الكتاب: المبسوط
المؤلف: السرخسي
الجزء: ١
الوفاة: ٤٨٣
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٦ - ١٩٨٦ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان

(الجزء الأول من)
كتاب
المبسوط لشمس الدين
السرخسي
وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالأصول أيضا سميت
صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني
الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير
ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط
ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي
أقوى شروحه الذي كالشمس * مبسوط شمس الأمة السرخسي
(تنبيه) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة
جماعة من ذوي الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان
دار المعرفة
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
(قال الشيخ) الامام الاجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه
الله ونور ضريحه وهو في الحبس بأوزجند إملاء (الحمد) لله بارئ النسم. ومحيى الرمم
ومجزل القسم. مبدع البدائع. وشارع الشرائع. دينا رضيا. ونورا مضيا. لتكليف
المحجوجين. ووعد المؤتمرين. ووأد المعتدين. بينة للعالمين. على لسان سيد المرسلين. وامام
المتقين. خاتم النبيين. سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى جميع
الأنبياء والمرسلين (وبعد) فان أقوى الفرائض بعد الايمان بالله تعالى طلب العلم كما جاء
في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة
والعلم ميراث النبوة كما جاء في الحديث أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يورثوا دينارا
ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر * والعلم علمان علم التوحيد والصفات
وعلم الفقه والشرائع * فالأصل في علم التوحيد التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى
والبدعة كما كان عليه الصحابة والتابعون والسلف والصالحون رضوان الله عليهم أجمعين الذين
أخفاهم التراب. وآثارهم بتصانيفهم باقية في هذا الباب. وقد عزمت على جمع أقاويلهم في
تأليف هذا الكتاب تذكرة لأولي الألباب * وأما علم الفقه والشرائع فهو الخير الكثير كما
قال الله عز وجل ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا قال ابن عباس رضى الله تعالى عنه
الحكمة معرفة الاحكام من الحلال والحرام * وقد ندب الله تعالى إلى ذلك بقوله تعالى فلولا
نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون
فقد جعل ولاية الانذار والدعوة للفقهاء. وهذه درجة الأنبياء. تركوها ميراثا للعلماء. كما
قال عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء. وبعد انقطاع النبوة. هذه الدرجة أعلى
النهاية في القوة. وهو معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام من يرد الله به خيرا يفقهه
2

في الدين وقال عليه الصلاة والسلام خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا ولهذا
اشتغل به أعلام الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم (وأول) من فرع فيه وألف
وصنف سراج الأمة أبو حنيفة رحمة الله عليه بتوفيق من الله عز وجل خصه به واتفاق
من أصحاب اجتمعوا له كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن خنيس الأنصاري رحمه الله تعالى
المقدم في علم الاخبار. والحسن بن زياد اللؤلؤي المقدم في السؤال والتفريع. وزفر بن الهذيل
رحمه الله ابن قيس بن سليم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو المقدم
في القياس. ومحمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى المقدم في الفطنة وعلم الاعراب والنحو
والحساب * هذا مع أنه ولد في عهد الصحابة رضوان الله عليهم ولقى منهم جماعة كأنس
ابن مالك وعامر بن الطفيل وعبد الله بن خبر الزبيدي رضوان الله عليهم أجمعين * ونشأ
في زمن التابعين رحمهم الله وتفقه وأفتى معهم وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام خير
القرون قرني الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل
قبل أن يستشهد ويحلف قبل أن يستحلف * فمن فرع ودون العلم في زمن شهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأهله بالخير والصدق كان مصيبا مقدما كيف وقد أقر له الخصوم
بذلك حتى قال الشافعي رضي الله عنه الناس كلهم عيال على أبي حنيفة رحمه الله في الفقه
(وبلغ) ابن سريج رحمه الله وكان مقدما من أصحاب الشافعي رحمه الله أن رجلا يقع في أبي حنيفة
رحمه الله فدعاه وقال يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم وهو
لا يسلم لهم الربع قال وكيف ذلك قال الفقه سؤال وجواب وهو الذي تفرد بوضع الأسئلة
فسلم له نصف العلم ثم أجاب عن الكل وخصومه لا يقولون إنه أخطأ في الكل فإذا جعلت
ما وافقوه مقابلا بما خالفوه فيه سلم له ثلاثة أرباع العلم وبقي الربع بينه وبين سائر الناس
فتاب الرجل عن مقالته (ومن) فرغ نفسه لتصنيف ما فرعه أبو حنيفة رحمه الله محمد بن
الحسن الشيباني رحمه الله فإنه جمع المبسوط لترغيب المتعلمين والتيسير عليهم ببسط الألفاظ
وتكرار المسائل في الكتب ليحفظوها شاؤوا أو أبوا إلى أن رأى الحاكم الشهيد أبو
الفضل محمد بن أحمد المروزي رحمه الله اعراضا من بعض المتعلمين عن قراءة المبسوط لبسط
في الألفاظ وتكرار في المسائل فرأى الصواب في تأليف المختصر بذكر معاني كتب محمد
ابن الحسن رحمه الله المبسوطة فيه وحذف المكرر من مسائلة ترغيبا للمقتبسين ونعم ما صنع
3

(قال الشيخ الامام) رحمه الله تعالى ثم إني رأيت في زماني بعض الاعراض عن الفقه من
الطالبين لأسباب. فمنها قصور الهمم لبعضهم حتى اكتفوا بالخلافيات من المسائل الطوال.
ومنها ترك النصيحة من بعض المدرسين بالتطويل عليهم بالنكات الطردية التي لا فقه
تحتها. ومنها تطويل بعض المتكلمين بذكر ألفاظ الفلاسفة في شرح معاني الفقه وخلط
حدود كلامهم بها (فرأيت) الصواب في تأليف شرح المختصر لا أزيد على المعنى المؤثر في
بيان كل مسألة اكتفاء بما هو المعتمد في كل باب وقد انضم إلى ذلك سؤال بعض
الخواص من أصحابي زمن حبسي. حين ساعدوني لانسى. أن أملى عليهم ذلك فأجبتهم إليه
(وأسأل) الله تعالى التوفيق للصواب. والعصمة عن الخطأ وما يوجب العقاب. وأن يجعل
ما نويت فيما أمليت سببا لخلاصي في الدنيا ونجاتي في الآخرة انه قريب مجيب
(ثم إنه بدأ بكتاب الصلاة)
لان الصلاة من أقوى الأركان بعد الايمان بالله تعالى قال الله تعالى فان تابوا وأقاموا الصلاة
وقال عليه الصلاة والسلام الصلاة عماد الدين فمن أراد نصب خيمة بدأ بنصب العماد
والصلاة من أعلى معالم الدين ما خلت عنها شريعة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين وقد سمعت شيخنا الامام الأستاذ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله تعالى يقول في
تأويل قوله تعالى وأقم الصلاة لذكرى أي لأني ذكرتها في كل كتاب منزل على لسان كل
نبي مرسل وفى قوله عز وجل ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ما يدل على
وكادتها. فحين وقعت بها البداية. دل على أنها في القوة بأعلى النهاية. وفي اسم الصلاة
ما يدل على أنها ثانية الايمان فالمصلى في اللغة هو التالي للسابق في الخيل قال القائل
ولا بد لي من أن أكون مصليا * إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وفي رواية * أما كنت ترضى أن أكون مصليا * والصلاة في اللغة عبارة عن الدعاء والثناء
قال الله تعالى وصلى عليهم ان صلاتك سكن لهم أي دعاءك وقال القائل
وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتسم
أي دعا وأثنى على دنها * وفى الشريعة عبارة عن أركان مخصوصة كان فيها الدعاء أو لم يكن
4

فالاسم شرعي ليس فيه معنى اللغة فالدلائل من الكتاب والسنة على فرضيتها مشهورة يكثر
تعدادها
(ثم بدأ بتعليم الوضوء) فقال (إذا أراد الرجل الصلاة فليتوضأ) وهذا لان الوضوء
مفتاح الصلاة قال صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور ومن أراد دخول بيت مغلق
بدأ بطلب المفتاح وإنما فعل محمد رحمه الله ذلك اقتداء بكتاب الله تعالى فإنه امام المتقين
قال الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فاقتدى بالكتاب في البداية بالوضوء
لهذا وفى ترك الاستثناء هاهنا وذكره في الحج كما قال الله لتدخلن المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين وفي اضمار الحدث فإنه مضمر في الكتاب ومعنى قوله إذا قمتم إلى
الصلاة من منامكم أو وأنتم محدثون هذا هو المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله فأما
على قول أصحاب الظواهر فلا اضمار في الآية * والوضوء فرض سببه القيام إلى الصلاة
فكل من قام إليها فعليه ان يتوضأ وهذا فاسد لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح أو يوم الخندق صلى الخمس بوضوء واحد فقال له عمر
رضي الله عنه رأيتك اليوم تفعل شيئا لم تكن تفعله من قبل فقال عمدا فعلت يا عمر كي
لا تحرجوا فقياس مذهبهم يوجب أن من جلس فتوضأ ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر
فلا يزال كذلك مشغولا بالوضوء لا يتفرغ للصلاة وفساد هذا لا يخفى على أحد * قال
(وكيفية الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثا) لما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال
إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدرى أين
باتت يده ولأنه إنما يطهر أعضاءه بيديه فلا بد من أن يطهرهما أولا بالغسل حتى يحصل
بهما التطهير * ثم الوضوء على الوجه الذي ذكره محمد رحمة الله عليه في الكتاب رواه حمران
عن أبان عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ بالمقاعد ثم قال من سره أن ينظر إلى وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا وضوءه وذكر أهل الحديث أنه مسح برأسه وأذنيه
ثلاثا (قال) أبو داود في سننه والصحيح من حديث عثمان رضى الله تعالى عنه أنه مسح
برأسه وأذنيه مرة واحدة وعلم أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه الناس الوضوء على
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة ورواه عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه
توضأ في رحبة الكوفة بعد صلاة الفجر بهذه الصفة ثم قال من سره أن ينظر إلى وضوء
5

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى وضوئي هذا واختلفت الروايات في حديثه في المسح
بالرأس فروى ثلاثا وروى مرة فبهذه الآثار أخذ علماؤنا رحمهم الله وقالوا الأفضل
أن يتمضمض ثلاثا ثم يستنشق ثلاثا (وقال) الشافعي رضي الله عنه الأفضل ان يتمضمض
ويستنشق بكف ماء واحد لما روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يتمضمض ويستنشق
بكف واحد وله تأويلان عندنا. أحدهما أنه لم يستعن في المضمضة والاستنشاق باليدين
كما فعل في غسل الوجه. والثاني أنه فعلهما باليد اليمنى فيكون ردا على قول من يقول يستعمل
في الاستنشاق اليد اليسرى لان الانف موضع الأذى كموضع الاستنجاء * قال (ثم يغسل
وجهه ثلاثا) وحد الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن إلى الاذنين لان الوجه
اسم لما يواجه الناظر إليه غير أن ادخال الماء في العينين ليس بشرط لأن العين شحم لا يقبل
الماء وفيه حرج أيضا فمن تكلف له من الصحابة رضوان الله عليهم كف بصره في آخر
عمره كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم والرجل الأمرد والملتحي والمرأة في ذلك سواء
الا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال في حق الملتحي لا يلزمه ايصال الماء إلى البياض
الذي بين العذار وبين شحمة الأذن هذه العبارة أصح فان الشيخ الامام رحمه الله جعل
العذار اسما لذلك البياض وليس كذلك بل العذار اسم لموضع نبات الشعر وهو غير البياض
الذي بين الاذن ومنبت الشعر قال لان البشرة التي نبت عليها الشعر لا يجب ايصال الماء
إليها فما هو أبعد أولى لكن الصحيح من المذهب أنه يجب امرار الماء على ذلك الموضع
لان الموضع الذي نبت عليه الشعر قد استتر بالشعر فانتقل الفرض منه إلى ظاهر الشعر
فأما العذار الذي لم ينبت عليه الشعر فالأمرد والملتحي فيه سواء ويجب ايصال الماء إليه
بصفة الغسل وانه لا يحصل الا بتسييل الماء عليه * وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله
أن في المغسولات إذا بله بالماء سقط به الفرض وهذا فاسد لأنه حد المسح فأما الغسل فهو
تسييل الماء على العين وإزالة الدرن عن العين قال القائل
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها * وإذ هي تذرى دمعها بالأنامل
(ثم يغسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا) وإنما لم يقل يديه لأنه في الابتداء قد غسل يديه ثلاثا وإنما
بقي غسل الذراعين إلى المرفقين والمرفق يدخل في فرض الغسل عندنا وكذلك الكعبان
وقال زفر رحمه الله لا يدخل لأنه غاية في كتاب الله تعالى والغاية حد فلا يدخل تحت
6

المحدود اعتبارا بالممسوحات واستدلالا بقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل والذي يروى
أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل المرافق فمحمول على اكمال السنة دون إقامة الفرض * ولنا
أن من الغايات ما يدخل ويكون حرف إلى فيه بمعنى مع قال الله تعالى ولا تأكلوا أموالهم
إلى أموالكم أي مع أموالكم فكان هذا مجملا في كتاب الله بينه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بفعله فإنه توضأ وأدار الماء على مرافقه ولم ينقل عنه ترك غسل المرافق في شئ
من الوضوء فلو كان ذلك جائزا لفعله مرة تعليما للجواز. ثم إن الأصل أن ذكر الغاية
متى كان لمد الحكم إلى موضع الغاية لم يدخل فيه الغاية كما في الصوم فإنه لو قال ثم أتموا
الصيام اقتضى صوم ساعة ومتى كان ذكر الغاية لاخراج ما وراء الغاية يبقى موضع الغاية
داخلا وهاهنا ذكر الغاية لاخراج ما وراء الغاية فإنه لو قال وأيديكم اقتضى غسل اليدين
إلي الآباط كما فهمت الصحابة رضوان الله عليهم ذلك في آية التيمم في الابتداء فذكر
الغاية لاخراج ما وراء الغاية فيبقى المرفق داخلا (ثم يمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة) وتمام
السنة في أن يستوعب جميع الرأس بالمسح كما رواه عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه
وسلم مسح رأسه بيديه كلتيهما أقبل بهما وأدبر والبداية على ما ذكره هشام عن محمد من
الهامة إلى الجبين ثم منه إلى القفا والذي عليه عامة العلماء رحمهم الله البداية من مقدم
الرأس كما في المغسولات البداية من أول العضو * والمسنون في المسح مرة واحدة بماء
واحد عندنا وفى المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث مرات بماء واحد (وقال)
الشافعي رضى الله تعالى عنه السنة أن يمسح ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا وهو رواية
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله ذكره في شرح المجرد لابن شجاع رحمه الله ووجهه
الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هذا وضوئي ووضوء
الأنبياء من قبلي فينصرف هذا اللفظ إلى الممسوح والمغسول جميعا ولأنه ركن هو أصل
في الطهارة بالماء فيكون التكرار فيه مسنونا كالمغسولات بخلاف المسح بالخف فإنه ليس
بأصل وبخلاف التيمم فإنه ليس بطهارة بالماء ويلحقه الحرج في تكرار استعمال التراب من
حيث تلويث الوجه وذلك الحرج معدوم في الطهارة بالماء (ولنا) حديث البراء بن عازب
رضى الله تعالى عنه فإنه قال لأصحابه في مرضه انى مفارقكم عن قريب أفلا أعلمكم
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نعم فتوضأ ومسح برأسه وأذنيه مرة واحدة
7

وإنما كان ينقل في مثل هذه الحالة ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم هذا
ممسوح في الطهارة فلا يكون التكرار فيه مسنونا كالمسح بالخف والتيمم. وتأثيره أن
الاستيعاب في الممسوح بالماء ليس بفرض حتى يجوز الاكتفاء بمسح بعض الرأس. وبالمرة
الواحدة مع الاستيعاب يحصل إقامة السنة والفريضة فلا حاجة إلى التكرار بخلاف
المغسولات فان الاستيعاب فيها فرض فلا بد من التكرار ليحصل به إقامة السنة
ومعنى الحرج متحقق هاهنا ففي تكرار بل الرأس بالماء افساد العمامة ولهذا اكتفي في الرأس
بالمسح عن الغسل. ووجه رواية المجرد حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء أن النبي صلى الله
عليه وسلم توضأ ومسح برأسه وأذنيه ثلاث مرات بماء واحد والكلام في مسح الاذنين
مع الرأس يأتي بيانه في موضعه من الكتاب * قال (ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا)
ومن الناس من قال وظيفة الطهارة في الرجل المسح وقال الحسن البصري رحمه الله المضرور
يتخير بين المسح والغسل وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال نزل القرآن بغسلين ومسحين
يريد به القراءة بالكسر في قوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين فإنه معطوف على
الرأس وكذلك القراءة بالنصب عطف على الرأس من حيث المحل فان الرأس محله من
الاعراب النصب وإنما صار مخفوضا بدخول حرف الجر وهو كقول القائل
معاوي اننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
(ولنا) أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على غسل الرجلين وبه أمر من علمه الوضوء
ورأي رجلا يلوح عقبه فقال ويل للأعقاب من النار وفى رواية ويل للعراقيب من النار
وكذلك القراءة بالنصب تنصيص علي الامر بالغسل وانه عطف على اليد لان العطف على
المحل لا يجوز في موضع يؤدي إلى الالتباس إنما ذلك في موضع لا يؤدي إلى الاشتباه كما
في البيت والقراءة بالخفض عطف على الأيدي أيضا وإنما صار مخفوضا بالمجاورة كما يقال
جحر ضب خرب وماء شن بارد أي خرب وبارد (فان قيل) الاتباع بالمجاورة مع
حرف العطف لم تتكلم به العرب (قلنا) لا كذلك بل جوزوا الاتباع في الفعل مع حرف
العطف قال القائل * علفتها تبنا وماء باردا * والماء لا يعلف ولكنه اتباع للمجاورة وكذلك
في الاعراب قال جرير
فهل أنت ان ماتت أتانك راحل * إلى آل بسطام بن قيس فحاطب
8

أي فخاطب جوز الاتباع مع حرف العطف وهو الفاء * وأما الكعب فهو العظم الناتئ
المتصل بعظم الساق وهو المفهوم في اللسان إذا قيل ضرب كعب فلان وقال عليه الصلاة
والسلام ألصقوا الكعاب بالكعاب في الصلاة وفى قوله إلى الكعبين دليل على هذا لان
ما يوحد من خلق الانسان يذكر تثنيته بعبارة الجمع كما قال تعالى ان تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما أي قلباكما وما كان مثنى يذكر تثنيته بعبارة التثنية فلما قال إلى الكعبين عرفنا أنه
مثنى في كل رجل وذلك العظم الناتئ. وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال المفصل الذي
في وسط القدم عند معقد الشراك ووجهه أن الكعب اسم للمفصل ومنه كعوب الرمح أي
مفاصله والذي في وسط القدم مفصل وهو المتيقن به وهذا سهو من هشام لم يرد محمد
رحمه الله تعالى تفسير الكعب بهذا في الطهارة وإنما أراد في المحرم إذا لم يجد نعلين انه
يقطع خفيه أسفل من الكعبين وفسر الكعب بهذا فأما في الطهارة فلا شك انه العظم
الناتئ كما فسره في الزيادات فان توضأ مثنى مثنى أجزأه وان توضأ مرة سابغة أجزأه
وتفسير السبوغ التمام وهو أن يمر الماء على كل جزء من المغسولات جاء في حديث ابن عباس
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا وذراعيه مرتين. وعبد
الله بن عمر رضي الله عنهما كان كثيرا ما يتوضأ مرة مرة. والأصل فيه ما رواه ابن عمر
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله
تعالى الصلاة الا به ثم توضأ مرتين مرتين وقال هذا وضوء من يضاعف الله له الاجر
مرتين ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الله
إبراهيم عليه السلام فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم أي زاد على أعضاء الوضوء أو نقص
عنها أو زاد على الحد المحدود أو نقص عنه أو زاد على الثلاث معتقدا ان كمال السنة لا يحصل
بالثلاث فأما إذا زاد لطمأنينة القلب عند الشك أو بنية وضوء آخر فلا بأس به لان
الوضوء على الوضوء نور على نور يوم القيامة وقد أمر بترك ما يريبه إلى مالا يريبه. ولم يذكر
الاستنجاء بالماء هنا لان مقصوده تعليم الوضوء عند القيام من المنام وليس فيه استنجاء
ولان الاستنجاء بالماء بعد الانقاء بالحجر ليس من السنن الراتبة * وكان الحسن البصري
رحمه الله يقول إن هذا شئ أحدث بعد انقضاء عصر الصحابة رضوان الله عليهم وربما قال
هو طهور النساء والمذهب أنه ليس من السنن الراتبة بل لاكتساب زيادة الفضيلة جاء في
9

الحديث أنه لما نزل قوله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال عليه الصلاة والسلام لأهل
قباء ما هذه الطهرة التي خصصتم بها فقالوا انا كنا نتبع الأحجار الماء فقال هو ذاك. ولم
يذكر فيه مسح الرقبة. وبعض مشايخنا يقول إنه ليس من أعمال الوضوء والأصح أنه
مستحسن في الوضوء. قال ابن عمر رضي الله عنهما امسحوا رقابكم قبل أن تغل بالنار. ولم
يذكر تحريك الخاتم ولا نزعه * وذكر أبو سليمان عن محمد رحمه الله أن نزع الخاتم في
الوضوء ليس بشئ والحاصل أنه إن كان واسعا يدخله الماء فلا حاجه إلى النزع والتحريك
وإن كان ضيقا لا يدخل الماء تحته فلا بد من تحريكه. وفى التيمم لا بد من نزعه ولو لم يفعل
لا تجزئه صلاته * ثم سنن الوضوء وآدابه فرقها محمد رحمه الله تعالى في الكتاب فنذكر كل
فصل في موضعه إن شاء الله تعالى تحرزا عن التطويل
(كيفية الدخول في الصلاة)
قال (إذا أراد الرجل الدخول في الصلاة كبر ورفع يديه حذاء أذنيه) وظن بعض أصحابنا
رحمهم الله أنه لم يذكر النية وليس كما ظنوا فان إرادة الدخول في الصلاة هي النية والنية
لا بد منها لقوله عليه الصلاة والسلام ان الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن
ينظر إلى قلوبكم وقال عليه الصلاة والسلام الأعمال بالنيات والنية معرفة بالقلب أي صلاة
يصلى وحكى عن الشافعي رحمه الله أنه قال مع هذا في الفرائض يحتاج إلى نية الفرض
وهذا بعيد فإنه إذا نوى الظهر فقد نوى الفرض فالظهر لا يكون الا فرضا فإن كان منفردا
أو إماما فحاجته إلى نية ماهية الصلاة. وإن كان مقتديا احتاج مع ذلك إلى نية الاقتداء
وان نوى صلاة الامام جاز عنهما. وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله يحتاج إلى نية
الكعبة أيضا. والصحيح أن استقباله إلى جهة الكعبة يغنيه عن نيتها. والأفضل أن تكون نيته مقارنة
للتكبير فان نوى قبله حين توضأ ولم يشتغل بعده بعمل بقطع نيته جاز عندنا وهو محفوظ عن أبي
يوسف ومحمد جميعا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله قال الحاجة إلى النية ليكون عمله
عن عزيمة واخلاص وذلك عند الشروع فيها ونحن هكذا نقول ولكن يجوز تقديم النية
ويجعل ما قدم من النية إذا لم يقطعه بعمل كالقائم عند الشروع حكما كما في الصوم
. وكان محمد بن سليمان البلخي يقول إذا كان عند الشروع بحيث لو سئل أي صلاة يصلى
أمكنه أن يجيب على البديهة من غير تفكر فهو نية كاملة تامة والتكلم بالنية لا معتبر به فان
10

فعله ليجتمع عزيمة قلبه فهو حسن * وأما التكبير فلا بد منه للشروع في الصلاة الا على
قول أبى بكر الأصم وإسماعيل بن علية فإنهما يقولان يصير شارعا بمجرد النية. والأذكار
عندهما كالتكبير والقراءة (1) ونية الصلاة ليست من الواجبات قالا لان مبنى الصلاة على
الأفعال لا على الأذكار ألا ترى أن العاجز عن الأذكار القادر على الأفعال يلزمه الصلاة
بخلاف العاجز عن الأفعال القادر على الأذكار * ولنا قوله تعالى وذكر اسم ربه فصلى
أي ذكر اسم الله عند افتتاح الصلاة وظاهر قوله تعالى وأقم الصلاة لذكرى يبين أن
المقصود ذكر الله تعالى على وجه التعظيم فيبعد أن يقال ما هو المقصود لا يكون واجبا
وهذا المعنى فان الصلاة تعظيم بجميع الأعضاء وأشرف الأعضاء اللسان فلا بد من أن
يتعلق به شئ من أركان الصلاة. وقال عليه الصلاة والسلام وتحريمها التكبير فدل أن بدونه
لا يصير شارعا وتحريمة الصلاة تتناول اللسان ألا ترى أن الكلام مفسد للصلاة ولو لم
يتناوله التحريم لم يكن مفسدا كالنظر بالعين ومبنى الصلاة على الأفعال دون الكف فكل
ما يتناوله التحريم يتعلق به شئ من أركان الصلاة * فأما رفع اليدين عند التكبير فهو سنة
لان النبي عليه الصلاة والسلام علم الاعرابي الصلاة ولم يذكر له رفع اليد لأنه ذكر
الواجبات وواظب على رفع اليد عند التكبير فدل أنه سنة والمروى عن أبي يوسف
رحمه الله أنه ينبغي أن يقرن التكبير برفع اليدين والذي عليه أكثر مشايخنا أنه يرفع
يديه أولا فإذا استقرتا في موضع المحاذاة كبر لان في فعله وقوله معنى النفي والاثبات
فإنه برفع اليد ينفي الكبرياء عن غير الله تعالى وبالتكبير يثبته لله تعالى فيكون النفي مقدما
على الاثبات كما في كلمة الشهادة. ولا يتكلف للتفريق بين الأصابع عند رفع اليد والذي
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر ناشرا أصابعه معناه ناشرا عن طيها بأن لم
يجعله مثنيا بضم الأصابع إلى الكف * والمسنون عندنا أن يرفع يديه حتى يحاذي إبهاماه
شحمتي أذنيه ورؤس أصابعه فروع أذنيه وهو قول أبى موسى الأشعري رضى الله تعالى عنه
وعند الشافعي رحمه الله المسنون أن يرفع يديه إلى منكبيه وهو قول ابن عمر رضى الله
تعالى عنهما واحتج بحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه انه كان في عشرة من أصحابه
فقال الا أخبركم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نعم فقال كان رسول الله

(1) قوله والقراءة الخ لعله لا القراءة ونية الصلاة اه‍ مصححه
11

صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه إلى منكبيه * ولنا حديث وائل بن حجر رضى الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع يديه حذاء أذنيه والمصير إلى هذا
أولى لان فيه اثبات الزيادة. وتأويل حديثهم أنه كان عند العذر في زمن البرد حين كانت
أيديهم تحت ثيابهم. والمعنى ان خلف الامام أعمى وأصم فأمر بالجهر بالتكبير ليسمع الأعمى
وبرفع اليدين ليرى الأصم فيعلم دخوله في الصلاة وهذا المقصود إنما يحصل إذا رفع يديه
إلى أذنيه * وكان طاوس رحمه الله يرفع يديه فوق رأسه ولا نأخذ بهذا لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شخص ببصره إلى السماء ورفع يديه فوق رأسه فقال له
عليه الصلاة والسلام غض بصرك فإنك لن تراه وكف يدك فإنك لن تناله. ولا يطأطئ
رأسه عند التكبير ذكره في كتاب الصلاة للحسن بن زياد رحمه الله وقال فيه التزاوج بين
القدمين في القيام أفضل من أن ينصبهما نصبا. ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك
اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. جاء عن الضحاك رحمه الله في تفسير قوله تعالى فسبح
بحمد ربك حين تقوم انه قول المصلى عند الافتتاح سبحانك اللهم وبحمدك وروى هذا
الذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعلى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم
أنه كأن يقوله عند افتتاح الصلاة ولم يذكر وجل ثناؤك لأنه لم ينقل في المشاهير. وذكر
محمد رحمه الله في كتاب الحج عن أهل المدينة ويقول المصلى أيضا وجل ثناؤك وعن أبي
يوسف في الأمالي قال أحب إلي أن يزيد في الافتتاح وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين
لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم كأن يقول عند افتتاح الصلاة وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا إلى آخره والشافعي رضى الله تعالى عنه يقول بهذا ويزيد عليه أيضا ما رواه
علي رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا
ولا يغفر الذنوب الا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وتب على أنك أنت التواب الرحيم
وفى بعض الروايات اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك
ما استطعت أبوء لك بنعمتك وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ذنوبي انه لا يغفر الذنوب إلا أن
ت واهدني لأحسن الأخلاق انه لا يهدى لأحسنها إلا أنت واصرف عنى سيئها فإنه لا
12

يصرف عنى سيئها الا أنت أنابك ولك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك فتأويل
هذا كله عندنا أنه كان في التهجد بالليل والامر فيه واسع فأما في الفرائض فإنه لا يزيد على
ما اشتهر فيه الأثر. ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه لما روى أن أبا الدرداء
رضى الله تعالى عنه قام ليصلى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن
. والذين نقلوا صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ذكروا تعوذه بعد الافتتاح
قبل القراءة ولان من أراد قراءة القرآن ينبغي له أن يتعوذ لقوله تعالى فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وأصحاب الظواهر أخذوا بظاهر الآية وقالوا نتعوذ بعد
القراءة لان الفاء للتعقيب ولكن هذا ليس بصحيح لأن هذه الفاء عندنا للحال كما يقال
إذا دخلت على السلطان فتأهب أي إذا أردت الدخول عليه فتأهب فكذا معنى الآية
إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ. بيانه في حديث الإفك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
كشف الرداء عن وجهه فقال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ان الذين جاؤوا
بالإفك عصبة منكم الآيات. وبظاهر الآية قال عطاء الاستعاذة تجب عند قراءة القرآن في الصلاة
وغيرها وهو مخالف لاجماع السلف فقد كانوا مجمعين على أنه سنة * وبين القراء
اختلاف في صفة التعوذ فاختيار أبى عمرو وعاصم وابن كثير رحمهم الله أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم زاد حفص من طريق هبيرة أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان
واختيار نافع وابن عامر والكسائي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ان الله هو السميع العليم
واختيار حمزة الزيات أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وهو قول محمد بن سيرين وبكل
ذلك ورد الأثر. وإنما يتعوذ المصلى في نفسه إماما كان أو منفردا لان الجهر بالتعوذ لم ينقل
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان يجهر به لنقل نقلا مستفيضا والذي روى عن
عمر رضى الله تعالى عنه أنه جهر بالتعوذ تأويله أنه كان وقع اتفاقا لا قصدا أو قصد تعليم
السامعين أن المصلى ينبغي أن يتعوذ كما نقل عنه الجهر بثناء الافتتاح. فأما المقتدى فلا
يتعوذ عند محمد رحمه الله لأنه لا يقرأ خلف الامام فلا يتعوذ حتى أن المسبوق إذا قام
لقضاء ما سبق به حينئذ يتعوذ في احدى الروايتين عن محمد. وعن أبي يوسف يتعوذ
المقتدى فان التعوذ عنده بمنزلة الثناء لما يأتي بيانه في باب العيدين. والتعوذ عند افتتاح الصلاة
خاصة الا على قول ابن سيرين رحمه الله فإنه يقول يتعوذ في كل ركعة كما يقرأ وهذا فاسد
13

فان الصلاة واحدة فكما لا يؤتى لها الا بتحريمة واحدة فكذا التعوذ والله أعلم * قال ولا
يرفع يديه في شئ من تكبيرات الصلاة سوى تكبيرة الافتتاح) وقال الشافعي يرفع
يديه عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع ومن الناس من يقول وعند السجود وعند
رفع الرأس منه يرفع اليدين أيضا قالوا قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه
عند كل تكبيرة فمن ادعى النسخ فعليه اثباته * وفي المسألة حكاية فان الأوزاعي لقي أبا
حنيفة رحمهم الله في المسجد الحرام فقال ما بال أهل العراق لا يرفعون أيديهم عند الركوع
وعند رفع الرأس من الركوع وقد حدثني الزهري عن سالم عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهم
ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع فقال
أبو حنيفة رحمه الله تعالى حدثني حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبيره الاحرام ثم لا يعود
فقال الأوزاعي عجبا من أبي حنيفة أحدثه بحديث الزهري عن سالم وهو يحدثني بحديث
حماد عن إبراهيم عن علقمة فرجح حديثه بعلو اسناده فقال أبو حنيفة أما حماد فكان أفقه
من الزهري وأما إبراهيم فكان أفقه من سالم ولولا سبق ابن عمر رضي الله عنه لقلت بأن
علقمة أفقه منه وأما عبد الله فرجح حديثه بفقه رواته وهو المذهب لان الترجيح بفقه الرواة
لا بعلو الاسناد فالشافعي اعتمد حديث ابن عمر رضي الله عنه وقال تكبير الركوع يؤتى به
حالة القيام فليسن رفع اليد عنده كتكبيرة الافتتاح ألا ترى أنه محسوب من تكبيرات العيد
ورفع اليد مسنون في تكبيرات العيد فكذا هذا * ولنا أن الآثار لما اختلفت في فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتحاكم إلى قوله وهو الحديث المشهور ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا ترفع الأيدي الا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة وفى العيدين والقنوت في الوتر وذكر
أربعة في كتاب المناسك وحين رأى بعض الصحابة رضوان الله عليهم يرفعون أيديهم في
بعض أحوال الصلاة كره ذلك فقال مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس
اسكتوا وفى رواية قاروا في الصلاة والمعنى فيه أن هذا التكبيرة يؤتى به في حال الانتقال
فلا يسن رفع اليد عنده كتكبيرة السجود وفقهه ما بينا أن المقصود من رفع اليد اعلام الأصم
الذي خلفه وهذا إنما يحتاج إليه في التكبيرات التي يؤتى بها في حالة الاستواء كالتكبيرات
الزوائد في العيدين وتكبير القنوت ولا حاجة إليه فيما يؤتى به في حالة الانتقال فان الأصم
14

يراه ينحط للركوع فلا حاجة إلى الاستدلال برفع اليد (ثم يفتتح القراءة ويخفى ببسم الله
الرحمن الرحيم) فقد أدخل التسمية في القراءة بهذا اللفظ وهذا إشارة إلى أنها من القرآن
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول لا يأتي المصلى بالتسمية لا سرا ولا جهرا لحديث عائشة
رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين * ولنا
حديث أنس قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر فكانوا
يفتتحون القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم وتأويل حديث عائشة رضي الله عنها انه كان يخفى
التسمية وهو مذهبنا وهو قول علي وابن مسعود * وقال الشافعي رحمه الله يجهر بها الامام
في صلاة الجهر وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وعن عمر فيه روايتان
واحتج بحديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر
بالتسمية ولما صلى معاوية بالمدينة ولم يجهر بالتسمية أنكروا عليه وقالوا أسرقت من الصلاة
أين التسمية فدل أن الجهر بها كان معروفا عندهم * ولنا حديث عبد الله بن المغفل رضى الله
تعالى عنه انه سمع ابنه يجهر بالتسمية في الصلاة فنهاه عن ذلك فقال يا بني إياك والحدث
في الاسلام فانى صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فكانوا لا يجهرون بالتسمية وهكذا روى عن أنس رضى الله تعالى عنه. والمسألة
في الحقيقة تنبنى على أن التسمية ليست بآية من أول الفاتحة ولا من أوائل السور عندنا
وهو قول الحسن رحمه الله فإنه كان يعد إياك نعبد وإياك نستعين آية * وقال الشافعي رحمه
الله التسمية آية من أول الفاتحة قولا واحدا وله في أوائل السور قولان * وكان ابن
المبارك يقول التسمية آية من أول كل سورة حتى قال من ختم القرآن وترك التسمية فكأنما
ترك مائة وثلاث عشرة آية أو مائة وأربع عشرة آية والشافعي رحمه الله ربما احتج بحديث
أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة فقال بسم الله الرحمن
الرحيم وعدها آية ثم قال الحمد لله رب العالمين وعدها اية ولأنها مكتوبة في المصاحف بقلم
الوحي لمبدأ الفاتحة وكل سورة وقد أمرنا بتجريد القرآن في المصاحف من النقط
والتعاشير ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات ولا تكون سبع آيات الا بالتسمية وقول من
يقول إياك نعبد آية وإياك نستعين آية ضعيف تشهد المقاطع بخلافه * ولنا حديث أبي
هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني
15

وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدني عبدي وإذا
قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى أثنى
على عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي نصفين
ولعبدي ما سأل فالبداءة بقوله الحمد لله رب العالمين دليل على أن التسمية ليست باية من
أول الفاتحة إذ لو كانت آية من أول الفاتحة لم تتحقق المناصفة فإنه يكون في النصف الأول
أربع آيات الا نصفا وقد نص على المناصفة والسلف اتفقوا على أن سورة الكوثر ثلاث
آيات وهي ثلاث آيات بدون التسمية ولان أدنى درجات اختلاف الاخبار والعلماء إيراث
الشبهة والقرآن لا يثبت مع الشبهة فان طريقه طريق اليقين والإحاطة (وعن) معلى قال قلت
لمحمد التسمية آية من القرآن أم لا قال ما بين الدفتين كله قرآن قلت فلم لم تجهر فلم يجبني
فهذا عن محمد بيان أنها آية أنزلت للفصل بين السور لامن أوائل السور ولهذا كتبت
بخط على حدة وهو اختيار أبى بكر الرازي رحمه الله حتى قال محمد رحمه الله يكره للحائض
والجنب قراءة التسمية على وجه قراءة القرآن لان من ضرورة كونها قرآنا حرمة قراءتها
على الحائض والجنب وليس من ضرورة كونها قرآنا الجهر بها كالفاتحة في الاخرتين ودليل
هذا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعثمان لم لم تكتب التسمية بين التوبة والأنفال
قال لان التوبة من آخر ما نزل فرسول الله صلى الله عليه وسلم توفى ولم يبين لنا شأنها فرأيت
أوائلها يشبه أواخر الأنفال فألحقتها بها فهذا بيان منهما انها كتبت للفصل بين السور * وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أن المصلى يسمى في أول صلاته ثم لا يعيد لأنها
لافتتاح القراءة كالتعوذ (وروى) المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يؤتى
بها في أول كل ركعة وهو قول أبى يوسف رحمه الله وهو أقرب إلي الاحتياط لاختلاف
العلماء والآثار في كونها آية من الفاتحة (وروى) ابن أبي رجاء عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال
إذا كان يخفى القراءة يأتي بالتسمية بين السورة والفاتحة لأنه أقرب إلى متابعة المصحف وإذا
كان يجهر لا يأتي بها بين السورة والفاتحة لأنه لو فعل لأخفى بها فيكون ذلك سكتة له في
وسط القراءة ولم ينقل ذلك مأثورا * ثم قال (ويجهر الامام في صلاة الجهر ويخافت في صلاة
المخافتة) وهي الظهر والعصر وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول لا قراءة في هاتين الصلاتين
لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام صلاة النهار عجماء أي ليس فيها قراءة والدليل على فساد
16

هذا القول قوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة الا بقراءة. وقيل لخباب بن الأرت
رضى الله تعالى عنه بم عرفتم قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والعصر قال
باضطراب لحيته وقال قتادة رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعنا الآية
والآيتين في صلاة الظهر أحيانا (وقال) أبو سعيد الخدري رضي الله عنه سجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر فظننا أنه قرأ ألم تنزيل السجدة وقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم في الابتداء يجهر بالقرآن في الصلاة كلها وكان المشركون يؤذونه ويسبون من
أنزل ومن أنزل عليه فأنزل الله تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا
فكان يخافت بعد ذلك في صلاة الظهر والعصر لأنهم كانوا مستعدين للأذى في هذين
الوقتين ويجهر في صلاة المغرب لأنهم كانوا مشغولين بالأكل وفى صلاة العشاء والفجر لأنهم
كانوا نياما ولهذا جهر في الجمعة والعيدين لأنه أقامها بالمدينة وما كان للكفار بها قوة الأذى.
وقد صح رجوع ابن عباس رضي الله عنه عن هذا القول فان رجلا سأله أأقرأ خلف امامي
فقال أما في الظهر والعصر فنعم وتأويل قوله عجماء أي ليس فيها قراءة مسموعة ونحن نقول
به * وحد القراءة في هاتين الصلاتين أن يصحح الحروف بلسانه على وجه يسمع من نفسه
أو يسمع منه من قرب أذنه من فيه فأما ما دون ذلك فيكون تفكرا ومجمجة لا قراءة فإن كان
وحده يخافت في هاتين الصلاتين كالامام فاما في صلاة الجهر فيتخير فإن شاء خافت لان
الجهر لاسماع من خلفه وليس خلفه أحد وان شاء جهر وهو أفضل لأنه يكون مؤديا صلاته
على هيئة الصلاة بالجماعة والمنفرد مندوب إلى هذا وكذلك في التهجد بالليل ان شاء خافت وان
شاء جهر وهو أفضل لما روى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم في تهجده
كان يؤنس اليقظان ولا يوقظ الوسنان. ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وهو يتهجد
ويخفي بالقراءة وبعمر وهو يجهر بالقراءة وببلال وهو ينتقل من سورة إلى سورة فلما أصبحوا
سأل كل واحد منهم عن حاله فقال أبو بكر رضي الله عنه كنت أسمع من أناجيه وقال عمر
رضي الله عنه كنت أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان وقال بلال رضي الله عنه كنت أنتقل من
بستان إلى بستان فقال لأبي بكر ارفع من صوتك قليلا ولعمر اخفض من صوتك قليلا ولبلال
إذا ابتدأت سورة فأتمها وكان ابن ليلى رحمه الله يقول يتخير الامام في التسمية بين الجهر والمخافتة
وهذا مذهبه في كل ما اختلف فيه الأثر كرفع اليد عند الركوع وتكبيرات العيد ونحوها
17

يستدل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استجمر فليوتر من فعل هذا فقد أحسن
ومن لا فلا حرج وهذا ضعيف فان آخر الفعلين يكون ناسخا لأولهما والقول بالتخيير بين الناسخ
والمنسوخ عملا لا يجوز * قال (والقراءة في الركعتين الأوليين يقرأ في كل ركعة بفاتحة
الكتاب وسورة وفى الأخيرتين بفاتحة الكتاب) وان تركها جاز والمذهب عندنا ان فرض
القراءة في الركعتين من كل صلاة. وكان الحسن البصري يقول في ركعة واحدة وكان
مالك يقول في ثلاث ركعات والشافعي رضى الله تعالى عنه يقول في كل ركعة واستدل الحسن
البصري بقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة الا بقراءة وهذا يقتضى فرضية القراءة
لا تكرارها فان الكل صلاة واحدة وهذا ضعيف فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم
الاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة في شئ من الصلوات ولو جاز ذلك لفعله مرة تعليما للجواز
وقد سمى الله تعالى الفاتحة مثاني لأنها تثنى في كل صلاة أي تقرأ مرتين والشافعي رضي الله عنه
احتج فقال أجمعنا على فرضية القراءة في كل ركعة من التطوع والفرض أقوى من التطوع
فثبتت الفرضية في كل ركعة من الفرض بطريق الأولى ولان كل ركعة تشتمل على
أركان الصلاة وسائر الأركان كالقيام والركوع والسجود فرض في كل ركعة فكذلك ركن
القراءة وهكذا قال مالك رحمه الله إلا أنه قال أقيم القراءة في أكثر الركعات مقامها في
الجميع تيسيرا * ولنا اجماع الصحابة فان أبا بكر كان يقرأ في الركعتين الأخيرتين زمن النبي
صلى الله عليه وسلم على جهة الثناء * وروى أنه قرأ في الأخيرتين آمن الرسول على جهة الثناء
وعمر رضى الله تعالى عنه ترك القراءة في ركعة من صلاة المغرب فقضاها في الركعة الثالثة
وجهر. وعثمان رضى الله تعالى عنه ترك القراءة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في
الأخيرتين وجهر. وعن علي وابن مسعود رضي الله عنهما انهما كانا في الأخيرتين يسبحان
وسأل رجل عائشة رضى الله تعالى عنها عن قراءة الفاتحة في الأخيرتين فقالت أقرأ ليكون على
جهة الثناء وكفى باجماعهم حجة * قال (ثم القراءة في الأخيرتين ذكر يخافت بها في كل حال)
فلا تكون ركنا كثناء الافتتاح وتأثيره أن مبنى الأركان على الشهرة والظهور ولو كانت
القراءة في الأخيرتين ركنا لما خالف الأوليين في الصفة كسائر الأركان وكل شفع من
التطوع صلاة على حدة بخلاف الفرض حتى أن فساد الشفع الثاني في التطوع لا يوجب
فساد الشفع الأول * وروي الحسن عن أبي حنيفة أن الأفضل له أن يقرأ الفاتحة في
18

الأخيرتين وان ترك ذلك عامدا كان مسيئا وإن كان ساهيا فعليه سجود السهو * وروى
أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يتخير بين قراءة الفاتحة والتسبيح والسكوت ولا
يلزمه سجود السهو بترك القراءة فيهما ساهيا وهو الأصح فسجود السهو يجب بترك
الواجبات أو السنن المضافة إلى جميع الصلاة. ووجه رواية الحسن أنه إذا سكت قائما كان
سامدا متحيرا وتفسير السامد المعرض عن القراءة فقد كره ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأصحابه فقال مالي أراكم سامدين * قال (ثم قراءة الفاتحة لا تتعين ركنا في
الصلاة عندنا) وقال الشافعي رحمه الله تعالى تتعين حتى لو ترك حرفا منها في ركعة لا تجوز
صلاته واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وبمواظبة النبي صلى
الله عليه وسلم على قراءتها في كل ركعة * ولنا قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القرآن فتعيين
الفاتحة يكون زيادة على هذا النص وهو يعدل النسخ عندنا فلا يثبت بخبر الواحد ثم
المقصود التعظيم باللسان وذلك لا يختلف بقراءة الفاتحة وغيرها * والحاصل أن الركنية
لا تثبت الا بدليل مقطوع به وخبر الواحد موجب للعمل دون العلم فتعين الفاتحة بخبر
الواحد واجبا حتى يكره له ترك قراءتها وتثبت الركنية بالنص وهو الآية. ولا يفترض
عليه قراءة السورة مع الفاتحة في الأوليين الا على قول مالك رحمه الله تعالى يستدل بقوله عليه
الصلاة والسلام لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وسورة معها أو قال وشئ معها ونحن نوجب
العمل بهذا الخبر حتى لا نأذن له بالاكتفاء بالفاتحة في الأوليين ولكن لا نثبت الركنية
به للأصل الذي قلنا * قال (وإذا أراد أن يركع كبر) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يكبر حين يهوى إلى الركوع ومن الناس من يقول لا يكبر عند الركوع ولا عند
السجود وهو قول ابن عمر وأصحابه ويروون عن عثمان رضى الله تعالى عنه أنه كأن لا يتم
التكبير فأما عمر وعلي وابن مسعود رضوان الله عليهم فكانوا يكبرون عند الركوع
والسجود حتى روى أن عليا رضي الله عنه صلى بأصحابه يوما فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه
وقال ذكرني هذا الفتى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل
خفض ورفع أو قال عند كل خفض ورفع. وتأويل حديث عثمان رضي الله عنه كأن لا يتم
التكبير أي جهرا أي يخافت بآخر التكبير كما هو عادة بعض الأئمة * قال (ووضع يديه
على ركبتيه) وهو قول عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وكان ابن مسعود رضى الله
19

تعالى عنه وأصحابه يقولون بالتطبيق * وصورته أن يضم احدى الكفين إلى الأخرى ويرسلهما
بين فخذيه. ورأي سعد بن أبي وقاص رضى الله تعالى عنه ابنا له يطبق فنهاه فقال رأيت
عبد الله بن مسعود يفعل هكذا فقال رحم الله ابن أم عبد كنا أمرنا بهذا ثم نهينا عنه * وفى
حديث الاعرابي حين علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال ثم اركع وضع يديك على
ركبتيك. وهكذا في حديث أنس رضي الله عنه * قال (وفرج بين أصابعه) ولا يندب إلى
التفريق بين الأصابع في شئ من أحوال الصلاة الا هذا ليكون أمكن من الاخذ بالركبة
فان عمر رضى الله تعالى عنه قال يا معشر الناس أمرنا بالركب فخذوا بالركب * قال (وبسط
ظهره) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وعائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا ركع بسط ظهره حتى لو وضع على ظهره قدح من ماء لاستقر * قال (ولا ينكس
رأسه ولا يرفعه) ومعناه يسوى رأسه بعجزه. لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن
يذبخ المصلى تذبخ الحمار يعنى إذا شم البول أو أراد أن يتمرغ * قال (وإذا اطمأن راكعا رفع
رأسه) والطمأنينة مذكورة في حديث الاعرابي قال ثم اركع حتى يطمئن كل عضو منك.
وكذلك قال في السجود وعند رفع الرأس وهكذا في حديث أنس رضى الله تعالى عنه حين
علمه الصلاة قال ثم اركع حتى يستقر كل عضو منك ثم قال في آخر الحديث فإنها من سنتي
ومن تبع سنتي فقد تبعني ومن تبعني كان معي في الجنة ثم (يقول سمع الله لمن حمده ويقول
من خلفه ربنا لك الحمد) ولم يقلها الامام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويقولها في قول
أبى يوسف ومحمد رحمهما الله. لحديث عائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد. وعن علي
رضي الله عنه قال ثلاث يخفيهن الامام وقال ابن مسعود رضي الله عنه أربع يخفيهن الامام
وفي جملته ربنا لك الحمد ولأنا لا نجد شيئا من أذكار الصلاة يأتي به المقتدى دون الامام
فقد يختص الامام ببعض الأذكار كالقراءة * ولأبي حنفية رحمه الله قول النبي صلى الله
عليه وسلم وإذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد فقسم هذين الذكرين
بين الامام والمقتدى ومطلق القسمة يقتضى أن لا يشارك كل واحد منهما صاحبه في قسمه
ولان المقتدى يقول ربنا لك الحمد عند قول الإمام سمع الله لمن حمده فلو قال الامام ذلك
لكانت مقالته بعد مقالة المقتدى وهذا خلاف موضوع الإمامة * وتأويل الحديث المرفوع
20

في التهجد حالة الانفراد وبه نقول فأما المنفرد على قولهما فيجمع بين الذكرين وعن أبي حنيفة
فيه روايتان في رواية الحسن هكذا وفي رواية أبى يوسف قال يقول ربنا لك
الحمد ولا يقول سمع الله لمن حمده وهو الأصح لأنه حث لمن خلفه على التحميد وليس
خلفه أحد. وعلى قول الشافعي رضى الله تعالى عنه كل مصل يجمع بين الذكرين وهذا بعيد
فان الامام يحث من خلفه على التحميد فلا معنى لمقابلة القوم إياه بالحث بل ينبغي أن
يشتغلوا بالتحميد والشافعي رضى الله تعالى عنه يزيد على هذا ما نقل في حديث على رضى
الله تعالى عنه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد
أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد الخ. وتأويله عندنا في التهجد * قال (ثم يكبر ويسجد فإذا
اطمأن ساجدا رفع رأسه وكبر فإذا اطمأن قاعدا سجد أخرى وكبر) وقد بينا أو تكلموا
أن السجود لماذا كان في كل ركعة مثنى والركوع واحد فمذهب الفقهاء أن هذا تعبدي
لا يطلب فيه المعنى كاعداد الركعات. وقيل إنما كان السجود مثنى ترغيما للشيطان فإنه
أمر بسجدة فلم يفعل فنحن نسجد مرتين ترغيما له واليه أشار صلى الله عليه وسلم في سجود
السهو فقال هما ترغيمتان للشيطان. وقيل إنه في السجدة الأولى يشير إلى أنه خلق من
الأرض وفى الثانية يشير إلى أنه يعاد إليها. قال الله تعالى منها خلقناكم وفيها نعيدكم الآية
(ويقول في ركوعه سبحان ربى العظيم ثلاثا وفى سجوده سبحان ربى الأعلى ثلاثا وذلك
أدناه) لحديث عقبة بن عامر الجهني رضى الله تعالى عنه قال لما نزل قوله تعالى فسبح باسم
ربك العظيم قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم ولما نزل قوله تعالى سبح اسم ربك
الأعلى قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم قال عقبة وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول في ركوعه سبحان ربى العظيم ثلاثا وفي سجود سبحان ربى الأعلى ثلاثا
وروى ابن مسعود رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال في
ركوعه سبحان ربى العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه ومن قال في سجوده سبحان ربى
الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه ولم يرد بهذا اللفظ أدنى الجواز وإنما أراد به أدنى
الكمال فان الركوع والسجود يجوزان بدون هذا الذكر الأعلى قول ابن أبي مطيع البلخي فإنه
كأن يقول كل فعل هو ركن يستدعى ذكرا فيه يكون ركنا كالقيام ولكنا نقول لو شرع
في الركوع ذكر هو ركن لكان من القرآن فان الركوع مشبه بالقيام وحين علم رسول الله
21

صلى الله عليه وسلم الاعرابي الصلاة لم يذكر له في الركوع والسجود شيئا من الأذكار
وقد بين له الأركان. ولو زاد على الثلاث كان أفضل إلا أنه إذا كان اماما لا ينبغي له أن يطول
على وجه يمل القوم لأنه يصير سببا للتنفير وذلك مكروه فان معاذا لما طوع القراءة قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتان أنت يا معاذ. وكان الثوري رحمه الله يقول ينبغي أن
يقولها الامام خمسا ليتمكن المقتدى من أن يقولها ثلاثا والشافعي رحمه الله تعالى يقول
بهذا ويزيد في الركوع ما روى عن علي رضى الله تعالى عنه اللهم لك ركعت ولك خشعت ولك
أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وفى السجود سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق
سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين وهذا محمول عندنا على التهجد بالليل
ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه لحديث وائل بن حجر رضى الله تعالى عنه قال كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه حذاء أذنيه ولان آخر الركعة معتبر بأولها
فكما يجعل رأسه بين يديه في أول الركعة عند التكبير فكذلك في آخرها والذي روى
عن أبي حميد الساعدي رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع
يديه حذو منكبيه محمول على حالة العذر للكبر أو المرض ويوجه أصابعه نحو القبلة * لحديث
عائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع أصابعه تجاه
القبلة وفى حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد
العبد سجد كل عضو معه فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع ويعتمد على راحتيه
* لحديث وائل بن حجر فإنه قال لأصحابه ألا أصف لكم سجود رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا نعم فسجد وادعم على راحتيه ورفع عجيزته ثم قال هكذا كان يسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ويبدي ضبعيه) للحديث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم كان
إذا سجد أبدى ضبعيه أو أبد ضبعيه والابداء والتبديد كل واحد منهما لغة وقالت عائشة
رضى الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه
حتى يرى بياض إبطيه وفى رواية حتى يرثى له أن يرحم من جهده وفى حديث جابر رضى
الله تعالى عنه حتى لو أن بهيمة أرادت أن تمر لمرت (ولا يفترش ذراعيه لحديث أبي هريرة
رضى الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يفترش المصلى ذراعيه افتراش الكلب
أو الثعلب فذكره هذا المثل دليل على شدة الكراهة * وكان مالك يقول في النفل لا بأس
22

بأن يفترش ذراعيه ليكون أيسر عليه ولكن النهي عام يتناول النفل والفرض جميعا وهذا في
حق الرجال فأما المرأة فتحتفز وتنضم وتلصق بطنها بفخذيها وعضديها بجنبيها هكذا عن علي
رضى الله تعالى عنه في بيان السنة في سجود النساء ولان مبني حالها على الستر فما يكون أستر
لها فهو أولى لقوله صلى الله عليه وسلم المرأة عورة مستورة وينهض على صدور قدميه حتى
يستتم قائما في الركعة الثانية عندنا) وقال الشافعي رضي الله عنه الأولى أن يجلس جلسة خفيفة
ثم ينهض. لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع
رأسه من السجود في السجدة الثانية جلس جلسة خفيفة ثم ينهض ولان كل ركعة تشتمل
على جميع أركان الصلاة ومن أركانها القعدة فينبغي أن يكون ختم كل ركعة بقعدة قصيرة
أو طويلة * ولنا حديث وائل بن حجر رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
إذا رفع رأسه من السجود إلى الركعة الثانية نهض على صدور قدميه ولأنه لو كان هاهنا
قعدة لكان الانتقال إليها ومنها بالتكبير ولكان لها ذكر مسنون كما في الثانية والرابعة
وتأويل حديثهم أنه فعل لأجل العذر بسبب الكبر كما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال إني امرؤ قد بدنت فلا تبادروني بركوع ولا سجود ومنهم من يروي بدنت وهو
تصحيف فان البدانة هي الضخامة ولم ينقل في صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم * وفى
قوله نهض على صدور قدميه إشارة إلى أنه لا يعتمد بيديه على الأرض عند قيامه كما لا يعتمد
على جالس بين يديه والمعنى أنه اعتماد من غير حاجة فكان مكروها والذي روى عن ابن
عباس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في صلاته شبه العاجز
تأويله أنه كان عند العذر بسبب الكبر (ويحذف التكبير حذفا ولا يطوله) لحديث
إبراهيم النخعي موقوفا ومرفوعا الأذان جزم والإقامة جزم والتكبير جزم ولان المد في
أوله لحن من حيث الدين لأنه ينقلب استفهاما وفي آخره لحن من حيث اللغة فان أفعل
لا يحتمل المبالغة (ويوجه أصابع رجليه في سجوده نحو القبلة) لما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان إذا سجد فتح أصابعه أي أمالها إلى القبلة ولقوله عليه الصلاة والسلام
فليوجه من أعضائه القبلة ما استطاع * قال (ويعتمد بيمينه على يساره في قيامه في الصلاة)
وأصل الاعتماد سنة الا على قول الأوزاعي فإنه كأن يقول يتخير المصلى بين الاعتماد
والارسال وكأن يقول إنما أمروا بالاعتماد اشفاقا عليهم لأنهم كانوا يطولون القيام
23

فكان ينزل الدم إلى رؤس أصابعهم إذا أرسلوا فقيل لهم لو اعتمدتم لأحرج عليكم
والمذهب عند عامة العلماء أنه سنة واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه
الصلاة والسلام انا معشر الأنبياء أمرنا أن نأخذ شمائلنا بأيماننا في الصلاة وقال على رضى الله
تعالى عنه ان من السنة أن يضع المصلى يمينه على شماله تحت السرة في الصلاة * وأما صفة الوضع
ففي الحديث المرفوع لفظ الاخذ وفى حديث على رضى الله تعالى عنه لفظ الوضع واستحسن
كثير من مشايخنا الجمع بينهما بان يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى ويحلق
بالخنصر والابهام على الرسغ ليكون عاملا بالحديثين * فأما موضع الوضع فالأفضل عندنا تحت
السرة وعند الشافعي رضى الله تعالى عنه الأفضل أن يضع يديه على الصدر لقوله تعالى
فصل لربك وانحر قيل المراد منه وضع اليمين على الشمال على النحر وهو الصدر ولأنه موضع
نور الايمان فحفظه بيده في الصلاة أولى من الإشارة إلى العورة بالوضع تحت السرة وهو أقرب
إلى الخشوع والخشوع زينة الصلاة * ولنا حديث على رضى الله تعالى عنه كما روينا
والسنة إذا أطلقت تنصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الوضع تحت السرة
أبعد عن التشبه بأهل الكتاب وأقرب إلى ستر العورة فكان أولى والمراد من قوله وانحر
نحر الأضحية بعد صلاة العيد ولئن كان المراد بالنحر الصدر فمعناه لتضع بالقرب من النحر
وذلك تحت السرة. ثم قال في ظاهر المذهب الاعتماد سنة القيام * وروى عن محمد رحمه
الله أنه سنة القراءة وإنما يتبين هذا في المصلى بعد التكبير عند محمد رحمه الله يرسل يديه في حالة الثناء
فإذا أخذ في القراءة اعتمد وفى ظاهر الرواية كما فرغ من التكبير يعتمد * قال (وإذا قعد في
الثانية أو الرابعة افترش رجله اليسرى فيجعلها بين أليتيه ويقعد عليها وينصب اليمنى نصبا
ويوجه أصابع رجله اليمنى نحو القبلة) وقال مالك في القعدتين جميعا المسنون أن يقعد متوركا
وذلك بأن يخرج رجليه من جانب ويفضى بأليتيه إلى الأرض لحديث أبي حميد الساعدي
رضى الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في صلاته قعد متوركا * والشافعي
يقول في القعدة الأولى مثل قولنا لأنها لا تطول وهو يحتاج إلى القيام والقعود بهذه الصفة
أقرب إلى الاستعداد للقيام وفى القعدة الثانية يقول مالك رحمه الله لأنها تطول ولا يحتاج إلى القيام
بعدها فينبغي أن يكون مستقرا على الأرض * ولنا حديث عائشة رضى الله تعالى عنها أنها وصفت
قعود رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فذكرت أنه كان إذا قعد افترش رجله اليسرى
24

ويقعد عليها وينصب اليمنى نصبا وما روى بخلافه فهو محمول على حالة العذر للكبر ولان
القعود على الوجه الذي بينا أشق على البدن (وسئل) رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
أفضل الأعمال فقال أحمزها أي أشقها على البدن * ويقول الشافعي رضي الله عنه ما كان
متكررا من أفعال الصلاة فالثاني لا يخالف الأول في الصفة كسائر الأفعال فأما المرأة فينبغي
لها أن تقعد متوركة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين تصليان فلما فرغتا
دعاهما وقال اسمعان إذا قعدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض ولان هذا أقرب إلى الستر
في حقهن * قال (ويكون منتهى بصره في صلاته حال القيام موضع سجوده) لحديث
أبى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى سما ببصره نحو السماء فلما نزل قوله
تعالى وقوموا لله قانتين رمى ببصره إلى موضع سجوده. ولما نزل قوله تعالى قد أفلح
المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون قال أبو طلحة رضي الله عنه ما الخشوع يا رسول
الله قال أن يكون منتهى بصر المصلى حال القيام موضع سجوده ثم فسر الطحاوي في كتابه
فقال في حالة القيام ينبغي أن يكون منتهى بصره موضع سجوده وفي الركوع على ظهر قدميه
وفي السجود على أرنبة أنفه وفى القعود على حجره زاد بعضهم وعند التسليمة الأولى على
منكبه الأيمن وعند التسليمة الثانية على منكبه الأيسر. فالحاصل أن يترك التكلف في
النظر فيكون منتهى بصره ما بينا * قال (ولا يلتفت في الصلاة) لقوله صلى الله عليه وسلم
لو علم المصلى من يناجي ما التفت ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في
الصلاة قال تلك خلسة يختلسها الشيطان من صلاة أحدكم. وحد الالتفات المكروه أن يلوى
عنقه ووجهه على وجه يخرج وجهه من أن يكون إلى جهة الكعبة فأما إذا نظر بمؤخر عينيه
يمنة أو يسرة من غير أن يلوى عنقه فلا يكون مكروها لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يلاحظ أصحابه في صلاته بمؤخر عينيه (ولا يعبث في الصلاة بشئ من جسده
وثيابه) لحديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال إن الله تعالى كره لكم ثلاثا الرفث في
الصوم والعبث في الصلاة والضحك في المقابر ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا
يصلى وهو يعبث بلحيته قال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه فجعل فعله دليل نفاقه
* قال الطحاوي تأويله أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف بطريق الوحي أن الرجل
منافق مستهزئ فأما أن يكون هذا الفعل من علامات النفاق فلا لان المصلي قلما ينجو منه
25

ألا ترى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطيق ذلك قال ليكن في الفريضة إذا
فالحاصل أن كل عمل هو مفيد للمصلي فلا بأس أن يأتي به أصله ما روى عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه عرق ليلة في صلاته فسلت العرق عن جبينه لأنه يؤذيه فكان مفيدا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الصيف إذا قام من السجود نفض ثوبه يمنة
أو يسرة لأنه كان مفيدا حتى لا يبقى صورة فأما ما ليس بمفيد فيكره للمصلي أن يشتغل
به. لقوله صلى الله عليه وسلم ان في الصلاة لشغلا والعبث غير مفيد له شيئا فلا يشتغل
به (ولا يقلب الحصى) لأنه نوع عبث غير مفيد والنهي عن تقليب الحصى يرويه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم جابر وأبو ذر ومعيقيب بن أبي فاطمة وأبو هريرة حتى قال في
بعضها وان تتركها فهو خير لك من مائة ناقة سود الحدقة تكون لك فإن كان الحصى
لا يمكنه من السجود فلا بأس بأن يسويه مرة واحدة وتركه أحب إلي لقوله صلى الله عليه
وسلم لأبي ذر يا أبا ذر مرة أو ذر ولان هذا عمل مفيد له ليتمكن من وضع الجبهة والأنف
على الأرض فلا بأس به بعد أن يكون قليلا لا يزيد على مرة وتركه أقرب إلى الخشوع فهو
أولى قال (ولا يفرقع أصابعه) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الفرقعة في
الصلاة ومر بمولى له وهو يصلى ويفرقع أصابعه فقال أتفرقع أصابعك وأنت تصلى لا أم لك.
وكان عليه الصلاة والسلام ينهي المنتظر للصلاة أن يفرقع أصابعه في تلك الحالة ففي الصلاة
أولى وهو نوع عبث غير مفيد * قال (ولا يضع يديه على خاصرته) لما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن التخصر في الصلاة * وقيل إنه استراحة أهل النار ولا
راحة لهم وان الشيطان أهبط متخصرا ولأنه فعل المصاب وحال الصلاة حال يناجي فيه العبد
ربه تعالى فهو حال الافتخار لا حال إظهار المصيبة ولأنه فعل أهل الكتاب وقد نهينا عن
التشبه بهم * قال (ولا يقعى اقعاء) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعى المصلى
اقعاء الكلب. وفى تفسير الاقعاء وجهان * أحدهما أن ينصب قدميه كما يفعله في السجود
ويضع أليتيه على عقبيه وهو معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عقب الشيطان * الثاني
أن يضع أليتيه على الأرض وينصب ركبتيه نصبا وهذا أصح لان اقعاء الكلب يكون بهذه
الصفة إلا أن اقعاء الكلب يكون في نصب اليدين واقعاء الآدمي يكون في نصب الركبتين
إلى صدره * قال (ولا يتربع من غير عذر) لما روى أن عمر رضى الله تعالى عنه رأي ابنه
26

يتربع في الصلاة فنهاه عن ذلك فقال رأيتك تفعله يا أبت فقال إن رجلي لا تحملاني.
ومن مشايخنا من غلل فيه فقال التربع جلوس الجبابرة فلهذا كره في الصلاة وهذا ليس
بقوى فان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتربع في جلوسه في بعض أحواله حتى روى
أنه كان يأكل يوما متربعا فنزل عليه الوحي كل كما تأكل العبيد وهو كان منزها عن أخلاق
الجبابرة وكذلك عامة جلوس عمر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان متربعا ولكن العبارة الصحيحة أن يقال الجلوس على الركبتين أقرب إلى التواضع من
التربع فهو أولى في حال الصلاة الا عند العذر * قال (لو مسح جبهته من التراب قبل أن يفرغ
من صلاته لا بأس به) لأنه عمل مفيد فان التصاق التراب بجبهته نوع مثلة فربما كان الحشيش
الملتصق بجبهته يؤذيه فلا بأس به ولو مسح بعد ما رفع رأسه من السجدة الأخيرة لا خلاف
في أنه لا بأس به فأما قبل ذلك فلا بأس به في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف قال أحب إلى
أن يدعه لأنه يتترب ثانيا وثالثا فلا يكون مفيدا ولو مسح لكل مرة كان عملا كثيرا
ومن مشايخنا من كره ذلك قبل الفراغ من الصلاة وجعلوا القول قول محمد رحمه الله في
الكتاب لا مفصولا عن قوله أكرهه فإنه قال في الكتاب قلت لو مسح جبهته قبل أن
يفرغ من صلاته قال لا أكرهه يعنى لا تفعل فاني أكرهه لحديث ابن مسعود رضى الله
تعالى عنه أربع من الجفاء أن تبول قائما وأن تسمع النداء فلم تجبه وأن تنفخ في صلاتك
وأن تمسح جبهتك في صلاتك * وتأويله. عند من لا يكرهه من أصحابنا المسح
باليدين كما يفعله الداعي إذا فرغ من الدعاء في غير الصلاة * قال (والتشهد أن يقول التحيات لله
والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) وهو تشهد ابن مسعود رضى الله تعالى عنه
والمختار عند الشافعي رضى الله تعالى عنه تشهد ابن عباس رضى الله تعالى عنه * وصفته
أن يقول التحيات المباركات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وهو يقول بأن ابن عباس
رضى الله تعالى عنه كان من فتيان الصحابة رضوان الله عليهم فإنما يختارون ما استقر عليه
الامر آخرا فأما ابن مسعود فهو من الشيوخ ينقل ما كان في الابتداء كما نقل التطبيق
وغيره ولان تشهد ابن عباس رضى الله تعالى عنه أقرب إلى موافقة القرآن قال الله تعالى تحية
27

من عند الله مباركة طيبة والسلام بغير الألف واللام أكثر في القرآن قال الله تعالى سلام
عليكم طبتم سلام عليكم بما صبرتم * ومالك رحمه الله يأخذ بتشهد عمر رضى الله تعالى عنه
* وصورته التحيات الناميات الزاكيات المباركات الطيبات لله وقال إن عمر رضى الله تعالى
عنه علم الناس التشهد بهذه الصفة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الناس من
اختار تشهد أبى موسى الأشعري رضى الله تعالى عنه * وهو أن يقول التحيات لله الطيبات
والصلوات لله والباقي كتشهد ابن مسعود رضى الله تعالى عنه * وفيه حكاية فان أعرابيا
دخل على أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المسجد فقال أبواو أم بواوين فقال بواوين فقال بارك الله
فيك كما بارك في لا ولا ثم ولى فتحير أصحابه وسألوه عن ذلك فقال إن هذا سألني عن التشهد
أبواوين كتشهد ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أم بواو كتشهد أبى موسى قلت بواوين قال
بارك الله فيك كما بارك في شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية وإنما أخذنا بتشهد ابن
مسعود رضى الله تعالى عنه لحسن ضبطه ونقله من رسول الله صلى الله عليه وسلم فان أبا حنيفة
قال أخذ حماد بيدي وقال حماد أخذ إبراهيم بيدي وقال إبراهيم أخذ علقمة بيدي وقال علقمة
أخذ عبد الله بن مسعود بيدي وقال ابن مسعود أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي
وعلمني التشهد كما كان يعلمني السورة من القرآن وكان يأخذ علينا بالواو والألف * وقال
علي بن المديني لم يصح من التشهد الا ما نقله أهل الكوفة عن عبد الله بن مسعود وأهل
البصرة عن أبي موسى. وعن خصيف قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام
فقلت كثر الاختلاف في التشهد فبماذا تأمرني أن آخذ قال بتشهد ابن مسعود رضى الله تعالى
عنه ولان تشهد ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أبلغ في الثناء فان الواوات تجعل كل لفظ ثناء بنفسه (والسلام بالألف واللام ليكون أبلغ منه بغير الألف واللام) وترجيح
الشافعي رحمه الله تعالى بعيد فإنه يؤدى إلى تقديم الاحداث على المهاجرين الأولين وأحد لا يقول
به * وترجيح مالك ليس بقوى أيضا فان أبا بكر رضى الله تعالى عنه علم الناس على منبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم التشهد كما هو تشهد ابن مسعود فدل ان الاخذ به أولى (ويكره أن
يزيد في التشهد شيئا أو يبتدئ قبله بشئ) ومراده ما نقل شاذا في أول التشهد باسم الله وبالله
أو باسم الله خير الأسماء وفى آخره أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون فإنه لم يشتهر نقل هذه الكلمات وابن مسعود يقول وكان يأخذ علينا بالواو
28

والألف فذلك تنصيص على أنه لا تجوز الزيادة عليه بخلاف التطوعات فإنها غير محصورة
بالنص فجوزنا الزيادة عليه ولا يزيد في الفرائض على التشهد في القعدة الأولى عندنا وقال
الشافعي يزيد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واستدل بحديث أم سلمة رضى الله تعالى
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كل ركعتين تشهد وسلام على المرسلين ومن تبعهم
من عباد الله الصالحين * ولنا حديث عائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
كأن لا يزيد على التشهد في القعدة الأولى وروى أنه كان يقعد في القعدة الأولى كأنه
علي الرضف يعنى الحجارة المحماة يحكى الراوي بهذا سرعة قيامه فدل أنه كأن لا يزيد على
التشهد. وتأويل حديث أم سلمة رضى الله تعالى عنها في التطوعات فان كل شفع من التطوع
صلاة على حدة أو مراده سلام التشهد فأما في الرابعة فيدعو بعده ويسأل حاجته ولم
يذكر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأورد الطحاوي في مختصره أن بعد
التشهد يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو حاجته ويستغفر لنفسه وللمؤمنين
والمؤمنات وهو الصحيح فان التشهد ثناء على الله تعالى ويعقبه الصلاة على النبي صلى الله
عليه وسلم كما في التحميد المعهود وهو مروي عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وكان
إبراهيم النخعي يقول يجزى من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله السلام عليك
أيها النبي * ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ليست من جملة الأركان عندنا
وقال الشافعي هي من جملة أركان الصلاة لا تجوز الصلاة الا بها * وفى الصلاة على آله
وجهان واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة لمن لم يصل علي في صلاته ولان الله
تعالى أمرنا بالصلاة عليه ومطلق الامر للإيجاب ولا تجب في غير الصلاة فدل أنها تجب في
الصلاة * ولنا حديث كعب بن عجرة رضى الله تعالى عنه قال يا رسول الله عرفنا السلام عليك
فكيف الصلاة عليك فقال قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد فهو لم يعلمهم حتى
سألوه ولو كان من أركان الصلاة لبينه لهم قبل السؤال وحين علم الاعرابي أركان الصلاة لم يذكر
الصلاة عليه ولأنه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أركان الصلاة كالصلاة على
إبراهيم عليه الصلاة والسلام * وتأويل الحديث نقول أراد به نفى الكمال كقوله لا صلاة لجار
المسجد الا في المسجد وبه نقول والآية تدل على أن الصلاة واجبة عليه في العمر مرة فان
مطلق الامر لا يقتضى التكرار وبه نقول وكان الطحاوي يقول كلما سمع ذكر النبي صلى
29

الله عليه وسلم من غيره أو ذكره بنفسه يجب عليه أن يصلى عليه وهو قول مخالف للاجماع
فعامة العلماء على أن ذلك مستحب وليس بواجب. (ثم يدعو بحاجته) لقوله تعالى فإذا فرغت
فانصب والى ربك فارغب قيل معناه إذا فرغت من الصلاة فانصب للدعاء وارغب إلى الله
تعالى بالإجابة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صلاته يتعوذ بالله من المغرم والمأثم
ومن فتنة المحيا والممات ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود رضي الله عنه التشهد
قال له وإذا قلت هذا فاختر من الدعاء أعجبه وكان ابن مسعود يدعو بكلمات منهن اللهم إني
أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم
أعلم * قال (ثم يسلم تسليمتين إحداهما عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله والأخرى عن يساره
مثل ذلك) لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتحليلها السلام وقد جاء أوان التحليل ومن تحرم
للصلاة فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه وعند التحليل يصير كأنه رجع إليهم
فيسلم والتسليمتان قول جمهور العلماء وكبار الصحابة عمر وعلى وابن مسعود رضي الله عنهم
وكان مالك رحمه الله تعالى يقول يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه وهكذا روت عائشة وسهل
ابن سعد الساعدي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والاخذ برواية كبار
الصحابة أولى فإنهم كانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ليليني منكم أولوا
الأحلام والنهى فأما عائشة رضى الله تعالى عنها فكانت تقف في صف النساء وسهل بن
سعد كان من جملة الصبيان فيحتمل أنهما لم يسمعا التسليمة الثانية على ما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين الثانية أخفض من الأولى (ثم في التسليمة الأولى يحول
وجهه على يمينه وفى الثانية على يساره) لحديث ابن مسعود رضي الله عنه كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يحول وجهه في التسليمة الأولى حتى يري بياض خده الأيمن أو قال الأيسر
يحكى الراوي بهذا شدة التفاته * قال (وينوى بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة
والرجال وبالتسليمة الثانية من عن يساره منهم) لأنه يستقبلهم بوجهه ويخاطبهم بلسانه
فينويهم بقلبه فان الكلام إنما يصير عزيمة بالنية قال عليه الصلاة والسلام ان الله تعالى وراء
لسان كل متكلم فلينظر امرؤ ما يقول وقد ذكر الحفظة هنا وأخر في الجامع الصغير حتى
ظن بعض أصحابنا أن ما ذكر هنا بناء على قول أبي حنيفة الأول في تفضيل الملائكة على
البشر وما ذكر في الجامع الصغير بناء على قوله الآخر في تفضيل البشر على الملائكة وليس
30

كما ظنوا فان الواو لا توجب الترتيب ومن سلم على جماعة لا يمكنه أن يرتب بالنية فيقدم
الرجال على الصبيان ولكن مراده تعميم الفريقين بالنية وأكثر مشايخنا على أنه يخص بهذه
النبية من يشاركه في الصلاة من الرجال والنساء فأما الحاكم الشهيد رحمه الله فكأن يقول ينوى
جميع الرجال والنساء من يشاركه ومن لا يشاركه وهذا عندنا في سلام التشهد قال النبي صلى
الله عليه وسلم إذا قال العبد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصاب كل عبد صالح من
أهل السماء والأرض فأما في سلام التحليل فيخاطب من بحضرته فيخصه بالنية والمقتدى
ينوي كذلك فكان ابن سيرين يقول المقتدى يسلم ثلاث تسليمات إحداهن لرد سلام
الامام وهذا ضعيف فان مقصود الرد حاصل بالتسليمتين إذ لا فرق في الجواب بين أن
يقول عليكم السلام وبين قوله السلام عليكم فإن كان الامام في الجانب الأيمن نواه فيهم وإن كان
في الجانب الأيسر نواه فيهم وإن كان بحذائه نواه في الأولى عند أبي يوسف لأنه لما
استوى الجانبان في حقه ترجح الجانب الأيمن وقال محمد ينويه في التسليمتين لان له حظا
من الجانبين قال (ويكره في الصلاة تغطية الفم) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطى المصلي فاه ولأنه ان غطاه بيده فقد قال كفوا أيديكم في الصلاة
وان غطاه بثوب فقد نهى عن التلثم في الصلاة وفيه تشبه بالمجوس في عبادتهم النار * قال
(ويكره أن يصلى وهو معتجر) لنهي الرسول عليه الصلاة والسلام عن الاعتجار في
الصلاة وتفسيره أن يشد العمامة حول رأسه ويبدى هامته مكشوفا كما يفعله الشطار وقيل إن
يشد بعض العمامة على رأسه وبعضها على بدنه وعن محمد قال لا يكون الاعتجار الا مع
تنقب وهو أن يلف بعض العمامة على رأسه وطرفا منه يجعله شبه المعجر للنساء وهو أن يلفه حول
وجهه * قال (ويكره أن يصلي وهو عاقص) لحديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهي أن يصلي الرجل ورأسه معقوص وان الحسن بن علي رضي الله عنهما كان
يصلى وهو عاقص شعره فقام أبو هريرة رضي الله عنه إلى جنبه فحله فنظر إليه شبه المغضب
فقال أقبل على صلاتك يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فان رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان ينهانا عن هذا والعقص في اللغة الاحكام في الشد حتى قيل في تفسيره أن يجمع شعره
على هامته ويشده بخيط أو بخرقة أو بصمغ ليتلبد وقيل أن يلف ذوائبه حول رأسه كما يفعله
النساء في بعض أحوالهن * قال (ويضع ركبتيه على الأرض قبل يديه إذا انحط للسجود) وقال
31

ابن سيرين يضع يديه قبل ركبتيه لحديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يديه
قبل ركبتيه * ولنا حديث وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يضع يديه قبل ركبتيه * وروى الأعرج عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن يبرك المصلى بروك الإبل وقال ليضع ركبتيه قبل يديه يعنى أن الإبل
في بروكها تبدأ باليد فينبغي أن يبدأ المصلى بالرجل ولأنه يضع أولا ما كان أقرب إلى
الأرض فيضع ركبتيه ثم يديه ثم وجهه وفي الرفع يرفع أولا ما كان أبعد عن الأرض فيرفع
وجهه ثم يديه ثم ركبتيه * قال (ويخفى الامام التعوذ والتسمية والتشهد وآمين وربنا لك
الحمد) أما التعوذ والتسمية فقد بينا والتشهد كذلك فإنه لم ينقل الجهر بالتشهد عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم والناس توارثوا الاخفاء بالتشهد من لدن رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى يومنا هذا والتوارث كالتواتر * وأما قوله اللهم ربنا لك الحمد فقد طعنوا فيه وقالوا
من مذهب أبي حنيفة أن الامام لا يقولها أصلا فكيف يستقيم جوابه أنه يخفى بها ولكنا
نقول عرف أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن بعض الأئمة لا يأخذون بقوله لحرمة قول علي
وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما ففرع على قولهما أنه يخفى بها إذا كأن يقولهما كما فرع
مسائل المزارعة على قول من يرى جوازها. فأما آمين فالامام يقولها بعد الفراغ من الفاتحة
الا على قول مالك رحمه الله وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله
عليه وسلم إذا قال الامام ولا الضالين فقولوا آمين والقسمة تقتضي أن الامام لا يقولها
* ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمن الامام فأمنوا فان الملائكة تؤمن
فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وفى الحديث الذي رووا زيادة
فإنه قال فقولوا آمين فان الامام يقولها وهذا اللفظ دليل على أن الامام لا يجهر بها وهو قول
علمائنا ومذهب علي وابن مسعود رضى الله تعالى عنهما وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يجهر
بها وهو قول ابن الزبير وأبي هريرة واستدل بحديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا فرغ من الفاتحة في الصلاة قال آمين ومد بها صوته ولكنا نستدل
بحديث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاته آمين
وخفض بها صوته وتأويل حديثهم أنه قال اتفاقا لا قصدا أو كان لتعليم الناس أن الامام يؤمن
كما يؤمن القوم فإنه دعاء فان معناه علي ما قال الحسن اللهم أجب وفي قوله تعالى قد أجيبت
32

دعوتكما ما يدل عليه فان موسى عليه السلام كان يدعو وهارون كان يؤمن والاخفاء في
الدعاء أولى قال الله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال عليه الصلاة والسلام خير الدعاء الخفي
وخير الرزق ما يكفي وفي التأمين لغتان أمين بالقصر وآمين بالمد والمد يدل علي ياء النداء معناه
يا آمين كما يقال في الكلام أزيد يعنى يا زيد وما كان من النفخ غير مسموع فهو تنفس
لابد للحي منه فلا يفسد الصلاة وإن كان مسموعا أفسدها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى ولم يفسدها في قول أبى يوسف إلا أن يريد به التأفيف ثم رجع وقال صلاته تامة
وان أراد به التأفيف واستدل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الكسوف
أف أف ألم تعدني أنك لا تعذبهم وأنا فيهم ولان هذا تنفس وليس بكلام فالكلام ما يجرى
في مخاطبات الناس وله معنى مفهوم ولهذا قال في قوله الأول إذا أراد به التأفيف وهو في
اللغة أفف يؤفف تأفيفا كان قطعا ثم رجع فقال عينه ليس بكلام فلو بطلت صلاته إنما
تبطل بمجرد النية وذلك لا يجوز وقاسه بالتنحنح والعطاس فإنه لا يكون قطعا وان سمع
فيه حروف مهجاة وهو أصوب (ولنا) حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي
عليه الصلاة والسلام مر بمولى له يقال له رباح وهو ينفخ التراب من موضع سجوده فقال
أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلم ولان قوله أف من جنس كلام الناس لأنه
حروف مهجاة وله معنى مفهوم يذكر لمقصود قال الله تعالى ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما
فجعله من القول والقائل يقول
أفا وتفا لمن مودته * ان غبت عنه سويعة زالت
ان مالت الريح هكذا وكذا * مال مع الريح أينما مالت
والكلام مفسد للصلاة بخلاف التنحنح فإنه لاصلاح الحلق ليتمكن به من القراءة والعطاس
مما لا يمكنه الامتناع منه فكان عفوا بخلاف التأفيف فإنه بمنزلة ما لو قال في الصلاة هر ونحوه
وتأويل حديث الكسوف أنه كان في وقت كان الكلام في الصلاة مباحا ثم انتسخ ولا
بأس بأن يصلى الرجل في ثوب واحد متوشحا به لما روى في حديث أم هانئ رضى الله تعالى
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ثمان ركعات في ثوب واحد متوشحا به وسأل
ثوبان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال يا ثوبان أو لكلكم ثوبان
أو قال أو كلكم يجد ثوبين (وصفة) التوشح أو يفعل بالثوب ما يفعله القصار في المقصرة
33

إذا لف الكرباس على نفسه. جاء في الحديث إذا كان ثوبك واسعا فاتشح به وإن كان
ضيقا فاتزر به وإنما يجوز هذا إذا كان الثوب صفيقا يحصل به ستر العورة وإن كان رقيقا
يصف ما تحته لا يحصل به ستر العورة فلا تجوز صلاته وكذلك الصلاة في قميص واحد
(وذكر) ابن شجاع رحمه الله تعالى أنه إن لم يزره ينظر إن كان بحيث يقع بصره على عورته
في الركوع والسجود لا تجوز صلاته وإن كان ملتحقا لا يقع بصره على عورته تجوز
صلاته * والحاصل أنه تكره الصلاة في إزار واحد لحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن
يصلى الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شئ وسأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما
عن الصلاة في ثوب واحد فقال أرأيت لو أرسلتك في حاجة كنت منطلقا في ثوب واحد
فقال لا فقال الله أحق أن تتزين له. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان الصلاة
في إزار واحد فعل أهل الجفاء وفى ثوب واحد متوشحا به أبعد عن الجفاء وفى إزار ورداء
من أخلاق الكرام (ويكره للمصلى أن يرفع ثيابه أو يكفها أو يرفع شعره) لحديث ابن
عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء
وأن لا أكف ثوبا ولا شعرا وقال إذا طول أحدكم شعره فليدعه يسجد معه. قال ابن
مسعود رضي الله عنه له أجر بكل شعرة ثم كفه الثوب والشعر لكيلا يتترب نوع تجبر
ويكره للمصلى ما هو من أخلاق الجبابرة ويسجد على جبهته وأنفه واظب على هذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفيه تمام السجود فان سجد على الجبهة دون الانف جاز عندنا
وعند الشافعي لا يجوز وان سجد على الانف دون الجبهة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله
ويكره ولم يجز عند أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما وهو رواية أسيد بن عمرو عن أبي حنيفة
رحمه الله أما الشافعي استدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال من لم يمس أنفه الأرض في سجوده كما يمس جبهته فلا سجود له والمراد بهذا عندنا
نفى الكمال لا نفى الجواز. واستدل أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما بقول النبي صلى الله
عليه وسلم السجود على الجبهة فريضة وعلى الانف تطوع فإذا ترك ما هو الفرض لا يجزئه
ثم الانف تبع للجبهة في السجود كما أن الاذن تبع للرأس في المسح ولو اكتفى بمسح
الاذن عن مسح الرأس لا يجزئه فهذا مثله. وأبو حنيفة احتج بقول ابن عمر رضي الله عنه
فان زيد بن ركانة كان يصلى وعليه برنس فكان إذا سجد سقط على جبهته فناداه ابن
34

عمر رضي الله عنهما إذا أمسست أنفك الأرض أجزأك ولان المأمور به السجود على الوجه
كما فسر الأعضاء السبعة في الحديث المعروف الوجه واليدان والركبتان والقدمان ووسط
الوجه الانف فبالسجود عليه يكون ممتثلا للامر وهو أحد أطراف الجبهة فان عظم الجبهة
مثلث والسجود على أحد أطرافه كالسجود على الطرف الآخر ولان الانف مسجد حتى
إذا كان بجبهته عذر يلزمه السجود على الانف وما ليس بمسجد لا يصير مسجدا بالعذر في
المسجد كالخد والذقن وإذا ثبت أنه مسجد فبالسجود عليه يحصل امتثال الامر وقال الله
تعالى يخرون للأذقان سجدا والمراد ما يقرب من الذقن والأنف أقرب إلى الذقن من
الجبهة فهو أولى بأن يكون مسجدا والله أعلم.
(باب افتتاح الصلاة)
قال (وإذا انتهى الرجل إلى الامام وقد سبقه بركعتين وهو قاعد يكبر تكبيرة الافتتاح
ليدخل بها في صلاته ثم كبر أخرى ويقعد بها) لأنه التزم متابعة الامام وهو قاعد والانتقال
من القيام إلى القعود يكون بالتكبير * والحاصل أنه يبدأ بما أدرك مع الامام لقوله صلى الله
عليه وسلم إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون عليكم بالسكينة
والوقار ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا * وكان الحكم في الابتداء أن المسبوق يبدأ بقضاء
ما فاته حتى أن معاذا رضي الله عنه جاء يوما وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الصلاة
فتابعه فيما بقي ثم قضى ما فاته فقال عليه الصلاة والسلام ما حملك على ما صنعت يا معاذ فقال
وجدتك على حال فكرهت أن أخالفك عليه فقال عليه الصلاة والسلام سن لكم معاذ سنة حسنة
فاستنوا بها * ثم لا خلاف ان المسبوق يتابع الامام في التشهد ولا يقوم للقضاء حتى يسلم
الامام * وتكلموا أن بعد الفراغ من التشهد ماذا يصنع فكان ابن شجاع رحمه الله يقول يكرر
التشهد وأبو بكر الرازي يقول يسكت لان الدعاء مؤخر إلى آخر الصلاة والأصح أنه
يأتي بالدعاء متابعة للامام لان المصلى إنما لا يشتغل بالدعاء في خلال الصلاة لما فيه من تأخير
الأركان وهذا المعنى لا يوجد هنا لأنه لا يمكنه أن يقوم قبل سلام الامام. ويجوز
افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل والتحميد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وفى قول
أبى يوسف رحمه الله إذا كان يحسن التكبير ويعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير لا يصير
شارعا بغيره وان كأن لا يحسنه أجزأه * وألفاظ التكبير عنده أربعة الله أكبر الله الأكبر
35

