الكتاب: البحر الرائق
المؤلف: ابن نجيم المصري
الجزء: ١
الوفاة: ٩٧٠
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق: ضبطه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨ - ١٩٩٧ م
المطبعة:
الناشر: منشورات محمد علي بيضون - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

البحر الرائق
1

البحر الرائق
شرح كنز الدقائق
(في فروع الحنفية)
للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود المعروف بحافظ الدين النسفي
المتوفى سنة 710 ه‍
والشرح " البحر الرائق "
للإمام العلامة الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري الحنفي
المتوفى سنة 970 ه‍
ومعه الحواشي المسماة
منحة الخالق على البحر الرائق
للعلامة الشيخ محمد أمين عابدين بن عمر عابدين بن عبد العزيز المعروف بابن عابدين الدمشقي الحنفي
المتوفى سنة 1252 ه‍
ضبطه وخرج آياته وأحاديثه
الشيخ زكريا عميرات
تنبيه
وضعنا متن كنز الدقائق في أعلى الصفحات، ووضعنا أسفل منه مباشرة نص " البحر الرائق "
ووضعنا في أسفل الصفحات حواشي الشيخ ابن عابدين
الجزء الأول
منشورات
محمد علي بيضون
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
3

الطبعة الأولى
1418 ه‍ - 1997 م
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
4

بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة صاحب البحر
هو الإمام العلامة الشيخ زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن بكر الشهير
بابن نجيم - اسم لبعض أجداده - العلامة الفاضل الذي لم تكتحل بمثله عين الأواخر
والأوائل اشتغل ودأب وتفرد وتفنن وأفتى ودرس وساعده الحظ في حياته وبعد وفاته
ورزق الحظ في سائر مؤلفاته ومصنفاته، فما كتب ورقة إلا وأتعب الناس في تحصيلها.
ولد بالقاسرة سنة ست وعشرين وتسعمائة، وأخذ عن علمائها وتفقه بالشيخ أمين الدين بن
عبد العال الحنفي والشيخ أبي الفيض السلمي والشيخ شرف الدين البلقيني وشيخ الاسلام
أحمد بن يونس الشهير بابن الشلبي، (أخذ علوم العربية والعقلية عن جماعة كثيرين منهم:
الشيخ العلامة نور الدين الديلمي المالكي والشيخ العلامة شقير المغربي، وانتفع به خلق كثير
منهم: أخوه العلامة عمر صاحب النهر، والعلامة محمد الغزي التمرتاشي صاحب المنح،
والشيخ محمد العلمي سبط ابن أبي شريف المقدسي الأصل الشامي السكن، وعبد الغفار
مفتى القدس، وذكره العارف عبد الوهاب الشعراني في طبقاته وذكر أنه كان عالما زاهدا
أجمع فقراء الصوفية على أدبه وجلالته وما تخلف عن الاذعان له إلا من عنده حسد أو
جهل بمقامه. وكان له ذوق في حل مشكلات القوم وله الاعتقاد العظيم في طائفة القوم،
وأخذ الطريق عن الشيخ العارف بالله تعالى سليمان الخضيري، قال الشيخ عبد الوهاب:
صحبته عشر سنين فما رأيت عليه شيئا يشينه في دينه، وحججت معه في سنة ثلاث
وخمسين وتسعمائة فرأيته على خلق عظيم مع جيرانه وغلمانه ذهابا وإيابا مع أن السفر يسفر
عن أخلاق الرجال، ولقد شاورني في ترك التدريس والاقبال على طريق الفقراء الصوفية
فقلت له: لا تدخل في الطريق إلا بعد تضلعك من علوم الشريعة، فأجابني إلى ذلك
أسأل الله تعالى أن يزيده علما وعملا صالحا ويحشرنا في زمرته مع العلماء العاملين والأئمة
المجتهدين تحت لواء سيد المرسلين، ولمولانا المترجم " الأشباه والنظائر " " والبحر الرائق "
" ومختصر التحرير " " وشرح المنار " " والفوائد الزينية " والرسائل الزينية " التي رتبها ابن بنته
محمد، وأما تعاليقه على هوامش الكتب وحواشيها وكتابته على أسئلة المستفتين الأوراق
التي سودها بالمباحث الرائقة فشئ لا يمكن حصره، ولولا معاجلة الاجل قبل بلوغ الامل
5

لكان في الفقه وأصوله وفي سائر الفنون أعجوبة الدهر، توفي سنة سبعين وتسعمائة وقال
تلميذة العلمي: إن وفاته كانت في سنة تسع، بتقديم التاء - وستين وتسعمائة، وإن ولادته
كانت سنة ست وعشرين وتسعمائة، ودفن بالقرب من السيدة سكينة رحم الله تعالى روحه
ونور ضريحه آمين، كذا في شرح الأشباه والنظائر لشيخنا العلامة المحقق هبة الله أفندي
البعلي التاجي رحمه الله تعالى، قال الشيخ العلامة قطب الدين الحنفي: أنشدني من لفظه
مولانا الشيخ نور الدين أبو الحسن الخطيب الحنفي شيخ المدرسة الأشرفية أنه شافه المرحوم
الشيخ زين بن نجيم رحمه الله تعالى بهذه الأبيات بديهة وقد أجاد فقال:
ذو الفضل زين الدين حاز من التقى * والعلم ما عجز الورى عن حصره
لا سيما الفقه الشريف فإنه * يمليكه بكماله من صدره
وإذا نظرت إلى الشروح بأسرها * فترى الجميع كنقطة في بحره
ونقل من خط الشيخ الفهامة سري الدين الصائغ الحنفي ما صورته: أنشدني منصور
البلسي الحنفي لنفسه:
على الكنز في الفقه الشروح كثيرة * بحار تفيد الطالبين لآليا
ولكن بهذا البحر صارت سواقيا * ومن ورد البحر استقل السواقيا
6

ترجمة صاحب حاشية البحر
السيد محمد أمين الشهير بابن عابدين رحمه الله
وهو وإن كان كبير القدر شهير الذكر لا تستقصى مناقبه في مجلدات، غير أننا أحببنا أن
لا يفوتنا التبرك بذكر شئ من سيرته لأنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمات فنقول: هو العلامة
المتقن والإمام المتفنن، السيد محمد أمين عابدين ابن السيد الشريف عمر عابدين، ينتهي نسبه
الشريف إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه، وقد استوفى ذكر أجداده الكرام مع طرف صالح من مرضي سيرته وكريم خليقته وذكر
مؤلفاته وسني حالاته، ولده المرحوم العلامة السيد محمد علاء الدين في أول كتابه " قرة عيون
الأخيار لتكملة رد المختار على الدر المختار ". ومجمل القول في المترجم المذكور أنه رحمه الله كان
ممن يتذكر به سيرة السلف الصالحين من وفور العلم وكثرة التفنن ومتانة الدين، فبعد غوره في
العلوم تشهد به مؤلفاته الشهيرة وما تحويه من ثاقب إفهامه واقتداره على حل العويصات وكشف
المدلهمات الكثيرة، فله رحمه الله من التآليف: " رد المحتار على الدر المختار " " والعقود الدرية في
تنقيح الفتاوى الحامدية " وحاشية على " البيضاوي " وحاشية على " المطول " وحاشية على " شرح
الملتقى " وحاشية على " النهر " إلا أنهما لم يجردا، وهذا الحاشية التي على البحر، وله مجموعة في
الأدب ونحو الثلاثين رسالة وغير ذلك، وكان حسن الأخلاق والسمات مقسما زمنه الشريف
على أنواع الطاعات، وربما استغرق ليله أجمع بقراءة القرآن والبكاء، ولا يدع وقتا من أوقاته من
غير طهارة، وكان كثير التصدق، بعيدا عن الشبهات، لا يأكل إلا من مال تجارته، وكان مهابا
مطاع الكلمة، وبالجملة فأخلاقه الشريفة لا تنحصر، ولد رحمه الله سنة 1198 ومات رحمه الله
ضحوة يوم الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة 1252، عن أربع وخمسين سنة تقريبا
بدمشق الشام ودفن بمقبرتها بباب الصغير، لا زالت عليه سحائب الرحمات تمطر ولا برحت
دار الخلد له فيها المقام الأشهر، ثم إن هذه الحاشية قد ازدادت حلية بتنميق العلامة الإمام
والفهامة الهمام، فريد عصره ووحيد دهره، المرحوم السيد أحمد عابدين ابن عم المؤلف لها
بخطه الكريم وتحريره لها بالقراءة وإمعان الفكر وإدمان النظر المستقيم. وعند الشروع في الطبع
سمح خاطر ورثته متع الله الوجود بدوامهم وأدام على المسلمين بركة أنفاسهم ومنافع علومهم،
بإعطاء تلك الحاشية مع شرح البحر الذي تحلت غرره بخط المؤلف بهذا الحاشية ليكون الطبع
والتصحيح على تلك الخطوط الزاهية، فجزى الله ذلك الصنيع خيرا ومنحهم رضا ووقاهم
ضيرا آمين.
7

الحمد لله الذي دبر الأنام بتدبيره القوي، وقدر الأحكام بتقديره الحنفي وهدى عباده
إلى الرشاد، وأنطقهم بأسنة حداد، وجعل مصالح معاشهم بالعقول محوطة، ومناجح معادلهم
بالعلم منوطة، فضل نبيه بالعلم تفضيلا، وأنزل عليه القرآن تنزيلا، صلى الله عليه وعلى آله
كنوز الهدى وعلى أصحابه بدور الدجي.
أما بعد، فأن أشرف العلوم وأعلاها وأوفقها وأوفاها، علم الفقه والفتوى وبه
صلاح الدنيا والعقبى فمن شمر لتحصيله ذيله، وأدرع نهاره وليله، فاز بالسعادة الآجلة
والسيادة العاجلة والأحاديث في أفضليته على سائر العلوم كثيرة والدلائل عليها شهيرة لا
سيما وهو المراد بالحكمة في القرآن على قول المحققين للفرقان وقد قال في ز الخلاصة إن
النظر في كتب أصحابنا من غير سماع أفضل من قيام الليل وقال إن تعلم الفقه أفضل من
تعلم باقي القرآن وجميع الفقه لا بد منه ا ه‍. وإن كنز الدقائق للإمام حافظ الدين النسفي
أحسن مختصر صنف في فقه الأئمة الحنفية وقد وضعوا له شروحا وأحسنها " التبيين " للإمام
الزيلعي لكنه قد أطال من ذكر الخلافيات ولم يفصح عن منطوقه ومفهومه وقد كنت
مشتغلا به من ابتداء حالي معتنيا بمفهوماته فأحببت أن أضع عليه شرحا يفصح عن منطوقه
9

ومفهومه ويرد فروع الفتاوى والشروح إليها مع تفاريع كثيرة وتحريرات شريفة وها أنا أبين
لك الكتب التي أخذت منها من شروح وفتاوى وغيرها فمن الشروح: شرح الجامع الصغير
لقاضي خان وشرحه للبرهاني والمبسوط وشرح الكافي الحاكم وشرح مختصر الطحاوي
للإمام الأسبيجابي والهداية وشروحها من غاية البيان والنهاية والعناية ومعراج الدراية
والخبازية وفتح القدير والكافي شرح الوافي والتبيين والسراج الوهاج والجوهرة
والمجتبى والاقطع والينابيع وشرح المجمع للمصنف ولابن الملك والعيني وشرح الوقاية
وشرح النقابة للشمني والمستصفى والمصفى وشرح منية المصلي لابن أمير حاج ومن
الفتاوى: المحيط والذخيرة والبدائع والزيادات لقاضي خان وفتاواه المشهورة والظهيرية
والولوالجية والخلاصة والبزازية والواقعات للحسامي والعمدة والعدة للصدر الشهيد ومآل
الفتاوى وملتقط الفتاوى وحيرة الفقهاء والحاوي القدسي القنية والسراجية والقاسمية
والتجنيس والعلامية وتصحيح القدوري وغير ذلك مع مراجعة كتب الأصول واللغة وغير
ذلك ومن تردد في شئ مما ذكرته في هذا الشرح فليرجع إلى هذه الكتب وسميته بالبحر
الرائق شرح كنوز الدقائق وأسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله وأن يجعله خالصا
لوجهه الكريم وأن يثيبنا عليه بفضله وكرمه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير ولا
بأس بذكر تعريفه لما في البديع لابن الساعاتي حق على من حاول علما أن يتصوره بحده أو
10

رسمه ويعرف موضوعه وغايته واستمداده - قالوا - ليكون الطالب له على بصيرة فالفقه لغة
الفهم وتقول منه فقه الرجل بالكسرة، وفلان لا يفقه وأفقهتك الشئ ثم خص به علم
الشريعة والعالم به فقيه وفقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك وفاقهته إذا
باحثته في العلم كذا في الصحاح وحاصله أن الفقه اللغوي مكسور القاف في الماضي
والاصطلاحي مضموما فيه كما صرح به الكرماني وفي ضياء الحلوم الفقه العلم بالشئ
ثم خص بعلم الشريعة وفقه بالكسر معنى الشئ فقها وفقها وفقهانا إذا علمه وفقه بالضم
فقاهة إذا صار فقيها ا ه‍. وفي المغرب فقه المعنى فهمه وأفهمه غيره ا ه‍. واصطلاحا على
ما ذكره النسفي في شرح المنار تبعا للأصوليين العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من
أدلتها التفصيلية بالاستدلال أطلقوا العلم على الفقه مع كونه ظنيا لأن أدلته ظنية لأنه لما كان
ظن المجتهد الذي يجب عليه وعلى مقلديه العمل بمقتضاه كان لقوته بهذا الاعتبار قريبا من
العلم فعبر به عنه تجوزا وتعقب بأن فيه ارتكاب مجاز دون قرينة فالأولى ما في التحرير من
ذكر التصديق الشامل للعلم والأحكام جمع محلي باللام فإما أن يحمل على
11

الاستغراق أو على الجنس المتناول للكل والبعض الذي أقله ثلاثة منها لا بعينه ذكره السيد
في حاشية العضد. وفيه أن المراد بالأحكام المجموع، ومعنى العلم بها التهيؤ لذلك ورده
في التوضيح بأن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقه والقريب غير مضبوط إذ لا يعرف أي قدر
من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب وأجاب عنه في التلويح بأنه مضبوط لأنه ملكة يقتدر
بها على إدراك جزيئات الأحكام وإطلاق العلم عليها شائع. وفي التحرير والمراد بالملكة
أدنى ما تحقق به الأهلية وهو مضبوط ا ه‍. واختلف في المراد من الحكم هنا، فاختار السيد
في حاشيته أنه التصديق ورده في التلويح بأنه علم لأنه إدراك أن النسبة واقعة أو ليست
بواقعة فيقتضي أن الفقه علم بالعلوم الشرعية وليس كذلك بل المراد به النسبة التامة بين
الامرين التي العلم بها تصديق ويغيرها تصور اه‍. ويمكن الجواب بأن مراده من التصديق
القضية صرح المولى سعد في حاشية العضد بأنه كما يطلق على الادراك يطلق على القضية.
والمحققون على أنه لا يراد بالحكم هنا خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا لأنه
يكون ذكر الشرعية والعملية تكرارا.
12

وخرج بقيد الأحكام العلم بالذوات والصفات والافعال وخرج بقيد الشرعية الأحكام
المأخوذة من العقل كالعلم بأن حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من
الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع. وكذا في التلويح. وظاهره أن الحكم في
مثل قولنا النار محرقة ليس عقليا ويمكن أن يجعل من العقلي بناء على أن الادراك في
الحواس إنما هو للعقل بواسطة الحواس. وخرج بقيد العملية الأحكام الشرعية الاعتقادية
ككون الاجماع حجة والايمان واجبا، ولذا لم يكن العلم بوجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك
مما اشتهر كونه من الدين بالضرورة فقها اصطلاحا، وأورد عليه أنه إن أريد بالعمل عمل
الجوارح فالتعريف غير جامع إذ يخرج عنه العلم بوجوب النية وتحريم الرياء والحسد ونحو
ذلك وإن أريد به ما يعم عمل القلب وعمل الجوارح فالتعريف غير مانع إذ يدخل فيه جميع
الاعتقادات التي هي أصول الدين وأجيب عنه باختيار الشق الثاني ولا يدخل الاعتقادات
إذ المراد بالعملية المتعلقة بكيفية عمل فالتعلق في النية ونحوها بكيفية عمل قلبي، والتعلق في
الاعتقادات بحصول العلم وتحقيق الفرق بين فعل القلب كقصده إلى الشئ أو تمنيه حصول
13

الشئ وزواله وبين التصديق القائم بالقلب الذي هو تجل وانكشاف يحصل عقب قيام الدليل
لا فعل للنفس هو أن القصد نوع من الإرادة والتصديق نوع من العلم والوجدان كاف في
الفرق نعم يعتبر في الايمان مع التصديق الذي هو التجلي والانكشاف إذعان واستسلام
بالقلب لقبول الأوامر والنواهي فتسمية التصديق الذي هو الاعتقاد فعلا بهذا الاعتبار وقد
عدل بعضهم عن ذكر العملية إلى الفرعية فلم يتوجه الايراد أصلا. وقوله من أدلتها متعلق
بالعلم أي العلم الحاصل من الأدلة وبه خرج علم المقلد وليس متعلقا بالأحكام إذا لو تعلق
بها لم يخرج علم المقلد لأنه علم بالأحكام الحاصلة من أدلتها التفصيلية وإن لم يكن علم المقلد
حاصلا عن الأدلة. ومعنى حصول العلم من الدليل أنه ينظر في الدليل الحكم لكنه لم
فعلم المقلد وإن كان مستندا إلى قول المجتهد المستند إلى علمه المستند إلى دليل الحكم لكنه لم
يحصل من النظر في الدليل. كذا في التلويح وبه اندفع ما ذكره الكمال بن أبي شريف من أن
14

قوله من أدلتها للبيان لا للاحتراز إذ لا اكتساب إلا من دليل ا ه‍. واختلف في قيد
التفصيلية فذكر جماعة منهم المحقق في التلويح أنه للاحتراز عن علم الخلافي لأن العلم
بوجوب الشئ لوجود المقتضى أو بعدم وجوبه لوجود النافي ليس من الفقه، وغلطهم
المحقق في التحرير بقوله: وقولهم التفصيلية تصريح بلازم وإخراج الخلاف به غلط،
ووضحه الكمال بأن قولهم إنما قولهم إنما يصح إذا قلنا إن الخلافي يستفيد علما بثبوت الوجوب أو
انتفائه من مجرد تسليمه من الفقه وجود المقتضى أو النافي إجمالا وأنه يمكنه بمجرد ذلك
حفظه عن إبطال الخصم والحق أنه لا يستفيد علما ولا يمكنه الحفظ المذكور حتى يتعين
المقتضى أو أنه ليس إخراجا لعلم الخلافي فهو تصريح بلازم اه‍.
واختلف أيضا في قيد الاستدلال فذهب ابن الحاجب إلى أنه للاحتراز عن العلم
الحاصل بالضرورة كعلم جبريل والرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسمى فقها اصطلاحا وحقق في
التلويح بأنه لا حاجة إليه فإن حصول العلم عن الدليل مشعر بالاستدلال إذ لا معنى لذلك
إلا أن يكون العلم مأخوذا من الدليل فخرج ما كان بالضرورة بقوله من أدلتها فهو
للتصريح بما علم التزاما أو لدفع الوهم أو للبيان دون الاحتراز ومثله شائع في التعريفات
اه‍. ولم يذكر علم الله تعالى لأنه لا يوصف بضرورة ولا استدلال فلو قال إنه للاحتراز عن
العلم الذي لم يحصل بالاستدلال لكان مخرجا لعلم الله تعالى أيضا. واختلف في علم النبي
عليه الصلاة والسلام الحاصل عن اجتهاد هل يسمى فقها؟ والظاهر أنه باعتبار أنه دليل
شرعي للحكم لا يسمى فقها، وباعتبار حصوله عن دليل شرعي يصح أن يسمى فقها
اصطلاحا. وبما قررناه ظهر أن الأولى الاقتصار على الفقه العلم بالأحكام الشرعية
15

الفرعية عن أدلتها ويصح تعريفه بنفس الأحكام المذكور لما ذكره السيد في حواشيه أن أسماء
العلوم كالأصول والفقه والنحو يطلق كل منها تارة بإزاء معلومات مخصوصة كقولنا زيد
يعلم النحو أي يعلم تلك المعلومات المعينة، وتارة يإزاء إدراك تلك المعلمات وهكذا في
التحرير وعرفه في التقويم يأنه اسم لضرب علم أصيب باستنباط المعنى
وضد الفقيه
صاحب الظاهر وهو الذي يعمل بظاهر النصوص من غير تأمل في معانيها ولا يرى القياس
حجة ا ه‍. وظاهره أن ما كان من الأحكام له دليل صريح ليس من الفقه لأنه لم يصب
بالاستنباط وهو بعيد ولذا أطلقوا في قولهم من أدلتها ليشمل القياس وغيره من الدلائل
الأربعة وعرفه الإمام الأعظم بأنه معرفة النفس ما لها وما عليها لكنه يتناول الاعتقاديات
كوجوب الايمان والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة
والصوم والبيع فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات علم الكلام ومعرفة ما لها وما
عليها من الوجدانيات أي الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب
في الصلاة ونحو ذلك ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح فإن
أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت علم ما
يشتمل عل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رضي الله عنه إنما لم يزد لأنه أراد الشمول أي
أطلق العلم على العلم بما لها وما عليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو
العمليات ومن ثم سمى الكلام فقها أكبر كذا في التوضيح وذكر العلامة خسرو أن
الملكات النفسانية ليس من الفقه لاعتبار ذاتها وأما باعتبار آثارها التابعة لها من أفعال الجوارح
فهي من الفقه ا ه‍.
هذا كله معنى الفقه عند الأصوليين وأما معناه الحقيقي له عند أهل الحقيقة فما ذكره
الحسن البصري كما نقله أصحاب الفتاوى في باب الطلاق ومنهم الوالوالجي بقوله هل
رأيت فقيها قط؟ إنما الفقيه المعرض عن الدنيا الزاهد في الآخرة البصير بعيوب نفسه. وأما
معناه عند الفقهاء فذكر صاحب الروض أنه لو وقف على الفقهاء فمن حصل في علم الفقه
شيئا وإن قل أو المتفقهة فالمشتغل به ا ه‍. وفي الحاوي القدسي اعلم أن معنى الفقه في
اللغة الوقوف والاطلاع وفي الشريعة والوقوف الخاص وهو الوقوف على معاني النصوص
16

وإشاراتها ودلالاتها ومضمراتها ومقتضياتها والفقيه اسم للواقف عليها ويسمى حافظ مسائل
الفقه الثابتة بها فقيها مجازا الحفظ ما ثبت بالفقه ا ه‍. ثم قال ثم العلم أول ما يحصل للقلب
لا يخلو عن نوع اضطراب لحكم الابتداء فإذا دامت الرؤية زال الاضطراب فصار معرفة
لزيادة الصحبة ثم تتنوع هذه المعرفة نوعين معرفة الظاهر دون المعنى الباطن والباطن الذي
هو الحكمة وبها يلتذ القلب إذا صار معقولا له فجرى منه مجرى الطبيعة فهذا هو الفقه
ولهذا قال أبو يوسف مرضت مرضا شديدا حتى نسيت كل شئ سوى الفقه فإنه صار لي
كالطبع ا ه‍. وقال في موضع آخر الفقه قوة تصحيح المنقول وترجيح المعقول فالحاصل أن
الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها كما تقدم فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم
وإطلاقه عل المقلد الحافظ للمسائل مجاز وهو حقيقة في عرف الفقهاء بدليل انصراف الوقف
والوصية للفقهاء إليهم وأقله ثلاثة أحكام في المنتقى. وذكر في التحرير أن الشائع اطلاقه
على من يحفظ الفروع مطلقا يعني سواء كانت بدلائلها أو لا.
وأما موضوعه ففعل المكلف من حيث إنه مكلف لأنه يبحث فيه عما يعرض لفعله من
حل وحرمة ووجوب وندب والمراد بالمكلف البالغ العاقل، ففعل غير المكلف ليس من
موضوعه وضمان المتلفات ونفقة الزوجات إنما المخاطب بها الولي لا الضبي والمجنون كما
يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما أتلفته حيث فرط في حفظها لتنزيل فعلها في هذه الحالة
بمنزلة فعله. وأما صحة عبادة الضبي كصلاته وصومه المصاب عليها فهي عقليه من باب ربط
الأحكام بالأسباب ولذا لم يكن مخاطبا بها بل ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله
تعالى وقيدنا بحيثية التكليف لأن فعل المكلف لا من حيث التكليف لي موضوعه كفعله
من حيث إنه مخلوق الله تعالى ولا يرد عليه الفعل المباح أو المندوب لعدم التكليف فيهما لأن
اعتبار حيثية التكليف أعم من أن تكون بحسب الثبوت كما في الوجوب والتحريم أو بحسب
السلب كما في بقية الأحكام فإن تجويز الفعل والترك يرفع الكلفة عن العبد وفي الحاوي
القدسي: وأفعال العبادة توصف بالحل والحرمة والحسن والقبح فيقال فعل حلال أو حرام أو
حسن أو قبيح وأما وصف حكم الله بها كقول القائل الحلال والحرام والحسن والقبيح
حكم الله تعالى فهو ببطريق فعل بطريق المجاز توسعا في العبارة وإطلاقا لاسم المفعول على الفعل وهذا
لأن الله تعالى له فعل واحد لكنه اختلف تسمياته باعتبار الإضافة إلى وصف المفعول فإن
كتان وصف المفعول كونه حادثا سمي إحداثا وإن كان حيا سمي إحياء وإن كان ميتا سمي
إماته وإن كان واجبا سمي إيجابا وإن كان حلالا سمي تحليلا وإن كان حراما سمي
17

تحريما ونحوها وهذا بناء على مسألة التكوين والمكون أنهما غير أن عندنا ا ه‍. وأما
استمداده فمن الأصول الأربعة الكتاب والسنة والاجماع والقياس المستنبط من هذه الثلاثة
وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة وأما تعامل الناس
فتابع للاجماع وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس وأما غايته فالفوز بسعادة
الدارين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
18

كتاب الطهارة
اعلم أن مدار أمور الدين متعلق بالاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر
والآداب، فالاعتقادات خمسة أنواع: الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،
والعبادات خمسة: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد. والمعاملات خمسة: المعاوضات
المالية والمناكحات والمخاصمات والأمانات والتركات. والمزاجر خمسة: مزجرة قتل النفس،
ومزجرة أخذ المال، ومزجرة هتك الستر، ومزجرة هتك العرض، ومزجرة قطع البيضة.
والآداب أربعة: الأخلاق والشيم الحسنة والسياسات والمعاشرات، فالعبادات والمعاملات
والمزاجر من قبيل ما نحن بصدده دون القسمين الآخرين. وقدم في سائر كتب الفقه العبادات
على المعاملات والمزاجر لكونها أهم من غيرها، ثم الصلاة قدمت على غيرها لأنها تالية
الايمان وثابتة بالنص والخبر كقوله تعالى * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * (البقرة:
3) وكحديث بني الاسلام على خمس (1). ثم قدمت الطهارة هنا على الصلاة لأنها شرطها
والشرط مقدم على المشروط طبعا فيقدم وضعا، وخصها بالبداءة دون سائر الشروط لأنها أهم
من غيرها لأنها لا تسقط بعذر من الاعذار. كذا في المستصفى وغيره. وتعليلهم للأهمية بعدم
19

السقوط أصلا لا يخصها لأن النية كذلك كما صرح به الزيلعي في آخر نكاح الرقيق، فالأولى
أن يزاد بأنها من الشرائط اللازمة للصلاة في كل أوقاتها وهي من خصائص الصلاة، فتخرج
النية لأنه لا يشترط استصحابها لكل ركن من أركانها وليست من خصائصها بل من خصائص
العبادات كلها. ثم كتاب الطهارة مركب إضافي لا بد من معرفة جزأيه ولو من وجه،
فالكتاب لغة مصدر كتاب كتابة وكتبه وكتابا بمعنى الكتب وهو جمع الحروف، وسمي به
المفعول للمبالغة تقول كتبت البغلة إذا جمعت بين رحمها بحلقة أو سير، وكتبت القربة إذا
خرزتها كتبا. والكتبة بالضم الخرزة والجمع كتب بفتح التاء. والكتيبة الجيش المجتمع،
وتكتبت الخيل أي تجمعت. وسميت الكتابة كتابة لأنها جمع الحروف والكلمات وجمعه كتب
بضمتين وكتب بسكون التاء ومدار التركيب على الجمع. قال في المغرب: وقولهم سمي هذا
العقد مكاتبة لأنه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، أو لأنه جمع بين نجمين فصاعدا ضعيف
جدا وإنما الصحيح إن كلا منهما كتب على نفسه أمرا هذا الوفاء وهذا الأداء انتهى. وإنما
كان التعليل بالجمع بين النجمين ضعيفا لأنه ليس بلازم فيها لجوازها حالة، وضعف الوجه
الأول ظاهر لأنه بالكتابة قبل الأداء لم تحصل حرية الرقبة فلم يصح الجمع بهذا المعنى.
وفي الاصطلاح جمع المسائل المستقلة، فخرج جمع الحروف والكلمات التي ليست
بمسائل، وخرج الباب والفصل لعدم استقلالهما لدخولهما تحت كتاب، وشمل ما كان نوعا
واحدا من المسائل ككتاب اللقطة، أو أنواعا ككتاب البيوع. ولا حاجة إلى أن يقال اعتبرت
مستقلة ليدخل ما كان تبعا لغيره ولم يكن مستقلا بل اعتبر مستقلا ككتاب الطهارة كما في
العناية لأن المراد بالاستقلال عدم توقف تصور المسائل على شئ قبلها ولا شئ بعدها.
وكتاب الطهارة كذلك لا الأصالة، وعدم التبعية والتقييد بالمسائل الفقهية كما في العناية
لخصوص المقام لا أنه قيد احترازي، وما في السراج الوهاج من أنه في الشرع للشمل
والإحاطة فغير صحيح إذ ليس هو هنا وضعا شرعيا وإنما هو وضع عرفي إلا أن يراد أنه في
20

عرف أهل الشرع وهو بعيد، ويبعده أيضا أن ظاهره أنه لا يكون كتابا إلا إذا أحاط بمسائل
ما أضيف إليه وشملها والواقع خلافه، فالظاهر ما ذكرناه، والطهارة بفتح الطاء الفعل لغة
وهي النظافة، وبكسرها الآلة، وبضمها فضل ما يتطهر به، واصطلاحا زوال الحدث أو
الخبث، والحدث مانعية شرعية قائمة بالأعضاء إلى غاية استعمال المزيل وهو طبعي كالماء،
وشرعي كالتراب، والخبث عين مستقذرة شرعا وكلمة أو في الحد ليست لمنع الجمع فلا
يفسد بها الحد. وقول بعضهم إنها إزالة الحدث أو الخبث غير جامع لخروج الزوال بدون
الإزالة كما إذا وقع المطر على أعضاء الوضوء من غير قصد فإنه طهارة وليس بإزالة لعدم
الصنع منه، ولا يرد الوضوء على الوضوء فإنه طهارة بدون الزوال المذكور باعتبار إزالة الآثام
الحاصلة لأن تسميته طهارة مجاز والتعريف للحقيقة. وعرفها في السراج الوهاج بما يدخله
فقال: إيصال مطهر إلى محل يجب تطهيره أو يندب، ولو عبر بالوصول لكان أولى لما ذكرنا في
الإزالة مع ما فيه من لزوم الدور وهو توقف مطهر على الطهارة وهي عليه لأنه بعض
التعريف. وفي البدائع ما يفيد أن تعرفها بالزوال المذكور توسع ومجاز فقال: الطهارة لغة
وشرعا هي النظافة، والتطهير التنظيف وهو إثبات النظافة في المحل فإنها صفة تحدث ساعة
فساعة، وإنما يمتنع حدوثها بوجود ضدها وهو القذر فإذا أزال القذر أي امتنع حدوثه بإزالة
العين القذرة تحدث النظافة فكان زوال القذر من باب زوال المانع من حدوث الطهارة لا أن
يكون طهارة، وإنما سمي طهارة توسعا لحدوث الطهارة عند زواله.
وأما سبب وجوبها فقيل الحدث والخبث ونسبه الأصوليون إلى أهل الطرد قالوا للدوران
وجودا وعدما، وعزاه في السراج الوهاج إليهم. وفي الخلاصة أنه أخذ به الإمام السرخسي
في الأصل ويبعد صحته عنه لأنه مردود بأن الدوران وجودا غير موجود لأنه قد يوجد
الحدث ولا يجب الوضوء قبل دخول الوقت. كذا في غاية البيان. وقد يدفع بأنه يجب به
الوضوء وجوبا موسعا إلى القيام إلى الصلاة لما نقله السراج الوهاج من أنه لا يأثم بالتأخير عن
الحدث بالاجماع، وهكذا في الغسل على ما نبينه فيه إن شاء الله تعالى. فحينئذ لم يتخلف
الدوران، ورد أيضا بأنهما ينقضانها فكيف يوجبانها؟ ودفعه في فتح القدير وغيره بأنهما
ينقضان ما كان ويوجبان ما سيكون فلا منافاة، وأجاب عنه العلامة السير أمي بأن الحدث
21

مفض إلى الوجوب والوجوب إلى الوجود والمفضي إلى المفضي إلى الشئ مفض إلى ذلك
الشئ فالحدث مفض إلى وجود الطهارة، ووجودها مفض إلى زوال الحدث فالحدث مفض
إلى زوال نفسه ا ه‍. وفي فتح القدير: والأولى أن يقال: السببية إنما تثبت بدليل الجعل لا
بمجرد التجويز وهو مفقود ا ه‍. وقد يدفع بأنه موجود لما رواه في الكشف الكبير عنه عليه
الصلاة والسلام لا وضوء إلا عن حدث وحرف عن يدل على السببية كقوله أدوا عمن
تمونون ولذا كان الرأس بوصف المؤنة والولاية سببا لوجوب صدقة الفطر. ويمكن أن يجاب
عنه بأن الدليل لما دل على عدم صلاحية الحدث للسببية كان دخول عن علي الحدث باعتبار
أنه شبيه بالسبب بالنظر إلى التوقف والتكرر دليل السببية عند الصلاحية وهي منتفية فلا تدل.
وقيل سببها إقامة الصلاة فهو وإن صححه في الخلاصة فقد نسبه في العناية إلى أهل الظاهر،
وصرح في غاية البيان بفساده لصحة الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات ما دام متطهرا. وقد
يدفع بأن الإقامة سبب بشرط الحدث فلا يلزم ما ذكر خصوصا أنه ظاهر الآية. وقيل سببها
إرادة الصلاة وهو وإن صححه في الكشف وغيره مردود بأن مقتضاه أنه إذا أراد الصلاة ولم
يتوضأ أثم ولو لم يصل، والواقع خلافه لأنه لم يقل به أحد كما أشار إليه في فتح القدير.
وقد يدفع بما ذكره الزيلعي في باب الظهار بأنه إذا أراد الصلاة وجبت عليه الطهارة فإذا
رجع وترك التنفل سقطت الطهارة لأن وجوبها لأجلها وفي العناية سببها وجوب الصلاة لا
وجودها لأن وجودها مشروط بها فكان متأخرا عنها والمتأخر لا يكون سببا للمتقدم ا ه‍.
يعني الأصل أن يكون وجودها هو السبب بدليل الإضافة نحو طهارة الصلاة وهي عندهم
من إمارة السببية لكن منع مانع من ذلك، وظاهره أنه بدخول الوقت تجب الطهارة لكنه
وجوب موسع كوجوب الصلاة فإذا ضاق الوقت صار الوجوب فيهما مضيقا وحينئذ فلا
حاجة إلى جعل سببها وجوب أداء الصلاة كما في فتح القدير، لما علمت أن أصل الوجوب
كاف للسببية إلا أنه مشكل لعدم شموله سبب الطهارة للصلاة النافلة إذ لا وجوب هنا ليكون
22

سببا للطهارة فليس فيه إلا الإرادة، فالظاهر أن السبب هو الإرادة في الفرض والنفل ويسقط
وجوبها بها بترك إرادة الصلاة، أو هو الإرادة المستلحقة للشروع فلا يرد ما ذكر عليها.
وأركانها في الحدث الأصغر غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس، وفي الأكبر
غسل جميع البدن، وفي النجاسة الحقيقية المرئية إزالة عينها، وفي غير المرئية غسل محلها ثلاثا
والعصر في كل مرة إن كان مما ينعصر، والتجفيف في كل ما لا ينعصر. وحكمها استباحة
ما لا يحل إلا بها ولم يذكروا أن من حكمها الثواب لأنه ليس بلازم فيها لتوقفه على النية وهي
ليست شرطا فيها، وآلتها الماء والتراب والملحق بهما، وأنواعها كثيرة ستأتي مفصلة ومحاسنها
شهيرة. وأما شرائطها فذكر العلامة الحلبي في شرح منية المصلي أنه لم يطلع عليها صريحة
في كلام الأصحاب وإنما تؤخذ من كلامهم وهي تنقسم إلى شروط وجوب وشروط صحة.
فالأولى تسعة: الاسلام والعقل والبلوغ ووجود الحدث ووجود الماء المطلق الطهور الكافي والقدرة على
استعماله وعدم الحيض وعدم النفاس وتنجيز خطاب المكلف كضيق الوقت. والثانية أربعة:
مباشرة الماء المطلق الطهور لجميع الأعضاء، وانقطاع الحيض، وانقطاع النفاس، وعدم التلبس
في حالة التطهير، بما ينقضه في حق غير المعذور بذلك ا ه‍. والإضافة فيه بمعنى اللام كما
لا يخفى وجعلها بمعنى من بعيد لأن ضابطها كما في التسهيل صحة تقديرها مع صحة
الاخبار عن الأول بالثاني كخاتم فضة وهو مفقود هنا إذ لا يصح أن يقال الكتاب طهارة.
قوله: (فرض الوضوء غسل وجهه) قدمه على الغسل لأن الحاجة إليه أكثر، ولان محله
23

جزء من محل الغسل أو لتقديمه عليه في القرآن، أو في تعليم جبريل للنبي عليه الصلاة
والسلام. واختلف في الفرض لغة ففي الصحاح: الفرض الحز في الشئ، والفرض جنس
من التمر، والفرض ما أوجبه الله، سمي بذلك لأن له معالم وحدودا اه‍. وفي التلويح:
المشهور أنه حقيقة في القطع والايجاب. وذهب الأصوليون إلى أنه حقيقة في التقدير مجاز في
غيره لأن اللفظ إذا دار بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى. يقال فرض القاضي النفقة إذا
قدرها اه‍. وأما في الاصطلاح ففي التحرير: الفرض ما قطع بلزومه من فرض قطع اه‍.
وهو بمعنى قولهم ما لزم فعله بدليل قطعي. وعرفه في الكافي بما يفوت الجواز بفوته وهو
يشمل كل فرض بخلاف الأول إذ يخرج عنه المقدار في مسح الرأس فإنه فرض مع أنه ثبت
بظني لكنه تعريف بالحكم موجب للدور. وفي العناية: إن المفروض في مسح الرأس قطعي
لأن خبر الواحد إذا لحق بيانا للمجمل كان الحكم بعده مضافا إلى المجمل دون البيان والمجمل
من الكتاب والكتاب دليل قطعي اه‍. وهو ينبني على أن الآية مجملة وسيأتي تضعيفه.
والظاهر من كلامهم في الأصول والفروع أن المفروض على نوعين: قطعي وظني. هو في
قوة القطعي في العمل بحيث يفوت الجواز بفوته فالمقدر في مسح الرأس من قبيل الثاني،
وعند الاطلاق ينصرف إلى الأول لكماله. والفارق بين الظني القوي المثبت للفرض وبين
24

الظني المثبت للواجب اصطلاحا خصوص المقام. وليس إكفار جاحد الفرض لازما له وإنما
هو حكم الفرض القطعي المعلوم من الدين بالضرورة، وذكر في العناية: لا نسلم انتفاء
اللازم في مقدار المسح لأن الجاحد من لا يكون مؤولا وموجب الأقل أو الاستيعاب مؤول
يعتمد شبهة قوية وقوة الشبهة تمنع التكفير من الجانبين، ألا ترى أن أهل البدع لم يكفروا بما
منعوا مما دل عليه الدليل القطعي في نظر أهل السنة لتأويلهم اه‍. وأما غسل المرافق والكعبين
ففرضيته بالاجماع كما سنحققه، وكذا القعدة الأخيرة لا بفعله في الأول وخبر الواحد في
الثاني، ولا بما قيل في الغاية كما قد يتوهم. وذكر في النهاية أنه يجوز أن يكون الفرض في
مقدار المسح بمعنى الواجب لالتقائهما في معنى اللزوم، وتعقب بأنه مخالف لما اتفق عليه
الأصحاب إذ لا واجب في الوضوء، وقد يدفع بأن الذي وقع الاتفاق عليه هو الواجب
الذي لا يفوت الجواز بفوته فلا مخالفة بل يحصل بتركه النقصان، والكلام هنا في الواجب
الذي يفوت الجواز بفوته فلا مخالفة. والفرض بمعنى المفروض والإضافة فيه بيانية إذ الفرض
قد يكون من غيره، والوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة والحسن وقد وضوء يوضؤ
وضاءة فهو وضئ. كذا في طلبة الطلبة. وفي المغرب: إنه بالضم المصدر وبالفتح الماء الذي
يتوضأ به اه‍. وفي الاصطلاح الشرعي: غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس. والغسل
بفتح الغين إزالة الوسخ عن الشئ ونحوه بإجراء الماء عليه لغة، وبالضم اسم من الاغتسال
وهو تمام غسل الجسد واسم للماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي
وغيره. واختلف في معناه الشرعي فقال أبو حنيفة ومحمد: هو الإسالة مع التقاطر ولو قطرة
حتى لو لم يسل الماء بأن استعمله استعمال الدهن لم يجز في ظاهر الرواية، وكذا لو توضأ
25

بالثلج ولم يقطر منه شئ لم يجز. وعن خلف بن أيوب أنه قال: ينبغي للمتوضئ في الشتاء
أن يبل أعضاءه بالماء شبه الدهن ثم يسيل الماء عليها لأن الماء يتجافى عن الأعضاء في الشتاء.
كذا في البدائع. وعن أبي يوسف: هو مجرد بل المحل بالماء سال أو لم يسل، ثم على القولين
الدلك ليس من مفهومه وإنما هو مندوب. وذكر في الخلاصة أنه سنة وحده إمرار اليد على
الأعضاء المغسولة. والضمير في وجهه عائد إلى المتوضئ المستفاد من الوضوء.
قوله: (وهو من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الاذن) أي الوجه
وقصاص الشعر مقطعه ومنتهى منبته من مقدم الرأس أو حواليه، وهو مثلث القاف والضم
أعلاها. وفي الصحاح: ذقن الانسان مجتمع لحييه اه‍. واللحي منبت اللحية من الانسان
وغيره والنسبة إليه لحوي وهما لحيان وثلاثة ألح على أفعل إلا أنهم كسروا الحاء لتسلم الياء
والكثير لحى على فعول. وفي المغرب: اللحى العظم الذي عليه الأسنان اه‍. وهذا الحد
للوجه مروي في غير رواية الأصول ولم يذكر حده في ظاهر الرواية. قال في البدائع: وهذا
تحديد صحيح لأنه تحديد الشئ بما ينبئ عنه اللفظ لغة لأن الوجه اسم لما يواجه به الانسان
أو ما يواجه إليه في العادة والمواجهة تقع بهذا المحدود فوجب غسله قبل نبات الشعر، فإذا
نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء كثيفا كان الشعر أو خفيفا لأن ما تحته خرج
أن يكون وجها لأنه لا يواجه إليه، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين
والشارب اه‍. والمراد بالخفيفة التي لا ترى بشرتها، أما التي ترى بشرتها فإنه يجب إيصال الماء
26

إلى ما تحتها. كذا في فتح القدير. وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال أنه يجب إيصال الماء إلى
ما تحت شعر الشارب على ما إذا كان بحيث يبدو منابت الشعر، وقد جعله في التجنيس من
الآداب، وصرح الوالوالجي في باب الكراهية على أن المفتى به أنه لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته
كالحاجبين. وأما الشفة فقيل تبع للفم. وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه فهو تبع له وما
ظهر فللوجه وصححه في الخلاصة. وذكر في المجتبى: لا تغسل العين بالماء ولا بأس بغسل
الوجه مغمضا عينيه. وقال الفقيه أحمد بن إبراهيم: إن غمض عينيه شديدا لا يجوز ولو رمدت
عينه فرمصت يجب إيصال الماء تحت الرمص إن بقي خارجا بتغميض العين وإلا فلا. وفي
المغرب: الرمص ما جمد من الوسخ في الموق والموق مؤخر العين والماق مقدمها اه‍. وفي
المجتبى: ولا يدخل في حد الوجه النزعتان وهو ما انحسر من الشعر من جانبي الجبهة إلى
الرأس لأنه من الرأس اه‍. والنزعة بالفتح وأفاد المصنف أن البياض الذي بين العذار والاذن من
الوجه فيجب غسله وهو ظاهر المذهب كما ذكره الحلواني وهو الصحيح وعليه أكثر مشايخنا كما
ذكره الطحاوي وهو الصحيح من المذهب كما ذكره السرخسي. وعن أبي يوسف عدمه كذا في
البدائع، وظاهره أن مذهبه بخلافه. وفي تبيين الحقائق أن قوله من قصاص الشعر خرج مخرج
الغالب وإلا فحد الوجه في الطول من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، كان عليه شعر أو
لم يكن اه‍. لأنه يرد عليه الأغم والأصلع لأن الأغم الذي على جبهته شعر لا يكفي غسله من
قصاص شعره، والأصلع الذي انحسر شعره إلى وسط رأسه لا يجب عليه أن يغسله من قصاص
شعره على الأصح كما في الخلاصة. وصرح في المجتبى بالخلاف فيه فقيل إن قل فمن الوجه،
وإن كثر فمن الرأس، والصحيح أنه من الرأس حتى جاز المسح عليه، وفي المغرب: عذار
اللحية جانباها وشحمة الاذن مالان منها.
قوله: (ويديه بمرفقيه) أي مع مرفقيه فالباء للمصاحبة بمعنى مع نحو اهبط بسلام
أي معه. والفرق بين استعمالها بمعنى مع وبين مع أن مع لابتداء المصاحبة والباء
لاستدامتها. كذا ذكره ابن الملك في بحث القياس. والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وفيه العكس
اسم لملتقي العظمين، عظم العضد وعظم الذراع. وأشار المصنف إلى أن إلى في الآية بمعنى
مع وهو مردود لأنهم قالوا: إن اليد من رؤوس الأصابع للمنكب، فإذا كانت إلى بمعنى
27

مع وجب الغسل إلى المنكب لأنه كاغسل القميص وكمه، وغايته أنه كإفراد فرد من العام إذ
هو تنصيص على بعض متعلق الحكم بتعليق عين ذلك الحكم وذلك لا يخرج غيره ولو أخرج
كان بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة، وما في المحيط من أنه لما كان المرفق ملتقى العظمين ولا
يمكن التمييز بينهما فلما وجب غسل الذراع ولا يمكن تحديده وجب غسل المرفق احتياطا
مردود، لأنه لم يتعلق الامر بغسل الذراع ليجب غسل ما لازمه وإنما تعلق الامر بغسل اليد إلى
المرفق وما بعد إلى لما لم يدخل لم يدخل جزاهما الملتقيان. وما في البدائع من أنه لما احتمل
الدخول واحتمل الخروج صار مجملا وفعله عليه السلام بيان للمجمل، مردود بأن عدم دلالة
اللفظ لا يوجب الاجمال والأصل براءة الذمة، وإنما يوجب الدلالة المشتبهة فبقي مجرد فعله
دليل السنة. وما في غاية البيان من أنها قد تدخل وقد لا تدخل فتدخل احتياطا مردود، لأن
الحكم إذا توقف على الدليل لا يجب مع عدمه والاحتياط العمل بأقوى الدليلين وهو فرع تجاذ
بهما وهو منتف. وما في الهداية وغيرها من أنه غاية لمقدر وتقديره اغسلوا أيديكم مسقطين إلى
المرافق مردود، لأن الظاهر تعلقه باغسلوا وتعلقه بمقدر خلاف الظاهر بلا ملجئ مع أن
المقصود منه الاسقاط وهو لا يوجبه عما فوق المرفق بل عما قبله باللفظ، إذ يحتمل أسقطوا من
المنكب إلى المرفق أو من رؤوس الأصابع إلى المرفق فلم يتعين الأول كما لا يخفى. وفرقهم بين
غاية الاسقاط وبين غاية المد بأن صدر الكلام إن كان متناولا لما بعد إلى فهي للاسقاط
كمسئلتنا، وإلا فهي للمد نحو * (أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة: 187) ليس بمطرد لانتقاضه
28

بالغاية في اليمين، فإن ظاهر الرواية عدم الدخول كما إذا حلف لا يكلمه إلى عشرة أيام لا
يدخل العاشر مع تناول الصدر له كما في جامع الفصولين، وكذلك رأس السمكة في قوله
والله لا آكل السمكة إلى رأسها فإنها لا تدخل مع التناول المذكور. وما ذكره المحققون -
ومنهم الزمخشري والتفتازاني - من أن إلى تفيد معنى الغاية مطلقا فأما دخولها في الحكم
وخروجها عنه فأمر يدور مع الدليل، فما فيه دليل الخروج قوله تعالى * (فنظرة إلى
ميسرة) * ومما فيه دليل الدخول آية الاسراء للعلم بأنه لا يسرى به إلى المسجد
الأقصى من غير أن يدخله، وما نحن فيه لا دليل فيه على أحد الامرين فقالوا بدخولهما احتياطا
إذ لم يرو عنه قط صلى الله عليه وسلم ترك غسلهما فلا يفيد الافتراض لأن الفعل لا يفيده وتقدم منع الاحتياط.
والحق أن شيئا مما ذكروه لا يدل على الافتراض فالأولى الاستدلال بالاجماع على فرضيتهما. قال
الإمام الشافعي رضي الله عنه في الام: لا نعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء.
وهذا منه حكاية للاجماع. قال في فتح الباري بعد نقله عنه: فعلى هذا فزفر محجوج بالاجماع
قبله، وكذا من قال ذلك من أهل الظاهر بعده، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى
عنه أشهب كلاما محتملا. وحكم الكعبين كالمرفقين. وإذا كان في أظفاره درن أو طين أو عجين
أو المرأة تضع الحناء جاز في القروي والمدني وهو صحيح وعليه الفتوى. ولو لصق بأصل ظفره
طين يابس وبقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز، وإذا كان في أصبعه خاتم إن كان
ضيقا فالمختار أنه يجب نزعه أو تحريكه بحيث يصل الماء إلى ما تحته. ولو قطعت يده أو رجله
فلم يبق من المرفق والكعب شئ سقط الغسل ولو بقي وجب، ولو طالت أظفاره حتى
خرجت عن رؤوس الأصابع وجب غسلها بلا خلاف. ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة
هي الأصلية يجب غسلها والأخرى زائدة، فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله، وما لا
29

فلا يجب بل يندب غسله، وكذا يجب غسل ما كان مركبا على اليد من الإصبع
الزائدة والكف الزائدة والسلعة، وكذا يجب إيصال الماء إلى ما بين الأصابع إذا لم تكن ملتحمة.
قوله: (ورجليه بكعبيه) أي مع كعبيه كما تقدم. والكعبان هما العظمان الناشزان من
جانبي القدم أي المرتفعان. كذا في المغرب وصححه في الهداية وغيرها. وروى هشام عن
محمد أنه في ظهر القدم عند معقد الشراك قالوا: هو سهو من هشام لأن محمدا إنما قال ذلك
في المحرم إذا لم يجد النعلين حيث يقطع خفيه أسفل من الكعبين وأشار محمد بيده إلى موضع
القطع فنقله هشام إلى الطهارة. ويرد على هشام من جهة المعنى أيضا بأن ما يوجد من خلق
الانسان فإن تثنيته بعبارة الجمع كقوله تعالى * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) أي قلبا
كما، وما كان اثنين من خلقه فتثنيته بلفظها، ولو كان كما زعمه هشام لقيل الكعاب
كالمرافق. كذا في المبسوط وغيره. وقد يقال أنه غير متعين لجواز أن يعتبر الكعبان بالنسبة إلى
ما للمرء من جنس الرجل وهو اثنان لا بالنظر إلى كل رجل وحدها، فالأولى الرد عليه من
اللغة والسنة، أما اللغة فقد صرح في الصحاح بأنه العظم الناشز كما ذكرناه قال: وأنكر
الأصمعي قول الناس أنه في ظهر القدم اه‍. قالوا: الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو
ومنه سميت الكعبة لارتفاعها. وأما السنة فما رواه أبو داود مرفوعا والله لتقيمن صفوفكم
أو ليخالفن الله بين قلوبكم. قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة
صاحبه وكعبه بكعبه. وما وقع في الشروح من أنه كان ينبغي غسل يد واحدة ورجل واحدة
لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد، والجواب بأن وجوب واحدة
بالعبارة والأخرى بالدلالة طائل تحته بعد انعقاد الاجماع القطعي على افتراضهما بحيث صار
معلوما من الدين بالضرورة، ومن البحث في إلى وفي القراءتين في الأرجل فإن الاجماع
انعقد على غسلهما، ولا اعتبار بخلاف الروافض فلذا تركنا ما قرروه هنا، والزائد على
الرجلين كالزائد على اليدين كما صرح به في المجتبى، ولو قال ورجليه بكعبيه أو مسح على
خفيه لكان أولى.
قوله: (ومسح ربع رأسه) هو في اللغة إمرار اليد على الشئ، واصطلاحا إصابة اليد
المبتلة العضو ولو ببلل باق بعد غسل لا بعد مسح. والآلة لم تقصد إلا للايصال إلى المحل فإذا
30

أصابه من المطر قدر الفرض أجزأه، ولو مسح ببلل في يده أخذه من عضو آخر لم يجز
مطلقا. وفي مقدار الفرض روايات أصحها رواية ودراية ما في المختصر، أما الأول فلاتفاق
المتون عليها ولنقل المتقدمين لها كأبي الحسن الكرخي وأبي جعفر الطحاوي ورواية الناصية
غيرها لأن الناصية أقل من ربع الرأس. وأما الدراية فاختلف في توجيهها، ففي الهداية أن
الكتاب مجمل وأن حديث المغيرة من مسحه عليه السلام بناصيته التحق بيانا له وهو مردود
بأوجه: الوجه الأول أنه لا إجمال فيها لأنه إن لم يكن في مثله عرف يصحح إرادة البعض أفاد
مسح مسماه وهو الكل أو كان أفاد بعضا مطلقا ويحصل في ضمن الاستيعاب وغيره فلا
إجمال. كذا في التحرير. وما في البدائع من تقرير الاجمال بأنها احتملت الباء للصلة
والالصاق والتبعيض ولا دليل على تعيين بعضها، مدفوع بأن معناها عند المحققين الالصاق
لأنه المعنى المجمع عليه بخلاف غيره فإنه لم يثبته المحققون، فإن التبعيض ليس معنى أصليا
بل يحصل في ضمن الالصاق. كذا في فتح القدير. وقال في التحرير: واعلم أن طائفة من
المتأخرين ادعوا التبعيض في نحو شربن بماء البحر وابن جني يقول في سر الصناعة: لا
نعرفه لأصحابنا. والحاصل أنه ضعيف للخلاف القوي ولان الالصاق المجمع عليه لها ممكن
فيثبت التبعيض اتفاقيا لعدم استيعاب الملصق لا مدلولا اه‍. الثاني أن الباء المتنازع فيها
موجودة في حديث المغيرة فهي مجملة على ما ادعوه، فكيف تبين المجمل فيعود النزاع في
الحديث أيضا. الثالث إن جعل حديث المغيرة مبينا للآية موقوف على إثبات أن هذا الوضوء
أول وضوئه عليه السلام بعد نزول الآية لأنه لو لم يكن كذلك لزم تأخير البيان عن وقت
31

الحاجة وهو غير جائز اتفاقا ولم يثبت ذلك، وإذ لو ثبت لنقل، ولئن كان كذلك فلا ينتفي
التأخير بالنسبة إلى الذين لم يحضروا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الظاهر أن جميع المسلمين لم
يكونوا حضورا في تلك السباطة وإلا لنقل لأنها حادثة تعم بها البلوى فعلم به أنه لا إجمال
في الآية. الرابع أن الناصية ليست قدر الربع بدليل أن صاحب البدائع وغيره نقلوا عن أبي
حنيفة روايتين في رواية المفروض مقدار الناصية وفي رواية الربع وذكر الأسبيجاني رواية
مقدار الناصية ثم قال: هذا إذا كانت الناصية تبلغ ربع الرأس، وإذا كانت الناصية لا تبلغ
الربع لا يجوز، فدل على تغايرهما. وفي ضياء الحلوم: الناصية مقدم الرأس. وفي شرح
الارشاد: الناصية ما بين النزعتين من الشعر وهي دون الربع. واختار المحققون كصدر
الشريعة وابن الساعاتي في البديع وابن الهمام أن الباء للالصاق والفعل الذي هو المسح قد
تعدى إلى الآلة وهي اليد لأن الباء إذا دخلت في الآلة تعدى الفعل إلى كل الممسوح كمسحت
رأس اليتيم بيدي، أو على المحل تعدى الفعل إلى الآلة، والتقدير وامسحوا أيديكم برؤوسكم
فيقتضي استيعاب اليد دون الرأس واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبا سوى ربعه
فتعين مرادا من الآية وهو المطلوب، والاستيعاب في التيمم لم يكن بالآية بل بالسنة كما
صرح به في البدائع وغيره. وأما رواية ثلاث أصابع بقدر ذكر في البدائع أنها رواية
الأصول، وفي غاية البيان أنها ظاهر الرواية، وفي معراج الدراية أنها ظاهر المذهب واختيار
عامة المحققين من أصحابنا وصححها في شرح القدوري. وقال في الظهيرية: وعليها
الفتوى، ووجهوها بأن الواجب الصاق اليد والأصابع أصلها والثلاث أكثرها وللأكثر حكم
الكل ومع ذلك فهي غير المنصور رواية ودراية، أما الأول فلنقل المتقدمين رواية الربع كما
ذكرناه، وأما الثاني فلان المقدمة الأخيرة في حيز المنع لأنه من قبيل للقدر الشرعي بواسطة
تعدى الفعل إلى تمام اليد فإنه به يتقدر قدرها من الرأس وفيه يعتبر عين قدر. كذا في فتح
القدير وعزاها في النهاية إلى محمد وعزا رواية الربع إليهما وهو الحق. ولو وضع ثلاث
أصابع ولم يمدها جاز على رواية الثلاث الربع، ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة
32

لم يجز. وينبغي أن يكون اتفاقا ولو مدها حتى بلغ القدر المفروض لم يجز عند أصحابنا خلافا
لزفر، وكذا بأصبع أو إصبعين. ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات وأعادها إلى الماء في كل
مرة جاز في رواية محمد، أما عندهما فلا يجوز. ولو مسح بأطراف أصابعه والماء متقاطر جاز
وإن لم يكن متقاطرا لا يجوز لأن الماء إذا كان متقاطرا فالماء ينزل من أصابعه إلى أطرافها، فإذا
مده صار كأنه أخذ ماء جديدا كذا في المحيط. وذكر في الخلاصة: ولو مسح بأطراف
أصابعه يجوز، سواء كان الماء متقاطرا أو لا وهو الصحيح. وفي البدائع: ولو مسح بأصبع
واحدة بطنها وبظهرها وبجانبها لم يذكر في ظاهر الرواية واختلف المشايخ، قال بعضهم: لا
يجوز. وقال بعضهم: يجوز وهو الصحيح لأن ذلك في معنى المسح بثلاث أصابع اه‍. ولا
يخفى أنه لا يجوز على المذهب من اعتبار الربع، وأما ما في شرح المجمع لابن الملك من أنه لا
يجوز اتفاقا في الأصح ففيه نظر، نعم صرح بالتصحيح من غير ذكر الاتفاق شمس الأئمة
السرخسي ثم صاحب الخلاصة ومنية المفتي. ولو أدخل رأسه الاناء أو خفه أو جبيرته وهو
محدث قال أبو يوسف: يجزئه ولا يصير الماء مستعملا، سواء نوى أو لم ينو. وقال
محمد: إن لم ينو يجزئه ولا يصير مستعملا. وإن نوى المسح اختلف المشايخ على قوله، قال
بعضهم لا يجزئه ويصير الماء مستعملا، والصحيح أنه يجوز ولا يصير الماء مستعملا. كذا في
البدائع. فعلم بهذا أن ما في المجمع من الخلاف في هذه المسألة على غير الصحيح بل
الصحيح أن لا خلاف، وعلم أيضا أنه لا فرق بين الرأس والخف والجبيرة خلافا لما ذكره ابن
الملك. ومحل المسح على الشعر الذي فوق الاذنين لا ما تحتهما كذا في الخلاصة، والمسح على
شعر الرأس ليس بدلا عن المسح على البشرة لأنه يجوز مع القدرة على المسح على البشرة ولو
كان بدلا لم يجز اه‍.
قوله: (ولحيته) بالجر عطف على رأسه يعني وربع لحيته. وإنما عيناه لما صرح به
33

المصنف في الكافي وإن جاز فيه وجه آخر وهو العطف على الربع ليفيد مسح الجميع. وهنا
روايات في المفروض في اللحية مع الاتفاق على عدم جوب وإيصال الماء إلى ما تحت اللحية
من بشرة الوجه: فروي مسح ربعها واختاره المصنف وعبر عنه في الكافي بقوله ولنا وروي
مسح كلها، وروي مسح ما يلاقي البشرة وصححه قاضي خان في شرح الجامع الصغير
وتبعه في المجمع، وروي مسح الثلث، وروي عدم وجوب شئ، والصحيح وجوب غسلها
بمعنى افتراضه كما صرح به في السراج الوهاج وعليه الفتوى كما في الظهيرية. وفي البدائع
أن ما عدا هذه الرواية مرجوع عنه، والعجب من أصحاب المتون في ذكر المرجوع عنه وترك
المرجوع إليه المصحح المفتى به مع دخولها في حد الوجه المتقدم كما ذكره في فتح القدير.
وهذا كله في الكثة، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها، وهذا كله
في غير المسترسل، وأما المسترسل فلا يجب غسله ولا مسحه لكن ذكر في منية المصلي أنه
سنة. ولو أمر الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب عليه غسل الذقن كالرأس. وظاهر
كلامهم أن المراد باللحية الشعر النابت على الخدين من عذار وعارض والذقن. وفي شرح
الارشاد: اللحية الشعر النابت بمجتمع اللحيين، والعارض ما بينهما وبين العذار وهو القدر
المحاذي للاذن يتصل من الأعلى بالصدغ ومن الأسفل بالعارض. ولما فرغ المصنف من
فرائض الوضوء شرع في بيان سننه إشارة إلى أن الوضوء لا واجب فيه لما أن ثبوت الحكم
بقدر دليله والدليل المثبت له هو ما كان ظني الثبوت قطعي الدلالة وما كان بمنزلته كأخبار
الآحاد التي مفهومها قطعي الدلالة ولم يوجد في الوضوء، ولا ينافيه ما في الخلاصة من أن
الوضوء ثلاثة أنواع: فرض وهو الوضوء لصلاة الفريضة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة،
وواجب وهو الوضوء للطواف بالبيت، ومندوب وهو الوضوء للنوم وعن الغيبة والكذب
34

وإنشاد الشعر ومن القهقهة والوضوء على الوضوء لغسل الميت اه‍. لأن هذا حكم على نفس
الوضوء بأنه واجب لا أن فيه واجبا. وظاهر تقييده بصلاة الفريضة أن الوضوء للنافلة ليس
بفرض وإن كان شرطا، والظاهر أنه فرض عند إرادتها الجازمة كما سبق تقريره في بيان
السبب، ومراده من الوضوء للنوم الوضوء عند إرادة النوم فإنه مستحب، وأما الوضوء من
النوم الناقض ففرض.
قوله: (وسنته) أي الوضوء. هي لغة الطريقة المعتادة ولو سيئة، واصطلاحا الطريقة
المسلوكة في الدين. كذا في العناية وفيه نظر لشموله الفرض والواجب فزاد في الكشف من
غير افتراض ولا وجوب وفيه نظر لشموله المستحب والمندوب، فالأولى أن يقال: هي
الطريقة المسلوكة في الدين من غير لزوم على سبيل المواظبة ليخرج غير المحدود. وما في غاية
35

البيان من أنها ما في فعله ثواب وفي تركه عتاب لا عقاب فهو تعريف بالحكم، وما في شرح
النقاية من أنها ما ثبت بقوله أو فعله وليس بواجب ولا مستحب ففيه نظر لشموله المباح، وما
في فتح القدير وغيره من أنها ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه مع الترك أحيانا فمنتقض بالفرض فإن
القيام في الصلاة مثلا حصلت المواظبة عليه مع الترك أحيانا لعذر المرض، فلذا زاد في
التحرير أن يكون الترك أحيانا بلا عذر ليلزم كونه بلا وجوب، وظاهره أن المواظبة بلا ترك
أصلا لا تفيد السنية بل الوجوب، وظاهر الهداية يخالفه فإنه في الاستدلال على سنية
المضمضة والاستنشاق. قال. لأنه عليه السلام فعلهما على المواظبة، وكذا استدلالهم على
سنية الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان بأنه عليه السلام واظب على الاعتكاف في
العشر الأخير من رمضان حتى توفاه الله تعالى كما في الصحيحين، يفيد أنها تفيد السنية
مطلقا، ولذا قال في فتح القدير: فهذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم
الانكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية وإلا كانت تكون دليل الوجوب
انتهى. والذي ظهر للعبد الضعيف أن السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم لكن إن كانت لا مع الترك.
فهي دليل السنة المؤكدة، وإن كانت مع الترك أحيانا فهي دليل غير المؤكدة، وإن اقترنت
بالانكار على من لم يفعله فهي دليل الوجوب فافهم هذا فإن به يحصل التوفيق. وفي بعض
النسخ وسننه بالجمع ونكته جمعها وأفراد الفرض الإشارة إلى أن الفروض وإن كثرت في
حكم شئ واحد بدليل فساد البعض بترك البعض بخلاف السنن إذ لا يبطل بعضها بترك
بعضها. والإضافة هنا بمعنى اللام كما لا يخفى، وجعلها المصنف في المستصفى من إضافة
الشئ إلى محله لأن الطهارة محل لهذه السنن، وفي النهاية أنها بمعنى من وفيه ما تقدم في
كتاب الطهارة.
قوله: (غسل يديه إلى رسغيه ابتداء) يعني غسل اليد ين ثلاثا إلى رسغيه في ابتداء
الوضوء سنة. والرسغ منتهى الكف عند المفصل. وفي ضياء الحلوم: الرسغ بالغين المعجمة
موصل الكف في الذراع والقدم في الساق. اعلم أن في غسل اليدين ابتداء ثلاثة أقوال:
قيل إنه فرض وتقديمه سنة واختاره في فتح القدير والمعراج والخبازية وإليه يشير قول محمد
في الأصل بعد غسل الوجه ثم يغسل ذراعيه ولم يقل يديه فلا يجب غسلهما ثانيا. وقيل إنه
36

سنة تنوب عن الفرض كالفاتحة فإنها واجبة تنوب عن الفرض واختاره في الكافي. وقال
السرخسي: إنه سنة لا ينوب عن الفرض فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما قال: وهو الأصح
عندي. واستشكله في الذخيرة بأن المقصود هو التطهير فبأي طريق حصل حصل المقصود،
وظاهر كلام المشايخ أن المذهب الأول. واختلف في أن غسلهما قبل الاستنجاء أو بعده،
فقيل سنة قبله فقط، وقيل بعده فقط، وقيل قبله وبعده وإليه ذهب الأكثر كما صرح به في
المجتبى، وصححه قاضي خان في الفتاوى وفي النهاية. ويستدل له بأن جميع من حكى
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم غسل اليدين، وأما سنيته قبله فيما رواه الجماعة من حديث ميمونة
في صفة غسله وفيه أنها حكت غسل اليدين قبل الاستنجاء وحكمته قبله المبالغة في إزالة
رائحة ما يصيبهما وأورد أن المصاب اليد اليسرى فينبغي الاقتصار عليها وتخصيصه بما إذا
تغوط. وأجيب بما في الأصول من أن الحكمة تراعى في الجنس ولا يلزم وجودها في كل
فرد. ثم أعلم أن الابتداء بغسل اليدين واجب إذا كانت النجاسة محققة فيهما وسنة عند ابتداء
الوضوء كما ذكرنا، وسنة مؤكدة عند توهم النجاسة كما استيقظ من النوم، فعلم بهذا أن قيد
الاستيقاظ الواقع في الهداية وغيرها اتفاقي لأن من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كحمران
مولى عثمان بن عفان وغيره قدم فيه البداءة بغسل اليدين من غير تقييد بكونه عن نوم،
وعلل له في الهداية بأن اليدين آلة التطهير فيبدأ بتنظيفهما وأورد عليه بأن هذا يقتضي
الوجوب، لأنه ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب. وأجيب بأن هنا مانعا من القول
بالوجوب وهو طهارتهما حقيقة وحكما فكأن الغسل إلى الرسغين لأنه يكفي في حصول
المقصود وهو تنظيف الآلة. وعلم بما قررناه أيضا أن ما في شرح المجمع من أن السنة في
غسل اليدين للمستيقظ مقيدة بأن يكون نام غير مستنج أو كان على بدنه نجاسة حتى لو لم
يكن كذلك لا يسن في حقه ضعيف، أو المراد نفي السنة المؤكدة لا أصلها. وكيفية غسلهما
كما ذكر في الشروح أنه إن كان الاناء صغيرا بحيث يمكن رفعه لا يدخل يده فيه بل يرفعه
37

بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثا، ثم يأخذ الاناء بيمينه ويصبه على كفه اليسرى
ويغسلها ثلاثا. وإن كان الاناء كبيرا لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما
ذكرنا، وإن لم يكن يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الاناء ويصب على كفه اليمنى ثم
يدخل اليمنى في الاناء ويغسل اليسرى. وعلله في المحيط بأن الجمع بين اليدين في كل مرة
غير مسنون، وتعقبه العلامة الحلبي بأن الجمع سنة كما تفيده الأحاديث. والظاهر أن تقديم
اليمنى على اليسرى لأجل التيامن لا لما في المحيط كما لا يخفى. قالوا ولا يدخل الكف حتى
لو أدخله صار الماء مستعملا كما صرح به في المبتغى. ومعناه صار الماء الملاقي للكف
مستعملا إذا انفصل لا جميع ماء الاناء كما سنحققه في بحث المستعمل. وقالوا: يكره إدخال
اليد في الاناء قبل الغسل للحديث وهي كراهة تنزيه، لأن النهي فيه مصروف عن التحريم
بقوله فإنه لا يدري أين باتت يده فالنهي محمول على الاناء الصغير أو الكبير إذا كان معه
إناء صغير، فلا يدخل اليد فيه أصلا، وفي الكبير على إدخال الكف. كذا في المستصفى
وغيره مع أن المنقول في الخانية أن المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الاناء للاغتراف وليس
عليها نجاسة لا يفسد الماء، وكذا إذا وقع الكوز في الجب فأدخل يده إلى المرفق لا يصير الماء
مستعملا. وفي شرح الأقطع: يكره الوضوء بالماء الذي أدخل المستيقظ يده فيه لاحتمال
النجاسة كما يكره الوضوء بالماء الذي أدخل الصبي يده فيه. وفي المضمرات: إذا لم يكن معه
ما يغترف به ويداه نجستان فإنه يأمر غيره أن يغترف بيديه ليصب على يديه ليغسلهما، وإن لم
يجد يرسل في الماء منديلا ويأخذ طرفه بيده ثم يخرج من البئر فيغسل اليد بقطراته ثم يغسل
اليد الأخرى، أو يأخذ الثوب بأسنانه فيغسل يديه بالماء الذي يتقاطر ثلاثا، فإن لم يجد يرفع
الماء بفمه فيغسل يديه فإن لم يقدر فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه اه‍. وفي مسألة رفع الماء
بفيه اختلاف، والصحيح أنه يصير مستعملا وهو مزيل للخبث.
38

قوله: (كالتسمية) أي كما أن التسمية سنة في الابتداء مطلقا كذلك غسل اليدين سنة
في الابتداء مطلقا أعني سواء كان الوضوء عن نوم أو غيره ولفظها المنقول عن السلف كما
في النهاية أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الخبازية بسم الله العظيم والحمد لله على دين
الاسلام. وعن الوبري يتعوذ ثم يبسمل. وذكر الزاهدي أنه إن جمع بين ما تقدم والبسملة
فحسن. وفي المحيط: السنة مطلق الذكر كالحمد لله أو لا إله إلا الله. وما ذكره المصنف من
أنها سنة مختار القدوري. وفي الهداية: الأصح أنها مستحبة. قيل وهو ظاهر الرواية. ويسمي
قبل الاستنجاء وبعده هو الصحيح إلا مع الانكشاف وفي موضع النجاسة كذا في الخانية.
وقد استدل لوجوب التسمية بحديث أبي داود لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه وهو
وإن ضعف ارتقى إلى الحسن بكثرة طرقه. وأجاب عنه الطحاوي في شرح الآثار بمعارضته
لما في الصحيحين أنه عليه السلام لم يرد السلام حين سلم عليه رجل حتى أقبل على الجدار
فتيمم ثم رد السلام، وما رواه أبو داود وغيره من حديث المهاجرين قنفد لما سلم على النبي
عليه السلام وهو يتوضأ فلم يرد عليه، فلما فرغ قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني
كنت على غير وضوء. فهذه تفيد عدم ذكره عليه السلام اسمه تعالى على غير طهارة،
ومقتضاه انتفاؤه في أول الوضوء فيحمل الأول على نفي الفضيلة جمعا بين الأحاديث وتعقبه
في معراج الدراية وشرح المجمع بأنه يلزم منه أن لا تكون التسمية أفضل في ابتداء الوضوء،
وأن يكون وضوءه عليه السلام خاليا عن التسمية. ولا يجوز نسبة ترك الأفضل له عليه
السلام وقد يدفع بأنه يجوز ترك الأفضل له تعليما للجواز كوضوئه مرة مرة تعليما لجوازه
وهو واجب عليه وهو أعلى من المستحب، لكن يمكن الجمع بين الأحاديث بأن التسمية من
لوازم إكماله فكان ذكرها من تمامه والذاكر لها قبل الوضوء مضطر إلى ذكرها لإقامة هذه
السنة المكملة للفرض فخصت من عموم الذكر، ومطلق الذكر ليس من ضروريات الوضوء.
والمستحب أن لا يطلق اللسان به إلا على طهارة، ويدخل في التخصيص الأذكار المنقولة على
39

أعضاء الوضوء لكونها من مكملاته. كذا في معراج الدراية وهو مبني على أن المراد به نفي
الفضيلة وهو ظاهر في نفي الجواز لكنه خبر واحد لا يزاد به على الكتاب فمقتضاه الوجوب
إلا لصارف، فذكر بعضهم أن الصارف قوله عليه السلام من توضأ وسمى الله تعالى كان
طهورا لجميع أعضائه، ومن توضأ ولم يسم الله كان طهورا لأعضاء وضوئه فإنه يقتضي
وجود الوضوء بلا تسمية وهو مردود من ثلاثة أوجه: الأول ضعف الحديث كما بينه في فتح
القدير. الثاني أن ترك الواجب لا ينفي الوجود وإنما يوجب النقصان فقط. الثالث أنه
يقتضي تجزي الطهارة وهي غير متجزئة عندنا. كذا في المعراج، ورده الأكمل في تقريره بأن
من توضأ وغسل بعض أعضاء وضوئه كانت الطهارة مقتصرة على ما غسل، نعم بدن
الانسان باعتبار ما يخرج منه غير متجز. وقيل الصارف عدم حكاية عثمان وعلي لها لما حكيا
وضوءه عليه السلام، ورده في فتح القدير بأن عدم النقل لا ينفي الوجود فكيف بعد الثبوت
بوجه آخر؟ ألا ترى أنهما لم ينقلا التخليل والسواك؟ ولا شك أنهما سنتان. وذكر في
المبسوط أن الصارف هو عدم تعليمها للاعرابي لما علمه الوضوء، ورده في فتح القدير بأن
حديث الاعرابي وإن حسنه الترمذي ضعفه ابن القطان قال: فأدى النظر إلى وجوبها غير أن
صحة الوضوء لا تتوقف عليها لأن الركن إنما يثبت بالقاطع ولا يلزم الزيادة على الكتاب
بخبر الواحد إلا لو قلنا بالافتراض. وقد أجاب عن قولهم لا واجب في الوضوء لما حاصله
أن هذا الحديث لما كان ظني الثبوت قطعي الدلالة ولم يصرفه صارف أفاد الوجوب ولا مانع
منه، وقول من قال إنه ظني الدلالة ممنوع بأنه إن أريد بظنيها مشتركها فما نحن فيه ليس منه
فإن الظاهر أن النفي متسلط على الوضوء والحكم الذي هو الصحة ونفي الكمال احتمال،
وإن أريد بظنيها ما فيه احتمال ولو مرجوحا فلا نسلم أنه لا يثبت به الوجوب لأن الظن
واجب الاتباع وإن كان فيه احتمال. ولقائل أن يقول: إن قوله عدم النقل لا ينفي الوجود
إلى آخره لا يتم في الواجب إذ لا يجوز في التعليم ترك شئ من الواجبات، فلو كانت
التسمية واجبة لذكراها للحاجة إلى بيانها بخلاف السنن فكان هذا صارفا سالما عن الرد.
40

ومرادهم من ظني الدلالة مشتركها كما صرح به الأصوليون، ولا شك أنه مشترك شرعي أطلق
تارة وأريد به نفي الحقيقة نحو لا صلاة لحائض إلا بخمار (1) ولا نكاح إلا بشهود، وأطلق
تارة مرادا به نفي الكمال نحو لا صلاة للعبد الآبق ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد
فتعين نفي الحقيقة في الأول بالاجماع، وفي الثاني لأنه مشهور تلقته الأمة بالقبول، فتجوز
الزيادة بمثله على النصوص المطلقة فكانت الشهادة شرطا فعند عدم المرجح لاحد المعنيين كان
الحديث ظنيا وبه تثبت السنة ومنه حديث التسمية، والعجب من الكمال بن الهمام أنه في هذا
الموضع لفي ظنية الدلالة عن حديث التسمية بمعنى مشتركها وأثبتها له في باب شروط الصلاة
بأبلغ وجوه الاثبات بأن قال: ولا شك في ذلك لأن احتمال نفي الكمال قائم. فالحق ما عليه
علماؤنا من أنها مستحبة، كيف وقد قال الإمام أحمد: لا أعلم فيها حديثا ثابتا والله تعالى أعلم.
ولو نسي التسمية في ابتداء الوضوء ثم ذكرها في خلاله فسمى لا تحصل السنة بخلاف نحوه
في الاكل. كذا في التبيين معللا بأن الوضوء عمل واحد بخلاف الاكل فإن كل لقمة فعل مبتدأ
اه‍. ولهذا ذكر في الخانية: لو قال كلما أكلت اللحم فلله علي أن أتصدق بدرهم فعليه بكل
لقمة درهم لأن كل لقمة أكل. لكن قال المحقق ابن الهمام: هو إنما يستلزم في الاكل تحصيل
السنة في الباقي لا استدراك ما فات اه‍. وظاهره مع ما قبله أنه إذا نسي التسمية فإتيانه بها
وعدمه سواء، مع أن ظاهر ما في السراج الوهاج أن الاتيان بها مطلوب ولفظة: فإن نسي
التسمية في أول الطهارة أتى بها إذا ذكرها قبل الفراغ حتى لا يخلو الوضوء منها.
قوله (والسواك) أي استعماله لأنه اسم للخشبة. كذا في الشروح. ولا حاجة إليه لأن
السواك يأتي بمعنى المصدر أيضا كما ذكره ابن فارس في كتابه المسمى بمقياس اللغة، ولهذا
قال في فتح القدير: أي الاستياك. والجمع سوك ككتاب وكتب ويجوز رفعه وجره وهو
41

الأظهر ليفيد أن الابتداء به سنة أيضا. واستدل في الكافي للسنية بأنه عليه السلام واظب
عليه مع الترك، وتعقبه في فتح القدير بأنه لم تعلم المواظبة منه على الوضوء. وأما ما ورد من
أفضلية الصلاة التي بسواك على غيرها فيدل على الاستحباب وهو الحق، ولذا صحح الشارح
وغيره الاستحباب. واختلف في وقته، ففي النهاية وفتح القدير أنه عند المضمضة، وفي
البدائع والمجتبى قبل الوضوء، والأكثر على الأول وهو الأولى لأنه الأكمل في الانقاء. وليس
هو من خصائص الوضوء بل يستحب في مواضع لاصفرار السن وتغير الرائحة والقيام من
النوم والقيام إلى الصلاة وأول ما يدخل البيت وعند اجتماع الناس وعند قراءة القرآن. كذا
في فتح القدير وغيره. لكن قولهم يستحب عند القيام إلى الصلاة ينافي ما نقلوه من أنه عندنا
للوضوء لا للصلاة خلافا للشافعي. وعلله السراج الهندي في شرح الهداية بأنه إذا استاك
للصلاة بما يخرج منه دم وهو نجس بالاجماع وإن لم يكن ناقضا عند الشافعي. وقالوا: فائدة
الخلاف تظهر فيمن صلى بوضوء واحد صلوات يكفيه السواك للوضوء عندنا، وعند الشافعي
يستاك لكل صلاة. وكيفيته أن يستاك أعالي الأسنان وأسافلها والحنك ويبتدئ من الجانب
الأيمن، وأقله ثلاث في الأعالي وثلاث في الأسافل بثلاث مياه. واستحب أن يكون لينا من
غير عقد في غلط الإصبع وطول شبر من الأشجار المرة المعروفة. ويستاك عرضا لا طولا
لأنه يخرج لحم الأسنان. وقال الغزنوي: يستاك طولا وعرضا والأكثر على الأول. ويستحب
إمساكه باليد اليمنى. والسنة في كيفية أخذه أن تجعل الخنصر من يمينك أسفل السواك تحته
42

والبنصر والوسطى والسبابة فوقه واجعل الابهام أسفل رأسه تحته كما وراه ابن مسعود، ولا
يقبض القبضة على السواك فإن ذلك يورث الباسور، ويبدأ بالأسنان العليا من الجانب الأيمن
ثم الأيسر ثم السفلى كذلك، كذا في شرح منية المصلي. وتقوم الإصبع أو الخرقة الخشنة
مقامه عند فقده أو عدم أسنانه في تحصيل الثواب لا عند وجوده. والأفضل أن يبدأ بالسبابة
اليسرى ثم باليمنى، والعلك يقوم مقامه للمرأة لكون المواظبة عليه تضعف أسنانها فيستحب
لها فعله، ومنافعه كثيرة منها أنه يرضي الرب ويسخط الشيطان ومن خشي من السواك القئ
تركه. ويكره أن يستاك مضطجعا فإنه يورث كبر الطحال. كذا في السراج الوهاج.
قوله (وغسل فمه وأنفه) عدل عن المضمضة والاستنشاق المذكورين في أصله الوافي
للاختصار، وما في الشرح من أن الغسل يشعر بالاستيعاب فكان أولى فيه نظر، فإن
المضمضة كذلك فإنها اصطلاحا استيعاب الماء جميع الفم كما في الخلاصة. وفي اللغة
التحريك والاستنشاق لغة من النشق وهو جذب الماء ونحوه بريح الانف إلى داخله،
واصطلاحا إيصال الماء إلى مارن الانف. كذا في الخلاصة. والمارن مالان من الانف.
والمبالغة سنة فيهما أيضا كذا في الوافي لحديث أصحاب السنن الأربعة بالغ في المضمضة
والاستنشاق إلا أن تكون صائما وهي في المضمضة بالغرغرة وفي الاستنشاق بالاستنثار
كذا في الكافي. والاستنثاء دفع الماء ونحوه للخروج من الانف، وقد وافقه في فتح القدير
على الأول. وقال في الثاني: كما في الخلاصة إلى ما اشتد من الانف. وفي الخلاصة: هي
في المضمضة أن يصل إلى رأس الحلق. وقال شمس الأئمة: هي في المضمضة أن يدير الماء
في فيه من جانب إلى جانب، والأولى ما في فتح القدير ذكره بعضهم. ولو تمضمض وابتلع
الماء ولم يمجه أجزأه لأن المج ليس من حقيقتها، والأفضل أن يلقيه لأنه ماء مستعمل. وفي
الظهيرية: وإذا أخذ الماء بكفه فمضمض ببعضه واستنشق بالباقي جاز وبخلاف ذلك لا
يجوز. وفي المجتبى: لو رفع الماء من كف واحدة للمضمضة جاز وللاستنشاق لا يجوز
43

لصيرورة الماء مستعملا، ولا يخفى أن نفي الجواز في المسألتين بمعنى نفي الاجزاء في تحصيل
السنة لا بمعنى الحرمة لما أن أصلهما سنة، أو تحمل على المضمضة والاستنشاق في الغسل
الواجب، وقالوا: المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن منها تقديم المضمضة على
الاستنشاق بالاجماع، ومنها التثليث في حق كل واحد بالاجماع، وأخذ ماء جديد في التثليث
سنة عندنا وعند الشافعي بماء واحد، وأخذ ماء جديد لكل واحد منهما سنة عندنا، وعند
الشافعي لهما ماء واحد، وإزالة المخاط باليد اليسرى. كذا في المعراج. وفي البدائع
والمبسوط: وفعلهما باليمين سنة. وفي المنية أنه يستنشق باليسرى. وفي المعراج: ترك التكرار
لا يكره مع الامكان. قال أستاذنا: يتبين من هذا أن من عنده ماء يكفي للغسل مرة مع
المضمضة والاستنشاق أو ثلاثا بدونهما يغسل مرة معهما. وفي السراج: إنهما سنتان
مؤكدتان، فإن ترك المضمضة والاستنشاق أثم على الصحيح ا ه‍. ولا يخفى أن الاثم منوط
بترك الواجب، ويمكن الجواب مما قالوه من أن السنة المؤكدة في قوة الواجب ودليل سنيتهما
المواظبة كما في الهداية. وفي غاية البيان يعني مع الترك أحيانا وإلا كانتا واجبتين. وقد
علمت مما قدمناه أن المواظبة من غير ترك لا تفيد الوجوب وجميع من حكى وضوءه عليه
السلام اثنان وعشرون صحابيا كلهم ذكروهما فيه كما في فتح القدير. وفي نسخة شرح عليها
مسكين غسل فمه وأنفه بمياه وقال: قوله بمياه متعلق بكل واحد والذي في الوافي غسل
فمه بمياه وأنفه بمياه وهو أولى مما في الكنز ليدل على تجديد الماء في كل منهما، وقد جاء
مصرحا به في حديث الطبراني من قوله فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء
جديدا ورواه أبو داود وسكت فكان حجة. وما ورد مما ظاهره المخالفة فمحمول على الموافقة
كما في فتح القدير. وفي السراج الوهاج: ولو تمضمض ثلاثا من غرفة واحدة لم يصر آتيا
44

بالسنة. وذكر الصيرفي أنه يصير آتيا بالسنة ا ه‍. ولا يخفى أنه يكون آتيا بسنة المضمضة لا
بسنة كونها ثلاثا بمياه فالنفي والاثبات في القولين بالاعتبارين فلا اختلاف.
قوله (وتخليل لحيته وأصابعه) أما تخليل اللحية وهو تفريق الشعر من جهة الأسفل إلى
فوق لغير المحرم فسنة على الأصح، وقيده في السراج الوهاج بأن يكون بماء متقاطر في
تخليل الأصابع ولم يقيده في تخليل اللحية. وهل هو قول أبي يوسف وحده أو معه محمد؟
قولان ذكرهما في المعراج وصحح في خير مطلوب أن محمدا مع أبي يوسف. وعند أبي حنيفة
مستحب لعدم ثبوت المواظبة ولان السنة إكمال الفرض في محله وداخل اللحية ليس بمحل
الفرض لعدم وجوب إيصال الماء إلى الشعر. وجه الأصح ما رواه أبو داود عن أنس: كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذ توضأ أخذ كفا من ماء تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: بهذا أمرني ربي وسكت
عنه. وكذا المنذري بعده وهو مغن عن نقل صريح المواظبة لأن أمره حامل عليها. وقولهم
داخل اللحية ليس بمحل الفرض ممنوع بعد ثبوت الحديث الصحيح بخلافه، وما أورد عليه
من أن المضمضة والاستنشاق سنتان مع أنهما ليستا في محل الفرض أجيب عنه بأنهما في
الوجه وهو محل الفرض إذ لهما حكم الخارج من وجه، ولان الكلام في سنة تكون تبعا
للفرض بقرينة المقام وإلا يخرج عنه بعض السنن كالنية والتسمية كما لا يخفى. وإنما لم يكن
التخليل واجبا بالامر في أمرني ربي وخللوا أصابعكم الآتي لوجود الصارف وهو تعليم
الاعرابي والاخبار التي حكى فيها وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن التخليل لم يذكر فيها، وما في
النهاية من أنا لو قلنا بالوجوب لزم الزيادة على النص بخبر الواحد فيه كلام إذ لا يلزم إلا لو
قلنا بالافتراض. وما في الكافي من أنا لو قلنا بالوجوب في الوضوء لساوى التبع الأصل
ضعيف، ولأنه لا مانع منه إذا اقتضاه الدليل لأن ثبوت الحكم بقدر دليله. ولأنه قد ظهر
عدم المساواة في حكم آخر وهو كونه لا يلزم بالنذر بخلاف الصلاة وأما تخليل الأصابع فهو
إدخال بعضها في بعض بماء متقاطر ويقوم مقامه الادخال في الماء، ولو لم يكن جاريا فسنة
اتفاقا أعني أصابع اليدين والرجلين لما في السنن الأربعة في حديث لقيط ابن صبرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأت فأسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع قال الترمذي حديث
45

حسن صحيح. وتقدم الصارف له عن الوجوب. وكذا ما رواه الدارقطني خللوا أصابعكم
لا يتخللها الله بالنار يوم القيامة لأنه ليس فيه الوعيد على الترك حتى يفيد الوجوب لأن
منطوقه أن تخليل الأصابع في الوضوء يراد لعدم تخللها نار جهنم وهو لا يستلزم أن عدم
التخليل في الوضوء يستلزم تخلل النار إلا لو كان تخليل الأصابع في الوضوء علة مساوية
لعدم تخليلها بالنار وهو منتف بأنه قد يوجد التخليل بالنار مع تخليل الأصابع، فحينئذ لا
حاجة إلى ما ذكر في شروح الهداية من أن الوعيد مصروف إلى ما إذا لم يصل الماء إلى ما بين
الأصابع إذ قد علمت أنه لا وعيد في الحديث هذا مع أن ما قالوه لا يتم لأنه إذا لم يصل
يكون الغسل فرضا وليس التخليل غسلا كما لا يخفى هذا مع أن حديث الدارقطني ضعيف
كما في فتح القدير. وفي الظهيرية: والتخليل إنما يكون بعد التثليث لأنه سنة التثليث. ثم
قيل: الأولى في أصابع اليدين أن يكون تخليلها بالتشبيك، وصفته في الرجلين أن يخلل
بخنصر يده اليسرى خنصر رجله اليمنى ويختم بخنصر رجله اليسرى. كذلك ورد الخبر. كذا
في معراج الدراية وغيره وتعقبه في فتح القدير بقوله والله أعلم به، ومثله فيما يظهر أمر
اتفاقي لا سنة مقصودة ا ه‍. لكن ورد بعض هذه الكيفية فيما رواه ابن ماجة عن
المستورد بن شداد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فخلل أصابع رجليه بخنصره. وأما
كونه بخنصر يده اليسرى وبكونه من أسفل فالله أعلم به. ويشكل كونه بخنصر اليسرى أن
هذا من الطهارة المستحب في فعلها أن تكون باليمين، ولعل الحكمة في كونها بالخنصر كونها
أدق الأصابع فهي بالتخليل أنسب. كذا في شرح المنية. وقولهم من أسفل إلى فوق يحتمل
شيئين: أحدهما أنه يبدأ من أسفل الأصابع إلى فوق من ظهر القدم. ثانيهما أن يكون المراد
من أسفل الإصبع من باطن القدم كما جزم به في السراج الوهاج والأول أقرب. وفي
المعراج عن شيخه العلامة في قوله عليه السلام خللوا الحديث دليل على أن وظيفة الرجل
الغسل لا المسح فكان حجة على الروافض ا ه‍.
قوله (وتثليث الغسل) أي تكراره ثلاثا سنة لكن الأولى فرض والثنتان سنتان مؤكدتان
46

على الصحيح كذا في السراج واختاره في المبسوط، والأولى أن يقال إنهما سنة مؤكدة لا
توصف الثانية وحدها أو الثالثة وحدها بالسنية إلا مع ملاحظة الأخرى. والسنة تكرار
الغسلات المستوعبات لا الغرفات، وإن اكتفى بالمرة الواحدة قيل يأثم لأنه ترك السنة
المشهورة، وقيل لا يأثم لأنه قد أتى بما أمره به ربه كذا في الظهيرية، ولا يخفى ترجيح الثاني
لقولهم والوعيد في الحديث لعدم رؤيته الثلاث سنة، فلو كان الاثم يحصل بالترك لما احتيج
إلى حمل الحديث على ما ذكروا. وقيل: إن اعتاد يكره وإلا فلا واختاره في الخلاصة. وقد
ذكروا دليل السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة
إلا به، وتوضأ مرتين مرتين وقال هذا وضوء من يضاعف الله له الاجر مرتين، وتوضأ ثلاثا
ثلاثا وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى
وظلم. فأما صدره إلى قوله فمن زاد فرواه الدارقطني، وأما عجزه من قوله فمن زاد
إلى آخره فرواه ابن ماجة والنسائي، وقوله توضأ مرة أي غسل كل عضو مرة، والمراد
بالقبول الجواز بمعنى الصحة. وإنما قلنا هذا لما عرف أن القبول لا يلازم الصحة لأن الصحة
تعتمد وجود الشرائط والأركان والقبول يعتمد صدق العزيمة وخلوصها. وله شرائط كثيرة
لقوله تعالى * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27). واختلف في معنى قوله فمن زاد على
هذا على أقوال، فقيل على الحد المحدود وهو مردود له عليه الصلاة والسلام من استطاع
منكم أن يطيل غرته فليفعل والحديث في المصابيح. وإطالة الغرة تكون بالزيادة على الحد
المحدود. وقيل على أعضاء الوضوء، وقيل الزيادة على العدد والنقص عنه، والصحيح أنه
محمول على الاعتقاد دون نفس الفعل حتى لو زاد أو نقص واعتقد أن الثلاث سنة لا يلحقه
الوعيد كذا في البدائع واقتصر عليه في الهداية. وعلى الأقوال كلها لو زاد لطمأنينة القلب
47

عند الشك أو بنية وضوء آخر بعد الفراغ من الأول فلا بأس به لأنه نور على نور، وكذا إن
نقص لحاجة لا بأس به كذا في المبسوط وأكثر شروح الهداية وفيه كلام، لأنهم قد صرحوا
بأن تكرار الوضوء في مجلس واحد لا يستحب بل يكره لما فيه من الاسراف في الماء كما في
السراج الوهاج. فكيف يدعي الاتفاق كما في الخلاصة على عدم الكراهة لو نوى وضوءا
آخر حين فرغ من الأول اللهم إلا أن يحمل على ما إذا اختلف المجلس وهو بعيد كما لا يخفى،
وفي الحديث لف ونشر لأن التعدي يرجع إلى الزيادة والظلم إلى النقصان كذا في غاية البيان.
وقيد المصنف بالغسل احترازا عن المسح فإنه لا يسن تثليثه كذا في فتح القدير. وإذا كان غير
مسنون فهل يكره؟ فالمذكور في المحيط والبدائع أنه يكره، وفي الخلاصة أنه بدعة، وقيل لا
بأس به، وفي فتاوى قاضيخان: وعندنا لو مسح ثلاث مرات بثلاث مياه لا يكره ولكن لا
يكون سنة ولا أدبا ا ه‍. وهو الأولى كما لا يخفى إذ لا دليل على الكراهة وسيأتي تمامه.
قوله (ونيته) أي ونية المتوضئ رفع الحدث أو إقامة الصلاة هذا هو مراد المصنف كما
أفصح عنه في الكافي فلا حاجة حينئذ إلى ما ذكره الزيلعي كما لا يخفى. واستفيد منه أن نية
48

الطهارة لا تكفي في تحصيل السنة كأنه والله أعمل لأنها متنوعة إلى إزالة الحدث أو الخبث فلم
ينو خصوص الطهارة الصغرى. فعلى هذا لو نوى الوضوء فإنه يكون محصلا لها لأن الوضوء
رفع الحدث سواء، لأن حقيقة الوضوء رفع الحدث كما حققناه أولا. وعلى هذا فيصبح عود
الضمير إلى الوضوء وسقط به كلام الزيلعي أيضا كما لا يخفى مع أن الوضوء أخص من رفع
الحدث لأنه يشمل الغسل، فعلى هذا نية الوضوء أولى. قالوا: المعتبر قصد رفع الحدث أو
إقامة الصلاة كما ذكر أو استباحتها أو امتثال الامر كما في المعراج، ولا يتأتي الأخير قبل
دخول الوقت إذ ليس مأمورا به إلا أن يقال إن الوضوء لا يكون نفلا لأنه شرط للصلاة
وشرطها فرض ولا يخفى ما فيه. وهي لغة عزم القلب على الشئ، واصطلاحا كما في
التلويح قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل. واعترض عليه بأن هذا إنما
يستقيم في العبادات المترتب عليها الثواب دون المنهيات المترتب عليها العقاب، فالصواب أن
تفسر النية بتوجه القلب نحو إيجاد الفعل وتركه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر
حالا أو مآلا ا ه‍. وقد يقال: إن هذا الاعتراض مبني على أن المكلف به في النهي ليس هو
الكف الذي هو الانتهاء وهو قول البعض والراجح في الأصول أنه لا تكليف إلا بفعل فهو
في النهي كفه النفس فحينئذ دخل في إيجاد الفعل. وفي الصحاح: العزم إرادة الفعل والقطع
عليه والقصد إتيان الشئ. وذكر اليمني في شرح الشهاب ثم النية معنى وراء العلم فهي نوع
إرادة كالقصد والعزيمة، والهم والحب والود فالكل اسم للإرادة الحادثة لكن العزم اسم
49

للمتقدم على الفعل، والقصد اسم للمقترن بالفعل، والنية اسم للمقترن بالفعل مع دخوله
تحت العلم بالمنوي، وهذا لأن الفعل لا يوجد بدون الإرادة فإذا قام الرجل من قعوده لا بد
وأن يكون مريدا للقيام وإن لم تعمل إرادته القيام، وقد يركع الرجل ويسجد ذاهلا عن معرفة
إرادة الركوع والسجود. ويستحيل وجودهما بدون الإرادة بالكلية لأن الإرادة صنو القدرة
وإنما المفقود العلم لا غير، ولذا قلنا للمكره إرادة. وإن كانت فاسدة بمقابلة إرادة المكره
لكن قد تذكر النية مقام العزيمة كما في قولنا ونوى الصوم بالليل أي عزم عليه وأطال فيه
فليراجع لاشتماله على فوائد كثيرة. ثم اعلم أن النية في غير التوضؤ بسؤر الحمار وبنبيذ
التمر سنة مؤكدة على الصحيح وليست بشرط في كون الوضوء مفتاحا للصلاة. ووقتها عند
غسل الوجه ومحلها القلب والتلفظ بها مستحب كذا في السراج الوهاج.
وأما النية في التوضؤ بسؤر الحمار أو بنبيذ التمر فشرط كذا في شرح الجمع والنقاية
معزيين إلى الكفاية قيدنا بقولنا في كونه مفتاحا لأنها شرط في كونه سببا للثواب على الأصح،
وقيل يثاب بغير نية، ثم استدل الشافعي على اشتراطها فيه بالحديث المشهور المتفق على صحته
إنما الأعمال بالنية ووجهه أن المراد بالاعمال العبادات لأن كثيرا من الأعمال تعتبر شرعا
بلا نية فيكون المراد إنما صحة العبادات بالنية والوضوء عبادة لأنها فعل ما يرضي الرب وهو
كذلك فصار كالتيمم. ولنا على ما ذكره الأصوليون أن حقيقة هذا التركيب متروكة بدلالة
محل الكلام لأن كلمة إنما للحصر وقد دخلت على المعرف بلام الاستغراق، وذلك يقتضي
أن لا يوجد عمل بلا نية ولا يمكن حمله على العموم لأن كثيرا من الأعمال يوجد بلا نية
فصار مجازا عن حكمه، فالتقدير حكم الأعمال بالنيات من إطلاق اسم السبب على المسبب،
أو من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. والحكم نوعان مختلفان أحدهما أخروي وهو
الثواب والاثم وهو بناء على صدق العزيمة وعدمه، والثاني دنيوي وهو الجواز والفساد وهو
بناء على وجود الأركان والشرائط وعدمها، ولما اختلف الحكمان صار الاسم بعد كونه مجازا
مشتركا. ويكفي في تصحيحه ما هو المتفق عليه وهو الحكم الأخروي ولا دليل على ما
اختلف فيه فلا يصلح تقديره حجة علينا فاندفع بهذا التقرير ما أورده في الكشف وشرح
المغني وشرح المنار من أن قولهم أن الحكم مشترك ولا عموم له ممنوع بل هذا في المشترك
50

اللفظي، أما المشترك المعنوي فله عموم كالشئ والحكم منه فيتناول الكل باعتبار المعنى الأعم
إذ تفسير الحكم الأثر الثابت بالشئ ا ه‍. مع أن الأكمل في تقريره أجاب عنه بأن هذا إنما
يستقيم أن لو كان الحكم مقولا عليهما بالتواطؤ وهو ممنوع، لأن الجواز والفساد وإن كانا
أثرين ثابتين بالاعمال موجبين لها لكن الثواب والعقاب ليسا كذلك على المذهب الصحيح
ا ه‍. يعني لتخلفهما في الأول بعدم القبول مع الصحة، وفي الثاني بالعفو من الله تعالى.
والمراد بالاعمال ما يشمل على القلب فيدخل فيه كف النفس بالنهي فإنه عمل، ولا ترد النية
لأنها خارجة لمعنى يخصها وهو لزوم التسلسل لكن اعتبار النية للتروك إنما هو لحصول
الثواب لا للخروج عن عهدة النهي، لأن مناط الوعيد بالعقاب في النهي هو فعل المنهي،
فمجرد تركه كاف في انتفاء الوعيد، ومناط الثواب في المنهي كف النفس عنه وهو عمل
مندرج في الحديث، وعلى هذا ففرق الشافعية بين الوضوء وإزالة النجاسة بأن الوضوء فعل
فيفتقر إلى النية، وطهارة النجاسة من باب التروك فلا تفتقر إلى النية كترك الزنا ضعيف، فإن
التكليف أبدا لا يقع إلا بالفعل الذي هو مقدور المكلف لا بعدم الفعل الذي هو غير مقدور
وجوده قبل التكليف كما عرف في مقتضى النهي أنه كف النفس عن الفعل لا عدم الفعل
والترك ليس بفعل، ولهذا لا يثاب المكلف على التروك إلا إذا ترك قاصدا، فلا يثاب على ترك
الزنا إلا إذا كف نفسه عند قصدا لا إذا اشتغل عنه بفعل آخر كالنوم والعبادة وتركه بلا قصد
فلا فرق بين الفعل والترك الموجبين للثواب والعقاب.
51

وقوله إن الوضوء عبادة والعبادة لا تصح إلا بالنية سلمناه لأنه لا يقع عبادة بدونها
عندنا وليس الكلام في هذا بل في أنه إذا لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع
الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الحديث دلالة على نفيه ولا إثباته فقلنا
نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته فكيف حصل حصل المقصود وصار كستر
العورة وباقي شروط الصلاة لا يفتقر اعتبارها إلى أن تنوي، فمن ادعى أن الشرط وضوء هو
عبادة فعليه البيان بخلاف التيمم لأن التراب لم يعتبر شرعا مطهرا إلا للصلاة وتوابعها لا في
نفسه فكان التطهير به تعبدا محضا وفيه يحتاج إلى النية، وقياس الوضوء على التيمم ضعيف
لأن شرط صحة القياس أن لا يكون الأصل متأخرا والتيمم شرع بعد الهجرة والوضوء قبلها
إلا إن قصد به الاستدلال بمعنى لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء فهو
بمعنى لا فارق فليس الجواب إلا بإثبات الفارق المتقدم، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الاعرابي الوضوء
ولم يبين له النية فلو كانت شرطا لبينها له. وقد علم مما قدمناه أن الوضوء يقع عبادة فقول
بعضهم إنه ليس بعبادة محمول على ما إذا لم ينو أو مراده نفي العبادة المقصودة كما صرح به
في الكافي وغيره، وبهذا اندفع ما ذكره النووي من الرد على من نفي العبادة عن الوضوء
متمسكا بحديث مسلم الطهور شطر الايمان (1). واعلم أن المذكور في الأصول أن الغسل
والمسح في آية الوضوء خاصان وهو لا يحتمل البيان، فاشتراط النية في الوضوء زيادة على
النص بخبر الواحد لو دل عليها وهو لا يجوز فأورد العقدة الأخيرة فإنها فرض بخبر الواحد،
فأجيب بأن الصلاة مجملة في حق ما تتم به إذ لم يعرف بأن إتمامها بأي شئ يقع فاحتاج إلى
البيان وقد بين بالحديث، فالفرض ثبت بالكتاب والحديث التحق به بيانا لمجمله فأورد أنه
ينبغي أن يلتحق خبر الفاتحة كذلك، فأجيب بأنه لا إجمال في أمر القراءة بل هو خاص.
وأورد أيضا أنه ينبغي عدم اشتراط النية في العبادات لما ذكر أجيب بأنها فرض فيها لا
بالحديث المذكور بل بقوله تعالى * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5) فإنه
جعل الاخلاص الذي هو عبارة عن النية حالا للعابدين والأحوال شروط، ومن هنا نشأ
52

إشكال على من استدل به على اشتراطها في العبادات كصاحب الهداية مع قولهم في الأصول
إن حديث إنما الأعمال بالنيات من قبل ظني الثبوت والدلالة يفيد السنية والاستحباب،
وسيأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى.
قوله (ومسح كل رأسه مرة) أي مرة مستوعبة لما روى الترمذي في جامعه أن عليا
رضي الله تعالى عنه توضأ وغسل أعضاءه ثلاثا ومسح رأسه مرة وقال: هذا وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الهداية: والذي يروى عنه من التثليث فمحمول عليه بماء واحد وهو
مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة ا ه‍. ولان التكرار في الغسل لأجل المبالغة في
التنظيف ولا يحصل ذلك بالمسح فلا يفيد التكرار فصار كمسح الخف والجبيرة والتيمم، وما
قلناه أولى لأنه قياس الممسوح على الممسوح، وما قال الشافعي قياس الممسوح على المغسول.
وفي العناية: فإن قيل قد صار البلل مستعملا بالمرة الأولى فكيف يسن إمراره ثانيا وثالثا؟
أجيب بأنه يأخذ حكم الاستعمال لإقامة فرض آخر لإقامة السنة لأنها تبع للفرض، ألا ترى
أن الاستيعاب يسن بماء واحد؟ وقال الزيلعي: تكلموا في كيفية المسح والأظهر أن يضع
كفيه وأصابعه على مقدم رأسه ويمدهما إلى القفا على وجه يستوعب جميع الرأس ثم يمسح
أذنيه بأصبعيه، ولا يكون الماء مستعملا بهذا لأن الاستيعاب بماء واحد لا يكون إلا بهذا
الطريق. وما قاله بعضهم من أنه يجافي كفيه تحرزا عن الاستعمال لا يفيد لأنه لا بد من
الوضع والمد، فإن كان مستعملا بالوضع الأول فكذا بالثاني فلا يفيد تأخيره ا ه‍.
قوله (وأذنيه بمائه) أي بماء الرأس. وفي المجتبى: يمسحهما بالسبابتين داخلهما
وبالابهامين خارجهما وهو المختار كذا في المعراج. وعن الحلواني وشيخ الاسلام: يدخل
الخنصر في أذنيه ويحركهما. واستدل المشايخ بالحديث الأذنان من الرأس يمسحان بما
53

يمسح به الرأس وتمام تقريره في غاية البيان، واستدل في فتح القدير بفعله عليه الصلاة
والسلام أنه أخذ غرفة فمسح بها رأسه وأذنيه على ما رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وأما ما روي أنه عليه السلام أخذ لأذنيه ماء جديدا فيجب حمله على أنه لفناء البلة قبل
الاستيعاب توفيقا بينهما مع أنه لو أخذ ماء جديدا من غير فناء البلة كان حسنا كذا في شرح
مسكين، فاستفيد منه أن الخلاف بيننا وبين الشافعي في أنه إذا لم يأخذ ماء جديدا أو مسح
بالبلة الباقية هل يكون مقيما للسنة؟ فعندنا نعم، وعنده لا، أما لو أخذ ماء جديدا مع بقاء
البلة فإنه يكون مقيما للسنة اتفاقا.
قوله (والترتيب المنصوص) أي كما ذكر في النص كذا في أصله الوافي. وهو سنة
مؤكدة عندنا على الصحيح ويكون مسيئا بتركه، وعند الشافعي فرض. ومنهم من بنى
الخلاف على الاختلاف في معنى الواو وليس بصحيح، فإن الصحيح عندنا وعنده كما هو
قول الأكثر أن الواو لمطلق الجمع ولا تفيد الترتيب، ومن زعم من أئمتنا بأنها له لمسائل
استدل بها فقد أجيب عنها في الأصول، ومن زعم من الشافعية أنه له فقد ضعفه النووي في
شرح المهذب فلم يوجد دليل بالافتراض فنفاه أئمتنا، وقد علم من فعله عليه الصلاة والسلام
فقالوا بسنيته. وأما ما استدل به النووي بأن الله تعالى ذكر ممسوحا بين مغسولات والأصل
جمع المتجانسة على نسق واحد ثم عطف غيرها لا يخرج عن ذلك إلا لفائدة وهي هنا وجوب
الترتيب، فقد أجيب عنه بأن الفائدة التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء على الأرجل
لما أنها مظنة الاسراف كما في الكشاف وغيره، وقد روى البخاري كما في التوشيح وأبو
داود كما في السراج الوهاج أنه عليه الصلاة والسلام تيمم فبدأ بذراعيه قبل وجهه، فما ثبت
عدم الترتيب في التيمم ثبت في الوضوء لأن الخلاف فيهما واحد. وأما ما استدل به
الشارحون للشافعي من أن الله تعالى عقب القيام بغسل الوجه بالفاء وهي للترتيب بلا خلاف
ومتى وجب تقديم الوجه تعين الترتيب إذ لا قائل بالترتيب في البعض، وما أجابوا به من أن
الفاء إنما تفيد ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة لا ترتيب بعضها على بعض فقد
قال النووي: إنه استدلال باطل عن الشافعي، وكأن قائله حصل له ذهول واشتباه فاخترعه.
وأما ما استدل به الزيلعي عن الشافعي من الحديث لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع
الطهور مواضعه فيغسل يديه ثم يغسل وجهه ثم يغسل ذراعيه فقد اعترف النووي بضعفه
فلا حاجة إلى الاشتغال بجوابه. وأما ما استدل في المعراج وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم نسي مسح
54

رأسه ثم تذكر فمسحها ولم يعد غسل رجليه فقد قال النووي: إنه ضعيف لا يعرف.
والحاصل أنه لا حاجة إلى إقامة الدليل على عدم الافتراض لأنه الأصل ومدعيه مطالب به.
قوله (والولاء) بكسر الواو وهو التتابع في الافعال من غير أن يتخللها جفاف عضو مع
اعتدال الهواء كذا في تقرير الأكمل وغيره، وفي السراج مع اعتدال الهواء والبدن بغير
عذر. وأما إذا كان لعذر بأن فرغ ماء الوضوء أو انقلب الاناء فذهب لطلب الماء وما أشبهه
فلا بأس بالتفريق على الصحيح، وكذا إذا فرق في الغسل والتيمم ا ه‍. وظاهر الأول أن
العضو الأول إذا جف بعد ما غسل الثاني فإنه ليس بولاء، وذكر الزيلعي وغيره أن الولاء
غسل العضو الثاني قبل جفاف الأول، وهو يقتضي أنه ولاء وهو الأولى. وفي المعراج عن
الحلواني تجفيف الأعضاء قبل غسل القدمين بالمنديل لا يفعل لأن فيه ترك الولاء، ولا بأس
بأن يمسح بالمنديل. واستدل في المعراج على عدم فرضية الولاء بأن ابن عمر رضي الله عنهما
توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي إلى جنازة فدخل المسجد ثم مسح
على خفيه ا ه‍. قال النووي في شرح المهذب: وهو أثر صحيح رواه مالك عن نافع عن ابن
عمر والاستدلال به حسن فإن ابن عمر فعله بحضرة حاضري الجنازة ولم ينكر عليه.
قوله (ومستحبه التيامن) أي مستحب الوضوء البداءة باليمين في غسل الأعضاء، وهو
في اللغة الشئ المحبوب ضد المكروه، وعند الفقهاء هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة وتركه
أخرى، والمندوب ما فعله مرة أو مرتين وتركه تعليما للجواز كذا في شرح النقاية. ويرد عليه
ما رغب فيه ولم يفعله وما جعله تعريفا للمستحب جعله في المحيط تعريفا للمندوب، فالأولى
ما عليه الأصوليون من عدن الفرق بين المستحب والمندوب، وأن ما واظب عليه صلى الله عليه وسلم مع ترك
ما بلا عذر سنة، وما لم يواظب عليه مندوب ومستحب وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه كذا في
التحرير، وحكمه الثواب على الفعل وعدم اللوام على الترك. وإنما كان التيامن مستحبا لما في
الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شئ حتى في طهوره
وتنعله وترجله وشأنه كله. والمحبوبية لا تستلزم المواظبة لأن جميع المستحبات محبوبة له،
ومعلوم أنه لم يواظب على كلها وإلا لم تكن مستحبة بل مسنونة لكن أخرج أبو داود وابن
ماجة عنه صلى الله عليه وسلم إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم (1) وغير واحد من حكي وضوءه صلى الله عليه وسلم صرحوا
55

بتقديم اليمنى على اليسرى، وذلك يفيد المواظبة لأنهم إنما يحكون وضوءه الذي هو عادته
فيكون سنة وبمثله تثبت سنية الاستيعاب لأنهم كذلك حكوا المسح كذا في فتح القدير، لكن
المواظبة لا تفيد السنية إلا إذا كانت على سبيل العبادة، وأما إذا كانت على سبيل العادة فتفيد
الاستحباب والندب لا السنية كلبس الثوب والاكل باليمين، ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على التيامن
كانت من قبيل الثاني فلا تفيد السنية كذا في شرح الوقاية. وكذا قال في السراج الوهاج: إن
البداءة باليمنى فضيلة على الأصح. وقيدنا بقولنا في غسل الأعضاء تبعا لصدر الشريعة وغيره
احترازا عن الممسوح فإنه لا يستحب تقديم اليمنى فيه كمسح الاذنين لأن مسحهما معا أسهل
كالحدين وليس في أعضاء الوضوء عضوان لا يستحب تقديم الأيمن منهما إلا الاذنين، فإن
كان الرجل اقطع لا يمكنه مسحهما معا فإنه يبتدئ باليمنى وبالخد الأيمن كذا في السراج
الوهاج.
قوله (ومسح رقبته) يعني بظهر اليدين لعدم استعمال بلتهما وقد اختلف فيه، فقيل
بدعة وقيل سنة وهو قول الفقيه أبي جعفر وبه أخذ كثير من العلماء كذا في شرح مسكين.
وفي الخلاصة: الصحيح أنه أدب وهو بمعنى المستحب كما قدمناه. وأما مسح الحلقوم
فبدعة، واستدل في فتح القدير على استحباب مسح الرقبة أنه عليه السلام مسح ظاهر رقبته
مع مسح الرأس فاندفع به قول من زعم أنه بدعة. وليس مراده حصر مستحبه فيما ذكر لأن له
مستحبات كثيرة وعبر عنها بعضهم بمندوباته وقدمنا عدم الفرق بينهما. فالذي في فتح
القدير أن المندوبات نيف وعشرون: ترك الاسراف، والتقتير، وكلام الناس، والاستعانة
- وعن الوبري لا بأس بصب الخادم كان صلى الله عليه وسلم يصب الماء عليه - والتمسح بخرقة يمسح بها
موضع الاستنجاء، ونزع خاتم عليه اسمه تعالى أو اسم نبيه حال الاستنجاء، وكون آنيته من
56

خزف، وأن يغسل عروة الإبريق ثلاثا، ووضعه على يساره وإن كان إناء يغترف منه فعن
يمينه، ووضع يده حالة الغسل على عروته لا رأسه، والتأهب بالوضوء قبل الوقت، وذكر
الشهادتين عند كل عضو، واستقبال القبلة في الوضوء، واستصحاب النية في جميع أفعاله،
وتعاهد موقيه وما تحت الخاتم، والذكر المحفوظ عند كل عضو، وأن لا يلطم وجهه بالماء،
وإمرار اليد على الأعضاء المغسولة، والتأني، والدلك خصوصا في الشتاء، وتجاوز حدود
الوجه واليدين والرجلين ليستيقن غسلهما، وقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين الخ، وأن يشرب فضل
وضوئه مستقبلا قائما - قيل وإن شاء قاعدا - وصلاة ركعتين عقيبة، وملء آنيته استعدادا
وحفظ ثيابه من التقاطر، والامتخاط بالشمال عند الاستنشاق ويكره باليمين، وكذا إلقاء
البزاق في الماء، والزيادة على ثلاث في غسل الأعضاء وبالماء المشمس ا ه‍.
وهنا تنبيهات: الأول: أن الاسراف هو الاستعمال فوق الحاجة الشرعية وإن كان شط
نهر، وقد ذكر قاضيخان تركه من السنن ولعله الأوجه. فعلى كونه مندوبا لا يكون الاسراف
مكروها، وعلى كونه سنة يكون مكروها تنزيها، وصرح الزيلعي بكراهته. وفي المبتغي: إنه
من المنهيات فتكون تحريمية. وقد ذكر المحقق آخر أن الزيادة على ثلاث مكروهة وهي من
الاسراف. وهذا إذا كان ماء نهر أو مملوكا له، فإن كان ماء موقوفا على من يتطهر أو يتوضأ
حرمت الزيادة والسرف بلا خلاف، وماء المدارس من هذا القبيل لأنه إنما يوقف ويساق لمن
57

يتوضأ الوضوء الشرعي كذا في شرح منية المصلي. وقد علمت فيما قدمناه إن الزيادة على
الثلاث لطمأنينة القلب أو بنية وضوء آخر لا بأس به فينبغي تقييد ما أطلقوه هنا. الثاني أن
ترك كلام الناس لا يكون أدبا إلا إذا لم يكن لحاجة، فإن دعت إليه حاجة يخاف فوقها بتركه
لم يكن في الكلام ترك الأدب كما في شرح المنية. الثالث أن التأهب بالوضوء قبل الوقت
مقيد بغير صاحب العذر، وفي شرح المنية وعندي أنه من آداب الصلاة لا الوضوء لأنه
مقصود لفعل الصلاة. الرابع أن الزيلعي صرح بأن لطم الوجه بالماء مكروه فيكون تركه سنة
لا أدبا. الخامس أن ذكره الدلك بعد ذكره إمرار اليد على الأعضاء تكرار لأن الدلك كما في
شرح المنية إمرار اليد على الأعضاء المغسولة ينبغي أن يزاد مع الاتكاء. السادس أنه ذكر
الدلك من المندوبات وفي الخلاصة أنه سنة عندنا. السابع أنه ذكر منها ملء آنيته استعدادا
وينبغي تقييده بما إذا لم يكن الوضوء من النهر أو الحوض لأن الوضوء منه أيسر من الوضوء
من الاناء. الثامن أن الأدعية المذكورة في كتب الفقه قال النووي: لا أصل لها، والذي ثبت
الشهادة بعد الفراغ من الوضوء وأقره عليه السراج الهندي في التوشيح. التاسع أن منها غسل
ما تحت الحاجبين والشارب لعدم الحرج. العاشر أن صلاة الركعتين بعد الوضوء إنما تندب
إذا لم يكن وقت كراهة. الحادي عشر أن منها الجمع بين نية القلب وفعل اللسان كما في
المعراج. الثاني عشر أن لا يتوضأ في المواضع النجسة لأن لماء الوضوء حرمة كذا في
المضمرات. الثالث عشر منها أن يبدأ في غسل الوجه من أعلاه وفي مسح الرأس بمقدمه
وفي اليد والرجل بأطراف الأصابع كما في المعراج. الرابع عشر منها إدخال خنصريه في
صماخ أذنيه. الخامس عشر أن منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل عضو كما في التبيين.
قوله (وينقضه خروج نجس منه) أي وينقض الوضوء خروج نجس من المتوضئ.
والنجس بفتحتين اصطلاحا عين النجاسة، وبكسر الجيم ما لا يكون طاهرا. وفي اللغة: لا
فرق بينهما كما في شرح الوقاية، وظاهره أنه بالكسر أعم فيصح ضبطه في المختصر بالكسر
58

والفتح كما لا يخفى. والنقض في الجسم فك تأليفه. وفي غيره إخراجه عن إفادة ما هو
المقصود منه كاستباحة الصلاة في الوضوء،. وأفاد بقوله خروج نجس أن الناقض خروجه
لا عينه وعلل له في الكافي بأن الخروج علة الانتقاض وهي عبارة عن المعنى، وعلل شراح
الهداية بأنها لو كانت نفسها ناقضة لما حصلت طهارة لشخص أصلا لأن تحت كل جلدة دما
لكن قال في فتح القدير: الظاهر أن الناقض النجس الخارج وبينه بما حاصله أن الناقض هو
المؤثر للنقض والضد هو المؤثر في رفع ضده، وصفة النجاسة الرافعة للطهارة إنما هي قائمة
بالخارج فالعلة للنقض هي النجاسة بشرط الخروج، وتأيد هذا بظاهر الحديث ما الحدث؟
قال: ما يخرج من السبيلين. فالعلة النجاسة والخروج علة العلة، وإضافة الحكم إلى العلة أولى
من إضافته إلى علة العلة، فاندفع بهذا ما قالوا من لزوم عدم حصول طهارة لشخص على
تقدير إضافة النقض إلى النجاسة إذ لا يلزم إلا لو قلنا بأن الخروج ليس شرطا في عمل العلة
ولا علة العلة. وشمل كلامه جميع النواقض الحقيقية وهو مجمل وهو قسمان: خارج من
السبيلين وخارج من غيرهما. فالأول ناقض مطلقا فتنقض الدودة الخارجة من الدبر والذكر
والفرج كذا في الخانية. وفي السراج: إنه بالاجماع. فما في التبيين من أن الدودة الخارجة من
فرجها على الخلاف ففيه نظر، وعلل في البدائع بكون الدودة ناقضة أنها نجسة لتولدها من
النجاسة، وذكر الأسبيجابي أن فيها طريقتين: إحداهما ما ذكرناه، والثانية أن الناقض ما عليها
واختاره الزيلعي وهو في الحصاة مسلم. ولا يرد على المصنف الريح الخارجة من الذكر وفرج
المرأة فإنها لا تنقض الوضوء على الصحيح لأن الخارج منهما اختلاج وليس بريح خارجة.
ولو سلم فليست بمنبعثة عن محل النجاسة والريح لا ينقض إلا لذلك لا لأن عينها نجسة
لأن الصحيح أن عينها طاهرة حتى لو لبس سراويل مبتلة أو ابتل من أليتيه الموضع الذي يمر
به الريح فخرج الريح لا يتنجس وهو قول العامة. وما نقل عن الحلواني من أنه كان لا يصلي
بسراويله فورع منه كذا قالوا، فاندفع بهذا ما ذكره مسكين في شرحه من أن كلام المصنف
ليس على عمومه كما لا يخفى. ودخل أيضا ما لو أدخل أصبعه في دبره ولم يغيبها فإنه تعتبر
فيه البلة والرائحة وهو الصحيح لأنه ليس بداخل من كل وجه كذا في شرح قاضيخان.
59

واستفيد منه أنه إذا غيبه نقض مطلقا، وكذا الذباب إذا طار ودخل في الدبر وخرج من غير
بلة لا ينقض، وكذا المحقنة إذا أدخلها ثم أخرجها إن لم يكن عليها بلة لا تنقض والأحوط
أن يتوضأ كذا في منية المصلي. وفي الخانية: وإذا أقطر في إحليله دهنا ثم عاد فلا وضوء
عليه بخلاف ما إذا احتقن بدهن ثم عاد ا ه‍. والفرق بينهما إن في الثاني اختلط الدهن
بالنجاسة بخلاف الإحليل للحائل عند أبي حنيفة كذا في فتح القدير. فعلى هذا فعدم
النقض قوله فقط وقد صرح به في المحيط فقال: لا ينقض عند أبي حنيفة خلافا لأبي
يوسف. والإحليل بكسر الهمزة مجرى البول من الذكر. وفي الوالوالجية: وكل شئ إذا
غيبه ثم أخرجه أو خرج فعليه الوضوء وقضاء الصوم لأنه كان داخلا مطلقا فترتب عليه
الخروج، وكل شئ إذا أدخل بعضه وطرفه خارج لا ينقض الوضوء وليس عليه قضاء
الصوم لأنه غير داخل مطلقا فلا يترتب عليه الخروج ا ه‍. والكلية الثانية مقيدة بعدم البلة
كما في المحيط.
وفي البدائع: لو احتشت في الفرج الداخل ونفذت البلة إلى الجانب الآخر فإن كانت
القطنة عالية أم محاذية لحرف الفرج كان حدثا لوجود الخروج، وإن كانت القطنة متسفلة عنه
لا ينقض لعدم الخروج. وفي منية المصلي: وإن كانت احتشت في الفرج الخارج فابتل داخل
الحشو انتقض نفذ أو لم ينفذ. وفي التبيين: وإن حشي إحليله بقطنة فخروجه بابتلال
خارجه. وفي الخانية: المجبوب إذا خرج منه ما يشبه البول إن كان قادرا على إمساكه إن شاء
أمسكه وإن شاء أرسله فهو بول ينقض الوضوء، وإن كان لا يقدر على إمساكه لا ينقض ما لم
يسل. وفي فتح القدير: والخنثى إذا تبين أنه امرأة فذكره كالجرح، أو رجل ففرجه كالجرح
وينقض في الآخر بالظهور لكن قال في التبيين: وأكثرهم على إيجاب الوضوء عليه. فحاصله
أن الخنثى ينتقض وضوؤه بخروج البول من فرجيه جميعا سال أو لا؟ تبين حاله أو لا؟ وفي
التوشيح: يؤخذ في الخنثى المشكل بالأحوط وهو النقض، وأما المفضاة وهي التي صار
مسلك البول والغائط منها واحدا أو التي صار مسلك بولها ووطئها واحدا، فيستحب لها
الوضوء من الريح ولا يجب لأن اليقين لا يزول بالشك. وعن محمد وجوبه وبه أخذ أبو
حفص للاحتياط ورجحه في فتح القدير بأن الغالب في الريح كونها من الدبر بل لا نسبة
لكونها من القبل به فيفيد غلبة ظن تقرب من اليقين وهو خصوصا في موضع الاحتياط له
60

حكم اليقين فترجح الوجوب ا ه‍. لكن ينبغي ترجيحه فيها بالمعنى الأول، أما بالمعنى الثاني
فلا، لأن الصحيح عدم النقض بالريح الخارجة من الفرج. وقوله في الهداية لاحتمال
خروجه من الدبر يشير إلى المعنى الأول ولها حكمان آخران: الأول لو طلقت ثلاثا
وتزوجت بآخر لا تحل للأول ما لم تحبل لاحتمال الوطئ في الدبر. الثاني يحرم على زوجها
جماعها إلا أن يمكنه إتيانها في قبلها من غير تعد كذا في فتح القدير. وينبغي أن يختصا بها
بالمعنى الأول، وأما بالمعنى الثاني فلا كما يفيده التعليل المذكور. وإن كان بذكره شق له
رأسان إحداهما يخرج منه ماء يسيل في مجرى الذكر والأخرى في غيره، ففي الأول ينقض
بالظهور وفي الثاني بالسيلان. وفي التوشيح: باسوري خرج من دبره فإن عالجه بيده أو
بخرقة حتى أدخله تنتقض طهارته لأنه يلتزق بيده شئ من النجاسة إلا إن عطس فدخل
بنفسه. وذكر الحلواني: إن تيقن خروج الدبر تنتقض طهارته بخروج النجاسة من الباطن إلى
الظاهر ويخرج على هذا لو خرج بعض الدودة فدخلت ا ه‍. ثم الخروج في السبيلين يتحقق
بالظهور فلو نزل البول إلى قصبة الذكر لا ينقض وإلى القلفة فيه خلاف والصحيح النقض،
واستشكله الزيلعي هنا بأنهم قالوا: لا يجب على الجنب إيصال الماء إليه لأنه خلقه كقصبة
الذكر. وأجاب عنه في الغسل بأن الصحيح وجوب الايصال على الجنب فلا إشكال، لكن
في فتح القدير الصحيح المعتمد عدم وجوب الايصال في الغسل للحرج لا لأنه خلقة فلا يرد
الاشكال، واستدلوا لكون الخارج من السبيلين ناقضا مطلقا بقوله تعالى * (أو جاء أحد منكم
من الغائط) * (المائدة: 6) لأنه اسم للموضع المطمئن من الأرض يقصد للحاجة، فالمجئ منه
يكون لازما لقضاء الحاجة فأطلق اللازم وهو المجئ منه وأريد الملزوم وهو الحدث كناية،
كذا في غاية البيان والعناية.
وظاهر ما في فتح القدير أن اللازم خروج النجاسة والملزوم المجئ من الغائط، وإذا
كان كناية عن اللازم فالحمل على أعم اللوازم أولى أخذا بالاحتياط في باب العبادات، فكان
جميع ما يخرج من بدن الانسان من النجاسة ناقضا، معتادا كان أو غير معتاد، فكان حجة على
مالك. وتعقبه في فتح القدير بأنه إنما يصح على إرادة أعم اللوازم للمجئ والخارج النجس
61

مطلقا ليس منه للعلم بأن الغائط لا يقصد قط للريح فضلا عن جرح إبرة ونحوه فالأولى
كونه فيما يحله. ويستدل على الريح بالاجماع وعلى غيره بالخبر وهو ما رواه الدارقطني
الوضوء مما خرج وليس مما دخل لكنه ضعيف. وقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة توضئي لوقت كل
صلاة ا ه‍. ولا يخفى أن المشايخ إنما استدلوا بالآية على مالك في نفيه ناقضية غير المعتاد
من السبيلين ولم يستدلوا بها على الخارج من غيرهما والقياس أيضا حجة على مالك، فالأصل
الخارج النجس من السبيلين على وجه الاعتياد، والفرع ما خرج منهما لا على وجه الاعتياد.
وأما الخارج من غير السبيلين فناقض بشرط أن يصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير - كذا
قالوا - ومرادهم أن يتجاوز إلى موضع تجب طهارته أو تندب من بدن وثوب ومكان، وإنما
فسرنا الحكم بالأعم من الواجب والمندوب لأن ما اشتد من الانف لا تجب طهارته أصلا بل
تندب لما أن المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم مسنونة، وأن حدها أن يأخذ الماء بمنخريه
حتى يصعد إلى ما اشتد من الانف. وقد صرح في معراج الدراية وغيره بأنه إذا نزل الدم إلى
قصبة الانف نقض، وفي البدائع إذا نزل الدم إلى صماخ الاذن يكون حدثا. وفي الصحاح.
62

صماخ الاذن خرقها وليس ذلك إلا لكونه يندب تطهيره في الغسل ونحوه. وكذا إذا افتصد
وخرج دم كثير وسال بحيث لم يتلطخ رأس الجرح فإنه ينقض الوضوء لكونه وصل إلى ثوب
أو مكان يلحقهما حكم التطهير فتنبه لهذا فإنه يدفع كلام كثير من الشارحين، ولذا قال في
فتح القدير: لو خرج من جرح في العين دم فسال إلى الجانب الآخر منها لا ينقض لأنه لا
يلحقه حكم هو وجوب التطهير أو ندبه. فقول بعضهم المراد أن يصل إلى موضع تجب
طهارته محمول على أن المراد بالوجوب الثبوت وقول الحدادي إذا نزل الدم إلى قصبة الانف
لا ينقض محمول على أنه لم يصل إلى ما يسن إيصال الماء إليه في الاستنشاق فهو في حكم
الباطن حينئذ توفيقا بين العبارات، وقول من قال إذا نزل الدم إلى مالان من الانف نقض
لا يقتضي عدم النقض إذا وصل إلى ما اشتد منه لا بالمفهوم والصريح بخلافه، وقد أوضحه
في غاية البيان والعناية والمراد بالوصول المذكور سيلانه.
واختلف في حده ففي المحيط حده أن يعلو وينحدر. عن أبي يوسف وعن محمد إذا
انتفخ على رأس الجرح وصار أكبر من رأسه نقض، والصحيح الأول. وفي الدراية جعل قول
محمد أصح واختاره السرخسي، وفي فتح القدير أنه الأولى، وفي مبسوط شيخ الاسلام تورم
رأس الجرح فظهر به قيح ونحوه لا ينقض ما لم يجاوز الورم لأنه لا يجب غسل موضع الورم
63

فلم يتجاوزه إلى موضع يلحقه التطهير، ثم الجرح والنفطة وماء السرة والثدي والاذن والعين
إذا كان لعلة سواء على الأصح. وعن الحسن أن ماء النفطة لا ينقض. قال الحلواني: وفيه
توسعة لمن به جرب أو جدري كذا في المعراج: وفي التبيين والقيح: الخارج من الاذن أو
الصديد إن كان بدون الوجع لا ينقض ومع الوجع ينقض لأنه دليل الجرح روي ذلك عن
الحلواني ا ه‍. وفيه نظر بل الظاهر إذا كان الخارج قيحا أو صديدا ينقض سواء كان مع وجع
أو بدونه لأنهما لا يخرجان إلا عن علة، نعم هذا التفصيل حسن فيما إذا كان الخارج ماء
ليس غير. وفيه أيضا: ولو كان في عينيه رمد أو عمش يسيل منهما الدموع - قالوا - يؤمر
بالوضوء لوقت كل صلاة لاحتمال أن يكون صديدا أو قيحا ا ه‍. وهذا التعليل يقتضي أنه
أمر استحباب فإن الشك والاحتمال في كونه ناقضا لا يوجب الحكم بالنقض إذ اليقين لا
يزول بالشك، نعم إذا علم من طريق غلبة الظن بأخبار الأطباء أو بعلامات تغلب على ظن
المبتلي يجب. ولو كان الدم في الجرح فأخذه بخرقة أو أكله الذباب فازداد في مكانه، فإن كان
بحيث يزيد ويسيل لو لم يأخذه بنفسه بطل وضوءه وإلا فلا. وكذلك إذا ألقى عليه تراب أو
رماد ثم ظهر ثانيا وتربه ثم وثم فهو كذلك يجمع كله. قال في الذخيرة قالوا: وإنما يجمع إذا
كان في مجلس واحد مرة بعد أخرى، أما إذا كان في مجالس مختلفة لا يجمع. ولو ربط الجرح
فنفذت البلة إلى طاق لا إلى الخارج نقض. قال في فتح القدير: ويجب أن يكون معناه إذا كان
64

بحيث لولا الرباط سال لأن القميص لو تردد على الجرح فابتل لا ينجس ما لم يكن كذلك
لأنه ليس بحدث. وفي المحيط: مص القراد فامتلأ إن كان صغيرا لا ينقض كما لو مص
الذباب وإن كان كبيرا نقض كمص العلقة ا ه‍. وعللوه بأن الدم في الكبير يكون سائلا
قالوا: ولا ينقض ما ظهر من موضعه ولم يرتق كالنفظة إذا قشرت، ولا ما ارتقى عن موضعه
ولم يسل كالدم المرتقى من مغرز الإبرة، والحاصل في الخلال من الأسنان، وفي الخبز من
العض، وفي الإصبع من إدخاله في الانف. وفي منية المصلي: ولو استنثر فسقطت من أنفه
كتلة دم لم تنقض وضوءه وإن قطرت قطرة دم انتقض ا ه‍..
وأما ما سال بعصر وكان بحيث لو لم يعصر لم يسل قالوا لا ينقض لأنه ليس بخارج
وإنما هو مخرج وهو مختار صاحب الهداية، وقال شمس الأئمة ينقض وهو حدث عمد عنده
وهو الأصح كذا في فتح القدير معزيا إلى الكافي لأنه لا تأثير يظهر للاخراج وعدمه في هذا
الحكم بل لكونه خارجا نجسا، وذلك يتحقق مع الاخراج كما يتحقق مع عدمه فصار
كالفصد، كيف وجميع الأدلة الموردة من السنة والقياس يفيد تعليق النقض بالخارج النجس
وهو ثابت في المخرج ا ه‍. وضعفه في العناية بأن الاخراج ليس بمنصوص عليه وإن كان
يستلزمه فكان ثبوته غير قصدي ولا معتبر به ا ه‍. وهذا كله مذهبنا واستدلوا له بأحاديث
ضعفها في فتح القدير، وأحسن ما يستدل به حديث فاطمة والقياس. أما الأول فما رواه
البخاري عن عائشة جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني
امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا
65

أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم. قال هشام بن عروة قال أبي: ثم
توضئي لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت. وما قيل إنه من كلام عروة دفع بأنه خلاف
الظاهر لأنه لما كان على مشاكلة الأول لزم كونه من قائل الأول فكان حجة لنا لأنه علل
وجوب الوضوء بأنه دم عرق وكل الدماء كذلك. وأما القياس فبيانه أن خروج النجاسة مؤثر
في زوال الطهارة شرعا وقد عقل في الأصل وهو الخارج من السبيلين أن زوال الطهارة عنده
وهو الحكم إنما هو بسبب أنه نجس خارج من البدن إذ لم يظهر لكونه من خصوص السبيلين
تأثير وقد وجد في الخارج من غيرهما وفيه المناط فيتعدى الحكم إليه، فالأصل الخارج من
السبيلين وحكمه زوال الطهارة وعلته خروج النجاسة من البدن وخصوص المحل ملغى،
والفرع الخارج النجس من غيرهما وفيه المناط فيتعدى إليه زوال الطهارة التي موجبها
الوضوء، فثبت أن موجب هذا القياس ثبوت زوال طهارة الوضوء. وإذا صار زائل الطهارة
فعند إرادة الصلاة يتوجه عليه خطاب الوضوء وهو تطهير الأعضاء الأربعة، وإذا صار
خروج النجاسة من غير السبيلين كخروجها من السبيلين يرد أن يقال لما اشترطتم في الفرع
السيلان أو ملء الفم في القئ مع عدم اشتراطه في الأصل، فأجيب بأن النقض بالخروج
وحقيقته من الباطن إلى الظاهر وذلك بالظهور في السبيلين يتحقق وفي غيرهما بالسيلان إلى
موضع يلحقه التطهير لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية لا خارجة والفم
ظاهر من وجه باطن من وجه فاعتبر ظاهرا في ملء الفم باطنا فيما دونه.
قوله (وقئ ملا فاه) أي وينقضه قئ ملا فم المتوضئ. أفرده بالذكر وإن كان داخلا
في الأول لمخالفته في حد الخروج، كذا في التبيين. وإنما لم يفرد الخارج من غير السبيلين
66

مع مخالفته للخارج منهما كما في الوافي لما أن السيلان مستفاد من الخروج كما قدمناه بخلاف
ملء الفم، وقد تقدم الدليل لمذهبنا وهو مذهب العشرة المبشرين بالحجة ومن تابعهم.
واختلف في حد ملء الفم فصحح في المعراج وغيره أنه ما لا يمكن إمساكه إلا بكلفة،
وصحح في الينابيع أنه مالا يقدر على إمساكه، ووجهه أن النجس حينئذ يخرج ظاهرا لأن
هذا القئ ليس إلا من قعر المعدة، فالظاهر أنه مستصحب للنجس بخلاف القليل فإنه من
أعلى المعدة فلا يستصحبه، ولان للفم بطونا معتبرا شرعا حتى لو ابتلع الصائم ريقه لا يفسد
صومه كما لو انتقلت النجاسة من محل إلى آخر في الجوف وظهورا حتى لا يفسد الصوم
بإدخال الماء فيه فراعينا الشبهين فلا ينقض القليل ملاحظة للبطون وينقض الكثير للآخر
لخروج النجس ظاهرا. قوله (ولو مرة أو علقا أو طعاما أو ماء) بيان لعدم الفرق بين أنواع
القئ. والعلق ما اشتدت حمرته وجمد أطلق في الطعام والماء. قال الحسن: إذا تناول طعاما
أو ماء ثم قاء من ساعته لا ينقض لأنه طاهر حيث لم يستحل وإنما اتصل به قليل القئ فلا
يكون حدثا فلا يكون نجسا، وكذا الصبي إذا ارتضع وقاء من ساعته وصححه في المعراج
وغيره. ومحل الاختلاف ما إذا وصل إلى معدته ولم يستقر، أما لو قاء قبل الوصول إليها وهو
في المرئ فإنه لا ينقض اتفاقا كما ذكره الزاهدي. وفي فتح القدير: لو قاء دودا كثيرا أو
حية ملأت فاه لا ينقض لأن ما يتصل به قليل وهو غير ناقض ا ه‍. وقد يقال: ينبغي على
قول من حكم بنجاسة الدود أن ينقض إذا ملا الفم.
قوله (لا بلغما) عطف على مرة أي لا ينقضه بلغم أطلقه فشمل ما إذا كان من الرأس
أو من الجوف ملا الفم أو لا، مخلوطا بطعام أو لا، إلا إذا كان الطعام ملء الفم. وعند أبي
يوسف ينقض المرتقى من الجوف أن ملا الفم كسائر أنواع القئ لأنه يتنجس في المعدة
بالمجاورة بخلاف النازل من الرأس فإنها ليست محل النجاسة، ولهما أنه لزج صقيل لا
يتداخله أجزاء النجاسة فصار كالبزاق، وما يتصل به من القئ قليل ولا يرد ما إذا وقع
البلغم في النجاسة فإنه يحكم بنجاسته لأن كلامنا فيما إذا كان في الباطن، وأما إذا انفصل
قلت ثخانته وازدادت رقته فقبلها، هكذا في كثير من الكتب وهو ظاهر في أن البلغم ليس
67

نجسا اتفاقا وإنما نجسه أبو يوسف للمجاورة، وهما حكما بطهارته وأن الخلاف في الصاعد
من المعدة فاندفع به قول من قال إن البلغم نجس عند أبي يوسف لأنه إحدى الطبائع الأربع
حتى قال في الخلاصة: إن من صلى ومعه خرقة المخاط لا تجوز صلاته عند أبي يوسف إن
كان كثيرا فاحشا إذ لو كان كذلك لاستوى النازل من الرأس والمرتقى من الجوف، وقد
قالوا: لا خلاف في طهارة الأول. واندفع به ما في البدائع أنه لا خلاف في المسألة في
الحقيقة بأن جواب أبي يوسف في الصاعد من المعدة وأنه حدث بالاجماع لأنه نجس وجوابهما
في الصاعد من حواشي الحلق وأطراف الرئة وأنه ليس بحدث إجماعا لأنه طاهر فينظر إن كان
صافيا غير مخلوط بالطعام تبين أنه لم يصعد من المعدة فلا يكون حدثا، وإن كان مخلوطا بشئ
من ذلك تبين أنه صعد منها فيكون حدثا وهذا هو الأصح ا ه‍. ويدل على ضعفه أن المنقول
في الكتب المعتمدة أن البلغم إذا كان مخلوطا بالطعام لا ينقض إلا إذا كان الطعام غالبا بحيث
لو انفرد ملا الفم، أما إذا كان الطعام مغلوبا فلا ينقض مع تحقق كونه من المعدة. قال في
الخلاصة: فإن استويا لا ينقض. وفي صلاة المحسن قال: العبرة للغالب ولو استويا يعتبر
كل على حدة. قال في فتح القدير: وعجز هذا أولى من عجز ما في الخلاصة. وفي شرح
الجامع الصغير لقاضيخان: الخلاف في البلغم وهو ما كان منعقدا متجمدا، أما البزاق وهو
ما لا يكون متجمدا فلا ينقض بالاجماع. وذكر العلامة يعقوب باشاه أن في قولهما إن ما
يتصل بالبلغم من القئ قليل وهو غير ناقض إشارة إلى أنه ينبغي أن ينتقض الوضوء بقئ
البلغم إذا تكرر جدا مع اتحاد المجلس أو السبب ويبلغ بالجمع حد الكثرة ا ه‍. وقد يقال:
الظاهر عدم اعتباره لأنه إنما يجمع إذا كان غير مستهلك، أما إذا كان مغلوبا مستهلكا فلا،
وصرحوا في باب الأنجاس أن نجاسة القئ مغلظة. وفي معراج الدراية وعن أبي حنيفة قاء
طعاما أو ماء فأصاب إنسانا شبرا في شبر لا يمنع. وفي المجتبى: الأصح أنه لا يمنع ما لم
يفحش ا ه‍. وهو صريح في أن نجاسته مخففة. وحمله في فتح القدير على ما إذا قاء من
68

ساعته وهو غير صحيح لأنه حينئذ طاهر كما قدمنا أنه غير ناقض. وألحقوا بالقئ ماء فم
النائم إذا صعد من الجوف بأن كان أصفر أو منتنا وهو مختار أبي نصر، وصحح في الخلاصة
طهارته وعند أبي يوسف نجس، ولو نزل من الرأس فطاهر اتفاقا وفي التنجيس أنه طاهر
كيفما كان وعليه الفتوى.
قوله (أو دما غلب عليه البصاق) معطوف على البلغم أي لا ينقض الدم الخارج من
الفم المغلوب بالبصاق لأن الحكم للغالب فصار كأنه كله بزاق، قيد بغلبة البزاق لأنه لو كان
مغلوبا والدم غالب نقض لأنه سال بقوة نفسه. وإن استويا نقض أيضا لاحتمال سيلانه
بنفسه أو أسأله غيره فوجد الحدث من وجه فرجحنا جانب الوجود احتياطا بخلاف ما إذا
شك في الحدث لأنه لم يوجد إلا مجرد الشك ولا عبرة له مع اليقين، كذا في المحيط. قالوا:
علامة كون الدم غالبا أو مساويا أن يكون أحمر، وعلامة كونه مغلوبا أن يكون أصفر، وقيدنا
بكونه خارجا من الفم الخ. لأنه لو كان صاعدا من الجوف مائعا غير مخلوط بشئ فعند محمد
ينقض إن ملا الفم كسائر أنواع القئ، وعندهما إن سال بقوة نفسه نقض الوضوء، وإن كان
قليلا لأن المعدة ليست بمحل الدم فيكون من قرحة في الجوف، كذا في الهداية. واختلف
التصحيح فصحح في البدائع قولهما قال وبه أحد عامة المشايخ. وقال الزيلعي: إنه المختار
وصحح في المحيط قول محمد وكذا في السراج معزيا إلى الوجير، ولو كان مائعا نازلا من
الرأس نقض، قل أو كثر، بإجماع أصحابنا. ولو كان علقا متجمدا يعتبر فيه ملء الفم
بالاتفاق لأنه سوداء محترقة، وأما الصاعد من الجوف المختلط بالبزاق فحكمه ما بيناه في
الخارج من الفم المختلط بالبزاق لا فرق في المخلوط بالبزاق بين كونه من الفم أو الجوف وهو
ظاهر إطلاق الشارحين كصاحب المعراج وغاية البيان وجامع قاضيخان والكافي والينابيع
والمضمرات، وصرح بعدم الفرق في شرح مسكين. ونقل ابن الملك في شرحه على المجمع
69

أن الدم الصاعد من الجوف إذا غلبه البزاق لا ينقض اتفاقا. وظاهر كلام الزيلعي أن الدم
الصاعد من الجوف المختلط بالبزاق ينقض قليله وكثيره على المختار، ولا يخفى عدم صحته
لمخالفته المنقول مع عدم تعقل فرق بين الخارج من الفم والخارج من الجوف المختلطين
بالبزاق. وقد استفيد مما ذكروا هنا أن ما خرج من المعدة لا ينقض ما لم يملا الفم وما لم
يخرج منها كالدم ينقض قليله وكثيره إذا وصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير، وإنما كان
كذلك لأن الفم له تعلق بالمعدة من حيث إن وصول الطعام إليها منه فكان منها لاتصاله بها
فيجوز أن يلحق بها في حق ما يخرج منها إذا كان قليلا بخلاف الدم لأن المعدة ليست
بموضعه، ولا ضرورة في حكم الدم فيكون له حكم الظاهر من كل وجه، وكذا في معراج
الدراية. وفي شرح النقاية: ولو كان في البزاق عروق الدم فهو عفو. وفي السراج الوهاج:
وإن استعط فخرج السعوط إلى الفم إن ملا الفم نقض، وإن خرج من الاذنين لا ينقض وفيه
تأمل. وحمله بعضهم على أنه وصل إلى الجوف في المسألة الأولى ثم خرج وإلا فهو لم يصل
إلى موضع النجاسة لكن في البدائع خلاف في النقض في المسألة الأولى ووجه القول بالنقض
بما ذكرنا. وقال السراج الهندي: علامة كونه وصل إلى الجوف أن يتغير والتغير أن يستحيل
70

إلى نتن وفساد فحينئذ يكون نجسا. والبزاق بالزاي والسين والصاد لغات كما في شرح المنية.
واعلم أن حكم الصوم كحكم الوضوء هنا حتى إذا ابتلع البصاق وفيه دم إن كان الدم غالبا
أو كان سواء أفطر وإلا فلا.
قوله (والسبب يجمع متفرقة) أي متفرق القئ. وصورته لو قاء مرارا كل مرة دون ملء
الفم ولو جمع ملا الفم يجمع وينقض الوضوء إن اتحد السبب وهو الغثيان وهو مصدر غثت
نفسه إذا جاشت، وإن اختلف السبب لا يجمع. وتفسير اتحاده أن يقئ ثانيا قبل سكون النفس
من الغثيان، وإن قاء ثانيا بعد سكون النفس كان مختلفا وهذا عند محمد. وقال أبو يوسف:
يجمع إن اتحد المجلس اتحاد ما يحتوي عليه المجلس كما ذكره الحدادي لأن للمجلس أثرا في جمع
المتفرقات، ولهذا تتحد الأقوال المتفرقة في النكاح والبيع وسائر العقود باتحاد المجلس، وكذلك
التلاوات المتعددة لآية السجدة تتحد باتحاد المجلس. ولمحمد رحمه الله أن الحكم يثبت على
حسب ثبوت السبب من الصحة والفساد فيتحد باتحاده، ألا ترى أنه إذا جرح جراحات ومات
منها قبل البرء يتحد الموجب وإن تخلل البرء اختلف. قال المصنف في الكافي: والأصح قول
محمد لأن الأصل إضافة الأحكام إلى الأسباب، وإنما ترك في بعض الصور للضرورة كما في
سجدة التلاوة إذا لو اعتبر السبب لانتفى التداخل لأن كل تلاوة سبب. وفي الأقارير اعتبر
المجلس للعرف، وفي الايجاب والقبول لدفع الضرر ا ه‍. ثم هذه المسألة على أربعة أوجه: إما
أن يتحد السبب والمجلس أو يتعدد أو يتحد الأول دون الثاني أو على العكس. ففي الأول يجمع
اتفاقا، وفي الثاني لا يجمع اتفاقا، وفي الثالث يجمع عند محمد، وفي الرابع يجمع عند أبي
يوسف. وقد نقلوا في كتاب الغصب مسألة اعتبر فيها محمد المجلس، وأبو يوسف اعتبر السبب
وهي رجل نزع خاتما من أصبع نائم ثم أعادها، إن أعادها في ذلك النوم يبرأ من الضمان
إجماعا، وإن استيقظ قبل أن يعيدها ثم نام في موضعه ولم يقم منه فأعادها في النومة الثانية لا
يبرأ من الضمان عند أبي يوسف لأنه لما انتبه وجب ردها إليه فما لم يردها إليه حتى نام لم يبرأ
بالرد إليه وهو نائم بخلاف الأولى، لأن هناك وجب الرد إلى نائم، وهنا لما استيقظ وجب الرد
إلى مستيقظ فلا يبرأ بالرد إلى النائم. وعند محمد يبرأ لأنه ما دام في مجلسه ذلك لا ضمان عليه
وإن تكرر نومه ويقظته، فإن قام عن مجلسه ذلك ولم يردها إليه ثم نام في موضع آخر فردها إليه
لم يبرأ من الضمان إجماعا لاختلاف المجلس والسبب، كذا في السراج الوهاج معزيا إلى
الواقعات ولم يذكر لأبي حنيفة فيها قولا. وقال قاضيخان في فتاواه من الغصب ولم يذكر في
هذه المسائل قول أبي حنيفة فإن الصحيح من مذهبه أنه لا يضمن إلا بالتحويل ا ه‍. والذي
يظهر أن الخلاف في مسألة الغصب ليس بناء على اتحاد السبب أو المجلس فإن النوم ليس سببا
في براءته، بل السبب فيها إنما هو رده إلى صاحبه لكن أبو يوسف نظر إلى أنه أخذه وهو نائم
ثم وجب الرد إليه وهو مستيقظ، فلما لم يرده حتى نام ثانيا لم يبرأ، ومحمد نظر إلى أنه ما دام في
71

مجلسه لم يضمن. وقد تكرر لفظ المعدة فلا بأس بضبطها وهي بفتح الميم وكسر العين وبكسر
الميم وإسكان العين كذا في شرح المهذب.
قوله (ونوم مضطجع ومتورك) بيان للنواقض الحكمية بعد الحقيقية. والنوم فترة طبيعية
تحدث في الانسان بلا اختيار منه وتمنع الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها
واستعمال العقل مع قيامه فيعجز العبد عن أداء الحقوق. وللعلماء في النوم طريقتان ذكرهما
في المبسوط وتبعه شراح الهداية: إحداهما أن النوم ليس بناقض إنما الناقض ما لا يخلو عنه
النائم فأقيم السبب الظاهر مقامه كما في السفر، وكما إذا دخل الكنيف وشك في وضوئه
فإنه ينتقض وضوءه لجريان العادة عند الدخول في الخلاء بالتبرز. الثانية أن عينه ناقض
وصحح في السراج الوهاج الأول فاختاره الزيلعي مقتصرا عليه لأنه لو كان ناقضا لاستوى
وجوده في الصلاة وخارجها. فما في التوشيح من أن عينه ليس بناقض اتفاقا فيه نظر، ولما
كان النوم مظنة الحدث أدير الحكم على ما يتحقق معه الاسترخاء على الكمال وهو في
المضطجع. والاضطجاع وضع الجنب على الأرض، يقال ضجع الرجل إذا وضع جنبه
بالأرض واضطجع مثله في الصحاح. ويلحق به المستلقي على قفاه والنائم المستلقي على
وجهه، وأما من نام واضعا أليتيه على عقبيه وصار شبه المنكب على وجهه واضعا بطنه على
فخذيه لا ينتقض وضوؤه، كذا في النهاية والمعراج وعزاه في فتح القدير إلى الذخيرة ثم قال:
وفي غيرها نام متربعا ورأسه على فخذيه نقض وهذا يخالف ما في الذخيرة ا ه‍. وفي
المحيط: لو نام قاعدا واضعا أليتيه على عقبيه شبه المنكب. قال محمد: عليه الوضوء. وقال
أبو يوسف: لا وضوء عليه وهو الأصح ا ه‍. فأفاد أن في المسألة اختلافا بين الصاحبين وأن
ما في النهاية وغيرها الأصح أطلق في المضطجع فشمل المريض إذا نام في صلاته مضطجعا
وفيه خلاف والصحيح النقض. وقيل: لا لأن نومه قاعدا كنوم الصحيح قائما، وأما التورك
فلفظ مشترك، فإن كان بمعنى أن جلسته تكشف عن المخرج كما إذا نام على أحد وركيه أو
معتمدا على أحد مرفقيه فهذا ناقض وهو مراد المصنف بدليل ما علل به في الكافي، وإن كان
72

بمعنى أن يبسط قدميه من جانب ويلصق أليتيه بالأرض فهذا غير ناقض كما في الخلاصة،
ولم يذكر المصنف الاستناد إلى شئ لو أزيل عنه لسقط لأنه لا ينقض في ظاهر المذهب عن
أبي حنيفة. إذا لم تكن مقعدته زائلة عن الأرض كما في الخلاصة وبه أخذ عامة المشايخ وهو
الأصح كما في البدائع، وإن كان مختار القدوري النقض. وأما إذا كانت مقعدته زائلة فإنه
ينقض اتفاقا وهو بمعنى التورك فلذا تركه. وفي الخلاصة: ولو نام على رأس التنور وهو
جالس قد أدلى رجليه كان حدثا. وفي المبتغى: ولو نام محتبيا ورأسه على ركبتيه لا ينقض.
وفي المحيط: لو نام على دابة وهي عريانة قالوا: إن كان في حالة الصعود والاستواء لا يكون
حدثا، وإن كان في حالة الهبوط يكون حدثا لأن مقعدته متجافية عن ظهر الدابة ا ه‍. وفي
هذه المواضع التي يكون فيها حدثا فهو بمعنى التورك فلم يخرج عن كلام المصنف، وقيد
المصنف بنوم المضطجع والمتورك لأنه لا ينقض نوم القائم ولا القاعد ولو في السراج أو
المحمل كما في الخلاصة، ولا الراكع ولا الساجد مطلقا إن كان في الصلاة وإن كان خارجها
فكذلك إلا في السجود فإنه يشترط أن يكون على الهيئة المسنونة له بأن يكون رافعا بطنه عن
فخذيه مجافيا عضديه عن جنبيه.
وإن سجد على غير هذه الهيئة انتقض وضوؤه لأن في الوجه الأول الاستمساك باق
والاستطلاق منعدم بخلافه في الوجه الثاني، وهذا هو القياس في الصلاة إلا أنا تركناه فيها
73

بالنص، كذا في البدائع وصرح الزيلعي بأنه الأصح. وسجدة التلاوة في هذا كالصلبية وكذا
سجدة الشكر عند محمد خلافا لأبي حنيفة. كذا في فتح القدير وكذا في سجدتي السهو كذا
في الخلاصة. وأطلق في الهداية الصلاة فشمل ما كان عن تعمد وما عن غلبة. وعن أبي
يوسف: إذا تعمد النوم في الصلاة نقض والمختار الأول. وفي فصل ما يفسد الصلاة من
فتاوى قاضيخان. وعن أبي يوسف: إذا تعمد النوم في الصلاة نقض والمختار الأول. وفي
فصل ما يفسد الصلاة من فتاوى قاضيخان: لو نام في ركوعه أو سجوده إن لم يتعمد لا
تفسد، وإن تعمد فسدت في السجود دون الركوع ا ه‍. كأنه مبني على قيام المسكة حينئذ في
الركوع دون السجود، ومقتضى النظر أن يفصل في ذلك السجود إن كان متجافيا لا تفسد وإلا
تفسد كذا في فتح القدير. وقد يقال مقتضى الأصح المتقدم أن لا ينتقض بالنوم في
السجود مطلقا وينبغي حمل ما في الخانية على رواية أبي يوسف. وفي جامع الفقه أن النوم في
الركوع والسجود لا ينقض الوضوء ولو تعمده ولكن تفسد صلاته كذا في شرح منظومة ابن
وهبان. وفي الخلاصة: لو نام قاعدا فسقط على الأرض عن أبي حنيفة أنه إن انتبه قبل أن
74

يصيب جنبه الأرض أو عند إصابة جنبه الأرض بلا فصل لم ينتقض وضوؤه، وعن أبي
يوسف أنه ينتقض، وعن محمد أنه إن انتبه قبل أن تزايل مقعدته الأرض لم ينتقض وضوءه،
وإن زايل مقعدته الأرض قبل أن ينتبه انتقض، والفتوى على رواية أبي حنيفة، قال شمس
الأئمة الحلواني: ظاهر المذهب عن أبي حنيفة كما روي عن محمد قيل هو المعتمد، وسواء
سقط أو لم يسقط. وإن نام جالسا وهو يتمايل ربما تزول مقعدته عن الأرض وربما لا
تزول. قال شمس الأئمة الحلواني: ظاهر المذهب أنه لا يكون حدثا. ولو وضع يده على
الأرض فاستيقظ لا ينتقض الوضوء، سواء وضع بطن الكف أو ظهر الكف ما لم يضع جنبه
على الأرض قبل التيقظ ا ه‍. وقيد بالنوم لأن النعاس مضطجعا لا ذكر له في المذهب،
والظاهر أنه ليس بحدث. وقال أبو علي الدقاق وأبو علي الرازي: إن كان لا يفهم عامة ما
قيل عنده كان حدثا كذا في شروح الهداية. وبهذا تبين أن ما في التبيين على قول الشيخين لا
على الظاهر، وعليه يحمل ما في سنن البزار بإسناد صحيح: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة. فإن النوم مضطجعا
ناقض إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم. صرح في القنية بأنه من خصوصياته ولهذا ورد في الصحيحين
أن النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ لما ورد في حديث آخر أن عيني
75

تنامان ولا ينام قلبي. ولا يشكل عليه ما ورد في الصحيح من أنه نام ليلة التعريس حتى
طلعت الشمس لأن القلب يقظان يحس بالحدث وغيره مما يتعلق بالبدن ويشعر به القلب،
وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك ولا هو مما يدرك بالقلب وإنما يدرك بالعين وهي
نائمة، وهذا هو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء كذا في شرح المهذب.
قوله (وإغماء وجنون) أي وينقضه إغماء وجنون. أما الاغماء فهو ضرب من المرض
يضعف القوى ولا يزيل الحجا أي العقل بل يستره بخلاف الجنون فإنه يزيله، ولذا لم يعصم
النبي صلى الله عليه وسلم من الاغماء كالأمراض وعصم من الجنون وهو كالنوم في فوت الاختيار وفوت
استعمال القدرة حتى بطلت عباراته بل أشد منه لأن النوم فترة أصلية وإذا نبه انتبه، والاغماء
عارض لا يتنبه صاحبه إذا نبه فكان حدثا بكل حال، ولذا أطلقه في المختصر بخلاف النوم
فإنه لا يكون حدثا إلا إذا استرخت مفاصله غاية الاسترخاء فغلب الخروج حينئذ فأقيم
السبب مقامه بخلافه في غير هذه الحالة فإن الغالب فيها عدمه فلا يقام السبب مقامه فكان
عدم النقض على أصل القياس الذي يقتضي أن غير الخارج لا ينقض، وبهذا اندفع ما وقع
في كثير من الكتب من أن القياس أن يكون النوم حدثا في الأحوال كلها. وقد نقل النووي
في شرح المهذب الاجماع على ناقضية الاغماء والجنون. يقال أغمي عليه وهو مغمى عليه
وغمي عليه فهو مغمى عليه، ورجل غمي أي مغمى عليه وكذا الاثنان والجمع والمؤنث،
وقد ثناه بعضهم وجمعه فقال رجلان أغميان ورجال أغماء. وأما الجنون فهو زوال العقل
ونقضه ظاهر باعتبار عدم مبالاته وتمييز الحدث من غيره. وعلله بعض المشايخ بغلبة
الاسترخاء، ورد بأن الجنون قد يكون أقوى من الصحيح فالأولى ما قلناه كذا في العناية.
وأما العتة فلم أر من ذكره من النواقض ولا بد من بيان حقيقته وحكمه. أما الأول فهو آفة
توجب الاختلال بالعقل بحيث يصير مختلط الكلام فاسد التدبير لأنه لا يضرب ولا يشتم.
وأما الثاني فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: ففي أصول فخر الاسلام وشمس الأئمة والمنار
والمغني والتوضيح أنه كالصبي مع العقل في كل الأحكام فيوضع عنه الخطاب. وفي التقويم
لأبي زيد الدبوسي أن حكمه حكم الصبي مع العقل إلا في العبادات فإنا لم نسقط عنه
الوجوب به احتياطا في وقت الخطاب، ورده صدر الاسلام أبو اليسر بأنه نوع جنون فمنع
الوجوب لأنه لا يقف على العواقب. وفي أصول البستي أن المعتوه ليس بمكلف بأداء
العبادات كالصبي العاقل إلا أنه إذا زال العتة توجه عليه الخطاب بالأداء حالا وبقضاء ما
مضى إذا لم يكن فيه حرج كالقليل فقد صرح بأنه يقضي القليل دون الكثير وإن لم يكن مخاطبا
فيما قبل كالنائم والمغمى عليه دون الصبي إذ بلغ وهو أقرب إلى التحقيق، كذا في شرح
المغني للهندي. وظاهر كلام الكل الاتفاق على صحة أدائه العبادات، أما من جعله مكلفا بها
76

فظاهر، وكذا من لم يجعله مكلفا لأنه جعله كالصبي العاقل وقد صرحوا بصحة عباداته فيفهم
منه أن العتة لا ينقض الوضوء والله سبحانه الموفق.
قوله (وسكر) أي وينقضه سكر وهو سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب
الموجبة له فيمتنع الانسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله، ولذا بقي أهلا
للخطاب. وقيل إنه يزيله وتكليفه مع زوال عقله بطريق الزجر عليه، والتحقيق الأول لما
ذكره الحكيم الترمذي في نوادره: العقل في الرأس وشعاعه في الصدر والقلب، فالقلب
يهتدي بنوره لتدبير الأمور وتمييز الحسن من القبيح، فإذا شرب الخمر خلص أثرها إلى الصدر
فحال بينه وبين نور العقل فيبقى الصدر مظلما فلم ينتفع القلب بنور العقل فسمي ذلك سكرا
لأنه سكر حاجز بينه وبين العقل. وقد اختلف في حده هنا ففي الخلاصة والولواجية
والينابيع ونقله في المضمرات والتبيين عن صدر الاسلام وعزاه مسكين إلى شرح المبسوط أن
حده هو وحده في وجوب الحد وهو من لا يعرف الرجل من المرأة. وقال شمس الأئمة
الحلواني: هو من حصل في مشيته اختلال وصححه في المجتبى وشرح الوقاية والمضمرات
وشرح مسكين. قالوا: وكذا الجواب في الخنث إذا حلف أنه ليس بسكران وكان على الصفة
التي قلنا يحنث في يمينه وإن لم يكن بحال لا يعرف الرجل من المرأة. وقد ذكر ابن وهبان
في منظومته أن السكر يبطل الوضوء والصلاة وهو محمول على أنه شرب المسكر فقام إلى
الصلاة قبل أن يصير إلى هذه الحالة ثم صار في أثنائها إلى حالة لو مشى فيها يتحرك.
قوله (وقهقهة مصل بالغ) أي وينقضه قهقهة وهي في اللغة معروفة وهو أن يقول قه قه
وقهقه بمعنى. واصطلاحا ما يكون مسموعا له ولجيرانه بدت أسنانه أو لا. وظاهر كلام
المصنف وجماعة أن القهقهة من الاحداث. وقال بعضهم: إنها ليست حدثا فإنما يجب الوضوء
بها عقوبة وزجرا وهو ظاهر كلام جماعة منهم القاضي أبو زيد الدبوسي في الاسرار وهو
موافق للقياس لأنها ليست خارجا نجسا بل هي صوت كالبكاء والكلام. وفائدة الخلاف أن
من جعلها حدثا منع جواز مس المصحف معها كسائر الاحداث، ومن أوجب الوضوء عقوبة
جوز مس المصحف معها، هكذا نقل الخلاف وفائدته في معراج الدراية. وينبغي ترجيح
الثاني لموافقته القياس وسلامته مما يقال من أنها ليست نجاسة ولا سببها وموافقة الأحاديث
77

فإنها على ما رووا ليس فيها إلا الامر بإعادة الوضوء والصلاة، ولا يلزم منه كونها من
الاحداث ولذا وقع الاختلاف في قهقهة النائم في الصلاة وصححوا في الأصول والفروع
أنها لا تنقض الوضوء ولا تبطل الصلاة بناء على أنها إنما أوجبت إعادة الوضوء بطريق الزجر
والعقوبة والنائم ليس من أهلها وهذا يرجح ما ذكرناه، لكن سوى فخر الاسلام بين كلام
النائم وقهقهته في أن كلا منهما لا يبطل الصلاة، والمذهب أن الكلام مفسد للصلاة كما صرح
به في النوازل بأنه المختار فحينئذ تكون القهقهة من النائم مفسدة للصلاة لا الوضوء وهو
مختار ابن الهمام في تحريره لأن جعلها حدثا للجناية ولا جناية من النائم فتبقى كلاما بلا
قصد فيفسد كالساهي به ا ه‍. وفي النصاب وعليه الفتوى وفي الولوالجية وهو المختار وفي
المبتغى: تكلم النائم في الصلاة مفسد في الأصح بخلاف القهقهة ا ه‍. ولا يخفى ما فيه فإن
القهقهة كلام على ما صرحوا به. وفي المعراج أن قهقهة النائم تبطلهما وبه أخذ عامة
المتأخرين احتياطا، وكذا وقع الاختلاف في الناسي كونه في الصلاة فجزم الزيلعي بأنه لا
فرق بين الناسي والعامد. وذكر في المعراج أن في الساهي والناسي روايتين، ولعل وجه
الرواية القائلة بعدم النقض أنه كالنائم إذ لا جناية إلا بالقصد، ولا يخفى ترجيح الرواية
القائلة بالنقض لما أن للصلاة حالة مذكرة لا يعذر بالنسيان فيها ألا ترى أن الكلام ناسيا
مفسد لها بخلاف النوم، ولا فرق بين كونه متوضئا أو متيمما، واتفقوا على أنها لا تبطل
الغسل. واختلفوا هل تنقض الوضوء الذي في ضمن الغسل فعلى قول عامة المشايخ لا
تنقض وصحح المتأخرون كقاضيخان النقض عقوبة له مع اتفاقهم على بطلان صلاته كما نبه
عليه في المضمرات، وفي قهقهة الباني في الطريق بعد الوضوء روايتان كذا في المعراج وجزم
الزيلعي بالنقض، قيل وهو الأحوط ولا نزاع في بطلان صلاته.
قيد بقوله مصل احترازا عن غيره وأطلقها فانصرفت إلى ما لها ركوع وسجود أو
ما يقوم مقامهما من الايماء لعذر أو راكبا يومئ بالنفل أو بالفرض حيث يجوز، فلا تنقض
القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لكن يبطلان قيدنا بقولنا حيث يجوز لأنه لو كان
78

راكبا يومئ بالتطوع في المصر أو القرية فقهقه لا ينتقض وضوؤه لعدم جواز صلاته عند أبي
حنيفة. وقال أبو يوسف: ينتقض لصحة صلاته عنده. ولو نسي الباني المسح فقهقه قبل
القيام إلى الصلاة نقض وبعده لا ينقض لبطلان الصلاة بالقيام إليها وهو من مسائل
الامتحان، كذا في المعراج. وأفاد إطلاقه أنها تنقض بعد القعود قدر التشهد خلافا لزفر ولو
عند السلام - كذا في المبتغى - أو في سجود السهو كذا في المحيط. ولو ضحك القوم بعد ما
أحدث الإمام متعمدا لا وضوء عليهم، وكذا بعد ما تكلم الإمام، وكذا بعد سلام الإمام هو
الأصح كذا في الخلاصة. وقيل: إذا قهقهوا بعد سلامه بطل وضوؤهم، والخلاف مبني على
أنه بعد سلام الإمام هل هو في الصلاة إلى أن يسلم بنفسه أو لا؟ وفي البدائع: إن قهقه
الإمام والقوم معا أو قهقهة القوم ثم الإمام بطلت طهارة الكل، وإن قهقه الإمام أولا ثم القوم
انتقض وضوؤه دونهم. وفي فتح القدير: ولو قهقه بعد كلام الإمام متعمدا فسدت طهارته
على الأصح خلاف ما في الخلاصة بخلافه بعد حدثه عمدا ا ه‍. ولم يبين الفرق بين كلام
الإمام عمدا وحدثه عمدا، والفرق بينهما أن الكلام قاطع للصلاة لا مفسد لها إذ لم يفوت
شرط الصلاة وهو الطهارة فلم يفسد به شئ من صلاة المأمومين ولو مسبوقا فينقض
وضوؤهم بقهقهتهم بخلاف حدثه عمدا لتفويته الطهارة فأفسدت جزءا يلاقيه فيفسد من
صلاة المأموم كذلك، فقهقهتهم بعد ذلك تكون بعد الخروج من الصلاة فلا تنقض، وسيأتي
إن شاء الله تعالى في باب الحدث تحقيق الفرق بأبسط من هذا. ولو أن محدثا غسل بعض
أعضاء الوضوء ففني الماء فتيمم وشرع في الصلاة فقهقه ثم وجد الماء عند أبي يوسف يغسل
باقي الأعضاء ويصلي، وعندهما يغسل جميعها بناء على أن القهقهة هل تبطل ما غسل من
أعضاء الوضوء؟ عنده لا، وعندهما نعم كذا في الخلاصة. وإذا كان شارعا في صلاة فرض
وبطل الوصف ثم قهقه، من قل ببطلان الأصل لا تنتقض طهارته بالقهقهة، ومن قال بعدمه
انتقضت كما إذا تذكر فائتة والترتيب فرض أو دخل وقت العصر في الجمعة أو طلعت
الشمس في الفجر. ومن اقتدى بإمام لا يصح اقتداؤه ثم قهقه لا ينتقض وضوؤه اتفاقا،
وكذا من قهقه بعد بطلان صلاته، وكذا إذا قهقه بعد خروجه كما إذا سلم قبل الإمام بعد
القعود ثم قهقه كذا في الخانية.
79

وقيد بالبلوغ لأن قهقهة الصبي لا تنقض وضوءه لكن تبطل صلاته، كذا في كثير من
الكتب. ونقل في السراج الوهاج الاجماع على عدم نقض وضوئه وفيه نظر، فقد ذكر في
معراج الدراية أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأول ما ذكرناه. الثاني عن نجم الأئمة البخاري
عن سلمة بن شداد أنها تنقض الوضوء دون الصلاة. الثالث عن أبي القاسم أنها تبطلهما إلا
أن يقال: لما كان القولان الأخيران ضعيفين كانا كالعدم. ووجه الأول أنها إنما أوجبت إعادة
الوضوء عقوبة وزجرا والصبي ليس من أهلها والأثر ورد في صلاة كاملة فيقتصر عليها فلا
تتعدى إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وصلاة الصبي وصلاة الباني بعد الوضوء على إحدى
الروايتين، وصلاة النائم على أحد القولين، وهذا كله مذهبنا. وقالت الأئمة الثلاثة: لا
تنقض أصلا قياسا على عدم نقضها خارج الصلاة، ولنا أن القياس ذلك لكن تركناه فيما إذا
كانت القهقهة في ذات ركوع وسجود بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا ومسندا: بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة وكان في بصره ضرر فضحك
كثير من القوم وهو في الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة.
وتمامه في فتح القدير: وما قيل بأنه لا يظن الضحك بالصحابة خلفه قهقهة، أجيب عنه بأنه
كان يصلي خلفه الصحابيون والمنافقون والاعراب الجهال، فالضاحك لعله كان بعض
الاحداث أو المنافقين أو بعض الاعراب لغلبة الجهل عليهم كما بال اعرابي في مسجد
النبي صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله تعالى * (وتركوك قائما) * (الجمعة: 11) فإنه لم يتركه كبار الصحابة
باللهو. قال في العناية: وهذا من باب حسن الظن بهم رضي الله عنهم وإلا فليس الضحك
كبيرة وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين ولا عن الكبائر على تقدير كونه كبيرة ا ه‍. والمنقول
في الأصول أن الصحابة عدول فهم محفوظون من المعاصي. وقيد بالقهقهة لأن الضحك بفتح
الضاد وكسر الحاء هذا أصله ويجوز إسكان الحاء مع فتح الضاد وكسرها فهي أربعة أوجه،
كذا في شرح المهذب، وهو في اللغة أعم من القهقهة وهي من أفراده. وفي الاصطلاح ما
كان مسموعا له فقط وحكمه أنه لا ينقض الوضوء بل يبطل الصلاة، وأما التبسم وهو ما لا
صوت فيه أصلا بأن تبدو أسنانه فقط فحكمه أنه لا يبطلهما لأنه صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة حين
أتاه جبريل عليه السلام وأخبره أن من صلى عليك مرة صلى الله عليه بها عشرا كما في
البدائع. وقال جابر بن عبد الله: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم ولو في الصلاة كما في
النهاية والعناية. وظاهر كلامهم أن التبسم في الصلاة غير مكروه ولذا قال في الاختيار: ولا
حكم للتبسم: وقد رأيت في كلام بعضهم أنه لو أتى بحرفين من القهقهة انتقض وضوءه
80

عملا بعدم تبعيض الحدث لأنه إذا وقع بعضه وقع كله قياسا لوقوعه على ارتفاعه بجامع أن
كلا منهما لا يتبعض ا ه‍. وقد يقال إن الحكم وهو النقض معلق بالقهقهة فإذا وجد بعضها لا
يوجد الحكم ولا بعضه لما عرف في الأصول أن المشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط فقوله
لأنه إذا وقع بعضه ممنوع كما لا يخفى.
قوله (ومباشرة فاحشة) يعني أن من النواقض الحكمية المباشرة الفاحشة وهي أن يباشر
امرأته متجردين ولاقى فرجها مع انتشار الآلة ولم ير بللا، ولم يشترط بعضهم ملاقاة الفرج
والظاهر الأول كذا ذكر الزيلعي، لكن المنقول في البدائع أن في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة
وأبي يوسف لم يشترط مماستهما وشرط ذلك في النوادر وذكره الكرخي أيضا ا ه‍. فعلم أن
ظاهر الرواية عدم الاشتراط وكذا ذكر في الينابيع وقال: وروى الحسن أنه يشترط وهو أظهر
ا ه‍. فقول من قال الظاهر الاشتراط أراد من جهة الدراية لا الرواية، وصحح الأسبيجابي
اشتراطه بعد أن ذكر أن ظاهر الرواية عدمه والقياس أن لا يكون حدثا وهو قول محمد، لأن
السبب إنما يقام مقام المسبب في موضع لا يمكن الوقوف على المسبب من غير حرج
والوقوف على المسبب هنا ممكن بلا حرج لأن الحال حال يقظة فلا حاجة إلى الإقامة. وجه
الاستحسان وهو قولهما ما روي أن أبا اليسر بائع العسل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أني
أصبت من امرأتي كل شئ إلا الجماع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ وصل ركعتين. كذا في
البدائع والله أعلم بصحة هذا الحديث، ولأنه يندر عدم مذي مع هذه الحالة والغالب
كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط، والأصل أن السبب الظاهر يقوم مقام الامر الباطن
وذلك بطريق قيام هذه المباشرة مقام خروج النجس، كذا في المصفى. وفي الحقائق
شرح المنظومة معزيا إلى فتاوى العتابي: روي عن أصحابنا أنه لا ينقض ما لم يظهر شئ هو
الصحيح ولا يعتمد على هذا التصحيح فقد صرح في التحفة كما نقله شارح المنية أن الصحيح
قولهما وهو المذكور في المتون. وفي فتح القدير معزيا إلى القنية: وكذا المباشرة بين الرجل
والغلام، وكذا بين الرجلين توجب الوضوء عليهما. وفي شرح منية المصلي معزيا إليها أيضا
أن الوضوء يجب على المرأة من المباشرة أيضا قال: ولم أقف عليه إلا في القنية وفيه تأمل فإنهم
لم يذكروا في مباشرة الرجل للمرأة على وقولهما إلا على الرجل ا ه‍. وقد يقال لا حاجة إلى
التنصيص على الحكم في المرأة فإن من المعلوم أن كل حكم ثبت للرجال ثبت للنساء لأنهن
شقائق الرجال إلا ما نص عليه. قال في المستصفى: الأصل في النساء أن لا يذكرن لأن
مبني حالهن على الستر ولهذا لم يذكرن في القرآن حتى شكون فنزل قوله تعالى * (إن المسلمين
والمسلمات) * (الأحزاب: 35) إلا إذا كان الحكم مخصوصا بهن كمسألة الصغيرة الآتية في
الغسل ا ه‍. ولأنه قد وقع في كثير من عبارات علمائنا أن المباشرة الفاحشة تنقض الوضوء
ولم يقيدوا بوضوء الرجل فكان وضوءها داخلا فيه كما لا يخفى.
81

قوله (لا خروج دودة من جرح) بالرفع عطف على خروج نجس أي لا ينقض الوضوء
خروج دودة من جرح، قيد به لأن الدودة الخارجة من أحد السبيلين تنقض الوضوء، والفرق
بينهما من ثلاثة أوجه: الأول أن الدودة لا تخلو عن قليل بلة تكون معها وتستصحبها وتلك
البلة قليل نجاسة، وقليل النجاسة إذا خرجت من أحد السبيلين انتقض الوضوء ومن غيرهما
غير ناقضة. الثاني أن الدودة حيوان وهو طاهر في الأصل والشئ الطاهر إذا خرج من
السبيلين نقض الوضوء كالريح بخلاف غير السبيلين كالدمع والعرق. الثالث أن الدودة في
الجرح متولدة من اللحم فصار كما لو انفصل قطعة من اللحم فإنه لا ينقض، وأما في
السبيلين تتولد من النجاسة فتكون في الخروج كالنجاسة الخارجة من أحدهما والخارج من
السبيلين، ناقض وقد قدمنا أنه لا فرق بين الدودة الخارجة من الدبر والقبل والذكر به يندمع
ما ذكره صدر الشريعة أن الدودة من الإحليل لا تنقض وأن الدودة من القبل فيها اختلاف
المشايخ. وفي شرح مسكين معزيا إلى الذخيرة: إن كان الماء يسيل من الجرح ينقض الوضوء،
ولا ينافيه ما في السراج الوهاج أنه لو دخل الماء في الجرح ثم خرج لا ينقض كما لا يخفى
بأدنى تأمل.
قوله (ومس ذكر) بالرفع عطف على المنفي أي لا ينقض الوضوء مس الذكر وكذا مس
الدبر والفرج مطلقا خلافا للشافعي فإن المس لواحد من الثلاثة ناقض للوضوء إذا كان بباطن
الأصابع. واستدل النووي له في شرح المهذب بما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ (1) وهو حديث حسن رواه مالك في الموطأ وأبو داود
والترمذي وابن ماجة بأسانيد صحيحة. ولنا ما رواه الجماعة أصحاب السنن إلا ابن ماجة
82

عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة فقال: هل هو إلا بضعة منك. وقد رواه ابن
حبان في صحيحه قال الترمذي هذا الحديث أحسن شئ يروى في هذا الباب وأصح، ورواه
الطحاوي أيضا وقال: هذا حديث مستقيم الاسناد غير مضطرب في إسناده ومتنه. فهذا
حديث صحيح معارض لحديث بسرة بنت صفوان ويرجح حديث طلق على حديث بسرة بأن
حديث الرجال أقوى لأنهم أحفظ للعلم وأضبط ولهذا جعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل
، وقد أسند الطحاوي إلى ابن المديني أنه قال: حديث ملازم بن عمرو أحسن من حديث
بسرة. وعن عمرو بن علي الفلاس أنه قال: حديث طلق عندنا أثبت من حديث بسرة بنت
صفوان، وقول النووي في شرح المهذب أن حديث طلق اتفق على ضعفه لا يخفى ما فيه إذ
قد علمت ما قاله الترمذي وغيره أن حديث بسرة ضعفه جماعة حتى قال يحيى بن معين:
ثلاثة أحاديث لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث مس الذكر. وقول النووي أيضا
ترجيحا لحديث بسرة بأن حديث طلق منسوخ لأن قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم كان في السنة الأولى
من الهجرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وراوي حديث بسرة أبو هريرة، وإنما قدم أبو
هريرة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة فغير لازم لأن ورود طلق إذ ذاك ثم رجوعه لا
ينفي عوده بعد ذلك وهم قد رووا عنه حديثا ضعيفا من مس ذكره فليتوضأ وقالوا: سمع
من النبي صلى الله عليه وسلم الناسخ والمنسوخ، ولان حديث طلق غير قابل للنسخ لأنه صدر على سبيل
التعليل فإنه عليه الصلاة والسلام ذكر أن الذكر قطعة لحم فلا تأثير لمسه في الانتقاض، وهذا
المعنى لا يقبل النسخ، كذا في معراج الدراية. وقول النووي أيضا إن حديث طلق محمول
على المس فوق حائل لأنه قال سألته عن مس الذكر في الصلاة والظاهر أن الانسان لا يمس
ذكره في الصلاة بلا حائل مردود بأن تعليله صلى الله عليه وسلم بقوله هل هو إلا بضعة منك يأبى
الحمل. والبضعة بفتح الموحدة القطعة من اللحم، وفي شرح الآثار للطحاوي لا نعمل أحدا
من الصحابة أفتى بالوضوء من مس الذكر إلا ابن عمر وقد خالفه في ذلك أكثرهم، وأسند
عن ابن عيينة أنه عد جماعة لم يكونوا يعرفون الحديث يعني حديث بسرة ومن رأيناه يحدث
83

عنهم سخرنا منه. ومما يدل على انقطاع حديث بسرة باطنا أن أمر النواقض مما يحتاج الخاص
والعام إليه وقد ثبت عن علي وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس
وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقاص أنهم لا يرون
النقض وإن روى عن غيرهم خلافه. وفي السنن للدارقطني حدثنا محمد بن الحسن النقاش
أخبرنا عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي أخبرنا رجاء بن مرجا الحافظ قال: اجتمعنا في
مسجد الخيف أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين فتناظرنا في مس الذكر
فقال يحيى بن معين: يتوضأ منه. وقال علي بن المديني بقول الكوفيين وتقلد قولهم. واحتج
يحيى بن معين بحديث بسرة بنت صفوان، واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق
وقال ليحيى: كيف تتقلد إسناد بسرة ومروان أرسل شرطيا حتى رد جوابها إليه؟ وقال يحيى:
وقد أكثر الناس في قيس بن طلق ولا يحتج بحديثه فقال ابن حنبل: كلا الامرين على ما
قلتما. فقال يحيى: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه توضأ من مس الذكر فقال ابن
المديني: كان ابن مسعود يقول: لا يتوضأ منه وإنما هو بضعة من جسدك. فقال يحيى عمن
قال عن سفيان عن أبي قيس عن هذيل عن عبد الله، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر فابن
مسعود أولى أن يتبع. فقال ابن حنبل: نعم ولكن أبو قيس لا يحتج بحديثه. فقال: حدثني
أبو نعيم أخبرنا مسعر عن عمير بن سعيد عن عمار بن ياسر قال: ما أبالي مسسته أو أنفي
فقال ابن حنبل: عمار وابن عمر استويا فمن شاء أخذ بهذا ومن شاء أخذ بهذا ا ه‍. وإن
سلكنا طريق الجمع جعل مس الذكر كناية عما يخرج منه وهو من أسرار البلاغة يسكتون عن
ذكر الشئ ويرمزون عليه بذكر ما هو من روادفه، فلما كان مس الذكر غالبا يرادف خروج
الحدث منه ويلازمه عبر به عنه كما عبر الله تعالى بالمجئ من الغائط عما يقصد لأجله ويحل
فيه فيتطابق طريقا الكتاب والسنة في التعبير فيصار إلى هذا الدفع التعارض والله الموفق
للصواب. ويستحب لمن مس ذكره أن يغسل يده، صرح به صاحب المبسوط وهذا أحد ما
حمل به حديث بسرة فقال: أو المراد بالوضوء غسل اليد استحبابا كما في قوله الوضوء قبل
الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم لكن في البدائع ما يفيد تقييد الاستحباب بما إذا كان
الاستنجاء بالأحجار دون الماء وهو حسن كما لا يخفى.
84

قوله (وامرأة) بالجر عطف على ذكر أي مس بشرة المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا، سواء
كان بشهوة أو لا. وقال الشافعي: ينتقض وضوء اللامس مطلقا، كان بشهوة وقصد أو لا.
وله في الملموس قولان أصحهما النقض إلا إذا لمس ذات رحم محرم أو صغيره لا تشتهى فإنه
لا ينقض على الأصح بخلاف العجوز فالصحيح النقض، وهذه المسألة قد وقع الاختلاف
فيها في الصدر الأول وهو اختلاف معتبر حتى قال بعض مشايخنا: ينبغي لمن يؤم أن يحتاط
فيه، فمذهب عمرو بن مسعود وعبد الله بن عمر وجماعة من التابعين كمذهب الشافعي،
ومذهب علي وابن عباس وجماعة من التابعين كمذهبنا. استدل الشافعي بقوله تعالى * (أو
لامستم النساء) * (النساء: 43) فإن اللمس يطلق على الجس باليد قال تعالى * (فلمسوه
بأيديهم) * (الانعام: 7) وبقول أهل اللغة اللمس يكون باليد وبغيرها وقد يكون بالجماع فنعمل
بمقتضى اللمس مطلقا، فمتى التقت البشرتان انتقض، سواء كان بيد أو جماع. ولأئمتنا في
الجواب عن هذا أوجه: أحدهما ما ذكره الأصوليون كفخر الاسلام البزدوي أن حقيقة اللمس
يكون باليد وأن الجماع مجاز فيه لكن المجاز مراد الاجماع حتى حل للجنب التيمم بالآية
فبطلت الحقيقة لأنه يستحيل اجتماعهما مرادين بلفظ واحد. ثانيهما وهو المذكور في بعض
كتب الفقه أن اللمس إذا قرن بالمرأة كان حقيقة في الجماع، يؤيده أن الملامسة مفاعلة من
اللمس وذلك يكون بين اثنين فصاعدا، وعندهم لا يشترط اللمس من الطرفين. ثالثها أن
اللمس مشترك بين اللمس باليد وبين الجماع ورجحنا الحمل على الجماع بالمعنى وذلك أنه
سبحانه وتعالى أفاض في بيان حكم الحدثين الأصغر والأكبر عند القدرة على الماء بقوله * (إذا
قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله * (وإن كنتم جنبا فأطهروا) * (النساء: 43) فبين أنه الغسل، ثم
شرع في بيان الحال عند عدم القدرة عليه بقوله * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * إلى قوله
* (فتيمموا صعيدا) * (النساء: 43) الخ. فإذا حملت الآية على الجماع كان بيانا لحكم الحدثين
الأصغر والأكبر عند عدم الماء كما بين حكمهما عند وجوده فيتم الغرض لأن بالناس حاجة
85

إلى بيانهما خلاف ما ذهبوا إليه من كونه باليد فإنه يكون تكرارا محضا لأنه قد علم الحدث
الأصغر بقوله * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * (النساء: 43) ويدل عليه من السنة حديث
عائشة الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو
يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك إلى آخر الدعاء. وفي رواية للبيهقي بإسناد
صحيح: فالتمست بيدي فوقعت يدي على بطن قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد. وحديث
عائشة أيضا في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن
يسجد غمز رجلها فتقبضها. وفي رواية النسائي بإسناد صحيح: فإذا أراد أن يوتر مسني
برجله. وقول النووي في شرح المهذب أنه يحتمل كونه فوق حائل بعيد كما لا يخفى والله
أعلم بالصواب.
قوله: (وفرض الغسل غسل فمه وأنفه وبدنه) قد تقدم وجه تقديم الوضوء على
الغسل. والواو في قوله وفرض إما للاستئناف أو للعطف على قوله فرض الوضوء.
والفرض مصدر بمعنى المفروض لأن المصدر يذكر ويراد به الزمان والمكان والفاعل والمفعول
كذا في الكشاف. وقوله الغسل يعني غسل الجنابة والحيض والنفاس كذا في السراج
الوهاج، وظاهره أن المضمضة والاستنشاق ليستا شرطين في الغسل المسنون حتى يصح
بدونهما. ثم اعلم أن الكلام في الغسل في مواضع في تفسيره لغة وشرعا وفي سببه وركنه
وشرائطه وسننه وآدابه وصفته وحكمه. أما تفسيره لغة فهو بالضم اسم من الاغتسال وهو
تمام غسل الجسد واسم للماء الذي يغتسل به أيضا، ومنه في حديث ميمونة فوضعت له
غسلا كذا في المغرب. وقال النووي: إنه بفتح الغين وضمها لغتان والفتح أفصح وأشهر عند
أهل اللغة، والضم هو الذي تستعمله الفقهاء أو أكثرهم. واصطلاحا هو المعنى الأول
اللغوي وهو غسل البدن وقد تقدم تفسير الغسل بالفتح لغة وشرعا. وأما ركنه فهو إسالة الماء
على جميع ما يمكن إسالته عليه من البدن من غير حرج مرة واحدة حتى لو بقيت لمعة لم
يصبها الماء لم يجز الغسل وإن كانت يسيرة لقوله تعالى * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (النساء:
86

43) أمر الله سبحانه وتعالى بالأطهر بضم الهاء لأن أصله تطهر فأدغمت التاء في الطاء لقرب
المخرج فجئ بحرف الوصل ليتوصل بها إلى النطق فصار اطهروا وبعض من لا خبرة له
ولا دراية يقرأ بالأطهار وما ذاك إلا لحرمانه من العربية، كذا في غاية البيان. وهو تطهير
جميع البدن واسم البدن يقع على الظاهر والباطن إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن
قضية النص، وكذا ما يتعسر لأن المتعسر منفي كالمتعذر كداخل العينين فإن في غسلهما من
الحرج ما لا يخفى فإن العين شحم لا تقبل الماء، وقد كف بصر من تكلف له من الصحابة
كابن عمر وابن عباس ولهذا لا تغسل العين إذا اكتحل بكحل نجس، ولهذا وجبت المضمضة
والاستنشاق في الغسل لأنه لا حرج في غسلهما فشملهما نص الكتاب من غير معارض كما
شملهما قوله صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة رواه الترمذي من غير
معارض. والبشرة ظاهر الجلد بخلافهما في الوضوء لأن الواجب فيه غسل الوجه ولا تقع
المواجهة بداخلهما، وأما قوله صلى الله عليه وسلم عشر من الفطرة وذكر منها المضمضة والاستنشاق لا
يعارضه إذ كونهما من الفطرة لا ينفي الوجوب لأنها الدين وهو أعم منه قال صلى الله عليه وسلم كل مولود
يولد على الفطرة والمراد أعلى الواجبات على ما هو أعلى الأقوال، وهو على هذا فلا حاجة
إلى حمل المروي على حالة الحدث بدليل قوله صلى الله عليه وسلم إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء
كأنه يعني ما عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة لكن
انعقد الاجماع على خروج اثنين منها وهو ضعيف، كذا في فتح القدير. والمراد بأعلى
الواجبات الاسلام لكن قال أبو نصر الدبوسي كما نقله عنه الحاوي الحصري: لا يصح أن
87

يقال إن المولود يولد على الاسلام لأن من حكم بإسلامه مرة لم ينقل أبدا إلى غيره ولا يقر
عليه بل معناه أنه يولد على الخلقة القابلة للاسلام بحيث إنه لو نظر إلى خلقته وتفكر فيها على
حسب ما يجب لدلته على ربوبيته تعالى ووحدانيته.
ولو شرب الماء عبا أجزأه عن المضمضة لا مصا. وعن أبي يوسف لا إلا أن يمجه.
وفي الواقعات: لا يخرج بالشرب على وجه السنة أو غيره ما لم يمجه وهو أحوط كذا في
الخلاصة. وقد يقال: إن الأحوط الخروج. ووجه كونه أحوط أنه قيل إن المج من شرط
المضمضة والصحيح أنها ليست بشرط فكان الاحتياط الخروج عن الجنابة لأن الاحتياط العمل
بأقوى الدليلين وأقواهما هنا الخروج بناء على الصحيح كما لا يخفى. ولو كان سنه مجوفا أو
بين أسنانه طعام أو درن رطب يجزيه لأن الماء لطيف يصل إلى كل موضع غالبا كذا في
التجنيس ثم قال: ذكر الصدر الشهيد حسام الدين في موضع آخر إذا كان في أسنانه كوات
يبقى فيها الطعام لا يجزيه ما لم يخرجه ويجري الماء عليها. وفي فتاوى الفضلي والفقيه أبي
الليث خلاف هذا فالاحتياط أن يفعل ا ه‍. وفي معراج الدراية: الأصح أنه يجزيه والدرن
اليابس في الانف كالخبز الممضوغ والعجين يمنع تمام الاغتسال، وكذا جلد السمك والوسخ
والدرن لا يمنع، والتراب والطين في الظفر لا يمنع لأن الماء ينفد فيه، وما على ظفر الصباغ
يمنع، وقيل لا يمنع للضرورة. قال في المضمرات: وعليه الفتوى. والصحيح أنه لا فرق
بين القروي والمدني ا ه‍. ولو بقي على جسده خرء برغوث أو ونيم ذباب أي ذرقه لم يصل
الماء تحته جازت طهارته. ويجب تحريك القرط الخاتم الضيقين ولو لم يكن قرط فدخل الماء
الثقب عند مروره أجزأه كالسرة وإلا أدخله كذا في فتح القدير. ولا يتكلف في إدخال شئ
سوى الماء من خشب ونحوه كذا في شرح الوقاية، ويدخل القلفة استحبابا على ما نبينه،
88

وتغسل فرجها الخارج وجوبا في الغسل وسنة في الوضوء - كذا في المحيط - لأنه كالفم.
ولا تدخل أصابعها في قبلها وبه يفتى. ولو كان في الانسان قرحة فبرأت وارتفع قشرها
وأطراف القرحة متصلة بالجلد إلا الطرف الذي كان يخرج منه القيح فإنه يرتفع ولا يصل الماء
إلى ما تحت القشرة أجزأه وضوؤه وفي معناه الغسل كذا في النوازل لأبي الليث ونقله الهندي
أيضا. ويجوز للجنب أن يذكر اسم الله تعالى ويأكل ويشرب إذا تمضمض هكذا قيد في فتح
القدير، وظاهره أنه لا يجوز له قبل المضمضة لكن ذكر في البزازية ما يفيد أن هذا على رواية
نجاسة الماء المستعمل ولفظها، ويحل للجنب شرب الماء قبل المضمضة على وجه السنة وأن لا
على وجهها لا لأنه شارب الماء المستعمل وأنه نجس ا ه‍. فينبغي على الرواية المختارة
المصححة المفتى بها من طهارة الماء المستعمل أن يباح الشرب مطلقا، ويستفاد منه أن انفصال
الماء عن العضو أعم من أن يكون إلى الباطن أو إلى الظاهر. والمنقول في فتاوى قاضيخان
الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب فالمستحب له أن يغسل يديه وفاه وإن ترك لا بأس.
واختلفوا في الحائض قال بعضهم هي والجنب سواء، وقال بعضهم لا يستحب ههنا لأن
بالغسل لا تزول نجاسة الحيض عن الفم واليد بخلاف الجنابة ا ه‍. فاحفظه. وللجنب أن
يعاود أهله قبل أن يغتسل إلا إذا احتلم فإنه لا يأتي أهله ما لم يغتسل كذا في المبتغى، وأقره
عليه في فتح القدير، وتعقبه في شرح منية المصلي: بأن ظاهر الأحاديث فيه يفيد الاستحباب
لا نفي الجواز المفاد من ظاهر كلامه. ويجوز نقل البلة في الغسل من عضو إلى عضو إذا كان
متقاطرا بخلاف الوضوء، ولا يضر ما انتضح من غسله في إنائه بخلاف ما لو قطر كله في
الاناء وسيأتي تمامه في بحث الماء المستعمل إن شاء الله تعالى.
وأما شرائطه فما تقدم من شرائط الوضوء، وأما حكمه فاستباحة ما لا يحل إلا به،
وأما سننه وآدابه وصفته وسببه فستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى. ولا بأس بإيراد حديث مسلم
بتمامه والتكلم على بعض معانيه. روى مسلم بإسناده عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل
البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء قال مصعب أحد رواته: ونسيت العاشرة
إلا أن تكون المضمضة. وانتقاص الماء بالقاف والصاد المهملة الاستنجاء، وقيل انتقاص البول
بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره. وقال الجمهور: الانتضاح وهو نضح الفرج بماء قليل
89

لينفي عنه الوسواس فإذا أراه الشيطان ذلك أحاله على الماء، وقد صرح بذلك مشايخنا في
كتبهم لكن قالوا: إن هذه الحيلة إنما تنفعه إذا كان العهد قريبا بحيث لم يجف البلل أما إذا
كان بعيدا وجف البلل ثم رأى بللا يعيد الوضوء. والاستحداد حلق العانة سمي استحدادا
لاستعمال الحديدة وهي الموسى وهو سنة. والمراد بالعانة الشعر فوق ذكر الرجل وحواليه إلى
السرة. وإعفاء اللحية توفيرها، والبراجم بفتح الباء والجيم جمع برجمة بضم الباء والجيم وهي
عقد الأصابع ومفاصلها كلها. قال بعض العلماء: ويلتحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في
معاطف الاذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح وكذلك جميع الأوساخ. وأما الفطرة فقد تقدم من
المحقق الكمال أنها الدين وهو قول البعض، وذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة وهي في
الأصل الخلقة. وفي بعض هذه الخصال ما هو واجب عند بعض العلماء ولا يمتنع قرن
الواجب بغيره كما قال الله تعالى * (كلوا من ثمرة إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) * (الانعام:
141) فإن الايتاء واجب والاكل ليس بواجب كذا ذكر النووي. ولا يخفى ما فيه فإن العطف
في الآية ليس نظير ما في الحديث فإن الفطرة إذا فسرت بالسنة يقتضي أن جميع المعدود من
السنة فإنه إذا قيل جاء عشر من الرجال لا يجوز أن يكون فيهم من ليس منهم، فالأولى في
الفطرة تفسيرها بالدين. وقد تقدم معنى المضمضة والاستنشاق وأن المبالغة فيهما سنة في
الوضوء وكذلك في الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما وهو حديث
صحيح ذكره النووي. والصارف له عن الوجوب الاتفاق على عدمه كما نقله السراج
الهندي. واعلم أن الحديث الذي ذكره في فتح القدير وهو تحت كل شعرة جنابة الخ وإن
رواه أبو داود الترمذي كما ذكره الهندي فقد ضعفه النووي ونقل ضعفه عن الشافعي
ويحيى بن معين والبخاري وأبي داود وغيرهم والله أعلم.
قوله (لا دلكه) أي لا يفترض ذلك بدنه في الغسل، وقد تقدم أنه إمرار اليد على
الأعضاء المغسولة، فلو أفاض الماء فوصل إلى جميع بدنه ولم يمسه بيده أجزأه غسله وكذا
وضوءه. قال النووي: وبه قال العلماء كافة إلا مالكا والمزني فإنهما شرطاه في صحة الغسل
والوضوء واحتجا بأن الغسل هو إمرار اليد. ولا يقال لواقف في المطر اغتسل ونقل في فتح
القدير أنه رواية عن أبي يوسف أيضا قال: وكأن وجهه خصوص صيغة اطهروا فإن فعل
للتكثير إما في الفعل نحو جولت وطوفت، أو في الفاعل نحو موتت الإبل، أو في المفعول
90

نحو غلقت الأبواب. والثاني يستدعي كثرة الفاعل فلا يقال في شاة واحدة موتت، والثالث
كثرة المفعول فلا يقال في باب واحد غلقته وإن غلقه مرارا كما قيل فتعين كثرة الفعل وهو
بالدلك اه‍. ولم يجب عنه. والذي ذكره الشارحون هنا أن المأمور به في النص هو التطهير
ولا يتوقف ذلك على الدلك، فمن شرطه فقد زاد في النص وهو نسخ، وذكر النووي أنه
يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه فإذا وجدت الماء فامسه جلدك ولم يأمره بزيادة وهو
حديث صحيح، وقولهم لا تسمى الإفاضة غسلا ممنوع اه‍. وأما قوله له في فتح القدير إن
فعل للتكثير إلى قوله فتعين كثرة الفعل قد يقال: إن صيغة اطهروا يجوز أن تكون من
قبيل التكثير في المفعول، وقوله إن التكثير في المفعول يستدعي كثرة المفعول مسلم فيما إذا
كان الفعل لا تكثير فيه كموتت الإبل، أما إذا كان في الفعل تكثير فيجوز أن يكون فعل
للتكثير في المفعول وإن كان الفاعل والمفعول واحدا كقطعت الثوب فإن التكثير فيه للتكثير
في الفعل وإن كان المفعول واحدا وطهر من هذا القبيل، لأنك تقول طهرت البدن يشهد لهذا
ما ذكره المحقق العلامة أحمد الجاربردي في شرح الشافية للمحقق ابن الحاجب في التصريف
بما لفظه:: قوله وفعل للتكثير وهو إما في الفعل نحو جولت وطوفت. أو في الفاعل نحو
91

