الكتاب: المغني
المؤلف: عبد الله بن قدامه
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٢٠
المجموعة: فقه المذهب الحنبلي
تحقيق:
الطبعة: جديدة بالأوفست
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: بعناية جماعة من العلماء

المغني
تأليف الشيخ الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة شيخ الاسلام موفق الدين
* (أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة) * المتوفى سنة 620
على مختصر * (أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي) *
المتوفى سنة 334 ه‍
على مذهب إمام الأئمة ومحيي السنة الإمام * (أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل
الشيباني رضي الله عنه وعنهم وجزاهم عن أنفسهم وعن المسلمين أفضل الجزاء
الجزء الثالث
..
دار الكتاب العربي
للنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(كتاب الصيام)
الصيام في اللغة الامساك يقال صام النهار إذا وقف سير الشمس قال الله تعالى إخبارا عن مريم
(اني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
يعني بالصائمة الممسكة عن الصهيل، والصوم في الشرع عبارة عن الامساك عن أشياء مخصوصة
في وقت مخصوص يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وصوم رمضان واجب والأصل في وجوبه الكتاب
والسنة والاجماع. اما الكتاب فقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب علكيم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم إلى قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه). وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الاسلام
على خمس " ذكر منها صوم رمضان، وعن طلحة بن عبيد الله أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس
فقال يا رسول الله أخبري ماذا فرض الله علي من الصيام؟ قال " شهر رمضان " قال هل علي غيره؟ قال لا
2

الا أن تطوع شيئا " قال فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع
الاسلام قال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" أفلح ان صدق أو دخل الجنة إن صدق " متفق عليها وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان
(فصل) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة " متفق عليه وروي
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى " (1)
فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة
والمستحب مع ذلك أن يقول شهر رمضان كما قال الله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) واختلف
في المعنى الذي لأجله سمي رمضان فروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنما سمي رمضان لأنه يحرق
الذنوب " (2) فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه، وقيل هو اسم موضوع لغير
معنى كسائر الشهور وقيل غير ذلك
(فصل) والصوم المشروع هو الامساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وروي
معنى ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم (3) وروي عن علي رضي الله عنه أنه لما
صلى الفجر قال الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق
لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملا البيوت والطرق وهذا قول الأعمش
3

ولنا قول الله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) يعنى بياض النهار
من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ان بلالا يؤذن
بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن أين أم مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور
لا يكون الا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه الا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله، والنهار
الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال هذا قول جماعة علماء المسلمين
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما
طلبوا الهلال فإن كانت السماء مصحية لو يصوموا ذلك اليوم)
وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وتطلبه ليحتاطوا بذلك
لصيامهم ويسلموا من الاختلاف، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " احصوا
هلال شعبان لرمضان " فإذا رأوه وجب عليهم الصيام اجماعا وان لم يروه وكانت السماء مصحية لم يكن
لهم صيام ذلك اليوم الا أن يوافق صوما كانوا يصومونه مثل من عادته صوم يوم وافطار يوم أو صوم
يوم الخميس أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك إذا وافق صومه أو من صام قبل ذلك بأيام فلا
بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين
الا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه " متفق عليه وقال عمار من صام اليوم الذي يشك فيه
فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وكره أهل العلم صوم يوم الشك
واستقبال رمضان باليوم واليومين لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحكي عن القاسم بن محمد أنه سئل عن صيام آخر
4

يوم من شعبان هل يكره؟ قال لا الا أن يغمى الهلال واتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى فأما استقبال الشهر
بأكثر من يومين فغير مكروه فإن مفهوم حديث أبي هريرة أنه غير مكروه لتخصيصه النهي باليوم واليومين
وقد روي العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان النصف من شعبان
فامسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح الا أن أحمد قال ليس
هو بمحفوظ قال وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي فلم يصححه ولم يحدثني به وكان يتوقاه قال احمد والعلاء
ثقة لا ينكر من حديثه الا هذا لأنه خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل شعبان برمضان ويحمل
هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر وحديث عائشة في صلة شعبان
برمضان في حق من صام الشهر كله فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر فلا تعارض بين الخبرين إذا.
وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم * وفي كلام الخرقي فيه اختصار وتقديره
طلبوا الهلال فإن رأوه صاموا وان لم يروه وكانت السما مصحية لم يصوموا فحذف بعض الكلام للعلم به اختصارا
(فصل) ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
5

رأى الهلال قال " الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والايمان والسلامة والاسلام والتوفيق لما تحب وترضى
ربي وربك الله " رواه الأثرم
6

(فصل) وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم وهذا قول الليث وبعض أصحاب
الشافعي وقال بعضهم إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم
أهلها الصوم برؤية الهلال في إحداهما وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد
رؤيتهم وروي عن عكرمة أنه قال لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم وسالم وإسحاق لما
روى كريب قال قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت
المدينة في آخر الشهر فسألني أبن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال؟ قلت رأيناه ليلة الجمعة
فقال أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكن رأيناه ليلة السبت
فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا هكذا أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه مسلم أيضا
ولنا قول الله تعالى (فمن شهد من الشهر فليصمه) وقول النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي لما قال له: الله
أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال " نعم " وقوله للآخر لما قال له ماذا فرض الله علي من
الصوم؟ قال " شهر رمضان " وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان وقد ثبت أن هذا اليوم
من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولان شهر رمضان ما بين الهلالين،
وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب
7

النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والاجماع ولان البينة العادلة شهدت برؤية الهلال
فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فاما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب
وحده ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس هو في الحديث فإن قيل
فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما ولم يروا الهلال أفطروا في أحد الوجهين
قلنا الجواب عن هذا من وجهين (أحدهما) أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته فيكون فطرهم مبنيا
على صومهم بشهادته وههنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه (الثاني) أن الحديث دل
على صحة الوجه الآخر
(مسألة) قال (وان حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان
من شهر رمضان)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة فروي عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر
شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء
ابنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران
وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وان أفطر أفطروا وهذا قول الحسن
وابن سيرين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون "
قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وعن
8

أحمد رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة
ومالك والشافعي ومن تبعهم لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا
9

لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " رواه البخاري، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " رواه مسلم وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
10

صوم يوم الشك متفق عليه وهذا يوم شك ولان الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك
ولنا ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الشهر تسع وعشرون (1) فلا تصوموا
11

حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " قال نافع كان ابن عمر إذا مضى
من شعبان تسعة وعشرون يوما بعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وان لم ير ولم يحل دون منظره سحاب
12

ولا قتر أصبح مفطرا وان حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود ومعنى اقدروا له أي ضيقوا
له العدد من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق عليه وقوله (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) والتضييق له أن
13

يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما (1) وقد فسره ابن عمر بفعله وهو رواية وأعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره
كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين، وروي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
14

قال لرجل " هل صمت من سرر شعبان شيئا؟ " قال لا وفي لفظ " أصمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ "
قال لا قال " فإن أفطرت فصم يومين " متفق عليه وسرر الشهر آخره ليال يستسر الهلال فلا يظهر ولأنه شك في
15

أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه أنه من غير رمضان فوجب الصوم كالطرف الآخر قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن
أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ولان الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم
16

بخبر واحد ولم يفطر الا بشهادة اثنين فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به فإنه يرويه محمد بن زياد
17

وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة " فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين " وروايته أولى بالتقديم
18

لإمامته واشتهار عدالته وثقته وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية
19

ابن عمر فاقدروا له ثلاثين مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه، والنهي عن
20

صوم الشك محمول على حال الصحو بدليل ما ذكرناه وفي الجملة لا يجب الصوم الا برؤية الهلال أو كمال
21

شعبان ثلاثين يوما أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر على ما ذكرنا من الخلاف فيه
(مسألة) (ولا يجزئه صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل)
وجملته أنه لا يصح صوم الا بنية اجماعا فرضا كان أو تطوعا لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية
كالصلاة ثم إن كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من
الليل عند إمامنا ومالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين بنية من النهار
22

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة " من كان أصبح صائما فليتم
صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " متفق عليه، وكان صوما
واجبا متعينا ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع
ولنا ما روى ابن جريح وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري عن
سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " وفي لفظ
ابن حزم " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي وروى
الدارقطني باسناده عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام قبل طلوع
الفجر فلا صيام له " وقال اسناده كلهم ثقات وقال في حديث حفصة رفعه عبد الله بن أبي بكر عن
الزهري وهو من الثقات الرفعاء ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فاما صوم عاشوراء
فلم يثبت وجوبه فإن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله
عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر " متفق عليه فلو كان واجبا
لم يبح فطره سمي الامساك صياما تجوزا بدليل قوله: ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه.
ولم يفرق بين المفطر بالاكل وغيره وقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا ان أذن
في الناس " ان من كان أكل فليصم بقيه يومه " وامساك بقية اليوم بعد الاكل ليس بصيام شرعي وإنما سماه
صياما تجوزا ثم لو ثبت انه صام فالفرق بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار فأجزأته
23

النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر اتمام صوم بقية يومه فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف
ما إذا كان النذر متقدما. والفرق بين التطوع والفرض من وجهين (أحدهما) أن التطوع يمكن الاتيان به
في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء فليصم بقية يومه
فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله والفرض يكون واجبا في جميع النهار ولا يكون
صائما بغير النية (والثاني) أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له فإنه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية
في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا
له بخلاف الفرض، إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب
والجماع أم لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم واشترط
بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به
ولنا مفهوم قوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " من غير تفصيل ولأنه نوى
من الليل فصح صومه كما لو نوى في النصف الأخير ولم يفعل ما ينافي الصوم ولان تخصيص النية
بالنصف الأخير يفضي إلى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر
الصوم والشارع إنما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع
24

المشقة بتخصيصها به ولان تخصيصها بالنصف الأخير تحكم من غير دليل ولا يصح اعتبار الصوم
بالاذان والدفع من مزدلفة لأنهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما
بخلاف نية الصوم ولان اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الايجاب
والتحتم وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز ولان منعهما في النصف
الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر والنية بخلافه فأما ان فسخ النية
مثل ان نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة لأنها زالت حكما وحقيقة
(فصل) وان نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل
وقد روى ابن منصور عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل فلا بأس
إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك، فظاهر هذا حصول الاجزاء بنيته من النهار الا أن القاضي قال
هذا محمول على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل، وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام " لا صيام
لمن لم يبيت الصيام من الليل " ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة ولا قريبا منها فلم يصح كما لو نوى
من الليل صوم بعد غد
(فصل) وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر وعن أحمد انه تجزئه
نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك وإسحاق لأنه نوى في زمن يصلح جنسه
لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته
25

ولنا انه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات
لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس
رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيحرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان
(فصل) ومعنى النية القصد وهو اعتقاد القلب فعل شئ وعزمه عليه من غير تردد فمتى
خطر بقلبه في الليل أن غذا من رمضان وانه صائم فيه فقد نوى وان شك في أنه من رمضان ولم
يكن له أصل يبني عليه مثل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلق الهلال غيم ولا قتر
فعزم أن يصوم غدا من رمضان لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم
وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة
ومالك وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وقال الثوري والأوزاعي يصح إذا نواه من الليل
لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا انه لم يجزم النية بصومه من رمضان فلم يصح كما لو لم يعلم الا بعد خروجه وكذلك لو بنى
على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه وان كثرت أصابتهم لأنه
ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وفي رواية " لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه " فأما ليلة الثلاثين
26

من رمضان فتصح نيته وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي
صلى الله عليه وسلم بصومه بقوله " ولا تفطروا حتى تروه " لكن ان قال: إن كان غدا من رمضان فأنا صائم وإن كان
من شوال فأنا مفطر قال ابن عقيل لا يصح صومه لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم
ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان
(فصل) ويجب تعيين النية في كل صوم واجب وهو أن يعتقد انه يصوم غدا من رمضان
أو من قضائه أو من كفارته أو نذره نص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال قلت لا بي عبد الله
أسير صام شهر رمضان في أرض الروم ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع؟ قال لا يجزئه الا بعزيمة انه من
رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل انه من
رمضان وبهذا قال مالك والشافعي، وعن أحمد رواية أخرى انه لا يجب تعين النية لرمضان فإن المروذي
روى عن أحمد أنه قال يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان
وان لم نعتقد أنه من رمضان؟ قال نعم قلت فقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " أليس يريد
أن ينوي انه من رمضان؟ قال لا إذا نوى من الليل انه صائم أجزأه، وحكى أبو حفص العكبري عن
بعض أصحابنا أنه قال ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض
أصحابنا ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي وجدت
هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم ذكره في شرحه وقال أبو حفص لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل
27

بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا وقع عن رمضان
وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقيما لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين
النية له كطواف الزيارة
ولنا انه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة كمسألتنا في افتقاره إلى
التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج
مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه
وقع عن نفسه ولو نوى الاحرام بمثل ما أحرم به فلان صح وينعقد فاسدا بخلاف الصوم
(فصل) ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فانا صائم فرضا والا فهو نفل لم يجزئه على
الرواية الأولى لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما ويجزيه على الأخرى لأنه قد نوى الصوم ولو
كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه بصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد وكان الاثنين
أو ظن أن غدا الاحد فنواه وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت
(فصل) وإذا عين النية عن صوم رمضان أو قضائه كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا
وقال ابن حامد يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة
28

(مسألة) قال (ومن نوى صيام التطوع من النهار ولم يكن طعم أجزأه)
29

وجملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا وأبي حنيفة والشافعي وروي ذلك
عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والنخعي
وأصحاب الرأي وقال مالك وداود لا يجوز الا بنية من الليل لقوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت
الصيام من الليل " ولان الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها وكذلك الصوم
ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال " هل عندكم من
شئ؟ قلنا لا قال " فاني إذا صائم " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء
ولان الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها ويجوز في السفر على الراحلة
إلى غير القبلة فكذا الصيام وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم فانا من رواية ابن
لهيعة ويحيى بن أيوب قال الميموني سألت أحمد عنه فقال أخبرك ما له عندي ذلك الاسناد الا أنه
عن ابن عمر وحفصة اسنادان جيدان والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في
أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفى عنه كما لو جوزنا التنفل
قاعدا وعلى الراحلة لهذه العلة
(فصل) وأي وقت من النهار نوى أجزأه سوا في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام
أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود فإنه قال أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب
وقال رجل لسعيد بن المسيب اني لم آكل إلى الظهر أو إلى العصر أفأصوم بقية يومي؟ قال نعم
30

واختار القاضي في المحرر أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي
لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ولهذا
تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لادراكه معظمها ولو
أدركه بعد الرفع لم يكن مدركا لها ولو أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لأنها تزيد بالشهد ولو
أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها
ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله ولان جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار
وقت لنية الفل، إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد فإنه
قال من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه وإذ أجمع من الليل كان له يومه وهذا أقول بعض أصحاب
الشافعي، وقال أبو الخطاب في الهداية يحكم له بذلك من أول النهار وهو قول بعض أصحاب الشافعي
لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقيه فإذا وجد في بعض اليوم
دل على أنه صائم من أوله ولا يمنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقية كما لو نسي الصوم بعد نيته أو غفل
عنه ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها
ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام " إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى " ولان الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة ودعوى
31

أن الصوم لا يتبعض دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شئ
من اليوم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عاشوراء " فليصم بقية يومه " وأما إذا نسي النية بعد وجودها
فإنه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكما ولا حقيقة ولهذا لو نوى الفرض من
الليل ونسيه في النهار صح صومه ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه، وأما ادراك الركعة والجماعة
فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة وينوي انه مأموم وليس هذا مستحيلا اما أن يكون ما صلى
الإمام قبله من الركعات محسوبا له بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولان درك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة
لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام وأما الصوم فإن النية شرط له أو ركن فيه فلا
يتصور وجوده بدون شرطه وركنه إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ولا فعل
ما يفطره فإن فعل شيئا من ذلك لم يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه
(مسألة) قال (ومن نوى من الليل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر فلم يفق حتى غربت
الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم)
وجملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار فلم يفق في شئ منه لم يصح صومه في قول إمامنا
والشافعي. وقال أبو حنيفة: يصح لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم
ولنا أن الصوم هو الامساك مع النية، قال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا
الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي " متفق عليه، فأضاف ترك الطعام والشراب
إليه، فإذا كان مغمى عليه فلا يضاف الامساك إليه فلم يجزئه، ولان النية أحد ركني الصوم فلا تجزئ وحدها
كالامساك وحده، أما النوم فإنه عادة لا يزيل الاحساس بالكلية ومتى نبه انتبه، والاغماء عارض يزيل
العقل فأشبه الجنون، إذا ثبت هذا فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء (أحدها) الاغماء وقد ذكرناه
ومتى فسد الصوم هب فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه لأن مدته لا تتطاول غالبا، ولا تثبت
الولاية على صاحبه فلم يزل التكليف به وقضاء العبادات كالنوم، ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من
النهار صح صومه سواء كان في أوله أو في آخره، وقال الشافعي في أحد قوله: تعتبر الإفاقة في أول
النهار ليحصل حكم النية في أوله
32

ولنا أن الإفاقة حصلت في جزء من النهار فأجزأ كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فإن
النية قد حصلت من الليل فيستغنى عن ذكرها في النهار كما لو نام أو غفل عن الصوم، ولو كانت النية
إنما تحصل بالإفاقة في النهار لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة لأنه لا يجزئ بنية من النهار
(الثاني) النوم فلا يؤثر في الصوم سواء وجد في بعض النهار أو جميعه
(الثالث) الجنون فحكمه حكم الاغماء إلا أنه إذا وجد في جميع النهار لم يجب قضاؤه. وقال أبو
حنيفة: متى أفاق المجنون في جزء من رمضان لزمه قضاء ما مضى منه لأنه أدرك جزأ من رمضان وهو
عاقل فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم. وقال الشافعي: إذا وجد الجنون في جزء من النهار
أفسد الصوم لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض
ولنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر فمنعه إذا وجد في جميع النهار كالصبا والكفر
وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوبه، وإن سلمناه فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمه
كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة
ولنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم كالاغماء والنوم، ويفارق
الحيض فإن الحيض لا يمنع الوجوب، وإنما يجوز تأخير الصوم ويحرم فعله ويوجب الغسل ويحرم
الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطئ فلا يصح قياس الجنون عليه
(مسألة) قال (وإذا سافر ما يقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره)
وجملة ذلك أن للمسافر أن يفطر في رمضان وغيره بدلالة الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب
فقول الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
" إن الله وضع عن المسافر الصوم " رواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن في أخبار كثيرة
سواه، وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة، وإنما يباح الفطر في السفر الطويل الذي
يبيح القصر وقد ذكرنا قدره في الصلاة، ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له
(الثاني) أن يسافر في أثناء الشهر ليلا فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها
في قول عامة أهل العلم. وقال عبيدة السلماني وأبو مجاز وسويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول
الشهر لقول الله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا قد شهده
ولنا قول الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وروى ابن عباس
33

قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر وأفطر الناس
متفق عليه، ولأنه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر، والآية تناولت الامر بالصوم لمن شهد
الشهر كله وهذا لم يشهده كله (1)
(الثالث) أن يسافر في أثناء يوم من رمضان فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا، وفي إباحة
فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان (إحداهما) له أن يفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل
والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري سفينة من
الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال اقترب فقلت
ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل. رواه أبو داود، ولان
السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه اباحه كالمرض، ولأنه
أحد الامرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فاباحه في أثناء النهار كالآخر (والرواية
الثانية) لا يباح له الفطر ذلك اليوم وهو قول مكحول والزهري ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي
والشافعي وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر
كالصلاة والأول أصح للخبر، ولان الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم اتمامها بنيته بخلاف الصوم
إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها
وقال الحسن يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج، وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر قول
الحسن قول شاذ، وليس الفطر لاحد في الحضر في نظر ولا أثر، وقد روي عن الحسن خلافه وقد روى
محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر
فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة؟ فقال سنة ثم ركب. قال الترمذي هذا حديث حسن
ولنا قول الله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا شاهد لا يوصف بكونه مسافرا حتى
يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة، فأما أنس فيحتمل
أنه قد كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك
(فصل) وإن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر فله ذلك، واختلف قول الشافعي فيه
فقال مرة لا يجوز له الفطر، وقال مرة أخرى إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر، وقال
مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة لأنه أفطر في صوم رمضان فلزمه ذلك كما لو كان حاضرا
ولنا حديث ابن عباس وهو حديث صحيح متفق عليه، وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه، فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن
34

الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام
بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال " أولئك العصاة " رواه مسلم، وهذا نص صريح لا يعرج على
من خالفه، إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما إلا الجماع هل له أن يفطر
به أم لا؟ فإن أفطر بالجماع ففي الكفارة روايتان: الصحيح منهما أنه لا كفارة عليه وهو مذهب
الشافعي (والثانية) يلزمه كفارة لأنه أفطر بجماع فلزمته كفارة كالحاضر
ولنا أنه صوم لا يجب المضي فيه فلم تجب الكفارة بالجماع فيه كالتطوع وفارق الحاضر الصحيح
فإنه يجب عليه المضي في الصوم، وإن كان مريضا يباح له الفطر فهو كالمسافر، ولأنه يفطر بنية الفطر
فيقع الجماع بعد حصول الفطر فأشبه ما لو أكل ثم جامع، ومتى أفطر المسافر فله فعل جميع ما ينافي الصوم
من الأكل والشرب والجماع وغيره لأن حرمتها بالصوم فتزول بزواله كما لو زال بمجئ الليل
(فصل) وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء لأن الفطر أبيح رخصة
وتخفيفا عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه لزمه أن يأتي بالأصل، فإن نوى صوما غير رمضان لم يصح
صومه لا عن رمضان ولا عما نواه، هذا الصحيح في المذهب وهو قول أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة:
يقع ما نواه إذا كان واجبا لأنه زمن أبيح له فطره فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان
ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض وبهذا ينتقض
ما ذكروه وينقض أيضا بصوم التطوع فإنهم سلموه. قال صالح: قيل لأبي من صام شهر رمضان وهو ينوي
به تطوعا يجزئه؟ قال أو يفعل هذا مسلم؟
(مسألة) قال (ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط أو أدخل إلى جوفه شيئا
من أي موضع كان أو قبل فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فأنزل أي ذلك فعل عامدا وهو
ذاكر لصومه فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صوما واجبا)
في هذه المسألة فصول (أحدها) انه يفطر بالأكل والشرب بالاجماع وبدلالة الكتاب والسنة
35

أما الكتاب فقول الله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
ثم أتموا الصيام إلى الليل) مد الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما. وأما السنة فقول
النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ربح المسك يترك طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي " وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به فأما ما لا يتغذى به فعامة أهل
العلم على أن الفطر يحصل به. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة
الأنصاري انه كان يأكل البرد في الصوم ويقول ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن
الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب فما عداهما يبقى على أصل الإباحة ولنا دلالة الكتاب والسنة
على تحريم الأكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافا
(الفصل الثاني) ان الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم وبه قال إسحاق وابن المنذر ومحمد بن إسحاق
ابن خزيمة وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي وكان الحسن ومسروق وابن سيرين لا يرون للصائم
أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس
ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة وحسين بن علي وعروة وسعيد بن جبير. وقال
مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي يجوز للصائم أن يحتجم ولا يفطر لما روى البخاري عن ابن عباس
ان النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. ولأنه دم خارج من البدن أشبه الفصد
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا قال أحمد
حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب وإسناد حديث رافع إسناد جيد وقال: حديث
ثوبان وشداد صحيحان، وعن علي بن المديني أنه قال أصح شئ في هذا الباب حديث شداد وثوبان
وحديثهم منسوخ بحديثنا بدليل ما روي عن ابن عباس أنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاحة بقرن وناب
وهو محرم صائم فوجد لذلك ضعفا شديدا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يحتجم الصائم. رواه أبو إسحاق
الجوزجاني في المترجم وعن الحكم قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فضعف ثم كرهت الحجامة
36

للصائم وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم فإذا غابت الشمس احتجم بالليل
كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه ويحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم احتجم
فأفرط كما روى عنه عليه السلام انه قاء فأفطر. فإن قيل فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحاجم والمحتجم
يغتابان فقال ذلك قلنا لم تبت صحة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب العمل بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب على أننا قد ذكرنا الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف
من الضعف فيبطل التعليل بما سواه أو يكون كل واحد منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر
الصائم إجماعا فلا يصح حمل الحديث على ما يخالف الاجماع. قال أحمد: لأن يكون الحديث
كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " أحب إلينا من أن يكون من الغيبة لأن من أراد أن
يمتنع من الحجامة امتنع وهذا أشد على الناس، من يسلم من الغيبة؟ فإن قيل: فإذا كانت علة النهي ضعف
الصائم بها فلن يقتضي ذلك الفطر وإنما يقتضي الكراهة ومعنى قوله " أفطر الحاجم والمحجوم " أي
قربا من الفطر. قلنا هذا تأويل يحتاج إلى دليل على أنه لا يصح ذلك في حق الحاجم فإنه لا ضعف فيه (1)
(الفصل الثالث) أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك
مما ينفد إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غير
العادة كالوجود واللدود أو من الانف كالسعوط أو ما يدخل من الاذن إلى الدماغ أو ما يدخل من
العين إلى الحلق كالكحل أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى
جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الاكل وكذلك
لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه وبهذا
كله قال الشافعي وقال مالك لا يفطر بالسعوط الا أن ينزل إلى حلقه ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة
واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شئ أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا
37

الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره فيفطره (1) كلواصل إلى الحلق، والدماغ جوف
والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن
(فصل) فاما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره والا لم يفطره نص عليه
احمد وقال ابن أبي موسى ما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور أفطر وان اكتحل باليسير من الإثمد
غير المطيب كالميل ونحوه لم يفطر نص عليه احمد وقال ابن عقيل إن كان الكحل حادا فطره والا
فلا. ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم ولأن العين
ليست منفذا فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه
ولنا أنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأفطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه
لم يصح قال الترمذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الكحل للصائم شئ ثم نحمله على أنه اكتحل
بما لا يصل وقولهم ليست العين منفذا لا يصح فإنه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالإثمد فيتنخعه قال
أحمد حدثني انسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل
ما لو جرح نفسه جائفة فإنه يفطر
38

(فصل) وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق فأشبه غبار الطريق
39

وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره لأنه يصل إلى جوفه من معدته أشبه إذا لم يجمعه
40

وفى وجه آخر أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق والأول أصح
41

فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وان قصد ابتلاعه فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه
42