الله الكبير الله كبير وعند الشافعي رضى الله تعالى عنه لا يصير شارعا الا بلفظتي الله
أكبر الله الأكبر وعند مالك رحمه الله لا يصير شارعا الا بقوله الله أكبر واستدل بقوله
صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة
ويقول الله أكبر وبهذا احتج الشافعي ولكنه يقول الله الأكبر أبلغ في الثناء بادخال الألف
واللام فيه فهو أولى وأبو يوسف استدل بقوله صلى الله عليه وسلم وتحريمها التكبير فلا بد من
لفظة التكبير وفى العبادات البدنية يعتبر المنصوص عليه ولا يشتغل بالتعليل حتى لا
يقام السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف. والأذان لا ينادى بغير لفظ
التكبير فالتحريم للصلاة أولى وأبو حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله استدلا بحديث مجاهد رضي الله عنه
قال كان الأنبياء صلوات الله عليهم يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله ولان الركن ذكر
الله تعالى على سبيل التعظيم وهو الثابت بالنص قال الله تعالى وذكر اسم ربه فصلى وإذا قال
الله أعظم أو الله أجل فقد وجد ما هو الركن فأما لفظ التكبير وردت به الاخبار فيوجب
العمل به حتى يكره افتتاح الصلاة بغيره لمن يحسنه ولكن الركن ما هو الثابت بالنص. ثم
من قال الرحمن أكبر فقد أتى بالتكبير قال الله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية
والتكبير بمعنى التعظيم قال الله تعالى فلما رأينه أكبرنه أي عظمنه وربك فكبر أي فعظم
والتعظيم حصل بقوله الله أعظم (فاما) الأذان فالمقصود منه الاعلام وبتغيير اللفظ يفوت
ما هو المقصود فان الناس لا يعلمون انه أذان فان قال الله لا يصير شارعا بهذا اللفظ عند
محمد رحمه الله لان تمام التعظيم بذكر الاسم والصفة وعند أبي حنيفة رحمه الله يصير شارعا
لان في هذا الاسم معنى التعظيم فإنه مشتق من التأله وهو التحير وان قال اللهم اغفر لي
لا يصير شارعا لان هذا سؤال والسؤال غير الذكر قال عليه الصلاة والسلام فيما يأثر عن
ربه عز وجل من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين فان قال اللهم
فالبصريون من أهل النحو قالوا الميم بدل عن ياء النداء فهو كقولك يا الله فيصير شارعا عند أبي
حنيفة والكوفيون قالوا الميم بمعنى السؤال أي يا الله آمنا بخير فلا يصير شارعا به ولو كبر
بالفارسية جاز عند أبي حنيفة رحمه الله بناء على أصله أن المقصود هو الذكر وذلك حاصل بكل
لسان ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إلا أن لا يحسن العربية فأبو يوسف
رحمه الله تعالى مر على أصله في مراعاة المنصوص عليه ومحمد فرق فقال للعربية من الفضيلة
36

ما ليس لغيرها من الألسنة فإذا عبر إلى لفظ آخر من العربية جاز وإذا عبر إلى الفارسية
لا يجوز وأصل هذه المسألة إذا قرأ في صلاته بالفارسية جاز عند أبي حنيفة رحمه الله
ويكره وعندهما لا يجوز إذا كان يحسن العربية وإذا كأن لا يحسنها يجوز وعند الشافعي
رضي الله عنه لا تجوز القراءة بالفارسية بحال ولكنه ان كأن لا يحسن العربية وهو أمي يصلى
بغير قراءة وكذلك الخلاف فيما إذا تشهد بالفارسية أو خطب الامام يوم الجمعة بالفارسية
فالشافعي رحمه الله يقول إن الفارسية غير القرآن قال الله تعالى انا جعلناه قرآنا عربيا
وقال الله تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا الآية فالواجب قراءة القرآن فلا يتأدى بغيره بالفارسية
والفارسية من كلام الناس فتفسد الصلاة وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا القرآن معجز
والاعجاز في النظم والمعنى فإذا قدر عليهما فلا يتأدى الواجب الا بهما وإذا عجز عن النظم
أتى بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود يصلى بالايماء وأبو حنيفة رحمه الله استدل
بما روى أن الفرس كتبوا إلى سلمان رضي الله عنه ان يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكانوا
يقرؤن ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية. ثم الواجب عليه قراءة المعجز
والاعجاز في المعنى فان القرآن حجة على الناس كافة وعجز الفرس عن الاتيان بمثله إنما يظهر
بلسانهم والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا محدث واللغات كلها محدثة فعرفنا أنه
لا يجوز أن يقال إنه قرآن بلسان مخصوص كيف وقد قال الله تعالى وانه لفي زبر الأولين
وقد كان بلسانهم. ولو آمن بالفارسية كان مؤمنا وكذلك لو سمي عند الذبح بالفارسية أو
لبى بالفارسية فكذلك إذا كبر وقرأ بالفارسية (وروى الحسن) عن أبي حنيفة رحمهما الله
أنه إذا أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز وان كانوا لا يعلمون ذلك لم يجز لان
المقصود الاعلام ولم يحصل به ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إنما يجوز إذا قرأ بالفارسية إذا
كان يتيقن بأنه معنى العربية فأما إذا صلى بتفسير القرآن لا يجوز لأنه غير مقطوع به إذا
افتتح الصلاة قبل الامام ثم كبر الامام فصلى الرجل بصلاته لا يجزئه لقوله عليه الصلاة
والسلام إنما جعل الامام اماما ليؤتم به فلا تختلفوا عليه والاتمام لا يتحقق إذا لم يكبر
الامام وقد اختلف عليه حين كبر قبله فلا يجزئه إلا أن يجدد التكبير بعد تكبير الامام
بنية الدخول في صلاته وحينئذ يصير قاطعا لما كان فيه شارعا في صلاة الامام والتكبيرة
الواحدة تعمل هذين العملين كمن كان في النافلة فكبر ينوى الفريضة. ومن غير هذا
37

الباب إذا باع بألف ثم جدد بيعا بألفين كان فسخا للأول وانعقاد عقد آخر وأشار في
الكتاب إلى أنه بالتكبير قبل تكبير الامام يصير شارعا في الصلاة لأنه قال تكبيره الثاني
قطع لما كان فيه فقيل تأويله إن لم يكن نوى الاقتداء وقيل إن نوى الاقتداء صار شارعا في
صلاة نفسه وهو قول أبى يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله لا يصير شارعا في الصلاة
بناء على أصل وهو أن الجهة إذا فسدت يبقى أصل الصلاة عند أبي يوسف رحمه الله وعند
محمد لا يبقى وعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان يأتي بيانه في موضعه. ثم الأفضل عند أبي
حنيفة أن يكبر المقتدى مع الامام لأنه شريكه في الصلاة وحقيقة المشاركة في المقارنة
وعندهما الأفضل أن يكبر بعد تكبير الامام لأنه تبع للامام وظاهر قوله عليه الصلاة
والسلام إذا كبر الامام فكبروا يشهد لهذا وكذلك سائر الأفعال. وفى التسليم روايتان
عن أبي حنيفة رحمه الله إحداهما أنه يسلم بعد الامام ليكون تحلله بعد تحلل الامام
والأخرى أنه يسلم مع الامام كسائر الأفعال وإذا سلم الامام ففي الفجر والعصر يقعد في
مكانه ليشتغل بالدعاء لأنه لا تطوع بعدهما ولكنه ينبغي أن يستقبل القوم بوجهه ولا
يجلس كما هو مستقبل القبلة وإن كان خير المجالس ما استقبلت به القبلة للأثر المروى
جلوس الامام في مصلاه بعد الفراغ مستقبل القبلة بدعة وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى
الفجر استقبل أصحابه بوجهه وقال هل رأى أحد منكم رؤيا فيه بشرى بفتح مكة ولأنه
يفتتن الداخل بجلوسه مستقبل القبلة لأنه يظنه في الصلاة فيقتدى به وإنما يستقبلهم بوجهه
إذا لم يكن بحذائه مسبوق يصلى فإن كان فلينحرف يمنة أو يسرة لان استقبال المصلى بوجهه
مكروه لحديث عمر رضى الله تعالى عنه فإنه رأى رجلا يصلي إلى وجه رجل فعلاهما بالدرة
وقال للمصلى أتستقبل الصورة وقال للآخر أتستقبل المصلى بوجهك فأما في صلاة الظهر والعشاء
والمغرب يكره له المكث قاعدا لأنه مندوب إلى التنفل بعد هذه الصلوات والسنن لجبر نقصان
ما يمكن في الفرائض فيشتغل بها وكراهية القعود في مكانه مروى عن عمر وعلي وابن مسعود
وابن عمر رضى الله تعالى عنهم ولا يشتغل بالتطوع في مكان الفريضة للحديث المروي
أيعجر أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر بسبحته أي بنافلته ولأنه يفتتن به الداخل أي يظنه
في الفريضة فيقتدى به ولكنه يتحول إلى مكان آخر للتطوع استكثارا من شهوده فان مكان المصلي
يشهد له يوم القيامة. والأولى أن يتقدم المقتدى ويتأخر الامام ليكون حالهما في التطوع
38

خلاف حالهما في الفريضة فإن كان الامام مع القوم في المسجد فانى أحب لهم أن يقوموا في
الصف إذا قال المؤذن حي على الفلاح فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الامام والقوم جميعا في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وان أخروا التكبير حتى يفرغ المؤذن من الإقامة جاز
وقال أبو يوسف رحمه الله لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة وقال زفر إذا قال المؤذن
مرة قد قامت الصلاة قاموا في الصف وإذا قال ثانيا كبروا وقال لان الإقامة تباين الأذان
بهاتين الكلمتين فتقام الصلاة عندها وأبو يوسف احتج بحديث عمر رضى الله تعالى عنه
فإنه بعد فراغ المؤذن من الإقامة كان يقوم في المحراب ويبعث رجالا يمنة ويسرة ليسووا
الصفوف فإذا نادوا استوت كبر ولأنه لو كبر الامام قبل فراغ المؤذن من الإقامة فات
المؤذن تكبيرة الافتتاح فيؤدى إلى تقليل رغائب الناس في هذه الأمانة. وأبو حنيفة ومحمد
رحمهما الله استدلا بحديث بلال حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم مهما سبقتني
بالتكبير فلا تسبقني بالتأمين فدل على أنه كان يكبر بعد فراغه من الإقامة ولان المؤذن بقوله
قد قامت الصلاة يخبر بأن الصلاة قد أقيمت وهو أمين فإذا لم يكبر كان كاذبا في هذا الاخبار
فينبغي أن يحققوا خبره بفعلهم لتحقق أمانته وهذا إذا كان المؤذن غير الامام فإن كان هو
الامام لم يقوموا حتى يفرغ من الإقامة لأنهم تبع للامام وامامهم الآن قائم للإقامة لا للصلاة
وكذلك بعد فراغه من الإقامة ما لم يدخل المسجد لا يقومون فإذا اختلط بالصفوف قام
كل صف جاوزهم حتى ينتهى إلى المحراب وكذلك إذا لم يكن الامام معهم في المسجد يكره
لهم أن يقوموا في الصف حتى يدخل الامام لقوله عليه الصلاة والسلام لا تقوموا في الصف
حتى تروني خرجت وان عليا رضى الله تعالى عنه دخل المسجد فرأى الناس قياما ينتظرونه
فقال مالي أراكم سامدين أي واقفين متحيرين. ومن تثاءب في الصلاة ينبغي له أن
يغطى فاه لقوله عليه الصلاة والسلام إذا تثاءب أحدكم في صلاته فليغط فاه فان الشيطان
يدخل فيه أو قال فمه ولان ترك تغطية الفم عند التثاؤب في المحادثة مع الناس تعد من
سوء الأدب ففي مناجاة الرب أولى * قال (واكره أن يكون الامام على الدكان والقوم
على الأرض) لان النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن المنبر لصلاة الجمعة فلو لم يكره كون
الامام على الدكان لصلى على المنبر ليكون أشهر وان حذيفة رضى الله تعالى عنه قام على
دكان يصلى لأصحابه فجذبه سلمان حتى أنزله فلما فرغ قال أما علمت أن أصحابك يكرهون
39

ذلك قال فلهذا اتبعتك حين جذبتني (وروى) ان عمار بن ياسر رضى الله تعالى عنه قام
بالمدائن على دكان يصلى بأصحابه فجذبه حذيفة رضى الله تعالى عنه فلما فرغ قال أما سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا قال لقد تذكرت ذلك حين جذبتني، وفى
قيامه على الدكان تشبه باليهود واظهار التكبر على القوم وذلك مكروه فإن كان الامام على
الأرض والقوم على الدكان فذلك مكروه في رواية الأصل لان فيه استخفافا من القوم
لأئمتهم. وفى رواية الطحاوي هذا لا يكره لأنه مخالف لأهل الكتاب وكذلك إن كان
مع الامام بعض القوم لم يكره ولم يبين في الأصل حد ارتفاع الدكان (وذكر) الطحاوي
أنه ما لم يجاوز القامة لا يكره لان القليل من الارتفاع عفو ففي الأرض هبوط وصعود
والكثير ليس بعفو فجعلنا الحد الفاصل أن يجاوز القامة لان القوم حينئذ يحتاجون إلى
التكلف للنظر إلى الامام وربما يشتبه عليهم حاله * قال (ويجوز إمامة الأعمى والأعرابي
والعبد وولد الزنا والفاسق وغيرهم أحب إلي) والأصل فيه أن مكان الإمامة ميراث من
النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أول من تقدم للإمامة فيختار له من يكون أشبه به خلقا وخلقا
ثم هو مكان استنبط منه الخلافة فان النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر أن يصلي
بالناس قالت الصحابة بعد موته انه اختار أبا بكر لامر دينكم فهو المختار لامر دنياكم فإنما
يختار لهذا المكان من هو أعظم في الناس (وتكثير الجماعة مندوب إليه) قال عليه الصلاة
والسلام صلاة الرجل مع اثنين خير من صلاته وحده وصلاته مع الثلاثة خير من صلاته
مع اثنين وكلما كثرت الجماعة فهو عند الله أفضل وفى تقديم المعظم تكثير الجماعة فكان أولى.
إذا ثبت هذا فنقول تقديم الفاسق للإمامة جائز عندنا ويكره وقال مالك رضى الله تعالى
عنه لا تجوز الصلاة خلف الفاسق لأنه لما ظهرت منه الخيانة في الأمور الدينية فلا يؤتمن
في أهم الأمور ألا ترى أن الشرع أسقط شهادته لكونها أمانة (ولنا) حديث مكحول
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال الجهاد مع كل أمير والصلاة خلف كل امام والصلاة
على كل ميت وقال صلى الله عليه وسلم صلوا خلف كل بر وفاجر ولان الصحابة والتابعين
كانوا لا يمتنعون من الاقتداء بالحجاج في صلاة الجمعة وغيرها مع أنه كان أفسق أهل
زمانه حتى قال الحسن رحمه الله تعالى لوجاء كل أمة بخبيثاتها ونحن جئنا بأبي محمد لغلبناهم
وإنما يكره لان في تقديمه تقليل الجماعة وقلما يرغب الناس في الاقتداء به وقال أبو يوسف في
40

الأمالي أكره أن يكون الامام صاحب هوى أو بدعة لان الناس لا يرغبون في الاقتداء به
وإنما جاز إمامة الأعمى لان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة
مرة وعتبان بن مالك مرة وكانا أعميين والبصير أولى لأنه قيل لابن عباس رضي الله تعالى
عنهما بعد ما كف بصره ألا تؤمهم قال كيف أؤمهم وهم يسوونني إلى القبلة ولان الأعمى قد
لا يمكنه أن يصون ثيابه عن النجاسات فالبصير أولى بالإمامة. وأما جواز امامة الاعرابي
فان الله تعالى أثني على بعض الاعراب بقوله ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر
ويتخذ ما ينفق قربات عند الله الآية وغيره أولى لان الجهل عليهم غالب والتقوى فيهم
نادرة وقد ذم الله تعالى بعض الاعراب بقوله تعالى الاعراب أشد كفرا ونفاقا. وأما
العبد فجواز إمامته لحديث أبي سعيد مولى أبى أسيد قال عرست وأنا عبد فدعوت رهطا
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر فحضرت الصلاة فقدموني فصليت
بهم وغيره أولى لان الناس قلما يرغبون في الاقتداء بالعبيد والجهل عليهم غالب لاشتغالهم
بخدمة المولى عن تعلم الاحكام والتقوى فيهم نادرة وكذلك ولد الزنا فإنه لم يكن له أب يفقهه
فالجهل عليه غالب والذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولد الزنا شر الثلاثة فقد
روت عائشة رضى الله تعالى عنها هذا الحديث وقالت كيف يصح هذا وقد قال الله تعالى
ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم المراد شر الثلاثة نسبا أو قاله في ولد زنا بعينه نشأ مرتدا
فأما من كان منهم مؤمنا فالاقتداء به صحيح * قال (ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله
وأعلمهم بالسنة وأفضلهم ورعا وأكبرهم سنا) لحديث ابن مسعود رضى الله تعالى
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا
سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا سواء فأكبرهم سنا
وأفضلهم ورعا وزاد في حديث عائشة رضى الله تعالى عنها فان كانوا سواء فأحسنهم
وجها فبعض مشايخنا اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا من يكون أقرأ لكتاب الله تعالى
يقدم في الإمامة لان النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به وقال النبي صلى الله عليه وسلم
أهل القرآن هم أهل الله وخاصته * والأصح أن الأعلم بالسنة إذا كان يعلم من القرآن
مقدار ما تجوز به الصلاة فهو أولى لان القراءة يحتاج إليها في ركن واحد والعلم
يحتاج إليه في جميع الصلاة والخطأ المفسد للصلاة في القراءة لا يعرف الا بالعلم وإنما قدم
41

الأقرأ في الحديث لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتعلمون القرآن باحكامه على ما روي أن
عمر رضى الله تعالى عنه حفظ سورة البقرة في ثنتي عشرة سنة فالأقرأ منهم يكون أعلم
فأما في زماننا فقد يكون الرجل ماهرا في القرآن ولاحظ له في العلم فالأعلم بالسنة أولى إلا أن
يكون ممن يطعن عليه في دينه فحينئذ لا يقدم لان الناس لا يرغبون في الاقتداء به
(فان استووا في العلم بالسنة فأفضلهم ورعا) لقوله صلى الله عليه وسلم من صلى خلف
عالم تقى فكأنما صلى خلف نبي (وقال) صلى الله عليه وسلم ملاك دينكم الورع * وفى
الحديث يقدم أقدمهم هجرة لأنها كانت فريضة يومئذ ثم انتسخ بقوله صلى الله عليه وسلم
لا هجرة بعد الفتح ولان أقدمهم هجرة يكون أعلمهم بالسنة لأنهم كانوا يهاجرون لتعلم
الاحكام فإن كانوا سواء فأكبرهم سنا لقوله صلى الله عليه وسلم الكبر الكبر ولان
أكبرهم سنا يكون أعظمهم حرمة عادة ورغبة الناس في الاقتداء به أكثر * والذي قال في
حديث عائشة رضي الله عنها فإن كانوا سواء فأحسنهم وجها قيل معناه أكثرهم خبرة
بالأمور كما يقال وجه هذا الامر كذا وان حمل على ظاهره فالمراد منه أكثرهم صلاة
بالليل جاء في الحديث من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار قال ويكره للرجل
أن يؤم الرجل في بيته الا باذنه لقوله صلى الله عليه وسلم لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه
ولا يجلس على تكرمته الا باذنه ولان في التقدم عليه ازدراء به بين عشيرته وأقاربه وذلك
لا يليق بحسن الخلق إلا أن يكون الضيف سلطانا فحق الإمامة له حيث يكون وليس
للغير أن يتقدم عليه الا باذنه وإذا كان مع الامام رجلان فإنه يتقدم الامام ويصلى بهما لان
للمثنى حكم الجماعة قال صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة وكذلك معنى الجمع
من الاجتماع وذلك حاصل بالمثنى * والذي روى أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه صلى
بعلقمة والأسود في بيت واحد فقام في وسطهما قال إبراهيم النخعي رحمه الله كان ذلك
لضيق البيت والأصح أن هذا كان مذهب ابن مسعود رضى الله تعالى عنه ولهذا قال
في الكتاب وإن لم يتقدم الامام وصلى بهما فصلاتهم تامة لان فعلهم حصل في موضع
الاجتهاد وأقل الجمع المتفق عليه ثلاثة والتقدم للإمامة من سنة الجماعة ولهذا قال أبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى في صلاة الجمعة النصاب ثلاثة سوى الامام (وإن كان القوم كثيرا
فقام الامام وسطهم أو في ميمنة الصف أو في ميسرة الصف فقد أساء الامام وصلاتهم
42

تامة) أما جواز الصلاة فلان المفسد تقدم القوم على الامام ولم يوجد وأما الكراهة فلان
النبي صلى الله عليه وسلم تقدم للإمامة بأصحابه رضوان الله عليهم وواظب على ذلك والاعراض
عن سنته مكروه ولان مقام الامام في وسط الصف يشبه جماعة النساء ويكره للرجال
التشبه بهن (وان تقدم المقتدى على الامام لا يصح اقتداؤه به الا على قول مالك رحمه الله
تعالى فإنه يقول الواجب عليه المتابعة في الأفعال فإذا أتى به لم يضره قيامه قدام الامام)
(ولنا) الحديث ليس مع الامام من يقدمه ولأنه إذا تقدم على الامام اشتبه عليه حالة
افتتاحه واحتاج إلى النظر وراءه في كل وقت ليقتدى به فلهذا لا يجوز فإن كان مع الامام
واحد وقف على يمين الامام لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال بت عند خالتي
ميمونة رضى الله تعالى عنها لأراقب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل فانتبه فقال نامت
العيون وغارت النجوم وبقي الحي القيوم ثم قرأ آخر سورة آل عمران ان في خلق السماوات
والأرض إلى آخر الآية ثم قام إلى شن ماء معلق فتوضأ وافتتح الصلاة فقمت وتوضأت
ووقفت على يساره فأخذ بأذني وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه فعدت إلى مكاني
فأعادني ثانيا وثالثا فلما فرغ قال ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك قلت
أنت رسول الله ولا ينبغي لاحد أن يساويك في الموقف فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه
التأويل. فإعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الجانب الأيمن دليل على أنه هو المختار
إذا كان مع الامام رجل واحد (وفى ظاهر الرواية لا يتأخر المقتدى عن الامام وعن محمد
رحمه الله تعالى قال ينبغي أن يكون أصابعه عند عقب الامام وهو الذي وقع عند
العوام) وإن كان المقتدى أطول فكان سجوده قدام الامام لم يضره لان العبرة بموضع
الوقوف لا بموضع السجود كما لو وقف في الصف ووقع في سجوده أمام الامام لطوله وان
صلى خلفه امرأة جازت صلاته لحديث أنس رضي الله عنه أن جدته مليكة رضى الله
تعالى عنها دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام فقال قوموا لاصلى بكم
فأقامني واليتيم من ورائه وأمي أم سليم وراءنا وصلاة الصبي تخلق فبقي أنس رضى الله
تعالى عنه واقفا خلفه وحده وأم سليم وقفت خلف الصبي وحدها. وفى الحديث دليل
على أنه إذا كان مع الامام اثنان يتقدمهما الامام ويصطفان خلفه (قال) وكذلك ان وقف
على يسار الامام لان ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وقف في الابتداء عن يساره واقتدى
43

به ثم جواز اقتدائه به وفى الإدارة حصل خلفه فدل أن شيئا من ذلك غير مفسد * قال
(وهو مسئ من أصحابنا من قال هذه الإساءة إذا وقف عن يسار الامام لا خلفه) لان
الواقف خلفه أحد الجانبين منه على يمينه فلا يتم اعراضه عن السنة بخلاف الواقف على
يساره (والأصح أن جواب الإساءة في الفصلين جميعا لأنه عطف أحدهما على الآخر بقوله
وكذلك) والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب الوضوء والغسل)
قال (يبدأ في غسل الجنابة بيديه فيغسلهما ثم يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة غير رجليه
ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثم يتنحى فيغسل قدميه هكذا روت عائشة رضى الله
تعالى عنها وأنس وميمونة رضي الله تعالى عنهما اغتسال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأكملها حديث ميمونة رضى الله تعالى عنها قالت وضعت غسلا لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ليغتسل به من الجنابة فأخذ الاناء بشماله وأكفأه على يمينه فغسل يديه ثلاثا ثم أنقى
فرجه بالماء ثم مال بيديه على الحائط فدلكهما بالتراب ثم توضأ وضوءه للصلاة غير غسل
القدمين ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا ثم تنحى فغسل قدميه. وفى ظاهر الرواية
يمسح برأسه في الوضوء وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يمسح لأنه قد
لزمه غسل رأسه وفرضية المسح لا تظهر عند وجوب الغسل. ويبدأ بغسل ما على
جسده من النجاسة لأنه إن لم يفعل ذلك ازدادت النجاسة بإسالة الماء والبداءة بالوضوء قبل
إفاضة الماء ليس بواجب عندنا ومن العلماء من قال هو واجب ومنهم من فصل بين ما إذا
أجنب وهو محدث أو طاهر فقال إذا كان محدثا يلزمه الوضوء لأنه قبل الجنابة قد كان لزمه
الوضوء والغسل فلا يسقط بالجنابة (ولنا) قوله تعالى وان كنتم جنبا فاطهروا والأطهار يحصل
بغسل جميع البدن ولان مبنى الأسباب الموجبة للطهارة على التداخل ألا ترى أن الحائض إذا
أجنبت يكفيها غسل واحد. ومن العلماء من أوجب الوضوء بعد إفاضة الماء وقد روى انكار
ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما * وسئل ابن عمر رضى الله تعالى عنهما عن ذلك
فقال للسائل قد تعمقت أما يكفيك غسل جميع بدنك * والأصل فيه قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت (والدلك
44

في الاغتسال ليس بشرط الأعلى قول مالك يقيسه بغسل النجاسة العينية (ولنا) أن الواجب
بالنص الأطهار والدلك يكون زيادة عليه والدلك لمقصود إزالة عين من البدن وليس على
بدن الجنب عين يزيلها بالاغتسال فلا حاجة إلى الدلك وإنما يؤخر غسل القدمين عن الوضوء
لان رجليه في مستنقع الماء المستعمل حتى لو كان على لوح أو حجر لا يؤخر غسل القدمين
* فالحاصل أن امرار الماء على جميع البدن فرض لقوله صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة
جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة. وبإفاضة الماء ثلاثا يتضاعف الثواب وبتقديم الوضوء تتم
السنة وهو نظير لمراتب الوضوء على ما بينا * وأدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع
وفى الوضوء مد لحديث جابر رضى الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد
ويغتسل بالصاع فقيل له إن لم يكفنا فغضب وقال لقد كفى من هو خير منكم وأكثر شعرا
وهذا التقدير ليس بتقدير لازم فإنه لو أسبغ الوضوء بدون المد أجزأه لحديث عبد الرحمن بن
زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد وإن لم يكفه المد في الوضوء يزيد
إلا أنه لا يسرف في صب الماء لحديث سعيد رضي الله عنه حين مر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يتوضأ ويصب الماء صبا فاحشا فقال إياك والسرف قال أوفى الوضوء سرف قال
نعم ولو كنت على ضفة نهر جار. ثم التقدير بالصاع لماء الإفاضة فإذا أراد تقديم الوضوء زاد
مدا له والتقدير بالمد في الوضوء إذا كأن لا يحتاج إلى الاستنجاء فان احتاج إلى ذلك استنجي
برطل وتوضأ بمد وان كأن لابسا للخف وهو لا يحتاج إلى الاستنجاء يكفيه رطل كل هذا
غير لازم لاختلاف طباع الناس وأحوالهم وكذلك غسل المرأة من الحيض فالواجب
فيهما الأطهار * قال الله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن وإن لم تنقض رأسها إلا أن الماء بلغ
أصول شعرها أجزأها لحديث أم سلمة رضى الله تعالى عنها فإنها قالت يا رسول الله صلى
الله عليك وسلم انى امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت فقال لا. يكفيك أن
تفيضي الماء على رأسك وسائر جسدك ثلاثا. وبلغ عائشة رضى الله تعالى عنها أن ابن عمر
رضى الله تعالى عنه كان يأمر المرأة بنقض رأسها في الاغتسال فقالت لقد كلفهن شططا
ألا أمرهن بجز نواصيهن. وقال إنما شرط تبليغ الماء أصول الشعر لحديث حذيفة رضى الله
تعالى عنه فإنه كان يجلس إلى جنب امرأته إذا اغتسلت ويقول يا هذه أبلغي الماء أصول
شعرك ومتون رأسك. واختلف مشايخنا في وجوب بل الذوائب فقال بعضهم تبل
45

ذوائبها ثلاثا مع كل بلة عصرة والأصح أن ذلك ليس بواجب لما فيه من الحرج وظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة يشهد للقول الأول (جنب) اغتسل
فانتضح من غسله في إنائه لم يفسد عليه الماء لقول ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ومن يملك
سيل الماء. ولما سئل الحسن عن هذا فقال إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا أشار
إلى أن ما لا يستطاع الامتناع منه يكون عفوا فإن كان ذلك الماء يسيل في انائه لم يجز
الاغتسال بذلك الماء يريد به أن الكثير يمكن التحرز عنه فلا يجعل عفوا. والحد الفاصل
بين القليل والكثير إن كان يستبين مواقع القطر في الاناء يكون كثيرا. قال (ولا يجوز
التوضؤ بماء مستعمل في وضوء أو في غسل شئ من البدن) وقال مالك رحمه الله يجوز
لان بدن الجنب والمحدث طاهر حتى لو عرق في ثوبه أو لبس ثوبا مبلولا لم يفسد الثوب
واستعمال الماء في محل طاهر لا يغير صفته كما لو غسل به اناء طاهر (ولنا) قوله عليه
الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من جنابة فالتسوية بينهما
تدل على أن الاغتسال يفسد الماء وقال علي وابن عباس رضى الله تعالى عنهما في مسافر معه
ماء يحتاج إليه لشربه انه يتيمم ويمسك الماء لعطشه فلو لم يتغير الماء بالاستعمال لأمرا بالتوضئ
في اناء ثم بالامساك للشرب والعادة جرت بصب الغسالة في السفر والحضر مع عزة الماء
في السفر فذلك دليل ظاهر على تغير الماء بالاستعمال * ثم اختلفوا في صفة الماء المستعمل
فقال أبو يوسف رحمه الله هو نجس إلا أن التقدير فيه بالكثير الفاحش وهو روايته عن أبي
حنيفة رضي الله عنه وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه نجس لا يعفى عنه أكثر من قدر
الدرهم وقال محمد رحمه الله تعالى هو طاهر غير طهور وهو رواية زفر وعافية القاضي عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى. وجه قول أبى يوسف أن الحدث الحكمي أغلظ من النجاسة العينية
ثم إزالة النجاسة العينية بالماء تنجسه فإزالة الحدث الحكمي به أولى ولهذا قال في رواية
الحسن رحمه الله التقدير فيه بالدرهم كما في النجاسة العينية ولكنه بعيد فان للبلوى تأثيرا في
تخفيف النجاسة ومعنى البلوى في الماء المستعمل ظاهر فان صون الثياب عنه غير ممكن
وهو مختلف في نجاسته فلذلك خف حكمه. وجه قول محمد رحمه الله ما روي أن الصحابة
رضوان الله عليهم كانوا يتبادرون إلى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمسحون
به أعضاءهم ومن لم يصبه أخذ بللا من كف صاحبه والتبرك بالنجس لا يكون. والمعنى
46

ان أعضاء المحدث طاهرة ولكنه ممنوع من إقامة القربة فإذا استعمل الماء تحول ذلك المنع
إلى الماء فصارت صفة الماء كصفة العضو قبل الاستعمال فيكون طاهرا غير طهور بخلاف
ما إذا أزال النجاسة بالماء فالنجاسة هناك تتحول إلى الماء (وروى) المعلى عن أبي يوسف
رحمه الله أن المتوضئ بالماء إن كان محدثا يصير الماء نجسا وإن كان طاهرا لا يصير الماء
نجسا ولكن باستعمال الطاهر يصير الماء مستعملا الا على قول زفر والشافعي رحمهما الله
تعالى فإنهما يقولان إذا لم يحصل إزالة حدث أو نجاسة بالماء لا يصير الماء مستعملا كما لو
غسل به ثوبا طاهرا (ولنا) أن إقامة القربة حصل بهذا الاستعمال قال عليه الصلاة والسلام
الوضوء على الوضوء نور على نور يوم القيامة فنزل ذلك منزلة إزالة الحدث به بخلاف
غسل الثوب والاناء الطاهر فإنه ليس فيه إقامة القربة (وذكر) الطحاوي رحمه الله
أنه إذا تبرد بالماء صار الماء مستعملا وهذا غلط منه إلا أن يكون تأويله إن كان محدثا
فيزول الحدث باستعمال الماء وإن كان قصده التبرد فحينئذ يصير مستعملا * قال (وسؤر
الآدمي طاهر) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعس من لبن فشرب بعضه وناول
الباقي أعرابيا كان على يمينه فشربه ثم ناوله أبا بكر رضي الله عنه فشربه ولان عين الآدمي
طاهر وإنما لا يؤكل لكرامته لا لنجاسته وسؤره متحلب من عينه وعينه طاهر فكذلك
سؤره * وكذلك سؤر الحائض لما روي أن عائشة رضي الله عنها شربت من إناء في حال
حيضها فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمه على موضع فيها وشرب. ولما قال لها
ناوليني الخمرة (1) فقالت إني حائض فقال حيضتك ليست في يدك. إذا ثبت هذا في اليد
فكذلك في الفم. وكذلك سؤر الجنب لما روى أن حذيفة رضي الله عنه استقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يصافحه فحبس يده وقال إني جنب فقال عليه الصلاة
والسلام ان المؤمن لا ينجس وكذلك سؤر المشرك عندنا وبعض أصحاب الظواهر يكرهون
ذلك لقوله تعالى إنما المشركون نجس ولكنا نقول المراد منه خبث الاعتقاد بدليل
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا مشركين ولو كان
عين المشرك نجسا لما أنزلهم في المسجد. وكذلك سؤر ما يؤكل لحمه من الدواب والطيور (1) (الخمرة) بضم الخاء المعجمة وسكون الميم وفتح الراء هي حصيرة صغيرة من السعف وتطلق على غير ذلك كما في القاموس كتبه مصححه
47

لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بسؤر بعير أو شاة وقال ما يؤكل لحمه فسؤره
طاهر ما خلا الدجاجة المخلاة فان سؤرها مكروه لأنها تفتش الجيف والأقذار فمنقارها
لا يخلو عن النجاسة ولكن مع هذا لو توضأ به جاز لأنه على يقين من طهارة منقارها
وفى شك من النجاسة والشك لا يعارض اليقين فإن كانت الدجاجة محبوسة فسؤرها
طاهر لان منقارها عظم جاف ليس بنجس ولان عينها طاهر مأكول فكذلك ما يتحلب
منه والذي روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كأن يقول بحرمة الدجاجة شاذ غير معمول
به فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل لحم الدجاجة. وصفة المحبوسة
أن لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها فإنه إذا كان يصل ربما تفتش ما يكون منها فهي
والمخلاة سواء والذي بينا في سؤر هؤلاء فكذلك في اللعاب والعرق إذا أصاب لعاب ما يؤكل
لحمه أو عرقه ثوب انسان تجوز الصلاة فيه لان ذلك متحلب من عينه فكان طاهرا كلبنه
* قال (ولا يصح التطهر بسؤر ما لا يؤكل لحمه من الدواب والسباع ولعابه يفسد الماء * وهنا
مسائل) إحداها سؤر الخنزير فإنه نجس بالاتفاق لان عينه نجس قال الله تعالى أو لحم
خنزير فإنه رجس والرجس والنجس سواء (والثانية) سؤر الكلب فإنه نجس الا على
قول مالك رحمه الله بناء على مذهبه في تناول لحمه. وكأن يقول الامر بغسل الاناء من ولوغ
الكلب كان تعبدا لا للنجاسة كما أمر المحدث بغسل أعضائه تعبدا أو كان ذلك عقوبة عليهم
والكلاب فيهم كانت تؤذى الغرباء فنهوا عن اقتنائها وأمروا بغسل الاناء من ولوغها
عقوبة عليهم (ولنا) حديث عطاء بن ميناء عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله ثلاثا. وفى بعض
الروايات قال سبعا وتعفر الثامنة بالتراب فقوله طهور اناء أحدكم دليل على تنجس الاناء
بولوغه وان الامر بالغسل للتنجيس لا للتعبد فان الجمادات لا يلحقها حكم العبادات والزيادة
في العدد والتعفير بالتراب دليل على غلظ النجاسة والصحيح من المذهب عندنا ان عين
الكلب نجس واليه يشير محمد رحمه الله في الكتاب في قوله وليس الميت بأنجس من الكلب
والخنزير. وبعض مشايخنا يقول عين الكلب ليس بنجس ويستدلون عليه بطهارة جلده
بالدباغ وسنقرره من بعد وأما سؤر مالا يؤكل لحمه من السباع كالأسد والفهد والنمر عندنا
نجس. وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه طاهر لحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن
48

النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل أنتوضأ بما أفضلت الحمر فقال نعم وبما أفضلت السباع
كلها وفى حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي
بين مكة والمدينة وما ينوبها من السباع فقال لها ما ولغت في بطونها وما بقي فهو لنا شراب
وطهور ولان عينها طاهرة بدليل جواز الانتفاع بها في حالة الاختيار وجواز بيعها فيكون
سؤرها طاهرا كسؤر الهرة (ولنا) ما روى أن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي الله عنهما
وردا حوضا فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض أترد السباع ماءكم هذا فقال ابن عمر
رضى الله تعالى عنه يا صاحب الحوض لا تخبرنا. فلولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع
يتعذر عليهم استعماله لما نهاه عن ذلك * والمعنى فيه أن عين هذه الحيوانات مستخبث غير
طيب فسؤرها كذلك كالكلب والخنزير وهذا لان سؤرها يتحلب من عينها كلبنها ثم
لبنها حرام غير مأكول فكذلك سؤرها وهو القياس في الهرة أيضا لكن تركنا ذلك
بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الهرة ليست بنجسة انها من الطوافين عليكم
والطوافات أشار إلى العلة وهي كثرة البلوى لقربها من الناس وهذا لا يوجد في السباع
فإنها تكون في المفاوز لا تقرب من الناس اختيارا وتأويل الحديثين أنه كان ذلك في الابتداء
قبل تحريم لحم السباع. أو السؤال وقع عن الحياض الكبار وبه نقول إن مثلها لا ينجس
بورود السباع فأما سؤر الحمار فطاهر عند الشافعي رحمه الله تعالى وهو قول ابن عباس
رضي الله عنهما فإنه كأن يقول الحمار يعلف ألقت والتبن فسؤره طاهر وعندنا مشكوك فيه
غير متيقن بطهارته ولا بنجاسته فان ابن عمر رضي الله عنهما كأن يقول إنه رجس فيتعارض
قوله وقول ابن عباس رضي الله عنهما وكذلك الاخبار تعارضت في أكل لحمه * فروى
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر * وروى أن أبجر
ابن غالب رضي الله عنه قال لم يبق لي من مالي الا حميرات فقال عليه الصلاة والسلام كل من
سمين مالك وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته واعتباره بلبنه يدل على نجاسته
ولان الأصل الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة موجود في الحمار
لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى
لا نقول بنجاسته ولكون البلوى فيه متقاعدا لا نقول بطهارته فيبقى مشكوكا فيه وأدلة
الشرع أمارات لا يجوز أن تتعارض والحكم فيها الوقف * وكان أبو طاهر الدباس رحمه الله
49

ينكر هذا ويقول لا يجوز أن يكون شئ من حكم الشرع مشكوكا فيه ولكن يحتاط
فيه فلا يجوز أن يتوضأ به حالة الاختيار وإذا لم يجد غيره يجمع بينه وبين التيمم احتياطا
فبأيهما بدأ أجزأه الا على قول زفر فإنه يقول يبدأ بالوضوء فلا يعتبر تيممه ما دام معه ماء
هو مأمور بالتوضئ به ولكنا نقول الاحتياط في الجمع بينهما لا في الترتيب فإن كان طاهرا
فقد توضأ به قدم أو أخر وإن كان نجسا ففرضه التيمم وقد أتى به ولا يقال في هذا ترك
الاحتياط من وجه لأنه إن كان نجسا تتنجس به أعضاؤه وهذا لان معنى الشك في
طهارته لا في كونه طاهرا لان الحدث يقين فأما العضو والثوب فطاهر بيقين فلا يتنجس
بالشك والحدث موجود بيقين فالشك وقع في طهارته واليقين لا يزال بالشك وهو
الصحيح من المذهب * وذكر أبو يوسف في الاملاء عن أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه في
لعاب الحمار إذا أصاب الثوب تجوز الصلاة فيه ما لم يفحش وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
أجزأه وان فحش وقال محمد رحمه الله تعالى لو غمس فيه الثوب تجوز الصلاة في ذلك الثوب
وجميع ما بينا في الحمار كذلك في البغل فان والده غير مأكول اللحم والصحيح في عرقهما
أنه طاهر وأشار في بعض النسخ إلى جواز الصلاة فيه ما لم يفحش والأصح هو الأول
فان النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب حمارا معروريا والحر حر تهامة ولا بد أن يعرق
الحمار ولان معنى البلوى في عرقه ظاهر لمن يركبه فأما سؤر الفرس طاهر في ظاهر
الرواية وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه مكروه كلحمه * وجه
ظاهر الرواية وهو أن السؤر لمعنى البلوى أخف حكما من اللحم كما في الحمار والبغل
والكراهة التي في اللحم تنعدم في السؤر ليظهر به خفة الحكم * فأما سؤر حشرات البيت
كالفأرة والحية ونحوهما في القياس فنجس لأنها تشرب بلسانها ولسانها رطب من لعابها
ولعابها يتحلب من لحمها ولحمها حرام ولكنه استحسن فقال طاهر مكروه لان البلوى التي
وقعت الإشارة إليها في الهرة. موجودة هنا فإنها تسكن البيوت ولا يمكن صون الأواني عنها
وأما سؤر سباع الطير كالبازي والصقر والشاهين والعقاب وما لا يؤكل لحمه من الطير
في القياس نجس لان مالا يؤكل لحمه من سباع الطير معتبر بما لا يؤكل لحمه من سباع
الوحش ولكنا استحسنا فقلنا بأنه طاهر مكروه لأنها تشرب بمنقارها ومنقارها عظم جاف
بخلاف سباع الوحش فإنها تشرب بلسانها ولسانها رطب بلعابها ولان في سؤر سباع الطير
50

تتحقق البلوى فإنها تنقض من الهواء فلا يمكن صون الأواني عنها خصوصا في الصحارى
بخلاف سباع الوحش. وعن أبي يوسف رحمه الله قال ما يقع على الجيف من سباع الطير
فسؤره نجس لان منقاره لا يخلو عن نجاسة عادة وأما سؤر السنور ففي كتاب الصلاة
قال وان توضأ بغيره أحب إلى وفى الجامع الصغير قال هو مكروه وهو قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا بأس بسؤره لحديث عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصغي الاناء لهرة حتى تشرب ثم يتوضأ بالباقي (ولنا)
حديث ابن عمر رضي الله عنهما يغسل الاناء من ولوغ الهرة مرة وهو إشارة إلى
الكراهة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الهرة سبع
وهي من السباع التي لا يؤكل لحمها فهذا الحديث يدل على النجاسة وحديث عائشة
رضي الله عنها يدل على الطهارة فأثبتنا حكم الكراهة عملا بهما جميعا. وكان الطحاوي رحمه
الله يقول كراهة سؤره لحرمة لحمه وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب وقال الكرخي
رحمه الله كراهة سؤره لأنه يتناول الجيف فلا يخلو فمه عن النجاسة عادة وهذا يدل على
أن الكراهة كراهة تنزيه وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الأثر * قال (وان مات في الاناء
ذباب أو عقرب أو غير ذلك مما ليس له دم سائل لم يفسده عندنا) وقال الشافعي رضي الله عنه
يفسده الا ما خلق منه كدود الخل يموت فيه وسوس الثمار يموت في الثمار واستدل
بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة فهو تنصيص على نجاسة كل ميته وإذا تنجس بالموت تنجس
ما مات فيه إلا أن فيما خلق منه ضرورة ولا يمكن التحرز عنه فصار عفوا لهذا (ولنا)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب
في اناء أحدكم فامقلوه ثم امقلوه ثم امقلوه فان في أحد جناحيه سما وفى الآخر شفاء وانه
ليقدم السم على الشفاء ومعلوم أن الذباب إذا مقل مرارا في الطعام الحار يموت فلو كان
مفسدا لما أمر بمقله. وفى حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال ما ليس له دم سائل إذا مات في الاناء فهو الحلال أكله وشربه والوضوء به
ولان الحيوان إذا مات فإنما يتنجس لما فيه من الدم المسفوح حتى لو ذكى فسال الدم
منه كان طاهرا وهذا لان المحرم هو الدم المسفوح قال الله تعالى أو دما مسفوحا فما ليس
له دم سائل لا يتناوله نص التحريم فلا ينجس بالموت ولا يتنجس ما مات فيه قياسا على
51

ما خلق منه * قال (وان وقع فيه دم أو خمر أو عذرة أو بول أفسده عندنا) وقال مالك
رحمه الله لا يفسده إلا أن يتغير به أحد أوصافه من لون أو ريح أو طعم واحتج بما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيه الجيف
ومحايض النساء فلما ذكر له ذلك قال خلق الماء طهورا لا ينجسه شئ الا ما غير لونه
أو طعمه أو ريحه (ولنا) قوله عليه الصلاة والسلام لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن
فيه من الجنابة فلو لم يكن ذلك مفسدا للماء ما كان للنهي عنه معنى وفائدة. وفيه طريقتان
إحداهما أن الماء ينجس بوقوع النجاسة فيه لان صفة الماء تتغير بما يلقى فيه حتى يضاف إليه
كماء الزعفران وماء الباقلا * والثانية أن عين الماء لا يتنجس ولكن يتعذر استعماله لمجاورة
الفاسد لأن النجاسة تتفرق في أجزاء الماء فلا يمكن استعمال جزء من الماء الا باستعمال
جزء من النجاسة واستعمال النجاسة حرام * وأما الحديث فقد قيل إن بئر بضاعة كان
ماؤه جاريا يسقى منه خمس بساتين وعندنا الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه
ما لم يتغير أحد أوصافه. وقيل إنما كان يلقى فيه الجيف في الجاهلية فان في الاسلام نهوا
عن مثل هذا وكان برسول الله صلى الله عليه وسلم من التنزه والتقذر ما يمنعه من التوضئ
والشرب من بئر يلقى فيه ذلك في وقته وإنما أشكل عليهم أن ما كان في الجاهلية هل
يسقط اعتباره بتطهير البئر في الاسلام فأزال اشكالهم بما قال (وان بزق في الماء أو
امتخط لم يفسده لأنه طاهر لاقي طاهرا) والدليل على طهارة البزاق أن النبي صلى الله
عليه وسلم استعان في محو بعض الكتابة به والدليل على طهارة المخاط أن النبي صلى الله
عليه وسلم امتخط في صلاته فأخذه بثوبه ودلكه ثم المخاط والنخامة سواء ولما رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه يغسل ثوبه من النخامة قال
ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك الا سواء (وان أدخل جنب أو حائض
أو محدث يده في الاناء قبل أن يغسلها وليس عليها قذر لم يفسد الماء استحسانا) وكان ينبغي
في القياس أن يفسده لان الحدث زال عن يده بادخاله في الاناء فيصير الماء مستعملا كالماء
الذي غسل به يده * وجه الاستحسان ما روى أن المهراس كان يوضع على باب مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها ماء فكان أصحاب الصفة رضوان الله عليهم يغترفون منه
للوضوء بأيديهم ولان فيه بلوى وضرورة فقد لا يجد شيئا يغترف به الماء من الاناء العظيم
52

فيجعل يده لأجل الحاجة كالمغرفة وإذا ثبت هذا في المحدث فكذلك في الجنب والحائض
لما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله
عليه وسلم من اناء واحد فربما بدأت أنا وربما بدأ هو وكنت أقول أبقى لي وهو يقول بقي
لي * وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي قال إذا أدخل الجنب يده أو رجله في البثر لم
يفسده وان أدخل رجله في الاناء أفسده وهذا لمعنى الحاجة ففي البئر الحاجة إلى ادخال
الرجل لطلب الدلو فجعل عفوا وفى الاناء الحاجة إلى ادخال اليد فلا تجعل الرجل عفوا فيه
وان أدخل في البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده لأنه لا حاجة إليه. وقال
في الأصل إذا اغتسل الطاهر في البئر أفسده وهو بناء على ما تقدم أن المستعمل للماء على
قصد التقرب وإن كان طاهرا فالماء بفعله يصير مستعملا فإذا اغتسل في البئر صار الماء
مستعملا. وقوله أفسده دليل على أن الصحيح من قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الماء
المستعمل نجس لان الفاسد من الماء هو النجس وإذا انغمس فيه لطلب دلو وليس على بدنه
قذر لم يفسد الماء لأنه لم يوجد فيه إزالة الحدث ولا إقامة القربة لما لم يغتسل فيه وان
انغمس في جب يطلب دلوا لم يفسد الماء ولم يجزئه من الغسل في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى
وقال محمد رحمه الله تعالى لا يفسد الماء ويجزئه من الغسل. وعن أبي يوسف في الأمالي أن
الماء يفسد ولا يجزئه من الغسل. من أصحابنا من قال هذا الخلاف ينبنى على أصل وهو
أن عند أبي يوسف الماء يصير مستعملا بأحد شيئين إما بإزالة الحدث أو بإقامة القربة فلو
زال الحدث هنا صار الماء مستعملا فلا يجزئه من الاغتسال فلهذا قال الرجل بحاله والماء بحاله
ومن أصل محمد أن الماء لا يصير مستعملا الا بإقامة القربة والاغتسال يتحصل بغير نية
فكان الرجل طاهرا والماء غير مستعمل لعدم القصد منه إلى إقامة القربة وهذا ليس بقوى
فان هذا المذهب غير محفوظ عن محمد نصا ولكن الصحيح أن إزالة الحدث بالماء مفسد
للماء الا عند الضرورة كما بينا في الجنب يدخل يده في الاناء وفي البئر معنى الضرورة موجود
فإنهم إذا جاؤوا بغواص لطلب دلوهم لا يمكنهم ان يكلفوه الاغتسال أولا فلهذا لا يصير
الماء مستعملا ولكن الرجل يطهر لأن الماء مطهر من غير قصد * وجه رواية الاملاء أنه كما
أدخل بعض أعضائه في البئر صار الماء مستعملا فبعد ذلك سواء اغتسل أو لم يغتسل لم
يطهره الماء المستعمل * قال (وان وقع في البئر بول ما يؤكل لحمه أفسده في قول أبي حنيفة
53

وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ولا يفسده في قول محمد ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه) أو أصل
المسألة أن بول ما يؤكل لحمه نجس عندهما طاهر عند محمد رحمه الله تعالى واحتج بحديث
أنس رضي الله تعالى عنه أن قوما من عرنة جاؤوا إلى المدينة فأسلموا فاجتووا المدينة
فاصفرت ألوانهم وانتفخت بطونهم فامرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا
إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها الحديث فلو لم يكن طاهرا لما أمرهم بشربه
والعادة الظاهرة من أهل الحرمين بيع أبوال الإبل في القوارير من غير نكير دليل ظاهر على
طهارتها. ولهما قول النبي صلى الله عليه وسلم استنزهوا من البول فان عامة عذاب القبر منه
ولما ابتلى سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه بضغطة القبر سئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن سببه فقال إنه كان لا يستنزه من البول ولم يرد به بول نفسه فان من لا يستنزه منه
لا تجوز صلاته وإنما أراد أبوال الإبل عند معالجتها. والمعنى أنه مستحيل من أحد الغذاءين
إلى نتن وفساد فكان نجسا كالبعر. فأما حديث أنس رضى الله تعالى عنه فقد ذكر قتادة
عن أنس رضى الله تعالى عنه انه رخص لهم في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال وإنما
ذكره في حديث حميد عن أنس رضى الله تعالى عنهما والحديث حكاية حال فإذا دار بين
أن يكون حجة أولا يكون حجة سقط الاحتجاج به ثم نقول خصهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بذلك لأنه عرف من طريق الوحي ان شفاءهم فيه ولا يوجد مثله في زماننا
وهو كما خص الزبير رضى الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به وهي مجاز عن القمل
فإنه كان كثير القمل أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى ورسوله علم من طريق الوحي
أنهم يموتون على الردة ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس. إذا عرفنا هذا فنقول إذا
وقع في الماء فعند محمد رحمه الله هو طاهر فلا يفسد الماء حتى يجوز شربه ولكن إذا غلب
على الماء لم يتوضأ به كسائر الطاهرات إذا غلبت على الماء وعند أبي حنيفة وأبى يوسف
رحمهما الله هو نجس فكان مفسدا للماء والبئر والاناء فيه سواء وعلى قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لا يجوز شربه للتداوي وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى لم يجعل
شفاءكم فيما حرم عليكم وعند محمد يجوز شربه للتداوي وغيره لأنه طاهر عنده وعند أبي
يوسف يجوز شربه للتداوي لا غير عملا بحديث العرنيين ولا يجوز لغيره ولو أصاب الثوب
لم ينجسه عند محمد رحمه الله تعالى حتى تجوز الصلاة فيه وإن امتلأ الثوب منه وعلى
54

قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ينجس الثوب الا انه يجوز الصلاة فيه ما لم
يكن كثيرا فاحشا لأنه مختلف في نجاسته وفيه بلوى لمن يعالجها فخفت نجاسته لهذين المعنيين
فكان التقدير بالكثير الفاحش. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الكثير الفاحش في
الثوب الربع فصاعدا قيل أراد به ربع الموضع الذي أصابه من ذيل أو غيره وقيل أراد به
ربع جميع الثوب وهو الصحيح وهذا لان الربع ينزل منزلة الكمال بدليل ان المسح
بربع الرأس كالمسح بجميعه وعن أبي يوسف في روايته الكثير الفاحش شبر في شبر وفى
رواية ذراع في ذراع وعن محمد رحمه الله تعالى فيما يقدر الكثير الفاحش على قوله
كالأرواث. وغيره أنه قدر موضع القدمين وهذا قريب من شبر في شبر (ويستحب للرجل
حين يبتدئ الوضوء أن يقول بسم الله وإن لم يقل أجزأه) وعلى قول أصحاب الظواهر
التسمية من الأركان لا يجوز الوضوء الا بها لقوله عليه الصلاة والسلام لا وضوء لمن
لم يسم وعندنا التسمية من سنن الوضوء لامن أركانه فان الله تعالى بين أركان الوضوء
بقوله فاغسلوا وجوهكم الآية ولم يذكر التسمية وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعرابي
الوضوء ولم يذكر التسمية فتبين بهذا أن المراد من قوله عليه الصلاة والسلام لا وضوء لمن
لم يسم نفى الكمال لا نفى الجواز كما قال في حديث آخر من توضأ وسمى كان طهورا لجميع
بدنه ومن توضأ ولم يسم كان طهورا لأعضاء وضوئه وفي الحديث المعروف كل أمر ذي
بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أقطع أي ناقص غير كامل وهذا بخلاف التسمية على
الذبيحة فانا أمرنا بها إظهارا لمخالفة المشركين لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح فكان
الترك مفسدا وهنا أمرنا بالتسمية تكميلا للثواب لا مخالفة للمشركين فإنهم كانوا
لا يتوضؤن فلم يكن الترك مفسدا لهذا. قال (وان بدأ في وضوئه بذراعيه قبل وجهه أو رجليه
قبل رأسه أجزأه عندنا) ولم يجزه عند الشافعي رضي الله عنه فان الترتيب في الوضوء عندنا
سنة وعنده من الأركان واستدل بقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية والفاء للوصل
والترتيب فظاهره يقتضى أنه يلزمه وصل غسل الوجه بالقيام إلى الصلاة ولا يجوز تقديم
غيره عليه ثم إن الله تعالى عطف البعض على البعض بحرف الواو وذلك موجب للترتيب
كما في قوله تعالى اركعوا واسجدوا ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعي بين
الصفا والمروة بأيهما نبدأ فقال ابدأوا بما بدأ الله تعالى به فدل على أن الواو للترتيب وقال عليه
55

الصلاة والسلام لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم
يديه ولا شك ان حرف ثم للترتيب (ولنا) ما ذكره أبو داود رحمه الله تعالى في سننه
أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم فبدأ بذراعيه ثم بوجهه والخلاف فيهما واحد * وروى أنه
صلى الله عليه وسلم نسي مسح رأسه في وضوئه فتذكر بعد فراغه فمسحه ببلل في
كفه ولان الركن تطهير الأعضاء وذلك حاصل بدون الترتيب ألا ترى أنه لو انغمس
في الماء بنية الوضوء أجزأه ولم يوجد الترتيب ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على
الترتيب في الوضوء لا تدل على أنه ركن فقد كان يواظب على السنن كما واظب على المضمضة
والاستنشاق وأهل اللغة اتفقوا على أن الواو للعطف مطلقا من غير أن تقتضي جمعا ولا
ترتيبا فان الرجل إذا قال جاءني زيد وعمرو كان اخبارا عن مجيئهما من غير ترتيب في
المجئ قال الله تعالى واسجدي واركعي مع الراكعين فلا يدل ذلك على ترتيب
الركوع علي السجود وكذلك في الآية أمر بغسل الأعضاء لا بالترتيب في الغسل ألا ترى
أن ثبوت الحدث في الأعضاء لا يكون مرتبا فكذلك زواله والحديث محمول على صفة
الكمال وبه نقول (وان غسل بعض أعضائه وترك البعض حتى جف ما قد غسل أجزأه
لان الموالاة سنة عندنا) وقال مالك رحمه الله تعالى وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى
الموالاة ركن فلا يجزئه تركه لان النبي صلى الله عليه وسلم واظب على الموالاة فلو
جاز تركه لفعله مرة تعليما للجواز. وقال ابن أبي ليلى إن كان في طلب الماء أجزأه لان
ذلك من عمل الوضوء فإن كان أخذ في عمل آخر غير ذلك وجف وجب علينا إعادة ما
جف وجعله قياس أعمال الصلاة إذا اشتغل في خلالها بعمل آخر (ولنا) ما بينا أن المقصود
تطهير الأعضاء وذلك حاصل بدون الموالاة والمنصوص عليه في الكتاب غسل الأعضاء
فلو شرطنا الموالاة كان زيادة على النص وقد بينا أن مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تكون لبيان السنة وأفعال الصلاة تؤدى بناء على التحريمة والاشتغال بعمل آخر مبطل
للتحريمة فكان مفسدا بخلاف الوضوء فان أركان الوضوء لا تنبنى على التحريمة حتى لم يكن
الكلام في الوضوء مفسدا له والله أعلم * قال (ولا يفسد خرء الحمام والعصفور الماء فإنه طاهر
عندنا) وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه نجس يفسد الماء والثوب والقياس ما قال لأنه
مستحيل من غذاء الحيوان إلى فساد لكن استحسنه علماؤنا رحمهم الله تعالى لحديث ابن
56

مسعود رضى الله تعالى عنه انه خرأت عليه حمامة فمسحه بأصبعه وابن عمر رضى الله تعالى
عنهما ذرق عليه طائر فمسحه بحصاة وصلى ولم يغسله ولان الحمام تركت في المساجد حتى
في المسجد الحرام مع علم الناس بما يكون منها وأصله حديث أبي أمامة الباهلي رضى الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم شكر الحمامة وقال إنها أوكرت على باب الغار حتى
سلمت فجازاها الله تعالى بأن جعل المساجد مأواها فهو دليل على طهارة ما يكون منها * قال
(وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور ذكر في الجامع الصغير أنه تجوز الصلاة فيه وإن كان
أكثر من قدر الدرهم في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه
الله تعالى لا يجوز بمنزلة خرء ما لا يؤكل لحمه من السباع) والمعنى أنه مستحيل من غذائه
إلى فساد. واختلف مشايخنا رحمهم الله على قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى
فمنهم من قال هو نجس عندهما لكن التقدير فيه بالكثير الفاحش لمعنى البلوى والأصح
أنه طاهر عندهما فان الخرء لا فرق فيه بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم في
النجاسة ثم خرء ما يؤكل لحمه من الطيور طاهر فكذلك ما لا يؤكل لحمه * قال (وبول
الخفافيش لا يفسد الماء لأنه لا يستطاع الامتناع منه ولا يستقذره الناس عادة) ويفسده
خرء الدجاج لأنه أشبه الأشياء بالعذرة لونا ورائحة فكان نجسا نجاسة غليظة * قال
(وموت الضفدع والسمك والسرطان في الماء لا يفسده) لوجهين. أحدهما أن الماء معدنه
والشئ إذا مات في معدنه لا يعطى له حكم النجاسة كمن صلى وفى كمه بيضة مذرة حال محها
دما تجوز صلاته وهذا لان التحرز عن موته في الماء غير ممكن. والثاني أنه ليس لهذه
الحيوانات دم سائل فان ما يسيل منها إذا شمس ابيض والدم إذا شمس اسود وهذا الحرف
أصح لأنه كما لا يفسد الماء بموت هذه الحيوانات فيه لا يفسد غير الماء كالخل والعصير
ويستوى ان تقطع أولم يتقطع الأعلى قول أبى يوسف رحمه الله فإنه يقول إذا تقطع في الماء
أفسده بناء على قوله ان دمه نجس وهو ضعيف فإنه لا دم في السمك إنما هو ماء آجن ولو كان
فيه دم فهو مأكول فلا يكون نجسا كالكبد والطحال. وأشار الطحاوي رحمه الله إلى أن الطافي
من السمك يفسد الماء وهو غلط منه فليس في الطافي أكثر من أنه غير مأكول فهو
كالضفدع والسرطان * وعن محمد رحمه الله تعالى قال الضفدع إذا تفتت في الماء كرهت
شربه لا لنجاسته ولكن لان أجزاء الضفدع فيه والضفدع غير مأكول (وإذا ماتت الفأرة
57

في البئر فاستخرجت حين ماتت نزح من البئر عشرون دلوا وان ماتت في جب أريق الماء
وغسل الجب لأنه تنجس بموت الفأرة فيه) القياس في البئر أحد شيئين أما ما قاله بشر
رحمه الله انه يطم رأس البئر ويحفر في موضع آخر لأنه وان نزح ما فيها من الماء يبقى الطين
والحجارة نجسا ولا يمكن كبه ليغسل فيطم. وأما ما نقل عن محمد رحمه الله تعالى قال اجتمع
رأيي ورأي يوسف رحمه الله تعالى أن ماء البئر في حكم الماء الجاري لأنه ينبع من أسفله
ويؤخذ من أعلاه فلا يتنجس بوقوع النجاسة فيه كحوض الحمام إذا كان يصب فيه من جانب
ويؤخذ من جانب لم يتنجس بادخال يد نجسة فيه. ثم قلنا وما علينا لو أمرنا بنزح بعض الدلاء
ولا نخالف السلف وتركنا القياس لحديث علي رضى الله تعالى عنه قال في الفأرة تموت
في البئر ينزح منها دلاء وفى رواية سبع دلاء. وفى حديث أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى
عنه قال في الدجاجة تموت في البئر ينزح منها أربعون دلوا (ولنا) حديث النخعي والشعبي
في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون دلوا. وروي عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون دلوا ولكنه
شاذ. وعن ابن عباس وابن عمر رضى الله تعالى عنهم في الزنجي الذي وقع في بئر زمزم فمات
أنهما أمرا بنزح جميع الماء. ثم في الأصل جعله على ثلاث مراتب في الفأرة عشرون دلوا
وفى السنور والدجاجة أربعون دلوا وفى الشاة والآدمي جميع الماء. وفى رواية الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى جعله على خمس درجات في الجلة والفأرة الصغيرة عشر دلاء وفى
الفأرة الكبيرة عشرون دلوا وفى الحمامة ثلاثون دلوا وفى الدجاجة أربعون دلوا وفى الشاة
والآدمي جميع الماء وهذا لأنه إنما يتنجس من الماء ما جاوز النجاسة والفأرة تكون في وجه
الماء فإذا نزح عشرون دلوا فالظاهر أنه نزح جميع ما جاوز الفأرة فما بقي يبقى طاهرا
والدجاجة تغوص في الماء أكثر مما تغوص الفأرة فيتضاعف النزح لهذا والشاة والآدمي
يغوص إلى قعر الماء فيموت ثم يطفو فلهذا نزح جميع الماء وهذا إذا لم يتفسخ شئ ء من هذه
الحيوانات فان انتفخ أو تفسخ نزح جميع الماء الفأرة وغيرها فيه سواء لأنه ينفصل منها
بلة نجسة وتلك البلة نجاسة مائعة بمنزلة قطرة من خمر أو بول تقع في البئر. ولهذا قال محمد
رحمه الله تعالى إذا وقع في البئر ذنب فأرة ينزح جميع الماء لان موضع القطع فيه لا ينفك
عن نجاسة مائعة بخلاف الفأرة فان غلبهم الماء في موضع وجب نزح جميع الماء فالمروي
58

عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا نزح منها مائة دلو يكفي وهو بناء على آبار الكوفة
لقلة الماء فيها. وعن محمد رحمه الله تعالى في النوادر أنه ينزح منها ثلاثمائة دلو أو مائتا
دلو. وإنما أجاب بهذا بناء على كثرة الماء في آبار بغداد. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى
ينزح قدر ما كان فيها من الماء قيل معناه أنه ينظر إلى عمق البئر وعرضه فيحفر حفيرة مثلها
ويصب ما ينزح فيها فإذا امتلأت فقد نزح ما كان فيها. وقيل يرسل قصبة في الماء
ويجعل على مبلغه علامة ثم ينزح عشر دلاء ثم يرسل القصبة ثانيا فينظركم انتقص فان
انتقص العشر علم أن في البئر مائة دلو والأصح أنه ينظر إليها رجلان لهما بصر في الماء فبأي
مقدار قالا في البئر ينزح ذلك القدر وهذا أشبه بالفقه فإن كان توضأ رجل منها بعدما ماتت
الفأرة فيها فعليه إعادة الوضوء والصلوات جميعا لأنه تبين انه توضأ بالماء النجس وإن كان
لا يدرى متى وقع فيها وقد كان وضوءه من ذلك البئر فإن كانت منتفخة أعاد صلاة ثلاثة
أيام ولياليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى احتياطا وان كانت غير منتفخة يعيد صلاة
يوم وليلة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس عليه أن يعيد شيئا من صلاته
ما لم يعلم أنه توضأ منها وهو فيها والقياس ما قالا لأنه على يقين من طهارة البئر فيما مضى
وفى شك من نجاسته واليقين لا يزال بالشك كمن رأي في ثوبه نجاسة لا يدرى متى
أصابته لا يلزمه إعادة شئ من الصلوات لهذا وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول
أولا بقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى رأى طائرا في منقاره فأرة ميتة وألقاها في بئر
فرجع إلى هذا القول وقال لا يعيد شيئا من الصلاة بالشك وأبو حنيفة رحمه الله تعالى
يقول ظهر لموت الفأرة سبب وهو وقوعها في البئر فيحال موتها عليه كمن جرح انسانا فلم
يزل صاحب فراش حتى مات يحال موته على تلك الحالة لأنه هو الظاهر من السبب. ثم الانتفاخ دليل تقادم العهد وأدنى حد التقادم ثلاثة أيام ألا ترى أن من دفن قبل أن
يصلى عليه يصلى على قبره إلى ثلاثة أيام ولا يصلى بعد ذلك لأنه يتفسخ في هذه المدة
وقولهما ان في نجاسة البئر فيما مضى شكا * قلنا يؤيد هذا الشك تيقن النجاسة في الحال
فوجب اعتباره والقول به للاحتياط فيه وفى مسألة الثوب قال معلى الخلاف فيهما واحد
وعند أبي حنيفة رحمه الله ان كانت النجاسة بالية يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها وان كانت طرية
يعيد صلاة يوم وليلة ومن سلم فرق بينهما لأبي حنيفة رحمه الله فقال الثوب كان يقع بصره
59

عليه في كل وقت فلو كانت فيه نجاسة فيما مضى لرآها فأما البئر فمغيب عن بصره والموضع
موضع الاحتياط فإن كانت غير منتفخة قال أبو حنيفة رحمه الله يعيد صلاة يوم وليلة
لأنه لما وجب عليه إعادة الصلاة أمرنا بإعادة صلاة يوم وليلة احتياطا (وإذا صلى وفى
ثوبه من الروث أو السرقين أو بول ما لا يؤكل لحمه من الدواب أو خرء الدجاجة أكثر
من قدر الدرهم لم تجز صلاته) والأصل في هذا ان القليل من النجاسة في الثوب لا يمنع
جواز الصلاة فيه عندنا. وقال الشافعي رحمه الله إذا كان بحيث يقع بصره عليه يمنع جواز
الصلاة قال لأن الطهارة عن النجاسة العينية شرط جواز الصلاة كالطهارة عن الحدث
الحكمي فكما أن الشرط ينعدم بالقليل من الحدث وكثيره فكذلك ينعدم بالقليل من
النجاسة وكثيرها * وحجتنا ما روي عن عمر رضى الله تعالى عنه انه سئل عن قليل النجاسة
في الثوب فقال إن كان مثل ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة ولان القليل من النجاسة
لا يمكن التحرز عنه فان الذباب يقعن علي النجاسات ثم يقعن علي ثياب المصلى ولا بد من
أن يكون على أجنحتهن وأرجلهن نجاسة فجعل القليل عفوا لهذا بخلاف الحدث فإنه
لا بلوى في القليل منه والكثير. ثم إن الصحابة رضى الله تعالى عنهم كانوا يكتفون
بالاستنجاء بالأحجار وقلما يتطيبون بالماء والاستنجاء بالحجر لا يزيل النجاسة حتى لو
جلس بعده في الماء القليل نجسه فاكتفاؤهم به دليل على أن القليل من النجاسة عفو ولهذا
قدرنا بالدرهم على سبيل الكناية عن موضع خروج الحدث هكذا قال النخعي رحمه الله
تعالى واستقبحوا ذكر المقاعد في مجالسهم فكنوا عنه بالدرهم. وكان النخعي يقول إذا
بلغ مقدار الدرهم منع جواز الصلاة. وكان الشعبي يقول لا يمنع حتى يكون أكثر
من قدر الدرهم وأخذنا بهذا لأنه أوسع ولأنه قد كان في الصحابة رضوان الله عليهم من هو
مبطون ولوث المبطون أكثر ومع هذا كانوا يكتفون بالاستنجاء بالأحجار والدرهم
أكبر ما يكون من النقد المعروف فأما المنقطع من النقود كالسهليلي وغيره فقد قيل إنه
يعتبر به وهو ضعيف والتقدير بالدرهم فيما اتفقوا على نجاسته كالخمر والبول وخرء الدجاج
وفى الخرء إذا كان أكثر من وزن مثقال ولا عرض له يمنع جواز الصلاة أيضا. فأما
الروث والسرقين فنقول روث ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل سواء وهو نجس عندنا. وقال
مالك رحمه الله روث ما يؤكل لحمه طاهر لما روى أن الشبان من الصحابة في منازلهم في
60

السفر كانوا يترامون بالجلة فلو كانت نجسة لم يمسوها وقال لأنه وقود أهل المدينة
يستعملونه استعمال الحطب (ولنا) ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ابن
مسعود أحجارا للاستنجاء ليلة الجن فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة وقال إنها
ركس أي نجس. وقيل لمحمد رحمه الله لم قلت بطهارة بول ما يؤكل لحمه ولم تقل بطهارة روثه
قال لما قلت بطهارته أجزت شربه فلو قلت بطهارة روثه لأجزت أكله وأحد لا يقول
بهذا * ثم التقدير فيه عند أبي حنيفة رحمه الله بالدرهم وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى بالكثير الفاحش وقال زفر في روث ما يؤكل لحمه ما لم يكن كثيرا فاحشا لم يمنع وفي
روث ما لا يؤكل لحمه الجواب ما قال أبو حنيفة رحمه الله واعتبر الروث بالبول فقال في
بول ما يؤكل لحمه التقدير بالكثير الفاحش لكونه مختلفا في نجاسته فكذلك في روثه وأبو
يوسف ومحمد رحمهما الله قالا في الأرواث بلوى وضرورة خصوصا لسائر الدواب وللبلوى
تأثير في تخفيف حكم النجاسة فكان التقدير فيه بالكثير الفاحش وأبو حنيفة رحمه الله يقول
الروث منصوص على نجاسته كما روينا في حديث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فتتغلظ
نجاسته ولا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم كالخمر والبلوى لا تعتبر في موضع النص فان
البلوي للآدمي في بوله أكثر وكذا في بول الحمار فإنه يترشش فيصيب الثياب ومع ذلك
لا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم لأنه منصوص على نجاسته * وروى عن محمد رحمه الله
تعالى قال في الروث وإن كان كثيرا فاحشا لا يمنع جواز الصلاة وهذا آخر أقاويله حين
كان بالري وكان الخليفة بها فرأى الطرق والخانات مملوءة من الأرواث وللناس فيه بلوى
عظيمة فاختار هذا القول لهذا * قال (وأدنى ما ينبغي أن يكون بين البئر والبالوعة خمسة
أذرع في رواية أبى سليمان والنوادر والأمالي) وفى رواية أبى حفص سبعة أذرع * والحاصل
انه ليس فيه تقدير لازم بشئ إنما الشرط أن لا يخلص من البالوعة والبئر شئ وذلك
يختلف باختلاف الأراضي في الصلابة والرخاوة ألا ترى أنه قال فإن كان بينهما خمسة أذرع
فوجد في الماء ريح البول أو طعمه فلا خير فيه وإن لم يوجد شئ من ذلك فلا بأس به وإن كان
بينهما أقل من خمسة أذرع فعرفنا أن المعتبر هو الخلوص (ولا بأس بأن يغتسل الرجل
والمرأة من اناء واحد) لحديث عائشة رضى الله تعالى عنها وقد رويناه فإذا جاز أن يفعلا
معا فكذلك أحدهما بعد الآخر. جاء في الحديث أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه
61

وسلم اغتسلت من اناء فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت إني كنت
جنبا فقال عليه الصلاة والسلام الماء لا يجنب والذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل شاذ فيما تعم به البلوى
فلا يكون حجة (وإذا نسي المضمضة والاستنشاق في الجنابة حتى صلى لم يجزه) وهو
عندنا فان المضمضة والاستنشاق فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء. وقال الشافعي رضى
الله تعالى عنه سنتان فيهما وقال أهل الحديث فرضان فيهما ومنهم من أوجب الاستنشاق
دون المضمضة واستدلوا بمواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها في الوضوء ولكنا
نقول كان يواظب في العبادات على ما فيه تحصيل الكمال كما يواظب على الأركان وفي كتاب
الله تعالى أمر بتطهير أعضاء مخصوصة والزيادة على النص لا تجوز الا بما يثبت به النسخ
وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعرابي الوضوء ولم يذكرهما فيه. والشافعي رحمه
الله تعالى استدل بقوله تعالى وان كنتم جنبا فاطهروا والأطهار امرار الطهور على الظواهر
من البدن والفم في حكم الباطن بدليل أن الصائم إذا ابتلع بزاقه لم يضره وبدليل الوضوء
فالفم والأنف موضعهما الوجه والغسل فرض فيهما. وبدليل غسل الميت فإنه ليس فيه
مضمضة ولا استنشاق وإمامنا في المسألة ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال هما فرضان في
الجنابة سنتان في الوضوء وقال صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر
وأنقوا البشرة وفى الفم بشرة. قال ابن الاعرابي البشرة الجلدة التي تقى اللحم من الأذى
وقال صلى الله عليه وسلم من ترك موضع شعرة في الجنابة عذبه الله بالنار كذا قال على
رضى الله تعالى عنه فمن ثم عاديت شعري وفي الانف شعرات والمعنى ان للفم حكمين حكم
الظاهر من وجه حتى إذا أخذ الصائم الماء بفيه لم يضره وحكم الباطن من وجه كما قال ففيما
يعم جميع الظاهر ألحقناه بالظاهر وفيما يخص بعضه ألحقناه بالباطن لأنه لما جعل بعض ما هو
ظاهر من كل وجه عفوا فما هو باطن من وجه أولى ولان الجنابة تحل الفم والأنف
بدليل أن الجنب ممنوع عن قراءة القرآن والحدث لا يحلهما بدليل أن المحدث لا يمنع من
قراءة القرآن وفي غسل الميت سقوط المضمضة والاستنشاق للتعذر لأنه لا يمكنه كبه حتى
يخرج الماء من فيه وبدونه يكون سقيا لا مضمضة. إذا ثبت هذا فنقول في كل موضع
ترك شيئا من الفرائض لم يصح شروعه في الصلاة حتى إذا قهقه لا يلزمه إعادة الوضوء
62

لأنه لم يصادف حرمة الصلاة في كل موضع ترك شيئا من المسنون صح شروعه في الصلاة
فإذا قهقه فعليه إعادة الوضوء وإن كان متنفلا فعليه إعادة الصلاة وإن مسح رأسه بماء
أخذه من لحيته لم يجزه لأنه مسح بالماء المستعمل فان الماء إذا فارق عضوه يصير مستعملا
وذلك مروى عن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والذي روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم أخذ الماء من لحيته واستعمله في لمعة رآها تأويله في الجنابة وجميع البدن في الجنابة
كعضو واحد وإن كان في كفه بلل فمسحه به أجزأه لأن الماء الذي بقي في كفه غير
مستعمل فهو كالباقي في انائه وقال الحاكم وهذا إذا لم يكن استعمله في شئ من أعضائه وهو
غلط منه فإنه إذا استعمله في شئ من المغسولات لم يضره لان فرض الغسل تأدى بما
جرى على عضوه لا بالبلة الباقية في كفه إلا أن يكون استعمله في المسح بالخف وحينئذ
الامر على ما قاله الحاكم لان فرض المسح يتأدى بالبلة * قال ولا يجزئ مسح الرأس بأصبع
ولا بإصبعين ويجزئه بثلاثة أصابع * والكلام هنا في فصول. أحدها في قدر المفروض
من مسح الرأس ففي الأصل ذكر قدر ثلاثة أصابع وفى موضع الناصية وفى موضع ربع الرأس
وقال الشافعي رحمه الله أدنى ما يتناوله الاسم ولو ثلاث شعرات * وقال مالك رحمه الله
تعالى المفروض مسح جميع الرأس. وقال الحسن رحمه الله تعالى أكثر الرأس. واستدل
مالك بفعل رسول الله صلى الله على وسلم فإنه مسح رأسه بيديه كلتيهما أقبل بهما وأدبر
وبه استدل الحسن رضي الله تعالى عنه إلا أنه قال الأكثر يقوم مقام الكل وقد بينا أن
فعله صلى الله عليه وسلم لا يدل على الركنية فقد يكون ذلك لاكمال الفريضة واعتبر الممسوح
بالمغسول وهو فاسد فان المسح بنى على التخفيف وفى كتاب الله تعالى ما يدل على التبعيض
في المسح وهو حرف الباء في قوله تعالى وامسحوا برؤوسكم فهو إشارة إلى البعض كما يقال
كتبت بالقلم وضربت بالسيف أي بطرف منه. ولهذا قال الشافعي يتأدى بأدنى ما يتناوله
الاسم ولكنا نقول من مسح ثلاث شعرات لا يقال إنه مسح برأسه عادة وفي الآية
ما يدل على البعض وهو مجمل في مقدار ذلك البعض بيانه في فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم كما رواه المغيرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة
عن رأسه ومسح على ناصيته وذلك الربع فان الرأس ناصية وقذال وفودان ولان الربع
بمنزلة الكمال فان من رأى وجه انسان يستجيز له أن يقول رأيت فلانا وإنما رأى أحد
63

جوانبه الأربعة. إذا عرفنا هذا فنقول ذكر في نوادر ابن رستم أنه إذا وضع ثلاثة
أصابع ولم يمرها جاز في قول محمد رحمه الله تعالى في الرأس والخف ولم يجز في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى حتى يمرها بقدر ما تصيب البلة مقدار ربع الرأس فهما اعتبرا
الممسوح عليه ومحمد رحمه الله تعالى اعتبر الممسوح به وهو عشرة أصابع وربعها أصبعان
ونصف إلا أن الإصبع الواحد لا يتجزأ فجعل المفروض ثلاثة أصابع لهذا وإن مسح
بأصبع أو بإصبعين لم يجزه عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى يجوز إذا مسح به مقدار ربع
الرأس قال لان المعتبر إصابة البلة دون الأصابع حتى لو أصاب رأسه ماء المطر أجزأه عن
المسح (ولنا) أنه كما وضع الأصابع صار مستعملا فلا يجوز إقامة الفرض به بالامرار فان
قيل إذا وضع ثلاثة أصابع ومسح بها جميع رأسه جاز وكما لا يجوز إقامة الفرض بالماء
المستعمل فكذلك إقامة السنة بالممسوح. قلنا الرأس تفارق المغسولات في المفروض دون
المسنون ألا ترى أن في المسنون يستوعب الحكم جميع الرأس كما في المغسولات فكما أن في
المغسولات الماء في العضو لا يصير مستعملا فكذلك في حكم إقامة السنة في الممسوح إلى
هذا الطريق يشير محمد رحمه الله تعالى حتى قال في نوادر ابن رستم لو أعاد الإصبع إلى
الماء ثلاث مرات يجوز وهكذا قال محمد بن سلمة رحمه الله تعالى لو مسح بأصبعه بجوانبه الأربعة
يجوز والأصح عندي أنه لا يجوز وأن الطريقة غير هذا فقد ذكر في التيمم أنه إذا مسح
بأصبع أو بإصبعين لا يجوز فالاستيعاب هناك فرض وليس هناك شئ يصير مستعملا
ولكن الوجه الصحيح أن المفروض هو المسح باليد فأكثر الأصابع يقوم مقام الكل فإذا
استعمل في مسح الرأس أو الخف أو التيمم ثلاثة أصابع كان كالماسح بجميع يده فيجوز وإلا فلا
وإن كان شعره طويلا فمسح ما تحت أذنيه لم يجزه وإن مسح ما فوقهما أجزأه لان المسح
على الشعر بمنزلة المسح على البشرة التي تحته وما تحت الاذنين عنق وما فوقهما رأس
والأفضل أن يمسح ما أقبل من أذنيه وما أدبر مع الرأس وان غسل ما أقبل منهما مع الوجه
جاز لان في الغسل مسحا وزيادة ولكن الأول أفضل لان الاذنين من الرأس والفرض
في الرأس المسح بالنص وإنما قلنا إنهما من الرأس لأنهما على الرأس واعتبرا بآذان الكلاب
والسنانير والفيل ومن فغرفاه فيزول عظم اللحيين عن عظم الرأس وتبقى الاذن مع الرأس
وعلى هذا قلنا لا يأخذ لاذنيه ماء جديدا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى يأخذ لاذنيه ماء
64

جديدا. واستدل بما روى أبو أمامة الباهلي رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم توضأ وأخذ لاذنيه ماء جديدا وقال لان الاذن مع الرأس كالفم والأنف مع الوجه
ثم يأخذ للمضمضة والاستنشاق ماء جديدا سوى ما يقيم به فرض غسل الوجه فهذا
مثله (ولنا) حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان النبي صلى الله عليه سلم مسح
برأسه وأذنيه بماء واحد وقال الاذنان من الرأس. فاما أن يكون المراد بيان الحقيقة وهو
مشاهد لا يحتاج فيه إلى بيانه أو يكون المراد أنهما ممسوحان كالرأس وهذا بعيد فاتفاق
العضوين في الفرض لا يوجب إضافة أحدهما إلى الآخر فعرفنا ان المراد أنهما ممسوحان
بالماء الذي مسح به الرأس وتأويل ما رواه أنه لم يبق في كفه بلة فلهذا أخذ في أذنيه ماء
جديدا. وذكر الحاكم رحمه الله في المنتقى إذا أخذ غرفة من الماء فتمضمض بها وغسل وجهه أجزأه
وبعد التسليم قلنا المضمضة والاستنشاق مقدمان على غسل الوجه فإذا أقامهما بماء واحد كان
المفروض تبعا للمسنون وذلك لا يجوز وهاهنا إذا أقامهما بماء واحد يكون المسنون تبعا
للمفروض وذلك مستقيم * قال (وان مسح أذنيه دون رأسه لم يجزه) لأنه ترك المفروض
والمسنون لا يقوم مقام المفروض (فان قيل) لكم أين ذهب قولكم الاذنان من الرأس (قلنا)
هما من الرأس وليسا برأس كالثمار من الشجرة وليست بشجرة والواحد من العشرة وليس
بعشرة والفقه فيه أن فرض المسح بالرأس ثابت بالنص وكون الاذن من الرأس ثابت بخبر
الواحد فلا يتأدى به ما يثبت بالنص كمن استقبل الحطيم بالصلاة فلا تجزئه وإن كان
الحطيم من البيت لان فرضية استقبال الكعبة ثابت بالنص وكون الحطيم من البيت ثابت
بخبر الواحد فلا يتأدى به ما ثبت بالنص (ومن توضأ ومسح رأسه ثم جز شعره أو نتف إبطيه
أو قلم أظفاره أو أخذ من شاربه لم يكن عليه أن يمس شيئا من ذلك الماء ولا أن يجدد
وضوءه) وكان ابن جرير رحمه الله تعالى يقول عليه أن يتوضأ وكان إبراهيم رحمه الله تعالى
يقول يجب عليه امرار الماء على ذلك الموضع وهو فاسد لان النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا وضوء الا من حدث وفعله هذا تطهير فكيف يكون حدثا واليه أشار على رضى الله تعالى عنه لما سئل عن هذا فقال ما ازداد الا طهر أو نظافة * قال (ثم المسح على الشعر
مثل المسح على البشرة التي تحته) لا أنه بدل عنه بدليل أن الإصبع إذا مسح على الشعر
جاز ولا يجوز المصير إلى البدل مع القدرة على الأصل فكان جز الشعر بعد المسح كتقشير
65

الجلد عن العضو المغسول بعد الغسل فكما لا يلزمه امرار الماء ثمة فكذلك هنا بخلاف الماسح
على الخفين إذا نزعهما فان المسح لم يكن بمنزلة الغسل ولكن استتار القدم بالخف يمنع سراية
الحدث إلى القدم بدليل أنه لو كان رجله باديا وقت الحدث لم يجزه المسح فبخلع الخف يسرى
الحدث إلى القدم * قال (وكذلك ان مس ذكره بعد الوضوء فلا وضوء عليه وهذا عندنا)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا مس بباطن كفه من غير حائل فعليه الوضوء والرجل
والمرأة في مس الفرج سواء عنده لحديث بسرة بنت صفوان رضى الله تعالى عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال من مس ذكره فليتوضأ. وسئلت عائشة رضى الله تعالى عنها
عن امرأة مست فرجها فقالت إن كانت ترى ماء هنالك فلتتوضأ ولان مس الذكر
سبب لاستطلاق وكاء المذي فيجعل به كالممذى كما أن التقاء الختانين لما كان سببا
لاستطلاق وكاء المني جعل به كالممني وإقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي أصل في
الشرع (ولنا) حديث قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي أنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمن مس ذكره هل عليه أن يتوضأ فقال لا هل هو الا بضعة
منك أو قال جذوة منك. وعن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلى وابن مسعود رضي الله
تعالى عنهم مثل قولنا حتى قال بعضهم إن كان شئ منك نجسا فاقطعه (وقال) بعضهم ما أبالي
أمسسته أم أنفى وهو المعنى فإنه عضو من أعضائه فاما أن يكون طاهرا أو نجسا وليس في
مس شئ من الطاهرات ولا من النجاسات وضوء ولو مس ما يخرج منه لم ينتقض به
وضوءه وإقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي عند تعذر الوقوف على الخفي وذلك غير
موجود هنا فان المذي يرى ويشاهد وهو فاسد على أصله فان من مس ذكر غيره عنده
يجب الوضوء على المماس دون الممسوس ذكره واستطلاق وكاء المذي هنا ينبغي في حق
الممسوس ذكره وحديث بسرة لا يكاد يصح فقد قال يحيى بن معين ثلاث لا يصح فيهن
حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا وما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة حتى لم ينقله أحد منهم وإنما قاله بين يدي بسرة وقد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها ولو ثبت فتأويله من بال
فجعل مس الذكر كناية عن البول لان من يبول يمس ذكره عادة كقوله تعالى أو جاء
أحد منكم من الغائط والغائط هو المطمئن من الأرض كنى به عن الحدث لأنه يكون في
66