موتت الإبل، أو في المفعول نحو غلقت الأبواب فإن فقد ذلك لم يسغ استعماله فلذلك كان
موتت الشاة لشاة واحدة خطأ لأن هذا الفعل لا يستقيم تكثيره بالنسبة إلى الشاة إذ لا يستقيم
تكثيرها وهي واحدة وليس ثم مفعول ليكون التكثير له. وينبغي أن يعلم أن هذا بخلاف
قولك قطعت الثواب فإن ذلك سائغ وإن كان الفاعل واحدا ذكره المصنف في شرح المفصل
ثم قال فيه: أن قوله في المفصل ولا يقال للواحد لم يرد به إلا ما لم يستقم فيه تكثير الفعل
اه‍.
قوله (وإدخال الماء داخل الجلدة للأقلف) أي لا يجب على الذي لم يختتن أن يدخل الماء
92

داخل الجلدة في غسله من الجنابة وغيرها للحرج الحاصل لو قلنا بالوجوب لا لكونه خلقة
كقصبة الذكر وهذا هو الصحيح المعتمد، وبه يندفع ما ذكره الزيلعي من أنه مشكل لأنه إذا
وصل البول إلى القلفة انتقض وضوؤه فجعلوه كالخارج في هذا الحكم وفي حق الغسل
كالداخل حتى لا يجب إيصال الماء إليه. وقال الكردري: يجب إيصال الماء إليه عند بعض
المشايخ وهو الصحيح فعلى هذا لا إشكال فيه اه‍. فإن هذا الاشكال إنما نشأ من تعليله لعدم
الوجوب بأنه خلقة كقصبة الذكر، وأما على ما عللنا به تبعا لفتح القدير فلا إشكال فيه أصلا
لكن في البدائع أنه لا حرج في إيصال الماء إلى داخل القلفة وصحح أنه لا بد من الادخال،
واختاره صاحب الهداية في مختارات النوازل، وقد تقدم أن إدخال الماء داخلها مستحب كما
أن الدلك مستحب لكن قيده في منية المصلي بكونه في المرة الأولى ولعله لكونها سابقة في
الوجود على ما بعدها فهي بالدلك أولى لأن السبق من أسباب الترجيح.
قوله (وسننه أن يغسل يديه وفرجه ونجاسة لو كانت على بدنه ثم يتوضأ ثم يفيض الماء
على بدنه ثلاثا) لما روى الجماعة عن ميمونة قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به فأفرغ
على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم ذلك أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده
بالأرض ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده
ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه. فهذا الحديث مشتمل على بيان السنة والفريضة فاستفيد منه
استحباب تقديم غسل اليدين، وعللوا له بأنهما آلة التطهير فيبتدأ بتنظيفهما واستحباب تقديم
غسل الفرج قبلا أو دبرا سواء كان عليه نجاسة أو لا كتقديم الوضوء على غسل الباقي،
سواء كان محدثا أو لا، وبه يندفع ما ذكره الزيلعي بأنه كان يغنيه أو يقول ونجاسة عن قوله
وفرجه لأن الفرج إنما يغسل لأجل النجاسة اه‍. ولان تقديم غسل الفرج لم ينحصر كونه
لنجاسة بل لها أو لأنه لو غسله في أثناء غسله ربما تنتقض طهارته عند من يرى ذلك كما
93

أشار إليه القاضي عياض والخروج من الخلاف مستحب عندنا. واتفق العلماء على عدم وجوب
الوضوء في الغسل إلا داود الظاهري فقال بالوجوب في غسل الجنابة وإذا توضأ أولا لا يأتي به
ثانيا بعد الغسل، فقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب وضوءان. ذكره النووي في شرح مسلم
يعني لا يستحب وضوءان للغسل، أما إذا توضأ بعد الغسل واختلف المجلس على مذهبنا أو
فصل بينهما بصلاة كما هو مذهب الشافعي فيستحب. وفي الحديث أيضا استحباب أن يدلك
المستنجي بالماء يده بالتراب أو بالحائط ليذهب الاستقذار منها، وفيه استحباب تقديم غسل
الرأس في الصب وقد اختلف فيه، فقال الحلواني: يفيض الماء على منكبه الأيمن ثلاثا ثم الأيسر
ثلاثا ثم على سائر جسده، وقيل يبدأ بالأيمن ثم بالأيسر ثم بالرأس، وقيل يبدأ بالرأس وهو
ظاهر لفظ الهداية. وظاهر حديث ميمونة المتقدم وبه يضعف ما صححه صاحب الدرر والغرر
ن أنه يؤخر الرأس وكذا صححه في المجتبى. وفي قوله ثم يتوضأ إشارات: الأولى أنه يمسح
رأسه في هذا الوضوء وهو الصحيح لأنه روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه
للصلاة وهو اسم للغسل والمسح. وفي البدائع أنه ظاهر الرواية الثانية أنه لا يؤخر غسل قدميه
وفيه خلاف، ففي المبسوط والهداية أنه يؤخر غسل قدميه إذا كان في مستنقع الماء أي مجتمعه
ولا يقدم، وعند بعض مشايخنا وهو الأصح من مذهب الشافعي أنه لا يؤخر مطلقا وأكثر
مشايخنا على أنه يؤخر مطلقا. وأصل الاختلاف ما وقع من روايتي عائشة وميمونة، ففي رواية
عائشة أنه توضأ وضوءه للصلاة ولم يذكر فيها تأخير القدمين فالظاهر تقديم غسلهم فأخذ بهذه
الشافعي وبعض مشايخنا لطول الصحبة والضبط في الحديث، وفي رواية ميمونة صريحا تأخير
غسلهما فأخذ به أكثر مشايخنا لشهرتها. وفي المجتبى: الأصح التفصيل وهو المذكور في
الهداية، ووجهه التوفيق بين الروايتين بحمل ما روت عائشة على ما إذا لم يكن في مجتمع الماء،
وحمل ما روت ميمونة على ما إذا كان في مجتمع الماء.
والظاهر أن الاختلاف في الأولوية لا في الجواز، فقول المشايخ القائلين بالتأخير أنه لا
94

فائدة في تقديم غسلهما لأنهما يتلوثان بالغسلات بعد فيحتاج إلى غسلهما ثانيا معناه أنه لا
تحصل الفائدة الكاملة في تقديم غسلهما. وأنما قلنا هذا لأنه لو قدم غسلهما ولم يغسلهما
ثانيا خرج عن الجنابة وجازت صلاته على ما هو المفتى به لأن الماء الذي أصابهما من الأرض
المجتمع فيها الغسلات مستعمل والماء المستعمل طاهر على المفتى به وليس الذي أصاب قدميه
من صبه على بقية بدنه غير ما اجتمع في الأرض مستعملا، أما على رواية عدم التجزي
فظاهر، وأما على رواية التجزي فلا يوصف هذا الماء بالاستعمال إلا بعد انفصاله عن جميع
البدن، فالماء الذي أصاب القدمين غير مستعمل لأن البدن كله في الغسل كعضو واحد حتى
يجوز نقل البلة فيه من عضو إلى آخر فحينئذ لا حاجة إلى غسلهما ثانيا إلا على سبيل التنزه
والأفضلية لا للزوم لأن الماء المستعمل الذي أصابه من مجتمع الغسلات وإن كان طاهرا فقد
انتقل إليه الحدث حتى تعافه الطباع السليمة، وقد صرح به الهندي فقال: وهذا إنما يتأتى
على رواية نجاسة الماء المستعمل أيضا. ويدل على هذا ما ذكره في المحيط بقوله: وإنما لا
يغسل رجليه لأن غسلهما لا يفيد لأنهما يتنجسان ثانيا باجتماع الغسلات فعلم منه أنه على
رواية نجاسة الماء المستعمل وعليها، فمعنى قولهم لا يفيد أنه لا يفيد فائدة تامة وإلا فقد
أفاد التقديم فائدة وهي حل القرآن ومس المصحف وإن كانت قدماه متنجستين بالماء
المستعمل، وبهذا أظهر فساد ما ذكره ابن الملك في شرح المجمع من أن عدم الفائدة على رواية
عدم التجزي، أما على رواية التجزي فغسلهما مفيد لأن الجنابة تزول عن رجليه إذا غسلهما
في الوضوء ويكون طاهرا في مجتمع الماء بعد غسل سائر جسده فإنه فهم من رواية عدم
التجزي أن لو غسل رجليه أو ثم غسل باقي بدنه يجب عليه إعادة غسل رجليه لأجل عدم
ارتفاع الجنابة عنهما وهذا ذهول عظيم وسهو كبير فإنهم اتفقوا على أن فرض غسل القدمين
95

قد سقط بتقديمه ولكن هل زالت الجنابة عنهما أو هو موقوف على غسل الباقي؟ فرواية
التجزي قائلة بالأول، ورواية عدم التجزي قائلة بالثاني لا أنها قائلة بوجوب إعادة غسل
الرجلين، وفائدة اختلاف الروايتين أنه لو تمضمض الجنب أو غسل يديه هل يحل له قراءة
القرآن ومس المصحف؟ فعلى رواية التجزي يحل له لزوال الجنابة عنه، وعلى رواية عدم
التجزي لا يحل له لعدم الزوال الآن، وقد صحح المشايخ هذه الرواية. وقد اندفع بما ذكرنا
أيضا ما استشكله بعض المحشين من زوال الجنابة بصب الماء من الرأس كما هو العادة على
رواية التجزي وقال: كما لا يخفى ولم يجب عنه وهو سهو منه وسوء فهم فإنهم اتفقوا على أن
البدن في الغسل كعضو واحد واتفقوا على أن الماء لا يصير مستعملا إلا بعد الانفصال عن
العضو. فعلى رواية التجزي لا يصير مستعملا إلا إذا انفصل عن جميع البدن وإن زالت
الجنابة عن كل عضو انفصل عنه الماء وهذا ظاهر لا يخفى. والذي يظهر أن القائلين بالتأخير
إنما استحبوه ليكون الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء أخذا من حديث ميمونة. قال
القاضي عياض في شرح مسلم: وليس فيه تصريح بل هو محتمل لأن قولها توضأ وضوءه
للصلاة الأظهر فيه إكمال وضوئه، وقولها آخرا ثم تنحى فغسل رجليه يحتمل أن يكون لما
نالهما من تلك البقعة اه‍. فعلى هذا يغسلهما بعد الفراغ من الغسل مطلقا أعني سواء
غسلهما أو لا إكمالا للوضوء أو لم يغسلهما، وسواء أصابهما طين أو كانتا في مستنقع الماء
المستعمل أو لم يكن شئ من ذلك. ثم لا يخفى تعين غسلهما في حق الواحد منا بعد الفراغ
من الغسل إذا كانتا في مستنقع الماء وكان على البدن نجاسة من مني أو غيره والله سبحانه
وتعالى أعلم.
وفي الذخيرة نقلا عن العيون: خاض الرجل في ماء الحمام بعدما غسل قدميه فإن لم
يعلم أن في الحمام جنبا أجزأه أن لا يغسل قدميه، وإن علم في الحمام جنبا قد اغتسل يلزمه
أن يغسل قدميه إذا خرج. قال رحمه الله في واقعاته: وعلى ما اخترناه في الماء المستعمل ينبغي
أن لا يلزمه غسل القدمين لكن استثنى الجنب في الكتاب فإنه موضع الاستثناء وغيره قال:
إنما استثنى الجنب لأن الجنب يكون على بدنه قذر ظاهرا وغالبا حتى لو لم يكن كان الماء
المستعمل للمحدث والجنب سواء ويكون طاهرا على رواية محمد ولا يلزمه غسل الرجلين
وهو الظاهر اه‍. وفي بقية حديث ميمونة ثم أتيته بالمنديل فرده قال النووي: فيه استحباب
ترك تنشيف الأعضاء. وقال الإمام: لا خلاف في أنه لا يحرم تنشيف الماء عن الأعضاء ولا
يستحب ولكن هل يكره؟ فيه خلاف بين الصحابة. وقال القاضي: يحتمل رده للمنديل
96

لشئ رآه أو لاستعجاله في الصلاة أو تواضعا أو خلافا لعادة أهل الترفه، ويكون الحديث
الآخر في أنه كانت له خرقة يتنشف بها عند الضرورة وشدة البرد ليزيل برد الماء عن أعضائه
اه‍. والمنقول في معراج الدراية وغيرها أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل إلا
أنه ينبغي أن لا يبالغ ويستقصي فيبقي أثر الوضوء على أعضائه، ولم أر من صرح باستحبابه
إلا صاحب منية المصلي فقال: ويستحب أن يمسح بمنديل بعد اغسل، الإشارة الثالثة أن
جميع السنن والمندوبات في الوضوء ثابتة في هذا الوضوء والغسل فتسن النية ويندب التلفظ
بها. قال في البدائع: وأما آداب الغسل فهي آداب الوضوء لكن يستثنى منه أن من آداب
الوضوء استقبال القبلة بخلاف الغسل لأنه يكون غالبا مع كشف العورة بخلاف الوضوء،
كذا في شرح منية المصلي. ومن مكروهاته الاسراف وتقدم تفسيره ولهذا قدر محمد رحمه الله
في ظاهر الرواية الصاع للغسل والمد للوضوء وهو تقدير أدنى الكفاية عادة وليس بتقدير لازم
حتى أن من أسبغ بدون ذلك أجزأه وإن يكفه زاد عليه لأن طباع الناس وأحوالهم تختلف،
كذا في البدائع ونقل النووي الاجماع على عدم لزوم التقدير. وفي الخلاصة: والأفضل أن لا
يقتصر على الصاع في الغسل بل يغتسل بأزيد منه بعد أن لا يؤدي إلى الوسواس فإن أدى لا
يستعمل إلا قدر الحاجة اه‍. ولا يخفى ما فيه فإن ظاهره أنه يزيد على الصاع وإن لم يكن به
حاجة مع أن الثابت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ
بالمد، وفي البخاري اغتساله صلى الله عليه وسلم بالصاع من رواية جابر وعائشة كما نقله النووي في شرح
المهذب فكان الاقتصار على ما فعله صلى الله عليه وسلم أفضل إذا اكتفى به وقد قالوا: إن مكث في الماء
الجاري قدر الوضوء والغسل فقد أكمل السنة وإلا فلا ا ه‍. ويقاس على ما لو توضأ في
الحوض الكبير أو وقف في المطر كما لا يخفى.
قوله (ولا تنقض ضفيرة إن بل أصلها) أي ولا يجب على المرأة أن تنقض ضفيرتها إن
بلت في الاغتسال أصل شعرها. والضفيرة بالضاد المعجمة الذؤابة من الضفر وهو فتل الشعر
وإدخال بعضه في بعض ولا يقال بالظاء، والأصل فيه ما رواه مسلم وغيره عن أم سلمة
97

قالت قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا إنما
يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين. وفي رواية
أفأنقضه للحيض والجنابة. وفي حديث عائشة بنحو معناه. قال في فتح القدير: ومقتضى
هذا الحديث عدم وجوب الايصال إلى الأصول لكن قال في المبسوط: وإنما شرط تبليغ الماء
أصول الشعر لحديث حذيفة فإنه كان يجلس إلى جنب امرأته إذا اغتسلت ويقول: يا هذه
أبلغي الماء أصول شعرك وشؤون رأسك وهو مجمع عظام الرأس، ذكره القاضي عياض وأورد
صاحب المعراج أن حديث أم سلمة معارض للكتاب وأجاب تارة بالمنع فإن مؤدي الكتاب
غسل البدن والشعر ليس منه بل متصل به نظرا إلى أصوله فعملنا بمقتضى الاتصال في حق
الرجال حتى قلنا يجب النقض على الأتراك والعلويين على الصحيح، ويجب عليها الايصال إلى
أثناء شعرها إذا كان منقوضا لعدم الحرج وبمقتضى الانفصال في حق النساء دفعا للحرج إذ
لا يمكنهن حلقه، وتارة بأنه خص من الآية مواضع الضرورة كداخل العينين فيخص
بالحديث بعده. وأما أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بنقض النساء
رؤوسهن إذا اغتسلن فيحتمل أنه أراد إيجاب ذلك عليهن في شعور لا يصل الماء إليها أو
يكون مذهبا له أنه يجب النقض بكل حال كما هو مذهب النخعي أو لا يكون بلغه حديث أم
سلمة وعائشة، ويحتمل أنه كان يأمرهن بذلك على الاستحباب والاحتياط لا على الوجوب
كذا ذكره النووي في شرح مسلم. وفي الهداية: وليس عليها بل ذوائبها هو الصحيح. وقال
بعضهم: يجب بلها ثلاثا مع كل بلة عصرة. وفي صلاة البقالي: الصحيح أنه يجب غسل
الذوائب وإن جاوزت القدمين، والمختار عدم الوجوب كما صرح به في الجامع الحسامي كما
نقله عنه في المضمرات للحصر المذكور في الحديث. والحاصل أن في المسألة ثلاثة أقوال:
98

الأول الاكتفاء بالوصول إلى الأصول منقوضا كان أو معقوصا وهو ظاهر المذهب كما هو
ظاهر الذخيرة ويدل عليه الأحاديث الواردة في هذا الباب. الثاني الاكتفاء بالوصول إلى
الأصول إذا كان مضفورا ووجوب الايصال إلى أثنائه إذا كان منقوضا ومشى عليه جماعة منهم
صاحب المحيط والبدائع والكافي. الثالث وجوب بل الذوائب مع العصر وصحح كما
قدمناه. ولو ألزقت المرأة رأسها بالطيب بحيث لا يصل الماء إلى أصول الشعر وجب عليها
إزالته. وثمن ماء غسل المرأة ووضوئها على الزوج وإن كانت غنية كذا في فتح القدير فصار
كماء الشرب لأن هذا مما لا بد منه، وظاهره أنه لا فرق بين غسل الجنابة وغيره من
الواجب. وذكر في السراج الوهاج تفصيلا في غسل الحيض فقال: إذا انقطع لأقل من عشرة
فعلى الزوج لاحتياجه إلى وطئها بعد الغسل، وإن انقطع لعشرة فعليها لأنها هي المحتاجة إليه
للصلاة. وقد يقال: إن ما تحتاج إليه المرأة مما لا بد لها منه واجب عليه، سواء كان هو
محتاجا إليه أو لا، فالأوجه إطلاق ما قدمناه.
قوله (وفرض عند مني ذي دفق وشهوة عند انفصاله) أي وفرض الغسل. واختلف
المشايخ في سبب وجوبه، فظاهر ما في الهداية أن إنزال المني ونحوه سبب له فإنه قال:
المعاني الموجبة للغسل إنزال المني إلى آخره. وتعقبه في النهاية بأن هذه معان موجبة للجنابة لا
للغسل على المذهب الصحيح من علمائنا فإنها تنقضه فكيف توجبه؟ ورده في غاية البيان بأن
المراد أن الغسل يجب بهذه المعاني على طريق البدل وإنما يتوجه ما اعترض به إذا كانت هذه
المعاني موجبة لوجود الغسل لا لوجوبه. ورد أيضا بأنها تنقض ما كان وتوجب ما سيكون فلا
منافاة. وأجاب في المستصفى أيضا بأن هذه المعاني شروط في الوجوب لا أسباب فأضيف
الوجوب إلى الشرط مجازا كقولهم صدقة الفطر لأن السبب يتعلق به الوجود والوجوب
والشرط يضاف إليه الوجود فشارك الشرط السبب في الوجود. وقال في الكافي: وإنما قال
عند مني ولم يقل بمني لأن سبب وجوب الغسل الصلاة أو إرادة ما لا يحل مع الجنابة
والانزال والالتقاء. وفي مبسوط شيخ الاسلام: سبب وجوب الغسل إرادة ما لا يحل فعله
عند عامة المشايخ، وتعقبه في غاية البيان بأن الغسل يجب إذا وجد أحد هذه المعاني وجدت
99

الإرادة أو لا فكيف يكون سببا؟ وقيل السبب الجنابة ورد أيضا لوجوده في الحيض
والنفاس، واختار في غاية البيان أن السبب الجنابة أو ما في معناه ليدخل الحيض والنفاس
ويرد بما قدمناه في أول الكتاب من أنه يوجد الحدث والجنابة ولا يجب الوضوء والغسل كما
إذا كان قبل الوقت فالأولى أن يقال: سببه وجوب ما لا يحل مع الجنابة وهذا هو الذي
اختاره في فتح القدير. أعلم أن الأمة مجمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن
معه إنزال وعلى وجوبه بالانزال، وكانت جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلا بالانزال ثم
رجع بعضهم وانعقد الاجماع بعد الآخرين وفي الباب حديث إنما الماء من الماء مع
حديث أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل يأتي أهله ثم لا ينزل قال: يغسل ذكره
ويتوضأ. وفيه الحديث الآخر إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن
لم ينزل قال العلماء: العمل على هذا الحديث، وإما حديث الماء من الماء فالجمهور من
الصحابة ومن بعدهم قالوا إنه منسوخ ويعنون بالنسخ أن الغسل من الجماع بغير إنزال كان
ساقطا ثم صار واجبا. وذهب ابن عباس وغيره إلى أنه ليس منسوخا بل المراد به نفي وجوب
الغسل بالرؤية في النوم إذا لم ينزل وهذا الحكم باق بلا شك، وأما حديث أبي بن كعب ففيه
جوابان: أحدهما أنه منسوخ، والثاني أنه محمول على ما إذا باشرها فيما سوى الفرج كذا ذكر
النووي في شرح مسلم لكن عندنا يشترط في وجوب الغسل بالانزال أن يكون انفصال المني
عن شهوة وهو ما ذكره بقوله عند مني ذي دفق وشهوة. يقال دفق الماء دفقا صبه صبا
فيه دفع وشدة كذا في المغرب. وفي ضياء الحلوم: دفق الماء دفقا صبه ودفق الماء دفوقا
يتعدى ولا يتعدى. وعبر عنه في الهداية بقوله: أنزال المني على وجه الدفق والشهوة والأولى
أن يقال: نزول المني دون الانزال لأنه يلزم من النزول الانزال دون العكس، فإن من احتلم
أو وجد على فخذه يجب عليه الغسل بلا قصد الانزال ذكره الهندي. فعلى هذا التقدير يكون
ذكر الدفق اشتراطا للخروج من رأس الذكر فإنه يقال دفق الماء دفوقا بمعنى خرج من محله
100

بخلاف دفق دفقا فإنه بمعنى صبه صبا لكن هذا إنما يستقيم على قول أبي يوسف، أما عندهما
لا يستقيم لأنهما لم يجعلا الدفق شرطا بل تكفي الشهوة حتى قالا بوجوبه إذا زايل المني من
مكانه بشهوة وإن خرج بلا دفق كذا في النهاية معراج الدراية وغيرهما. وأجاب عنه في
العناية وغاية البيان بأنه لا حصر في كلامه فيستقيم، غايته يلزم ترك بعض موجباته عندهما
في موضع بيانها اه‍. ولا يخفى ما فيه.
ويمكن أن يقال: إن المراد بكون الانزال على وجه الشهوة أن يكون للشهوة دخل في
الانزال سواء كانت مقارنه أو سابقة عليه مقارنه للانفصال. هذا وعبارة المصنف أشد إشكالا
لأنه يرد عليها ما ورد على عبارة القدوري من أنها لا تشمل مني المرأة لأن ماءها لا يكون
دافقا كماء الرجل وإنما ينزل من صدرها إلى فرجها كما ذكره الولوالجي في فتاواه ويرد على
عبارة المختصر خاصة التناقض في التركيب لأن اشتراط الدفق يفيد اشتراط خروج المني
بشهوة من رأس الذكر، وقوله عند انفصاله ينفيه فلو حذف الدفق لكان أولى. وقد يقال أن
الدفق بمعنى الدفوق مصدر اللازم. وقال الشافعي: إن إنزاله موجب للغسل كان عن شهوة
أو لا، واستدلوا له بقوله صلى الله عليه وسلم إنما الماء من الماء أي الاغتسال من الانزال وهو قول محمد
101

وزفر كما نقله في معراج الدراية وفي الذخيرة وهو مختار بعض المشايخ، واستدل في الهداية
لنا بقوله تعالى * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 6) وهو في اللغة اسم لمن قضى شهوته
فكان وجوب الاغتسال معلقا بالجنابة لا بخروج المني، وأورد على هذا أن ظاهره الاستدلال
بمفهوم الشرط ولم يجب عنه. وقد يقال: ليس هذا استدلالا بمفهوم الشرط بل لما كان الحكم
معلقا بشرط ولم يوجد كان الحكم معدوما بالعدم الأصلي لا أن عدم الشرط أوجب عدم
الحكم، وهذا لا يخفى على من اشتغل بأصول أصحابنا. قال في التنقيح: وعندنا العدم لا
يثبت بالتعليق بل يبقى الحكم على العدم الأصلي. وأجاب في الهداية عن الحديث بأنه محمول
على الخروج عن شهوة. قال الشارحون: وإنما حمل على هذا لأن العام إذا لم يمكن إجراؤه
على المسموم يراد أخص الخصوص لتيقنه وهنا يمتنع إجراؤه على العموم لأنه لا يجب الغسل
بإنزال المذي والودي والبول بالاجماع والانزال عن شهوة مراد بالاجماع فلا يكون غيره وهو
إنزال المني لا عن شهوة مرادا، ولا يخفى أن هذا المسلك لو صح لكان أوفق بقول أبي يوسف
لأن أخص الخصوص الذي أريد بالاجماع ما يكون عن شهوة عند الخروج والانفصال جميعا،
فالأولى ما قدمناه من أنه منسوخ أو محمول على صورة الاحتلام. ولما كان ما ذكرناه واردا
عدل. والله أعلم - عن طريقة الشارحين في فتح القدير فقال: والحديث محمول على الخروج
عن شهوة لأن اللام للعهد الذهني أي الماء المعهود والذي به عهدهم هو الخارج عن شهوة،
كيف وربما يأتي على أكثر الناس جميع عمره ولا يرى هذا الماء مجردا عنها على أن كون المني
يكون عن غير شهوة ممنوع فإن عائشة أخذت في تفسيرها إياه الشهوة على ما روى ابن المنذر
أن المني هو الماء الأعظم الذي منه الشهوة وفيه الغسل، وكذا عن قتادة وعكرمة، فلا يتصور
مني إلا من خروجه عن شهوة وإلا يفسد الضابط. ثم اتفق أصحاب المذهب أنه لا يجب
الغسل إذا انفصل عن مقره من الصلب بشهوة إلا إذا خرج على رأس الذكر، وإنما الخلاف
في أنه هل يشترط مقارنة الشهوة الخروج؟ فعند أبي يوسف نعم، وعندهما لا. وقد أشار إلى
اختيار قولهما بقوله عند انفصاله أي فرض الغسل عند خروج مني موصوف بالدفق
والشهوة عند الانفصال عن محله عندهما. وجه قول أبي يوسف أن وجوب الغسل متعلق
بانفصال المني وخروجه وقد شرطت الشهوة عند انفصاله فتشترط عند خروجه، ولهما أن
102

الجنابة قضاء الشهوة بالانزال فإذا وجدت مع الانفصال صدق اسمها وكان مقتضى هذا ثبوت
حكمها وإن لم يخرج لكن لا خلاف في عدم ثبوت الحكم إلا بالخروج فيثبت بذلك الانفصال
من وجه وهو أقوى مما بقي والاحتياط واجب وهو العمل بالأقوى من الوجهين فوجب.
وأورد في النهاية الريح الخارجة من المفضاة لأنها إن خرجت من القبل لا يجب الوضوء، وإن
خرجت من الدبر وجب فينبغي ترجيح جانب الوجوب احتياطا كما قالا هنا.
وأجاب بأن الشك هناك جاء من الأصل فتعارض الدليل الموجب وغير الموجب
لتساويهما في القوة فتساقطا فعملنا بالأصل الثابت بيقين وهو الطهارة، أما هنا جاء دليل عدم
الوجوب من الوصف وهو الدفق ودليل الوجوب من الأصل وهو نفس وجود الماء مع الشهوة
فكان في إيجاب الاغتسال ترجيح لجانب الأصل على جانب الوصف وهو صحيح لأن دليل
الوجوب قد سبق هنا وهو مزايلة المني عن مكانه على سبيل الشهوة وخروجه من العضو لا على
سبيل الدفق بقاء ذلك والسبق من أسباب الترجيح فترجح جانب الوجوب لذلك، وأما هناك
فاقترن الدليلان على سبيل المدافعة فلا يثبت الحكم الحادث لتدافعهما بل يبقى ما
كان على ما كان. وفي المصفى: وثمرة الاختلاف تظهر في ثلاث فصول: أحدها أن من احتلم فأمسك
ذكره حتى سكنت شهوته ثم خرج المني يجب الغسل عندهما خلافا له. والثاني إذا نظر إلى امرأة
بشهوة فزال المني عن مكانه بشهوة فأمسك ذكره حتى انكسرت شهوته ثم سال بعد ذلك لا عن
دفق فعلى هذا الخلاف. والثالث أن المجامع إذا اغتسل قبل أن يبول أو ينام ثم سال منه بقية
المني من غير شهوة يعيد الاغتسال عندهما خلافا له، فلو خرج بقية المني بعد البول أو النوم
أو المشي لا يجب الغسل إجماعا لأن مذي وليس بمني لأن البول والنوم والمشي يقطع مادة
الشهوة اه‍. وفي فتح القدير: وكذا لا يعيد الصلاة التي صلاها بعد الغسل الأول قبل
خروج ما تأخر من المني اتفاقا. وقيد المشي بالكثير في المجتبى وأطلقه كثير والتقييد أوجه لأن
الخطوة والخطوتين لا يكون منهما ذلك كما لا يخفى. وفي المبتغى: بخلاف المرأة يعني تعيد
تلك الصلاة إذا كانت مكتوبة إذا اغتسلت ثانيا بخروج بقية منها وفيه نظر ظاهر، والذي
103

يظهر أنها كالرجل وفي المستصفى: يعمل بقول أبي يوسف إذا كان في بيت إنسان واحتلم
مثلا ويستحيي من أهل البيت أو خاف أن يقع في قلبهم ريبة بأن طاف حول أهل بيتهم
ا ه‍. وفي السراج الوهاج: والفتوى على قول أبي يوسف في الضيف وعلى قولهما في
غيره ا ه‍. ولو خرج مني بعد البول وذكره منتشر وجب الغسل وإن لم يكن ذكره منتشرا
لا يجب الغسل، كذا في فتاوى قاضيخان وغيره. ومحله إذا وجد الشهوة يدل عليه تعليله
في التنجيس بأن في حالة الانتشار وجد الخروج والانفصال جميعا على وجه الدفق والشهوة
وهذا يفيد إطلاق ما قدمنا من أن المني الخارج بعد البول لا يوجب الغسل إجماعا. قيل:
وعلى الخلاف المتقدم مستيقظ وجد ثبوبه أو فخذه بللا ولم يتذكر احتلاما وشك في أنه
مذي أو مني يجب عندهما لاحتمال انفصاله عن شهوة ثم نسي ورق هو بالهواء خلافا له
وفيه نظر، فإن هذا الاحتمال ثابت في الخروج كذلك كما هو ثابت في الانفصال كذلك،
فالحق أنها ليست بناء على الخلاف بل هو يقول لا يثبت وجوب الغسل بالشك في وجود
الموجب وهما احتاطا لقيام ذلك الاحتمال وقياسا على ما لو تذكر الاحتلام ورأي ماء رقيقا
حيث يجب اتفاقا حملا للرقة على ما ذكرنا، وقوله أقيس وأخذ به خلف ابن أيوب وأبو
الليث كذا في فتح القدير.
واعلم أن هذه المسألة على اثني عشر وجها لأنه إما أن يتيقن أنه مني أو مذي أو ودي
أو شك في الأول والثاني أو في الأول والثالث أو في الثاني والثالث، وكل من هذه الستة إما
104

أن تكون مع تذكر الاحتلام أو لا فيجب الغسل اتفاقا فيما إذا تيقن أنه مني وتذكر الاحتلام
أو لا، وفيما إذا تيقن أنه مذي وتذكر الاحتلام أو شك أنه مني أو مذي أو مني أو ودي أو
مذي أو ودي وتذكر الاحتلام في الكل، ولا يجب الغسل اتفاقا فيما إذا تيقن أنه ودي، تذكر
الاحتلام أو لا، أو شك أنه مذي أو ودي ولم يتذكر الاحتلام، أو تيقن أنه مذي ولم يتذكر
الاحتلام. ويجب الغسل عندهما لا عند أبي يوسف فيما إذ شك أنه مني أو مذي أو مني أو
ودي ولم يتذكر الاحتلام فيهما. وهذا التقسيم وإن لم أجده فيما رأيت لكنه مقتضى عباراتهم
لكن قال في فتح القدير: التيقن متعذر مع النوم. وفي الخلاصة: ولسنا نوجب الغسل بالمذي
لكن المني يرق بإطالة المدة فتصير صورته صورة المذي لا حقيقة المذي ا ه‍. وهذا كله في
النائم إذا استيقظ فوجد بللا. أما إذا غشي عليه فأفاق فوجد مذيا أو كان سكران فأفاق
فوجده مذيا لا غسل عليه اتفاقا، كذا في الخلاصة وغيرها. والفرق بأن المني والمذي لا بد له
من سبب وقد ظهر في النوم تذكر أو لا، لأن النوم مظنة الاحتلام فيحال عليه. ثم يحتمل
أنه مني رق بالهواء أو للغذاء فاعتبرناه منيا احتياطا ولا كذلك السكران والمغمى عليه لأنه لم
يظهر فيهما هذا السبب. ولو وجد الزوجان بينهما ماء دون تذكر ولا مميز بأن لم يظهر غلظه
ورقته ولا بياضه وصفرته يجب عليهما الغسل، صححه في الظهيرية ولم يذكروا القيد فقالوا
يجب عليهما، وقيل إذا كان غليظا أبيض فعليه أو رقيقا أصفر فعليها فيقيدونه بصورة نقل
الخلاف. والذي يظهر تقييد الوجوب عليهما بما ذكرنا فلا خلاف إذن كذا في فتح القدير.
وينبغي أن يقيد أيضا بما إذا لم يظهر كونه وقع طولا أو عرضا فإن بعضهم قال: إن وقع
طولا فمن الرجل وإن وقع عرضا فمن المرأة، ولعله لضعف هذا النوع من التمييز عنده
105

أعرض عنه وليس ببعيد فيما يظهر، والقياس أنه لا يجب الغسل على واحد منهما لوقوع
الشك. وإذا لم يجب عليهما لا يجوز لها أن تقتدي به والوجه فيه ظاهر، ولا يخفى أن هذا
كله فيما إذا لم يكن الفراش قد نام عليه غيرهما قبلهما، وأما إذا كان قد نام عليه غيرهما وكان
المني المرئي يابسا فالظاهر أنه لا يجب الغسل على واحد منهما.
ولو احتملت المرأة ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها، عن محمد يجب، وفي ظاهر الرواية
لا يجب لأن خروج منيها إلى فرجها الخارج شرط لوجوب الغسل عليها وعليه الفتوى كذا في
معراج الدراية، والذي حرره في فتح القدير وقال إنه الحق الاتفاق على تعلق وجوب الغسل
بوجود المني في احتلامهما، والقائل بوجوبه في هذه الخلافية إنما يوجبه على وجوده وإن لم
تره فالمراد بعدم الخروج في قولهم ولم يخرج منها لم تره خرج فعلى هذا إلا وجه وجوب الغسل
في الخلافية. والمراد بالرؤية في جواب النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم لما سألته هل على المرأة من
106

غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء العلم مطلقا فإنها لو تيقنت الانزال بأن
استيقظت في فور الاحتلام فأحست بيدها البلل ثم نامت فاستيقظت حتى جف فلم تر بعينها
شيئا لا يسع القول بأن لا غسل عليها مع أنه لا رؤية بصر بل رؤية علم ورأي تستعمل
حقيقة في علم باتفاق أهل اللغة قال: رأيت الله أكبر كل شئ. ا ه‍. ولو جومعت فيما
دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها أو جومعت البكر لا غسل عليها إلا إذا ظهر الحبل لأنها لا
تحبل إلا إذا أنزلت وتعيد ما صلت إن لم تكن اغتسلت لأنه ظهر أنها صلت بلا طهارة. ولو
جومعت فاغتسلت ثم خرج منها مني الرجل لا غسل عليها، ولو قالت معي جني يأتيني في
النوم مرارا وأجد ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها. وفي فتح القدير: ولا يخفى أنه
مقيد بما إذا لم تر الماء فإن رأته صريحا وجب كأنه احتلام. وقد يقال: ينبغي وجوب الغسل
من غير إنزال لوجود الايلاج لأنها تعرف أنه يجامعها كما لا يخفى، ولا يظهر هذا الاشتراط
107

إلا إذا لم يظهر لها في صورة الآدمي. وفي فتاوى قاضيخان: إذا استيقظ فوجد بللا في
إحليله وشك في أنه مني أو مذي فعليه الغسل إلا إذا كان ذكره منتشرا قبل النوم فلا يلزمه
الغسل إلا أن يكون أكبر رأيه أنه مني فيلزمه الغسل، وهذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها
غافلون، وهذه تقيد الخلاف المتقدم بين أبي يوسف وصاحبيه بما إذا لم يكن ذكره منتشرا. ثم
إن أبا حنيفة في هذه المسألة ومسألة المباشرة الفاحشة ومسألة الفأرة المنتفخة أخذ بالاحتياط
وأبا يوسف وافقه في الاحتياط في مسألة المباشرة الفاحشة لوجود فعل هو سبب خروج المذي
وخالفه في الفصلين الأخيرين لانعدام الفعل منه، ومحمدا وافقه في الاحتياط في مسألة النائم
لأنه غافل عن نفسه فكان عنده موضع الاحتياط بخلاف الفصلين الأخيرين فإن المباشر ليس
بغافل عن نفسه فيحس بما يخرج منه كذا في المبسوط. وفي المحيط: ولو أن رجلا عزبا به
فرط شهوة له أن يستمني بعلاج لتسكن شهوته ولا يكون مأجورا عليه ليته ينجو رأسا
برأس. هكذا روي عن أبي حنيفة. وفي الخلاصة معزيا إلى الأصل: المراهق لا يجب عليه
الغسل لكن يمنع من الصلاة حتى يغتسل، وكذا لو أراد الصلاة بدون الوضوء وكذا المراهقة
ا ه‍. وفي القنية: لو أنزل الصبي مع الدفق وكان سبب بلوغه فالظاهر أنه لا يلزمه الغسل
ا ه‍. قال بعض المتأخرين: ولا يخفى أنه على هذا لا بد من توجيه المتون ولم يذكر توجيها.
وقد يقال: أن غير المكلف مخصوص من إطلاق عباراتهم، فقولهم وموجبه إنزال مني معناه
أن إنزال المني موجب للغسل على المكلف لا على غيره وسيأتي خلاف هذا في آخر بحث
الغسل إن شاء الله تعالى. واعلم أنه كما ينتقض الوضوء بنزول البول إلى القلفة يجب الغسل
بوصول المني إليها ذكره في البدائع.
108

قوله: (وتواري حشفة في قبل أو دبر عليهما) أي فرض الغسل عند غيبوبة ما فوق
الختان وكذلك غيبوبة مقدار الحشفة من مقطوعها في قبل امرأة يجامع مثلها أو دبر على الفاعل
والمفعول به وإن لم ينزل، والتعبير بغيبوبة الحشفة أولى من التعبير بالتقاء الختانين لتناوله
الايلاج في الدبر، ولان الثابت في الفرج محاذاتهما لا التقاؤهما لأن ختان الرجل هو موضع
القطع وهو ما دون خرة الحشفة، وختان المرأة موضع قطع جلدة منها كعرف الديك فوق
الفرج وذلك لأن مدخل الذكر هو مخرج المني والولد والحيض، وفوق مدخل الذكر مخرج
البول كإحليل الرجل وبينهما جلدة رقيقة يقطع منها من الختان، فحصل أن ختان المرأة
متسفل تحت مخرج البول وتحت مخرج البول مدخل الذكر، فإذا غابت الحشفة في الفرج فقد
حاذى ختانه ولكن يقال لموضع ختان المرأة الخفاض، فذكر الختانين بطريق التغليب، قيد
بالتواري لأن مجرد التلاقي لا يوجب الغسل ولكن ينقض الوضوء على الخلاف المتقدم، وقيدنا
بكونه في قبل امرأة لأن التواري في فرج البهيمة لا يوجب الغسل إلا بالانزال، وقيدنا
بكونها يجامع مثلها لأن التواري في الميتة والصغيرة لا يوجب الغسل إلا بالانزال، وقد تقدم
الدليل من السنة والاجماع على وجوب الغسل بالايلاج وإن لم يكن معه إنزال وهو بعمومه
يشمل الصغيرة والبهيمة وإليه ذهب الشافعي لكن أصحابنا رضي الله عنهم منعوه إلا أن ينزل
لأن وصف الجنابة متوقف على خروج المني ظاهرا أو حكما عند كمال سببه مع خفاء خروجه
لقلته وتكسله في المجرى لضعف الدفق بعدم بلوغ الشهوة منتهاها كما يجده المجامع في أثناء
الجماع من اللذة بمقاربة المزايلة، فيجب حينئذ إقامة السبب مقامه وهذا علة كون الايلاج فيه
الغسل فتعدى الحكم إلى الايلاج في الدبر وعلى الملاط به إذ ربما يتلذذ فينزل، ويخفى لما
قلنا. وأخرجوا ما ذكرنا لكنه يستلزم تخصيص النص بالمعنى ابتداء كذا في فتح القدير.
وحاصله أن الموجب إنزال المني حقيقة أو تقديرا عند كمال سببه، وفيما ذكرناه لم يوجد
حقيقة ولا تقدير النقصان سببه لكن هذا يستلزم تخصيص النص بالمعنى ابتداء والعام لا
109

يخصص بالمعنى ابتداء عندنا فيحتاج أئمتنا إلى الجواب عن هذا ويحتاجوا أيضا إلى الجواب عما
ذكره النووي في شرح المهذب بأنه ينتقض بوطئ العجوز الشوهاء المتناهية في القبح العمياء
البرصاء المقطعة الأطراف فإنه يوجب الغسل بالاتفاق مع أنه لا يقصد به لذة في العادة، ولم
أجد عن هذين الايرادين جوابا وقد ظهر لي في الجواب عن الأول أن هذا ليس تخصيصا
للنص بالمعنى ابتداء وبيانه يحتاج إلى مزيد كشف فأقول وبالله التوفيق:
إنه قد ورد حديثان ظاهرهما التعارض: الأول الماء من الماء ومقتضاه أن الغسل لا
يجب بالتقاء الختانين من غير إنزال فإن الماء اسم جنس محلى بلام الاستغراق فمعناه جميع
الاغتسال من المني فيما يتعلق بعين الماء لا مطلقا لوجوبه بالحيض والنفاس. والثاني حديث
إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ومقتضاه عموم
وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة من غير إنزال فيشمل الصغيرة والبهيمة والميتة فيعارض الأول
وإذا أمكن العمل بهما وجب فقال علماؤنا: أن الموجب للغسل هو إنزال المني كما أفاده
الحديث الأول لكن المني تارة يوجد حقيقة وتارة يوجد حكما عند كمال سببه وهو غيبوبة
الحشفة في محل يشتهى عادة مع خفاء خروجه ولو كان في الدبر لكمال السببية فيه لأنه سبب
لخروج المني غالبا كالايلاج في القبل لاشتراكهما لينا وحرارة وشهوة حتى إن الفسقة اللوطة
رجحوا قضاء الشهوة من الدبر على قضائها من القبل ومنه خبرا عن قوم لوط * (لقد علمت ما
لنا في بناتك من حق وأنك لتعلم ما نريد) * (هود: 79) وفي الصغيرة ونحوها لم يكن
الايلاج سببا كاملا لانزال المني لعدم الداعية إليه فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديرا. فلو
قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا وهو لا يجوز فكان هذا منا
110

قولا بموجب العلة لا تخصيصا للنص بالقياس ابتداء، ويكون إنزال المني هو الموجب وهو إما
حقيقة أو تقديرا هو الذي ذكره مشايخنا في أصولهم في بحث المفاهيم قاطعين النظر عن كون
الماء من الماء منسوخا كما لا يخفى. وجواب آخر أنه يجوز تخصيص النص العام بالمعنى ابتداء
عند جمهور الفقهاء منهم الشيخ أبو منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند لأن موجبه عندهم
ليس بقطعي، وأكثر أصحابنا يمنعونه لكونه عندهم قطعيا والقياس ظني، أما إذا كان العام
ظنيا جاز تخصيصه بالقياس ابتداء وما نحن فيه من هذا القبيل لأنه ظني الثبوت وإن كان
قطعي الدلالة. وأما الجواب عن الثاني فلا نسلم أن المحل لا يشتهى ولئن سلم فاجتماع هذه
الأوصاف الشنيعة في امرأة نادر ولا اعتبار به. هذا وقد ذكر في المبتغى خلافا فيمن غابت
الحشفة في فرجه فقال: وقيل لا غسل عليه كالبهيمة والمراد بالفرج الدبر ونقله في فتح القدير
ولم يتعقبه. وقد يقال: إنه غير صحيح فقد قال في غاية البيان: واتفقوا على وجوب الغسل
من الايلاج في الدبر على الفاعل والمفعول به ا ه‍. وجعل الدبر كالبهيمة بعيد جدا كما لا
يخفى. وفي فتح القدير: إن في إدخال الإصبع الدبر خلافا في إيجاب الغسل فليعلم ذلك
ا ه‍. وقد أخذه من التنجيس ولفظه: رجل أدخل أصبعه في دبره وهو صائم اختلفوا في
وجوب الغسل والقضاء، والمختار أنه لا يجب الغسل ولا القضاء لأن الإصبع ليس آلة
للجماع فصار بمنزلة الخشبة. ذكره في الصوم. وقد حكى عن السراج الوهاج خلافا في
وطئ الصغيرة التي لا تشتهى فمنهم من قال يجب مطلقا، ومنهم من قال لا يجب
مطلقا والصحيح أنه إذا أمكن الايلاج في محل الجماع من الصغيرة ولم يفضها فهي ممن تجامع
فيجب الغسل وعزاه للصيرفي في الايضاح. وقد يقال: إن بقاء البكارة دليل على عدم
111

الايلاج فلا يجب الغسل كما اختاره في النهاية معزيا إلى المحيط. ولو لف على ذكره خرقة
وأولج ولم ينزل قال بعضهم يجب الغسل لأنه يسمى مولجا، وقال بعضهم لا يجب. والأصح
إن كانت الخرقة رقيقة بحيث يجد حرارة الفرج واللذة وجب الغسل وإلا فلا، والأحوط
وجوب الغسل في الوجهين. وإن أولج الخنثى المشكل ذكره في فرج امرأة أو دبرها فلا غسل
عليهما لجواز أن يكون امرأة وهذا الذكر منه زائد فيصير كمن أولج أصبعه، وكذا في دبر
رجل أو فرج خنثى لجواز أن يكونا رجلين والفرجان زائدان منهما، وكذا في فرج خنثى مثله
لجواز أن يكون الخنثى المولج فيه رجلا والفرج زائد منه. وإن أولج رجل في فرج خنثى
مشكل لم يجب الغسل عليه لجواز أن يكون الخنثى رجلا والفرج منه بمنزلة الجرح. وهذا كله
إذا كان من غير إنزال، أما إذا أنزل وجب الغسل بالانزال. كذا في السراج الوهاج. وهذا لا
يرد على المصنف لأن كلامه في حشفة وقبل محققين والله أعلم بالصواب.
قوله: (وحيض ونفاس) أي وفرض الغسل عند حيض ونفاس. وقد اختلف رأي
المصنف في كتبه هل الموجب الحيض أو انقطاعه؟ فاختار في المستصفى أن الموجب رؤية
الدم أو خروجه وعلل بأن الدم إذا حصل نقض الطهارة الكبرى ولم يجب الغسل مع سيلان
الدم لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل فوجب لأجل ذلك الحدث السابق، فأما الانقطاع
فهو طهارة فلا يوجب الطهارة. واختار في الكافي أن الموجب انقطاع الدم لا خروجه لأن
112

عنده لا يجب وإنما يجب عند الانقطاع. ونقل نظيره في المستصفى عن أستاذه وعلل له بأن
الخروج منه مستلزم للحيض فقد وجد الاتصال بينهما فصحت الاستعارة. وفي غاية
البيان: هذا والله عن عجائب الدنيا لأنه إذا كان الخروج ملزوما والحيض لازما يلزم أن
يوجد الحيض عند وجود الخروج لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم ووجد الحيض عند
وجوده محال بمرة ا ه‍. أقول: ليس في هذا شئ من العجب وما العجب إلا فهم الكلام
على وجه يتوجه عليه الاعتراض، ولو فهم أن الخروج من الحيض مستلزم لتقدم الحيض لا
لنفس الحيض لاستغنى عن هذا الاعتراض. واستبعد الزيلعي كون الانقطاع سببا لأنه ليس
فيه إلا الطهارة ومن المحال أن توجب الطهارة الطهارة وإنما توجبها النجاسة، ويدفع هذا
الاستبعاد بأن الانقطاع نفسه ليس بطهر إنما الطهر الحالة المستمرة عقيبه ولو سلم، فلما
كان الانقطاع لا بد منه في وجوب الغسل إذ لا فائدة في الغسل بدونه نسبت السببية إليه
وإن كان السبب في الحقيقة خروج الدم. والحاصل أنهم اختلفوا هل الغسل يجب بخروج
الدم بشرط الانقطاع أو يجب بنفس الانقطاع؟ ورجح بعضهم الثاني بأن الحيض اسم لدم
مخصوص والجوهر لا يكون سببا للمعنى. والحق غير القولين بل إنما يجب بوجوب الصلاة
كما قدمناه في الوضوء والغسل. وقد نقل الشيخ سراج الدين الهندي الاجماع على أنه لا
يجب الوضوء على المحدث، والغسل على الجنب والحائض والنفساء قبل وجوب الصلاة أو
إرادة ما لا يحل إلا به، فحينئذ لا فائدة لهذا الخلاف من جهة الاثم فإنهم اتفقوا على عدم
الاثم قبل وجوب الصلاة، فظهر بهذا ضعف ما نقله في السراج الوهاج من أنه جعل فائدة
الخلاف تظهر فيما إذا انقطع الدم طلوع الشمس وأخرت الغسل إلى وقت الظهر، فعند
الكرخي وعامة العراقيين تأثم، وعند البخاريين لا تأثم. وعلى هذا الخلاف وجوب الوضوء
فعند العراقيين يجب الوضوء للحدث وعند البخاريين للصلاة ا ه‍. وقد يقال: إن فائدته
تظهر في التعاليق كأن يقول: إن وجب عليك غسل فأنت طالق. وقد ظهر لي فائدة أخرى
وهي ما إذا استشهدت قبل انقطاع الدم فمن قال السبب نفس الحيض قال إنها تغسل لأن
الشهادة لا ترفع ما وجب قبل الموت كالجنابة، ومن قال إن السبب انقطاعه قال لا تغسل
لعدم وجوب الغسل قبل الموت، وقد صحح في الهداية في باب الشهيد أنها تغسل فكان
تصحيحا لكون السبب الحيض كما لا يخفى. وأما دليل وجوب الغسل من الحيض والنفاس
فالاجماع نقله صاحب البدائع من أئمتنا والنووي في شرح المهذب عن ابن المنذر وابن جرير
الطبري واستدل بعضهم للحيض بقوله تعالى * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * (البقرة: 222)
ووجه الدلالة أنه يلزمها تمكين الزوج من الوطئ ولا يجوز ذلك إلا بالغسل وما لا يتم
113

الواجب إلا به فهو واجب. وإذا ثبت هذا فيما دون العشرة ثبت في العشرة بدلالة النص
لأن وجوب الاغتسال لأجل خروج الدم وقد وجد في العشرة. فإن قيل: إنما وجب
الاغتسال فيما دون العشرة لتتأكد به صفة الطهارة عن الحيض وزوال الأذى ليثبت الحل
للزوج، ولهذا يثبت الحل بمضي وقت صلاة عليها وإن لم تغتسل لوجود التأكيد بصيرورة
الصلاة دينا عليها، وفي العشرة قد تأكد صفة الطهارة بنفس الانقطاع فانعدم المعنى الموجب
فلا يمكن الالحاق بطريق الدلالة كما لا يمكن إثبات الحد باللواطة بمعنى الحرمة لانعدام
المعنى الموجب للحد بعد الحرمة وهو كثرة الوقوع قلنا: ليس كذلك بل المعنى الموجب
موجود لأنه إما الحدث أو إرادة الصلاة على الخلاف، وكلاهما ثابت هنا، فأما الفرق الذي
يدعيه فإنما يثبت إذا كان وجوب الاغتسال لثبوت الحل وليس كذلك، ألا ترى أنها لو لم
تكن ذات زوج وجب عليها الاغتسال مع انعدام المعنى الذي يدعيه ولكنه وإن وجب
بسبب آخر جعل غاية للحرمة فيما دون العشرة فإن الحيض به ينتهي فتنتهي الحرمة المبنية
عليه، فعرفنا بعبارة النص في قراءة التشديد حرمان القربان مغيا إلى الاغتسال فيما دون
العشرة بإشارته وجوب الاغتسال وبدلالته وجوبه في العشرة. كذا في معراج الدراية معزيا
إلى شيخه العلامة. ويدل عليه أيضا حديث فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:
إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي. رواه البخاري ومسلم عن
عائشة. وفي بعض الروايات فاغسلي عنك الدم وصلي. وفي البدائع: ولا نص في
النفاس وإنما عرف بالاجماع، ثم إجماعهم يجوز أن يكون على خبر في الباب لكنهم تركوا
نقله اكتفاء بالاجماع، ويجوز أن يكون بالقياس على دم الحيض لكون كل منهما دما خارجا
من الرحم ا ه‍. والمذكور في الأصول أن الاجماع في كل حادثة لا يتوقف على نص على
الأصح. وفي الكافي للحاكم الشهيد وإذا أجنبت المرأة ثم أدركها الحيض فإن شاءت
اغتسلت وإن شاءت أخرت حتى تطهر، وعند مالك: عليها أن تغتسل بناء على أصله أن
الحائض لها أن تقرأ القرآن ففي اغتسالها من الجنابة هذه الفائدة.
قوله: (لا مذي وودي واحتلام بلا بلل) بالجر عطف على مني أي لا يفترض الغسل
عند هذه الأشياء. أما المذي ففيه ثلاث لغات: المذي بإسكان الذال وتخفيف الياء والمذي
بكسر الذال وتشديد الياء وهاتان مشهورتان. قال الأزهري وغيره: التخفيف أفصح وأكثر.
والثالثة المذي بكسر الذال وإسكان الياء حكاها أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ابن
الاعرابي. ويقال مذي بالتخفيف وأمذي ومذي بالتشديد والأول أفصح، وهو ماء أبيض
114

رقيق يخرج عند شهوة لا بشهوة ولا دفق ولا يعقبه فتور وربما لا يحس بخروجه وهو أغلب في
النساء من الرجال. وفي بعض الشروح أن ما يخرج من المرأة عند الشهوة يسمى القذي
بمفتوحتين. والودي بإسكان الدال المهملة وتخفيف الياء ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة غير
هذا، وحكى الجوهري في الصحاح عن الأموي أنه قال بتشديد الياء، وحكى صاحب مطالع
الأنوار لغة أنه بالذال المعجمة وهذان شاذان. يقال ودي بتخفيف الدال وأودي وودي بالتشديد
والأول أفصح، وهو ماء أبيض كدر ثخين يشبه المني في الثخانة ويخالفه في الكدورة ولا رائحة
له، ويخرج عقيب البول إذا كانت الطبيعة مستمسكة وعند حمل شئ ثقيل ويخرج قطرة أو
قطرتين ونحوهما، وأجمع العلماء أنه لا يجب الغسل بخروج المذي والودي. كذا في شرح
المهذب. وإذا لم يجب بهما الغسل وجب بهما الوضوء. وفي المذي حديث علي المشهور الصحيح
الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما. فإن قيل: ما فائدة إيجاب الوضوء بالودي وقد وجب
بالبول السابق عليه؟ قلنا عن ذلك أجوبة: أحدها فائدته فيمن به سلس البول فإن الودي ينقض
وضوءه دون البول. ثانيها فيمن توضأ عقب البول قبل خروج الودي ثم خرج الودي فيجب به
الوضوء. ثالثها يجب الوضوء لو تصور الانتقاض به كما فرع أبو حنيفة مسائل المزارعة لو كان
يقول بجوازها قال في الغاية وفيه ضعف. ورابعها الودي ما يخرج بعد الاغتسال من الجماع
وبعد البول وهو شئ لزج، كذا فسره في الخزانة والتبيين، فالاشكال إنما يرد على من اقتصر
في تفسيره على ما يخرج بعد البول. خامسها أن وجوب الوضوء بالبول لا ينافي الوجوب
بالودي بعده ويقع الوضوء عنهما حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف فرعف ثم بال أو عكسه
فتوضأ فالوضوء منهما فيحنث، وكذا لو حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فجامعها زوجها
وحاضت فاغتسلت فهو منهما وتحنث وهذا ظاهر الرواية. وقال الجرجاني: الطهارة من الأول
دون الثاني مطلقا. وقال الهندواني: إن اتحد الجنس كأن بال ثم بال فالوضوء الأول، وإن
اختلف كأن بال ثم رعف فالوضوء منهما ذكره في الذخيرة. وقد رجح المحقق في فتح القدير
تبعا للآمدي قول الجرجاني لأن الناقض يثبت الحدث، ثم تجب إزالته عند وجود شروطه وهو
أمر واحد لا تعدد في أسبابه فالثابت بكل سبب هو الثابت بالآخر إذ لا دليل يوجب خلاف
ذلك فالناقض الأول لما أثبت الحدث لم يعمل الثاني شيئا لاستحالة تحصيل الحاصل. نعم لو
وقعت الأسباب دفعة أضيف ثبوته إلى كلها ولا ينفي ذلك كون كل علة مستقلة لأن معنى
الاستقلال كون الوصف بحيث لو انفرد أثر هذه الحيثية ثابتة لكل في حال الاجتماع، وهذا أمر
معقول يجب قبوله والحق أحق أن يتبع ويجب حمله على الحكم بتعدد الحكم هنا ولا يستلزم أن
يقال به كل موضع لأنه يرفع وقوع تعدد العلل بحكم واحد وهم في الأصول يثبتونه.
115

وأما الاحتلام فهو افتعال من الحلم بضم الحاء وإسكان اللام وهو ما يراه النائم من
المنامات. يقال حلم في منامه بفتح الحاء واللام واحتلم وحلمت كذا وحلمت بكذا هذا أصله
ثم جعل اسما لما يراه النائم من الجماع فيحدث معه إنزال المني غالبا فغلب لفظ الاحتلام في
هذا دون غيره من أنواع المنام لكثرة الاستعمال. وحكمه عدم وجوب الغسل إذا لم ينزل لما
روى البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا
هي احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء. ونقل النووي في شرح المهذب عن ابن المنذر الاجماع
عليه. وأما ما استدل به في بعض الشرح ومن حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن الرجل
يجد البلل ولا يذكر الاحتلام قال يغتسل. وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل قال:
لا غسل عليه. فهو وإن كان مشهورا رواه الدارمي وأبو داود الترمذي وغيرهم لكنه من
رواية عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف عند أهل العلم لا يحتج بروايته ويغني عنه
حديث أم سليم المتقدم فإنه يدل على جميع ما يدل عليه هذا هكذا في شرح المهذب. ولا يقال
إن الاستدلال بحديث أم سليم صحيح على مذهب من يقول بمفهوم الشرط وأنتم لا تقولون
به لأنا نقول: إن الحكم معلق بالشرط فإذا عدم الشرط انعدم الحكم بالعدم الأصلي لا بأن
عدم الشرط أثر في عدم الحكم كما تقدم.
قوله: (وسن للجمعة والعيدين والاحرام وعرفة) أي وسن الغسل لأجل هذه الأشياء.
وأما الجمعة فلما روى الترمذي وأبو داود النسائي وأحمد في مسنده والبيهقي في سننه وابن
أبي شيبة في مصنفة وابن عبد البر في الاستذكار عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل قال
الترمذي حديث حسن صحيح أي فبالسنة أخذ ونعمت هذه الخصلة، وقيل فبالرخصة أخذ
116

ونعمت الخصلة هذه والأول أولى فإنه قال وإذا اغتسل فالغسل أفضل فتبين أن الوضوء سنة لا
رخصة كذا في الطلبة. والضمير في فبها يعود إلى غير المذكور وهو جائز إذا كان مشهورا
وهذا مذهب جمهور العلماء وفقهاء الأمصار وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه، وما
وقع في الهداية من أنه واجب عند مالك فقال بعض الشارحين: إنه غير صحيح فإنه لم يقل
أحد بالوجوب إلا أهل الظاهر وتمسكوا بما رواه البخاري ومسلم من حديث عمر قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاء منكم الجمعة فليغتسل والامر للوجوب. وروى البخاري ومسلم
من حديث الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وقد
أجاب الجمهور عنه بثلاثة أجوبة: أحدها أن الوجوب قد كان ونسخ ودفع بأن الناسخ وإن
صححه الترمذي لا يقوي قوة حديث الوجوب ما ليس فيه تاريخ أيضا فعند التعارض يقدم
الموجب. ثانيها أنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كما يفيده ما أخرجه أبو داود عن عكرمة
أن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغسل يوم الجمعة واجبا؟ فقال: لا
ولكنه طهور وخير لمن اغتسل ومن لم يغتسل فلا شئ عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ
الغسل كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم وكان مسجدهم ضيقا
مقارب السقف إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وعرق الناس في ذلك
الصوف حتى ثارت منه رياح حتى أذى بعضهم بعضا، فلما وجد عليه السلام تلك الرياح
قال: يا أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أمثل ما يجد من دهنه وطيبه.
قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع مسجدهم وذهب
بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق. وثالثها أن المراد بالامر النسب وبالوجوب
الثبوت شرعا على وجه الندب كأنه قال واجب في الأخلاق الكريمة وحسن السنة بقرينة
متصلة ومنفصلة. أما المتصلة فهي أنه قرنه بما لا يجب اتفاقا كما رواه مسلم في حديث
الخدري إنه عليه السلام قال غسل الجمعة على كل محتلم والسواك والطيب ما يقدر عليه
ومعلوم أن الطيب والسواك ليسا بواجبين فكذلك الغسل، وأما قول أبي هريرة كغسل
الجنابة فإنما أراد التشبيه في الهيئة والكيفية لا في كونه فرضا يدل عليه ما رواه الترمذي عن
117

أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت
غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا (1) وهذا نص في
الاكتفاء بالوضوء. وأما القرينة المنفصلة فهي قوله ومن اغتسل فالغسل أفضل.
وأما كون الغسل سنة للعيدين وعرفة فبما رواه ابن ماجة في سننه عن الفاكه بن سعد
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة، ورواه الطبراني في معجمه
والبزار في مسنده وزاد فيه يوم الجمعة، ورواه أحمد في مسنده أيضا وروى ابن ماجة عن ابن
عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم العيدين. وأما كونه سنة للاحرام فبما أخرجه
الترمذي في الحج وحسنه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت أنه رأى
النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لاهلاله واغتسل. وذهب بعض مشايخنا إلى أن هذه الأغسال الأربعة مستحبة
أخذا من قول محمد في الأصل إن غسل الجمعة حسن. قال في فتح القدير: وهو النظر لأنا
إن قلنا بأن الوجوب انتسخ لا يبقى حكم آخر بخصوصه إلا بدليل والدليل المذكور يفيد
الاستحباب، وكذا إن قلنا بأنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته وإن حملنا الامر على الندب
فدليل الندب يفيد الاستحباب إذ لا سنة دون مواظبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك لازم الندب ثم يقاس
عليه باقي الأغسال، وإنما يتعدى إلى الفرع حكم الأصل وهو الاستحباب. وأما ما رواه ابن
ماجة في العيدين وعرفة من حديثي الفاكه وابن عباس المتقدم ذكرهما فضعيفان قاله النووي
وغيره. وأما ما رواه الترمذي في الاهلال فواقعة حال لا تستلزم المواظبة فاللازم الاستحباب
إلا أن يقال: إهلاله اسم جنس فيعم لفظا كل إهلال صدر منه فثبتت سنية هذا الغسل ا ه‍.
لكن قال تلميذه ابن أمير حاج: والذي يظهر استنان غسل الجمعة لما روي عن عائشة رضي الله
عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة ويوم الجمعة وغسل الميت ومن
الحجامة. رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم وقال على شرط الشيخين. وقال البيهقي:
رواته كلهم ثقات. مع ما تقدم فإن هذا الحديث ظاهره يفيد المواظبة وما تقدم يفيد جواز الترك
من غير لوم، وبهذا القدر تثبت السنة. ثم اختلفوا فعند أبي يوسف الغسل في الجمعة والعيدين
سنة للصلاة لا لليوم لأنها أفضل من الوقت، وعند الحس لليوم اظهارا لفضيلته. وهكذا في
كثير من الكتب وفي بعض الكتب كما نقله في المعراج ذكر محمد مكان الحسن وقالوا: الصحيح
قول أبي يوسف. وتظهر ثمرة الاختلاف فيمن لا جمعة عليه هل يسن له الغسل أو لا، وفيمن
اغتسل ثم أحدث وتوضأ وصلى به الجمعة لا يكون له فضل غسل الجمعة عند أبي يوسف خلافا
للحسن، وفيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب فعند أبي يوسف لا، وعند الحسن نعم. كذا
118

ذكر الشارحون. والمنقول في فتاوى قاضيخان في باب صلاة الجمعة أنه لو اغتسل بعد الصلاة
لا يعتبر بالاجماع وهو الأولى فيما يظهر لي لأن سبب مشروعية هذا الغسل لأجل إزالة الأوساخ
في بدن الانسان اللازم منها حصول الأذى عند الاجتماع، وهذا المعنى لا يحصل بالغسل بعد
الصلاة، والحسن رحمه الله وإن كان يقول هو لليوم لا للصلاة لكن بشرط أن يتقدم على
الصلاة. ولا يضر تخلل الحدث بين الغسل والصلاة عنده وعند أبي يوسف يضر. وفي الكافي
للمصنف وخلاصة الفتاوى تظهر فائدة الخلاف فيما لو اغتسل قبل الصبح وصلى به الجمعة نال
فضل الغسل عند أبي يوسف، وعند الحسن لا. وتعقب الزيلعي الحسن بأنه مشكل جدا لأنه لا
يشترط وجود الاغتسال بما سن الاغتسال لأجله وإنما يشترط أن يكون متطهرا بطهارة
الاغتسال، ألا ترى أن أبا يوسف لا يشترط الاغتسال في الصلاة وإنما يشترط أن يصليها
بطهارة الاغتسال، فكذا ينبغي أن يكون هنا متطهرا بطهارته في ساعة من اليوم عند الحسن لا
أن ينشئ الغسل فيه ا ه‍. وأقره عليه في فتح القدير.
وقد يقال: إن ما استشهد به بقوله ألا ترى إلى آخره لا يصلح للاستشهاد لأن ما سن
الاغتسال لأجله عند الحسن وهو اليوم يمكن إنشاء الغسل فيه، فلو قيل باشتراطه أمكن
بخلاف ما سن الاغتسال لأجله عند أبي يوسف وهو الصلاة لا يمكن إنشاء الغسل فيها
فافترقا، لكن المنقول في فتاوى قاضيخان من باب صلاة الجمعة أنه إن اغتسل قبل الصبح
وصلى بذلك الغسل كانت صلاة بغسل عند الحسن. وفي معراج الدراية: لو اغتسل يوم
الخميس أو ليلة الجمعة استن بالسنة لحصول المقصود وهو قطع الرائحة اه‍. ولم ينقل خلافا.
وينبغي أن لا تحصل السنة عند أبي يوسف لاشتراطه أن لا يتخلل بين الغسل والصلاة حدث
والغالب في مثل هذا القدر من الزمان حصول حدث بينهما، ولا تحصل السنة أيضا عند الحسن
على ما في الكافي وغيره. أما على ما في الكافي فظاهر، وأما على ما في غيره فلانه يشترط أن
يكون متطهرا بطهارة الاغتسال في اليوم لا قبله. ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو عرفة
وجامع ثم اغتسل ينوب عن الكل كذا في معراج الدراية. ثم في البدائع: يجوز أن يكون غسل
عرفة على هذا الاختلاف أيضا يعني أن يكون للوقوف أو لليوم كما في الجمعة. قال ابن أمير
119

حاج: والظاهر أنه للوقوف وما أظن أحدا ذهب إلى استنانه ليوم عرفة من غير حضور عرفات.
وفي المنبع شرح المجمع: فإن قلت هل يتأتى هذا الاختلاف في غسل العيد أيضا؟ قلت:
يحتمل ذلك ولكني ما ظفرت به ا ه‍. قلت: والظاهر أنه للصلاة أيضا ويشهد له ما صح في
موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو اه‍. وعبارة
المجمع أولى من عبارة المصنف حيث قال: وفى عرفة ليبين أنه لا ينال السنة إلا إذا اغتسل في
نفس الجبل بخلاف عبارة المصنف فإنها صادقة بما إذا اغتسل خارجه لأجله ثم دخله.
قوله: (ووجب للميت) أي الغسل فرض على المسلمين على الكفاية لأجل الميت وهذا هو
مراد المصنف من الوجوب كما صرح به في الوافي في الجنائز. وفي فتح القدير إنه بالاجماع إلا
أن يكون الميت خنثى مشكلا فإنه مختلف فيه قيل ييمم، وقيل يغسل في ثيابه والأول أولى
وسيأتي في الجنائز إن شاء الله تعالى دليله. وهل يشترط لهذا الغسل النية؟ الظاهر أنه يشترط
لاسقاط وجوبه عن المكلف لا لتحصيل طهارته هو وشرط صحة الصلاة عليه كذا في فتح
القدير ولنا فيه نظر نذكره إن شاء الله في الجنائز. وما نقله مسكين من قوله وقيل غسل الميت
سنة مؤكدة ففيه نظر بعد نقل الاجماع اللهم إلا أن يكون قولا غير معتد به فلا يقدح في انعقاد
الاجماع. قوله: (ولمن أسلم جنبا وإلا ندب) أي افترض الغسل على من أسلم حال كونه جنبا
فاللام بمعنى على بقرينة قوله وإلا ندب إذ لو كانت اللام على حقيقتها لاستوت الحالتان
كما لا يخفى. وعبارة أصله الوافي أحسن ولفظه وندب لمن أسلم ولم يكن جنبا وإلا لزم وقد
اختلف المشايخ في الكافر إذا أسلم وهو جنب، فقيل لا يجب لأنهم غير مخاطبين بالفروع ولم
يوجد بعد الاسلام جنابة وهو رواية، وفي رواية يجب وهو الأصح لبقاء صفة الجنابة السابقة
بعد الاسلام فلا يمكنه أداء المشروط بزوالها إلا به فيفترض. ولو حاضت الكافرة فطهرت ثم
أسلمت قال شمس الأئمة: لا غسل عليها بخلاف الجنب. والفرق أن صفة الجنابة باقية بعد
120

الاسلام فكأنه أجنب بعده والانقطاع في الحيض هو السبب ولم يتحقق بعد فلذلك لو أسلمت
حائضا ثم طهرت وجب عليها الغسل. ولو بلغ الصبي بالاحتلام أو هي بالحيض قيل يجب
عليها لا عليه فهذه أربعة فصول. قال قاضيخان: والأحوط وجوب الغسل في الفصول كلها
ا ه‍. وفي فتح القدير: ولا نعلم خلافا في وجوب الوضوء للصلاة إذا أسلم محدثا، ولا معنى
للفرق بين هاتين فإنه إن اعتبر حال البلوغ أوان انعقاد أهلية التكليف فهو كحال انعقاد العلة لا
يجب عليهما، وإن اعتبر أوان توجه الخطاب حتى اتحد زمانهما وجب عليهما، والحيض إما
حدث أو يوجب حدثا في رتبة حدث الجنابة كما سنحققه في بابه فوجب أن يتحد حكمه بالذي
أسلم جنبا. وجوابه أن السبب في الحيض الانقطاع وثبوته بعد البلوغ لتحقق البلوغ بابتداء
الحيض كيلا يثبت الانقطاع إلا وهي بالغة ا ه‍. وهذا الجواب بعد تسليمه يصلح جوابا عما يرد
على الفرق بين المرأة إذا بلغت بالحيض والصبي إذا بلغ بالاحتلام. ولقائل أن يمنعه لما تقدم أن
المختار أن السبب في وجوب الغسل على الحائض ليس الحيض ولا انقطاعه وإنما هو وجوب
الصلاة، فحينئذ لا فرق بينهما. والجواب الصحيح أن الصحيح وجوب الاغتسال على الصبي
إذا بلغ بالاحتلام ذكره في معراج الدراية معزيا إلى أمالي قاضيخان. وأما ما يرد على الفرق بين
المرأة الحائض إذا أسلمت بعد الانقطاع وبين المسلم إذا كان جنبا فلم يحصل الجواب عنه من
المحقق، فالأولى القول بالوجوب عليهما كما ذكره قاضيخان، وإلى هنا تمت أنواع الاغتسال
وهي فرض وسنة ومندوب. فالفرض ستة أنواع: من إنزال المني بشهوة، وتواري حشفة ولو
كان كافرا ثم أسلم، ومن انقطاع حيض أو نفاس ولو كانت كافرة ثم أسلمت، والخامس غسل
الميت، والسادس الغسل عند إصابة جميع بدنه نجاسة أو بعضه وخفي مكانها. وكثر من المشايخ
قسموا أنواعه إلى فرض وواجب وسنة ومندوب وجعلوا الواجب غسل الميت وغسل الكافر إذا
أسلم جنبا ولا يخفى ما فيه فإن هذا الذي سموه واجبا يفوت الجواز بفوته. والمنقول في باب
الجنائز أن غسل الميت فرض فالأولى عدم إطلاق الواجب عليه لأنه ربما يتوهم أنه غير الفرض
بناء على اصطلاحنا المشهور. والمسنون أربعة كما تقدم، والمندوب غسل الكافر إذا أسلم غير
جنب، ولدخول مكة، والوقوف بمزدلفة، ودخول مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وللمجنون إذا أفاق،
والصبي إذا بلغ بالسن، ومن غسل الميت، وللحجامة لشبهة الخلاف، وليلة القدر إذا رآها،
121

وللتائب من الذنب، وللقادم من السفر، ولمن يراد قتله، وللمستحاضة إذا انقطع دمها. ذكر
هذه الأربعة في شرح منية المصلي معزيا لخزانة الأكمل. وفي شرح المهذب: من الغسل المسنون
غسل الكسوفين وغسل الاستسقاء ومنه ثلاثة أغسال رمي الجمار، ومن المستحب الغسل لمن
أراد حضور مجمع الناس ولم أجده لائمتنا فيما عندي والله الموفق للصواب.
قوله: (ويتوضأ بماء السماء والعين والبحر) يعني الطهارة جائزة بماء السماء كما
صرح به القدوري وغيره، والمشايخ تارة يطلقون الجواز بمعنى الحل، وتارة بمعنى الصحة
وهي لازمة للأول من غير عكس والغالب إرادة الأول في الافعال، والثاني في العقود
والمراد هنا الأول، ومن قال بعموم المشترك استعمل الجواز هنا بالمعنيين. والماء هو الجسم
اللطيف السيال الذي به حياة كل نام، وأصله موه بالتحريك وهو أصل مرفوض فيما أبدل
من الهاء أبدالا لازما فإن الهمزة فيه مبدلة عن الهاء في موضع اللام ويجمع على مياه جمع
كثرة، وجمع قلة على أمواه. والعين لفظ مشترك بين الشمس والينبوع والذهب والدينار
والمال والنقد والجاسوس والمطر وولد البقر الوحشي وخيار الشئ ونفس الشئ والناس
القليل وحرف من حروف المعجم وما عن يمين قبلة العراق وعين في الجلد وغير ذلك،
والمراد به هنا الينبوع بقرينة السياق. وفي قوله والبحر عطفا على السماء أي وبماء البحر
إشارة إلى رد قول من قال إن ماء البحر ليس بماء حتى حكي عن ابن عمران أنه قال في
ماء البحر: التيمم أحب إلي منه كما نقله عنه في السراج الوهاج. وقسم هذه المياه باعتبار
ما يشاهد عادة وإلا فالكل من السماء لقوله تعالى * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء
فسلكه ينابيع في الأرض) * (الزمر: 21) وقيل ليس في الآية أن جميع المياه تنزل من السماء
لأن ما نكرة في الاثبات ومعلوم أنها لا تعم قلنا: بل تعم بقرينة الامتنان به فإن الله
ذكره في معرض الامتنان به، فلو لم يدل على العموم لفات المطلوب، والنكرة في الاثبات
تفيد العموم بقرينة تدل عليه كما في قوله تعالى * (علمت نفس ما أحضرت) * (التكوير: 14)
أي كل نفس. واعلم أن الماء نوعان مطلق ومقيد. فالمطلق هو ما يسبق إلى الافهام بمطلق
قولنا ماء ولم يقم به خبث ولا معنى يمنع جواز الصلاة، فخرج الماء المقيد والماء المتنجس
والماء المستعمل. والمطلق في الأصول هو المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا
122

بالاثبات كماء السماء والعين والبحر والإضافة فيه للتعريف بخلاف الماء المقيد فإن القيد لازم
له لا يجوز إطلاق الماء عليه بدون القيد كماء الورد. وقد أجمعوا على جواز الطهارة بماء
السماء واستدلوا له بقوله تعالى * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11)
وقد استدل جماعة بقوله تعالى * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 48) وبالحديث
الصحيح الذي رواه ما له في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة
قال: سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من
الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو الطهور ماؤه
الحل ميتته. قال البخاري في غير صحيحه هو حديث صحيح. وقال الترمذي حديث
حسن صحيح. وأورد أن التمسك بالآية والحديث لا يصح إلا إذا كان الطهور بمعنى المطهر
كما هو مذهب الشافعي ومالك، وأما إذا كان بمعنى الطاهر كما هو مذهبنا فلا يمكن
الاستدلال والدليل على أنه بمعنى الطاهر قوله تعالى * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *
(الانسان: 21) وصفه بأنه طهور وإن لم يكن هناك ما يتطهر به. وقال جرير: عذاب الثنايا
ريقهن طهور. ومعناه طاهر. وأهل العربية على أن الطهور فعول من طهر وهو لازم، والفعل
إذا لم يكن متعديا لم يكن الفعول منه متعديا كقولهم نؤم من نام وضحوك من ضحك، وإذا
كان متعديا فالفعول منه كذلك كقولهم قتول من قتل وضروب من ضرب. قلنا: إنما تفيد
هذه الصيغة التطهير من طريق المعنى وهو أن هذه الصيغة للمبالغة فإن في الشكور والغفور
من المبالغة ما ليس في الغافر والشاكر فلا بد أن يكون في الطهور معنى زائد ليس في
الطاهر، ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير لأن في نفس الطهارة كلتا
الصفتين سواء فتكون صفة التطهير له بهذا الطريق لا أن الطهور بمعنى المطهر وإليه أشار في
الكشاف والمغرب قال: وما حكي عن ثعلب أن الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره
123

إن كان هذا زيادة بيان لبلاغته في الطهارة كان سديدا ويعضده قوله تعالى * (وينزل عليكم من
السماء ماء ليطهركم به) * (الأنفال: 11) وإلا فليس فعول من التفعيل في شئ وقياسه على ما
هو مشتق من الافعال المتعدية كقطوع ومنوع غير سديد.
والطهور يجئ صفة نحو ماء طهورا، واسما لما يتطهر به كالوضوء اسم لما يتوضأ به،
ومصدرا نحو تطهرت طهورا حسنا ومنه قوله لا صلاة إلا بطهور أي طهارة فإذا كان
بمعنى ما يتطهر به صح الاستدلال ولا يحتاج أن يجعل بمعنى المطهر حيث يلزم جعل اللازم
متعديا. كذا قرره بعض الشارحين وفيه بحث من وجوه: الأول أن الله تعالى وصف شراب
أهل الجنة بأعلى الصفات وهو التطهير. والثاني أن جريرا قصد تفضيلهن على سائر النساء
فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره، ولا يحمل على
طاهر لأنه لا مزية لهن في ذلك فإن كل النساء ريقهن طاهر بل كل حيوان طاهر اللحم
كذلك كالإبل والبقر. الثالث أن قوله ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار
التطهير قد يمنع أن المبالغة فيه باعتبار كثرته وجودته في نفسه لا باعتبار التطهير. والمراد بماء
السماء ماء المطر والندى والثلج والبرد إذا كان متقاطرا. وعن أبي يوسف: يجوز وإن لم يكن
متقاطرا والصحيح قولهما، وقد استدل على جواز الطهارة بماء الثلج والبرد بما ثبت في
124

الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين تكبيرة الاحرام
والقراءة سكتة يقول فيها أشياء منها: اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد. وفي رواية
بماء الثلج والبرد. ولا يجوز بماء الملح وهو يجمد في الصيف ويذوب في الشتاء عكس
الماء.
قوله: (وإن غير طاهر أحد أوصافه) أي يجوز الوضوء بالماء ولو خالطه شئ طاهر
فغير أحد أوصافه التي هي الطعم واللون والريح وهذا عندنا. وقال الشافعي: إن كان
المخالط الطاهر مما لا يمكن حفظ الماء عنه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة
جاز الوضوء به، وإن كان ترابا طرح فيه قصدا لم يؤثر، وإن كان شيئا سوء ذلك كالزعفران
والدقيق والملح الجبلي والطحلب المدقوق بما يستغني الماء عنه لم يجز الوضوء به. كذا في
المهذب. وأصل الخلاف أن هذا الماء الذي اختلط به طاهر هل صار به مقيدا أم لا؟ فقال
الشافعي ومن وافقه: يقيد لأنه يقال ماء الزعفران ونحن لا ننكر أنه يقال ذلك ولكن لا
يمتنع ما دام المخالط مغلوبا أن يقول القائل فيه هذا ماء من غير زيادة، وقد رأيناه يقال في
ماء المد والنيل حال غلبة لون الطين عليهما وتقع الأوراق في الحياض زمن الخريف فيمر
الرفيقان ويقول أحدهما للآخر هنا ماء تعالى نشرب نتوضأ فيطلقه مع تغير أوصافه، فظهر لنا
من اللسان أن المخالط المغلوب لا يسلب الاطلاق فوجب ترتيب حكم المطلق على الماء الذي
هو كذلك. ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر قاله لمحرم وقصته ناقته
فمات. رواه البخاري ومسلم في حديث ابن عباس. وقال صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته اغسلنها
بماء وسدر رواه مالك في الموطأ من حديث أم عطية. والميت لا يغسل إلا بماء يجوز للحي
أن يتطهر به. والغسل بالماء والسدر لا يتصور إلا بخلط السدر بماء أو بوضعه على الجسد
وصب الماء عليه، وكيفما كان فلا بد من الاختلاط والتغيير وقد اغتسل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في
قصعة فيها أثر العجين. رواه النسائي. والماء بذلك يتغير ولم يعتبر للمغلوبية وأمر عليه السلام
قيس بن عاصم حين أسلم أن يغتسل بماء وسدر، فلولا أنه طهور لما أمر أن يغتسل به. فإن
قيل: المطلق يتناول الكامل دون الناقص وفي الماء المختلط بطاهر غيره قصور، فالجواب أن
المطلق يتناول الكامل ذاتا لا وصفا، والماء المتغير بطاهر كامل ذاتا فيتناوله مطلق الاسم. فإن
قيل: لو حلف لا يشرب ماء فشرب هذا الماء المتغير لم يحنث ولو استعمل المحرم الماء،
والمختلط بالزعفران لزمته الفدية. ولو وكل وكيلا بأن يشتري له ماء فاشترى هذا الماء لا يجوز
فعلم بهذا أن الماء المتغير ليس بماء مطلق قلنا: لا نسلم ذلك هكذا ذكر السراج الهندي
أقول: ولئن سلمنا فالجواب، أما في مسألة اليمين والوكالة فالعبرة فيهما للعرف وفي العرف
أن هذا الماء لا يشرب، وأما في مسألة المحرم فإنما لزمته الفدية لكونه استعمل عين الطيب
وإن كان مغلوبا.
125

قوله: (أو أنتن بالمكث) أي يجوز الوضوء بماء أنتن بالمكث وهو الإقامة والدوام يجوز
فتح الميم وضمها كما يجوز في عين فعله الماضي وهي بالضم في المضارع على كل حال. وفي
بعض الشروح أنه يجوز فيه الكسر. قيد بقوله بالمكث لأنه لو علم أنه أنتن للنجاسة لا يجوز
به الوضوء، وأما لو شك فيه فإنه يجوز ولا يلزمه السؤال عنه. قوله: (لا بما تغير بكثرة
الأوراق) عطف على بماء السماء يعني لا يتوضأ بما تغير بوقوع الأوراق الكثيرة فيه، وهذا
محمول على ما إذا زال عنه اسم الماء بأن صار ثخينا كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
قال في النهاية: المنقول من الأساتذة أن أوراق الأشجار وقت الخريف تقع في الحياض فيتغير
ماؤها من حيث اللون والطعم والرائحة. ثم إنهم يتوضؤون منها من غير نكير. وروي عن
محمد ابن إبراهيم الميداني أن الماء المتغير بكثرة الأوراق إن ظهر لونها في الكف لا يتوضأ بها
لكن يشرب. قوله أو بالطبخ أي لا يتوضأ بما تغير بسبب الطبخ مما لا يقصد به المبالغة في
التنظيف كماء المرق والباقلاء لأنه حينئذ ليس بماء مطلق لعدم تبادره عند إطلاق اسم الماء،
ولا نعني بالمطلق إلا ما يتبادر عند إطلاقه، أما لو كنت النظافة تقصد به كالسدر والصابون
والأشنان يطبخ بالماء فإنه يتوضأ به إلا إذا خرج الماء عن طبعه من الرقة والسيلان. وبما تقرر
علم أن ما ذكره صاحب الهداية في التجنيس وصاحب الينابيع أن الباقلاء أو الحمص إذا
طبخ إن كان إذا برد ثخن لا يجوز الوضوء به، وإن كان لا يثخن ورقة الماء باقية جاز، ليس
هو المختار بل هو قول الناطفي من مشايخنا رحمهم الله يدل عليه ما ذكره قاضيخان في فتاواه
بما لفظه: ولو طبخ الحمص والباقلاء في الماء وريح الباقلاء توجد فيه لا يجوز التوضؤ به.
وذكر الناطفي رحمه الله إذا لم تذهب عنه رقة الماء ولم يسلب عنه اسم الماء جاز الوضوء به.
وبما قررناه أيضا علم أن الماء المطبوخ بشئ لا يقصد به المبالغة في التنظيف يصير مقيدا،
سواء تغير شئ من أوصافه أو لم يتغير، فحينئذ لا ينبغي عطفه في المختصر على ما تغير
بكثرة الأوراق إلا أن يقال إنه لما صار مقيدا فقد تغير بالطبخ.
قوله: (أو اعتصر من شجر أو ثمر) عطف على قوله تغير أي لا يتوضأ بما اعتصر
من شجر كالريباس أو ثمر كالعنب لأن هذا ماء مقيد وليس بمطلق فلا يجوز الوضوء به لأن
الحكم منقول إلى التيمم عند فقد الماء المطلق بلا واسطة بينهما. وفي ذكر العصر إشارة إلى أن
ما يخرج من الشجر بلا عصر كماء يسيل من الكرم يجوز به الوضوء، وبه صرح صاحب
الهداية لكن المصرح به في كثير من الكتب أنه لا يجوز الوضوء به، واقتصر عليه قاضيخان
126

في الفتاوى وصاحب المحيط، وصدر به في الكافي وذكر الجواز بصيغة قبل. وفي شرح منية
المصلي: الأوجه عدم الجواز فكان هو الأولى لما أنه كمل امتزاجه كما صرح به في الكافي. فما
وقع في شرح الزيلعي من أنه لم يكمل امتزاجه ففيه نظر، وقد علمت أن العلماء اتفقوا على
جواز الوضوء بالماء المطلق وعلى عدم جوازه بالماء المقيد. ثم الماء إذا اختلط به شئ طاهر لا
يخرج عن صفة الاطلاق إلا إذا غلب عليه غيره. بقي الكلام هنا في تحقيق الغلبة بماذا تكون؟
فعبارة القدوري وهي قوله وتجوز الطهارة بماء خالطه شئ طاهر فغير أحد أوصافه كعبارة
الكنز والمختار تفيد أن المتغير لو كان وصفين لا يجوز به الوضوء، وعبارة المجمع وهي قوله
ونجيزه بغالب على طاهر كزعفران تغير به بعض أوصافه تفيد أن المتغير لو كان وصفين يجوز
أو كلها لا يجوز. وفي تتمة الفتاوى الماء المتغير أحد أوصافه لا يجوز به الوضوء وفي
الهداية والغلبة بالاجزاء لا بتغير اللون هو الصحيح وقد حكي خلاف بين أبي يوسف
ومحمد ففي المجمع والخانية وغيرهما أن أبا يوسف يعتبر الغلبة بالاجزاء، ومحمدا باللون، وفي
المحيط عكسه، والأصح من الخلاف الأول كما صرحوا به. وذكر القاضي الأسبيجابي أن
الغلبة تعتبر أولا من حيث اللون ثم من حيث الطعم ثم من حيث الاجزاء. وفي الينابيع: لو
نقع الحمص والباقلاء وتغير لونه وطعمه وريحه يجوز الوضوء به. وعن أبي يوسف: ماء
الصابون إذا كان ثخينا قد غلب على الماء لا يتوضأ به، وإن كان رقيقا يجوز وكذا ماء
الأشنان. ذكره في الغاية وفيه إذا كان الطين غالبا عليه لا يجوز الوضوء به، وإن كان رقيقا
يجوز الوضوء به. وصرح في التجنيس بأن من التفريع على اعتبار الغلبة بالاجزاء قول
الجرجاني إذا طرح الزاج أو العفص في الماء جاز الوضوء به إن كان لا ينقش إذا كتب به،
فإن نقش لا يجوز والماء هو المغلوب وهكذا جاء الاختلاف ظاهرا في عباراتهم فلا بد من
التوفيق فنقول: إن التقييد المخرج عن الاطلاق بأحد أمرين: الأول كمال الامتزاج وهو
بالطبخ طاهر لا يقصد به المبالغة في التنظيف أو بتشرب النبات سواء خرج بعلاج أو لا.
الثاني غلبة المخالط فإن كان جامدا فبانتفاء رقة الماء وجريانه على الأعضاء، وعليه يحمل ما عن
أبي يوسف وما في الينابيع، ويوافقه ما في الفتاوى الظهيرية: إذا طرح الزاج في الماء حتى
127

اسود جاز الوضوء به وإن كان مائعا موافقا للماء في الأوصاف الثلاثة كالماء الذي يؤخذ
بالتقطير من لسان الثور، وماء الورد الذي انقطعت رائحته، والماء المستعمل على القول المفتى
به من طهارته إذا اختلط بالمطلق فالعبرة للاجزاء فإن كان الماء المطلق أكثر جاز الوضوء
بالكل، وإن كان مغلوبا لا يجوز، وإن استويا لم يذكر في ظاهر الرواية. وفي البدائع قالوا:
حكمه حكم الماء المغلوب احتياطا وعليه وعلى الأول يحمل قول من قال العبرة بالاجزاء وهو
قول أبي يوسف الذي اختاره في الهداية. فإن كان المخالط جامدا فغلبة الاجزاء فيه بثخونته،
فإن كان مائعا موافقا للماء فغلبة الاجزاء فيه بالقدر، وذكر الحدادي أن غلبة الاجزاء في
الجامد تكون بالثلث وفي المائع بالنصف، فإن كان مخالفا للماء في الأوصاف كلها فإن غيرها
أو أكثرها لا يجوز الوضوء به وإلا جاز، وعليه يحمل قول من قال إن غير أحد أوصافه جاز
الوضوء به وإن خالفه في وصف واحد أو وصفين فالعبرة لغلبة ما به الخلاف كاللبن يخالفه
في اللون والطعم. فإن كان لون اللبن أو طعمه هو الغالب فيه لم يجز الوضوء به وإلا جاز،
وكذا ماء البطيخ يخالفه في الطعم فتعتبر الغلبة فيه بالطعم، وعليه يحمل قول من قال إذا غير
أحد أوصافه لا يجوز، وقول من قال العبرة للون. وأما قول من قال العبرة للون ثم الطعم
ثم الاجزاء فمراده إن المخالط المائع للماء إن كان لونه مخالفا للون الماء فالغلبة تعتبر من حيث
اللون، وإن كان لونه لون الماء فالعبرة للطعم إن غلب طعمه على الماء لا يجوز، وإن كان لا
يخالفه في اللون والطعم والريح فالعبرة للاجزاء. وأما ما يفهم من عبارة المجمع فلا يمكن
حمله على شئ كما لا يخفى، والذي يظهر أن مراده من البعض البعض الأقل وهو الواحد
128

كما هي عبارة القدوري تصحيحا لكلامه، ويدل عليه قوله في شرحه فغير بعض أوصافه
من طعم أو ريح أو لون ذكره ب‍ " أو " التي هي لاحد الأشياء بعد من التي أوقعها بيانا
للبعض، ولا يظهر لتغيير عبارة القدوري فائدة. وههنا تنبيهات مهمة لا بأس بإيرادها:
الأول أن مقتضى ما قالوه هنا من أن المخالط الجامد لا يقيد الماء إلا إذا سلبه وصف الرقة
والسيلان جواز التوضؤ بنبيذ التمر والزبيب ولو غير الأوصاف الثلاثة، وقد صرحوا قبيل
باب التيمم بأن الصحيح خلافه، وأن تلك رواية مرجوع عنها. وقد يقال إن ذلك مشروط
بما إذا لم يزل عنه اسم الماء، وفي مسألة نبيذ التمر زال عنه اسم الماء فلا مخالفة كما لا يخفى.
الثاني أنه يقتضي أيضا أن الزعفران إذا اختلط بالماء يجوز الوضوء به ما دام رقيقا سيالا ولو
غير الأوصاف كلها لأنه من قبيل الجامدات، والمصرح به في معراج الدراية معزيا إلى القنية
أن الزعفران إذا وقع في الماء أمكن الصبغ فيه فليس بماء مطلق من غير نظر إلى الثخونة.
ويجاب عنه بما تقدم من أنه زال عنه اسم الماء. الثالث أنهم قد صرحوا بأن الماء المستعمل على
القول بطهارته إذا اختلط بالماء الطهور لا يخرجه عن الطهورية إلا إذا غلبه أو ساواه، أما إذا
كان مغلوبا فلا يخرجه عن الطهورية فيجوز الوضوء بالكل، وهو بإطلاقه يشمل ما إذا
استعمل الماء خارجا ثم ألقي الماء المستعمل واختلط بالطهور أو الغمس في الماء الطهور لا
فرق بينهما يدل عليه ما في البدائع في الكلام على حديث لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم لا يقال إنه نهى لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا من غير ضرورة وذلك
129

حرام لأنا نقول: الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان غير
المطهر غالبا كماء الورد واللبن، فأما إذا كان مغلوبا فلا، وههنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن
ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا؟ ا ه‍. وقال في
موضع آخر فيمن وقع في البئر فإن كاعلى بدنه نجاسة حكمية بأن كان محدثا أو جنبا أو
حائضا أو نفساء، فعلى قول من لم يجعل هذا الماء مستعملا لا ينزح شئ، وكذا على قول من
جعله مستعملا وجعل المستعمل طاهرا لأن غير المستعمل أكثر فلا يخرج عن كونه طهورا ما لم
يكن المستعمل غالبا عليه كما لو صب اللبن في البئر بالاجماع أو بالت شاة فيها عند محمد
ا ه‍. وقال في موضع آخر: ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل قال بعضهم: لا يجوز
التوضؤ به وإن قل وهذا فاسد. أما عند محمد فلانه طاهر لم يغلب على الماء المطلق فلا يغيره
عن صفة الطهور كاللبن، وأما عندهما فلان القليل لا يمكن التحرز عنه. ثم الكثير عند محمد
ما يغلب على الماء المطلق، وعندهما أن يستبين مواضع القطرة في الاناء ا ه‍. وفي الخلاصة:
جنب اغتسل فانتضح من غسله شئ في إنائه لم يفسد عليه الماء، أما إذا كان يسيل فيه سيلانا
أفسده، وكذا حوض الحمام على هذا. وعلى قول محمد لا يفسده ما لم يغلب عليه يعني لا
يخرجه من الطهورية ا ه‍. بلفظه. فإذا عرفت هذا لم تتأخر عن الحكم بصحة الوضوء من
الفساقي الموضوعة في المدارس عند عدم غلبة الظن بغلبة الماء المستعمل أو وقوع نجاسة في
الصغار منها. فإن قلت: قد صرح قاضيخان في فتاواه أنه لو صب ماء الوضوء في البئر عند
أبي حنيفة ينزح كل الماء، وعند صاحبيه إن كان استنجى بذلك الماء فكذلك، وإن لم يكن
استنجى به على قول محمد لا يكون نجسا لكن ينزح منها عشرون ليصير الماء طاهرا ا ه‍.
فهذا ظاهر في استعمال الماء بوقوع قليل من المستعمل فيه على قول محمد، وكذا صرحوا بأن
الجنب إذا نزل في البئر بقصد الاغتسال يفسد الماء عند الكل، صرح به الأكمل وصاحب
معراج الدراية وغرهما. وفي بعض الكتب ينزح عشرون دلوا عند محمد، ولولا أن الكل صار
مستعملا لما نزح منها. وفي فتاوى قاضيخان: لو أدخل يده أو رجله في الاناء للتبرد يصير
الماء مستعملا لانعدام الضرورة، وكذا صرحوا بأن الماء يفسد إذا أدخل الكف فيه. وممن
صرح به صاحب المبتغى بالغين المعجمة وهو يقتضي استعمال الكل. وقال القاضي
130

الأسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي والولوالجي في فتاواه: جنب اغتسل في بئر ثم في
بئر إلى العشرة على قصد الاغتسال قال أبو يوسف: تنجس الآبار كلها. وقال محمد: يخرج
من الثالثة طاهرا ثم ينظر إن كان على بدنه
عين نجاسة تنجست المياه كلها، وإن لم يكن عين نجاسة صارت المياه كلها مستعملا إلى آخر الفروع، وهذا صريح في استعمال جميع
الماء عند محمد بالاغتسال فيه. وقال الإمام القاضي أبو زيد الدبوسي في الاسرار في الكلام
على حديث لا يبولن أحدكم في الماء إلى آخره قال: من قال إن الماء المستعمل طاهر
طهور لا يجعل الاغتسال فيه حراما، وكذلك من قال طاهر غير طهور لأن المذهب عنده أن
الماء المستعمل إذا وقع في ماء آخر لم يفسده حتى يغلب عليه بمنزلة اللبن يقع فيه وقدر ما
يلاقي بدن المستعمل يصير مستعملا وذلك القدر من جملة ما يغتسل فيه عادة يكون أقل مما
فضل عن ملاقاة بدنه فلا يفسد ويبقى طهورا لذلك ولا يحرم فيه الاغتسال إلا أن يحكم
بنجاسة الغسالة فيفسد الكل وإن كان أكثر من الغسالة كقطرة خمر تقع في حب إلا أن
محمدا يقول: لما اغتسل في الماء القليل صار الكل مستعملا حكما ا ه‍. فهذه العبارة
131

كشفت اللبس وأوضحت كل تخمين وحدس فإنها أفادت أن مقتضى مذهب محمد أن الماء
لا يصير مستعملا باختلاط القليل من الماء المستعمل إلا أن محمدا حكم بأن الكل صار
مستعملا حكما لا حقيقة. فما في البدائع محمول على أن مقتضى مذهب محمد عدم
الاستعمال إلا أنه يقول بخلافه. وفي الخلاصة: رجل توضأ في طست ثم صب ذلك الماء
في بئر ينزح منه الأكثر من عشرين دلوا، ومما صب فيه عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي
يوسف ينزح ماء البئر كله لأنه نجس عندهما ا ه‍. وهذا يفيد صيرورة ماء البئر مستعملا
بصب الماء القليل المستعمل عليه فبالأولى إذا توضأ فيها أو اغتسل. قلت: قد وقع في
جواز الوضوء من الفساقي الصغار الموضوعة في المدارس كلام كثير بين الحنفية من الطلبة
والأفاضل في عصرنا وقبله، وقد ألف الشيخ العلامة قاسم فيها رسالة وسماها رفع
الاشتباه عن مسألة المياه واستدل فيها بما ذكرناه عن البدائع، ووافقه على ذلك بعض أهل
عصره وأفتى به وتعقبه البعض الآخر وألف فيها رسالة وسماها زهر الروض في مسألة
الحوض ونبه عليها في شرح منظومة ابن وهبان وقال: لا تغتر بما ذكره شيخنا العلامة
132

قاسم واستند إلى ما ذكرنا عن الاسرار وفتاوى قاضيخان، والعبد الضعيف إن شاء الله تعالى
يكشف لك عن حقيقة الحال بقدر الوسع والامكان وجهد المقل دموعه فأقول وبالله التوفيق:
133

إن ما ذكره في البدائع صريح في عدم صيرورة الماء القليل مستعملا باختلاط المستعمل الأقل
منه به، وكذا ما ذكره الشارحون كالزيلعي والمحقق الكمال والسراج الهندي في بحث الماء
المقيد كما نقلناه صريح في ذلك. وأما ما ذكره الدبوسي في الاسرار وما ذكره في الخلاصة
وغيرها من نزح عشرين دلوا، وما ذكره الأكمل وشراح الهداية من كونه يفسد عند الكل،
وما ذكره القاضي الأسبيجابي والولوالجي عن محمد، فكله مبني على رواية ضعيفة عن محمد لا
على الصحيح من مذهب محمد، وسيظهر لك صدق هذه الدعوى الصادقة بالبينة العادلة. قال
في المحيط: وإذا وقع الماء المستعمل في البئر يفسد الماء وينزح كله عند أبي يوسف لأنه
نجس، وعند محمد لا يفسد ويجوز التوضؤ به ما لم يغلب على الماء وهو الصحيح لأن الماء
المستعمل طاهر غير طهور فصار كالماء المقيد إذا اختلط بالماء المطلق ا ه‍ بلفظه. وقال الشيخ
العلامة المحقق سراج الدين الهندي في شرح الهداية: إذا وقع الماء المستعمل في البئر لا يفسد
عند محمد، ويجوز الوضوء به ما لم يغلب على الماء وهو الصحيح كالماء المقيد إذا اختلط بالماء
المطلق. وفي التحفة: يجوز الوضوء به ما لم يغلب على الماء على المذهب المختار. وإذا وقع
الماء المستعمل في الماء المطلق القليل قال بعضهم: لا يجوز الوضوء به بخلاف بول الشاة مع
أن كلا منهما طاهر عند محمد، والفرق له أن الماء المستعمل من جنس ماء البئر فلا يستهلك
فيه والبول ليس من جنسه فيعتبر الغالب فيه. وفي فتاوى قاضيخان: لو صب الماء المستعمل
في بئر ينزح منها عشرون دلوا لأنه طاهر عنده وكان دون الفأرة، وهذا على القول الذي لا
يجوز استعمال ماء البئر. ا ه‍ كلام العلامة السراج. فقد استفيد من هذا فوائد منها أن
المشايخ اختلفوا في الماء القليل المستعمل إذا اختلط بالماء المطلق الأكثر منه القليل في نفسه،
134

فمنهم من قال يصير الكل مستعملا عند محمد فيحتاج إلى الفرق بينه وبين بول الشاة فأفاد الفرق
بقوله والفرق له إلى آخره وهي الفائدة الثانية. ومنهم من قال: لا يصير مستعملا ما لم يغلب
على المطلق وصححه صاحب المحيط والعلامة كما رأيت، ونقل العلامة عن التحفة أنه المختار.
ومنها حمل ما نقله قاضيخان وغيره من نزح عشرين دلوا على القول الضعيف، أما على القول
الصحيح فلا ينزح شئ فإذا علمت هذا تعين عليك حمل قول من نقل عدم الجواز على القول
الضعيف لا الصحيح كما فعله العلامة. وأما ما في كثير من الكتب من أن الجنب إذا أدخل يده
أو رجله في الماء فسد الماء فهذا محمول على الرواية القائلة بنجاسة الماء المستعمل لا على المختارة
للفتوى لأن ملاقاة النجس للماء القليل تقتضي نجاسته لا ملاقاة الطاهر له، وقد كشف عن
هذا ختام المحققين العلامة كمال الدين بن الهمام في شرح الهداية حجاب الأستار فقال:
حوضان صغيران يخرج الماء من أحدهما ويدخل في الآخر فتوضأ في خلال ذلك جاز لأنه
جار، وكذا إذا قطع الجاري من فوق وقد بقي جري الماء كان جائزا أن يتوضأ بما يجري في
النهر. وذكر في فتاوى قاضيان في المسألة الأولى قال: والماء الذي اجتمع في الحفيرة الثانية
فاسد وهذا مطلقا إنما هو بناء على كون المستعمل نجسا، وكذا كثير من أشباه هذا. فأما على
المختار من رواية أنه طاهر غير طهور فلا، فلتحفظ ليفرع عليها ولا يفتى بمثل هذه الفروع.
ا ه‍ كلام المحقق. ومن هنا يعلم أن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين:
أحدهما أن إطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس
للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتمادا على صحة فهم الطالب. والثاني أن هذه المسائل
اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بنى
عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة الوجه والمبنى،
ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطأ والغلط. وإذا عرفت هذا ظهر لك ضعف من يقول في
عصرنا إن الماء المستعمل إذا صب على الماء المطلق وكأن الماء المطلق غالبا يجوز الوضوء بالكل،
وإذا توضأ في فسقية صار الكل مستعملا إذ لا معنى للفرق بين المسألتين. وما قد يتوهم في
الفرق من أن في الوضوء يشيع الاستعمال في الجميع بخلافه في الصب مدفوع بأن الشيوع
والاختلاط في الصورتين سواء، بل لقائل أن يقول: إلقاء الغسالة من خارج أقوى تأثيرا من
غيره لتعين المستعمل فيه بالمعاينة والتشخيص وتشخص الانفصال. وبالجملة فلا يعقل فرق بين
135

الصورتين من جهة الحكم، فالحاصل أنه يجوز الوضوء من الفساقي الصغار ما لم يغلب على ظنه
أن الماء المستعمل أكثر أو مساو ولم يغلب على ظنه وقوع نجاسة. قال العلامة قاسم في رسالته:
فإن قلت إذا تكرر الاستعمال قد يجمع ويمنع قلت: الظاهر عدم اعتبار هذا المعنى في النجس
فكيف بالطاهر. قال في المبتغى يعني بالغين المعجمة. قوم يتوضؤون صفا على شط النهر جاز
فكذا في الحوض لأن حكم ماء الحوض في حكم ماء جار ا ه‍ بلفظه. قال العبد الضعيف:
الظاهر أنه يجمع ويمنع، وأما ما استشهد به من عبارة المبتغى فلا يمس محل النزاع لأن كلا
منافي الحوض الصغير الذي لا يكون في حكم الجاري، وما في المبتغى مصور في الحوض
الكبير بدليل قوله لأن حكم ماء الحوض في حكم ماء جار. وقد نقل المحقق العلامة كمال
الدين بن الهمام عبارة المبتغى ثم قال: وإنما أراد الحوض الكبير بالضرورة، وأيضا ما في
المبتغى مفرع على القول بنجاسة الماء المستعمل لا على القول بطهارته بدليل أن الحدادي في شرح
القدوري ذكر ما في المبتغى تفريعا على القول بنجاسة الماء المستعمل وكلامنا هنا على القول
بطهارته. ثم رأيت العلامة ابن أمير حاج في شرحه على منية المصلي قال في قول صاحب المنية
وعن الفقيه أبي جعفر لو توضأ في أجمة القصب فإن كان لا يخلص بعضه إلى بعض جاز ما
نصه: وإنما قيد الجواز بالشرط المذكور لأنه لو كان يخلص بعضه إلى بعض لا يجوز كما هو
المفهوم المخالف لجواب المسألة لكن على القول بنجاسة الماء المستعمل، أما على طهارته فلا، بل
يجوز ما لم يغلب على ظنه أن القدر الذي يغترفه منه لاسقاط فرض من مسح أو غسل ماء
مستعمل أو ماء اختلط بماء مستعمل مساو له أو غالب عليه ا ه‍. والأجمة محركة الشجر الكثير
الملتف. ثم قال أيضا: واتصال الزرع بالزرع لا يمنع اتصال الماء بالماء وإن كان مما يخلص فيجوز
على الرواية المختارة في طهارة المستعمل بالشرط الذي سلف ولا يجوز على القول بنجاسته ا ه‍.
ثم ذكر أيضا مسائل على هذا المنوال وهو صريح فيما قدمناه من جواز الوضوء بالماء الذي
اختلط به ماء مستعمل قليل، ويدل عليه أيضا ما ذكره الشيخ سراج الدين قارئ الهداية في
فتاويه التي جمعها تلميذه ختام المحققين الكمال بن الهمام بما لفظه: سئل عن فسقية صغيرة
يتوضأ فيها الناس وينزل فيه الماء المستعمل وفي كل يوم ينزل فيها ماء جديد، هل يجوز الوضوء
فيها؟ أجاب: إذا لم يقع فيها غير الماء المذكور لا يضر ا ه‍. يعني إذا وقعت فيها نجاسة تنجست
لصغرها ا ه‍.
قوله: (أو بماء دائم فيه نجس إن لم يكن عشرا في عشر) أي لا يتوضأ بماء ساكن
136

وقعت فيه نجاسة مطلقا، سواء تغير أحد أوصافه أو لا ولم يبلغ الماء عشرة أذرع في عشرة.
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة به قليلا
كان الماء أو كثيرا، جاريا كان أو غير جار. هكذا نقل الاجماع في كتبنا، وممن نقله أيضا
النووي في شرح المهذب عن جماعات من العلماء وإن لم يتغير بها فاتفق عامة العلماء على أن
القليل ينجس بها دون الكثير لكن اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير، فقال مالك:
إن تغير أحد أوصافه بها فهو قليل لا يجوز الوضوء به وإلا فهو كثير، وحينئذ يختلف الحال
بحسب اختلاف النجاسة في الكم. وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير فيجوز
الوضوء به وإلا فهو قليل لا يجوز الوضوء به. وقال أبو حنيفة في ظاهر الرواية عنه: يعتبر
فيه أكبر رأي المبتلى به إن غلب على ظنه أنه بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر لا يجوز
الوضوء وإلا جاز. وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط
وقال إنه الأصح. وقال الإمام الرازي في أحكام القرآن في سورة الفرقان: إن مذهب
أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزءا من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لا يجوز الوضوء به،
سواء كان جاريا أو لا ا ه‍. وقال الإمام أبو الحسن الكرخي في مختصره: وما كان من المياه
في الغدران أو في مستنقع من الأرض وقعت فيه نجاسة نظر المستعمل في ذلك، فإن كان
غالب رأيه أن النجاسة لم تختلط بجميعه لكثرته توضأ من الجانب الذي هو طاهر عنده في
غالب رأيه في إصابة الطاهر منه، وما كان قليلا يحيط العلم أن النجاسة قد خلصت إلى جميعه
أو كان ذلك في غالب رأيه لم يتوضأ منه ا ه‍. وقال ركن الاسلام أبو الفضل عبد الرحمن
الكرماني في شرح الايضاح: واختلفت الروايات في تحديد الكثير والظاهر عن محمد أنه عشر
في عشر والصحيح عن أبي حنيف أنه لم يوقت في ذلك بشئ وإنما هو موكول إلى غلبة الظن
في خلوص النجاسة ا ه‍. وقال الحاكم الشهيد في الكافي الذي هو جمع كلام محمد قال أبو
عصمة: كان محمد بن الحسن يوقت عشرة في عشرة ثم رجع إلى قول أبي حنيفة وقال: لا
أوقت فيه شيئا ا ه‍. وقال الإمام الأسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي: ثم الحد الفاصل
بين القليل والكثير عند أصحابنا هو الخلوص وهو أن يخلص بعضه من جانب إلى جانب ولم
يفسر الخلوص في رواية الأصول. وسئل محمد عن حد الحوض فقال: مقدار مسجدي
فذرعوه فوجدوه ثمانية في ثمانية وبه أخد محمد بن سلمة. وقال بعضهم: مسحوا مسجد
محمد فكان داخله ثمانيا في ثمان وخارجه عشرا في عشر، ثم رجع محمد إلى قول أبي حنيفة
وقال: لا أوقت فيه شيئا ا ه‍. وفي معراج الدراية: الصحيح عن أبي حنيفة أنه لم يقدر في
137

ذلك شيئا وإنما قال: هو موكول إلى غلبة الظن في خلوص النجاسة من طرف إلى طرف
وهذا أقرب إلى التحقيق لأن المعتبر عدم وصول النجاسة وغلبة الظن في ذلك تجري مجرى
اليقين في وجوب العمل كما إذا أخبر واحد بنجاسة الماء وجب العمل بقوله، وذلك يختلف
بحسب اجتهاد الرائي وظنه ا ه‍. وكذا في شرح المجمع والمجتبى. وفي الغاية: ظاهر الرواية
عن أبي حنيفة اعتباره بغلبة الظن وهو الأصح ا ه‍.
وفي الينابيع قال أبو حنيفة: الغدير العظيم هو الذي لا يخلص بعضه إلى بعض ولم
يفسره في ظاهر الرواية وفوضه إلى رأي المبتلى به وهو الصحيح وبه أخذ الكرخي ا ه‍.
وهكذا في أكثر كتب أئمتنا فثبت بهذه النقول المعتبرة عن مشايخنا المتقدمين مذهب إمامنا
138

الأعظم أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم أجمعين فتعين المصير إليه. وإما ما
اختاره كثير من مشايخنا المتأخرين بل عامتهم كما نقله في معراج الدراية من اعتبار العشر في
العشر فقد علمت أنه ليس مذهب أصحابنا، وإن محمدا وإن كان قدر به رجع عنه كما نقله
الأئمة الثقات الذين هم أعلم بمذهب أصحابنا. فإن قلت: إن في الهداية وكثير من الكتب
أن الفتوى على اعتبار العشر في العشر واختاره أصحاب المتون فكيف ساغ لهم ترجيح غير
المذهب؟ قلت: لما كان مذهب أبي حنيفة التفويض إلى رأي المبتلى به وكان الرأي يختلف بل
من الناس من لا رأي له اعتبر المشايخ العشر في العشر توسعة وتيسيرا على الناس. فإن
قلت: هل يعمل بما صح من المذهب أو بفتوى المشايخ؟ قلت: يعمل بما صح من المذهب
فقد قال الإمام أبو الليث في نوازله: سئل أبو نصر عن مسألة وردت عليه ما تقول
رحمك الله وقعت عندك كتب أربعة: كتاب إبراهيم بن رستم وأدب القاضي عن الخصاف
وكتاب المجرد وكتاب النوادر من جهة هشام، فهل يجوز لنا أن نفتي منها أو لا وهذه الكتب
محمودة عندك؟ فقال: ما صح عن أصحابنا فذلك علم محبوب مرغوب فيه مرضى به، وأما
الفتيا فإني لا أرى لاحد أن يفتي بشئ لا يفهمه ولا يتحمل أثقال الناس، فإن كانت مسائل
قد اشتهرت وظهرت وانجلت عن أصحابنا رجوت أن يسع الاعتماد عليها في النوازل
انتهى. وعلى تقدير عدم رجوع محمد عن هذا التقدير فما قدر به لا يستلزم تقديره به إلا في
نظره وهو لا يلزم غيره، وهذا لأنه لما وجب كونه ما استكثره المبتلى فاستكثار واحد لا يلزم
غيره بل يختلف باختلاف ما يقع في قلب كل إنسان، وليس هذا من قبيل الأمور التي يجب
فيها على العامي تقليد المجتهد إليه. أشار في فتح القدير ويؤيده ما في شرح الزاهدي عن
الحسن وأصح حده ما لا يخلص بعض الماء إلى بعض بظن المبتلى به واجتهاده ولا يناظر
المجتهد فيه ا ه‍. فعلم من هذا أن التقدير بعشر في عشر لا يرجع إلى أصل شرعي يعتمد
عليه كما قاله محيي السنة. فإن قلت: قال في شرح الوقاية وإنما قدر به بناء على قوله صلى الله عليه وسلم
139

من حفر بئرا فله حولها أربعون ذراعا فيكون له حريمها من كل جانب عشرة ففهم من
هذا أنه إذا أراد آخر أن يحفر في حريمها بئر يمنع لأنه ينجذب الماء إليها وينقص الماء في البئر
الأولى، وإذا أراد أن يحفر بئر بالوعة يمنع أيضا لسراية النجاسة إلى البئر الأولى وينجس ماؤها
ولا يمنع فيما وراء الحريم وهو عشر في عشر، فعلم أن الشرع اعتبر العشر في العشر في
عدم سراية النجاسة حتى لو كانت النجاسة تسري يحكم بالمنع. قلت: هو مردود من ثلاثة
أوجه: الأول إن كون حريم البئر عشرة أذرع من كل جانب قول البعض والصحيح أنه
أربعون من كل جانب كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الثاني أن قوام الأرض أضعاف قوام الماء
فقياسه عليها في مقدار عدم السراية غير مستقيم. الثالث أن المختار المعتمد في البعد بين
البالوعة والبئر نفوذ الرائحة إن تغير لونه أو ريحه أو طعمه تنجس وإلا فلا. وهكذا في
الخلاصة وفتاوى قاضيخان وغيرهما. وصرح في التتارخانية: أن اعتبار العشر في العشر على
اعتبار حال أراضيهم والجواب يختلف باختلاف صلابة الأرض ورخاوتها، وحيث اختار في
المتن اعتبار العشر لا بأس بإيراد تفاريعه والتكلم عليها فنقول: اختلف المشايخ في الذراع على
ثلاثة أقوال، ففي التجنيس المختار ذراع الكرباس، واختلف فيه ففي كثير من الكتب أنه ست
قبضات ليس فوق كل قبضة أصبع قائمة فوق أربعة وعشرون أصبعا بعدد حروف لا إله
إلا الله محمد رسول الله والمراد بالإصبع القائمة ارتفاع الابهام كما في غاية البيان.
وفي فتاوى الولوالجي أن ذراع الكرباس سبع قبضات ليس فوق كل قبضة أصبع
قائمة. وفي فتاوى قاضيخان وغيرها: الأصح ذراع المساحة وهو سبع قبضات فوق كل قبضة
أصبع قائمة. وفي المحيط والكافي: الأصح أنه يعتبر في كل زمان ومكان ذراعهم من غير
تعرض للمساحة والكرباس. والأقوال الكل في المربع، فإن كان الحوض مدورا ففي الظهيرية
يعتبر ستة وثلاثون وهو الصحيح وهو مبرهن عند الحساب، وفي غيرها المختار المفتى به ستة
وأربعون كيلا لعسر رعاية الكسر. وفي المحيط: الأحوط اعتبار ثمانية وأربعين. وفي فتح
القدير: والكل تحكمات غير لازمة إنما الصحيح ما قدمناه من عدم التحكم بتقدير معين.
وفي الخلاصة: وصورة الحوض الكبير المقدر بعشرة في عشرة أن يكون من كل جانب من
جوانب الحوض عشرة وحول الماء أربعون ذراعا ووجه الماء مائة ذراع هذا مقدار الطول
والعرض ا ه‍. وأما العمق ففي الهداية: والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر
بالاغتراف هو الصحيح أي لا ينكشف حتى لو انكشف ثم اتصل بعد ذلك لا يتوضأ منه
140

وعليه الفتوى، كذا في معراج الدراية. وفي البدائع: إذا أخذا الماء وجه الأرض يكفي ولا
تقدير فيه في ظاهر الرواية وهو الصحيح ا ه‍. وهو الأوجه لما عرف من أصل أبي حنيفة.
وفي الفتاوى: غدير كبير لا يكون فيه الماء في الصيف وتروث فيه الدواب والناس ثم يملا
في الشتاء ورفع منه الجمد، إن كان الماء الذي يدخله يدخل على مكان نجس فالماء والجمد
نجس وإن كان كثيرا بعد ذلك، وإن كان دخل في مكان طاهر واستقر فيه حتى صار عشرا
في عشر ثم انتهى إلى النجاسة فالماء والجمد طاهران ا ه‍. وهذا بناء على ما ذكروا من أن الماء
النجس إذا دخل على ماء الحوض الكبير لا ينجسه وإن كان الماء النجس غالبا على الحوض
لأن كل ما يتصل بالحوض الكبير يصير منه فيحكم بطهارته، وعلى هذا فماء بركة الفيل
بالقاهرة طاهر إذا كان ممره طاهرا أو أكثر ممره على ما عرف في ماء السطح لأنها لا تجف كلها
بل لا يزال بها غدير عظيم، فلو أن الداخل اجتمع قبل أن يصل إلى ذلك الماء الكثير بها في
مكان نجس حتى صار عشرا في عشر ثم اتصل بذلك الماء الكثير كان الكل طاهرا. هذا إذا
كان الغدير الباقي محكوما بطهارته، كذا في فتح القدير. وفي التنجيس: وإذا كان الماء له
طول وعمق وليس له عرض ولو قدر يصير عشرا في عشر فلا بأس بالوضوء فيه تيسيرا على
المسلمين، ثم العبرة لحالة الوقوع فإن نقص بعده لا ينجس وعلى العكس لا يطهر، ولذا
صحح في الاختيار وغيره ما في التنجيس. قال في فتح القدير: وهذا تفريع على التقدير
بعشر ولو فرعنا على الأصح ينبغي أن يعتبر أكبر الرأي لو ضم، ومثله لو كان له عمق بلا
سعة ولو بسط بلغ عشرا في عشر اختلف فيه ومنهم من صحح جعله كثيرا والأوجه خلافه
لأن مدار الكثرة عند أبي حنيفة على تحكيم الرأي في عدم خلوص النجاسة إلى الجانب الآخر،
وعند تقارب الجوانب لا شك في غلبة الخلوص إليه والاستعمال إنما هو من السطح لا من
العمق، وبهذا يظهر ضعف ما اختاره في الاختيار لأنه إذا لم يكن له عرض فأقرب الأمور
الحكم بوصول النجاسة إلى الجانب الآخر من عرضه، وبه خالف حكم الكثير إذ ليس حكم
الكثير تنجس الجانب الآخر بسقوطها في مقابله بدون تغير، وأنت إذا حققت الأصل الذي
بيناه قبلت ما وافقه وتركت ما خالفه ا ه‍. وقد يقال إن هذا وإن كان الأوجه إلا أن المشايخ
وسعوا الامر على الناس وقالوا بالضم كما أشار إليه في التنجيس بقوله تيسيرا على المسلمين.
وفي التنجيس: الحوض إذا كان أعلاه عشرا في عشر وأسفله أقل من ذلك وهو ممتلئ
141

يجوز التوضؤ فيه والاغتسال فيه، وإن نقص الماء حتى صار أقل من عشرة في عشرة لا
يتوضأ فيه ولكن يغترف منه ويتوضأ. وفي الخلاصة: ولو كان أعلاه أقل من عشر في عشر
وأسفله عشر في عشر ووقعت قطرة خمر أو توضأ منه رجل ثم انتقص الماء وصار عشرا في
عشر اختلف المتأخرون فيه، وينبغي أن يكون الجواب على التفصيل: إن كان الماء الذي
تنجس في أعلى الحوض أكثر من الماء الذي في أسفله ووقع الماء النجس في الأسفل جملة كان
الماء نجسا ويصير النجس غالبا على الطاهر في وقت واحد، وإن وقع الماء النجس في أسفل
الحوض على التدريج كان طاهرا. وقال بعضهم: لا يطهر كالماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة
ثم انبسط ا ه‍. وذكر السراج الهندي أن الأشبه الجواز. وفي التنجيس: حوض عشر في
عشر إلا أن له مشارع فتوضأ رجل من مشرعة أو اغتسل والماء متصل بألواح المشرعة لا
يضطرب لا يجوز التوضؤ به، وإن كان أسفل من الألواح فإنه لا يجوز، وعلله في فتح القدير
بأنه في الأول كالحوض الصغير وفي الثاني حوض كبير مسقف، وعلى هذا الحوض الكبير إذا
جمد ماؤه فنقب فيه إنسان نقبا فتوضأ من ذلك الموضع فإن كان الماء منفصلا عن الجمد لا
بأس به لأنه يصير كالحوض المسقف وإن كان متصلا لا لأنه صار كالقصعة. كذا في
التنجيس وغيره. وفي فتح القدير: واتصال القصب بالقصب لا يمنع اتصال الماء ولا يخرجه
عن كونه غديرا عظيما فيجوز لهذا التوضؤ في الأجمة ونحوها ا ه‍. وفي المغرب: الأجمة
الشجر الملتف والجمع أجم وآجام، وقد قدمنا في الكلام في الفساقي مسألة الأجمة فارجع
إليه. ولو تنجس الحوض الصغير ثم دخل فيه ماء آخر وخرج حال دخوله طهر وإن قل،
وقيل لا حتى يخرج قدر ما فيه، وقيل حتى يخرج ثلاثة أمثاله وصحح الأول في المحيط
وغيره، قال السراج الهندي: وكذا البئر. واعلم أن عبارة كثير منهم في هذه المسألة تفيد أن
142

الحكم بطهارة الحوض إنما هو إذا كان الخروج حالة الدخول وهو كذلك فيما يظهر لأنه
حينئذ يكون في المعنى جاريا لكن إياك وظن أنه لو كان الحوض غير ملآن فلم يخرج منه
شئ في أول الأمر ثم لما امتلأ خرج منه بعضه لاتصال الماء الجاري به أنه لا يكون طاهرا
حينئذ إذ غايته أنه عند امتلائه قبل خروج الماء منه نجس فيظهر بخروج القدر المتعلق به
الطهارة إذا اتصل به الماء الجاري الطهور كما لو كان ممتلئا ابتداء ماء نجسا ثم خرج منه ذلك
القدر لاتصال الماء الجاري به، ثم كلامهم يشير إلى أن الخارج منه نجس قبل الحكم على
الحوض بالطهارة وهو كذلك كما هو ظاهر. كذا في شرح منية المصلي. وفي شرح الوقاية:
وإذا كان حوض صغير يدخل فيه الماء من جانب ويخرج من جانب يجوز الوضوء في جميع
جوانبه وعليه الفتوى من غير تفصيل بين أن يكون أربعا في أربع أو أقل فيجوز، أو أكثر فلا
يجوز. وفي معراج الدراية: يفتي بالجواز مطلقا والمتمده في فتاوى قاضيخان. وفي فتح
القدير: إن الخلاف مبني على نجاسة الماء المستعمل فقولهم في هذه المسألة أنه لا يجوز الوضوء
إلا في موضع خروج الماء إنما هو بناء على نجاسة الماء المستعمل، وأما على المختار من طهارة
الماء المستعمل فالجواب في هذه المسألة كما تقدم في نظائرها أنه يجوز الوضوء فيها ما لم يغلب
على ظن المتوضئ أن ما يغترفه لاسقاط فرض ماء مستعمل أو ما يخالطه منه مقدار نصفه
فصاعدا، فكن على هذا معتمدا. كذا في شرح منية المصلي للعلامة ابن أمير حاج رحمه الله
تعالى. واعلم أن أكثر التفاريع المذكورة في الكتب مبنية على اعتبار العشر في العشر، فأما على
المختار من اعتبار غلبة الظن فيوضع مكان لفظ عشر في كل مسألة لفظ كثير أو كبير ثم تجري
التفاريع ا ه‍. وسائر المائعات كالماء في القلة والكثرة يعني كل مقدار لو كان ماء تنجس فإذا
كان غيره ينجس.
وحيث انتهينا من التفاريع المذكورة في الكتب نرجع إلى بيان الدلائل للأئمة فنقول:
استدل الإمام مالك رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم الماء الطهور لا ينجسه شئ إلا ما غير طعمه
143

أو لونه أو ريحه (1) واستدل الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لا
يحمل خبثا واستدل أبو حنيفة على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن بقوله تعالى * (ويحرم
عليهم الخبائث) * (الأعراف: 157) والنجاسات لا محالة من الخبائث فحرمها الله تحريما مبهما
ولم يفرق بين حال اختلاطها وانفرادها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما تيقنا به جزءا من
النجاسة، وتكون جهة الخطر من طريق النجاسة أولى من جهة الإباحة لأن الأصل أنه إذا
اجتمع المحرم والمبيح قدم المحرم. وأيضا لا نعلم بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه
اليسير من النجاسة كاللبن والادهان أن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه
أكل ذلك وشربه، فكذا الماء بجامع لزوم اجتناب النجاسات، ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة وفي لفظ آخر ولا يغتسلن فيه
من جنابة، ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته وقد
منع منه النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا
قبل أن يدخلها الاناء فإنه لا يدري أين باتت يده (3) فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة
أصابته من موضع الاستنجاء، ومعلوم أنها لا تغير الماء ولولا أنها مفسدة عند التحقيق لما كان
للامر بالاحتياط معنى. وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة ولوغ الكلب بقوله طهور إناء أحدكم إذا
ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا (4) وهو لا يغير ا ه‍. فالحاصل أنه حيث غلب على الظن
وجود نجاسة في الماء لا يجوز استعماله أصلا بهذه الدلائل لا فرق بين أن يكون قلتين أو أكثر
أو أقل، تغير أو لا. وهذا مذهب أبي حنيفة والتقدير بشئ دون شئ لا بد فيه من نص ولم
يوجد، وفي بعض هذا الاستدلال كلام نذكره إن شاء الله تعالى. وأما ما استدل به مالك
144

رضي الله عنه فهو مع الاستثناء ضعيف برشد بن سعد صرح بضعفه جماعة منهم النووي في
شرح المهذب، وأما بدون الاستثناء فقد ورد من رواية أبي داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري
قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟
فقال صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شئ وحسنه الترمذي. وقال الإمام أحمد: هو حديث
صحيح. ورواه البيهقي عن أبي يحيى قال: دخلت على سهل بن سعد في نسوة فقال: لو أني
أسقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك وقد والله سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها. قلنا: هذا
ورد في بشر بضاعة بكسر الباء وضمها. كذا في الصحاح. وفي المغرب بالكسر لا غير.
وماؤها كان جاريا في البساتين على ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار بسنده إلى
الواقدي. قال البيهقي: الواقدي لا يحتج بما يسنده فضلا عما يرسله. قلنا: قد أثنى عليه
الدراوردي وأبو بكر بن العربي وابن الجوزي وجماعة. والدليل على أنه كان جاريا أن الماء
الراكد إذا وقع فيه عذرة الناس والجيف والحائض والنتن تغير طعمه وريحه ولونه، ويتنجس
بذلك إجماعا وليس في الحديث استثناء فدل ذلك على جريان مائها. فإن قيل: نقل النووي
في شرح المهذب عن أبي داود أنه قال: مددت ردائي على بئر بضاعة ثم ذرعتها فإذا عرضها
ستة أذرع. وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها عما كان عليه؟ فقال: لا.
قال: رأيت فيها ماء متغيرا. قلنا: ما ذكره الطحاوي إثبات وما نقل أبو داود عن البستاني
نفي والاثبات مقدم على النفي والبستاني الذي فتح الباب مجهول الشخص والحال عنده فكيف
يحتج بقوله؟ ولان أبا داود توفي بالبصرة في النصف من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين
فبينه وبين زمن النبي صلى الله عليه وسلم مدة كثيرة. ودليل التغير غالب وهو مضي السنين المتطاولة.
قال النووي في شرح المهذب: وهذه صفتها في زمن أبي داود ولا يلزم أن تكون كانت
هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الخطابي: قد توهم بعضهم أن إلقاء العذرة والجيف وخروق
الحيض في بئر بضاعة كان عادة وتعمدا وهذا لا يظن بذمي ولا وثني فضلا عن مسلم فلم
يزل من عادة الناس قديما وحديثا، مسلمهم وكافرهم، تنزيه الماء وصونه عن النجاسات،
فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهم أعلى طبقات أهل الدين وأفضل جماعات المسلمين، والماء
ببلادهم أعز والحاجة إليه أمس من أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له، وقد لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغوط في موارد الماء ومشارعه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه مطرح
الأنجاس؟ وإنما كان ذلك من أجل أن هذه البئر موضعها في حدور من الأرض وكانت
السيول تمسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيه، وكان الماء لكثرته وغزارته
لا يؤثر فيه وكان جوابه عليه السلام لهم أن الماء الكثير الذي صفته هذه في الكثرة والغزارة
145

لا تؤثر فيه النجاسة لأن السؤال إنما وقع عن ذلك والجواب إنما يقع عنه ا ه‍. وقال الإمام أبو
نصر البغدادي: المعروف بالأقطع لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم إنه كان يتوضأ من بئر هذه صفتها
مع نزاهته وإيثاره الرائحة الطيبة ونهيه عن الامتخاط في لماء، فدل أن ذلك كان يفعل في
الجاهلية فشك المسلمون في أمرها فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أثر لذلك مع كثرة النزح ا ه‍. وقال
الطحاوي: إن معنى قوله الماء لا ينجسه شئ والله أعلم أنه لا يبقى نجسا بعد إخراج
النجاسة منه بالنزح وليس هو على حال كون النجاسة فيها وإنما سألوا عنه لأنه موضع مشكل
لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك يعفى للضرورة مثل
قوله صلى الله عليه وسلم المؤمن لا ينجس ليس معناه أنه لا يتنجس وإن أصابته النجاسة. فإن قيل: العبرة
لعموم اللفظ وهو لا ينجسه شئ لا لخصوص السبب وهو بئر بضاعة، فكيف خص هذا
العموم بوروده في بئر بضاعة؟ قلنا: إنما لا يخص عموم اللفظ بسببه إذا لم يكن المخصص
مثله في القوة وههنا قد ورد ما يخصصه وهو يساويه في القوة وهو حديث المستيقظ،
وحديث لا يبولن أحدكم وإنما خصصناه بهذين الحديثين دفعا للتناقض فكان من باب
الحمل لدفع التناقض لا من باب التخصيص بالسبب، ولأنا ما خصصناه ببئر بضاعة بل عدينا
حكمه منها إلى ما هو في معناها من الماء الجاري وترك عموم ظاهر الحديث لدفع التناقض
واجب. كذا ذكره السراج الهندي وصاحب المعراج، وتعقبه في فتح القدير بأنه لا تعارض
لأن حاصل النهي عن البول في الماء الدائم تنجس الماء الدائم في الجملة لا كل ماء إذ ليست
اللام فيه للاستغراق للاجماع على أن الكثير لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة. وحاصل الماء طهور
لا ينجسه شئ عدم تنجس الماء إلا بالتغير بحسب ما هو المراد المجمع عليه وإلا تعارض بين
مفهومي هاتين القضيتين، وأما حديث المستيقظ من منامه فليس فيه تصريح بتنجس الماء
بتقدير كون اليد نجسة بل ذلك تعليل منا للنهي المذكور وهو غير لازم أعني تعليله بتنجس
الماء عينا بتقدير نجاستهما لجواز كونه أعم من النحاسة والكراهة فنقول: نهى لتنجس الماء
بتقدير كونها متنجسة بما يغير أو للكراهة بتقدير كونها بما لا يغير، وأين هو من ذلك
الصريح الصحيح؟ لكن يمكن إثبات المعارض بقوله صلى الله عليه وسلم طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه
الكلب الحديث فإنه يقتضي نجاسة الماء ولا يغير بالولوغ فتعين ذلك الحمل والله سبحانه
وتعالى أعلم ا ه‍.
وقد يقال إن اللام في حديث لا يبولن أحدكم في الماء للعموم حتى حرم البول في
الماء القليل والكثير جميعا فاختصت القضية الثانية بالقليل بدليل يوجب تخصيصها حتى لم يحرم
146

الاغتسال في الماء الدائم الكثير مثل الغدير العظيم، هكذا ذكر في معراج الدراية معزيا إلى
شيخه العلامة. فعلى هذا حاصل النهي عن البول في الماء تنجس كل ماء راكد فعارض قوله
لا ينجسه شئ وكون الاجماع أن الكثير لا يتنجس إلا بالتغير أمر آخر خارج من مفهوم
الحديث وإثبات التعارض إنما هو باعتبار المفهومين. وممن صرح بأن ماء بئر بضاعة كان كثيرا
الشافعي رضي الله عنه، وأما ما استدل به الشافعي فرواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن
عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة وما ينو به من السباع
والدواب فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث. وأخرجه ابن خزيمة والحاكم في
صحيحيهما. قلنا: هذا الحديث ضعيف وممن ضعفه الحافظ ابن عبد البر والقاضي إسماعيل
ابن إسحاق وأبو بكر بن العربي المالكيون ونقل ضعفه في البدائع عن ابن المديني. وقال أبو
داود: ولا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الماء ويلزم منه
تضعيف حديث القلتين وإن كان رواه في كتابه وسكت عنه، وكذا ضعفه الغزالي في الاحياء
والروياني في البحر والحلية. قال في البحر: هو اختياري واختار جماعة رأيتهم بخراسان
والعراق ذكره النووي كما نقله عنه السراج الهندي. وقال الزيلعي المخرج: وقد جمع الشيخ
تقي الدين بن دقيق العيد في كتاب الإمام طرق هذا الحديث ورواياته واختلاف ألفاظه وأطال
في ذلك إطالة لخص منها تضعيفه له فلذلك أضرب عن ذكره في كتاب الالمام مع شدة
الاحتياج إليه. ووجهه أن الاضطراب وقع في سنده ومتنه ومعناه. أما الأول فإنه اختلف
على أبي أسامة فمرة يقول عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر، ومرة عنه عن
محمد بن جعفر بن الزبير، ومرة يروي عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، ومرة يروي عن
عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد أجاب النووي عن هذا بأنه ليس اضطرابا لأن الوليد
رواه عن كل من المحمدين فحدث مرة عن أحدهما، ومرة عن الآخر، ورواه أيضا عبد الله
وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر عن أبيهما وهما أيضا ثبتان. وأما الاضطراب في متنه ففي
رواية الوليد عن محمد بن جعفر بن الزبير لم ينجسه شئ، ورواية محمد بن إسحاق بسنده
سئل عن الماء يكون في الفلاة فترده السباع والكلاب فقال: إذا كان الماء قلتين لا يحمل
الخبث. قال البيهقي: وهو غريب. وقال إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق الكلاب
والدواب، ورواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة فقال الحسن بن الصباح عنه عن حماد
147

عن عاصم هو ابن المنذر، قال: دخلت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بستانا فيه مقر ماء
فيه جلد بعير ميت فتوضأ منه فقلت: أتتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت؟ فحدثني عن أبيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شئ. وروى الدارقطني وابن عدي
والعقيلي في كتابه عن القاسم باسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء أربعين قلة فإنه لا يحمل
الخبث وضعفه الدارقطني بالقاسم وروى باسناد صحيح من جهة روح بن القاسم عن ابن
المنكدر عن ابن عمر قال: إذا بلغ الماء أربعين قلة لم ينجس. وأخرج عن أبي هريرة من جهة بشر بن السري عن ابن لهيعة قال: إذا كان الماء قدر أربعين قلة لم يحمل خبثا. قال
الدارقطني: كذا قال وخالفه غير واحد رووه عن أبي هريرة فقالوا أربعين غربا. ومنهم من
قال أربعين دلوا. وهذا الاضطراب يوجب الضعف وإن وثقت الرجال. وأجاب النووي عن
هذا الاضطراب. أما عن الشك في قوله قلتين أو ثلاثا فهي رواية شاذة غير ثابتة فهي
متروكة فوجودها كعدمها لكن الطحاوي أثبتها بإسناده في شرح معاني الآثار. وأما ما روي
من أربعين قلة أو أربعين غربا فغير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل أربعين قلة عن
عبد الله بن عمرو بن العاص، وأربعين غربا أي دلوا عن أبي هريرة، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم
مقدم على غيره. قال النووي: وهذا ما نعتمده في الجواب.
أما الاضطراب في معناه فذكر شمس الأئمة السرخسي وتبعه في الهداية أن معنى قوله
لم يحمل خبثا أنه يضعف عن النجاسة فيتنجس كما يقال هو لا يحمل الكل أي لا يطيقه
وهذا مردود من وجهين ذكرهما النووي في شرح المهذب: الأول أنه ثبت في رواية صحيحة
لأبي داود إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس فتحمل الرواية الأخرى عليها فمعنى لم يحمل خبثا لم
ينجس وقد قال العلماء: أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى
لذلك الحديث. الثاني أنه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين حدا فلو كان كما زعم هذا القائل لكان التقييد
بذلك باطلا فإن ما دون القلتين يساوي القلتين في هذا. زاد عليه في فتح القدير وقال: هذا
إن اعتبر مفهوم شرطه. وأما إن لم يعتبر مفهوم شرطه فيلزم عدم اتمام الجواب فإنه حينئذ لا
148

يفيد حكمه إذا زاد على القلتين والسؤال عن ذلك الماء كيفما كان، والنووي إنما اقتصر على
ما ذكره لأنه يقول بأن مفهوم الشرط حجة لكن قال الخبازي: ومعنى قوله إذا بلغ الماء
قلتين يعني انتقاصا لا ازديادا. فإن قيل: فما فوق القلتين ما لم يبلغ عشرا في عشر فهو أيضا
يضعف عن احتمال النجاسة، فما الفائدة في تخصيصه بالقلتين؟ قيل له: من الجائز أنه كان
يوحي إليه بأن مجتهدا سيجئ ويقول بأن الماء إذا بلغ قلتين لا يحتمل النجاسة فقال النبي صلى الله عليه وسلم
ردا لذلك القول ا ه‍. وهو كما ترى في غاية البعد قال المحقق في فتح القدير: فالمعول عليه
الاضطراب في معنى القلة فإنه مشترك يقال على الجرة والقربة ورأس الجبل، وما فسر به
الشافعي منقطع للجهالة فإنه قال في مسنده أخبرني مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريح
بإسناد لا يحضرني أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا. وقال في الحديث بقلال
هجر. قال ابن جريج: رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا. قال الشافعي
رحمه الله تعالى: فالاحتياط أن تجعل قربتين ونصفا، فإذا كان خمس قرب كبار كقرب الحجاز
لم ينجس إلا أن يتغير. وهجر بفتح الهاء والجيم قرية بقرب المدينة فثبت بهذا أن حديث
149

القلتين ضعيف. فإن قلت: قد صححه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وجماعة من أهل
الحديث قلت: من صححه اعتمد بعض طرقه ولم ينظر إلى ألفاظه ومفهومها إذا ليس هذا
وظيفة المحدث والنظر في ذلك من وظيفة الفقيه إذ غرضه بعد صحة الثبوت الفتوى والعمل
بالمدلول، وقد بالغ الحافظ عالم العرب أبو العباس ابن تيمية في تضعيفه وقال: يشبه أن يكون
الوليد بن كثير غلط في رفع الحديث وعزوه إلى ابن عمر فإنه دائما يفتي الناس ويحدثهم عن
النبي صلى الله عليه وسلم، والذي رواه معروف عند أهل المدينة وغيرهم لا سيما عند سالم ابنه ونافع مولاه
وهذا لم يروه عنه لا سالم ولا نافع ولا عمل به أحد من علماء المدينة، وذكر عن التابعين ما
يخالف هذا الحديث ثم قال: فكيف تكون هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عموم البلوى فيها ولا
ينقلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان إلا رواية مختلفة مضطربة عن ابن عمر لم
يعمل بها أحد من أهل المدينة ولا أهل البصرة ولا أهل الشام ولا أهل الكوفة؟ وأطال
رحمه الله تعالى الكلام بما لا يحتمله هذا الموضع. ولا يضر الحافظ ما أخرجه الدارقطني عن
سالم عن أبيه لضعفه، وقول النووي بأن حدها هو ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله
طاعته وحرم مخالفته وحدهم يعني الحنفية مخالف حده صلى الله عليه وسلم مع أنه حد بما لا أصل له ولا
ضبط فيه مدفوع بأن ما استدللتم به ضعيف كما تقدم، وما صرنا إليه يشهد له الشرع
والعقل. أما الشرع فقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك، وأم العقل فإنا نتيقن بعدم وصول
النجاسة إلى الجانب الآخر أو يغلب على ظننا والظن كاليقين فقد استعملنا الماء الذي ليس فيه
نجاسة يقينا وأبو حنيفة لم يقدر ذلك بشئ بل اعتبر غلبة ظن المكلف، فهذا دليل عقلي مؤيد
بالأحاديث الصحيحة المتقدمة فكان العمل به متعينا، ولان دليلنا وهو حديث النهي عن البول
في الماء الراكد ثابت في الصحيحين من رواية أبي هريرة وإسلامه متأخر وحديث القلتين
حديث ابن عمر وإسلامه متقدم، والمتأخر ينسخ المتقدم لو ثبت. وقال الشافعي وأحمد: لو
زال تغير القلتين بنفسه طهر الماء مع بقاء البول والعذرة وغيرهما من النجاسات فيكون حينئذ
نجاسة البول والعذرة والخمر باعتبار الرائحة واللون والطعم لا لذاتها وهذا لا يعقل ولا
تشهد له أصول الشرع، ولو أضيفت قلة نجسة إلى قلة نجسة عادتا طاهرتين عندهم وهذا
يؤدي إلى تنجس الماء الطاهر بقليل النجاسة دون كثيرها لأنهم نجسوا القلة الطاهرة برطل ماء
نجس ولم ينجسوها بقلة نجسة من الماء بل طهروها بها، ويؤدي أيضا إلى تولد طاهر باجتماع
نجسين وهذا مما تحيله العقول.
قوله: (وإلا فهو كالجاري) أي وإن يكن عشرا في عشر فهو كالجاري فلا يتنجس إلا
150

إذا تغير أحد أوصافه، ثم في قوله كالجاري إشارة إلى أنه لا يتنجس موضع الوقوع وهو
مروي عن أبي يوسف وبه أخذ مشايخ بخارى وهو المختار عندهم كذا في التبيين. وقال في
فتح القدير: وهو الذي ينبغي تصحيحه فينبغي عدم الفرق بين المرئية وغيرها لأن الدليل إنما
يقتضي عند كثرة الماء عدم التنجس إلا بالتغير من غير فصل، وهو أيضا الحكم المجمع عليه
وفي النصاب وعليه الفتوى كذا في شرح منية المصلي. وصحح في المبسوط والمفيد أنه
يتنجس موضع الوقوع وإليه أشار في القدوري بقوله: جاز الوضوء من الجانب الآخر. وذكر
أبو الحسن الكرخي أن كل ما خالطه النجس لا يجوز الوضوء به ولو كان جاريا وهو
الصحيح. قال الزيلعي: فعلى هذا إن ما ذكره المصنف لا يدل على أن موضع الوقوع لا
يتنجس لأنه لم يجعله إلا كالجاري، فإذا تنجس موضع الوقوع من الجاري فمنه أولى أن
يتنجس. وفي البدائع: ظاهر الرواية أنه لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة ولكن
يتوضأ من الجانب الآخر، ومعناه أنه يترك من موضع النجاسة قدر الحوض الصغير ثم
يتوضأ. كذا فسره في الاملاء عن أبي حنيفة لأنا تيقنا بالنجاسة في ذلك الجانب وشككنا فيما
وراءه، وعلى هذا قالوا فيمن استنجى في موضع من حوض لا يجزيه أن يتوضأ من ذلك
الموضع قبل تحريك الماء ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض على قياس ظاهر الرواية إن كان
بين الجيفة وبين كل جانب من الحوض مقدار ما لا يخلص بعضه إلى بعض يجوز التوضؤ فيه
وإلا فلا. وإن كانت غير مرئية بأن بال إنسان أو اغتسل جنب اختلف المشايخ فيه، قال
مشايخ العراق: إن حكمه حكم المرئية حتى لا يتوضأ من ذلك الجانب بخلاف الجاري،
ومشايخنا مما وراء النهر فصلوا بينهما في غير المرئية أنه يتوضأ من أي جانب كان كما قالوا
جميعا في الماء الجاري وهو الأصح لأن غير المرئية لا تستقر في مكان واحد بل ينتقل لكونه
مائعا سيالا بطبعه فلم يستيقن بالنجاسة في الجانب الذي يتوضأ منه بخلاف المرئية ا ه‍.
وهكذا مشى قاضيخان أنه يترك من موضع النجاسة قدر الحوض
الصغير وقدر الحوض الصغير في الكفاية شرح الهداية بأربع أذرع في أربع، وفي الذخيرة عن بعضهم يحرك الماء
بيده مقدار ما يحتاج إليه عند الوضوء، فإن تحركت النجاسة لم يستعمل من ذلك الموضع.
وقال بعضهم: يتحرى في ذلك، إن وقع تحريه أن النجاسة لم تخلص إلى هذا الموضع توضأ
وشرب منه. قال في شرح منية المصلي: وهو الأصح. وفي معراج الدراية معزيا إلى المجتبى
أن الفتوى على جواز الوضوء من موضع الوقوع واختاره مشايخ بخارى لعموم البلوى حتى
قالوا: يجوز الوضوء من موضع الاستنجاء قبل التحريك.
151

قوله: (وهو ما يذهب بتبنة) أي الماء الجاري ما يذهب بتبنة، وقد توهم بعض
المشتغلين أن هذا الحد فاسد لأنه يرد عليه الجمل والسفينة فإنهما يذهبان بتين كثير، ومنشأ
التوهم أن ما موصولة في كلامه وقد وقع مثلها في عبارة ابن الحاجب فإنه قال: الكلام ما
يتضمن كلمتين بالاسناد. فقيل يرد عليه الورقة والحجر المكتوب عليه كلمتان فأكثر لأن ما
موصولة بمعنى الذي لكن الجواب عنهما أن ما ليست موصولة وإنما هي نكرة
موصوفة، فالمعنى الجاري ماء بالمد يذهب بتبنة والكلام لفظ يتضمن كلمتين. وقد اختلف في
حد الجاري على أقوال منها ما ذكره المصنف وأصحها أنه ما يعده الناس جاريا كما ذكره في
البدائع والتبيين وكثير من الكتب. قوله: (فيتوضأ منه) أي من الماء الجاري. قال الزيلعي:
ويجوز أن يعود إلى الماء الراكد الذي بلغ عشرا في عشر لأنه يجوز الوضوء به في موضع
الوقوع ما لم يتغير في رواية وهو المختار عندهم. قوله: (إن لم ير أثره) أي إن لم يعلم أثر
النجس فيه. ورأي تستعمل بمعنى علم قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شئ
وإنما قلنا هذا لأن الطعم والرائحة لا تعلق للبصر بهما وإنما الطعم للذوق والرائحة للشم.
قوله: (وهو طعم أو لون أو ريح) أي الأثر ما ذكر. وحاصله أن الماء الجاري وما هو في
حكمه إذا وقعت فيه نجاسة. إن ظهر أثرها لا يجوز الوضوء به وإلا جاز لأن وجود الأثر دليل
وجود النجاسة، فكل ما تيقنا فيه نجاسة أو غلب على ظننا ذلك لا يجوز الوضوء به، جاريا كان
أو غيره، لأن الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه كما قد يتوهم. وظاهر ما في المتون أن
الجاري إذا وقعت فيه نجاسة يجوز الوضوء به إن لم ير أثرها، سواء كان النجس جيفة مرئية أو
152

غيرها. فإذا بال إنسان فيه فتوضأ آخر من أسفله جاز ما لم يظهر في الجرية أثره. قال محمد في
كتاب الأشربة: ولو كسرت خابية خمر في الفرات ورجل يتوضأ أسفل منه فما لم يجد في الماء
طعم الخمر أو ريحه أو لونه يجوز الوضوء به، وكذا لو استقرت المرئية فيه بأن كانت جيفة إن
ظهر أثر النجاسة لا يجوز وإلا جاز، سواء أخذت الجيفة الجرية أو نصفها إنما العبرة لظهور
الأثر. ويوافقه ما في الينابيع. قال أبو يوسف في ساقية صغيرة فيها كلب ميت سد عرضها
فيجري الماء فوقه وتحته إنه لا بأس بالوضوء أسفل منه إذا لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه. وقيل:
ينبغي أن يكون هذا قول أبي يوسف خاصة. أما عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز الوضوء أسفل
من الكلب ا ه‍ ما في الينابيع. لكن المذكور في الفتاوى كفتاوى قاضيخان والتنجيس
والولوالجي والخلاصة. وفي البدائع: وكثير من كتب أئمتنا الأثر إنما يعتبر في غير الجيفة، أما
في الجيفة فإنه ينظر، إن كان كله أو أكثره يجري عليها لا يجوز الوضوء به، وإن كان الأقل يجوز
الوضوء، وإن كان النصف القياس الجواز، والاستحسان أنه لا يجوز وهو الأحوط. ونظر هذا
ماء المطر إذا جر في ميزاب من السطح وكان على السطح عذرة فالماء طاهر لأن الذي يجري
على غير العذرة أكثر، وإن كانت العذرة عند الميزاب فإن كان الماء كله أو أكثره أو نصفه يلاقي
العذرة فهو نجس، وإن كان أكثره لا يلاقي العذرة فهو طاهر، وكذا أيضا ماء المطر إذا جرى
على عذرات واستنقع في موضع كان الجواب كذلك. ورجح في فتح القدير أن العبرة لظهور
الأثر مطلقا لأن الحديث وهو قوله الماء طهور لا ينجسه شئ لما حمل على الجاري كان مقتضاه
جواز التوضؤ من أسفله. وإن أخذت الجيفة أكثر الماء ولم يتغير فقولهم إذا أخذت الجيفة أكثر
الماء أو نصفه لا يجوز يحتاج إلى مخصص قال: يوافقه ما عن أبي يوسف وقد نقلناه عن الينابيع.
وقال تلميذه العلامة قاسم في رسالته المختار اعتبار ما عن أبي يوسف ا ه‍. لكن لقائل أن
يقول: الأوجه ما في أكثر الكتب وقد صححه في التنجيس لصاحب الهداية لأن العلماء
رضي الله عنهم إنما قالوا بأن الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة يجوز الوضوء به إذا لم ير أثرها
153

لأن النجاسة لا تستقر مع جريان الماء، فلما لم يظهر أثرها علم أن الماء ذهب بعينها ولم تبق عينها
موجودة فجاز استعمال الماء، أما إذا كانت النجاسة جيفة وكان الماء يجري على أكثرها أو نصفها
تيقنا بوجود النجاسة فيه، وقد تقدم أن كل ما تيقنا وجود النجاسة في أو غلب على ظننا
وجودها فيه لا يجوز استعماله فكان هذا مأخوذا من دلالة الاجماع لأن الحديث لما حمل بالاجماع
على الماء الذي لم يتغير لأجل أنه عند التغير تيقن بوجود النجاسة كان التغير دليل وجود النجاسة
فيما يمكن فيه ذلك، أما في الجيفة فقد تيقنا بوجودها فلا يجوز استعمال الماء التي هي فيه أو
أكثرها أو نصفها من غير اعتبار التغير لأن التغير لما كان علامة على وجود النجاسة لا يلزم من
انتفائه انتفاؤه فكان الاجماع مخصصا للحديث، وما قلناه مأخوذ من دلالة الاجماع.
هذا ما ظهر للعبد الضعيف لكن ينبغي أن تعلم أن هذا - أعني قولهم إذا أخذت الجيفة
154

أقله يجوز الوضوء إذا لم يظهر أثر النجاسة، وأن قولهم إذا أخذت الجيفة الأكثر أو النصف لا
يجوز - يعنون وإن لم يظهر أثر النجاسة، وأما التوضؤ في عين والماء يخرج منها فإن كان في
موضع خروجه جاز، وإن كان في غيره فكذلك إن كان قدره أربعا في أربع فأقل، وإن كان
155

خمسا في خمس اختلف فيه واختار السعدي جوازه، والخلاف مبني على أنه هل يخرج الماء
المستعمل قبل تكرر الاستعمال إذا كان بهذه المساحة أو لا، وهذه مبنية على نجاسة المستعمل.
كذا في فتح القدير. وقد قدمنا أن الفتوى على الجواز مطلقا وكذا صرح في الفتاوى
الصغرى، وألحقوا بالجاري حوض الحمام إذا كان الماء ينزل من أعلاه حتى لو أدخلت
القصعة النجسة واليد النجسة فيه لا تتنجس. وهل يشترط مع ذلك تدارك اغتراف الناس
156

منه؟ فيه خلاف ذكره في المنية، وفي المجتبى: الأصح أنه إن كان يدخل الماء في الأنبوب
والغرف متدارك فهو كالجاري وتفسير الغرف أن لا يسكن وجه الماء فيما بين الغرفتين. قال
في فتح القدير: ثم لا بد من كون جريانه لمد دلة كما في العين والنهر هو المختار ا ه‍. وفي
السراج الوهاج: ولا يشترط في الماء الجاري المدد وهو الصحيح ا ه‍. وفي التنجيس والمعراج
وغيرهما: الماء الجاري إذا سد من فوق فتوضأ إنسان بما يجري في النهر وقد بقي جري الماء
كان جائزا لأن هذا ماء جار ا ه‍. فهذا يشهد لما في السراج. وذكر السراج الهندي عن
الإمام الزاهد أن من حفر نهرا من حوض صغير وأجرى الماء في النهر وتوضأ بذلك الماء في
حال جريانه فاجتمع ذلك الماء في مكان واستقر فيه فحفر رجل آخر نهرا من ذلك المكان
وأجرى الماء فيه وتوضأ به في حال جريانه فاجتمع ذلك الماء في مكان آخر أيضا ففعل رجل
ثالث كذلك، جاز وضوء الكل لأن كل واحد منهم إنما توضأ بالماء حال جريانه والماء
الجاري لا يحتمل النجاسة ما لم يتغير. وعن الحسن بن زياد ما يدل على عدم جواز وضوء
الثاني والثالث فإنه قال في حفيرتين يخرج الماء من أحدهما ويدخل في الأخرى فتوضأ فيما
بينهما جاز، والحفيرة التي يدخل فيها الماء تفسد، وإذا كان معه ميزاب واسع ومعه إداوة من
ماء يحتاج إليه وهو على طمع من وجود الماء ولكن لا يتيقن ذلك ماذا يصنع، حكي عن
الشيخ الزاهد أبي الحسن الرستغفني أنه كان يقول: يأمر أحد رفقائه أنه يصب الماء في طرف
من الميزاب وهو يتوضأ فيه وعند الطرف الآخر من الميزاب إناء يجتمع فيه الماء فالمجتمع طاهر
وطهور لأن استعماله حصل في حال جريانه والماء الجاري لا يصير مستعملا باستعماله. ومن
المشايخ من أنكر هذا القول وقال: الماء الجاري إنما لا يصير مستعملا إذا كان له مدد كالعين
والنهر، أما إذا لم يكن له مدد يصير مستعملا، والصحيح القول الأول بدليل مسألة واقعات
الناطفي أن النهر إذا سد من فوق فتوضأ إنسان بما يجري فإنه يجوز فإن هناك لم يبق للماء مدد
ومع هذا يجوز التوضؤ به. ا ه‍ ما ذكره السراج الهندي. واعلم أنه قد تقدم عن فتح القدير
أن قولهم ما اجتمع في الحفيرة الثانية فاسد وكذا كثير من أشباه ذلك إنما هو بناء على
نجاسة الماء المستعمل، فأما على المختار من طهارته فلا فلتحفظ ليفرع عليها ولا يفتي بمثل
هذه الفروع.
فروع: في الخلاصة معزيا إلى الأصل: يتوضأ من الحوض الذي يخاف فيه قذرا ولا
يتيقنه ولا يجب أن يسأل إلى الحاجة إليه عند عدم الدليل والأصل دليل يطلق الاستعمال.
وقال عمر رضي الله عنه حين سأل عمرو بن العاص صاحب الحوض أترده السباع يا
157

صاحب الحوض: لا تخبرنا. ذكره في الموطأ. وكذا إذا وجده متغير اللون والريح ما لم يعلم
أنه من نجاسة لأن التغير قد يكون بطاهر، وقد ينتن الماء للمكث وكذا البئر الذي يدلي فيها
الدلاء والجرار الدنسة يحملها الصغار والعبيد ولا يعلمون الأحكام ويمسها الرستاقيون
بالأيدي الدنسة ما لم تعلم يقينا النجاسة، ولو ظن الماء نجسا فتوضأ ثم ظهر أنه طاهر جاز.
وذكر السراج الهندي عن الفقيه أبي الليث أن عدم وجوب السؤال من طريق الحكم وإن سأل
كان أحوط لدينه. وعلى هذا الضيف إذا قدم إليه طعام ليس له أن يسأل عنه. وفي فوائد
الرستغفني: التوضؤ بماء الحوض أفضل من النهر لأن المعتزلة لا يجيزونه من الحياض
فنرغمهم بالوضوء منها ا ه‍. وهذا إنما يفيد الأفضلية لهذا العارض ففي مكان لا يتحقق
النهر أفضل. كذا في فتح القدير. وفي معراج الدراية قيل مسألة الحوض بناء على الجزء الذي
لا يتجزأ فإنه عند أهل السنة موجود في الخارج فتتصل أجزاء النجاسة إلى جزء لا يمكن
158

تجزئته فيكون باقي الحوض طاهرا، وعند المعتزلة والفلاسفة هو معدوم فيكون كل الماء مجاورا
للنجاسة فيكون الحوض نجسا عندهم، وقيل في هذا التقرير نظر ا ه‍. قالوا: ولا بأس
بالتوضؤ من حب يوضع كوزه في نواحي الدار ويشرب منه ما لم يعلم به قذر ويكره للرجل
أن يستخلص لنفسه إناء يتوضأ منه ولا يتوضأ منه غيره. وفي فتاوى قاضيخان: واختلفوا في
كراهية البول في الماء الجاري والأصح هو الكراهة، وأما البول في الماء الراكد فقد نقل الشيخ جلال الدين الخبازي في حاشية الهداية عن أبي الليث أنه ليس بحرام إجماعا بل مكروه،
ونقل غيره أنه حرام ويحمل على كراهة التحريم لأن غاية ما يفيده الحديث كراهة التحريم
فينبغي على هذا أن يكون البول في الماء الجاري مكروها كراهة تنزيه فرقا بينه وبين البول في
الماء الراكد. وفي فتاوى قاضيخان: إذا ورد الرجل ماء فأخبره مسلم أنه نجس لا يجوز له أن
يتوضأ بذلك الماء. قالوا: هذا إذا كان عدلا، فإن كان فاسقا لا يصدق. وفي المستور روايتان
ا ه‍. وفي المبتغى بالغين المعجمة: وبرؤية أثر أقدام الوحش عند الماء القليل لا يتوضأ به سبع
مر بالركية وغلب على ظنه شربه منها تنجس وإلا فلا ا ه‍. وينبغي أن يحمل الأول على ما إذا
غلب على ظنه أن الوحش شربت منه بدليل الفرع الثاني وإلا فمجرد الشك لا يمنع الوضوء
به بدليل ما قدمنا نقله عن الأصل أنه يتوضأ من الحوض الذي يخاف فيه قذرا ولا يتيقنه،
وينبغي أن يحمل التيقن المذكور في الأصل من قوله ولا يتيقنه على غلبة الظن والخوف على
الشك أو الوهم كما لا يخفى. وفي التجنيس: من دخل الحمام واغتسل وخرج من غير نعل
لم يكن به بأس لما فيه من الضرورة والبلوى ا ه‍. وسيأتي بقية هذا إن شاء الله تعالى في بحث
المستعمل.
قوله: (وموت ما لا دم له فيه كالبق والذباب والزنبور والعقرب والسمك والضفدع
والسرطان لا ينجسه) أي موت حيوان ليس له دم سائل في الماء القليل لا ينجسه. وقد جعل
في الهداية هذه المسألة مسألتين فقال أولا: وموت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه
كالبق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها ثم قال: وموت ما يعيش في الماء لا يفسده
كالسمك والضفدع والسرطان. وقد جمعهما قول المصنف موت ما لا دم له لأن مائي المولد
لا دم له فكان الأنسب ما ذكره المصنف من حيث الاختصار إلا أنه يرد عليه ما كان مائي
159

المولد والمعاش وله دم سائل فإنه سيأتي أنه لا ينجس في ظاهر الرواية مع أن عبار المصنف
بخلافه فلذا فرق في الهداية بينهما، ونقل في الهداية خلاف الشافعي في المسألة الأولى وكذا
في الثانية إلا في السمك، وما ذكره من خلاف الشافعي في الأولى ضعيف، والصحيح من
مذهبه أنه كقولنا كما صرح به النووي في شرح المهذب. وفي غاية البيان قال أبو الحسن
الكرخي في شرح الجامع الصغير: لا أعلم أن فيه خلافا بين الفقهاء ممن تقدم الشافعي، وإذا
حصل الاجماع في الصدر الأول صار حجة على من بعده ا ه‍. وقد علمت أنه موافق لغيره
وعلى تقدير مخالفته لا يكون خارقا للاجماع فقد قال بقوله القديم يحيى بن أبي كثير التابعي
الجليل كما نقله الخطابي ومحمد بن المنكدر الإمام التابعي كما نقله النووي، والدليل على أصل
المسألة ما رواه البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء
وفي الآخر شفاء وفي رواية النسائي وابن ماجة من حديث أبي سعيد الخدري فإذا وقع
في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء (1) ومعنى امقلوه أغمسوه. وجه
الاستدلال به أن الطعام قد يكون حارا فيموت بالغمس فيه، فلو كان يفسده لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بغمسه ليكون شفاء لنا إذا أكلناه، وإذا ثبت الحكم في الذباب ثبت في غيره مما هو بمعناه
كالبق والزنابير والعقرب والبعوض والجراد والخنفساء والنحل والنمل والصرصر والجعلان
وبنات وردان والبرغوث والقمل. إما بدلالة النص أو بالاجماع كذا في المعراج. قال الإمام
الخطابي: وقد تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له. وقال: كيف يجتمع الداء والشفاء في
جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك حتى تقدم جناح الداء قال: وهذا سؤال جاهل أو
متجاهل، والذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها الحرارة والبرودة والرطوبة
واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى الله عز وجل قد ألف بينها
وجعلها سببا لبقاء الحيوان وصلاحه لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزأين من
حيوان واحد، وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ بيت عجيب الصنعة وتعسل فيه، وألهم النملة
كسب قوتها وادخاره لأوان حاجتها إليه، وهو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن
تقدم جناحا وتؤخر آخر لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو
160

مضمار التكليف وله في كل شئ حكمة وعلم وما يذكر إلا أولوا الألباب ا ه‍. وقال
بعضهم: المراد به داء الكبر والترفع عن استباحة ما أباحته الشريعة المطهرة وأحلته السنة
المعظمة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقله دفعا للتكبر والترفع، وهذا ضعيف لأنه حينئذ يخرج ذكر
الجناحين والشفاء عن الفائدة. كذا ذكره السراج الهندي.
واستدل مشايخنا أيضا على أصل المسألة بما عن سلمان رضي الله عنه عنه عليه السلام
قال: يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله
وشربه ووضوؤه. قال الزيلعي رحمه الله تعالى: المخرج رواه الدارقطني. وقال: لم يروه إلا
بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي وهو ضعيف، ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بسعيد
هذا وقال: هو شيخ مجهول وحديثه غير محفوظ ا ه‍. قال العلامة في فتح القدير: ودفعا بأن
بقية هذا هو ابن الوليد روى عنه الأئمة مثل الحمادين وابن المبارك ويزيد بن هارون وابن
عيينة ووكيع والأوزاعي وإسحق بن راهويه وشعبة وناهيك بشعبة واحتياطه. قال يحيى: كان
شعبة مبجلا لبقية حيث قدم بغداد وقد روى له الجماعة إلا البخاري. وأما سعيد بن أبي
سعيد هذا فذكره الخطيب وقال: واسم أبيه عبد الجبار وكان ثقة فانتفت الجهالة والحديث مع
هذا لا ينزل عن الحسن ا ه‍. قال في الهداية: ولان المنجس اختلاط الدم المسفوح بأجزائه
عند الموت حتى حل المذكي لانعدام الدم فيه ولا دم فيها، والحرمة ليست من ضرورتها
النجاسة كالطين وأورد عليه ذبيحة المجوسي ومتروك التسمية عامدا فإنها نجسة مع زوال الدم
المسفوح، وذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم لعارض بأن أكلت ورق العناب فإنها حلال مع
أن الدم لم يسل، وأجاب الأكمل وغيره عن الأول بأن القياس الطهارة كالمسلم إلا أن
صاحب الشرع أخرجه عن أهلية الذبح فذبحه كلا ذبح. وعن الثاني أن الشارع أقام الأهلية
واستعمال آلة الذبح مقام الإسالة لاتيانه بما هو داخل تحت قدرته ولا يعتبر بالعوارض لأنها
لا تدخل تحت القواعد الأصلية. وأجاب في معراج الدراية بأن ذبيحة المجوسي والوثني
وتارك التسمية عمدا طاهر على الأصح وإن لم تؤكل لعدم أهلية الذابح، وعزاه إلى المجتبى ثم
قال: فإن قيل لو كان المنجس هو الدم يلزم أن يكون الدموي من الحيوان نجسا، سواء كان
قبل الحياة أو بعدها لأنه يشمل على الدم في كلتا الحالتين. قلنا: الدم حال الحياة في معدنه
والدم في معدنه لا يكون نجسا بخلاف الذي بعد الموت لأن الدماء بعد الموت تنصب عن
مجاريها فلا تبقى في معادنها فيتنجس اللحم بتشربه إياها، ولهذا لو قطعت العروق بعد الموت
لا يسيل الدم منها. وفي صلاة البقالي: لو مص البق الدم لم ينجس عند أبي يوسف لأنه
161

مستعار، وعند محمد ينجسه وفي جمع الخلاف على العكس. والأصح في العلق إذا مص الدم
أنه يفسد الماء، قال صاحب المجتبى: ومن هذا يعرف حكم القراد والحلم ا ه‍. وأما ما ذكره
في الهداية من خلاف الشافعي في الثانية فصحيح. قال النووي في شرح المهذب: ما يعيش
في البحر مما له نفس سائلة إن كان مأكولا فميتته طاهرة ولا شك أنه لا ينجس الماء، وما لا
يؤكل كالضفدع وكذا غيره إن قلنا لا يؤكل فإذا مات في ماء قليل أو مائع قليل أو كثير
نجسه لا خلاف فيه عندنا ا ه‍. واستدل للمذهب في الهداية بقوله: ولنا أنه مات في معدته
فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما. ولأنه لا دم فيها إذا الدموي لا يسكن الماء
والدم هو المنجس وفي غير الماء قيل غير السمك يفسده لانعدام المعدن، وقيل لا يفسده لعدم
الدم وهو الأصح ا ه‍. وقوله كبيضة حال محها بالحاء المهملة فيهما أي تغير صفرتها دما
حتى لو صلى وفي كمه تلك البيضة تجوز صلاته بخلاف ما لو صلى وفي كمه قارورة دم
حيث لا تجوز لأن النجاسة في غير معدنها. وعموم قوله مات في معدنه يقتضي أن لا
يعطى للوحش والطيور حكم النجاسة إذا مات في معدنها لأن معدنها البر، ولهذا جعل
شمس الأئمة تعليل قوله لا دم فيها أصح قال: ليس لهذه الحيوانات دم سائل فإن ما فيها
يبيض بالشمس والدم إذا شمس يسود. وكذا في معراج الدراية، وتعقبه في فتح القدير بأن
كون البرية معدنا للسبع محل تأمل في معنى معدن الشئ، والذي يفهم منه ما يتولد منه
الشئ وعلى التعليل الأول فرع ما لو وقعت البيضة من الدجاجة في الماء رطبة أو يبست لا
يتنجس الماء لأنها كانت في معدنها، وكذا السخلة إذا سقطت من أمها رطبة أو يبست لا
تنجس الماء لأنها كانت في معدتها.
ثم لا فرق بين أن يموت في الماء أو خارجه ثم ينتقل إليه في الصحيح. وروي عن
محمد: إذا تفتت الضفدع في الماء كرهت شربه لا للنجاسة بل لحرمة لحمه وقد صارت أجزاؤه
في الماء. وهذا تصريح بأن كراهة شربه تحريمية وبه صرح في التنجيس فقال: يحرم شربه.
162

وفي فتاوى قاضيخان: فإن كانت الحية أو الضفدع عظيمة لها دم سائل تفسد الماء، وكذا
الوزعة الكبيرة في رواية عن أبي يوسف. وفي السراج الوهاج: الذي يعيش في الماء هو
الذي يكون توالده ومثواه فيه، سواء كانت لها نفس سائلة أو لم تكن فظاهر الرواية،
وروي عن أبي يوسف أنه إذا كان لها دم سائل أوجب التنجيس ا ه‍. وكذا ذكر الأسبيجابي،
فما في الفتاوى على غير ظاهر الرواية. واختلف في طير الماء ففي السراج الوهاج أنه ينجس
لأنه يتعيش في الماء ولا يعيش فيه. وفي شرح الجامع الصغير لقاضيخان: وطير الماء إذا مات
في الماء القليل يفسده هو الصحيح من الرواية عن أبي حنيفة، وإن مات في غير الماء يفسده
باتفاق الروايات لأن له دما سائلا وهو بري الأصل مائي المعاش والمائي ما كان توالده
ومعاشه في الماء ا ه‍. وطير الماء كالبط والإوز. وفي المجتبى: الصحيح عن أبي حنيفة في
موت طير الماء فيه أنه لا ينجسه. وقيل إن كان يفرخ في الماء لا يفسده وإلا فيفسده ا ه‍.
فقد اختلف التصحيح في طير الماء كما ترى والأوجه ما في شرح الجامع الصغير كما لا
يخفى. وفي الكلب المائي اختلاف المشايخ كذا في معراج الدراية من غير ترجيح لكن قال في
الخلاصة: الكلب المائي والخنزير المائي إذا مات في الماء أجمعوا أنه لا يفسد الماء ا ه‍. فكأنه لا
يعتبر القول الضعيف كما لا يخفى، وقد وقع لصاحب الهداية هنا وفي بحث الماء المستعمل
التعليل بالعدم، ووجه تصحيحه أن العلة متحدة وهي الدم وهو في مثله يجوز كقول محمد في
ولد المغصوب لم يضمن لأنه لم يغصب كذا في الكافي. وتوضيحه أن عدم العلة لا يوجب
عدم الحكم لجواز أن يكون الحكم معلولا بعلل شتى إلا أن العلة إذا كانت متعينة يلزم من
عدمها عدم المعلول لتوقفه على وجودها وهنا كذلك لأن النجس هو الدم المسفوح لا غير ولا
دم لهذه الأشياء بدليل أن الحرارة لازمة الدم، والبرودة لازمة الماء وهما نقيضان، فلو كان لها
دم لماتت بدوام السكون في الماء. كذا في غاية البيان. وفي الهداية: والضفدع البري
والبحري وسواء، وقيل: البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن. وقيل: لا يفسده. قال
الشارحون: الضفدع البحري هو ما يكون بين أصابعه سترة بخلاف البري، وصحح في
السراج الوهاج عدم الفرق بينهما لكن محله ما إذا لم يكن للبري دم، أما إذا كان له دم سائل
فإنه يفسده على الصحيح. كذا في شرح منية المصلي. والضفدع بكسر الدال والأنثى
163

ضفدعة، وناس يقولون ضفدع بفتح الدال وهو لغة ضعيفة وكسر الدال أفصح. والبق كبار
البعوض واحدة بقة وقد يسمى به الفسفس في بعض الجهات، وهو حيوان كالقراد شديد
النتن، كذا في شرح منية المصلي. والزنبور بالضم وسمي الذباب ذبابا لأن كلما ذب آب أي
كلما طرد رجع. وفي النهاية: وأشار الطحاوي إلى أن الطافي من السمك في الماء يفسده
وهو غلط منه فليس في الطافي أكثر فسادا من أنه غير مأكول فهو كالضفدع ا ه‍. واعلم أن
كل ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء وهو الأصح. كذا في المحيط والتحفة. والأشبه بالفقه
كذا في البدائع لكن يحرم أكل هذه الحيوانات المذكورة ما عدا السمك الغير الطافي لفساد
الغذاء وخبثه متفسخا أو غيره وقد قدمناه عن التنجيس.
قوله: (والماء المستعمل لقربة أو رفع حدث إذا استقر في مكان طاهر لا مطهر) اعلم أن
الكلام في الماء المستعمل يقع في أربعة مواضع: الأول في سببه وقد أشار إليه بقوله لقربة أو
رفع حدث الثاني في وقت ثبوته وقد أشار إليه بقوله إذا استقر في مكان. الثالث في صفته
وقد بينها بقوله طاهر. الرابع في حكمه وقد بينه بقوله لا مطهر. والزيلعي رحمه الله
أدرج الحكم في الصفة وجعل قوله طاهر لا مطهر بيانا لصفته والأولى ما أسمعتك تبعا لما
في فتح القدير. أما الأول فقد ذكر أبو عبد الله الجرجاني أنه يصير مستعملا بإقامة القربة بأن
ينوي الوضوء على الوضوء حتى يصير عبادة أو برفع الحدث بأن توضأ المحدث للتبرد أو
للتعليم بلا خلاف بين أصحابنا الثلاثة. وذكر أبو بكر الرازي خلافا وقال: إنه يصير
مستعملا بإقامة القربة أو رفع الحدث عندهما، وعند محمد بإقامة القربة لا غير استدلالا
بمسألة الجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو فقال محمد: الماء طاهر طهور لعدم إقامة
القربة، فلو توضأ محدث بنية القربة صار الماء مستعملا بالاجماع، ولو توضأ متوضئ للتبرد لا
يصير مستعملا بالاجماع. ولو توضأ المحدث للتبرد صار مستعملا عندهما خلافا لمحمد، ولو
توضأ المتوضئ بنية القربة صار مستعملا عند الثلاثة. قال شمس الأئمة السرخسي: التعليل
لمحمد بعدم إقامة القربة ليس بقوي لأنه غير مروي عنه، والصحيح عنده أن إزالة الحدث
بالماء مفسدة له إلا عند الضرورة كالجنب يدخل البئر لطلب الدلو، ومن شرط نية القربة عند
محمد استدل بمسألة البئر، وجوابه أنه إنما لم يصر مستعملا للضرورة لا لأن الماء لا يصير
164

مستعملا بإزالة الحدث فصار كما لو أدخل الجنب أو الحائض أو المحدث يده في الماء لا يصير
مستعملا للضرورة، والقياس أن يصير مستعملا عندهم لإزالة الحدث ولكن سقط للحاجة
ا ه‍. وأقره عليه العلامة كمال الدين بن الهمام والإمام الزيلعي، وصرح في البدائع أن
الخلاف لم ينقل عنهم نصا وإنما مسائلهم تدل عليه، وكذا في المحيط لكن قال: وهذا
الخلاف صحيح عند محمد لأن تغير الماء عند محمد باعتبار إقامة القربة به لا باعتبار تحول
نجاسة حكمية إلى الماء، وعندهما تغير الماء باعتبار أنه تحول إليه نجاسة حكمية، وفي الحالتين
تحول إلى الماء نجاسة حكمية فأوجب تغيره ا ه‍. والذي يدل على صحة الخلاف ما نقله في
المحيط والخلاصة وكثير من الكتب، وعزاه الهندي إلى صلاة الأثر لمحمد أن الرجل إذا أخذ
الماء بفمه وهو جنب ولا يريد المضمضة فغسل يده به أجزأه عن غسل اليد ولا يصير
مستعملا عند محمد لعدم قصد القربة وإن زال الحدث عن الفم لكن يقال من جهة شمس
الأئمة السرخسي أن محمدا إنما لم يقل بالاستعمال للضرورة لا لأن إزالة الحدث لا توجب
الاستعمال. وقد علل به في المحيط فقال: لم يحكم باستعمال الماء للضرورة ويؤيده ما في
فتح القدير أن الذي نعقله أن كلا من التقرب الماحي للسيئات والاسقاط مؤثر في التغير، ألا
ترى أنه انفرد وصف التقرب في صدقة التطوع وأثر التغير حتى حرم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا
الأثر عند ثبوت وصف الاسقاط معه غير ذلك وهو أشد فحرم على قرابته الناصرة له فعرفنا
أن كلا أثر تغيرا شرعيا وبهذا يبعد قول محمد إنه التقرب فقط إلا أن يمنع كون هذا مذهبه
كما قال شمس الأئمة ا ه‍. ولو غسل يده للطعام أو منه صار الماء مستعملا لأنه أقام به قربة
لأنه سنة، ولو غسل يده من الوسخ لا يصير مستعملا لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة. كذا
في المحيط. وهذا التعليل يفيد أنه كان متوضئا ولا بد منه كما لا يخفى. وقوله فيما قبله
لأنه أقام قربة يفيد أنه قصد إقامة السنة فلو لم يقصدها لا يصير مستعملا. وفيه: لو
وصلت شعر آدمي إلى ذؤابتها فغسلت ذلك الشعر الواصل لم يصر الماء مستعملا، ولو غسل
رأس إنسان مقتول قد بان منه صار الماء مستعملا لأن الرأس إذا وجد مع البدن ضم إلى
البدن وصلى عليه فيكون بمنزلة البدن والشعر لا يضم مع البدن، فبالانفصال لم يبق له حكم
البدن فلا تكون غسالته مستعملة.
قال الولوالجي في فتاواه: وهذا الفرق يأتي على الرواية المختارة أن شعر الآدمي ليس
بنجس، أما على الرواية الأخرى لا يتأتي فإنه نجس ينجس الماء ا ه‍. وفي المبتغى وغيره:
165

وبتعليم الوضوء للناس لا يصير مستعملا إذا لم يرد به الصلاة بل أراد تعليمه ا ه‍. ولا يخفى
أن التعليم قربة فإذا قصد إقامة القربة ينبغي أن يصير الماء مستعملا إذا لم يرد به الصلاة بل
أراد تعليمه ا ه‍. ولا يخفى أن التعليم قربة فإذا قصد إقامة القربة ينبغي أن يصير الماء
مستعملا كغسل اليدين للطعام فإنه لم يرد به الصلاة بل إقامة القربة كما لا يخفى، ويؤيده ما
في شرح النقاية أولا أن القربة ما تعلق به حكم شرعي وهو استحقاق الثواب، ولا شك أن
في التعليم المقصود ثوابا. وقد يجاب عنه بأن هذا الماء لم يستعمل لقربة لأن القربة فيه ليست
بسبب استعماله إنما هي بسبب تعليمه، ولذا لو علمه بالقول استغني عن هذا الفعل بخلاف
غسل اليدين من الطعام فإن القربة فيه لا تحصل إلا باستعماله فافترقا. وفي الفتاوى
الظهيرية: وغسالة الميت نجسة كذا أطلق محمد في الأصل، والأصح أنه إذا لم يكن على بدنه
نجاسة يصير الماء مستعملا ولا يكون نجسا إلا أن محمدا إنما أطلق الماء لأن غسالته لا تخلو
عن النجاسة غالبا. وفي الخلاصة: أما إذا توضأ الصبي في طست هل يصير الماء مستعملا؟
والمختار أنه يصير مستعملا إذا كان الصبي عاقلا ا ه‍. وقد قدمنا حكم إذا أدخل يده في
الاناء فلتراجع. وفي الخلاصة: ولو أخذ الماء بفمه لا يريد به المضمضة لا يصير مستعملا
عند محمد، وكذا لو أخذ بفيه وغسل أعضاءه بذلك. وقال أبو يوسف: لا يبقى طهورا وهو
الصحيح ا ه‍. واعلم أن هذا وأمثاله كقولهم فيمن أدخل يديه إلى المرفقين أو إحدى رجليه
في إجانة يصير الماء مستعملا يفيد أن الماء يصير مستعملا بواحد من ثلاثة: إما بإزالة الحدث
كان معه تقرب أو لا، أو إقامة القربة كان معه رفع حدث أو لا، أو إسقاط الفرض فإن في
هذه المسائل لم يزل الحدث ولا الجنابة عن العضو المغسول لما عرف أن الحدث الجنابة لا
166

يتجزءان زوالا كما لا يتجزءان ثبوتا. قالوا: وهذا هو الصحيح. وكذا لم توجد نية القربة وإنما
سقط الفرض عن العضو المغسول فكان الأولى ذكر هذا السبب الثالث، ولا تلازم بين سقوط
الفرض وارتفاع الحدث، فسقوط الفرض عن اليد مثلا يقتضي أن لا يجب إعادة غسلها مع
بقية الأعضاء ويكون ارتفاع الحدث موقوفا على غسل الباقي، وسقوط الفرض هو الأصل في
الاستعمال إلا أن يقال: إن الحدث زال عن العضو زوالا موقوفا لكن المعلل به في كتاب
الحسن عن أبي حنيفة كما نقله في فتح القدير إسقاط الفرض في مسألة إدخال اليد الاناء لغير
ضرورة لا إزالة الحدث. وفي الخلاصة: لو غسل المحدث عضوا آخر سوى أعضاء الوضوء
167

كالفخذ، الأصح إنه لا يصير مستعملا بخلاف أعضاء الوضوء ا ه‍. وفي المبتغي بالغين
بالمعجمة: وبغسله ثوبا أو دابة تؤكل لا يصير مستعملا، ووضوء الحائض مستعمل لأن
وضوءها مستحب ا ه‍. ولا يخفى أنه لا يصير مستعملا إلا إذا قصدت الاتيان بالمستحب،
وفي البدائع: لو زاد على الثلاث فإن أراد بالزيادة ابتداء الوضوء صار الماء مستعملا، وإن
أراد الزيادة على الوضوء الأول اختلف المشايخ فيه ا ه‍. وفيه كلام قدمناه في بحث تثليث
الغسل في السنن فليراجع فإنه يقتضي أن الوضوء على الوضوء لا يكون قربة إلا إذا اختلف
المجلس فحينئذ يكون الماء مستعملا، أما إذا اتحد المجلس فلا يكون قربة بل مكروه فيكون
الماء غير مستعمل.
وفي معراج الدراية: فإن قيل المتوضئ ليس على أعضائه نجاسة لا حقيقية ولا
حكمية، فكيف يصير الماء مستعملا بنية القربة؟ قلنا: لما نوى القربة فقد ازداد طهارة على
طهارة ولن تكون طهارة جديدة إلا بإزالة النجاسة الحكمية حكما فصارت
الطهارة على الطهارة وعلى الحدث سواء ا ه‍. وأما الثاني أعني وقت ثبوت الاستعمال فقال بعض
مشايخنا: الماء المستعمل ما زايل البدن واستقر في مكان من أرض أو إناء وهو مذهب سفيان
الثوري، واستدل بمسائل زعم أنها تدل له منها إذا توضأ واغتسل وبقي على يده لمعة فأخذ
البلل منها في الوضوء أو من أي عضو كان في الغسل وغسل اللمعة يجوز، ومنها نقل البلة
من مغسول إلى ممسوح جائز وإن وجد الانفصال، ومنها أن الخرقة التي يتمسح بها تجوز
الصلاة معها وإن كان ما أصابها من البلل كثيرا فاحشا، وكذا إذا أصاب ثوبه الماء المستعمل لا
يضره وإن كان كثيرا وإن وجد الانفصال فأما عندنا فما دام على العضو لا يصير مستعملا
وإذا زايله صار مستعملا وإن لم يستقر في مكان فإنه ذكر في الأصل أنه إذا مسح رأسه ببلل
أخذه من لحيته لم يجز، وإن لم يستقر في مكان. وكذا لو مسح رأسه ببلل باق بعد مسح
الخفين لا يجزئه، وعلل بأنه ماء قد مسح به مرة أشار به إلى ما قلنا. قالوا لا يجوز نقل البلة
من عضو مغسول إلى مثله، فدل على أن المذهب ما قلناه، ووجهه أن القياس صيرورته
مستعملا بنفس الملاقاة لوجود السبب فكان ينبغي أن يؤخذ لكل جزء من العضو جزء من
الماء إلا أن فيه حرجا فسقط اعتبار حالة الاستعمال في عضو واحد حقيقة أو في عضو واحد
168

حكما كما في الجنابة. فإذا زايل العضو زالت الضرورة فظهر حكم الاستعمال بقضية
القياس. وقد حصل الجواب عن المسألة الأولى التي استدل بها سفيان، وأما عن الثانية فقد
ذكر الحاكم الجليل أنها على التفصيل إن لم يكن استعمله في شئ من أعضائه يجوز، أما إذا
كان استعمله لا يجوز والصحيح أنه يجوز وإن استعمله في المغسولات لأن فرض الغسل إنما
تأدى بما جرى على عضوه لا بالبلة الباقية فلم تكن هذه البلة مستعملة بخلاف ما إذا استعمله
في المسح على الخف ثم مسح به رأسه حيث لا يجوز لأن فرض المسح يتأدى بالبلة وتفصيل
الحاكم محمول على هذا، وأما ما مسح بالمنديل أو تقاطر على الثوب فهو مستعمل إلا أنه لا
يمنع جواز الصلاة لأن الماء المستعمل طاهر عند محمد وهو المختار، وعندهما وإن كان نجسا
لكن سقوط اعتبار نجاسته ههنا لمكان الضرورة. هذا ما قرره صاحب البدائع رحمه الله.
وذكر في المحيط أن القائل باشتراط الاستقرار سفيان فقط دون أهل المذهب، وصحح في
الهداية وكثير من الكتب أن المذهب صيرورته مستعملا بمجرد الانفصال وإن لم يستقر،
وصدر به في الكافي وذكر ما في الكنز بصيغة قيل. وما ذكره في الكنز هو مذهب سفيان
الثوري وإبراهيم النخعي وبعض مشايخ بلخ وأبي حفص الكبير وظهير الدين المرغيناني: قال
في الخلاصة: والمختار أنه لا يصير مستعملا ما لم يستقر في مكان ويسكن عن التحرك ا ه‍.
وفي غاية البيان أن مختار فخر الاسلام البزدوي وغيره في شروح الجامع الصغير اجتماعه في
مكان بعد المزايلة، وفيما اختاره صاحب الهداية حرج عظيم على المسلمين ا ه‍. وفي معراج
الدراية عن شيخه أن ما في الهداية في حق من لا ضرورة فيه كثياب غير المتوضئ وقيل في
حق المغتسل لأنه قليل الوقوع لا في حق المتوضئ ا ه‍.
والحاصل أن المذهب ما في الهداية وما في الكنز اختيار بعض المشايخ، ومبنى اختيار
ما في الكنز توهم أن ما ذكره في الهداية فيه حرج عظيم كما توهمه في غاية البيان، لأن الماء
الذي يقطر من الأعضاء يصيب ثوب المتوضئ، فلو قلنا باستعماله بالانفصال فقط لتنجس
ثوبه على القول بنجاسته حتى احتاج بعضهم إلى حمله على ثياب غير المتوضئ، وبعضهم إلى
حمله على الغسل كما رأيت، وليس ما توهموه من الحرج موجودا فقد قدمنا عن البدائع أن ما
يصيب ثوب المتوضئ معفو عنه بالاتفاق، وكذا ذكر في غيره. وأما في ثياب غير المتوضئ
فلا حرج، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا انفصل ولم يستقر بل هو في الهواء فسقط على عضو
انسان وجرى فيه من غير أن يأخذه بكفه، فعلى قول العامة لا يصح وضوءه، وعلى قول
البعض يصح الثالث أعني صفة الماء المستعمل لم تذكر في ظاهر الرواية ولهذا ذكر في الكافي
169

الذي هو جمع كلام محمد أن الماء المستعمل لا يجوز التوضؤ به ولم يبين صفته من الطهارة أو
النجاسة فلهذا لم تثبت مشايخ العراق خلافا بين أصحابنا في صفته فقالوا: طاهر غير طهور
عند أصحابنا، وغيرهم أثبت الخلاف فقالوا: إن عن أبي حنيفة روايتين في رواية محمد عنه
أنه طاهر غير طهور وبها أخذ وكذا رواها زفر وعامر عن أبي حنيفة كما ذكره قاضيخان في
شرحه، وفي رواية أبي يوسف والحسن بن زياد أنه نجس غير أن الحسن روي عنه التغليظ،
وأبا يوسف روي عنه التخفيف، وكل أخذ بما روي. وروي عن أبي يوسف أن المستعمل إن
كان محدثا أو جنبا فالماء نجس، وإن كان طاهرا فالماء طاهر، وعند زفر إن كان المستعمل محدثا
أو جنبا فهو طاهر غير طهور، وإن كان متوضأ فهو طاهر طهور. وقد صحح المشايخ رواية
محمد حتى قال في المجتبى: وقد صحت الروايات عن الكل أنه طاهر غير طهور، إلا
الحسن. وقال فخر الاسلام في شرح الجامع الصغير: هو المختار عندنا وهو المذكور في عامة
كتب محمد عن أصحابنا فاختاره المحققون من مشايخ ما وراء النهر. وفي المحيط إنه المشهور
عن أبي حنيفة وفي كثير من الكتب وعليها الفتوى من غير تفصيل بين المحدث والجنب.
والمذكور في فتاوى الولوالجي والتنجيس في مواضع أن الفتوى على رواية محمد لعموم البلوى
إلا في الجنب. وقد ذكر النووي أن الصحيح من مذهب الشافعي أنه طاهر غير طهور وبه
قال أحمد وهو رواية عن مالك، ولم يذكر ابن المنذر عنه غيرها وغير قول جمهور السلف
والخلف ا ه‍. وجه رواية النجاسة قوله صلى الله عليه وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه
من الجنابة كذا في الهداية وكثير من الكتب. قال في البدائع: وجه الاستدلال به حرمة
الاغتسال في الماء القليل لاجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن
القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى لأن إلقاء الطاهر في
الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر
بالاغتسال وذا يقتضي التنجس به، ولا يقال يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن
يكون مطهرا من غير ضرورة وذلك حرام لأنا نقول: الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا
باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبا عليه كماء الورد واللبن، فأما إذا كان مغلوبا فلا.
وههنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن. ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به
من أن يكون مطهرا؟ فأما ملاقاة النجس الطاهر توجب تنجيس الطاهر وإن لم يغلب على
الطاهر لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما فيحكم بنجاسة الكل فثبت أن
النهي لما قلنا. ولا يقال يحتمل أنه نهي لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية وذا
يوجب تنجيس الماء القليل لأنا نقول: الحديث مطلق فيجب العمل بإطلاقه، ولان النهي عن
الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون لأنه هو المتعارف بين المسلمين، والمسنون منه إزالة
النجاسة قبل الاغتسال على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي
170

عن البول فيه فوجب حمل النهي على الاغتسال فيه لما ذكرنا صيانة لكلام صاحب الشرع عن
الإعادة الخالية عن الإفادة ا ه‍.
وقد حصل من الجواب الأول دفع ما ذكره في فتح القدير تبعا للنووي. ومن الجواب
الثاني دفع ما في السراج الوهاج كما لا يخفى على من يراجعهما، وفي معراج الدراية: فإن
قيل القران في النظم لا يوجب القران في الحكم فلا يلزم تنجس الماء بالاغتسال قلنا: قد بينا
أن مطلق النهي للتحريم خصوصا إذا كان مؤكدا بنون التوكيد لا باعتبار القران ا ه‍. ويستدل
لأبي حنيفة وأبي يوسف أيضا بالقياس وأصله الماء المستعمل في النجاسة الحقيقية والفرع
المستعمل في الحكمية بجامع الاستعمال في النجاسة بناء على إلغاء وصف الحقيقي في ثبوت
النجاسة، وذلك لأن معنى الحقيقية ليس إلا كون النجاسة موصوفا بها جسم محسوس مستقل
بنفسه عن المكلف لا أن وصف النجاسة حقيقة لا يقوم إلا بجسم كذلك وفي غير، مجاز،
بل معناه الحقيقي واحد في ذلك الجسم وفي الحدث، وهذا لأنه ليس المتحقق لنا من معناها
سوى أنها اعتبار شرعي منع الشارع من قربان الصلاة والسجود حال قيامه لمن قام به إلى غاية
استعمال الماء فيه، فإذا استعمله قطع ذلك الاعتبار كل ذلك ابتلاء للطاعة، فأما أن هناك
وصفا حقيقيا عقلي أو محسوس فلا. ومن ادعاه لا يقدر في إثباته على غير الدعوى، ويدل
على أنه اعتبار اختلافه باختلاف الشرائع، ألا ترى أن الخمر محكوم بنجاسته في شريعتنا
وبطهارته في غيرها، فعلم أنها ليست سوى اعتبار شرعي ألزم معه كذا إلى غاية كذا ابتلاء،
وفي هذا لا تفاوت بين الدم والحدث فإنه أيضا ليس إلا ذلك الاعتبار، فظهر أن المؤثر نفس
وصف النجاسة وهو مشترك في الأصل والفرع فيثبت مثل حكم الأصل وهو نجاسة الماء
المستعمل فيه في الفرع وهو المستعمل في الحدث فيكون نجسا إلا أن هذا إنما ينتهض على
من يسلم كون حكم الأصل ذلك كما لك وأكثر العلماء، وأما من يشترط في نجاسته
خروجه من الثوب متغيرا بلون النجاسة كالشافعي فلا، فعنده الماء الذي يستعمل في الحقيقية
التي لا لون لها يغاير لون الماء كالبول طاهر يجوز شربه وغسل الثوب به دون إزالة الحدث
لأنه عنده مستعمل وهو لا يقصر وصف الاستعمال على رافع الحدث فإنما ينتهض عليه بعد
171

الكلام معه في نفس هذا التفصيل وهو سهل غير أنا لسنا إلا بصدد توجيه رواية نجاسة
المستعمل عن أبي حنيفة على أصولنا. فإن قيل: لو تم ما ذكرت كان للبلوي تأثير في إسقاط
حكمه، فالجواب الضرورة لا يعدو حكمها محلها والبلوى فيه إنما هي في الثياب فيسقط
اعتبار نجاسة ثوب المتوضئ وتبقى حرمة شربه والطبخ به وغسل الثوب منه ونجاسة من
يصيبه. كذا قرر وجه القياس العلامة المحقق كمال الدين بن همام الدين رحمه الله على
النجاسة. واستدل في الكفاية للشيخ جلال الدين الخبازي بإشارة قوله تعالى عقب الامر
بالوضوء والتيمم * (ولكن يريد ليطهركم) * (المائدة: 6) فدل إطلاق التطهير على ثبوت النجاسة
في أعضاء الوضوء، ودل الحكم بزوالها بعد التوضؤ على انتقالها إلى الماء فيجب الحكم
بالنجاسة، ثم إن أبا يوسف جعل نجاسته خفيفة لعموم البلوى فيه لتعذر صيانة الثياب عنه
ولكونه محل اجتهاد فأوجب ذلك خفة في حكمه. والحسن يجعل نجاسته غليظة لأنها نجاسة
حكمية وأنها أغلظ من الحقيقية، ألا ترى أنه عفى عن القليل من الحقيقية دون الحكمية.
ووجه رواية محمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر قال:
مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانني فوجد اني قد أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم
صب وضوءه علي فأفقت. وفي البخاري أيضا أن الناس كانوا يتمسحون بوضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أنه إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، فكذا استدل مشايخنا لرواية
الطهارة منهم البيهقي في الشامل، وكذا استدل به النووي في شرح المهذب، ولكن لقائل أن
يقول: إن هذا لا يصلح دليلا للمدعي لأن هذا الذي تمسحوا به ليس هو المتساقط من
أعضائه عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز أن يكون هو ما فضل من وضوئه فإن في بعض
رواياته الصحيحة فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به وفي لفظ النسائي
في هذا الحديث وأخرج بلال فضل وضوئه فابتدره الناس وليس المراد به المتساقط من
وضوئه عليه السلام، وكذا حديث جابر فصب عليه من وضوئه، فإن جعل الوضوء اسما
لمطلق الماء فلا دلالة فيه على طهارة الماء المستعمل، وإن أريد بوضوئه فضل مائة الذي توضأ
ببعضه لا استعمله في أعضائه فلا دلالة فيه أيضا، وإن جعل اسما للماء المعد للوضوء فلا
دلالة فيه أيضا، فحينئذ لا يدل مع هذه الاحتمالات. كذا ذكره العلامة الهندي. ولهذا والله
أعلم لم يستدل المحقق ابن الهمام بهذه الدلائل لرواية الطهارة، وإنما استدل بالقياس فقال:
المعلوم من جهة الشارع أن الآلة التي تسقط الفرض وتقاوم بها القربة تتدنس، وأما الحكم
172

بنجاسة العين شرعا فلا، وذلك لأن أصله مال الزكاة تدنس بإسقاط الفرض به حتى جعل
من الأوساخ في لفظه عليه السلام فحرم على من شرف بقرابته الناصرة له ولم يصل مع هذا
إلى النجاسة حتى لو صلى حامل دراهم الزكاة صحت، فكذا يجب في الماء أن يتغير على وجه
لا يصل إلى التنجس وهو سلب الطهورية إلا أن يقوم فيه دليل يخصه غير هذا القياس ا ه‍.
لكن قد علمت الدليل الذي ذكرناه لأبي حنيفة آنفا فاندفع به هذا القياس. وبهذا يترجح
القول بالنجاسة، ولهذا والله أعلم ذكر صاحب الهداية في التنجيس أن الفتوى على رواية
محمد لعموم البلوى إلا في الجنب نقلناه عنه وعن الولوالجي آنفا، كان دليل النجاسة قويا كان
وهو المختار إلا أن البلوى عمت في الماء المستعمل في الحدث الأصغر فأفتى المشايخ بالطهارة
بخلاف المستعمل في الأكبر لم يوجد فيه عموم البلوى فكان على المختار من النجاسة، ويؤيده
ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في المبسوط أن قوله في الأصل إذا اغتسل الطاهر في البئر
أفسده دليل على أن الصحيح من قول أبي حنيفة أن الماء المستعمل نجس لأن الفاسد من الماء
هو النجس ا ه‍. لكن رجح في موضع آخر رواية أبي يوسف القائلة بالتخفيف، واستبعد
رواية الحسن القائلة بالتغليظ فقال: ما رواه الحسن بعيد فإن للبلوى تأثيرا في تخفيف النجاسة
ومعنى البلوى في الماء المستعمل ظاهر، فإن صون الثياب عنه غير ممكن وهو مختلف في
نجاسته فلذلك خف حكمه ا ه‍. وفي فتاوى قاضيخان: المشهور عن أبي حنيفة وأبي يوسف
نجاسة الماء المستعمل لكن قال في الذخيرة: الظاهر أن الماء المستعمل طاهر للجنب والمحدث
وقد قدمناه في الغسل فليراجع.
ثم اعلم أن الماء المستعمل على قول القائلين بنجاسته نجاسة عينية عند البعض حتى لا
يجوز الانتفاع به بوجه ما، وعند البعض نجاسته بالمجاورة حتى يجوز الانتفاع به بسائر الوجوه
سوى الشرب لأن هذا ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فصار كما أزيل به النجاسة الحقيقية.
ووجه الأول أن المجاورة إنما تكون بانتقال شئ من عين إلى عين ولم يوجد حقيقة إلا أنه
يتنجس الماء بالاستعمال شرعا فيكون نجسا عينا. كذا ذكره الإمام صاحب الهداية في
التنجيس ولم يرجح، لكن تأخيره وجه الأول يفيد ترجيحه كما هي عادته في الهداية. وفي
الخلاصة: ويكره شرب الماء المستعمل، وأما الماء إذا وقعت فيه نجاسة فإن تغير وصف الماء لم
يجز الانتفاع به بحال، وإن لم يتغير الماء جاز الانتفاع به كبل الطين وسقي الدواب ا ه‍. ولا
يخفى أن الكراهة على رواية الطهارة أما على رواية النجاسة فحرام لقوله تعالى * (ويحرم عليهم
173