إلى ثوبه أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه أو بلع ريق غير أفطر لأنه ابتلعه من غير فمه
فأشبه ما لو بلغ غيره فإن قيل فقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها
رواه أبو داود قلنا قد روي عن أبي داود أنه قال هذا اسناد ليس بصحيح ويجوز أن يكون يقبل
في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه ثم لا يبتلعه ولأنه لم يتحقق انفصال ما على لسانها
من البلل إلى فمه فأشبه ما لو ترك حصاة مبلولة في فيه أو لم تمضمض بماء ثم مجه ولو ترك في فمه حصاة
أو درهما فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه نظرت فإن كان ما عليه من الريق كثيرا فابتلعه
أفطر وإن كان يسيرا لم يفطر بابتلاع ريقه وقال بعض أصحابنا يفطر لابتلاعه ذلك البلل الذي
كان على الجسم
ولنا أنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه فلا يفطره كالمضمضة والتسوك بالسواك
الرطب والمبلول ويقوي ذلك حديث عائشة في مص لسانها ولو أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد
فأدخله وابتلع ريقه لم يفطر
(فصل) وان ابتلع النخامة ففيها روايتان (إحداهما) يفطر قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول إذا
تنخم ثم ازدرده فقد أفطر لأن النخامة من الرأس تنزل والريق من الفم ولو تنخع من جوفه ثم ازدرده
أفطر وهذا مذهب الشافعي لأنه أمكن من التحرز منها أشبه الدم ولأنها من غير الفم أشبه القئ، والرواية
(الثانية) لا يفطر قال في رواية المروزي ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم لأنه معتاد
في الفم غير واصل من خارج أشبه الريق
(فصل) فإن سال فمه دما أو خرج إليه قلس أو قئ فأزدرده أفطر وإن كان يسيرا لأن الفم في حكم
الظاهر والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكن عفي عن الريق لعدم امكان التحرز منه فما عداه
يبقى على الأصل وان ألقاه من فيه وبقي فمه نجسا أو تنجس فمه بشئ من خارج فابتلع ريقه فإن كان
معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء والا فلا
43

(فصل) ولا يفطر بالمضمضة بغير خلاف سواء كان في الطهارة أو غيرها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر
سأله عن القبلة للصائم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو تمضمضت من اناء وأنت صائم " قلت لا باس قال " فمه " (1)
ولان الفم في حكم الظاهر لا يبطل الصوم بالواصل إليه كالأنف والعين وان تمضمض أو استنشق في
الطاهرة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا اسراف فلا شئ عليه وبه قال الأوزاعي وإسحاق
والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك وأبو حنيفة يفطر لأنه أوصل الماء
إلى جوفه ذاكرا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه
ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير اسراف ولا قصد فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه وبهذا
فارق المتعمد، فاما ان أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروها لقول النبي
صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة " وبالغ في الاستنشاق الا أن تكون صائما " حديث صحيح ولأنه يتعرض بذلك
لايصال الماء إلى حلقه فإن وصل إلى حلقه فقال احمد يعجبني أن يعيد الصوم وهل يفطر بذلك؟
على وجهين (أحدهما) يفطر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المبالغة حفظا للصوم فدل ذلك على أنه يفطر به
ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبه التعمد (والثاني) لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار
الدقيق إذا نخله فاما المضمضة لغير الطهارة فإن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه
44

فحكمه حكم المضمضة للطهارة وإن كان عابثا أو تمضمض من أجل العطش كره وسئل احمد عن الصائم
يعطش فيتمضمض ثم يمجه قال يرش على صدره أحب إلى فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء
في فيه عابثا أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه ولا بأس أن يصب الماء على
رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر رواه أبو داود (1)
(فصل) ولا بأس أن يغتسل الصائم فإن عائشة وأم سلمة قالتا: نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان
ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم متفق عليه وروى أبو بكر باسناده أن ابن عباس
دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان، فاما الغوص في الماء فقال احمد في الصائم
يغتمس في الماء إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن والشعبي أن ينغمس في الماء خوفا أن يدخل
في مسامعه فإن دخل في مسامعه فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع من غير اسراف ولا قصد فلا
شئ عليه كما لو دخل إلى حلقه من المضمضة في الوضوء وإن غاص في الماء أو أسرف أو كان عابثا
فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق والزائد على الثلاث والله أعلم
(فصل) قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد الصائم يمضغ العلك قال لا، قال أصحابنا العلك
ضربان (أحدهما) ما يتحلل منه أجزاء وهو الردئ الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه الا أن
45

لا يبلع ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شئ أفطر به كما لو تعمد أكله (والثاني) العلك القوي الذي
كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم وممن كره الشعبي والنخعي ومحمد بن علي وقتادة
والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش ورخصت عائشة في
مضغه وبه قال عطاء لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يضعها في فيه ومتى مضغه ولم يجد طعمه في
حلقه لم يفطر وان وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان (أحدهما) يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه
(والثاني) لا يفطره لأنه لم ينزل منه شئ ومجرد الطعم لا يفطر بدليل أنه قد قيل من لطخ باطن
قدمه بالحنظل وجد طعمه ولا يفطر بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق ويشاهد إذا تنخع
قال احمد: من وضع في فيه درهما أو دينارا وهو صائم ما لم يجد طعمه في حلقه فلا بأس به وما يجد
طعمه فلا يعجبني. وقال عبد الله سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط قال يعجبني أن يبزق
(فصل) قال أحمد أحب إلي أن يجتنب دوق الطعام فإن فعل لم يضره ولا بأس به. قال ابن
عباس: لا بأس أن يذوق الطعام الخل والشئ يريد شراءه، والحسن كان يمضع الجوز لابن ابنه وهو
صائم ورخص فيه إبراهيم، قال ابن عقيل يكره من غير حاجة ولا بأس به مع الحاجة فإن فعل فوجد
طعمه في حلقه أفطر وإلا لم يفطر
(فصل) قال احمد لا بأس بالسواك للصائم. قال عامر بن ربيعة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي
يتسوك وهو صائم. قال الترمذي هذا حديث حسن، وقال زياد بن حدير ما رأيت أحدا كان أدوم
لسواك رطب وهو صائم من عمر بن الخطاب ولكنه يكون عودا ذاويا، ولم ير أهل العلم بالسواك
أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا، واستحب أحمد وإسحاق ترك السواك بالعشي. قال أحمد: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الأذفر " لتلك الرائحة لا يعجبني
للصائم أن يستاك بالعشي، واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو
قول قتادة والشعبي والحكم واسحق ومالك في رواية لأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء
إلى حلقه فيفطره، وروي عنه لا يكره، وبه قال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة، وروي ذلك عن
علي وابن عمر وعروة ومجاهد لما رويناه من حديث عمر وغيره من الصحابة
(فصل) ومن أصبح بين أسنانه طعام لم يخل من حالين (أحدهما) أن يكون يسيرا لا يمكنه
46

لفظه فازدرده فإنه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه الريق. وقال ابن المنذر: أجمع على ذلك
أهل العلم (الثاني) أن يكون كثيرا يمكن لفظه فإن لفظه فلا شئ عليه، وإن ازدرده عامدا فسد
صومه في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: لا يفطر لأنه لابد أن يبقى بين أسنانه شئ مما يأكله
فلا يمكن التحرز منه فأشبه ما يجري به الريق
ولنا أنه بلع طعاما يمكنه لفظه باختياره ذاكرا لصومه فأفطر به كما لو ابتدأ الاكل، ويخالف
ما يجري به الريق فإنه لا يمكنه لفظه، فإن قيل يمكنه أن يبصق قلنا لا يخرج جميع الريق ببصاقه، وإن
منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه
(فصل) فإن قطر في إحليله دهنا لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل، وبه قال أبو حنيفة
وقال الشافعي: يفطر لأنه أوصل الدهن إلى جوف في جسده فأفطر كما لو داوى الجائفة، ولان المني
يخرج من الذكر فيفطره وما أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه كالفم
ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ، وإنما يخرج البول رشحا فالذي يتركه فيه لا يصل إلى
الجوف فلا يفطره كالذي يتركه في فيه ولم يبتلعه
(الفصل الرابع) إذا قبل فأمنى أو أمذى ولا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن لا ينزل
فلا يفسد صومه بذلك، لا نعم فيه خلافا لما روت عائشة: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم وكان
أملككم لإربه. رواه البخاري ومسلم، ويروي بتحريك الراء وسكونها، قال الخطابي معناهما واحد
وهو حاجة النفس ووطرها، وقيل بالتسكين العضو وبالفتح الحاجة، وروي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله: صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت
وأنا صائم، فقال " أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم " قلت لا بأس به، قال " فمه " رواه
أبو داود، شبه القبلة بالمضمضة من حيث أنها من مقدمات الشهوة، وأن المضمضة إذا لم يكن معها
نزول الماء لم يفطر وإن كان معها نزوله أفطر، إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال هذا ريح ليس
من هذا شئ
(الحال الثاني) أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولأنه انزال بمباشرة
فأشبه الانزال بالجماع دون الفرج
47

(الحال الثالث) أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطر وروي ذلك
عن الحسن والشعبي والأوزاعي لأنه خارج لا يوجب الغسل أشبه بالبول
ولنا انه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني وفارق البول بهذا واللمس
لشهوة كالقبلة في هذا: إذا ثبت هذا فإن المقبل إذ كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه انه إذا
قبل أنزل لم تحل له القبلة لأنها مفسدة لصومه فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب
على ظنه ذلك كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد وقد روي عن عمر أنه قال
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأعرض عني فقلت له مالي؟ فقال " انك تقبل وأنت صائم " ولان
العبادة إذا منعت الوطئ منعت القبلة كالاحرام ولا تحرم القبلة في هذه الحال لما روي أن رجلا
قبل وهو صائم فأرسل امرأته فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم انه يقبل وهو صائم فقال الرجل
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مثلنا قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال
" اني لأخشاكم الله وأعلمكم بما اتقي " رواه مسلم بمعناه ولان افضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه
ولا يثبت التحريم بالشك فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهم ففيه روايتان (إحداهما)
لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا
لإربه وغير ذي الشهوة في معناه
وقد روى أبو هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له فأتاه آخر فسأله
فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب أخرجه أبو داود ولأنها مباشرة لغير شهوة
فأشبهت لمس اليد لحاجة
والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة ولان الصوم عبادة تمنع الوطئ فاستوى في القبلة
فيها من تحرك شهوته وغيره كالاحرام، فأما اللمس لغير شهوة كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه
بحال لأن ذلك لا يكره في الاحرام فلا يكره في الصيام كلمس ثوبها
(فصل) ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه به إلا أن ينزل فإن أنزل فسد صومه
لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة فأما ان انزل لغير شهوة كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض
فلا شئ عليه لأنه خارج لغير شهوة أشبه البول ولأنه يخرج عن غير اختبار منه ولا تسبب إليه
48

فأشبه الاحتلام ولو احتلم لم يفسد صومه لأنه عن غير اختيار منه فأشبه ما لو دخل حلقة شئ وهو
نائم ولو جامع في الليل فأنزل بعد ما أصبح لم يفطر لأنه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه ما لو أكل شيئا
في الليل فذرعه القئ في النهار
(القصل الخامس) إذا كرر النظر فأنزل، ولتكرار النظر أيضا ثلاثة أحوال (أحدها) أن لا يقترن به
انزال فلا يفسد الصوم بغير اختلاف (الثاني) أن يقترن به انزال المني فيفسد الصوم في قول إمامنا
وعطاء والحسن البصري ومالك والحسن بن صالح وقال جابر بن زيد والثوري وأبو حنيفة والشافعي
وابن المنذر لا يفسد لأنه انزال عن غير مباشرة أشبه الانزال بالفكر، ولنا انه انزال بفعل يتلذذ به
ويكمن التحرز منه فأفسد الصوم كالانزال باللمس، والفكر لا يمكن التحرز منه بخلاف تكرار النظر
(الثالث) مذي بتكرار النظر فظاهر كلام أحمد انه لا يفطر به لأنه لا نص في الفطر به ولا يمكن قياسه
على أنزال المنى لمخالفته إياه في الأحكام فيبقى على الأصل فأما ان نظر فصرف بصره لم يفسد صومه
سواء أنزل أو لم ينزل وقال مالك ان أنزل فسد صومه لأنه انزل بالنظر أشبه ما لو كرره.
ولنا أن النظرة الأولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه كالفكرة وعليه يخرج
التكرار فإذا ثبت هذا فإن تكرار النظر مكروه لمن يحرك شهوته غير مكروه لمن لا يحرك شهوته
كالقبلة ويحتمل أن لا يكره بحال افضاءه إلى الانزال المفطر بعيد جدا بخلاف القبلة فإن حصول
المذي بها ليس ببعيد
(فصل) فإن فكر فأنزل لم يفسد صومه وحكي عن أبي حفص البرمكي انه يفسد واختاره ابن
عقيل لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار بدليل تأثيم صاحبها في مساكها (1) في بدعة كفر
ومدح الله سبحانه الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في
ذات الله وأمر بالتفكر في الآية ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق ذلك بها كالاحتلام فاما
ان خطر بقلبه صورة الفعل فأنزل لم يفسد صومه لأن الخاطر لا يمكن دفعه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم "
ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النظر لأنه دونهما في استدعاء
49

الشهوة وإفضائه إلى الانزال ويخالفهما في التحريم إذا تعلق ذلك بأجنبية أو الكراهة إن كان
في زوجة فيبقى على الأصل
(الفصل السادس) أن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد فأما ما حصل منه عن غير
قصد كالغبار الذي يدخل حلقه من الطريق ونخل الدقيق والذبابة التي تدخل حلقه أو يرش عليه الماء
فيدخل مسامعه أو أنفه أو حلقه أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة
أو يصب في حلق أو أنفه شئ كرها أو تداوي مأمومته أو جائفته بغير اختياره أو يحجم كرها أو تقبله
امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا فلا يفسد صومه لا نعلم فيه خلافا لأنه لا فعل له فلا يفطر كالاحتلام
وأما إن أكره على شئ من ذلك بالوعيد ففعله فقال ابن عقيل: قال أصحابنا لا يفطر به أيضا لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال ويحتمل عندي ان يفطر لأنه فعل
المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض لدفع المرض ومن يشرب لدفع العطش ويفارق الملجأ
لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه ولذلك افترقا فيما لو أكره على قتل آدمي والقي عليه
(الفصل السابع) انه متى أفطر بشئ من ذلك فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافا لأن الصوم
كان ثابتا في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده فبقي على ما كان عليه ولا كفارة في شئ مما ذكرناه
في ظاهر المذهب وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين وحماد والشافعي وعن أحمد ان
الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبلة أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الانزال بالجماع
وعنه في المحتجم إن كان عالما بالنهي فعليه الكفارة. وقال عطاء في المحتجم عليه الكفارة، وقال مالك
تجب الكفارة بكل ما كان هتكا للصوم إلا الردة لأنه إفطار في رمضان أشبه الجماع، وحكي عن عطاء
والحسن والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق ان الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع وبه
قال أبو حنيفة إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا
كفارة عليه واحتجوا بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه فوجبت عليه الكفارة كالمجامع
ولنا أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة كبلع الحصاة أو التراب أو كالردة عند مالك ولأنه لا نص
في ايجاب الكفارة بهذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الجماع لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم
في التعدي به آكد ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما ويختص بافساد الحج دون سائر محظوراته
50

ووجوب البدنة ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين بخلاف غيره
(فصل) والواجب في القضاء عن كل يوم يوم في قول عامة الفقهاء. وقال أحمد: قال إبراهيم
ووكيع يصوم ثلاثة آلاف يوم: وعجب أحمد من قولهما. قول سعيد بن المسيب: من أفطر يوما متعمدا
يصوم شهرا. وحكي عن ربيعة أنه قال: يجب مكان كل يوم اثنا عشر يوما لأن رمضان يجزئ عن
جميع السنة وهي اثنا عشر شهرا
ولنا قول الله تعالى (فعدة من أيام أخر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع " صم يوما مكانه "
رواه أبو داود ولان القضاء يكون على حسب الأداء بدليل سائر العبادات، ولان القضاء لا يختلف
بالعذر وعدمه بدليل الصلاة والحج وما ذكروه تحكم لا دليل عليه والتقدير لا يصار إليه إلا بنص أو
إجماع وليس معهم واحد منهما وقول ربيعة يبطل بالمعذور، وذكر لأحمد حديث أبي هريرة " من
أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه ولو صام الدهر " فقال ليس يصح هذا الحديث
(مسألة) قال (وان فعل ذلك ناسيا فهو على صومه ولا قضاء عليه)
وجملته ان جميع ما ذكره الخرقي في هذه المسألة لا يفطر الصائم بفعله ناسيا وروي علي رضي
الله عنه لا شئ على من أكل ناسيا وهو قول أبي هريرة وابن عمر وعطاء وطاوس وابن أبي ذئب
والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة وإسحاق، وقال ربيعة ومالك: يفطر لأن مالا يصح الصوم
مع شئ من جنسه عمدا لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية
ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم
صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه وفي لفظ " من أكل أو شرب ناسيا فلا يفطر فإنما هو رزق
رزقه الله " ولأنها عبادة ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه كالصلاة والحج
وأما النية فليس تركها فعلا ولأنها شرط والشروط لا تسقط بالسهو بخلاف المبطلات والجماع حكمه
أغلظ ويمكن التحرز عنه
(فصل) فإن فعل شيئا من ذلك وهو نائم لم يفسد صومه لأنه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر
من الناسي وذكر أبو الخطاب ان من فعل من هذا شيئا جاهلا بتحريمه لم يفطر ولم أره عن غيره.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه
51

مع جهلهما بتحريمه يدل على أن الجهل لا يعذر به ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر كالجهل بالوقت في حق
من يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع
(مسألة) قال (ومن استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القئ فلا شئ عليه)
معنى استقاء تقيأ مستدعيا للقئ وذرعه خروج من غير اختيار منه فمن استقاء فعليه القضاء لأن
صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شئ عليه وهذا قول عامة أهل العلم، قال الخطابي لا أعلم بين أهل العلم
فيه اختلافا. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا، وحكي عن ابن مسعود
وابن عباس ان القئ لا يفطر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث لا يفطرن الصائم: الحجامة والقئ
والاحتلام " ولان الفطر بما يدخل لا بما يخرج
ولنا ما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ذرعه القئ فليس عليه قضاء ومن استقاء
عامدا فليقض " قال الترمذي هذا حديث حسن غريب ورواه أبو داود (1) وحديثهم غير محفوظ يرويه
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف في الحديث قاله الترمذي، والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمني
(فصل) وقليل القئ وكثيره سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد، والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء ء الفم لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ولكن دسعة تملأ الفم "
ولان اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم (والثالثة) نصف الفم لأنه ينقض الوضوء فأفطر به
كالكثير والأولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه ولان سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها
وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا. ولا فرق بين كون القئ طعاما أو مرارا أو بلغما أو دما أو
غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث والمعنى والله تعالى اعلم بالصواب
(مسألة) قال (ومن ارتد عن الاسلام فقد أفطر)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من ارتد عن الاسلام في أثناء الصوم انه يفسد صومه وعليه
قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الاسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه وسواء كانت ردته
باعتقاده ما يكفر به أو شكه فيما يكفر بالشك فيه أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئا أو غير مستهزئ
قال الله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون *
52

لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم) وذلك لأن الصوم عبادة من شرطها النية فأبطلها الردة كالصلاة
والحج ولأنه عبادة محضة فنافاها الكفر كالصلاة
(مسألة) قال (ومن نوى الافطار فقد أفطر) (1)
هذا الظاهر من المذهب وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا إن
عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم ان الصوم يجزئ بنية من النهار.
وحكي عن ابن حامد ان الصوم لا يفسد بذلك لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج
ولنا انها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة ولان الأصل اعتبار النية
في جميع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه
زالت حقيقة وحكما ففسد الصوم لزوال شرطه، وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح
القياس على الحج فإنه يصح بالنية المطلقة والمبهمة وبالنية من غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا
(فصل) فأما صوم النافلة فإن نرى الفطر ثم لم ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لأن النية
انقطعت ولم توجد نية غيرها فأشبه من لم ينو أصلا وإن عاد فنوى الصوم صح صومه كما لو أصبح
غير ناو للصوم لأن نية الفطر إنما أبطلت الفرض لما فيه من قطع النية المشترطة في جميع النهار حكما
وخلو بعض أجزاء النهار عنها والنقل مخالف للفرض في ذلك فلم تمنع صحته نية الفطر في زمن
لا يشترط وجود نية الصوم فيه ولان نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع
صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده بخلاف الواجب فإنه لا
يصح بنية من النهار وقد روي عن أحمد أنه قال إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر فلم يفطر حتى بدا
له ثم قال لا بل أثم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازما على الصوم يومه كله ولو كان
53

تطوعا كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه وقد دل على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله
(هل من غداء؟) فإن قالوا لا قال " إني إذا صائم "
(فصل) وإن نوى أنه سيفطر ساعة أخرى فقال ابن عقيل هو كنية الفطر في وقته وان تردد
في الفطر فعلى وجهين كما ذكرنا في الصلاة وإن نوى أنني ان وجدت طعاما أفطرت وإن لم أجد
أتممت صومي خرج فيه وجهان (أحدهما) يفطر لأنه لم يبق جازما بنية الصوم وكذلك لا يصح
ابتداء النية بمثل هذا (والثاني) لا يفطر لأنه لم ينو الفطر بنية صحيحة فإن النية لا يصح تعليقها على شرط
ولذلك لا ينعقد الصوم بمثل هذه النية
(مسألة) قال (ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل عامدا
أو ساهيا فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل انه
يفسد صومه إذا كان عامدا وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك. وهذه المسألة فيها مسائل أربع (إحداها) ان
من أفسد صوما واجبا بجماع فعليه القضاء سواء كان في رمضان أو غيره وهذا قول أكثر الفقهاء.
وقال الشافعي في أحد قوليه: من لزمته الكفارة لا قضاء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الاعرابي بالقضاء
وحكي عن الأوزاعي أنه قال: ان كفر بالصيام فلا قضاء عليه لأنه صام شهرين متتابعين
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع " وصم يوما مكانه " رواه أبو داود باسناده وابن ماجة والأثرم ولأنه
54

أفسد يوما من رمضان فلزمه قضاؤه كما لو أفسده بالاكل أو أفسد صومه الواجب بالجماع فلزمه قضاؤه كغير رمضان
(المسألة الثانية) ان الكفارة تلزم من جامع في الفرج في رمضان عامدا أنزل أو لم ينزل في قول
عامة أهل العلم. وحكي عن الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير لا كفارة عليه لأن الصوم عبادة لا تجب
الكفارة بافساد قضائها فلا تجب في أدائها كالصلاة
ولنا ما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: بينا نحن جلوس عند النبي
صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت، قال " مالك؟ " قال وقعت على امرأتي وأنا صائم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال لا قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "
قال لا. قال " فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ " قال لا. قال فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي
النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر والعرق المكتل فقال " أين السائل؟ " فقال أنا قال " خذ هذا فتصدق
به " فقال الرجل: على أفقر منى يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال " أطعمه أهلك " متفق عليه. ولا يجوز اعتبار الأداء في ذلك
بالقضاء لأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به، والقضاء محله الذمة، والصلاة لا يدخل في
جبرانها المال بخلاف مسئلتنا
55

(المسألة الثالثة) ان الجماع دون الفرج إذا اقترن به الانزال فيه عن أحمد روايتان (إحداهما)
عليه الكفارة وهذا قول مالك وعطاء وابن المبارك واسحق لأنه فطر بجماع فأوجب الكفارة
كالجماع بالفرج (والثانية) لا كفارة فيه وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه فطر بغير جماع تام
فأشبه القبلة، ولان الأصل عدم وجوب الكفارة ولا نص في وجوبها ولا اجماع ولا قياس ولا يصح
القياس على الجماع في الفرج لأنه أبلغ بدليل انه يوجبها من غير انزال ويجب به الحد إذا كان محرما
ويتعلق به اثنا عشر حكما ولان العلة في الأصل الجماع بدون الانزال والجماع ههنا غير موجب فلم يصح اعتباره به
(المسألة الرابعة) انه إذا جامع ناسيا فظاهر المذهب انه كالعامد نص عليه أحمد وهو قول عطاء
وابن الماجشون. وروى أبو داود عن أحمد انه توقف عن الجواب وقال أجبن أن أقول فيه شيئا،
وان أقول ليس عليه شئ، قال سمعته غير مرة لا ينفذ له فيه قول. ونقل أحمد بن القاسم عنه: كل أمر غلب
عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره. قال أبو الخطاب هذا يدل على اسقاط القضاء والكفارة مع
الاكراه والنسيان وهو قول الحسن ومجاهد والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه معنى حرمة الصوم
فإذا وجد منه مكرها أو ناسيا لم يفسده كالأكل. وكان مالك والأوزاعي والليث يوجبون القضاء
دون الكفارة لأن الكفارة لرفع الاثم وهو محطوط عن الناسي
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي قال وقعت على امرأتي بالكفارة ولم يسأله عن العمد ولو افترق
الحال لسأل واستفصل (1) ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم
ولان السؤال كالمعاد في الجواب فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وقع على أهله في رمضان فليعتق رقبة.
فإن قيل ففي الحديث ما يدل على العمد وهو قوله: هلكت وروى احترقت، قلنا يجوز ان يخبر عن
56

هلكته لما يعتقده في الجماع مع النسيان من افساد الصوم وخوفه من غير ذلك، ولان الصوم عبادة تحرم
الوطئ فاستوى فيها عمده وسهوه كالحج ولان افساد الصوم ووجوب الكفارة حكمان يتعلقان بالجماع
لا تسقطهما الشبهة فاستوى فيهما العمد والسهو كسائر أحكامه
(فصل) ولا فرق بين كون الفرج قبلا أو دبرا من ذكر أو أنثى وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة
في أشهر الروايتين عنه لا كفارة في الوطئ في الدبر لأنه لا يحصل به الاحلال ولا الاحصان فلا يوجب
الكفارة كالوطئ دون الفرج
ولنا انه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفارة كالوطئ وأما الوطئ دون الفرج
فلنا فيه منع وان سلمنا فلان الجماع دون الفرج لا يفسد الصوم بمجرده بخلاف الوطئ في الدبر
(فصل) فأما الوطئ في فرج البهيمة فذكر القاضي انه موجب للكفارة لأنه وطئ في فرج موجب
للغسل مفسد للصوم فأشبه وطئ الآدمية وفيه وجه آخر لا تجب به الكفارة وذكره أبو الخطاب لأنه لا نص
فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه فإنه مخالف لوطئ الآدمية في ايجاب الحد على إحدى الروايتين
وفي كثير أحكامه، ولا فرق بين كون الموطوءة زوجة أو أجنبية أو كبيرة أو صغيرة لأنه إذا وجب
بوطئ الزوجة فبوطئ الأجنبية أولى
(فصل) ويفسد صوم المرأة بالجماع بغير خلاف نعلمه في المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى
فيه الرجل والمرأة كالأكل. وهل يلزمها الكفارة؟ على روايتين (إحداهما) يلزمها وهو اختيار أبي بكر
57