مثل هذه المواضع عادة أو المراد بالوضوء غسل اليد استحبابا كما في قوله صلى الله عليه وسلم
الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم والمراد منه غسل اليد (قال) وكذلك إذا
نظر إلى فرج امرأة لقول ابن عباس رضي الله عنهما الوضوء مما خرج وبمجرد النظر
لا يخرج منه شئ فهو والتفكر سواء * قال (وفى المنى الغسل) لقوله صلى الله عليه وسلم
إنما الماء من الماء يعنى الاغتسال من المنى ومراده إذا خرج على وجه الدفق والشهوة فان
خرج لا على هذه الصفة لحمله شيئا ثقيلا أو سقوطه على ظهره يلزمه الاغتسال عند الشافعي
رحمه الله تعالى لعموم الحديث ولا يلزمه عندنا لان خروجه بصفة خروج المذي فحكمه حكم
المذي في ايجاب الوضوء. ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى مفارقة المنى
عن مكانه على وجه الشهوة والدفق وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى المعتبر ظهوره.
بيانه في فصلين. أحدهما أن من أحتلم فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته ثم سال منه
المنى فعليه الغسل عندهما ولا غسل عليه عند أبي يوسف رحمه الله تعالى. والثاني أن المجامع
إذا اغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المنى فعليه الاغتسال عندهما ثانيا وليس عليه ذلك
عند أبي يوسف رحمه الله تعالى * قال (وفى المذي الوضوء) لحديث على رضى الله تعالى عنه
قال كنت فحلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته تحتي
فأمرت المقداد بن الأسود حتى سأله فقال كل فحل يمذي وفيه الوضوء (وكذلك الودي)
فإنه الغليظ من البول فهو كالرقيق منه * ثم فسر هذه المياه فقال (المنى خائر ابيض ينكسر
منه الذكر) وذكر الشافعي رضي الله تعالى عنه في كتابه أن له رائحة الطلع (والمذي رقيق
يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله والودي رقيق يخرج منه بعد البول)
وتفسير هذا المياه مروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الصفة * قال (ولا يجب
الوضوء من القبلة ومس المرأة بشهوة أو غير شهوة) وهو قول على وابن عباس رضي الله
تعالى عنهم وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجب الوضوء من ذلك وهو قول عمرو ابن مسعود
رضى الله تعالى عنهما وهو اختلاف معتبر في الصدر الأول حتى قيل ينبغي لمن يؤم الناس أن
يحتاط فيه وقال مالك رحمه الله إن كان عن شهوة يجب وإلا فلا فالشافعي رحمه الله استدل
بقوله تعالى أو لامستم النساء وحقيقة المس باليد قال الله تعالى فلمسوه بأيديهم ولا يعارض
القراءة الا ترى قوله أو لامستم فأكثر ما في الباب أن يثبت أن المراد بتلك القراءة الجماع
67

فيعمل بهما جميعا والمعنى ما ذكرنا أن التقبيل والمس سبب لاستطلاق وكاء المذي فيقام مقام
خروج المذي حقيقة في ايجاب الوضوء أخذا بالاحتياط في باب العبادة كما فعله أبو
حنيفة رحمه الله تعالى في المباشرة الفاحشة (ولنا) حديث عائشة وأم سلمة رضى الله تعالى
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ وعن عمر رضى الله
تعالى عنه أنه انصرف يوما من صلاته فلما فرغ الناس رأوه يصلى في آخر الصفوف فقال إني
توضأت فمرت بي جاريتي رومية فقبلتها فلما افتتحت الصلاة وجدت مذيا فقلت أمضى في
صلاتي حياء منكم ثم قلت لان أراقب الله تعالى خير لي من أن أراقبكم فانصرفت وتوضأت
فهذا دليل رجوع عمر رضى تعالى الله عنه لأنه افتتح الصلاة بعد التقبيل حتى إذا أحس
بالمذي انصرف وتوضأ ولان عين المس ليس بحدث بدليل مس ذوات المحارم فبقي
الحدث ما يخرج عند المس وذلك ظاهر يوقف عليه فلا حاجة إلى إقامة السبب الظاهر
مقامه. وأما الآية فقد قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما المراد بالمس الجماع إلا أن الله
تعالى حي يكنى بالحسن عن القبيح كما كنى بالمس عن الجماع وهو نظير قوله تعالى وان
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن والمراد الجماع وهذا لأنه لو حمل على الجماع كان ذكرا
للحدث الكبرى بعد ذكر الحدث الصغرى بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط
فأما إذا حمل على المس باليد كان تكرارا محضا * قال (فان باشرها وليس بينهما ثوب فانتشر
لها فعليه الوضوء) عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وقال محمد رحمه
الله تعالى لا وضوء عليه وهو القياس لقول ابن عباس رضي الله عنهما الوضوء مما خرج وقد
تيقن أنه لم يخرج منه شئ فهو كالتقبيل ووجه قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى
أن الغالب من حال من بلغ في المباشرة هذا المبلغ خروج المذي منه حقيقة فيجعل كالممذى
بناء للحكم على الغالب دون النادر كمن نام مضطجعا انتقض وضوءه وان تيقن بأنه لم يخرج
منه شئ وكذلك من عدم الماء في المصر لا يجزئه التيمم بناء على الغالب أن الماء في المصر
لا يعدم * وفسر الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى عنهم المباشرة الفاحشة بأن يعانقها وهما
متجردان ويمس ظاهر فرجه ظاهر فرجها * قال (وإذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب
الغسل أنزل أو لم ينزل) وهو قول المهاجرين عمر وعلى وابن مسعود رضى الله تعالى عنهم
فأما الأنصاري كأبى سعيد وحذيفة وزيد بن ثابت الأنصاري رضى الله تعالى عنهم قالوا
68

لا يجب الاغتسال بالاكسال ما لم ينزل وبه أخذ سليمان الأعمش رضى الله تعالى عنه
لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم إنما الماء من الماء (ولنا) حديث شاذ أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال إذا التقى الختانان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل وهو قول المهاجرين
عمر وعلي وابن مسعود والأصح أن عمر رضى الله تعالى عنه لم يسوغ للأنصار هذا
الاجتهاد حتى قال لزيد أي عدو نفسك ما هذه الفتوى التي تقشعت عنك فقال سمعت
عمومتي من الأنصار يقلن ذلك فجمعهن عمر وسألهن فقلن كنا نفعل ذلك على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا نغتسل فقال عمر أو كان يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلن لا فقال ليس بشئ وبعث إلى عائشة رضى الله تعالى عنها فسألها فقالت فعلت ذلك
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فقال عمر رضى الله تعالى عنه لزيد لئن عدت
إلى هذا لاذيتك والمعنى أن هذا الفعل سبب لاستطلاق وكاء المنى عادة فقام مقام خروج المنى
احتياطا لأنه مغيب عن بصره فربما لم يقف عليه ما خرج لقلته فالموضع موضع الاحتياط
من هذا الوجه * قال (ولا يجب الغسل بالجماع فيما دون الفرج ما لم ينزل) لان ما دون الفرج
ليس نظير الفرج في استطلاق وكاء المنى بمسه. والدليل عليه حكم الحد واليه أشار على
رضى الله تعالى عنه في الاكسال فقال يوجب فيه الحد ولا يوجب فيه صاعا من ماء
* قال (ومن احتلم ولم ير شيئا فلا غسل عليه) لأنه تفكر في النوم فهو كالتفكر في اليقظة
إذا لم يتصل به الانزال (قال) فان علم أنه لم يحتلم ولكنه استيقظ فوجد على فخذه أو
فراشه مذيا فعليه الغسل عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى احتياطا (وقال) أبو يوسف
لا غسل عليه لأنه بات طاهرا بيقين فلا يصبح جنبا بالشك وخروج المذي
يوجب الوضوء دون الاغتسال. وحجتهما في ذلك ما روى عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال من أصبح فوجد ماء ولم يتذكر شيئا فليغتسل ومن احتلم ثم أصبح على جفاف
فلا غسل عليه ولسنا نوجب الاغتسال بخروج المذي إنما نوجبه بخروج المنى ولكن من
طبع المنى أن يرق بإصابة الهواء فالظاهر أن هذا الخارج كان منيا قد رق قبل أن يستيقظ
ومراد محمد رحمه الله تعالى من قوله فوجد مذيا ما يكون صورته صورة المذي لا حقيقة
المذي. ثم إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في هذه المسألة ومسألة المباشرة الفاحشة ومسألة الفأرة
المنتفخة أخذ بالاحتياط وأبو يوسف رحمه الله تعالى وافقه في الاحتياط في مسألة المباشرة
69

لوجود فعل من جهته هو سبب خروج المذي وخالفه في الفصلين الآخرين لانعدام الفعل
منه ومحمد رحمه الله وافقه في الاحتياط في مسألة النائم لأنه غافل عن نفسه فلا يحس بما يخرج
منه فكان الموضع موضع الاحتياط بخلاف الفصلين الآخرين فان المباشر ليس بغافل عن
نفسه فيحس بما يخرج منه * قال (والمرأة كالرجل في الاحتلام) لحديث أم سليم حين
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل فقال إن
كان منها مثل ما يكون من الرجل فلتغتسل وروى عن محمد رحمه الله تعالى أن المرأة
إذا تذكرت الاحتلام والتلذذ ولم تر شيئا فعليها الغسل لان منيها يتدفق في رحمها فلا
يظهر وهو ضعيف فان وجوب الغسل متعلق بخروج المنى والمني يخرج منها عند المواقعة كما
يخرج من الرجل * قال (وإذا احتلمت المرأة ثم أدركها الحيض فإن شاءت اغتسلت وإن شاءت
أخرت حتى تطهر من الحيض) لان الاغتسال للتطهير حتى تتمكن به من أداء الصلاة وهذا
لا يتحقق من الحائض قبل انقطاع الدم وإن شاءت اغتسلت لان استعمال الماء يعين على
درور الدم (وكان مالك) رحمه الله تعالى يقول عليها أن تغتسل بناء على أصله أن
الجنب ممنوع عن قراءة القرآن والحائض لا تمنع * قال (وإذا عرق الجنب أو الحائض
في ثوب لم يضره) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الحائض من نسائه بالاتزار
ثم كان يعانقها طول الليل والحر حر الحجاز فكانا يعرقان لا محالة ولم يتحرز رسول الله صلى
الله عليه وسلم من عرقها ولأنه ليس على بدن الانسان الجنب والحائض نجاسة عينية فهو وأعضاء
المحدث سواء * قال (وإذا وقعت الجيفة أو النجاسة في الحوض فإن كان صغيرا فهو قياس
الأواني والجباب يتنجس والأصل فيه الحديث يغسل الاناء من ولوغ الكلب سبعا وإن كان
الحوض كبيرا فهو قياس البحر لا يتنجس) لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر هو الطهور
ماؤه والحل ميتته. والفصل بين الصغير والكبير يعرف بالخلوص فإذا كان بحال لو ألقى
فيه الصبغ يظهر أثره في الجانب الآخر فهو صغير لأنا علمنا أن النجاسة تخلص إلى الجانب
الآخر كما خلص اللون هكذا حكى عن الشيخ الامام أبى حفص الكبير رحمه الله تعالى
والمذهب الظاهر في تفسير الخلوص أنه إذا كان بحال لو حرك جانب منه يتحرك الجانب
الآخر فهو صغير وان كأن لا يتحرك الجانب الآخر فهو كبير. وصفة التحريك المروى فيه
عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه اعتبر تحريك المتوضئ وأبو يوسف رحمه الله اعتبر تحريك
70

المنغمس فرواية أبي حنيفة أوسع ثم قال بعض مشايخنا في الحوض الكبير انه لا يتنجس
بوقوع النجاسة فيه لأنه كالماء الجاري والأصح أن الموضع الذي وقع فيه النجاسة يتنجس
واليه أشار في الكتاب وقال لا بأس بأن يتوضأ من ناحية أخرى ومعناه أنه يترك من موضع
النجاسة قدر الحوض الصغير ثم يتوضأ لأن النجاسة لا تخلص إلى ما وراء ذلك هو
مفسر في الاملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وعلى هذا قالوا من استنجى
في موضع من حوض لا يجزئه أن يتوضأ من ذلك الموضع قبل تحريك الماء وأما التقدير
بالمساحة فقد قال أبو عصمة كان محمد رحمه الله تعالى يقدر في ذلك عشرة في عشرة ثم
رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال لا أقدر فيه شيئا والمشهور عن محمد رحمه الله أنه لما
سئل عن هذا فقال إن كان مثل مسجدي هذا فهو كبير فلما قام مسحوا مسجده فروى أنه
كان ثمانيا في ثمان وروى أنه اثنا عشر في أثني عشر فكان من روى ثمانيا في ثمان مسح
المسجد من داخل ومن روى اثني عشر مسحه من خارج ولا عبرة بعمق الماء حتى قالوا إذا
كان بحيث لا ينحسر بالاغتراف فهذا القدر يكفي. هذا كله في بيان مذهبنا (وقال الشافعي) إذا
كان الماء بقدر القلتين لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه حتى يتغير أحد أوصافه والقلة اسم لجرة
تحمل من اليمن تسع فيها قربتين وشيئا فالقلتان خمس قرب كل قربة خمسون منا فيكون جملته
مائتين وخمسين منا. واستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل
خبثا (قلنا) هذا ضعيف فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه بلغني باسناد لم يحضرني من
ذكره إذا بلغ الماء قلتين الحديث ومثل هذا دون المرسل ثم قيل معناه ليس لهذا القدر من
القوة ما يحتمل النجاسة فيتنجس به كما يقال مال فلأن لا يحتمل السرف لقلته. وقد تكلم الناس
في القلة فقيل إنها القامة وقيل إنه رأس الجبل فيكون معناه إذا بلغ ماء الوادي قامتين أو
رأس الجبلين ومثل هذا يكون معناه بحرا وبه نقول (وكان) مالك رحمه الله تعالى يقول
القليل والكثير سواء لا يتنجس الا بتغير أحد أوصافه وقد بينا مذهبه * قال (ويتوضأ
الرجل من الحوض الذي يخاف أن يكون فيه قذر ولا يستيقنه قبل أن يسأل عنه) لان
الأصل في الماء الطهارة فعليه التمسك به حتى يتبين له غيره وخوفه بناء على الظن والظن
لا يغنى من الحق شيئا وليس عليه أن يسأل عنه لان السؤال للحاجة عند عدم الدليل
وأصل الطهارة دليل مطلق له الاستعمال فلا حاجة إلى السؤال ألا ترى أن ابن عمر رضي
71

الله عنه أنكر على عمرو بن العاص سؤاله بقوله يا صاحب الحوض لا تخبرنا وكذلك ان أنتن
من غير أن يكون فيه جيفة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على بئر رومة فوجد
ماءها منتنا فأخذه بفيه ثم مجه في البئر فعاد الماء طيبا ولان تغير اللون قد يكون بوقوع الطاهر
كالأوراق وغيرها وتغير الرائحة يكون بطول المكث كما قيل الماء إذا سكن منتنة تحرك نتنه
وإذا طال مكثه ظهر خبثه فلا يزول أصل الطهارة بهذا المحتمل فلهذا لا ندع التوضؤ به * قال
(وإذا نسي المتوضئ مسح رأسه فأصابه ماء المطر مقدار ثلاثة أصابع فمسح بيده أو لم يمسحه
أجزأه عن مسح الرأس) وكذلك الجنب إذا وقف في المطر الشديد حتى غسله وقد أنقى فرجه
وتمضمض واستنشق وكذلك المحدث إذا جرى الماء على أعضاء وضوئه لأن الماء مطهر
بنفسه قال الله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا والطهور الطاهر في نفسه المطهر لغيره فلا
يتوقف حصول التطهر به على فعل يكون منه كالنار فإنه لا يتوقف حصول الاحتراق بها
على فعل يكون من العبد وإذا ثبت هذا في المغسول ثبت على الممسوح بطريق الأولى لأنه
دون المغسول والمعتبر فيه إصابة البلة وعلى هذا الأصل قلنا بجواز الوضوء والغسل من
الجنابة بدون النية (وقال) الشافعي رحمه الله لا يجوز الا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم إنما
الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ولأنها طهارة هي عبادة فلا تتأدى بدون النية كالتيمم
وهذا لان معنى العبادة لا يتحقق الا بقصد وعزيمة من العبد بخلاف غسل النجاسة فان ليس بعبادة
(ولنا) آية الوضوء ففيها تنصيص على الغسل والمسح وذلك يتحقق بدون النية فاشتراط النية
يكون زيادة على النص إذ ليس في اللفظ المنصوص ما يدل على النية والزيادة لا تثبت بخير الواحد
ولا بالقياس بخلاف التيمم فإنه عبارة عن القصد لغة قال الله تعالى ولا تيمموا الخبيث
منه تنفقون ففي اللفظ ما يدل على اشتراط النية فيه ولأنها طهارة بالماء فكانت كغسل
النجاسة وتأثير ما قلنا إن الماء مطهر في نفسه والحدث الحكمي دون النجاسة العينية فإذا
عمل الماء في إزالة النجاسة العينية بدون النية ففي إزالة الحدث الحكمي أولى ونحن نسلم
ان الوضوء بغير نية لا يكون عبادة ولكن معنى العبادة فيها تبع غير مقصود إنما المقصود
إزالة الحدث وزوال الحدث يحصل باستعمال الماء فوجد شرط جواز الصلاة وهو القيام
إليها طاهرا بين يدي الله تعالى فيجوز كما لو لم يكن محدثا في الابتداء وبه نجيب عن استدلاله
بالحديث فان المراد أن ثواب العمل بحسب النية وبه نقول وعن التيمم فان التراب غير مزيل
72

للحدث أصلا ولهذا لو أبصر المتيمم الماء كان محدثا بالحدث السابق فلم يبق فيه الا معنى التعبد
وذلك لا يحصل بدون النية. يوضح الفرق أن النية تقترن بالفعل ولا بد من الفعل في التيمم
حتى إذا أصاب الغبار وجهه وذراعيه لا يجزئه عن التيمم. وفى الوضوء والاغتسال لا معتبر
بالفعل حتى إذا سال ماء المطر على أعضائه زال به الحدث فكذلك بدون النية * قال (ولا بأس
بالتمسح بالمنديل بعد الوضوء والغسل) لحديث قيس بن سعد رضى الله تعالى عنه قال أتانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر فوضعنا له ماء فاغتسل والتحف بملحفة
وزسية حتى أثر الورس في عكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لا بأس بأن يلبس ثيابه
فان من اغتسل في ليلة باردة لا يأمره أحد بالمكث عريانا حتى يجف فلعله يموت قبله ولا فرق
بين التمسح بثيابه أو بمنديل ولان المستعمل ما زايل العضو فأما البلة الباقية غير مستعملة حتى
لو جف كان طاهرا فلا بأس بأن يمسح ذلك بالمنديل * قال (ولا بأس للجنب أن ينام أو يعاود
أهله قبل أن يتوضأ) لحديث الأسود عن عائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يصيب من أهله ثم ينام من غير أن يمس ماء فإذا انتبه ربما عاود وربما قام فاغتسل
وفى حديث أنس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة
بغسل واحد فكنا نتحدث بذلك فيما بيننا ونقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوة
أربعين رجلا * قال (وان توضأ قبل أن ينام فهو أفضل) لحديث عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم أصاب من أهله فتوضأ ثم نام وهذا لان الاغتسال والوضوء محتاج
إليه للصلاة لا للنوم والمعاودة إلا أنه إذا توضأ ازداد نظافة فكان أفضل (فان أراد أن
يأكل فالمستحب له أن يغسل يديه ويتمضمض ثم يأكل) لحديث ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما أنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنب أيأكل ويشرب قال نعم إذا توضأ والمراد
غسل اليد لان يده لا تخلو عن نجاسة عادة فالمستحب ازالتها بالماء وكذلك لو لم يتوضأ
حتى شرب كان من وجه شاربا للماء المستعمل فان ترك ذلك لم يضره لان طهارة يده
أصل وفى النجاسة شك * قال (وان كانت الجبائر في موضع من مواضع الوضوء مسح
عليها) والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم شج وجهه يوم أحد فداواه بعظم
بال وعصب عليه فكان يمسح على العصابة ولما كسرت احدى زندي على رضى الله تعالى
عنه يوم حنين حتى سقط اللواء من يده قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في يساره
73

فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة فقال ماذا أصنع بجبائري فقال امسح عليها * والحاصل
أنه إذا كأن لا يضره الغسل بنوع من الماء حار أو بارد فعليه أن يغسله وإن كان
بحيث يضره المسح على الجبائر لم يمسح عليه لان الغسل أقوى من المسح ولما
سقط الغسل عن هذا الموضع لخوف الضرر فكذلك المسح وان كأن لا يضره المسح مسح
عليها لان الطاعة بحسب الطاقة فان ترك المسح وهو لا يضره قال في الأصل لم يجزه في
قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى غير
رواية الأصول عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجزئه وقيل هو قوله الأول ثم رجع عنه إلى قولهما.
وجه قولهما أنه لو ترك الغسل وهو لا يضره لم يجزه فكذلك المسح اعتبارا للبدل بالأصل
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال لو ألزمناه المسح كان بدلا عن الغسل ونصب الابدال بالآحاد
من الاخبار لا يجوز ثم وجوب البدل في موضع كان يجب الأصل وهاهنا لو كان هذا
الموضع باديا لم يجب غسله فكذلك لا يجب المسح على الجبيرة بدلا عنه وبه فارق الخف * قال
(وان مسح على الجبائر ثم دخل في الصلاة ثم سقطت الجبائر عنه مضى على صلاته) وهذا
إذا كان سقوطها عن غير برء فإن كان عن برء فعليه غسل ذلك الموضع واستقبال الصلاة
لزوال العذر فأما إذا سقط عن غير برء فالمسح على الجبائر كالغسل لما تحته ما دامت العلة
باقية ولهذا لا يتوقف بخلاف المسح بالخف * قال (وان كانت الجراحة في جانب رأسه لم يجزه
إلا أن يمسح على الجانب الآخر مقدار المسح) لأن المفروض من المسح مقدار ربع الرأس
وقد وجد هذا القدر من المحل صحيحا فلا حاجة به إلى المسح على الجبائر والعراقيون يقولون
في مثل هذا ان ذهب عير فعير في الرباط * قال (وإذا قلس أقل من ملء فيه فلا وضوء
عليه) الا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول ثبت من أصلنا أن القلس حدث فلا فرق
بين قليله وكثيره كالخارج من السبيلين (ولنا) قول على رضى الله تعالى عنه حين عد
الاحداث فقال أودسعة (1) تملأ الفم ولان القياس أن القلس لا يكون حدثا لان الحدث
خارج نجس بقوة نفسه والقلس مخرج لا خارج فان من طبع الأشياء السيالة أنها لا تسيل
من فوق إلى فوق الا بدافع دفعها أو جاذب جذبها فهو كالدم إذا ظهر على رأس الجرح

(1) {أودسعة} قال في اللسان ودسع فلان بقيئه إذا رمى به وفي حديث علي كرم الله وجهه وذكر
ما يوجب الوضوء فقال أودسعة تملأ الفم يريد الدفعة الواحدة من القئ اه‍ كتبه مصححه.
74

فمسحه ولكنا تركنا القياس عند ملء الفم بالآثار فبقي ما دونه على أصل القياس ولان في
القليل منه بلوى فان من يملا من الطعام إذا ركع في الصلاة يعلو شئ إلى حلقه فللبلوى
جعلنا القليل عفوا والدليل عليه إذا تجشأ لم ينتقض وضوءه وهو لا يخلو عن قليل شئ
ولهذا خبث ريحه وبهذا فارق الخارج من السبيلين فان الفساء جعل حدثا. وحد ملء
الفم أن يعمه أو يمنعه من الكلام وقيل أن يزيد على نصف الفم وعلى هذا حكاية عابد
ببلخ يقال له علي بن يونس أن ابنته سألته فقالت إن خرج من حلقي شئ فقال لها إذا
وجدت طعمه في حلقك فأعيدي الوضوء ثم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في
المنام فقال لا يا علي حتى يملا الفم قال فجعلت على نفسي أن لا أفتى بعد هذا أبدا (فان قاء ملا
الفم مرة أو طعاما أو ماء فعليه الوضوء) لحديث عائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن علي ما مضى من
صلاته ما لم يتكلم وعلى قول الشافعي القئ ليس بحدث بناء على قوله في الخارج من غير
السبيلين على ما نبينه وقال الحسن رحمه الله تعالى إذا شرب الماء وقاء من ساعته لا يخالطه
شئ لا ينتقض وضوءه وجعله قياس خروج الدمع والعرق والبزاق وهذا فاسد فإنه بالوصول
إلى المعدة يتنجس فإنما يخرج وهو نجس فكان كالمرة والطعام سواء (وان قاء بلغما أو بزاقا
لم ينتقض وضوءه) أما البزاق طاهر وبخروج الطاهر من البدن لا ينتقض الوضوء والبلغم
كذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو
بحس ينقض الوضوء إذا ملا الفم قيل إنما أجاب أبو يوسف رحمه الله تعالى فيما يعلو من
جوفه وهما فيما ينحدر من رأسه وهذا ضعيف فالمنحدر من رأسه طاهر بالاتفاق سواء خرج
من جانب الفم أو الانف لان الرأس ليس بموضع للنجاسات وإنما الخلاف فيما يعلو من
الجوف فأبو يوسف رحمه الله يقول البلغم احدى الطبائع الأربعة فكان نجسا كالمرة والصفراء
ولان خروجه من موضع النجاسات فكان نجسا بالمجاورة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى قالا البلغم بزاق والبزاق طاهر ومعني هذا أن الرطوبة في أعلى الحلق ترق فتكون
بزاقا وفي أسفله تثخن فيكون بلغما وبهذا تبين أن خروجه ليس من المعدة بل من أسفل
الحلق وهو ليس بموضع للنجاسة فالبلغم هو النخامة وقال صلى الله عليه وسلم لعمار رضى
الله تعالى عنه ما نخامتك ودموع عينك والماء الذي في ركوتك الا سواء (قال) وان قاء دما فعلى
75

قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ينتقض وضوءه بقليله وكثيره وقال محمد
رحمه الله تعالى لا ينتقض وضوءه حتى يملأ الفم لأنه أحد أنواع القئ فيعتبر بسائر الأنواع
واحتجا بأن المعدة ليس بموضع الدم فخروج الدم من فرجه في الجوف فإذا سال بقوة نفسه إلى
موضع يلحقه حكم التطهير كان ناقضا للوضوء كالسائل من جرح في الظاهر (وروى)
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال هذا إذا قاء دما رقيقا فإن كان شبه
العلق لم ينتقض الوضوء حتى يملأ الفم لأنه ليس بدم في الحقيقة إنما هو سوداء محترق * قال
(وان خرج من جرحه دم أو صديد أو قيح فسال عن رأس الجرح نقض الوضوء عندنا) وهو
قول على وابن مسعود رضى الله تعالى عنهما وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا ينتقض
الوضوء وهو قول ابن عباس وأبي هريرة رضى الله تعالى عنهما واحتج الشافعي رضى الله
تعالى عنه بقوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء الا من حدث قيل وما الحدث قال صوت أو ريح
وهذا إشارة إلى موضع الحدث لا عينيه فدل أن الحدث ما يكون من السبيل المعتاد والمعنى
فيه أن قليل الخارج من غير السبيل ليس بحدث بالاتفاق وما يكون حدثا فالقليل منه
والكثير سواء كالخارج من السبيل والدليل عليه الريح إذا خرج من الجرح لم يكن حدثا
بخلاف ما إذا خرج من السبيل وهذا لان الشرع أقام المخرج مقام الخارج في ثبوت حكم
الحدث فما لا يخرج منه الا النجاسة جعل الخارج منه حدثا ونجسا وما يختلف الخارج منه
لم يكن حدثا وان خرج منه ما هو نجس تيسيرا للامر (ولنا) حديث زيد بن علي رضى الله
تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الوضوء من كل دم سائل وقال سلمان رضى الله
تعالى عنه مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدم يسيل من أنفى فقال أحدث لما حدث
بك وضوءا والمعنى فيه أنه خارج نجس وصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير فكان حدثا
كالخارج من السبيل وهذا لان الحكم للخارج دون المخرج حتى يختلف الواجب باختلاف
الخارج فخروج المنى يوجب الغسل وخروج المذي يوجب الوضوء والمخرج واحد وهو
بخلاف القليل الذي لم يسل لأنه ما صار خارجا إنما تقشر عنه الجلد فظهر ما هو في
موضعه والشئ في موضعه لا يعطى له حكم النجاسة وفى السبيل وان قل ما ظهر فقد فارق
مكانه وكذلك الريح إذا خرج من السبيل ومعه قليل شئ وذلك كاف في انتقاض الطهارة
بخلاف الخارج من غير السبيل. يقرر ما قلنا أنه وجب عليه غسل ذلك الموضع لمعنى من
76

بدنه فيكون حدثا كالخارج من السبيل بخلاف ما إذا لم يسل فإنه لم يلزمه غسل ذلك الموضع
وبخلاف ما إذا أصابته نجاسة لان وجوب غسله لم يكن لمعنى من بدنه فلا تتغير صفة طهارة
بدنه. ثم حاصل المذهب أن الدم إذا سال بقوة نفسه حتى أنحدر انتقض به الوضوء وإن لم
ينحدر ولكنه علا فصار أكثر من رأس الجرح لم تنتقض به الطهارة الا في رواية شاذة عن
محمد رحمه الله تعالى فإنه إن مسحه قبل أن يسيل فإن كان بحال لو ترك لسال فعليه الوضوء
وإن كان بحال لو تركه لم يسل فلا وضوء عليه لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال
في الدم إذ سال عن رأس الجرح فهو حدث وإلا فلا * قال (فان بزق فخرج من بزاقه دم
فإن كان البزاق هو الغالب فلا وضوء عليه) لان الدم ما خرج بقوة نفسه وإنما أخرجه البزاق
والحكم للغالب (وإن كان الدم هو الغالب فعليه الوضوء) لأنه خارج بقوة نفسه وان كانا
سواء ففي القياس لا وضوء عليه لأنه تيقن بصفة الطهارة وهو في شك من الحدث ولكنه
استحسن فقال البزاق سائل بقوة نفسه فما ساواه يكون سائلا بقوة نفسه أيضا. ثم اعتبار
أحد الجانبين يوجب الوضوء واعتبار الجانب الآخر لا يوجب الوضوء فالأخذ بالاحتياط
أولى لقوله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع الحلال والحرام في شئ الا وقد غلب الحرام الحلال
وفى الكتاب قال أحب إلى أن يعيد الوضوء وهو إشارة إلى أنه غير واجب وهو اختيار
محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله تعالى وأكثر المشايخ على أنه يجب الوضوء بما بينا * قال
(والقهقهة في الصلاة تنقض الوضوء والتبسم لا ينقضه) أما التبسم فلحديث جرير بن
عبد الله البجلي قال ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تبسم ولو في الصلاة وروى
أنه صلى الله عليه وسلم تبسم في صلاته فلما فرغ سئل عن ذلك فقال أتاني جبريل عليه
الصلاة والسلام فقال من صلى عليك مرة صلى الله عليه عشرا فدل أن التبسم لا يضر المصلى
فأما القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء قياسا وهو قول الشافعي رحمه الله لان انتقاض الوضوء
يكون بالخارج النجس ولم يوجد ولو كان هذا حدثا لم يفترق الحال فيه بين الصلاة وغيرها كسائر
الاحداث وقاس بالقهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة واستحسن علماؤنا رحمهم الله لحديث
زيد بن خالد الجهني قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه رضوان الله عليهم إذ
أقبل أعمى فوقع في بئر أو ركية هناك فضحك بعض القوم فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من
صلاته قال من ضحك منكم فليعد الوضوء والصلاة وفى حديث جابر رضي الله عنه قال قال
77

صلى الله عليه وسلم من ضحك في صلاته حتى قرقر فليعد الوضوء والصلاة وتركنا القياس
بالسنة. والضحك في غير الصلاة ليس في معنى الضحك في الصلاة لان حال الصلاة حال
المناجاة مع الله تعالى فتعظم الجناية منه بالضحك في حال المناجاة وصلاة الجنازة ليست
بصلاة مطلقة وكذلك سجدة التلاوة والمخصوص من القياس بالنص لا يلحق به ما ليس في
معناه من كل وجه * قال (ولا ينقض النوم الوضوء ما دام قائما أو راكعا أو ساجدا أو
قاعدا وينقضه مضطجعا أو متكئا أو على احدى أليتيه) أما نوم المضطجع ناقض للوضوء
وفيه وجهان * أحدهما أن عينه حدث بالسنة المروية فيه لان كونه طاهرا ثابت بيقين ولا
يزال اليقين الا بيقين مثله وخروج شئ منه ليس بيقين فعرفنا أن عينه حدث * والثاني
وهو أن الحدث ما لا يخلو عنه النائم عادة فيجعل كالموجود حكما فان نوم المضطجع يستحكم
فتسترخي مفاصله واليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله العينان وكاء السه فإذا
نامت العينان استطلق الوكاء وهو ثابت عادة كالمتيقن به. وكان أبو موسى الأشعري رضى
الله تعالى عنه يقول لا ينتقض الوضوء بالنوم مضطجعا حتى يعلم بخروج شئ منه وكان إذا
نام أجلس عنده من يحفظه فإذا انتبه سأله فان أخبر بظهور شئ منه أعاد الوضوء. والمتكئ
كالمضطجع لان مقعده زائل عن الأرض فأما القاعد إذا نام لم ينتقض وضوءه وقال مالك
رحمه الله ان طال النوم قاعدا انتقض وضوءه. وحجتنا حديث حذيفة رضى الله تعالى
عنه قال نمت قاعدا في المسجد حتى وقع ذقني على صدري فوجدت برد كف على ظهري
فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أعلى في هذا وضوء فقال لا حتى تضطجع
ولأنه مقعده مستقر على الأرض فيأمن خروج شئ منه فلا ينتقض وضوءه كما لم يطل
نومه. فأما إذا نام قائما أو راكعا أو ساجدا لم ينقض وضوءه عندنا. عند الشافعي رضي الله عنه
ينتقض وضوءه لحديث صفوان بن عسال المرادي قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها الا من جنابة لكن من
بول أو غائط أو نوم فهذا دليل على أن النوم حدث إلا أنا خصصنا نوم القاعد من هذا
العموم بدليل الاجماع فبقي ما سواه على أصل القياس ولان مقعده زائل عن الأرض في
حال نومه فهو كالمضطجع (ولنا) حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام
78

مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله وهو المعنى فان الاستمساك باق مع النوم
في هذه الأحوال بدليل أنه لم يسقط وبقاء الاستمساك يؤمنه من خروج شئ منه فهو
كالقاعد بخلاف المضطجع وعن أبي يوسف رحمه الله قال إذا تعمد النوم في السجود
انتقض وضوءه وان غلبته عيناه لم ينتقض لان القياس في نوم الساجد أنه حدث كنوم
المضطجع ومن الناس من يعتاد النوم على وجهه. تركنا القياس للبلوي فيه للمجتهدين وهذا
إذا غلبته عيناه لا إذا تعمد. وجه ظاهر الرواية ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نام
العبد في سجوده يباهي الله تعالى به ملائكته فيقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده
في طاعتي وإنما يكون جسده في الطاعة إذا بقي وضوءه ولان الاستمساك باق فإنه لو زال
لسقط على أحد شقيه * وذكر ابن شجاع عن محمد رحمه الله تعالى أن نوم القائم والراكع
والساجد إنما لا يكون حدثا إذا كان في الصلاة فأما خارج الصلاة يكون حدثا وفى ظاهر
الرواية لا فرق بينهما لبقاء الاستمساك فإن كان القاعد مستندا إلى شئ فنام قال الطحاوي
رحمه الله تعالى إن كان بحال لو أزيل سنده عنه يسقط انتقض وضوءه لزوال الاستمساك
. والمروى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا ينتقض وضوءه على كل حال لان مقعده
مستقر على الأرض فيأمن خروج شئ منه. فان نام قاعدا فسقط روي عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى قال إن انتبه قبل أن يصل جنبه إلى الأرض لم ينتقض وضوءه لأنه لم يوجد
شئ من النوم مضطجعا وهو الحدث وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال ينتقض وضوءه
لزوال الاستمساك بالنوم حين سقط وعن محمد رحمه الله تعالى ان انتبه قبل أن يزايل مقعده
الأرض لم ينتقض وضوءه وان زايل مقعده الأرض قبل أن ينتبه انتقض وضوءه * قال (ولا
ينقض الكلام الفاحش الوضوء) لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الوضوء مما خرج
يعنى الخارج النجس ولأنه لا كلام أفحش من الردة والمتوضئ إذا ارتد نعوذ بالله ثم أسلم
فهو على وضوئه. والذي روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت للمتسابين ان
بعض ما أنتم فيه شر من الحدث فجددوا الوضوء إنما أمرت به استحسانا ليكون الوضوء
على الوضوء مكفرا لذنوبهما * قال (ولا وضوء في شئ من الأطعمة ما مسته النار وما لم تمسه
فيه سواء) وأصحاب الظواهر يوجبون الوضوء مما مسته النار ومنهم من أوجب من لحم
الإبل خاصة لحديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال توضؤا
79

مما مسته النار وفى حديث آخر توضؤا من لحوم الإبل ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم (ولنا)
حديث أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من كتف
شاة ثم صلى ولم يتوضأ وقال جابر توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قام ليخرج
فرأى عرقا أي عظما في يد بعض صبيانه فأكل منه ثم صلى ولم يتوضأ وحديث أبي هريرة
رضى الله تعالى عنه ضعيف قد رده ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فقال ألسنا نتوضأ بالحميم
ولو ثبت فالمراد منه غسل اليد بدليل حديث عكراش بن ذؤيب قال أخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بيدي فأدخلني بيت أم سلمة رضى الله تعالى عنها فأتينا بقصعة كثيرة الثريد
والودك فجعلت آكل من كل جانب فقال صلى الله عليه وسلم كل مما يليك فان الطعام واحد
ثم أتينا بطبق من رطب فجعلت آكل مما يليني فقال أجل يدك فان الرطب ألوان ثم أتي بماء
فغسل يديه وقال هذا هو الوضوء مما مسته النار ولهذا فصل في روايته بين لحم الإبل وغيره
لان للحم الإبل من اللزوجة ما ليس لغيره والمعنى أنه لو أكل الطعام نيئا لم يلزمه الوضوء فالنار
لا تزيده الا نظافة * قال (ويخلل لحيته وأصابعه في الوضوء) فإن لم يخلل لحيته أجزأه وأما
تخليل الأصابع سنة لقوله صلى الله عليه وسلم خللوا أصابعكم حتى لا يتخللها نار جهنم وأما
اللحية فقد روى المعلي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أن مواضع الوضوء
ما ظهر منها وخلال الشعر ليس من مواضع الوضوء وهذا إشارة إلى أنه يلزمه امرار الماء
على ظاهر لحيته. ووجهه أن البشرة التي استترت بالشعر كان يجب امرار الماء عليها قبل نبات
الشعر فإذا استترت بالشعر يتحول الحكم إلى ما هو الظاهر وهو الشعر. وعن أبي حنيفة وزفر
رحمهما الله تعالى قالا إن مسح من لحيته ثلثا أو ربعا أجزأه ووجهه أن الاستيعاب في الممسوح
ليس بشرط كما في المسح بالرأس * وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى على قال إن ترك مسح اللحية
أجزأه لأنه لا يجتمع في عضو واحد غسل ومسح وغسل الوجه فرض فلا يجب المسح فيه
واللحية من جملة الوجه فأما تخليل اللحية فقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في شرح الآثار أنه بالخيار
ان شاء فعل وان شاء لم يفعل فلم يعده من سنن الوضوء كما أشار إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى
لأنه باطن لا يبدو للناظر وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى التخليل سنة لحديث ابن عمر رضى
الله تعالى عنهما أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ وقال أنس رضى الله تعالى عنه رأيت أصابع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحيته كأنها أسنان المشط وقال نزل على جبريل صلوات
80

الله عليه فأمرني أن أخلل لحيتي إذا توضأت * قال (وإذا حت النجاسة عن الثوب لم يجزه الا في
المنى اليابس خاصة) لان الثوب رقيق تتداخل النجاسة في أجزائه فلا يخرجه الماء فأما الحت
يزيل ما على ظاهره دون ما يتداخل في أجزائه * فأما المنى فالكلام فيه في فصلين. أحدهما أنه
نجس عندنا وقال الشافعي رحمه الله طاهر لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال المنى
كالمخاط فأمطه عنك ولو بإذخرة ولأنه أصل لخلقة الآدمي فكان طاهرا كالتراب
لاستحالة أن يقال إن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم خلقوا من شئ نجس وهذا لان
المستحيل من غذاء الحيوان إنما يكون نجسا إذا كان يستحيل إلى نتن وفساد والمنى غير مستحيل
إلى فساد ونتن فهو كاللبن والبيضة (ولنا) قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر إنما
يغسل الثوب من خمس من البول والغائط والخمر والدم والمنى ولأنه خارج من البدن يجب
الاغتسال بخروجه فكان نجسا كدم الحيض وخروجه من مكان النجاسات فلا بد أن يتنجس
بالمجاورة وإن لم يكن نجسا في نفسه وكونه أصل خلقة الآدمي لا ينفى صفة النجاسة عنه كالعلقة
والمضغة وان ابن عباس رضي الله عنهما شبهه بالمخاط في المنظر لا في الحكم وأمر بالإماطة ليتمكن
من غسله فان قبل الإماطة تنتشر النجاسة في الثوب إذا أصابه الماء * والفصل الثاني أنه ما دام
رطبا لا يطهر الا بالغسل فان جف فحته وفرك الثوب القياس أن لا يطهر لأنه دم إلا أنه
نضيج فهو كسائر أنواع الدم لا يطهر الا بالغسل. استحسن علماؤنا رحمهم الله تعالى فقالوا
يطهر بالفرك لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضى الله تعالى عنها في
المنى إذا رأيتيه رطبا فاغسليه وإذا رأيتيه يابسا فافركيه. وقالت عائشة رضى الله تعالى عنها
كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ولان جرم المنى
لا يتداخل في أجزاء الثوب بل هو على ظاهره يزول بالفرك فهو نظير سيف المجاهد
وسكين القصاب إذا مسحه بالتراب يطهر به * وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى في المنى إذا أصاب البدن لا يطهر الا بالغسل لان لين البدن يمنع زوال أثره
بالحت وروى عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا كان المنى غليظا فجف يطهر بالفرك
وإن كان رقيقا لا يطهر الا بالغسل وقال إذا أصاب المنى ثوبا ذا طاقين فالطاق الأعلى
يطهر بالفرك والأسفل لا يطهر الا بالغسل لأنه إنما يصيبه البلة دون الجرم وهذه
مسألة مشكلة فان الفحل لا يمنى حتى يمذي والمذي لا يطهر بالفرك إلا أنه جعل
81

المذي في هذه الحالة مغلوبا مستهلكا بالمنى فكان الحكم للمنى دون المذي * قال (وان
أصابت النجاسة الخف أو النعل فما دام رطبا لا يطهر الا بالغسل) لان المسح بالأرض لا يزيله
الا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إذا مسح بالأرض حتى لم تبق عين
النجاسة ولا رائحتها يحكم بطهارة الخف واعتبر البلوى فيه للناس. وإن كان يابسا فهو على
وجهين اما أن لا يكون للنجاسة جرم كالبول والخمر فلا يطهر الا بالغسل لان البلة تداخلت
في أجزاء الخف وليس على ظاهره جرم حتى يزول بالمسح بالأرض فأما إذا كانت النجاسة لها
جرم كالعذرة والروث فمسحه بالأرض ففي القياس لا يطهر الا بالغسل وهو قول محمد وزفر
رحمهما الله تعالى لأن النجاسة تداخلت في أجزاء الخف ألا ترى أنها بعد الجفاف تبقى
متصلة بالخف فلا يطهرها الا الغسل كما إذا أصابت الثوب أو البساط استحسن أبو حنيفة
وأبو يوسف رحمهما الله تعالى فقالا يطهر بالمسح بالأرض لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم خلع نعليه في صلاته فخلع الناس نعالهم فلما فرغ من صلاته قال أتاني جبريل صلوات
الله عليه وأخبرني أن فيهما أذى فإذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه فان رأى فيهما قذرا
فليمسحه بالأرض وقالت أم سلمة رضى الله تعالى عنها يا رسول الله انى ربما أمشى على
مكان نجس ثم على مكان طاهر فقال الأرض يطهر بعضها بعضا والمعنى فيه أن للجلد صلابة
تمنع دخول أجزاء النجاسة في باطنه ولهذه النجاسة جرم ينشف البلة المتداخلة إذا جف فإذا
مسحه بالأرض فقد زال عين النجاسة فيحكم بطهارة الجلد كما كان عليه قبل الإصابة بخلاف
الثوب أو البساط فإنه رقيق تتداخل أجزاء النجاسة في باطنه فلا يخرجه الا الماء فان الماء
للطافته يتداخل في أجزاء الثوب فيخرج النجاسة ثم يخرج على أثرها بالعصر * قال (ولا يجب
عليه بتغميض الميت وغسله وحمله وضوء ولا غسل إلا أن يصيب يده أو جسده شئ
فيغسله) لقول ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الوضوء مما خرج ولان الميت المسلم طاهر
ومس الطاهر ليس بحدث ولو كان نجسا فمس النجس ليس بحدث أيضا. والذي روى عن أبي
هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غمض ميتا فليتوضأ
ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمل جنازة فليتوضأ ضعيف قد رده ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما فقال أيلزمنا الوضوء بمس عيدان يابسة ولو ثبت فالمراد من قوله من غمض ميتا
فليتوضأ غسل اليد لان ذلك لا يخلو عن قذارة عادة وقوله من غسل ميتا فيلغتسل إذا
82

أصابته الغسالات النجسة وقوله من حمل جنازة فليتوضأ إذا كان محدثا ليتمكن من أداء الصلاة
عليه * قال (والحجامة توجب الوضوء وغسل موضع المحجمة) وهو عندنا وعند الشافعي رضى
الله تعالى عنه يوجب غسل موضع المحجمة ولا يوجب الوضوء لحديث ابن عباس رضى
الله تعالى عنهما اغسل موضع المحاجم وحسبك. وعلماؤنا قالوا معناه وحسبك من الاغتسال
فان أصحاب علي رضي الله عنه كانوا يوجبون لاغتسال من ماء الحمام وغسل الميت والحجامة
فابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال هذا ردا عليهم فأما الوضوء واجب بخروج النجس كما
بينا فان توضأ ولم يغسل موضع المحجمة فإن كان أكثر من قدر الدرهم لم تجزه الصلاة وإن كان
دون ذلك أجزأته وعلى قول الشافعي رضى الله تعالى عنه لا تجزئه فان القليل من
النجاسة كالكثير عنده في المنع من جواز الصلاة * قال (وان خرج من دبره دابة أو
ريح ينتقض وضوءه) والمراد بالدابة الدود وهو لا يخلو عن قليل بلة تكون معه وقد بينا
أن فيما يخرج من الدبر القليل كالكثير في انتقاض الطهارة بخلاف ما إذا سقط الدود عن
رأس الجرح فإنه لا يخلو عن بلة يسيرة وذلك القدر من الخارج ليس بناقض للوضوء لأنه
غير سائل بقوة نفسه فأما الريح إذا خرج من الدبر كان ناقضا للوضوء لما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه ويقول أحدثت
أحدثت فلا ينصرفن أحدكم من صلاته حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا. فان خرج
الريح من الذكر فقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه حدث لأنه خرج من موضع
النجاسة وعامة مشايخنا يقولون هذا لا يكون حدثا وإنما هو اختلاج فلا ينتقض به
الوضوء وكذلك ان خرج الريح من قبل المرأة قال الكرخي رحمه الله تعالى انه لا يكون
حدثا إلا أن تكون مفضاة يخرج منها ريح منتن فيستحب لها أن تتوضأ ولا يلزمها ذلك
لأنا لا نتيقن بخروج الريح من موضع النجاسة * قال (وان رعف قليلا لم يسل لم ينقض
وضوءه) ومراده إذا كان فيما صلب من انفه لم ينزل إلى إلى مالان منه فقد قال محمد رحمه الله
تعالى في النوادر إذا نزل الدم إلى قصبة الانف انتقض به الوضوء بخلاف البول إذا
نزل إلى قصبة الذكر لان هناك النجاسة لم تصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير وفى الانف
قد وصلت النجاسة إلى موضع يلحقه حكم التطهير فالاستنشاق في الجنابة فرض وفى الوضوء
سنة * قال (ويتوضأ صاحب الجرح السائل لوقت كل صلاة ويصلى بذلك ما شاء من الفرائض
83

والنوافل ما دام في الوقت) وأصل المسألة في المستحاضة فان دم المستحاضة حدث عندنا
وعند الشافعي رحمه الله تعالى خلافا لمالك رحمه الله تعالى فإنه يقول ما ليس بمعتاد من الخارج
لا يكون حدثا. والدليل على أنه حدث قوله صلى الله عليه وسلم المستحاضة تتوضأ لوقت كل
صلاة ثم عندنا يلزمها الوضوء في كل وقت صلاة وقال الشافعي رحمه الله تعالى تتوضأ لكل
صلاة مكتوبة ولها أن تصلى ما شاءت من النوافل بذلك ولا تجمع بين الفرضين بوضوء
واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين استحيضت توضئي لكل صلاة
ومطلقه يتناول المكتوبة ولان طهارتها طهارة ضرورية لاقتران الحدث بها ويتجدد باعتبار
كل مكتوبة ضرورة فيلزمها وضوء جديد فأما النوافل تبع للفرائض فثبوت حكم الطهارة في
الأصل يوجب ثبوته في التبع (ولنا) حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة وما روى لكل صلاة فالمراد منه الوقت
فالصلاة تذكر بمعنى الوقت قال صلى الله عليه وسلم ان للصلاة أولا وآخرا أي لوقت الصلاة
والرجل يقول لغيره آتيك صلاة الظهر أي وقته والمعني فيه أن الأوقات مشروعة للتمكن من
الأداء فيها فان الناس في الأداء مختلفون فمن بين مطول وموجز فشرع للأداء وقت
يفصل عنه تيسيرا وإذا قام الوقت مقام الصلاة لهذا فتجدد الضرورة يكون بتجدد الوقت وما
بقي الوقت يجعل الضرورة كالقائمة حكما تيسيرا عليها في إقامة الوقت مقام الفعل
وبعد ما فرغت من الأداء ان بقيت طهارتها فلها أن تصلى فرضا آخر وإن لم تبق طهارتها ليس
لها أن تصلى النوافل لأن الطهارة من شرطها. ثم انتقاض طهارتها بخروج الوقت عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وبدخول الوقت عند زفر رحمه الله تعالى وبهما عند أبي يوسف
رحمه الله تعالى ويتبين هذا الخلاف فيما إذا توضأت في وقت الفجر فطلعت الشمس تنتقض
طهارتها الا على قول زفر رحمه الله ولو توضأت وقت الضحوة فزالت الشمس لا تنتقض
طهارتها الا على قول أبى يوسف وزفر رحمهما الله تعالى وهما يقولان طهارتها قبل وقوع الحاجة
غير معتبر فبدخول الوقت تتجدد الحاجة لوجوب الأداء عليها فيلزمها به الطهارة (ولنا) أن
انتقاض طهارتها بوقوع الاستغناء عنها وذلك بخروج الوقت. ثم صاحب الجرح السائل عندنا
في معنى المستحاضة لان الخارج من غير السبيل حدث عندنا فيتوضأ لوقت كل صلاة ولو قلنا
بما قاله زفر رحمه الله لأدى إلى الحرج لأنه إذا كان بيته بعيدا عن الجامع فلو انتظر للوضوء
84

زوال الشمس فاتته الصلاة فلا يجد بدا من أن يتوضأ قبل الزوال * قال (وان سال الدم بعد
الوضوء حتى نفذ الرباط فذلك لا يمنعه من أداء الصلاة ما بقي الوقت * لان فاطمة بنت قيس
رضي الله تعالى عنها لما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم انى أثج الدم ثجا قال احتشى
والتجمي وصلى وان قطر الدم على الحصير قطرا فان أصاب ثوبه من ذلك الدم فعليه أن
يغسله وهذا إذا كان مفيدا بأن كأن لا يصيبه مرة بعد أخرى حتى إذا لم يغسله وصلى وهو
أكثر من قدر الدرهم لم يجزه الا إذا لم يكن الغسل مفيدا بان كان يصيبه ثانيا وثالثا
وكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقول عليه غسل ثوبه في وقت كل صلاة مرة بالقياس
على الوضوء وغيره من مشايخنا يقول لا يلزمه ذلك لان حكم الوضوء عرفناه بالنص ونجاسة
الثوب ليست في معنى الحدث حتى أن القليل منه يكون عفوا فلا يلحق به فان سال الدم
من موضع آخر أعاد الوضوء وإن كان الوقت باقيا لان هذا حدث جديد وتقدر طهارته
بالوقت كان للحدث الموجود باعتبار تحقق الضرورة فما يتجدد من الحدث فهو كغيره * قال
(ومن خاض ماء المطر إلى المسجد أو داس الطين لم ينقض ذلك وضوءه) لان انتقاض الوضوء
بالخارج النجس من البدن وروى أن عليا رضى الله تعالى عنه خرج يوما والسماء تسكب فاخذ
نعليه بيده وخاض الماء حتى أتى المسجد فمسح قدميه ودخل وصلى وهكذا روى عن أنس
رضى الله تعالى عنه فتبين أنه لا وضوء عليه ولا غسل القدمين بل يمسح قدميه ويصلى هذا إذا
كان التراب طاهرا فان الطين من الماء النازل من السماء والتراب الطاهر طاهر فأما إذا كان
أحدهما اما الماء واما التراب نجسا فالطين نجس لا بد من غسله وهو الصحيح من المذهب وإنما
مسح قدميه خارج المسجد كي لا يؤدي إلى تلويث المسجد * وروى أن أبا حنيفة رحمه الله
رأى رجلا يمسح خفيه بأسطوانة المسجد فقال له لو مسحته بلحيتك كان خيرا لك إلا أن
يكون موضعا معدا لذلك في المسجد فحينئذ لا بأس به لان ذلك الموضع لا يصلى فيه عادة
* قال (ومن سال عليه من موضع شئ لا يدرى ما هو فغسله أحسن) لان غسله لا يريبه وتركه
يريبه وقال صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى مالا يريبك فان تركه جاز لأنه على يقين
من الطهارة في ثوبه وفى شك من حقيقة النجاسة فإن كان في أكبر رأيه أنه نجس غسله
لان أكبر الرأي فيما لا تعلم حقيقته كاليقين قال صلى الله عليه وسلم المؤمن ينظر بنور الله
تعالى وكان شيخنا الامام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول في بلدتنا لا بد من غسله لان
85

الظاهر أنه إنما يراق البول أو الماء النجس من السطوح * قال (وان انتضح عليه من البول
مثل رؤس الإبر لم يلزمه غسله لان فيه بلوى فان من بال في يوم ريح لابد أن يصيبه ذلك
خصوصا في الصحارى وقد بينا أن ما لا يستطاع الامتناع عنه يكون عفوا * قال (ومن
شك في بعض وضوئه وهو أول ما شك غسل الموضع الذي شك فيه) لان غسله لا يريبه
ولأنه على يقين من الحدث في ذلك الموضع وفى شك من غسله ولم يرد بهذا اللفظ أنه
لم يصبه قط مثل هذا إنما مراده أن الشك في مثله لم يصر عادة له حتى قال بعد ذلك فإن كان
يعرض له ذلك كثيرا لم يلتفت إليه لأنه من الوساوس والسبيل في الوساوس قطعها
وترك الالتفات إليها لأنه لو اشتغل بها لم يتفرغ لأداء الصلاة فكلما قام إليها يبتلى بمثل هذا
الشك * قال (ومن شك في الحدث فهو على وضوئه وإن كان محدثا فشك في الوضوء فهو
على حدثه لأن الشك لا يعارض اليقين وما تيقن به لا يرتفع بالشك) وعن محمد رحمه الله
تعالى قال المتوضئ إذا تذكر أنه دخل الخلاء لقضاء الحاجة وشك أنه خرج قبل أن يقضيها
أو بعد ما قضاها فعليه أن يتوضأ لأن الظاهر من حاله أنه ما خرج الا بعد قضائها وكذلك
المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء ومعه الماء وشك في أنه قام قبل أن يتوضأ أو بعد ما توضأ
فلا وضوء عليه لأن الظاهر أنه لا يقوم حتى يتوضأ والبناء على الظاهر واجب ما لم يعلم خلافه
* قال (ومن توضأ ثم رأى البلل سائلا عن ذكره أعاد الوضوء) لان البول سال منه وهو
ناقض للوضوء وإنما قال رآه سائلا لان مجرد البلة محتملة أن تكون من ماء الطهارة فان علم
أنه بول ظهر عليه فعليه الوضوء وإن لم يكن سائلا وإن كان الشيطان يريه ذلك كثيرا ولا
يعلم أنه بول أو ماء مضى على صلاته لأنه من جملة الوساوس فلا يلتفت إليها لقوله صلى الله
عليه وسلم ان الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه ويقول أحدثت أحدثت فلا ينصرف
حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وفى الحديث ان شيطانا يقال له الولهان لا شغل له الا الوسوسة
في الوضوء فلا يلتفت إلى ذلك وينبغي أن ينضح فرجه وإزاره بالماء إذا توضأ قطعا لهذه
الوسوسة حتى إذا أحس بشئ من ذلك أحاله على ذلك الماء وقد روى أنس رضى الله تعالى
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينضح إزاره بالماء إذا توضأ وفى بعض الروايات قال
نزل على جبريل عليه السلام وأمرني بذلك * قال (وليس دم البق والبراغيث بشئ لأنه
ليس بدم سائل ولا يستطاع الامتناع عنه) خصوصا في زمن الصيف في حق من ليس له
86

الا ثوب واحد ينام فيه كما كأن لأصحاب الصفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك
دم السمك ليس بشئ يعنى ليس بنجس وقد بينا أنه ليس بدم حقيقة وروى الحسن بن زياد
عن أبي حنيفة رحمه الله في الكبار الذي يسيل منه دم كثير أنه نجس ولا اعتماد على تلك الرواية
وأما دم الحلم فإن كان أكثر من قدر الدرهم أعاد ما صلى وهو عليه لأنه دم سائل وقد روى أن
الأذى الذي كان في نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلع نعليه في الصلاة كان دم
حلم * قال (وإذا أراد أن يتوضأ بماء فأخبره بعض أنه قذر لم يتوضأ به) لان خبر الواحد في أمر
الدين حجة إذا كان المخبر ثقة حتى كان روايته الحديث موجبا للعمل فكذلك اخباره بنجاسة
الماء من أمر الدين فيجب العمل بخبره * قال (وإذا أدخل الصبي يده في كوز ماء ولا يعلم على
يده قذر فالمستحب أن لا يتوضأ به) لأنه لا يتوقى النجاسات عادة فالظاهر أن يده لا تخلو
عن نجاسة فالاحتياط في التوضؤ بغيره وان توضأ به أجزأه لأنه على يقين من الطهارة وفى
شك من النجاسة وحاله كحال الدجاجة المخلاة وقد بينا حكم سؤرها * قال (ولا بأس بالتوضؤ
من حب (1) يوضع كوزه في نواحي الدار ما لم يعلم أنه قذر) لأنه عمل الناس ويلحقهم الحرج
في النزوع عن هذه العادة والأصل فيه الطهارة فيتمسك به ما لم يعلم بالنجاسة وفى الحديث
أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع استسقى العباس رضى الله تعالى عنه فقال ألا
نأتيك بالماء من بعض البيوت فان الناس يدخلون أيديهم في ماء السقاية فقال النبي صلى الله
عليه وسلم نحن منهم * قال (وإذا وقع بعر الغنم أو الإبل في البئر لم يضره ما لم يكن كثيرا
فاحشا) وفي القياس يتنجس البئر لأنه بمنزلة الاناء يخلص بعضه إلى بعض فيتنجس بوقوع
النجاسة فيه ولكنا استحسنا وقلنا بأنه لا ينجس للبلوى فيه فان عامة الآبار في
الفيافي والمواشي تبعر حولها ثم الريح تسفى به فتلقيه في البئر فلو حكمنا بنجاسته كان فيه أن
قطاع السبل والرسل ولكن هذه الرخصة في القليل دون الكثير وإذا كان كثيرا
فاحشا أخذنا فيه بالقياس فقلنا عليهم أن ينزحوا ماء البئر كله والكثير ما استكثره الناظر
إليه وقيل أن يغطي ربع وجه الماء وقيل أن لا تخلو دلو عن بعرة وهو الصحيح وعن أبي
يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الاملاء قال هذا إذا كان يابسا فإن كان رطبا
تفسد البئر بقليله وكثيره ثم قال لان الرطب ثقيل لا يسفي به الريح ولأنه ليس للرطب من
الصلابة والاستمساك ما لليابس وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنهما سواء لان اليابس
87

بالوقوع في البئر يصير رطبا وما على الرطب من الرطوبة رطوبة الأمعاء وهذا كله في غير
المتفتت فإن كان متفتتا فقليله وكثيره سواء لأن الماء يدخل في أجزائه فيتنجس ثم يخرج
وهو نجاسة مائعة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى انه استحسن في القليل من المتفتت لان
البلوى فيه قائمة. وأما السرقين فقليله وكثيره سواء يفسد الماء رطبا كان أو يابسا لأنه ليس
له من الصلابة كما للبعر وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال في تبنة أو تبنتين من الأرواث
تقع في البئر استحسن أنه لا يفسده ولا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو الأصح
لقيام البلوى فيه حتى قال خلف بن أيوب لو حلب عنزا فبعرت في المحلب يرمى بالبعرة ويحل
شربه لان فيه بلوى فان العنز لا يمكن أن تحلب من غير أن تبعر في المحلب * قال (ولا يتوضأ
بشئ من الأشربة سوى الماء) الا بنبيذ التمر عند عدم الماء أما نبيذ التمر ففي الأصل قال يتوضأ
به عند عدم الماء ولو تيمم مع ذلك أحب إلى وفي الجامع الصغير قال يتوضأ به ولا يتيمم وقال
محمد رحمه الله لا بد من الجمع بينه وبين التيمم وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وقال أبو يوسف يتيمم ولا يتوضأ به وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى. وروى نوح في الجامع
عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه رجع إليه واحتج أبو يوسف بقوله تعالى فلم تجدوا
ماء فتيمموا وخبر نبيذ التمر كان بمكة وآية التيمم نزلت بالمدينة فانتسخ بها خبر نبيذ التمر لان
نسخ السنة بالكتاب جائز والقياس هكذا فإنه ليس بماء مطلق فلا يتوضأ به كسائر الأنبذة
ترك أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا القياس بحديث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه انه كان
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فلما انصرف إليه عند الصباح قال أمعك ماء
يا ابن مسعود قال لا الا نبيذ تمر في إداوة فقال تمرة طيبة وماء طهور وأخذه وتوضأ به وعن علي
وابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال نبيذ التمر طهور من لا يجد الماء والقياس يترك
بالسنة وبقول الصحابي إذا كان فقيها فأما آية التيمم تتناول حال عدم الماء وهذا ماء شرعا كما
قال صلى الله عليه وسلم وماء طهور وإنما جمع بينهما محمد رحمه الله تعالى لان الآية توجب
التيمم والخبر يوجب التوضؤ بالنبيذ فيجمع بينهما احتياطا وإذا قلنا بالاحتياط في سؤر الحمار
انه يجمع بينه وبين التيمم فهاهنا أولى. وصفة نبيذ التمر الذي يجوز التوضؤ به أن يكون حلوا
رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء فإن كان ثخينا فهو كالرب لا يتوضأ به فإن كان مشتدا فهو
حرام شربه فكيف يجوز التوضؤ به وإن كان مطبوخا فالصحيح أنه لا يجوز التوضؤ به حلوا
88

كان أو مشتدا لان النار غيرته فهو كماء الباقلا فاما سائر الأنبذة فكان الأوزاعي رحمه الله يقول
بجواز التوضؤ بها بالقياس على نبيذ التمر وعندنا لا يجوز لان نبيذ التمر مخصوص من القياس
بالأثر فلا يقاس عليه غيره واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى في الاغتسال بنبيذ التمر عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى فمنهم من لم يجوزه لان الأثر في الوضوء خاصة والأصح أنه يجوز لان
المخصوص من القياس بالنص يلحق به ما في معناه من كل وجه * قال (والاغماء ينقض الوضوء
في الأحوال كلها) لان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ في مرضه فلما أراد أن يقوم أغمي عليه فلما
أفاق توضأ ثانيا ولان الاغماء في غفلة المرء عن نفسه فوق النوم مضطجعا فان هناك إذا نبه
انتبه وهاهنا لا ينتبه وكذلك يقطع الصلاة لو عرض في خلال الصلاة ويمنع من البناء عليها
لان البناء على الصلاة عند سبق الحدث مستحسن فيما تعم به البلوى والاغماء ليس من هذا
في شئ. وكذلك لو مات الامام استقبل القوم الصلاة بامام آخر لان عمله انقطع بموته قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث وهذا ليس من
جملتها والبناء على المنقطع غير ممكن فلهذا استقبلوا * قال (وليس الغسل بواجب يوم الجمعة
ولكنه سنة) الا على قول مالك رحمه الله تعالى وحجته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم أو قال حق (ولنا) حديث أبي هريرة رضى الله تعالى
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل
فالغسل أفضل ولما دخل عثمان رضى الله تعالى عنه المسجد يوم الجمعة وعمر رضي الله عنه
يخطب فقال أية ساعة المجئ هذه قال ما زدت بعد أن سمعت النداء على أن توضأت فقال
والوضوء أيضا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالاغتسال في هذا اليوم ثم لم
يأمره بالانصراف فدل أنه ليس بواجب. وتأويل الحديث مروي عن عائشة وابن عباس
رضى الله تعالى عنهما قالا كان الناس عمال أنفسهم وكانوا يلبسون الصوف ويعرقون فيه
والمسجد قريب السمك فكان يتأذى بعضهم برائحة البعض فأمروا بالاغتسال لهذا ثم
انتسخ هذا حين لبسوا غير الصوف وتركوا العمل بأيديهم. واختلف أبو يوسف والحسن
ابن زياد رحمهما الله تعالى ان الاغتسال يوم الجمعة لليوم أم للصلاة فقال الحسن رحمه الله
تعالى لليوم إظهارا لفضيلته كما قال صلى الله عليه وسلم سيد الأيام يوم الجمعة وقال أبو يوسف
رحمه الله تعالى للصلاة لأنها مؤادة بجمع عظيم فلها من الفضيلة ما ليس لغيرها وفائدة هذا
89

الاختلاف فيما إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أحدث فتوضأ وصلى الجمعة. عند أبي يوسف رحمه
الله تعالى لا يكون مقيما للسنة وعند الحسن رحمه الله يكون. والاغتسال في الحاصل أحد عشر
نوعا. خمسة منها فريضة. الاغتسال من التقاء الختانين ومن إنزال الماء ومن الاحتلام ومن
الحيض والنفاس. وأربعة منها سنة. الاغتسال يوم الجمعة ويوم عرفة وعند الاحرام وفى
العيدين. وواحد واجب وهو غسل الميت. وآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم فإنه يستحب
له أن يغتسل به أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاءه يريد الاسلام وهذا إذا لم يكن
جنبا فان أجنب ولم يغتسل حتى أسلم فقد قال بعض مشايخنا لا يلزمه الغسل لان الكفار
لا يخاطبون بالشرائع والأصح أنه يلزمه لان بقاء صفة الجنابة بعد اسلامه كبقاء صفة
الحدث في وجوب الوضوء به والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب البئر)
* قال (وإذا ماتت الفأرة في البئر ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون بعد اخراج الفأرة
فعشرون واجب وثلاثون أحوط) وقد بينا هذا فيما مضى وأصحاب الشافعي رضى الله
تعالى عنهم يطعنون في هذا ويقولون دلو يميز الماء النجس من الطاهر دلو كيس وهذا طعن
في السلف وقد بينا أن طهارة البئر بنزح بعض الدلاء قول السلف من الصحابة والتابعين
رضوان الله عليهم ثم هم قالوا بالرأي ما هو أشد من هذا فقالوا في بئر فيها قلتان من الماء ماتت
فيها فأرة فنزح منها دلو فان حصلت الفأرة في الدلو فالماء الذي في الدلو نجس والذي بقي
في البئر طاهر وان بقيت الفأرة في البئر فالماء الذي في الدلو طاهر والذي في البئر نجس
فدلوهم هذا أكيس * قال (فان نزح منها عشرون دلوا قبل اخراج الفأرة لم تطهر) لان بقاء
الفأرة فيها بعد النزح كابتداء الوقوع ولان سبب نجاسة البئر حصول الفأرة الميتة فيها ولا
يمكن الحكم بالطهارة مع بقاء السبب الموجب للنجاسة * قال (فان أخرجت الفأرة ثم نزح
منها عشرون دلوا وهو يقطر فيها لم يضرها ذلك) لان النزح على وجه لا يقطر شئ منه فيها
متعذر وما لا يستطاع الامتناع عنه يكون عفوا لقوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها
* قال (وان صب الدلو الآخر في بئر أخرى فعليهم أن ينزحوا دلوا مثله كما لو صب في
البئر الأولى) لان حال البئر الثانية بعد ما حصل هذا الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان
90

هذا الدلو فيها (وان صب الدلو الأول منها في بئر طاهرة كان عليهم أن ينزحوا منها عشرين
دلوا) لان حال البئر الثانية بعد حصول هذا الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو
فيها ولو صب دلو في بئر أخرى قبل اخراج الفأرة ينزح جميع ما في البئر الثانية كذا قاله
أستاذنا رضى الله تعالى عنه وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول لا أعرف هذه المسائل
الا تقلدا فان ماء الدلو الأخير نجس كماء الدلو الأول والفرق بينهما بطريق المعنى غير ممكن
وشبه هذا بالثوب النجس إذا غسل ثلاثا فالماء الثالث في النجاسة كالماء الأول إذا أصاب
ثوبا آخر نجسه وكان الامام الحاكم الشهيد رحمه الله تعالى يقول في مسألة الثوب على
قياس مسألة البئر إذا أصاب الماء الأول ثوبا لا يطهر الا بالغسل ثلاثا وان أصابه الماء الثاني
يطهر بالغسل مرتين وان أصابه الماء الثالث يطهر بالغسل مرة والأصح الفرق بينهما
فنقول النجاسة في الثوب عينية وينجس الماء بحصول النجاسة فيه وفى هذا لا فرق بين
الماء الأول والثالث. فأما تنجيس الماء فحكمي وطهارته بالنزح بغالب الرأي فكان ماء الدلو
الأخير أخف من الماء الذي في الدلو الأول لان عند نزح الدلو الأول يتيقن بكون الماء
النجس في البئر وهو ما جاوز الفأرة وعند نزح الدلو الأخير لا يتيقن بذلك فلعل ما جاوز
الفأرة الماء الذي نزح فيما سبق من الدلاء فهذا معنى قول محمد رحمه الله تعالى كلما نزح
الماء كان أطهر للبئر فلهذا فرقنا بين الدلو الأول إذا صب في بئر أخرى وبين الدلو الأخير
وان صب الدلو الثاني فيها كان عليهم أن ينزحوا منها تسعة عشر دلوا لان حالها كحال
البئر الأولى وان صبوا الدلو العاشر فيها كان عليهم أن ينزحوا منها عشر دلاء هكذا ذكر في نسخ
أبى سليمان رحمه الله وفى نسخ أبى حفص رحمه الله قال أحد عشر دلوا وهو الصواب فان حال
البئر الثانية بعد ما صب الدلو العاشر فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها * وتأويل
ما ذكر في نسخ أبى سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء سوى المصبوب فيها والمصبوب فيها
واجب النزح بيقين وان أخرجت الفأرة فألقيت في البئر الثانية وصب فيها عشرون
دلوا من البئر الأولى فعليهم اخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا لما بينا أن حال البئر الثانية
كحال البئر الأولى وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن عليهم أن ينزحوا منها
عشرين دلوا سوى المصبوب فيها وجعل المصبوب فيها كالفأرة في البئر الأولى والأصح
هو الأول لأنا نتيقن أنه ليس في هذه البئر الا نجاسة فأرة ونجاسة الفأرة يطهرها نزح
91

عشرين دلوا * قال (وإذا خرجت الفأرة وجاؤا بدلو عظيم يسع عشرين دلوا بدلوهم فاستقوا
منها دلوا واحدا أجزأهم وقد طهرت البئر) لان النجس ما جاوز الفأرة من الماء فلا
فرق بين أن يؤخذ ذلك في دلو واحد أو في عشرين دلوا وكان الحسن بن زياد رحمه الله
تعالى يقول لا يطهر بهذا النزح لان عند تكرار نزح الماء ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه
فيكون في حكم الماء الجاري وهذا لا يحصل بنزح دلو عظيم منها. ونحن نقول لما قدر الشرع
الدلاء بقدر خاص عرفنا أن المعتبر قدر المنزوح وأن معنى الجريان ساقط لان ذلك يحصل
بدونه ويزداد بزيادته ولهذا قلنا لو نزحها عشرة أيام ونحوه يطهر لوجود القدر مع عدم
الجريان ثم اللفظ المذكور في الكتاب يدل على أنه يعتبر في كل بئر دلو تلك البئر لقوله
بدلوهم وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر دلو يسع فيه صاعا من الماء
ليتمكن كل أحد من النزح به من رجل أو امرأة أو صبي * قال (ولو توضأ رجل من هذه البئر
بعد ما نحى الدلو الأخير عن رأسها جاز وضوءه لأنا حكمنا بطهارة البئر فان صب ذلك الدلو فيها
لم يفسد وضوء الرجل لان تنجيس البئر حصل الآن وإن كان الدلو بعد في البئر لم يفصل عن
وجه الماء لا يجوز لاحد أن يتوضأ بذلك الماء وان فصل الدلو عن وجه الماء وهو معلق في
هواء البئر فتوضأ رجل منها لم يجزه في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى
وقال محمد رحمه الله تعالى أجزأه. وجه قوله أن الماء الطاهر تميز عن الماء النجس فكأنه نحى
عن رأس البئر وكون الماء النجس معلقا في هواء البئر لا يكون أقوى من خمر أو بول
في دلو معلق في هواء البئر فلا يحكم هناك بنجاسة البئر بهذا وإنما جعل التقاطر عفوا لأجل
الضرورة كما بينا ولأبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى أن الماء النجس متصل بماء البئر
حكما بدليل أن التقاطر فيه يجعل عفوا ولولا الاتصال حكما لما جعل التقاطر عفوا كما في
البول والخمر فصار بقاء الاتصال حكما كبقائه حقيقة ولو كان باقيا حقيقة بأن لم يفصل عن
وجه الماء فلا يحكم بطهارة البئر وهذا لان البئر موضع الماء فأعلاه كأسفله كالمسجد لما كان
موضع الصلاة جعل كله كمكان واحد في حكم الاقتداء * قال (ولو غسل ثوب نجس في
أجانة بماء نظيف ثم في أخرى ثم في أخرى فقد طهر الثوب) وهذا استحسان والقياس أن
لا يطهر الثوب ولو غسل في عشر أجانات وبه قال بشر بن غياث. ووجهه أن الثوب النجس
كلما حصل في الإجانة تنجس ذلك الماء فإنما غسل الثوب بعد ذلك في الماء النجس فلا يطهر
92

حتى يصب عليه الماء أو يغسل في الماء الجاري. وجه الاستحسان قوله صلى الله عليه وسلم
طهور اناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله ثلاثا فتبين بهذا الحديث أن الاناء النجس
يطهر بالغسل من غير حاجة إلى تقوير أسفله ليجرى الماء على النجاسة. والمعنى فيه أن
الثياب النجسة يغسلها النساء والخدم عادة وقد يكون ثقيلا لا تقدر المرأة على حمله لتصب
الماء عليه والماء الجاري لا يوجد في كل مكان فلو لم يطهر بالغسل في الأجانات أدى إلى
الحرج. ثم النجاسة على نوعين مرئية وغير مرئية. ثم المرئية لا بد من إزالة العين بالغسل وبقاء
الأثر بعد زول العين لا يضر هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دم الحيض حتيه
ثم اقرصيه ثم اغسليه ولا يضرك بقاء الأثر ولأن المرأة إذا خضبت يدها بالحناء النجس ثم
غسلته تجوز صلاتها ولا يضرها بقاء أثر الحناء وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى يقول بعد
زوال عين النجاسة يغسل مرتين لأنه التحق بنجاسة غير مرئية غسلت مرة فأما النجاسة
التي هي غير مرئية فإنها تغسل ثلاثا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ أحدكم من نومه
فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده فلما أمر بالغسل ثلاثا
في النجاسة الموهومة ففي النجاسة المحققة أولى وهذا مذهبنا وعلى قول الشافعي رضي الله عنه
العبرة بغلبة الرأي فيما سوى ولوغ الكلب حتى أن غلب على ظنه أنه طهر بالمرة
الواحدة يكفيه ذلك لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ثم اغسليه فلا يشترط فيه العدد
ولكنا نقول غلبة الرأي في العام الغالب لا تحصل الا بالغسل ثلاثا وقد تختلف فيه
قلوب الناس فأقمنا السبب الظاهر مقامه تيسيرا وهو الغسل ثلاثا * قال وان أصابت النجاسة
عضوا من أعضائه فأبو يوسف رحمه الله تعالى أخذ فيه بالقياس فقال لا يطهر بالغسل في
الأجانات لان صب الماء عليه ممكن من غير حرج ولان استعمال الماء في العضو في تغير
صفة الماء أقوى منه في الثوب فان العضو الطاهر إذا غسل بالماء الطاهر صار مستعملا
بخلاف الثوب الطاهر فلا يمكن قياس العضو على الثوب ومحمد رحمه الله تعالى سوى بين الثوب
والعضو في أنه يطهر بالغسل في الأجانات وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال لان الضرورة
تحققت في بعض الأعضاء فان من دمى أنفه أو فمه لا يمكنه صب الماء عليه حتى يشرب الماء
النجس أو يعلو على دماغه وفيه حرج بين فأخذنا بالاستحسان في العضو كما أخذنا به في
الثوب. ثم ماء الأجانات كلها نجس ولأن النجاسة تحولت إلى الماء (فان قيل) جزء من الماء
93

الثالث قد بقي في الثوب بعد العصر فكيف يحكم بطهارة الثوب (قلنا) مالا يستطاع الامتناع
عنه يكون عفوا مع أن الماء يتداخل في أجزاء الثوب فيخرج النجاسة ثم يخرج على أثرها
بالعصر فما بقي من البلة بعد العصر لم تجاوزه النجاسة ألا ترى أنه لو كان مكان النجاسة
صبغ كالزعفران وغيره يتحول إلى الماء ولا يبقى شئ من ذلك اللون في الثوب ببقاء البلة
فكذلك النجاسة * قال (جنب اغتسل في ثلاثة آبار وليس على بدنه نجاسة عينية فقد أفسد
ماء الآبار ولا يجزئه غسله) في قول أبى يوسف وقال محمد رحمه الله تعالى يخرج من البئر الثالث
طاهرا وهذا لان الحدث الحكمي معتبر بالنجاسة العينية فالآبار كالأجانات وعند أبي يوسف
رحمه الله تعالى النجاسة لا تزول عن البدن بالغسل في الأجانات فكذلك الحدث قال ولو كان
يزول بالغسل في الآبار لكان يخرج الجنب من البئر الأولى طاهرا كما إذا صب الماء على
بدنه مرة بعد مرة وعند محمد رحمه الله تعالى النجاسة العينية عن البدن تزول بالغسل في
الأجانات فكذلك الجنابة قال ولما كان ثبوت هذا الحكم بالقياس على النجاسة شرطنا فيه عدد
الثلاث كما يشترط في غسل النجاسة بخلاف صب الماء على رأسه * قال (فأرة وقعت في بئر
فماتت فيها ووقعت فأرة أخرى في بئر أخرى فماتت فاستقى من إحداهما عشرون دلوا
وصب في الأخرى أجزأهم نزح عشرين دلوا من البئر الثانية) والأصل أن الشئ ينتظم ما
هو مثله أو دونه لا ما هو فوقه فإذا كان ما في البئر الثانية مثل ما صب فيها انتظم أحدهما الآخر
فتطهر بنزح عشرين دلوا من البئر الثانية ولان هذا في معنى ما لو ماتت فأرتان في بئر وحكم
الفأرتين كحكم الفأرة الواحدة في أن البئر تطهر بنزح عشرين دلوا منها وان ماتت فأرة في بئر
ثالثة فصب منها عشرون دلوا أيضا في هذه البئر فإنها تطهر بنزح أربعين دلوا لان
المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها فتطهر بنزح القدر المصبوب فيها وذلك أربعون
دلوا ولأن هذه بمنزلة ثلاث فأرات ماتت في بئر وثلاث فأرات في ظاهر الرواية كالدجاجة
الا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى (قال) ما لم يكن خمس فأرات لا يكون بمنزلة
الدجاجة فإذا كان الثلاث كالدجاجة في ظاهر الرواية يطهرها نزح أربعين دلوا وان صبوا من
البئر الثالثة فيها دلوا أو دلوين فعليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا مع هذه الزيادة لان
المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذه الفصول
كلها أن بعد نزح القدر المصبوب ينزح منها عشرون دلوا * قال (وان ماتت فأرة في جب
94

فصب ماؤها في بئر فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ينزح منها ما صب فيها وبعده عشرون دلوا
وعند محمد رحمه الله تعالى ينظر إلى ماء الجب فإن كان عشرين دلوا أو أكثر ينزح ذلك القدر
وإن كان دون عشرين دلوا ينزح منها عشرون دلوا لان الحاصل في البئر نجاسة الفأرة * قال
(وان ماتت فأرة في سمن فإن كان جامدا يرمى بها وما حولها ويؤكل ما بقي وإن كان ذائبا لم يؤكل
منه شئ) لحديث أبي موسى الأشعري رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل
عن فأرة ماتت في سمن فقال إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا ما بقي وإن كان
ذائبا فأريقوه ولان في الجامد النجاسة إنما جاورت موضعا واحدا فإذا قور ذلك كان الباقي
طاهرا وفى الذائب النجاسة جاورت الكل فصار الكل نجسا. وحد الجمود والذوب إذا كان
بحال لوقور ذلك الموضع لا يستوى من ساعته فهو جامد وإن كان يستوى من ساعته فهو
ذائب. ثم الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث الاستصباح ودبغ الجلد به
وكذلك يجوز بيعه مع بيان عيبه عندنا فإذا باعه ولم يبين عيبه فالمشترى بالخيار إذا علم به
وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز شئ من ذلك لأنه بصفة النجاسة صار كالخمر فان عينه
نجس فلا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجامد أمر
بالقاء ما حول الفأرة وفى الذائب أمر بإراقة الكل فدل أنه لا يجوز الانتفاع به * وعلماؤنا
احتجوا بحديث علي رضى الله تعالى عنه في النجاسة إذا وقعت في الدهن قال يستصبح به
ويدبغ به الجلود وفى حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
فإن كان مائعا فانتفعوا به ولان نجاسته لا لعينه بل لمجاورة النجاسة إياه فكان بمنزلة الثوب
النجس بخلاف الخمر فان عينها نجس * وتأويل حديث أبي موسى الأشعري رضى الله تعالى
عنه أن مراده صلى الله عليه وسلم بيان حرمة الأكل فمعظم وجوه الانتفاع بالسمن هو
الأكل وإذا دبغ به الجلد ثم غسل بالماء طهر به الجلد وما تشرب فيه عفو لان عين الدهن
يزول بالغسل إنما بقي لينه وذلك غير معتبر * قال (وان ماتت فأرة في جب فيه خل فادخل
رجل يده فيه ثم أدخلها قبل أن يغسلها في عشر خوابي خل أو ماء فقد أفسدهن كلهن)
فإن كان في الخوابي ماء فهذا الجواب قول أبى يوسف رحمه الله تعالى فأما على قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تخرج يده من الخابية الثالثة طاهرة بناء على غسل العضو المتنجس
في الأجانات كما بينا إلا أن يكون مراده أدخلها في الخابية الأولى إلى الإبط حتى تتنجس
95

كلها ثم أدخلها في الخابية الثانية إلى الرسغ وكذلك في كل خابية زاد قليلا فحينئذ الكل
نجس كما قالا فإن كان في الخوابي خل فالجواب قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تخرج يده من الخابية الثالثة طاهرة وهو بناء على أن
إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرة سوى الماء لا يجوز عند محمد وزفر رحمهما الله تعالى وكذا
الشافعي رحمه الله تعالى الثوب والبدن فيه سواء وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجوز
في الثوب والبدن جميعا وهو أحدي الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى * وفى
الرواية الأخرى فصل بين الثوب والبدن فقال في البدن لا تزول النجاسة عنه الا بالماء وفي
الثوب تزول عنه بكل مائع طاهر ينعصر بالعصر فأما مالا ينعصر كالدهن والسمن لا تجوز
إزالة النجاسة به * حجة محمد رحمه الله تعالى قوله تعالى. وأنزلنا من السماء ماء طهورا
فقد خص الماء بكونه مطهرا واعتبر إزالة النجاسة بإزالة الحدث لان كل واحد منها
طهارة وفى شرط الصلاة فإذا كان أحدهما لا يحصل الا بالماء فكذلك الآخر ولا عبرة
بزوال العين فكما تزول بالأشياء الطاهرة تزول بالأشياء النجسة كبول ما يؤكل لحمه ولم
يعتبر ذلك فهذا مثله * وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الثوب قبل إصابة النجاسة كان طاهرا
وبعد الإصابة الواجب إزالة عين النجاسة حتى لو قطعه بالمقراض بقي الثوب طاهرا وإزالة العين كما
تحصل بالماء تحصل بسائر المائعات وربما يكون تأثير الخل في قلع النجاسة أكثر من تأثير
الماء فإذا زالت به عين النجاسة يبقى طاهرا كما كان بخلاف ما لا ينعصر فإنه يتشرب في
الثوب فتزاد به النجاسة ولا تزول. وفي بول ما يؤكل لحمه فقد قال بعض مشايخنا رحمهم
الله ان النجاسة الأولى تزول به لكن تبقى نجاسة البول حتى يكون التقدير فيه بالكثير
الفاحش والأصح أن التطهير بالنجس لا يكون لما بين الوصفين من التضاد فأما الطهارة
عن الحدث فطهارة حكمية فيها معنى العبادة فلا تجوز الا بما تعبدنا به وإنما تعبدنا بالماء
لأنه أهون موجود لا يلحق الناس حرج في افساده بالاستعمال بخلاف سائر المائعات فإنها
أموال يلحق الناس حرج في فسادها بالاستعمال وأبو يوسف رحمه الله لهذا المعنى فرق
بين النجاسة على البدن وعلى الثوب فقال ما كان على البدن فهو نظير الحدث الحكمي لان في
تطهير البدن معنى العبادة بخلاف ما لو كان على الثوب قال فان صب خابية منها في بئر ماء فعليهم
أن ينزحوا الأكثر من عشرين دلوا ومن مقدار الخابية لان الحاصل فيها نجاسة فأرة
96

لا غير وقد مر * قال (ولا بأس بلبس ثياب أهل الذمة والصلاة فيها ما لم يعلم أن فيها
قذرا) لان الأصل في الثوب الطهارة وخبث الكافر في اعتقاده لا يتعدى إلى ثيابه فثوبه
كثوب المسلم وعامة من ينسج الثياب في ديارنا المجوس ولم ينقل عن أحد التحرز عن لبسها
وكفى بالاجماع حجة الا الإزار والسراويل فإنه يكره الصلاة فيهما قبل الغسل وان صلى جاز
أما الجواز فلانه على يقين من الطهارة وفى شك من النجاسة وأما الكراهة فلانه بلى
موضع الحدث وهم لا يحسنون الاستنجاء ويعرقون فيهما لا محالة والظاهر أن ازارهم لا ينفك
عن نجاسة فتكره الصلاة فيه وهو نظير كراهة سؤر الدجاجة المخلاة وقد روى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الشرب في أواني المجوس فقال إن لم تجدوا منها بدا فاغسلوها
ثم اشربوا فيها وإنما أمر به لان ذبائحهم كالميتة وأوانيهم قلما تخلو عن دسومة فيها * قال
بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى وكذلك الجواب في ثياب بعض الفسقة من المسلمين فان
الظاهر أنهم لا يتوقون إصابة الخمر لثيابهم في حالة الشرب وقالوا في الديباج الذي ينسجه
أهل فارس لا تجوز الصلاة فيه لأنهم يستعملون فيه عند النسج البول ويزعمون أنه
يزيد في بريقه ثم لا يغسلونه لان ذلك يفسده فان صح هذا لا يشكل أنه لا تجوز الصلاة
فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب المسح على الخفين)
(اعلم) أن المسح على الخفين جائز بالسنة فقد اشتهر فيه الأثر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قولا وفعلا. من ذلك حديث المغيرة بن شعبة رضى الله تعالى عنه قال توضأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكنت أصب الماء عليه وعليه جبة شامية ضيقة الكمين
فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت نسيت غسل القدمين فقال لا بل أنت
نسيت بهذا أمرني ربى. ومن ذلك حديث جرير بن عبد الله البجلي رضى الله تعالى عنه
قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه فقيل له أكان ذلك بعد
نزول المائدة فقال وهل أسلمت الا بعد نزول المائدة وقال إبراهيم رحمه الله تعالى وكان يعجبهم
حديث جرير رضي الله عنه لأنه أسلم بعد نزول المائدة وإنما قال هذا لما روى عن ابن عباس
97

رضى الله تعالى عنهما قال سلوا هؤلاء الذين يروون المسح هل مسح رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد نزول المائدة والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة
ولان أمسح على ظهر عنز في الفلاة أحب إلى من أن أمسح على الخفين وقد صح
رجوعه عنه على ما قال عطاء بن أبي رباح رضى الله تعالى عنه لم يمت ابن عباس رضى الله
تعالى عنهما حتى اتبع أصحابه في المسح على الخفين. والذي روى عن عائشة رضى الله تعالى
عنها لان تقطع قدماي أحب إلى من أن أمسح على الخفين فقد صح رجوعها عنه على
ما روى شريح بن هانئ قال سألت عائشة رضى الله تعالى عنها عن المسح على الخفين فقالت
لا أدرى سلوا عليا رضى الله تعالى عنه فإنه كان أكثر سفرا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فسألنا عليا رضى الله تعالى عنه فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على
الخفين. وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يمسح المقيم يوما وليلة
والمسافر ثلاثة أيام ولياليها فبلغ ذلك عائشة رضى الله تعالى عنها فقالت هو أعلم. ولكثرة
الاخبار فيه قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار. قال
أبو يوسف رحمه الله خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته وقال الكرخي رحمه الله تعالى
أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين لان الآثار التي وردت فيه في حيز التواتر. وهو
مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة وفي حق المسافر بثلاثة أيام ولياليها لحديث علي رضى الله
تعالى عنه وحديث خزيمة بن ثابت رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما
قال خرجت إلى العراق فرأيت سعدا يمسح على الخفين فقلت ما هذا فقال إذا رجعت إلى
أبيك فسله فسألت أبى فقال عمك أفقه منك رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح
على الخفين وسمعته يقول يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولان المسح
رخصة لدفع المشقة وذلك مؤقت في حق المقيم بيوم وليلة لأنه يلبس خفيه حين يصبح
ويخرج فيشق عليه النزع قبل أن يعود إلى بيته ليلا والمسافر يلحقه الحرج بالنزع في كل
مرحلة فقدر في حقه بثلاثة أيام ولياليها أدنى مدة السفر إذ لا نهاية لأكثره. وكان الحسن
البصري رضي الله عنه يقول المسح مؤبد للمسافر لحديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال قلت
يا رسول الله أمسح على الخفين يوما فقال نعم فقلت يومين فقال نعم حتى انتهيت إلى سبعة
98