الخبائث) * والنجس منها. وفي البدائع: ويكره التوضؤ في المسجد عند أبي
حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: لا بأس به لأنه عنده طاهر، وأما أبو يوسف فلانه يقول
بنجاسته، وكذا ما روي عن أبي حنيفة. وأما على رواية الطهارة عنه فلانه مستقذر طبعا
فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم ا ه‍. وفي فتاوى قاضيخان:
وإن توضأ في إناء في المسجد جاز عندهم. الرابع في حكمه قال قاضيخان في فتاواه: اتفق
أصحابنا في الروايات الظاهرة أن الماء المستعمل في البدن لا يبقى طهورا ا ه‍. وقال في
الهداية: إنه لا يزيل الاحداث. قال الشارحون: إن هذا حكمه وقالوا قيد بالاحداث لما أنه
يزيل الأنجاس على ما روى محمد عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل طاهر غير طهور لأن إزالة
النجاسة الحقيقية تجوز بالمائعات عند أبي حنيفة، صرح به القوام الأتقاني والكاكي في المعراج
وصاحب النهاية وغيرهم. هذا وإن كان الماء المستعمل طاهرا عند محمد لكن لا تجوز به إزالة
النجاسة الحقيقية عنده لأن عنده لا يجوز إزالتها إلا بالماء المطلق، وقد قدمنا أن الماء المستعمل
ليس بمطلق، وبهذا يندفع ما توهمه بعض الطلبة في عصرنا أن الماء المستعمل يزيل الأنجاس
عند محمد لما أنه يقول بطهارته فهو حفظ شيئا وغابت عنه أشياء. واندفع أيضا ما توهمه بعض
المشتغلين أن الماء المستعمل لا يزيل الأنجاس اتفاقا لما أنه عند أبي حنيفة وأبي يوسف نجس
فلا يزيل، ومحمد وإن كان يقول بطهارته فعنده لا يزيل إلا الماء المطلق كما قدمناه لأنه حفظ
رواية النجاسة عن أبي حنيفة ونسي رواية الطهارة عنه التي اختارها المحققون وأفتوا بها.
وذكر في المجتبى عن القدوري وشرح الارشاد وصلاة الجلالي أنه يجوز إزالة النجاسة بالماء
المستعمل على الرواية الظاهرة، وما ذكرنا من حكمه عندنا فهو مذهب الشافعي وأحمد ورواية
عن مالك. وذهب الزهري ومالك والأوزاعي في أشهر الروايتين عنهما وأبو ثور إلى أنه
مطهر، واختاره ابن المنذر واحتجوا بقوله تعالى * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان:
48) لأن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى، ويحتج لأصحابنا ومن تبعهم أن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء ولم يجمعوا
المستعمل لاستعماله مرة أخرى. فإن قيل: تركوا الجمع لأنه لا يجتمع منه شئ فالجواب أن
هذا لا يسلم وإن سلم في الوضوء لا يسلم في الغسل. فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع
الطهارة به ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والعجن والتبرد ونحوها، فالجواب أن ترك جمعه
للشرب ونحوه للاستقذار فإن النفوس تعافه للعادة وإن كان طاهرا كما استقذر النبي صلى الله عليه وسلم
174

الضب وتركه فقيل: أحرام هو؟ قال: لا ولكني أعافه، وأما الطهارة مرة ثانية فليس فيه
استقذار فتركه يدل على امتناعه. وأما الجواب عن احتجاجهم فيعلم مما قدمناه في أول بحث
المياه من أن الطهور ليس هو المطهر لغيره فضلا عن التكرار، وبما ذكرناه اندفع ما ذكره صدر
الشريعة بقوله ونحن نقول لو كان طاهرا لجاز في السفر الوضوء به ثم الشرب ولم يقل أحد
بذلك ا ه‍. لما علمت أن عدم شربه للاستقذار مع طهارته لا لعدمها.
قوله: (ومسألة البئر جحط) أي ضابط حكم مسألة البئر جحط وصورتها: جنب
انغمس في البئر للدلو أو للتبرد ولا نجاسة على بدنه، فعند أبي حنيفة الرجل والماء نجسان،
وعند أبي يوسف الرجل جنب على حاله والماء مطهر على حاله، وعند محمد الرجل طاهر
والماء طاهر طهور، فالجيم من النجس علامة نجاستهما، والحاء من الحال أي كلاهما بحاله،
والطاء من الطاهر، فرتب حروفه على ترتيب الأئمة. فالحرف الأول للإمام الأعظم، والثاني
للثاني، والثالث للثالث، وجه قول أبي حنيفة أن الفرض قد سقط عن بعض الأعضاء بأول
الملاقاة لأن النية ليست بشرط لسقوط الفرض فإذا سقط الفرض صار الماء مستعملا عنده
فيتنجس الماء، والرجل باق على جنابته لبقاء الحدث في بقية الأعضاء، وقيل عنده نجاسة
الرجل بنجاسة الماء المستعمل، وصحح في شروح الهداية أنه نجس بالجنابة عنده. وفائدة
الخلاف تظهر في تلاوة القرآن ودخول المسجد إذا تمضمض واستنشق. وفي فتاوى قاضيخان
أن الأظهر أنه يخرج من الجنابة ثم يتنجس بالماء النجس حتى لو تمضمض واستنشق حل له
قراءة القرآن ا ه‍. ووجه قول أبي يوسف أن الصب شرط لاسقاط الفرض عنده في غير الماء
الجاري وما هو في حكمه ولم يوجد فكان الرجل جنبا بحاله فإذا لم يسقط الفرض ولم يوجد
رفع الحدث ولا نية القربة لا يصير الماء مستعملا فكان بحاله. ووجه قول محمد على ما هو
الصحيح عنه أن الصب ليس بشرط عنده فكان الرجل طاهرا ولا يصير الماء مستعملا وإن
أزيل به حدث للضرورة، وإما على ما خرجه أبو بكر الرازي فإنه لا يصير الماء مستعملا عنده
175

لفقد نية القربة وهي شرط عنده في صيرورته مستعملا، وهذه المسألة أخذ منها أبو بكر
الرازي الاختلاف في سبب استعمال الماء بين الأصحاب، وقد تقدم أن أخذه منها غير لازم
كما ذكره شمس الأئمة. وقال الخبازي في حاشية الهداية قال القدوري رحمه الله: كان شيخنا
أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب
استعمال الماء ولا معنى لهذا الخلاف إذ لا نص فيه. وإنما لم يأخذ حكم الاستعمال في
مسألة طلب الدلو لمكان الضرورة إذا لحاجة إلى الانغماس في البئر لطلب الدلو مما يتكرر،
فلو احتاجوا إلى الغسل عند نزح ماء البئر كل مرة لحرجوا حرجا عظيما وصار كالمحدث إذا
اغترف الماء بكفه لا يصير مستعملا بلا خلاف وإن وجد إسقاط الفرض لمكان الضرورة
بخلاف ما إذا أدخل غير اليد فيه صار الماء مستعملا ا ه‍. وعن أبي حنيفة أن الرجل طاهر
لأن الماء لا يعطي له حكم الاستعمال قبل الانفصال من العضو. وقال الزيلعي والهندي
وغيرهما تبعا لصاحب الهداية: وهذه الرواية أوفق الروايات أي للقياس، وفي فتح القدير
وشرح المجمع أنها الرواية المصححة ا ه‍. وتعليلهم هذا يفيد أنه لو تمضمض واستنشق داخل
البئر قبل انفصاله لا يخرج عن الجنابة لصيرورة الماء مستعملا قبل الانفصال، وقد صرح به
في السراج الوهاج فعلم بما قررناه أن المذهب المختار في هذه المسألة أن الرجل طاهر والماء
طاهر غير طهور. أما كون الرجل طاهرا على الصحيح فقد علمته. وأما كون الماء مستعملا
كذلك على الصحيح فقد علمته أيضا مما قدمناه
176

قيدنا أصل المسألة بالجنب لأن الطاهر إذا انغمس لطلب الدلو ولم يكن قدمناه على أعضائه
نجاسة لا يصير الماء مستعملا اتفاقا لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة، وإن انغمس للاغتسال
صار مستعملا اتفاقا لوجود إقامة القربة وحكم الحدث حكم الجنابة ذكره في البدائع، وكذا
حكم الحائض والنفساء إذا نزلا بعد الانقطاع، أما قبل الانقطاع وليس على أعضائهما نجاسة
فإنهما كالطاهر إذا انغمس للتبرد لأنها لا تخرج من الحيض بهذا الوقوع فلا يصير الماء
مستعملا. كذا في فتاوى قاضيخان والخلاصة. وقيدنا بكونه انغمس لطلب الدلو أو للتبرد
لأنه لو انغمس بقصد الاغتسال للصلاة قالوا صار الماء مستعملا اتفاقا لوجود إزالة الحدث
ونية القربة لكن ينبغي أن لا يزول حدثه عند أبي يوسف لما نقلوه عنه أن الصب شرط عنده
في غير الماء الجاري وما هو في حكمه لاسقاط الفرض ولم أر من صرح بهذا، وقد علمت
فيما قدمناه في الكلام على ماء الفساقي أن قولهم بأن ماء البئر يصير مستعملا عند الكل مبني
على قول ضعيف عن محمد، والصحيح من مذهب محمد أن ماء البئر لا يصير مستعملا مطلقا
لأن المستعمل هو ما تساقط عن الأعضاء وهو مغلوب بالنسبة إلى الماء الذي لم يستعمله
فاحفظ هذا وكن على ذكر منه ينفعك إن شاء الله تعالى. ثم رأيت بعد هذا العلامة ابن أمير
حاج في شرح منية المصلي صرح بما ذكرته وقال: الماء المستعمل هو الماء الذي لاقى الرجل
الذي زال حدثه فيجب نزح جميع الماء على رواية نجاسة الماء المستعمل ولا يجب نزح شئ
منها على رواية طهارته بل هو باق على طهوريته، وقد عرفت أن رواية الطهارة هي المختارة
ا ه‍. فعلى هذا قولهم صار الماء مستعملا معناه صار الماء الملاقي للبدن مستعملا لا أن جميع
ماء البئر صار مستعملا. وقيدنا بقولنا ليس على أعضائه نجاسة حقيقية لأنه لو كان كذلك
177

لتنجس الماء اتفاقا، وقيد المسألة في المحيط بقوله لم يتدلك فيه ولم يبين مفهومه، وكذا في
الخلاصة. والظاهر منه أنه إذا أنزل للدلو وتدلك في الماء صار الماء مستعملا اتفاقا لأن الدلك
فعل منه قائم مقام نية الاغتسال فصار كما لو نزل للاغتسال. وقيد المسألة بعضهم بأن لا
يكون استنجى بالأحجار، فمفهومه أنه لو كان مستنجيا بالأحجار تنجس الماء اتفاقا لكن هذا
يبتنى على أن الحجر في الاستنجاء مخفف لا مطهر وفيه خلاف ذكره في التنجيس وذكر أن
المختار أنه مخفف لا مطهر وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه فإن قلت: لم قال أبو
يوسف بأن الصب شرط في العضو لا في الثوب؟ وما الفرق بينهما؟ قلت: روي عن أبي
يوسف روايتان: في رواية أن الصب شرط فيهما ووجهه أن القياس يأبى التطهير بالغسل لأن
الماء يتنجس بأول الملاقاة، وإنما حكمنا بالطهارة ضرورة أن الشرع كلفنا بالتطهير والتكليف
يعتمد القدرة وسمي الماء طهورا وذلك يقتضي حصول الطهارة به والضرورة تندفع بطريق
الصب فلا ضرورة إلى طريق آخر مع أن الماء حال الصب بمنزلة ماء جار، وفي غير حالة
الصب راكد والراكد أضعف من الجاري. وفي رواية أن الصب شرط في العضو لا في
الثوب وهو المشهور عنه، ووجهه أن غسل الثياب بطريق الصب لا يتحقق إلا بكلفة ومشقة
لأنها تغسلها النساء عادة وكل امرأة لا تجد خادما يصب الماء عليها ولا ماء جاريا، وأما غسل
البدن يتحقق بطريق الصب من غير كلفة. كذا في النهاية.
وقال القاضي الأسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي: جنب اغتسل في بئر ثم في بئر إلى العشرة
قال أبو يوسف: تنجس الآبار كلها. وقال محمد: يخرج من الثالثة طاهرا ثم ينظر إن كان على
بدنه عين نجاسة تنجست المياه كلها، وإن لم يكن عين نجاسة صارت المياه كلها مستعملة، ثم
بعد الثالثة أن وجدت منه النية يصير مستعملا، وإن لم توجد منه النية لا يصير مستعملا عنده.
ولو أنه غسل الثوب النجس في إجانة وعصره ثم في إجانة إلى العشرة فإن الثوب يخرج من
الثالثة طاهرا والمياه الثلاثة نجسة في قولهم جميعا، وأبو يوسف فرق بين الثوب والبدن فقال:
لأن في الثوب ضرورة ولا ضرورة في البدن ا ه‍. ولا يخفى أن مقتضى مذهب أبي يوسف من
اشتراط الصب أن لا تتنجس المياه كلها عنده لما أن الحدث لم يزل ونية الاغتسال وإن وجدت
لكن لا اعتبار بها إذا لم يصح الغسل عنده، وقد علمت فيما قدمناه عند الكلام على ماء الفساقي
أن ما ذكره الأسبيجابي وغيره من كون ماء الآبار يصير مستعملا عند محمد مبني على القول
الضعيف لا على الصحيح فارجع إليه تجد لك فرجا كبيرا إن شاء الله تعالى. وقد ظهر لي أن
قولهم بنجاسة ماء الآبار عند أبي يوسف وقولهم بنجاسة ماء البئر إذا نزل للاغتسال عنده مفرع
على رواية عن أبي يوسف أن من نزل في البئر وهو جنب كان الماء نجسا والرجل نجس، وقد
ذكر هذه الرواية الأسبيجابي وذكر هذه الفروع بعدها فالظاهر أنها مفرعة عليها لا على القول
المشهور عنه أن الرجل بحاله والماء بحاله والله الهادي للصواب.
178

قوله: (وكل إهاب دبغ فقد طهر) لما كان يتعلق بدباغ الإهاب ثلاث مسائل طهارته
وهي تتعلق بكتاب الصيد، والصلاة فيه وهي تتعلق بكتاب الصلاة، والوضوء منه بأن يجعل
قربة وهي تتعلق بالمياه، ذكر في بحث المياه لإفادة جواز الوضوء منه بطريق الاستطراد فاندفع
بهذا ما قيل إن هذا الموضع ليس لبيان هذه المسألة. والإهاب الجلد غير المدبوغ والجمع أهب
بضمتين وبفتحتين اسم له، وأما الأديم فهو الجلد المدبوغ وجمعه أدم بفتحتين. كذا في
المغرب. وكذا يسمى صرما وجرابا كذا في النهاية. وقوله كل إهاب يتناول كل جلد يحتمل
الدباغة لا ما لا يحتمله فلا حاجة إلى استثنائه وبه يندفع ما ذكره الهندي أنه كان ينبغي استثناء
جلد الحية فلا يطهر جلد الحية والفأرة به كاللحم، وكذا لا يطهر بالذكاة لأن الذكاة إنما تقام
مقام الدباغ فيما يحتمله. كذا في التنجيس. وفيه: إذا أصلح أمعاء شاة ميتة فصلى وهي معه
جازت صلاته لأنه يتخذ منها الأوتار وهو كالدباغ، وكذلك العقب والعصب كذا لو دبغ
المثانة فجعل فيها لبن جاز ولا يفسد اللبن، وكذلك الكرش إن كان يقدر على اصلاحه.
وقال أبو يوسف في الاملاء: إن الكرش لا يطهر لأنه كاللحم ا ه‍. وأما قميص الحية فهو
طاهر كذا في السراج الوهاج. ثم الدباغ هو ما يمنع عود الفساد إلى الجلد عند حصول الماء
فيه. والدباغ على ضربين حقيقي وحكمي، فالحقيقي هو أن يدبغ بشئ له قيمة كالشب
والقرظ والعفص وقشور الرمان ولحي الشجر والملح وما أشبه ذلك، وضبط بعضهم الشب
بالباء الموحدة. وذكر الأزهري أن غيره تصحيف، وضبطه بعضهم بالثاء المثلثة وهو نبت
طيب الرائحة مر الطعم يدبغ به، ذكره الأزهري في الصحاح، وبأيهما كان فالدباغ به جائز.
وأما القرظ فهو بالظاء لا بالضاد ورق شجر السلم بفتح السين واللام ومنه أديم مقروظ أي
مدبوغ بالقرظ. قالوا: والقرظ نبت بنواحي تهامة كذا ذكره النووي في شرح المهذب. وإنما
نبهنا عليه لأنه يوجد مصحفا في كثير من كتب الفقه يقرأ بالضاد. والحكمي أن يدبغ
بالتشميس والترتيب والالقاء في الريح لا بمجرد التجفيف، والنوعان مستويان في سائر الأحكام
إلا في حكم واحد وهو أنه لو أصابه الماء بعد الدباغ الحقيقي لا يعود نجسا باتفاق
الروايات، وبعد الحكمي فيه روايتان وسنتكلم على المختارة مع نظائرها إن شاء الله تعالى.
قوله: (إلا جلد الخنزير والآدمي) يعني كل إهاب دبغ جاز استعماله شرعا إلا جلد
الخنزير لنجاسة عينه وجلد الآدمي لكرامته، وبهذا التقرير اندفع ما قيل إن الاستثناء من
الطهارة وهذا في جلد الخنزير مسلم فإنه لا يطهر بالدباغ، وأما جلد الآدمي فقد ذكر في
الغاية أنه إذا دبغ طهر ولكن لا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه فكيف يصح هذا الاستثناء؟
179

وقيل جلد الخنزير والآدمي لا يقبلان الدباغ لأن لهما جلودا مترادفة بعضها فوق بعض،
وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا كما لا يخفى، وإنما استثنى الجلد ولم يستثن الإهاب مع
كونه مناسبا للمستثنى منه وهو قوله كل إهاب دبغ لما أن الإهاب هو الجلد قبل أن يدبغ
فكان مهيأ للدباغ. يقال تأهب لكذا إذا تهيأ له واستعد وجلد الخنزير والآدمي لا يتهيآن للدبغ
فلذا استثنى بلفظ الجلد دون الإهاب. وإنما قدم الخنزير على الآدمي في الذكر لأن الموضع
موضع إهانة لكونه في بيان النجاسة وتأخير الآدمي في ذلك أكمل. فحاصله أن في المشايخ
من قال إنما لا يطهر جلد الخنزير بالدباغ لأنه لا يندبغ لأن شعره ينبت من لحمه ولو تصور
دبغه لطهر، وقال بعضهم: لا يطهر وإن اندبغ لأنه محرم العين كذا في معراج الدراية. وفي
180

المبسوط: روي عن أبي يوسف أنه يطهر بالدباغ وفي ظاهر الرواية لا يطهر، إما لأنه لا
يحتمل الدباغ أو لأن عينه نجس ا ه‍. وأما الآدمي فقد قال بعضهم: إن جلده لا يحتمل
الدباغة حتى لو قبلها طهر لأنه ليس بنجس العين لكن لا يجوز الانتفاع به، ولا يجوز دبغه
احتراما له وعليه إجماع المسلمين كما نقله ابن جزم. وقال بعضهم: إن جلده لا يطهر بالدباغة
أصلا احتراما له، فالقول بعدم طهارة جلده تعظيم له حتى لا يتجرأ أحد على سلخه ودبغه
واستعماله. ويدخل في عموم قوله كل إهاب جلد الفيل فيطهر بالدباغ خلافا لمحمد في
قوله إن الفيل نجس العين، وعندهما هو كسائر السباع. قال في المبسوط: من باب الحدث
وهو الأصح فقد جاء في حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة سوارين من عاج فظهر
استعمال الناس العاج من غير نكير فدل على طهارته ا ه‍. وأخرج البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان
يتمشط بمشط من عاج. قال الجوهري: العاج عظم الفيل. قال العلامة في فتح القدير: هذا
الحديث يبطل قول محمد بنجاسة عين الفيل وسيأتي تمامه في عظم الميتات إن شاء الله تعالى.
ويدخل أيضا في عموم قوله كل إهاب جلد الكلب فيطهر بالدباغ بناء على أنه ليس بنجس
العين. وقد اختلفت روايات المبسوط فيه فذكر في بيان سؤره أن الصحيح من المذهب عندنا
أن عين الكلب نجس، إليه يشير محمد في الكتاب بقوله: وليس الميت بأنجس من الكلب
والخنزير. ثم قال: وبعض مشايخنا يقولون عينة ليس بنجس ويستدلون عليه بطهارة جلده
181

بالدباغ. وقال في باب الحدث: وجلد الكلب يطهر عندنا بالدباغ خلافا للحسن والشافعي
لأن عينه نجس عندهما ولكننا نقول: الانتفاع به مباح الاختيار فلو كان عينه نجسة لما أبيح
الانتفاع به، وهذا صريح في مخالفة الأول. وذكر أيضا في كتاب الصيد في مسألة بيع الكلب
في التعليل قال: وبهذا يتبين أنه ليس بنجس العين. وذكر في الايضاح اختلاف الرواية فيه.
وفي مبسوط شيخ الاسلام: وأما جلد الكلب فعن أصحابنا فيه روايتان في رواية يطهر بالدبغ
وفي رواية لا يطهر وهو الظاهر من المذهب.
وذكر في البدائع أن فيه اختلاف المشايخ فمن قال إنه نجس العين جعله كالخنزير، ومن
جعله طاهر العين جعله مثل سائر الحيوانات سوى الخنزير، والصحيح أنه ليس بنجس العين
وكذا صححه في موضع آخر وقال: إنه أقرب القولين إلى الصواب ولذلك قال مشايخنا فيمن
صلى وفي كمه جرو إنه تجوز صلاته. وقيد الفقيه أبو جعفر الهندواني الجواز بكونه مشدود
الفم ا ه‍. ولذا صحح في الهداية طهارة عينه وتبعه شارحوها كالأتقاني والكاكي والسغناقي،
واختار قاضيخان في الفتاوى نجاسة عينه وفرع عليها فروعا. فالحاصل أنه قد اختلف
التصحيح فيه والذي يقتضيه عموم ما في المتون كالقدوري والمختار والكنز طهارة عينه ولم
يعارضه ما يوجب نجاستها فوجب أحقية تصحيح عدم نجاستها، ألا ترى أنه ينتفع به
حراسة واصطيادا. وقد صرح في عقد الفوائد شرح منظومة ابن وهبان بأن الفتوى على
طهارة عينه، وأما ما استدل به في المبسوط من قول محمد وليس الميت بأنجس من الكلب
والخنزير فقد قال في غاية البيان: لا نسلم أن نجاسة العين تثبت في الكلب بهذا القدر من
الكلام، فمن ادعى ذلك فعليه البيان ولم يرد نص عن محمد في نجاسة العين، وما أورده من
أنه لا يلزم من الانتفاع به طهارة عينه فإن السرقين ينتفع به إيقادا وتقوية للزراعة مع نجاسة
عينه. أجاب عنه في النهاية وغيرها بأن هذا الانتفاع بالاستهلاك وهو جائز في نجس العين
كالاقتراب من الخمر للإراقة. وقال في القنية رامزا لمجد الأئمة: وقد اختلف في نجاسة
الكلب والذي صح عندي من الروايات في النوادر والآمالي نجس العين عندهما، وعند أبي
حنيفة ليس بنجس العين ا ه‍. ومشى عليه ابن وهبان في منظومته وذكره في عقد الفوائد
شرحها، وذكر الناطفي عن محمد إذا صلى على جلد كلب أو ذئب قد ذبح جازت صلاته،
ولا يخفى أن هذه الرواية تفيد طهارة عينه عند محمد فيجوز أن يكون عن محمد روايتان ا ه‍.
وقال القاضي الأسبيجابي: وإما الكلب يحتمل الذكاة والدباغة في ظاهر الرواية خلافا لما روى
182

الحسن ا ه‍. فإذا علمت هذا فاعلم أن الجلد لا يطهر بالدباغ على القول بنجاسته ويطهر به على
القول بطهارته، وإذا وقع في بئر واستخرج حيا تنجس الماء كله مطلقا على القول بنجاسته كما
لو وقع الخنزير، وعلى القول بطهارته لا يتنجس إلا إذا وصل فمه الماء وإذا ذكي لا يطهر جلده
ولا لحمه على القول بالنجاسة كالخنزير، ويطهر على القول بالطهارة. وإذا صلى وهو حامل
جروا صغيرا لا تصح صلاته على القول بنجاسته مطلقا وتصح على القول بطهارته. وإما مطلقا
أو بكونه مشدود الفم كما قدمناه عن البدائع. وتقييده بكونه جروا صغيرا يظهر أن في الكبير لا
تصح مطلقا لما أنه وإن لم يكن نجس العين فهو متنجس لأن مأواه النجاسات. وقد يقال ينبغي
أن لا تصح صلاة من حمل جروا صغيرا اتفاقا، أما على القول بنجاسة عينه فظاهر، وأما على
القول بطهارة عينه فلان لحمة نجس بدليل أنهم اتفقوا على أن سؤره نجس لما أنه مختلط بلعابه
ولعابه متولد من لحمه وهو نجس ولهذا قال في التنجيس: نجاسة السؤر دليل نجاسة اللحم.
وقال العلامة في فتح القدير: نجاسة سؤره لا تستلزم نجاسة عينه بل تستلزم نجاسة لحمه
المتولد منه اللعاب ا ه‍. وسبب نجاسة لحمه اختلاط الدم المسفوح بأجزائه حالة الحياة مع حرمة
أكله كما سنوضحه في بيان الأسئار إن شاء الله تعالى.
وبهذا التقرير يندفع ما قد يتوهم إشكالا وهو أن يقال كيف يكون سؤره نجسا على
القول بطهارة عينه؟ فإن هذه غفلة عظيمة عن فهم كلامهم فإن قولهم بطهارة عينه لا يستلزم
طهارة كل جزء منه، ولهذا علل في البدائع لنجاسة سؤر الكلب وسائر السباع بأن سؤر هذه
الحيوانات متحلب من لحومها ولحومها نجسة وقد قالوا: إن حرمة الشئ إذا لم تكن للكرامة
كحرمة الآدمي ولا لفساد الغذاء كالذباب والتراب، ولا للخبث طبعا كالضفدع والسلحفاة،
ولا للمجاورة كالماء النجس، كانت علامة النجاسة أي نجاسة اللحم فثبت بهذا أنه لا خلاف
في نجاسة لحمه عندنا، وإنما الخلاف في نجاسة عينه، فظهر بهذا أن الكلب طاهر العين
بمعنى طهارة عظمه وشعره وعصبه وما لا يؤكل منه لا بمعنى طهارة لحمه، لكن قد أجاب
في المحيط قال: وإن كان فمه مشدودا بحيث لا يصل لعابه إلى ثوبه جاز لأن ظاهر كل
حيوان طاهر ولا يتنجس إلا بالموت ونجاسة باطنه في معدنه فلا يظهر حكمها كنجاسة باطن
المصلي. وفي شرح منية المصلي: لا يخفى أن هذا على القول بطهارة عينه، وأما على القول بأنه
نجس العين فلا لظهور أن الصلاة لا تصح لحامله مطلقا كما في حق حامل الخنزير. وإذا
دخل الماء فانتقض فأصاب ثوب إنسان أفسده ولو أصابه ماء المطر لم يفسد لأن في الوجه
الأول الماء أصاب الجلد وجلده نجس، وفي الوجه الثاني أصاب شعره وشعره طاهر. كذا
ذكر الولوالجي وغيره. ولا يخفى أن هذا على القول بنجاسة عينه يستفاد منه أن الشعر طاهر
183

على القول بنجاسة عينه لما ذكر في السراج الوهاج أن جلد الكلب نجس وشعره طاهر هو
المختار ويتفرع عليه ذكر الفرع الذي ذكرناه، أما على القول بالطهارة إذا انتفض فأصاب ثوبا لا
ينجسه مطلقا، سواء أصاب شعره أو جلده ويدل عليه أن صاحب البدائع ذكر هذا الفرع شاهدا
للقول بنجاسة عينه فقال: من جعله نجس العين استدل بما ذكر في العيون عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى أن الكلب إذا وقع في الماء ثم خرج منه إلى آخر ما ذكرناه من التفصيل عن
الولوالجي. ويدل عليه أيضا أن صاحب التنجيس ذكر هذا الذي ذكرناه مع التفصيل من جملة
مسائل ثم قال بعدها: وهذا المسائل تشير إلى نجاسة عينه. ويدل عليه أيضا ما ذكره في فتح
القدير في آخر باب الأنجاس من مسائل شتى بما لفظه: وما ذكره في الفتاوى من التنجيس من
وضع رجله موضع رجل كلب في الثلج أو الطين ونظائر هذه مبني على رواية نجاسة عين
الكلب وليست بالمختارة ا ه‍. فقوله ونظائر هذه أراد به مثل المسألة التي ذكرناها عن
الولوالجي كما لا يخفى، لكن ذكر قاضيخان في فتاواه أن هذه المسألة مفرعة على القول بنجاسة
عينه وعلل للنجاسة في مسألة ما إذا أصاب الماء جلده بتعليل آخر وهو أن مأواه النجاسات،
فاستفيد منه أن الماء أصاب جلده وانتفض فأصاب الثوب نجسه أيضا على القول بطهارة عينه
لأنه لما كان مأواه النجاسات صار جلده متنجسا. وعلم مما قررناه أنه لا يدخل في قول من قال
بنجاسة عين الكلب الشعر بخلاف قولهم بنجاسة عين الخنزير فإنه يدخل فيه شعره أيضا، فإذا
انتفض الخنزير فأصاب ثوبا نجسه مطلقا سواء أصاب الماء جلده أو شعره كما صرح به في
السراج الوهاج. وقال الولوالجي أيضا: الكلب إذا أخذ عضو إنسان أو ثوبه إن أخذ في حالة
الغضب لا يتنجس لأنه يأخذه بالأسنان ولا رطوبة فيها، وإن أخذه في حالة المزاج لتنجس لأنه
يأخذه الأسنان والشفتين وشفتاه رطبة فيتنجس ا ه‍. وكذا ذكر غيره. في القنية رامز اللوبري:
عضه الكلب ولا يرى بللا لا بأس به يعني لا يجب غسله، ولا يخفى أن ما في القنية إنما ينظر
إلى وجود المقتضى للنجاسة وهو الريق، سواء كان ملاعبا أو غضبانا وهو الفقه. وقد صرح في
الملتقط بأنه لا يتنجس ما لم ير البلل، سواء كان راضيا أو غضبانا. وفي الصيرفية هو المختار،
وكذا في التتارخانية وواقعات الناطفي وغيرهما كذا في عقد الفوائد.
وفي خزانة الفتاوى: وعلامة الابتلال أن لو أخذه بيده تبتل يده. ولا يخفى أن هذه
المسألة على القولين، أما على القول بالنجاسة فظاهر، وأما على القول بطهارة عينه فلان لعابه
نجس لتولده من لحم نجس كما قدمناه. وفي التنجيس: امرأة صلت وفي عنقها قلادة فيها
184

سن كلب أو أسد أو ثعلب فصلاتها تامة لأنه يقع عليها الذكاة، وكل ما يقع عليه الذكاة
فعظمه لا يكون نجسا بخلاف الآدمي والخنزير ا ه‍. وكذا ذكر الولوالجي. وذكر في السراج
الوهاج معزيا إلى الذخيرة أسنان الكلب طاهرة وأسنان الآدمي نجسة لأن الكلب يقع عليه
الذكاة بخلاف الخنزير والآدمي ا ه‍. ولا يخفى أن هذا كله على القول بطهارة عينه لأنه علله
بكونه يطهر بالذكاة، وأما على القول بنجاسة عينه فلا تعمل فيه الذكاة فتكون أسنانه نجسة
كالخنزير، وسيأتي الكلام على أسنان الآدمي إن شاء الله تعالى قريبا. وأما إذا أكل من شئ
يغسل ثلاثا ويؤكل كذا في المبتغى بالغين المعجمة، وينبغي أن يكون هذا بالاتفاق كما لا
يخفى، ولا يقال ينبغي أن يطهر بالجفاف قياسا على الكلأ إذا تنجس فإنه يطهر به كما في
الخلاصة والخانية لأنا نقول: الطهارة في الكلأ بالجفاف حصلت استحسانا بالأثر لكونه في
معنى الأرض لاتصاله بها، وما نحن فيه ليس كذلك. وأما بيعه وتمليكه فهو جائز هكذا
انقلوا وأطلقوا لكن ينبغي أن يكون هذا على القول بطهارة عينه، أما على القول بالنجاسة فهو
كالخنزير فبيعه باطل في حق المسلمين كالخنزير لكن المنقول في فتاوى قاضيخان من البيوع أن
بيع الكلب المعلم جائز، فمفهومه أن غير المعلم لا يجوز بيعه. وفي التنجيس: من باب ما
يجوز بيعه وما لا يجوز رجل ذبح كلبه ثم باع لحمه جاز لأن اللحم طاهر بخلاف ما لو ذبح
خنزير ثم باعه ا ه‍. فالظاهر منهما أن هذا الحكم على القول بطهارة عينه. وذكر السراج
الهندي في شرح الهداية معزيا إلى التجريد أن الكلب لو أتلفه إنسان ضمنه ويجوز بيعه
وتمليكه. في عمدة المفتي: لو استأجر الكلب يجوز والسنور لا يجوز لأن السنور لا يعلم.
ونقل عن التجريد: لو استأجر كلبا معلما أو بازيا ليصيد بهما فلا أجرة له - قال - لعله لفقد
العرف والحاجة إليه ا ه‍. وهذا ما تيسر التكلم عليه في المسائل المتعلقة بالكلب، وهذا البيان
إن شاء الله تعالى من خواص هذا الكتاب.
ثم اعلم أن في قول المصنف في أصل المسألة دبغ إشارة إلى أنه يستوي أن يكون
الدابغ مسلما أو كافرا أو صبيا أو مجنونا أو امرأة إذا حصل به مقصود الدباغ، فإن دبغه
الكافر وغلب على الظن أنهم يدبغون بالسمن النجس فإنه يغسل. كذا في السراج الوهاج
وفيه مسألة جلد الميتة بعد الدباغ هل يجوز أكله إذا كان جلد حيوان مأكول اللحم قال
بعضهم: نعم لأنه طاهر كجلد الشاة المذكاة. وقال بعضهم: لا يجوز أكله وهو الصحيح
لقوله تعالى * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة: 3) وهذا جزء منها. وقال عليه السلام في شاة
ميمونة رضي الله تعالى عنها: إنما يحرم من الميتة أكلها مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع. وأما
185

إذا كان جلد ما لا يؤكل كالحمار فإنه لا يجوز أكله إجماعا لأن الدباغ فيه ليس بأقوى من
الذكاة وذكاته لا تبيحه فكذا دباغه ا ه‍. وهذا الذي قدمناه في جلود الميتات كله مذهبنا
وللعلماء فيه سبعة مذاهب ذكرها الإمام النووي في شرح المهذب فنقتصر منها على ما اشتهر
من المذاهب، منها ما ذهب إليه الشافعي أن كل حيوان ينجس بالموت طهر جلده بالدباغ ما
عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يدخل الآدمي في هذا العموم عنده
لأن الصحيح عنده أن الآدمي لا ينجس بالموت فجلده طاهر من غير دبغ لكن لا يجوز
استعماله لحرمته وتكريمه. ومنها ما ذهب إليه أحمد أنه لا يطهر بالدباغ شئ وهو رواية عن
مالك. ومنها ما ذهب إليه مالك أنه يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره
دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب. وجه قول أحمد قوله تعالى * (حرمت عليكم
الميتة) * (المائدة: 3) وهو عام في الجلد وغيره، وحديث عبد الله بن حكيم قال: أتانا كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. رواه أبو داود
والترمذي والنسائي وغيرهم. قال الترمذي حديث حسن. ووجه قول مالك أن الدباغ إنما
يؤثر في الظاهر دون الباطن. ووجه قول الشافعي ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم من رواية ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إيما إهاب دبغ فقد طهر وفي صحيح
مسلم إذا دبغ الإهاب فقد طهر وهو حديث حسن صحيح. وما رواه البخاري ومسلم في
صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميتة هلا أخذتم إهابها
فدبغتموه فانتفعتم به قالوا: يا رسول الله أنها ميتة قال: إنما حرم أكلها. وفي الباب
أحاديث أخر ذكرها النووي في شرح المهذب. وإنما خرج الكلب والخنزير لأن الحياة أقوى
من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة والدباغ إنما يطهر الجلد، فإذا كانت الحياة لا
تطهرهما فالدباغ أولى. ولنا ما ذكرناه من الأحاديث في دليل الشافعي وهو كما تراه عام
فإخراج الخنزير منه لمعارضة الكتاب إياه وهو قوله تعالى * (أو لحم خنزير فإنه
رجس) * (الانعام: 145) بناء على عود الضمير إلى المضاف إليه لأنه صالح لعوده، وعند
صلاحية كل من المتضايفين لذلك يجوز كل من الامرين. وقد جوز عود ضمير ميثاقه في
قوله تعالي * (ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * (البقرة: 27) إلى كل من العهد ولفظ الجلالة،
وتعين عودة إلى المضاف إليه في قوله تعالى * واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه
تعبدون) * (النحل: 114) ضرورة صحة الكلام وإلى المضاف في قولك رأيت ابن زيد
فكلمته لأنه المحدث عنه بالرؤية رتب على الحديث الأول عنه الحديث الثاني فتعين هو مرادا
186

به وإلا اختل النظم. فإذا جاز كل منهما لغة والموضع موضع احتياط وجب إعادته على ما فيه
الاحتياط وهو بما قلنا. كذا قرره العلامة في فتح القدير أخذا من النهاية ومعراج الدراية.
وفي غاية البيان: ومما ظهر لي في فؤادي من الأنوار الربانية والأجوبة الالهامية أن الهاء لا
يجوز أن ترجع إلى اللحم لأن قوله فإنه رجس خرج في مقام التعليل، فلو رجع إليه لكان
تعليل الشئ بنفسه فهو فاسد لكونه مصادرة، وهذا لأن نجاسة لحمه عرفت من قوله أو
لحم خنزير لأن حرمة الشئ مع صلاحيته للغذاء لا للكرامة آية النجاسة فحينئذ يكون معناه
كأنه قال لحم خنزير نجس فإن لحمه نجس. أما إذا رجع الضمير إلى الخنزير فلا فساد لأنه
حينئذ يكون حاصل الكلام لحم خنزير نجس لأن الخنزير نجس يعني أن هذا الجزء من
الخنزير نجس لأن كله نجس. هذا هو التحقيق في الباب لأولي الألباب ا ه‍. وتعقبه شارح
متأخر بأنه عند التأمل بمعزل عن الصواب، وكيف لا والجري على هذا المنوال مما يسد باب
التعليل بالأوصاف المناسبة للأحكام، ولا شك أنه لا يلزم من كون الشئ علامة على شئ
أن لا يصح التصريح بكون الشئ الثاني علة للشئ الأول بجعل الشارع لما فيه من الوصف
المناسب لذلك بل ذلك يصحح التصريح بكونه علة ولا يلزم منه تعليل الشئ بنفسه قطعا،
ولنوضحه فيما نحن بصدده فنقول:
قوله أنه رجس تعليل للتحريم وكون التحريم لا للتكريم علامة على نجاسة المحرم
كما هنا يصحح التصريح بكونه نجسا علة لتحريمه لا أنه يمنع منه، وليس فيه تعليل النجاسة
بالنجاسة بل تعليل التحريم الكائن لا للتكريم بوصف مناسب له قائم بالعين المحرمة وهو
القذارة حثا على مكارم الأخلاق والتزام المروءة بمجانبة الأقذار والنزاهة ونظيره قوله تعالى
* (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف أنه كان فاحشة ومقتا وساء
سبيلا) * (النساء: 22) فقوله إنه كان فاحشة ومقتا تعليل لتحريم نكاح منكوحات الآباء مع
أن تحريم نكاحهن علامة على قبحه وكونه ممقوتا عند الله تعالى فلم يمنع ذلك من التصريح به
علة له ا ه‍. وهو كما ترى في غاية الحسن، والتحقيق. وأما الجواب عن احتجاج أحمد، أما
على الآية فهو أنها عامة خصتها السنة كذا أجاب النووي عنها في شرح المهذب. وأما عن
حديث عبد الله بن عكيم فالاضطراب في متنه وسنده يمنع تقديمه على حديث ابن عباس
رضي الله عنهما فإن الناسخ أي معارض فلا بد من مشاكلته في القوة ولذا قال به أحمد
وقال: هو آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه للاضطراب فيه. أما في السند فروى
عبد الرحمن عن ابن عكيم كما قدمنا وروى أبو داود من جهة خالد الحذاء عن الحكم بن عتبة
187

- بالتاء فوق - عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وناس إلى عبد الله بن عكيم قال: فدخلوا
ووقفت على الباب فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم أنه عليه السلام كتب
إلى جهينة الحديث. ففي هذا أنه سمع من الداخلين وهم مجهولون، وأما في المتن ففي رواية
بشهر، وفي أخرى بأربعين يوما، وفي أخرى بثلاثة أيام، هذا مع الاختلاف في صحبة ابن
عكيم. ثم كيف كان لا يوازي حديث ابن عباس الصحيح في جهة من جهات الترجيح؟ ثم
لو كان لم يكن قطعيا في معارضته لأن الإهاب اسم لغير المدبوغ وبعده يسمى شنا وأديما وما
رواه الطبراني في الأوسط من لفظ هذا الحديث هكذا كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا
تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب في سنده فضالة بن مفضل مضعف. والحق أن حديث
ابن عكيم ظاهر في النسخ لولا الاضطراب المذكور فإن من المعلوم أن أحدا لا ينتفع بجلد
الميتة قبل الدباغ لأنه حينئذ مستقذر فلا يتعلق النهي به ظاهرا. كذا في فتح القدير وفيه كلام
من وجوه: الأول أنه ذكر أن الترمذي حسنه وقد قدمناه أيضا والحسن لا اضطراب فيه.
الثاني أن قوله مع الاختلاف في صحبة ابن عكيم لا يقدح في حجيته لأنه على تقدير كونه
ليس صحابيا يكون الحديث مرسلا وأنتم تعملون به. الثالث أن قوله الحق أن حديث ابن
عكيم ظاهر في النسخ الخ أخذا من قول الحازمي كما نقله الزيلعي المخرج عنه أنه قال:
وطريق الانصاف أن حديث بن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ ولكنه كثير الاضطراب غير
مسلم لأن أخبارنا مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون المدة المذكورة في
حديث ابن عكيم على الاختلاف فيها، وبهذا صرح النووي في شرح المهذب. ويمكن
الجواب عن الأول بما ذكره النووي أن الترمذي إنما حسنه بناء على اجتهاده وقد بين هو
وغيره وجه ضعفه، وعن الثاني بأن هذا أعني كونه مرسلا صالح لأن يجاب به على مذهب
من يرى العمل بالمرسل لا أنه جواب عن حديث ابن عكيم على مقتضى مذهبنا. وأما
الجواب عن احتجاج مالك فهو مخالف للنصوص الصحيحة التي قدمناها فإنها عامة في طهارة
الظاهر والباطن، وأصرح من ذلك ما رواه البخاري من حديث سودة قالت: ماتت لنا شاة
فدبغنا مسكها وهو جلدها فما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا وهو حديث صحيح فإنه استعمل
في مائع وهم لا يجيزونه وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه لأن الماء لا يتنجس عندهم إلا
بالتغير.
وأما الجواب عن احتجاج الشافعي، إن قلنا بأن الكلب ليس بنجس العين وأن جلده
يطهر بالدباغ فهو عموم الأحاديث الصحيحة المتقدمة فإنه يدخل في عمومها الكلب لأن
أي في الحديث نكرة وصفت بصفة عامة فتعم كما عرف في الأصول، وأما الخنزير فإنما
خرج عن العموم لعارض ذكرناه، ولقد أنصف النووي حيث قال في شرح المهذب: واحتج
أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها فتركتها لأني التزمت في خطبة الكتاب الاعراض عن الدلائل
188

الواهية ا ه‍. وإن قلنا إن الكلب كالخنزير فلا يحتاج إلى الجواب وقد قدمنا أن الدباغ جائز
بكل ما يمنع النتن والفساد ولو ترابا أو ملحا. وقال الشافعي: لا يجوز بالشمس والتراب
والملح لما رواه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس في شاة ميمونة قال: إنما حرم أكلها
أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟ وهو حديث حسن ذكره النووي في شرح المهذب،
ورواه أبو داود والنسائي في سننهما بمعناه عن ميمونة قال: يطهرها الماء والقرظ. ولنا ما
تقدم من الأحاديث الصحيحة. فإن اسم الدباغ يتناول ما يقع بالتشميس والتتريب فلا يقيد
بشئ ولان المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره، وليس الحديث الذي استدل به
الشافعي مما يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالاجماع، ولا يختص بما ذكر في
الحديث. ثم عندنا يجوز بيع الجلد المدبوغ وينتفع به وهو قول الشافعي في الجديد وجمهور
العلماء، وأما بيعه قبل الدباغ فقد نقل النووي في شرح المهذب أن أبا حنيفة يقول بجواز
بيعه ورهنه كالثوب النجس وهو سهو منه فإن مذهب أبي حنيفة عدم جواز بيع جلود الميتة
قبل الدباغ. ذكره في المحيط وشرح الطحاوي وكثير من الكتب وفي بعض الكتب ذكر
خلافا. قال بعضهم إنه ملحق بالميتة، وبعضهم ألحقه بالخمر، فالظاهر منه الاتفاق على عدم
الجواز. واعلم أن ما طهر جلده بالدباغ طهر بالذكاة لحمه وجلده، سواء كان مأكولا أو لا.
أما طهارة جلده فهو ظاهر المذهب كما في البدائع. وفي النهاية أنه اختيار بعض المشايخ.
وعند بعضهم إنما يطهر جلده بالذكاة إذا لم يكن سؤره نجسا ا ه‍. وأما طهارة لحمه إذا كان
غير مأكول فقد اختلف فيه فصحح في البدائع والهداية والتجنيس طهارته، وصحح في
الاسرار والكفاية والتبيين نجاسته، وفي المعراج أنه قول المحققين من أصحابنا، وفي الخلاصة
هو المختار واختاره قاضيخان، وفي التبيين أنه قول أكثر المشايخ. وأما المصنف فقد اختلف
كلامه فصحح في الكافي نجاسته واختار في الكنز في الذبائح طهارته وسنتكلم عليها
بدلائلها وبيان ما هو الحق ثمة إن شاء الله تعالى. لكن في كثير من الكتب أن الذكاة إنما
توجب الطهارة في الجلد واللحم إذا كانت من الأهل في المحل وهو ما بين اللبة واللحيين
وقد سمي بحيث لو كان مأكولا يحل أكله بتلك الذكاة فذبيحة المجوسي لا توجب الطهارة
لأنها إماتة وقد قدمنا عن معراج الدراية معزيا إلى المجتبى أن ذبيحة المجوسي وتارك التسمية
189

عمدا توجب الطهارة على الأصح وإن لم يكن مأكولا، وكذا نقل صاحب المعراج في هذه
المسألة الطهارة عن القنية أيضا هنا وصاحب القنية هو صاحب المجتبى وهو الإمام الزاهدي
المشهور علمه وفقهه، ويدل على أن هذا هو الأصح أن صاحب النهاية ذكر هذا الشرط الذي
قدمناه بصيغة قيل معزيا إلى فتاوى قاضيخان، وفي منية المصلي: السنجاب إذا أخرج من
دار الحرب وعلم أنه مدبوغ بودك الميتة لا تجوز الصلاة عليه ما لم يغسل وإن علم أنه مدبوغ
بشئ طاهر جاز وإن لم يغسل، وإن شك فالأفضل أن يغسل ا ه‍.
قوله: (وشعر الانسان والميتة وعظمهما طاهران) إنما ذكرهما في بحث المياه لإفادة أنه
إذا وقع في الماء لا ينجسه لطهارته عندنا، والأصل أن كل ما لا تحله الحياة من أجزاء الهوية
محكوم بطهارته بعد موت ما هي جزؤه كالشعر والريش والمنقار والعظم والعصب والحافر
والظلف واللبن والبيض الضعيف القشر والإنفحة، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك وإنما
الخلاف بينهم في الإنفحة واللبن هل هما متنجسان؟ فقالا نعم لمجاورتهما الغشاء النجس،
فإن كانت الإنفحة جامدة تطهر بالغسل وإلا تعذر طهارتها. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى:
ليسا بمتنجسين وعلى قياسهما قالوا في السخلة إذا سقطت من أمها وهي رطبة فيبست ثم
وقعت في الماء لا تنجس لأنها كانت في معدنها. كذا في فتح القدير. وفي إدخال العصب
في المسائل التي لا خلاف فيها نظر، فقد صرحوا أن في العصب روايتين، وصرح في
السراج الوهاج أن الصحيح نجاسته إلا أن صاحب الفتح تبع صاحب البدائع. فالتحرير ما
في غاية البيان أن أجزاء الميتة لا تخلوا إما أن يكون فيها دم أو لا، فالأولى كاللحم نجسة،
والثانية ففي غير الخنزير والآدمي ليس بنجسة إن كانت صلبة كالشعر والعظم بلا خلاف،
وأما الإنفحة المائعة واللبن فكذلك عند أبي حنيفة، وعندهما نجس. وأما الآدمي ففيه
روايتان: في رواية نجسة فلا يجوز بيعها ولا الصلاة معها إذا كانت أكثر من قدر الدرهم وزنا
أو عرضا، وفي رواية طاهرة لعدم الدم وعدم جواز البيع للكرامة، وأما العصب ففيه
190

روايتان: إحداهما أنه طاهر لأنه عظم، والأخرى أنه نجس لأن فيه حياة والحس يقع به ا ه‍.
وأما الخنزير فشعره وعظمه وجميع أجزائه نجسة ورخص في شعره للخرازين للضرورة لأن
غيره لا يقوم مقامه عندهم. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره لهم ذلك أيضا ولا يجوز
بيعه في الروايات كلها، وإن وقع شعره في الماء القليل نجسه عند أبي يوسف، وعند محمد لا
ينجس. وإن صلى معه جاز عند محمد، وعند أبي يوسف لا يجوز إذا كان أكثر من قدر
الدرهم، واختلفوا في قدر الدرهم قيل وزنا وقيل بسطا كذا في السراج الوهاج. وذكر
السراج الهندي أن قول أبي يوسف بنجاسته هو ظاهر الرواية وصححه في البدائع ورجحه في
الاختيار. وفي التجنيس: لا بأس ببيع عظام الموتى لأنه لا يحل العظام الموت وليس في
العظام دم فلا تتنجس فيجوز بيعها إلا بيع عظام الآدمي والخنزير ا ه‍. وفي المحيط: إن
عظم الميتة إذا كان عليه دسومة ووقع في الماء نجسه. وفي السراج الوهاج: شعر الميتة إنما
يكون طاهرا إذا كان محلوقا أو مجزوزا وإن كان منتوفا فهو نجس، وكذا شعر الآدمي على هذا
التفصيل. وعن محمد في نجاسة شعر الآدمي وظفره وعظمه روايتان الصحيح منهما
الطهارة. وفي النهاية: واختلف في السن هل هو عظم أو طرف عصب يابس لأن العظم لا
يحدث في الانسان بعد الولادة، وقيل هو عظم. وما وقع في الذخيرة وغيرها من أن أسنان
الكلب إذا كانت يابسة طاهرة وأسنان الآدمي نجسة بناء على أن الكلب يطهر بالذكاة وما
يطهر بها فعظمه طاهر بخلاف الآدمي فضعيف، فإن المصرح به في البدائع والكافي وغيرهما
بأن سن الآدمي طاهرة على ظاهر المذهب وهو الصحيح. وعلل له البدائع بأن لا دم فيها
والمنجس هو الدم ولأنه يستحيل أن تكون طاهرة من الكلب نجسة من الآدمي المكرم إلا إنه
لا يجوز بيعها ويحرم الانتفاع بها احتراما للآدمي كما إذا طحن سن الآدمي مع الحنطة أو
عظمه لا يباح تناول الخبز المتخذ من دقيقهما لا لكونه نجسا بل تعظيما له كيلا يصير متناولا
من أجزاء الآدمي. كذا هذا، وكذا ذكر في المبسوط والنهاية والمعراج. وعلى هذا ما ذكر في
التنجيس رجل قطعت أذنه أو قلعت سنه فأعاد أذنه إلى مكانها أو سنه الساقط إلى مكانها
فصلى أو صلى وأذنه أو سنه في كمه يجزيه لأن ما ليس بلحم لا يحله الموت فلا يتنجس
بالموت ا ه‍.
191

لكن ما ذكره في السن مسلم، أما الاذن فقد قال في البدائع: ما أبين من الحي من
الاجزاء إن كان المبان جزءا فيه دم كاليد والاذن والأنف ونحوها فهو نجس بالاجماع، وإن لم
يكن فيه دم كالشعر والصوف والظفر فهو طاهر عندنا خلافا للشافعي ا ه‍. لكن في فتاوى
قاضيخان والخلاصة: ولو قلع إنسان سنه أو قطع أذنه ثم أعادهما إلى مكانهما أو صلى وسنه
أو أذنه في كمه تجوز صلاته في ظاهر الرواية ا ه‍. فهذا يقوي ما في التجنيس. وفي السراج
الوهاج: وإن قطعت أذنه قال أبو يوسف: لا بأس بأن يعيدها إلى مكانها، وعندهما لا يجوز
ا ه‍. وبما ذكرناه عن الفتاوى يندفع ما ذكر في بعض الحواشي أنه لو صلى وهو حامل سن
غيره أو حامل سن نفسه ولم يضعها في مكانها تفسد صلاته اتفاقا كما لا يخفى، وكذا ذكر
في المعراج أنه لو صلى وهو حامل سن غيره لا يجوز بالاتفاق وفيه من النظر ما علمت. وفي
الخلاصة وفتاوى قاضيخان والتجنيس والمحيط: جلد الانسان إذا وقع في الماء أو قشره إن
كان قليلا مثل ما يتناثر من شقوق الرجل ونحوه لا يفسد الماء، وإن كان كثيرا يعني قدر
الظفر يفسد والظفر لا يفسد الماء ا ه‍. وعلل له في التجنيس بأن الجلد والقشر من جملة لحم
الآدمي والظفر عصب وهذا كله مذهبنا. وقال الشافعي: الكل نجس إلا شعر الآدمي لقوله
تعالى * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة: 3) وهو عام للشعر وغيره. ولنا أن المعهود فيها حالة
الحياة الطهارة وإنما يؤثر الموت النجاسة فيما يحله ولا تحلها الحياة فلا يحلها الموت، وإذا لم
يحلها وجب الحكم ببقاء الوصف الشرعي المعهود لعدم المزيل. وفي السنة أيضا ما يدل عليه
وهو قوله عليه السلام في شاة مولاة ميمونة حين مر بها ميتة إنما حرم أكلها في
الصحيحين. وفي لفظ إنما حرم عليكم لحمها ورخص لكم في مسكها. وفي الباب
حديث الدارقطني إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها فأما الجلد والشعر والصوف فلا
بأس وهو وإن أعله بتضعيف عبد الجبار بن مسلم فقد ذكره ابن حبان في الثقاة فهو لا ينزل
عن درجة الحسن، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى وضعفها، ومن طريق أخرى بمعناه
ضعيفة. وأخرج البيهقي أنه عليه السلام كان يتمشط بمشط من عاج وضعفه، فهذه عدة
أحاديث لو كانت ضعيفة حسن المتن فكيف ومنها ما لا ينزل عن الحسن وله الشاهد الأول؟
192

كذا في فتح القدير مختصرا. وفي البدائع: لأصحابنا طريقان: أحدهما أن هذه الأشياء ليست
بميتة لأن الميتة من الحيوانات في عرف الشرع اسم لما زالت حياته لا بصنع أحد من العباد أو
بصنع غير مشروع ولا حياة في هذه الأشياء فلا تكون ميتة. والثاني أن نجاسة الميتات ليست
لأعيانها بل لما فيها من الدماء السائلة والرطوبات النجسة ولم توجد في هذه الاجزاء ا ه‍.
وقد اقتصر في الهداية على الطريقة الأولى، وفي غاية البيان على الثانية، ولا يخفى أن الطريقة
المذكورة في الهداية لا تجري في العصب لأن فيه حياة لما فيه من الحركة، ألا ترى أنه يتألم
الحي بقطعه بخلاف العظم فإن قطع قرن البقرة لا يؤلمها فدل أنه ليس في العظم حياة. كذا
في النهاية. ولهذا كان فيه روايتان، فالأولى هي الطريقة الثانية وعليها لا يحتاج إلى الجواب
عن قوله تعالى * (قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * [يس:
79] فإن هذه الأشياء من الميتات إلا أن نجاسة الميتات إنما هي لما فيها من الدماء والرطوبات
والعصب صقيل لا يتصور فيه ذلك، وكذا في العظم والشعر. وأما الجواب عن الآية على
الطريقة الأولى فمن ثلاثة أوجه: الأول ما ذكره في الكشاف بقوله: ولقد استشهد بهذه الآية
من يثبت الحياة في العظام ويقول إن عظام الموتى نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة
تحلها، وأما أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله فهي عندهم طاهرة وكذلك الشعر والعصب
ويزعمون أن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت ويقولون المراد بإحياء العظام في الآية ردها
إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس ا ه‍. ولا يتوهم أن صاحب الكشاف لم
يرتض ما ذكره عن الحنفية بدليل قوله يزعمون لأن زعم مطية الكذب كما قيل لأنا لا
نسلم أن زعم خاص في الباطل بل يستعمل تارة فيه وتارة في الحق. فمن الأول قوله تعالى
* (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) * (التغابن: 7) ومن الثاني قوله من حديث مسلم زعم
رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات صرح به النووي في شرح مسلم وأطال الكلام
فيه. والثاني أن المراد بالعظام النفوس كما في معراج الدراية وحينئذ يعود الضمير في قوله
وهي رميم إلى العظام الحقيقية على طريقة الاستخدام لأن من أقسامه كما عرف في علم
البديع أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم يؤتي بعده بضمير يعود في اللفظ عليه وفي المعنى
على معناه الآخر كقول معاوية بن أبي ملك:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
فإنه أراد بالسماء المطر وأراد بالضمير في رعيناه النبات والنبات أحد معنى السماء
لأنه مجاز عنه باعتبار أن المطر سببه وسوغ له عود الضمير إلى النبات وإن لم يكن تقدم له ذكر
193

لتقدم ذكر سببه وهو السماء التي أريد بها المطر فكذلك ما نحن فيه، فإن العظام له معنيان:
أحدهما مراد وهو النفوس مجازا من إطلاق البعض وإرادة الكل، والمعنى الآخر وهو العظام
الحقيقية غير مراد. ثم الضمير في قوله وهي رميم يعود إلى العظام بالمعنى الغير المراد لا
بالمعنى المراد وهو النفوس فكان من باب الاستخدام. هذا ما ظهر لي. الثالث ما ذكره في
غاية البيان والعناية أن المراد أصحاب العظام على تقدير مضاف. فإن قلت: المفهوم من الآية
إحياؤها في الآخرة وأحوالها لا تناسب أحوال الدنيا قلنا: سوق الكلام صريح في الرد على
من أنكر عادتها في الآخرة إلى ما كانت عليه في الدنيا بعد أن صارت بالية خالية عن استعداد
العود إليها في زعمهم، وقد استدل بعض مشايخنا لغير العظم ونحوه بقوله تعالى * (ومن
أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) * ووجه الدلالة عموم الآية
فإن الله تعالى من علينا بأن جعل لنا الانتفاع ولم يخص شعر الميتة من المذكاة فهو عموم إلا أن
يمنع منه دليل. وأيضا فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، ومن زعم أنه انتقل إلى
نجاسة فعليه البيان. فإن قيل: حرمت عليكم الميتة وذلك عبارة عن الجملة قلنا: نخصه بما
ذكرنا فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف وليس في آيتكم ذكر الصوف صريحا فكان دليلنا
أولى. كذا ذكر القرطبي في تفسيره وذكر أن الصوف للغنم والوبر للإبل والشعر للمعز. وقد
أجاب الاتقاني في غاية البيان أيضا عن استدلالهم بقوله تعالى * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة:
3) بأنا لا نسلم أن المراد منه حرمة الانتفاع، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه حرمة الاكل
بدليل ما رويناه في حديث مولاة ميمونة؟ ولئن قال الشافعي في بعض هذه الأشياء رطوبة
فنقول نحن نقول أيضا بنجاسته إذا بقيت الرطوبة، وكلامنا فيما إذا لم تبق الرطوبة في العظم
والحافر والظلف ونحوه وإذا غسل الشعر ونحوه وأزيل عنه الدم المتصل والرطوبة النجسة.
ولئن قال الشعر ينمو بنماء الأصل فنقول: نعم ينمو لكن لا نسلم أن النماء يدل على الحياة
الحقيقية كما في النبات والشجر. وقوله بنماء الأصل غير مسلم أيضا لأنه ينمو مع نقصان
الأصل كما إذا هزل الحيوان بسبب مرض فطال شعره ا ه‍. وقد وقع في الهداية تعريف
الموت بزوال الحياة فقال في كشف الاسرار شرح أصول فخر الاسلام من باب الأهلية:
الموت عند أهل السنة أمر وجودي لأنه ضد الحياة لقوله تعالى * (خلق الموت والحياة) * (الملك:
2) وعند المعتزلة: هو زوال الحياة فهو أمر عدمي. وتفسير صاحب الهداية بزوال الحياة
تفسير بلازمه. كذا نقل عن العلامة شمس الأئمة الكردري ا ه‍. وهكذا أوله في الكافي.
وذكر في معراج الدراية أن الموت ضد الحياة والضدان صفتان وجوديتان يتعاقبان على موضوع
194

واحد ويستحيل اجتماعهما ويجوز ارتفاعهما، وزوال الحياة ليس بضد الحياة كما أن زوال
السكون ليس بضد السكون فكان هذا تعريفا بلازمه ا ه‍.
وتعقبه في غاية البيان بأنا لا نسلم أن زوال الحياة ليس بضد لها، وكيف يقال هذا
وزوال الحياة مع الحياة لا يجتمعان؟ وليس معنى التضاد إلا هذا ولا نسلم أن زوال الحياة
ليس بوجودي فهل لزوال الحياة وجود أم لا؟ فإن قلت نعم فيكون زوال الحياة وجود يا، وإن
قلت لا فيكون حينئذ زوال الحياة حياة وهو محال لأن عدم زوال الحياة عبارة عن الحياة ا ه‍.
ولا يخفى ضعفه لأن الموت نفس زوال الحياة لا عدم زوالها ولا يلزم من كون نقيض الشئ
عدميا أن يكون عدم عدمه حتى يكون نفي النفي فيكون اثباتا. وأما جعله زوال الحياة ضدا
لها فغير مسلم لأن التضاد الحقيقي هو أن يكون بين الموجودين اللذين يمكن تعقل أحدهما
مع الذهول عن الآخر تعاقب على الموضوع ويكون بينهما غاية الخلاف وهي ما يكون مقتضى
كل منهما مغاير المقتضى الآخر كالسواد والبياض فإن مقتضى أحدهما قبض البصر ومقتضى
الثاني تفريقه، ولا شك أن زوال الحياة عدمي فلا يكون ضدا لها وإنما يكون بينهما تقابل
العدم والملكة، وقد ذكر بعض الأصوليين في شرح المغني أن هذا الفرق إنما هو على
اصطلاح أهل العقول، أما على اصطلاح الأصوليين فالضد ما يقابل الشئ ويكون بينهما
غاية الخلاف، سواء كانا وجوديين أو أحدهما وجودي والآخر عدمي. وقد اختار صاحب
الكشاف أن الموت عدمي فقال: والحياة ما يصح بوجوده الاحساس، وقيل ما يوجب كون
الشئ حيا وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر والموت عدم ذلك فيه، ومعنى خلق الموت
والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه. قال الطيبي رحمه الله في حاشيته: قوله والموت عدم
ذلك فيه الانتصاف لمذهب القدرية أن الموت عدم واعتقاد السنية أنه أمر وجودي ضاد
الحياة، وكيف يكون عدميا وقد وصف بكونه مخلوقا وعدم الحوادث أزلي، ولو كان المعدوم
مخلوقا لزم وقوع الحوادث أزلا وهو ظاهر البطلان. وقال صاحب الفوائد: لو كان الموت
عدم الحياة استحال أن يكون مخلوقا وقد قال بعد ذلك: معنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك
المصحح وإعدامه، وهذا أيضا منظور فيه. وقال الإمام: هي الصفة التي يكون الموصوف بها
بحيث يصح أن يعلم ويقدر. واختلفوا في الموت قبل إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقيل
صفة وجودية مضادة للحياة لقوله تعالى * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) والعدم لا
يكون مخلوقا. هذا هو التحقيق إلى هنا كلام الطيبي رحمه الله تعالى. وقال الإمام القرطبي في
تفسيره قال العلماء رضي الله عنهم: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو تعلق
195

الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار والحياة عكس
ذلك، ونقل أقوالا فيهما لا نطيل بذكرها. والحاصل أن مذهب أهل السنة أن الموت أمر
وجودي كالحياة، ومذهب المعتزلة كما في الكشف أو القدرية كما في الحاشية أنه عدمي،
وعلى كل منهما لا نزاع في أن الموت يكون بعد الحياة إذ ما لم يسبق له حياة لا يوصف
بالموت حقيقة في اللغة والعرف، ولهذا قال السيد الشريف في شرح المواقف بعد تفسير
الموت بعدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا: والأظهر أن يقال عدم الحياة عما اتفق لها
ا ه‍. لكن قد يقال يحتاج حينئذ إلى الجواب عن قوله تعالى * (وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة:
28) وفي الكشاف: فإن قلت كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جمادا وإنما يقال ميت
فيما يصح فيه الحياة من الشئ؟ قلت: بل يقال ذلك في حال كونهم جمادا لعادم الحياة كقوله
* (بلدة ميتا) * (الفرقان: 49) * (وآية لهم الأرض الميتة) * (يس: 33) * (أموات غير
أحياء) * (النحل: 21) ويجوز أن يكون استعارة في اجتماعهما في أن لا روح ولا احساس
ا ه‍. وقرر القطب في حاشيته الاستعارة بأن يشبه الجماد بالميت في عدم الروح ثم استعير
اللفظ والله أعلم تتمة نافجة المسك طاهرة مطلقا على الأصح.
قوله: (وتنزح البئر بوقوع نجس) لما ذكر حكم الماء القليل بأنه يتنجس كله عند وقوع
النجاسة فيه حتى يراق كله ورد عليه ماء البئر نقضا في أنه لا ينزح كله في بعض الصور
فذكر أحكامه. قال الشارحون ومنهم المصنف في المستصفى: إن المراد بنزح البئر نزح مائها
إطلاقا لاسم المحل على الحال كقولهم جرى الميزاب وسال الوادي وأكل القدر والمراد
ما حل فيها للمبالغة في إخراج جميع الماء. والمراد بالبئر هنا هي التي لم تكن عشرا في عشر،
أما إذا كانت عشرا في عشر لا تنجس بوقوع نجس إلا بالتغير كما يفيده ما سنذكره. والمراد
بالنجس هنا هو الذي ليس حيوانا كالدم والبول والخمر، وأما أحكام الحيوان الواقع فيها
فسنذكرها مفصلة. وبهذا يظهر ضعف ما في التبيين من أن المصنف أطلق ولم يقدر بشئ لأنه
لم يعين ما وقع فيها من النجاسة فأي نجس وقع فيها يوجب نزحها وإنما ينجس ماء البئر كله
بقليل النجاسة لأن البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير تفسد بما يفسد به الحوض الصغير إلا
أن يكون عشرا في عشر. كذا في فتاوى قاضيخان. وفي التفاريق عن أبي حنيفة وأبي
يوسف: البئر لا تنجس كالماء الجاري البئر إذا لم تكن عريضة وكان عمق مائها عشرة أذرع
فصاعدا فوقعت النجاسة فيها لا يحكم بنجاستها في أصح الأقاويل ا ه‍. وعزاه في القنية إلى
شرح صدر القضاة، وذكر ابن وهبان أنه مخالف لما أطلقه جمهور الأصحاب. كذا في شرح
منية المصلي. ولا يخفى أن هذا التصحيح لو ثبت لانهدمت مسائل أصحابنا المذكورة في كتبهم
وقد عللوا بأن البئر لما وجب إخراج النجاسة منها ولا يمكن إخراجها منها إلا بنزح كل مائها
196

وجب نزحه لتخرج النجاسة معه حقيقة، لكن قال في السراج الوهاج: ولو وقعت في البئر
خشبة نجسة أو قطعة من ثوب نجس وتعذر إخراجها وتغيبت فيها طهرت الخشبة والقطعة
من الثوب تبعا لطهارة البئر. وعزاه إلى الفتاوى. وفي المجتبى ومعراج الدراية: ونزحه أن
يقل حتى لا يمتلئ الدلو منه أو أكثره ا ه‍. أي ونزح ماء البئر لكن هذا إنما يستقيم فيما إذا
كانت البئر معينا لا تنزح وأخرج منها المقدار المعروف، أما إذا كانت غير معين فإنه لا بد من
إخراجها لوجوب نزح جميع الماء. ثم البئر مؤنثة مهموزة ويجوز تخفيف همزها وهي مشتقة من
بأرت أي حفرت وجمعها في القلة أبؤر وأبآر بهمزة بعد الباء فيهما، ومن العرب من يقلب
الهمزة في أبآر وينقل فيقول آبار وجمعها في الكثرة بآر بكسر الباء بعدها همزة. كذا ذكر
النووي في شرح مسلم من كتاب الايمان والاسلام. واعلم أن مسائل الآبار مبنية على اتباع
الآثار دون القياس فإن القياس فيها إما أن لا تطهر أصلا كما قال بشر لعدم الامكان
لاختلاط النجاسة بالأوحال والجدران والماء ينبع شيئا فشيئا، وإما أن لا تتنجس اسقاطا لحكم
النجاسة حيث تعذر الاحتراز أو التطهير كما نقل عن محمد أنه قال: اجتمع رأيي ورأي أبي
يوسف أن ماء البئر في حكم الجاري لأنه ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فلا يتنجس
كحوض الحمام. قلنا: وما علينا أن ننزح منها دلاء أخذا بالآثار ومن الطريق أن يكون
الانسان في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كالأعمى في يد القائد. كذا في فتح
القدير وغيره من الشروح، وفي البدائع بعد ما ذكر القياسين قال: إلا أنا تركنا القياسين
الظاهرين بالخبر والأثر وضرب من الفقه الخفي. أما الخبر فما روى أبو جعفر الاستروشني
بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون، وفي رواية
ثلاثون. وعن أبي سعيد الخدري أنه قال في دجاجة ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا.
وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما أمرا بنزح جميع ماء زمزم حين مات فيها زنجي وكان
بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فانعقد الاجماع عليه.
وأما الفقه الخفي فهو أن في هذه الأشياء دما مسفوحا وقد تشرب في أجزائها عند
الموت فنجسها وقد جاور هذه الأشياء الماء والماء يتنجس أو يفسد بمجاورة النجس لأن
الأصل أن ما جاور النجس نجس بالشرع. قال صلى الله عليه وسلم في الفأرة تموت في السمن الجامد يقور
ما حولها ويلقى وتؤكل البقية. فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة جار النجس، وفي الفأرة
ونحوها ما يجاورها من الماء مقدار ما قدره أصحابنا وهو عشرون دلوا أو ثلاثون لصغر
197

جثتها. فحكم بنجاسة هذا القدر من الماء لأن ما وراء هذا القدر لم يجاور الفأرة بل جاورها ما
جاور الفأرة، والشرع ورد بتنجيس جار الخبث لا بتنجيس جار جار النجس، ألا ترى أن
النبي صلى الله عليه وسلم حكم بطهارة جار السمن الذي جاور الفارة، وحكم بنجاسة ما جاور الفارة، وهذا
لأن جار جار النجس لو حكم بنجاسته لحكم أيضا بنجاسة ما جاور جار النجس ثم هكذا إلى
ما لا نهاية له، فيؤدي إلى أن قطرة من بول أو فارة لو وقعت في بحر عظيم أن يتنجس جميع
مائه لاتصال بين أجزائه وذلك فاسد. وفي الدجاجة والسنور وأشباه ذلك المجاورة أكثر
لزيادة ضخامة في جثتها فقدر بنجاسة ذلك القدر والآدمي وما كان جثته مثل جثته كالشاة
ونحوها مجاور جميع الماء في العادة لعظم جثته فيوجب تنجيس جميع الماء، وكذا إذا تفسخ
شئ من هذه الواقعات أو انتفخ لأن عند ذلك تخرج البلة منها لرخاوة فيها فتجاور جميع
أجزاء الماء وقبل ذلك لا يجاور إلا قدر ما ذكرنا لصلابة فيها، ولهذا قال محمد: إذا وقع في
البئر ذنب فأرة ينزح جميع الماء لأن موضع القطع لا ينفك عن بلة فيجاور أجزاء فيفسدها
ا ه‍. وهذا تقرير حسن لو لم يكن مخالفا لعامة كتب أصحابنا فإنها مصرحة بأن مسائل الآبار
ليس للرأي فيها مدخل، وما ذكره خلافه. كذا تعقبه شارح المنية. والذي ظهر لي أن ما ذكره
في البدائع لا يخالف ما صرحوا به لأنه ذكر أن هذا معنى خفي فقهي لا قياس جلي ولا
يكون من قبيل الرأي إلا القياس الجلي. وأما القياس الخفي فهو المسمى بالاستحسان إن قال
في التوضيح: القياس جلي وخفي. فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي
فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان قياسا خفيا لأن الاستحسان قد يطلق على
غير القياس الخفي أيضا لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا ذكر الاستحسان أريد به القياس
الخفي، وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الافهام وهو حجة عندنا لأن ثبوته
بالدلائل التي هي حجة إجماعا لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان، وإما
بالاجماع كالاستصناع، وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار. وأما بالقياس الخفي إلى آخر
ما ذكر في أصول الفقه وكذا في كثير من كتب الأصول، فظهر بهذا أن طهارة الآبار بالنزح
إنما ثبتت بالقياس الخفي الذي ثبت بالضرورة.
قوله: (لا ببعرتي إبل وغنم) أي لا ينزح ماء البئر بوقوع بعرتي إبل وغنم فيها وهذا
استحسان، والقياس أن يتنجس الماء مطلقا لوقوع النجاسة في الماء القليل كالإناء. وذكر
للاستحسان طريقتان: الأولى واختارها صاحب الهداية مقتصرا عليها أن آبار الفلوات ليس
198

لها رؤوس حاجزة المواشي تبعر حولها ويلقيها الريح فيها فجعل القليل عفوا للضرورة ولا
ضرورة في الكثير، ولا فرق على هذا بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر، والروث
والبعر والخنثى، لأن الضرورة تشمل الكل. وقد صرح في غاية البيان بأنه ظاهر الرواية
يعارضه ما ذكره السرخسي أن الروث والمفتت من البعر مفسد في ظاهر الرواية. وعن أبي
يوسف إن قليله عفو قال: وهو الأوجه. وظاهر هذه الطريقة أن هذا الحكم مختص بآبار
الفلوات، وأما الآبار التي في المصر فتنجس بالقليل منه لأن لها رؤوسا حاجزة فيقع الامن عن
الوقوع فيها وقد صرح به في البدائع لكن في غاية البيان ذكر أنه لا فرق بينهما على هذه الطريقة
فقال: واختلف المشايخ في البئر إذا كانت في المصر، والصحيح عدم الفرق لشمول الضرورة
في الجملة ا ه‍. فاعتبر الضرورة في الجملة وكذا في التبيين. والطريقة الثانية أن لليابس صلابة
فلا يختلط شئ من أجزائه بأجزاء الماء فهذه تقتضي أن الرطب والمنكسر والروث والخثي ينجس
الماء، وظاهرها عدم الفرق بين آبار الفلوات والأمصار كما هو مذكور في البدائع، وكذا
ظاهرها أن الكثير من اليابس الصحيح لا ينجس كالقليل وبه قال الحسن بن زياد، لكن
الصحيح أن الكثير ينجس الاناء وماء البئر على الطريقتين: أما على الأولى فلما بينا أنه لا ضرورة
في الكثير، وأما على الثانية فلأنها إذا كثرت تقع المماسة بينها فيصطك البعض بالبعض فتتفتت
أجزاؤها فتتنجس، إليه أشار في البدائع. وظاهرها أيضا أنه لا فرق بين البئر والاناء في عدم
التنجيس بالقليل، وعلى الطريقة الأولى بينهما فرق لأن الضرورة في البئر لا في الاناء كذا في
الكافي - بخلاف بعر الشاة إذا وقع منها في المحلب وقت الحلب فإنه ترمي البعرة ويشرب اللبن
على الطريقتين، أما على الثانية فظاهر، وأما على الأولى فلمكان الضرورة. كذا في الهداية وقيده
في النهاية وغاية البيان والمعراج بكونها رميت على الفور ولم يبق لونها على اللبن، وكذا في فتح
القدير معللا له بأن الضرورة تتحقق في نفس الوقوع لأنها تبعر عند الحلب عادة لا فيما وراءه
وذلك بمرأى منه. واختلفوا في حد الكثير على أقوال صحح منها قولان، فصحح في النهاية
أنه ما لا يخلو لو عن بعرة وعزاه إلى المبسوط، وصحح في البدائع والكافي لمصنف وكثير من
الكتب أن الكثيرة ما يستكثره الناظر والقليل ما يستقله. وفي معراج الدراية وعليه الاعتماد.
قال في العناية: وإنما قال وعليه الاعتماد لأن أبا حنيفة لا يقدر شيئا بالرأي في مثل هذه
المسائل التي تحتاج إلى التقدير فكان هذا موافقا لمذهبه ا ه‍. فظهر بهذا أن ما ذكره في المتن من
أن البعرتين لا ينجسان للإشارة إلى أن الثلاث تنجس إنما هو على قول ضعيف مبني على ما وقع
199

في الجامع الصغير من قوله: فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان لم يفسد الماء. فدل على أن الثلاث
تفسد بناء على أن مفهوم العدد في الرواية معتبر وإن لم يكن معتبرا في الدلائل عندنا على
الصحيح، وهذا الفهم إنما يتم لو اقتصر محمد في الجامع الصغير على هذه العبارة ولم يقتصر
عليها فإنه قال: إذا وقعت بعرة أو بعرتان في البئر لا يفسد ما لم يكن كثيرا فاحشا والثلاث ليس
بكثير فاحش. كذا نقل عبارة الجامع في المحيط وغيره، ولو جعل قائل الحد الفاصل بين القليل
والكثير أن ما غير أحد أوصاف الماء كان كثيرا وما لم يغيره يكون قليلا لكان له وجه. كذا في
شرح منية المصلي. وبعر يبعر من حد منع، والروث للفرس والحمار من راث. يقال من حد
نصر والخثي بكسر الخاء واحد الاخثاء للبقر. يقال من باب ضرب كذا في فتح القدير وغيره.
قوله: (وخرء حمام وعصفور) أي لا ينزح ماء البئر بوقوع خرء حمام وعصفور فيها.
والخرء بالفتح واحد الخرء بالضم مثل قرء وقروء. وعن الجوهري أنه بالضم كجند وجنود.
والواو بعد الراء غلط كذا في المغرب. وإنما لا ينزح ماؤها منه لأنه ليس بنجس عندنا على
ما اختاره في الهداية وكثير من الكتب. وذكر في النهاية ومعراج الدراية اختلاف المشايخ في
نجاسته وطهارته مع اتفاقهم على سقوط حكم النجاسة لكن عند البعض السقوط من الأصل
للطهارة وعند آخرين للضرورة ا ه‍. ولم يذكر إفادة هذا الاختلاف. وقال الشافعي: نجس
وهو القياس لأنه استحال إلى نتن وفساد فأشبه خرء الدجاج. ولنا الاجماع العملي فإنها في
المسجد الحرام مقيمة من غير نكير من أحد من العلماء مع العلم بما يكون منها مع ورود
الامر بتطهير المساجد فيما رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد وأبو داود وغيره عن عائشة
رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. وعن
سمرة رضي الله عنه أنه كتب إلى بنيه: أما بعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نضع المساجد في
دورنا ونصلح صنعتها ونطهرها. رواه أبو داود وسكت عليه ثم المنذري بعده. كذا ذكره
الحافظ الزيلعي. وروى أبو أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم شكر الحمامة فقال: أنها أوكرت علي
باب الغار فجزاها الله تعالى بأن جعل المساجد مأواها، فهذا دليل طهارة خرئها. وعن ابن
مسعود أنه خرأت عليه حمامة فمسحها بأصبعه، وكذلك عمر رضي الله عنه زرق عليه طير
فمسحه بحصاة ثم صلى. كذا في معراج الدراية والنهاية. وأما ما ذكره من الاستحالة فهي لا
إلى نتن رائحة فأشبه الطين الذي في قعر البئر فإن فيه الفساد أيضا وليس بنجس لأنه لا إلى
200

نتن رائحة ويشكل هذا بالمني على قوله: قال في النهاية ثم الاستحالة إلى فساد لا توجب
النجاسة لا محالة فإن سائر الأطعمة إذا فسدت لا تنجس به لأن التغير إلى الفساد لا يوجب
النجاسة ا ه‍. وبهذا يعلم ضعف ما ذكره في الخزانة من أن الطعام إذا تغير واشتد تغيره
تنجس، وإن حمل ما في النهاية على ما إذا لم يشتد تغيره ليجمع بينهما فهو بعيد. والظاهر ما
في النهاية لأنه لا موجب لتنجيسه وإنما حرم أكله في هذه الحالة للايذاء لا للنجاسة كاللحم
إذا أنتن قالوا: يحرم أكله ولم يقولوا تنجس بخلاف السمن واللبن والدهن والزيت إذا أنتن لا
يحرم والأشربة لا تحرم بالتغير كذا في الخزانة. وأشار المصنف رحمه الله بقوله خرء حمام
وعصفور إلى خرء ما يؤكل كل لحمه من الطيور احترازا عما لا يؤكل لحمه منها فإن خرأه
نجس، وسنذكره صريحا في باب الأنجاس. والصحيح أنه طاهر كخرء مأكول اللحم منها.
ذكره في المبسوط وصحح قاضيخان في شرح الجامع الصغير نجاسته، وسنتكلم عليه إن
شاء الله تعالى في باب الأنجاس.
قوله: (وبول ما يؤكل نجس) إنما ذكرها هنا وإن كان محلها باب الأنجاس لبيان أنه
إذا وقع في البئر نجس ماءها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمه الله:
طاهر فلا ينزح الماء من وقوعه إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا لما رواه
الأئمة الستة في كتبهم من حديث أنس أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا
الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرة
يعضون الحجارة. وفي رواية مسلم: لد الحدود وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون
حتى ماتوا. وفي رواية متفق عليها أنهم ثمانية كذا في فتح القدير. وعرنة واد بحذاء
عرفات وبتصغيرها سميت عرينة وهي قبيلة ينسب إليها العرنيون. وإنما سقطت ياء
التصغير عند النسبة لما أن ياء فعيلة وفعيلة يسقطان عند النسبة قياسا مطردا فيقال حنفي
ومدني وجهني وعقلي في حنيفة ومدينة وجهينة وعقيلة. كذا في المغرب وغيره. وقوله
اجتووها هو بالجيم والمثناة فوق ومعناه استوخموها كما فسرها في الرواية الآخرى أي لم
توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم. قالوا: وهو مشتق من الجوى وهو داء في الجوف،.
ومعنى سمر أعينهم بالراء كحلها بمسامير وفي بعض الروايات سمل باللام بمعنى فقأها
201

وأذهب ما فيها. كذا ذكر النووي في شرح مسلم من القصاص ولهما قوله صلى الله عليه وسلم استنزهوا
من البول فإن عامة عذاب القبر منه أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على
شرط الشيخين ولا أعرف له علة. كذا ذكره الزيلعي المخرج، وفي معراج الدراية: وفي
بعض نسخ الأحاديث عن مكان من. وفي المغرب: وأما قولهم استنزهوا البول لحن
وفي معراج الدراية: وجه مناسبة عذاب القبر مع ترك استنزاه البول هو أن القبر أول منزل
من منازل الآخرة والاستنزاه أول منزل من منازل الطهارة، والصلاة أول ما يحاسب به المرء
يوم القيامة فكانت الطهارة أول ما يعذب بتركها في أول منزل من منازل الآخرة، وفي
غاية البيان: وجه التمسك به أن البول يشمل كل بول بعمومه وقد ألحق النبي صلى الله عليه وسلم وعيد
عذاب القبر بترك استنزاه البول من غير فصل، فدل على أن بول ما يؤكل لحمه نجس لأن
الحلال لا يتحقق بمباشرته وعيد ا ه‍. وأجاب في الهداية عن حديث العرنيين بأنه عليه
السلام عرف شفاءهم فيه وحيا، وزاد شارحوها كالأتقاني والكاكي جوابا آخر بأن ذلك
كان في ابتداء الاسلام ثم نسخ بعد أن نزلت الحدود، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم
وأرجلهم وسمل أعينهم حين ارتدوا واستاقوا الإبل وليس جزاء المرتد إلا القتل، فعلم
إباحة البول انتسخت كالمثلة ا ه‍. وذكر الأصوليون منا أن العام قبل الخصوص يوجب
الحكم فيما تناوله قطعا كالخاص حتى يجوز نسخ الخاص بالعام عندنا كحديث العرنيين ورد
في أبوال الإبل وهو خاص نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم استنزهوا من البول لأن البول عام لأن اللام
فيه للجنس في ضمن المشخصات فيحمل على جميعها إذ لا عهد، وحديث العرنيين متقدم
لأن المثلة التي تضمنتها منسوخة بالاتفاق لأنها كانت في ابتداء الاسلام ا ه‍. وهذا كله
مبني على أن قصة العرنيين تضمنت مثلة وقد صرح به في الهداية من كتاب الجهاد فقال:
والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر، وأراد بالنهي المتأخر ما ذكره
البيهقي عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خطبة إلا نهى فيها عن المثلة.
وقد أنكر بعضهم كون الواقع في قصتهم مثلة كما روى ابن سعد في خبرهم أنهم قطعوا
يد الراعي ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينه حتى مات فليس هذا بمثلة، والمثلة ما
كان ابتداء على غير جزاء وقد جاء في صحيح مسلم: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم
سملوا أعين الرعاء. وسيأتي بقيته في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. وأما ما أجاب به
202

قاضيخان في شرح الجامع الصغير وتبعه عليه صاحب معراج الدراية من أن الصحيح أنه
أمرهم بشرب الألبان يعني دون الأبوال فلا يخفى ضعفه لما علمت أن رواية شرب الأبوال
ثابتة في الكتب الستة والله الموفق للصواب.
قوله: (لا ما لم يكن حدثا) عطف على بول أي ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا،
وهذا عند أبي يوسف فالدم الذي لم يسل كما إذا أخذ بقطنة ولو كان كثيرا في نفسه والقئ
القليل إذا وقع في الماء لا ينجسه، وكذا إذا أصاب شيئا. وقال محمد: إنه نجس. كذا في
كثير من الكتب. وظاهر ما في شرح الوقاية أن ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة أنه ليس
بنجس، وعند محمد في غير رواية الأصول أنه نجس لأنه لا أثر للسيلان في النجاسة، فإذا
كان السائل نجسا فغير السائل يكون كذلك. ولنا قوله تعالى * (قل لا أجد في ما أوحي إلي
محرما على طاعم يطعمه) * إلى قوله * (أو دما مسفوحا) * فغير المسفوح لا
يكون محرما لا يكون نجسا والدم الذي لم يسل عن رأس الجرح دم غير مسفوح فلا يكون
نجسا. فإن قيل: هذا فيما يؤكل لحمه أما فيما لا يؤكل كالآدمي فغير المسفوح حرام أيضا
فلا يمكن الاستدلال بحله على طهارته قلت: لما حكم بحرمة المسفوح بقي غير المسفوح على
أصله وهو الحل ويلزم سنه الطهارة، سواء كان فيما يؤكل لحمه أو لا، لاطلاق النص، ثم
حرمة غير المسفوح في الآدمي بناء على حرمة لحمه وحرمة لحمه لا توجب نجاسته إذ هذه
الحرمة للكرامة لا للنجاسة فغير المسفوح في الآدمي يكون على طهارته الأصلية مع كونه
محرما، والفرق بين المسفوح وغيره مبني على حكمة غامضة وهي أن غير المسفوح دم انتقل
عن العروق وانفصل عن النجاسات وحصل له هضم آخر في الأعضاء وصار مستعدا لأن
يصير عضوا فأخذ طبيعة العضو فأعطاه الشرع حكمه بخلاف دم العروق، فإذا سال عن
رأس الجرح علم أنه دم انتقل من العروق في هذه الساعة وهو الدم النجس، أما إذا لم يسل
علم أنه دم العضو. وهذا في الدم، أما في القئ فالقليل هو الماء الذي كان في أعالي المعدة
وهي ليست محل النجاسة فحكمه حكم الريق. كذا في شرح الوقاية. وكان الإسكاف
والهندواني يفتيان يقول محمد، وصحح صاحب الهداية وغيره قول أبي يوسف وقال في
العناية: قول أبي يوسف أرفق خصوصا في حق أصحاب القروح وفي فتح القدير أن الوجه
يساعده لأنه ثبت أن الخارج بوصف النجاسة حدث وأن هذا الوصف قبل الخروج لا يثبت
شرعا وإلا لم يحصل للانسان طهارة فلزم أن ما ليس حدثا لم يعتبر خارجا شرعا وما لم يعتبر
خارجا شرعا لم يعتبر نجسا ا ه‍. وذكر في السراج الوهاج أن الفتوى على قول أبي يوسف
فيما إذا أصاب الجامدات كالثياب والأبدان، وعلى قول محمد فيما إذا أصاب المائعات كالماء
203

وغيره اه‍. وفي معراج الدراية: ثم قوله ما لا يكون حدثا إلى آخره لا ينعكس فلا يقال ما
لا يكون نجسا لا يكون حدثا فإن النوم والجنون والاغماء وغيرها حدث وليست بنجسة ا ه‍.
لكن قد يقال إنه مطرد منعكس لأن المراد ما يخرج من بدن الانسان وليس بحدث لا يكون
نجسا، وكذا ما يخرج من البدن وليس بنجس لا يكون حدثا، وأما النوم ونحوه فلم يدخل في
العكس في قولنا ما لا يكون نجسا لا يكون حدثا، لأنه ليس بخارج من بدن الانسان.
قوله: (ولا يشرب أصلا) أي بول ما يؤكل لحمه لا يشرب أصلا لا للتداوي ولا لغيره،
وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يجوز للتداوي لأنه لما ورد الحديث به في قصة العرنيين
جاز التداوي به إن كان نجسا. وقال محمد: يجوز شربه مطلقا للتداوي وغيره لطهارته عنده.
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس والتداوي بالطاهر المحرم كلبن الأتان لا يجوز فما ظنك
بالنجس، ولان الحرمة ثابتة فلا يعرض عنها إلا بتيقن الشفاء، وتأويل ما روي في قصة
العرنيين أنه عليه السلام عر ف شفاءهم فيه وحيا ولم يوجد تيقن شفاء غيرهم لأن المرجع فيه
الأطباء، وقولهم ليس بحجة قطعية، وجاز أن يكون شفاء قوم دون قوم لاختلاف الأمزجة
حتى لو تعين الحرام مدفعا للهلاك الآن يحل كالميتة والخمر عند الضرورة، ولأنه عليه السلام
علم موتهم مرتدين وحيا، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافرين في نجس دون المؤمنين بدليل قوله
تعالى * (الخبيثات للخبيثين) * (النور: 26) وبدليل ما روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله
عنه أنه عليه السلام قال إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم (1) فاستفيد من كاف
الخطاب أن الحكم مختصر بالمؤمنين. هذا وقد وقع الاختلاف بين مشايخنا في التداوي بالمحرم،
ففي النهاية عن الذخيرة الاستشفاء بالحرام يجوز إذا علم أن فيه شفاء ولم يعلم دواء آخر ا ه‍.
وفي فتاوى قاضيخان معزيا إلى نصر بن سلام: معنى قوله عليه السلام إن الله لم يجعل
شفاءكم فيما حرم عليكم إنما قال ذلك في الأشياء التي لا يكون فيها شفاء. فأما إذا كان فيها
شفاء فلا بأس به. ألا ترى أن العطشان يحل له شرب الخمر للضرورة ا ه‍. وكذا اختار
صاحب الهداية في التجنيس فقال: إذا سال الدم من أنف إنسان يكتب فاتحة الكتاب بالدم على
204

جبهته وأنفه يجوز ذلك للاستشفاء والمعالجة، ولو كتب بالبول إن علم أن فيه شفاء لا بأس
بذلك لكن لم ينقل وهذا لأن الحرمة ساقطة عند الاستشفاء ألا ترى أن العطشان يجوز له شرب
الخمر والجائع يحل له أكل الميتة ا ه‍. وسيأتي لهذا زيادة بيان في باب الكراهية إن شاء الله
تعالى. قال في التبيين: وقول محمد مشكل لأن كثيرا من الطاهر لا يجوز شربه، وقول أبي
يوسف أشد إشكالا ا ه‍. وقد يقال إنه لا إشكال فيه أصلا لأنه قال بنجاسته عملا بحديث
استنزهوا من البول وقال بجواز شربه للتداوي عملا بحديث العرنيين.
قوله: (وعشرون دلوا وسطا بموت نحو فأرة) قال في التبيين: أي ينزح عشرون إذا
ماتت فيها فأرة ونحوها. وقوله عشرون معطوف على البئر وفيه إشكال وهو أنه يصير معناه
تنزح البئر وعشرون دلوا وأربعون وكله فيفسد المعنى لأنه يقتضي نزح البئر وعشرين دلوا
وليس هذا بمراد، وإنما المراد أن تنزح البئر إذ وقع فيها نجس. ثم ذلك النجس ينقسم إلى
ثلاثة أقسام: منه ما يوجب نزح عشرين، ومنه ما يوجب نزح أربعين، ومنه ما يوجب نزح
الجميع. وليس نزح البئر مغايرا لهذه الثلاث حتى يعطف عليها وإنما هو تفسير وتقسيم
لذلك النزح المبهم، وليس هذا من باب عطف البعض على الكل لا يقال إنه أراد بالأول ما
يوجب الجميع وبالمعطوف ما يوجب نزح البعض لأنه ذكر بعد ذلك ما يوجب نزح الجميع
أيضا، فلو كان مراده الجميع لما ذكر ثانيا لكونه تكرارا محضا، ولان الأول لا يجوز أن يحمل
على نوع من هذه الأنواع الثلاثة لعدم الأولوية فبقي على إطلاقه. إلى هنا كلام الزيلعي
رحمه الله وأقول: لا حاجة إلى هذه الإطالة مع إمكان حمل كلامه على وجه صحيح، فإن قوله
عشرون معطوف على البئر بمعنى ماء البئر كما تقدم والواو فيه كبقية المعطوفات بمعنى
أو والتقدير ينزح ماء البئر كله بوقوع نجس غير حيوان، أو ينزح عشرون دلوا من ماء البئر
بموت نحو فأرة، أو أربعون منه بنحو دجاجة، أو كله بنحو شاة إلى آخره، وبهذا علم أن
قوله وتنزح البئر بوقوع نجس ليس مبهما بل المراد منه نجس غير حيوان، واندفع به ما
ذكره من لزوم التكرار لو أريد بالأول نزح الجميع فإنه أريد بالأول نزح الجميع لوقوع غير
حيوان، وأريد بالثاني نزح الجميع لوقوع حيوان مخصوص فلا تكرار. وقوله ولان الأول لا
يجوز أن يحمل إلى آخره سلمناه لكن يمنع قوله فبقين على إطلاقه لأنه لا يلزم من انتفاء
جواز حمله على الأنواع الثلاث بقاؤه مطلقا لجواز حمله على نوع رابع غير الثلاثة كما حملناه
205

على النجس الذي ليس حيوانا وهو ليس واحدا من الأنواع. واعلم أنه لا فرق بين أن تموت
الفأرة في البئر أو خارجها وتلقى فيها وكذا سائر الحيوانات إلا الميت الذي تجوز الصلاة عليه
كالمسلم المغسول أو الشهيد. نعم في خزانة الفتاوى: والفأرة اليابسة لا تنجس الماء لأن
اليبس دباغة ا ه‍. ولا يخفى ضعفه لأنا قدمنا أن ما لا يحتمل الدباغة لا يطهر وأن اليبس
ليس بدباغة، ويدل عليه ما في الذخيرة أن الفأرة الميتة إذا كانت يابسة وهي في الخابية وجعل
في الخابية الزيت فظهر ت على رأس الخابية فالزيت نجس ا ه‍. ثم اعلم أن الواقع في البئر
إما نجاسة أو حيوان وحكم النجاسة قد تقدم في قوله وتنزح البئر بوقوع نجس على ما
أسلفناه، والحيوان إما آدمي أو غيره، وغير الآدمي إما نجس العين أو غيره. وغير نجس
العين إما مأكول اللحم أو غيره. والكل إما أن أخرج حيا أو ميتا والميت إما منتفخ أو غيره.
فالآدمي إذا خرج حيا ولم يكن في بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية وكان مستنجيا لم يفسد الماء
وإن كان مسلما جنبا أو محدثا فانغمس بنية الغسل أو لطلب الدلو فقد تقدم حكمه، وإن كان
كافرا روي عن أبي حنيفة أنه ينزح ماؤها لأن بدنه لا يخلو عن نجاسة حقيقة أو حكما، وإن
أخرج ميتا وكان مسلما وقع بعد الغسل لم يفسد الماء وإن كان قبله فسد، والكافر يفسد قبل
الغسل وبعده وغير الآدمي إن كان نجس العين كالخنزير والكلب على القول بأنه نجس العين
نجس البئر، مات أو لم يمت، أصاب الماء فمه أو لم يصب. وعلى القول بأن الكلب ليس
بنجس العين لا ينجسه إذا لم يصل فمه إلى الماء وهو الأصح، وقيل دبره منقلب إلى الخارج
فلهذا يفسد الماء بخلاف غيره من الحيوانات. وأما سائر الحيوانات فإن علم ببدنه نجاسة
تنجس الماء وإن لم يصل فمه إلى الماء، وقيدنا بالعلم لأنهم قالوا في البقر ونحوه يخرج ولا
يجب نزح شئ وإن كان الظاهر اشتمال بولها على أفخاذها لكن يحتمل طهارتها بأن سقطت
عقب دخولها ماء كثيرا. هذا مع أن الأصل الطهارة، وإن لم يعلم ولم يصل فمه إلى الماء، فإن
كان مما يؤكل لحمه فلا يوجب التنجيس أصلا، وإن كان مما لا يؤكل لحمه من السباع
والطيور ففيه اختلاف المشايخ والأصح عدم التنجيس، وكذلك في الحمار والبغل والصحيح
أنه لا يصير الماء مشكوكا فيه، وقيل ينزح ماء البئر كله. وإن وصل لعابه فحكم الماء حكمه
206

فيجب نزح الجميع إذا وصل لعاب البغل أو الحمار إلى الماء. كذا في فتاوى قاضيخان
وغيرها. لكن في المحيط: ولو وقع سؤر الحمار في الماء يجوز التوضؤ به ما لم يغلب عليه
لأنه طاهر غير طهور كالماء المستعمل عند محمد ا ه‍. وظاهر كلام صاحب الهداية في
التجنيس أن معنى قولهم يجب نزح الجميع أنه لا لأجل النجاسة بل لأنه كان غير طهور،
ولا يجب النزاح إذا وقع في البئر ما يكره سؤره ووصل لعابه إلى الماء، لكن في فتاوى
قاضيخان ينزح منها دلاء عشرة أو أكثر احتياطا وثقة.
وفي التبيين: يستحب نزح الماء كله. ولا يخفى ما فيه. وهذا كله إذا خرج حيا، فإن
مات وانتفخ أو تفسخ فالواجب نزح الجميع في الجميع، وإن لم ينتفخ ولم يتفسخ فالمذكور في
ظاهر الرواية أنه على ثلاث مراتب كما دل عليه كلام المصنف والقدوري وصاحب الهداية
وغيرهم. ففي الفأرة ونحوها عشرون أو ثلاثون، وفي الدجاجة ونحوها أربعون أو خمسون
أو ستون، وفي الشاة ونحوها ينزح ماء البئر كله، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة جعله على
خمس مراتب ففي الحلمة واحد الحلم وهي القراد الضخم العظيم والفأرة الصغيرة عشر دلاء،
وفي الفارة الكبيرة عشرون، وفي الحمامة ثلاثون، وفي الدجاجة أربعون، وفي الآدمي ماء
البئر كله، وقد قدمنا أن مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار فذكر مشايخنا في كتبهم آثارا:
الأول عن أنس رضي الله عنه أنه قال في الفأرة ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح
منها عشرون دلوا. الثاني عن أبي سعيد الخدري أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح
منها أربعون دلوا. قال في الغاية: لم يذكر أحد من أهل الحديث فيما علمته حديث أنس
207

وإنما ذكره أصحابنا في كتب الفقه على عادتهم، وفي فتح القدير: ذكر مشايخنا ما أنس
والخدري غير أن قصور نظرنا أخفاه عنا. وقال الشيخ علاء الدين: إن الطحاوي رواهما من
طرق وتعقبه تلميذه الإمام الزيلعي المخرج بأني لم أجدها في شرح الآثار للطحاوي ولكنه
أخرج عن حماد بن أبي سليمان أنه قال في دجاجة وقعت في البئر فماتت قال: ينزح منها
قدر أربعين دلوا أو خمسين. وأجاب عنه المحقق السراج الهندي بأنه يجوز أن يكون الطحاوي
ذكرهما في كتاب اختلاف العلماء له أو في أحكام القرآن له أو في كتاب آخر، ولا يلزم من
عدم الوجدان في الآثار عدم الوجود مطلقا. الثالث حديث الزنجي في بئر زمزم وسنتكلم
عليه إن شاء الله تعالى واختلف في تفسير الدلو الوسط فقيل هي الدلو المستعمل في كل
بلد، وقيل المعتبر في كل بئر دلوها لأن السلف لما أطلقوا انصرف إلى المعتاد، واختاره في
المحيط والاختيار والهداية وغيرها وهو ظاهر الرواية لأنه مذكور في الكافي للحاكم. وقيل
ما يسع صاعا وهو ثمانية أرطال، وقيل عشرة أرطال، وقيل غير ذلك. والذي يظهر أن البئر
إما أن يكون لها دلو أو لا، فإن كان لها دلوا اعتبر به وإلا اتخذ لها دلو يسع صاعا وهو
ظاهر ما في الخلاصة وشرح الطحاوي والسراج الوهاج، وحينئذ فينبغي أن يحمل قول من
قدر الدلو على ما إذا لم يكن للبئر دلو كما لا يخفى، فلو نزح القدر الواجب فيها بحسب
دلوها أو دلوهم بدلو واحد كبير أجزأ وحكم بطهارتها وهو ظاهر المذهب، وكان الحسن بن
زياد يقول: لا تطهر إلا بنزح الدلاء المقدرة الواجبة لأن عند تكرار النزح ينبع الماء من أسفله
ويؤخذ من أعلاه فيكون كالجاري وهذ لا يحصل بدلو واحد، وإن كان عظيما، كذا في
البدائع ونقله في التبيين والنهاية عن زفر. قلنا: قد حصل المقصود وهو إخراج القدر الواجب
208

واعتبار معنى الجريان ساقط ولهذا لا يشترط التوالي في النزح حتى لو نزح في كل يوم دلو
جاز، ويتفرع على عدم اشتراط التوالي أنه إذا نزح البعض ثم ازداد في الغد، وقيل ينزح
كله، وقيل مقدار البقية. هذا مع أن في اشتراط التوالي خلافا نقله في معراج الدراية لكن
المختار عدم اشتراطه، وأنه إذا ازداد في اليوم الثاني لا ينزح إلا ما بقي. إليه أشار في
الخلاصة. وأشار المصنف رحمه الله بقوله بموت نحو فارة إلى أن ما يعادل الفأرة في الجثة
حكمه حكمها وأورد عليه سؤالا وجوابا في المستصفى فقال: فإن قيل قد مر أن مسائل الآبار
مبنية على اتباع الآثار والنص ورد في الفارة والدجاجة والآدمي وقد قيس ما عادلها بها قلنا:
بعد ما استحكم هذا الأصل صار كالذي ثبت على وقف القياس في حق التفريع عليه كما في
الإجارة وسائر العقود التي يأبى القياس جوازها ا ه‍. ولا يخفى ما فيه فإنه ظاهر في أن
للرأي مدخلا في بعض مسائل الآبار وليس كذلك فالأولى أن يقال: إن هذا إلحاق بطريق
الدلالة لا بالقياس كما اختاره في معراج الدراية.
قوله: (وأربعون بنحو حمامة) أي ينزح أربعون دلوا وسطا بموت نحو حمامة وقد تقدم
دليله قريبا، وقد ذكر المصنف في هذين النوعين القدر الواجب ولم يذكر المستحب ولم يتعرض
له الشارح الزيلعي أيضا، والمذكور في غيرهما أن المستحب في نحو الفأرة عشرة، وفي نحو
الدجاجة اختلف كلام محمد في الأصل والجامع الصغير، ففي الأصل ما يفيد أن المستحب
عشرون، وفي الجامع الصغير عشرة. قال في الهداية: وهو الأظهر. وعلل له في غاية البيان
بأن الجامع الصغير صنف بعد الأصل فأفاد أن الظهور من جهة الرواية لا من جهة الدراية.
وقد يقال من جهة الدراية إن الذي يضعف بسبب كبر الحيوان، إنما هو الواجب لا
المستحب. واعلم أن القدر المستحب المذكور لم يصرح به في ظاهر الرواية وإنما فهمه بعض
المشايخ من عبارة محمد رحمه الله حيث قال: ينزح في الفارة عشرون أو ثلاثون، وفي الهرة
أربعون أو خمسون فلم يرد به التخيير، بل أراد به بيان الواجب والمستحب، وليس هذا الفهم
بلازم بل يحتمل أنه إنما قال ذلك لاختلاف الحيوانات في الصغر والكبر ففي الصغير ينزح
الأقل، وفي الكبير ينزح الأكثر. وقد اختار هذا بعضهم كما نقله في البدائع، ولعل هذا هو
209

سبب ترك التعرض للمستحب في الكتاب، ثم هذا إذا كان الواقع واحدا، فأما إذا تعدد
فالفأرتان إذا لم يكونا كهيئة الدجاجة كفارة واحدة إجماعا، وكذا إذا كانا كهيئة الدجاجة إلا
فيما روي عن محمد أنه ينزح منها أربعون، والهرتان كالشاة إجماعا. وجعل أبو يوسف
الثلاث والأربع كفارة واحدة، والخمسة كالهرة إلى التسع، والعشرة كالكلب. وقال محمد:
الثلاث كالهرة، والست كالكلب، ولم يوجد التصحيح في كثير من الكتب لكن في المبسوط
أن ظاهر الرواية أن الثلاث كالهرة فيفيد أن الست كالكلب، وبه يترجح قول محمد وما كان
بين الفأرة والهرة فحكمه حكم الفارة، وما كان بين الهرة والكلب فحكمه حكم الهرة.
وهكذا يكون حكم الأصغر والهرة مع الفأرة كالهرة ويدخل الأقل في الأكثر. كذا في
التجنيس وغيره. وظاهره يخالف قول من قال إن الفارة إذا كانت هاربة من الهرة فوقعت في
البئر وماتت ينزح جميع الماء لأنها تبول غالبا فإن على هذا القول يجب نزح الجميع في الهرة مع
الفأرة لأنها تبول خوفا، قد جزم به جماعة لكن قال في المجتبى: وقيل بخلافه وعليه الفتوى
ا ه‍. ولعل وجهه أن في ثبوت كونها بالت شكا فلا يثبت بالشك.
قوله: (وكله بنحو شاة) أي ينزح ماء البئر كله بموت ما عادل الشاة في الجثة كالآدمي
والكلب، طاهرا كان أو نجسا، لأن ابن عباس وابن الزبير أفتيا بنزح الماء كله حين مات
زنجي في بئر زمزم كما رواه ابن سيرين وعطاء وعمر وبن دينار وقتادة وأبو الطفيل، أما
رواية ابن سيرين فأخرجها الدارقطني في سننه بإسناده عن محمد بن سيرين أن زنجيا مات في
زمزم فأمر به ابن عباس فأخرج وأمر بها أن تنزح قال: فغلبتهم عين جاءت من الركن قال
فأمر بها فسدت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم. والقباطي
جميع قبطية وهو ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء وكأنه منسوب إلى القبط وهم أهل مصر،
210

والمطارف أردية من خز مربعة لها أعلام، مفردها مطرف بكسر الميم وضمها. وأما رواية
عطاء فرواها ابن أبي شيبه في مصنفه والطحاوي في شرح الآثار أن حبشيا وقع في بئر زمزم
فمات فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها فجعل الماء لا ينقطع فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر
الأسود فقال ابن الزبير: حسبكم. وأما رواية عمرو بن دينار فرواها البيهقي والآمر فيها
بالنزح ابن عباس، وأما رواية قتادة فرواها ابن أبي شيبة في مصنفة والآمر ابن عباس. وأما
رواية أبي الطفيل فرواها البيهقي والآمر ابن عباس. فإن قالوا رواية ابن سيرين مرسلة لأنه لم
يلق ابن عباس بل سمعها من عكرمة وكذا قتادة لم يلق ابن عباس، وأما رواية ابن دينار ففيها ابن
لهيعة ولا يحتج به، وأما رواية أبي الطفيل ففيها جابر الجعفي ولا يحتج به، وأما عطاء فهو
وإن سمع من ابن الزبير بلا خلاف لكن وجد ما يضعف روايته وهو ما رواه البيهقي عن
سفيان بن عيينة أنه قال: إنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث
الزنجي الذي قالوا إنه وقع في بئر زمزم، ولا سمعت أحدا يقول نزحت زمزم. ثم أسند عن
الشافعي أنه قا: لا يعرف هذا عن ابن عباس، وكيف يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم الماء
لا ينجسه شئ ويتركه؟ وإن كان قد فعل فلنجاسة ظهرت على وجه الماء أو نزحها للتنظيف لا
للنجاسة فإن زمزم للشرب. فالجواب أن ابن سيرين لما أرسل عن ابن عباس وكان
الواسطة بينهما ثقة وهو عكرمة كان الحديث صحيحا محتجا به، وفي التمهيد لابن عبد البر
مراسيل ابن سيرين عندهم حجة صحاح كمراسيل سعيد بن المسيب. وأما الجعفي فقد وثقه
الثوري وشعبة واحتمله الناس ورووا عنه ولم يختلف أحد في الرواية عنه، ورواه الطحاوي
عنه أيضا، وأما ابن لهيعة قال ابن عدي: هو حسن الحديث يكتب حديثه وقد حدث عنه
الثقات الثوري وشعبة وعمرو بن الحارث والليث ابن سعد. وأما عدم علم سفيان والشافعي
فلا يصلح دليلا، في دين الله تعالى والاثبات مقدم على النفي، فإن لم يعرفا فقد عرف غيرهما
ممن ذكرناه من الاعلام الأئمة وإثباتهم مقدم على نفي غيرهم مع أن بينهما وبين ذلك الوقت
قريبا من مائة وخمسين سنة. وأما رواية ابن عباس الماء لا ينجسه شئ فيجوز أن يكون وقع
عنده دليل أوجب تخصيصه فإن روايته كعلم المخالف به فكما قال الشافعي رحمه الله بتنجيس
ما دون القلتين بدون تغير لدليل آخر وقع عنده أوجب تخصيص هذا الحديث لا يستبعد مثله
لابن عباس. وأما تجويز كون النزح لنجاسة ظهرت أو للتنظيف فمخالف لظاهر الكلام لأن
الظاهر من قول القائل مات فأمر بنزحها أنه للموت لا لنجاسة أخرى كقولهم زنى فرجم
وسها فسجد وسرق فقطع على أن عندهم لا ينزح أيضا للنجاسة، ولو كان للتنظيف لم
يأمر بنزحها ولم يبالغوا هذه المبالغة العظيمة من سد العين. وقول النووي كيف يصل هذا
211

الخبر إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة وسفيان بن عيينة كبير أهل مكة استبعاد بعد وضوح
الطريق ومعارض بأن جمهور الصحابة كعلي وأصحابه وابن مسعود وأصحابه وأبي موسى
الأشعري وأصحابه وابن عباس وجماعة من أصحابه وسلمان الفارسي وعامة أصحابه
والتابعين انتقلوا إلى الكوفة والبصرة ولم يبق بمكة إلا القليل، وانتشروا في البلاد للجهاد
والولايات وسمع الناس منهم، وانتشر العلم في جميع البلاد الاسلامية منهم حتى قال العجلي
في تاريخه: نزل الكوفة ألف وخمسمائة من الصحابة، ونزل قرقيسا ست مائة، فيجوز أن
يعرف أهل الكوفة أكثر من أهل مكة ولا ينكر هذا إلا مكابر، وما ذكره أيضا مخالف لقول
إمامه فقد حكى ابن عساكر عن الشافعي أنه قال لأحمد: أنتم أعلم بالاخبار الصحاح منا فإذا
كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه، كوفيا كان أو بصريا أو شاميا، فهلا قال: كيف
يصل إلى أهل الكوفة والبصرة والشام ويجهله أهل مكة والمدينة مع أن الغالب أن البئر إذا
نزحت لا يحضرها أهل البلد ولا أكثرهم وإنما يحضر من له بصارة أو من يستعان به.
قوله: (وانتفاخ حيوان أو تفسخه) أي ينزح ماء البئر كله لأجل انتفاخ الحيوان الواقع
فيها أو تفسخه مطلقا، صغر الحيوان أو كبر كالفارة والآدمي والفيل لانتشار البلة في أجزاء
الماء لأن عند انتفاخه تنفصل بلته وهي نجسه مائعة فصارت كقطرة من خمر، ولهذا لو وقع
ذنب فارة بنزح الماء كله لأن موضع القطع منه لا ينفك عن نجاسة بخلاف ما لو أخرجت
قبل الانتفاخ لأن شيئا من أجزائها لم يبق في الماء بعد إخراجها والانتفاخ أن تتلاشى أعضاؤه
والتفسخ أن تتفرق عضوا عضوا، وكذا إذا تمعط شعره فهو كالمنتفخ. قال في السراج
الوهاج: فإن جعل على موضع القطع شمعة لم يجب إلا ما يجب على الفأرة ا ه‍. فروع: لا
يفيد النزح قبل إخراج الواقع لأنه سبب النجاسة ومع بقائها لا يمكن الحكم بالطهارة إلا إذا
تعذر إخراجه وكان مستنجسا كما قدمناه، وإذا لم يوجد في البئر القدر الواجب نزح ما فيها
فإذا جاء الماء بعده لا ينزح منه شئ، لو غار الماء قبل النزح ثم عاد يعود نجسا لأنه لم يوجد
المطهر. وإن صلى رجل في قعرها وقد جفت تجزئه. كذا في التجنيس لكن اختار في فتح
القدير أنه لا يعود نجسا، وصرح في باب الأنجاس بأن فيه روايتين كنظائره والأصح عدم
العود لأنه بمنزلة النزح. كذا في المعراج وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، لكن إنما يكون
الأصح عدم العود فيما إذا جف أسفله، أما إذا غار ولم يجف أسفله فالأصح العود كما أفاده
السراج الوهاج. وإذا طهرت البئر يطهر الدلو والرشا والبكرة ونواحي البئر ويد المستقي لأن
نجاسة هذه الأشياء بنجاسة البئر فتطهر بطهارتها للحرج كدن الخمر يطهر تبعا إذا صار خلا،
وكيد المستنجي تطهر بطهارة المحل، وكعروة الإبريق إذا كان في يده نجاسة رطبة فجعل يده
عليها كلما صب على اليد فإذا غسل اليد ثلاثا طهرت العروة بطهارة اليد، ولو سال النجس
على الآخر ثم وصل إلى الماء فنزحها طهارة للكل، وقيل الدلو طاهر في حق هذه البئر لا
212

غيرها كدم الشهيد طاهر في حق نفسه، ولا يجب نزح الطين في شئ من الصور لأن الآثار
إنما وردت بنزح الماء، وفي المجتبى: وكلما نزح من البئر شئ طهر من الدلو بقدره وليتأمل
فيه. وفي فتاوى قاضيخان: ولا يطين المسجد بطين البئر التي نزحت احتياطا. ثم نجاسة
البئر بعد إخراج الفارة وغيرها غليظة، ثم بقدر ما ينزح تخف، فلو صب الدلو الأول من بئر
وجب فيها نزح عشرين في بئر طاهرة ينزح من الثانية عشرون، ولو صب الثاني ينزح تسعة
عشر وكذا الثالث على هذا، ولو صب الدلو الأخير ينزح دلو مثله، والأصل في هذا أن البئر
الثانية تطهر بما تطهر به الأولى. ولو أخرجت الفارة وألقيت في بئر طاهرة وصب أيضا فيها
عشرون من الأولى يجب إخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا لأن الأولى تطهر به فكذا الثانية،
ولو صب الدلو العاشرة في بئر طاهرة ينزح منها عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية
أبي حفص إحدى عشرة وهو الأصح. قال الأسبيجابي: ووفق بين الروايتين فالأولى سوى
المصبوب والثانية مع المصبوب فلا خلاف. ولو صب ماء بئر نجسة في بئر آخر وهي نجسة
أيضا ينظر بين المصبوب وبين الواجب فيها فأيهما كان أكثر أغنى عن الأقل، فإن استويا فنزح
أحدهما يكفي. مثاله بئران ماتت في كل منهما رفاة فنزح من إحداهما عشرة مثلا وصب في
الأخرى ينزح عشرون ولو صب دلو واحد فكذلك، ولو ماتت فأرة في بئر ثالثة فصب من
إحدى البئرين عشرون ومن الأخرى عشرة ينزح ثلاثون، ولو صب فيها من كل عشرون نزح
أربعون، وينبغي أن ينزح المصبوب، ثم الواجب فيها على رواية أبي حفص، ولو نزح دلو من
الأربعين وصب في العشرين ينزح الأربعون لأنه لو صب في بئر طاهرة ينزح كذلك فكذا
هذا. وهذا كله قول محمد، وعن أبي يوسف روايتان في رواية ينزح جميع الماء، وفي رواية
ينزح الواجب والمصبوب جميعا فقيل له: إن محمدا روى عنك الأكثر فأنكر..
وكذا قال أبو يوسف في بئرين وقع في كل منهما سنور فنزح من إحداهما دلو وصب
في الأخرى ينزح ماؤها كله على الرواية الأولى لأن الدلو الذي نزح أخذ حكم النجاسة،
ولهذا لو أصاب الثوب نجسه ويجب غسله فصار كما إذا وقع في البئر نجاسة أخرى،
واقتصر على هذه الرواية في التجنيس. ودفعه في فتح القدير بأن هذا إنما يظهر وجهه في
المسألة السابقة وهي ما إذا كان المصبوب فيها طاهرة، أما إذا كانت نجسة فلا، لأن أثر
نجاسة هذا الدلو إنما يظهر فيما إذا ورد على طاهر وقد ورد هنا على نجس فلا يظهر أثر
نجاسته فتبقى الموردة على ما كانت فتطهر بإخراج القدر الواجب. وجه دفعه عن المسألة
213

السابقة ما في المبسوط من أنا نتيقن أنه ليس في هذا البئر إلا نجاسة فأرة ونجاسة فارة
يطهرها عشرون دلوا ا ه‍. وفي المحيط معزيا إلى النوادر: فإن ماتت في حب فأريق الماء في
البئر قال محمد: ينزح الأكثر من المصبوبة ومن عشرين دلوا وهو الأصح لأن الفارة لو وقعت
فيها ينزح عشرون، فكذا إذا صب فيها ما وقع فيه إلا إذا زاد المصبوب على ذلك فتنزح
الزيادة مع العشرين. وقال أبو يوسف: ينزح المصبوب وعشرون دلوا لأنه يصير بمنزلة ما لو
وقعت الفارتان في البئر يجب نزحهما ونزح عشرين دلوا كذا هذا. وفي الكافي والمستصفى
والبدائع: إن الفارة إذا وقعت في الحب - بالحاء المهملة - يهراق الماء كله ولم يعلل له. ووجهه
أن الاكتفاء بنزح البعض مخصوص بالآبار ثبت بالآثار على خلاف القياس فلا يلحق به غيره،
فعلى هذا إذا وقعت الفارة في الصهريج أو الفسقية ولم يكونا عشرا في عشر فإن الماء كله
يهراق كما لا يخفى، ولا يحكم بطهارة البئر ما لم ينفصل الدلو الأخير عن رأس البئر عندهما
لأن حكم الدلو حكم المتصل بالماء والبئر. وعن، محمد يطهر بالانفصال عن الماء ولا اعتبار
بما يتقاطر للضرورة. وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا انفصل الدلو الأخير عن الماء ولم ينفصل
عن رأس البئر واستبقى من مائها رجل ثم أعاد الدلو، فعندهما الماء المأخوذ قبل العود نجس،
وعنده طاهر. كذا في التبيين. وظاهره أن عود الدلو قيد وليس كذلك بل الماء المأخوذ قبل
الانفصال عن رأس البئر نجس عندهما مطلقا، عاد الدلو أو لا، ولهذا لم يذكر هذا القيد في
فتح القدير ومعراج الدراية والمحيط وكثير من الكتب فكان زائدا. وفي البدائع لم يذكر في
ظاهر الرواية قول أبي حنيفة وإنما ذكره الحاكم. وفي التجنيس: إذا نزح الماء النجس من البئر
يكره أن يبل به الطين ويطين به المسجد أو أرضه لنجاسته بخلاف السرقين إذا جعله في الطين
لأن في ذلك ضرورة لأنه لا يتهيأ إلا بذلك ا ه‍. والبعد بين البالوعة والبئر المانع من وصول
النجاسة إلى البئر خمسة أذرع في رواية أبي سليمان، وسبعة في رواية أبي حفص. وقال
214

الحلواني: المعتبر الطعم أو اللون أو الريح فإن ليتغير جاز وإلا فلا، ولو كان عشرة أذرع.
قال في الخلاصة وفتاوى قاضيخان: والتعويل عليه، وصححه في المحيط. وإن ماتت الفارة
في غير الماء فإن كان مائعا تنجس جميعه وجاز استعماله في غير الأبدان. كذا قالوا. وينبغي
أن لا يستصبح به في المساجد لكونه ممنوعا عن إدخال النجاسة المسجد، وتجوز بيعه
وللمشتري الخيار إن لم يعلم به. وإن كان جامدا ألقيت الفارة وما حولها وكان الباقي طاهرا
أو جاز الانتفاع بما حولها في غير الأبدان، وفي المبسوط: وحد الجمود والذوب أنه إذا كان
بحال لوقور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو
ذائب. وذكر الأسبيجابي أن الجلد إذا دبغ بذلك السمن يغسل الجلد بالماء ويطهر والمتشرب
فيه معفو عنه، ولمن اشتراه الخيار إن لم يعلم به. وفي السراج الوهاج: وإن ماتت الفارة في
الخمر فصار خلا قال بعضهم: الخل مباح، وقيل لا يحل شربه، وقيل إذا لم تتفسخ فيه جاز
وإن تفسخت لم يجز لأنه قد صار فيه جزء ومنها، وهذا القول أحسن. وهذا إذا استخرجت
منه قبل أن يصير خلا، أما إذا صار خلا والفارة فيه لا يحل شربه، سواء كانت متفسخة أو
لا لأنه نجس ا ه‍. وفي المحيط والتنجيس: بالوعة حفروها وجعلوها بئر ماء، فإن حفروها
مقدار ما وصلت إليه النجاسة فالماء طاهر وجوانبها نجسة، وإن حفروها أوسع من الأول
طهر الماء والبئر كله ا ه‍. وذكر الولوالجي: ولو نزح ماء بئر رجل بغير إذنه حتى يبست لا
شئ عليه لأن صاحب البئر غير مالك للماء، ولو صب ماء رجل كان في الحب يقال له
إملأ الاناء لأن صاحب الحب مالك للماء وهو من ذوات الأمثال فيضمن مثله. وفي
الخلاصة: والإوز كالدجاج إن كان صغيرا، وإن كان كبيرا فهو كالجمل العظيم ينزح كل
الماء. وفي فتح القدير: ولو تنجست بئر فأجرى ماؤها بأن حفر لها منفذ فصار الماء يخرج منه
حتى خرج بعضه طهرت لوجود سبب الطهارة وهو جريان الماء وصار كالحوض إذا تنجس
فأجرى فيه الماء حتى خرج بعضه وقد ذكرناه ا ه‍.
215

قوله: (ومائتان لو لم يكن نزحها) أي ينزح مائتا دلو إن كانت البئر معينة لا يمكن
نزحها بسبب أنهما كلما نزحوا نبع من أسفله مثل ما نزحوا أو أكثر. وقد اختلفت الروايات
فيها فما في الكتاب مروي عن محمد قالوا إنما أفتى به بناء على ما شاهد في بغداد لأن
الغالب ماء آبارها كان لا يزيد على ثلاثمائة، وروي عن أبي حنيفة التقدير بمائة دلو قالوا:
أفتى بذلك بناء على قلة المياه في آبار الكوفة. وفي الهداية: وعن أبي حنيفة في الجامع
الصغير في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشئ كما هو دأبه في مثله ا ه‍. وإنما
لم يقدرها لأنها متفاوتة والنزح إلى أن يظهر العجز أمر صحيح في الشرع لأن الطاعة بحسب
الطاقة. وقيل: على قول أبي حنيفة يجب قدر ما يغلب على ظنهم أنه جميع الماء عند ابتداء
النزح والأصح تفسير الغلبة بالعجز. كذا ذكر قاضيخان. وعن أبي يوسف وجهان: أحدهما
أن تحفر حفيرة عمقها ودورها مثل موضع الماء منها وتجصص على قول بعض المشايخ ويصب
فيها، فإذا امتلأت فقد نزح ماؤها. والثاني أن ترسل قصبة في الماء ويجعل علامة لمبلغ الماء ثم
ينزح عشر دلاء مثلا، ثم تعاد القصبة فينظركم انتقص، فإن انتقص العشر فهو مائة قالوا:
ولكن هذا لا يستقيم إلا إذا كان دور البئر من أول حد الماء إلى قعر البئر متساويا، وإلا لا
يلزم إذا نقص شبر بنزح عشر من أعلى الماء أن ينقص شبر بنزح مثله من أسفله. وعن أبي
نصر محمد بن سلام أنه يؤتى برجلين لهما بصارة بأمر الماء، فإذا قدراه بشئ وجب نزح
ذلك القدر وهو الأصح والأشبه بالفقه. وفي معراج الدراية أنه المختار لكونهما نصاب
الشهادة الملزمة، واشتراط المعرفة لهما بالماء باعتبار أن الأحكام إنما تستفاد ممن له علم، أصله
قول تعالى * (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (النحل: 43) وظاهر ما في النقاية
الاكتفاء بواحد لأنه أمر ديني فيكتفي بالواحد، لكن أكثر الكتب على الاثنين وقد صحح هذا
القول جماعة واختاروه، وصحح الإمام حسام الدين في شرح الجامع الصغير اعتبار الغلبة
وهي العجز، وذكر أن الفتوى، على أنه يفوض إلى رأي المبتلى به. وفي الخلاصة أن الفتوى
على أنه ينزح ثلاثمائة، وكذا في معراج الدراية معزيا إلى فتاوى العتابي أن المختار ما عن
محمد. فالحاصل أنه قد اختلف التصحيح في المسألة واختلفت الفتوى فيها، والافتاء بما عن
محمد أسهل على الناس، والعمل بما عن أبي نصر أحوط، ولهذا قال في الاختيار: وما روي
عن محمد أيسر على الناس لكن لا يخفى ضعفه فإنه إذا كان الحكم الشرعي نزح جميع الماء
للحكم بنجاسته، فالقول بطهارة البئر بالاقتصار على نزح عدد مخصوص من الدلاء يتوقف
216

على سمعي يفيده، وأين ذلك؟ بل المأثور عن ابن عباس وابن الزبير خلافه. واختار بعض
المتأخرين أن الأظهر إن أمكن سد منابع الماء من غير عسر سدت وأخرج ما فيها من الماء،
وإن عسر ذلك فإن علم أن كون محل الماء منها على منوال واحد طولا وعرضا في سائر
أجزائه أرسل في الماء قصبة وعمل في ذلك بما قدمناه، وإن لم يقع العلم بذلك فإن أمكن
العمل بمقداره من عدلين لهما بصارة بمياه الآبار أخذ بقولهما، وإن تعذر العلم بمقدار الماء
من عدلين بصيرين بذلك نزحوا حتى يظهر لهم العجز بحسب غلبة ظنهم ا ه‍. وهذا تفصيل
حسن للمتأمل فليكن العمل عليه.
قوله (ونجسها منذ ثلاث فارة منتفخة جهل وقت وقوعها وإلا مذ يوم وليلة) أي نجس
البئر منذ ثلاثة أيام بلياليها فأرة ميته منتفخة لا يدري وقت وقوعها وإن لم تكن منتفخة نجسها
مذ يوم وليلة. قال المصنف في المستصفى: أي مذ ثلاث ليال إذ لو أريد به الأيام لقال مذ
ثلاثة لكن الليالي تنتظم ما بإزائها من الأيام كما أن الأيام تنتظم ما بإزائها من الليالي كقوله
تعالى * (أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) أي وعشر ليال بأيامها اه‍. فعلم أنه لا حاجة إلى
ما ذكر الزيلعي هنا. أعلم أن البئر تنجس من وقت وقوع الحيوان الذي وجد ميتا فيها إن
علم ذلك الوقت وإن لم يعلم فقد صار الماء مشكوكا في طهارته ونجاسته، فإذا توضؤوا منها
وهم متوضؤون أو غسلوا ثيابهم من غير نجاسة فإنهم لا يعيدون إجماعا لأن الطهارة لا تبطل
217

بالشك، وإن توضؤوا منها وهم محدثون أو اغتسلوا من جنابة أو غسلوا ثيابهم عن نجاسة
ففي الثالث لا يعيدون وإنما يلزمهم غسلها على الصحيح، ويحكم بنجاستها في الحال من غير
اسناد لأنه من باب وجود النجاسة في الثوب. ومن وجد في ثوبه نجاسة أكثر من قدر
الدرهم ولم يدر متى أصابته لا يعيد شيئا من صلاته بالاتفاق وهو الصحيح. كذا في المحيط
والتبيين، وتعقبه شارح منية المصلي بأنه إذا كان يلزمهم غسلها لكونها مغسولة بماء البئر فيما
تقدم حال العلم باشتمال البئر على الفأرة بدون يوم وليلة أو بدون ثلاثة أيام، كيف يكون
218

الحكم بنجاسة الثياب من باب الاقتصار على التنجس في الحال لا مستندا إلى ما تقدم فلا
يتجه هذا على قوله لأنه يوجب مع الغسل الإعادة لا على قولهما لأنهما لا يوجبان غسل
الثوب أصلا اه‍. وفي الأول والثاني خلاف، فعند أبي حنيفة التفصيل المذكور في الكتاب.
وقالا: يحكم بنجاستها وقت العلم بها ولا يلزمهم إعادة شئ من الصلوات ولا غسل ما
أصابه ماؤها قبل العلم وهو القياس لأن اليقين لا يزول بالشك لأنا نتيقن بطهارتها فيما مضى
وقد شك في النجاسة لاحتمال أنها ماتت في غير البئر هم ألقتها الريح العاصف فيها أو
بعض السفهاء أو الصبيان أو بعض الطيور كما حكي عن أبي يوسف أنه كان يقول بقوله إلى
أن رأى حدأة في منقارها فأرة ميتة فألقتها في البئر فرجع عن قوله إلى هذا القول، وقياسا
على النجاسة إذا وجدها في ثوبه، وعلى ما إذا رأت المرأة في كرسفها دما ولا تدري متى
نزل، وعلى ما لو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت أسلمت قبل
موته وقالت الورثة بعده فالقول لهم، والجامع بينهما أن الحادث يضاف إلى أقرب أوقاته.
ولأبي حنيفة وهو الاستحسان أن الإحالة على السبب الظاهر واجب عند خفاء المسبب والكون
219

في الماء قد تحقق وهو سبب ظاهر للموت والموت فيه في نفس الامر قد خفي، فيجب
اعتباره مات فيه إحالة على السبب الظاهر عند خفاء المسبب دون الموهوم وهو الموت بسبب
آخر كمن جرح إنسانا ولم يزل صاحب فراش حتى مات يضاف موته إلى الجرح حتى
يجب القصاص وإن احتمل موته بسبب آخر، وكذا إذا وجد قتيل في محله يضاف القتل إلى
أهلها حتى تجب القسامة والدية عليهم وإن احتمل أنه قتل في موضع آخر غير أن الانتفاخ
دليل التقادم فيقدر بالثلاث، ولهذا يصلي على القبر إلى ثلاثة أيام على ما قيل، وعدم الانتفاخ
دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة لأن ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها لتفاوتها. وأما
مسألة النجاسة فقد قال المعلى بن منصور الرازي تلميذهما إنها على الخلاف، فإن كانت يابسة
يعيد صلاة ثلاثة أيام، وإن كانت طرية يعيد صلاة يوم وليلة عنده فلا يحتاج إلى الفرق، ولو
سلم أنها على الوفاق كما قدمنا أنه الأصح فالفرق له واضح وهو أن الثوب بمرأى عينه يقع
عليه بصره فلو كانت النجاسة أصابته قبل ذلك لعلم بها بخلاف البئر فإنها غائبة عن بصره
فلا يصح القياس، وما ذكره المعلى رحمه الله يحتمل كونه رواية عن الإمام وهو ظاهر ما ذكره
القاضي الأسبيجابي وصاحب البدائع، ويحتمل أنه تفقه منه بطريق القياس على مسألة البئر
وهو ظاهر ما في المحيط وهو الحق فقد قال الحاكم الشهيد: إن المعلى قال ذلك من دأب
نفسه. وأما مسألة الميراث فالمرأة محتاجة إلى الاستحقاق والظاهر لا يصلح حجة لها وإنما
يصلح للدفع والورثة هم الدافعون. وفي المجتبى: وحكم ما عجن به حكم الوضوء
والغسل. وكان الصباغي يفتي بقول أبي حنيفة فيما يتعلق بالصلاة، وبقولهما فيما سواه. كذا
في معراج الدراية. وفي غاية البيان: وما قاله أبو حنيفة احتياط في أمر العبادة، وما قالاه
عمل باليقين ورفق بالناس. وفي تصحيح الشيخ قاسم رحمه الله وفي فتاوى العتابي: المختار
قولهما. قلت: هو المخالف لعامة الكتب فقد رجح دليله في كثير من الكتب وقالوا: إنه
الاحتياط فكان العمل عليه. وذكر الأسبيجابي أن ما عجن به قال بعضهم يلقى إلى الكلاب،
وقال بعضهم يعلف المواشي، وقال بعضهم يباع من شافعي المذهب أو داودي المذهب اه‍.
واختار الأول في البدائع وجزم به بصيغة قال مشايخنا يطعم للكلاب.
فروع: ذكر ابن رستم في نوادره عن أبي حنيفة: من وجد في ثوبه منيا أعاد من آخر
ما احتلم، وإن كان دما لا يعيد لأن دم غيره قد يصيبه، والظاهر أن الإصابة لم تتقدم زمان
وجوده، فأما مني غيره لا يصيب ثوبه فالظاهر أنه منيه فيعتبر وجوده من وقت وجود سبب
220

خروجه حتى إن الثوب لو كان مما يلبسه هو وغيره يستوي فيه حكم الدم والمني. ومشايخنا
قالوا في البول يعتبر من آخر ما بال، وفي الدم من آخر ما رعف، وفي المني من آخر ما
احتلم أو جامع. كذا في البدائع. ومراده بالاحتلام النوم لأنه سببه بدليل ما نقله في المحيط
عن ابن رستم أنه يعيد من آخر نومه نامها فيه. واختار في المحيط أنه لا يعيد شيئا لو رأى
دما. ولو فتق جبة فوجد فيها فارة ميتة ولم يعلم متى دخل فيها فإن لم يكن للجبة ثقب يعيد
الصلاة من يوم ندف القطن فيها، وإن كان فيه ثقب يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها عند أبي
حنيفة كما في البئر. كذا في التنجيس والمحيط. وفي الذخيرة: ولا بأس برش الماء النجس
في الطريق ولا يسقى للبهائم. وفي خزانة الفتاوى: لا بأس بأن يسقى الماء النجس للبقر
والإبل والغنم وحيث وجبت الإعادة على قوله فالمعاد الصلوات الخمس والوتر وسنة الفجر.
كذا في شرح منية المصلي.
قوله (والعرق كالسؤر) لما فرغ من بيان فساد الماء وعدمه باعتبار وقوع نفس الحيوانات
فيه ذكرهما باعتبار ما يتولد منها. والسؤر مهموز العين بقية الماء التي يبقيها الشارب في الاناء
أو في الحوض ثم استعير لبقية الطعام وغيره، والجمع الأسئار والفعل أسأر أي أبقى مما شرب
أي عرق كل شئ معتبر بسؤره طهارة ونجاسة وكراهة لأن السؤر مختلط باللعاب وهو
والعرق متولدان من اللحم إذ كل واحد منهما رطوبة متحللة من اللحم فأخذا حكمه. ولا
ينتقض بعرق الحمار فإنه طاهر مع أن سؤره مشكوك فيه لأنا نقول: خص بركوبه صلى الله عليه وسلم الحمار
معروريا والحر حر الحجاز والثقل ثقل النبوة فلا بد أن يعرق الحمار. قال في المغرب: فرس
عري لا سرج عليه ولا لبد وجمعه أعراء، ولا يقال فرس عريان كما لا يقال رجل عرى،
واعرورى الدابة ركبه عريا ومنه كان عليه السلام يركب الحمار معروريا وهو حال من ضمير
الفاعل المستكن ولو كان من المفعول لقيل معرورى أه‍. أو لأنه لا فرق بين عرقه وسؤره فإن
سؤره طاهر على الأصح والشك إنما هو في طهوريته، وقد ذكر قاضيخان في شرح الجامع
221

الصغير ثلاث روايات في لعابه وعرقه إذا أصاب الثوب أو البدن في رواية مقدر بالدرهم،
وفي رواية بالكثير الفاحش، وفي رواية لا يمنع وإن فحش وعليه الاعتماد، وذكر شمس
الأئمة الحلواني أن عرقه نجس لكن عفي عنه للضرورة. فعلى هذا لو وقع في الماء القليل
يفسده وهكذا روي عن أبي يوسف أه‍. وذكر الولوالجي رحمه الله أن عرق الحمار والبغل إذا
أصاب الثوب لا يفسده، ولو وقع في الماء أفسده يعني به لم يبق طهورا لأن عرقهما إذا وقع
في الماء صار الماء مشكلا كما في لعابهما، والماء المشكل طاهر لكن كونه طهورا مشكل فلا
يزول الحدث الثابت بيقين بالشك اه‍. وهكذا في التجنيس. واعلم أن تفسير الفساد بعدم
الطهورية فيه نظر لأنه إذا كان كل من العرق واللعاب طاهرا كيف يخرج الماء به عن الطهورية
مع أنه فرض قليل والماء غالب عليه، فلعل الأشبه ما ذكره قاضيخان في تفسير قوله شمس
الأئمة إنه نجس وعفي عنه في الثوب والبدن للضرورة في الماء كما لا يخفى. فالحاصل أنه لا
فرق بين العرق والسؤر على ما هو المعتمد من أن كلا منهما طاهر، وإذا أصاب الثوب أو
البدن لا ينجسه، وإذا وقع في الماء صار مشكلا، ولهذا قال في المستصفى: ظاهر المذهب أن
العرق واللعاب مشكوك فيهما أه‍. فظهر بهذا كله أن قولهم إن العرق كالسؤر على إطلاقه من
غير استثناء، وظهر به أيضا أن ما نقله الاتقاني في شرح البزدوي من الاجماع على طهارة عرقه
فليس مما ينبغي وكأنه بناه على أنها هي التي استقر عليها الحال.
قوله (وسؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه طاهر) أما الآدمي فلان لعابه متولد من
لحم طاهر وإنما لا يؤكل لكرامته، ولا فرق بين الجنب والطاهر والحائض والنفساء والصغير
والكبير والمسلم والكافر والذكر والأنثى. كذا ذكر الزيلعي رحمه الله. يعني أن الكل طاهر
طهور من غير كراهة وفيه نظر، فقد صرح في المجتبى من باب الحظر والإباحة أنه يكره سؤر
المرأة للرجل وسؤره لها ولهذا لم يذكر الذكر والأنثى في كثير من الكتب لكن قد يقال:
الكراهة المذكورة إنما هو في الشرب لا في الطهارة. واستثنوا من هذا العموم سؤر شارب
الخمر إذا شرب من ساعته فإن سؤره نجس لا لنجاسة لحمه بل لنجاسة فمه كما لو أدمى
فوه، أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه ثم شرب لا ينجس. كذا في كثير من الكتب.
222

وفي الخلاصة والتجنيس: رجل شرب الخمر إن تردد في فيه من البزاق بحيث لو كان
ذلك الخمر على ثوب طهرها البزاق طهر فمه أه‍. وهذا هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة
وأبي يوسف ويسقط اعتبار الصب عند أبي يوسف للضرورة، ونظيره لو أصاب عضو
نجاسة فلحسها حتى لم يبق أثرها، أو قاء الصغير على ثدي أمه ثم مصه حتى زال الأثر
طهر خلافا لمحمد في جميعها بناء على عدم جواز إزالة النجاسة بغير الماء المطلق كما سيأتي
إن شاء الله تعالى. وفي بعض شروح القدوري: فإن كان شارب الشارب طويلا ينجس الماء
وإن شرب بعد ساعات لأن الشعر الطويل لما تنجس لا يطهر باللسان اه‍. وكأنه لأنه لا
يتمكن اللسان من استيعابه بإصابة بله إياه بريقه ثم أخذ ما عليه من البلة النجسة مرة بعد
أخرى وإلا فهو ليس دون الشفتين والفم في تطهيره بالريق تفريعا على قول أبي حنيفة وأبي
يوسف في جواز التطهير من النجاسة بغير الماء. كذا في شرح منية المصلي. فإن قيل:
ينبغي أن يتنجس سؤر الجنب على القول بنجاسة المستعمل لسقوط الفرض به قلنا: ما
يلاقي الماء من فمه مشروب، سلمنا أنه ليس بمشروب لكن لحاجة فلا يستعمل به كإدخال
يده في الحب إخراج كوزه على ما قدمناه في المياه، وقد نقلوا روايتين في رفع الحدث بهذا
الشرب، وظاهر كلامهم ترجيح أنه رافع فلا يصير الماء مستعملا للحرج لكن صرح
يعقوب باشا بأن الصحيح أن الفرض لا يسقط به. ويدل على طهارة سؤر الآدمي مطلقا ما
رواه مالك من طريق الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء
وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الاعرابي وقال: الأيمن فالأيمن.
وروى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أشرب وأنا حائض فأناوله
النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في. ولما أنزل النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشركين في المسجد ومكنه
من المبيت فيه على ما في الصحيحين علم أن المراد بقوله تعالى * (إنما المشركون نجس) *
(التوبة: 28 النجاسة في اعتقادهم وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة فمد يده ليصافحه
فقبض يده وقال: إني جنب. فقال عليه السلام: المؤمن ليس بنجس. ذكره البغوي في
المصابيح. وأما سؤر الفرس ففيه روايتان عن أبي حنيفة، فظاهر الرواية عنه طهوريته من
غير كراهة وهو قولهما لأن كراهة لحمه عنده لاحترامه لأنه آلة الجهاد لا لنجاسته فلا يؤثر
في كراهة سؤره وهو الصحيح. كذا في البدائع وغيره. وأما سؤر ما يؤكل لحمه فلانه
223

متولد من لحم طاهر فأخذ حكمه. ويستثنى منه الإبل الجلالة والبقرة الجلالة والدجاجة
والمخلاة كما سيأتي. والجلالة التي تأكل الجلة بالفتح وهي في الأصل البعرة، وقد يكنى
بها عن العذرة وهي هنا من هذا القبيل كما أشار إليه في المغرب. ويلحق بما يؤكل ما
ليس له نفس سائلة مما يعيش في الماء وغيره كذا في التبيين.
قوله (والكلب والخنزير وسباع البهائم نجس) أي سؤر هذه الأشياء نجس. والمراد
بسباع البهائم نحو الأسد والفهد والنمر. قال الزيلعي رحمه الله: قوله والكلب إلى آخره
بالرفع أجود على أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وذلك جائز بالاتفاق إذا كان
الكلام مشعرا بحذفه وقد وجد هنا ما يشعر بحذفه وهو تقدم ذكر السؤر، ولو جر على أنه
معطوف على ما قبله من المجرور لا يجوز عند سيبويه لأنه يلزم منه العطف على عاملين وهو
ممتنع عند البصريين، ويجوز عند الفراء. ولو قيل إنه مجرور على أنه حذف
المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه كان جائزا إلا أنه قليل نحو قولهم ما كل سوداء تمرة ولا كل بيضاء
شحمة. ويشترط أن يتقدم في اللفظ ذكر المضاف أه‍. وقد أطال رحمه الله الكلام مع عدم
التحرير لأن قوله لأنه يلزم منه العطف على عاملين مجاز وإنما يلزم منه العطف على معمولي
عاملين لأن الكلب معطوف على الآدمي وهو معمول للمضاف أعني سؤر، ونجس معطوف
على طاهر وهو معمول المبتدأ أعني سؤر، فكان فيه العط ف على معمولين وهما الآدمي وطاهر
لعاملين وهما المضاف والمبتدأ. هذا إذا كان المضاف عاملا في المضاف إليه، أما إذا كان العامل
هو الإضافة فلا إشكال أنه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين. قال في المغني:
وقولهم على عاملين فيه تجوز. قال الشمني: يعني بحذف المضاف. قال الرضي: معنى
قولهم العطف على عاملين أن تعطف بحرف واحد معمولين مختلفين كانا في الاعراب
كالمنصوب والمرفوع أو متفقين كالمنصوبين على معمولي عاملين مختلفين نحو إن زيدا ضرب
عمرا وبكرا خالدا فهو عطف متفقي الاعراب على معمولي عاملين مختلفين. وقولك إن زيدا
ضرب غلامه وبكرا أخوه عطف مختلفي الاعراب ولا يعطف المعمولان على عاملين بل على
معموليهما فهذا القول منهم على حذف المضاف أه‍. وفي المغني: الحق جوازا العطف على
معمولي عاملين في نحو في الدار زيد والحجرة عمرو أه‍. أما سؤر الكلب فهو طاهر عند
مالك ومن تبعه ولكن يغسل الاناء منه سبعا تعبدا. وقال الشافعي: إنه نجس ويغسل الاناء
منه سبعا إحداهن بالتراب. لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يغسل الاناء إذا
224

ولغ فيه الكلب سبع مرا ت أولاهن أو أخراهن بالتراب رواه الأئمة الستة في كتبهم. وفي
لفظ لمسلم وأبي داود طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات ورواه
أيضا مسلم من حديث أبي هريرة إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع
مرات. وروى مالك في الموطأ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات قال ابن عبد البر: إن حديث أبي
هريرة تواترت طرقه وكثرت عنه. والامر بالإراقة دليل التنجيس وكذا الطهور لأنه مصدر
بمعنى الطهارة فيستدعي سابقية الحدث أو الخبث ولا حدث في الاناء فتعين الثاني، ولأنه
متى دار الحكم بين كونه تعبديا ومعقول المعنى كأن جعله معقول المعنى هو الوجه لندرة التعبد
وكثرة التعقل.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم يغسل الاناء من ولوغ الكلب ثلاثا روي عن أبي هريرة فعلا وقولا
مرفوعا وموقوفا من طريقين: الأول أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح عن عطاء عن أبي
هريرة إذا ولغ الكلب في الاناء فاهرقه ثم اغسله ثلاث مرات وأخرجه بهذا الاسناد عن أبي
هريرة أنه قال إذا ولغ الكلب في الاناء أهرقه وغسل ثلاث مرات قال الشيخ تقي الدين في
الالمام: هذا إسناد صحيح الطريق. الثاني أخرجه ابن عدي في الكامل عن الحسين بن علي
الكرابيسي بسنده إلى عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ولغ الكلب في إناء
أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات ولم يرفعه غير الكرابيسي. قال ابن عدي قال لنا أحمد
الحسين الكرابيسي يسأل عنه وله كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس من المسائل وذكر فيها
أخبارا كثيرة وكان حافظا لها ولم أجد له منكرا غير هذا الحديث. والذي حمل أحمد بن حنبل
عليه إنما هو من أجل اللفظ بالقرآن، فأما في الحديث فلم أر به بأسا أه‍. ومن المعلوم أن
الحكم بالضعف والصحة إنما هو في الظاهر، أما في نفس الامر فيجوز صحة ما حكم
بضعفه ظاهرا وثبوت كون مذهب أبي هريرة ذلك كما تقدم بالسند الصحيح قرينة تفيد أن
هذا مما أجاده الراوي المضعف، وحينئذ يعارض حديث السبع ويقدم عليه لأن مع حديث
السبع دلالة التقدم للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أول الأمر حتى أمر بقتلها
والتشديد في سؤرها يناسب كونه إذ ذاك وقد ثبت نسخ ذلك، فإذا عارض قرينه معارض
كانت التقدمة له، ولو طرحنا الحديث بالكلية كان في عمل أبي هريرة على خلاف حديث
السبع وهو رواية كفاية لاستحالة أن يترك القطعي بالرأي منه، وهذا لأن ظنية خبر الواحد
إنما هو بالنسبة إلى غير راوية، فأما بالنسبة إلى رواية الذي سمعه من في النبي صلى الله عليه وسلم فقطعي
225

حتى ينسخ به الكتاب إذا كان قطعي الدلالة في معناه فلزم أنه لا يتركه إلا لقطعه بالناسخ إذ
القطعي لا يترك إلا لقطعي فبطل تجويزهم تركه بناء على ثبوت ناسخ في اجتهاده المحتمل
للخطأ. وإذا علمت ذلك كان تركه بمنزلة روايته للناسخ بلا شبهة فيكون الآخر منسوخا
بالضرورة. كذا في فتح القدير. وقال الطحاوي: ولو وجب العمل برواية السبع ولا يجعل
منسوخا لكان ما روى عبد الله بن المغفل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى مما روى أبو هريرة
لأنه زاد عليه وعفروا الثامنة بالتراب والزائد أولى من الناقص فكان ينبغي للمخالف أن
يعمل بهذه الزيادة، فإن تركها لزمه ما لزم خصمه في ترك السبع، ومالك لم يأخذ بالتعفير
الثابت في الصحيح مطلقا فثبت أنه منسوخ أه‍. وحديث عبد الله بن المغفل مجمع على
صحته ورواه مسلم وأبو داود فكان الاخذ بروايته أحوط، وقد روى عن أبي هريرة إذا ولغ
السنور في الاناء يغسل سبع مرات ولم يعملوا به وكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما
زاد على الثلاث، أو يحمل ما زاد على الثلاث على الاستحباب، ويؤيده ما روى الدارقطني
عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الاناء أنه يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا، فخيره ولو
كان التسبيع واجبا لما خيره.
ثم اعلم أن الطحاوي والوبري نقلا أن أصحابنا لم يجدوا لغسل الاناء منه حدا بل
العبرة لأكبر الرأي ولو بمرة كما هو الحكم في غسل غيره من النجاسات. ذكره الطحاوي
في كتاب اختلاف العلماء وهو مخالف لما في الهداية وغيرها أنه يغسل الاناء من ولوغه ثلاثا
وهو ظاهر الحديث الذي استدلوا به، وسيأتي بيان أن الثلاث هل هي شرط في إزالة
الأنجاس أو لا إن شاء الله تعالى. وفي النهاية: الولوغ حقيقة شرب الكلب المائعات بأطراف
لسانه. وفي شرح المهذب: إن الماضي والمضارع بفتح العين تقول ولغ يلغ. وقد قدمنا أن
سؤر الكلب نجس عند أصحابنا جميعا، أما على القول بنجاسة عينه فظاهر، وأما على القول
المصحح بطهارة عينه فلان لحمه نجس ولعابه متولد من لحمه ولا يلزم من طهارة عينه طهارة
سؤره لنجاسة لحمه ولا يلزم من نجاسة سؤره نجاسة عينه وإنما يلزم من نجاسة سؤرة
نجاسة لحمه المتولد منه اللعاب كما صرح به في التجنيس وفتح القدير وغيرهما، وسيأتي
ايضاحه في الكلام على سؤر السباع. والمذكور في كتب الشافعية كالمهذب أنه لا فرق بين
الولوغ ووضع بعض عضوه في الاناء، ولم أر هذا في كتبنا. والذي يقتضيه كلامهم على
القول بنجاسة عينه تنجس الماء وعلى القول بطهارة عينه عدم تنجسه أخذا من قولهم إذا ولغ
الكلب في البئر كما قدمناه لأن ماء البئر في حكم الماء القليل كماء الآنية كما قدمناه. ولا
فرق بين ولوغ كلب أو كلبين في الاكتفاء بالثلاث لأن الثاني لو يوجب تنجسا كما لا يخفى.
وإذا ولغ الكلب في طعام فالذي يقتضيه كلامهم أنه إن كان جامدا مور ما حوله وأكل
الباقي، وإن كان مائعا انتفع به في غير الأبدان كما قدمناه. وأما سؤر الخنزير فلانه نجس
226

العين لقوله تعالى * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * (الانعام: 145) والرجس النجس والضمير
عائد إليه لقربه وقد بسطنا الكلام فيه في الكلام على جلده. وأما سؤر سباع البهائم فقد قال
الشافعي بطهارته محتجا بما رواه البيهقي والدارقطني عن جابر قال قيل: يا رسول الله أنتوضأ
بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم وبما أفضلت السباع كلها. بما رواه مالك في الموطأ أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا
فقال عمرو بن العاص: يصاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن
الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبره فإنا نرد على السباع وترد علينا. وبما رواه ابن ماجة
عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسار ليلا فمروا على رجل
عند مقراة له فقال عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال عليه
السلام: يا صاحب المقراة لا تخبره هذا مكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب
وطهور. ولنا أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، والظاهر من الحرمة مع كونه
صالحا للغذاء غير مستقذر طبعا كونه للنجاسة وخبث طباعها لا ينافيه بل ذلك يصلح مثيرا
لحكم النجاسة فليكن المثير لها فيجامعها ترتيبا على الوصف الصالح للعلية مقتضاه، ولأنه
ليس فيه ضرورة وعموم بلوى فيخرج السنور والفأرة، ولان لسانه يلاقي الماء فيخرج سباع
الطير لأنه يشرب بمنقاره كما سيأتي. ولم تتعارض أدلته فيخرج البغل والحمار، وأما حديث
جابر فقد اعترف النووي بضعفه، وأما أثر الموطأ فهو وإن صححه البيهقي وذكر أنه مرسل
يحتج به على أبي حنيفة فقد ضعفه ابن معين والدارقطني وأما حديث ابن ماجة فقد ضعفه ابن
عدي، وعلى تسليم الصحة يحمل على الماء الكثير أو على ما قبل تحريم لحوم السباع أو على
حمر الوحش وسباع الطير بدليل ما تمسكوا به من حديث القلتين فإنه صلى الله عليه وسلم قال إذا بلغ الماء
قلتين لم يحمل خبثا جوابا لسؤاله عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع اعطاء لحكم
هذا الماء الذي ترده السباع وغيره، فإن الجواب لا بد أن يطابق أو يزيد فيندرج فيه المسؤول
عنه وغيره وقد قال بمفهوم شرطه فنجس ما دون القلتين وإن لم يتغير، وحقيقة مفهوم شرطه
أنه إذا لم يبلغها يتنجس من ورود السباع وهذا من الوجوه الالزامية له.
قال الزيلعي رحمه الله: ثم اعلم أن في مذهب أصحابنا في سؤر ما لا يؤكل لحمه من
السباع إشكالا فإنهم يقولون لأنه متولد من لحم نجس ثم يقولون إذا ذكى طهر لحمه لأن
نجاسته لأجل رطوبة الدم وقد خرج بالذكاة فإن كانوا يعنون بقولهم نجس عينه وجب أن لا
يطهر بالذكاة كالخنزير، وإن كانوا يعنون به لأجل مجاورة الدم فالمأكول كذلك يجاوره الدم،
فمن أين جاء الاختلاف بينهما في السؤر إذا كان كل واحد منها يطهر بالذكاة ويتنجس بموته
حتف أنفه ولا فرق بينهما إلا في المذكي في حق الاكل والحرمة لا توجب النجاسة؟ وكم من
طاهر لا يحل أكله ومن ثم قال بعضهم: لا يطهر بالذكاة إلا جلده لا حرمة لحمه لا لكرامته
227

آية نجاسته لكن بين الجلد واللحم جلدة رقيقة تمنع تنجس الجلد باللحم وهذا هو الصحيح
لأن لا وجه لنجاسة السؤر إلا بهذا الطريق أه‍. وقد ذكر في العناية حاصل هذا الاشكال
وذكر أنها نكتة لا بأس بالتنبيه عليها ثم قال: وحلما أن المراد باللحم الطاهر المتولد منه
اللعاب ما يحل أكله بعد الذبح وبالنجس ما يقابله، وهذا لأنهما اشتركا في النجاسة المجارة
بالدم المسفوح قبل الذبح فإن الشاة لا تؤكل إذا ماتت حتف أنفها، واشتركا في الطهارة بعده
لزوال المنجس وهو الدم فلا فرق بينهما إلا أن الشاة تؤكل بعد الذبح دون الكلب، ولا فرق
بينهما أيضا في الظاهر إلا اختلاط اللعاب المتولد من اللحم. فعلم من هذا أن اللعاب المتولد
من لحم مأكول بعد الذبح طاهر بلا كراهة دون غيره إضافة للحكم إلى الفارق صيانة لحكم
الشرع عن المناقضة ظاهرا. هذا ما سنح لي أه‍. ولا يخفى ما فهذا الجواب فإن قول
الزيلعي والحرمة لا توجب النجاسة يرده بل الجواب الصحيح ما في شرح الوقاية وهو أن
الحرمة إذا لم تكن للكرامة فإنها آية النجاسة لكن فيه شبهة أن النجاسة لاختلاط الدم باللحم
إذ لولا ذلك بل نجاسته لذاته لكان نجس العين وليس كذلك، فغير مأكول اللحم إذا كان
حيا فلعابه متولد من اللحم الحرام المخلوط بالدم فيكون نجسا لاجتماع الامرين، أما في
مأكول اللحم فلم يوجد إلا أحدهما وهو الاختلاط بالدم فلم يوجب نجاسة السؤر لأن هذه
العلة بانفرادها ضعيفة إذ الدم المستقر في موضعه لم يعط له حكم النجاسة في الحي. وإذا لم
يكن حيا، فإن لم يكن مذكى كان نجسا، سواء كان مأكول اللحم أو غيره، لأنه صار حراما
بالموت، فالحرمة موجودة مع اختلاط الدم فيكون نجسا، فإذا كان مذكى كان طاهرا، أما في
مأكول اللحم فلانه لم توجد الحرمة ولا اختلاط الدم، وأما في غير مأكول اللحم فلانه لم
يوجد الاختلاط والحرمة المجردة غير كافية في النجاسة على ما مر أنها تثبت باجتماع الامرين
أه‍. فحاصله أن نجاسة اللحم لحرمته مع اختلاط الدم المسفوح به وقد فقد الثاني في المذكى
من السباع فكان طاهرا واجتمعا في حالتي الموت والحياة فكان نجسا، وفقد الأول في الشاة
حالة الحياة والذكاة فكان طاهرا واجتمعا حالة الموت فكان نجسا. فظهر من هذا كله إن
طهارة العين لا تستلزم طهارة اللحم لأن السباع طاهرة العين باتفاق أصحابنا كما نقله بعضهم
مع أن لحمها نجس فثبت بهذا ما قدمناه من أن الكلب طاهر العين ولحمه نجس ونجاسة
سؤره لنجاسة لحمه. لكن بقي ههنا كلام وهو أن قولهم بين الجلد واللحم جلدة رقيقة تمنع
228

تنجس الجلد باللحم مشكل فإنه يقتضي طهارة الجلد من غير توقف على الذكاة أو الدباغة
كما لا يخفى. وفي مبسوط شيخ الاسلام ذكر محمد نجاسة سؤر السباع ولم يبين أنها خفيفة أم
غليظة، فعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول غليظة، وعن أبي يوسف أن سؤر ما لا يؤكل
لحمه كبول ما يؤكل لحمه. كذا في معراج الدراية. ومما سيأتي في سبب التغليظ والتخفيف
يظهر وجه كل من الروايتين، فالذي يظهر ترجيح الأولى لما عرف من أصله.
قوله (والهرة والدجاجة المخلاة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه) أي سؤر هذه
الأشياء مكروه. وفي التبيين: وإعرابه بالرفع أجود على ما تقدم. قال المصنف في المستصفى:
ويعني من السؤر المكروه أنه طاهر لكن الأولى أن يتوضأ بغيره أه‍. واعلم أن المكروه إذا
أطلق في كلامهم فالمراد منه التحريم إلا أن ينص على كراهة التنزيه فقد قال المصنف في
المستصفى: لفظ الكراهة عند الاطلاق يراد بها التحريم. قال أبو يوسف: قال لأبي حنيفة
رحمه الله إذا قلت في شئ أكره فما رأيك فيه؟ قال: التحريم أه‍. وقد صرحوا بالخلاف في
كراهة سؤر الهرة فمنهم كالطحاوي من مال إلى أنها كراهة تحريم نظرا إلى حرمة لحمها،
ومنهم كالكرخي من مال إلى كراهة التنزيه نظرا إلى أنها لا تتحامى النجاسة. قالوا: وهو
الأصح وهو ظاهر ما في الأصل فإنه قال: وإن توضأ بغيره أحب إلي. لكن صرح بالكراهة
في الجامع الصغير فكانت للتحريم لما تقدم. وأما سؤر الدجاجة المخلاة فلم أر من ذكر خلافا
في المراد من الكراهة بل ظاهر كلامهم أنها كراهة تنزيه بلا خلاف لأنها لا تتحامى النجاسة،
وكذا في سباع الطير وسواكن البيوت. أما سؤر الهرة فظاهر ما في شروح الهداية أن أبا
يوسف مع أبي حنيفة ومحمد في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أنه لا بأس بسؤرها، وظاهر ما
في المنظومة وغيرها أن أبا يوسف مخالف لهما مستدلا بما عن كبشة بنت كعب بن مالك
وكانت تحت أبي قتادة قالت: دخل عليها أبو قتادة فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه
فأصغى لها الاناء حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟
فقلت: نعم. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس أنها من الطوافين عليكم
والطوافات. رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيح والحاكم في المستدرك ومالك
229

في الموطأ وابن خزيمة في صحيحه. وقال الترمذي: حديث أبي قتادة حسن صحيح وهو
أحسن شئ في الباب. وقال البيهقي: اسناده صحيح وعليه الاعتماد. والنجس بفتحتين كل
ما يستقذر. قال النووي: أما لفظ أو الطوافات فروي به أو وبالواو. قال صاحب مطالع
الأنوار: يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتقسيم ويكون ذكر الصنفين من الذكور
والإناث. وهذا الذي قاله محتمل والأظهر أنه للنوعين. قال أهل اللغة: الطوافون الخدم
والمماليك، وقيل هم الذين يخدمون برفق وعناية. ومعنى الحديث أن الطوافين من الخدم
والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب، والاستئذان في غير الأوقات الثلاثة التي هي قبل
الفجر وبعد العشاء وحين الظهيرة التي ذكرها الله تعالى إنما سقط في حقهم دون غيرهم
للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين فلهذا يعفى عن الهرة للحاجة أه‍. ولهما
أنه لا نزاع في سقوط النجاسة المفاد بالحديث بعلة الطوف المنصوصة يعني أنها تدخل المضايق
ولازمه شدة المخالطة بحيث يتعذر معه صون الأواني منها بل صون النفس متعذر فللضرورة
اللازمة من ذلك سقطت النجاسة إنما الكلام بعد هذا في ثبوت الكراهة. فإن كانت الكراهة
كراهة تحريم كما قال الطحاوي لم ينتهض به وجه، فإن قال سقطت النجاسة فبقيت كراهة
التحريم منعت الملازمة إذ سقوط وصف أو حكم شرعي لا يقتضي ثبوت آخر إلا بدليل.
والحاصل أن إثبات كل حكم شرعي يستدعي دليلا، فإثبات كراهة التحريم والحالة هذه بغير
دليل وإن كانت كراهة تنزيه على الأصح كفى فيه أنها لا تتحامى النجاسة فيكره كماء غمس
الصغير يده فيه وأصله كراهة غمس اليد في الاناء للمستيقظ قبل غسلها نهى عنه في حديث
المستيقظ لتوهم النجاسة، فهذا أصل صحيح منتهض يتم به المطلوب من غير حاجة إلى التمسك
بالحديث وهو ما رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السنور سبع
ووجه التمسك به على ما ذكره المصنف في المستصفى أنه عليه السلام لم يرد الحقيقة لأنه ما بعث
لبيان الحقائق فيكون المراد به الحكم والحكم أنواع نجاسة السؤر وكراهته وحرمة اللحم. ثم لا
يخلوا إما أيلحق به في حق جميع الأحكام وهو غير ممكن لأن فيه قولا بنجاسة السؤر مع
كراهته وأنه لا يجوز أو في حرمة اللحم وأنه لا يجوز لما أنها ثابتة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل
ذي ناب من السباع، أو في كراهة السؤر وهو المرام أو في نجاسته وهو أنه لا يجوز أيضا إذا
النجاسة منتفية بالاجماع، أو بالحديث، أو بالضرورة فبقيت الكراهة، أو في الأول مع الثاني أو
في الأول مع الثالث أو في الثاني مع الثالث، وأنه لا يجوز لما مر.
230

فإن قيل: إنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان هذا الحديث واردا بعد تحريم السباع قلنا:
حرمة لحم السباع قبل ورود هذا الحديث يخلوا أن تكون ثابتة أو لم تكن: فإن كانت ثابتة
فظاهر، وإن لم تكن ثابتة لا تكون الحرمة من لوازم كونه سبعا فلا يمكن جعله مجازا عنها أو
نقول. ابتداء لا يجوز أن تكون حرمة اللحم مرادة من هذا الحديث لأن فيه حمل كلام الرسول
عليه الصلاة والسلام على الإعادة لا على الإفادة، سواء كان هذا الحديث سابقا أو مسبوقا
تأمل تدر أه‍. فثبت بهذا كراهة سؤرها، ويحمل إصغاء أبي قتادة الاناء على زوال ذلك التوهم
بأن كانت بمرأى منه في زمان يمكن فيه غسلها فمها بلعابها. وأما على قول محمد فيمكن
كونه بمشاهدة شربها من ماء كثير أو مشاهدة قدومها عن غيبة يجوز معها ذلك فيعارض هذا
التجويز أكلها نجسا قبيل شربها فيسقطه فتبقى الطهارة دن كراهة لأنها ما جاءت إلا من ذلك
التجويز وقد سقط، وعلى هذا لا ينبغي إطلاق كراهة أكل فضلها والصلاة إذا لحست عضوا
قبل غسله كما أطلقه شمس الأئمة وغيره بل يقيد بثبوت ذلك التوهم، فأما لو كان زائلا بما
قلنا فلا. وقد تسامح في غاية البيان حيث قال: ومن الواجب على العوام أن يغسلوا مواضع
لحس الهرة إذا دخلت تحت لحافهم لكراهة ما أصابه فمها فإنا قدمنا أن الصحيح أنها تنزيهية
وترك المكروه كراهة تنزيه مستحب لا واجب إلا أن يراد بالواجب الثابت، ولا يخفى أن
كراهة أكل فضلها تنزيها إنما هو في حق الغني لأنه يقدر على غيره، أما في حق الفقير فلا
يكره كما صرح به في السراج الوهاج وهو نظير ما قالوا إن السؤر المكروه إنما يكون عند
وجود غيره، أما عند عدم غيره فلا كراهة أصلا. واعلم أن قولهم إن الأصل في سؤر الهرة
أن يكون نجسا وإنما سقطت النجاسة بعلة الطواف يفيد أن سؤر الهرة الوحشية نجس وإن
كان النص بخلافه لعدم العلة وهي الطواف لأن العلة إذا كانت ثابت بالنص وعرف قطعا أن
الحكم متعلق بها فالحكم يدور على وجودها لا غير كعدم حرمة التأفيف للوالدين إذا لم يعلم
الولد معناه، أو استعمله بجهة الاكرام. ذكره فكشف الاسرار في بحث دلالة النص. وأما
سؤر الدجاجة المخلاة فلأنها تخالط النجاسة فمنقارها لا يخلو عن قذر، وكذا البقر الجلالة
والإبل الجلالة إلا أن تكون محبوسة. واختلفوا في تفسيرها فقيل هي التي تحبس في بيت
ويغلق بابه وتعلف هناك لعدم النجاسة على منقارها لا من حيث الحقيقة ولا من حيث
الاعتبار لأنها لا تجد عذرات غيرها حتى تجول فيها وهي في عذرات نفسها لا تجول، وإليه
ذهب شيخ الاسلام في مبسوطه. وحكي عن الإمام الحاكم عبد الرحمن أنه قال: لم يرد
بكونها محبوسة أن تكون محبوسة في بيتها لأنها وإن كانت محبوسة تجول في عذارت نفسها فلا
231

يؤمن من أن يكون على منقارها قذر فيكره كما لو كانت مخلاة، وإنما المراد أن تحبس في بيت
لتسمن للاكل فيكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت فلا يمكنها أن تجول في عذرات
نفسها. كذا في معراج الدراية، واختار الثاني صاحب الهداية وغيره، وفي فتح القدير:
والحق أنها لا تأكله بل تلاحظ الحب بينه فتلقطه.
وأما سؤر سباع الطير كالصقر والبازي فالقياس نجاسته لنجاسة لحمها لحرمة أكله
كسباع البهائم، ووجه الاستحسان أن حرمة لحمها وإن اقتضت النجاسة لكنها تشرب
بمنقارها وهو عظم جاف طاهر لكنها تأكل الميتات والجيف غالبا فأشبه الدجاجة المخلاة
فأورث الكراهة بخلاف سباع البهائم فإنها تشرب بلسانها وهو رطب بلعابها المتولد من لحمها
وهو نجس فافترقا، ولان في سباع الطير ضرورة وبلوى فإنها تنقض من الهواء فتشرب ولا
يمكن صون الأواني عنها خصوصا في البراري وعن أبي يوسف أن الكراهة لتوهم النجاسة
في منقارها لا لوصول لعابها إلى الماء حتى لو كانت محبوسة يعلم صاحبها أنه لا قذر في
منقارها لا يكره التوضؤ بسؤرها، واستحسن المشايخ المتأخرون هذه الرواية وأفتوا بها. كذا
في النهاية. وفي التنجيس: يجوز أن يفتى بها. وأما سؤر سواكن البيوت كالحية والفأرة فلان
حرمة اللحم أوجبت النجاسة لكنها سقطت النجاسة بعلة الطواف وبقيت الكراهة، والعلة
المذكورة في الحديث في الهرة موجودة بعينها في سواكن البيوت وهي الطواف فيثبت ذلك
الحكم المترتب عليها وهو سقوط النجاسة وتثبت الكراهة لتوهمها. فرع: تكره الصلاة مع
حمل ما سؤره مكروه كالهرة كذا في التوشيح. نكتة: قيل: ست تورث النسيان: سؤر الفأرة
وإلقاء القملة وهي حية والبول في الماء الراكد وقطع القطار ومضغ العلك وأكل التفاح.
ومنهم من ذكره حديثا لكن قال أبو الفرج بن الجوزي: إنه حديث موضوع.
قوله (والحمار والبغل مشكوك) أي سؤرهما مشكوك فيه. هذه عبارة أكثر مشايخنا،
وأبو طاهر الدباس أنكر أن يكون شئ من أحكام الله تعالى مشكوكا فيه. وقال: سؤر الحمار
طاهر لو غمس فيه الثوب جازت الصلاة معه إلا أنه محتاط فيه فأمر بالجمع بينه وبين التيمم
ومنع منه حالة القدرة، والمشايخ قالوا: المراد بالشك التوقف لتعارض الأدلة لا أن يعني
بكونه مشكوكا الجهل بحكم الشرع لأن حكمه معلوم وهو وجوب الاستعمال وانتفاء
النجاسة وضم التيمم إليه والقول بالتوقف عند تعار ض الأدلة دليل العلم وغاية الورع وبيان
التعارض على ما في المبسوط تعارض الاخبار في أكل لحمه فإنه روي أنه عليه الصلاة
والسلام نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. وروى غالب بن أبجر قال: لم يبق لي
232

مال إلا حميرات فقال عليه السلام: كل من سمين مالك. قال شيخ الاسلام خواهر زاده في
مبسوطه: وهذا لا يقوى لأن لحمه حبلا إشكال لأنه اجتمع المحرم والمبيح فغلب المحرم
على المبيح كما لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي والآخر أنه ذبيحة مسلم لا يحل
أكله لغلبة الحرمة فكان لحمه حراما بلا إشكال، ولعابه متولد منه فيكون نجسا بلا إشكال.
وقيل: سبب الاشكال اختلاف الصحابة فإنه روي عن ابن عمر أنه كان يكره التوضؤ بسؤر
الحمار والبغل. وعن ابن عباس أنه قال: الحمار يعلف ألقت والتبن فسؤره طاهر. قال شيخ
الاسلام: وهذا لا يقوى أيضا لأن الاختلاف في طهارة الماء ونجاسته لا يوجب الاشكال
كما في إناء أخبر عدل أنه طاهر وآخر أنه نجس فالماء لا يصير مشكلا وقد استوى الخبران
وبقي العبرة للأصل فكذا هاههنا، ولكن الأصح في التمسك أن دليل الشك هو التردد في
الضرورة فإن الحمار يربط في الدور والأفنية فيشرب من الأواني وللضرورة أثر في إسقاط
النجاسة كما في الهرة والفأرة إلا أن الضرورة في الحمار دون الضرورة فيهما لدخولهما
مضايق البيت بخلاف الحمار، ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلا كما في الكلب والسباع
لوجب الحكم بالنجاسة بلا إشكال، ولو كانت الضرورة مثل الضرورة فيهما لوجب الحكم
بإسقاط النجاسة، فلما ثبتت الضرورة من وجه دون وجه واستوى ما يوجب النجاسة
والطهارة تساقطا للتعارض فوجب المصير إلى الأصل والأصل هاهنا شيئان: الطهارة في
جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب لأن لعابه نجس كما بينا وليس أحدهما بأولى من
الآخر فبقي الامر مشكلا نجسا من وجه طاهرا من وجه فكان الاشكال عند علمائنا بهذا
الطريق لا للاشكال في لحمه ولا لاختلاف الصحابة في سؤره وبهذا التقرير يندفع كثير من
الأسئلة منها أن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يغلب المحرم احتياطا، وجوابه أن القول بالاحتياط
إنما يكون في ترجيح الحرمة في غير هذا الموضع أما هاهنا الاحتياط في إثبات الشك لأنا إن
رجحنا الحرمة للاحتياط يلزم ترك العمل بالاحتياط لأنه حينئذ لا يجوز استعمال سؤر الحمار
مع احتمال كونه مطهرا باعتبار الشك فكان متيمما عند وجود الماء في أحد الوجهين وذلك
حرام، فلا يكون عملا بالاحتياط ولا بالمباح، وما قيل إن في تغليب الحرمة تقليل النسخ
فذلك في تعارض النصين لا في الضرورة. ومنها أن يقال: لما وقع التعارض في سؤره
وجب المصير إلى الخلف وهو التيمم كمن له إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس فاشتبه عليه
فإنه يسقط استعمال الماء ويجب التيمم، فكذا ههنا. قلنا: الماء ههنا طاهر لما ذكرنا أن قضية
الشك أن يبقى كل واحد على حاله ولم يزل الحدث لأنه لما كان ثابتا بيقين فيبقى إلى أن يوجد
المزيل بيقين، والماء طاهر ووقع الشك في طهوريته فلا يسقط استعماله بالشك بخلاف
الإناءين فإن أحدهما نجس يقينا والآخر طاهر يقينا لكنه عجز عن استعماله لعدم علمه فيصار
إلى الخلف. ومنها أن التعارض لا يوجب الشك كما في إخبار عدلين بالطهارة والنجاسة
233

حيث يتوضأ بلا تيمم. قلنا في تعارض الخبرين وجب تساقطهما فرجحنا كون الماء مطهرا
باستصحاب الحال والماء كان مطهرا قبله وههنا تعارض جهتا الضرورة فتساقطتا فأبقينا ما كان
على ما كان أيضا إلا أن ههنا ما كان ثابتا على حاله قبل التعارض شيئان: جانب الماء وجانب
اللعاب وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب الشك. ومنها ما قيل في استعمال الماء ترك
العمل بالاحتياط من وجه آخر لأنه إن كان نجسا فقد تنجس العضو قلنا: أما على القول بأن
الشك في الطهورية فظاهر، وأما على القول المرجوح من أن الشك في كونه طاهرا فالجواب
أن العضو طاهر بيقين فلا يتنجس بالشك، والحدث ثابت بيقين فلا يزول بالشك فيجب ضم
التيمم ضم التيمم إليه. كذا في معراج الدراية وغيره.
وفي الكافي ولم يتعارض الخبر أن في سؤر الهرة إذ قوله صلى الله عليه وسلم الهرة سبع لا يقتضي
نجاسة السؤر لما قدمنا أه‍. ثم اختلف مشايخنا فقيل الشك في طهارته، وقيل في طهوريته،
وقيل فيهما جميعا، والأصح أنه في طهوريته وهو قول الجمهور. كذا في الكافي. هذا مع
اتفاقهم أنه على ظاهر الرواية لا ينجس الثوب والبدن والماء ولا يرفع الحدث فلهذا قال في
كشف الاسرار شرح أصول فخر الاسلام: إن الاختلاف لفظي لأن من قال الشك في
طهوريته لا في طهارته أراد أن الطاهر لا يتنجس به ووجب الجمع بينه وبين التراب لا أن
ليس في طهارته شك أصلا لأن الشك في طهوريته إنما نشأ من الشك في طهارته لتعارض
الأدلة في طهارته ونجاسته أه‍. وبهذا التقرير علم ضعف ما استدل به في الهداية لقول من
قال الشك في طهوريته بأنه لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه فإن وجوب غسله
إنما يثبت بتيقن النجاسة والثابت الشك فيها فلا يتنجس الرأس بالشك فلا يجب. وعلم أيضا
ضعف ما في فتاوى قاضيخان تفريعا على كون الشك في طهارته أنه لو وقع في الماء القليل
أفسده لأنه لا إفساد بالشك، وفي المحيط تفريعا على الشك في طهوريته أنه لو وقع في الماء
يجوز التوضؤ به ما لم يغلب عليه لأنه طاهر غير طهور كالماء المستعمل عند محمد اه‍. وكان
234

الوجه أن يقول ما لم يساوه لما علمته في مسألة الفساقي وقد قدمنا حكم عرقه. وأما لبنها
فاختار في الهداية أنه طاهر ولا يؤكل وصححه في منية المصلي، وبه اندفع ما في النهاية أنه لم
يرجحه أحد، وعن البزدوي أنه يعتبر فيه الكثير الفاحش، وصححه التمرتاشي، وصحح
بعضهم أنه نجس نجاسة غليظة. وفي المحيط: إنه نجس في ظاهر الرواية ومقتضى القول
بطهارته القول بحل أكله وشربه يدل عليه ما في المبسوط: قيل لمحمد لم قلت بطهارة بول ما
يؤكل لحمه ولم تقل بطهارة روثه؟ قال: لما قلت بطهارة بوله أبحت شربه، ولو قلت بطهارة
روثه لأبحت أكله وأحد لا يقول بها اه‍. فإن ظاهره أن الطهارة والحل متلازمان يلزم من
القول بأحدهما القول بالآخر. ومن المشايخ من قال بنجاسة سؤر الحمار دون الأتان لأن
الحمار ينجس فمه بشم البول، وفي البدائع: وهذا غير سديد لأنه أمر موهوم لا يغلب وجوده
فلا يؤثر في إزالة الثابت، وقال قاضيخان: والأصح أنه لا فرق بينهما، ولما ثبت الحكم في
الحمار ثبت في البغل لأنه من نسله فيكون بمنزلته. قال الزيلعي: هذا إذا كانت أمه أتانا
فظاهر لأن الام هي المعتبرة في الحكم، وإن كانت فرسا ففيه إشكال لما ذكرنا أن العبرة للام
ألا ترى أن الذئب لونزا على شاة فولدت ذئبا حل أكله ويجزئ في الأضحية، فكان ينبغي أن
يكون مأكولا عندهما وطاهرا عند أبي حنيفة اعتبار اللام. وفي الغاية: إذا نزا الحمار على
الرمكة لا يكره لحم البغل المتولد منهما عند محمد، فعلى هذا لا يصير سؤره مشكوكا اه‍.
والرمكة هي الفرس وهي البرذونة تتخذ للنسل. كذا في المغرب. ويمكن الجواب عن
الاشكال بأن البغل لما كان متولدا من الحمار والفرس فصار سؤره كسؤر فرس اختلط بسؤر
الحمار فصار مشكوكا. ذكره في معراج الدراية وغيره، وذكر مسكين في شرح الكتاب سؤالا
فقال: فإن قلت أين ذهب قولك الولد يتبع الام في الحل والحرمة قلت: ذلك إذا لم يغلب
شبهه بالأب أما إذا غلب شبهه فلا أه‍. وبهذا سقط أيضا إشكال الزيلعي كما لا يخفى. وقال
جمال الدين الرازي شارح الكتاب: البغال أربعة: بغل يؤكل بالاجماع وهو المتولد من حمار
وحشي وبقرة، وبغل لا يؤكل بالاجماع وهو المتولد من أتان أهلي وفحل، وبغل يؤكل عندهما
وهو المتولد من المتولد من فحل وأتان حمار وحشي، وبغل ينبغي أن يؤكل عندهما وهو المتولد
من رمكة وحمار أهلي أه‍. وفي النوازل: لا يحل شرب ما شرب منه الحمار. وقال ابن
235

مقاتل: لا بأس به. قال الفقيه أبو الليث: هذا خلاف قول أصحابنا، ولو أخذ إنسان بهذا
القول أرجو أن لا يكون به بأس والاحتياط أن لا يشرب. كذا في فتح القدير. وفرع في
المحيط على كون سؤر الحمار مشكوكا ما لو اغتسلت بسؤر الحمار تنقطع الرجعة ولا تحل
للأزواج لأنه مشكوك فيه فإن كان طاهرا فلا رجعة، وإن كان نجسا لم يكن مطهرا فله
الرجعة فإذا احتمل انقطعت احتياطا ولا تحل لغيره احتياطا اه‍..
قوله (توضأ به وتيمم إن فقد ماء) أي توضأ بسؤرهما وتيمم إن لم يجد ماء مطلقا يعني
يجمع بينهما، والمراد بالجمع أن لا تخلو الصلاة الواحدة عنهما وإن لم يوجد الجمع في حالة
واحدة حتى لو توضأ بسؤر الحمار وصلى ثم أحدث وتيمم وصلى تلك الصلاة أيضا جاز لأنه
جمع بين الوضوء والتيمم في حق صلاة واحدة وهو الصحيح. كذا في فتاوى قاضيخان.
فأفاد أن فيها اختلافا. وفي الجامع الصغير للمحبوبي وعن نصير بن يحيى في رجل لم يجد إلا
سؤر الحمار قال: يهريق ذلك السؤر حتى يصير عادما للماء ثم يتيمم. فعرض قوله هذا على
القاسم الصفار فقال: هو قول جيد. وذكر محمد في نوادر الصلاة: لو توضأ بسؤر الحمار
وتيمم ثم أصاب ماء نظيفا ولم يتوضأ به حتى ذهب الماء ومعه سؤر الحمار فعليه إعادة التيمم
وليس عليه إعادة الوضوء بسؤر الحمار لأنه إذا كان مطهرا فقد توضأ به، وإن كان نجسا
فليس عليه الوضوء لا في المرة الأولى ولا في الثانية. كذا في النهاية. وفي الخلاصة: ولو
تيمم وصلى ثم أراق سؤر الحمار يلزمه إعادة التيمم والصلاة لأنه يحتمل أن سؤر الحمار كان
طهورا أه‍. فإن قيل، هذا الطريق يستلزم أداء الصلاة بغير طهارة في إحدى المرتين لا محالة
وهو مستلزم للكفر لتأديه إلى الاستخفاف بالدين فينبغي أن لا يجوز ويجب الجمع في أداء
واحد قلنا: ذلك فيما أدى بغير طهارة بيقين فأما إذا كان أداؤه بطهارة من وجه فلا، لانتفاء
الاستخفاف لأنه عمل بالشرع من وجه وههنا كذلك لأن كل واحد من السؤر والتراب مطهر
من وجه دون وجه فلا يكون الأداء بغير طهارة من كل وجه فلا يلزم منه الكفر كما لو صلى
حنفي بعد الفصد أو الحجامة لا تجوز صلاته ولا يكفر لمكان الاختلاف، وهذا أولى بخلاف
ما لو صلى بعد البول. كذا في معراج الدراية.
قوله (وأيا قدم صح) أي من المذكورين وهما الوضوء والتيمم أيا بدأ به جاز حتى لو
توضأ ثم تيمم جاز بالاتفاق، وإن عكس جاز عندنا خلافا لزفر لأنه لا يجوز المصير إلى التيمم
مع وجود ماء هو واجب الاستعمال فصار كالماء المطلق. ولنا وهو الأصح أن الماء إن كان
طهروا فلا معنى للتيمم، تقدم أو تأخر، وإن لم يكن طهورا فالمطهر هو التيمم، تقدم أو
236

تأخر، ووجود هذا الماء وعدمه بمنزلة واحدة وإنما يجمع بينهما لعدم العلم بالمطهر منهما عينا
فكان الاحتياط في الجمع دون الترتيب. وكذا الاختلاف في الاغتسال به فعندنا لا يشترط
تقديمه خلافا له لكن الأفضل تقديم الوضوء والاغتسال به عندنا. وفي الخلاصة: اختلفوا
في النية في الوضوء بسؤر الحمار والأحوط أن ينوي اه‍. (تنبيه) فيه ثلاث مسائل: الأولى ما
قدمناه لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة المجوسي وأخبر عدل آخر أنه ذبيحة المسلم فإنه لا
يحل أكله. الثانية ما قدمناه لو أخبر عدل بنجاسة الماء وعدل آخر بطهارته فإنه يحكم بطهارته.
الثالثة ما ذكره محمد في كتاب الاستحسان كما نقله في التوشيح لو أخبر عدل بحل طعام
وآخر بحرمته فإنه يحكم بحله. وهذا التنبيه لبيان الفرق بين الثلاث فإنه قد يشتبه والأصل
فيها أن الخبرين إذا تعارضا تساقطا ويبقى ما كان ثابتا قبل الخبر على ما كان، ففي الماء قبل
الخبر الثابت إباحة شربه وطهارته فلما تعارض الدليلان تساقطا فبقي ما كان من الإباحة
والطهارة، وفي الطعام كذلك لأن الأصل هو الحل فوجب العمل به إذ لو ترجح جانب
الحرمة لزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح مع ترك العمل بالأصل ولا يجوز ترجيح الحرمة
بالاحتياط لاستلزامه تكذيب الخبر بالحل من غير دليل، فأما تعارض أدلة الشرع في حل
الطعام وحرمته فيوجب ترجيح الحرمة تقليلا للنسخ الذي هو خلاف الأصل وعملا
بالاحتياط الذي هو الأصل في أمور الدين عند عدم المانع. وأما مسألة اللحم الأولى فإنه لما
تساقط الدليلان أيضا بالتعارض بقي ما كان ثابتا قبل الذبح والثابت قبله حرمة الاكل لأنه
إنما يحل أكله بالذبح شرعا، وإذا لم يثبت السبب المبيح لوقوع التعارض في سبب الإباحة بقي
حراما كما كان فظهر الفرق بين الثلاث، لكن ذكر الإمام جلال الدين الخبازي في حاشية
الهداية تفصيلا حسنا في مسألة الماء تسكن إليه النفس ويميل إليه القلب فقال: فإن قيل إذا
أخبر عدل بنجاسة الماء وعدل آخر بطهارته لم يصير الماء مشكوكا مع وقوع التعارض بين
الخبرين؟ قلنا: لا تعارض ثمة لأنه أمكن ترجيح أحدهما فإن المخبر عن الطهارة لو استقصى
237

في ذلك بأن قال أخذت هذا الماء من النهر وسددت فم هذا الاناء ولم يخالطه شئ أصلا
رجحنا خبره لتأيده بالأصل، وإن بنى خبره على الاستصحاب وقال كان طاهرا فيبقى كذلك
رجحنا خبر النجاسة لأنه أخبر عن محسوس مشاهد وأنه راجح على الاستصحاب أه‍. والذي
ظهر لي أنه يحمل كلام المشايخ على ما إذا لم يبين مستند اخباره فإذا لم يبين يعمل بالأصل وهو
الطهارة، وإن بين فالعبرة لهذا التفصيل.
قوله (بخلاف نبيذ التمر) يعني إن فقد ماء مطلقا ولم يجد إلا نبيذ التمر فإنه يتوضأ ولا
يجمع بينه وبين التيمم، وذكر هذه المسألة هنا إما لأنه مما يجوز الوضوء به على رأي أو لأن
محمدا لما أوجب الجمع صار عنده مشكوكا فيه فشابه سؤر الحمار. كذا قيل لكن لا يخفى
ضعف الثاني لأن المصنف جعله مخالفا لسؤر الحمار. ثم اعلم أن الكلام ههنا في ثلاثة
مواضع: الأول في تفسيره. الثاني في وقته. الثالث في حكمه. أما الأول فهو أن يلقي في
الماء تميرات فيصر رقيقا يسيل على الأعضاء حلوا غير مسكر ولا مطبوخ. وإنما قلنا حلوا لأنه
لو توضأ به قبل خروج الحلاوة يجوز بلا خلاف، وإنما قلنا غير مسكر لأنه لو كان مسكرا لا
يجوز الوضوء به بلا خلاف لأنه حرام، وإنما قلنا غير مطبوخ لأنه لو طبخ فالصحيح أنه لا
يتوضأ به إذ النار قد غيرته حلوا كان أو مشتدا كمطبوخ الباقلاء. كذا في المبسوط والمحيط
يعني بلا خلاف بين الثلاثة وهو الأليق بما قدمناه من أن الماء يصير مقيدا بالطبخ إذا لم يقصد
به المبالغة في التنظيف، وبه يظهر ضعف ما صححه في المفيد والمزيد أنه يجوز الوضوء به
بعدما طبخ. وقد ذكر الزيلعي أن صاحب الهداية وقع منه تناقض فإنه ذكر هنا أن النار إذا
غيرته يجز الوضوء به عند أبي حنيفة لجواز شربه، وذكر في بحث المياه أنه لا يجوز الوضوء
بما تغير بالطبخ أه‍. ولا يخفى ثبوت الخلاف في هذه المسألة لأن اختلاف التصحيح ينبئ عنه
فكان فيه روايتان، فيحتمل أن يكون مراد صاحب الهداية نقل الرواية في الموضعين فلا
تناقض حيث أمكن التوفيق، وأما سائر الأنبذة فإنه لا يجوز الوضوء بها عند عامة العلماء وهو
الصحيح لأن جواز التوضؤ بنبيذ التمر ثابت بخلاف القياس بالحديث ولهذا لا يجوز عند
القدرة على الماء المطلق فلا يقاس عليه غيره. كذا في غاية البيان. وأما الثاني قال أبو حنيفة:
كل وقت يجوز التيمم فيه يجوز التوضؤ به وإلا فلا. كذا في معراج الدراية. وأما الثالث ففيه
ثلاث روايات عن أبي حنيفة: الأولى وهو قوله الأول أنه يتوضأ به جزما ويضيف التيمم إليه
238

استحبابا. والثانية يجب الجمع بينه وبين التيمم كسؤر الحمار وبه قال محمد واختاره في غاية
البيان ورجحه. والثالثة أنه يتيمم ولا يتوضأ به وهو قوله الآخر وقد رجع إليه وهو
الصحيح، وبه قال أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد وأكثر العلماء واختاره الطحاوي.
وحكي عن أبي طاهر الدباس أنه قال: إنما اختلفت أجوبة أبي حنيفة لاختلاف الأسئلة فإنه
سئل عن التوضؤ به إذا كانت الغلبة للحلاوة قال بتيمم ولا يتوضأ به، وسئل مرة إذا كان
الماء والحلاوة سواء قال يجمع بينهما، وسئل مرة إذا كانت الغلبة للماء فقال يتوضأ به ولا
يتيمم. وبالجملة فالمذهب المصحح المختار المعتمد عندنا هو عدم الجواز موافقة للأئمة الثلاث
فلا حاجة إلى الاشتغال بحديث ابن مسعود الدال على الجواز من قوله عليه السلام له ليلة
239

الجن، ما في أدواتك؟ قال: نبيذ تمر. قال: تمرة طيبة وماء طهور. أخرجه أبو داود
والترمذي وابن ماجة. لأن من العلماء من تكلم فيه وضعفه. وإن أجيب عنه بما ذكره
الزيلعي المخرج وغيره وعلى تقدير صحته هو منسوخ بآية التيمم لتأخرها إذ هي مدنية وعلى
هذا مشى جماعة من المتأخرين. فإذا علم عدم جواز الوضوء به، علم عدم جواز الغسل
به. واختلفوا على قول من يجيز الوضوء به في جواز الغسل به فصحح في المبسوط جوازه
وصحح في المفيد عدمه، ولا فائدة في التصحيحين بعد أن كان المذهب عدم الجواز به في
الحدثين لأن المجتهد إذا رجع عن قول لا يجوز الاخذ به كما صرح به في التوشيح.
وتشترط النية له على قول من يجيز الوضوء به، ولا يخفى أن سؤر الحمار مقدم عليه على
المذهب وعلى القول الأول يقدم النبيذ، وعند محمد يجمع بينهما مع التيمم. وإذا شرع في
الصلاة بالتيمم ثم وجده فهو كالمعدوم على المذهب، وعلى الأول يقطعها، وعند محمد
يمضي فيها ويعيدها بالوضوء به كما لو وجد سؤر حمار فإنه يمضي ويعيدها به بالاتفاق،
ولولا عبارة الوافي أصل الكتاب لشرحته بأن المراد أن النبيذ مخالف لسؤر الحمار حيث لا
يجوز الوضوء به أصلا ليصير ما في الكتاب هو المعتمد، ولقد أنصف الإمام الطحاوي
240

ناصر المذهب حيث قال: ما ذهب إليه أبو حنيفة أولا اعتمادا على حديث ابن مسعود لا
أصل له أه‍. والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب التيمم
الباب لغة النوع، وعرفا نوع من المسائل اشتمل عليها كتا ب وليست بفصل. والتيمم
لغة مطلق القصد بخلاف الحج فإنه القصد إلى معظم وشواهدهما كثيرة. واصطلاحا على ما
في شروح الهداية القصد إلى الصعيد الطاهر للتطهير. وعلى ما في البدائع وغيره استعمال
الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير بشرائط مخصوصة. وزيف الأول بأن القصد
شرط لا ركن، والثاني بأنه لا يشترط استعمال جزء من الأرض حتى يجوز بالحجر الأملس
فالحق أنه اسم لمسح الوجه واليدين على الصعيد الطاهر والقصد شرط لأنه النية. وله ركن
وشروط وحكم وسبب مشروعية وسبب وجوب وكيفية ودليل. أما ركنه فشيان: الأول
ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، والثاني استيعاب العضوين، وفي الأول
كلام نذكره إن شاء الله تعالى. وأما شرائطه أعني شرائط جوازه فستأتي في الكتاب مفصلة.
وأما حكمه فاستباحة ما لا يحل إلا به. وأما سبب مشروعيته فما وقع لعائشة رضي الله عنها
في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع وهو ماء بناحية قديد بين مكة والمدينة لما أضلت
عقدها فبعث عليه السلام في طلبه فحانت الصلاة وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر رضي الله
عنه على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت آية التيمم،
فجاء أسيد بن الحضير فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر. رواه البخاري ومسلم.
241

وقال القرطبي: نزلت الآية في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو مريض فرخص له في
التيمم، وقيل غير ذلك. وأما سبب وجوبه فما هو سبب وجوب أصله المتقدم. وأما كيفيته
فستأتي. وأما دليله فمن الكتاب في آيتين في سورة النساء والمائدة وهما مدنيتان. ومن السنة
فأحاديث منها ما رواه البخاري ومسلم عن عمار بن ياسر قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة - وفي رواية فتمعكت -
ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب
بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه. ثم اعلم أن
التيمم لم يكن مشروعا لغير هذه الأمة وإنما شرع رخصة لنا، والرخصة فيه من حيث الآلة
حيث اكتفي بالصعيد الذي هو ملوث وفي محله بشطر أعضاء الوضوء. كذا في المستصفى.
قوله (يتيمم لبعده ميلا عن ماء) أي يتيمم الشخص وهذا شروع في بيان شرائطه فمنها
أن لا يكون واجدا للماء قدر ما يكفي لطهارته في الصلاة التي تفوت إلى خلف وما هو من
أجزائها لقوله تعالى * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) وغير الكافي كالمعدوم وهذا
عندنا. وقال الشافعي: يلزمه استعمال الموجود والتيمم للباقي لأن ما نكرة في النفي فتعم
وقياسا على إزالة بعض النجاسة وستر بعض العورة، وكالجمع في حالة الاضطرار بين الذكية
والميتة. قلنا: الآية سيقت لبيان الطهارة الحكمية فكأن التقدير فلم تجدوا ماء محللا للصلاة فإن
وجود الماء النجس لا يمنعه من التيمم إجماعا وباستعمال القليل لم يثبت شئ من الحل يقينا
على الكمال فإن الحل حكم والعلة غسل الأعضاء كلها وشئ من الحكم لا يثبت ببعض
العلة كبعض النصاب في حق الزكاة، وكبعض الرقبة في حق الكفارة، والقياس على الحقيقية
والعورة فاسد لأنهما يتجزءان فيفيد إلزامه باستعمال القليل للتقليل، ولا يفيد هنا إذ لا يتجزأ
هنا بل الحدث قائم ما بقي أدنى لمعة فيبقى مجرد إضاعة مال خصوصا في موضع عزته مع بقاء
الحدث كما هو، وأما الجمع حالة الاضطرار فلان الذكية لما لم تدفع الاضطرار صارت كالعدم.
كذا ذكر في كثير من الشروح لكن في الخلاصة: ولو وجد من الماء قدر ما يغسل به بعض
النجاسة الحقيقية أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة لا يلزمه ا ه‍. ولو وجد ماء
يكفي للحدث أو إزالة النجاسة المانعة غسل به الثوب منها وتيمم للحدث عند عامة العلماء،
وإن توضأ به وصلى في النجس أجزأه وكان مسيئا. كذا في الخانية. وفي المحيط: ولو تيمم
أولا ثم غسل النجاسة يعيد التيمم لأنه تيمم وهو قادر على ما يتوضأ به ا ه‍. وفيه نظر بل
الظاهر الحكم بجواز التيمم تقدم على غسل الثوب أو تأخر لأنه مستحق الصرف إلى الثوب على
ما قالوا، والمستحق الصرف إلى جهة معدوم حكما بالنسبة إلى غيرها كما في مسألة اللمعة مع
242

الحدث قبل التيمم له إذا كان الماء كافيا لأحدهما فبدأ بالتيمم للحد ث قبل غسلها كما هو رواية
الأصل، وكالماء المستحق للعطش ونحوه. نعم يتمشى ذلك على رواية الزيادات القائلة بأنه لو
تيمم قبل غسل اللمعة لا يصح والله سبحانه أعلم. ولهذا قال في شرح الوقاية: ثم إنما ثبتت
القدرة إذا لم يكن مصروفا إلى جهة أهم أصاب بدن المتيمم قذر فصلى ولم يمسحه جاز لأن المسح
لا يزيل النجاسة، والمستحب أن يمسح تقليلا للنجاسة ا ه‍. ثم العدم على نوعان: عدم من
حيث الصورة والمعنى، وعدم من حيث المعنى لا من حيث الصورة، فالأول أن يكون بعيدا
عنه. قال في البدائع: ولم يذكر حد البعد في ظاهر الروايات، فعن محمد التقدير بالميل فإن
تحقق كونه ميلا جاز له التيمم، وإن تحقق كونه أقل أو ظن أنه ميل أو أقل لا يجوز قال في
الهداية: والميل هو المختار في المقدار لأن يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة.
والميل في كلام العرب منتهى مد البصر، وقيل للاعلام المبنية في طريق مكة أميال لأنها بنيت
على مقادير منتهى البصر. كذا في الصحاح والمغرب. والمراد هنا ثلث الفرسخ والفرسخ اثنا
عشر ألف خطوة، كل خطوة ذراع ونصف بذراع العامة، وهو أربع وعشرون أصبعا. كذا في
الينابيع. وعن الكرخي رحمه الله أنه إن كان في موضع يسمع صوت أهل الماء فهو قريب، وإن
كان لا يسمع فهو بعيد وبه أخذ أكثر مشايخنا. كذا في الخانية. وعن أبي يوسف: إذا كان
بحيث لو ذهب إليه وتوضأ تذهب القافلة وتغيب عن بصره فهو بعيد ويجوز له التيمم،
واستحسن المشايخ هذه الرواية كذا في التنجيس وغيره إلا أن ظاهره أنه في حق المسافر لا المقيم
وهو جائز لهما لو في المصر لأن الشرط هو العدم فأينما تحقق جاز التيمم. نص عليه في
243

الاسرار لكن قال في شرح الطحاوي: لا يجوز التيمم في المصر إلا لخوف فوت جنازة أو صلاة
عيد أو للجنب الخائف من البرد، وكذا ذكر التمرتاشي بناء على كونه نادرا والحق الأول لما ذكرنا
والمنع بناء على عادة الأمصار فليس خلافا حقيقيا، وتصحيح الزيلعي لا يفيده. وفي الخانية،
قليل السفر وكثير سواء في التيمم والصلاة على الدابة خارج المصر إنما الفرق بين القليل والكثير
في ثلاثة: في قصر الصلاة والافطار والمسح على الخفين ا ه‍. وفي المحيط: المسافر يطأ جاريته
وإن علم أنه لا يجد الماء لأن التراب شرع طهورا حالة عدم الماء ولا تكره الجنابة حال وجود الماء
فكذا حال عدمه ا ه‍. وبما قررناه علم أن المعتبر المسافة دون خوف فوت الوقت خلافا لزفر.
وفي المبتغى بالغين المعجمة: ومن كان في كلة جاز تيممه لخوف البق أو مطر أو حر شديد إن
خاف فوت الوقت أه‍. ولا يخفى أن هذا مناسب لقول زفر لا لقول أئمتنا فإنهم لا يعتبرون
خوف الفوت وإنما العبرة للبعد كما قدمناه. كذا في شرح منية المصلي، لكن ظفرت بأن
التيمم لخوف فوت الوقت رواية عن مشايخنا ذكرها في القنية في مسائل من ابتلي ببليتين،
ويتفرغ على هذا الاختلاف ما لو ازدحم جمع على بئر لا يمكن الاستقاء منها إلا بالمناوبة
لضيق الموقف أو لاتحاد الآلة للاستقاء ونحو ذلك، فإن كان يتوقع وصول النوبة إليه قبل
خروج الوقت لم يجز له التيمم بالاتفاق، وإن علم أنها لا تصير إليه إلا بعد خروج الوقت
يصبر عندنا ليتوضأ بعد الوقت، وعند زفر يتيمم، ولو كان جمع من العراة وليس معهم إلا
ثوب يتناوبونه وعلم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعد الوقت فإنه يصبر ولا يصلي عاريا، ولو
اجتمعوا في سفينة أو بيت ضيق وليس هناك موضع يسع أن يصلي قائما فقط لا يصلي قاعدا
بل يصبر ويصلي قائما بعد الوقت كما لو كان مريضا عاجزا عن القيام واستعمال الماء في
الوقت ويغلب على ظنه القدرة بعده وكذا لو كان معه ثوب نجس ومعه ماء يغسله ولكن لو
غسله خرج الوقت لزم غسله وإن خرج الوقت. كذا في التوشيح. وأما العدم معنى لا
صورة فهو أن يعجز عن استعمال الماء لمانع مع قرب الماء منه وسيأتي بيانه مفصلا.
244