وقول مالك وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر ولأنها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها الكفارة
كالرجل (والثانية) لا كفارة عليها. قال أبو داود سئل أحمد من اتى أهله في رمضان أعليها كفارة؟
قال ما سمعنا ان على امرأة كفارة. وهذا قول الحسن وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه ذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان ان يعتق رقبة ولم يأمر في المرأة بشئ مع علمه بوجود ذلك منها
ولأنه حق مال يتعلق بالوطئ من بين جنسه فكان على الرجل كالمهر
(فصل) وان أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها رواية واحدة وعليها القضاء قال ههنا:
سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها أعليها القضاء؟ قال نعم قلت وعليها كفارة؟ قال لا
وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وعلى قياس ذلك إذا وطئها
نائمة، وقال مالك في النائمة عليها القضا بلا كفارة والمكرهة عليها القضاء والكفارة. وقال الشافعي
وأبو ثور وابن المنذر: إن كان الاكراه بوعيد حتى فعلت كقولنا، وإن كان إلجاء لم تفطر وكذلك أن
وطئها وهي نائمة. ويخرج من قول أحمد في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه
قضاء ولا غيره. انه لا قضاء عليها إذا كانت ملجأة أو نائمة لأنها لم يوجد منها فعل فلم تفطر كما لو صب
في حلقها ماء بغير اختيارها، ووجه الأول انه جماع في الفرج فأفسد الصوم كما لو أكرهت بالوعيد
58

ولان الصوم عبادة يفسدها الوطئ ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج ويفارق الاكل فإنه
يعذر فيه بالنسيان بخلاف الجماع
(فصل) فإن تساحقت امرأتان فلم ينزلا فلا شئ عليهما وان أنزلتا فسد صومهما، وهل يكون
حكمهما حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل أو لا يلزمهما كفارة بحال؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجماع
من المرأة هل يوجب الكفارة؟ على روايتين وأصح الوجهين انهما لا كفارة عليهما لأن ذلك ليس
بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص عليه فيبقى على الأصل، وان ساحق المجبوب فأنزل فحكمه حكم
من جامع دون الفرج فأنزل
(فصل) وان جامعت المرأة ناسية للصوم فقال أبو الخطاب حكم النسيان حكم الاكراه لا كفارة
عليها فيهما وعليها القضاء لأن الجماع يحصل به الفطر في حق الرجل مع النسيان فكذلك في حق المرأة
ويحتمل ان لا يلزمها القضاء لأنه مفسد لا يوجب الكفارة فأشبه الاكل
59

(فصل) وإن أكره الرجل على الجماع فسد صومه لأنه إذا أفسد صوم المرأة فصوم الرجل أولى
وأما الكفارة فقال القاضي عليه الكفارة لأن الاكراه على الوطئ لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر
إلا عن شهوة فكان كغير المكره. وقال أبو الخطاب فيه روايتان (إحداهما) لا كفارة عليه وهو مذهب
الشافعي لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو ماحية للذنب ولا حاجة إليها مع الاكراه لعدم الاثم فيه
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولان الشرع لم يرد بوجوب
الكفارة فيه ولا يصح قياسه على ما ورد الشرع فيه لاختلافهما في وجود العذر وعدمه، فأما إن كان
نائما مثل إن كان عضوه منتشرا في حال نومه فاستدخلته امرأته فقال ابن عقيل لا قضاء عليه
60

ولا كفارة. وكذلك أن كان إلجاء مثل ان غلبته في حال يقظته على نفسه وهذا مذهب الشافعي
لأنه معنى حرمه الصوم حصل بغير اختياره فلم يفطر به كما لو أطارت الريح إلى حلقه ذبابة وظاهر كلام
احمد ان عليه القضاء لأنه قال في المرأة إذا غصبها رجل نفسها فجامعها عليها القضاء فالرجل أولى،
ولان الصوم عبادة يفسدها الجماع فاستوى في ذلك حالة الاختيار والاكراه كالحج ولا يصح قياس الجماع
على غيره في عدم الافساد لتأكده بايجاب الكفارة وإفساده للحج من بين سائر محظوراته،
وايجاب الحد به إذا كان زنا
(فصل) ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء. وقال قتادة
61

تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها فوجبت في قضائها كالحج
ولنا انه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة كما لو جامع في صيام كفارة ويفارق القضاء الأداء
لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له بخلاف القضاء
(فصل) وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء
النهار لم تسقط الكفارة وبه قال مالك والليث وابن الماجشون وإسحاق، وقال أصحاب الرأي لا كفارة
عليهم وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقا فلم يجب بالوطئ
فيه كفارة كصوم المسافر أو كما لو قامت البينة انه من شوال
ولنا انه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها ولأنه أفسد صوما واجبا في رمضان
بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر، والوطئ في صوم المسافر ممنوع وان سلم فالوطئ
62

ثم لم يوجب أصلا لأنه وطئ مباح في سفر أبيح الفطر فيه بخلاف مسئلتنا، وكذا إذا تبين انه من شوال
فإن الوطئ غير موجب لأنا تبينا ان الوطئ لم يصادف رمضان والموجب إنما هو الوطئ المفسد لصوم رمضان
(فصل) إذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة وبه قال مالك
والشافعي وقال أبو حنيفة يجب القضاء دون الكفارة لأن وطأه لم يصادف صوما صحيحا فلم يوجب
الكفارة كما لو ترك النية وجامع. ولنا انه ترك صوم رمضان بجماع اثم به لحرمة الصوم فوجبت به الكفارة
كما لو وطئ بعد طلوع الفجر وعكسه إذا لم ينو فإنه يتركه لترك النية لا الجماع
ولنا فيه منع أيضا، وأما إن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر فقال ابن حامد والقاضي عليه
الكفارة أيضا لأن النزع جماع يلتذ به فتعلق به ما يتعلق بالاستدامة كالايلاج وقال أبو حفص لا قضاء
عليه ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع كما لو حلف
لا يدخل دارا وهو فيها فخرج منها كذلك ههنا وقال مالك يبطل صومه ولا كفارة عليه لأنه لا يقدر على
أكثر مما فعله في ترك الجماع فأشبه المكره وهذه المسألة من الاستحالة إذ لا يكاد يعلم أول طلوع
الفجر على وجه يتعقبه النزع من غير أن يكون قبله شئ من الجماع فلا حاجة إلى فرضها والكلام فيها:
(فصل) ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع فتبين انه كان قد طلع فعليه القضاء والكفارة وقال
63

أصحاب الشافعي لا كفارة عليه ولو علم في أثناء الوطئ فاستدام فلا كفارة عليه أيضا لأنه إذا لم يعلم
لم يأثم فلا يجب به كفارة كوطئ الناسي وان علم فاستدام فقد حصل الوطئ الذي يأثم به في غير صوم
ولنا حديث المجامع إذ أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفير من غير تفريق ولا تفصيل ولأنه أفسد
64

صوم رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة كما لو علم ووطئ الناسي ممنوع ثم لا يحصل به الفطر على
الرواية الأخرى بخلاف مسئلتنا
(مسألة) قال (والكفارة عتق رقبة فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع
فاطعام ستين مسكينا)
المشهور من مذهب أبي عبد الله ان كفارة الوطئ في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب يلزمه
العتق ان أمكنه فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام فإن عجز انتقل إلى اطعام ستين مسكينا وهذا قول
جمهور العلماء. وبه يقول الثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى انها
على التخيير بين العتق والصيام والاطعام وبأيها كفر أجزأه وهو رواية عن مالك لما روى مالك وابن
جريج عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو اطعام ستين مسكينا وراه مسلم وأو حرف
تخيير ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين، وروي عن مالك أنه قال: الذي
نأخذ به في الذي يصيب أهله في شهر رمضان اطعام ستين مسكينا أو صيام ذلك اليوم وليس التحرير
والصيام من كفارة رمضان في شئ وهذا القول ليس بشئ لمخالفته الحديث الصحيح مع أنه ليس له
أصل يعتمد عليه ولا شئ يستند إليه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، وأما الدليل على وجوب
الترتيب فالحديث الصحيح رواه معمر ويونس والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة وعبيد الله بن
65

عمر وعراك بن مالك وإسماعيل بن أمية ومحمد بن أبي عتيق وغيرهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للواقع على أهله " هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال لا قال " فهل
تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال لا قال " فهل تجد اطعام ستين مسكينا؟ " قال لا وذكر سائر
الحديث وهذا لفظ الترتيب والاخذ بهذا أولى من رواية مالك لأن أصحاب الزهري اتفقوا على
روايته هكذا سوى مالك وابن جريج فيما علمنا واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه
ولان الترتيب زيادة والاخذ بالزيادة متعين ولان حديثنا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وحديثهم لفظ الرواي،
ويحتمل انه رواه بأو لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء (1) ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت
على الترتيب ككفارة الظهار والقتل
(فصل) فإذا عدم الرقبة انتقل إلى صيام شهرين متتابعين ولا نعلم خلافا في دخول الصيام في
كفارة الوطئ الا شذوذ لا يعرج عليه لمخالفة السنة الثابتة ولا خلاف بين من أوجبه أنه شهران
متتابعان للخبر أيضا فإن لم يشرع في الصيام حتى وجد الرقبة لزمه العتق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المواقع
عما يقدر عليه حين أخبره بالعتق ولم يسأله عن ما كان يقدر عليه حال المواقعة وهي حالة الوجوب
ولأنه وجد المبدل قبل التلبس بالبدل فلزمه كما لو كان واجدا له حال الوجوب، وان شرع في
الصوم قبل القدرة على الاعتاق ثم قدر عليه لم يلزمه الخروج إليه الا أن يشاء العتق فيجزئه ويكون
66

قد فعل الأولى، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه الخروج لأنه قدر على الأصل قبل أداء
فرضه بالبدل فبطل حكم البدل كالمتيمم يرى الماء
ولنا أنه شرع في الكفارة الواجبة عليه فأجزأته كما لو استمر العجز إلى فراغها وفارق العتق
التيمم لوجهين (1) (أحدهما) أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستره فإذا وجد الماء ظهر حكمه بخلاف
الصوم فإنه يرفع حكم الجماع بالكلية (الثاني) ان الصيام تطول مدته فيشق الزامه الجمع بينه وبين العتق
بخلاف الوضوء والتيمم
(مسألة) قال (فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد من بر أو نصف
صاع من تمر أو شعير)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في دخول الاطعام في كفارة الوطئ في رمضان في الجملة وهو مذكور
في الخبر والواجب فيه اطعام ستين مسكينا في قول عامتهم وهو في الخبر أيضا ولأنه اطعام في كفارة
فيها صوم شهرين متتابعين فكان اطعام ستين مسكينا ككفارة الظهار واختلفوا في قدر ما يطعم كل
مسكين فذهب أحمد إلى أن لكل مسكين مد بر وذلك خمسة عشر صاعا أو نصف صاع من تمر أو
شعير فيكون الجميع ثلاثين صاعا، وقال أبو حنيفة من البر لكل مسكين نصف صاع ومن غيره صاع
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن صخر " فأطعم وسقا من تمر " رواه أبو داود، وقال أبو هريرة
67

يطعم مدا من أي الأنواع شاء وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي لما روى أبو هريرة في حديث المجامع
أن البني صلى الله عليه وسلم أتي بمكتل من تمر قدره خمسة عشر صاعا فقال " خذ هذا فأطعمه عنك " رواه أبو داود
ولنا ما روى أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي زيد المدني قال جاءت امرأة من بني بياضة
ينصف وسق من شعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمظاهر " أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر " ولان
فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير بلا خلاف فكذا هذا والمد من البر يقوم مقام نصف صاع
من غيره بدليل حديثنا ولان الاجزاء بمد منه قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وزيد ولا مخالف
لهم في الصحابة، وأما حديث سلمة بن صخر فقد اختلف فيه وحديث أصحاب الشافعي يجوز أن يكون
الذي أتي به النبي صلى الله عليه وسلم قاصرا عن الواجب فاجتزئ به لعجز المكفر عما سواه
(فصل) فإن أخرج من الدقيق أو السويق أجزأ لما ذكرناه فيما تقدم وان غدا المساكين أو عشاهم
لم يجزئه في أظهر الروايتين وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه قدر ما يجزئ في الدفع بمد أو نصف صاع وإذا
أطعمهم لا يعلم أن كل واحد منهم استوفى الواجب له، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدر ما يطعمه
كل مسكين بما ذكرنا من الأحاديث وهي مقيدة لمطلق الاطعام المذكور والمطلق يحمل على المقيد
ولا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له ولان الواجب تمليك المسكين طعامه والاطعام إباحة وليس
بتمليك، فعلى هذه الرواية ان أفرد لكل مسكين قدر الواجب له فأطعمه إياه نظرت فإن قال له هذا
لك تتصرف فيه كيف شئت أجزأه لأنه قد ملكه إياه وان لم يقل له شيئا احتمل أن يجزئه لأنه قد
أطعمه ما يجب له فأشبه ما لو ملكه واحتمل ان لا يجزئه لأنه لم يملكه إياه والرواية الثانية يجزئه أن
يجمع ستين مسكينا فيطعمهم قال أبو داود سمعت أحمد يسأل عن امرأة أفطرت رمضانا ثم أدركها
رمضان آخر ثم ماتت قال كم أفطرت؟ قال ثلاثين يوما قال فاجمع ثلاثين مسكينا وأطعمهم مرة
واحدة وأشبعهم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع أطعم ستين مسكينا، وهذا قد أطعمهم وقال
الله تعالى (فاطعام ستين مسكينا) وقال في كفارة اليمين (فاطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون
أهليكم) وهذا قد أطعمهم، وروي عن أنس انه أفطر في رمضان فجمع المساكين ووضع جفانا فأطعمهم
ولأنه أطعم ستين مسكينا فأجزأه كما لو ملكه إياه فعلى هذه الرواية أن أطعمهم قدر الواجب لهم
أجزأه وان أطعمهم دون ذلك فأشبعهم فظاهر كلام أحمد انه يجزئه لأنه قد أطعمهم ويحتمل أن لا يجزئه
لأنه لم يطعمهم ما وجب لهم (1)
68

(فصل) ويجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة من البر والشعير ودقيقهما والتمر والزبيب
وفي الاقط وجهان وفي الخبز روايتان وكذلك يخرج في السويق فإن كان قوته غير ذلك من الحبوب
كالدخن والذرة والأرز فيه وجهان (أحدهما) لا يجزئ ذكره القاضي لأنه لا يجزئ في الفطرة (والثاني)
يجزئ اختاره أبو الخطاب لقوله الله تعالى (من أوسط ما تطعمون به أهليكم) ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر
بالاطعام مطلقا ولم يرد تقييده بشئ من الأجناس فوجب ابقاؤه على اطلاقه ولأنه أطعم المسكين من
طعامه فأجزأه كما لو كان طعامه برا فاطعمه منه وهذا أظهر
(فصل) وان عجز عن العتق والصيام والاطعام قطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين بدليل
أن الاعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر وأخبره بحاجته إليه قال أطعمه أهلك ولم يأمره بكفارة
أخرى، وهذا قول الأوزاعي وقال الزهري لابد من التكفير وهذا خاص لذلك الاعرابي لا يتعداه
بدليل أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باعساره قبل أن يدفع إليه العرق ولم يسقطها عنه ولأنها كفارة واجبة
فلم تسقط بالعجز عنها كسائر الكفارات، وهذا رواية ثانية عن أحمد وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري
وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل، وقولهم إنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه
فلم يسقطها قلنا قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح القياس على سائر
الكفارات لأنه اطراح للنص بالقياس والنص أولى والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهي حالة الوطئ.
69

(مسألة) قال (وان جامع فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة)
وجملة ذلك أنه إذا جامع ثانيا قبل التكفير عن الأول لم يخل من أن يكون في يوم واحد أو في
يومين فإن كان في يوم واحد فكفارة واحدة تجزئه بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان في يومين من
رمضان ففيه وجهان (أحدهما) تجزئه كفارة واحدة وهو ظاهر اطلاق الخرقي واختيار أبي بكر
ومذهب الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فيجب
أن تتداخل كالحد (والثاني) لا تجزئ واحدة ويلزمه كفارتان اختاره القاضي وبعض أصحابنا وهو
قول مالك والليث والشافعي وابن المنذر وروي ذلك عن عطاء ومكحول لأن كل يوم عبادة منفردة
فإذا وجبت الكفارة بافساده لم تتداخل كرمضانين وكالحجتين
(مسألة) قال (وان كفر ثم جامع ثانية فكفارة ثانية)
وجملته انه إذا كفر ثم جامع ثانية لم يخل من أن تكون في يوم واحد أو في يومين فإن كان في يومين فعليه
كفارة ثانية بغير خلاف نعلمه وإن كان في يوم واحد فعلية كفارة ثانية نص عليه احمد وكذلك يخرج في
كل من لزمه الامساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وان لم يكن صائما مثل من لم يعلم برؤية الهلال
الا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا ثم جامع فإنه يلزمه كفارة، وقال أبو حنيفة ومالك
والشافعي لا شئ عليه بذلك الجماع لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلم يوجب شيئا كالجماع في الليل
ولنا ان الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتكررت بتكرر الوطئ إذا كان بعد
70

التكفير كالحج ولأنه وطئ محرم لحرمة رمضان فأوجب الكفارة كالأول وفارق الوطئ في الليل فإنه
غير محرم فإن قيل الوطئ الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الايجاب فلا يصح الحاق غيره به
قلنا: هو ملغى بمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام فإنه يلزمه الكفارة مع أنه لم يهتك الصوم
(فصل) إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية لزمه الامساك والقضاء
في قول عامة الفقهاء الا ما روي عن عطاء أنه قال يأكل بقية يومه قال ابن عبد البر لا نعلم أحدا قاله
غير عطاء وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد ولا أعلم أحدا ذكرها غيره، وأظن هذا غلط فإن
احمد قد نص على إيجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لأن حرمة اليوم لم
تذهب فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الاكل؟ ولا يصح قياس هذا
على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لأن المسافر كان له الفطر ظاهرا وباطنا وهذا لم يكن له الفطر
في الباطن مباحا فأشبه من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، فإذا تقرر هذا فإن جامع فيه
فعليه القفاء والكفارة كالذي أصبح لا ينوي الصيام أو أكل ثم جامع وإن كان جماعه قبل قيام البينة
فحكمه حكم من جامع يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع على ما مضى فيه
(فصل) وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر بغير عذر والمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد
كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو الناسي لنية الصوم ونحوهم يلزمهم الامساك لا نعلم
71

بينهم فيه اختلافا الا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه قياسا على قوله
فيما إذا قامت البينة بالرؤية وهو قول شاذ لم يعرج عليه أهل العلم
(فصل) فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا كالحائض والنفساء والمسافر والصبي
والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء وأقام المسافر
وبلغ الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان
(إحداهما) يلزمهم الامساك في بقية اليوم وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي والحسن
ابن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الامساك
كقيام البينة بالرؤية
(والثانية) لا يلزمهم الامساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد وروي
عن ابن مسعود أنه قال من أكل أول النهار فليأكل آخره ولأنه أبيح له فطر أول النهار ظاهرا وباطنا
فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر فإذا جامع أحد هؤلاء بعد زوال عذره
انبنى على الروايتين في وجوب الامساك فإن قلنا يلزمه الامساك فحكمه حكم من قامت البينة بالرؤية
في حقه إذا جامع وان قلنا لا يلزمه الامساك فلا شئ عليه فإن كان أحد الزوجين من أحد هؤلاء
والآخر لا عذر له فلكل واحد حكم نفسه على ما مضى وإن كان جميعا معذورين فحكمهما ما ذكرناه
سواء اتفق عذرهما مثل أن يقدما من سفر أو يصحا من مرض أو اختلف مثل أن يقدم الزوج
من سفر وتطهر المرأة من الحيض فيصيبها، وقد روي عن جابر بن يزيد أنه قدم من سفر فوجد امرأته
72

قد طهرت من حيض فأصابها فأما ان نوى الصوم في سفره أو مرضه أو صغره ثم زال عذره في أثناء
النهار لم يجز له الفطر رواية واحدة وعليه الكفارة إن وطئ وقال بعض أصحاب الشافعي في
المسافر خاصة وجهان
(أحدهما) له الفطر لأنه أبيح له الفطر أول النهار ظاهرا وباطنا فكانت له استدامته كما لو
قدم مفطرا وليس بصحيح فإن سبب الرخصة زال قبل الترخص فلم يكن له ذلك (1) كما لو قدمت به
السفينة قبل قصر الصلاة وكالمريض يبرأ والصبي يبلغ وهذا ينقض ما ذكروه ولو علم الصبي أنه يبلغ
في أثناءه النهار بالسن أو علم المسافر أنه يقدم لم يلزمهما الصيام قبل زوال عذرهما لأن سبب الرخصة
موجود فيثبت حكمها كما لو لم يعلما ذلك
(فصل) ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء إذا أفطروا بغير خلاف لقول الله تعالى
(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والتقدير فأفطر وقالت عائشة كنا نحيض
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، وان أفاق المجنون أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في
أثناء النهار والصبي مفطر ففي وجوب القضاء روايتان
(إحداهما) لا يلزمهم ذلك لأنهم لم يدركوا وقتا يمكنهم التلبس بالعبادة فيه فأشبه ما لو زال
عذرهم بعد خروج الوقت (والثانية) يلزمهم القضاء لأنهم أدركوا بعض وقت العبادة فلزمهم القضاء كما
لو أدركوا بعض وقت الصلاة
73

(مسألة) قال (وان أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن
الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء)
هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم وحكى عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق لا قضاء
عليهم لما روى زيد بن وهب قال كنت جالسا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في زمن
عمر بن الخطاب فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا ونحن نرى أنه من الليل ثم أنكشف
السحاب فإذا الشمس طالعة قال فجعل الناس يقولون نقضي يوما مكانه فقال عمر والله لا نقضيه
ما تجانفنا لاثم ولأنه لم يقصد الاكل في الصوم فلم يلزمه القضاء كالناسي
ولنا انه أكل مختارا ذاكرا للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك ولأنه جهل بوقت الصيام فلم
يعذر به كالجهل بأول رمضان ولأنه يمكن التحرز منه فأشبه أكل العامد وفارق الناسي فإنه لا يمكن
التحرز منه وأما الخبر فرواه الأثرم ان عمر قال من أكل فليقض يوما مكانه ورواه مالك في الموطأ
ان عمر قال الخطب يسير يعني خفه القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت:
أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام أمروا بالقضاء قال لابد
من قضاء أخرجه البخاري
(فصل) وان أكل شاكا في طلوع الفجر ولم يتبين الامر فليس عليه قضاء وله الاكل حتى يتيقن
طلوع الفجر نص عليه أحمد وهذا قول ابن عباس وعطاء والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي
74

وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم وقال مالك يجب القضاء لأن الأصل
بقاء الصوم في ذمته فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكا في النهار والليل فلزمه القضاء كما لو أكل
شاكا في غروب الشمس
ولنا قول الله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر) مد الاكل إلى غاية التبين وقد يكون شاكا قبل التبين فلو لزمه القضاء لحرم عليه الاكل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى
يقال له أصبحت أصبحت. ولان الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه ما لم يعلم يقين زواله بخلاف
غروب الشمس فإن الأصل بقاء النهار فبني عليه
(فصل) وإن أكل شاكا في غروب الشمس ولم يتبين فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار وإن
كان حين الاكل ظانا أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الاكل ولم يتبين فلا قضاء
عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بني عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته
(مسألة) قال (ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر وهو على صومه)
وجملته أن الجنب له أن يؤخر الغسل حتى يصبح ثم يغتسل ويتم صومه في قول عامة أهل العلم
منهم على وابن مسعود وزيد وأبو الدرداء وأبو ذر وابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله
عنهم وبه قال مالك والشافعي في أهل الحجاز وأبو حنيفة والثوري في أهل العراق والأوزاعي في أهل
الشام والليث في أهل مصر وإسحاق وأبو عبيد في أهل الحديث وداود في أهل الظاهر وكان أبو هريرة
75

يقول لا صوم له ويروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع عنه، قال سعيد بن المسيب، رجع أبو هريرة
عن فتياه، وحكي عن الحسن وسالم بن عبد الله قالا يتم صومه ويقضي وعن النخعي في رواية يقضي في
الفرض دون التطوع، وعن عروة وطاوس ان علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر
وان لم يعلم فهو صائم وحجتهم حديث أبي هريرة الذي رجع عنه
ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ذهبت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة
فقال: اشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنبا من جماع من غير احتلام ثم يصومه. ثم دخلنا على
أم سلمة فقالت مثل ذلك ثم أتينا أبا هريرة فأخبرناه بذلك فقال هما أعلم بذلك أنما حدثنيه الفضل بن
عباس، متفق عليه. قال الخطابي أحسن ما سمعت في خبر أبي هريرة انه منسوخ لأن الجماع كان محرما
على الصائم بعد النوم فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن
يصوم ن وروت عائشة ان رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم اني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام " فقال له الرجل يا رسول الله انك لست مثلنا قد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " اني لأرجو أن أكون أخشاكم
لله وأعلمكم بما أتقي " رواه مالك في موطأه ومسلم في صحيحه
(مسألة) قال (وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها من الليل فهي صائمة إذا نوت
الصوم قبل طلوع الفجر وتغتسل إذا أصبحت)
وجملة ذلك أن الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء ويشترط ان
76

ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر لأنه ان وجد جزء منه في النهار أفسد الصوم، ويشترط ان تنوي الصوم
أيضا من الليل بعد انقطاعه لأنه لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل، وقال الأوزاعي والحسن بن حي وعبد الملك
ابن الماجشون والعنبري تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط لأن حدث الحيض يمنع صحة الصوم بخلاف الجنابة
ولنا انه حدث يوجب الغسل فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة، وما
ذكروه لا يصح فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا وإنما عليها حدث موجب للغسل فهي كالجنب
فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب
الغسل من الحيض، وقد استدل بعض أهل العلم بقول الله تعالى (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب
الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فما أباح المباشرة
إلى تبين الفجر علم أن الغسل إنما يكون بعده
(مسألة) قال (والحامل إذا خافت على جنينها والمرضع على ولدها أفطرتا وقضتا
وأطعمتا عن كل يوم مسكينا)
وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر وعليهما الفضاء بحسب لا نعلم فيه
بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه، وان خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما
القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم وهذا يروي عن أبن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي، وقال
الليث الكفارة على المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك لأن المرضع يمكنها أن تسترضع
77