أيام فقال إذا كنت في سفر فامسح ما بدا لك * وتأويله أن مراده صلى الله عليه وسلم بيان
أن المسح مؤبد غير منسوخ وأن ينزع في هذه المدة والاخبار المشهورة لا تترك بهذا الشاذ وكان
مالك رحمه الله تعالى يقول لا يمسح المقيم أصلا ويمسح المسافر ما بدا له لحديث عقبة بن عامر
الجهني رضى الله تعالى عنه قال وفدت على عمر رضى الله تعالى عنه من الشام فقال متى عهدك
بالخف فقلت منذ أسبوع قال أصبت. وتأويله أن المراد بيان أول اللبس وخروجه مسافرا لا
أنه لم ينزع بين ذلك. ثم ابتداء المدة من وقت الحدث لان سبب وجوب الطهارة الحدث
واستتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم فما هو موجب لبس الخف إنما يظهر عند
الحدث فلهذا كان ابتداء المدة منه ولأنه لا يمكن ابتداء المدة من وقت اللبس فإنه لو لم يحدث
بعد اللبس حتى يمر عليه يوم وليلة لا يجب عليه نزع الخف بالاتفاق ولا يمكن اعتباره من
وقت المسح لأنه لو أحدث ولم يمسح ولم يصل أياما لا اشكال أنه لا يمسح بعد ذلك فكان
العدل في الاعتبار من وقت الحدث * قال (وإنما يجوز المسح من كل حدث موجب للوضوء
دون الاغتسال) لحديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها الا من جنابة ولكن
من بول أو غائط أو نوم ولان الجنابة ألزمته غسل جميع البدن ومع الخف لا يتأتى ذلك
والرجل معتبرة بالرأس فمتى كان الفرض في الرأس المسح كان في الرجل في حق لابس الخف
كذلك وفى الجنابة الفرض في الرأس الغسل فكذلك في الرجل عليه نزع الخف وغسل
القدمين * قال (وإنما يجوز المسح إذا لبس الخف على طهارة كاملة) لحديث المغيرة بن شعبة رضى
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين مسح على خفيه أنى أدخلتهما وهما طاهرتان
ولان موجب لبس الخف المنع من سراية الحدث إلى القدمين لا تحويل حكم الحدث من
الرجل إلى الخف وإنما يتحقق هذا إذا كان اللبس على طهارة * قال (فان غسل رجليه أولا
ولبس خفيه ثم أحدث قبل اكمال الطهارة لم يجز له أن يمسح عليهما) لان أول الحدث بعد
اللبس ما طرأ على طهارة كاملة فهو وما لبس قبل غسل الرجل سواء وان أكمل وضوءه قبل
الحدث جاز له أن يمسح عندنا ولم يجز عند الشافعي رحمه الله تعالى بناء على أن الترتيب في الوضوء
ليس بركن عندنا فأول الحدث بعد لبس الخف طرأ على طهارة كاملة * قال (ولو توضأ
وغسل احدى رجليه ولبس الخف ثم غسل الرجل الأخرى ولبس الخف ثم أحدث جاز
99

له عندنا أن يمسح وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن لم ينزع الخف الأول فلا يجوز له أن
يمسح وان نزعه ثم لبسه جاز له المسح لان الشرط أن يكون لبسه بعد اكمال الطهارة
وهذا اشتغال بما لا يفيد ينزع ثم يلبس من غير أن يلزمه فيه غسل وهو ليس من الحكمة
فلا يجوز له اشتراطه * قال (ومسح الخف مرة واحدة) وقال عطاء رضى الله تعالى عنه
ثلاثا كالغسل (ولنا) حديث المغيرة بن شعبة رضى الله تعالى عنهما قال كأني أنظر إلى
أثر المسح على ظهر خف رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوطا بالأصابع وإنما لم تبق
الخطوط إذا لم يمسحه الا مرة واحدة ولان في كثرة إصابة البلة افساد الخف وفيه حرج
فيكتفى فيه بالمرة الواحدة ويبدأ من قبل الأصابع حتى ينتهى إلى أسفل الساق اعتبارا بالغسل
فالبداءة فيه من الأصابع لان الله تعالى جعل الكعبين غاية * قال (وان مسح خفيه بإصبع
أو إصبعين لم يجزه حتى يمسح بثلاثة أصابع) وعلى قول زفر رضى الله تعالى عنه يجزئه
والكلام فيه مثل الكلام في المسح بالرأس وقد مر * قال (والخرق اليسير في الخف لا يمنع
من المسح عليه وفي القياس يمنع) وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لان القدر الذي بدا
من الرجل وجب غسله اعتبارا للبعض بالكل وإذا وجب الغسل في البعض وجب في
الكل لأنه لا يتجزأ ووجه الاستحسان أن الخف قلما يخلو عن قليل خرق فإنه وإن كان جديدا
فآثار الزور والأشافي خرق فيه ولهذا يدخله التراب فجعلنا القليل عفوا لهذا فأما إذا كان
الخرق كبيرا لا يجوز المسح عليه وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى إذا كان بحيث يمكن المشي
فيه سفرا يجوز المسح عليه لان الأصل في هذه الرخصة الصحبة رضوان الله تعالى عليهم
وعامتهم كانوا محتاجين لا يجدون الا الخلق من الخفاف وقد جوز لهم المسح ولكنا نقول
الخرق اليسير إنما جعل عفوا للضرورة ولا ضرورة في الكثير فيبقى على أصل القياس. والفرق
بين القليل والكثير ثلاث أصابع فإن كان يبدو منه ثلاث أصابع لم يجز له أن يمسح عليه لان
الأكثر معتبر بالكمال وفى رواية الزيادات عن محمد رحمه الله تعالى ثلاث أصابع من أصغر
أصابع الرجل لان الممسوح عليه الرجل وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمها الله تعالى
قال ثلاث أصابع من أصابع اليد لان الممسوح به اليد وسواء كان الخرق في ظاهر الخف
أو باطنه أو من ناحية العقب ولكن هذا إذا كان يبدو منه مقدار ثلاث أصابع فإن كان
صلبا لا يبدو منه شئ يجوز المسح عليه وإن كان يبدو في حالة المشي دون حال وضع القدم
100

على الأرض لم يجزه المسح لان الخف يلبس للمشي. واختلف مشايخنا رحمهم الله تعالى فيما
إذا كان يبدو ثلاثة أصابع من الأنامل والأصح أنه لا يجوز المسح عليه وتجمع الخروق في
خف واحد ولا تجمع في خفين لان أحد الخفين منفصل عن الآخر * قال (وان مسح باطن
الخف دون ظاهره لم يجزه) فان موضع المسح ظهر القدم لما روينا من حديث المغيرة بن شعبة
رضى الله تعالى عنه وقال الشافعي رحمه الله تعالى المسح على ظاهر الخف فرض وعلى باطنه سنة
فالأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف ويده اليسرى على باطنه فيمسح بهما على كل
رجل وعندنا المسح على ظاهر الخف فقط لحديث على رضي الله تعالى عنه قال لو كان الدين
بالرأي لكان باطن الخف أولى من ظاهره ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح
على ظهر خفيه دون باطنهما ولان باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصيب يده ذلك
اللوث وفيه بعض الحرج والمسح مشروع لدفع الحرج * قال (ولا يجوز المسح على العمامة
والقلنسوة) ومن العلماء من جوزه لحديث بلال رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
سرية فأمرهم بأن يمسحوا على المشاوذ والتساخين فالمشاوذ العمائم والتساخين الخفاف
(ولنا) حديث جابر رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حسر
العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته وكأن بلالا رضي الله عنه كان بعيدا منه فظن أنه مسح على
العمامة حين لم يضعها عن رأسه * وتأويل الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم خص
به تلك السرية لعذرهم فقد كان عليه الصلاة والسلام يخص بعض أصحابه بأشياء كما خص عبد
الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنه بلبس الحرير وخزيمة رضى الله تعالى عنه بشهادته وحده
. ثم المسح إنما يكون بدلا عن الغسل لاعن المسح والرأس ممسوح فكيف يكون المسح
على العمامة بدلا عنه بخلاف الرجل ولأنه لا يلحقه كثير حرج في ادخال اليد تحت العمامة
والمسح على الرأس * قال (وكذلك المرأة لا تمسح على خمارها) لحديث عائشة رضى الله تعالى عنها
أنها أدخلت يدها تحت الخمار ومسحت برأسها وقالت بهذا أمرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم فان مسحت على خمارها فنفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع أجزأها حتى قال
بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى إذا كان الخمار جديدا يجوز وإن لم يكن جديدا لا يجوز لان
ثقوب الجديد لم تنسد بالاستعمال فتنفذ البلة منها إلى الرأس * قال (وأما المسح على الجوربين فإن كانا
101

ثخينين منعلين يجوز المسح عليهما) لان مواظبة المشي سفرا بهما ممكن وان كانا رقيقين لا يجوز
المسح عليهما لأنهما بمنزلة اللفافة وان كانا ثخينين غير منعلين لا يجوز المسح عليهما عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لان مواظبة المشي بهما سفرا غير ممكن فكانا بمنزلة الجورب الرقيق
وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز المسح عليهما وحكى أن أبا حنيفة رحمه الله
تعالى في مرضه مسح على جوربيه ثم قال لعواده فعلت ما كنت أمنع الناس عنه فاستدلوا به
على رجوعه وحجتهما حديث أبي موسى الأشعري رضى الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى
الله عليه وسلم مسح على جوربيه وقد روى المسح على الجورب عن أبي بكر وعلي وأنس
رضى الله تعالى عنهم * وتأويله عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى انه كان منعلا أو مجلدا والثخين
من الجورب أن يستمسك على الساق من غير أن يشده بشئ. والصحيح من المذهب جواز
المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية لان مواظبة المشي فيها سفرا ممكن * قال
(ويجوز المسح على الجرموقين فوق الخفين) عندنا وعند الشافعي رضى الله تعالى عنه ان
لبس الجرموقين وحدهما مسح وان لبسهما فوق الخف لم يمسح عليهما لان ما تحتهما ممسوح
والمسح لا يكون بدلا عن المسح (ولنا) حديث عمر رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم مسح على الجرموقين ولان الجرموق فوق الخف في معنى خف ذي طاقين
ولو لبس خفا ذا طاقين كان له أن يمسح عليه فهذا مثله وإنما يجوز المسح عندنا على الجرموقين إذا
لبسهما فوق الخفين قبل أن يحدث ويمسح فأما إذا كان مسح على الخف أولا ثم لبس الجرموق
فليس له ان يمسح على الجرموق لان حكم المسح استقر على الخف فبهذا يتبين الجواب عما
قاله الشافعي رحمه الله تعالى عنه. وكذلك لو أحدث بعد ما لبس الخف ثم لبس الجرموقين
فليس له أن يمسح على الجرموق لان ابتداء مدة المسح من وقت الحدث وقد انعقد في الخف
فلا يتحول إلى الجرموق بعد ذلك وان مسح على الخفين ثم نزع أحدهما انتقض مسحه في الرجلين
وعليه غسلهما. وقال ابن أبي ليلى رحمه الله لا شئ عليه وعن إبراهيم النخعي رحمه الله فيه
ثلاثة أقوال روي حماد رحمه الله تعالى عنه كما هو مذهبنا وروى ابن أبي يعلى عن الحكم رحمه
الله أنه لا شئ عليه وروى الحسن بن عمارة عن الحكم أن عليه استقبال الوضوء. وجه هذه
الرواية أن انتقاض الوضوء لا يحتمل التجزي كانتقاضه بالحدث ووجه الرواية الأخرى
أن الطهارة الكاملة لا تنتقض الا بالحدث في شئ من الأعضاء ونزع الخف ليس بحدث
102

. ووجه قولنا ان استتار القدم بالخف كان يمنع سراية الحدث إلى القدم وذلك الاستتار
بالخلع يزول فيسرى ذلك إلى القدم فكأنه توضأ ولم يغسل رجليه فعليه غسلهما والرجلان
في حكم الطهارة كشئ واحد فإذا وجب غسل إحداهما وجب غسل الأخرى ضرورة أنه
لا يجمع بين المسح والغسل في عضو واحد * قال (ولو مسح على الجرموقين ثم نزع أحدهما مسح
على الخف الظاهر وعلى الجرموق الباقي) وفى بعض روايات الأصل قال ينزع الجرموق
الثاني ويمسح على الخفين وقال زفر رحمه الله تعالى عنه يمسح على الخف الذي نزع الجرموق
عنه وليس عليه في الآخر شئ. وجه قوله ان الاستتار باق فكان الفرض المسح ففيما زال
الممسوح بالنزع عليه أن يمسح وفيما كان الممسوح باقيا لا يلزمه شئ بخلاف ما إذا خلع أحدي
خفيه. ووجه ما ذكر في بعض النسخ أن نزع أحد الجرموقين كنزعهما جميعا كما إذا خلع أحد
الخفين يكون كخلعهما. ووجه ظاهر الرواية أنه في الابتداء لو لبس الجرموق على أحدي
الخفين كان له أن يمسح عليه وعلى الخف الباقي فكذلك إذا نزع أحد الجرموقين إلا أن
حكم الطهارة في الرجلين لا يحتمل التجزي فإذا انتقض في أحدهما بنزع الجرموق ينتقض
في الآخر فلهذا مسح على الخف الظاهر وعلى الجرموق الباقي * قال (وإذا انقضى مدة مسحه
ولم يحدث فعليه نزع الخفين وغسل القدمين) لان الاستتار كان مانعا في المدة فإذا انقضى
سرى ذلك الحدث إلى القدمين فعليه غسلهما وليس عليه إعادة الوضوء كما لو كانت
السراية بخلع الخفين * قال (وإذا توضأ فنسى مسح خفيه ثم خاض الماء فإنه يجزئه من المسح)
لان تأدى الفرض بإصابة البلة ظاهر الخف وقد وجد وهل يصير الماء مستعملا بهذا قال أبو
يوسف رحمه الله لا يصير الماء مستعملا بهذا وعن محمد رحمه الله تعالى ان الماء يصير مستعملا ولا
يجزئه من المسح إذا كان الماء قليلا غير جار وأصل الخلاف في الرأس فأبو يوسف رحمه الله
يقول تأدى فرض المسح بالبلة الواصلة إلى موضعها لا بالماء الباقي في الاناء فبقي الاناء كما كان
ومحمد رحمه الله يقول لو تأدى به الفرض لصار الماء مستعملا بإزالة الحدث فإنما أخرج رأسه
من الماء المستعمل وذلك يمنع من جواز المسح به * قال (وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة ثم سافر
نزع الخف) لان حكم الحدث سرى إلى القدمين بانقضاء مدة المسح فلا يتغير ذلك بالسفر)
* قال (وان لبس خفيه وهو مقيم ثم سافر قبل أن يحدث فله أن يمسح كمال مدة السفر) لان
ابتداء المدة انعقد وهو مسافر فأما إذا أحدث وهو مقيم أو مسح قبل استكمال يوم وليلة
103

ثم سافر جاز له عندنا أن يمسح كمال ثلاثة أيام ولياليها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يمسح الا يوما
وليلة قال لان المدة انعقدت وهو مقيم فلا يمسح أكثر من يوم وليلة والشروع في مدة المسح
كالشروع في الصلاة ومن افتتح الصلاة في السفينة وهو مقيم ثم صار مسافرا لم يجز له أن يتم
صلاة السفر وإنما يتم صلاة المقيمين (ولنا) أن المسح جاز له وهو مسافر فله أن يمسح
كمال مدة السفر كما لو سافر قبل الحدث وفعل الصلاة. دليلنا أنه بالحدث صار شارعا في وقت
المسح فوزانه أن لو دخل وقت الصلاة وهو مقيم ثم صار مسافرا فهناك يصلى صلاة المسافرين
* قال (وإذا قدم المسافر مصره بعد ما مسح يوما وليلة أو أكثر من ذلك فعليه نزع الخفين)
لأنه صار مقيما والمقيم لا يمسح أكثر من يوم وليلة إلا أنه إذا كان قدومه بعد ما مسح
يومين نزع خفيه ولم يعد شيئا من الصلاة لأنه حين مسح كان مسافرا * قال (وإذا توضأ ومسح
على الجبائر ولبس خفيه ثم أحدث فله أن يمسح على الخفين ما لم يبرأ جرحه) لان المسح
على الجبائر كالغسل لما تحته ما دامت العلة قائمة وقد بينا هذا فيما مضى فكان اللبس حاصلا
على طهارة تامة ما بقيت العلة فله أن يمسح على الخفين فان برئ جرحه فعليه أن ينزع
خفيه لان المسح على الجبائر طهارة تامة ما بقيت العلة واللبس بعد البرء غير حاصل على
طهارة تامة فلم يكن له أن يمسح وإن لم يحدث بعد لبس الخف حتى برئ جرحه فإن لم
يحدث حتى غسل ذلك الموضع جاز له أن يمسح على الخفين لان أول الحدث بعد اللبس
طرأ على طهارة تامة وان أحدث قبل غسل ذلك الموضع لم يجز له أن يمسح على الخف لان
أول الحدث بعد اللبس طرأ على طهارة ناقصة * قال (وللماسح على الخفين أن يؤم الغاسلين)
لأنه صاحب بدل صحيح وحكم البدل حكم الأصل ولان المسح على الخف جعل كالغسل لما تحته
في المدة بدليل جواز الاكتفاء به مع القدرة على الأصل وهو غسل الرجلين فكان الماسح
في حكم الإمامة كالغاسل * قال (وإذا أراد أن يبول فلبس خفيه ثم بال فله أن يمسح على
خفيه) لان لبسهما حصل على طهارة تامة ولما سئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذا فقال
لا يفعله الا فقيه فقد استدل بفعله على فقهه لأنه تطرق به إلى رخصة شرعية * قال (وإذا
بدا للماسح أن يخلع خفيه فنزع القدم من الخف غير أنه في الساق بعد فقد انتقض مسحه)
لان موضع المسح فارق مكانه فكأنه ظهر رجله وهذا لان ساق الخف غير معتبر حتى لو
لبس خفا لا ساق له جاز له المسح إذا كان الكعب مستورا فيكون الرجل في ساق الخف
104

وظهوره في الحكم سواء وان نزع بعض القدم عن مكانه فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى في الاملاء أنه إذا نزع أكثر العقب انتقض مسحه لأنه لا يمكنه المشي بهذه الصفة
وللأكثر حكم الكمال وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى ان نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة
أصابع انتقض مسحه وعن محمد رحمه الله تعالى قال إن بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع لم
ينتقض مسحه لأنه لو كان بعض رجله مقطوعا وقد بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع
فلبس عليه الخف جاز له أن يمسح فهذا قياسه والله أعلم * قال (وإذا لبس الخفين على طهارة
التيمم أو الوضوء بنبيذ ثم وجد الماء نزع خفيه) لان طهارة التيمم غير معتبرة بعد وجود الماء
وكذلك طهارة النبيذ فصار بعد وجود الماء كأنه لبس على غير طهارة * قال (وإذا لبست
المستحاضة الخفين فإن كان الدم منقطعا من حين توضأت إلى أن لبست الخفين فلها أن تمسح
كمال مدة المسح لان وضوءها رفع الحدث السابق ولم يقترن الحدث بالوضوء ولا باللبس
فإنما طرأ أول الحدث بعد اللبس على طهارة تامة) فأما إذا توضأت والدم سائل أو
سال بعد الوضوء قبل اللبس فلبست الخفين كان لها أن تمسح في الوقت إذا أحدثت حدثا
آخر ولم يكن لها أن تمسح بعد خروج الوقت عندنا. وقال زفر رحمه الله تعالى لها أن
تمسح كمال مدة المسح لان سيلان الدم عفو في حقها بدليل جواز الصلاة معه فكان اللبس
حاصلا على طهارة (ولنا) أن سيلان الدم عفو في الوقت لا بعده حتى تنتقض الطهارة بخروج
الوقت وخروج الوقت ليس بحدث فكان اللبس حاصلا على طهارة معتبرة في الوقت لا بعد
خروج الوقت فلهذا كان لها أن تمسح في وقت الصلاة لا بعد خروج الوقت * قال (وإذ كان
مع المسافر ماء قدر ما يتوضأ به وفى ثوبه دم أكثر من قدر الدرهم غسل الدم بذلك الماء ثم
تيمم للحدث) وقال حماد بن أبي سليمان رحمه الله تعالى يتوضأ بذلك الماء وهو رواية عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى وقيل هذه أول مسألة خالف فيها أبو حنيفة رحمه الله تعالى
أستاذه. ووجه قول حماد رحمه الله تعالى أن حكم الحدث أغلظ من حكم النجاسة بدليل أن
القليل من النجاسة عفو ومن الحدث لا وبدليل جواز الصلاة في الثوب النجس إذا كان
لا يجد ماء يغسله به ولا تجوز الصلاة مع الحدث بحال فصرف الماء إلى أغلظ الحدثين أولى
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه قادر على الجمع بين الطهارتين بأن يغسل النجاسة بالماء فيطهر
به الثوب ثم يكون عادما للماء فيكون طهارته التيمم ومن قدر على الجمع بين الطهارتين لا يكون له
105

أن يأتي بأحدهما ويترك الآخر فلهذا كان صرف الماء إلى النجاسة أولى والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب
(باب التيمم)
قال رضى الله تعالى عنه التيمم في اللغة القصد ومنه قول القائل
وما أدرى إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني
أي قصدت * وفى الشريعة عبارة عن القصد إلى الصعيد للتطهير الاسم شرعي فيه معنى
اللغة (وثبوت التيمم بالكتاب والسنة) أما الكتاب فقوله تعالى فلم تجدوا ماء فيتمموا
صعيدا طيبا ونزول الآية في غزوة المريسيع حين عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليلة فسقط عقد عائشة رضي الله عنها فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فبعث رجلين في طلبه ونزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر رضى
الله تعالى عنه على عائشة رضى الله تعالى عنهما وقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمين على غير ماء فنزلت آية التيمم فلما صلوا جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة
رضى الله تعالى عنها فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر وفي رواية يرحمك الله
يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه الا جعل الله للمسلمين فيه فرجا * والسنة ما روى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة
تيممت وصليت وقال عليه الصلاة والسلام التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم
تجد الماء * إذا عرفنا هذا فنقول ينتظر من لا يجد الماء آخر الوقت ثم يتيمم صعيدا طيبا وهذا
إذا كان على طمع من وجود الماء فإن كأن لا يرجو ذلك لا يؤخر الصلاة عن وقتها المعهود
لان الانتظار إنما يؤمر به إذا كان مفيدا فإذا كان على طمع فالانتظار مفيد لعله يجد الماء
فيؤدي الصلاة بأكمل الطهارتين وإذا لم يكن على طمع من الماء فلا فائدة في الانتظار فلا
يشتغل به * ثم بين صفة التيمم فقال (يضع يديه على الأرض ثم يرفعهما فينفضهما ويمسح
بهما وجهه ثم يضع يديه ثانية على الأرض ثم يرفعهما فينفضهما ثم يمسح بهما كفيه وذراعيه من
المرفقين. قال فان مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لم يجزه) فقد ذكر الوضع والآثار
جاءت بلفظ الضرب قال صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر أما يكفيك ضربتان والوضع
جائز والضرب أبلغ ليتخلل التراب بين أصابعه وينفضهما مرة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه
106

قال ينفضهما مرتين وفى الحقيقة لا خلاف فان ما التصق بكفه من التراب ان تناثر بنفضة
واحدة يكتفي بها وإن لم يتناثر نفض نفضتين لان الواجب التمسح بكف موضوع على
الأرض لا استعمال التراب فان استعمال التراب مثله * ثم التيمم ضربتان عند عامة العلماء وكان
ابن سيرين يقول ثلاث ضربات ضربة يستعملها للوجه وضربة في الذراعين وضربة ثالثة
فيهما وحديث عمار حجة عليه كما روينا وكذلك ظاهر قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
منه يوجب المسح دون التكرار * ثم التيمم إلى المرافق في قول علمائنا والشافعي رحمهم الله
تعالى. وقال الأوزاعي والأعمش إلى الرسغين وقال الزهري رحمه الله إلى الآباط وحديث عمار
رضي الله عنه قد ورد بكل ذلك فرجحنا روايته إلى المرفقين لحديثين * أحدهما حديث أبي
أمامة الباهلي رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التيمم ضربتان ضربة للوجه
وضربة لليدين إلى المرفقين * والثاني حديث الأشلع أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه
التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين والمعنى فيه أن التيمم بدل عن الوضوء
ثم الوضوء في اليدين إلى المرفقين فالتيمم كذلك وتقريره انه سقط في التيمم عضوان أصلا
وبقي عضوان فيكون التيمم فيهما كالوضوء في الكل كما أن الصلاة في السفر سقط منه
ركعتان كان الباقي منها بصفة الكمال ولهذا شرطنا الاستيعاب في التيمم حتى إذا ترك شيئا من
ذلك لم يجزه الا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال الأكثر يقوم مقام
الكمال لان في الممسوحات الاستيعاب ليس بشرط كما في المسح بالخف والرأس فأما في ظاهر
الرواية الاستيعاب في التيمم فرض كما في الوضوء ولهذا قالوا لا بد من نزع الخاتم في التيمم
ولا بد من تخليل الأصابع ليتم به المسح. ومن قال التيمم إلى الرسغ استدل بآية السرقة قال
الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ثم كان القطع من الرسغ ولكنا نقول ذاك
عقوبة وفى العقوبات لا يؤخذ الا باليقين والتيمم عبادة وفى العبادات يؤخذ بالاحتياط
ومن قال إلى الآباط قال اسم الأيدي مطلقا يتناول الجارحة من رؤس الأصابع إلى الآباط
ولكنا نقول التيمم بدل عن الوضوء فالتنصيص على الغاية في الوضوء يكون تنصيصا عليه
في التيمم يقول في الكتاب. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى سألت أبا حنيفة رحمه الله تعالى
عن التيمم فقال الوجه والذراعان إلى المرفقين فقلت كيف فمال بيده على الصعيد فأقبل بيده
وأدبر ثم نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعا على الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رفعهما
107

ونفضهما ثم مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى المرفقين وفى قوله أقبل
بهما وأدبر وجهان. أحدهما أنه قبل الوضع على الأرض أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق
بكفه شئ يصير حائلا بينه وبين الصعيد. والثاني أقبل بهما على الصعيد وأدبر بهما وهذا
هو الأظهر. قال (وإن كان مع رفيق له ماء فطلب منه فلم يعطه فتيمم وصلى أجزأه) لأنه
عادم للماء حين منعه صاحب الماء وهو شرط التيمم وإن لم يطلب منه حتى تيمم وصلى لم يجزه
لأن الماء مبذول في الناس عادة خصوصا للطهارة فلا يصير عادما للماء الا بمنع صاحبه فلا
يظهر ذلك الا بطلبه فإذا لم يطلب لا يجزئه فأما إذا لم يكن مع أحد من الرفقة ماء وتيمم
وصلى جازت صلاته وإن لم يطلب الماء عندنا. وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه لا بد من
طلب الماء أولا يمنة ويسرة فيهبط واديا ويعلو شرفا إن كان ثمة لقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا وذلك لا يتبين الا بطلبه ولكنا نقول الطلب إنما يلزمه إذا كان على طمع من
الوجود فأما إذا لم يكن على طمع منه فلا فائدة في الطلب وقد يلحقه الحرج فربما ينقطع عن
أصحابه وما شرع التيمم الا لدفع الحرج قال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج
قال (وكل شئ من الأرض تيمم به من تراب أو جص أو نورة أو زرنيخ فهو جائز) في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أولا لا يجوز
التيمم الا بالتراب والرمل ثم رجع فقال لا يجزئه الا بالتراب الخالص وهو قول الشافعي
رضى الله تعالى عنه واحتج بقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا. قال ابن عباس رضى الله تعالى
عنه الصعيد هو التراب الخالص. وقال صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم والجص
والنورة ليسا بتراب فلا يجوز التيمم بهما وما سوى التراب مع التراب بمنزلة سائر المائعات
مع الماء في الوضوء فكما يختص الوضوء بالماء دون سائر المائعات فكذلك التيمم وفيه إظهار
كرامة الآدمي فإنه مخلوق من التراب والماء فخصا بكونهما طهورا لهذا وأبو يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بالآية فان الصعيد هو الأرض قال صلى الله عليه وسلم
يحشر العلماء في صعيد واحد كأنها سبيكة فضة فيقول الله تعالى يا معشر العلماء اني لم أضع
علمي فيكم الا لعلمي بكم انى لم أضع حكمتي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم انطلقوا مغفورا
لكم فدل أن الصعيد هو الأرض. وقال صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
ثم ما سوى التراب من الأرض أسوة التراب في كونه مكان الصلاة فكذلك في كونه طهورا
108

وبين أن الله يسر عليه وعلى أمته وقد تدركه الصلاة في غير موضع التراب كما تدركه في
موضع التراب فيجوز التيمم بالكل تيسيرا * ثم حاصل المذهب أن ما كان من جنس الأرض
فالتيمم به جائز ومالا فلا حتى لا يجوز التيمم بالذهب والفضة لأنهما جوهران مودعان
في الأرض ليس من جنسه حتى يذوب بالذوب وكذلك الرماد من الحطب لأنه ليس من
جنس الأرض هكذا ذكر الشيخ الامام السرخسي وغيره من مشايخنا رحمهم الله * قال (إن كان
الملح جبليا يجوز لأنه من جنس التراب وإن كان مائعا لا يجوز لأنه ليس من جنس التراب
داء سبخ) وأما الكحل والمرداء سبخ من جنس الأرض فيجوز التيمم بهما والأجر كذلك لأنه
طين مستحجر فهو كالحجر الأصلي والتيمم بالحجر يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وإن لم
يكن عليه غبار. وعن محمد رحمه الله تعالى فيه روايتان في احدى الروايتين لا يجوز إلا أن يكون
عليه غبار. والدليل على الجواز حديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم بال فسلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى بحيطان المدينة فضرب بيده
على الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام وحيطانهم كانت من الحجر فدل على جواز التيمم بها
وكذلك الطين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجوز به التيمم لأنه من جنس الأرض وفى
احدى الروايتين عن محمد رحمه الله تعالى لا يجوز بالطين * قال (وإذا نفض ثوبه أو لبده
وتيمم بغباره وهو يقدر على الصعيد أجزأه) في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا
يجزئه عند أبي يوسف رحمه الله تعالى الا إذا كأن لا يقدر على الصعيد ووجهه أن الغبار
ليس بتراب خالص ولكنه من التراب من وجه والمأمور به التيمم بالصعيد فان قدر عليه
لم يجزه الا بالصعيد وإن لم يقدر فحينئذ تيمم بالغبار كما أن العاجز عن الركوع والسجود
يصلى بالايماء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى احتجا بحديث عمر رضى الله تعالى عنه
فإنه كان مع أصحابه في سفر فنظروا بالخابية فأمرهم أن ينفضوا لبودهم وسروجهم
ويتيمموا بغبارها ولان الغبار تراب فان من نفض ثوبه يتأذى جاره من التراب إلا أنه
دقيق وكما يجوز التيمم بالخشن من التراب على كل حال فكذلك بالدقيق منه * قال (وان تيمم
في أول الوقت أجزأه) وكذلك قبل دخول الوقت عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى
لا يجزئه قبل دخول الوقت لأنها طهارة ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة لكنا
نستدل بقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فشرط عدم الماء فقط وجعله في حال
109

عدم الماء كالوضوء. ثم التوضؤ بالماء قبل دخول الوقت لتقرر سببه وهو الحدث فكذلك
التيمم فان وجد الماء بعد ذلك فهو على أوجه ان وجده قبل الشروع في الصلاة يبطل تيممه
الا على قول أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنهما قال الطهارة متى صحت لا يرفعها الا
الحدث ووجود الماء ليس بحدث ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم التراب كافيك
ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك ولان التيمم لا يرفع
الحدث ولكنه طهارة شرعا إلى غاية وهو وجود الماء ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها
خلاف ما قبلها فعند وجود الماء يصير محدثا بالحدث السابق وان وجد الماء في خلال الصلاة
فعليه أن يتوضأ ويستقبل القبلة عندنا وهو أحد أقاويل الشافعي رحمه الله تعالى. وفى قول
آخر يقرب الماء منه حتى يتوضأ ويبنى وأظهر أقاويله أنه يمضى على صلاته. وجه قوله أن
الشروع في الصلاة قد صح بطهارة التيمم فلا يبطل برؤية الماء كما لو رأى بعد الفراغ من
الصلاة وإذا لم يبطل ما أدى فحرمة الصلاة تمنعه من استعمال الماء فلا يكون واجدا للماء كما لو
كان بينه وبين الماء مانع أو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستسقاء (ولنا) أن طهارة التيمم
انتهت بوجود الماء فلو أتم صلاته أتمها بغير طهارة وذلك لا يجوز وحرمة الصلاة إنما تمنعه من
استعمال الماء أن لو بقيت ولم تبق هاهنا لما بينا ان التيمم لا يرفع الحدث فعند وجود الماء
يصير محدثا بحدث سابق على الشروع في الصلاة وذلك يمنعه من البناء كخروج الوقت في حق
المستحاضة لان البناء على الصلاة عرف بالأثر وذلك في حدث يسبقه للحال فلهذا ألزمناه
الوضوء واستقبال الصلاة والشروع في الصلاة وان صح كما قال إلا أن المقصود لم يحصل به
لأنه اسقاط الفرض عن ذمته ومتى قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل سقط اعتبار
البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت وان وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة والسلام لم تلزمه
الإعادة الا على قول مالك رحمه الله فإنه يقول إذا وجد الماء في الوقت يعيد الصلاة لان طهارة
التيمم لضرورة التمكن به من أداء الصلاة والأداء باعتبار الوقت فإذا ارتفعت هذه الضرورة
بوجود الماء في الوقت سقط اعتبار التيمم كالمريض إذا أحج رجلا بماله ثم برئ فعليه حجة
الاسلام لبقاء الوقت فان العمر للحج كالوقت للصلاة (ولنا) ما روي أن رجلين من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم صليا بالتيمم في الوقت ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد
الاخر فسألا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذي أعاد أتاك أجرك مرتين
110

وللذي لم يعد أجزأتك صلاتك وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى العصر بالتيمم وانصرف
من ضيعته وهو ينظر إلى أبيات ثم دخلها قبل غروب الشمس فلم يعد الصلاة والمعنى أن
المقصود هو اسقاط الفرض عن ذمته وقد حصل بالبدل فلا يعود إلى ذمته بالقدرة على
الأصل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت بعد انقضاء العدة وهذا بخلاف الحج فان جواز الاحجاج
باعتبار وقوع اليأس عن الأداء بالبدن وذلك لا يحصل الا بالموت وهاهنا جواز التيمم باعتبار
العجز عن استعمال الماء وكان متحققا حين صلى * قال (ويؤم المتيمم المتوضئين) في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال محمد رحمه الله تعالى
لا يؤم وهو قول على رضى الله تعالى عنه فإنه كأن يقول لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا المقيد
المطلقين ولان طهارة المتيمم طهارة ضرورة فلا يؤم من لا ضرورة له كصاحب الجرح
السائل لا يؤم الأصحاء. وهما استدلا بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه فان رسول الله
صلى الله عليه وسلم جعله أميرا على سرية فلما انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا كان حسن
السيرة ولكنه صلى بنا يوما وهو جنب فسأله عن ذلك فقال احتلمت في ليلة باردة فخشيت
الهلاك ان اغتسلت فتلوت قول الله عز وجل ولا تقتلوا أنفسكم فتيممت وصليت بهم فتبسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وقال يا لك من فقه عمرو بن العاص ولم يأمرهم بإعادة
الصلاة ولان المتيمم صاحب بدل صحيح فهو كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين وهذا لان
البدل عند العجز عن الأصل حكمه حكم الأصل بخلاف صاحب الجرح فإنه ليس بصاحب
بدل صحيح * قال (والجنب والحائض والمحدث في التيمم سواء) وهو قول على وابن عباس
رضي الله عنهما وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يجوز التيمم للحائض والجنب وروى
أن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه أما تذكر إذ كنت معك في الإبل
فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصرت
حمارا أما يكفيك ضربتان فقال له عمر اتق الله فقال إن شئت فلا أذكره أبدا فقال عمر
إن شئت فاذكره وإن شئت فلا تذكره ولما ذكر لابن مسعود رضي الله عنه حديث
عمار فقال لم يقنع به عمر رضي الله عنه وأصل الاختلاف في قوله تعالى أو لامستم النساء
فقال عمر وابن مسعود رضي الله عنهما المراد المس باليد فجوز التيمم للمحدث خاصة وقال على
وابن عباس رضي الله عنهما المراد المجامعة فهذا القول أولى فان الله تعالى ذكر نوعي الحدث
111

عند وجود الماء في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة وقوله وان كنتم جنبا فاطهروا وذكر
نوعي الحدث عند عدم الماء وأمر بالتيمم لهما بصفة واحدة فكان الحمل علي المجامعة أكثر
إفادة من هذا الوجه. والدليل على جوازه للحائض والجنب حديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا انا نكون في هذه الرمال وربما
لا نجد الماء شهرا وفينا الجنب والحائض فقال صلى الله عليه وسلم عليكم بأرضكم وفى
حديث أبي ذر رضي الله عنه قال اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة
فقال لي أبديها فبدوت إلى الربذة فأصابتني الجنابة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال مالك فسكت فقال ثكلتك أمك مالك فقلت انى جنب فأمر جارية سوداء فأتت
بعس من ماء وسترتني بالبعير والثوب فاغتسلت فكأنما وضعت عن عاتقي حملا فقال
النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفيك التيمم ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء * قال (ويجوز
للمريض أن يتيمم إذا لم يستطع الوضوء أو الغسل) أما إذا كان يخاف الهلاك باستعمال
الماء فالتيمم جائز له بالاتفاق لقوله تعالى وان كنتم مرضى أو على سفر قال ابن عباس رضي الله عنه
نزلت الآية في المجدور والمقروح. وروى أن رجلا من الصحابة كان به جدري فاحتلم
في سفر فسأل أصحابه فأمروه بالاغتسال فاغتسل فمات فلما أخبر بذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال قتلوه قتلهم الله كان يكفيه التيمم وإن كان يخاف زيادة المرض من
استعمال الماء ولا يخاف الهلاك جاز له التيمم عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز
لان التيمم مشروع عند عدم الماء وهو واجد للماء والعجز إنما يتحقق عند خوف الهلاك
ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف الهلاك (ولنا) أن زيادة المرض بمنزلة الهلاك في إباحة الفطر
وجواز الصلاة قاعدا أو بالايماء فكذلك في حكم التيمم وهذا لان حرمة النفس لا تكون
دون حرمة المال ولو كان يلحقه الخسران في المال باستعمال الماء بأن كأن لا يباع الا بثمن
عظيم جاز له أن يتيم فعند خوف زيادة المرض أولى هذا كله إذا كان يستضر بالماء فإن كان
لا يستضر بالماء ولكنه للمرض عاجز عن التحرك للوضوء فظاهر المذهب أنه ان وجد من
يستعين به في الوضوء لا يجوز له التيمم وإن لم يجد من يعينه في الوضوء فحينئذ يتيمم لتحقق
عجزه عن الوضوء وروي عن محمد رحمه الله تعالى * قال وإن لم يجد من يعينه في الوضوء من
الخدم فليس له أن يتيمم في المصر إلا أن يكون مقطوع اليدين ووجهه أن الظاهر أنه في المصر
112

يجد من يستعين به من قريب أو بعيد والعجز بعارض على شرف الزوال فإذا لم يجد من
يوضئه جاز له التيمم لهذا ثم يصلى بتيممه ما شاء من الصلاة ما لم يحدث أو تزل العلة وكذلك
المسافر يصلى بتيممه ما شاء ما لم يحدث أو يجد الماء عندنا * وقال الشافعي رحمه الله تعالى
لا يجمع بين فريضتين بتيمم واحد وله أن يصلى من النوافل ما شاء وحجته أنها طهارة
ضرورة وباعتبار كل فريضة تتجدد الضرورة فعليه تجديد الوضوء والنوافل تبع للفرائض
وهو نظير مذهبه في طهارة المستحاضة وقد بينا. وحجتنا قوله صلى الله عليه وسلم التراب
طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
طهارة التيمم ممتدا إلى غاية وجود الماء ويتبين بهذا أنه في حال عدم الماء كالوضوء ثم المتوضئ
له أن يصلى بوضوء واحد ما شاء ما لم يحدث فهذا مثله ولان بالفراغ من المكتوبة لم تنتقض
طهارته حتى جاز له أداء النافلة وإذا بقيت الطهارة فله أن يؤدى الفرض لان الشرط أن
يقوم إليه طاهرا وقد وجد * قال (وان وجد المتيمم الماء فلم يتوضأ حتى حضرت الصلاة
وقد عدم ذلك الماء فعليه إعادة التيمم) لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل تيممه وصار محدثا
بالحدث السابق فهذا محدث لا ماء معه فعليه التيمم للصلاة والله أعلم * قال (ولا يجوز بأقل
من ثلاثة أصابع) فهو والمسح بالرأس والخف سواء وقد بينا. قال (وان أجنب المسافر ومعه
من الماء مقدار ما يتوضأ به يتيمم عندنا ولم يستعمل الماء) وقال الشافعي رحمه الله تعالى يتوضأ
بذلك الماء ثم يتيمم. وكذلك المحدث إذا كان معه من الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء
عندنا يتيمم وعنده يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم واستدل بقوله تعالى فلم تجدوا ماء فذكره
منكرا في موضع النفي وذلك يتناول القليل والكثير فما بقي واجدا لشئ من الماء لا يجوز له
أن يتيمم ولان الضرورة لا تتحقق الا بعد استعمال الماء فيما يكفيه فهو كمن أصابته مخمصة ومعه
لقمة من الحلال لا يكون له أن يتناول الميتة ما لم يتناول تلك اللقمة الحلال ولا يبعد الجمع
بين التيمم واستعمال الماء كما قلتم في سؤر الحمار (ولنا) قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فان
المراد ماء يطهره. ألا ترى أن وجود الماء النجس لا يمنعه عن التيمم ولأنه معطوف على
ما سبق وقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف عليه قوله تعالى فلم تجدوا
ماء فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضؤن به ويغتسلون به عند الجنابة وهو
غير واجد لذلك الماء ولأنه إذا لم يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله الا مضيعه
113

ولان الأصل لا يوفى بالابدال لأنهما لا يلتقيان كما لا يكمل التكفير بالمال بالصوم ولا
العدة بالشهور بالحيض ولو قلنا يتيمم بعد استعمال الماء كان فيه رفو الأصل بالبدل ولا
نقول في مسألة المخمصة انه يلزمه مراعاة الترتيب فان ما معه من الحلال إذا كان
لا يكفيه لسد الرمق فله أن يتناول معه الميتة. وفى سؤر الحمار الجمع بينهما عندنا للاحتياط
لا لرفع الأصل بالبدل ولذلك لو أنه وجد الماء بعد التيمم فإن كان يكفيه لما خوطب به
يبطل تيممه وان كأن لا يكفيه لا يبطل تيممه اعتبارا للانتهاء بالابتداء * قال (وان تيمم للجنابة
ثم أحدث ومعه من الماء ما يتوضأ به توضأ به) لان ذلك التيمم أخرجه من الجنابة إلى أن
يجد ما يكفيه للاغتسال فهو الآن محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء فيتوضأ به فان
توضأ به ولبس خفيه ثم مر بالماء فلم يغتسل ثم حضرت الصلاة وعنده من الماء قدر ما يوضئه
فإنه يتيمم لأنه لما مر بما يكفيه للاغتسال عاد جنبا كما كان فعليه أن يتيمم ولا يلزمه نزع
الخف إذ لا تيمم في الرجل * قال (فان تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث فإنه
يتوضأ) لأنه بالتيمم الأول خرج من الجنابة إلى أن يجد ماء يكفيه للاغتسال ولم يجد بعد فهذا
محدث معه ماء يتوضأ به فعليه أن يتوضأ وينزع خفيه لأنه لما مر بماء يكفيه للاغتسال بعد
لبس الخف وجب عليه نزع الخفين فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر بالماء
قبل ذلك مسح على خفيه لان اللبس حصل على طهارة كاملة ما لم يجد ما يكفيه للاغتسال فكان
له أن يمسح * قال (وإن كان مع المحدث ماء يكفيه للوضوء غير أنه يخاف العطش تيمم ولم
يتوضأ به) هكذا قال على وابن عباس رضي الله عنهما ولأنه يخاف الهلاك من العطش إذا
استعمل الماء فكان عاجزا عن استعماله حكما بمنزلة ما لو كان بينه وبين الماء عدو أو سبع
وقد بينا ان حرمة النفس لا تكون دون حرمة المال * قال (وإذا تيمم المسافر والماء منه
قريب وهو لا يعلم به أجزأه تيممه به) لأنه عاجز عن استعمال الماء حين عدم آلة الوصول إليه
وهو العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم. ولم
يفسر حد القرب في ظاهر الرواية في حالة العلم به والمروي عن محمد رحمه الله تعالى
قال إذا كان بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه التيمم وإن كان ميلا أو أكثر أجزأه
التيمم والميل ثلث فرسخ وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى إذا كان الماء أمامه يعتبر ميلين
وإن كان يمنة أو يسرة فميل واحد لان الميل للذهاب ومثله في الرجوع فكان ميلين وقال
114

زفر رحمه الله إذا كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزئه التيمم وإن كان
لا يصل إلى الماء قبل خروج الوقت يجزئه التيمم وإن كان الماء قريبا منه لان التيمم
لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت ولكنا نقول التفريط جاء من قبله بتأخير
الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريبا منه ومن العلماء من يقول إذا كأن لا يبلغه
صوتهم فبعيد فحينئذ يجوز له التيمم * قال (وإذا كان مع رفيقه ماء فعليه أن يسأله) الا على
قول الحسن بن زياد رحمه الله تعالى فإنه كأن يقول السؤال ذل وفيه بعض الحرج وما
شرع التيمم الا لدفع الحرج ولكنا نقول ماء الطهارة مبذول بين الناس عادة وليس في
سؤال ما يحتاج إليه مذلة فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض حوائجه من غيره
فان سأله فأبى أن يعطيه الا بالثمن فإن لم يكن معه ثمنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء وإن كان
معه ثمنه فان أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع أو بغبن يسير فليس له أن يتيمم وان أبى
أن يعطيه الا بغبن فاحش فله أن يتيمم * وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى يلزمه الشراء
بجميع ماله لأنه لا يخسر على هذه التجارة ولا نأخذ بهذا فان حرمة مال المسلم كحرمة نفسه
فإذا كان يلحقه خسران في ماله ففرضه التيمم والغبن الفاحش خسران وقد بين ذلك في
النوادر فقال إن كان الماء الذي يكفي للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبى أن يعطيه الا
بدرهم ونصف فله أن يشترى وان أبى أن يعطيه الا بدرهمين تيمم ولم يشتر فجعل الغبن
الفاحش في تضعيف الثمن. وإنما قلنا إذا كان يعطيه بمثل الثمن فعليه أن يشترى لان قدرته
على بدل الماء كقدرته على عينه كما أن القدرة على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من
التكفير بالصوم، وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الاملاء سألت أبا حنيفة رضى الله تعالى
عنه عن المسافر لا يجد الماء أيطلبه عن يمين الطريق وعن يساره قال إن طمع في ذلك فليفعل
ولا يبعد فيضر بأصحابه ان انتظروه أو بنفسه ان انقطع عنهم ولا يطلب ذلك إلا أن يخبر بماء
فيطلبه الغلوة ونحوها لان الطلب إنما يؤمر به إذا كان على رجاء من وجوده فإن لم يكن على
رجاء منه فلا فائدة في الطلب وعدم الوجود كالوجود يتحقق من غير تقدم الطلب يقال وجد
فلان لقطة وقال الله تعالى ووجدك عائلا فأغنى * قال (وإن كان المسافر في ردغة وطين لا يجد
الماء ولا الصعيد نفض ثوبه أو لبده وتيمم بغباره) ولا يؤمر بالتيمم بالطين وإن كان لو فعل أجزأه
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان فيه تلويث الوجه وهو مثلة ولكنه ينفض لبده
115

فيتيمم بغباره وقد بينا فيه حديث عمر رضى الله تعالى عنه فإن كان المطر عم جميع ذلك لطخ
بالطين بعض جسده فإذا جف حته وتيمم به وإن لم يجف لم يصل بغير وضوء ولا تيمم
وان ذهب الوقت وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يصلى ثم يعيد إذا قدر على الطهور.
ووجهه أنه لا ينبغي أن يمضى وقت صلاة على المسلم ولا يتشبه فيه بالمصلين فعليه أن يأتي
بما قدر عليه تشبها كمن تسحر بعد طلوع الفجر كان عليه الامساك تشبها بالصائمين ولكنا
نقول الصلاة بغير طهارة معصية والتشبه بالمطيعين لا يحصل بمباشرة المعصية بخلاف
الامساك فإنه ليس بمعصية * قال (وان وجد سؤر حمار أو بغل توضأ به وتيمم) وان قدم
التيمم أجزأه الا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول ما دام معه ما هو مأمور باستعماله فلا
عبرة بتيممه ولكنا نقول الاحتياط في الجمع بينهما لا في الترتيب فلا يلزمه إعادة الترتيب
وإن كان الأفضل أن يقدم في التوضؤ به * قال (وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض
ذلك تيممه) ولكنه يمسح بخرقة أو تراب لتتقلل به النجاسة ثم يصلى فان صلى لم يمسحه وأجزأه
لان المسح لا يزيل النجاسة فهو عاجز عن ازالتها فجازت صلاته معها * قال (وإذا توضأ الكافر أو
اغتسل ثم أسلم فله أن يصلى بذلك الوضوء والاغتسال) عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى
بناء على ما تقدم من اشتراط النية فعنده الوضوء لا يجزئ الا بنية القربة والكافر ليس من
أهلها وعندنا يجزئ من غير نية ويزول به الحدث فيصح من الكافر كغسل النجاسة
وروى أن عمر رضي الله تعالى عنه لما طلب من أخته أن تناوله الصحفة قبل أن يؤمن
حتى يغتسل ناولته فذلك دليل على صحة الاغتسال من الكافر * قال (وان تيمم الكافر
في حال عدم الماء ثم أسلم فليس له أن يصلى بذلك التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى) وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا تيمم بنية الاسلام أو الطهر فله أن يصلى به
بعد الاسلام. وجه قوله أن التيمم يفارق الوضوء في اشتراط النية وبنية الطهر صح لأنه من
أهله ونية الاسلام نية قربة فإذا اقترن بالتيمم نية القربة صح منه كما يصح من المسلم (ولنا)
أن من شرط التيمم نية الصلاة به والكافر ليس من أهلها والتيمم لا يصح بغير نية ونية
الاسلام لا تعتبر في التيمم إنما تعتبر نية قربة ونية القربة لا تصح الا بالطهارة * ألا ترى أن
المسلم إذا تيمم بنية الصوم أو الصدقة لا تصح نيته ثم اصراره على الكفر إلى أن يفرغ من
التيمم معصية فكيف يصح فيه معنى القربة * قال (ولو توضأ المسلم أو اغتسل ثم ارتد نعوذ
116

بالله لم يبطل وضوءه) لان الردة ليست بحدث وهو كفر والكفر لا يمنع ابتداء الوضوء
فلا يمنع البقاء بطريق الأولى (فان قيل) أليس أن الردة تحبط عمله ووضوءه من عمله (قلنا)
الردة تحبط ثواب العمل وذلك لا يمنع زوال الحدث كمن توضأ على قصد المراءاة زال
الحدث به وان كأن لا يثاب على وضوئه) قال (ولو تيمم المسلم ثم ارتد لم يبطل تيممه) الا على
قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول الكفر يمنع ابتداء التيمم فيمنع البقاء كمن صلى ثم
ارتد بطلت صلاته حتى لو أسلم في الوقت لم تلزمه الإعادة ولكنا نقول تيممه قد صح باقتران
نية القربة فلا ينقضه الا الحدث أو وجود الماء والردة ليست بحدث وهذا لان التيمم إنما
يفارق الوضوء في اشتراط النية وذلك في الابتداء لا في البقاء ففي البقاء الوضوء والتيمم سواء
فكما يبقى وضوءه بعد ردته فكذلك تيممه * قال (وللمسافر أن يطأ جاريته وان علم أنه
لا يجد الماء) وقال مالك رحمه الله تعالى يكره ذلك * وروي أن رجلا سأل ابن عمر رضى الله
تعالى عنهما عن ذلك فقال أما ابن عمر فلا يفعل ذلك وأما أنت إذا وجدت الماء فاغتسل
قال مالك رحمه الله تعالى الضرورة لا تتحقق في اكتساب سبب الجنابة في حال عدم
الماء والصلاة مع الجنابة أمر عظيم فلا ينبغي أن يتعرض لذلك من غير ضرورة (ولنا)
قوله تعالى أو لامستم النساء فذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم التيمم للجنابة
والحدث بصفة واحدة وكما يجوز له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء فكذلك
اكتساب سبب الجنابة لان في منع النفس بعد غلبة السبق بعض الحرج وما شرع التيمم
الا لدفع الحرج * قال (ومن تيمم وهو يريد تعليم الغير ولا يريد به الصلاة لم يجزه) لما بينا أن
التيمم في اللغة هو القصد وذلك يدل على اشتراط النية فيه وظاهر ما يقول في الكتاب أنه
يحتاج إلى نية الصلاة. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن نية الطهارة تكفى وكان أبو بكر
الرازي رحمه الله تعالى يقول يحتاج إلى نية التيمم للحدث أو الجنابة لان التيمم لهما بصفة
واحدة فلا يتميز أحدهما من الآخر الا بالنية * قال (ولو تيمم بنية النفل جاز له أداء الفرض)
عندنا خلافا للشافعي رضي الله عنه وقد بينا هذا أنه يعتبر الضرورة للتيمم ثم أداء النافلة بالتيمم
يجوز عندنا كأداء الفرض وقال الزهري رضي الله تعالى عنه لا يجوز لأنه لا ضرورة في أداء
النافلة * قال (مسافرة طهرت من حيضها فلم تجد ماء فتيممت وصلت فلزوجها أن يقربها) لأنا
حكمنا بطهارتها حين صح تيممها وتأكد ذلك بجواز صلاتها ولم يذكر ما إذا تيممت ولم تصل
117

فقيل هو على الاختلاف عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ليس للزوج أن
يقربها وعند محمد رحمه الله له ذلك بناء على قصد الرجعة والأصح أنه ليس للزوج أن يقربها
عندهم جميعا لان محمدا رحمه الله تعالى إنما جعل التيمم كالاغتسال فيما هو مبنى على الاحتياط
وهو قطع الرجعة والاحتياط في الوطئ تركه فلم يجعل التيمم فيه قبل تأكده بالصلاة
كالاغتسال كما لم يفعله في الحل للأزواج * قال (مسافر مر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب
ولا يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد) لان الجنابة تمنعه من دخول المسجد على كل حال عندنا
سواء قصد المكث فيه أو الاجتياز وعند الشافعي رحمه الله تعالى له أن يدخله مجتاز الظاهر
قوله تعالى ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا ولكن أهل التفسير قالوا إن الا هنا بمعنى
ولا أي ولا عابري سبيل وهذا محتمل فبقي المنع بقوله لا تقربوا وهو عاجز عن الماء قبل
دخول المسجد فيتيمم ثم يدخل المسجد فيستقى منه وإن لم يكن معه ما يستقي به ولا
يستطيع أن يغترف منه ولكنه يستطيع أن يقع فيه فإن كان ماء جاريا أو حوضا كبيرا
اغتسل فيه وإن كان عينا صغيرا فالاغتسال فيه ينجس الماء ولا يطهره فلا يشتغل به ولكنه
يتيمم للصلاة وهذا إشارة منه إلى أنه لا يصلى بالتيمم الأول لان قصده عند ذلك دخول
المسجد ونية الصلاة شرطه لصحة التيمم في ظاهر الرواية فلهذا تيمم ثانيا وكذلك لو تيمم
لمس المصحف فليس له أن يصلى به بخلاف ما إذا تيمم لسجدة تلاوة لان السجدة من
أركان الصلاة فنيته للسجدة عند التيمم كنية الصلاة فأما مس المصحف ودخول المسجد
ليس من أركان للصلاة فلا يصير بنيته ذلك ناويا للصلاة * قال (ولا يتوضأ بسؤر الكلب)
الا على قول مالك رحمه الله تعالى وقد بينا أن عنده سؤره طاهر والامر بغسل الاناء من
ولوغه تعبد وعند عامة العلماء سؤره نجس وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم طهور اناء أحدكم
إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله ثلاثا دليل على نجاسته والتطهير لا يحصل بالنجس فكان فرضه
التيمم * قال (ويتيمم لصلاة الجنازة في المصر إذا خاف فوتها) وكذلك لصلاة العيد عندنا وقال
الشافعي رحمه الله تعالى لا يتيمم لهما لان التيمم طهور شرع عند عدم الماء فمع وجوده لا يكون
طهورا ولا صلاة الا بطهور ومذهبنا مذهب ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال إذا
فاجأتك جنازة فخشيت فوتها فصل عليها بالتيمم ونقل عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما في
صلاة العيد مثله وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم رد السلام بطهارة التيمم حين خاف الفوت
118

لمواراة المسلم عن بصره فصار هذا أصلا إلى أن كل ما يفوت لا إلى بدل يجوز أداؤه بالتيمم مع
وجود الماء وصلاة العيد تفوت لا إلى بدل لأنها لا تقضى إذا فاتت مع الامام وكذلك صلاة
الجنازة تفوت لا إلى بدل لأنها لا تعاد عندنا وكأن الخلاف مبنى على هذا الأصل والفقه فيه أن
التوضؤ بالماء إنما يلزمه إذا كان يتوصل به إلى أداء الصلاة وهنا لا يتوصل بالتوضؤ إلى أداء
الصلاة لأنه تفوته الصلاة لو اشتغل بالوضوء فإذا سقط عنه الخطاب باستعمال الماء صار وجود
الماء كعدمه فكان فرضه التيمم وبهذا فارق صلاة الجمعة فإنه لا يتيمم لها وان خاف الفوت لان
الوضوء هناك يتوصل به إلى الصلاة وهو الطهر الذي هو أصل فرض الوقت فكان مخاطبا
باستعمال الماء وبخلاف سجدة التلاوة لأنها غير مؤقتة فلا تفوته وبالوضوء يتوصل إلى أدائها فلا
يجزئه أداؤها بالتيمم لهذا * قال (وان سبقه الحدث بعد ما شرع في صلاة العيد فإن كان شروعه
بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق وإن كان شروعه بالوضوء تيمم للبناء) عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وعندهما لا يتيمم لأنه لا يخاف الفوت فإنه إذا ذهب للوضوء كان له أن يبنى وان عاد بعد فراغ
الامام وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لما جاز الافتتاح بطهارة التيمم فالبناء أجوز لان حالة البناء
أسهل وخوف الفوت قائم فربما يبتلى بالمعالجة مع الناس لكثرة ازدحامهم فتفسد صلاته ولا
يصل إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضي الوقت وقيل هذا الجواب بناء على جبائية
الكوفة فان الماء بعيد لا يصل إليه حتى يعود إلى المصر فأما في ديارنا الماء محيط بالمصلى فلا يتيمم
للابتداء ولا للبناء لأنه لا يخاف الفوت وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهم الله أن ولى
الميت لا يصلى على الجنازة بالتيمم بخلاف غيره لأنه لا يخاف الفوت فان الناس وان صلوا
عليها كان له حق الإعادة * قال (ولا يجوز التيمم من مكان قد كان فيه بول أو نجاسة وان ذهب
الأثر) وذكر ابن كاسر النخعي عن أصحابنا رضى الله تعالى عنهم أنه يجوز لأنه حكم بطهارة
ذلك المكان حين ذهب أثر النجاسة بدليل جواز الصلاة عليها. وجه ظاهر الرواية ان شرط
جواز التيمم طيبة الصعيد كما قال الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا وهذا المكان صار طاهرا
وليس من ضرورة الطهارة الطيبة ولم يصر طيبا ثم طهارة هذا المكان ثابتة بخبر الواحد
واشتراط الطهارة في الصعيد ثابت بنص مقطوع به فلا يتأدى بما يثبت بخبر الواحد كمن
استقبل الحطيم في الصلاة دون البيت لا تجوز صلاته لهذا وقد قررناه * قال (وان افتتح
الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث فلم يجد ماء تيمم وبنى) لان افتتاح الصلاة بالتيمم عند عدم
119

الماء جائز فالبناء أجوز لأنه بنى الضعيف على القوي وذلك مستقيم فان وجد ماء ينظر فإن كان
بعدما عاد إلى مكانه توضأ واستقبل بالاتفاق وإن كان قبل أن يعود إلى مكانه فالقياس يتوضأ
ويستقبل الصلاة وهو قول محمد رحمه الله تعالى لان حرمة الصلاة باقية بعد التيمم وهذا
متيمم وجد الماء في خلال صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة. استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف
رحمهما الله تعالى فقالا يتوضأ ويبنى ويجعل كأنه لم يتيمم أصلا ولكنه كان في طلب الماء إلى
أن يجد الماء بخلاف ما إذا عاد إلى مكان الصلاة فان هناك لو جعلناه كأنه لم يتيمم كانت صلاته
فاسدة وهذا لأنه إنما لا يتوضأ للبناء إذا أدى شيئا من الصلاة بطهارة التيمم وقبل العود
إلى مكان الصلاة لم يؤد شيئا بطهارة التيمم فكان له أن يتوضأ ويبنى * قال (وإن كان الامام
متيمما فأحدث فاستخلف متوضئا ثم وجد الماء الامام الأول فسدت صلاته وحده) لان
الإمامة تحولت منه إلى الثاني وصار هو كواحد من القوم ففساد صلاته لا يفسد صلاة
غيره وإن كان الامام متوضئا والخليفة متيمما فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الأول
والقوم جميعا لان الإمامة تحولت إليه وصار الأول كواحد من المقتدين به وفساد صلاة
الامام تفسد صلاة القوم * قال (وإذا أم المتيمم المتوضئين فأبصر بعض القوم الماء ولم
يعلم به الامام والآخرون حتى فرغوا فصلاة الامام والقوم تامة الا من أبصر الماء) فان
صلاته فاسدة عندنا وقال زفر رضي الله عنه تعالى لا تفسد صلاته وهو رواية عن أبي
يوسف رحمه الله ووجهه أنه لابد لفساد الصلاة من سبب وهو في نفسه متوضئ فرؤية
الماء لا تكون مفسدا في حقه وإنما تفسد صلاته لفساد صلاة الامام وصلاة الامام هنا
صحيحة فلا معنى لفساد صلاته (ولنا) أن طهارة الامام معتبرة في حق المقتدى بدليل
أنه لو تبين أن الامام محدث لم تجز صلاة القوم وطهارته هنا تيمم فيجعل في حق من
أبصر الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته لأنه اعتقد الفساد في صلاة امامه لأنه
عنده أنه يصلى بطهارة التيمم مع وجود الماء والمقتدى إذا اعتقد الفساد في صلاة امامه
تفسد صلاته كما لو اشتبهت عليهم القبلة فتحرى الامام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى
لا يصح اقتداؤه به إذا كان عالما أن امامه يصلى إلى غير جهته * قال (متيمم رأى في صلاته
سرابا فظن أنه ماء فمشى إليه فإذا هو سراب فعليه أن يستقبل الصلاة) لان مشيه كان على
وجه الرفض لتلك الصلاة بدليل أن ما ظن لو كان حقا كانت صلاته فاسدة فلم يكن له
120

أن يبنى كما لو ظن في خلال الصلاة أنه نسي مسح الرأس فمشى ليمسح ثم تذكر أنه كان
مسح فليس له أن يبنى بخلاف ما إذا ظن أنه سبقه الحدث فمشى ليتوضأ فعلم قبل أن يخرج
من المسجد أنه ليس بحدث كان له أن يبنى لان انصرافه هناك كأن لا صلاح الصلاة دون
رفضها بدليل أن ما ظن لو كان حقا كان له أن يتوضأ ويبنى فما لم يفارق مكان الصلاة جعل
كأنه في موضعه فبنى لهذا * قال (ومن استيقن بالتيمم فهو على تيممه حتى يستيقن بالحدث أو
بوجود الماء) للأصل الذي قدمناه في الوضوء أن اليقين لا يزول بالشك * قال (وإذا
أراد التيمم فتمعك في التراب ودلك بذلك جسده كله فإن كان أصاب التراب وجهه وذراعيه
وكفيه أجزأه) لأنه أتى بالواجب وزاد عليه وقد بينا فيه حديث عمار رضى الله تعالى عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال كان يكفيك ضربتان يعنى ضربة للوجه وضربة للذراعين على
ما عرف * قال (وان بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعد تيمم وجهه ساعة ثم تيمم على ذراعيه
أجزأه) لأنه بدل عن الوضوء وقد بينا أن الترتيب والموالاة في الوضوء مسنون لا يمنع تركه
الجواز فكذلك في التيمم * قال (وإذا تيمم جنب أو حائض من مكان ثم وضع آخر يده على ذلك
المكان فتيمم به أجزأه) لان الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير الماء الباقي في الاناء
بعد وضوء الأول واغتساله به فيكون طهورا في حق الثاني كذا هذا * قال (وإذا تيمم وهو
مقطوع اليدين من المرفقين فعليه مسح موضع القطع من المرفق عندنا) خلافا لزفر رحمه
الله تعالى بناء على أن المرفق يدخل في فرض الطهارة عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى
ثم موضع القطع صار باديا في حقه فهو نظير الكف في حق من هو صحيح اليدين
فعليه مسحه في التيمم وإن كان القطع من فوق المرفق لم يكن عليه مسحه لان موضع
الطهارة من يده فائت فان ما فوق المرفق ليس بموضع الطهارة * قال (وإذا تيمم وفى رحله
ماء لا يعلم به بأن كان نسيه بعد ما وضعه أو وضعه بعض أهله فصلاته بالتيمم جائزة) عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى ولا تجوز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى قال لأن الماء في السفر
من أهم الأشياء عند المسافر فقد نسي ما لا ينسى عادة فلا يعتبر نسيانه كما لو كان الماء
على ظهره أو معلقا في عنقه فنسيه لا يعتبر نسيانه ولأن جواز التيمم عند عدم الماء وهو
واجد للماء لكونه في رحله فان رحله في يده فلا يجزئه التيمم كالمكفر بالصوم إذا نسي
الرقبة في ملكه لا يجزئه لهذا. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى احتجا في الكتاب
121

وقالا بأن الله تعالى لم يكلفه الا علمه ومعنى هذا أن التكليف بحسب الوسع وليس في وسعه
استعمال الماء قبل علمه به وإذا لم يكن مخاطبا باستعماله فوجوده كعدمه كالمريض ومن يخاف
العطش على نفسه تقديره أنه عدم آلة الوصول إلى الماء وهو العلم به فكان نظير الواقف
على شفير البئر وليس معه آلة الاستقاء ففرضه التيمم بخلاف الرقبة فالمعتبر هناك ملكها
حتى لو عرض انسان عليه الرقبة كان له أن لا يقبل ويكفر بالصوم وبالنسيان لم ينعدم ملكه
وهنا المعتبر القدرة على استعمال الماء حتى لو عرض انسان عليه الماء لا يجزئه التيمم وبالنسيان
زالت هذه القدرة فجاز تيممه وهو بخلاف ما إذا كان عالما به وظن أنه قد نفذ لان القدرة على
الاستعمال ثابتة بعلمه فلا ينعدم بظنه وعليه التفتيش فإذا لم يفعل لا يجزئه التيمم بخلاف ما
نحن فيه على ما بينا * قال (وإذا كان به جدري أو جراحات في بعض جسده فإن كان محدثا
فالمعتبر أعضاء الوضوء) فإن كان أكثره صحيحا فعليه الوضوء في الصحيح وإن كان
أكثره مجروحا فعليه التيمم دون غسل الصحيح منه وإن كان جنبا فالعبرة بجميع الجسد
فإن كان أكثره مجروحا تيمم وصلى عندنا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه الغسل فيما
هو صحيح في الوجوه جميعا لان سقوط الغسل عما هو مجروح لضرورة الضرر في إصابة
الماء والثياب والضرورة تتقدر بقدرها (ولنا) ان الأقل تابع للأكثر فان النبي صلى الله
عليه وسلم قال في المجدور كان يكفيه التيمم وأحد لا يقول إنه يغسل ما بين كل جدريين
فدل على أن العبرة للأكثر وإذا كان الأكثر مجروحا فكأن الكل مجروح وقد بينا أنه لا يجمع
بين الأصل والبدل على سبيل رفو أحدهما بالآخر فإذا كان الأكثر مجروحا لم يكن له
بد من التيمم فسقط فرض الغسل لهذا * قال (وان أجنب الصحيح في المصر فخاف أن
يقتله البرد ان اغتسل فإنه يتيمم) في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كالمسافر إذا خاف ذلك
وعندهما يجزئه ذلك في السفر ولا يجزئه في المصر قالا لان السفر يتحقق فيه خوف الهلاك
من البرد فإنه لا يجد ماء سخينا ولا ثوبا يتدفأ به ولا مكانا يأويه واما المصر لا يعدم أحد
هذه الأشياء الا نادرا ولا عبرة بالنادر ولهذا لم يجعل عدم الماء في المصر مجوزا للتيمم بخلاف
خارج المصر وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المسافر يجوز له التيمم مع وجود الماء لخوف
الهلاك من البرد فإذا تحقق ذلك في حق المقيم كان هو كالمسافر لان معنى الحرج من استعمال
الماء ثابت فيهما ولان من جاز له التيمم مع وجود الماء فالمصر والسفر له سواء كالمريض
122

وأما المحبوس في السجن فإن كان في موضع نظيف وهو لا يجد الماء كان أبو حنيفة رحمه
الله تعالى يقول إن كان خارج المصر صلى بالتيمم وإن كان في المصر لم يصل وهو قول زفر
رضى الله تعالى عنه ثم رجع فقال يصلى ثم يعيد وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى. وجه قوله الأول أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعا حتى لا يسقط عنه الفرض
بالتيمم ويلزمه الإعادة فلم يكن التيمم طهورا له ولا صلاة الا بطهور. وجه قوله الآخر أن
عدم الماء في المصر إنما لا يعتبر لأنه لا يكون الا نادرا فأما في السجن فعدم الماء ليس بنادر
فكان معتبرا فأمر بالصلاة بالتيمم لعجزه عن الماء فأما الإعادة ففي القياس لا يلزمه وهو
رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى كما لو كان في السفر وفى الاستحسان يعيد لأن عدم
الماء كان لمعنى من العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة لحق الله تعالى فلا يسقط بما هو
من عمل العباد بخلاف المسافر فان هناك جواز التيمم لعدم الماء لا للحبس فلا صنع للعباد فيه
فهو نظير المقيد إذا صلى قاعدا تلزمه الإعادة إذا رفع القيد عنه بخلاف المريض * وإن كان
محبوسا في مكان قذر لا يجد صعيدا طيبا ولا ماء يتوضأ به فإنه لا يصلى في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يصلى بالايماء تشبها بالمصلين واختلفت
الروايات عن محمد رحمه الله تعالى فذكر في الزيادات ونسخ أبى حفص رحمه الله تعالى
من الأصل كقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى نسخ أبي سليمان رحمه الله تعالى
ذكر قوله كقول أبى يوسف رحمه الله تعالى ووجهه ان العاقل المسلم لا يجوز أن يمضى
عليه وقت الصلاة وهو لا يتشبه بالمصلين فيه بحسب الامكان والتكليف إنما يثبت بحسب
وسعه ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الصلاة بغير طهور معصية ولا يحصل التشبه
بالمصلين فيما هو معصية وقد تقدم نظيره. ومن نظائره الهارب من العدو ماشيا والمشتغل
بالقتال في حال المسايفة والسابح في البحر بعد ما انكسرت السفينة عند أبي يوسف رحمه
الله تعالى يصلون بالايماء تشبها ثم يعيدون. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يصلون
لان مع العمل من القتال والسباحة والمشي لا تكون الصلاة قربة وفى الحديث أن النبي صلى
الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق لكونه كان مشغولا بالقتال فدل أنه لا يصلى
في هذه الحالة * قال (مسافر جنب غسل فرجه ووجهه وذراعيه ورأسه ثم أهراق الماء فتيمم
وافتتح الصلاة ثم قهقه فيها ووجد الماء فعليه أن يغسل وجهه وذراعيه ويمسح برأسه ويغسل
123

ما بقي من بعض جسده) لان شروعه في الصلاة قد صح بالتيمم والقهقهة في الصلاة لو طرأ
على غسل جميع الأعضاء نقض طهارته فيها فكذلك إذا طرأ على غسل بعض الأعضاء بمنزلة
سائر الاحداث. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الاملاء قال القهقهة في الصلاة
ناقض للطهارة التي بها شرع في الصلاة وشروعه في الصلاة هنا بالتيمم لا بغسل وجهه
وذراعيه ولا تنتقض بالقهقهة طهارته في الوجه والذراعين ولا يلزمه إعادة الغسل فيهما كما
لا يلزمه إعادة الغسل فيما غسل من جسده سوى أعضاء الوضوء * قال (جنب اغتسل
فبقي على بدنه لمعة لم يصبها الماء فإنه يتيمم ويصلى) لان زوال الجنابة معتبر ثبوتها حكما فكما
لا يتحقق ثبوتها في بعض البدن دون البعض فكذلك لا يتحقق زوالها ما بقي شئ لم يصبه
الماء فان وجد الماء بعد ذلك غسل ذلك الموضع لأنه قدر على ما يطهره ولا يتيمم لأنه
طاهر عن الحدث فإن كان أحدث قبل غسل ذلك الموضع فالمسألة على أوجه إن كان
الماء الذي وجده يكفيه للمعة والوضوء غسل اللمعة ليخرج من الجنابة ثم يتوضأ لأنه
محدث معه ما يوضئه وان كأن لا يكفي لواحد منهما يتيمم للحدث وتيممه للجنابة باق ولكنه
يستعمل ذلك الماء في اللمعة لتقليل الجنابة وإن كان يكفيه للمعة دون الوضوء غسل به اللمعة
ليخرج من الجنابة ثم يتيمم للحدث وإن كان يكفيه للوضوء دون اللمعة توضأ به وتيممه للجنابة
باق وإن كان يكفيه لكل واحد منهما على الانفراد غسل به اللمعة لتزول به الجنابة فان
حكمها أغلظ من الحدث حتى يمنع الجنب من القراءة دون المحدث ثم يتيمم للحدث فان بدأ
بالتيمم للحدث أجزأه في رواية كتاب الصلاة ولم يجزه في رواية الزيادات وقيل ما ذكر في
الزيادات قول محمد رحمه الله تعالى. ووجهه أنه تيمم ومعه ماء يكفيه للوضوء فلا يعتبر تيممه وما
ذكر في الأصل قول أبى يوسف رحمه الله تعالى ووجه أن الماء مستحق للمعة فهو
كالمعدوم في حق الحدث كالمستحق للعطش وشبه هذا بسؤر الحمار في أنه يجمع المسافر بين
التوضؤ به والتيمم والأولى أنه يبدأ بالوضوء به فان بدأ بالتيمم أجزأه فكذلك هنا * قال
(متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر حمار مضى على صلاته فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة)
لان سؤر الحمار مشكوك في طهارته وشروعه في الصلاة قد صح فلا ينتقض بالشك فلهذا
يتم للصلاة ثم يتوضأ به ويعيد احتياطا لجواز أن يكون سؤر الحمار طاهرا * قال (ولو وجد
نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك) عند محمد رحمه الله تعالى يتم صلاته ثم يتوضأ به ويعيد
124

لأنه كسؤر الحمار عنده وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يتم صلاته ولا يعيد لان النبيذ عنده
ليس بطهور وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقطع صلاته لان نبيذ التمر بمنزلة الماء عنده في
حال عدم الماء فتنتقض صلاته بوجوده فيتوضأ به ويستقبل * وان وجد سؤر الحمار والنبيذ
جميعا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تفسد صلاته فيتوضأ بهما ثم يستقبل لان سؤر الحمار
إن كان طاهرا فالنبيذ معه ليس بطهور فلهذا توضأ بهما وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى
يمضى في صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد الصلاة احتياطا
(فصل في ذكر المسائل المعدودة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى)
إذا فرغ المصلى من تشهده ولم يسلم حتى انقضى وقت مسحه أو وجد في خفه شيئا فنزعه
فانتقض به مسحه فسدت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وكذلك المتيمم إذا وجد
الماء ومصلى الجمعة إذا خرج وقتها ومصلى الفجر إذا طلعت عليه الشمس والعاري إذا وجد ثوبا
والأمي إذا تعلم القراءة والقارئ إذا استخلف أميا والمومي إذا قدر على الركوع والسجود
والمصلى إذا تذكر الفائتة وصاحب الجرح السائل إذا برئ جرحه أو ذهب وقته وكذلك
المستحاضة ومصلى الفائتة إذا تغيرت الشمس. وعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قد
مضت في جميع ذلك وخرج بها عنها وجازت عنه. فمن أصحابنا من قال هذه المسائل تبتنى على
أصل وهو أن الخروج من الصلاة بصنع المصلى فرض عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما
ليس بفرض واحتجاجهما بحديث عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال إذا رفع المصلى رأسه من آخر سجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته ولأنه
بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمدا أو حادث المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد
الصلاة ولو بقي عليه شئ من فرائض الصلاة لفسدت في هذه الأمور كما تفسد قبل القعدة
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذه عبادة لها تحريم وتحليل فلا يخرج منها على وجه التمام
الا بصنعه كالحج وتقريره أن بعد التشهد لو أراد استدامة التحريمة إلى خروج الوقت أو إلى
دخول صلاة أخرى منع منه ولو لم يبق عليه شئ من الصلاة لم يمنع من ذلك وتأويل الحديث
أي قارب التمام كما قال من وقف بعرفة فقد تم حجه أي قارب التمام والكلام والحدث
العمد والمحاذاة والقهقهة صنع من جهته (فان قيل) فنزع الخف أيضا صنعه (قلنا) هو
125

صنع غير قاطع حتى أن غاسل الرجلين لو فعله في خلال الصلاة لا يضره ولهذا قيل تأويله
إن كان الخف واسع الساق لا يحتاج في نزعه إلى المعالجة فإن كان يحتاج إلى ذلك فصلاته
تامة بالاتفاق (فان قيل) فالاستخلاف أيضا صنعه (قلنا) نعم ولكنه صنع غير مفسد
بدليل أنه لو استخلف القارئ في خلال الصلاة لم يضره ولكن هذا ليس بقوى لاستحالة
أن يقال يتأدى فرض الصلاة بالكلام والحدث العمد ولو كان الخروج بصنع المصلى فرضا
لاختص بما هو قربة كالخروج من الحج ولكن الصحيح لأبي حنيفة ان التحريمة باقية
بعد الفراغ من التشهد واعتراض المغير للفرض في هذه الحالة كاعتراضه في خلال الصلاة
بدليل أن المسافر لو نوى الإقامة في هذه الحالة يتغير فرضه كما لو نوى الإقامة في خلال
الصلاة وهذه العوارض مغيرة للفرض بخلاف الكلام فإنه قاطع لا مغير والقهقهة والحدث
العمد والمحاذاة مبطل لا مغير (فان قيل) فطلوع الشمس في خلال الفجر مبطل لا مغير
وقد جعلتموه على الاختلاف (قلنا) لا كذلك بل هو مغير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه
لا يصير خارجا به من التحريمة وجميع ما بينا فيما إذا اعترض قبل السلام كذلك في سجود
السهو أو بعد ما سلم قبل أن يتشهد أو بعد التشهد وقبل أن يسلم لان التحريمة باقية فان عرض له
شئ من ذلك بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة أما عندهما فلا شك وعند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لأنه بالسلام يخرج من التحريمة ولهذا لا يتغير فرض المسافر بنية الإقامة
في هذه الحالة وكذلك إن كان يسلم احدى التسليمتين لان انقطاع التحريمة يحصل بسليمة
واحدة وهذا كله بناء على قولنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى تفسد صلاته بالكلام
والحدث العمد والعوارض المفسدة في هذه الحالة لان الخروج بالسلام عنده من فرائض
الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم وتحليلها التسليم فكما أن التحريم من الصلاة مختص بما هو
قربة فكذلك التحليل (ولنا) حديث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما علمه التشهد قال له إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت
أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد ولان التسليم خطاب منه للناس حتى لو باشره في
خلال الصلاة عمدا تفسد صلاته وما يكون من أركان الصلاة لا يكون مفسدا للصلاة وتبين
بهذا أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم وتحليلها التسليم الاذن بانقضائها فان من تحرم للصلاة
فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه وعند التسليم يصير كالعائد إليهم فلهذا يسلم
126

عليهم لا أن التسليم من أركان الصلاة ولو عرض له شئ من ذلك قبل أن يقعد قدر التشهد
أعاد الصلاة لان القعدة من الأركان لما روينا من حديث ابن مسعود. وزعم بعض مشايخنا
رحمهم الله تعالى أن القدر المفروض من القعدة ما يأتي فيه بكلمة الشهادتين والأصح أن
المفروض قدر ما يتمكن فيه من قراءة التشهد إلى قوله عبده ورسوله فالتشهد إذا أطلق يفهم
منه هذا * وفى الاملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كأن يقول
أولا في الأمي يتعلم السورة في خلال الصلاة انه يقرأ ويبنى كالقاعد يقدر على القيام ثم رجع
عن ذلك وقال إن صلاة الأمي ضرورة محضة حتى لا يجوز ترك القراءة مع القدرة في
النفل والفرض فهو قياس المومى يقدر على الركوع والسجود والله سبحانه وتعالى أعلم
(باب الأذان)
الأذان في اللغة الاعلام ومنه قوله تعالى وأذان من الله ورسوله الآية وتكلموا في سبب
ثبوته فروى أبو حنيفة رحمه الله تعالى عن علقمة بن مرثد عن أبي بردة عن أبيه قال مر
أنصاري بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه حزينا وكان الرجل ذا طعام فرجع إلى بيته واهتم
لحزنه صلى الله عليه وسلم فلم يتناول الطعام ولكنه نام فأتاه آت فقال أتعلم حزن رسول الله
صلى الله عليه وسلم مماذا هو من هذا الناقوس فمره فليعلم بلالا الأذان وذكره إلى آخره
* والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أخرى
فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أدائه الصلاة لكي لا تفوتهم الجماعة فقال
بعضهم ننصب علامة حتى إذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك وأشار بعضهم
بضرب الناقوس فكرهه لأجل النصارى وبعضهم بالنفخ في الشبور (1) فكرهه لأجل
اليهود وبعضهم بالبوق فكرهه لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شئ قال
عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري فبت لا يأخذني النوم وكنت بين النائم واليقظان
إذ رأيت شخصا نزل من السماء وعليه ثوبان أخضران وفى يده شبه الناقوس فقلت أتبعيني
هذا فقال ما تصنع به فقلت نضربه عند صلاتنا فقال ألا أدلك على ما هو خير من هذا

(1) - (الشبور) بالشين المعجمة والباء الموحدة على وزن تنور هو البوق ينفخ فيه هذا ما يفهم من
كلام القاموس ويفهم من كلام السيد عاصم ان البوق أعم وشبور في الفارسي باؤه بثلاث نقط ا ه‍ كتبه مصححه
127

فقلت نعم فقام على حذم (1) حائط مستقبل القبلة فأذن ثم مكث هنيهة ثم قام فقال مثل
مقالته الأولى وزاد في آخره قد قامت الصلاة مرتين فأتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأخبرته بذلك فقال رؤيا صدق أو قال حق ألقها على بلال فإنه أمد صوتا منك
فألقيتها عليه فقام على سطح أرملة كان أعلى السطوح بالمدينة وجعل يؤذن فجاء عمر
رضى الله تعالى عنه في إزار وهو يهرول ويقول لقد طاف بي الليلة ما طاف بعبد الله إلا أنه
قد سبقني فقال صلى الله عليه وسلم هذا أثبت. وروى أن سبعة من الصحابة رضى الله تعالى
عنهم أجمعين رأوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة. وكان أبو حفص محمد بن علي ينكر هذا
ويقول تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون ثبت بالرؤيا كلا ولكن النبي صلى الله
عليه وسلم حين أسرى به إلى المسجد الأقصى وجمع له النبيون أذن ملك وأقام فصلى بهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل نزل به جبريل عليه الصلاة والسلام حتى قال كثير بن
مرة أذن جبريل في السماء فسمعه عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ولا منافاة بين هذه
الأسباب فيجعل كأن كل ذلك كان * ثم يختلفون في الأذان في ثلاثة مواضع (أحدها) في
الترجيع فإنه ليس من سنة الأذان عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى (وصفته) أن يأتي بكلمة
الشهادتين مرتين يخفض بهما صوته ثم يرجع فيأتي بهما مرتين أخريين يرفع بهما صوته
واحتج الشافعي رحمه الله تعالى بحديث أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان
تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة ولا يكون تسع عشرة كلمة الا بالترجيع وروى أنه
أمر بالترجيع نصا وجعل كلمة الشهادتين قياس التكبير فكما أنه يأتي بلفظة التكبير أربع
مرات فكذلك كلمة الشهادتين (ولنا) حديث عبد الله بن زيد رضى الله تعالى عنه فهو
الأصل وليس فيه ذكر الترجيع ولان المقصود من الأذان قوله حي على الصلاة حي
الفلاح ولا ترجيع في هاتين الكلمتين ففيما سواهما أولى * وأما لفظ التكبير فدليلنا فان
ذكر التكبير مرتين لما كان بصوت واحد فهو كلمة واحدة فأما حديث أبي محذورة قلنا إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالتكرار حالة التعليم ليحسن تعلمه وهو كان عادته
فيما يعلم أصحابه فظن أنه أمره بالترجيع. وقيل إن أبا محذورة كان مؤذن مكة فلما انتهى
إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خفض صوته استحياء من أهل مكة لأنهم لم

(1) (على حذام) بالحاء المهملة والذال المعجمة المراد به قطعة حائط مرتفعة اه‍ كتبه مصححه
128

يعهدوا ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم جهرا ففرك رسول الله صلى الله
عليه وسلم أذنه وأمره أن يعود فيرفع صوته ليكون تأديبا له (والثاني) في التكبير عندنا
أربع مرات وعند مالك رحمه الله تعالى مرتين وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قاسه
بكلمة الشهادتين يأتي بهما مرتين (ولنا) حديث عبد الله بن زيد وحديث أبي محذورة
رضى الله تعالى عنهما في الأذان تسع عشرة كلمة ولن يكون ذلك إذا كان التكبير مرتين
ثم قد بينا أن كل تكبيرتين بصوت واحد فكأنهما كلمة واحدة فيأتي بهما مرتين كما يأتي
بالشهادتين (والثالث) أن آخر الأذان لا إله إلا الله وعلى قول أهل المدينة لا إله إلا الله
والله أكبر فاعتبروا آخره بأوله ويروون فيه حديثا ولكنه شاذ فيما تعم به البلوى
والاعتماد في مثله على المشهور وهو حديث عبد الله بن زيد رضى الله تعالى عنه على
ما توارثه الناس إلى يومنا هذا * قال (وينبغي للمؤذن أن يستقبل القبلة في أذانه حتى إذا انتهى
إلى الصلاة والفلاح حول وجهه يمينا وشمالا وقدماه مكانهما) ولان الأذان مناجاة ومناداة
ففي حالة المناجاة يستقبل القبلة وعند المناداة يستقبل من ينادى لأنه يخاطبه بذلك كما في
الصلاة يستقبل القبلة فإذا انتهى إلى السلام حول وجهه يمينا وشمالا لأنه يخاطب الناس
بذلك فإذا فرغ من الصلاة والفلاح حول وجهه إلى القبلة لأنه عاد إلى المناجاة * قال
(والإقامة مثنى مثنى كالأذان عندنا) وقال الشافعي رحمه الله الإقامة فرادى فرادى الا قوله
قد قامت الصلاة فإنها مرتين واستدل بحديث أنس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم أمر بلالا أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة ولان الأذان للاعلام فمع التكرار
أبلغ في الاعلام والإقامة لإقامة الصلاة فالافراد بها أعجل لإقامة الصلاة فهو أولى (ولنا)
حديث عبد الله بن زيد رضى الله تعالى عنه فهو الأصل كما بينا. ومر على بمؤذن يوتر الإقامة
فقال اشفعها لا أم لك ولأنه أحد الأذانين وهو مختص بقوله قد قامت الصلاة فلو كان من
سنته الافراد لكان أولى به هذه الكلمة وحديث أنس رضى الله تعالى عنه معناه أمر
بلالا أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد بدليل ما روى عن إبراهيم قال أول من أفرد
الإقامة معاوية رضى الله تعالى عنه وقال مجاهد رضى الله تعالى عنه كانت الإقامة مثنى
كالأذان حتى استخفه بعض أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم (وقال) مالك رحمه الله تعالى
يفرد وقد قامت الصلاة أيضا ويروى فيه حديثا عن سعد القرظي ولكنه شاذ فيما تعم به
129