قوله (أو لمرض) يعني يجوز التيمم للمرض وأطلقه وهو مقيد بما ذكره في الكافي من
قوله بأن يخاف اشتداد مرضه لو استعمل الماء، فعلم أن اليسير منه لا يبيح التيمم وهو قول
جمهور العلماء إلا ما حكاه النووي عن بعض المالكية وهو مردود بأنه رخصة أبيحت للضرورة
ودفع الحرج وهو إنما يتحقق عند خوف الاشتداد والامتداد، ولا فرق عندنا بين أن يشتد
بالتحرك كالمبطون، أو بالاستعمال كالجدري، أو كان لا يجد من يوضئه ولا يقدر بنفسه
اتفاقا. وإن وجد خادما كعبده وولده وأجيره لا يجزيه التيمم اتفاقا كما نقله في المحيط، وإن
وجد غير خادمه من لو استعان به أعانه ولو زوجته فظاهر المذهب أنه لا يتيمم من غير
خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه كما يفيده كلام المبسوط والبدائع وغيرهما. ونقل في التنجيس
عن شيخه خلافا بين أبي حنيفة وصاحبيه على قوله يجزئه التيمم، وعلى قولهما لا. قال:
وعلى هذا الخلاف إذا كان مريضا لا يقدر على الاستقبال أو كان في فراشه نجاسة ولا يقدر
على التحول منه ووجد من يحوله ويوجهه لا يفترض عليه ذلك عنده، وعلى هذا الأعمى إذا
وجد قائدا لا تلزمه الجمعة والحج والخلاف فيهما معروف. فالحاصل أن عنده لا يعتبر
المكلف قادرا بقدرة غيره لأن الانسان إنما يعد قادرا إذا اختص بحالة يتهيأ له الفعل متى
أراد، وهذا لا يتحقق بقدرة غيره ولهذا قلنا: إذا بذل الابن المال والطاعة لأبيه لا يلزمه
الحج، وكذا من وجبت عليه الكفارة وهو معدوم فبذل له انسان المال لما قلنا. وعند هما تثبت
القدرة بآلة الغير لأن آلة الغير صارت كآلته بالإعانة. وكان حسام الدين رحمه الله يختار
قولهما. والفرق على ظاهر المذهب بين مسألة التيمم وبين المريض إذا لم يقدر على الصلاة
245

ومعه قوم لو استعان بهم في الإقامة والثبات جاز له الصلاة قاعدا أنه يخاف على المريض زيادة
الوجع في قيامه ولا يلحقه زيادة الوجع في الوضوء ا ه‍ ما في التجنيس. وظاهره أنه لو لم
يكن له أجير لكن معه ما يستأجر به أجيرا لا يجزئه التيمم، قل الآجر أو كثر، فإنه قال: أو
عنده من المال مقدار ما يستأجر به أجيرا. والفرق بين الزوجة والمملوك أن المنكوحة إذا
مرضت لا يجب عليه أن يوضئها وأن يتعاهدها، وفي العبد والجارية يجب عليه إذا لم يستطع
الوضوء، كذا في الخلاصة. يعني أن السيد لما كان عليه تعاهد العبد في مرضه كان على عبده
أن يتعاهده في مرضه، والزوجة لما لم يكن عليه أن يتعاهدها في مرضها فيما يتعلق بالصلاة
لا يجب عليها ذلك، إذا مرض فلا يعد قادرا بفعلها. وفي المبتغى: مريض إذا لم يكن عنده
أحد يوضئه إلا بأجر جاز له التيمم عند أبي حنيفة قل الاجر أو كثر. وقالا: لا يتيمم إذا كان
الاجر ربع درهم ا ه‍. والظاهر عدم الجواز إذا كان قليلا لا إذا كان كثيرا لما عرف من مسألة
شراء الماء إذا وجده بثمن المثل على ما نبينه إن شاء الله تعالى. وبقولنا قال مالك وأحمد
والشافعي في الأصح كما نقله النووي لاطلاق قوله تعالى * (وإن كنتم مرضى) * (النساء:
43) والمراد من الوجود في الآية القدرة. قال العلامة الكردري: الفاء في قوله تعالى فلم
تجد والعطف على الشرط، وفي فتيمموا الجواب الشرط، وفي فامسحوا لتفسير التيمم.
وهذا إذا قدر المريض على التيمم، أما إذا لم يقدر عليه أيضا ولا عنده من يستعين به فإنه لا
يصلي عندهما. قال الشيخ الإمام أبو بكر: رأيت في الجامع الصغير للكرخي أن مقطوع
اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة ولا يتيمم ولا يعيد وهذا هو
الأصح. كذا في فتاوى الظهيرية ذكره مسكين وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
قوله (أو برد) أي أن خاف الجنب أو المحدث إن اغتسل أو توضأ أن يقتله البرد أو
246

يمرضه تيمم، سواء كان خارج المصر أو فيه. وعندهما لا يتيمم فيه. كذا في الكافي.
وجوازه للمحدث قول بعض المشايخ والصحيح أنه لا يجوز له التيمم كذا في فتاوى قاضيخان
والخلاصة وغيرهما. وذكر المصنف في المستصفى أنه بالاجماع على الأصح. قال في فتح
القدير: وكأنه والله أعلم لعدم اعتبار ذلك الخوف بناء على أنه مجرد وهم إذ لا يتحقق ذلك
في الوضوء عادة ا ه‍. ثم أعلم أن جوازه للجنب عند أبي حنيفة مشروط بأن لا يقدر على
تسخين الماء ولا على أجرة الحمام في المصر ولا يجد ثوبا يتدفأ فيه ولا مكانا يأويه كما أفاده
في البدائع وشرح الجامع الصغير لقاضيخان، فصار الأصل أنه متى قدر على الاغتسال بوجه
من الوجوه لا يباح له التيمم إجماعا. وقالا: لا يجوز التيمم للبرد في المصر. وقد اختلف
المشايخ فمنهم من جعل الخلاف بينهم في هذه نشأ عن اختلاف زمان لا برهان بناء على أن
أجر الحمام في زمانهما يؤخذ بعد الدخول فإذا عجز عن الثمن دخل ثم تعلل بالعسرة وفي
زمانه قبله فيعذر، ومنهم من جعله برهانيا بناه على الخلاف في جواز التيمم لغير الواجد قبل
الطلب من رفيقه إذا كان له رفيق. فعلى هذا يقيد منعهما بأن يترك طلب الماء الحار من جميع
أهل المصر، أما إذا طلب فمنع فإنه يجوز عندهما، والظاهر قوله لأنه لا يكلف الطهارة بالماء
إلا إذا قدر عليه بالملك أو الشراء وعند انتفاء هذه القدرة يتحقق العجز، ولهذا لم يفصل
247

العلماء فيما إذ لم يكن معه ثمن الماء بين إمكان أخذه بثمن مؤجل بالحيلة على ذلك أو لا،
بل أطلقوا جواز التيمم إذ ذاك. فما أطلقه بعض المشايخ من عدم جواز التيمم في هذا الزمان
بناء على أن أجر الحمام يؤخذ بعد الدخول فيتعلل بالعسرة بعده فيه نظر. كذا في فتح
القدير. ولا شك في هذا فيما يظهر لأنه تغرير لم يأذن الشرع فيه، ومن ادعى إباحته فضلا
عن تعيينه فعليه البيان. ولا يخفى أن مراد المحقق في فتح القدير من قوله ليس معه مال أنه
لا مال له غائب أيضا فحينئذ لا يلزمه الشراء بالنسيئة، أما إذا لم يكن معه مال وله مال غائب
فإنه يلزمه الشراء بالنسيئة كما أشار إليه شارح منية المصلي تلميذ المحقق وفي المبتغى الغين
المعجمة: أجير لا يجد الماء إن علم أنه يجده في نصف ميل لا يعذر في التيمم، وإن لم يأذن له
المستأجر يتيمم ويصلي ثم يعيد ولو صلى صلاة أخرى وهو يذكر هذه تفسد ا ه‍.
قوله (أو خوف عدو أو سبع أو عطش أو فقد آلة) يعني يجوز التيمم لهذه الاعذار لأن
الماء معدوم معنى لا صورة، أما إذا كان بينه وبين الماء عدو آدميا أو غيره يخاف على نفسه إذا
أتاه فلان إلقاء النفس في التهلكة حرام فيتحقق العجز عن استعمال الماء، وسواء خاف على
نفسه أو ماله. كذا في العناية. وفي المبتغى: ولو كان عنده أمانة يخاف عليها إن ذهب إلى
الماء يتيمم. وفي التوشيح: إذا خافت المرأة على نفسها بأن كان الماء عند فاسق أو خاف
المديون المفلس من الحبس بأن كان صاحب الدين عند الماء. وفي الخلاصة وفتاوى قاضيخان
وغيرهما: الأسير في يد العدو إذا منعه الكافر عن الوضوء والصلاة يتيمم ويصلي بالايماء ثم
يعيد إذا خرج، وكذا لو قال لعبده إن توضأت حبستك أو قتلتك فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد
كالمحبوس لأن طهارة التيمم لم تظهر في منع وجوب الإعادة. وفي التجنيس: رجل أراد أن
يتوضأ فمنعه إنسان عن أن يتوضأ بوعيد، قيل ينبغي أن يتيمم ويصلي ثم يعيد الصلاة بعد ما
زال عنه لأن هذ عذر جاء من قبل العباد فلا يسقط فرض الوضوء عنه ا ه‍. فعلم منه أن
العذر إن كان من قبل الله تعالى لا تجب الإعادة، وإن كان من قبل العبد وجبت الإعادة. ثم
وقع الاختلاف في الخوف من العدو هل هو من الله فلا تجب الإعادة. أو هو بسبب العبد
فتجب الإعادة؟ ذهب صاحب معراج الدراية إلى الأول، وذهب صاحب النهاية إلى الثاني،
والذي يظهر ترجيح ما في النهاية لما نقلناه من مسألة منع السيد عبده بوعيد من الحبس أو
248

القتل فإنه ليس فيه إلا الخوف لا المنع الحسي، وكذا ظاهر ما نقلناه عن التنجيس كما لا يخفى
لكن قد يقال لا مخالفة بين ما في النهاية والدراية، فإن ما في النهاية محمول على ما إذا حصل
وعيد من العبد نشأ منه الخوف فكان هذا من قبل العباد، وما في الدراية محمول على ما إذا لم
يحصل وعيد من العبد أصلا بل حصل خوف منه فكان هذا من قبل الله تعالى إذا لم يتقدمه
وعيد بدليل أن صاحب الدراية ذكر مسألة الخوف في الأسير بدار الحرب، وبه يندفع ما ذكره
في فتح القدير من أن صاحب الدراية نص على مخالفة ما في النهاية كما لا يخفى. ثم بعد هذا
رأيت العلامة ابن أمير حاج صرح بما فهمته فقال: وتحرر أن المراد بالخوف من العدو الخوف
الذي لم ينشأ عن وعيد من قادر عليه ونحو ذلك كما في الخوف من السبع، ولا بأس بأن
يكون مرادهم ذلك. وإنما نسب هذا الخوف إلى الله تعالى في هذه الصورة مع أن فيها وفي
غيرها منه تعالى أيضا خلقا وإرادة لتجرده في هذه الصورة عن مباشرة سبب له من الغير في
حق الخائف. وفي المحيط: ولو حبس في السفر تيمم وصلى أو لا يعيد لأنه انضم عذر
السفر إلى العذر الحقيقي والغلب في السفر عدم الماء فتحقق العدم من كل وجه ا ه‍. وأما
الماء المحتاج إليه للعطش فإنه مشغول بحاجته والمشغول بالحاجة كالمعدوم. وعطش رفيقه
ودابته وكلبه لماشيته أو صيده في الحال أو ثاني الحال كعطشه، وسواء كان المحتاج إليه
للعطش رفيقه المخالط له أو آخر من أهل القافلة، فإن امتنع صاحب الماء من ذلك وهو غير
محتاج إليه للعطش وهناك مضطر إليه للعطش كان له أخذه منه قهرا وله أن يقاتله، فإن قتل
أحدهما صاحبه إن كان المقتول صاحب الماء فدمه هدر ولا قصاص فيه ولا دية ولا كفارة،
وإن كان المضطر فهو مضمون بالقصاص أو الدية والكفارة. وإن كان صاحب الماء محتاجا إليه
للعطش فهو أولى به من غيره، فإن احتاج إليه الأجنبي للوضوء وكان مستغنيا عنه لم يلزمه
بذله ولا يجوز للأجنبي أخذه منه قهرا. كذا في السراج الوهاج. وكذا الماء المحتاج إليه
للعجين لما قلنا. وإن كان يحتاج إليه لاتخاذ المرقة لا يتيمم لأن حاجة الطبخ دون حاجة
العطش، وأما جوازه بفقد الآلة فلتحقق العجز لأنه إذا لم يجد دلوا يستقي به فوجود البئر
وعدمها سواء. ويشترط أن لا يمكنه إيصال ثوبه إليه، أما إذا أمكنه إيصال ثوبه ويخرج الماء
قليلا بالبلل لا يجوز له التيمم. كذا في السراج الوهاج.
وفي الخلاصة: ولو كان معه منديل طاهر لا يجزئه التيمم وهذا يوافق فروعا ذكرها
الشافعية، وهي أنه لو وجد بئرا فيها ماء ولا يمكنه النزول إليه وليس معه ما يدليه إلا ثوبه أو
249

عمامته لزمه إدلاؤه ثم يعصره، إن لم تنقص قيمة الثوب أكثر من ثمن الماء، فإن زال النقص
على ثمن الماء تيمم ولا إعادة عليه. وإن قدر على استئجار من ينزل إليها بأجرة المثل لزمه ولم
يجز التيمم وإلا جاز بلا إعادة. ولو كان مع ثوب إن شقه نصفين وصل إلى الماء وإلا لم
يصل، فإن كان نقصه بالشق لا يزيد على ثمن الماء وثمن آلة الاستقاء لزمه مشقه ولم يجز
التيمم وإلا جاز بلا إعادة. وهذا كله موافق لقواعدنا كذا في التوشيح. والأصل أنه متى
أمكنه استعمال الماء بوجه من الوجوه من غير لحوق ضرر في نفسه أو ماله وجب عليه
استعماله، وما زاد على ثمن المثل ضرر فلا يلزمه بخلاف ثمن المثل، وفي المبتغى بالغين
المعجمة: وبوجود آلة التقوير في نهر جامد تحته ماء لا يتيمم، وقيل يتيمم وفي سفره جمد أو
ثلج معه آلة الذوب لا يتيمم، وقيل يتيمم ا ه‍. والظاهر الأول منهما كما لا يخفى. وفي
المحيط: الماء الموضوع في الفلاة في الحب ونحوه لا يمنع جواز التيمم لأنه لم يوضع للوضوء
غالبا وإنما وضع للشرب إلا أن يكون الماء كثيرا فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب
والوضوء جميعا ا ه‍. وكذا في التجنيس وفتاوى الولوالجي وقاضيخان. والحب بضم الحاء
الخابية. وعن الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أن الموضوع للشرب يجوز التوضؤ منه والموضوع
للوضوء لا يباح منه الشرب. وفي الخلاصة وغيرها: ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض
طهرت من الحيض وميت ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، إن كان الماء لأحدهم فهو
أحق، وإن كان الماء لهم لا ينبغي لأحدهم أن يغتسل، وإن كان الماء مباحا فالجنب أحق،
250

فتتيمم المرأة وييمم الميت، ولو كان مكان الحائض محدث يصرف إلى الجنب ا ه‍. وفي
الظهيرية قال عامة المشايخ: الميت أولى، وقيل الجنب أولى وهو الأصح ا ه‍. وفي المحيط:
وينبغي أن يصرفا نصيبهما إلى غسل الميت ويتيمما فيما إذا كان مشتركا. وفي التجنيس:
رجل كان في البادية وليس معه إلا قمقمة من ماء زمزم في رحله وقد رصص رأسه، ولا
يجوز له التيمم إذا كان لا يخاف على نفسه العطش لأنه واحد للماء وكثيرا ما يبتلى به الحاج
الجاهل ويظن أنه يجزئه، والحيلة فيه أن يهبه من غيره. ثم يستودع منه الماء ا ه‍. قال
قاضيخان في فتاواه: إلا أن هذا ليس بصحيح عندي فإنه لو رأى مع غيره ماء يبيعه بمثل الثمن أو بغبن يسير يلزمه الشراء، ولا يجوز له التيمم فإذا تمكن من الرجوع في الهبة كيف
يجوز له التيمم ا ه‍. ودفعه في فتح القدير بأنه يمكن أن يفرق بأن الرجوع تملك بسبب
مكروه وهو مطلوب العدم شرعا فيجوز أن يعتبر الماء معدوما في حقه كذلك وإن قدر عليه
حقيقة كماء الحب بخلاف البيع اه‍. وقيل: الحيلة فيه أيخلطه بماء الورد حتى يغلب عليه
فلا يبقى طهورا كذا في التوشيح. والمحبوس الذي لا يجد طهورا لا يصلي عندهما، وعند أبي
يوسف يصلي بالايماء ثم يعيد وهو رواية عن محمد تشبها بالمصلين قضاء لحق الوقت كما في
الصوم. ولهما أنه ليس بأهل للأداء لمكان الحدث فلا يلزمه التشبه كالحائض، وبهذه المسألة
تبين أن الصلاة بغير طهارة متعمدا ليس بكفر فإنه لو كان كفرا لما أمر أبو يوسف به، وقيل
كفر كالصلاة إلى غير القبلة أو مع الثوب النجس عمدا لأنه كالمستخف، والأصح أنه لو صلى
إلى غير القبلة أو مع الثوب النجس لا يكفر لأن ذلك لا يجوز أداؤه بحال. ولو صلى بغير
طهارة متعمدا يكفر لأن ذلك يحرم بكل حال، فإذا صلى بغير طهارة متعمدا فقد تهاون
واستخف بأمر الشرع فيكفر، كذا في المحيط، وقد قدمنا عن الفتاوى الظهيرية أن مقطوع
اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة ولا يتيمم ولا يعيد وهذا هو
الأصح، فكانت الصلاة بغير طهارة نظير الصلاة على غير القبلة أو مع الثوب النجس فينبغي
التسوية بينهما في الحكم وهو عدم التكفير كمالا يخفى.
قوله: (مستوعبا وجهه ويديه مع مرفقيه) أي يتيمم تيمما مستوعبا فهو صفة لمصدر
251

محذوف وجوز الزيلعي أن يكون حالا من الضمير الذي في تيمم فيكون حالا منتظرة قال:
والأول أوجه ولم يبين وجهه، ولعل وجهه أن الاستيعاب فيه ركن لا يتحقق التيمم إلا به،
وعلى جعله حالا يصير شرطا خارجا عن ماهيته لأن الأحوال شروط على ما عرف. اعلم أن
الاستيعاب فرض لازم في ظاهر الرواية عن أصحابنا حتى لو ترك شيئا قليلا من مواضع
التيمم لا يجوز. ونص غير واحد أن هذا هو الصحيح، منهم قاضيخان ونص صاحب
المجمع وصاحب الاختيار على أنه الأصح، وصاحب الخلاصة والولوالجي على أنه المختار،
وشارح الوقاية أن عليه الفتوى، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الأكثر يقوم مقام الكل لوجه
غير لازم وهو إما لكثرة البلوى أو لأنه مسح فلا يجب فيه الاستيعاب كمسح الرأس. وفي
تفصيل عقد الفوائد بتكميل قيد الشرائد معزيا إلى الخلاصة أن المتروك لو كان أقل من الربع
يجزئه وهو الأصح، والظاهر أن ليس المراد بها خلاصة الفتاوى المشهورة فإن فيها أن المختار
افتراض الاستيعاب، ووجه ظاهر الرواية أن الامر بالمسح في باب التيمم تعلق باسم الوجه
واليدين وأنه يعم الكل، ولان التيمم بدل عن الوضوء والاستيعاب في الأصل من تمام الركن
فكذا في البدل فيلزمه تخليل الأصابع ونزع الخاتم أو تحريكه ولو ترك لم يجز، وعلى رواية
الحسن لا يلزمه ويمسح المرفقين مع الذراعين عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر حتى لو كان
مقطوع اليدين من المرفقين يمسح موضع القطع عندنا خلافا لزفر. والكلام فيه كالكلام في
الوضوء وقد مر. كذا في البدائع. وفي المحيط: وإن كان القطع فوق المرفق لا يجب المسح
يعني اتفاقا ويمسح تحت الحاجبين وفوق العينين. وفي فتح القدير معزيا إلى الحلية تبعا
للدراية: يمسح من وجهه ظاهر البشرة والشعر على الصحيح ا ه‍. لكن في السراج الوهاج:
لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم ولا مسح الجبيرة ولو مسح بإحدى يديه وجهه
وبالأخرى يديه أجزأه في الوجه واليد الأولى ويعيد الضرب لليد الأخرى ا ه‍. وفي تعبيره
بالواو في قوله ويديه دون ثم إشارة إلى أن الترتيب ليس بشرط فيه كأصله. ويشترط
المسح بجميع اليد أو بأكثرها حتى لو مسح بأصبع واحدة أو إصبعين لا يجوز، ولو كرر
المسح حتى استوعب بخلاف مسح الرأس. كذا في السراج الوهاج معزيا إلى الايضاح. وفي
252

المجتبى: ومسح العذار شرط على ما حكي عن أصحابنا والناس عنه غافلون. وفي المحيط
عن محمد في رجل يرى التيمم إلى الرسغ والوتر ركعة ثم رأى التيمم إلى المرفق والوتر ثلاثا
لا يعيد ما صلى لأنه مجتهد فيه، وإن فعل ذلك من غير أن يسأل أحد ثم سأل فأمر بثلاث
يعيد ما صلى لأنه غير مجتهد ا ه‍. وفي معراج الدراية: ولو أمر غيره أن ييممه ونوى هو
جاز. وقال ابن القاضي: لا يجزئه ا ه‍. والناوي هو الآمر كما لا يخفى. وفي شرح المجمع:
وأما استيعاب الوجه في التيمم فليس مستفادا من الالصاق بل لأنه عن الغسل فلزم
الاستيعاب في الخلف حسب لزومه في الأصل ا ه‍. وقد قدمناه في مسح الرأس.
قوله: (بضربتين) الباء متعلقة بتيمم أي يتيمم بضربتين، وقد وقع ذكر الضرب في كثير
من الكتب والمذكور في الأصل الوضع دون الضرب، وفي بعض الروايات الضرب فاختلف
المشايخ فيه، فمنهم كالمصنف في المستصفى من قال بأنهم إنما اختاروه، وإن كان الوضع
جائزا لما أن الآثار جاءت بلفظ الضرب. وفي غاية البيان: والمقصود من الضرب أن يدخل
الغبار في خلال الأصابع تحقيقا لمعنى الاستيعاب. وتعقب ما في المستصفى بأن الضرب لم
يذكر في الآية ولا في سائر الآثار وإنما جاء في بعضها. ومنهم من ذهب إلى أن المقصود
بذكر الضربتين الرد على ابن سيرين ومتبعه أنه لا بد من ثلاث ضربات ضربة للوجه
وضربة للكفين وضربة للذراعين، وأما مروي عن محمد من الاحتياج إلى ثلاث ضربات
فليس افتراضا للثالثة لذاتها بل لتخليل الأصابع إذا لم يدخل الغبار بينها وهو خلاف النص
والمقصود هو التخليل لا يتوقف عليه. ومنهم من ذهب إلى أن الضربتين ركن للخبر الوارد
التيمم ضربتان فهما من ماهية التيمم، ومن ثم قال السيد أبو شجاع: إنه لو أحدث بعد
الضربة أعادها ولا يجزئه المسح بما في يده من التراب. وصححه في الخلاصة وهو مختار
شمس الأئمة ولكن قال القاضي الأسبيجابي: إن الضربة تجزئه كما في الوضوء حيث يتوضأ
بذلك الماء. وفرق السيد أبو شجاع بينهما بأن الشرط في الوضوء الحصول وفي التيمم
التحصيل. وأجيب عنه بأن التحصيل شرط فلا ينافي الحدث كما لو أحرم مجامعا. وفي فتح
القدير بعد ما ذكر الخلاف: وعلى هذا فما صرحوا به من أنه لو ألقت الريح الغبار على وجهه
ويديه فمسح بنية التيمم أجزأه وإن لم يمسح لا يجوز يلزم فيه، إما كونه قول من أخرج
الضربة لا قول الكل، وإما اعتبار الضربة أعم من كونها على الأرض أو على العضو مسحا،
والذي يقتضيه النظر عدم اعتبار ضربة الأرض من مسمى التيمم شرعا فإن المأمور به المسح
253

في الكتاب ليس غير قال تعالى * (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم) * (النساء: 43)
ويحمل قوله عليه السلام التيمم ضربتان إما على إرادة الأعم من المسحتين كما قلنا أو أنه
أخرج مخرج الغالب والله سبحانه أعلم ا ه‍. ثم أعلم أن الشرط وجود الفعل منه أعم من أن
يكون مسحا أو ضربا أو غيره فقد قال في الخلاصة: ولو أدخل رأسه في موضع الغبار بنية
التيمم يجوز، ولو انهدم الحائط وظهر الغبار فحرك رأسه ونوى التيمم جاز والشرط وجود
الفعل منه ا ه‍. وهذا يعين أن هذه الفروع مبنية على قول من أخرج الضربة من مسمى
التيمم، وأما من أدخلها فلا يمكنه القول بها فيما نقلناه عن الخلاصة إذا ليس فيها ضرب
أصلا لا على الأرض ولا على العضو إلا أن يقال: مراده بالضرب الفعل منه أعم من كونه
ضربا أو غيره وهو بعيد كما لا يخفى، وتظهر ثمرة الخلاف أيضا فيما إذا نوى بعد الضرب
فمن جعله ركنا لم يعتبر النية بعده، ومن لم يجعله ركنا اعتبرها بعده. كذا في السراج الوهاج.
وفي الخلاصة: ولو شلت كلا يديه يمسح وجهه وذراعيه على الحائط ا ه‍. وقد قدمنا أنه لو
أمر غيره بأن ييممه جاز بشرط أن ينوي الآمر، فلو ضرب المأمور يده على الأرض بعد نية
الآمر ثم أحدث الآمر قال في التوشيح: ينبغي أن يبطل بحدث الآمر على قول أبي شجاع
ا ه‍. وظاهره أنه لا يبطل بحدث المأمور لما أن المأمور آلة وضربه ضرب للآمر فالعبرة للآمر
ولهذا اشترطنا نيته لا نية المأمور وفي المحيط: وكيفية التيمم أن يضرب يديه على الأرض ثم
ينفضهما فيمسح بهما وجهه بحيث لا يبقى منه شئ وإن قل، ثم يضرب يديه ثانيا على
الأرض ثم ينفضهما فيمسح بهما كفيه وذراعيه كليهما إلى المرفقين.
وقال مشايخنا: يضرب يديه ثانيا ويمسح بأربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من
رؤوس الأصابع إلى المرفق، ثم يمسح بكفه اليسرى باطن يده اليمنى إلى الرسغ ويمر باطن
إبهامه اليسرى على ظاهر، إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليد اليسرى كذلك وهو الأحوط لأن فيه
احترازا عن استعمال المستعمل بالقدر الممكن فإن التراب الذي على يده يصير مستعملا بالمسح
254

حتى لو ضرب يديه مرة ومسح بهما وجهه وذراعيه لا يجوز، ولا يجب مسح باطن الكف
لأن ضربهما على الأرض يغني عنه. وفي شرح النقاية للشمني معزيا إلى الذخيرة: لم يرد نص
هل الضربة بباطن الكفين أو بظاهرهما والأصح أنها بظاهرهما وباطنهما ا ه‍. والمراد بالواو إذ
لا جمع بينهما كما لا يخفى، وهذا النقل عن الذخيرة مخالف لما نقله عنها ابن أمير حاج في
شرح منية المصلي ولفظة تنبيه في الذخيرة: لم يذكر محمد أنه يضرب على الأرض ظاهر كفيه
أو باطنهما وأشار إلى أنه يضرب باطنهما فإنه قال في الكتاب: لو ترك المسح على ظاهر كفيه
لا يجوز إنما يكون تاركا للمسح على ظاهر كفيه إذا ضرب باطن كفيه على الأرض ا ه‍. ثم
قال: قلت وبهذا يعلم أن المراد بالكف باطنها لا ظاهرها ا ه‍. وهكذا في التوشيح معزيا إلى
الذخيرة إلا أنه بعد أسطر ذكر ما في شرح النقاية من التصحيح: وسنن التيمم سبعة: إقبال
اليدين بعد وضعهما على التراب وإدبارهما ونفضهما وتفريج الأصابع والتسمية في أوله
والترتيب والموالاة. ذكر الأربعة الأول في المبتغى والباقية في المبسوط، وبعضهم أطلق على
بعض هذه الاستحباب، وفي ظاهر الرواية ينفضهما مرة، وعن أبي يوسف مرتين وهذا ليس
كالزيلعي باختلاف لأن المقصود وهو تناثر التراب، إن حصل بمرة اكتفى بها وإن لم يحصل
ينفض مرتين. كذا في البدائع ولهذا قال في الهداية: ينفض يديه بقدر ما يتناثر التراب كيلا
يصير مثلة ا ه‍.
قوله: (ولو جنبا أو حائضا) يعني يتيمم الجنب والمحدث والحائض والنفساء وهو قول
جمهور العلماء للأحاديث الواردة، منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث عمران بن
الحصين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال: يا فلان ما منعك أن
تصلي مع القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال: عليك بالصعيد. ومنها
حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم وهو جنب رواه الأئمة الستة. وأما الآية وهي قوله
تعالى * (أو لامستم النساء) * (النساء: 43) فقد اختلف فيها فذهب عمر وابن مسعود وابن
عمر إلى حملها على المس باليد فمنعوا التيمم للجنب، وذهب علي وابن عباس وعائشة إلى أنها
محمولة على الجماع فجوزوه للجنب وبه أخذ أصحابنا وجهور العلماء ترجيحا لسياق الآية
255

لأن الله تعالى بين حكم الحدث الأصغر والأكبر حال وجود الماء ثم نقل الحكم إلى التراب
حال عدم الماء، وذكر الحدث الأصغر بقوله * (أو جاء أحد منكم من الغائط) * (النساء: 43)
فتعين حمل الملامسة على الجماع ليكون بيانا لحكم الحدثين عند عدم الماء كما بين حكمهما عند
وجوده، والشافعي حمل الآية على الجماع والمس باليد فقال بإباحته للجنب ونقض الوضوء
بالمس باليد، والحيض والنفاس ملحقان بالجنابة لأنهما في معناهما، هكذا في كثير من الكتب
لكن في الفتاوى الظهيرية كما نقله مسكين من شرح الكنز والشمني في شرح النقاية تفصيل
في الحائض وهي أنها إذا ظهرت لعشرة أيام يجوز لها التيمم، وإن طهرت لأقل لا يجوز إلا
أن الشمني نقله عنها في تيممها لصلاة الجنازة والعيد والأول في مطلق التيمم. والذي يظهر
أن هذا التفصيل غير صحيح بدليل ما اتفقوا على نقله في باب الحيض والرجعة أن الحائض
إذا انقطع دمها لأقل من عشرة فتييمت عند عدم القدرة على الماء وصلت جاز للزوج وطؤها،
وهل تنقطع الرجعة بمجرد التيمم أو لا بد من الصلاة به فيه خلاف، فهذا صريح في جواز
التيمم لها. وممن صرح به القاضي الأسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي ولفظه: الأصل أن
المرأة إذا كانت أيامها دون العشرة فوقت اغتسالها من الحيض حتى إنها لا تخرج من الحيض ما
لم تغتسل أو يمضي عليها أدنى وقت الصلاة إليها مع قدرة الاغتسال فيه، ولو تيممت
وصلت خرجت من الحيض بالاتفاق، ولو تيممت ولم تصل لا ينقطع حق الرجعة في قولهما
خلافا لمحمد وزفر، وأجمعوا أنها لا تتزوج حتى تصلي بذلك التيمم إلى آخر ما ذكر من
الفروع، لكن صحح شمس الأئمة السرخسي في مبسوطه أنه لا يطؤها حتى تصلي به إجماعا
لأن محمدا إنما جعل التيمم كالاغتسال فيما هو مبني على الاحتياط وهو قطع الرجعة
والاحتياط في الوطئ تركه فليس التيمم فيه كالاغتسال كما لم يفعله في الحل للأزواج. وفي
المحيط: جنب مر على مسجد فيه ماء يتيمم للدخول ولا يباح له إلا بالتيمم وإن كان فيه عين
صغيرة ولا يستطيع الاغتراف منه لا يغتسل فيها ويتيمم لأن الاغتسال فيه يفسده ولا يخرج
طاهرا فلا يكون مفيدا، ولو أصابته الجنابة في المسجد قيل لا يباح له الخروج من غير تيمم
اعتبارا بالدخول، وقيل يباح لأن في الخروج تنزيه المسجد عن النجاسة وفي الدخول تلويثه
بها ا ه‍. وسيأتي في الحيض تمامه إن شاء الله تعالى.
قوله: (بطاهر) متعلق بيتيمم يعني يشترط لصحة التيمم طهارة الصعيد لقوله تعالى
* (فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 43) ولا طيب مع النجاسة حتى لو تيمم بغبار ثوب نجس
256

لا يجوز إلا إذا وقع ذلك الغبار عليه بعد ما جف، ولا بد أن تكون طهارته مقطوعا بها حتى
لو تيمم بأرض قد أصابتها نجاسة فجفت وذهب أثرها لم يجز في ظاهر الرواية. والفرق بين
التيمم منها وجواز الصلاة عليها أن الجفاف مقلل لا مستأصل وقليلها مانع في التيمم دون
الصلاة، ويجوز أن يعتبر القليل مانعا في شئ كقليلها في الماء مانع دون الثوب. كذا في
البدائع وسيأتي تمامه في الأنجاس إن شاء الله تعالى. وظاهر كلامهم أن الأرض التي جفت
نجسة في حق التيمم طاهرة في حق الصلاة، والحق أنها طاهرة في حق الكل. وإنما منع
التيمم منها لفقد الطهورية كالماء المستعمل طاهر غير طهور وكان ينبغي للمصنف أن يقول
بمطهر ليخرج ما ذكرنا كما عبر به في منظومة ابن وهبان وللحديث الوارد من قوله صلى الله عليه وسلم
جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1) بناء على أن الطهور بمعنى المطهر وقد تقدم الكلام
فيه. وفي المحيط والبدائع: ولو تيمم اثنان من مكان واحد جاز لأنه لم يصر مستعملا لأن
التيمم إنما يتأدى بما التزق بيده لا بما فضل كالماء الفاضل في الاناء بعد وضوء الأول ا ه‍.
وهو يفيد تصور استعماله وقصره على صورة واحدة وهي أن يمسح الذراعين بالضربة التي
مسح بها وجهه ليس غير.
قوله: (من جنس الأرض) يعني يتيمم بما كان من جنس الأرض. قال المصنف في
المستصفى: كل ما يحترق بالنار فيصير رمادا كالشجر أو ينطبع ويلين كالحديد فليس من جنس
الأرض وما عدا ذلك فهو من جنس الأرض ا ه‍. فلا يجوز التيمم بالأشجار والزجاج المتخذ
من الرمل وغيره والماء المنجمد والمعادن إلا أن تكون في محالها، فيجوز للتراب الذي عليها لا
بها نفسها، واللؤلؤ وإن كان مسحوقا لأنه متولد من حيوان في البحر، والدقيق والرماد،
ويجوز بالحجر والتراب والرمل والسبخة المنعقدة من الأرض دون الماء، والجص والنورة
والكحل والزرنيخ والمغرة والكبيرت والفيروزج والعقيق والبلخش والزمرد والزبرجد. وفي
257

فتح القدير: عدم الجواز بالمرجان. وفي غاية البيان والتوشيح والعناية والمحيط ومعراج
الدراية والتبيين الجواز به فكان الأول سهوا. وأما الملح فإن كان مائيا فلا يجوز به اتفاقا، وإن
كان جبليا ففيه روايتان وصحح كل منهما ذكره في الخلاصة لكن الفتوى على الجواز به. كذا
في التنجيس. ويجوز بالآجر المشوي وهو الصحيح لأنه طين مستحجر، وكذا بالخزف
الخالص إلا إذا كان مخلوطا بما ليس من جنس الأرض أو كان عليه صبغ ليس من جنس
الأرض. كذا أطلق في التجنيس والمحيط وغيرهما مع أن المسطور في فتاوى قاضيخان:
التراب إذا خالطه شئ ما ليس من أجزاء الأرض. يعتبر فيه الغلبة، وهذا يقتضي أن يفصل
في المخالط للنئ بخلاف المشوي لاحتراق ما فيه من أجزاء الأرض كذا في فتح القدير.
وفي فتاوى قاضيخان: وإذا احترقت الأرض بالنار إن اختلطت بالرماد يعتبر فيه الغالب إن
كانت الغلبة للتراب جاز به التيمم وإلا فلا. وفي فتح القدير: يجوز التيمم بالأرض المحترقة
في الأصح ولم يفصل، والظاهر التفصيل. وفي المحيط: ولو تيمم بالذهب والفضة إن كان
مسبوكا لا يجوز، وإن لم يكن مسبوكا وكان مختلطا بالتراب والغلبة للتراب جاز ا ه‍. فعلم
بهذا أن ما أطلقه في فتح القدير محمول على هذا التفصيل، وإذا لم يجد إلا الطين يلطخه بثوبه
فإذا جف تيمم به، وقيل عند أبي حنيفة يتيمم بالطين وهو الصحيح لأن الواجب عنده وضع
اليد على الأرض لا استعمال جزء منه والطين من جنس الأرض إلا إذا صار مغلوبا بالماء فلا
يجوز التيمم به. كذا في المحيط. وقيد الجواز بالطين الولوالجي في فتاواه صاحب المبتغى بأن
يخاف خروج الوقت، أما قبله فلا كيلا يتلطخ وجهه فيصير بمعنى المثلة من غير ضرورة وهو
قيد حسن ينبغي حفظه. وذكر الأسبيجابي ولو أن الحنطة أو الشئ الذي لا يجوز عليه التيمم
إذا كان عليه التراب فضرب يده عليه وتيمم ينظر إن كان يستبين أثره بمده عليه جاز، وإن
258

كان لا يستبين لا يجوز ا ه‍. وبهذا يعلم حكم التيمم على جوخة أو بساط عليه غبار،
فالظاهر عدم الجواز لقلة وجود هذا الشرط في نحو الجوخة فليتنبه له والله سبحانه الموفق.
وهذا كله عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب وهو قول الشافعي لما
أخرجه مسلم عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وجعلت لي الأرض مسجدا وجعل تربتها لنا
طهورا روى أحمد والبيهقي وجعل لي التراب طهورا ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى
* (فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 43) والصعيد اسم لوجه الأرض ترابا كان أو غيره. قال
الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، وإذا كان هذا مفهومه وجب تعميمه
وتعين حمل تفسير ابن عباس الصعيد بالتراب على الأغلب، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في
الصحيحين وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا لأن اللام فيها للجنس فلا يخرج شئ منها
لأن الأرض كلها جعلت مسجدا، وما جعل مسجدا هو الذي جعل طهورا. وما في
259

الصحيحين أيضا من حديث عمار إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ولم يقل التراب.
وما رواه البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار. قال الطحاوي: حيطان المدينة مبنية من
حجارة سود من غير تراب، ولو لم تثبت الطهارة بهذا التيمم لما فعله صلى الله عليه وسلم. وأما رواية وترابها
طهورا فالجمهور على خلافه، وأن الثابت وتربتها ولا يراد بها التراب بل مكان تربتها ما
يكون فيه من التراب والرمل وغيره من جنس الأرض، ولم سلم فالاستدلال به عمل بمفهوم
اللقب وهو ليس بحجة عند الجمهور، وما قد يتوهم أن هذا يخصص رواية الأرض لأنه فرد
من أفراد العام فخطأ لأن التخصيص إخراج الفرد من حكم العام وهذا ربط حكم العام نفسه
ببعض أفراده. كذا في فتح القدير بمعناه، ويدل له ما ذكر في البدائع أن الجمهور أنه إذا
وافق خاص عاما لم يخصصه خلافا لأبي ثور كقوله أيما أهاب وكقوله في شاة ميمونة
دباغها طهورها. لنا: لا تعارض فالعمل بهما واجب. فإن قيل المفهوم مخصص عند قائليه
فذكرها يخرج غيرها قلنا: أما على أصلنا فظاهر ومن أجاز المفهوم فبغير اللقب ا ه‍. وكذا
ذكر ابن الحاجب في أصوله وبهذا اندفع ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه من قبيل حمل
المطلق على المقيد. قال القرطبي في تفسيره: وقولهم هذا من باب المطلق والمقيد فليس كذلك
وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم كقوله تعالى * (فيهما فاكهة ونخل
ورمان) * (الرحمن: 68) ا ه‍. وعلى تسليم أنهما منه وقولهم أن مفهوم اللقب حجة إذا اقترن
بقرينة وهي هنا موجودة لأنه لولا أن الحكم متعلق بالمذكور لم يكن لذكره فائدة قلنا: إنه إنما
ذكره جريا على الغالب وإشارة إلى أنه الأصل.
قوله: (وإن لم يكن عليه نقع وبه بلا عجز) أي وإن لم يكن على جنس الأرض غبار
حتى لو وضع يده على حجر لا غبار عليه يجوز. وقال محمد: لا يجوز لظاهر قوله تعالى
* (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * (النساء: 43) قلنا: من للابتداء في المكان إذ لا يصح
فيها ضابط التبعيضية وهو وضع بعض موضعها والباقي بحاله إذ لو قيل فامسحوا بوجوهكم
وأيديكم بعضها أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحا والعضوين آلته وهو منتف اتفاقا، ولا
يصح فيها ضابط البيانية وهو وضع الذي موضعها مع جزء ليتم صلة الموصول كما في
* (اجتنبوا الرجس من الأوثان) * (الحج: 30) أي الذي هو الأوثان. كذا في فتح القدير.
ومثله توضأت من النهر أي ابتداء الاخذ للوضوء من النهر. وفي الكشاف: فإن قلت
قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت
260

برأسي من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض قلت: هو كما تقول والاذعان
للحق أحق من المراء ذكره في تفسير آية النساء. واختار ابن أمير حاج تلميذ المحقق ابن
الهمام أنها لتبيين جنس ما تماسه الآلة التي بها يمسح العضوين على أن في الآية شيئا مقدرا
طوى ذكره لدلالة الكلام عليه كما هو دأب إيجاز الحذف الذي هو باب من البلاغة. التقدير
والله أعلم: امسحوا بوجوهكم وأيديكم مما مسه شئ من الصعيد وهذا لا يوجب استعمال
جزء من الصعيد في العضوين قطعا ا ه‍. وقوله وبه بلا عجز أي بالنقع يجوز التيمم بلا
عجز عن التراب، وعند أبي يوسف لا يجوز إلا عند العجز.
تنبيهات: الأول: أن الصعيد المذكور في الآية ظرف مكان عندنا وعند الشافعي ومن
يشترط التراب مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد ذكره القرطبي. الثاني: أن التيمم على
التيمم ليس بقربة كذا في القنية، وظاهره أنه ليس بمكروه وينبغي كراهته لكونه عبثا.
الثالث: ذكر في الغاية أن ههنا لطيفة وهي أن الله تعالى خلق درة ونظر إليها فصارت ماء ثم
تكاثف منه وصار ترابا وتلطف منه فصار هواء وتلطف منه فصار نارا فكان الماء أصلا. ذكره
المفسرون وهو منقول عن التوراة. وإنما لم يجز التيمم بالمعدن كالحديد لأنه ليس بتبع للماء
وحده حتى يقوم مقامه ولا للتراب كذلك وإنما هو مركب من العناصر الأربعة فليس له
اختصاص بشئ منها حتى يقوم مقامه.
قوله: (ناويا) أي يتيمم ناويا وهي من شروطه. والنية والقصد الإرادة الحادثة ولهذا لا
يقال لله تعالى ناو ولا قاصد. كذا في المستصفى. وشرطها أن يكون المنوي عبادة مقصودة لا
تصح إلا بالطهارة أو الطهارة أو استباحة الصلاة أو رفع الحدث أو الجنابة، وما وقع في
261

التجنيس من أن النية المشروطة في التيمم هي نية التطهير وهو الصحيح فلا ينافيه لتضمنها نية
التطهير. وإنما اكتفى بنية التطهير لأن الطهارة شرعت للصلاة وشرطت لإباحتهما فكانت
نيتها نية إباحة الصلاة حتى لو تيمم لتعليم الغير لا تجوز به الصلاة في الأصح. كذا في
معراج الدراية. فلو تيمم لصلاة الجنازة أو سجدة التلاوة جاز له أن يصلي سائر الصلوات
لأن كلا منهما قربة مقصودة، والمراد بالقربة المقصودة أن لا تجب في ضمن شئ آخر بطريق
التبعية، ولا ينافي هذا ما ذكر في الأصول من أن سجدة التلاوة ليست بقربة مقصودة حتى
لو تلاها في وقت مكروه جاز أن يؤديها في وقت مكروه آخر بخلاف الصلاة المفروضة إذا
وجبت في وقت ناقص لا تؤدي في ناقص آخر لأن النفي والاثبات ليس من جهة واحدة بل
من جهتين. والمراد مما ذكر هنا أنها شرعت ابتداء تقربا إلى الله تعالى من غير أن تكون تبعا
لغيرها بخلاف دخول المسجد ومس المصحف، والمراد بما في الأصول أن هيئة السجود
ليست بمقصودة لذاتها عند التلاوة بل لاشتمالها على التواضع المحقق لموافقة أهل الاسلام
ومخالفة أهل الطغيان فلهذا قلنا: لا يختص إقامة الواجب بهذه الهيئة بل ينوب الركوع في
الصلاة على الفور منابها. كذا في معراج الدراية تبعا للخبازية. وصرحوا بأنه لو تيمم لدخول
المسجد أو القراءة ولو من المصحف أو مسه أو زيارة القبور أو دفن الميت أو الآذان أو الإقامة
أو السلام أو رده أو الاسلام، لا تجوز الصلاة بذلك التيمم عند عامة المشايخ لأن بعضها
ليست بعبادة مقصودة، والاسلام وإن كان عبادة مقصودة لكن يصح بدون الطهارة. هكذا
أطلقوا في قراءة القرآن المنع، وفي المحيط: أطلق الجواز وسوى بين صلاة الجنازة وسجدة
التلاوة وقراءة القرآن. وفي السراج الوهاج: الأصح أنه لا يجوز له أن يصلي إذا تيمم لقراءة
القرآن. والحق التفصيل فيها فإن تيمم لها وهو جنب جاز له أن يصلي به سائر الصلوات.
كذا في البدائع وغاية البيان. ولم يفصلا في دخول المسجد بين أن يكون جنبا أو محدثا مع أن
كلا منهما تبع لغيره وهو الصلاة فالأولى أن يقال: الشرط كون المنوي عبادة مقصودة أو
جزأها وهو لا يحل إلا بالطهارة، فالقراءة جزء من العبادة المقصودة إلا أنه كان جنبا وجد
الشرط الأخير وهو عدم حل الفعل إلا بالطهارة فكمل الشرط فجازت الصلاة به، وإن كان
محدثا عدم الشرط الأخير ولم تجز الصلاة به وخرج التيمم لدخول المسجد مطلقا، أما إن كان
للحدث فظاهر لفوات الشرطين، وأما للجناية فهو وإن وجد الشرط الأخير وهو عدم الحل
إلا أنه عدم الشرط الأول وهو كونه عبادة مقصودة أو جزأها. وخرج التيمم لمس المصحف
262

مطلقا فإنه وإن كان لا يحل إلا بها إلا أنه ليس بعبادة مقصودة، ولا يقال إن دخول المسجد
عبادة وإن لم يكن للصلاة بل للاعتكاف لأنا نقول: العبادة هي الاعتكاف ودخول المسجد تبع
له فكانت عبادة غير مقصودة. ولو تيمم لسجدة الشكر لا يصلي به المكتوبة، وعند محمد
يصليها بناء على بناء على أنها قربة عنده، وعندهما ليست بقربة. كذا في التوشيح. وفي فتح
القدير: فإن قلت ذكرت أن نية التيمم لرد السلام لا تصححه على ظاهر المذهب مع أنه عليه
السلام تيمم لرد السلام على ما أسلفته في الأول. فالجواب أن قصد رد السلام بالتيمم لا
يستلزم أن يكون نوى عند فعل التيمم التيمم له بل يجوز كونه نوى ما يصح معه التيمم ثم
يرد السلام إذا صار طاهرا ا ه‍. ولقائل أن يمنع عدم صحة التيمم للسلام كما زعمه لأن
المذهب أن التيمم للسلام صحيح، وإنما الكلام في جواز الصلاة به ولهذا قال قاضيخان في
فتاواه: ولو تيمم للسلام أو لرده لا يجوز له أداء الصلاة بذلك التيمم ولم يقل لا يجوز تيممه،
فعلم أن جواز الصلاة به حكم آخر لا تعلق له بما فعله عليه السلام فإنه تيمم للسلام عند
فقد الماء، ولا شك في صحته. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث محمول على
أنه صلى الله عليه وسلم كان عادما للماء حال التيمم فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله
ا ه‍. وعلى أصولنا لا حاجة إلى هذا الحمل فإن عندنا ما يفوت لا إلى خلف يجوز التيمم له
مع وجود الماء كصلاة الجنازة، ولا شك أن رد السلام منه بناء على أنه عليه السلام لا
يذكر الله تعالى إلا على طهارة، بل عندنا ما هو أعم من ذلك وهو أن ما ليست الطهارة
شرطا في فعله وحله فإنه يجوز التيمم له مع وجود الماء كدخول المسجد للمحدث، ولهذا قال
في المبتغى بالغين المعجمة: ويجوز التيمم لدخول مسجد عند وجود الماء وكذا للنوم فيه ا ه‍.
263

وتجويز أن يكون النبي عليه السلام نوى معه ما يصح معه التيمم خلاف الظاهر كما لا
يخفى، ثم لا يخفى أن قولهم بجواز الصلاة بالتيمم لصلاة الجنازة محمول على ما إذا لم يكن
واجدا للماء كما قيده في الخلاصة بالمسافر، أما إذ يتيمم لها مع وجوده لخوف الفوت فإن
تيممه يبطل بفراغه منها. ومما تقدم علم أن نية التيمم لا تكفي لصحته على المذهب خلافا لما
في النوادر، ولا اعتماد عليه بل المعتمد اشتراط نية مخصوصة هي ما قدمناه لكن لا دليل عليه
لأن قوله تعالى * (فتيمموا صعيدا طيبا) * إنما يدل على قصد الصعيد المترتب عليه المسح فلا
يكون موجبا غير النية المعتبرة. كذا في فتح القدير. ويمكن أن يقال: إن المراد قصد الصعيد
لأجل الصلاة بقرينة قوله فلم تجدوا ففيه الانباء عن المشروط كما لا يخفى. ولا تشترط نية
التمييز بين الحدث والجنابة حتى لو تيمم الجنب يريد به الوضوء أجزأ. هكذا روي عن محمد
نصا كما نقله في التجنيس. وذكر الجصاص أنه لا حاجة إلى نية التطهير بل لا بد من التمييز
لأن التيمم لهما يقع على صفة واحدة فيميز بالنية كصلوات الفرائض وليس بصحيح، لأن
الحاجة إلى النية ليقع التيمم طهارة فإذا وقع طهارة جاز له أن يؤدي ما شاء لأن الشروط
يراعى وجودها لا غير، ألا ترى أنه لو تيمم للعصر يجوز أداء الظهر به بخلاف الصلوات،
كذا في الخبازية وغيرها. ولا يخفى أن قول محمد لو تيمم الجنب يريد به الوضوء معناه يريد
به طهارة الوضوء لما علمت من اشتراط نية التطهير. وبما تقرر علم أن ما في القنية من قوله
بقي على جسد الجنب لمعة ثم أحدث وتيمم لهما جاز وينوي لهما لأنه إذا نوى لأحدهما
يبقى الآخر بلا نية مبني على قول أبي بكر الجصاص كما لا يخفى.
قوله: (فلغا تيمم كافر لا وضوءه) يعني فلأجل اشتراط النية المخصوصة في التيمم
بطل تيمم كافر، ولعدم اشتراط النية في الوضوء لا يبطل وضوءه، أما الأول فلان الاسلام
شرط وقوع التيمم صحيحا عند عامة العلماء وروي عن أبي يوسف إذا تيمم ينوي الاسلام
جاز حتى لو أسلم لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند العامة، وعلى رواية أبي يوسف
264

يجوز، فالحاصل أن تيمم الكافر غير صحيح مطلقا للصلاة والاسلام وعند أبي يوسف صحيح
للاسلام لا للصلاة لأنه نوى قربة مقصودة تصح منه في الحال، ولنا أن الكافر ليس بأهل
للنية فما يفتقر إليها لا يصح منه، وهذا لأن النية تصير الفعل منتهضا مسببا للثواب ولا فعل
يقع من الكافر كذلك حال الكفر، ولذا صححنا وضوءه لعدم افتقاره إلى النية ولم يصححه
الشافعي لما افتقر إليها عنده وهي المسألة الثانية.
قوله: (ولا تنقضه ردة) أي لا ينقض التيمم ردة لما بين أن الاسلام عندنا شرط وقوع
التيمم صحيحا بين أن الاسلام ليس شرط بقائه على الصحة حتى لو تيمم المسلم ثم ارتد عن
الاسلام - والعياذ بالله - ثم أسلم جاز له أن يصلي بذلك التيمم لأن التيمم وقع طهارة
صحيحة فلا يبطل بالردة لأن أثرها في إبطال العبادات والتيمم ليس بعبادة عندنا لكنه طهور
وهي لا تبطل صفة الطهورية كما لا تبطل الوضوء، واحتمال الحاجة باق لأنه مجبور على
الاسلام والثابت بيقين يبقى لو هم الفائدة في أصول الشرع إلا أنه لم ينعقد طهارة مع الكفر
لأن جعله طهارة للحاجة والحاجة زائلة للحال بيقين وغير الثابت بيقين لا يثبت لوهم الفائدة
لما أن رجاء الاسلام منه على موجب ديانته واعتقاده منقطع والجبر على الاسلام منعدم، فهو
الفرق بين الابتداء والبقاء. كذا قرره في البدائع. وتحقيقه أن التيمم نفسه لا ينافيه الكفر
وإنما ينافي شرطه وهو النية المشروطة في الابتداء وقد تحققت وتحقق التيمم كذلك، فالصفة
الباقية بعده لو اعتبرت كنفسه لا يرفعها الكفر لأن الباقي حينئذ حكما ليس هو النية بل
الطهارة.
تنبيه: مقتضى ما ذكروه أن الكافر إذا توضأ أو تيمم لا يكون مسلما به، وكذا قولهم
في الاحرام إن الكافر إذا أحرم ثم أسلم فجدد الاحرام يجوز، يقتضي أن لا يكون مسلما
بالاحرام لكن محله ما إذا لبى ولم يشهد المناسك، أما إذا لبى وشهد المناسك كلها مع المسلمين
فإنه يكون مسلما كما صرح به في المحيط. والأصل أن الكافر متى فعل عبادة فإن كانت
موجودة في سائر الأديان فإنه لا يكون به مسلما كالصلاة منفردا والصوم والحج الذي ليس
265

بكامل والصدقة، ومتى فعل ما هو مختص بشريعتنا فإن كان من الوسائل كالتيمم لا يكون به
مسلما، وإن كان من المقاصد أو من الشعائر كالصلاة بجماعة والحج على الهيئة الكاملة
والاذان في المسجد وقراءة القرآن فإنه يكون به مسلما. إليه أشار في المحيط وغيره من كتاب
السير قوله: (بل ناقض الوضوء) أي بل ينقضه ناقض الوضوء الحقيقي والحكمي المتقدمان في
الوضوء لأن التيمم خلف عن الوضوء، ولا شك أن حال الخلف دون حال الأصل، فما
كان مبطلا للأعلى فأولى أن يكون مبطلا للأدنى. وما وقع في شرح النقاية من أن الأحسن أن
يقال وينقضه ناقض الأصل وضوءا كان أو غسلا فغير مسلم، لأن من المعلوم أن كل شئ
نقض الغسل نقض الوضوء، فالعبارتان على السواء كما لا يخفى. واعلم أنه إذا تيمم عن
جنابة وأحدث حدثا ينقض الوضوء فإن تيممه ينتقض باعتبار الحدث فتثبت أحكام الحدث لا
أحكام الجنابة فإنه محدث وليس بجنب.
قوله (وقدرة ماء فضل عن حاجته) أي وينقضه أيضا القدرة على استعمال الماء الكافي
الفاضل عن حاجته. قيدنا بالكافي لأن غيره وجوده كعدمه وقد قدمناه. فلو وجد المتيمم ماء
فتوضأ به فنقص عن إحدى رجليه إن كان غسل كل عضو ثلاثا أو مرتين انتقض تيممه وهو
المختار، أو مرة لا ينتقض لأن في الأول وجد ماء يكفيه إذ لو اقتصر على المرة كفاه. كذا في
الخلاصة. وقيدنا بالفاضل لأنه لو لم يكن فاضلا عنها فهو مشغول بها وهو كالمعدوم كما
بيناه. وفي قوله وقدرة ماء إشارتان: الأولى إفادة أن الوجود المذكور في قوله تعالى فلم
تجدوا ماء بمعنى القدرة بخلاف الوجود المذكور في الكفارات فإنه بمعنى الملك حتى لو أبيح
له الماء لا يجوز له التيمم للقدرة ولو عرض على المعسر الحانث الرقبة يجوز له التكفير بغير
الاعتاق. الثانية أن التعبير بالقدرة أولى من التعبير برؤية الماء المشروطة القدرة على استعماله
266

كما وقع في الهداية، لأن القدرة أعم من أن تكون برؤية الماء أو بغيره، فإن المريض إذا تيمم
للمرض ثم زال مرضه انتقض تيممه كما صرح به قاضيخان في فتاواه. ومن تيمم للبرد ثم
زال البرد انتقض تيممه كما صرح به في المبتغى. فإذا تيمم للمرض أو للبرد مع وجود الماء
ثم فقد الماء ثم زال المرض أو البرد ينتقض تيممه لقدرته على استعمال الماء وإن لم يكن الماء
موجودا. فالحاصل أن كل ما منع وجوده التيمم نقض وجوده التيمم، وما لا فلا. فلو قالوا
وينقضه زوال ما أباح التيمم لكان أظهر في المراد، وإسناد النقض إلى زوال ما أباح التيمم
إسناد مجازي لأن الناقض حقيقة إنما هو الحدث السابق بخروج النجس، وزوال المبيح شرط
لعمل الحدث السابق عمله عنده، واستدلوا له بقوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ولو إلى عشر
حجج ما لم يجد الماء (1) لأن مقتضاه خروج ذلك التراب الذي تيمم به من الطهورية إذا وجد
الماء، ويستلزم انتفاء أثره وهو طهارة المتيمم لكن قال في فتح القدير: ويرد عليه أن قطع
الاعتبار الشرعي طهورية التراب إنما هو عند الرؤية مقتصرا فإنما يظهر في المستقبل إذ لو
استند ظهر عدم صحة الصلوات السابقة. وما قيل إنه وصف يرجع إلى المحل فيستوي فيه
الابتداء والبقاء لا يفيد دفعا ولا يمسه، والأوجه الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث فإذا
وجده فليمسه بشرته. وفي إطلاقه دلالة على نفي تخصيص الناقضية بالوجدان خارج الصلاة
كما هو قول الأئمة الثلاثة اه‍. فالحاصل أن الحديث لا يفيد إلا انتهاء الطهورية بوجود الماء،
ولا يلزم من انتهاء الطهورية انتهاء الطهارة الحاصلة به كالماء تزول عنه الطهورية بالاستعمال
وتبقى الطهارة الحاصلة به. والجواب بالفرق بينهما وهو أن التراب طهوريته مؤقتة بشئ غير
متصل به وهو وجود الماء فتثبت به الطهارة المؤقتة الحاصلة على صفة المطهر، فإذا زالت
طهوريته زالت طهارته. والماء لما كان مطهرا ولا تزول طهوريته بدون شئ يتصل به ثبت به
الطهارة على التأبيد لأن طهوريته إذا لم يتصل بها شئ على التأبيد. إليه أشار في الخبازية. ولا
يخفى أنه لا يلزم من توقيت الطهورية تأقيت الطهارة بل هو عين النزاع، فالأوجه الاستدلال
ببقية الحديث كما في فتح القدير تبعا لما في المستصفى. والحديث المذكور مروي في
المصابيح. والتقييد بعشر حجج لبيان طول المدة لا للتقييد به كما في قوله تعالى * (أن تستغفر
لهم سبعين مرة) * فإنه لبيان الكثرة لا للتحديد. كذا في المستصفى. وقال بعض
الأفاضل، قولهم إن الحدث السابق ناقض حقيقة لا يناسب قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأن
267

التيمم عندهما ليس بطهارة ضرورية ولا خلف عن الوضوء بل هو أحد نوعي الطهارة،
فكيف يصح أن يقال عمل الحدث السابق عمله عند القدرة؟ فالأولى أن يقال: لما كان عدم
القدرة على الماء شرطا لمشروعية التيمم وحصول الطهار فعند وجودها لم يبق مشروعا فانتفي
لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، والمراد بالنقض انتفاؤه والنائم على صفة لا توجب
النقض كالنائم ماشيا أو راكبا إذا مر على ماء كاف مقدور الاستعمال انتقض تيممه عند أبي
حنيفة خلافا لهما. أما النائم على صفة توجب النقض فلا يتأتى فيه الخلاف إذ التيمم انتقض
بالنوم ولهذا صور المسألة في المجمع في الناعس لكن يتصور في النوم الناقض أيضا بأن كان
متيمما عن جنابة كما لا يخفى. قال في التوشيح: والمختار في الفتاوى عدم الانتقاض اتفاقا
لأنه لو تيمم وبقربه ماء لا يعلم به جاز تيممه اتفاقا اه‍. وفي التجنيس: جعل الاتفاق فيما
إذا كان بجنبه بئر ولا يعلم بها، وأثبت الخلاف فيما لو كان على شاطئ نهر لا يعلم به،
وصحح عدم الانتقاض وإنه قول أبي حنيفة.
واعلم أنهم جعلوا النائم كالمستيقظ في خمس وعشرين مسألة كما ذكره الولوالجي في
آخر فتاواه في مسألة النائم المتيمم، وفي الصائم إذا أنام على قفاه وفمه مفتوح فوصل الماء إلى
جوفه، وفيمن جامعها زوجها وهي نائمة فسد صومها، وفي المحرمة إذا جومعت نائمة
فعليها الكفارة، وفي المحرم النائم إذا حلق رأسه فعليه الجزاء، وفي المحرم إذا انقلب على
صيد وقتله وجب الجزاء، وفي المار بعرفة نائما فإنه مدرك للحج، وفي الصيد المرمى إليه
بالسهم إذا وقع عند نائم فمات منها فإنه يحرم لقدرته على ذكاته، وفيمن انقلب على مال
إنسان فأتلفه يضمن، وفيمن وقع على مورثه فقتله يحرم من الميراث على قول وهو الصحيح،
وفيمن رفع نائما فوضعه تحت جدار فسقط عليه فمات لا يضمن، وفي عدم صحة الخلوة
ومعهما أجنبي نائم، وفيمن نام في بيت فجاءته زوجته ومكثت عنده صحت الخلوة، وفي
امرأة نائمة دخل عليها زوجها ومكث ساعة صحت الخلوة، وفي صغير ارتضع من ثدي
268

نائمة ثبتت حرمة الرضاع، وفيمن تكلم في صلاته وهو نائم فسدت صلاته، وفيمن قرأ في
صلاته وهو نائم حالة القيام تعتبر تلك القراءة في رواية، وفيمن تلا آية سجدة وهو نائم
فسمعه رجل تلزمه السجدة، وفيمن قرأ عند نائم آية السجدة فلما استيقظ أخبره يجب عليه
أن يسجد في قول، وفيمن قرأها وهو نائم فلما استيقظ أخبر يلزم القارئ في قول، وفيمن
حلف لا يكلم فلانا فجاء الحالف وكلمه وهو نائم ولم يستيقظ الأصح حنثه، وفيمن مس
مطلقته النائمة فإنه يصير مراجعا، وفي نائم قبلته مطلقته الرجعية بشهوة يصير مراجعا عند
أبي يوسف خلافا لمحمد، وفي امرأة أدخلت ذكره في فرجها وهو نائم ثبتت حرمة المصاهرة
إذا علم بفعلها، وفي امرأة قبلت النائم بشهوة ثبتت حرمة المصاهرة إذا صدقها على الشهوة،
وفي الاحتلام في الصلاة يوجب الاستقبال، وفيمن نام يوما أو أكثر تصير الصلاة دينا في
ذمته، وفي عقد النكاح بحضر النائمين يجوز في قول والأصح اشتراط السماع. وقد علم مما
قدمناه أن الإباحة كالملك في النقض، فلو وجدوا مقدار ما يكفي أحدهم انتقض تيممهم
بخلاف ما إذا كان مشتركا بينهم فإنه لا ينتقض إلا أن يكون بين الأب والابن فإن الأب أولى
لأن له تملك مال الابن عند الحاجة. كذا في فتاوى قاضيخان. ولو وهب لجماعة ماء يكفي
أحدهم لا ينتقض تيممهم، أما عنده فلفسادها للشيوع، وأما عندهما فللاشتراك. فلو أذنوا
لواحد لا يعتبر إذنهم ولا ينتقض تيممه لفسادها، وعندهما يصح إذنهم فانتقض تيممه. كذا
في كثير من الكتب. وفي السراج الوهاج: الصحيح فساد التيمم إجماعا لأن هذا مقبوض
بعقد فاسد فيكون مملوكا فينفذ تصرفهم فيه اه‍. ولا يخفى أنه وإن كان مملوكا لا يحل التصرف
فيه فكان وجوده كعدمه. ولو كانوا في الصلاة فجاء رجل بكوز من ماء وقال هذا لفلان
منهم فسدت صلاته خاصة، فإذا فرغوا وسألوه الماء فإن أعطاه للإمام توضأ واستقبلوا معه
الصلاة، وإن منع تمت صلاتهم وعلى من أعطاه الاستقبال. ولو قال يا فلان خذ الماء وتوضأ
269

فظن كل واحد أنه يدعوه فسدت صلاة الكل. كذا في المحيط. ثم اعلم أن المتيمم إذا رأى
مع رجل ماء كافيا فلا يخلو إما أن يكون في الصلاة أو خارجها، وفي كل منهما إما أن
يغلب على ظنه الاعطاء أو عدمه أو يشك، وفي كل منها إما أن سأله أو لا، وفي كل منها
إما أن أعطاه أو لا، فهي أربعة وعشرون. فإن كان في الصلاة وغلب على ظنه الاعطاء قطع
وطلب الماء، فإن أعطاه توضأ وإلا فتيممه باق، فلو أتمها ثم سأله فإن أعطاه استأنف، وإن
أبى تمت، وكذا إذا أبى ثم أعطى. وإن غلب على ظنه عدم الاعطاء أو شك لا يقطع
صلاته، فإن قطع وسأل، فإن أعطاه توضأ وإلا فتيممه باق. وإن أتم ثم سأل فإن أعطاه
بطلت وإن أبى تمت، وإن كان خارج الصلاة فإن لم يسأل وتيمم وصلى جازت الصلاة على ما
في الهداية، ولا تجوز على ما في المبسوط. فإن سأل بعدها فإن أعطاه أعاد وإلا فلا، سواء
ظن الاعطاء أو المنع أو الشك. وإن سأل فإن أعطاه توضأ وإن منعه تيمم وصلى، فإن أعطاه
بعدها لا إعادة عليه وينتقض تيممه، ولا يتأتى في هذا القسم الظن أو الشك. وهذا حاصل
ما في الزيادات وغيرها، وهذا الضبط من خواص هذا الكتاب، وبه تبين أنه إذا كان في
الصلاة وغلب على ظنه الاعطاء لا تبطل بل إذا أتمها وسأله ولم يعطه تمت صلاته لأنه ظهر أن
ظنه كان خطأ. كذا في شرح الوقاية. فعلم منه أن ما في فتح القدير من بطلانها بمجرد غلبة
ظن الاعطاء ليس بظاهر إلا أن قاضيخان في فتاواه ذكر البطلان في هذه الصورة بمجرد
الظن عن محمد.
قوله (فهي تمنع التيمم وترفعه) أي القدرة على الماء تمنع جواز التيمم ابتداء وترفعه بقاء،
وهذا تكرار محض لأنه لما عد الاعذار علم أنه لا يجوز مع القدرة، ولما قال وقدرة ماء علم
أنه ترفعه القدرة ولا يبقى إلا في موضع يجوز ابتداء فلا فائدة بذكره ثانيا، ولا يليق بمثل هذا
المختصر. كذا في التبيين. وقد يقال: إنه ليس بتكرار محض لأنه إنما عد بعض الاعذار ولم
يستوفها كما علم مما بيناه أولا فربما يتوهم حصر الاعذار في المعدود وقد ذكر ضابطا لها
لتتم الاعذار فكان فيه فائدة كما لا يخفى قوله (وراجي الماء يؤخر الصلاة) يعني على سبيل
الندب كما صرح به في أصله الوافي. والمراد بالرجاء غلبة الظن أي يغلب على ظنه أنه يجد
الماء في آخر الوقت. وهذا إذا كان بينه وبين موضع يرجوه ميل أو أكثر، فإن كان أقل منه لا
يجزئه التيمم. وإن خاف فوت وقت الصلاة، فإن كان لا يرجوه لا يؤخر الصلاة عن أول
الوقت لأن فائدة الانتظار احتمال وجدان الماء فيؤديها بأكمل الطهارتين، وإذا لم يكن له رجاء
270

وطمع فلا فائدة في الانتظار وأداء الصلاة في أول الوقت أفضل إلا إذا تضمن التأخير فضيلة
لا تحصل بدونه كتكثير الجماعة، ولا يتأتى هذا في حق من في المفازة فكان التعجيل أولى،
ولهذا كان أولى للنساء أن يصلين في أول الوقت لأنهن لا يخرجن إلى الجماعة. كذا في
مبسوطي شمس الأئمة وفخر الاسلام، كذا في معراج الدراية، وكذا في كثير من شروح
الهداية. وتعقبهم في غاية البيان بأن هذا سهو وقع من الشارحين وليس مذهب أصحابنا
كذلك فإن كلام أئمتنا صريح في استحباب تأخير بعض الصلوات من غير اشتراط جماعة،
وما ذكروه في التيمم مفهوم والصريح مقدم على المفهوم. وأجاب عنه في السراج الوهاج بأن
الصريح محمول على ما إذا تضمن ذلك فضيلة كتكثير الجماعة لأنه إذا لم يتضمن ذلك لم يكن
للتأخير فائدة، وما لا فائدة فيه لم يكن مستحبا. وهل يؤخر عند الرجاء إلى وقت الاستحباب
أو إلى وقت الجواز؟ أقوال ثالثها إن كان على ثقة فإلى آخر وقت الجواز، وإن كان على طمع
فإلى آخر وقت الاستحباب، وأصحها الأول. كذا في السراج الوهاج. والحق ما في غاية
البيان فإن محمدا ذكر في الأصل أن تأخير الصلاة أحب إلي ولم يفصل بين الرجاء وغيره.
والذي في مبسوط شمس الأئمة إنما هو إذا كان لا يرجو فلا يؤخر الصلاة عن وقتها المعهود
271

أي عن وقت الاستحباب وهو أول النصف الأخير من الوقت في الصلاة التي يستحب
تأخيرها، أما إذا كان يرجو فالمستحب تأخيرها عن هذا الوقت المستحب، وهذا هو مراد من
قال بعدم استحباب التأخير إذا كان لا يرجو، وليس المراد بالتعجيل الفعل في أول وقت
الجواز حتى يلزم أن يكون أفضل، ويدل على ما قلناه ما ذكره الأسبيجابي في شرح مختصر
الطحاوي بقوله: وإن لم يكن على طمع من وجود الماء فإنه يتيمم ويصلي في وقت مستحب
ولم يقل يصلي في أول الوقت. وقال الكردري في مناقبة: والأوجه أن يحمل استحباب
التأخير مع الرجاء إلى آخر النصف الثاني وعدم استحبابه إلى هذا عند عدم الرجاء بل الأفضل
عند عدم الرجاء الأداء في أول النصف الثاني بدليل قولهم المستحب أن يسفر بالفجر في
وقت يؤدي الصلاة بالقراءة المسنونة، ثم لو بدا له في الصلاة الأولى ريب يؤدي الثانية
بالطهارة والتلاوة المسنونة أيضا، وذلك لا يتأتى إلا في أول النصف الثاني اه‍. وفي الخلاصة
وغيرها: المسافر إذا كان على تيقن من وجود الماء أو غالب ظنه على ذلك في آخر الوقت
فتيمم في أول الوقت وصلى، إن كان بينه وبين الماء مقدار ميل جاز، وإن كان أقل ولكن
يخاف الفوت لا يتيمم اه‍. فحاصله أن البعد مجوز للتيمم مطلقا. وفي معراج الدراية معزيا
إلى المجتبى: ويتخالج في قلبي فيما إذا كان يعلم أنه إن أخر الصلاة إلى آخر الوقت بقرب
من الماء بمسافة أقل من ميل لكن لا يتمكن من الصلاة بالوضوء في الوقت، الأولى أن يصلي
في أول الوقت مراعاة لحق الوقت وتجنبا عن الخلاف اه‍. وذكر في المناقب أن هذه المسألة
أول واقعة خالف أبو حنيفة أستاذه حمادا فصلى حماد بالتيمم في أول الوقت، ووجد أبو حنيفة
الماء في آخر الوقت وصلاها وكان ذلك غرة اجتهاده فقبلها الله تعالى منه وصوبه فيه، وكانت
هذه الصلاة صلاة المغرب وكان خروجهما لأجل تشييع الأعمش.
قوله (وصح قبل الوقت ولفرضين) أي صح التيمم قبل الوقت ولفرضين. اعلم أن
التيمم بدل بلا شك اتفاقا لكن اختلفوا في كيفية البدل في موضعين: أحدهما الخلاف فيه
لأصحابنا مع الشافعي، فقال أصحابنا: هو بدل مطلق عند عدم الماء وليس بضروري ويرتفع
272

به الحدث إلى وقت وجود الماء لا أنه مبيح للصلاة مع قيام الحدث. وقال الشافعي: هو بدل
ضروري مبيح مع قيام الحدث حقيقة فلا يجوز قبل الوقت ولا يصلي به أكثر من فريضة
عنده، وعندنا يجوز. وفي إنائين طاهر ونجس يجوز التيمم عندنا خلافا له، ولهذا يبني
الخلاف تارة على أنه رافع للحدث عندنا مبيح عنده لا رافع، وتارة على أنه طهارة ضرورية
عنده مطلقة عندنا، واقتصر على الثاني صاحب الهداية. ويدفع مبنى الشافعي الأول بأن
اعتبار الحدث مانعيه عن الصلاة شرعية لا يشكل معه أن التيمم رافع لارتفاع ذلك المنع به
وهو الحق إن لم يقم على أكثر من ذلك دليل، وتغير الماء برفع الحدث إنما يستلزم اعتباره
نازلا عن وصفه الأول بواسطة إسقاط الفرض لا بواسطة إزالة وصف حقيقي مدنس، ويدفع
الثاني بأنه طهور حال عدم الماء بقوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم وقال في حديث الخصائص
في الصحيحين وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا يريد به مطهرا وإلا لما تحققت
الخصوصية لأن طهارة الأرض بالنسبة إلى سائر الأنبياء ثابتة. وإذا كان مطهرا فتبقى طهارته
إلى وجود غايتها من وجود الماء أو ناقض آخر. والثاني الخلاف فيه بين أصحابنا، فعند أبي
حنيفة وأبي يوسف البدلية بين الماء والتراب، وعند محمد بين الفعلين وهما التيمم والوضوء،
ويتفرع عليه جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم فأجازاه ومنعه وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقاس
الشافعي كما ذكره النووي عدم جوازه قبل الوقت على عدم جواز طهارة المستحاضة قبل
الوقت. وقال النووي: إنهم وافقونا عليه ومنع أئمتنا الحكم في المقيس عليه لأن المذهب
عندنا جواز وضوئها قبل الوقت ولا ينتقض بالدخول، ولئن سلم على قول من يقول بنقضه
بالدخول فالفرق بينهما أن طهارة المستحاضة قد وجد ما ينافيها وهو سيلان الدم والتيمم لم
يوجد له رافع بعده وهو الحدث، أو وجود الماء فيبقى على ما كان كالمسح على الخفين بل
أقوى لأن المسح مؤقت بمدة قليلة والشارع جوز التيمم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء.
وقولهم لا ضرورة قبله ممنوع لأن المندوب التطهر قبل الوقت ليشتغل أول الوقت بالأداء،
وما استدلوا به من أثر ابن عباس قال: من السنة أن لا يصلي بالتيمم أكثر من صلاة واحدة.
رواه الدارقطني. ومن أثر ابن عمر قال: يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث. رواه البيهقي.
ومن أثر علي قال: يتيمم لكل صلاة. فالكل ضعيف لأن في سند الأول الحسن بن عمارة
تكلموا فيه. قال بعضهم: متروك. ذكره مسلم في مقدمة كتابه في جملة من تكلم فيه. رواه
عنه أبو يحيى الجماني وهو متروك. وفي سند الثاني عامر ضعفه ابن عيينة وأحمد بن حنبل
273

وفي سماعه عن نافع نظر. وقال ابن خزيمة: الرواية فيه عن ابن عمر لا تصح. وفي السند
الثالث الحجاج بن أرطأة والحارث الأعور وهما ضعيفان، مع أن ظاهرهما متروك فإنهم
يجوزون أكثر من صلاة واحدة من النوافل مع الفرض تبعا له بشرط أن يتيمم له، فلو تيمم
لصلاة النفل لا يجوز أن يؤدي الفرض به عنده وعلى عكسه يجوز.
تنبيه. ظاهر كلام المشايخ هنا أن الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط فإنهم قالوا: إن
التراب مطهر بشرط عدم الماء فإذا وجد الماء فقد الشرط ففقد المشروط وهو طهورية التراب.
والمذكور في الأصول أن الشرط لا يلزم من عدمه العدم ولا من وجوده وجود ولا عدم
والجواب أن الشرط إذا كان مساويا للمشروط استلزمه وههنا كذلك، فإن كل واحد من عدم
الماء وجواز التيمم مساو للآخر لا مخالة فجاز أن يستلزمه. كذا في العناية، فإن قلت: لا
نسلم مساواتهما لجوازه مع وجوده حال مرضه قلت: ليس بموجود فيها حكما لأن المراد به
القدرة وهو ليس بقادر.
قوله (وخوف فوت صلاة جنازة) أي يجوز التيمم لخوف فوت صلاة الجنازة، أطلقه
وقيده في الهداية بأربعة أشياء: حضور الجنازة وكونه صحيحا وكونه في المصر وكونه ليس
بولي، ووافقه على الأخير في الوافي. ولا حاجة إلى هذه القيود أصلا لأن المريض يرخص له
التيمم مطلقا، وكذا المسافر وقبل حضورها لا يخاف الفوت إذ الوجوب بالحضور، وكذا لا
يخاف الفوت الولي مع أن في جوازه له خلافا ففي الهداية: الصحيح أنه لا يجوز له التيمم
لأن للولي حق الإعادة فلا فوات في حقه واختاره المصنف في الكافي. وصحح في التجنيس
في الإمام عدم الجواز إن كانوا ينتظرونه وإلا جاز. وفي ظاهر الرواية جوازه لهما وصححه
السرخسي. وقال صاحب الذخيرة: لا فرق بين الإمام والمقتدى ومن له حق الصلاة لأن
الانتظار فيها مكروه. والمراد بالوالي من له التقدم حتى لا يجوز التيمم للسلطان والقاضي
والوالي على ما في الهداية لأن الوالي إذا كان لا يجوز له التيمم وهو مؤخر فمن هو مقدم عليه
أولى لأن المقدم على الولي له حق الإعادة لو صلى الولي، فعلى هذا يجوز التيمم للولي إذا كان
من هو مقدم عليه حاضرا اتفاقا لأنه يخاف الفوت إذ ليس له حق الإعادة لو صلى من هو
مقدم عليه كما علم في الجنائز. وكذا يجوز للولي التيمم إذا أذن لغيره بالصلاة لأنه حينئذ لا
حق له في الإعادة فيخاف فوتها، ولا يجوز لمن أمره الولي. كذا في الخلاصة. وهذه التفاريع
التي ذكرناها إنما هي على مختار صاحب الهداية، أما على ظاهر الرواية فيجوز التيمم للكل
عند خوف الفوت. ولا فرق في جوازه عند الخوف بين كونه محدثا أو جنبا أو حائضا أو
274

نفساء كما صرح به في النهاية وغيرها ولا بد من خوف فوت التكبير ا ت كلها لو اشتغل
بالطهارة، فإن كان يرجو أن يدرك البعض لا يتيمم لأنه لا يخاف الفوت لأنه يمكنه أداء
الباقي وحده. كذا في البدائع والقنية. وذكر ابن أمير حاج أنه لم يقف على هذا التفصيل في
صلاة الجنازة فلله الحمد والمنة. والأصل في هذه المسائل أن كل موضع يفوت الأداء لا إلى
خلف يجوز له التيمم، وفي كل موضع لا يفوت الأداء لا يجوز. ثم اعلم بأن الصلاة ثلاثة
أنواع: نوع لا يخشى فواتها أصلا لعدم توقتها كالنوافل، ونوع يخشى فواتها أصلا كصلاة
الجنازة والعيد ونوع يخشى فواتها وتقضى بعد وقتها أصلها أو بدلها كالجمعة والمكتوبات. أما
الأول فلا يتيمم لها عند وجود الماء، وأما الثاني فيتيمم لها عند وجوده عندنا ومنعه الشافعي
لأنه تيمم مع عدم شرطه. وقلنا هو مخاطب بالصلاة عاجز عن الوضوء لها بفرض المسألة
فيجوز التيمم، ويدل له تيممه عليه الصلاة والسلام لرد السلام مع وجود الماء على ما أسلفناه
خشية الفوات لأنه لو رد بعد التراخي لا يكون جوابا له وفيه ما تقدم من الاحتمال. وروى
ابن عدي في الكامل بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا فجأتك الجنازة وأنت على
غير وضوء فتيمم ثم قال: هذا مرفوعا غير محفوظ بل هو موقوف على ابن عباس، ورواه
ابن أبي شيبة عنه أيضا، ورواه الطحاوي في شرح الآثار. وكذا رواه النسائي في كتاب
الكنى. وروى البيهقي من طريق بجهة الدارقطني أن ابن عمر أتى الجنازة وهو على غير
وضوء فتيمم وصلى عليها. والحديث إذا كثرت طرقه وتعاضدت قويت فلا يضره الوقف لأن
الصحابة كانوا تارة يرفعون وتارة لا يرفعون. ولو حضرت جنازة أخرى بعد فراغه من
الصلاة وخاف فوتها ففي المجمع يعيد عند محمد، ولا يعيد عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وذكر المصنف في المستصفى أن الخلاف فيما إذا لم يتمكن من التوضؤ بين الصلاتين، أما إذا
تمكن ثم فات التمكن يعيد التيمم اتفاقا. وفي الولوالجية: وعليه الفتوى. وذكر الحلواني أن
التيمم في بلادنا لا يجوز للجنازة لأن الماء حول مصلى الجنازة. وأما رواية القدوري فمطلقة
كذا في معراج الدراية. وفي المستصفى: لا يقال إن النص ورد في الصلاة المطلقة وصلاة
275

الجنازة ليست في معناها لأنا نقول: لما جاز أداء أقوى الصلاتين بأضعف الطهارتين لأن يجوز
أداء أضعف الصلاتين بأضعف الطهارتين أولى..
قوله (أو عيد ولو بناء) أي يجوز التيمم لخوف فوت صلاة عيد ولو كان الخوف بناء لما
بينا أنها تفوت لا إلى بدل. فإن كان إماما ففي رواية الحسن لا يتيمم، وفي ظاهر الرواية
يجزئه لأنه يخاف الفوت بزوال الشمس حتى لو لم يخف لا يجزئه، وإن كان المقتدي بحيث
يدرك بعضها مع الإمام لو توضأ لا يتيمم كما قدمناه في الجنازة. وصورة الخوف في البناء
أن يشرع في صلاة العيد ثم يسبقه حدث إماما كان أو مقتديا فهذه على وجوه، فإن كان لا
يخاف الزوال ويمكنه أن يدرك شيئا منها مع الإمام لو توضأ فإنه لا يتيمم اتفاقا لامكان أداء
الباقي بعده، وإن كان يخاف زوال الشمس لو اشتغل بالوضوء يباح له التيمم اتفاقا لتصور
الفوات بالافساد بدخول الوقت المكروه. ولو شرع بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق لأنا لو أوجبنا
الوضوء يكون واجدا للماء في خلال صلاته فتفسد، كذا في الهداية والمحيط. وقيل لا يجوز
البناء بالتيمم عندهما لوجود الماء، ويجوز أن يكون ابتداؤها بالتيمم والبناء بالوضوء كما قلنا
في جنب معه ماء قدر ما يكفي الوضوء فإنه يتيمم ويصلي ولو سبقه حدث فيها فإنه يتوضأ
ويبني. وهذا القياس مع الفارق فإن في المقيس عليه لا يلزم بناء القوي على الضعيف إذ
التيمم ههنا أقوى من الوضوء لأنه يزيل الجنابة والوضوء لا يزيلها، وفي المقيس يلزم بناء
القوي على الضعيف فكان الظاهر البناء اتفاقا. وقد يقال: إنه غير لازم لأن التيمم مثل
الوضوء بدليل جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم، يؤيده ما ذكره قاضيخان في فصل المسح على
الخفين من فتاواه أن المتيمم إذا سبقه حدث في خلال صلاته فانصرف ثم وجد ماء يتوضأ
ويبني. والفرق بينه وبين المتيمم الذي وجد الماء في خلال صلاته حيث يستأنف أن التيمم
ينتقض بصفة الاستناد إلى وجود الحدث عند إصابة الماء لأنه يصير محدثا بالحدث السابق لأن
الإصابة ليست بحدث، وفي هذه الصلاة لم ينتقض التيمم عند إصابة الماء بصفة الاستناد
لانتقاضه بالحدث الطارئ على التيمم. ويمكن أن يقال: إن التيمم ينتقض عند رؤية الماء
بالحدث السابق وإن كان هناك حدث طارئ لما قدمناه عن محمد أن الأسباب المتعاقبة كالبول
ثم الرعاف ثم القئ توجب أحداثا متعاقبة يجزئ عنها وضوء واحد. وسيأتي إن شاء الله
تعالى في باب الحدث في الصلاة ما يخالف ما ذكره قاضيخان، فثبت أن البناء بالتيمم متفق
276

عليه. ولو شرع بالوضوء ثم سبقه الحدث ولم يخف زوال الشمس ولا يرجو إدراك الإمام قبل
فراغه، فعند أبي حنيفة يتيمم ويبني، وقالا: يتوضأ ولا يتيمم. ثم اختلف المشايخ فمنهم من
قال إنه اختلاف عصر وزمان فكان في زمانه جبانة الكوفة بعيدة ولو انصرف للوضوء زالت
الشمس فخوف الفوت قائم، وفي زمنهما جبانة بغداد قريبة فأفتيا على وفق زمنهما، ولهذا
كان شمس الأئمة الحلواني والسرخسي يقولان: في ديارنا لا يجوز التيمم للعيد ابتداء ولا بناء
لأن الماء محيط بمصلى العيد فيمكن التوضؤ والبناء بلا خوف الفوت حتى لو خيف الفوت
يجوز التيمم، ومنهم من جعله برهانيا. ثم اختلفوا فمنهم من جعله ابتدائيا فهما نظرا إلى أن
اللاحق يصلي بعد فراغ الإمام فلا فوت، وأبو حنيفة نظر إلى أن الخوف باق لأنه يوم زحمة
فيعتريه عارض يفسد عليه صلاته من رد سلام أو تهنئة، ومنهم من جعله مبنيا على مسألة
وهي أن من أفسد صلاة العيد لا قضاء عليه عنده فتفوت لا إلى بدل، وعندهما عليه القضاء
فتفوت إلى بدل وإليه ذهب أبو بكر الإسكاف، لكن قال القاضي الأسبيجابي في شرح مختصر
الطحاوي: الأصح أنه لا يجب قضاء صلاة العيد بالافساد عند الكل. وفي شرح منية
المصلي: لقائل أن يقول بجواز التيمم في المصر لصلاة الكسوف والسنن الرواتب ما عدا سنة
الفجر إذا خاف فوتها لو توضأ فإنها تفوت لا إلى بدل فإنها لا تقضى كما في العيد، ولا
سيما على القول بأن صلاة العيد سنة كما اختاره السرخسي وغيره. وأما سنة الفجر فإن
خاف فوتها مع الفريضة لا يتيمم، وإن خاف فوتها وحدها فعلى قياس قول محمد لا يتيمم،
وعلى قياس قولهما يتيمم، فإن عند محمد إذا فاتته باشتغاله بالفريضة مع الجماعة عند خوف
فوت الجماعة يقضيها بعد ارتفاع الشمس وعندهما لا يقضيها أصلا
قوله (لا لفوت جمعة ووقت) أي لا يصح التيمم لخوف فوت صلاة الجمعة وصلاة
مكتوبة وإنما يجوز التيمم لهما عند عدم القدرة على الماء حقيقة أو حكما وفيه خلاف زفر كما
قدمناه. أما عدم جوازه لخوف فوت الجمعة فلأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر. كذا في
الهداية. وأورد أن هذا لا يتأتى إلا على مذهب زفر، أما على ظاهر المذهب المختار من أن
277

الجمعة خلف والظهر أصل فلا، ودفع بأنه متصور بصورة الخلف لأن الجمعة إذا فاتت يصلي
الظهر فكان الظهر خلفا صورة أصلا معنى. وقد جمع بينهما في النافع فقال: لأنها تفوت إلى
ما يقوم مقامها وهو الأصل. وأما عدم جوازه لخو ف فوت الوقت فلان الفوات إلى خلف
وهو القضاء. فإن قيل: فضيلة الجمعة والوقت تفوت لا إلى خلف ولهذا جاز للمسافر التيمم
وجازت الصلاة للراكب الخائف مع ترك بعض الشروط والأركان وكل هذا الفضيلة الوقت
قلنا: فضيلة الوقت والأداء وصف للمؤدي تابع له غير مقصود لذاته بخلاف صلاة الجنازة
والعيد فإنها أصل فيكون فواتها فوات أصل مقصود، وجوازها للمسافر بالنص لا لخوف
الفوت بل لأجل أن لا تتضاعف عليه الفوائت ويحرج في القضاء، وكذا صلاة الخوف
للخوف دون خوف الفوت. هذا وقد قدمنا عن القنية أن التيمم لخوف فوت الوقت رواية
عن مشايخنا وفرع عليها في باب التيمم أنه لو كان في سطح ليلا وفي بيته ماء لكنه يخاف في
الظلمة إن دخل البيت يتيمم إن خاف فوت الوقت، وكذا يتيمم في كلة لخوف البق أو مطر
أو حر شديد إن خاف فوت الوقت، وعلى اعتبار العجز لا خوف الوقت فرع محمد رحمه الله
ما لو وعده صاحبه أن يعطيه الاناء أنه ينتظر وإن خرج الوقت لأن الظاهر هو الوفاء بالعهد
فكان قادرا على استعمال الماء ظاهرا. وكذا إذا وعد الكاسي العاري أن يعطيه الثوب إذا فرغ
من صلاته لم تجزه الصلاة عريانا لما قلنا. كذا في البدائع.
قوله (ولم يعد أن صلى به ونسي الماء في رحله) أي ولم يعد إن صلى بالتيمم ناسيا الماء
كائنا في رحله وهو مما ينسى عادة وكان موضوعا بعلمه وهو للبعير كالسراج للدابة. ويقال
لمنزل الانسان ومأواه رحل أيضا وهو المراد بقولهم نسي الماء في رحله. كذا في المغرب. لكن
قد يقال: قولهم لو كان الماء في مؤخرة الرحل يفيد أن المراد بالرحل الأول وهذا عند أبي
حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: تلزمه الإعادة قيد بالنسيان لأن في الظن لا يجوز التيمم
إجماعا، ويعيد الصلاة لأن الرحل معدن الماء عادة فيفترض عليه الطلب كما يفرض عليه
الطلب في العمرانات لأن العلم لا يبطل بالظن بخلاف النسيان لأنه من أضداد العلم وظنه
بخلاف العادة لا يعتبر. وقيد بقوله في رحله لأنه لو كان على ظهره فنسيه ثم تيمم يعيد
اتفاقا. وكذا إذا كان على رأسه أو معلقا في عنقه. وقيدنا بكونه مما ينسى عادة لأنه لو لم يكن
كذلك كما إذا نسي الماء المعلق في مؤخر رحله وهو يسوق دابته فإنه يعيد اتفاقا. وكذا إذا
278

كان راكبا والماء في مقدم الرحل أو بين يديه راكبا بخلاف ما إذا كان سائقا وهو في المقدم أو
راكبا وهو في المؤخر فإنه على الاختلاف، وكذا إذا كان قائدا مطلقا. وقيدنا بكونه موضوعا
بعلمه لأنه لو وضعه غيره ولو عبده أو أجيره بغير أمره لا يعيد اتفاقا لأن المرء لا يخاطب
بفعل الغير. كذا في النهاية وتبعه عليه جماعة من الشارحين وإليه أشار في فتح القدير،
وتعقبه في غاية البيان بأن دعوى الاجماع سهو ليست بصحيحة. ونقل عن فخر الاسلام في
شرح الجامع الصغير أنها على الاختلاف. والحق ما في البدائع أنه لا رواية لهذا نصا. وقال
بعض المشايخ: أن لفظ الرواية في الجامع الصغير تدل على أنه يجوز بالاجماع فإنه قال في
الرجل يكون في رحله ماء فنسي: والنسيان يستدعي تقدم العلم ثم مع ذلك جعل عذرا
عندهما فبقي موضع لا علم أصلا ينبغي أن يجعل عذرا عند الكل، ولفظ الرواية في كتاب
الصلاة يدل على أنه على الاختلاف فإنه قال: مسافر تيمم ومعه ماء في رحله وهو لا يعلم به
وهذا يتناول حالة النسيان وغيرها لأبي يوسف وجهان: أحدهما أنه نسي ما لا ينسى عادة لأن
الماء من أعز الأشياء في السفر لكونه سببا لصيانة نفسه عن الهلاك فكان القلب متعلقا به
فالتحق النسيان فيه بالعدم. والثاني أن الرحل موضع الماء غالبا لحاجة المسافر إليه فكان الطلب
واجبا كما في العمران. ولهما أنه عجز عن استعمال الماء فلا يلزمه الاستعمال، وهذا لأنه لا
قدرة بدون العلم لأن القادر على الفعل هو الذي لو أراد تحصيله يتأتى له ذلك ولا تكليف
بدون القدرة، ولو فقدت قدرته بفقد سائر الآلات جاز تيممه، فإذا فقد العلم وهو أقوى
الآلات أولى. وتعقبه في فتح القدير بأن هذا لا يفيد بعد ما قرر لأبي يوسف لثبوت العلم نظرا إلى الدليل اتفاقا كما قال الكل في المسائل الملحق بها. وإنما المفيد ليس إلا منع وجود
العلة أي لا نسلم أن الرحل دليل الماء الذي ثبوته يمنع التيمم أعني ماء الاستعمال بل الشرب
وهو مفقود في حق غير الشرب اه‍. ولو صلى عريانا وفي رحله ثوب طاهر لم يعلم به ثم
علم قال بعضهم تلزمه الإعادة بالاجماع، وذكر الكرخي أنه على الاختلاف وهو الأصح. كذا
279

في البدائع. فإن كان على الاختلاف فظاهر، وإن كان بالاجماع فالفرق على قولهما أن الرحل
معد للثوب لا لماء الوضوء لكن يرد عليه لو صلى مع ثوب نجس ناسيا الطاهر فإنها كمسألة
الصلاة عاريا مع أن الرحل ليس معدا لماء الاستعمال بل لماء الشرب كما بينا. وما وقع في
شرح الكنز وغيره من الفرق بينهما وبين ما لو نسي ماء الوضوء فتيمم بأن فرض الستر
وإزالة النجاسة فات لا إلى خلف بخلاف الوضوء، لا يثلج الخاطر عند التأمل لأن فوات
الأصل إلى خلف لا يجوز الخلف مع فقد شرطه، بل إذا فقد شرطه مع فوات الأصل يصير
فاقدا للطهورين فيلزمه حكمه وهو التأخير عنده والتشبه عندهما بالمصلين. كذا في فتح
القدير. ولقائل أن يقول: قوله لأن فوات الأصل إلى آخره صحيح، وأما قوله بل إذا فقد
شرطه إلى آخره فليس بظاهر لأن شرط جواز الخلف عدم القدرة على الأصل وفقد هذا
الشرط بالقدرة على الأصل، فكيف يجتمع فقد شرط الخلف مع فوات الأصل؟ بل يلزم من
فقد شرط الخلف وجود الأصل لأن شرطه فوات الأصل ففقده بوجوده، ولا فرق في مسألة
الكتاب بين أن يذكره في الوقت أو بعده. ولو مر بالماء وهو متيمم لكنه نسي أنه تيمم
ينتقض تيممه، ولو ضرب الفسطاط على رأس البئر قد غطى رأسها ولم يعلم بذلك فتيمم
وصلى ثم علم بالماء أمر بالإعادة. واتفقوا على أن النسيان غير معفو في مسائل منها: ما لو
نسي المحدث غسل بعض أعضائه، ومنها لو صلى قاعدا متوهما عجزه عن القيام وكان قادرا،
ومنها أن الحاكم إذا حكم بالقياس ناسيا النص، ومنها لو نسي الرقبة في الكفارة فصام،
ومنها لو توضأ بماء نجس ناسيا، ومنها لو فعل ما ينافي الصلاة ناسيا، ومنها لو فعل محظور
الاحرام ناسيا، ومنها مسائل كثيرة تعرف في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى.
قوله (ويطلبه غلوة إن ظن قربه وإلا لا) أي يجب على المسافر طلب الماء قدر غلوة إن
ظن قربه، وإن لم يظن قربه لا يجب عليه. وحد القرب ما دون الميل، قيدنا به لأن الميل وما
فوقه بعيد لا يوجب الطلب، وقيدنا بالمسافر لأن طلب الماء في العمرانات واجب اتفاقا
مطلقا، وكذا لو كان بقرب منها. وقد اختلفوا في مقدار الطلب فاختار المصنف هنا قدر
غلوة وهي مقدار رمية سهم كما في التبيين، أو ثلاثمائة ذراع كما في الذخيرة، والمغرب إلى
أربعمائة، واختار في المستصفى أنه يطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه ويسمع صوته وهو
الموافق لما قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن المسافر لا يجد الماء أيطلب عن يمين الطريق
280

أو عن يساره؟ قال: إن طمع فيه فليفعل ولا يبعد فيضر بأصحابه إن انتظروه وبنفسه إن
انقطع عنهم. ويوافقه ما صححه في البدائع فقال: والأصح أنه يطلب قدر ما لا يضر بنفسه
ورفقته بالانتظار فكان هو المعتمد. وعلى اعتبار الغلوة فالطلب أن ينظر يمينه وشماله وأمامه
ووراءه غلوة. كذا في الحقائق. وظاهره أنه لا يلزمه المشي بل يكفيه النظر في هذه الجهات
وهو في مكانه. وهذا إذا كان حواليه لا يستتر عنه، فإن كان بقربه جبل صغير ونحوه صعده
ونظر حواليه إن لم يخف ضررا على نفسه أو ماله الذي معه أو المخلف في رحله، فإن خاف لم
يلزمه الصعود والمشي. كذا في التوشيح. ولو بعث من يطلب له كفاه عن الطلب بنفسه،
وكذا لو أخبره من غير أن يرسله. كذا في منية المصلي. ولو تيمم من غير طلب وكان الطلب
واجبا وصلى ثم طلبه فلم يجده وجبت عليه الإعادة عندهما خلافا لأبي يوسف. كذا في
السراج الوهاج. وفي المستصفى: وفي إيراد هذه المسألة عقيب المسألة المتقدمة لطيفة فإن
الاختلاف في تلك المسألة بناء على اشتراط الطلب وعدمه اه‍. وعند الشافعي يجب الطلب
مطلقا لقوله تعالى فلم تجدوا ماء لأن الوجود يقتضي سابقة الطلب وهي دعوى لا دليل
عليها لقوله تعالى * (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا
نعم) * (الأعراف: 44) ولا طلب. وقوله تعالى * (ووجدك ضالا فهدى) * (الضحى: 7)
وقوله * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * (النساء: 92) وقوله * (ووجدوا ما عملوا
حاضر) * (الكهف: 49) ولم يطلبوا خطاياهم. وقوله تعالى * (وما وجدنا لأكثرهم ما عهد وإن
وجدنا أكثرهم لفاسقين) * (الأعراف: 102) وقوله * (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) *
(الكهف: 77) ولقوله عليه السلام من وجد لقطة فليعرفها (1) ولا طلب من الواجد،
ولقوله من وجد زادا وراحلة ويقال فلان وجد ماله وإن لم يطلبه ووجد مرضا في نفسه ولم
يطلبه، فقد ثبت أن الوجود يتحقق من غير طلب، والله تعالى جعل شرط الجواز عدم الوجود
من غير طلب، فمن زاد شرط الطلب فقد زاد على النص وهو لا يجوز بخلاف العمرانات
لأن العدم وإن ثبت حقيقة لم يثبت ظاهرا لأن كون الماء في العمرانات دليل ظاهر على وجود
281

الماء لأن قيام العمارة بالماء فكان العدم ثابتا من وجه دون وجه وشرط الجواز العد المطلق
ولا يثبت ذلك في العمرانات إلا بعد الطلب، وبخلاف ما إذا غلب على ظنه قربه لأن غلبة
الظن تعمل عمل اليقين في حق وجوب العمل وإن لم تعمل في حق الاعتقاد كما في التحري
في القبلة، وكما في دفع الزكاة لمن غلب على ظنه فقره، وكما إذا غلب على ظنه نجاسة الماء
أو طهارته، وأما إذا لم يغلب على ظنه قربه فلا يجب بل يستحب إذا كان على طمع من وجود
الماء. كذا في البدائع. وظاهره أنه إذا لم يطمع لا يستحب له الطلب، وعلل له في المبسوط
بأنه لا فائدة فيه إذا لم يكن على رجاء منه. وبما تقرر علم أن المراد بالظن غالبه، والفرق
بينهما على ما حققه اللامشي في أصوله أن أحد الطرفين إذا قوي وترجح على الآخر ولم يأخذ
القلب ما ترجح به ولم يطرح الآخر فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو
أكبر الظن وغالب الرأي اه‍. وغلبة الظن هنا إما بأن وجد أمارة ظاهرة أو أخبره مخبر. كذا
أطلقه في التوشيح وقيده في البدائع بالعدل.
قوله (ويطلبه من رفيقه فإن منعه تيمم) أي يطلب الماء من رفيقه. أطلقه هنا وفصل في
الوافي فقال: مع رفيقه ماء فظن أنه إن سأله أعطاه لم يجز التيمم، وإن كان عنده أنه لا
يعطيه يتيمم، وإن شك في الاعطاء وتيمم وصلى فسأله فأعطاه يعيد. وعلل له في الكافي
بأنه ظهر أنه كان قادرا وإن منعه قبل شروعه وأعطاه بعد فراغه لم يعد لأنه لم يتبين أن القدرة
كانت ثابته اه‍. اعلم أن ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة وجو ب السؤال من الرفيق كما
يفيده ما في المبسوط قال: وإذا كان مع رفيقه ماء فعليه أيسأله إلا على قول الحسن بن زياد
فإنه كان يقول: السؤال ذل وفيه بعض الحرج وما شرع التيمم إلا لدفع الحرج ولكنا نقول:
282

ماء الطهارة مبذول عادة بين الناس وليس في سؤال ما يحتاج إليه مذلة فقد سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض حوائجه من غيره اه‍. فاندفع بهذا ما وقع في الهداية وشرح الأقطع
من الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، فعنده لا يلزمه الطلب، وعندهما يلزمه. واندفع ما في
غاية البيان من أن قول الحسن حسن. وفي الذخيرة نقلا عن الجصاص أنه لا خلاف بين أبي
حنيفة وصاحبيه، فمراده فيما إذا غلب على ظنه منعه إياه، ومرادهما عند غلبة الظن بعدم
المنع. وفي المجتبى: الغالب عدم الظنة بالماء حتى لو كان في موضع تجري الظنة عليه لا يجب
الطلب منه اه‍. ولو كان مع رفيقه دلو لم يجب أن يسأله ولو سأله فقال انتظر حتى أستقي
فالمستحب عند أبي حنيفة أن ينتظر بقدر ما لا يفوت الوقت، فإن خاف ذلك تيمم، وعندهما
ينتظر. وإن خاف فوت الوقت وجه قولهما أن الوعد إذا وجد صار قادرا باعتباره لأن الظاهر
أنه يفي به، وعلى هذا الخلاف العاري إذا وعد له رفيقه الثوب. كذا في معراج الدراية. وفي
فتح القدير والتوشيح: لو كان مع رفيقه دلو وليس معه له أن يتيمم قبل أن يسأله عنه. وفي
المجتبى: رأى في صلاته ماء في يد غيره ثم ذهب منه قبل الفراغ فسأله فقال لو سألتني
لأعطيتك، فلا إعادة عليه وإن كانت العدة قبل الشروع يعيد لوقوع الشك في صحة
الشروع، والأصح أنه لا يعيد لأن العدة بعد الذهاب لا تدل على الاعطاء قبله. ا. وقد
قدمنا الفروع المتعلقة بها عن الزيادات، وفي التوشيح: وأجمعوا أنه إذ قال أبحت لك مالي
لتحج به فإنه لا يجب عليه الحج، وأجمعوا أن في الماء إذا وعده صاحبه أن يعطيه لا يتيمم
وينتظر وإن خرج الوقت. والفرق بينهما أن القدرة في الأول لا تكون إلا بالملك، وفي الثاني
283

بالإباحة، وفي المحيط: ولو قرب من الماء وهو لا يعلم به ولم يكن بحضرته من يسأله عنه
أجزأه التيمم لأن الجهل بقربه كبعده عنه، ولو كان بحضرته من يسأله فلم يسأله حتى تيمم
وصلى ثم سأله فأخبر بماء قريب لم تجز صلاته لأنه قادر على استعماله بالسؤال كمن نزل
بالعمران ولم يطلب الماء لم يجز تيممه، وإن سأله في الابتداء فلم يخبره ثم أخبره بماء قريب
جازت صلاته لأنه فعل ما عليه اه‍.
قوله (وإن لم يعطه إلا بثمن مثله وله ثمنه لا يتيمم وإلا تيمم) وهذه المسألة على ثلاثة
أوجه: إما أن أعطاه بمثل قيمته في أقرب موضع من المواضع الذي يعز فيه الماء أو بالغبن
اليسير أو بالغبن الفاحش ففي الوجه الأول والثاني لا يجزئه التيمم لتحقق القدرة فإن القدرة
على البدل قدرة على الماء كالقدرة على ثمن الرقبة في الكفارة تمنع الصوم، وفي الوجه الثالث
يجوز له التيمم لوجود الضرر فإن حرمة مال المسلم كحرمة نفسه والضرر في النفس مسقط
فكذا في المال. كذا في العناية. ونظيره الثوب النجس إذا لم يكن عنده ماء فإنه يصلي فيه ولا
يلزمه قطع الثوب من موضع النجاسة، والمراد بالثمن الفاضل عن حاجته على ما قدمناه.
واختلفوا في تفسير الغبن الفاحش، ففي النوادر هو ضعف القيمة في ذلك المكان، وفي
رواية الحسن إذا قدر أن يشتري ما يساوي درهما بدرهم ونصف لا يتيمم، وقيل ما لا يدخل
تحت تقويم المقومين، وقيل ما لا يتغابن في مثله لأن الضرر مسقط. واقتصر في البدائع
والنهاية على ما في النوادر فكان هو الأول، وقد قدمنا أنه إذا كان له مال غائب وأمكنه
الشراء بثمن مؤجل وجب عليه الشراء بخلاف ما إذا وجد من يقرضه فإنه لا يجب عليه لأن
الاجل لازم ولا مطالبة قبل حلوله بخلاف القرض قيد بالماء لأن العاري إذا قدر على شراء
الثوب.
قوله (ولو أكثره مجروحا تيمم وبعكسه يغسل) أي لو كان أكثر أعضاء الوضوء منه
284

مجروحا في الحدث الأصغر أو أكثر جميع بدنه في الحدث الأكبر تيمم، وإذا كان الصحيح
أكثر من المجروح يغسل لأن للأكثر حكم الكل ويمسح على الجراحة إن لم يضره وإلا فعلى
الخرقة. وقد اختلف في حد الكثرة، منهم من اعتبر من حيث عدد الأعضاء، ومنهم من
اعتبر الكثرة في نفس كل عضو، فلو كان برأسه ووجهه ويديه جراحة والرجل لا جراحة بها
يتيمم، سواء كان الأكثر من أعضاء الجراحة جريحا أو صحيحا. والآخرون قالوا: إن كان
الأكثر من كل عضو من أعضاء الوضوء المذكورة جريحا فهو الكثير الذي يجوز معه التيمم
وإلا فلا، كذا في فتح القدير من غير ترجيح. وفي الحقائق: المختار اعتبار الكثرة من حيث
عدد الأعضاء، ولا يخفى أن الخلاف إنما هو الوضوء، وأما في الغسل فالظاهر أن يكون المراد
أكثر البدن صحيحا أو جريحا الأكثرية من حيث المساحة، فلو استويا لا رواية فيه. واختلف
المشايخ منهم من قال يتيمم ولا يستعمل الماء أصلا، وقيل يغسل الصحيح ويمسح على الباقي
واختار القول الأول في الاختيار وقال أنه أحسن. وفي الخلاصة إنه الأصح. وفي فتح القدير
تبعا للزيلعي أنه الأشبه بالفقه وهو المذكور في النوادر، واختار في المحيط الثاني وقال: وهو
الأصح. وفي فتاوى قاضيخان: وهو الصحيح. ولا يخفى أنه أحوط فكان أولى. وفي القنية
والمبتغي بالغين المعجمة: بيده قروح يضره الماء دون سائر جسده يتيمم إذا لم يجد من يغسل
وجهه، وقيل يتيمم مطلقا اه‍. فهذا يفيد أن قولهم إذا كان الأكثر صحيحا يغسل الصحيح
محمول على ما إذا لم يكن باليدين جراحة كما لا يخفى. قوله (ولا يجمع بينهما) أي لا يجمع بين
التيمم والغسل لما فيه من الجمع بين البدل والمبدل ولا نظير له في الشرع فيكون الحكم للأكثر
285

بخلاف الجمع بين التيمم وسؤر الحمار لأن الفرض يتأدى بأحدهما لا بهما فجمعنا بينهما لمكان
الشك، وكما لا جمع بين التيمم والغسل لا جمع بين الحيض والاستحاضة، ولا بين الحيض
والنفاس، ولا بين الاستحاضة والنفاس، ولا بين الحيض والحبل، ولا بين الزكاة والعشر، ولا
بين العشر والخراج، ولا بين الفطرة والزكاة ولا بين الفدية والصوم، ولا بين القطع والضمان، ولا
بين الجلد والنفي، ولا بين القصاص والكفارة، ولا بين الحد والمهر، ولا بين المتعة والمهر
وغيرها من المسائل الآتية في مواضعها إن شاء الله تعالى، وما وقع في خزانة الفقه لأبي الليث أن
عشرة لا تجتمع مع عشرة فليس للحصر كما لا يخفى.
فروع رجل تيمم للجنابة وصلى ثم أحدث ومعه من الماء قدر ما يتوضأ به فإنه يتوضأ
به لصلاة أخرى، فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بالماء ولم يغتسل حتى صار عادما الماء ثم
حضرت الصلاة ومعه من الماء قدر ما يتوضأ به فإنه يتيمم ولا يتوضأ، فإن تيمم ثم حضرت
الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث فإنه يتوضأ به وينزع خفيه، وإن لم يكن مر بماء قبل ذلك
مسح على خفيه. وفاقد الطهورين في المصر بأن حبس في مكان نجس ولم يجد مكانا طاهرا
ولا ماء طاهرا ولا ترابا طاهرا لا يصلي حتى يجد أحدهما. وقال أبو يوسف: يصلي بالايماء
تشبها بالمصلين. قال بعضهم: إنما يصلي بالايماء على قوله إذا لم يكن الموضع يابسا، أما إذا
كان يابسا يصلي بركوع وسجود، ومحمد في بعض الروايات مع أبي حنيفة. وأجمعوا أن الماشي
لا يصلي وهو يمشي، والسابح لا يصلي وهو يسبح، ولا السائف وهو يضرب بالسيف وإن
خاف فوت الوقت. وهذا إذا لم يمكنه أن ينقر الأرض أو الحائط بشئ، فإن أمكنه يستخرج
التراب الطاهر ويصلي بالاجماع. كذا في الخلاصة. وجعل في المبسوط المسائل المجمع عليها
مختلفا فيها إذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة. قال ابن الفضل: إن استخلف متوضئا ثم
تيمم وصلى خلفه أجزأه في قولهم جميعا، وإن تيمم هذا الذي أحدث وأم وأتم جازت صلاة
الكل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعلى قوله محمد وزفر صلاة المتوضئين فاسدة وصلاة
المتيممين جائزة، وهذه المسألة دليل على أن في صلاة الجنازة يجوز البناء والاستخلاف ويصح
فيها اقتداء المتوضئ بالمتيمم كما في غيرها من الصلاة. كذا في فتاوى قاضيخان من التيمم.
وفي الخلاصة من كتاب الصلاة في صحة الاقتداء: وأما اقتداء المتوضئ بالمتيمم في صلاة
الجنازة فجائزة بلا خلاف اه‍. وذكر الجلابي في كتاب الصلاة: له أن من به وجع في رأسه
لا يستطيع معه مسحه يسقط فرض المسح في حقه اه‍. وهذه مسألة مهمة أحببت ذكرها
لغرابتها وعدم وجودها في غالب الكتب، وقد أفتى بها الشيخ سراج الدين قارئ الهداية
أستاذ المحقق كمال الدين بن الهمام، وبه اندفع ما كان قد توهم قبل الوقوف على هذا النقل
286

أنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء وليس بعد النقل إلا الرجوع إليه، ولعل الوجه فيه أن
يجعل عادما لذلك العضو حكما فتسقط وظيفته كما في المعدوم حقيقة بخلاف ما إذا كان
ببعض الأعضاء المغسولة جراحة فإنه يغسل الصحيح ويمسح على الجريح لأن المسح عليه
كالغسل لما تحته، ولان التيمم مسح فلا يكون بدلا عن مسح وإنما هو بدل عن غسل
والرأس ممسوح ولهذا لم يكن التيمم في الرأس، وسيأتي في آخر باب المسح على الخفين لهذا
زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى. وفي القنية: مسافر إن انتهيا إلى ماء فزعم أحدهما نجاسته
فتيمم وزعم الآخر طهارته فتوضأ ثم جاء متوضئ بماء مطلق وأمهما ثم سبقه الحدث في
صلاته فذهب قبل الاستخلاف وأتم كل واحد منهما صلاة نفسه ولم يقتد بصاحبه جاز، لأنه
يعتد أن صاحبه محدث وبه أفتى أئمة بلخ وهو حسن اه‍.
باب المسح على الخفين
ذكره بعد التيمم لأن كلا منهما طهارة مسح، وقدمه عليه لثبوته بالكتاب وهذا ثابت
بالسنة على الصحيح كما سيأتي. والمسح لغة إمرار اليد على الشئ واصطلاحا عبارة عن
رخصة مقدرة جعلت للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها. والخف في الشرع اسم
للمتخذ من الجلد الساتر للكعبين فصاعدا وما ألحق به، وسمي الخف خفا من الخفة لأن
الحكم خف به من الغسل إلى المسح. ثم يحتاج هنا إلى معرفة ستة أشياء: أحدها معرفة أصل
287

المسح، والثاني معرفة مدته، والثالث معرفة الخف الذي يجوز عليه المسح، والرابع معرفة ما
ينتقض به المسح، والخامس معرفة حكمه إذا انتقض والسادس معرفة صورته وقد ذكرها
المصنف فبدأ بالأول فقال (صح) أي جاز المسح على الخفين، والصحة في العبادات على ما
في التوضيح كونها بحيث توجب تفريغ الذمة فالمعتبر في مفهومها اعتبارا أوليا إنما هو
المقصود الدنيوي وهو تفريغ الذمة وإن كان يلزمها الثواب مثلا وهو المقصود الأخروي لكنه
غير مقصود في مفهومه اعتبارا أوليا. والوجوب كون الفعل بحيث لو أتى به يثاب ولو تركه
يعاقب فالمعتبر في مفهومه اعتبارا أوليا هو المقصود الأخروي وإن كان يتبعه المقصود الدنيوي
كتفريغ الذمة ونحوه اه‍. واختلف مشايخنا جوازه ثابت بالكتاب أو بالسنة؟ فقيل بالكتاب
عملا بقراءة الجر فإنها لما عارضت قراءة النصب حملت على ما إذا كان متخففا، وحملت قراءة
النصب على ما إذا لم يكن متخففا واختاره في غاية البيان، وقال الجمهور لم يثبت بالكتاب
وهو الصحيح بدليل قوله إلى الكعبين لأن المسح غير مقدر بهذا بالاجماع، والصحيح أن
جوازه ثبت بالسنة. كذا ذكره المصنف في المستصفى، واختاره صاحب المجمع معللا بأن
الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما لأن الخف اعتبر مانعا سراية
الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما،
وحملوا قراءة الجر عطفا على المغسول والجر للمجاورة وقد جاءت السنة بجوازه قولا وفعلا
حتى قال أبو حنيفة: ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على
من لم ير المسح على الخفين لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر. وقال أبو يوسف: خبر
المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته. وقال أحمد: ليس في قلبي شئ من المسح فيه أربعون
حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا وما وقفوا. وعن الحسن البصري: أدركت سبعين نفرا
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون المسح على الخفين ومن لم ير المسح عليهما جائزا من
الصحابة فقد صح رجوعهم كابن عباس وأبي هريرة وعائشة. وقال شيخ الاسلام: الدليل
على أن منكر المسح ضال مبتدع ما روي أن أبا حنيفة سأل عن مذهب أهل السنة والجماعة
فقال: هو أن تفضل الشيخين وتحب الختنين وترى المسح على الخفين. وإنما لم يجعله واجبا
لأن العبد مخير بين فعله وتركه، كذا قالوا.
وينبغي أن يكون المسح واجبا في مواضع منها: إذا كان معه ماء لو غسل به رجليه لا
يكفي وضوءه ولو مسح على الخفين يكفيه فإنه يتعين عليه المسح، ومنها ما لو خاف خروج
288

الوقت لو غسل رجليه فإنه يمسح، ومنها إذا أخاف فوت الوقوف بعرفة لو غسل رجليه ولم
أر من صرح بهذا من أئمتنا لكني رأيته فكتب الشافعية وقواعدنا لا تأباه كما لا يخفى، ولم
يجعله مستحبا لأن من اعتقد جوازه ولم يفعله كان أفضل لاتيانه بالغسل إذ هو أشق على
البدن. قال في التوشيح: وهذا مذهبنا وبه قال الشافعي ومالك ورواه ابن المنذر عن عمر بن
الخطاب والبيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أيضا. وقال الشعبي والحكم وحماد والإمام أبو
الحسن الرستغفني من أصحابنا: إن المسح أفضل وهو أصح الروايتين عن أحمد، أما النفي
التهمة عن نفسه لأن الروافض والخوارج لا يرونه، وإما للعمل بقراءة النصب والجر. وعن
أحمد أنهما سواء وهو اختيار ابن المنذر. احتج من فضل المسح بقوله عليه السلام في حديث
المغيرة بهذا أمرني ربي رواه أبو داود. والامر إذا لم يكن للوجوب كان للندب. ولنا حديث
علي قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. ذكره ابن خزيمة في صحيحه وكذا في حديث
صفوان ذكر الرخصة والاخذ بالعزيمة أولى. فإن قيل: فهذه رخصة إسقاط لما عرف في
أصول الفقه فينبغي أن لا يكون مشروعا ولا يثاب على إتيان العزيمة ههنا إذ لا تبقى العزيمة
مشروعة إذا كانت الرخصة للاسقاط كما في قصر الصلاة قلنا: العزيمة لم تبق مشروعة ما
دام متخففا أيضا والثواب باعتبار النزع والغسل، وإذا نزع صارت مشروعة وسقط سبب
الرخصة في حقه أيضا فكان هذا نظير من ترك السفر سقط عنه سبب رخصة سقوط القصر،
وليس لاحد أن يقول إن تارك السفر آثم اه‍. وهكذا أجاب النسفي وشراح الهداية وأكثر
الأصوليين، ومبنى السؤال على أنه رخصة إسقاط، ومنعه الشارح الزيلعي رحمه الله وخطأهم
في تمثيلهم به في الأصول لأن المنصوص عليه في عامة الكتب أنه لو خاض ماء بخفه
فانغسل أكثر قدميه بطل المسح، وكذا لو تكلف غسلهما من غير نزع أجزأه عن الغسل حتى
لا يبطل بمضي المدة، فعلم أن العزيمة مشروعة مع الخف اه‍. ودفعه المحقق العلامة في فتح
القدير بأن مبنى هذه التخطئة على صحة هذا الفرع وهو منقول في الفتاوى الظهيرية لكن في
صحته نظر، فإن كلمتهم متفقة على أن الخف اعتبر شرعا مانعا سراية الحدث إلى القدم فتبقى
القدم على طهارتها ويحل الحدث بالخف فيزال بالمسح، وبنوا عليه منع المسح للمتيمم
والمعذورين بعد الوقت وغير ذلك من الخلافيات.
وهذا يقتضي أن غسل الرجل في الخف وعدمه سواء إذا لم يبتل معه ظاهر الخف في
أنه لم يزل به الحدث لأنه في غير محله فلا تجوز الصلاة به لأنه صلى مع حدث واجب الرفع
إذ لو لم يجب والحال أنه لا يجب غسل الرجل جازت الصلاة بلا غسل ولا مسح فصار كما
289

لو ترك ذراعيه وغسل محلا غير واجب الغسل كالفخذ، ووزانه في الظهيرية بلا فرق: لو
أدخل يده تحت الجرموقين فمسح على الخفين وذكر فيها أنه لم يجز وليس إلا لأنه في غير محل
الحدث، والأوجه في ذلك الفرع كون الاجزاء إذا خاض النهر لابتلال الخف، ثم إذا انقضت
المدة إنما لا يتقيد بها لحصول الغسل بالخوض والنزع إنما وجب الغسل وقد حصل اه‍.
وظاهره تسليم التخطئة لو صح الفرع، وقد رد بعض المحققين التخطئة على تقدير صحة
الفرع أيضا بأن هذا سهو وقع من الزيلعي لأن مرادهم بالمشروعية الجواز في نظر الشارع
بحيث يترتب عليه الثواب لا أن يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية، يدل عليه تنظيرهم
290

بقصر الصلاة فإن أتى بالعزيمة بأن صلى أربعا وقعد على الركعتين يأثم مع أن فرضه يتم.
وتحقيق جوابه أن المترخص ما دام مترخصا لا يجوز له العمل بالعزيمة، فإذا زال الترخيص
جاز له ذلك فإن المسافر ما دام مسافرا لا يجوز له الاتمام حتى إذا افتتحها بنية الأربع يجب
قطعها والافتتاح بالركعتين لما سيأتي في صلاة المسافر، فإذا افتتحها بنية ثنتين ونوى الإقامة
أثناء الصلاة تحولت إلى الأربع، فالمتخفف ما دام متخففا لا يجوز له الغسل حتى إذا تكلف
وغسل رجليه من غير نزع أثم وإن أجزأه عن الغسل. وإذا نزع الخف وزال الترخص صار
الغسل مشروعا يثاب عليه، والعجب أن هذا مع وضوحه لمن تدرب في كتب الأصول كيف
خفي على فحل من العلماء الفحول: اه‍ واعلم أن العزيمة ما كان حكما أصليا غير مبني
على أعذار العباد، والرخصة ما بني على أعذار العباد هو الأصح في تعريفهما عند الأصوليين
كما عرف فيه. واعلم أن في تتمة الفتاوى الصغرى وفي فتاوى الشيخ الإمام أبي بكر
محمد بن الفضل أنه إذا ابتل قدمه لا ينتقض مسحه على كل حال لأن استتار القدم بالخف
يمنع سراية الحدث إلى الرجل فلا يقع هذا غسلا معتبرا فلا يوجب بطلان المسح، ويوافقه ما
291

في شرح الزاهدي في سياق نقله عن البحر المحيط. وعن أبي بكر العياضي: لا ينتقض
بلغ الماء الركبة اه‍. لكن ذكر في خير مطلوب لبس خفيه على الطهارة ومسح عليهما فدخل
الماء إحداهما إن وصل الكعب حتى صار جميع الرجل مغسولا يجب غسل الأخرى، وإن لم
يبلغ الكعب لا ينتقض مسحه، وإن أصاب الماء أكثر إحدى رجليه اختلف فيه، فقد علمت
صحة ما بحثه المحقق في فتح القدير غير أنه أقر القائل بأنه إذا انقضت المدة ولم يكن محدثا لا
يجب عليه غسل رجليه على هذا القول. وتعقبه تلميذه العلامة ابن أمير حاج بأنه يجب عليه
غسل رجليه ثانيا إذا نزعهما أو انقضت المدة وهو غير محدث لأن عند النزع أو انقضاء المدة
يعمل ذلك الحدث السابق عمله من السراية إلى الرجلين وقتئذ فيحتاج إلى مزيل له عنهما
حينئذ للاجماع على أن المزيل لا يظهر عمله في حدث طار بعده فليتأمل اه‍.
قوله (ولو امرأة) أي ولو كان الماسح امرأة لاطلاق النصوص، وقد قدمنا أن الخطاب
الوارد في أحدهما يكون واردا في حق الآخر ما لم ينص على التخصيص وأشار به إلى أنه يجوز
للحاجة ولغيرها سفرا أو حضرا. قوله (لا جنبا) أي لا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه
الغسل، والمحققون على أن الموضع موضع النفي فلا حاجة إلى التصوير. وحاصله أنه إذا أجنب
وقد لبس على وضوء وجب نزع خفيه وغسل رجليه. وذكر شمس الأئمة أن الجنابة ألزمته
غسل جميع البدن ومع الخف لا يتأتى ذلك. وفي الكفاية: صورته توضأ ولبس جوربين
مجلدين ثم أجنب ليس له أن يشدهما ويغسل سائر جسده مضطجعا ويمسح عليه اه‍. وبهذا
اندفع ما في النهاية من أنه لا يتأتى الاغتسال مع وجود الخف ملبوسا، وقيل صورته مسافرا
292

جنب ولا ماء عنده فتيمم ولبس ثم أحدث ووجد ماء يكفي وضوءه لا يجوز له المسح لأن
الجنابة سرت إلى القدمين والتيمم ليس س بطهارة كاملة فلا يجوز له المسح إذا لبسهما على طهارته
فينزعهما ويغسلهما، فإذا فعل ولبس ثم أحدث وعنده ماء يكفي للوضوء توضأ ومسح لأن
هذا الحدث يمنعه الخف السراية لوجوده بعد اللبس على طهارة كاملة، فلو مر بعد ذلك بماء
كثير عاد جنبا، فإذا لم يغتسل حتى فقده تيمم له، فإذا أحدث بعد ذلك وعنده ماء يكفي
للوضوء توضأ وغسل رجليه لأن عاد جنبا، فإن أحدث بعد ذلك وعنده ما للوضوء فقط توضأ
ومسح وعلى هذا تجرى المسائل. وقد ذكر شراح الهداية أن هذا تكلف غير محتاج إليه. وفي فتح
القدير أنه يفيد أنه يشترط لجواز المسح كون اللبس على طهارة الماء لا طهارة التيمم معللا بأن
طهارة التيمم ليست بطهارة كاملة، فإن أريد بعدم كمالها عدم الرفع عن الرجلين فهو ممنوع،
وإن أريد عدم إصابة الرجلين في الوظيفة حسا فيمنع تأثيره في نفي الكمال المعتبر في الطهارة
التي يعقبها اللبس. ويمكن أن يوجه الحكم المذكور بأن المسح على خلاف القياس، وإنما ورد
من فعله صلى الله عليه وسلم على طهارة الماء ولم يرد من قوله ما يوسع مورده فيلزم فيه الماء قصرا على مورد
الشرع، وحديث صفوان صريح في منعه للجنابة اه‍. وهو ما رواه الترمذي والنسائي وابن
293

ماجة وابن حبان وابن خزيمة بسند صحيح عن صفوان بن عسال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمرنا إذا كنا سفرا أن إلا ننزع خفافنا ثلاثة أو لياليها، لا عن جنابة ولكن عن بول وغائط
ونوم. وروي إلا من جنابة في كتا ب الحديث المشهورة، وروي بحرف النفي وكلاهما صحيح
ولكن المشهور رواية إلا الاستثنائية. ووقع في كتب الفقه ولكن عن بول أو غائط أو نوم
ب‍ " أو والمشهور في كتب الحديث بالواو. كذا ذكر النووي. وفي معراج الدراية معزيا إلى
المجتبى: سألت أستاذي نجم الأئمة البخاري عن صورته فقال: توضأ ولبس خفيه ثم أجنب
ليس له أن يشد خفيه فوق الكعبين ثم يغتسل ويمسح، وما ذكروا من الصور ليس بصحيح لأن
الجنابة لا تعود على الأصح اه‍. ولم يتعقبه ولا يخفى ضعفه فإنهم صرحوا أبان التيمم ينتقض
برؤية الماء فإن كان جنبا وتيمم عادت الجنابة برؤية الماء، وإن كان محدثا عاد الحدث، والذي
يدلك على أن الصورة المتقدمة تكلف أنها لا تناسب وضع المسألة إذ وضعها عدم جواز المسح
للجنب في الغسل، وما ذكر إنما هو عدم جوازه في الوضوء فليتنبه لذلك. وفي شرح منية
المصلي: قوله من كل حدث موجب للوضوء احترازا من الجنابة وما في معناها مما يوجب
الغسل كالحيض على أصل أبي يوسف في حق المرأة إذا كانت مسافرة لأن أقل الحيض عنده
يومان وليلتان وأكثر اليوم الثالث والنفاس فإنه لا ينوب المسح على الخفين في هذه الاحداث عن
غسل الرجلين لعدم جعل الخف مانعا من سرايتها إلى الرجل شرعا كما صرح به في الجنابة
حدث صفوان المتقدم، ويقاس الحيض والنفاس في ذلك عليها إن لم يكن فيهما إجماع اه‍. وإنما
جعل الحيض مبنيا على أصل أبي يوسف لظهور أنه لا يتأتى على أصلهما فإنها إذا توضأت
ولبست الخفين ثم أحدثت وتوضأت ومسحت ثم حاضت كان ابتداء المدة من وقت الحدث،
فإذا انقطع الدم لثلاثة أيام انتقض المسح قبلها فلا يتصور أن يمنع المسح لأجل غسل الحيض
لأنه امتنع لانتقاضه بمضي المدة. وإن لبستهما في الحيض فغسل الرجلين واجب لفوات شرط
المسح وهو لبس الخفين على طهارة، والمقصود تصوير المسألة بحيث لا يكون مانع من مسح
الخفين سوى وجوب الاغتسال. وصوره عدم مسح النفساء أنها لبست على طهارة ثم نفست
وانقطع قبل ثلاثة وهي مسافرة أو قبل يوم وليلة وهي مقيمة.
294

قوله (إن لبسهما على وضوء تام وقت الحدث) يعني المسح جائز بشرط أن يكون اللبس
على طهارة كاملة وقت الحدث وذكره التمام لدفع توهم النقصان الذاتي له كما إذا بقي لمعة لم
يصبها الماء لا للاحتراز عن طهارة أصحاب الاعذار بالنسبة إلى ما بعد الوقت إذا توضؤوا
ولبسوا مع وجود الحدث الذي ابتلوا به كما مشى عليه غير واحد من المشايخ. وعن طهارة
التيمم وبنبيذ التمر على القول بتعين الوضوء به عند وجوده وفقد الماء المطلق الطهور فإنه في
الحقيقة لا نقص في شئ من هذه الطهارات بل هي ما بقي شرطها كالتي بالماء المطلق الطهور
في حق الأصحاء وتحرير المسح لأصحاب الاعذار أنه إذا كان العذر غير موجود وقت
الوضوء واللبس فإنه يمسح كالاصحاء حتى إذا كان مقيما فيوما وليلة من وقت الحدث
العارض له على الطهارة المذكورة بعد اللبس. وإن كان مسافرا فثلاثة أيام ولياليها من وقت
الحدث المذكور لأن الحدث المذكور صادف لبسهما على طهارة كاملة مطلقا فجاز له المسح في
الوقت وبعده إلى تمام المدة بخلاف ما إذا لبس بطهارة العذر بأن وجد العذر مقارنا للوضوء أو
للبس أو لكليهما أو فيما بينهما واستمر على ذلك حتى لبس فإنه حينئذ إنما يمسح في الوقت
كلما توضأ لحدث غير ما ابتلي به، ولا يمسح خارج الوقت بناء على ذلك اللبس لأن الحدث
في هذه الصورة صادف بالنسبة إلى الوقت لبسا على طهارة كاملة بدليل أن الشارع ألحق ذلك
الحدث الذي ابتلي به بالعدم فيه حتى جوز له أداء الصلاة معه فيه، وصادف بالنسبة إلى خارج
الوقت لبسا على غير طهارة بدليل أن الشارع لم يجوز له أداء الصلاة فيه وإن لم يوجد منه
295

حدث آخر فإن هذه آية عمل الحدث السابق عمله إذ خروج الوقت ليس بحدث حقيقة
بالاجماع، فبان أن اللبس في حقه حصل لا على طهارة فلا جرم إن جاز له المسح في الوقت
لا خارجه. فحاصله أنه لا يمسح بعد خروج الوقت في ثلاثة أحوال ويمسح في حال
واحدة، وأما في الوقت فيمسح مطلقا. كذا في النهاية وغيرها. وشمل كلام المصنف صورا
منها: أن يبدأ بغسل رجليه ثم يلبسهما ثم يكمل الوضوء، ومنها أن يتوضأ إلا رجليه ثم
يغسل واحدة ويلبس خفها ثم يغسل الأخرى ويلبسه، ومنها أن يبدأ بلبس الخفين ثم يتوضأ
إلا رجليه ثم يخوض في الماء فتبتل رجلاه مع الكعبين أو عكسه بأن ابتل رجلاه ثم توضأ،
وفي جميع هذه الصور يجوز له المسح إذا أحدث لتمام الطهارة وقت الحدث وإن لم يوجد
وقت اللبس، فظهر بهذا أن قوله وقت الحدث قيد لا بد منه وبه يندفع ما ذكر في التبيين
من أنه زيادة بلا فائدة لأن قوله إن لبسهما على وضوء يغني عنه لأن اللبس يطلق على ابتداء
اللبس وعلى الدوام عليه، ولهذا يحنث بالدوام عليه في يمينه لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه
فيكون معناه إن وجد لبسهما على وضوء تام، سواء كان ذلك اللبس ابتداء أو بالدوام عليه
فلا حاجة إلى تلك الزيادة اه‍. ووجه دفعه أن الفعل دال على الحدث ولا دلالة على الدوام
والاستمرار. قال المحقق التفتازاني في أول المطول: الاسم يدل على الدوام والاستمرار
والفعل إنما يدل على الحقيقة دون الاستغراق ا ه‍. فالمعنى أن الشرط حصول اللبس على طهر
في الجملة عند اللبس بشرط أن تتم تلك الطهارة عند الحدث، ولو لم يقيد التام بوقت الحدث
لتبادر تقييده بوقت اللبس وحصول الطهر التام قبله كما هو مقتضى لفظة على وبعدما قيد
بوقت الحدث لم يبق احتمال تقييده بوقت اللبس، وكون الفعل أطلق على الدوام في مسألة
اليمين إنما هو بطريق المجاز والكلام في تبادر المعنى الحقيقي فلولا التقييد بوقت الحدث
لتبادر الفهم إلى المعنى الحقيقي.
فإن قيل: المفهوم من الكتاب عدم الجواز عند كون اللبس على طهر تام وقت اللبس مع
أنه ليس كذلك قلنا: التام وقت الحدث أعم من التام فيه فقط والتام فيه وقبله أيضا، والتام
وقت اللبس يكون تاما وقت الحدث. وقال الشافعي: لا بد من لبسهما على وضوء تام ابتداء
لما في الصحيحين عن المغيرة كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما
فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما. وأهويت بمعنى قصدت. ولما أخرجه ابن حبان وابن
خزيمة في صحيحهما من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمسافر ثلاثة أيام
ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما. ونص الشافعي على أن
296

إسناده صحيح والبخاري على أنه حديث حسن. والجواب أن معنى أدخلتهما أدخلت كل
واحدة الخف وهي طاهرة لأنهما اقترنا في الطهارة والادخال لأن ذلك غير متصور عادة،
وهذا كما يقال دخلنا البلد ونحن ركبا يشترط أن يكون كل واحد راكبا عند دخولها ولا
يشترط أن يكون جميعهم ركبانا عند دخول كل واحد منهم ولا اقترانهم في الدخول. كذا
أجاب في التبيين وغيره لكن لا يصدق على الصورة الأخيرة التي ذكرناها وهي ما إذا بدأ
بلبسهما ثم توضأ إلى آخره نظرا إلى ابتداء اللبس لا إلى ما بعد الوضوء الكامل المشتمل على
غسلهما بعد ذلك، لكن أهل المذهب ليسوا بمعتدين بابتداء هذا اللبس في هذه الصورة بل
إنما هم معتدون باستمراره لهما بعد الوضوء الكامل تنزيلا لاستمرار اللبس من وقته إلى حين
الحدث بعده بمنزلة ابتداء لبس جديد وجد الحدث بعده على طهارة كاملة لعقلية أن المقصود
وقوع المسح على خف يكون ملبوسا عند أول حدث يحدث بعد اللبس على طهارة كاملة،
وهذا المقصود موجود في هذه الصورة كما في الصور الأخر، ألا ترى أن في الوجه الذي
فعل فيه الوضوء بتمامه مرتبا لو نزع رجليه من خفيه ثم أعادهما إليهما من غير إعادة غسلهما
أنه يمسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك قبل مضي المدة بالاجماع، وهذا ظاهر في أنه لا أثر
لعدم الاكمال قبل ابتداء اللبس في المنع من جواز المسح إذا وجد الاكمال بعد ابتداء اللبس
قبل الحدث على أن كلا من الحديثين المذكورين ليس بمتعرض لعدم الجواز في هذه الصورة
اللهم إلا أن كان حديث أبي بكرة بطريق مفهوم المخالفة وهو طريق غير صحيح عند أهل
المذهب على ما عرف في علم الأصول مع أن كلا منهما وما ضاهاهما يجوز أن يكون خرج
مخرج البيان لما هو الأكمل في ذلك والأحسن، وأهل المذهب قائلون بأن هذا الذي عينه
مخالفوهم محلا للجواز نظر إلى هذه الأحاديث هو الوجه الأكمل.
واعلم أن في قوله وقت الحدث توسعا والمراد قبيل الحدث أي متصلا به لأن وقت
الحدث لا يجامع الطهارة فكيف يكون ظرفا له: وإنما أراد المبالغة في اتصال الوضوء التام
بالحدث حتى كأنهما في وقت واحد. كذا ذكره مسكين في شرحه. وقد أفصح المصنف عن
مراده في الكافي فقال: شرطه أن يكون الحدث بعد اللبس طارئا على وضوء تام. وقد ذكر
في التوشيح إنه لو توضأ للفجر وغسل رجليه ولبس خفيه وصلى ثم أحدث وتوضأ للظهر
وصلى ثم للعصر كذلك ثم تذكر أن لم يمسح رأسه في الفجر ينزع خفيه ويعيد الصلاة لأنه
تبين أن اللبس لم يكن على طهارة تامة، وإن تبين أنه لم يمسح في الظهر فعليه إعادة الظهر
خاصة لتيقنه أنه كان على طهارة في العصر تامة فتكون طهارته للعصر تامة ولا ترتيب عليه
للنسيان. وذكر في السراج الوهاج معزيا إلى الفتاوى: رجل ليست له إلا رجل واحدة يجوز
297

له المسح على الخف. وفي البدائع: لو توضأ ومسح على جبائر قدميه ولبس خفيه أو كانت
إحدى رجليه صحيحة فغسلها ومسح على جبائر الأخرى ولبس خفيه ثم أحدث، فإن لم
يكن برئ الجرح مسح على الخفين لأن المسح على الجبائر كالغسل لما تحته فحصل لبس
الخفين على طهارة كاملة كما لو أدخلهما مغسولتين حقيقة في الخف، وإن كان برئ الجرح
نزع خفيه لأنه صار محدثا بالحدث السابق فظهر أن اللبس حصل لا على طهارة اه‍. وفي
المحيط: وإن لبس الخف ثم مسح على الجبيرة ثم برئ يكمل مدته لأنه لزمه غسل ما برئ
بحدث متأخر عن اللبس، وإن لم يحدث حتى برئ فغسل موضعه ثم أحدث فله أن يمسح
على خفيه لأنه لما غسل ذلك الموضع فقد كملت الطهارة فيكون الحدث طارئا على طهارة
كاملة، وإن أحدث قبل أن يغسل موضع الجراحة بعد البرء لا يمسح بل ينزع الخف لأن
الحدث طرأ على طهارة ناقصة اه‍. واعلم أنا قد قدمنا أن عدم مسح المتيمم بعد وجود الماء
لم يستفد من اشتراط اللبس على الوضوء التام لأن طهارة التيمم تامة لما علمت من أنها
كالتي بالماء ما بقي الشرط، بل لأنه لو جاز المسح بعد وجود الماء لكان الخف رافعا
للحدث الذي حل بالقدم لأن الحدث الذي يظهر عند وجود الماء هو الذي قد كان حل به
قبل التيمم لكن المسح إنما يزيل ما حل بالممسوح بناء على اعتبار الخف مانعا شرعا سراية
الحدث الذي يطرأ بعده إلى القدمين، وبهذا يظهر ضعف ما في شرح الكنز من جعله طهارة
التيمم ناقصة كما لا يخفى.
قوله (يوما وليلة للمتيمم وللمسافر ثلاثا) هذا بيان لمدة المسح أي صح المسح يوما وليلة
الخ. وهذا قول جمهور العلماء منهم أصحابنا والشافعي وأحمد، والحجة لهم أحاديث كثيرة
صريحة يطول سردها، وقد اختلف القول عن مالك في جوازه للمقيم ومشى أبو زيد في
رسالته على جوازه للمقيم. قوله (من وقت الحدث) بيان لأول وقته ولا يعتبر من وقت المسح
الأول كما هو رواية عن أحمد واختاره جماعة منهم النووي وقال لأنه مقتضى أحاديث الباب
الصحيحة، ولا من وقت اللبس كما هو محكي عن الحسن البصري واختاره السبكي من متأخري
الشافعية لأنه وقت جوازه الرخصة. والحجة للجمهور أن أحاديث الباب كلها دالة
على أن الخف جعل مانعا من سراية الحدث إلى الرجل شرعا فتعتبر المدة من وقت المنع لأن ما
298

قبل ذلك طهارة الغسل ولا تقدير فيها، فإذن التقدير في التحقيق إنما هو لمدة منعه شرعا وإن
كان ظاهر اللفظ التقدير للمسح أو اللبس والخف إنما منع من وقت الحدث. وفي المبسوط
لشمس الأئمة السرخسي: وابتداؤها عقيب الحدث لأنه لا يمكن اعتبار المدة من وقت اللبس
فإنه لو لم يحدث بعد اللبس حتى يمر يوم وليلة لا يجب عليه نزع الخف ولا يمكن اعتباره من
وقت المسح لأنه لو أحدث ولم يمسح ولم يصل أياما لا إشكال أنه لا يمسح بعد ذلك فكان
العدل في الاعتبار من وقت الحدث اه‍. وكذا في النهاية ومعراج الدراية معزيا إلى مبسوط
شيخ الاسلام. فاستفيد منه أن مضي المدة رافع لجواز المسح أعم من كونه مسح أو لا،
فالأولى أن لا يجعل مضي المدة ناقضا للمسح لأنه يوهم أنه إذا لم يكن هناك مسح فلا أثر
لمضيها كما لا يخفى. وثمرة الخلاف تظهر فيمن توضأ بعدما انفجر الصبح ولبس خفيه وصلى
الفجر ثم أحدث بعد طلوع الشمس ثم توضأ ومسح على خفيه بعد زوال الشمس، فعلى قول
الجمهور يمسح إلى ما بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني إن كان مقيما ومن اليوم الرابع إن
كان مسافرا، وعلى قول من اعتبر من وقت المسح يمسح إلى ما بعد الزوال من اليوم الثاني إن
كان مقيما ومن اليوم الرابع إن كان مسافرا، وعلى قول من اعتبر من وقت اللبس يمسح إلى
ما بعد طلوع الفجر من اليوم الثاني إن كان مقيما ومن اليوم الرابع إن كان مسافرا. وفي
معراج الدراية معزيا إلى المجتبى: والمقيم في مدة مسحه قد لا يتمكن إلا من أربع صلوات
وقتية بالمسح كمن توضأ ولبس خفيه قبل الفجر ثم طلع الفجر وصلاها وقعد قدر التشهد
فأحدث لا يمكنه أن يصلي من الغد على هيئة الأولى لاعتراض ظهور الحدث في آخر صلاته،
وقد يصلي خمسا وقد يصلي ستا كمن أخر الظهر إلى آخر الوقت ثم أحدث وتوضأ ومسح
وصلى الظهر في آخر وقته ثم صلى الظهر من الغد وقد يصلي به على هذا الوجه سبعا على
الاختلاف اه‍.
قوله (على ظاهرهما مرة) بيان لمحل المسح حتى لا يجوز مسح باطنه أو عقبه أو ساقيه أو
جوانبه أو كعبه. وفي المبتغى بالغين المعجمة: وظهر القدم من رؤوس الأصابع إلى معقد
299

الشراك اه‍. وفي المحيط: ولا يسن مسح باطن الخف مع ظاهره خلافا للشافعي لأن السنة
شرعت مكملة للفرائض والاكمال إنما يتحقق في محل الفرض لا في غيره اه‍. وفي غيره
نفي الاستحباب وهو المراد واحتج الشافعي بحديث المغيرة بن شعبة قال: وضأت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله. رواه أبو داود. ولنا ما رواه أبو
داود والبيهقي من طرق عن علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى
بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه. أراد أن أصول الشريعة
لم تثبت من طريق القياس وإنما طريقها التوقيف وغير جائز استعمال القياس في رد التوقيف
وكان القياس أن يكون باطن الخف أولى بالمسح لأنه يلاقي الأرض بما عليها من طين وتراب
وقذر ولا يلاقيها ظاهره إلا أنه لم يستعمل القياس لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر
الخف دون باطنه، وهذا يدل على أن مراده كان نفي القياس مع النص. كذا ذكره الجصاصي
في أصوله اه‍. كذا في غاية البيان. وهذا يفيد كظاهر ما في النهاية وغيرها أن المراد بالباطن
عندهم محل الوطئ لا ما يلاقي البشرة، وتعقبهم المحقق في فتح القدير بأنه بتقديره لا تظهر
أولوية مسح باطنه لو كان بالرأي بل المتبادر من قول علي رضي الله عنه ذلك ما يلاقي
البشرة، وهذا لأن الواجب من غسل الرجل في الوضوء ليس لإزالة الخبث بل الحدث ومحل
الوطئ من باطن الرجل فيه كظاهره، وكذا ما روي عن علي فيه بلفظ لكان أسفل الخف أولى
بالمسح من أعلاه يجب أن يراد بالأسفل الوجه الذي يلاقي البشرة لأنه أسفل من الوجه
الاعلى المحاذي للسماء كما ذكرنا اه‍. وما روي أنه مسح أعلاه وأسفله فقد ضعفه الترمذي
وأبو داود وغيرهما، ولو صح فمعناه ما يلي الساق وما يلي الأصابع توفيقا بينه وبين حديث
علي. كذا في غاية البيان. وأورد أنه ينبغي جواز مسح الأسفل والعقب لأنه خلف عن
الغسل فيجوز في جميع محل الغسل كمسح الرأس فإنه يجوز في جميع الرأس وإن ثبت مسحه
عليه السلام على الناصية. وأجيب بأن فعله هنا ابتداء غير معقول فيعتبر جميع ما ورد به
الشرع من رعاية الفعل والمحل بخلاف مسحه على الناصية فإنه بيان ما ثبت بالكتاب لا نصب
الشرع فيجب العمل بقدر ما يحصل به البيان وهو المقدار لأن المحل معلوم بالنص فلا حاجة
إلى جعل فعله بيانا له. وتعقب بأنه ينبغي أن يجب المسح إلى الساق رعاية لجميع ما ورد به
300

الشرع فينبغي أن لا يجوز قدر ثلاث أصابع إلا بنص، ولم يجب عنه في فتح القدير. وبأنه
ينبغي أنه لو بدأ من الساق لا يجوز لما ذكرنا. فأجاب عن الثاني في فتح القدير بأنه لا يجب
مراعاة جميع ما ورد به في محل الابتداء أو الانتهاء للعلم بأن المقصود إيقاع البلة على ذلك
المحل. وأجاب عن الأول في معراج الدراية بأنه روي أنه عليه السلام مسح على خفيه من
غير ذكر مد إلى الساق كما روي المد فجعل المفروض أصل المسح والمد سنة جمعا بين
الأدلة، وتعقب بأنه ينبغي حمل المطلق على المقيد هنا لورودهما في حكم واحد في محل
واحد كما في كفارة اليمين. وأجيب بأن الروايتين لا يتساويان في الشهرة بل المطلق هو
المشهور دون المقيد، ولئن سلمنا تساويهما لا يجب الحمل أيضا لامكان الجمع فإن مسحه
عليه السلام لم يقتصر على مرة واحدة فلا يكون الاطلاق والتقييد في حكم واحد في حادثة
واحدة بل في متعدد في نفسه فيثبت أصل المسح وسنية المد، وتعقب بأنه ينبغي أن
يستحب الجمع بين مسح الظاهر والباطن لكونهما مرويين والجمع ممكن، فيثبت فرضية
أصل المسح وسنية المسح على الظاهر والباطن. وأجيب بأن في إحدى الروايتين احتمالا
كما قدمناه فلا تثبت السنية بالشك، وقد يقال كان ينبغي على هذا أن يكون في صوم
الكفارة مطلق الصوم واجبا والتتابع سنة ويكون هذا جمعا بين القراءتين، ولهذا والله أعلم
لم يرتض المحقق في فتح القدير بما أجاب به في معراج الدراية وفي البدائع ما يصلح
جوابا عما في فتح القدير فإنه استدل على فرضية ثلاث أصابع بحديث علي أنه عليه الصلاة
والسلام مسح على ظهر خفيه خطوطا بالأصابع قال: وهذا خرج مخرج التفسير للمسح.
والأصابع اسم جمع وأقل الجمع الصحيح ثلاثة فكان هذا تقديرا للمسح بثلاث أصابع اليد
اه‍. وهكذا ذكر الأقطع. واستدل المصنف في المستصفى بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغسل
خفيه فقال صلى الله عليه وسلم: أما يكفيك مسح ثلاثة أصابع اه‍. وهذا صريح في المقصود. وفي قوله
مرة إشارة إلى أنه لا يسن تكراره كمسح الرأس عملا بما ورد أنه عليه السلام مسح على
ظاهر خفيه خطوطا بالأصابع بطريق الإشارة إذ الخطوط إنما تكون إذا مسح مرة. كذا في
المستصفى. ولم يذكر المصنف الخطوط للإشارة إلى الرد على ما يفهم من عبارة الطحاوي أنها
فرض كما هو ظاهر المجتبى فإنه ذكر أن إظهار الخطوط في المسح ليس بشرط في ظاهر
الرواية ثم قال: وقال الطحاوي: المسح على الخفين خطوطا بالأصابع اه‍. والظاهر ظاهر
الرواية، نعم إظهار الخطوط شرط السنية.
قوله (بثلاث أصابع) بيان لمقدار آلة المسح بطريق المنطوق ولبيان قدر الممسوح بطريق
301

اللزوم. وأراد أصابع اليد لما ذكره في المستصفى. كذا أطلقه غير واحد من مشايخ المذهب
وعزاه في الخلاصة إلى أبي بكر الرازي، وفي الاختيار وغيره إلى محمد رحمه الله، وقيدها
قاضيخان بكونها من أصغر أصابع اليد. وقال الكرخي: ثلاث أصابع من أصابع الرجل.
والأول أصح - كذا في كثير من الكتب - لأن اليد آلة المسح والثالثة أكثر أصابعها، وقد تقدم
دليله من السنة من البدائع وغيرها. وقد ذكر كثير من المشايخ أن الثلاث فرض المسح ونص
عليه محمد كما في المحيط، ومرادهم به الواجب لأنه ثابت بالسنة فيكون المراد بالفرض
التقدير دون الفرض الاصطلاحي فإنه ليس ثابتا بدليل قطعي ولأنه مختلف فيه. كذا في
التوشيح. لكن لا حاجة إلى هذا لأن مشايخنا يطلقون أصل الفرض على ما ثبت بظني إذا كان
الجواز يفوت بفوته كغسل المرافق والكعبين وقد بيناه هناك. وفي تقدير الفرض بثلاث أصابع
إشارة إلى أنه لو قطعت إحدى رجليه وبقي منها أقل منه أو بقي بثلاث أصابع لكن من
العقب لا من موضع المسح فلبس على الصحيحة أو المقطوعة لا يمسح لوجوب غسل ذلك
الباقي كما لقطعت من الكعب حيث يجب غسل الجميع ولا يمسح، وهذا التقدير لا بد منه
في كل رجل، فلو مسح على رجل إصبعين وعلى الأخرى قدر خمسة لم يجز، واستفيد منه أنه
لو مسح بأصبع واحدة ومدها حتى بلغ مقدار الثلاث من غير أن يأخذ ماء جديدا لا يجوز،
ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات وأخذ لكل مرة ماء جاز إن مسح كل مرة غير الموضع
الذي مسحه كأنه مسح بثلاثة أصابع كما في فتاوى قاضيخان. ولو مسح بالابهام والسبابة إن
كانتا مفتوحتين جاز لأن ما بينهما مقدار أصبع، ولو مسح بأصبع واحدة بجوانبها الأربع
فينبغي أن يجوز بالاتفاق على الأصح بخلاف مسح الرأس فإن فيه اختلافا، فصحح في
الهداية الجواز بناء على التقدير بثلاث أصابع، وصحح شمس الأئمة السرخسي ومن تابعه
عدم الجواز بناء على التقدير بالربع، وهنا لما اتفقوا في الأصح على الثلاث كان الاجزاء متفقا
عليه كما لا يخفى. وإنما قيدنا الاتفاق بالأصح لأن المصنف في الكافي قال: والكلام فيه
كالكلام في مسح الرأس، فمن شرط ثمة الربع شرط الربع هنا، ومن شرط الأدنى شرطه
هنا اه‍. وفيه نظر لأن هناك الراجح الربع وهنا الراجح الثلاث كما لا يخفى. وفي منية
المصلي: ولو مسح برؤوس الأصابع وجافى أصول الأصابع والكف لا يجوز إلا أن يكون الماء
متقاطرا. وفي الخلاصة: ولو مسح بأطراف أصابعه يجوز سواء كان الماء متقاطرا أو لا، وهو
الصحيح. وما في المنية أولى ما في الخلاصة كما لا يخفى. وفي البدائع: ولو مسح بثلاث
أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لا يجوز بلا خلاف بين أصحابنا، ولو أصاب موضع
302

المسح ماء أو مطر قدر ثلاث أصابع جاز، وكذا لو مشى في حشيش مبتل بالمطر ولو كان
مبتلا بالطل وأصاب الخف طل قدر الواجب، قيل يجوز لأنه ماء، وقيل لا يجوز لأنه نفس
دابة في البحر يجذبه الهواء والأول أصح. وفي الخلاصة: ولو مسح بظاهر كفه جاز
والمستحب أن يمسح بباطن كفه اه‍. وكان المراد به باطن الكف والأصابع ولو قال بباطن اليد
لكان أولى. كذا في شرح منية المصلي وفيه نظر، لأن صاحب الخلاصة نقل أنه إن وضع
الكف ومدها أو وضع الكف مع الأصابع ومدها كلاهما حسن والأحسن الثاني اه‍. فوضع
الكف وحدها دون الأصابع مستحب حسن وإن كانت مع الأصابع أحسن، ولو توضأ
ومسح ببلة بقيت على كفيه بعد الغسل يجوز، سواء كانت البلة قاطرة أو لم تكن. كذا في
فتاوى قاضيخان وغيرها. وصرح في الخلاصة بأنه الصحيح. ولو مسح رأسه ثم مسح خفيه
ببلة بقيت على كفيه لا يجوز، وكذا بماء أخذه من لحيته. والحاصل أن البلل إذا بقي في كفيه
بعد غسل عضو من المغسولات جاز المسح به لأنه بمنزلة ما لو أخذه من الاناء، وإذا بقي في
يده بعد مسح عضو ممسوح أو أخذه من عضو من أعضائه لا يجوز المسح به، مغسولا كان
ذلك العضو أو ممسوحا، لأنه مسح ببلة مستعملة ويستثنى من هذا الاطلاق مسح الاذنين
فإنه جائز ببلة بقيت بعد مسح الرأس بل سنة عندنا كما قدمناه والإصبع يذكر ويؤنث. كذا
في شرح الوقاية.
قوله (يبدأ من الأصابع إلى الساق) بيان للسنة حتى لو بدأ من الساق إلى الأصابع أو
مسح عليه عرضا جاز لحصول المقصود إلا أنه خالف السنة. وكيفيته كما ذكره قاضيخان في
شرح الجامع الصغير أن يضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفه الأيمن وأصابع يده اليسرى
على مقدم خفه الأيسر من قبل الأصابع، فإذا تمكنت الأصابع يمدها حتى ينتهي إلى أصل
الساق فوق الكعبين لأن الكعبين يلحقهما فرض الغسل ويلحقهما سنة المسح، وإن وضع
الكف مع الأصابع كان أحسن. هكذا روي عن محمد اه‍. ويدل للأحسنية ما رواه ابن أبي
شيبة من حديث المغيرة أنه وضع يده اليمنى على خفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسر
ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة الحديث. ولم يقل وضع كفه. وفي الخلاصة وفتاوى
303

الولوالجي وغيرهما وتفسير المسح على الخفين أن يمسح على ظهر قدميه ما بين أطراف الأصابع
إلى الساق ويفرج بين أصابعه قليلا اه‍. وهذا يفيد أن الأصابع غير داخلة في المحلية، وما في
الكتاب كغيره من المتون والشروح يفيد دخولها، ويتفرع عليه أنه لو مسح بثلاث أصابع يده
على أصابع كل رجل دون القدم فعلى ما في الكتاب يجوز لوجود المحلية، وعلى ما في أكثر
الفتاوى لا يجوز لعدمها. وقد صرح به قاضيخان في فتاواه فقال: رجل له خف واسع الساق
إن بقي من قدمه خارج الساق في الخف مقدار ثلاث أصابع سوى أصابع الرجل جاز
مسحه، وإن بقي من قدمه خارج الساق في الخف مقدار ثلاث أصابع بعضه من القدم
وبعضه من الأصابع لا يجوز المسح عليه حتى يكون مقدار ثلاث أصابع كلها من القدم ولا
اعتبار للأصابع اه‍. فليتنبه لذلك والله الموفق للصواب.
قوله: (والخرق الكبير يمنعه) قال المصنف في المستصفى: يجوز بالباء بنقطة من تحت
والثاء بثلاث من فوق، والتفاوت بينهما أن الأول يستعمل في الكمية المتصلة، والثاني في
المنفصلة، والثاني منقول عن العالم الكبير بدر الدين اه‍. وفي المغرب أن الكثرة خلاف القلة
وتجعل عبارة عن السعة ومنها قولهم الخرق الكثير اه‍. فأفاد أن الكثير يستعمل للكمية
المنفصلة أيضا. وصحح في السراج الوهاج رواية المثلثة بدليل قول القدوري: وإن كان أقل.
وفي شرح منية المصلي عن خواهر زاده. الصحيح الرواية بالباء الموحدة لأن في الكم المنفصل
تستعمل الكثرة والقلة وفي الكم المتصل يستعمل الكبر والصغر والخف كم متصل فلا يذكر
إلا الكبير لا الكثير اه‍. وقد علمت عن المغرب استعمال الكثير لهما والامر في ذلك قريب،
وعلى التقدير الأول أو رد عليه أن الخرق واحد فكيف يوصف بالكثرة. وأجيب بأنه اسم
مصدر وهو يقع على القليل والكثير. ثم كون الخرق الكبير مانعا دون القليل قول علمائنا
الثلاثة وهو استحسان، والقياس أن يمنع القليل أيضا وهو قول زفر والشافعي في الجديد لأنه
304

لما ظهر شئ من القدم وإن قل ظهر غسله لحلول الحدث به، والرجل في حق الغسل غير
متجزئه فوجب غسلها كلها. ووجه الاستحسان أن الخفاف لا تخلو عن قليل الخرق عادة
والشرع علق المسح بمسمى الخف وهو الساتر الخصوص الذي يقطع به المسافة وما كان
كذلك، فهذا المعنى موجود فيه والاسم مطلقا يطلق عليه فكان ذلك اعتبارا للخرق عدما
بخلاف الخف المشتمل على الكثير فإن هذا المعنى معدوم فيه وإن ترك في التعبير عنه باسم
الخف تقييده بمخروق فهو مراد للمطلق معنى فليس بخف مطلق، ولأنه لا تقطع المسافة به
إذ لا يمكن تتابع المشي فيه والخف مطلقا ما تقطع به فليس به، وأيضا الحرج لازم على اعتبار
الأول إذ غالب الخفاف لا تخلو عنه عادة والحرج منتف شرعا بقي الامر محتاجا إلى الحد
الفاصل بين القليل والكثير فبينه.
بقوله: (وهو قدر ثلاث أصابع القدم أصغرها) أي الخرق الكبير لأن هذا القدر إذا
انكشف منع من قطع المسافة، ولأنه أكثر الأصابع وللأكثر حكم الكل. ثم اختلفوا فروى
الحسن عن أبي حنيفة أن المعتبر كونها من اليد ثم في اعتبارها مضمومة أو منفرجة اختلاف
المشايخ. ذكره في الأجناس. وقال محمد في الزيادات من أصابع الرجل أصغرها،
وصححه صاحب الهداية كغيره واعتبر الأصغر للاحتياط. وإنما اعتبر على هذا أصابع
الرجل في الخرق وأصابع اليد في المسح لأن الخرق يمنع قطع السفر وتتابع المشي وإنه فعل
الرجل، فأما فعل المسح فإنه يتأدى باليد والرجل محله وإضافة الفعل إلى الفاعل دون المحل
هي الأصل ولا عدول عن الأصل بلا موجب ولا موجب هنا، وفي مقطوع الأصابع يعتبر
الخرق بأصابع غيره، وقيل بأصابع نفسه لو كانت قائمة. كذا في التبيين. والأوجه الثاني
لأن من الأصابع ما يكون طويلا ويكون قصيرا فلا يعتبر بأصابع غيره كما لا يخفى. وفي
السراج الوهاج: وكبر القدم دليل على كبرها وصغره دليل على صغرها فيعرف من هذا
الوجه اه‍. وإنما يعتبر الأصغر إذا انكشف موضع غير موضع الأصابع، وأما إذا انكشف
الأصابع نفسها يعتبر أن ينكشف الثلاث أيتها كانت ولا يعتبر الأصغر لأن كل أصبع أصل
بنفسها فلا يعتبر بغيرها حتى لو انكشف الابهام مع جارتها وهما قدر ثلاث أصابع من
أصغرها يجوز المسح وإن كان مع جارتها لا يجوز وهذا هو الأصح. كذا في تتمة الفتاوى
الصغرى. وحكى القدوري عن الحاكم أنه جعل الابهام كإصبعين وهو مردود. كذا في
305

شرح منية المصلي. والخرق المانع هو المنفرج الذي يرى ما تحته من الرجل أو يكون منضما
لكن ينفرج عند المشي أو يظهر القدم منه عند الوضع بأن كان الخرق عرضا، وإن كان
طولا يدخل فيه ثلاث أصابع وأكثر لكن لا يرى شيئا من القدم ولا ينفرج عند المشي
لصلابته لا يمنع المسح. ولو انكشفت الظهارة وفي داخلها بطانة من جلد أو خرقة مخروزة
بالخف لا يمنع والخرق أعلى الكعب لا يمنع لأنه لا عبرة يلبسه والخرق في الكعب وما
تحته هو المعتبر في المنع، ولو كان الخرق تحت القدم فإن كان أكثر القدم منع. كذا في
الاختيار وذكره الزيلعي عن الغاية بلفظ قيل وعلله بأن مواضع الأصابع يعتبر بأكثرها
فكذا القدم. وتعقبه في فتح القدير بأنه لو صح هذا التعليل لزم أن لا يعتبر قدر ثلاث
أصابع أصغرها إلا إذا كان عند أصغرها لأن كل موضع حينئذ إنما يعتبر بأكثره اه‍.
وظاهره اختيار اعتبار ثلاث أصابع مطلقا وهو ظاهر المتون كما لا يخفى حتى في العقب
وهو اختيار السرخسي. وفي فتاوى قاضيخان: هذا إذا كان الخرق في مقدم الخف في
مقدم الخف أو في أعلى القدم أو أسفله، وإن كان الخرق في موضع العقب إن كان يخرج
أقل من نصف العقب جاز عليه المسح، وإن كان أكثر لا يجوز، وعن أبي حنيفة في رواية
أخرى يمسح حتى يبدو أكثر من نصف العقب اه‍. وعلى هذه الرواية مشى في شرح
الجامع الصغير مقتصرا عليها فقال: وإن كان الخرق من مؤخر الخف بإزاء العقب، فإن
كان يبدو منه أكثر العقب منع المسح وإلا فلا اه‍. وفي اعتبار المصنف: الأصابع تبعا
لصاحب الهداية ردا لما اختاره صاحب البدائع وشمس الأئمة السرخسي فإنهما قالا:
واختلف مشايخنا فيما إذا كان يبدو ثلاثة من الأنامل والأصح أنه لا يجوز المسح عليه اه‍.
وصحح ما في الكتاب صاحب الهداية والنهاية والمحيط. والأنامل أطراف الأصابع،
306

والقدم من الرجل ما يطأ عليه الانسان من لدن الرسغ إلى ما دون ذلك وهي مؤنثة والعقب
بكسر القاف مؤخر القدم.
قوله (ويجمع في خف لا فيهما) أي ويجمع الخروق في خف واحد لا في خفين حتى
لو كان الخرق في خف واحد قدر إصبعين في موضع أو موضعين وفي الآخر قدر أصبع جاز
المسح عليهما بعد أن يقع المقدار الواجب على الخف نفسه، فإن الظاهر أنه لو مسح مقدار
ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد على الصحيح منه وعلى ما ظهر من الخرق اليسير كما في
هذه المسألة أنه لا يجوز لأن المسح على ما ظهر من الخرق ليس بمسح على الخف حقيقة ولا
حكما. أما حقيقة فظاهر، وأما حكما فلان الخرق المذكور إنما جعل عفوا في جواز المسح
على خف هو فيه لكن لا بحيث يكون ما يقع على ما ظهر منه محسوبا من القدر الواجب لما
تقدم من أنه إنما اعتبر عفوا فيه لأن في اعتباره مانعا من المسح حرجا لازما لما ذكرنا، ولا
حرج في عدم احتساب ما يقع من المسح على ما ظهر منه من القدر الواجب لعدم العسر في
فعله على غيره، فظهر أن عدم اعتباره مانعا من المسح على خف هو فيه للضرورة وأنه لا
ضرورة لاحتساب ما يقع إليه من القدر الواجب من المسح وما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها.
كذا في شرح منية المصلي. وإذ امتنع المسح على أحدهما بجمع الخروق المتفرقة امتنع المسح على
الآخر لما عرف حتى يلبس مكان المتخرق ما يجوز المسح عليه، وهذا الحكم المذكور في
الكتاب هو المشهور في المذهب، وقد بحث المحقق كمال الدين بحثا عليه فقال: لقائل أن
يقول لا داعي إلى جمع الخروق وهو اعتبارها، كأنها في مكان واحد لمنع المسح لأن امتناعه
فيما إذا اتحد المكان حقيقة لانتفاء معنى الخف بامتناع قطع المسافة المعتادة به لا لذاته، ولا
لذات الانكشاف من حيث هو انكشاف وإلا لوجب الغسل في الخرق الصغير وهذا المعنى
منتف عند تفرقها صغيرة كقدر الحمصة والفولة لامكان قطعها مع ذلك وعدم وجوب غسل
البادي اه‍. وقد قواه تلميذه ابن أمير حاج بأن هذه الدراية موافقة لرواية عن أبي يوسف
مذكورة في خزانة الفتاوى، وفي بعض شروح المجمع أنه لا يجمع الخرق سواء كان في خف
أو خفين اه‍. وقد رأيت في التوشيح أن هذه الرواية قول أبي يوسف وجعل الجمع قول محمد
اه‍. ولا شك أن هذه الدراية أولى مما في المحيط من أن الخروق المتعددة في الخف قدر ثلاثة
أصابع تمنع من تتابع المشي فيه إذ لا يخفى ما فيه من المنع الظاهر. ومما في البدائع من أن
307

الخرق إنما منع جواز المسح لظهور مقدار فرض المسح فإذا كان متفرقا في الخفين لم يظهر
مقدار فرض المسح من كل منهما فإن ظهور مقدار فرض المسح من كل منهما لا يظهر له أثر
في المنع بعد إمكان قطع المسافة به وتتابع المشي فيه وبقاء شئ من ظهر القدم يقع فيه مقدار
الواجب من المسح فكان الظاهر ما بحثه المحقق والله أعلم. وأقل الخرق الذي يجمع ما يدخل
فيه المسلة، وأما ما دونه فلا يعتبر الحاقا بمواضع الخرز ذكره في جوامع الفقه.
قوله (بخلاف النجاسة والانكشاف) أي بخلاف النجاسة المتفرقة حيث تجمع وإن كانت
متفرقة في خفيه أو ثوبه أو بدنه أو مكانه أو في المجموع. وبخلاف انكشاف العورة المتفرق
كانكشاف شئ من فرج المرأة وشئ من ظهرها وشئ من فخذها وشئ من ساقها حيث
يجمع لمنع جواز الصلاة لأن المانع في العورة انكشاف القدر المانع وفي النجاسة هو كونه
حاملا لذلك القدر المانع وقد وجد فيهما، وأما الخروق في الخف فإنما منع لامتناع قطع
المسافة معه وهذا المعنى مفقود فيما إذا لم يكن في كل خف مقدار ثلاث أصابع. إليه أشار في
الهداية وقد تقدم ما فيه، وسيأتي في باب شروط الصلاة كيفية الجمع وما فيه. هذا وقد ذكر
في الخلاصة أن النجاسة لو كانت في ثوب المصلي أقل من قدر الدرهم وتحت قدميه أقل من
قدر الدرهم ولكن لو جمع بلغ أكثر من قدر الدرهم لا يجمع، ولا يخفى أنه مخالف لما قدمناه
وهو مذكور في التبيين وغيره. وفي الخلاصة أيضا: والخرق في أذني الأضحية هل يجمع؟
اختلف المشايخ فيه وأعلام الثوب تجمع اه‍. يعني إذا كان في الثوب أعلام من الحرير وكانت
إذا جمعت بلغت أكثر من أربع أصابع فإنها تجمع ولا يجوز لبسه كما لا يخفى. قوله (وينقضه
ناقض الوضوء) أي وينقض المسح كل شئ نقض الوضوء حقيقيا أو حكميا لأن المسح بعض
الوضوء، فما نقض الكل نقض البعض. وعلل في كثير من الكتب بأنه بدل عن الغسل
فينقضه ناقض أصله كالتيمم. وقد يقال إنه ليس ببدل كما صرح به في السراج الوهاج
واختاره بعض الأفاضل لأن البدل لا يجوز مع القدرة على الأصل والمسح يجوز مع القدرة على
الأصل، بل التحقيق أن التيمم بدل والمسح خلف. قوله (ونزع خف) أي وينقضه أيضا نزع
خف لأن الحدث السابق سرى إلى القدمين لزوال المانع ولا يلزم عليه أنه لو مسح الرأس ثم
حلق الشعر حيث لا يلزمه إعادة المسح لأن الشعر من الرأس خلقه، فالمسح عليه مسح على
الرأس كما لو مسح على الخف ثم حكه بخلاف ما نحن فيه. كذا في النهاية. قوله (ومضى
المدة) أي وينقضه أيضا مضي المدة للأحاديث الدالة على التاقيت. واعلم أن نزع الخف
308

ومضي المدة غير ناقض في الحقيقة وإنما الناقض له الحدث السابق لكن الحدث يظهر عند
وجودهما فأضيف النقض إليهما مجازا كما تقدم في التيمم. فإن قيل: لا حدث ليسري لأنه
قد كان حل بالخف ثم زال بالمسح. فلا يعود إلا بسببه من الخارج النجس ونحوه قلنا: جاز
أن يعتبر الشرع ارتفاع الحدث بمسح الخف مقيدا بمدة منعه ثم علمنا وقوع مثله في التيمم
حيث اعتبر في ارتفاعه باستعماله الصعيد تقييده بمدة اعتباره عاملا أعني مدة عدم القدرة على
الماء، ويناسب ذلك لوصف البدلية وهو في المسح ثابت بل هو فيه من وجهين، فإن المسح
وإن كان بالماء لكنه يدل عن وظيفة الغسل والخف عن الرجل فوجب تقييد الارتفاع فيه بمدة
اعتباره بدلا يفيد ما يفيده الأصل كما تفيد في التيمم بمدة كونه بدلا يفيد ما يفيده الأصل
مع أن المقام مقام الاحتياط. كذا في فتح القدير. قوله (إن لم يخف ذهاب رجله من البرد) أي
ينقضه مضي المدة بشرط أن لا يخاف على رجله العطب بالنزع، ومفهومه أنه إذا خاف يجوز له
المسح مطلقا من غير توقيت بمدة إلى أن يزول هذا الخوف، وظاهره أنه لا ينتقض عند
الخوف، وتعقبه في فتح القدير بأن خوف البرد لا أثر له في منع السراية كما أن عدم الماء لا
يمنعها، فغاية الامر أنه لا ينزع لكن لا يمسح بل يتيمم لخوف البرد، وعن هذا نقل بعض
المشايخ تأويل المسح المذكور بأنه مسح جبيرة لا كمسح الخف. فعلى هذا يستوعب الخف على
ما هو الأولى أو أكثره وهو غير المفهوم من اللفظ المؤول مع أنه إنما يتم إذا كان مسمى
الجبيرة يصدق على ساتر ليس تحته محل وجع بل عضو صحيح غير أنه يخاف من كشفه
حدوث المرض للبرد ويستلزم بطلان كلية مسألة التيمم لخوف البرد على عضو أو اسوداده،
ويقتضي أيضا على ظاهر مذهب أبي حنيفة جواز تركه رأسا وهو خلاف ما يفيده اعطاؤهم
حكم المسألة اه‍. وفي معراج الدراية: ولو مضت وهو يخاف البرد على رجله بالنزع يستوعب
بالمسح كالجبائر اه‍. فأفاد الاستيعاب وأنه ملحق بالجبائر لا جبيرة حقيقة. وأما كلية مسألة
التيمم فمخصوصة بما إذا لم يكن عليه جبيرة أو ما هو ملحق بها، وأما جواز تركه رأسا
فالمفتي به عدمه في الجبيرة كما سيأتي فكذا في الملحق بها. وفي فتاوى قاضيخان: لو تمت
309

المدة وهو في الصلاة ولا ماء يمضي على الأصح في صلاته إذ لا فائدة في النزع لأنه للغسل
ولا ماء خلافا لمن قال من المشايخ تفسد اه‍. وفي التبيين: القول بالفساد أشبه لسراية الحدث
إلى الرجل لأن عدم الماء لا يمنع السراية ثم يتيمم له ويصلي كما لو بقي من أعضائه لمعة ولم
يجد ماء يغسلها به فإنه يتيمم فكذا هذا اه‍. وتبعه المحقق في فتح القدير.
قوله (وبعدهما غسل رجليه فقط) أي بعد النزع ومضي المدة غسل رجليه فقط وليس
عليه إعادة بقية الوضوء إذا كان على وضوء لأن الحدث السابق وهو الذي حل بقدمه وقد
غسل بعده سائر الأعضاء وبقيت القدمان فقط فلا يجب عليه إلا غسلهما، ولا معنى لغسل
الأعضاء المغسولة ثانيا لأن الفائت الموالاة وهي ليست بشرط في الوضوء عندنا، وسيأتي إن
شاء الله تعالى أن الماسح على الخف إذا أحدث فانصر ف ليتوضأ فانقضت مدة مسحه بطلت
صلاته على الصحيح. قوله (وخروج أكثر القدم نزع وهو الصحيح كذا في الهداية وهو قول
أبي يوسف، وعنه بخروج نصفه، وعن محمد إن كان الباقي قدر محل الفرض أعني ثلاثة
أصابع اليد طويلا لا ينتقض وإلا انتقض وعليه أكثر المشايخ. كذا في الكافي والمعراج وهو
310

الصحيح. كذا في النصاب. وقال أبو حنيفة: إن خرج أكثر العقب يعني إذا أخرجه قاصدا
إخراج الرجل بطل المسح حتى لو بدا له إعادتها فأعادها لا يجوز المسح، وكذا لو كان أعرج
يمشي على صدور قدميه وقد ارتفع عقبه عن موضع عقب الخف إلى الساق لا يمسح، أما لو
كان الخف واسعا يرتفع العقب برفع الرجل إلى الساق ويعود بوضعها فإنه يجوز له المسح.
كذا في فتح القدير. وقيده في المحيط بأنه يبقى فيه مقدار ثلاثة أصابع. وفي البدائع: وقال
بعض مشايخنا: يستمشي فإن أمكنه المشي المعتاد يبقى المسح وإلا ينتقض، وهو موافق لقول
أبي يوسف وهو اعتبار أكثر القدم. ولا بأس بالاعتماد عليه لأن القصد من لبس الخف هو
المشي فإذا تعذر المشي عدم اللبس فيما قصد له ولان للأكثر حكم الكل اه‍. وهذا تصريح
بترجيح هذا القول وهو به جدير فإن الحكم إذا كان دائرا مع الأصل وجودا وعدما كان
الاعتبار له، وحينئذ يظهر أن ما قاله أبو حنيفة صحيح متجه لأن بقاء العقب أو أكثرها في
الساق يتعذر معه المداومة على المشي المعتاد مقدار ما يقطع به المسافة بواسطة ما فيه من
الدوس على نفس الساق، وقد صرح بهذا في فتح القدير. وقد علم أن بنزع أحدهما يجب
نزع الآخر لئلا يكون جامعا بين الأصل والخلف. كذا في الكافي وغيره. وهل ينتقض أيضا
بغسل الرجل أو أكثرها؟ فالصحيح أنه ينتقض بغسل الأكثر. وذكر في السراج الوهاج أنه لا
ينتقض المسح بغسل الرجل أصلا وهو الأظهر اه‍. وهو موافق لما قدمناه من البحث فارجع
إليه. وإلى هنا صار نواقض المسح أربعة، وزاد في السراج الوهاج خامسا وهو خروج الوقت
في حق صاحب العذر وقد قدمناه.
قوله (ولو مسح مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثا) سواء سافر قبل انتقاض
311

الطهارة أو بعدها قبل كمال مدة المقيم، ولا خلا ف في أن مدته تتحول إلى مدة المسافر في
الأول وفي الثاني خلاف الشافعي. لنا العمل بإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم يمسح المسافر الحديث.
وهذا مسافر فيمسحها بخلاف ما بعد كمال مدة المقيم لأن الحدث قد سرى إلى القدم وإنما
يمسح على خف رجل حدث فيها إجماعا. وأما ما استدل به الشافعي من أن هذه عبادة
ابتدأت حالة الإقامة فيعتبر فيها حالة الابتداء كصلاة ابتدأها مقيما في سفينة فسافرت، وصوم
شرع فيه مقيما فسافر، حيث يعتبر فيه حكم الإقامة فغني عن تكلف الفرق لعدم ظهور وجه
الجمع بالمشترك المؤثر في الحكم. كذا في فتح القدير. وبيانه أن أئمتنا لا يرون العبادة وصفا
لازما للمسح بل إذا كان الوضوء منويا والنية ليست بشرط فيه عندهم، ولان المسحات في
المدة بمنزلة الصيام في السفر لا بمنزلة صوم اليوم بدلالة أن فساد بعض المسحات لا يوجب
فساد بعض الآخر كما في صيام أيام رمضان، ولا شك في أن من سافر في أواخر رمضان
يسقط عنه وجوب الأداء فيما بقي ما دام مسافرا ولا يمنع كونه مقيما في أوله من ترخصه
بترك أداء الصوم في تلك الحالة، فكذا كون الماسح مقيما في أول المدة لا يمنع من ترخصه
رخصة المسافر بالمسح إذا كان في آخرها مسافرا. قال في السراج الوهاج: فلو أنه لما جاوز
العمران قبل مضي يوم وليلة ودخل في الصلاة سبقه الحدث فيها وعاد إلى مصره ليتوضأ
فمضى يوم وليلة قبل أن يعود إلى مصلاه، فالقياس أن تفسد صلاته لأن لما عاد إلى مصره
فقد صار مقيما وقد انقضت مدته وهو في الصلاة ففسدت إلا أن الصدر الشهيد ذكر في
الواقعات أن الماسح إذا انقضت مدته وهو في حال انصرافه مع الحدث لا تبطل صلاته
استحسانا، ولو عاد إلى مصلاه في مسألتنا قبل مضي يوم وليلة انتقلت مدته إلى السفر
ووجب عليه الاتمام في هذه الصلاة، وهذا مسألة عجيبة وهو أنه مسافر في حق المسح مقيم
في حق اتمام الصلاة. كذا في ايضاح الصيرفي اه‍. وقد علمت فيما قدمناه أن الصحيح
بطلان الصلاة، ومسألة الاتمام المذكورة مذكورة في الخلاصة من باب المسافر. قوله (ولو أقام
المسافر بعد يوم وليلة نزع وإلا يتم يوما وليلة) لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه، والشافعي
يوافقنا في هذه على ما هو المنصوص عليه.
312

قوله (وصح على الجرموق) أي جاز المسح على الجرموق. لما فرغ من بيان المسح على
الخف شرع في الجرموق ولا بد من بيانهما فنقول: ذكر قاضيخان في فتاواه: ثم الخف الذي
يجوز المسح عليه ما يكون صالحا لقطع المسافة والمشي المتتابع عادة، ويستر الكعبين وما
تحتهما، وما ليس كذلك لا يجوز المسح عليه. ثم قال: ويجوز المسح على الخف الذي يكون من
اللبد وإن لم يكن منعلا لأنه يمكن قطع المسافة به. وفي الخلاصة: وأما المسح على الخفاف
المتخذة من اللبود التركية فالصحيح أنه يجوز المسح عليه، ولا يجوز المسح حتى يكون الأديم
على أصابع الرجل وظاهر القدمين اه‍. فلو اتخذ خفا من زجاج أو خشب أو حديد لا يجوز
المسح عليه عندنا خلافا للشافعي فيما يمكن متابعة المشي فيه بغير عصا. وأما الجرموق فهو
فارسي معرب ما يلبس فوق الخف وساقه أقصر من الخف. وقال الشافعي: لا يجوز المسح
عليه لأن الحاجة لا تدعو إليه ولان الخف بدل عن الرجل، فلو جاز المسح على الجرموق
لصار بدلا عن الخف والخف لابدل له. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الموقين. رواه أبو داود
من حديث بلال وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه والطبراني في
معجمه والبيهقي من حديث أنس بن مالك. ولأنه تبع للخف استعمالا من حيث المشي
والقيام والقعود وغرضا فإن الخف وقاية للرجل فكذا الجرموق وقاية للخف تبعا له وكلاهما
تبع للرجل فصار كخف ذي طاقين وهو بدل عن الرجل لا عن الخف، لا يقال كيف بطل
المسح بنزع الجرموق ولم يبطل بنزع أحد طاقي الخف لأنا نقول: بالمسح ظهرت أصالة
313

الجرموق فصار نزعه كنزع الخف بخلاف نزع أحد طاقي الخف لأنه جزء من الخف لم يأخذ
الأصالة أصلا كما إذا غسل رجله ثم أزال جلدها لم يجب عليه غسلها ثانيا. ولا يقال أيضا
لو كان بدلا عن الرجل لكان ينبغي أن لا يجوز المسح على الخف بنزعه لأنا نقول: الخف لم
يكن محلا للمسح حال قيام الجرموق فإذا زال صار محلا للمسح. وما ذكره النووي من أن
الموق هو الخف مخالف لما ذكره أهل اللغة كالجوهري والمطرزي فإنهما قالا: إن الجرموق
والموق يلبسان فوق الخف فعلم أنهما غير الخف. وقولهم إن الحاجة لا تدعو إليه ممنوع
ومناقض لمذهبهم في الخف من الزجاج أو الحديد كما قدمناه. ويشترط لجواز المسح على
الجرموقين أن لا يحدث قبل لبسهما حتى لو لبس الخف على طهارة ثم أحدث قبل لبس
الجرموق ثم لبسه لا يجوز له أن يمسح عليه، سواء لبسه قبل المسح على الخف أو بعده، لأن
حكم الحدث استقر عليه لحلول الحدث به فلا يزال بمسح غيره. وكذا لو لبس الموقين قبل
314

الحدث ثم أحد ث فأدخل يده فمسح خفيه لا يجوز لأنه مسح في غير محل الحدث، ولو نزع
أحد موقيه بعد المسح عليهما وجب مسح الخف البادي وإعادة المسح على الموق لانتقاض
وظيفتهما كنزع أحد الخفين لأن انتقاض بالمسح لا يتجزأ، وفي بعض روايات الأصل ينزع
الآخر ويمسح على الخفين. وجه الظاهر أنه في الابتداء لو لبس على أحدهما كان له أن يمسح
عليه وعلى الخف الآخر فكذا هذا، والخف على الخف كالجرموق عندنا في سائر أحكامه. كذا
في الخلاصة. وكذا الخف فوق اللفافة يدل عليه ما في غاية البيان من أن ما جاز المسح عليه
إذا لم يكن بينه وبين الرجل حائل جاز المسح عليه إذا كان بينهما حائل كخف إذا كان تحته
خف أو لفافة اه‍. فهذا صريح في أن اللفافة على الرجل لا تمنع المسح على الخف فوقها.
ووقع في شرح ابن المالك عن الكافي أنه لو لم يكن خفاه صالحين للمسح لخرقهما يجوز على
الموقين اتفاقا. ونقل من فتاوى الشاذي أن ما يلبس من الكرباس المجرد تحت الخف يمنع
315

المسح على الخف لكونه فاصلا وقطعة كرباس تلف على الرجل لا يمنع لأنه غير مقصود
باللبس لكن يفهم مما ذكر في الكافي أنه يجوز المسح عليه لأن الخف الغير الصالح للمسح إذا
لم يكن فاصلا فلان لا يكون الكرباس فاصلا أولى اه‍..
وقد وقع في عصرنا بين فقهاء الروم بالروم كلام كثير في هذه المسألة فمنهم من تمسك
بما في فتاوى الشاذي وأفتى بمنع المسح على الخف الذي تحته الكرباس ورد على ابن المالك
في عزوه للكافي إذ الظاهر أن المراد به كافي النسفي ولم يوجد فيه، ومنهم من أفتى بالجواز
وهو الحق لما قدمناه عن غاية البيان، ولهذا قال يعقوب باشا: إنه مفهوم من الهداية
والكافي، ويدل عليه أيضا ما ذكره الشارحون في مسألة نزع الخف في الكلام مع الشافعي
في قوله إنه إذا أعادهما يجوز له المسح من غير غسل الرجلين معللا بأنه لم يظهر من محل
الفرض شئ فقالوا في الرد عليه: إن قوله لم يظهر من محل الفرض شئ يشكل بما لو
أخرج الخفين عن رجليه وعلى الرجلين لفافة فإنه يبطل المسح وإن لم يظهر من محل الفرض
شئ اه‍. فهذا ظاهر في صحة المسح على الخف فوق اللفافة. وفي المبتغى بالغين المعجمة:
ولو أدخل يده تحت الجرموق ومسح على ظهر الخف لم يجز بخلاف ما لو كان الخرق المانع
ظاهر الجرموق وقد ظهر الخف فله المسح على الخف أو على الجرموق لأنهما كخف واحد،
وإن كان الخرق يسيرا فمسح على بعض الصحيح وعلى بعض الخرق وهو كله ثلاثة أصابع لم
يجزه اه‍. وفي منية المصلي: ولا يجوز المسح على الجرموق المتخرق وإن كان خفاه غير متخرق
اه‍. وينبغي أن يقال: إن كان الخرق في الجرموق مانعا لا يجوز المسح عليه وإنما يجوز المسح
316

على الخف لا غير لما علم أن المتخرق خرقا مانعا وجوده كعدمه فكانت الوظيفة للخف فلا
يجوز المسح على غيره، وقد صرح به في السراج الوهاج فقال: والشرط الثاني لجواز المسح
على الجرموق أن يكون الجرموق لو انفرد جاز المسح عليه حتى لو كان به خرق كثير لا يجوز
المسح عليه. ولا يجوز المسح على الجرموق إذا كان من كرباس ونحوه لأنه لا يمكن قطع
السفر وتتابع المشي عليهما كما لو لبسهما على الانفراد إلا أن يكونا رقيقين يصل البلل إلى ما
تحتهما من الخف فحينئذ يجوز ويكون مسحا على الخف. كذا في الذخيرة وغيرها. وفي
الخلاصة وغيرها: ولو كان الجرموقان واسعين يفضل الجرموق من الخف ثلاثة أصابع فمسح
على تلك الفضلة لم يجز إلا إذا مسح على الفضلة بعد أن يقدم رجليه على تلك الفضلة فحينئذ
جاز، ولو أزال رجليه عن ذلك الموضع أعاد المسح اه‍. وفي التنجيس بعد أن نقل هذا عن
أبي علي الدقاق قال: وفيه نظر ولم يذكر وجهه. وفي القنية جعل الخف كالجرموق في هذا
من أنه إذا فضل من الجرموق أو الخف قدر ثلاثة أصابع لم يجز المسح عليها.
قوله (والجورب المجلد والمنعل والثخين) أي يجوز المسح على الجورب إذا كان مجلدا أو
منعلا أو ثخينا. ويقال جورب مجلد إذا وضع الجلد على أعلاه وأسفله، وجورب منعل
ومنعل الذي وضع على أسفله جلدة كالنعل للقدم. وفي المستصفى أنعل الخف ونعله جعل له
نعلا، وهكذا في كثير من الكتب، فيجوز في المنعل تشديد العين مع فتح النون كما يجوز
تسكين النون وتخفيف العين. وفي معراج الدراية: والمنعل بالتخفيف وسكون النون والظاهر
ما قدمناه كما لا يخفى. وفي فتاوى قاضيخان: ثم على رواية الحسن ينبغي أن يكون النعل
إلى الكعبين، وفي ظاهر الرواية إذا بلغ النعل إلى أسفل القدم جاز، والثخين أن يقوم على
الساق من غير شد ولا يسقط ولا يشف اه‍. وفي التبيين: ولا يرى ما تحته. ثم المسح على
الجورب إذا كان منعلا جائز اتفاقا، وإذا كان لم يكن منعلا وكان رقيقا غير جائز اتفاقا، وإن
كان ثخينا فهو غير جائز عند أبي حنيفة. وقالا: يجوز لما رواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة
317

قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين. وقال حديث حسن صحيح. ورواه ابن حبان
في صحيحه أيضا. ولأنه يمكن المشي فيه إذا كان ثخينا. وله أنه ليس في معنى الخف لأنه
لا يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلا وهو محمل الحديث. وعنه أنه رجع إلى قولهما
وعليه الفتوى. كذا في الهداية وأكثر الكتب لأنه في معنى الخف، فالتأويل المذكور للحديث
قصر لدلالته عن مقتضاه بغير سبب فلا يسمع على أن الظاهر أنه لو كان المراد به ذلك لنص
عليه الراوي، هذا بخلاف الرقيق فإن الدليل يفيد إخراجه من الاطلاق لكونه ليس في معنى
الخف، وما نقل من تضعيفه عن الإمام أحمد وابن مهدي ومسلم حتى قال النووي كل منهم
لو انفرد قدم على الترمذي مع أن الجر مقدم على التعديل فلا يضر لكونه روي من طرق
متعددة ذكرها الزيلعي المخرج وهي وإن كانت كلها ضعيفة اعتضد بعضها ببعض، والضعيف
إذا روي من طرق صار حسنا مع ما ظهر من مسح كثير من الصحابة من غير نكير منهم على
فاعله كما ذكره أبو داود في سننه. ثم مع هذا كله لم يوجد من المعنى ما يقوى على
الاستقلال بالمنع فلا جرم إن كان الفتوى على الجواز. وما في البدائع من أنها حكاية حال لا
عموم لها فمسلم لو لم يرد ما رواه الطبراني عن بلال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على
الخفين والجوربين. وفي الخلاصة: فإن كان الجورب من مرعزي وصوف لا يجوز المسح عليه
عندهم. المرعز بميم مكسورة وقد تفتح فراء ساكنة فمهملة مكسورة فزاي مشددة مفتوحة
فألف مقصورة وقد تمد مع تخفيف الزاي وقد تحذف مع بقاء التشديد: الزغب الذي تحت
شعر العنز. كذا في شرح النقاية. وفي المجتبى: لا يجوز المسح على الجورب الرقيق من غزل
أو شعر بلا خلاف، ولو كان ثخينا يمشي معه فرسخا فصاعدا كجورب أهل مرو فعلى
الخلاف. وكذا الجورب من جلد رقيق على الخلاف، ويجوز على الجوارب اللبدية. وعن أبي
318

حنيفة لا يجوز قالوا. ولو شاهد أبو حنيفة صلابتها لافتى بالجواز. ويجوز على الجاروق
المشقوق على ظهر القدم وله أزرار يشده عليه يسده لأنه كغير المشقوق، وإن ظهر القدم شئ
فهو كخروق الخف. قلت: وأما لخف الدوراني الذي يعتاده فقهاء زماننا فإن كان مجلدا يستر
جلده الكعب يجوز وإلا فلا. كذا في معراج الدراية. وفي الخلاصة: المسح على الجاروق إن
كان يستر القدم ولا يرى من الكعب ولا من ظهر القدم إلا قدر أصبع أو إصبعين جاز المسح
عليه، وإن لم يكن كذلك ولكن ستر القدم بالجلد إن كان الجلد متصلا بالجاروق بالخرز جاز
المسح عليه، وإن شد بشئ لا. ولو ستر القدم باللفافة جوزه مشايخ سمرقند ولم يجوزه
مشايخ بخارى اه‍. ثم ذكر التفصيل المذكور للجورق عن المجتبى في الجورب من الشعر.
وفيها أيضا: وتفسير النعل أن يكون الجورب المنعل كجوارب الصبيان الذين يمشون عليها في
ثخونة الجورب وغلظ النعل. وفي فتاوى قاضيخان: إن الجورق اسم فارسي لخف معروف،
وعامة المشايخ على أنه إذا كان يظهر من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع لا يجوز، وبعضهم
جوزوا ذلك لأن عوام الناس يسافرون به خصوصا في بلاد المشرق، أما إذا كان يظهر منه
قدر أصبع أو إصبعين فإنه يجوز في قولهم.
قوله (لا على عمامة وقلنسوة وبرقع وقفازين) أي لا يجوز المسح على هذه الأشياء.
العمامة والقلنسوة بفتح القاف وضم السين معروفتان، والبرقع بضم الباء الموحدة وسكون
الراء وضم القاف وفتحها خريقة تثقب للعينين تلبسها الدواب ونساء العرب على وجوههن،
والقفاز بالضم والتشديد شئ يعمل لليدين يحشى بقطن ويكون له أزرار تزرر على الساعدين
من البرد تلبسه المرأة في يديها وهما قفازان كما في الصحاح، وقد تكون من الحلي تتخذه المرأة
ليديها ورجليها، ومن ذلك يقال تقفزت المرأة بالحناء إذا نقشت يديها ورجليها كما في
الجمهرة لابن دريد، وقد يتخذه الصائد من جلد ولبد ليغطي الأصابع والكف. ثم عدم
جواز المسح على هذه ما عدا العمامة لا يعرف فيه خلاف ثابت عمن يعتد به. وفي معراج
الدراية: ولو مسحت على خمارها ونفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع منه يجوز. قال
مشايخنا: إذا كان الخمار جديدا يجوز لأن ثقوب الجديد لم تسد بالاستعمال فتنفذ البلة، أما إذا
لم يكن جديدا لا يجوز لانسداد ثقوبه. وأما على العمامة فأجمعوا على عدم جوازه إلا أحمد فإنه
أجازه بشرط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه وأن يكون تحت الحنك
منها شئ، سواء كان لها ذؤابة أو لم تكن، وأن لا تكون عمامة محرمة فلا يجوز المسح على
319

العمامة المغصوبة، ولا يجوز للمرأة إذا لبست عمامة الرجل أن تمسح عليها والأظهر عند أحمد
وجوب استيعابها والتوقيت فيها كالخف. ويبطل بالنزع والانكشاف إلا أن يكون يسيرا مثل
أن يحك رأسه أو يرفعها لأجل الوضوء، وفي اشتراط لبسها على طهارة روايتان. واستدل بما
ورد من مسحه صلى الله عليه وسلم على العمامة كما رواه مسلم من حديث بلال. والحجة للجمهور أن
الكتاب العزيز ورد بغسل الأعضاء ومسح الرأس فلا يزاد على الكتاب بخبر شاذ بخلاف
الخف فإن الاخبار فيه مستفيضة تجوز الزيادة بمثلها على الكتاب، وقد أخرج الترمذي عن أبي
عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: سألت جابر بن عبد الله عن المسح على الخفين
فقال: السنة يا أخي. وسألته عن المسح على العمامة فقال: أمس الشعر. وقال محمد بن
الحسن في موطئه: أخبرنا مالك قال: بلغني عن جابر بن عبد الله أنه سئل عن المسح على
العمامة فقال: لا حتى يمس الشعر الماء. قال محمد: وبهذا نأخذ ثم قال: أخبرنا مالك قال
حدثنا نافع قال: رأيت صفية بنت أبي عبيد تتوضأ وتنزع خمارها ثم تمسح برأسها - قال نافع
وأنا يومئذ صغير - قال محمد: وبهذا نأخذ لا يمسح على خمار ولا عمامة بلغنا أن المسح على
العمامة كان ثم تركه. كذا في غاية البيان بعد أن ذكر تأويله بأن بلالا كان بعيدا فمسح
النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه ولم يضع العمامة عن رأسه فظن بلال أنه عليه الصلاة والسلام مسح على
العمامة، أو أراد بلال المجاز إطلاقا لاسم الحال على المحل. وفي معراج الدراية: إن التأويل
بعيد لأنه حكم يلزمه غير الرأي. والصواب أن نقول: إذا ثبت رواية سالما عن المعارض ثبت
جواز المسح على العمامة اه‍. يعني ولم تسلم لما قدمناه من معارضة الكتاب لها.
قوله (والمسح على الجبيرة وخرقة القرحة كالغسل) أي لما تحتها وليس ببدل. والجبيرة
كما ذكره المصنف في الطلبة عيدان تربط على الجرح ويجبر بها العظام. وفي المغرب جبر
الكسر جبرا وجبر بنفسه جبورا، والجبران في مصادره غير مذكورة. والجبر غير فصيح وجبره
بمعنى أجبره لغة ضعيفة وإن قل استعمال المجبور بمعنى المجبر. وقرحة قرحا جرحه وهو
قريح ومقروح ذو قرح اه‍. وفي القاموس: القرحة قد يراد بها الجراحة وقد يراد بها ما يخرج
في البدن من بثور اه‍. وأياما كان المراد هنا فالحكم المذكور لا يختلف. ثم الأصل في شرعيته
على ما ذكر غير واحد من مشايخنا ما عن علي رضي الله عنه قال: انكسرت إحدى زندي
فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر. رواه ابن ماجة وفي اسناده عمرو بن
خالد الواسطي متروك. قال النووي في هذا الحديث: اتفقوا على ضعفه. وفي المغرب:
انكسرت إحدى زندي علي صوابه كسر أحد زنديه لأن الزند مذكر، والزندان عظما الساعد.
320

ونقل المصنف في المستصفى خلافا في أنه هل كان الكسر يوم أحد أو يوم خيبر. وذكر
الزيلعي المخرج أحاديث دالة على الجواز وضعفها، ويكفي في هذا الباب ما صح عن ابن
عمر رضي الله عنهما أنه مسح على العصابة كما ذكره الحافظ المنذري فإن الظاهر أن الموقوف
في هذا كالمرفوع فإن الابدال لا تنصب بالرأي والباقي استئناس لا يضره التضعيف إن تم إذا
لم يقو بعضه ببعض، أما إذا قوي فليستدل به كما قدمناه. ولم يذكر المصنف رحمه الله صفة
المسح على الجبيرة والملحق بها لوجود الاختلاف في نقل المذهب، فاعلم أنه لا خلاف في أنه
إذا كان المسح على الجبيرة يضره أنه يسقط عنه المسح لأن الغسل يسقط بالعذر فالمسح أولى،
وإنما الخلاف فيما إذا كان لا يضره. ففي المحيط: ولو ترك المسح على الجبائر والمسح يضره
جاز، فإن لم يضره لم يجز تركه، ولا تجوز الصلاة بدونه عند أبي يوسف، ومحمد ولم يحك في
الأصل قول أبي حنيفة، وقيل عنده يجوز تركه، والصحيح أن عنده مسح الجبيرة واجب
وليس بفرض حتى يجوز بدونه الصلاة لا الفرضية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به وحديث
علي من أخبار الآحاد فأوجب العمل به دون العلم فحكمنا بوجوب المسح عملا ولم نحكم
بفساد الصلاة حال عدم المسح لأن الحكم بالفساد يرجع إلى العلم. وهذا الدليل لا يوجبه،
ويوافقه ما في شرح الطحاوي والزيادات والذخيرة بأن المسح ليس بفرض عنده، وكذا ذكر
القدوري في تجريده أنه الصحيح، وكذا صحح في الغاية كما في المحيط. وفي التنجيس:
الاعتماد على أنه ليس بفرض عنده. وفي الخلاصة: إن أبا حنيفة رجع إلى قولهما بعدم جواز
الترك اه‍. ويوافقه ما ذكره صاحب المجمع في شرحه من قوله وقيل الوجوب متفق عليه
321

وهذا أصح وعليه الفتوى لأن المسح على الجبيرة كالغسل لما تحتها. ووظيفة هذا العضو الغسل
عند الامكان والمسح على الجبيرة عند عدمه كالتيمم، وكما لا يقال إن الوضوء لا يجب عند
العجز عن الماء فلا يجب التيمم كذلك لا يقال إن غسل ما تحتها ساقط فسقط المسح بل هو
واجب بدليله كما وجب التيمم بدليله اه‍. فحاصله أنه قد اختلف التصحيح في افتراضه أو
322

