف فيه مثل الخلاف في الآفاقي إذا عاد إلى الميقات بعد ما أحرم وراء الميقات
على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى (قال) وان أراد الكوفي بستان بني عامر لحاجة
فله أن يجاوز الميقات غير محرم لان وجوب الاحرام عند الميقات على من يريد دخول
مكة وهذا لا يريد دخول مكة إنما يريد البستان وليس في تلك البقعة ما يوجب التعظيم لها
فلهذا لا يلزمه الاحرام فإذا حصل بالبستان ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة له كان له ان
يدخلها بغير احرام لأنه لما حصل بالبستان حلالا كان مثل أهل البستان ولأهل البستان أن
يدخلوا مكة لحوائجهم من غير احرام فكذلك هذا الرجل وهذا هو الحيلة لمن يريد دخول
168

مكة من أهل الآفاق بغير احرام إلا أنه روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى انه ان نوى
الإقامة بالبستان خمسة عشر يوما كان له أن يدخل وان نوى الإقامة بالبستان دون خمسة
عشر يوما ليس له أن يدخل مكة الا بإحرام لان بنية الإقامة خمسة عشر يوما يصير متوطنا
بالبستان فيصير بمنزلة أهل البستان وان نوى المقام بها دون خمسة عشر يوما فهو ماض على
سفره فلا يدخل مكة الا بإحرام وجه ظاهر الرواية وهو أنه حصل بالبستان قبل قصده
دخول مكة فإنما قصد دخول مكة بعد ما حصل بالبستان فكان حاله كحال أهل البستان
(قال) وليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن أو أن يتمتع وهم
في ذلك بمنزلة أهل مكة أما المكي فلانه ليس له أن يتمتع بالنص لان الله تعالى قال في ذلك لمن لم
يكن أهله حاضري المسجد الحرام واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حاضري المسجد الحرام
فقال مالك رحمه الله تعالى هم أهل مكة خاصة وقال الشافعي رحمه الله تعالى هم أهل مكة
ومن يكون منزله من مكة على مسيرة لا يجوز فيها قصر الصلاة وقلنا أهل المواقيت ومن
دونها إلى مكة من حاضري المسجد الحرام بمنزلة أهل مكة بدليل أنه يجوز لهم دخول مكة
بغير احرام فلا يكون لهم أن يتمتعوا وكما لا يتمتع من هو من حاضر المسجد الحرام فكذلك
لا يقرن بين الحج والعمرة وعند الشافعي رحمه الله تعالى يجوز له القران من قبل أن القارن على
قوله يترفه بادخال عمل أحد النسكين في الآخر والمكي في هذا وغيره سواء وعندنا معنى الترفه
بالقران والتمتع في أداء النسكين في سفر واحد لا في ادخال عمل أحدهما في الآخر ومن كان
من حاضري المسجد الحرام فهو غير محتاج إلى السفر لأداء النسك ولا يلحقه بالسفر كثير
مشقة فكما لا يكون له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج فكذلك لا يكون له أن يقرن بينهما عندنا
إلا أن المكي إذا كان بالكوفة فلما انتهى إلى الميقات قرن بين الحج والعمرة فأحرم لهما صح
ويلزمه دم القران لان صفة القارن أن تكون حجته وعمرته متقارنتين يحرم بهما جميعا معا
وقد وجد هذا في حق المكي ولو اعتمر هذا المكي في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك لا يكون
متمتعا لان الآفاقي إنما يكون متمتعا إذا لم يلم بأهله بين النسكين الماما صحيحا والمكي هنا يلم
بأهله بين النسكين حلالا إن لم يسق الهدى وكذلك أن ساق الهدى لا يكون متمتعا بخلاف
الآفاقي إذا ساق الهدى ثم ألم بأهله محرما كان متمتعا لان العود هناك مستحق عليه فيمنع
ذلك صحة المامه بأهله وهنا العود غير مستحق عليه وان ساق الهدى فكان المامه بأهله صحيحا فلهذا
169

لم يكن متمتعا وعلى هذا روى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أن المكي إذا خرج إلى
الكوفة ثم مات وأوصي بأن يحج عنه من منزله وهو بمكة بمنزلة الآفاقي يخرج مسافرا فيوصى
بأن يحج عنه ولو أوصى هذا المكي بأن يقرن عنه من الكوفة لان القران لا يكون من مكة
فعرفنا أن مراده أن يقرن عنه من حيث هو (قال) والمكي إذا خرج من مكة لحاجة له فلم
يجاوز الوقت فله أن يدخل مكة بغير احرام وان جاوز لم يكن له أن يدخل مكة الا بإحرام لما
بينا أن من قصد إلى موضع فحاله في حكم الاحرام كحال أهل ذلك الموضع (قال) ووقت أهل
مكة للاحرام بالحج الحرم وكذلك كل من حصل بمكة حلالا لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أمر أصحابه رضى الله تعالى عنهم بفسخ احرام الحج والاحرام بالعمرة فحلوا منها فلما
كان يوم التروية أمرهم بأن يحرموا بالحج من جوف مكة (قال) وميقات احرام أهل مكة
للعمرة التنعيم أو غيره من الحل لان موضع الاحرام غير موضع أداء النسك وأداء الحج يكون
بالوقوف وهو في الحل فالاحرام به يكون في الحرم وأداء نسك العمرة بالطواف وهو في
الحرم فالاحرام بها يكون في الحل (قال) كوفي جاوز الميقات نحو مكة ثم أحرم بالحج
ووقف بعرفة جاز حجه وعليه دم لترك الوقت لأنه لما انتهى إلى الميقات وجب عليه الاحرام
بالحج من الميقات لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا يجاوز الميقات أحد الا محرما فإذا جاوزه حلالا فقد ارتكب المنهى وأخر الاحرام عن
الميقات فتمكن نقصان في حجه ونقصان الحج بجبر بالدم فان رجع إلى الميقات ولبى ان رجع
قبل أن يحرم وأحرم بالحج من الميقات فلا شئ عليه بالاتفاق لأنه تلافي المتروك في وقته
ومكانه فصار في الحكم كأنه لم يجاوز الميقات الا محرما فان الواجب عليه أداء الحج بإحرام
يباشره من الميقات وقد أتي بذلك وإن كان أحرم بعد ما جاوز الميقات ثم عاد إلى الميقات
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان لبى عند الميقات يسقط عنه الدم وإن لم يلب لم يسقط
عنه الدم وعندهما يسقط عنه الدم في الحالين جميعا وعند زفر رحمه الله تعالى لا يسقط
عنه الدم في الوجهين لان المستحق عليه انشاء الاحرام بالحج من الميقات فإذا أحرم بعد
ما جاوز الميقات فقد ترك ما هو المستحق عليه فلزمه الدم كما لو لم يعد وهذا لان الواجب
عليه انشاء تلبية واجبة عند الميقات ووجوب التلبية عند الاحرام لا بعده فهو وان لبي
عند الميقات فإنما أتى بتلبية غير واجبة فلا يصير به متداركا لما فاته بخلاف ما إذا عاد
170

فأحرم من الميقات وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان الواجب عليه أن يكون
محرما عند الميقات لا أن ينشئ الاحرام عند الميقات ألا ترى أنه لو أحرم قبل أن ينتهى
إلى الميقات ثم مر بالميقات محرما ولم يلب عند الميقات لا يلزمه شئ وكذلك إذا عاد
إلى الميقات بعد ما أحرم ولم يلب فقد تدرك ما هو واجب عليه وهو كونه محرما
عند الميقات واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بقول ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
لذلك الرجل ارجع إلى الميقات وإلا فلا حج لك والمعنى فيه أنه لما انتهى إلى الميقات حلالا
وجب عليه التلبية عند الميقات والاحرام فإذا ترك ذلك بالمجاوزة حتى أحرم وراء
الميقات ثم عاد فان لبى فقد أتى بجميع ما هو المستحق عليه فيسقط عنه الدم وإن لم يلب فلم يأت
بجميع ما استحق عليه وهذا بخلاف من أحرم قبل أن ينتهى إلى الميقات لان ميقاته هناك
موضع احرامه وقد لبي عنده فقد خرج الميقات المعهود من أن يكون ميقاتا للاحرام في
حقه فلهذا لا يضره ترك التلبية عنده بخلاف ما نحن فيه على ما بينا (قال) فان قرن هذا
الكوفي بعد ما جاوز الميقات فأحرم بالحج والعمرة ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم واحد
عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى عليه دمان لأنه أخر الاحرامين جميعا عن الميقات فيلزمه
لكل احرام دم ألا ترى ان القارن إذا ارتكب سائر المحظورات يجب عليه ضعف ما يجب
على المفرد فكذلك إذا أحرم وراء الميقات وعلماؤنا قالوا المستحق عليه عند الميقات احرام
واحد ألا ترى أنه لو أحرم بالعمرة عند الميقات ثم أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات كان
جائزا ولا شئ عليه فعرفنا ان المستحق عليه عند الميقات احرام واحد فيجب عليه بتأخير
ذلك الاحرام دم واحد بخلاف سائر المحظورات فإنه صار بجنايته مرتكبا محظور احرامين
فكان عليه جزاءان وكذلك أن أهل بعمرة بعد ما جاوز الميقات ثم أهل بحجة بمكة فعليه دم
واحد لتأخيره احرام العمرة عن الميقات لأنه لما دخل مكة بإحرام العمرة فميقات احرامه
للحج الحرم وقد أحرم به في الحرم وإن كان أهل بالحجة بعد ما جاوز الميقات ثم
دخل مكة فأهل بالعمرة أيضا كان عليه دمان لأنه أخر احرام الحج عن ميقاته فوجب عليه
دم ولما دخل مكة بإحرام الحجة فميقات احرامه للعمرة الحل بمنزلة ميقات أهل مكة فحين
أهل بالعمرة في الحرم فقد ترك ميقات احرام العمرة أيضا فيلزمه لذلك دم آخر (قال)
كوفي دخل مكة بغير احرام لحاجة له فقال عليه حجة أو عمرة أي ذلك شاء لان دخول
171

مكة سبب لوجوب الاحرام عليه فمباشرة ذلك السبب بمنزلة التزامه الاحرام بالنذر وفى نذر
الاحرام يلزمه حجة أو عمرة فكذلك إذا لزمه الاحرام بدخول مكة فان رجع إلى الميقات فأهل
بحجة الاسلام أجزأه عن حجة الاسلام وعما لزمه بدخول مكة استحسانا عندنا وفى القياس
لا يجزيه عما لزمه لدخول مكة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه بدخول مكة بغير احرام
وجب عليه حجة أو عمرة وصار ذلك دينا في ذمته وحجة الاسلام لا تنوب عما صارت نسكا
دينا في ذمته الا ترى أنه لو تحولت السنة ثم أحرم بالحج في السنة الثانية من الميقات لا ينوب
هذا عما لزمه لدخول مكة فكذلك في السنة الأولى ولكن استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى
فقالوا لو كان حين انتهى إلى الميقات في الابتداء أحرم بحجة الاسلام ناب ذلك عما يلزمه لدخول
مكة لان الواجب عليه أن يكون محرما عند دخول مكة لا أن يكون احرامه لدخول مكة
كمن اعتكف في رمضان أجزأه لان الواجب عليه أن يكون صائما في مدة الاعتكاف لا
أن يكون صومه للاعتكاف فإذا عرفنا هذا فنقول لو أحرم عند الميقات في الابتداء كان
يؤدى حجة الاسلام بذلك الاحرام في تلك السنة وقد أداها حين عاد إلى الميقات فأحرم
بحجة الاسلام فصار به متلافيا للمتروك فيسقط عنه ما لزمه لدخول مكة فأما بعد ما تحولت
السنة لم يصر متلافيا للمتروك لأنه لو أحرم بالحج في السنة الأولى لم يكن له أن يؤدى الحج
بذلك الاحرام في الثانية فعرفنا أنه لا يصير متلافيا للمتروك فان قيل أليس انه لو عاد إلى
الميقات وأحرم بعمرة منذورة لا يسقط عنه بهذا العود ما لزمه بدخول مكة وهو حين انتهى
إلى الميقات لو أحرم بالعمرة المنذورة ودخل به مكة لا يلزمه شئ ثم لا يصير به متداركا لما
هو الواجب (قلنا) هو خارج على ما ذكرنا لأن العمرة وإن لم تكن مؤقتة فيكره أداؤها
في خمسة أيام من السنة فلو أحرم بها في الابتداء لم يكن له أن يؤخرها إلى الوقت المكروه
فلا يصير بالرجوع إلى الميقات والاحرام بالعمرة متداركا للمتروك (قال) وإذا جاوز
الميقات حلالا ثم أحرم بالحج ففاته الحج سقط عنه دم الوقت عندنا ولم يسقط عند زفر
رحمه الله تعالى لان الدم بمجاوزة الميقات صار واجبا عليه فلا يسقط بفوات الحج كما لو وجب
عليه الدم بالتطيب أو لبس المخيط لا يسقط عنه ذلك بفوات الحج ولكنا نقول لما فاته الحج
وجب عليه القضاء وهو للقضاء يحرم من الميقات فينعدم به المعنى الذي لأجله يلزمه الدم
وهو أداء الحج بإحرام بعد مجاوزة الميقات بخلاف سائر الدماء لان وجوب ذلك عليه بما
172

ارتكب من المحظورات ولا ينعدم ذلك بفوات الحج وعلى هذا لو جامع قبل الوقوف حتى
فسد حجه سقط عنه دم الوقت عندنا لان القضاء وجب عليه فإذا عاد للقضاء يحرم من
الميقات فانعدم به المعنى الذي لأجله كان يلزمه الدم (قال) وكذلك من جاوز الميقات
غير محرم ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه ولا شئ عليه لان اتيانه وقتا آخر بمنزلة رجوعه
إلى الميقات والاحرام عنده للأصل الذي قلنا إن من حصل في ميقات فاحرامه به يكون من
ذلك الميقات سواء كان من أهل ذلك الميقات أو لم يكن فإنما أحرم بالحج من ميقاته فلهذا
لا يلزمه الدم (قال) عبد دخل مكة مع مولاه بغير احرام ثم أذن له مولاه فأحرم
بالحج فعليه إذا عتق دم لترك الوقت لأنه مخاطب فيتحقق منه السبب الموجب للدم وهو
تأخير الاحرام بالحج من ميقاته ولكن ما يلزمه من الدم إذا لم يكن له مال
يتأخر إلى ما بعد العتق وهذا بخلاف النصراني يدخل مكة ثم يسلم ثم يحرم من مكة
أو الصبي يدخل مكة بغير احرام ثم يحتلم بمكة فيحرم بالحج فان هناك لا يلزمه بترك الوقت
شئ لان النصراني لم يكن مخاطبا بالاحرام بالحج حين انتهى إلى الميقات فان الخطاب
بالاحرام إنما يتوجه على من يصح منه احرام وكذلك الصبي فلا يتحقق منهما تأخير
الاحرام الواجب لأنه إنما لزمهما الاحرام عند الاسلام والبلوغ وعند ذلك هما بمكة وميقات
احرام الحج في حق من هو بمكة الحرم وقد أحرما منه بخلاف العبد على ما بينا وذكر في
اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى ان النصراني لو أسلم أو بلغ الصبي فمات قبل ادراك
الوقت وأوصى كل واحد منهما بأن يحج عنه حجة الاسلام فوصيتهما باطلة عند زفر رحمه
الله تعالى لأنه لم يلزمهما الحج قبل ادراك الوقت إذ لا يتصور الأداء قبل ادراك الوقت فلا
تصح وصيتهما به وعلى قول أبى يوسف يصح لان سبب الوجوب قد تقرر في حقهما والوقت
شرط الأداء وانعدام شرط الأداء لا يمنع تقرر سبب الوجوب فتصح وصيتهما بالأداء في
وقته (قال) ولو أن الصبي أهل بالحج قبل أن يحتلم ثم احتلم قبل أن يطوف بالبيت أو قبل
أن يقف بعرفة لم يجزه عن حجة الاسلام عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يجزئه وهو
بناء على ما بينا في كتاب الصلاة إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره عنده يجزئه عن
الفرض ويجعل كأنه بلغ قبل أداء الصلاة وهنا أيضا يجعل كأنه بلغ قبل مباشرة الاحرام
فيجزئه ذلك عن حجة الاسلام قال وهذا على أصلكم أظهر لان الاحرام عندكم من الشرائط
173

دون الأركان ولهذا صح الاحرام بالحج قبل دخول أشهر الحج ولكنا نقول حين أحرم هو
لم يكن من أهل أداء الفرض فانعقد احرامه لأداء النفل فلا يصح أداء الفرض به وهو
نظير الضرورة إذا أحرم بنية النفل عندنا لا يجزئه أداء الفرض به وعنده ينعقد احرامه
للفرض والاحرام وإن كان من الشرائط عندنا ولكن في بعض الأحكام هو بمنزلة الأركان
ومع الشك لا يسقط الفرض الذي ثبت وجوبه بيقين فلهذا لا يجزئه حجة الاسلام بذلك
الاحرام إلا أن يجدد احرامه قبل أن يقف بعرفة فحينئذ يجزئه عن حجة الاسلام لان ذلك
الاحرام الذي باشره في حالة الصغر كان تخلقا ولم يكن لازما عليه فيتمكن من فسخه بتجديد الاحرام
وهذا بخلاف العبد فإنه لو أعتقه المولى بعد ما أحرم لا يجزئه عن حجة الاسلام وان جدد
الاحرام بعد العتق لان احرام العبد لازم في حقه لكونه مخاطبا فلا يتمكن بعد العتق من
فسخ ذلك الاحرام وإنما طريق خروجه من ذلك الاحرام أداء الأفعال فسواء جدد التلبية
أو لم يجدد فهو باق في ذلك الاحرام فلا يجزئه عن حجة الاسلام بخلاف الصبي على
ذكرنا وان أعتق العبد قبل أن يحرم ثم أحرم بحجة الاسلام أجزأه لان شرط الوجوب
تقرر في حقه بالعتق فلهذا يجزئه عن حجة الاسلام (قال) وإذا دخل الرجل مكة بغير
احرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل بها بعد سنة في وقت غير وقته الأول هو أقرب
منه قال يجزيه ولا شئ عليه لأنه في السنة الأولى لو أحرم من هذا الميقات أجزأه
عما يلزمه لدخول مكة وجعل هذا كعوده إلى الميقات الأول فكذلك في السنة الثانية إذا
جاء إلى هذا الميقات لان من حصل عند ميقات فحكمه حكم أهل ذلك الميقات والله أعلم
بالصواب واليه والمرجع والمآب
باب الذي يفوته الحج
(قال) رضي الله عنه رجل أهل بحجة ففاته فإنه يحل بعمرة وعليه الحج من قابل قال
وبلغنا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وزيد بن ثابت رضى الله تعالى عنهما
والمراد بالحديث المرفوع ما رواه ابن عباس وابن عمر رضى الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج
وليتحلل بالعمرة وعليه الحج من قابل وأما حديث عمر وزيد بن ثابت رضى الله تعالى عنهما
174

ما رواه الأسود قال سمعت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يقول من فاته الحج تحلل
بعمرة عليه الحج من قابل ثم لقيت زيد بن ثابت رضى الله تعالى عنه بعد ذلك
بثلاثين سنة فسمعته يقول مثل ذلك وكان المعنى فيه أن الاحرام بعد ما انعقد صحيحا فطريق
الخروج عنه أداء أحد النسكين اما الحج أو العمرة كمن أحرم احراما بهما وهنا تعذر عليه
الخروج عنه بالحرج حين فاته الحج فعليه الخروج بعمل العمرة ثم إن عند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى أصل احرامه باق بالحج ويتحلل بعمل العمرة وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى يصير احرامه احرام عمرة وعند زفر رحمه الله تعالى ما يؤديه من الطواف والسعي بقايا
اعمال الحج لأنه بالاحرام بالحج التزم أداء أفعال يفوت بعضها بمضي الوقت ولا يفوته البعض
فيسقط عنه ما يفوت بمضي المدة ويلزمه مالا يفوت وهو الطواف والسعي وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الطواف والسعي للحج إنما يتحلل بهما من الاحرام بعد الوقوف
فأما قبل الوقوف فلا وحاجته إلى التحلل هنا قبل الوقوف فإنما يأتي بطواف وسعى يتحلل
بهما من الاحرام وذلك طواف العمرة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى يصير أصل
احرامه للعمرة ضرورة لان التحلل بطواف العمرة إنما يكون بإحرام العمرة وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يمكن جعل احرامه للعمرة الا بفسخ احرام الحج الذي كان
شرع فيه ولا طريق لنا إلى ذلك والدليل عليه أن المكي إذا فاته الحج يتحلل بعمل العمرة من
غير أن يخرج من الحرم ولو أنقلب احرامه للعمرة لكان يلزمه الخروج إلى الحرم لأنه
ميقات احرام العمرة في حق المكي (قال) فإن كان أهل بحجة وعمرة فقدم مكة وقد
فاته الحج فإنه يطوف بالبيت وبالصفا والمروة لحجه ويحل وعليه الحج من قابل ولا يجعل
ما أتى به من لطواف والسعي قبل فوات الحج كافيا للتحلل عن احرام الحج لان ذلك كان
طواف التحية وهو سنة فلا يحصل به التحلل فإن كان طاف لعمرته وسعى فقد أتى بهما وإن لم
يكن طاف بعمرته يطوف لها الآن لأن العمرة لا تفوته ثم يطوف بعد ذلك لحجته ويسعى
حتى يتحلل وهذا دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على أن أصل احرامه لا ينقلب عمرة
لأنه لو انقلب عمرة لصار جامعا بين احرام عمرتين وأدائهما في وقت واحد وذلك لا يجوز ثم
لا يجب عليه الدم بالقياس على المحصر وهذا فاسد لان المحصر عاجز عن التحلل بالطواف
والسعي وفائت الحج قادر على ذلك ثم فائت الحج يقطع التلبية حين يستلم الحجر في الطواف
175