البلوى والشاذ هي مسألة لا تكون حجة * قال (ويجعل أصبعيه في أذنيه عند أذانه) لقوله
صلى الله عليه وسلم لبلال إذا أذنت فاجعل إصبعيك في أذنيك فإنه أندى لصوتك وقال أبو
جحيفة رأيت بلالا يؤذن في صومعته يتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه في أذنيه وإن لم يفعل
لم يضره لان المقصود وهو الاعلام حاصل * قال (وان استدار في صومعته لم يضره) لأنه
ربما لا يحصل المقصود بتحويل الوجه يمينا وشمالا بدون الاستدارة لتباعد جوانب المحلة
فالاستدارة للمبالغة في الاعلام * قال (ولا يثوب في شئ من الصلاة الا في الفجر) وكان
التثويب الأول في الفجر بعد الأذان الصلاة خير من النوم مرتين فأحدث الناس هذا
التثويب وهو حسن * أما معني التثويب لغة فالرجوع ومنه سمي الثواب لان منفعة عمله تعود
إليه ويقال ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ فهو عود إلى الاعلام بعد الاعلام الأول بدليل ما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص كحصاص (1)
الحمار فإذا فرغ رجع فإذا ثوب أدبر فإذا فرغ رجع فإذا أقام أدبر فإذا فرغ رجع وجعل
يوسوس إلى المصلى انه كم صلى. فهذا دليل على أن التثويب بعد الأذان وكان التثويب الأول
الصلاة خير من النوم لما روى أن بلالا رضى الله تعالى عنه أذن لصلاة الفجر ثم جاء إلى
باب حجرة عائشة رضى الله تعالى عنها فقال الصلاة يا رسول الله فقالت عائشة رضى الله تعالى
عنها الرسول نائم فقال بلال الصلاة خير من النوم فلما انتبه أخبرته عائشة رضى الله تعالى
عنها بذلك فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (قوله) فأحدث الناس هذا التثويب
إشارة إلى تثويب أهل الكوفة فإنهم ألحقوا الصلاة خير من النوم بالأذان وجعلوا التثويب
بين الأذان والإقامة حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين * قال (والتثويب في كل
بلدة ما يتعارفونه اما بالتنحنح أو بقوله الصلاة الصلاة أو بقوله قد قامت الصلاة قد قامت
الصلاة) لأنه للمبالغة في الاعلام فإنما يحصل ذلك بما يتعارفونه * قال (ولا تثويب الا في
صلاة الفجر) لما روى أن عليا رضى الله تعالى عنه رأى مؤذنا يثوب في العشاء فقال أخرجوا
هذا المبتدع من المسجد ولحديث مجاهد رضى الله تعالى عنه قال دخلت مع ابن عمر رضى الله
تعالى عنهما مسجدا نصلي فيه الظهر فسمع المؤذن يثوب فغضب وقال قم حتى نخرج من عند

(1) (حصاص كحصاص) بضم الحاء المهملة وهو شدة العدو وحدته وقيل أن يمصع الحمار بذنبه ويصر
بأذنيه ويعدو وقيل هو الضراط اه‍ كتبه مصححه
130

هذا المبتدع فما كان التثويب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في صلاة الفجر
ولان صلاة الفجر تؤدى في حال نوم الناس ولهذا خصت بالتطويل في القراءة فخصت أيضا
بالتثويب لكي لا تفوت الناس الجماعة وهذا المعنى لا يوجد في غيرها وفسره الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى قال يؤذن للفجر ثم يقعد بقدر ما يقرأ عشرين آية ثم يثوب ثم
يقعد مثل ذلك ثم يقيم لحديث بلال رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له
إذا أذنت فأمهل الناس قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر (1) من
قضاء حاجته وإنما استحسن التثويب لان الدعاء إلى الصلاة في الأذان كان بهاتين
الكلمتين فيستحسن التثويب بهما أيضا هذا اختيار المتقدمين وأما المتأخرون فاستحسنوا
التثويب في جميع الصلوات لان الناس قد ازداد بهم الغفلة وقلما يقومون عند سماع الأذان
فيستحسن التثويب للمبالغة في الاعلام ومثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس. وقد روى
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لا بأس بأن يخص الأمير بالتثويب فيأتي بابه فيقول
السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين
الصلاة يرحمك الله لان الأمراء لهم زيادة اهتمام بأشغال المسلمين ورغبة في الصلاة بالجماعة
فلا بأس بأن يخصوا بالتثويب وقد روى عن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه لما كثر اشتغاله نصب
من يحفظ عليه صلاته غير أن محمدا رحمه الله تعالى كره هذا وقال أفا لأبي يوسف حيث
خص الأمراء بالذكر والتثويب لما روى أن عمر رضى الله تعالى عنه حين حج أتاه مؤذن
مكة يؤذنه بالصلاة فانتهره وقال ألم يكن في أذانك ما يكفينا * قال (ويترسل في الأذان
ويحدر (2) في الإقامة) لحديث جابر رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال
إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر ولان المقصود من الأذان الاعلام فالترسل فيه أبلغ
في الاعلام والمقصود من الإقامة إقامة الصلاة فالحدر فيها أبلغ في هذا المقصود * قال (فان
ترسل فيهما أو حدر فيهما أو ترسل في الإقامة وحدر في الأذان أجزأه) لأنه أقام الكلام
بصفة التمام وحصل المقصود وهو الاعلام فترك ما هو زينة فيه لا يضره * قال (ويجوز
الأذان والإقامة على غير وضوء ويكره مع الجنابة حتى يعاد أذان الجنب ولا يعاد أذان

(1) (المعتصر) قال في المختار والمعتصر والعاصر الذي يصيب من الشئ ويأخذ منه اه‍ (2) (ويحدر)
بضم الدال المهملة بمعنى يسرع يقال حدر في قراءته واذانه يحدر حدرا إذا أسرع اه‍ كتبه مصححه
131

المحدث) وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يعاد فيهما وعن أبي يوسف رحمه
الله تعالى أنه لا يعاد فيهما ووجهه أن الأذان ذكر والجنب والمحدث لا يمنعان من ذكر الله
تعالى وما هو المقصود به وهو الاعلام حاصل ووجه رواية الحسن رحمه الله تعالى أن الأذان
مشبه بالصلاة ولهذا يستقبل فيه القبلة والصلاة مع الحدث لا تجوز فما هو من أسبابه مشبه
به يكره معه ثم المؤذن يدعو الناس إلى التأهب للصلاة فإذا لم يكن متأهبا لها دخل تحت قوله
تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم. وجه ظاهر الرواية ما روى أن بلالا ربما أذن
وهو على غير وضوء ثم الأذان ذكر معظم فيقاس بقراءة القرآن والمحدث لا يمنع من ذلك
ويمنع منه الجنب فكذلك الأذان * وفى ظاهر الرواية جعل الإقامة كالأذان في أنه لا بأس
به إذا كان محدثا. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بينهما
فقال أكره الإقامة للمحدث لان الإقامة يتصل بهما إقامة الصلاة فلا يتمكن من ذلك مع
الحدث بخلاف الأذان * قال (ويكره الأذان قاعدا) لأنه في حديث الرؤيا قال فقام الملك
على حذم حائط ولان المقصود الاعلام وتمامه في حالة القيام ولكنه يجزئه لان أصل
المقصود حاصل * قال (ولا بأس بأن يؤذن واحد ويقيم آخر) لما روى أن عبد الله بن زيد
رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون له في الأذان نصيب فأمر بأن
يؤذن بلال ويقيم هو ولان كل واحد منهما ذكر مقصود فلا بأس بأن يأتي بكل واحد
منهما رجل آخر والذي روى أن الحرث الصدائي أذن في بعض الاسفار وبلال كان غائبا
فلما رجع بلال وأراد أن يقيم قال صلى الله عليه وسلم أن أخا صداء أذن ومن أذن فهو
يقيم إنما قاله على وجه تعليم حسن العشرة لا أن خلاف ذلك لا يجزئ * قال (وان ترك
استقبال القبلة في أذانه أجزأه وهو مكروه) لان المقصود به حصل وهو الاعلام والكراهية
لمخالفته السنة * قال (ويؤذن المسافر راكبا ان شاء) لما روى أن بلالا في السفر ربما أذن راكبا
ولان المسافر له أن يترك الأذان أصلا فله أن يأتي به راكبا بطريق الأولى * قال (وينزل
للإقامة أحب إلى) لان الإقامة يتصل بها إقامة الصلاة وإنما يصلى على الأرض فينزل للإقامة
لهذا * قال (وان اقتصر المسافر بالإقامة أجزأه) لان السفر عذر مسقط لشطر الصلاة فلأن يكون
مسقطا لاحد الأذانين أولى ولان الأذان لاعلام الناس حتى يجتمعوا وهم في السفر
مجتمعون والإقامة لإقامة الصلاة وهم إليها محتاجون فيؤتى بها في السفر ويكره تركه لهذا
132

والأولى أن يؤتى بهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث وابن
عم له ان سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكثركما قرآنا وقال صلى الله عليه وسلم من أذن في أرض
قفر وأقام صلى بصلاته ما بين الخافقين من الملائكة ومن صلى بغير أذان وإقامة لم يصل
معه الا ملكاه * قال (وليس على النساء أذان ولا إقامة) لأنهما سنة الصلاة بالجماعة وجماعتهن
منسوخة لما في اجتماعهن من الفتنة وكذلك أن صلين بالجماعة صلين بغير أذان ولا إقامة
لحديث رابطة قالت كنا جماعة من النساء عند عائشة رضي الله عنها فأمتنا وقامت وسطنا
وصلت بغير أذان ولا إقامة ولان المؤذن يشهر نفسه بالصعود إلى أعلى المواضع ويرفع
صوته بالأذان والمرأة ممنوعة من ذلك لخوف الفتنة فان صلين بأذان وإقامة جازت صلاتهن
مع الإساءة لمخالفة السنة والتعرض للفتنة * قال (وان صلى أهل المصر بجماعة بغير أذان ولا
إقامة فقد أساؤا) لترك سنة مشهورة وجازت صلاتهم لأداء أركانها والأذان والإقامة سنة
ولكنهما من أعلام الدين فتركهما ضلالة هكذا قال مكحول السنة سنتان سنة أخذها هدى
وتركها لا بأس به وسنة أخذها هدى وتركها ضلالة كالأذان والإقامة وصلاة العيدين وعلى
هذا قال محمد رحمه الله تعالى إذا أصر أهل المصر على ترك الأذان والإقامة أمروا بهما
فان أبوا قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند الاصرار على ترك الفرائض
والواجبات وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى المقاتلة بالسلاح عند ترك الفرائض
والواجبات فأما في السنن فيؤدبون على تركها ولا يقاتلون على ذلك ليظهر الفرق بين
الواجب وغير الواجب ومحمد رحمه الله تعالى يقول ما كان من أعلام الدين فالاصرار على
تركه استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك لهذا * قال (فان صلى رجل في بيته فاكتفي بأذان
الناس وإقامتهم أجزأه) لما روى أن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه صلى بعلقمة والأسود
في بيت فقيل له ألا تؤذن فقال أذان الحي يكفينا وهذا بخلاف المسافر فإنه يكره له
تركهما وإن كان وحده لان المكان الذي هو فيه لم يؤذن فيه لتلك الصلاة فأما هذا الموضع
الذي فيه المقيم فقد أذن وأقيم فيه لهذه الصلاة فله أن يتركهما * قال (وان أذن وأقام فهو
حسن) لان المنفرد مندوب إلى أن يؤدى الصلاة على هيئة الصلاة بالجماعة ولهذا كان
الأفضل أن يجهر بالقراءة في صلاة الجهر وكذلك ان أقام ولم يؤذن فهو حسن لان الأذان
لاعلام الناس حتى يجتمعوا وذلك غير موجود هنا والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها
133

* قال (وليس لغير الصلوات الخمس والجمعة أذان ولا إقامة) أما لصلاة العيد فلحديث جابر بن
سمرة رضى الله تعالى عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه سلم في العيدين بغير أذان ولا
إقامة وكذلك توارثه الناس إلى يومنا هذا وأما في صلاة الوتر فلأنها لا تؤدى بالجماعة الا في
التراويح في ليالي رمضان وعند أدائها هم مجتمعون وأما في السنن والنوافل فلأنها لا تؤدى
بالجماعة الا التراويح في ليالي رمضان وهي تبع لصلاة العشاء وقد أذن وأقيم لها وهم مجتمعون
عند أدائها * فأما الجمعة يؤذن لها ويقام لأنها فرض مكتوب والأذان له منصوص في القرآن
قال الله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة * واختلفوا في الأذان المعتبر الذي يحرم عنده
البيع ويجب السعي إلى الجمعة فكان الطحاوي يقول هو الأذان عند المنبر بعد خروج الامام
فإنه هو الأصل الذي كان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى عن
السائب بن يزيد قال كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
يخرج فيستوى على المنبر وهكذا في عهد أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما ثم أحدث الناس
الأذان على الزوراء في عهد عثمان فكان الحسن بن زياد يقول المعتبر هو الأذان على المنارة
لأنه لو انتظر الأذان عند المنبر يفوته أداء السنة وسماع الخطبة وربما تفوته الجمعة إذا كان
بيته بعيدا عن الجامع والأصح أن كل أذان يكون قبل زوال الشمس فذلك غير معتبر
والمعتبر أول الأذان بعد زوال الشمس سواء كان علي المنبر أو علي الزوراء * قال (ولا يتكلم
المؤذن في أذانه وإقامته) لأنه ذكر معظم كالخطبة فيكره التكلم في خلاله لما فيه من ترك
الحرمة وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يكره رد السلام في
خلال الأذان وكان الثوري رحمه الله تعالى يقول لا بأس برد السلام لأنها فريضة ولكنا
نقول يحتمل التأخير إلى أن يفرغ من أذانه * قال (وان أذن قبل دخول الوقت لم يجزه
ويعيده في الوقت) لان المقصود من الأذان اعلام الناس بدخول الوقت فقبل الوقت
يكون تجهيلا لا اعلاما ولان المؤذن مؤتمن قال صلى الله عليه وسلم الامام ضامن والمؤذن
مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين وفي الأذان قبل الوقت إظهار الخيانة فيما أئتمن
فيه ولو جاز الأذان قبل الوقت لاذن عند الصبح خمس مرات لخمس صلوات وذلك لا يجوزه
أحد ولا خلاف فيه الا في صلاة الفجر فقد قال أبو يوسف رحمه الله تعالى آخرا لا بأس
بأن يؤذن للفجر في النصف الآخر من الليل وهو قول للشافعي رضي الله عنه واستدلا
134

بتوارث أهل الحرمين ولما روي أن بلالا كان يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالليل فدل أنه لا بأس به ولان وقت الفجر مشتبه وفي مراعاته بعض الحرج ولكن
أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قاسا الأذان للفجر بالأذان لسائر الصلوات بالمعنى الذي بينا وفى
الأذان للفجر قبل الوقت اضرارا بالناس لأنه وقت نومهم فيلتبس عليهم وذلك مكروه وقد
روى أن الحسن البصري رحمه الله تعالى كان إذا سمع من يؤذن قبل طلوع الفجر قال
علوج فراح لا يصلون الا في الوقت لو أدركهم عمر لأدبهم فأما أذان بلال فقد أنكر عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان بالليل وأمره أن ينادى على نفسه ألا أن العبد قد زام
فكان يبكى ويطوف حول المدينة ويقول ليت بلالا لم تلده أمه وابتل من نضح دم جبينه
وإنما قال ذلك لكثرة معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه وقيل إن أذان بلال ما كان
لصلاة الفجر ولكن كان لينام القائم ويقوم النائم فقد كانت الصحابة فرقتين فرقة يتهجدون
في النصف الأول من الليل وفرقة في النصف الآخر وكان الفاصل أذان بلال. وإنما
كان صلاة الفجر بأذان ابن أم مكتوم كما قال صلى الله عليه وسلم لا يغرنكم أذان بلال فإنه
يؤذن ليرجع قائمكم ويتسحر صائمكم ويقوم نائمكم فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم
مكتوم وكان هو أعمى لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون أصبحت أصبحت * قال (وإذا
دخل القوم مسجدا قد صلى فيه أهله كرهت لهم أن يصلوا جماعة باذان وإقامة ولكنهم
يصلون وحدانا بغير أذان ولا إقامة) لحديث الحسن قال كانت الصحابة إذا فاتتهم الجماعة
فمنهم من اتبع الجماعات ومنهم من صلى في مسجده بغير أذان ولا إقامة وفى الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليصلح بين الأنصار فاستخلف عبد الرحمن بن عوف فرجع
بعد ما صلى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته وجمع أهله فصلى بهم بأذان وإقامة فلو
كان يجوز إعادة الجماعة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد والصلاة فيه أفضل وهذا عندنا
وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه لا بأس بتكرار الجماعة في مسجد واحد لان جميع الناس
في المسجد سواء وإنما بنى لإقامة الصلاة بالجماعة وهو قياس المساجد على قوارع الطرق فإنه
لا بأس بتكرار الجماعة فيها (ولنا) أنا أمرنا بتكثير الجماعة وفى تكرار الجماعة في مسجد
واحد تقليلها لان الناس إذا عرفوا أنهم تفوتهم الجماعة يعجلون للحضور فتكثر الجماعة وإذا علموا
أنه لا تفوتهم يؤخرون فيؤدى إلى تقليل الجماعات وبهذا فارق المسجد الذي على قارعة
135

الطريق لأنه ليس له قوم معلومون فكل من حضر يصلى فيه فإعادة الجماعة فيه مرة بعد مرة
لا تؤدى إلى تقليل الجماعات ثم في مسجد المحال ان صلى غير أهلها بالجماعة فلأهلها حق الإعادة
لان الحق في مسجد المحلة لأهلها ألا ترى أن التدبير في نصب الإمام والمؤذن إليهم فليس
لغيرهم أن يفوت عليهم حقهم فأما إذا صلى فيه أهلها أو أكثر أهلها فليس لغيرهم حق الإعادة
الا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن وقف ثلاثة أو أربعة ممن فاتتهم الجماعة
في زاوية غير الموضع المعهود للامام فصلوا بأذان وإقامة فلا بأس به وهو حسن لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه فدخل أعرابي وقام يصلي فقال صلى الله عليه
وسلم ألا أحد يتصدق على هذا يقوم فيصلى معه فقام أبو بكر رضي الله عنه وصلى معه * قال
(ومن فاتته صلاة عن وقتها فقضاها في وقت آخر أذن لها وأقام واحدا كان أو جماعة) لان
النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة التعريس بعد ما انتبه مع أصحابه بعد طلوع الشمس فقضى
الفجر بأذان وإقامة أمر بلالا بهما وشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات
يوم الخندق فقضاهن بعد هوي من الليل قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أمر بلالا
فأذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها وقال جابر رضي الله تعالى عنه أمره فأذن
وأقام لكل صلاة وقال أبو سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه أمره بالإقامة لكل
صلاة * قال (وان اكتفوا بالإقامة جاز) لان الأذان لاعلام الناس حتى يجتمعوا وذلك معدوم
في القضاء والإقامة لا قامة الصلاة وان أذن وأقام فهو حسن ليكون القضاء على سنن
الأداء * قال (ولا يجوز لمن فاته ظهر أمسه أن يقتدى بمن يصلى ظهر يوم غير ذلك)
وهاهنا مسائل. إحداها اقتداء المتنفل بالمفترض فهو جائز بالاتفاق لقوله صلى الله عليه
وسلم سيكون أمراء بعدي يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فإذا فعلوا فصلوا أنتم في بيوتكم
ثم صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة أي نافلة ولان المقتدي بني صلاته على صلاة
امامه كما أن المنفرد يبنى آخر صلاته على أول صلاته وبناء النفل على تحريمة انعقدت للفرض
يجوز وكذلك اقتداء المتنفل بالمفترض فأما المفترض إذا اقتدى بالمتنفل عندنا فلا يصح
الاقتداء. وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه يصح لحديث معاذ رضي الله تعالى عنه أنه
كان يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه فيصلى بهم ولان المشاركة
بين الامام والمقتدى في التحريمة. والنفل والفرض يستدعى كل واحد منهما تحريمة مطلقة
136

فكما يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض فكذلك المفترض بالمتنفل (ولنا) قوله صلى الله عليه
وسلم الامام ضامن معناه تتضمن صلاته صلاة القوم وتضمين الشئ فيما هو فوقه يجوز وفيما
هو دونه لا يجوز وهو المعنى في الفرق فان الفرض يشتمل على أصل الصلاة والصفة والنفل
يشتمل على أصل الصلاة فإذا كان الامام مفترضا فصلاته تشتمل علي صلاة المقتدى وزيادة
فصح اقتداؤه به وإذا كان الامام متنفلا فصلاته لا تشتمل على ما تشتمل عليه صلاة
المقتدى فلا يصح اقتداؤه به لأنه بنى القوي على أساس ضعيف وحديث معاذ تأويله كان يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية النفل ليتعلم منه سنة القراءة ثم يأتي قومه فيصلى
بهم الفرض وهذا على أن تغاير الفرضين عندنا يمنع صحة الاقتداء حتى إذا اقتدى مصلى
الظهر بمصلى العصر أو مصلى عصر يومه بمصلى عصر أمسه لم يجز الاقتداء. وعند الشافعي
رحمه الله يجوز وإذا اقتدى مصلى الظهر بمصلى الجمعة أو مصلى الظهر بالمصلى على الجنازة فله
فيه وجهان وهذا الخلاف ينبنى على أصل نذكره بعد هذا هو أن المشاركة بين الامام
والمقتدى لا تقوى عنده حتى إذا تبين أن الامام محدث فصلاة المقتدى عنده صحيحة. وعندنا
المشاركة تقوى بينهما فتغاير الفرضين يمنع صحة المشاركة ثم المذكور في هذا الباب أنه يصير
شارعا في التطوع مقتديا بالامام حتى لو ضحك قهقهة يلزمه الوضوء لان الاقتداء في أصل
الصلاة صحيح إنما لا يصح في الجهة وفى باب الحدث قال لا يصير شارعا حتى لو قهقه
لا يلزمه الوضوء وما ذكر هنا قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى بناء على
أصلهما أن أصل الصلاة ينفصل عن الجهة ابتداء وبقاء وما ذكر بعد هذا قول محمد رحمه الله
تعالى بناء على مذهبه أن الجهة متى فسدت صار خارجا من الصلاة وعليه نص في زيادات
الزيادات * قال (ويجوز أذان العبد والأعمى وولد الزنا والأعرابي) لان المقصود وهو
الاعلام حاصل وغيرهم أولى. أما العبد فلانه مشغول بخدمة المولى لا يتفرغ لمحافظة
المواقيت وروى أن وفدا جاؤوا إلى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فقال من يؤذن لكم
فقالوا عبيدنا قال إن هذا لنقص بكم. وأما الأعمى فهو محتاج إلى الرجوع إلى غيره في معرفة
المواقيت وكأن لإبراهيم النخعي رحمه الله تعالى مؤذن أعمى يقال له معبد فقال له لا تكن
آخر من يقيم ولا أولهم. وأما ولد الزنا والأعرابي فالغالب عليهم الجهل وقد بينا أن الأذان
ذكر معظم فيختار له من يكون محترما في الناس متبركا به ولهذا قال أحب إلى أن يكون
137

المؤذن عالما بالسنة وفيه حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤمكم قراؤكم ويؤذن
لكم خياركم * قال (وان أذن للقوم غلام مراهق أجزأهم) لحصول المقصود بأذانه وهو
الاعلام والبالغ أولى لأنه أقرب إلى مراعاة الحرمة ولان الصبي غير مخاطب بالصلاة
والأذان للمكتوبات خاصة فالأولى أن يؤذن من هو مخاطب بالمكتوبات * قال (وان
أذنت لهم امرأة جاز) لحصول المقصود وهو مكروه لان أذان النساء من المحدثات لم
يكن في السلف وكل محدثة بدعة ولان في صوتها فتنة وهي منهية عن الخروج إلى الجماعات
والأذان لإقامة الصلاة بالجماعة * قال (ويؤذن المؤذن حيث يكون أسمع للجيران)
لان المقصود اعلامهم ويرفع صوته لان الاعلام لا يحصل الا به وفى الحديث يشهد
للمؤذن من سمع صوته أو يستغفر للمؤذن مدى صوته * قال (ولا يجهد نفسه فربما
يضره ذلك) ورأي عمر رضي الله تعالى عنه مؤذن بيت المقدس يجهد نفسه فقال أما تخشى
أن ينقطع مريطاؤك والمريطاء عرق مستبطن بالصلب فإذا انقطع لم يكن معه حياة * قال
(ولا أكره له أن يتطوع في صومعته) لما روي أن بلالا رضى الله تعالى عنه كان ربما تطوع
في صومعته ولأنه بمنزلة السطح فلا بأس بالصلاة عليه * قال (وأحب إلى أن يجزم قوله
الله أكبر) وقد بينا هذا في تكبيرة الافتتاح * قال (والتلحين في الأذان مكروه) لما
روى أن رجلا جاء إلى عمر رضى الله تعالى عنه فقال إني أحبك في الله فقال إني أبغضك
في الله فقال لم قال لأنه بلغني أنك تغنى في أذانك يعنى التلحين وأما التفخيم فلا بأس به
لأنه احدى اللغتين * قال (وان افتتح الأذان فظن أنها الإقامة فأقام في آخرها بأن قال قد
قامت الصلاة ثم علم فإنه يتم الأذان ثم يقيم وإن كان في الإقامة فظن أنها الأذان فصنع فيها
ما صنع في الأذان أعادها من أولها) لان هنا وقع التعيين في جميعها وفي الأول في آخرها
وحقيقة المعنى في الفرق أن المقصود من الأذان اعلام الناس ليحضروا وبالإقامة في آخرها
لا يفوت هذا المقصود بل يزداد لان الناس يعجلون على ظن أنها الإقامة فلهذا لا يعيدها
وعند الإقامة إقامة الصلاة والتعجيل للادراك فإذا صنع في الإقامة ما يصنع في الأذان
يفوت هذا المقصود لان الناس يظنون أنه الأذان فينتظرون الإقامة فلهذا يعيد الإقامة
من أولها * قال (فان غشى عليه ساعة في الأذان أو الإقامة ثم أفاق فأحب إلى أن يبتدئها
من أولها) ألا ترى أنه لو غشى عليه في الصلاة لم يبن علي صلاته فكذلك فيما هو من
138

أسباب الصلاة * قال (وان رعف فيها أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء فأحب إلى أن
يبتدئها من أولها) لان بذهابه انقطع النظم فربما يشتبه على الناس أنه كان يؤذن أو يتعلم
كلمات الأذان والأولى له إذا أحدث في أذانه أو اقامته أن يتمها ثم يذهب فيتوضأ ويصلى
لان ابتداء الأذان أو الإقامة مع الحدث يجوز فاتمامه أولى * قال (وإذا قدم المؤذن في أذانه
أو اقامته بعض الكلمات على بعض فالأصل فيه أن ما سبق أداؤه يعتد به حتى لا يعيده
في أذانه) وما يقع مكررا لا يعتد به فكأنه لم يكرر * قال (وإذا وقع في اقامته فمات أو أغمي
عليه فأحب إلى أن يبتدئ الإقامة غيره من أولها) لان عمله قد انقطع بالموت ولا
بناء على المنقطع * قال (مؤذن أذن ثم ارتد فان اعتدوا بأذانه وأمروا من يقيم ويصلى
بهم أجزأهم) لأنه المقصود وهو الاعلام قد حصل بأذانه وبطلان ثواب عمله بالردة في
حقه لا يبطله في حق غيره كما لو ارتد الامام بعد فراغه من الصلاة تبطل صلاته ولا تبطل
في حق القوم * قال (ويقعد المؤذن بين الأذان والإقامة في جميع الصلوات الا في المغرب
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أما في سائر الصلوات فيكره له أن يصل الإقامة بالأذان
ولا يقعد بينهما) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال اجعل بين أذانك واقامتك
قدر ما يفرغ الآكل من أكله والأولى به في الصلاة التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب
أن يتطوع بين الأذان والإقامة جاء في تأويل قوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى
الله وعمل صالحا أنه المؤذن يدعو الناس بأذانه ويتطوع بعده قبل الإقامة فأما في صلاة
المغرب فيكره له وصل الإقامة بالأذان كما في غيرها والأفضل عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى أن يفصل بينهما بسكتة وذكر الحسن رحمه الله تعالى عنه بقدر ما يقرأ ثلاث آيات
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأفضل أن يفصل بينهما بجلسة مقدار جلسة
الخطيب بين الخطبتين لحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه كان يفصل بين أذان
المغرب والإقامة بجلسة ولان السكتة تشبه السكتات بين كلمات الأذان فلا يتحقق بها
الفصل فالجلسة للفصل أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال أمرنا بتعجيل المغرب قال صلى
الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب وقال بادروا بالمغرب قبل اشتباك
النجوم ولا تتشبهوا باليهود فإنهم يصلون والنجوم مشتبكة والفصل بالسكتة أقرب إلى تعجيل
المغرب. وحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما محمول على حالة العذر لكبر أو مرض وبه
139

نقول * قال (ويكره أن يؤذن في مسجدين ويصلى في أحدهما لأنه بعد ما صلى يكون متنفلا
بالأذان في المسجد الثاني والتنفل بالأذان غير مشروع ولان الأذان مختص بالمكتوبات
فإنما يؤذن ويقيم من يصلى المكتوبة على أثرهما وهو في المسجد الثاني يصلى النافلة على أثرهما
* قال (ويكره للامام والمؤذن طلب الاجر على ذلك من القوم) لأنهما يعملان لأنفسهما
فكيف يشترطان الاجر على غيرهما ثم هما خليفتان للرسول في الدعاء والإمامة وقال الله
تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى فمن يكون خليفته ينبغي أن يكون مثله
وقال عثمان بن أبي العاص الثقفي رضى الله تعالى عنه آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن صل بالناس صلاة أضعفهم وإذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا
وقال رجل لعمر رضى الله تعالى عنه اني أحبك في الله فقال إني أبغضك في الله قال ولم
قال لأنه بلغني أنك تأخذ على الأذان أجرا فان عرف القوم حاجته فواسوه بشئ فما أحسن
ذلك بعد أن لا يكون عن شرط لأنه فرغ نفسه لحفظ المواقيت واعلامه لهم فربما لا يتفرغ
للكسب فينبغي لهم أن يهدوا إليه بهدية فقد كان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه
عليهم يقبلون الهدية وعلى هذا قالوا الفقيه الذي يفتى في بلدة أو قرية لا يحل له أن يأخذ
على الفتيا شيئا عن شرط فان عرفوا حاجته فأهدوا إليه فهو حسن لأنه محسن إليهم في
تفريغ نفسه عن الكسب وحراسة أمر دينهم فينبغي أن يقابلوا احسانه بالاحسان إليه * قال
(والذي يواظب على الصلوات كلها أولى بالاذن من غيره) لان صوته يصير معهودا
للقوم فلا يقع الاشتباه وان أذن السوقي في صلاة الليل وأذن في صلاة النهار غيره فذلك
جائز أيضا لان السوقي محتاج إلى الكسب فيلحقه الحرج بالرجوع إلى المحلة في وقت كل
صلاة * قال (وإذا أذن السكران أو المجنون فأحب إلى أن يعيدوا) لان معنى التعظيم
لا يحصل بأذانهما وعامة كلام السكران والمجنون هذيان فلا يحصل به الاعلام فربما يشتبه
على الناس فالأولى إعادة أذانهم * قال (ولا يجوز لأهل المسجد أن يقتسموا المسجد
وينصبوا وسطه حائطا) لان بقعة المسجد تحررت عن حقوق العبد فصار خالصا لله تعالى
والقسمة من التصرفات في الملك فلا يشتغل بها في المسجد كالزراعة وغيرها فان فعلوا ذلك
فليصل كل فريق منهم بامام ومؤذن على حدة ما لم ينتقضوا القسمة لأنهما في حكم
مسجدين متجاورين فينبغي أن يكون لكل واحد منهما امام ومؤذن على حدة والله أعلم
140

(باب مواقيت الصلاة)
(اعلم) أن الصلاة فرضت لأوقاتها قال الله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس ولهذا تكرر
وجوبها بتكرار الوقت وتؤدى في مواقيتها قال الله تعالى ان الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا أي فرضا مؤقتا وقال صلى الله عليه وسلم من حافظ على الصلوات الخمس في
مواقيتها كان له عند الله عهدا يغفر له يوم القيامة وتلا قوله تعالى الا من اتخذ عند الرحمن
عهدا. وللمواقيت إشارة في كتاب الله تعالى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون أي
صلوا لله فقوله حين تمسون المراد به العصر وعند بعضهم المغرب وحين تصبحون الفجر وعشيا
العشاء وحين تظهرون الظهر وقال الله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل
وقرآن الفجر قال ابن عباس رضى الله تعالى عنه دلوك الشمس الزوال فالمراد به الظهر وقال
ابن مسعود رضى الله تعالى عنه دلوكها غروبها والمراد المغرب إلى غسق الليل العشاء وقرآن
الفجر صلاة الفجر وقال الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهو العصر وقال
الله تعالى أقم الصلاة طرفي النهار وقال الحسن الفجر وزلفا من الليل قال محمد بن كعب رضى
الله تعالى عنه المغرب والعشاء * ثم بدأ الباب ببيان وقت الفجر لأنه متفق عليه لم يختلفوا
في أوله ولا في آخره * قال (وقت صلاة الفجر من حين يطلع الفجر المعترض في الأفق
إلى طلوع الشمس) والفجر فجران كاذب تسميه العرب ذنب السرحان وهو البياض الذي
يبدو في السماء طولا ويعقبه ظلام والفجر الصادق وهو البياض المنتشر في الأفق فبطلوع
الفجر الكاذب لا يدخل وقت الصلاة ولا يحرم الأكل على الصائم ما لم يطلع الفجر الصادق
لقوله صلى الله عليه وسلم لا يغرنكم الفجر المستطيل ولكن كلوا واشربوا حتى يطلع
الفجر المستطير يعنى المنتشر في الأفق وقال الفجر هكذا ومد يده عرضا لا هكذا ومد يده
طولا والأصل حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أمنى جبريل عليه السلام عند البيت فصلى بي الفجر في اليوم الأول حين طلوع الفجر
وفى اليوم الثاني حين أسفر جدا ثم قال ما بين هذين وقت لك ولامتك وهو وقت الأنبياء
قبلك وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان للصلاة
أولا وآخرا وان أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وآخره حين تطلع الشمس وفى حديث
141

أبى موسى رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة
فلم يجبه ولكنه صلى الفجر في اليوم الأول حين طلع الفجر وفى اليوم الثاني حين كادت
الشمس تطلع ثم قال أين السائل عن الوقت الوقت بين هذين والدليل على أن آخر الوقت
حين تطلع الشمس قوله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس
فقد أدرك وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم انكم
سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فان استطعتم أن
لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم تلا قوله تعالي فسبح بحمد ربك
قبل طلوع الشمس وقبل غروبها * قال (ووقت الظهر من حين تزول الشمس إلى أن يكون
ظل كل شئ مثله) في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى
لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولا خلاف في أول وقت الظهر أنه يدخل
بزوال الشمس الا شئ نقل عن بعض الناس إذا صار الفئ بقدر الشراك لحديث أمامة
جبريل عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم صلى بي الظهر في اليوم الأول حين صار الفئ بقدر
الشراك. ولكنا نستدل بقوله تعالى لدلوك الشمس أي لزوالها والمراد من الفئ مثل الشراك
الفئ الأصلي الذي يكون للأشياء وقت الزوال وذلك يختلف باختلاف الأمكنة والأوقات فاتفق
ذلك القدر في ذلك الوقت وقد قيل لابد أن يبقى لكل شئ فئ عند الزوال في كل موضع
الا بمكة والمدينة في أطول أيام السنة فلا يبقى بمكة ظل على الأرض وبالمدينة تأخذ الشمس
الحيطان الأربعة وذلك الفئ الأصلي غير معتبر في التقدير بالظل قامة أو قامتين بالاتفاق
وأصح ما قيل في معرفة الزوال قول محمد بن شجاع رضي الله عنه أنه يغرز خشبة في مكان
مستو ويجعل على مبلغ الظل منه علامة فما دام الظل ينقص من الخط فهو قبل الزوال
وإذا وقف لا يزداد ولا ينتقص فهو ساعة الزوال وإذا أخذ الظل في الزيادة فقد علم أن
الشمس قد زالت * واختلفوا في آخر وقت الظهر فعندهما إذا صار ظل كل شئ مثله خرج
وقت الظهر ودخل وقت العصر وهو رواية محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وإن لم يذكره
في الكتاب نصا في خروج وقت الظهر وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه لا يخرج وقت الظهر حتى يصير الظل قامتين وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله
أنه إذا صار الظل قامة يخرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين
142

وبينهما وقت مهمل وهو الذي تسميه الناس بين الصلاتين كما أن بين الفجر والظهر وقتا
مهملا واستدل بحديث امامة جبريل صلوات الله وسلامه عليه فإنه قال صلى بي العصر في
اليوم الأول حين صار ظل كل شئ مثله وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل
شئ مثله أو قال حين صلى العصر بالأمس وهكذا في حديث أبي هريرة وأبي موسى رضي الله عنهما
في بيان المواقيت قولا وفعلا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بالحديث المعروف
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما مثلكم ومثل أهل الكتابين من قبلكم كمثل
رجل استأجر أجيرا فقال من يعمل لي من الفجر إلى الظهر بقيراط فعملت اليهود ثم قال
من يعمل لي من الظهر إلى العصر بقيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي من العصر
إلى المغرب بقيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل
أجرا قال الله تعالى فهل نقصت من حقكم شيئا قالوا لا قال فهذا فضلي أوتيه من أشاء
بين أن المسلمين أقل عملا من النصارى فدل أن وقت العصر أقل من وقت الظهر وإنما
يكون ذلك إذا امتد وقت الظهر إلى أن يبلغ الظل قامتين وقال صلى الله عليه وسلم أبردوا
بالظهر فان شدة الحر من فيح جهنم وأشد ما يكون من الحر في ديارهم إذا صار ظل كل
شئ مثله ولأنا عرفنا دخول وقت الظهر بيقين ووقع الشك في خروجه إذا صار الظل
قامة لاختلاف الآثار واليقين لا يزال بالشك * والأوقات ما استقرت على حديث امامة
جبريل عليه السلام ففيه أنه صلى الفجر في اليوم الثاني حين أسفر والوقت يبقى بعده إلى
طلوع الشمس وفيه أيضا انه صلى العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل والوقت يبقى
بعده وقال مالك رحمه الله تعالى إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر فإذا مضى بقدر ما يصلى
فيه أربع ركعات دخل وقت العصر فكان الوقت مشتركا بين الظهر والعصر إلى أن
يصير الظل قامتين لظاهر حديث إمامة جبريل عليه السلام فإنه ذكر أنه صلى الظهر في
اليوم الثاني في الوقت الذي صلى العصر في اليوم الأول وهذا فاسد عندنا فان النبي صلى
الله عليه وسلم قال لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى وتأويل حديث
امامة جبريل صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شئ مثله أي قرب منه وصلى
بي العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شئ مثله أي تم وزاد عليه وهو نظير قوله
تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن أي قارب بلوغ أجلهن وقال تعالى فبلغن أجلهن فلا
143

تعضلوهن أي تم انقضاء عدتهن وحكى أبو عصمة عن أبي سليمان عن أبي يوسف رحمهم الله
تعالى قال خالفت أبا حنيفة رحمه الله تعالى في وقت العصر فقلت أوله إذا زاد الظل على قامة
اعتمادا على الآثار التي جاءت به وهو إشارة إلى ما قلنا فأما آخر وقت العصر غروب الشمس
عندنا وقال الحسن بن زياد رضى الله تعالى عنه تغير الشمس إلى الصفرة وهو قول الشافعي
رحمه الله تعالى لحديث امامة جبريل عليه السلام وصلى بي العصر في اليوم الثاني حين كادت
الشمس تتغير (ولنا) قوله صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس
فقد أدرك أي أدرك الوقت ولكن يكره تأخير العصر إلى أن تتغير الشمس لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم تلك صلاة المنافقين يقعد أحدهم حتى إذا كانت الشمس بين قرني
الشيطان قام ينقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها الا قليلا وقال ابن مسعود رضى الله
تعالى عنه ما أحب أن يكون لي صلاة حين ما تحمار الشمس بفلسين * واختلفوا في تغير
الشمس ان العبرة للضوء أم للقرص فكان النخعي يعتبر تغير الضوء والشعبي يقول العبرة
لتغير القرص وبهذا أخذنا لان تغير الضوء يحصل بعد الزوال فإذا صار القرص بحيث
لا تحار فيه العين فقد تغيرت * قال (ووقت المغرب من حين تغرب الشمس إلى أن يغيب
الشفق عندنا) وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليس للمغرب الا وقت واحد مقدر بفعله فإذا
مضى بعد غروب الشمس مقدار ما يصلى فيه ثلاث ركعات خرج وقت المغرب لحديث
امامة جبريل عليه السلام فإنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد (ولنا) حديث أبي
هريرة رضى الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أول وقت المغرب حين
تغيب الشمس وآخره حين يغيب الشفق وتأويل حديث امامة جبريل عليه السلام أنه
أراد بيان وقت استحباب الأداء وبه نقول إنه يكره تأخير المغرب بعد غروب الشمس
الا بقدر ما يستبرئ فيه الغروب رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لقوله صلى الله
عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء وأخر ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما أداء المغرب يوما حتى بدا نجم فأعتق رقبة وعمر رضى الله تعالى عنه رأى نجمين
طالعين قبل أدائه فأعتق رقبتين فهذا بيان كراهية التأخير فأما وقت الادراك يمتد إلى
غيبوبة الشفق والشفق البياض الذي بعد الحمرة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو
قول أبى بكر وعائشة رضى الله تعالى عنهما واحدى الروايتين عن ابن عباس رضى الله
144

تعالى عنهما وفى قول أبي يوسف محمد والشافعي رحمهم الله تعالى الحمرة التي قبل البياض
وهو قول عمر وعلى وابن مسعود رضى الله تعالى عنهم واحدى الروايتين عن ابن عباس
رضى الله تعالى عنهما وهكذا روى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ووجه
هذا أن الطوالع ثلاثة والغوارب ثلاثة ثم المعتبر لدخول الوقت الوسط من الطوالع وهو
الفجر الثاني فكذلك في الغوارب المعتبر لدخول الوقت الوسط وهو الحمرة فبذهابها يدخل
وقت العشاء وهذا لان في اعتبار البياض معنى الحرج فإنه لا يذهب الا قريبا من ثلث الليل
(وقال) الخليل بن أحمد راعيت البياض بمكة فما ذهب الا بعد نصف الليل وقيل لا يذهب
البياض في ليالي الصيف أصلا بل يتفرق في الأفق ثم يجتمع عند الصبح فلدفع الحرج
جعلنا الشفق الحمرة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الحمرة أثر الشمس والبياض أثر النهار
فما لم يذهب كل ذلك لا يصير إلى الليل مطلقا وصلاة العشاء صلاة الليل كيف وقد جاء في
الحديث وقت العشاء إذا ملا الظلام الظراب وفى رواية إذا أدلهم الليل أي استوى
الأفق في الظلام وذلك لا يكون الا بعد ذهاب البياض فبذهابه يخرج وقت المغرب
ويدخل وقت العشاء. فأما آخر وقت العشاء فقد قال في الكتاب إلى نصف الليل والمراد
بيان وقت إباحة التأخير فأما وقت الادراك فيمتد إلى طلوع الفجر الثاني حتى إذا أسلم
الكافر أو بلغ الصبي قبل طلوع الفجر فعليه صلاة العشاء وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه
الله تعالى آخر وقت العشاء حين يذهب ثلث الليل لحديث امامة جبريل عليه الصلاة والسلام
وصلى بي العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل (ولنا) حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر وصلاة العشاء
صلاة الليل فيبقى وقتها ما بقي الليل وقوله صلى الله عليه وسلم لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل
وقت صلاة أخرى دليل لنا أيضا ان ثبت هذا اللفظ ولكنه شاذ والمشهور اللفظ الذي
روينا * قال (والتنوير بصلاة الفجر أفضل من التغليس بها عندنا) وقال الشافعي التغليس
بها أفضل وذكر الطحاوي إن كان من عزمه تطويل القراءة فالأفضل أن يبدأ بالتغليس
ويختم بالاسفار وإن لم يكن من عزمه تطويل القراءة فالاسفار أفضل من التغليس واستدل
الشافعي بحديث عائشة رضي الله عنها قالت كن النساء ينصرفن من الصلاة مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من شدة الغلس وقال أنس رضى
145

الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الفجر ولا يعرف أحدنا من إلى جنبه من شدة
الغلس ولان في هذا إظهار المسارعة في أداء العبادة وهو مندوب إليه لقوله تعالى وسارعوا
إلى مغفرة من ربكم (ولنا) حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسفروا
بالفجر فإنه أعظم للأجر وحديث الصديق عن بلال رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال نوروا بالفجر أو قال أصبحوا بالصبح يبارك لكم ولان في الاسفار تكثير
الجماعة وفى التغليس تقليلها وما يؤدى إلى تكثير الجماعة فهو أفضل ولان المكث في مكان
الصلاة حتى تطلع الشمس مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم من صلى الفجر ومكث حتى
تطلع الشمس فكأنما أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل وإذا أسفر بها تمكن من احراز
هذه الفضيلة وعند التغليس قلما يتمكن منها فأما حديث عائشة رضي الله عنها فالصحيح من
الروايات أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر قال ابن مسعود رضى الله تعالى
عنه ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قبل ميقاتها الا صلاة الفجر صبيحة
الجمعة فإنه صلاها يومئذ بغلس فدل أن المعهود أسفاره بها فان ثبت التغليس في وقت
فلعذر الخروج إلى سفر أو كان ذلك حين يحضر النساء الصلاة بالجماعة ثم انتسخ ذلك حين
أمرن بالقرار في البيوت * قال (والأفضل في صلاة الظهر أن يؤخرها ويبرد بها في الصيف
وفي الشتاء يعجلها بعد الزوال) وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه إن كان يصلى وحده
يعجلها بعد الزوال في كل وقت وإن كان يصلى بالجماعة يؤخر يسيرا واستدل بحديث خباب
ابن الأرت رضى الله تعالى عنه قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء
في خيامنا فلم يشكنا أي لم يجبنا إلى شكوانا فدل أنه كان يعجل الظهر وأصحابنا استدلوا
بقوله صلى الله عليه وسلم أبردوا بالظهر فان شدة الحر من فيح جهنم وفي حديث أبي
هريرة رضى الله تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما زالت الشمس جاء
بلال ليؤذن فقال له أبرد هكذا مرارا فلما صار للتلال فئ قال أذن ولان في التعجيل
في الصيف تقليل الجماعات واضرارا بالناس فان الحر يؤذيهم وتأويل حديث خباب أنهم
طلبوا ترك الجماعة أصلا على أن معنى قوله فلم يشكنا أي لم يدعنا في الشكاية بل أزال
شكوانا بأن أبرد بها فأما في الشتاء فالمستحب تعجيلها لحديث أنس رضى الله تعالى عنه
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الظهر في الشتاء فلا يدرى أن ما مضى من النهار
146

أكثر أم ما بقي وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلي اليمن إذا كان الصيف فأبرد
فان تقيلوك فأمهلهم حتى يدركوا وإذا كان الشتاء فصل الظهر حين تزول الشمس فان الليالي
طوال فأما العصر فالمستحب تأخيرها في الصيف والشتاء عندنا بعد أن يؤديها والشمس
بيضاء نقية لم يدخلها تغير وقال الشافعي رحمه الله تعالى المستحب تعجيلها لحديث عائشة رضى
الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي
ولحديث أنس رضي الله تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى العصر فيذهب الذاهب
إلى العوالي وينحر الجزور ويطبخ ويأكل قبل غروب الشمس (ولنا) حديث ابن مسعود
رضى الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى العصر والشمس بيضاء نقية
وهذا منه بيان تأخير للعصر وقالت أم سلمة رضى الله تعالى عنها أنتم أشد تأخيرا للظهر من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تأخيرا للعصر منكم
وقيل سميت العصر لأنها تعصر أي تؤخر ولان في تأخير العصر تكثير النوافل وأداء
النافلة بعدها مكروه ولهذا كان التعجيل في المغرب أفضل لان أداء النافلة قبلها مكروه
ولان المكث بعد العصر إلى غروب الشمس في موضع الصلاة مندوب إليه قال عليه
الصلاة والسلام من صلى العصر ومكث في المسجد إلى غروب الشمس فكأنما أعتق ثمانية
من ولد إسماعيل عليه السلام وإذا أخر العصر يتمكن من أحراز هذه الفضيلة فهو أفضل
فأما حديث عائشة رضى الله تعالى عنها فقد كانت حيطان حجرتها قصيرة فتبقى الشمس
طالعة فيها إلى أن تتغير وحديث أنس فقد كان ذلك في وقت مخصوص لعذر * فأما صلاة
المغرب فالمستحب تعجيلها في كل وقت وقد بينا ان تأخيرها مكروه وكان عيسى بن أبان
رحمه الله تعالى يقول الأولى تعجيلها للآثار ولكن لا يكره التأخير مطلقا ألا ترى أن
بعذر السفر والمرض تؤخر المغرب ليجمع بينها وبين العشاء فعلا فلو كان المذهب كراهة
التأخير لما أبيح ذلك بعذر السفر والمرض كما لا يباح تأخير العصر إلى أن تتغير الشمس
واستدل فيه بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب
ليلة وإنما يحمل ذلك على بيان امتداد الوقت وإباحة التأخير. فأما صلاة العشاء فالمستحب
عندنا تأخيرها إلى ثلث الليل ويجوز التأخير بعد ذلك إلى نصف الليل ويكره التأخير بعد
ذلك وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه المستحب تعجيلها بعد غيبوبة الشفق لحديث نعمان
147

ابن بشير قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى العشاء حين يسقط القمر الليلة الثالثة
وذلك عند غيبوبة الشفق يكون ولان في تعجيلها تكثير الجماعة خصوصا في زمان الصيف
(ولنا) ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العشاء إلى ثلث الليل ثم خرج فوجد
أصحابه في المسجد ينتظرونه فقال أما انه لا ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت أحد غيركم
ولولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرت العشاء إلى هذا الوقت وفي حديث آخر لولا
أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل (وكتب) عمر رضى الله تعالى عنه إلى أبي
موسى الأشعري رضى الله تعالى عنه أن صلى العشاء حين يذهب ثلث الليل فان أبيت
فإلى نصف الليل فان نمت فلا نامت عيناك وفى رواية فلا تكن من الغافلين * والحاصل أن
الشافعي رضى الله تعالى عنه يختار أداء الصلاة في أول الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام
أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله والعفو يكون بعد التقصير ولان فيه احراز الفضيلة
قبل أن يعترض عليه عذر يعجزه عن احرازها وأصحابنا اختاروا التأخير ففيه انتظار للصلاة
وقال صلى الله عليه وسلم المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها وفى التأخير تكثير الجماعة
أيضا وفيه تقليل النوم فهو أفضل وما كان امتداد الوقت الا للتيسير وفي التأخير إظهار معنى
التيسير وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وآخره عفو الله فالمراد
بالعفو الفضل قال تعالى ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو ولا يجوز أن يحمل العفو هاهنا
على التجاوز عن التقصير فقد ذكر في امامة جبريل عليه السلام تأخير الأداء للصلاة في
اليوم الثاني إلى آخر الوقت وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد إلى شئ يكون
فيه تقصير فان الزلة التي تجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ما تكون من غير تقصير
* قال (وفى يوم الغيم المستحب تأخير الفجر والظهر والمغرب وتعجيل العصر والعشاء) وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى التأخير في جميع الصلوات في يوم الغيم أفضل ووجهه
أنه أقرب إلى الاحتياط فأداء الصلاة في وقتها أو بعد ذهابه يجوز ولا يجوز أداؤها قبل
دخول الوقت ووجه ظاهر الرواية أن في الفجر المستحب التأخير لأنه لو عجل بها لم يأمن
أن يقع قبل طلوع الفجر الثاني ولان الناس يلحقهم الحرج في التعجيل عند الظلمة بسبب الغيم
فيؤخر ليكون فيه تكثير الجماعة وكذلك في الظهر يؤخر لكيلا يقع قبل الزوال ويعجل
العصر لكيلا يقع في حال تغيير الشمس ويؤخر المغرب لكيلا يقع قبل غروب الشمس
148

وتعجل العشاء لدفع الحرج عن الناس فإنهم يتضررون بالمطر يأخذهم قبل الرجوع إلى منازلهم
وعند الغيم ينتظر المطر ساعة فساعة فتعجل العشاء لينصرفوا إلى منازلهم قبل أن يمطروا * قال
(ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر) ما خلا عرفة ومزدلفة فان
الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات فيؤديهما في وقت الظهر وبين المغرب والعشاء بمزدلفة
فيؤديهما في وقت العشاء عليه اتفق رواة نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله وفيما سوى
هذين الموضعين لا يجمع بينهما وقتا عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجمع بينهما لعذر السفر والمطر
وقال مالك رحمه الله ولعذر المرض أيضا. وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وقال أحمد بن
حنبل يجوز الجمع بينهما في الحضر من غير عذر السفر واحتجوا بحديث معاذ أن النبي صلى الله
عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين إذا جد به السفر وعن ابن عباس رضى
الله تعالى عنهما قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا جمعا وثمانيا جمعا فالمراد بالسبع
المغرب والعشاء وبالثمان الظهر والعصر وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أيضا قال جمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير عذر (ولنا)
قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أي في مواقيتها وقال تعالى ان الصلاة
كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي فرضا مؤقتا وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جمع بين صلاتين في وقت واحد فقد أتى بابا من
الكبائر وقال عمر رضى الله تعالى عنه ان من أكبر الكبائر الجمع بين الصلاتين فكما
لا يجمع بين العشاء والفجر ولا بين الفجر والظهر لاختصاص كل واحد منهما بوقت
منصوص عليه شرعا فكذلك الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء. وتأويل الاخبار أن الجمع
بينهما كان فعلا لا وقتا وبه نقول وبيان الجمع فعلا أن المسافر يؤخر الظهر إلى آخر الوقت
ثم ينزل فيصلى الظهر ثم يمكث ساعة حتى يدخل وقت العصر فيصليها في أول الوقت
وكذلك يؤخر المغرب إلى آخر الوقت ثم يصليها في آخر الوقت والعشاء في أول الوقت
فيكون جامعا بينهما فعلا. الدليل عليه حديث نافع قال خرجنا مع ابن عمر رضى الله تعالى
عنهما من مكة فاستصرخ بامرأته فجعل يسير حتى غربت الشمس فنادى الركب الصلاة
فلم يلتفت إليهم حتى إذا دنا غيبوبة الشفق نزل فصلى المغرب ثم مكث حتى غاب الشفق
149

ثم صلى العشاء ثم قال هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير
وعن علي رضى الله تعالى عنه أنه فعل مثل ذلك في بعض أسفاره صلى المغرب في آخر
الوقت والعشاء في أوله وتعشى بينهما وفى الحقيقة تنبنى هذه المسألة على أصل وهو أن
عنده بين وقت الظهر والعصر تداخلا حتى إذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر في وقت العصر
يلزمها قضاء الظهر وكذلك المغرب مع العشاء وعندنا لا تداخل بل كل واحد منهما
مختص بوقته ودليلنا ما روينا لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت الأخرى * قال (ووقت
الوتر من حين يصلى العشاء إلى الفجر والأفضل تأخيرها إلى آخر الليل) لحديث خارجة بن
حذافة رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى أمدكم بصلاة
هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر وقالت
عائشة رضى الله تعالى عنها من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله
وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر وقال صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى
فإذا خشيت الصبح فأوتر يوتر لك ما قبله وكان أبو بكر رضى الله تعالى عنه يوتر من أول
الليل وعمر رضى الله تعالى عنه من آخر الليل وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضى
الله تعالى عنه أخذت بالثقة ولعمر رضى الله تعالى عنه أخذت بفضل القوة (فان أوتر في
وقت العشاء قبل أن يصلى العشاء وهو ذاكر لذلك لم يجزه بالاتفاق) لأنه أداها قبل وقتها
أو ترك الترتيب المأمور به من بناء الوتر على العشاء. فأما إذا صلى العشاء بغير وضوء وهو
لا يعلم به ثم جدد الوضوء فأوتر ثم علم أنه كان صلى العشاء بغير وضوء فعليه إعادة العشاء
دون الوتر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لان الترتيب كان ساقطا عنه بعذر النسيان
وعندهما يلزمه إعادة الوتر لان عندهما دخول وقت الوتر بعد أداء العشاء على وجه الصحة
ولم يوجد فكان مصليا قبل وقته وعند أبي حنيفة رحمه الله يدخل وقت الوتر بدخول
وقت العشاء إنما كان عليه مراعاة الترتيب وقد سقط ذلك بالنسيان وإنما ينبنى هذا على
اختلافهم في صفة الوتر فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى واجب أو فرض فلا يكون تبعا
للعشاء وعندهما سنة فكان تبعا للعشاء وسيأتي بيان هذا الفصل * قال (ولا يتطوع بعد
طلوع الفجر الا بركعتي الفجر إلى أن تطلع الشمس وترتفع) واعلم بأن الأوقات التي تكره
فيها الصلاة خمسة ثلاثة منها لا يصلى فيها جنس الصلوات عند طلوع الشمس إلى أن
150

تبيض وعند غروبها الا عصر يومه فإنه يؤديها عند الغروب والأصل فيه حديث عقبة بن
عامر رضى الله تعالى عنه قال ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلى
فيهن وأن نقبر فيهن موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند زوالها حتى تزول وحين
تضيف للغروب حتى تغرب. وفى حديث الصنابحي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن الصلاة عند طلوع الشمس وقال إنها تطلع بين قرني الشيطان كأن الشيطان يزينها في
عين من يعبدونها حتى يسجدوا لها فان ارتفعت فارقها فإذا كان عند قيام الظهيرة
قارنها فإذا مالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها فلا تصلوها في هذه
الأوقات وفى حديث عمر بن عنبسة قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل من الليل
والنهار ساعة لا يصلى فيها فقال إذا صليت المغرب فالصلاة مشهودة مقبولة إلى أن تصلى
الفجر ثم أمسك حتى تطلع الشمس ثم الصلاة مشهودة مقبولة إلى وقت الزوال ثم أمسك
فإنها ساعة تسعر فيها جهنم ثم الصلاة مشهودة مقبولة إلى أن تصلى العصر ثم أمسك حتى
تغرب الشمس والأمكنة في هذا النهى سواء عندنا لعموم الآثار. وقال الشافعي لا بأس
بالصلاة في هذه الأوقات بمكة لحديث روى الا بمكة ولم تثبت هذه الزيادة عندنا لأنها شاذة
فلا تعارض المشاهير وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لا بأس بالصلاة في هذه
الأوقات وقت الزوال يوم الجمعة وقد روي شاذا الا يوم الجمعة به أخذ أبو يوسف وقال للناس
بلوى في تحية المسجد عند الزوال يوم الجمعة فالآثار التي روينا توجب الكراهة في الكل
* ثم كل وقت ينهى فيه عن عبادة لا يختلف الحال فيه بين الجمعة وغيرها وبين مكة وغيرها
كالنهي عن الصوم في يوم العيد وفى هذه الأوقات الثلاثة لا تؤدى الفرائض عندنا. وقال
الشافعي النهى عن أداء النوافل فأما الفرائض فلا بأس بأدائها في هذه الأوقات لقوله صلى
الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها (ولنا) حديث
ليلة التعريس فان النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل آخر الليل قال من يكلؤنا الليلة فقال بلال
أنا فناموا فما أيقظهم الا حر الشمس وفى رواية انتبهوا وقد بدا حاجب الشمس فقال عليه
الصلاة والسلام لبلال أين ما وعدتنا قال ذهب بنفسي الذي ذهب بنفوسكم فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم أرواحنا بيد الله تعالى وأمرهم فانتقلوا عن ذلك الوادي ثم نزلوا
فأوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أذن بلال فصلى ركعتي الفجر ثم قام فصلى بهم
151

قضاء وإنما انتقل من ذلك الوادي لأنه تشاءم والأصح أنه أراد أن ترتفع الشمس فلو جاز
الفجر المكتوبة في حال طلوع الشمس لما أخر بعد الانتباه والآثار المروية في النهى عامة في
جنس الصلوات وبها يثبت تخصيص هذه الأوقات من الحديث الذي رواه الخصم * قال
(ولا يصلى في هذه الأوقات على الجنازة أيضا) لقوله وان نقبر فيهن موتانا فليس المراد به
الدفن لان ذلك جائز بالاتفاق ولكنه كناية عن الصلاة على الجنازة أيضا * قال (ولا يسجد
فيهن للتلاوة أيضا) لان الكراهة للتحرز عن التشبه بمن يعبد الشمس والتشبه يحصل
بالسجود والنهى عن الصلاة على الجنازة وعن سجدة التلاوة في هذه الأوقات مروى عن
ابن عمر رضى الله تعالى عنهما ولو أدى سقط عنه لان الوجوب في هذا الوقت والنهى ليس
لمعنى في عين السجود والصلاة فلا يمنع الجواز (الا عصر يومه فإنه يؤديها عند غروب
الشمس) لان هذا الوقت سبب لوجوبها حتى لو أسلم الكافر أو بلغ الصبي في هذا الوقت
يلزمه أداؤها فيستحيل أن يجب عليه الأداء في هذا الوقت ويكون ممنوعا من الأداء وعلى
هذا لو غربت الشمس وهو في خلال العصر يتم الصلاة بالاتفاق ولو طلعت الشمس وهو
في خلال الفجر فسدت صلاته عندنا وعند الشافعي لا تفسد اعتبارا بحالة الغروب واستدل
بقوله عليه الصلاة والسلام من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك. والفرق
بينهما عندنا أن بالغروب يدخل وقت الفرض فلا يكون منافيا للفرض وبالطلوع لا يدخل
وقت الفرض فكان مفسدا للفرض كخروج وقت الجمعة في خلالها مفسد للجمعة لأنه
لا يدخل وقت مثلها * قال والأصح عندي في الفرق أن الطلوع بظهور حاجب الشمس
وبه لا تنتفى الكراهة بل نتحقق فكان مفسدا للفرض والغروب بآخره وبه تنتفي
الكراهة فلم يكن مفسدا للعصر لهذا وتأويل الحديث أنه لبيان الوجوب بادراك جزء
من الوقت قل أو كثر وعن أبي يوسف أن الفجر لا يفسد بطلوع الشمس ولكنه يصبر
حتى إذا ارتفعت الشمس أتم صلاته وكأنه استحسن هذا ليكون مؤديا بعض الصلاة في
الوقت ولو أفسدناها كان مؤديا جميع الصلاة خارج الوقت وأداء بعض الصلاة في الوقت
أولى من أداء الكل خارج الوقت * ووقتان آخران ما بعد العصر قبل تغير الشمس وما
بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فإنه لا يصلى فيهما شئ من النوافل لحديث ابن
عباس رضى الله تعالى عنهما قال شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي
152

صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى
تغرب الشمس وهذا الحديث يرويه أبو سعيد الخدري ومعاذ بن عفراء رضوان الله عليهم
وجماعة ولكن يجوز أداء الفريضة في هذين الوقتين وكذلك الصلاة على الجنازة وسجدة
التلاوة إنما النهى عن التطوعات خاصة ألا ترى أنه يؤدى فرض الوقت فيهما فكذلك سائر
الفرائض فأما الصلوات التي لها سبب من العباد كركعتي الطواف وركعتي تحية المسجد
لا تؤدى في هذين الوقتين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى واستدل بقوله صلى الله عليه
وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليحيه بركعتين ورأي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
ما صلى في مسجد الخيف رجلين لم يصليا معه فقال ما بالكما لم تصليا معنا فقالا إنا صلينا
في رحالنا فقال إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما امام قوم فصليا معهم فقد جوز لهما الاقتداء
بالامام بعد الفجر تطوعا (ولنا) ما روى أن عمر رضى الله تعالى عنه طاف بالبيت سبعا
بعد صلاة الفجر ثم خرج من مكة حتى إذا كان بذي طوى فطلعت الشمس صلى ركعتين
فقال ركعتان مكان ركعتين فقد أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد طلوع الشمس وتأويل
الحديث الذي روى أنه كان قبل النهي عن الصلاة في هذا الوقت. فكذلك المنذورة لا
تؤدى في هذين الوقتين لان وجوبها بسبب من العبد فهي كالتطوع وركعتي الطواف
وكذلك بعد طلوع الفجر قبل أن يصلى الفجر لا يصلى تطوعا الا ركعتي الفجر لان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يتطوع في هذا الوقت مع حرصه على الصلاة حتى كأن يقول وجعلت
قرة عيني في الصلاة (فان قيل) لم يذكر في هذا الكتاب وقتا آخر وهو بعد غروب الشمس
قبل صلاة المغرب والتطوع فيه مكروه أيضا (قلنا) نعم ولكن هذا النهي ليس لمعنى في الوقت
بل لما فيه من تأخير المغرب كالنهي عن الصلاة عند الخطبة ليس لمعنى بل لما فيه من الاشتغال
عن سماع الخطبة فلهذا لم يذكره هنا * قال (وإذا نسي الفجر حتى زالت الشمس ثم ذكرها
بدأ بها ولو بدأ بالظهر لم يجزه عندنا) لان الترتيب بين الفائتة وفرض الوقت مستحق عندنا
وهو مستحب عند الشافعي رحمه الله تعالى فإذا بدأ بالظهر جاز عنده لان ما بعد زوال الشمس
وقت للظهر بالآثار المشهورة وأداء الصلاة في وقتها يكون صحيحا كما إذا كان ناسيا للفائتة ثم
الترتيب في أداء الصلوات في أوقاتها لضرورة الترتيب في أوقاتها وذلك لا يوجد في الفوائت
لأنها صارت مرسلة عن الوقت ثابتة في الذمة فكان قياس قضاء الصوم مع الأداء (ولنا)
153

قوله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها فقد جعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت التذكر وقتا للفائتة فمن ضرورتها أن لا يكون وقتا لغيرها
وأداء الصلاة قبل وقتها لا يجوز بخلاف حالة النسيان فإنه ليس بوقت للفائتة فكان وقتا
لفرض الوقت. ثم القضاء بصفة الأداء فكما يراعي الترتيب بين الفجر والظهر أداء في الوقت
فكذلك قضاء بعد خروج الوقت والأصل فيه حديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال
صلى الله عليه وسلم من نسي صلاة فلم يذكرها الا وهو مع الامام فليصل معه وليجعلها تطوعا
ثم ليقض ما ذكره ثم ليعد ما كان فيه وبعين هذا نقول. وفيه تنصيص على أن الترتيب شرط ثم
يسقط الترتيب بثلاثة أشياء * أحدها النسيان لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب
يوما ثم قال هل رآني أحد منكم صليت العصر فقالوا لا فصلى العصر ولم يعد المغرب * والثاني
ضيق الوقت حتى إذا كان بحيث لو اشتغل بالفائتة خرج الوقت قبل أداء فرض الوقت فليس
عليه مراعاة الترتيب لأنه ليس من الحكمة تدارك الفائتة بتفويت مثلها ولو اشتغل بالفائتة
فإنه فرض الوقت ولكن هنا في هذا الفصل لو بدأ بالفائتة أجزأه بخلاف الأول فان هناك
هو مأمور بالبداءة بالفائتة ولو بدأ بفرض الوقت لم يجزه لان النهى عن البداءة بفرض الوقت
هناك لمعنى في عينها ألا ترى أنه ينهى عن الاشتغال بالتطوع أيضا والنهي متى لم يكن لمعنى
في عين المنهي عنه لا يمنع جوازه * والثالث كثرة الفوائت فإنه يسقط به الترتيب عندنا
وحد الكثرة أن تصير الفوائت ستا لان واحدة منها تصير مكررة وهذا يرجع إلى ضيق
الوقت أيضا فلو أمرناه بمراعاة الترتيب مع كثرة الفوائت لفاته فرض الوقت عن وقته
وعن زفر أنه تلزمه مراعاة الترتيب في صلاة شهر فكأنه جعل حد الكثرة بأن يزيد على
شهر وكان بشر المريسي يقول من ترك صلاة لم يجزه صلاة في عمره بعد ذلك ما لم يقضها
إذا كان ذاكرا لها لان كثرة الفوائت تكون عن كثرة تفريطه فلا يستحق به التخفيف
ثم عند كثرة الفوائت كما لا تجب مراعاة الترتيب بينها وبين فرض الوقت لا يجب مراعاة
الترتيب فيما بين الفوائت. وعند قلة الفوائت يجب لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل
عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن بعد هوى من الليل مرتبا ثم قال صلوا كما رأيتموني أصلى
وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله تعالى أن بدخول وقت السادسة لا تجب مراعاة الترتيب
وجعل أول وقت السادسة كآخره وهذا لا يصح فبدخول وقت السادسة لا تدخل الفوائت
154

في حد التكرار وإنما تدخل الفوائت في حد التكرار بخروج وقت السادسة * قال (وان
ذكر الوتر في الفجر فسد فرضه إذا كان الوقت واسعا) في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وعندهما لا يفسد لان الوتر أضعف من الفجر والضعيف لا يفسد القوى واستدل أبو حنيفة
رحمه الله تعالى بقوله صلى الله عليه وسلم من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا ذكره فان ذلك
وقته فقد ذكر في الوتر ما ذكر في سائر المكتوبات فدل على وجوب الترتيب بين الوتر
والمكتوبة ولا يبعد افساد القوى بما هو أضعف منه لمراعاة الترتيب كالمصلى إذا قعد قدر
التشهد ثم تذكر سجدة التلاوة فسجد لها تبطل القعدة والسجدة أضعف من القعدة وفي
الحقيقة هذه المسألة تنبنى على معرفة صفة الوتر فنقول لا خلاف بيننا أن الوتر أقوى من
سائر السنن حتى أنها تقضى إذا انفردت بالفوات ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ليلة التعريس بدأ بقضاء الوتر والذي روى لا وتر بعد الصبح المراد النهى عن تأخيرها
لا نفى قضائها وكذلك تقضى بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فدل أنها أقوى من السنن
وهي دون الفرائض حتى لا يكفر جاحدها ولا يؤذن لها ولا تصلى بالجماعة الا في شهر
رمضان * واختلفوا وراء هذا فروى حماد بن زيد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الوتر
فريضة وروى يوسف بن خالد السمتي عنه أنها واجبة وهو الظاهر من مذهبه وروى
أسد بن عمرو عنه أنها سنة مؤكدة وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وحجتهما
حديث الاعرابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه خمس صلوات في اليوم والليلة
فقال هل على غيرهن فقال لا إلا أن تطوع * وروى أن رجلا من الأنصار يقال له
أبو محمد قال الوتر فريضة فبلغ ذلك عبادة بن الصامت فقال كذب أبو محمد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فرض الله على عباده في اليوم والليلة خمس صلوات
وقال على الوتر سنة وليس بحتم وفى القرآن إشارة إلى ما قلنا فان الله تعالى قال حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى ولن تتحقق الوسطى الا إذا كان عدد الواجبات خمسا
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بحديث أبي بسرة الغفاري رضى الله تعالى عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين
العشاء إلى طلوع الفجر فبهذا تبين أن وجوب الوتر كان بعد سائر المكتوبات لأنه قال
زادكم وأضاف إلى الله تعالى لا إلى نفسه والسنن تضاف إلى رسول الله صلى الله
155

عليه وسلم وكذلك الزيادة إنما تتحقق في الواجبات لأنها محصورة بعدد النوافل فإنها لا نهاية
لها * وقال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه الوتر ثلاث ركعات كالمغرب وفى رواية وتر الليل
كوتر النهار ثم وتر النهار واجب فكذلك وتر الليل. وفى اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم
على تقدير التراويح بعشرين ركعة دليل على أن الواجبات في اليوم والليلة عشرون ركعة وذلك
لا يكون الا إذا كان الوتر واجبا غير أن وجوب الوتر ثبت بدليل موجب للعمل غير
موجب علم اليقين فلهذا لا يكفر جاحده وتحط رتبته بسائر المكتوبات فلا يسمى فرضا مطلقا
أما الفرض خمس صلوات كما ذكروا من الآثار فيه والفرق بين الفرض والواجبات ظاهر
عندنا * قال (فان افتتح تطوعا ثم تذكر فائتة عليه لم يفسد تطوعه) لان وجوب مراعاة
الترتيب مختص بالواجبات فإنها مؤقتة دون التطوعات ولو تذكر فائتة في خلال الفرض
انقلبت صلاته تطوعا فإذا تذكر في التطوع لان يبقى تطوعا كان أولى * قال (والتطوع قبل
الظهر أربع ركعات لا فصل بينهن وبعدها ركعتان) ومراده السنة ولكنه في الكتاب يسمى
السنن تطوعات والأصل في سنن الصلاة حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتا في الجنة
ركعتين قبل الفجر وأربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد
العشاء * وفى حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه ذكر عشر ركعات ركعتين قبل الظهر
وفى حديث ابن عمر ذكر ثنتي عشرة ركعة ولكن ذكر أربعا قبل الظهر بتسليمتين وبه
أخذ الشافعي رحمه الله تعالى ونحن أخذنا بحديث عائشة رضى الله تعالى عنها وقلنا الأربع
قبل الظهر بتسليمة واحدة لحديث أبي أيوب الأنصاري قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بعد
الزوال أربع ركعات فقلت ما هذه الصلاة التي تداوم عليها فقال هذه ساعة تفتح فيها أبواب
السماء فأحب ان يصعد لي فيها عمل صالح فقلت أفي كلهن قراءة فقال نعم فقلت أبتسليمة
واحدة أم بتسليمتين فقال بتسليمة واحدة (فأما قبل العصر فان تطوع بأربع ركعات فهو
حسن) لحديث أم حبيبة رضى الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى
قبل العصر أربع ركعات كانت له جنة من النار ولا تطوع بعدها والذي روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى بعد العصر في بيت أم سلمة رضى الله تعالى عنها ركعتين فسألته أم
سلمة رضى الله تعالى عنها فقال ركعتان بعد الظهر شغلني الوفد عنهما فقضيتهما فقالت
156

أنقضيهما نحن فقال لا (وكذلك لا تطوع بعد غروب الشمس قبل المغرب وبعده
ركعتان) لما ذكرنا من الآثار (وان تطوع بعد المغرب بست ركعات فهو أفضل) لحديث
ابن عمر رضى الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من صلى بعد المغرب ست ركعات
كتب من الأوابين وتلا قوله تعالى فإنه كان للأوابين غفورا ولم يذكر التطوع قبل
العشاء وان تطوع بأربع ركعات فحسن لان العشاء نظير الظهر من حيث إنه يجوز التطوع قبلها
وبعدها (فأما التطوع بعد العشاء فركعتان فيما روينا من الآثار وان صلى أربعا فهو أفضل)
لحديث ابن عمر رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن
له كمثلهن من ليلة القدر (فأما قبل الفجر فركعتان) اتفقت الآثار عليهما وهو أقوى السنن
لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ركعتا الفجر خير من الدنيا وما
فيها وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في تأويل قوله تعالى وأدبار السجود أنه الركعات
بعد المغرب * قال (ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن يصلى الفجر الا بخير) لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر مع أصحابه والحادي يحدو فلما طلع الفجر قال أمسك
فإنها ساعة ذكر وكان الكلام عزيزا على ابن مسعود في هذا الوقت أي شديدا ولأن هذه
ساعة يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار جاء في تأويل قوله تعالى ان قرآن الفجر كان
مشهودا انه يشهده ملائكة الليل والنهار فلا ينبغي أن يشهدوهم الا على خير * قال (والتطوع
بعد الجمعة أربع لا فصل بينهن الا بتشهد وقبل الجمعة أربع) أما قبل الجمعة فلأنها نظير الظهر
والتطوع قبل الظهر أربع ركعات وفى حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يتطوع قبل الجمعة أربع ركعات واختلفوا بعدها قال ابن مسعود رضي الله عنه
أربعا وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لحديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان مصليا بعد الجمعة فليصل أربع ركعات وقال علي رضي الله عنه
يصلى بعدها ستا أربعا ثم ركعتين وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله وقال عمر ركعتين ثم
أربعا فمن الناس من رجح قول عمر بالقياس على التطوع بعد الظهر وأبو يوسف رحمه الله
أخذ بقول علي رضي الله عنه فقال يبدأ بالأربع لكيلا يكون متطوعا بعد الفرض مثلها
وهذا ليس بقوى فان الجمعة بمنزلة أربع ركعات لان الخطبة شطر الصلاة * قال (ولا صلاة
قبل صلاة العيد) فان النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوع قبل العيد مع حرصه على الصلاة
157

ولما قدم على الكوفة خرج يوم العيد فرأى بعض الناس في الصلاة فقال مالهم أيصلون
العيد قبلنا قيل لا ولكنهم يتطوعون فقال ألا أحد ينهاهم قيل له أنههم أنت فقال أنى
أحتشم قوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى فنهاهم بعض الصحابة وكان محمد
ابن مقاتل الرازي يقول إنما يكره له ذلك في المصلى لكيلا يشبه على الناس فأما في بيته
فلا بأس بأن يتطوع بعد طلوع الشمس وغيره من أصحابنا يقول لا يفعل ذلك في بيته
ولا في المصلى فأول الصلاة بعد طلوع الشمس في هذا اليوم صلاة العيد * قال (وان
تطوع بعدها بأربع ركعات بتسليمة فحسن) لحديث علي رضي الله عنه قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله له بكل نبت نبت وبكل
ورقة حسنة * قال (وطول القيام أحب إلى من كثرة السجود) لما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم سئل عن أفضل الصلاة فقال طول القنوت وسئل عن أفضل الأعمال فقال أحمزها
أي أشقها على البدن وطول القيام أشق ولان فيه جمعا بين فرضين القيام والقراءة وكل
واحد منهما فرض وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إن كان له ورد من القرآن يقرؤه
فكثرة السجود أحب إلى وأفضل لأنه يقرأ فيه ورده لا محالة وإن لم يكن فطول القيام أحب
* قال (والتطوع بالليل ركعتان ركعتان أو أربع أربع أو ست ست أو ثمان ثمان أي ذلك
شئت) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى بالليل خمس ركعات سبع ركعات تسع
ركعات احدى عشرة ركعة ثلاث عشرة ركعة. الذي قال خمس ركعات ركعتان صلاة الليل
وثلاث وتر الليل والذي قال تسع ست صلاة الليل وثلاث وتر والذي قال ثلاث عشرة ركعة
ثمان صلاة الليل وثلاث وتر وركعتان سنة الفجر وكان يصلى هذا كله في الابتداء ثم فضل
البعض عن البعض هكذا ذكره حماد بن سلمة ولم يذكر كراهة الزيادة على ثمان ركعات
بتسليمة والأصح أنه لا يكره لان فيه وصلا بالعبادة وذلك أفضل * ثم قال (والأربع أحب
إلى) وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما والشافعي فالأفضل ركعتان لحديث
ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى
ففي كل ركعتين فسلم واستدلا لا بالتراويح فان الصحابة اتفقوا على أن كل ركعتين منها بتسليمة
فدل ان ذلك أفضل (ولنا) ما روي عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها سئلت عن قيام
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان فقالت كان قيامه في رمضان وغيره
158

سواء كان يصلى بعد العشاء أربع ركعات لا تسل عن حسنهن وطولهن ثم أربعا لا تسل
عن حسنهن وطولهن ثم كان يوتر بثلاث ولان في الأربع بتسليمة معنى الوصل والتتابع
في العبادة فهو أفضل والتطوع نظير الفرائض والفرض في صلاة الليل العشاء وهي أربع
بتسليمة فكذلك النفل وأما قوله ففي كل ركعة فسلم معناه فتشهد والتشهد يسمى سلاما
لما فيه من السلام وصلاة التراويح إنما جعلوها ركعتين بتسليمة واحدة ليكون أرواح على
البدن وما يشترك فيه العامة يبنى على اليسر فأما الأفضل فهو أشق على البدن (وأما تطوع
النهار فالأفضل أربع ركعات بتسليمة) عندنا على قياس الفرائض في صلاة النهار ولحديث
ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب في صلاة الضحي على
أربع ركعات وعند الشافعي رحمه الله تعالى الأفضل ركعتان بتسليمة لما فيها من زيادة التكبير
والتسليم ولحديث عمارة بن رؤبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاة الضحى
بركعتين وإنما بدأ بما هو الأفضل وتأويل الأثر الذي جاء لا يصلى بعد صلاة مثلها في ترك
القراءة في الأخريين وهذا الأثر مروى عن عمر وعلى وابن مسعود رضى الله تعالى عنهم
وبظاهره أخذ الشافعي فقال الأربع قبل الظهر بتسليمتين لكيلا يكون مصليا بعد صلاة
مثلها وكذلك بعد العشاء يتطوع بركعتين لهذا ونحن نقول المراد صفة القراءة لا عدد الركعات
فان في الفرض القراءة في ركعتين بفاتحة الكتاب وسورة وفى النفل في كل ركعة ألا ترى
أن التطوع قبل الفجر ركعتان والمخالفة في صفة القراءة بالتطويل في الفرض دون السنة
لا في عدد الركعات * قال (رجل افتتح التطوع ينوى أربع ركعات ثم تكلم فعليه قضاء ركعتين)
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان كل شفع من التطوع صلاة على حدة ألا ترى
أن فساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول فلا يصير شارعا في الشفع الثاني ما لم
يفرغ من الأول وبدون الشروع أو النذر لا يلزمه شئ وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في
رواية ابن سماعة أنه يلزمه الأربع ولا يلزمه أكثر من أربع ركعات وان نواها وفي رواية
بشر بن أبي الأزهر يلزمه ما نوى وان نوى مائة ركعة. ووجهه أن الشروع ملزم كالنذر فنيته
عند الشروع كتسميته عند النذر فيلزمه ما نوى. ووجه الرواية الأخرى ان التطوع نظير
الفرائض وأربع بالتسليمة مشروع في الفرائض فيلزمه بالشروع في التطوع بخلاف ما زاد
عليه وبعض المتأخرين من أصحابنا اختاروا قوله فيما يؤدى من الأربع بتسليمة كالأربع قبل
159

الظهر ونحوها * قال (فان صلى أربع ركعات بغير قراءة فعليه قضاء ركعتين) في قول أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وفى قول أبو يوسف رحمه الله تعالى عليه قضاء الأربع قال لان
ترك القراءة لا يفسد التحريمة ألا ترى ان ابتداء التحريمة صحيح قبل مجئ أوان القراءة
فصح قيامه إلى الشفع الثاني وقد أفسد كل واحد منهما بترك ما هو ركن وهو القراءة فيلزمه
قضاء الكل وأما عند محمد رحمه الله فالتحريمة تنحل بترك القراءة في الأوليين لان مع صفة
الفساد لا بقاء لتحريمة الصلاة فلا يصح قيامه إلى الشفع الثاني وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
بصفة الفساد لا تنحل التحريمة ولكنها تضعف فقيامه إلى الشفع الثاني حصل بصفة الفساد
والضعف فلا يكون ملزما إياه ما لم يؤكده كما قال في الشروع في صوم يوم النحر وهذه على ثمانية
أوجه * أحدها ما بينا * والثاني إذا قرأ في الأوليين ولم يقرأ في الأخريين فعليه قضاء الأخريين
لان شروعه في الشفع الثاني بعد اتمام الأول صحيح وقد أفسده بترك القراءة * والثالث إذا
قرأ في الأخريين دون الأوليين فعليه قضاء ركعتين أما عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما
الله تعالى فالتحريمة لم تنحل فصار شارعا في الشفع الثاني وقد أتمها فعليه قضاء ما أفسد وهو
الشفع الأول وعند محمد رحمه الله تعالى التحريمة انحلت بترك القراءة في الأوليين فعليه قضاؤها
فقط والأخريان لا يكونان قضاء عن الأوليين لأنه بناهما على تلك التحريمة والتحريمة
الواحدة لا يتسع فيها القضاء والأداء * والرابع إذا قرأ في احدى الأليين واحدى الآخريين
فعند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى يلزمه قضاء أربع ركعات وعند محمد رحمه
الله تعالى يلزمه قضاء ركعتين ومحمد مر على أصله أن التحريمة أنحلت بترك القراءة في
احدى الأوليين وأبو يوسف رحمه الله تعالى مر على أصله أن التحريمة باقية فصح شروعه
في الشفع الثاني وقد أفسده فأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقد جرت محاورة بين أبى
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في مذهبه حتى عرض عليه الجامع الصغير فقال أبو يوسف
رويت لك عنه أن عليه قضاء ركعتين وقال محمد رحمه الله تعالى بل رويت لي أن عليه
قضاء أربع ركعات وقيل ما حفظه أبو يوسف رحمه الله تعالى هو قياس مذهبه لان التحريمة
ضعفت بالفساد بترك القراءة في ركعة فلا يلزمه الشفع الثاني بالشروع فيه بهذه التحريمة
والاستحسان ما حفظه محمد رحمه الله تعالى لان الشروع وان حصل بصفة الفساد فقد
أكده بوجود القراءة في ركعة فصار ذلك ملزما إياه لتأكده. والدليل على أن التأكد
160

يحصل بالقراءة في ركعة قوله لا صلاة الا بقراءة وبالقراءة في كل ركعة تكون صلاته
بقراءة ولهذا قال بعض العلماء لا تجب القراءة في كل صلاة الا في ركعة * والوجه الخامس
قرأ في الأوليين واحدى الأخريين فعليه قضاء ركعتين * والسادس قرأ في الأخريين
واحدى الأوليين فعليه قضاء ركعتين أيضا وهو ظاهر * والسابع قرأ في احدى الأوليين
فقط فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه قضاء أربع ركعات وعند أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى عليه قضاء ركعتين لأنه لم يؤكد الشفع الثاني بالقراءة في ركعة منها * والثامن
قرأ في احدى الآخريين فقط فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه قضاء أربع ركعات
وعند محمد رحمه الله تعالى عليه قضاء ركعتين وهو الأصح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
لأنه لم يؤكد الشفع الأول بالقراءة فلا يصح شروعه في الشفع الثاني فان ترك القراءة في
الأوليين ثم اقتدى به رجل في الأخريين فصلاهما معه فعليه قضاء الأوليين كما يقضى
الامام لأنه لما شارك الامام في التحريمة فقد التزم ما التزمه الامام بهذه التحريمة وهذا
قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى فأما عند محمد رحمه الله تعالى تحريمة الامام
قد انحلت فلم يصح اقتداء الرجل به وليس عليه قضاء شئ وان دخل معه في الأوليين
رجل فلما فرغ منها تكلم الرجل ومضى الامام في صلاته حتى صلى أربع ركعات فعلى
الرجل الذي كان خلفه أن يقضى ركعتين وهما الأوليان فقط وان كانت الصلاة كلها صحيحة
لم يكن على الرجل قضاء ركعتين لأنه خرج من صلاة الامام قبل قيام الامام إلى الشفع
الثاني وقد بينا أن الامام إنما يلزمه الشفع الثاني بالقيام إليها فإذا خرج هذا الرجل من صلاته
قبل قيام الامام إلى الشفع الثاني لم يلزمه شئ من هذا الشفع وإنما يلزمه قضاء الشفع الأول
إن كان فسد بترك القراءة فيهما أو في إحداهما وان حصل أداؤهما بصفة الصحة فليس
عليه قضاء شئ * قال (ولو صلى الرجل الفجر ثم ذكر أنه لم يصل ركعتي الفجر لم يقضهما)
في قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى أحب إلي أن
يقضيهما إذا ارتفعت الشمس أما سائر السنن إذا فاتت عن موضعها لم تقض عندنا خلافا للشافعي
رضى الله تعالى عنه (ودليلنا) حديث أم سلمة رضى الله تعالى عنها حين قالت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم أنقضيها نحن فقال لا ولان السنة عبارة عن الاقتداء برسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما تطوع به وهذا المقصود لا يحصل بالقضاء بعد الفوات وهي
161

مشروعة للفصل بين الأذان والإقامة فلا يحصل هذا بالقضاء بعد الفراغ من المكتوبة فأما
سنة الفجر فلو فاتت مع الفجر قضاها معه استحسانا لحديث ليلة التعريس فان النبي صلى الله
عليه وسلم صلى ركعتي الفجر ثم صلى الفجر ولان لهذه السنة من القوة ما ليس لغيرها قال
صلى الله عليه وسلم صلوها فان فيها الرغائب وان انفردت بالفوات لم تقض عند أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى لان موضعها بين الأذان والإقامة وقد فات ذلك بالفراغ
من الفرض وعند محمد رحمه الله تعالى يقضيها إذا ارتفعت الشمس قبل الزوال هكذا روى
عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما ولان ما قبل الزوال في حكم أول النهار وعند الشافعي
رحمه الله تعالى يقضيها قبل طلوع الشمس بناء على أصله في الصلوات التي لها سبب والله
سبحانه وتعالى أعلم
* (باب القيام في الفريضة) *
قال محمد رحمه الله تعالى في الأصل بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أم قوما
فليصل بهم صلاة أضعفهم فان فيهم الكبير والمريض وذا الحاجة وفى هذا دليل أنه لا ينبغي
للامام أن يطول القراءة على وجه يمل القوم لقوله صلى الله عليه وسلم ان من الأئمة الطرادين
ولما شكا قوم معاذا رضى الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تطويل القراءة
دعاه قال الراوي فما رأيته في موعظة أشد منه في تلك الموعظة قال أفتان أنت يا معاذ
قالها ثلاثا أين أنت من والسماء والطارق والشمس وضحاها وقال صلى الله عليه وسلم
تكلفوا من الاعمال ما تطيقون فان الله تعالى لا يمل حتى تملوا وقال أنس رضى الله تعالى
عنه ما صليت خلف أحد أتم وأخف مما صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ المعوذتين في صلاة الفجر يوما فلما فرغ قالوا
أو جزت قال سمعت بكاء صبي فخشيت على أمه أن تفتن فدل أن الامام ينبغي له أن
يراعى حال قومه * قال (ويقرأ الإمام في الفجر في الركعتين جميعا بأربعين آية مع فاتحة
الكتاب) يعنى سواها وفى الجامع الصغير قال بأربعين خمسين ستين وفى رواية الحسن
عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال ما بين الستين إلى مائة آية وهذا لاختلاف الآثار فيه
فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر
162

يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الانسان وعن مورق العجلي قال تلقفت سورة ق
واقتربت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة قراءته لهما في صلاة الفجر وعن أبي
هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ والمرسلات وعم يتساءلون في صلاة
الفجر وفى رواية إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وان أبا بكر رضى الله تعالى عنه
قرأ في الفجر سورة البقرة فلما فرغ قال له عمر كادت الشمس تطلع يا خليفة رسول الله
فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وعمر رضى الله تعالى عنه قرأ في الفجر سورة يوسف فلما
انتهى إلى قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله خنقته العبرة فركع فلما اختلفت الآثار
اختلفت الروايات فيه كما بينا. ووجه التوفيق أن القوم ان كانوا من علية الرجال يرغبون
في العبادة قرأ مائة آية كما في رواية الحسن وان كانوا كسالى غير راغبين في العبادة يقرأ
أربعين آية كما في الأصل وان كانوا فيما بين ذلك يقرأ خمسين ستين كما في الجامع الصغير
وقيل يبنى على كثرة اشتغال القوم وقلة ذلك ويختلف ذلك باختلاف الأوقات وقيل
يبنى على طول الليالي وقصرها وقيل يبنى على حال نفسه في الخفة والثقل وحسن الصوت
والحاصل أنه يتحرز عما ينفر القوم عنه لكيلا يؤدى إلى تقليل الجماعة ويقرأ في الظهر
بنحو ذلك أو دونه لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حزرنا قراءة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في صلاة الظهر في الركعتين بثلاثين آية قال سجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم في صلاة الظهر فظننا أنه قرأ ألم تنزيل السجدة وعن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله
عليه وسلم قرأ في الجمعة سورة الجمعة والمنافقين والقراءة في الظهر نحو القراءة في الجمعة * قال
(ويقرأ في العصر بعشرين آية مع فاتحة الكتاب) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه وجابر بن
سمرة رضى الله تعالى عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العصر بعشرين آية سورة
سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية وفى العشاء مثل ذلك في رواية الأصل
وفى رواية الحسن مثل قراءته في الظهر وفى المغرب بسورة قصيرة خمس آيات أو ستا مع
فاتحة الكتاب لحديث عمر رضى الله تعالى عنه فإنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضى
الله تعالى عنه أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصل وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل
وفي المغرب بقصار المفصل ومن أصحابنا من تكلف فيه لمعنى قال الفجر يؤدى في حال نوم
الناس فيطول القراءة فيها لكي لا تفوتهم الجماعة وكذلك الظهر في الصيف فان الناس يقيلون
163

وأما العصر يؤدى في حال حاجة الناس إلى الرجوع إلى منازلهم فلتكن القراءة فيها دون
ذلك وكذلك العشاء تؤدى في حال عزم الناس على النوم والمغرب تؤدى في حال عزم الناس
على الأكل فلتكن القراءة فيها أقصر لقلة صبر الناس على الأكل خصوصا للصائمين * قال
(وما قرأ في الوتر من شئ فهو حسن) وقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الركعة
الأولى من الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وفى الثانية بقل يا أيها الكافرون وفى الثالثة بقل هو
الله أحد * والكلام فيه في فصول (أحدها) أن الوتر ثلاث ركعات لا يسلم الا في أخرهن
عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ركعة واحدة وقال مالك رحمه الله تعالى ثلاث ركعات
بتسليمتين واستدل الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام ان الله وتر يحب الوتر فأوتروا
يا أهل القرآن ومالك استدل بحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال النبي صلى الله
عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة يوتر لك ما قبله وكان
سعد بن أبي وقاص رضى الله تعالى عنه يوتر بركعة واحدة (ولنا) حديث عائشة رضى
الله تعالى عنها كما روينا في صفة قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يوتر بثلاث
وبعث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أمه لتراقب وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكرت أنه أوتر بثلاث ركعات قرأ في الأولى سبح اسم ربك الأعلى وفى الثانية قل يا أيها
الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد وقنت قبل الركوع وهكذا ذكر ابن عباس رضى
الله تعالى عنهما حين بات عند خالته ميمونة ليراقب وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولما رأى عمر رضى الله تعالى عنه سعدا يوتر بركعة فقال ما هذه البتيراء لتشفعنها أو لأؤذينك
وإنما قال ذلك لان الوتر اشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء وقال ابن مسعود
رضى الله تعالى عنه والله ما أخرت ركعة قط ولأنه لو جاز الاكتفاء بركعة في شئ من الصلوات
لدخل في الفجر قصر بسبب السفر ولا حجة له فيما روى فان الله تعالى وتر لامن حيث العدد
(والفصل الثاني) أنه يقنت في الوتر في جميع السنة عندنا لما روينا وعند الشافعي رضى الله
تعالى عنه لا يقنت الا في النصف الأخير من رمضان لما روي أن عمر رضى الله تعالى عنه
لما أمر أبي بن كعب بالإمامة في ليالي رمضان أمره بالقنوت في النصف الأخير منه
وتأويله عندنا أن المراد بالقنوت طول القراءة لا القنوت في الوتر (والثالث) أنه يقنت قبل
الركوع عندنا لما روينا من الآثار ولان القنوت في معنى القراءة فان قوله اللهم أنا نستعينك
164

مكتوب في مصحف أبي وابن مسعود في سورتين فالقراءة قبل الركوع فكذلك القنوت
وعند الشافعي رحمه الله تعالى بعد الركوع ولا أثر له في قنوت الوتر في ذلك إنما الأثر في
القنوت في صلاة الفجر فقاس به القنوت في الوتر * قال (ولا قنوت في شئ من الصلوات
سوى الوتر عندنا) وقال الشافعي رحمه الله تعالى يقنت في صلاة الفجر في الركعة الثانية
بعد الركوع واستدل بحديث أنس رضى الله تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت
في صلاة الفجر إلى أن فارق الدنيا وقد صح قنوته فيها فمن قال أنه انتسخ فعليه اثباته بالدليل
وقد صح أن عليا رضى الله تعالى عنه في حروبه كان يقنت على من ناواه في صلاة الفجر
(ولنا) حديث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة
الفجر شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه وهكذا عن أنس رضى الله تعالى عنه
قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر شهرا أو قال أربعين يوما يدعو على
رعل وذكوان ويقول في قنوته اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني
يوسف فلما نزل قوله تعالى ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم الآية ترك ذلك وقال أبو
عثمان النهدي رضى الله تعالى عنه صليت خلف أبي بكر سنين وخلف عمر كذلك فلم أر
واحدا منهما يقنت في صلاة الفجر. ورووا القنوت ورووا تركه كذلك ففعله المتأخر ينسخ
فعله المتقدم وقد صح أنه كان يقنت في صلاة المغرب كما يقنت في صلاة الفجر ثم انتسخ أحدهما
بالاتفاق فكذلك الآخر * قال (وكان يقال مقدرا القيام في القنوت إذا السماء انشقت
وليس فيها دعاء مؤقت) يريد به سوى قوله اللهم انا نستعينك فالصحابة اتفقوا على هذا في
القنوت والأولى أن يأتي بعده بما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضى
الله تعالى عنهما في قنوته اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره والقراءة أهم من القنوت فإذا
لم يؤقت في القراءة في شئ في الصلاة ففي دعاء القنوت أولى. وقد روى عن محمد رحمه الله
تعالى التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب ومشايخنا قالوا مراده في أدعية المناسك فأما
في الصلاة إذا لم يؤقت فربما يجرى على لسانه ما يفسد صلاته * قال ويرفع يديه حين يفتتح
القنوت) للحديث المعروف لا ترفع الأيدي الا في سبعة مواطن في افتتاح الصلاة وقنوت
الوتر وفي العيدين وعند استلام الحجر وعلى الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعند المقامين
وعند الجمرتين (ثم يكفيهما) قيل معناه يرسلهما ليكون حال الدعاء مخالفا لحال القراءة
165

وقيل يضع إحداهما على الأخرى لان القنوت مشبه بالقراءة وهو الأصح فالوضع سنة
القيام فكل قيام فيه ذكر فإنه يطول فالوضع فيه أولى وعن محمد بن الحنيفة رضى الله تعالى
عنه قال الدعاء أربعة دعاء رغبة ودعاء رهبة ودعاء تضرع ودعاء خفية ففي دعاء الرغبة يجعل
بطون كفيه نحو السماء وفى دعاء الرهبة يجعل ظهر كفيه إلى وجهه كالمستغيث من الشئ
وفى دعاء التضرع يعقد الخنصر والبنصر ويحلق بالابهام والوسطى ويشير بالسبابة ودعاء
الخفية ما يفعله المرء في نفسه وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الاملاء يستقبل
بباطن كفيه القبلة عند افتتاح الصلاة واستلام الحجر وقنوت الوتر وتكبيرات العيد
ويستقبل بباطن كفيه السماء عند رفع الأيدي على الصفا والمروة وبعرفات وبجمع وعند
الجمرتين لأنه يدعو في هذه المواقف بدعاء الرغبة. والاختيار الاخفاء في دعاء القنوت
في حق الامام والقوم لقوله صلى الله عليه وسلم خير الدعاء الخفي وعن أبي يوسف رحمه
الله تعالى ان الامام يجهر والقوم يؤمنون على قياس الدعاء خارج الصلاة * قال (وإذا أم
الرجل نساء في مسجد جماعة ليس معهن رجل فلا بأس بذلك) لما روى عن عمر رضى الله
تعالى عنه أنه أمر أبي بن كعب أن يصلى بالرجال في ليالي رمضان وسليمان بن أبي حثمة
بأن يصلى بالنساء ولان المسجد ليس بموضع الخلوة فلا بأس للرجل أن يجمع معهن فيه فأما
في غير المسجد من البيوت ونحوها فإنه يكره ذلك إلا أن يكون معهن ذو رحم محرم منهن
لقوله صلى الله عليه وسلم ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فان ثالثهما الشيطان
وبتفرد النساء يزداد معنى خوف الفتنة فلا تزول الكراهة إلا أن يكون معهن محرم لحديث
أنس رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في بيتهم قال فأقامني واليتيم
من ورائه وأقام أمي أم سليم وراءنا ولان بوجود المحرم يزول معنى خوف الفتنة ويستوى
إن كان المحرم لهن أو لبعضهن وتجوز الصلاة بكل حال لان الكراهة لمعنى في غير الصلاة
* قال (رجل فاتته الصلاة بالجماعة في مسجد حيه فان أتى مسجدا آخر يرجو ادراك
الجماعة فيه فحسن وان صلى في مسجد حيه فحسن) لحديث الحسن قال كانوا إذا فاتتهم الجماعة
فمنهم من يصلى في مسجد حيه ومنهم من يتبع الجماعة ومراده الصحابة ولان في كل جانب
مراعاة جهة وترك أخرى في أحد الجانبين مراعاة حرمة مسجده وترك الجماعة وفى
الجانب الآخر مراعاة فضيلة الجماعة وترك حق مسجده فإذا تعذر الجمع بينهما مال إلى
166

أيهما شاء والأولى في زماننا إن لم يدخل مسجده بعد أن يتبع الجماعة فان دخل مسجده
صلى فيه * قال (ولا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة إذا لم يخف فوات الوقت) وكان
الكرخي رحمه الله تعالى يستدل بهذا اللفظ أن له أن يترك الأربع قبل الظهر إذا فاتته الجماعة
لأنه قال لا بأس بأن يفعل فدل أن له أن يترك وهو الذي وقع عند العوام والمعنى فيه أن من
فاتته الجماعة فهو كالمدد لهم فليعجل أداء الفريضة ليلحق بهم في أن لا يتطوع قبل المكتوبة إذا
لم يخف فوات الوقت والأصح أنه لا ينبغي له أن يدعه لان التطوع مشروع جبرا لنقصان الفرائض
وحاجة من فاتته الجماعة إلى هذا أمس * قال (وإذا أخذ المؤذن في الإقامة كرهت للرجل أن
يتطوع لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة الا ركعتي الفجر
فانى لم أكرههما) وكذلك إذا انتهى إلى المسجد وقد افتتح القوم صلاة الفجر يأتي بركعتي
الفجر ان رجا أن يدرك مع الامام ركعة في الجماعة وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله
تعالى يدخل مع الامام على قياس سائر التطوعات (ولنا) ما روى عن ابن مسعود رضى الله
تعالى عنه أنه دخل المسجد والامام في صلاة الفجر فقام إلى سارية من سواري المسجد وصلى
ركعتي الفجر ثم دخل مع الامام وعن أبي عثمان النهدي قال إني لا ذكر أن أبا بكر كان يفتتح
صلاة الفجر فيدخل الناس ويصلون ركعتي الفجر ثم يدخلون معه وهذا بناء على أن عندنا
لا يقضى هاتين الركعتين بعد الفوات فيحرزهما إذا طمع في ادراك ركعة من الصلاة
كادراك جميع الصلاة قال صلى الله عليه وسلم من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد
أدرك وعند الشافعي رحمه الله تعالى يقضيهما بعد الفراغ من الصلاة فيشتغل باحراز فضيلة
تكبيرة الافتتاح وان خاف فوت الجماعة دخل مع القوم لان أداء الصلاة بالجماعة من سنن
الهدى قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه عليكم بالجماعات فإنها من سنن الهدى ولو صليتم
في بيوتكم كما فعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم (وقال) عمر
رضى الله تعالى عنه لقد هممت أن آمر من يصلى بالناس ثم أنظر إلى من لم يشهد الجماعة
فأمر فتياني أن يحرقوا بيوتهم فدل أن الجماعة أقوى السنن فيشتغل باحراز فضيلتها ولم يذكر
إذا كان يرجو ادراك التشهد وقيل على قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله أدرك التشهد
كادراك ركعة كما في صلاة الجمعة فيبدأ بركعتي الفجر وعند محمد رحمه الله تعالى لا يعتبر
ادراك التشهد كادراك ركعة فيدخل مع الامام * قال (رجل سلم على تمام من صلاته في نفسه
167

ثم اقتدى به رجل وكبر ثم ذكر الامام أن عليه سجدة التلاوة أو أنه لم يقرأ التشهد في
الرابعة فاقتداء الرجل به صحيح لان سلام الامام سهو وسلام السهو لا يخرجه من الصلاة
فحصل الاقتداء في حال بقاء تحريمة الامام فان عاد الامام إلى سجدة التلاوة أو قرأ قراءة
التشهد تابعه الرجل ثم يقوم لاتمام صلاته بعد فراغ الامام من التشهد أو من سجود السهو وإن لم
يعد الامام إليها لم تفسد صلاته لان ما تذكر ليس من الأركان وكذلك لا تفسد صلاة
المقتدى فيقوم لاتمام صلاته وان ذكر الامام أن عليه سجود السهو فعلى قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهم الله تعالى اقتداء الرجل به موقوف فان عاد الامام إلى سجود السهو صح
الاقتداء وتابعه الرجل وإن لم يعد لا يصح اقتداؤه به وعند محمد وزفر رحمهم الله تعالى الاقتداء
صحيح على كل حال وقال بشر لا يصح الاقتداء على كل حال لان مذهبه أن سجود السهو
ليس من الصلاة فإنه يؤدى بعد السلام وعندنا سجود السهو من الصلاة لأنه جبر لنقصانها
ثم عند محمد وزفر رحمهما الله تعالى من سلم وعليه سجود السهو لا يصير خارجا من الصلاة
لأنه قد بقي عليه واجب من واجبات الصلاة فهو كسجدة التلاوة وقراءة التشهد ولو خرج
من الصلاة لم يعد فيها الا بتحريمة جديدة فإذا لم يخرج صح اقتداء الرجل به على كل حال وعند
أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله بالسلام يخرج من الصلاة لان السلام محلل قال صلى
الله عليه وسلم وتحليلها التسليم وقد أتى به في موضعه مع العلم بحاله فيعمل عمله في التحليل
إلا أنه إذا عاد يعود إلى حرمة الصلاة ضرورة ولا تتحقق تلك الضرورة قبل عوده فيخرج
بالسلام من الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ثم يعود إليها بالعود إلى سجود السهو
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يتوقف حكم خروجه من الصلاة فلهذا كان الاقتداء به
موقوفا * وينبنى على هذا الأصل أربع مسائل (إحداها) ما بينا (والثانية) إذا نوى المسافر
الإقامة بعد ما سلم وعليه سجود السهو فعند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى
لا يتعين فرضه ويسقط عنه سجود السهو وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يتعين فرضه
فيقوم لا تمام صلاته (والثالثة) إذا ضحك قهقهة في هذه الحالة لم يلزمه الوضوء في قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى يلزمه الوضوء لصلاة أخرى
(والرابعة) إذا اقتدى به رجل بنية التطوع ثم تكلم قبل عود الامام إلى سجود السهو فليس
عليه قضاء شئ عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وان عاد الامام إلى سجود
168

السهو بعد ذلك وعند محمد رحمه الله تعالى عليه قضاء التطوع لان اقتداءه به حصل في حال
بقاء الحرمة فصار شارعا في التطوع ثم مفسدا فعليه القضاء والله سبحانه وتعالى أعلم
* (باب الحدث في الصلاة) *
(مصل سبقه الحدث في الصلاة من بول أو غائط أو ريح أو رعاف بغير قصده
انصرف فتوضأ وبنى على صلاته ما لم يتكلم استحسانا وان تكلم واستقبل فهو أفضل)
وفي القياس عليه استقبال الصلاة بعد الوضوء وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى وكان
مالك رحمه الله تعالى يقول يبنى ثم رجع عنه فعابه محمد رحمه الله تعالى في كتاب الحجج
برجوعه من الآثار إلى القياس. وجه القياس أن الطهارة شرط بقاء الصلاة كما هو شرط
ابتدائها فكما لا يتحقق شروعه في الصلاة بدون هذا الشرط فكذلك بقاؤها ولان
الحدث مناف للصلاة قال صلى الله عليه وسلم لا صلاة الا بطهور ولا بقاء للعبادة مع
وجود ما ينافيها. وجه قولنا حديث عائشة رضى الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن علي ما مضى
من صلاته ما لم يتكلم وان أبا بكر رضى الله تعالى عنه سبقه الحدث في الصلاة فتوضأ
وبنى وعمر رضى الله تعالى عنه سبقه الحدث فاستخلف وتوضأ وبنى على صلاته وعلى رضى
الله تعالى عنه كان يصلى خلف عثمان فرعف فانصرف وتوضأ وبني على صلاته وهو مروى
عن ابن مسعود وابن عباس رضى الله تعالى عنهم والقياس يترك بالآثار. ثم الذي سبقه
الحدث اما أن يكون منفردا واما أن يكون مقتديا أو أماما فأما المنفرد يذهب فيتوضأ
ثم يتخير بين اتمام بقية الصلاة في بيته وبين الرجوع إلى مصلاه ليكون مؤديا جميع الصلاة
في مكان واحد وهو أفضل وان أتم في بيته فلم يوجد منه الا ترك المشي في الصلاة وذلك
لا يضره وأما المقتدي إذا فرغ من الوضوء فإن لم يفرغ امامه من الصلاة فعليه أن يعود
ولو أتم بقية صلاته في بيته لا يجزئه لان بينه وبين امامه ما يمنع صحة الاقتداء وإن كان
قد فرغ امامه يخير هو كما بينا وإن كان اماما تأخر وقدم رجلا ممن خلفه يصلى بالقوم والشافعي
رحمه الله تعالى في هذا يوافقنا فان على أصله بحدث الامام لا تفسد صلاة القوم لأنه لو ظهر
أنه كان محدثا جاز صلاة القوم فيستخلف لهم ثم يتوضأ ويستقبل وعندنا يستخلف لأنه عجز
169

عن اتمام ما ضمن لهم الوفاء به فيستعين بمن قدر عليه والدليل على جواز هذا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر رضى الله تعالى عنه أن يصلى بالناس وجد في نفسه
خفة فخرج يهادى بين اثنين بعدما افتتح أبو بكر الصلاة فلما سمع أبو بكر حس رسول الله
صلى الله عليه وسلم تأخر وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما تأخر لأنه عجز عن المضي
لقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله فصار هذا أصلا في حق كل امام عجز عن
الاتمام أنه يتأخر ويستخلف ثم يتوضأ ويبنى على صلاته ما لم يتكلم فان تكلم واستقبل
فهو أفضل ليكون أبعد عن شبهة الاختلاف وأقرب إلى الاحتياط فإن كان حين يرجع إلى
أهله بال واستمشى لم يبن علي صلاته لان هذا حدث عمد فهو بمنزلة الكلام أو فوقه في
افساد الصلاة وجواز البناء كان بالآثار في الحدث الذي يسبقه فلا يقاس من يتعمد الحدث
لان فيما يسبقه بلوى وضرورة بخلاف ما يتعمده ولهذا لو ابتلى بالجنابة في خلال الصلاة
لم يبن بعد الاغتسال لأنه مما لا تعم به البلوى * قال (فان تكلم في صلاته ناسيا أو عامدا مخطئا
أو قاصدا استقبل الصلاة) وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا كان ناسيا أو مخطئا لا يستقبل
الا إذا طال كلامه واحتج بقوله تعالى ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به وبقوله صلى الله
عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه واعتماده على حديث أبي
هريرة رضى الله تعالى عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم احدى صلاتي العشى
اما الظهر واما العصر فسلم على رأس ركعتين فقام رجل يقال له ذو اليدين فقال أقصرت
الصلاة أم نسيتها فقال كل ذلك لم يكن فقال بعض ذلك قد كان فنظر إلى أبي بكر وعمر رضى
الله تعالى عنهما وقال أحق ما يقول ذو اليدين فقالا نعم فأتم صلاته وسجد للسهو فقد تكلم
ناسيا ثم بنى على صلاته وقاس الكلام بالسلام لان كل واحد منهما قاطع ثم في السلام
فصل بين العمد والنسيان فكذلك الكلام بخلاف الحدث فإنه مناف للصلاة لأنه ينعدم به
شرطها فسوينا بين النسيان والعمد لهذا * ولنا ما روينا وليبن علي صلاته ما لم يتكلم فدل
أن بعد الكلام لا يجوز البناء قط وفي حديث أبن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قدم من
الحبشة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسلم عليه فلم يرد عليه السلام
قال فأخذني ما قرب وما بعد فلما فرغ قال يا ابن مسعود ان الله تعالى يحدث من أمره
ما يشاء وان مما أحدث أن لا يتكلم في الصلاة وفي حديث معاوية بن الحكم رضى الله
170

تعالى عنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس بعض القوم فقلت يرحمك
الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه مالي أراكم تنظرون إلى شزرا فضربوا بأيديهم
على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما رأيت معلما
أحسن تعليما منه صلى الله عليه وسلم ما نهرني ولا زجرني ولكن قال إن صلاتنا هذه
لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي للتسبيح والتهليل وقراءة القرآن وما لا يصلح
للصلاة فمباشرته مفسدة للصلاة ألا ترى أن الا كل والشرب مبطل للصلاة ناسيا أو
عامدا لهذا والخروج في الاعتكاف كذلك والجماع في الاحرام كذلك ولهذا لو طال
الكلام كان مفسدا ولو كان النسيان فيه عذرا لاستوى فيه أن يطول أو يقصر كالأكل
في الصوم. والقياس في السلام أنه مفسد وإن كان ناسيا ولكن استحسنا ما فيه لمعنى
لا يوجد ذلك في الكلام وهو أن السلام من جنس أركان الصلاة فان المتشهد يسلم
على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عباد الله الصالحين وهو اسم من أسماء الله تعالى وإنما
أخذ حكم الكلام لكاف الخطاب وإنما يتحقق معنى الخطاب فيه عند القصد وإذا كان
ناسيا شبهناه بالأذكار وإذا كان عالما شبهناه بالكلام فأما الكلام فهو ليس من أذكار
الصلاة فكان منافيا للصلاة على كل حال والخطأ والنسيان عذر في رفع الإصر وعليه
تحمل الآية والخبر فأما حديث ذي اليدين فقد كان في وقت كان الكلام فيه مباحا في
الصلاة ثم انتسخ الكلام في الصلاة ألا ترى أن ذا اليدين كان عامدا بالكلام
وكذلك أبو بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما ولم يأمرهم بالاستقبال (فان قيل)
كيف يستقيم هذا واسلام أبي هريرة رضى الله تعالى عنه بعد فتح خيبر وقد قال
صلى بنا وحرمة الكلام في الصلاة كانت ثابتة حين جاء من الحبشة وذلك في أول
الهجرة (قلنا) معنى قوله بنا بأصحابنا ولا وجه للحديث الا هذا لان ذا اليدين قتل ببدر
واسمه مشهور في شهداء بدر وذلك قبل خيبر بزمان طويل * قال (وان قهقه في صلاة
استقبل الصلاة والوضوء عندنا ناسيا كان أو عامدا) لان القهقهة أفحش من الكلام عند
المناجاة ولهذا جعلت ناقضة للوضوء ثم سوى بين النسيان والعمد وفى القهقهة أولى والبناء
لأجل البلوى وذلك لا يتحقق في القهقهة وان قهقه بعد ما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم
لم تفسد صلاته كما لو تكلم في هذه الحالة لأنه لم يبق عليه شئ من أركان الصلاة ولكن
171

يلزمه الوضوء لصلاة أخرى عندنا ولا يلزمه عند زفر رحمه الله تعالى قال القهقهة عرفناها
حدثا بالنص بخلاف القياس والنص ورد بإعادة الصلاة والوضوء بالقهقهة فكل قهقهة
توجب إعادة الصلاة توجب الوضوء وما لا يجب إعادة الصلاة لا يوجب الوضوء لأنه
ليس في معنى المنصوص من كل وجه (ولنا) أن الضحك صادف حرمة الصلاة لبقائها
ما لم يسلم حتى لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحالة لزمه الاتمام وبالنص صار الضحك
حدثا لمصادفته حرمة الصلاة فان الجناية تفحش بالقهقهة في حالة المناجاة وذلك باق ببقاء
التحريمة فألزمناه الوضوء لهذا فأما إعادة الصلاة فلبقاء البناء عليه وعجزه عنه بالقهقهة
لفساد ذلك الجزء ولم يبق عليه البناء هنا فلم تلزمه الإعادة لهذا وكذلك لو قهقه في
سجدتي السهو لان العود إليهما يرفع السلام دون القعدة فكأنه قهقه بعد القعدة قبل
السلام الا في رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن العود إلى سجود السهو يرفع
القعدة كالعود إلى سجدة التلاوة فعلى تلك الرواية تلزمه إعادة الصلاة * قال (وان قهقهه
الامام والقوم جميعا فإن كان الامام سبق بها فعليه إعادة الوضوء وليس ذلك على القوم)
لأنهم صاروا خارجين من الصلاة بخروج الامام منها فضحكهم لم يصادف حرمة الصلاة
(وان قهقه القوم أولا ثم الامام فعلى الكل إعادة الوضوء) لان قهقهة القوم صادفت حرمة
الصلاة وكذلك قهقهة الامام لأنه لا يصير خارجا منها بخروج القوم وان ضحكوا معا
فكذلك لان ضحك القوم لما اقترن بضحك الامام كان مصادفا حرمة الصلاة في حقهم
فان خروجهم من حكم خروج الامام فيعقبه ولا يقترن به * قال (امام أحدث فقدم
رجلا قد فاتته ركعة فعليه أن يصلى بهم بقية صلاة الامام) والأولى للامام أن يقدم
مدركا لا مسبوقا لان المدرك أقدر على اتمام صلاته من المسبوق وقال صلى الله عليه
وسلم من قلد انسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين
ولكن مع هذا المسبوق شريكه في التحريمة وصحة الاستخلاف بوجود المشاركة في التحريمة
والحاجة إلى اصلاح صلاته فجاز تقديمه وقام مقام الأول فيتم ما بقي على الأول فإذا انتهى
إلى موضع السلام تأخر وقدم رجلا من المدركين ليسلم بهم لأنه عاجز عن السلام لبقاء
ركعة عليه فيستعين بمن يقدر عليه فان اتمامه بعد سلام الامام فلهذا قدم مدركا ليسلم بهم ثم
يقوم فيقضى ما بقي عليه من صلاته * قال (فان توضأ الأول وصلى في بيته ما بقي من صلاته
172

فإن كان صلى بعد فراغ الإمام الثاني من بقية صلاته فصلاته تامة) لان الإمامة تحولت
إلى الثاني وصار الأول كواحد من المقتدين به وقد بينا أن المقتدى إذا أتم بقية صلاته في
بيته بعد فراغ الامام جاز ولو صلى قبل أن يفرغ الإمام الثاني فصلاته فاسدة كغيره من
المقتدين إذا سبقه الحدث * قال (فان قعد الإمام الثاني في الرابعة قدر التشهد ثم قهقه فعليه
إعادة الوضوء والصلاة) لأنه قد بقي عليه ركعة فضحكه حصل في خلال الصلاة في
حقه وصلاة القوم تامة لأنه لم يبق عليهم البناء وروى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه قال صلاة القوم فاسدة لفساد ما مضى ولو ضحكوا بأنفسهم في هذه الحالة كانت صلاتهم
تامة فضحك الامام في حقهم لا يكون أكثر تأثيرا من ضحكهم فأما الامام الأول
فإن كان قد فرغ من صلاته خلف الإمام الثاني مع القوم فصلاته تامة كغيره من المدركين
وإن كان في بيته لم يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة فصلاته فاسدة وفى رواية أبى
حفص رحمه الله تعالى قال صلاته تامة. وجه هذه الرواية أنه مدرك لأول صلاته فيكون
كالفارغ بقعدة الامام قدر التشهد والرواية الأولى أصح وأشبه بالصواب لأنه قد بقي عليه
البناء وضحك الامام في حقه في المنع من البناء كضحكه ولو ضحك هو في هذه الحالة فسدت
صلاته فكذلك ضحك الامام في حقه ورواية أبى حفص رحمه الله تعالى كأنه غلط وقع
من الكاتب لأنه اشتغل بتقسيم ثم أجاب في الفصلين بأن صلاته تامة وظاهر هذا التقسيم
يستدعى المخالفة في الجواب * قال (رجل سلم في الركعتين من الظهر ناسيا ثم ذكر فظن أن
ذلك يقطع الصلاة فاستقبل التكبير ينوى به الدخول في الظهر ثانية وهو امام قوم وكبروا
معه ينوون معه ذلك فهم على صلاتهم الأولى يصلون ما بقي منها ويسجدون للسهو) لما بينا أن
سلام الامام لا يقطع التحريمة فهم في صلاتهم بعد قد نووا ايجاد الموجود وذلك لغو. بقي مجرد
التكبير وهو لا يقطع الصلاة بخلاف من كان في الظهر فنوى العصر وكبر لأنه نوى ايجاد
ما ليس بموجود فصار خارجا من الأولى داخلا في الثانية فان صلوا العصر أربع ركعات
هكذا فان قعدوا في الثانية جازت صلاتهم وما زادوا من الركعتين نافلة لهم فإن لم يقعدوا في
الثانية فسدت صلاتهم لاشتغالهم بالنفل قبل اكمال الفرض حتى لو سلم ساهيا بعد ثلاث
ركعات فجدد التكبير وصلى أربع ركعات لا تجزئه صلاته لأنه لم يقعد بعد الركعة الرابعة
حتى صلى ركعة أخرى وذلك مفسد لفرضه * قال (رجل صلى ركعة ثم جاء قوم فاقتدوا به
173

فلما فرغ من صلاته وقعد قدر التشهد قهقه أو أحدث متعمدا فصلاته تامة) لأنه لم يقعد بعد
الركعة الرابعة حتى صلى ركعة أخرى وذلك مفسد للصلاة لأنه لم يبق عليه البناء وصلاة القوم
فاسدة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تفسد
لأنه لا سبب لافساد صلاتهم فان الضحك والحدث لم يوجدا منهم فلو فسدت صلاتهم
إنما تفسد بفساد صلاة الامام ولم تفسد صلاة الامام هنا فهو قياس ضحكه بعد السلام ولان
الامام لما قعد قدر التشهد فقد صار المسبوق في حكم المنفرد يقوم لاتمام صلاته ألا ترى أن
سلام الامام وكلامه لا يؤثر في حقه ولا يمنعه من البناء فكذلك ضحك الامام وحدثه وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى قال ما لم يسلم الامام فالمسبوق مقتد به ألا ترى أنه لو نوى الإمامة أثر
ذلك في حق المسبوق وانه ممنوع من القيام حتى يسلم الامام والضحك والحدث إذا لاقى جزأ
من الصلاة كان مفسدا لذلك الجزء وبفساد ذلك الجزء من صلاة الامام يفسد مثله من
صلاة المقتدى إلا أن الامام لم يبق عليه البناء بفساد ذلك الجزء ولا يضره والمسبوق قد بقي
عليه البناء ففساد ذلك الجزء يمنعه من بناء ما بقي عليه فيلزمه الاستقبال ألا ترى أنه لو ضحك
بنفسه أو أحدث في هذه الحالة لزمه الاستقبال فكذلك فعل الامام في حقه بخلاف السلام
والكلام فالسلام منه للصلاة والكلام قاطع لا مفسد لأنه لا يفوت به شرط الصلاة
وهو الطهارة فلم يؤثر ذلك في حق المسبوق فأما الضحك والحدث مفسد لا قاطع لأنه
يفوت به شرط الصلاة وهو الطهارة ولهذا قيل لو تكلم الامام بعد ما قعد قدر التشهد فعلى
القوم أن يسلموا ولو أحدث الامام متعمدا أو قهقه لم يسلم القوم وخروج الامام من المسجد
في كونه قاطعا لكلامه فلا يفسد صلاة المسبوقين * قال (وإذا افتتح الرجل صلاة المكتوبة
في المسجد وحده ثم أقيم له فيها ففي ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء إن كان صلى ركعة
أضاف إليها أخرى وقعد وسلم ثم دخل مع الامام) لأنه لو قطعها كذلك كان مبطلا عمله
فان الركعة الواحدة لا تكون صلاة فيضيف إليها ركعة أخرى ليصير شفعا ثم يسلم فيدخل
مع الامام لاحراز فضيلة الجماعة فان النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل في الجماعة
تزيد على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة (فان قيل) كيف يقطع فرضة بعد الشروع فيها
(قلنا) لا يقطعها رافضا لها وإنما يقطعها ليعيدها على أكمل الوجوه وذلك جائز كما يقطع
الظهر إذا أقيمت الجمعة وكذلك أن قام إلى الثالثة ولم يقيدها بالسجدة عاد فقعد وسلم لكيلا
174

تفوته فضيلة الجماعة ولا يسلم كما هو قائما لان ما أتى به من القعدة كان سنة وقعدة الختم فرض
فعليه أن يعود إلى القعدة ثم يسلم ليكون متنفلا بركعتين فان قيد الثالثة بالسجدة مضى في
صلاته لأنه أتى بأكثرها وللأكثر حكم الكمال فإذا فرغ منها دخل مع الامام في الظهر
والعشاء بنية النفل لان التنفل بعدهما جائز ولو خرج من المسجد ربما توهم أنه ممن لا يرى
الجماعة فلهذا دخل معه فأما في العصر لا يدخل لان التنفل بعده مكروه كما بينا. وعند
الشافعي رضى الله تعالى عنه يدخل بناء على أصله في الصلاة التي لها سبب فإذا لم يدخل معه
خرج من المسجد لان في المكث تطول مخالفته للامام وفي الخروج إنما يظهر مخالفته
في لحظة فهو أولى ولم يذكر في الكتاب أنه إذا كان في الركعة الأولى ولم يقيدها بالسجدة
كيف يصنع والصحيح أنه يقطعها ليدخل مع الامام فيحرز به ثواب تكبيرة الافتتاح
لان ما دون الركعة ليس لها حكم الصلاة حتى أن من حلف أن لا يصلى لا يحنث على
ما دون الركعة ألا ترى أنه من الركعة الثالثة يعود إذا لم يقيدها بالسجدة فكذلك في
الركعة الأولى يقطعها ليدخل مع الامام (فأما في الفجر فإن كان صلى ركعة قطعها) لأنه لو
أدى ركعة أخري ثم فرضه وفاتته الجماعة فالأولى أن يقطعها ليعيدها على أكمل الوجوه
(وإن كان قيد الركعة الثانية بسجدة أتمها) لأنه أدى أكثرها ثم إنه لا يدخل مع الامام
لأنه يكون متنفلا بعد الفجر وذلك مكروه والذي روى من حال الرجلين حين صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف صلاة الفجر كما روينا فقد ذكر
أبو يوسف رحمه الله تعالى في الاملاء أن تلك الحادثة كانت في صلاة الظهر ولئن كانت في
صلاة الفجر فقد كان في وقت لم ينههم عن صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ثم
انتسخ بالنهي (وأما المغرب فان صلى ركعة قطعها) لأنه لو أضاف إليها ركعة أخرى كان مؤديا
أكثر الصلاة فلا يمكنه القطع بعد ذلك ولو قطع كان متنفلا بركعتين قبل المغرب وذلك منهى
عنه فلهذا قطع صلاته ليعيدها على أكمل الوجوه وإن كان قيد الركعة الثانية بسجدة أتم صلاته
لأنه قد أدى أكثرها ثم لا يدخل مع الامام وذلك مروي عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما
وإنما لا يدخل لا لان التنفل بعد المغرب منهى عنه ولكن لأنه لو دخل معه فأما أن يسلم
معه فيكون متنفلا بثلاث ركعات وهو غير مشروع أو يضيف إليها ركعة أخرى فيكون
175

مخالفا لامامه فلهذا لا يدخل معه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يدخل معه فإذا
فرغ الامام قام فصلى ركعة أخرى ليصير شفعا له ولا يبعد أن يقوم لاتمامه بعد فراغ الامام
كالمسبوق وهو بالشروع قد التزم ثلاث ركعات فكأنه التزمها بالنذر فيلزمه أربع وعندنا ان
دخل فعل كما قال أبو يوسف رحمه الله تعالى وقال بشر المريسي يسلم مع الامام لان هذا
التغير كان بحكم الاقتداء وذلك جائز كالمسبوق يدرك الامام في القعدة يقعد معه وابتداء
الصلاة لا يكون بالقعدة وجاز ذلك بحكم الاقتداء فهذا مثله * قال (وإذا صلى الظهر في بيته
يوم الجمعة ثم صلى الجمعة مع الامام فالجمعة فرضه ويصير الظهر تطوعا له) لان بأداء الظهر
ما سقط عنه الخطاب بالسعي إلى الجمعة فكان في أدائها مفترضا ولا يجتمع فرضان في
وقت واحد فمن ضرورة كون الجمعة فرضا له أن ينقلب ما قبله تطوعا وهذا بخلاف ما إذا
صلى الظهر في بيته يوم الخميس ثم أدركها بالجماعة فصلاها فالأولى فرض والثانية تطوع بعد
أداء الفرض هو غير مخاطب بشهود الجماعة في تلك الصلاة فان شهدها كان متنفلا. يوضح
الفرق ان الجمعة أقوى من الظهر لأنها تستدعى من الشرائط مالا يستدعيه الظهر والضعيف
لا يظهر في مقابلة القوى وإذا ظهر القوى بأدائه لا سقاط فرض الوقت به سقط اعتبار
الضعيف وكان تطوعا فأما الظهر المؤدى في الجماعة في حكم القوة كالمؤدى في بيته فان
أحدهما يستدعى شرطا لا يستدعيه الآخر فإذا استويا ترجح السابق منهما لا سقاط فرض
الوقت به فكانت الثانية نفلا * قال (وإذا أحدث الامام فلم يقدم أحدا حتى خرج من
المسجد فان صلاة القوم فاسدة) لأنهم مقتدون فيها ولم يبق لهم امام في مكانه وهو في المسجد
ولم يبين في الكتاب حال الامام وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن صلاته تفسد أيضا لان
بعد سبق الحدث كان الاستخلاف ليصير هو في حكم المقتدى به كغيره فبترك الاستخلاف لما
فسدت صلاة القوم فلان تفسد صلاته كان أولى وذكر أبو عصمة رحمه الله تعالى أن صلاته
لا تفسد لأنه في حق نفسه كالمنفرد فلا تفسد صلاته بالخروج من المسجد بعد سبق الحدث
فعلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى فساد صلاة القوم بطريق القياس على فساد صلاة
امامهم وعلى ما ذكره أبو عصمة وهو الأصح فساد صلاة القوم استحسان فكان ينبغي
في القياس أن لا تفسد فان بعد حدث الامام بقوا مقتدين به حتى لو وجد الماء في المسجد
176

فتوضأ وعاد إلى مكانه وأتم بهم الصلاة أجزأهم فكذلك بعد خروجه ولكنه استحسن
وأراه قبيحا أن يكون القوم في الصلاة في مسجد وامامهم في أهله فأما ما دام في المسجد
فكأنه في المحراب لان المسجد في كونه مكان الصلاة كبقعة واحدة فليس بينه وبينهم
ما ينافي الاقتداء فأما بعد خروجه فقد صار بينه وبينهم ما ينافي الاقتداء فلهذا فسدت
صلاتهم * قال (فان قدموا رجلا قبل خروج الامام من المسجد فصلاته وصلاتهم تامة) لان
تقديم القوم إياه كاستخلاف الامام الأول ألا ترى أن في الإمامة العظمى لا فرق بين
اجتماع الناس على رجل وبين استخلاف الامام الأعظم. وهذا لان الامام في الاستخلاف
ينظر لهم في اصلاح صلاتهم فيكون لهم أن ينظروا إلى أنفسهم أيضا فان قدم كل فريق من
القوم رجلا فسدت صلاتهم لأنها افتتحت بامام واحد فلا يجوز اتمامها بإمامين ولو جاز ذلك
لجاز بأكثر من اثنين فينوي كل واحد أن يؤم نفسه وهذا إذا استوى الفريقان في العدد
لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فأما إذا اقتدى جماعة من القوم بأحد الامامين الا
رجلا أو رجلين اقتديا بالثاني فصلاة من اقتدى به الجماعة صحيحة وصلاة الآخرين فاسدة
لقوله صلى الله عليه وسلم يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار وقال عمر رضى الله تعالى
عنه في الشورى ان اتفقوا على شئ وخالفهم واحد فاقتلوه فأما إذا اقتدى بكل امام جماعة
وأحد الفريقين أكثر عددا من الآخر فقد قال بعض مشايخنا صلاة الأكثرين جائزة
ويتعين الفساد في الآخرين كما في الواحد والمثنى والأصح أن تفسد صلاة الفريقين لان
كل واحد منهما جمع تام يتم به نصاب الجمعة فيكون الأقل مساويا للأكثر حكما كالمدعيين
يقيم أحدهما شاهدين والآخر عشرة من الشهود وكذلك إن كان الامام هو الذي قدم
رجلين فهذا وتقديم القوم إياهما سواء وان وصل أحدهما إلى موضع الإمامة قبل الآخر
تعين للإمامة وجاز صلاته وصلاة من اقتدى به لان الاستخلاف كان للضرورة وقد
ارتفعت بوصوله إلى موضع الإمامة فاستخلاف الآخر وجوده كعدمه * قال (وان أحدث
الامام ولم يكن خلفه الا رجل واحد صار هو اماما قدمه الامام أو لم يقدمه نوى هو الإمامة
أولم ينو) لأنه تعين للاستخلاف فان صلاحيته للاستخلاف بكونه شريك الامام في
الصلاة ولا مزاحم له والحاجة في هذا إلى الاستخلاف أو النية للتمييز وذلك عند المزاحمة لا عند
التعين فإذا توضأ الامام رجع ودخل مع هذا في صلاته لان الإمامة تحولت إليه وإن لم
177

يرجع الإمام حتى أحدث هذا فخرج من المسجد فسدت صلاة الامام الأول لأنه في حكم
المقتدى به ولم يبق له امام في المسجد وإن لم يخرج حتى رجع الأول ثم خرج الثاني فقد
صار الامام هو الأول لأنه متعين لاصلاح الصلاة وان جاء ثالث واقتدى بالثاني ثم سبقه
الحدث فخرج من المسجد تحولت الإمامة إلى الثالث لكونه متعينا فان أحدث فخرج من
المسجد قبل رجوع أحد الأولين فسدت صلاتهما لأنه لم يبق لهما امام في المسجد وإن كان
قد رجع أحد الأولين قبل خروج الثالث تحولت الإمامة إليه بخروج الثالث فإن كانا رجعا
جميعا فان استخلف الثالث أحدهما صار هو الامام وإن لم يستخلف حتى خرج فسدت
صلاتهما لأنه ليس أحدهما بأولى بالإمامة من الآخر * وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما
الله تعالى إذا أحدث وليس معه الأرجل واحد فوجد الماء في المسجد فتوضأ قال يتم صلاته
مقتديا بالثاني لأنه متعين للإمامة فبنفس انصرافه تتحول الإمامة إليه وإن كان معه جماعة
فتوضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة وصلى بهم لان الإمامة لم تتحول منه إلى غيره في
هذه الحالة الا بالاستخلاف ولم يوجد * قال (امام أحدث فانفتل وقدم رجلا جاء ساعتئذ
فإن كان كبر قبل الحدث من الامام صح استخلافه) لأنه شريك الامام في الصلاة وإن لم يكن
كبر فلما استخلفه كبر ينوى الاقتداء به صح الاستخلاف أيضا الا على قول بشر فإنه
يقول لا يصح اقتداؤه بالامام لان حدث الامام في حق المقتدي كحدثه بنفسه وكونه
محدثا يمنع الشروع في الصلاة ابتداء فيمنع من الاقتداء به أيضا فان بقاء الاقتداء بعد الحدث
عرفناه بالسنة والابتداء ليس في معنى البقاء ولكنا نقول التحريمة في حق الامام باقية حتى
إذا عاد بنى على صلاته وكذلك صفة الإمامة له ما لم يخرج من المسجد حتى لو توضأ في المسجد
وعاد إلى مكان الإمامة جاز فاقتداء الغير به صحيح في هذه الحالة وإذا صح الاقتداء جاز
استخلافه وإن كان حين كبر نوى أن يصلى بهم صلاة مستقبلة ولم ينو الاقتداء بالأول
فصلاته تامة لأنه افتتحها منفردا بها وقد أداها وصلاة القوم فاسدة لأنهم كانوا مقتدين بالأول
فلا يمكنهم اتمامها مقتدين بالثاني فان الصلاة الواحدة لا تؤدى بإمامين بخلاف خليفة الأول
فإنه قائم مقامه فكأنه هو بعينه فكان الامام واحدا معنى وإن كان مثنى في الصورة وهنا
الثاني ليس بخليفة الأول فإنه لم يقيد به قط فتحقق أداء الصلاة الواحدة خلف امامين
صورة ومعنى فلهذا لا يجزئهم * قال (امام أحدث وهو مسافر وخلفه مقيمون ومسافرون
178

فقدم مقيما صح ذلك) لان المقيم شريكه في هذه الصلاة ولا يتغير به فرض المسافرين بخلاف
ما لو نوى الأول الإقامة لأنهم لما قصدوا الاقتداء بالأول فقد ألزموا أنفسهم حكم الاقتداء
وما قصدوا الاقتداء بالثاني إنما لزمهم الاقتداء لضرورة الحاجة إلى اصلاح صلاتهم والثابت
بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة وعلى هذا قلنا لو قدم مسافرا فنوى الثاني الإقامة لا يتغير
فرض المسافرين ثم على الثاني أن يتم بهم صلاة المسافرين لأنه خليفة الأول فيأتي بما كان على
الأول فإذا قعد قدر التشهد قدم مسافرا ليسلم بهم لأنه عاجز عن التسليم بنفسه لبقاء البناء
عليه ثم يقوم هو مع المقيمين فيتمون صلاتهم وحدانا هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين صلى بعرفات أتموا يا أهل مكة صلاتكم فانا قوم سفر فان اقتدوا فيما يقضون فسدت
صلاتهم لان الاقتداء في موضع يحق فيه الانفراد كالانفراد في موضع يحق فيه الاقتداء لما
بينهما من المخالفة في الحكم وان مضى الإمام الثاني في صلاته حتى أتمها صلاة الإقامة والقوم
معه فان قعد في الثانية قدر التشهد فصلاته وصلاة المسافرين تامة لأنه في حق نفسه منفرد
لا تتعلق صلاته بصلاة غيره والمسافرون إنما اشتغلوا بالنفل بعد اكمال الفرض فلا يضرهم
فأما صلاة المقيمين فاسدة لان عليهم الانفراد في الأخريين فإذا اقتدوا به فسدت صلاتهم
فإن لم يقعد الثاني في الركعتين فسدت صلاته وصلاة القوم كلهم لأنه خليفة الأول فيفترض
عليه ما على الأول والأول لو ترك القعدة الأولى فسدت صلاته وصلاة القوم فكذلك
الثاني إذا تركها فتفسد به صلاة الامام الأول أيضا لأنه كغيره من المقتدين به * قال (امام
افتتح الصلاة فركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه فقرأ وركع وسجد وأدرك معه رجل هذا
الركوع الثاني فهو مدرك للركعة) لان الركوع الأول انتقض بالثاني فان الأول سبق أوانه
لان أوان الركوع بعد القراءة فما سبقه كان منتقضا والركوع الثاني حصل في أوانه فهو
المعتد به وقد أدركه الرجل وإن كان قرأ قبل الركوع الأول فالركوع هو الأول ومن
أدرك الركوع الثاني لا يصير به مدركا للركعة لان الأول حصل في أوانه فهو المعتد به
والثاني وقع مكررا ولا تكرار في الركوع في ركعة واحدة فالمنتقض ما وقع مكررا وذكر
في باب السهو في نوادر أبى سليمان أن المعتبر هو الركوع الثاني ومدركه مدرك للركعة ووجهه
أن اعتبار الركوع باتصال السجود به وإنما اتصل السجود بالركوع الثاني دون الأول فكان
المنتقض هو الأول والأصح ما ذكر في كتاب الصلاة أن الفرض بالركوع الأول صار
179

مؤدى فيقف ينتظر السجود فيجعل السجود متصلا به حكما وكذلك أن كان الامام
أحدث حين فرغ من الركوع واستخلف رجلا فان الخليفة يعتد بذلك الركوع إن كان
الامام قرأ قبله وإن لم يكن قرأ قبله لم يعتد به لأنه قائم مقام الأول فحاله في هذا كحال
الأول * قال (امام أحدث فقدم رجلا على غير وضوء فصلاته وصلاة القوم فاسدة) لان
المحدث لا يصلح للاستخلاف فاشتغاله باستخلاف من لا يصلح خليفة له أعراض منه عن
صلاته فتفسد صلاته وصلاة القوم وهذا عندنا فان حدث الامام إذا تبين للقوم بعد الفراغ
فصلاتهم فاسدة فكذلك في حالة الاستخلاف وعند الشافعي رحمه الله تعالى إذا اقتدوا به
مع العلم بأنه محدث لا يصح الاقتداء به وإذا لم يعلموا به فصلاتهم تامة في حالة الاستخلاف
واستدل بحديث روى عن عمر رضى الله تعالى عنه أنه أم في صلاة أصحابه ثم ظهر أنه كان
جنبا فأعاد ولم يأمرهم بالإعادة (ولنا) ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أم
قوما ثم ظهر أنه كان محدثا أو جنبا أعاد صلاته وأعادوا وقد روى نحو هذا عن عمر وعلى
حتى ذكر أبو يوسف في الأمالي أن عليا رضى الله تعالى عنه صلى بأصحابه يوما ثم علم أنه كان
جنبا فأمر مؤذنه ابن التياح أن ينادى ألا إن أمير المؤمنين كان جنبا فأعيدوا صلاتكم
وتأويل حديث عمر ما ذكره في بعض الروايات أنه رأى أثر الاحتلام في ثوبه
بعد الفراغ ولم يعلم متى أصابه فأعاد صلاته احتياطا وعندنا في هذا الموضع لا يجب على
القوم إعادة الصلاة وكذلك لو قدم الإمام المحدث صبيا فسدت صلاتهم وصلاته لان
صلاة الصبي تخلق واعتياد أو نافلة فلا يصلح هو خليفة للامام في الفرض كما لا يصلح
للإمامة في هذه الصلاة أصلا بنفسه وهذا بناء على أصلنا أيضا فأما الشافعي رضى الله تعالى
عنه فإنه يجوز الاقتداء بالصبي في المكتوبة وهو بناء على اقتداء المفترض بالمتنفل وقد مر وأما
الاقتداء بالصبي في التطوع فقد جوزه محمد بن مقاتل الرازي للحاجة إليه والأصح عندنا أنه
لا يجوز لان نفل الصبي دون نفل البالغ حتى لا يلزمه القضاء بالافساد وبناء القوى على
الضعيف لا يجوز كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الامام ضامن والصبي لا يصلح
ضامنا لفلس فكيف يصح منه الضمان لصلاة المقتدى وكذلك ان قدم الإمام المحدث امرأة
فصلاته وصلاتها وصلاة القوم كلهم فاسدة لأن المرأة لا تصلح لامامة الرجال قال عليه الصلاة
والسلام أخروهن من حيث أخرهن الله فاشتغاله باستخلاف من لا يصلح خليفة له اعراض
180

منه عن الصلاة فتفسد صلاته وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم لان الإمامة لم تتحول منه
إلى غيره وعند زفر رحمه الله تعالى صلاة النساء صحيحة إنما تفسد صلاة الرجال لأن المرأة
تصلح لامامة النساء إنما لا تصلح لامامة الرجال وفيما ذكرنا الجواب عن كلامه * قال (أمي *
صلى بقوم أميين وقارئين فصلاة الامام والقوم كلهم فاسدة) عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى صلاة الامام والأميين تامة لان الأمي صاحب عذر فإذا اقتدى به
من هو في مثل حاله ومن لا عذر به جازت صلاته وصلاة من هو في مثل حاله كالعاري
يؤم العراة واللابسين والمومي يؤم من يصلى بالايماء ومن يصلى بالركوع والسجود وصاحب
الجرح السائل يؤم من هو في مثل حاله والأصحاء * ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان
(أحدهما) أنه لما جاؤوا مجتمعين لأداء هذه الصلوات بالجماعة فالأمي قادر على أن يجعل
صلاة بالقراءة بأن يقدم القارئ فتكون قراءة امامه قراءة له قال صلى الله عليه وسلم من
كان له امام فقراءة الامام له قراءة فإذا تقدم بنفسه فقد ترك أداء الصلاة بالقراء مع قدرته
عليه بنفسه فتفسد صلاته وصلاة القوم أيضا بخلاف سائر الاعذار فلبس الامام لا يكون لبسا
للمقتدين والركوع والسجود من الامام لا ينوب عن المقتدى ووضوء الامام لا يكون
وضوءا للمقتدى فهو غير قادر على إزالة هذا العذر بتقديم من لا عذر له (فان قيل) لو كان
الامام يصلى وحده وهناك قارئ يصلى بتلك الصلاة جازت صلاة الأمي ولم ينظر إلى
قدرته على أن يجعل صلاته بقراءة بالاقتداء بالقارئ (قلنا) ذكر أبو حازم أن على قياس قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تجوز صلاته وهو قول مالك رحمه الله تعالى وبعد التسليم قلنا لم
يظهر هناك من القارئ رغبة في أداء الصلاة بالجماعة فلا يعتبر وجوده في حق الأمي
بخلاف ما نحن فيه (والطريق الثاني) أن افتتاح الكل للصلاة قد صح لأنه أوان التكبير
فالامي قادر عليه كالقارئ فبصحة الاقتداء صار الأمي متحملا فرض القراءة عن القارئ
ثم جاء أوان القراءة وهو عاجز عن الوفاء بما تحمل فتفسد صلاته وبفساد صلاته تفسد
صلاة القوم بخلاف سائر الاعذار فإنها قائمة عند الافتتاح فلا يصح الاقتداء ممن لا عذر له
بصاحب العذر ابتداء (فان قيل) لو اقتدى القارئ بالأمي بنية النفل لا يلزمه القضاء ولو
صح شروعه في الابتداء للزمه القضاء (قلنا) إنما لا يلزمه القضاء لأنه صار شارعا في صلاة
لا قراءة فيها والشروع كالنذر ولو نذر صلاة بغير قراءة لا يلزمه شئ الا في رواية عن أبي
181

يوسف رحمه الله فكذلك إذا شرع فيها * قال (أمي تعلم سورة وقد صلى بعض صلاته
فقرأها فيما بقي فصلاته فاسدة مثل الآخرين) لزوال أميته في خلال الصلاة وكذلك لو
كان قارئا في الابتداء فصلى بعض الصلاة بقراءة ثم نسي فصار أميا فصلاته فاسدة مثل
الآخرين وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند زفر رحمه الله تعالى لا تفسد في الموضعين
جميعا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا تعلم السورة استقبل وإذا نسي بنى استحسانا لزفر
رحمه الله تعالى إذ فرض القراءة في الركعتين ألا ترى أن القارئ لو ترك القراءة في الركعتين
الأوليين وقد قرأ الأخريين أجزأه فإذا كان قارئا في الابتداء فقد أدى فرض القراءة في
الأوليين فعجزه عنه بعد ذلك لا يضره كتركه مع القدرة وإذا تعلم السورة وقرأ في
الأخريين فقد أدى فرض القراءة فلا يضره عجزه عنه في الابتداء كما لا يضره تركه
وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا إذا تعلم السورة في خلال الصلاة فلو استقبلها كان
مؤديا لها على أكمل الوجوه فأمرناه بالاستقبال فأما إذا نسي القراءة فلو أمرناه بالاستقبال
كان مؤديا جميع الصلاة بغير قراءة فالأولى هو البناء ليكون مؤديا بعضها بقراءة وأبو حنيفة رحمه
الله تعالى يقول حين افتتحها وهو أمي فقد انعقدت صلاته بصفة الضعف فحين تعلم السورة فقد
قوى حاله وبناء القوي على الضعيف لا يجوز كالعاري إذا وجد الثوب في خلال الصلاة وكالمتيمم
إذا وجد الماء في خلالها وإذا كان قارئا في الابتداء فقد التزم أداء جميع الصلاة بقراءة ثم عجز
عن الوفاء بما التزم فكان عليه الاستقبال في الفصلين هذا وكذلك إن كان الامام قارئا فقرأ
في الركعتين الأوليين ثم أحدث فاستخلف أميا فسدت صلاتهم الا على قول زفر رحمه الله
تعالى فإنه يقول الإمام الأول أدى فرض القراءة وليس في الأخريين قراءة فاستخلاف
القارئ والامي فيه سواء (ولنا) أن القراءة فرض في جميع الصلاة تؤدى في موضع
مخصوص فإذا كان الامام قارئا فقد التزم أداء جميع الصلاة بقراءة والامي عاجز عن ذلك
فلا يصلح خليفة له واشتغاله باستخلاف من لا يصلح خليفة له يفسد صلاته كما لو استخلف
صبيا أو امرأة وعلى هذا لو رفع رأسه من آخر السجدة ثم سبقه الحدث فاستخلف أميا
فسدت صلاته وصلاة القوم عندنا فأما إذا قعد قدر التشهد ثم أحدث فاستخلف أميا فهو
على الخلاف المعروف بين أبي حنيفة رحمه الله تعالى وصاحبيه * قال (أمي اقتدى بقارئ بعد
ما صلى ركعة فلما فرغ الامام قام الأمي لاتمام صلاته فصلاته فاسدة في القياس) وهو قول
182

أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى الاستحسان يجزئه وهو قولهما. وجه القياس أنه بالاقتداء
بالقارئ قد التزم أداء هذه الصلاة بقراءة وقد عجز عن ذلك حين قام للقضاء لأنه منفرد
فيما يقضى فلا تكون قراءة الإمام له قراءة فتفسد صلاته. وجه الاستحسان أنه إنما يلتزم
القراءة ضمنا للاقتداء وهو مقتد فيما بقي على الامام لا فيما سبقه به الامام يوضحه أنه
لو بنى كان مؤديا بعض الصلاة بالقراءة ولو استقبل كان مؤديا جميعها بغير قراءة وأداء البعض
مع القراءة أولى من أداء الكل بغير قراءة * قال (رجل صلى أربع ركعات تطوعا ولم يقعد في
الثانية ففي القياس لا يجزئه وهو قول محمد وزفر رحمهما الله) لان كل شفع من التطوع صلاة
على حدة تفترض القعدة في آخرها فترك القعدة الأولى هنا كتركها في صلاة الفجر والجمعة
فتفسد به الصلاة وفي الاستحسان تجزئه وهو قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهم الله تعالى
بالقياس على الفريضة لان حكم التطوع أخف من حكم الفريضة ويجوز أداء الفريضة أربع
ركعات بقعدة واحدة فكذلك التطوع ألا ترى أن في التطوع يجوز الأربع بتسليمة واحدة
وبتحريمة واحدة بالقياس على الفرض فكذلك في القعدة وعلى هذا قالوا لو صلى التطوع بثلاث
ركعات بقعدة واحدة ينبغي أن يجوز بالقياس على صلاة المغرب والأصح أنه لا يجوز لان التطوع
بالركعة الواحدة غير مشروع فيفسد ما اتصل به القعدة وبفسادها يفسد ما قبله. واختلف
مشايخنا فيمن تطوع بست ركعات بقعدة واحدة فجوزها بعضهم بالقياس على التحريمة والتسليمة
والأصح أنه لا يجوز لان استحسانه في الأربع كان بالقياس على الفريضة وليس في الفرائض
ست ركعات يجوز أداؤها في قعدة واحدة فيعاد فيه إلى أصل القياس لهذا * قال (امرأة
صلت خلف الامام وقد نوى الامام امامة النساء فوقفت في وسط الصف فإنها تفسد صلاة
من عن يمينها ومن عن يسارها ومن خلفها بحذائها عندنا استحسانا) وقال الشافعي رضى
الله تعالى عنه لا تفسد صلاة أحد بسبب المحاذاة لان محاذاة المرأة الرجل لا تكون أقوى من
محاذاة الكلب أو الخنزير إياه وذلك غير مفسد لصلاة الرجل ولو فسدت الصلاة بسبب
المحاذاة لكان الأولى أن تفسد صلاتها لأنها منهية عن الخروج إلى الجماعة والاختلاط
بالصفوف يدل عليه ان المحاذاة في صلاة الجنازة أو سجدة التلاوة غير مفسد على الرجل
صلاته فكذلك في سائر الصلوات (ولنا) أنه ترك المكان المختار له في الشرع فتفسد
صلاته كما لو أخرها وشرها أولها فالمختار للرجال التقدم على النساء فإذا وقف بجنبها أو خلفها
183

فقد ترك المكان المختار له وترك فرضا من فروض الصلاة أيضا فان عليه أن يؤخرها عند
أداء الصلاة بالجماعة قال عليه الصلاة والسلام أخروهن من حيث أخرهن الله والمراد من
الامر بتأخيرها لأجل الصلاة فكان من فرائض صلاته وهذا لان حال الصلاة حال
المناجاة فلا ينبغي أن يخطر بباله شئ من معاني الشهوة فيه ومحاذاة المرأة إياه لا تنفك عن
ذلك عادة فصار الامر بتأخيرها من فرائض صلاته فإذا ترك تفسد صلاته وإنما لا تفسد
صلاتها لان الخطاب بالتأخير للرجل وهو يمكنه أن يؤخرها من غير أن يتأخر بأن يتقدم
عليها ولهذا لم تفسد صلاة الجنازة بالمحاذاة لأنها ليست بصلاة مطلقة هي مناجاة بل هي قضاء
لحق الميت ثم ليس لها في الصلاة على الجنازة مقام لكونها منهية عن الخروج في الجنائز ولا تفسد
صلاة من هو على يمين من هو على يمينها ومن على يسار من هو على يسارها إذ هناك حائل بينها
وبينهما بمنزلة الأسطوانة أو كان من الثياب فإن كان صف تام من النساء وراءهن صفوف
من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها استحسانا والقياس مثل الأول انه لا تفسد الا
صلاة صف واحد خلف صفوف النساء لان تحقق المحاذاة في حقهم ولكنه استحسن حديث
عمر رضى الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من
كان بينه وبين الامام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له ولان الصف من النساء
بمنزلة الحائط بين المقتدى وبين الامام ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه فرجة بين
المقتدى والامام يمنع صحة الاقتداء فكذلك في الصف من النساء فأما المرأتان والثلاث إذا
وقفن في الصف فالمروي عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى ان المرأتين تفسدان صلاة أربعة
نفر من عن يمينهما ومن عن يسارهما ومن خلفهما بحذائهما والثلاث يفسدن صلاة من عن يمينهن
ومن عن يسارهن وثلاثة ثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف وقال الثلاث جمع متفق عليه فهو
قياس الصف التام فأما المثنى فليستا بجمع تام فهما قياس الواحدة لا يفسدان الا صلاة من
خلفهما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان في إحداهما جعل الثلاث كالاثنتين وقال
لا يفسدن الا صلاة خمسة نفر من عن يمينهن ومن عن يسارهن ومن خلفهن بحذائهن لان
الأثر جاء في صف تام والثلاث ليس بصف تام من النساء وفى الرواية الأخرى جعل المثنى
كالثلاث وقال يفسدان صلاة من عن يمينهما ومن عن يسارهما وصلاة رجلين خلفهما إلى
آخر الصفوف لان للمثنى حكم الثلاث في الاصطفاف حين يصطفان خلف الإمام قال عليه
184

الصلاة والسلام الاثنان فما فوقهما جماعة فان وقفت بحذاء الامام تأتم به وقد نوى إمامتها
فسدت صلاة الامام والقوم كلهم لان صلاة الامام بسبب المحاذاة في صلاة مشتركة تفسد
وبفساد صلاته تفسد صلاة القوم وكان محمد بن مقاتل يقول لا يصح اقتداؤها لان المحاذاة
اقترنت بشروعها في الصلاة ولو طرأت كانت مفسدة لصلاتها فإذا اقترنت منعت صحة
اقتدائها وهذا فاسد لان المحاذاة لا تؤثر في صلاتها وإنما تبطل صلاتها بفساد صلاة الامام
فلا تفسد صلاة الامام الا بعد شروعها لان المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا تؤثر في
صلاتها الا فسادا حتى أن الرجل والمرأة إذا وقفا في مكان واحد فصلى كل واحد منهما
وحده لا تفسد صلاة الرجل لان الترتيب في المقام إنما يلزمه عند المشاركة كالترتيب بين
المقتدى والامام والأصل فيه حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلى بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة فكان إذا سجد
خنست رجلي وإذا قام مددتهما. وأما إذا لم ينو الامام إمامتها لم تكن داخلة في صلاته فلا
تفسد الصلاة على أحد بالمحاذاة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يصح اقتداؤها به وإن لم
ينو إمامتها والقياس ما قاله زفر فان الرجل صالح لامامة الرجال والنساء جميعا ثم اقتداء الرجال
بالرجل صحيح وإن لم ينو الإمامة فكذلك اقتداء النساء واستدل بالجمعة والعيدين فان اقتداء
المرأة بالرجل صحيح فيهما وإن لم ينو إمامتها (ولنا) أن الرجل لما كان يلحق صلاته فساد
من جهة المرأة أمكنه التحرز عنه بالنية كالمقتدى لما كانت صلاته يلحقها فساد من جهة الامام
أمكنه التحرز عنه بالنية وهو أن لا ينوي الاقتداء به وهذا لأنا لو صححنا اقتداءها بغير
النية قدرت على افساد صلاة الرجل كل امرأة متى شاءت بأن تقتدي به فتقف إلى جنبه
وفيه من الضرر مالا يخفى وفى صلاة الجمعة والعيدين أكثر مشايخنا قالوا لا يصح اقتداؤها
به ما لم ينو إمامتها وإن كان الجواب مطلقا في الكتاب ومنهم من سلم فقال الضرورة في
جانبها هاهنا لأنها لا تقدر على أداء صلاة العيد والجمعة وحدها ولا تجد اماما آخر تقتدي
به والظاهر أنها لا تتمكن من الوقوف بجنب الامام في هذه الصلوات لكثرة الازدحام
فصححنا اقتداءها به لدفع الضرر عنها بخلاف سائر الصلوات وروي الحسن بن زياد عن أبي
حنيفة رحمه الله تعالى أنها إذا وقفت خلف الامام جاز اقتداؤها به وإن لم ينو إمامتها
ثم إذا وقفت إلى جنبه فسدت صلاتها لا صلاة الرجل وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله
185

تعالى الأول ووجهه أنها إذا وقفت خلفه فقصدها أداء الصلاة لافساد صلاة الرجل فلا
يشترط نية الإمامة فإذا وقفت إلى جنبه فقد قصدت افساد صلاته فرد قصدها بافساد
صلاتها إلا أن يكون الرجل قد نوى إمامتها فحينئذ هو ملتزم بهذا الضرر * قال (وإذا سبق
الرجل المرأة ببعض الصلاة فلما سلم الامام قاما يقضيان فوقفت بحذاء الرجل لم تفسد صلاته
ولو كانا لا حقين بأن أدركا أول الصلاة ثم ناما أو سبقهما الحدث فوقفت المرأة بحذائه
فيما يتمان فصلاة الرجل فاسدة) لان المسبوق فيما يقضي كالمنفرد حتى تلزمه القراءة
وسجود السهو إذا سها فلم توجد المحاذاة في صلاة مشتركة فأما اللاحق فيما يتم كالمقتدي
حتى لا يقرأ ولو سها لا يلزمه سجود السهو فوجدت المحاذاة في صلاة مشتركة. وفقه هذا
الحرف أن اللاحق لما اقتدى بالامام في أول الصلاة قد التزم أداء جميع الصلاة بصفة
الاقتداء فلا يجوز أداؤه بدون هذه الصفة فأما المسبوق إنما التزم بحكم الاقتداء ما بقي على
الامام دون ما فرغ منه لان ذلك لا يتصور فجعلناه كالمنفرد فيما يقضى بهذا * قال (وإن كان
الامام يصلى الظهر فائتمت به امرأة تريد التطوع وقد نوى الامام إمامتها ثم وقفت بحذائه
فسدت صلاته وصلاتها) لان اقتداء المتنفل بالمفترض صحيح فوجدت المحاذاة في صلاة
مشتركة وعليها قضاء التطوع لان الفساد كان بعد صحة شروعها بسبب فساد صلاة الامام
وان كانت نوت العصر لم تجزها صلاتها ولم تفسد على الامام صلاته لان تغاير الفرضين
يمنع صحة الاقتداء على ما مر في باب الأذان وما ذكرناها هنا دليل على أنها لا تصير شارعة
في الصلاة أصلا بخلاف ما ذكره في باب الأذان ففيه روايتان وبعض مشايخنا قال الجواب
ما ذكر في باب الأذان ومعنى ما ذكر هاهنا أن الامام لم ينو إمامتها في صلاة العصر
فتجعل هي في الاقتداء به بنية العصر بمنزلة ما لم ينو إمامتها فلهذا لا تصير شارعة في
صلاة التطوع * قال (ويصلى العراة وحدانا قعودا بايماء) وقال بشر المريسي رحمه الله تعالى
يصلون قياما بركوع وسجود وهو قول الشافعي رضى الله تعالى عنه لأنهم عجزوا عن
شرط الصلاة وهو ستر العورة فهم قادرون على أركانها فعليهم الاتيان بما قدروا عليه وسقط
عنهم ما عجزوا عنه ومذهبنا مروى عن ابن عباس وابن عمر رضى الله تعالى عنهم قالا
العاري يصلى قاعدا بالايماء ولان القعود والايماء أستر لهم وفى القيام والركوع والسجود
زيادة كشف العورة وذلك حرام في الصلاة وغير الصلاة فكل ركوع وسجود لا يمكنه
186

أن يأتي به الا بكشف العورة فذلك حرام فلا يكون من أركان صلاته فلهذا لا يلزمه القيام
والركوع والسجود. وان صلوا جماعة قياما بركوع وسجود أجزأهم لان تمام الستر لا يحصل
بالقعود فتركه لا يمنع جواز الصلاة وإنما أمرناهم بترك الجماعة ليتباعد بعضهم من بعض فلا
يقع بصر بعضهم على عورة البعض لان الستر يحصل به ولكن الأولى لإمامهم إذا صلوا
بجماعة أن يقوم وسطهم لكيلا يقع بصرهم على عورته وان تقدمهم جاز أيضا وحالهم في
حال الموضع كحال النساء في الصلاة فالأولى أن يصلين وحدهن فان صلين بالجماعة قامت
امامهن وسطهن وان تقدمتهن جاز فكذلك حال العراة. وإن كان مع العاري ثوب فيه
نجاسة فإن كان قدر الربع من الثوب طاهرا يلزمه أن يصلى فيه فلو صلى عريانا لم تجز لان
الربع بمنزلة الكمال في بعض الأحكام ألا ترى أن نجاسة الربع في حالة الاختيار في المنع من
جواز الصلاة كنجاسة الكل فكذلك طهارة الربع في حالة الضرورة كطهارة الكل
لوجوب الصلاة فيه وأما إذا كان الثوب كله مملوءا دما أو كان الطاهر منه دون ربعه فعند
أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى يخير بين أن يصلى عريانا وبين أن يصلى فيه وهو
الأفضل وقال محمد رحمه الله تعالى لا تجزئه الصلاة الا فيه لان الصلاة في الثوب النجس أقرب
إلى الجواز من الصلاة عريانا فان القليل من النجاسة في الثوب لا يمنع الجواز فكذلك الكثير
في قول بعض العلماء وقال عطاء من صلى وفى ثوبه سبعون قطرة من دم جازت صلاته ولم يقل
أحد بجواز الصلاة عريانا في حالة الاختيار ولأنه لو صلى عريانا كان تاركا لفرائض منها ستر
العورة ومنها القيام والركوع والسجود فإذا صلى فيه كان تاركا فرضا واحدا وهو طهارة الثوب
فهذا الجانب أهون. وقالت عائشة رضى الله تعالى عنها ما خير رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين شيئين الا اختار أهونهما فمن ابتلى ببليتين فعليه أن يختار أهونهما وأبو حنيفة وأبو
يوسف رحمهما الله تعالى قالا الجانبان في حكم الصلاة سواء على معنى أن كل واحد منهما
ضرورة محضة لا تجوز عند الاختيار في النفل ولا في الفرض يعنى الصلاة عريانا والصلاة
في ثوب مملوء دما وإنما يعتبر التفاوت في حكم الصلاة فإذا استويا خير بينهما والأولى أن
يصلى فيه لان ستر العورة غير مختص بالصلاة وطهارة الثوب عن النجاسة تختص بها فلهذا
كان الأفضل أن يصلى فيه * قال (وإذا أحدث الرجل في ركوعه أو سجوده فذهب وتوضأ
وجاء لم يجزئه الاعتداد بالركوع والسجود الذي أحدث فيه) لان الحدث قد نقضه ومعنى
187

هذا أن القياس أن يفسد جميع الصلاة بالحدث تركناه بالنص المجوز للبناء على الصلاة
فبقي معمولا به في حق الركن الذي أحدث فيه لان انتقاض ذلك الركن لا يمنع من
البناء ولان تمام الركن بالانتقال عنه ولا يمكن أن يجعل رفع رأسه بعد الحدث اتماما لذلك
الركن لأنه جزء من صلاته وأداء جزء من صلاته بعد سبق الحدث مفسد لصلاته وإذا
جاء بعد الوضوء فعليه اتمام ذلك الركن ولا يمكنه اتمامه الا بإعادته فعليه الإعادة لهذا * قال (فإن كان
اماما فأحدث وهو راكع فتأخر وقدم رجلا مكث الرجل راكعا كما هو حتى يكون
قدر ركوعه) لان الاستدامة فيما يستدام كالانشاء والثاني قائم مقام الأول وعلى الأول انشاء
الركوع فعلى الثاني استدامته أيضا فإن لم يحدث ولكن تذكر في الركوع في الركعة الثانية
أنه ترك سجدة من الركعة الأولى فخر ساجدا ثم رفع رأسه فان احتسب لذلك الركوع
جاز وان أعاده فهو أحب إلى لان تذكره السجود غير ناقض لركوعه ولان رفع رأسه
يمكن أن يجعل اتماما للركوع بعد تذكره السجدة ألا ترى أنه لو أخرها إلى آخر صلاته
جاز فلهذا كان له أن يعتد به والإعادة أفضل لأنه ما قصد اتمام الركن بالانتقال عنه إنما قصد
إذا تذكر وقال زفر رحمة الله عليه أن يعيد القيام والقراءة والركوع لان من أصله أن مراعاة
الترتيب في أفعال الصلاة ركن واجب فالتحقت هذه السجدة بمحلها وبطل ما أدى من
القيام والقراءة والركوع لترك الترتيب فأما عندنا مراعاة الترتيب ليست بركن ألا ترى أن
المسبوق يبدأ بما أدرك مع الامام فيه ولو كان الترتيب ركنا لما جاز له تركها بعذر الجماعة
كالترتيب بين الصلوات ولئن كان الترتيب واجبا فقد سقط بعذر النسيان. وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى أن عليه إعادة الركوع لا محالة وهو بناء على أصله أن القومة التي بين
الركوع والسجود ركن حتى لو تركها لا تجوز صلاته وأصل المسألة أن الاعتدال في
أركان الصلاة سنة مؤكدة أو واجب عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي
يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى هو ركن حتى أنه إن لم يتم ركوعه وسجوده في الصلاة
ولم يقم صلبه تجوز صلاته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويكره أشد الكراهة
وروى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال أخشى أن لا تجوز صلاته وعند أبي يوسف
والشافعي رحمهما الله تعالى لا تجوز صلاته أصلا لحديث الاعرابي فإنه دخل المسجد
وخفف فقال له عليه الصلاة والسلام ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاثا ثم حين
188

علمه قال له اركع حتى يطمئن كل عضو منك ثم ارفع رأسك حتى يطمئن كل عضو منك
الحديث ورأي حذيفة بن اليمان رجلا يصلى ولا يتم الركوع والسجود فقال مذ كم تصلى هكذا
فقال مذ كذا فقال إنك لم تصل منذ كذا ومثل هذا لا يعلم بالرأي وإنما يقال سماعا (ولنا)
ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في المسجد مع أصحابه فدخل رجل وصلى
وخفف فلما خرج أساؤا القول فيه فقالوا أخرها ثم لم يحسن أداءها فقال عليه الصلاة والسلام
ألا أحد يشترى صلاته منه فخرج أبو هريرة رضى الله تعالى عنه فاشتراها بدرهم فأبى فما زال
يزيد حتى ضجر الرجل فقال لو أعطيتني ملء الأرض ذهبا ما بعتكها فعاد إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال ألم أنهكم عن المصلين فقد جعل فعله صلاة معتبرة وسئل
ابن عباس رضى الله تعالى عنهما عن صلاة الاعراب الذين ينقرون نقرا فقال ذلك خير من
لا شئ ولان الركنية لا تثبت الا باليقين وإنما ورد النص بالركوع والسجود ومطلق الاسم
يتناول الأدنى فبقيت الركنية بذلك القدر والزيادة على ذلك للاكمال ولكن ترك ما هو لاكمال
الفريضة مما ليس بركن لا يفسده وقد نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث
الاعرابي فيما علمه فإنه قال إذا فعلت ذلك فقد أتممت صلاتك وان نقصت من ذلك فقد
نقصت صلاتك. إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله تعالى القومة التي بين
الركوع والسجود ركن فإنه إذا تذكر السجدة في الركوع إما السجدة الصلاتية أو التلاوية
فخر لها ساجدا ولم يأت بتلك القومة فعليه إعادة الركوع ليأتي بتلك القومة. وعندنا تلك القومة
ليست بركن فتركها لا يفسد الصلاة والأولى الإعادة ليأتي بها. ثم قدر الركن من الركوع
أدنى الانحطاط على وجه يسمى راكعا في الناس وفى السجود امساس جبهته أو أنفه
على الأرض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى والمفروض من الرفع بين السجدتين قدر ما
يزايل جبهته وأنفه الأرض ليتحقق به الفصل بين السجدتين. وقال بعض مشايخنا
رحمهم الله تعالى لا يجوز إلا أن يرفع بقدر ما يكون إلى القعود أقرب منه إلى السجود والأول
أقيس * قال (وإذا أدرك الرجل ركعة مع الامام من المغرب فلما سلم الامام قام يقضى قال
يصلى ركعة ويقعد) وهذا استحسان والقياس يصلى ركعتين ثم يقعد لأنه يقضى ما فاته
فيقضى كما فاته ويؤيد هذا القياس بالسنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم وما فاتكم فاقضوا
ووجه الاستحسان أن هذه الركعة ثانية هذا المسبوق والقعدة بعد الركعة الثانية في صلاة
189

المغرب سنة وهذا لان الثانية هي الثالثة للأولى والثانية للأولى في حقه هذه الركعة وروى
أن جندبا ومسروقا رضى الله تعالى عنهما ابتليا بهذا فصلى جندب ركعتين ثم قعد ومسروق
ركعة ثم قعد ثم صلى ركعة أخرى فسألا عن ذلك ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فقال
كلاكما أصاب ولو كنت أنا لصنعت كما صنع مسروق وتأويل قوله كلاكما أصاب طريق
الاجتهاد فأما الحق فواحد غير متعدد ثم ما يصلى المسبوق مع الامام آخر صلاته حكما
عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى في القراءة والقنوت هو
آخر صلاته وفى حكم القعدة هو أول صلاته ومذهبه مذهب ابن مسعود ومذهبهما مذهب
على رضي الله تعالى عنه وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه هو أول صلاته فعلا وحكما
لأنه لا يتصور الآخر الا بعد الأول في الأداء ألا ترى أن تكبيرة الافتتاح في حقه أول
الصلاة فكذلك ما بعده ولكنا نقول لو كان هذا مؤديا لأول الصلاة كان مخالفا لامامه
ولا يصح الاقتداء به كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فاتكم فاقضوا فهو
نص على أنه مؤد مع الامام ما أدرك لا ما فاته ولكن محمد رحمه الله تعالى جعله في حكم
القراءة هكذا احتياطا حتى تلزمه القراءة فيما يقضى لان القراءة مكررة في صلاة واحدة
وكذلك في حكم القنوت لأنه يتكرر في صلاة واحدة فلو جعلنا ما يؤديه مع الامام أول
الصلاة للزمه القنوت فيما يقضى فيؤدى إلى تكرار القنوت في صلاة واحدة فأما في حكم
القعدة فتتم الصلاة بقعدة في ركن ولن يكون ذلك الا بعد أن يجعل ما يؤديه مع الامام
أول الصلاة فلهذا قعد إذا صلى ركعة * وحكي عن يحيى البناء وكان من أصحاب محمد
رحمه الله تعالى أنه سأله عن هذه المسألة فأجاب بما قلنا فقال على وجه السخرية هذه صلاة
معكوسة فقال محمد رحمه الله تعالى لا أفلحت قال وكان كما قال أفلح أصحابه ولم يفلح بدعائه
* قال (وأحب أن يكون بين يدي المصلى في الصحراء شئ أدناه طول ذراع) لما روى
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه سترة
وكانت العنزة تحمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركز في الصحراء بين يديه فيصلى
إليها حتى قال عون بن جحيفة عن أبيه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء في
قبة حمراء من أدم فركز بلال العنزة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى إليها
والناس يمرون من ورائها وإنما قال بقدر ذراع طولا ولم يذكر العرض وكان ينبغي أن تكون
190

في غلظ أصبع لقول ابن مسعود يجزئ من السترة السهم فان المقصود أن يبدو للناظر
فيمتنع من المرور بين يديه وما دون هذا لا يبدو للناظر من بعد (وإذا اتخذ السترة فليدن
منها) لما جاء في الحديث إذا صلى أحدكم إلى سترة فليرهقها وإن لم يكن بين يديه شئ
فصلاته جائزة لان الامر باتخاذ السترة ليس لمعنى راجع إلى عين الصلاة فلا يمنع تركه
جواز الصلاة وان مر بين يديه مار من رجل أو امرأة أو حمار أو كلب لم يقطع صلاته عندنا
وقال أصحاب الظواهر مرور المرأة والحمار والكلب بين يدي المصلى يفسد صلاته لحديث
أبي ذر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب
وفى بعض الروايات قال الكلب الأسود فقيل له وما بال الأسود من غيره فقال أشكل
على ما أشكل فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الكلب الأسود
شيطان (ولنا) حديث أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يقطع الصلاة مرور شئ وادرأوا ما استطعتم والحديث الذي رووا ردته
عائشة رضى الله تعالى عنها فإنها قالت لعروة يا عرية ماذا يقول أهل العراق قال يقولون
تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب فقالت يا أهل العراق والشقاق والنفاق قرنتموني
بالكلاب والحمير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل وأنا معترضة بين
يديه كاعتراض الجنازة والدليل على أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة ما روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يصلى في بيت أم سلمة فأراد عمر بن أبي سلمة أن يمر بين يديه فأشار
عليه فوقف ثم أرادت زينب أن تمر بين يديه فأشار عليها فلم تقف فلما فرغ من صلاته
قال هن أغلب صاحبات يوسف يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام والدليل على أن مرور
الحمار والكلب لا يقطع الصلاة حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال زرت رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع أخي الفضل على حمار في البادية فنزلنا فوجدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلى فصلينا معه والحمار يرتع بين يديه. وينبغي أن يدفع المار عن نفسه لكيلا
يشغله عن صلاته عملا بقوله صلى الله عليه وسلم وادرأوا ما استطعتم إلا أنه يدفعه بالإشارة
أو الاخذ بطرف ثوبه على وجه ليس فيه مشى ولا علاج ومن الناس من قال إن لم يقف
بإشارته جاز دفعه بالقتال لحديث أبي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه أنه كان يصلى فأراد
أن يمر ابن مروان بين يديه فأشار عليه فلم يقف فلما حاذاه ضربه على صدره ضربة أقعده على
191

استه فجاء إلى أبيه يشكو أبا سعيد فدعاه فقال لم ضربت ابني فقال ما ضربت ابنك إنما ضربت
الشيطان قال لم تسمى ابني شيطانا قال لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا
صلى أحدكم فأراد مار أن يمر بين يديه فليدفعه فان أبى فليقاتله فإنه شيطان ولكنا نستدل
بقوله عليه الصلاة والسلام ان في الصلاة لشغلا يعنى بأعمال الصلاة وتأويل حديث أبي سعيد
رضي الله عنه أنه كان في وقت كان العمل مباحا في الصلاة (ويكره للمار أن يمر بين يدي
المصلي) لقوله صلى الله عليه وسلم لو علم المار بين يدي المصلى ما عليه لوقف ولو إلى أربعين
ولم يوقت يوما ولا شهرا ولا سنة (وحد المرور بين يديه غير منصوص في الكتاب وقيل
إلى موضع سجود وقيل بقدر الصفين) وأصح ما قيل فيه أن المصلى لو صلى بخشوع فإلى الموضع
الذي يقع بصره على المار يكره المرور بين يديه وفيما وراء ذلك لا يكره وحكى أبو عصمة
عن محمد رحمه الله تعالى إذا لم يجد سترة يخط بين يديه فان الخط وتركه سواء لأنه لا يبدو
للناظر من بعد ومن الناس من يقول يخط بين يديه اما طولا شبه ظل السترة أو عرضا شبه
المحراب لقوله عليه الصلاة والسلام إذا صلى أحدكم في الصحراء فليتخذ بين يديه سترة فإن لم
يجد فليخط بين يديه خطا ولكن الحديث شاذ فيما تعم به البلوي فلم نأخذ به لهذا * قال (وإذا
انفرد المصلى خلف الامام عن الصف لم تفسد صلاته) وقال أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل
رحمه الله تعالى تفسد صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمنفرد خلف الصف وعن فرافصة
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى في حجرة من الأرض فقال أعد صلاتك
فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف (ولنا) حديث أنس رضى الله تعالى عنه قال فأقامني
واليتيم من ورائي وأمي أم سليم وراءنا فقد جوز اقتداءها وهي منفردة خلف الصف وفى
هذا الحديث دليل على أنها تفسد صلاة الرجل لأنه أقامها خلفهما مع النهي عن الانفراد
فما كان ذلك الا صيانة لصلاتهما وان أبا بكر رضى الله تعالى عنه دخل المسجد ورسول الله
صلى الله عليه وسلم راكع فكبر وركع ثم دب حتى لصق بالصف فلما فرغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من صلاته قال زادك الله حرصا ولا تعد أو قال ولا تعد فقد جوز اقتداءه
به وهو خلف الصف. يدل عليه أنه لو كان بجنبه مراهق تجوز صلاته بالاتفاق وصلاة
المراهق تخلق فهو في الحقيقة منفرد خلف الصف ولذلك لو تبين أن من كان بجنبه كان
محدثا تجوز صلاته وهو منفرد خلف الصف وتأويل الحديث نفى الكمال لقوله صلى الله
192