وجوبه ولم أر من صحح استحبابه على قول، وقد جنح المحقق في فتح القدير إلى تقوية القول
بوجوبه حيث قال ما معناه: وغاية ما يفيد الوارد في المسح على الجبيرة الوجوب فعدم الفساد
بتركه أقعد بالأصول. وحكم على قول الخلاصة الماضي بأنه اشتهر عن أبي حنيفة شهرة نقيضه
عنه ولعل ذلك معنى ما قيل إن عنه روايتين اه‍. وهذا مبني على ما ذكره في المحيط من أن
الحكم بالفساد يرجع إلى العلم فلا يثبت بدليل ظني وفيه بحث، فإن الكلام في الصلاة مفسد
لها مع أن ترك الكلام فيها ثابت بخبر الواحد وهو قوله عليه الصلاة والسلام إن صلاتنا
هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس (1) فلا يكون الحكم بالفساد من باب العلم فيجوز
ثبوته بظني. كذا في التوشيح. وقد يقال: إن الحكم بالفساد بسبب الكلام ليس ثابتا بالحديث
لأنه إنما أفاد كونه محظورا فيها والاتفاق على أنه حظر يرتفع إلى الافساد فهو إنما ثبت
بالاتفاق لا بالحديث، ولا يخفى أنه على القول بوجوبه لا الفساد بتركه إذا لم يمسح وصلى
323

فإنه يجب عليه إعادة تلك الصلاة لما عرف من أن كل صلاة أديت مع ترك واجب وجبت
إعادتها.
هذا وقد ذكر الشيخ أبو بكر الراز تفصيلا على قول أبي حنيفة فقال: إن كان ما تحت
الجبيرة لو ظهر أمكن غسله فالمسح واجب بالأصل ليتعلق بما قام مقامه كمسح الخف، وإن
كان ما تحتها لو ظهر لا يمكن غسله فالمسح عليها غير واجب لأن فرض الأصل قد سقط فلا
يلزم ما قام مقامه كالمقطوع القدم إذا لبس الخف. قال الصيرفي: وهذا أحسن الأقوال ويؤيده
ما ذكره المصنف في المصفى أن الخلاف في المجروح، أما المكسور فيجب عليه المسح
بالاتفاق. كذا في السراج الوهاج. فبنى ما في المصفى على تفصيل الرازي لا كما توهمه في
فتح القدير من أنه مبني على أن خبر المسح عن علي في المكسور اه‍. وهذا كله بإطلاقه شامل
لما إذا كانت الجراحة بالرأس وقد صرح به في البدائع فقال: ولو كانت الجراح على رأسه
وبعضه صحيح فإن كان الصحيح قدر ما يجوز عليه المسح وهو قدر ثلا ث أصابع لا يجوز إلا
أن يمسح عليه لأن المفروض من مسح الرأس هذا القدر، وهذا القد من الرأس صحيح فلا
حاجة إلى المسح على الجبائر، وإن كان أقل من ذلك لم يمسح لأن وجوده وعدمه بمنزلة
واحدة ويمسح على الجبائر اه‍. وفي المبتغى بالغين المعجمة يجب: ومن كان جميع رأسه
مجروحا لا يجب المسح عليها لأن المسح بدل عن الغسل ولا بدل له وقيل يجب ا ه‍.
والصواب هو الوجوب. وقوله المسح بدل عن الغسل غير صحيح لأن المسح على الرأس
أصل بنفسه لا بدل كما لا يخفى. وفي شرح الجامع الصغير لقاضيخان: والمسح على الجبائر
على وجوه: إن كان لا يضره غسل ما تحته يلزمه الغسل، وإن كان يضره الغسل بالماء البارد
ولا يضره الغسل بالماء الحار يلزمه الغسل بالماء الحار، وإن كان يضره الغسل ولا يضره المسح
يمسح ما تحت الجبيرة ولا يمسح فوقها اه‍. قالوا: ينبغي أن يحفظ هذا فإن الناس عنه
غافلون. ولكن قال في السراج الوهاج: ولو كان لا يمكنه غسل الجراحة إلا بالماء الحار
324

خاصة ولا يمكنه بما سواء لم يجب عليه تكلف الغسل الحار ويجزئه المسح لأجل المشقة اه‍.
والظاهر الأول كما لا يخفى ولهذا اقتصر المحقق في فتح القدير عليه ولم ينقل غيره وقيده بأن
يكون قادرا عليه وهو ظاهر، وقد قدمنا أن المسح على الجبيرة ليس ببدل بخلاف المسح على
الخفين، ولهذا لا يمسح على الخف في أحد الرجلين ويغسل الأخرى لأنه يؤدي إلى الجمع
بين الأصل والبدل. ولو كانت الجبيرة على إحدى رجليه ومسح عليها وغسل الأخرى لا
يكون ذلك جمعا بين الأصل والبدل، ولهذا أيضا لو مسح على خرقة المجروحة وغسل
الصحيحة ولبس الخف عليها ثم أحدث فإنه يتوضأ وينزع الخف لأن المجروحة مغسولة حكما
ولا يجتمع الوظيفتان في الرجل. وعلى قياس ما روي عن أبي حنيفة إن ترك المسح على
الجبائر وهو لا يضره يجوز ينبغي أن يجوز لأنه لما سقط غسل المجروحة صارت كالذاهبة.
هذا إذا لبس الخف على الصحيحة لا غير، فإن لبس على الجريحة أيضا بعدما مسح على
جبيرتها فإنه يمسح عليها لأن المسح عليها كالغسل لما تحتها. كذا في الخلاصة. وهذا كله
ظاهر في أن هذا المسح ليس ببدل عن الغسل، وظاهر ما في الهداية أنه بدل، وتعقبه بعض
الشارحين بأنه ليس ببدل بدليل ما ذكرنا من الفرق بينه وبين مسح الخف فكان أصلا لا
بدلا. وأجيب بأنه في نفسه بدل بدليل أنه لا يجوز عند القدرة على الغسل لكن نزل منزلة
الأصل لعدم القدرة عليه فكان كالأصل بخلاف المسح على الخفين فإنه لم يعط له حكم الغسل
بل هو بدل محض، ولهذا لو جمع بينه وبين الغسل أو بين المسح على الجبيرة يلزم الجمع بين
الأصل والبدل حقيقة أحكما.
قوله (فلا يتوقت) أي لا يتوقت المسح على الجبيرة بوقت معين لأن كالغسل لما تحتها،
وإنما قيدنا بالوقت المعين لأنه موقت بالبرء كما سيجئ، وهذه من المسائل التي يخالف فيها
مسح الجبيرة مسح الخف قوله (ويجمع مع الغسل) أي يجمع المسح على الجبيرة مع الغسل وقد
قدمناه وهذه هي الثانية من المسائل قوله (ويجوز وإن شدها بلا وضوء) لأن في اعتبارها في
تلك الحالة حرجا ولان غسل ما تحتها سقط وانتقل إلى الجبيرة بخلاف الخف، وهذه هي
الثالثة. وفي تعبيره بيجوز دون يجب إشارة إلى أن المسح على الجبيرة ليس بفرض قوله
(ويمسح على كل العصابة كان تحتها جراحة أو لا) وفيه مسألتان: الأولى أن استيعاب مسح
325

العصابة واجب وكذا الجبيرة، ولم يذكر في ظاهر الرواية وذكر فيها روايتين صاحب الخلاصة
في رواية الاستيعاب شرط وفي رواية المسح على الأكثر يجوز وعليه الفتوى. وقال المصنف
في الكافي: ويكتفي بالمسح على أكثرها في الصحيح لئلا يؤدي إلى إفساد الجراحة اه‍. فكان
ينبغي أن يقول في المتن ويمسح على أكثر العصابة كما لا يخفى. الثانية جواز المسح على
جميع العصابة، ولا يشترط أن تكون الجراحة تحت جميعها بل يكفي أن تكون تحت بعضها
جراحة وهذا ليس على إطلاقه، وقد بينه في المحيط فقال إذا زادت الجبيرة على رأس الجرح
إن كان حل الخرقة وغسل ما تحتها يضر بالجراحة يمسح على الكل تبعا، وإن كان الحل
والمسح لا يضر بالجرح لا يجزئه مسح الخرقة بل يغسل ما حول الجراحة ويمسح عليها لاعلى
الخرقة، وإن كان يضره المسح ولا يضره الحل يمسح على الخرقة التي على رأس الجرح ويغسل
حواليها وتحت الخرقة الزائدة إذ الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها اه‍. قال المحقق في فتح
القدير: ولم أر لهم ما إذا ضره الحل لا المسح لظهور أنه حينئذ يمسح على الكل اه‍. ولا
يخفى أنه يستفاد من عبارة المحيط فإنه اعتبر في القسم الأول ضرر الحل مطلقا، سواء ضره
المسح معه أو لا. ولا فرق بين الجراحة وغيرها كالكي والكسر لأن الضرورة تشمل الكل.
ومن ضرر الحل أن تكون الجراحة في موضع لو زال عنه الجبيرة أو الرباط لا يمكنه أن يشد
ذلك بنفسه فإنه يجوز له المسح على الجبيرة والرباط. وإن كان لا يضره المسح على الجراحة.
ذكره قاضيخان في فتاواه. ولا يعرى إطلاقه عن بحث فإنه لو أمكنه أن يستعين بغيره في
326

شدها على الوجه المشروع ينبغي أن يتعين عليه ذلك كما لا يخفى. ثم قد عرف من هذا أنه
كان ينبغي للمصنف أن يقول ويمسح على أكثر العصابة ونحوها وإن لم يكن تحت بعضها
جراحة إن ضره الحل وشمل كلامه عصابة المفتصد. وفي الخلاصة: وإيصال الماء إلى
الموضع الذي لم تستره العصابة بين العصابة فرض لأنها بادية اه‍. ومنهم من قال: لا ويكفيه
المسح وعليه مشى في مختارات النوازل، وفي الذخيرة وغيرها وهو الأصح لأنه لو كلف
غسل ذلك الموضع ربما تبتل جميع العصابة وتنفذ البلة إلى موضع الفصد فيتضرر. وفي تتمة
الفتاوى الصغرى: وإذا علم يقينا أن موضع الفصد قد انسد يلزمه غسل ذلك الموضع ولا
يجزئه المسح اه‍. وفي إمامة المفتصد بغيره أقوال ثالثها أنه لا يؤم على الفور ويؤم بعد زمان،
وظاهر ما في فتاوى قاضيخان اختيار الجواز مطلقا. ولو انكسر ظفره فجعل عليه دواء أو
علكا أو أدخل جلدة مرارة أو مرهما، فإن كان يضر نزعه مسح عليه، وإن ضره المسح تركه،
وإن كان بأعضائه شقوق أمر الماء عليها إن قدر وإلا تركه وغسل ما حوله. كذا في فتح
القدير وغيره. وفي المغرب: الشقاق بالضم تشقيق الجلد ومنه طلي شقاق رجله وهو خاص،
وأما الشق لواحد الشقوق فعام.
قوله (وإن سقطت عن برء بطل وإلا لا) أي إن سقطت الجبيرة عن برء بطل المسح
لزوال العذر، وإن لم يكن السقوط عن برء لا يبطل المسح لقيام العذر المبيح للمسح. والبرء
خلاف السقم وهو الصحة. وتمام الجواب وفي هذه المسألة على ما في عامة الكتب أن الجبيرة
إن سقطت عن برء فإن كان خارج الصلاة وهو متطهر غسل موضع الجبيرة ولا يجب عليه
غسل باقي الأعضاء، وإن كان في الصلاة، فإن كان بعدما قعد قدر التشهد فهي إحدى
المسائل الاثني عشر الآتية في موضعها، وإن كان قبل القعود غسل موضعها واستقبل الصلاة
لأنه ظهر حكم الحدث السابق على الشروع فصار كائنة شرع من غير غسل ذلك الموضع،
وإن سقطت عن غير برء لم يبطل المسح، سواء كان في الصلاة أو خارجها حتى إنه إذا كان
في الصلاة مضى عليها ولا يستقبل، ولهذا إذا أعادها أو غيرها لا يجب عليه إعادة المسح
عليها، والأحسن أن يعيد المسح. كذا في الخلاصة وفتاوى قاضيخان والولوالجي، لأن المسح
على الأولى كان بمنزلة الغسل، فعلى هذا ما في الذخيرة عن أبي يوسف رجل به جرح يضره
327

إمساس الماء فعصبه بعصابتين ومسح على العليا ثم رفعها قال يمسح على العصابة الباقية
بمنزلة الخفين والجرموقين ولا يجزئه حتى يمسح اه‍. ليس بظاهر بل الظاهر مما قدمناه أن
الإعادة مستحبة لا واجبة، ومن الغريب ما نقله الزاهدي في القنية أنها إذا سقطت من غير
برء لا يبطل المسح عند أبي حنيفة ويبطل عندهما اه‍ ولم يتعرض المصنف لما إذا برئ موضع
الجبيرة ولم تسقط. قال الزاهدي: ولم يذكر في عامة كتب الفقه إذا برئ موضع الجبائر ولم
تسقط، وذكر في الصلاة للتقي الكرابيسي أنه بطل المسح اه‍. وينبغي أن يقال: هذا إذا كان
مع ذلك لا يضره إزالتها، أما إذا كان يضره لشدة لصوقها به ونحوه فلا والله سبحانه أعلم.
والدواء كالجبيرة إذا أمر الماء عليه ثم سقط كان على التفصيل. ثم اعلم أن المسح على الجبيرة
يخالف المسح على الخف من وجوه: الأول أن الجبيرة لا يشترط شدها على وضوء بخلاف
الخف. الثاني أن مسح الجبيرة غير موقت بوقت معين بخلاف الخف. الثالث أن الجبيرة إذا
سقطت عن غير برء لا ينتقض المسح بخلاف الخف. الرابع إذا سقطت عن برء لا يجب إلا
غسل ذلك الموضع إذا كان على وضوء بخلاف الخف فإنه يجب عليه غسل الرجلين. الخامس
أن الجبيرة يستوي فيها الحدث الأكبر والأصغر بخلاف الخف. سادسها أن الجبيرة يجب
استيعابها في المسح في رواية بخلاف الخف فإنه لا يجب رواية واحدة. هكذا ذكر الزيلعي.
وقد يزاد عليها أيضا فنقول: السابع أن الصحيح وجوب مسح أكثر الجبيرة بخلاف الخف.
الثامن أنهم اختلفوا هل يشترط تكرار مسح الجبيرة فمنهم من شرط المسح ثلاثا إلا أن تكون
الجراحة في الرأس فلا يلزمه تكرار المسح، ومنهم من قال: التكرار ليس بشرط ويجوز له أن
يمسح مرة واحدة كمسح الرأس والخفين وهو الأصح عند علمائنا - كذا في الذخيرة -
بخلاف مسح الخف لم يشترط تكراره اتفاقا. التاسع أنه إذا مسح عليها ثم شد عليها أخرى
أو عصابة جاز المسح على الفوقاني بخلاف الخف إذا مسح عليه لا يجوز المسح على الفوقاني كما
قدمناه العاشر إذا دخل الماء تحت الجبائر لا يبطل المسح بخلاف الخف. ذكره الزاهدي.
الحادي عشر أن النية لا تشترط فيه باتفاق الروايات بخلاف المسح على الخف كما سيأتي.
الثاني عشر إذا زالت العصابة الفوقانية التي مسح عليها لا يعيد المسح على التحتانية كما قدمناه
328

بخلاف الخف. الثالث عشر إذا كان الباقي من العضو المعصوب أقل من ثلاثة أصابع كاليد
المقطوعة والرجل جاز المسح عليها بخلاف المسح على الخفين كما قدمناه. الرابع عشر أن
مسح الجبيرة ليس ثابتا بالكتاب اتفاقا بخلاف مسح الخف فإن خلافا كما قدمناه. الخامس
عشر أن مسح الجبيرة يجوز تركه في بعض الروايات بخلاف المسح على الخفين فإنه لا يجوز
تركه مع إرادة عدم الغسل. قوله (ولا يفتقر إلى النية في مسح الخف والرأس) على الصحيح
لأنهما ليسا بعبادة على أصلنا لأن النية لا تشترط إلا فيما هو عبادة أو وسيلة دل الدليل على
اشتراطها فيها كالتيمم ولم يوجد فيما نحن فيه، وبهذا ظهر ضعف ما في جوامع الفقه أن النية
شرط في مسح الخف والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الحيض
اختلف الشارحون في التعبير عن الحيض والنفاس بأنهما من الاحداث أو الأنجاس،
فمنهم من ذهب إلى الثاني، ومنهم من ذهب إلى الأول وهو الأنسب لأن المصنف يقول بعد
329

هذا باب الأنجاس. ولما فرغ من الاحداث التي يكثر وقوعها ذكر ما هو أقل وقوعا منه، ولقب
الباب بالحيض دون النفاس لكثرته أو لكونه حالة معهودة في بنات آدم دون النفاس. كذا في
العناية. لكن الظاهر من كلام المصنف أنه من الأنجاس بدليل التعريف وأفرده لاختصاصه
بأحكام على حدة وقدمه لكثرة مناسبته بالاحداث حتى كانت الأحكام المختصة بالاحداث ثابتة
له. ولا يضر اختصاص نوع من النجس بأحكام وبهذا اندفع ما في النهاية كما لا يخفى،
والظاهر أنه لا ثمرة لهذا الاختلاف. واعلم أن باب الحيض من غوامض الأبواب خصوصا من
المتحيرة وتفاريعها، ولهذا اعتنى به المحققون وأفرده محمد في كتاب مستقل. ومعرفة مسائل
الحيض من أعظم المهمات لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام كالطهارة والصلاة وقراءة
القرآن والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطئ والطلاق والعدة والاستبراء وغير ذلك من
الأحكام. وكان من أعظم الواجبات لأن عظم منزلة العلم بالشئ بحسب منزلة ضرر الجهل
به، وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها فيجب الاعتناء بمعرفتها وإن كان
الكلام فيها طويلا فإن المحصل يتشوف إلى ذلك، ولا التفات إلى كراهة أهل البطالة. ثم الكلام
فيه في عشرة مواضع: في تفسيره لغة وشرعا، وسببه، وركنه، وشرطه، وقدره، وألوانه،
وأوانه، ووقت ثبوته، والأحكام المتعلقة به. أما تفسيره لغة فقال أهل اللغة: أصله السيلان
يقال حاض الوادي أي سال فسمي حيضا لسيلانه في أوقاته. وقال الأزهري: الحيض دم
يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة، ويقال حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا
ومحاضا فهي حائض بحذف التاء لأنه صفة المؤنث خاصة فلا تحتاج إلى علامة التأنيث بخلاف
قائمة ومسلمة، هذه اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى الجوهري عن الفراء أنه يقال أيضا
حائضة وله عشرة أسماء: حيض وطمث بالمثلة وضحك وإكبار وإعصار ودراس وعراك وفراك
- بالفاء - وطمس - بالسين المهملة - ونفاس. وزاد بعضهم طمت بالمثناة وطم ء بالهمزة. وأما
تفسيره شرعا بناء على أنه من الأنجاس فما ذكره المصنف بقوله:
(وهو دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر) فدخل في قوله دم غير المعرف
330

وشمل الدم الحقيقي والحكمي، وخرج بقوله ينفضه رحم امرأة دم الرعاف والجراحات
وما يكون منه لا من آدمية وما يخرج من الدبر من الدم فإنه ليس بحيض لكن يستحب لها
أن تغتسل عند انقطاع الدم، فإن أمسك زوجها عن الاتيان أحب إلي. كذا في الخلاصة.
ولم تخرج الاستحاضة لأن المراد بالرحم هنا الفرج وإنما خرج بقوله سليمة عن داء أي
داء برحمها، وإنما قيد نابه لأن مرض المرأة السليمة الرحم لا يمنع كون ما تراه في عادتها
مثلا حيضا كما لا يخفى. وخرج به النفاس أيضا لأن بالرحم داء بسبب الولادة وهذا أولى
مما قالوا إن النفاس خرج به لأن النفساء في حكم المريضة حتى اعتبر تبرعاتها من الثلث
فإن ظاهره أن مرض المرأة يمنع كونها حائضا وقد علمت خلافه. وقد خرج به أيضا ما
تراه الصغيرة فإنه دم استحاضة لكن قال بعضهم: إن ما تراه المرأة قبل استكمال تسع سنين
فهو دم فساد ولا يقال له استحاضة لأن الاستحاضة لا تكون إلا على صفة لا تكون
حيضا، ولهذا قال الأزهري: الاستحاضة سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة، فلهذا ذكر ما
يخرج ما تراه الصغيرة بقوله وصغر. وبهذا التقرير يندفع ما ذكره في فتح القدير من أن
هذا التعريف لا يخلو عن تكرار واستدراك لأن لفظ الصغر مستدرك والاستحاضة تكرر
إخراجها لخروجها بذكر الرحم وسليمة عن داء وتعريفه بلا استدراك ولا تكرر دم من
الرحم لا لولادة اه‍. وقد سبقه إلى هذا التعريف صاحب البدائع. وفي الظهيرية: والخنثى
إذا خرج منه المني والدم فالعبرة للمني دون الدم. ثم هذا التعريف بناء على أن مسمى
الحيض خبث، أما إذا كان مسماه الحدث الكائن عن الدم المحرم للتلاوة والمس كاسم
الجنابة للحدث الخاص لا للماء الخاص، فتعريفه مانعية شرعية بسبب الدم المذكور عما
اشترط فيه الطهارة وعن الصوم والمسجد والقربان. وقد جزم صاحب النهاية بأنه من
الاحداث لا الأنجاس وعرفه بما في الكتاب فكان تناقضا منه. وأما سببه فقد قيل: إن
331

أمنا حواء عليها السلام حين تناولت من شجرة الخلد فابتلاها الله تعالى بذلك وبقي هو في
بناتها إلى يوم التناد بذلك السبب، وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض: هذا شئ كتبه الله على بنات آدم. قال البخاري في صحيحه
قال بعضهم: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل. قال البخاري: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم
أكبر. قال النووي: يعني أنه عام في جميع بني آدم. وأما ركنه فهو بروز الدم من محل
مخصوص حتى تثبت الأحكام به. وعن محمد: بالاحساس به. وثمرته تظهر فيما لو
توضأت ووضعت الكرسف ثم أحست بنزول الدم إليه قبل الغروب ثم رفعته بعده تقضي
الصوم عنده خلافا لهما يعني إذا لم يحاذ حرف الفرج الداخل فإن حاذته البلة من الكرسف
كان حيضا ونفاسا اتفاقا، وكذا الحدث بالبول. ولو وضعته ليلا فلما أصبحت رأت الطهر
تقضي العشاء، فلو كانت طاهرة فرأت البلة حين أصبحت تقضيها أيضا إن لم تكن صلتها
قبل الوضع انزالا لها طاهرة في الصورة الأولى من حين وضعته، وحائضا في الثانية حين
رفعته أخذا بالاحتياط فيهما. وهذا أولى مما ذكره في النهاية من أن ركنه امتداد دور الدم
من قبل المرأة لأن ركن الشئ ما يقوم به ذلك الشئ والحيض لا يقوم به لأن الامتداد
الخاص معرف له لا أنه ركن لأن الامتداد لو كان ركنه لما ثبت حكمه قبله، وقد علمت أن
حكمه ثبت بمجرد البروز. وأما شرطه فتقدم نصاب الطهر حقيقة أو حكما وعدم نقصانه
عن الأقل وعدم الصغر وفراغ الرحم عن الحبل الذي تنفس بوضعه لأن الحامل لا تحيض.
وإنما قيدنا بقولنا تنفس لأنه إذا سقط منها شئ لم يستبن خلقه فما رأت فعلى هذا يكون
حيضا لأنه لا يعلم أنه حبل بل لحم من البطن فلا تسقط الصلاة بالشك. والتحقيق أن له
الشرطين الأولين، وأما ما تراه الحامل والصغيرة فليس من الرحم فلم يوجد الركن وعدم
الصغر يعرف بتقدير أدنى مدة يحكم ببلوغها فيما إذا رأت الدم، واختلف فيها على أقوال
المختار منها تسع وعليه الفتوى. كذا في السراج الوهاج. وإذا رأت المبتدأة في سن يحكم
ببلوغها فيه تركت الصلاة والصوم عند أكثر مشايخ بخارى. وعن أبي حنيفة: لا تترك
حتى تستمر ثلاثة أيام. ثم الأصح أن الحيض موقت إلى سن الإياس، وأكثر المشايخ قدروه
بستين سنة، ومشايخ بخارى وخوارزم بخمس وخمسين، فما رأت بعدها لا يكون حيضا
في ظاهر المذهب. وفي المجتبى: والفتوى في زماننا أن يحكم بالإياس عند الخمسين. وفي
شرح الوقاية: والمختار أنها إن رأت دما قويا كالأسود والأحمر ألقاني كان حيضا ويبطل
الاعتداد بالأشهر قبل التمام وبعده لا. وإن رأت صفرة أو خضرة أو تربية فهي استحاضة
332

اه‍. وفي فتح القدير: ثم إنما ينتقض الحكم بالإياس بالدم الخالص فيما يستقبل لا فيما
مضى حتى لا تفسد الأنكحة المباشرة قبل المعاودة. وفي القنية: قضاء القاضي ليس بشرط
للحكم بالإياس وهو الأظهر حتى إذا بلغت مدة الإياس تعتد بالأشهر ولا يحتاج في ذلك
إلى القضاء اه‍. وقد علم أوانه ووقت ثبوته وسيأتي مقداره وألوانه وأحكامه.
قوله (وأقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة) أي أقل الحيض ثلاثة أيام بالرفع والنصب، أما
الرفع فعلى كونها خبر المبتدأ وعلى هذا لا بد من الاضمار لاستحالة كون الدم ثلاث أيام،
فالتقدير أقل مدة الحيض. وأما النصب فعلى الظرف ولا يخفى أنه ليس بشرط أن يكون الدم
ممتدا ثلاثة أيام بحيث لا ينقطع ساعة حتى يكون حيضا لأن ذلك لا يكون إلا نادرا، بل
انقطاع الدم ساعة أو ساعتين فصاعدا غير مبطل للحيض. كذا في المستصفى. والمراد أن أقل
مدته قدر ثلاثة أيام بلياليها وأكثرها قدر عشر أيام بلياليها كما صرح به في الوافي. وإنما
حذفه هنا لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يتناول مثلها من الليالي قال الله تعالى * (ثلاثة أيام إلا
رمزا) * (آل عمران: 41) وقال في موضع آخر * (ثلاث ليال سويا) * (مريم: 10) والقصة
واحدة. وهذا هو ظاهر الرواية حتى لو رأت عند طلوع الفجر يوم السبت وانقطع عند
غروب الشمس يوم الاثنين لا يكون حيضا. وعن أبي يوسف روايتان: الأولى وهي قوله أنه
مقدر بيومين وأكثر الثالث وهو سبع وستون ساعة على ما في العناية عن النوادر. الثانية أنه
مقدر بثلاثة أيام وليلتين على ما في التنجيس وفي غيره أنه رواية الحسن عن أبي حنيفة. وفي
البدائع: رواية الحسن ضعيفة لأن كل واحدة من عدد الأيام والليالي منصوص عليه فلا يجوز
أن ينقص عنه. وقال الشافعي وأحمد: أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما لقوله صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت أبي حبيس: دم الحيض أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة. رواه
أبو داود وغير بأسانيد صحيحة. قال النووي: وهذه الصفة موجودة في اليوم والليلة. ولنا قوله صلى الله عليه وسلم أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام. هكذا ذكره أصحابنا وخرجه الزيلعي
المخرج من حديث أبي أمامة وواثلة ومعاذ وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة بطرق
ضعيفة وأطال الكلام فيها. قال في فتح القدير بعد سردها: فهذه عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
متعددة الطرق وذلك يرفع الضعيف إلى الحسن. والمقدرات الشرعية مما لا تدرك بالرأي
فالموقوف فيها حكمه الرفع بل تسكن النفس بكثرة ما روي فيه عن الصحابة والتابعين إلى أن
المرفوع مما أجاد فيه ذلك الراوي الضعيف. وبالجملة فله أصل في الشرع بخلاف قولهم أكثره
خمسة عشر يوما لم نعلم فيه حديثا حسنا ولا ضعيفا وإنما تمسكوا فيه بما رووه عنه عليه
الصلاة والسلام قال في صفة النساء تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي وهو لو صح لم
يكن فيه حجة. قال البيهقي: إنه لم يجده. وقال ابن الجوزي في التحقيق: هذا حديث لا
يعرف وأقره عليه صاحب التنقيح اه‍. وقال النووي في شرح المهذب: إنه حديث باطل لا
333

يعرف وإنما ثبت في الصحيحين تمكث الليالي ما تصلي اه‍. واحتج الطحاوي للمذهب
بحديث أم سلمة إذ سألت عن المرأة تهراق الدماء فقال عليه السلام: لتنظر عدد الليالي والأيام
التي كانت تحيضهن من الشهر فلتترك قدر ذلك من الشهر ثم تغتسل وتصلي. فأجابها بذكر
عدد الليالي والأيام من غير أن يسألها عن مقدار حيضها قبل ذلك وأكثر ما يتناوله الأيام
عشرة وأقله ثلاثة اه‍. وأما ما استدلوا به على أقله فلا دليل فيه لأنه لما جاز أن تكون الصفة
موجودة في اليوم والليلة جاز وجودها فيما دونه فلم لم يجعله حيضا.
قوله (فما نقص من ذلك أو زاد استحاضة) أي ما نقص من الأقل أو زاد على الأكثر
فهو استحاضة لأن هذا الدم إما أن يكون دم حيض أو نفاس أو استحاضة فانتفى الأولان
فتعين الثالث، ولان تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به. قوله (وما سوى البياض الخالص
حيض) لما فرغ من بيان كميته شرع في بيان كيفيته. اعلم أن ألوان الدماء ستة: السواد
والحمرة والصفرة والكدرة والخضرة والتربية وهي التي على لون التراب نوع من الكدرة
وهي نسبة إلى الترب بمعنى التراب. ويقال تربية بتشديد الياء وتخفيفها بغير همزة، وتريبة
مثل تريعة وتربية بوزن ترعية. وقيل: هي من الرئة لأنها على لونها. كذا في المغرب. ويقال
أيضا الترابية. وكل هذه الألوان حيض في أيام الحيض إلى أن ترى البياض. وعند أبي
يوسف لا تكون الكدرة حيضا إذا رأتها في أول أيام الحيض، وإذا رأتها في آخرها تكون
حيضا لأنها لو كانت دم رحم لتأخرت عن الصافي. ولهما ما روي عن مولاة عائشة
قالت: كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة التي فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض
لتنظر إليه فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيض. رواه
مالك في الموطأ. والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة. وذكره البخاري تعليقا بصيغة
الجزم فصح بهذا اللفظ عن عائشة. وذكر في الصحيح والسنن عن أم عطية قالت: كنا لا
نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا. وهذا يدل على أنهما في أيام الحيض حيض لأنها
قيدت بما بعد الطهر. وفي التجنيس: امرأة رأت بياضا خالصا على الخرقة ما دام رطبا،
فإذا يبس أصفر فحكمه حكم البياض لأن المعتبر حال الرؤية لا حالة التغير بعد ذلك اه‍.
وكذا لو رأت حمرة أو صفرة فإذا يبست ابيضت يعتبر حالة الرؤية لا حالة التغير بعد ذلك
اه‍. ومن المشايخ من أنكر الخضرة فقال: لعلها أكلت قصيلا استبعادا لها. قلنا: هي نوع
من الكدرة ولعلها أكلت نوعا من البقول. وفي الهداية: وأما الخضرة فالصحيح أن المرأة
إذا كانت من ذوات الأقراء يكون حيضا ويحمل على فساد الغذاء، وإن كانت آيسة لا ترى
غير الخضرة يحمل على فساد المنبت فلا يكون حيضا اه‍. وفي البدائع قال بعضهم: الكدرة
334

والتربة والصفرة والخضرة إنما تكون حيضا على الاطلاق من غير العجائز، أما في العجائز
فينظر إن وجدتها على الكرسف ومدة الوضع قريبة فهي حيض، وإن كانت مدة الوضع
طويلة لم تكن حيضا لأن رحم العجوز يكون منتنا فيتغير الماء فيه لطول المكث، وما عرفت
الجواب في هذه الأبواب من الحيض فهو الجواب فيها في النفاس لأنها أخت الحيض اه‍.
وفي معراج الدراية معزيا إلى فجر الأئمة: لو أفتى مفت بشئ من هذه الأقوال في موضع
الضرورة طلبا للتيسير كان حسنا اه‍. وفي فتح القدير: ومقتضى المروي في الموطأ
والبخاري أن مجرد الانقطاع دون رؤية القصة لا يجب معه أحكام الطاهرات، وكلام
الأصحاب فيما يأتي كله بلفظ الانقطاع حيث يقولون: وإذا انقطع دمها فكذا مع أنه قد
يكون انقطاع بجفاف من وقت إلى وقت ثم ترى القصة، فإن كانت الغاية القصة لم تجب
تلك الصلاة، وإن كان الانقطاع على سائر الألوان وجبت وأنا متردد فيما هو الحكم عندهم
بالنظر إلى دليلهم وعباراتهم في اعطاء الأحكام والله أعلم. ورأيت في مروي عبد الوهاب
عن يحيى بن سعيد عن ريطة مولاة عمرة عن عمرة أنها كانت تقول للنساء: إذا أدخلت
إحداكن الكرسف فخرجت متغيرة فلا تصلي حتى لا ترى شيئا، وهذا يقتضي أن الغاية
الانقطاع اه‍. وقد يقال: هذا التردد لا يتم إلا إذا فسرت القصة بأنها بياض ممتد كالخيط،
والظاهر من كلامهم ضعف هذا التفسير فقد قال في المغرب قال أبو عبيدة: معناه أن تخرج
القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصة لا تخالطها صفرة ولا تربية، ويقال إن
القصة شئ كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله، ويجوز أن يراد انتفاء اللون وأن لا
يبقى منه أثر البتة فضرب رؤية القصة مثلا لذلك لأن رائي القصة غير رائي شئ من سائر
ألوان الحائض اه‍. فقد علمت أن القصة مجاز عن الانقطاع وأن تفسيرها بأنها شئ كالخيط
ذكره بصيغة يقال الدالة على التمريض، ويدل على أن المراد بها الانقطاع آخر الحديث وهو
قوله تريد بذلك الطهر من الحيض فثبت بهذا أن دليلهم موافق لعباراتهم كما لا يخفى.
وفي شرح الوقاية: ثم وضع الكرسف مستحب للبكر في الحيض وللثيب في كل حال
وموضعه موضع البكارة ويكره في الفرج الداخل اه‍. وفي غيره أنه سنة للثيب حالة
الحيض مستحبة حالة الطهر ولو صلتا بغير كرسف جاز.
قوله (يمنع صلاة وصوما) شروع في بيان أحكامه فذكر بعضها ولا بأس ببيانها فنقول:
إن الحيض يتعلق به أحكام: أحدها يمنع صحة الطهارة وأما أغسال الحج فإنها تأتي بها لأن
335

المقصود منها التنظيف الطهارة، وأما تحريم الطهارة عليها فنقول في شرح المهذب للنووي،
وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها أن تتوضأ لوقت كل صلاة وتقعد على مصلاها تسبح
وتهلل وتكبر، وفي رواية يكتب لها ثواب أحسن صلاة كانت تصلي. وصحح في الظهيرية
أنها تجلس مقدار أداء فرض الصلاة كيلا تنسى العادة. الثاني يمنع وجوب الصلاة وهو ظاهر
ما في الكتاب وظاهر ما في القدوري أيضا فإنه قال: والحيض يسقط فأفاد ظاهرا عدم تعلق
أصل الوجوب بها، وهذا لأن تعلقه يستتبع فائدته وهي إما الأداء أو القضاء والأول منتف
لقيام الحدث مع العجز عن رفعه، والثاني كذلك فضلا منه تعالى دفعا للحرج اللازم بإلزام
القضاء لتضاعف الواجبات خصوصا فيمن عادتها أكثره، فانتفى الوجوب لانتفاء فائدته لا
لعدم أهليتها للخطاب، ولذا تعلق بها خطاب الصوم لعدم الحرج إذ غاية ما تقضي في السنة
خمسة عشر يوما إذا كان حيضها عشرة، وبهذا اندفع ما في النهاية ومعراج الدراية وغيرهما من
أن قوله يسقط يقتضي سابقة الوجوب عليها ويقولون إنه قول أبي زيد، وأما على قول عامة
المشايخ لا يجب، وقد نقل النووي الاجماع على سقوط وجوب الصلاة عنها. الثالث يحرمها.
الرابع يمنع صحتها. الخامس يحرم الصوم. السادس يمنع صحته وأما أنه يمنع وجوبه فلا لما
قدمنا وسيأتي إيضاحه. السابع يحرم مس المصحف وحمله. الثامن يحرم قراءة القرآن. التاسع
يحرم دخول المسجد. العاشر يحرم سجود التلاوة والشكر ويمنع صحته. الحادي عشر يحرم
الاعتكاف. الثاني عشر يمنع صحته. الثالث عشر يفسده إذا طرأ عليه. الرابع عشر يحرم
الطواف من جهتين دخول المسجد وترك الطهارة له لكن لا يمنع صحته كما هو المشهور من
336

مذهبنا، فاندفع به ما نقله النووي في شرح المهذب من نقل الاجماع على عدم صحة طوافها
مطلقا. الخامس عشر يمنع وجوب طواف الصدر. السادس عشر يحرم الوطئ وما هو في
حكمه. السابع عشر يحرم الطلاق. الثامن عشر تبلغ به الصبية. التاسع عشر يتعلق به انقضاء
العدة. العشرون يتعلق به الاستبراء. الحادي والعشرون يوجب الغسل بشرط الانقطاع على ما
حققناه. الثاني والعشرون لا يقطع التتابع في صوم كفارة القتل والفطر بخلاف كفارة اليمين
ونحوها حيث تقطع على ما حققه الإمام الدبوسي في التقويم. وهذه الأحكام كلها متعلقة
بالنفاس إلا خمسة وهي: انقضاء العدة والاستبراء والحكم ببلوغها والفصل بين طلاقي السنة
والبدعة وعدم قطع التتابع في الصوم فإن هذه مختصة بالحيض، فظهر بما قررناه أن ما في
النهاية ومعراج الدراية وغيرهما من أن أحكام الحيض والنفاس اثنا عشر ثمانية مشتركة وأربعة
مختصة بالحيض ليس بجامع. ثم هذه الأحكام التي ذكرناها منها ما يتعلق ببروز الدم على
المذهب المختار، وعند محمد بالاحساس، ومنها ما يتعلق بنصاب الحيض لكن يستند إلى
ابتدائه، ومنها ما يتعلق بانقضائه، فالثاني هو الحكم ببلوغها ووجوب الغسل، والثالث هو
انقضاء العدة والاستبراء وبقية الأحكام متعلقة بالقسم الأول.
337

قوله: (فتقضيه دونها) أي فتقضي الصوم لزوما دون الصلاة لما في الكتب الستة عن
معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت:
أحرورية أنت قلت: لست بحرورية ولكني اسأل قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء
الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. وعليه انعقد الاجماع، ولان في قضاء الصلاة حرجا بتكررها
في كل يوم وتكرر الحيض في كل شهر بخلاف الصوم حيث يجب في السنة شهرا واحدا
والمرأة لا تحيض عادة في الشهر إلا مرة فلا حرج. وإنما وجب عليها قضاء الصوم وإن
نفست رمضان كله لأن وجوده في رمضان كله نادر فلا يعتبر. وذكر في آخر الفتاوى
الظهيرية أن حكمته أن حواء لما رأت الدم أول مرة سألت آدم فقال: لا أعلم. فأوحي إليه
أن تترك الصلاة فلما طهرت سألته فقال: لا أعلم. فأوحي إليه أن لا قضاء عليها، ثم رأته
في وقت الصوم فسألته فأمرها بترك الصوم وعدم قضائه قياسا على الصلاة فأمرها الله تعالى
بقضاء الصوم من قبل أن آدم أمرها بذلك من غير أمر الله تعالى. وفي معراج الدراية: إن
سبب قضائه ترك حواء السؤال له وقياسها الصوم على الصلاة فجوزيت بقضائه بسبب ترك
السؤال. فإن قيل: إنها غير مخاطبة بالصوم حال حيضها لحرمته عليها فكيف يجب عليها
القضاء ولم يجب عليها الأداء؟ قلنا: أممن قال من مشايخنا وغيرهم بأن القضاء يجب بأمر
جديد فلا إشكال، وأما على قول الجمهور من مشايخنا أن القضاء يجب بما يجب به الأداء
فانعقاد السبب يكفي لوجوب القضاء وإن لم تخاطب بالأداء. وهل يكره لها قضاء الصلاة؟ لم
أره صريحا، وينبغي أن يكون خلاف الأولى كما لا يخفى. والحرورية فرقة من الخوارج
منسوبة إلى حروراء قرية بالكوفة كان بها أول تحكمهم واجتماعهم، والمراد أنها في التعمق في
سؤالها كأنها خارجية لأنهم تعمقوا في أمر الدين حتى خرجوا. كذا في المغرب.
قوله: (ودخول مسجد) أي يمنع الحيض دخول المسجد وكذا الجنابة. وخرج بالمسجد
غيره كمصلى العيد والجنائز والمدرسة والرباط فلا يمنعان من دخولها ولهذا قال في الخلاصة:
المتخذ لصلاة الجنازة والعيد الأصح أنه ليس له حكم المسجد. واختار في القنية من كتاب
الوقف أن المدرسة إذا كان لا يمنع أهلها الناس من الصلاة في مسجدها فهي مسجد. وفي
فتاوى قاضيخان: الجبانة ومصلى الجنازة لهما حكم المسجد عند أداء الصلاة حتى يصح
الاقتداء وإن لم تكن الصفوف متصلة وليس لهما حكم المسجد في حق المرور، وحرمة
338

الدخول للجنب وفناء المسجد له حكم المسجد في حق جواز الاقتداء بالإمام وإن لم تكن
الصفوف متصلة ولا المسجد ملآنا اه‍. وأما في جواز دخول الحائض فليس للفناء حكم
المسجد فيه، وأما ما في شرح الزاهدي من أن سطح المسجد وظلة بابه في حكمه فليس على
إطلاقه بل مقيد في الظلة بأنها حكمه في حق جواز الاقتداء لا في حرمة الدخول للجنب
والحائض كما لا يخفى. وقيد صاحب الدرر والغرر المنع من دخولهما المسجد بأن لا يكون
عن ضرورة فقال: وحرم على الجنب دخول المسجد ولو للعبور إلا لضرورة كأن يكون باب
بيته إلى المسجد اه‍. وهو حسن وإن خالف إطلاق المشايخ. وينبغي أن يقيد بكونه لا يمكنه
تحويل بابه إلى غير المسجد وليس قادرا على السكنى في غيره كما لا يخفى وإلا لم تتحقق
الضرورة، يدل عليه ما عن أفلت عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت:
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن
المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال: وجهوا
هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب. رواه أبو داود وابن ماجة
والبخاري في تاريخه الكبير، وقد نقل الخطابي تضعيفه بسبب جهالة أفلت ورد عليه.
ودجاجة بكسر الدال بخلاف واحدة الدجاج وهو بإطلاقه حجة على الشافعي في إباحته
الدخول على وجه العبور وعلى أبي اليسر من أصحابنا كما في إباحة الدخول لغير الصلاة كما
نقله عنه في خزانة الفتاوى. واستدل الشافعي بقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) *
(النساء: 43) بناء منه على إرادة مكان الصلاة بلفظ الصلاة مجازا فيكون المنهي عنه قربان
مكان الصلاة للجنب لا حال العبور، أو بناء منه على استعمال لفظ الصلاة في حقيقته ومجازه
فيكون المنهي عنه قربان الصلاة وموضعها، ولا شك أن هذا منه عدول عن الظاهر ولا
موجب له إلا توهم لزوم جواز الصلاة جنبا حال كونه عابر سبيل لأنه مستثنى من المنع المغيا
بالاغتسال، وهذا التوهم ليس بلازم لوجوب الحكم بأن المراد جوازها حال كونه عابر سبيل
أي مسافرا بالتيمم لأن مؤدى التركيب لا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا إلا حال عبور السبيل
فلكم أن تقربوها بغير اغتسال، وبالتيمم يصدق أنه بغير اغتسال. نعم مقتضى ظاهر الاستثناء
339

إطلاق القربان حال العبور لكن يثبت اشتراط التيمم فيه بدليل آخر وليس هذا ببدع، فظهر
بهذا أن المراد بعابري السبيل المسافرون كما هو منقول عن أهل التفسير. وعلى هذا فالآية
دليلهما على منع التيمم للجنب المقيم في المصر ظاهرا فإنه استثنى من المنع المسافرين فكان
المقيم داخلا في المنع، وجوابه من قبل أبي حنيفة أنه خص حالة عدم القدرة على الماء في
المصر من المنع في الآية كما أنها مطلقة في المريض وقد أجمعوا على تخصيص حالة القدرة
حتى لا يتيمم المريض القادر على استعمال الماء وأجماعهم إنما كان للعلم بأن شرعيته
للحاجة إلى الطهارة عند العجز عن الماء، فإذا تحقق في المصر جاز، وإذا لم يتحقق في
المريض لا يجوز.
فإن قيل في الآية دليل حينئذ على أن التيمم لا يرفع الحدث وأنتم تأبونه قلنا: قد ذكرنا
أن محصلها لا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل فاقربوها بلا اغتسال بالتيمم لأن
المعنى فاقربوها جنبا بلا اغتسال بالتيمم، فالرفع وعدمه مسكوت عنه، ثم استفيد كونه رافعا
من خارج على ما قدمناه في باب التيمم، ويدل للمذهب أيضا ما أخرجه الترمذي عن أبي
سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي لا يحل لاحد يجنب في هذا المسجد غيري
وغيرك. (1) وقال حديث حسن غريب. ثم ذكر عن علي ابن المنذر قلت لضرار بن صرد:
ما معناه؟ قال: لا يحل لاحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك. نعم تعقب تحسين الترمذي بأن
في اسناده سالم بن أبي حفصة وعطية العوفي وهما ضعيفان شيعيان متهمان لكن قال الحافظ
سراج الدين الشهير بابن الملقن ورواه البزار من حديث سعد بن أبي وقاص والطبراني في أكبر
معاجمه من حديث أم أبي سلمة اه‍. وقال الحافظ ابن حجر: وقد ذكر البزار في مسنده أن
حديث سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي جاء من روايات أهل الكوفة وأهل المدينة
يروون إلا باب أبي بكر قال: فإن ثبتت رواية أهل الكوفة فالمراد بها هذا المعنى فذكر
حديث أبي سعيد الذي ذكرناه ثم قال يعني البزار: على أن روايات أهل الكوفة جاءت من
وجوه بأسانيد حسان. وأخرج القاضي إسماعيل المالكي في أحكام القرآن عن المطلب هو ابن
عبد الله بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لاحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو
جنب إلا علي بن أبي طالب لأن بيته كان في المسجد. قال الحافظ ابن حجر: وهو مرسل
قوي اه‍. فقد منعهم من الاجتياز والقعود ولم يستثن منهم غير علي خصوصية له كما خص
340

الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل، وخص غيره بغير ذلك وما ينطق عن
الهوى. وقد صرح بهذا في خصوص ما نحن فيه فقد أخرج غير واحد من الحفاظ منهم
الحاكم وقال صحيح الاسناد عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبواب شارعة في المسجد قال فقال يوما: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي. قال: فتكلم في
ذلك أناس قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه
الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت
بشئ فاتبعته. واعلم أن في تتمة الفتاوى الصغرى: ويستوي في المنع المكث أو عبور آل
محمد صلى الله عليه وسلم وغيره خلاف ما قاله أهل الشيعة أنه رخص لآل محمد صلى الله عليه وسلم الدخول في المسجد
لمكث أو عبور وإن كان جنبا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعلي وأهل بيته أن يمكثوا في
المسجد وإن كانوا جنبا، وكذا رخص لهم لبس الحرير إلا أن هذا حديث شاذ لا نأخذ به
اه‍. وقال ابن أمير حاج: والظاهر أن ما ذكره الشيعة لأهل علي في دخول المسجد ولبس
الحرير اختلاق منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الحكم بالشذوذ على الترخيص لعلي في دخول
المسجد جنبا ففيه نظر. نعم قضى ابن الجوزي في موضوعاته على حديث سدوا الأبواب
التي في المسجد إلا باب علي بأنه باطل لا يصح وهو من وضع الرافضة، وقد دفع ذلك
شيخنا الحافظ ابن حجر في القول المسدد في الذب عن مسند أحمد وأفاد أنه جاء من طرق
متظافرة من روايات الثقات تدل على أن الحديث صحيح منها ما ذكرنا آنفا وبين عدم
معارضته لحديث الصحيحين سدوا الأبواب المشارعة في المسجد إلا خوخة أبي بكر (2)
فليراجع ذلك من رام الوقوف عليه اه‍. وقد علم أن دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد جنبا ومكثه فيه من
خواصه، وذكره النووي وقواه. وفي منية المصلي: وإن احتلم في المسجد تيمم للخروج إذا لم
يخف وإن خاف يجلس مع التيمم ولا يصلي ولا يقرأ اه‍. وصرح في الذخيرة أن هذا التيمم
مستحب وظاهر ما قدمناه في التيمم عن المحيط أنه واجب، ثم الظاهر أن المراد بالخوف
الخوف من لحوق ضرر به بدنا أو مالا كأن يكون ليلا.
قوله: (والطواف) أي ويمنع الحيض الطواف بالبيت وكذا الجنابة لما في الصحيحين أنه
عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله عنها لما حاضت بسرف: اقضي ما يقضي الحاج
غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي. فكان طوافها حراما ولو فعلته كانت عاصية معاقبة
341

وتتحلل به من إحرامها بطواف الزيارة وعليها بدنه كطواف الجنب كما سيأتي في محله إن شاء
الله تعالى. وعلل للمنع صاحب الهداية بأن الطواف في المسجد وكان الأولى عدم الاقتصار
على هذا التعليل فإن حرمة الطواف جنبا ليس منظورا فيه إلى دخول المسجد بالذات بل لأن
الطهارة واجبة في الطواف، فلو لم يكن ثمة مسجد حرم عليها الطواف. كذا في فتح القدير
وغيره. وقد يقال: إن حرمة الطواف عليها إنما هي لأجل كونه في المسجد، وأما إذا لم يكن
الطواف في المسجد بل خارجه فإنه مكروه كراهة تحريم لما عرف من أن الطهارة له واجبة على
الصحيح فتركها يوجب كراهة التحريم ولا يوجب التحريم إلا ترك الفرض، ولو حاضت
بعدما دخلت وجب عليها أن لا تطوف وحرم مكثها كما صرحوا به.
قوله: (وقربان ما تحت الإزار) أي ويمنع الحيض قربان زوجها ما تحت إزارها، أما
حرمة وطئها عليه فمجمع عليها لقوله تعالى * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * (البقرة: 222)
ووطؤها في الفرج عالما بالحرمة عامدا مختارا كبيرة لا جاهلا ولا ناسيا ولا مكرها فليس عليه
إلا التوبة والاستغفار. وهل يجب التعزير أم لا؟ ويستحب أن يتصدق بدينار أو نصفه، وقيل
بدينار إن كان أول الحيض، ونصفه إن وطئ في آخره كأن قائله رأى أن لا معنى للتخيير بين
القليل والكثير في النوع الواحد، ومصرفة مصرف الزكاة كما في السراج الوهاج. وقيل إن
كان الدم أسود يتصدق بدينار وإن كان أصفر فبنصف دينار، ويدل له ما رواه أبو داود
والحاكم وصححه إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دما أحمر فليتصدق بدينار وإن
كان أصفر فليتصدق بنصف دينار. وفي السراج الوهاج: وإذا أخبرته بالحيض قال بعضهم:
إن كانت فاسقة لا يقبل قولها وإن كانت عفيفة يقبل قولها وترك وطأها. وقال بعضهم: إن
كان صدقها ممكنا بأن كانت في أوان حيضها قبلت ولو كانت فاسقة كما في العدة وهذا
القول أحوط وأقرب إلى الورع اه‍. فعلم من هذا أنها إذا كانت فاسقة ولم يغلب على ظنه
صدقها بأن كانت في غير أوان حيضها لا يقبل قولها اتفاقا كما قالوا في أخبار الفاسق إنه
يشترط لوجوب العمل به أن يغلب على الظن صدقه، وبهذا علم أن ما في فتح القدير من أن
الحرمة تثبت بإخبارها وأن كذبها ليس على إطلاقه بل إذا كانت عفيفة أو غلب على الظن
صدقها بخلاف من علق به طلاقها فأخبرته به فإنه يقع الطلاق عليه وإن كذبها مطلقا لتقصيره
في تعليقه بما لا يعرف إلا من جهتها. وهذا إذا وطئها غير مستحل فإن كان مستحلا له فقد
جزم صاحب المبسوط والاختيار وفتح القدر وغيرهم بكفره، وذكره القاضي الأسبيجابي
بصيغة وقيل وصحح أنه لا يكفر. صاحب الخلاصة: ويوافقه ما نقله أيضا من الفصل
الثاني في ألفاظ الكفر من اعتقد الحرام حلالا أو على القلب يكفر إذا كان حراما لعينه وثبتت
حرمته بدليل مقطوع به، أما إذا كان حراما لغيره بدليل مقطوع به أو حراما لعينه بأخبار
الآحاد لا يكفر إذا اعتقده حلالا اه‍. فعلى هذا لا يفتى بتكفير مستحله لما في الخلاصة أن
342

المسألة إذا كان فيها وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك
الوجه اه‍. وأما الاستمتاع بها بغير الجماع فمذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك
يحرم عليه ما بين السرة والركبة وهو المراد بما تحت الإزار. كذا في فتح القدير. وفي المحيط
وفتاوى الولوالجي: وتفسير الإزار على قولهما. قال بعضهم: الإزار المعروف ويستمتع بما
فوق السرة ولا يستمتع بما تحتها. وقال بعضهم: هو الاستتار فإذا استترت حل له الاستمتاع
اه‍. والظاهر ما اقتصر عليه في فتح القدير، وقال محمد بن الحسن وأحمد: لا يحرم ما سوى
الفرج واختاره من المالكية أصبغ ومن الشافعية النووي لما أخرج الجماعة إلا البخاري أن
اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسألت الصحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى * (ويسألونك عن المحيض) * (البقرة: 222) فقال
النبي صلى الله عليه وسلم اصنعوا كل شئ إلا النكاح. وفي رواية إلا الجماع. وللجماعة ما عن
عبد الله بن سعد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال: لك ما
فوق الإزار. رواه أبو داود وسكت عليه فهو حجة. وإذن فالترجيح له لأنه مانع وذلك
مبيح، ولخبر من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. (1) وأما ترجيح السروجي قول محمد
بأن دليله منطوق ودليلنا مفهوم والمنطوق أقوى فكان مقدما فغير صحيح، أما الأول فلانه لا
يلزم أن يكون دليلنا مفهوما بل يحتمل أن يكون منطوقا فإن السائل سأل عن جميع ما يحل له
من امرأته الحائض، فقوله لك ما فوق الإزار معناه جميع ما يحل لك ما فوق الإزار ليطابق
الجواب السؤال، وأما ثانيا فلانه لو سلم أنه مفهوم كان هذا المفهوم أقوى من المنطوق لأنه
يدل على المفهوم بطريق اللزوم لوجوب مطابقة جوابه عليه السلام لسؤال السائل، ولو كان
هذا المفهوم غير مراد لم يطابق فكان ثبوته واجبا من اللفظ على وجه لا يقبل تخصيصا ولا
تبديلا لهذا العارض، والمنطوق من حيث هو منطوق يقبل ذلك فلم يصح الترجيح في
خصوص المادة بالمنطوقية ولا المرجوحية بالمفهومية، وقد كان فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك فكان لا
343

يباشر إحداهن وهي حائض حتى يأمرها أن تأتزر متفق عليه. وأما قوله تعالى * (ولا تقربوهن
حتى يطهرن) * (البقرة: 222) فإن كان نهيا عن الجماع عينا فلا يمتنع أن نثبت حرمة أخرى
في محل آخر بالسنة، وإياك أن تظن أن هذه من الزيادة على النص بخبر الواحد لأنها تقيد
مطلق النص فتكون معارضة له في بعض متناولاته، وما أثبتته السنة فيما نحن فيه شرع ما لم
يتعرض له النص القرآني فلم يكن من باب الزيادة وإن كان نهيا عما هو أعم من الجماع كان
الجماع من أفراد المنهي عنه لتناوله حرمة الاستمتاع بها أعني من الجماع وغيره من
الاستمتاعات. ثم يظهر تخصيص بعضها بالحديث المفيد لحل ما سوى ما بين السرة والركبة
فيبقى ما بينهما داخلا في عموم النهي عن قربانه وإن لم يحتج إلى هذا الاعتبار في ثبوت
المطلوب لما بينا. كذا في فتح القدير مع بعض اختصار. واعلم أنه كما يحرم عليه الاستمتاع
بما بين السرة والركبة يحرم عليها التمكين منه ولم أر لهم صريحا حكم مباشرتها له، ولقائل أن
يمنعه لأنه لما حرم تمكينها من استمتاعه بها حرم فعلها بالأولى، ولقائل أن يجوزه لأن حرمته
عليه لكونها حائضا وهو مفقود في حقه فحل لها الاستمتاع به ولان غاية مسها لذكره أنه
استمتاع بكفها وهو جائز قطعا.
تنبيهات: وقع في بعض العبارات لفظ الاستمتاع وهو يشمل النظر واللمس بشهوة،
ووقع في عبارة كثير لفظ المباشرة والقربان ومقتضاها تحريم اللمس بلا شهوة فبينهما عموم
وخصوص من وجه، والذي يظهر أن التحريم منوط بالمباشرة ولو بلا شهوة بخلاف النظر
ولو بشهوة وليس هو أعظم من تقبيلها في وجهها بشهوة كما لا يخفى، وقد علم من
344

عباراتهم أنه يجوز الاستمتاع بالسرة وما فوقها وبالركبة وما تحتها، والمحرم الاستمتاع بما
بينهما وهي أحسن من عبارة بعضهم يستمتع بما فوق السرة وما تحت الركبة كما لا يخفى،
فيجوز له الاستمتاع فيما عدا ما ذكر بوطئ وغيره ولو بلا حائل، وكذا بما بينهما بحائل بغير
الوطئ ولو تلطخ دما. ولا يكره طبخها ولا استعمال ما مسته من عجين أو ماء غيرهما إلا إذا
توضأت بقصد القربة كما هو المستحب على ما قدمناه فإنه يصير مستعملا. وفي فتاوى
الولوالجي: ولا ينبغي أن يعزل عن فراشها لأن ذلك يشبه فعل اليهود. وفي التنجيس
وغيره: امرأة تحيض من دبرها لا تدع الصلاة لأن هذا ليس بحيض، ويستحب أن تغتسل
عند انقطاع الدم. وإن أمسك زوجها عن الاتيان كان أحب إلي لمكان الصورة وهو الدم من
الفرج اه‍. وقد قدمناه عن الخلاصة.
قوله: (وقراءة القرآن) أي يمنع الحيض قراءة القرآن وكذا الجنابة لقوله صلى الله عليه وسلم لا تقرأ
الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (1) رواه الترمذي وابن ماجة وحسنه المنذري وصححه
النووي وقال: إنه يقرأ بالرفع على النفي وهو محمول على النهي كيلا يلزم الخلف في الوعد،
وبكسر الهمزة لالتقاء الساكنين على النهي وهما صحيحان. وعن علي رضي الله عنه قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا رواه أبو داود والترمذي وقال:
إنه حسن صحيح. ثم كل من الحديثين يصلح مخصصا لحديث مسلم عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان
يذكر الله على كل أحيانه بعد القول بتناول الذكر قراءة القرآن. وبقولنا قال أكثر أهل العلم
من الصحابة والتابعين كما حكاه الترمذي في جامعه وشمل إطلاقه الآية وما دونها وهو قول
الكرخي وصححه صاحب الهداية في التنجيس، وقاضي خان في شرح الجامع الصغير،
والولوالجي في فتاواه، ومشى عليه المصنف في المستصفى، وقواه في الكافي، ونسبه صاحب
البدائع إلى عامة المشايخ وصححه معللا بأن الأحاديث لم تفصل بين القليل والكثير لكن ذكر
أن القراءة مكروهة، وفي كثير من الكتب أنها حرام، وفي رواية الطحاوي يباح لهما ما دون
345

الآية، وصححه صاحب الخلاصة في الفصل الحادي عشر في القراءة، ومشى عليه فخر
الاسلام في شرح الجامع الصغير، ونسبه الزاهدي إلى الأكثر، ووجهه صاحب المحيط بأن
النظم والمعنى يقصر فيما دون الآية ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم فتمكنت فيه
شبهة عدم القرآن، ولهذا لا تجوز الصلاة به اه‍. فحاصله أن التصحيح قد اختلف فيما دون
الآية، والذي ينبغي ترجيح القول بالمنع لما علمت من أن الأحاديث لم تفصل والتعليل في
مقابلة النص مردود لأن شيئا كما في الكافي نكرة في سياق النفي فتعم وما دون الآية قرآن
فيمتنع كالآية مع أنه قد أجيب أيضا بالأخذ بالاحتياط فيهما وهو عدم الجواز في الصلاة
والمنع للجنب ومن بمعناه، ويؤيده ما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه قال: اقرؤوا
القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة فإن أصابه فلا ولا حرفا واحدا. ثم قال: وهو الصحيح عن
علي. وهذا كله إذا قرأ على قصد أنه قرآن، أما إذا قرأه على قصد الثناء أو افتتاح أمر لا يمنع
في أصح الروايات. وفي التسمية اتفاق أنه لا يمنع إذا كان على قصد الثناء أو افتتاح أمر. كذا
في الخلاصة. وفي العيون لأبي الليث: ولو أنه قرأ الفاتحة على سبيل الدعاء أو شيئا من
الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد به القراءة فلا بأس به اه‍. واختاره الحلواني. وذكر في
غاية البيان أنه المختار لكن قال الهندواني: لا أفتي بهذا وإن روي عن أبي حنيفة اه‍. وهو
الظاهر في مثل الفاتحة فإن المباح إنما هو ليس بقرآن وهذا قرآن حقيقة وحكما لفظا ومعنى،
وكيف لا وهو معجز يقع به التحدي عند المعارضة والعجز عن الاتيان بمثله مقطوع به وتغيير
المشروع في مثله بالقصد المجرد مردود على فاعله بخلاف نحو الحمد لله بنية الثناء لأن
الخصوصية القرآنية فيه غير لازمة وإلا لانتفى جواز التلفظ بشئ من الكلمات العربية
لاشتمالها على الحروف الواقعة في القرآن وليس الامر كذلك إجماعا بخلاف نحو الفاتحة فإن
الخصوصية القرآنية لازمة قطعا وليس في قدرة المتكلم إسقاطها عنه مع ما هو عليه من النظم
الخاص كما هو في المفروض، وقد انكشف بهذا ما في الخلاصة من عدم حرمة ما يجري على
346

اللسان عند الكلام من آية قصيرة من نحو * (ثم نظر) * (المدثر: 21) أو * (لم يولد) *
(الاخلاص: 3).
ثم اعلم أنهم قالوا هنا وفي باب ما يفسد الصلاة أن القرآن يتغير بعزيمته فأورد الإمام
الخاصي كما نقله عنه السراج الهندي في التوشيح بأن العزيمة لو كانت مغيرة للقراءة لكان
ينبغي أنه إذا قرأ الفاتحة في الأوليين بنية الدعاء لا تكون مجزئة وقد نصوا على أنها مجزئة.
وأجاب بأنها إذا كانت في محلها لا تتغير بالعزيمة حتى لو لم يقرأ في الأوليين فقرأ في
الأخريين بنية الدعاء لا يجزئه اه‍. والمنقول في التجنيس أنه قرأ في الصلاة فاتحة الكتاب على
قصد الثناء جازت صلاته لأنه وجدت القراءة في محلها فلا يتغير حكمها بقصد اه‍. ولم يقيد
بالأوليين، ولا شك أن الأخريين محل القراءة المفروضة فإن القراءة فرض في ركعتين غير عين
وإن كان تعيينها في الأوليين واجبا. وذكر في القنية خلافا فيما إذا قرأ الفاتحة على قصد
الدعاء فرقم لشرح شمس الأئمة الحلواني أنها لا تنوب عن القراءة اه‍. وأما الأذكار فالمنقول
إباحتها مطلقا ويدخل فيها اللهم اهدنا إلى آخره. وأما اللهم إنا نستعينك إلى آخره الذي
هو دعاء القنوت عندنا فالظاهر من المذهب أنه لا يكره لهما وعليه الفتوى. كذا في الفتاوى
الظهيرية وغيرها. وعن محمد يكره لشبهة كونه قرآنا لاختلاف الصحابة في كونه قرآنا فلا
يقرأه احتياطا. قلنا: حصل الاجماع القطعي اليقيني على أنه ليس بقرآن، ومعه لا شبهة
توجب الاحتياط المذكور. نعم المذكور في الهداية وغيرها في باب الاذان استحباب الوضوء
لذكر الله تعالى وترك المستحب لا يوجب الكراهة. وفي الخلاصة: ولا ينبغي للحائض
347

والجنب أن يقرأ التوراة والإنجيل. كذا روي عن محمد، والطحاوي لا يسلم هذه الرواية.
قال رضي الله عنه: وبه يفتى اه‍. وفي النهاية وغيرها: وإذا حاضت المعلمة فينبغي لها أن
تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي، وعلى قول الطحاوي تعلم
نصف آية اه‍. وفي التفريع نظر على قول الكرخي فإنه قائل باستواء الآية وما دونها في المنع
إذا كان ذلك بقصد قراءة القرآن وما دون الآية صادق على الكلمة، وإن حمل على التعليم دون
قصد القرآن فلا يتقيد بالكلمة. ثم في كثير من الكتب التقييد بالحائض المعلمة معللا
بالضرورة مع امتداد الحيض وظاهره عدم الجواز للجنب، لكن في الخلاصة: واختلف
المتأخرون في تعليم الحائض والجنب والأصح أنه لا بأس به إن كان يلقن كلمة كلمة ولم يكن
من قصده أن يقرأ آية تامة اه‍. والأولى ولم يكن من قصده قراءة القرآن كما لا يخفى.
قوله: (ومسه إلا بغلافه) أي تمنع الحائض مس القرآن لما روى الحاكم في المستدرك
وقال صحيح الاسناد عن حكيم بن خرام قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: لا
تمس القرآن إلا وأنت طاهر. واستدلوا له أيضا بقوله تعالى * (لا يمسه إلا المطهرون) *
(الواقعة: 79) فظاهر ما في الكشاف صحة الاستدلال به هنا إن جعلت الجملة صفة للقرآن
ولفظه في كتاب مكنون مصون عن غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم وهم
348

المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب، وما سواها إن جعلت الجملة صفة لكتاب مكنون
وهو اللوح، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من
الناس يعني مس المكتوب منه ا ه‍. لكن الإمام الطيبي في حاشيته ذكر صحة الاستدلال به
على الوجه الأول أيضا فقال: فالمعنى على الوجه الأول أن هذا الكتاب كريم على الله تعالى
ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظم شأنه بأن حكم بأنه لا يمسه إلا الملائكة
المقربون وصانه عن غير المقربين فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك بناء على أن ترتب
الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لأن سياق الكلام لتعظيم شأن القرآن. وعن
الدارمي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال القرآن أحب إلى الله تعالى من السماوات
والأرض ومن فيهن ا ه‍. وذكر أنه على الوجه الثاني إخبار في معنى الامر كقوله * (الزاني لا
ينكح إلا زانية) * (النور: 3) ا ه‍. وتعبير المصنف بمس القرآن أولى من تعبير غيره بمس
المصحف لشمول كلامه ما إذا مس لوحا مكتوبا عليه آية وكذا الدرهم والحائط، وتقييده
بالسورة في الهداية اتفاقي بل المراد الآية لكن لا يجوز مس المصحف كله المكتوب وغيره
بخلاف غيره فإنه لا يمنع إلا مس المكتوب. كذا ذكره في السراج الوهاج مع أن في الأول
اختلافا فقال في غاية البيان وقال بعض مشايخنا: المعتبر حقيقة المكتوب حتى إن مس الجلد
ومس مواضع البياض لا يكره لأنه لم يمس القرآن، وهذا أقرب إلى القياس والمنع أقرب إلى
التعظيم ا ه‍. وفي تفسير الغلاف اختلاف، فقيل الجلد المشرز، وفي غاية البيان مصحف
مشرز أجزاؤه مشدود بعضها إلى بعض من الشيرازة وليست بعربية، وفي الكافي والغلاف
الجلد الذي عليه في الأصح، وقيل هو المنفصل كالخريطة ونحوها المتصل بالمصحف منه حتى
يدخل في بيعه بلا ذكر ا ه‍. وصحح هذا القول في الهداية وكثير من الكتب وزاد في
349

السراج الوهاج أن عليه الفتوى، وقد تقدم أنه أقرب إلى التعظيم. والخلاف في الغلاف
المشرز جار في الكم ففي المحيط لا يكره مسه بالكم عند الجمهور واختاره المصنف في
الكافي، وعلله بأن المس محرم وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل ا ه‍. وفي الهداية: ويكره
مسه بالكم هو الصحيح لأنه تابع له ا ه‍. وفي الخلاصة: من فصل القرآن وكرهه عامة
مشايخنا ا ه‍. فهو معارض لما في المحيط فكان هو الأولى. وفي فتح القدير: والمراد بالكراهة
كراهة التحريم ولهذا عبر بنفي الجواز في الفتاوى. وقال لي بعض الاخوان: هل يجوز مس
المصحف بمنديل هو لابسه على عنقه؟ قلت: لا أعلم فيه منقولا والذي يظهر أنه إن كان
بطرفه وهو يتحرك بحركته ينبغي أن لا يجوز، وإن كان لا يتحرك بحركته ينبغي أن يجوز
لاعتبارهم إياه في الأول تابعا له كبدنه دون الثاني. قالوا فيمن صلى وعليه عمامة بطرفها
نجاسة مانعة إن كان ألقاه وهو يتحرك لا يجوز وإلا يجوز اعتبارا له على ما ذكرنا ا ه‍. وفي
الهداية بخلاف كتب الشريعة حيث يرخص لأهلها في مسها بالكم لأن فيه ضرورة ا ه‍.
وفي فتح القدير: إنه يقتضي أنه لا يرخص بلا كم. قالوا: يكره مس كتب التفسير والفقه
والسنن لأنها لا تخلو عن آيات القرآن وهذا التعليل يمنع مس شروح النحو أيضا ا ه‍. وفي
الخلاصة: يكره مس كتب الأحاديث والفقه للمحدث عندهما، وعند أبي حنيفة الأصح أنه لا
يكره، ذكره من كتاب الصلاة في فضل القراءة خارج الصلاة. وفي شرح الدرر والغرر:
ورخص المس باليد في الكتب الشرعية إلا التفسير. ذكره في مجمع الفتاوى وغيره ا ه‍. وفي
السراج الوهاج معزيا إلى الحواشي: المستحب أن لا يأخذ كتب الشريعة بالكم أيضا بل يجدد
الوضوء كلما أحدث وهذا أقرب إلى التعظيم. قال الحلواني: إنما نلت هذا العلم بالتعظيم
فإني ما أخذت الكاغد إلا بطهارة، والإمام السرخسي كان مبطونا في ليلة وكان يكرر درس
كتابه فتوضأ في تلك الليلة سبعة عشرة مرة.
فروع: من التعظيم أن لا يمد رجله إلى الكتاب. وفي التجنيس: المصحف إذا صار
كهنا أي عتيقا وصار بحال لا يقرأ فيه وخاف أن يضيع يجعل في خرقة طاهرة ويدفن لأن
المسلم إذا مات يدفن فالمصحف إذا صار كذلك كان دفنه أفضل من وضعه موضعا يخاف أن
تقع عليه النجاسة أو نحو ذلك. والنصراني إذا تعلم القرآن يعلم والفقه كذلك لأنه عسى
يهتدي لكن لا يمس المصحف، وإذا اغتسل ثم مس لا بأس به في قول محمد، وعندهما يمنع
من مس المصحف مطلقا. ولو كان القرآن مكتوبا بالفارسية يحرم على الجنب والحائض مسه
بالاجماع وهو الصحيح، أما عند أبي حنيفة فظاهر، وكذلك عندهما لأنه قرآن عندهما حتى
350

يتعلق به جواز الصلاة في حق من لا يحسن العربية ا ه‍ ذكره في كتاب الصلاة. وفي القنية:
اللغة والنحو نوع واحد فيوضع بعضها فوق بعض، والتعبير فوقهما، والكلام فوق ذلك،
والفقه فوق ذلك، والاخبار والمواعظ والدعوات المروية فوق ذلك، والتفسير فوق ذلك،
والتفسير الذي فيه آيات مكتوبة فوق كتب القراءة بساط أو غيره كتب عليه الملك لله يكره
بسطه واستعماله إلا إذا علق للزينة ينبغي أن يكره، وينبغي أن لا يكره كلام الناس مطلقا
وقيل يكره حتى الحروف المفردة. ورأي بعض الأئمة شبانا يرمون إلى هدف كتب فيه أبو
جهل لعنه الله فنهاهم عنه، ثم مر بهم وقد قطعوا الحروف فنهاهم أيضا وقال: إنما نهيتكم
في الابتداء لأجل الحروف فإذا يكره مجرد الحروف لكن الأول أحسن وأوسع. يجوز
للمحدث الذي يقرأ القرآن من المصحف تقليب الأوراق بقلم أو عود أو سكين، ويجوز أن
يقول للصبي احمل إلي هذا المصحف. ولا يجوز لف شئ في كاغد فيه مكتوب من الفقه وفي
الكلام الأولى أن لا يفعل، وفي كتب الطب يجوز، ولو كان فيه اسم الله تعالى أو اسم النبي
عليه السلام فيجوز محوه ليلف فيه شئ. ومحو بعض الكتابة بالريق يجوز وقد ورد النهي في
محو اسم الله تعالى بالبزاق. محا لوحا يكتب فيه القرآن واستعمله في أمر الدنيا يجوز.
حانوت أو تابوت فيه كتب فالأدب أن يضع الثياب فوقه. يجوز قربان المرأة في بيت فيه
مصحف مستور. يجوز رمي براية القلم الجديد ولا يرمى براية القلم المستعمل لاحترامه
كحشيش المسجد وكناسته لا تلقى في موضع يخل بالتعظيم ا ه‍. ذكره في الكراهية. وتكره
القراءة في المخرج والمغتسل والحمام، وعند محمد لا بأس في الحمام لأن الماء المستعمل طاهر
عنده. ولو كانت رقية في غلاف متجاف لم يكره دخول الخلاء به والاحتراز عن مثله أفضل.
كذا في فتح القدير. وفي الخلاصة: لو كان على خاتمه اسم الله تعالى يجعل الفص إلى باطن
الكف ا ه‍. وفي التوشيح: وتكره المسافرة بالقرآن إلى دار الحرب صونا عن وقوعه في أيدي
الكفرة واستخفافه. وفي السراج الوهاج: الدرهم المكتوب عليه آية يكره إذابته إلا إذا كسره
فلا بأس به حينئذ. وفي غاية البيان معزيا إلى فخر الاسلام: فإن غسل الجنب فمه ليقرأ أو
يده ليمس أو غسل المحدث يده ليمس لم يطلق له المس ولا القراءة للجنب. هذا هو الصحيح
لأن الجنابة والحدث لا يتجزآن وجودا ولا زوالا. وفي الخلاصة: إنما تكره القراءة في الحمام
إذا قرأ جهرا فإن قرأ في نفسه لا بأس به هو المختار، وكذا التحميد والتسبيح، وكذا لا يقرأ
إذا كانت عورته مكشوفة أو امرأته هناك تغتسل مكشوفة أو في الحمام أحد مكشوف فإن لم
يكن فلا بأس بأن يرفع صوته. وقوله: (ومنع الحدث المس) أي مس القرآن (ومنعهما) أي
351

المس وقراءة القرآن (الجنابة والنفاس) وقد تقدم بيان أحكام النفاس.
قوله: (وتوطأ بلا غسل بتصرم لأكثره) أي ويحل وطئ الحائض إذا انقطع دمها العشرة
بمجرد الانقطاع من غير توقف على اغتسالها. وقال في المغرب: تصرم القتال انقطع وسكن.
قوله: (ولا قله لا حتى تغتسل أو يمضي عليها أدنى وقت صلاة) اعلم أن هذه المسألة على
ثلاثة أوجه لأن الدم إما ينقطع لتمام العشرة أو دونها لتمام العادة أو دونهما، ففيما إذا انقطع
لتمام العشرة يحل وطؤها بمجرد الانقطاع ويستحب له أن يطأها حتى تغتسل، وفيما إذا
انقطع لما دون العشرة دون عادتها لا يقربها وإن اغتسلت ما لم تمض عادتها، وفيما إذا انقطع
للأقل لتمام عادتها إن اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة حل وإلا لا. وكذا النفاس إذا
انقطع لما دون الأربعين لتمام عادتها، فإن اغتسلت أو مضى الوقت حل وإلا لا. كذا في
المحيط: وقال الشافعي: لا يجوز وطؤها حتى تغتسل مطلقا عملا بقوله تعالى * (حتى
يطهرن) * (البقرة: 222) بالتشديد أي يغتسلن. ونقله الأسبيجابي عن زفر. ولنا أن في الآية
قراءتين يطهرن بالتخفيف ويطهرن بالتشديد ومؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة
بالانقطاع مطلقا وإذا انتهت الحرمة العارضة على الحل حلت بالضرورة، ومؤدى الثانية عدم
انتهائها عنده بل بعد الاغتسال فوجب الجمع ما أمكن، فحملنا الأولى على الانقطاع لأكثر
المدة، والثانية عليه لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض وهو المناسب لأن في توقيف
قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع عليها
بوجوب الصلاة المستلزم إنزاله إياها طاهرة قطعا بخلاف تمام العادة فإن الشرع لم يقطع عليها
بالطهر بل يجوز الحيض بعده، ولذا لو زادت ولم تجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق.
بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بخروج الوقت معارضة
للنص بالمعنى. والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف
فجاز أن تخص ثانيا بالمعنى. كذا في فتح القدير وعبارته في التحرير في فصل التعارض:
وقراءتي التشديد في يطهرن المانعة إلى الغسل والتخفيف إلى الطهر فيحل القربان قبله بالحل
352

الذي انتهت حرمته العارضة بحمل تلك على ما دون الأكثر وهذه عليه، وتطهرن بمعنى
طهرن لأنه يأتي به كتكبر وتعظم في صفاته تعالى محافظة على حقيقة يطهرن بالتخفيف. وكل
وإن كان خلاف الظاهر لكن هذا أقرب إذ لا يوجب تأخر حق الزوج بعد القطع بارتفاع
المانع ا ه‍. فقوله وتطهرن بمعنى طهرن إلى آخره جواب سؤال تقديره أن هذا الحمل يرده
قوله تعالى فإذا تطهرن فإنه لم يقرأ إلا بالتشديد. واعلم أن المراد بأدنى وقت الصلاة أدناه
الواقع آخرا أعني أن تطهر في وقت منه إلى خروجه قدر الاغتسال والتحريم لا أعم من
هذا، أو من أن تطهرن في أوله ويمضي منه هذا المقدار لأن هذا لا ينزلها طاهرة شرعا كما
رأيت بعضهم يغلط فيه، ألا ترى تعليلهم بأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمتها وذلك
بخروج الوقت ولذا لم يذكر غير واحد لفظة أدنى وعبارة الكافي أو تصير الصلاة دينا في
ذمتها بمضي أدنى وقت صلاة بقدر الغسل والتحريمة بأن انقطع في آخر الوقت كذا في فتح
القدير. وما قاله حق فقد رأيت أيضا من يغلط فيه ويؤيده ما في السراج الوهاج من أن
الانقطاع إذا كان في أول الوقت فلا يجوز قربانها إلا بعد الاغتسال أو بمضي جميع الوقت،
وإذا انقطع في وقت صلاة ناقصة كصلاة الضحى والعيد فإنه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو
يمضي عليها وقت صلاة الظهر ا ه‍. وإنما عبر بعضهم بالأدنى ولم يقل مضي وقت صلاة
نفيا لما قد يتوهم أن مضي الوقت كله والدم منقطع شرط للحل وليس كذلك، ولهذا قال
كثير من الشارحين: إن هذا محمول على ما إذا كان الانقطاع آخر الوقت. فالحاصل أن
الانقطاع إن كان في أول الوقت أو في أثنائه فلا بد للحل من خروج الوقت، وإن كان في
آخره فإن بقي منه زمان قدر الغسل والتحريمة وخرج الوقت حل وإلا فلا. وأما الثالث وهو
ما إذا كان الانقطاع لما دون العشرة لأقل من العادة فوق الثلاث لم يقربها حتى تمضي عادتها
وإن اغتسلت لأن العود في العادات غالب فكان الاحتياط في الاجتناب. كذا في الهداية.
وصيغة لم يقربها وكذا التعليل بالاحتياط في الاجتناب يقتضي حرمة الوطئ، وقد صرح به في
غاية البيان، والمنصوص عليه في النهاية والكافي للنسفي كراهة الوطئ فإن أريد بالكراهة
التحريم فلا منافاة بين العبارتين وإلا فالمنافاة بينهما ظاهرة. وفي النهاية تأخير الغسل إلى آخر
الوقت المستحب مستحب فيما إذا انقطع لتمام عادتها، وفيما إذا انقطع لأقلها واجب.
وفي المبسوط: إذا انقطع لأقل من عشرة تنتظر إلى آخر الوقت المستحب دون المكروه.
353

نص عليه محمد في الأصل قال: إذا انقطع في وقت العشاء تؤخر إلى وقت يمكنها أن تغتسل
فيه وتصلي قبل انتصاف الليل وما بعد نصف الليل مكروه ا ه‍. وفي فتح القدير: إن حكم
الثالث خلاف إنهاء الحرمة بالغسل الثابت بقراءة التشديد فهو مخرج منه بالاجماع ا ه‍.
ويعارضه ما نقله في الغاية عن ابن تيمية أنه ذكر الاجماع على أنها تغتسل وتصلي ولا يحرم
وطؤها كما في شرح منظومة ابن وهبان، ولعله توهم من قول بعض الحنفية بالكراهة أنها
كراهة تنزيه فنقل الاجماع على عدم الحرمة وإلا فلا يصح نقل الاجماع مع خلاف الحنفية كما
لا يخفى. وفي التجنيس: مسافرة طهرت من الحيض فتيممت ثم وجدت ماء جاز للزوج أن
يقربها لكن لا تقرأ القرآن لأنها لما تيممت خرجت من الحيض. فلما وجدت الماء فإنما وجب
عليها الغسل فصارت كالجنب ا ه‍. وظاهره أن التيمم من غير صلاة يخرجها من الحيض
فيجوز قربانها وليس كذلك فقد قال في المبسوط: ولم يذكر يعني الحاكم الشهيد في الكافي ما
إذا تيممت ولم تصل، فقيل هو على الاختلاف عندهما ليس للزوج أن يقربها، وعند محمله
ذلك، والأصح أنه ليس له أن يقربها عندهم جميعا لأن محمدا إنما جعل التيمم كالاغتسال
فيما هو مبني على الاحتياط وهو قطع الرجعة والاحتياط في الوطئ تركه فلم نجعل التيمم
فيه قبل تأكده بالصلاة كالاغتسال كما لا يفعله في الحل للأزواج ا ه‍. فالحاصل أن التيمم لا
يوجب حل وطئها وانقطاع الرجعة وحلها للأزواج إلا بالصلاة على الصحيح من المذهب لكن
قال القاضي الأسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي: وأجمعوا أنه يقربها زوجها وإن لم تصل
ولا تتزوج بزوج آخر ما لم تصل وفي انقطاع الرجعة الخلاف ف‍. وفي الخلاصة: إذا انقطع دم
المرأة دون عادتها المعروفة في حيض أو نفاس اغتسلت حين تخاف فوت الصلاة وصلت
واجتنب زوجها قربانها احتياطا حتى تأتي على عادتها لكن تصوم رمضان احتياطا، ولو كانت
هذه الحيضة هي الثالثة من العدة انقطعت الرجعة احتياطا ولا تتزوج بزوج آخر احتياطا، فإن
354

تزوجها رجل إن لم يعاودها الدم جاز، وإن عاودها إن كان في العشرة ولم يزد على العشرة
فسد نكاح الثاني، وكذا صاحب الاستبراء يجتنبها احتياطا ا ه‍. قال في فتح القدير: ومفهوم
التقييد أنه إذا زاد لا يفسد، ومراده إذا كان العود بعد انقضاء العادة، أما قبلها فيفسد وإن زاد
لأن الزيادة توجب الرد إلى العادة والفرض أنه عاودها فيها، فظهر أن النكاح قبل انقضاء
الحيضة. واعلم أن مدة الاغتسال معتبرة من الحيض في الانقطاع لأقل من العشرة وإن كان
تمام عادتها بخلاف الانقطاع للعشرة حتى لو طهر ت في الأولى والباقي قدر الغسل والتحريمة
فعليها قضاء تلك الصلاة، ولو طهرت في الثانية يشترط أن يكون الباقي قدر التحريمة فقط.
وفي المجتبى: والصحيح أنه يعتبر مع الغسل لبس الثياب، وهكذا جواب صومها إذا طهرت
قبل الفجر لكن الأصح أن لا تعتبر التحريمة في حق الصوم. ثم قال: قال مشايخنا: زمان
الغسل من الطهر في حق صاحبة العشرة، ومن الحيض فيما دونها. ولكن ما قالوا في حق
القربان وانقطاع الرجعة وجواز التزوج بزوج آخر لا في حق جميع الأحكام، ألا ترى أنها إذا
طهرت عقب غيبوبة الشفق ثم اغتسلت عند الفجر الكاذب ثم رأت الدم في الليلة السادسة
عشر بعد زوال الشفق فهو طهر تام وإن لم يتم خمسة عشر من وقت الاغتسال ا ه‍. وقوله
الأصح أن لا يعتبر في الصوم التحريمة ظاهره الاكتفاء بمضي زمان الغسل.
وفي السراج الوهاج: ولو انقطع دمها في بعض ليالي رمضان، فإن وجدت في الليل
مقدار ما تغتسل ويبقى ساعة من الليل فإنه يجب عليها قضاء العشاء ويجوز صومها من الغد،
وإن بقي من الليل أقل من ذلك لا يجب عليها قضاء العشاء ولا يجوز صومها من الغد. ومن
التوشيح: إن كانت أيامها دون العشرة لا يجزئها صوم هذا اليوم إذا لم يبق من الوقت قدر
الاغتسال والتحريمة لأنه لا يحكم بطهارتها إلا بهذا، وإن بقي مقدار الغسل والتحريمة فإنه
يجزئها صومها لأن العشاء صارت دينا عليها وأنه من حكم الطهارات فحكم بطهارتها ضرورة
ا ه‍. وهذا هو الحق فيما يظهر. وفي الكافي للحاكم: ولو كانت نصرانية تحت مسلم فانقطع
عنها الدم فيما دون العشرة وسع الزوج أن يطأها ووسعها أن تتزوج لأنه لا اغتسال عليها
لعدم الخطاب وهي مخرجة من حمل قراءة التشديد على ما دون الأكثر كما لا يخفى، فإن
أسلمت بعد الانقطاع لا تتغير الأحكام لأنا حكمنا بخروجها من الحيض بنفس الانقطاع فلا
يعود بالاسلام بخلاف ما إذا عاودها الدم فرؤية الدم مؤثرة في إثبات الحيض به ابتداء،
355

فكذلك يكون مؤثرا في البقاء بخلاف الاسلام. كذا في المبسوط. وفي الخلاصة: فإن أدركها
الحيض في شئ من الوقت سقطت الصلاة عنها إن افتتحها. وأجمعوا أنها إذا طهرت وقد
بقي من الوقت قدر ما لا يسع فيه التحريمة لا يلزمها قضاء هذه الصلاة، وإذا أدركها الحيض
بعد شروعها في التطوع كان عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت ا ه‍. وكذا إذا شرعت في
صوم التطوع ثم حاضت فإنه يلزمها قضاؤه، فلا فرق بين الصلاة والصوم. ذكره في فتح
القدير من الصوم، وكذا في النهاية، وكذا ذكره الأسبيجابي هنا، فتبين أن ما في شرح الوقاية
من الفرق بينهما غير صحيح.
قوله: (والطهر بين الدمين في المدة حيض ونفاس) يعني أن الطهر المتخلل بين دمين
والدمان في مدة الحيض أو في مدة النفاس يكون حيضا في الأول ونفاسا في الثاني. اعلم أن
خمسة من أصحاب أبي حنيفة - وهم أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وابن المبارك -
روى كل منهم عنه في هذه المسألة رواية إلا محمدا فإنه روي عنه روايتين وأخذ بإحداهما،
فالأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة الآخر على ما في المبسوط أن الطهر المتخلل بين
الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يصير فاصلا بل يجعل كالدم المتوالي لأنه لا يصلح
للفصل بين الحيضتين فلا يصلح للفصل بين الدمين، وإن كان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون
فاصلا لكنه لا يتصور ذلك إلا في مدة النفاس. ثم إن كان في أحد طرفيه ما يمكن جعله
حيضا فهو حيض وإلا فهو استحاضة، ثم ينظر إن كان لا يزيد على العشرة فهو حيض كله
356

ما رأت الدم فيه وما لم تره، وسواء كانت مبتدأة أو لا، وما سواه فدم استحاضة وطهره طهر.
ووافق محمد أبا يوسف في الطهر المتخلل في مدة النفاس إن كان خمسة عشر يوما فصل بين
الدمين فيجعل الأول نفاسا والثاني حيضا إن أمكن بأن كان ثلاثة بلياليها فصاعدا أو يومين وأكثر
الثالث عند أبي يوسف وإلا كان استحاضة، وعند أبي حنيفة لا يفصل ويجعل إحاطة الدم بطرفيه
كالدم المتوالي، فلو رأت بعد الولادة يوما دما وثمانية وثلاثين طهرا ويوما دما فالأربعون نفاس
عنده، وعندهما نفاسها الدم الأول. ومن أصل أبي يوسف أيضا أنه يجوز بداية الحيض بالطهر
وختمه به بشرط أن يكون قبله وبعده دم ويجعل الطهر بإحاطة الدمين به حيضا، وإن كان قبله
دم ولم يكن بعده دم يجوز بداية الحيض بالطهر ولا يجوز ختمه به وعلى عكسه بأن كان بعده دم
ولم يكن قبله دم يجوز ختم الحيض بالطهر ولا يجوز بدايته به، فلو رأت مبتدأه يوما دما وأربعة
عشر طهرا ويوما دما كانت العشرة الأولى حيضا يحكم ببلوغها، ولو رأت المعتادة قبل عادتها
يوما دما وعشرة طهرا ويوما دما فالعشرة التي لم تر فيها الدم حيض إن كانت عادتها العشرة،
فإن كانت أقل ردت إلى أيام عادتها، والاخذ بقول أبي يوسف أيسر وكثير من المتأخرين أفتوا به
لأنه أسهل على المفتي والمستفتي، لأن في قول محمد وغيره تفاصيل يحرج الناس في ضبطها،
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وروى محمد عن أبي حنيفة
أن الشرط أن يكون الدم محيطا بطرفي العشرة فإذا كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلا بين
الدمين وإلا كان فاصلا، فلو رأت مبتدأة يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما، فالعشرة حيض
يحكم ببلوغها. ولو كانت معتادة فرأت قبل عادتها يوما دما وتسعة طهرا ويوما دما لا يكون
شئ منه حيضا، ووجه أن استيعاب الدم ليس بشرط إجماعا فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في
باب الزكاة، وقد اختار هذه الرواية أصحاب المتون لكن لم تصحح في الشروح كما لا يخفى
357

ولعله لضعف وجهها فإن قياسها على النصاب غير صحيح لأن الدم منقطع في أثناء المدة
بالكلية، وفي المقيس عليه يشترط بقاؤ جزء من النصاب في أثناء الحول، وإنما الذي اشترط
وجوده في الابتداء والانتهاء تمامه.
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يعتبر أن يكون الدم في العشرة مثل أقله وهو قول
زفر، ووجهه أن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام وهو اسم للدم، فإذا بلغ المرئي هذا
المقدار كان قويا في نفسه فجعل أصلا وما يتخلله من الطهر تبع له. وإن كان الدم دون هذا
كان ضعيفا في نفسه لا حكم له إذا انفرد فلا يمكن جعل زمان الطهر تبعا له، فلو رأت يوما
دما وثمانية طهرا ويوما دما لم يكن شئ منه حيضا. وقال محمد: الطهر المتخلل إن نقض عن
ثلاثة أيام ولو بساعة لا يفصل اعتبارا بالحيض، فإن كان ثلاثة فصاعدا فإن كان مثل الدمين
أو أقل فكذلك تغليبا للمحرمات لأن اعتبار الدم يوجب حرمتها واعتبار الطهر يوجب حلها
فغلب الحرام الحلال، وإن كان أكثر فصل ثم ينظر إن كان في أحد الجانبين ما يمكن أن يجعل
حيضا فهو حيض والآخر استحاضة، وإن لم يكن فالكل استحاضة ولا يمكن كون كل من
المحتوشين حيضا لأن الطهر حينئذ أقل من الدمين إلا إذا زاد على العشرة فيجعل الأول حيضا
لسبقه لا الثاني ومن أصله أن لا يبدأ الحيض بالطهر ولا يختم به، سواء كان قبله أو بعده دم
أو لم يكن، ولا يجعل زمان الطهر زمان الحيض بإحاطة الدمين به، ولو رأت مبتدأة يوما دما
ويومين طهرا ويوما دما فالأربعة حيض، ولو رأت يوما دما وثلاثة طهرا ويومين دما لستة
حيض للاستواء، ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا يوما دما لا يكون حيضا لغلبة الطهر، ولو
رأت ثلاثة دما وخمسة طهرا ويوما دما فالثلاثة حيض لغلبة الطهر فصار فاصلا والمتقدم أمكن
جعله حيضا، ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا وثلاثة دما فالأخير حيض لما تقدم، ولو رأت
ثلاثة دما وستة طهرا وثلاثة دما فحيضها الثلاثة الأول لسبقها ولا تكون العشرة حيضا لغلبة
الطهر فيها وإن كان مساويا باعتبار الزائد عليها، وقد صحح قول محمد في المبسوط والمحيط
358

وعليه الفتوى لكن قال المحقق في فتح القدير: الأولى الافتاء بقول أبي يوسف لما قد مناه. وفي
معراج الدراية: جعل قول محمد رواية عن أبي حنيفة فثبت أنه روى عنه روايتين أخذ بإحداهما.
وروى زفر عن أبي حنيفة أنها إذا زادت في طرفي العشرة ثلاثة أيام دما فهي حيض وإلا فلا.
ذكر هذه الرواية في التوشيح والمعراج والخبازية إلا أن المذكور في المبسوط وأكثر الكتب
المشهورة أن قول زفر رواية ابن المبارك المتقدمة ولم يذكروا له رواية عن أبي حنيفة. والظاهر أن
هذه الرواية لا تخالف رواية ابن المبارك إلا أن يقال: إن هذه الرواية تفيد اشتراط وجود الدم في
العشرة، ورواية ابن المبارك لا تفيد إلا اشتراط وجود ثلاثة أيام دما ولو في طرف واحد.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن نقص الطهر عن ثلاثة لم يفصل وإن كان ثلاثة فصل
كيفما كان. ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضا يجعل ذلك حيضا كما قاله محمد.
وإنما خالفه في أصل واحد وهو أنه لم يعتبر غلبة الدم ولا مساواته بالطهر. وفي فتح القدير:
فرع على هذه الأصول: رأت يومين دما وخمسة طهرا ويوما دما ويومين طهرا ويوما
دما، فعند أبي يوسف العشرة الأولى حيض إن كانت عادتها أو مبتدأة لأن الحيض يختم
بالطهر، وإن كانت معتادة فعادتها فقط لمجاوزة الدم العشرة. وعلى قول محمد الأربعة الأخيرة
فقط لأنه تعذر جعل العشرة حيضا لاختتامها بالطهر، وتعذر جعل ما قبل الطهر الثاني حيضا
لأن الغلبة فيه للطهر فطرحنا الدم الأول والطهر الأول فبقي بعده يوم دم ويومان طهر ويوم
359

دم والطهر أقل من ثلاثة فجعلنا الأربعة حيضا. وعند زفر الثمانية حيض لاشتراطه كون الدم
ثلاثة في العشرة ولا يختم عنده بالطهر وقد وجد أربعة دما، وكذلك هو أيضا على رواية
محمد عن أبي حنيفة لخروج الدم الثاني عن العشرة.
فرع آخر: عادتها عشرة فرأت ثلاثة وطهرت ستة، عند أبي يوسف لا يجوز قربانها،
وعند محمد يجوز لأن المتوهم بعده من الحيض يوم الستة أغلب من الأربعة فيجعل الدم الأول
فقط حيضا بخلاف قول أبي يوسف. ولو كانت طهرت خمسة وعادتها تسعة اختلفوا على قول
محمد، قيل لا يباح قربانها لاحتمال الدم في يومين آخرين، وقيل يباح وهو الأولى لأن اليوم
الزائد موهوم لأنه خارج العادة. وفي نظم ابن وهبان إفادة أن المجيز للقربان يكره ا ه‍. ما
في فتح القدير. وعبارة النظم هذه:
ولو طهرت بعد الثلاث وطهرت وعادتها لم تمض فالوطئ يذكر
كراهته بعض وينفيه بعضهم وبالصوم تأتي والصلاة وتذكر
ولا يخفى بعد هذه الإفادة من النظم لأن ما فيه ليس هذه الصورة بل الاغتسال عقب
الطهر من غير بيان أن الطهر غالب على الحيض أو لا، وهي المسألة التي قدمناها وهي أن
الدم إذا انقطع لأقل من العادة هل وطؤها حرام أو مكروه، وليس فيه خلاف الإمامين ولم
ينقل فيها الجواز أصلا ونقل الكراهة لا يفيده لأن الجواز بمعنى الحل لا يجامع كراهة التحريم
بخلافه بمعنى الصحة.
قوله: (وأقل الطهر خمسة عشرة يوما) بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولأنه مدة
360

اللزوم فصار كمدة الإقامة. قوله: (ولا حد لأكثره إلا عند نصب العادة في زمن الاستمرار)
لأنه قد يمتد إلى سنة وإلى سنتين وقد لا تحيض أصلا فلا يمكن تقديرا أكثره إلا عند
الضرورة. وشمل كلامه ثلاث مسائل: الأولى إذا بلغت مستحاضة فستأتي أنه يقدر حيضها
بعشرة من كل شهر وباقيه طهر. والثانية إذا بلغت برؤية عشرة مثلا دما وسنة طهرا ثم استمر
بها الدم فقال أبو عصمة والقاضي أبو حازم: حيضها ما رأت وطهرها ما رأت فتنقضي عدتها
بثلاث سنين وثلاثين يوما. وهذا بناء على اعتباره للطلاق أول الطهر، والحق أنه إن كان من
أول الاستمرار إلى إيقاع الطلاق مضبوطا فليس هذا التقدير بلازم لجواز كون حسابه يوجب
كونه أول الحيض فيكون أكثر من المذكور بعشرة أيام أو آخر الطهر فيقدر بسنتين وأحد
وثلاثين أو اثنين أو ثلاثة وثلاثين ونحو ذلك، وإن لم يكن مضبوطا فينبغي أن تزاد العشرة
إنزالا له مطلقا أول الحيض احتياطا. كذا في فتح القدير. وقد يقال: لما كان الطلاق في
361

الحيض محرما لم ينزلوه مطلقا فيه حملا لحال المسلم على الصلاة وهو واجب ما أمكن. والثالثة
مسألة المضللة وتسمى بالمحيرة وفيها ثلاثة فصول: الأولى الاضلال بالعدد. والثاني الاضلال
بالمكان. والثالث الاضلال بهما. والأصل أنها متى تيقنت بالطهر في وقت صلت فيه
بالوضوء لوقت كل صلاة وصامت، ومتى تيقنت بالحيض في وقت تركتهما فيه، ومتى
شكت في وقت أنه وقت حيض أو طهر تحرت، فإن لم يكن لها رأي تصلي فيه بالوضوء
لوقت كل صلاة وتصوم وتقضيه دونها، ومتى شكت في وقت أنه حيض أو طهر أو خروج
عن الحيض تصلي فيه بالغسل لكل صلاة لجواز أنه وقت الخروج من الحيض ولا يأتيها زوجها
بحال لاحتمال الحيض.
أما الأول وهو ما إذا نسيت عدد أيامها بعد ما انقطع الدم عنها أشهرا واستمر وعلمت
أن حيضها في كل شهر مرة فإنها تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار لتيقنها بالحيض
فيها، ثم تغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من
الحيض، ثم تتوضأ عشرين يوما لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها. وأما إذا لم
تعلم أنه في كل شهر مرة فهو على ثلاثة أوجه: أحدها ما إذا لم تعلم عدد حيضها وطهرها
فإنها تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار، ثم تصلي سبعة بالاغتسال لوقت كل صلاة،
ثم تصلي ثمانية بالوضوء لوقت كل صلاة لتيقنها بالطهر فيها ويأتيها زوجها فيها، ثم تصلي
362

ثلاثة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الطهر والحيض، ثم تصلي بالاغتسال لكل صلاة
كما قدمناه. وثانيها إذا علمت أن طهرها خمسة عشر ولم تعلم عدد حيضها فإنها تدع الصلاة
ثلاثة أيام، ثم تصلي سبعة بالغسل، ثم تصلي ثمانية بالوضوء باليقين، ثم تصلي ثلاثة أيام
بالوضوء بالشك فبلغ ذلك أحدا وعشرين يوما، فإن كان حيضها ثلاثة فابتداء طهرها الثاني
بعد أحد وعشرين يوما، وإن كان حيضها عشرة فابتداء طهرها الثاني بعد خمسة وثلاثين
فتصلي في هذه الأربعة عشر التي بعد الاحد والعشرين بالاغتسال لكل صلاة للتردد بين
الثلاثة، ثم تصلي يوما بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين لتيقنها بالطهر لأنه اليوم الخامس عشر
منه الذي هو السادس والثلاثون، ثم تصلي ثلاثة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد فيها بين الحيض والطهر، ثم تغتسل لكل صلاة أبدا لأنه ما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها
من الحيض. وثالثها إذا علمت أن حيضها ثلاثة ولا تعلم عدد طهرها فإنها تدع الصلاة ثلاثة
أيام من أول الاستمرار، ثم تصلي خمسة عشر يوما بالوضوء لوقت كل صلاة لتيقنها بالطهر
فيه، ثم تصلي ثلاثة بالوضوء للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل لكل صلاة أبدا لتوهم
خروجها عن الحيض كل ساعة، وإن علمت أنها كانت تحيض في كل شهر مرة من أوله أو
آخره ولا تدري العدد تتوضأ ثلاثة أيام في أول الشهر لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر،
ثم تغتسل سبعة أيام للتردد بين الثلاثة ثم تتوضأ إلى آخر الشهر وتغتسل مرة واحدة لتمام
الشهر لجواز خروجها من الحيض لأن الشك في العشرة الأولى والأخيرة لا في الوسطى.
وأما الثاني وهو الاضلال بالمكان فأصله أنها متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو
363

أكثر من الضعف فلا تتيقن بالحيض في شئ منه كما لو أضلت ثلاثة في ستة أو أكثر،
ومتى أضلت أيامها في دون ضعفها من العدد فإنها تتيقن بالحيض في شئ منه كما لو
أضلت ثلاثة في خمسة فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث فإنه أول الحيض أو آخره، فإن
علمت أن أيامها كانت ثلاثة ولا تعلم موضعها من الشهر تصلي ثلاثة أيام من أول الشهر
بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل سبعة وعشرين لكل صلاة
لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة، وإن علمت أن أيامها أربعة توضأت في الأربعة
ثم اغتسلت لكل صلاة إلى آخر العشر، وكذا لو علمت أن أيامها خمسة توضأت خمسة ثم
اغتسلت إلى آخر العشر، ولو علمت أن أيامها ستة توضأت أربعة من أول العشر وتدع
الصلاة والصوم يومين لتيقنها بالحيض فيهما لما قدمناه من الأصل، ثم تغتسل أربعة لكل
صلاة لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة، وإن علمت أن أيامها سبعة صلت
بالوضوء ثلاثة أيام من أولها وتدع أربعة أيام لتيقنها بالحيض فيها، ثم تغتسل لكل صلاة
ثلاثة أيام: وعلى هذا القياس الثمانية والتسعة.
وأما الثالث وهو الاضلال بهما كما إذا استحيضت ونسيت عدد أيامها ومكانها فإنها
تتحرى وإن لم يكن لها رأي اغتسلت لكل صلاة على الصحيح، وقيل لوقت كل صلاة
وتصلي المكتوبات والواجبات والسنن المؤكدة ولا تصلي تطوعا كالصوم تطوعا وتقرأ القدر
المفروض والواجب على الصحيح، وقيل تقتصر على المفروض وتقرأ في الركعتين الأخيرتين
على الصحيح لأنها سنة، وقيل لا. ولا تقرأ في الوتر اللهم إنا نستعينك لأنها سورة عند
عمر وغيره يقوم مقامه. ولا تقرأ شيئا من القرآن خارج الصلاة ولا تمس المصحف ولا
تدخل المسجد ولو سمعت آية السجدة فسجدت في الحال لا تجب الإعادة عليها لأنها إن
كانت طاهرة فقد صح أداؤها وإلا لم تلزمها، وإن سجدت بعد ذلك أعادت بعد العشرة
لاحتمال طهارتها وقت السماع وحيضها وقت السجود. وأما قضاء الفوائت فإن كان عليها
فوائت فقضتها فعليها إعادتها بعد عشرة أيام لاحتمال حيضها وقت القضاء. وقال أبو علي
الدقاق: تقضيها بعد العشرة قبل أن تزيد على خمسة عشر وهو الصحيح لجواز أن يعود
حيضها بعد خمسة عشر يوما. وأما الصوم فإنها تصوم كل شهر رمضان لاحتمال طهارتها
364

كل يوم وتعيد بعد رمضان عشرين يوما وهو على ثلاثة أوجه: الأول إن علمت أن ابتداء
حيضها كان يكون بالليل فإنها تقضي عشرين يوما لجواز أن حيضها في كل شهر عشرة أيام،
فإذا قضت عشرة يجوز حصولها في الحيض فتقضي عشرة أخرى. والثاني إن علمت أن ابتداء
حيضها كان يكون بالنهار فتقضي اثنين وعشرين يوما لأن أكثر ما فسد صومها في الشهر أحد
عشر يوما فتقضي ضعفه احتياطا، وإن لم تعلم شيئا قال عامة مشايخنا: تقضي عشرين لأن
الحيض لا يزيد على عشرة. وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: تقضي اثنين وعشرين يوما وهو
الأصح احتياطا لجواز أن يكون بالنهار. وهذا إذا علمت دورها في كل شهر، فإن لم تعلم
ذلك، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان بالليل تقضي خمسة وعشرين يوما لجواز أنها حاضت
عشرة في أوله وخمسة في آخره أو على العكس فعليها قضاء خمسة عشر يوما، فإذا قضته
موصولا بالشهر فعلى التقدير الأول فخمسة أيام من شوال بقية حيضها الثاني فلا يجزئ الصوم
365

فيها ويجزئها في خمسة عشر بعدها وعلى العكس، فيوم الفطر أول يوم من طهرها لا تصوم
فيه ثم يجزئها الصوم في أربعة عشر يوما، ثم لا يجزئها في عشرة، ثم يجزئها في آخر يوم
فجملته خمسة وعشرون يوما. وكذلك إن قضته مفصولا لتوهم أن ابتداء القضاء كان وافق
أول يوم من حيضها فلا يجزئها الصوم في عشر ثم يجزئها في خمسة عشر. وإن علمت أن
ابتداء حيضها كان بالنهار تقضي اثنين وثلاثين يوما إن قضته موصولا برمضان لأن أكثر ما
فسد من صومها من أول الشهر ستة عشر يوما، وإن قضته مفصولا تقضي ثمانية وثلاثين
يوما لتوهم أن ابتداء القضاء وافق أول يوم من حيضها فلا يجزئها الصوم في أحد عشر ثم
يجزئها في أربعة عشر ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في يومين، فجملته ثمانية وثلاثون
يوما. وإن كانت لا تعلم شيئا قال عامة مشايخنا: تصوم خمسة وعشرين يوما. وقال الفقيه أبو
جعفر: إن قضته موصولا صامت اثنين وثلاثين، وإن قضته مفصولا صامت ثمانية وثلاثين
يوما وهو الأصح لما بينا. وهذا كله إذا كان شهر رمضان كاملا، فإن كان ناقصا وعلمت أن
ابتداء حيضها كان بالليل أو لم تعلم، فإن وصلت قضت ثلاثة وثلاثين يوما، وإن فصلت
صامت سبعة وثلاثين يوما. وأما إن حجت فلا تأتي بطواف التحية لأنه سنة وتطوف للزيارة
366

لأنه ركن ثم تعيده بعد عشرة، وتطوف للصدر ولا تعيده لأنها إن كانت طاهرة فقد سقط
وإلا فلا يجب على الحائض. ولا يأتيها زوجها تجنبا عن وقوعه في الحيض، ولا يطؤها
بالتحري لأن التحري في باب الفروج لا يجوز. نص عليه في كتاب التحري في باب
الجواري. وقال مشايخنا: له أن يتحرى لأن زمان الطهر أكثر فتكون الغلبة للحلال وعند
غلبة الحلال يجوز التحري كما في المساليخ إذا غلب الحلال منها. كذا في المحيط مع
حذف للبعض، ومن أشكل عليه شئ مما كتبناه فليراجعه. وأما حكم العدة ففيه اختلاف،
367

فمنهم من لم يقدر لها طهرا ولا تنقضي عدتها أبدا لأن التقدير لا يجوز إلا توقيفا، والعامة
قدروه بسنة، والميداني بستة أشهر إلا ساعة لأن الطهر بين الدمين أقل من أدنى مدة الحبل
عادة فنقصنا عنه ساعة لتنقضي عدتها بتسعة عشر شهرا إلا ثلاث ساعات لاحتمال أنه
طلقها أول الطهر. وبحث الشارح الزيلعي أنه ينبغي زيادة عشرة لمثل ما قلنا في المسألة
الثانية وجوابه بمثل ما قدمناه. وعن محمد بن الحسن شهران واختاره الحاكم الشهيد وعليه
الفتوى لأنه أيسر على المفتي والنساء كذا في النهاية والعناية وفتح القدير.
قوله (ولو زاد الدم على أكثر الحيض والنفاس فما زاد على عادتها استحاضة) لأن ما
رأته في أيامها حيض بيقين، وما زاد على العشرة استحاضة بيقين، وما بين ذلك متردد بين
أن يلحق بما قبله فيكون حيضا فلا تصلي وبين أن يلحق بما بعده فيكون استحاضة فتصلي
فلا تترك الصلاة بالشك فيلزمها قضاء ما تركت من الصلاة. والمراد بالأكثر عشرة أيام
وعشر ليال في الحيض حتى إذا كان عشرة أيام وتسع ليال ثم زاد الدم فإنه حيض حتى
يزيد على ليلة الحادي عشر. كذا في السراج الوهاج. وهل تترك بمجرد رؤيتها الزيادة؟
قيل لا إذ لم تتيقن بكونه حيضا لاحتمال الزيادة على العشرة، وقيل نعم استصحابا للحال
ولان الأصل الصحة وكونه استحاضة بكونه عن داء. وصححه في النهاية وغيرها. وكذا
في النفاس، فما زاد على الأربعين ولها عادة معروفة فإنها ترد إليها أطلقه فشمل ما إذا كان
ختم عادتها بالدم أو بالطهر. وهذا عند أبي يوسف، وعند محمد إن كان ختم عادتها بالدم
368

فكذلك، وإن كان بالطهر فلا، لأن أبا يوسف يرى ختم الحيض والنفاس بالطهر إذا كان
بعده دم، ومحمد لا يرى ذلك. وبيانه ما ذكر في الأصل إذا كانت عادتها في النفاس
ثلاثين يوما فانقطع دمها على رأس عشرين يوما وطهرت عشرة أيام تمام عادتها فصلت
وصامت ثم عاودها الدم فاستمر بها حتى جاوز الأربعين ذكر أنها مستحاضة فيما زاد على
الثلاثين ولا يجزئها صومها في العشرة التي صامت فيلزمها القضاء. قال الحاكم الشهيد:
هذا على مذهب أبي يوسف يستقيم، فأما على مذهب محمد ففيه نظر لما قدمناه فنفاسها عنده
عشرون يوما فلا يلزمها قضاء ما صامت في العشرة أيام بعد العشرين. كذا في البدائع.
وقيد بكونه زاد على الأكثر لأنه لو زاد على العادة ولم يزد على الأكثر فالكل حيض اتفاقا
بشرط أن يكون بعده طهر صحيح، وإنما قيدنا به لأنها لو كانت عادتها خمسة أيام مثلا من
أول كل شهر فرأت ستة أيام فإن السادس حيض أيضا، فإن طهرت بعد ذلك أربعة عشر
يوما ثم رأت الدم فإنها ترد إلى عادتها وهي خمسة واليوم السادس استحاضة فتقضي ما
تركته فيه من الصلاة. كذا في السراج الوهاج. وإنما الخلاف في أنه يصير عادة لها أو لا
إلا إن رأت في الثاني كذلك. وهذا بناء على نقل العادة بمرة أو لا، فعندهما لا، وعند أبي
يوسف نعم. وفي الخلاصة والكافي أن الفتوى على قول أبي يوسف. وإنما تظهر ثمرة
الاختلاف فيما لو استمر بها الدم في الشهر الثاني، فعند أبي يوسف يقدر حيضها من كل
شهر ما رأته آخرا، وعندهما على ما كان قبله. كذا في فتح القدير وفيه نظر، بل ثمرة
الاختلاف تظهر أيضا فيما إذا رأت في الشهر الأول زيادة على عادتها فإن الامر موقوف
369

عند أبي حنيفة إن رأت في الشهر الثاني مثله فهذا والأول حيض وإلا فهو استحاضة.
وقالا: حيض لأن أبا يوسف يرى نقض العادة بمرة، ومحمد يرى الابدال إن أمكن كما
صرح به في الكافي فيما إذا رأت يومين فيها يوما قبلها.
وفي الفتاوى الظهيرية: ولو رأت صاحبة العادة قبل أيامها ما يكون حيضا، وفي أيامها
ما لا يكون حيضا، أو رأت قبل أيامها ما لا يكون حيضا وفي أيامها ما لا يكون حيضا لكن
إذا جمعا كانا حيضا أو رأت قبل أيامها ما يكون حيضا ولم تر في أيامها شيئا لا يكون شئ
من ذلك حيضا عند أبي حنيفة والامر موقوف إلى الشهر الثاني، فإن رأت في الشهر الثاني مثل
ما رأت في الشهر الأول يكون الكل حيضا، وعندهما يكون حيضا غير أن عند أبي يوسف
بطريق العادة، وعند محمد بطريق البدل. ولو رأت قبل أيامها ما لا يكون حيضا وفي أيامها
ما يكون حيضا فالكل حيض بالاتفاق، ويجعل ما قبل أيامها تبعا لأيامها. ولو رأت قبل
أيامها ما يكون حيضا وفي أيامها ما يكون حيضا، فعن أبي حنيفة روايتان وكذا الحكم في
المتأخر غير أنها إذا رأت في أيامها ما يكون حيضا وبعد أيامها ما لا يكون
370

حيضا يكون الكل حيضا رواية واحدة عن أبي حنيفة. وقد بين الابدال على قول محمد وأطال فيه فمن رامه
فليراجعها. وما في الظهيرية هو الانتقال من حيث المكان، وما تقدم هو انتقال العادة من
حيث العدد وعلى هذا الخلاف لو انقطع دون عادتها على ثلاث أو أربعة. كذا في السراج
الوهاج. وفي الظهيرية: والعادة كما تنتقل برؤية الدم المخالف للدم المرئي في أيامها مرتين
فكذلك تنتقل بطهر أيامها مرتين. قيد بكونها معتادة لأنه لو لم يكن لها عادة معروفة بأن
كانت ترى شهرا ستا وترى شهرا سبعا فاستمر بها الدم فإنها تأخذ في حق الصوم والصلاة
والرجعة بالأقل، وفي حق انقضاء العدة والغشيان بالأكثر. فعليها إذا رأت ستة أيام في
الاستمرار أن تغتسل في اليوم السابع لتمام السادس وتصلي فيه وتصوم إن كان دخل عليها
شهر رمضان لأنه يحتمل أن يكون السابع حيضا ويحتمل أن لا يكون حيضا فوجب احتياطا،
فإذا جاء الثامن فعليها الغسل ثانيا وتقضي اليوم الذي صامته في السابع لاحتمال كونها
حائضا فيه ولا تقضي الصلاة. وإن كانت عادتها خمسة فحاضت ستة ثم حاضت أخرى سبعة
ثم حاضت أخرى ستة فعادتها ستة بالاجماع حتى يبني الاستمرار عليها لأن عند أبي يوسف
يبني الاستمرار على المرة الأخيرة، وأما عندهما فقد رأت الستة مرتين. كذا في البدائع
371

والمبسوط. ومنهم - كصاحب المحيط والمصفى - جعل هذا نظير العادة الجعلية وإنها نوعان:
أصلية وهي أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين على الولاء أو أكثر وأن الخلاف جار فيها،
والجعلية تنتقل برؤية المخالف مرة واحدة اتفاقا وهي أن ترى أطهارا مختلفة ودماء مختلفة بأن
رأت في الابتداء خمسة دما وسبعة عشر طهرا ثم أربعة وستة عشر ثم ثلاثة وخمسة عشر، ثم
استمر بها الدم. فعلى قول محمد بن إبراهيم يبني على أوسط الاعداد فتدع من أول الاستمرار
أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها، وعلى قول ابن مزاحم تبني على أقل المرئيين الأخيرين
فتدع ثلاثة وتصلي خمسة عشر فهذه عادتها جعلية لها في زمن الاستمرار، ولذلك سميت
جعليه لأنها جعلت عادة للضرورة، ولا يخفى أن ما في البدائع وغيره أولى لأنه أحوط. ثم
اختلفوا في العادة الجعلية إذا طرأت على العادة الأصلية هل تنتقض الأصلية؟ قال أئمة بلخ:
لا لأنها دونها. وقال أئمة بخارى: نعم لأنها لا بد أن تتكرر في الجعلية خلاف ما كان في
الأصلية فإن المرأة متى كانت عادتها الأصلية في الحيض خمسة فلا تثبت العادة الجعلية إلا
برؤية ستة وسبعة وثمانية ويتكرر فيها خلاف العادة الأصلية مرارا، فالعادة الأصلية تنتقل
بالتكرار بخلافها. كذا في المحيط. وفي المجتبى: والعادة تنتقل عند أبي يوسف بأحد أمور
ثلاثة: بعدم رؤية مكانها مرة، وبطهر صحيح صالح لنصب العادة يخالف الأول مرة، ودم
صالح مخالف مرة. وعندهما بتكرر هذه الأمور مرتين على الولاء اه‍.
قوله: (ولو مبتدأة فحيضها عشرة ونفاسها أربعون) أي لو كانت المستحاضة ابتدأت مع
البلوغ مستحاضة أو مع الولد الأول فحيضها ونفاسها الأكثر لأن الأصل الصحة فلا يحكم
بالعارض إلا بيقين، وتترك الصلاة بمجرد رؤية الدم على الصحيح كصاحبة العادة، وعن أبي
حنيفة أنها لا تترك ما لم تستمر ثلاثة أيام. وتثبت عادة هذه المبتدأة بمرة واحدة، فلو رأت
خمسة دما وخمسة عشر طهرا ثم استمر الدم فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار خمسة ثم
تصلي خمسة عشر وذلك عادتها لأن الانتقال عن حالة الصغر في النساء لا يحصل إلا بمرة
واحدة بخلاف المعتادة. ثم العادة في حق المبتدأة أيضا نوعان: أصلية وجعلية، فالأولى على
وجهين: أحدهما أن ترى دمين خالصين وطهرين خالصين متفقين على الولاء بأن رأت مبتدأة
ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا ثم استمر بها الدم، فإنها تدع
الصلاة من أول الاستمرار وتصلي خمسة عشر لأن ذلك صار عادة أصلية لها بالتكرار. والثاني
372

أن ترى دمين وطهرين مختلفين بأن رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا
ثم استمر بها الدم، فعند أبي يوسف أيام حيضها وطهرها ما رأت أول مرة، واختلفوا في
قولهما فقيل عادتها ما رأته أول مرة، وقيل عادتها أقل المرتين لأن الأقل موجود في الأكثر
فيتكرر الأقل معنى. وأما العادة الجعلية فهي أن ترى ثلاثة دماء وأطهار مختلفة، ثم استمر الدم
بها بأن رأت خمسة دما وسبعة عشر طهرا. وأربعة دما وستة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر
طهرا. واختلفوا فقيل عادتها أوسط الاعداد فتدع من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر،
وقيل أقل المرئيين الأخيرين فتدع من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر، فلو رأت مبتدأة
ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا وخمسة دما وسبعة عشر طهرا ثم استمر
بها الدم، فعادتها أربعة في الدم وستة عشر في الطهر اتفاقا لأن ذلك أقل المرئيين الأخيرين
وأوسط الاعداد. ولو رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا وثلاثة دما
وخمسة عشر طهرا، فإن عادتها ثلاثة في الدم وخمسة عشر في الطهر لأنا جعلنا ما رأته آخرا
مضموما إلى ما رأته أولا لأنه تأكد بالتكرار فصار عادة جعلية لها. كذا في المحيط. وبقية
مسائل المبتدأة مذكورة فيه فمن رامها فليراجعه ولخوف الإطالة المؤدية إلى الملل لم نوردها.
وأطلق العشرة فشمل الأولى والوسطى والأخيرة لأن المراد عشرة من أول ما رأت.
قوله: (وتتوضأ المستحاضة ومن به سلس بول أو استطلاق بطن أو انفلات ريح أو
رعاف دائم أو جرح لا يرقأ لوقت كل فرض) لما كان الحيض أكثر وقوعا قدمه، ثم أعقبه
الاستحاضة لأنه أكثر وقوعا من النفاس فإنها تكون مستحاضة بما إذا رأت الدم حالة الحبل،
أو زاد الدم على العشرة، أو زاد الدم على عادتها وجاوز العشرة، أو رأت ما دون الثلاث، أو
رأت قبل تمام الطهر، أو رأت قبل أن تبلغ تسع سنين على ما عليه العامة. وكذا من أسباب
الاستحاضة إذا زاد الدم على الأربعين في النفاس أو زاد على عادتها وجاوز الأربعين، وكذا ما
تراه الآيسة بخلاف النفاس فإن سببه شئ واحد. وقدم حكم الاستحاضة ومن بمعناها على
تفريعها لأن المقصود بيان الحكم. ودم الاستحاضة اسم لدم خارج من الفرج دون الرحم
وعلامته أنه لا رائحة له، ودم الحيض منتن الرائحة. ومن به سلس بول وهو من لا يقدر
على امساكه والرعاف الدم الخارج من الانف والجرح الذي لا يرقأ أي الذي لا يسكن دمه من
رقا الدم سكن. وإنما كان وضوءها لوقت كل فرض لا لكل صلاة لقوله عليه الصلاة
والسلام المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة رواه سبط ابن الجوزي عن أبي حنيفة. وحديث
توضئ لكل صلاة محمول عليه لأن اللام للوقت. وفي الفتاوى الظهيرية: رجل رعف أو
373

سال من جرحه دم ينتظر آخر الوقت، إن لم ينقطع الدم توضأ وصلى قبل خروج الوقت، فإن
توضأ وصلى ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى وانقطع الدم ودام الانقطاع إلى وقت
صلاة أخرى توضأ وأعاد الصلاة، وإن لم ينقطع في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت
جازت الصلاة ا ه‍. وسيأتي إيضاحه. وقيد بالوضوء لأنه لا يجب عليها الاستنجاء لوقت كل
صلاة. كذا في الظهيرية أيضا. وفي البدائع: وإنما تبقى طهارة صاحب العذر في الوقت إذا
لم يحدث حدثا آخر، أما إذا أحدث حدثا آخر فلا تبقى كما إذا سال الدم من أحد منخرية
فتوضأ ثم سال من المنخر الآخر فعليه الوضوء لأن هذا حدث جديد لم يكن موجودا وقت
الطهارة، فأما إذا سال منهما جميعا فتوضأ ثم انقطع أحدهما فهو على وضوئه ما بقي الوقت
اه‍.
قوله: (ويصلون به فرضا ونفلا) أي يصلي أرباب الاعذار بوضوئهم ما شاؤوا فرضا
كان أو واجبا أو نفلا فالمراد بالنفل ما زاد على الفرض فيشمل الواجب.
فروع وينبغي لصاحب الجرح أن يربطه تقليلا للنجاسة، ولو سال على ثوبه فعليه أن
يغسله إذا كان مفيدا بأن لا يصيبه مرة أخرى، وإن كان يصيبه المرة بعد الأخرى أجزأه ولا
يجب غسله ما دام العذر قائما، وقيل لا يجب غسله أصلا، واختار الأول السرخسي.
والمختار ما في النوازل إن كان لو غسله تنجس ثانيا قبل الفراغ من الصلاة جاز أن لا يغسله
وإلا فلا. ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو أو كان لو جلس لا يسيل ولو
قام سال وجب رده، وخرج برده عن أن يكون صاحب عذر بخلاف الحائض إذا منعت
الدرور فإنها حائض. واختلفوا في المستحاضة إذا احتشت، قيل كصاحب العذر، وقيل
كالحائض. كذا في السراج. ويجب أن يصلي جالسا بإيماء إن سال بالميلان لأن ترك السجود
أهون من الصلاة مع الحدث، ولا يجوز أن يصلي من به انفلات ريح خلف من به سلس
البول لأن الإمام معه حدث ونجاسة فكان صاحب عذرين، والمأموم صاحب عذر واحد.
ولو كان في عينيه رمد يسيل دمعها يؤمر بالوضوء لكل وقت لاحتمال كونه صديدا. وفي
374

فتح القدير: وأقول هذا التعليل يقتضي أنه أمر استحباب فأن الشك والاحتمال في كونه
ناقضا لا يوجب الحكم بالنقض إذ اليقين لا يزول بالشك، نعم إذا علم من طريق غلبة الظن
بإخبار الأطباء أو علامات تغلب على ظن المبتلي يجب اه‍. وهو حسن لكن صرح في السراج
الوهاج بأنه صاحب عذر فكان الامر للايجاب.
قوله: (ويبطل بخروجه فقط) أي ولا يبطل بدخوله ومراده يظهر الحدث السابق عند
خروجه فإضافة البطلان إلى الخروج مجاز لأنه لا تأثير للخروج في الانتقاض حقيقة، ولهذا لا
يجوز لهم المسح على الخفين بعد الوقت إذا كان العذر موجودا وقت الوضوء، أو اللبس ولا
البناء إذا خرج الوقت وهم في الصلاة. وظهور الحدث السابق عنده إنما هو مقتصر من كل
وجه على التحقيق لا أنه مستند إلى أول الوقت، ولهذا لو شرع صاحب العذر في التطوع ثم
خرج الوقت لزمه القضاء، ولو كان ظهوره مستندا لم يلزمه لأن المراد بظهوره أن ذلك الحدث
محكوم بارتفاعه إلى غاية معلومة فيظهر عندها مقتصرا لا أن يظهر قيامه شرعا من ذلك
375

الوقت، ومن حقق أنه اعتبار شرعي لم يشكل عليه مثله. ثم إنما يبطل بخروجه إذا توضؤوا
على السيلان أو وجد السيلان بعد الوضوء، أما إذا كان على الانقطاع ودام إلى خروج الوقت
فلا يبطل بالخروج ما لم يحدث حدثا آخر أو يسيل دمها، وأفاد أنه لو توضأ بعد طلوع
الشمس ولو لعيد أو ضحى على الصحيح فلا تنتقض إلا بخروج وقت الظهر لا بدخوله
خلافا لأبي يوسف، وأنه لو توضأ قبل الطلوع انتقض بالطلوع اتفاقا خلافا لزفر، وأنه لو
توضأ في وقت الظهر للعصر بطل بخروج وقت الظهر على الصحيح. فالحاصل أنه ينتقض
بالخروج لا بالدخول عندهما، وعند أبي يوسف بأيهما وجد، وعند زفر بالدخول فقط.
قوله: (وهذا إذا لم يمض عليهم وقت فرض إلا وذلك الحدث يوجد فيه) أي وحكم
الاستحاضة والعذر يبقى إذا لم يمض على أصحابهما وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به
يوجد فيه ولو قليلا حتى لو انقطع وقتا كاملا خرج عن كونه عذرا. قيدنا بكونه شرط البقاء
لأن شرط ثبوته ابتداء بأن يستوعب وقتا كاملا. كذا في أكثر الكتب. وفي النهاية يشترط في
الابتداء دوام السيلان من أول الوقت إلى آخره اعتبارا بالسقوط فإنه لا يتم حتى ينقطع في
الوقت كله. وفي شرح الشيخ حميد الدين الضرير: فالشرط في الابتداء أن يكون الحدث
مستغرقا جميع الوقت حتى لو لم يستغرق كل الوقت لا تكون مستحاضة، وظاهره أنه لو
انقطع في الوقت زمنا يسيرا لا تكون مستحاضة. وفي الكافي ما يخالفه فإنه قال: إنما يصير
صاحب عذر إذا لم يجد في وقت صلاة زمانا يتوضأ فيه خاليا عن الحدث. وفي التبيين أن
الأظهر خلاف ما في الكافي. وفي فتح القدير أن ما في الكافي يصلح تفسيرا لما في غيره إذ
قل ما يستمر كمال وقت بحيث لا ينقطع لحظة فيؤدي إلى نفي تحققه إلا في الامكان بخلاف
جانب الصحة منه فإنه يدوم انقطاعه وقتا كاملا وهو مما يتحقق اه‍. وفي شرح الدرر والغرر
لمنلاخسرو: لا مخالفة بين ما في عامة الكتب وما ذكره في الكافي بدليل أن شراح الجامع
الخلاطي قالوا في شرح قوله لأن زوال العذر يثبت باستيعاب الوقت كالثبوت أن الانقطاع
الكامل معتبر في إبطال رخصة المعذور والقصر غير معتبر إجماعا فاحتيج إلى حد فاصل،
فقدرنا بوقت الصلاة كما قدرنا به ثبوت العذر ابتداء فإنه يشترط لثبوته ابتداء دوام السيلان
376

من أول الوقت إلى أخره لأنه إنما يصير صاحب عذر ابتداء فإنه يشترط لثبوته ابتداء دوام
السيلان من أول الوقت إلى آخره لأنه إنما يصير صاحب عذر ابتداء إذا لم يجد في وقت صلاة
زمانا يتوضأ فيه ويصلي خاليا عن الحدث الذي ابتلى به اه‍. فالحاصل أن صاحب العذر ابتداء
من استوعب عذره تمام وقت صلاة ولو حكما لأن الانقطاع اليسير ملحق بالعدم وفي البقاء
من وجد عذره في جزء من الوقت، وفي الزوال يشترط استيعاب الانقطاع حقيقة. وفي
السراج الوهاج: للمستحاضة وضوءان: كامل وناقص، فالكامل أن تتوضأ والدم منقطع فهذه
لا يضرها خروج الوقت إذا لم يسل إلى خرجه، والناقص أن تتوضأ وهو سائل فهذه يضرها
خروجه، سال بعد ذلك أولا. ولها انقطاعان: كامل وناقص. فالكامل أن ينقطع وقتا كاملا
فهذا يوجب الزوال ويمنع اتصال الدم الثاني بالأول، والناقص أن ينقطع دونه فهذا لا يزيله
ويكون ما بعده كدم متصل. وبيانه إذا زالت الشمس ودمها سائل فتوضأت على السيلان ثم
انقطع قبل الشروع في صلاة الظهر أو بعده قبل القعود قدر التشهد أو بعده قبل السلام عند
الإمام ودام الانقطاع حتى خرج وقت الظهر انتقض وضوءها لأنه ناقص فأفسده خروج
الوقت، ثم إذا توضأت للعصر فتم الانقطاع حتى غربت الشمس لم ينتقض وضوءها لأنه
كامل فلا يضره الخروج، ولكن عليها إعادة الظهر لأن دمها انقطع وقتا كاملا وتبين أنها
صلت الظهر بطهارى العذر والعذر زائل، ولا يجب عليها إعادة العصر لأن فساد الظهر إنما
عرف بعد الغروب. وأما إذا كان دمها انقطع بعدما فرغت من صلاة الظهر أو بعد القعود
قدر التشهد على قولهما فإنها لا تعيد الظهر لأن عذرها زال بعد الفراغ كالمتيمم إذا رأى الماء
بعد الفراغ من الصلاة اه‍. وظن القوام الأتقاني في غاية البيان أن ما ذكر في المتن تعريف
للمستحاضة فأورد عليه الحائض والنفساء لأن الحائض قد تكون بهذه المثابة بأن لا يمضي
عليها وقت إلا وهو يوجد فيه، واختار تعريفا للمستحاضة بأنها هي التي ترى الدم مستغرقا
وقت صلاة في الابتداء من غير شرط استمرار في البقاء في زمان لا يعتبر من الحيض
والنفاس اه‍. وليس كما ظن بل هو شرط لها لا تعريف وقد قدمنا تعريف الاستحاضة.
قوله: (والنفاس دم يعقب الولد) شرعا. وفي اللغة هو مصدر نفست المرأة بضم النون
وفتحها إذا ولدت فهي نفساء وهن نفاس. وإنما سمى الدم به لأن النفس التي هي اسم لجملة
الحيوان قوامها بالدم، وقولهم النفاس هو الدم الخارج عقيب الولد تسمية بالمصدر كالحيض.
فأما اشتقاقه من تنفس الرحم أو خروج النفس بمعنى الولد فليس بذاك. كذا في المغرب. وأفاد
377

المصنف أنها لو ولدت ولم تر دما لا تكون نفساء. ثم يجب الغسل عند أبي حنيفة احتياطا لأن
الولادة لا تخلو ظاهرا عن قليل دم، وعند أبي يوسف لا يجب لأنه متعلق بالنفاس ولم يوجد. كذا
في فتح القدير وفيه نظر، بل هي نفساء عند أبي حنيفة لما في السراج الوهاج أنه يبطل صومها عند
أبي حنيفة إن كانت صائمة، عند أبي يوسف لا غسل عليها ولا يبطل صومها اه‍. فلو لم تكن نفساء
لم يبطل صومها، وصحح الشارح الزيلعي قول أبي يوسف معزيا إلى المفيد وقال: لكن يجب عليها
الوضوء بخروج النجاسة مع الولد إذ لا تخلو عن رطوبة. وصحح في الفتاوى الظهيرية قول الإمام
بالوجوب، وكذا صححه في السراج الوهاج قال: وبه كان يفتي الصدر الشهيد فكان هو
المذهب. وفي العناية: وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة. وأراد المصنف بالدم الدم الخارج
عقب الولادة من الفرج فإنها لو ولدت من قبل سرتها بأن كان ببطنها جرح فانشقت وخرج الولد
منها تكون صاحبة جرح سائل لا نفساء وتنقضي به العدة وتصير الأمة أم ولد، ولو علق طلاقها
بولادتها وقع لوجود الشرط. كذا في الفتاوى الظهيرية إلا إذا سال الدم من الأسفل فإنها تصير
نفساء ولو ولدت من السرة لأنه وجد خروج الدم من الرحم عقب الولادة. كذا في المحيط.
والدم الخارج عقب خروج أكثر الولد كالخارج عقب كله فيكون نفاسا، وإن خرج الأقل لا يكون
حكمها حكم النفساء ولا تسقط عنها الصلاة ولو لم تصل تكون عاصية لربها. ثم كيف تصلي؟
قالوا: يؤتى بقدر فيجعل القدر تحتها أو يحفر لها حفيرة وتجلس هناك وتصلي كيلا تؤذي ولدها.
كذا في الظهيرية ونقله في المحيط عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد وزفر: إذا خرج أكثره لا
يكون نفاسا لأن عندهما النفاس لا يثبت إلا بوضع الحمل كله.
قوله (ودم الحامل استحاضة) لانسداد فم الرحم بالولد فلا يخرج منه دم ثم يخرج
بخروج الولد للانفتاح به، ولذا حكم الشارع بكون وجود الدم دليلا على فراغ الرحم في
قوله صلى الله عليه وسلم ألا لا تنكح الحبالى حتى يضعن ولا الحبالى حتى يستبرأن بحيضة. وأفاد أن ما
378

تراه من الدم في حال ولادتها قبل خروج أكثر الولد استحاضة فتتوضأ إن قدرت في هذه الحالة
أو تتيمم وتومئ بالصلاة ولا تؤخر فما عذر الصحيح القادر. كذا في المجتبى. قوله (والسقط
أن ظهر بعض خلقه ولد) هو بالكسر والتثليث لغة كذا في المصباح وهو الولد الساقط قبل تمامه
وهو كالساقط بعد تمامه في الأحكام فتصير المرأة به نفساء وتنقضي به العدة وتصير الأمة به أم
ولد إذا ادعاه المولى، ويحنث به لو كان علق يمينه بالولادة. ولا يستبين خلقه إلا في مائة
وعشرين يوما كذا ذكره الشارح الزيلعي في باب ثبوت النسب. والمراد نفخ الروح وإلا
فالمشاهد ظهور خلقته قبلها. قيد بقوله إن ظهر لأنه لو لم يظهر من خلقته شئ فلا يكون ولدا
ولا تثبت هذه الأحكام فلا نفاس لها لكن إن أمكن جعل المرئي من الدم حيضا بأن يدوم إلى
أقل مدة الحيض ويقدمه طهر تام يجعل حيضا وإن لم يمكن كان استحاضة. كذا في العناية وإن
كان لا يدري أمستبين هو أم لا بأن أسقطت في المخرج واستمر بها الدم إن أسقطت أول أيامها
تركت الصلاة قدر عادتها بيقين لأنها إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل وتصلي عادتها في الطهر
بالشك لاحتمال كونها نفساء أو طاهرة، ثم تترك الصلاة قدر عادتها بيقين لأنها إما نفساء أو
حائض، ثم تغتسل وتصلي عادتها في الطهر بيقين إن كانت استوفت أربعين من وقت الاسقاط
وإلا فبالشك في القدر الداخل فيها، وبيقين في الباقي، ثم تستمر على ذلك. وإن أسقطت بعد
أيامها فإنها تصلي من ذلك الوقت قدر عادتها في الطهر بالشك، ثم تترك قدر عادتها في الحيض
379

بيقين. وحاصل هذا كله أنه لا حكم للشك ويجب الاحتياط، وفي كثير من نسخ الخلاصة غلط
في التصوير هنا من النساخ فاحترس منه. كذا في فتح القدير. وفي النهاية: فإن رأت دما قبل
إسقاط السقط ورأت دما بعده، فإن كان مستبين الخلق فما رأت قبله لا يكون حيضا وهي
نفساء فيما رأته بعده، وإن لم يكن مستبين الخلق فما رأته بعده حيض إن أمكن كما قدمناه.
قوله (ولا حد لأقله) أي النفاس لأن تقدم الولد علم الخروج من الرحم فأغنى عن امتداده بما
جعل علما عليه بخلاف الحيض. وذكر شيخ الاسلام في مبسوطه: اتفق أصحابنا على أن أقل
النفاس ما يوجد فإنها كما ولدت إذا رأت الدم ساعة ثم انقطع الدم عنها فإنها تصوم وتصلي
وكان ما رأت نفاسا لا خلاف في هذا بين أصحابنا، إنما الخلاف فيما إذا وجب اعتبار أقل
النفاس في انقضاء العدة بأن قال لها إذا ولدت فأنت طالق فقالت انقضت عدتي أي مقدار يعتبر
لأقل النفاس مع ثلاث حيض عند أبي حنيفة يعتبر أقله بخمسة وعشرين يوما، وعند أبي يوسف
بأحد عشر، وعند محمد بساعة، فأما في حق الصوم والصلاة فأقله ما يوجد. كذا في النهاية.
وإنما لم ينقص عن خمسة وعشرين عند أبي حنيفة لأنه لو نصب لها دون ذلك أدى إلى نقض
العادة عند عود الدم في الأربعين لأن من أصله أن الدم إذا كان في الأربعين فالطهر المتخلل فيه
لا يفصل طال الطهر أو قصر حتى لو رأت ساعة دما وأربعين إلا ساعتين طهرا ثم ساعة دما
كان الأربعون كله نفاسا. وعندهما إن لم يكن الطهر خمسة عشر يوما فكذلك وإن كان خمسة
عشر يوما فصاعدا يكون الأول نفاسا والثاني حيضا إن أمكن وإلا كان استحاضة، وهو رواية
ابن المبارك عنه، وكذا في حق الاخبار بانقضاء العدة مقدر بخمسة وعشرين يوما عنده، وأبو
يوسف قدره بأحد عشر يوما ليكون أكثر من أكثر الحيض. كذ في التبيين. فعلى هذا لا تصدق
في أقل من خمسة وثمانين يوما عند أبي حنيفة في رواية محمد عنه، وفي رواية الحسن لا تصدق
في أقل من مائة يوم وتوضيحه بتمامه في السراج الوهاج.
قوله (وأكثره أربعون يوما والزائد استحاضة) وهو مروي عن جماعة من الصحابة منهم
380

ابن عمر وعائشة، ولأنهم أجمعوا على أن أكثر مدة النفاس أربعة أمثال أكثر مدة الحيض، وقد
ثبت في باب الحيض أن أكثر مدته عشرة أيام بلياليها فكان أكثر مدة النفاس أربعين يوما.
وإنما كان كذلك لأن الروح لا تدخل في الولد قبل أربعة أشهر فتجتمع الدماء أربعة أشهر،
فإذا دخل الروح صار الدم غذاء للولد، فإذا خرج الولد خرج ما كان محتبسا من الدماء أربعة
أشهر في كل شهر عشرة أيام. كذا في النهاية. ومراده المبتدأة، وأما صاحبة العادة إذا زاد
دمها على الأربعين فإنها ترد إلى أيام عادتها، وقد ذكره من قبل هذا كذا في التبيين. وقد قدمنا
أن أبا يوسف يجوز ختم عادتها بالطهر ومحمد يمنعه فراجعه قوله (ونفاس التوأمين من الأول)
وهما الولدان اللذان بين ولادتيهما أقل من ستة أشهر، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف
لأن بالولد الأول ظهر انفتاح الرحم فكان المرئي عقبه نفاسا، وعند محمد وزفر نفاسها من
الثاني والأول استحاضة. وأفاد المصنف أن ما تراه عقب الثاني أن كان قبل الأربعين فهو
نفاس الأول لتمامها واستحاضة بعد تمامها عند أبي حنيفة وأبي يوسف فتغتسل وتصلي كما
وضعت الثاني وهو الصحيح. كذا في النهاية. وفي السراج الوهاج: ومن فوائد الاختلاف
إذا كان عادتها عشرين فرأت بعد الأول عشرين وبعد الثاني أحدا وعشرين، فعند أبي حنيفة
وأبي يوسف العشرون الأولى نفاس وما بعد الثاني استحاضة، وعند محمد وزفر العشرون
الأولى استحاضة تصوم وتصلي معها وما بعد الثاني نفاس. ولو رأت بعد الأول عشرين وبعد
الثاني عشرين وعادتها عشرون، فالذي بعد الثاني نفاس إجماعا، والذي قبله نفاس أيضا
عندهما خلافا لمحمد وزفر. وقيد بالتوأمين لأنه لو كان بينهما ستة أشهر فأكثر فهما حملان
381

ونفاسان، ولو ولدت ثلاثة أولاد بين الأول والثاني أقل من ستة أشهر، وكذا بين الثاني
والثالث ولكن بين الأول والثالث أكثر من ستة أشهر فالصحيح أنه يجعل حملا واحدا والله
تعالى أعلم.
باب الأنجاس
لما فرغ من الحكمية وتطهير شرع في الحقيقة وإزالتها. وقدم الحكمية لأنها أقوى لكون
قليلها يمنع جواز الصلاة اتفاقا ولا يسقط وجوب إزالتها بعذر ما إما أصلا أو خلفا بخلاف
الحقيقية. كذا في النهاية. وأما من به نجاسة وهو محدث إذا وجد ماء يكفي أحدهما فقط إنما
وجب صرفه إلى النجاسة لا الحدث ليتيمم بعده فيكون محصلا للطهارتين لا لأنها أغلظ من
الحدث. كذا في فتح القدير. والأنجاس جمع نحبس بفتحتين وهو كل مستقذر، وهو في
الأصل مصدر ثم استعمل اسما قال الله تعالى * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وكما أنه
يطلق على الحقيقي يطلق على الحكمي إلا أنه لما قدم بيان الحكمي أمن اللبس فأطلقه. كذا في
العناية. وفي الكافي: الخبث يطلق على الحقيقي والحدث على الحكمي والنجس عليهما اه‍.
والنجاسة شرعا عين مستقذرة شرعا وإزالتها عن البدن والثوب والمكان فرض إن كان القدر
المانع كما سيأتي وأمكن إزالتها من غير ارتكاب ما هو أشد حتى لو لم يتمكن من إزالتها إلا
بإبداء عورته للناس يصلي معها لأن كشف العورة أشد، فلو أبداها للإزالة فسق إذ من ابتلى
بين أمرين محظورين عليه أن يرتكب أهونهما. كذا في فتح القدير. وفي البزازية: ومن لم يجد
382

سترة تركه ولو على شط نهر لأن النهي راجح على الامر حتى استوعب النهي الأزمان ولم
يقتض الامر التكرار. وفي الخلاصة: إذا تنجس طرف من أطراف الثوب ونسيه فغسل طرفا
من أطراف الثوب من غير تحر حكم بطهارة الثوب هو المختار، فلو صلى مع هذا الثوب
صلوات ثم ظهر أن النجاسة في الطرف الآخر يجب عليه إعادة الصلوات التي صلى على هذا
الثوب اه‍. وفي الظهيرية: المصلي إذا رأى على ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته ففيه
تقاسيم واختلافات، والمختار عند أبي حنيفة أنه لا يعيد إلا الصلاة التي هو فيها، واختار في
البدائع في المسألة الأولى غسل الجميع احتياطا لأن موضع النجاسة غير معلوم وليس البعض
بأولى من البعض، وفي شرح النقاية: ولو وجب غسل على رجل ولم يجد ما يستره من رجال
يرونه يغتسل ولا يؤخر ولو وجب عليه الاستنجاء يتركه. والفرق أن النجاسة الحكمية أقوى
383

من النجاسة الحقيقية بدليل عدم جواز الصلاة معها وإن كانت دون الدرهم، ولو وجب غسل
على امرأة لا تجد سترة من الرجال تؤخر وإن كانت لا تجد سترة من النساء فكالرجل بين
الرجال اه‍. وينبغي أن تتيمم المرأة وتصلي لعجزها شرعا عن استعمال الماء فينتقل الحكم إلى
التيمم وسيأتي تفاريعها في شروط الصلاة.
قوله (يطهر البدن والثوب بالماء) وهذا بالاجماع وأراد به الماء المطلق وقد تقدم تعريفه في
بحث المياه. وأراد بطهارة البدن طهارته من الخبث لا من الحدث لأن عطف عليه المائع
الطاهر وإن كان الحدث يجوز إزالته بالماء. قوله (وبمائع مزيل كالخل وماء الورد) قياسا على
إزالتها بالماء بناء على أن الطهارة بالماء معلولة بعلة كونه قالعا لتلك النجاسة والمائع قالع فهو
384

محصل ذلك المقصود، فتحصل به الطهارة وما عن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما
قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به؟
قال: تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه. متفق عليه. فلا يدل على خلافه لأنه
مفهوم لقب وهو ليس بحجة كما عرف في الأصول. وألحت القشر بالعود والظفر ونحوه،
والقرص بأطراف الأصابع. وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد قياسا على النجاسة
الحكمية. وقيد بكونه مزيلا ليخرج الدهن والسمن واللبن وما أشبه ذلك لأن الإزالة إنما
تكون بأن يخرج أجزاء النجاسة مع المزيل شيئا فشيئا وذلك إنما يتحقق فيما ينعصر بالعصر
بخلاف الخل وماء الباقلا الذي لم يثخن فإنه مزيل، وكذا الريق. وعلى هذا فرعوا طهارة
الثدي إذا قاء عليه الولد ثم رضعه حتى أزال أثر القئ، وكذا إذا لحس أصبعه من نجاسة بها
حتى ذهب الأثر أو شرب خمرا ثم تردد ريقه في فيه مرارا طهر حتى لو صلى صحت صلاته.
وعلى قول محمد لا تصح ولا يحكم بالطهارة بذلك لأنه لا يجيز إزالتها إلا بالماء المطلق. ولم
يقيده بالطاهر كما في الهداية للاختلاف فيه، فقيل لا يشترط حتى لو غسل الثوب المتنجس
بالدم ببول ما يؤكل لحمه زالت نجاسة الدم وبقية نجاسة البول فلا يمثع ما لم يفحش.
وصحح السرخسي أن التطهير بالبول لا يكون، واختاره المحقق في فتح القدير. ووجهه أن
سقوط التنجس حال كون المستعمل في المحل ضرورة التطهير وليس البول مطهرا للتضاد بين
الوصفين فيتنجس بنجاسة الدم، فما ازداد الثوب بهذا إلا شرا إذ يصير جميع المكان المصاب
بالبول متنجسا بنجاسة الدم وإن لم يبق عين الدم. وتظهر ثمرة الاختلاف أيضا فيمن حلف ما
فيه دم وقد غسله بالبول لا يحنث على الضعيف، ويحنث على الصحيح إليه أشار في النهاية
وفي العناية: وكذا الحكم في الماء المستعمل يعني على القول بنجاسته، فقيل يزيل النجاسة
والأصح لا. وأما على القول بطهارته فهو مائع مزيل طاهر فيزيل النجاسة الحقيقية، وقد
385

صرح بكون المستعمل مزيلا القدوري في مختصره. وفي النهاية: إنما يتصور على رواية محمد
عن أبي حنيفة وأما على رواية أبي يوسف فهو نجس فلا يزيل النجاسة وقد قدمنا الكلام عليه
في بحث الماء المستعمل. ثم أعلم أن القياس يقتضي تنجس الماء بأول الملاقاة للنجاسة لكن
سقط للضرورة، سواء كان الثوب في إجانة وأورد الماء عليه أو كان الماء فيها وأورد الثوب
المتنجس عليه، عندنا فهو طاهر في المحل نجس إذا انفصل سواء تغير أو لا. وهذا في
الماءين بالاتفاق وأما الماء الثالث فهو طاهر عندهما إذا انفصل أيضا لأنه كان طاهرا وانفصل
عن محل طاهر، وعند أبي حنيفة نجس لأن طهارته في المحل ضرورة تطهيره وقد زالت.
وإنما حكم شرعا بطهارة المحل عند انفصاله ولا ضرورة في اعتبار الماء المنفصل ظاهرا مع
مخالصة النجس بخلاف الماء الرابع فإنه لم يخالطه ما هو محكوم شرعا بنجاسته في المحل فيكون
طاهرا. وأما عند الشافعي فإنما سقط هذا القياس في الماء الوارد على النجاسة، أما في الماء
الذي وردت عليه النجاسة فلا يطهر عنده. وعلى هذا فالأولى في غسل الثوب النجس وضعه
في الإجانة من غير ماء ثم صب الماء عليه لا وضع الماء أولا ثم وضع الثوب فيه خروجا من
الخلاف. ولما سقط ذلك القياس عندنا مطلقا لم يفرق محمد بين تطهير الثوب النجس في
الإجانة والعضو النجس بأن يغسل كلا منهما في ثلاث إجانات طاهرات أو ثلاثا في إجانة
بمياه طاهرة ليخرج من الثالث طاهرا. وقال أبو يوسف بذلك في الثوب خاصة، أما العضو
المتنجس إذا غمس في إجانات طاهرات نجس الجميع ولا يطهر بحال بل بأن يغسل في ماء
جار أو يصب عليه لأن القياس يأبى حصول الطهارة لهما بالغسل في الأواني فسقط في
الثياب للضرورة وبقي في العضو لعدمها. وهذا يقتضي أنه لو كان المتنجس من الثوب
موضعا صغيرا فلم يصب الماء عليه وإنما غسله في الاناء فإنه لا يطهر عند أبي يوسف لعدم
الضرورة لتيسر الصب. وعلى هذا جنب اغتسل في آبار ولم يكن استنجى تنجس كلها وإن
كثرت، وإن كان استنجى صارت فاسدة ولم يطهر عند أبي يوسف. وقال محمد: إن لم يكن
استنجى يخرج من الثالثة طاهرا وكلها نجسة، وإن كان استنجى يخرج من الأولى طاهرا
وسائرها مستعملة. كذا في المصفى. وينبغي تقييد الاستعمال بما إذا قصد القربة عنده. كذا
386

في فتح القدير. وقد قدمنا في بحث الماء المستعمل أنه لا يحتاج إلى قصد القربة عند محمد على
الصحيح، وقدمنا أن ماء البئر لا يصير مستعملا على الصحيح لأن الملاقي للعضو المنفصل
عنه وهو قليل بالنسبة إلى ماء البئر فلا يصير ماؤها مستعملا كما أوضحناه في الخير الباقي في
جواز الوضوء في الفساقي. وتكلمنا عليه في شرحنا هذا فراجعه.
قوله (لا الدهن) أي لا يجوز التطهير بالدهن لأنه ليس بمزيل، وما روي عن أبي
يوسف من أنه لو غسل الدم من الثوب بدهن حتى ذهب أثره جاز فخلاف الظاهر عنه، بل
الظاهر عن أبي حنيفة وصاحبيه خلافه. كذا في شرح منية المصلي، وكذا ما روي في المحيط
من كون اللبن مزيلا في رواية فضعيف وعلى ضعفه فهو محمول على ما إذا لم يكن فيه
دسومة. وفي المجتبى: والماء المقيد ما استخرج بعلاج كماء الصابون والحرض والزعفران
والأشجار والاثمار والباقلا فهو طاهر غير طهور يزيل النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن
جميعا. كذا قال الكرخي والطحاوي. وفي العيون: لا يزيل عن البدن في قولهم جميعا
والصحيح ما ذكراه اه‍. قوله (والخف بالدلك بنجس ذي جرم وإلا يغسل) بالرفع عطفا على
البدن أي يطهر الخف بالدلك إذا أصابته نجاسة لها جرم، وإن لم يكن لها جرم فلا بد من
غسله الحديث أبي داود إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعله أذى أو قذرا
فليمسحه وليصل فيهما (1) وفي حديث ابن خزيمة فطهورهما التراب وخالف فيه محمد
والحديث جحة عليه ولهذا روي رجوعه كما في النهاية. قيد بالخف لأن الثوب والبدن لا
يطهران بالدلك إلا في المني لأن الثوب لتخلخه يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها
إلا الغسل، والبدن للينه ورطوبته وما به من العرق لا يجف، فعلى هذا فما روي عن محمد
في المسافر إذا أصاب يده نجاسة يمسحها بالتراب فمحمول على أن المسح لتقليل النجاسة لا
للتطهير وإلا فمحمد لا يجوز الإزالة بغير الماء، وهما لا يقولان بالدلك لا في الخف والنعل.
كذا في فتح القدير. وطاهر ما في النهاية أن المسح للتطهير فيحمل على أن عن محمد
روايتين. ولم يقيده بالجفاف للإشارة إلى أن قول أبي يوسف هنا هو الأصح فإن عنده لا
تفصيل بين الرطب واليابس، وهما قيداه بالجفاف وعلى قوله أكثر المشايخ. وفي النهاية
والعناية، والخانية والخلاصة وعليه الفتوى وفي فتح القدير وهو المختار لعموم البلوى
ولاطلاق الحديث. وفي الكافي: والفتوى أنه يطهر لو مسحه بالأرض بحيث لم يبق أثر
387

النجاسة اه‍. فعلم به أن المسح بالأرض لا يطهر إلا بشرط ذهاب أثر النجاسة وإلا لا يطهر.
وأطلق الجرم فشمل ما إذا كان الجرم منها أو من غيرها بأن ابتل الخف بخمر فمشى به على
رمل، أو رماد فاستجمد فمسحه بالأرض حتى تناثر طهر وهو الصحيح. كذا في التبيين. ثم
الفاصل بينهما أن كل ما يبقى بعد الجفاف على ظاهر الخف كالعذرة والدم فهو جرم، وما لا
يرى بعد الجفاف فليس بجرم، واشتراط الجرم قول الكل لأنه لو أصابه بول فيبس لم يجزه
حتى يغسله لأن الاجزاء تتشرب فيه فاتفق الكل على أن المطلق مقيد، فقيده أبو يوسف بغير
الرقيق، وقيداه بالجرم والجفاف. وإنما قيده أبو يوسف به لأنه مفاد بقوله طهور أي مزيل،
ونحن نعلم أن الخف إذا تشرب البول لا يزيله المسح، فإطلاقه مصروف إلى ما يقبل الإزالة
بالمسح. كذا في النهاية والعناية. وتعقبه في فتح القدير بأنه لا يخفى ما فيه إذ معنى طهور
مطهر واعتبر ذلك شرعا بالمسح المصرح به في الحديث الآخر الذي ذكرناه مقتصرا عليه،
وكما لا يزيل ما تشرب به من الرقيق كذلك لا يزيل ما تشرب من الكثيف حال الرطوبة على
ما هو المختار للفتوى باعتراف هذا المجيب. والحاصل فيه بعد إزالة الجرم كالحاصل قبل
الدلك في الرقيق فإنه لا يشرب إلا ما في استعداده قبوله وقد يصيبه من الكثيفة الرطبة مقدار
كثير يشرب من رطوبته مقدار ما يشربه من بعض الرقيق اه‍. وقد يفرق بأن التشرب وإن كان
موجودا فيهما لكن عفي عنه في التشرب من الكثيف حال الرطوبة للضرورة والبلوى، ولأنا
نعلم أن الحديث يفيد طهارتها بالدلك مع الرطوبة إذ ما بين المسجد والمنزل ليس مسافة يجف
في مدة قطعها ما أصاب الخف رطبا، ولم يعف عن التشرب في الرقيق لعدم الضرورة
والبلوى إذ قد جوزوا كون الجرم من غيرها بأن يمشي به على رمل أو تراب فيصير لها جرم
فتطهر بالدلك فحيث أمكنه ذلك لا ضرورة في التطهير بدونه والله سبحانه أعلم. وذكر
المصنف الدلك بالأرض تبعا لرواية الأصل وهو المسح فإنه ذكر في الأصل إذا مسحهما
بالتراب يطهر. وفي الجامع الصغير: إنه إن حكه أو حته بعدما يبس طهر. قال في النهاية
قال مشايخنا: لولا المذكور في الجامع الصغير لكنا نقول إنه إذا لم يمسحهما بالتراب لا يطهر
لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة فإن محمدا قال في المسافر إذا أصاب يده نجاسة
يمسحها بالتراب. فأما الحك فلا أثر له في باب الطهارة، فالمذكور في الجامع الصغير بين أن
388

له أثرا أيضا اه‍. وقد قدمنا مسألة مسح المسافر يده المتنجسة. وأعلم أنا قد قدمنا أن الطهارة
بالمسح خاصة بالخف والنعل وأن المسح لا يجوز في غيرهما كما قالوا، أو ينبغي أن يستثنى
منه ما في الفتاوى الظهيرية وغيرها إذا مسح الرجل محجمة بثلاث خرقات رطبات نظاف
أجزأه عن الغسل. هكذا ذكره الفقيه أبو الليث ونقله في فتح القدير وأقره عليه ثم قال:
وقياسه ما حول محل الفصد إذا تلطخ ويخاف من الإسالة السريان إلى الثقب ا ه‍. وهو
يقتضي تقييد مسألة المحاجم بما إذا خاف من الإسالة ضررا كما لا يخفى والمنقول مطلق.
وفي الفتاوى الظهيرية: خف بطانة ساقه من الكرباس فدخل في خروقه ماء نجس فغسل
الخف ودلكه باليد ثم ملا الماء وأراقه طهر للضرورة يعني من غير توقف على عصر الكرباس
كما صرح به البزازي في فتاواه. ثم قال في الظهيرية أيضا: الخف يطهر بالغسل ثلاثا إذا
جففه في كل مرة بخرقة. وعن القاضي الإمام صدر الاسلام أبي اليسر: إنه لا يحتاج إلى
التجفيف. وفي السراج الوهاج: الخف إذا دهن بدهن نجس ثم غسل بعد ذلك فإنه يطهر.
قوله (وبمني يابس بالفرك وإلا يغسل) معطوف على قوله بالماء يعني يطهر البدن
والثوب والخف وإذا أصابه مني بفركه إن كان يابسا وبغسله إن كان رطبا، وهو فرغ نجاسة
المني خلافا للشافعي لحديث مسلم عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة
في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. فإن حمل على حقيقته من أنه فعله بنفسه فظاهر
لأنه لو كان طاهرا لم يغسله لأنه إتلاف الماء لغير حاجة وهو سرف، أو هو على مجازه وهو
أمره بذلك فهو فرع علمه أطلق مسألة المني فشمل منيه ومنيها. وفي طهارة فيها بالفرك
اختلاف، قال الفضلي: لا يطهر به لرقته والصحيح أنه لا فرق بين مني الرجل ومني المرأة.
كذا في فتاوى قاضيخان. وشمل البدن والثوب في أن كلا منهما يطهر بالفرك وهو ظاهر
الرواية للبلوى، وعن أبي حنيفة أن البدن لا يطهر بالفرك لرطوبته. كذا في شرح المجمع
لابن الملك. وشمل ما إذا تقدمه مذي أو لا، وقيل إنما يطهر بالفرك إذا لم يسبقه مذي فإن
سبقه لا يطهر إلا بالغسل، وعن هذا قال شمس الأئمة: مسألة المني مشكلة لأن كل فحل
يمذي ثم يمني إلا أن يقال إنه مغلوب بالمني مستهلك فيه فيجعل تبعا اه‍. وفي فتح القدير:
وهذا ظاهر في أنه إذا كان الواقع أنه لا يمني حتى يمذي وقد طهره الشرع بالفرك يابسا يلزم
أن يكون اعتبر ذلك الاعتبار للضرورة بخلاف ما إذا بال ولم يستنج بالماء حتى أمنى فإنه لا
389

يطهر حينئذ إلا بالغسل لعدم الملجئ كما قيل. وقيل: ولو بال ولم ينتشر البول على رأس
الذكر بأن لم يتجاوز الثقب فأمنى لا يحكم بتنجيس المني، وكذا إذا جاوز لكن خرج المني دفقا
من غير أن ينتشر على رأس الذكر لأنه لم يوجد سوى مروره على البول في مجراه ولا أثر
لذلك في الباطن ا ه‍. وظاهر المتون الاطلاق أعني سواء بال واستنجى أو لم يستنج بالماء فإن
المني يطهر بالفرك لأنه مغلوب مستهلك كالمذي، ولم يعف في المذي إلا لكونه مستهلكا لا
لأجل الضرورة. وأطلق في الثوب فشمل الجديد والغسيل فيطهر كلا منهما بالفرك، وقيده
في غاية البيان بكون الثوب غسيلا احترازا عن الجديد فإنه لا يطهر بالفرك ولم أره فيما عندي
من الكتب لغيره وهو بعيد كما لا يخفى. وشمل ما إذا كان للثوب بطانة نفذ إليها وفيه
اختلاف، والصحيح أن البطانة تطهر بالفرك كالظاهرة لأنه من أجزاء المني. كذا في النهاية
وغيرها. ثم نجاسة المني عندنا مغلظة. كذا في السراج الوهاج معزيا إلى خزانة الفقيه أبي
الليث. وحقيقة الفرك، الحك باليد حتى يتفتت. كذا في شرح ابن الملك. وقد صرح
المصنف بطهارة المحل بالفرك، وكذا في الكل وفيه اختلاف نذكره في آخرها إن شاء الله
تعالى. وفي المجتبى: وبقاء أثر المني بعد الفرك لا يضر كبقائه بعد الغسل. وفي المسعودي:
مني الانسان نجس وكذا مني كل حيوان، وأشار إلى أن العلقة والمضغة نجسان كالمني، وقد
صرح بذلك في النهاية والتبيين، وكذا الولد إذا لم يستهل فهو نجس ولهذا قال قاضيخان في
فتاواه، الولد إذا نزل من المرأة ولم يستهل وسقط في الماء أفسده، سواء غسل أو لا. وكذا لو
حمله المصلي لا تصح صلاته اه‍. وفي المجتبى: أصاب الثوب دم عبيط فيبس فحته طهر
الثوب كالمني اه‍. وفيه نظر لتصريحهم بأن طهارة الثوب بالفرك إنما هو في المني لا في
غيره. وفي البدائع: وأما سائر النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن ونحوهما فإنها لا تزول
إلا بالغسل، سواء كانت رطبة أو يابسة، وسواء كانت سائلة أو لها جرم. ولو أصاب ثوبه
خمر فألقى عليها الملح ومضى عليه من المدة مقدار ما يتخلل فيها لم يحكم بطهارته حتى
يغسله، ولو أصابه عصير فمضى عليه من المدة مقدار ما يتخمر العصير لا يحكم بنجاسته اه‍.
قوله (ونحو السيف بالمسح) أي يطهر كل جسم صقيل لا مسام له بالمسح جديدا كان
390

أو غيره، فخرج الجديد إذا كان عليه صدأ أو منقوشا فإنه لا يطهر إلا بالغسل، وخرج الثوب
الصقيل لوجود المسام، ودخل الظفر إذا كان عليه نجاسة فمسحها، وكذلك الزجاجة
والزبدية الخضراء أعني المدهونة والخشب الخراطي والبوريا القصب كما في فتح القدير. وزاد
في السراج الوهاج العظم والآبنوس وصفائح الذهب والفضة إذا لم تكن منقوشة. وإنما
اكتفى بالمسح لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم ثم يمسحونها
ويصلون معها: ولأنه لا يتداخله النجاسة وما على طاهره يزول بالمسح أطلقه فشل الرطب
واليابس والعذرة والبول. وذكر في الأصل أن البول والدم لا يطهر إلا بالغسل والعذرة
الرطبة كذلك، واليابسة تطهر بالحت عندهما خلافا لمحمد والمصنف كأنه اختار ما ذكره
الكرخي ولم يذكر خلاف محمد وهو المختار للفتوى لما قدمناه من فعل الصحابة. كذا في
العناية. وقد أفاد المصنف طهارته بالمسح كنظائره وفيه اختلاف، فقيل تطهر حقيقة، وقيل
تقل وإليه يشير قول القدوري حيث قال: اكتفى بمسحهما ولم يقل طهرتا وسيأتي بيان
الصحيح فيه. وفي نظائره وفائدته فيما لو قطع البطيخ أو اللحم بالسكين الممسوحة من
النجاسة فإنه يحل أكله على الأول دون الثاني. ولا يخفى أن المسح إنما يكون مطهرا بشرط
زوال الأثر كما قيده به قاضيخان في فتاواه، ولا فرق بين أن يمسحه بتراب أو خرقة أو
صوف الشاة أو غير ذلك كما في الفتاوى أيضا. والمسام منافذ الشئ.
قوله (والأرض باليبس وذهاب الأثر للصلاة لا للتيمم) أي تطهر الأرض المتنجسة
بالجفاف إذا ذهب أثر النجاسة فتجوز الصلاة عليها، ولا يجوز التيمم منها لاثر عائشة
ومحمد ابن الحنفية: زكاة الأرض يبسها. أي طهارتها. وإنما لم يجز التيمم منها لأن الصعيد
علم قبل التنجس طاهرا وطهورا وبالتنجس علم زوال الوصفين، ثم ثبت بالجفاف شرعا
أحدهما أعني الطهارة فيبقى الآخر على ما علم من زواله وإذا لم يكن طهورا لا يتيمم به،
وهذا أولى مما ذكره الشارحون في الفرق بأن طهارة المكان ثبتت بدلالة النص التي خص منها
حالة غير الصلاة، والنجاسة القليلة والعام المخصوص من الحجج المجوزة كخبر الواحد فجاز
تخصيصه بالأثر بخلاف قوله تعالى فتيمموا فإنه من الحجج الموجبة التي لم يدخله تخصيص،
391

فإن المصنف في الكافي قال بعده: ولي فيه إشكال لأن النص لا عموم له في الأحوال لأنها
غير داخلة تحت النص وإنما تثبت ضرورة، والتخصيص يستدعي سبق التعميم، ولان الطيب
يحتمل الطاهر والمنبت. وعلى الثاني حمله أبو يوسف والشافعي ولا يجوز أن يكونا مرادين لأن
المشترك لا عموم له فيكون مؤولا، وهو من الحجج المجوزة كالعام المخصوص قيد بالأرض
احترازا عن الثوب والحصير والبدن وغير ذلك فإنها لا تطهر بالجفاف مطلقا. ويشارك
الأرض في حكمها كل ما كان ثابتا فيها كالحيطان والأشجار والكلأ والقصب وغيره ما دام
قائما عليها، فيطهر بالجفاف وهو المختار. كذا في الخلاصة. فإن قطع الخشب والقصب
وأصابته نجاسة فإنه لا يطهر إلا بالغسل. ويدخل في القصب الخص بضم الخاء المعجمة
وبالصاد المهملة. البيت من القصب والمراد به هنا السترة التي تكون على السطوح من
القصب. كذا في شرح الوقاية. وكذا الجص بالجيم كما في الخلاصة حكمه حكم الأرض
بخلاف اللبن الموضوع على الأرض. وأما الحجر فذكر الخجندي أنه لا يطهر بالجفاف. وقال
الصيرفي: إن كان الحجر أملس فلا بد من الغسل، وإن كان تشرب النجاسة كحجر الرحا
فهو كالأرض والحصى بمنزلة الأرض. وأما اللبن والآجر فإن كانا موضوعين ينقلان
ويحولان فإنهما لا يطهران بالجفاف لأنهما ليسا بأرض، وإن كان اللبن مفروشا فجف قبل أن
يقلع طهر بمنزلة الحيطان. وفي النهاية: إن كانت الآجرة مفروشة في الأرض فحكمها حكم
الأرض، وإن كانت موضوعة تنقل وتحول، فإن كانت النجاسة على الجانب الذي يلي الأرض
جازت الصلاة عليها، وإن كانت النجاسة على الجانب الذي قام عليه المصلي لا تجوز صلاته.
كذا في السراج الوهاج. وإذا رفع الآجر عن الفرش هل يعود نجسا؟ فيه روايتان كذا في
البزازية وسيأتي بيان الصحيح في نظائره.
وأطلق في اليبس ولم يقيده بالشمس كما قيده القدوري لأن التقييد به مبني على العادة
وإلا فلا فرق بين الجفاف بالشمس والنار والريح والظل. وقيد باليبس لأن النجاسة لو كانت
رطبة لا تطهر إلا بالغسل، فإن كانت رخوة تتشرب الماء كما صب عليها فإنه يصب عليها
الماء حتى يغلب على ظنه أنها طهرت، ولا توقيت في ذلك. وعن أبي يوسف يصب بحيث
لو كانت هذه النجاسة في الثوب طهر، واستحسن هذا صاحب الذخيرة. وإن كانت صلبة
إن كانت منحدرة حفر في أسفلها حفيرة وصب عليها الماء، فإذا اجتمع في تلك الحفيرة
392

كبسها أعني الحفيرة التي فيها الغسالة، وإن كانت صلبة مستوية فلا يمكن الغسل بل يحفر
ليجعل أعلاه في أسفله وأسفله في أعلاه، وإن كانت الأرض مجصصة قال في الواقعات:
يصب عليها الماء ثم يدلكها وينشفها بخرقة أو صوفة ثلاثا فتطهر، جعل ذلك بمنزلة غسل
الثوب في الإجانة والتنشيف بمنزلة العصر، فإن لم يفعل ذلك ولكن صب عليها الماء كثيرا
حتى زالت النجاسة ولم يوجد لها لون ولا ريح ثم تركها حتى نشفت طهرت. كذا في
السراج الوهاج والخلاصة والمحيط. وقيد بذهاب الأثر الذي هو الطعم واللون والريح لأنها
لو جفت وذهب أثرها بالرؤية وكان إذا وضع أنفه شم الرائحة لم تجز الصلاة على مكانها. كذا
في السراج الوهاج. وفي الفتاوى: إذا احترقت الأرض بالنار فتيمم بذلك التراب، قيل يجوز
التيمم، وقيل لا يجوز، والأصح الجواز. ثم أعلم أن ما حكم بطهارته بمطهر غير المائعات
إذا أصابه ماء هل يعود نجسا؟ فذكر الشارح الزيلعي أن فيها روايتين، وأن أظهرهما أن
النجاسة تعود بناء على أن النجاسة قلت ولم تزل وحكى خمس مسائل: المني إذا فرك، والخف
إذا دلك، والأرض إذا جفت مع ذهاب الأثر، وجلد الميتة إذا دبغ دباغا حكميا بالتتريب
والتشميس، والبئر إذا غار ماؤها ثم عاد. وقد اختلف التصحيح في بعضها ولا بأس بسوق
عباراتهم. فأما مسألة المني فقال قاضيخان في فتاواه: والصحيح أنه يعود نجسا. وفي
الخلاصة: المختار أنه لا يعود نجسا. وأما مسألة الخف فقال في الخلاصة: هو كالمني في
الثوب يعني المختار عدم العود. وقال الحدادي في السراج الوهاج: الصحيح أنه يعود نجسا.
وأما مسألة الأرض فقال قاضيخان في فتاواه: الصحيح أنها لا تعود نجسة. وقال في
المجتبى: الصحيح عدم عود النجاسة. وفي الخلاصة بعد ما ذكر أن المختار عدم نجاسة
الثوب من المني إذا أصابه الماء بعد الفرك قال: وكذا الأرض على الرواية المشهورة. وأما
مسألة جلد الميتة إذا دبغ ثم أصابه الماء فأفاد الشارح أنها على الروايتين لكن المتون مجمعة على
الطهارة بالدباغ فإنهم يقولون: كل إهاب دبغ فقد طهر، وهو يقتضي عدم عودها. وأما
مسألة البئر إذا غار ماؤها ثم عاد ففي الخلاصة: لا تعود نجسة وعزاه إلى الأصل. ويزاد على
هذه الخمسة الآجرة المفروشة إذا تنجست فجفت ثم قلعت، فعلى الروايتين وفي الخلاصة
المختار عدم العود. ويزاد السكين إذا مسحت فعلى الروايتين. وقال في السراج الوهاج:
اختار القدوري عود النجاسة، واختار الأسبيجابي عدم العود. وفي المحيط: الأرض إذا
أصابتها النجاسة فيبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء، والمني إذا فرك، والخف إذا دلك،
393

والجب إذا غار ماؤها ثم عاد فيه روايتان في رواية يعود نجسا وهو الأصح اه‍. فالحاصل أن
التصحيح والاختيار قد اختلف في كل مسألة منها كما ترى، فالأولى اعتبار الطهارة في الكل
كما يفيده أصحاب المتون حيث صرحوا بالطهارة في كل، وملاقاة الماء الطاهر لا توجب
التنجس وقد اختاره في فتح القدير، فإن من قال بالعود بناه على أن النجاسة لم تزل وإنما
قلت، ولا يرد المستنجي بالحجر ونحوه إذا دخل في الماء القليل فإنهم قالوا بأنه ينجسه لأن
غير المائع لم يعتبر مطهرا في البدن إلا في المني، وجواز الاستنجاء بغير المائعات إنما هو
لسقوط ذلك المقدار عفوا لا لطهارة المحل فعنه أخذوا كون قدر الدرهم في النجاسات عفوا
على أن المختار طهارته أيضا كما سنبينه في آخر الباب.
ثم أعلم أنه قد ظهر إلى هنا أن التطهير يكون بأربعة أمور: بالغسل الدلك والجفاف
والمسح في الصقيل دون ماء والفرك يدخل في الدلك. والخامس مسح المحاجم بالماء بالخرق
كما قدمناه. والسادس النار كما قدمناه في الأرض إذا احترقت بالنار. والسابع انقلاب العين
فإن كان في الخمر فلا خلاف في الطهارة، وإن كان في غيره كالخنزير والميتة تقع في المملحة
فتصير ملحا يؤكل. والسرقين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد خلافا لأبي
يوسف، وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط، وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد. وفي
الخلاصة: وعليه الفتوى. وفي فتح القدير أنه المختار لأن الشرع رتب وصف النجاسة على
تلك الحقيقة وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل، فإن الملح غير العظم
واللحم فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح، ونظيره في الشرع النطفة نجسة وتصير علقة وهي
نجسة وتصير مضغة فتطهر، والعصير طاهر فيصير خمرا فينجس ويصير خلا فيطهر، فعرفنا
أن استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتب عليها، وعلى قول محمد فرعوا الحكم بطهارة
394

صابون صنع من زيت نجس اه‍. وفي المجتبى: جعل الدهن النجس في صابون يفتى
بطهارته لأنه تغير والتغيير يطهر عند محمد ويفتى به للبلوى. وفي الظهيرية: ورماد السرقين
طاهر عند أبي يوسف خلافا لمحمد والفتوى على قول أبي يوسف وهو عكس الخلاف المنقول
فإنه يقتضي أن الرماد طاهر عند محمد نجس عند أبي يوسف كما لا يخفى. وفيها أيضا
العذرات إذا دفنت في موضع حتى صارت ترابا، قيل تطهر كالحمار الميت إذا وقع في
المملحة فصار ملحا يطهر عند محمد. وفي الخلاصة: فأرة وقعت في دن خمر فصار خلا يطهر
إذا رمي بالفأرة قبل التخلل، وإن تفسخ الفأرة فيها لا يباح. ولو وقعت الفأرة في العصير ثم
تخمر العصير ثم تخلل وهو لا يكون بمنزلة ما لو وقعت في الخمر هو المختار، وكذا لو ولغ
الكلب في العصير، ثم تخمر ثم تخلل لا يطهر اه‍. وفي الظهيرية: إذا صب الماء في الخمر
ثم صارت الخمر خلا تطهر وهو الصحيح، وأدخل في فتح القدير التطهير بالنار في
الاستحالة، ولا ملازمة بينهما فإنه لو أحق موضع الدم من رأس الشاة طهر، والتنور إذا رش
بماء نجس لا بأس بالخبز فيه. كذا في المجتبى. وكذا الطين النجس إذا جعل منه الكوز أو
القدر وجعل في النار يكون طاهرا. كذا في السراج الوهاج، والثامن الدباغ وقد مر،
والتاسع الذكاة فكل حيوان يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة كما قدمناه. والعاشر النزح في
الآبار كما بيناه. فظهر بهذا أن المطهرات عشرة كما ذكره في المجتبى ناقلا عن صلاة الجلابي
قوله (وعفى قدر الدرهم كعرض الكف من نجس مغلظ كالدم والبول والخمر وخر
الدجاج وبول ما لا يؤكل لحمه والروث والخثى) لأن ما لا يأخذه الطرف كوقع الذباب
مخصوص من نص التطهر اتفاقا فيخص أيضا قدر الدرهم بنص الاستنجاء بالحجر لأن محله
قدره ولم يكن الحجر مطهرا حتى لو دخل في قليل ماء نجسه، أو بدلالة الاجماع عليه.
والمعتبر وقت الإصابة فلو كان دهنا نجسا قدر درهم فانفرش فصار أكثر منه لا يمنع في
اختيار المرغيناني وجماعة، ومختار غيرهم المنع، فلو صلى قبل اتساعه جازت وبعده لا، وبه
أخذ الأكثرون. كذا في السراج والوهاج. ولا يعتبر نفوذ المقدار إلى الوجه الآخر إذا كان
الثوب واحدا لأن النجاسة حينئذ واحدة في الجانبين فلا يعتبر متعددا بخلاف ما إذا كان ذا
395

طاقين لتعددها فيمنع، وعن هذا فرع المنع لو صلى مع درهم متنجس الوجهين لوجود الفاصل
بين وجهه وهو جواهر سمكه، ولأنه مما لا ينفذ نفس ما في أحد الوجهين فيه فلم تكن
النجاسة متحدة فيهما. ثم إنما يعتبر المانع مضافا إليه، فلو جلس الصبي المتنجس الثوب
والبدن في حجر المصلي وهو يستمسك أو الحمام المتنجس على رأسه جازت صلاته لأنه الذي
يستعمله فلم يكن حامل النجاسة بخلاف ما لو حمل من لا يستمسك حيث يصير مضافا إليه
فلا يجوز. كذا في فتح القدير. ولو حمل ميتا إن كان كافرا لا يصح مطلقا، وإن كان مسلما
لم يغسل فكذلك، وإن غسل فإن استهل صحت وإلا فلا. ومراده من العفو صحة الصلاة
بدون إزالته لا عدم الكراهة لما في السراج الوهاج وغيره إن كانت النجاسة قدر الدرهم تكره
الصلاة معها إجماعا، وإن كانت أقل وقد دخل في الصلاة نظر إن كان في الوقت سعة
فالأفضل إزالتها واستقبال الصلاة، وإن كانت تفوته الجماعة فإن كان يجد الماء ويجد جماعة
آخرين في موضع آخر فكذلك أيضا ليكون مؤديا للصلاة الجائز بيقين، وإن كان في آخر
الوقت أو لا يدرك الجماعة في موضع آخر يمضي على صلاته ولا يقطعها اه‍. والظاهر أن
الكراهة تحريمية لتجويزهم رفض الصلاة لأجلها ولا ترفض لأجل المكروه تنزيها، وسوى في
فتح القدير بين الدرهم وما دونه في الكراهة ورفض الصلاة، وكذا في النهاية والمحيط. وفي
الخلاصة ما يقتضي الفرق بينهما فإنه قال: وقدر الدرهم لا يمنع ويكون سيئا وإن كان أقل
فالأفضل أن يغسلها ولا يكون سيئا اه‍. وأراد بالدرهم المثقال الذي وزنه عشرون قيراطا.
وعن شمس الأئمة أنه يعتبر في كل زمان درهمه والأول هو الصحيح. كذا في السراج
الوهاج. وأفاد بقوله كعرض الكف أن المعتبر بسط الدرهم من حيث المساحة وهو قدر
عرض الكف. وصححه في الهداية وغيرها. أو قيل من حيث الوزن. والمصنف في كافيه.
396

ووفق الهندواني بينهما بأن رواية المساحة في الرقيق كالبول، ورواية الوزن في الثخين،
واختار هذا التوفيق كثير من المشايخ، وفي البدائع وهو المختار عند مشايخ ما وراء النهر
وصححه الشارح الزيلعي وصاحب المجتبى، وأقره عليه في فتح القدير لأن إعمال الروايتين
إذا أمكن أولى خصوصا مع مناسبة هذا التوزيع. وروي أن عمر رضي الله عنه سئل عن قليل
النجاسة في الثوب فقال: إذا كان مثل ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة حتى يكون أكثر
منه، وظفره كان مثل المثقال. كذا في السراج الوهاج.
وقال النخعي: أرادوا أن يقولوا مقدار المقعدة فاستقبحوا ذلك وقالوا مقدار الدرهم
والمراد بعرض الكف ما وراء مفاصل الأصابع. كذا في غاية البيان. وكل من هذه الروايات
خلاف ظاهر الرواية فإنه لم يذكر في ظاهر الرواية صريحا أن المراد من الدرهم من حيث
العرض أو الوزن، وإنما رجح في الهداية رواية العرض لأنها صريحة في النوادر، ورواية
الوزن ليست صريحة إنما أشير إليها في كتاب الصلاة حيث قال: الدرهم الكبير المثقالي. إليه
أشار في البدائع. ولم يصرح المصنف رحمه الله بما يثبت به التغليظ والتخفيف وفيه اختلاف،
فعند أبي حنيفة رحمه الله التخفيف والتغليظ بتعارض النصين وعدمه، وقالا بالاختلاف
وعدمه. كذا في المجمع. وحاصله أنه إن ورد نص واحد بنجاسة شئ فهو مغلظ، وإن
تعارض نصان في طهارته ونجاسته فهو مخفف عنده، وعندهما إن اتفق العلماء على النجاسة
فهو مغلظ، وإن اختلفوا فهو مخفف. هكذا تواردت كلمتهم، وزاد في الاختيار في تفسير
الغليظة عنده: ولا حرج في اجتنابه وفي تفسيرها عندهما ولا بلوى في إصابته فظهر به أن
عنده كما يكون التخفيف بالتعارض يكون بعموم البلوى بالنسبة إلى جنس المكلفين وإن ورد
نص واحد في نجاسته من غير معارض، وكذا عندهما كما يكون التخفيف بالاختلاف يكون
أيضا بعموم البلوى في إصابته. وإن وقع الاتفاق على النجاسة فيقع الاتفاق على صدق
القضية المشهورة المنقولة في الكافي وهي أن ما عمت بليته خفت قضيته، نعم قد يقع النزاع
بينه وبينهما في وجود هذا المعنى في بعض الأعيان فيختلف الجواب بسبب ذلك، ثم قال ابن
الملك في شرح المجمع: إذا كان النص الوارد في نجاسة شئ يضعف حكمه بمخالفة
الاجتهاد عندهما فيثبت به التخفيف فضعفه بما إذا ورد نص آخر يخالفه يكون بطريق أولى،
فيكون حينئذ التخفيف بتعارض النصين اتفاقا. وإنما يتحقق الاختلاف في ثبوت التخفيف
397

بالاختلاف فعنده لا يثبت وعندهما يثبت، وأقره عليه ابن أمير حاج في شرح منية المصلي قال:
وكأن من هنا والله أعلم قال في الكافي: ولا يظهر الاختلاف في غير الروث والخثي لثبوت
الخلاف المذكور مع فقد تعارض النصين، ثم على طرد أنه يثبت التخفيف عندهما بالتعارض
كما باختلاف المجتهدين تقع الحاجة إلى الاعتذار لمحمد عن قوله بطهارة بول الحيوان المأكول.
ثم لا يخفى أن المراد باختلاف العلماء المقتضى للتخفيف عندهما الخلاف المستقر بين العلماء
الماضين من أهل الاجتهاد قبل وجودهما أو الكائنين في عصرهما لا ما هو أعم من ذلك ا ه‍.
وأورد بعضهم على قول أبي حنيفة سؤر الحمار فإن تعارض النصين قد وجد فيه مع أنه لم يقل
بالنجاسة أصلا، وعلى قولهما المني فإنه مغلظ اتفاقا مع وجود الاختلاف. وفي الكافي:
وخفة النجاسة تظهر في الثياب لا في الماء ا ه‍. والبدن كالثياب. وأراد بالدم الدم المسفوح
غير دم الشهيد فخرج الدم الباقي في اللحم المهزول إذا قطع والباقي في العروق، والدم
الذي في الكبد الذي يكون مكمنا فيه لا ما كان من غيره. وأما دم قلب الشاة ففي روضة
الناطفي أنه طاهر كدم الكبد والطحال، وفي القنية إنه نجس، وقيل طاهر. وخرج الدم
الذي لم يسل من بدن الانسان كما سيأتي، ودم البق والبراغيث والقمل وإن كثر ودم السمك
على ما سيأتي. ودخل دم الحيض والنفاس والاستحاضة وكل دم أوجب الوضوء أو الغسل،
ودم الحلمة والوزغ. وقيده في الظهيرية بأن يكون سائلا.
وفي المحيط: ودم الحلمة نجس وهي ثلاثة أنواع: قراد وحمنانة وحلمة، فالقراد أصغر
أنواعه، والحمنانة أوسطها وليس لهما دم سائل، والحلمة أكبرها ولها دم سائل، ودم كل
عرق نجس، وكذا الدم السائل من سائر الحيوانات. وأما دم الشهيد فهو طاهر ما دام عليه
فإذا أبين منه كان نجسا. كذا في الظهيرية، حتى لو حمله ملطخا به في الصلاة صحت.
وأراد بالبول كل بول سواء كان بول آدمي أو غيره إلا بول الخفاش فإنه طاهر كما سيأتي.
وإلا بول ما يؤكل لحمه فإنه سيصرح بتخفيفه وأطلقه فشمل بول الصغير الذي لم يطعم،
وشمل بول الهرة والفأرة وفيه اختلاف، ففي البزازية بول الهرة أو الفأرة إذا أصاب الثوب لا
398

يفسد، وقيل إن زاد على قدر الدرهم أفسد وهو الظاهر اه‍. وفي الخلاصة: إذا بالت الهرة
في الاناء أو على الثوب تنجس، وكذا بول الفأرة. وقال الفقيه أو جعفر: ينجس الاناء دون
الثوب ا ه‍. وهو حسن لعادة تخمير الأواني. كذا في فتح القدير. وفي المحيط: وخرء الفأرة
وبولها نجس لأنه يستحيل إلى نتن وفساد والاحتراز عنه ممكن في الماء وغير ممكن في الطعام
والثياب فصار معفوا فيهما ا ه‍. وهو يفيد أن المراد بقول أبي جعفر ينجس الاناء أي إناء الماء
لا مطلق الاناء، وفي فتاوى قاضيخان: بول الهرة والفأرة وخرؤهما نجس في أظهر الروايات
يفسد الماء والثوب، وبول الخفافيش وخرؤها لا يفسد لتعذر الاحتراز عنه ا ه‍. وبهذا كله
ظهر أن مراد صاحب التنجيس بنقل الاتفاق بقوله بال السنور في البئر نزح كله لأن بوله
نجس باتفاق الروايات، وكذا لو أصاب الثوب أفسده اتفاق الروايات الظاهرة لا مطلقا
لوجود الخلاف كما علمت. وفي الظهيرية: وبول الخفافيش ليس بنجس للضرورة، وكذلك
بول الفأرة لأنه لا يمكن التحرز عنه اه‍. وهو صريح في نفي النجاسة ثم قال آخرا: وبول
الهرة نجس إلا على قول شاذ. وفيها أيضا: ومرارة كل شئ كبوله، وجرة البعير حكمها
حكم سرقينة لأنه توارى في جوفه. والجرة بالكسر ما يخرجه البعير من جوفه إلى فمه فيأكله
ثانيا. والسرقين الزبل. وأشار بالبول إلى أن كل ما يخرج من بدن الانسان مما يوجب خروجه
الوضوء أو الغسل فهو مغلظ كالغائط والبول والمني والمذي والودي والقيح والصديد والقئ
إذا ملا الفم، أما ما دونه فطاهر على الصحيح. وقيد بالخمر لأن بقية الأشربة المحرمة
كالطلاء والسكر ونقيع الزبيب فيها ثلاث روايات: في رواية مغلظة، وفي أخرى مخففة،
وفي أخرى طاهرة: ذكرها في البدائع. بخلاف الخمر فإنه مغلظ باتفاق الروايات لأن حرمتها
قطعية وحرمة غير الخمر ليست قطعية. وينبغي ترجيح التغليظ للأصل المتقدم كما لا يخفى
فلا فرق بين الخمر وغيرها، وكون الحرمة فيه ليست قطعية لا يوجب التخفيف لأن دليل
399

التغليظ لا يشترط أن يكون قطعيا. وأما قول صاحب الهداية بعد ذكر النجاسات الغليظة لأنها
ثبتت بدليل مقطوع به فقال في فتح القدير: معناه مقطوع بوجوب العمل به فالعمل بالظني
واجب قطعا في الفروع وإن كان نفس وجوب مقتضاه ظنيا والأولى أن يريد دليل الاجماع ا ه‍.
وفي العناية: المراد بالدليل القطعي أن يكون سالما من الأسباب الموجبة للتخفيف من
تعارض النصين وتجاذب الاجتهاد والضرورات المخففة ا ه‍. وأشار بخرء الدجاج إلى خرء
كل طير لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط لوجود معنى النجاسة فيه وهو كونه مستقذرا
لتغييره إلى نتن وفساد رائحة فأشبه العذرة. وفي الإوز عن أبي حنيفة روايتان، روى أبو
يوسف عنه أنه ليس بنجس، وروى الحسن عنه أنه نجس. كذا في البدائع. وفي البزازية:
وخرء البط إذا كان يعيش بين الناس ولا يطير فكالدجاج، وإن كان يطير ولا يعيش بين
الناس فكالحمامة، وقيد به لأن خرء الطيور التي تذرق في الهواء نوعان: فما يؤكل لحمه
كالحمام والعصفور فقد تقدم في بحث الآبار أنه طاهر، وما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي
والحدأة فسيذكر أنه مخفف وفيه خلاف نبينه إن شاء الله تعالى. وصرح ببول ما لا يؤكل لحمه
مع كونه داخلا في عموم البول لئلا يتوهم أن المراد بالبول بول الآدمي ولا خلاف في
نجاسته، وإنما الخلاف في بول ما يؤكل لحمه كما سيأتي. وأشار بالروث والخثي إلى نجاسة
خرء كل حيوان غير الطيور، فالروث للحمار والفرس، والخثي للبقر، والبعر للإبل،
والغائط للآدمي، ولا خلاف في تغليظ غائط الآدمي ونجو الكلب ورجيع السباع واختلفوا
فيما عداه، فعنده غليظة لقوله عليه السلام في الروثة إنها ركس أي نجس ولم يعارض،
وعندهما خفيفة فإن مالكا يرى طهارتها ولعموم البلوى لامتلاء الطرق بخلاف بول الحمار
وغيره مما لا يؤكل لحمه لأن الأرض تنشفه حتى رجع محمد آخر إلى أنه لا يمنع الروث وإن
فحش لما دخل الري مع الخليفة ورأي بلوى الناس من امتلاء الطرق والخانات بها. وقاس
المشايخ على قوله هذا طين بخارى لأن مشي الناس والدواب فيها واحد، وعند ذلك يروي
رجوعه في الخف حتى إذا أصابته عذرة يطهر بالدلك وفي الروث لا يحتاج إلى الدلك عنده.
ولأبي حنيفة أن الموجب للعمل النص لا الخلاف والبلوى في النعال وقد ظهر أثرها حتى
طهرت بالدلك، فإثبات أمر زائد على ذلك يكون بغير موجب، وما قيل إن البلوى لا تعتبر
في موضع النص عنده كبول الانسان فممنوع، بل تعتبر إذا تحققت بالنص النافي للحرج وهو
ليس معارضة للنص بالرأي. كذا في فتح القدير.
وفي الظهيرية: والشعير الذي يوجد في بعر الإبل والشاة يغسل ويؤكل بخلاف ما
يوجد في خثي البقر لأنه لا صلابة فيه. خبز وجد في خلاله خرء الفأرة فإن كان صلبا يرمى
400

الخرء ويؤكل الخبز لأنه طاهر ثم قال: خرء الفأرة إذا وقع في إناء الدهن أو الماء لا يفسده
وكذلك لو وقع في الحنطة ا ه‍. وقد تقدم أنه يفسده. وفيها أيضا: البعر إذا وقع في المحلب
عند الحلب فرمي قبل التفتت لا يتنجس. وفي البزازية: مشى في الطين أو أصابه لا يجب في
الحكم غسله، ولو صلى به جاز ما لم يتبين أثر النجاسة والاحتياط في الصلاة التي هي وجه
دينه ومفاتيح رزقه وأول ما يسأل في الموقف وأول منزلة الآخرة لا غاية له، ولهذا قلنا: حمل
المصلي أي السجادة أولى من تركه في زماننا. دخل مربطا وأصاب رجله الأرواث، جازت
الصلاة معه ما لم يفحش اه‍. وهو ترجيح لقولهما في الأرواث كما لا يخفى، وقد نقلوا في
كتب الفتاوى والشروح فروعا ونصوا على النجاسة ولم يصرحوا بالتغليظ والتخفيف والظاهر
أنها مغلظة وأنها المرادة عند إطلاقهم، ودخل فيها بعض الطاهرات تبعا في الذكر فمنها
الأسئار النجسة. ومنها ما في الفتاوى الظهيرية جلد الحية نجس وإن كانت مذبوحة لأن
جلدها لا يحتمل الدباغة بخلاف قميصها فإنه طاهر، والدودة الساقطة من السبيلين نجسة
بخلاف الساقطة من اللحم فإنها طاهرة. الحمار إذا شرب من العصير لا يجوز شربه، الريح
إذا مرت بالعذرات وأصابت الثوب المبلول يتنجس إن وجدت رائحة النجاسة فيه، وما
يصيب الثوب من بخارات النجاسات قيل يتنجس الثوب بها وقيل لا يتنجس وهو الصحيح.
ولو أصاب الثوب ما سال من الكنيف فالأحب أن يغسله ولا يجب ما لم يكن أكبر رأيه أنه
نجس. جلدة آدمي إذا وقعت في الماء القليل تفسده إذا كانت قدر الظفر، والظفر لو وقع
بنفسه لا يفسده. الكافر الميت نجس قبل الغسل وبعده وكذلك الميت، وعظم الآدمي نجس،
وعن أبي يوسف أنه طاهر. والاذن المقطوعة والسن المقلوعة طاهرتان في حق صاحبهما وإن
كانتا أكثر من قدر الدرهم، وهذا قول أبي يوسف. وقال محمد في الأسنان الساقطة: إنها
نجسة وإن كانت أكثر من قدر الدرهم وفي قياس قوله الاذن نجس وبه نأخذ. وقال محمد
في صلاة الأثر: سن وقعت في الماء القليل يفسد وإذا طحنت في الحنطة لا تؤكل. وعن أبي
401

يوسف أن سنه طاهر في حقه حتى إذا أثبتها جازت الصلاة، وإن أثبت سن غيره لا يجوز
وقال: بينهما فرق وإن لم يحضرني. وسن الكلب والثعلب طاهرة وجلد الكلب نجس وشعره
طاهر وهو المختار، وماء فم الميت نجس بخلاف ماء فم النائم فإنه طاهر ا ه‍.
وفي الخلاصة: ولو استنجى بالماء ولم يمسحه في المنديل حتى فسا اختلف المشايخ فيه
وعامة المشايخ على أنه لا يتنجس، والمختار أنه يتنجس. وكذا لو لم يستنج ولكن ابتل
السراويل بالعرق أو بالماء ثم فسا. وفي فتاوي قاضيخان: ماء المطابق نجس قياسا وليس
بنجس استحسانا، وصورته إذا احترقت العذرة في بيت فأصاب ماء طابق ثوب إنسان لا
يفسده استحسانا ما لم يظهر أثر النجاسة فيه، وكذا الإصطبل إذا كان حارا وعلى كوته طابق أو
بيت البالوعة إذا كان عليه طابق وتقاطر منه، وكذا الحمام إذا أهريق فيه النجاسات فعرق
حيطانها وكوتها وتقاطر، وكذا لو كان في الإصطبل كوز معلق فيه ماء فترشح في أسفل
الكوز في القياس يكون نجسا لأن البلة في أسفل الكوز صار نجسا ببخار الإصطبل، وفي
الاستحسان لا يتنجس لأن الكوز طاهر والماء الذي فيه طاهر فما ترشح منه يكون طاهرا. إذا
صلى ومعه فأرة أو هرة أو حية تجوز صلاته وقد أساء، وكذلك مما يجوز التوضؤ بسؤره، وإن
402

كان في كمه ثعلب أو جرو كلب لا تجوز صلاته لأن سؤره نجس. ثوب أصابه عصير
ومضى على ذلك أيام جازت الصلاة فيه عند علمائنا لأنه لا يصير خمرا في الثوب، والمسك
حلال على كل حال يؤكل في الطعام ويجعل الأدوية ولا يقال إن المسك دم لأنها وإن كانت
دما فقد تغيرت فيصير طاهرا كرماد العذرة. التراب الطاهر إذا جعل طينا بالماء النجس أو على
العكس الصحيح أن الطين نجس أيهما ما كان نجسا. وإذا بسط الثوب الطاهر اليابس على
أرض نجسة مبتلة فظهرت البلة في الثوب لكن لم يصر رطبا ولا بحال لو عصر يسيل منه
شئ متقاطر لكن موضع الندوة يعرف من سائر المواضع الصحيح أنه لا يصير نجسا، وكذا
الولف الثوب النجس في ثوب طاهر والنجس رطب مبتل وظهرت ندوته في الثوب الطاهر
لكن لم يصر بحال لو عصر يسيل منه شئ متقاطر لا يصير نجسا ا ه‍. وفي البزازية:
الفتوى على أن العبرة للطاهر أيهما كان في مسألة التراب الطاهر إذا جعل طينا بالماء النجس
403

أو عكسه فهو مخالف لتصحيح قاضيخان المتقدم. وفيها: طير الماء مات فيه لا يفسده عند
الإمام وفي غيره يفسده بالاتفاق وعليه الفتوى.
وفي السراج الوهاج: غسالة الميت نجسة، أطلق ذلك محمد في الأصل والأصح أنه إذا
لم يكن على بدنه نجاسة يصير الماء مستعملا ولا يكون نجسا إلا أن محمدا إنما أطلق ذلك لأن
بدن الميت لا يخلو عن نجاسة غالبا، ودخان النجاسة إذا أصاب الثوب أو البدن فيه اختلاف
والصحيح أنه لا ينجسه. بيض ما لا يؤكل لحمه إذا انكسر على ثوب إنسان فأصابه من مائه
ومحه فيه اختلاف، منهم من قال إنه نجس اعتبارا بلحم ما لا يؤكل ولبنه لأنه محرم الاكل،
وقيل هو طاهر اعتبارا ببيض الدجاجة الميتة ا ه‍. وفي المجتبى: وفي نجاسة القئ وماء البئر
التي وقعت فيها فأرة وماتت روايتان، وسؤر سباع الطير غليظة، وغسالة النجاسة في المرات
الثلاث غليظة على الأصح وإن كانت الأولى تطهر بالثلاث والثانية بالثنتين والثالثة بالواحدة
ا ه‍. وفيما عدا الأخيرة نظر بل الراجح التغليظ في القئ وماء البئر المتنجس، وأما سؤر
سباع الطير فليس بنجس أصلا بل هو مكروه. وفي عمدة الفتاوى للصدر الشهيد: فأرة
ماتت في الخمر وتخللت طاب الخل في رواية هو الصحيح. فأرة ماتت في السمن الجامد
يقور ما حولها ويرمى ويؤكل الباقي، فإن كان مائعا لا يؤكل ويستصبح به ويدبغ به الجلد
والتشرب معفو عنه ودك الميتة يستصبح به ولا يدبغ به الجلد ا ه‍. وفي عدة الفتاوى: إذا
وجد في القمقمة فأرة ولا يدري أهي فيها ماتت أم في الجرة أم في البئر، تحمل على القمقمة
ا ه‍. وفي مآل الفتاوى: ماء المطر إذا مر على العذرات لا ينجس إلا أن تكون العذرة أكثر
من الأرض الطاهرة أو تكون العذرة عند الميزاب. إذا فسا في السراويل وصلى معه قال
بعضهم: لا يجوز لأن في الريح أجزاء لطيفة فتدخل أجزاء الثوب. وقيل: إن الشيخ الإمام
شمس الأئمة الحلواني كان يصلي من غير السراويل ولا تأويل لفعله إلا التحرز من الخلاف،
404

والفتوى أنه يجوز سواء كان السراويل رطبا وقت الفسوة أو يابسا. إذا رأى على ثوب غيره
نجاسة أكثر من قدر الدرهم يخبره ولا يسعه تركه. جلد مرارة الغنم نجس ومرارته وبوله
سواء عند محمد طاهر، وعندهما نجس. ومثانة الغنم حكمه حكم بوله حتى لا تجوز الصلاة
معه. إذا زاد على قدر الدرهم قطرة خمر وقعت في دن خل لا يحل شربه إلا بعد ساعة، ولو
صب كوز من خمر في دن من خل ولا يوجد له طعم ولا رائحة حل الشراب في الحال.
السلق والسلجم المطبوع في رماد العذرة نجس عند أبي يوسف اه‍. وإنما أكثرنا من هذه
الفروع للحاجة إليها ولكون الطهارة من المهمات، ولهذا ورد أن أول شئ يسئل عنه العبد
في قبره الطهارة.
قوله: (وما دون ربع الثوب من مخفف كبول ما يؤكل والفرس وخرء طير لا يؤكل) أي
عفي ما كان من النجاسات أقل من ربع الثوب المصاب إذا كانت النجاسة مخففة لأن التقدير
فيها بالكثير الفاحش للمنع على ما روي عن أبي حنيفة على ما هو دأبه في مثله من عدم
التقدير، وهو ما يستكثره الناظر ويستفحشه حتى روي عنه أنه كره تقديره وقال: الفاحش
يختلف باختلاف طباع الناس لكن لما كان الربع ملحقا بالكل في بعض الأحكام كمسح الرأس
وانكشاف العورة ألحق به هنا، وبالكل يحصل الاستفحاش فكذا بما قام مقامه وهو رواية عن
أبي حنيفة أيضا، وصححه الشارح وغيره. وفي الهداية: وعليه الاعتماد واختاره في فتح
القدير وقال: إنه أحسن لاعتبار الربع كثيرا كالكل. ثم اختلفوا في كيفية اعتبار الربع على
ثلاثة أقوال: فقيل ربع طرف أصابته النجاسة كالذيل والكم والدخريص إن كان المصاب
ثوبا، وربع العضو المصاب كاليد والرجل إن كان بدنا وصححه صاحب التحفة والمحيط
والبدائع والمجتبى والسراج الوهاج، وفي الحقائق: وعليه الفتوى. وقيل ربع جميع الثوب
والبدن وصححه صاحب المبسوط. وقيل ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر وهو رواية
عن أبي حنيفة. قال شارح القدوري الإمام البغدادي: الأقطع وهذا أصح ما روي فيه من
غيره ا ه‍. لكنه قاصر على الثوب ولم يفد حكم البدن فقد اختلف التصحيح كما ترى لكن
ترجح الأول بأن الفتوى عليه. وفي فتح القدير ما يقتضي التوفيق بين القولين الأخيرين بأن
يكون المراد من اعتبار ربع جميع الثوب الساتر لجميع بدن الذي هو عليه، وإن كان الذي هو
عليه أدنى ما تجوز فيه الصلاة اعتبر ربعه لأنه الكثير بالنسبة إلى المصاب ا ه‍. وهو حسن جدا
405