لولدها بخلاف الحامل، ولان الحمل متصل بالحامل فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها، وقال عطاء والزهري والحسن وسعيد بن جبير والنخعي وأبو حنيفة لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك
رجل من بني كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ان الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع
الصوم أو الصيام " والله لقد قالهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما أو كليهما. رواه النسائي والترمذي
وقال هذا حديث حسن، ولم يأمره بكفارة، ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض
ولنا قوله الله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وهما داخلتان في عموم الآية.
قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام ان يفطرا ويطعما مكان
كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا، رواه أبو داود، وروي
ذلك عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة، ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجبت
به الكفارة كالشيخ الهم، وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل كالقضاء فإن الحديث
لم يتعرض له والمريض أخف حالا من هاتين لأنه يفطر بسبب نفسه، إذا ثبت هذا فإن الواجب في
اطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير والخلاف فيه كالخلاف في اطعام المساكين في
كارة الجماع، إذا ثبت هذا فإن القضاء لازم لهما، وقال ابن عمر وابن عباس لا قضاء عليهما لأن
الآية تناولتهما وليس فيها الا الاطعام، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم "
ولنا انهما يطيقان القضاء فلزمهما كالحائض والنفساء والآية أوجبت الاطعام ولم تتعرض للقضاء
فأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمر بن أمية عن
78

النبي صلى الله عليه وسلم " ان الله وضع عن المسافر الصوم " (1) ولا يشبهان الشيخ الهم لأنه عاجز عن القضاء وهما
يقدران عليه، قال احمد أذهب إلى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عباس وابن عمر في منع القضاء
(مسألة) قال (وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر وأطعم لكل يوم مسكينا)
وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما ان
يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينا وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير وطاوس
وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي، وقال مالك لا يجب عليه شئ لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية
كما لو تركه لمرض اتصل به الموت، وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا الآية وقول ابن عباس في تفسيرها نزلت في رخصة للشيخ الكبير ولان الأداء صوم واجب
فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء، وأما المريض إذا مات فلا يجب الاطعام لأن ذلك يؤدي إلى أن
يجب على الميت ابتداء بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل حتى مات لأن وجوب الاطعام يستند
إلى حال الحياة، والشيخ الهم له ذمة صحيحة فإن كان عاجزا عن الاطعام أيضا فلا شئ عليه (ولا
يكلف الله نفسا الا وسعها)
(فصل) والمريض الذي لا يرجى برؤه يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا لأنه في معنى الشيخ،
79

قال أحمد رحمه الله فيمن به شهوة الجماع غالبة لا يملك نفسه ويخاف ان تنشق أنثياه أطعم، أباح له الفطر
لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض، ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه وأوجب الاطعام بدلا
عن الصيام وهذا محمول على من لا يرجو إمكان القضاء، فإن رجا ذلك فلا فدية عليه والواجب انتظار
القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وإنما
يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء، فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه لأن
ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجبة عليه فلم يعد إلى الشغل بما برئت منه، ولهذا قال
الخرقي: فمن كان مريضا لا يرجي برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة أقام من يحج عنه ويعتمر وقد
أجزأ عنه وان عوفي، واحتمل أن يلزمه القضاء لأن الاطعام بدل يأس وقد تبينا ذهاب اليأس فأشبه
من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت
(مسألة) قال (وإذا حاضت المرأة أو نفست أفطرت وقضت فإن صامت لم يجزئها)
أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم وانهما يفطران رمضان ويقضيان
وانهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم وقد قالت عائشة: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر
بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة متفق عليه. والامر إنما هو للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو سعيد:
قال النبي صلى الله عليه وسلم " أليس إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك من نقصان دينها " رواه
البخاري، والحائض والنفساء سواء لأن دم النفاس هو دم الحيض وحكمه حكمه، ومتى وجد الحيض
80

في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم سواء وجد في أوله أو في آخره، ومتى نوت الحائض الصوم
وأمسكت مع علمها بتحريم ذلك أتمت ولم يجزئها
(مسألة) قال (فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها لكل يوم مسكين)
وجملة ذلك أن من مات وعليه صيام من رمضان لم يخل من حالين (أحدهما) أن يموت قبل
امكان الصيام اما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم فهذا لا شئ عليه في قول
أكثر أهل العلم، وحكي عن طاوس وقتادة انهما قالا: يجب الاطعام عنه لأنه صوم واجب سقط
بالعجز عنه فوجب الاطعام عنه كالشيخ الهم إذا ترك الصيام لعجزه عنه
81

ولنا انه حق لله تعالى وجب بالشرع مات من يجب عليه قبل امكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج
ويفارق الشيخ الهرم فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه بخلاف الميت
(الحال الثاني) أن يموت بعد امكان القضاء فالواجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين، وهذا
قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عائشة وابن عباس وبه قال مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي
والخزرجي وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم، وقال أبو ثور يصام عنه وهو قول الشافعي لما روت
عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " متفق عليه وروي عن ابن عباس نحوه
ولنا ما روى ابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات وعليه صيام شهر فليطعم
عنه مكان كل يوم مسكينا " قال الترمذي الصحيح عن ابن عمر موقوف وعن عائشة أيضا قالت
يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه، وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر يصوم
شهرا وعليه صوم رمضان قال أما صوم رمضان فليطعم عنه وأما النذر فيصام عنه رواه الأثرم في السنن ولان
الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة كالصلاة فاما حديثهم فهو في النذر لأنه قد جاء
مصرحا به في بعض ألفاظه كذلك رواه البخاري عن ابن عباس قال قالت امرأة يا رسول الله إن أمي
ماتت وعليها صوم نذرا فأقضيه عنها؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي
82

ذلك عنها؟ " قالت نعم قال " فصومي عن أمك " وقالت عائشة وابن عباس كقولنا وهما راويا
حديثهم فدل على ما ذكرناه
(فصل) فاما صوم النذر فيفعله الولي عنه وهذا قول ابن عباس والليث وأبي عبيد وأبي ثور
وقال سائر من ذكرنا من الفقهاء يطعم عنه لما ذكرنا في صوم رمضان
ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها قبل هذا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع وفيها
غنية عن كل قول، والفرق بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها والنذر أخف حكما
لكونه لم يجب بأصل الشرع وإنما أوجبه الناذر على نفسه، إذا ثبت هذا فإن الصوم ليس بواجب
على الولي لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت وإنما يتعلق بتركته إن
كانت له تركة فإن لم يكن له تركة فلا شئ على وارثه لكن يستحب أن يقضي عنه لتفريغ ذمته وفك
رهانه كذلك ههنا ولا يختص ذلك بالولي بل كل من صام عنه قضي ذلك عنه وأجزأ لأنه تبرع
فأشبه قضاء الدين عنه
(مسألة) (قال فإن لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر رمضان آخر صامته ثم قضت
ما كان عليها ثم أطعمت لكل يوم مسكينا وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت
والحياة إذا فرطا في القضاء)
وجملة ذلك أن من عليه صوم من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة
قالت كان يكون علي الصيام من شهر رمضان فما أقضيه حتى يجئ شعبان متفق عليه ولا يجوز له
تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها
لاخرته ولان الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة فإن أخره
عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء وإن كان لغير عذر فعليه مع القضاء
اطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك
والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة لا قدية عليه لأنه صوم
واجب فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر
ولنا ما روي عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة أنهم قالوا أطعم عن كل يوم مسكينا ولم يرو
عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسندا من طريق ضعيف ولان تأخير صوم رمضان عن وقته
إذا لم يوجب القضاء أوجب الفدية كالشيخ الهرم
83

(فصل) فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية
مع القضاء لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه
أكثر من فعله
(فصل) فإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين واحد نص
عليه احمد فيما روى عنه أبو داود أن رجلا سأله عن امرأة أفطرت رمضان ثم أدركها رمضان آخر
ثم ماتت قال يطعم عنها قال له السائل كم أطعم؟ قال كم أفطرت؟ قال ثلاثين يوما قال أجمع ثلاثين
مسكينا وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم. قال ما أطعمهم؟ قال خبزا ولحما ان قدرت من أوسط
طعامكم، وذلك لأنه باخراج كفارة واحدة أزال تفريطه بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال
أبو الخطاب يطعم عنه لكل يوم فقيران لأن الموت بعد التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر
يوجب كفارة والتأخير بدون الموت يوجب كفارة فإذا اجتمعا وجبت كفارتان كما لو فرط في يومين
(فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض فنقل عنه
حنبل أنه قال لا يجوز له أن يتطوع بالصوم وعليه صوم من الفرض حتى يقضيه يبدأ بالفرض وإن كان
عليه نذر صامه يعني بعد الفرض وروى حنبل عن أحمد باسناده عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " من صام تطوعا وعليه من رمضان شئ لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه ولأنه عبادة
يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها قبل أداء فرضها كالحج وروي عن أحمد أنه يجوز له التطوع
84

لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها كالصلاة يتطوع في أول وقتها وعليه
يخرج الحج ولان التطوع بالحج يمنع فعل واجبه المعين فأشبه صوم التطوع في رمضان بخلاف مسئلتنا
والحديث يرويه ابن لهيعة وفيه ضعف وفي سياقه ما هو متروك فإنه قال في آخره ومن أدركه رمضان
وعليه من رمضان شئ لم يتقبل منه ويخرج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل
ما ذكرنا في الصوم
(فصل) واختلفت الرواية في كراهة القضاء في عشر ذي الحجة فروي أنه لا يكره وهو قول
سعيد بن المسيب والشافعي وإسحاق لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستحب
قضاء رمضان في العشر ولأنه أيام عبادة فلم يكره القضاء فيه كعشر المحرم
والثانية يكره القضاء فيه روي ذلك عن الحسن والزهري لأنه يروي عن علي رضي الله عنه
انه كرهه ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " مامن أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام "
يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج
بنفسه وماله فلم يرجع بشئ " فاستحب إخلاؤها للتطوع لينال فضيلتها ويجعل القضاء في غيرها
وقال بعض أصحابنا هاتان الروايتان مبنيتان على الروايتين في إباحة التطوع قبل صوم الفرض
وتحريمه فمن أباحه كره القضاء فيها ليوفرها على التطوع لينال فضيلته فيها مع فعل القضاء ومن حرمه
85

لم يكرهه فيها بل استحب فعله فيها لئلا يخلو من العبادة بالكلية ويقوى عندي أن هاتين الروايتين
فرع على إباحة التطوع قبل الفرض أما على رواية التحريم فيكون صومها تطوعا قبل الفرض محرما (1)
وذلك أبلغ من الكراهة والله أعلم
(مسألة) قال (وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه فإن تحمل
وصام كره له ذلك وأجزأه)
أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا
أو على سفر فعدة من أيام أخر) المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ
برئه قيل لأحمد متى يفطر المريض؟ قال إذا لم يستطع، قيل مثل الحمى؟ قال وأي مرض أشد من الحمى؟.
وحكي عن بعض السلف أنه أباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الإصبع والضرس لعموم الآية
فيه ولان المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض
ولنا انه شاهد للشهر لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح والآية مخصوصة في المسافر والمريض جميعا
بدليل أن المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير (2) والفرق بين المسافر والمريض ان السفر اعتبرت فيه المظنة
وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها فإن قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط
له في نفسه فاعتبرت بمظنتها وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجودا وعدما والمرض لا ضابط
له فإن الأمراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها مالا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح
في الإصبع والدمل والقرحة اليسيرة والحرب وأشباه (3) ذلك فلم يصلح المرض ضابطا وأمكن اعتبار
الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره فإذا ثبت هذا فإن تحمل المريض وصام
مع هذا فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الاضرار بنفسه وتركه تخفيف الله تعالى وقبول رخصته
ويصح صومه ويجزئه لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك
الجمعة إذا حضرها والذي يباح له ترك القيام في الصلاة إذا قام فيها
(فصل) والصحيح أن الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر
لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله فالخوف من تجدد
المرض في معناه قال أحمد فيمن به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر وقال في الجارية
تصوم إذا حاضت فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض يعني إذا حاضت وهي صغيرة لم تبلغ خمس
عشرة سنة قال القاضي هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام أبيح لها الفطر وإلا فلا
86

(فصل) ومن أبيح له الفطر لشدة شبقه ان أمكنه استدفاع الشهوة بغير جماع كالاستمناء بيده أو يد امرأته
أو جاريته لم يجز له الجماع لأنه فطر للضرورة فلم تبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة كأكل الميتة
عند الضرورة وإن جامع فعليه الكفارة وكذلك إن أمكنه دفعها بمالا يفسد صوم غيره كوطئ زوجته
أو أمته الصغيرة أو الكتابية أو مباشرة الكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم
يبح له افساد صوم غيره لأن الضرورة إذا اندفعت لم يبح له ما وراءها كالشبع من الميتة إذا اندفعت الضرورة
بسد الرمق وان لم تندفع الضرورة الا بافساد صوم غيره أبيح ذلك لأنه مما تدعو الضرورة إليه
فأبيح كفطره وكالحامل والمرضع يفطران خوفا على ولديهما فإن كان له امرأتان حائض وطاهر
صائمة ودعته الضرورة إلى وطئ إحداهما احتمل وجهين (أحدهما) وطئ الصائمة أولى لأن الله تعالى
نص على النهي عن وطئ الحائض في كتابه ولان وطأها فيه اذى لا يزول بالحاجة إلى الوطئ
والثاني يتخير لأن وطئ الصائمة يفسد صيامها فتتعارض المفسدتان فيتساويان
(مسألة) قال (وكذلك المسافر) يعني ان المسافر يباح له الفطر فإن صام كره له ذلك وأجزأه، وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص
والاجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزأه، ويروى عن أبي هريرة أنه لا يصح صوم المسافر،
قال أحمد كان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة، وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن
ابن عوف أنه قال: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وقال بهذا قوم من أهل الظاهر لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصوم في السفر " متفق عليه، ولأنه عليه السلام أفطر في السفر فلما بلغه ان قوما
صاموا قال " أولئك العصاة " وروى ابن ماجة باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الصائم في رمضان
في السفر كالمفطر في الحضر " وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول، قال ابن عبد البر هذا قول يروى
عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم والسنة ترده وحجتهم ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي
أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام قال " ان شئت فصم وان شئت فأفطر "
وفي لفظ رواه النسائي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ قال
" هي رخصة الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " وقال أنس: كنا نسافر
مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، متفق عليه، وكذلك روى أبو سعيد
وأحاديثهم محمولة على تفضيل الفطر على الصيام
87

(فصل) والأفضل عند إمامنا رحمه الله الفطر في السفر وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد
ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: الصوم أفضل لمن
قوى عليه، ويروى ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بما وري عن مسلمة بن المحبق ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه " رواه أبو داود،
ولان من خير بين الصوم والفطر كان الصوم أفضل كالتطوع، وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة
أفضل الامرين أيسرهما لقول الله تعالى " يريد الله بكم اليسر " ولما روى أبو داود عن حمزة بن عمرو
قال: قلت يا رسول الله اني صاحب ظهر أعالجه وأسافر عليه وأكريه وانه ربما صادفني هذا الشهر
يعني رمضان وأنا أجد القوة وأنا شاب وأجدني ان أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخر
فيكون دينا علي أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أم أفطر؟ قال " اي ذلك شئت يا حمزة "
ولنا ما تقدم من الاخبار في الفصل الذي قبله، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خيركم الذي
يفطر في السفر ويقصر " ولان في الفطر خروجا من الخلاف فكان أفضل كالقصر وقياسهم ينتقض
بالمريض ويصوم الأيام المكروه صومها
(مسألة) قال (وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ والمتتابع أحسن)
هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وأبي هريرة وابن محيريز وأبي قلابة ومجاهد وأهل المدينة
والحسن وسعيد بن المسيب وعبيد الله بن عتبة واليه ذهب مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي
والشافعي وإسحاق وحكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي والشعبي، وقال داود: يجب ولا
يشترط لما روى ابن المنذر باسناده عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان عليه صوم
رمضان فليسرده ولا يقطعه "
ولنا اطلاق قول الله تعالى (فعدة من أيام أخر) غير مقيد بالتتابع، فإن قيل فقد روي عن عائشة
انها قالت نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت متتابعات، قلنا هذا لم يثبت عندنا صحته ولو
صح فقد سقطت اللفظة المحتج بها وأيضا قول الصحابة، قال ابن عمر: ان سافر فإن شاء فرق وان شاء
تابع وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبيدة بن الجراح في قضاء رمضان: ان الله لم يرخص لكم في
فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، وروي الأثرم باسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال بلغني
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع قضاء رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان على أحدكم دين
88

فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه؟ قالوا نعم
يا رسول الله قال " فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم " ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه فلم يجب فيه
التتابع كالنذر المطلق، وخبرهم لم يثبت صحته فإن أهل السنن لم يذكروه ولو صح حملناه على الاستحباب
فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء والله أعلم
(مسألة) (قال ومن دخل في الصيام تطوع فخرج منه فلا قضاء عليه
فإن قضاه فحسن)
وجملة ذلك أن من دخل في صيام تطوع استحب له اتمامه ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء
عليه روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا وقال ابن عمر لا بأس به ما لم يكن
نذرا أو قضاء رمضان وقال ابن عباس إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء ان يقطعه قطعه وإذا دخل في
صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر
النظرين ان شئت صمت وان شئت أفطرت فهذا مذهب احمد والثوري والشافعي وإسحاق وقد
روى حنبل عن أحمد إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر أعاد يوما مكان
ذلك اليوم وهذا محمول على أنه استحب ذلك أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه وقال النخعي
وأبو حنيفة ومالك يلزم في الشروع فيه ولا يخرج منه الا بعذر فإن خرج قضى وعن مالك لا قضاء
عليه واحتج من أوجب القضاء بما روي عن عائشة أنها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين
فأهدي لنا حيس فأفطرنا ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اقضيا يوما مكانه ولأنها عبادة تلزم بالنذر
فلزمت بالشروع فيها كالحج والعمرة
ولنا ما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال " هل
عندكم شئ " فقلت لا قال " فاني صائم " ثم مر بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان
يحب الحيس قلت يا رسول الله أنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه قال " أدنيه أما اني قد أصبحت
وأنا صائم " فأكل منه ثم قال لنا " إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن
شاء أمضاها وإن شاء حبسها " هذا لفظ رواية النسائي وهو أتم من غيره وروت أم هاني قالت
دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بشراب فناولنيه فشربت منه ثم قلت يا رسول الله لقد أفطرت
وكنت صائمة فقال لها " أكنت تقضين شيئا " قالت لا قال " فلا يضرك إن كان تطوعا " رواه
89

سعيد وأبو داود والأثرم وفي لفظ قالت قلت إني صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان المتطوع أمير نفسه
فإن شئت فصومي وإن شئت فافطري " ولان كل صوم لو أتمه كان تطوعا إذا خرج منه لم يجب قضاؤه
كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان أو من شوال فاما خبرهم فقال أبو داود لا يثبت وقال
الترمذي فيه مقال وضعفه الجوزجاني وغيره ثم هو محمول على الاستحباب إذا ثبت هذا فإنه يستحب
له اتمامه وان خرج منه استحب قضاؤه للخروج من الخلاف وعملا بالخبر الذي رووه
(فصل) وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع ولا يجب قضاؤها
إذا خرج منها إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا لتأكد احرامهما ولا يخرج
منهما بافسادهما ولو اعتقد أنهما واجبان ولم يكونا واجبين لم يكن له الخروج منهما وقد روي عن أحمد
في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع فإن الأثرم قال قلت لأبي عبد الله الرجل يصبح صائما
متطوعا أيكون بالخيار والرجل يدخل في الصلاة له أن يقطعها؟ فقال الصلاة أشد أما الصلاة فلا يقطعها
قيل له فإن قطعها قضاها؟ قال إن قضاها فليس فيه اختلاف. ومال أبو إسحاق الجوزجاني إلى هذا القول
وقال الصلاة ذات احرام واحلال فلزمت بالشروع فيها كالحج وأكثر أصحابنا على أنها لا تلزم
أيضا وهو قول ابن عباس لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما
(فصل) ومن دخل في واجب كقضاء رمضان أو نذر معين أو مطلق أو صيام كفارة لم يجز
له الخروج منه لأن المتعين وجب عليه الدخول فيه وغير المتعين تعين بدخوله فيه فصار بمنزلة
الفرض المتعين وليس في هذا خلاف بحمد الله
(مسألة) (قال وإذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصيام أخذ به)
يعني أنه يلزم الصيام يؤمر به ويضرب على تركه ليتمرن عليه ويتعوده كما يلزم الصلاة ويؤمر بها
وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه عطاء والحسن وابن سيرين والزهري وقتادة والشافعي
وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل صوم شهر رمضان وقال
إسحاق إذا بلغ اثنتي عشرة أحب أن يكلف الصوم للعادة واعتباره بالعشر أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بالضرب على الصلاة عندها واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى واجتماعهما
في أنهما عبادتان بدنيتان من أركان الاسلام إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة لأنه قد
يطيق الصلاة من لا يطيقه
(فصل) ولا يجب عليه الصوم حتى يبلغ قال احمد في غلام احتلم صام ولم يترك والجارية إذا
حاضت وهذا قول أكثر أهل العلم وذهب بعض أصحابنا إلى إيجابه على الغلام المطيق له إذا بلغ
90

عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان " ولأنه عبادة بدنية أشبه بالصلاة
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يضرب على الصلاة من بلغ عشرا والمذهب الأول. قال القاضي المذهب
عندي رواية واحدة أن الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ وما قاله احمد فيمن ترك الصلاة يقضيها نحمله
على الاستحباب وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون
حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ " ولأنه عبادة بدنية فلم تجب على الصبي كالحج وحديثهم مرسل
ثم نحمله على الاستحباب وسماه واجبا تأكيدا لاستحبابه كقوله عليه السلام " غسل الجمعة
واجب على كل محتلم "
(فصل) إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن فقال القاضي
يتم صومه ولا قضاء عليه لأن نية صوم رمضان حصلت ليلا فيجزئه كالبالغ ولا يمتنع أن يكون أول
الصوم نفلا وباقيه فرضا كما لو شرع في صوم يوم تطوعا ثم نذر اتمامه واختار أبو الخطاب انه يلزمه القضاء
لأنه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته اعادتها كالصلاة والحج إذا بلغ بعد
الوقوف وهذا لأنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه والماضي قبل بلوغه نفل فلم يجز عن الفرض ولهذا لو نذر
صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه فلا قضاء عليه
وسواء كان قد صامه أو أفطره هذا قول عامة أهل العلم وقال الأوزاعي يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه
ولنا أنه زمن مضى في حال صباه فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان وان
بلغ الصبي وهو مفطر فهل يلزمه امساك ذلك اليوم وقضاؤه؟ على روايتين
(مسألة) قال (وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل من بقية شهره)
أما صوم ما يستقبله من بقية شهره فلا خلاف فيه وأما قضاء ما مضى من الشهر قبل اسلامه فلا
يجب وبهذا قال الشعبي وقتادة ومالك والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء عليه
قضاؤه وعن الحسن كالمذهبين
ولنا ان ما مضى عبادة خرجت في حال كفره فلم يلزمه قضاؤه كالرمضان الماضي
(فصل) فاما اليوم الذي أسلم فيه فإنه يلزمه امساكه ويقضيه هذا المنصوص عن أحمد وبه قال
الماجشون وإسحاق وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر لا قضاء عليه لأنه لم يدرك من زمن العبادة ما
يمكنه التلبس بها فيه فأشبه ما لو أسلم بعد خروج واليوم وقد روي ذلك عن أحمد
91

ولنا أنه أدرك جزءا من وقت العبادة فلزمته كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة
(فصل) فاما المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف وفي
قضاء اليوم الذي أفاق فيه وامساكه روايتان ولا يلزمه قضا ما مضى وبهذا قال أبو ثور والشافعي في
الجديد وقال مالك يقضي وان مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي القديم لأنه معنى
يزيل العقل فلم يمنع وجوب الصوم كالاغماء وقال أبو حنيفة ان جن جميع الشهر فلا قضاء عليه وان
أفاق في أثنائه قضى ما مضى لأن الجنون لا ينافي الصوم بدليل ما لو جن في أثناء الصوم لم يفسد
فإذا وجد في بعض الشهر وجب القضاء كالاغماء
ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكفر ويخص أبا حنيفة بأنه
معنى لو وجد في جميع الشهر أسقط القضاء فإذا وجد في بعضه أسقطه كالصغر والكفر ويفارق الاغماء في ذلك
(مسألة) قال (وإذا رأى هلال شهر رمضان وحده صام)
المشهور في المذهب انه متى رأى الهلال واحد لزمه الصيام عدلا كان أو غير عدل شهد عند
الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت وهذا قول مالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي وابن
المنذر وقال عطاء وإسحاق لا يصوم وقد روى حنبل عن أحمد لا يصوم الا في جماعة الناس وروي
نحوه عن الحسن وابن سيرين لأنه يوم محكوم به من شعبان فأشبه التاسع والعشرين
ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوما به من شعبان
ظاهر في حق غيره واما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل
(فصل) فإن أفطر ذلك اليوم بجماع فعليه الكفارة وقال أبو حنيفة لا تجب لأنها عقوبة فلا
تجب بفعل مختلف فيه كالحد
ولنا أنه أفطر يوما من رمضان بجماع فوجبت به عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته ولا نسلم أن
الكفارة عقوبة ثم قياسهم ينتقض بوجوب الكفارة في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه
(مسألة) قال (وإن كان عدلا صوم الناس بقوله)
المشهور عن امد أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل ويلزم الناس الصيام بقوله وهو
فول عمر وعلي وابن عمر وابن المبارك والشافعي في الصحيح عنه وروي عن أحمد أنه قال اثنين
92

أعجب إلي قال أبو بكر ان رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله على ما روي في الحديث وإن كان
الواحد في جماعة الناس فذكر أنه رآه دونهم لم يقبل الا قول اثنين لأنهم يعاينون ما عاين
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يقبل الا شهادة اثنين وهو قول مالك والليث والأوزاعي
وإسحاق لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال إني
جالت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وانهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين وان شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا
وأفطروا " رواه النسائي ولأن هذه شهادة على رؤية الهلال فأشبهت الشهادة على هلال شوال وقال
أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو لا يقبل الا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع
الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة فيراه واحد دون الباقين ولنا ما روى ابن عباس قال جاء
اعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رأيت الهلال قال " أتشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله " قال
نعم قال " يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وروى ابن عمر
قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود (1)
ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقة المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة ولأنه
خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية وخبرهم إنما يدل بمفهومه وخبرنا
أشهر منه وهو يدل بمنطوقه فيجب تقديمه ويفارق الخبر عن هلال شوال فإنه خروج من العبادة
وهذا دخول فيها وحديثهم في هلال شوال يخالف مسئلتنا وما ذكره أبو بكر وأبو حنيفة لا يصح لأنه
يجوز انفراد الواحد به مع لطافة المرئي وبعده ويجوز أن تختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم
وحدة نظرهم ولهذا لو حكم برؤيته حاكم بشهادة واحد جاز ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما ولو
كان ممتنعا على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا يثبت بشهادة اثنين ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الأول
وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور ولو أن جماعة في محفل فشهد اثنان منهم على رجل منهم أنه طلق
زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما دون من أنكر ولو أن اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب
أنه قال على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما وكذلك لو شهدا عليه بفعل
وإن كان غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا ههنا
(فصل) وإن أخبره مخبر برؤية الهلال يثق بقوله لزمه الصوم، وان لم يثبت ذلك عند الحاكم
93