لما بينا ان هذا الطواف عمل العمرة وأوان قطع التلبية في حقه ما هو أوان قطع التلبية في حق
المعتمر فإن كان قارنا فإنما يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف الثاني لأن العمرة ما فاتته فيجعل
كأنه طاف لها قبل الفوات فلا يقطع التلبية عندها وإنما يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف الذي
يتحلل به عن الاحرام في الحج (قال) ولو فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر
الحج من قابل فتحلل بعمل العمرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا وهذا أيضا يدل على أن
احرامه لم ينقلب احرام عمرة فإنه لو انقلب احرام عمرة كان متمتعا كمن أحرم للعمرة في
رمضان فطاف لها في شوال ولكنه بعمل العمرة يتحلل من احرامه الحج في شوال وليس
هذا صورة المتمتع (قال) رجل أهل بحجة فجامع فيها ثم قدم وقد فاته الحج فعليه دم
لجماعه ويحل بالطواف والسعي لان الفاسد معتبر بالصحيح فكما أن التحلل بالاحرام الصحيح
بعد الفوات يكون بالطواف والسعي فكذلك عن الاحرام الفاسد ولو كان أصاب في حجه
صيدا فعليه الكفارة لان احرامه بعد الفساد باق فيجب بارتكاب المحظور ما يلزمه بارتكابه
في الاحرام الصحيح وهذا الذي أفسد الحج إنما يقطع التلبية بعد الفوات حين يأخذ في
الطواف الا ترى أنه لو لم يفته كان أوان قطع التلبية في حقه حين يرمى جمرة العقبة اعتبارا
بمن صح حجه فكذلك بعد الفوات (قال) رجل أهل بحجة فقدم مكة وقد فاته الحج فأقام
حراما حتى يحج مع الناس من قابل بذلك الاحرام قال لا يجزئه عن حجته وبهذا يستدل
أبو يوسف رحمه الله تعالى على أن احرامه صار للعمرة حيث لا يجوز أداء الحج به ولكنا
نقول قد بقي أصل احرامه للحج ولكنه تعين عليه الخروج باعمال العمرة فلا يبطل هذا
التعيين بتحول السنة مع أن احرامه انعقد لأداء الحج في السنة الأولى فلو صح أداء الحج به
في السنة الثانية تغير موجب ذلك العقد بفعله وليس إليه تغيير موجب عقد الاحرام وان
قدم وقد فاته الحج فأهل بحجة أخرى فإنه يطوف للذي قد فاته ويسعى ويرفض التي أهل
بها وعليه فيها ما على الرافض وعليه قضاء الفائت أيضا لان أصل احرامه بعد الفوات تعين
للحج فهو بالاهلال بحجة أخرى يصير جامعا بين حجتين فلهذا يرفض التي أهل بها وقد
تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا يتغير ذاك بفعله وان نوى بهذه التي أهل
بها قضاء الفائت فهي هي يعني لا يلزمه بهذا الاهلال شئ لأنه نوى إيجاد الموجود فان
احرامه بالحج باق بعد الفوات ونية الايجاد فيما هو موجود لغو فيتحلل بالطواف والسعي
176

وعليه قضاء الفائت فقط بخلاف الأول فقد نوى بالاهلال هناك حجة أخرى سوى
الموجود (قال) وان أهل بعمرة بعد ما فاته الحج رفضها أيضا ومضى في عمل الفائتة لأنه
لما لزمه التحلل عن الأول بعمل العمرة يصير جامعا بين العمرتين من حيث العمل وذلك
لا يجوز فلهذا يرفض التي أهل بها وقد تعين عليه التحلل عن الأولى بالطواف والسعي فلا
يتغير ذلك بفعله (قال) رجل أهل بحجتين وقدم مكة وقد فاته الحج قال يحل بالطواف
والسعي وعليه عمرة وحجتان ودم لأنه صار رافضا لاحدى الحجتين ولزمه دم لرفضها
وقضاء حجة وعمرة ثم قد فاتته الأخرى فيتحلل منها بالطواف والسعي وعليه قضاؤها ولا
يكون له أن يتحلل منهما بعمل عمرتين لأنهما لا يجتمعان عملا فكما أخذ في عمل إحداهما
صار رافضا للأخرى ولزمه الدم بالرفض (قال) وإذا ساق هديا للقران فقدم وقد فاته
الحج قال يصنع بهديه ما شاء لأنه ملكه وقد أعده لمقصوده فإذا فاته ذلك المقصود صنع
به ما أحب وكذلك إن لم يفته ولكنه جامع لان بالجماع فسد حجه وخرج من أن يكون
قارنا وإنما أعد هذا الهدى للقران فإذا فاته ذلك صنع به ما شاء فإن كان هديه قد نتج
في الطريق ثم فاته الحج أو جامع أو أحصر صنع أيضا بالولد ما شاء لأنه جزء من الأم فكما
يصنع بالأم ما شاء فكذلك بالولد وإن لم يكن شئ من هذه العوارض فعليه أن ينحر الأم
والولد جميعا فان نحر الأم ووهب الولد أو باعه فعليه قيمة الولد وكذلك أن ولد هذا الولد
ولذا فعليه قيمة ذلك الولد أيضا لان ما ثبت من الحق في الأصل سرى إلى الولد لكونه
جزء من أجزائه وإن كان قد كفر عن الولد بعد ما وهبه أو باعه ثم حدث له ولد لم يكن
عليه من قبل ولده شئ لان بأداء الكفارة قد سقط عنه الحق في الولد لله تعالى فلا يلزمه
فيما يلد هذا الولد بعد ذلك شئ بخلاف ما قبل التكفير فان حق الله تعالى في الولد لازم
إياه قبل التكفير فيسرى إلى ما يتولد منه وهو نظير من أخرج ظبية من الحرم فكفر
عنها ثم ولدت ثم ماتت لم يكن عليه فيها ولا في ولدها شئ وإن لم يكفر عنها كان عليه فيها
وفي ولدها الكفارة (قال) محرم بالحج قدم مكة وطاف بالبيت ثم خرج إلى الربذة فأحصر
بها ثم قدم مكة بعد فوات الحج فعليه أن يحل بعمرة ولا يكفيه الطواف الأول لان ذلك
كان طواف التحية وليس لطواف التحية أثر في التحلل ولان التحلل بالطواف يكون في
يوم النحر أو بعده وذلك الطواف كان قبل يوم النحر فلا يكون معتبرا في التحلل وإن كان
177

خروجه إلى الربذة بعد الوقت لم يفته لقوله صلى الله عليه وسلم من أدرك عرفة فقد أدرك
الحج ثم قد تقدم بيان ما عليه من الدماء بعد هذا بسبب الترك والتأخير (قال) فان أهل
بعمرة في أشهر الحج ثم قدم مكة بعد يوم النحر يقضى عمرته وليس عليه شئ لأن العمرة
غير مؤقتة فلا يفوته عمل العمرة بمضي أيام النحر فلهذا لا يلزمه شئ والحاصل أن جميع
السنة وقت العمرة عندنا ولكن يكره أداؤها في خمسة أيام يوم عرفة ويوم النحر وأيام
التشريق هكذا روى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام
الخمسة ولان الله تعالى سمى هذه الأيام أيام الحج فيقتضى أن تكون متعينة للحج الأكبر
فلا يجوز الاشتغال فيها بغيرها وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تكره العمرة في هذه
الأيام الخمسة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا تكره العمرة في يوم عرفة قبل الزوال
لان في دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله ولكن مع هذه الكراهة لو أدى العمرة
في هذه الأيام صح فيبقى محرما في هذه الأيام بها وهو نظير بقاء حرمة الصلاة بعد دخول
وقت الكراهة (قال) وإذا أهل الحاج صبيحة يوم النحر بحجة أخرى لزمته ويقضى
ما بقي عليه من الأولى ويقيم حراما إلى أن يؤدى الحج بهذا الاحرام من قابل لأنه أحرم
بعد مضى وقت الحج من السنة الماضية فينعقد احرامه لأداء الحج به في السنة القابلة وعليه
بجمعه بين الحجتين دم لان احرامه للحج باق ما لم يتحلل بالحلق والطواف والجمع بين
احرام الحجتين ممنوع عنه فإذا فعل ذلك لزمه الدم بالجمع المنهى عنه وهذا بخلاف ما إذا
أهل بحجتين لان الدم هناك يلزمه لرفض إحداهما لان الجمع هناك لا يتحقق حين صار
قاضيا لإحداهما وهنا يتحقق لأنه يؤدى ما بقي من اعمال الأولى من غير أن يصير رافضا
للأخرى فلهذا لزمه للجمع بينهما دم وان قدم الحاج مكة فأدرك الوقوف بمزدلفة لم يكن
مدركا للحج لقوله صلى الله عليه وسلم من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج ثم ذكر بعد هذا
حكم الاهلال بحجتين أو بعمرتين وقد بينا ذلك ويستوى فيه أن أهل بهما معا أو بإحداهما
ثم بالأخرى معا لأنه جامع بين الاحرامين في الحالين فان رفض احدى العمرتين ثم
قضاها في العام القابل ومعها حجة فهو قارن لان القران بالجمع بين الحجة والعمرة فكما أن
كون الحج في ذمته لا يمنع تحقق القران فكذلك كون العمرة واجبة في ذمته وكذلك أن
أتى بهذه العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك فهو متمتع إن لم يكن ألم بأهله
178

بين النسكين حلالا فان ألم بأهله بين النسكين حلالا لم يكن متمتعا بلغنا ذلك عن ابن
عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وهذا بخلاف القارن ان رجع إلى أهله بعد طواف
العمرة لأنه إنما رجع محرما فلم يصح المامه بأهله فلهذا كان قارنا وقد بينا الفرق بين المتمتع
الذي ساق الهدى وبين الذي لم يسق الهدى في حكم الالمام بأهله وقد بينا الفرق أيضا
في حكم المكي الذي قدم الكوفة وبينا القران والتمتع وروى ابن سماعة عن محمد أن المكي
إذا قدم الكوفة إنما يجوز له أن يقرن إذا كان خروجه من الميقات قبل دخول أشهر الحج
فأما إذا دخلت أشهر الحج قبل خروجه من الميقات فقد حرم عليه القران والتمتع فلا يرتفع
ذلك بالخروج عن الميقات بعد ذلك (قال) وإذا قدمت المرأة مكة محرمة بالحج حائضا
مضت على حجتها غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة
رضي الله عنها واصنعي جميع ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فإذا طهرت بعد
مضى أيام النحر طافت للزيارة ولا شئ عليها بهذا التأخير لأنه كان بعذر الحيض وعليها
طواف الصدر لأنها طاهرة وان حاضت بعد ما طافت للزيارة يوم النحر فليس عليها طواف
الصدر لما بينا من الرخصة الواردة للحائض في ذلك (قال) وليس على أهل مكة ومن وراء
الميقات طواف الصدر إنما ذلك على أهل الآفاق الذي يصدرون عن البيت بالرجوع إلى منازلهم
فان نوى الإقامة بمكة واتخذها دارا سقط عنه طواف الصدر ان كانت نيته قبل أن يحل النفر
الأول لان وقت الصدر بعد حل النفر الأول فإنما جاء وقت الصدر وهو من أهل مكة فلا
يلزمه طواف الصدر وان كانت نيته الإقامة بعد ما حل النفر الأول فعليه طواف الصدر في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان ذلك قد لزمه بمجئ وقت الصدر قبل نية الإقامة فلا
يسقط عنه بنيته الإقامة بعد ذلك كالمرأة إذا حاضت بعد خروج وقت الصلاة لا تسقط عنها
تلك الصلاة وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا نوى الإقامة قبل أن يأخذ في طواف
الصدر سقط عنه طواف الصدر لأنه وان دخل وقته فلا يصير طواف الصدر دينا عليه
بدخول وقته فنيته الإقامة بعد دخول وقته وقبله سواء كالمرأة إذا حاضت بعد دخول وقت
الصلاة لا تلزمها تلك الصلاة فاما إذا نوى الإقامة بعد ما أخذ في طواف الصدر فعليه ان
يأتي بذلك الطواف لان بالشروع فيه لزم اتمامه فلا يسقط بنية الإقامة بعد ذلك فان بدا له
الخروج من مكة بعد ما اتخذها دارا لا يلزمه طواف الصدر لأنه بمنزلة المكي بقصد الخروج
179

من مكة وان نوى أن يقيم بمكة أياما ثم يصدر لم يسقط عنه طواف الصدر وان نوى الإقامة
سنة أو أكثر لان بهذه النية لم يصر كأهل مكة لان المكي غير عازم على الصدر منها بعد
مدة وهذا على الصدر منها بعد مدة فيبقى عليه طواف الصدر على حاله (قال) وليس
على فائت الحج طواف الصدر لان العود للقضاء مستحق عليه ولأنه صار بمنزلة المعتمر
المقيم في حق الاعمال وليس على المعتمر طواف الصدر (قال) رجل قصد مكة للحج
فدخلها بغير احرام ووافاها يوم النحر وقد فاته الحج فأحرم بعمرة وقضاها أجزأه وعليه دم
لترك الوقت لأنه لو أحرم بالحج بعد ما جاوز الميقات وقضاه كان عليه دم لترك الوقت
فكذلك إذا أحرم بالوقت بالعمرة وقضاها لان الواصل إلى الميقات يلزمه الاحرام حاجا
كان أو معتمرا وإن لم يحرم بعمرة ولكنه أحرم بحجة فهو محرم حتى يحج مع الناس من
قابل وقد بينا حكم الاحرام في غير أشهر الحج ولكنه ينبغي ان يرجع إلى الوقت فيلبى منه ليسقط
عنه الدم فإن لم يرجع فعليه دم لتأخير الاحرام (قال) ومن فاته الحج لم يسعه أن يقيم في
منزله حراما من غير عذر ويبعث بالهدى ولا يحل بالهدى إن بعث به لان التحلل بالهدى
للمحصر وهذا غير محصر بل هو فائت الحج وقد تعين عليه التحلل بالطواف والسعي شرعا
فلا يتحلل بغير ذلك والله أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
باب الجمع بين الاحرامين
(قال) والعمرة لا تضاف إلى الحج والحج يضاف إلى العمرة قبل أن يعمل منها شيئا وبعد
أن يعمل هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنه وهذا لان الله تعالى جعل العمرة بداية
والحج نهاية بقوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فمن أضاف الحجة إلى العمرة كان فعله
موافقا لما في القرآن ومن أضاف العمرة إلى الحج كان فعله مخالفا لما في القرآن فكان مسيئا
من هذا الوجه ولكن مع هذا هو قارن فان القارن هو جامع بين العمرة والحج وهو جامع
بينهما على كل حال الا انه إذا أضاف الحج إلى العمرة بأن أهل بالعمرة أولا ثم بالحج فهو
جامع مصيب للسنة فيكون محسنا ومن أهل بالحج ثم بالعمرة فهو جامع مخالف للسنة فكان
مسيئا لهذا ويلزمه في الوجهين جميعا ما أوجب الله تعالى على المتمتع المترفق بأداء النسكين في
سفر واحد كما قال الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وهو شاة
180

في قول على وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم وفى قول ابن عمر وعائشة رضي الله عنه
ما بدنة وأخذنا بالأول لحديث جابر رضي الله عنه قال تمتعنا بالعمرة إلى الحج مع رسول
صلى الله عليه سلم فاشتركنا في البدنة عن سبعة فإن لم يجد الهدى فعليه صوم ثلاثة
أيام في الحج والأفضل ان يصوم قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة لان صوم
اليوم بدل عن الهدى فالأولى ان يؤخره إلى آخر الوقت الذي يفوته بمضيه رجاء أن يجد
الهدى (قال) ولو صام هذه الأيام الثلاثة بعد احرامه للعمرة قبل احرام الحجة جاز عندنا
خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وحجته ظاهر الآية قال الله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج
وحين صام قبل أن يحرم بالحج فصومه هذا ليس في الحج وحجتنا في ذلك أن نقول جعل
الحج ظرفا للصوم وفعل الحج لا يصلح ظرفا للصوم فعرفنا أن المراد به الوقت كما قال الله
تعالى الحج أشهر معلومات وهذا قد صام في وقت الحج بعد ما تقرر السبب وهو التمتع لان
معنى التمتع في أداء العمرة في سفر الحج في وقت الحج وقد وجد ذلك وأداء العبادة البدنية
بعد وجود سبب وجوبها جائز كالمسافر إذا صام شهر رمضان وإن لم يصم حتى جاء يوم النحر
تعين عليه الهدى عندنا وهو قول عمر رضى الله تعالى عنه فان رجلا أتاه يوم النحر فقال إني
تمتعت بالعمرة إلى الحج فقال اذبح شاة فقال ليس معي شئ فقال سل أقاربك فقال ليس
هنا أحد منهم فقال لغلامه يا مغيث اعطه قيمة شاة وذلك لان البدل كان مؤقتا بالنص فبعد
فوات ذلك الوقت لا يكون بدلا فتعين عليه الهدى والشافعي رحمه الله تعالى كأن يقول
في الابتداء يصوم أيام التشريق وهو مروى عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما ولكن
هذا فاسد فقد صح النهى عن الصوم في هذه الأيام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا
يجوز أداء الواجب بها ولو وجد الهدى بعد صوم يومين من الثلاثة كان عليه الهدى لأنه
قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف بخلاف ما إذا قدر على أصل الهدى بعد ما يحل
يوم النحر لان المقصود هو التحلل فإنما قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل وهو
كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة وأما صوم السبعة ليس ببدل فيما هو المقصود
وهو التحلل ألا ترى ان أوان أدائها بعد التحلل ووجوب الهدى لا يمنع أداءها والمراد من
الرجوع المذكور في قوله تعالى وسبعة إذا رجعتم مضى أيام التشريق حتى إذا صام بعد
مضيها قبل أن يرجع إلى أهله جاز عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى إلا أن ينوى
181

المقام فحينئذ يجوز الصوم (قال) وان أهل الآفاقي بالحج فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة
رفضها وعليه قضاؤها ودم للرفض لان احرام الحج قد تأكد بما أتى به من الطواف فان ذلك
من عمل الحج ولو بقي احرامه للعمرة كان بانيا عمل العمرة على أعمال الحج وذلك لا يجوز فلهذا
يرفضها وإن كان أهل بالعمرة أولا فطاف لها شوطا ثم أهل بالحج مضى فيها لأنه يبنى أعمال
الحج على العمرة وذلك صحيح إلا أنه لو طاف للعمرة أقل الأشواط يكون قارنا وان طاف
لها أكثر الأشواط ثم أهل بالحج كان متمتعا لان المتمتع من يحرم بالحج بعد عمل العمرة
ولأكثر الطواف حكم الكل والقارن من يجمع بينهما وقد صار جامعا حين أحرم بالحج
وقد بقي عليه أكثر طواف العمرة وقد بينا أن المكي لا يقرن بين الحج والعمرة ولا يضيف
أحدهما إلى الآخر فان قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج لأنه ممنوع من الجمع
بينهما فلا بد من رفض أحدهما ورفض العمرة أيسر لأنها دون الحج في القوة ولأنه يمكنه
أن يقضيها متى شاء وكذلك أن أحرم أولا بالعمرة ثم أحرم بالحج رفض العمرة لان الترجيح
بالبداءة بعد المساواة في القوة ولا مساواة هنا فيرفض العمرة على كل حال وان مضى فيهما
حتى قضاهما أجزأه لان النهى لا يمنع تحقق المنهى عنه وهذا بخلاف الجامع بين الحجتين
والعمرتين فان الجمع بينهما عملا منفى هناك ومع النفي لا يتحقق الاجتماع فيكون رافضا لأحدهما
على كل حال وهنا الجمع بين الحج والعمرة في حق المكي منهى عنه ومع النهى يتحقق الجمع
فيجب عليه الدم لجمعه بينهما ولكن هذا الدم ليس نظير الدم في حق الآفاقي إذا قرن بينهما
فان ذلك نسك يحل التناول منه وهذا جبر لا يحل التناول منه لان وجوب هذا الدم
بارتكاب ما هو منهى عنه فيكون واجبا بطريق الجبر للنقصان فلهذا لا يباح التناول منه
وإن كان طاف للعمرة شوطا أو ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرفض العمرة لأنه أهل بالحج
فأكثر أعمال العمرة باق عليه وللأكثر حكم الكل فكأنه أهل بالحجة قبل أن يأتي
بشئ من أعمال العمرة فيرفضها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إن احرام العمرة قد تأكد
بما أتى به من طواف العمرة واحرام الحج لم يتأكد بشئ من عمله والمتأكد بأداء العمل
أقوى من غير المتأكد فلهذا يرفض الحجة والدليل على أن التأكد يحصل بشوط من
الطواف ما بينا في الآفاقي إذا طاف للحج شوطا ثم أحرم للعمرة كان عليه رفضها لتأكد
182