عليه وسلم لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد والامر بالإعادة شاذ ولو ثبت فيحتمل أنه كان
بينه وبين الامام ما يمنع الاقتداء وفى الحديث ما يدل عليه فإنه قال في حجرة من الأرض
أي ناحية ولكن الأولى عندنا أن يختلط بالصف ان وجد فرجة وإن لم يجد وقف ينتظر
من يدخل فيصطفان معه فإن لم يدخل أحد وخاف فوت الركعة جذب من الصف إلى
نفسه من يعرف منه علما وحسن الخلق لكيلا يصعب عليه فيصطفان خلفه فإن لم ينجر إليه
أحد حينئذ يقف خلف الصف بحذاء الامام لأجل الضرورة فإن كان بين الامام وبين
المقتدى حائط أجزأته وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تجزئه واليه
أشار في الأصل في تعليل مسألة المحاذاة. وفى الحاصل هذا على وجهين إن كان الحائط قصيرا
دليلا يعنى به الصغير جدا حتى يتمكن كل أحد من الركوب عليه كحائط المقصورة لا يمنع
الاقتداء وإن كان كبيرا فإن كان عليه باب مفتوح أو خوخة فكذلك وإن لم يكن عليه شئ
من ذلك ففيه روايتان. وجه الرواية التي قال لا يصح الاقتداء أنه يشتبه عليه حال امامه
ووجه الرواية الأخرى ما ظهر من عمل الناس كالصلاة بمكة فان الامام يقف في مقام إبراهيم
وبعض الناس يقفون وراء الكعبة من الجانب الآخر فبينهم وبين الامام حائط الكعبة
ولم يمنعهم أحد من ذلك فإن كان بينهما طريق يمر الناس فيه أو نهر عظيم لم تجز صلاته لما روي
عن عمر رضى الله تعالى عنه من كان بينه وبين الامام نهر أو طريق فلا صلاة له وفى رواية
فليس. معه والمراد طريق تمر فيه العجلة فما دون ذلك طريق لا طريق والمراد من النهر
ما تجرى فيه السفن فما دون ذلك بمنزلة الجدار لا يمنع صحة الاقتداء فإن كانت الصفوف
متصلة على الطريق جاز الاقتداء حينئذ لان باتصال الصفوف خرج هذا الموضع من أن يكون
ممرا للناس وصار مصلى في حكم هذه الصلاة وكذلك إن كان على النهر جسر وعليه صف
متصل فبحكم اتصال الصفوف صار في حكم واحد فيصح الاقتداء * قال (والفتح على الامام
لا يفسد الصلاة) يعنى المقتدى فأما غير المقتدى إذا فتح على المصلى تفسد به صلاة المصلى
وكذلك المصلى إذا فتح على غير المصلى لأنه تعليم وتعلم والقارئ إذا استفتح غيره فكأنه يقول بعد ما قرأت ماذا فذكرني والذي يفتح عليه كأنه يقول بعد ما قرأت كذا فخذ مني
ولو صرح بهذا لم يشكل فساد صلاة المصلى فأما المقتدي إذا فتح على امامه هكذا في القياس
ولكنه استحسن لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة المؤمنين فترك حرفا فلما
193

فرغ قال ألم يكن فيكم أبى فقالوا نعم يا رسول الله فقال هلا فتحت على فقال ظننت أنها
نسخت فقال لو نسخت لأنبأتكم بها وعن علي رضى الله تعالى عنه قال إذا استطعمك الامام
فأطعمه وابن عمر قرأ الفاتحة في صلاة المغرب فلم يتذكر سورة فقال نافع إذا زلزلت الأرض
زلزالها فقرأها ولان المقتدي يقصد اصلاح صلاته فان قرأ الامام فلتحقق حاجته قلنا
لا تفسد صلاته وبهذا لا ينبغي أن يعجل بالفتح على الامام ولا ينبغي للامام أن يحوجه إلى
ذلك بل يركع أو يتجاوز إلى آية أو سورة أخرى فإن لم يفعل وخاف أن يجري على لسانه
ما يفسد الصلاة فحينئذ يفتح لقول على رضى الله تعالى عنه إذا استطعمك الامام فأطعمه وهو
مليم أي مستحق اللوم لأنه أحوج المقتدي إلى ذلك وقد قال بعض مشايخنا ينوي بالفتح
على امامه التلاوة وهو سهو فقراءة المقتدي خلف الامام منهي عنها والفتح على امامه غير
منهي عنه ولا يدع نية ما رخص له بنية شئ هو منهى عنه وإنما هذا إذا أراد أن يفتح
على غير امامه فحينئذ ينبغي أن ينوي التلاوة دون التعليم فلا يضره ذلك * قال (وقتل
الحية والعقرب في الصلاة لا يفسدها) لقوله عليه الصلاة والسلام اقتلوا الأسودين ولو
كنتم في الصلاة ولدغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقرب في صلاته فوضع عليه نعله
وغمزه حتى قتله فلما فرغ قال لعن الله العقرب لا تبالي نبيا ولا غيره أو قال مصليا ولا غيره
ولأنه رخص للمصلي أن يدرأ عن نفسه ما يشغله عن صلاته وهذا من جملة ذاك وقيل
هذا إذا أمكنه قتل الحية بضربة واحدة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في
العقرب فأما إذا احتاج إلى معالجة وضربات فليستقبل الصلاة كما لو قاتل انسانا في صلاته
لان هذا عمل كثير والأظهر أن الكل سواء فيه لان هذا عمل رخص فيه للمصلي فهو كالمشي
بعد الحدث والاستقاء من البئر والتوضؤ وإذا رمى طائرا بحجر لم تفسد صلاته لان هذا
عمل قليل ولكنه مكروه لأنه اشتغال بما ليس من أعمال الصلاة ولم يذكر الكراهة في قتل
الحية والعقرب لأنه محتاج إلى ذلك لدفع أذاها عن نفسه وليس في أذى الطير ما يحوجه إلى
هذا لدفع أذاها عن نفسه فلهذا ذكر الكراهة فيه. وان أخذ قوسا ورمى به فسدت صلاته
وبعض أهل الأدب عابوا عليه في هذا اللفظ وقالوا الرمي بالقوس اسقاطه من يده وإنما
يقال يرمى إذا رمى بالسهم غير أن المقصود لمحمد كان تعليم عامة الناس ووجد هذا اللفظ
معروفا في لسان العامة فلهذا ذكره وإنما فسدت صلاته لأنه عمل كثير فان أخذ القوس
194

وتثقيف السهم عليه والمد حتى رمى عمل كثير يحتاج فيه إلى استعمال اليدين والناظر إليه من
بعيد لا يشك أنه في غير الصلاة فكان مفسدا لهذا وكذلك لو ادهن أو سرح رأسه أو
أرضعت المرأة صبيها من أصحابنا من جعل الفاصل بين العمل القليل والكثير أن يحتاج فيه
إلى استعمال اليدين حتى قالوا إذا زر قميصه في الصلاة فسدت صلاته وإذا حل إزاره لم تفسد
والأصح أن يقال فيه أن كل عمل إذا نظر إليه الناظر من بعيد لا يشك أنه في غير الصلاة فهو
مفسد لصلاته وكل عمل لو نظر إليه الناظر فربما يشتبه عليه أنه في الصلاة فذلك غير مفسد
فما ذكر من الاعمال إذا نظر الناظر إليه لا يشك أنه في غير الصلاة فان المرأة إذا حملت
صبيها أو أرضعته لم يشكل على أحد أنها في غير الصلاة وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قرأ المعوذتين في صلاة الفجر ثم قال سمعت بكاء صبي فخشيت على أمه أن تفتتن فلو كان
الارضاع غير مفسد للصلاة لما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة القراءة لأجل بكائه
وان قاتل في صلاته فسدت صلاته لان النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات
يوم الخندق لكونه مشغولا بالقتال فلو جازت الصلاة مع القتال لما أخرها وكذلك ان أكل
أو شرب في الصلاة ناسيا أو عامدا بخلاف الصوم فإنه يفصل بين النسيان والعمد لأنه قد
اقترن بحال المصلى ما يذكره فان حرمة الصلاة مانعة من التصرف في الطعام المؤدي إلى
الأكل فلهذا سوى بين النسيان والعمد وفي الصوم لم يقترن بحاله ما يذكره فان الصوم لا يمنعه
ما يؤدي إلى الأكل وهو التصرف في الطعام ثم الأكل عمل لو نظر إليه الناظر لا يشك أنه في
غير الصلاة وعلى هذا قال محمد مضغ العلك في الصلاة يفسدها لان الناظر إليه من بعيد لا يشك
أنه في غير الصلاة وإن كان في أسنانه شئ فابتلعه لم يضره لان ما يبقى بين الأسنان في حكم
التبع لريقه فلهذا لا يفسد الصوم وهذا إذا كان دون الحمصة فان ذلك يبقى بين الأسنان
عادة وكذلك ان قلس أقل من ملء الفم ثم رجع فدخل جوفه وهو لا يملكه فهذا بمنزلة ريقه
ألا ترى أنه لا ينقض وضوءه فكذلك لا يفسد صلاته والمتهجد بالليل قد يبتلى بهذا خصوصا
في ليالي رمضان إذا امتلأ من الطعام عند الفطر فللبلوى قلنا لا تفسد صلاته * قال (وان انتضح
البول على المصلى أكثر من قدر الدرهم من موضع فانفتل فغسله لم يبن علي صلاته) وفى الاملاء
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يبنى لان هذا بعض ما ورد به النص فقد روينا في الرعاف
ومن رعف يحتاج إلى غسل أنفه إلى الوضوء فإذا كان له أن يبنى ثمة فها هنا أولى. وجه ظاهر
195

الرواية أن البناء على الصلاة حكم ثبت بالآثار بخلاف القياس فلا يلحق به الا ما يكون في
معناه من كل وجه وهذا ليس في معنى المنصوص عليه لان الانصراف هناك كان للوضوء
ولا بد منه والانصراف هاهنا لغسل النجاسة عن الثوب وقد لا يحتاج إليه بأن يكون عليه
ثوبان فيلقى ما تنجس من ساعته فلهذا أخذنا فيه بالقياس وقلنا لا يبنى * قال (وان سال من دمل
به دم توضأ وغسل وبنى على صلاته كما لو رعف) ومراده من هذا إذا سال بغير فعله فأما إذا
عصره حتى سال أو كان في موضع ركبتيه فانفتح من اعتماده على ركبتيه في سجوده فهذا
بمنزلة الحدث العمد قال لا يبنى على صلاته وان أصابته بندقة فشجته فسال منه دم لم يبن علي
صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى يبنى إذا
توضأ لان عمر رضى الله تعالى عنه لما طعن في المحراب استخلف عبد الرحمن بن عوف ولو
فسدت صلاته لفسدت صلاة القوم فلم يستخلفه ولان الحدث سبقه بغير صنعه فهو
كالحدث السماوي (ولنا) أن الحدث كان بصنع العباد فيمنعه كما لو كان بصنعه لان
هذا ليس في معنى المنصوص عليه فان الحدث السماوي العذر المانع من المضي ممن له الحق
وهنا العذر من غير من له الحق وبينهما فرق فان المريض يصلى قاعدا ثم لا يعيد إذا برأ
والمقيد يصلى قاعدا ثم تلزمه الإعادة عند اطلاقه وحديث عمر رضى الله تعالى عنه كان
قبل افتتاح الصلاة ليفتتح الصلاة ألا ترى أنه روى أنه لما طعن قال آه قتلني الكلب من
يصلى بالناس ثم قال تقدم يا عبد الرحمن وهذا كلام يمنع البناء على الصلاة * قال (وان نام
في صلاته فاحتلم في القياس يغتسل ويبنى) يريد القياس على الاستحسان في الحدث الصغرى
ولكني أستحسن أن يستقبل يريد العود إلى القياس الأول لان هذا ليس في معنى المنصوص
عليه فإنه يحتاج في الاغتسال إلى كشف العورة ولا يحتاج إليه في الوضوء ولان المصلى قد
يبتلى بالحدث الصغرى عادة فمن النادر أن يبتلى بالحدث الموجب للاغتسال والنادر ليس
في معنى ما تعم به البلوى * قال (وإذا سقط عن المصلى ثوبه فقام عريانا وهو لا يعلم ثم تذكر
من ساعته فتناول ثوبه ولبسه فإنه يمضى على صلاته) وفى القياس يستقبل الصلاة لوجود
انكشاف العورة في الصلاة وهو مناف لما ابتدأها ولكنه استحسن فقال الانكشاف
الكثير في المدة اليسيرة بمنزلة الانكشاف اليسير في المدة الطويلة وذلك لا يمنع جواز
الصلاة فهذا مثله وهذا إذا لم يؤد ركنا ولم يمكث عريانا بقدر ما يتمكن فيه من أداء ركن
196

فان مكث عريانا ذلك القدر فليس له أن يبنى قياسا واستحسانا وكذلك ان سال عليه
نجاسة كثيرة وعليه ثوبان فان القى النجس من ساعته فهو على القياس والاستحسان
كما مروان أدى ركنا أو مكث بقدر ما يتمكن من أداء ركن استقبل الصلاة * قال (وإذا
صلت المرأة وربع ساقها مكشوف أعادت الصلاة) وإن كان أقل من ذلك لم تعد عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا تعيد حتى يكون النصف
مكشوفا. فالحاصل أن ستر العورة فرض لقوله تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد والمراد
ستر العورة لأجل الصلاة لا لأجل الناس والناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد
ورأس المرأة عورة قال عليه الصلاة والسلام لا يقبل الله صلاة امرأة حائض الا بخمار أي
صلاة بالغة فان الحائض لا تصلى. ثم القليل من الانكشاف عفو عندنا خلافا للشافعي رحمه
الله تعالى وهو نظير القليل من النجاسة. ودليلنا فيه ضرورة وبلوى خصوصا في حق الفقراء
والذين لا يجدون الا الخلق من الثياب فقد روى عن عمر بن أبي سلمة قال كنت أؤم
أصحابي يعنى الصبيان وعلى إزار متخرق فكانوا يقولون لأمي غطى عنا است ابنك فدل أن
القليل من الانكشاف عفو لا يمنع جواز الصلاة والكثير يمنع فقدر أبو يوسف ذلك بالنصف
لان القلة والكثرة من الأسماء المشتركة فان الشئ إذا قوبل بما هو أكثر منه يكون قليلا
وإذا قوبل بما هو أقل منه يكون كثيرا فإذا كان المكشوف دون النصف فهو في مقابلة
المستور قليل وإذا كان أكثر من النصف فهو في مقابلة المستور كثير وفى النصف سواء
روايتان عن أبي يوسف رحمه الله تعالى. في إحداهما لا يمنع لان الانكشاف الكثير مانع
ولم يوجد. وفى الأخرى استوى لجانب المفسد والمجوز فيغلب المفسد احتياطا للعبادة وأبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله قدرا الكثير بالربع فان الربع يحكى الكمال ألا ترى أن المسح بربع
الرأس كالمسح بجميعه ومن نظر إلى وجه انسان يستجيز من نفسه أن يقول رأيت فلانا وإنما
رأى أحد جوانبه الأربعة والذي بينا في الرأس كذلك في البطن والشعر والفخذ فأما في
القبل والدبر فقد ذكر الكرخي أن التقدير فيهما بالدرهم دون الربع لأنها عورة غليظة فتقاس
بالنجاسة الغليظة وهذا ليس بقوى فإنه ليس في هذا إظهار معنى التغليظ لان الدبر مقدر
بالدرهم فعلى قياس قوله إذا انكشف الدبر ينبغي أن تجوز الصلاة حتى تكون أكثر من
الدرهم فان قدر الدرهم من الصلاة لا يمنع جواز الصلاة حتى يكون أكثر منه والأصح
197

أن التقدير بالربع في الكل واليه أشار في الزيادات * قال (وإذا صلت وشئ من رأسها وشئ
من بطنها وشئ من عورتها باد فإن كان ذلك إذا جمع بلغ قدر ربع عضو يمنع جواز الصلاة)
وإلا فلا * قال (وتقعد المرأة في صلاتها كأستر ما يكون لها) لما روينا أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لتلك المرأة ضمي بعض اللحم إلى الأرض ولان مبنى حالها على التستر في
خروجها فكذلك في صلاتها ينبغي أن تتستر بقدر ما تقدر عليه قال عليه الصلاة والسلام
المرأة عورة مستورة * قال (رجل دعا في صلاته فسأل الله تعالى الرزق والعافية لم تفسد
صلاته) لقوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال عليه الصلاة والسلام وأما في سجودكم
فاجتهدوا بالدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم. وحاصل المذهب عندنا أنه إذا دعا في صلاته
بما في القرآن أو بما يشبه ما في القرآن لم تفسد صلاته وان دعا بما يشبه كلام الناس نحو
قولهم اللهم ألبسني ثوبا اللهم زوجني فلانة تفسد صلاته وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه
إذا دعا في صلاته بما يباح له أن يدعو به خارج الصلاة لم تفسد صلاته لقوله تعالى واسألوا
الله من فضله وقال عليه الصلاة والسلام سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم والملح
لقدوركم وان عليا رضى الله تعالى عنه في حروبه كان يقنت في صلاة الفجر يدعو على من
ناواه (ولنا) حديث معاوية بن الحكم فقد جعل قوله يرحمك الله من جنس كلام الناس
وقال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس فهو كلامهم وان سعد بن أبي
وقاص رضى الله تعالى عنه رأى ابنا له يدعو في صلاته فقال إياك أن تكون من المعتدين
فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون في أمتي أقوام يعتدون في الدعاء
وتلا قوله تعالى انه لا يحب المعتدين ثم قال أما يكفيك أن تقول اللهم أنى أسألك الجنة وما
قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ولا حجة
في حديث علي فإنهم لم يسوغوا له ذلك الاجتهاد حتى كتب إليه أبو موسى الأشعري
رضى الله تعالى عنه أما بعد فإذا أتاك كتابي فأعد صلاتك. وفى الأصل قال أرأيت لو
أنشد شعرا أما كان مفسدا لصلاته ومن الشعر ما هو ذكر نحو قول القائل
* الا كل شئ ما خلا الله باطل * قال (وإذا مر المصلى بآية فيها ذكر الجنة فوقف
عندها وسأل أو بآية فيها ذكر النار فوقف عندها وتعوذ بالله منها فهو حسن في التطوع
إذا كان وحده) لحديث حذيفة رضى الله تعالى عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله
198

عليه وسلم قال فما مر بآية فيها ذكر الجنة الا وقف وسأل الله الجنة وما مر بآية
فيها ذكر النار الا وقف وتعوذ بالله جل وعلا وما مر بآية فيها مثل الا وقف وتفكر
فأما إذا كان اماما كرهت له ذلك لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في
المكتوبات والأئمة بعده إلى يومنا هذا فكان من جملة المحدثات وربما يمل القوم بما
يصنع وذلك مكروه ولكن لا تفسد صلاته لأنه لا يزيد في خشوعه والخشوع زينة
الصلاة وكذلك إن كان خلف الامام فإنه يستمع وينصت لان القوم بالاستماع أمروا
والى الانصات ندبوا وعلى هذا وعدوا الرحمة لقوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا لعلكم ترحمون. ويترتب هذا الفصل على اختلاف العلماء في قراءة المقتدى خلف
الامام فالمذهب عند أهل الكوفة أنه لا يقرأ في شئ من الصلوات وعند أهل المدينة منهم
مالك رحمه الله تعالى يقرأ في صلاة الظهر والعصر ولا يقرأ في صلاة الجهر وعند الشافعي
رضى الله تعالى عنه يقرأ في كل صلاة إلا أن في صلاة الجهر أو ان قراءة الفاتحة بعد فراغ
الامام منها فان الامام ينصت حتى يقرأ المقتدى الفاتحة واستدل بقول النبي صلى الله عليه
وسلم لا صلاة الا بقراءة وفي حديث عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه قال صلينا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فلما فرغ قال لعلكم تقرؤن خلفي فقلنا نعم
فقال لا تقرؤن الا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة الا بها وفي رواية لا صلاة لمن لم يقرأها
والمعنى فيه أن القراءة ركن من أركان الصلاة فلا تسقط بسبب الاقتداء عند الاختيار
كالركوع والسجود بخلاف ما إذا أدرك الامام في الركوع لان تلك الحالة حالة الضرورة
فإنه يخاف فوت الركعة بسبب الضرورة قد تسقط بعض الأركان ألا ترى أن القيام
بعد التكبير ركن وقد يسقط هذا للضرورة (ولنا) قوله تعالى وإذا قرئ القرآن
فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون وأكثر أهل التفسير على أن هذا خطاب للمقتدى
ومنهم من حمله على حال الخطبة ولا تنافى بينهما ففيه بيان الامر بالاستماع والانصات
في حالة الخطبة لما فيها من قراءة القرآن قال صلى الله عليه وسلم من كان له امام فقراءة الامام
له قراءة وقال في الحديث المعروف وإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فانصتوا ومنع المقتدى من
القراءة خلف الإمام مروى عن ثمانين نفرا من كبار الصحابة وقد جمع أساميهم أهل
الحديث. وقال سعد بن أبي وقاص من قرأ خلف الامام فسدت صلاته والمعنى فيه أن القراءة
199

غير مقصودة لعينها بل للتدبر والتفكر والعمل به قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنزل
القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا وحصول هذا المقصود عند قراءة الإمام وسماع
القوم فإذا اشتغل كل واحد منهم بالقراءة لا يتم هذا المقصود وهذا نظير الخطبة فالمقصود
منها الوعظ والتدبر وذلك بأن يخطب الامام ويستمع القوم لا أن يخطب كل واحد منهم
لنفسه دل عليه إذا أدرك الامام في حالة الركوع فان خاف فوت الركعة سقط عنه فرض
القراءة ولو كان من الأركان في حق المقتدى لما سقط بهذا العذر كالركوع والسجود ولا
يقال إن ركن القيام يسقط فإنه لا بد من أن يكبر قائما وفرض القيام يتأدى بأدنى ما يتناوله
الاسم ولا حجة لهم في الحديث فإنه بقراءة الامام تصير صلاة القوم بالقراءة كما أن بخطبة
الامام تصير صلاتهم جميعا بالخطبة وحديث عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه يحمل على
أنه كان ركنا في الابتداء ثم منعهم عن القراءة خلفه بعد ذلك ألا ترى أنه لما سمع رجلا
يقرأ خلفه قال مالي أنازع في القرآن. والقراءة مخالفة لسائر الأركان فما هو المقصود بها
لا يحصل بفعل الامام بخلاف القراءة على ما مر ومذهب مالك رحمه الله تعالى مروى عن
ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فان رجلا سأله أأقرأ خلف الامام فقال له أما في الظهر
والعصر فنعم * قال (وإذا مرت الخادم بين يدي المصلى فقال سبحان الله أو أومأ بيده
ليصرفها لم تقطع صلاته) لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار على زينب فلم تقف
وقال صلى الله عليه وسلم إذا نابت أحدكم نائبة فليسبح فان التسبيح للرجال والتصفيق للنساء
قال في الكتاب وأحب إلى أن لا يفعل معناه ولا يجمع بين التسبيح والإشارة باليد فان
له بأحدهما كفاية فمنهم من قال المستحب أن لا يفعل شيئا من ذلك وتأويل قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في وقت كان العمل فيه مباحا في الصلاة فان استأذن عليه
انسان فسبح وأراد أعلامه أنه في الصلاة لحديث علي رضي الله عنه كان لي مدخلان من
رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم بأيهما شئت دخلت فكنت إذا أتيت الباب فإن لم
يكن في الصلاة فتح الباب فدخلت وإن كان في الصلاة رفع صوته بالقراءة فانصرفت ولأنه
قصد بهذا صيانة صلاته ولو لم يفعل ربما يلح المستأذن حتى يبتلى هو بالغلط في القراءة وان
أخبر بخبر يسوءه فاسترجع لذلك فان أراد جوابه قطع صلاته وإن لم يرد جوابه لم يقطع لان
مطلق الكلام محمول على قصد التكلم فإذا أراد به الجواب كان جوابا ومعنى استرجاعه
200

أعينوني فانى مصاب ولو صرح بهذا لم يشكل فساد صلاته فكذلك إذا أراده بالاسترجاع
وإذا أخبر بخبر يسره فقال الحمد لله أو أخبر بما يتعجب منه فقال سبحان الله وأراد جواب
المخبر فقد قطع صلاته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف التحميد
وأشباه ذلك لا يقطع الصلاة وان أراد به الجواب لان النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما
هي للتسبيح والتهليل وقراءة القرآن فما تلفظ به شرعت الصلاة لأجله فلو فسدت صلاته
إنما تفسد بنيته ومجرد نية الكلام غير مفسد. ولم يذكر خلاف أبى يوسف في مسألة
الاسترجاع والأصح أن الكل على الخلاف ومن سلم قال الاسترجاع إظهار المصيبة
وما شرعت الصلاة لأجله والتحميد إظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله (ولنا) قوله
عليه الصلاة والسلام من سبح من غير غضب ولا عجب فله من الاجر كذا وإنما جعله مسبحا
إذا لم يقصد به التعجب فثبت له أنه إذا قصد به التعجب كان متعجبا لا مسبحا وهذا لان
الكلام مبنى على غرض المتكلم فمن رأى رجلا اسمه يحيى وبين يديه كتاب فقال يا يحيى
خذ الكتاب بقوة وأراد به خطابه لم يشكل على أحد أنه متكلم لا قارئ وإذا قيل
للمصلي بأي موضع مررت فقال ببئر معطلة وقصر مشيد وأراد الجواب لا يشكل أنه
متكلم به وإذا أنشد شعرا فيه ذكر اسم الله لم يشكل أنه كان منشدا لا ذاكرا حتى
تفسد صلاته فكذلك فيما نحن فيه * قال (وإذا قرأ في صلاته في المصحف فسدت صلاته)
عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى صلاته تامة ويكره ذلك
وقال الشافعي رضي الله عنه لا يكره لحديث ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه كان
يؤمها في شهر رمضان وكان يقرأ في المصحف ولأنه ليس فيه الا حمل المصحف بيده والنظر
فيه ولو حمل شيأ آخر لم تفسد صلاته فكذلك المصحف إلا أنهما كرها ذلك لأنه تشبه
بفعل أهل الكتاب والشافعي رحمه الله تعالى قال ما نهينا عن التشبه بهم في كل شئ فانا
نأكل كما يأكلون ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان. أحدهما أن حمل المصحف
وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر فيه ليفهم عمل كثير وهو مفسد للصلاة كالرمي
بالقوس في صلاته وعلى هذا الطريق يقول إذا كان المصحف موضوعا بين يديه أو قرأ بما
هو مكتوب على المحراب لم تفسد صلاته. والأصح أن يقول إنه يلقن من المصحف فكأنه
تعلم من معلم وذلك مفسد لصلاته ألا ترى أن من يأخذ من المصحف يسمى صحفيا ومن لا
201

يحسن قراءة شئ عن ظهر قلبه يكون أميا يصلى بغير قراءة فدل أنه متعلم من المصحف
وعلى هذا الطريق لا فرق بين أن يكون موضوعا بين يديه أو في يديه وليس المراد بحديث
ذكوان أنه كان يقرأ من المصحف في الصلاة إنما المراد بيان حاله انه كأن لا يقرأ جميع
القرآن عن ظهر القلب والمقصود بيان أن قراءة جميع القرآن في قيام رمضان ليس بفرض
* قال (رجل صلى ومعه جلد ميتة مدبوغ فلا بأس بذلك عندنا) وقال مالك رحمه الله تعالى
لا تجوز صلاته ولا ينتفع عنده بجلد الميتة وإن كان مدبوغا الا في الجامد من الأشياء واستدل
بحديث عبد الله بن حكيم الليثي قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته
بسبعة أيام وفيه لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب (ولنا) قوله صلى الله عليه وسلم
أيما إهاب دبغ فقد طهر وتأويل حديث عبد الله أنه كان قبل الدباغة قال الأصمعي رحمه
الله تعالى الإهاب اسم لجلد لم يدبغ فإذا دبغ يسمى أديما ثم المحرم بالموت ما يدخل تحت
مصلحة الأكل قال صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الميتة أكلها وبالدباغ خرج الجلد من
أن يكون صالحا للأكل وتبين أن نجاسته بما اتصل به من الدسومات النجسة وقد زال
بذلك بالدباغ فصار طاهرا كالخمر تخلل وأصح ما قيل في حد الدباغ عندنا ما يعصمه من
النتن والفساد حتى إذا شمسه أو تربه كان ذلك دباغا عندنا وعند الشافعي رضى الله تعالى
عنه لا يكون دباغا الا بما يزيل الدسومات النجسة عنه وذلك باستعمال الشب والقرض
والعفص (ودليلنا) فيه أن المقصود اخراجه من أن يكون صالحا لمنفعة الأكل وقد حصل
ذلك وبه تبين أنه لم يبق فيه الدسومات النجسة فإنها لو بقيت فيه لأنتن بمضي الزمان
وكذلك جلود السباع عندنا ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه وقال الشافعي رضى الله تعالى
عنه مالا يؤكل لحمه لا يطهر جلده بالدباغ وقاس بجلد الخنزير والآدمي (ولنا) عموم
الحديث أيما إهاب دبغ فقد طهر وما طهر من لبس الناس كجلد الثعلب والفيل والسمور
ونحوها في الصلاة وغير الصلاة من غير نكير منكر يدل على طهارته بالدباغ فأما جلد
الخنزير فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يطهر بالدباغ أيضا وفى ظاهر الرواية
لا يحتمل الدباغة فان له جلودا مترادفة بعضها فوق بعض كما للآدمي وإنما لا يطهر
لعدم احتماله المطهر وهو الدباغ أو لان عينه نجس وجلده من عينه فأما في سائر الحيوانات
النجس ما اتصل بالعين من الدسومات وعلى هذا جلد الكلب يطهر عندنا بالدباغ وقال
202

الحسن بن زياد رحمه الله تعالى لا يطهر وهو قول الشافعي رضى الله تعالى عنه لان عين
الكلب نجس عندهما ولكنا نقول الانتفاع به مباح في حالة الاختيار فلو كان عينه
نجسا لما أبيح الانتفاع به فإن كان الجلد غير مدبوغ فصلى فيه أو صلى ومعه شئ كثير من
لحم الميتة فصلاته فاسدة لأنه حامل للنجاسة وان صلى ومعه شئ من أصوافها وشعورها أو
عظم من عظامها فصلاته تامة عندنا وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه فيهما حياة وقال مالك
رضى الله تعالى عنه في العظم حياة دون الشعر واستدلوا بقوله تعالى قال من يحيى العظام
وهي رميم ولأنه ينمو بتمادي الروح فكان فيه حياة فيحله الموت فيتنجس به ومالك يقول
العظم يتألم ويظهر ذلك في السن بخلاف الشعر (ولنا) أنه مبان من الحي فلا يتألم به
ويجوز الانتفاع وقال صلى الله عليه وسلم ما أبين من الحي فهو ميت فلو كان فيه حياة لما
جاز الانتفاع به ولا نقول إن العظم يتألم بل ما هو متصل به فاللحم يتألم وبين الناس كلام في
السن أنه عظم أو طرف عصب يابس فان العظم لا يحدث في البدن بعد الولادة وتأويل قوله
تعالى من يحيى العظام وهي رميم أي النفوس وفى العصب روايتان في احدى الروايتين فيها
حياة لما فيها من الحركة وينجس بالموت ألا ترى أنه يتألم الحي بقطعه بخلاف العظم فان
قطع قرن البقرة لا يؤلمها فدل أنه ليس في العظام حياة فلا يتنجس بالموت واليه أشار رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين مر بشاة ملقاة لميمونة فقال هلا انتفعتم باهابها فقيل إنها ميتة
فقال إنما حرم من الميتة أكلها وهذا نص على أن ما لا يدخل تحت مصلحة الأكل لا يتنجس
بالموت وعلى هذا شعر الآدمي طاهر عندنا خلافا للشافعي رضى الله تعالى عنه فان النبي
صلى الله عليه وسلم حين حلق شعره قسم شعره أصحابه فلو كان نجسا لما جاز لهم التبرك به
ولكن لا ينتفع به لحرمته لا لنجاسته وكذلك عظمه لا ينتفع به لحرمته والذي قيل إذا
طحن سن الآدمي مع الحنطة لم يؤكل وذلك لحرمة الآدمي لا لنجاسته فأما الخنزير فهو
نجس العين عظمه وعصبه في النجاسة كلحمه فأما شعره فقد قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى
يجوز استعماله للخراز لأجل الضرورة وفى طهارته عنه روايتان في رواية طاهر وهكذا روى
عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه طاهر لما كان الانتفاع به جائزا ولهذا جوز
أبو حنيفة بيع لان الانتقاع لا يتأدى به الا بعد الملك وهو نجس في احدى الروايتين
لان الثابت بالضرورة لا يعدو موضعها وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى انه ألحق الفيل
203

بالخنزير والأصح أنه كسائر الحيوانات عظمه طاهر وقد جاء في حديث ثوبان ان النبي صلى
الله عليه وسلم اشترى لفاطمة سوارين من عاج وظهر استعمال الناس العاج من غير نكير
فدل على طهارته * قال (رجل صلى وقدامه عذرة قال لا يفسد ذلك صلاته) لان شرط
الصلاة طهارة مكان الصلاة وقد وجد فالنجاسة فيما وراء ذلك لا تضره والمستحب أن يبعد
من موضع النجاسة عند أداء الصلاة لأن لمكان الصلاة حرمة فيختار لها أقرب الأماكن
إلى الحرمة وان كانت النجاسة في موضع قيامه فصلاته فاسدة إذا كانت كثيرة لان القيام
ركن فلا يتأدى على مكان نجس وكونه على النجاسة ككون النجاسة عليه في افساد الصلاة
فإن كانت النجاسة في موضع سجوده فكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
وهو الظاهر من قول أبي حنيفة وروى أبو يوسف عنه أن صلاته جائزة ووجهه أن فرض
السجود يتأدى بوضع الأرنبة على الأرض عنده وذلك دون مقدار الدرهم. ووجه ظاهر
الرواية أن السجود فرض فإذا وضع الجبهة والأنف تأدى الفرض بالكل كما إذا طول القراءة
أو طول الركوع كان مؤديا للفرض وأداء الكل بالفرض في المكان النجس لا يجوز والجبهة
والأنف أكثر من قدر الدرهم وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا سجد
على مكان نجس ثم أعاد على مكان طاهر جاز وقال زفر رحمه الله تعالى لا تجوز صلاته.
وجه قوله أن السجدة قد فسدت بأدائها على مكان نجس والصلاة الواحدة لا تتجزأ فإذا
فسد بعضها فسد كلها كما لو أقام على النجاسة عند التحرم. ووجه قول أبى يوسف رحمه الله
تعالى ان الركن لا يتأدى على مكان نجس فكأنه لم يؤدها أصلا حتى أداها على مكان
طاهر وهكذا نقول إذا كان عند التحرم على مكان نجس يصير كأنه لم يتحرم للصلاة أصلا
حتى لو كان متطوعا لا يلزمه القضاء وإن كان النجاسة في موضع الكفين أو الركبتين
جازت صلاته عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا تجزئه لان أداء السجدة بوضع اليدين
والركبتين والوجه جميعا فكانت النجاسة في موضع الركبتين كهي في موضع الوجه فأكثر
ما في الباب أن له بدأ من موضع اليدين والركبتين وهذا لا يدل على الجواز لا إذا وضع
يده على المكان النجس كما لو لبس ثوبين بأحدهما نجاسة كثيرة لا تجوز صلاته وله بد
من لبس الثوب النجس كما بالاكتفاء بثوب واحد (ولنا) أن وضع اليدين والركبتين
على مكان نجس كترك الوضع أصلا وترك وضع اليدين والركبتين في السجود لا يمنع
204

الجواز كما قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مثل الذي يصلى وهو عاقص شعره كمثل الذي
يصلى وهو مكتوف وبه فارق الوجه فان ترك الوضع فيه يمنع جواز السجود بخلاف
الثوبين فان اللابس للثوب مستعمل له فإذا كان نجسا كان حاملا للنجاسة فلهذا تفسد
صلاته كما لو كان يمسكه بيده والمصلى ليس بحامل للمكان حتى تفسد صلاته بهذا الطريق بل
الطريق ما قلناه أن ما وضعه على مكان نجس يجعل كأنه لم يضعه أصلا * قال (رجل صلى على
مكان من الأرض قد كان فيه نجاسة فجفت وذهب أثرها جازت صلاته عندنا) وقال زفر
رحمه الله تعالى لا تجزئه لان الشرط طهارة المكان ولم يوجد بدليل أن التيمم لا يجوز بهذا
الموضع (ولنا) قوله صلى الله عليه وسلم أيما أرض جفت فقد زكت أي طهرت وقال
زكاة الأرض يبسها ثم النجاسة تحرقها الشمس وتفرقها الريح وتحول عينها الأرض وينشفها
الهواء فلا تبقى عينها بعد تأثير هذا الأشياء فيها فتعود الأرض كما كانت قبل الإصابة
وقد مر الفرق بين الصلاة والتيمم الصحيح من الجواب أنه لا فرق بين موضع تقع
عليه الشمس أو لا تقع وبين موضع فيه حشيش نابت أوليس فيه لان الحشيش تابع
للأرض فان أصاب الموضع ماء فابتل أو ألقي من ترابه في ماء قليل ففيه روايتان إحداهما
أنه يعود نجسا كما قبل الجفاف والأخرى وهو الأصح أنه لا يتنجس لان بعد الحكم
بطهارته لم يوجد الا إصابة الماء والماء لا ينجس شيئا بخلاف ما إذا أصابت النجاسة
البساط فذهب أثرها لأن النجاسة تتداخل في أجزاء البساط فلا يخرجها الا الغسل
بالماء وليس من طبع البساط أن يحول شيئا إلى طبعه ومن طبع الأرض تحويل الأشياء
إلى طبعها فان الثياب إذا طال مكثها في التراب تصير ترابا فإذا تحولت النجاسة إلى طبع
الأرض بذهاب أثرها حكمنا بطهارة الموضع لهذا وإن كان الأثر باقيا لم تجز الصلاة لان
طهور الأثر دليل على بقاء النجاسة * قال (ولا بأس بأن يصلى على الثلج إذا كان ممكنا يستطيع
أن يسجد عليه) معناه أن يكون موضع سجوده متلبدا لأنه حينئذ يجد جبينه حجم الأرض
فأما إذا لم يكن متلبدا حتى لا يجد جبينه حجم الأرض حينئذ لا يجزئه لأنه بمنزلة السجود
على الهواء على هذا السجود على الحشيش أو القطن ان شغل جبينه فيه حتى وجد حجم
الأرض أجزأ وإلا فلا وكذلك إذا صلى على طنفسة محشوة جازت صلاته إذا كان متلبدا
الا على قول مالك رحمه الله تعالى وقد روى عن بعض الصحابة قال ما أبالي صليت على
205

عشر طنافس أو أكثر وكذلك الصلاة على الحصير لأنه عمل الناس في مساجدهم بخلاف
ما يقوله بعض من لا يعتد بقوله انه لا يجوز الصلاة على الحصير لان سائلا سأل عائشة
رضى الله تعالى عنها هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصير فاني سمعت قول
الله تعالى وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا فقال لا ولكن هذا الحديث شاذ فقد اشتهر
عن عائشة رضى الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى على الخمرة
وهو اسم لقطعة حصير ومعنى قول الله تعالى وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا أي محتبسا وجاء
في الحديث الصلاة على ما تنبته الأرض أفضل من الصلاة على ما لم تنبته الأرض فلهذا
اختاروا الحشيش والحصير على البساط * قال (ويكره أن يكون قبلة المسجد إلى حمام أو
قبر أو مخرج) لان جهة القبلة يجب تعظيمها والمساجد كذلك قال الله تعالى في بيوت
أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ومعنى التعظيم لا يحصل إذا كانت قبلة المسجد إلى
هذه المواضع التي لا تخلو عن الأقذار * وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
قال هذا في مساجد الجماعة فأما في مسجد الرجل في بيته فلا بأس بأن يكون قبلته إلى
هذه المواضع لأنه ليس له حرمة المساجد حتى يجوز بيعه وللناس فيه بلوى بخلاف مسجد
الجماعة ولو صلى في مثل هذا المسجد جازت صلاته الا على قول بشر بن غياث المريسي
وكذلك لو صلى في أرض مغصوبة أو صلى وعليه ثوب مغصوب عنده لا يجوز لان
العبادة لا تتأدى بما هو منهى عنه والنهى عندنا إذا لم يكن لمعنى في الصلاة لا يمنع جوازها
وأصل النهى في هذا الباب حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن الصلاة في سبع مواطن المجزرة والمزبلة والمقبرة والحمام وقوارع الطريق
ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله. فأما المجزرة والمزبلة فموضع النجاسات لا يجوز
الصلاة فيهما لانعدام شرطها وهو الطهارة من حيث المكان. وأما المقبرة فقيل إنما نهى
عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود كما قال صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد فلا تتخذوا قبري بعدي مسجدا ورأي عمر رضى الله تعالى عنه رجلا
يصلى بالليل إلى قبر فناداه القبر القبر فظن الرجل أنه يقول القمر فجعل ينظر إلى السماء فما
زال به حتى بينه فعلى هذا القول تجوز الصلاة وتكره وقيل معني النهى أن المقابر لا تخلو
عن النجاسات فالجهال يستترون بما يشرف من القبور فيبولون ويتغوطون خلفه فعلى هذا
206

لا تجوز الصلاة لانعدام طهارة المكان. ومعنى النهى في الحمام أنه مصب الغسالات والنجاسات
عادة فعلى هذا إذا صلى في موضع جلوس الحمامي لا يكره وقيل معنى النهى أن الحمام بيت
الشيطان فعلى هذا الكراهة في كل موضع منه سواء غسل ذلك الموضع أو لم يغسل. ومعنى
النهى في قوارع الطريق انه يستضر به المار فعلى هذا إذا كان الطريق واسعا لا يكره
وحكي ابن سماعة أن محمدا رحمه الله تعالى كان يصلى على الطريق في البادية وقيل معنى النهى
في قوارع الطرق أنها لا تخلو عن الأرواث والأبوال عادة فعلى هذا لا فرق بين الطريق
الواسع والضيق. ومعنى النهى في معاطن الإبل قيل لأنها لا تخلو عن النجاسة عادة إلا أنه
جاء في الحديث صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل وفيما يكون منها المعاطن
والمرابض سواء وقيل معنى النهى أن الإبل ربما تصول على المصلى فيبتلى بما يفسد صلاته
وهذا لا يتوهم من الغنم. وأما فوق ظهر بيت الله النهى عندنا لان الانسان منهى عن الصعود
على سطح الكعبة لما فيه من ترك التعظيم فلا يمنع جواز الصلاة وعند الشافعي رضي الله
تعالى عنه هذا النهي لا فساد صلاته حتى إذا صلى على سطح الكعبة وليس بين يديه سترة
لا تجوز صلاته عنده على ما بينه في آخر الكتاب * قال (ومن زحمه الناس فلم يجد موضعا
للسجود فسجد على ظهر رجل أجزأه) لقول عمر رضى الله تعالى عنه اسجد على ظهر
أخيك فإنه مسجد لك وقال في خطبته حين طلب من الناس أن يوسع المسجد أيها
الناس أن هذا مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار معه
فمن لم يجد موضعا فليسجد على ظهر أخيه * وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى قال إن كان السجود علي ظهر شريكه في الصلاة يجوز وإلا فلا لان الجواز للضرورة
وذلك عند المشاركة في الصلاة ومن أصحابنا من قال المراد ظهر القدم فأما إذا سجد علي
ظهره فهو راكع لا ساجد فلا يجزئه وهو قول الحسن بن زياد والأصح أنه يجوز لان
الرخصة فيه ثابتة شرعا للضرورة ومن اقتدى بامام ينوى صلاته ولم يدر أنها الظهر أو الجمعة
أجزأه أيهما كأن لأنه بني صلاته علي صلاة الامام وذلك معلوم عند الامام فالعلم في حق
الأصل يغني عنه في حق التبع والبناء والأصل فيه حديث علي وأبي موسى رضي الله تعالى
عنهما فإنهما قدما من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بم أهللتما فقالا باهلال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فجوز ذلك لهما وإن لم يكن معلوما عندهما وقت الا هلال فان
207

لم ينو صلاة الامام ولكنه نوى الظهر والاقتداء إذا كان امامه في الجمعة فصلاته فاسدة لأنه
يؤدى غير صلاة الامام وتغاير الفرضين يمنع الاقتداء وفي غير رواية أبى سليمان قال إذا
نوى صلاة الامام والجمعة فإذا هي الظهر جازت صلاته وهذا صحيح فقد تحقق البناء بنية
صلاة الامام ولا يعتبر بما زاد بعد ذلك وهو كمن نوى الاقتداء بهذا الامام وعنده
أنه زيد فإذا هو عمرو وكان الاقتداء صحيحا بخلاف ما إذا نوى الاقتداء بزيد فإذا هو
عمرو * قال (وإذا صلى الرجل المكتوبة كرهت له أن يعتمد على شئ الا من عذر) لان
في الاعتماد تنقيص القيام ولا يجوز ترك القيام في المكتوبة الا من عذر فكذلك يكره
تنقيصه بالاعتماد الا من عذر وان فعل جازت صلاته لوجود أصل القيام ولم يبين الاعتماد
في التطوع فقيل لا بأس به لان ترك القيام يجوز في التطوع فتنقيصه أولى وقيل بل يكره
لان في الاعتماد بعض التنعم والتجبر ولا ينبغي للمصلى أن يفعل شيأ من ذلك بغير عذر
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المسجد حبلا ممدودا فقال لمن هذا فقيل لفلانة
تصلى بالليل فإذا أعيت اتكأت فقال لتصل فلانة بالليل ما بسطت فإذا أعيت فلتنم * قال
(ومن نسي تكبيرة الافتتاح حتى قرأ لم يكن داخلا في الصلاة) وكان عطاء يقول تكبيرة
الركوع تنوب عن تكبيرة الافتتاح وهذا فاسد فان أركان الصلاة لا تكون الا بعد
التحريمة والتحرم للصلاة بالتكبير يكون فإذا لم يكبر للافتتاح لم يكن داخلا في الصلاة
* قال (وإذا افتتح التطوع قائما ثم أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة
استحسانا) وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجزئه قياسا لان الشروع ملزم
كالنذر ومن نذر أن يصلى ركعتين قائما لم يجزه ان يقعد فيهما فكذلك إذا شرع قائما
لم يجزه أن يقعد فيهما فكذلك إذا شرع قاعدا وأبو حنيفة يقول القعود في التطوع بلا
عذر كالقعود في الفرض بعذر ثم هناك لا فرق بين حال الابتداء أو البقاء فكذلك
هنا وهذا لأنه في الابتداء كان مخيرا بين القيام والقعود وخياره فيما لم يؤد باق والشروع
إنما يلزمه ما باشر ولا صحة لما باشر الا به وللركعة الأولى صحة بدون القيام في الركعة الثانية
بدليل حالة العذر فلم يلزمه القيام بالشروع بخلاف النذر فهو التزام بالتسمية وقد نص
فيه على صفة القيام ولا رواية فيما إذا أطلق النذر فقيل يلزمه بصفة القيام اعتبارا لما يوجبه
على نفسه بما يوجب الله تعالى عليه مطلقا وقيل لا يلزمه لان القيام وراء ما به يتم التطوع
208

ولا يلزمه الا بالتنصيص عليه كالتتابع في الصوم وقيل هو على الخلاف على قياس ما مر
في الشروع فان افتتحها قاعدا فقضى بعضها قائما وبعضها قاعدا أجزأه لما روى عن
عائشة رضى الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح التطوع قاعدا فيقرأ
ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام مقام قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل في
الركعة الثانية فقد انتقل من القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل أن ذلك جائز في
التطوع * قال (وإذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في ثوب نجس لم يكن داخلا في صلاته
ولا يلزمه القضاء) لان الشروع لم يصح ووجوب القضاء والا تمام ينبنى عليه (وان افتتحها نصف
النهار أو حين تحمر الشمس أو عند طلوعها فان صلى كذلك فقد أساء ولا يبنى عليه) لأنه
أداها كما شرع فيها وان قطعها فعليها القضاء الأعلى قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يعتبر
الشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة بالشروع في صوم يوم النحر لعله ان يرتكب
المنهى والفرق لنا أن بالشروع هناك يصير صائما مرتكبا للمنهي وهاهنا بنفس الشروع
لا يصير مصليا ما لم يقيد الركعة بالسجدة وارتكاب المنهى فيه ولان هناك لا يتصور الأداء
بذلك الشروع الا بصفة الكراهة وهاهنا يتصور بأن يصبر حتى يذهب الوقت فلهذا ألزمناه
القضاء والفرق بين هذا وبين ما سبق أن الشروع كالنذر والنذر بالصلاة في هذه الأوقات
يصح فكذلك الشروع فأما النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح * وهنا مسائل. إذا نذر أن
يصلى ركعتين بغير وضوء أو عريانا أو بغير قراءة فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في
المواضع كلها يلزمه ما سمى في الصلاة الصحيحة وما زاد في كلامه فهو لغو وعند زفر رحمه
الله تعالى لا يلزمه شئ في الأحوال كلها لان ما سماء في نذره ليس بقربة وعند محمد رحمه
الله إذا سمى ما لا يجوز أداء الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه شئ وإذا سمى
ما يجوز أداء الصلاة معه في بعض الأحوال كالصلاة بغير قراءة تلزمه * قال (وان افتتح
صلاة التطوع وقت طلوع الشمس ثم قطعها ثم قضاها وقت تغير الشمس أجزأه) لأنه لو أتمها
في ذلك الوقت أجزأه فكذلك إذا قضاها في مثل ذلك الوقت * قال (وإذا صلت المرأة وهي
حاملة ابنتها أجزأها) لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى في بيته وأمامة بنت أبي
العاص يحملها على عاتقه فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها * قال (وهي مسيئة في ذلك لأنها
شغلت نفسها بما ليس من أعمال صلاتها وأدنى ما فيه أن ذلك يمنعها من سنة الاعتماد (فان قيل)
209

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كأن لا يفعل في صلاته ما هو مكروه (وقلنا) تأويله أنه كان في
وقت كان العمل في الصلاة مباحا أولم يكن الاعتماد سنة * قال (وان صلى وفي فمه شئ يمسكه
جازت صلاته) وهذا إذا كان في فمه درهم أو دينار أو لؤلؤة على وجه لا يمنعه من القراءة فإن كان
يمنعه من القراءة لا تجوز صلاته لأنه أكل وكذلك إن كان في فمه سكرة لا تجوز صلاته
لأنه أكل ولذلك إن كان في كفه متاع يمسكه جازت صلاته كما لو ترك الاعتماد أو وضع اليدين
على الركبتين في الركوع. والمصلى قاعدا تطوعا أو فريضة بعذر يتربع ويعقد كيف شاء من
غير كراهة ان شاء محتبيا وان شاء متربعا لأنه لما جاز له ترك أصل القيام فترك صفة القعود أولى
وقال زفر رحمه الله تعالى يقعد على ركبتيه كما يفعله في التشهد وقال أبو يوسف يؤدي جميع صلاته
متربعا في حال قيامه فإذا أراد أن يركع قعد على ركبتيه ليكون أيسر عليه * قال (وإذا صلى فوق
المسجد مقتديا بالامام أجزأه) لحديث أبي هريرة أنه وقف على سطح المسجد واقتدى
بالامام وهو في جوفه وهذا إذا كان وقوفه خلف الامام أو بحذائه فإذا كان متقدما عليه لم
يجزه كما لو افتتحها في جوف المسجد * قال (وكذلك إن كان على سطح بجنب المسجد وليس
بينهما طريق) وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه لا يصح اقتداؤه لأنه ترك مكان الصلاة
بالجماعة من غير ضرورة (ولنا) أن اقتداءه وهو على سطح بجنب المسجد بمنزلة اقتدائه
به وهو في جوف المسجد معه لأنه لا يشتبه عليه حال امامه وليس بينهما مانع من الاقتداء
فلهذا جوزناه * قال (ولا بأس بالصلاة في بيت في قبلته تماثيل مقطوعة الرأس) لان التمثال تمثال
برأسه فبقطع الرأس يخرج من أن يكون تمثالا بيانه فيما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
أهدى إليه ثوب عليه تمثال طائر فأصبحوا وقد محا وجهه وروى أن جبريل صلوات الله
عليه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذن له فقال كيف أدخل وفى البيت
قرام فيه تمثال خيول ورجال فاما أن تقطع رؤسها أو تتخذ وسائد فتوطأ ولان بعد قطع
الرأس صار بمنزلة تماثيل الشجر وذلك غير مكروه إنما المكروه تمثال ذي الروح هكذا روى
عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه نهى مصورا عن التصوير فقال كيف أصنع وهو
كسبى قال إن لم يكن بد فعليك بتمثال الأشجار وان عليا رضى الله تعالى عنه قال من صور
تمثال ذي الروح كلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح وليس بنافخ. وإن لم تكن مقطوعة
الرأس كرهتها في القبلة لان فيه تشبيها بمن يعبد الصور ولكن هذا إذا كان كان كبيرا يبدو
210

للناظرين من بعيد فإن كان صغيرا فلا بأس لان من يعبد الصورة لا يعبد الصغير منها جدا وقد
كان على خاتم أبى موسى ذبابتان ولما وجد خاتم دانيال صلوات الله وسلامه عليه كان على فصه
أسدان بينهما رجل يلحسانه كأنه كان يحكى بهذا ابتداء حاله أو لان التمثال في شريعة من قبلنا
كان حلالا قال الله تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وكما يكره في القبلة يكره
في السقف أو عن يمين القبلة أو عن يسارها لان الأثر قد جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا
فيه كلب أو صورة فيجب تنزيه مواضع الصلاة عن ذلك إلا أنه إذا كانت الصورة على
الحائط الذي هو خلف المصلى فالكراهة فيه أيسر لان معنى التعظيم والتشبيه بمن يعبد الصور
تنعدم هنا وكذلك ان كانت الصورة على الأرض والأزر والستور وأما على البساط فنقول
اتخاذ الصورة على البساط مكروه ولكن لا بأس بالنوم والجلوس عليه لان البساط يوطأ
فلا يحصل فيه معنى التعظيم وكذلك الوسادة ألا ترى أنه قال في حديث جبريل أو تتخذ
وسائد فتوطأ فإن كان المصلى على البساط ان كانت الصورة في موضع وجهه أو أمامه فهو
مكروه لان فيه معنى التعظيم يحصل بتقرب الوجه من الصورة وان كانت في موضع قدميه
فلا بأس به لان معنى التعظيم فيه لا يحصل فصلاته جائزة على كل حال لان الكراهة
ليست لمعنى راجع إلى الصلاة * قال (رجل قارئ دخل في صلاة أمي تطوعا أو في صلاة
امرأة أو جنب ثم أفسدها علي نفسه فليس عليه قضاؤها) لان شروعه في الصلاة لم يصح
حين اقتدى بمن لا يصلح اماما له ولا يتمكن من أداء الصلاة خلفه ووجوب القضاء يكون
بالافساد بعد صحة الشروع * قال (وإذا وقفت جارية مراهقة تعقل الصلاة بجنب رجل
خلف الامام وهما في صلاته فسدت صلاة الرجل) استحسانا وفى القياس لا تفسد لان صلاة
غير البالغة تخلق وليست بصلاة حقيقية ووجه الاستحسان أنها تؤمر بالصلاة وتضرب
على ذلك كما ورد به الحديث فكانت كالبالغة في المشاركة في أصل الصلاة وعليه ينبنى
الفساد بسبب المحاذاة لأنها تشتهى فلا يصفو قبل الرجل عن الشهوة في حال المناجاة عند
محاذاتها وهذا المعنى موجود هنا قال ألا ترى أنها لو صلت بغير وضوء أو عريانة أمرتها أن
تعيد الصلاة لأنها إنما تؤمر بالصلاة لتتعود فلا يشق عليها إذا بلغت وذلك إذا أدت بصفة
يجوز أداؤها بتلك الصفة بعد البلوغ بحال فان أدت بغير طهارة أو عريانة لا يحصل هذا
المقصود فلهذا أمرت بالإعادة ولو صلت بغير قناع في القياس تؤمر بالإعادة كما إذا صلت
211

عريانة لان الرأس منها عورة ولكنه استحسن فقال تجزئها صلاتها لقول النبي صلى
الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض الا بخمار معناه صلاة بالغة فثبت أن صلاة غير
البالغة تجوز بغير الخمار ولان من البالغات من تصلى بغير قناع وهي المملوكة وتجوز
صلاتها فصلاة غير البالغة أولى بخلاف العريانة * قال (وللأمة أن تصلى بغير قناع)
لحديث عمر رضى الله تعالى عنه أنه كان إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة وقال ألقى
عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر وكذلك المكاتبة والمدبرة وأم الولد لان الرق قائم
فيهن فليس لرؤوسهن حكم العورة فان أعتقت في صلاتها أخذت قناعها ومضت في صلاتها
استحسانا وفى القياس تستقبل كالعريانة إذا وجدت ثوبا في خلال الصلاة. وجه الاستحسان
أن فرض الستر لزمها في خلال الصلاة مقصورا عليها وقد أتت به كما لزمها بخلاف العريانة
لان فرض الستر كان عليها قبل الشروع ولكنها كانت عريانة بعذر العجز فإذا أزيل
استقبلت كالمتيمم إذا وجد الماء في خلال الصلاة توضأ واستقبل والمتوضئ إذا سبقه الحدث
توضأ وبنى على صلاته فهذا مثله
* (باب صلاة المريض) *
الأصل في صلاة المريض قوله تعالى الذين يذكروه الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
قال الضحاك في تفسيره هو بيان حال المريض في أداء الصلاة على حسب الطاقة ودخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمران بن حصين يعوده في مرضه فقال كيف أصلى فقال
عليه الصلاة والسلام صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماء فإن لم
تستطع فالله أولى بالعذراى بقبول العذر منك ولان الطاعة على حسب الطاقة قال الله تعالى
لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم. فإذا عرفنا هذا فنقول المريض
إذا كان قادرا على القيام يصلى قائما فإذا عجز عن القيام يصلى قاعدا بركوع وسجود وإذا
كان عاجزا عن القعود يصلى بالايماء لأنه وسع مثله فإن كان قادرا على القيام في أول الصلاة
وعجز عن القيام فإنه يقعد وفرق بين هذا وبين الصوم فان المريض إذا كان قادرا على الصوم
في بعض اليوم ثم عجز فإنه لا يصوم أصلا وهنا يصلى. وجه الفرق بينهما وذلك لان في
الصوم لما أفطر في آخر اليوم لم يكن فعله في أول اليوم معتدا فلا يشتغل به وفى الصلاة وان
212

قعد في آخره ولكن فعله في أول الصلاة وقع معتدا فيشتغل به وأما إذا كان قادرا على القيام
وعاجزا عن الركوع والسجود فإنه يصلى قاعدا بايماء وسقط عنه القيام لان هذا القيام ليس
بركن لان القيام إنما شرع لافتتاح الركوع والسجود به فكل قيام لا يعقبه سجود لا يكون ركنا ولان الايماء إنما شرع للتشبه بمن يركع ويسجد والتشبه بالقعود أكثر ولهذا قلنا بأن
المومئ يجعل السجود أخفض من ركوعه لان ذلك أشبه بالسجود إلا أن بشرا يقول إنما
سقط عنه بالمرض ما كان عاجزا عن اتيانه فأما فيما هو قادر عليه لا يسقط عنه ولكن
الانفصال عنه على ما بينا إن كان عاجزا عن القعود يصلى بالايماء مضطجعا مستلقيا علي قفاه
ووجهه نحو القبلة عند علمائنا رحمهم الله تعالى وهو مذهب عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما
وقال الشافعي رحمه الله تعالى يضطجع على جنبه الأيمن ووجهه نحو القبلة واحتج بحديث عمران
ابن حصين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الجنب تومئ إيماء فالنبي صلى الله عليه
وسلم نص على الجنب ولان فيما قلنا وجهه إلى القبلة كما إذا احتضر يضطجع على شقه
الأيمن هكذا يصلى أيضا وكذلك يوضع في القبر هكذا إلا أن أصحابنا قالوا بأنه إذا
استلقى على قفاه كان أقرب إلى استقبال القبلة فالجانبان منه إلى القبلة ووجهه إلى ما هو القبلة وفيما
قاله الشافعي رحمه الله تعالى وجهه إلى رجله وذا ليس بقبلة وكذلك إذا قدر على القيام فوجهه
أيضا يكون إلى القبلة بخلاف ما إذا احتضر فان هناك لم يكن مرضه على شرف الزوال
فافترقا من هذا الوجه. وأما الجواب عن احتجاجه بحديث عمران بن حصين رضى الله
تعالى عنه فلما قيل بأن مرضه كان باسورا فلا يمكنه أن يستلقى على قفاه. والثاني وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال فعلى الجنب تومئ إيماء يعنى ساقطا على الجنب كقوله فإذا وجبت
جنوبها أي سقطت فكذلك هنا * قال (المومئ إذا اقتدى بالمومئ يصح اقتداؤه به) لقوله
عليه الصلاة والسلام الامام ضامن معناه صلاة الامام تتضمن صلاة المقتدى وتضمن الشئ
إنما يتحقق فيما هو مثله أو فوقه ولا يتحقق فيما هو دونه وهاهنا حال المقتدى مثل حال
الامام أو دونه فيصح اقتداؤه به فإذا عرفنا هذا فنقول بأن الامام إن كان قائما أو قاعدا
أو موميا يصح اقتداؤه به لان حاله مثل حال الامام أو دونه فإن كان الامام قارئا والمقتدى
قارئا أو أميا يصح اقتداؤه به لان حاله مثل حال الامام أو دونه فأما إذا كان الامام قاعدا
والمقتدى قائما يصح عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى استحسانا وعند محمد
213

رحمه الله تعالى لا يصح قياسا. وجه قول محمد رحمه الله تعالى ما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهذا نص عن علي رضي الله عنه أنه قال
لا يؤم المتيم المتوضئين ولا المقيد المطلقين وهذا نص والمعنى فيه وذلك أن الامام صاحب
عذر فمن كان حاله مثل حال الامام يصح اقتداؤه به وما لا فلا كامامة صاحب الجرح السائل
للأصحاء ولأصحاب الجروح. وتأثير هذا الكلام وهو ان القيام ركن والمقتدى ينفرد بهذا
الركن فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون هذا مقتديا بالبعض دون البعض وهذا لا يجوز
ووجه قول أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
انه صلى بأصحابه وكان قاعدا وهم قيام خلفه فإنه لما ضعف في مرضه قال مروا أبا بكر يصلى
بالناس فقالت عائشة لحفصة قولي له أن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك
نفسه فلو أمرت غيره فقالت ذلك كرتين فقال إنكن صاحبات يوسف مروا أبا بكر
يصلى بالناس فلما شرع أبو بكر في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة في نفسه
فخرج وهو يهادى بين الفضل بن عباس وبين على وكان رجلاه تخطان الأرض حتى
دخل المسجد فسمع أبو بكر حس مجئ النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر وتقدم النبي صلى الله
عليه وسلم وقعد وكان أبو بكر يصلى بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم يكبرون
بتكبير أبي بكر وأبو بكر يكبر بتكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة يكبرون
بكبير أبي بكر وهذا آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فيكون ناسخا
لما كان قبله على ما جاء في حديث جابر رضى الله تعالى عنه أنه قال سقط رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن فرسه فجحش شقه الأيسر فلم يخرج أياما فالصحابة دخلوا عليه فوجدوه
في الصلاة قاعدا فاقتدوا به قياما فأشار إليهم أن اقعدوا فلما فرغ من صلاته قال إنما جعل
الامام ليؤتم به فلا تختلفوا على أئمتكم فان صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين وان صلى قائما
فصلوا قياما أجمعين ولا يؤمن أحد بعدي جالسا ولكنا نقول صار هذا منسوخا بفعله الاخر
وهو ما روينا في حديث مرض موته صلى الله عليه وسلم وأما حديث على رضى الله تعالى عنه
قلنا لا يمكن العمل به لان في الحديث زيادة وهو قوله ولا الماسح للغاسلين وبالإجماع
امامة الماسح للغاسل جائزة فدل انه لا يمكن العمل به. والفقه فيه أن الامام صاحب بدل
صحيح فاقتداء صاحب الأصل به صحيح كالماسح على الخفين إذا أم الغاسلين بخلاف صاحب
214

الجرح السائل ونحوه لأنه ليس بصاحب بدل صحيح ولان بين القيام والعقود تقاربا في
الصلاة حتى يجوز القعود في التطوع من غير عذر وهذا لان القائم كلا الجانبين منه مستوفا لقاعد
أحد الجانبين منه منثن فكان بينهما تقارب فيصح اقتداؤه به كاقتداء القائم بالراكع وإن كان
الامام يصلي بالايماء مضطجعا والمقتدى يصلى بركوع وسجود لا يصح اقتداؤه به عندنا خلافا
لزفر رحمه الله هو يقول كل واحد منهما مؤدما هو مستحق عليه بصفة الصحة فيصح اقتداؤه به
نظيره اقتداء المتوضئ بالمتيمم والغاسل بالماسح ولكنا نقول بان حال المقتدى فوق الامام لان
الاكتفاء بالايماء مع القدرة على الركوع والسجود يمنع جواز الصلاة فيمنع صحة الاقتداء ولان
الايماء ليس ببدل عن الركوع والسجود لأنه بعضه فلو قلنا بأنه يصح اقتداؤه به يكون هذا
اقتداء بالبعض دون البعض وهذا لا يجوز بخلاف التيمم والمسح فان التيمم بدل عن الوضوء
والمسح بدل عن الغسل فيصح اقتداؤه به بالاجماع. فإن كان الامام يصلى قاعدا بالايماء والمأموم
يصلى قائما بالايماء يصح اقتداؤه به لان هذا القيام ليس بركن حتى كان الأولى تركه فيجعل
كأن لم يكن ولو كان معدوما أصلا يصح اقتداؤه به لان هذا اقتداء القاعد بالقاعد فكذلك
هنا فإن كان الامام يصلى بالايماء مضطجعا والمقتدى يصلى بالايماء قاعدا أو قائما لا يصح اقتداؤه
بالاجماع لان حاله فوق حال الامام فيمنع صحة الاقتداء * قال (فان نزع الماء من عينيه وأمر
بأن يستلقى على قفاه أياما ونهى عن القيام والقعود له أن يصلى بالايماء مضطجعا عند علمائنا)
وقال مالك رحمه الله ليس له ذلك واحتج بما روى عن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه
قال له طبيب بعد ما كف بصره لو صبرت أياما مستلقيا علي قفاك لصحت عيناك فشاور في
ذلك عائشة رضى الله تعالى عنها والصحابة فلم يرخصوا له في ذلك وقالوا له أرأيت لومت
في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك فلو جاز ذلك لجوزوا له إلا أن علماءنا قالوا بأن حرمة
الأعضاء كحرمة النفس ثم إذا خاف الهلاك على نفسه من عدو أو سبع كان معه له أن يصلى
مستلقيا علي قفاه فكذلك هنا وأما حديث عبد الله بن عباس قلنا يحتمل أنه إنما لم يرخصوا
له في ذلك لأنه لم يظهر عندهم صدق ذلك الطبيب فيما يدعى فلهذا لم يرخصوا له * قال (ولو
أن المريض إذا صلى إلى غير القبلة متعمدا لا تجوز وان أخطأ تجوز) معناه إذا اشتبهت
عليه القبلة فتحرى إلى جهة وصلى إليها ثم تبين أنه أخطأ القبلة تجوز صلاته وان تعمد لا تجوز
لحديث على رضى الله تعالى عنه أنه قال قبلة المتحري جهة قصده. فالحاصل أن المريض إنما
215

بفارق الصحيح فيما هو عاجز عنه وأما فيما هو قادر عليه هو والصحيح سواء ثم الصحيح
إذا اشتبهت عليه القبلة في المغارة فتحرى إلى جهة وصلى إليها ثم تبين أنه أخطأ القبلة
تجوز صلاته ولو تعمد لا تجوز فكذلك هذا وقال محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله تعالى إذا
كان وجهه إلى غير القبلة ولا يمكنه أن يحول وجهه إلى القبلة ولا يجد أحدا بأن يحول
وجهه إلى القبلة له أن يصلى إلى غير القبلة فإذا برأ أعاد الصلاة ولكنا نقول في ظاهر
الرواية لا يجب عليه إعادة الصلاة لان التوجه إلى القبلة شرط جواز الصلاة والقيام
والقراءة والركوع والسجود أركان الصلاة ثم ما سقط عنه من الأركان بعذر المرض
لا يجب عليه إعادة الصلاة فكذلك ما سقط عنه من الشروط بعذر المرض لا يجب
عليه إعادة الصلاة. وأما إذا صلى بغير طهارة أو بغير قراءة أو عريانا لا تجوز صلاته لما بينا أنه
فيما هو قادر عليه هو والصحيح سواء ثم الصحيح إذا صلى بغير طهارة أو بغير قراءة أو
عريانا لا تجوز صلاته فكذلك هنا * قال (قوم مرضى في بيت مظلم اشتبهت عليهم جهة
القبلة صلوا بجماعة فتحرى كل واحد منهم إلى جهة وصلى إليها جازت صلاة الكل) لأنها
تجوز من الأصحاء بهذه الصفة فمن المرضى أولى قال الحاكم رحمه الله تعالى إنما جازت صلاة
المقتدى إذا كان المقتدى لا يعلم أنه خالف امامه فأما إذا علم أنه خالف امامه لا تجوز صلاته
لأنه اعتقد فساد صلاة الامام والأصل أن المقتدى إذا اعتقد فساد صلاة الامام تفسد
صلاته وهذا بخلاف ما إذا صلى في جوف الكعبة وان علم أنه خالف امامه جازت صلاته
لأنه ما اعتقد فساد صلاة الامام الا إذا كان مقدما على الامام فحينئذ لا تجوز صلاته * قال
(مريض متحر أو مسافر متحر تبين له في خلال الصلاة أنه أخطأ القبلة له أن يحول وجهه
إلى القبلة ويبنى على صلاته ولا يجب عليه أن يستقبل) لحديث أهل قباء أخبروا في خلال الصلاة
أن القبلة حولت من بيت المقدس إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم وهم في ركوع فجوز
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان المؤدى حصل بالاجتهاد وهذا اجتهاد آخر
والاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله كالقاضي إذا قضى في حادثة بالاجتهاد ثم ظهر أن اجتهاده
كان خطأ في تلك الحادثة باجتهاد آخر لا ينقض قضاؤه فكذلك ها هنا * قال (المريض
المومى إذا وجب عليه سجدتا السهو يومئ إيماء لسهوه) لان سجدتي السهو دون الصلبية
وتلك تتأدى بالايماء فهذا أولى فلو أنه عجز عن الايماء بالرأس سقط عنه الصلاة عند علمائنا
216

الثلاثة وقال زفر والحسن رحمهما الله تعالى يومئ بعينيه وان عجز عن الايماء بالعينين قال زفر
رحمه الله تعالى وحده يومئ بالقلب لأنه وسع مثله ولكنا نقول بأن الايماء عبارة عن
الإشارة والإشارة إنما تكون بالرأس فأما العين يسمى انحاء ولا يسمى إيماء وبالقلب يسمى
نية وعزيمة وبمجرد النية لا تتأدى الصلاة ونصب الابدال بالرأي لا يجوز. ثم إذا برأ ينظر
إن كان معتقا بعد هذه الحالة حتى إذا برأ يجب إعادة الصلاة فإن كان مغمى عليه ينظر إذا كان
مغمى عليه يوما وليلة أو أقل يجب عليه إعادة الصلاة وإن كان أكثر من يوم وليلة لا يجب
عليه إعادة الصلاة عند علمائنا وقال بشر تجب عليه إعادة الصلاة وان طال الاغماء. هو يقول
الاغماء نوع مرض فلا يسقط القضاء كالنوم وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه إذا استوعب
وقت صلاة كاملة لا يجب عليه إعادة الصلاة ويقول وجوب القضاء ينبنى على وجوب الأداء
ولا يجب عليه الأداء فلا يجب عليه القضاء (ولنا) ما روى عن علي رضى الله تعالى عنه
أنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن وعن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه يوما وليلة فقضاهما
وعبد الله بن عمر أغمي عليه ثلاثة أيام ولياليها فلم يقضها. والفقه فيه هو أن الاغماء إذا
طال يجعل كالطويل عادة وهو الجنون والصغر وإذا قصر يجعل كالقصير عادة وهو النوم
فيحتاج إلى الحد الفاصل بين القصير والطويل فإن كان يوما وليلة أو أقل فهو قصر لان
الصلاة لم تدخل في حد التكرار وإن كان أكثر من يوم وليلة يكون طويلا لان الصلاة
دخلت تحت حد التكرار * وروى عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال إذا أغمي عليه
يوما وليلة يجب عليه القضاء ولكن يعتبر بالساعات لا بالصلوات والأول أصح * قال (وإذا لم
يستطع السجود لمرض أو جرح أو خوف فهو كله سواء ويومئ) لأنه وسع مثله * قال
(فان عجز عن القراءة تسقط عنه القراءة) لان القراءة ركن كما أن القيام ركن فلو عجز عن القيام
سقط عنه القيام فكذلك هنا * قال (وإن كان على جبهته جراحة ولا يمكنه أن يسجد على
الجبهة قال يسجد على أنفه) لان الانف مسجد كالجبهة * قال (ويكره للمريض المومى أن
يرفع إليه عود أو وسادة ليسجد عليه) لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على
مريض ليعوده فوجده يسجد على عوده فقال له ان قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد
والا فأوم برأسك وعبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه دخل على أخيه عتبة يعوده في
مرضه فرأى عودا يرفع بين يديه وكان يسجد عليه فأخذ العود من يد من كان في يديه
217

وقال إن هذا شئ عرض لكم الشيطان فأوم بسجودك وعبد الله بن عمر رضى الله تعالى
عنه رأى مريضا يفعل هكذا فقال أتتخذون مع الله آلهة فدل أنه يكره له ذلك وان سجد
هل يجوز له ذلك قال ينظر ان خفض رأسه للركوع ثم للسجود يجوز بالايماء لا بوضع
الرأس على العود حتى أنه لو رفع العود إلى جبهته ووضع عليه جبهته لا يجوز لأنه ترك
ركنا من أركان الصلاة وهو الايماء فقلنا بأنه لا يجوز وأما إذا سجد على الوسادة يجزئه لما
روى عن أم سلمة أنها كان بها رمد فسجدت على المرفقة فجوز لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم * قال (ولو أن المريض إذا صلى بالايماء مضطجعا ثم قدر على الركوع والسجود في
آخر الصلاة يجب عليه أن يستقبل الصلاة) ولا يبنى الا على قول زفر رحمه الله تعالى وهذا بناء
على أصل وهو أن المنفرد يبنى آخر صلاته على أول صلاته كالمقتدى يبنى صلاته على صلاة
الامام ففي كل موضع يصح الاقتداء يصح البناء وإلا فلا فنقول بأن الامام إذا صلى
بالايماء مضطجعا والمقتدى يصلى بالركوع والسجود لا يصح اقتداؤه به فكذلك هنا لا يجوز
له البناء وأما إذا صلى قاعدا بالركوع والسجود ثم برأ وقدر على القيام في بعض الصلاة له أن
يبنى على صلاته ولا يجب عليه أن يستقبل لان الامام إذا صلى قاعدا والمقتدى قائما يصح
الاقتداء به عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى فكذلك يصح البناء وأما
إذا شرع في الصلاة قائما ثم عجز عن القيام في خلال الصلاة وقعد له أن يبنى على صلاته
لان هذا بناء القوى على الضعيف وذلك يصح والله سبحانه وتعالى أعلم
* (باب سجود السهو) *
الأصل في سجود السهو ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سها في صلاته فسجد وفي
حديث ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل سهو سجدتان بعد السلام وكان
أبو الحسن الكرخي يقول هو واجب استدلالا بما قال محمد رحمه الله تعالى إذا سها الامام
وجب على المؤتم أن يسجد. ووجهه أنه جبر لنقصان العبادة فكان واجبا كدماء الجبر في
باب الحج وهذا لان أداء العبادة بصفة الكمال واجب وصفة الكمال لا تحصل الا بجبر
النقصان. وغيره من أصحابنا كأن يقول إنه سنة استدلالا بما قال محمد رحمه الله تعالى ان
العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد ولو كان واجبا لكان رافعا للتشهد كسجدة التلاوة
218

ولأنه يجب بترك بعض السنن والخلف لا يكون أقوى فوق الأصل. إذا عرفنا هذا فنقول
إذا سها ولم يدر أثلاثا صلى أم أربعا وذلك أول ما سها استقبل الصلاة لحديث عبد الله
ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شك في صلاته فلم
يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليستقبل ولان الاستقبال لا يريبه والمضي يريبه بعد الشك
والاحتياط في العبادة ليؤديها بكمالها واجب. ومعنى قوله وذلك أول ما سها أن السهو
ليس بعادة له لأنه لم يسه في عمره قط وان لقي ذلك غير مرة تحرى الصواب وأتم الصلاة
على ذلك لحديث أبن مسعود رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
شك في صلاته فليتحر الصواب ولأنا لو أمرناه بالاستقبال يقع في الشك ثانيا وثالثا إذا صار
ذلك عادة له فيتعذر عليه المضي في الصلاة فلهذا تحرى وشهادة القلب في التحري
تكفى عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم المؤمن ينظر بنور الله وعند الشافعي رضى الله تعالى
عنه لا يكفي ما لم ينضم إليه دليل آخر لأنه مجرد الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا
وإن لم يكن له تحر أخذ بالأقل لحديث عبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من شك في صلاته فليأخذ بالأقل وليصل حتى يشك في
الزيادة كما يشك في النقصان ولأنه متيقن بوجوب الأداء عليه فلا يترك هذا اليقين الا
بيقين مثله وذلك في الأقل إلا أنه في كل موضع يتوهم أنه آخر صلاته فيقعد لا محالة لان
قعدة الختم ركن والاشتغال بالنافلة قبل اكمال الفرض مفسد لصلاته ثم يسجد للسهو بعد
السلام عندنا. وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه قبل السلام لحديث عبد الله بن بحينة
أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو قبل السلام وما روى بعد السلام أي بعد
التشهد كما قلتم في قوله وفى كل ركعتين فسلم أي فتشهد ولان سجود السهو مؤدى في
حرمة الصلاة ولهذا لو أدرك الامام فيه صح اقتداؤه به والسلام محلل له فينبغي أن يتأخر
عن كل ما يؤدي في حرمة الصلاة فكان هذا قياس سجدة التلاوة (ولنا) حديث
ابن مسعود وعائشة وأبي هريرة رضى الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد
للسهو بعد السلام وما روى قبل السلام أي قبل السلام الثاني فان عندنا يسلم بعد سجود
السهو أيضا إذ بما وقع الاختلاف في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصار إلى قوله وفى
حديث ثوبان لكل سهو سجدتان بعد السلام ولان سجود السهو مؤخر عن محله فلو كان
219

مؤدى قبل السلام لكان الأولى أن يؤدي في محله كسجدة التلاوة وإنما كان مؤخرا
ليتأخر أداؤه عن كل حالة يتوهم فيها السهو وفيما قبل السلام يتوهم السهو فيؤخر عنه
لهذا ولكنه جبر لنقصان الصلاة فبالعود إليه يكون عائدا إلى حرمة الصلاة ضرورة
فلهذا يسلم بعده. وقال مالك رحمه الله تعالى إن كان سهوه عن نقصان سجد قبل السلام
لأنه جبر للنقصان ولو كان عن زيادة سجد بعد السلام لأنه ترغيم للشيطان إلا أن أبا
يوسف رحمه الله تعالى قال له بين يدي الخليفة أرأيت لو زاد ونقص كيف يصنع فتحير
مالك رحمه الله (ومن سها عن قيام أو قعود فعليه سجود السهو) لحديث المغيرة بن شعبة
رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثانية إلى الثالثة ولم يقعد فسبحوا
له فلم يعد وسجد لسهوه ولأنه تارك للقعدة مقدم للقيام على وقته وكذلك ان قعد في
موضع القيام فهو زائد في صلاته قعدة ليست منها مؤخر للقيام عن وقته فيتمكن النقصان
في فعله فلهذا سجد للسهو * قال (فان سها عن قراءة التشهد في القعدة الأولى وتكبيرات
العيد أو قنوت الوتر ففي القياس لا يسجد للسهو) لأن هذه الأذكار سنة فبتركها لا
يتمكن كثير نقصان في الصلاة كما إذا ترك الثناء والتعوذ ولهذا كان مبنى الصلاة على
الأفعال دون الأذكار وسجود السهو عرف بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نقل ذلك
عنه صلى الله عليه وسلم الا في الأفعال. وجه الاستحسان أن هذه السنة تضاف إلى جميع
الصلاة يقال تكبيرات العيد وقنوت الوتر وتشهد الصلاة فبتركها يتمكن النقصان والتغير
للصلاة فأما ثناء الافتتاح غير مضاف إلى جميع الصلاة بل الافتتاح والتعوذ غير مضاف
إلى الصلاة بل هو للقراءة فبتركه لا يتمكن النقصان والتغير في الصلاة * قال (وان سها
عن التكبيرات سوى تكبيرة الافتتاح فعليه سجود السهو عند مالك رحمه الله تعالى إذا سها
عن ثلاث تكبيرات فعليه سجود السهو بالقياس على تكبيرات العيد) ولكنا نقول تكبيرة
الانتقال سنة لا تضاف إلى جميع الصلاة فبتركها لا يتمكن التغير في الصلاة وكذلك
لو سها عن تسبيحات الركوع والسجود لأنها سنة تضاف إلى ركن منها لا إلى جميعها فكان
كالتعوذ وثناء الافتتاح * قال (وان سها عن القراءة في الأوليين فعليه سجود السهو) لان
القراءة ركن والأوليان تعينتا لأداء هذا الركن واجبا وبترك الواجب يتمكن النقصان في
الصلاة * قال (وان سها عن فاتحة الكتاب في الركعة الأولى وبدأ بغيرها فلما قرأ بعض
220

السورة تذكر يعود فيقرأ بفاتحة الكتاب ثم السورة) لان الفاتحة سميت فاتحة الكتاب
لا فتتاح القراءة بها في الصلاة فإذا تذكر في محله كان عليه مراعاة الترتيب كما لو سها عن
تكبيرات العيد حتى اشتغل بالقراءة ثم تذكر عاد إلي التكبيرات ثم القراءة بعدها وعليه
سجدتا السهو لان الترتيب في القراءة واجب فبتركه يتمكن النقصان * قال (وان قرأ في
الأوليين سورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يعد قراءة الفاتحة في الأخريين) لان الأخريين
محل الفاتحة أداء فلا يكون محلا لها قضاء فإنه لو قضى الفاتحة قرأها مرتين وذلك غير مشروع
في قيام واحد * قال (ولو قرأ الفاتحة في الأوليين ولم يقرأ السورة قضاها في الأخريين)
لحديث عمر رضى الله تعالى عنه أنه ترك القراءة في ركعة من صلاة المغرب فقضاها في الركعة
الثالثة وجهر بها وعثمان رضى الله تعالى عنه ترك قراءة السورة في الأوليين من صلاة العشاء
فقضاها في الأخريين وجهر ولان الأخريين ليستا بمحل للسورة أداء فتكونان محلا لها
قضاء * ثم قال في الكتاب (وجهر) قال البلخي أي بالسورة خاصة لان القضاء بصفة الأداء
فأما الفاتحة فهو مؤد فيخافت بها في الأخريين والأصح أنه يجهر بهما لان القراءة في
قيام واحد لا يكون بعضه جهرا دون البعض وقد وجب عليه الجهر بالسورة فيجهر بالفاتحة
أيضا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى انه يخافت فيهما لان افتتاحه القراءة بالفاتحة والسنة
المخافتة في الأخريين فكذلك ما ينبنى عليها وعنه في رواية أخرى أنه لا يقضى السورة في
الأخريين كما لا يقضى الفاتحة لأنها سنة فات موضعها وعن الحسن بن زياد رحمه الله تعالى
أنه يقضى الفاتحة في الأخريين كما يقضى السورة لان الفاتحة أوجب من غيرها فالقضاء فيها
أولى ولكنا نقول الفاتحة لافتتاح القراءة بها وذلك لا يحصل إذا قضاها في الآخرتين لأنه
لا يقرأ بعدها السورة وهذا كله إذا تذكر بعد ما قيد الركعة بالسجدة فان تذكر قراءة
السورة في الركوع أو بعد ما رفع رأسه منها عاد إلى قراءة السورة وانتقض به ركوعه لان
القراءة ركن فإذا طولها فالكل فرض فلمراعاة الترتيب بين الفرائض ينتقض الركوع لبقاء
محل القراءة ما لم يقيد الركعة بالسجدة * قال (وإذا قرأ في كل ركعة من صلاته بآية أجزأه)
في قول أبي حنيفة رضى الله تعالى عنه الآخر قصيرة كانت أو طويلة وفى قوله الأول وهو
قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تجزئ ما لم يقرأ في كل ركعة ثلاث آيات قصار أو آية
طويلة وفى بعض الروايات عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يجزئه أقل من ثلاث آيات
221

لان الواجب عليه قراءة المعجزة وهي السورة وأقصرها الكوثر وهي ثلاث آيات ولأنه
لابد ان يأتي بما يسمى به قارئا ومن قال ثم نظر أو قال مدهامتان لا يسمى به قارئا وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى فاقرأوا ما تيسر من القرآن والذي تيسر عليه قراءة
آية واحدة فيكون ممتثلا للامر ولأنه يتعلق بالقراءة حكمان جواز الصلاة وحرمة القراءة
على الجنب والحائض ثم في أحد الحكمين لا فرق بين الآية القصيرة والطويلة فكذلك
في الحكم الآخر وهو بناء على الأصل الذي بيناه لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الركن
يتأدى بأدنى ما يتناوله الاسم (وان جهر الامام فيما يخافت فيه أو خافت فيما يجهر به يسجد
للسهو) لان مراعاة صفة القراءة في كل صلاة بالجهر والمخافتة واجب على الامام فإذا ترك
فقد تمكن النقصان والتغير في صلاته فعليه السهو وذكر في نوادر أبى سليمان رحمه الله تعالى ان
جهر فيما يخافت فعليه السهو قل أو أكثر ذلك وان خافت فيما يجهر فإن كان في أكثر الفاتحة
أو في ثلاث آيات من غير الفاتحة فعليه السهو وإلا فلا. ووجهه أن صفة المخافتة في صلوات
النهار ألزم من صفة الجهر في صلوات الليل ألا تري أن المنفرد في صلاة الجهر يتخير وفي صلاة
المخافتة لا يتخير فبنفس الجهر في صلوات المخافتة يتمكن النقصان وبنفس المخافتة في صلوات
الجهر لا يتمكن النقصان ما لم يكن في مقدار ثلاث آيات أو أكثر * وروى ابن سماعة عن محمد
رحمه الله تعالى التسوية بين الفصلين أنه ان تمكن التغير في ثلاث آيات أو أكثر فعليه سجود
السهو وإلا فلا وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى في آية واحدة وهو بناء على
ما سبق أن عندهما لا يتأدى فرض القراءة الا بثلاث آيات فما لم يتمكن التغير في هذا المقدار
لا يجب سجود السهو وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتأدى الفرض بآية واحدة فإذا
تمكن التغير في هذا القدر وجب السهو * قال (وإن كان منفردا فليس عليه سجود السهو
بهذا) أما في صلاة الجهر هو مخير بين الجهر والمخافتة فلا يتمكن النقصان في صلاته جهر
أو خافت وأما في صلاة المخافتة فجهر المنفرد بقدر اسماعه نفسه وهو غير منهى عن ذلك فلهذا
لا يلزمه السهو * قال (وسهو الامام يوجب عليه وعلى المؤتم سجدتي السهو) لأنه شريك الامام
تبع له وقد تقرر السبب الموجب في حق الأصل فيجب على التبع بوجوبه على الأصل وسهو
المؤتم لا يوجب شيئا أما على الامام فلا اشكال لأنه ليس بتبع للمؤتم وأما على المؤتم فلانه
لو سجد كان مخالفا لامامه وقد قال عليه الصلاة والسلام فلا تختلفوا عليه * قال (وإذا سلم
222

في الرابعة ساهيا بعد قعود مقدار التشهد ولم يقرأ التشهد أو كان عليه سجدة تلاوة أو سجدة
صلاتية عاد إلى قضاء ما عليه) لان سلامه سلام سهو وقد بقي عليه واجب محل أدائه قبل
السلام وقد ذكرنا أن بسلام السهو لا يصير خارجا من الصلاة ثم إن عاد إلى سجدة التلاوة
أو قراءة التشهد انتقض به القعدة كما لو عاد إلى سجدة صلاتية لان قراءة التشهد واجبة محله
قبل الفراغ من القعدة وكذلك سجدة التلاوة محلها قبل القعدة فالعود إليها يرفع القعدة كالعود
إلى الصلاتية حتى لو تكلم قبل أن يقعد بعدها فسدت صلاته لترك القعدة الا خيرة بخلاف
العود إلى سجود السهو فإنه رافع للسلام دون القعدة لان محله بعد الفراغ من القعدة والسلام
إلا أن ارتفاع السلام به للضرورة حتى يكون مؤديا في حرمة الصلاة ولا ضرورة إلى ارتفاع
القعدة به حتى لو تكلم بعد ما سجد قبل أن يقعد فصلاته تامة وإن كان قد سلم عامدا فقد
قطع صلاته بسلام العمد فإن كان ما ترك سجدة صلاتية فعليه إعادة الصلاة لأنها ركن وإن كان
ما ترك سجدة التلاوة أو قراءة التشهد فليس عليه إعادة لأنها واجبة وترك الواجب يوجب
الكراهة والنقصان ولا يفسد الصلاة لان حكم الجواز متعلق بأداء الأركان وعن زفر رحمه
الله تعالى التسوية بين سجدة التلاوة والصلاتية والفرق بينهما واضح فان سجدة
الصلاتية من موجبات التحريمة وسجدة التلاوة ليست من موجبات التحريمة ولكنها
وجبت بعارض قراءة آية السجدة فبتركها لا تفسد الصلاة وإنما يتمكن النقصان وليس عليه
سجود السهو كاسمه يجب عند تمكن السهو ولا سهو إذا كان عامدا * قال (وإذا شك
في شئ من صلاته ثم استيقن به فان طال تفكره حين شك حتى شغله عن شئ من
صلاته سجد للسهو وان بطل تفكره فليس عليه سهو) وفي القياس هما سواء ولا سهو عليه
لأنه لا يتمكن النقصان في صلاته حين تذكر أنه أداها على وجهها ومجرد التفكر لا يوجب
عليه السهو كما لو شك في صلاته قبل هذا ثم تذكر أنه أداها لا سهو عليه وان طال تفكره
. وجه الاستحسان أنه إذا طال تفكره حتى شغله عن شئ من صلاته فقد تمكن النقصان
بتأخير الركن عن أوانه بخلاف ما إذا لم يطل تفكره ثم السهو إنما يوجب السجدة إذا
كان هذا في هذه الصلاة فإذا شك في صلاة أخرى لم يكن سهوه في هذا الصلاة فلهذا
لا سهو عليه * قال (وإذا نهض من الركعتين ساهيا فلم يستتم قائما فقعد فعليه سجود
السهو) لتمكن السهو له في صلاته وفى ظاهر الرواية إذا لم يستتم قائما يعود وإذا استتم قائما
223