لأنه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر أشبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبر عن دخول
وقت الصلاة ذكر ذلك ابن عقيل، ومقتضى هذا أنه يلزمه قبول الخبر، وإن رده الحاكم لأن رد
الحاكم يجوز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر ولا يتعين ذلك في عدم العدالة، وقد يجهل الحاكم
عدالة من يعلم غيره عدالته
(فصل) فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة واحد الوجهين
لأصحاب الشافعي لأنه خبر ديني فأشبه الرواية، والخبر عن القبلة ودخول وقت الصلاة، ويحتمل
أن لا تقبل لأنه شهادة برؤية الهلال فلم يقبل فيه قول امرأة كهلال شوال
(مسألة) قال (ولا يفطر إلا بشهادة اثنين)
وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا شهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أبا ثور
فإنه قال يقبل قول واحد لأنه أحد طرفي رمضان أشبه الأول، ولأنه خبر يستوي فيه المخبر
والمخبر أشبه الرواية واخبار الديانات
ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز شهادة رجل
واحد على رؤية الهلال، وكان لا يجيز على شهادة الافطار إلا شهادة رجلين، ولأنها شهادة على هلال
فلا يدخل بها في العبادة فلم تقبل فيه إلا شهادة اثنين كسائر الشهور وهذا يفارق الخبر لأن الخبر يقبل
فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان، وهذا لا يقبل فيه ذلك فافترقا
(فصل) ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء المنفردات وإن كثرن، وكذلك
سائر الشهور لأنه مما يطلع عليه الرجال وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص وكان القياس
يقتضي مثل ذلك في رمضان ولكن تركناه احتياطا للعبادة
(فصل) وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما ولم يروا هلال شوال أفطروا وجها واحدا، وإن
صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان
(أحدهما) لا يفطرون لقوله عليه السلام " وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا " ولأنه فطر فلم يجز
أن يستند إلى شهادة واحد كما لو شهد بهلال شوال
(والثاني) يفطرون وهو منصوص الشافعي ويحكى عن أبي حنيفة، لأن الصوم إذا وجب وجب
الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة، وقد يثبت تبعا مالا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة
النساء وتثبت بها الولادة، فإذا ثبتت الولادة ثبت النسب على وجه التبع للولادة كذا ههنا، وإن
94

صاموا لأجل الغيم لم يفطروا وجها واحدا لأن الصوم إنما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز
الخروج منه بمثل ذلك والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يفطر إذا رآه وحده)
روي هذا عن مالك والليث وقال الشافعي يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه يتيقنه من شوال
فجاز له الاكل كما لو قامت به بينة
ولنا ما روى أبو رجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال، وقد أصبح الناس
صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما أصائم أنت؟ قال بل مفطر، قال ما حملك على هذا؟ قال
لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال، وقال للآخر قال أنا صائم، قال ما حملك على هذا؟ قال لم أكن
لأفطر والناس صيام، فقال للذي أفطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس أن اخرجوا
أخرجه سعيد عن ابن علية عن أيوب عن أبي رجاء، وإنما أراد ضربه لافطاره برؤيته ودفع عنه
الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه، ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا تواعده، وقالت عائشة إنما
يفطر يوم الفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان اجماعا، ولأنه يوم
محكوم به من رمضان فلم يجز الفطر فيه كاليوم الذي قبله، وفارق ما إذا قامت البينة فإنه محكوم به من
شوال بخلاف مسألتنا، وقولهم إنه يتيقن أنه من شوال قلنا لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي
خيل إليه كما روي أن رجلا في زمن عمر قال: لقد رأيت الهلال، فقال له امسح عينك فمسحها ثم قال
له تراه؟ قال لا، قال لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك فظننتها هلالا أو ما هذا معناه (1)
(فصل) فإن رآه اثنان ولم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما
ولكل واحد منهما الفطر بقولهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا شهد اثنان فصوموا وأفطروا " وإن شهدا
عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما فلمن علم عدالتهما الفطر بقولهما لأن رد الحاكم ههنا ليس بحكم منه
وإنما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظارا للبينة، ولهذا لو تثبت عدالتهما بعد
ذك حكم بها، وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم
لئلا يفطر برؤيته وحده
(مسألة) قال (وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير فإن صام شهرا يريد به رمضان
فوافقه أو ما بعده أجزأه وإن وافق ما قبله لم يجزه)
وجملته أن من كان محبوسا أو مطمورا، أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف
95

الأشهر بالخبر فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد، فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه
دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال
(أحدها) أن لا ينكشف له الحال فإن صومه صحيح ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه
كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد
(الثاني) أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء، وحكي عن
الحسن بن صالح انه لا يجزئه في هاتين الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان
من رمضان وليس بصحيح لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة
إذا اشتبهت، أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد، فإن
الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم
(الحال الثالث) وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية يجزئه في
أحد الوجهين كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله
ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا
أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة عليهم، وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم، ولان ذلك لا يؤمن مثله
في القضاء بخلاف الصوم
(الحال الرابع) أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه
(فصل) وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته سواء
وافق ما بين هلالين أو لم يوافق، وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك،
وقال القاضي ظاهر كلام الخرقي أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه سواء كان الشهران تامين أو
ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا، وليس بصحيح فإن الله تعالى قال (فعدة من أيام أخر)
ولأنه فاته شهر رمضان فوجب أن يكون صيامه عدة ما فاته كالمريض والمسافر، وليس في كلام الخرقي
تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب، فإن قيل أليس إذا نذر
صوم شهر يجزئه ما بين هلالين قلنا الاطلاق يحمل على ما تناوله الاسم والاسم يتناول ما بين الهلالين
وههنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان، ولو
ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها كذلك ههنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام سواء كان ما صامه
بين هلالين أو من شهرين فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به، وإن وافق أيام التشريق فهل يعتد
بها؟ على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض
96

(فصل) وان لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وان وافق الشهر لأنه صامه
على الشك فلم يجزئه كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، وان غلب على ظنه
من غير امارة فقال القاضي عليه الصيام ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القلة
ويصلي على حسب حاله ويعيد، وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين
كذلك يخرج على قوله ههنا، وظاهر كلام الخرقي انه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح
صومه وان لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل ولا يكلف الله نفسا الا وسعها
وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة
(فصل) وإذا صام تطوعا فوافق شهر رمضان لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال
أصحاب الرأي يجزئه وهذا ينبني على تعيين النية لرمضان وقد مضى القول فيه
(مسألة) قال (ولا يصام يوما العيدين ولا أيام التشريق لا عن فرض ولا عن تطوع
فإن قصد لصيامها كان عاصيا ولم يجزئه عن الفرض)
أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء
والكفارة، وذلك لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى
ثم أنصرف فخطب الناس فقال: ان هذين يومين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما، يوم فطركم
من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم، وعن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام
يومين يوم فطر ويوم أضحى، وعن أبي سعيد مثله، متفق عليهما، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه
وتحريمه، وأما صومهما عن النذر المعين ففيه خلاف نذكره فيما بعد أن شاء الله تعالى
(مسألة) قال (وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى انه يصومها عن الفرض)
وجملة ذلك أن أيام التشريق منهي عن صيامها أيضا لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول
الله (ص) " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل " متفق عليه، وروي عن عبد الله بن
حذافة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام منى أنادي " أيها الناس انها أيام أكل وشرب وبعال " إلا أنه
من رواية الواقدي وهو ضعيف، وعن عمرو بن العاص أنه قال: هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمر بافطارها وينهى عن صيامها، قال مالك وهي أيام التشريق، رواه أبو داود، ولا يحل صيامها
تطوعا في قول أكثر أهل العلم، وعن ابن الزبير انه كان يصومها، وروي نحو ذلك عن ابن عمر
97

والأسود بن يزيد، وعن أبي طلحة انه كان لا يفطر إلا يومي العيدين، والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم
نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره، وقد روى أبو مرة مولى أم هانئ انه
دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال كل، فقال أني صائم، فقال:
عمرو: كل فهذه الأيام التي كان رسول الله يأمر بافطارها وينهى عن صيامها، والظاهر أن عبد الله بن
عمرو أفطر لما بلغه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما صومها للفرض ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لأنه
منهى عن صومها فأشبهت يومي العيدين (والثانية) يصح صومها للفرض لما روي عن ابن عمرو وعائشة
انهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن الا لمن لم يجد الهدي اي المتمتع إذا عدم الهدي
وهو حديث صحيح رواه البخاري ويقاس عليه كل مفروض (1)
(فصل) ويكره افراد يوم الجمعة بالصوم الا ان يوافق ذلك صوما كان يصومه مثل من يصوم
يوما ويفطر يوما فيوافق صومه يوم الجمعة، ومن عادته صوم أول يوم من الشهر أو آخره أو يوم نصفه
ونحو ذلك نص عليه احمد في رواية الأثرم، قال قيل لأبي عبد الله صيام يوم الجمعة، فذكر حديث
النهي ان يفرد ثم قال الا أن يكون في صيام كان يصومه وأما ان يفرد فلا، قال قلت رجل كان يصوم
يوما ويفطر يوما فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت فصام الجمعة مفردا،
فقال هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره ان يتعمد الجمعة، وقال أبو حنيفة ومالك لا يكره
افراد الجمعة لأنه يوم فأشبه سائر الأيام
ولنا ما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة الا
يوما قبله أو بعده " وقال محمد بن عباد سألت جابرا أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال
نعم، متفق عليهما، وعن جويرية بنت الحارث ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال
" اصمت أمس؟ " قالت لا قال " أتريدين ان تصومي غدا؟ " قال لا قال " فافطري " رواه البخاري
وفيه أحاديث سوى هذه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق ان تتبع وهذا الحديث يدل على أن المكروه افراده
لأن نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غدا
(فصل) قال أصحابنا يكره افراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم
" لا تصوموا يوم السبت الا فيما افترض عليكم " أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن وروي
أيضا عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تصوموا يوم السبت الا فيما
افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجر فليمضغه " أخرجه أبو داود وقال اسم
أخت عبد الله بن بسر هجيمة أو جهيمة، قال الأثرم قال أبو عبد الله اما صيام يوم السبت يفترد به فقد
98

جاء فيه حديث الصماء وكان يحيى بن سعيد يتقيه أي ان يحدثني به وسمعته من أبي عاصم، والمكروه
أفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية، وان وافق صوما لانسان لم يكره لما قدمناه
وقال أصحابنا ويكره افراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم لأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون
تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت وعلى قياس هذا كل عيد للكفار
أو يوم يفردونه بالتعظيم (1)
(فصل) ويكره افراد رجب بالصوم قال أحمد وان صامه رجل أفطر فيه يوما أو أياما بقدر
ما لا يصومه كله ووجه ذلك ما روى أحمد بأسناده عن خرشة بن الحر قال رأيت عمر يضرب أكف
المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية واسناده عن ابن
عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال صوموا منه وأفطروا وعن ابن عباس
نحوه وباسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان فقال ما هذا فقالوا رجب
نصومه قال أجعلتم رجب رمضان فأكفأ السلال وكسر الكيزان قال أحمد من كان يصوم السنة صامه
وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبهه برمضان
(فصل) وروى أبو قتادة قال قيل يا رسول الله فكيف يمن صام الدهر؟ قال " لا صام ولا أفطر،
أو لم يصم ولم يفطر " قال الترمذي هذا حديث حسن وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام
الدهر ضيقت عليه جهنم " قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فسر مسدد قول أبي موسى من صام الدهر
ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا؟ فأين حديث عبد الله ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم
كره ذلك وما فيه من الأحاديث؟ قال أبو الخطاب إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق
لأن أحمد قال إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس وروي نحو
هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم منهم أبو طلحة قيل إنه
صام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وان لم يصم
هذه الأيام فإن صامها فقد فعل محرما وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي
عنه بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو " انك لتصوم الدهر وتقوم الليل " فقلت نعم قال " انك
إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونقهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله "
قلت فاني أطيق أكثر من ذلك قال " فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى
" وفي رواية وهو أفضل الصيام فقلت إني أطيق أفضل من ذلك قال " لا أفضل من ذلك " رواه البخاري
(مسألة) قال (وإذا رؤي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة)
وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد ان الهلال إذا رؤي نهارا قبل الزوال أو بعده وكان ذلك في
99

آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأنس والأوزاعي ومالك
والليث والشافعي وإسحاق وأبي حنيفة وقال الثوري وأبو يوسف ان رؤي قبل الزوال فهو لليلة
الماضية وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وقد رأوه فيجب الصوم والفطر ولان ما قبل الزوال أقرب إلى
الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد
ولنا ما روى أبو وائل قال جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين ان الأهلة بعضها أكبر من بعض
فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا الا أن يشهد رجلان انهما رأياه بالأمس عشية ولأنه
قول ابن مسعود وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم محمول على ما إذا رؤي عشية بدليل
ما لو رؤي بعد الزوال ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رؤي عشية فاما ان
كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا أنه لليلة المقبلة وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي
وعن أحمد رواية أخرى انه للماضية فيلزم قضاء ذلك اليوم وامساك بقيته احتياطا للعبادة والأول
أصح لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله كما لو رؤي بعد العصر
(مسألة) قال (والاختيار تأخير السحور وتعجيل الفطر)
الكلام في هذه المسألة في فصلين
(أحدهما في السحور) والكلام فيه في ثلاثة أشياء (أحدها) في استحبابه ولا نعلم فيه بين العلماء
خلافا وقد روى انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " تسحروا فإن السحور بركة " متفق عليه وعن عمرو بن العاص
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور " أخرجه مسلم وأبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح وروى الإمام أحمد باسناده عن أبي سعيد قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على
المتسحرين " (الثاني في وقته) قال أحمد يعجبني تأخير السحور لما روى زيد بن ثابت قال تسحرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان قدر ذلك؟ قال خمسين آية متفق عليه وروى
العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور فقال " هلم إلى الغداء المبارك " رواه أبو داود
والنسائي، سماه غداء لقرب وقته منه ولأنه المقصود بالسحور التقوي على الصوم وما كان أقرب إلي
الفجر كان أعون على الصوم قال أبو داود قال أبو عبد الله إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن
طلوعه وهذا قول ابن عباس وعطاء والأوزاعي قال احمد يقول الله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يمنعنكم من سحوركم أذان
100

بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق " قال الترمذي هذا حديث حسن وروى
أبو قلابة قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يتسحر يا غلام أخف الباب لا يفجأنا الصبح
وقال رجل لابن عباس اني أتسحر فإذا شككت أمسكت فقال ابن عباس كل ما شككت حتى لا تشك
فأما الجماع فلا يستحب تأخيره لأنه ليس مما يتقوى به وفيه خطر وجوب الكفارة وحصول الفطر به
(الثالث) فيما يتسحر به وكل ما حصل من اكل أو شرب حصل به فضيلة السحور لقوله عليه
السلام " ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " نعم سحور
المؤمن التمر " رواه أبو داود
(الفصل الثاني) في تعجيل الفطر وفيه أمور ثلاثة (أحدها) في استحبابه وهو قول أكثر أهل العلم
لما روى سهل بن سعد الساعدي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر " متفق عليه
وعن أبي عطية قال دخلت انا ومسروق على عائشة فقال مسروق رجلان من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الافطار ويعجل المغرب والآخر يؤخر الافطار ويؤخر المغرب قالت: من الذي
يعجل الافطار ويعجل المغرب؟ قال عبد الله قالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. رواه مسلم
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى أحب عبادي إلي أسرعهم فطرا، قال
الترمذي هذا حديث حسن غريب وقال إنس ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى يفطر ولو
على شربة من ماء رواه ابن عبد البر
(الثاني فيما يفطر عليه) يستحب أن يفطر على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن فعلى
الماء لما روى أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات
فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء رواه أبو داود والأثرم والترمذي وقال حديث حسن غريب
وعن سليمان بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر
على الماء فإنه طهور " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
(الثالث في الوصال) وهو أن يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب وهو مكروه في قول أكثر
أهل العلم وروي عن ابن الزبير أنه كان يواصل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
ولنا ما روى ابن عمر قال واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فواصل الناس فنهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقالوا إنك تواصل قال " اني لست مثلكم أني أطعم وأسقى " متفق عليه وهذا
يقتضي اختصاصه بذلك ومنع إلحاق غيره به وقوله " اني أطعم وأسقى " يحتمل أنه يريد أنه يعان على الصيام
ويغنيه الله تعالى عن الشراب والطعام بمنزلة من طعم وشرب ويحتمل أنه أراد إني أطعم حقيقة وأسقى
حقيقة حملا للفظ على حقيقته والأول أظهر لوجهين
101

(أحدهما) أنه لو طعم وشرب حقيقة لم يكن مواصلا وقد أقرهم على قولهم انك تواصل
(والثاني) أنه قد روي أنه قال " اني أظل يطعمني ربي ويسقيني " وهذا يقتضي أنه في النهار
ولا يجوز الاكل في النهار له ولا لغيره إذا ثبت هذا فإن الوصال غير محرم وظاهر قول الشافعي أنه
محرم تقريرا لظاهر النهي في التحريم
ولنا أنه ترك الأكل والشرب المباح فلم يكن محرما كما لو تركه في حال الفطر فإن قيل فصوم يوم
العيد محرم مع كونه تركا للاكل والشرب المباح قلنا ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه وإنما حرم
بنية الصوم ولهذا لو تركه من غير نية الصوم لم يكن محرما وأما النهي فإنما أتى به رحمة لهم ورفقا بهم
لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل وعن قراءة القرآن في
أقل من ثلاث قالت عائشة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم وهذا لا يقتضي التحريم ولهذا
لم يفهم منه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التحريم بدليل أنهم واصلوا بعده ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا
فعله قال أبو هريرة " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ويوما ثم
رأوا الهلال فقال " لو تأخر لزدتكم " كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. متفق عليه فإن واصل من سحر
إلى سحر جاز لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل
فليواصل حتى السحر " أخرجه البخاري وتعجيل الفطر أفضل لما قدمناه
(فصل) ويستحب تفطير الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من فطر
صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شئ " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
(فصل) روى ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال " اللهم لك صمنا وعلى رزقك
أفطرنا فتقبل منا انك أنت السميع العليم " وعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر يقول
" ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الاجر إن شاء الله " واسناده حسن ذكرهما الدارقطني
(مسألة) (قال ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وان فرقها
فكأنما صام الدهر)
وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم روي ذلك عن كعب الأحبار
والشعبي وميمون بن مهران وبه قال الشافعي وكرهه مالك وقال ما رأيت أحدا من أهل الفقه يصومها
102

ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وان أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وان يلحق برمضان ما ليس منه
ولنا ما روى أبو أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما
صام الدهر " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن (1) وقال احمد هو من ثلاثة أوجه عن النبي
صلى الله عليه وسلم وروى سعيد باسناده عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان شهر بعشرة
أشهر وصام ستة أيام بعد الفطر وذلك تمام السنة " يعني أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة
والستة بستين يوما فذلك اثنا عشر شهرا وهو سنة كاملة ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان لأن
يوم الفطر فاصل فإن قيل فلا دليل في هذا الحديث على فضيلتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه صيامها بصيام
الدهر وهو مكروه قلنا إنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبيه بالتبتل لولا ذلك لكان
ذلك فضلا عظيما لاستغراقه الزمان بالعبادة والطاعة والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به على
وجه عري عن المشقة كما قال عليه السلام " من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر "
ذكر ذلك حثا على صيامها وبيان فضلها ولا خلاف في استحبابها ونهى عبد الله بن عمرو عن قراءة
القرآن في أقل من ثلاث وقال " من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن " أراد التشبيه بثلث
القرآن في الفضل لا في كراهة الزيادة عليه إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول
الشهر أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد ولان فضيلتها لكونها تصير مع الشهر
ستة وثلاثين يوما والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها فإذا وجد
103

ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم
(مسألة) (قال وصيام عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتين)
وجملته أن صيام هذين اليومين مستحب لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " صيام عرفة
اني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده " وقال في صيام عاشوراء " اني
أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " أخرجه مسلم إذا ثبت هذا فإن عاشوراء هو اليوم العاشر
من المحرم وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن لما روى ابن عباس قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بصوم يوم عاشوراء العاشر مت المحرم رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي عن ابن
عباس أنه قال التاسع وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع أخرجه مسلم بمعناه وروى عنه
عطاء أنه قال صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود، إذا ثبت هذا فإنه يستحب صوم التاسع والعاشر
لذلك نص عليه احمد وهو قول إسحاق قال احمد فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام وإنما يفعل
ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر
(فصل) واختلف في صوم عاشوراء هل كان واجبا فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجبا وقال
هذا قياس المذهب واستدل بشيئين
(أحدهما) ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يأكل بالصوم والنية في الليل شرط في الواجب
104

(والثاني) أنه لم يأمر من أكل بالقضاء ويشهد لهذا ما روى معاوية قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول " ان هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن
شاء فليفطر " وهو حديث صحيح وروي عن أحمد أنه كان مفروضا لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم
صامه وأمر بصيامه فلما افترض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه
ومن شاء تركه وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد ليس هو مكتوبا عليكم الآن
وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الامر بقضائه فيحتمل أن نقول من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه
قضاؤه كما قلنا فيمن أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان على أنه قد روى أبو داود ان أسلم أتت النبي
صلى الله عليه وسلم فقال " صمتم يومكم هذا؟ " قالوا لا قال " فأتموا يومكم واقضوه "
(فصل) فاما يوم عرفة فهو اليوم التاسع من ذي الحجة سمي بذلك لأن الوقوف بعرفة فيه
وقيل سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه فأصبح
يومه يتروى هل هذا من الله أو حلم فسمي يوم التروية فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم
عرفة فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة وهو يوم شريف عظيم وعيد كريم وفضله كبير وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن صيامه يكفر سنتين
(فصل) وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها ويستحب الاجتهاد في
العبادة فيها لما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مامن أيام العمل الصالح فيهن أحب
إلى الله من هذه الأيام العشر " وقال يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا
105

الجهاد في سبيل الله الا رجلا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشئ " وهو حديث حسن صحيح وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مامن أيام أحب إلى الله عز وجل أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة
يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر وهذا حديث غريب أخرجه
الترمذي وروى أبو داود باسناده عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم
تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء
(مسألة) قال (ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم ليتقوى على الدعاء)
أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه وقال
قتادة لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء وقال عطاء أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف لأن
كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة
ولنا ما روى عن أم الفضل بنت الحارث ان ناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره
بعرفات فشربه النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه وقال ابن عمر حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه يعني يوم
عرفه ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا انهى
عنه أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وروى أبو داود باسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن صيام يوم عرفة ولان الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء
في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به فكان تركه أفضل
106

(فصل) روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله
المحرم رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
(فصل) وأفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما لما روى عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال له صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام فقلت إني أطيق أفضل من ذلك
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أفضل من ذلك " متفق عليه
107

(فصل) وروى أبو داود باسناده عن أسامة بن زيد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين
والخميس فسئل عن ذلك فقال إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس
(مسألة) قال (وأيام البيض التي حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيامها هي الثالث
عشر والرابع عشر والخامس عشر
108

وجملة ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب ولا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو هريرة
قال أوصاني خليلي بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وان أوتر قبل أن أنام وعن
عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له " صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك
مثل صيام الدهر " متفق عليهما ويستحب ان يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما روى أبو ذر قال قال
109

رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس
عشرة " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن، وروى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لاعرابي
" كل " قال إني صائم قال " صوم ماذا؟ " قال صوم ثلاثة أيام من الشهر قال " ان كنت صائما فعليك
بالغر البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " وعن ملحان القيسي قال كان رسول الله
110

صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال هو كهيئة
الدهر أخرجه أبو داود وسميت أيام البيض لابيضاض ليلها كله بالقمر والتقدير أيام الليالي البيض
وقيل إن الله تاب على آدم فيها وبيض صحيفته ذكره أبو الحسن التميمي
(فصل) ويجب على الصائم أن ينزه صومه عن الكذب والغيبة والشتم قال احمد ينبغي للصائم أن
111

يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا نحفظ
صومنا ولا يغتاب أحدا ولا يعمل عملا يجرح به صومه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يدع قول الزور
والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله
تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا
112

يرفث ولا يصخب فإن سابه أحدا أو قاتله فليقل اني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيه لخلوف فم الصائم أطيب
عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه " متفق عليهما
(فصل) في ليلة القدر وهي ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة قال الله تعالى (ليلة القدر خير
من الف شهر) قيل معناه العمل فيها خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة القدر وقال النبي
صلى الله عليه وسلم " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه وقيل إنما
سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة ورزق وبركة يروي ذلك
عن ابن عباس قال الله تعالى (فيها يفرق في كل أمر حكيم) وسماها مباركة فقال تعالى (إنا أنزلناه في
ليلة مباركة إنا كنا منذرين) وهي ليلة القدر بدليل قوله سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقال
تعالى (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن) يروي أن جبريل نزل به من بيت العزة إلى
السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة وهي
باقية لم ترفع لما روى أبو ذر قال قلت يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم
القيامة، قال " باقية إلى يوم القيامة " قلت في رمضان أو في غيره؟ قال " في رمضان " فقلت في العشر الأول
أو الثاني أو الآخر؟ فقال " في العشر الآخر " وأكثر أهل العلم على أنها في رمضان وكان ابن مسعود
113

يقول من يقم الحول يصبها يشير إلى أنها في السنة كلها وفي كتاب الله تعالى ما يبين أنها من رمضان
لأن الله أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان فيجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا
يتناقض الخبران ولان النبي (ص) ذكر أنها في رمضان في حديث أبي ذر قال " التمسوها في العشر الأواخر
في كل وتر " متفق عليه وقال أبي بن كعب: والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان ولكنه كره
أن يخبركم فتتكلوا، إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان وفي العشر الأواخر آكد
وفي ليالي الوتر منه آكد وقال احمد هي في العشر الأواخر في وتر من الليالي لا يخطئ إن شاء الله
كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو سبع
بقين أو تسع بقين " وروى سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرى رؤياكم قد تواطأت على
أنها في العشر الأواخر فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها " متفق عليه وقالت عائشة: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر، متفق
عليه قالت: وكان يجتهد في العشر الأواخر: مالا يجتهد في غيرها. وقال علي رضي الله عنه. إن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر: وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في
العشر الأواخر من رمضان. وفي لفظ للبخاري " تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان
وكل هذه الأحاديث صحيحة
(فصل) واختلف أهل العلم في أرجئ هذه الليالي فقال أبي بن كعب وعبد الله بن عباس هي
114