احرام الحج بالعمل قبل الاهلال بالعمرة بخلاف ما لو أهل بالعمرة قبل أن يأتي بشئ من
طواف الحج ولو كان المكي طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج فنقول إنما أحرم
بالحج بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وللأكثر حكم الكل فكأنه أحرم بالحج بعد الفراغ
من العمرة فلا يرفض شيئا ولكن يفرغ من عمرته ومن حجته وعليه دم لأنه صار كالمتمتع
وهو منهي عن التمتع إلا أنه لا يحل التناول من هذا الدم لأنه دم جبر كما بينا ولو كان هذا
الطواف منه للعمرة في غير أشهر الحج كان عليه الدم أيضا لأنه أحرم بالحج قبل أن يفرغ من
العمرة وليس للمكي أن يجمع بينهما فإذا صار جامعا كان عليه الدم ولو كان هذا آفاقيا لم يكن عليه
هذا الدم لأنه غير ممنوع من الجمع بينهما قال في الأصل وعليه دم لترك الوقت في العمرة أيضا
وإنما أراد به إذا كان أحرم للعمرة في الحرم فان ميقات أهل مكة لاحرام العمرة هو الحل (قال)
كوفي أهل بحجة وطاف لها ثم أهل بعمرة قال يرفض عمرته لأنه لو لم يرفضها كان بانيا للعمرة
على الحجة هذا إذا أهل بعمرة بعرفة فان أهل بها يوم النحر قبل أن يحل بحجته أو بعد ما حل
قبل أن يطوف أمر أن يرفضها أيضا وإن لم يرفضها ومضى فيها أجزأه وعليه دم إن كان
أهل بها قبل أن يحل بحجته وإن كان بعد ما حل من حجته فليس عليه شئ إن لم يترك
الوقت فيها ولا يؤمر بان يرفضها إذا أحرم بها بعد تمام الاحلال لأنه وإن كان منهيا عن
الاحرام فبعد ما أحرم يجب عليه الاتمام لأنه غير جامع بينه وبين احرام آخر فإذا أداها
كان صحيحا بخلاف ما إذا أهل بها بعرفات فان هناك قد صار رافضا للعمرة لتحقق المنافي
على ما سبق ثم إن كان إهلاله بالعمرة قبل أن يحل من الحج فقد صار جامعا بين الاحرامين
على وجه هو منهى عن ذلك فلزمه لذلك دم وإن كان بعد ما حل لم يصر جامعا بين
الاحرامين فلا يلزمه شئ (قال) مكي أهل بالحجة فطاف لها شوطا ثم أهل بالعمرة
قال يرفض العمرة لان احرامه للحج قد تأكد وقبل تأكده كان يؤمر برفض العمرة
فبعد تأكده أولى فإن لم يرفضها وطاف لها وسعى أجزأه لما بينا أن النهى لا يمنع تحقق
المنهى عنه ولكن عليه دم لاهلاله بها قبل أن يفرغ من حجته وقد صار جامعا بينهما وهو
ممنوع من هذا الجمع (قال) محرم بعمرة جامع ثم أضاف إليها عمرة أخرى قال يرفض
هذه ويمضى في الأولى لان الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الاتمام ولو كانت الأولى
صحيحة كان عليه أن يمضى فيها ويرفض الثانية فكذلك بعد فسادها وكذلك لو لم يجامع في
183

الأولى ولكنه طاف لها شوطا ثم أحرم بالثانية يرفض الثانية لان الأولى قد تأكدت لما
طاف لها فتعينت الثانية للرفض وكذا هذا في حجتين (قال) وإذا أهل بحجتين معا ثم
جامع قبل أن يسير فعليه للجماع دمان في قول أبي حنيفة لان من أصله أنه لا يصير رافضا
لأحدهما ما لم يأخذ في عمل الأخرى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه دم واحد
للجماع لأنه كما فرغ من الاحرامين صار رافضا لأحدهما فجماعه جناية على احرام واحد وإن كان
ذلك الجماع منه بعد ما سار فعليه دم واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار إلى مكة
فجماعه جناية على احرام واحد ثم ما يلزمه بالرفض وبالافساد من القضاء والدم قد بيناه فيما
سبق فان أحرم لا ينوى شيئا فطاف ثلاثة أشواط ثم أهل بعمرة فإنه يرفض هذه الثانية
لان الأولى قد تعينت عمرة حين أخذ في الطواف لما بينا ان الابهام لا يبقى بعد الشروع
في الأداء بل يبقى ما هو المتيقن وهو العمرة فحين أهل بعمرة أخرى فقد صار جامعا بين
عمرتين فلهذا يرفض الثانية (قال) وإذا كان للكوفي أهل بالكوفة وأهل بمكة يقيم عند
هؤلاء سنة وعند هؤلاء سنة فاعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا لأنه ملم
بين النسكين بأهله الماما صحيحا فإن لم يكن له أهل بمكة واعتمر من الكوفة في أشهر الحج
وقضى عمرته ثم خرج إلى مصر ليس فيه أهله ثم حج من عامه ذلك كان متمتعا ما لم يرجع
إلى المصر الذي كان فيه أهله ثم قال بلغنا ذلك عن عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب رضي
الله عنهما وإبراهيم رحمه الله تعالى وقد بينا ان الطحاوي رحمه الله تعالى ذكر في هذا الفصل
خلافا بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهما الله تعالى وهو الصحيح ان عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى يكون متمتعا وحديث زيد الثقفي رضي الله عنه انه سأل ابن عباس رضي الله عنهما
فقال أتينا عمارا فقضيناها ثم زرنا القبر ثم حججنا فقال أنتم متمتعون والأصل عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى انه ما لم يصل إلى أهله فهو متمتع كمن لم يجاوز الميقات وعندهما من
خرج من الميقات فهو كمن وصل إلى أهله في أنه لا يكون متمتعا بعد ذلك فإن كان له
بالكوفة أهل وبالبصرة أهل فرجع إلى أهله بالبصرة ثم حج من عامه ذلك لم يكن متمتعا
لأنه ألم بأهله بين النسكين حلالا (قال) وان اعتمر الكوفي في أشهر الحج وساق هديا
للمتعة وهو يريد الحج فطاف لعمرته ولم يحلق ثم رجع إلى أهله ثم حج كان متمتعا في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ولم يكن متمتعا في قول محمد رحمه الله تعالى إذا كان
184

رجوعه إلى أهله بعد ما أتى بأكثر طواف العمرة وحجته وهو أنه ملم بأهله بين النسكين
وهو إلمام صحيح فان العود غير مستحق عليه حتى لو بعث بهديه لينحر عنه ولم يحج كان جائزا
فهو بمنزلة المكي الذي اعتمر من الكوفة وساق الهدى لمتعته فهناك لا يكون متمتعا فكذلك
هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان المامه غير صحيح بأهله هنا لأنه محرم على
حاله ما لم ينحر عنه الهدى فكان العود مستحقا عليه وذلك يمنع صحة المامه بأهله كالقارن إذا
أتى بعمل العمرة ثم رجع إلى أهله ثم عاد فحج كان قارنا ولم يصح المامه باهله محرما فكذا هذا
وهذا بخلاف من لا هدى معه وقد حل هناك من احرام العمرة فإنما ألم باهله حلالا فكان المامه
صحيحا (قال) رجل أهل بعمرة في أشهر الحج وساق هديا معه لمتعته ثم بدا له أن يحل وينحر
هديه ويرجع إلى أهله ولا يحج كان له ذلك لان بمجرد النية قبل الاحرام لا يلزمه أداء الحج في
هذه السنة فان فعل ذلك ثم حج من عامه فلا شئ عليه لأنه ألم باهله بين النسكين حلالا
فخرج من أن يكون متمتعا وان أراد أن ينحر هديه ويحل ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك
لم يكن له ذلك لأنه إذا لم يقصد الرجوع إلى أهله فهو قاصد إلى التمتع فكان هديه هدى المتعة
فليس له أن ينحرها قبل يوم النحر لاختصاص هدى المتعة بيوم النحر ولأنه لما ساق الهدى
وهو عازم على التمتع لزمه البقاء في الاحرام إلى أن يفرغ من عمل الحج وليس له أن يتعجل في
الاحلال قبل وقته فان فعل ذلك ثم رجع إلى أهله ثم حج فلا شئ عليه لأنه لما رجع إلى أهله
فقد خرج من أن يكون متمتعا وإنما كان يلزمه تأخير الخروج عن احرام العمرة لأجل التمتع
فإذا خرج من أن يكون متمتعا تبين ان احلاله كان في وقته فلا يلزمه شئ وان فرغ من
عمرته وحل ونحر هديه ثم أقام بمكة حتى حج من عامه فعليه دمان لمتعته فإنه أتى بالنسكين
في سفر واحد فكان متمتعا وما نحر من الهدى قبل يوم النحر فلا يجزئه عن هدى المتعة
فلهذا لزمه دم المتعة ودم آخر لا حلاله قبل وقته لأنه لما كان متمتعا وقد ساق الهدى لم يكن
له ان يحل قبل يوم النحر وهو قد حل من عمرته قبل يوم النحر فعليه دم لتعجيل الاحلال
(قال) رجل أهل بعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها بالجماع فلما فرغ منها أهل بأخرى ينوى
قضاءها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا اما بالعمرة الأولى فلانه أفسدها بالجماع والتمتع بالعمرة
الفاسدة لا يكون وأما بالثانية فلانه أحرم لها من غير الميقات والمتمتع من تكون عمرته
ميقاتية وحجته مكية ولأنه لما دخل مكة بالعمرة الفاسدة صار بمنزلة أهل مكة وإن كان حين
185

فرغ من العمرة الفاسدة خرج من مكة حتى جاوز المواقيت ثم أهل بعمرة في أشهر الحج
ثم حج من عامه ذلك فإن كان جاوز الوقت قبل أشهر الحج كان متمتعا لأنه بمجاوزة الميقات
صار في حكم من لم يدخل مكة فإذا اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه فقد أتى بعمرة
ميقاتية وحجة مكية فكان متمتعا وإن لم يجاوز الوقت الا في أشهر الحج فليس بتمتع لان
أشهر الحج لما دخلت وهو داخل الميقات حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل مكة ومن
هو داخل الميقات فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من الميقات بعد ذلك في حق المكي
ومن هو داخل الميقات فإن كان دخوله الأول في أشهر الحج بعمرة فأفسدها وأتمها مع
الفساد ثم رجع إلى أهله ثم عاد فقضاها وحج من عامه ذلك كان متمتعا لان سفره الأول
قد انقطع برجوعه إلى أهله فصار كأن لم يوجد فالمعتبر سفره الثاني وقد أدى النسكين في
هذا السفر بصفة الصحة فكان متمتعا وان رجع إلى بلدة أخرى ثم عاد فقضى عمرته وحج
من عامه لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى بناء على الأصل الذي قررنا انه ما لم
يصل إلى بلدته فهو في الحكم كأن لم يخرج من مكة فلا يكون متمتعا وعندهما يكون متمتعا
لان من أصلهما ان بخروجه من الميقات انقطع حكم ذلك السفر في حق التمتع بمنزلة ما لو رجع
إلى بلدته فإذا عاد معتمرا وحج من عامه كان متمتعا لأداء النسكين في سفر واحد صحيحا
وان دخل بعمرة فاسدة في أشهر الحج فقضاها ثم خرج حتى جاوز الميقات ثم قرن عمرة
وحجة كان قارنا لان أكثر ما فيه أن حاله كحال المكي متى حصل بمكة بالعمرة الفاسدة
وقد بينا ان المكي إذا خرج من الميقات ثم قرن حجة وعمرة كان قارنا فهذا مثله ولو قضى
عمرته الفاسدة ثم أهل من مكة بعمرة وبحجة فإنه يرفض العمرة لأنه متى حصل بمكة بعمرة
فاسدة فهو بمنزلة مكي محرم بهما وقد بينا ان المكي يرفض العمرة إذا أحرم بهما كذلك هنا
ولو كان أهل بعمرة في أشهر الحج فطاف لها شوطا ثم أهل بحجة فهو على الخلاف الذي
ذكرناه في حق المكي ان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يرفض الحج لتأكد احرام العمرة
بالطواف وعندهما يرفض العمرة على ما مر لأنه لما لم يطف لها أربعة أشواط فهو بمنزلة من لم
يطف لها شيئا وإذا ترك المكي أو الكوفي ميقات الاحرام في العمرة وطاف لها شوطا
ثم أراد أن يلبى من الوقت لم ينفعه ولم يسقط عنه الدم لان احرامه وراء الميقات قد تأكد
بالطواف فهو وان عاد إلى الميقات ولبي فلم يصر متداركا لما فاته في وقته فلا يسقط عنه الدم
186

ألا ترى أنه إذا عاد لا يمكن أن يجعل كالمنشئ للاحرام الآن لان ما تقدم من الطواف
محسوب له وكيف يجعل كالمنشئ الآن وطوافه قبل ذلك محسوب فلهذا لا يسقط عنه الدم
والله أعلم بالصواب
باب التلبية
(قال) وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كأن يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك
لك لبيك أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك اتفق على هذا رواة نسك رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في نقل تلبيته فان اقتصر عليه فحسن وان زاد على هذا
فحسن أيضا عندنا وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى يقولون يباح له الزيادة وأكثرهم
على أن ذلك مكروه لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول في تلبيته
لبيك ذي المعارج لبيك فقال مه ما كنا نلبي هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه
ذكر منظوم فلا يزاد عليه كالأذان والتشهد وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة رضى الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول في تلبيته لبيك اله الحق لبيك وعن ابن مسعود
أنه خرج من مسجد الحيف يلبى فقال قائل لا يلبي هنا فقال ابن مسعود رضي الله عنه أجهل
الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك وعن ابن عمر رضي الله عنهما انه كأن يقول
في تلبيته لبيك مرهوب منك ومرغوب إليك والنعمى والفضل والحسن لك لبيك لبيك
وتأويل حديث سعد رضي الله عنه ان ذلك الرجل كان ترك التلبية المعروفة واكتفى بذلك
القدر فلهذا أنكر عليه وهكذا نقول إذا ترك التلبية المعروفة كان مكروها فاما إذا أتى بالمعروف
ثم زاد كان ذلك حسنا لان المقصود هو الثناء على الله تعالى واظهار العبودية من نفسه وقد نقل
من طريق أهل البيت عليهم السلام تلبية طويلة من ذلك والجاريات في الفلك على مجارى
من سلك ثم الحاج والقارن في قطع التلبية سواء لأنه لا يحل من النسكين قبل يوم النحر
وقطع التلبية حين يرمى جمرة العقبة وقد بينا وقت قطع التلبية في حق فائت الحج والمحصر
ومن أفسد حجه وإنما يصير محرما بالتلبية إذا نوى الاحرام فأما بدون النية لا يصير محرما
وان لبى كما لا يصير بالتكبير شارعا في الصلاة إذا لم ينو والتهليل والتسبيح بنية الاحرام به
بمنزلة التلبية كما عند افتتاح الصلاة وقد بينا الفرق بينه وبين الصلاة لأبي يوسف رحمه
187

الله تعالى وإذا توضأ الأخرس ولبس ثوبين وصلى ركعتين ثم نوي الاحرام بقلبه وحرك
لسانه كان محرما لأنه أتى بما في وسعه وليس عليه فوق ذلك كما إذا شرع في الصلة بتحريك
اللسان مع النية يصح شروعه والمرأة بمنزلة الرجل في التلبية غير أنها لا ترفع صوتها لما
بينا أن صوتها فتنة وإذا لم يلب القارن والمفرد بالحج والعمرة الا مرة واحدة فقد أساء ولا
شئ عليه لان الشروع في الاحرام بالتلبية كما أن صحة الشروع في الصلاة بالتكبير ولو لم
يأت المصلى الا بتكبيرة الافتتاح جازت صلاته وكان مسيئا فكذلك إذا لم يأت المحرم
بالتلبية الا مرة واحدة جاز لأنه أتى بما هو الواجب وترك المسنون فيكون مسيئا والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب
باب الصيد في الحرم
(قال) رضي الله عنه رجل رمى صيدا في الحل وهو في الحل فأصابه في الحرم كان عليه
الجزاء لأنه من جنايته وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيما أعلم ومعنى هذا التعليل أن
ذهاب السهم حتى وصل إلى الصيد كان بقوة الرامي وهو مباشر لذلك الفعل حتى يستوجب
القصاص به إذا رمى إلى مسلم عمدا فقتله وإنما أصابه بعد ما صار صيد الحرم فكان هو قاتلا
صيد الحرم بفعله فيلزمه الجزاء وهذا بخلاف ما لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرد
الكلب الصيد حتى قتله في الحرم حيث لا يضمن قال لان هذا ليس من جنايته ومعنى
هذا ان طرف الكلب الصيد فعل أحدثه الكلب فلا يصير المرسل به جانيا على صيد الحرم
وحقيقة المعنى في الفرق ان الرامي مباشر لما يصيبه سهمه وفى مباشرة الفعل لا فرق بين
أن يكون متعديا وبين أن يكون غير متعد فيما يلزمه من الجزاء ألا ترى أن من رمي
سهما في ملك نفسه فأصاب مالا أو نفسا كان ضامنا له فأكثر ما في الباب هنا أنه في أصل
الرمي لم يكن متعديا وهذا لا يمنع وجوب الجزاء عليه عند مباشرته فأما مرسل الكلب
متسبب لاتلاف ما يأخذه الكلب لا مباشر حتى لا يلزمه القصاص بحال والمتسبب إذا كان
متعديا في تسببه كان ضامنا وإذا لم يكن متعديا لا يكون ضامنا كمن حفر بئرا في ملك نفسه
وهنا هو غير متعد في إرسال الكلب على صيد في الحل فلهذا لا يلزمه الجزاء (قال)
وان زجر الكلب بعد ما دخل في الحرم فانزجر وأخذ الصيد فعليه جزاؤه استحسانا وفى
188

القياس لا يلزمه شئ لان الاخذ من الكلب يكون محالا على أصل الارسال دون الزجر
ألا ترى لو أن مسلما أرسل كلبه على صيد فزجره مجوسي فانزجر حتى أخذ الصيد حل
تناوله وأصل الارسال هنا لم يكن جناية فوجود الزجر بعد كعدمه وجه الاستحسان
أنه في هذا الزجر متسبب لاخذ الصيد وهو متعد في هذا التسبب ثم أصل الارسال هنا
ما انعقد تعديا وكان ذلك في حكم الزجر كالمعدوم أصلا وهو نظير القياس والاستحسان
الذي ذكره في كتاب الصيد أن الكلب المعلم إذا انبعث على أثر الصيد من غير
إرساله فزجره صاحبه فانزجر حتى أخذ الصيد إنما يحل تناوله استحسانا بخلاف ما إذا
أرسله مجوسي ثم زجره مسلم لان أصل الارسال هناك كان معتبرا فيحال الحكم عليه
دون الزجر (قال) ولو أرسل كلبا في الحرم على ذئب فأصاب صيدا في الحرم لم يكن عليه
شئ لأنه غير متعد في هذا التسبب فان إرسال الكلب على الذئب مباح له فلهذا لا يوجب
عليه الضمان وان أخذ الكلب الصيد بخلاف ما إذا رمى إلى ذئب فأصاب صيدا لأنه مباشر
فلا يعتبر فيه معنى التعدي ولكن قتل الصيد في الحرم خطأ موجب للضمان كقتله عمدا
وكذلك لو أرسل حلال كلبا على صيد في الحل فذهب الكلب إلى صيد في الحرم فقتله
لم يكن عليه جزاء كما لو دخل الصيد الذي أرسله عليه في الحرم فقتله فيه (قال) ولو أرسل
المجوسي كلبا على صيد في الحرم فزجره مسلم محرم فانزجر فقتل الصيد كان على المحرم
جزاؤه لان زجر المحرم لا يكون دون دلالته على الصيد والمحرم يضمن الصيد بالدلالة فبالزجر
أولى ولا يؤكل ذلك الصيد لا لزجر المحرم فان حرمة الصيد تثبت به كما تثبت بالدلالة ولكن
لان اخذه محال به على أصل الارسال والمرسل كان مجوسيا (قال) ولو نصب شبكة للصيد
فأصاب الصيد فعليه جزاؤه لأنه متعد في هذا التسبب ولو نصبها لذئب أو سبع آذاه
وابتدأه فوقع فيه صيد لم يكن عليه شئ لأنه غير متعد في هذا التسبب وهو قياس نصب
الفسطاط من المحرم على ما سبق (قال) محرم دل محرما على صيد وأمره بقتله وأمر المأمور
ثانيا بقتله فقتله كان على كل واحد منهم جزاء كامل لان كل واحد منهم جان على الصيد بما
صنع القاتل بالمباشرة والآمر الثاني بدلالة القاتل عليه والآمر الأول باعلامه الآمر الثاني
بمكان الصيد حتى أمر به غيره فكانوا جميعا ضامنين وهذا لان فعل المأمور الثاني كفعل
آمره ولو قتل الآمر الثاني وجب الجزاء به على الآمر الأول فكذلك إذا أمر به غيره
189