ولم ينقل القول الأول أصلا. ومثل المصنف للمخففة بثلاثة: الأول ببول ما يؤكل لحمه وهو
مخفف عندهما طاهر عند محمد لحديث العرنيين، وأبو يوسف قال بالتخفيف لاختلاف العلماء
على أصله، وأبو حنيفة قال به أيضا لتعارض النصين وهما حديث العرنيين وحديث استنزهوا
البول. وفي الكافي: فإن قيل تعارض النصين كيف يتحقق وحديث العرنيين منسوخ عنده.
قلنا: إنه قال ذلك رأيا ولم يقطع به فتكون صورة التعارض قائمة ا ه‍. وهو أحسن مما أجاب
به في النهاية فإن صاحب العناية قد رده فليراجعا. الثاني بول الفرس وهو داخل فيما قبله
لكن لما كان في أكل لحمه اختلاف صرح به لئلا يتوهم أنه داخل في بول ما لا يؤكل لحمه
406

عند الإمام فيكون مغلظا وليس كذلك فإنه مخفف عندهما طاهر عند محمد كبول ما يؤكل
لحمه. وإنما كره الإمام لحمه إما تنزيها أو تحريما مع اختلاف التصحيح لأنه آلة الجهاد لا لأن
لحمه نجس بدليل أن سؤره طاهر اتفاقا. والثالث خرء طير لا يؤكل وقد اختلف الإمامان
الهندواني والكرخي فيما نقلاه عن أئمتنا فيه، فروى الهندواني أنه مخفف عند الإمام مغلظ
عندهما، وروى الكرخي أنه طاهر عندهما مغلظ عند محمد. وقيل إن أبا يوسف مع أبي حنيفة
في التخفيف أيضا فاتفقوا على أنه مغلظ عند محمد، وأما أبو يوسف فله ثلاث روايات:
الطهارة والتغليظ والتخفيف، وأما أبو حنيفة فروايتان: التخفيف والطهارة. وأما التغليظ فلم
ينقل عنه وصحح قاضيخان في شرح الجامع الصغير أنه نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف
حتى لو وقع في الماء القليل أفسده، وقيل لا يفسد التعذر صون الأواني عنه. وصحح
الشارح وجماعة رواية الهندواني فالتخفيف عنده لعموم البلوى وهي موجبة للتخفيف، وأما
التغليظ عندهما فاستشكله الشارح الزيلعي بأن اختلاف العلماء يورث التخفيف عندهما وقد
وجد فإنه طاهر في رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف فكان للاجتهاد فيه مساغ ا ه‍. وقد
يجاب عنه بضعف رواية الطهارة كما قدمناه وإن صححها بعضهم كما سيأتي فلم يعد
اختلافا. وصحح صاحب المبسوط رواية الكرخي وهي الطهارة عندهما، وكذا صححه في
الدقائق والأولى اعتماد التصحيح الأول لموافقته لما في المتون، ولهذا قال شارح المنية تلميذ
المحقق ابن الهمام: تصحيح النجاسة أوجه. ووجهه المحقق في فتح القدير بأن الضرورة فيه لا
تؤثر أكثر من ذلك فإنه قل أن يصل إلى أن يفحش فيكفي تخفيفه ا ه‍. والخرء واحد
الخروء مثل قرء وقروء. وعن الجوهري بالضم كجند وجنود والواو بعد الراء غلط.
والهندواني بضم الهاء في نسخة معتبرة. وفي المنظومة للنسفي بكسرها. وهذه النسبة إلى
الهندوان بكسر الهاء حصار ببلخ يقال له باب الهندواني ينزل فيه الغلمان والجواري التي
407

تجلب من الهندوان فلعله ولد هناك. كذا في الحقائق. وفي الفتاوى الظهيرية، وإن أصابه
بول الشاة وبول الآدمي تجعل الخفيفة تبعا للغليظة ا ه‍.
قوله: (ودم السمك ولعاب البغل والحمار وبول انتضح كرؤوس الابر) أي وعفي دم
السمك وما عطف عليه. أما دم السمك فلانه ليس بدم عن التحقيق وإنما هو دم صورة لأنه
إذا يبس يبيض والدم يسود، وأيضا الحرارة خاصية الدم والبرودة خاصيه الماء فلو كان
للسمك دم لم يدم سكونه في الماء، أطلقه فشمل السمك الكبير إذا سال منه شئ فإن ظاهر
الرواية طهارة دم السمك مطلقا. وعن أبي يوسف: نجاسته مطلقا وأنه مقدر بالكثير
الفاحش. وعنه: نجاسة دم الكبير، وما عن أبي يوسف ضعيف ذكره في المبسوط، وتقدم
الكلام على أنواع الدماء وأحكامها، وأما لعاب البغل والحمار فقد قدمنا الكلام عليه في
الأسئار. وفي المجمع: ويلحق بالخفيفة لعاب البغل والحمار وطهراه، والظاهر من غاية البيان
أنه رواية عن أبي يوسف وأن ظاهر الرواية عنه كقولهما. وأما البول المنتضح قدر رؤوس
الابر فمعفو عنه للضرورة وإن امتلأ الثوب، وعن أبي يوسف وجوب غسله. أطلقه فشمل ما
إذا أصابه ماء فكثر فإنه لا يجب غلسه أيضا، وشمل بوله وبول غيره. وقيد برؤوس الابر
لأنه لو كان مثل رؤوس المسلة منع. وفي الكافي: قيل قوله رؤوس الابر يدل على أن الجانب
الآخر من الابر معتبر وليس كذلك بل لا يعتبر الجانبان، وبه اندفع ما في التبيين. وحكى
408

القول الأول في فتح القدير الهندواني قال: وغيره من المشايخ لا يعتبر الجانبان دفعا للحرج.
وأشار إلى ما قالوا لو ألقى عذرة أو بولا في ماء فانتضح عليه ماء من وقعها لا ينجس ما لم
يظهر لون النجاسة أو يعلم أنه البول. وما ترشش على الغاسل من غسالة الميت مما لا يمكنه
الامتناع عنه ما دام في علاجه لا ينجسه لعموم البلوى بخلاف الغسلات الثلاث إذا استنقعت
في موضع فأصابت شيئا نجسته. كذا في فتح القدير: فالبول في المختصر قيد احترازي وقد
قدمنا التصحيح في غسالة الميت قريبا. وقد أطلق المصنف رحمه الله العفو على الكل مع أن
هذه الثلاثة طاهرة، فتعقبه الشارح الزيلعي لأن العفو يقتضي النجاسة، وقد يجاب بأن هذه
ذكرت بطريق الاستطراد والتبعية ولا لبس لتصريحه في الكافي بالطهارة أو لأنه لم يقع الاتفاق
على طهارتها كما قدمناه. وانتضح بمعنى ترشش. وفي القنية: والبول الذي يصيب الثوب
مثل رؤوس الابر إذا اتصل وانبسط وزاد على قدر الدرهم ينبغي أن يكون كالدهن النجس إذا
انبسط. أبوال البراغيث لا تمنع جواز الصلاة. يمشي في السوق فتبتل قدماه بماء رش به
السوق فصلى لم يجزه لأن النجاسة غالبة في أسواقنا، وقيل بجزئه. وعن أبي نصر الدبوسي:
طين الشارع ومواطئ الكلاب فيه طاهر، وكذا الطين المسرقن وردغة طريق فيه نجاسة طاهرة
إلا إذا رأى عين النجاسة. قال رحمه الله: وهو الصحيح من حيث الرواية وقريب من حيث
المنصوص عن أصحابنا ا ه‍.
قوله: (والنجس المرئي يطهر بزوال عينه إلا ما يشق) أي يطهر محله بزوال عينه لأن
تنجس المحل باعتبار العين فيزول بزوالها. والمراد بالمرئي ما يكون مرئيا بعد الجفاف كالدم
والعذرة، وما ليس بمرئي هو ما لا يكون مرئيا بعد الجفاف كالبول، كذا في غاية البيان وهو
معنى ما فرق به في الذخيرة بأن المرئية هي التي لها جرم، وغير المرئية هي التي لا جرم لها.
409

وأطلقه فشمل ما إذا زالت العين بمرة واحدة فإنه يكتفي بها وهذا هو الظاهر وفيه اختلاف
المشايخ، وأفاد أنها لو لم تزل بالثلاث فإنه يزيد عليها إلى أن تزول العين. وإنما قال يطهر
بزوال عينه ولم يقل بغسله ليشمل ما يطهر من غير غسل مما قدمه من طهارة الخف بالدلك
والمني بالفرك والسيف بالمسح والأرض باليبس، ففي هذا كله لا يحتاج إلى الغسل بل يكفي
في ذلك زوال العين من غير غسل. كذا في السراج الوهاج. والمراد بقوله إلا ما شق
استثناء ما شق إزالته من أثر النجاسة لا من عينها ولهذا قال في النهاية: ثم الذي وقع منه
الاستثناء غير مذكور لفظا لأن استثناء الأثر من العين لا يصح لأنه ليس من جنسه فكان
تقديره فطهارته زوال عينه وأثره إلا أن يبقى من أثره، وحذف المستثنى منه في المثبت جائز إذا
استقام المعنى كقولك قرأت إلا يوم كذا ا ه‍. وفي العناية أنه استثناء العرض من العين
فيكون منقطعا ا ه‍. فقد أفاد صحته من غير هذا التقدير لأن الاستثناء المنقطع صحيح عند
أهل العربية كالمتصل، ومنهم من رجعه إلى المتصل بالتقدير ولعل صاحب النهاية مائل إليه.
والمراد بالأثر اللون والريح فإن شق إزالتهما سقطت. وتفسير المشقة أن يحتاج في إزالته إلى
استعمال غير الماء كالصابون والأشنان أو الماء المغلي بالنار، كذا في السراج. وظاهر ما في
410

غاية البيان أنه يعفى عن الرائحة بعد زوال العين مطلقا، وأما اللون فإن شق إزالته يعفي أيضا
وإلا فلا. وفي فتح القدير: وقد يشكل على الحكم المذكور وهو أن بقاء الأثر الشاق لا يضر
لما في التجنيس: حب فيه خمر غسل ثلاثا يطهر إذا لم يبق فيه رائحة الخمر لأنه لم يبق فيه
أثرها، فإن بقيت رائحتها لا يجوز أن يجعل فيه من المائعات سوى الخل لأنه بجعله فيه يطهر
وإن لم يغسل لأن ما فيه من الخمر يتخلل بالخل إلا أن آخر كلامه أفاد أن بقاء رائحتها فيه
بقيام بعض أجزائها، وعلى هذا قد يقال في كل ما فيه رائحة كذلك. وفي الخلاصة: الكوز
إذا كان فيه خمر تطهيره أن يجعل فيه الماء ثلاث مرات كل مرة ساعة وإن كان جديدا عند أبي
يوسف يطهر، وعند محمد لا يطهر أبدا ا ه‍. من غير تفصيل بين بقاء الرائحة أو لا
والتفصيل أحوط. ا ه‍. ما في فتح القدير. وفي فتاوى قاضيخان: المرأة إذا اختضبت بحناء
نجس فغسلت ذلك الموضع ثلاثا بماء طاهر يطهر لأنها أتت بما في وسعها، وينبغي أن لا
يكون طاهرا ما دام يخرج منه الماء الملون بلون الحناء ا ه‍. وظاهره أن المذهب الطهارة وإن لم
ينقطع اللون، وظاهر ما في فتح القدير أن ما ذكره بصيغة ينبغي هو المذهب فإنه قال: قالوا
لو صبغ ثوبه أو يده بصبغ أو حناء نجسين فغسل إلى أن صفا الماء يطهر مع قيام اللون وقيل
يغسل بعد ذلك ثلاثا ا ه‍. وفي المجتبى: غسل يديه من دهن نجس طهرت ولا يضر أثر
الدهن على الأصح. تنجس العسل يلقى في قدر ويصب عليه الماء ويغلى حتى يعود إلى
مقداره الأول هكذا ثلاثا قالوا وعلى هذا الدبس ا ه‍. وأطلق الأثر الشاق فشمل ما إذا كان
كثيرا فإنه معفو عنه كما في الكافي.
قوله: (وغيره بالغسل ثلاثا وبالعصر في كل مرة) أي غير المرئ من النجاسة يطهر
بثلاث غسلات وبالعصر في كل مرة لأن التكرار لا بد منه للاستخراج، ولا يقطع بزواله
فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة. وإنما قدروا بالثلاث لأن غالب الظن يحصل عنده
فأقيم السبب الظاهر مقامه تيسيرا، ويتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه حيث شرط الغسل
411

ثلاثا عند توهم النجاسة فعند التحقق أولى. ولم يشترط الزيادة في المتحقق لأن الثلاث لو لم
تكن لإزالة النجاسة حقيقة لم تكن رافعة للتوهم ضرورة. كذا في الهداية والكافي. وفي غاية
البيان أن التقدير بالثلاث ظاهر الرواية، وظاهره أنه لو غلب على ظنه زوالها بمرة أو مرتين
لا يكفي. وظاهر أن ما في الهداية أولا أنه يكفي لأنه اعتبر غلبة الظن وآخرا أنه لا بد من
الزيادة على الواحدة حيث قال: لأن التكرار لا بد منه للاستخراج والمفتى به اعتبار غلبة الظن
من غير تقدير بعدد كما صرح به في منية المصلي. وصرح الإمام الكرخي في مختصره بأنه لو
غلب على ظنه أنها قد زالت بمرة أجزأه واختاره الإمام الأسبيجابي. وذكر في البدائع أن
التقدير بالثلاث ليس بلازم بل هو مفوض إلى رأيه. وفي السراج: اعتبار غلبة الظن مختار
العراقيين، والتقدير بالثلاث مختار البخاريين والظاهر الأول إن لم يكن موسوسا وإن كان
موسوسا فالثاني ا ه‍. واشتراط العصر في كل مرة هو ظاهر الرواية لأنه هو المستخرج. كذا
في الهداية. وفي غير رواية الأصول يكتفي بالعصر مرة واحدة وهو أرفق. وعن أبي
يوسف: العصر ليس بشرط كذا في الكافي. ثم اشتراط العصر فيما ينعصر إنما هو فيما إذ
غسل الثوب في الإجانة، أما إذا غمس الثوب في ماء جار حتى جرى عليه الماء طهر، وكذا
ما لا ينعصر. ولا يشترط العصر فيما لا ينعصر ولا التجفيف فيما لا ينعصر، ولا يشترط
تكرار الغمس، وكذا الاناء النجس إذا جعله في النهر وملاه وخرج منه طهر. ولو تنجست
يده بسمن نجس فغمسها في الماء الجاري وجرى عليها طهرت، ولا يضره بقاء أثر الدهن
لأنه طاهر في نفسه وإنما ينجس بمجاورة النجاسة بخلاف ما إذا كان الدهن ودك ميتة فإنه
يجب عليه إزالة أثره. وأما حكم الغدير فإن غمس الثوب به فإنه يطهر وإن لم ينعصر وهو
المختار، وأما حكم الصب فإنه إذا صب الماء على الثوب النجس إن أكثر الصب بحيث يخرج
ما أصاب الثوب من الماء وخلفه غير ثلاثا فقد طهر لأن الجريان بمنزلة التكرار والعصر
والمعتبر غلبة الظن هو الصحيح، وعن أبي يوسف: إن كانت النجاسة رطبة لا يشترط
العصر، وإن كانت يابسة فلا بد منه وهذا هو المختار، كذا في السراج الوهاج. وفي التبيين:
والمعتبر ظن الغاسل إلا أن يكون الغاسل صغيرا أو مجنونا فيعتبر ظن المستعمل لأنه هو
412

المحتاج إليه ا ه‍. وتعتبر قوة كل عاصر دون غيره خصوصا على قول أبي حنيفة أن قدرة الغير
غير معتبرة وعليه الفتوى، فلو كانت قوته أكثر من ذلك إلا أنه لم يبالغ في العصر صيانة
لثوبه عن التمزيق لرقته قال بعضهم لا يطهر، وقال بعضهم يطهر لمكان الضرورة وهو
الأظهر. كذا في السراج الوهاج لكن اختار قاضيخان في فتاواه عدم الطهارة. وفي فتح
القدير: إن اشتراط العصر فيما ينعصر مخصوص منه ما قال أبو يوسف في إزار الحمام إذا
صب عليه ماء كثير وهو عليه يطهر بلا عصر حتى ذكر الحلواني: لو كانت النجاسة دما أو
بولا وصب عليه الماء كفاه على قياس قول أبي يوسف في إزار الحمام لكن لا يخفى أن ذلك
لضرورة ستر العورة فلا يلحق به غيره وتترك الروايات الظاهرة فيه. وقالوا في البساط
النجس: إذا جعل في نهر ليلة ظهر، وفي أنه إذا لم يتهيأ له عصر الكرباس طهر كالبساط
ا ه‍. ولا يخفى أن الإزار المذكور إن كان متنجسا فقد جعلوا الصب الكثير بحيث يخرج ما
أصاب الثوب من الماء ويخلفه غيره ثلاثا قائما مقام العصر كما قدمناه عن السراج، فحينئذ لا
فرق بين إزار الحمام وغيره. وليس الاكتفاء به في الإزار لأجل ضرورة الستر كما فهمه
المحقق بل لما ذكرناه، وظاهر ما في فتاوى قاضيخان أن الإزار ليس متنجسا وإنما أصابه ماء
الاغتسال من الجنابة، فعلى رواية نجاسة الماء المستعمل طاهر وعليه بنى هذا الفرع، وأما على
طهارته فلا حاجة إلى غسله أصلا كما لا يخفى. والتقدير بالليلة في مسألة البساط لقطع
الوسوسة وإلا فالمذكور في المحيط قالوا: البساط إذا تنجس فأجرى عليه الماء إلى أن يتوهم
زوالها طهر لأن إجراء الماء يقوم مقام العصر ا ه‍. ولم يقيده بالليلة.
قوله: (وبتثليث الجفاف فيما لا ينعصر) أي ما لا ينعصر فطهارته غسله ثلاثا وتجفيفه
في كل مرة لأن للتجفيف أثرا في استخراج النجاسة وهو أن يتركه حتى ينقطع التقاطر، ولا
يشترط فيه اليبس. أطلقه فشمل ما تداخله أجزاء النجاسة أولا. أما الثاني فيغسل ويجفف في
كل مرة كالجلد والخف والمكعب والجرموق والخزف والآجر والخشب الجديد، وأما القديم
فيطهر بالغسل ثلاثا دفعة واحدة وإن لم يجف. كذا ذكروه. وفي فتح القدير: وينبغي تقييد
413

الخزفة بما إذا تنجست وهي رطبة، أما لو تركت بعد الاستعمال حتى جفت فإنها كالجديدة
لأنه يشاهد اجتذابها حتى يظهر من ظاهرها ا ه‍. وذكر الإمام الأسبيجابي: وإن كان ذلك
الشئ الذي أصابه النجاسة صلبا كالحجر والآجر والخشب والأواني فإنه يغسل مقدار ما يقع
في أكبر رأيه أنه قد طهر ولا توقيت فيه، وإنما حكم بطهارته إذا كان لا يوجد بعد ذلك
طعم النجاسة ولا رائحتها ولا لونها، فإذا وجد منها أحد هذه الأشياء الثلاثة فلا يحكم
بطهارتها، سواء كانت الآنية من الخزف أو من غيره، جديدا كان أو غير جديد. وعزاه
صاحب المحيط إلى أكثر المشايخ وهو بإطلاقه يفيد أن الأثر فيه غير مغتفر وإن كان يشق زواله
بخلاف ما ذكروا في الثوب ونحوه، والتفرقة بينهما في هذه لا تعرى عن شئ ولعل وجه
ذلك أن بقاء الأثر هنا دال على قيام شئ من العين بخلاف الثوب ونحوه لجواز أن يكون
الاكتساب فيه بسبب المجاورة واستمرت قائمة بعد اضمحلال العين منه. كذا في شرح المنية.
ويدل للتفرقة ما في الفتاوى الظهيرية: وإن بقي أثر الخمر يجعل فيه الخل حتى لا يبقى أثرها
فيطهر ا ه‍. وفي الحاوي القدسي: والأواني ثلاثة أنواع: خزف وخشب وحديد ونحوها،
وتطهيرها على أربعة أوجه: حرق ونحت ومسح وغسل. فإن كان الاناء من خزف أو حجر
وكان جديدا ودخلت النجاسة في أجزائه يحرق، وإن كان عتيقا يغسل، وإن كان من خشب
وكان جديدا ينحت، وإن كان عتيقا يغسل، وإن كان من حديد أو صفر أو زجاج أو
رصاص وكان صقيلا يمسح وإن كان خشنا يغسل ا ه‍. وفي الذخيرة: وحكي عن الفقيه أبي إسحاق
الحافظ أنه إذا أصابت النجاسة البدن يطهر بالغسل ثلاث مرات متواليات لأن العصر
متعذر فقام التوالي في الغسل مقام العصر، وفي شرح المنية: والأظهر أن كلا من التوالي
والترك ليس بشرط في البدن وما يجري مجراه بعد التفريع على اشتراط الثلاث في ذلك، وقد
صرح به في النوازل وفي الذخيرة ما يوافقه، وأما على أن الاعتبار بغلبة الظن فعدم اشتراط
كل منهما أظهر ا ه‍. وفي عمدة الفتاوى: نجاسة يابسة على الحصيرة تفرك وفي الرطبة يجرى
عليها الماء ثلاثا والاجراء كالعصر. وفي فتاوى قاضيخان: البردي إذا تنجس إن كانت
النجاسة رطبة تغسل بالماء ثلاثا ويقوم الحصير حتى يخرج الماء من أثقابه، وإن كانت النجاسة
قد يبست في الحصر تدلك حتى تلين النجاسة فتزول بالماء، ولو كان الحصير من القصب
ذكرنا أنه يغسل ثلاثا فيطهر ا ه‍. وحمله في فتح القدير على الحصير الصقيلة كأكثر حصر
مصر، أما الجديدة المتخذة مما يتشرب فسيأتي.
414

وفي المجتبى معزيا إلى صلاة البقالي: إن الحصير تطهر بالمسح كالمرآة والحجر، وأما الأول -
أعني ما يتداخله أجزاء النجاسة - فلا يطهر عند محمد أبدا، ويطهر عند أبي يوسف كالخزفة
الجديدة والخشبة الجديدة والبردي والجلد دبغ بنجس والحنطة انتفخت من النجاسة، فعند أبي
حنيفة وأبي يوسف تغسل ثلاثا وتجفف في كل مرة على ما ذكرنا، وقيل في الأخيرة فقط.
والسكين المموهة بماء نجس تموه ثلاثا بطاهر واللحم وقع في مرقه نجاسة حال الغليان يغلى
ثلاثا فيطهر، وقيل لا يطهر، وفي غير حالة الغليان يغسل ثلاثا. كذا في الظهيرية. والمرقة لا
خير فيها إلا أن تكون تلك النجاسة خمرا فإنه إذا صب فيها خل حتى صارت كالخل حامضة
طهرته. وفي التجنيس: طبخت الحنطة في الخمر قال أبو يوسف تطبخ بالماء ثلاثا وتجفف كل
مرة وكذا اللحم. وقال أبو حنيفة: إذا طبخت بالخمر لا تطهر أبدا وبه يفتى اه‍. والكل عند
محمد لا يطهر أبدا. وفي الظهيرية: ولو صبت الخمر في قدر فيها لحم إن كان قبل الغليان يطهر
اللحم بالغسل ثلاثا، وإن كان بعد الغليان لا يطهر، وقيل يغلي ثلاث مرات كل مرة بماء طاهر
ويجفف في كل مرة وتجفيفه بالتبريد. الخبز الذي عجن بالخمر لا يطهر بالغسل ولو صب فيه
الخل وذهب أثرها يطهر الدهن النجس يطهر بالغسل ثلاثا، وحيلته أن يصب الماء عليه فيعلو
الدهن هكذا يفعل ثلاث مرات. امرأة تطبخ مرقة فجاء زوجها سكران وصب الخمر فيها
فصبت المرأة فيها خلا، إن صارت المرقة كالخل في الحموضة طهرت. دجاجة شويت وخرج
من بطنها شئ من الحبوب يتنجس موضع الحبوب، وتطهيره أن يطبخ ويبرد في كل مرة ثلاث
مرات بالماء الطاهر، وكذلك البعر إذا وجد في حمل مشوي اه‍. ما في الظهيرية. وفي فتح
القدير: ولو ألقيت دجاجة حال الغليان في الماء قبل أن يشق بطنها التنتف أو كرش قبل الغسل لا
يطهر أبدا لكن على قول أبي يوسف يجب أن يطهر على قانون ما تقدم في اللحم قلت: وهو
سبحانه أعلم هو معلل بتشربهما النجاسة المتخللة بواسطة الغليان، وعلى هذا اشتهر أن اللحم
السميط بمصر نجس لا يطهر لكن العلة المذكورة لا تثبت حتى يصل الماء إلى حد الغليان
415

ويمكث فيه اللحم بعد ذلك زمانا يقع في مثله التشرب والدخول في باطن اللحم، وكل من
الامرين غير متحقق في السميط الواقع حيث لا يصل الماء إلى حد الغليان ولا يترك فيه إلا
مقدار ما تصل الحرارة إلى سطح الجلد فتنحل مسام السطح من الصوف، بل ذلك الترك يمنع
من وجوده انقلاع الشعر فالأولى في السميط أن يطهر بالغسل ثلاثا لتنجس سطح الجلد بذلك
الماء فإنهم لا يحترسون فيه من المنجس، وقد قال شرف الأئمة بهذا في الدجاجة والكرش
والسميط مثلهما اه‍. واعلم أن صاحب المحيط فصل فيما لا ينعصر بين ما لا يتشرب فيه
النجس وما يتشرب، فالأول يطهر بالغسل ثلاثا من غير تجفيف، والثاني يحتاج إلى التجفيف،
وبهذا علم المتن ليس على عمومه كما لا يخفى. وفيه أيضا: والمياه الثلاث نجسة متفاوتة،
فالأول إذا أصاب شيئا يطهر بالثلاث، والثاني بالمثنى، والثالث بالواحد ويكون حكمه في
الثوب الثاني مثل حكمه في الأول. وإذا استنجى بالماء ثلاثا كان نجسا وإن استعمل الماء بعد
الانقاء صار مستعملا.
قوله: (وسن الاستنجاء بنحو حجر منق) ذكره هنا ولم يذكره في سنن الوضوء لأن
الاستنجاء إزالة النجاسة العينية وهو إزالة ما على السبيل من النجاسة. وفي المغرب: الاستنجاء
مسح موضع النجو وهو ما يخرج من البطن أو غسله، ويجوز أن تكون السين للطلب أي طلب
النجو ليزيله. وقد علم من تعريفه أن الاستنجاء لا يسن إلا من حدث خارج من أحد السبيلين
غير الريح لأن بخروج الريح لا يكون على السبيل شئ فلا يسن منه بل هو بدعة كما في
المجتبى، ولا من النوم والفصد إليه أشار في شرح الوقاية لكن يرد عليه الحصى الخارج من أحد
السبيلين فإنه يدخل تحت ضابطه. والحال أنه لا يسن الاستنجاء له صرح به في السراج
416

الوهاج. وأفاد أن الاستنجاء لا يكون إلا سنة، وصرح في النهاية بأنه سنة مؤكدة فلا يكون
فرضا. وعلى هذا فما ذكر في السراج الوهاج من أن الاستنجاء خمسة أنواع: أربعة فريضة
وواحد سنة فالأول من الحيض والنفاس والجنابة وإذا تجاوزت النجاسة مخرجها، وواحد سنة
وهو ما إذا كانت النجاسة مقدار المخرج فتسامح فإن الثلاثة الأول من باب إزالة الحدث إن لم
يكن شئ على المخرج، وإن كان شئ فهو من باب إزالة النجاسة الحقيقية من البدن غير
السبيلين فلا يكون من باب الاستنجاء، وإن كان على أحد السبيلين شئ فهي سنة لا فرض.
وأما الرابع فهو من باب إزالة النجاسة عن البدن، وقد علمت أنه ليس من باب الاستنجاء فلم
يبق إلا القسم المسنون. وأشار بقوله منق إلى أن المقصود هو الانقاء وإلى أنه لا حاجة إلى
التقييد بكيفية من المذكورة في الكتب نحو إقباله بالحجر في الشتاء وإدباره به في الصيف
لاسترخاء الخصيتين فيه لا في الشتاء. وفي المجتبى: المقصود الانقاء فيختار ما هو الأبلغ
والاسلم عن زيادة التلويث اه‍. فالأولى أن يقعد مسترخيا كل الاسترخاء إلا أن يكون صائما
وكان الاستنجاء بالماء، ولا يتنفس إذا كان صائما ويحترز من دخول الإصبع المبتلة كل ذلك
يفسد الصوم. وفي كتاب الصوم من الخلاصة: إنما يفسد إذا وصل إلى موضع المحقنة وقلما
يكون ذلك اه‍. وللمخافة ينبغي أن ينشف المحل قبل أن يقوم، ويستحب لغير الصائم أيضا
حفظ الثوب من الماء المستعمل ويغسل يديه قبل الاستنجاء وبعده، وينبغي أن يخطو قبله
خطوات والمقصود أن يستبرئ. وفي المبتغى: والاستبراء واجب، ولو عرض له الشيطان كثيرا
لا يلتفت إليه بل ينضح فرجه بماء أو سراويله حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم
يتيقن خلافه، وبالماء البارد في الشتاء أفضل بعد تحقق الإزالة به. ولا يدخل الإصبع قيل
يورث الباسور، والمرأة كالرجل تغسل ما ظهر منها، ولو غسلت المرأة براحتها كفاها. كذا في
فتح القدير. ولا تدخل المرأة أصبعها في قبلها للاستنجاء كما في الخانية. وأراد المصنف بالسنة
السنة المؤكدة كما هو مذكور في الأصل، ولو تركه صحت صلاته. قال في الخلاصة: بناء على
أن النجاسة القليلة عفو عندنا. وعلماؤنا فصلوا بين النجاسة التي على موضع الحدث والتي على
غيره في غير موضع الحدث إذا تركها يكره، وفي موضعه إذا تركها لا يكره، وما عن أنس كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء. متفق
عليه. ظاهر في المواظبة بالماء ومقتضاه كراهة تركه. كذا في فتح القدير. وهو مبني على أن
صيغة كان يفعل مفيدة للتكرار وفيه خلاف بين الأصوليين، والمختار الذي عليه الأكثرون
والمحققون من الأصوليين أن لفظة كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار وإنما هي فعل ماض
417

تدل على وقوعه فإن دل دليل على التكرار عمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها، وقد قالت عائشة
رضي الله عنها، كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد
أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع فاستعملت كان في مرة واحدة، ولا
يقال لعلها طيبته في إحرامه لأن المعتمر لا يحل له التطيب قبل الطواف بالاجماع فثبت أنها
استعملت كان في مرة واحدة كما قال الأصوليون. ذكره النووي في شرح مسلم من باب
الوتر، واختاره المحقق في التحرير فإنه اختار أن إفادتها للتكرار من جهة الاستعمال لا من جهة
الوضع لكن الاستعمال مختلف كما رأيت. وقد علم مما ذكرنا أن التقييد بالانقاء إنما هو
لحصول السنة حتى لو لم ينق فإن السنة قد فاتت لا أنه قيد للجواز. وأطلق الخارج ولم يقيده
بكونه معتادا ليفيد أن غير المعتاد إذا أصاب المحل كالدم يطهر بالحجارة على الصحيح، سواء
كان خارجا منه أو لا، وليفيد أنه لا فرق بين أن يكون الغائط رطبا ولم يقم من موضعه أو قام
من موضعه أو جف الغائط فإن الحجر كاف فيه، وفي الثاني خلاف ذكره في السراج الوهاج.
وأراد بنحو الحجر ما كان عينا طاهرة مزيلة لا قيمة له كالمدر والتراب والعود والخرقة والقطن
والجلد الممتهن، فخرج الزجاج والثلج والآجر والخزف والفحم.
قوله: (وما سن فيه عدد) أي في الاستنجاء لما قدمنا من أن المقصود إنما هو الانقاء،
وشرط الشافعي الثلاث مبني على أن الاستنجاء فرض ولا نقول به، وذكر الثلاث في بعض
الأحاديث خرج مخرج العادة لأن الغالب حصول الانقاء بها، أو يحمل على الاستحباب بدليل
أنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز عندهم، وبدليل أنه لما أتى له عليه الصلاة والسلام
بحجرين وروثة ألقى الروثة واقتصر على الحجرين. كذا ذكر أئمتنا، وتعقبه شيخ الاسلام ابن
حجر في فتح الباري بأن الامر أولا بإتيان ثلاثة أحجار يغني عن طلب ثالث بعد إلقاء
الروثة، وبأنه ورد في بعض الروايات الصحيحة أنه طلب منه ثالثا وأتى له به. وبما قررناه
علم أن المراد نفي السنة المؤكدة وإلا فقد صرحوا بالاستحباب كما قدمناه. قوله: (وغسله
بالماء أحب) أي غسل المحل بالماء أفضل لأنه قالع للنجاسة والحجر مخفف لها فكان الماء أولى.
كذا ذكره الشارح الزيلعي، وهو ظاهر في أن المحل لم يطهر بالحجر، ويتفرع عليه أنه يتنجس
السبيل بإصابة الماء وفيه الخلاف المعروف في مسألة الأرض إذا جفت بعد التنجس ثم أصابها
ماء وكذا في نظائرها. وقد اختاروا في الجميع عدم عود النجاسة كما قدمناه عنهم فليكن
كذلك هنا. ويدل على ذلك من السنة ما رواه الدارقطني وصححه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نهى
418

أن يستنجي بروث أو عظم وقال: إنهما لا يطهران. فعلم أن ما أطلق الاستنجاء به بطهر إذ
لو لم يطهر لم يطلق الاستنجاء به بحكم هذه العلة. وفي فتح القدير: وأجمع المتأخرون أنه لا
ينجس بالعرق حتى لو سال العرق منه وأصاب الثوب والبدن أكثر من قدر الدرهم لا يمنع،
وظاهر ما في الكتاب يدل على أن الماء مندوب، سواء كان قبله الحجر أو لا. فالحاصل أنه
إذا اقتصر على الحجر كان مقيما للسنة، وإذا اقتصر على الماء كان مقيما لها أيضا وهو أفضل
من الأول، وإذا جمع بينهما كان أفضل من الكل، وقيل الجمع سنة في زماننا، وقيل سنة على
الاطلاق وهو الصحيح وعليه الفتوى. كذا في السراج الوهاج. وفي فتح القدير: هذا
والنظر إلى ما تقدم أول الفصل من حديث أنس وعائشة يفيد أن الاستنجاء بالماء سنة مؤكدة
في كل زمان لافادته المواظبة، وفيه ما قدمناه من البحث. أطلق الغسل بالماء ولم يقيده بعدد
ليفيد أن الصحيح تفويضه إلى رأيه فيغسل حتى يقع في قلبه أنه طهر. كذا في الخلاصة بعد
نقل الخلاف، فمنهم من شرط الثلاث، ومنهم من شرط السبع، ومنهم من شرط العشرة. والمراد
بالاشتراط الاشتراط في حصول السنة وإلا فترك الكل لا يضره عندهم كما قدمناه. وفي فتاوى
قاضيخان: والاستنجاء بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن احتاج إلى
كشف العورة يستنجي بالحجر ولا يستنجي بالماء. قالوا: من كشف العورة للاستنجاء يصير
فاسقا. وفي فتح القدير: ولو كان على شط نهر ليس فيه سترة لو استنجى بالماء قالوا يفسق
وكثيرا ما يفعله عوام المصريين في الميضأة فضلا عن شاطئ النيل اه‍. وقد قدمنا الكلام عليه
أول الباب.
قوله: (ويجب إن جاوز النجس المخرج) أي ويجب غسل المحل بالماء إن تعدت النجاسة
المخرج لأن للبدن حرارة جاذبة أجزاء النجاسة فلا يزيلها المسح بالحجر وهو القياس في محل
الاستنجاء إلا أنه ترك فيه للنص على خلاف القياس فلا يتعداه. وفسرنا فاعل يجب بالغسل
دون الاستنجاء كما فعل الشارح الزيلعي لما أن غسل ما عدا المخرج لا يسمى استنجاء، ولما
قدمنا من أن الاستنجاء لا يكون إلا سنة. وأراد بالماء هنا كل مائع طاهر مزيل بقرينة تصريحه
أول الباب وهو أولى من حمله على رواية محمد المعينة للماء كما أشار إليه في الكافي لأنها ضعيفة في المذهب كما علمت سابقا. وأراد بالمجاوز أن يكون أكثر من قدر الدرهم بقرينة ما
بعده وحينئذ فالمراد بالوجوب الفرض. قوله: (ويعتبر القدر المانع وراء موضع الاستنجاء) أي
419

ويعتبر في منع صحة الصلاة أن تكون النجاسة أكثر من قدر الدرهم مع سقوط موضع
الاستنجاء حتى إذا كان المجاوز للمخرج مع ما على المخرج أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يمنع
لأن ما على المخرج ساقط شرعا، ولهذا لا تكره الصلاة معه فبقي المجاوز غير مانع. وهذا
عندهما خلافا لمحمد بناء على أن ما على المخرج في حكم الباطن عندهما، وفي حكم الظاهر
عنده. وهذا بعمومه يتناول ما إذا كانت مقعدته كبيرة وكان فيها نجاسة أكثر من قدر الدرهم
ولم يتجاوز المخرج فإنه ينبغي أن يعفى عنه اتفاقا لاتفاقهم على أن ما على المقعدة ساقط،
وإنما خلاف محمد فيما إذا جاوزت النجاسة المخرج وكان قليلا وكان لو جمع مع ما على
المخرج كان كثيرا، فعلى هذا فالاختلاف المنقول في الشرح وغيره بين الفقيه أبي بكر القائل
بأنه لا يجزئه الاستنجاء بالأحجار، وبين ابن شجاع القائل بالجواز مشكل إلا أن يخص هذا
العموم بالمقعدة المعتادة التي قدر بها الدرهم الكبير المثقالي، وأما الكبيرة التي جاوز ما عليها
الدرهم فليست ساقطة فله وجه مع بعده. وفي السراج الوهاج: هذا حكم الغائط إذا تجاوز،
وأما البول إذا تجاوز عن رأس الإحليل أكثر من قدر الدرهم فالظاهر أنه يجزئ فيه الحجر عند
أبي حنيفة، وعند محمد لا يجزئ فيه الحجر إلا إذا كان أقل من قدر الدرهم اه‍. وفي
الخلاصة: ولو أصاب طرف الإحليل من البول أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته هو
الصحيح اه‍. وتعبير المصنف بموضع الاستنجاء أولى من تعبير صاحب النقاية وغيرها
بالمخرج لأنه لا يجب الغسل بالماء إلا إذا تجاوز ما على نفس المخرج وما حوله من موضع
الشرج، وكان المجاوز أكثر من قدر الدرهم كما في المجتبى. وذكر في العناية معزيا إلى القنية
أنه إذا أصاب موضع الاستنجاء نجاسة من الخارج أكثر من قدر الدرهم يطهر بالحجر، وقيل
الصحيح أنه لا طهر إلا بالغسل وقد قدمنا أنه يطهر بالحجر، وقد نقلوا هذا التصحيح هنا
بصيغة التمريض فالظاهر خلافه والله أعلم. قوله: (لا بعظم وروث وطعام ويمين) أي لا
يستنجي بهذه الأشياء، والمراد أنه يكره بها كما صرح به الشارح. والظاهر أنها كراهة تحريم
للنهي الوارد في ذلك لما روى البخاري من حديث أبي هريرة في بدء الخلق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
420

له: اتبعني أحجارا استقض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة. قالت: ما بال العظام والروثة؟ قال:
هما من طعام الجن. وروى أصحاب الكتب الستة عن أبي قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال
أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه، وإذا شرب فلا يشرب نفسا
واحدا وفي القنية في شرح السنة: جمع الحديث النهي عن الاستنجاء باليمين ومس الذكر
باليمين ولا يمكنه إلا بالارتكاب أحدهما، فالصواب أن يأخذ الذكر بشماله فيمره على جدار أو
موضع ناء من الأرض وإن تعذر يقعد ويمسك الحجر بين عقبيه فيمر العضو عليه بشماله، فإن
تعذر يأخذ الحجر بيمينه ولا يحركه ويمر العضو عليه بشماله. قال مولانا نجم الدين: وفيما
أشار إليه من إمساك الحجر بعقبيه حرج وتعسير وتكلف، بل يستنجي بجدار إن أمكن وإلا
يأخذ الحجر بيمينه ويستنجي بيساره اه‍. وليس مراده القصر على هذه الأشياء فإن ما يكره
الاستنجاء به ثلاثة عشر كما في السراج الوهاج: العظم والروث والرجيع والفحم والطعام
والزجاج والورق والخزف والقصب والشعر والقطن والخرقة وعلف الدواب مثل الحشيش
وغيره. فإن استنجى بها أجزأه مع الكراهة لحصول المقصود، والروث وإن كان نجسا عندنا
بقوله عليه الصلاة والسلام فيها ركس أو رجس لكن لما كان يابسا لا ينفصل منه شئ صح
الاستنجاء به لأنه يجفف ما على البدن من النجاسة الرطبة. والرجيع العذرة اليابسة، وقيل
الحجر الذي قد استنجى به. وفي فتح القدير: ولا يجزئه الاستنجاء بحجر استنجى به مرة إلا
أن يكون له حرف آخر لم يستنج به اه‍. والورق قيل إنه ورق الكتابة، وقيل إنه ورق الشجر،
وأي ذلك كان فإنه مكروه. وأما الطعام فلانه إسراف وإهانة، وإنما كرهوا وضع المملحة على
الخبز للإهانة فهذا أولى، وسواء كان مائعا أو لا كاللحم. وأما الخزف والزجاج والفحم فإنه
يضر بالمقعدة، وأما باليمين فللنهي المتقدم، فإن كان باليسرى عذر يمنع الاستنجاء بها جاز أن
يستنجي بيمينه من غير كراهة. وأما باقي هذه الأشياء فقيل إن الاستنجاء بها يورث الفقر، وقد
قدمنا أن التحقيق أن الاستنجاء لا يكون إلا سنة فينبغي أنه إذا استنجى بالمنهي عنه أن لا يكون
مقيما لسنة الاستنجاء أصلا، فقولهم بالاجزاء مع الكراهة تسامح لأن مثل هذه العبارة تستعمل
في الواجب وليس به والله الموفق للصواب.
فروع: إذا أراد الانسان دخول الخلاء وهو بيت التغوط يستحب له أن يدخل بثوب
421

غير ثوبه الذي يصلي فيه إن كان له ذلك وإلا فيجتهد في حفظ ثوبه عن إصابة النجاسة والماء
المستعمل، ويدخل مستور الرأس ويقول عند دخوله: باسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث
والخبائث، وأعوذ بك من الرجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. والخبث بسكون الباء بمعنى
الشر، وبضمها جمع الخبيث وهو الذكر من الشيطان. والخبائث جمع الخبيثة وهي الأنثى من
الشياطين. ويكره أن يدخل الخلاء ومعه خاتم مكتوب عليه اسم الله تعالى أو شئ من القرآن.
ويبدأ برجله اليسرى ويقعد ولا يكشف عورته وهو قائم، ويوسع بين رجليه ويميل على
اليسرى، ولا يتكلم على الخلاء فإن الله تعالى يمقت على ذلك. والمقت هو البغض. ولا يذكر
الله ولا يحمد إذا عطس، ولا يشمت عاطسا، ولا يرد السلام، ولا يجيب المؤذن، ولا ينظر
لعورته إلا لحاجة، ولا ينظر إلى ما يخرج منه، ولا يبزق، ولا يمخط، ولا يتنحنح، ولا يكثر
الالتفات، ولا يعبث ببدنه، ولا يرفع بصره إلى السماء، ولا يطيل القعود على البول والغائط
لأنه يورث الباسور أو وجع الكبد كما روي عن لقمان عليه السلام، فإذا فرغ قام ويقول:
الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني أي بإبقاء شئ من الطعام لأنه لو خرج كله هلك.
ويكره البول والغائط في الماء ولو كان جاريا، ويكره على طرف نهر أو بئر أو حوض أو عين أو
تحت شجرة مثمرة أو في زرع أو في ظل ينتفع بالجلوس فيه، ويكره بجنب المساجد ومصلى
العيد وفي المقابر وبين الدواب وفي طرق المسلمين ومستقبل القلبة ومستدبرها ولو في البنيان،
فإن جلس مستقبل القبلة ناسيا ثم ذكر بعده أن أمكنه الانحراف انحرف وإلا فلا بأس. وكذا
يكره للمرأة أن تمسك ولدها للبول والغائط نحو القبلة، واختلفوا في الاستقبال للتطهر فاختار
التمرتاشي أنه لا يكره. وكذا يكره استقبال الشمس والقمر لأنهما من آيات الله الباهرة، ويكره
أن يقعد في أسفل الأرض ويبول في أعلاها وأن يبول في مهب الريح وأن يبول في حجر فأرة
أو حية أو نملة أو ثقب، ويكره أن يبول قائما أو مضطجعا أو متجردا عن ثوبه من غير عذر،
فإن كان لعذر فلا بأس لأنه عليه الصلاة والسلام بال قائما لوجع في صلبه، ويكره أن يبول في
موضع ويتوضأ أو يغتسل فيه للنهي، كذا في السراج الوهاج.
422

كتاب الصلاة
هي لغة الدعاء، وشرعا الافعال المخصوصة من القيام والقراءة والركوع والسجود.
وقول الشارح وفيها زيادة مع بقاء معنى فيكون تغييرا لا نقلا فيه نظر، إذا الدعاء ليس من
حقيقتها شرعا، وإن أريد به القراءة فبعيد. فالظاهر أنها منقولة كما في الغاية لا لما علل به
من وجودها بدون الدعاء في الأمي بل لما ذكرناه، وسيأتي بيان أركانها وشرائطها وواجباتها.
وحكمها سقوط الواجب عن ذمته بالأداء في الدنيا ونيل الثواب الموعود في الآخرة إن كان
واجبا وإلا فالثاني. وسببها أوقاتها عند الفقهاء، وعند الأصوليين هي علامات وليست
بأسباب، والفرق بينهما أن السبب هو المفضي إلى الحكم بلا تأثير، والعلامة هي الدال على
الحكم من غير توقف ولا إفضاء ولا تأثير فهو علامة على الوجوب. والعلة في الحقيقة النعم
المترادفة في الوقت وهو شرط صحة متعلقة بالضرورة كما يفيده كونه ظرفا. ثم عامة مشايخنا
423

على أن السبب هو الجزء الأول إن اتصل به الأداء، وإن لم يتصل به انتقلت كذلك إلى ما
يتصل به وإلا فالسبب الجزء الأخير وبعد خروجه يضاف إلى جملته، وتمامه في كتابنا المسمى
بلب الأصول. وفي شرح النقاية: وكان فرض الصلوات الخمس ليلة المعراج وهي ليلة
السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا من مكة إلى السماء،
وكانت الصلاة قبل الاسراء صلاتين: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها قال تعالى
* (وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار) * (غافر: 55) ثم بدأ بالأوقات لتقدم السبب على
المسبب، والشرط وإن كان كذلك لكن السبب أشرف منه ولكونه شرطا أيضا. وقدم الفجر
لأنه أول النهار أو لأنه لا خلاف في أوله ولا آخره، أو لأن أول من صلاها آدم عليه السلام
حين أهبط من الجنة. إنما قدم الظهر في الجامع الصغير لأنها أول صلاة فرضت على
النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته. كذا في غاية البيان. وبهذا اندفع السؤال المشهور كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم
صلاة الفجر صبيحة ليلة الاسراء التي افترض فيها الصلوات الخمس. وفي الغاية: إن صلاة
الفجر أول الخمس في الوجوب لأن الفجر صبيحة ليلة الاسراء فيحتاج إلى الجواب عن
الفجر، وأجاب عنه العراقي أنه كان نائما وقت الصبح والنائم غير مكلف.
قوله: (وقت الفجر من الصبح الصادق إلى طلوع الشمس) لحديث أمامة: أتاني جبريل
عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين كان الفئ مثل الشراك، ثم صلى
العصر حين كان كل شئ مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم،
ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين بزق الفجر وحرم الطعام على
الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شئ مثله كوقت العصر بالأمس، ثم
صلى العصر حين كان ظل كل شئ مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء
424

الأخيرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت جبريل
فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين. وبزق أي بزغ
وهو أول طلوعه. وقيد بالصادق احترازا عن الكاذب فإنه من الليل، وهو المستطيل الذي
يبدو كذنب الذئب ثم يعقبه الظلام، والأول المستطير وهو الذي ينتشر ضوءه في الأفق وهي
أطراف السماء. وفي السراج الوهاج: آخره قبيل طلوع الشمس. وفي المجتبى: واختلف
المشايخ في أن العبرة لأول طلوعه أو لاستطارته أو لانتشاره اه‍. والظاهر الأخير لتعريفهم
الصادق به. قال في النهاية: الصادق هو البياض المنتشر في الأفق.
قوله: (والظهر من الزوال إلى بلوغ الظل مثليه سوى الفئ) أي وقت الظهر، أما أوله
فمجمع عليه لقوله تعالى * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الاسراء: 78) أي لزوالها وقيل
لغروبها، واللام للتأقيت، ذكره البيضاوي. وأما آخره ففيه روايتان عن أبي حنيفة: الأولى
رواها محمد عنه ما في الكتاب، والثانية رواية الحسن إذا صار ظل كل شئ مثله سوى الفئ
وهو قولهما، والأولى قول أبي حنيفة. قال في البدائع: إنها المذكورة في الأصل وهو
الصحيح وفي النهاية: إنها ظاهر الرواية عن أبي حنيفة. وفي غاية البيان: وبها أخذ أبو حنيفة
وهو المشهور عنه. وفي المحيط: والصحيح قول أبي حنيفة. وفي الينابيع: وهو الصحيح عن
أبي حنيفة. وفي تصحيح القدوري للعلامة قاسم: إن برهان الشريعة المحبوبي اختاره وعول
عليه النسفي ووافقه صدر الشريعة ورجح دليله. وفي الغياثية: وهو المختار. وفي شرح
المجمع للمصنف: إنه مذهب أبي حنيفة وإختاره أصحاب المتون وارتضاه الشارحون، فثبت
أنه مذهب أبي حنيفة. فقول الطحاوي وبقولهما نأخذ لا يدل على أنه المذهب مع ما
ذكرناه، وما ذكره الكركي في الفيص من أنه يفتى بقولهما في العصر والعشاء مسلم في
العشاء فقط على ما فيه أيضا كما سنذكره. لهما: إمامة جبريل في اليوم الأول في هذا
الوقت، وله: قوله عليه الصلاة والسلام أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم وأشد
الحر في ديارهم كان في هذا الوقت، وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك. وذكر
شيخ الاسلام أن الاحتياط أن لا يؤخر الظهر إلى المثل وأن لا يصلي العصر حتى يبلغ المثلين
425

ليكون مؤديا للصلاتين في وقتهما بالاجماع. كذا في السراج. وفي المغرب: الفئ بوزن
الشئ ما نسخ الشمس وذلك بالعشي والجمع أفياء وفيوء، والظل ما نسخته الشمس وذلك
بالغداة. وفي السراج الوهاج: والفئ في اللغة اسم للظل بعد الزوال سمي فيأ لأنه فاء من
جهة المغرب إلى جهة المشرق أي رجع، وبه اندفع ما قيل إن الفئ هو الظل الذي يكون
للأشياء وقت الزوال. وفي معرفة الزوال روايات أصحها أن يغرز خشبة
مستوية في أرض مستوية ويجعل عند منتهى ظلها علامة، فإن كان الظل ينقص عن العلامة فالشمس لم تزل،
وإن كان الظل يطول ويجاوز الخط علم أنها زالت، وإن امتنع الظل من القصر والطول فهو
وقت الزوال. كذا في الظهيرية. وفي المجتبى: فإن لم يجد ما يغرزه لمعرفة الفئ والأمثال
فليعتبره بقامته، وقامة كل انسان ستة أقدام ونصف بقدمه. وقال الطحاوي وعامة المشايخ:
سبعة أقدام ويمكن الجمع بينهما بأن يعتبر سبعة أقدام من طرف سمت الساق، وستة ونصف
من طرف الابهام. واعلم أن لكل شئ ظلا وقت الزوال إلا بمكة والمدينة في أطول أيام
السنة لأن الشمس فيها تأخذ الحيطان الأربعة. كذا في المبسوط.
قوله: (والعصر منه إلى الغروب) أي وقت العصر من بلوغ الظل مثليه سوى الفئ إلى
غروب الشمس، والخلاف في آخر وقت الظهر جار في أول وقت العصر، وفي آخره خلاف
أيضا فإن الحسن بن زياد يقول: إذا اصفرت الشمس خرج وقت العصر. ولنا رواية
الصحيحين من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1).
قوله: (والمغرب منه إلى غروب الشفق) أي وقت المغرب من غروب الشمس إلى غروب
الشفق لرواية مسلم وقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق (2) وضبطه الشمني بالثاء
426

المثلثة المفتوحة وهو ثوران حمرته. قوله: (وهو البياض) أي الشفق هو البياض عند الإمام
وهو مذهب أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ وعائشة رضي الله عنهم، وعندهما وهو رواية عنه
هو الحمرة وهو قول ابن عباس وابن عمر، وصرح في المجمع بأن عليها الفتوى. ورده
المحقق في فتح القدير بأنه لا يساعده رواية ولا دراية، أما الأول فلانه خلاف الرواية الظاهرة
عنه، وأما الثاني فلما في حديث ابن فضيل وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق وغيبوبته
بسقوط البياض الذي يعقب الحمرة وإلا كان باديا ويجئ ما تقدم يعني إذا تعارضت الاخبار
لم ينقض الوقت بالشك، ورجحه أيضا تلميذه قاسم في تصحيح القدوري. وقال في آخره:
فثبت أن قول الإمام هو الأصح اه‍. وبهذا ظهر أنه لا يفتى ويعمل إلا بقول الإمام الأعظم،
ولا يعدل عنه إلى قولهما أو قول أحدهما أو غيرهما إلا لضرورة من ضعف دليل أو تعامل
بخلافه كالمزارعة وإن صرح المشايخ بأن الفتوى على قولهما كما في هذه المسألة. وفي السراج
الوهاج: فقولهما أوسع للناس وقول أبي حنيفة أحوط.
قوله: (والعشاء والوتر منه إلى الصبح) أي وقتهما من غروب الشفق على الخلاف فيه،
وكون وقتهما واحدا مذهب الإمام، وعندهما وقت الوتر بعد صلاة العشاء. له حديث أبي
داود إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين
العشاء إلى طلوع الفجر (1) ولهما ما في بعض طرقه فجعلها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى
طلوع الفجر والخلاف فيه مبني على أنه فرض أو سنة قوله: (ولا يقدم على العشاء للترتيب)
427

أي لا يقدم الوتر على العشاء لوجوب الترتيب بين العشاء والوتر ولأنهما فرضان عند الإمام
وإن كان أحدهما اعتقادا والآخر عملا فأفاد أنه عند التذكر حتى لو قدم الوتر ناسيا فإنه
يجوز، وعندهما يعيده، وعند النسيان أيضا لأنه سنة العشاء تبعا لها فلا يثبت حكمه قبلها
كالركعتين بعد العشاء. وقول الشارح وعندهما لا يجوز فيه نظر لأنه سنة عندهما يجوز تركه
أصلا، وأشار إلى أن الترتيب بينه وبين غيره واجب عنده كما سيصرح به في باب الفوائت،
وعندهما ليس بواجب لسنيته. وفي النهاية: ثم إنهما يوافقان أبا حنيفة في وجوب القضاء،
فلو كانت سنة لما وجب القضاء كما في سائر السنن. ومراده من الوجوب الثبوت لا
المصطلح عليه لأن أداءه عندهما سنة فلا يكون القضاء واجبا عندهما وإلا فهو مشكل والله
سبحانه أعلم.
قوله: (ومن لم يجد وقتهما لم يجبا) أي العشاء والوتر كما لو كان في بلد يطلع فيه
الفجر قبل أن يغيب الشفق كبلغارفي أو قصر ليالي السنة فيما حكاه معجم صاحب البلدان
لعدم السبب وأفتى به البقالي، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من
المرفقين، وأفتى بعضهم بوجوبها واختاره المحقق في فتح القدير بثبوت الفرق بين عدم محل
428

الفرض وبين سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الامر
وجواز تعدد المعرفات للشئ، فانتفاء الوقت انتفاء المعرف، وانتفاء الدليل على الشئ لا
يستلزم انتفاءه لجواز دليل آخر وهو ما تواطأت عليه أخبار الاسراء من فرض الله الصلاة خمسا
إلى آخره. والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء، ومن أفتى بوجوب العشاء يجب
على قوله الوتر أيضا. قوله: (وندب تأخير الفجر) لما رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه
الترمذي أسفروا بالفجر فإنه أعظم للاجر (1) وحمله على تبين طلوعه يأباه ما في صحيح ابن
حبان كلما أصبحتم بالصبح فهو أعظم للاجر أطلقه فشمل الابتداء والانتهاء فيستحب
البداءة بالاسفار والختم به خلافا للطحاوي فإنه نقل عن الأصحاب استحباب البداءة بالغلس
والختم بالاسفار، والأول ظاهر الرواية كما في العناية. وقالوا: يسفر بها بحيث لو ظهر فساد
صلاته يمكنه أن يعيدها في الوقت بقراءة مستحبة. وقيل: يؤخرها جدا لأن الفساد موهوم
فلا يترك المستحب لأجله وهو ظاهر إطلاق الكتاب لكن لا يؤخرها بحيث يقع الشك في
طلوع الشمس. وفي السراج الوهاج: حد الاسفار أن يصلي في النصف الثاني، ولا يخفى أن
الحاج بمزدلفة لا يؤخرها. وفي المبتغى بالغين المعجمة: الأفضل للمرأة في الفجر الغلس،
وفي غيرها الانتظار إلى فراغ الرجال عن الجماعة. قوله: (وظهر الصيف) أي ندب تأخيره
لرواية البخاري: كان إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. والمراد
الظهر لأنه جواب السؤال عنها وحده أن يصلي قبل المثل. أطلقه فأفاد أنه لا فرق بين أن
يصلي بجماعة أو لا، وبين أن يكون في بلاد حارة أو لا، وبين أن يكون في شدة الحر أو
لا، ولهذا قال في المجمع: ونفضل الابراد بالظهر مطلقا، فما في السراج الوهاج من أنه إنما
يستحب الابراد بثلاثة شروط ففيه نظر، بل هو مذهب الشافعي على ما قيل. والجمعة كالظهر
أصلا واستحبابا في الزمانين كذا ذكره الأسبيجابي. قوله (والعصر ما لم تتغير) أي ندب
تأخيره ما لم تتغير الشمس لرواية أبي داود: كان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية.
أطلقه فشمل الصيف والشتاء لما في ذلك من تكثير النوافل لكراهتها بعد العصر، وأراد
429

بالتغير أن تكون الشمس بحال لا تحار فيها العيون على الصحيح فإن تأخيرها إليه مكروه لا
الفعل لأنه مأمور بها منهي عن تركها فلا يكون الفعل مكروها. كذا في السراج. ولو شرع
فيه قبل التغير فمده إليه لا يكره لأن الاحتراز عن الكراهة مع الاقبال على الصلاة متعذر
فجعل عفوا. كذا في غاية البيان. وحكم الاذان حكم الصلاة في الاستحباب تعجيلا
وتأخيرا صيفا وشتاء كما سنذكره في بابه إن شاء الله تعالى قوله (والعشاء إلى الثلث) أي ندب تأخيرها إلى
ثلث الليل لما رواه الترمذي وصححه لولا أن أشق على أمتي لاخرت العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه (2) وفي مختصر القدوري إلى ما قبل الثلث لرواية البخاري: كانوا يصلون
العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل. ومقتضاه أنه لا يستحب تأخيرها إلى الثلث
بخلاف الأول. ووفق بينهما في شرح المجمع لابن الملك بحمل الأول على الشتاء والثاني على
الصيف لغلبة النوم ا ه‍. وأطلقه فشمل الصيف والشتاء، وقيل يستحب تعجيل العشاء في
الصيف لئلا تتقلل الجماعة، وأفاد أن التأخير إلى نصف الليل ليس بمستحب وقالوا: إنه مباح
وإلى ما بعده مكروه. وقيل: إلى ما بعد الثلث مكروه. وروى الإمام أحمد وغيره أنه عليه
الصلاة والسلام كان يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها. وقيد
الطحاوي كراهة النوم قبلها بمن خشي عليه فوت وقتها أو فوت الجماعة فيها وإلا فلا. وقيد
430

الشارح كراهة الحديث بعدها بغير الحاجة أما لها فلا، وكذا قراءة القرآن والذكر وحكايات
الصالحين ومذاكرة الفقه والحديث مع الضيف. وفي الظهيرية: ويكره الكلام بعد انفجار
الصبح، وإذا صلى الفجر جاز له الكلام. وفي القنية: تأخير العشاء إلى ما زاد على نصف
الليل والعصر إلى وقت اصفرار الشمس والمغرب إلى اشتباك النجوم يكره كراهة تحريم.
قوله (والوتر إلى آخر الليل لمن يثق بالانتباه) أي وندب تأخيره لرواية الصحيحين
اجعلوا آخر صلاتكم وترا (1) والامر للندب لرواية الترمذي من خشي منكم أن لا يستيقظ
من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع منكم أن يوتر في آخر الليل فليوتر من آخر الليل فإن
قراءة القرآن في آخر الليل محضورة (2) وهي أفضل وهو دليل مفهوم قوله لمن يثق به. وإذا
أوتر قبل النوم ثم استيقظ وصلى ما كتب له لا كراهة فيه ولا يعيد الوتر ولزمه ترك الأفضل
المفاد بحديث الصحيحين قوله (وتعجيل ظهر الشتاء) أي وندب تعجيل ظهر الشتاء لما روينا
في ظهر الصيف. وفي الخلاصة: من آخر الايمان: إن كان عندهم حساب يعرفون به الشتاء
والصيف فهو على حسابهم، وإن لم يكن فالشتاء ما اشتد فيه البرد على الدوام، والصيف ما
يشتد فيه الحر على الدوام، فعلى قياس هذا الربيع ما ينكسر فيه البرد على الدوام، والخريف ما
ينكسر فيه الحر على الدوام. ومن مشايخنا من قال: الشتاء ما يحتاج الناس فيه إلى شيئين إلى
الوقود ولبس الحشو، والصيف ما يستغنى فيه عنهما، والربيع والخريف ما يستغنى عن
أحدهما اه‍. ولم أر من تكلم على حكم صلاة الظهر في الربيع والخريف، والذي يظهر أن
الربيع ملحق بالشتاء في هذا الحكم والخريف ملحق بالصيف فيه قوله (والمغرب) أي وندب
تعجيلها لحديث الصحيحين: كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. ويكره
تأخيرها إلى اشتباك النجوم لرواية أحمد لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك
النجوم (3) ذكره الشارح وفيه بحث إذ مقتضاه الندب لا الكراهة لجواز الإباحة. وفي المبتغى
431

بالمعجمة: ويكره تأخير المغرب في رواية، وفي أخرى لا ما لم يغب الشفق. الأصح هو
الأول إلا من عذر كالسفر ونحوه أو يكون قليلا، وفي الكراهة بتطويل القراءة خلاف اه‍.
وفي الاسرار: تعجيل الصلاة أداؤها في النصف الأول من وقتها. وفي فتح القدير: تعجيلها
هو أن لا يفصل بين الأذان والإقامة إلا بجلسة خفيفة أو سكتة على الخلاف الذي سيأتي،
وتأخيرها لصلاة ركعتين مكروهة، وما روى الأصحاب عن ابن عمر أنه أخرها حتى بدا
نجم فأعتق رقبة يقتضي أن ذلك القليل الذي لا يتعلق بكراهة هو ما قبل ظهور النجم وفي
المنية: لا يكره للسفر وللمائدة أو كان يوم غيم. وذكر الأسبيجابي إذا جئ بجنازة بغد
الغروب بدؤوا بالمغرب ثم بها ثم بسنة المغرب اه‍. وقد تقدم أن كراهة تأخيرها تحريمية قوله
(وما فيها عين يوم غين) أي وندب تعجيل كل صلاة في أولها عين يوم الغيم وهي العصر
والعشاء لأن في تأخير العصر احتمال وقوعها في الوقت المكروه، وفي تأخير العشاء تقليل
الجماعة على احتمال المطر والطين. والغين لغة في الغيم وهو السحاب. كذا في الصحاح
وليس فيه وهم الوقوع قبل الوقت لأن الظهر قد أخر في هذا اليوم، وكذا المغرب وبهذا
اندفع ما رجح به في غاية البيان رواية الحسن أن التأخير أفضل في سائر الصلوات يوم الغيم
بأنه أقرب إلى الاحتياط لجواز الأداء بعد الوقت لا قبله قوله (ويؤخر غيره فيه) أي يؤخر غير
ما في أوله عين يوم غين وهي الفجر والظهر والمغرب لأن الفجر والظهر لا كراهة في وقتهما
فلا يضر التأخير، والمغرب يخاف وقوعها قبل الغروب لشدة الالتباس.
قوله (ومنع عن الصلاة وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة عند الطلوع والاستواء والغروب إلا
عصر يومه) لما روى الجماعة إلا البخاري من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال:
432

ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع
الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف للغروب حتى
تغرب. ومعنى تضيف تميل وهو بالمثناة الفوقية المفتوحة فالضاد المعجمة المفتوحة فالمثناة التحتية
المشددة، وأصله تتضيف حذف منه إحدى التاءين. والمراد بقوله وإن نقبر صلاة الجنازة كناية
لأنها ذكر الرديف وإرادة المردوف إذا الدفن غير مكروه خلافا لأبي داود لما رواه ابن دقيق العيد في
الإمام عن عقبة قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي على موتانا عند طلوع الشمس. أطلق
الصلاة فشمل فرضها ونفلها لأن الكل ممنوع فإن المكروه من قبيل الممنوع لأنها تحريمية لما عرف
من أن النهي الظني الثبوت غير المصروف عن مقتضاه يفيد كراهة التحريم، وإن كان قطعية أفاد
التحريم، فالتحريم في مقابلة الفرض في الرتبة، وكراهة التحريم في رتبة الواجب، والتنزيه
في رتبة المندوب، والنهي في حديث عقبة من الأول فكان الثابت به كراهة التحريم. فإن كانت
الصلاة فرضا أو واجبة فهي غير صحيحة لأنها لنقصان في الوقت بسبب الأداء فيه تشبيها بعبادة
الكفار المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم إن الشمس تطلع بين قرني شيطان إذا ارتفعت فارقها، ثم إذا
استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، وإذا غربت فارقها ونهى عن
الصلاة في تلك الساعات رواه مالك في الموطأ. وهذا هو المراد بنقصان الوقت وإلا فالوقت
لا نقص فيه نفسه بل هو وقت كسائر الأوقات إنما النقص في الأركان فلا يتأدى بها ما
وجب كاملا، فخرج الجواب عما قيل لو ترك بعض الواجبات صحت الصلاة مع أنها
ناقصة يتأدى بها الكامل لأن ترك الواجب لا يدخل النقص في الأركان التي هي المقومة
للحقيقة بخلاف فعل الأركان في هذه الأوقات. وإنما جاز القضاء في أرض الغير وإن
كان النهي ثم لمعنى في غيره أيضا لأن النهي ثم ورد للمكان، وهنا للزمان، واتصال الفعل
بالزمان أكثر لأنه داخل في ماهيته ولهذا فسد صوم يوم النحر وإن ورد النهي فيه لمعنى في
غيره لأن النهي فيه باعتبار الوقت، والصوم يقوم به ويطول بطوله ويقصر بقصره لأنه
معياره فازداد الأثر فصار فاسدا. وإن كانت الصلاة نفلا فهي صحيحة مكروهة حتى وجب
قضاؤه إذا قطعه ويجب قطعه وقضاؤه في غير مكروه في ظاهر الرواية، ولو أتمه خرج عن
عهدة ما لزمه بذلك الشروع. وفي المبسوط: القطع أفضل والأول هو مقتضى الدليل
والوتر داخل في الفرض لأنه فرض عملي أو في الواجب فلا يصح في هذه الأوقات كما
في الكافي والمنذور المطلق الذي لم يقيد بوقت الكراهة داخل فيه أيضا كما صرح به
الأسبيجابي. والنفل إذا شرع فيه في وقت مستحب ثم أفسده داخل فيه أيضا فلا يصح في
هذه الأوقات كما في المحيط بخلاف ما لو قضى في وقت مكروه ما قطعه من النفل
المشروع فيه في وقت مكروه حيث يخرجه عن العهدة وإن كان آثما لأن وجوبه ضرورة
صيانة المؤدي عن البطلان ليس غير، والصون عن البطلان يحصل مع النقصان كما لو نذر
433

إن يصلي في الوقت المكروه فأدى فيه يصح ويأثم، ويجب أن يصلي في غيره. وقول
الشارح فيهما والأفضل أن يصلي في غيره ضعيف كما قدمناه.
ويدخل في الواجب ركعتا الطواف فلا تصح في هذه الأوقات الثلاثة، اعتبرت واجبة
في حق هذا الحكم ونفلا في كراهتها بعد صلاة الفجر والعصر احتياطا فيهما. وعبارة
الكتاب أولى من عبارة أصله الوافي حيث قال: لا تصح صلاة إلى آخره لما علمت أن عدم
الصحة إنما هن في الفرائض والواجبات لا في النوافل بخلاف المنع فإنه يعم الكل. وأراد
بسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ما وجبت قبل هذه الأوقات، أما إذا تلاها فيها أو حضرت
الجنازة فيها فأداها فإنه يصح من غير كراهة إذ الوجوب بالتلاوة والحضور لكن الأفضل
التأخير فيهما. وفي التحفة: الأفضل أن يصلي على الجنازة إذا حضرت في الأوقات الثلاثة
ولا يؤخرها بخلاف الفرائض. وظاهر التسوية بين صلاة الجنازة وسجدة التلاوة أنه لو
حضرت الجنازة في غير مكروه فأخرها حتى صلى في الوقت المكروه فإنها لا تصح وتجب
إعادتها كسجود التلاوة. وذكر الأسبيجابي: لو صلى صلاة الجنازة فإنه يجوز مع الكراهة ولا
يعيد، ولو سجد سجدة التلاوة ينظر، إن قرأها في هذا الوقت تجوز مع الكراهة وتسقط عن
ذمته، وإن قرأها قبل ذلك ثم سجدها في هذا الوقت لا يجوز ويعيد اه‍. وسجدة السهو
كسجدة التلاوة - كذا في المحيط - حتى لو دخل وقت الكراهة بعد السلام وعليه سهو فإنه لا
يسجد لسهوه وسقط عنه لأنه لجبر النقصان المتمكن في الصلاة، فجرى ذلك مجرى القضاء وقد
وجب ذلك كاملا فلا يتأدى بالناقص. كذا في شرح المنية. وذكر في الأصل ما لم ترتفع
الشمس قدر رمح فهي في حكم الطلوع. واختار الفضلي أن الانسان ما دام يقدر على النظر إلى
قرص الشمس في الطلوع فلا تحل الصلاة، فإذا عجز عن النظر حلت وهو مناسب لتفسير
التغير المصحح كما قدمناه. وأراد بالغروب التغير كما صرح به قاضيخان في فتاواه حيث قال:
وعند احمرار الشمس إلى أن تغيب. والشافعي رحمه الله أخرج من النهي في حديث عقبة
الفوائت عملا بقوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فيصلها إذا ذكرها (1) متفق عليه.
والجواب عنه أن كونه مخصصا لعموم النهي متوقف على المقارنة، فلما لم تثبت فهو معارض في
بعض الافراد فيقدم حديث عقبة لأنه محرم، ولو تنزلنا إلى طريقهم في كون الخاص مخصصا
كيفما كان فهو خاص في الصلاة عام في الأوقات، فإن وجب تخصيص عموم الصلاة في
حديث عقبة وجب تخصيص حديث عقبة عموم الوقت لأنه خاص في الوقت، وتخصيص
434

عموم الوقت هو إخراجه الأوقات الثلاثة من عموم وقت التذكر في حق الصلاة الفائتة كما
أن تخصيص الآخر هو إخراج الفوائت عن عموم منع الصلاة في الأوقات الثلاثة، وحينئذ
فيتعارضان في الفائتة في الأوقات المكروهة إذ تخصيص حديث عقبة يقتضي إخراجها عن
الحل في الثلاثة، وتخصيص حديث التذكر للفائتة من عموم الصلاة يقتضي حلها فيها،
ويكون إخراج حديث عقبة أولى لأنه محرم. وأخرج أيضا النوافل بمكة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم يا
بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار
وجوابه أنه عام في الصلاة والوقت فيتعارض عمومهما في الصلاة، ويقدم حديث عقبة لما
قلنا. وكذا يتعارضان في الوقت إذ الخاص يعارض العام عندنا، وعلى أصولهم يجب أن
يخص منه حديث عقبة في الأوقات الثلاثة لأنه خاص فيها. وأخرج أبو يوسف منه النفل يوم
الجمعة وقت الزوال لما رواه الشافعي في مسنده: نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول
الشمس إلا يوم الجمعة. وجوابه أن الاستثناء عندنا تكلم بالباقي فيكون حاصله نهيا مقيدا
بكونه بغير يوم الجمعة فيقدم عليه حديث عقبة المعارض له فيه لأنه محرم، وبحث فيه المحقق
ابن الهمام بأنه يحمل المطلق على المقيد لاتحادهما حكما وحادثة ولم يجب عنه، فظاهر ترجيح
قول أبي يوسف فلذا قال في الحاوي: وعليه الفتوى كما عزاه له ابن أمير حاج في شرح
المنية.
وفي العناية: أن حديث أبي يوسف منقطع أو معناه ولا يوم الجمعة، واستثنى
المصنف من المنع عصر يومه فأفاد أنه لا يكره أداؤه وقت التغير، وقد قدمنا أن المكروه إنما
هو تأخيره لا أداؤه لأنه أداه كما وجب لأن سبب الوجوب آخر الوقت إن لم يؤد قبله وإلا
فالجزء المتصل بالأداء وإلا فجميع الوقت. وعلل المصنف في كافيه بأنه لا يستقيم إثبات
الكراهة للشئ لأنه مأمور به، وقيل الأداء مكروه أيضا اه‍. وعلى هذا مشى في شرح
435

الطحاوي. والتحفة والبدائع والحاوي وغيرها على أنه المذهب من غير حكاية خلاف وهو
الأوجه للحديث السابق الثابت في صحيح مسلم وغيره. وقيد بعصر يومه لأن عصر أمسه
لا يجوز وقت التغير لأن الاجزاء الصحيحة أكثر فيجب القضاء كاملا ترجيحا للأكثر
الصحيح على الأقل الفاسد. وأورد عليه أن من بلغ أو أسلم في الجزء الناقص لا يصح
منه في ناقص غيره مع تعذر الإضافة في حقه إلى الكل لعدم الأهلية. وأجيب بأن لا رواية
فيها فتلتزم الصحة، والصحيح أن النقص لازم الأداء في ذلك الجزء، وأما الجزء فلا نقص
فيه غير أن تحمل ذلك النقص لو أدى فيه العصر ضروري لأنه مأمور بالأداء فيه، فإذا لم
يؤد لم يوجد النقص الضروري وهو في نفسه كامل فيثبت في ذمته كذلك فلا يخرج عن
عهدته إلا بكامل، وبهذا اندفع ما ذكره السراج الهندي في شرح المغني من أن السبب لما
كان ناقصا في الأصل كان ما ثبت في الذمة ناقصا أيضا، فعند مضي الوقت لا يتصف
بالكمال لما علمت أنه لا نقص في الوقت أصلا. وأشار إلى أن فجر يومه يبطل بالطلوع
والفرق بينهما أن السبب في العصر آخر الوقت وهو وقت التغير وهو ناقص فإذا
أداها فيه أداها كما وجبت، ووقت الفجر كله كامل فوجبت كاملة فتبطل بطرو الطلوع الذي هو
وقت فساد لعدم الملائمة بينهما. فإن قيل: روى الجماعة عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ومن أدرك
ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح أجيب بأن التعارض لما وقع بين
هذا الحديث وبين النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة في الفجر رجعنا إلى القياس كما
436

هو حكم التعارض، فرجحنا حكم هذا الحديث في صلاة العصر وحكم النهي في صلاة
الفجر. كذا في شرح النقاية. وظاهره أن ترجيح المحرم على المبيح إنما هو عند عدم
القياس، أما عنده فالترجيح له وفي القنية: كسالى العوام إذا صلوا الفجر وقت الطلوع لا
ينكر عليهم لأنهم لو منعوا يتركونها أصلا ظاهرا، ولو صلوها تجوز عند أصحاب الحديث،
والأداء الجائز عند البعض أولى من الترك أصلا. وفي البغية: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في
الأوقات التي تكره فيها الصلاة والدعاء والتسبيح أفضل من قراءة القرآن اه‍. ولعله لأن
القراءة ركن الصلاة وهي مكروهة فالأولى ترك ما كان ركنا لها. والتعبير بالاستواء أولى من
التعبير بوقت الزوال لأن وقت الزوال لا تكره فيه الصلاة إجماعا. كذا في شرح منية
المصلي.
قوله (وعن التنفل بعد صلاة الفجر والعصر لا عن قضاء فائتة وسجدة تلاوة وصلاة
جنازة) أي منع عن النتفل في هذين الوقتين قصدا لا عن غيره لرواية الصحيحين لا صلاة
بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وهو
بعمومه متناول للفرائض فأخرجوها منه بالمعنى وهو أن الكراهة كانت لحق الفرض ليصير
الوقت كالمشغول به لا بمعنى في الوقت فلم يظهر في حق الفرائض، وقد بحث فيه المحقق
ابن الهمام بأن هذا الاعتبار لا دليل عليه. ثم النظر إليه يستلزم نقيض قولهم العبرة في
المنصوص عليه لعين النص لا لمعنى النص لأنه يستلزم معارضة النص بالمعنى، والنظر إلى
النصوص يفيد منع القضاء تقديما للنهي العام على حديث التذكر. نعم يمكن إخراج صلاة
الجنازة وسجدة التلاوة بأنهما ليسا بصلاة مطلقة، ويكفي في إخراج القضاء من الفساد العلم
بأن النهي ليس بمعنى في الوقت، وذلك هو الموجب للفساد، وأما من الكراهة ففيه ما سبق
اه‍. والحاصل إن الدليل يقتضي ثبوت الكراهة في كل صلاة وتخصيصه بلا مخصص شرعي
لا يجوز. أطلق في الفائتة فشملت الوتر لأنه واجب على قوله، وأما على قولهما فهو سنة
فينبغي أن لا يقضي بعد طلوع الفجر لكراهة التنفل فيه، لكن في القنية: الوتر يقضي بعد
طلوع الفجر بالاجماع بخلاف سائر السنن اه‍. ولا يخفى ما فيه. واقتصر على الثلاثة ليفيد أن
437

بقية الواجبات من الصلاة داخل في النفل فيكره فيهما كالمنذور خلافا لأبي يوسف، وما شرع
فيه من النفل ثم أفسده وركعتي الطواف لأن ما التزمه بالنذر نفل لأن النذر سبب موضوع
لالتزامه بخلاف سجود التلاوة لأنها ليست بنفل لأن التنفل بالسجدة غير مشروع فيكون واجبا
بإيجاب الله تعالى، ولأنه تعلق وجوب النذر بسبب من جهته وسجدة التلاوة بإيجابه تعالى وإن
كانت التلاوة فعله كجمع المال فعله، ووجوب الزكاة بإيجاب الشرع. وفي فتح القدير: وقد
يقال: وجوب السجدة في التحقيق متعلق بالسماع لا بالاستماع ولا التلاوة، وذلك ليس فعلا
من المكلف بل وصف خلق فيه بخلاف النذر والطواف والشروع فعله ولولاه لكانت الصلاة
نفلا اه‍. وهو قاصر على السامع للتلاوة لأن السبب في حقه السماع على خلاف فيه، وأما التالي
فاتفقوا على أن السبب في حقه إنما هو التلاوة لا السماع. وأطلق في التنفل فشمل ماله سبب
وما ليس له، فتكره تحية المسجد فيهما للعموم وهو مقدم على عموم قوله صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد
فليركع ركعتين لأنه مبيح وذلك حاظر. وأشار إلى أنه لو شرع في النفل في وقت مستحب ثم
أفسده ثم قضاه فيهما فإنه لا يسقط عن ذمته كما في المحيط، وإلى أنه لو أفسد سنة الفجر ثم
قضاها بعد صلاة الفجر فإنه لا يجوز على الأصح. وقيل يجوز والأحسن أن يشرع في السنة ثم
يكبر بالفريضة فلا يكون مفسدا للعمل ويكون منتقلا من عمل إلى عمل. كذا في الظهيرية وفيه
نظر، لأنه إذا كبر للفريضة فقد أفسد السنة كما صرحوا به في باب ما يفسد الصلاة. وفي شرح
المجمع لابن الملك: ما قاله بعض الفقهاء من أنه إذا أقيم للفجر وخاف رجل فوت الفرض
يشرع في السنة فيقطعها فيقضيها قبل الطلوع مردود لكراهة قضاء التنفل الذي أفسده فيه على أن
الامر بالشروع للقطع قبيح شرعا، وإلى أنه لا يكره التنفل قبل صلاة العصر في وقته، وإلى أن
لصلاة العصر مدخلا في كراهة النوافل فينشأ عنه كراهة التطوع بعد العصر المجموعة إلى الظهر
في وقت الظهر بعرفات فيما يظهر، ولم أقف على التصريح به لاحد من أهل المذهب. كذا في
شرح منية المصلي. واعلم أن قضاء الفائتة وما معها لا تكره بعد صلاة العصر إلى غاية التغير لا
إلى الغروب كما هو ظاهر كلامه.
قوله (وبعد طلوع الفجر بأكثر من سنة الفجر) أي ومنع عن التنفل بعد طلوع الفجر
438

قبل صلاة الفجر بأكثر من سنته قصدا لما رواه أحمد وأبو داود لا صلاة بعد الصبح إلا
ركعتين وفي رواية الطبراني إذا طلع الفجر فلا تصلوا إلا ركعتين قيدنا بكونه قصدا لما
في الظهيرية: ولو شرع في التطوع قبل طلوع الفجر فلما صلى ركعة طلع الفجر، قيل
يقطع الصلاة، وقيل يتمها، والأصح أنه يتمها، ولا تنوب عن سنة الفجر على الأصح.
ولو اقتصر المصنف وقال وعن التنفل بعد طلوع الفجر بأكثر من سنته وبعد صلاة العصر
لأغناه عن التطويل كما لا يخفى. وإنما أتى بالفجر ثانيا ظاهرا ولم يقل بسنته مضمرا لأنها
ليست سنة الفجر بمعنى الزمن وإنما هي سنة صلاة الفجر فهو على حذف مضاف أي
بأكثر من سنة صلاة الفجر. وفي المجتبى: تخفف القراءة في ركعتي الفجر، قيد بالتنفل
لأن قضاء الفائتة بعد طلوع الفجر ليس بمكروه لأن النهي عن التنفل فيه لحق ركعتي
الفجر حتى يكون كالمشغول بها لأن الوقت متعين لها حتى لو نوى تطوعا كان عن سنة
الفجر من غير تعيين منه فلا يظهر في حق الفرض لأنه فوقها، والبحث المتقدم لابن الهمام
يجري هنا للنهي الذي ذكرناه في المسألة السابقة. وفي العناية. والحاصل أن ما كان النهي
فيه لمعنى في الوقت أثر في الفرائض والنوافل جميعا، وما كان لمعنى في غيره أثر في
النوافل دون الفرائض وما هو في معناه اه‍. قوله (وقبل المغرب) أي ومنع عن التنفل بعد
غروب الشمس قبل صلاة المغرب لما رواه أبو داود: سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن
الركعتين قبل المغرب فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما. وهو يقتضي
نفي المندوبية. أما ثبوت الكراهة فلا إلا أن يدل دليل آخر. وما ذكر من استلزام تأخير
المغرب فقد قدمنا عن القنية استثناء القليل، والركعتان لا تزيد على القليل إذا تجوز فيهما.
439

وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال صلوا قبل المغرب ركعتين وهو أمر ندب وهو الذي
ينبغي اعتقاده في هذه المسألة والله الموفق. وما ذكروه في الجواب لا يدفعه قيدنا بالتنفل
لأنه يجوز قضاء الفائتة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة في هذا الوقت كما صرح به غير
واحد كقاضيخان وصاحب الخلاصة يعني من غير كراهة، وقد قدمنا أنه يبدأ بصلاة المغرب
ثم يصلون على الجنازة ثم يأتون بالسنة، ولعله بيان الأفضل. وفي شرح المنية معزيا إلى
حجة الدين البلخي: إن الفتوى على تأخير صلاة الجنازة عن سنة الجمعة وهي سنة، فعلى
هذا تؤخر عن سنة المغرب لأنها آكد.
قوله (ووقت الخطبة) أي ومنع عن التنفل وقت الخطبة لأن الاستماع فرض والامر
بالمعروف حرام وقتها الرواية الصحيحين إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد
لغوت (1) فكيف بالتنفل. وأما ما رواه الجماعة عن جابر أن رجلا جاء إلى الجمعة
والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: أصليت يا فلان؟ قال: صل ركعتين وتجوز فيهما. وسماه
النسائي سليكا الغطفاني، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم أمسك له حتى فرغ من صلاته كما صرح به
الدارقطني من رواية أنس، أو كان ذلك قبل الشروع في الخطبة كما ذكره النسائي. كذا في
شرح النقاية. واقتصر الشارح على الأول وفي كل منهما نظر إذ النفل مكروه بعد
440

خروج الإمام للخطبة قبل الخطبة ووقتها، سواء أمسك الخطيب عنها أو لا، أطلق الخطبة
فشملت كل خطبة، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو كسوف أو استسقاء كما في
الخانية، أو حج وهي ثلاث أو ختم أي ختم القران كما في المجتبى، أو خطبة نكاح
وهي مندوبة كما في شرح منية المصلي، وإلى هنا صارت الأوقات التي تكره الصلاة فيها
ثمانية على ما ذكره المصنف، وسيأتي أنه إذا خرج الإمام إلى الخطبة فلا صلاة ولا كلام
فلذا لم يذكره هنا. ومنها إذا أقيمت الصلاة فإن التطوع مكروه إلا سنة الفجر إن لم يخف
فوت الجماعة، ومنها التنفل قبل صلاة العيدين مطلقا وبعدها في المسجد لا في البيت،
ومنها التنفل بين صلاتي الجمع بعرفة ومزدلفة، ومنها وقت المكتوبة إذا ضاق يكره أداء
غير المكتوبة فيه، ومنها وقت مدافعة الأخبثين، ومنها وقت حضور الطعام إذا كانت
النفس تائقة إليه، والوقت الذي يوجد فيه ما يشغل البال من أفعال الصلاة ويخل
بالخشوع كائنا ما كان ذلك الشاغل. كذا في شرح منية المصلي. وذكر في غاية البيان من
الأوقات المكروهة ما بعد نصف الليل لأداء العشاء لا غير وفيه نظر، إذ ليس هو وقت
كراهة وإنما الكراهة في التأخير فقط. قوله (وعن الجمع بين الصلاتين في وقت بعذر)
أي منع عن الجمع بينهما في وقت واحد بسبب العذر للنصوص القطعية بتعيين الأوقات
فلا يجوز تركه إلا بدليل مثله، ولرواية الصحيحين قال عبد الله بن مسعود: والذي لا
إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا لوقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر
بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع. وأما ما روي من الجمع بينهما فمحمول على الجمع
فعلا بأن صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها. ويحمل تصريح الراوي
بالوقت على المجاز لقربه منه، والمنع عن الجمع المذكور عندنا مقتض للفساد إن كان جمع
تقديم، وللحرمة إن كان جمع تأخير مع الصحة كما لا يخفى. وذهب الشافعي وغيره من
الأئمة إلى جواز الجمع للمسافر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وقد شاهدت
كثيرا من الناس في الاسفار خصوصا في سفر الحج ماشين على هذا تقليدا للإمام
الشافعي في ذلك إلا أنهم يخلون بما ذكرت الشافعية في كتبهم من الشروط له فأحببت
إيرادها إبانة لفعله على وجهه لمريده. اعلم أنهم بعد أن اتفقوا على أن فعل كل صلاة في
وقتها أفضل إلا للحاج في الظهر والعصر بعرفة، وفي حق المغرب والعشاء بمزدلفة
قالوا: شروط التقديم ثلاثة: البداءة بالأولى، ونية الجمع بينهما ومحل هذه النية عند
441

التحريم أعني في الأولى ويجوز في أثنائها في الأظهر، ولو نوى مع السلام منها جاز
على الأصح. والموالاة بأن لا يطول بينهما فصل، فإن طال وجب تأخير الثانية إلى
وقتها. ولا يضر فصل يسير وما عده العرف فصلا طويلا فهو طويل يضر، وما لا
فلا. وللمتيمم الجمع على الصحيح ولا يشترط على الصحيح في جواز تأخير الأولى إلى
الثانية سوى تأخيرها بنية الجمع بينهما، والأصح أنه إن نوى وقد بقي من الوقت ما
يسع ركعة كفى على ما في الرافعي والروضة. واعتبر في شرح المهذب قدر الصلاة فإن
لم ينو كما ذكرنا وأخر عصى في التأخير وكانت صلاته قضاء. قالوا: وإذا كان سائرا
وقت الأولى فتأخيرها إلى وقت الثانية أفضل، وإن كان نازلا فتقديم الثانية إلى وقت
الأولى أفضل. ذكره ابن أمير حاج في مناسكه والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الاذان.
هو لغة الاعلام ومنه قوله تعالى * (وأذان من الله ورسوله) * وشرعا
إعلام مخصوص في وقت مخصوص. وسبيه الابتدائي أذان جبريل عليه السلام ليلة
الاسراء وإقامته حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم إماما بالملائكة وأرواح الأنبياء، ثم رؤيا عبد الله بن
زيد الملك النازل من السماء في المنام وهو مشهور وصححه الأسبيجابي. واختلف في
هذا الملك فقيل جبريل، وقيل غيره. كذا في العناية والبقائي. دخول الوقت ودليله
الكتاب * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * والسنة والاجماع. وصفته
ستأتي. وركنه الألفاظ المخصوصة، وكيفيته معلومة. وأما سننه فنوعان: سنن في نفس
الاذان، وسنن في صفات المؤذن. أما الأول فسيأتي، وأما الثاني فأن يكون رجلا عاقلا
ثقة عالما بالسنة وأوقات الصلاة، فأذان الصبي العاقل ليس بمستحب ولا مكروه في
ظاهر الرواية فلا يعاد ويشهد له الحديث وليؤذن لكم خياركم وصرحوا بكراهة أذان
الفاسق من غير تقييد بكونه عالما أو غيره. ثم يدخل في كونه خيارا أن لا يأخذ على
442

الاذان أجرا فإنه لا يحل للمؤذن ولا للإمام لحديث أبي داود واتخذ مؤذنا لا يأخذ على
الاذان أجرا (1) قالوا: فإن لم يشارطهم على شئ لكن عرفوا حاجته فجمعوا له في وقت
شيئا كان حسنا ويطيب له، وعلى هذا المفتى لا يحل له أخذ شئ على ذلك لكن ينبغي
للقوم أن يهدوا إليه. كذا في فتح القدير وهو على قول المتقدمين. أما على المختار للفتوى
في زماننا فيجوز أخذ الأجر للإمام والمؤذن والمعلم والمفتى كما صرحوا به في كتاب
الإجارات. وفي فتاوى قاضيخان: المؤذن إذا لم يكن عالما بأوقات الصلاة لا يستحق
ثواب المؤذنين. قال في فتح القدير: ففي أخذ الأجر أولى اه‍. وقد يمنع لما أنه في
الأول للجهالة الموقعة في الغرر لغيره بخلافه في الثاني. وهل يستحق المعلوم المقدر في
الوقف للمؤذن؟ لم أره في كلام أئمتنا، وصرح النووي في شرح المهذب بأنه لم يصح
أذانه فيمن يولي ويرتب للاذان. واختلف هل الاذان أفضل أما الإمامة: قيل بالأول للآية
* (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * فسرته عائشة بالمؤذنين، وللحديث
المؤذنون أطول أعناقا يوم القيامة. (2) واختلف في معناه على أقوال: قيل أطول الناس
رجاء يقال طال عنقي إلى وعدك أي رجائي، وقيل أكثر الناس اتباعا يوم القيامة لأنه
يتبعهم كل من يصلي بأذانهم يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة، وقيل أعناقهم تطول
حتى لا يلجمهم العرق يوم القيامة، وقيل إعناقا بكسر الهمزة أي هم أشد الناس إسراعا
في السير وقيل الإمامة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا أئمة ولم يكونوا
مؤذنين وهم لا يختارون من الأمور إلا أفضلها، وقيل هما سواء. وذكر الفخر الرازي في
تفسير سورة المؤمنون أن بعض العلماء اختار الإمامة فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن
تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي، وإن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة، فاخترت
الإمامة طلبا للخلاص من هذا الاختلاف اه‍. وقد كنت أختارها لهذا المعنى بعينه قبل
الاطلاع على هذا النقل والله الموفق. واختار المحقق ابن الهمام أنها أفضل لما ذكرناه،
وقول عمر " لولا الخليفي لأذنت " لا يستلزم تفضيله عليها بل مراده لأذنت مع الإمامة لا
مع تركها، فيفيد أن الأفضل كون الإمام هو المؤذن وهذا مذهبنا وعليه كان أبو حنيفة
كما علم من أخباره اه‍. وفي القنية: وينبغي أن يكون المؤذن مهيبا ويتفقد أحوال الناس
ويزجر المتخلفين عن الجماعات ولا يؤذن لقوم آخرين إذا صلى في مكانه ويسن الاذان
في موضع عال والإقامة على الأرض، وفي أذان المغرب اختلاف المشايخ اه‍. والظاهر
443

أنه يسن المكان العالي في أذان المغرب أيضا كما سيأتي. وفي السراج الوهاج: وينبغي
للمؤذن أن يؤذن في موضع يكون أسمع للجيران، ويرفع صوته ولا يجهد نفسه لأنه
يتضرر بذلك. وفي الخلاصة: ولا يؤذن في المسجد. وفي الظهيرية: وولاية الأذان والإقامة
لمن بنى المسجد وإن كان فاسقا والقوم كارهون له، وكذا الإمامة إلا أن هاهنا
استثنى الفاسق اه‍. يعني في الإمامة.
قوله (سن للفرائض) أي سن الاذان للصلوات الخمس والجمعة سنة مؤكدة قوية قريبة
من الواجب حتى أطلق بعضهم عليه الوجوب، ولهذا قال محمد: لو اجتمع أهل بلد على
تكره قاتلناهم عليه. وعند أبي يوسف يحبسون ويضربون وهو يدل على تأكده لا على وجوبه
لأن المقاتلة لما يلزم من الاجتماع على تركه من استخفافهم بالدين بخفض أعلامه لأن الاذان
من أعلام الدين كذلك. واختار في فتح القدير وجوبه لأن عدم الترك مرة دليل الوجوب ولا
يظهر كونه على الكفاية وإلا لم يأثم أهل بلدة بالاجتماع على تركه إذا قام به غيرهم ولم يضربوا
ولم يحبسوا، واستشهد على ذلك بما في معراج الدراية عن أبي حنيفة وأبي يوسف صلوا في
الحضر الظهر أو العصر بلا أذان ولا إقامة أخطأوا السنة وأثموا اه‍. والجواب أن المواظبة
المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الانكار على من لم يفعله كانت دليل السنية لا
الوجوب كما صرح به في فتح القدير في باب الاعتكاف. والظاهر كونه على الكفاية بمعنى
أنه إذا فعل في بلد سقطت المقاتلة عن أهلها لا بمعنى أنه إذا أذن واحد في بلد سقط عن
سائر الناس من غير أهل تلك البلدة إذ لم يحصل به إظهار أعلام الدين، ولو لم يكن على
الكفاية بهذا المعنى لكان سنة في حق كل أحد وليس كذلك إذا أذان الحي يكفينا كما سيأتي
والاستشهاد بالاثم على تركه لا يدل على الوجوب عندنا لأنه مشترك بين الواجب والسنة
المؤكدة، ولهذا كان الصحيح أنه يأثم إذا ترك سنن الصلوات المؤكدة كما سيأتي في باب
444

النوافل إن شاء الله تعالى. ولعل الاثم مقول بالتشكيك بعضه أقوى من بعض ولهذا صرح
في الرواية بالسنية حيث قال: أخطأوا السنة. وفي غاية البيان والمحيط: والقولان متقاربان
لأن السنة المؤكدة في معنى الواجب في حق لحوق الاثم لتاركهما اه‍. وخرج بالفرائض ما
عداها فلا أذان للوتر ولا للعيد ولا للجنائز ولا للكسوف والاستسقاء والتراويح والسنن
الرواتب لأنها اتباع للفرائض، والوتر وإن كان واجبا عنده لكنه يؤدي في وقت العشاء
فاكتفي بأذانه لا لأن الاذان لهما على الصحيح كما ذكره الشارح.
قوله (بلا ترجيع) أي ليس فيه ترجيع وهو أن يخفض بالشهادتين صوته ثم يرجع فيرفع
بهما صوته لأن بلالا كان لا يرجع، وأبو محذورة رجع بأمره صلى الله عليه وسلم للتعليم كما كان عادته في
تعليم أصحابه لا لأنه سنة، ولان المقصود منه الاعلام ولا يحصل بالاخفاء فصار كسائر
كلماته. والظاهر من عباراتهم أن الترجيع عندنا مباح فيه ليس بسنة ولا مكروه لكن ذكر
الشارح وغيره أنه لا يحل الترجيع بقراءة القرآن ولا التطريب فيه. والظاهر أن الترجيع هنا
ليس هو الترجيع في الاذان بل هو التغني. وفي غاية البيان معزيا إلى ابن سعد في الطبقات:
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين: بلال وأبو محذورة وعمرو بن أم مكتوم، فإذا غاب بلال
أذن أبو محذورة، وإذا غاب أبو محذورة أذن عمرو. قال الترمذي: أبو محذورة اسمه
سمرة بن معير. قوله (ولحن) أي ليس فيه لحن أي تلحين وهو كما في المغرب التطريب
والترنم، يقال لحن في قراءته تلحينا طرب فيها وترنم. وأما اللحن فهو الفطنة والفهم لما لا
445

يفطن له غيره ومنه الحديث لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض (1) وفي الصحاح: اللحن
الخطأ في الاعراب، والتلحين التخطئة. والمناسب هنا المعنى الأول والثالث ولهذا فسره ابن
الملك بالتغني بحيث يؤدي إلى تغيير كلماته، وقد صرحوا بأنه لا يحل فيه. وتحسين الصوت
لا بأس به من غير تغن. كذا في الخلاصة. وظاهره أن تركه أولى لكن في فتح القدير:
وتحسين الصوت مطلوب ولا تلازم بينهما. وقيده الحلواني بما هو ذكر فلا بأس بإدخال المد
في الحيعلتين، فظهر من هذا أن التلحين هو إخراج الحرف عما يجوز له في الأداء من نقص
من الحروف أو من كيفياتها وهي الحركات والسكنات أو زيادة شئ فيها. وأشار إلى أنه لا
يحل سماع المؤذن إذا لحن كما صرحوا به ودل كلامه أنه لا يحل في القراءة أيضا بل أولى
قراءة وسماعا. وقيده بالتلحين لأن التفخيم لا بأس به لأنه أحد اللغتين. كذا في المبسوط.
وفي المغرب: أنه تغليظ اللام في اسم الله تعالى وهو لغة أهل الحجاز ومن يليهم من العرب.
وذكر في الكافي خلافا فيه بين القراء وصرح الشارح بكراهة الخطأ في أعراب كلماته قوله
(ويزيد بعد فلاح أذان الفجر الصلاة خير من النوم مرتين) لحديث بلال حيث ذكرها حين
وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائما فلما انتبه أخبره به فاستحسنه وقال: اجعله في أذانك. وهو للندب
بقرينة قوله ما أحسن هذا. وإنما خص الفجر به لأنه وقت نوم وغفلة فخص بزيادة
الاعلام دون العشاء لأن النوم قبلها مكروه أو نادر. وإنما كان النوم مشاركا للصلاة في
أصل الخيرية لأنه قد يكون عبادة كما إذا كان وسيلة إلى تحصيل طاعة أو ترك معصية، أو لأن
النوم راحة في الدنيا والصلاة راحة في الآخرة فتكون الراحة في الآخرة أفضل. وفي قوله
بعد فلاح أذان الفجر رد على من يقول إن محلها بعد الاذان بتمامه وهو اختيار الفضلي.
هكذا في المستصفى.
قوله (والإقامة مثله) أي مثل الاذان في كونه سنة الفرائض فقط وفي عدد كلماته وفي
ترتيبها لحديث الملك النازل من السماء فإنه أذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى، ولحديث
الترمذي عن أبي محذورة: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الاذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة
كلمة. وإنما قال تسع عشرة كلمة لأجل الترجيع وإلا فالاذان عندنا خمس عشرة كلمة. وهذا
الحديث لم يعمل بمجموعه الفريقان فإن الشافعية لا يقولون بتثنية الإقامة، والحنيفة لا يقولون
446

بالترجيع. وأما ما رواه البخاري أمر بلال أن يشفع الاذان ويوتر الإقامة فمحمول على إيتار
صوتها بأن يحدر فيها كما هو المتوارث ليوافق ما رويناه من النص الغير المحتمل لا إيتار
ألفاظها، ويدل عليه أن الشافعية لا يقولون بإيتار التكبير بل هو مثنى في الإقامة عندهم،
وقد قال الطحاوي: تواترت الآثار عن بلال أنه كان يثني الإقامة حتى مات. وفي الخلاصة:
وإن أذن رجل وأقام آخر بإذنه لا بأس به، وإن لم يرض به الأول يكره، وهذا اختيار الإمام
خواهر زاده. وجواب الرواية أنه لا بأس به مطلقا ويدل عليه إطلاق ما في المجمع حيث
قال: ولا نكرهها من غيره. فما ذكره ابن الملك في شرحه من أنه لو حضر ولم يرض بإقامة
غيره يكره اتفاقا فيه نظر. وفي الفتاوى الظهيرية: والأفضل أن يكون المقيم هو المؤذن ولو
أقام غيره جاز، والظاهر أن الإقامة آكد في السنية من الاذان كما صرح به في فتح القدير،
ولهذا قالوا: يكره تركها للمسافر دون الاذان وقالوا: إن المرأة تقيم ولا تؤذن. وفي
الخلاصة: والإقامة أفضل من الاذان. وفي القنية: ذكر في الصلاة أنه كان محدثا فقدم رجلا
جاء ساعتئذ لا تسن إعادة الإقامة. ويدخل في المثلية تحويل وجهه بالصلاة والفلاح فيها
كالاذان ورفع الصوت بها كهو كما صرح به في القنية إلا أن الإقامة أخفض منه كما في غاية
البيان، فقول الشارح في عدد الكلمات فيه نظر قوله (ويزيد بعد فلاحها قد قامت الصلاة
مرتين) لحديث أبي محذورة. وفي روضة الناطفي: أكره للمؤذن أن يمشي في إقامته. وفي
الخلاصة: إذا انتهى المؤذن إلى قد قامت الصلاة إن شاء أتمها في مكانه وإن شاء مشى إلى
مكان الصلاة إماما كان المؤذن أو غيره. وفي السراج الوهاج: إن كان المؤذن غير الإمام أتمها
في موضع البداية من غير خلاف. وفي الظهيرية: ولو أخذ المؤذن في الإقامة ودخل رجل
في المسجد فإنه يقعد إلى أن يقوم الإمام في مصلاه. وفي القنية: ولا ينتظر المؤذن ولا الإمام
لواحد بعينه بعد اجتماع أهل المحلة إلا أن يكون شريرا وفي الوقت سعة فيعذر، وقيل
يؤخر. قوله (ويترسل فيه ويحدر فيها) أي يتمهل في الاذان ويسرع في الإقامة، وحده أن
يفصل بين كلمتي الاذان بسكتة بخلاف الإقامة للتوارث ولحديث الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال
447

لبلال: إذا أذنت فترسل في أذانك وإذا أقمت فاحدر. فكان سنة فيكره تركه، ولان المقصود
من الاذان الاعلام والترسل بحاله أليق ومن الإقامة الشروع في الصلاة والحدر بحاله أليق.
وفسر الترسل في الفوائد بإطالة كلمات الاذان والحدر قصرها وإيجازها. وفي الظهيرية: ولو
جعل الاذان إقامة يعيد الاذان، ولو جعل الإقامة أذانا لا يعيد لأن تكرار الاذان مشروع دون
الإقامة، فما ذكره المصنف في الكافي من أنه لو ترسل فيهما أو حدر فيهما أو ترسل في
الإقامة وحدر في الاذان جاز لحصول المقصود وهو الاعلام وترك ما هو زينة لا يضر، يدل
على عدم الكراهة والإعادة. وفي فتاوى قاضيخان: أذن ومكث ساعة ثم أخذ في الإقامة
فظنها أذانا فصنع كالاذان فعرف يستقبل الإقامة لأن السنة في الإقامة الحدر فإذا ترسل ترك
سنة الإقامة وصار كأنه أذن مرتين ا ه‍. لكن قال في المحيط: ولو جعل الاذان إقامة لا
يستقبل، ولو جعل الإقامة أذانا يستقبل لأن في الإقامة التغير وقع من أولها إلى آخرها لأنه لم
يأت بسنتها وهو الحدر، وفي الاذان التغير من آخره لأنه أتى بسنته في أوله وهو الترسل
فلهذا لا يعيد اه‍. وهو مخالف لما في الظهيرية لكن تعليله يفيد أن المراد بجعل الاذان إقامة
أنه أتى فيه بقوله قد قامت الصلاة مرتين فليكن هو المراد مما في الظهيرية، وتصير مسألة
أخرى غير ما في الخانية والكافي وهو الظاهر. ويسكن كلمات الأذان والإقامة لكن في
الاذان ينوي الحقيقة، وفي الإقامة ينوي الوقف. ذكره الشارح. وفي المبتغى: والتكبير جزم.
448

وفي المضمرات: إنه بالخيار في التكبيرات إن شاء ذكره بالرفع وإن شاء ذكره بالجزم وإن كرر
التكبير مرارا فالاسم الكريم مرفوع في كل مرة وذكر أكبر فيما عدا المرة الأخيرة بالرفع وفي
المرة الأخيرة هو بالخيار إن شاء ذكره بالرفع وإن شاء ذكره بالجزم.
قوله (ويستقبل بهما القبلة) أي بالأذان والإقامة لفعل الملك النازل من السماء وللتوارث
عن بلال، ولو ترك الاستقبال جاز لحصول المقصود ويكره لمخالفة السنة. كذا في الهداية.
والظاهر أنها كراهة تنزيه لما في المحيط: وإذا انتهى إلى الصلاة والفلاح حول وجهه يمنة
ويسرة ولا يجول قدميه لأنه في حالة الذكر والثناء على الله تعالى والشهادة له بالوحدانية ولنبيه
بالرسالة فالأحسن أن يكون مستقبلا، فأما الصلاة والفلاح دعاء إلى الصلاة وأحسن أحوال
الداعي أن يكون مقبلا على المدعوين. ويستثنى من سنية الاستقبال ما إذا أذن راكبا فإنه لا
يسن الاستقبال بخلاف ما إذا كان ماشيا. ذكره في الظهيرية عن محمد. قوله (ولا يتكلم
فيهما) أي في الأذان والإقامة لما فيه من ترك الموالاة ولأنه ذكر معظم كالخطبة. أطلقه فشمل
كل كلام فلا يحمد لو عطس هو ولا يشمت عاطسا ولا يسلم ولا يرد السلام وفيه خلاف،
والصحيح ما عن أبي يوسف أنه لا يلزمه الرد لا بعده ولا قبله في نفسه. وكذا لو سلم على
المصلي أو القارئ أو الخطيب، وأجمعوا أن المتغوط لا يلزمه الرد في الحال ولا بعده لأن
السلام عليه حرام بخلاف من في الحمام إذا كان بمئزر. وفي فتاوى قاضيخان: إذا سلم على
القاضي والمدرس قالوا لا يجب عليه الرد اه‍. ومثله ذكر في سلام المكدي: ولو تكلم المؤذن
في أذانه استأنفه. كذا في فتح القدير. وفي الخلاصة: وإن تكلم بكلام يسير لا يلزمه
الاستقبال. وفي الظهيرية: والتنحنح في الاذان مكروه إذا لم يكن لتحصيل الصوت. وفي
الخلاصة: وكذا في الإقامة وإن قدم في أذانه وإقامته شيئا بأن قال أولا أشهد أن محمدا
رسول الله ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فعليه أن يعيد الأول. قوله (ويلتفت يمينا وشمالا
بالصلاة والفلاح) لما قدمناه ولفعل بلال رضي الله عنه على ما رواه الجماعة، ثم أطلقه فشمل
ما إذا كان وحده على الصحيح لكونه سنة الاذان فلا يتركه خلافا للحلواني لعدم الحاجة إليه.
وفي السراج الوهاج: إنه من سنن الاذان فلا يخل المنفرد بشئ منها حتى قالوا في الذي
يؤذن للمولود ينبغي أن يحول اه‍. وقيد باليمين والشمال لأنه لا يحول وراءه لما فيه من
استدبار القبلة، ولا أمامه لحصول الاعلام في الجملة بغيرها من كلمات الاذان. وقوله
بالصلاة والفلاح لف ونشر مرتب يعني أنه يلتفت يمينا بالصلاة وشمالا بالفلاح وهو
449

الصحيح خلافا لمن قال إن الصلاة باليمين والشمال والفلاح كذلك. وفي فتح القدير: إنه
الأوجه ولم يبين وجهه. وقيد بالالتفات لأنه لا يحول قدميه لما رواه الدارقطني عن بلال قال:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذنا أو أقمنا ان لا نزيل أقدامنا عن مواضعها. وأطلق في الالتفات ولم
يقيده بالاذان وقدمنا عن الغنية أنه يحول في الإقامة أيضا. وفي السراج الوهاج: لا يحول فيها
لأنها لاعلام الحاضرين بخلاف الاذان فإنه إعلام للغائبين، وقيل يحول إذا كان الموضع متسعا.
قوله (ويستدير في صومعته) يعنى إن لم يتم الاعلام بتحويل وجهه مع ثبات قدميه فإنه
يستدير في المئذنة ليحصل التمام. والصومعة المنارة وهي في الأصل متعبد الراهب. ذكره
العيني. ولم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم مئذنة لكن روى أبو داود من حديث عروة بن الزبير عن امرأة
من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت بحول المسجد فكان بلال يأتي بسحر فيجلس
عليه ينظر إلى الفجر، فإذا رآه أذن. وفي القنية: يؤذن المؤذن فتعوي الكلاب فله ضربها إن ظن
أنها تمتنع بضربه وإلا فلا. وفي الخلاصة: ومن سمع الاذان فعليه أن يجيب وإن كان جنبا لأن
إجابة المؤذن ليست بأذان. وفي فتاوى قاضيخان: إجابة المؤذن فضيلة وإن تركها لا يأثم. وأما
قوله عليه الصلاة والسلام من لم يجب الاذان فلا صلاة له فمعناه الإجابة بالقدم لا باللسان
فقط. وفي المحيط: يجب على السامع للاذان الإجابة ويقول مكان حي على الصلاة لا حول
ولا قوة إلا بالله، ومكان حي على الفلاح ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لأن إعادة ذلك
يشبه الاستهزاء لأن ليس بتسبيح ولا تهليل. وكذا إذا قال الصلاة خير من النوم فإنه يقول
صدقت وبررت ولا يقرأ السامع ولا يسلم ولا يرد السلام ولا يشتغل بشئ سوى الإجابة،
450

ولو كان السامع يقرأ يقطع القراءة ويجيب. وقال الحلواني: الإجابة بالقدم لا باللسان حتى لو
أجاب باللسان ولم يمش إلى المسجد لا يكون مجيبا، ولو كان في المسجد حين سمع الاذان
ليس عليه الإجابة. وفي الظهيرية: ولو كان الرجل في المسجد يقرأ القرآن فسمع الاذان لا
يترك القراءة لأنه إجابة بالحضور، ولو كان في منزله يترك القراءة ويجيب، ولعله متفرع على
قول الحلواني، والظاهر أن الإجابة باللسان واجبة لظاهر الامر في قوله صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول إذا لا تظهر قرينة تصرف عنه بل ربما يظهر استنكار تركه لأنه
يشبه عدم الالتفات إليه والتشاغل عنه. وفي شرح النقاية: ومن سمع الإقامة لا يجيب،
ولا بأس بأن يشتغل بالدعاء عندهما. وفي فتح القدير: إن إجابة الإقامة مستحبة. وفي
451

غيره إنه يقول إذا سمع قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها. وفي التفاريق: إذا كان في
المسجد أكثر من مؤذن أذنوا واحدا بعد واحد فالحرمة للأول. وسئل ظهير الدين عمن سمع
في وقت من جهات ماذا عليه؟ قال: إجابة أذان مسجده بالفعل. وفي فتح القدير: وهذا
ليس مما نحن فيه إذ مقصود السائل أي مؤذن يجيب باللسان استحبابا أو وجوبا والذي ينبغي
إجابة الأول، سواء كان مؤذن مسجده أو غيره لأنه حيث سمع الاذان ندب له الإجابة أو
وجبت على القولين. وفي القنية: سمع الاذان وهو يمشي فالأولى أن يقف ساعة ويجيب.
وعن عائشة رضي الله عنها: إذا سمع الاذان فما عمل بعده فهو حرام. وكانت تضع
مغزلها، وإبراهيم الصائغ يلقي المطرقة من ورائه، ورد خلف شاهدا لاشتغاله بالنسيج حالة
الاذان. وعن السلماني: كان الامراء يوقفون أفراسهم له ويقولون كفوا اه‍. وأما الحوقلة عند
الحيعلة فهو وإن خالف ظاهر قوله عليه السلام فقولوا مثل ما يقول لكنه ورد فيه حديث
مفسر لذلك رواه مسلم، واختار المحقق في فتح القدير الجمع بين الحوقلة والحيعلة عملا
بالأحاديث لأنه ورد في بعض الصور طلبها صريحا في مسند أبي يعلى إذا قال حي على
الصلاة قال حي على الصلاة إلى أخره. وقولهم إنه يشبه الاستهزاء لا يتم إذ لا مانع من
صحة اعتبار المجيب بهما داعيا لنفسه محركا منها السواكن مخاطبا لها، وقد أطال رحمه الله
الكلام فيه. وبهذا ظهر أن ما في غاية البيان من أن سامع الحيعلة لا يقول مثل ما يقول المؤذن
لأنه يشبه الاستهزاء وما يفعله بعض الجهلة فذاك ليس بشئ اه‍. ليس بشئ اه‍. لأنه كيف
ينسب فاعله إلى الجهل مع وروده في بعض الأحاديث والأصول تشهد له لأن عندنا
المخصص الأول ما لم يكن متصلا لا يخصص بل يعارض أو يقدم العام، وقال به بعض
مشايخنا كما في الظهيرية. وفي فتح القدير: وقد رأينا من مشايخ السلوك من كان يجمع
بينهما فيدعو نفسه ثم يتبرأ من الحول والقوة ليعمل بالحديثين. وفي حديث عمرو بن أبي
أمامة التنصيص على أن لا يسبق المؤذن بل يعقب كل جملة منه بجملة منه اه‍. ولم أر حكم ما
إذا فرغ المؤذن ولم يتابعه السامع هل يجيب بعد فراغه، وينبغي أنه إن طال الفصل لا يجيب
وإلا يجيب. وفي المجتبى: في ثمانية مواضع إذا سمع الاذان لا يجيب: في الصلاة، واستماع
خطبة الجمعة، وثلاث خطب الموسم: والجنازة، وفي تعلم العلم وتعليمه، والجماع
والمستراح، وقضاء الحاجة، والتغوط. قال أبو حنيفة: لا يثني بلسانه. وكذا الحائض
والنفساء لا يجوز أذانهما وكذا ثناؤهما اه‍. والمراد بالثناء الإجابة وكذا لا تجب الإجابة عند
452

الاكل كما صرح به. وفي صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قال
حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة
وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيام وفي المجتبى من كتاب
الشهادات: من سمع الاذان وانتظر الإقامة في بيته لا تقبل شهادته.
قوله (ويجعل أصبعيه في أذنيه) لقوله صلى الله عليه وسلم اجعل إصبعيك في أذنيك فإنه ارفع لصوتك
والامر للندب بقرينة التعليل فلهذا لو لم يفعل كان حسنا، وكذا لو جعل يديه على أذنيه. فإن
قيل ترك السنة كيف يكون حسنا قلنا: لأن الاذان معه أحسن فإذا تركه بقي الاذان حسنا.
كذا في الكافي. فالحسن راجع إلى الاذان. وإنما كان ذلك أبلغ في الاعلام لأن الصوت يبدأ
من مخارج النفس فإذا سد أذنيه اجتمع النفس في الفم فخرج الصوت عاليا من غير ضرورة،
وفيه فائدة أخرى وهي ربما لم يسمع إنسان صوته لصمم أو بعد أو غيرهما فيستدل بأصبعيه
على أذنه. ولا يستحب وضع الإصبع في الاذن في الإقامة لما قدمنا أن الإقامة أخفض من
الاذان. قوله (ويثوب) أي المؤذن والتثويب العود إلى الاعلام بعد الاعلام ومنه الثيب لأن
مصيبها عائد إليها، والثواب لأن منفعة عمله تعود إليه، والمثابة لأن الناس يعودون إليه.
ووقته بعد الاذان على الصحيح كما ذكره قاضيخان، وفسره في رواية الحسن بأن يمكث بعد
الاذان قدر عشرين آية ثم يثوب ثم يمكث كذلك ثم يقيم وهو نوعان: قديم وحادث.
فالأول الصلاة خير من النوم وكان بعد الاذان إلا أن علماء الكوفة ألحقوه بالاذان، والثاني
أحدثه علماء الكوفة بين الأذان والإقامة حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين.
وأطلق في التثويب فأفاد أنه ليس لفظ يخصه بل تثويب كل بلد على ما تعارفوه، إما بالتنحنح
أو بقوله الصلاة الصلاة أو قامت قامت لأنه للمبالغة في الاعلام وإنما يحصل بما تعارفوه.
فعلى هذا إذا أحدث الناس إعلاما مخالفا لما ذكر جاز. كذا في المجتبى. وأفاد أنه لا يخص
صلاة بل هو في سائر الصلوات وهو اختيار المتأخرين لزيادة غفلة الناس وقلما يقومون عند
سماع الاذان، وعند المتقدمين هو مكروه في غير الفجر وهو قول الجمهور كما حكاه النووي
في شرح المهذب لما روي أن عليا رأى مؤذنا يثوب في العشاء فقال: أخرجوا هذا المبتدع من
المسجد. وعن ابن عمر مثله. ولحديث الصحيحين من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
453

رد (2) وأفاد أنه لا يخص شخصا دون آخر فالأمير وغيره سواء وهو قول محمد، لأن الناس
سواسية في أمر الجماعة. وخص أبو يوسف الأمير وكل من كان مشتغلا بمصالح المسلمين
كالمفتي والقاضي والمدرس بنوع إعلام بأن يقول السلام عليك أيها الأمير حي على الصلاة
حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله. واختاره قاضيخان وغيره لكن ذكر ابن الملك أن أبا
حنيفة مع محمد وعاب عليه محمد فقال: أف لأبي يوسف حيث خص الامراء بالذكر والتثويب
ومال إليهم. ولكن أبو يوسف رحمه الله وإنما خص أمراء زمانه لأنهم كانوا مشغولين بأمور
الرعية. أما إذا كان مشغولا بالظلم والفسق فلا يجوز للمؤذن المرور على بابه ولا التثويب لهم
إلا على وجه الامر بالمعروف والنصيحة كما في السراج الوهاج وغيره. وقيد بكون المثوب هو
المؤذن لما في القنية معزيا للملتقط: لا ينبغي لاحد أن يقول لمن فوقه في العلم والجاه حان
وقت الصلاة سوى المؤذن لأنه استفضال لنفسه. فرع في شرح المهذب للشافعية: يكره أن
يقال في الاذان حي على خير العمل لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة في الاذان مكروهة
اه‍. وقد سمعناه الآن عن الزيدية ببعض البلاد.
قوله (ويجلس بينهما إلا في المغرب) أي ويجلس المؤذن بين الأذان والإقامة على وجه
السنية إلا في المغرب فلا يسن الجلوس بل السكوت مقدار ثلاث آيات قصار أو آية طويلة أو
مقدار ثلاث خطوات. وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: يفصل أيضا في المغر ب بجلسة خفيفة
قدر جلوس الخطيب بين الخطبتين وهي مقدار أن تتمكن مقعدته من الأرض بحيث يستقر كل
عضو منه في موضعه. والأصل أن الوصل بينهما في سائر الصلوات مكروه إجماعا لحديث
بلال اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله غير أن الفصل في سائر
الصلوات بالسنة أو ما يشبهها لعدم كراهية التطوع قبلها. وفي المغرب: كره التطوع قبله فلا
يفصل به ثم قال: الجلسة تحقق الفصل كما بين الخطبتين ولا يقع الفصل بالمسكنة لأنها توجد
بين كلمات الاذان ولم تعد فاصلة. وقال أبو حنيفة: إن الفصل بالسكتة أقرب إلى التعجيل
المستحب والمكان هنا مختلف لأن السنة أن يكون الاذان في المنارة والإقامة في المسجد، وكذا
النغمة والهيئة بخلاف خطبتي الجمعة لاتحاد المكان والهيئة فلا يقع الفصل إلا بالجلسة. وفي
الخلاصة: ولو فعل المؤذن كما قالا لا يكره عنده، ولو فعل كما قال لا يكره عندهما يعني أن
454

الاختلاف في الأفضلية. وبما تقرر علم أنه يستحب التحول للإقامة إلى غير موضع الاذان
وهو متفق عليه، وعلم أن تأخير المغرب قدر أداء ركعتين مكروه وقد قدمنا عن القنية أن
التأخير القليل لا يكره فيجب حمله على ما هو أقل من قدرهما إذا توسط فيهما ليتفق كلام
الأصحاب. كذا في فتح القدير. ولم يذكر المصنف رحمه الله مقدار الجلوس بينهما لأنه لم
يثبت في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آية ثم
يثوب، وإن صلى ركعتي الفجر بين الاذان والتثويب فحسن، وفي الظهر يصلي بينهما أربع
ركعات يقرأ في كل ركعة نحو عشر آيات، والعشاء كالظهر، وإن لم يصل فليجلس قدر
ذلك. ولم يذكروا هنا أنه يجلس بينهما بقدر اجتماع الجماعة مع أنهم قالوا: ينبغي للمؤذن
مراعاة الجماعة، فإن رآهم اجتمعوا أقام وإلا انتظرهم، ولعله والله أعلم أنه لم يذكر في ظاهر
الرواية مقدار لهذا لأنه غير منضبط قوله (ويؤذن للفائتة ويقيم) لأن الاذان سنة للصلاة لا
للوقت فإذا فاتته صلاة تقضي بأذان وإقامة لحديث أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بالأذان والإقامة
حين ناموا عن الصبح وصلوها بعد ارتفاع الشمس وهو الصحيح في مذهب
الشافعي كما ذكره النووي في شرح المهذب، ولان القضاء يحكي الأداء ولهذا يجهر الإمام
بالقراءة إن كانت صلاة يجهر فيها وإلا خافت بها. وذكر الشارح أن الضابط عندنا أن كل
فرض - أداء كان أو قضاء - يؤذن له ويقام، سواء أدي منفردا أو بجماعة إلا الظهر يوم
الجمعة في المصر، فإن أداءه بأذان وإقامة مكروه يروى ذلك عن علي اه‍. ويستثنى أيضا كما
في الفتح ما تؤديه النساء أو تقضيه لجماعتهن لأن عائشة أمتهن بغير أذان ولا إقامة حين
كانت جماعتهن مشروعة، وهذا يقتضي أن المنفردة أيضا كذلك لأن تركهما لما كان هو السنة
حال شرعية الجماعة كان حال الانفراد أولى. أطلقه فشمل ما إذا قضاها في بيته أو في
المسجد. وفي المجتبى معزيا إلى الحلواني: إنه سنة القضاء في البيوت دون المساجد فإن فيه
تشويشا وتغليطا اه‍. وإذا كانوا قد صرحوا بأن الفائتة لا تقضى في المسجد لما فيه من إظهار
التكاسل في إخراج الصلاة عن وقتها فالواجب الاخفاء، فالاذان للفائتة في المسجد أولى
بالمنع، وحكم الاذان للوقتية قد علم من قوله أول الباب سن للفرائض، وسيأتي آخر الباب
أنه لا يكره تركهما لمن يصلي في بيته فتعين أن تكون السنة في الأداء إنما هو إذا صلى في
455

المسجد بجماعة أو منفردا أو لا، وعليه يحمل كلام الشارح المتقدم. وعلى هذا فقوله ويؤذن
للفائتة احتراز عن الوقتية فإنه إذا صلاها في بيته بغير أذان ولا إقامة لم يكره كما قدمناه،
وصرح به في السراج الوهاج. فتحرر من هذا أن القضاء مخالف للأداء في الاذان لأنه يكره
تركهما في القضاء ولا يكره في الأداء وكلاهما في بيته لا في المسجد، وسيأتي فيه زيادة
إيضاح آخر الباب. وهل يرفع صوته بأذان الفائتة فينبغي أنه إن كان القضاء بالجماعة يرفع،
وإن كان منفردا، فإن كان كذلك في الصحراء يرفع للترغيب الوارد في الحديث في رفع
صوت المؤذن لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة
(1) وإن كان في البيت لا يرفع ولم أره في كلام أئمتنا.
قوله (وكذا لاولى الفوائت وخير فيه للباقي) أي في الاذان إن شاء أذن وإن شاء تركه
لما روى أبو يوسف بسنده أنه صلى الله عليه وسلم حين شغلهم الكفار يوم الأحزاب عن أربع صلوات عن
الظهر والعصر والمغرب والعشاء قضاهن على الولاء وأمر بلالا أن يؤذن ويقيم لكل واحدة
منهن، ولان القضاء على حسب الأداء. وله الترك لما عدا الأولى لأن الاذان للاستحضار وهم
حضور. وعن محمد في غير رواية الأصول أن الباب بالإقامة لا غير. قال الرازي: إنه قول
الكل والمذكور في الظاهر محمول على صلاة واحدة، وهذا الحمل لا يصح لأن المذكور في
ظاهر الرواية إنما هو حكم الفوائت صريحا، فكيف يحمل على الواحدة؟ وكيف يصح مع هذا
الحمل أن يقال يؤذن لاولى الفوائت ويخير فيه للباقي؟ قيد بالفائتة احترازا عن الفاسدة إذا
أعيدت في الوقت فإنه لا يعاد الاذان ولا الإقامة، ولهذا قال في المجتبى: قوم ذكروا فساد
صلاة صلوها في المسجد في الوقت قضوها بجماعة فيه ولا يعيدون الاذان ولا الإقامة، وإن
قضوها بعد الوقت قضوها في غير ذلك المسجد بأذان وإقامة. وفي المستصفى: التخيير في
الاذان للباقي، إنما هو إذا قضاها في مجلس واحد، أما إذا قضاها في مجالس فإنه يشترط
كلاهما اه‍. قوله (ولا يؤذن قبل وقت ويعاد فيه) أي في الوقت إذا أذن قبله لأن يراد للاعلام
456

بالوقت فلا يجوز قبله بلا خلاف في غير الفجر. وعبر بالكراهة في فتح القدير والظاهر أنها
تحريمية، وأما فيه فجوزه أبو يوسف ومالك والشافعي لحديث الصحيحين إن بلالا يؤذن
بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. (1) ووقته عند أبي يوسف بعد ذهاب نصف
الليل وهو الصحيح في مذهب الشافعي كما ذكره النووي في شرح المهذب. والسنة عنده أن
يؤذن للصبح مرتين: إحداهما قبل الفجر والأخرى عقب طلوعه. ولم أره لأبي يوسف. وعند
أبي حنيفة ومحمد لا يؤذن في الفجر قبله لما رواه البيهقي أنه عليه الصلاة والسلام قال: يا
بلال لا تؤذن حتى يطلع الفجر. قال في الإمام رجال إسناده ثقات. ولرواية مسلم: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الاذان ويخففهما. ويحمل ما رووه على أن معناه لا
تعتمدوا على أذانه فإنه يخطئ فيؤذن بليل تحريضا له على الاحتراس عن مثله. وأما أن المراد
بالاذان التسحير بناء على أن هذا إنما كان في رمضان كما قاله في الإمام فلذا قال فكلوا
واشربوا، والتذكير المسمى في هذا الزمان بالتسبيح ليوقظ النائم ويرجع القائم كما قيل إن
الصحابة كانوا خربين خربا مجتهدون في النصف الأول وخربا في الأخير، وكان الفاصل
عندهم أذان بلال يدل عليه ما روي عنه عليه السلام لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال
فإنه يؤذن ليوقظ نائمكم ويرقد قائمكم فلو أوقع بعض كلمات الاذان قبل الوقت وبعضها
في الوقت فينبغي أن لا يصح وعليه استئناف الاذان كله. وفهم من كلامه أن الإقامة قبل
الوقت لا تصح بالأولى كما صرح به ابن الملك في شرح المجمع، وأنه متفق عليه لكن بقي
الكلام فيما إذا قام في الوقت ولم يصل على فوره هل تبطل إقامته؟ لم أره في كلام أئمتنا،
وينبغي أنه إن طال الفصل تبطل وإلا فلا. ثم رأيت بعد ذلك في القنية: حضر الإمام بعد
إقامة المؤذن بساعة أو صلى سنة الفجر بعدها لا يجب عليه اعادتها اه‍. وفي المجتبى معزيا إلى
457

المجرد قال أبو حنيفة: يؤذن للفجر بعد طلوعه، وفي الظهر في الشتاء حين تزول الشمس،
وفي الصيف يبرد، وفي العصر يؤخره ما لم يخف تغيير الشمس، والعشاء يؤخر قليلا بعد
ذهاب البياض اه‍.
قوله (وكره أذان الجنب وإقامته وإقامة المحدث وأذان المرأة والفاسق والقاعد والسكران)
أما أذان الجنب فمكروه رواية واحدة لأنه يصير داعيا إلى ما لا يجيب إليه، وإقامته أولى
بالكراهة. قيد بالجنب لأن أذان المحدث لا يكره في ظاهر الرواية وهو الصحيح لأن للاذان
شبها بالصلاة حتى يشترط له دخول الوقت وترتيب كلماته كما ترتبت أركان الصلاة وليس
هو بصلاة حقيقة فاشترط له الطهارة عن أغلظ الحدثين دون أخفهما عملا بالشبهين وقيل:
يكره لحديث الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤذن إلا متوضئ وأما
إقامة المحدث فلأنها لم تشرع إلا متصلة بصلاة من يقيم، ويروي عدم كراهتها كالاذان،
والمذهب الأول. وأما أذان المرأة فلأنها منهية عن رفع صوتها لأنه يؤدي إلى الفتنة، وينبغي أن
يكون الخنثى كالمرأة، وأما الفاسق فلان قوله لا يوثق به ولا يقبل في الأمور الدينية ولا يلزم
أحدا فلم يوجد الاعلام، وأما القاعدة فلترك سنة الاذان من القيام. أطلقه وهو مقيد بما إذا
لم يؤذن لنفسه فإن أذن لنفسه قاعدا فإنه لا يكره لعدم الحاجة إلى الاعلام. ويفهم منه كراهته
مضطجعا بالأولى، وأما السكران فلعدم الوثوق بقوله وهو داخل في الفاسق لكن قد يكون
سكره من مباح فلا يكون فاسقا فلذا أفرده بالذكر وأشار به إلى كراهة أذان المجنون والصبي
الذي لا يعقل بالأولى لما ذكرنا. ولم يتعرض المصنف لإعادة أذان من كره أذانه وفيه تفصيل،
قالوا: يعاد أذان الجنب لا إقامته على الأشبه. كذا في الهداية وهو الأصح كما في المجتبى،
لأن تكراره مشروع كما في أذان الجمعة لأنه لاعلام الغائبين فتكريره مفيد لاحتمال عدم
سماع البعض بخلاف تكرار الإقامة إذ هو غير مشروع. ويفهم منه عدم إعادة إقامة المحدث
بالأولى، وظاهر كلام الشارح أن الإعادة لاذان الجنب مستحبة لا واجبة لأنه قال: وإن لم يعد
أجزأه الاذان والصلاة. وصرح في الظهيرية باستحباب إعادته، وصرح قاضيخان بأنه تجب
458

الطهارة فيه عن أغلظ الحدثين دون أخفهما، فظاهره كغيره أن كراهة أذان الجنب تحريمية
لترك الواجب وإن كانت إعادته مستحبة. ويعاد أذان المرأة والسكران والجنون والمعتوه
والصبي الذي لا يعقل لعدم الاعتماد على أذان هؤلاء فلا يلتفت إليهم فربما ينتظر الناس
الاذان المعتبر والحال أنه معتبر فيؤدي إلى تفويت الصلاة أو الشك في صحة المؤدي أو إيقاعها
في وقت مكروه، وهذا لا ينتهض في الجنب، وغاية ما يمكن أن ينهض فسقه. وصرح
بكراهة أذان الفاسق ولا يعاد فالإعادة فيه ليقع على وجه السنة.
وفي الخلاصة: خمس خصال إذا وجدت في الأذان والإقامة وجب الاستقبال: إذا
غشي على المؤذن في أحدهما أو مات أو سبقه حدث فذهب وتوضأ أو حصر فيه ولا ملقن أو
خرس يجب الاستقبال. وفي فتاوى قاضيخان: معناه فإن حمل الوجوب على ظاهره احتيج إلى
الفرق بين نفس الاذان فإنه سنة واستقباله بعد الشروع فيه وتحقق العجز عن إتمامه. وقد يقال
فيه إذا شرع فيه ثم قطع تبادر إلى ظن السامعين أن قطعه للخطأ فينتظرون الاذان الحق وقد
تفوت بذلك الصلاة فوجب إزالة ما يفضي إلى ذلك بخلاف ما إذا لم يكن أذان أصلا حيث
لا ينتظرون بل يراقب كل منهم وقت الصلاة بنفسه أو ينصبون لهم مراقبا إلا أن هذا يقتضي
وجوب الإعادة فيمن ذكرناهم آنفا إلا الجنب. كذا في فتح القدير. والظاهر أن الوجوب
ليس على حقيقته بل بمعنى الثبوت لما في المجتبى: وإذا غشي عليه في أذانه أو أحدث فتوضأ
أو مات أو ارتد فالأحب استقبال الاذان. وكذا صرح بالاستحباب في الظهيرية. وفي
السراح الوهاج وفي القنية: وقف في الاذان لتنحنح أو سعال لا يعيد وإن كانت الوقفة كثيرة
يعيد اه‍. وذكر الشارح أن إعادة أذان المرأة والسكران مستحبة فصار الحاصل على هذا أن
العدالة والذكورة والطهارة صفات كمال للمؤذن لا شرائط صحة، فأذان الفاسق والمرأة
والجنب صحيح حتى يستحق المؤذن معلوم وظيفة الاذان المقررة في الوقف، ويصح تقرير
الفاسق فيها، وفي صحة تقرير المرأة في الوظيفة تردد لكن ذكر في السراج الوهاج إذا لم
459

يعيدوا أذان المرأة فكأنهم صلوا بغير أذان فلهذا كان عليهم الإعادة وهو يقتضي عدم صحته.
وينبغي أن لا يصح أذان الفاسق بالنسبة إلى قبول خبره والاعتماد عليه لما قدمناه من أنه لا
يقبل قوله في الأمور الدينية كما صرح به الشارح. وأما العقل فينبغي أن يكون شرط صحة
فلا يصح أذان الصبي الذي لا يعقل والمجنون والمعتوه أصلا، وأما الصبي الذي يعقل فأذانه
صحيح من غير كراهة في ظاهر الرواية إلا أن أذان البالغ أفضل. كذا في السراج الوهاج.
وفي المجمع: ويكره أذان الصبي ويجزئ وأطلقه. فعلى هذا يصح تقريره في وظيفة الاذان،
وأما الاسلام فينبغي أن يكون شرط صحة فلا يصح أذان كافر على أي ملة كان، لكن هل
يكون بالاذان مسلما؟ قال البزازي في فتاواه من باب السير: وإن شهدوا على الذمي أنه كان
يؤذن ويقيم كان مسلما، سواء كان الاذان في السفر أو الحضر. وإن قالوا سمعناه يؤذن في
المسجد فلا شئ حتى يقولوا هو مؤذن، فإن قالوا ذلك فهو مسلم لأنهم إذا قالوا هو مؤذن
كان ذلك عادة له فيكون مسلما اه‍. فالحاصل أنه لا يكون بالاذان مسلما إلا إذا صار عادة له
مع إتيانه بالشهادتين. وينبغي أن يكون ذلك في العيسوية وهم طائفة من اليهود ينسبون إلى
أبي عيسى اليهودي الأصبهاني يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى العرب، فهذا لا يصير
بالاذان مسلما، وأما غيرهم فينبغي أن يكون مسلما بنفس الاذان والله الموفق للصواب. وفي
السراج الوهاج: إذا ارتد المؤذن بعد الاذان لا يعاد أذانه ولو أعيد فهو أفضل.
قوله (لا أذان العبد وولد الزنا والأعمى والأعرابي) أي لا يكره أذان هؤلاء لأن قولهم مقبول
في الأمور الدينية فيكون ملزما فيحصل به الاعلام بخلاف الفاسق. وفي الخلاصة: وغيرهم أولى
460

منهم. وأما ابن أم مكتوم الأعمى فإن بلالا كان يؤذن قبله. وفي النهاية: ومتى كان مع الأعمى
من يحفظ عليه أوقات الصلاة يكون حينئذ تأذينه وتأذين البصير سواء. وإنما كرهت إمامتهم لأن
الناس ينفرون من الصلاة خلفهم أو لأن العبد مشغول بخدمة مولاه فلا يتفرغ للعلم كالأعرابي
وهو ليس بموجود في الاذان لعدم احتياجه إلى العلم. وينبغي أن العبد إن أذن لنفسه لا يحتاج إلى
إذن سيده، وإن أراد أن يكون مؤذنا للجماعة لم يجز إلا بإذن سيده لأن فيه إضرارا بخدمته لأنه
يحتاج إلى مراعاة الأوقات ولم أره في كلامهم قوله (وكره تركهما للمسافر) أي ترك الأذان والإقامة
لما رواه البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا
الانتقال من عنده قال لنا: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما. وإذا كان هذا
الخطاب لهما ولا حاجة لهما مترافقين إلى استحضار أحد علم أن المنفرد أيضا يسن له ذلك، وقد
ورد في خصوص المنفرد أحاديث في أبي داود والنسائي يعجب ربك من راعي غنم في رأس
شظية يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن للصلاة ويقيم
للصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة وعن سلمان الفارسي قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل بأرض فئ فحانت الصلاة فليتوضأ فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإن
أقام صلى معه ملكاه، وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه رواه عبد الرزاق.
وبهذا ونحوه عرف أن المقصود من الاذان لم ينحصر في الاعلام بل كل منه. ومن الاعلان بهذا
الذكر نشر الذكر لله ودينه في أرضه وتذكير العبادة من الجن والإنس الذين لا يرى شخصهم في
الفلوات من العباد. قيد بتركهما لأنه لو ترك الاذان وأتى بالإقامة لا يكره لاثر علي رضي الله عنه
ولو عكس يكره كما في شرح النقاية قوله (لا لمصل في بيته في المصر) أي لا يكره تركهما له،
والفرق بينهما أن المقيم إذا صلى بدونهما حقيقة فقد صلى بهما حكما لأن المؤذن نائب عن
أهل المحلة فيهما فيكون فعله كفعلهم، وأما المسافر فقد صلى بدونهما حقيقة وحكما لأن المكان
الذي هو فيه لم يؤذن فيه أصلا لتلك الصلاة. كذا في الكافي. ومفهومه أنه لو لم يؤذنوا في
الحي فإنه يكره تركهما للمصلي في بيته، وقد صرح به في المجتبى أنه لو أذن بعض المسافرين
سقط عن الباقين كما لا يخفى. وأطلق في المصلي في بيته فأفاد أنه لا فرق بين الواحدة
461

والجماعة. وعن أبي حنيفة في قوم صلوا في المصر في منزل واكتفوا بأذان الناس أجزأهم
وقد أساءوا ففرق بين الواحد والجماعة في هذه الرواية. والتقييد بالبيت ليس احترازيا بل
المصلي في المسجد إذا صلى بعد صلاة الجماعة لا يكره له تركهما بل ليس له أن يؤذن. وفي
السراج الوهاج: وإن دخل مسجدا ليصلي فإنه لا يؤذن ولا يقيم، وإن أذن في مسجد جماعة
وصلوا يكره لغيرهم أن يؤذنوا ويعيدوا الجماعة ولكن يصلوا وحدانا، وإن كان المسجد على
الطريق فلا بأس أن يؤذنوا فيه ويقيموا اه‍. وفي الخلاصة: جماعة من أهل المسجد أذنوا في
المجسد على وجه المخافتة بحيث لم يسمع غيرهم، ثم حضر من أهل المسجد قوم وعلموا
فلهم أن يصلوا بالجماعة على وجهها ولا عبرة للجماعة الأولى. والتقييد بالمصر ليس احترازيا
أيضا بل القرية كالمصران، كان في القرية مسجد فيه أذان وإقامة وإن لم يكن فيها مسجد،
فحكمه حكم المسافر. كذا في شرح النقاية للشمني. والحاصل أن الأذان والإقامة كل منهما
سنة في حق أهل المسجد يكره ترك واحد منهما أذانا أو إقامة وأما غيرهم فلا يكونان سنة
مؤكدة. قوله (وندبا لهما) أي الأذان والإقامة للمسافر والمصلي في بيته في المصر ليكون الأداء
على هيئة الجماعة. وفي السراج الوهاج: ولو أذن المسافر راكبا فلا بأس به من غير كراهة
وينزل للإقامة. وفي الظهيرية: بين له مسجد يكره أن يصلي فيه ويترك الإقامة. قوله (لا
للنساء) أي لا يندب للنساء أذان ولا إقامة لأنهما من سنن الجماعة المستحبة. قيد بالنساء أي
جماعة النساء لأن المرأة المنفردة تقيم ولا تؤذن كما قدمناه. وظاهر ما في السراج الوهاج أنها لا
تقيم أيضا وأشار إلى أن العبيد لا أذان ولا إقامة عليهم لأنها من سنن الجماعة وجماعتهم غير
مشروعة، ولهذا لم يشرع التكبير عقبها أيام التشريق. ذكره الشارح والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب شروط الصلاة
وهي جمع شرط على وزن فعل وأصله مصدر، وأما الشرائط فواحدها شريطة. كذا في
462

ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم في اللغة. فمن عبر هنا بالشرائط فمخالف للغة كما عرفت
وللقاعدة التصريفية فإن فعائل لم يحفظ جمعا لفعل بفتح الفاء وسكون العين بخلاف التعبير
بالفرائض فإنه صحيح لأن مفرده فريضة كصحائف جمع صحيفة وهو في اللغة العلامة. كذا
في فتح القدير. وأما في الصحاح: الشرط معروف والشرط بالتحريك العلامة، وقوله تعالى
* (فقد جاء أشراطها) * (محمد: 18) أي علاماتها. وفي الشريعة ما يتوقف عليه وجود الشئ
ولا يكون داخلا فيه. وقد قسم الأصوليون الخارج المتعلق بالحكم إلى مؤثر فيه ومفض إليه
بلا تأثير. فالأول العلة، والثاني السبب وإلا فإن توقف عليه الوجود فالشرط وإلا فإن دل
عليه فالعلامة. والشرط حقيقي وجعلي، فالأولى ما يتوقف عليه الشئ في الواقع، والثاني
شرعي أي بجعل الشرع فيتوقف شرعا كالشهود للنكاح والطهارة للصلاة، وغير شرعي أي
بجعل المكلف بتعليق تصرفه عليه مع إجازة الشرع كأن دخلت الدار فكذا. وذكر الشمني أن
المراد بالشروط هنا ما لا يكون المكلف بحصولها شارعا في الصلاة احترازا عن التحريمة فإنها
شرط عندنا ولا تذكر في هذا الباب اه‍. وأطلق الشروط ولم يقيدها بالتقدم كما في مختصر
القدوري لأنه لا حاجة إليه لأنها صفة كاشفة لا مخصصة إذ الشرط لا يكون إلا متقدما، وما
ذكره الشارحون بخلاف ذلك فقد رده في فتح القدير.
قوله: (هي طهارة بدنه من حدث وخبث وثوبه ومكانه) أما طهارة بدنه من الحدث
فبآية الوضوء والغسل، ومن الخبث فبقوله صلى الله عليه وسلم تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه
ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش اغسلي عنك الدم وصلي. والحدث مانعية شرعية قائمة
بالأعضاء إلى غاية استعمال المزيل. والخبث عين مستقذرة شرعا. وقدم الحدث لقوته لأن
463

قليله مانع بخلاف قليل الخبث. وفي غاية البيان: وفيه نظر لأن القطرة من الخمر أو الدم أو
البول إذا وقعت في البئر تنجس، والجنب أو المحدث إذا أدخل يده في الاناء لا ينجس.
والأولى أن يقال: ليس فيه تقديم لأن الواو لمطلق الجمع ا ه‍. وقد تقدم في الأنجاس شئ
منه. وأما طهارة ثوبه فلقوله تعالى * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) فإن الأظهر أن المراد ثيابك
الملبوسة وأن معناه طهرها من النجاسة. وقد قيل في الآية غير هذا لكن الأرجح ما ذكرناه
وهو قول الفقهاء وهو الصحيح كما ذكره النووي في شرح المهذب، ولعموم الحديثين
السابقين. وإذا وجب التطهير لما ذكرناه في الثوب وجب في المكان والبدن بالأولى لأنهما ألزم
للمصلي منه لتصور انفصاله بخلافهما. وأراد بالخبث القدر المانع الذي قدمه في باب
الأنجاس فلا يرد عليه الاطلاق. وأشار باشتراط طهارة الثوب إلى أنه لو حمل نجاسة مانعة
فإن صلاته باطلة. فكذا لو كانت النجاسة في طرف عمامته أو منديله المقصود ثوب هو
لابسه فألقى ذلك الطرف على الأرض وصلى فإنه إن تحرك بحركته لا يجوز وإلا يجوز، لأنه
بتلك الحركة ينسب لحمل النجاسة. وفي الظهيرية: الصبي إذا كان ثوبه نجسا أو هو نجس
فجلس على حجر المصلي وهو يستمسك، أو الحمام النجس إذا وقع على رأس المصلي وهو
464

يصلي كذلك جازت الصلاة، وكذلك الجنب أو المحدث إذا حمله المصلي لأن الذي على المصلي
مستعمل له فلم يصر المصلي حاملا للنجاسة ا ه‍. ودل كلامه أنه لو صلى ورأسه يصل إلى
السقف النجس أو في كلة متنجسة أو في خيمة كذلك فإنها لا تصح لكونه حاملا للنجاسة،
ولهذا قال في القنية: إذا صلى في الخيمة ورفع سقفها لتمام قيامه جاز إذا كانت طاهرة وإلا
فلا ا ه‍. وفي المحيط: لو صلى وفي يده حبل مشدود على عنق الكلب تجوز صلاته لأن
الحبل لما سقط على الأرض فقد انقطع حكم الاتصال به فصار كالعمامة الطويلة ا ه‍. وكذا
لو كان الحبل مشدودا في وسطه، وكذا لو كان مربوطا في سفينة فيها نجاسة، ومذهب
الشافعي أن الصلاة لا تصح في هذه المسائل لأنه حامل للنجاسة كما نقله النووي ولو صلى
ومعه جرو كلب أو كل ما لا يجوز أن يتوضأ بسؤره، قيل لم يجز والأصح أنه إن كان فمه
مفتوحا لم يجز لأن لعابه يسيل في كمه فيصير مبتلا بلعابه فيتنجس كمه فيمنع الجواز إن كان
أكثر من قدر الدرهم، وإن كان فمه مشدودا بحيث لا يصل لعابه إلى ثوبه جاز لأن ظاهر كل
حيوان طاهر، ولا ينجس إلا بالموت ونجاسة باطنه في معدنه فلا يظهر حكمها كنجاسة باطن
المصلي. ولو صلى وفي كمه قارورة مضمومة فيها بول لم تجز صلاته لأنه في غير معدنه
ومكانه، ولو صلى وفي كمه بيضة مذرة قد صار محها دما جازت لأنه في معدنه، والشئ ما
دام في معدنه لا يعطي له حكم النجاسة. الكل في المحيط. وأراد بالمكان موضع القدم
والسجود فقط، أما طهارة موضع القدم فباتفاق الروايات بشرط أن يضعهما على النجاسة،
أما إن رفع القدم التي موضعها نجس وصلى جاز. وإما طهارة موضع السجود ففي أصح
الروايتين عن أبي حنيفة وهو قولهما، وأما إن كانت النجاسة في موضع يديه وركبتيه وحذاء
إبطيه وصدره جازت صلاته لأن الوضع على النجاسة كلا وضع، والسجود على اليدين
والركبتين غير واجب فكأنه لم يسجد عليها وهذا ظاهر الرواية. واختار أبو الليث أن صلاته
تفسد وصححه في العيون. ولو صلى على مكان طاهر إلا أنه إذا سجد تقع ثيابه على أرض
465

نجسة جازت صلاته بالطريق الأولى لأن قيامه على مكان طاهر. ولو صلى على بساط وعلى
طرف منه نجاسة فالأصح أنه يجوز، كبيرا كان أو صغيرا، لأنه بمنزلة الأرض فلا يصير
مستعملا للنجاسة وهو بالطريق الأولى لأن النجاسة إذا كانت لا تمنع في موضع الركبتين
واليدين فههنا أولى. وفي الخلاصة: ولو بسط بساطا رقيقا على الموضع النجس، وصلى عليه،
إن كان البساط بحال يصلح ساتر للعورة تجوز الصلاة، وإن كانت رطبة فالقى عليها ثوبا
وصلى، إن كان ثوبا يمكن أن يجعل من عرضه ثوبا يجوز عند محمد، وإن كان لا يمكن لا
يجوز. وكذا لو ألقى عليها لبدا فصلى عليه يجوز. وقال الحلواني: لا يجوز حتى يلقي على هذا
الطرف الطرف الآخر فيصير بمنزلة ثوبين. وإن كانت النجاسة يابسة جازت يعني إذا كان
يصلح ساترا ا ه‍. ولو صلى على ما له بطانة متنجسة وهو قائم على ما يلي موضع النجاسة من
الطهارة، عن محمد يجوز. وعن أبي يوسف لا يجوز. وقيل جواب محمد في غير المضرب
فيكون حكمه حكم ثوبين، وجواب أبي يوسف في المضرب فحكمه حكم ثوب واحد فلا
خلاف بينهما. قال في التجنيس: والأصح أن المضرب على الخلاف ذكره الحلواني. ولو قام
على النجاسة وفي رجليه نعلان أو جوربان لم تجز صلاته لأنه قام على مكان نجس، ولو
افترش نعليه وقام عليهما جازت الصلاة بمنزلة ما لو بسط الثوب الطاهر على الأرض النجسة
وصلى عليه جاز. وفي المبسوط من كتاب التحري: يجوز لبس الثوب النجس لغير الصلاة
ولا يلزمه الاجتناب. وذكر في البغية تلخيص القنية خلافا فيه.
قوله: (وستر عورته) للاجماع على أنه فرض في الصلاة كما نقله غير واحد من أئمة
النقل إلى أن حدث بعض المالكية فخالف فيه كالقاضي إسماعيل وهو لا يجوز بعد تقرر
الاجماع. ويعضده قوله تعالى * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 31)
أي محلها. والمراد ما يواري عورته عند كل صلاة إطلاقا لاسم الحال على المحل في الأول
وعكسه في الثاني. وقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) (1) أي البالغة سميت
466

حائضا لأنها بلغت سن الحيض. والتقييد بالحائض يخرج التي دون البلوغ لما قال في المحيط:
مراهقة صلت بغير وضوء أو عريانة تؤمر بالإعادة، وإن صلت بغير قناع فصلاتها تامة
استحسانا لقوله عليه الصلاة والسلام لا تصلي حائض بغير قناع فلا يتناول غير الحائض،
ولان ستر عورة الرأس لما سقط بعذر الرق فبعذر الصبا أولى لأنه يسقط بعذر الصبا الخطاب
بالفرائض بخلاف غيره من الشرائط لا يسقط بعذر الصبا ا ه‍. قال أهل اللغة: سميت
العورة عورة لقبح ظهورها ولغض الابصار عنها، مأخوذة من العور وهو النقص والعيب
والقبح، ومنه عور العين والكلمة العوراء القبيحة. أطلق فيما يستر به فشمل ما يباح لبسه
وما لا يباح، فلو سترها بثوب حرير وصلى صحت وأثم كالصلاة في الأرض المغصوبة، ولو
لم يجد غيره يصلي فيه لا عريانا. وحد الستر أن لا يرى ما تحته حتى لو سترها بثوب رقيق
يصف ما تحته لا يجوز. وشمل ما إذا كان بحضرته أحد أو لم يكن حتى لو صلى في بيت
مظلم عريانا ولو ثوب طاهر لا يجوز إجماعا لأن الستر مشتمل على حق الله وحق العباد وإن
كان مراعى في الجملة بسبب استتاره عنهم فحق الله تعالى ليس كذلك. فإن قيل: الستر لا
يحجب عن الله تعالى لأنه سبحانه يرى المستور كما يرى المكشوف، أجيب بأنه يرى المكشوف
تاركا للأدب المستور متأدبا وهذا الأدب واجب مراعاة عند القدرة عليه. وإن صلى في الماء
عريانا إن كان كدرا صحت صلاته، وإن كان صافيا يمكن رؤية عورته لا تصح. كذا في
السراج الوهاج. وصورة الصلاة في الماء الصلاة على جنازة وإلا فلا يصح التصوير. وأراد
بسترها الستر عن غيره لا عن نفسه حتى لو رأى فرجه من زيقه أو كان بحيث يراه لو نظر
إليه فإنها صحيحة عند العامة وهو الصحيح كما في المحيط وغيره لكن في السراج الوهاج:
467

إذا صلى في قميص عليه بغير إزرار فعليه أن يزره لما روى عن سلمة بن الأكوع قال قلت: يا
رسول الله أصلي في قميص واحد فقال: زره عليك ولو بشوكة. والمستحب أن يصلي في
ثلاثة أثواب: قميص وإزار وعمامة. والمكروه أن يصلي في سروال واحد كذا في المحيط.
وبهذا علم أن لبس السراويل في الصلاة ليس بواجب لأن الستر من أسفل ليس بلازم بل
إنما يلزم من جوانبه وأعلاه، ولذا قال في منية المصلي: ومن صلى في قميص ليس له غيره
فلو نظر إنسان من تحته رأى عورته فهذا ليس بشئ. واعلم أن ستر العورة خارج الصلاة
بحضرة الناس واجب إجماعا إلا في مواضع، وفي الخلوة فيه خلاف والصحيح الوجوب إذا
لم يكن الانكشاف لغرض صحيح. كذا في شرح المنية.
قوله: (وهي من تحت سرته إلى تحت ركبته) أي ما بينهما فالسرة ليست بعورة والركبة
عورة فالغاية هنا لم تدخل تحت المغيا لما رواه الحاكم من غير تعقب ما بين السرة والركبة
عورة (1) ولرواية الدارقطني ما تحت السرة إلى الركبة عورة (1) ولرواية البيهقي الفخذ
عورة (2). وأما انكشاف فخذه صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر فلم يكن قصدا ولان الركبة ملتقى عظمي
الساق والفخذ والتمييز بينهما متعذر فاجتمع المحرم والمبيح فغلب المحرم احتياطا. كذا قالوا،
وقد يقال إن هذا يقتضي أن تكون السرة عورة كما هو رواية عن أبي حنيفة فإنه تعارض في
468

السرة المحرم والمبيح. وقد يجاب عنه بأنه لم يكن محرما لدليل اقتضاه وهو ما أخرج أحمد في
مسنده عن عمير بن إسحاق قال: كنت أمشي مع الحسن بن علي في بعض طرق المدينة فلقينا
أبو هريرة فقال للحسن: اكشف لي عن بطنك جعلت فداك حتى أقبل حيث رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله قال: فكشف عن بطنه فقبل سرته. كذا في شرح المنية. وكان محمد بن
الفضل يقول: من السرة إلى موضع نبات شعر العانة ليس بعورة لتعامل العمال في إبداء ذلك
الموضع عند الاتزار وفي ستره نوع حرج. وهذا القول ضعيف لأن التعامل بخلاف النص لا
يعتبر. كذا في السراج. وفي الظهيرية: وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ حتى
لو رأى رجل غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازعه إن لج، وإن رآه مكشوف
الفخذ ينكر عليه بعنف ولا يضر به إن لج، وإن رآه مكشوف السوأة أمره بستر العورة وأدبه
على ذلك إن لج ا ه‍. وهو يفيد أن لكل مسلم التعزير بالضرب فإنه لم يقيده بالقاضي،
وسيأتي إن شاء الله تعالى في بابه.
قوله: (وبدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها) لقول تعالى * (ولا يبدين زينتهن
إلا ما ظهر منها) * (النور: 31) قال ابن عباس: وجهها وكفيها وإن كان ابن مسعود فسره
بالثياب كما رواه إسماعيل القاضي من حديث ابن عباس مرفوعا بسند جيد، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى المحرمة عن لبس القفازين والنقاب ولو كانا عورة لما حرم سترهما. ولان الحاجة تدعوا
إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى ابراز الكف للاخذ والاعطاء فلم يجعل ذلك عورة. وعبر
بالكف دون اليد كما وقع في المحيط للدلالة على أنه مختص بالباطن وأن ظاهر الكف عورة
كما هو ظاهر الرواية. وفي مختلفات قاضيخان: ظاهر الكف وباطنه ليسا بعورة إلى الرسغ
ورجحه في شرح المنية بما أخرجه أبو داود في المراسيل عن قتادة مرفوعا أن المرأة إذا حاضت
لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل، ولان الظاهر أن إخراج الكف عن كونه
عورة معلول بالابتلاء بالابداء إذ كونه عورة مع هذا الابتلاء موجب للحرج وهو مدفوع
469

بالنص، وهذا الابتلاء كما هو متحقق في باطن الكف متحقق في ظاهره ا ه‍. والمذهب
خلافه. وللتنصيص على أن الذراع عورة وعن أبي يوسف ليس بعورة واختاره في الاختيار
للحاجة إلى كشفه للخدمة، ولأنه من الزينة الظاهرة وهو السوار. وصحح في المبسوط أنه
عورة وصحح بعضهم أنه عورة في الصلاة لا خارجها، والمذهب ما في المتون لأنه ظاهر
الرواية كما صرح به في شرح منية المصلي. واعلم أنه لا ملازمة بين كونه ليس بعورة وجواز
النظر إليه، فحل النظر منوط بعدم خشية الشهوة مع انتفاء العورة، ولذا حرم النظر إلى
وجهها ووجه الأمرد إذا شك في الشهوة ولا عورة. كذا في شرح المنية. قال مشايخنا: تمنع
المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة. وشمل كلامه الشعر المسترسل
وفيه روايتان. وفي المحيط: والأصح أنه عورة. وأما غسله في الجنابة فموضوع على
الصحيح. واستثنى المصنف القدم للابتلاء في إبدائه خصوصا الفقيرات وفيه اختلاف الرواية
عن أبي حنيفة والمشايخ، فصحح في الهداية وشرح الجامع الصغير لقاضيخان أنه ليس بعورة
واختاره في المحيط، وصحح الأقطع وقاضيخان في فتاواه على أنه عورة، واختاره الأسبيجابي
والمرغياني. وصحح صاحب الاختيار أنه ليس بعورة في الصلاة وعورة خارجها، ورجح في
شرح المنية كونه عورة مطلقا بأحاديث منها ما رواه أبو داود والحاكم عن أم سلمة أنها سألت
النبي صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: إذا كان الدرع سابغا يغطي
ظهور قدميها. ولظاهر الآية على ما تقدم من تفسيرها عن عائشة وابن عباس موقوفا
ومرفوعا. وصرح في النوازل بأن نغمة المرأة عورة وبنى عليه أن تعلمها القرآن من المرأة
أحب إلي من تعلمها من الأعمى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم التسبيح للرجال والتصفيق للنساء فلا
يجوز أن يسمعها الرجل. ومشى عليه المصنف في الكافي فقال: ولا تلبي جهرا لأن صوتها
عورة. ومشى عليه صاحب المحيط في باب الاذان، وفي فتح القدير: وعلى هذا لو قيل إذا
470

جهرت بالقرآن في الصلاة فسدت كان متجها ا ه‍. وفي شرح المنية: الأشبه أن صوتها ليس
بعورة وإنما يؤدي إلى الفتنة كما علل به صاحب الهداية وغيره في مسألة التلبية، ولعلهن إنما
منعن من رفع الصوت بالتسبيح في الصلاة لهذا المعنى، ولا يلزم من حرمة رفع صوتها
بحضرة الأجانب أن يكون عورة كما قدمناه. وفي الظهيرية: الصغيرة جدا لا تكون عورة
ولا بأس بالنظر إليها ومسها. وفي السراج الوهاج: وأما عورة الصبي والصبية فما داما لم
يشتهيا فالقبل والدبر ثم يتغلظ بعد ذلك إلى عشر سنين، ثم يكون كعورة البالغين لأن ذلك
زمان يمكن بلوغ المرأة فيه، وكل عضو هو عورة من المرأة إذا انفصل منها هل يجوز النظر
إليه؟ فيه روايتان: إحداهما يجوز كما يجوز النظر إلى ريقها ودمعها، والثانية لا يجوز وهو
الأصح، وكذا الذكر المقطوع من الرجل وشعر عانته إذا حلق والأصح أنه لا يجوز.
قوله: (وكشف ربع ساقها يمنع وكذا الشعر والبطن والفخذ والعورة الغليظة) لأن قليل
الانكشاف عفو عندنا للضرورة فإن ثياب الفقراء لا تخلو عن قليل خرق كالنجاسة القليلة
والكثير مفسد لعدمها فاعتبر الربع وأقيم مقام الكل احتياطا لأن للربع شبها بالكل كما في
حلق ربع الرأس فإنه يجب به الدم كما لو حلق كله، وأما ما وقع في الهداية من التشبيه
بمسح الرأس ففيه إشكال، فإنه لم يكن الواجب فيه مسح جميع الرأس لأن النص لم يتناول إلا
البعض. أما في الاحرام فالنص تناوله كله قال الله تعالى * (ولا تحلقوا رؤوسكم) * (البقرة:
196) فأقيم ربعه مقام كله. أطلق في الشعر فشمل ما على الرأس والمسترسل، وفي الثاني
خلاف وقد قدمنا أن الصحيح أنه عورة. وأراد بالغليظة القبل والدبر وما حولهما، والخفيفة
ما عدا ذلك من الرجل والمرأة. ونص على الغليظة. للرد على الكرخي القائل بأنه يعتبر في
الغليظة ما زاد على قدر الدرهم قياسا على النجاسة المغلظة قال المصنف في الكافي: وهذا
ليس بقوي لأنه قصد به التغليظ في الغليظة وهو في الحقيقة تخفيف لأنه اعتبر في الدبر أكثر
من قدر الدرهم والدبر لا يكون أكثر منه، فهذا يقتضي جواز الصلاة وإن كان الكل مكشوفا
وهو تناقض، وقد أجاب عنه في فتح القدير بأنه قد قيل الغليظة القبل والدبر مع ما حولهما
471

فيجوز كونه اعتبر ذلك فلا يرد عليه ما قالوه ا ه‍. وهو عجيب لأنه لا يفهم مما قيل إن
المجموع عضو واحد بل بيان العورة الغليظة، كيف وقد صرحوا بأن كلا من الذكر
والخصيتين عضو مستقل؟ وصححه في الهداية والخانية لأن كلا منهما يعتبر عضوا على حدته
في الدية فكذا هنا للاحتياط. وفي رواية أن الكل عضو واحد، وعلى كل تقدير لم يقل أحد
بأن القبل والدبر عضو واحد إلا أن يقال: إن مراده أن القبل مع ما حوله عضو، والدبر مع
ما حوله عضو. وأما الركبة مع الفخذ فالأصح أنهما عضو واحد. كذا في التنجيس، وهو
المختار كذا في الخلاصة، لأن الركبة ملتقى عظم الساق والفخذ فليست بعضو مستقل في
الحقيقة، وإنما جعلت عورة تبعا للفخذ احتياطا. فعلى هذا لو صلى وركبتاه مكشوفتان
والفخذ مغطى فإنه يجوز. كذا في المنية. وفي شرحها: والصحيح أن الكعب ليس بعضو
مستقل بل هو مع الساق عضو واحد، فعلى هذا إنما يمنع ربع الساق مع ربع الكعب أو
مقدار ربعهما. والدبر عضو واحد وكل ألية عضو واحد وهو الأصح، وكل أذن عضو على
حدة، وثدي المرأة إن كانت ناهدة فهي تبع لصدرها، وإن كانت منكسرة فهي أصل بنفسها.
والناهدة بمعنى النافرة من الصدر غير مسترخية. والثدي يذكر ويؤنث والتذكير أشهر ولم
يذكر في المغرب سوى التذكير. وما بين السرة والعانة عضو والمراد منه حول جميع البدن.
كذا في المحيط. وفي الزيادات: امرأة صلت فانكشف شئ من فخذها وشئ من ساقها
وشئ من صدرها وشئ من عورتها الغليظة ولو جمع بلغ ربع عضو صغير منها، لم تجر صلاتها
لأن جميع الأعضاء عند الانكشاف كعضو واحد فيجمع كالنجاسة المتفرقة في مواضع، والطيب
للمحرم في مواضع بخلاف الخروق كما قدمناه في المسح على الخفين. وذكر الشارح أنه ينبغي
472

أن يعتبر بالاجزاء وإلا يمنع القليل، فلو انكشف نصف ثمن الفخذ ونصف ثمن الاذن وذلك
يبلغ ربع الاذن أو أكثر لا ربع جميع العورة المنكشفة لا تبطل. وحاصله أنه ينظر إلى مجموع
الأعضاء المنكشفة بعضها وإلى مجموع المنكشف، فإن بلغ مجموع المنكشف ربع مجموع الأعضاء
منع وإلا فلا، وهو ظاهر كلام محمد في الزيادات في موضع آخر حيث قال: إذا صلت
وانكشف شئ من شعرها وشئ من ظهرها وشئ من فرجها إن كان بحال لو جمع بلغ
الربع منع وإلا فلا. ثم قال الزاهدي: ولم يذكر أنه بلغ ربع أصغرها أم أكبرها. وفي شرح
المجمع لابن الملك: اعلم أن انكشاف ما دون الربع معفو إذا كان في عضو واحد، وإن كان
في عضوين أو أكثر وجمع بلغ ربع أدنى عضو منها يمنع جواز الصلاة ا ه‍. وهو تفصيل لا
دليل عليه فإن الدليل اقتضى اعتبار الربع، سواء كان في عضو واحد أو عضوين. وأطلق في
المنع وهو مقيد بما إذا كان في الزمن الكثير لما في فتح القدير: الحاصل أن الانكشاف الكثير
في الزمن القليل لا يفسد، والانكشاف القليل في الزمن الكثير أيضا لا يفسد، والمفسد
الانكشاف الكثير في الزمن الكثير، وقدر الكثير ما يؤدي فيه ركن والقليل دونه، فلو
473

انكشف فغطاها في الحال لا تفسد إن لم يكن بفعله، وإن كان بفعله فسدت في الحال
عندهم. كذا في القنية وهو تقييد غريب. وهذا عند أبي يوسف، ومحمد اعتبر أداء الركن
حقيقة وعلى هذا الخلاف لو قام في صف النساء للازدحام أو قام على نجاسة مانعة. وإنما
عبر المصنف بالمنع دون الفساد ليشمل ما إذا أحرم مكشوف العورة فإنه مانع من الانعقاد وما
إذا انكشف بعد الاحرام فإنه يمنع صحتها، وحكم النجاسة المانعة كالانكشاف المانع. وتفرع
على ما ذكرنا ما في المحيط: أمة صلت بغير قناع فرعفت ثم أعتقت فتوضأت ثم تقنعت
وعادت إلى الصلاة جازت لأنها ما أدت شيئا من الصلاة مع كشف العورة، وإن عادت ثم
تقنعت فسدت لأنها أدت شيئا من الصلاة مع الكشف.
قوله: (والأمة كالرجل وظهرها وبطنها عورة) لأنها محل الشهوة دونه، وكل من الظهر
والبطن موضع مشتهى وما عدا هذه الجملة منها ليس بعورة، سواء كان رأسا أو كتفا أو ساقا
للحرج. وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب أمة متقنعة
وقال: اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر. ثم في توضيح المالكية: فإن قيل لم منع عمر الإماء
من التشبه بالحرائر؟ فجوابه أن السفهاء جرت عادتهم بالتعرض للاماء فخشي عمر أن يلتبس
الامر فيتعرض السفهاء للحرائر فتكون الفتنة أشد وهو معنى قوله عز وجل * (ذلك أدنى أن
يعرفن فلا يؤذين) * (الأحزاب: 59) أي يتميزن بعلامتهن عن غيرهن. وظاهره أنه يكره
للأمة ستر جميع بدنها ولا يخفى ما فيه. وعلى كل تقدير ينبغي أن يقال: يستحب لها ذلك في
الصلاة ولم أره لائمتنا بل هو منقول الشافعية كما ذكره النووي. والأمة في اللغة خلاف
الحرة كذا في الصحاح. فلهذا أطلقها ليشمل القنة والمدبرة والمكاتبة والمستسعاة وأم الولد.
وعندهما المستسعاة حرة، والمراد بالمستسعاة معتقة البعض، وأما المستسعاة المرهونة إذا أعتقها
الراهن وهو معسر فهي حرة اتفاقا. وقد وقع تردد في بعض الدروس في الجنب هل هو
474

عورة أو لا، فذكرت أنه عورة ثم رأيته في القنية قال: الجنب تبع البطن والأوجه أن ما يلي
البطن تبع له ا ه‍. ولو أعتقت وهي في الصلاة مكشوفة الرأس ونحوه فسترته بعمل قليل
قبل أداء ركن جازت لا بكثير أو بعد ركن. كذا في كثير من الكتب. وقيده الشارح بأن
تؤدي ركنا بعد العلم بالعتق فشرط علمها تبعا لما في الظهيرية. والمصرح به في المجتبى أنها
لو صلت شهرا بغير قناع ثم علمت بالعتق منذ شهر تعيدها. وفي فتاوى قاضيخان: إذا
انكشفت عورته وأدى ركنا معه فسدت، علم بذلك أو لم يعلم، وذكر نحوه مسائل كثيرة.
وهذان المنطوقان أوجه من ذلك المفهوم المخالف. وفي عدة الفتاوى: رجل مات بمكة فلزم
امرأة أن تعيد صلاة سنة فقل: هو رجل علق عتق جاريته بموته فمات بمكة وهي لم تعلم
بموته وصلت مكشوفة الرأس فإنها تعيد الصلاة من وقت موته ا ه‍. وفي المحيط: بخلاف
العاري إذا وجد الكسوة في خلال الصلاة فإنه يلزمه الاستقبال لأنه يلزمه الستر بسبب سابق
على الشروع وهو كشف العورة وهو متحقق قبل الصلاة، فلما توجه إليه الخطاب بالستر في
الصلاة استند إلى سببه فصار كأنه توجه إليه قبل الصلاة، وقد تركه بخلافها إذ العتق سبب
خطابها بالستر وقد وجد حالة الصلاة وقد سترت كما قدرت. وظاهره أنها لو كانت عاجزة
عن الستر فلم تستتر كالحرة لا تبطل صلاتها وهو مصرح به في شرح منية المصلي معزيا إلى
البدائع. وفي شرح السراج الوهاج: الخنثى إذا كان رقيقا فعورته عورة الأمة، وإن كان حرا
أمرناه أن يستر جميع بدنه لجواز أن يكون امرأة، فإن ستر ما بين سرته إلى ركبته وصلى قال
بعضهم تلزمه الإعادة لجواز أن يكون امرأة، وقال بعضهم لا تلزمه الإعادة لجواز أن يكون
رجلا. فرع حسن لم أره منقولا لائمتنا وهو مذكور في شرح المهذب: إذا قال لامته إن
صليت صلاة صحيحة فأنت حرة قبلها فصلت مكشوفة الرأس، إن كان في حال عجزها عن
ستره صحت صلاتها وعتقت، وإن كانت قادرة على الستر صحت صلاتها ولا تعتق، لأنها لو
475

عتقت لصارت حرة قبل الصلاة وحينئذ لا تصح صلاتها مكشوفة الرأس، وإذا لم تصح لا
تعتق، فإثبات العتق يؤدي إلى بطلانه وبطلان الصلاة فبطل وصحت الصلاة ا ه‍. وسيأتي في
الطلاق أن الراجح في مسألة الدور وهي إن طلقتك فأنت طالق ثلاثا قبله أن يلغو قوله
قبله وإذا طلقها وقع الثلاث كما في فتح القدير، فمقتضاه هنا أن يلغو قوله قبلها ويقع
العتق كما لا يخفى.
قوله: (ولو وجد ثوبا ربعه طاهر وصلى عاريا لم يجز) لأن ربع الشئ يقوم مقام كله
فيجعل كأن كله طاهر في موضع الضرورة فيفترض عليه الصلاة فيه، ولا يخفى أن محله ما
إذا لم يجد ما يزيل به النجاسة ولا ما يقللها، فإن وجد في الصورتين وجب استعماله بخلاف
ما إذا وجد ماء يكفي بعض أعضاء الوضوء فإنه يتيمم ولا يجب استعماله كما عرف في بابه،
وعلم حكم ما إذا كان الأكثر من الربع طاهرا بالأولى.
قوله (وخير إن طهر أقل من ربعه) يعني بين أن يصلي فيه وهو الأفضل لما فيه من
الاتيان بالركوع والسجود وستر العورة، وبين أن يصلي عريانا قاعدا يومي بالركوع والسجود
وهو يلي الأول في الفضل لما فيه من ستر العورة الغليظة، وبين أن يصلي قائما عريانا بركوع
وسجود وهو دونهما في الفضل. وفي ملتقى البحار: إن شاء صلى عريانا بالركوع والسجود
أو موميا بهما إما قاعدا وإما قائما. فهذا نص على جواز الايماء قائما. وظاهر الهداية أنه لا
يجوز. وعلى الأول المخير فيه أربعة أشياء، وينبغي أن يكون الرابع دون الثالث في الفضل
وإن كان ستر العورة فيه أكثر للاختلاف في صحته. وهذا كله عندهما، وعند محمد ليس
476

بمخير ولا تجوز صلاته إلا في الثوب لأن خطاب التطهير سقط عنه لعجزه ولم يسقط عنه
خطاب الستر لقدرته عليه فصار كالطاهر في حقه. ولهما أن المأمور به هو الستر بالطاهر فإذا
لم يقدر عليه سقط فيميل إلى أيهما شاء. ولو قال المصنف وخير إن طهر الأقل أو كان كله
نجسا لكان أفود إذا الحكم كذلك مذهبا وخلافا كما في النهاية وغيرها، أو اقتصر على الثاني
ليفهم منه الأول بالأولى لكان أولى. وفي الاسرار: قول محمد أحسن بخلاف ما لو لم يجد إلا
جلد ميتة غير مدبوغ فإنه لا يجوز أن يستر به عورته، ولم تجز صلاته فيه لأن نجاسة البول أو
الدم أو نحوهما في الثوب كله تزول بالماء، ونجاسة الجلد لا يزيلها الماء فكانت أغلظ. وأشار
المصنف إلى أنه لو كان معه ثوبان ربع أحدهما طاهر والآخر أقل من الربع، فإنه يصلي في
الذي ربعه طاهر ولا يجوز عكسه لما أن طهارة الربع كطهارة الكل. ويستفاد منه أن نجاسة
أحدهما لو كانت قدر الربع والآخر أقل وجب أن يصلي في أقلهما ولا يجوز عكسه لأن للربع
حكم الكل، ولما دون الربع حكم العدم وإلى أنه لو كان في كل واحد منهما قدر الربع أو
كان في أحدهما أكثر لكن لا يبلغ ثلاثة أرباعه وفي الآخر قدر الربع فإنه يصلي في أيهما شاء
لاستوائهما في الحكم. وكذا لو كان معه ثوبان نجاسة كل واحد منهما أكثر من قدر الدرهم
يتخير ما لم يبلغ أحدهما ربع الثوب لاستوائهما في المنع. وفي المحيط: ولو كان الدم في
ناحية من الثوب والطاهر منه بقدر ما يمكنه أن يتزر به لم يجز إلا أن يصلي فيه لأنه يمكنه ستر
العورة بثوب طاهر ولم يفصل بينهما إذا تحرك الطرف الآخر أو لم يتحرك ا ه‍. وبهذا علم أن
التفصيل المتقدم إنما هو عند الاختيار، أما عند الضرورة فلا تفصيل. ثم الأصل في جنس
هذه المسائل أن من ابتلي ببليتين وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء، وإن اختلفا فعليه أن يختار
أهونهما، ولهذا لو أن امرأة لو صلت قائمة ينكشف من عورتها ما يمنع جواز الصلاة، ولو
صلت قاعدة لا ينكشف منها شئ فإنها تصلي قاعدة لما أن ترك القيام أهون. ولو كان الثوب
يغطي جسدها وربع رأسها فتركت تغطية الرأس لا يجوز، ولو كان يغطي أقل من الربع لا
يضر والستر أفضل تقليلا للانكشاف. ولو كان جريح لو سجد سال جرحه وإن لم يسجد لم
477

يسل فإنه يصلي قاعدا موميا لأن ترك السجود أهون من الصلاة مع الحدث، ألا ترى أن ترك
السجود جائز حالة الاختيار في التطوع على الدابة، ومع الحدث لا يجوز بحال. فإن قام وقرأ
وركع ثم قعد وأومأ للسجود جاز لما قلنا والأول أفضل، وكذا شيخ لا يقدر على القراءة قائما
ويقدر عليها قاعدا يصلي قاعدا لأنه يجوز حالة الاختيار في النفل ويجوز ترك القراءة
بحال، ولو صلى في الفصلين قائما مع الحدث وترك القراءة لم يجز.
قوله: (ولو عدم ثوبا صلى قاعدا موميا بركوع وسجود وهو أفضل من القيام بركوع
وسجود) لما عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا في السفينة فانكسرت بهم فخرجوا
من البحر عراة فصلوا قعودا بإيماء. أراد بالثوب ما يستر عامة عورته ولو حريرا أو حشيشا
أو نباتا أو كلا أو طينا يلطخ به عورته ويبقى عليه حتى يصلي لا الزجاج الذي يصف ما
تحته. والعدم المذكور يثبت بعدم الوجود في ملكه وبعدم الإباحة له حتى لو أبيح له ثوب
تثبت القدرة به على الأصح، فلو صلى عاريا لم يجز كالمتيمم إذا أبيح له الماء. وعن محمد في
العريان يعده صاحبه أنه يعطيه الثوب إذا صلى فإنه ينتظره ولا يصلي عريانا وإن خاف فوت
الوقت. كذا في السراج الوهاج. وفي القنية عن أبي حنيفة: ينتظره ما لم يخف فوت الوقت
وأبو يوسف مع أبي حنيفة. وينبغي ترجيحه قياسا على المتيمم إذا كان يرجو الماء في آخره.
وأطلق في الصلاة قاعدا فشمل ما إذا كان نهارا أو ليلا في بيت أو صحراء وهو الصحيح
كما بينه في منية المصلي، ومن المشايخ من خصه بالنهار، أما في الليل فيصلي قائما لأن ظلمة
الليل تستر عورته. قال في الذخيرة: وهذا ليس بمرضي لأن الستر الذي يحصل في ظلمة
الليل لا عبرة به، ألا ترى أن حالة القدرة على الثوب إذا صلى عريانا في ظلمة الليل لا يجوز
فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ا ه‍. وتعقبه في شرح منية المصلي بأن الاستشهاد المذكور
غير متجه للفرق بين حالة الاختيار وحالة الاضطرار وأطال إلى أن قال: ويؤيده ما أخرجه
عبد الرزاق سئل علي رضي الله عنه عن صلاة العريان قال: إن كان حيث يراه الناس صلى
جالسا، وإن كان حيث لا يراه الناس صلى قائما. وهو وإن كان سنده ضعيفا فلا يقصر عن
إفادة الاستئناس. وأما واقعة الصحابة المتقدمة فقد تطرق إليها احتمالات، إما لأنهم اختاروا
الأولى لما فيه من تقليل الانكشاف أو لأنهم كانوا مترائين أو لم يكن ليلا فسقط بها الاستدلال،
ولم يبين المصنف صفة القعود للاختلاف فيها. ففي منية المصلي: يقعد كما يقعد في الصلاة.
فعلى هذا يختلف في الرجل والمرأة، فهو يفترش وهي تتورك. وفي الذخيرة: يقعد ويمد
478

رجليه إلى القبلة ويضع يديه على عورته الغليظة. والذي يظهر ترجيح الأول وأنه أولى لأنه
يحصل به من المبالغة في الستر ما لا يحصل بالهيئة المذكورة مع خلو هذه الهيئة عن فعل ما
ليس بأولى وهو مد رجليه إلى القبلة من غير ضرورة، والحاصل أن القعود على هيئة متعينة
ليس بمتعين بل يجوز كيفما كان، وإنما كان القعود أفضل من القيام لأن ستر العورة أهم من
أداء الأركان لأنه فرض مطلقا والأركان فرائض الصلاة لا غير وقد أتى ببدلها. وإنما كان
القيام جائزا لأنه وإن ترك فرض الستر فقد كمل الأركان الثلاثة وبه حاجة إلى تكميلها. كذا
في البدائع. ولقائل أن يقول: ينبغي على هذا أن لا يجوز الايماء قائما لأن تجويز ترك فرض
الستر إنما كان لأجل تكميل الأركان الثلاثة والمومئ بهما قائما لم يحرزهما على وجه الكمال
مع أن القيام إنما شرع لتحصيلهما على وجه الكمال على ما صرحوا به في صلاة المريض أنه
لو قدر على القيام دون الركوع والسجود أومأ قاعدا وسقط عنه القيام. وفي المبتغى بالمعجمة:
وإن كان عنده قطعة يستر بها أصغر العورات فلم يستر فسدت وإلا فلا. وفي فتح القدير:
ولو وجد ما يستر بعض العورة يجب استعماله ويستر القبل والدبر ا ه‍. فإن لم يجد ما يستر به
إلا أحدهما قيل يستر الدبر لأنه أفحش في حالة الركوع والسجود، وقيل يستر القبل لأنه
يستقبل به القبلة ولأنه لا يستر بغيره والدبر يستر بالاليتين ا ه‍. كذا في السراج الوهاج.
وسيأتي في باب الإمامة أن العراة لا يصلون جماعة. وفي الذخيرة: وأستر ما يكون أن يتباعد
بعضهم عن بعضهم إذا أمنوا العدو والسبع وإن صلوا جماعة صحت مع الكراهة. ويقف
الإمام وسطهم وإن تقدم جاز، ويغضون أبصارهم سوى الإمام. ثم المصنف رحمه الله لم
يذكر أن على العاري الإعادة إذا وجد ثوبا وقد أفاد النووي رحمه الله في شرح المهذب أنه لا
خلاف بين المسلمين أنه لا تجب عليه الإعادة إذا صلى عاريا للعجز عن السترة ا ه‍. وينبغي
أن تلزمه الإعادة عندنا إذا كان العجز لمنع من العباد كما إذا غصب ثوبه لما صرحوا به في
479

كتاب التيمم أن المنع من الماء إذا كان من قبل العباد يلزمه الإعادة. ثم أعلم أنه إذا كان عاريا
لا ثوب عليه وهو يقدر على شراء ثوب هل يلزمه شراؤه كالماء إذا كان يباع بثمن المثل وله
ثمنه فإنه لا يتيمم.
قوله: (والنية بلا فاصل) يعني من شروط الصلاة لاجماع المسلمين على ذلك كما نقله
ابن المنذر وغيره. وأما الاستدلال على اشتراطها بقوله تعالى * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله
مخلصين له الدين) * (البينة: 5) كمفعله السراج الهندي في شرح المغني فليس بظاهر لأن
الظاهر أن العبادة بمعنى التوحيد بدليل عطف الصلاة والزكاة عليها، وأما الاستدلال
بقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات كما في الهداية وغيرها فلا يصح لأن الأصوليين ذكروا أن
الحديث من قبيل ظني الثبوت والدلالة لأنه خبر واحد مشترك الدلالة فيفيد السنية
والاستحباب لا الافتراض، والنية إرادة الصلاة لله تعالى على الخلوص وقد قدمنا في الوضوء
الكلام عليها. وقول الشارح أن المصلي يحتاج إلى ثلاث نيات: نية الصلاة التي يدخل فيها،
ونية الاخلاص لله تعالى، ونية استقبال القبلة فيه نظر، بل المحتاج إليه نية واحدة وهي ما
ذكرناه. فقولنا على الخلوص يغني عن الثانية. وأما نية استقبال القبلة فليست شرطا على
الصحيح كما ذكره في المبسوط، سواء كان يصلي إلى المحراب أو في الصحراء، والمراد بقوله
بلا فاصل أي بين النية والتكبير الفاصل الأجنبي وهو عمل لا يليق في الصلاة كالأكل
والشرب لأن هذه الأفعال تبطل الصلاة فتبطل النية وشراء الحطب والكلام، وأما المشي
والوضوء فليس بأجنبي، ألا ترى أن من أحدث في صلاته له أن يفعل ذلك ولا يمنعه من
480

البناء. وبهذا علم أن الصلاة تجوز بنية متقدمة على الشروط إذا لم يفصل أجنبي كما صرحوا
به، فظاهر إطلاقهم يفيد أن النية قبل دخول الوقت صحيحة كالطهارة قبله لكن ذكر ابن
أمير حاج عن ابن هبيرة اشتراط دخول الوقت للنية المتقدمة عن أبي حنيفة وهو مشكل وفي
ثبوته تردد لا يخفى لعدم وجوده في كتب المذهب، وفي الظهيرية: وعند محمد يجوز تقديم
النية في العبادات: هو الصحيح، وعند أبي يوسف لا يجوز إلا في الصوم ا ه‍. وفي منية
المصلي: والأحوط أن ينوي مقارنا للتكبير ومخالطا له كما هو مذهب الشافعي ا ه‍. وبه قال
الطحاوي لكن عندنا هذا الاحتياط مستحب وليس بشرط، وعند الشافعي شرط لأن الحاجة
إلى النية لتحقق معنى الاخلاص وذلك عند الشروع لا قبله. قلنا: النص مطلق فلا يجوز
تخصيصه بالرأي على أن قوله صلى الله عليه وسلم وإنما لكل امرئ ما نوى يفيد أنه يكون له ما نوى إذا
تقدمت النية، فالقول بأنه لا يكون له ما نوى خلاف النص، ولان اشتراط القران لا يخلو
عن الحرج مع ما في التزامه من فتح باب الوسواس فلا يشترط كما في الصوم والزكاة
والحج، حتى لو خرج من بيته يريد الحج فأحرم ولم تحضره النية جاز. ثم فسر النووي القران
بأن يأتي بالنية مع أول التكبير ويستصحبها إلى آخره، وذكر في شرح المهذب أنه لا يجب
التدقيق في تحقيق المقارنة وأنه يكفي المقارنة العرفية في ذلك بحيث يعد مستحضرا لصلاته
غير غافل عنها اقتداء بالسلف الصالحين في مسامحتهم في ذلك. وأشار المصنف إلى أنها لا
تجوز بنية متأخرة خلافا للكرخي قياسا على الصوم وهو فاسد، لأن سقوط القران لمكان
الحرج والحرج يندفع بتقديم النية فلا ضرورة إلى التأخير، وجوز التأخير في الصوم للحرج.
وبهذا علم أن ما في خزانة الفتاوى والعتابي نسي النية فنوى عند قوله ولا إله غيرك يصير
شارعا مبني على قول الكرخي على تخريج بعض المشايخ أنه يجوز إلى انتهاء الثناء، وقيل إلى
أن يركع وهو مروي عن محمد. كذا في المجتبى. وقيل إلى أن يرفع رأسه من الركوع، وقيل
إلى التعوذ. وفي البدائع: لو نوى بعد قوله الله قبل أكبر لا يجوز لأن الشروع يصح
481

بقوله الله فكأنه نوى بعد التكبير. وجعله في المحيط مذهب أبي حنيفة وسيأتي إن شاء الله
تعالى.
قوله: (والشرط أن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي) أي الشرط في اعتبارها علمه أي صلاة
يصلي أي التمييز فالنية هي الإرادة للفعل، وشرطها التعيين للفرائض. كذا في فتح القدير
وفيه بحث، لأنه لو كان مرادهم من هذا الشرط اشتراط التعيين للفرائض لكان تكرارا إذا
قالوا بعده وللفرض شرط تعيينه. وفي شرح المجمع لابن الملك: المراد أن من قصد صلاة
فعلم أنها ظهر أو عصر أو نفل أو قضاء يكون ذلك نية له فلا يحتاج إلى نية أخرى للتعيين إذا
أوصلها بالتحريمة ا ه‍. وفيه نظر لأن النفل لا يشترط علمه، والحق أنهم إنما ذكروا العلم
بالقلب لإفادة أن النية إنما هي عمل القلب وأنه لا يعتبر باللسان لا أنه شرط زائد على أصل
النية واشتراط التعيين. وأما قول الشارح وأدناه أن يصير بحيث لو سئل عنها أمكنه أن يجيب
482

من غير فكر وعزاه في منية المصلي إلى الأجناس فإنما هو قول محمد بن سلمة كما ذكره في
البدائع والخانية والخلاصة. وإلا فالمذهب أنها تجوز بنية متقدمة على الشروع بشرطه المتقدم،
سواء كان بحيث يقدر على الجواب من غير تفكر أو لا، ولهذا قال في الخانية والخلاصة:
ولو نوى قبل الشروع، فعن محمد أنه لو نوى عند الوضوء أن يصلي الظهر أو العصر مع
الإمام ولم يشتغل بعد النية بما ليس من جنس الصلاة إلا أنه لما انتهى إلى مكان الصلاة لم
تحضره النية جازت صلاته بتلك النية، وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي
البدائع. وقد روي عن أبي يوسف فيمن خرج من منزله يريد الفرض في الجماعة فلما انتهى
إلى الإمام كبر ولم تحضره النية في تلك الساعة أنه يجوز. قال الكرخي: ولا أعلم أن أحدا من
علمائنا خالف أبا يوسف في ذلك ا ه‍. وهو يفيد أنه يكفي تقدم أصل النية. ونية التعيين
للفرائض ولا يشترط المقارنة ولا الاستحضار لما نواه في أثنائها، بل كلام محمد بن سلمة
يقتضي أنه لا يكفي مقارنة النية للتكبير بل لا بد من الاستحضار لها إلى آخر الصلاة لأنه
قال: لو احتاج إلى تفكر بعد السؤال لا تصح صلاته، وقد أجمع العلماء على أنه لو نوى بقلبه
ولم يتكلم فإنه يجوز كما حكاه غير واحد. فما في الخانية وعند الشافعي لا بد من الذكر
باللسان مردود. وقد اختلف كلام المشايخ في التلفظ باللسان فذكر في منية المصلي أنه
مستحب وهو المختار وصححه في المجتبى. وفي الهداية والكافي والتبيين أنه يحسن لاجتماع
عزيمته، وفي الاختيار معزيا إلى محمد بن الحسن أن سنة، وهكذا في المحيط والبدائع. وفي
القنية: إنه بدعة إلا أن لا يمكنه إقامتها في القلب إلا بإجرائها على اللسان فحينئذ يباح.
ونقل عن بعضهم أن السنة الاقتصار على نية القلب فإن عبر عنه بلسانه جاز. ونقل في شرح
المنية عن بعضهم الكراهة، وطاهر ما في فتح القدير اختيار أنه بدعة فإنه قال قال بعض
الحفاظ: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق صحيح ولا ضعيف أنه كان يقول عند
الافتتاح أصلي كذا، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين بل المنقول أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى
الصلاة كبر وهذه بدعة ا ه‍. وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته أنه لا يحسن لغير
هذا القصد وهذا لأن الانسان قد يغلب عليه تفرق خاطره فإذا ذكر بلسانه كان عونا على
جمعه. ثم رأيته في التنجيس قال: والنية بالقلب لأنه عمله والتكلم لا معتبر به، ومن اختاره
483

اختاره لتجتمع عزيمته ا ه‍. وزاد في شرح المنية أنه لم ينقل عن الأئمة الأربعة أيضا فتحرر
من هذا أنه بدعة حسنة عند قصد جمع العزيمة، وقد استفاض ظهور العمل بذلك في كثير
من الاعصار في عامة الأمصار، فلعل القائل بالسنية أراد بها الطريقة الحسنة لا طريقة
النبي صلى الله عليه وسلم. بقي الكلام في كيفية التلفظ بها، ففي المحيط: ينبغي أن يقول اللهم أني أريد
صلاة كذا فيسرها لي وتقبلها مني. وهكذا في البدائع والحاوي. وفي القنية: إذا أراد النفل
أو السنة يقول اللهم إني أريد الصلاة فيسرها لي وتقبلها مني. وفي الفرض: اللهم أني أريد
أن أصلي فرض الوقت أو فرض كذا فيسره لي وتقبله مني. وفي صلاة الجنازة اللهم أني أريد
أن أصلي لك وأدعوا لهذا الميت فيسره لي وتقبله مني. والمقتدي يقول اللهم أني أريد أن أصلي
فرض الوقت متابعا لهذا الإمام فيسره لي وتقبله مني ا ه‍. وهذا كله يفيد أن التلفظ بها يكون
بهذه العبارة لا بنحو نويت أو أنوي كما عليه عامة المتلفظين بالنية من عامي وغيره، ولا
يخفى أن سؤال التوفيق والقبول شئ آخر غير التلفظ بها على أنه قد ذكر غير واحد من
مشايخنا في وجه ما ذكره محمد في كتاب الحج أن الحج لما كان مما يمتد ويقع فيه العوارض
والموانع وهو عبادة عظيمة تحصل بأفعال شاقة استحب طلب التيسير والتسهيل من الله تعالى
ولم يشرع مثل هذا الدعاء في الصلاة لأن أداءها في وقت يسير ا ه‍. وهو صريح في نفي
قياس الصلاة على الحج. وفي المجتبى: من عجز من احضار القلب في النية يكفيه اللسان
ا ه‍. وظاهره أن فعل اللسان يكون بدلا عن فعل القلب، ومن المعلوم أن نصب الابدال
بالرأي لا يجوز في القنية: عزم على صلاة الظهر وجرى على لسانه نويت صلاة العصر يجزئه.
قوله: (ويكفيه مطلق النية للنفل والسنة والتراويح) أما في النفل فمتفق عليه لأن مطلق
اسم الصلاة ينصرف إلى النفل لأنه الأدنى فهو متيقن والزيادة مشكوك فيها، ولا فرق بين أن
ينوي الصلاة أو الصلاة لله لأن المصلي لا يصلي لغير الله. وأما في السنة والتراويح فظاهر
الرواية ما في الكتاب كما في الذخيرة والتجنيس وجعله في الهداية هو الصحيح. وفي
المحيط: إنه قول عامة المشايخ وفي منية المفتي وخزانة الفتاوى: إنه المختار، ورجحه في فتح
القدير ونسبه إلى المحققين بأن معنى السنة كون النافلة مواظبا عليها من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفريضة
484

المعينة أو قبلها، فإذا أوقع المصلي النافلة في ذلك المحل صدق عليه أنه فعل الفعل المسمى
سنة. فالحاصل أن وصف السنة يحصل بنفس الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم وهو إنما كان يفعل على
ما سمعت فإنه لم يكن ينوي السنة بل الصلاة لله تعالى، فعل أن وصف السنة ثبت بعد فعله
على ذلك الوجه تسمية منا بفعله المخصوص لا أنه وصف يتوقف حصوله على نيته. وذكر
قاضيخان في فتاواه في فصل التراويح اختلاف المشايخ في السنن والتراويح، والصحيح أنها
لا تتأدى بنية الصلاة وبنية التطوع لأنها صلاة مخصوصة فتجب مراعاة الصفة للخروج عن
العهدة، وذلك بأن ينوي السنة أو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يحتاج لكل شفع من التراويح أن
ينوي ويعين؟ قال بعضهم يحتاج لأن كل شفع صلاة، والأصح أنه لا يحتاج لأن الكل بمنزلة
صلاة واحدة ا ه‍. فقد اختلف التصحيح فلذا قال في منية المصلي: والاحتياط في التراويح
أن ينوي التراويح أو سنة الوقت أو قيام الليل وفي السنة ينوي السنة ا ه‍. أطلق المصنف في
السنة فشمل سنة الفجر حتى لو صلى ركعتين تهجدا ثم تبين أنه صلاهما بعد طلوع الفجر
أجزأتا عن السنة. وفي آخر العمدة للصدر الشهيد: إذا صلى أربع ركعات تطوعا قبل الفجر
فوقع ركعتان بعد الطلوع يحتسب من ركعتي الفجر ا ه‍. وفي الخلاصة: وبه يفتى وفيه نظر
لأن السنة إنما تكون بتحريمة مبتدأة بعد الطلوع ولم تحصل، وقد قالوا في سجود السهو: إنه
لو قام إلى الخامسة بعد القعود على رأس الرابعة ساهيا فإنه يضم السادسة ولا ينوبان عن سنة
الظهر لما قلنا، فكذا في سنة الفجر، اللهم إلا أن يقال: لما كان التنفل مكروها في الفجر
جعلناهما سنة بخلافه في الظهر. ولا يخفى أن الأربع التي تصلى بعد الجمعة على أنها آخر
ظهر عليه للشك في الجمعة إذا تبين صحة الجمعة فإنها تنوب عن سنتها على قول الجمهور
لأنه يلغو الوصف ويبقى الأصل، وبه تتأدى السنة وعلى قول البعض لا تنوب لاشتراط
التعيين.
قوله: (وللفرض شرط تعيينه كالعصر مثلا) لاختلاف الفروض فلا بد من التعيين
لقوله عليه الصلاة والسلام وإنما لكل امرئ ما نوى. أطلقه فشمل ما إذا قرن باليوم كعصر
اليوم، سواء خرج الوقت أو لا، لأن غايته أنه قضاء بنية الأداء وهو جائز على الصحيح،
يدل على هذا مسألة الأسير إذا اشتبه عليه رمضان فتحرى شهرا وصام فوقع صومه بعد
رمضان وهذا قضاء بنية الأداء. كذا في الظهيرية. وشمل ما إذا قرن بالوقت كعصر الوقت
أو فرض الوقت وقيدهما في فتح القدير بعدم خروج الوقت فإن خرج ونسيه لا يجزئه في
الصحيح، وجعل هذا القيد الشارح قيدا في فرض الوقت فقط معللا بأن فرض الوقت في
485

هذه الحالة غير الظهر فينبغي أن تكون نية عصر الوقت صحيحة وإن خرج الوقت ويكون
الوقت كاليوم كما لا يخفى. ويستثنى من فرض الوقت الجمعة فإنها بدل فرض الوقت لا
نفسه فلا تصح الجمعة بنية فرض الوقت إلا أن يكون اعتقاده أنها فرض الوقت. وشمل ما
486

إذا نوى العصر بلا قيد وفيه خلاف، ففي الظهيرية: لو نوى الظهر لا يجوز لأن هذا الوقت
كما يقبل ظهر هذا اليوم يقبل ظهر آخر. وقيل: يجوز وهو الصحيح لأن الوقت متعين له.
هذا إذا كان مؤديا، فإن كان قاضيا، فإن صلى بعد خروج الوقت وهو لا يعلم بخروج
487

الوقت فنوى الظهر لا يجوز أيضا. وذكر شمس الأئمة: ينوي صلاة عليه، فإن كانت وقتية
فهي عليه، وإن كانت قضاء فهي عليه أيضا ا ه‍. وهكذا صححه في فتح القدير معزيا إلى
فتاوى العتابي لكن جزم في الخلاصة بعدم الجواز، وصححه السراج الهندي في شرح المغني
فاختلف التصحيح كما ترى. وينبغي في مسألة شمس الأئمة أن لا يكون عليه صلاة غيرها
وإلا فلا تعيين، وأفاد أنه لو نوى شيئين فإنه لا يصح، فلو نوى فائتة ووقتية كما إذا فاتته
الظهر فنوى في وقت العصر الظهر والعصر فإنه لا يصير شارعا في واحدة منهما. وفي منية
488

المصلي: ولو نوى مكتوبتين فهي التي دخل وقتها، وعلل له في المحيط بأن الوقتية واجبة
للحال وغيرها لا ا ه‍. وهو يفيد أنه ليس بصاحب ترتيب وإلا فالفائتة أولى كما لا يخفى.
وفي المنية أيضا: ولو نوى فائتة ووقتية فهي للفائتة إلا أن يكون في آخر وقت الوقتية ا ه‍.
وهو مخالف للأول.
وأفاد في الظهيرية أن فيها روايتين، ولو جمع بين مكتوبتين فائتتين فمقتضاه أنه لا يصح
لكن في الخلاصة أنه يكون للأولى منهما، وأقره في فتح القدير، وعلل له في المحيط بأن
الثانية لا تجوز إلا بعد قضاء الأولى وهو إنما يتم فيما إذا كان الترتيب بينهما واجبا. ولو نوى
الفرض والتطوع جاز عن الفرض عند أبي يوسف لأن الفرض أقوى من النفل فلا يعارضه
489