ليلة سبع وعشرين قال زرين بن حبيش قلت لأبي بن كعب أما علمت أبا المنذر انها ليلة سبع وعشرين؟
قال بلى أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا
وحفظنا والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وانها ليلة سبع وعشرين ولكنه كره أن يخبركم
فتتكلوا، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو ذر في حديث فيه طول ان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يقم في رمضان حتى بقي سبع فقام بهم حتى مضى نحو من ثلث الليل ثم قام بهم في
ليلة خمس وعشرين حتى مضى نحو من شطر الليل حتى كانت ليلة سبع وعشرين فجمع نساءه وأهله
واجتمع الناس قال فقام بهم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح يعني السحور متفق عليه، وحكي عن ابن
عباس أنه قال سورة القدر ثلاثين كلمة السابعة والعشرون منها " هي " (1) وروى أبو داود باسناده عن
معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال ليلة سبع وعشرين، وقيل آكدها ليلة ثلاث وعشرين لأنه
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن أنيس سأله فقال يا رسول الله أني أكون ببادية
يقال لها الوطأة واني بحمد الله أصلي بهم فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد فأصلبها فيها
فقال " انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيها وان أحببت أن تستتم آخرها هذا الشهر فافعل وان أحببت
فكف " فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج الا في حاجة حتى يصلي الصبح فإذا صلى الصبح
كانت دابته بباب المسجد، رواه أبو داود مختصرا، وقيل آكدها ليلة أربع وعشرين لأنه روي عن
115

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليلة القدر أول ليلة من السبع الأواخر " وروي عن بعض الصحابة أنه قال
لم نكن نعد عددكم هذا وإنما كنا نعد من آخر الشهر يعني أن السابعة والعشرين هي أول ليلة من السبع
الأواخر وروى أبو ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان فلم يقم بنا حتى كانت ليلة سبع
بقيت فقام بنا نحوا من ثلث الليل ثم لم يقم ليلة ست فلما كانت ليلة خمس قام بنا النبي صلى الله عليه وسلم نحوا
من نصف الليل فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة فقال " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى
ينصرف كتب له قيام ليلة " فلما كانت ليلة ثلاث قام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح فقلت وما
الفلاح؟ قال السحور وأيقظ في تلك الليلة أهله ونساءه وبناته. رواه سعيد، وقيل آكدها ليلة إحدى
وعشرين لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أريت ليلة القدر ثم أنسيتها فالتمسوها في العشر
الأواخر في الوتر واني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين " قال فجأت سحابة فمطرت حتى
سال سقف المسجد وكان من جريد النخل فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء
والطين حتى رأيت أثر الماء والطين في جبهته، وفي حديث في صبيحة إحدى وعشرين متفق عليه، قال
الترمذي: قد روي أنها ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة
سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين وآخر ليلة، وقال أبو قلابة انها تنتقل في ليالي العشر قال الشافعي
كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل فعلى هذا كانت في السنة التي
رأى أبو سعيد النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ليلة إحدى وعشرين وفي السنة التي أمر عبد الله
ابن أنيس ليلة ثلاثة وعشرين وفي السنة التي رأى أبي بن كعب علامتها ليلة سبع وعشرين وقد ترى
116

علامتها في غير هذه الليالي قال بعض أهل العلم أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها (1)
ويجدوا في العبادة في الشهر كله طمعا في ادراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من
الدعاء في اليوم كله واخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جميعها وأخفى
الاجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل حذرا منهما
(فصل) فاما علامتها فالمشهور فيما ما ذكره أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع
من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها وفي بعض الأحاديث بيضاء مثل الطست وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها "
(فصل) ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء ويدعو فيها بما روي عن عائشة انها قالت يا رسول
الله ان وافقتها يم أدعو قال " قولي اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني "
كتاب الاعتكاف
الاعتكاف في اللغة لزوم الشئ وحبس النفس عليه برا كان أو غيره ومنه قوله تعالى (ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون) وقال (يعكفون على أصنام لهم) قال الخليل: عكف يعكف ويعكف
وهو في الشرع الإقامة في المسجد على صفة نذكرها وهو قربة وطاعة قال الله تعالى (وطهر بيني للطائفين
117

والعاكفين) وقال (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وقالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف
العشر الأواخر، متفق عليه، وروى ابن ماجة في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المعتكف
(هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها " وهذا الحديث ضعيف وفي اسناده
فرقد السنجي، قال أبو داود قلت لأحمد رحمه الله تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال لا الا شيئا
ضعيفا ولا نعلم بين العلماء خلافا في أنه مسنون
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (والاعتكاف سنة الا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به)
لا خلاف في هذه الجملة بحمد الله، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب
على الناس فرضا الا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه، ومما يدل على أنه سنة فعل
النبي صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه تقربا إلى الله تعالى وطلبا لثوابه واعتكاف أزواجه معه وبعده، ويدل على أنه
غير واجب ان أصحابه لم يعتكفوا (1) ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به الا من أراده، وقال عليه السلام " من
أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر. ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة، وأما إذا نذره فيلزمه
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر ان يطيع الله فليطعه " رواه البخاري، وعن عمر إنه قال يا رسول الله اني نذرت
ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه البخاري ومسلم
(فصل) وان نوى اعتكاف مدة لم تلزمه فإن شرع فيها فله اتمامها وله الخروج منها متى شاء،
118

وبهذا قال الشافعي، وقال مالك تلزمه بالنية مع الدخول فيه فإن قطعه لزمه قضاؤه، وقال ابن عبد البر
لا يختلف في ذلك الفقهاء ويلزمه القضاء عند جميع العلماء، قال وان لم يدخل فيه فالقضاء مستحب ومن
العلماء من أوجبه وان لم يدخل فيه، واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف
العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته عائشة فاذن لها فأمرت ببنائها فضرب، وسألت حفصة أن
يستأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت فأمرت ببنائها فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت
ببنائها فضرب قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح دخل معتكفه فلما صلى الصبح انصرف
فبصر بالأبنية فقال " ما هذا؟ " فقالوا بناء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البر أردتن؟
ما أنا بمعتكف " فرجع فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال، متفق على معناه، ولأنها عبادة تتعلق
بالمسجد فلزمت بالدخول فيها كالحج ولم يصنع ابن عبد البر شيئا، وهذا ليس باجماع ولا نعرف هذا
القول عن أحد سواه، وقد قال الشافعي: كل عمل لك ان لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه
فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة، ولم يقع الاجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج
والعمرة وإذا كانت العبادات التي لها أصل في الوجوب لا تلزم بالشروع فما ليس له أصل في الوجوب
أولى، وقد انعقد الاجماع على أن الانسان لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة به فأخرج
بعضه لم تلزمه الصدقة بباقيه وهو نظير الاعتكاف لأنه غير مقدر بالشرع فأشبه الصدقة، وما ذكره
119

حجة عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه ولو كان واجبا لما تركه وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته
وضرب أبنيتهن له ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب ولا أمرن بالقضاء، وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم له لم يكن
واجبا عليه وإنما فعله تطوعا لأنه كان إذا عمل عملا أثبته وكان فعله لقضائه كفعله لأدائه على سبيل
التطوع به لا على سبيل الايجاب كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه له دليل على
عدم الوجوب لتحريم ترك الواجب، وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب لأن قضاء السنن مشروع
فإن قيل إنما جاز تركه ولم يؤمر تاركه من النساء بقضائه لتركهن إياه قبل الشروع قلنا فقد سقط
الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم شروعه فيه فلم يكن القضاء دليلا على الوجوب مع الاتفاق على
انتفائه ولا يصح قياسه على الحج والعمرة لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظمي
ومشقة شديدة وإنفاق مال كثير ففي إبطالهما تضييع لماله وإبطال لاعماله الكثيرة، وقد نهينا عن
إضاعة المال وإبطال الأعمال وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع ولا عمل يبطل فإن
ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل، ولان النسك يتعلق بالمسجد الحرام على
الخصوص والاعتكاف بخلافه
(مسألة) قال (ويجوز بلا صوم الا ان يقول في نذره بصوم)
المشهور من المذهب ان الاعتكاف يصح بغير صوم روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن
120

المسيب وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وطاوس والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى ان
الصوم شرط في الاعتكاف، قال إذا اعتكف يجب عليه الصوم وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس
وعائشة وبه قال الزهري ومالك وأبو حنيفة والليث والثوري والحسن بن حيي لما روي عن عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا اعتكاف إلا بالصوم " رواه الدارقطني، وعن ابن عمر ان عمر جعل عليه أن يعتكف
في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " اعتكف وصم " رواه أبو داود ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم
يكن بمجرده قربة كالوقوف (1)
ولنا ما روى ابن عمر عن عمر أنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في
المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه البخاري، ولو كان الصوم شرطا
لما صح اعتكاف الليل لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة ولأنه
عبادة تصح في الليل فأشبه سائر العبادات ولان إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه
نص ولا اجماع قال سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد عن أبي سهل قال كان على امرأة من أهلي
اعتكاف فسألت عمر بن عبد العزيز فقال ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها فقال الزهري
لا اعتكاف الا بصوم فقال له عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال لا قال فعن أبي بكر؟ قال لا قال
فعن عمر؟ قال لا وأظنه قال فعن عثمان؟ قال لا. فخرجت من عنده فلقيت عطاء وطاوسا فسألتهما فقال
طاوس كان فلان لا يرى عليها صياما إلا أن تجعله على نفسها وأحاديثهم لا تصح أما حديثهم عن عمر
فتفرد به ابن بديل وهو ضعيف قال أبو بكر النيسابوري هذا حديث منكر والصحيح ما رويناه
121

أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما وحديث عائشة موقوف عليها ومن رفعه فقد وهم ولو صح فالمراد
به الاستحباب فإن الصوم فيه أفضل وقياسهم ينقلب عليهم فإنه لبث في مكان مخصوص فلم يشترط
له الصوم كالوقوف ثم نقول بموجبه فإنه لا يكون قربة بمجرده بل بالنية، إذا ثبت هذا فإنه يستحب
أن يصوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف وهو صائم ولان المعتكف يستحب له التشاغل بالعبادات
والقرب والصوم من أفضلها ويتفرغ به مما يشغله عن العبادات ويخرج به من الخلاف
(فصل) إذا قلنا إن الصوم شرط لم يصح اعتكاف ليلة مفردة ولا بعض يوم ولا ليلة وبعض
يوم لأن الصوم المشترط لا يصح في أقل من يوم ويحتمل أن يصح في بعض اليوم، إذا صام اليوم كله
122

لأن الصوم المشروط وجد في زمن الاعتكاف ولا يعتبر وجود المشروط في زمن الشرط كله
(مسألة) قال (ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه)
يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام
فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيرا
مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه ولا
يصح لاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا والأصل
في ذلك قول الله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) فخصها بذلك فلو صح
الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا وفي حديث
123

عائشة قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل
البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا، وروى الدارقطني باسناده عن الزهري عن عروة وسعيد بن المسيب عن
عائشة في حديث وان السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الانسان ولا اعتكاف إلا في مسجد
جماعة فذهب أبو عبد الله إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه ولا يجوز في غيره
وروي عن حذيفة وعائشة والزهري ما يدل على هذا واعتكف أبو قلابة وسعيد بن جبير في مسجد
حيهما وروي عن عائشة والزهري أنه لا يصح الا في مساجد الجماعات وهو قول الشافعي إذا كان
اعتكافه يتخلله جمعة لئلا يلتزم الخروج من معتكفه لما يمكنه التحرز من الخروج إليه وروي عن حذيفة
وسعيد بن المسيب لا يجوز الاعتكاف الا في مسجد نبي (1) وحكي عن حذيفة ان الاعتكاف لا يصح
الا في أحد المساجد الثلاثة قال سعيد حدثنا مغيرة عن إبراهيم قال دخل حذيفة مسجد الكوفة فإذا
هو بأبنية مضروبة فسأل عنها فقيل قوم معتكفون فانطلق إلى ابن مسعود فقال ألا تعجب من قوم
يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الأشعري؟ فقال عبد الله فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا
ونسيت، فقال حذيفة لقد علمت ما الاعتكاف الا في ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى
ومسجد رسول الله (ص) وقال مالك يصح الاعتكاف في كل مسجد لعموم قوله تعالى (وأنتم
124

عاكفون في المساجد) وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة
ولنا قول عائشة: من السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الانسان ولا اعتكاف الا في مسجد
جماعة. وقد قيل إن هذا من قول الزهري وهو ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفما كان
وروى سعيد حدثنا هشيم أنبأنا جرير عن الضحاك عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مسجد
له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح " ولان قوله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد) يقتضي
إباحة الاعتكاف في كل مسجد الا أنه يقيد بما تقام فيه الجماعة بالاخبار والمعنى الذي ذكرناه ففيما
عداه يبقى على العموم وقول الشافعي في اشتراطه موضعا تقام فيه الجمعة لا يصح للاخبار ولان الجمعة
لا تتكرر فلا يضر وجوب الخروج إليها كما لو اعتكفت المرأة مدة يتخللها أيام حيضها وكان الجامع
تقام فيه الجمعة وحدها ولا يصلى فيه غيرها لم يجز الاعتكاف فيه ويصح عند مالك والشافعي ومبنى
الخلاف على أن الجماعة واجبة عندنا فيلتزم الخروج من معتكفه إليها فيفسد اعتكافه
وعندهم ليست واجبة
(فصل) وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم جاز في كل مسجد لعدم
المانع وان كانت تقام فيه في بعض الزمان جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره وإن كان المعتكف
ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور ومن هو في قرية لا يصلي فيها سواه جاز اعتكافه في كل مسجد
125

لأنه لا تلزمه الجماعة فأشبه المرأة وان اعتكف اثنان في مسجد لا تقام فيه جماعة فأقاما الجماعة فيه صح
اعتكافهما لأنهما أقاما الجماعة فأشبه ما لو أقامها فيه غيرهما
(فصل) وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها
وبهذا قال الشافعي وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة والثوري لها الاعتكاف في مسجد
بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكي عن
أبي حنيفة أنها لا تصح اعتكافها في مسجد الجماعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى
أبنية أزواجه فيه وقال " البرتردن؟ " ولان مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكان موضع اعتكافها
كالمسجد في حق الرجل
ولنا قوله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد) والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع
صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وان سمي مسجدا كان مجازا فلا يثبت له أحكام
المساجد الحقيقية كقول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا " ولان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه
في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف
في غيره أفضل لدلهن عليه ونبههن عليه ولان الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل
126

فيشترط في حق المرأة كالطواف وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك
الحال حيث كثرت أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء
المقصد به ولذلك قال " البرتردن؟ " منكرا لذلك أي لم تفعلن ذلك تبررا ولذلك ترك الاعتكاف لظنه أنه يتنافس
في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن ولم يأذن لهن في المسجد
وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه
(فصل) ومن سقطت عنه الجماعة من الرجال كالمريض إذا أحب أن يعتكف في مسجد لا تقام
فيه الجماعة ينبغي أن يجوز له ذلك لأن الجماعة ساقطة عنه فأشبه المرأة، ويحتمل أن لا يجوز له ذلك
لأنه من أهل الجماعة فأشبه من تجب عليه ولأنه إذا التزم الاعتكاف وكلفه نفسه فينبغي أن يجعله في
مكان تصلى فيه الجماعة ولان من التزم ما لا يلزمه لا يصح بدون شروطه كالمتطوع بالصوم والصلاة
(فصل) وإذا اعتكفت المرأة في المسجد استحب لها أن تستتر بشئ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
127

لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربن في المسجد ولان المسجد يحضره الرجال وخير لهم وللنساء
128

أن لا يرونهن ولا يرينهم وإذا ضربت بناء جعلته في مكان لا يصلي فيه الرجال لئلا تقطع صفوفهم
129

ويضيق عليهم، ولا بأس أن يستتر الرجل أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببنائه فضرب ولأنه أستر له
130

وأخفى لعمله. وروى ابن ماجة عن أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية على سدتها
131

قطعة حصير، قال فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبلة ثم أطلع رأسه فكلم الناس والله أعلم
(مسألة) قال (ولا يخرج منه إلا لحاجة الانسان أو صلاة الجمعة)
وجملة ذلك أن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لابد له منه، قالت عائشة رضي الله
عنها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لابد له منه رواه أبو داود، وقالت أيضا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان متفق عليه،
ولا خلاف في أن له الخروج لما لابد له منه. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج
من معتكفه للغائط والبول ولان هذا مما لابد منه ولا يمكن فعله في المسجد، فلو بطل الاعتكاف
بخروجه إليه لم يصح لاحد الاعتكاف ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، وقد علمنا أنه كان يخرج
لقضاء حاجته، والمراد بحاجة الانسان البول والغائط كنى بذلك عنهما لأن كل انسان يحتاج إلى
132

فعلهما، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله الخروج إليه إذا
احتاج إليه، وإن بغته القئ فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل مالا بد له منه، ولا يمكن فعله في
المسجد فله الخروج إليه ولا يفسد اعتكافه وهو عليه ما لم يطل، وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله
تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة، ويلزمه السعي إليها
فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي لا يعتكف في غير الجامع إذا
كان اعتكافه يتخلله جمعة، فإن نذر اعتكافا متتابعا فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه وعليه
الاستئناف لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه فبطل بالخروج كالمكفر إذا ابتدأ صوم الشهرين
المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة
ولنا انه خرج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة، وكالخارج لانقاذ غريق
أو اطفاء حريق أو أداء شهادة تعينت عليه، ولأنه إذا نذر أياما فيها جمعة فكأنه استثنى الجمعة بلفظه
ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها والأصل غير مسلم
إذا ثبت هذا فإنه إذا خرج لواجب فهو على اعتكافه ما لم يطل لأنه خروج لما لابد له منه أشبه
الخروج لحاجة الانسان، فإن كان خروجه لصلاة الجمعة فله أن يتعجل، قال أحمد أرجو أن له ذلك
لأنه خروج جائز فجاز تعجيله كالخروج لحاجة الانسان، وإذا صلى الجمعة فإن أحب أن يعتكف في
الجامع فله ذلك لأنه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه فمع عدم ذلك أولى،
133

وكذلك أن دخل في طريقه مسجدا فأتم اعتكافه فيه جاز لذلك، وان أحب الرجوع إلى معتكفه فله
ذلك لأنه خرج من معتكفه فكان له الرجوع إليه كما لو خرج إلى غير الجمعة، قال بعض أصحابنا: يستحب
له الاسراع إلى معتكفه، وقال أبو داود قلت لأحمد يركع أعني المعتكف يوم الجمعة بعد الصلاة في
المسجد؟ قال نعم يقدر ما كان يركع، ويحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الرجوع وتأخيره لأنه
في مكان يصلح للاعتكاف فأشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه، فأما ان خرج ابتداء إلى مسجد آخر
أو إلى الجامع من غير حاجة أو كان المسجد أبعد من موضع حاجته فمضى إليه لم يجز له ذلك لأنه خروج
لغير حاجة أشبه ما لو خرج إلي غير المسجد، فإن كان المسجدان متلاصقين يخرج من أحدهما فيصير
في الآخر فله الانتقال من أحدهما إلى الآخر لأنهما كمسجد واحد ينتقل من إحدى زاويتيه إلى
الأخرى، وإن كان يمشي بينهما في غيرهما لم يجز له الخروج، وان قرب لأنه خروج من المسجد لغير حاجة واجبة
(فصل) وإذا خرج لما لابد منه فليس عليه أن يستعجل في مشيه بل يمشي على عادته لأن عليه
مشقة في الزامه غير ذلك، وليس له الإقامة بعد قضاء حاجته لاكل ولا لغيره، وقال أبو عبد الله بن
حامد يجوز أن يأكل اليسير في بيته كاللقمة واللقمتين فأما جميع أكله فلا، وقال القاضي يتوجه ان له
الاكل في بيته والخروج إليه ابتداء لأن الاكل في المسجد دناءة وترك للمروءة وقد يخفي جنس قوته
عن الناس وقد يكون في المسجد غيره فيستحي ان يأكل دونه وان أطعمه معه لم يكفهما
134

ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت الا لحاجة الانسان وهذا كناية عن الحدث ولأنه خروج
لما له منه بد أو لبث في غير معتكفه لما له منه بد فأبطل الاعتكاف كمحادثة أهله، وما ذكره القاضي
ليس بعذر يبيح الإقامة ولا الخروج ولو ساغ ذلك لساغ الخروج للنوم وأشباهه
(فصل) وان خرج لحاجة الانسان وبقرب المسجد سقاية أقرب من منزله لا يحتشم من دخولها
ويمكنه التنظف فيها لم يكن له المضي إلى منزله لأن له من ذلك بد وإن كان يحتشم من دخولها أو
فيه نقيصة عليه أو مخالفة لعادته أو لا يمكنه التنظف فيها فله أن يمضي إلى منزله لما عليه من المشقة
في ترك المروءة وكذلك أن كان له منزلان أحدهما أقرب من الآخر يمكنه الوضوء في الأقرب
بلا ضرر فليس له المضي إلى الابعد وان بذل له صديقه أو غيره الوضوء في منزله القريب لم يلزمه
لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من صاحبه قال المروذي سألت أبا عبد الله عن الاعتكاف
في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي؟ قال المسجد الكبير وأرخص لي أن أعتكف في
غيره قلت فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب أو في ذاك الجانب؟ قال في ذاك الجانب هو أصلح
من أجل السقاية، قلت فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ؟ قال إذا كان له حاجة
لا بد له من ذلك، قلت يتوضأ الرجل في المسجد؟ قال لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد
(فصل) إذا خرج لماله منه بد بطل اعتكافه وان قل وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال
135

أبو يوسف ومحمد بن الحسن لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم لأن اليسير معفو عنه بدليل
أن صفية أتت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه فلما قامت لتنقلب خرج معها لقلها ولان اليسير معفو
عنه بدليل ما لو تأنى في مشيه
ولنا أنه خروج من معتكفه لغير حاجة فابطله كما لو أقام أكثر من نصف يوم أما خروج النبي
صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه لم يكن له بد لأنه كان ليلا فلم يأمن عليها ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه
136

تطوعا له ترك جميعه فكان له ترك بعضه ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه وأما المشي فتختلف
فيه طباع الناس وعليه في تغيير مشيه مشقة ولا كذلك هاهنا فإنه لا حاجة به إلى الخروج
(مسألة) قال (ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة الا أن يشترط ذلك)
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم
الاشتراط واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروي عنه ليس له فعله وهو قول عطاء وعروة ومجاهد
والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وروى عنه الأثرم ومحمد بن الحكم أن له أن يعود
المريض ويشهد الجنازة ويعود لي معتكفه وهو قول علي رضي الله عنه وبه قال سعيد بن جبير
والنخعي والحسن لما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد
المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم رواه الإمام أحمد والأثرم وقال
احمد: عاصم بن ضمرة عندي حجة قال احمد يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ويقضي الحاجة
ويعود إلى معتكفه، ووجه الأول ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
137

اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان متفق عليه وعنها رضي الله عنها أنها قالت: السنة على
المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما
لا بد منه. وعنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه
رواهما أبو داود ولان هذا ليس بواجب فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب من أجله كالمشي مع
أخيه في حاجة ليقضيها له. وإن تعينت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد لم يجز الخروج إليها
فإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها وان تعين عليه دفع الميت أو تغسيله جاز أن يخرج له لأن هذا
واجب متعين فيقدم على الاعتكاف كصلاة الجمعة فأما إن كان الاعتكاف تطوعا وأحب الخروج
منه لعيادة مريض أو شهود جنازة جاز لأن كل واحد منهما تطوع فلا يتحتم واحد منهما لكن
الأفضل المقام على اعتكافه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج على المريض ولم يكن واجبا عليه فاما ان
خرج لما لا بد منه فسأل عن المريض في طريقه ولم يعرج جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك
(الفصل الثاني) إذا اشترط فعل لك في اعتكافه فله فعله واجبا كان الاعتكاف أو غير
واجب وكذلك ما كان قربة كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم أو شهود جنازة وكذلك ما كان
مباحا مما يحتاج إليه كالعشاء في منزله والمبيت فيه فله فعله قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل
عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله فقال إذا اشترط فنعم قيل له وتجيز الشرط في الاعتكاف؟
قال نعم قلت له فيبيت في أهله؟ قال إذا كان تطوعا جاز وممن أجاز أن يشترط في العشاء في أهله الحسن والعلاء
138

ابن زياد والنخعي وقتادة ومنع منه أبو مجاز ومالك والأوزاعي قال مالك لا يكون في الاعتكاف شرط
ولنا أنه يجب بعقده فكان الشرط إليه فيه كالوقف ولان الاعتكاف لا يختص بقدر فإذا شرط
الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه وان قال متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت جاز شرطه
(فصل) وان شرط الوطئ في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب
بالصناعة في المسجد لم يجز لأن الله تعالى قال (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) فاشتراط
ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف
أولى وسائر ما ذكرناه يشبه ذلك ولا حاجة إليه فإن احتاج إليه فلا يعتكف لأن ترك الاعتكاف
أولى من فعل المنهي عنه قال أبو طالب سألت احمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياط وغيره
قال ما يعجبني أن يعمل قلت إن كان يحتاج قال إن كان يحتاج لا يعتكف
(فصل) إذا خرج لما له منه بد عامدا بطل اعتكافه الا أن يكون اشترط وان خرج ناسيا
فقال القاضي لا يفسد اعتكافه لأنه فعل المنهي عنه ناسيا فلم تفسد العبادة كالأكل في الصوم وقال
ابن عقيل يفسد لأنه ترك للاعتكاف وهو لزوم للمسجد وترك الشئ عمده وسهوه سواء كترك
النية في الصوم فإن أخرج بعض جسده لم يفسد اعتكافه عمدا كان أو سهوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله وهي حائض متفق عليه
(فصل) ويجوز للمعتكف صعود سطح المسجد لأنه من جملته ولهذا يمنع الجنب من اللبث
139

فيه وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا ويجوز أن يبيت فيه وظاهر كلام
الخرقي أن رحبة المسجد منه وليس للمعتكف الخروج إليها لقوله في الحائض يضرب لها
خباء في الرحبة والحائض ممنوعة من المسجد وقد روى عن أحمد ما يدل على هذا وروى عنه
المروذي أن المعتكف يخرج إلى رحبة المسجد هي من المسجد، قال القاضي إن كان عليها حائط
وباب فهي كالمسجد لأنها معه وتابعة له وان لم تكن محوطة لم يثبت لها حكم المسجد فكأنه جمع بين
140

الروايتين وحملهما على اختلاف الحالين فإن خرج إلى منارة خارج المسجد للاذان بطل اعتكافه
141