حتى قتله وجزاء الصيد في حق المحرم لا يتجزء فلهذا كان على كل واحد من الثلاثة جزاء
كامل (قال) لو أخبر محرم محرما بصيد لم يره حتى أخبره به محرم آخر فلم يصدق الأول
ولم يكذبه ولكن طلب الصيد فقتله كان على كل واحد منهم جزاؤه لان كل واحد منهم جان
فيما صنع وهذا بخلاف ما إذا أكذب الأول فان هناك لا يلزمه الجزاء لأنه بتكذيبه إياه
انتسخ حكم دلالته فلم يكن قتل الصيد بعد ذلك محالا به على دلالة الأول وإنما كان محالا به على
دلالة الثاني فاما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لم ينتسخ حكم دلالته (قال) محرم أرسل محرما
إلى محرم فقال إن فلانا يقول لك ان في هذا الموضع صيدا فذهب فقتله كان على المرسل
والرسول والقاتل الجزاء لان كل واحد منهم متعد فيما صنع فان القاتل إنما تمكن من قتل الصيد
بارسال المرسل وتبليغ الرسول فلهذا ضمن كل واحد منهم الجزاء (قال) وان دل محرم على
صيد رجلا وهو يعلم به ويراه فقتله لم يكن على الدال شئ لان تمكن القاتل من قتل الصيد لم
يكن بدلالته فقد كان متمكنا منه قبل دلالته (قال) محرم استعار من محرم سكينا ليذبح بها
صيدا فاعاره إياه فذبح الصيد فلا جزاء على صاحب السكين ويكره له ذلك اما الكراهة
بالإعانة على المعصية بما أعطاه من الآلة وأما حكم الجزاء فأكثر مشايخنا يقولون تأويل هذه
المسألة أنه إذا كان مع المحرم القاتل سلاح يقتل بذلك السلاح الصيد فحينئذ لا يلزم الجزاء
على من أعطى السكين لأنه وإن لم يعطه كان متمكنا من قتله فإذا لم يكن تمكنه بما أعطى لا يجب
عليه الجزاء كما لا يجب الجزاء على الدال إذا كان للمدلول علم بمكان الصيد فأما إذا لم يكن مع
المحرم القاتل ما يقتل به الصيد ينبغي أن يجب الجزاء على هذا المعير لان التمكن من قتل الصيد
كان بإعارته السكين والى هذا أشار في السير الكبير والأصح عندي انه لا يجب الجزاء
على المعير للسكين على كل حال لوجهين (أحدهما) أن الصيد مأخوذ المستعير قبل إعارة
السكين منه وكان قد تلف معنى الصيدية بأخذ المستعير إياه حكما وبقتله حقيقة فأما إعارة
السكين ليس باتلاف معنى الصيدية عليه لا حقيقة ولا حكما بخلاف الدلالة فإنه اتلاف
لمعنى الصيدية من وجه حين أعلم بمكانه من لا يقدر الصيد على الامتناع منه فان امتناع
الصيد ممن يقدر على الامتناع منه يكون بجناحه ومن لا يقدر على الامتناع منه يكون بتواريه
عن عينه فإذا أعلمه بمكانه صار متلفا معنى الصيدية حكما (والثاني) أن الإعارة تتصل بالسكين
لا بالصيد فإنها صحيحة وإن لم يكن هناك صيد ولا يتعين استعماله في حق قتل الصيد بخلاف
190

الإشارة إلى قتل الصيد فإنها متصلة بالصيد ليس فيها فائدة أخرى سوى ذلك ولا يتم ذلك
الا بصيد هناك فلهذا يتعلق وجوب الجزاء بها ولم يذكر في الكتاب مسألة نكاح
المحرم وهي مسألة خلافية معروفة عندنا يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج وليته
وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمحرم أن يتزوج ولا أن يزوج ولو فعل لم ينعقد
النكاح لحديث عثمان رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينكح المحرم
ولا ينكح ولان المقصود من النكاح الوطئ وبسبب الاحرام يحرم عليه الوطئ بدواعيه
فيحرم العقد الذي لا يقصد به الا هذا وهذا بخلاف شراء الأمة فان الشراء غير مقصود
للوطئ بل للتجارة والمحرم غير ممنوع عنه ألا ترى ان المسلم لا يتزوج المجوسية ولا أخته من
الرضاعة لأنه لما حرم عليه وطؤها حرم عليه العقد أيضا وله أن يشترى هؤلاء وحجتنا حديث
ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو
محرم وهكذا روى عن عائشة رضي الله عنها واختلف الروايات في حديث أبي رافع قال
في بعض الروايات تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال وفي بعضها تزوجها
وهو محرم وبنى بها وهو حلال وكنت أنا السفير فيما بينهما ويتبين بهذا الحديث أن المراد
من حديث عثمان رضي الله عنه الوطئ دون العقد فإنه للوطئ حقيقة وإن كان مستعارا
للعقد مجازا على ما نبينه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى ومن حيث المعنى الكلام
واضح في المسألة فان النكاح عقد معاوضة والمحرم غير ممنوع عن مباشرة المعاوضات
كالشراء ونحوه ولو جعل عقد النكاح بمنزلة ما هو المقصود به وهو الوطئ لكان تأثيره
في ايجاب الجزاء أو افساد الاحرام به لا في بطلان عقد النكاح توضيحه ان بعد الاحرام
يبقى النكاح بينه وبين امرأته صحيحا ولو كان عقد الاحرام ينافي ابتداء النكاح لكان
منافيا للبقاء كتمجسها والحرمة بسبب الرضاع ولما لم يناف بقاء النكاح فكذلك الابتداء
وبهذا فارق شراء الصيد أيضا لان الاحرام يمنع استدامة اليد على الصيد فيمنع اثبات اليد
بالشراء ابتداء بخلاف النكاح والدليل عليه أنه لو راجعها وهو محرم كان صحيحا بالاتفاق
وعلى أصل الشافعي رحمه الله تعالى الرجعة سبب يحل الوطاء به ثم لم يكن المحرم ممنوعا
عنه فكذلك النكاح وأصل كلامه يشكل بالظهار فان الظهار يحرم الوطئ بدواعيه ولا
يمنع العقد ابتداء بان ظاهر منها ثم فارقها ثم تزوجها ثم الشافعي رحمه الله تعالى يمنع المحرم
191

من تزويج وليته وليس في هذا تطرق المحرم إلى استباحة الوطئ فعرفنا ان كلامه من حيث
المعنى ضعيف جدا والله أعلم (قال) رحمه الله تعالى وغفر له هذا آخر شرح العبادات
بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات مصليا على سيد
السادات محمد المبعوث بالرسالات وعلى أهله من المؤمنين والمؤمنات تم كتاب المناسك ولله
المنة وله الحمد الدائم الذي لا يفنى أمده ولا ينقضى عدده
كتاب النكاح
(قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي رحمهما الله تعالى إملاء أعلم بان النكاح في اللغة عبارة عن الوطئ تقول العرب تناكحت
العرى أي تناتجت ويقول أنكحنا العرى فسنرى لامر يجتمعون عليه وينظرون ماذا يتولد
منه وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال أنكح الظئر ولدها أي ألزمه ويقال انكح
الصبر أي ألزمه وقال القائل
ان القبور تنكح الأيامى * والنسوة الأرامل اليتامى
أي تضمهن إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا
قال القائل * كبكر تحب لذيذ النكاح * أي الجماع وقال القائل
التاركين على طهر نساءهم * والناكحين بشطي دجلة البقرا
أي الواطئين ثم يستعار للعقد مجازا اما لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطئ أو لان في
العقد معنى الضم فان أحدهما ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح
المعيشة وزعم الشافعي رحمه الله تعالى ان اسم النكاح في الشريعة بتناول العقد فقط وليس
كذلك فقد قال الله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح يعنى الاحتلام فان المحتلم يرى في منامه صورة
الوطئ وقال الله تعالى الزاني لا ينكح الا زانية والمراد الوطئ وفى الموضع الذي حمل على العقد
فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الأولياء في قوله وانكحوا الأيامى منكم أو
اشتراط اذن الأهل في قوله تعالى فانكحوهن باذن أهلهن ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح
الدينية والدنيوية من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والانفاق ومن ذلك صيانة النفس عن
الزنا ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق مباهاة الرسول
192

صلى الله عليه وسلم بهم كما قال تناكحوا تناسلوا تكثروا فانى مباه بكم الأمم يوم القيامة
وسببه تعلق البقاء المقدور به إلى وقته فان الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة وبالتناسل
يكون هذا البقاء وهذا التناسل عادة لا يكون الا بين الذكور والإناث ولا يحصل ذلك
بينهما الا بالوطئ فجعل الشرع طريق ذلك الوطئ النكاح لان في التغالب فسادا وفى الاقدام
بغير ملك اشتباه الأنساب وهو سبب لضياع النسل لما بالإناث من نبي آدم من العجز
عن التكسب والانفاق على الأولاد فتعين الملك طريقا له حتى يعرف من يكون منه الولد
فيوجب عليه نفقته لئلا يضيع وهذا الملك على ما عليه أصل حال الآدمي من الحرية لا يثبت
الا بطريق النكاح فهذا معنى قولنا إنه تعلق به البقاء المقدور به إلى وقته ثم هذا العقد مسنون
مستحب في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى وعند أصحاب الظواهر واجب لظاهر
الامر به في الكتاب والسنة ولما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعكاف بن خالد ألك
امرأة فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم تزوج فإنك من اخوان الشياطين وفى رواية ان
كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منا فتزوج فان المهاجر من أمتي من مات
وله زوجة أو زوجتان أو ثلاث زوجات ولان التحرز من الزنا فرض ولا يتوصل إليه الا
بالنكاح ومالا يتوصل إلى الفرض الا به يكون فرضا وحجتنا أن النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر أركان الدين من الفرائض وبين الواجبات ولم يذكر من جملتها النكاح وقد
كان في الصحابة رضي الله عنهم من لم يتزوج ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
والصحابة رضي الله عنهم فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض ولم يذكروا من
جملتها النكاح وكما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنا يتوصل بالصوم إليه قال صلى الله عليه
وسلم يا معشر الشبان عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وتأويل ما روى
في حق من تتوق نفسه إلى النساء على وجه لا يصبر عنهن وبه نقول إذا كان بهذه الصفة
لا يسعه ترك النكاح فاما إذا لم يكن بهذه الصفة فالنكاح سنة له قال صلى الله عليه وسلم
ثلاث من سنن المرسلين النكاح والتعطر وحسن الخلق وقال صلى الله عليه وسلم النكاح
سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني أي ليس على طريقتي ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى
النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل وقال الشافعي رحمه الله تعالى التخلي لعبادة
الله تعالى أفضل الا ان تتوق نفسه إلى النساء ولا يجد الصبر على التخلي لعبادة الله واستدل
193

بقوله تعالى وسيدا وحصورا فقد مدح يحيى صلى الله عليه وسلم بأنه كان حصورا والحصور
هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الاتيان فدل ان ذلك أفضل ولان النكاح من جنس
المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر والمقصود به قضاء الشهوة وذلك مما يميل إليه الطبع
فيكون بمباشرته عاملا لنفسه وفى الاشتغال بالعبادة هو عامل لله تعالى بمخالفة هوى
النفس وفيه اشتغال بما خلقه الله تعالى لا جله قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس
الا لعيبدون فكان هذا أفضل إلا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح
معنى تحصين الدين والنفس عن الزنا كما قال عمر رضي الله عنه أيما شاب تزوج فقد حصن
ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه وحجتنا قوله صلى
الله عليه وسلم من كان على ديني ودين داود وسليمان عليهما السلام فليتزوج وقد اشتغل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزويج حتى انتهى العدد المشروع المباح له ولا يجوز ان يقال إن
ما فعل ذلك لان نفسه كان تواقة إلى النساء فان هذا المعنى يرتفع بالمرأة الواحدة ولما لم
يكتف بالواحدة دل ان النكاح أفضل والاستدلال بحال الرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى
من الاستدلال بحال يحيى عليه السلام مع أنه كان في شريعتهم العزلة أفضل من العشرة وفى
شريعتنا العشرة أفضل من العزلة كما قال صلى الله عليه وسلم لا رهبانية في الاسلام وقد
بينا ان النكاح مشتمل على مصالح جمة فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة على
ما اختاره الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة وإنما
المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضا ليرغب
فيه المطيع والعاصي المطيع للمعاني الدينية والعاصي لقضاء الشهوة بمنزلة الامارة ففيها قضاء
شهوة الجاه والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى أكثر من الرغبة في النكاح حتى تطلب ببذل
النفوس وجر العساكر لكن ليس المقصود بها قضاء شهوة الجاه بل المقصود إظهار الحق
والعدل ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل
تحت طاعته والانقياد لامره مع أن منفعة العبادة على العابد مقصورة ومنفعة النكاح لا
تقتصر على الناكح بل تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل قال صلى الله عليه
وسلم خير الناس من ينفع الناس إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب فقال بلغنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قالا لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا علي بنت أخيها ولا على
194

بنت أختها ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفي ما في صحفتها فان الله تعالى هو رازقها وهذا
الحديث يرويه رجلان من الصحابة رضي الله عنهم ابن عباس وجابر رضي الله عنهما وهو
مشهور بلغة العماء بالمقبول والعمل به ومثله حجة يجوز به الزيادة على كتاب الله تعالى عندنا
وفيه دليل على حرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها لان هذا النهى بصيغة الخير وهذا أبلغ
ما يكون من النهى كما أن الامر قد يكون بصيغة الخبر قال الله تعالى والمطلقات يتربصن
بأنفسهن الآية وقال الله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن والنهي يقتضى التحريم ثم ذكر
هذا النهى من الجانبين اما للمبالغة في بيان التحريم أو لإزالة الاشكال فربما يظن ظان ان
نكاح بنت الأخ على العمة لا يجوز ونكاح العمة علي بنت الأخ يجوز لتفضيل العمة كما
لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ويجوز نكاح الحرة على الأمة فبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثبوت هذه الحرمة من الجانبين وقوله لا تسأل المرأة طلاق أختها نهى
بصيغة الخبر وله تأويلان إما أن يكون المراد به الأخت دينا بأن تكون امرأتان تحت
رجل وهو يحسن إليهما فتجئ إلى الزوج إحداهما وتقول طلق صاحبتي ليتحول نصيبها
إلى وهذا منهي عنه لأنه سبب للتحاسد والتنافر وقال صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا
تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا أو يكون المراد به الأخت نسبا بأن تأتي المرأة إلى زوج
أختها وتقول فارقها وتزوجني فانى أوفق لك وهذا منهى عنه لأنه سبب لقطيعة الرحم بينهما
وقطيعة الرحم من الملاعن واليه أشار صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات فقال إنكم
إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن ومعنى قوله لتكفئ ما في صحيفتها أي لتحول نصيبها إلى نفسها
وروى لتكفئ وكلاهما لغة يقال كفأت القدر وأكفأتها إذا أملتها وأرقت ما فيها وفي بعض
الروايات لتكف ما في صحفتها ومعناه لتقنع بما آتاها الله فان الله تعالى هو رامقها والصحفة
عبارة عن الحظ والنصيب وقد اشتمل الحديث على الحتم والوعظ والندب فان قوله فان
الله هو رازقها وعظ وقوله لا تسأل ندب لأنها لو فعلت ذلك جاز ولكن لا ينبغي لها أن
تفعله وقوله لا تنكح المرأة على عمتها حتم حتى إذا فعل ذلك لم يجز انكاح عندنا وقال عثمان
البتي رحمه الله تعالى يجوز في غير الأختين لان المحرم بالنص الجمع بين الأختين وهذا
ناسخ لما يتلى في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز
ولكنا نقول الحديث صحيح مقبول والعمل به واجب فلكونه مشهورا نقول يجوز نسخ
195

الكتاب به عندنا أو نقول هذا مبين لما ذكر في الكتاب وليس بناسخ لان الحل في
الكتاب مقيد بشرط مبهم وهو قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين
وهذا الشرط مبهم فالحديث ورد لبيان ما هو مبهم في الكتاب ورسول الله صلى الله عليه
وسلم بعث مبينا قال الله تعالى ليبين للناس ما نزل إليهم أو نقول هذا الحديث مقرر للحرمة
المذكورة في الكتاب فان الله تعالى ذكر في المحرمات الجمع بين الأختين لأنه بينهما رحما
يفترض وصلها ويحرم قطعها وفي الجمع قطيعة لحرم على ما يكون بين الضرائر
من التنافر فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل قرابة يفترض وصلها فهي في معنى
الأختية في تحريم الجمع والتي بين العمة وبنت الأخ قرابة يفترض وصلها حتى لو كان أحدهما
ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى صيانة للرحم وإذا ملكه عتق عليه
تحرزا عن قطيعة الرحم فكان الحديث مقررا للحرمة المذكورة في القرآن لا أن يكون
ناسخا قال وبلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأمنعن النساء فروجهن الا من الأكفاء
وفى هذا دليل على أن للسلطان يدا في الأنكحة فقد أضاف المنع إلى نفسه وذلك يكون
بولاية السلطنة وفيه دليل أن الكفاءة في النكاح معتبرة وأن المرأة غير ممنوعة من أن تزوج
نفسها ممن يكافئها وأن النكاح ينعقد بعبارتها قال وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
البكر تستأمر في نفسها واذنها صماتها والثيب تشاور ومعنى قوله تستأمر في نفسها أي في
أمر نفسها في النكاح فهو دليل على أنه ليس لأحد من الأولياء أن يزوجها من غير استئمارها
أبا كان أو غيره وقيل معناه تستأمر خالية لا في ملا من الناس لكيلا يمنعها الحياء من الرد
إذا كانت كارهة ولا تذهب حشمة الولي عنه بردها قوله واذنها صماتها وفي بعض الروايات
سكوتها رضاها وذلك دليل على أن رضاها شرط وأن السكوت منها دليل على الرضا فيكتفي
به شرعا لما روى أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله انها تستحي فتسكت فقال صلى
الله عليه وسلم سكوتها رضاها ومعنى هذا انه تستحي من إظهار الرغبة في الرجال وإذا
استؤمرت فلها جوابان نعم أولا وسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحباء بينها
وبين ذلك الجواب وهو الرضا دون الاباء إذ ليس في الاباء إظهار الرغبة في الرجال وقد
يكون السكوت دليل الرضا كسكوت الشفيع بعد العلم بالبيع وسكوت المولى عند رؤيته
تصرف العبد عن الحجر عليه وقوله والثيب تشاور دليل على أنه لا يكتفى بسكوت الثيب فان
196

المشاورة على ميزان المفاعلة ولا يحصل ذلك الا بالنطق من الجانبين وبظاهره يستدل الشافعي
على أن الثيب الصغيرة لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيبا
تكون من أهل المشاورة والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث (قال) وبلغنا
عن إبراهيم رحمه الله تعالى قال البكر تستأمر في نفسها فلعل بها داء لا يعلمه غيرها قيل
معنى هذا لعلها رتقاء أو قرناء وذلك في باطنها لا يعلمه غيرها فإذا زوجت من غير استئمارها
لا يحصل المقصود بالنكاح وينهتك سترها وقيل معناه لا تشتهي صحبة الرجال لمعنى في باطنها
من غلبة الرطوبة أو نحو ذلك فإذا زوجت بغير استئمارها لا تحسن العشرة مع زوجها أو لعل
قلبها مع غير هذا الذي تزوج منه فإذا زوجت بغير استئمارها لم تحسن صحبة هذا الزوج
ووقعت في الفتنة لكون قبلها مع غيره وأي داء أدوى من العشق (قال) وبلغنا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة
وفيه دليل على أن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز وأن هذه الحرمة ثابتة شرعا رضيت الحرة
أو لم ترض وهو مذهبنا وقال مالك رحمه الله تعالى إذا رضيت الحرة جاز قال لان المنع لحق
الحرة لا للجمع بدليل أنه إذا تقدم نكاح الأمة بقي نكاحها بعد الحرة والجمع موجود
فدل أن المنع لحق الحرة وهو أنه يغصها ادخال ناقصة الحال في فراشها وذلك ينعدم
برضاها ولكنا نقول المنع ليس لحقها بل لأنها ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة
وهي من المحللات منفردة عن الحرة فان الحل برقها يتنصف كما يتنصف برق الرجل
على ما نبينه إن شاء الله تعالى فإذا تزوجها على الحرة فهذا حال ضمها إلى الحرة وهي ليست
من المحللات في هذه الحالة وهذا المعنى لا يزول برضاها فلهذا لا يجوز النكاح والكلام
فيه أن هذا الحديث ناسخ لما في الكتاب أو مبين بطريق التخصيص على نحو ما بينا في
الحديث الأول ثم ذكر هذا اللفظ عن علي رضي الله عنه أيضا وزاد فيه وللحرة
الثلثان من القسم وللأمة الثلث وبه نأخذ فان القسم ينبنى على الحل الذي ينبني عليه النكاح
وحظ الأمة فيه على النصف من حظ الحرة وزعم بعض العلماء رحمهم الله تعالى أنه يسوى
بينهما في القسم كما يسوى بينهما في النفقة للمساواة بينهما في الملك والحاجة ولكنا نقول
لا يسوى بينهما في النفقة أيضا فالحرة تستحق نفقة خادمها كما تستحق نفقة نفسها والأمة
لا تستحق النفقة إلا أن يبوئها المولى بيتا مع زوجها (قال) وبلغنا عن ابن عباس رضى
197

الله عنه أنه قال إن بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات
أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية وأنزل الله
تعالى قوله حرمت عليكم أمهاتكم الآية وان العرب في الجاهلية كانوا فريقين فريق يعتقدون
الإرث في منكوحة الأب ويقولون ان ولد الرجل إذا لم يكن منها يخلفه في نكاحها كما يخلفه
في ملكه فيطأها بغير عقد جديد رضيت أو كرهت وفيه نزل قوله تعالى لا يحل لكم أن ترثوا
النساء كرها وبعضهم كانوا يعتقدون أنها تحل له بعقد جديد وأنه متى رغب فيها فهو أحق
بها من غيره وفيه نزل قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وكانوا في الجاهلية يسمون الولد
الذي يكون بينهما ولد المقت واليه أشار الله تعالى في قوله انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا
وقوله تعالى الا ما قد سلف معناه أن ما قد سلف في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا
خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة وقيل معناه ولا ما قد سلف فان كلمة الا قد تكون بمعنى ولا
قال الله تعالى إلا الذين ظلموا منهم فيكون المعنى أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد نزول الحرمة
لا يحل إمساك ما قد سلف بعد نزول الحرمة لكيلا يظن ظان أن هذه الحرمة تمنع ابتداء
النكاح ولا تمنع البقاء كحرمة العدة فأما قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم ففيه بيان المحرمات
والحاصل أن المحرمات أربعة عشر سبع من جهة النسب وسبع من جهة السبب أما من جهة
السبب فالأمهات بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فأم الرجل حرام عليه وكذلك جداته
من قبل أبيه أو من قبل أمه فعلى قول من يقول إن اللفظ الواحد يجوز أن يراد به الحقيقة
والمجاز في محلين مختلفين يقول حرمت الجدات بالنص لان اسم الأمهات يتناولهن مجازا
وعلى قول من يقول لا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز يقول حرمت الجدات بدليل
الاجماع إذ الأمهات هن الأصول وهو حقيقة معنى هذا الاسم وذلك يجمع الكل إلا أن
اطلاق الاسم في الأم الأدنى دون غيرها لدليل العرف فعلى هذا يتناول النص الجدات حقيقة
والثاني البنات فعلى القول الأول حرمة بنات البنات وبنات البنين وان سفلن ثابتة بالنص أيضا
لان الاسم يتناولهن مجازا وعلى القول الآخر حرمتهن بدليل الاجماع على ما بينا والثالث
الأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى وأخواتكم وهن أصناف ثلاثة الأخت لأب وأم
والأخت لأب والأخت لام وهن محرمات بالنص فالأختية عبارة عن المجاورة في الرحم أو في
الصلب فكان الاسم حقيقة يتناول الفرق الثلاث والرابع العمات تثبت حرمتهن بقوله تعالى
198