فتلغو نية النفل وتبقى نية الفرض. وقال محمد: لا يكون داخلا في الصلاة أصلا لتعارض
الوصفين ولو نوى الظهر والجمعة جميعا بعضهم جوزوا ذلك ورجحوا نية الجمعة بحكم
الاقتداء. ولو نوى مكتوبة وصلاة جنازة فهي عن المكتوبة، ولو نوى نافلة وصلاة جنازة فهي
نافلة كذا في الظهيرية. وأطلق نية التعيين فشمل الفوائت أيضا فلذا قال في الظهيرية: ولو
كانت الفوائت كثيرة فاشتغل بالقضاء يحتاج إلى تعيين الظهر أو العصر وينوي أيضا ظهر يوم
كذا، فإن أراد تسهيل الامر ينوي أول ظهر عليه أو آخر ظهر عليه، فرق بين الصلاة والصوم
ففي الصوم لو كان عليه قضاء يومين فقضى يوما ولم يعين جاز لأن في الصوم السبب واحد
وهو الشهر فكان الواجب عليه إكمال العدد، أما في الصلاة فالسبب مختلف وهو الوقت
وباختلاف السبب يختلف الواجب فلا بد من التعيين حتى لو كان عليه قضاء يومين من
رمضانين يحتاج إلى التعيين ا ه‍.
ويتفرع على اشتراط التعيين للفرائض ما قاله أبو حنيفة رحمه الله في رجل فاتته صلاة
من يوم واشتبهت أنها أية صلاة، فإنه يصلي صلاة كل اليوم حتى يخرج عما عليه، ويتفرع
أيضا ما في الظهيرية: رجل لم يعرف أن الصلاة الخمس فرض على العباد إلا أنه كان يصليها
في مواقيتها لا يجوز وعليه قضاؤها لأنه لم ينو الفرض، وكذا إذا علم أن منها فريضة ومنها
سنة لكن لم يعلم الفريضة من السنة، فإن نوى الفريضة في الكل جاز. وإن كان لا يعلم أن
بعضها فريضة وبعضها سنة فصلى مع الإمام ونوى صلاة الإمام جازت، فإن كان يعلم
الفرائض من السنن لكن لا يعلم ما في الصلاة من الفرائض والسنن جازت صلاته أيضا.
فإن أم هذا الرجل غيره وهو لا يعلم الفرائض من النوافل فصلى ونوى الفرض في الكل
جازت صلاته، أما صلاة القوم فكل صلاة ليست لها سنة قبلها كصلاة العصر والمغرب
والعشاء يجوز أيضا، وكل صلاة قبلها سنة مثلها كصلاة الفجر والظهر لا تجوز صلاة القوم
490

ا ه‍. وأراد المصنف بالفرض الفرض العملي فيشمل الواجب فيدخل فيه قضاء ما شرع فيه من
النفل ثم أفسده، والنذر والوتر وصلاة العيدين وركعتي الطواف فلا بد من التعيين لاسقاط
الواجب عنه. وقالوا: إنه لا ينوي فيه أنه واجب للاختلاف فيه. وفي القنية من سجود
التلاوة: لا تجب نية التعيين في السجدات ا ه‍. وأما نية التعيين لسجدة التلاوة فلا بد منه
لدفع المزاحم من سجدة الشكر والسهو. وأراد باشتراط التعيين وجوده عند الشروع فقط
حتى لو نوى فرضا وشرع فيه ثم نسي فظنه تطوعا فأتمه على أنه تطوع فهو فرض مسقط لأن
النية المعتبرة إنما يشترط قرانها بالجزء الأول، ومثله إذا شرع بنية التطوع فأتمها على ظن
المكتوبة فهي تطوع بخلاف ما لو كبر حين شك ينوي التطوع في الأول أو المكتوبة في الثاني
حيث يصير خارجا إلى ما نوى ثانيا لقران النية بالتكبير، وسيأتي في المفسدات. وقد علم مما
ذكره أنه لا بد من قطع النية لصحة المنوي، فلو ردد لا يصح وهو ظاهر. وقيد بنية التعيين
لأن نية عدد الركعات ليست بشرط في الفرض والواجب لأن قصد التعيين مغن عنه. ولو
نوى الظهر ثلاثا والفجر أربعا جاز، وقد علم مما قدمناه من أنه لا معتبر باللسان أنه لو نوى
الظهر وتلفظ بالعصر فإنه يكون شارعا في الظهر كما صرحوا به.
قوله: (والمقتدي ينوي المتابعة أيضا) لأنه يلزمه الفساد من جهة إمامه فلا بد من
التزامه، والأفضل أن ينوي الاقتداء عند افتتاح الإمام، وقول الشارح الأفضل أن ينوي بعد
تكبير الإمام فيه بحث لأنه يلزم منه أن يكون تكبير المقتدي بعد تكبير الإمام لأن التكبير
إما مقارن بالنية أو متأخر عنه، وسيأتي أن الأفضل أن يكبر القوم مع الإمام. ذكره
منلاخسرو في شرحه. وقد يقال: إنه مبني على قولهما. ولو نواه حين وقف الإمام موقف
491

الإمامة جاز عند عامة المشايخ، وقيل لا يجوز لأنه نوى الاقتداء بغير المصلي، فإن نوى حين
وقف عالما بأنه لم يشرع جاز، وإن نواه على ظن أنه شرع فيه ولم يشرع بعد. قال بعضهم: لا
يجوز كذا في الظهيرية مقتصرا عليه وأشار بقوله أيضا إلى أنه لا بد للمقتدي من ثلاث
نيات: أصل الصلاة ونية التعيين ونية الاقتداء. وإن نية الاقتداء لا تكفيه عن التعيين حتى لو
نوى الاقتداء بالإمام أو الشروع في صلاة الإمام ولم يعين الصلاة فإنه لا يجوز وهو قول
البعض، والأصح الجواز كما نقله الشارح وغيره، وينصرف إلى صلاة الإمام وإن لم يكن
للمقتدي علم بها لأنه جعل نفسه تبعا لصلاة الإمام، فلو أسقط قوله أيضا لكان أولى
بخلاف ما إذا نوى صلاة الإمام ولم ينو الاقتداء حيث لا يجزئه لأنه تعيين لصلاة الإمام وليس
باقتداء به. ونظيره ما لو انتظر تكبير الإمام ثم كبر بعده فإنه لا يكفيه عن نية الاقتداء لأنه
متردد قد يكون بحكم العادة وقد يكون لقصد الاقتداء فلا يصير مقتديا بالشك خلافا لما
ذهب إليه بعض المشايخ من أنه يكفيه عن نية الاقتداء. ورده في البدائع وغيره. وأطلق في
اشتراط نية المتابعة فشمل الجمعة لكن في الذخيرة وفتاوى قاضيخان: لو نوى الجمعة ولم ينو
الاقتداء بالإمام فإنه يجوز لأن الجمعة لا تكون إلا مع الإمام. وذكره في منية المصلي معزيا إلى
البعض. وأفاد أن تعيين الإمام ليس بشرط في حصة الاقتداء، فلو نوى الاقتداء بالإمام وهو
يظن أنه زيد فإذا هو عمرو يصح إلا إذا نوى الاقتداء بزيد فإذا هو عمرو فإنه لا يصح لأن
العبرة لما نوى. ولو كان يرى شخصه فنوى الاقتداء بهذا الإمام الذي هو زيد فإذا هو خلافه
جاز لأنه عرفه بالإشارة فلغت التسمية. ومثل ما ذكرنا في الخطأ في تعيين الميت فعند الكثرة
ينوي الميت الذي يصلي عليه الإمام. وفي عدة الفتاوي: ولو قال اقتديت بهذا الشيخ وهو
شاب صح لأن الشاب يدعي شيخا للتعظيم، ولو قال اقتديت بهذا الشاب فإذا هو شيخ لم
492

يصح ا ه‍. وفي الظهيرية: وينبغي للمقتدي أن لا يعين الإمام عند كثرة القوم ولا يعين
الميت. وقيد بالمقتدي لأن الإمام لا يشترط في صحة اقتداء الرجال نية الإمامة لأنه منفرد في
حق نفسه، ألا ترى أنه لو حلف أن لا يؤم أحدا فصلى ونوى أن لا يؤم أحدا فصلى خلفه
جماعة لم يحنث لأن شرط الحنث أن يقصد الإمامة ولم يوجد، بخلاف ما لو حلف أن لا يؤم
فلانا لرجل بعينه فصلى ونوى أن يؤم الناس فصلى ذلك الرجل مع الناس خلفه فإنه يحنث
وإن لم يعلم به لأنه لما نوى الناس دخل فيه هذا الرجل. وأما في حق النساء فإنه لا يصح
اقتداؤهن إذا لم ينو إمامتهن لأن في تصحيحه بلا نية إلزاما عليه بفساد صلاته إذا حاذته من
غير التزام منه وهو منتف. وخالف في هذا العموم بعضهم فقالوا: يصح اقتداء النساء وإن لم
ينو الإمام إمامتهن في صلاة الجمعة والعيدين، وصححه صاحب الخلاصة. والجمهور على
اشتراطها في حقهن لما ذكرناه. وأما صلاة الجنازة فلا يشترط في صحة اقتدائها به فيها نية
إمامتها بالاجماع. كذا في الخلاصة.
قوله: (وللجنازة ينوي الصلاة لله والدعاء للميت) لأنه الواجب عليه فيجب تعيينه
وإخلاصه لله تعالى فلا ينوي الدعاء للميت فقط نظرا إلى أنها ليست بصلاة حقيقة فإن مطلق
الدعاء لا يحتاج إلى نية. قوله: (واستقبال القبلة) يعني من شروطها استقبال القبلة عند
القدرة، وهو استفعال من قبلت الماشية الوادي بمعنى قابلته، وليس السين فيه للطلب لأن
طلب المقابلة ليس هو الشرط بل الشرط المقصود بالذات المقابلة فهو بمعنى فعل كاستمر
واستقر. والقبلة في الأصل الحالة التي يقابل الشئ عليها غيره كالجلسة للحالة التي يجلس
عليها، والآن قد صارت كالعلم للجهة التي تستقبل في الصلاة. وسميت بذلك لأن الناس
يقابلونها في صلاتهم وتقابلهم، وهو شرط بالكتاب لقوله تعالى * (فول وجهك شطر المسجد
الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * (البقرة: 144) واختلف في المراد بالمسجد هنا،
فقيل المسجد الكبير الذي فيه الكعبة لأن عين الكعبة يصعب استقبالها لصغرها، وقيل الحرم كله
لأنه قد يطلق ويراد به الحرم كما في قوله * (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) *
493

(الاسراء: 1) والصحيح كما ذكره الإمام نجم الدين في تفسيره والنووي في شرح المهذب
أن المراد به الكعبة فهي القبلة كما يدل عليه عامة الأحاديث ومنها ما في صحيح مسلم عن
البراء صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ثم
صرفنا نحو الكعبة. والنكتة في ذكر المسجد الحرام وإرادة الكعبة كما في الكشاف وحواشيه
الدلالة على أن الواجب في حق الغائب هو الجهة. وبالسنة كثير منها قوله صلى الله عليه وسلم للمسئ
صلاته إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة وكبر رواه مسلم. وانعقد
494

الاجماع عليه. وفي عدة الفتاوى: الكعبة إذا رفعت عن مكانها لزيارة أصحاب الكرامة ففي
تلك الحالة جازت صلاة المتوجهين إلى أرضها قوله: (فللمكي فرضه إصابة عينها) أي عين
القبلة بمعنى الكعبة للقدرة على اليقين. أطلق في المكي فشمل من كان بمعاينتها ومن لم يكن
حتى لو صلى مكي في بيته ينبغي أن يصلي بحيث لو أزيلت الجدران يقع استقباله على شطر
الكعبة بخلاف الآفاقي فإنه لو أزيلت الموانع لا يشترط أن يقع استقباله على عين الكعبة لا
محالة. كذا في الكافي وهو ضعيف. قال في الدراية: من كان بينه وبين الكعبة حائل الأصح
أنه كالغائب، ولو كان الحائل أصليا كالجبل كان له أن يجتهد والأولى أن يصعده ليصل إلى
اليقين. وفي التجنيس: من كان بمعاينة الكعبة فالشرط إصابة عينها، ومن لم يكن بمعاينتها
فالشرط إصابة جهتها وهو المختار. وفي فتح القدير: وعندي في جواز التحري مع إمكان
صعوده إشكال لأن المصير إلى الدليل الظني وترك القاطع مع إمكانه لا يجوز. وما أقرب قوله
في الكتاب: والاستخبار فوق التحري فإذا امتنع المصير إلى الظني لامكان ظني أقوى منه
فكيف يترك اليقين مع إمكانه للظن؟
قوله: (ولغيره إصابة جهتها) أي لغير المكي فرضه إصابة جهتها وهو الجانب الذي إذا
توجه إليه الشخص يكون مسامتا للكعبة أو لهوائها، إما تحقيقا بمعنى أنه لو فرض خط من
تلقاء وجهه على زاوية قائمة إلى الأفق يكون مارا على الكعبة أو هوائها، وإما تقريبا بمعنى أن
يكون ذلك منحرفا عن الكعبة أو هوائها انحرافا لا تزول به المقابلة بالكلية بأن بقي شئ من
495

سطح الوجه مسامتا لها، لأن المقابلة إذا وقعت في مسافة بعيدة لا تزول بما تزول به من
الانحراف لو كانت في مسافة قريبة، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت البعد وتبقى المسامتة مع
انتقال مناسب لذلك البعد، فلو فرض مثلا خط من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق
في بعض البلاد وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل وشماله لا
تزول تلك المقابلة بالانتقال إلى اليمين والشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة، ولهذا وضع
العلماء قبله بلد وبلدين وبلاد على سمت واحد. وفي فتاوى قاضيخان: وجهة الكعبة تعرف
بالدليل والدليل في الأمصار والقرى المحاريب التي نصبها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم
أجمعين، فعلينا اتباعهم في استقبال المحاريب المنصوبة، فإن لم يكن فالسؤال من الأهل. أما
البحار والمفاوز فدليل القبلة النجوم إلى آخره.
وفي المبتغى: في معرفة الجهة أربعة أوجه: أحدها في أقصر يوم من السنة وقت طلوع
الشمس فاجعل عين الشمس عند مطلعها على رأس أذنك اليسرى فإنك تدركها. وثانيها
فاجعل عين الشمس على مؤخر عينك اليسرى عند الزوال فإنك تصيبها. وثالثها فاجعل
الشمس على مقدم عينك اليمنى مما يلي الانف عند صيرورة ظل كل شئ مثليه بعد زوالها
فإنك تدركها. ورابعها فاجعل عين الشمس على مؤخر عينك اليمنى عند غروب الشمس
فإنك تدركها. ووجه آخر أنه إذا كان قبل المهرجان بشهر فاستقبل العقرب وقت صلاة العشاء
الأخيرة فإنك تدركها. وإذا جعلت بنات نعش الصغرى على أذنك اليمنى وانحرفت قليلا إلى
شمالك فإنك تدركها. وذكر بعضهم أن أقوى الأدلة القطب وهو نجم صغير في بنات نعش
الصغرى بين الفرقدين والجدي إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى كان مستقبلا القبلة إن كان
بناحية الكوفة وبغداد وهمدان وقزوين وطبرستان وجرجان وما والاها إلى نهر الشاش، ويجعله
من بمصر على عاتقه الأيسر، ومن بالعراق على عاتقه الأيمن، فيكون مستقبلا باب الكعبة،
وباليمن قبالة المستقبل مما يلي جانبه الأيسر، وبالشام وراءه. وفي معرفة الجهة أقوال أخرى
مذكورة في الخانية وغيرها. أطلق في الاكتفاء بالجهة فأفاد أنه لا يشترط نية الكعبة، وشرطها
الجرجاني بناء على أن الفرض إصابة العين للقريب والبعيد، ولا يمكن إصابة العين للبعيد إلا
من حيث النية فانتقل ذلك إليها. وذهب العامة إلى عدم اشتراط إصابة العين فلا يشترط نيتها
لعدم الحاجة إلى ذلك فإن إصابة الجهة تحصل من غير نية العين، فالحاصل أن نية استقبال
القبلة ليست بشرط على الصحيح من المذهب، سواء كان الفرض إصابة العين في حق المكي
أو إصابة الجهة في حق غيره كما صححه في التحفة والتجنيس والخلاصة وغيرها حتى قال
في البدائع: الأفضل أن لا ينوي الكعبة لاحتمال أن لا تحاذي هذه الجهة الكعبة فلا تجوز
496

صلاته. وإنما كان هذا هو الصحيح لأن استقبالها شرط من الشرائط فلا يشترط فيه النية
كالوضوء وغيره وعلى هذا فقولهم لو نوى بناء الكعبة لا يجوز لأن المراد بالكعبة العرصة لا
البناء إلا أن يريد بالبناء جهة الكعبة فيجوز. ذكره في المحيط وغيره. وقولهم لو نوى أن
قبلته محراب مسجده لا يجوز لأنه علامة وليس بقبلة كما في الخانية. وقولهم لو نوى مقام
إبراهيم ولم ينو الكعبة قيل لا يجوز إلا أن ينوي الجهة. وقيل إن لم يكن الرجل أتى مكة
أجزأه وإلا لا يجوز، واختاره في الخانية والبدائع والمحيط مبني على الضعيف الشارط للنية.
أما على الصحيح فيجوز كما ذكره ابن أمير حاج. وذكر عن بعضهم أن ثمرة الخلاف عند
أصحابنا تظهر أيضا في الانحراف قليلا، فمن قال الفر ض التوجه إلى العين لم تصح صلاته،
ومن قال الجهة صححها وسيأتي في باب الصلاة في الكعبة أن الصواب أن يقال: القبلة هي
العرصة لا الكعبة لأنها البناء.
وفي الفتاوى: الانحراف المفسد أن يجاوز المشارق إلى المغارب. وفي التجنيس: وإذا
حول وجهه لا تفسد صلاته وتفسد بصدره، قيل هذا أليق بقولهما أما عنده فلا تفسد في
الوجهين بناء على أن الاستدبار إذا لم يكن على قصد الرفض لا تفسد ما دام في المسجد عنده
خلافا لهما، حتى لو انصرف عن القبلة على ظن الاتمام فتبين عدمه بنى ما دام في المسجد
عنده خلافا لهما اه‍. وفي فتح القدير: ولقائل أن يفرق بينهما بعذره هناك وتمرده هنا.
والحاصل أن المذهب أنه إذا حول صدره فسدت وإن كان في المسجد إذا كان من غير عذر
كما عليه عامة الكتب. وفي الظهيرية: ومن صلى إلى غير جهة الكعبة متعمدا لا يكفر هو
الصحيح لأن ترك جهة الكعبة جائز في الجملة بخلاف الصلاة بغير طهارة لعدم الجواز بغير
طهارة بحال، واختاره الصدر الشهيد. والحاصل أن حكم الفرض لزوم الكفر يجحده لا
497

بتركه. وإنما قال أبو حنيفة بالكفر في هذه المسائل بمجرد الترك عمدا للزوم الاستهزاء به
والاستخفاف وهو يقتضي أنه لا فرق في المسائل إذ لا أثر لعدم الجواز في شئ من
الأحوال، بل الموجب للاكفار هو الاستهانة وهو ثابت في الكل وإلا فهو منتف في الكل.
وألحق في فتح القدير الصلاة في الثوب النجس كالصلاة بغير طهارة وهو مشكل، فإن بعض
أئمة المالكية يقول بأن إزالتها سنة لا فرض ولا يكفر بجحد المختلف فيه، فكيف بتركه من
غير جحد كما أشار إليه قاضيخان في فتاواه. وحكى في الذخيرة الاختلاف فيما إذا صلى
بغير طهارة ثم قال: ولو ابتلي إنسان بذلك لضرورة بأن كان مع قوم فأحدث واستحيا أن
يظهر فكتم ذلك وصلى هكذا أو كان بقرب العدو فقام يصلي وهو غير طاهر قال بعض
مشايخنا: لا يكون كافرا لأنه غير مستهزئ. ومن ابتلى بذلك لضرورة أو لحياء ينبغي أن لا
يقصد بالقيام قيام الصلاة ولا يقرأ شيئا، وإذا حنى ظهره لا يقصد الركوع ويسبح حتى لا
يصير كافرا بالاجماع.
قوله (والخائف يصلي إلى أي جهة قدر) لأن استقبال القبلة شرط زائد يسقط عند
العجز. والفقه فيه أن المصلي في خدمة الله تعالى ولا بد من الاقبال عليه والله سبحانه منزه
عن الجهة فابتلاه بالتوجه إلى الكعبة لأن العبادة ليست لها، ولهذا لو سجد للكعبة نفسها كفر
فلما اعتراه الخوف تحقق العذر فأشبه حالة الاشتباه في تحقق العذر فيتوجه إلى أي جهة قدر
لأن الكعبة لم تعتبر لعينها بل للابتلاء وهو حاصل بذلك. أطلقه فشمل الخوف من عدو أو
سبع أو لص، وسواء خاف على نفسه أو على دابته. وأراد بالخائف من له عذر فيشمل
المريض إذا كان لا يقدر على التوجه وليس عنده من يحوله إليها أو كان التحويل يضره.
والتقييد بعدم وجود من يحوله جرى على قولهما، أما عنده فالقادر بقدرة غيره ليس بقادر كما
عرف في التيمم، ويشمل ما إذا كان على لوح في السفينة يخاف الغرق إذا انحرف إليها، وما
إذا كان في طين وردغة لا يجد على الأرض مكانا يابسا، أو كانت الدابة جموحا لو نزل لا
498

يمكنه الركوب إلا بمعين، أو كان شيخا كبيرا لا يمكنه أن يركب إلا بمعين ولا يجده، فكما
تجوز له الصلاة على الدابة ولو كانت فرضا وتسقط عنه الأركان كذلك يسقط عنه التوجه إلى
القبلة إذا لم يمكنه ولا إعادة عليه إذا قدر، فالحاصل أن الطاعة بحسب الطاقة.
قوله (ومن اشتبهت عليه القبلة تحرى) أي إذا عجز عن تعرف القبلة بغير التحري لزمه
التحري وهو بذل المجهود لنيل المقصود لأن الصحابة تحروا وصلوا. وقيل في قوله تعالى
* (فأينما تولوا فثم وجه الله) * أي قبلته أنها نزلت في الصلاة حالة الاشتباه.
قيدنا بالعجز عن التعرف إلا به لأنه لو قدر على تعرف القبلة بالسؤال من أهل ذلك الموضع
ممن هو عالم بالقبلة فلا يجوز له التحري لأن الاستخبار فوقه لكون الخبر ملزما له ولغيره،
والتحري ملزم له دون غيره فلا يصار إلى الأدنى مع إمكان الاعلى بخلاف ما إذا لم يكن من
أهله فإنه لا يقلده لأن حاله كحاله، فإن لم يخبره المستخبر حين سأله فصلى بالتحري ثم أخبره
لا يعيد ولو كان مخطئا. وبناء هذا ما ذكر في التجنيس: تحرى فأخطأ فدخل في الصلاة وهو
لا يعلم ثم علم وحول وجهه إلى القبلة فدخل رجل في صلاته وقد علم حالته الأولى لا
تجوز صلاة الداخل لعلمه أن الإمام كان على الخطأ في أول الصلاة اه‍. وكذا إذا كان في
المفازة والسماء مصحية وله علم بالاستدلال بالنجوم على القبلة لا يجوز له التحري لأن ذلك
فوقه. وفي الظهيرية: رجل صلى بالتحري إلى جهة في المفازة والسماء مصحية لكنه لا يعرف
النجوم فتبين أنه أخطأ القبلة هل يجوز؟ قال رضي الله عنه قال أستاذنا ظهير الدين المرغيناني:
يجوز وقال غيره: لا يجوز لأنه لا عذر لاحد في الجهل بالأدلة الظاهرة المعتادة نحو الشمس
499

والقمر وغير ذلك، أما دقائق علم الهيئة وصور النجوم الثوابت فهو معذور في الجهل بها
اه‍. فالحاصل أن محل التحري أن يعجز عن الاستقبال بانطماس الأعلا وتراكم الظلام
وتضام الغمام كما ذكره المصنف في كافيه، وهو يرجح ما في الظهيرية من أن السماء إذا
كانت مصحية لا يجوز التحري ولا يعذر بالجهل. وذكر الشارح أنه لا يجوز التحري مع
المحاريب. وفي الظهيرية: رجل اشتبهت عليه القبلة في المسجد ولم يكن أحد يعرفه القبلة
قال في الأصول: يجوز له التحري لأنه عجز عمن يسأله فصارة كالمفازة. وقال أئمة بلخ منهم
الفقيه أبو جعفر: لا تجوز له الصلاة بالتحري وعلل فقال: إن هذه نائبة العقبى فتعتبر بنائبة
الدنيا، ولو حدثت به نائبة الدنيا فإنه يستغيث بجيران المسجد كذلك ههنا يجب أن يستغيث
بهم. وإن كان في مسجد نفسه قال بعضهم هو كالبيت لا يجوز له التحري. وقال بعضهم:
مسجده ومسجد غيره سواء. وروى أبو جعفر عن سلام بن حكيم أنه قال: محاريب خراسان
كلها منصوبة إلى الحجر الأسود والحجر الأسود إلى ميسرة الكعبة، ومن توجه إلى الكعبة ومال
بوجهه إلى ميسرة الكعبة وقع وجهه إلى جبل أبي قبيس، ومن مال بوجهه إلى يمينها وقع وجهه
إلى الكعبة، ولهذا قيل يجب أن يميل إلى يمينها. قال: ومحاريب الدنيا كلها نصبت بالتحري
حتى منى ولم يزد عليه شيئا، وهذا خلاف ما نقل عن أبي بكر الرازي في محراب المدينة أنه
مقطوع به فإنه إنما نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي بخلاف سائر البقاع حتى قيل أن محراب منى
نصب بالتحري والعلامات وهو أقرب المواضع إلى مكة اه‍. وبهذا تبين أن قولهم لغير المكي
أصابة جهتها ليس على إطلاقه بل في غير المدني فإن المدني كالمكي يفترض عليه إصابة عينها
كما صرح به في السراج الوهاج أيضا. وأطلق في الاشتباه فشمل ما إذا كان بمكة أو بالمدينة
بأن كان محبوسا ولم يكن بحضرته من يسأله فصلى بالتحري ثم تبين أنه أخطأ، روي عن محمد
أنه لا إعادة عليه، وكان الرازي يقول: تلزمه الإعادة لأنه تيقن بالخطأ إذا كان بمكة أو
بالمدينة والأول أحسن. كذا في الظهيرية. وفي فتاوى قاضيخان: رجل صلى في المسجد في
ليلة مظلمة بالتحري فتبين أنه صلى إلى غير القبلة جازت صلاته لأنه ليس له أن يقرع أبواب
500

الناس للسؤال عن القبلة، ولا يعرف القبلة بمس الجدار والحيطان لأن الحائط لو كانت
منقوشة لا يمكنه تمييز المحراب من غيره، وعسى يكون ثم هامة مؤذية فجاز له التحري
اه‍..
وقيد بالاشتباه لأنه لو صلى في الصحراء إلى جهة من غير شك ولا تحر، إن تبين أنه
أصاب أو كان أكبر رأيه أو لم يظهر من حاله شئ حتى ذهب عن الموضع فصلاته جائزة،
وإن تبين أنه أخطأ أو كان أكبر رأيه فعليه الإعادة. وقيد بالتحري لأن من صلى ممن اشتبهت
عليه بلا تحر فعليه الإعادة إلا أن علم بعد الفراغ أنه أصاب لأن ما افترض لغيره يشترط
حصوله لا تحصيله. وإن علم في الصلاة أنه أصاب يستقبل خلافا لأبي يوسف لما ذكرنا.
قلنا: حالته قويت بالعلم وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، أما لو تحرى صلى إلى غير جهة
التحري ففي الخلاصة والخانية عن أبي حنيفة أنه يخشى عليه الكفر لاعراضه عن القبلة. وفي
الذخيرة: اختلف المشايخ في كفره لأنه صارت قبلة في حقه. وفي الظهيرية: وظن بعض
أصحابنا أن الجهة التي أدى إليها التحري قبلت على الحقيقة، وعندنا هذا غير مرضي ففيه قول
بأن كل مجتهد يصيب الحق لا محالة ولا نقول به لكن المجتهد يخطئ مرة ويصيب أخرى اه‍.
وأما صلاته فلا تجزئه وإن أصاب مطلقا خلافا لأبي يوسف. وفي فتح القدير: هي مشكلة
على قولهما لأن تعليلهما في هذه وهو أن القبلة في حقه جهة التحري وقد تركها يقتضي
الفساد مطلقا في صورة تر ك التحري لأن ترك جهة التحري تصدق مع ترك التحري
وتعليلهما في تلك بأن ما فرض لغيره يشترط مجرد حصوله كالسعي يقتضي الصحة في هذه.
وعلى هذا لو صلى في ثوب وعنده أنه نجس ثم ظهر أنه طاهر، أو صلى وعنده أنه محدث
فظهر أنه متوضئ، أصلى الفرض وعنده أن الوقت لم يدخل فظهر أنه كان قد دخل، لا
يجزئه لأنه لما حكم بفساد صلاته بناء على دليل شرعي وهو تحريه فلا ينقلب جائزا إذا ظهر
خلافه. وهذا التعليل يجري في مسألة العدول عن جهة التحري إذا ظهر صوابه، وبه يندفع
الاشكال الذي أوردناه لأن دليل الشرع على الفساد هو التحري أو اعتقاد الفساد عن التحري
فإذا حكم الفساد دليل شرعي لزم وذلك منتف في صورة ترك التحري فكان ثبوت الفساد
فيها قبل ظهور الصواب إنما هو لمجرد اعتقاده الفساد فيؤاخذ باعتقاده الذي ليس بدليل إذا لم
501

يكن عن تحر. وفي فتاوى العتابي: تحرى فلم يقع تحريه على شئ قيل يؤخر، وقيل يصلي إلى
أربع جهات، وقي يخير. وفي الظهيرية: ولو تحرى رجل واستوى الحالان عنده ولم يتيقن
بشئ ولكن صلى إلى إن ظهر أنه أصاب القبلة جاز، وإن ظهر أنه أخطأ فكذلك، وإن لم
يظهر له شئ جازت صلاته. وفي الخلاصة: وعن محمد لو صلى أربع ركعات إلى أربع
جهات جاز. ثم اختلف المتأخرون فيما إذا تحول رأيه إلى الجهة الأولى بالتحري، فمنهم من
قال يتم الصلاة، ومنهم من قال يستقبل اه‍. وفي البغية: لو صلى إلى جهة بتحر ثم تحول
رأيه في الركعة الثانية إلى جهة أخرى فتحول وتذكر أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فسدت
صلاته. وفي الظهيرية: ويجوز التحري لسجدة التلاوة كما يجوز للصلاة.
قوله (وإن أخطأ لم يعد) لأنه أتى بالواجب في حقه وهو الصلاة إلى جهة تحريه بخلاف
من توضأ بماء أو صلى في ثوب على ظن أنه طاهر ثم تبين أنه نجس حيث يعيد الصلاة لأنه
502

ترك ما أمر به وهو الصلاة في ثوب طاهر وعلى طهارة وهو قد أتى بما أمر به وهو التحري،
وفي الكافي ما يدل على جواز التحري في الأواني والثياب وفيه تفصيل مذكور في الظهيرية
قال: ويجوز التحري في الثوب الواحد حالة الضرورة والثوبين والثياب وإن كان النجس
غالبا، وفي الإنائين لا يجوز إلا رواية عن أبي يوسف لكنه إذا توضأ بهما واحدا بعد واحد
وصلى ينظر، إن توضأ بالأول وصلى جاز لأن وضوءه من الأول تحر منه أنه طاهر كما لو قال
لامرأتيه إحداكما طالق ثم وطئ إحداهما تعينت الأخرى للطلاق، فلو توضأ بالثاني ثم صلى
ينبغي أن لا تجوز صلاته لأنه توضأ بماء نجس، وإن لم يحدث ولم يصل بعدما توضأ من
الأول حتى توضأ بالثاني قال عامتهم: لا يجوز لأن أعضاءه صارت نجسة. وقال بعضهم:
يجوز وهو الصحيح لأنه لما لم يجز التحري عندنا لغلبة النجاسة أو لاستواء الطاهر بالنجس
يهريق المياه كلها ويتيمم ويصلي أو يخلط المياه كلها حتى تصير المياه كلها نجسة ثم يتيمم
احترازا عن إضاعة الماء، ولو لم يهرقها جاز له التيمم. قالوا: هذا قول أبي حنيفة. وقالا: لا
يجوز تيممه إلا بعد الإراقة. وقال ابن زياد: يخلطها ثم يتيمم. وإن كان عند ثلاثة ثلاث أوان
أحدها نجس ووقع تحري كل واحد منهم على إناء جازت صلاتهم فرادى، ولو كان أحدهما
سؤر حمار والآخر طاهرا يتوضأ بهما ولا يتيمم اه‍..
قوله (وإن علم به في صلاته استدار) أي إن علم بالخطأ لأن تبدل الاجتهاد بمنزلة تبدل
النسخ وقد روي أن قوما من الأنصار كانوا يصلون بمسجد قباء إلى بيت المقدس فأخبروا
بتحول القبلة فاستداروا كهيئتهم. وفيه دليل على جواز نسخ الكتاب السنة إذ لا نص على
بيت المقدس في القرآن فعلم أنه كان ثابتا بالسنة ثم نسخ بالكتاب، وعلى أن حكم النسخ لا
يثبت حتى يبلغ المكلف، وعلى أن خبر الواحد يوجب العمل. كذا ذكر الشارح. وفي كون
بيت المقدس ثبت التوجه إليه بالسنة فقط بحث بل في القرآن العظيم ما يدل عليه فإنه قال
تعالى * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * (البقرة: 142) قال
503

المفسرون: هي بيت المقدس، ثم مسائل حسن التحري في القبلة على عشرين وجها لأنه لا
يخلو إما إن لم يشك ولم يتحر أو شك وتحرى، أو شك ولم يتحر، أو تحرى ولم يشك، وكل
وجه على خمسة لأنه إما أن يظهر إنه أصاب في الصلاة أو بعد الفراغ، أو أخطأ في الصلاة أو
بعدها، أولم يظهر شئ. أما الأول فإن ظهر أنه أخطأ لزمه الاستقبال سواء كان في الصلاة
أو بعد الفراغ منها، وإن ظهر أنه أصاب قبل الفراغ ففيه اختلاف، فذهب الإمام محمد بن
الفضل إلى أنه يلزمه الاستقبال لأن افتتاحه كان ضعيفا وقد قوي حالة بظهور الصواب ولا
يبني القوي على الضعيف، والصحيح كما في المبسوط والخانية أنه لا يلزمه الاستقبال لأن
صلاته كانت جائزة ما لم يظهر الخطأ، فإذا تبين أنه أصاب لا يتغير حاله، وإن تبين بعد
الفراغ أنه أصاب بيقين أو بأكبر رأيه أو لم يظهر من حاله شئ حتى غاب عن ذلك الموضع
فصلاته جائزة لأن الأصل الجواز لم يوجد ما يرفعه. وأما الثاني وهو ما إذا شك وتحرى
فحكمه ما ذكر في الكتاب وهو الصحة في الوجوه الخمس. وأما الثالث وهو ما إذا شك ولم
يتحر فهي فاسدة في الوجوه كلها إلا إذا تبين له بعد الفراغ أنه أصاب القبلة بيقين، فإن كان
أكبر رأيه أنه أصابها قال قاضيخان: اختلفوا فيه، قال شمس الأئمة السرخسي: الصحيح أنه
لا تجوز صلاته. وأما الرابع فهو فاسد الوضع لأن التحري إنما يكون عند الشك فإذا لم يشك
لم يتحر فلذا لم يذكروه. وفي الظهيرية: ولو صلى بالتحري وخلفه نائم ومسبوق فبعد فراغ
الإمام تحول رأيهما إلى جهة أخرى. فالمسبوق يتحول إلى الجهة التي وقع تحريه إليها، واللاحق
تفسد صلاته. قيد بتحويل الرأي في أمر القبلة لأنه لو تحرى في الثوبين فصلى في أحدهما
بالتحري ثم تحول تحريه إلى ثوب آخر فكل صلاة صلاها في الثوب الأول جازت دون الثاني.
كذا في الظهيرية.
قوله (ولو تحرى قوم جهات وجهلوا حال إمامهم يجزئهم) لأن القبلة في حقهم جهة
التحري وهذه المخالفة غير مانعة لصحة الاقتداء كما في جوف الكعبة فإنه لو جعل بعض
القوم ظهره إلى ظهر الإمام صح. وقيد بجهلهم إذ لو علم واحد منهم حال إمامه حالة
الأداء وخالف جهته لم تجز صلاته لأنه اعتقد إمامه على الخطأ بخلاف جوف الكعبة لأنه ما
اعتقد إمامه مخطئا إذا الكل قبلة. ولم يقيد المصنف بعدم تقدم أحد على الإمام لأن من
المعلوم أن من تقدم على إمامه فسدت صلاته كما في جوف الكعبة لتركه فرض المقام.
وهذا المسألة من مسائل الجامع الصغير وهي في كتاب الأصل أتم فإنه قال: لو أن جماعة
504

صلوا في المفازة عند اشتباه القبلة بالتحري وتبين أنهم صلوا إلى جهات مختلفة قال: من
تيقن مخالفة إمامه في الجهة حالة الأداء لم تجز صلاته، ومن لم يعلم عند الأداء أنه يخالف
إمامه في الجهة فصلاته صحيحة، فشرط أن يكون في المفازة وهو يدل على أن التحري لا
يجوز في القرية والمصر من غير سؤال وقد أسلفناه، وأفاد أن علمه بالمخالفة بعد الأداء لا
يضر والله أعلم.
باب صفة الصلاة
شروع في المقصود بعد الفراغ من مقدماته. قيل: الصفة والوصف في اللغة واحد وفي
عرف المتكلمين بخلافه. والتحرير أن الوصف لغة ذكر ما في الموصوف من الصفة والصفة
هي ما فيه ولا ينكر أنه يطلق الوصف ويراد الصفة وبهذا لا يلزم الاتحاد لغة إذ لا شك في
أن الوصف مصدر صفه إذا ذكر ما فيه. ثم المراد هنا بصفة الصلاة الأوصاف النفسية لها
وهي الاجزاء العقلية الصادقة على الخارجية التي هي أجزاء الهوية من القيام الجزئي والركوع
والسجود. كذا في فتح القدير. وليس هذا من باب قيام العرض بالعرض لأن الأحكام الشرعية
لها حكم الجواهر ولهذا توصف بالصحة والفساد والبطلان والفسخ. كذا في غاية
البيان. وفي السراج الوهاج: ثم اعلم أنه يشترط لثبوت الشئ ستة أشياء العين وهي ماهية
الشئ، فلا يكون الشئ، والركن وهو جزء الماهية، والحكم وهو الأثر الثابت بالشئ،
ومحل ذلك الشئ، وشرطه، وسببه، فلا يكون الشئ ثابتا إلا بوجود هذه الأشياء الستة.
505

فالعين هنا الصلاة، والركن القيام والقراءة والركوع والسجود، والمحل للشئ هو الآدمي
المكلف، والشرط هو ما تقدم من الطهارة وغيرها، والحكم جواز الشئ وفساده وثوابه،
والسبب الأوقات. ومعنى صفة الصلاة أي ماهية الصلاة قوله (فرضها التحريمة) أي ما لا بد
منه فيها فإن الفرض شرعا ما لزم فعله بدليل قطعي أعم من أن يكون شرطا أو ركنا،
والتحريم جعل الشئ محرما. وخصت التكبيرة الأولى بها لأنها تحرم الأشياء المباحة قبل
الشروع بخلاف سائر التكبيرات، والدليل على فرضيتها قوله تعالى * (وربك فكبر) * (المدثر:
3) جاء في التفسير أن المراد به تكبيرة الافتتاح ولان الامر للايجاب وما وراءها ليس بفرض
فتعين أن تكون مرادة لئلا يؤدي إلى تعطيل النص. وما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم (1) ثم
اختلفوا هل هي شرط أو ركن، ففي الحاوي هي شرط في أصح الروايتين، وجعله في
البدائع قول المحققين من مشايخنا. وفي غاية البيان قول عامة المشايخ وهو الأصح، واختار
بعض مشايخنا منهم عصام بن يوسف والطحاوي أنها ركن، وبه قال الشافعي لأنها ذكر
مفروض في القيام فكان ركنا كالقراءة ولهذا شرط لها ما شرط لسائر الأركان من الطهارة
وستر العورة واستقبال القبلة. ووجه الأصح وهو المذهب عطف الصلاة عليها في قوله تعالى
* (وذكر اسم ربه فصلى) * ومقتضى العطف المغايرة والمغايرة وإن كانت ثابتة على
القول بركنيتها أيضا لأنه حينئذ يكون من باب عطف الكل على الجزء وهو نظير عطف العام
506

على الخاص لكن جوازه لنكتة بلاغية وهي غير ظاهرة هنا فيلزم أن لا يكون التكبير منها فهو
شرط وهو المطلوب، ومراعاة الشرائط المذكورة ليس لها بل للقيام المتصل بها وهو ركن إن
سلمنا مراعاتها وإلا فهو ممنوع، فتقديم المنع على التسليم أولى. كذا في التلويح. فالأولى أن
يقال: لا نسلم مراعاتها فإنه لو أحرم إلى آخره ولئن سلمنا فهي ليس لها بل إلى آخره فإنه لو
أحرم حاملا للنجاسة فألقاه عند فراغه منها أو منحرفا عن القبلة فاستقبلها عند الفراغ منها أو
مكشوف العورة فسترها عند فراغه من التكبير بعمل يسير أو شرع في التكبير قبل ظهور
الزوال ثم ظهر عند فراغه منها جاز.
وفي الحاوي: والذي يؤيد أنها شرط انعقاد الجمعة مع عدم مشاركة القوم الإمام فيها.
وثمرة الاختلاف تظهر في بناء النفل على تحريمة الفرض، فيجوز عند القائلين بالشرطية، ولا
يجوز عند القائلين بالركنية. وقول الشارح إنه يجوز بالاجماع بين أصحابنا فيه نظر، فإن
القائلين بالركنية من أصحابنا لا يجوزونه، وأما بناء الفرض على الفرض أو على النفل فهو
جائز عند صدر الاسلام لما علمت أنها شرط كالطهارة، ولا يجوز على الظاهر من المذهب
كالنية ليست من الأركان ومع هذا لا يجوز أداء صلاة بنية صلاة أخرى إجماعا. وأما أداء
النفل بتحريمة النفل فلا شك في صحته اتفاقا لما أن الكل صلاة واحدة بدليل أن القعود لا
507

يفترض إلا في آخرها على الصحيح. وقولهم إن كل ركعتين من النفل صلاة لا يعارضه لأنه
في أحكام دون أخرى. وفي المحيط: الأخرس والامي افتتحا بالنية أجزأهما لأنهما أتيا
بأقصى ما في وسعهما. وفي شرح منية المصلي: ولا يجب عليهما تحريك اللسان عندنا وهو
الصحيح. ولو قال المصنف فرضها التحريمة قائما لكان أولى لأن الافتتاح لا يصح إلا في
حالة القيام حتى لو كبر قاعدا ثم قام لا يصير شارعا لأن القيام فرض حالة الافتتاح كما
بعده، ولو جاء إلى الإمام وهو راكع فحنى ظهره ثم كبر إن كان إلى القيام أقرب يصح، وإن
كان إلى الركوع أقرب لا يصح. ولو أدرك الإمام راكعا فكبر قائما وهو يريد تكبيرة الركوع
جازت صلاته لأن نيته لغت فبقي التكبير حالة القيام، ولو كبر قبل إمامه لا تجوز صلاته ما لم
يجدد لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة فلا يدخل في صلاته ولا في صلاة نفسه على الصحيح
لأنه قصد المشاركة وهي غير صلاة الانفراد. ولو افتتح بالله قبل إمامه لم يصر شارعا في
صلاته لأنه صار شارعا في صلاة نفسه قبل شروع الإمام، ولو مد الإمام التكبير وحذف
رجل خلفه ففرغ قبل فراغ الإمام أجزأه على قياس قولهما، وعلى قول أبي يوسف لا يجزئه
ولو كبر المؤتم ولم يعلم أنه كبر قبل الإمام أو بعده، فإن كان أكبر رأيه أنه كبر قبله لا يجزئه
وإلا أجزأه، لأن أمره محمول على الصلاح حتى يتبين الخطأ بيقين أو بغالب الظن كذا في
المحيط. والمراد بقولهما إن الشروع يصح بالله بدون أكبر وقال أبو يوسف: لا يصح إلا بهما
كما صرح به في التنجيس هنا. وبهذا علم أن ما في فتح القدير من قوله ففرغ الإمام قبله
سبق قلم، والصواب: ففرغ المقتدي قبله أي قبل تكبير الإمام كما في التجنيس والمحيط.
وقوله أو كبر قبله غير عالم بذلك سهو لأن المقتدي إذا كبر قبل الإمام لا يقال فيه جاز في
قياس قولهما لا قول أبي يوسف وإنما حكمه ما ذكرناه عن المحيط، وكذا ذكر في التنجيس
مسألة ما إذا مد الإمام التكبير ولم يضم إليه مسألة ما إذا كبر قبله. وذكر الشارح في باب
الاحرام أن الشروع في الصلاة بالنية عند التكبير لا بالتكبير.
508

قوله (والقيام) لقوله تعالى * (وقوموا لله قانتين) * أي مطيعين. والمراد به
القيام في الصلاة باجماع المفسرين، وهو فرض في الصلاة للقادر عليه في الفرض وما هو
ملحق به، واتفقوا على ركنيته. وحد القيام أن يكون بحيث إذا مد يديه لا تنال ركبتيه، كذا
في السراج الوهاج. ثم اعلم أن قولهم إن القيام فرض في الفرض للقادر عليه ليس على
عمومه بل يخرج منه مسألة يستوي فيها القيام والقعود للقادر على القيام، ومسائل يتعين فيها
ترك القيام. أما الأولى فما صرحوا به في باب صلاة المريض أن المريض لو قدر على القيام،
دون الركوع والسجود فإنه يخير بين القيام والقعود وإن كان القعود وإن كان القعود أفضل
فقد سقط عنه القيام مع قدرته عليه. وأما الثانية فمنها ما في الذخيرة والمحيط في رجل إن
صام رمضان يضعفه ويصلي قاعدا وإن أفطر يصلي قائما فإنه يصوم ويصلي قاعدا. ومنها ما
في منية المصلي: شيخ كبير إذا قام سلس بوله أو به جراحة تسيل، وإن جلس لا تسيل يصلي
جالسا. قال شارحها: حتى لو صلى قائما لا يجوز. ومنها ما فيها أيضا: لو كان الشيخ بحال
لو صلى قائما ضعف عن القراءة يصلي قاعدا بقراءة. ومنها ما في الخلاصة وغيرها: لو كان
بحال لو صلى منفردا يقدر على القيام ولو صلى مع الإمام لا يقدر فإنه يخرج إلى الجماعة
ويصلي قاعدا وهو الأصح كما في المجتبى، لأنه عاجز عن القيام حالة الأداء وهي المعتبرة.
وصحح في الخلاصة أنه يصلي في بيته قائما قال: وبه يفتى. واختار في منية المصلي القول
الثالث وهو أنه يشرع قائما ثم يقعد فإذا جاء وقت الركوع يقوم، ويركع والأشبه ما صححه
في الخلاصة لأن القيام فرض فلا يجوز تركه لأجل الجماعة التي هي سنة بل يعد هذا عذرا
في تركها. وقد علم مما ذكرنا أن ركنية القراءة أقوى من الركنية القيام وسيأتي ما فيه.
قوله (والقراءة) لقوله تعالى * (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) * وحكى
الشارح الاجماع على فرضيتها، وهكذا في غاية البيان حتى ادعى أن أبا بكر الأصم القائل
بالسنية خرق الاجماع وهو دليل على انعقاد الاجماع قبله. واختلف في كونها ركنا فذهب
الغزنوي صاحب الحاوي القدسي إلى أنها ليست بركن، والجمهور إلى أنها ركن غير أنهم
قسموا الركن إلى أصلي وهو ما لا يسقط إلا لضرورة، وزائد وهو ما يسقط في بعض الصور
509

من غير تحقق ضرورة، وجعلوا القراءة من هذا القسم فإنها تسقط عن المقتدي بالاقتداء
عندنا، وعن المدرك في الركوع بالاجماع. وقد تعقب كون الركن يكون زائدا فإن الركن ما
كان داخل الماهية فكيف يوصف بالزيادة؟ وأجاب الأكمل في شرح البزدوي بأنهما باعتبارين
فتمسيه ركنا باعتبار قيام ذلك الشئ به في حالة بحيث يستلزم انتفاؤه انتفاءه وتسميته زائدا
فلقيامه بدونه في حالة أخرى بحيث لا يستلزم انتفاؤه انتفاءه والمنافاة بينهما إنما هي باعتبار
واحد، وهذا لأنها ماهية اعتبارية فيجوز أن يعتبرها الشارع تارة بأركان وأخرى بأقل منها.
فإن قيل: فيلزمهم على هذا تسمية غسل الرجل ركنا زائدا في الوضوء. فالجواب أن الزائد
هو ما إذا سقط لا يخلفه بدل والمسح بدل الغسل فليس بزائد اه‍. وبهذا خرج الجواب عن
بقية أركان الصلاة فإنها تسقط مع أنها ليست بزوائد لوجود الخلف لها. وذكر في التلويح أن
معنى الركن الزائد هو الجزء الذي إذا انتفى كان حكم المركب باقيا بحسب اعتبار الشرع،
وهذا قد يكون باعتبار الكيفية كالاقرار في الايمان أو باعتبار الكمية كالأقل في المركب منه
ومن الأكثر حيث يقال للأكثر حكم الكل اه‍. وقد علم مما ذكرناه أن القيام ركن أصلي
والقراءة ركن زائد مع أن القراءة أقوى منه بدليل الفرع الذي ذكرناه عنهم في بحث القيام.
وقد يقال: إنما أوجبوا عليه القعود مع القراءة لأن القيام له بدل وهو القعود والقراءة لا بدل
لها، وقد خالف ابن الملك في شرح المجمع الجم الغفير وجعل القراءة ركنا أصليا. وحد
القراءة تصحيح الحروف بلسانه بحيث يسمع نفسه على الصحيح، وسيأتي بيان الخلاف فيه
وقدر الفرض في الفرض وفي النفل في فصل القراءة إن شاء الله تعالى.
قوله (والركوع والسجود) لقوله تعالى * (اركعوا واسجدوا) * (الحج: 77) وللاجماع على
فرضيتهما وركنيتهما. واختلفوا في حد الركوع ففي البدائع وأكثر الكتب القدر المفروض من
الركوع أصل الانحناء والميل. وفي الحاوي: فرض الركوع انحناء الظهر. وفي منية المصلي:
510

الركوع طأطأة الرأس. ومقتضى الأول أنه لو طأطأ رأسه ولم يحن ظهره أصلا مع قدرته عليه
لا يخرج عن عهدة فرض الركوع وهو حسن. كذا في شرح منية المصلي. وفيها: الأحدب إذا
بلغت حدوبته إلى الركوع يخفض رأسه في الركوع فإنه القدر الممكن في حقه. وحقيقة
السجود وضع بعض الوجه على الأرض مما لا سخرية فيه فدخل الانف، وخرج الخد والذقن
وما إذا رفع قدميه في السجود فإن السجود مع رفع القدمين بالتلاعب أشبه منه بالتعظيم
والاجلال، وسيأتي أنه يكفيه وضع أصبع واحدة وأنه يصح الاقتصار على الجبهة وعلى الانف
وحده وبيان الخلاف في ذلك. وبما قررناه علم أن تعريف بعضهم السجود بوضع الجبهة
ليس بصحيح لأن وضعها ليس بركن لأنه يجوز الاقتصار على الانف من غير عذر عند أبي
حنيفة وإن كان الفتوى على قولهما. والمراد من السجود والسجدتان فأصله ثابت بالكتاب
والسنة والاجماع، وكونه مثنى في كل ركعة بالسنة والاجماع وهو أمر تعبدي لم يعقل له معنى
على قول أكثر مشايخنا تحقيقا للابتلاء. ومن مشايخنا من يذكر له حكمة فقيل إنما كان مثنى
ترغيما للشيطان حيث لم يسجد فإنه أمر بسجدة فلم يفعل فنحن نسجد مرتين ترغيما له.
وقيل: الأولى لامتثال الامر والثانية ترغيما له حيث لم يسجد استكبارا. وقيل: الأولى لشكر
الايمان والثانية لبقائه. وقيل: في الأولى إشارة إلى أنه خلق من الأرض، وفي الثانية إلى أنه
يعاد إليها. وقيل: لما أخذ الميثاق على ذرية آدم أمرهم بالسجود تصديقا لما قالوا فسجد
المسلمون كلهم وبقي الكفار، فلما رفع المسلمون رؤوسهم رأوا الكفار لم يسجدوا فسجدوا
ثانيا شكرا للتوفيق كما ذكره شيخ الاسلام.
511

قوله (والقعود الأخير قدر التشهد) وهي فرض بإجماع العلماء وقد روى الشيخان
وغيرهما من طرق عديدة عن الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين علم الاعرابي
المسئ صلاته أركان الصلاة إلى أن قال: فإذا رفعت رأسك من آخر سجدة وقعدت قدر
التشهد فقد تمت صلاتك. قال الشيخ قاسم في شرح الدرر: قد وردت أدلة كثيرة بلغت
مبلغ التواتر على أن القعدة الأخيرة فرض. وفي فتح القدير: إن قوله تعالى * (وربك فكبر) *
وكذا * (وقوموا لله) * * (فاقرءوا) * * (واركعوا واسجدوا) * أوامر والمستفاد منها وجوب
المذكورات في الصلاة وهي لا تنفي إجمال الصلاة إذ الحاصل حينئذ أن الصلاة فعل يشتمل
على هذه. بقي كيفية ترتيبها في الأداء وهل الصلاة هذه فقط أو مع أمور أخر؟ وقع البيان
في ذلك كله بفعله صلى الله عليه وسلم وقوله وهو لم يفعلها قط بدون القعدة الأخيرة والمواظبة من غير ترك
مرة دليل الوجوب فإذا وقعت بيانا للفرض أعني الصلاة المجمل كان متعلقها فرضا
بالضرورة، ولو لم يقم الدليل في غيرها من الافعال على سنيته لكان فرضا، ولو لم يلزم تقييد
مطلق الكتاب بخبر الواحد في الفاتحة والطمأنينة وهو نسخ للقاطع بالظني لكانا فرضين،
ولولا أنه عليه الصلاة والسلام لم يعد إلى القعدة الأولى لما تركها ساهيا ثم علم لكانت فرضا.
فقد عرفت أن بعض الصلاة عرف بتلك النصوص ولا إجمال فيها وإنه لا ينفي الاجمال في
الصلاة من وجه آخر، فما تعلق بالافعال نفسها لا يكون بيانا فإن كان ناسخا للاطلاق وهو
قطعي نسخ للعلم بأنه صلى الله عليه وسلم قاله وهو أدرى بالمراد، وإن لم يكن قطعيا لم يصلح لذلك وإلا لزم
تقديم الظني عند معارضة القطعي وهو لا يجوز في قضية العقل. وعما ذكرنا كان تقديم
القيام على الركوع والركوع على السجود فرضا لأنه بينها كذلك اه‍. وقوله قدر التشهد بيان
512

لقدر الفرض منها وهو الأصح للعلم بأن شرعيتها لقراءته. وأقل ما ينصرف إليه اسم التشهد
عند الاطلاق ذلك، وعلى هذا ينشأ إشكال وهو أن كون ما شرع لغيره بمعنى أن المقصود من
شرعيته غيره يكون آكد من ذلك الغير مما لم يعهد، بل وخلاف المعقول فإذا كان شرعية
القعدة للذكر أو السلام كانت دونهما فالأولى أن يعين سبب شرعيتها الخروج. كذا في فتح
القدير. وذكر الولوالجي في آخر فتاواه من مسائل متفرقة: رجل صلى أربعة ركعات وجلس
جلسة خفيفة فظن أن ذلك ثالثة فقام ثم تذكر فجلس وقرأ بعض التشهد وتكلم إن كان كلا
الجلستين مقدار التشهد جازت صلاته وإن كانت أقل فسدت اه‍. وبهذا علم أن القعود قدر
التشهد لا يشترط فيه الموالاة وعدم الفاصل. ثم بعد الاتفاق على فرضيتها اختلفوا في ركنيتها
فقال بعضهم: هي ركن من الأركان الأصلية. قال في البدائع: وإليه مال عصام بن يوسف.
والصحيح أنها ليست بركن أصلي لعدم توقف الماهية عليها شرعا لأن من حلف لا يصلي
يحنث بالرفع من السجود دون توقف على القعدة، فعلم أنها شرعت للخروج. وهذا لأن
الصلاة أفعال وضعت للتعظيم وهي بنفسها غير صالحة للخدمة لأنها من باب الاستراحة
فتمكن الخلل في كونها ركنا أصليا، ولم أر من تعرض لثمرة هذا الاختلاف.
قوله: (والخروج بصنعه) أي الخروج من الصلاة قصدا من المصلي بقول أو عمل ينافي
الصلاة بعد تمامها فرض، سواء كان ذلك قوله السلام عليكم ورحمة الله كما تعينه لذلك
هو الواجب، أو كان فعلا مكروها كراهة تحريم ككلام الناس أو أكل أو شرب أو مشي.
وإنما كان مكروها كراهة تحريم لكونه مفوتا للواجب وهو السلام. وهذا الفرض مختلف فيه
فما ذكره المصنف إنما هو على تخريج أبي سعيد البردعي فإنه فهم من قول أبي حنيفة بالفساد
في المسائل الاثني عشرية أن الخروج منها بفعله فرض، وعلل له بأن إتمامها فرض بالاجماع
وإتمامها بإنهائها وإنهاؤها لا يكون إلا بمنافيها لأن ما كان منها لا ينهيها، وتحصيل المنافي
صنع المصلي فيكون فرضا. وفهم من قولهما بعدم الفساد فيها بأنه ليس بفرض وعلل له بأن
الخروج بصنعه كان فرضا لتعين بما هو قربة كسائر فرائض الصلاة وذلك منتف لأنه قد يكون
513

بما هو معصية كالقهقهة والحدث والكلام العمد فلا يجوز وصفه بالفرض. وذهب الكرخي
إلى أنه لا خلاف بينهم في أن الخروج بفعل المصلي ليس بفرض، ولم يرو عن أبي حنيفة بل
هو حمل من أبي سعيد كما ذكرناه وهو غلط، لأنه لو كان فرضا لاختص بما هو قربة وسيأتي
وجه الفساد عنده في المسائل المذكورة في محله إن شاء الله تعالى. وصحح الشارح وغيره قول
الكرخي. وفائدة الخلاف على رأي البردعي تظهر فيما إذا سبقه الحدث بعد ما قعد قدر
التشهد في القعدة الأخيرة فإن صلاته تامة فرضا عندهما، وعند أبي حنيفة لم تتم صلاته فرضا
فيتوضأ ويخرج منها بفعل مناف لها، فلو لم يتوضأ ولم يأت بالسلام حتى أتى بمناف فسدت
عنده لا عندهما، واتفقوا على الوضوء والسلام. كذا في منية المصلي وشرحها وفيه نظر
سنذكره إن شاء الله تعالى. ثم اعلم أن هذه الفرائض المذكورة إذا أتى بها نائما فإنها لا
تحتسب بل يعيدها كما إذا قرأ نائما أو ركع نائما، وهذه المسألة يكثر وقوعها لا سيما في
التراويح. كذا في منية المصلي. والحاصل أنهم اختلفوا في أن قراءة النائم في صلاته هل يعتد
بها، فقيل نعم واختاره الفقيه أبو الليث لأن الشرع جعل النائم كالمستيقظ في الصلاة تعظيما
لأمر المصلي، واختار فخر الاسلام وصاحب الهداية وغيرهما أنها لا تجوز، ونص في المحيط
والمبتغي على أنه الأصح لأن الاختيار شرط لأداء العبادة ولم يوجد حالة النوم. قال في فتح
القدير: والأوجه اختيار الفقيه والاختيار المشروط قد وجد في ابتداء الصلاة وهو كاف، ألا
ترى أنه لو ركع وسجد ذاهلا عن فعله كل الذهول أنه يجزئه؟ ا ه‍. وهذا يفيد أنه لو ركع
وسجد حالة النوم يجزئه وقد نصوا على أنه لا يجزئه. قال في المبتغى: ركع وهو نائم لا يجوز
إجماعا ا ه‍. وفرقهم بين القراءة والركوع والسجود بأن كلا من الركوع والسجود ركن أصلي
بخلاف القراءة لا يجدي نفعا. وعرف من هذا أيضا جواز القيام حالة النوم أيضا وإن نص
بعضهم على عدم جوازه. وأما القعدة الأخيرة نائما ففي منية المصلي: إذا نام في القعدة
الأخيرة كلها فلما انتبه عليه أن يقعد قدر التشهد وإن لم يقعد فسدت صلاته. ويخالفه ما في
جامع الفتاوى أنه لو قعد قدر التشهد نائما يعتد بها. وعلل له في التحقيق للشيخ عبد العزيز
البخاري بأنها ليست بركن ومبناها على الاستراحة فيلائمها النوم فيجوز أن تحتسب من
الفرض بخلاف سائر الأفعال فإن مبناها على المشقة فلا تتأدى في حالة النوم. ويترجح أيضا
514

بما رجحه المحقق في فتح القدير فيما لو قرأ نائما. ثم في قولهم لو ركع نائما إشارة إلى
أنه لو ركع فنام في ركوعه أنه يجزئه وهو كذلك، بل في المبتغى جاز إجماعا. وفي المحيط:
لو نام في ركوعه وسجوده لا يعيد شيئا لأن الرفع والوضع حصل بالاختيار. ثم اعلم أنه
يتفرع على اشتراط الاختيار في أداء هذه الأفعال المفروضة أن النائم في الصلاة لو أتى بركعة
تامة تفسد صلاته لأنه زاد ركعة لا يعتد بها، والمسألة في المحيط أيضا والله سبحانه أعلم.
قوله: (وواجبها قراءة الفاتحة) وقالت الأئمة الثلاثة: إنها فرض لما في الصحيحين
عنه صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (1) ولنا قوله تعالى * (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) *
[المزمل 20] وما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء، ثم
استقبل القبلة، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (2) فقد أمر الله ورسوله بقراءة القرآن مطلقا
ووافق نص الكتاب القطعي نص السنة فلا يجوز تقييد نص الكتاب القطعي بما رووه من
السنة مع ما فيه من كونه ظني الثبوت والدلالة أو ظني الثبوت فقط بناء على أن النفي متسلط
على الصحة لأن تقييد إطلاق نص الكتاب بخبر الواحد نسخ له، وخبر الواحد لا يصلح
ناسخا للقطعي بل يوجب العمل به. وأيضا ثبت عنه المواظبة على قراءة الفاتحة فيها ولم يقم
دليل على تعيينها للفرضية، والمواظبة وحدها كذلك من غير ترك ظاهر التقيد الوجوب فلا
تفسد الصلاة بتركها عامدا أو ساهيا بل يجب عليه سجود السهو في السهو جبرا للنقصان
الحاصل بتركها سهوا، والإعادة في العمد والسهو إذا لم يسجد لتكون مؤداة على وجه لا
نقص فيه، فإذا لم يعدها كانت مؤداة أداء مكروها كراهة تحريم، وهذا هو الحكم في كل
واجب تركه عامدا أو ساهيا. وبهذا ظهر ضعف ما في المجتبى من قوله قال أصحابنا: إذا
515

ترك الفاتحة في الصلاة يؤمر بإعادة الصلاة، ولو ترك قراءة السورة لا يؤمر بالإعادة ا ه‍. إذ
لا فرق بين واجب وواجب إلا أن يقال: إنه ترك السورة وقرأ ثلاث آيات وهو بعيد جدا.
ثم اعلم أنهم قالوا في باب سجود السهو إنه لو ترك أكثر الفاتحة يجب عليه سجود السهو،
ولو ترك أقلها لا يجب. وظاهره أن الفاتحة بتمامها ليست بواجبة وإنما الواجب أكثرها ولا
يعرى عن تأمل. وفي القنية: يخاف المصلي فوت الوقت إن قرأ الفاتحة والسورة يجوز أن يقرأ
في كل ركعة بآية في جميع الصلوات إن خاف فوت الوقت بالزيادة ا ه‍. ثم الفاتحة واجبة في
الأوليين من الفرض وفي جميع ركعات النفل وفي الوتر والعيدين، وأما في الأخريين من
الفرض فسنة كما سيأتي.
قوله: (وضم سورة) وعند الأئمة الثلاثة سنة ولنا رواية الترمذي مرفوعا لا صلاة لمن
لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها (1) أطلق السورة وأراد بها ثلاث آيات لأن أقل
سورة في كتاب الله تعالى ثلاث آيات قصار كسورة إنا أعطيناك الكوثر ولم يرد السورة
بتمامها بدليل ما سيأتي صريحا في كلامه. وهذا الضم واجب في الأوليين من الفرض وفي
جميع ركعات النفل والوتر كالفاتحة، وأما في الأخريين من الفرض فليس بواجب ولا سنة بل
هو مشروع، فلو ضم السورة إلى الفاتحة في الأخريين لا يكون مكروها كما نقله في غاية
البيان عن فخر الاسلام، وسيأتي بأوضح من هذا إن شاء الله تعالى. قوله: (وتعيين القراءة
في الأوليين) أي وتعيين الأوليين من الثلاثية والرباعية المكتوبتين للقراءة المفروضة حتى لو قرأ
في الأخريين من الرباعية دون الأوليين أو في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ساهيا،
وجب عليه سجود السهو بناء على أن محل القراءة المفروضة الأوليان عينا وهو الصحيح كما
سيأتي بيانه في باب الوتر والنوافل. وعلى القول بعدم التعين لا فرضا ولا واجبا لا يجب
سجود السهو، وسيأتي تضعيفه. ثم اعلم أن في مسألة القراءة الواجبة واجبين آخرين لم
يذكرهما المصنف صريحا: أحدهما وجوب تقديم الفاتحة على السورة لثبوت المواظبة منه صلى الله عليه وسلم
كذلك حتى قالوا: لو قرأ حرفا من السورة قبل الفاتحة ساهيا ثم تذكر يقرأ الفاتحة ثم السورة
ويلزمه سجود السهو. وفي كلام المصنف ما يشير إلى ذلك حيث قال: وضم سورة لأنه يفيد
516

تقديم الفاتحة لأن المضموم إليه شئ يقتضي تأخره عنه. ثانيهما الاقتصار في الأوليين على
قراءة الفاتحة مرة واحدة في كل ركعة حتى إذا قرأها في ركعة منهما مرتين وجب عليه سجود
السهو. كذا في الذخيرة وغيرها لكن في فتاوى قاضيخان تفصيل وهو أنه إذا قرأها مرتين
على الولاء وجب السجود، وإن فصل بينهما بالسور لا يجب. واختاره في المحيط والظهيرية
والخلاصة وصححه الزاهدي لما أشار إليه في الذخيرة من لزوم تأخير الواجب وهو السورة
على التقدير الأول دون الثاني، فإن الركوع ليس واجبا بأثر السورة فإنه لو جمع بين سور بعد
الفاتحة لم يجب عليه شئ.
قوله: (ورعاية الترتيب في فعل مكرر) أطلقه هنا وقيده في الكافي بالمتكرر في كل
ركعة كالسجدة حتى لو ترك السجدة الثانية وقام إلى الركعة الثانية لا تفسد صلاته. وزاد عليه
الشارح أو يكون متكررا في جميع الصلاة كعدد الركعات فإن ما يقضيه المسبوق بعد فراغ
الإمام أول صلاته عندنا ولو كان الترتيب فرضا لكان آخرا ا ه‍. وهو مردود فإن ما يقضيه
المسبوق أول صلاته حكما لا حقيقة. وأيضا ليس هو أول صلاته مطلقا بل أولها في حق
القراءة وآخرها في حق التشهد على ما سيأتي. ولا يصح أن يدخل تحت الترتيب الواجب إذ
517

لا شئ على المسبوق ولا نقص في صلاته أصلا فلذا اقتصر المصنف على المتكرر في كل
ركعة. وإنما كان واجبا لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة الترتيب فيه وقيام الدليل على عدم
فرضيته وهو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (1) ثم قال
المصنف في الكافي: أما ترتيب القيام على الركوع وترتيب الركوع على السجود ففرض لأن
الصلاة لا توجد إلا بذلك، وهكذا ذكر الشارح وشراح الهداية، وعللوا له بأن ما اتحدت
شرعيته يراعي وجوده صورة ومعنى في محله لأنه كذلك شرع، فإذا غيره فقد قلب الفعل
وعكسه وقلب المشروع باطل ولا كذلك ما تعددت شرعيته. وقال المصنف في كافيه من باب
518

سجود السهو: إن سجود السهو يجب بأشياء منها: تقديم ركن بأن ركع قبل أن يقرأ أو سجد
قبل أن يركع ثم قال: أما التقديم والتأخير فلان مراعاة الترتيب واجبة عندنا خلافا لزفر،
فإذا ترك الترتيب فقد ترك الواجب وهو ظاهر في التناقض على ما قيل، وقد وقع نظيره في
الذخيرة حتى استدل به صدر الشريعة في شرح الوقاية على أن الترتيب بين القراءة والركوع
واجب بدليل وجوب سجود السهو بتركه حتى قال: وليس فيما تكرره قيدا يوجب نفي
الحكم عما عداه فإن مراعاة الترتيب في الأركان التي لا تكرر في كل ركعة واحدة أيضا
واجب لأنهم قالوا: يجب سجود السهو بتقديم ركن وأوردوا لنظيره الركوع قبل القراءة،
وسجدة السهو لا تجب إلا لترك الواجب، فعلم أن الترتيب بين الركوع والقراءة واجب مع
أنهما غير مكررين في ركعة واحدة، فعلم أن مراعاة الترتيب واجبة مطلقا، ويخطر ببالي أن
المراد بما تكرر ما تكرر في الصلاة احترازا عما لا يتكرر فيها على سبيل الفرضية وهو تكبيرة
الافتتاح والقعدة الأخيرة، فإن مراعاة الترتيب في ذلك فرض ا ه‍. وليس كما ظن وليس
519

بين الكلامين تناقض لأن قولهم هنا بأن هذا الترتيب شرط معناه أن الركن الذي هو فيه يفسد
بتركه حتى إذا ركع بعد السجود لا يقع معتدا به بالاجماع كما صرح به في النهاية، فيلزمه
إعادة السجود. وقولهم في سجود السهو بأن هذا الترتيب واجب معناه أن الصلاة لا تفسد
بترك الترتيب إذا أعاد الركن الذي أتى به، فإذا أعاده فقد ترك الترتيب صورة فيجب عليه
سجود السهو.
فالحاصل أن المشروع فرضا في الصلاة أربعة أنواع: ما يتحد في كل الصلاة كالقعدة
أو في كل ركعة كالقيام والركوع، وما يتعدد في كلها كالركعات أو في كل ركعة كالسجود،
فالترتيب شرط بين المتحد في كل الصلاة وجميع ما سواه مما يتعدد في كلها كالركعات أو في
كل ركعة وما يتحد في كل ركعة حتى لو تذكر بعد القعدة قبل السلام أو بعده قبل أن يأتي
بمفسد ركعة أو سجدة صلبية أو للتلاوة فعلها وأعاد القعدة وسجد للسهو، ولو تذكر كرر
ركوعا قضاه وقضى ما بعده من السجود، أو قياما أو قراءة صلى ركعة تامة، وكذا يشترط
الترتيب بين ما يتحد في كل ركعة كالقيام والركوع، ولذا قلنا آنفا في ترك القيام والركوع إنه
يصلي ركعة تامة. وإذا عرف هذا فقوله في النهاية الترتيب ليس بشرط بين ما يتعدد في كل
520

الصلاة يعني الركعات أو يتحد في كل ركعة وبين ما يتعدد في كل ركعة ليس على إطلاقه،
بل بين السجود والمتحد في كل ركعة تفصيل إن كان سجود ذلك الركوع بأن يكون ركوعا
وسجودا من ركعة واحدة فالترتيب شرط، وإن كان ركوعا من ركعة وسجودا من أخرى بأن
تذكر في سجدة ركوع ركعة قبل ركوع هذه السجدة قضى الركوع وسجدتيه، وإن تذكر على
القلب بأن تذكر في ركوع أنه لم يسجد في الركعة قبلها سجدها. وهل يعيد الركوع والسجود
المتذكر فيه؟ ففي الهداية إنه لا تجب الإعادة بل تستحب معللا بأن الترتيب ليس بفرض بين
ما يتكرر في الافعال، والذي في فتاوى قاضيخان وغيره أنه يعيد معللا بأنه ارتفض بالعود
إلى ما قبله من الأركان لأنه قبل الرفع منه يقبل الرفض، ولهذا ذكر هو فيما لو تذكر سجدة
بعد ما رفع من الركوع أنه يقضيها ولا يعيد الركوع لأنه بعد ما تم بالرفع لا يقبل الرفض،
فعلم أن الاختلاف في الإعادة ليس بناء على اشتراط الترتيب وعدمه بل عن أن الركن المتذكر
فيه هل يرتفض بالعود إلى ما قبله من الأركان أو لا، وفي الكافي للحاكم: رجل افتتح
521

الصلاة وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع، فهذا قد صلى ركعة، وكذلك إن
ركع أولا ثم قرأ وركع وسجد فإنما صلى ركعة واحدة، وكذلك إن سجد أولا سجدتين ثم
قام فقرأ في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام فقرأ وسجد في الثالثة ولم يركع فإنما صلى ركعة
واحدة، وكذلك إن ركع في الأولى ولم يسجد وركع في الثانية ولم يسجد ثم سجد في الثالثة
ولم يركع فإنما صلى واحدة ا ه‍. كذا في فتح القدير. ثم اعلم أن في كل موضع يشترط فيه
الترتيب، وقلنا يفسد بتركه الركن الذي هو فيه كما قدمنا هل تفسد الصلاة بالكلية ينظر، إن
كانت الزيادة ركعة تامة تفسد لما أن الركعة لا تقبل الرفض حتى يراعى الترتيب المشروط
برفضها، وأما إن كانت الزيادة ما دون الركعة فلا تفسد إليه أشار في النهاية.
قوله: (وتعديل الأركان) وهو تسكين الجوارح في الركوع والسجود حتى تطمئن
مفاصله. وأدناه مقدار تسبيحة، وهو واجب على تخريج الكرخي وهو الصحيح كما في شرح
المنية، وسنة على تخريج الجرجاني، وفرض على ما نقله الحاوي عن الثلاثة. والذي نقله الجم
الغفير أنه واجب عند أبي حنيفة ومحمد، فرض عند أبي يوسف، مستدلين له ولمن وافقه
بحديث المسئ صلاته حيث قال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات، وأمره له
بالطمأنينة، فالامر بالإعادة لا يجب إلا عند فساد الصلاة، ومطلق الامر يفيد الافتراض.
وبما أخرجه أصحاب السنن الأربعة مرفوعا لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في
الركوع والسجود ولهما قوله تعالى * (اركعوا واسجدوا) * (الحج: 77) واللفظان خاصان
معلوم معناهما فلا تجوز الزيادة عليهما بخبر الواحد لأنه لا يصلح ناسخا للكتاب ويصلح
مكملا، فيحمل أمره بالإعادة والطمأنينة على الوجوب ونفيه للصلاة على نفي كمالها كنفي
الاجزاء في الحديث الثاني على نفي الاجزاء الكامل. ويدل عليه آخر حديث المسئ صلاته
فإنه قال فيه: فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من
صلاتك. فقد سماها صلاة والباطلة ليست صلاة ولأنه تركه عليه السلام بعد أول ركعة حتى
أتم، ولو كان عدمها مفسدا لفسدت بأول ركعة وبعد الفساد لا يحل المضي في الصلاة،
وتقريره عليه السلام من الأدلة الشرعية ويدل على وجوبها المواظبة عليها، وبهذا يضعف قول
الجرجاني ولهذا سئل محمد عن تركها فقال: أني أخاف أن لا تجوز. وعن السرخسي: من
522

ترك الاعتدال تلزمه الإعادة. ومن المشايخ من قال: تلزمه ويكون الفرض هو الثاني ولا
إشكال في وجوب الإعادة إذ هو الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم ويكون جابرا
للأول لأن الفرض لا يتكرر، وجعله الثاني يقتضي عدم سقوطه بالأول وهو لازم ترك الركن
لا الواجب إلا أن يقال: المراد أن ذلك امتنان من الله تعالى إذ يحتسب الكامل وإن تأخر عن
الفرض لما علم سبحانه أنه سيوقعه. كذا في فتح القدير. وقد يقال: إن قول أبي يوسف
بالفرضية مشكل لأنه وافقهما في الأصول أن الزيادة على الخاص بخبر الواحد لا تجوز فكيف
استقام له القول بالجواز هنا، ولهذا والله أعلم قال المحقق ابن الهمام: ويحمل قول أبي
يوسف بالفرضية على الفرض العملي وهو الواجب فيرتفع الخلاف ا ه‍. ويؤيده أن هذا
الخلاف لم يذكر في ظاهر الرواية على ما قالوا كما في شرح منية المصلي، ولهذا لم يذكر
صاحب الاسرار خلاف أبي يوسف وإنما قال قال علماؤنا: الطمأنينة في الركوع والسجود،
وفي الانتقال من ركن إلى ركن ليس بركن، وكذلك الاستواء بين السجدتين وبين الركوع
والسجود ا ه‍. وينبغي أن يحمل ما ذهب إليه الطحاوي من الافتراض على الفرض العملي
كما قررناه ليوافق أصول أهل المذهب وإلا فالاشكال أشد. قيد بالطمأنينة في الأركان أي
الركوع والسجود لأن الطمأنينة في القومة والجلسة سنة عند أبي حنيفة ومحمد بالاتفاق، وعند
أبي يوسف فرض كما تقدم، وفي شرح الزاهدي ما يدل على وجوبها عندهما كوجوبها في
الأركان فإنه قال: وذكر صدر القضا وإتمام الركوع وإكمال كل ركن واجب عند أبي حنيفة
ومحمد، وعند أبي يوسف والشافعي فرض. وكذا رفع الرأس من الركوع والانتصاب والقيام
والطمأنينة فيه فيجب أن يكمل الركوع حتى يطمئن كل عضو منه ويرفع رأسه من الركوع
حتى ينتصب قائما ويطمئن كل عضو منه، وكذا في السجود، ولو ترك شيئا من ذلك ناسيا
يلزمه سجدتا السهو، ولو تركها عمدا يكره أشد الكراهة ويلزمه أن يعيد الصلاة ا ه‍. وهو
يدل على وجوب القومة والجلسة وسيأتي التصريح بسنيتهما. ومقتضى الدليل وجوب
الطمأنينة في الأربعة ووجوب نفس الرفع من الركوع والجلوس بين السجدتين للمواظبة على
523

ذلك كله، وللامر في حديث المسئ صلاته. وفي فتاوى قاضيخان في فصل ما يوجب
السهو قال: المصلي إذا ركع ولم يرفع رأسه من الركوع حتى خر ساجدا ساهيا تجوز صلاته في
قول أبي حنيفة ومحمد وعليه السهو ا ه‍. وفي المحيط: لو ترك تعديل الأركان أو القومة التي
بين الركوع والسجود ساهيا لزمه سجود السهو ا ه‍. فيكون حكم الجلسة بين السجدتين
كذلك لأن الكلام فيهما واحد، والقول بوجوب الكل هو مختار المحقق ابن الهمام وتلميذه
ابن أمير حاج حتى قال: إنه الصواب والله الموفق للصواب.
قوله: (والقعود الأول) لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه في جميع العمر، وذا يدل على
الوجوب إذا قام دليل عدم الفرضية وقد قام هنا لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى الثالثة فسبح
له فلم يرجع. صححه الترمذي. ولو كان فرضا لرجع. وما في الكتاب في الوجوب قول
الجمهور وهو الصحيح، وعند الطحاوي والكرخي هي سنة. وفي البدائع: وأكثر مشايخنا
يطلقون عليها اسم السنة، إما لأن وجوبها عرف بالسنة فعلا، أو لأن السنة المؤكدة في معنى
الواجب وهذه القعدة للفصل بين الشفعين وأراد بالأول غير الآخر لا الفرض السابق إذ لو
أريد به السابق لم يفهم حكم القعدة الثانية التي ليست أخيره لأن القعدة في الصلاة قد تكون
أكثر من اثنتين، فإن المسبوق بثلاث في الرباعية يقعد ثلاث قعدات كل من الأولى والثانية
واجب والثالثة هي الأخيرة، وهي فرض كما سيأتي بيانه في مسائل المسبوق إن شاء الله تعالى
ولم أر من نبه على هذا وسيأتي إن شاء الله تعالى عن خزانة الفقه أن القعود في الصلاة يتكرر
عشر مرات قوله: (والتشهد) أي الأول والثاني. وفي بعض نسخ النقاية والتشهد أن بلفظ
524

التثنية للمواظبة الدالة على الوجوب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود قل التحيات من غير تفرقة بين
الأول والثاني. واختار جماعة سنية التشهد في القعدة الأولى للفرق بين القعدتين لأن الأخيرة
لما كانت فرضا كان تشهدها واجبا، والأولى لما كانت واجبة كان تشهدها سنة، وأجيب بمنع
الملازمة فإن التشهد إنما هو ذكر مشروع في حالة مخصوصة واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في
القعدتين، فلذا كان الوجوب فيهما ظاهر الرواية وهو الأصح كما في المحيط والذخيرة،
وصرح به في الهداية في باب سجود السهو وإن كان سكت عنه في باب صفة الصلاة،
فقول صدر الشريعة إن صاحب الهداية جعله سنة غير صحيح وغفلة عن تصريحه به في ذلك
الباب ولعل صاحب الكتاب إنما لم يأت بالتثنية للإشارة إلى أن كل تشهد يكون في الصلاة
فهو واجب، سواء كان اثنين أو أكثر كما علمته في القعود.
قوله: (ولفظ السلام) للمواظبة عليه. وذهبت الأئمة الثلاثة إلى افتراضه حتى قال
النووي: لو أخل بحرف من حروف السلام عليكم لم تصح صلاته كما لو قال السلام عليك
أو سلامي عليكم لما أخرجه أبو داود وغيره عن علي مرفوعا مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها
التكبير وتحليلها التسليم. ولنا ما في حديث ابن مسعود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بعد أن
علمه التشهد: إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن
شئت أن تقعد فاقعد، رواه أبو داود. وأطلق بعض المشايخ اسم السنة عليه وهو لا ينافي
الوجوب والخروج من الصلاة يحصل عندنا بمجرد لفظ السلام ولا يتوقف على قوله
عليكم. وفي قوله لفظ السلام إشارة إلى أن الالتفات به يمينا ويسارا ليس بواجب وإنما
هو سنة على ما سيأتي، وإلى أن الواجب السلام فقط دون عليكم وإلى أن لفظا آخر لا يقوم
مقامه ولو كان بمعناه حيث كان قادرا عليه بخلاف التشهد في الصلاة حيث لا يختص بلفظ
525

العربي بل يجوز بأي لسان كان مع قدرته على العربي، ولذا لم يقل ولفظ التشهد وقال ولفظ
السلام. وقال غيره: وإصابة لفظ السلام لكن هذه الإشارة يخالفها صريح المنقول فإنه سيأتي
أن الشارح نقل الاجماع أن السلام لا يختص بلفظ العربي قوله: (وقنوت الوتر) أي وقراءة
القنوت في الوتر واجبة، وهذا عند أبي حنيفة، وأما عندهما فهو سنة كنفس صلاة الوتر.
واستدل لوجوبه بأنه يضاف إلى الصلاة فيقال قنوت الوتر فدل أنه من خصائصه. وهو إما
بالوجوب أو بالفرض وانتفى الثاني فتعين الأول ولا يخفى ما فيه فإن هذه الإضافة لم تسمع
من الشارع حتى تفيد الاختصاص، واستدل بعضهم بما رواه أصحاب السنن الأربعة عن علي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك
من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. فإنه صريح
في المواظبة على هذا القول وأنت خبير بأنه لا يدل على المطلوب وسيأتي شئ منه في بابه،
وأن المراد بالقنوت الدعاء ولا يختص بلفظ حتى قال بعضهم: الأفضل أن لا يؤقت دعاء.
ومنهم من قال به إلا الدعاء المعروف اللهم إنا نستعينك إلى آخره. واتفقوا على أنه لو دعا
بغيره جاز ولهذا قالوا من لا يحسن القنوت المعروف يقول اللهم اغفر لي قوله: (وتكبيرات
العيدين) أي والتكبيرات الزوائد في صلاتي العيدين وهي ثلاث في كل ركعة، واستدل
للوجوب بالإضافة المتقدمة وفيه من البحث ما قدمناه. وذكر في فتح القدير أن الأولى أن
يستدل على وجوب الأذكار المذكورة بالمواظبة المقرونة بالترك في التشهد للنسيان فلا يلحق
بالمبين أعني الصلاة ليكون فرضا، أما في قنوت الوتر وتكبيرات العيدين فلان أصلهما بظني
فلا تكون المواظبة فيهما محتاجة إلى الاقتران بالترك ليثبت به الوجوب، والمواظبة في السلام
معارضة بحديث ابن مسعود فلم يتحقق بيانا لما تقرر جزءا للصلاة ا ه‍. وظاهره ثبوت
المواظبة على القنوت وتكبيرات الزوائد من غير ترك حتى أثبت بها الوجوب، وقد نازع هو
في ذلك في باب صلاة الوتر بأن الوارد مطلق المواظبة أعم من المقرونة بالترك أحيانا وغير
المقرونة ولا دلالة للأعم على الأخص وإلا لوجب الكلمات الواردة عينا أو كانت أولى من
غيرها. وذكر في المستصفى أن من الواجبات رعاية لفظ التكبير في تكبيرة الافتتاح في صلاة
العيدين حتى يجب عليه سجود السهو إذا قال الله أجل أو أعظم يعني ساهيا بخلاف سائر
الصلوات ا ه‍. وسيأتي بيان الخلاف في مراعاة لفظ التكبير للافتتاح في سائر الصلوات وأن
526

الراجح وجوبها، فحينئذ لا فرق بين العبد وغيرها ومن الواجبات تكبيرة القنوت وتكبيرة
الركوع في الركعة الثانية من صلاتي العيدين ذكرهما الشارح في باب سجود السهو قوله:
(والجهر والاسرار فيما يجهر ويسر) للمواظبة على ذلك أطلقه اعتمادا على ما يبينه في محله
من أن المنفرد مخير فيما يجهر، فالحاصل إن الاخفاء في صلاة المخافتة واجب على المصلي
إماما كان أو منفردا، وهي صلاة الظهر والعصر والركعة الثالثة من المغرب والاخريان من
صلاة العشاء وصلاة الكسوف والاستسقاء، وهو واجب على الإمام اتفاقا وعلى المنفرد على
الأصح. وأما الجهر في الصلاة والجهرية فواجب على الإمام فقط وهو أفضل في حق
المنفرد وهي صلاة الصبح والركعتان الأوليان من المغرب والعشاء وصلاة العيدين والتراويح
والوتر في رمضان.
قوله: (وسننها رفع اليدين للتحريمة) للمواظبة وهي وإن كانت من غير ترك تفيد
الوجوب لكن إذا لم يكن ما يفيد إنها ليست لحامل الوجوب وقد وجد وهو تعليمه الاعرابي
من غير ذكر تأويل وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز على أنه حكي في الخلاصة خلافا
في تركه، وقيل يأثم، وقيل لا. قال: والمختار إن اعتاده أثم لا إن كان أحيانا ا ه‍. وفي
فتح القدير: وينبغي أن يجعل شقي هذا القول محمل القولين فلا اختلاف حينئذ ولا إثم لنفس
الترك بل لأنه اعتياده للاستخفاف وإلا فمشكل أو يكون واجبا ا ه‍. والذي يظهر من كلام
أهل المذهب أن الاثم منوط بترك الواجب أو السنة المؤكدة على الصحيح لتصريحهم بأن من
ترك سنن الصلوات الخمس قيل لا يأثم، والصحيح أنه يأثم. ذكره في فتح القدير وتصريحهم
بالاثم لمن ترك الجماعة مع أنها سنة مؤكدة على الصحيح وكذا في نظائره لمن تتبع كلامهم،
ولا شك أن الاثم مقول بالتشكيك بعضه أشد من بعض، فالاثم لتارك السنة المؤكدة أخف
من الاثم لتارك الواجب، ولهذا قال في شرح منية المصلي في هذه المسألة: ثم المراد بالاثم
على هذا إثم يسير كما هو حكم هذه السنة المواظب صلى الله عليه وسلم عليها على ما ذكره صدر الاسلام
البزدوي ا ه‍ فالحاصل أن القائل بالاثم في ترك الرفع بناه على أنه من سنن الهدى فهو سنة
527

مؤكدة، والقائل بعدمه بناه على أنه من سنن الزوائد بمنزلة المستحق، وقد قال في الذخيرة:
وقد روي عن أبي حنيفة ما يدل على عدم الاثم فإنه قال: إن ترك رفع اليدين جاز وإن رفع
فهو أفضل ا ه‍. وبهذا اندفع ما في الفتح القدير كما لا يخفى قوله: (ونشر أصابعه) وكيفيته
أن لا يضم كل الضم ولا يفرج كل التفريج بل يتركها على حالها منشورة. كذا ذكره
الشارح. والظاهر أن المراد بالنشر عدم الطي بمعنى أنه يسن أن يرفعهما منصوبتين لا
مضمومتين حتى تكون الأصابع مع الكف مستقبلة للقبلة، ومن السنن أن لا يطأطئ رأسه
عند التكبير كما في المبسوط وهو بدعة. قوله: (وجهر الإمام بالتكبير) لحاجته إلى الاعلام
بالدخول والانتقال. قيد بالإمام لأن المأموم والمنفرد لا يسن لهما الجهر به لأن الأصل في
الذكر الاخفاء ولا حاجة لهما إلى الجهر. قوله: (والثناء والتعوذ والتسمية والتأمين سرا) للنقل
المستفيض على ما يأتي بيانه. وقوله سرا راجع إلى الأربعة. قوله: (ووضع يمينه على يساره
تحت سرته) لما في صحيح مسلم عن وائل بن حجر أنه قال: ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى
على اليسرى. فانتفى به قول مالك بالارسال. وعند الشافعي محله ما فوق السرة تحت الصدر
واستدل له النووي بما في صحيح ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال: صليت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. ولا يخفى أنه لا يطابق
المدعي. واستدل مشايخنا بما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث من سنن المرسلين وذكر من جملتها
وضع اليمين على الشمال تحت السرة لكن المخرجين لم يعرفوا فيه مرفوعا وموقوفا تحت
السرة. ويمكن أن يقال في توجيه المذهب: إن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال ولم
يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون فيه الوضع من البدن إلا حديث وائل المذكور،
528

وهو مع كونه واقعة حال لا عموم لها يحتمل أن يكون لبيان الجواز فيحال في ذلك كما قاله
في فتح القدير على المعهود من وضعها حال قصد التعظيم في القيام، والمعهود في الشاهد منه
أن يكون ذلك تحت السرة فقلنا به في هذه الحالة في حق الرجل بخلاف المرأة فإنها تضع على
صدرها لأنه أستر لها فيكون في حقها أولى.
قوله: (وتكبير الركوع) لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر عند كل رفع
وخفض. قوله: (والرفع منه) أي من الركوع وهو بالرفع عطفا على التكبير ولا يجوز جره
لأنه لا يكبر عند الرفع من الركوع وإنما يأتي بالتسميع، وقد قدمنا أن مقتضى الدليل
الوجوب لا السنية، وهو رواية عن أبي حنيفة. قوله: (وتسبيحه ثلاثا) أي تسبيح الركوع.
قوله: (وأخذ ركبتيه بيديه وتفريج أصابعه) لحديث أنس: إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك
وفرج بين أصابعك. قوله: (وتكبير السجود) لما روينا. قال الشارح: ولو قال وتكبير
السجود والرفع منه كان أولى لأن التكبير عند الرفع منه سنة وكذا الرفع نفسه سنة اه‍. لكن
استفادة الحكمين من قوله والرفع منه محل نظر لأنه إن قرئ بالرفع أفاد سنية أصل الرفع،
وإن قرئ بالجر أفاد سنية التكبير عند الرفع، وأما استفادتهما منه فلا. وروي عن أبي حنيفة
أن الرفع منه فرض، وجه الظاهر أن المقصود الانتقال وهو يتحقق بدونه بأن يسجد على
وسادة ثم تنزع ويسجد على الأرض ثانيا. قال الشارح: ولكن لا يتصور هذا إلا على قول
من لا يشترط الرفع حتى يكون أقرب إلى الجلوس. قوله: (وتسبيحه ثلاثا) لقوله عليه
الصلاة والسلام إذا سجد أحدكم فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا. قوله: (ووضع يديه
وركبتيه) يعني حالة السجود وسيأتي الكلام عليه. قوله: (وافتراش رجله اليسرى ونصب
اليمنى والقومة والجلسة) تقدم أن مقتضى الدليل وجوبهما. وفي قوله القومة نوع إشكال
529

فإنه قد ذكر فيما تقدم من قريب أن الرفع من الركوع سنة وهو القومة فيكون تكرارا. كذا
ذكره الشارح. وقد يقال: إنه أراد بالقومة القومة من السجود فلا تكرار والقومة خلاف
الجلسة كما لا يخفى. قوله: (والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) أو هو قول عامة السلف والخلف.
وقال الشافعي: إنها فرض تبطل الصلاة بتركها وقد نسب قوم من الأعيان الإمام الشافعي في
هذا إلى الشدوذ ومخالفة الاجماع منهم أبو جعفر الطحاوي وأبو بكر الرازي وأبو بكر بن المنذر
والخطابي والبغوي وابن جرير الطبري وهذه عبارته: أجمع جميع المتقدمين والمتأخرين من علماء
الأمة على أن الصلاة عليه غير واجبة في التشهد ولا سلف للشافعي في هذا القول ولا سنة
يتبعها ا ه‍. فإن تم هذا كان الاجماع هو الدليل على السنية لكن تعقب غير واحد دعوى
الاجماع بعدم التمام لأن عن بعض الصحابة وبعض التابعين ما يوافق قول الشافعي، وأما
موجب الامر في قوله تعالى * (صلوا عليه) * (الأحزاب: 56) فهو افتراضها في العمر مرة
واحدة في الصلاة أو خارجها لأن الامر لا يقتضي التكرار، وسيأتي كيفيتها وأحكامها إن
شاء الله تعالى. قوله: (والدعاء) أي لنفسه ولوالديه إن كانا مؤمنين ولجميع المؤمنين والمؤمنات
لما في صحيح مسلم ثم يتخير من المسألة ما شاء، ولما رواه الترمذي وحسنه مرفوعا عن أبي
إمامة قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصلوات
المكتوبات (1) بناء على أن المراد بدبرها ما قيل الفراغ منها كما ذكره بعضهم أي الوقت الذي
يليه وقت الخروج منها لأن دبر كل شئ منه ومتصل به، وقد يراد بدبر الشئ وراءه وعقبه
كما نصوا عليه أيضا فيكون حينئذ المراد بدبرها الوقت الذي يلي وقت الخروج منها لكن عندنا
السنة مقدمة على الدعاء الذي هو عقب الفراغ.
قوله: (وآدابها نظره إلى موضع سجوده) أي في حال القيام، وأما في حالة الركوع فإلى
ظهر قدميه، وفي سجوده إلى أرنبته، وفي قعوده إلى حجره، وعند التسليمة الأولى إلى منكبه
الأيمن، وعند الثانية إلى منكبه الأيسر لأن المقصود الخشوع. قوله: (وكظم فمه عند التثاؤب)
530

أي إمساك فمه والمراد به سده لقوله عليه الصلاة والسلام التثاؤب في الصلاة من الشيطان
فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع (2) وفي الظهيرية: فإن لم يقدر غطاه بيده أو كمه
للحديث. قوله: (وإخراج كفيه من كميه عند التكبير) لأنه أقرب إلى التواضع وأبعد من
التشبه بالجبابرة وأمكن من نشر الأصابع إلا لضرورة برد ونحوه. قوله: (ودفع السعال ما
استطاع) لأنه ليس من أفعال الصلاة ولهذا لو كان بغير عذر لا تفسد صلاته فيجتنبه ما
أمكن. قوله: (والقيام حين قيل حي على الفلاح) لأنه أمر به فيستحب المسارعة إليه. أطلقه
فشمل الإمام والمأموم إن كان الإمام بقرب المحراب وإلا فيقوم كل ص ف ينتهي إليه الإمام
وهو الأظهر، وإن دخل من قدام وقفوا حين يقع بصرهم عليه. وهذا كله إذا كان المؤذن غير
الإمام، فإن كان واحدا وأقام في المسجد فالقوم لا يقومون حتى يفرغ من إقامته. كذا في
الظهيرية. قوله: (وشروع الإمام مذ قيل قد قامت الصلاة) عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو
يوسف: يشرع إذا فرغ من الإقامة محافظة على فضيلة متابعة المؤذن وإعانة للمؤذن على الشروع
معه. ولهما أن المؤذن أمين وقد أخبر بقيام الصلاة فيشرع عنده صونا لكلامه عن الكذب، وفيه
مسارعة إلى المناجاة وقد تابع المؤذن في الأكثر فيقوم مقام الكل على أنهم قالوا المتابعة في الاذان
دون الإقامة. كذا ذكره الشارح وفيه نظر لما نقلناه في باب الاذان أن إجابة الإقامة مستحبة.
وفي الظهيرية: ولو أخر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة لا بأس به في قولهم جميعا والله أعلم.
فصل
هو في اللغة فرق ما بين الشيئين وفي الاصطلاح طائفة من المسائل الفقهية
531

تغيرت أحكامها بالنسبة إلى ما قبلها غير مترجمة بالكتاب والباب.
قوله: (وإذا أراد الدخول في الصلاة كبر) أي تكبيرة الافتتاح قائما كما قدمناه، وتقدم
أنه يكون شارعا بالنية عند التكبير لا به، وأن العاجز عن النطق لا يلزمه تحريك اللسان على
الصحيح، ومن سنن التكبير حذفه كما في البدائع والمحيط. قوله: (ورفع يديه حذاء أذنيه)
لما رويناه ولما رواه الحاكم وصححه عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كبر فحاذى بإبهاميه أذنيه.
وما ورد في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إلى منكبيه فمحمول على
حالة العذر حين كانت عليهم الأكسية والبرانس في زمن الشتاء كما أخبر به وائل بن حجر
رضي الله عنه على ما رواه الطحاوي عنه، أو المراد بما رويناه رؤوس الأصابع وبالثاني الأكف
والأرساغ عملا بالدلائل بالقدر الممكن كما في البدائع واعتمده في فتح القدير. أطلقه فشمل
الرجل والمرأة قالوا: يذكر حكم رفعها في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها
كالرجل فيه لأن كفيها ليستا بعورة، وروى ابن مقاتل أنها ترفع حذاء منكبيها لأنه أستر لها
وصححه في الهداية. ولا فرق بين الحرة والأمة على الروايتين. والمراد بالمحاذاة أن يمس
بإبهاميه شحمتي أذنيه ليتيقن بمحاذاة يديه بأذنيه كما ذكره في النقاية. ولم يبين المصنف وقت
الرفع لأنه عبر بالواو وهي لمطلق الجمع وفيه ثلاثة أقوال: القول الأول أنه يرفع مقارنا
للتكبير وهو المروي عن أبي يوسف قولا والمحكي عن الطحاوي فعلا واختاره شيخ الاسلام
وقاضيخان وصاحب الخلاصة والتحفة والبدائع والمحيط حتى قال البقالي: هذا قول أصحابنا
جميعا. ويشهد له المروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يكبر عند كل خفض ورفع، وما
رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير. وفسر قاضيخان المقارنة بأن تكون بداءته
عند بداءته وختمه عند ختمه. القول الثاني وقته قبل التكبير ونسبه في المجمع إلى أبي حنيفة
ومحمد، وفي غاية البيان إلى عامة علمائنا، وفي المبسوط إلى أكثر مشايخنا، وصححه في
الهداية، ويشهد له ما في الصحيحين عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع
يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر. القول الثالث وقته بعد التكبير فيكبر أولا ثم يرفع
532

يديه، ويشهد له ما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كبر ثم رفع يديه. ورجح في
الهداية ما صححه بأن فعله نفي الكبرياء عن غيره تعالى والنفي مقدم على الايجاب ككلمه
الشهادة، وأورد عليه أن ذلك في اللفظ فلا يلزم في غيره، ورد بأنه لم يدع لزومه في غيره
وإنما الكلام في الأولوية ففي الأقوال الثلاثة رواية عنه عليه السلام فيؤنس بأنه صلى الله عليه وسلم فعل كل
ذلك، ويترجح من بين أفعاله هذه تقديم الرفع بالمعنى المذكور. وتحمل ثم في قوله ثم
رفع على الواو ومع علي معنى قبل لأن الظروف ينوب بعضها عن بعض. وقد يقال: إن
تقديم النفي في كلمة الشهادة ضرورة لأنه لا يمكن التكلم بالنفي والاثبات معا بخلاف ما
نحن فيه، ورواية إنه كان يرفع مع التكبير نص محكم في المقارنة. ورواية إنه كان يرفع ثم
يكبر وعكسه يجوز أن تكون فيه ثم بمعنى الواو وهو يصدق على القران كالترتيب فيحمل
على القران جمعا بين الروايات، وإنما لم يعكس لأن المحكم راجح على المحتمل. كذا في
شرح المنية وفيه بحث، لأن كلمة ثم موضوعة للترتيب مع التراخي واستعمالها بمعنى الواو
مجاز فهي ظاهرة في معناها كما أن مع ظاهرة في القران وتكون بمعنى بعد مجازا كما في
قوله تعالى * (إن مع العسر يسرا) * (الشرح: 6) وكما في قوله أنت طالق اثنتين مع عتق
مولاك كما ذكروه في باب الطلاق فليست محكمة كما توهمه، فالمعارضة بين الروايات ثابتة،
فالترجيح بالمعنى المذكور لا بما ذكره. وأما التشبيه بكلمة الشهادة فهي في باب التمثيل لا
القياس المصطلح عليه وكبر ولم يرفع يديه حتى فرغ من التكبير لم يأت به لفوات محله،
وينبغي أن يأتي به على القول الثالث كما لا يخفى. وإن ذكره في أثناء التكبير رفع لأنه لم يفت
محله، وإن لم يمكنه إلى الموضع المسنون رفعهما قدر ما يمكن، وإن أمكنه رفع أحدهما دون
الأخرى رفعها، وإن لم يمكنه الرفع إلا بالزيادة على المسنون رفعهما. كذا ذكره الشارح رحمه
الله تعالى.
قوله (ولو شرع بالتسبيح أو بالتهليل أو بالفارسية صح) شروع في المراد بتكبيرة
الافتتاح فأفاد أن المراد بها كل لفظ هو ثناء خالص دال على التعظيم. وقال أبو يوسف: لا
يصير شارعا إلا بألفاظ مشتقة من التكبير وهي خمسة ألفاظ: الله أكبر، الله الأكبر، الله
533

الكبير، الله كبير، الله الكبار - كما في الخلاصة - إلا إذا كان لا يحسن التكبير أو لا يعلم أن
الشروع في الصلاة يكون به للحديث وتحريمها التكبير، وهو حاصل بهذه الألفاظ لأن أفعل
وفعيلا في صفاته تعالى سواء. ولهما أن التكبير لغة التعظيم وهذه الألفاظ موضوعة له
خصوصا الله أعظم فكانت تكبيرا وإن لم تكن بلفظ التكبير المعروف. وفي البدائع: والدليل
على أن قوله الله أكبر والرحمن أكبر سواء قوله تعالى * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما
تدعوا فله الأسماء الحسنى) * (الاسراء: 110) ولهذا يجوز الذبح باسم الرحمن أو باسم
الرحيم، فكذا هذا. ثم غاية ما هنا أن الثابت بالنص ذكر الله تعالى على سبيل التعظيم ولفظ
التكبير ثبت بالخبر فيجب العمل به حتى يكره افتتاح الصلاة بغيره لمن يحسنه كما قلنا في
قراءة القرآن مع الفاتحة وفي الركوع والسجود مع التعديل. ذكره في الكافي. وهذا يفيد
الوجوب وهو الأشبه للمواظبة التي لم تقترن بترك فعلي. هذا ما ذكره في التحفة والذخيرة
والنهاية من أن الأصح أنه يكره الافتتاح بغير الله أكبر عند أبي حنيفة، فالمراد كراهة التحريم
لأنها في رتبة الواجب من جهة الترك، فعلى هذا يضعف ما صححه السرخسي من أن الأصح
أنه لا يكره مستدلا بما روي عن مجاهد قال: كان الأنبياء يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله
ونبينا من جملتهم. وهذا على تقدير صحته فالمراد غير نبينا صلى الله عليه وسلم بدليل نقل المواظبة عنه على
لفظ التكبير. ويضعف أيضا ما ذكره المصنف في المستصفى من أن مراعاة لفظ التكبير في
الافتتاح واجبة في صلاة العيد بخلاف سائر الصلوات لما علمت أنها واجبة في الكل.
والظاهر أنه مبني على تصحيح السرخسي بدليل ما ذكره في الكافي. وأراد المصنف بالتسبيح
والتهليل ما ذكرنا من اللفظ الدال على التعظيم لا خصوص سبحان الله والحمد لله فأفاد
بإطلاقه أنه لا فرق بين الأسماء الخاصة أو المشتركة حتى يصير شارعا بالرحيم أكبر أو أجل
كما نص عليه في المحيط والبدائع والخلاصة، وصرح في المجتبى بأنه الأصح، وأفتى به
المرغيناني. فما في الذخيرة عن فتاوى الفضلي أنه لا يصير شارعا بالرحيم ضعيف. وقيده في
شرح المنية بأن لا يقترن به ما يفسد الصلاة أما إذا قرن به ما كان كذلك فلا يصير شارعا
اتفاقا كقوله العالم بالمعدوم والموجود أو بأحوال الخلق كما أن القول بأنه لا يجوز بكل اسم
مشترك مقيد بما إذا لم يقترن بما يزيل اشتراكه، أما إذا قرن بما يزيله لا يفسد الصلاة كقوله
534

القادر على كل شئ، والرحيم بعباده، وعالم الغيب والشهادة، فينبغي أن يصير شارعا باتفاقهم
على قولهم اه‍. وأشار بذكر التسبيح والتهليل إلى أنه لا يصير شارعا إلا بجملة تامة فلا يصير
شارعا بالمبتدأ وحده ك‍ " الله أو أكبر وهو ظاهر الرواية كما نقله في التجريد. وعلل له بأن
التعظيم الذي هو معنى التكبير حكم على المعظم فلا بد من الخبر، ومنهم من قال: يصير شارعا
بكل اسم مفردا وخبر لا فرق بين الجلالة وغيرها وهو رواية الحسن. وفرق قاضيخان في فتاواه
بين الألفاظ فقال: لو قال الله أو الرب ولم يزد يصير شارعا، ولو قال الكبير أو الأكبر
أو قال أكبر لا يصير شارعا. قال في فتح القدير: كان الفرق الاختصاص في الاطلاق
وعدمه. وفائدة الاختلاف تظهر في مسائل منها: أن الحائض إذا طهرت على عشر وفي الوقت
ما يسع الاسم الشريف فقط لا تجب تلك الصلاة عليها على ظاهر الرواية، وتجب على تلك
الرواية. ومنها أنه ينبغي فيما إذا أدرك الإمام في الركوع فقال الله أكبر إلا أن قوله الله كان
في قيامه وقوله أكبر كان في ركوعه أنه يكون شارعا على رواية الحسن لا على الظاهر، لكن
الذي في الخانية والخلاصة أنه لا يكون شارعا ولم يحكيا غيره فكأنهما بنياه على القول المختار.
ومنها ما لو وقع قوله الله مع الإمام وأكبر قبله لا يكون شارعا على الظاهر، وأما إذا شرع
بالفارسية فإنما يصح لما بيناه من أن التكبير هو التعظيم وهو حاصل بأي لسان كان، ولان
الأصل في النصوص التعليل فلا يعدل عنه إلا بدليل فهو كالايمان فإنه لو آمن بغير العربية جاز
إجماعا لحصول المقصود وكذا التلبية في الحج والسلام والتسمية عند الذبح بها يجوز كما سيأتي.
ومحمد مع أبي حنيفة في العربية حتى يصير شارعا بغير لفظ التكبير من العربية حيث دل على
التعظيم، ومع أبي يوسف في الفارسية حتى لا يكون شارعا في الصلاة بها حيث كان يحسن
العربية، وعلى هذا الخلاف الخطبة والقنوت والتشهد، وفي الاذان يعتبر التعارف.
535

قوله: (كما لو قرأ بها عاجزا) أي لو قرأ بالفارسية حالة العجز عن العربية فإنه يصح،
وهذا بالاتفاق. قيد بالعجز لأنه لو كان قادرا فإنه لا يصح اتفاقا على الصحيح وكان أبو
حنيفة أولا يقول بالصحة نظرا إلى عدم أخذ العربية في مفهوم القرآن ولذا قال تعالى * (ولو
جعلناه قرآنا أعجميا * (فصلت: 44) فإنه يستلزم تسميته قرآنا أيضا لو كان أعجميا، ثم
رجع عن هذا القول ووافقهما في عدم الجواز وهو الحق لأن المفهوم من القرآن باللام إنما هم
العربي في عرف الشرع وهو المطلوب من قوله تعالى * (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) * (المزمل:
20) وأما قرآن المنكر فلم يعهد فيه نقل عن المفهوم اللغوي فيتناول كل مقروء. وما قيل
النظم مقصود للاعجاز وحالة الصلاة المقصود من القرآن فيها المناجاة لا الاعجاز فلا يكون
النظم لازما فيها فمردود، لأنه معارضة للنص بالمعنى فإن النص طلب بالعربي وهذا التعليل
يجيزه بغيرها، والكلام في هذه المسألة كثير أصولا وفروعا. والتقييد بالفارسية ليس للاحتراز
عن غيرها فإن الصحيح أن الفارسية وغيرها سواء، فحينئذ كان مراده من الفارسية غير
العربية. ولا يجوز بالتفسير إجماعا لأنه كلام الناس، وفي الهداية: والخلاف في الجواز إذا
اكتفي به، ولا خلاف في عدم الفساد حتى إذا قرأ معه بالعربية قدر ما تجوز به الصلاة جازت
صلاته. وفي فتاوى قاضيخان: إنها تفسد عندهما والتوفيق بينهما بحمل ما في الهداية على ما
إذا كان ذكرا أو تنزيها. ويحمل ما في الفتاوى على ما إذا كان المقروء من مكان القصص
والأمر والنهي كالقراءة الشاذة فإنهم صرحوا في الفروع أنه لا يكتفي بها ولا تفسد. وفي
536

أصول شمس الأئمة أن الصلاة تفسد بها فيحمل الأول على ما إذا كان ذكرا، والثاني على ما
إذا كان غير ذكر كما بيناه في كتابنا المسمى بلب الأصول. قوله: (أو ذبح وسمى بها) يعني
يصح اتفاقا لأن الشرط فيه الذكر وهو حاصل بأي لسان كان. قوله (لا باللهم اغفر لي) أي
لا يكون شارعا في الصلاة ولا مسميا على الذبيحة بقوله اللهم اغفر لي لأنه ليس بثناء
خالص بل مشوب بحاجته، قيد به لأنه لو قال اللهم اختلفوا فيه والصحيح الجواز كذا في
المحيط. والخلاف مبني على معناه فعند سيبويه والبصريين معناه يا الله وضمه الهاء فيه هي
الضمة التي بنى عليها المنادى، والميم المشددة في آخره عوض عن حرف النداء المحذوف،
ولا يجمع بينه وبين حرف النداء لئلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض، ويصح الشروع
ب يا الله كما في منية المصلي ولم يحك فيه خلافا فكذا ما كان بمعناه. وعند الكوفيين معناه
يا الله أمنا بخير أي اقصدنا به فحذف حرف النداء والجملة اختصارا لكثرة الاستعمال فأبقيت
ضمة الهاء على ما كانت عليه، وعوضت بالميم المشددة عن الجملة. ويجوز الجمع بين حرف
النداء والميم لأنها ليست بعوض عنه وقد رد هذا القول بقوله تعالى * (وإذا قالوا اللهم إن كان
هذا هو الحق من عندك فأمطر) * (الأنفال: 32) الآية، لأنه لا يسوغ أن يقال يا الله أمنا بخير
إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر الآية. فلا جرم أن صحح المشايخ القول بالصحة.
وذكر في شرح الجامع الصغير لفخر الاسلام أن فيه قولا ثالثا وهو أن الميم المشددة كناية عن
أسماء الله تعالى قال: فهذا يوجب أن يصح الشروع به أيضا اه‍. ويشهد له قول النضر بن
شميل من قال اللهم فقد دعا بجميع أسمائه، ولهذا قيل إنه الاسم الأعظم. وأشار إلى أنه لو
قال اللهم أرزقني أو قال استغفر الله أو أعوذ بالله أو لا حول ولا قوة إلا بالله أو ما شاء الله
فإنه لا يصير شارعا كما في المنية، ولو قال بسم الله الرحمن الرحيم ففي المبتغى والمجتبى
يجوز، وفي الذخيرة لا يجوز معللا بأن التسمية للتبرك فكأنه قال بارك لي في هذا الامر،
537

وظاهر كلام الشارح ترجيحه. وفي شرح المنية إنه الأشبه. وينبغي ترجيح الجواز لأنه ذكر
خالص بدليل التسمية على الذبيحة مع اشتراط الذكر الخالص فيها لقوله تعالى * (فاذكروا اسم
الله عليها صواف) * (الحج: 36) أي خالصا.
قوله (ووضع يمينه على يساره تحت سرته) كما قدمناه ولم يذكر كيفية الوضع لأنها لم
تذكر في ظاهر الرواية. واختلف فيها والمختار أنه يأخذ رسغها بالخنصر والابهام لأنه يلزم من
الاخذ الوضع ولا ينعكس. وهذا لأن الاخبار اختلفت ذكر في بعضها الوضع وفي بعضها
الاخذ فكان الجمع بينهما عملا بالدليلين أولى. ولم يذكر المصنف أيضا وقت الوضع ففي
ظاهر الرواية وقته كما فرغ من التكبير فهو سنة قيام له قرار فيه ذكر مسنون فيضع حالة الثناء
وفي القنوت وتكبيرات الجنازة، وقيل سنة القراءة فقط فلا يضع في هذه المواضع. وأجمعوا
538

أنه لا يسن الوضع في القيام المتخلل بين الركوع والسجود لأنه لا قرار له ولا قراءة فيه،
وبهذا اندفع ما في فتح القدير من أن الارسال في القومة بناء على الضابط المذكور يقتضي أن
ليس فيها ذكر مسنون وإنما يتم إذا قيل بأن التحميد والتسميع ليس سنة فيها بل في نفس
الانتقال إليها لكنه خلاف ظاهر النصوص والواقع أنه قل ما يقع التسميع إلا في القيام حالة
الجمع بينهما اه‍. لما علمت أن كلامهم إنما هو في قيام له قرار. وفي القنية: ولو ترك
التسميع حتى استوى قائما لا يأتي به كما لو لم يكبر حالة الانحطاط حتى ركع أو سجد
تركه، ويجب أن يحفظ هذا ويراعى كل شئ في محله اه‍. وهو صريح في أن القومة ليس
فيها ذكر مسنون. وذكر في شرح منية المصلي أن شيخ الاسلام ذكر في شرح كتاب الصلاة
أنه يرسل في القومة التي تكون بين الركوع والسجود على قولهما كما هو قول محمد. وذكر
في موضع آخر أن على قولهما يعتمد فإن في هذا القيام ذكرا مسنونا وهو التسميع أو
التحميد، وعلى هذا مشى صاحب الملتقط اه‍. وهو مساعد لما بحثه المحقق آنفا. وعلى هذا
539

فالمراد من الاجماع المتقدم اتفاق أبي حنيفة وصاحبيه على الصحيح. وصحح في البدائع جواب
ظاهر الرواية مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في
الصلاة من غير فصل بين حال وحال فهو على العموم إلا ما خص بدليل. وذكر الشارح أنه
لا يضع في تكبيرات العيد، وعند بعضهم أنه سنة القيام مطلقا حتى يضع في الكل. وحكى
في البدائع اختلاف المشاية في الوضع فيما بين التكبيرات.
قوله (مستفتحا) هو حال من الوضع أي يضع قائلا سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك
اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وقد تقدم أنه سنة لرواية الجماعة أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوله إذا
افتتح الصلاة. أطلقه فأفاد أنه يأتي به كل مصل، إماما كان أو مأموما أو منفردا لكن قالوا:
المسبوق لا يأتي به إذا كان الإمام يجهر بالقراءة للاستماع وصححه في الذخيرة. ثم سبحان
في الأصل مصدر كغفران وهو لا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله وجوابا،
فمعنى سبحانك أسبحك تسبيحا أي أنزهك تنزيها. وقيل اعتقد نزاهتك عن كل صفة لا تليق
بك. وبحمدك أي نحمدك بحمدك فهو في المعنى عطف الجملة على الجملة فحذفت الثانية
كالأولى، وأبقى حرف العطف داخلا على متعلقها مرادا به الدلالة على الحالية من الفاعل فهو
في موضع نصب على الحال منه فكأنه إنما أبقى ليشعر بأنه قد كان هنا حملة طوي ذكرها
إيجازا على أنه لو قيل بحمدك بلا حرف العطف كان جائزا صوابا كما روي عن أبي حنيفة
لأنه لا يخل بالمعنى المقصود. والحاصل أنه نفى بقوله: سبحانك صفات النقص، وأثبت
بقوله بحمدك صفات الكمال لأن الحمد إظهار الصفات الكمالية. ومن هنا يظهر وجه
تقديم التسبيح على التحميد. وتبارك لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا لله تعالى. ذكره
القاضي البيضاوي.
540

ولعل المعنى والله أعلم تكاثر خيور أسمائك الحسنى وزادت على خيور سائر الأسماء
لدلالتها على الذات السبوحية القدوسية العظمى والافعال الجامعة لكل معنى أسنى. وتعالى
جدك أي ارتفع عظمتك أو سلطانك أو غناك عما سواك.، ولا إله غيرك في الوجود فأنت
المعبود بحق فبدأ بالتنزيه الذي يرجع إلى التوحيد، ثم ختم بالتوحيد ترقيا في الثناء على الله
عز وجل من ذكر النعوت السلبية والصفات الثبوتية إلى غاية الكمال في الجلال والجمال
وسائر الأفعال وهو الانفراد بالألوهية وما يختص به من الأحدية والصمدية، فهو الأول
والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم. وأشار المصنف إلى أنه لا يزيد على الاستفتاح
فلا يأتي بدعاء التوجه وهو وجهت وجهي لا قبل الشروع ولا بعده هو الصحيح المعتمد.
ونص في البدائع على أن عن أبي يوسف روايتين في رواية يقدم التسبيح على التوجه وصححه
الزاهدي، وفي رواية إن شاء قدمه وإن شاء أخره، وقد روى البيهقي عن جابر مرفوعا
أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما، وهو محمول على النافلة لأن مبناها على التوسع، ويدفعه ما رواه
ابن حبان في صحيحه كان إذا قام للصلاة المكتوبة يجمع بينهما. ومنهم من أجاب بأن ذلك
كان في أول الأمر، ويدل عليه أن عمر رضي الله عنه جهر بالتسبيح فقط ليقتدي الناس به
ويتعلموه، فهو ظاهر في أنه وحده هو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم آخر الامر في الفرائض.
وفي منية المصلي: وإذا زاد وجل ثناؤك لا يمنع وإن سكت لا يؤمر به. وفي الكافي: إنه لم
ينقل في المشاهير. وفي البدائع: إن ظاهر الرواية الاقتصار على المشهور. فالحاصل أن الأولى
تركه في كل صلاة نظرا إلى المحافظة على المروي من غير زيادة عليه في خصوص هذا المحل وإن
كان ثناء على الله تعالى. ثم اعلم أنه يقول في دعاء التوجه وأنا من المسلمين ولو قال وأنا أول
المسلمين اختلف المشايخ في فساد صلاته والأصح عدم الفساد، وينبغي أن لا يكون فيه خلاف
لما ثبت في صحيح مسلم من الروايتين بكل منهما. وتعليل الفساد بأنه كذب مردود بأنه إنما
يكون كذبا إذا كان مخبرا عن نفسه لا تاليا، وإذا كان مخبرا فالفساد عند الكل.
541

قوله (وتعوذ سرا) أي قال المصلي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو اختيار أبي عمر
وعاصم وابن كثير وهو المختار عندنا وهو قول الأكثر من أصحابنا لأنه المنقول من
استعاذته صلى الله عليه وسلم، وبهذا يضعف ما اختاره في الهداية من أن الأولى أن يقول أستعيذ بالله ليوافق
القرآن يعني لأن المذكور فيه فاستعذ بصيغة الامر من الاستعاذة وأستعيذ مضارعها فيتوافقان
بخلاف أعوذ فإنه من العوذ لا من الاستعاذة، وجوابه كما في فتح القدير أن لفظ استعذ
طلب العوذ، وقوله أعوذ مثال مطابق لمقتضاه، أما قربه من لفظه فمهدر. وفي البدائع:
ولا ينبغي أن يزيد عليه أن الله هو السميع العليم يعني كما هو اختيار نافع وابن عامر
والكسائي لأن هذه الزيادة من باب الثناء، وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء، وقد قدم
المصنف أنه سنة لقوله تعالى * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (النحل:
98) أي إذا أردت قراءة القرآن فأطلق المسبب على السبب. وإنما لم يكن واجبا لظاهر الامر
لأن السلف أجمعوا على سنيته كما نقله المصنف في الكافي ولم يعين سند الاجماع الذي هو
الصارف للامر عن ظاهره، وعلى القول بأنه لا يحتاج إلى سند بل يجوز أن يخلق الله لهم علما
ضروريا يستفيدون به الحكم فلا إشكال. وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي عن ابن
مسعود أربع يخفيهن الإمام: التعوذ والتسمية وآمين وربنا لك الحمد. فقوله سرا عائد إلى
الاستفتاح والتعوذ قوله (للقراءة فيأتي به المسبوق لا المقتدي ويؤخر عن تكبيرات العيدين)
يعني أن التعوذ سنة القراءة فيأتي به كل قارئ للقرآن لأنه شرع لها صيانة عن وساوس
الشيطان فكان تبعا لها وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي وسف هو تبع للثناء. وفائدة
الخلاف في ثلاث مسائل: إحداها أنه لا يأتي به المقتدي عندهما لأنه لا قراءة عليه، ويأتي به
542

عنده لأنه يأتي بالثناء. ثانيها أن الإمام يأتي بالتعوذ بعد تكبيرات الزوائد في الركعة الأولى
عندهما، ويأتي به الإمام والمقتدي بعد الثناء قبل التكبيرات عنده. ثالثها أن المسبوق لا يأتي به
للحال ويأتي به إذا قام إلى القضاء عندهما، وعنده يأتي به مرتين عن الدخول بعد الثناء وعند
القراءة، وقد ذكر صاحب الهداية وجماعة الخلاف بين الصاحبين وأبي يوسف وفي عامة
النسخ كالمبسوط والمنظومة وشروحها بين أبي يوسف ومحمد، ولم يذكر قول أبي حنيفة بل
وذكر أبو اليسر رواية عن محمد كما عن أبي يوسف، فلذا والله أعلم صحح صاحب الخلاصة
قول أبي يوسف أنه تبع للثناء. وأشار المصنف إلى أن محل التعوذ بعد الثناء ومقتضاه أنه لو
تعوذ قبل الثناء أعاده بعده لعدم وقوعه في محله، وإلى أنه لو نسي التعوذ فقرأ الفاتحة لا يتعوذ
لفوات المحل. وقيدنا بقراءة القرآن للإشارة إلى أن التلميذ لا يتعوذ إذا قرأ على أستاذه كما
نقله في الذخيرة، وظاهره أن الاستعاذة لم تشرع إلا عند قراءة القرآن أو في الصلاة وفيه نظر
ظاهر، وقد قدمنا أن المسبوق يأتي بالثناء إلا إذا كان إمامه يجهر بالقراءة، ويأتي به أيضا إذا
قام إلى قضاء ما سبق به. وإذا أدرك الإمام في الركوع يتحرى إن كان أكبر رأيه أنه لو أتى به
أدرك الإمام في شئ من الركوع يأتي به قائما وإلا يتابع الإمام ولا يأتي بالثناء في الركوع
لفوات محله فإنه محل التسبيحات. وإنما يأتي بتكبيرات العيد فيه دون تسبيحاته لأنها واجبة
دونها، وكذا لو أدرك المسبوق الإمام في السجدة فهو كالركوع، وإذا لم يدرك الإمام في
الركوع والسجود لا يأتي بهما لأنه انفرد عن الإمام بعد الاقتداء بزيادة لم يعتد بها وإن كانت
غير مفسدة لما أن زيادة ما دون الركعة غير مفسد. وإن أدرك إمامه في القعدة فإنه لا يأتي
بالثناء بل يكبر للافتتاح ثم للانحطاط ثم يقعد، وقيل يأتي بالثناء. وينبغي أن يفصل كما في
الركوع والسجود وأن لا فرق بين القعدة الأولى والثانية.
543

قوله (وسمى سرا في كل ركعة) أي ثم يسمي المصلي بأن يقول بسم الله الرحمن
الرحيم. هذا هو المراد بالتسمية هنا، وأما في الوضوء والذبيحة فالمراد منها ذكر الله تعالى.
والمراد بالمصلي هنا الإمام أو المنفرد، أما المقتدي فلا دخل له فيها فإنه لا يقرأ بدليل أنه قدم
أنه لا يتعوذ، وقد عدها المصنف فيما سبق من السنن وهو المشهور عن أهل المذهب. وقد
صحح الزاهدي في شرحه. وفي القنية وجوبها في كل ركعة وصرح في باب سجود السهو
بأنه يلزمه السهو بتركها وتبعه على ذلك ابن وهبا في منظومته قال: وإن الوجوب قول
الأكثر. والشارح الزيلعي في باب سجود السهو علل في البدائع بما يفيده فإنه قال: وروى
المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بها في كل ركعة هو قول أبي يوسف ومحمد، لأن
التسمية إن لم تجعل من الفاتحة قطعا لخبر الواحد لكن خبر الواحد يوجب العمل فصارت من
الفاتحة عملا فمتى لزمه قراءة الفاتحة يلزمه قراءة التسمية احتياطا اه‍. وهذا كله ضعيف
والمواظبة لم تثبت لما في صحيح مسلم عن أنس: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان قد أجاب عنه أئمتنا بأنه
لم يرد نفي القراءة بل السماع للاخفاء بدليل ما رواه أحمد عنه فكانوا لا يجهرون ببسم الله
الرحمن الرحيم وهو دليلنا على الاخفاء بها، ولولا التصريح بلزوم السهو بتركها لقلت إن
544

الوجوب في كلامهم بمعنى الثبوت أطلق فشمل الصلاة الجهرية والسرية فما في منية
المصلي من أن الإمام إذا جهر لا يأتي بها وإذا خافت يأتي بها غلط فاحش مخالف لكل
الروايات. وقوله في كل ركعة أفي ابتداء كل ركعة فلا تسن التسمية بين الفاتحة
والسورة مطلقا عندهما. وقال محمد: تسن إذا خافت لا إن جهر. وصحح في البدائع
قولهما. والخلاف في الاستنان أما عدم الكراهة فمتفق عليه ولهذا صرح في الذخيرة
والمجتبى بأنه إن سمى بين الفاتحة والسورة كان حسنا عند أبي حنيفة، سواء كانت تلك
السورة مقروءة سرا أو جهرا. ورجحه المحقق ابن الهمام وتلميذه الحلبي لشبهة الاختلاف
في كونها آية من كل سورة وإن كانت الشبهة في ذلك دون الشبهة الناشئة من الاختلاف
في كونها آية من الفاتحة. وما في القنية من أنه يلزمه سجود السهو بتركها بين الفاتحة
والسورة فبعيد جدا كما أن قول من قال لا يسمي إلا في الركعة الأولى قول غير صحيح،
بل قال الزاهدي: أنه غلط على أصحابنا غلطا فاحشا. وفي ذكر التسمية بعد التعوذ إشارة
إلى محلها فلو سمى قبل التعوذ أعادها بعده لعدم وقوعها في محلها، ولو نسيها حتى فرغ
من الفاتحة لا يسمي لأجل فوات محلها.
قوله (وهي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور ليست من الفاتحة ولا من كل
سورة) بيان للأصح من الأقوال كما في المحيط وغيره ورد للقولين الآخرين: أحدهما أنها
ليست قرآنا وهو قول بعض مشايخنا لاختلاف العلماء والاخبار فيها فأورث شبهة. ثانيهما
أنها من الفاتحة ومن كل سورة ونسب إلى الشافعي ووجه الأصح إجماعهم على كتابتها مع
الامر بتجريد المصحف وقد تواترت فيه، وهو دليل تواتر كونها قرآنا، وبه اندفعت الشبهة
للاختلاف، وإنما لم يحكم بكفر منكرها لأن إنكار القطعي لا يوجب الكفر إلا إذا لم يثبت فيه
545

شبهة قوية، فإن ثبتت فلا كما في البسملة. فالموجب لتكفير من أنكر القرآن إنكار متواتر
كونه قرآنا، وأما البسملة فلما تواترت في المصحف ثبتت قرآنيتها وبتواتر كونها قرآنا في
الأوائل لم يكفر جاحدها، فالتواتر المعتبر في القرآن تواتره في محله والمعتبر في التكفير تواتر
كونه قرآنا، وبهذا اندفع ما قيل من الاشكال في التسمية وهو أنها إن كانت متواترة لزم تكفير
منكرها ولم يتكافروا فيها، وإن لم تكن متواترة فليست قرآنا. وأشار بقوله آية إلى أنها في
القرآن آية واحدة يفتتح بها كل سورة، وعند الشافعي آيات في السور. والخلاف في غير
البسملة التي في سورة النمل، أما هي فبعض آية اتفاقا. ومما استدل به لمذهبنا حديث
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال الحمد لله إلى آخره (1) فإنه لم يذكر البسملة فدل
أنها ليست من الفاتحة. وحديث عد سورة الملك ثلاثين آية وهي ثلاثون دونها، والكلام في
البسملة طويل بين الأئمة. واستفيد من كلام المصنف أنه يحرم قراءتها على الجنب والحائض.
وقيده في المحيط وغيره بأن يقرأ على قصد القرآن ومقتضى كونها قرآنا أن تحرم على الجنب إلا
إذا قصد الذكر أو التيمن. وفي المجتبى: الأصح أنها آية في حق حرمتها على الجنب لا في
حق جواز الصلاة بها فإن فرض القراءة ثابت بيقين فلا يسقط بما فيه شبهة، وكذا في
المحيط. قوله (وقرأ الفاتحة وسورة أو ثلاث آيات) أي وقرأ المصلي إذا كان إماما أو منفردا على
وجه الوجوب ما ذكر، وهما واجبتان للمواظبة لكن الفاتحة أوجب حتى يؤمر بالإعادة بتركها
دون السورة. كذا ذكره الشارح، وقد تبع فيه الفقيه وفيه نظر ظاهر لأن كلا منهما واجب
اتفاقا وبترك الواجب تثبت كراهة التحريم وقد قالوا: كل صلاة أديت مع كراهة التحريم
يجب إعادتها، فتعين القول بوجوب الإعادة عند ترك السورة وما يقوم مقامها كترك الفاتحة.
نعم الفاتحة آكد في الوجوب من السورة للاختلاف في ركنيتها دون السورة، والآكدية لا
546

تظهر فيما ذكره لأن وجوب الإعادة حكم ترك الواجب مطلقا لا الواجب المتأكد. وإنما
يظهر في الاثم لأنه مقول بالتشكيك كما قدمناه. والثلاث آيات القصار تقوم مقام السورة في
الاعجاز فكذا هنا، وكذا الآية الطويلة تقوم مقامها فإذا نقص عن ثلاث قصار أو آية طويلة
فقد ارتكب كراهة التحريم لتركه الواجب، وإذا أتى بها خرج عن كراهة التحريم فإن قرأ
القدر المسنون كما سيأتي فقد خرج عن كراهة التنزيه أيضا وإلا فقد ارتكبها كما صرح به في
شرح منية المصلي. فمن قال يخرج عن الكراهة إذا قرأ الواجب أراد التحريمية، ومن قال لا
يخرج عنها أراد التنزيهية.
قوله (وأمن الإمام والمأموم سرا) للحديث إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه
تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (1) رواه الشيخان وهو يفيد تأمينهما لكن في حق
الإمام بالإشارة لأنه لم يسق النص له، وفي حق المأموم بالعبارة لأنه سيق لأجله، وبهذا
يضعف رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام لا يؤمن. وروى أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال
آمين وخفض بها صوته. ولو قال المصنف وأمن المصلي أو الجميع كما في الحاوي القدسي
لكان أولى، ليشمل المنفرد فإنه يؤمن أيضا لرواية مسلم إذا قال أحدكم في الصلاة آمين (2)
547

الحديث. قال عبد الحق: في هذه الرواية اندرج المنفرد. وأطلق في إخفائها فشمل الصلاة
الجهرية والسرية وكل مصل لكن اختلفوا في تأمين المأموم إذا كان الإمام في السرية وسمع
المأموم تأمينه، منهم من قال يقوله هو كما هو ظاهر الكتاب، ومنهم من قال لا لأن ذلك
الجهر لا عبرة به بعد الاتفاق على أنه ليست من القرآن. وقد علم مما ذكرنا أن المأموم لا
بقولها إلا إذا سمع قراءة الإمام لا مطلقا فليس كالإمام مطلقا كما هو ظاهر المختصر. وفي
آمين أربع لغات أفصحهن وأشهرهن آمين بالمد والتخفيف، والثانية بالقصر والتخفيف
ومعناه استجب، والثالثة بالأمالة، والرابعة بالمد والتشديد. فالأولتان مشهورتان والأخيرتان
حكاهما الواحدي في أول البسيط ولهذا كان المفتى به عندنا أنه لو قال آمين بالتشديد لا تفسد
لما علمت أنها لغة ولأنه موجود في القرآن ولان له وجها كما قال الحلواني إن معناه ندعوك
قاصدين إجابتك لأن معنى آمين قاصدين. وأنكر جماعة من مشايخنا كونها لغة وحكم بفساد
الصلاة. ومن الخطأ في استعمالها أمن بالتشديد مع حذف الياء مقصورا وممدودا ولا يبعد
فساد الصلاة فيهما.
قوله (وكبر بلا مد وركع) لما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع، ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع
صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجدا، ثم يكبر
حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضها، ويكبر حين يقوم من الثنتين
بعد الجلوس. معنى قوله بلا مد حذفه من غير تطويل وهو معنى ما ورد التكبير جرم.
وصالحه الامساك عن إشباع الحركة والتعمق فيها والاضراب عن الهمز المفرطة والمد
الفاحش. وفي المبسوط: لو مد ألف الله لا يصير شارعا وخيف عليه الكفر إن كان قاصدا.
548

وكذا لو مد ألف أكبر أو باءه لا يصير شارعا لأن إكبار جمع كبر وهو البطل، وقيل
اسم للشيطان. ولو مد الله فهو خطأ لغة، وكذا لو مد راءه. ومد لام الله صواب وجزم
الهاء خطأ لأنه لم يجئ إلا في ضرورة الشعر، وقد بحث الأكمل في العناية في قولهم أنه إذا
مد الهمزة من الله تفسد ويكفر إن تعمده للشك بأن الهمزة يجوز أن تكون للتقرير فلا
يكون هناك لا كفر ولا فساد ا ه‍. وفيه نظر لأن ابن هشام في المغني قال: والرابع التقرير
ومعناه حملك المخاطب على الاقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته أو نفيه، ويجب أن
يليها الشئ الذي يقرر به تقول في التقرير بالفعل أضربت زيدا، أو بالفعل أأنت ضربت
زيدا، أو بالمفعول أزيدا ضربت كما يجب ذلك في المستفهم عنه اه‍. وليس الله أكبر من
549

هذا القبيل إذ ليس هنا مخاطب كما لا يخفى لكن ذكر في المطول أن التقرير يقال على التحقق
والثبوت ويقال على حملك المخاطب إلى آخره، ولعل الأكمل أراد المعنى الأول. وقد تبع
المصنف القدوري في التعبير بالواو في قوله وركع المحتمل لمقارنة وضدها. وفي بعض
الروايات يكبر ثم يهوي وعبارة الجامع الصغير ويكبر مع الانحطاط قالوا: وهو الأصح
لئلا تخلو حالة الانحناء عن الذكر، ولما قدمناه من حديث الصحيحين، وقال بعضهم: يسن
التكبير عند الخرور وابتداؤه عند أول الخرور، وفراغه عند الاستواء. كذا في الخلاصة.
وليس هو موافقا لما في الجامع لأنه لا يلزم منه أن يكون فراغه عند الاستواء. وفي الخلاصة:
ويركع حين يفرغ من القراءة وهو منتصب يصلي هذا هو المذهب الصحيح اه‍. واحترز به
عما حكاه في منية المصلي عن بعضهم أنه إذا أتم القراءة حالة الخرور لا بأس أن يكون ما
بقي من القراءة حرفا أو كلمة، لكن ذكر في المكروهات أن منها أن يتم القراءة في الركوع.
قوله (وركع ووضع يديه على ركبتيه وفرج أصابعه) لما رواه أنس من صفة صلاته عليه
السلام. وأشار إلى أن التطبيق المروي عن ابن مسعود منسوخ وهو أن يضم إحدى الكفين إلى
الأخرى ويرسلهما بين فخذيه بما في الصحيحين. وفي فتح القدير: ويعتمد بيديه على ركبتيه
ناصبا ساقيه، وإحناؤهما شبه القوس كما يفعل عامة الناس مكروه. ذكره في روضة العلماء.
وإنما يفرج بينهما لأنه أمكن من الاخذ بالركب ولا يندب إلى التفريج إلا في هذه الحالة، ولا
إلى الضم إلا في حالة السجود وفيما عدا ذلك يترك على العادة. قوله (وبسط ظهره وسوى
رأسه بعجزه) فإنه سنة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم فلهذا لا يرفع رأسه ولا يخفضه. وفي المجتبى: والسنة
في الركوع إلصاق الكعبين واستقبال الأصابع للقبلة. قوله (وسبح فيه ثلاثا) أي في ركوعه بأن
يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا لحديث ابن ماجة إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي العظيم ثلاثا
550

وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه (1) وفي صحيح مسلم
أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى. وفي سنن
أبي داود: لما نزلت * (فسبح باسم ربك العظيم) * (الواقعة: 74) قال: اجعلوها في ركوعكم.
فلما نزلت * (سبح اسم ربك الاعلى) * (الاعلى: 1) قال: اجعلوها في سجودكم. وظاهر هذا
الامر الوجوب. روي عن أبي مطيع البلخي أن التسبيحات ركن لو تركه لا تجوز صلاته كما في
الذخيرة. والذي في البدائع عنه أن من نقص من الثلاث في تسبيحات الركوع والسجود لا
تجوز صلاته قال: وهذا فاسد لأن الامر تعلق بفعل الركوع والسجود مطلقا عن شرط التسبيح
فلا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد، فقلنا بالجاز مع كون التسبيح سنة عملا بالدليلين بقدر
الامكان اه‍. وقد بحث فيه العلامة ابن أمير حاج الحلبي بأنه لا يتعين العمل بالدليلين في جعل
التسبيح سنة بل يكون ذلك أيضا في جعله واجبا والمواظبة الظاهرة من حاله صلى الله عليه وسلم والامر به
متظافران على الوجوب، فينبغي إذا تركه سهوا أن يجب السجود، وإذا تركه عمدا يؤمر
بالإعادة. ونقل ابن هبيرة وغيره أنه مرة واحدة في كل منهما، والتسميع والتحميد وسؤال
المغفرة بين السجدتين والتكبيرات واجب في الرواية المشهورة عن أحمد إلا أنه إن ترك شيئا منها
عمدا بطلت صلاته، وسهوا لا ويسجد للسهو اه‍. وقد يقال: إنما لم يكن واجبا عندنا لوجود
الصارف وهو أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكره للاعرابي حين علمه ولو كان واجبا لذكره له،
والمواظبة لم تنقل صريحا وهذا الصارف منع من القول بها ظاهرا فلهذا كان الامر للاستحباب
كما صرح به غير واحد من المشايخ. فعلى هذا فالمراد من الكراهة في قولهم لو ترك التسبيحات
أصلا أو نقص عن الثلاث فهو مكروه كراهة التنزيه لأنها في مقابلة المستحب. واختلف في
معنى قوله وذلك أدناه فقيل أدنى كمال السنة، وقيل أدنى كمال التسبيح، وقيل أدنى القول
المسنون والأول أوجه، وعلى كل فالزيادة على الثلاث أفضل. ويستحب أن يختم على وتر خمس
أو سبع أو تسع لحديث الصحيحين إن الله وتر يحب الوتر (2) ولا ينبغي للإمام أن يطيل على
وجه يمل القوم لأنه سبب للتنفير وأنه مكروه ولهذا قال الأسبيجابي: ولو كان إماما يقولها ثلاثا
على قول بعضهم. وقال بعضهم: يقولها أربعا حتى يتمكن المقتدي من الثلاث، ولو أطال
551

الركوع لادراك الجائي لا تقر بالله تعالى فهو مكروه. وفي الذخيرة والبدائع وغيرهما قال أبو
يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك فقال: أخشى عليه أمرا عظيما يعني الشرك. وقد وهم
بعضهم في فهم كلام الإمام فاعتقد منه أن يصير المنتظر مشركا يباح دمه فأفتى بإباحة دمه،
وهكذا ظن صاحب منية المصلي فقال: يخشى عليه الكفر، ولا يكفر وكل منهما غلط ولم يرده
الإمام رحمه الله تعالى بل أراد أنه يخاف عليه الشرك في عمله الذي هو الرياء وإنما لم يقطع بالرياء
في عمله لما أنه غير مقطوع به لوجود الاختلاف فإنه نقل عن الشعبي أنه لا بأس به وهو قول
الشافعي في القديم وقد نهى الله عن الاشراك في العمل بقوة تعالى * (فمن كان يرجو لقاء ربه) *
(الكهف: 110) الآية. وأعجب منه ما نقله في المجتبى عن البلخي أنه تفسد صلاته ويكفر.
ثم نقل بعده عن الجامع الأصغر أنه مأجور على ذلك لقوله تعالى * (وتعاونوا على البر والتقوى) *
(المائدة: 2) وعن أبي الليث أنه حسن. وعنه التفصيل بين أن يعرف الجائي فلا أو لا فنعم.
وأشار المصنف إلى أنه لا يأتي في ركوعه وسجوده بغير التسبيحات، وما ورد في السنة من
غيرها فمحمول على النوافل تهجدا أو غيره. ولو رفع الإمام رأسه قبل أن يتم المأموم
التسبيحات فيه روايتان أصحهما وجوب المتابعة بخلاف ما لو سلم قبل أن يتم المقتدي التشهد
فإنه لا يتابعه لأن قراءة التشهد واجبة. كذا في فتاوى قاضيخان.
قوله (ثم رفع رأسه) أي من الركوع، وقد تقدم حكم هذا الرفع في عد الواجبات قوله
(واكتفى الإمام بالتسميع والمؤتم والمنفرد بالتحميد) لحديث الصحيحين إذا قال الإمام سمع
الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد (1) فقسم بينهما والقسمة تنافي الشركة فكان حجة على أبي
يوسف ومحمد القائلين بأن الإمام يجمع بينهما استدلالا بأنه عليه السلام كان يجمع بينهما لأن
القول مقدم على الفعل وحجة على الشافعي في قوله إن المقتدي يجمع بين الذكرين أيضا،
وحكاه الأقطع رواية عن أبي حنيفة وهو غريب فإن صاحب الذخيرة نقل أنه لا يأتي بالتسميع
بلا خلاف بين أصحابنا. وأما المنفرد ففيه ثلاثة أقوال: الأول أنه يأتي بالتسميع لا غير وهو
رواية المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وينبغي أن لا يعول عليها ولم أر من صححها.
552

الثاني أنه يأتي بالتحميد لا غير وصححه المصنف في الكافي. وقال في المبسوط: وهو الأصح
وعليه أكثر المشايخ. واختاره الحلواني والطحاوي لأن التسميع حث لمن خلفه على التحميد
وليس معه أحد ليحثه عليه فلا يأتي بالتسميع. الثالث الجمع بينهما وصححه صاحب
الهداية. وقال الصدر الشهيد: وعليه الاعتماد. واختاره صاحب المجمع لأن قد صح من
فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يجمع بينهما ولا محمل له سوى حالة الانفراد توفيقا بينه
وبين القول الثابت في الصحيحين في حق الإمام والمأموم. وقيده في غاية البيان بانفراده
بصلاة النفل لأنه كان مواظبا على الجماعة في الفرض، وحيث اختلف التصحيح كما رأيت
فلا بد من الترجيح، فالمرجح من جهة المذهب ما في المتن لأنه ظاهر الرواية كما صرح به
قاضيخان في شرحه، والرجح من جهة الدليل ما صححه في الهداية. وفي القنية: أما المنفرد
يقول سمع الله لمن حمده فإذا استوى قائما قال ربنا لك الحمد في الجواب الظاهر وهو
الصحيح اه‍. وفي جامع التمرتاشي: فإن لم يأت بالتسميع حالة الرفع لم يأت به حالة
الاستواء، وقد قيل يأتي بهما. والمراد بالتسميع سمع الله لمن حمده ومعناه قبل الله حمد من
حمده، وقيل أجاب، وقيل غفر له. والهاء في حمده للكناية. كذا في المستصفى. وذكر في
الفوائد الحميدية أنها للسكتة والاستراحة. والمراد بالتحميد واحد من أربعة ألفاظ أفضلها
اللهم ربنا ولك الحمد كما في المجتبى، ويليه اللهم ربنا لك الحمد، ويليه ربنا ولك الحمد،
ويليه المعروف ربنا لك الحمد. فما في المحيط من أفضلية الثاني فمحمول على أفضليته على ما
بعده لا على الكل كما لا يخفى لما صرحوا به من أن زيادة الواو توجب الأفضلية واختلفوا
فيها، فقيل زائدة، وقيل عاطفة تقديره ربنا حمدناك ولك الحمد. واعلم أن المفهوم من المتن
أنه لا يكبر حال الارتفاع وهو الموافق لما ذكر في خزانة الفقه أن تكبيرات فرائض اليوم والليلة
أربع وتسعون، وإنما يستقيم هذا إذا لم يكن عند الرفع تكبير لكن ذكر في المحيط وروضة
الناطفي أنه يكبر حالة الارتفاع لما روي أنه عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر وعليا كانوا
يكبرون عند كل خفض ورفع كما رواه الطحاوي. ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن المراد
بالتكبير الذكر الذي فه تعظيم الله تعالى توفيقا. كذا في المجتبى قوله (ثم كبر ووضع ركبتيه
ثم يديه ثم وجهه بين كفيه بعكس النهوض) كما كان يفعله عليه السلام كما رواه أبو داود
ولحديث الترمذي: كان عليه السلام إذا سجد وضع وجهه بين كفيه. وأفاد أنه إذا أراد
السجود يضع أولا ما كان أقرب إلى الأرض فيضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم أنفه ثم جبهته،
وإذا أراد الرفع يرفع أولا جبهته ثم أنفه ثم يديه ثم ركبتيه. وهذا كله عند الامكان، أما إذا
كان متخففا فإنه يضع اليدين قبل الركبتين ويقدم اليمنى على اليسرى.
553

قوله (وسجد بأنفه وجبهته) أي سجد عليهما التحصيل الأكمل. والأنف اسم لما صلب
وأما مالان منه فلا يجوز الاقتصار عليه بإجماعهم كما نقله غير واحد. والجبهة اسم لما يصيب
الأرض مما فوق الحاجبين إلى قصاص الشعر حالة السجود، وعرفها بعضهم بأنها ما اكتنفه
الجبينان. واعلم أن المأمور به في كتاب الله تعالى إنما هو السجود وهو في اللغة يطلق لطأطأه
الرأس والانحناء وللخضوع وللتواضع وللميل كسجدت النخلة مالت، وللتحية كالسجود
لآدم تكرمة له. كذا في ضياء الحلوم. وفي الشريعة: وضع بعض الوجه مما لا سخرية فيه
فخرج الخد والذقن والصدغ ومقدم الرأس فلا يجوز السجود عليها، وإن كان من عذر بل
معه يجب الايماء بالرأس. ولعله إنما قال تعالى * (يخرون للأذقان سجدا) * مع أن الذقن ليس
محل السجود لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن وهو مجتمع اللحيين.
ووضع بعض الوجه يتحقق بالأنف كما في الجبهة فيجوز بالجبهة وحدها اتفاقا على ما عليه
الجم الغفير من أهل المذهب. وما في المفيد والمزيد من أنه لا يتأدى الفرض عندهما إلا
بوضعهما فخلاف المشهور عنهما، وإنما محل الاختلاف في الاقتصار على الانف فعنده يجوز
مطلقا، وعندهما لا يجوز إلا من عذر بالجبهة كما صرح به صاحب الهداية، والوجه ظاهر
للإمام رحمه الله لأن المأمور به السجود وهو ما قلنا. وأما ما في الصحيحين مرفوعا أمرت
أن اسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين
ولا يكف الثياب والشعر (1) فلا يفيد الافتراض لأن ظني الثبوت قطعا وظني الدلالة على
554

خلاف فيه بناء على أن لفظ أمرت مستعمل في الوجوب والندب الذي هو الأعم بمعنى
طلب مني ذلك أو في الندب أو في الوجوب. فقولهما بالافتراض مشكل لأنه يلزمهما
الزيادة على الكتاب بخبر الواحد وهما يمنعانه في الأصول كأبي حنيفة، فلذا قال المحقق ابن
الهمام: فجعل بعض المتأخرين الفتوى على الرواية الأخرى الموافقة لقولهما لم يوافقه دراية ولا
القوي من الرواية. هذا ولو حمل قولهما لا يجوز الاقتصار إلا من عذر على وجوب الجمع
كان أحسن إذ يرتفع الخلاف بناء على ما حملنا الكراهة منه عليه من كراهة التحريم ولم يخرجا
عن الأصول اه‍. فالحاصل أنه لا خلاف بينهم، فقول الإمام بكراهة الاقتصار على الانف
المراد بها كراهة التحريم وهي في مقابلة ترك الواجب، وقولهما بعدم الجواز المراد به عدم
الحل وهو كراهة التحريم، فالسجود على الجبهة واجب اتفاقا لأن مقتضى الحديث والمواظبة
المروية في سنن الترمذي كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد مكن جبهته وأنفه بالأرض وقال حديث
حسن صحيح. وهكذا في صحيح البخاري لكن هذا يقتضي وجوب السجود على الانف
كالجبهة لأن المواضبة المنقولة تعمهما مع أن المنقول في البدائع والتحفة والأخيار عدم الكراهة
بترك السجود على الانف، وظاهر ما في الكتاب يخالفه فإنه قال: وكره أي الاقتصار على
أحدهما، سواء كان الجبهة أو الانف. وهي عند الاطلاق منصرفة إلى كراهة التحريم، وهكذا
في المفيد والمزيد. فالقول بعدم الكراهة ضعيف. وخرج أيضا بقولنا مما لا سخرية فيه ما
إذا رفع قدميه في السجود فإنه لا يصح لأن السجود مع رفعهما بالتلاعب أشبه منه
555

بالتعظيم والاجلال. ويكفيه وضع أصبع واحدة فلو لم يضع الأصابع أصلا ووضع ظهر القدم
فإنه لا يجوز لأن وضع القدم بوضع الإصبع. وإذا وضع قدما ورفع آخر جاز مع الكراهة من
غير عذر كما أفاده قاضيخان. وذهب شيخ الاسلام إلى أن وضعهما سنة فتكون الكراهة
تنزيهية، والأوجه على منوال ما سبق هو الوجوب فتكون الكراهة تحريمية لما سبق من
الحديث. وذكر القدوري أن وضعهما فرض وهو ضعيف. وأما اليدان والركبتان فظاهر
الرواية عدم افتراض وضعهما. قال في التجنيس، والخلاصة: وعليه فتوى مشايخنا. وفي
منية المصلي: ليس بواجب عندنا. واختار الفقيه أبو الليث الافتراض وصححه في العيون ولا
دليل عليه لأن القطعي إنما أفاد وضع بعض الوجه على الأرض دون اليدين والركبتين،
والظني المتقدم لا يفيده لكن مقتضاه ومقتضى المواظبة الوجوب، وقد اختاره المحقق في فتح
القدير وهو إن شاء الله تعالى أعدل الأقوال لموافقته الأصول وإن صرح كثير من مشايخنا
بالسنية ومنهم صاحب الهداية. وفي المجتبى: سجد على طرف من أطراف جبهته يجوز اه‍.
وظاهر ما في التجنيس يخالفه فإنه قال: إذا وضع من الجبهة مقدار الانف لا يجوز عند أبي
حنيفة لأن الانف عضو كامل، وهذا المقدار من الجبهة ليس بعضو كامل ولا بأكثر منها اه‍.
إلا أن يحمل الطرف على الأكثر كما لا يخفى.
قوله (وكره بأحدهما أو يكور عمامته) أي كره السجود عليه وهو دورها. يقال كار
556

العمامة وكورها دارها على رأسه، وهذه العمامة عشرة أكوار وعشرون كورا. كذا في
المغرب. وهو بفتح الكاف كما ضبطه ابن أمير حاج لحديث الصحيحين كنا نصلي مع
النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد
عليه. وذكر البخاري في صحيحه قال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة
فدل ذلك على الصحة، وإنما كره لما فيه من ترك نهاية التعظيم. وما في التنجيس من التعليل
بترك التعظيم راجع إليه والافتراك التعظيم أصلا مبطل للصلاة، وقد نبه العلامة ابن أمير حاج
هنا تنبيها حسنا وهو أن صحة السجود على الكور إذا كان الكور على الجبهة أو بعضها، أما
إذا كان على الرأس فقط وسجد عليه ولم تصب جبهته والأرض على القول بتعيينها ولا أنفه
على القول بعدم تعيينها، فإن الصلاة لا تصح لعدم السجود على محله، وكثير من العوام
يتساهل في ذلك ويظن الجواز. وظاهر أن الكراهة تنزيهية لنقل فعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من
السجود على العمامة تعليما للجواز فلم تكن تحريمية، وقد أخر أبو داود عن صالح بن
حيوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسجد وقد اعتم على جبهته فحسر عن جبهته إرشادا لما
هو الأفضل والأكمل. ولا يخفى أن محل الكراهة عند عدم العذر، أما معه فلا. وفي كلام
المصنف اشتباه فإنه جعل الكراهة في الاقتصار على أحدهما وفي السجود على الكور واحدة،
وقد حققنا أنها تحريمية في الأول تنزيهية في الثاني، فيراد بالكراهة طلب الكف عن فعلها
طلبا غير جازم، سواء كان في الفعل إثم أو لا وأشار بالكور إلى أن كل حائل بينه وبين
الأرض متصل به فإن حكمه كذلك يعني الصحة كما لو سجد على فاضل ثوبه أو كمه على
مكان طاهر. وأما الكراهة ففي الذخيرة والمحيط: إذا بسط كمه وسجد عليه إن بسط ليقي
التراب عن وجهه كره ذلك لأن هذا نوع تكبر، وإن بسط ليقي التراب على عمامته أو ثيابه لا
يكره لعدمه. ونص قاضيخان على أن لا بأس به ولم يذكر كراهة. وفي الزاد: ولو سجد على
كمه إن كان ثمة تراب أو حصاة لا يكره لأنه يدفع الأذى عن نفسه، وإن لم يكن جاز
ويكره. والتوفيق بينهما بحمل ما في الذخيرة على ما إذا لم يخف ضررا وقصد الترفع فيكره
تحريما، ويحمل ما ذكره قاضيخان على ما إذا لم يكن ترفعا ولم يخف أذى فيكره تنزيها وهي
ترجع إلى خلاف الأولى، وكلمة لا بأس غالبا فيما تركه أولى. ويحمل ما في الزاد على ما إذا
لم يكن ترفعا وخاف الأذى فيكون مباحا. وقيدنا بكون ما تحته طاهرا لأنه لو بسط كمه على
نجاسة فالأصح عدم الجواز، ودل كلامه على أنه لو سجد على حائل بينه وبين الأرض
منفصل عنه فإنه يصح بالأولى كالسجادة والحصير. وذكر الأكمل في تقريره أن الأولى للإمام
557

ومن يقتدي به كالمفتي ترك السجادة حتى لا يحمل العوام على ما فيه حرج عليهم بخلافه في
الخلوة ومن لا يقتدي به. وحمله البزازي على زمانهم أما في زماننا فالأولى الصلاة عليها لما أن
الناس تهاونوا في أمر الطهارة، والأصل كما أنه يجوز السجود على الأرض يجوز على ما هو
بمعنى الأرض مما تجد جبهته حجمه وتستقر عليه.
وتفسير وجدان الحجم أن الساجد لو بالغ لا يتسفل رأسه أبلغ من ذلك فيصح السجود
على الطنفسة والحصير والحنطة والشعير والسرير والعجلة إن كانت على الأرض لأنه يجد
حجم الأرض بخلاف ما إذا كانت على ظهر الحيوان لأن قرارها حينئذ على الحيوان كالبساط
المشدود بين الأشجار. ولو سجد على ظهر رجل إن كان للضرورة بأن لم يجد موضعا من
الأرض يسجد عليه والمسجود على ظهره في الصلاة جاز، وإن لم يكن في الصلاة أو وجد
فرجه لا يجوز لعدمها. وقيد في الواقعات أن تكون صلاتهما متحدة حتى لو سجد على ظهر
من يصلي صلاة أخرى لا يجوز لعدمها، وعليه مشى في الخلاصة وفتح القدير: وشرط في
المجتبى شرطا آخر وهو أن يكون المسجود على ظهره ساجدا على الأرض، فلو سجد على
ظهر مصل ساجد على ظهر مصل لا يجوز فالشروط أربعة. وفي المحيط: ولو سجد على ظهر
الميت وعليه لبد، إن وجد حجم الميت لم يجز لأنه سجد على الميت، وإن لم يكن يجد حجمه
جاز لأنه سجد على اللبد. ولو سجد على الأرز أو الجاورس أو الذرة لا يجوز لعدم استقرار
الجبهة عليها حتى لو كان الأرز في الجوالق فإنه يجوز لأنه يجد الحجم بواسطة انكباسه كما
ذكره في منية المصلي. وإن سجد على الثلج إن لم يلبده وكأن يغيب وجهه ولا يجد حجمه لم
يجز وإن لبد جاز. وكذا إذا ألقي الحشيش فسجد عليه إن وجد حجمه جاز وإلا فلا، وكذا
التبن والقطن. ومن هنا يعلم جواز أداء الصلاة على الطراحة القطن فإن وجد الحجم جاز
وإلا فلا. وهذا القيد لا بد منه في السجود على كور العمامة وطرف القلنسوة كما صرح به
في المجتبى. وفي منية المصلي: ولو أن موضع السجود ارفع من موضع القدمين مقدار لبنتين
منصوبتين جاز وإن كان أكثر يجوز، أراد لبنة بخارى وهو ربع ذراع اه‍. وفي التنجيس:
ولو سجد على حجر صغير إن كان أكثر الجبهة على الأرض يجوز وإلا فلا. وهكذا في كثير
من الكتب معزيا إلى نصير وفيه بحث، لأن اسم السجود يصدق بوضع شئ من الجبهة على
558

الأرض ولا دليل على اشتراط أكثرها كما قالوا يكفي في القدمين وضع أصبع واحدة، ولهذا
قال في المجتبى: سجد على طرف من أطراف جبهته جاز. ثم نقل كلام نصير فدل على
تضعيفه. نعم وضع أكثرها واجب للمواظبة على تمكين الجبهة من الأرض، وعلى تسليم أن
الأكثر شرط فيجب أنه إذا كان ما أصاب الحجر والأرض يبلغ أكثرها يجوز لا أنه لا يعتد بما
أصاب الحجر أصلا كما هو ظاهر كلامهم والله الموفق للصواب. وقيد بكون الحائل تبعا لأن
الحائل لو كان بعضه، فإن كان كفه يجوز على الأصح، وإن كان فخذه يجوز بعذر لا بغيره
على الصحيح، وإن كان ركبته لا يجوز مطلقا من غير خلاف يعلم لكن إن كان بعذر كفاه
باعتبار ما في ضمنه من الايمان وكان عدم الخلاف فيه لكون السجود يقع على حرف الركبة
وهو لا يأخذ قدر الواجب من الجبهة على ما قدمناه عن التنجيس وفي فتح القدير، والذي
ينبغي ترجيح الفساد على الكف والفخذ.
قوله (وأبدى ضبعيه) أي أظهر عضديه. والضبع بالسكون لا غير العضد. وقيل وسطه
وباطنه كذا في المغرب. ولعل المراد هنا الثاني للدليل الآتي، ولأنه المسنون. وذكر في المحيط أن
فيه لغتين سكون الباء وضمها. وذكر في ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم أن الضبع بالسكون
العضد، والضبع بالضم الأنثى من الضباع، ويقال للسنة المجدبة. وإنما يظهرهما لحديث
الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه
ولحديث مسلم إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ثم إن كان في الصف لا يبديهما حذرا
من إيذاء جاره بخلاف ما إذا لم يؤد إلى الايذاء كما إذا لم يكن في الصف زحام. ذكره في
المجتبى، وهذا أولى مما ذكره في الهداية وتابعه في الكافي وتبعهما الشارح من أنه إذا كان في
الصف لا يجافي بطنه عن فخذيه لأن الايذاء لا يحصل من مجرد المجافاة وإنما يحصل من إظهار
العضدين. قوله (وجافى بطنه عن فخذيه) أي باعده لحديث مسلم: كان إذا سجد جافى بين
559

يديه حتى لو أن بهيمة أرادت أن تمر بين يديه مرت، ولحديث أبي داود في صفة صلاته عليه
الصلاة والسلام: وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شئ من فخذيه. وبهيمة
تصغير بهمة ولد الشاة بعد السخلة فإن أول ما تضعه أمه يكون سخلة، ثم يكون بهمة وهي
بصيغة المكبر في صحيح مسلم وسنن ابن ماجة. وذكر بعض الحفاظ أن الصواب التصغير
قالوا: والحكمة في الابداء والمجافاة أن يظهر كل عضو بنفسه فلا تعتمد الأعضاء بعضها على
بعض. وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض لأن المقصود هناك الاتحاد
بين المصلين حتى كأنهم جسد واحد ولأنه في الصلاة أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة
والأنف من الأرض وأبعد من هيئات الكسالى، فإن المنبسط يشبه الكلب ويشعر بالتهاون
بالصلاة وقلة الاعتناء بها. قوله (ووجه أصابع رجليه نحو القبلة) لحديث أبي حميد في صحيح
البخاري أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما
واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة. ونص صاحب الهداية في التجنيس على أنه إن لم يوجه
الأصابع نحوها فإنه مكروه. ثم الظاهر أن المراد بقوله ولا قابضهما أنه ناشر أصابعه عن
باطن كفيه بدليل ما في صحيح ابن حبان عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم
أصابعه فنشر أصابعه من الطي ضاما بعضها إلى بعض. ومن هنا نص مشايخنا على أنه يضم
560

أصابعه كل الضم في السجود. قيل: والحكمة فيه أن الرحمة تنزل عليه في السجود فبالضم
ينال أكثر. قوله (وسبح فيه ثلاثا) أي في السجود وقد قدمناه في تسبيحات الركوع.
قوله (والمرأة تخفض وتلزق بطنها بفخذيها) لأنه أستر لها فإنها عورة مستورة، ويدل
عليه ما رواه أبو داود في مراسيله أنه عليه الصلاة والسلام مر على امرأتين تصليان فقال: إذا
سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل. وذكر الشارح أن
المرأة تخالف الرجل في عشر خصال: ترفع يديها إلى منكبيها، وتضع يمينها على شمالها تحت
ثدييها، ولا تجافي بطنها عن فخذيها، وتضع يديها على فخذيها تبلغ رؤوس أصابعها ركبتيها،
ولا تفتح إبطيها في السجود، وتجلس متوركة في التشهد، ولا تفرج أصابعها في الركوع،
ولا تؤم الرجال، وتكره جماعتهن، وتقوم الإمام وسطهن اه‍. ويزاد على العشر أنها لا تنصب
أصابع القدمين كما ذكره في المجتبى. ولا يستحب في حقها الاسفار بالفجر كما قدمناه في
محله، ولا يستحب في حقها الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية بل قدمنا في شروط الصلاة إنه
لو قيل بالفساد إذا جهرت لأمكن على القول بأن صوتها عورة والتتبع يقتضي أكثر من هذا
فالأحسن عدم الحصر قوله (ثم رفع رأسه مكبرا وجلس مطمئنا) يعني بين السجدتين، وقد
تقدم أن هذا الجلوس مسنون ومقتضى الدليل من المواظبة عليها وجوبها لكن المذهب خلافه،
وما في شرح المنية من أن الأصح وجوبها إن كان بالنظر إلى الدراية فمسلم لما علمت من
المواظبة، وإن كان من جهة الرواية فلا، وقد صرح الشارحون بالسنية. ولم يذكر المصنف بين
السجدتين ذكرا مسنونا وهو المذهب عندنا، وكذا بعد الرفع من الركوع، وما ورد فيهما من
الدعاء فمحمول على التهجد. قال يعقوب: سألت أبا حنيفة عن الرجل يرفع رأسه من
الركوع في الفريضة، أيقول اللهم اغفر لي قال: يقول ربنا لك الحمد وسكت. وكذلك بين
السجدتين فقد أحسن حيث لم ينهه عن الاستغفار صريحا من قوة احترازه، ولم يذكر المصنف
561

أيضا مقدار الرفع الذي يكون فاصلا بين السجدتين للاختلاف فيه، فإن فيه أربع روايات عن
أبي حنيفة صحح صاحب الهداية أنه إن كان إلى القعود أقرب جاز، وإن كان إلى السجود
أقرب لا يجوز لأنه يعد ساجدا. وصحح صاحب البدائع أنه إن كان بحيث لا يشكل على
الناظر أنه رفع يجوز. وصحح صاحب المحيط أنه يكتفي بأدنى ما ينطلق عليه اسم الرفع.
والرواية الرابعة أنه إذا رفع رأسه مقدار ما يمر الريح بينه وبين الأرض جاز، ولم أر من
صححها. وظاهر كلام المصنف في الكافي أنها تعود إلى الرواية الثالثة المصححة في المحيط
واختارها فيه، وذكر أنها القياس لتعلق الركنية بالأدنى في سائر الأركان. قوله (وكبر وسجد
مطمئنا) وقد تقدم حكم الطمأنينة.
قوله (وكبر للنهوض بلا اعتماد وقعود) لحديث أبي داود: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد
الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة. وفي حديث وائل بن حجر في صفة صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه. ولحديث الترمذي عن أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه. قال الترمذي: إن عليه العمل
عند أهل العلم. وأما ما رواه البخاري عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في
وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا. فمحمول على حالة الكبر كما في الهداية، ويرد
عليه أن هذا الحمل يحتاج إلى دليل وقد قال عليه الصلاة والسلام لمالك بن الحويرث لما أراد
أن يفارقه: صلوا كما رأيتموني أصلي. ولم يفصل فكان الحديث حجة للشافعي، فالأولى أن
يحمل على تعليم الجواز فلذا والله أعلم قال في الفتاوى الظهيرية قال شمس الأئمة الحلواني:
إن الخلاف إنما هو في الأفضلية حتى لو فعل كما هو مذهب الشافعي لا بأس به عندنا اه‍.
وكذا ترك الاعتماد مستحب لمن ليس به عذر عندنا على ما هو ظاهر كثير من الكتب
المشهورة. قال الوبري: لا بأس بأن يعتمد براحتيه على الأرض عند النهوض من غير فصل
بين العذر وعدمه. ومثله ما في المحيط عن الطحاوي: لا بأس بأن يعتمد بيديه على الأرض
شيخا كان أو شابا. وهو قول عامة العلماء اه‍. والأوجه أن يكون سنة فتركه يكره تنزيها لما
تقدم من النهي. وذكر الشارح أنه يكره تقديم إحدى الرجلين عند النهوض، ويستحب
562

الهبوط باليمنى والنهوض بالشمال ولم يذكر للكراهة دليلا وذكرها في المجتبى مروية عن
معاذ بن جبل وابن عباس رضي الله عنهما قوله (والثانية كالأولى) أي فميا قدمناه من الأركان
والواجبات والسنن الآداب (إلا أنه لا يثنى) أي لا يأتي بدعاء الاستفتاح لأنه شرع في أول
العبادة دون أثنائها ولذا سمي دعاء الاستفتاح. قوله (ولا يتعوذ) لأنه شرع في أول القراءة
لدفع الوسوسة فلا يتكرر إلا بتبدل المجلس كما لو تعوذ وقرأ ثم سكت قليلا وقرأ، وبهذا
اندفع ما ذكره ابن أمير حاج في شرحه من أنه ينبغي على قول أبي حنيفة ومحمد أن يتعوذ في
الثانية أيضا لأنه سنة القراءة والقراءة تتجدد في كل ركعة لما علمت أنه سنة في أول القراءة.
قوله: (ولا يرفع يديه إلا في فقعس صمعج) أي ولا يرفع يديه على وجه السنة المؤكدة
إلا في هذه المواضع. وليس مراده النفي مطلقا لأن رفع الأيدي وقت الدعاء مستحب كما
عليه المسلمون في سائر البلاد، فلا يرفع يديه عند الركوع ولا عند الرفع منه ولا في تكبيرات
الجنائز لحديث أبي داود عن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين افتتح الصلاة ثم
لم يرفعهما حتى انصرف. ولحديث مسلم عن جابر ابن سمرة قال: خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ تسكنوا في
الصلاة. وشمس بضم المعجمة وسكون الميم جمع شموس بفتحها، وضم الميم أي صعب.
واعتراض البخاري في كتابه رفع اليدين بأن هذا الرفع كان في التشهد بدليل حديث
عبد الله بن القبطية عن جابر أيضا، رد بأن الظاهر أنهما حديثان لأن الذي يرفع يديه حال
التسليم لا يقال له أسكن في الصلاة، وبأن العبرة لعموم اللفظ وهو قوله اسكنوا في الصلاة
لا لخصوص السبب وهو الايماء حال التسليم. وفي فتح القدير: واعلم أن الآثار عن
الصحابة والطرق عنه صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا والكلام فيها واسع من جهة الطحاوي وغيره، والقدر
المتحقق بعد ذلك كله ثبوت رواية كل من الامرين عنه عليه الصلاة والسلام الرفع عند
الركوع كما رواه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن عمر، وعدمه كما رواه أبو داود وغير عن
ابن مسعود وغيره فيحتاج إلى الترجيح لقيام التعارض. ويترجح ما صرنا إليه بأنه قد علم أنها
كانت أقوال مباحة في الصلاة وأفعال من جنس هذا الرفع وقد علم نسخها فلا يبعد أن
563

يكون هو أيضا مشمولا بالنسخ خصوصا، وقد ثبت ما يعارضه ثبوتا لا مرد له بخلاف عدمه
فإنه لا يتطرق إليه احتمال عدم الشرعية لأنه ليس من جنس ما عهد فيه ذلك بل من جنس
السكون الذي هو طريق ما أجمع على طلبه في الصلاة أعني الخشوع، وكذا بأفضلية الرواة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو حنيفة للأوزاعي في الحكاية المشهورة عنهما. وأفاد بهذه الحروف
سنية رفع اليدين في ثمانية مواضع: ثلاثة في الصلاة فالفاء لتكبيرة الافتتاح، والقاف للقنوت،
والعين للعيدين. وخمسة في الحج فالسين عند استلام الحجر، والصاد عند الصعود على الصفا،
والميم للمروة، والعين لعرفات، والجيم للجمرات، والرفع في الثلاثة الأول بحذاء الاذنين،
وفي الخمسة تفصيل ففي استلام الحجر وعند الجمرتين الأولى والوسطى يرفع حذاء منكبيه
ويجعل باطنهما نحو الكعبة في ظاهر الرواية، وعند الصفا والمروة وبعرفات يرفعهما كالدعاء
باسطا يديه نحو السماء. كذا في الفتاوى الظهيرية من المناسك قوله: (وإذا فرغ من سجدتي
الركعة الثانية افترش رجله اليسرى فجلس عليها ونصب يمناه ووجه أصابعه نحو القبلة) لحديث
مسلم عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفترش رجله
اليسرى وينصب اليمنى، وهذا بيان السنة عندنا حتى لو تورك جاز. أطلق الصلاة فشمل
الفرض والنفل فيقعد فيهما على هذه الكيفية ففي المجتبى ناقلا عن صلاة الجلابي أن هذا في
الفرض وفي النفل يقعد كيف شاء كالمريض مخالف لاطلاق الكتب المعتبرة المشهورة. نعم النفل
مبناه على التخفيف ولذا يجوز قاعدا مع القدرة على القيام لكن الكلام إنما هو في السنية.
قوله: (ووضع يديه على فخديه وبسط أصابعه) يعني وضع يده اليمنى على فخذه
اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى لحديث مسلم عن ابن عمر مرفوعا كذلك أشار إلى رد
ما ذكره الطحاوي أنه يضع يديه على ركبتيه ويفرق بين أصابعه كحالة الركوع لحديث مسلم
564

أيضا عن ابن عمر كذلك وزاد فيه وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة. ورجح في الخلاصة
الكيفية الأولى فقال: ولا يأخذ الركبة هو الأصح، فتحمل الكيفية الثانية في الحديث على
الجواز، والأولى على بيان الأفضلية. وعلل له في البدائع بأنه على الكيفية الأولى تكون
الأصابع متوجهة إلى القبلة، وعلى الثانية إلى الأرض لكنه لا يتم إلا إذا كانت الأصابع عطفت
على الركبة، أما إذا كانت رؤوسها عند رأس الركبة فلا يتم الترجيح. وعلى اعتبار هذه
الكيفية الثالثة ما في جمع التفاريق عن محمد أنه يكون أطراف الأصابع عند الركبة كما نقله في
المجتبى وأشار ببسط الأصابع إلى أنه لا يشير بالسبابة عند الشهادتين وهو قول كثير من
المشايخ وفي الولوالجية والتجنيس: وعليه الفتوى لأنه مبنى الصلاة على السكون وكرهها في
منية المصلي، ورجح في فتح القدير القول بالإشارة وأنه مروي عن أبي حنيفة كما قال محمد،
فالقول بعدمها مخالف للرواية والدراية، ورواها في صحيح مسلم من فعله صلى الله عليه وسلم. وفي
المجتبى: لما اتفقت الروايات عن أصحابنا جميعا في كونها سنة وكذا عن الكوفيين والمدنيين
وكثرة الاخبار والآثار كان العمل بها أولى.
قوله: (وقرأ تشهد ابن مسعود رضي الله عنه) وهو ما رواه أصحاب الكتب الستة
565

وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
فسمي تشهدا تسمية للكل باسم جزئه الأشرف لأن التشهد أشرف أذكاره. ثم في تفسير
ألفاظها أقوال كثيرة أحسنها أن التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات البدنية،
والطيبات العبادات المالية، فجميع العبادات لله تعالى لا يستحقه غيره ولا يتقرب بشئ منه
إلى ما سواه. ثم هو على مثال من يدخل على الملوك فيقدم الثناء أولا ثم الخدمة ثانيا ثم بذل
المال ثالثا. وأما قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته حكاية سلام الله تعالى على
نبيه عليه الصلاة والسلام فهي ثلاثة بمقابلة الثلاث التي أثنى بها النبي صلى الله عليه وسلم على ربه ليلة
الاسراء. والسلام من سلم الله تعالى عليه أو من تسليمه من الآفات، والأظهر أن المراد
بالرحمة هنا نفس الاحسان منه تعالى لا إرادته لأن المراد الدعاء بها، والدعاء إنما يتعلق
بالممكن والإرادة قديمة بخلاف نفس الاحسان، والبركة النماء والزيادة من الخير، ويقال
البركة جماع كل خير. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعطى سهما من هذه الكرامة لاخوانه الأنبياء والملائكة
وصالح المؤمنين من الإنس والجن لأنه يعمهم كما شهدت به السنة الصحيحة حيث قال صلى الله عليه وسلم
هذه الكلمات فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض. والعباد جمع
عبد قال بعضهم ليس شئ أشر ف من العبودية، ومراده من صفات المخلوقين وإلا فهي منبئة
عن النقص لدلالتها على الحاجة والافتقار كما ذكره الغزالي في جواهر القرآن. وعرفها النسفي
بأنها الرضا بما يفعله الرب تعالى والعبادة فعل ما يرضي الرب، وأن العبودية أقوى منها لأنها
لا تسقط في العقبى بخلاف العبادة. والصالح هو القائم بحقوق الله وحقوق عباده ولذا
وصف الأنبياء نبينا عليه الصلاة والسلام به ليلة الاسراء فقالوا مرحبا بالنبي الصالح، ولذا
قالوا: لا ينبغي الجزم به في حق شخص معين من غير شهادة الشارح له به، وإنما يقال هو
صالح فيما أظن أو في ظني خوفا من الشهادة بما ليس س فيه. وأشهد معناه أعلم وأتيقن
ألوهية الله تعالى وحده لا شريك له، وعبودية محمد ورسالته صلى الله عليه وسلم. وقدمت العبودية على
الرسالة لما قدمنا أنها أشرف صفاته ولهذا وصفه الله تعالى بها في قوله تعالى * (سبحان الذي
أسرى بعبده) * (الاسراء: 1) وفي قوله تعالى * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * [النجم: 10]
566

واختير لفظ الشهادة دونهما لأنها أبلغ في معناها وأظهر منهما لكونها مستعملة في ظواهر
الأشياء وبواطنها بخلاف العلم واليقين فإنهما يستعملان غالبا في البواطن فقط، ولذا لو أتى
الشاهد بلفظ أعلم أو أتيقن مكان أشهد لم تقبل شهادته. وإنما ذكرنا بعض معاني
التشهد لما أن المصلي يقصد بهذه الألفاظ معانيها مرادة له على وجه الانشاء منه كما صرح به
في المجتبى بقوله: ولا بد من أن يقصد بألفاظ التشهد معناها التي وضعت لها من عنده كأنه
يحيي الله ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه وأوليائه ا ه‍. وعلى هذا فالضمير في قوله السلام
علينا عائد إلى الحاضرين من الإمام والمأموم والملائكة كما نقله في الغاية عن النووي
واستحسنه، وبهذا يضعف ما ذكره في السراج الوهاج أن قوله السلام عليك أيها النبي
حكاية سلام الله عليه لا ابتداء سلام من المصلي عليه.
واحترز بتشهد ابن مسعود عن غيره ليخرج تشهد عمر رضي الله عنه وهو:
التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله. رواه مالك في الموطأ وعمل به إلا أنه زاد عليه وحده لا شريك له الثابت في
تشهد عائشة المروي في الموطأ أيضا، وبه علم تشهدها. وخرج تشهد ابن عباس رضي الله
عنهما المروي في مسلم وغيره مرفوعا: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام
عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله
إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، إلا أن في رواية الترمذي: سلام عليك بالتنكير. وبهذا
أخذ الشافعي وقال: إنه أكمل التشهد. ورجح مشايخنا تشهد ابن مسعود بوجوه عشرة ذكرها
الشارح وغيره أحسنها أن حديثه اتفق عليه الأئمة الستة في كتبهم لفظا ومعنى. واتفق
المحدثون على أنه أصح أحاديث التشهد بخلاف غيره حتى قال الترمذي: إن أكثر أهل العلم
عليه من الصحابة والتابعين. وممن عمل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان يعلمه الناس
على المنبر كالقرآن. ثم وقع لبعض الشارحين أنه قال: والاخذ بتشهد ابن مسعود أولى فيفيد
أن الخلاف في الأولوية حتى لو تشهد بغيره كان آتيا بالواجب والظاهر خلافه، لأنهم جعلوا
567

التشهد واجبا وعينوه في تشهد ابن مسعود فكان واجبا ولهذا قال في السراج الوهاج: ويكره
أن يزيد في التشهد حرفا أو يبتدئ بحرف قبل حرف. قال أبو حنيفة: ولو نقص من تشهده
أو زاد فيه كان مكروها لأن أذكار الصلاة محصورة فلا يزاد عليها ا ه‍. وإذا قلنا بتعينه
للوجوب كانت الكراهة تحريمية وهي المحمل عند اطلاقها كما ذكرناه غير مرة. وأشار إلى أنه
لا يزيد على تشهد ابن مسعود في القعدة الأولى فلا يأتي بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيها وهو قول
أصحابنا ومالك وأحمد، وعند الشافعي على الصحيح أنها مستحبة فيها للجمهور ما رواه أحمد
وابن خزيمة من حديث ابن مسعود. ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم في وسط الصلاة نهض حين فرغ
من تشهده قال الطحاوي: من زاد على هذا فقد خالف الاجماع فإن زاد فيها، فإن كان عامدا
فهو مكروه ولا يخفى وجوب إعادتها، وإن كان ساهيا فقد اختلفت الرواية والمشايخ والمختار
كما صرح به في الخلاصة أنه يجب السجود للسهو إذا قال اللهم صل على محمد لا لأجل
خصوص الصلاة بل لتأخير القيام المفروض، واختاره قاضيخان. وبهذا ظهر ضعف ما في
منية المصلي من أنه إذا زاد حرفا واحدا وجب عليه سجود السهو على قول أكثر المشايخ لأن
الحرف أو الكلمة يسير يعسر التحرز عنه. وما ذكره القاضي الإمام من أن السجود لا يجب
حتى يقول وعلى آل محمد لأن التأخير حاصل بما ذكرناه وما في الذخيرة من أنه لا يجب
حتى يؤخر مقدار ما يؤدي ركنا فيه لأنه لا دليل عليه.
قوله: (وفيما بعد الأوليين اكتفى بالفاتحة) يعني في الفرائض. أطلقه فشمل الثالثة من
المغرب والأخيرتين من الرباعي وهي أحسن من عبارة القدوري حيث قال: ويقرأ في
الأخريين بالفاتحة إذ لا تشمل المغرب. ولم يبين صفة القراءة فيما بعدهما للاختلاف، فروى
568

الحسن عن أبي حنيفة وجوبها، وظاهر الرواية أنه يخير بين القراءة والتسبيح ثلاثا كما في
البدائع والذخيرة، والسكوت قدر تسبيحة كما في النهاية أو ثلاثا كما ذكره الشارح وصحح
التخيير في الذخيرة. وفي فتاوى قاضيخان: وعليه الاعتماد. وفي المحيط: ظاهر الرواية أن
القراءة سنة في الأخيرتين، ولو سبح فيهما ولم يقرأ لم يكن مسيئا لأن القراءة فيهما شرعت
على سبيل الذكر والثناء حتى قالوا: ينوي بها الذكر والثناء دون القراءة بدليل أنه شرعت
المخافتة فيها في سائر الأحوال وذلك يختص بالأذكار، ولذا تعينت الفاتحة للقراءة لأنها كلها
ذكر وثناء. وإن سكت فيهما عمدا يكون مسيئا لأنه ترك السنة، وإن كان ساهيا لم يلزمه
سجود السهو. وفي البدائع: إن التخيير مروي عن علي وابن مسعود وهو مما لا يدرك بالرأي
فهو كالمرفوع وهو الصارف للمواظبة عن الوجوب المستفاد من حديث الصحيحين عن أبي
قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب
وسورتين، وفي الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب. وبهذا ظهر ضعف ما في المحيط من أنه
569

لا يكون مسيئا بترك القراءة فيهما لكن مقتضى أثر علي وابن مسعود أنه لا يكون مسيئا
بالسكوت وهو ظاهر ما في البدائع والذخيرة والخانية، وإن صاحب المحيط على خلافه.
واتفق الكل على أن القراءة أفضل وليس بمناف للتخيير كالحلق مع التقصير وصوم المسافر في
رمضان إذ لا مانع من التخيير بين الفاضل والأفضل، وصحح في المجتبى أنه ينوي الذكر
والثناء موافقا لما في المحيط، واستدل له في المبسوط. وفي البدائع أن رجلا سأل عائشة عن
قراءة الفاتحة في الأخريين فقالت: ليكن على وجه الثناء وقد قدمنا في الحيض أن القرآن يخرج
عن القرآنية بالقصد وأن بعضهم لا يرى به في الفاتحة فينبغي كذلك هنا، ومن الغريب ما
نقله في المجتبى عن غريب الرواية أنه لو قرأ الفاتحة في الأخريين بنية القرآن يضم إليها
السورة ا ه‍. وكان وجهه القياس على الأوليين، ولا يخفى عدم صحته لما عهد في الأخريين
من التخفيف.
وأشار بقوله اكتفى بالفاتحة إلى أنه لا يزيد عليها على أنه سنة، والظاهر أن الزيادة
عليها مباحة لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في
صلاة الظهر في الركعتين الأوليين قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية، وقال
نصف ذلك. ولهذا قال فخر الاسلام وتبعه في غاية البيان أن السورة مشروعة نفلا في
الأخريين حتى لو قرأها في الأخريين ساهيا لم يلزمه السجود، وفي الذخيرة وهو المختار،
وفي المحيط وهو الأصح، وإن كان الأولى الاكتفاء بها لحديث أبي قتادة السابق، ويحمل
حديث أبي سعيد على تعليم الجواز، ويحمل ما في السراج الوهاج معزيا إلى الاختيار من
كراهة الزيادة على الفاتحة على كراهة التنزيه التي مرجعها إلى خلاف الأولى. وقيدنا بالفرائض
لأن النفل والواجب تجب القراءة في جميع الركعات بالفاتحة والسورة كما سيأتي، وأشار أيضا
إلى أنه لا يأتي بالثناء والتعوذ في الشفع الثاني من الفرائض والواجب كالفرض في هذا
بخلاف النوافل، سنة كانت أو غيرها، فإنه يأتي بالثناء والتعوذ فيه كالأول لأن كل شفع
صلاة على حدة، ولذا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود الأول. واستثنى من ذلك في المجتبى
الأربع قبل الظهر والجمعة وبعدها فإنها صلاة واحدة كالفرض لكن هو مسلم في الأربع قبل
570

الظهر لما صرحوا به من أنه لا تبطل شفعة الشفيع بالانتقال إلى الشفع الثاني منها. ولو أفسدها
قضى أربعا والأربع قبل الجمعة بمنزلتها، وأما الأربع بعد الجمعة فغير مسلم بل هي كغيرها
من السنن فإنهم لم يثبتوا لها تلك الأحكام المذكورة والله سبحانه أعلم.
قوله: (والقعود الثاني كالأول) يعني فيفترش رجله اليسرى فيجلس عليها وينصب
اليمنى كما قدمناه، وهو احتراز عن قول مالك والشافعي من أنه يتورك فيها. وفي خزانة
الفقه لأبي الليث: وأكثر ما يقع التشهد في الصلاة الواحدة عشر مرات وهو أن يدرك الإمام
في التشهد الأول من صلاة المغرب، ثم يتشهد معه الثانية وعلى الإمام سهو فيسجد معه
ويتشهد الثالثة ثم يتذكر الإمام أن عليه سجدة تلاوة فيسجد ويتشهد معه الرابعة ثم يسجد
الإمام لهذا السهو ويتشهد معه الخامسة، ثم إذا سلم الإمام قام المأموم وصلى ركعة وتشهد
السادسة ثم صلى ركعة أخرى وتشهد السابعة وقد كان سهى فيما يقضي فسجد للسهو
وتشهد الثامنة، ثم تذكر أنه قرأ آية سجد فيما يقضي فسجد وتشهد التاسعة ثم سجد لهذا
السهو وتشهد العاشرة ا ه‍. ومراد من التشهد بعد سجود التلاوة تشهد الصلاة في القعدة
الأخيرة لأن العود إلى سجود التلاوة يرفع القعدة كما لا يخفى، وحينئذ يعيده ويعيد سجود
السهو لبطلانه بالعود إلى سجود التلاوة. قوله: (وتشهد وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم) وقد قدمنا أن
التشهد واجب وأن الصلاة سنة، وقدمنا دليل السنية وأن موجب الامر في الآية إنما هو
الافتراض في العمر مرة لأنه لا يقتضي التكرار، وهذا بلا خلاف وإنما وقع الخلاف بين
الطحاوي والكرخي في وجوبها كلما سمع ذكره من غيره أو من نفسه الموجب للتفسيق
بالترك لا في الافتراض، فاختار الطحاوي تكرار الوجوب وصححه في التحفة والمحيط.
واختلف على قوله إنه لو تكرر في مجلس واحد هل يتداخل الوجوب فيكفيه صلاة واحدة أو
571

يتكرر الوجوب من غير تداخل؟ صحح في الكافي من باب سجود التلاوة الأول وأن الزائد
ندب، وكذا التشميت. وصحح في المجتبى الثاني وفرق بينه وبين تكرار ذكر الله تعالى في
مجلس حيث يكفي ثناء واحد قال: ولو تركه لا يبقى عليه دينا بخلاف الصلاة فإنها تصير دينا
بأن كل وقت أداء للثناء لأنه لا يخلو عن تجدد نعم الله تعالى عليه الموجبة للثناء فلا يكون وقتا
للقضاء كالفاتحة في الأخريين بخلاف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الفرق ليس بظاهر لأن
جميع الأوقات وإن كانت وقتا للأداء لكن ليس مطالبا بالأداء لأنه رخص له في الترك فيمكن
أن يكون سماعه لاسم الله تعالى سببا في الوجوب كالصلاة. واختار الكرخي استحباب
التكرار ورجحه شمس الأئمة السرخسي، وقدح في قول الطحاوي بأنه مخالف للاجماع، فإن
تم نقل الاجماع على الاستحباب ترجح وإلا فالأولى قول الطحاوي للأحاديث الواردة فيها من
الدعاء بالرغم والابعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء لمن لم يصل عليه إذا ذكر عنده، فإن
الوعيد في مثل هذه الأمور على الترك من علامات الوجوب. ولعل السرخسي ظن أن
الطحاوي قائل بالافتراض فرده، وقد علمت أنه إنما قال بالوجوب المصطلح عليه عندنا لما
572

أن مستنده خبر واحد. وبهذا ظهر أن الصلاة تكون فرضا وواجبا وسنة مستحبة ومكروهة.
فالأول في العمر مرة، والثاني كلما ذكر على الصحيح، والثالث في الصلاة، والرابع في جميع
أوقات الامكان،، والخامس في الصلاة في غير التشهد في القعود الأخير وظهر أيضا بما
قررناه أن قول الحاوي القدسي وقال بعضهم إنها فرض عند سماع اسمه كل مرة وهذا
أصح ا ه‍. محمول على الواجب كما قدمنا. ويمكن أن تكون الصلاة حراما كما صرحوا به
في الخطر والإباحة في مسألة ما إذا فتح التاجر متاعه وصلى. وكذا في الفقاعي. وفي
المجتبى معزيا إلى خزانة الأكمل: إنه لا يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على نفسه. ثم في
كيفيتها في الصلاة وخارجها اختلاف، والذي صرح به ضابط المذهب محمد بن الحسن على
ما نقله الشارح وغيره: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد
مجيد. من غير ذكر في العالمين. وأخرجه البيهقي حديثا مرفوعا. ونقل في الذخيرة عن
محمد الصلاة المذكورة مع تكرار إنك حميد مجيد. وهو كذلك في صحيح البخاري. وفي
إفصاح ابن هبيرة عن محمد بن الحسن ذكر الصلاة المنقولة عنه مع زيادة في العالمين وهي
ثابتة في رواية ابن مسعود الأنصاري عند مالك ومسلم وأبي داود وغيرهم. فما في السراج
الوهاج معزيا إلى منية المصلي من أنه لا يأتي بها ضعيف.
ومعنى الصلاة الرحمة وإنما كرر حرف الجر في الآل للإشارة إلى تراخي رتبة آله عنه،
واختلف فيهم فالأكثرون على أنهم قرابته الذين حرمت الصدقة عليهم، وصححه بعضهم،
واختار النووي أنهم جميع الأمة والتشبيه في قوله كما صليت إما راجع لآل محمد، وأما لأن
573

المشبه به لا يلزم أن يكون أعلى من المشبه أو مساويا بل قد يكون أدنى مثل قوله تعالى * (مثل
نوره كمشكاة) * (النور: 35) وسبب وقوعه كون المشبه به مشهورا فهو من باب إلحاق غير
المشهور بالمشهور ولا الناقص بالكامل. والواقع أن القدر الحاصل للنبي صلى الله عليه وسلم وآله أزيد مما
حصل لغيره، والنكتة في تخصيص سيدنا إبراهيم دون غيره من الأنبياء إما سلامه على أمة
محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء دون غيره من الأنبياء أو لدعائه بقوله * (ربنا وابعث فيهم رسولا
منهم) * (البقرة: 129) أو لأنه سمانا المسلمين وسماه الله أبا للمسلمين، وحسن الختم ب‍ " إنك
حمد مجيد لأن الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب للمطلوب
كما علم من الآيات والأحاديث والصلاة والتبريك عليه يشتمل على الحمد والمجد لاشتمالها
على ثناء الله وتكريمه ورفع الذكر له فكان المصلي يطلب من الله أن يزيده في حمده ومجده
فناسب أن يختم بهذين الاسمين. والحكمة في أن العبد يسأل الله تعالى أن يصلي ولا يصلي
بنفسه مع أنه مأمور بالصلاة قصوره عن القيام بهذه الحق كما ينبغي، فالمراد من الصلاة في
الآية سؤالها، فالمصلي في الحقيقة هو الله تعالى ونسبتها إلى العبد مجاز. وفي منية المصلي:
574

وروي عن بعض المشايخ أنه قال: ولا يقول ارحم محمدا وأكثر المشايخ على أنه يقوله للتوارث
ا ه‍. وقال السرخسي: لا بأس به لأن الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عباس، ولان
أحدا وإن جل قدره لا يستغني عن رحمة الله تعالى، وصححه الشارح، ومحل الخلاف في
الجواز وعدمه إنما هو فيما يقال مضموما إلى الصلاة والسلام كما أفاده شيخ الاسلام ابن
حجر فلذا اتفقوا على أنه لا يقال ابتداء رحمه الله ومن العجيب ما وقع في فتاوى قاضيخان
في آخر باب الوتر والتراويح حيث قال: وإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت قالوا: لا يصلي
في القعدة الأخيرة، وكذا لو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في القعدة الأولى ساهيا لا يصلي في القعدة
الأخيرة ا ه‍. وكان وجهه أن الصلاة عليه في الصلاة لا تتكرر فإذا أتى بها مرة ولو في غير
موضعها لا تعاد لكن هذا في الثاني ممكن، وأما في القنوت فالصلاة آخره مشروعة كما
سيأتي، فالحق خلافه وأعجب من هذا ما في المجتبى من أنه إذا شرع في التشهد ولم يتمه لا
تصح صلاته عند محمد لأنه صار فرضا عليه بالشروع وإن كان ظاهر المذهب الصحة.
وعندي في صحته عن محمد بعد لأن يلزمه في كل واجب شرع فيه ولم يتمه كالفاتحة. وأطلق
المصنف التشهد والصلاة فشمل المسبوق، ولا خلاف أنه في التشهد كغيره. وأما في الصلاة
والدعاء فاختلفوا على أربعة أقوال، اختار ابن شجاع تكرار التشهد، وأبو بكر الرازي
السكوت، وصحح قاضيخان في فتاواه أنه يترسل في التشهد حتى يفرغ منه عند سلام الإمام،
وصحح صاحب المبسوط أنه يأتي بالصلاة والدعاء متابعة للإمام لأن المصلي لا يشتغل بالدعاء
في خلال الصلاة لما فيه من تأخير الأركان، وهذا المعنى لا يوجد هنا لأنه لا يمكنه أن يقوم قبل
سلام الإمام، وينبغي الافتاء بما في الفتاوى كما لا يخفى. وفي عمدة الفتاوى للصدر الشهيد:
الإمام إذا تكلم والمقتدي بعد لم يقرأ التشهد قرأ، وإن أحدث الإمام لم يقرأ لأن الكلام بمنزلة
575

السلام والإمام إذا سلم والمقتدي لم يقرأ التشهد لأنه يجوز أن يبقى المقتدي في حرمة الصلاة
بعد سلام الإمام ولا يجوز أن يبقى بعد حدث الإمام عمدا.
قوله: (ودعا بما يشبه ألفاظ القرآن والسنة لا كلام الناس) أي بالدعاء الموجود في
القرآن ولم يرد حقيقة المشابهة إذ القرآن معجز لا يشابهه شئ، ولكن أطلقها لإرادته نفس
الدعاء لا قراءة القرآن مثل * (ربنا لا تؤاخذنا) * (البقرة: 286) * (ربنا لا تزغ قلوبنا) * (آل
عمران: 8) * (رب اغفر لي ولوالدي) * (نوح: 28) * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) * (البقرة:
201) إلى آخر كل من الآيات. وقوله والسنة يجوز نصبه عطفا على ألفاظ أي دعا بما يشبه
ألفاظ السنة وهي الأدعية المأثورة، ومن أحسنها ما في صحيح مسلم: اللهم إني أعوذ بك
من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. ويجوز
جره عطفا على القرآن أو ما أي دعا بما يشبه ألفاظ السنة أو دعا بالسنة وقد تقدم أن الدعاء
آخرها سنة لحديث ابن مسعود ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به ولفظ
مسلم ثم ليتخير من المسألة ما شاء وله حديث أيضا عند أحمد وإن كان في آخرها دعا يعني
النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد بما شاء أن يدعو ثم يسلم. وعن أبي إمامة قال قيل: يا رسول الله أي
الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات. رواه الترمذي وحسنه.
والدبر يطلق على ما قبل الفراغ منها أي الوقت الذي يليه وقت الخروج منها، وقد يراد به
وراءه وعقبه أي الوقت الذي يلي وقت الخروج، ولا يبعد أن يكون كل من الوقتين أوفق
لاستماع الدعاء فيه وأولى باستحبابه. وأطلق في المدعو له ولم يخصه بنفسه لأن السنة أن لا
يخص المصلي نفسه بالدعاء لقوله تعالى * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * (محمد: 19)
وللحديث من صلى صلاة لم يدع فيها للمؤمنين والمؤمنات فهي خداج. ثم ظاهر النصوص
ومن جملتها التشهد في الصلاة استحباب تقديم نفسه في الدعاء كما ثبت في سنن أبي داود
وغيره: كان صلى الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء بدأ بنفسه وهو من آداب الدعاء. ولذا قال في منية
المصلي: ويستغفر لنفسه ولوالديه إن كانا مؤمنين ولجميع المؤمنين والمؤمنات. وإنما قيد
بإيمانهما لأنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة للمشرك، ولقد بالغ القرافي المالكي كما نقله في شرح
منية المصلي بأن قال: إن الدعاء بالمغفرة للكافر كفر لطلبة تكذيب الله تعالى فيما أخبر به، وقد
576

صرح المفسرون بأن والدي سيدنا نوح كانا مؤمنين. ثم ظاهر ما في المنية أنه يجوز الدعاء
بالمغفرة لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم، وفد صرح القرافي بتحريمه لأن فيه تكذيبا للأحاديث
الصحيحة المصرحة بأنه لا بد من تعذيب طائفة من المؤمنين بالنار وخروجهم منها شفاعة أو
بغير شفاعة، ودخولهم النار إنما هو بذنوبهم. ولا يوجب الكفر كالدعاء للمشرك بها للفرق
بين تكذيب الآحاد والقطعي، وأما قول الداعي اللهم اغفر لي ولجميع المسلمين فيجوز أن
يريد بالمغفرة له المغفرة من جميع الذنوب، وأما لجميع المسلمين فإن أراد المغفرة من حيث
الجملة ولم يشركهم فيما طلبه لنفسه فهو جائز، وإن أراد المغفرة لكل أحد من جميع ذنوبه فهو
المحرم الذي ذكرناه. وتعقبه الكرماني شارح البخاري ورده في شرح منية المصلي وأطال
الكلام، والحق أنه يكون عاصيا بالدعاء للكافر بالمغفرة غير عاص بالدعاء بالمغفرة لجميع
المؤمنين لأن العلماء اختلفوا في جواز العفو عن المشرك عقلا، قيل بالجواز لأن الخلف في
الوعيد كرم فيجوز من الله تعالى وإن كان المحققون على خلافه كما ذكره التفتازاني في شرح
العقائد. وقد قال العلامة زين العرب في شرح المصابيح من بحث الايمان: ليس بحتم عندنا -
أي أهل السنة - أن يدخل النار أحد من الأمة بل العفو عن الجميع مرجو لموجب قوله تعالى
* (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وقوله تعالى * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) *
577

(الزمر: 53) ا ه‍. فيجوز أن يطلب للمؤمنين لفرط شفقته على إخوانه الامر الجائز الوقوع
وإن لم يكن واقعا.
ثم في تقديم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعاء بيان للسنة كما ذكره الصحاوي
في مختصره للحديث الصحيح المروي في سنن الترمذي وغير إذا صلى أحدكم فيبدأ بالحمد
والثناء على الله ثم بالصلاة علي ثم بالدعاء (1) ولم يبين المصنف كلام الناس هنا وبينه في
الكافي فقال: وفسروه بما لا يستحيل سؤاله من العباد نحو أعطني كذا وزوجني امرأة، وما
لا يشبه كلامهم ما يستحيل سؤاله منهم نحو اغفر لي لأنه يختص به عز وجل قال الله تعالى
* (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * (آل عمران: 135) ا ه‍. وهكذا ذكره الجمهور ويشكل عليه
أن المغفرة كما ذكروه تختص بالله تعالى وهم فصلوا فقالوا: لو قال اللهم اغفر لعمي أو لخالي
تفسد. ذكره في الخلاصة من غير ذكر خلاف. وذكر فيها أنه لو قال اللهم اغفر لي ولوالدي
وللمؤمنين والمؤمنات لا تفسد ولم يحك خلافا، وحكي الخلاف فيما إذ قال اللهم اغفر
لأخي. قال الحلواني: لا تفسد. وقال ابن الفضل: تفسد. وصحح في المحيط الأول ووجه
أنه موجود في القرآن العظيم حكاية عن موسى عليه السلام رب اغفر لي ولأخي. وفي
الذخيرة لو قال اللهم اغفر لزيد أو لعمر وتفسد صلاته لأنه ليس في القرآن. والذي ظهر
للعبد الضعيف أن هذه الفروع المفصلة في المغفرة مبنية على القول الضعيف الذي يفسر ما
ليس من كلام الناس بما يستحيل سؤاله من العباد وكان في القرآن أو في السنة. أما على
578

قول الجمهور المقتصرين على الأول فلا تفصيل في سؤال المغفرة أصلا فلا تفسد الصلاة به،
ولذا قال في الخلاصة بعد ذكر هذه الفروع التي ذكرناها عنها: والحاصل أنه إن سأل ما
يستحيل سؤاله من الخلق لا تفسد إذا كان في القرآن وكان مأثورا. وفي الجامع الصغير: لم
يشترط كونه في القرآن أو كونه مأثورا بل قال: إن كان يستحيل سؤاله من الخلق لا تفسد،
وإن كان لا يستحيل تفسد. ا ه‍. بلفظه. فظهر أن التفصيل إنما هو مبني على غير ظاهر
الرواية فإن الجامع الصغير من كتب ظاهر الرواية بل كل تأليف لمحمد بن الحسن موصوف
بالصغير فهو باتفاق الشيخين أبي يوسف ومحمد بخلاف الكبير فإنه لم يعرض على أبي يوسف،
لكن يشكل عليه ما في الفتاوى الظهيرية: لو قال اللهم اغفر لعمي تفسد اتفاقا إلا أن يحمل
على اتفاق المشايخ المبني على ما ذكرنا، ولهذا قال في المجتبى: وفي أقربائي أو أعمامي
اختلاف المشايخ ا ه‍. إلا أنه يشكل بقوله اللهم اغفر لزيد أو لعمرو فإن صاحب الذخيرة
قد صرح بالفساد به مع أن سؤال المغفرة مما يستحيل سؤاله من العباد ولم يذكروا فيه خلافا.
ويمكن أن يقال: إنه على الخلاف أيضا وإن الظاهر عدم الفساد به ولهذا قال في الحاوي
القدسي: من سنن القعدة الأخيرة الدعاء بما شاء من صلاح الدين والدنيا لنفسه ولوالديه
وأستاذه وجميع المؤمنين. وهو يفيد أنه لو قال اللهم اغفر لي ولوالدي ولأستاذي لا تفسد مع
أن الأستاذ ليس في القرآن فيقتضي عدم الفساد بقوله: اللهم اغفر لزيد. وفي الذخيرة
وغيرها: لو قال اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها لا تفسد صلاته لأنه
عينه في القرآن، ولو قال اللهم ارزقني بقلا وقثاء وعدسا وبصلا تفسد لأن عين هذا اللفظ
ليس في القرآن، وفي الهداية: اللهم ارزقني من كلام الناس لاستعمالها فيما بينهم. يقال
رزق الأمير الجيش. وتعقبه في غاية البيان بأن إسناد الرزق إلى الأمير مجاز. فإن الرازق في
الحقيقة هو الله تعالى، وقد صرح فخر الاسلام بأن سؤال الرزق كسؤال المغفرة. وفصل في
الخلاصة فقال: لو قال ارزقني فلانة الأصح أنها تفسد بخلاف ارزقني الحج الأصح أنها لا
تفسد، وكذا ارزقني رؤيتك، وفي المضمرات شرح القدوري: ولو قال اللهم اقض ديني
تفسد، ولو قال اللهم اقض دين والدي لا تفسد وهو مشكل، فإن الدعاء بقضاء الدين لنفسه
ورد في السنة الصحيحة في مسلم وغيره من قوله اقض عنا الدين وأغننا من الفقر فإن
التفصيل بين كونه مستحيلا أولا إنما هو في غير المأثور كما هو ظاهر كلام الخانية إلا أن
يقال: المراد بالمأثور أن يكون ورد في الصلاة لا مطلقا وهو بعيد. وفي فتاوى الحجة: ولو
579