قال أبو الخطاب ويحتمل أن لا يبطل لأن منارة المسجد كالمتصلة به
(مسألة) قال (ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا)
وجملة ذلك أن الوطئ في الاعتكاف محرم بالاجماع والأصل فيه قول الله تعالى (ولا تباشروهن
وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها) فإن وطئ في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه
باجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر عنهم ولان الوطئ إذا حرم في العبادة أفسدها كالحج والصوم وإن
كان ناسيا فكذلك عند إمامنا وأبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: لا يفسد اعتكافه لأنها مباشرة
142

لا تفسد الصوم فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج
ولنا أن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد ولا يسلم
أنها لا تفسد الصوم ولان المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف الا إذا اقترن بها الانزال، إذ ثبت
هذا فلا كفارة بالوطئ في ظاهر المذهب وهو كلام الخرقي وقول عطاء والنخعي وأهل المدينة
ومالك وأهل العراق والثوري وأهل الشام والأوزاعي ونقل حنبل عن أحمد أن عليه كفارة وهو
قول الحسن والزهري واختيار القاضي لأنه عبادة يفسدها الوطئ لعينه فوجبت الكفارة بالوطئ فيها
كالحج وصوم رمضان
ولنا أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم تجب بافسادها كفارة كالنوافل ولأنها عبادة لا يدخل
المال في جبرانها فلم تجب الكفارة بافسادها كالصلاة ولان وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع ولم
يرد الشرع بايجابها فتبقى على الأصل وما ذكروه ينتقض بالصلاة وصوم غير رمضان والقياس على الحج
لا يصح لأنه مباين لسائر العبادات ولهذا يمضي في فاسده ويلزم بالشروع فيه ويجب بالوطئ فيه
بدنة بخلاف غيره ولأنه لو وجبت الكفارة ههنا بالقياس عليه للزم أن يكون بدنة لأن الحكم في
في الفرع يثبت على صفة الحكم في الأصل إذ كان القياس إنما هو توسعة مجرى الحكم فيصير النص
الوارد في الأصل واردا في الفرع فيثبت فيه الحكم الثابت في الأصل بعينه وأما القياس على الصوم
143

فهو دال على نفي الكفارة لأن الصوم كله لا يجب بالوطئ فيه كفارة سوى رمضان والاعتكاف أشبه
بغير رمضان لأنه نافلة لا يجب الا بالنذر ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضا لأن الوطئ فيه إنما
أوجب الكفارة لحرمة الزمان ولذلك يجب على كل من لزمه الامساك وإن لم يفسد به صوما
واختلف موجبو الكفارة فيها فقال القاضي: يجب كفارة الظهار وهو قول الحسن والزهري،
وظاهر كلام احمد في رواية حنبل فإنه روى عن الزهري أنه قال: من أصاب في اعتكافه فهو كهيئة
المظاهر ثم قال عبد الله إذا كان نهارا وجبت عليه الكفارة ويحتمل ان أبا عبد الله إنما أوجب عليه
الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان لأنه اعتبر ذلك في النهار لأجل الصوم ولو كان لمجرد الاعتكاف
لما اختص الوجوب بالنهار كما لم يختص الفساد به وحكي عن أبي بكر أن عليه كفارة يمين ولم أر هذا
عن أبي بكر في كتاب الشافي ولعل أبا بكر إنما أوجب عليه كفارة في موضع تضمن الافساد الاخلال
بالنذر فوجبت لمخالفة نذره وهي كفارة يمين فاما في غير ذلك فلا لأن الكفارة إنما تجب بنص أو
اجماع أو قياس وليس هاهنا نص ولا اجماع ولا قياس فإن نظير الاعتكاف الصوم ولا يجب بافساده
كفارة إذا كان تطوعا ولا منذورا ما لم يتضمن الاخلال بنذره فيجب به كفارة يمين كذلك هذا
(فصل) فأما المباشرة دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو
144

تفليه أو تناوله شيئا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله،
وان كانت عن شهوة فهي محرمة لقول الله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ولقول
عائشة: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها، رواه
أبو داود، ولأنه لا يأمن افضاءها إلى افساد الاعتكاف، وما أفضى إلى الحرام كان حراما، فإن فعل
فأنزل فسد اعتكافه، وان لم ينزل لم يفسد وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر
يفسد في الحالين وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل
ولنا انها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة لغير شهوة، وفارق التي
أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا كفارة عليه الا على رواية حنبل
(فصل) وان ارتد فسد اعتكافه لقوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) ولأنه خرج بالردة
عن كونه من أهل الاعتكاف، وان شرب ما أسكره فسد اعتكافه لخروجه عن كونه من أهل المسجد
(فصل) وكل موضع فسد اعتكافه فإن كان تطوعا فلا قضاء عليه لأن التطوع لا يلزم بالشروع
فيه في غير الحج والعمرة، وإن كان نذرا نظرنا فإن كان نذر أياما متتابعة فسد ما مضى من اعتكافه
واستأنف لأن التتابع وصف في الاعتكاف وقد أمكنه الوفاء به فلزمه، وإن كان نذر أياما معينة
كالعشر الأواخر من شهر رمضان ففيه وجهان (أحدهما) يبطل ما مضى ويستأنفه لأنه نذر اعتكافا
متتابعا فبطل بالخروج منه كما لو قيده بالتتابع بلفظه (والثاني) لا يبطل لأن ما مضى منه قد أدى العبادة
فيه أداءا صحيحا فلم يبطل بتركها في غيره كما لو أفطر في أثناء شهر رمضان والتتابع ههنا حصل ضرورة
التعيين، والتعيين مصرح به، وإذا لم يكن بد من الاخلال بأحدهما ففيما حصل ضرورة أولى،
ولان وجوب التتابع من حيث الوقت لا من حيث النذر فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه كصوم
رمضان إذا أفطر فيه، فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه فحسب، وعليه الكفارة على الوجهين جميعا لأنه
145

تارك لبعض ما نذره، وأصل الوجهين فيمن نذر صوما معينا فأفطر في بعضه فإن فيه روايتين
كالمذهبين اللذين ذكرناهما
(فصل) إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما أفسد تتابعه ووجب استئناف الاعتكاف
لاخلاله بالاتيان بما نذره على صفته
(مسألة) قال (وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك اعتكافه فإذا أمن بنى على
ما مضى إذا كان نذر أياما معلومة وقضى ما ترك وكفر كفارة يمين وكذلك في النفير إذا احتيج إليه)
وجملته أنه إذا وقعت فتنة خاف منها على نفسه ان قصد في المسجد أو على ماله نهبا أو حريقا فله
ترك الاعتكاف والخروج لأن هذا مما أباح الله تعالى لأجله ترك الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة
والجماعة فأولى أن يباح لأجله ترك ما أوجبه على نفسه وكذلك إن تعذر عليه المقام في المسجد لمرض
لا يمكنه المقام معه فيه كالقيام المتدارك أو سلس البول أو الاغماء أو لا يمكنه المقام الا بمشقة شديدة
مثل أن يحتاج إلى خدمة وفراش فله الخروج وإن كان المرض خفيفا كالصداع ووجع الضرس (1) ونحوه
فليس له الخروج فإن خرج بطل اعتكافه وله الخروج إلى ما يتعين عليه من الواجب مثل الخروج في
النفير إذا عم أو حضر عدو يخافون كلبه واحتيج إلى خروج المعتكف لزمه الخروج لأنه واجب متعين
فلزم الخروج إليه كالخروج إلى الجمعة وإذا خرج ثم زال عذره نظرنا فإن كان تطوعا فهو مخير ان
شاء رجع إلى معتكفه وان شاء لم يرجع وإن كان واجبا رجع إلى معتكفه فبنى على ما مضى من
اعتكافه ثم لا يخلو النذر من ثلاثة أحوال
(أحدها) أن يكون نذر اعتكافا في أيام غير متتابعة ولا معينة فهذا لا يلزمه قضاء بل يتم ما بقي
عليه لكنه يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله ليكون متتابعا ولا كفارة عليه لأنه أتى بما نذر
على وجهه فلا يلزمه كفارة كما لو لم يخرج
(الثاني) نذر أياما معينة كشهر رمضان فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين بمنزلة تركه المنذور في
وقته ويحتمل أن لا يلزمه كفارة على ما سنذكره إن شاء الله
(الثالث) نذر أياما متتابعة فهو مخير بين البناء والقضاء والتكفير وبين الابتداء ولا كفارة
عليه لأنه يأتي بالمنذور على وجهه فلم يلزمه كفارة كما لو أتى به من غير أن يسبقه الاعتكاف الذي قطعه
وذكر الخرقي مثل هذا في الصيام فقال ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه
فإذا عوفي بنى على ما مضى من صيامه وقضى ما ترك وكفر كفارة وان أحب أتى بشهر متتابع
ولا كفارة عليه وقال أبو الخطاب فيمن ترك الصيام المنذور لعذر فعن أحمد فيه رواية أخرى أنه
146

لا كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد لأن المنذور كالمشروع ابتداء ولو أفطر في رمضان
لعذر لم يلزمه شئ فكذلك وقال القاضي ان خرج لواجب كجهاد تعين أو أداء شهادة واجبة
فلا كفارة عليه لأنه خروج واجب لحق الله تعالى فلم يجب به شئ كالمرأة تخرج لحيضها أو نفاسها
وحمل كلام الخرقي على أنه يبني على ما مضى دون إيجاب الكفارة وظاهر كلام الخرقي أن عليه
الكفارة لأن النذر كاليمين ومن حلف على فعل شئ فحنث لزمته الكفارة سواء كان لعذر أو غيره
وسواء كانت المخالفة واجبة أو لم تكن ويفارق صوم رمضان فإن الاخلال به والفطر فيه لغير عذر
لا يوجب الكفارة ويفارق الحيض فإنه يتكرر ويظن وجوده في زمن النذر فيصير كالخروج لحاجة
الانسان وكالمستثنى بلفظه
(مسألة) (قال والمعتكف لا يتجر ولا يتكسب بالصنعة)
وجملته أن المعتكف لا يجوز له أن يبيع ولا يشتري الا مالا بد له منه قال حنبل سمعت أبا عبد الله
يقول المعتكف لا يبيع ولا يشتري الا مالا بد له منه طعام أو نحو ذلك فاما التجارة والاخذ والعطاء
فلا يجوز شئ من ذلك وقال الشافعي لا بأس أن يبيع ويشتري ويخيط ويتحدث ما لم يكن مأثما
147

ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في
المسجد رواه الترمذي وقال حديث حسن ورأي عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال يا هذا
ان هذا سوق الآخرة فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا. وإذا منع من البيع والشراء في غير
حال الاعتكاف ففيه أولى فاما الصنعة فظاهر كلام الخرقي انه لا يجوز منها ما يكتسب به لأنه بمنزلة
التجارة بالبيع والشراء ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه وقد روى المروزي قال سألت
أبا عبد الله عن المعتكف: ترى له أن يخيط؟ قال لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل وقال القاضي
لا تجوز الخياطة في المسجد سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن قل أو كثر لأن ذلك معيشة أو تشغل عن
الاعتكاف فأشبه البيع والشراء فيه والأولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيرا مثل
أن ينشق قميصه فيخيطه أو ينحل شئ يحتاج إلى ربط فيربطه لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه فجرى
مجرى لبس قميصه وعمامته وخلعهما
(فصل) يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى ونحو ذلك من
الطاعات المحضة ويجتنب مالا يعنيه من الأقوال والافعال ولا يكثر الكلام لأن من كثر كلامه كثر
سقطه وفي الحديث " من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه " ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش
فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشئ من ذلك لأنه لما لم يبطل
بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره وعكسه الوطئ ولا بأس بالكلام لحاجته ومحادثة غيره فإن صفية
زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام
معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " على رسلكما أنها صفية بنت حيي " فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال " ان الشيطان
148

يجرى من الانسان مجرى الدم واني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا " أو قال " شيئا " متفق عليه وقال
علي رضي الله عنه أيما رجل اعتكف فلا يساب ولا يرفث في الحديث ويأمر أهله بالحاجة أي وهو
يمشي ولا يجلس عندهم رواه الإمام أحمد
(فصل) فأما إقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث
ونحو ذلك مما يتعدى نفعه فأكثر أصحابنا على أنه لا يستحب وهو ظاهر كلام أحمد، وقال أبو الحسن
الآمدي في استحباب ذلك روايتان، واختار أبو الخطاب انه مستحب إذا قصد به طاعة الله تعالى
لا المباهاة وهذا مذهب الشافعي لأن ذلك أفضل العبادات ونفعه يتعدى فكان أولى من تركه كالصلاة
واحتج أصحابنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به، ولان
الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد فلم يستحب فيها ذلك كالطواف وما ذكروه يبطل بعيادة المرضى
وشهود الجنازة فعلى هذا القول فعله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف، قال المروذي: قلت
لأبي عبد الله ان رجلا يقرئ في المسجد وهو يريد أن يعتكف ولعله أن يختم في كل يوم فقال إذا فعل هذا
كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب إلي، وسئل أيما أحب إليك: الاعتكاف أو
الخروج إلى عبادان؟ قال ليس يعدل الجهاد عندي شئ، يعني ان الخروج إلى عبادان أفضل من الاعتكاف (1)
(فصل) وليس من شريعة الاسلام الصمت عن الكلام وظاهر الاخبار تحريمه، قال قيس بن
مسلم دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال مالها
لا تتكلم؟ قالوا حجت مصمتة، فقال لها تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من أعمال الجاهلية فتكلمت
رواه البخاري. وروى أبو داود باسناده عن علي رضي الله عنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال " لا صمات يوم إلى الليل " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن صوم الصمت فإن نذر ذلك في
اعتكافه أو غيره لم يلزمه الوفاء به وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم فيه مخالفا لما
روى ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن
يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مره فليتكلم وليستظل
149

وليقعد وليتم صومه " رواه البخاري. ولأنه نذر فعل منهي عنه فلم يلزمه كنذر المباشرة في المسجد
وان أراد فعله لم يكن له ذلك سواء نذره أو لم ينذره، وقال أبو ثور وابن المنذر له فعله إذا كان أسلم
ولنا النهي عنه وظاهره التحريم والامر بالكلام ومقتضاه الوجوب، وقول أبي بكر الصديق
رضي الله عنه ان هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وهذا صريح ولم يخالفه أحد من الصحابة فيما
علمناه، واتباع ذلك أولى
(فصل) ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له فأشبه استعمال
المصحف في التوسد ونحوه، وقد جاء " لا تناظروا بكتاب الله " قيل معناه لا تتكلم به عند الشئ تراه
كأن ترى رجلا قد جاء في وقته فنقول (وجئت على قدر يا موسى) أو نحوه ذكره أبو عبيد نحو هذا المعنى
150

(مسألة) قال (ولا بأس أن يتزوج في المسجد ويشهد النكاح)
وإنما كان ذلك لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب فلم تحرم النكاح كالصوم ولان النكاح
طاعة وحضوره قربة ومدته لا تتطاول فيتشاغل به عن الاعتكاف فلم يكره فيه كتشميت العاطس ورد السلام
(فصل) ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظيف لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجل رأسه وهو معتكف
وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب وليس ذلك بمستحب، قال أحمد لا يعجبني أن يتطيب وذلك
لأن الاعتكاف عبادة تختص مكانا فكان ترك الطيب فيها مشروعا كالحج، وليس ذلك بمحرم لأنه لا يحرم
اللباس ولا النكاح فأشبه الصوم
(فصل) ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد ويضع سفرة يسقط عليها ما يقع منه كيلا يلوث
المسجد ويغسل يده في الطست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز أن يخرج لغسل يده لأن من ذلك بدا
وهل يكره تجديد الطهارة في المسجد؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يكره لأن أبا العالية قال حدثني من
كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم قال أما ما حفظت لكم منه انه كان يتوضأ في المسجد، وعن ابن عمر أنه قال: كان
يتوضأ في المسجد الحرام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء، وعن ابن سيرين قال: كان أبو بكر
وعمر والخلفاء يتوضئون في المسجد، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وابن جريج
(والأخرى) يكره لأنه لا يسلم من أن يبصق في المسجد أو يتمخط والبصاق في المسجد خطيئة ويبل
151

من المسجد مكانا يمنع المصلين من الصلاة فيه، وان خرج من المسجد للوضوء وكان تجديدا بطل لأنه
خروج لما له منه بد وإن كان وضوءا من حدث لم يبطل لأن الحاجة داعية إليه سواء كان في وقت الصلاة
أو قبلها لأنه لابد من الوضوء للمحدث وإنما يتقدم عن وقت الحاجة إليه لمصلحة وهو كونه على وضوء
وربما يحتاج إلى صلاة النافلة به
(فصل) إذا أراد أن يبول في المسجد في طست لم يبح له ذلك لأن المساجد لم تبن لهذا وهو مما
يقبح ويفحش ويستخفى به فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله، وان
أراد الفصد أو الحجامة فيه فكذلك ذكره القاضي لأنه إراقة نجاسة في المسجد فأشبه البول فيه، وان
دعت إليه حاجة كبيرة خرج من المسجد ففعله وان استغنى عنه لم يكن له الخروج إليه كالمرض الذي
يمكن احتماله، وقال ابن عقيل يحتمل أن يجوز الفصد في المسجد في طست بدليل ان المستحاضة يجوز
لها الاعتكاف ويكون تحتها شئ يقع فيه الدم، قالت عائشة اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة
من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي رواه
البخاري. والفرق بينهما ان المستحاضة لا يمكنها التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد
(مسألة) قال (والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة وتفعل كما
فعل الذي خرج لفتنة)
وجملته ان المعتكفة إذا توفى زوجها لزمها الخروج لقضاء العدة، وبهذا قال الشافعي، وقال ربيعة
ومالك وابن المنذر تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه لأن الاعتكاف
المنذور واجب والاعتداد في البيت واجب فقد تعارض واجبان فيقدم أسبقهما
ولنا ان الاعتداد في بيت زوجها واجب فلزمها الخروج إليه كالجمعة في حق الرجل ودليلهم
ينتقض بالخروج إلى الجمعة وسائر الواجبات وظاهر كلام الخرقي انها كالذي خرج لفتنة وانها تبني
وتقضي وتكفر، وقال القاضي لا كفارة عليها لأن خروجها واجب وقد مضى القول فيه
(فصل) وليس للزوجة أن تعتكف الا باذن زوجها ولا للمملوك أن يعتكف الا باذن سيده
لأن منافعهما مملوكة لغيرهما والاعتكاف يفوتها ويمنع استيفاءها وليس بواجب عليهما بالشرع فكان
152

لهما المنع، وأم الولد والمدبر كالقن في هذا لأن الملك باق فيهما فإن أذن السيد والزوج لهما ثم أراد
إخراجهما منه بعد شروعهما فيه فلهما ذلك في التطوع وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة كقولنا
وفي الزوجة ليس لزوجها إخراجها لأنها تملك بالتمليك فالاذن أسقط حقه من منافعها وأذن لها في
استيفائها فلم يكن له الرجوع فيها كما لو أذن لها في الحج فأحرمت به بخلاف العبد فإنه لا يملك بالتمليك
وقال مالك ليس له تحليلهما لأنهما عقدا على أنفسهما تمليك منافع كانا يملكانها لحق الله تعالى فلم يجز
الرجوع فيها كما لو أحرما بالحج باذنهما
ولنا ان لهما المنع منه ابتداء فكان لهما المنع منه دواما واما كالعارية ويخالف الحج لأنه يلزم بالشروع
فيه بخلاف الاعتكاف على ما مضى من الخلاف فيه فإن كان ما أذنا فيه منذورا لم يكن لهما تحليلهما منه
لأنه يتعين بالشروع فيه ويجب اتمامه فيصير كالحج إذا أحرما به فأما ان نذرا الاعتكاف فأراد السيد
والزوج منعهما الدخول فيه نظرت فإن كان النذر باذنهما وكان معينا لم يملكا منعهما منه لأنه وجب
باذنهما، وإن كان بغير إذنهما فلهما منعهما منه لأن نذرهما تضمن تفويت حق غيرهما بغير اذنه
فكان لصاحب الحق المنع منه، وإن كان النذر المأذون فيه غير معين فهل لهما منعهما؟ على وجهين
(أحدهما) لهما ذلك منعهما لأن حقهما ثابت في كل زمن فكان تعيين زمن سقوطه إليهما كالدين
(والثاني) ليس لهما ذلك لأنه وجب التزامه باذنهما فأشبه المعين، وأما المعتق بعضه فإن كان بينه
وبين سيده مهايأة فله أن يعتكف في يومه بغير اذن سيده لأن منافعه غير مملوكة لسيده في هذا اليوم،
وحكمه في يوم سيده حكم القن، فإن لم يكن بينهما مهايأة فلسيده منعه لأن له ملكا في منافعه في كل وقت
(فصل) وأما المكاتب فليس لسيده منعه من واجب ولا تطوع لأنه لا يستحق منافعه وليس
له اجباره على الكسب وإنما له دين في ذمته فهو كالحر المدين
(مسألة) قال (وإذا حاضت المرأة خرجت من المسجد وضربت خباء في الرحبة)
أما خروجها من المسجد فلا خلاف فيه لأن الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد فهو كالجنابة
وآكد منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود وإذا ثبت
هذا فإن المسجد إن لم يكن له رحبة رجعت إلى بيتها فإذا طهرت رجعت فأتمت اعتكافها وقضت
ما فاتها ولا كفارة عليها نص عليه أحمد لأنه خروج معتاد واجب أشبه الخروج للجمعة أو لما لا بد
منه وإن كانت له رحبة خارجة من المسجد يمكن أن تضرب فيها خباءها فقال الخرقي تضرب خباءها
فيها مدة حيضها وهو قول أبي قلابة وقال النخعي تضرب فسطاطها في دارها فإذا طهرت قضت تلك
الأيام وان دخلت بيتا أو سقفا استأنفت وقال الزهري وعمرو بن دينار وربيعة ومالك والشافعي
153

ترجع إلى منزلها فإذا طهرت فلترجع لأنه وجب عليها الخروج من المسجد فلم يلزمها الإقامة في رحبته
كالخارجة لعدة أو خوف فتنة
ووجه قول الخرقي ما روى المقدام بن شريح عن عائشة قالت: كن معتكفات إذا حضن
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باخراجهن من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن.
رواه أبو حفص باسناده وفارق المعتدة فإن خروجها لتقيم في بيتها وتعتد فيه ولا يحصل ذلك مع
الكون في الرحبة وكذلك الخائفة من الفتنة خروجها لتسلم من الفتنة فلا تقيم في موضع لا تحصل
السلامة بالإقامة فيه والظاهر أن اقامتها في الرحبة مستحب وليس بواجب وان لم تقم في الرحبة
ورجعت إلى منزلها أو غيره فلا شئ عليها لأنها خرجت باذن الشرع ومتى طهرت رجعت إلى المسجد
فقضت وبنت ولا كفارة عليها لا نعلم فيه خلافا لأنه خروج لعذر معتاد أشبه الخروج لقضاء الحاجة
وقول إبراهيم تحكم لا دليل عليه
(فصل) فأما المستحاضة فلا تمنع الاعتكاف لأنها لا تمنع الصلاة ولا الطواف وقد قالت
عائشة: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة
وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي أخرجه البخاري، إذا ثبت هذا فإنها تتحفظ وتتلجم لئلا تلوث
المسجد فإن لم يمكن صيانته منها خرجت من المسجد لأنه عذر وخروج لحفظ المسجد من نجاستها
فأشبه الخروج لقضاء حاجة الانسان
(فصل) الخروج المباح في الاعتكاف الواجب ينقسم أربعة أقسام (أحدها) مالا يوجب قضاء
ولا كفارة وهو الخروج لحاجة الانسان وشبهه مما لا بد منه (والثاني) ما يوجب قضاء بلا كفارة وهو
الخروج للحيض (الثالث) ما يوجب قضاء وكفارة وهو الخروج لفتنة وشبهه مما يخرج لحاجة نفسه
(الرابع) ما يوجب قضاء وفي الكفارة وجهان وهو الخروج الواجب كالخروج في النفير أو
العدة ففي قول القاضي لا كفارة عليه لأنه واجب لحق الله تعالى أشبه الخروج للحيض وظاهر كلام
الخرقي وجوبها لأنه خروج غير معتاد فأوجب الكفارة كالخروج لفتنة
(مسألة) (قال ومن نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس)
وهذا قول مالك والشافعي وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنه يدخل معتكفه
قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث وزفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى
الصبح ثم دخل معتكفه متفق عليه ولان الله تعالى قال (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ولا يلزم
الصوم إلا من قبل طلوع الفجر ولان الصوم شرط في الاعتكاف فلم يجز ابتداؤه قبل شرطه
154

ولنا أنه نذر الشهر وأوله غروب الشمس ولهذا تحل الديون المعلقة به ويقع الطلاق والعتاق
المعلقان به ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن الا بذلك ومالا يتم
الواجب الا به فهو واجب كامساك جزء من الليل مع النهار في الصوم (1) وأما الصوم فإن محله النهار فلا
يدخل فيه شئ من الليل في أثنائه ولا ابتدائه الا ما حصل ضرورة بخلاف الاعتكاف وأما الحديث
فقال ابن عبد البر لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما هو في التطوع فمتى شاء دخل وفي
مسئلتنا نذر شهرا فيلزمه اعتكاف شهر كامل ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من
أوله ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع
فجره ويخرج بعد غروب شمسه
(فصل) وان أحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعا ففيه روايتان
(إحداهما) يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين لما روى عن أبي سعيد أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواسط من رمضان حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة
التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال " من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر " متفق عليه
ولان العشر بغير هاء عدد الليالي فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى (وليال عشر) وأول الليالي
العشر ليلة إحدى وعشرين
(والرواية الثانية) يدخل بعد صلاة الصبح قال حنبل قال احمد أحب إلي أن يدخل قبل الليل
ولكن حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه وبهذا قال الأوزاعي
وإسحاق ووجهه ماروت عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه متفق
عليه وإن نذر اعتكاف العشر ففي وقت دخوله الروايتان جميعا
(فصل) ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه نص
عليه احمد وروي عن النخعي وأبي مجلز وأبي بكر بن عبد الرحمن والمطلب بن حنطب وأبي قلابة
أنهم كانوا يستحبون ذلك وروي الأثرم باسناده عن أيوب عن أبي قلابة أنه كان يبيت في المسجد
ليلة الفطر ثم يغدو كما هو إلى العيد وكان يعنى في اعتكافه لا يلقي له حصير ولا مصلى يجلس عليه كان
يجلس كأنه بعض القوم قال فأتيته في يوم الفطر فإذا في حجره جويرية مزينة ما ظننتها الا بعض بناته
فإذا هي أمة له فأعتقها وغذا كما هو إلى العيد. وقال إبراهيم كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر
من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ثم يغدو إلى المصلى من المسجد
(فصل) وإذا نذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأهلة أو ثلاثون يوما وهل يلزمه التتابع على وجهين
بناء على الروايتين في نذر الصوم
155