وعماتكم ويدخل في ذلك أخوات الأب لأب وأم أو لأب أو لام والخامس الخالات تثبت
حرمتهن بقوله تعالى وخالاتكم ويدخل في ذلك أخوات الأم لأب وأم أو لأب أو لام والسادس
بنات الأخ تثبت حرمتهن بقوله تعالى وبنات الأخ ويدخل في ذلك بنات الأخ لأب وأم
أو لأب أو لام والسابع بنات الأخت تثبت حرمتهن بقوله تعالى وبنات الأخت ويستوى في
ذلك بنات الأخت لأب وأم أو لأب أو لام وأما السبع اللاتي من جهة النسب الأمهات من
الرضاعة والأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من
الرضاعة والحاصل أنه يثبت بالرضاع من الحرمة ما يثبت بالنسب قال صلى الله عليه وسلم يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب والثالث أم المرأة فان من تزوج امرأة حرمت عليه أمها ثبت
بقوله تعالى وأمهات نسائكم وهذه الحرمة تثبت بنفس العقد عندنا وكان بشر المريسي وابن
شجاع رحمهما الله تعالى يقولان لا تثبت الا بالدخول بالبنت وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله
تعالى ومذهبنا مذهب عمرو ابن عباس رضي الله عنهم واليه رجع ابن مسعود رضي الله عنه حين
ناظره عمر رضي الله عنه ومذهبهم مذهب علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما واستدلوا
بقوله تعالى وأمهات نسائكم الآية والأصل أن الشرك والاستثناء إذا تعقب كلمات منسوقة
بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل
بها أو لم يدخل وحرمت عليه ابنتها ان دخل بها وكان ابن عباس رضى عنهما يقول أم المرأة
مبهمة فأبهموا ما أبهم الله بين أن الشرط المذكور ينصرف إلى الربائب دون الأمهات وهذا
هو الظاهر لغة فالنساء المذكورة في قوله تعالى وأمهات نسائكم مخفوضة بالإضافة وفى قوله
من نسائكم مخفوض بحرف من والمخفوضات بأداتين لا ينعتان بنعت واحد ألا ترى أنه
لا يستقيم أن يقول مررت بزيد إلى عمرو الظريفين وهو الأصل في اللغة أن المعمول الواحد
لا يكون بعاملين فلو جعلنا قوله وربائبكم عطفا لصار قوله من نسائكم مخفوضا بحرف من
وبالإضافة جميعا وذلك لا يجوز فعرفنا أن قوله وربائبكم ابتداء بحرف الواو وان أمهات النساء
مبهمة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما فأما حرمة الربيبة وهي بنت المرأة لا تثبت الحرمة
الا بالدخول بالأم لقوله تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولان الربائب ليس في معنى
الأمهات فالظاهر من العبارة ان أم الزوجة تبرز إلى زوج بنتها قبل الدخول وأما بنت المرأة
199

لا تبرز إلى زوج أمها قبل الدخول بالأم واختلفت الصحابة رضي الله عنهم ان الحجر هل
ينتصب شرطا لهذه الحرمة أولا فكان علي رضي الله عنه يقول الحجر شرط لقوله تعالى
وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولما روى أنه عرض على رسول
الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما فقال لو لم تكن ربيبتي في حجري
ما كانت تحل لي أرضعتني وأباها ثويبة فاما عمر وابن مسعود رضي الله عنهما كانا يقولان
الحجر ليس بشرط وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى للحديث الذي رويناه وتفسير الحجر
وهو أن النبت إذا زفت مع الأم إلى بيت زوج الأم فهذه كانت في حجره وإذا كانت مع
أبيها لم تكن في حجر زوج الأم وإنما ذكر الحجر في الآية على وجه العادة فان بنت المرأة
تكون في حجر زوج أمها لا على وجه الشرط مثل قوله تعالى فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا
مذكور علي وجه العادة لا على وجه الشرط الا ترى أنه قال فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا
جناح عليكم شرط للحل عدم الدخول فذلك دليل على أنه بعد ما دخل بالأم لا تحل له البنت
قط سواء كانت في حجره أو لم تكن ولا يحل له ان يجمع بين الأم والبنت وإن لم يكن
دخل بالأم لان القرابة التي بينهما أقوى من القرابة التي بين المرأة وعمتها وقد بينا ان هناك
لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فهنا أولى فاما إذا طلق الأم قبل أن يدخل بها أو ماتت يحل له ان
يتزوج البنت وكان زيد رحمه الله تعالى يفرق بين الطلاق والموت فيقول بالموت ينتهى النكاح
حتى يتقرر به كمال المهر فنزل ذلك منزلة الدخول ولكنا نقول هذه الحرمة تعلقت شرعا
بشرط الدخول فلو أقمنا الموت مقامه كان ذلك بالرأي وكما لا يجوز نصب شرط بالرأي
لا يجوز إقامة شرط مقام شرط بالرأي فاما حليلة الابن علي الأب حرام سواء دخل
الابن بها أو لم يدخل لقوله تعالى وحلائل أبنائكم سميت حليلة لأنها تحل للابن من الحل
أو هو مشتق من الحلول على معنى انها تحل على فراشه وهو يحل في فراشها وكما تحرم
حليلة الابن نسبا فكذلك حليلة الابن من الرضاع عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى
لا تحرم حليلة الابن من الرضاع بناء على أصله ان لبن الفحل لا يحرم واستدل بالتقييد
المذكور هنا بقوله من أصلابكم ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب والمراد بقوله تعالى من أصلابكم بيان إباحة حليلة الابن من التبني فان
التبني انتسخ بقوله تعالى أدعوهم لآبائهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة
200

ثم تزوج زينب بعد ما طلقها زيد فطعن المشركون وقالوا إنه تزوج حليلة ابنه وفيه نزل قوله
تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم فهذا التقييد هنا لدفع طعن المشركين وكما تحرم حليلة
الابن فذلك حليلة ابن الابن وان سفل لان اسم الابن يتناوله مجازا فان قيل ابن الابن
لا يكون من صلبه فكيف يصح تعدية هذا التحريم إليه مع هذا التقييد قلنا مثل هذا اللفظ
يذكر باعتبار ان الأصل من صلبه كقوله تعالى هو الذي خلقكم من تراب والمخلوق من
التراب هو الأصل وكذلك منكوحة الأب حرام على الابن دخل بها الأب أو لم يدخل
لقوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وكما يحرم على الابن يحرم على النوافل من قبل الرجال
والنساء جميعا لان اسم الأب يتناول الكل مجازا فاما قوله تعالى وان تجمعوا بين الأختين
معناه حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين لأنه معطوف على أول الآية والجمع بين الأختين
نكاحا حرام وكذلك الجمع بينهما فراشا حتى لا يجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين وهو
مذهب على وابن مسعود وعمار بن ياسر رضوان الله عليهم فإنه قال ما حرم الله تعالى من
الحرائر شيئا الا وحرم من الإماء مثله الا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الأربع وكان عثمان
رضي الله عنه يقول أحلتهما آية وحرمتها آية يريد بآية التحليل قوله تعالى أن ما ملكت
أيمانكم وبآية التحريم قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين فكان يتوقف في ذلك ولكنا
نقول عند التعارض يترجح جانب الحرمة ويتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لرجل
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين ولان المراد من قوله وأن تجمعوا
حرمة الجمع فراشا كما أن قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يقتضى حرمة الاستفراش بأي
سبب كان والجمع فراشا يحصل بالوطئ بملك اليمين فلهذا يحرم عليه الجمع بينهما فان تزوجهما في
عقدة واحدة بطل نكاحهما لأنه لا وجه لتصحيح نكاح إحداهما بغير عينها فان النكاح عقد
تمليك فلا يثبت في المجهولة ابتداء ولا بعينها إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا يمكن
تصحيح نكاحهما لان الجمع محرم بالنص فتعين البطلان وان نكح إحداهما قبل الأخرى
فنكاح الأولى جائز لان بهذا العقد لا يصير جامعا ونكاح الثانية فاسد لان بهذا العقد يصير
جامعا بين الأختين فتعين فيه جهة البطلان فيفرق بينهما فإن لم يكن دخل بها فلا شئ لها
عليه وإن كان قد دخل بها فعليها العدة ولها الأقل من المسمى ومن مهر المثل لان الدخول
حصل بشبهة صورة النكاح فيسقط به الحد ويجب المهر والعدة كما إذا زفت إليه غير امرأته
201

وحكم ذلك مروى عن علي رضي الله عنه فاما وجوب الأقل من المسمى ومن مهر المثل فهو
مذهبنا وعند زفر رحمه الله تعالى يجب مهر المثل بالغا ما بلغ لان الواجب عند فساد العقد
بدل المتلف ألا ترى ان المقبوض بحكم الشراء الفاسد يكون مضمونا بالقيمة بالغة ما بلغت
عند الاتلاف فكذلك المستوفى بالنكاح الفاسد ولكنا نقول المستوفى بالوطئ ليس بمال
فإنما يقتدر بالمال بالتسمية الا ان المسمى إذا كان أكثر من مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم
صحة التسمية فإذ كان أقل لم تجب الزيادة على قدر المسمى لانعدام التسمية فيه ولتمام التراضي
على قدر المسمى بخلاف المبيع فإنه مال متقوم بنفسه فبدله يقتدر بالقيمة وإنما يتحول عنه إلى
المسمى إذا صحت التسمية فإذا لم تصح لفساد العقد كان مضمونا بالقيمة ثم يعتزل عن امرأته
حتى تنقضي عدة الأخرى سواء دخل بالأولى أو لم يدخل بها لان رحم المعتدة مشغول بمائه
حكما ولو وطئ الأخرى في هذه الحالة صار جامعا ماءه في رحم الأختين وذلك حرام
شرعا ولكن أصل نكاح الأولى بهذا لا يبطل لان اشتغال رحم الثانية عارض على شرف
الزوال فلا يبطل ذلك أصل النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة ووجبت عليها العدة
لا يكون للزوج ان يطأها حتى تنقضي عدتها ولا يبطل نكاحها ولا تتزوج المرأة في عدة
أختها منه من نكاح فاسد أو جائز عن طلاق بائن أو غير بائن وعلى قول الشافعي رحمه الله
تعالى ان كانت تعتد منه من طلاق رجعي فليس له أن يتزوج أختها وإن كان من ثلاث أو
خلع فله أن يتزوج أختها في عدتها وقد روى مثل مذهبه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه
إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى ذكر في الأمالي رجوع زيد رضي الله عنه عن هذا القول
وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى قول زيد الآخر أنه ليس له أن يتزوجها وحكي أن مروان
شاور الصحابة رضي الله عنهم في هذا فاتفقوا على أنه يفرق بينهما وخالفهم زيد ثم رجع إلى
قولهم وقال عبيدة السلماني ما اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم
على شئ كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت والمحافظة على الأربع قبل الظهر
وذكر سلمان بن بشار عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم المنع من نكاح
الأخت المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول إن كانت
حاملا فليس له أن يتزوج أختها وان كانت حائلا فله أن يتزوجها وحجة الشافعي رحمه الله
تعالى أن النكاح مرتفع بينهما بجميع علائقه فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة
202

ودليل الوصف أنه لو وطئها وقال علمت أنها على حرام يلزمه الحد ولو جاءت بولد لأكثر
من سنتين حتى علم أن العلوق كان في العدة لم يثبت النسب ولو بقيت بينهما علاقة
من علائق النكاح لسقط به الحد وثبت النسب والعدة الواجبة أثر ماء محترم لأنها من
حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول وما كان من العدة لحق النكاح لا يعتبر
فيه توهم الدخول كعدة الوفاة وإذا ثبت الوصف فتأثير أن المحرم هو الجمع بينهما نكاحا
فلا يصير جامعا بهذا حتى لم يبق بينه وبين الأولى علقة من علائق النكاح والمقصود من
هذا التحريم صيانة الرحم عن القطيعة التي تكون بسبب المنازعة بينهما في القسم وذلك
لا يتحقق بعد الخلع والتطليقات الثلاثة (ولنا) أن هذه معتدة على الاطلاق فليس له أن
يتزوج بأختها كالعدة من طلاق رجعي وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح ألا ترى
أنها لا تجب بدون النكاح أو شبهة النكاح ولا معنى لما قال إن وجوبها بماء محترم لأنه
ان اعتبر أصل الماء فهو موجود في الزانية ولا عدة وان اعتبر الماء المحترم فاحترام الماء
يكون بالنكاح والدليل عليه أن العدة تختلف بالرق والحرية واشتغال الرحم بالماء لا يختلف
وإنما يختلف ملك النكاح لتفاوت بينهما في الحل الذي ينبنى عليه النكاح فعرفنا أنه من
حقوق النكاح ولكن حق النكاح بعد ارتفاعه إنما يبقى إذا كان النكاح متأكدا وتأكده
بالموت أو بالدخول ولهذا لا تجب العدة على المطلقة قبل الدخول وإذا ثبت أنه من حقوق
النكاح فالحق يعمل عمل الحقيقة في اثبات الحرمة كما أن حق ملك اليمين للمكاتب كحقيقة
ملك اليمين للحر في المنع من نكاح أمته وكما أن الرضاع في التحريم ينزل منزلة النسب لأنه
في البعضية بمنزلة الحق من الحقيقة والدليل عليه أن في جانبها جعل الحق كالحقيقة في حق
المنع من التزوج فكذلك في جانبه ونحن نسلم ارتفاع ملك النكاح بجميع علائقه إنما تدعى
بقاء الحق وهذا الحكم عندنا يثبت بدون ملك النكاح فان بالنكاح الفاسد أصل الملك
لا يثبت ثم يكون ممنوعا من نكاح أختها وكما يلزمه الحد إذا وطئها يلزمها الحد إذا مكنت
نفسها منه ولا يدل ذلك على زوال المنع من جانبها فكذلك من جانبه وكما لا يجوز له أن
يتزوج أختها في عدتها فكذلك لا يجوز أن يتزوج أحدا من محارمها لأنهما في معنى الأختين
في حرمة الجمع بينهما وكذلك لا يجوز له ان يتزوج أربعا سواها في عدتها لان الجمع بين
الخمس حرام بالنكاح بمنزلة الجمع بين الأختين (قال) ولا يحل له أن يجمع بين امرأتين
203

ذواتي رحم محرم من نسب أو رضاع لان الرضاع في حكم الحرمة بمنزلة النسب وبهذا تبين
ان في المنصوص لا يعتبر المعنى وان المعتبر حرمة الجمع بالنص لا صيانة الرحم عن القطيعة فإنه
ليس بين الأختين من الرضاعة قرابة يفترض وصلها ثم كان الجمع بينهما حراما فان تزوجها
فهو على ما بينا في الأختين نسبا زاد في التفريع هنا فقال إن تزوجهما في عقدة ودخل بهما
فرق بينه وبينهما وعليهما العدة وإنما تصير كل واحدة منهما شارعة في العدة من وقت
التفريق عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى من آخر الوطآت وكذلك في كل نكاح فاسد
لان وجوب العدة بسبب الوطئ فيعتبر من آخر الوطآت ولكنا نقول الموجب للعدة
شبهة النكاح ورفع هذه الشبهة بالتفريق ألا ترى ان وطأها قبل التفريق لا يلزمه الحد
وبعده يلزمه فلا تصير شارعة في العدة ما لم ترتفع الشبهة وذلك بالتفريق بينهما والدليل على أن
المعتبر هو الشبهة أنه وان وطئها مرارا لا يجب الا مهر واحد لاستناده إلى شبهة واحدة
إذا ثبت هذا فنقول بعد ما فرق بينه وبينهما ليس له أن يتزوج واحدة منهما حتى تنقضي
عدة الأخرى لان الأخرى في عدته وعدة الأخت تمنع نكاح الأخت فان انقضت
عدتهما معا فله أن يتزوج أيتهما شاء وان انقضت عدة إحداهما فليس له أن يتزوج التي
انقضت عدتها لان الأخرى معتدة وله أن يتزوج المعتدة لان الأخرى منقضية العدة
وعدة هذه لا تمنع صاحب العدة من نكاحها إنما تمنع غيره من ذلك وكذلك لو كان دخل
بإحداهما ثم فرق بينه وبينهما فالعدة على التي دخل بها دون الأخرى وله ان يتزوج المعتدة
ولا يتزوج الأخرى حتى تنقضي عدة المعتدة لما بينا (قال) وإذا وطئ الرجل امرأة
بملك يمين أو نكاح أو فجوز يحرم عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه وقال الشافعي
رحمه الله تعالى إن كان الوطئ بنكاح أو ملك يمين فكذلك الجواب وإن كان بالزنا لا تثبت
به الحرمة واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم الحرام لا يحرم الحلال وهكذا رواه ابن عباس
رضي الله عنه وروى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يبتغى
من امرأة فجورا ثم يتزوج ابنتها فقال لا بأس لا يحرم الحرام الحلال وقالت عائشة رضي الله عنه
ا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل يبتغي من امرأة حراما ثم يتزوج ابنتها
فقال لا يجوز لا يحرم الحرام الحلال وإنما يحرم ما كان من قبل النكاح وعلل الشافعي رحمه الله
تعالى في كتابه فقال النكاح أمر حمدت عليه والزنا فعل رجمت عليه فانى يستويان ومعنى
204

هذا ان ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فان الله تعالى من به على عباده
بقوله تعالى فجعله نسبا وصهرا وهو معقول فان أمهاتها وبناتها يصرن كأمهاته وبناته حتى
يخلو بهن ويسافر بهن وهذا يكون بطريق الكرامة والزنا المحض سبب لايجاب العقوبة
فلا يصلح سببا لا يجاب الحرمة والكرامة الا ترى أنه لا يثبت به النسب والعدة فكذلك
حرمة المصاهرة وحجتنا في ذلك قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وقد بينا أن النكاح
للوطئ حقيقة فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن فالتقييد بكون الوطئ
حلالا زيادة ولا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس والدليل عليه أن موطوءة
الأب بالملك حرام على الابن بهذه الآية فدل أن المراد بالنكاح الوطئ لا العقد وقد نقل مثل
مذهبنا عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمران بن حصين رضي الله عنهم بألفاظ
مختلفة والمعنى فيه أنه وطئ في محله فيكون موجبا للحرمة كالوطئ بالنكاح وملك اليمين
وتفسير الوصف ان الوطئ في هذا المحل محرم لكونه مثبتا لان هذا الفعل حرث والحرث
لا يكون الا في محل مثبت وكون المحل مثبتا لا يختلف بالملك وعدم الملك وتأثيره أن ثبوت
الحرمة بسبب هذا الوطئ في الملك ليس لعين الملك بل لمعنى البعضية لان الولد الذي يتخلق
من الماءين يكون بعضا لكل واحد منهما فتتعدى شبهة البعضية إلى أمهاتها وبناتها والى آبائه
وأبنائه والشبهة تعمل عمل الحقيقة في ايجاب الحرمة وهذا المعنى لا يختلف بالملك وعدم
الملك لان سبب البعضية حسي وإنما تكون هذه البعضية موجبة حرمة الموطوءة لان
البعضية الحكمية عملها كعمل حقيقة البعضية وحقيقة البعضية توجب الحرمة في غير
موضع الضرورة فاما في موضع الضرورة لا توجب ألا ترى أن حواء عليها السلام خلقت
من آدم عليه السلام فكانت بعضه حقيقة وهي حلال له فكذلك شبهة البعضية إنما
توجب الحرمة في غير موضع الضرورة وفي حق الموطوأة ضرورة وهذا لان العلل الشرعية
امارات لا موجبات فلهذا ثبت الحكم بها في الموضع الذي جعلها الشرع علة وقد جعل
الشرع موضع الضرورة مستثنى من الحرمة بقوله تعالى الا ما اضطررتم إليه فاما النسب
فعندنا أحكام النسب تثبت ولكن الانتساب لا يثبت لأنه لمقصود الشرب به ولا يحصل
ذلك بالنسبة إلى الزاني والعدة إنما لا تجب لان وجوبها في الأصل باعتبار حق النكاح أو
الفراش وبين النكاح والسفاح منافاة فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة وبعض
205

أصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الحرمة تثبت هنا بطريق العقوبة كما تثبت حرمة الميراث في
حق القاتل عقوبة والأصل فيه قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم الآية وعلى
هذا الطريق يقولون المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة بها ولكن هذا التعليل فاسد
فان التعليل لتعدية حكم النص لا لاثبات حكم آخر سوى المنصوص فان ابتداء الحكم
لا يجوز اثباته بالتعليل والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك
الحرمة إلى الفروع لا لاثبات حكم آخر سوى المنصوص ولكن الصحيح أن نقول هذا
الفعل زنا موجب للحد كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد ويصلح أن يكون سببا
لثبوت الحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث للولد ألا ترى أنه في جانبها الفعل زنا ترجم عليه
وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم فيثبت نسبه منها وتحرم هي
عليه وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لأنه حرث لا لأنه زنا فكذا هنا فبهذا التقرير يتبين
فساد استدلالهم بالحديث فانا لا نجعل الحرام محرما للحلال وإنما نثبت الحرمة باعتبار ان
الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل بكونه زنا على أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره
فان كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء وكالوطئ بالشبهة
ووطئ الأمة المشتركة ووطئ الأب جارية الابن فان هذا كله حرام حرم الحلال لا لأنه
حرام بل للمعنى الذي قلنا فكذلك هنا ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنا بأن
زنى ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى
لا يكون حراما وله في البنت الملاعنة التي لم يدخل بالأم قولان واستدل فقال نص التحريم
قوله تعالى وبناتكم وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنا غير مضافة إليه
نسبا بل هي حرام الإضافة إليه نسبا ولو أثبتنا الحرمة فيها كان اثبات الحرمة بالزنا وبه فارق
جانبها فان الابن من الزنا يضاف إلى الأم نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى حرمت
عليكم أمهاتكم وتبين بهذا التفريق ان هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبنى على ثبوت النسب
شرعا والنسبة إلي الزاني غير ثابتة من كل وجه فكذا هنا وهكذا يقول على أحد القولين
في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول النسب هناك كان ثابتا باعتبار
الفراش لكن انقطع باللعان وبقي موقوفا على حقه حتى لو أكذب نفسه يثبت النسب
منه ولا يثبت من غيره وان أعاده فيجوز ابقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا
206

لانعدام الفراش ولا هو بعرض الثبوت منه ولنا ان ولد الزنا بعضه فتكون محرمة عليه
كولد الراشدة وهذا لان البعضية باعتبار الماء وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم
الملك فالولد المخلوق من المائين يكون بعض كل واحد منهما قال النبي صلى الله عليه وسلم
لفاطمة رضي الله عنها هي بضعة منى والبعضية علة صالحة لاثبات الحرمة لان الانسان كما
لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه الا ان النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للاشتباه
لان الزانية يأتيها غير واحد ولو أثبتنا النسب بالزنا ربما يؤدى إلى نسبه ولد إلى غير أبيه
وذلك حرام بالنص حتى أن في جانبها لما كأن لا يؤدى إلى هذا الاشتباه كان النسب ثابتا
ولان قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنا فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنا يتحرز عن
فعل الزنا وذلك يوجب اثبات الحرمة لان معنى الزجر عن الزنا به يحصل فإنه إذا علم أنه
بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة وإن لم
يثبت النسب هنا إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطئ تثبت بالمس والتقبيل
عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت
الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى أنه لو قبل أمته ثم
أراد أن يتزوج ابنتها عنده يجوز وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة ثم ماتت عنده يجوز
له ان يتزوج ابنتها بناء على أصله ان حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في اثبات النسب والعدة
وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في اثبات النسب والعدة فكذلك في اثبات الحرمة
وقاس بالنكاح الفاسد فان التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في ايجاب المهر والعدة
وكذلك في ايجاب الحل للزوج الأول فكذا هنا ولكنا نستدل بآثار الصحابة رضي الله عنه
م فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا جامع الرجل المرأة أو قبلهما بشهوة
أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها
وعن مسروق رحمه الله تعالى قال بيعوا جاريتي هذه أما أنى لم أصب منها ما يحرمها على
ولدى من المس والقبلة ولان المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطئ فإنه من دواعيه
ومقدماته فيقام مقامه في اثبات الحرمة كما أن النكاح الذي هو سبب الوطئ شرعا يقام
مقامه في اثبات الحرمة الا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة وهذا لان الحرمة تنبنى على
الاحتياط فيقام السبب الداعي إلى الوطئ فيه مقام الوطئ احتياطا وإن لم يثبت به سائر
207

الاحكام كما تقام شبهه البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في اثبات الحرمة دون
سائر الأحكام ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا وفى القياس
لا تثبت وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله تعالى لان النظر كالتفكر إذ هو غير
متصل بها ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم وان اتصل به الانزال ولان النظر لو كان موجبا
للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة ولكنا تركنا القياس بحديث
أما هانئ رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نظر إلى فرج امرأة
بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وعن عمر رضى الله تعالى عنه أنه جرد جارية ثم نظر إليها ثم
استوهبها منه بعض بنيه فقال أما انها لا تحل لك وفى الحديث ملعون من نظر إلى فرج
امرأة وابنتها ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع لان النظر إلى المحل اما الجمال المحل أو
للاستمتاع وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع
كالمس بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ولان النظر إلى الفرج لا يحل الا في الملك بمنزلة
المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر ان
تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها فاما مجرد الاشتهاء بالقلب غير معتبر ألا ترى ان هذا القدر
يكون من الشيخ الكبير الذي لا شهوة له والنظر إلى الفرج الذي تتعلق به الحرمة هو النظر
إلى الفرج الداخل دون الخارج وإنما يكون ذلك إذا كانت متكثة اما إذا كانت قاعدة
مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر ثم حرم المصاهرة بهذه الأسباب تتعدى إلى آبائه
وان علوا وأبنائه وان سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا وكذلك تتعدى إلى جداتها
والى نوافلها لما بينا ان الأجداد والجدات بمنزلة الآباء والأمهات والنوافل بمنزلة الأولاد فيما
تنبني عليه الحرمة وذلك كله مروى عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى وعلى هذا إذا جامع
الرجل أم امرأته حرمة عليه امرأته نقل ذلك عن أبي بن كعب رضي الله عنه وكان المعنى
فيه أن الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب وذلك كما يمنع ابتداء النكاح
يمنع بقاء النكاح فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه (قال) رجل له أربع نسوة
فطلق واحدة منهن بعد ما دخل بها ثلاثا أو واحدة بائنة أو خلعها لم يجز له أن يتزوج أخرى
ما دامت في العدة لان حرمة ما زاد على الأربع كحرمة الأختين فكما أن هناك العدة تعمل
على حقيقة النكاح في المنع فكذا هنا فان قال أخبرتني ان عدتها قد انقضت فإن كان ذلك
208

في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قوله ولا قولها ان أخبرت إلا أن تفسر بما هو محتمل
من اسقاط سقط مستبين الخلق ونحوه وإن كان ذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة ان
صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله ان يتزوج أخرى أو أختها ان شاء ذلك وكذلك أن
كذبته في قول علمائنا وعن زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك لان عدتها باقية فإنها أمينة في
الاخبار بما في رحمها وقد أخبرت ببقاء عدتها والزوج إنما أخبر عليها وهي تكذبه في ذلك
فيسقط منه اعتبار قوله كشاهد الأصل ان أكذب شاهد الفرع أو راوي الأصل ان كذب
الراوي عنه والدليل عليه بقاء نفقتها وسكناها وثبوت نسب ولدها ان جاءت به لأقل من
سنتين وبالاتفاق إذا حكمنا بثبوت نسب ولدها يبطل نكاح أختها فكذلك إذا قضينا بنفقتها
وحجتنا في ذلك أنه أخبر عن أمر بينه وبين ربه عز وجل فكان أمينا مقبول القول فيه إذا
احتمل كمن قال صمت أو صليت وبيان الوصف أنه أخبر بحل نكاح أختها له ولا حق للمطلقة
في ذلك فان الحل والحرمة من حق الشرع وإنما حق العباد فيه باعتبار قيام حق لهم في محله ولا
حق لها في نكاح أختها فلا يعتبر تكذيبها فيه والدليل أن بمجرد الخبر يثبت له حل نكاح
أختها ألا ترى أنها لو كانت غائبة كان له أن يتزوج بأختها ولو بطل ذلك الحق إنما يبطل
بتكذيبها وتكذيبها يصلح حجة في ابقاء حقها لا في ابطال حق ثبات للزوج والنفقة والسكنى
حقها فيكون باقيا وأما نكاح الأخت لاحق لها فيه فلا يعتبر تكذيبها في ذلك لان ثبوت
الحكم بحسب الحجة وكذلك ثبوت النسب من حقها وحق الولد لأنه يندفع به تهمة الزنا
عنها ويتشرف به الولد ثم من ضرورة القضاء بالنسب الحكم باستناد العلوق إلى ما قبل
الطلاق فإذا أسندنا صار الخبر بانقضاء العدة قبل الوضع مستنكرا فلهذا بطل نكاح الأخت
بخلاف القضاء بالنفقة فإنه يقتصر على الحال وليس من ضرورة الحكم بها الحكم ببقاء
العدة مطلقا فان المال تكثر أسباب وجوبه في الجملة توضيحه أن من ضرورة القضاء بالنسب
القضاء بالفراش فتبين أنه صار جامعا بين الأختين في الفراش وليس من ضرورة القضاء
بالنفقة القضاء بالفراش وأكثر ما فيه أنه يجتمع عليه استحقاق النفقة للأختين وذلك جائز
كما في ملك اليمين (قال) وان مات لم يكن لها ميراث وكان الميراث للأخرى هكذا ذكر
هنا وذكر في كتاب الطلاق وقال الميراث للأولى دون الثانية ولكن وضع المسألة فيما إذا
كان مريضا حين قال أخبرتني ان عدتها قد انقضت وإنما يتحقق اختلاف الروايات في حكم
209

الميراث إذا كان الطلاق رجعيا فاما إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا وكان في الصحة فلا ميراث
للأولى سواء أخبر الزوج بهذا أو لم يخبر ولكن في كتاب الطلاق لما وضع المسألة في المريض
وكان قد تعلق حقها بماله لم يقبل قوله في ابطال حقها كما في نفقتها وهنا وضع المسألة في
الصحيح ولا حق لها في مال الزوج في صحته فكان قوله مقبولا في ابطال إرثها توضيحه ان
بقوله أخبر ان الواقع صار بائنا فكأنه أبانها في صحته فلا ميراث لها ولو أبانها في مرضه كان
لها الميراث وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى لان عندهما للزوج ان
يجعل الرجعى بائنا خلافا لمحمد رحمه الله تعالى ومتى كان الميراث للأولى فلا ميراث للثانية لان
بين ارث الأختين منه بالنكاح منافاة ومتى لم ترث الأولى ورثته الثانية (قال) وان ماتت
في العدة أو لحقت بدار الحرب مرتدة حل له ان يتزوج أختها لان لحوقها كموتها فلا تبقى
معتدة بعد موتها فان رجعت مسلمة قبل أن يتزوج أختها فله ان يتزوج أختها عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لأن العدة بعد ما سقطت لا تعود الا بتجدد سببها وعندهما ليس له ان يتزوج
أختها لأنها لما عادت مسلمة كان لحوقها بمنزلة الغيبة الا ترى أنه يعاد إليها مالها فلا تعود كحالها
فتعود كما كانت وإن كان قد تزوج أختها قبل رجوعها ثم رجعت مسلمة عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى روايتان في احدى الروايتين يبطل نكاح الأخت وفي الرواية الأخرى
لا يبطل ذكر الروايتين عنه في الأمالي (قال) ولا بأس بان يتزوج المسلم الحرة من
أهل الكتاب لقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب الآية وكان ابن عمر رضي الله عنهما
لا يجوز ذلك ويقول الكتابية مشركة وقد قال الله تعالى ولا تنكحوا المشركات
حتى يؤمن وكأن يقول معنى الآية الثانية واللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ
بهذا فان الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فدل أن اسم المشرك لا يتناول الكتابي
مطلقا ولو حملنا الآية الثانية على ما قال ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن لتخصيص الكتابية
بالذكر معنى فان غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها وقد جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
أنه تزوج يهودية وكذلك كعب بن مالك رحمهما الله تعالى تزوج يهودية وكذلك أن
تزوج الكتابية على المسلمة أو المسلمة على الكتابية جاز والقسم بينهما سواء كأن جواز
النكاح ينبنى على الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح وعلى ذلك ينبنى القسم والمسلمة
والكتابية في ذلك سواء إسرائيلية كانت أو غير إسرائيلية وبعض من لا يعتبر قوله فصل
210

بين الإسرائيلية وغيرها ولا معنى لذلك في الجواز لكونها كتابية وأما المجوسية لا يجوز
نكاحها للمسلم لأنها ليست من أهل الكتاب وذكر ابن إسحاق في تفسيره عن علي رضي الله عنه
جواز نكاح المجوسية بناء على ما روى عنه أن المجوس أهل كتاب ولكن لما واقع
ملكهم أخته ولم ينكروا عليه أسرى بكتابهم فنسوه وهو مخالف للنص فان الله تعالى قال
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإذا قلنا للمجوس كتاب كانوا ثلاث
طوائف وقال صلى الله عليه وسلم سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم
ولا آكلي ذبائحهم ولئن كان الامر على ما قال علي رضي الله عنه ولكن بعد ما نسوا خرجوا
من أن يكونوا أهل كتاب فأما نكاح الصابئة فإنه يجوز للمسلم عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى ويكره ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وكذلك ذبائحهم وهذا
الاختلاف بناء على أن الصابئين من هم فوقع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى انهم قوم من
النصارى يقرؤن الزبور ويعظمون بعض الكواكب كتعظيمنا القبلة وهما جعلا تعظيمهم
لبعض الكواكب عبادة منهم لها فكانوا كعبدة الأوثان وقالا انهم يخالفون النصارى
واليهود فيما يعتقدون فلا يكونون من جملتهم ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول مخالفتهم
للنصارى في بعض الأشياء لا تخرجهم من أن يكونوا من جملتهم كبني تغلب فإنهم يخالفون
النصارى في الخمور والخنازير ثم كانوا من جملة النصارى (قال) ولا بأس بأن يتزوج الرجل
المرأة وبنت زوج قد كان لها من قبل ذلك يجمع بينهما لأنه لا قرابة بينهما وقال ابن أبي ليلى
لا يجوز ذلك لان بنت الزوج لو كان ذكرا لم يكن له أن يتزوج الأخرى لأنها منكوحة أبيه
وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم تجز المناكحة بينهما فالجمع بينهما نكاحا لا يجوز
كالأختين ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن جعفر رضى الله تعالى عنه فإنه جمع بين امرأة
على رضى الله تعالى عنه وابنته ثم المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما أشبه القرابة في
الحرمة كالرضاع وذلك غير موجود هنا وما قاله ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى إنما يعتبر إذا تصور
من الجانبين كما في الأختين وذلك لا يتصور هنا فان امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له
نكاح البنت فعرفنا أنهما ليستا كالأختين ولا بأس بأن يجمع بين امرأتين كانتا عند رجل
واحد لأنه لا قرابة بينهما وكما جاز للأول أن يجمع بينهما فكذلك للثاني وكذلك لا بأس
بأن يتزوج المرأة يتزوج ابنه أمها أو ابنتها فان محمد بن الحنفية رضى الله تعالى عنه تزوج
211

امرأة وزوج ابنتها من ابنه وهذا لان بنكاح الأم تحرم الأم هي على ابنه فاما أمها وابنتها تحرم
عليه لا على ابنه فلهذا جاز لابنه أن يتزوج أمها أو ابنتها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
واليه المرجع والمآب
باب نكاح الصغير والصغيرة
(قال) وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي
صغيرة بنت ستة سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين وكانت عنده تسعا ففي الحديث دليل
على جواز نكاح الصغير والصغيرة بتزويج الآباء بخلاف ما يقوله ابن شبرمة وأبو بكر الأصم
رحمهم الله تعالى أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا لقوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح
فلو جاز التزويج قبل البلوغ لم يكن لهذا فائدة ولان ثبوت الولاية على الصغيرة لحاجة المولى
عليه حتى أن فيما لا تتحقق فيه الحاجة لا تثبت الولاية كالتبرعات ولا حاجة بهما إلى النكاح
لان مقصود النكاح طبعا هو قضاء الشهوة وشرعا النسل والصغر ينافيهما ثم هذا العقد
يعقد للعمر وتلزمهما أحكامه بعد البلوغ فلا يكون لاحد أن يلزمهما ذلك إذ لا ولاية لاحد
عليهما بعد البلوغ وحجتنا قوله تعالى واللاتي لم يحضن بين الله تعالى عدة الصغيرة وسبب
العدة شرعا هو النكاح وذلك دليل تصور نكاح الصغيرة والمراد بقوله تعالى حتى إذا
بلغوا النكاح الاحتلام ثم حديث عائشة رضي الله عنها نص فيه وكذلك سائر ما ذكرنا
من الآثار فان قدامة بن مظعون تزوج بنت الزبير رضي الله عنه يوم ولدت وقال إن مت
فهي خير ورثتي وان عشت فهي بنت الزبير وزوج ابن عمر رضي الله عنه بنتا له صغيرة
من عروة بن الزبير رضي الله عنه وزوج عروة بن الزبير رضي الله عنه بنت أخيه ابن
أخته وهما صغيران ووهب رجل ابنته الصغيرة من عبد الله بن الحسن فأجاز ذلك علي رضي الله عنه
وزوجت امرأة ابن مسعود رضي الله عنه بنتا لها صغيرة ابنا للمسيب بن نخبة
فأجاز ذلك عبد الله رضي الله عنه ولكن أبو بكر الأصم رحمه الله تعالى كان أصم لم يسمع
هذه الأحاديث والمعنى فيه أن النكاح من جملة المصالح وضعا في حق الذكور والإناث جميعا
وهو يشتمل على أغراض ومقاصد لا يتوفر ذلك الا بين الأكفاء والكف ء لا يتفق في
212

كل وقت فكانت الحاجة ماسة إلى اثبات الولاية للولي في صغرها ولأنه لو انتظر بلوغها
لفات ذلك الكفء ولا يوجد مثله ولما كان هذا العقد يعقد للعمر تتحقق الحاجة إلى ما هو من
مقاصد هذا العقد فتجعل تلك الحاجة كالمتحققة للحال لاثبات الولاية للولي ثم في الحديث
بيان ان الأب إذا زوج ابنته لا يثبت لها الخيار إذا بلغت فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يخيرها ولو كان الخيار ثابتا لها لخيرها كما خير عند نزول آية التخيير حتى قال لعائشة اني أعرض
عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك ثم تلا عليها قوله تعالى فتعالين أمتعكن
وأسرحكن سراحا جميلا فقالت أفي هذا أستشير أبوى أنا أختار الله تعالى ورسوله ولما لم
يخيرها هنا دل انه لا خيار للصغيرة إذا بلغت وقد زوجها أبوها وذكر ذلك في الكتاب عن
إبراهيم وشريح رحمهما الله تعالى وابن سماعة رحمه الله تعالى ذكر فيه قياسا واستحسانا قال في
القياس يثبت لها الخيار لأنه عقد عليها عقدا يلزمها تسليم النفس بحكم ذلك العقد بعد زوال
ولاية الأب فيثبت لها الخيار كما لو زوجها أخوها ولكنا نقول تركنا القياس للحديث ولان
الأب وافر الشفقة ينظر لها فوق ما ينظر لنفسه ومع وفور الشفقة هو تام الولاية فان ولايته
تعم المال والنفس جميعا فلهذا لا يثبت لها الخيار في عقده وليس النكاح كالإجارة لان إجارة
النفس ليست من المصالح وضعا بل هو كد وتعب وإنما تثبت الولاية فيه على الصغير لحاجته
إلى التأدب وتعلم الاعمال وذلك يزول بالبلوغ فلهذا أثبتنا لها الخيار قال وفي الحديث دليل
فضيلة عائشة رضى الله تعالى عنها فإنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين
في بدء أمرها وقد أحرزت من الفضائل ما قال صلوات الله عليه تأخذون ثلثي دينكم من
عائشة وفيه دليل ان الصغيرة يجوز أن تزف إلى زوجها إذا كانت صالحة للرجال فإنها زفت
إليه وهي بنت تسع سنين فكانت صغيرة في الظاهر وجاء في الحديث انهم سمنوها فلما
سمنت زفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال) وبلغنا عن إبراهيم أنه كأن يقول إذا
أنكح الوالد الصغير أو الصغيرة فذلك جائز عليهما وكذلك سائر الأولياء وبه أخذ علماؤنا
رحمهم الله تعالى فقالوا يجوز لغير الأب والجد من الأولياء تزويج الصغير والصغيرة وعلى
قول مالك رحمه الله تعالى ليس لأحد سوى الأب تزويج الصغير والصغيرة وعلى قول
الشافعي رحمه الله تعالى ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة فمالك يقول القياس
أن لا يجوز تزويجهما إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه فبقي ما سواه على
213