قال اللهم العن الظالمين لا يقط صلاته، ولو قال اللهم العن فلانا يعني ظالمه يقطع الصلاة
ا ه‍. وفي السراج الوهاج: إن الذي يشبه كلام الناس إنما يفسدها إذا كان قبل تمام
فرائضها، أما إذا كان بعد التشهد لا يفسدها لأن حقيقة كلام الناس لا يبطلها فهذا أولى.
وإنما لم يدع بكلام الناس في آخرها للحديث أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام
الناس فيقدم على المبيح وهو عموم قوله صلى الله عليه وسلم ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه.
وفي فتاوى الولوالجي: المصلي ينبغي أن يدعو في الصلاة بدعاء محفوظ لا بما يحضره لأنه
يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس فتفسد صلاته، فأما في غير الصلاة فينبغي أن
يدعو بما يحضره ولا يستظهر الدعاء لأن حفظ الدعاء يمنعه عن الرقة.
قوله (وسلم مع الإمام كالتحريمة عن يمينه ويساره ناويا القوم والحفظة والإمام في
الجانب الأيمن أو الأيسر أو فيهما لو محاذيا) لما تقدم أن السلام من واجباتها عندنا، ومن
أركانها عند الأئمة الثلاثة، ومن أطلق من مشايخنا عليه اسم السنة فضعيف والأصح وجوبه
كما في المحيط وغيره، أو لأنه ثبت وجوبه بالسنة للمواظبة وهو على وجه الأكمل أن يقول:
السلام عليكم ورحمة الله مرتين. والسنة أن تكون الثانية أخفض من الأولى كما في المحيط
وغيره. وجعله في منية المصلي خاصا بالإمام، فإن قال السلام عليكم أو السلام أو سلام
عليكم أو عليكم السلام أجزأه وكان تاركا للسنة. وصرح في السراج الوهاج بالكراهة في
الأخير وأنه لا يقول وبركاته. وصرح النووي بأنه بدعة وليس فيه شئ ثابت لكن في
الحاوي القدسي أنه مروي. وتعقب ابن أمير حاج النووي بأنها جاءت في سنن أبي داود من
حديث وائل بن حجر بإسناد صحيح. وقوله عن يمينه ويساره بيان للسنة ورد على مالك
القائل بأنه يسلم تسليمة تلقاء وجهه. ولو بدأ باليسار عامدا أو ناسيا فإنه يسلم عن يمينه ولا
يعيده على يساره ولا شئ عليه، ولو سلم تلقاء وجهه فإنه يسلم عن يساره. ولو سلم عن
يمينه ونسي عن يساره حتى قام فإنه يرجع ويقعد ويسلم ما لم يتكلم أو يخرج من المسجد.
وفي المجتبى: ولم يذكر قدر ما يحول به وجهه وقد ورد في حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان
580

يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره حتى ير بياض خده الأيسر.
وفي النوازل: لو قال السلام ودخل في الصلاة لا يكون داخلا فثبت أن الخروج لا يتوقف
على عليكم. وقوله مع الإمام بيان للأفضل يعني الأفضل للمأموم المقارنة في التحريمة
والسلام عند أبي حنيفة، وعندهما الأفضل عدمها للاحتياط، وله أن الاقتداء عقد موافقة وإنها
في القران لا في التأخير. وإنما شبه السلام بالتحريمة لأن المقارنة في التحريمة باتفاق
الروايات عن أبي حنيفة، وأما في السلام ففيه روايتان لكن الأصح ما في الكتاب كما في
الخلاصة. وقوله ناويا القوم بيان للأفضل لما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: أما يكفي أحدكم
أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله (1) قال النووي في شرحه:
المراد بالأخ الجنس من إخوانه الحاضرين عن اليمين والشمال ويزاد عليه من كان منهم أمامه
أو وراءه بالدلالة لأن المقصود من ذلك مزيد التودد. وأما ما عللوا به من أنه لما اشتغل
بمناجاة ربه صار بمنزلة الغائب عن الخلق وعند التحلل يصير خارجا فيسلم كمسافر قدم من
سفره فلا يفيد الاقتصار على من معه في الصلاة بل يعم الحاضرين مصليا أو غيره. وإنما
احتيج إلى النية لأنه مقيم للسنة فينويها كسائر السنن. وكذا ذكر شيخ الاسلام أنه إذا سلم
على أحد خارج الصلاة ينوي السنة وخالف صدر الاسلام فقال: لا حاجة للإمام إلى النية في
السلام آخر الصلاة لأنه يجهر بالسلام ويشير إليهم فهو فوق النية، ورد بأن الجهر للاعلام
بالخروج والنية لإقامة السنة.
وأراد بالقوم من كان معه في الصلاة فقط وهو قول الجمهور وصححه شمس الأئمة
بخلاف سلام التشهد فإنه ينوي جميع المؤمنين والمؤمنات، فما في الخلاصة من أن الصحيح أنه
ينوي من كان معه في المسجد ضعيف، وكذا ما اختاره الحاكم الشهيد من أنه كسلام التشهد.
وزاد السروجي: وأنه ينوي المؤمنين من الجن أيضا. وخرج بذكر القوم النساء ولهذا قالوا:
لا ينوي النساء في زماننا لعدم حضورهن الجماعة أو لكراهيته لكن ذكر محمد في الأصل أنه
ينوي الرجال والنساء، وفي الحقيقة لا اختلاف فما في الأصل مبني على حضورهن الجماعة،
581

وما ذكره المشايخ مبني على عدمه فصار المدار في النية وعدمها حضورهن وعدمه حتى إذا
كان من المقتدين خناثى أو صبيان نواهم أيضا. وفي غاية البيان: إن هذا شئ تركه جميع
الناس لأنه قلما ينوي أحد شيئا وهذا حق لأنها صارت كالشريعة المنسوخة. وقوله ناويا القوم
والحفظة يعم الإمام والمأموم. وقوله والإمام معطوف على القوم خاص بالمأموم يعني أن المأموم
يزيد في نيته نية السلام على إمامه في التسليمة الأولى إذا كان الإمام عن يمينه، أو في الثانية
إن كان عن يساره، أو في التسليمتين لو كان محاذيا له لأنه ذو حظ من الجانبين، وأشار إلى
أن المنفرد ينوي الحفظة فقط لأنه ليس معه غيرهم فينوي بالأولى من على يمينه من الملائكة،
وبالثانية من على يساره منهم، وعلى ما صححه في الخلاصة ينوي الحاضرين معه في المسجد
أيضا، وعلى ما اختاره الحاكم ينوي جميع المؤمنين أيضا. ثم قدم المصنف القوم على الحفظة
تبعا للجامع الصغير وفي الأصل على العكس، فاختلف المشايخ والتحقيق أنه ليس بينهما فرق
فإن الواو لمطلق الجمع من غير ترتيب ولان النية عمل القلب وهي تنتظم الكل بلا ترتيب،
واختاره الشارح تبعا لما في البدائع لكن قال فخر الاسلام في شرح الجامع الصغير: للبداءة
أثر في الاهتمام ولذا قال أصحابنا في الوصايا بالنوافل: إنه يبدأ بما بدأ به الميت فدل ما ذكر
هنا وهو آخر التصنيفين أن مؤمني البشر أفضل من الملائكة وهو مذهب أهل السنة والجماعة
خلافا للمعتزلة، وذلك أن عندهم صاحب الكبيرة خارج من الايمان وقل ما يسلم مؤمن من
الكبائر، وعندنا هو كامل الايمان، ثم هو مبتلي بالايمان بالغيب فكان أحق من الملائكة، ألا
ترى أن الله جعل الملائكة منزلة خدم المؤمنين في الدنيا والآخرة اه‍. وما ذكره عن المعتزلة
نسبه الشارح إلى الباقلاني من أئمتنا، وما اختاره فخر الاسلام من تفضيل الجملة على الجملة
نسبه في المحيط إلى بعض أهل السنة ثم قال: والمختار عندنا أن خواص بني آدم وهم الأنبياء
والمرسلون أفضل من جملة الملائكة، وعوام بني آدم من الأتقياء أفضل من عوام الملائكة،
وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم. ونص قاضيخان على أن هذا هو المذهب المرضي.
والمراد هنا بالأتقياء من اتقى الشرك لا من اتقاه مع المعاصي فإن ظاهره أن فسقه المؤمنين
أفضل من عوام الملائكة، ويدل عليه ما في روضة العلماء للإمام أبي الحسن البخاري أن الأمة
582

اجتمعت على أن الأنبياء عليهم السلام أفضل الخليقة، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم.
واتفقوا على أن أفضل الخلائق بعد الأنبياء جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة
العرش والروحانيون ورضوان ومالك، وأجمعوا على أن الصحابة والتابعين والشهداء
والصالحين أفضل من سائر الملائكة، واختلفوا أن سائر الناس بعد هؤلاء أفضل أم سائر
الملائكة، فقال أبو حنيفة: سائر الناس من المسلمين أفضل وقالا: سائر الملائكة أفضل. ولأبي
حنيفة قوله تعالى * (يدخلون عليهم من كل باب سلام) * (الرعد: 23) الآية فأخبر أنهم
يزورون المسلمين في الجنة والمزور أفضل من الزائر اه‍. والحفظة جمع حافظ ككتبه جمع كاتب
وسموا به لحفظهم ما يصدر من الانسان من قول وعمل، أو لحفظهم إياه من الجن وأسباب
المعاطب، والثاني يشمل جميع من معه من الملائكة، والأول يخص الكرام الكاتبين، وفي
المجتبى: واختلف في نية الحفظة فقيل ينوي الملكين الكاتبين، وقيل الحفظة الخمسة، وفي
الحديث أن مع كل مؤمن خمسة منهم واحد عن يمينه وواحد عن يساره يكتبان أعماله،
وواحد أمامه يلقنه الخيرات، وواحد وراءه يدفع عنه المكاره، وواحد عن ناصيته يكتب ما
يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها مع كل مؤمن ستون ملكا وفي بعضها مائة وستون
ورجح الأول في غاية البيان لموافقته كتاب الله تعالى وفي الهداية: ولا ينوي في الملائكة عددا
محصورا لأن الاخبار في عددهم قد اختلفت فأشبه الايمان بالأنبياء عليهم السلام اه‍. مع أنه
ورد في الحديث عدد الأنبياء أو الرسل فقال بعدما سئل عن الأنبياء: أنهم مائة ألف وأربعة
583

وعشرون ألفا، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا. كذا في الكشاف في سورة الحج لكن
لما كان ظنيا لأنه خبر واحد لم يعارض قوله تعالى * (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل
ورسلا لم نقصصهم عليك) * (النساء: 164) واختلف في الملكين الكاتبين هل يتبدلان بالليل
والنهار، فقيل يتبدلان للحديث الصحيح يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار (1)
بناء على أنهم الحفظة وهو قول الجمهور كما نقله القاضي عياض لكن ذكر القرطبي في شرح
مسلم أن الأظهر أنهم غيرهم. وقيل: لا يتغيران عليه ما دام حيا. واختلف في محل
جلوسهما فقيل في الفم وأن اللسان قلمهما والريق مدادهما للحديث نقوا أفواهكم بالخلال
فإنها مجلس الملكين الحافظين إلى آخره. وقيل: تحت الشعر على الحنك، وقيل اليمين واليسار
ثم قالوا: إن كاتب السيئات يفارقه عند الغائط والجماع. زاد القرطبي وفي الصلاة لأنه لا
584

يفعل سيئة فيها. ثم اختلفوا فيما يكتبانه فقيل ما فيه أجر أو وزر، وعزاه في الاختيار إلى
محمد، وقيل يكتبان كل شئ حتى أنينه في مرضه. ثم اختلفوا يمحى المباح فقيل آخر
النهار، وقيل يوم الخميس، والأكثرون على أنها تمحى يوم القيامة. كذا في الاختيار. وذكر
بعض المفسرين أنه الصحيح عند المحققين، والمختار أن كيفية الكتابة والمكتوب فيه مما لا
يعلمها إلا الله تعالى، وقد أوسع الكلام في هذا العلامة ابن أمير حاج في شرح منية المصلي
وذكر أن الصبي المميز لا ينوي الكتبة إذ ليسوا معه وإنما ينوي الحافظين له من الشياطين،
ولذا لم يقل المصنف والكتبة ليعم كل مصل. ولم يذكر المصنف ما يفعله بعد السلام وقد
قالوا: إن كان إماما وكانت صلاة يتنفل بعدها فإنه يقوم ويتحول عن مكانه إما يمنة أو يسرة
وخلفه والجلوس مستقبلا بدعة، وإن كان لا يتنفل بعدها يقعد مكانه وإن شاء انحرف يمينا
أو شمالا، وإن شاء استقبلهم بوجهه إلا أن يكون بحذائه مصل، سواء كان في الصف
الأول أو في الأخير. والاستقبال إلى المصلي مكروه هذا ما صححه في البدائع، واختار في
الخانية والمحيط استحباب أن ينحرف عن يمين القبلة وأن يصلي فيها، ويمين القبلة ما بحذاء
يسار المستقبل ويشهد له ما في صحيح مسلم من حديث البراء كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم
أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه.
قوله: (وجهر بقراءة الفجر وأولي العشاءين ولو قضاء والجمعة والعيدين ويسر في
غيرها كمتنفل بالنهار وخير المنفرد فيما يجهر كمتنفل بالليل) شروع في بيان القراءة وصفتها،
وقدم صفتها من الجهر والاخفاء لأنه يعم المفروض وغيره، والأصل فيه كما ذكره المصنف
في الكافي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقرآن في الصلوات كلها في الابتداء وكان المشركون
يؤذونه ويسبون من أنزل وأنزل عليه فأنزل الله تعالى * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) *
(الاسراء: 110) أي لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن
585

تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار فكان يخافت بعد ذلك في صلاة الظهر والعصر لأنهم
كانوا مستعدين للايذاء في هذين الوقتين، ويجهر في المغرب لأنهم كانوا مشغولين بالاكل،
وفي العشاء والفجر لكونهم رقودا. وفي الجمعة والعيدين لأنه أقامهما بالمدينة وما كان للكفار
بها قوة. وهذا العذر وإن زال بغلبة المسلمين فالحكم باق لأن بقاءه يستغني عن بقاء السبب
ولأنه أخلف عذرا آخر وهو كثرة اشتغال الناس في هاتين الصلاتين دون غيرهما اه‍. وقد
انعقد الاجماع على الجهر فيما ذكر وقد قدمنا أن الجهر في هذه المواضع واجب على الإمام
للمواظبة من النبي صلى الله عليه وسلم. وتخصيصه بالإمام مفهوم من قوله هنا وخير المنفرد فيما يجهر فأفاد
أن الإمام ليس بمخير قالوا: ولا يجهد الإمام نفسه بالجهر. وفي السراج الوهاج: الإمام إذا
جهر فوق حاجة الناس فقد أسار وأفاد أنه لا فرق في حق الإمام بين الأداء والقضاء لأن
القضاء يحكي الأداء. والحق بالجمعة والعيدين التراويح والوتر في رمضان للتوارث المنقول،
والمراد بغيرهما الثالثة من المغرب والاخريان من العشاء وجميع ركعات الظهر والعصر. وقد
أفاد أن المتنفل بالنهار يجب عليه الاخفاء مطلقا والمتنفل بالليل مخير بين الجهر والاخفاء إن كان
منفردا، أما إن كان إماما فالجهر واجب كما ذكره الشارح رحمه الله، وأن المنفرد ليس بمخير
في الصلاة السرية بل يجب الاخفاء عليه وهو الصحيح لأن الإمام يجب عليه الاخفاء فالمنفرد
أولى. وذكر عصام بن يوسف أن المنفرد مخير فيما يخافت فيه أيضا استدلالا بعدم وجوب
سجود السهو عليه، وتعقبه الشارح بأن الإمام إنما وجب عليه سجود السهو لأن جنايته
أعظم لأنه ارتكب الجهر والاسماع بخلاف المنفرد، وتعقبه في فتح القدير بأنا لا ننكر أن
واجبا قد يكون آكد من واجب لكن لما لم ينط وجوب السهو إلا بترك الواجب لا بآكد
الواجب ولا برتبة مخصوصة منه فحيث كانت المخافتة واجبة على المنفرد ينبغي أن يجب بتركها
السجود.
وفي العناية: إن ظاهر الرواية أن المنفرد مخير فيما يخافت فيه أيضا وفيه تأمل. والظاهر
من المذهب الوجوب. وفي قوله فيما يجهر دلالة على أن المنفرد مخير في الصلاة الجهرية إذا
586

فاتت وقضاها نهارا كما هو حكم الإمام لأن القضاء يحكي الأداء والجهر أفضل وصححه في
الذخيرة والخانية، واختاره شمس الأئمة في المبسوط وفخر الاسلام، وصحح في الهداية
الاخفاء حتما لأن الجهر مختص، أما بالجماعة حتما أو بالوقت في حق المنفرد على وجه
التخيير ولم يوجد أحدهما. وتعقبه في غاية البيان بأن الحكم يجوز أن يكون معلولا بعلل
شتى، وعلة الجهر هنا أن القضاء يحكي الأداء بدليل أنه يؤذن ويقيم للقضاء كالأداء. وفي
السراج الوهاج: ولو سبق رجل يوم الجمعة بركعة ثم قام لقضاء ما فاته كان بالخيار إن شاء
جهر وإن شاء خافت كالمنفرد في صلاة الفجر. وفي الخلاصة عن الأصل: رجل يصلي
وحده فجاء رجل واقتدى به بعدما قرأ الفاتحة أو بعضها يقرأ الفاتحة ثانيا ويجهر اه‍. يعني إذا
كانت الصلاة جهرية ولم يجهر المصلي، ووجهه أن الجهر فيما بقي صار واجبا بالاقتداء،
والجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شنيع، وقيد المصنف بالقراءة لأن ما عداها من
الأذكار فيه تفصيل إن كان ذكرا وجب للصلاة فإنه يجهر به كتكبيرة الافتتاح وما ليس بفرض
فما وضع للعلامة فإنه يجهر به كتكبيرات الانتقال عند كل خفض ورفع إذا كان إماما، إما
المنفرد والمقتدي فلا يجهران به، وإن كان يختص ببعض الصلاة كتكبيرات العيدين جهر به،
وكذا القنوت في مذهب العراقيين. واختار صاحب الهداية الاخفاء به، وإما ما سوى ذلك
فلا يجهر به مثل التشهد وآمين والتسبيحات لأنها أذكار لا يقصد بها العلامة. كذا في السراج
والوهاج. ولم يبين المصنف حد الجهر والاخفاء للاختلاف مع اختلاف التصحيح، فذهب
الكرخي إلى أن أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأدنى المخافتة تصحيح الحروف. وفي البدائع:
587

ما قاله الكرخي أقيس وأصح. وفي كتاب الصلاة لمحمد إشارة إليه فإنه قال: إن شاء قرأ في
نفسه وإن شاء جهر وأسمع نفسه اه‍. وأكثر المشايخ على أن الصحيح أن الجهر أن يسمع
غيره والمخافتة أن يسمع نفسه وهو قول الهندواني، وكذا كل ما يتعلق بالنطق كالتسمية على
الذبيحة ووجوب السجدة بالتلاوة والعتاق والطلاق والاستثناء حتى لو طلق ولم يسمع نفسه لا
يقع وإن صحح الحروف.
وفي الخلاصة: الإمام إذا قرأ في صلاة المخافتة بحيث سمع رجل أو رجلان لا يكون
جهرا والجهر أن يسمع الكل اه‍. وفي فتح القدير: واعلم أن القراءة وإن كانت فعل اللسان
لكن فعله الذي هو كلام والكلام بالحروف والحروف كيفية تعرض للصوت وهو أخص من
النفس فإن النفس المعروض بالفرع، فالحرف عارض للصوت لا للنفس فمجرد تصحيحها بلا
صوت إيمان إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف فلا كلام. بقي أن هذا لا يقتضي أن
يلزم في مفهوم القراءة أن يصل إلى السمع بل كونه بحيث يسمع وهو قول بشر المريسي،
ولعله المراد بقول الهندواني بناء على أن الظاهر سماعه بعد وجود الصوت إذا لم يكن مانع
اه‍. فاختار أن قول بشر والهندواني متحدان وهو خلاف الظاهر، بل الظاهر من عباراتهم أن
في المسألة ثلاثة أقوال. قال الكرخي: إن القراءة تصحيح الحروف وإن لم يكن الصوت
588

بحيث يسمع، وقال بشر: لا بد أن يكون بحيث يسمع. وقال الهندواني: لا بد أن يكون
مسموعا له. زاد في المجتبى في النقل عن الهندواني أنه لا يجزئه ما لم يسمع أذناه ومن بقربه
اه‍. ونقل في الذخيرة عن الحلواني أن الأصح هذا، ولا ينبغي أن يجعل قولا رابعا بل هو
قول الهندواني الأول. وفي العادة إن ما كان مسموعا له يكون مسموعا لمن هو بقربه أيضا.
وفي الذخيرة معزيا إلى القاضي علاء الدين في شرح مختلفاته أن الأصح عندي أن في بعض
التصرفات يكتفي بسماعه وفي بعض التصرفات يشترط سماع غيره مثلا في البيع لو أدنى
المشتري صماخه إلى فم البائع وسمع يكفي، ولو سمع البائع بنفسه ولم يسمعه المشتري لا
يكفي. وفيما إذا حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد بحيث لا يسمع لا يحنث في يمينه.
نص على هذا في كتاب الايمان لأن شرط الحنث وجود الكلام معه ولم يوجد اه‍.
قوله: (ولو ترك السورة في أولي العشاء قرأها في الأخريين مع الفاتحة جهرا ولو ترك
الفاتحة لا) أي لا يقرؤها في الأخريين، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا
يقضي واحدة منهما لأن الواجب إذا فات عن وقته لا يقضي إلا بدليل. ولهما وهو الفرق
بين الوجهين أن قراءة الفاتحة شرعت على وجه يترتب عليها السورة فلو قضاها في الأخريين
589

تترتب الفاتحة على السورة، وهذا خلا ف الموضوع بخلاف ما إذا ترك السورة لأنه أمكن
قضاؤها على الوجه المشروع. وهذه المسألة مربعة فالقول الثالث ما رواه الحسن عن أبي حنيفة
أنه يقضيهما. وقال عيسى بن أبان: يقضي الفاتحة دون السورة لأنها أهم الامرين. وفي
تعبيره بالخبر في قوله قرأها تبعا للجامع الصغير إشارة إلى الوجوب لأن الاخبار في الوجوب
آكد من الامر. وصرح في الأصل بالاستحباب فإنه قال: أحب إلى أن يقضي السورة في
الأخريين. وإنما كان مستحبا لأنه لا يمكن مراعاتها من كل وجه في القضاء لأنها وإن كانت
مؤخرة عن الفاتحة فهي غير موصولة بها لأن السورة في الشفع الثاني والفاتحة في الأول. وفي
غاية البيان: والأصح ما قاله في الجامع الصغير لأنه آخر التصنيفين. وفي فتح القدير: ولا
يخفى أن ما في الأصل أصرح فيجب التعويل عليه في الرواية اه‍. وقد يقال أيضا: إن
الاخبار إنما يكون آكد من الامر أن لو كان من الشارع، أما من الفقهاء فلا يدل على
الوجوب بل والامر منهم لا يدل عليه فكان المذهب الاستحباب. ثم ظاهر الكتاب أنه يجهر
بالسورة والفاتحة وجعله الشارح ظاهر الرواية وصححه في الهداية لأن الجمع بين الجهر
والمخافتة في ركعة شنيع وتغيير النفل وهو الفاتحة أولى. وصحح التمرتاشي أنه يجهر بالسورة
فقط وجعله شيخ الاسلام الظاهر من الجواب، وفخر الاسلام الصواب قولا بعدم التغيير.
ولا يلزم الجمع بينهما في ركعة لأن السورة تلتحق بموضعها تقديرا ولم يبين كيف يرتبهما،
فقيل يقدم السورة، وقيل الفاتحة وينبغي ترجيحه. وفي قوله مع الفاتحة إشارة إلى أنه إذا
أراد قضاء السورة ليس له ترك الفاتحة فتصير واجبة كالسورة وفيه قولان، وينبغي ترجيح
عدم الوجوب كما هو الأصل فيها. وقيد بكونه ترك الفاتحة في الأوليين لأنه لو نسي الفاتحة
من الركعة الأولى أو الثانية وقرأ السورة ثم تذكر قبل الركوع فإنه يأتي بها ويعيد السورة في
ظاهر المذهب لأنه إذا أتى بها تكون فرضا كالسورة فصار كما لو تذكر السورة في الركوع فإنه
يأتي بها ويعيد الركوع.
590

قوله: (وفرض القراءة آية) هي في اللغة العلامة الظاهرة ومن هنا سميت المعجزة آية
لدلالتها على النبوة وصدق من ظهرت على يده، وتقال الآية لكل جملة دالة على حكم من
أحكامه تعالى، ولكل كلام منفصل عما قبله وبعده بفصل توقيفي لفظي، وقيل جماعة حروف
وكلمات من قولهم خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم. كذا في شرح المصابيح لزين العرب.
وفي بعض حواشي الكشاف: والآية طائفة من القرآن مترجمة أقلها ستة أحرف صورة اه‍.
ويرد عليه قوله تعالى * (لم يلد) * (الاخلاص: 3) فإنها آية ولهذا جوز أبو حنيفة الصلاة بها
وهي خمسة أحرف. وفي فرض القراءة ثلاث روايات ظاهر الرواية كما نقله المشايخ ما في
الكتاب لقوله تعالى * (فاقرءوا ما تيسر من القرآن) * من غير فصل إلا أن ما دون
الآية خارج منه والآية ليست في معناه. وفي رواية ما يطلق عليه اسم القرآن ولم يشبه قصد
خطاب أحد وصححه القدوري، ورجحه الشارح بأنه أقرب إلى القواعد الشرعية لأن المطلق
ينصرف إلى الأدنى وفيه نظر، بل المطلق ينصرف إلى الكامل في الماهية. وفي رواية ثلاث
آيات قصار أو آية طويلة وهو قولهما ورجحه في الاسرار بأنه احتياط لأن قوله * (لم يلد) *
(الاخلاص: 3) * (ثم نظر) * (المدثر: 21) لا يتعارف قرآنا وهو قرآن حقيقة فمن حيث
الحقيقة حرمتا على الحائض والجنب، ومن حيث العدم لم تجز الصلاة به حتى يأتي بما يكون
قرآنا حقيقة وعرفا، فالامر المطلق لا ينصرف إلى ما لا يتعارف قرآنا والاحتياط أمر حسن في
العبادات. وذكر المصنف في الكافي أن الخلاف مبني على أصل وهو أن الحقيقة المستعملة أولى
عنده من المجاز المتعارف، وعندهما بالعكس. أطلق الآية فشمل الطويلة والقصيرة والكلمة
591

الواحدة وما كان مسماه حرفا فيجوز بقوله تعالى * (ثم نظر) * (المدثر: 21) * (مدهامتان) *
(الرحمن: 64) ص، ق، ن. ولا خلاف في الأول، وأما في الثاني والثالث ففيه اختلاف
المشايخ والأصح أنه لا يجوز لأنه يسمى عادا لا قارئا. كذا ذكره الشارحون وهو مسلم في
ص ونحوه لأن نحو ص ليس بآية لعدم انطباق تعريفها عليه وأما في نحو مدهامتان فذكر
الأسبيجابي وصاحب البدائع أنه يجوز على قول أبي حنيفة من غير ذكر خلاف بين المشايخ،
وما وقع في عبارة المشايخ من أن ص ونحوه حرف فقال في فتح القدير: إنه غلط فإنها كلمة
مسماها حرف وليس المقروء وإنما المقروء صاد وقاف ونون، وأفاد أنه لو قرأ نصف آية
طويلة في ركعة ونصفها في أخرى فإنه لا يجوز لأنه ما قرأ آية طويلة وفيه اختلاف المشايخ،
وعامتهم على الجواز لأن بعض هذه الآيات تزيد على ثلاث آيات قصارا وتعدلها فلا يكون
أدنى من آية، وصححه في منية المصلي. وعلم من تعليلهم أن كون المقروء في كل ركعة
النصف ليس بشرط بل أن يكون البعض المقروء يبلغ ما يعد بقراءته قارئا عرفا. وأفاد أيضا
أنه لو قرأ نصف آية مرتين أو كلمة واحدة مرارا حتى بلغ قدر آية تامة فإنه لا يجوز، وأن من
لا يحسن الآية لا يلزمه التكرار عند أبي حنيفة قالوا: وعندهما يلزمه التكرار ثلاث مرات،
وأما من يحسن ثلاث آيات إذا كرر آية واحدة ثلاثا ففي المجتبى أنه لا يتأدى به الفرض
عندهما. وذكر في الخلاصة أن فيه اختلاف المشايخ على قولهما. وفي المضمرات شرح
القدوري: اعلم أن حفظ قدر ما تجوز الصلاة به من القرآن فرض عين على المسلمين لقوله
تعالى * (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) * (المزمل: 20) وحفظ جميع القرآن فرض كفاية وحفظ
فاتحة الكتاب وسورة واجبة على كل مسلم.
قوله: (وسنتها في السفر الفاتحة وأي سورة شاء) لحديث أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قرأ
بالمعوذتين في صلاة الفجر في السفر ولان السفر أثر في إسقاط شطر الصلاة، فلان يؤثر في
تخفيف القراءة أولى. أطلقه فشمل حالة الضرورة والاختيار وحالة العجلة والقرار، وهكذا
وقع الاطلاق في الجامع الصغير، وما في الهداية وغيرها من أنه محمول على حالة العجلة في
السير، وأما إن كان في أمن وقرار فإنه يقرأ في الفجر نحو سورة البروج والانشقاق لأنه
592

يمكن مراعاة السنة مع التخفيف. وفي منية المصلي: والظهر كالفجر وفي العصر والعشاء
دون ذلك، وفي المغرب بالقصار جدا فليس له أصل يعتمد عليه من جهة الرواية ولا من
جهة الدراية. أما الأول فما علمته من إطلاق الجامع وعليه أصحاب المتون، وأما الثاني فلان
المسافر إذا كان على أمن وقرار صار كالمقيم سواء فكان ينبغي أن يراعي السنة، والسفر وإن
كان مؤثرا في التخفيف لكن التحديد بقدر سورة البروج في الفجر والظهر لا بد له من
دليل ولم ينقلوه، وكونه صلى الله عليه وسلم قرأ في السفر شيئا لا يدل على سنيته إلا لو واظب عليه ولم
يوجد فالظاهر الاطلاق. وشمل سورة الكوثر فما في الحاوي من تعيينه بمقدار المعوذتين
فصاعدا مشيرا بذلك إلى إخراج سورة الكوثر فضعيف لأن تعليل التعميم والتفويض إلى
مشيئته بدفع الحرج عنه الحاصل من التقييد بسورة دون سورة يدل على الشمول.
قوله: (وفي الحضر طوال المفصل لو فجرا أو ظهرا وأوساطه لو عصرا وعشاء وقصاره
لو مغربا) والأصل فيه كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن اقرأ في الفجر
والظهر بطوال المفصل، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب قصار المفصل.
593

ولان مبنى المغرب على العجلة والتخفيف أليق بها، والعصر والعشاء يستحب فيهما التأخير
وقد يقعان في التطويل في وقت غير مستحب فيؤقت فيهما بالأوساط. والطوال والقصار
بكسر الأول فيهما جمع طويلة وقصيرة ككرام وكريمة، وأما الطوال بالضم فهو الرجل
الطويل. والأوساط جمع وسط بفتح السين ما بين القصار والطوال. ولم يبين المصنف
المفصل للاختلاف فيه، والذي عليه أصحابنا أنه من الحجرات إلى والسماء ذات البروج
طوال، ومنها إلى لم يكن أوساط، ومنها إلى آخر القرآن قصار، وبه صرح في النقاية.
وسمي مفصلا لكثرة الفصول فيه، وقيل لقلة النسوخ فيه. وأطلق فشمل الإمام والمنفرد
كما صرح به في المجتبى من أنه يسن في حق المنفرد ما يسن في حق الإمام من القراءة.
وأفاد أن القراءة في الصلاة من غير المفصل خلاف السنة ولهذا قال في المحيط: وفي
الفتاوى قراءة القرآن على التأليف في الصلاة لا بأس بها لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا
يقرؤون القرآن على التأليف في الصلاة، ومشايخنا استحسنوا قراءة المفصل ليستمع القوم
594

ويتعلموا اه‍. ولم يذكر المصنف عدد الآيات التي تقرأ في كل صلاة لاختلاف الآثار
والمشايخ، والمنقول في الجامع الصغير أنه يقرأ في الفجر في الركعتين سوى الفاتحة أربعين أو
خمسين أو ستين آية. واقتصر في الأصل على الأربعين وروى الحسن في المجرد ما بين ستين
إلى مائة، ووردت الاخبار بذلك كله عنه صلى الله عليه وسلم ثم قالوا: يعمل بالروايات كلها بقدر الامكان
واختلفوا في كيفية العمل به، فقيل ما في المجرد من المائة محمل الراغبين، وما في الأصل
محمل الكسالى أو الضعفاء، وما في الجامع الصغير من الستين محمل الأوساط، وقيل ينظر إلى
طول الليالي وقصرها وإلى كثرة الاشغال وقلتها. قال في فتح القدير: الأولى أن يجعل هذا
محمل اختلاف فعله عليه الصلاة والسلام بخلاف القول الأول فإنه لا يجوز فعله عليه لأنهم لم
يكونوا كسالى فيجعل قاعدة لفعل الأئمة في زماننا. ويعلم منه أنه لا ينقص في الحضر عن
الأربعين وإن كانوا كسالى لأن الكسالى محملها اه‍. فالحاصل أنه لا ينقص عن الأربعين في
الركعتين في الفجر على كل حال على جميع الأقوال. وقال فخر الاسلام قال مشايخنا: إذا
كانت الآيات قصارا فمن الستين إلى مائة، وإذا كانت أوساط فخمسين، وإذا كانت طوالا
فأربعين، وجعل المصنف الظهر كالفجر والأكثرون على أنه يقرأ في الظهر بالطوال. وذكر في
منية المصلي معزيا إلى القدوري أن الظهر كالعصر يقرأ فيه بالأوساط، وأما في عدد الآيات
ففي الجامع الصغير أن الظهر كالفجر في العدد لاستوائهما في سعة الوقت. وقال في
الأصل: أو دونه لأنه وقت الاشتغال فينقص عنه تحرزا عن الملال، وعينه في الحاوي بأنه
دون أربعين إلى ستين. وأما عدد الآي في العصر والعشاء فعشرون آية في الركعتين الأوليين
منهما كما في المحيط وغيره، أو خمسة عشر آية فيهما كما في الخلاصة، وذكر قاضيخان في
شرح الجامع الصغير أنه ظاهر الرواية. وأما قدر ما في المغرب ففي التحفة والبدائع سورة
595

قصيرة خمس آيات أو ست آيات سوى الفاتحة، وعزاه صاحب البدائع إلى الأصل، وذكر في
الحاوي أن حد التطويل في المغرب في كل ركعة خمس آيات أو سورة قصيرة، وحد الوسط
والاختصار سورة من قصار المفصل، واختار في البدائع أنه ليس في القراءة تقدير معين بل
يختلف باختلاف الوقت وحال الإمام والقوم. والجملة فيه أنه ينبغي للإمام أن يقرأ مقدار ما
يخف على القوم ولا يثقل عليهم بعد أن يكون على التمام وهكذا في الخلاصة.
قوله: (وتطال أولي الفجر فقط) بيان للسنة وهذا - أعني إطالة الركعة الأولى من
الفجر - متفق عليه للتوارث على ذلك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا كما في النهاية،
ولأنه وقت نوم وغفلة فيعين الإمام الجماعة بتطويلها رجاء أن يدركوها لأنه لا تفريط منهم
بالنوم. ولم يبين في المختصر حد التطويل وبينه في الكافي بأن يكون التفاوت بقدر الثالث
والثلثين والثلثان في الأولى والثلث في الثانية قال: وهذا بيان الاستحباب. أما بيان الحكم
فالتفاوت وإن كان فاحشا لا بأس به لورود الأثر اه‍. واختار في الخلاصة قدر النصف فإنه
قال: وحد الإطالة في الفجر أن يقرأ في الركعة الثانية من عشرين إلى ثلاثين، وفي الأولى من
ثلاثين إلى ستين آية. وفي قوله فقط دلالة على أنه لا يسن التطويل في غير الفجر وهو
قولهما خلافا لمحمد لحديث البخاري عن أبي قتادة أنه عليه الصلاة والسلام كان يطول الركعة
الأولى من الظهر ويقصر الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. واستدل للمذهب
بحديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في صلاة الظهر في الأوليين في
كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي العصر في الأوليين في كل ركعة خمس عشر آية. فإنه نص
ظاهر في المساواة في القراءة بخلاف حديث أبي قتادة فإنه يحتمل أن يكون التطويل فيه ناشئا
من جملة الثناء والتعوذ والتسمية وقراءة ما دون الثلاث فيحمل عليه جمعا بين المتعارضين بقدر
الامكان. وبحث فيه المحقق في فتح القدير بأن الحمل لا يتأتى في قوله وهكذا الصبح، وإن
596

حمل على التشبيه في أصل الإطالة لا في قدرها فهو غير المتبادر ولذا قال في الخلاصة في قول
محمد إنه أحب اه‍. وتعقبه تلميذه الحلبي بأنه لا يتوقف قولهما باستنان تطويل الأولى على
الثانية في الفجر من حيث القدر على الاحتجاج بهذا الحديث فإن لهما أن يثبتان بدليل آخر،
فالأحب قولهما لا قوله. وحيث ظهر قوة دليلهما كان الفتوى على قولهما، فما في معراج
الدراية من أن الفتوى على قول محمد ضعيف. وفي المحيط معزيا إلى الفتاوى: الإمام إذا
طول القراءة في الركعة الأولى لكي يدركها الناس لا بأس إذا كان تطويلا لا يثقل على القوم
اه‍. فأفاد أن التطويل في سائر الصلوات إن كان لقصد الخير فليس بمكروه وإلا ففيه بأس
وهو بمعنى كراهة التنزيه. وظاهر إطلاقهم أن الجمعة والعيدين على الخلاف وهو كذلك في
جامع المحبوبي وفي نظم الزندوستي: تستوي الركعتان في القراءة في الجمعة والعيدين
بالاتفاق. وقيد بالأولى لأن إطالة الثانية على الأولى تكره إجماعا، وإنما يكره التفاوت بثلاث
آيات، فإن كان آية أو آيتين لا يكره لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالمعوذتين وإحداهما أطول من
الأخرى بآية. كذا في الكافي. ويشكل على هذا الحكم ما ثبت في الصحيحين من قراءته صلى الله عليه وسلم
في الجمعة والعيدين في الأولى بسبح اسم ربك الاعلى وفي الثانية بهل أتاك حديث
الغاشية مع أن الثانية أطول من الأول بأكثر من ثلاث آيات، فإن الأولى تسع عشرة آية،
والثانية ست وعشرون آية وقد يجاب بأن هذه الكراهة في غير ما وردت به السنة، وأما ما
ورد عنه عليه الصلاة والسلام في شئ من الصلوات فلا، أو الكراهة تنزيهية وفعله عليه
597

الصلاة والسلام تعليما للجواز لا يوصف بها، والأول أولى لأنهم صرحوا باستنان قراءة
هاتين السورتين في الجمعة والعيدين. وقيد بالفرض لأنه يسوي في السنن والنوافل بين
ركعاتها في القراءة إلا فيما وردت به السنة أو الأثر. كذا في منية المصلي. وصرح في المحيط
بكراهة تطويل ركعة من التطوع ونقص أخرى. وأطلق في جامع المحبوبي عدم كراهة إطالة
الأولى على الثانية في السنن والنوافل لأن أمرها سهل، واختاره أبو اليسر ومشى عليه في
خزانة الفتاوى كما ذكره في شرح منية المصلي فكان الظاهر عدم الكراهة.
قوله: (ولم يتعين شئ من القرآن لصلاة) لاطلاق قوله تعالى * (فاقرءوا ما تيسر من
القرآن) * أراد بعدم التعيين عدم الفرضية وإلا فالفاتحة متعينة على وجه الوجوب
لكل صلاة. وأشار إلى كراهة تعيين سورة لصلاة لما فيه من هجر الباقي وإيهام التفضيل
كتعيين سورة السجدة وهل أتى على الانسان في فجر كل جمعة وسبح اسم ربك وقل
يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد في الوتر. كذا في الهداية وغيرها. وظاهره أن المداومة
مكروهة مطلقا، سواء اعتقد أن الصلاة تجوز بغيره أو لا، لأن دليل الكراهة لم يفصل وهو
إيهام التفضيل وهجر الباقي فحينئذ لا حاجة إلى ما ذكره الطحاوي والأسبيجابي من أن
الكراهة إذا رآه حتما يكره غيره، أما لو قرأ للتيسير عليه أو تبركا بقراءته صلى الله عليه وسلم فلا كراهة لكن
بشرط أن يقرأ غيرها أحيانا لئلا يظن الجاهل أن غيرها لا يجوز اه‍. والأولى أن يجعل دليل
كراهة المداومة إيهام التعيين لا هجر الباقي لأنه إنما يلزم لو لم يقرأ الباقي في صلاة أخرى.
وفي فتح القدير: ثم مقتضى الدليل عدم المداومة لا المداومة على العدم كما يفعله حنفية
العصر، بل يستحب أن يقرأ ذلك أحيانا تبركا بالمأثور فإن لزوم الايهام ينتفي بالترك أحيانا
598

ولذا قالوا: السنة أن يقرأ في ركعتي الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.
وظاهر هذا إفادة المواظبة على ذلك وذلك لأن الايهام المذكور منتف بالنسبة إلى المصلي نفسه
اه‍. وفيه نظر لما صرح به في غاية البيان من كراهة المواظبة على قراءة السور الثلاث في الوتر
أعم من كونه في رمضان، إماما أو لا. فما في فتح القدير مبني على أن العلة إيهام التعيين،
وأما على ما علل به المشايخ من هجر الباقي فهو موجود، سواء كان يصلي وحده أو إماما،
وسواء كان في الفرض أو في غيره، فتكره المداومة مطلقا.
قوله: (ولا يقرأ المؤتم بل يستمع وينصت وإن قرأ آية الترغيب أو الترهيب أو خطب
أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم والنائي كالقريب) للحديث المروي من طرق عديدة من كان له إمام
فقراءة القرآن له قراءة فكان مخصصا لعموم قوله تعالى * (فاقرءوا ما تيسر) * بناء على أنه
خص منه المدرك في الركوع إجماعا فجاز تخصيصه بعده بخبر الواحد ولعموم الحديث لا
صلاة إلا بقراءة (2) فإن قلت: حيث جاز تخصيصه بعد بخبر الواحد فينبغي تخصيص
عمومها بالفاتحة عملا بخبر الفاتحة قلت التخصيص الأول إنما هو في المأمورين ولم يقع
تخصيص لعموم المقروء فلم يجز تخصيصه بالظني. أطلقه فشمل الصلاة الجهرية والسرية، وفي
الهداية: ويستحسن على سبيل الاحتياط فيما يروى عن محمد، ويكره عندهما لما فيه من
الوعيد. وتعقبه في غاية البيان بأن محمدا صرح في كتبه بعدم القراءة خلف الإمام فيما يجهر
599

فيه وفيما لا يجهر فيه. قال: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة. ويجاب عنه بأن صاحب الهداية
لم يجزم بأنه قول محمد بل ظاهره أنها رواية ضعيفة. وفي فتح القدير: والحق أن قول محمد
كقولهما. والمراد من الكراهة كراهة التحريم، وفي بعض العبارات أنها لا تحل خلفه وإنما لم
يطلقوا اسم الحرمة عليها لما عرف من أن أصلهم أنهم لا يطلقونها إلا إذا كان الدليل قطعيا،
ودعوى الاحتياط في القراءة خلفه ممنوعة بل الاحتياط تركها لأنه العمل بأقوى الدليلين،
وقد روي عن عدة من الصحابة فساد الصلاة بالقراءة خلفه فأقواهما المنع. وأشار بقوله بل
يستمع وينصت إلى آخره إلى أن الآية نزلت في الصلاة وهي قوله تعالى * (وإذا قرئ القرآن
فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون) * وهو قول أكثر أهل التفسير. ومنهم
من قال: نزلت في الخطبة. قال في الكافي: ولا تنافي بينهما فإنما أمروا بهما فيها لما فيها
من قراءة القرآن. وحاصل الآية أن المطلوب بها أمران: الاستماع والسكوت، فيعمل بكل
منهما والأول يخص الجهرية، والثاني لا. فيجري على إطلاقه فيجب السكوت عند القراءة
مطلقا. ولما كان العبرة إنما هو لعموم اللفظ لا لخصوص السبب وجب الاستماع لقراءة القرآن
خارج الصلاة أيضا ولهذا قال في الخلاصة: رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن ولا
يمكنه استماع القرآن فالاثم على القارئ. وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس
نيام يأثم. وفي القنية وغيرها: الصبي إذا كان يقرأ القرآن وأهله يشتغلون بالاعمال ولا
يستمعون إن كان شرعوا في العمل قبل قراءته لا يأثمون وإلا أثموا. وقوله وإن للوصل،
وآية الترغيب هي ما كان فيها ذكر الجنة أو الرحمة، وآية الترهيب ما كان فيها ذكر النار.
والترهيب التخويف وفي عبارته رعاية الأدب حيث قال يستمع وينصت ولم يقل لا يسأل
الجنة ولا يتعوذ من النار وإنما لم يسأل ويتعوذ لما فيه من الاخلال بفرض الاستماع، ولان الله
تعالى وعده بالرحمة إذا استمع وأنصت ووعده حتم وإجابة الدعاء غير مجزوم به خصوصا
المتشاغل عن سماع القرآن بالدعاء. والضمير في قوله قرأ راجع إلى الإمام، وكذا في
خطب وصلى وحينئذ فلفظ المؤتم حقيقة بالنسبة إلى قوله وإن قرأ آية الترغيب والترهيب
مجاز باعتبار ما يؤول بالنسبة إلى الخطبة والصلاة، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز بلفظ واحد
عند كثير من العلماء، وبهذا اندفع ما ذكره الشارح من الخلل في عبارة المختصر. واستثنى
600

المصنف في الكافي من قوله صلى ما إذا ذكر الخطيب آية * (إن الله وملائكته) * (الأحزاب:
56) فإن السامع يصلي في نفسه سرا ائتمارا للامر وجعل البعيد كالقريب للخطيب في أنه
يسكت هو الاحتياط كما في الهداية والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الإمامة
اعلم أن الكلام هنا في مواضع: الأول في بيان شرائط صحتها. الثاني في بيان شرائط
601

كمالها. الثالث في بيان من تكره إمامته. الرابع في بيان صفتها. الخامس في بيان أقلها.
السادس في بيان من تجب له. السابع في بيان من تجب عليه. الثامن في حكمة مشروعيتها. أما
الأول فحاصله مجملا ما ذكره الإمام الأسبيجابي أنه متى أمكن تضمين صلاة المقتدي في صلاة
الإمام صح اقتداؤه به وإن لم يمكن لا يصح اقتداؤه به، والشئ إنما يتضمن ما هو مثله أو دونه
ولا يتضمن ما هو فوقه، وسيأتي بيانها مفصلا في قوله وفسد اقتداء رجل بامرأة إلى آخره.
وأما الثاني فهو أن الأصل أن بناء الإمامة على الفضيلة والكمال فكل من كان أكمل وأفضل فهو
أحق بها، وسيأتي مفصلا مع بيان من تكره إمامته. وأما صفتها فما ذكره
قوله: (الجماعة سنة مؤكدة) أي قوية تشبه الواجب في القوة. والراجح عند أهل
المذهب الوجوب ونقله في البدائع عن عامة مشايخنا، وذكر هو وغيره أن القائل منهم أنها
602

سنة مؤكدة ليس مخالفا في الحقيقة بل في العبارة لأن السنة المؤكدة والواجب سواء خصوصا
ما كان من شعائر الاسلام. ودليله من السنة المواظبة من غير ترك مع النكير على تاركها بغير
عذر في أحاديث كثيرة. وفي للمجتبى والظاهر أنهم أرادوا بالتأكيد الوجوب لاستدلالهم
بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد بترك الجماعة. وصرح في المحيط بأنه لا يرخص لاحد في
تركها بغير عذر حتى لو تركها أهل مصر يؤمرون بها فإن ائتمروا وإلا يحل مقاتلتهم، وفي
القنية وغيرها: بأنه يجب التعزير على تاركها بغير عذر ويأثم الجيران بالسكوت. وفيها: لو
انتظر الإقامة لدخول المسجد فهو مسئ. وفي المجتبى: ومن سمع النداء كره له الاشتغال
بالعمل. وعن عائشة أنه حرام يعني حالة الاذان وإن عمل بعده قبل الصلاة فلا بأس به.
وعن محمد: لا بأس بالاسراع إلى الجمعة والجماعة ما لم يجهد نفسه والسكينة أفضل فيها اه‍.
وفي الخلاصة: يجوز التعزير بأخذ الماء ومن ذلك رجل لا يحضر الجماعة اه‍. وسيأتي إن شاء
الله تعالى في محله أن معناه حبس ماله عنه مدة ثم دفعه له لا أخذه على وجه التملك كما قد
يتوهم كما صرح به في البزازية. وذكر في غاية البيان معزيا إلى الأجناس أن تارك الجماعة
يستوجب إساءة ولا تقبل شهادته إذا تركها استخفافا بذلك ومجانة، أما إذا تركها سهوا أو
تركها بتأويل بأن يكون الإمام من أهل الأهواء أو مخالفا لمذهب المقتدي لا يراعى مذهبه فلا
يستوجب الإساءة وتقبل شهادته اه‍. وفي شرح النقاية عن نجم الأئمة: رجل يشتغل بتكرار
الفقه ليلا ونهارا ولا يحضر الجماعة لا يعذر ولا تقبل شهادته. وقال أيضا: ورجل يشتغل
603

بتكرار اللغة فتفوته الجماعة لا يعذر بخلاف تكرار الفقه. قيل جوابه الأول فيمن واظب على
ترك الجماعة تهاونا، والثاني فيمن لا يواظب على تركها اه‍. ولم يذكر المصنف بقية أحكامها
فمنها: أن أقلها اثنان واحد مع الإمام في غير الجمعة لأنها مأخوذة من الاجتماع وهما أقل ما
يتحقق بهما الاجتماع، ولقوله عليه الصلاة والسلام الاثنان فما فوقهما جماعة (1) وهو
ضعيف كما في شرح منية المصلي، وسواء كان ذلك الواحد رجلا أو امرأة، حرا أو عبدا أو
صبيا يعقل ولا عبرة بغير العاقل.
وفي السراج الوهاج: لو حلف لا يصلي بجماعة وأم صبيا يعقل حنث في يمينه. ولا
فرق في ذلك بين أن يكون في المسجد أو بيته حتى لو صلى في بيته بزوجته أو جاريته أو
ولده فقد أتى بفضيلة الجماعة. ومنها أنها واجبة للصلوات الخمس إلا للجمعة فإنها شرط
فيها، وتجب لصلاة العيدين على القول بوجوبها وتسن فيها على القول بسنيتها، وفي الكسوف
والتراويح سنة وسيأتي أن الصحيح أنها في التراويح سنة على الكفاية. ونص في جوامع الفقه
على أنها فيها واجبة وهو غريب. ويستحب في الوتر في رمضان على قول، ولا يستحب فيه
على قول، وهي مكروهة في صلاة الخسوف وقيل لا. وأما ما عدا هذه الجملة ففي الخلاصة
الاقتداء في الوتر خارج رمضان يكره، وذكر القدوري أنه لا يكره. وأصل هذا أن التطوع
بالجماعة إذا كان على سبيل التداعي يكره في الأصل للصدر الشهيد، أما إذا صلوا بجماعة
بغير أذان وإقامة في ناحية المسجد لا يكره. وقال شمس الأئمة الحلواني: إن كان سوى
الإمام ثلاثة لا يكره في بالاتفاق، وفي الأربع اختلف المشايخ والأصح أنه يكره اه‍. كذا في
شرح المنية. ولا يخفى أن الجماعة في العيدين وإن كانت واجبة أو سنة على القولين فيها فهي
شرط الصحة على كل قول لأن شرائط العيدين وجوبا وصحة شرائط الجمعة إلا الخطبة فلا
تصح صلاة العيدين منفردا كالجمعة، ولا يلزم من بطلان الوصف بطلان الأصل على
604

المذهب. ومنها حكم تكرارها في مسجد واحد ففي المجمع: ولا نكررها في مسجد محلة
بأذان ثان. وفي المجتبى: ويكره تكرارها في مسجد بأذان وإقامة. وعن أبي يوسف: إنما
يكره تكرارها بقوم كثير، أما إذا صلى واحد بواحد واثنين فلا بأس به. وعنه: لا بأس به
مطلقا إذا صلى في غير مقام الإمام. وعن محمد: إنما يكره تكرارها على سبيل التداعي، أما
إذا كان خفية في زاوية المسجد لا بأس به. وقال القدوري: لا بأس بها في مسجد في قارعة
الطريق وفي أمالي قاضيخان: مسجد ليس له إمام ولا مؤذن ويصلي الناس فيه فوجا فوجا
فالأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حدة، ولو صلى بعض أهل المسجد بأذان وإقامة
مخافتة ثم ظهر بقيتهم فلهم أن يصلوا جماعة على وجه الاعلان اه‍.
ومنها أنها لا تجب إلا على الرجال البالغين العاقلين الأحرار القادرين عليها من غير
حرج، فلا تجب على شيخ كبير لا يقدر على المشي، ومريض وزمن وأعمى ولو وجد من
605

يقوده. ويحمله عند أبي حنيفة لما عرف أنه لا عبرة بقدرة الغير. وحقق في فتح القدير أنه
اتفاق، والخلاف في الجمعة الجماعة. وتسقط بعذر البرد الشديد والظلمة الشديدة، وذكر
في السراج الوهاج أن منها المطر والريح في الليلة المظلمة، وأما في النهار فليست الريح
عذرا، وكذا إذا كان يدافع الأخبثين أو أحدهما أو كان إذا خرج يخاف أن يحبسه غريمه في
الدين أو كان يخاف الظلمة أو يريد سفرا وأقيمت الصلاة فيخشى أن تفوته القافلة، أو يكون
قائما بمريض أو يخاف ضياع ماله، وكذا إذا حضر العشاء وأقيمت صلاة العشاء ونفسه تتوق
إليه، وكذا إذا حضر الطعام في غير وقت العشاء ونفسه تتوق إليه اه‍. وفي فتح القدير:
وإذا فاتته لا يجب عليه الطلب في المساجد بلا خلاف بين أصحابنا، بل أن أتى مسجدا
للجماعة آخر فحسن، وإن صلى في مسجد حيه منفردا فحسن. وذكر القدوري: يجمع بأهله
ويصلي بهم يعني وينال ثواب الجماعة. وقال شمس الأئمة: الأولى في زماننا تتبعها. وسئل
الحلواني عمن يجمع بأهله أحيانا هل ينال ثواب الجماعة أو لا؟ قال: لا ويكون بدعة
ومكروها بلا عذر. واختلف في الأفضل من جماعة مسجد حيه وجماعة المسجد الجامع وإذا
كان مسجدان يختار أقدمهما، فإن استويا فالأقرب، فإن صلوا في الأقرب وسمع إقامة غيره
فإن كان دخل فيه لا يخرج وإلا فيذهب إليه. وهذا على الاطلاق تفريع على أفضلية الأقرب
مطلقا على من فضل الجامع، فلو كان الرجل متفقها فمجلس أستاذه لدرسه أو مجلس العامة
أفضل بالاتفاق اه‍. وأما حكمة مشروعيتها فقد ذكر في ذلك وجوه: أحدها قيام نظام الألفة
بين المصلين ولهذه الحكمة شرعت المساجد في المحال لتحصيل التعاهد باللقاء في أوقات
الصلوات بين الجيران. ثانيها دفع حصر النفس أن تشتغل بهذه العبادة وحدها. ثالثها تعلم
الجاهل من العالم أفعال الصلاة وذكر بعضهم أنها ثابتة بالكتاب وهو قوله تعالى * (واركعوا مع
الراكعين) * فهي بالكتاب والسنة. وأما فضائلها ففي السنة الصحيحة أن صلاة
الجماعة تفضل صلاة المنفرد ببضع وعشرين درجة. وفي المضمرات: إنه مكتوب في التوراة
صفة أمة محمد وجماعتهم وأنه بكل رجل في صفوفهم تزاد في صلاتهم صلاة يعني إذا كانوا
ألف رجل يكتب لكل رجل ألف صلاة.
606

قوله: (والأعلم أحق بالإمامة) أي أولى بها ولم يبين المعلوم، وفسره في المضمرات
بأحكام الصلاة، وفي السراج الوهاج بما يصلح الصلاة ويفسدها، وفي غاية البيان بالفقه
وأحكام الشريعة، والظاهر هو الأول ويقرب منه الثاني. وأما الثالث فمحمول على الأول
لظهور أنه ليس المراد من الفقه غير أحكام الصلاة، ولهذا وقع في عبارة أكثرهم الأعلم
بالسنة باعتبار أن أحكام الصلاة لم تستفد إلا من السنة. وأما الصلاة في الكتاب فمجملة،
وقدم أبو يوسف الأقرأ لحديث الصحيحين يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في
القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في
الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما، ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا
بإذنه (1) وأجاب عنه في الهداية بأن اقرأهم كان أعلمهم لأنهم كانوا يتلقونه بأحكامه فقدم
في الحديث ولا كذلك في زماننا فقدمنا الأعلم، ولان القراءة يفتقر إليها الركن واحد والعلم
لسائر الأركان. وفي فتح القدير: وأحسن ما يستدل به للمذهب حديث مروا أبا بكر
فليصل بالناس وكان ثمة من هو أقرأ منه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام أقرؤكم أبي
وكان أبو بكر أعلمهم بدليل قول أبي سعيد: كان أبو بكر أعلمنا. وهذا آخر الامر من رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وفي الخلاصة: الأكثر على تقديم الأعلم فإن كان متبحرا في علم الصلاة لكن لم
يكن له حظ في غيره من العلوم فهو أولى اه‍. وقيد في المجتبى الأعلم بأن يكون مجتنبا
للفواحش الظاهرة وإن لم يكن ورعا. وقيد في السراج الوهاج تقديم الأعلم بغير الإمام
الراتب، وأما الإمام الراتب فهو أحق من غيره وإن كان غيره أفقه منه. وقيد الشارح وجماعة
تقديم الأعلم بأن يكون حافظا من القرآن قدر ما تقوم به سنة القراءة، وقيده المصنف في
الكافي بأن يكون حافظا قدر ما تجوز به الصلاة، وينبغي أن يكون المختار قولا ثالثا وهو أن
يكون حافظا للقدر المفروض والواجب ولم أره منقولا لكن القواعد لا تأباه لأن الواجب
مقتضاه الاثم بالترك ويورث النقصان في الصلاة.
607

(ثم الأقرأ) محتمل لشيئين: أحدهما أن يكون المراد به أحفظهم للقرآن وهو المتبادر.
الثاني أحسنهم تلاوة للقرآن باعتبار تجويد قراءته وترتيلها، وقد اقتصر العلامة تلميذ المحقق
ابن الهمام في شرح زاد الفقير عليه. قوله: (ثم الأورع) أي الأكثر اجتنابا للشبهات. والفرق
بين الورع والتقوى أن الورع اجتناب الشبهات. والتقوى اجتناب المحرمات، ولم يذكر الورع
في الحديث السابق وإنما ذكر فيه بعد القراءة الهجرة لأنها كانت واجبة في ابتداء الاسلام قبل
الفتح، فلما انتسخت بعده أقمنا الورع مقامها. واستثنى في معراج الدراية من نسخ وجوبها
بعده ما إذا أسلم في دار الحرب فإنه تلزمه الهجرة إلى دار الاسلام لكن الذي نشأ في دار
الاسلام أولى منه إذا استويا فيما قبلها.
قوله: (ثم الاسن) لحديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولصاحب له: إذا
حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبر كما. وقد استويا في الهجرة والعلم
والقراءة. وعلل له في البدائع بأن من امتد عمره في الاسلام كان أكثر طاعة، وهو يدل على
أن المراد بالاسن الأقدم إسلاما، ويشهد له حديث الصحيحين المتقدم من قوله فإن كانوا في
الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما فعلى هذا لا يقدم شيخ أسلم قريبا على شاب نشأ في الاسلام
أو أسلم قبله، وكلام المصنف ظاهر في تقدم الأورع على الاسن، وهكذا في كثير من
الكتب، وفي المحيط ما يخالفه فإنه قال: وإن كان أحدهما أكبر والآخر أورع فالأكبر أولى إذا
608

لم يكن فيه فسق ظاهر اه‍. وأشار المصنف إلى أنهما لو استويا في سائر الفضائل إلا أن
أحدهما أقدم ورعا قدم، وقد صرح به في فتح القدير. ثم اقتصر المصنف على هذه الأوصاف
الأربعة أعني العلم والقراءة والورع والسن، وقد ذكروا أوصافا آخر. ففي المحيط: فإن
استويا في السن قالوا أحسنهما خلقا أولى، فإن استويا فأحسنهما وجها أولى. وفسر الشمني
الخلق بالألف بين الناس، وفسر المصنف في الكافي أحسنهم وجها بأكثرهم صلاة بالليل
للحديث من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وإن كان ضعيفا عند المحدثين. وذكر
في البدائع أنه لا حاجة إلى هذا التكلف بل يبقى على ظاهره لأنه صباحة الوجه سبب لكثرة
الجماعة خلفه. وقدم في فتح القدير الحسب على صباحة الوجه، فإن استووا فأشرفهم نسبا.
وزاد الإمام الأسبيجابي على ذلك أوصافا ثلاثة أخرى وهي: فإن استووا فأكبرهم رأسا
وأصغرهم عضوا، فإن استووا فأكثرهم مالا أولى حتى لا يطلع على الناس، فإن استووا في
ذلك فأكثرهم جاها أولى. وزاد في المعراج ثاني عشر وهو أنظفهم ثوبا. واختلف في المسافر
مع المقيم قيل هما سواء، وقيل المقيم أولى، وينبغي ترجيحه كما لا يخفى. وفي الخلاصة:
وإن اجتمعت هذه الخصال في رجلين فإنه يقرع بينهما أو الخيار إلى القوم. وأشار المصنف
بالأحقية إلى أن القوم لو قدموا غير الأقرأ مع وجوده فإنهم قد أساءوا ولكن لا يأثمون كما
في التنجيس وغيره. وهذا كله فيما إذا لم يكونا في بيت شخص، أما إذا كانا في بيت إنسان
فإنه يكره أن يؤم ويؤذن. وصاحب البيت أولى بالإمامة إلا أن يكون معه سلطان أو قاض
فهو أولى لأن ولايتهما عامة. كذا ذكر الأسبيجابي، ويشهد له حديث الصحيحين السابق.
وفي السراج الوهاج: ويقدم الوالي على الجميع وعلى إمام المسجد، وصاحب البيت والمستأجر
أولى من المالك لأنه أحق بمنافعه، وكذا المستعير أولى من المعير اه‍. وفي تقديم المستعير نظر
لأن للمعير أن يرجع أي وقت شاء بخلاف المؤجر. وفي الخلاصة وغيرها: رجل أم قوما
وهم له كارهون، إن كانت الكراهية لفساد فيه أو لأنهم أحق بالإمامة يكره له ذلك، وإن
كان هو حق بالإمامة لا يكره له ذلك اه‍. وفي بعض الكتب: والكراهة على القوم وهو
ظاهر لأنها ناشئة عن الأخلاق الذميمة. وينبغي أن تكون تحريمية في حق الإمام في صورة
الكراهة لحديث أبي داود عن ابن عمر مرفوعا ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما
وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا. والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته - ورجل اعتبد
محرره (1) كذا في شرح المنية.
609

قوله: (وكره إمامة العبد والأعرابي والفاسق والمبتدع والأعمى وولد الزنا) بيان للشيئين
الصحة والكراهة. أما الصحة فمبنية على وجود الأهلية للصلاة مع أداء الأركان وهما
موجودان من غير نقص في الشرائط والأركان. ومن السنة حديث صلوا خلف كل بر
وفاجر وفي صحيح البخاري أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج وكفى به فاسقا كما قاله
الشافعي. وقال المصنف: إنه أفسق أهل زمانه. وقال الحسن البصري: لو جاءت كل أمة
بخبيثاتها وجئنا بأبي محمد لغلبناهم. وإمامة عتبان بن مالك الأعمى لقومه مشهورة في
الصحيحين، واستخلاف ابن أم مكتوم الأعمى على المدينة كذلك في صحيح ابن حبان. وأما
الكراهة فمبنية على قلة رغبة الناس في الاقتداء بهؤلاء فيؤدي إلى تقليل الجماعة المطلوب
تكثيرها تكثيرا للاجر، ولان العبد لا يتفرغ للتعلم والغالب على الاعراب الجهل، والفاسق لا
يهتم لأمر دينه، والأعمى لا يتوقى النجاسة، وليس لولد الزنا أب يربيه ويؤد به ويعلمه
فيغلب عليه الجهل. أطلق الكراهة في هؤلاء وقيد كراهة إمامة الأعمى في المحيط وغيره بأن
لا يكون أفضل القوم، فإن كان أفضلهم فهو أولى. وعلى هذا يحمل تقديم ابن أم مكتوم لأنه
لم يبق من الرجال الصالحين للإمامة في المدينة أحد أفضل منه حينئذ، ولعل عتبان بن مالك
كان أفضل من كان يؤمه أيضا. وعلى قياس هذا إذا كان الاعرابي أفضل الحاضرين كان أولى،
ولهذا قال في منية المصلي: أراد بالأعرابي الجاهل وهو ظاهر في كراهة إمامة العامي الذي لا
علم عنده، وينبغي أن يكون كذلك في العبد. وولد الزنا إذا كان أفضل القوم فلا كراهة إذا
لم يكونا محتقرين بين الناس لعدم العلة للكراهة. والأعرابي من يسكن البادية عربيا كان أو
عجميا، وأما من يسكن المدن فهو عربي. وفي المجتبى: وهذه الكراهة تنزيهية لقوله في
الأصل إمامة غيرهم أحب إلي. وهكذا في معراج الدراية. وفي الفتاوى: لو صلى خلف
فاسق أو مبتدع ينال فضل الجماعة لكن لا ينال كما ينال خلف تقي ورع لقوله صلى الله عليه وسلم من صلى
خلف عالم تقي فكأنما صلى على خلف نبي قال ابن أمير حاج: ولم يجده المخرجون. نعم
أخرج الحاكم في مستدركه مرفوعا إن سركم أن يقبل الله صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم
610

وفدكم فيما بينكم وبين ربكم وذكر الشارح وغيره أن الفاسق إذا تعذر منعه يصلي الجمعة
خلفه، وفي غيرها ينتقل إلى مسجد آخر. وعلل له في المعراج بأن في غير الجمعة يجد إماما
غيره فقال في فتح القدير: وعلى هذا فيكره الاقتداء به في الجمعة إذا تعددت إقامتها في
المصر على قول محمد وهو المفتى به، لأنه بسبيل من التحول حينئذ.
وفي السراج الوهاج: فإن قلت فما الأفضلية أن يصلي خلف هؤلاء أو الانفراد؟ قيل:
أما في حق الفاسق فالصلاة خلفه أولى لما ذكر في الفتاوى كما قدمناه، وأما الآخرون فيمكن
أن يكون الانفراد أولى لجهلهم بشروط الصلاة، ويمكن أن يكون على قياس الصلاة خلف
الفاسق والأفضل أن يصلي خلف غيرهم اه‍. فالحاصل أنه يكره لهؤلاء التقدم ويكره الاقتداء
بهم كراهة تنزيهه، فإن أمكن الصلاة خلف غيرهم فهو أفضل وإلا فالاقتداء أولى من
الانفراد. وينبغي أن يكون محل كراهة الاقتداء بهم عند وجود غيرهم وإلا فلا كراهة كما لا
يخفى. وأشار المصنف إلى أنه لو اجتمع معتق وحر أصلي فالحر الأصلي أولى بعد الاستواء في
العلم والقراءة كما في الخلاصة، وأما المبتدع فهو صاحب البدعة وهي كما في المغرب اسم
من ابتدع الامر إذا ابتدأه وأحدثه كالرفقة من الارتفاق والخلفة من الاختلاف، ثم غلبت على
ما هو زيادة في الدين أو نقصان منه اه‍. وعرفها الشمني بأنها ما أحد ث على خلاف الحق
المتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم أو عمل أو حال بنوع شبهة واستحسان وجعل دينا قويما
وصراطا مستقيما اه‍. وأطلق المصنف في المبتدع فشمل كل مبتدع هو من أهل قبلتنا. وقيده
في المحيط والخلاصة والمجتبى وغيرها بأن لا تكون بدعته تكفره، فإن كانت تكفره فالصلاة
خلفه لا تجوز. وعبارة الخلاصة هكذا: وفي الأصل الاقتداء بأهل الأهواء جائز إلا الجهمية
والقدرية والروافض الغالي ومن يقول بخلق القرآن والخطابية والمشبهة. وجملته أن من كان من
أهل قبلتنا ولم يغل في هواه حتى يحكم بكفره تجوز الصلاة خلفه وتكره، ولا تجوز الصلاة
خلف من ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو ينكر الكرام الكاتبين أو ينكر الرؤية لأنه كافر. وإن قال
إنه لا يرى لجلاله وعظمته فهو مبتدع. والمشبه إن قال إن لله يدا أو رجلا كما للعباد فهو
كافر، وإن قال إنه جسم لا كالأجسام فهو مبتدع. والرافضي إن فضل عليا على غيره فهو
مبتدع، وإن أنكر خلافة الصديق فهو كافر. ومن أنكر الاسراء من مكة إلى بيت المقدس فهو
كافر، ومن أنكر المعراج من بيت المقدس فليس بكافر اه‍. وألحق في فتح القدير عمر
611

بالصديق في هذا الحكم ولعل مرادهم إنكار الخلافة إنكار استحقاقهما الخلافة فهو مخالف
لاجماع الصحابة لا إنكار وجودها لهما. وعلل لعدم كفره في قوله لا كالأجسام بأنه ليس فيه
إلا إطلاق لفظ الجسم عليه وهو موهم للنقص فرفعه بقوله لا كالأجسام فلم يبق إلا مجرد
الاطلاق وذلك معصية تنهض سببا للعقاب لما قلنا من الايهام بخلاف ما لو قاله على التشبيه
فإنه كافر، وقيل يكفر بمجرد الاطلاق أيضا وهو حسن بل هو أولى بالتكفير اه‍.
فالحاصل أنه يكفر في لفظين هو جسم كالأجسام هو جسم ويصير مبتدعا في
الثالث هو جسم كالأجسام ثم قال: واعلم أن الحكم بكفر من ذكرنا من أهل الأهواء
مع ما ثبت عن أبي حنيفة والشافعي من عدم تكفير أهل القبلة من المبتدعة كلهم محمله على أن
ذلك المعتقد نفسه كفر، فالقائل به قائل بما هو كفر وإن لم يكفر بناء على كون قوله ذلك عن
استفراغ وسعه مجتهدا في طلب الحق لكن جزمهم ببطلان الصلاة خلفه لا يصحح هذا الجمع
اللهم إلا أن يراد بعدم الجواز خلفهم عدم الحل أي عدم حل أن يفعل وهو لا ينافي الصحة
وإلا فهو مشكل - والله سبحانه أعلم - بخلاف مطلق اسم الجسم مع التشبيه فإنه يكفر
لاختياره إطلاق ما هو موهم للنقص بعد علمه بذلك، ولو نفى التشبيه لم يبق منه إلا
التساهل والاستخفاف بذلك اه‍. وهكذا استشكل هذه الفروع مع ما صح عن المجتهدين
المحقق سعد التفتازاني في شرح العقائد وفيما أجاب به في فتح القدير نظر، لأن تعليله في
الخلاصة فيمن أنكر الرؤية ونحوها بأنه كافر يرد هذا الحمل فالأولى ما ذكره هو في باب البغاة
أن هذه الفروع المنقولة في الفتاوى من التكفير لم تنقل عن الفقهاء أي المجتهدين. وإنما المنقول
عنهم عدم تكفير من كان من قبلتنا حتى لم يحكموا بتكفير الخوارج الذين يستحلون دماء
المسلمين وأموالهم وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عن تأويل وشبهة ولا عبرة بغير
المجتهدين اه‍. وذكر في المسايرة أن ظاهر قول الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يكفر أحد منهم وإن
روي عن أبي حنيفة أنه قال لجهم: أخرج عني يا كافر حملا على التشبيه، وهو مختار الرازي.
وذكر في شرحها للكمال بن أبي شريف أن عدم تكفيرهم هو المنقول عن جمهور المتكلمين
612

والفقهاء، فإن الشيخ أبا الحسن الأشعري قال في كتاب مقالات الاسلاميين: اختلف المسلمون
بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ظل بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم عن بعض فصاروا فرقا متباينين إلا
أن الاسلام يجمعهم ويعمهم اه‍. وقال الإمام الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية
لأنهم يشهدون بالزور لموافقيهم. وما ذكره المصنف أنه ظاهر قول أبي حنيفة جزم بحكايته عنه
الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى وهو المعتمد اه‍. فالحاصل أن المذهب عدم تكفير أحد
من الخالفين فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين ضرورة، ويدل عليه قول شهادتهم إلا
الخطابية، ولم يفصلوا في كتاب الشهادات فدل ذلك على أن هذه الفروع المنقولة من الخلاصة
وغيرها بصريح التكفير لم تنقل عن أبي حنيفة وإنما هي من تفريعات المشايخ كألفاظ لتكفير
المنقولة في الفتاوى والله سبحانه هو الموفق. وفي جمع الجوامع وشرحه: ولا نكفر أحدا من أهل
القبلة ببدعة كمنكري صفات الله تعالى وخلقه أفعال عباده وجواز رؤيته يوم القيامة، ومنا من
كفرهم. أما من خرج ببدعته من أهل القبلة كمنكري حدوث العالم والبعث والحشر للأجسام
والعلم بالجزئيات فلا نزاع في كفرهم لانكارهم بعض ما علم مجئ الرسول به ضرورة اه‍.
وفي الخلاصة عن الحلواني: يمنع عن الصلاة خلف من يخوض في علم الكلام ويناظر صاحب
الأهواء. وحمله في المجتبى على من يريد بالمناظرة أن يزل صاحبه، وأما من أراد الوصول به إلى
الحق وهداية الخلق فهو ممن يتبرك بالاقتداء به ويندفع البلاء عن الخلق بهدايته واهتدائه. وأما
الصلاة خلف الشافعية فحاصل ما في المجتبى أنه إذا كان مراعيا للشرائط والأركان عندنا
فالاقتداء به صحيح على الأصح ويكره وإلا فلا يصح أصلا. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في
باب الوتر. ولا خصوصية للشافعية بل الصلاة خلف كل مخالف للمذهب كذلك.
613

قوله (وتطويل الصلاة) أي وكره للإمام تطويلها للحديث إذا أم أحدكم الناس
فليخفف (1) واستثنى المحقق في فتح القدير صلاة الكسوف فإنه السنة فيها التطويل حتى تنجلي
الشمس. وأراد بالتطويل ما زاد على القدر المسنون كما في السراج الوهاج لا كما قد يتوهمه
بعض الأئمة فيقرأ يسيرا في الفجر كغيرها. وفي المضمرات شرح القدوري: أي لا يزيد على
القراءة المستحبة ولا يثقل على القوم ولكن يخفف بعد أن يكون على التمام والاستحباب اه‍.
وذكره في فتح القدير بحثا وعلل له بأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التطويل وكانت قراءته هي المسنونة فلا
بد من كون ما نهى عنه غير ما كان دأبه إلا لضرورة كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ
بالمعوذتين في الفجر، فلما فرغ قيل له أو جزت قال: سمعت بكاء صبي فخشيت أن تفتتن
أمه. وفي منية المصلي: ويكره للإمام أن يعجلهم عن إكمال السنة، والظاهر أنها في تطويل
الصلاة كراهة تحريم للامر بالتخفيف وهو للوجوب إلا لصارف ولادخال الضرر على الغير.
وأطلقه فشمل ما إذا كان القوم يحصون أو لا رضوا بالتطويل أو لا لاطلاق الحديث. وأطلق في
التطويل فشمل إطالة القراءة أو الركوع أو السجود أو الأدعية واختار الفقيه أو الليث أنه يطيل
الركوع لادراك الجائي إذا لم يعرفه فإن عرفه فلا، وأبو حنيفة منع منه مطلقا لأنه شرك أي رياء
قوله (وجماعة النساء) أي وكره جماعة النساء لأنها لا تخلو عن ارتكاب محرم وهو قيام الإمام
وسط الصف فيكره كالعراة. كذا في الهداية، وهو يدل على أنها كراهة تحريم لأن التقدم واجب
على الإمام للمواظبة من النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وترك الواجب موجب لكراهة التحريم المقتضية
للإثم، ويدل على كراهة التحريم في جماعة العراة بالأولى. واستثنى الشارحون جماعتهن في
614

صلاة الجنازة فإنها لا تكره لأنها فريضة وترك التقدم مكروه فدار الامر بين فعل المكروه لفعل
الفرض أو ترك الفرض لتركه، فوجب الأول بخلاف جماعتهن في غيرها. ولو صلين فرادى
فقد تسبق إحداهن فتكون صلاة الباقيات نفلا، والتنفل بها مكروه فيكون فراغ تلك موجبا
لفساد الفرضية لصلاة الباقيات كتقييد الخامس بالسجدة لمن ترك القعدة. وأفاد أن إمامة المرأة
للنساء صحيحة، واستثنى في السراج الوهاج مسألة وهي ما لو استخلف الإمام امرأة وخلفه
رجال ونساء فسدت صلاة الرجال والنساء والإمام والمقدمة في قول أصحابنا الثلاثة خلافا
لزفر، أما فساد صلاة الرجال فظاهر، وأما فساد صلاة النساء فلأنهم دخلوا في تحريمة كاملة
فإذا انتقلوا إلى تحريمة ناقصة لم يجز كأنهم خرجوا من فرض إلى فرض آخر.
قوله (فإن فعلن تقف الإمام وسطهن كالعراة) لأن عائشة رضي الله عنها فعلت كذلك
وحمل فعلها الجماعة على ابتداء الاسلام ولان في التقدم زيادة الكشف. وأفاد بالتعبير بقوله
تقف أنه واجب فلو تقدمت أثمت كما صرح به في فتح القدير والصلاة صحيحة، فإذا
توسطت لا تزول الكراهة وإنما أرشدوا إلى التوسط لأنه أقل كراهية من التقدم. كذا في السراج
الوهاج. ولو تأخرت لم يصح الاقتداء بها عندنا لعدم شرطه وهو عدم التأخر عن المأموم. وذكر
في المغرب الإمام من يؤتم به أي يقتدى به كرا كان أو أنثى. وفي الواو مع السين الوسط
بالتحريك اسم لعين ما بين طرفي الشئ كمركز الدائرة، وبالسكون اسم مبهم لداخل الدائرة
مثلا ولذلك كان ظرفا، فالأول يجعل مبتدأ أو فاعلا ومفعولا به وداخلا عليه حرف الجر ولا
يصح شئ من هذا في الثاني، تقول وسطه خير من طرفه، واتسع وسطه، وضربت وسطه،
وجلست في وسط الدار، وجلست وسطها بالسكون لا غير ويوصف بالأول مستويا فيه المذكر
المؤنث والاثنان والجمع. قال الله تعالى * (جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) ولله علي أن
أهدي شاتين وسطا إلى بيت الله أو أعتق عبدين وسطا. وقد بنى منه أفعل التفضيل فقيل للذكر
الأوسط وللمؤنث الوسطى قال تعالى * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * (المائدة: 89) يعني
المتوسط بين الاسراف والتقتير. وقد أكثروا في ذلك وهو في محل الرفع على البدل من اطعام أو
كسوتهم معطوف عليه والصلاة الوسطى العصر وهو المشهور اه‍. وضبطه هنا في السراج
الوهاج بسكون السين لا غير. وفي الصحاح: كل موضع صلح فيه بين فهو وسط بالتسكين
كجلست وسط القوم، وإن لم يصلح فيه فهو بالتحريك كجلست وسط الدار بما سكن وليس
بالوجه اه‍. وفي ضياء الحلوم: الوسط بالسكون ظرف مكان، وبفتح السين اسم تقول وسط
615

رأسه دهن بسكون السين وفتح الطاء فهذا ظرف، فإذا فتحت السين رفعت الطاء وقلت وسط
رأسه دهن فهذا اسم اه‍. وفي معراج الدراية والتشبيه بالعراة ليس من كل وجه بل في
أفضلية الافراد وأفضلية قيام الإمام وسطهن، وأما العراة فيصلون قعودا وهو أفضل والنساء
قائمات. وفي الخلاصة: يصلون قعودا بإيماء وإن صلوا بقيام وركوع وسجود بجماعة
أجزأهم. وذكر الأسبيجابي: وكذلك يكره أن يؤم النساء في بيت وليس معهن رجل ولا
محرم منه مثل زوجته وأمته وأخته، فإن كانت واحدة منهن فلا يكره، وكذلك إذا أمهن في
المسجد لا يكره، وإطلاق المحرم على من ذكر تغليب وإلا فليس هو محرما لزوجته وأمته.
قوله (ويقف الواحد عن يمينه والاثنان خلفه) لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام
صلى به وأقامه عن يمينه، وهو ظاهر في محاذاة اليمين وهي المساواة وهذا هو المذهب خلافا لما
عن محمد من أنه يجعل أصبعه عند عقب الإمام. وأفاد الشارح أنه لو وقف عن يساره فإنه يكره
يعني اتفاقا، ولو وقف خلفه فيه روايتان أصحهما الكراهة. وأطلق في الواحد فشمل البالغ
والصبي واحترز به عن المرأة فإنها لا تكون إلا خلفه. فلو كان معه رجل وامرأة فإنه يقيم الرجل
616

عن يمينه والمرأة خلفهما، وإن كان رجلان وامرأة أقام الرجلين خلفه والمرأة خلفهما. وإنما
يتقدم الرجلين لأنه عليه الصلاة والسلام تقدم على أنس واليتيم حين صلى بهما وهو دليل
الأفضلية، وما ورد من فعل ابن مسعود من أنه توسطهما فهو دليل الإباحة. كذا في الهداية
وغيرها. وذكر الأسبيجابي أنه لو كان معه رجلان فإمامهم بالخيار إن شاء تقدم وإن شاء أقام
فيما بينهما. ولو كانوا جماعة فينبغي للإمام أن يتقدم ولو لم يتقدم إلا أنه أقام على ميمنة الصف
أو على ميسرته أو قام في وسط الصف فإنه يجوز ويكره. وينبغي أن يكون بحذاء الإمام من هو
أفضل. ولو قال المصنف كما في النقاية لكان أولى والزائد خلفه لشمول الزائد الاثنين والأكثر.
وفي الخلاصة: ولو كان المقتدي عن يمين الإمام فجاء ثالث وجذب المؤتم إلى نفسه بعدما كبر
الثالث لا تفسد صلاته. وأشار المصنف إلى أن العبرة إنما هو للقدم لا للرأس فلو كان الإمام
أقصر من المقتدي تقع رأس المقتدي قدام الإمام يجوز بعد أن يكون محاذيا بقدمه أو متأخرا
قليلا، وكذا في محاذاة المرأة كما سيأتي. وإن تفاوتت الاقدام صغرا وكبرا فالعبرة بالساق
والكعب، والأصح ما لم يتقدم أكثر قدم المقتدي لا تفسد صلاته. كذا في المجتبى. وفي
الظهيرية: ولو جاء والصف متصل انتظر حتى يجئ الآخر فإن خاف فوت الركعة جذب واحدا
من الصف إن علم أنه لا يؤذيه، وإن اقتدى به خلف الصفوف جاز لما روي أن أبا بكرة قام خلف
الصف فدب راكعا حتى التحق بالصف، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا بكرة زادك الله
حرصا في الدين. ولو كان في الصحراء ينبغي أن يكبر أولا ثم يجذبه ولو جذبه أولا فتأخر ثم كبر
هو قيل تفسد صلاة الذي تأخر. ذكره الزندوستي في نظمه والمعنى فيه أن هذا إجابة بالفعل فيعتبر
بالإجابة بالقول، ولو أجاب بالقول فسدت كما إذا أخبر بخبر يسره فقال: الحمد لله. والأصح
أنه لا تفسد صلاته اه‍. وفي القنية: والقيام وحده أولى في زماننا لغلبة الجهل على العوام.
قوله (ويصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء) لقوله عليه الصلاة والسلام ليلني منكم
أولو الأحلام والنهي (1) ولان المحاذاة مفسدة فيؤخرون. وليلني أمر الغائب من الولي وهو
617

القرب، والأحلام جمع حلم بضم الحاء وهو ما يراه النائم أريد به البالغون مجازا لأن الحلم
سبب البلوغ. والنهي جمع نهية وهي العقل كذا في غاية البيان. ولم يذكر الخناثى كما في
المجمع وغيره لندرة وجوده. وذكر الأسبيجابي أنه يقوم الرجال صفا مما يلي الإمام ثم
الصبيان بعدهم، ثم الخناثى، ثم الإناث، ثم الصبيات المراهقات. وفي شرح منية المصلي:
المذكور في عامة الكتب أربعة أقسام، قيل وليس هذا الترتيب لهذه الأقسام بحاصر لجملة
الأقسام الممكنة فإنها تنتهي إلى أثني عشر قسما. والترتيب الحاصر لها أن يقدم الأحرار
البالغون ثم الأحرار الصبيان ثم العبيد البالغون ثم العبيد الصبيان ثم الأحرار الخناثى الكبار
ثم الأحرار الخناثى الصغار ثم الأرقاء الخناثى الكبار ثم الأرقاء الخناثى الصغار ثم الحرائر
الكبار ثم الحرائر الصغار ثم الإماء الكبار ثم الإماء الصغار اه‍. وظاهر كلامهم متونا
وشروحا تقديم الرجال على الصبيان مطلقا، سواء كانوا أحرارا أو عبيدا، فإن الصبي الحر
وإن كان له شرف الحرية لكن المطلوب هنا قرب البالغ العاقل بالحديث السابق. نعم يقدم
البالغ الحر على البالغ العبد، والصبي الحر على الصبي العبد، والحرة البالغة على الأمة البالغة،
والصبية الحرة على الصبية الأمة لشرف الحرية من غير معارض، ولم أر صريحا حكم ما إذا
صلى ومعه رجل وصبي وإن كان داخلا تحت قوله والاثنان خلفه، وظاهر حديث أنس أنه
يسوي بين الرجل والصبي ويكونان خلفه فإنه قال: فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من
ورائنا. ويقتضي أيضا أن الصبي الواحد لا يكون منفردا عن صف الرجال بل يدخل في
صفهم، وأن محل هذا الترتيب إنما هو عند حضور جمع من الرجال وجمع من الصبيان فحينئذ
تؤخر الصبيان بخلاف المرأة الواحدة فإنها تتأخر عن الصفوف كجماعتهن. وينبغي للقوم إذا
قاموا إلى الصلاة أن يتراصوا ويسدوا الخلل ويسووا بين مناكبهم في الصفوف، ولا بأس أن
يأمرهم الإمام بذلك. وينبغي أن يكملوا ما يلي الإمام من الصفوف ثم ما يلي ما يليه وهلم
جرا. وإذا استوى جانبا الإمام فإنه يقوم الجائي عن يمينه، وإن ترجح اليمين فإنه يقوم عن
يساره، وإن وجد في الصف فرجه سدها وإلا فينتظر حتى يجئ آخر كما قدمناه. وفي فتح
القدير: وروى أبو داود والإمام أحمد عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الصفوف وحاذوا بين
المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيديكم إخوانكم لا تذروا فرجات للشيطان، من وصل صفا
618

وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله (1) وروى البزار باسناد حسن عنه صلى الله عليه وسلم من سد فرجة في
الصف غفر له (2) وفي أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال خياركم ألينكم مناكب في الصلاة. وبهذا
يعلم جهل من يستمسك عند دخول داخل بجنبه في الصف ويظن أن فسحه له رياء بسبب
أنه يتحرك لأجله، بل ذلك إعانة له على إدراك الفضيلة وإقامة لسد الفرجات المأمور بها في
الصف، والأحاديث في هذا كثيرة شهيرة اه‍. وفي القنية: والقيام في الصف الأول أفضل
من الثاني وفي الثاني أفضل من الثالث، هكذا لأنه روي في الاخبار أن الله تعالى إذا أنزل
الرحمة على الجماعة ينزلها أولا على الإمام ثم تتجاوز عنه إلى من بحذائه في الصف الأول،
ثم إلى الميامن، ثم إلى المياسر، ثم إلى الصف الثاني. وروي عنه عليه السلام أنه قال يكتب
للذي خلف الإمام بحذائه مائة صلاة، وللذي في الجانب الأيمن خمسة وسبعون صلاة،
وللذي في الجانب الأيسر خمسون صلاة، وللذي في سائر الصفوف خمسة وعشرون صلاة.
وجد في الصف الأول فرجة دون الثاني فله أن يصلي في الصف الأول ويخرق الثاني لأنه لا
حرمة له لتقصيرهم حيث لم يسدوا الصف الأول اه‍.
قوله (وإن حاذته مشتهاة في صلاة مطلقة مشتركة تحريمة وإداء في مكان متحد بلا
حائل فسدت صلاته أن نوى إمامتها) بيان لفائدة تأخيرها ولحكم محاذاتها للرجل، والقياس أن
لا تفسد اعتبارا بصلاتها وبمحاذاة الأمرد وجه الاستحسان حديث مسلم السابق من أنه صلى الله عليه وسلم
جعل العجوز خلف الصف ولولا أن المحاذاة مفسدة ما تأخرت العجوز لأن الانفراد خلف
619

الصف مكروه عندنا ومفسد عند أحمد، ولحديث ابن مسعود أخروهن من حيث أخرهن الله
والحنفية يذكرونه مرفوعا. والمحقق ابن الهمام منع رفعه بل هو موقوف على ابن مسعود،
وهو يفيد افتراض تأخرهن عن الرجال لأنه وإن كان آحادا وقع بيانا لمجمل الكتاب وهو قوله
تعالى * (وللرجال عليهن درجة) * (البقرة: 228) فإذا لم يشر إليها بالتأخر بعدما دخلت في
الصلاة ونوى الإمام إمامتها فقد ترك فر ض المقام فبطلت صلاته، وإذا أشار إليها بالتأخر فلم
تتأخر تركت حينئذ فرض المقام فبطلت صلاتها دونه ولم يمكنه التقدم بخطوة أو خطوتين لأنه
مكروه فلا يؤمر به، وهذا هو الفرق بينها وبينه. وهذا في محاذاة غير الإمام، أما في محاذاة
إمامها فصلاتهما فاسدة أيضا لأنه إذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المأموم. وفي فتاوى
قاضيخان: المرأة إذا صلت مع زوجها في البيت إن كان قدمها بحذاء قدم الزوج لا تجوز
صلاتهما بالجماعة. وفي المحيط: إذا حاذت إمامها فسدت صلاة الكل. وأما محاذاة الأمرد
فقال في فتح القدير: صرح الكل بعدم الفساد إلا من شذ ولا متمسك له في الرواية ما
صرحوا به، ولا في الدراية لتصريحهم بأن الفساد في المرأة غير معلول بعروض الشهوة بل
هو لترك فرض المقام، وليس هذا في الصبي، ومن تساهل فعلل به صرح بنفيه في الصبي
مدعيا عدم اشتهائه اه‍. وعلى هذا فما في معراج الدراية عن الملتقط من أن الأمرد من قرنه
إلى قدمه عورة مبني على القول الشاذ الذي يلحقه بالمرأة. وذكر الشارح وغيره أن المعتبر في
المحاذاة الساق والكعب في الأصح وبعضهم اعتبر القدم اه‍. وهو قاصر الإفادة فإنه كما
620

صرحوا به المرأة الواحدة تفسد صلاة ثلاثة إذا وقفت في الصف من عن يمينها ومن عن
يسارها ومن خلفها، ولا شك إن المحاذاة بالساق والكعب لم تتحقق فيمن خلفها فالتفسير
الصحيح للمحاذاة ما في المجتبى: والمحاذاة المفسدة أن تقوم بجنب الرجل من غير حائل أو
قدامه اه‍. فالحاصل أن مماسة بدنها لبدنه ليست بشرط بل أن تكون عن جنبه بلا حائل ولا
فرجة، وسيأتي تفسير الحائل والفرجة، ولهذا لو كان أحدهما على الدكان دون القامة والآخر
على الأرض فسدت صلاته لوجود المحاذاة لبعض بدنها لكونها عن جنبه، وليس هنا محاذاة
بالساق والكعب ولا بالقدم. وفي الخانية والظهيرية: المرأة إذا صلت في بيتها مع زوجها إن
كانت قدماها خلف قدم الزوج إلا أنها طويلة يقع رأسها في السجود قبل رأس الإمام جازت
صلاتهما لأن العبرة للقدم اه‍.
وقال قاضيخان في باب ما يفسد الصلاة: وحد المحاذاة أن يحاذي عضو منها عضوا
من الرجل حتى لو كانت المرأة على الظلة والرجل بحذائها أسفل منها أو خلفها إن كان
يحاذي الرجل شيئا منها تفسد صلاته. وقيد بالمشتهاة لأن غير المشتهاة لا تفسد صلاته وإن
621

كانت مميزة. واختلفوا في حد المشتهاة وصحح الشارح وغيره أنه لا اعتبار بالسن من السبع على ما قيل، أو التسع
على ما قيل، وإنما المعتبر أن تصلح للجماع بأن تكون ضخمة عبلة،
والعبلة المرأة التامة الخلق. وأطلقها فشملت الأجنبية والزوجة والمحرم والمشتهاة حالا أو
ماضيا، مراهقة أو بالغة، فدخلت العجوز الشوهاء. ولم يقيدها بالعاقلة كما فعل غيره لأن
المجنونة لم تصح صلاتها فلم يوجد الاشتراك. وقيد بالصلاة لأنها لو لم تكن في الصلاة فلا
فساد. وقيد الصلاة بالاطلاق وهي ما عهد مناجاة للرب سبحانه وتعالى وهي ذات الركوع أو
السجود أو الايماء للعذر للاحتراز عن المحاذاة في صلاة الجنازة فإنها لا تفسد. وقيد
بالاشتراك لأن محاذاة المصلية لمصل ليس في صلاتها لا تفسد صلاته لكنه مكروه كما في فتح
القدير. وقيد الاشتراك بالتحريمة والأداء لأن اللاحق إذا حاذته اللاحقة عند الذهاب إلى
الوضوء أو عند المجئ قبل الاشتغال بعمل الصلاة فلا فساد، وإن وجد الاشتراك حالة
المحاذاة تحريمة لعدم الاشتراك أداء حالة المحاذاة لأن هذه الحالة ليست حالة الأداء، وكذا
المسبوق إذا حاذته المسبوقة بعد سلام الإمام عند قضاء ما سبقا به لعدم الاشتراك في الأداء
لأن المسوق منفرد فيما يقضي إلا في مسائل سنذكرها، وإن وجد الاشتراك في التحريمة
وليس من شرط الاشتراك في التحريمة تحصيل الركعة الأولى مع الإمام، ولهذا قال في
السراج الوهاج: ولا يشترط أن تدرك أول الصلاة في الصحيح بل لو سبقها بركعة أو
بركعتين فحاذته فيما أدركت تفسد عليه اه‍. فالمشاركة في التحريمة بناء صلاتها على على
صلاة من حاذته أو على صلاة إمام في حاذته، فحينئذ لا تمكن المشاركة في الأداء بدون
622

المشاركة في التحريمة، فلذا ذكروا المشاركة تحريمة وأداء ولم يكتفوا بالمشاركة في الأداء. وفي
فتح القدير: ثم لو قيل بدل مشتركة تحريمة وأداء مشتركة أداء، ويفسرها بأن يكون لهما إمام
فيما يؤديانه حالة المحاذاة أو أحدهما إمام للآخر لعم الاشتراكين اه‍. قلنا: نعم يعم لكن يلزم
من الاشتراك أداء الاشتراك تحريمة، فلهذا ذكروهما.
والحاصل أن المقتدي إما مدرك أو لاحق غير مسبوق، أو مسبوق حق أو مسبوق غير
لاحق. فالمدرك من أدرك الركعات كلها مع الإمام، فإذا حاذته أبطلت صلاته لوجود
الاشتراك تحريمة وأداء. واللاحق الغير المسبوق هو الذي أدرك الركعة الأولى وفاتته ركعة أو
أكثر منها بعذر كنوم أو حدث أو غفلة أو زحمة أو لأنه من الطائفة الأولى في صلاة الخوف،
وحكمه أنه إذا زال عذره فإنه يبدأ بقضاء ما فاته بالعذر ثم يتابع الإمام إن لم يفرغ، وهذا
واجب لا شرط حتى لو عكس فإنه يصح، فلو نام في الثالثة واستيقظ في الرابعة فإنه يأتي
بالثالثة بلا قراءة لأنه لاحق فيها، فإذا فرغ منها قبل أن يصلي الإمام الرابعة صلى معه الرابعة،
وإن بعد فراغ الإمام صلى الرابعة وحدها بلا قراءة أيضا لأنه لاحق، فلو تابع الإمام ثم قضى
الثالث بعد فراغ الإمام صح وأتم. ومن حكمه أنه مقتد حكما فيما يقضي ولهذا لا يقرأ ولا
يلزمه سجود بسهوه، وإذا تبدل اجتهاده في القبلة تبطل صلاته، ولو سبقه الحدث وهو
مسافر فدخل مصره للوضوء بعد فراغ الإمام لا ينقلب أربعا، وكذا لو نوى الإقامة بعد فراغ
الإمام وقد جعلوا فعله في الأصول أداء شبيها بالقضاء فلهذا لا يتغير فرضه بنية الإقامة لأنها
لا تؤثر في القضاء. ومما الحق باللاحق المقيم إذ اقتدى بمسافر فإنه بعد سلام إمامه
كاللاحق، ولهذا لا يقر ولا يسجد لسهوه ولا يقتدى به كما في الخانية. وأما اللاحق
المسبوق فهو من لم يدرك الركعة الأولى مع الإمام وفاته بعد الشروع ركعة أو أكثر بعذر،
ولهذا اختار المحقق في فتح القدير أن اللاحق هو من فاته بعد ما دخل مع الإمام بعض صلاة
623

الإمام ليشمل اللاحق المسبوق، وتعريفهم اللاحق بأنه من أدرك أول صلاة الإمام وفاته شئ
منها بعذر تساهل اه‍. لكن يرد عليه المقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه لاحق ولم يشمله تعريفه إلا
أن يقال: إنه ملحق به وليس هو حقيقة. وحكمه إذا زال عذره ما قال في المجمع: أن يصلي
فيما أدرك ما نام فيه ثم يقضي ما فاته، ولو تابع فيما بقي ثم قضى الفائت ثم ما نام فيه
أجزناه، وقدمنا أنه يصح مع الاثم لترك الواجب. وأما المسبوق فقط فهو من لم يدرك الركعة
الأولى مع الإمام وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان أحكامه عند قوله وصح استخلاف المسبوق.
وقالوا: لو اقتديا في الركعة الثالثة ثم أحدثا فذهبا للوضوء ثم حاذته في القضاء ينظر، فإن
حاذته في الأولى أو الثانية وهي الثالثة والرابعة للإمام تفسد صلاته لوجود الشركة فيهما
تقديرا لكونهما لاحقين فيهما، وإن حاذته في الثالثة والرابعة لا تفسد لعدم المشاركة فيهما
لكونهما مسبوقين. وهذا بناء على أن اللاحق المسبوق يقضي أولا ما لحق فيه ثم ما سبق فيه،
وهذا عند زفر ظاهر، وعندنا وإن صح عكسه لكن يجب هذا. فباعتباره تفسد. وقيد باتحاد
المكان لأنه لو اختلف فلا فساد، سواء كان هناك حائل أو لا، ولهذا قال في السراج
الوهاج: لو كان على الدكان أو الحائط وهو قدر قامة وهي على الأرض لا تفسد لعدم اتحاد
المكان، وهكذا في الكافي. قال في النوازل: قوم صلوا على ظهر ظلة في المسجد وبحذائهم
من تحتهم نساء أجزأتهم صلاتهم لعدم اتحاد المكان بخلاف ما إذا كان قدامهم نساء فإنها فاسدة
لأنه تخلل بينهم وبين الإمام صف من النساء وهو مانع من الاقتداء كما سيأتي، وفي المجتبى:
اقتدين على رفة المسجد وتحته صفوف الرجال لا تفسد صلاتهم. وقيد بعدم الحائل لأنه لو
كان بينها وبينه حائل فلا فساد. وأدناه قدر مؤخرة الرجل أو مقدمته لأن أدنى أحوال الصلاة
القعود فقدرنا الحائل به، وهو قدر ذراع كذا في المحيط. وفي المجتبى: لو كان بينهما
أسطوانة أو سترة قدر مؤخرة الرحل أو عود أو قصبة منتصبة للسترة أو حائط أو دكان قدر
الذراع لا تفسد. وذكر الشارح أن أدناه قدر مؤخرة الرحل وغلظه مثل غلظ الإصبع، ولم
يذكر المصنف الفرجة من غير حائل وظاهر كلامه أنه لا عبرة بها، وأن المرأة إذا كانت عن
يمينه أو عن يساره وبينهما فرجة بلا حائل فإنها تفسد صلاته. وذكر الشارح وغيره أن
624

الفرجة كالحائل وأدناها قدر ما يقوم فيها الرجل، ولو كان أحدهما على دكان قدر قامة الرجل
والآخر أسفل لا تفسد صلاته لعدم تحقق المحاذاة. وصرح في معراج الدراية بأنه لو كان
بينهما فرجة تسع الرجل أو أسطوانة قيل لا تفسد، وكذا إذا قامت أمامه وبينهما هذه
الفرجة، وصرح به في المجتبى عن صلاة البقالي.
ويشكل عليه ما اتفقوا على نقله عن أصحابنا كما في غاية البيان لو قامت امرأة بحذاء
الإمام وقد نوى إمامتها تفسد صلاة الإمام والقوم، وإن قامت في الصف تفسد صلاة رجلين
من جانبيها وصلاة رجل خلفها، ولو تقدمت على الإمام لا تفسد صلاة الإمام والقوم ولكن
تفسد صلاتها. ولو كان صف من النساء بين الإمام والرجال لا يصح اقتداء الرجال بالإمام
ويجعل حائلا، ولو كان في صف الرجال ثنتان من النساء تفسد صلاة رجل عن يمينهما
وصلاة رجل عن يسارهما وصلاة رجلين خلفهما فقط، ولو كن ثلاثة تفسد صلاة ثلاثة ثلاثة
خلفهن إلى آخر الصفوف، وواحد عن أيمانهن، وواحد عن يسارهن لأن الثلاثة جمع صحيح
فصار كالصف فيمنع صحة الاقتداء في حق من صرن حائلات بينه وبين إمامه. وفي المحيط
عن الجرجاني: لو كبرت في الصف الأول وركعت في الصف الثاني وسجدت في الصف
الثالث فسدت صلاة من عن يمينها ويسارها وخلفها في كل صف لأنها أدت في كل صف
ركنا من الأركان فصار كالمدفوع إلى صف النساء. ووجه إشكاله إن الرجل الذي هو خلفها
أو الصف الذي هو خلفهن بينها وبينه فرجة قدر قامة الرجل، وقد جعلوا الفرجة كالحائل
فيمن عن جانبها أو خلفها كما قدمناه عن المجتبى وغيره، فتعين أن يحمل على ما إذا كان
خلفها من غير فرجة محاذيا لها بحيث لا يكون بينها وبينه قدر قامة الرجل، ولهذا قال في
625

السراج الوهاج: ولو قامت المرأة وسط الصف فإنها تفسد صلاة ثلاثة واحد عن يمينها،
وواحد عن يسارها، وواحد خلفها بحذائها، ولا تفسد صلاة الباقين اه‍. فقد شرط أن يكون
من خلفها محاذيا لها للاحتراز عما إذا كان بينه وبينها فرجة، وكذا صرح الزيلعي الشارح
فقال في المرأتين يفسدان صلاة رجلين خلفهما بحذائهما: ثم رأيت بعد ذلك مصرحا به في
الكافي للحاكم الشهيد. وفي المجتبى: ولو كان الرجل على سترة أو رف والمرأة قدامه تفسد،
سواء كان قدر قامة الرجل أو دونه. وهذا إذا لم يكن على الرف سترة، فأما إذا كان عليه
سترة قدر ذراع لا تفسد في جميع الأحوال اه‍. وقدمنا عن النوازل أنهن لو كن بحذائهم
626

تحتهم لا تفسد. وقيد بنية الإمامة لأنه لو لم ينو الإمام إمامتها لا تفسد صلاة من حاذته
مطلقا، ولا حاجة إلى هذا القيد لأنه علم من قوله مشتركة لأنه لا اشتراك إلا بنية الإمام
إمامتها فإذا لم ينو إمامتها لم يصح اقتداؤها. وجرى أكثرهم على هذا العموم حتى في الجمعة
والعيدين لأنه يلزمه الفساد من جهتها بتقدير محاذاتها، فاشتراط التزامه والمأموم تبع لإمامه.
ومنهم من لا يشترطها فيهما وصححه صاحب الخلاصة لأنها لا تتمكن من الوقوف بجنب
الإمام للازدحام ولا تقدر أن تؤديها وحدها، ويشترط نية الإمام وقت الشروع لا بعده، ولا
يشترط حضورها عند النية في رواية، ويشترط في أخرى كما في السراج الوهاج، والظاهر
الأول. وأشار بقوله فسدت صلاته إلى أنها لو اقتدت به مقارنة لتكبيره محاذية له وقد نوى
إمامتها لم تنعقد تحريمة الإمام وهو الصحيح كما في فتاوى قاضيخان، لأن المفسد للصلاة إذا
قارن الشروع منع من الانعقاد. ولو نوى إمامة النساء إلا واحدة فهو كما نوى، فإذا حاذته
لا تبطل صلاته. ولا يشترط اتحاد صلاتهما حتى لو اقتدت به في الظهر وهو يصلي العصر
وحاذته أبطلت صلاته على الصحيح كما في السراج الوهاج، لأن اقتداءها وإن لم يصح فرضا
يصح نفلا على المذهب فكان بناء النفل على الفرض لكن هو متفرع على أحد القولين في بقاء
أصل الصلاة عند فساد الاقتداء، وسنبين ما هو المذهب فيه وفي نظائره ولم يذكر المصنف
كونها في ركن كامل للخلاف فيه ففي فتاوى قاضيخان: المحاذاة مفسدة قلت أو كثرت. وفي
المجمع أن أبا يوسف يفسدها بالمحاذاة قدر أداء ركن، واشترط محمد أداء الركن ففيها ثلاثة
أقوال. وظاهر إطلاق المصنف اختيار الأول ولم يذكر أيضا اتحاد الجهة قالوا: أو لا بد منه
حتى لو اختلفت كما في جوف الكعبة وبالتحري في الليلة المظلمة فلا فساد بالمحاذاة.
قوله (ولا يحضرن الجماعات) لقوله تعالى * (وقرن في بيوتكن) * (الأحزاب: 33)
وقال صلى الله عليه وسلم صلاتها في قعر بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في صحن
دارها أفضل من صلاتها في مسجدها، وبيوتهن خير لهن (1) ولأنه لا يؤمن الفتنة من
627

خروجهن. أطلقه فشمل الشابة والعجوز والصلاة النهارية والليلية. قال المصنف في الكافي:
والفتوى اليوم على الكراهة في الصلاة كلها لظهور الفساد، ومتى كره حضور المسجد للصلاة
فلان يكره حضور مجالس الوعظ خصوصا عند هؤلاء الجهال الذين تحلوا بحليبة العلماء
أولى. ذكره فخر الاسلام اه‍. وفي فتح القدير: المعتمد منع الكل في الكل إلا العجائز
المتفانية فيما يظهر لي دون العجائز المتبرجات وذوات الرمق ا ه‍. وقد يقال: هذه الفتوى التي
اعتمدها المتأخرون مخالفة لمذهب الإمام وصاحبيه فإنهم نقلوا أن الشابة تمنع مطلقا اتفاقا، وأما
العجوز فلها حضور الجماعة عند أبي حنيفة في الصلاة إلا في الظهر والعصر والجمعة.
وقالا: يخرج العجائز في الصلاة كلها كما في الهداية والمجمع وغيرهما، فالافتاء بمنع
العجوز في الكل مخالف للكل، فالاعتماد على مذهب الإمام. وفي الخلاصة من كتاب
النكاح: يجوز للزوج أن يأذن لها بالخروج إلى سبعة مواضع: زيارة الوالدين وعيادتهما
وتعزيتهما أو أحدهما وزيارة المحارم فإن كانت قابلة أو غسالة أو كان لها على آخر حق تخرج
بالاذن وبغير الاذن والحج على هذا، وفيما عدا ذلك من زيارة غير المحارم وعيادتهم والوليمة
لا يأذن لها ولا تخرج، ولو أذن وخرجت كانا عاصيين وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى قوله
(وفسد اقتداء رجل بامرأة أو صبي) أما الأول فلما قدمناه من الحديث، ونقل في المجتبى
الاجماع عليه. وأما إمامة الصبي فلان صلاته نفل لعدم التكلف فلا يجوز بناء الفرض عليه لما
سيأتي. قيد بالرجل لأن اقتداء المرأة بالمرأة صحيح مكروه، وكذا اقتداء الصبي بالصبي
صحيح. وقيد بالمرأة لأن الاقتداء بالرجل جائز سواء نوى الإمامة أو لا، وبالخنثى فيه تفصيل
فإن كان المقتدي رجلا فهو غير صحيح لجواز أن يكون امرأة، إن كان امرأة فهو صحيح إلا
أن يتقدم ولا يقوم وسط الصف حتى لا تفسد صلاته بالمحاذاة، وإن كان خنثى لا يجوز
لجواز أن يكون امرأة والمقتدي رجلا. كذا ذكر الأسبيجابي. وقيد بفساد الاقتداء لأن صلاة
الإمام تامة على كل حال، وأطلق فساد الاقتداء بالصبي فشمل الفرض والنفل وهو المختار
كما في الهداية، وهو قول العامة كما في المحيط، وهو ظاهر الراوية كما ذكره الأسبيجابي
وغيره، لأن نفل البالغ مضمون حتى يجب القضاء إذا أفسده، ونفل الصبي ليس بمضمون
628

حتى لا يجب القضاء عليه بالافساد فيكون نفل الصبي دون نفل البالغ فلا يجوز أن يبني
القوي على الضعيف، ولا يرد عليه الاقتداء بالظان أي بمن ظن أن عليه فرضا ثم تبين خلافه
فإن الاقتداء به صحيح نفلا مع أن نفل المقتدي مضمون عليه بالافساد حتى يلزمه القضاء،
ونفل الإمام ليس بمضمون عليه حتى لا يلزمه القضاء لأنه مجتهد في وجوب قضائه على
الظان، فإن زفر يقول بوجوبه فاعتبر الظن العارض عدما في حق المقتدي بخلاف الصبي،
ومشايخ بلخ جوزوا اقتداء البالغ بالصبي في غير الفرض قياسا على المظنون وقد علمت
جوابه. وفي النهاية: والاختلاف راجع إلى أن صلاة الصبي هل هي صلاة أم لا، قيل ليست
بصلاة وإنما يؤمر بها تخلقا ولهذا لو صلت المراهقة بغير قناع فإنه يجوز، وقيل هي صلاة
ولهذا لو قهقه المراهق في الصلاة يؤمر بالوضوء ا ه‍. فظاهره ترجيح أنها ليست بصلاة ولهذا
كان المختار عدم جواز الاقتداء به في كل صلاة. وفي السراج الوهاج: لو اقتدى الرجل
بالمرأة ثم أفسدها لا يلزمه القضاء ولا يكون تطوعا، وظاهره مع ما في المختصر صحة
الشروع وسيأتي اختلاف التصحيح فيه وفي نظائره. وأشار المصنف إلى أنه لا يجوز الاقتداء
629

بالمجنون بالأولى لكن شرط في الخلاصة أن يكون مطبقا، أما إذا كان يجن ويفيق يصح
الاقتداء به في حالة الإفاقة قال: ولا يجوز الاقتداء بالسكران.
قوله: (وطاهر بمعذور) أي وفسد اقتداء طاهر بصاحب العذر المفوت للطهارة لأن الصحيح
أقوى حالا من المعذور والشئ لا يتضمن ما هو فوقه، والإمام ضامن بمعنى
تضمن صلاته صلاة المقتدي. وقيد المعذور في المجتبى بأن يقارن الوضوء الحدث أو يطرأ
عليه للاحتراز عما إذا توضأ على الانقطاع وصلى كذلك فإنه يصح الاقتداء به لأنه فحكم
الطاهر. وقيد بالطاهر لأن اقتداء المعذور بالمعذور صحيح إن اتحد عذرهما وأما إن اختلف
فلا يجوز أن يصلي من به انفلات ريح خلف من به سلس البول لا الإمام معه حدث
ونجاسة فكان الإمام صاحب عذرين والمأموم صاحب عذر، وكذا لا يصلي من به سلس
البول خلف من به انفلات ريح وجرح لا يرقأ لأن الإمام صاحب عذرين. كذا في السراج
الوهاج. وظاهره أن سلس البول والجرح من قبيل المتحد، وكذا سلس البول واستطلاق
البطن. وفي المجتبى: واقتداء المستحاضة بالمستحاضة والضالة بالضالة لا يجوز كالخنثى
المشكل بالمشكل اه‍. لعله لجواز أن يكون الإمام حائضا أما إذا انتفى الاحتمال فينبغي الجواز
لأنه من قبيل المتحد. وفي الخلاصة: وإمامة المفتصد لغيره من الأصحاء صحيحة إذا كان
يأمن خروج الدم اه‍. قوله: (وقارئ بأمي) أي وفسد اقتداء حافظ الآية من القرآن بمن لا
630

يحفظها وهو المسمى بالامي، فهو عندنا من لا يحسن القراءة المفروضة، وعند الشافعي من لا
يحسن الفاتحة. وإنما فسد لأن القارئ أقوى حالا منه لأنه يصلي مع عدم ركنها للضرورة ولا
ضرورة في حق المقتدي، وسيأتي أن صلاة الأمي الإمام تفسد أيضا عند أبي حنيفة. وعلم منه
أنه لا يجوز اقتداء القارئ بالأخرس بالأولى، وأشار إلى أنه لا يجوز اقتداء الأمي بالأخرس
لأن الأمي أقوى حالا منه لقدرته على التحريمة وإلى جواز اقتداء الأخرس بالامي. قوله:
(ومكتس بعار) لأن صلاة العاري جائزة مع فقد الشرط للضرورة ولا ضرورة في حق
المقتدي. وفي السراج الوهاج: لو قال ولا مستور العورة خلف العاري لكان أولى لامن
ستر عورته بالسروال أو نحوه لا يسمى مكتسيا في العرف، وتصح صلاة المكتسي خلفه لأنه
مستور العورة اه‍. لكن اختلفوا في السراويل هل يكون كسوة شرعا في كفارة اليمين،
وصحح صاحب الخلاصة أنه لا يجوز للرجل ولا للمرأة أي لا يكون كسوة قيد بالمكتسي لأنه
لو أم العاري عراة ولابسين فصلاة الإمام ومن هو مثله جائزة بلا خلاف، وكذا صاحب
الجرح السائل بمثله وبصحيح بخلاف الأمي إذا أم أميا وقارئا فإن صلاة الكل فاسدة عند أبي
حنيفة لأن الأمي يمكن أن يجعل صلاته بقراءة إذا اقتدى بقارئ لأن قراءة الإمام له قراءة
وليست طهارة الإمام وسترته طهارة وسترة للمأموم حكما فافترقا. قوله: (وغير موم بموم)
أي فسد اقتداء من يقدر على الركوع والسجود بمن لا يقدر عليهما للعذر لقوة حال المقتدي،
قيد به لأن اقتداء المومي بالمومي صحيح للماثلة كما سيأتي.
قوله: (ومفترض بمتنفل وبمفترض آخر) أي وفسد اقتداء المفترض بإمام متنفل أو بإمام
يصلي فرضا غير فرض المقتدي لأن الاقتداء بناء ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام في
الأولى وهو مشاركة وموافقة، فلا بد من الاتحاد وهو معدوم في الثانية، والذي صح عند
أئمتنا وترجح أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفلا وبقومه فرضا لقوله حين شكوا
تطويله بهم: يا معاذ إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك كما رواه الإمام أحمد.
فشرع له أحد الامرين الصلاة معه ولا يصلي بقومه أو الصلاة بقومه على وجه التخفيف ولا
يصلي معه. هذا حقيقة اللفظ أفاد منعه من الإمامة إذا صلى معه عليه السلام ولا تمتنع إمامته
مطلقا بالاتفاق فعلم أنه منعه من الفرض. والحاصل أن اتحاد الصلاتين شرط لصحة الاقتداء
وذلك بأن يمكنه الدخول في صلاته بنية صلاة الإمام فتكون صلاة الإمام متضمنة لصلاة
631

المقتدي وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام الإمام ضامن أي تتضمن صلاته صلاة
المقتدي. وأشار بمنع اقتداء المفترض بالمتنفل إلى منع اقتداء الناذر بالناذر لأن صلاة الإمام نفل
بالنسبة إلى المقتدي لأن التزامه إنما يظهر عليه فقط إلا إذا نذر أحدهما عين ما نذره الآخر
فاقتدى أحدهما بالآخر فإنه يجوز للاتحاد، وإلا أنه لو أفسد كل منهما التطوع ثم اقتدى
أحدهما بالآخر في قضائه فإنه لا يجوز لما ذكرناه للاختلاف كما لو اقتدى من أفسد بمن يصلي
منذورة إلا إذا كان اقتدى أحدهما بالآخر تطوعا ثم أفسداه ثم قضياه بالاقتداء يجوز للاتحاد.
ومصليا ركعتي الطواف كالناذرين لأن طواف هذا غير طواف الآخر وهو السبب فهو اقتداء
الواجب بالنفل. وينبغي أن يصح الاقتداء على القول بسنية ركعتي الطواف كما لا يخفى.
وأشار بمنع مفترض خلف مفترض آخر إلى منع اقتداء الناذر بالحالف لأن المنذورة أقوى من
المحلوف بها لأنها واجبة قصدا ووجوب المحلوف بها عارض لتحقيق البر، ولهذا صح اقتداء
الحالف بالحالف والحالف بالناذر. وصورة الحلف بها كما في الخلاصة أن يقول والله لأصلين
ركعتين. وذكر الولوالجي أن اقتداء الحالف بالمتطوع أو المفترض جائز بخلاف اقتداء الناذر
بالمتطوع أو المفترض فإنه لا يجوز اه‍. وهذا يدل على أن صلاة الحالف لم تخرج عن كونها نفلا
بالحلف، وقد يقال إنها واجبة لتحقق البر فينبغي أن لا يجوز خلف المتطوع. ولو اقتدى من
يرى وجوب الوتر فيه بمن يرى سنيته صح للاتحاد ولا يختلف باختلاف الاعتقاد، ولو اقتدى
من يصلي سنة بمن يصلي سنة أخرى فإنه يجوز كسنة العشاء خلف من يصلي التراويح، أو
سنة الظهر البعدية خلف من يصلي القبلية كما في الخلاصة والمجتبى. وأطلق في منع اقتداء
المفترض بالمتنفل فشمل الاقتداء في جميع الأفعال وفي بعضها وهو قول العامة فلا يرد ما
ذكره محمد من أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع فاقتدى به إنسان فسبق الإمام الحدث قبل
السجود فاستخلفه صح ويأتي بالسجدتين ويكونان نفلا للخليفة حتى يعيدهما بعد ذلك،
632

وفرضا في حق من أدرك أول الصلاة لمنع النفلية في حق الخليفة بل هما فرض عليه. ولذا لو
تركهما فسدت لأنه قام مقام الأول فلزمه ما لزمه، وكذا لا يرد المتنفل إذا اقتدى بالمفترض
في الشفع الثاني فإنه يجوز مع أنه اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة لكون صلاة المقتدي
أخذت حكم الفرض بسبب الاقتداء، ولذا لزمه قضاء ما لم يدركه مع الإمام من الشفع
الأول، ولذا لو أفسد على نفسه يلزمه قضاء الأربع. والتحقيق ما في غاية البيان من أن قراءة
المأموم محظورة، فكيف يقال إنها مفروضة؟ فالحق أن الايراد ساقط من أصله. وفي المجتبى
وغيره: لا يصح اقتداء المسبوق بالمسبوق ولا اللاحق باللاحق، وكذا المقيمان إذا اقتديا
بالمسافر ثم اقتدى أحدهما بالآخر في القضاء. ولو صليا الظهر ونوى كل واحد منهما إمامة
صاحبه صحت صلاتهما، ولو نويا الاقتداء فسدت، ومن مختلفي الفرض الظهر خلف الجمعة
أو عكسه.
وذكر الأسبيجابي أن من اقتدى في موضع يجب عليه الانفراد كالمسبوق إذا اقتدى
بمسبوق أو انفرد في موضع يجب عليه الاقتداء فسدت صلاته كما إذا قام المسبوق إلى قضاء
ما سبق به ثم تذكر الإمام أن عليه سجدة التلاوة ولم يعد المسبوق إلى متابعة الإمام. ثم
المصنف رحمه الله ذكر في هذه المواضع الثمانية فسد الاقتداء ولم يذكر هل يصير شارعا أو لا
للاختلاف. قالوا: فيه روايتان وصحح في السراج الوهاج أنه يصير شارعا في صلاة نفسه،
وصحح في المحيط وغيره أنه لا يصير شارعا. قال في المعراج: وفي المحيط الصحيح هو
الأول يعني عدم الشروع لأنه نص عليه محمد في الأصل حتى لو كان متطوعا لا يلزمه
القضاء. وذكر الشارح أن الأشبه أن يقال: إن فسد لفقد شرط الصلاة كالطاهر خلف المعذور
لا يكون شارعا فيه وإن كان للاختلاف بين الصلاتين ينبغي أن يكون شارعا فيه غير مضمون
بالقضاء لاجتماع شرائطه فصار كالظان، وثمرة الخلاف تظهر في حق بطلان الوضوء
بالقهقهة اه‍. ويرد هذا التفصيل ما ذكره الحاكم في كافيه من أن المرأة إذا نوت العصر خلف
633

مصلي الظهر لم تجز صلاتها ولم تفسد على الإمام صلاته اه‍. فهو صريح في عدم صحة
شروعها لاختلاف الصلاتين. وقال في موضع آخر: رجل قارئ دخل في صلاة أمي تطوعا
أو في صلاة امرأة أو جنب أو على غير وضوء ثم أفسدها فليس عليه قضاؤها لأنه لم يدخل
في صلاة تامة اه‍. فعلم بهذا أن المذهب تصحيح المحيط من عدم صحة الشروع لأن الكافي
جمع كلام محمد في كتبه التي هي ظاهر الرواية، ولم يذكر المصنف ما يمنع الاقتداء من
الحائل، وذكر في الكافي للحاكم أنه إذا كان بين المصلي والإمام طريق يمر فيه الناس أو نهر
عظيم لم تجز صلاته إلا أن تكون الصفوف متصلة على الطريق فيجوز حينئذ، وقدم قبله أن
صف النساء مفسد لصلاة الصفوف التي وراءه كلها استحسانا، فالمانع ثلاثة. وفيه أن لو كان
بينه وبين الإمام حائط أجزأته صلاته اه‍. أطلق في الحائط فشمل الصغير والكبير وما يشتبه
فيه حال الإمام أو لا، لكن قيده في الخلاصة وغيرها بعدم الاشتباه فإن أمكنه الوصول إلى
الإمام فهو صحيح اتفاقا، وإن لم يمكنه ولم يشتبه اختلفوا فيه، ولو قام على سطح المسجد
634

واقتدى بالإمام أو في المئذنة مقتديا بالإمام في المسجد، فإن كان لهما باب في المسجد ولا
يشتبه يجوز في قولهم، فإن كان من خارج المسجد ولا يشتبه فعلى الخلاف. وفي الخلاصة
اختار الصحة وكذا على جدار بين داره وبين المسجد بخلاف ما إذا اقتدى من سطح داره
المتصلة بالمسجد فإنه يصح مطلقا. وفي المحيط: ولو اقتدى بالإمام في الصحراء وبينهم ما
قدر صفين فصاعدا لا يصح الاقتداء، ودونه يصح. وصحح أن النهر العظيم ما تجري فيه
السفن. وفي المجتبى: وفناء المسجد له حكم المسجد يجوز الاقتداء فيه وإن لم تكن الصفوف
متصلة ولا تصح في دار الضيافة إلا إذا اتصلت الصفوف اه‍. وبهذا علم أن الاقتداء من
صحن الخانقاه الشيخونية بالإمام في المحراب صحيح وإن لم تتصل الصفوف لأن الصحن فناء
المسجد، وكذا اقتداء من بالخلاوي السفلية صحيح لأن أبوابها في فناء المسجد ولم يشتبه حال، الإمام وأما اقتداء من بالخلاوي العلوية بإمام المسجد فغير صحيح حتى الخلوتين اللتين فوق
الإيوان الصغير وإن كان مسجدا لأن أبوابها خارجة عن فناء المسجد سواء اشتبه حال الإمام
أو لا كالمقتدي من سطح داره المتصلة بالمسجد فإنه لا يصح مطلقا وعلله في المحيط باختلاف
المكان.
635

قوله: (لا اقتداء متوضئ بمتيمم) أي لا يفسد. أطلقه فشمل الاقتداء في صلاة
الجنازة أو غيرها، ولا خلف في صحته في صلاة الجنازة كما في الخلاصة. واختلفوا في
غيرها فذهب محمد إلى فساده وذهبا إلى صحته، والخلاف مبني على أن الخلفية هل هي بين
الآلتين وهما الماء والتراب وبه قالا، أو بين الطهارتين وبه أخذ محمد، فعنده هو بناء القوي
على الضعيف، وعندهما الطهارتان سواء، وتمامه في الأصول. وترجح المذهب بفعل
عمرو بن العاص حين صلى بقومه بالتيمم لخوف البرد من غسل الجنابة وهم متوضؤون ولم
يأمرهم عليه الصلاة والسلام بالإعادة حين علم، وشمل ما إذا كان مع المتوضئين ماء أو لا
لكن قيده في المجتبى بأن لا يكون مع المتوضئين ماء، أما إذا كان معهم ماء فلا يصح
الاقتداء. وذكر في فتح القدير أن هذا التقييد يبتنى على فرع إذا رأى المتوضئ المقتدي بمتيمم
ماء في الصلاة لم يره الإمام فسده صلاته لاعتقاده فساد صلاة الإمام لوجود الماء، وينبغي
أن يحكم أن محل الفصاد عندهم إذا ظن علم إمامه به لأن اعتقاد فساد صلاة إمامه بذلك
اه‍. ثم اعلم أن في طهارة التيمم جهة الاطلاق باعتبار عدم توقتها وجهة الضرورة وباعتبار
أن المصير إليها ضرورة عدم القدرة على الماء، فاعتبر محمد جهة الضرورة في هذا الباب
احتياطا وجهة الاطلاق في باب الرجعة احتياطا، وهما اعتبرا جهة الضرورة في هذا الباب
احتياطا وجهة الاطلاق في باب الرجعة احتياطا، وهما اعتبرا جهة الاطلاق هنا لحديث
عمرو بن العاص وجهة الضرورة في الرجعة كما سيأتي إيضاحه فيها إن شاء الله تعالى. وفي
المجتبى معزيا إلى أبي بكر الرازي جواز إمامة من توضأ بسؤر الحمار وتيمم المتوضئين. قوله:
(وغاسل بماسح) لاستواء حالهما لأن الخف مانع سراية الحدث إلى أقدم وما حل بالخف
يزيله المسح بخلاف المستحاضة لأن الحدث موجود حقيقة وإن جعل في حقها معدوما
للضرورة. أطلق الماسح فشمل ماسح الخف وماسح الجبيرة وهو أولى بالجواز لأنه كالغسل لما
تحته.
636

قوله: (وقائم بقاعد وبأحدب) أي لا يفسد اقتداء قائم بقاعد وبأحدب. وأما الأول
فهو قولهما، وحكم محمد بالفساد نظرا إلى أنه بناء القوي على الضعيف، ولهما اقتداء الناس
بالنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته وهو قاعد وهم قيام وهو آخر أحواله، فتعين العمل به بناء على أنه
عليه الصلاة والسلام كان إماما وأبو بكر مبلغا للناس تكبيره، وبه استدل على جواز رفع
637

المؤذنين أصواتهم في الجمعة والعيدين وغيرهما كما في المجتبى، وليس هو بناء القوي على
الضعيف لأن القعود قيام من وجه كالركوع لانتصاب أحد مصفيه وصار كالاقتداء بالمنحني
من الهرم، ولا يرد عليه الايماء فإنه بعض الركوع والسجود ومع ذلك فلم يصح اقتداء
الراكع والساجد بالمومي لوجهين: أحدهما أن القيام ليس بركن مقصود ولهذا جاز تركه في
النفل من غير عذر فجاز أن يسد الناقص مسده لعدم فوات المقصود فكان حال الإمام مثل
حال المقتدي في المقصود وهو نهاية التعبد بخلاف الركوع والسجود فإنهما ركنان مقصودان
وقد فاتا في حق الإمام المومي، ولإن القعود يسمي قياما. يقال لمن قعد ناهضا عن نومه قام
عن فراشه وقام عن مضجعه، ويقال للمضطجع قم واقرأ فإذا نهض وقعد يكون ممتثلا لامره
بالقيام بخلاف الايماء فإنه لا يسمى سجودا. وذكر في المجتبى فرقا إجماليا وهو أن المتنفل
يتخير بين القيام والقعود ولا يتخير بين الايماء والسجود ولا بين القعود والاستلقاء. وفي
الحقائق: الخلاف في قاعد يركع ويسجد لأنه لو كان يومئ والقوم يركعون ويسجدون لا
يجوز اتفاقا. ومحل الاختلاف الاقتداء في الفرض والواجب حيث كان للإمام عذر، أما في
النفل فيجوز اتفاقا. واختلف في اقتداء القائم بالقاعد في التراويح والأصح أنه جائز عند
الكل كما في فتاوى قاضيخان. وأما الثاني وهو اقتداء القائم بالأحدب فأطلقه فشمل ما إذا
بلغ حدبه حد الركوع وما إذا لم يبلغ، ولا خلاف في الثاني واختلفوا في الأول، ففي المجتبى
أنه جائز عندهما وبه أخذ عامة العلماء خلافا لمحمد. وفي الفتاوى الظهيرية: لا تصح إمامة
638

الأحدب للقائم. هكذا ذكر محمد في مجموع النوازل. وقيل يجوز والأول أصح اه‍. ولا
يخفى ضعفه فإنه ليس هو أدنى حالا من القاعد لأن القعود استواء النصف الاعلى وفي
الحدب استواء النصف الأسفل، ويمكن أن يحمل على قول محمد. وأشار إلى أن اقتداء القاعد
خلف مثله جائز اتفاقا، وكذا الاقتداء بالأعرج أو من بقدمه عوج وإن كان غيره أولى. وفي
الخلاصة: ولا يجوز اقتداء النازل بالراكب، ولو صلوا على الدابة بجماعة جازت صلاة الإمام
ومن كان معه على دابته ولا تجوز صلاة غيره في ظاهر الرواية.
قوله: (وموم بمثله) أي لا يفسد اقتداء موم بموم لاستواء حالهما. أطلقه فشمل ما إذا
كان الإمام يومئ قائما أو قاعدا بخلاف ما إذا كان الإمام مضطجعا والمؤتم قاعدا أو قائما
فإنه لا يجوز لقوة حال المأموم لأن القعود معتبر بدليل وجوبه عليه عند القدرة بخلاف القيام
لأنه ليس بمقصود لذاته، ولهذا لا يجب عليه القيام مع القدرة عليه إذا عجز عن السجود.
وفي الشراح إنه المختار ردا لما صححه التمرتاشي من الجواز عند الكل. قوله: (ومتنفل
بمفترض) أي لا يفسد اقتداء متنفل بمفترض لأنه بناء الضعيف على القوي، والقراءة في
النفل وإن كانت فرضا في الأخيرتين نفلا في الفرض لكن إنما تكون فرضا إذا كان المصلي
منفردا، أما إذا كان مقتديا فلا، لأنها محظورة كذا في الغاية. ولأنه بالاقتداء صار تبعا للإمام
في القراءة فكانت نفلا فيهما في حقه كإمامه. أطلقه فشمل اقتداء من يصلي التراويح
بالمكتوبة، وذكر في فتاوى قاضيخان اختلافا وأن الصحيح عدم الجواز وهو مشكل فإنه بناء
639

الضعيف على القوي. وأشار إلى أن اقتداء المتنفل بمثله جائز وفي اقتداء الحنفي في الوتر بمن
يراه سنة اختلاف المشايخ، ولو تكلم الإمام في شفع الترويحة ثم أمهم في ذلك الشفع جاز،
وكذا إذا اقتدى في سنة العشاء بمن يصلي التراويح أو في السنة بعد الظهر بمن يصلي الأربع
قبل الظهر صح اه‍. قوله: (وإن ظهر إن إمامه محدث أعاد) أي على سبيل الفرض، فالمراد
بالإعادة الاتيان بالفرض لا الإعادة في اصطلاح الأصوليين الجابرة للنقص في المؤدي، فلو
قال بطلت لكان أولى. وإنما بطلت صلاة المأموم لأن الاقتداء بناء والبناء على المعدوم محال،
ولا فرق في ذلك بين أن يظهر أن الإمام عدم ركنا أو شرطا. وفي المجتبى: ولو أخبرهم
الإمام أنه أمهم شهرا بغير طهارة أو مع علمه بالنجاسة المانعة لا يلزم الإعادة لأنه صرح
بكفره، وقول الفاسق غير مقبول في الديانات، فكيف قول الكافر؟ اه‍. وهو مشكل فإنه لا
يكفر إذا صلى بالنجاسة المانعة عمدا للاختلاف في وجوب إزالتها فإن مالكا يقول في قول
بسنيتها، وفي المبتغى بالمعجمة: ومن علم أن إمامه على غير طهارة أعاد وإلا فلا. ولا يلزم
على الإمام أن يعلم الجماعة بحاله ولا يأثم بتركه. وفي معراج الدراية: ولا يلزم على الإمام
640

الاعلام إذا كانوا قوما غير معينين. وفي المجتبى: ولو أم قوما محدث أو جنب ثم علم بعد
التفرق يجب الاخبار بقدر الممكن بلسانه أو كتاب أو رسول على الأصح. وفي خزانة
الأكمل: لأنه سكت عن خطأ معفو عنه. وعن الوبري: يخبرهم وإن كان مختلفا فيه ونظيره
إذا رأى غيره يتوضأ من ماء نجس أو على ثوبه نجاسة اه‍.
قوله: (وإن اقتدى أمي وقارب أمي أو استخلف أميا في الأخريين فسدت صلاتهم) أما
في المسألة الأولى فهو عند أبي حنيفة، وقالا: صلاة الإمام ومن لم يقرأ تامة لأنه معذور أم
قوما معذورين وغير معذورين فصار كما إذا أم العاري عراة ولا بسين، وله أن الإمام ترك
فرض القراء مع القدرة عليها فتفسد صلاته، وهذا لأنه لو اقتدى بالقارئ تكون قراءته قراءة
له بخلاف تلك المسألة وأمثالها لأن الموجود في حق الإمام لا يكون موجودا في حق
المقتدي. قيد بالاقتداء لأنه لو كان يصلي الأمي وحده والقارئ وحده فإنه جائز هو الصحيح
لأنه لم يظهر منهما رغبة في الجماعة. كذا في الهداية: وفي النهاية: لو افتتح الأمي ثم حضر
القارئ ففيه قولان، ولو حضر الأمي بعد افتتاح القارئ فلم يقتد به وصلى منفردا الأصح أن
صلاته فاسدة، وأشار بفساد الصلاة إلى صحة شروع القارئ لاستوائهما في فرض التحريمة.
وإنما اختلفا في القراءة ولا يقال لم لا يلزم القضاء على المقتدي إذا أفسد وقد صح شروعه
لأنا نقول: لما شرع في صلاة الأمي أوجبها على نفسه بغير قراءة فلم يلزمه القضاء كنذر
صلاة بغير قراءة لا تلزمه إلا في رواية عن أبي يوسف. كذا في غاية البيان. وصحح في
الذخيرة وعدم صحة شروعه، وفائدته تظهر في انتقاض وضوئه بالقهقهة. وأطلق فشمل ما
إذا علم الأمي أن خلفه قارئا أو لم يعلم وهو ظاهر الرواية لأن الفرائض لا يختلف فيها الحال
641

بين الجهل والعلم. وشمل ما إذا نوى الأمي إمامة القارئ أو لم ينو لأن الوجه المذكور وهو ترك
الفرض مع القدرة عليه بعد ظهور الرغبة في صلاة الجماعة يوجب الفساد وإن لم ينو، ودل
كلامه على أن القارئ والأخرس إذا اقتديا بالأخرس فهو كذلك بالأولى، لكن ينبغي أن لا
يصح شروع القارئ اتفاقا لعدم الاستواء في التحريمة. وفي المجتبى: لو أم من يقرأ بالفارسية
وهو لا يحسن العربية القارئين جاز عنده خلافا لهما، والأخرس إذا أم خرسانا جازت صلاتهم
بالاتفاق، وفي إمامة الأخرس الأمي اختلاف المشايخ اه‍. فالحاصل أن إمامة الانسان لمماثله
صحيحة إلا إمامة المستحاضة والضالة والخنثى المشكل لمثله غير صحيحة ولمن دونه صحيحة
مطلقا ولمن فوقه لا تصح مطلقا. وأما في المسألة الثانية فهو عندنا خلافا لزفر لتأدي فرض
القراءة، ولنا أن كل ركعة صلاة فلا تخلو عن القراءة، إما تحقيقا أو تقديرا ولا تقدير في حق
الأمي لانعدام الأهلية فقد استخلف من لا يصلح للإمامة ففسدت صلاتهم، أما صلاة الإمام
فلانه عمل كثير وصلاة القوم مبنية عليها. وشمل كلامه ما إذا قدمه في التشهد أي قبل الفراغ
منه، أما لو استخلفه بعده فهو صحيح بالاجماع لخروجه من الصلاة بصنعه، وقيل تفسد
صلاتهم عنده لا عندهما والصحيح الأول. كذا في غاية البيان. وإنما اعتبر أبو حنيفة في
مسائل الأمي قدرة الغير مع أن من أصله أن القادر بقدرة غيره ليس بقادر لأنه مقيد بما إذا تعلق
باختيار ذلك الغير، أما هنا الأمي قادر على الاقتداء بالقارئ من غير اختيار القارئ فينزل قادرا
على القراءة. ولهذا قالوا: لو تحرم ناويا أن لا يؤم أحدا فائتم به رجل صح اقتداؤه. وفي
المغرب: الأمي في اللغة منسوب إلى أمة العرب وهي لم تكن تكتب ولا تقرأ فاستعير لكل من
لا يعرف الكتابة والقراءة. وفي فتح القدير: والامي يجب عليه كل الاجتهاد في تعلم ما تصح
به الصلاة ثم في القدر الواجب وإلا فهو آثم، وقدمنا نحوه في إخراج الحرف الذي يقدر على
إخراجه. وسئل ظهير الدين عن القيام هل يتقدر بالقراءة؟ فقال: لا. وكذلك ذكر في اللاحق
في الشافي اه‍. أي في الكتاب المسمى بالشافي للبيهقي. وفي الخلاصة: وإمامة الألثغ لغيره
ذكر الفضيلي أنها جائزة وصحح في المجتبى عدم الجواز والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الحدث في الصلاة
ثابت في بعض النسخ ولا شك أنه من العوارض وهو ليس بمفسد في كل الأحوال
642

فقدمه على ما يفسدها، وقدمنا أن الحدث مانعيه شرعية قائمة بالأعضاء إلى غاية استعمال
المزيل. قوله: (ومن سبقه حدث توضأ وبنى والقياس فسادها لأن الحدث ينافيها والمشي
والانحراف يفسدانها فأشبه الحد ث العمد. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام من قاء أو رعف
أو أمذى فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم ولا نزاع في صحته مرسلا
وهو حجة عندنا وعند أكثر أهل العلم، ومذهبنا ثابت عن جماعة من الصحابة وكفى بهم
قدوة فوجب ترك القياس به، والبلوى فيما يسبق دون ما يتعمده فلا يلحق به. ثم لجواز
البناء شروط. الأول أيكون الحدث سماويا وهو المراد بالسبق وهو ما لا اختيار للعبد فيه
ولا في سببه فلا يبني بشجة وعضة ولو منه لنفسه. واختلفوا فيما إذا وقعت طوبة من سطح
أو سفرجلة من شجر أو تعثر في شئ موضوع في المسجد فأدماه، وصححوا عدم البناء فيما
643

إذا سبقه الحدث من عطاسه أو تنحنحه. ولو سقط من المرأة كرسفها مبلولا بغير صنعها
بنت، وبتحريكها لا تبني عنده خلافا لهما. الثاني أن يكون الحدث موجبا للوضوء فلا يبني
من نام فاحتلم في الصلاة ولا من أصابته نجاسة مانعة من الصلاة من غير سبق حدث،
سواء كانت من بدنه أو من خارج. الثالث أن لا يكون الحدث يندر وجوده فلا يبني بإغماء
وقهقهة، وهذا والثاني سيصرح به المصنف وإدخال الكلام هنا كما في فتح القدير مع أن
الكلام مفسد لا حدث لكون شرطه أن لا يأتي بمناف بعده. الرابع أن لا يفعل فعلا له منه
بد فلو فعله استقبل كما لو استقى الماء من البئر على المختار، أو كان دلوه متخرقا فخرزه،
وكذا لو وجد ماء للوضوء فذهب إلى ماء أبعد منه من غير عذر النسيان ونحوه إلا إذا كان
الماء القريب في بئر كما قدمناه وإلا إذا كان قليلا قدر صفين كما إذا وجد مشرعة من الماء
فتركها وذهب إلى أخرى بجنبها فإنه يبني، وكذا لو رد الباب عليه باليدين لا لقصد ستر
العورة فلو كان له لا تفسد أو بيد واحدة لا تفسد مطلقا، وكذا لو حمل آنية لغير حاجة بيديه
فلو كان لحاجة لا تفسد مطلقا أو بيد واحدة لا تفسد مطلقا، وكذا لو توضأ ورجع ثم تذكر
644

أنه نسي شيئا فذهب وأخذه فسدت، ولو كشف عورته للاستنجاء بطلت صلاته في ظاهر
الرواية، وكذا إذا كشفت المرأة ذراعيها للوضوء وهو الصحيح. وفي الظهيرية عن أبي علي
النسفي أنه إذا لم يجد بدا منه لم تفسد، وكذا المرأة إذا احتاجت إلى البناء لها أتكشف
عورتها وأعضاءها في الوضوء وتغسل إذا لم تجد بدا من ذلك اه‍. ويتوضأ من سبقه
الحدث ثلاثا ثلاثا ويستوعب رأسه بالمسح ويتمضمض ويستنشق ويأتي بسائر السنن، وقيل
يتوضأ مرة مرة وإن زاد فسدت والأول أصح لأن الفرض يقوم بالكل. كذا في الظهيرية.
ولو غسل نجاسة مانعة أصابته فإن كان من سبق الحدث بنى، وإن كان من خارج لا
يبني، وإن كانت منهما لا يبني. ولو ألقى الثوب المتنجس من غير حدثه وعليه غيره من
الثياب أجزأه. كذا في الظهيرية. الخامس أن لا يأتي بمناف للصلاة، فلو تكلم بكلام
الناس بعد الحدث فسدت. وفي الظهيرية: لو طلب الماء بالإشارة أو اشتراه بالتعاطي
فسدت. السادس أن ينصرف من ساعته فلو مكثت قدر أداء ركن بغير عذر فسدت، ولو
كان لعذر فلاه كما لو أحدث بالنوم ومكث ساعة ثم انتبه فإنه يبني، أو مكث لعذر الزحمة
كما في الخانية. وفي المنتقى: إن لم ينو بمقامه الصلاة لا تفسد لأنه لم يؤد جزءا من
الصلاة مع الحدث. قلنا: هو في حرمتها فما وجد منه صالحا لكونه جزءا منها انصرف إلى
ذلك غير مقيد بالقصد إذا كان غير محتاج إليه. وفي الظهيرية: لو أخذه الرعاف ولم ينقطع
يمكث إلى أن ينقطع ثم يتوضأ ويبني. السابع أن لا يؤدي ركنا مع الحدث فلو سبقه
الحدث في سجوده فرفع رأسه قاصدا الأداء استقبل، وكذا لو قرأ في ذهابه لا إن سبح
على الأصح لأنه ليس من الاجزاء. وفي المجتبى: أحدث في ركوعه أو في سجوده لا
645

يرفع مستويا فتفسد صلاته بل يتأخر محدودبا ثم ينصرف اه‍. وظاهره عدم اشتراط قصد
الأداء. الثامن أن لا يؤدي ركنا مع المشي في حالة الرجوع فلو قرأ بعد الوضوء استقبل.
التاسع أن لا يظهر حدثه السابق بعد الحدث السماوي فلو سبقه حدث فذهب فانقضت
مدة مسحه أو كان متيمما فرأى الماء أو كانت مستحاضة فخرج الوقت استقبل على الأصح
كما في المحيط. العاشر إذا كان مقتديا أن يعود إلى الإمام إن لم يكن فرغ الإمام وكل
بينهما حائل يمنع جواز الاقتداء، فلو كان منفردا خير بين العود والاتمام في مكان
الوضوء، واختلفوا في الأفضل. ولو كان مقتديا فرغ إمامه فلا يعود فلو عاد اختلفوا في
فساد صلاته، فلو لم يكن بينهما مانع فله الاقتداء من مكانه من غير عود. الحادي شعر أن
لا يتذكر فائتة عليه بعد الحدث السماوي وهو صاحب ترتيب. الثاني عشر إذا كان إماما لا
يستخلف من لا يصلح للإمامة فلو استخلف امرأة استقبل.
قوله: (واستخلف لو إماما) معطوف على توضأ أي من سبقه حدث وكان إماما
فإنه يستخلف رجلا مكانه يأخذ بثوب رجل إلى المحراب أو يشير إليه. والسنة أن يفعله
محدودب الظهر واضعا يده في أنفه يوهم أنه قد رعف لينقطع عنه كلام الناس، ولو
تكلم بطلت صلاتهم، ولو ترك ركوعا يشير بوضع يده على ركبتيه، أو سجودا يشير
بوضعها على جبهته، أو قراءة يشير بوضعها على فمه، وإن بقي عليه ركعة واحدة يشير
بأصبع واحدة، وإن كان اثنين فبإصبعين. هذا إذا لم يعلم الخليفة ذلك، أما إذا علم فلا
حاجة إلى ذلك. ولسجدة التلاوة بوضع أصبعه على الجبهة واللسان، وللسهو على
صدره، وقيل يحول رأسه يمينا وشمالا كذا في الظهيرية، ثم الاستخلاف ليس بمتعين
حتى لو كان الماء في المسجد فإنه يتوضأ ويبني ولا حاجة إلى الاستخلاف كما ذكره
الشارح. وإذا لم يكن في المسجد فالأفضل الاستخلاف كما ذكره المصنف في المستصفى
بناء على أن الأفضل للإمام والمقتدي البناء صيانة للجماعة وللمنفرد الاستقبال تحرزا عن
الخلاف، وصححه في السراج الوهاج. وظاهر كلام المتون أن الاستئناف أفضل في حق
الكل، فما في شرح المجمع لابن الملك من أنه يجب على الإمام الاستخلاف صيانة
646

لصلاة القوم ففيه نظر، وإذا استخلف لا يخرج الإمام عن الإمامة بمجرده، ولهذا لو
اقتدى به إنسان من ساعته قبل الوضوء فإنه صحيح على الصحيح كما في المحيط، ولهذا
قال في الظهيرية والخانية: إن الإمام لو توضأ في المسجد وخليفته قائم في المحراب ولم
يؤد ركنا فإنه يتأخر الخليفة ويتقدم الإمام. ولو خرج الإمام الأول من المسجد وتوضأ ثم
رجع إلى المسجد وخليفته لم يؤد ركنا فالإمام هو الثاني. ثم الاستخلاف حقيقي وحكمي،
فالأول ظاهر والثاني أن يتقدم رجل واحد من القوم قبل أن يخرج الإمام من المسجد فإن
صلاتهم جائزة، ولو تقدم رجلان فأيهما سبق إلى مكان الإمامة فهو أولى، ولو قدم الإمام
رجلا والقوم رجلا فمن قدمه الإمام فهو أولى، وإن نويا معا الإمامة جاز صلاة المقتدي
بخليفة الإمام وفسدت على المقتدي بخليفة القوم. وإن تقدم أحدهما إن كان خليفة الإمام
فكذلك، وإن كان خليفة القوم فاقتدوا به ثم نوى الآخر فاقتدى به البعض جاز صلاة
الأولين دون الآخرين. ولو قدم بعض القوم رجلا والبعض رجلا فالعبرة للأكثر، ولو
استويا فسد ت صلاتهم. ولو استخلف الإمام من آخر الصفوف ثم خرج من المسجد إن
نوى الخليفة الإمامة من ساعته صار إماما فتفسد صلاة من كان متقدمه دون صلاته
وصلاة الإمام الأول ومن على يمينه وشماله في صفه ومن خلفه، وإن نوى أن يكون
إماما إذا قام مقام الأول وخرج الأول قبل أن يصل الخليفة إلى مكانه أو قبل أن ينوي
الإمامة فسدت صلاتهم. وشرط جواز صلاة الخليفة والقوم أن يصل الخليفة إلى المحراب
قبل أن يخرج الإمام عن المسجد، ولم يبين محمد حال الإمام.
وذكر الطحاوي أن صلاته فاسدة أيضا، وذكر أبو عصمة أن صلاته لا تفسد وهو
الأصح. ولو لم يستخلف في المسجد واستخلف من الرحبة وفيها قوم جازت صلاة الكل
647

إذا كانت الرحبة متصلة بالمسجد. كذا في الظهيرية. وإذا استخلف الإمام رجلا فإنه يتعين
للإمامة إن قام مقام الأول حتى لو تأخر بعد التقدم فسدت صلاته، وإذا قام الخليفة مقامه
صار الأول مقتديا به، خرج من المسجد أو لا. حتى لو تذكر فائتة أو تكلم لم تفسد صلاة
القوم. ومقتضى ما قدمناه أنه لا يصير مقتديا بالخليفة ما دام في المسجد، وللخليفة
الاستخلاف إذا أحدث. فلو استخلف الخليفة من غير حدث إن قدمه قبل أن يقوم في
مكان الإمامة والإمام الأول في المسجد جاز، ولو تذكر الخليفي أنه على غير وضوء فقدم
آخر ولم يقم في موضع الأمة جاز إذا كان الأول في المسجد، ولو أحدث الخليفة بعد ما
قام في موضع الإمامة فانصرف فقبل أن يخرج دخل الأول متوضئا فقدمه جاز، ولو لم يقم
الخليفة في موضع الإمامة حتى أحدث فدخل الأول فقدمه لم يجز والمسألة متأولة: وتأويلها
إذا كان مع الإمام رجل آخر سواه. ولو كبر الخليفة ينوي الاستقبال جازت صلاة من
استقبل وفسدت صلاة من لم يستقبل، وكذا صلاة الإمام الأول تفسد إن بنى على صلاة
نفسه. وفي الخلاصة: فإن نوى الثاني بعدما تقدم إلى المحراب أن لا يكون خليفة للأول
ويصلي صلاة نفسه لم يفسد ذلك صلاة من اقتدى به. وفي المجتبى: والإمام المحدث على
إمامته ما لم يخرج من المسجد أو يقوم خليفته مقامه أو يستخلف القوم غيره أو يتقدم
بنفسه. وفي الظهيرية: رجلان وجد في السفر ماء قليلا فقال أحدهما هو نجس، وقال
الآخر هو طاهر، فتوضأ أحدهما وتيمم الآخر ثم أمهما من توضأ بماء مطلق ثم سبقه
الحدث يصلي كل واحد من المقتديين وحده من غير أن يقتدي بالآخر، فلو رجع الإمام
648

بعدما توضأ يقتدي بمن يظنه طاهرا اه‍. ظاهره أنه لا فرق بين أي يخرج الإمام من المسجد
أو لم يخرج. وإذا خرج الإمام من المسجد خرج عن ولم يبق لهما إمام، وقد صرحوا
ببطلان صلاة المقتدي في هذه الحالة، ولذا قال في المحيط: رجل أم رجلا فأحدثا معا
وخرجا من المسجد فصلاة الإمام تامة وصلاة المقتدي فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد
اه‍. فبقاؤهما فيها من غير إمام مشكل إلا أن يقال ذلك للضرورة إذ لا يمكن اقتداء
أحدهما بالآخر لأن المتيمم إن تقدم ففي اعتقاد المتوضئ أن تيممه باطل لطهارة الماء عنده،
وإن تقدم المتوضئ ففي اعتقاد المتيمم أنه توضأ بماء نجس والله سبحانه أعلم. وفي
المجتبى: وفي جواز الاستخلاف في صلاة الجنازة اختلاف المشايخ.
قوله: (كما لو حصر عن القراءة) أي جاز لمن سبقه الحدث الاستخلاف إذا كان
إماما كما جاز للإمام الاستخلاف إذا عجز عن القراءة. وحصر بوزن تعب فعلا
ومصدرا العي وضيق الصدر، ويقال حصر يحصر حصرا من باب علم، ويجوز أن يكون
حصر فعل ما لم يسم فاعله من حصره إذا حبسه من باب نصر ومعناه منع وحبس عن
القراءة بسبب خجل أو خوف. قال في غاية البيان: وبالوجهين حصل لي السماع. وقد
وردت اللغتان بهما في كتب اللغة كالصحاح وغيره، وأما انكار المطرزي ضم الحاء فهو في
مكسور العين لأنه لازم لا يجئ له مفعول ما لم يسم فاعله لا في مفتوح العين لأنه متعد
يجوز بناء الفعل منه للمفعول. وصورة المسألة إذا لم يقدر الإمام على القراءة لأجل خجل
يعتريه، أما إذا نسي القراءة أصلا لا يجوز الاستخلاف بالاجماع لأن صار أميا، واستخلاف
الأمي لا يجوز. هذا كله عند أبي حنيفة. وقالا: لا يجوز لأنه يندر وجوده، وله أن
649

الاستخلاف في الحدث بعلة العجز وهو هنا ألزم والعجز عن القراءة غير نادر. وأشار
بالمنع عن القراءة إلى أنه لم يقرأ مقدار الفرض فيفيد أنه لو قرأه لا يجوز الاستخلاف إجماعا
لعدم الحاجة إليه، وذكره في المحيط بصيغة قيل. وظاهره أن المذهب الاطلاق وهو الذي
ينبغي اعتماده لما صرحوا في فتح المصلي على إمامه بأنها لا تفسد على الصحيح، سواء قرأ
الإمام ما تجوز به الصلاة أو لا، فكذلك هنا يجوز الاستخلاف مطلقا. وقيد بالمنع عنها لأنه
لو أصاب الإمام وجع في البطن فاستخلف رجلا لم يجز، فلو قعد وأتم صلاته جاز، ولو
صار الإمام حاقنا بحيث لا يمكنه المضي فذكر في غير رواية الأصولي أن على قول أبي
حنيفة ليس له أن يستخلف، وعلى قول أبي يوسف له ذلك. أبو حنيفة فرق بين هذا وبين
مسألة الحصر في القراءة. كذا في الظهيرية. والحاقن الذي له بول كثير كذا في المغرب
وفي غاية البيان. ثم عندهما إذا لم يستخلف كيف يصنف؟ قال بعض الشارحين: يتم
صلاته بلا قراءة إلحاقا له بالامي، وهذا سهو لأن مذهبهما أنه يستقبل وبه صرح فحر
الاسلام في شرح الجامع الصغير لأنه قال في عامة الكتب: إن الحصر لما كان نادرا أشبه
الجنابة وبها لا تتم الصلاة فكذا بالحصر اه‍. والعجب من الشارح أنه جعل الحصر عن
القراءة كالجنابة ونقل عنهما أنه يتمها بغير قراءة، وكذا المحقق في فتح القدير. وفي
البدائع: وعندهما لا يجوز وتفسد صلاتهم وهو شاهد لما في غاية البيان والظاهر أن عنهما
روايتين.
650

قوله: (وإن خرج من المسجد بظن الحدث أو جن أو احتلم أو أغمي عليه استقبل) أما
فسادها بالخروج من المسجد لتوهم الحدث ولم يكن موجودا فلوجود المنافي من غير عذر،
والقياس فسادها بالانحراف عن القبلة مطلقا لما ذكرنا لكن استحسنوا بقاءها عند عدم الخروج
لأنه انصرف على قصد الاصلاح لأنه لو تحقق ما توهمه بني على صلاته فألحق قصد الاصلاح
بحقيقته ما لم يختلف المكان بالخروج، وقد فهم بعضهم من هذا كما ذكره في التنجيس أن
المصلي إذا حول صدره عن القبلة لا تفسد صلاته، وأن القول بفسادها أليق بقولهما وليس
بشئ لأن أبا حنيفة إنما قال بعدم فساد صلاته عند عدم الخروج لأجل أنه معذور بتوهم
الحدث، وأما من حول صدره عن القبلة فهو متمرد عاص لا يستحق التخفيف، فالقول
بالفساد أليق بقول الكل كما لا يخفى. قيد بظن الحدث لأنه لو ظن أنه افتتح على غير وضوء
أو كان ماسحا على الخفين فظن أن مدة مسحه قد انقضت، أو كان متيمما فرأى سرابا فظنه
ماء، أو كان في الظهر فظن أنه لم يصل الفجر، أو رأى حمرة في ثوبه فظن أنها نجاسة،
فانصرف حيث تفسد صلاته وإن لم يخرج من المسجد لأن الانصراف على سبيل الرفض،
ولهذا لو تحقق ما توهمه يستقبل، وهذا هو الأصل. والاستخلاف كالخروج من المسجد لأنه
عمل كثير فيبطلها، وإنما عبر بالظن دون التوهم لأنه الطرف الراجح والوهم هو الطرف
651

المرجوح. وصور مسألة الظن - الشمني - بأن خرج شئ من أنفه فظن أنه رعف، فظاهره أنه
لو لم يكن للظن دليل بأن شك في خروج ريح ونحوه فإنه يستقبل مطلقا بالانحراف عملا
بما هو القياس لكني لم أره منقولا، وإنما في التجنيس: لو شك الإمام في الصلاة فاستخلف
فسدت صلاتهم، ولو خاف سبق الحدث فانصرف ثم سبقه الحدث فالاستئناف لازم عند أبي
حنيفة خلافا لأبي يوسف. كذا في المجمع. والدار ومصلى الجنازة والجبانة كالمسجد إذ له
حكم البقعة الواحدة - كذا قالوا - إلا في المرأة فإنها إن خرجت عن مصلاها فسدت صلاتها:
وليس البيت لها كالمسجد للرجل. وقال القاضي الإمام أبو علي النسفي: لا تفسد صلاتها
والبيت لها كالمسجد للرجل. كذا في فتاوى قاضيخان. وإن كان يصلي في الصحراء فمقدار
الصفوف له حكم المسجدان مشى يمنة أو يسرة أو خلفا، وإن مشى أمامه وليس بين يديه
سترة فالصحيح هو التقدير بموضع السجود، وإن كان وحده فمسجده موضع سجوده من
الجوانب الأربع إلا إذا مشى أمامه وبين يديه سترة فيعطي لداخلها حكم المسجد. كذا في
البدائع. وفي فتح القدير: والأوجه إذا لم يكن سترة أن يعتبر موضع سجوده لأن الإمام
منفرد في حق نفسه والمنفرد حكمه ذلك اه‍. وهذا البحث هو ما صححه في البدائع، فعلم
أن ما في الهداية من أن الإمام إذا لم يكن بين يديه سترة فمقدار الصفوف خلفه ضعيف،
وأما فسادها بما ذكر من الجنون والاغماء والاحتلام فلانه يندر وجود هذه العوارض فلم
تكن في معنى ما ورد به النص من القئ والرعاف، وكذلك إذا قهقه لأنه بمنزلة الكلام وهو
قاطع لقوله عليه الصلاة والسلام وليبن على صلاته ما لم يتكلم. وكذا لو نظر إلى امرأة
فأنزل. ومحل الفساد بهذه الأشياء قبل القعود قدر التشهد، أما بعده فلا لما سنذكره من أن
تعمد الحدث بعده لا يفسدها فهذا أولى. ولا يخلوا لموصوف بها عن اضطراب أو مكث،
وكيفما كان فالصنع منه موجود على القول باشتراطه للخروج، أما في الاضطراب فظاهر،
وأما في المكث فلانه يصير به مؤديا جزءا من الصلاة مع الحدث والأداء صنع منه. وفي
652

العناية: وإنما قال أو نام فاحتلم لأن النوم بانفراده ليس بمفسد وكذا الاحتلام المنفرد عن
النوم وهو البلوغ بالسن فجمع بينهما بيانا للمراد اه‍. فعلى هذا الاحتلام هو البلوغ أعم من
الانزال أو السن فالمراد في المختصر هو الأول. وفي الظهيرية: المصلى إذا نعس في صلاته
فاضطجع، قيل تنتقض طهارته فيتوضأ ويبني، وقيل لا تفسد صلاته ولا تنتقض طهارته اه‍.
ولعل المصنف إنما عبر بالاستقبال في هذه المسائل كغيره دون الفساد لما أن الفساد فيها ليس
مقصودا فيثاب على ما فعله منها بخلاف ما إذا أفسدها قصدا فإنه لا ثواب له فيما أداه بل
يأثم لأن قطعها لغير ضرورة حرام.
قوله: (وإن سبقه حدث بعد التشهد توضأ وسلم) لأن التسليم واجب ولا بد له من
الوضوء ليأتي به فالوضوء والسلام واجبان فلو لم يفعل كره تحريما. والشروط التي قدمناها
لصحة البناء لا بد منها للسلام حتى لو لم يتوضأ فورا أو أتى بمناف بعده فاته السلام ووجب
عليه إعادتها لإقامة الواجب لأنه حكم كل صلاة أديت مع كراهة التحريم، وإن كان إماما
استخلف من يسلم بالقوم. قوله: (وإن تعمده أو تكلم تمت صلاته) أي تعمد الحدث لحديث
الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحدث - يعني الرجل - وقد جلس في
آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته (1) ومعنى قوله تمت صلاته تمت فرائضها ولهذا
لم تفسد بفعل المنافي وإلا فمعلوم أنها لم تتم بسائر ما ينسب إليها من الواجبات لعدم خروجه
653

بلفظ السلام وهو واجب بالاتفاق حتى إن هذه الصلاة تكون مؤداة على وجه مكروه فتعاد
على وجه غير مكروه كما هو الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة. كذا في شرح منية
المصلي، وفيه أنه لا خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في أن من سبقه الحدث بعده يتوضأ
ويسلم، وإنما الخلاف فيما إذا لم يتوضأ حتى أتى بمناف، فعند أبي حنيفة بطلت صلاته لعدم
الخروج بصنعه، وعندهما لا تبطل لأنه ليس بفرض عندهما اه‍. وفيه نظر، بل لا يكاد يصح
لأنه إذا أتى بمناف بعد سبق الحدث فقد خرج منها بصنعه، ولهذا قال الشارح الزيلعي:
وكذا إذا سبقه الحدث بعد التشهد ثم أحدث متعمدا قبل أن يتوضأ تمت صلاته ولم يحك
خلافا، وإنما ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا خرج منها لا بصنعه كالمسائل الاثني عشرية كما
سنقرره إن شاء الله تعالى. وشمل تعمد الحدث القهقهة عمدا فصلاته تامة وبطل وضوءه
لوجودها في أثناء الصلاة فصار كنية الإقامة في هذه الحالة، وكذا لو قهقه في سجود السهو.
وإن قهقه الإمام أو أحدث متعمدا ثم قهقه القوم فعليه الوضوء دونهم لخروجهم منها بحدث
الإمام بخلاف قهقهتهم بعد سلامه لأنهم لا يخرجون منها بسلامه فبطلت طهارتهم، وإن
قهقهوا معا أو القوم فعليهم الوضوء. والحاصل أن القوم يخرجون من الصلاة بحدث ال
عمدا اتفاقا، ولهذا لا يسلمون ولا يخرجون منها بسلامه عندهما خلافا لمحمد، وأما بكلامه
فعن أبي حنيفة روايتان في رواية كالسلام فيسلمون وتنتقض طهارتهم بالقهقهة، وفي رواية
كالحدث العمد فلا سلام ولا نقض بها كذا في المحيط.
قوله: (وبطلت أن رأى متيمم ماء) أي بطلت صلاته بالقدرة على استعمال الماء، ولا
عبرة بالرؤية المجردة عن القدرة بدليل ما قدمه في بابه. وإنما بطلت لأن عدم الماء شرط في
الابتداء فكان شرط البقاء كسائر الشروط، وكالمكفر بالصوم إذا أيسر ليس له البناء لأنه برؤية
الماء ظهر حكم الحدث السابق فكأنه شرع على غير وضوء بخلاف ما إذا سبقه الحدث لأنه
شرع بوضوء تام. أطلقه فشمل ما إذا رأى المتيمم قبل سبق الحدث أو بعده، وفي الثاني
خلاف والصحيح هو البطلان كما في المحيط، وجزم به الشارح. واختار في النهاية أنه يبني
دون فساد. وفي فتح القدير: والذي يظهر أن الأسباب المتعاقبة كالبول ثم الرعاف ثم القئ
إذا أوجبت أحداثا متعاقبة يجزئه عنها وضوء واحد، فالأوجه ما في شرح الكنز وهو الموافق
لما قدمناه من قول محمد فيمن حلف لا يتوضأ من الرعاف فبال ثم رعف ثم توضأ أنه يحنث.
وإن قلنا لا يوجب كما قدمنا النظر فيه في باب الغسل فالأوجه ما في النهاية وهو الحق في
654

اعتقادي لكن كلام النهاية ليس عليه بل على ما نقل عن محمد في باب الغسل فالأوجه ما في
النهاية وهو الحق في اعتقادي لكن كلام النهاية ليس عليه بل على ما نقل عن محمد في باب
الغسل فلا تتفرع مسألة التيمم على الوجه الذي ذكره على ما هو ظاهر اختياره اه‍. والذي
يظهر أن هذا ليس مبنيا على هذا الفرع فإنهم عللوا الاستقبال بأنه لما ظهر الحدث السابق تبين
كونه شرع بغير طهارة فليس له البناء، سواء قلنا إنها توجب أحداثا أو حدثا كما لا يخفى.
وذكر الشارح وتقييده بالمتيمم لبطلان الصلاة عند رؤية الماء لا يفيد لأنه لو كان متوضئ
يصلي خلف متيمم فرأى المؤتم الماء بطلت صلاته لعلمه أن إمامه قادر على الماء بإخباره،
وصلاة الامام تامة لعدم قدرته، ولو قال وبطلت أن رأى متيمم أو المقتدى به ماء لشمل
الكل اه‍. وأقره عليه في فتح القدير وفيه نظر، لأن المقتدي بالمتيمم إذا رأى ماء لم يعلم به
الامام فإن صلاة المقتدي لم تبطل أصلا، وإنما بطل وصفها وهو الفرضية وكلامه في بطلان
أصلها برؤية الماء، ولهذا صرح في المحيط بأن المتوضئ خلف المتيمم إذا رأى الماء أو كان
على الامام فائتة لا يذكرها والمؤتم يذكرها أو كان الامام على غير القبلة وهو لا يعلمه والمؤتم
يعلمه فقهقه المؤتم فعليه الوضوء عندهما خلافا لمحمد وزفر بناء على أن الفرضية متى فسدت
لا تنقطع التحريمة عندهما خلافا لمحمد اه‍. وأيضا نفي الفائدة مطلقا ممنوع فإن المتوضئ إذا
رأى ماء لا يضره فقد أفاد قوله: (أو تمت مدة مسحه) أطلقه فشمل ما إذا كان واجدا للماء
أو لم يكن واجدا وهو اختبار بعض المشايخ. وذكر قاضيخان في فتاواه أنه لو تمت المدة وهو
في الصلاة ولا ماء يمضي على الأصح في صلاته إذ لا فائدة في النزع لأنه للغسل ولا ماء
655

خلافا لمن قال من المشايخ تفسد اه‍. واختار القول بالفساد في فتح القدير وقد قدمناه في بابه.
قوله: (أو نزع خفيه بعمل يسير) بأن كانا واسعين لا يحتاج فيهما إلى المعالجة في النزع. قيد به
لأن العمل الكثير يخرج به عن الصلاة فتتم صلاته حينئذ اتفاقا، والظاهر أن ذكر الخف بلفظ
المثنى اتفاقي لأن الحكم كذلك في الخف الواحد لما قدمه في بابه من أن نزع الخف ناقض
للمسح ولذا أفرده في المجمع. قوله: (أو تعلم أمي سورة) وهو منسوب إلى أمة العرب وهي
الأمة الخالية عن العلم والكتابة والقراءة فاستعير لمن لا يعرف الكتابة والقراءة. والمراد بالتعلم
تذكره إياها بعد النسيان لأن التعلم لا بد له من التعليم وذلك فعل ينافي الصلاة فتتم صلاته
اتفاقا. وقيل سمعه بلا اختيار وحفظه بلا صنع بأن سمع سورة الاخلاص مثلا من قارئ
فحفظها من غير احتياج إلى التلبس بما يفسد الصلاة من عمل كثير. كذا قالوا. وقوله
سورة وقع اتفاقا لأن عند أبي حنيفة الآية تكفي، وهما وإن قالا بافتراض ثلاث آيات لم يشترطا
السورة. وأطلق فشمل كل مصل وفيما إذا كان يصلي خلف قارئ اختلاف المشايخ، فعامتهم
على أنها تفسد لأن الصلاة بالقراءة حقيقة فوق الصلاة بالقراءة حكما فلا يمكنه البناء عليها.
وقيل: لا تبطل وصححه في الفتاوى الظهيرية قال: الأمي إذا تعلم سورة خلف القارئ فإنه
يمضي على صلاته وهو الصحيح اه‍. ووجهه أن قراءة الإمام قراءة له فقد تكامل أول الصلاة
وآخرها وبناء الكامل جائز. قال أبو الليث: لا تبطل صلاته اتفاقا وبه نأخذ.
قوله: (أو وجد عار ثوبا) أي ثوبا تجوز فيه الصلاة بأن لم تكن فيه نجاسة مانعة من
الصلاة، أو كانت فيه وعنده ما يزيل به النجاسة، أو لم يكن عنده ما يزيل به النجاسة ولكن
ربعه أو أكثر منه طاهر وهو ساتر للعورة قوله: (أو قدر موم) أي على الركوع والسجود لأن
آخر صلاته أقوى فلا يجوز بناؤه على الضعيف قوله: (أو تذكر فائتة) أي عليه أو على إمامه
ولم يسقط الترتيب بعد، وقد قدمنا أن المأموم إذا تذكر فائتة على إمامه ولم يتذكرها الامام فسد
وصف الفرضية لا أصلها، وكذا إذا تذكر فائتة عليه فإن أصل الصلاة لم يبطل وإنما انقلبت
نفلا لما عرف أن بطلان الوصف لا يوجب بطلان الأصل عندهما خلافا لمحمد. في السراج
الوهاج: ثم هذه الصلاة لا تبطل قطعا عند أبي حنيفة بل تبقى موقوفة إن صلى بعدها خمس
656

صلوات وهو يذكر الفائتة فإنها تنقلب جائزة اه‍. فذكر المصنف لها في سلك الباطل اعتماد على
ما يذكره في باب الفوائت قوله: (أو استخلف أميا) يعني عند سبق الحديث على ما اختاره في
الهداية لأن فساد الصلاة بحكم شرعي وهو عدم صلاحيته للإمامة في حق القارئ لا
بالاستخلاف لأنه غير مفسد حتى جاز استخلافه القارئ واختار فخر الاسلام أنه لا فساد
بالاستخلاف بعد التشهد بالاجماع، وصححه في الكافي وغاية البيان، لأن استخلاف الأمي
فعل مناف للصلاة فيكون مخرجا منها، وكونه ليس بمناف لها إنما هو في مطلق الاستخلاف،
وأما الاستخلاف المقيد وهو استخلاف الأمي فهو مناف لها قوله: (أو طلعت الشمس في الفجر
أو دخل وقت العصر في الجمعة) لأنها مفسدة للصلاة من غير صنعه، ومذهب الشافعي وغيره
عدم فسادها بطلوعها تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد
أدركها (1) ولنا حديث عقبة بن عامر الجهني المتقدم من النهي عنها في الأوقات الثلاثة فإنه يفيد
بطريق الاستدلال الفساد بطلوع الشمس، وإذا تعارضا قدم النهي فيجب حمل ما رووا على ما
قبل النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. فإن قيل: كيف يتحقق الخلاف في البطلان
بدخول وقت العصر في الجمعة فإن الدخول عنده إذا صار ضل كل شئ مثليه، وعندهما إذا
صار مثله؟ قلنا: هذا على قول الحسن بن زياد فإن عنده وقتا مهملا بين خروج الظهر ودخول
العصر، فإذا صار الظل مثله يتحقق الخروج عندهما والصلاة تامة وعنده باطلة. كذا في الكافي
وفيه نظر، لأنهم قالوا: أو دخل وقت العصر ولم يقولوا أو خرج وقت الظهر. وقيل: يمكن أن
يقعد في الصلاة بعدما قعد قدر التشهد مقدار ما صار الظل مثليه فحينئذ يتحقق الخلاف. كذا
في المعراج. والظاهر في الجواب ما نقله في المعراج عن المستصفى بعد هذا الكلام من أن هذا
على اختلاف القولين فعندهما إذا صار الظل مثله، وعنده إذا صار مثليه.
قوله: (أو سقطت جبيرته عن برء أو زال عذر المعذور) قيد بالبرء لأن سقوطها لا عن
برء لا يبطل الصلاة اتفاقا لما بيناه في بابه. والمراد بزوال العذر استمرار انقطاعه وقتا كاملا،
فإذا انقطع عذره بعد القعود فالامر موقوف، فإن دام وقتا كاملا بعد الوقت الذي صلى فيه
ووقع الانقطاع فيه فحينئذ يظهر أنه انقطاع هو برء فيظهر الفساد عند أبي حنيفة فيقضيها وإلا
فمجرد الانقطاع لا يدل عليه لأنه لو عاد في الوقت الثاني فالصلاة الأولى صحيحة كما قدمناه
657

في بابه. وقد ذكر هنا اثني عشر مسألة ولقبها اثنا عشرية عند أصحابنا وهي مشهورة عندهم
بهذه النسبة إلا أن هذا الاطلاق غير جائز من حيث العربية لأنه إنما ينسب إلى صدر العدد
المركب في مثله بعد أن يكون علما على ما عرف في فنه، فيقال في النسبة إلى خمسة عشر
علما على رجل أو غيره خمسي، وأما إذا لم يكن مسمى به وأريد به العدد فلا ينسب إليه
أصلا لأن الجزأين حينئذ مقصود أن بالمعنى، فلو حذف أحدهما اختل المعنى، ولو لم يحذف
استثقل. قالوا: وقد زيد عليها مسائل فمنها: إذا كان يصلي بالثوب النجس فوجد ماء يغسل
به وهو مستفاد من مسألة ما إذا وجد العاري ثوبا. ومنها ما إذا كان يصلي القضاء فدخل
عليه الأوقات المكروهة وهو مستفاد من مسألة طلوع الشمس في الفجر. ومنها إذا خرج
الوقت على المعذور وهي ترجع إلى ظهور الحدث السابق. ومنها الأمة إذا كانت تصلي بغير
قناع فأعتقت في هذه الحالة ولم تستتر من ساعتها، وهو مستفاد مما إذا وجد العاري ثوبا،
ففي التحقيق لا زيادة على ما هو المشهور، وحاصلها يرجع إلى ظهور الحدث السابق وقوة
حاله بعد ضعفها وطرو الوقت الناقص على الكامل. وفي السراج الوهاج: إن الصلاة في
هذه المسائل إذا بطلت لا تنقلب نفلا إلا في ثلاث مسائل وهو ما إذا تذكر فائتة أو طلعت
الشمس أو خرج وقت الظهر في يوم الجمعة. أطلق المصنف في بطلانها بهذه العوارض
فشمل ما قبل القعود وما بعده، ولا خلاف في بطلانها في الأول، وأما في حدوثها بعده
فقال أبو حنيفة بالبطلان، وقالا بالصحة لأنه معنى مفسد لها فصار كالحدث والكلام وقد
حدثت بعد التمام فلا فساد. واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة، فذهب البردعي إلى أنه
إنما قال بالبطلان لأن الخروج من الصلاة بصنع المصلي فرض عنده لأنها لا تبطل إلا بترك
فرض ولم يبق عليه سوى الخروج بصنعه، وتبعه على ذلك العامة كما في العناية.
وذهب الكرخي إلى أنه لا خلاف بينهم أن الخروج بصنعه منها ليس بفرض لقوله صلى الله عليه وسلم
لابن مسعود إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن
شئت أن تقعد فاقعد وليس فيه نص عن أبي حنيفة، وإنما استنبطه البردعي من هذه المسائل
وهو غلط منه لأنه لو كان فرضا كما زعمه لاختص بما هو قربه وهو السلام، وإنما حكم
658

الامام بالبطلان باعتبار أن هذه المعاني مغيرة للفرض فاستوى في حدوثها أول الصلاة وآخرها
أصله نية الإقامة. قال الامام الأقطع في شرح القدوري: وهذه العلة مستمرة في جميع المسائل
إلا في طلوع الشمس إلا أنه يقيسه على بقية المسائل بعلة أنه معنى مفسد للصلاة حصل بغير
فعله بعد التشهد اه‍. ولا حاجة إلى الاستثناء لأن طلوع الشمس بعد الفجر مغير للفرض من
الفرض إلى النفل كرؤية الماء فإنها مغيرة للفرض لأنه كان فرضه التيمم فتغير فرضه إلى الوضوء
بسبب سابق على الصلاة، وكذا سائر أخواتها بخلاف الكلام فإنه قاطع لا مغير، والحدث العمد
والقهقهة مبطلة لا مغيرة. قال في المجتبى: وعلى قول الكرخي المحققون من أصحابنا. وذكر
في المعراج معزيا إلى شمس الأئمة: والصحيح ما قاله الكرخي. وقال صاحب التأسيس: ما
659

قاله أبو الحسن أحسن لأن الأول ليس بمنصوص عن أبي حنيفة. ورجح المحقق في فتح القدير
قولهما بأن اقتضاء الحكم الاختيار لينتفي الجبر إنما هو في المقاصد لا في الوسائل، ولهذا لو
حمل مغمى عليه إلى المسجد فأفاق فتوضأ فيه أجزأه عن السعي، ولو لم يحمل وجب عليه السعي
للتوسل، فكذا إذا تحقق القاطع في هذه الحالة بلا اختيار حصل المقصود من القدرة على صلاة
أخرى، ولو لم يتحقق وجب عليه فعل هو قربة قاطع، فلو فعل مختارا قاطعا محرما أثم لمخالفة
الواجب. والجواب بأن الفساد عنده لا لعدم الفعل بل للأداء مع الحدث إذ بالرؤية وانقضاء
المدة وانقطاع العذر يظهر الحدث السابق فيستند النقص. فيظهر في هذه لقيام حرمتها حالة الظهور
بخلاف المنقضية ليس بمطرد اه‍. وهذا كله على تعليل البردعي، وأما على تخريج الكرخي فلا يرد
كما لا يخفى. وذكر الشارح أنه لو سلم الامام وعليه سهو فعرض له واحد منها، فإن سجد بطلت
صلاته وإلا فلا. ولو سلم القوم قبل الامام بعدما قعد قدر التشهد ثم عرض له واحد منها بطلت
صلاته دون القوم، وكذا إذا سجد هو للسهو ولم يسجد القوم ثم عرض له.
قوله: (وصح استخلاف المسبوق) لوجود المشاركة في التحريمة، والأولى للامام أن
يقدم مدركا لأنه أقدر على إتمام صلاته، وينبغي لهذا المسبوق أن لا يتقدم لعجزه عن السلام،
فلو تقدم يبتدئ من حيث انتهى إليه الامام لقيامه مقامه، وإذا انتهى إلى السلام يقدم مدركا
يسلم بهم فلو استخلف في الرباعية مسبوقا بركعتين فصلى الخليفة ركعتين ولم يقعد فسدت
صلاته، ولو أشار إليه الامام أنه لم يقرأ في الأوليين لزمه أن يقرأ في الأخريين لقيامه مقام
الامام، وإذا قرأ التحقت بالأوليين فخلت الاخريان عن القراءة فصار كأن الخليفة لم يقرأ في
الأخريين، فإذا قام إلى قضاء ما سبقه لزمه القراءة فيما سبق به من الركعتين فقد لزمه القراءة
في جميع الفرض الرباعي. ولو لم يعلم المسبوق الخليفة كمية صلاة الامام ولا القوم بأن كان
الكل مسبوقين مثله، إن كان الامام سبقه الحدث وهو قائم صلى الذي تقدم ركعة وقعد مقدار
التشهد ثم قام وأتم صلاة نفسه والقوم لا يقتدون به ولكنهم يمكثون إلى إن يفرغ هذا من
صلاته، فإذا فرغ قام القوم فيقضون ما بقي من صلاتهم وحدانا لأن من الجائز أن الذي بقي
على الامام آخر الركعات فحين صلى الخليفة تلك الركعة تمت صلاة الامام، فلو اقتدوا به فيما
يقضي هو كانوا اقتدوا بمسبوق فيما يقضي فتفسد صلاتهم، ولا يشتغلون بالقضاء لجواز أن
660

يكون بعض ما يقضي هذا الخليفة مما بقي على الامام الأول فيكون القوم قد انفردوا قبل فراغ
إمامهم من جميع أركان الصلاة فتفسد صلاتهم، فالأحوط في ذلك ما قلنا. كذا في
الظهيرية. وفي فتح القدير: ويقعد هذا الخليفة فيما بقي على الامام الأول على كل ركعة.
وهكذا في الخلاصة، ولم يبينوا ما إذا سبقه الحدث وهو قاعد واقتدوا به وهو قاعد فاستخلف
واحدا منهم ولم يعلموا أنها الأولى أو الثانية والفرض رباعي كالظهر، وينبغي على قياس ما
ذكروه أن يصلي الخليفة ركعتين وحده وهم جلوس فإذا فرغ منهما قاموا وصلى كل واحد
منهم أربعا وحده، والخليفة ما بقي، ولا يشتغلون بالقضاء قبل فراغة من الأوليين لما ذكرناه
لاحتمال أن تكون القعدة التي للامام هي الأخيرة، وحينئذ ليس لهم الاقتداء، ويحتمل أن
تكون الأولى وحينئذ ليس لهم الانفراد. وحقيقة المسبوق هو من لم يدرك أول صلاة الامام
والمراد بالأول وله أحكام كثيرة فمنها: أنه منفرد فيما يقضي إلا في أربع مسائل: إحداها أنه
لا يجوز اقتداؤه ولا الاقتداء به لأنه بان تحريمة فلو اقتدى مسبوق بمسبوق فسدت صلاة
المقتدي، قرأ أو لم يقرأ، دون الامام. واستثنى منلاخسرو وفي الدرر والغرر من قولهم لا
661

يصح الاقتداء بالمسبوق أن إمامه لو أحدث فاستخلفه صح استخلافه وصار إماما اه‍. وهو
سهو لأن كلامهم فيما إذا قام إلى قضاء ما سبق به وهو في هذه الحالة لا يصح الاقتداء به
أصلا فلا استثناء. ولو ظن الامام أن عليه سهوا فسجد للسهو فتابعه المسبوق فيه ثم علم
أنه ليس عليه سهو ففيه روايتان، والأشهر أن صلاة المسبوق تفسد لأنه اقتدى في موضع
الانفراد. وقال الفقيه أبو الليث: في زماننا لا تفسد لأن الجهل في القراء غالب كذا في
الظهيرية. ولو لم يعلم لم تفسد في قولهم. كذا في الخانية. ولو قام الامام إلى الخامسة في
صلاة الظهر فتابعه المسبوق إن قعد الامام على رأس الرابعة تفسد صلاة المسبوق، وإن لم
يقعد لم تفسد حتى يقيد الخامسة بالسجدة، فإذا قيدها بالسجدة فسدت صلاة الكل لأن
الامام إذا قعد على الرابعة تمت صلاته في حق المسبوق فلا يجوز للمسبوق متابعته، ولو
نسي أحد المسبوقين المتساويين كمية ما عليه فقضى ملاحظا للآخر بلا اقتداء به صح. ثانيها
لو كبر ناويا للاستئناف يصير مستأنفا قاطعا للأولى بخلاف المنفرد على ما يأتي. ثالثها لو قام
لقضاء ما سبق به وعلى الامام سجدتا سهو قبل أن يدخل معه كان عليه أن يعود فيسجد
معه ما لم يقيد الركعة بسجدة، فإن لم يعد حتى سجد يمضي وعليه أن يسجد في آخر
صلاته بخلاف المنفرد لا يجب عليه السجود لسهو غيره. رابعها يأتي بتكبير التشريق اتفاقا
بخلاف المنفرد لا يجب عليه عند أبي حنيفة، وفيما سوى ذلك هو منفرد لعدم المشاركة فيما
يقضيه حقيقة وحكما.
ومن أحكامه أنه لو سلم مع الامام ساهيا أو قبله لا يلزمه سجود السهو لأنه مقتد،
وإن سلم بعده لزمه، وإن سلم مع الامام على ظن أن عليه السلام مع الامام فهو سلام عمد
فتفسد. كذا في الظهيرية. ومن أحكامه أنه لا يقوم إلى القضاء قبل التسليمتين بل ينتظر فراغ
الامام بعدهما لاحتمال سهو على الامام فيصبر حتى يفهم أنه لا سهو عليه إذ لو كان لسجد.
وقيده في فتح القدير بحثا بأن محله ما إذا اقتدى بمن يرى سجود السهو بعد السلام، أما إذا
اقتدى بمن يراه قبله فلا. قلت: الخلاف بين الأئمة إنما هو في الأولوية فربما اختار الإمام الشافعي
أن يسجد بعد السلام عملا بالجائز فلهذا أطلقوا استنظاره. ومن أحكامه أنه لا يقوم
المسبوق قبل السلام بعد قدر التشهد إلا في مواضع إذا خاف وهو ماسح تمام المدة لو انتظر
سلام الامام أو خاف المسبوق في الجمعة والعيدين والفجر، أو المعذور خروج الوقت أو
662

خاف أن يبتدره الحدث أو أن تمر الناس بين يديه، ولو قام في غيرها بعد قدر التشهد صح
ويكره تحريما لأن المتابعة واجبة بالنص. قال عليه السلام إنما جعل الامام ليؤتم به فلا
تختلفوا عليه (1) وهذه المخالفة له إلى غير ذلك من الأحاديث المفيدة للوجوب. ولو قام قبله
قال في النوازل: إن قرأ بعد فراغ الامام من التشهد ما تجوز به الصلاة جاز وإلا فلا. هذا
في المسبوق بركعة أو ركعتين، فإن كان بثلاث، فإن وجد منه قيام بعد التشهد الامام جاز
وإن يقرأ لأنه سيقرأ في الباقيتين والقراءة فرض في كل الركعتين، ولو قام حيث يصح وفرغ
قبل سلام الامام وتابعه في السلام، قيل تفسدوا الفتوى على أن لا تفسدوا إن كان اقتداؤه بعد
المفارقة مفسدا لأن هذا مفسد بعد الفراغ فهو كتعمد الحدث في هذه الحالة. ومن أحكامه أن
الامام لو تذكر سجدة فإما تلاوية أو صلبية، فإن كانت تلاوية وسجدها إن لم يقيد المسبوق
ركعته بسجدة فإنه يرفض ذلك ويتابعه ويسجد معه للسهو ثم يقوم إلى القضاء ولو لم يعد
فسدت صلاته لأن عود الامام إلى سجود التلاوة يرفع القعدة وهو بعد لم يصر منفردا لأن ما
أتى به دون ركعة فيرتفض في حقه أيضا، وإذا ارتفضت لا يجوز له الانفراد لأن هذا أوان
افتراض المتابعة والانفراد في هذه الحالة مفسد للصلاة، ولو تابعه بعد تقييدها بالسجدة فيها
فسدت رواية واحدة، وإن لم يتابعه فظاهر الرواية كما في المحيط عدم الفساد، وفي الظهيرية
وهو أصح الروايتين لأن ارتفاضها في حق الامام لا يظهر في حق المسبوق. ولو تذكر الامام
سجدة صلبية وعاد إليها يتابعه وإن لم يتابعه فسدت، وإن كان قيد ركعته بالسجدة تفسد في
663

الروايات كلها. عاد أو لم يعد، لأنه انفرد وعليه ركنان - السجدة والقعدة - وهو عاجز عن
متابعته بعد إكمال الركعة، والأصل أنه إذا اقتدى في موضع الانفراد أو انفرد في موضع
الاقتداء تفسد.
ومن أحكامه أنه يقضي أول صلاته في حق القراءة وآخرها في حق التشهد حتى لو
أدرك مع الامام ركعة من المغرب فإنه يقرأ في الركعتين بالفاتحة والسورة، ولو ترك القراءة في
أحدهما فسدت صلاته وعليه أن يقضي ركعة بتشهد لأنها ثانيته، ولو ترك جازت استحسانا لا
قياسا. ولو أدرك ركعة من الرباعية فعلية أن يقضي ركعة ويقرأ فيها الفاتحة والسورة ويتشهد
لأنه يقضي الآخر في حق التشهد، ويقضي ركعة يقرأ فيها كذلك ولا يتشهد، وفي الثالثة
يتخير والقراءة أفضل. ولو أدرك ركعتين يقضي ركعتين يقرأ فيهما ويتشهد، ولو ترك في
أحدهما فسدت. ومن أحكامه أنه لو بدأ بقضاء ما فاته ففي الخانية والخلاصة يكره ذلك لأنه
664

خالف السنة ولا تفسد صلاته، وصححه في الحاوي الحصيري معزيا إلى الجامع الصغير.
وفي الظهيرية: تفسد صلاته وهو الأصح لأنه عمل بالمنسوخ وقواه بما قالوا إن المسبوق لو
أدرك الامام في السجدة الأولى فركع وسجد سجدتين لا تفسد صلاته بخلاف ما لو أدرك
في السجدة الثانية فركع وسجد سجدتين حيث تفسد صلاته. واختاره في البدائع معللا
بأنه انفرد في موضع وجب عليه الاقتداء وهو مفسد، فقد اختلف التصحيح والأظهر
القول بالفساد لموافقته القاعدة. ومن أحكامه أنه يتابعه في السهو ولا يتابعه في التسليم
والتكبير والتلبية، فإن تابعه في التسليم والتلبية فسدت صلاته، وإن تابعه في التكبير وهو
يعلم أنه مسبوق لا تفسد صلاته وإليه مال شمس الأئمة السرخسي. كذا في الظهيرية،
والمراد من التكبير تكبير التشريق. وأشار المصنف بصحة استخلاف المسبوق إلى صحة
استخلاف اللاحق، والمقيم إذا كان الامام مسافرا وهو خلاف الأولى لأنهما لا يقدران على
الاتمام. ولا ينبغي لهما التقدم وإن تقدما يقدما مدركا للسلام، أما المقيم فلان المسافرين
خلفه لا يلزمهم الاتمام بالاقتداء به كما لا يلزمهم بنية الأول الإقامة بعد الاستخلاف أو
بنية الخليفة لو كان مسافرا في الأصل. أما لو نوى الامام الأول الإقامة قبل الاستخلاف
ثم استخلف فإنه يتم الخليفة صلاة المقيمين. وفي الظهيرية: مسافر صلى ركعة فجاء مسافر
آخر واقتدى به فأحدث الامام واستخلف المسبوق فذهب الامام الأول للوضوء ونوى
665

الإقامة والامام الثاني نوى الإقامة أيضا ثم جاء الامام الأول كيف يفعل؟ قال الشيخ
الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: إذا حضر الأول يقتدي بالثاني في الذي هو باقي
صلاته، فإذا صلى الإمام الثاني الركعة الثانية يقعد قدر التشهد ويستخلف رجلا مسافرا
من الذي أدرك أول صلاته حتى يسلم بالقوم ثم يقوم الثاني فيصلي ثلاث ركعات والامام
الأول يصلي ركعتين بعد سلام الإمام الثاني ولا يتغير فرض القوم بنية الإمام الثاني ولا
فرض الامام الأول ا ه‍. وفي فتح القدير: وأما اللاحق فإنما يتحقق في حقه تقديم
غيره إذا خالف الواجب بأن بدأ بإتمام صلاة الامام فإنه حينئذ يقدم غيره للاتمام ثم
يشتغل بما فاته معه، أما إذا فعل الواجب بأن قدم ما فاته مع الامام ليقع الأداء مرتبا
فيشير إليهم إذا تقدم أن لا يتابعوه فينتظرونه حتى يفرغ مما فاته مع الامام ثم يتابعونه
ويسلم بهم ا ه‍. وفيه نظر، بل يتحقق في حقه تقديم الغير مطلقا لأنه يلزم من فعل
الواجب انتظارهم وهو مكروه فلذا إذا تقدم له أن يتأخر ويقدم رجلا كما في المحيط.
وفي الظهيرية: المسبوق يخالف اللاحق في القضاء في ستة أشياء: في محاذاة المرأة،
والقراءة، والسهو، والقعدة الأولى إذا تركها الامام، وفي ضحك الامام في موضع
السلام، وفي نية الامام الإقامة إذا قيد المسبوق الركعة بسجدة ا ه‍. وقد تقدم في بحث
المحاذاة شئ من أحكام اللاحق.
قوله: (فلو أتم صلاة الامام تفسد بالمنافي صلاته دون القوم) أي لو أتم المسبوق الخليفة
صلاة الامام المحدث فأتى بما ينافي الصلاة من ضحك أو كلام أو خروج من المسجد أو
انحراف عن القبلة تفسد صلاته دون صلاة القوم، لأن المفسد في حقه وجد في خلال
الصلاة وفي حقهم بعد إتمام أركانها. أراد بالقوم المدركين، وأما من حاله مثل حاله فصلاته
فاسدة لما ذكرنا. ولم يتعرض لصلاة الامام المحدث لأن فيه اختلافا والصحيح أنه إن كان فرغ
لا تفسد صلاته، وإن لم يفرغ تفسد صلاته لأنه صار مأموما بالخليفة بعد الخروج من
666

المسجد، ولذا قالوا: ولو تذكر الخليفة فائتة فسدت صلاة الامام الأول والثاني والقوم، ولو
تذكرها الأول بعد ما خرج من المسجد فسدت صلاته خاصة، أو قبل خروجه فسدت صلاته
وصلاة الخليفة والقوم. وقالوا: لو صلى الامام المحدث ما بقي من صلاته في منزله قبل فراغ
هذا المستخلف تفسد صلاته لأن انفراده قبل فراغ الامام لا يجوز قوله: (كما تفسر بقهقهة
إمامه لدى اختتامه لا بخروجه من المسجد وكلامه) أي كما تفسد صلاة المسبوق بحدث إمامه
عامدا بعد القعود قدر التشهد ولا تفسد صلاة المسبوق بخروج إمامه من المسجد وكلامه بعد
القعود ولا خلاف في الثاني. وخالفا في الأول قياسا على الثاني لأن صلاة المقتدي مبنية على
صلاة الامام صحة وفسادا، ولم تفسد صلاة الامام اتفاقا في الكل فكذا المقتدي. وفرق
الامام بأن الحديث مفسد للجزء الذي يلاقيه من صلاة الامام فيفسد مثله من صلاة المقتدي
غير أن الامام لا يحتاج إلى البناء والمسبوق محتاج إليه والبناء على الفاسد فاسد، بخلاف السلام
لأنه منه والكلام في معناه، ولهذا لا يخرج المقتدي منها بسلام الامام وكلامه وخروجه فيسلم
ويخرج بحدثه عمدا فلا يسلم بعده. قيد بالمسبوق لأن صلاة المدرك لا تفسد اتفاقا، وفي
صلاة اللاحق روايتان، وصحح في السراج الوهاج الفساد، وصحح في الظهيرية عدمه
معللا بأن النائم كأنه خلف الامام والامام قد تمت صلاته فكذلك صلاة النائم تقديرا ا ه‍.
وفي نظر، لأن الامام لم يبق عليه شئ بخلاف اللاحق، وفي فتح القدير: لو كان في القوم
لاحق إن فعل الامام ذلك بعد أن قام يقضي ما فاته مع الامام لا تفسد وإلا تفسد عنده.
وقيد بكونه عند اختتامه لأن الحدث العمد لو حصل قبل القعود بطلت صلاة الكل اتفاقا.
وقيد وافساد المسبوق عنده بما إذا لم يتأكد انفراده، فلو قام قبل سلامه تاركا للواجب فقضى
ركعة فسجد لها ثم فعل الامام ذلك لا تفسد صلاته لأنه استحكم انفراده حتى لا يسجد لو
سجد الإمام لسهو عليه ولا تفسد صلاته لو فسدت صلاة الامام بعد سجوده قوله: (ولو
أحدث في ركوعه أو سجوده توضأ وبنى وأعادهما) لأن إتمام الركن بالانتقال ومع الحدث لا
يتحقق فلا بد من الإعادة، أما على قول محمد فظاهر، وأما عند أبي يوسف فالسجدة وإن
تمت بالوضع لكن الجلسة بين السجدتين فرض عنده ولا تتحقق هي بغير طهارة والانتقال من
667

ركن إلى ركن فرض بالاجماع. وذكر المصنف في الكافي أن التمام على نوعين: تمام ماهية
وتمام مخرج عن العهدة، فالسجدة وإن تمت بالوضع ماهية لم تتم تماما مخرجا عن العهدة ا ه‍.
والإعادة هنا على سبيل الفرض وهي مجاز عن الأداء لأنهما لم يصحا، فلذا لو لم يعد فسدت
صلاته. ولو كان إماما فقدم غيره ودام المقدم على ركوعه وسجوده لأنه يمكنه الاتمام
بالاستدامة عليه، ولهذا قال في الظهيرية: ولو أحدث الامام في الركوع فقدم غيره فالخليفة
لا يعيد الركوع ويتم. كذلك ذكره شمس الأئمة السرخسي. وقيد المصنف في الكافي بناءه
بما إذا لم يرفع مريدا الأداء فلو سبقه الحدث في الركوع فرفع رأسه قائلا سمع الله لمن حمده
فسدت صلاته وصلاة القوم، ولو رفع رأسه من السجود وقال الله أكبر مريدا به أداء ركن
فسدت صلاة الكل، وإن لم يرد به أداء الركن ففيه روايتان عن أبي حنيفة ا ه‍. وقد قدمناه.
قوله: (ولو ذكر راكعا أو ساجدا سجدة فسجدها لم يعدهما) لأن الانتقال مع الطهارة
شرط وقد وجد لأن الترتيب ليس بشرط فيما شرع مكررا من أفعال الصلاة. وذكر المصنف
في الوافي في هذه المسألة أنه يعيدهما ولا تناقض، لأن ما في الكنز لبيان عدم اللزوم، وما
في أصله لبيان الأفضل لتقع الافعال مرتبة بالقدر الممكن، وكان ينبغي أن تكون إعادتهما
واجبة لأن الترتيب المذكور واجب. قال المصنف في الكافي: ولئن كان الترتيب واجبا فقد
سقط بعذر النسيان. وتبعه المحقق في فتح القدير وفيه نظر، لأن الترتيب الساقط بعذر
النسيان إنما هو ترتيب الفوائت، وأما لواجب في الصلاة إذا تركه ناسيا فإن حكمه سجود
السهو. وجوابه أنهم لم يمنعوا وجوب سجود السهو وإنما الكلام في إعادته لأجل تركه
الترتيب، فالمعلل له عدم لزوم الإعادة لا عدم وجوب السجود. أطلق في السجدة فشملت
الصلاتية والتلاوية، وقيد بالتذكر في الركوع والسجود لأنه لو تذكر سجدة صلبية في القعود
الأخير فسجدها أو تذكر في الركوع أنه لم يقرأ السورة فعاد لقراءتها ارتفض ما كان فيه لأن
الترتيب فيه فرض كما أسلفناه في صفة الصلاة، وفي فتح القدير: له أن يقضي السجدة
المتروكة عقب التذكر، وله أن يؤخرها إلى آخر الصلاة فيقضيها هناك ا ه‍. وبما ذكر هنا ظهر
ضعف ما في فتاوى قاضيخان من أن الامام لو صلى ركعة وترك منها سجدة وصلى أخرى
وسجد لها فتذكر المتروكة في السجود أنه يرفع رأسه من السجود ويسجد المتروكة ثم يعيد ما
668

كان فيها لأنها ارتفضت فيعيدها استحسانا ا ه‍. فإنك قد علمت أنها لا ترتفض وأن الإعادة
مستحبة، ومقتضى الارتفاض افتراض الإعادة وهو مقتض لافتراض الترتيب وقد اتفقوا على
وجوبه. قوله: (ويتعين المأموم الواحد للاستخلاف بلا نية) لما فيه من صيانة الصلاة، وتعيين
الأول لقطع المزاحمة ولا مزاحم وصار الامام مؤتما إذا خرج من المسجد، وإن لم يخرج من
المسجد فهو على إمامته حتى يجوز الاقتداء به، وكذا لو توضأ في المسجد يستمر على إمامته،
أطلق في المأموم فشمل من يصلح للإمامة ومن لا يصلح مثل المرأة والصبي والخنثى والامي
والأخرس والمتنقل خلف المفترض والمقيم خلف المسافر في القضاء ففيه ثلاثة أقوال: قيل
بفساد صلاة الامام خاصة، وقيل بفساد صلاتهما والأصح فساد صلاة المقتدي دون الامام
كما في المحيط وغاية البيان، لأن الإمامة لم تتحول عنه فبقي إماما وبقي المقتدي بلا إمام له
فحينئذ لم يتعين للإمامة، فإطلاق المختصر منصرف لمن يصلح للإمامة، ومحل الاختلاف عند
عدم الاستخلاف وإما إذا استخلفه فأجمعوا على بطلان صلاة الامام المستخلف. وقيد بكون
المأموم واحد لأنه لو كان متعددا فلا يتعين إلا بتعيين الامام أو القوم أو يتعين هو بالتقدم
ويقتدي به لعدم الأولوية كما قدمناه. وفي التنجيس: رجل أم رجلا واحدا فأحدثا جميعا
وخرجا جميعا من المسجد، فصلاة الامام تامة لأنه منفرد يبني على صلاته وصلاة المقتدي
فاسدة لأنه مقتد ليس له إمام في المسجد اه‍. والله سبحانه وتعالى أعلم.
تم الجزء الأول من البحر الرائق شرح كنز الدقائق.
ويليه الجزء الثاني أوله باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها
669