لا يعود لأنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام من الثانية إلى الثالثة قبل
أن يقعد فسبحوا به فعاد وروى أنه لم يعد ولكنه سبح بهم فقاموا. ووجه التوفيق بين
الحديثين أن ما روى أنه عاد كان قبل أن يستتم قائما وما روى أنه لم يعد كان بعد ما استتم
قائما وهذا لأنه لما استتم قائما اشتغل بفرض القيام وليس من الحكمة ترك الفرض للعود
إلى السنة بخلاف ما قبل أن يستتم قائما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال إن كان إلى
العود أقرب يعود لأنه كالقاعد وإن كان أقرب إلى القيام لا يعود كما لو استتم قائما * قال
(وإذا سها في صلاته مرات لا يجب عليه الا سجدتان) لقوله عليه الصلاة والسلام سجدتان
تجزئان عن كل زيادة أو نقصان ولان سجود السهو إنما يؤخر إلى آخر الصلاة لكيلا
يتكرر في صلاة واحده بتكرر السهو * قال (وإذا أراد أن يقرأ سورة فأخطأ وقرأ غيرها
لم يكن عليه سجود السهو) لان ما قرأ وما أراد أن يقرأ في حكم الصلاة سواء فلا يتمكن
النقصان في صلاته بهذا السبب وإذا سجد للسهو قبل السلام أجزأه لان فعله حصل في
موضع الاجتهاد ولأنا لو أمرناه بالإعادة بعد التسليم كان ساجدا للسهو مرتين في صلاة
واحدة ولم يقل به أحد ولأن يكون فعله على وجه قال به بعض العلماء أولى من أن يكون
على وجه لم يقل به أحد * قال (وإن كان شك في سجود السهو عمل بالتحري ولم يسجد
للسهو) لما بينا ان تكرار سجود السهو في صلاة واحدة غير مشروع ولأنه لو سجد بهذا
السهو ربما يسهو فيه ثانيا وثالثا فيؤدى إلى مالا نهاية له * وحكى أن محمدا رحمه الله تعالى
قال للكسائي وكان ابن خالته لم لا تشتغل بالفقه مع هذا الخاطر فقال من أحكم علما فذلك
يهديه إلى سائر العلوم فقال محمد رحمه الله تعالى أنى ألقى عليك شيئا من مسائل الفقه فخرج
جوابه من النحو فقال هات فقال ما تقول فيمن سها في سجود السهو ففكر ساعة فقال
لا سهو عليه فقال من أي باب من النحو خرجت هذا الجواب فقال من باب ان المصغر
لا يصغر فتعجب من فطنته * قال (وان سلم وهو يريد أن لا يسجد لسهوه لم يكن ذلك
قطعا ويسجد) لان أوان السجود ما بعد السلام فلم يفته بهذا السلام شئ ونيته أن لا يسجد
حديث النفس فلا يعتد حكما كما لو نوي أنه يتكلم في حال صلاته لم تفسد صلاته * قال
(وان سبقه الحدث بعد ما سلم وبعد ما سجد سجدة واحدة للسهو توضأ وعاد فأتم) لان
حرمة الصلاة باقية وسبق الحدث لا يمنعه من البناء بعد الوضوء وإن كان اماما استخلف
224

من يتم بالقوم كما لو سبقه الحدث في خلال الصلاة * قال (وإذا أحدث الامام في خلال
صلاته وقد سها فاستخلف رجلا يسجد خليفته للسهو بعد السلام) لأنه قائم مقام الأول
فعليه أن يأتي بما كان يأتي به الأول وان سها خليفته فيما يتم أيضا كفته سجدتان كما لو كان
الأول سها مرتين لان الثاني قائم مقامه * قال (وإن لم يكن الامام الأول سها لزمه سجود
السهو لسهو الثاني) لأنه صار مقتديا بالثاني كغيره من القوم فيلزمه السهو لسهو امامه
ألا ترى أن الثاني لو أفسد الصلاة على نفسه فسدت على الأول فكذلك بسهوه يتمكن
النقصان في حق الأول * قال (ولو سها الأول بعد الاستخلاف لا يوجب سهوه شيئا)
لأنه صار في حكم المقتدى ألا ترى أنه لو أفسد صلاته لم تفسد به صلاة الثاني ولا صلاة
القوم * قال (ويسجد المسبوق مع الامام سجود السهو قبل أن يقوم إلى قضاء ما سبق به)
وعن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى أنه لا يسجد معه لان أوان سجود السهو بعد السلام
وهو لا يتابعه في السلام فكيف يتابعه فيما يؤدى بعد السلام ولكنا نقول بأن سجود
السهو وجب على الامام لعارض في صلاته فيتابعه المسبوق فيها كما يتابعه في سجدة التلاوة
ولان أوان قيامه إلى القضاء ما بعد فراغ الامام فما دام الامام مشغولا بواجب من
واجبات الصلاة مؤديا في حرمة الصلاة لا يمكنه أن يقوم إلى القضاء فعليه متابعة الامام
فيها وإن لم يفعل سجد في آخر صلاته استحسانا وفى القياس لا يسجد لان وجوب هذه
السجدة عليه في حالة الاقتداء وقد صار منفردا فيما يقضى وكان هذا بمنزلة ما لو اشتغل
بصلاة أخرى لان حكم صلاة المنفرد مخالف لحكم صلاة المقتدى. ووجه الاستحسان
في ذلك أنه يبنى ما يقضى على تلك التحريمة وهو بعد القضاء منفرد في الأفعال مقتد في
التحريمة حتى لا يصح اقتداء الغير به فلهذا يسجد لذلك السهو * قال (وان سها فيما يقضى
كفاه سجدتان لسهوه) ولما عليه من قبل الامام لان التحريمة واحدة فبتكرر السهو فيها
لا يتكرر السجود وإن كان قد سجد مع الامام لسهوه سجد في أخر صلاته لان ما أداه
مع الامام كان بطريق المتابعة فلا ينوب عما لزمه مقصودا بنفسه (فان قيل) قد تكرر
عليه سجود السهو في تحريمة واحدة (قلنا) التحريمة واحدة صورة فأما الأفعال مختلفة
في الحكم لكونه منفردا فيما يقضى بعد أن كان مقتديا في أصل الصلاة فنزل هذا بمنزلة
اختلاف الصلوات * قال (وإذا دخل المسبوق في صلاته بعد ما سلم قبل أن يسجد سجد
225

معه الامام) لان الامام حين عاد إلى سجود السهو صح اقتداء المقتدى به فيتابعه فيما
أدرك معه وإن لم يسجد معه قضى في آخر صلاته استحسانا كما بينا * قال (وإذا دخل في صلاته
بعد ما سجد سجدة واحدة وهو في الثانية فإنه يسجدها معه) وهو لا يقضى الأول
وكذلك إذا دخل في صلاته بعد ما سجدها لم يقضها لان الوجوب عليه بحكم المتابعة وإنما
يتحقق ذلك فيما لم يفرغ الامام منه قبل اقتدائه به فأما فيما فرغ منه الامام فلا متابعة ولا يتقرر
السبب في حقه * قال (ولا يتابع المسبوق الامام في التكبير في أيام التشريق) بخلاف
سجود السهو لان التكبير غير مؤدى في حرمة الصلاة حتى أن من اقتدى به في حالة
التكبير لا يصح اقتداؤه به وكذلك لا يسلم بعد التكبير بخلاف سجود السهو لأنه مؤدى
في حرمة الصلاة حتى يسلم بعده ويصح اقتداء المقتدى به في هذه الحالة والتكبير في هذا
كالتلبية في حق المحرم بعد فراغه من الصلاة فكما لا يتابعه المسبوق في التلبية فكذلك في
التكبير إلا أنه ان تابعه في التكبيرات لا تفسد صلاته لأنه من أذكار الصلاة وان تابعه في
التلبية تفسد صلاته لأنه من جنس الكلام فإنه إجابة للداعي والدليل عليه كاف الخطاب فيه * قال
(وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى منهما) لان القضاء معتبر بالأداء كما أن الثانية
تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في القضاء وعند الشافعي رضى الله تعالى عنه من ترك
سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك السجدة ويعيد ما صلى بعدها لأنه حصل
قبل أوانه وهو بناء على أصله أن زيادة ركعة أو ركعتين كزيادة ما دون الركعة في احتمال
الالغاء فأما عندنا زيادة الركعة الواحدة لا تحتمل الالغاء والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة
فأداء الركعة الثانية إذا معتبر فليس عليه الا قضاء المتروك وترك السجود مخالف لترك
الركوع لان كل سجود لم يسبقه ركوع لا يعتد به فان السجود تتقيد الركعة به وذلك
لا يتحقق قبل الركوع وكذلك إذا كانت إحداهما لتلاوة وقال زفر رحمه الله يبدأ بالصلاتية
لأنها أقوى ولكنا نقول القضاء معتبر بالأداء فإذا كانت سجدة التلاوة من الركعة الأولى
والصلاتية من الركعة الثانية بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها * قال (وإذا سلم وانصرف ثم تذكر
ان عليه سجدة صلاتية أو سجدة تلاوة فإن كان في المسجد ولم يتكلم عاد إلى صلاته استحسانا)
وفي القياس إذا صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى صلاته وهي رواية عن محمد
رحمه الله تعالى فان صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام فيمنعه من البناء
226

. وجه الاستحسان هو أن المسجد مكان الصلاة فبقاؤه فيه كبقائه في مكان الصلاة والدليل
على أنه في حكم مكان واحد صحة الاقتداء بالامام لمن هو في المسجد وإن كان بينهما فرجة
صرف الوجه عن القبلة غير مفسد للصلاة كما في حق الملتفت في الصلاة وإن كان قد خرج
من المسجد استقبل الصلاة في الصلاتية خاصة لما بينا أنها ركن والخروج من مكان الصلاة
يمنعه من البناء وإن كان في الصحراء فان تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد في الصلاة لان
بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد بدليل صحة الاقتداء ولم يذكر في
الكتاب إذا كان يمشي أمامه قيل وقته بقدر الصفوف خلفه اعتبارا لاحد الجانبين بالآخر
والأصح أنه إذا جاوز موضع سجوده فذلك في حكم خروجه من المسجد يمنعه من البناء
بعد ذلك * قال (رجل صلى الظهر خمس ركعات ولم يقعد في الرابعة قال صلاته فاسدة)
وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه لا تفسد لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
الظهر خمسا ولم ينقل أنه كان قعد في الرابعة ولا أنه أعاد صلاته وهو بناء على الأصل الذي
بينا أن الركعة الكاملة في احتمال النقص وما دونها سواء فكما أنه لو تذكر قبل أن يقيد
الخامسة بالسجدة تمكن من اصلاح صلاته بالعود إلى القعود فكذلك بعد ما قيدها
بالسجدة (ولنا) انه اشتغل بالنفل قبل اكمال الفريضة ولان القعدة من أركان الصلاة
والركعة الخامسة نفل لا محالة لان الظهر لا يكون أكثر من أربع ركعات ومن ضرورة
استحكام شروعه في النفل خروجه عن الفرض والخروج من الفرض قبل اكماله مفسد
للفرض بخلاف ما قبل تقيد الركعة بالسجدة لان ما دون الركعة ليس لها حكم الصلاة حتى
أن من حلف أن لا يصلى لم يحنث بما دون الركعة فلم يستحكم شروعه في النفل بما دون الركعة
والحديث تأويله أنه كان قعد قدر التشهد في الرابعة بدليل أنه قال صلى الظهر والظهر اسم
لجميع أركان الصلاة ومنها القعدة وهو الظاهر فإنما قام إلى الخامسة على تقدير انها هي
القعدة الأولى حملا لفعل رسول الله عليه وسلم على ما هو أقرب إلى الصواب
* قال (وأحب إلى أن يشفع الخامسة بركعة ثم يسلم ثم يستقبل الظهر) وهو قول أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى فأما عند محمد رحمه الله تعالى فبالفساد يصير خارجا من الصلاة
لان للصلاة عنده جهة واحدة ولان ترك القعدة في التطوع في كل شفع عنده مفسد
للصلاة فأما عندهما تفسد الفريضة ويبقى أصل الصلاة تطوعا فيشفعها بركعة واحدة لان
227

ترك القعدة عقيب كل شفع عندهما غير مفسد للتطوع وإن كان قعد في الرابعة قدر التشهد فقد
تمت الظهر والخامسة تطوع لان قيامه إلى النافلة كان بعد اكمال الفرض فلا يفسد به الفرض
ويشفع الخامسة بركعة فيكون متطوعا بركعتين وإن لم يفعل فلا شئ عليه وقال زفر رحمه الله
تعالى عليه قضاء ركعتين وهو بناء على ما إذا شرع في صوم أو في صلاة على ظن أنه عليه لان
شروعه ههنا في الخامسة على ظن أنها عليه والأولى أن يشفعها بركعة لان ما دون الركعة لا
يكون صلاة تامة كما قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه والله ما أخرت ركعة قط وإذا شفعها
بركعة فعليه ان يسجد للسهو استحسانا وفى القياس لا سهو عليه لان تمكن السهو كان في
الفرض وقد أدى بعدها صلاة أخرى وفى الاستحسان إنما بنى النفل على التحريمة التي يمكن
فيها السهو فيأتي بسجود السهو لبقاء التحريمة وهو قياس المسبوق الذي قدمناه والأصح أن
هاتين الركعتين لا تنوبان عن السنة التي بعد الظهر لان شروعه كأن لا عن قصد ولهذا لم يلزمه
والسنة ما شرع فيه عن قصد الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما واظب عليه * قال
(رجل افتتح الصلاة فقرأ وركع ولم يسجد ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع فهذا قد صلى ركعة)
لان ركوعه الأول توقف على أن يتقيد بالسجدة والقيام والقراءة بعده غير معتد به فحين
سجد تقيد ركوعه به فكان مصليا ركعة واحدة وكذلك ان ركع أولا ثم قرأ وركع وسجد
فإنما صلى ركعة لان ركوعه الأول حصل في أوانه والثاني وقع مكررا فلا يعتد به فبسجوده
يتقيد الركوع الأول وكذلك ان قرأ أولا وسجد سجدتين ولم يركع ثم قام فقرأ وركع ولم
يسجد ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع فإنما صلى ركعة لان سجوده الأول حصل قبل أوانه
فلا يعتد به فحين قرأ وركع توقف هذا الركوع على التقيد بسجود بعده فحين سجد بعد القراءة
تقيد به ذلك الركوع فكان مصليا ركعة وكذلك ان ركع في الأولى ولم يسجد وركع في
الثانية ولم يسجد وسجد في الثالثة ولم يركع فإنما صلى ركعة واحدة لان الركوع الأول توقف
على السجود فحين سجد في الثالثة تقيد بها الركوع الأول فصار مصليا ركعة وعليه سجود
السهو لتمكن السهو له بما زاد ولا تفسد صلاته الا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى فإنه يقول
زيادة السجدة الواحدة كزيادة الركعة بناء على أصله أن السجدة الواحدة قربة بيانه في
سجود الشكر فأما عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى السجدة الواحدة ليست
بقربة الا سجدة التلاوة وزيادة ما دون الركعة لا يكون مفسدا للصلاة * قال (وإذا سها المصلى
228

فسجد في ركعة واحدة ثلاث سجدات أو ركع ركوعين لم تفسد صلاته) لما بينا أنه إنما زاد
ما دون الركعة * قال (وإذا سها الامام ثم أحدث فاستخلف مسبوقا فأتم المسبوق بقية صلاة
الامام تأخر من غير أن يسلم) لان عليه القضاء لما فاته فكان عاجزا عن التسليم وأوان سجود
السهو ما بعد التسليم فقلنا يتأخر ويقدم مدركا يسلم بهم ويسجد سجدتي السهو وسجد هو
معهم كما لو كان الامام الأول هو الذي يسجد لسهوه ثم يقوم إلى قضاء ما سبق به وحده وإن لم
يسجد مع خليفته سجد للسهو في آخر صلاته استحسانا وقد بينا هذا في حق الامام الأول
فكذلك هنا * قال (وكذلك المقيم خلف المسافر يتابعه في سجود السهو) ثم يقوم إلى اتمام
صلاته وان سها فيما يقضى سجد أيضا * وهذه ثلاث فصول * أحدها في المسبوق وقد
بيناه * والثاني في اللاحق إذا نام خلف الامام أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء فإنه يبدأ
باتمام صلاته أولا ولا يتابع الامام في سجود السهو قبل اتمام صلاته لان اللاحق في حكم
المقتدى فيما يتم وسهو المقتدى متعطل ولهذا لا يقرأ فيما يتم والمسبوق يقضى كالمنفرد
ولهذا تلزمه القراءة فيلزمه سجود السهو أيضا ولا يقوم إلى القضاء الا بعد اتمام خروج
الامام من صلاته وذلك بعد سجود السهو * والثالث في المقيم خلف المسافر إذا قام إلى
اتمام صلاته لم تلزمه القراءة فيما يتم رواية واحدة لان فرض القراءة في الأوليين وقراءة الإمام
فيهما تكون قراءة له فأما في حكم السهو ففي الكتاب جعله كالمسبوق فقال يتابع الامام
في سجود السهو وإذا سها فيما يتم فعليه سجود السهو أيضا لأنه في الاتمام غير مقتد وكيف
يكون مقتديا فيما ليس على امامه والامام لو أتم صلاته أربعا كان متنفلا في الأخريين ولو
جعلناه مقتديا فيهما كان كاقتداء المفترض بالمتنفل وذكر الكرخي رحمه الله تعالى في مختصره
أنه كاللاحق لا يتابع الامام في سجود السهو وإذا سها فيما يتم لم يلزمه سجود السهو لأنه مدرك
لأول الصلاة فكان في حكم المقتدى فيما يؤديه بتلك التحريمة كاللاحق * قال (وان سجد
اللاحق مع الامام للسهو لم يجزه) لأنه سجد قبل أوانه في حقه فعليه أن يعيد إذا فرغ من
قضاء ما عليه ولكن لا تفسد صلاته لأنه ما زاد الا سجدتين (فان قيل) أليس أن
المسبوق لو تابع الامام في سجود السهو تبين أنه لم يكن على الامام سهو فصلاة المسبوق
فاسدة وما زاد الا سجدتين (قلنا) فساد صلاته ليس للزيادة بل لأنه اقتدى في موضع
كان عليه الانفراد في ذلك الموضع ومثله غير موجود هاهنا فاللاحق مقتد في جميع ما يؤدى
229

فلهذا لم تفسد صلاته * قال (ولو كان الامام لم يقرأ في الأوليين ثم اقتدى به انسان في
الأخريين فقرأ الامام فيهما ثم قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به فعليه القراءة وان ترك ذلك
لم تجزئه صلاته) لان الامام قضى في الأخريين ما فاته من القراءة في الأوليين والفائت
إذا قضى التحق بمحله فكأنه قرأ في الأوليين ما فاته من القراءة فلهذا يجب على المسبوق
القراءة أيضا بخلاف المقيم خلف المسافر فان القراءة من الامام في الأوليين كانت أداء والمقيم
شريكه فيهما وكذلك إذا كان المسبوق قرأ خلف الامام فيما صلى معه فعليه القراءة فيما يقضى
لان قراءته فيما هو مقتد فيه مكروهة غير معتد بها فلا يتأدى بها فرض القراءة في حقه
* قال (وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما عليه بعد ما تشهد الامام قبل أن يسلم فقضاه أجزأه) لان
قيامه حصل بعد فراغ الامام من أركان الصلاة ولكنه مسئ في ترك الانتظار لسلام
الامام فان أوان قيامه للقضاء ما بعد خروج الامام من الصلاة فان قام إليه وقضى قبل أن
يقعد الامام قدر التشهد لم يجزه لان قيامه كان قبل أوانه فان الامام لم يفرغ من أركان
الصلاة بعد لان القعدة من أركانها. ثم فسر هذه المسألة في نوادر أبى سليمان فقال إن كان
مسبوقا بركعة أو بركعتين فان قرأ بعد فراغ الامام من التشهد مقدار ما يتأدى به فرض
القراءة جازت صلاته وإلا فلا لان قيامه وقراءته غير معتد بهما ما لم يفرغ الامام من التشهد
ويجعل هو في الحكم كالقاعد معه لان ذلك مستحق عليه فإنما تعتبر قراءته بعد فراغ الامام
من التشهد وإن كان مسبوقا بثلاث ركعات فإن لم يركع حتى فرغ الامام من التشهد ثم ركع
وقرأ في الركعتين بعد هذه جازت صلاته وإن كان ركع قبل فراغ الامام من التشهد لم تجزه
صلاته لان القيام فرض في كل ركعة فلا يعتد بقيامه ما لم يفرغ الامام من التشهد ففرض القراءة
هو الركعتان فإذا فرغ الامام من التشهد قبل أن يركع هو فقد وجد القيام في هذه
الركعة والقراءة في الركعتين بعده فتجوز صلاته وإن كان ركع قبل فراغ الامام من
التشهد فلم يوجد منه قيام معتد به في هذه الركعة فلهذا فسدت صلاته وإن كان قام بعد
ما تشهد الامام وعليه سجود السهو فقرأ وركع فإنه يرفض ذلك ويخر فيسجد مع الامام
لأنه لم يستحكم انفراده بأداء ما دون الركعة فعليه أن يعود إلى متابعة الامام ثم يقوم
للقضاء ولا يعتد بما كان يصنع لأنه صار رافضا لها بالعود إلى المتابعة فإن لم يعد إلى المتابعة
جازت صلاته ويسجد للسهو في آخر صلاته استحسانا * قال (وإن كان ركع وسجد ثم عاد
230

الامام إلى سجود السهو لم يعد إلى متابعته) لأنه قد استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة وان
عاد إلى متابعته فسدت صلاته لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد في ذلك الموضع
* وهذه ثلاث فصول * أحدها في السهو وقد بيناه * والثاني في الصلاتية إذا تذكر الامام
سجدة صلاتية بعد ما قام المسبوق إلى القضاء فإن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد إلى متابعة
الامام فيها وسجد وإن لم يفعل فصلاته فاسدة وإن كان قيد ركعته بالسجدة فصلاته
فاسدة عاد إلى المتابعة أو لم يعد لان الصلاتية من أركان الصلاة ألا ترى أن الامام لو لم
يأت بها كانت صلاته فاسدة فكذلك إذا لم يتابعه المسبوق بها وبعد اكمال الركعة هو
عاجز عن المتابعة * والثالث إذا تذكر الامام سجدة التلاوة فإن كان المسبوق لم يقيد
ركعته بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الامام وإن لم يفعل فصلاته فاسدة لان عود الامام
إلى سجدة التلاوة يرفع القعدة بدليل أنه لو لم يقعد بعدها لم تجز صلاته والقعدة من أركانها
كالصلاتية وإن كان المسبوق قيد ركعته بالسجدة قبل أن يعود الامام إلى سجدة التلاوة
ثم عاد الامام فان تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية واحدة وإن لم يتابعه ففيه روايتان قال في
الأصل صلاته فاسدة أيضا لان عود الامام إلى سجدة التلاوة ينقض القعدة وهو والصلاتية
سواء وفى نوادر أبى سليمان لا تفسد صلاته لأنه لو ترك تلك القعدة جازت صلاته بخلاف
الصلاتية. وفقه هذا أن قعوده كان معتدا به وإنما انتقض في حقه بالعود إلى سجدة التلاوة
وذلك بعد ما استحكم انفراد المسبوق عنه فلا يتعدى حكمه ألا ترى أن اماما لو صلى
بقوم ثم ارتد بطلت صلاته ولا تبطل صلاة القوم وكذلك لو صلى الظهر بقوم يوم الجمعة ثم
راح إلى الجمعة فأدركها انقلب المؤدي في حقه تطوعا وبقي فرضا في حق القوم * قال (وإذا
اقتدى أحد المسبوقين بالآخر فيما يقضيان فسدت صلاة المؤتم) لأنه اقتدى في موضع كان
عليه الانفراد ولأنه كان مقتديا بالامام الأول في بعض صلاته والاخر ليس بخليفة الأول
وكان هذا أداء صلاة بإمامين وذلك لا يجوز لما بينا وكذلك المقيمان خلف المسافر إذا قاما
إلى اتمام صلاتهما فاقتدى أحدهما بالآخر فصلاة المقتدى فاسدة لما بينا * قال (وإذا اقتدى
مصلى التطوع بمصلى الظهر في القعدة الأخيرة فعليه قضاء أربع ركعات) وكذلك لو اقتدى به
في أول الصلاة ثم قطعها لأنه صار بالاقتداء ملتزما صلاة الامام وصلاة الامام أربع ركعات
* قال (وإذا افتتح الظهر وهو ينوى أن يصليها ستا ثم بدا له فسلم على الأربع تمت صلاته)
231

وليس عليه شئ لأنه أساء فيما نوى ثم ندم والندم توبة ومجرد النية لا يوجب شيئا ما لم يشرع
وإنما حصل شروعه في الظهر والظهر لا يكون أكثر من أربع ركعات وقد أداها (وكذلك
لو افتتحها المسافر ينوى أن يصليها أربعا ثم بدا له فصلى ركعتين فصلاته تامة) لان الظهر
في حق المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية الزيادة على ذلك لغو وكذلك لو نوى أن
يقطعها بكلام أو غيره فتلك النية ساقطة ما لم يعمل بها لقوله عليه الصلاة والسلام ان الله تجاوز
عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يعملوا * قال (وإذا لم يقرأ في ركعة من التطوع
أو في ركعة من الفجر فسدت صلاته) لان فرض القراءة في الركعتين والقراءة في الركعة
الواحدة وان طالت لا تنوب عن القراءة في الركعتين ولا يمكنه أن يصلى بعد الركعة ركعتين
لان الفجر لا يكون ثلاث ركعات فلهذا تعين جهة الفساد في صلاته * قال (وإذا توهم
مصلى الظهر أنه قد أتمها فسلم ثم علم أنه صلى ركعتين وهو على مكانه فإنه يتمها ثم يسجد للسهو
لان سلامه كان سهوا فلم يصر به خارجا من الصلاة وهذا بخلاف ما إذا ظن أنه مسافر أو
أنه يصلى الجمعة فسلم على رأس الركعتين فصلاته فاسدة لأنه علم بالقدر الذي أدى فسلامه
سلام عمد وذلك قاطع لصلاته وظنه ليس بشئ فأما إذا كان عنده ان هذه هي القعدة
الأخيرة فسلامه سلام سهو فلم تفسد به صلاته * قال (وإذا لم يسلم ولكنه نوى القطع
لصلاته والدخول في صلاة أخرى تطوعا وهو ساه وقد كبر ثم ذكر ذلك فإنه يمضى
على التطوع ثم يعيد الظهر) لان تكبيره بنية التطوع قطع لما كان فيه وشروع في التطوع فيتم
ما شرع فيه ثم يعيد ما كان قطعه قبل اتمامه * قال (وإذا سها الامام في صلاة الخوف
سجد للسهو وتابعه فيهما الطائفة الثانية فأما الطائفة الأولى فإنما يسجدون إذا فرغوا من
الاتمام) لان الطائفة الثانية بمنزلة المسبوقين لم يدركوا مع الامام أول الصلاة والطائفة الأولى
بمنزلة اللاحقين قد أدركوا مع الامام أول الصلاة * قال (رجل افتتح الصلاة فقرأ ثم شك
في تكبيرة الافتتاح وأعاد التكبير والقراءة ثم علم أنه كان كبر فعليه سجود السهو) لأنه زاد
على التكبيرة والقراءة ساهيا وكذلك إن كان ركع قبل أن يشك بنى على ذلك الركوع وليس
تكبير الثاني يقطع الصلاة لأنه نوى عندها ايجاد الموجود ونية الايجاد فيما هو موجود لغو بقي
مجرد التكبير وهو ليس يقطع الصلاة. وإن كان في الظهر فتوهم انه في العصر وصلى في ذلك
ركعة أو ركعتين فلا سهو عليه لأنه ساعين شيئا من أفعال الصلاة وتعين النية كأصلها شرط
232

افتتاح الصلاة لا شرط البقاء فان تفكر في ذلك تفكرا شغله عن ركن فعليه سجود السهو
وقد بينا * قال (وإذا قعد المصلى في آخر صلاته قدر التشهد ثم شك في شئ من صلاته حتى
شغله ذلك عن التسليم ثم ذكر أنه في الصلاة فسلم فعليه سجود السهو) لتأخيره السلام
ولهذا قلنا أوان سجود السهو ما بعد السلام لان بعد الفراغ من التشهد قبل السلام أوان
وجوب سجود السهو فيؤخر الأداء عنه كما قبل القعدة وان عرض له ذلك بعد ما سلم
تسليمة واحدة فلا سهو عليه لأنه بالتسليمة الواحدة صار خارجا من الصلاة والثانية لتعميم
القوم بها فلم يتمكن له سهو في صلاته * قال (وإذا أحدث في صلاته فذهب فتوضأ فعرض
له هذا الشك حتى شغله عن وضوئه ساعة فعليه سجدتا السهو) لان حرمة الصلاة باقية
بعد الحدث فإنما تمكن له هذا السهو في صلاته * قال (وإذا صلى ركعتين تطوعا وسها
فيهما فسجد لسهوه بعد التسليم ثم أراد أن يبنى عليهما ركعتين لم يكن له ذلك) لأنه لو فعل
كان سجوده للسهو في وسط الصلاة وذلك غير مشروع بخلاف المسافر إذا صلى الظهر
ركعتين وسجد للسهو ثم نوى الإقامة فإنه يقوم لاتمام صلاته لان هناك ان حصل سجود
السهو في خلال الصلاة فذلك لمعنى شرعي لا يفعل مباشرة باختياره. وحقيقة الفرق أن
السلام محلل ثم بالعود إلى سجود السهو تعود حرمة الصلاة للضرورة وهذه الضرورة فيما
يرجع إلى إكمال تلك الصلاة لا في صلاة أخرى ونية الإقامة عملها في وجوب اكمال تلك
الصلاة فيظهر عود الحرمة في حقها فأما كل شفع من التطوع صلاة على حدة ولم تعد الحرمة
في حق صلاة أخرى فلهذا لا يمكنه أن يبنى عليها ركعتين * قال (رجل صلى العشاء فسها
فيها فقرأ آية التلاوة ولم يسجدها وترك سجدة من ركعة ساهيا ثم سلم فإن كان ناسيا للكل
لم تفسد صلاته) لان هذا سلام السهو (وإن كان ذاكر للصلاتية حين سلم فصلاته فاسدة) لأنه
سلام عمد (وإن كان ذاكرا لسجدة التلاوة ناسيا للصلاتية فصلاته فاسدة) أيضا وروى
أصحاب الاملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى انه لا تفسد صلاته ووجهه أن سجدة
التلاوة من الواجبات دون الأركان فسلامه فيما هو ركن سلام سهو وذلك لا يفسد الصلاة
ووجهه ظاهر الرواية أنه سلم وهو ذاكر لواجب يؤدى قبل السلام فكان سلامه قطعا
لصلاته وإنما قطعها قبل اتمام أركانها ولأنا لو لم تفسد صلاته حتى يأتي بالصلاتية لزمنا أن
نقول يأتي بسجدة التلاوة أيضا لبقاء التحريمة ولا وجه إلى ذلك فقد سلم وهو ذاكر
233

للتلاوة فكان قطعا في حقه وقراءة التشهد الأخير في هذا الحكم كسجدة التلاوة لأنه
واجب ليس بركن * قال (وإذا قرأ الرجل في الصلاة شيئا من التوراة والإنجيل والزبور
وهو يحسن القرآن أو لا يحسنه لم تجزئه) لأنه كلام ليس بقرآن ولا تسبيح ومعنى هذا أن
قد ثبت لنا أنهم قد حرفوا وبدلوا فلعل ما قرأ مما حرفوه وهذا كلام الناس ولان النقل
المتواتر الذي لا يثبت كلام الله الا به غير موجود فيما هو في أيديهم الآن والواجب عليه
بالنص قراءة القرآن وهذا ليس بقرآن فلا يقطع القول بأن ما قرأ كلام الله تعالى فلهذا
فسدت صلاته وقيل هذا إذا لم يكن موافقا لما في القرآن وأما إذا كان ما قرأ موافقا لما في
القرآن تجوز به الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه تجوز قراءة القرآن بالفارسية وغيرها
من الألسنة فيجعل كأنه قرأ القرآن بالسريانية والعبرانية فتجوز الصلاة عنده لهذا * قال (وان
نسي القنوت في الوتر ثم ذكر بعد ما رفع رأسه من الركوع لم يقنت) لأنه سنة فاتت عن
موضعها فان أوان القنوت قبل الركوع وما كان سنة في محله يكون بدعة في غير محله ولأنه
لو قنت لكان بعد الركوع والفرض لا ينتقض بالسنة وبه فارق قراءة السورة لان القراءة
ركن وإذا قرأ السورة كان مفترضا فيما يقرأ فينتقض به الركوع * قال (وإذا تذكر القنوت
وهو راكع ففيه روايتان * في إحداهما يعود لان حالة الركوع كحالة القيام ولهذا لو أدرك
الامام فيها كان مدركا للركعة ولهذا يعود لتكبيرات العيد إذا ذكرها في الركوع فكذلك
للقنوت. وفي الرواية الأخرى لا يعود للقنوت لان الركوع فرض ولا يترك الفرض
بعد ما اشتغل به للعود إلى السنة كما لو قام إلى الثالثة قبل أن يقعد بخلاف تكبيرات العيد
فإنها لم تسقط فالركوع محل لها حتى إذا أدرك الامام في الركوع يأتي بها فلهذا يعود لأجلها
فأما القنوت فقد سقط بالركوع لأنه ليس بمحل له فالقنوت مشبه بالقراءة وحالة الركوع
ليس بحالة القراءة فبعد ما سقط لا يعود لأجله وعليه سجدة السهو على كل حال عاد أو لم
يعد قنت أو لم يقنت لتمكن النقصان في صلاته لسهوه * قال (ولو صلى ركعتين تطوعا فسها
فيهما وتشهد ثم قام فصلى ركعتين فعليه أن يسجد لسهوه في الأوليين) لان الشفع الثاني مبنى
على التحريمة التي تمكن فيها السهو فلا يمنعه من أداء سجود السهو والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب
234

(باب صلاة المسافر)
قال رضى الله تعالى عنه (وأقل ما يقصر فيه الصلاة في السفر إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام)
وفسره في الجامع الصغير بمشي الاقدام وسير الإبل فهو الوسط لان أعجل السير سير البريد
وأبطأ السير سير العجلة وخير الأمور أوسطها وهذا مذهب ابن عباس رضى الله تعالى
عنهما واحدى الروايتين عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما وعنه في رواية أخرى التقدير بيوم
وليلة وهو قول الزهري والأوزاعي رحمهما الله تعالى وقال مالك رحمه الله تعالى أربعة برد كل
بريد اثنا عشر ميلا واستدل بحديث مجاهد وعطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أهل مكة
لا تقصروا الصلاة فيما دون مكة إلى عسفان وذلك أربعة برد وقال الشافعي رضى الله تعالى
عنه في قول التقدير بيوم وليلة وفي قول التقدير بستة وأربعين ميلا لحديث مجاهد رضى
الله تعالى عنه قال سألت ابن عمر رضى الله تعالى عنه عن أدنى مدة السفر فقال أتعرف السويداء
فقلت قد سمعت بها فقال كنا إذا خرجنا إليها قصرنا ومن السويداء إلى المدينة ستة وأربعون
ميلا وقال نفاة القياس لا تقدير لأدنى مدة السفر لظاهر قوله تعالى وإذا ضربتم في
الأرض فليس عليكم جناح الآية فاثبات التقدير يكون زيادة ولكنا نقول ثبت بالنص أن
المراد السفر وقد قال في آية أخرى فمن كان منكم مريضا أو على سفر والخارج إلى حانوت
أو إلى ضيعة لا يسمى مسافرا فلا بد من اثبات التقدير لتحقيق اسم السفر وإنما قدرنا بثلاثة
أيام لحديثين. أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها الا ومعها
زوجها أو ذو رحم محرم منها معناه ثلاثة أيام وكلمة فوق صلة كما في قوله تعالى فاضربوا فوق
الأعناق وهي لا تمنع من الخروج لغيره بدون المحرم. وقال صلى الله عليه وسلم يمسح المقيم
يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها فهو تنصيص على أن مدة السفر لا تنقص عما يمكن
استيفاء هذه الرخصة فيها والمعنى فيه أن التخفيف بسبب الرخصة لما فيه من الحرج والمشقة
ومعنى الحرج والمشقة أن يحتاج إلى أن يحمل رحله من غير أهله ويحطه في غير أهله وذلك
لا يتحقق فيما دون الثلاثة لان في اليوم الأول يحمل رحله من غير أهله وفى اليوم الثاني
إذا كان مقصده يحطه في أهله وإذا كان التقدير بثلاثة أيام ففي اليوم الثاني يحمل رحله من غير
أهله ويحطه في غير أهله فيتحقق معني الحرج فلهذا قدرنا بثلاثة أيام ولياليها ولهذا قدر
235

بعض أصحابنا بثلاث مراحل لان المعتاد من السفر في كل يوم مرحلة واحدة خصوصا
في أقصر أيام السنة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قدر بيومين والأكثر من اليوم
الثالث فأقام الأكثر من اليوم الثالث مقام الكمال وهكذا رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى لأنه إذا بكر واستعجل في اليوم الثالث
وصل إلى المقصد قبل غروب الشمس فأقمنا الأكثر من اليوم الثالث مقام الكمال ولا
معنى للتقدير بالفراسخ فان ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهول والجبال والبحر والبر
وإنما التقدير بالأيام والمراحل وذلك معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه فإذا قصد
مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة حين تخلف عمران المصر لأنه ما دام في المصر فهو ناوي
السفر لا مسافر فإذا جاوز عمران المصر صار مسافرا لاقتران النية بعمل السفر والأصل فيه
حديث على رضى الله تعالى عنه حين خرج من البصرة يريد الكوفة صلى الظهر أربعا ثم
نظر إلى خص أمامه فقال لو جاوزنا ذلك الخص صلينا ركعتين * قال (وأقل مدة الإقامة خمسة
عشر يوما) وهو قول ابن عمر وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه أربعة أيام وهو قول عثمان
رضى الله تعالى عنه فإنه كأن يقول من أقام أربعا صلى أربعا ولم يأخذ به لحديث جابر رضى الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج منها
إلى منى في الثامن من ذي الحجة وكان يقصر الصلاة حتى قال بعرفات يا أهل مكة أتموا
صلاتكم فانا قوم سفر وإنما قدرنا بخمسة عشر يوما لان التقدير إنما يكون بالأيام أو بالشهور
والمسافر لا يجد بدا من المقام في المنازل أياما للاستراحة أو لطلب الرفقة فقدرنا أدنى مدة
الإقامة بالشهور وذلك نصف شهر ولان مدة الإقامة في معنى مدة الطهر لأنه يعيد ما سقط
من الصوم والصلاة فكما يتقدر أدنى مدة الإقامة في معنى الطهر بخمسة عشر يوما فكذلك
أدنى مدة الإقامة ولهذا قدرنا أدنى مدة السفر بثلاثة أيام اعتبارا بأدنى مدة الحيض واستدل
الشافعي رضى الله تعالى عنه بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين بالمقام
بمكة بعد قضاء المناسك ثلاثة أيام فهو دليل على أن بالزيادة على ذلك يثبت حكم الإقامة ولكنا
نقول إنما قدرنا بهذا لأنه علم أن حوائجهم كانت ترتفع في هذه المدة لا لتقدير أدنى مدة
الإقامة * قال (وإذا قدم الكوفي مكة وهو ينوى أن يقيم فيها وبمنى خمسة عشر يوما فهو
مسافر) لان نية الإقامة ما يكون في موضع واحد فان الإقامة ضد السفر والانتقال من
236

أرض إلى أرض يكون ضربا في الأرض ولو جوزنا نية الإقامة في موضعين جوزنا فيما زاد
على ذلك فيؤدى إلى القول بأن السفر لا يتحقق لأنك إذا جمعت إقامة المسافر المراحل ربما
يزيد ذلك على خمسة عشر يوما وهذا إذا نوى الإقامة في موضعين بمكة ومنى والكوفة
والحيرة فإن كان عزم على أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر
فان دخل أولا الموضع الذي عزم على المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما وان دخل الموضع
الذي عزم على الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا
لان موضع إقامة الرجل حيث يثبت فيه ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي أين تسكن يقول
في محلة كذا وهو بالنهار يكون في السوق * وكان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة
فإنه كان مشغولا بطلب الحديث قال فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب
لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله
تعالى فقال أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن
يخرج وعزمت أن أصاحبه فجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي حنيفة أخطأت
فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا تكون مسافرا فقلت أخطأت في مسألة في موضعين
ولم ينفعني ما جمعت من الاخبار فدخلت مجلس محمد رحمه الله تعالى واشتغلت بالفقه * قال (فإن لم
يعزم على الإقامة مدة معلومة ولكنه مكث أياما في المصر وهو على عزم الخروج لا يصير
مقيما عندنا وان طال مكثه) وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه إذا زاد على ثمان عشرة ليلة أتم
الصلاة لان النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد الفتح ثمان عشرة ليلة وكان يقصر الصلاة
والقياس أن السفر ينعدم بالمقام لأنه ضده تركناه في هذه المدة للنص فبقي ما رواه على
أصل القياس (ولنا) ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر
الصلاة وابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وأنس أقام بنيسابور شهرا يقصر
الصلاة وعلقمة بن قيس أقام بخوارزم سنين يقصر الصلاة ولأنه لو خرج خلف غريم له
لم يصر مسافرا ما لم ينو أدنى مدة السفر وان طاف جميع الدنيا فكذلك لا يصير مقيما ما لم
ينو المكث أدنى مدة الإقامة وان طال مقامه اتفاقا * قال (وان خرج من مصره
مسافرا بعد ما دخل وقت الصلاة صلى صلاة المسافر عندنا) وقال ابن شجاع رحمه الله
تعالى يصلى صلاة المقيم وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه إذا مضى من الوقت مقدار
237

ما يصلى فيه أربع ركعات ثم خرج مسافرا صلى أربعا وهو بناء على أن وجوب الصلاة عندهما
بأول الوقت فإذا كان مقيما في أول الوقت وجب عليه صلاة المقيمين فلا يسقط ذلك بالسفر
وعندنا الوجوب يتعلق بآخر الوقت لأنه مخير في أول الوقت بين الأداء والتأخير والوجوب
ينفى التخير والتخير ينفى الوجوب ولو مات في الوقت لقي الله تعالى ولا شئ عليه فدل
أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت فإذا كان مسافرا في آخر الوقت كان عليه صلاة السفر
وقال زفر رحمه الله تعالى إذا خرج مسافرا وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكنه أن يصلى فيه
يصلى صلاة السفر وإن كان الباقي من الوقت ما دون ذلك صلى صلاة المقيم لان التأخير
لا يسعه إلى وقت لا يتمكن فيه من أداء الصلاة في الوقت ولكنا نقول جزء من الوقت
بمنزلة جميعه ألا ترى أن ادراك جزء من الوقت وان قل سبب لوجوب الصلاة فوجود
السفر في ذلك الجزء كوجوده في جميع الوقت والدليل عليه أن الصلاة لا تصير دينا في
ذمته الا بخروج الوقت فإذا صار مسافرا قبل أن تصير دينا في ذمته صلى صلاة المسافرين
فإذا صارت دينا في ذمته بخروج الوقت قبل أن يصير مسافرا لا يتغير ذلك بالسفر ويعتبر
جانب السفر بجانب الإقامة فإنه لو دخل مصره قبل فوات الوقت صلى صلاة المقيمين وإن كان
الباقي من الوقت شيئا يسيرا فكذلك في جانب السفر ولا يحتاج إلى نية الإقامة
إذا دخل مصره لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج مسافرا إلى الغزوات ثم يعود إلى
المدينة ولا يجدد نية الإقامة * قال (وإذا قرب المسافر مصره فحضرت الصلاة
صلى صلاة المسافر ما لم يدخل مصره) لان عليا رضى الله تعالى عنه صلى صلاة السفر وهو
ينظر إلى بيوت الكوفة حين قدمها من البصرة وهكذا روى عن ابن عمر رضى الله تعالى
عنهما قال للمسافر صلى ركعتين ما لم تدخل منزلك ولأنه في موضع لو خرج من المصر إليه
على قصد السفر صار مسافرا فلان يبقى مسافرا بعد وصوله إليه أولى وإن كان خرج من
مصره مسافرا ثم بدا له أن يرجع إلى مصره لحاجة له قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى
صلاة المقيم في انصرافه لأنه فسخ عزيمة السفر بعزمه على الرجوع إلى وطنه وبينه وبين
وطنه دون مسيرة السفر فصار مقيما من ساعته بخلاف الأول فإنه ماض على سفره ما لم
يدخل مصره * قال (رجل خرج من مصره مسافرا فحضرت الصلاة فافتتحها ثم أحدث
فانفتل ليأتي مصره فتوضأ ثم علم أن امامه ما صلى فإنه يتوضأ ويصلى صلاة المقيم فان تكلم
238

صلى صلاة المسافر) لأنه من عزم على الانصراف إلى أهله فقد صار مقيما وبعد ما صار مقيما
في صلاته لا يصير مسافرا فيها ألا ترى أن المسافر إذا نوى الإقامة في خلال الصلاة يصح
والمقيم في السفينة إذا جرت به السفينة لا يصير مسافرا في هذه الصلاة لان السفر عمل
وحرمة الصلاة تمنعه عن مباشرة العمل فأما الإقامة ترك السفر وحرمة الصلاة لا تمنع من
ذلك فإذا تكلم فقد ارتفعت حرمة الصلاة وهو متوجه أمامه على عزم السفر فصار مسافرا
والأصل أن النية متى تجردت عن العمل لا تكون مؤثرة فإذا نوى الإقامة في موضع
الإقامة فقد اقترنت النية بعمل الإقامة فصار مقيما وإذا نوى السفر فقد تجردت النية عن
العمل ما لم يخرج فلا يصير مسافرا وهو نظير ما لو نوى في عبد التجارة أن يكون للخدمة
صار للخدمة ولو نوى في عبد الخدمة أن يكون للتجارة لا يصير لها ما لم يتجر فيه * قال (مسافر
صلى في سفره أربعا أربعا فإن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد فصلاته تامة والأخريان
تطوع له وإن كان لم يقعد فصلاته فاسدة عندنا) وقال مالك رضى الله تعالى عنه يعيد
ما دام في الوقت على كل حال وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه صلاته تامة وكان الأربع
فرضا له وهو بناء على أن القصر عزيمة في حق المسافر عندنا وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه
رخصة واستدل بقوله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة فهو تنصيص على
أن أصل الفرض أربع والقصر رخصة وعن علي بن ربيعة الوابي قال سألت عمر بن الخطاب
رضى الله تعالى عنه ما بالنا نقصر الصلاة في السفر ولا نخاف شيئا وقد قال الله تعالى ان خفتم
فقال أشكل على ما أشكل عليك فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنها صدقة
تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته فهو تنصيص على أن القصر رخصة وان عائشة رضى الله تعالى
عنها كانت تتم الصلاة في السفر وعثمان رضى الله تعالى عنه صلى بعرفات أربع ركعات واعتبر
الصلاة بالصوم فان السفر مؤثر فيها ثم الفطر رخصة ومن صام في السفر كان مؤديا
للفرض فكذلك القصر في الصلاة (ولنا) حديث عائشة رضى الله تعالى عنها قالت
فرضت الصلاة في الأصل ركعتين الا المغرب فإنها وتر النهار ثم زيدت في الحضر وأقرت
في السفر على ما كانت وعن عمر رضى الله تعالى عنه قال صلاة المسافر ركعتان تام غير
قصر على لسان نبيكم وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنه قال صلاة المسافر ركعتان من خالف
السنة فقد كفر وابن عباس رضى الله تعالى عنه قال صلاة المسافر ركعتان وصلاة الفجر
239

ركعتان وسأله رجلان أحدهما كان يتم الصلاة في السفر والثاني يقصر عن حالهما فقال
للذي قصر أنت الذي أكملت وقال للآخر أنت قصرت ولما صلى عثمان رضى الله تعالى عنه
بعرفات أربعا قال ابن مسعود رضي الله عنه صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا المقام ركعتين ومع أبى بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ركعتين ثم اختلف بكم الطرق
فليت حظي من الأربع مثل حظي من الركعتين فلما بلغ ذلك إلى عثمان قال إني تأهلت بمكة
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تأهل ببلدة فهو من أهلها فانكار عبد الله
ابن مسعود واعتذار عثمان دليل على أن فرض المسافر ركعتان إلا أن ابن مسعود أحب أن
يأمن عثمان غيره لتكون إقامة الصلاة على هيئة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان
رضى الله تعالى عنه أقام بنفسه لكثرة الاعراب بعرفات كيلا يظن ظان أن الصلاة في
حق المقيم ركعتان والمعنى فيه أن الشفع الثاني ساقط عن المسافر لا إلى بدل وبقاء الفرضية
يوجب القضاء أو الأداء فحين لم يثبت في حقه واحد منهما عرفنا أنه لم تبق الفرضية فيما
زاد على الركعتين في حقه وأن الظهر في حقه كالفجر في حق المقيم ثم المقيم إذا صلى أربعا
فإن لم يقعد في الثانية فسدت صلاته لاشتغاله بالنفل قبل اكمال الفرض وان قعد في الثانية
جازت صلاته والأخريان تطوع له فكذلك هنا وبه فارق الصوم فان الفرضية لما بقيت
هناك لم ينفك عن قضاء أو أداء. وتأويل حديث عائشة رضى الله تعالى عنها ما قيل إنها
كانت تتنقل من بيت بعض أولادها إلى بيت بعض فلم تكن مسافرة وفى قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاقبلوا صدقته ما يدل على أن القصر عزيمة لأنه أمر به والامر
يدل على الوجوب وتأويل الآية التجوز في القراءة والأركان عند الخوف فأما صلاة
المسافر عرفناه بالسنة كما روينا من الآثار * قال (مسافر صلى الظهر ركعتين وسلم وعليه سهو
ثم نوى الإقامة فصلاته تامة) لان نيته لم تصادف حرمة الصلاة عند أبي حنيفة
وأبى يوسف رحمهما الله تعالى فلا يتغير به فرضه وليس عليه سجود السهو لأنه لو سجد
للسهو كان عائدا إلى حرمة الصلاة فيتغير فرضه بنية الإقامة ويكون سجوده في خلال الصلاة
وكما يسجد بترك الاتمام للصلاة فلا فائدة في الاشتغال به وإن كان بنية الإقامة بعدما عاد إلي
سجود السهو قام فأتم صلاته لان نيته حصلت في حرمة الصلاة وعند محمد رحمه الله تعالى
هما سواء يقوم فيتم صلاته ثم يسجد للسهو لان عنده بالسلام لا يصير خارجا من الصلاة
240

إذا كان عليه سهو وقد بينا هذا * قال (مسافر أم مسافرين ومقيمين فصل بهم ركعة
وسجدة ثم أحدث فقدم رجلا دخل معه في الصلاة ساعتئذ وهو مسافر فلا ينبغي لذلك
الرجل أن يتقدم) لان غيره أقدر على اتمام صلاة الامام وان تقدم جاز لأنه شريك
الامام وينبغي له أن يسجد تلك السجدة لأنه خليفة الأول فيبدأ بما كان على الامام
الأول أن يبدأ به فإن لم يفعله ولكنه صلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم رجلا جاء
ساعتئذ فذهب وتوضأ ورجع الامام الأول والثاني قال يسجد الثالث السجدة الأولى لأنه
خليفة الامامين ويسجدها معه الامام الأول والقوم لأنهم صلوا تلك الركعة فإنما بقي
عليهم تلك السجدة ولا يسجدها الإمام الثاني لأنه مسبوق في تلك الركعة فعليه اعادتها فلا
يبدأ بالسجدة منها وفي نوادر أبى سليمان قال يسجدها معهم لأنه كالمقتدى بالامام الثالث
فيتابعه فيما يأتي به وإن لم يكن محسوبا من صلاته كمن أدرك الامام في السجود ثم سجد
السجدة الأخرى وسجدها معه الإمام الثاني والقوم لأنهم صلوا هذه الركعة ولا يسجدها
معه الامام الأول إلا أن يكون صلى تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة فحينئذ سجدها
لأنه لاحق فيبدأ بالأول فالأول ولهذا قلنا يصلى الامام الأول الركعة الثانية بغير قراءة ثم
يتشهد الامام الثالث ويتأخر ويقدم رجلا قد أدرك أول الصلاة فيسلم بهم لأنه عاجز عن السلام
بنفسه فيستعين بمن يقدر عليه ثم يسجد للسهو ويسجدون معه ثم يقوم الثاني فيقضى الركعة التي
سبق بها بقراءة ويكمل المقيمون صلاتهم * ثم ذكر بعد هذا فصلين في المقيمين (أحدهما)
في اللاحقين إذا صلى الأئمة الأربعة كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع وقدم
خامسا وجاء الأئمة الأربعة فإنه ينبغي للخامس أن يبدأ بالسجدة الأولى ويسجدها معه الأئمة
والقوم لأنهم صلوا تلك الركعة ثم يسجد السجدة الثانية ويسجدونها معه غير الامام الأول
فإنه لم يؤد تلك الركعة بعد إلا أن يكون عجل فصلى الركعة الثانية وأدرك الامام في السجدة
الثانية فحينئذ سجد الثالثة ويسجدها معه ثم يسجد الثالثة ويسجدونها معه من غير الامام
الأول والثاني لأنهما لم يصليا الركعة الثانية ثم يسجد الرابعة ويسجدونها معه غير الامام
الأول والثاني والثالث لأنهم ما صلوا هذه الركعة بعد ثم يقوم الامام الأول فيقضى ثلاث
ركعات والامام الثاني ركعتين والامام الثالث الركعة الرابعة بغير قراءة لأنهم مدركون لأول
الصلاة ثم يسلم الخامس ويسجد للسهو والقوم معه وكل امام فرغ من اتمام صلاته وأدركه
241

تابعه في سجود السهو ومن لم يفرغ أخر سجود السهو إلى آخر صلاته (والفصل الثاني)
في الأئمة الأربعة إذا كانوا مسبوقين وقد صلى كل واحد منهم ركعة وسجدة ثم أحدث الرابع
وقدم رجلا خامسا وتوضأ الأئمة الأربعة وجاؤا فينبغي للخامس أن يسجد السجدة الأولى
ويسجدها معه القوم والامام الأول ولا يسجدها معه الإمام الثاني والثالث والرابع لأنهم
مسبوقون في تلك الركعة وفي رواية النوادر يسجدونها معه للمتابعة ثم يسجد السجدة الثانية
ويسجدها معه القوم والامام الثاني لأنه صلى تلك الركعة بعد ولا يسجدها معه الامام الأول
لأنه ما صلى تلك الركعة بعد ولا الثالث ولا الرابع لأنهما مسبوقان في هذه الركعة الا على رواية
النوادر ثم يسجد الثالثة ويسجدها معه القوم والامام الثالث لأنه صلوا هذه الركعة ولم
يسجدوا هذه السجدة ثم يسجد الرابعة ويسجدها معه القوم والامام الرابع ثم يتشهد ويتأخر
ويقدم سادسا ليسلم بهم ويسجد سجدتي السهو ثم يقوم الخامس فيصلى أربع ركعات لأنه
مسبوق فيها فيقرأ في الأوليين وفى الأخريين هو بالخيار وأما الامام الأول يقضى ثلاث
ركعات بغير قراءة لأنه أدرك أول الصلاة ولا قراءة على اللاحق فيما يقضى والامام الثاني
يقضى ركعتين بغير قراءة لأنه لا حق فيهما ثم ركعة بقراءة والامام الثالث يقضى الرابعة
أولا بغير قراءة ثم يقضى ركعتين بقراءة لأنه مسبوق فيهما والامام الرابع
يقضى ثلاث ركعات يقرأ في ركعتين منها وفى الثالثة هو بالخيار لأنه مسبوق فيها
(فان قيل) لماذا أورد هذا المسائل مع تيقن كل عاقل بأنها لا تقع ولا يحتاج إليها
(قلنا) لا يتهيأ للمرء أن يعلم ما يحتاج إليه الا بتعلم ما لا يحتاج إليه فيصير الكل من جملة
ما يحتاج إليه لهذا الطريق وإنما يستعد للبلاء قبل نزوله * قال (مسافر أم مسافرين فصلى
بهم ركعة ثم نوى الإقامة فعليه أن يكمل بهم الصلاة) لان نيته استندت إلى أول الصلاة
وهم قد التزموا متابعته فعليهم ما عليه من اتمام الصلاة بخلاف ما إذا كان الناوي للإقامة
خليفة الامام المسافر لان القوم ما التزموا متابعته وإنما لزمهم ذلك لضرورة اصلاح
صلاتهم ففيما وراء ذلك ليس عليهم متابعته * قال (امام أحدث فاستخلف مدركا ثم نام
خلفه حتى صلى الامام ركعة وقدمه فان تأخر هو وقدم غيره فهو أولى) لان غيره أقدر على
اتمام صلاة الامام فإنه محتاج إلى البداءة بما فرغ منه الامام وإن لم يفعل ولكنه أشار
عليهم بأن ينتظروه ليصلى ركعة أولا ثم يصلى بهم بقية الصلاة جاز أيضا لأنه شريك الامام
242

فيصلح أن يكون خليفة الامام وإن لم يفعل ولكنه صلى بهم الثلاث ركعات بقية صلاة
الامام وتشهد ثم قدم مدركا وسلم بهم وقام وقضى ما عليه أجزأه ذلك عندنا وقال زفر
رحمه الله تعالى لا يجزئه لأنه مأمور بالبداءة بالركعة الأولى فإذا لم يفعل فقد ترك الترتيب
المأمور به فتفسد صلاته كالمسبوق إذا بدأ بقضاء ما فاته قبل أن يتابع الامام فيما أدرك
معه (ولنا) أن مراعاة الترتيب في أفعال الصلاة الواحدة واجبة وليست بركن
ألا ترى أنه لو ترك سجدة من الركعة الأولى إلى آخر صلاته لم تفسد صلاته وان المسبوق
إذا أدرك الامام في السجود يتابعه فيه فدل أن مراعاة الترتيب في صلاة واحدة ليست
بركن فتركها لا يفسد الصلاة بخلاف المسبوق ففساد صلاته هناك للعمل بالمنسوخ
لا لترك الترتيب ولان حكم ما هو مسبوق فيه مخالف لحكم ما أدركه معه لأنه فيما هو
مسبوق فيه كالمنفرد فإذا انفرد في موضع يحق عليه الاقتداء تفسد صلاته صلاته وههنا حكم الكل
واحد في حقه فترك الترتيب لا يكون مفسدا صلاته * قال (وان صلى بهم ركعة ثم
ذكر ركعته تلك فالأفضل أن يومئ إليهم لينتظروه حتى يقضى تلك الركعة ثم يصلى بهم
بقية الصلاة) كما كان في الابتداء يفعله وإن لم يفعل وتأخر حين تذكر ذلك وقدم رجلا
منهم فصلى بهم فهو أفضل أيضا كما في الابتداء وإن لم يفعل ولكنه صلى بهم وهو ذاكر
لركعته أجزأه أيضا لما بينا * قال (وليس للمسافر أن يقتدى بالمقيم بعد فوات الوقت
وللمقيم أن يقتدى بالمسافر في الوقت وبعد فوات الوقت) أما في الوقت فلان النبي صلى
الله عليه وسلم جوز اقتداء أهل مكة بعرفات حين قال أتموا صلاتكم يا أهل مكة فانا قوم
سفر وكذلك بعد فوات الوقت لان فرض المقيم لا يتعين بالاقتداء. وأما اقتداء المسافر
بالمقيم في الوقت يجوز ويتغير فرضه هكذا روى عن ابن عمر وابن عباس رضى الله تعالى
عنهما وبعد فوات الوقت لا يصح اقتداؤه لان فرضه لا يتغير بالاقتداء فان المغير للفرض اما
نية الإقامة أو الاقتداء بالمقيم ثم الفرض بعد خروج الوقت لا يتغير بنية الإقامة فكذلك الاقتداء
بالمقيم وإذا لم يتغير فرضه كان هذا عقدا لا يفيد موجبه ولو صلى ركعتين وسلم كان قد فرغ
قبل امامه وان أتم أربعا كان خالطا النفل بالمكتوبة قصدا وذلك لا يجوز ثم القعدة الأولى
نفل في حق الامام فرض في حقه واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز على ما بينا هذا الفروق
كما أمليناه من شرح الجامع * قال (والغلام المراهق إذا كان معه رجل في الصف أجزأهما
243

ذلك) لحديث أنس رضى الله تعالى عنه فأقامني واليتيم من ورائه * قال (رجل ترك صلاة
واحدة ثم صلى شهرا وهو ذاكر لها فعليه أن يقضى تلك الصلاة وحدها استحسانا) وإن كان
صلى يوما أو أقل من ذلك أعاد ما صلى بعدها في هذه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذه
المسألة التي يقال لها واحدة تفسد خمسا وواحدة تصحح خمسا لأنه ان صلى السادسة قبل
الاشتغال بالقضاء صح الخمس عنده وان أدى المتروكة قبل أن يصلى السادسة فسد الخمس وعلى
قولهما عليه قضاء الفائتة وخمس صلوات بعدها وهو القياس لان الخمس فسدت بسبب ترك
الترتيب حتى لو اشتغل بالقضاء في ذلك الوقت كان عليه قضاء الكل فبتأخر القضاء لا ينقلب
صحيحا وأبو حنيفة رضى الله تعالى عنه يقول الفساد كان بوجوب مراعاة الترتيب وقد سقط ذلك
عنه بالاتفاق عند تطاول الزمان والدليل عليه أنه لو أعادها غير مرتب يجوز فكيف يلزمه
اعادتها لترك الترتيب مع أنه ليس عليه مراعاة الترتيب بالإعادة ولا يبعد أن يتوقف حكم
الصلاة المؤداة على ما تبين في الثاني كمصلى الظهر يوم الجمعة ان أدرك الجمعة تبين أن المؤداة
كانت تطوعا والا كان فرضا وصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيما دون عادتها وصلت صلوات ثم
عاودها الدم تبين انها لم تكن صلاة صحيحة وإن لم يعاودها كانت صحيحة قال وإذا زاد على
أيام عادتها فإذا انقطع لتمام العشرة تبين أن الكل حيض وليس عليها قضاء الصلوات وان
جاوزها كان عليها قضاء الصلوات) وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إذا صلى الحاج
المغرب في طريق المزدلفة فعليهم اعادتها ان وصل إلى المزدلفة قبل طلوع الفجر وإن لم يصل
فليس عليهم اعادتها فهذا مثله. وحاصل كلام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ان هذا الصلوات
مؤداة في أوقاتها والفساد بسبب ترك الترتيب فساد ضعيف فلا يبقى حكمه بعد سقوط
الترتيب وهما يقولان ما يحكم بفساده لمراعاة الترتيب لا يصح لسقوط الترتيب كمن افتتح
الصلاة في أول الوقت وهو ذاكر للفائتة فطولها حتى يضيق الوقت لم يحكم بجوازها
إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال هناك لم يسقط الترتيب لان بعد السقوط لا يعود
الترتيب وهناك إذا خرج الوقت فعليه مراعاة الترتيب وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يلزمه
إعادة المتروكة وصلاة شهر بعده بناء على مذهبه في حد الكثرة التي سقط بها الترتيب
وقد بينا * قال (رجل صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر على وضوء ذاكر لذلك
وهو يظن أنه يجزئه فعليه أن يعيدها جميعا) لوجوب مراعاة الترتيب وظنه جهل فلا
244

يسقط عنه ما هو مستحق عليه وكان الحسن بن زياد رحمه الله تعالى يقول إنما يجب مراعاة
الترتيب على من يعلم فأما من لا يعلم فليس عليه ذلك لأنه ضعيف في نفسه فلا يثبت حكمه
في حق من لا يعلم به وكان زفر رحمه الله تعالى يقول إذا كان عنده ان ذلك يجزئه فهو
في معنى الناسي للفائتة فيجزئه فرض الوقت (ولنا) أن نقول إذا كان الرجل مجتهدا قد
ظهر عنده ان مراعاة الترتيب ليس بفرض فهو دليل شرعي وكذلك إذا كان ناسيا فهو
معذور غير مخاطب بأداء الفائتة قبل أن يتذكر فأما إذا كان ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد
ظنه ليس بدليل شرعي فلا يعتبر فان أعاد الظهر وحدها ثم صلى المغرب وهو يظن أن
العصر له جائز قال يجزئه المغرب ويعيد العصر فقط لان ظنه هذا استند إلى خلاف معتبر
بين العلماء فكان دليلا شرعيا وحاصل الفرق ان فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوى
مجمع عليه فيظهر أثره فيما يؤدى بعده فأما فساد العصر بسبب تذكر الترتيب فساد ضعيف
مختلف فيه فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى فهو كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن
واحد بطل العقد فيهما بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر * قال (رجل أسلم في دار الحرب
فمكث فيها شهرا ولم يصل ولم يعلم أن عليه الصلاة فليس عليه قضاؤها) وقال زفر رحمه الله
تعالى عليه قضاؤها لان بقبول الاسلام صار ملتزما لما هو من أحكامه ولكن قصر عنه
خطاب الأداء لجهله به وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب الموجب كالنائم إذا انتبه
بعد مضى وقت الصلاة عليه. وجه قولنا أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت حكمه في حق
المخاطب قبل علمه به ألا ترى أن أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد فرضية
التوجه إلى الكعبة وجوز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبلغهم. وشرب بعض
الصحابة الخمر بعد نزول تحريمها قبل علمه بذلك وفيه نزل قوله تعالى ليس على الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وهذا لان الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع المخاطب
الائتمار قبل العلم فلو ثبت حكم الخطاب في حقه كان فيه من الحرج مالا يخفى ولهذا قلنا إن عزل
الوكيل والحجر على المأذون لا يثبت في حقه ما لم يعلم (وإن كان ذميا أسلم في دار الاسلام فعليه
قضاؤها استحسانا) وفى القياس لا قضاء عليه أيضا وهو الحد لما بينا. ووجه الاستحسان هو أن
الخطاب شائع في دار الاسلام فيقوم شيوع الخطاب مقام العلم لأنه ليس في وسع المبلغ أن
يبلغ كل أحد إنما الذي وسعه أن يجعل الخطاب شائعا وهذا لأنه في دار الاسلام يسمع الأذان
245

والإقامة ويرى شهود الناس الجماعات في كل وقت فإنما يشتبه عليه ما لا يشتبه ولان في دار
الاسلام يجد من يسأل منه فترك السؤال تقصير منه بخلاف دار الحرب فان بلغه في دار
الحرب رجل واحد فعليه القضاء فيما ترك بعد ذلك عندهما وهو احدى الروايتين عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وفى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما لم يخبره رجلان أو
رجل وامرأتان لا يلزمه القضاء لان هذا خبر ملزم ومن أصله اشتراط العدد في الخبر الملزم كما
قال في حق الحجر على المأذون وعزل الوكيل والاخبار بجناية العبد. وجه الرواية الأخرى
وهو الأصح أن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ قال عليه الصلاة والسلام نضر الله
امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها فهذا المبلغ نظير الرسول
من المولى والموكل وخبر الرسول هناك ملزم فههنا كذلك * قال (رجل ترك الظهر والعصر
من يومين مختلفين لا يدرى لعل الظهر الذي ترك أولا أو العصر فإنه يتحرى في ذلك) لان عليه
مراعاة الترتيب ولا يتوصل إليها الا بالتحري فعليه أن يتحرى كما إذا اشتبهت عليه القبلة فإن لم
يكن له في ذلك رأى وأراد الاخذ بالثقة صلاهما ثم أعاد الأولى منهما عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وقالا ليس عليه سوى التحري لأنا نعلم يقينا أنه ما ترك الا صلاتين فكيف يلزمه
قضاء ثلاث صلوات وهذا نظير من اشتبهت عليه القبلة لا يؤمر بالصلاة إلى الجهات كلها
احتياطا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الاخذ بالاحتياط في العبادات أصل وفى إعادة
الأولى منهما تيقن بأداء ما كان عليه من الترتيب بخلاف أمر القبلة فان الصلاة إلى غير جهة
القبلة لا تكون قربة فلا يحصل معنى الاحتياط بمباشرة ما ليس بقربة. فأما ههنا إعادة
الأولى اما أن تكون فرضا أو نفلا وهو قربة وهو نظير من تذكر فائتة لا يدرى أيما هي
من صلوات اليوم أو الليلة فعليه صلاة يوم وليلة احتياطا وكذلك لو تذكر أنه ترك سجدة
من صلاة وكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله تعالى يقول يعيد الفجر والمغرب ثم يصلى
أربعا بنية ما عليه ومن أصحابنا من يقول يصلى أربع ركعات بنية ما عليه بثلاث قعدات
وهذا كله فاسد فان القضاء لا يتأدى الا بتعيين النية وفيما قالوا تضييع النية فكيف يتأدى
به القضاء والصحيح ما قلنا أنه يعيد صلاة يوم وليلة احتياطا فهذا مثله * قال (رجل أم نساء
ليس معهن رجل فأحدث فذهب وتوضأ فصلاته تامة وصلاة النسوة فاسدة) لان الامام
في حق نفسه كالمنفرد لا تتعلق صلاته بصلاة غيره ولم يبق للنسوة امام في المسجد فتفسد
246

صلاتهن لهذا * قال (فان استخلف امرأة فسدت صلاته وصلاتهن) وقال زفر رحمه الله تعالى
تجوز صلاة النسوة لأن المرأة تصلح لامامة النساء دون الرجل بدليل الابتداء ولكنا نقول
اشتغاله باستخلاف من لا يصلح أن يكون خليفة له مفسد لصلاته فإنما فسدت صلاته قبل تحول
الإمامة منه إلى غيره فتفسد به صلاة المقتدين * قال (فان تقدمت امرأة منهن من غير أن
يقدمها قبل أن يخرج من المسجد فهذا والأول سواء) وهذا جواب مبهم فقد تقدم فصلان
حكمهما مختلف ثم ذكر الفصل الثالث ولم يبين بأي فصل يعتبره فمن أصحابنا من قال معناه هذا
واستخلاف الامام إياها سواء حتى تفسد صلاة الامام لما بينا في باب الحدث لأنه لا فرق بين
تقدم واحد من القوم وبين تقديم الامام إياه والأصح أن هذا نظير الفصل الأول حتى لا تفسد
صلاة الامام لأنه لم يشتغل باستخلاف من لا يصلح خليفة له وليس للنساء عليه ولاية في افساد
الصلاة فصار في حقه كأن لم يقدم واحدة منهن فتجوز صلاته لأنه في حق نفسه كالمنفرد
* قال (مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم نوى المقام فعليه أن يصلى ركعتين بقراءة)
وهو والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه
الله تعالى صلاته فاسدة وهذا بناء على ما سبق أن فساد الصلاة بترك القراءة يخرجه من
حرمة الصلاة عند محمد رحمه الله تعالى ولا يخرجه منها عندهما وأما على سبيل الابتداء فههنا
حجة محمد رحمه الله تعالى ان ظهر المسافر كفجر المقيم ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك
القراءة فيهما أو في إحداهما على وجه لا يمكنه اصلاح صلاته الا بالاستقبال فكذلك الظهر
في حق المسافر إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع الفساد ولهما أن نية الإقامة في آخر الصلاة كهي
في أولها ولو كان مقيما في أولها لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين فهذا مثله وتبين بهذا
أن المفسد لم يتقرر لان صلاة المسافر بعرض أن يلحقه مدد نية الإقامة والمفسد خلو الصلاة
عن القراءة في ركعتين منها ولا يتحقق ذلك بترك القراءة في الأوليين بخلاف فجر المقيم
وكذلك ان قام إلى الثالثة وركع ثم نوى الإقامة إلا أنه أن كان لم يقرأ في الأوليين يعيد
القراءة وإن كان قرأ في الأوليين يعيد القيام والركوع لان ما أدى كان نفلا لأنه حين قام
إلى الثالثة لم يكن نوى الإقامة فكانت هذه الركعة بقدر ما أدى إلى وقت نية الإقامة نافلة
فلا تنوب عن الفرض فكان عليه الإعادة لهذا * قال (مسافر دخل في صلاة المقيم ثم ذهب
الوقت لم تفسد صلاته) لان الاتمام لزمه بالشروع مع الامام في الوقت فالتحق بغيره من
247

المقيمين بخلاف ما لو اقتدى به بعد خروج الوقت فان الاتمام لم يلزمه بهذا الاقتداء فان
أفسدها الامام على نفسه كان على المسافر أن يصلى صلاة السفر لان وجوب الاتمام عليه
بمتابعة الامام وقد زال ذلك بالافساد (فان قيل) فقد كان هو مقيما في هذه الصلاة عند
خروج الوقت فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج الوقت لا يتغير ذلك الفرض (قلنا)
لم يكن مقيما فيها وإنما يلزمه الاتمام لمتابعة الامام ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت كان
يصلى صلاة السفر والقصر في السفر في الظهر والعصر والعشاء لان القصر عبارة عن سقوط
شطر الصلاة وفى هذه الصلاة بعد سقوط الشطر تبقى صلاته كاملة بخلاف الفجر فان بعد
سقوط الشطر منها لا يبقى الا ركعة وهي لا تكون صلاة تامة وكذلك في المغرب بعد سقوط
شطر منها لا تبقى صلاة تامة فلهذا لم يدخلها القصر والسنن والتطوعات لا يدخلها القصر بسبب
السفر لان القصر في الصلاة بسبب السفر توقيف لم يعرف بالرأي ومن الناس من قال بترك
السنن في السفر ويروون عن بعض الصحابة أنه قال لو أتيت بالسنن لأتممت الفريضة وتأويل
هذا عندنا في حالة الخوف على وجه لا يمكنه المكث في موضع لأداء السنن * قال (ويخفف
القراءة في جميع الصلوات) لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر في السفر
قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وأطال القراءة في صلاة الفجر ولان السفر لما أسقط
عنه شطر الصلاة دفعا للحرج فلان يسقط مراعاة سنة القراءة أولى ولكن المستحب أن
تكون قراءته في الفجر والظهر أطول اعتبارا بحالة الإقامة فيقرأ والسماء والطارق والشمس
وضحاها وما أشبههما وفى العصر والمغرب والعشاء قل هو الله أحد وما أشبهها * قال (ودخول
المسافر في صلاة المقيم يلزمه الا كمال ان دخل في أولها أو في آخرها قبل السلام) لان الاقتداء
بالمقيم في تغير الفرض كنية الإقامة ولا فرق فيه بين أول الصلاة وآخرها فهذا مثله * قال
(وتوطين أهل العسكر أنفسهم على الإقامة وهم في دار الحرب محاصرون لأهل المدينة
ساقط وهم مسافرون) لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن رجلا سأله فقال إنا نطيل
الثوى في دار الحرب فقال صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك ولان نية الإقامة لا تصح
الا في موضع الإقامة ودار الحرب ليس بموضع لإقامة المحاربين من المسلمين لأنه غير
متمكن من الفرار بنفسه بل هو بين أن يهزم العدو فيفر وبين أن ينهزم فيفر ولان فناء
البلدة تبع لجوفها والبلدة في يد أهل الحرب فالموضع الذي فيه العسكر كان في أيديهم أيضا
248

حكما وكذلك إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن فلا قرار لهم ما داموا محاربين فكان
نية الإقامة في غير موضع الإقامة مقاس نية السفر في غير موضعها وكذلك ان حاربوا أهل
البغي في دار الاسلام وحاصروهم وقال زفر رحمه الله تعالى في الفصلين جميعا ان كانت الشوكة
والغلبة للعدو لم تصح نيتهم الإقامة وان كانت الشوكة لهم صحت نيتهم الإقامة لأنهم يتمكنون من
الفرار باعتبار الظاهر وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ان كانوا في الأخبية والفساطيط خارج
البلدة لم تصح نيتهم الإقامة وان كانوا في البيوت والأبنية صحت نيتهم الإقامة لان الأبنية
موضع الإقامة دون الصحراء وعلى هذا اختلف المتأخرون في الذين يسكنون الأخبية في
دار الاسلام كالاعراب والا تراك فمنهم من يقول لا يكونون مقيمين أبدا لأنهم ليسوا في
موضع الإقامة والأصح أنهم مقيمون لان الإقامة للمرء أصل والسفر عارض وهم لا ينوون
السفر قط إنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى فكانوا مقيمين باعتبار الأصل
* قال (وإذا مر الامام بمدينة وهو مسافر فصلى بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم) وقال زفر رحمه
الله تعالى لا يجوز لأنه لا جمعة على المسافر قال صلى الله عليه وسلم أربعة لا جمعة عليهم المسافر
والمريض والعبد والمرأة فكان هذا في معنى اقتداء المفترض بالمتنفل ولكنا نقول قد أقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بمكة وهو كان مسافرا بها ثم صلاة الجمعة من غيره
في هذا الموضع إنما تجوز بأمره فلان تجوز منه أولى وإنما لا يجب الحضور على المسافر لدفع
الحرج فإذا حضر وأدى كان مفترضا كالمريض وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله وهو
مسافر فهو والامام سواء في هذا * قال (ويصلى المسافر التطوع على دابته بايماء حيثما توجهت به)
لحديث أبن عمر رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى على دابته تطوعا
حيثما توجهت به وتلا قوله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله وعن جابر رضى الله تعالى عنه قال
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إنما يتطوع على دابته بالايماء ووجهه إلي المشرق
إلا أن في حديث ابن عمر رضى الله تعالى عنه أنه كان ينزل للوتر والمكتوبة وفي حديث
جابر رضى الله تعالى عنه ذكر أنه كان يوتر على دابته وينزل للمكتوبة ولو لم يكن له في
التطوع على الدابة من المنفعة الا حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر
الفاسدة لكان ذلك كافيا * قال (وإن كان على سرجه قذر فكذلك تجوز صلاته) وكان محمد بن
مقاتل وأبو حفص النجاري رحمهما الله تعالى يقولان لا تجوز إذا كانت النجاسة في
249

موضع الجلوس أو في موضع الركابين أكثر من قدر الدرهم اعتبارا للصلاة على الدابة
بالصلاة على الأرض وكانا يقولان تأويل ما ذكره من القذارة عرق الدابة وأكثر
مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون تجوز لما قال في الكتاب والدابة أشد من ذلك يعنى أن باطنها
لا يخلو عن النجاسات ويترك عليها الركوع والسجود مع التمكن من النزول والأداء والأركان
أقوى من الشرائط فإذا سقط اعتبار الأركان هنا لحاجة فشرط طهارة المكان أولى ثم الايماء
لا يصيب موضعه إنما هو إشارة في الهواء وإنما يشترط طهارة الموضع الذي يؤدى عليه ركنا
وهو لا يؤدى على موضع سرجه وركابيه ركنا فلا تضره نجاستهما. وكذلك المقيم يخرج من مصره
فرسخين أو ثلاثة فله أن يتطوع على دابته لأنه في معنى المسافر يحتاج إلى قطع الوساوس
عن نفسه ولا سير على الدابة هاهنا مديد كسير المسافر ولم يذكر في الكتاب إذا كان
راكبا في المصر هل يتطوع على دابته وذكر في الهارونيات أن عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لا يجوز التطوع على الدابة في المصر وعند محمد رحمه الله تعالى يجوز ويكره عند أبي
يوسف رحمه الله تعالى لا بأس به وأبو حنيفة رحمه الله تعالى قال التطوع على الدابة بالايماء
جوزناه بالنص بخلاف القياس وإنما ورد النص به خارج المصر والمصر في هذا ليس في معنى
خارج المصر لان سيره على الدابة في المصر لا يكون مديدا عادة فرجعنا فيه إلى أصل
القياس. وحكى أن أبا يوسف رحمه الله تعالى لما سمع هذا من أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال
حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن
عبادة وكان يصلى وهو راكب فلم يرفع أبو حنيفة رحمه الله تعالى رأسه قيل إنما لم يرفع
رجوعا منه إلى الحديث وقيل بل هذا حديث شاذ فيما تعم به البلوى والشاذ في مثله لا يكون
حجة عنده فلهذا لم يرفع رأسه وأبو يوسف رحمه الله تعالى أخذ بالحديث ومحمد رحمه
الله تعالى كذلك إلا أنه كره ذلك في المصر لان اللغط يكثر فيها فلكثرة اللغط
ربما يبتلى بالغلط في القراءة فلذلك كره * قال (ولا يصلى المسافر المكتوبة على الدابة من غير
عذر) لان المكتوبة في أوقات محصورة فلا يشق عليه النزول لا دائها فيها بخلاف التطوع
فإنه ليس بمقدر بشئ فلو ألزمناه النزول لأدائها تعذر عليه إذا ما ينشطه فيه من التطوعات
أو ينقطع سفره وكذلك ينزل للوتر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها واجبة وعندهما
له أن يوتر على الدابة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا
250

فأمر مناديا ينادى حتى نادى صلوا على رواحلكم فنزل ابن رواحة فطلب موضعا يصلى فيه
فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فلما أقبل إليه فقال أما انه يأتيكم وقد لقن
حجته قال ألم تسمع ما أمرت به أمالك في أسوة قال يا رسول الله أنت تسعى في رقبة
قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يظهر فكاكها قال ألم أقل لكم انه يأتيكم وقد لقن حجته
ثم قال له أنى لأرجو على هذا أن أكون أخشاكم لله تعالى فقد جوز لهم الصلاة على الدابة عند
تعذر النزول بسبب المطر فكذلك بسبب الخوف من سبع أو عدو ولان مواضع الضرورة
مستثناة * قال (وإذا افتتح التطوع على الأرض ثم ركب فأتمها راكبا لم تجزه ولو افتتحها
راكبا ثم نزل فأتمها أجزأه) قيل لان النزول عمل يسير والركوب عمل كثير لأنه يحتاج فيه
إلى استعمال اليدين عادة وفى النزول يجعل رجليه من جانب فينزل من غير حاجة إلى معالجة
وقيل إذا افتتح على الأرض فلو أتمها راكبا كان دون ما شرع فيها لأنه شرع فيها بركوع
وسجود والايماء دون ذلك والراكب إذا نزل يؤديها أتم مما شرع فيها لأنه شرع فيها بالايماء
ويؤديها بركوع وسجود وعن زفر رحمه الله تعالى فيهما جميعا يبنى لأنه لما جاز له افتتاح
التطوع على الدابة بالايماء مع القدرة على النزول فالاتمام أولى وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى فيهما جميعا يستقبل لأنه لو بنى بعد النزول كان هذا بناء القوى على الضعيف وذلك
لا يجوز كالمريض المومئ يقدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة وفى ظاهر الرواية
فرق فقال هناك ليس له أن يفتتح بالايماء على الدابة مع القدرة على الركوع والسجود
فكذلك إذا قدر على ذلك في خلال الصلاة لا يبنى وبينا له أن يفتتح بالايماء على الدابة مع
القدرة على الركوع والسجود فقدرته على ذلك بالنزول لا تمنعه من البناء * قال (ومن
قال لله على أن أصلى ركعتي فصلاهما على الدابة من غير عذر لم يجز) اعتبارا بما يوجبه
على نفسه بما أوجب الله عليه وكذلك ان سمع تلاوة على الأرض فسجدها على الدابة بالايماء
لم تجزه لأنها لزمته بالسجود بالسماع على الأرض حيث سمعها قبل الركوب ولو سمعها وهو
راكب فسجدها بالايماء جاز لأنه أداها كما لو التزمها ولو سجد على الأرض أجزأه لأنه
أداها أتم مما التزمها * قال (رجلان في محل اقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما)
كما لو كانا على الأرض إذ ليس بين المقتدى والامام ما يمنع من الاقتداء ويكره له أن
يأتم إذا كان عن يسار الامام اعتبارا بما لو كان على الأرض وإن كان كل واحد منهما على
251

دابة لم تجز صلاة المؤتم لان بين الدابتين طريقا والطريق العظيم بين المقتدى والامام
يمنع الاقتداء وعن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى قال أستحسن أن يجوز اقتداؤه بالامام
إذا كانت دابتهم بالقرب من دابة الامام على وجه لا يكون الفرجة بينهم وبين الامام الا
بقدر الصف بالقياس على الصلاة على الأرض * قال (ونية اللاحق للإقامة وهو في قضاء
ما عليه وقد فرغ الامام من صلاته ساقطة لا يلزمه الاتمام) لأنه فيما يتم مقتد بالامام فنيته في
هذه الحالة كنية امامه ونية الامام للإقامة لا يلزمه اتمام هذه الصلاة ويعني بعد ما فرغ منها
فكذلك نيته (فان قيل) نية المقتدى معتبرة في حقه ما لم يخرج من حرمة الصلاة وفي حق
الامام إنما تعتبر بخروجه عن حرمة الصلاة (قلنا) المقتدي تبع فيجعل كالخارج من الصلاة
حكما لخروج امامه منها وكذلك لو دخل مصره فان دخول موضع الإقامة ونية الإقامة في
الحكم سواء ونية المسبوق في قضاء ما عليه للإقامة أو دخوله مصره يلزمه الاتمام لان المسبوق
فيما يقضى كالمنفرد ونية المنفرد الإقامة معبر فرضه في الوقت فكذلك نية المسبوق لأنه أصل
بنفسه ونية المنفرد الإقامة بعد خروج الوقت في صلاة افتتحها في الوقت ساقطة وكذلك
دخوله المصر لان بخروج الوقت صار صلاة السفر دينا في ذمته فلا يتغير بإقامته فأما في
الوقت لا يصير دينا في ذمته بعد ألا ترى أن في الوقت يسقط بعذر الحيض وبعد خروج
الوقت لا يسقط * قال (خراساني قدم الكوفة فأقام بها شهرا ثم خرج منها إلى الحيرة
فوطن نفسه على إقامة خمسة عشر يوما ثم خرج منها يريد خراسان ويمر بالكوفة فإنه يصلى
ركعتين) لان وطنه بالكوفة كان وطنا مستعارا فانتقض بمثله * فالحاصل أن الأوطان ثلاثة.
وطن قرار ويسمى الوطن الأصلي وهو أنه إذا نشأ ببلدة أو تأهل بها توطن بها. ووطن
مستعار وهو أن ينوى المسافر المقام في موضع خمسة عشر يوما وهو بعيد عن وطنه الأصلي
ووطن سكنى وهو أن ينوى المسافر المقام في موضع أقل من خمسة عشر يوما أو خمسة عشر يوما
وهو قريب من وطنه الأصلي ثم الوطن الأصلي لا ينقضه الا وطن أصلي مثله والوطن
المستعار ينقضه الوطن الأصلي ووطن مستعار مثله والسفر لا ينقضه وطن السكنى لأنه دونه
ووطن السكنى ينقضه كل شئ الا الخروج منه لا على نية السفر. وقد قررنا هذا الأصل فيما
أمليناه من شرح الزيادات فأكثر المسائل على هذا الأصل بخروجها ثمة والقدر الذي ذكرنا
ههنا ما بينا انه حين توطن بالحيرة خمسة عشر يوما كان هذا وطنا مستعارا له فانتقض به
252

وطنه بالكوفة والتحق بمن لم يدخلها قط فلهذا يصلى بها ركعتين وإن لم يوطن على إقامة
خمسة عشر يوما بالحيرة صلى بالكوفة أربعا ما لم يخرج منها فان الحيرة كانت وطن السكنى له
فلم ينتقض به وطنه بالكوفة فهو مقيم بها ما لم يخرج على قصد خراسان منها * قال (كوفي
خرج إلى القادسية لحاجة ثم خرج منها إلى الحفيرة ثم خرج من الحفيرة يريد الشام وله
بالقادسية نقل يريد أن يحمله منها من غير أن يمر بالكوفة فإنه يصلى بها ركعتين) لان القادسية
كانت وطن السكنى في حقه سواء عزم على الإقامة بها خمسة عشر يوما أو لم يعزم لأنه من
فناء الوطن الأصلي فان بينها وبين الكوفة دون مسيرة السفر فلما خرج إلى الحفيرة انتقض
وطنه بالقادسية لان وطن السكنى ينقضه مثله وقد ظهر له بالحفيرة وطن السكنى فالتحق بمن لم
يدخل القادسية فلهذا صلى بها ركعتين وشرطه أن لا يمر بالكوفة لأنه إذا كان يمر بها فقد عزم
على الرجوع إلى وطنه الا صلى وبينه وبين وطنه الأصلي دون مسيرة السفر فكان مقيما من
ساعته * قال (وإن كان لم يأت الحفيرة ولكنه خرج من القادسية لحاجة حتى إذا كان
قريبا من الحفيرة بدا له أن يرجع إلى القادسية فيحمل ثقله منها ويرتحل إلى الشام ولا يمر
بالكوفة صلى أربعا حتى يرتحل من القادسية استحسانا) وفى القياس يصلى ركعتين لان
وطن السكنى الذي كان له بالقادسية قد انتقض بخروجه منها على قصد الحفيرة كما ينتقض
لو دخلها ولكنه استحسن فقال القادسية كانت لي وطن السكنى ولم يظهر له بقصد الحفيرة
وطن سكني آخر ما لم يدخلها فبقي وطنه بالقادسية أرأيت لو خرج منها لبول أو غائط أو
تشييع جنازة أو لاستقبال قادم أكان ينتقض وطنه بهذا القدر من الخروج لا ينتقض
فكذلك بالخروج إلى الحفيرة ما لم يدخلها فلهذا صلى بالقادسية أربعا حتى يرتحل منها
(تم الباب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب)
(وبتمامه يتم الجزء الأول من التقسيم الذي أجرينا الطبع على اعتباره)
(ويتلوه الجزء الثاني وأوله باب الصلاة في السفينة)
253