أصل القياس والشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم لا تنكح اليتيمة
حتى تستأمر واليتيمة الصغيرة التي لا أب لها قال صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد الحلم فقد نفي
في هذا الحديث نكاح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر وفي الحديث ان قدامة بن مظعون زوج
ابنة أخيه عثمان بن مظعون من ابن عمر رضى الله تعالى عنه فردها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال إنها يتيمة وانها لا تنكح حتى تستأمر وهو المعنى في المسألة فنقول هذه يتيمة
فلا يجوز تزويجها بغير رضاها كالبالغة وتأثير هذا الوصف أن مزوج اليتيمة قاصر الشفقة
عليها ولقصور الشفقة لا تثبت ولايته في المال وحاجتها إلى التصرف في المال في الصغر
أكثر من حاجتها إلى التصرف في النفس فإذا لم يثبت للولي ولاية التصرف في مالها مع
الحاجة إلى ذلك فلأن لا يثبت له ولاية التصرف في نفسها كان أولى وحجتنا قوله تعالى
وإذا خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية معناه في نكاح اليتامى وإنما يتحقق هذا الكلام
إذا كان يجوز نكاح اليتيمة وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها في تأويل الآية أنها نزلت
في يتيمة تكون في حجر وليها يرغب في مالها وجمالها ولا يقسط في صداقها فنهوا عن
نكاحهن حتى يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وقالت في تأويل قوله تعالى في يتامى
النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن أنها نزلت في يتيمة تكون في حجر وليها ولا يرغب
في نكاحها لدمامتها ولا يزوجها من غيره كيلا يشاركه في مالها فأنزل الله تعالى هذه
الآية فأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم فذلك دليل على جواز تزويج
اليتيمة وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت عمه حمزة رضي الله عنه من عمر بن أبي
سلمة رضي الله عنه وهي صغيرة والآثار في جواز مشهورة عن عمر وعلى وعبد الله
ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضوان الله عليهم والمعنى فيه أنه وليها بعد البلوغ فيكون
وليا لها في حال الصغر كالأب والجد وهذا لان تأثير البلوغ في زوال الولاية فإذا جعل هو
وليا بعد بلوغها بهذا السبب عرفنا أنه وليها في حال الصغر وبه فارق المال لأنه لا يستفيد
الولاية بهذا السبب في المال بحال وكان المعنى فيه أن المال تجرى فيه الجنايات الخفية وهذا
الولي قاصر الشفقة فربما يحمله ذلك على ترك النظر لها فأما الجناية في النفس من حيث
التقصير في المهر والكفاءة وذلك ظاهر يوقف عليه ان فعله يرد عليه تصرفه ولأنه لا حاجة
إلى إثبات الولاية لهؤلاء في المال فان الوصي يتصرف في المال والأب متمكن من نصب
214

الوصي وباعتباره تنعدم حاجتها فأما التصرف في النفس لا يحتمل الايصاء إلى الغير فلهذا
يثبت للأولياء بطريق القيام مقام الآباء والمراد بالحديث اليتيمة البالغة قال الله تعالى وآتوا
اليتامى أموالهم والمراد البالغين والدليل عليه أنه مده إلى غاية الاستئمار وإنما تستأمر البالغة
دون الصغيرة وتأويل حديث قدامة رضي الله عنه أنها بلغت فخيرها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاختارت نفسها ألا ترى أنه روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال والله لقد
انتزعت مني بعد أن ملكتها فإذا ثبت جواز تزويج الأولياء الصغير والصغيرة فلهما الخيار
إذا أدركا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما
وبه كأن يقول أبو يوسف رحمه الله تعالى ثم رجع وقال لا خيار لهما وهو قول
عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال لان هذا عقد عقد بولاية مستحقة بالقرابة فلا يثبت
فيه خيار البلوغ كعقد الأب والجد وهذا لان القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية
والقريب بالتصرف ينظر للمولى عليه لا لنفسه وهو قائم مقام الأب في التصرف في النفس
كالوصي في التصرف في المال فكما أن عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الأب فيما قام فعله مقامه
فكذلك عقد الولي وجه قولهما أنه زوجها من هو قاصر الشفقة عليها فإذا ملكت أمر نفسها
كان لها الخيار كالأمة إذا زوجها مولاها ثم أعتقها وهذا لان أصل الشفقة موجود للولي
ولكنه ناقص يظهر ذلك عند المقابلة بشفقة الآباء وقد ظهر تأثير هذا النقصان حكما حين
امتنع ثبوت الولاية في المال للأولياء فلاعتبار وجود أصل الشفقة نفذنا العقد ولاعتبار نقصان
الشفقة أثبتنا الخيار لان ثبوت الولاية لكيلا يفوت الكفء الذي خطبها فيكون بمعنى النظر
لها وإنما يتم النظر باثبات الخيار حتى ينظر لنفسه بعد البلوغ بخلاف الأب فإنه وافر الشفقة تام
الولاية فلا حاجة إلى اثبات الخيار في عقده وكذلك في عقد الجد لأنه بمنزلة الأب حتى
تثبت ولايته في المال والنفس واما القاضي إذا كان هو الذي زوج اليتيمة ففي ظاهر الرواية
يثبت لها الخيار لأنه قال ولهما الخيار في نكاح غير الأب والجد إذا أدركا وروى خالد بن
صبيح المروزي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يثبت الخيار وجه تلك الرواية أن للقاضي
ولاية تامة تثبت في المال والنفس جميعا فتكون ولايته في القوة كولاية الأب ووجه ظاهر
الرواية أن ولاية القاضي متأخرة عن ولاية العم والأخ فإذا ثبت الخيار في تزويج الأخ والعم
ففي تزويج القاضي أولى وهذا لان شفقة القاضي إنما تكون لحق الدين والشفقة لحق الدين
215

لا تكون الامن المتيقن بعد التكلف فيحتاج إلى اثبات الخيار لهما إذا أدركا فاما الأم إذا
زوجت الصغير والصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتعالى وفى اثبات الخيار لهما إذا أدركا
عنه روايتان في احدى الروايتين لا يثبت لان شفقتها وافرة كشفقة الأب أو أكثر
والأصح أنه يثبت الخيار لان بها قصور الرأي مع وفور الشفقة ولهذا لا تثبت ولايتها في
المال وتمام النظر بوفور الرأي والشفقة فلتمكن النقصان في رأيها أثبتنا لهما الخيار إذا أدركا
فان اختارا الفرقة عند الادراك لم تقع الفرقة الا بحكم الحاكم لان السبب مختلف فيه من
العلماء من رأى ومنهم من أبى وهو غير متيقن به أيضا فان السبب قصور الشفقة ولا يوقف
على حقيقته فكان ضعيفا في نفسه فلهذا توقف على قضاء القاضي وهذا بخلاف خيار الطلاق
فان المخيرة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي لان السبب هناك قوى
في نفسه وهو كونها نائبة عن الزوج في ايقاع الطلاق أو مالكة أمر نفسها بتمليك الزوج وهذا
بخلاف خيار العتق فان المعتقة إذا اختارت نفسها وقعت الفرقة من غير قضاء القاضي لان
السبب هناك قوى وهو زيادة ملك الزوج عليها فان قبل العتق كان يملك مراجعتها من قرأين
ويملك عليها تطليقتين وعدتها حيضتان وقد زاد ذلك بالعتق فكان لها أن تدفع الزيادة ولا
تتوصل إلى دفع الزيادة الا بدفع أصل الملك فكما أن دفع أصل الملك عند انعدام رضاها يتم
بها فكذلك دفع زيادة الملك فأما هنا بالبلوغ لا يزداد الملك وإنما كان ثبوت الخيار لتوهم ترك
النظر من الولي وذلك غير متيقن به فلهذا لا تتم الفرقة الا بالقضاء فالحاصل أن الفرق بين
خيار البلوغ وخيار العتق في أربعة فصول (أحدها) ما بينا (والثاني) خيار المعتقة لا يبطل
بالسكوت بل يمتد إلى آخر المجلس كخيار المخيرة وخيار البلوغ في جانبها يبطل بالسكوت
لان المعتقة إنما يثبت لها الخيار بتخيير الشرع حيث قال صلى الله عليه وسلم ملكت بضعك
فاختاري فيكون بمنزلة الثابت بتخيير الزوج فأما هنا الخيار يثبت للبكر لانعدام تمام الرضا
منها ورضاء البكر يتم بسكوتها شرعا ألا ترى أنها لو زوجت بعد البلوغ فسكتت كان
سكوتها رضا فكذلك إذا زوجت قبل البلوغ ولهذا قلنا لو بلغت ثيبا لا يبطل خيارها بالسكوت
كما لو زوجت بعد البلوغ وكذلك الغلام لا يبطل خياره بالسكوت لان السكوت في حقه
لم يجعل رضا كما لو زوج بعد البلوغ (والثالث) ان خيار العتق يثبت للأمة دون الغلام وخيار
البلوغ يثبت لهما جميعا لان ثبوت خيار العتق باعتبار زيادة الملك وذلك في عتق الأمة دون
216

الغلام وثبوت خيار البلوغ لنقصان شفقة الولي وذلك موجود في حق الغلام والجارية ولان
في تزويج الغلام المولى ينظر له لا لنفسه وفى تزويج الأمة ينظر لنفسه باكتساب المهر
واسقاط النفقة عن نفسه فلهذا اختلفا في حكم الخيار وهنا لا يختلف معنى نظر الولي بالغلام
والجارية فلهذا يثبت الخيار في الموضعين جميعا ولا يقال بأن الغلام هنا يتمكن من التخلص
بالطلاق كما في المعتق لأنه لا يتمكن من التخلص عن المهر بالطلاق ولم يكن متمكنا من
التخلص عند العقد بخلاف العبد فإنه كان عند العقد متمكنا من التخلص بالطلاق
ووجوب المهر يومئذ كان في مالية المولى وباعتباره ملك المولى اجباره على النكاح فلهذا
فرقنا بينهما (والرابع) ان المعتقة إذا علمت بالعتق ولم تعلم أن لها الخيار لا يسقط خيارها
حتى تعلم به والتي بلغت إذا لم تعلم بالخيار وعلمت بالنكاح فسكتت سقط خيارها لان
سبب الخيار في العتق وهو زيادة الملك حكم لا يعلمه الا الخواص من الناس فتعذر
بالجهل وقد كانت مشغولة بخدمة المولى فعذرناها لذلك اما خيار البلوغ فظاهر يعرفه كل
واحد ولظهوره ظن بعض الناس انه يثبت في أنكاح الأب أيضا فهذا لا تعذر بالجهل ولأنها
ما كانت مشغولة بشئ قبل البلوغ فكان سبيلها ان تتعلم ما تحتاج إليه بعد البلوغ فلهذا لا تعذر
بالجهل (قال) فان اختار الصغير أو الصغيرة الفرقة بعد البلوغ فلم يفرق القاضي بينهما حتى
مات أحدهما توارثا لان أصل النكاح كان صحيحا والفرقة لا تقع الا بقضاء القاضي فإذا مات
أحدهما قبل القضاء كان انتهاء النكاح بينهما بالموت فيتوارثان بمنزلة ما لو وجد الاعتراض
بعدم الكفاءة فمات أحدهما قبل قضاء القاضي وباعتبار هذا المعنى نقول يحل للزوج ان
يطأها ما لم يفرق القاضي بينهما لان أصل النكاح كان صحيحا بخلاف النكاح الفاسد فان
أصل الملك لم يكن ثابتا فلا يثبت حل الوطئ والتوارث (قال) وإذا مات زوج الصغيرة عنها
بعد ما دخل بها أو طلقها وانقضت عدتها كأن لأبيها ان يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله
تعالى ليس للأب ان يزوج الثيب الصغيرة حتى تبلغ فيشاورها لقوله صلى الله عليه وسلم
والثيب تشاور فقد علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى وهو الثيوبة فكان ذلك المعنى
هو المعتبر في اثبات هذا الحكم كالزنا والسرقة لايجاب الحد وقد قال صلى الله عليه وسلم الأيم
أحق بنفسها من وليها والمراد بالأيم الثيب ألا ترى أنه قابلها بالبكر فقال البكر تستأمر في
نفسها والمعنى فيه أنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها
217

كالنائمة والمغمى عليها وتأثير هذا الوصف أن في الثيوبة معنى الاختبار وممارسة الرجال وفى
النكاح في جانب النساء معنيان معنى الضرر باثبات الملك عليها ومعنى المنفعة بقضاء شهوتها
فمن ترجح معنى قضاء الشهوة في جانبها تختار الزوج ومن ترجح معنى ضرر الملك تختار
التأيم وإنما تتمكن من التمييز بالتجربة لان لذة الجماع بالوصف لا تصير معلومة والتجربة إنما
تحصل بالثيوبة فكانت صفة الثيوبة في حقها نظير البلوغ في حق الغلام وفى حق التصرف
في المال ولهذا تزول ولاية الافتيات عليها بالثيوبة لان فيه تفويت ما يحدث لها في التأني من
الرأي وهذا بخلاف المجنونة لان الجنون لا يفقد شهوة الجماع ولو لم يزوجها وليها كان فيه
اضرار بها في الحال والصغر يفقد شهوة الجماع فلا يكون في تأخير العقد إلا أن تبلغ معنى
الاضرار بها ولأنه ليس لزوال الجنون غاية معلومة ولا يدرى أيفيق أم لا وفى تأخير
العقد لا إلى وقت معلوم ابطال حقها فأما الصغر لزواله غاية معلومة فلا يكون في تأخير العقد
إلى بلوغها ابطال حقها وحجتنا في ذلك أنه ولى من لا يلي نفسه وماله فيستبد بالعقد عليها
كالبكر وتأثيره أن الشرع باعتبار صغرها أقام رأى الولي مقام رأيها كما في حق الغلام وكما في
حق المال وبالثيوبة لا يزول الصغر وكذلك معنى الرأي لا يحصل لها بالثيوبة في حالة الصغر
لأنها ما نضت شهوتها بهذا الفعل ولو ثبت لها رأى فهي عاجزة عن التصرف بحكم الرأي فيقام
رأى الولي مقام رأيها كما أنها لما كان عاجزة عن التصرف في ملكها أقيم تصرف الولي
مقام تصرفها والمراد بالحديث البالغة لأنه علق به مالا يتحقق الا بعد البلوغ وهو المشاورة
وكونها أحق بنفسها وذلك أنما يتحقق في البالغة دون الصغيرة ولئن ثبت ان الصغيرة مراد
فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستئمار أمهات البنات فقال وتؤامر النساء
في ابضاع بناتهن وكان بطريق الندب فهذا مثله وكما يجوز للأب عندنا تزويج الثيب الصغيرة
فكذلك يجوز لغير الأب والجد وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز لمعنيين أحدهما انها يتيمة
والثاني انها ثيب (قال) وإذا اجتمع في الصغيرة أخوان لأب وأم فأيهما زوجها جاز عندنا ومن
العلماء رحمهم الله تعالى من يقول لا يجوز ما لم يجتمعا عليه لان هذا قام مقام الأب فيشترط
اجتماعهما لنفوذ العقد كالموليين في حق العبد أو الأمة أو المعتقة ولكنا نستدل بقوله صلى
الله عليه وسلم إذا أنكح الوليان فالأول أحق وفى هذا تنصيص على أن كل واحد منهما
ينفرد بالعقد والمعنى فيه أن سبب الولاية هو القرابة وهو غير محتمل للوصف بالتجزي والحكم
218

الثابت أيضا غير متجز وهو النكاح فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به لثبوت صفة الكمال
في حق كل واحد منهما بكمال السبب وكونه غير محتمل للتجزي كما في ولاية الأمان يثبت
لكل واحد من المسلمين بهذا الطريق بخلاف الموليين فان هناك السبب هو الملك أو الولاء
وذلك متجز في نفسه فلم يتكامل في حق كل واحد منهما ألا ترى ان أحد الموليين لا يرث
جميع المال بالولاء وان تفرد به أحد الأخوين يرث جميع المال فلهذا فرقنا بينهما وإن كان أحد
الأخوين لأب وأم والآخر لأب فعندنا الأخ لأب وأم أولى بالتزويج وعلى قول زفر رحمه
الله تعالى يستويان لأن ولاية التزويج لقرابة الأب دون قرابة الأم فان الولي إنما يقوم مقام
الأب لقرابته منه وقد استويا في قرابة الأب ولكنا نستدل بحديث على رضى الله تعالى عنه
موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال النكاح إلى العصبات والأخ
لأب وأم في العصوبة مقدم وهو المعنى فإنه يدلي بقرابتين فيترجح على من يدلي بقرابة واحدة
ويثبت الترجيح بقرابة الأم وان كأن لا يثبت به أصل الولاية كالعصوبة والأصل في ترتيب
الأولياء قوله صلى الله عليه وسلم النكاح إلى العصبات والمولى عليها لا يخلو اما أن تكون صغيرة
أو كبيرة معتوهة فإن كانت صغيرة فأولى الأولياء عليها أبوها ثم الجد بعد الأب قائم مقام
الأب في ظاهر الرواية وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأخ والجد يستويان لان من أصلهما أن الأخ
يزاحم الجد في العصوبة حتى يشتركا في الميراث فكذا في الولاية وعند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى الجد مقدم في العصوبة فكذلك في الولاية والأصح أن هذا قولهم جميعا لان في الولاية
معنى الشفقة معتبر وشفقة الجد فوق شفقة الأخ ولهذا لا يثبت لها الخيار في عقد الجد كما
لا يثبت في عقد الأب بخلاف الأخ ويثبت للجد الولاية في المال والنفس جميعا ولا يثبت
للأخ وكذلك في حكم الميراث حال الجد أعلى حتى لا ينقص نصيبه عن السدس بحال فلهذا
كان في حكم الولاية بمنزلة الأب لا يزاحمه الاخوة ثم بعد الأجداد من قبل الآباء وان علوا
الأخ لأب وأم ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ لأب وأم ثم ابن الأخ لأب ثم العم لأب وأم ثم
العم لأب ثم ابن العم لأب وأم ثم ابن العم لأب على قياس ترتيب العصوبة فاما المجنونة إذا
كان لها ابن فللابن عليها ولاية التزويج عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للابن ولاية
تزويج الأم إلا أن يكون من عشيرتها بان كان أبوه تزوج بنت عمه وهذا بناء على أصل
219

يأتي بيانه من بعد أن شاء الله تعالى في أن المرأة لا ولاية لها على نفسها عنده والولد جزء منها
فلا يثبت له الولاية عليها وعندنا تثبت لها الولاية على نفسها فكذلك تثبت لابنها وحجته
في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه ولا يحصل ذلك باثبات الولاية
للابن لأنه يمتنع من تزويج أمه طبعا فلا ينظر لها في التزويج ولئن فعل ذلك يميل إلى
قوم أبيه وربما لا يكون كف ء لها إلا أن يكون من عشيرتها فحينئذ ينعدم هذا الضرر فأثبتنا
له الولاية وحجتنا في ذلك الحديث النكاح إلى العصبات والابن يستحق العصوبة وهو
المعنى الفقهي ان الوراثة نوع ولاية لان الوارث يخلف المورث ملكا وتصرفا والوراثة هي
الخلافة في التصرفات وللوراثة أسباب الفريضة والعصوبة والقرابة ولكن أقوى الأسباب
العصوبة لان الإرث بها متفق عليه ويستحق بها جميع المال فلهذا رتبنا الولاية على أقوى
أسباب الإرث وهو العصوبة ولا ينظر إلى امتناعه من تزويجها طبعا فان ذلك موجود فيما إذا
كان الابن من عشيرتها وهذا لأنه إذا خطبها كف ء فلو لم يزوجها الابن حكم القاضي عليه
بالعضل فيزوجها بنفسه كما في سائر الأولياء ثم اختلف أصحابنا رضي الله عنهم في الأب والابن
أيهما أحق بالتزويج فقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى الابن أحق لأنه مقدم في
العصوبة الا ترى ان الأب معه يستحق السدس بالفريضة فقط وقال محمد رحمه الله تعالى
الأب أولى لأن ولاية الأب تعم المال والنفس فلا يثبت للابن الولاية في المال ولان الأب
ينظر لها عادة والابن ينظر لنفسه لا لها فكان الأب مقدما في الولاية وبعد هذا الترتيب في
الأولياء لها كالترتيب في أولياء الصغيرة (قال) فان زوجها الا بعد والأقرب حاضر توقف
على إجازة الأقرب لان الأبعد كالأجنبي عند حضرة الأقرب فيتوقف عقده على إجازة الولي
فإن كان الأقرب غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوجها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى
يزوجها السلطان وقال زفر رحمه الله تعالى لا يزوجها أحد حتى يحضر الأقرب وحجتهم في
ذلك أن الأبعد محجوب بولاية الأقرب وولايته باقية بعد الغيبة إذ لا تأثير للغيبة في قطع
الولاية الا ترى أنه لا ينقطع التوارث وان الولاية من حق الولي ليطلب به الكفاءة فلا
يبطل شئ من حقوقه بالغيبة والدليل عليه انه لو زوجها حيث هو جاز النكاح فدل أن ولاية
الأقرب باقية إذا ثبت هذا فالشافعي رحمه الله تعالى يقول تعذر عليها الوصول إلى حقها من
جهة الأقرب مع بقاء ولايته فيزوجها السلطان كما لو عضلها الأقرب بخلاف ما إذا كان
220

الأقرب صغيرا أو مجنونا لأنه لا ولاية له عليها والا بعد محجوب بولاية الأقرب الا بالغيبة
وزفر رحمه الله تعالى يقول الا بعد يزوجها لبقاء ولاية الأقرب وكذلك السلطان لا يزوجها
لأن ولاية السلطان متأخرة عن ولاية الا بعد فإذا لم تثبت الولاية للأبعد هنا فالسلطان أولى
بخلاف ما إذا عضلها لان هناك هو ظالم في الامتناع من ايفاء حق مستحق عليه فيقوم
السلطان مقامه في دفع الظلم لأنه نصب لذلك وهنا الأقرب غير ظالم في سفره خصوصا
إذا سافر للحج وهو غير ممتنع من ايفاء حق مستحق عليه ليقوم السلطان مقامه في الايفاء
فيتأخر إلى حضوره وحجتنا في ذلك أن ثبوت الولاية لمعنى النظر للمولى عليه حتى لا
يثبت الا على من هو عاجز عن النظر لنفسه وجعل الأقرب مقدما لان نظره لها أكثر
لزيادة القرب ثم النظر لها لا يحصل بمجرد رأى الأقرب بل رأى حاضر منتفع به وقد
خرج رأيه من أن يكون منتفعا به في هذه الحال بهذه الغيبة فالتحق بمن لا رأى له أصلا
كالصغير والمجنون ورأي الا بعد خلف عن رأي الأقرب وفى ثبوت الحكم للخلف
لا فرق بين انعدام الأصل وبين كونه غير منتفع به ألا ترى أن التراب لما كان خلفا عن
الماء في حكم الطهارة فمع وجود الماء النجس يكون التراب خلفا كما أن عند عدم الماء يكون
التراب خلفا لأن الماء النجس غير منتفع به في حكم الطهارة فهو كالمعدوم أصلا ونظيره
الحضانة والتربية يقدم فيه الأقرب فإذا تزوجت الأقرب حتى اشتغلت بزوجها كانت الولاية
للأبعد وكذلك النفقة في مال الأقرب فإذا انقطع ذلك ببعد ماله وجبت النفقة في مال
الا بعد فأما إذا زوجها الأقرب حيث هو فإنما يجوز لأنها انتفعت برأيه ولكن هذه المنفعة
حصلت لها اتفاقا فلا يجوز بناء الحكم عليه فلهذا تثبت الولاية للأبعد توضيحه أن للأبعد
قرب التدبير وبعد القرابة وللأقرب قرب القرابة وبعد التدبير وثبوت الولاية بهما جميعا
فاستويا من هذا الوجه فكانا بمنزلة وليين في درجة واحدة فأيهما زوجها يجوز والولاية إنما
تثبت للقاضي عند الحاجة ولا حاجة إلى ذلك لما ثبتت الولاية للأبعد بالطريق الذي قلنا
ثم تكلموا في حد الغيبة المنقطعة فكان أبو عصمة سعد بن معاذ رحمه الله تعالى يقول أدنى
مدة السفر تكفى لذلك وهو ثلاثة أيام ولياليها لأنه ليس لاقصى مدة السفر نهاية فيعتبر
الأدنى واليه يشير في الكتاب فيقول أرأيت لو كان في السواد ونحوه أما كان يستطلع رأيه
فهذا دليل على أنه إذا جاوز السواد تثبت للأبعد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى فيه
221

روايتان في احدى الروايتين قال من جابلقا إلى جابلتا وهما قريتان أحداهما بالمشرق
والأخرى بالمغرب فقالوا هذا رجوع منه إلى قول زفر رحمه الله تعالى أن الولاية لا تثبت
للأبعد وإنما ذكر هذا على طريق المثل وفى الرواية الأخرى قال من بغداد إلى الري
وهكذا روى عن محمد رحمه الله تعالى وفى رواية قال من الكوفة إلى الري ومن مشايخنا
رحمهم الله تعالى من يقول حد الغيبة المنقطعة أن يكون جوالا من موضع إلى موضع فلا
يوقف على أثره أو يكون مفقودا لا يعرف خبره وقيل إن كان في موضع يقطع الكرى إلى
ذلك الموضع فليست الغيبة بمنقطعة وإن كان إنما يقطع الكري إلى ذلك الموضع بدفعتين أو
أكثر فالغيبة منقطعة وقيل إن كانت القوافل تنفر إلى ذلك الموضع في كل عام فالغيبة
ليست بمنقطعة وان كانت لا تنفر فالغيبة منقطعة والأصح أنه إذا كان في موضع لو انتظر
حضوره أو استطلاع رأيه فات الكفء الذي حضر لها فالغيبة منقطعة وان كأن لا يفوت
فالغيبة ليست بمنقطعة وبعد ما تثبت الولاية للأبعد إذا زوجها ثم حضر الأقرب فليس له
أن يرد نكاحها لأن العقد عقد بولاية تامة (قال) ولا يجوز لغير الولي تزويج الصغير
والصغيرة لقوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي قال والوصي ليس بولي عندنا في التزويج
وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى للوصي ولاية التزويج لان وصى الأب قائم مقام الأب
فيما يرجع إلى النظر للمولى عليه ألا ترى أنه في التصرف في المال يقوم مقامه فكذلك في
التصرف في النفس ومالك رحمه الله تعالى يقول إن نص في الوصاية على التزويج فله أن
يزوجها كما لو وكل بذلك في حياته وإن لم ينص على ذلك فليس له أن يزوج ولكنا
نستدل بما روينا النكاح إلى العصبات والوصي ليس بعصبة إذا لم يكن من قرابته فهو
كسائر الأجانب في التزويج وإن كان الوصي من القرابة بان كان عما أو غيره فله ولاية
التزويج بالقرابة لا بالوصاية ولهذا يثبت لهما الخيار إذا أدركا وان حصل التزويج ممن له ولاية
التصرف في المال والنفس جميعا لان ولايته في المال بسبب الوصاية ولا تأثير للوصاية في
ولاية التزويج فكان وجوده كعدمه وكذلك أن كانا في حجر رجل يعولهما فحال هذا
الرجل دون حال الوصي فلا يثبت له ولاية التزويج ولان من يعول الصغير أنما يملك عليه
ما يتمحض منفعة للصغير كالحفظ وقبول الهبة والصدقة والنكاح ليس بهذه الصفة (قال)
ومولى العتاقة تثبت له الولاية إذا لم يكن هناك أحد من القرابة لان العصوبة تستحق بولاء
222

العتاقة وعليه ينبنى ولاية التزويج (قال) والرجل من عرض النسب إذا لم يكن أقرب
منه يعنى به العصبات فاما ذوو الأرحام كالأخوال والخالات والعمات فعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى يثبت لهم ولاية التزويج عند عدم العصبات استحسانا وعلى قول محمد رحمه
الله تعالى لا يثبت وهو القياس وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة وقول أبى يوسف رحمه
الله تعالى مضطرب فيه وذكر في كتاب النكاح قوله مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى كتاب
الولاء ذكر في الأم قوله مع محمد رحمه الله تعالى ان الأم إذا عقدت الولاء على ولدها
لم يصح عندهما والخلاف في التزويج وعقد الولاء سواء وكذلك في الأم وعشيرتها من
ذوي الأرحام وجه قولهما الحديث النكاح إلى العصبات وادخال الألف واللام دليل على أن
جميع الولاية في باب النكاح إنما تثبت لمن هو عصبة دون من ليس بعصبة والدليل عليه
أنه لا يثبت لغير العصبات ولاية التصرف في المال بحال وان مولى العتاقة مقدم عليهم فلو كان
لقرابتهم تأثير في استحقاق الولاية بها لكانوا مقدمين على مولى العتاقة إذ لا قرابة لمولى العتاقة
وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى حديث ابن مسعود رضي الله عنه في اجازته تزويج امرأته
ابنتها على ما روينا فان الأصح ان ابنتها لم تكن من عبد الله فإنما جوز نكاحها بولاية الأمومة
والمعنى فيه وهو ان استحقاق الولاية باعتبار الشفقة الموجودة بالقرابة وهذه الشفقة توجد
في قرابة الأم كما توجد في قرابة الأب فيثبت لهم ولاية التزويج أيضا الا ان قرابة
الأب يقدمون باعتبار العصوبة وهذا لا ينفى ثبوته لهؤلاء عند عدم العصبات كاستحقاق
الميراث يكون بسبب القرابة ويقدم في ذلك العصبات ثم يثبت بعد ذلك لذوي الاحرام وبه
ينتقض قولهم ان مولى العتاقة في الولاية مقدم على ذوي الأرحام فان في الإرث أيضا
يقدم مولى العتاقة ولا يدل ذلك على أنه لا يثبت لذوي الاحرام أصلا فكذا هنا وعلى هذا
الخلاف مولى المولاة له ولاية التزويج على الصغير والصغيرة إذا لم يكن لهما قريب عند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى وليس له ذلك عند محمد رحمه الله تعالى لأنه مؤخر عن ذوي
الأرحام (قال) ولا ولاية للأب الكافر والمملوك على الصغير والصغيرة إذا كان حرا مسلما لان
اختلاف الدين يقطع التوارث فكذلك يقطع ولاية التزويج قال الله تعالى والذين آمنوا ولم
يهاجروا الآية نص على قطع الولاية بين من هاجر وبين من لم يهاجر حين كانت الهجرة
فريضة فكان ذلك تنصيصا على انقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين بطريق الأولى وكذلك
223

الرق ينفي الولاية حتى يقطع التوارث ولأنه ينفي ولايته عن نفسه فلان ينفي ولايته
عن غيره أولى وأما الكافر فثبت له ولاية التزويج على ولده الكافر كما تثبت للمسلم قال الله
تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض والدليل عليه جريان التوارث فيما بينهم كما يجرى
فيما بين المسلمين (قال) ولأنكحة الكفار فيما بينهم حكم الصحة الا على قول مالك رحمه الله
تعالى فإنه يقول أنكحتهم باطلة لان الجواب نعمة وكرامة ثابتة شرعا والكافر لا يجعل أهلا
لمثله ولكنا نستدل بقوله تعالى وامرأته حمالة الحطب ولو لم يكن لهم نكاح لما سماها امرأته
وقال صلى الله عليه وسلم ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح وهذه نعمة كما قال ولكن
الأهلية لهذه النعمة باعتبار صفة الآدمية وبالكفر لم يخرج من أن يكون من بني آدم فلا
يخرج من أن يكون أهلا لهذه النعمة (قال) ولو زوج الأب ابنته الصغيرة ممن لا يكافئها
أو زوج ابنه الصغير امرأة ليست بكفء له جاز في قول أبي حنيفة استحسانا ولم يجز
عندهما وهو القياس وكذلك لو زوج ابنته بأقل من صداق مثلها أو ابنه بأكثر من صداق
مثلها بقدر ما لا يتغابن الناس فيه لا يجوز عندهما هكذا قال في الكتاب ولم يبين ماذا
لا يجوز حتى ظن بعض أصحابنا أن الزيادة والنقصان لا يجوز فأما أصل النكاح صحيح لان
المانع هنا من قبل المسمى وفساد التسمية لا يمنع صحة النكاح كما لو ترك التسمية أصلا أو
زوجها بخمر أو خنزير ولكن الأصح أن النكاح لا يجوز هكذا فسره في الجامع الصغير
وجه قولهما أن ولاية الأب مقيدة بشرط النظر ومعنى الضرر في هذا العقد ظاهر فلا
يملكها الأب بولايته كما لا يملك البيع والشراء في ماله بالغبن الفاحش والدليل عليه أنه لو
زوج أمتها بمثل هذا الصداق لا يجوز فإذا زوجها أولى وولايته عليها دون ولاية المرأة على
نفسها ولو زوجت هي نفسها من غير كف ء أو بدون صداق مثلها يثبت حق الاعتراض للأولياء
فهذا أولى ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى ترك القياس بما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها على صداق خمسمائة درهم زوجها منه أبو بكر رضي الله عنه
وزوج فاطمة رضي الله عنها من علي رضي الله عنه على صداق أربعمائة درهم ومعلوم ان ذلك
لم يكن صداق مثلهما لأنه إن كان صداق مثلهما هذا المقدار مع أنهما مجمع الفضائل فلا صداق
في الدنيا يزيد على هذا المقدار والمعنى فيه أن النكاح يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد
جمة والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه فالظاهر أنه إنما قصر في الكفاءة
224

والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه
واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه
وإن كان هو في الظاهر يعطى مالا غير واجب وهذا بخلاف تصرف الأب في المال إذ لا
مقصود هناك سوى المالية فإذا قصر في المالية فليس بإزاء هذا النقصان ما يجبره وهذا
بخلاف ما إذا زوج أمتهما لان سائر مقاصد النكاح لا تحصل للصغير والصغيرة هنا إنما
يحصل للأمة ففي حق الصغير قد انعدم ما يكون جبرا للنقصان وبخلاف العم والأخ لأنه
ليس لهما شفقة وافرة فيحمل تقصيرهما في الكفاءة والمهر على معنى ترك النظر والميل إلى
الرشوة لا لتحصيل سائر المقاصد وبخلاف المرأة في نكاح نفسها لأنها سريعة الانخداع
ضعيفة الرأي متابعة للشهوة عادة فيكون تقصيرها في الكفاءة والصداق لمتابعة الهوى لا
لتحصيل سائر المقاصد على أن سائر المقاصد تحصل لها دون الأولياء وبسبب عدم الكفاءة
والنقصان في الصداق يتعين الأولياء وليس بإزاء هذا النقصان في حقهم ما يكون جابرا فلهذا
يثبت لهم حق الاعتراض (قال) وإذا أقر الولد على الصغير أو الصغيرة بالنكاح لم يثبت
النكاح باقراره ما لم يشهد به شاهدان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النكاح باقراره وإنما يتبين هذا الخلاف فيما إذا أقر الولي
عليهما ثم أدركا وكذباه وأقام المدعى عليهما بعد البلوغ شاهدين باقرار الولي بالنكاح في
الصغر وعلى هذا الخلاف الوكيل من جهة الرجل والمرأة إذا أقر على موكله بالنكاح وكذلك
المولى إذا أقر على عبده بالنكاح فهو على هذا الخلاف أيضا اما إذا أقر على أمته بالنكاح
صح اقراره بالاتفاق فهما يقولان أقر بما يملك انشاءه فيصح كالمولى إذا أقر على أمته وهذا
لان الاقرار خبر متمثل بين الصدق والكذب فإذا حصل بما لا يملك انشاءه تتمكن التهمة
في اخراج الكلام مخرج الاخبار وإذا حصل بما لا يملك انشاءه لا يكون متهما في اخراج
الكلام مخرج الاخبار لتمكنه من تحصيل المقصود بطريق الانشاء ألا ترى أن المطلق إذا
قال قبل انقضاء العدة كنت راجعتها كان مصدقا بخلاف ما لو أقر بذلك بعد انقضاء العدة وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا اقرار على الغير والاقرار على الغير لا يكون حجة لأنه شهادة
وشهادة الفرد لا تثبت الحكم بقي كونه مالكا للانشاء فنقول هو لا يملك انشاء هذا العقد
الا بشاهدين كما قال صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بشهود فلا يملك الا قرار به الا من
225

الوجه الذي يملك الانشاء وهكذا نقول إذا ساعده شاهدان على ذلك كان صحيحا اعتبارا
للاقرار بالانشاء وهذا بخلاف الأمة فان المولى هناك يقر على نفسه لان بضعها مملوك للمولى
واقرار الانسان على نفسه صحيح مطلقا من غير أن يكون ذلك معتبرا بالانشاء فاما في حق
العبد الاقرار عليه لا على نفسه فلا يملك الا من الوجه الذي يملك الانشاء وأصل كلامهم يشكل
باقرار الوصي بالاستدانة على اليتيم فإنه لا يكون صحيحا وإن كان هو يملك انشاء الاستدانة
(قال) وإن كان للصغيرة وليان فزوجها كل واحد منهما رجلا فان علم أيهما أول جاز نكاح
الأول منهما لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أنكح الوليان فالأول أحق وهذا لان الأول صادف
عقده محله وعقد الثاني لم يصادف محله لأنها بالعقد الأول صارت مشغولة وإن لم يعلم أيهما
أول أو وقع العقدان معا بطلا جميعا لأنه لا وجه لتصحيحهما وليس أحدهما بأولى من
الآخر فتعين جهة البطلان فيهما (قال) وإذا تزوج الصغير امرأة فأجاز ذلك وليه جاز عندنا
لان الصبي العاقل من أهل العبارة عندنا ولكن يحتاج إلى انضمام رأى الولي إلى مباشرته
ليحصل تمام النظر فإذا أجاز الولي جاز ذلك وكان ذلك كمباشرة الولي بنفسه حتى يثبت له
الخيار إذا بلغ وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا ينفذ بإجازة الولي لان من أصله ان
عبارة الصبي غير معتبرة في العقود وكذلك من أصله ان العقود لا تتوقف على الإجازة
وعلى هذا لو زوجت الصغيرة نفسها فأجاز الولي ذلك جاز عندنا ولم يجز عند الشافعي رحمه
الله تعالى لهذين المعنيين ومعنى ثالث ان عبارة النساء عنده لا تصلح لعقد النكاح وإن كان
المجيز غير الأب والجد فلمعنى رابع على قوله أيضا وهو ان هذا المجيز لا يملك مباشرة التزويج
وان أبطل الولي عقدهما بطل وإن لم يتعرض له بالإجازة ولا بالابطال حتى بلغا فالرأي إليهما
ان أجازا ذلك العقد جاز كما لو أجاز الولي في صغرهما ولا ينفذ بمجرد بلوغهما الا ان يجيز
لان النظر عند مباشرتهما ما تم لصغرهما ونفوذ هذا العقد يعتمد تمام النظر فلهذا يعتمد
اجازتهما بعد البلوغ (قال) وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن زوجها فهو
جائز لأنه صير نفسه زعيما والزعيم غارم بخلاف ما إذا باع مال ولده الصغير وضمن الثمن عن
المشترى لا يصح الضمان لان ثبوت حق قبض الثمن للأب هناك بحكم العقد لا بولايته عليه
الا ترى ان بعد بلوغه الأب هو الذي يقبض الثمن دون الصبي وفيما يكون وجوبه بحكم
عقده فهو كالمستحق لان حقوق ذلك العقد تتعلق بالعاقد ولهذا لو أبرأ المشترى عن الثمن
226

كان صحيحا فإذا ضمن الثمن عن المشترى كان في معنى الضامن لنفسه فلا يصح فاما ثبوت
حق قبض الصداق للأب بولاية الأبوة لا بمباشرته عقد النكاح لان حقوق العقد في
النكاح لا تتعلق بالعاقد الا ترى أنها لو بلغت كان القبض إليها دون الأب فكان الأب في
هذا الضمان كسائر الأجانب ولو ضمن الصداق لها أجنبي آخر وقبل الأب ذلك كان
الضمان صحيحا فكذلك إذا ضمنه الأب فإذا بلغت ان شاءت طالبت الزوج بالصداق بحكم
النكاح وإن شاءت طالبت بحكم الضمان وإذا أداه الأب لم يرجع على الزوج لأنه ضمن
بغير أمره وإن كان ضمن عن الزوج بأمره فحينئذ يكون له ان يرجع عليه إذا أدى فإن كان
هذا الضمان في مرض الأب ومات منه فهو باطل لأنه قصد ايصال النفع إلى وارثه وتصرف
المريض فيما يكون فيه ايصال النفع إلى وارثه باطل (قال) وإذا زوج ابنه الصغير في
صحته وضمن عنه المهر جاز يعني إذا قبلت المرأة الضمان ثم إذا أدى الأب لم يرجع بما أدى على الابن
استحسانا وفى القياس يرجع عليه لان غيره لو ضمن بأمر الأب وأدى كان له أن يرجع به
في مال الابن فكذلك الأب إذا ضمن لان قيام ولايته عليه في حالة الصغر بمنزلة أمره إياه
بالضمان عنه بعد البلوغ ألا ترى أن الوصي لو كان هو الضامن بالمهر عن الصغير وأدى من
مال نفسه يثبت له الرجوع في ماله فكذلك الأب وجه الاستحسان أن العادة الظاهرة أن
الآباء بمثل هذا يتبرعون وفى الرجوع لا يطمعون والثابت بدلالة العرف كالثابت بدلالة
النص فلا يرجع به إلا أن يكون شرط ذلك في أصل الضمان فحينئذ يرجع لان العرف إنما
يعتبر عند عدم التصريح بخلافه كتقديم المائدة بين يدي الانسان يكون اذنا له في التناول
بطريق العرف فان قال له لا تأكل لم يكن ذلك اذنا له فهذا مثله بخلاف الوصي فان عادة التبرع
في مثل هذا غير موجودة في حق الأوصياء بل يكتفى من الوصي أن لا يطمع في مال
اليتيم فلهذا ثبت له حق الرجوع إذا ضمن وأدى من مال نفسه وان مات الأب قبل أن
يؤدى فهذه صلة لم تتم لان تمام الصلة يكون بالقبض ولم يوجد ولكنها بالخيار ان شاءت
أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت من تركة الأب بحكم الضمان لان الاستحقاق كان
ثابتا لها في حياة الأب بحكم الكفالة فلا يبطل ذلك بموته وإذا استوفت من تركة الأب
رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه وقال زفر رحمه الله
تعالى لا يرجعون لان أصل الكفالة انعقدت غير موجبة للرجوع عند الأداء بدليل أنه لو
227

أداه في حياته لم يرجع عليه فبموته لا يصير موجبا للرجوع ولكنا نقول إنما لا يرجع في
حياته إذا أدى لمعنى الصلة وقد بطل ذلك بموته قبل التسليم فكان هذا بمنزلة ما لو ضمن
عنه بعد البلوغ بأمره واستوفاه من تركته بعد وفاته وإن كان هذا الضمان في مرض
الأب الذي مات فيه فهو باطل لأنه تبرع منه على ولده بضمان الصداق منه وتبرع الوالد
على ولده في مرضه باطل وكذلك كل من ضمن عن وارثه أو لوارثه ثم مات فضمانه باطل
لما بينا (قال) والمجنون المغلوب بمنزلة الصبي في جميع ذلك لأنه مولى عليه كالصغير ويستوى
إن كان جنونه أصليا أو طارئا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى في الجنون الأصلي كذلك الجواب
بان بلغ مجنونا فاما في الجنون الطارئ لا يكون للمولى عليه ولاية التزويج لأنه تثبت له الولاية
على نفسه عند بلوغه والنكاح يعقد للعمر ولا تتجدد الحاجة إليه في كل وقت فبصيرورته
من أهل النظر لنفسه يقع الاستغناء فيه عن نظر الولي بخلاف المال فان الحاجة إليه تتجدد
في كل وقت ولكنا نقول ثبوت الولاية لعجز المولى عليه عن النظر لنفسه والجنون الأصلي
والعارض في هذا سواء فربما لم يتفق له كف ء في حال إفاقته حتى
جن أو ماتت زوجته بعد ما جن فتتحقق الحاجة
في الجنون الطارئ كما تتحقق في الجنون
الأصلي والله أعلم بالصواب
واليه المرجع
والمآب
تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس
(وأوله باب نكاح البكر)
228