(أحدهما) لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأنه معنى يصح فيه التفريق فلا يجب فيه التتابع
بمطلق النذر كالصيام
(والثاني) يلزمه التتابع وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال القاضي يلزمه التتابع قولا واحدا لأنه
معنى يحصل في الليل والنهار فإذا أطلقه اقتضى التتابع كما لو حلف لا يكلم زيدا شهرا وكمدة الايلاء والعنة
والعدة وبهذا فارق الصيام فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك وإن كان ناقصا وان اعتكف ثلاثين
يوما من شهرين جاز وتدخل فيه الليالي لأن الشهر عبارة عنهما ولا يجزئه أقل من ذلك وان قال لله
علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو ليالي هذا الشهر لزمه ما نذر ولم يدخل فيه غيره وكذلك إن
قال شهرا في النهار أو في الليل
(فصل) وان قال لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما فعلى قول القاضي يلزمه التتابع وقال أبو الخطاب
لا يلزمه لأن اللفظ يقتضي ما تناوله والأيام المطلقة توجد بدون التتابع فلا يلزمه كما لو قال لله علي أن
أصوم ثلاثين يوما فعلى قول القاضي يدخل فيه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة كما لو نذر شهرا. ومن
لم يوجب التتابع لا يقتضي أن تدخل الليالي فيه الا أن ينويه فإن نوى التتابع أو شرطه لزمه ودخل
الليل فيه ويلزمه ما بين الأيام من الليالي وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه من الليالي
بعدد الأيام إذا كان على وجه الجمع والتثنية يدخل فيه مثله من الليالي والليالي تدخل معها الأيام بدليل
قوله تعالى (آيتك أن لاتكلم الناس ثلاث ليال سويا) وقال في موضع آخر (ثلاثة أيام إلا رمزا)
ولنا أن اليوم اسم لبياض النهار والتثنية والجمع تكرارا للواحد واما تدخل الليالي تبعا لوجوب
التتابع ضمنا وهذا يحصل بما بين الأيام خاصة فاكتفى به وأما الآية فإن الله تعالى نص على الليل في
موضع والنهار في موضع فصارا منصوصا عليهما فإن نذر اعتكاف يومين متتابعين لزمه يومان وليلة
بينهما وان نذر اعتكاف يومين مطلقا فعلى قول القاضي هو كما لو نذرهما متتابعين وكذلك لو نذر
ليلتين لزمه اليوم الذي بينهما وعلى قول أبي الخطاب لا يلزمه التتابع ولا ما بينهما الا بلفظه أو نيته
(فصل) وان نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه ويلزمه ان يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج
منه بعد غروب الشمس وقال مالك يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم كقولنا
في الشهر لأن الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعا
ولنا أن الليلة ليست من اليوم وهي من الشهر قال الخليل اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب
الشمس وإنما دخل الليل في المتتابع ضمنا ولهذا خصصناه بما بين الأيام وان نذر اعتكاف ليلة لزمه
دخول معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر وليس له تفريق الاعتكاف وقال
الشافعي له تفريقه هذا ظاهر كلامه قياسا على تعريف الشهر
156

ولنا أن اطلاق اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه كما لو قال متتابعا وفارق الشهر لأنه اسم لما بين
الهلالين واسم لثلاثين يوما واسم لغير ذلك واليوم لا يقع في الظاهر الاعلى ما ذكرنا وان قال في
وسط النهار لله علي أن أعتكف يوما من وقتي هذا لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله ويدخل
فيه الليل لأنه في خلال نذره فصار كما لو نذر يومين متتابعين وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه ذلك بنذره
فعلمنا أنه أراد ذلك ولم يرد يوما صحيحا
(فصل) وان نذر اعتكافا مطلقا لزمه ما يسمى به معتكفا ولو ساعة من ليل أو نهار (1) الاعلى
قولنا بوجوب الصوم في الاعتكاف فيلزمه يوم كامل. فاما اللحظة ومالا يسمى به معتكفا فلا
يجزئه على الروايتين جميعا
(فصل) ولا يتعين شئ من المساجد بنذره الاعتكاف فيه إلا المساجد الثلاثة وهي المسجد
الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال الا إلى
ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " متفق عليه، ولو تعين غيرها بتعيينه
لزمه المضي إليه واحتاج إلى شد الرحال لقضاء نذره فيه ولان الله تعالى لم يعين لعبادته مكانا فلم يتعين
بتعيين غيره وإنما تعينت هذه المساجد الثلاثة للخبر الوارد فيها ولان العبادة فيها أفضل. فإذا عين
ما فيه فضيلة لزمته كأنواع العبادة وبهذا قال الشافعي في صحيح قوليه وقال في الآخر: لا يتعين المسجد
الأقصى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد
الحرام " رواه مسلم وهذا يدل على التسوية فيما عدا هذين المسجدين لأن المسجد الأقصى لو فضلت
الصلاة فيه على غيره للزم أحد أمرين اما خروجه من عموم هذا الحديث واما كون فضيلته بألف
مختصا بالمسجد الأقصى
ولنا أنه من المساجد التي تشد الرحال إليها فتعين بالتعيين في النذر كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما
ذكروه لا يلزم فإنه إذا فضل الفاضل بألف فقد فضل المفضول بها أيضا
(فصل) وان نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يكن له الاعتكاف فيما سواه لأنه أفضلها ولان
عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " أوف بنذرك " متفق
عليه وان نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام لأنه أفضل منه
ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه وقال قوم مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفن في خير البقاع وقد نقله الله تعالى من مكة
إلى المدينة فدل على أنها أفضل
ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد
157

الحرام " وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " صلاة في المسجد الحرم أفضل من مائة صلاة فيما
سواه " رواه ابن ماجة فيدخل في عمومه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف
صلاة فيما سوى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فاما ان نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في
المسجدين الآخرين لأنهما أفضل منه، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رجال من الأنصار
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس قريبا من
المقام فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا نبي الله إني نذرت لئن فتح الله للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مكة لأصلين
في بيت المقدس واني وجدت رجلا من أهل الشام ههنا في قريش مقبلا معي ومدبرا فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " ههنا فصل " فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ههنا فصل "
ثم قال الرابعة مقالته هذه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمدا بالحق لو صليت
هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس " ومتى نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد فانهدم
معتكفه ولم يمكن المقام فيه لزمه اتمام الاعتكاف في غيره ولم يبطل اعتكافه
(فصل) إذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان صح نذره فإن ذلك ممكن فإن قدم في بعض النهار
لزمه اعتكاف الباقي منه ولم يلزمه قضاء ما فات لأنه فات قبل شرط الوجوب فلم يجب كما لو نذر
اعتكاف زمن ماض لكن إذا قلنا شرط صحة الاعتكاف الصوم لزمه قضاء يوم كامل لأنه لا يمكنه
أن يأتي بالاعتكاف في الصوم فيما بقي من النهار ولا قضاؤه متميزا مما قبله فلزمه يوم كامل ضرورة
كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان ويحتمل أن يجزئه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائما لأنه قد وجد
اعتكاف مع الصوم وان قدم ليلا لم يلزمه شئ لأن ما التزمه بالنذر لم يوجد فإن كان للناذر عذر يمنعه
الاعتكاف عند قدوم من حبس أو مرض قضى وكفر لفوات النذر في وقته ويقضى بقية اليوم
فقط على حسب ما كان يلزم في الأداء في الرواية المنصورة وفي الأخرى يقضي يوما كاملا بناء
على اشتراط الصوم في الاعتكاف
158

كتاب الحج
الحج في اللغة القصد وعن الخليل: قال الحج كثرة القصد إلى من تعظمه. قال الشاعر:
واشهد من عوف حئولا كثيرة * يحجون سب الزبرقان المزعفرا
أي يقصدون والسب العمامة وفي الحج لغتان الحج والحج بفتح الحاء وكسرها والحج في الشرع
اسم لافعال مخصوصة يأتي ذكرها إن شاء الله وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الاسلام
والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) روي عن ابن عباس ومن كفر
باعتقاده انه غير واجب وقال الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله). وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
" بني الاسلام على خمس " وذكر فيها الحج، وروى مسلم باسناده عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت
حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال " ذروني ما تركتكم
فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه
159

ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه " في أخبار كثيرة سوى هذين وأجمعت الأمة على وجوب
160

الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة
(مسألة) قال أبو القاسم (ومن ملك زادا وراحلة وهو بالغ عاقل لزمه الحج والعمرة)
وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط الاسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة
لا نعلم في هذا كله اختلافا فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين وقد روى علي بن أبي طالب عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه
حتى يعقل " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن، وأما العبد فلا يجب عليه لأنه
عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة ويضيع حقوق سيده
المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد، وأما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب
قضاء وغير المستطيع لا يجب عليه لأن الله تعالى خص المستطيع بالايجاب عليه فيختص بالوجوب وقال
الله تعالى (لا يكلف الله نفسه إلا وسعها)
(فصل) وهذه الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو
الاسلام والعقل فلا يجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما لأنهما ليسا من أهل العبادات، ومنها
ما هو شرط للوجوب والاجزاء وهو البلوغ والحرية وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح
161

حجهما ولم يجزئهما عن حجة الاسلام، ومنها ما هو شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة فلو تجشم غير
المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحا مجزئا كما لو تكلف القيام في الصلاة
والصيام من يسقط عنه أجزأه
162

(فصل) واختلفت الرواية في شرطين وهما تخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من عدو
ونحوه وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه فروي أنهما
من شرائط الوجوب فلا يجب الحج بدونهما لأن الله تعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير
163

مستطيع ولان هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطا كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي
وروي أنهما ليسا من شرائط الوجوب وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذه الشروط الخمسة
ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته وان أعسر قبل وجودهما بقي في ذمته وهذا ظاهر
164

كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل ما يوجب الحج قال " الزاد والراحلة "
قال الترمذي هذا حديث حسن وهذا له زاد وراحلة ولان هذا عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب
كالعضب، ولان امكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات بدليل ما لو طهرت الحائض أو بلغ
165

الصبي أو أفاق المجنون ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة
فيجب المصير إلى تفسيره، والفرق بينهما وبين الزاد والراحلة انه يتعذر مع فقدهما الأداء دون
القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع فافترقا
166

(فصل) وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة فلو أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير
سيرا يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر لم يلزمه السعي، وتخلية الطريق هو أن تكون
مسلوكة لا مانع فيها بعيدة كانت أو قريبة برا كان أو بحرا إذا كان الغالب السلامة، فإن لم يكن
167

الغالب السلامة لم يلزمه سلوكه، فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي لا يلزمه السعي
وان كانت يسيرة لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة، وقال ابن حامد إن كان ذلك مما
168

لا يجحف بماله لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع مكان بذلها
كثمن الماء وعلف البهائم
(فصل) والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة (1) وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير
والشافعي وإسحاق، قال الترمذي والعمل عليه عن أهل العلم، وقال عكرمة هي الصحة وقال الضحاك
إن كان شابا فليؤاجر نفسه بأكله وعقه حتى يقضي نسكه، وعن مالك إن كان يمكنه المشي وعادته
سؤال الناس (2) لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة فوجب الرجوع إلى تفسيره فروى الدارقطني
باسناده عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم ان النبي
صلى الله عليه وسلم سئل ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " وروى ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال " الزاد والراحلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن، وروى الإمام
169

أحمد ثنا هشيم عن يونس عن الحسن قال لما نزلت هذه الآية (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) قال رجل يا رسول الله ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة
بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد، وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة
والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه
(فصل) ولا يلزمه الحج ببذل غيره له ولا يصير مستطيعا بذلك سواء كان الباذل قريبا أو
أجنبيا وسواء بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالا وعن الشافعي انه إذا بذل له ولده ما يتمكن به
من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم يوجب الحج الزاد والراحلة يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك
ما يحصل به بدليل ما لو كان الباذل أجنبيا، ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنهما فلم يلزمه الحج
كما لو بذل له والده ولا نسلم انه لا يلزمه منة، ولو سلمنا فيبطل ببذل الوالد وبذل من للمبذول له
على أيادي كثيرة ونعم (1)
(فصل) ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن
يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس استحب
له الحج لقول الله تعالى (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) فقدم ذكر الرجال ولان في ذلك مبالغة في
طاعة الله عز وجل وخروجا من الخلاف، وإن كان يسال الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس
ويحصل كلا عليهم في التزام ما لا يلزمه، وسئل أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة فقال
لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس
(فصل) ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر، فأما القريب
الذي يمكنه المشي فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه كالسعي
170

إلى الجمعة، وإن كان ممن لا يمكنه المشي اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي فهو كالبعيد
وأما الزاد فلابد منه فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج
(فصل) والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب
وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة لا تجحف
بماله لزمه شراؤه، وان كانت تجحف بماله لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء، وإذا كان يجد الزاد في كل
منزلة لم يلزمه حمله وان لم يجده كذلك لزمه حمله، وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل
التي ينزلها على حسب العادة وإلا لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف
الشام ونحوها لأن هذا يشق ولم تجر العادة به، ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطريق،
والطعام بخلاف ذلك، ويعتبر أيضا قدرته على الآلات التي يحتاج إليها كالغرائر ونحوها وأوعية
الماء وما أشبهها لأنه مما لا يستغنى عنه فهو كاعلاف البهائم
(فصل) وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله أما بشراء أو بكراء لذهابه ورجوعه
ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط
أجزأ وجود ذلك وإن كان ممن لم تجر عادته بذلك ويخشى السقوط عنهما اعتبر وجود محمل وما
أشبهه ممالا مشقة في ركوبه ولا يخشى السقوط عنه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي إنما
كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ههنا ما تدفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام
بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله
171

(فصل) ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عن ما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤونتهم في
مضيه ورجوعه لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد وقد روى عبد الله بن عمرو
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كفى بالمرء اثما أن يضيع من يقوت " رواه أبو داود وأن يكون فاضلا
عما يحتاج هو وأهله إليه من سكن وخادم ومالا بد منه وأن يكون فاضلا عن قضاء دينه لأن
قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد ولذلك منع الزكاة مع تعلق
حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها فالحج الذي هو خالص حق الله تعالى أولى وسواء كان الدين
لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها، وان احتاج إلى النكاح
وخاف على نفسه العنت قدم التزويج لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه فهو كنفقته وان لم يخف قدم
الحج لأن النكاح تطوع فلا يقدم على الحج الواجب وان حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح
حجه لأنها متعلقة بذمته فلا تمنع صحة فعله
(فصل) من له عقار يحتاج إليه لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو
عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحا فلم يكفهم أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج وإن كان له من ذلك
شئ فاضل عن حاجته لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه
وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به لزمه وان كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج
172

وان كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغنى بأحدهما باع مالا يحتاج إليه فإن كان له
دين على ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه لأنه قادر وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه لم يلزمه
(فصل) وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين، روى ذلك عن عمر
وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد
والحسن وابن سيرين والشعبي وبه قال الثوري وإسحاق والشافعي في أحد قوليه (والرواية الثانية)
ليست واجبة وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى جابر أن
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال " لا وان تعتمروا فهو أفضل " أخرجه الترمذي وقال هذا
حديث حسن صحيح وعن طلحة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الحج جهاد والعمرة تطوع "
رواه ابن ماجة ولأنه نسك غير موقت فلم يكن واجبا كالطواف المجرد
ولنا قول الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) ومقتضى الامر الوجوب (1) ثم عطفها على الحج
والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه قال ابن عباس انها لقرينة الحج في كتاب الله وعن
الضبي بن معبد قال أتيت عمر فقلت يا أمير المؤمنين أني أسلمت واني وجدت الحج والعمرة مكتوبين
علي فأهلك بهما فقال عمر هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والنسائي وعن أبي رزين أنه
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال " حج
عن أبيك واعتمر " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح وذكره احمد ثم
قال وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوصني قال " تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر " وروى الأثرم باسناده
عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن
وكان في الكتاب إن العمرة هي الحج الأصغر ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم
173

نعلمه الا ابن مسعود على اختلاف عنه وأما حديث جابر فقال الترمذي قال الشافعي هو ضعيف لا
تقوم بمثله الحجة وليس في العمرة شئ ثابت بأنها تطوع وقال ابن عبد البر: روي ذلك بأسانيد لا
تصح ولا تقوم بمثلها الحجة ثم نحمله على المعهود وهي العمرة التي قضوها حين أحصروا في الحديبية
أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن واجبة على من اعتمر أو نحمله
على ما زاد على العمرة الواحدة وتفارق العمرة الطواف لأن من شرطها الاحرام والطواف بخلافه
(فصل) وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال كان ابن عباس يرى العمرة واجبة
ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت وبهذا قال عطاء وطاوس قال عطاء
ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبان لابد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا إلا أهل
مكة فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها
الطواف بالبيت وهم يفعلونه فأجزأ عنهم وحمل القاضي كلام احمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة
لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج والامر على ما قلناه
(فصل) وتجزئ عمرة المتمتع وعمرة القارن والعمرة من أدنى الحل عن العمرة الواجبة ولا نعلم
في إجزاء عمرة التمتع خلافا كذلك قال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد ولا نعلم عن غيرهم خلافهم
وروي عن أحمد أن عمرة القارن لا تجزئ وهو اختيار أبي بكر وعن أحمد أن العمرة من أدنى الحل
لا تجزئ عن العمرة الواجبة وقال إنما هي من أربعة أميال على أن عمرة القارن لا تجزئ أن
عائشة حين حاضت أعمرها من التنعيم فلو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها
ولنا قول الضبي بن معبد اني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر هديت
لسنة نبيك وهذا يدل على أنه أحرم بهما يعتقد أداء ما كتبه الله عليه منهما والخروج عن عهدتهما
174

فصوبه عمر وقال هديت لسنة نبيك وحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم
حين حلت منهما " قد حللت من حجك وعمرتك " وإنما أعمرها النبي صلى الله عليه وسلم من التنعيم قصدا
لتطيب قلبها وإجابة مسئلتها لا لأنها كانت واجبة عليها ثم إن لم تكن أجزأتها عمرة القران فقد أجزأتها
العمرة من أدنى الحل وهو أحد ما قصدنا الدلالة عليه ولان الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحة
فتجزئه كعمرة المتمتع ولان عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأت كالحج والحج من مكة يجزئ
في حق المتمتع فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى وإذا كان الطواف المجرد يجزئ عن العمرة
في حق المكي فلان تجرئ العمرة المشتملة على الطواف وغيره أولى
(فصل) ولا باس أن يعتمر في السنة مرارا روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس
وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي، وذكر العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين ومالك
وقال النخعي ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله
ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها ولان
النبي صلى الله عليه وسلم قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما متفق عليه وقال علي رضي الله عنه في كل شهر
مرة وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في مسنده وقال عكرمة يعتمر إذا أمكن
الموسى من شعره وقال عطاء إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين فاما الاكثار من الاعتمار والموالاة بينهما
فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه وكذلك قال احمد إذا اعتمر فلابد من أن يحلق
أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة
أيام وقال في رواية الأثرم ان شاء اعتمر في كل شهر وقال بعض أصحابنا يستحب الاكثار من الاعتمار
وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه ولان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما وإنما
175

نقل عنهم انكار ذلك والحق في اتباعهم قال طاوس الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها
أو يعذبون قيل له فلم يعذبون قال لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجئ والى أن
يجئ من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شئ
وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر في أربع سفرات لم يزد في كل سفرة على عمرة واحدة ولا أحد
ممن معه ولم يبلغنا أن أحدا منهم جمع بين عمرتين في سفرة واحد معه الا عائشة حين حاضت فاعمرها من
التنعيم لأنها اعتقدت أن عمرة قرانها بطلت ولهذا قالت يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع
أنا بحجة فأعمرها لذلك ولو كان في هذا فضل لما اتفقوا على تركه
(فصل) وروى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمرة في رمضان تعدل حجة " متفق عليه
قال احمد من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان وقال إسحاق يعني هذا الحديث مثل
ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن " وقال أنس: حج
النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة واعتمر أربع عمر واحدة في ذي القعدة وعمرة الحديبية وعمرة مع حجته
وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين. وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه. وقال أحمد حج النبي
صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قال وروى عن مجاهد أنه قال حج قبل ذلك حجة أخرى وما هو يثبت عندي
وروي عن جابر قال حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر
وهذا حديث غريب
(فصل) وروي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تابعوا بين الحج والعمرة
فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب
إلا الجنة " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله
176

صلى الله عليه وسلم " من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " متفق عليه وهو في الموطأ
(مسألة) قال (فإن كان مريضا لا يرجى برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة
أقام من يحج عنه ويعتمر وقد أجزأ عنه وإن عوفي)
وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس من زواله
كزمانة أو مرض لا يرجى زواله أو كان نضو الخلق لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير
محتملة والشيخ الفاني ومن كان مثله متى وجد من ينوب عنه في الحج ومالا يستنيبه به لزمه ذلك
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه ولا أرى له ذلك لأن
الله تعالى قال (من استطاع إليه سبيلا) وهذا غير مستطيع ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع
القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة
ولنا حديث أبي رزين وروى ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله
على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال " نعم " وذلك
في حجة الوداع متفق عليه وفي لفظ لمسلم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج
177

وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فحجي عنه " وسئل علي رضي الله عنه
عن شيخ لا يجد الاستطاعة قال يجهز عنه ولأن هذه عبادة تجب بافسادها الكفارة فجاز أن يقوم غير
فعله فيها مقام فعله كالصوم إذا عجز عنه افتدى بخلاف الصلاة
(فصل) وإن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح لو لم يجد ما يحج به لم
يجب عليه فالمريض أولى وإن وجد مالا ولم يجد من ينوب عنه فقياس المذهب أنه ينبني على الروايتين
في إمكان المسير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط لزوم السعي فإن قلنا من شرائط لزوم
السعي ثبت الحج في ذمته هذا يحج عنه بعد موته وإن قلنا من شرائط الوجوب لم يجب عليه شئ
(فصل) ومتى أحج هذا عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال
الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر يلزمه لأن هذا بدل اياس فإذا برأ (1) تبينا انه لم يكن مأيوسا منه
فلزمه الأصل كالآيسة إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت لا تجزئها تلك العدة
ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ أو نقول أدى حجة الاسلام بأمر الشارع
فلم يلزمه حج ثان كما لو حج بنفسه ولان هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه ولم يوجب الله عليه إلا
حجة واحدة وقولهم لم يكن مأيوسا من برئه قلنا لو لم يكن مأيوسا منه لما أبيح له أن يستنيب فإنه شرط
178

لجواز الاستنابة أما الآيسة إذا اعتدت بالشهور فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض
ولا يبطل به اعتدادها ولكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا أعتدت سنة ثم عاد حيضها لم
يبطل اعتدادها فاما ان عوفي قبل فراغ النائب من الحج فينبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل
قبل تمام البدل فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها إذا حاضتا قبل اتمام عدتهما بالشهور وكالمتيمم
إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصيام ثم قدر على الهدي، والمكفر
إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل، وان برأ قبل احرام النائب لم يجزئه بحال
(فصل) ومن يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وان
لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له ذلك ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه
والا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه المأيوس من برئه
ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه ان فعل كالفقير وفارق
المأيوس من برئه لأنه عاجز على الاطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولان النص إنما
ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه الا من كان مثله
فعلى هذا إذا استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه فعليه أن يحج عن
نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابة فيها فأشبه الصحيح
179

(فصل) ولا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه اجماعا قال ابن المنذر
أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الاسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزي عنه أن يحج غيره عنه
والحج المنذور كحجة الاسلام في إباحة الاستنابة عند العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة
فأما حج التطوع فينقسم أقساما ثلاثة
(أحدها) أن يكون ممن لم يؤد حجة الاسلام فلا يجوز أن يستنيب في حجة التطوع لأنه لا يصح
أن يفعل بنفسه فبنائبه أولى
(الثاني) أن يكون ممن قد أدى حجة الاسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيصح أن يستنيب
في التطوع فإن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله كالصدقة
(الثالث) أن يكون قد أدى حجة الاسلام وهو قادر على الحج بنفسه فهل له أن يستنيب في
حج التطوع؟ فيه روايتان
(إحداهما) يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب
(والثانية) لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز ان يستنيب فيه كالفرض
(فصل) فإن كان عاجزا عنه عجزا مرجو الزوال كالمريض مرضا يرجى برؤه والمحبوس جاز له
أن يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز له أن يستنيب فيه كالشيخ الكبير،
والفرق بينه وبين الفرض أن الفرض عبادة العمر فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع
في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره ولان حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل بعد موته
وحج التطوع لا يفعل فيفوت
(فصل) وفي الاستئجار على الحج والاذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه مما يتعدى نفعه ويختص
فاعل أن يكون من أهل القربة روايتان
(إحداهما) لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق والأخرى يجوز وهو مذهب مالك
والشافعي وابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أحق ما أخذتم عليه اجرا كتاب الله " رواه البخاري
180

وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجعل إلى الرقية بكتاب الله وأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصوبهم فيه ولأنه
يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ووجه الرواية الأولى أن عبادة ابن
الصامت كان يعلم رجلا القرآن فأهدى له قوسا فسال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له " ان سرك أن
تتقلد قوسا من نار فتقلدها " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص " واتخذ مؤذنا لا يأخذ على
أذانه أجرا " ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة
والصوم وأما الأحاديث التي في أخذ الجعل والأجرة فإنما كانت في الرقية وهي قضية في عين فتختص
بها وأما بناء المساجد فلا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة ويجوز أن يقع قربة وغير قربة فإذا
وقع بأجرة لم يكن قربة ولا عبادة ولا يصح ههنا أن يكون غير عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة
فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جوار أخذ الأجرة
بدليل القضاء والشهادة والإمامة يؤخذ عليها الرزق من بيت المال وهو نفقة في المعنى ولا يجوز أخذ الأجرة
عليها وفائدة الخلاف أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون إلا نائبا محضا وما يدفع إليه من المال
يكون نفقة لطريقه فلو مات أو أحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق نص عليه
احمد لأنه انفاق باذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم يفسد وإذا ناب عنه
آخر فإنه يحج من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لأنه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه
فلم يكن عليه الانفاق دفعة أخرى كما لو خرج بنفسه فمات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث
انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه وينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير
181

اسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشئ منه إلا أن يؤذن له في ذلك قال احمد في الذي يأخذ دراهم
للحج لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف، وقال في رجل أخذ حجة عن ميت ففضلت معه فضلة
يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر مالا يكون سرفا ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال أما إذا أعطي ألف درهم
أو كذا وكذا فقيل له حج بهذه فله أن يتوسع فيها وإن فضل شئ فهو له وإذا قال الميت حجوا عني
حجة بألف درهم فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا يجوز الاستئجار
على الحج جاز أن يقع الدفع إلى النائب من غير استئجار فيكون الحكم فيه على ما مضى وإن استأجره
ليحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الإجارة وما يأخذه أجرة له
يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع به في النفقة وغيرها وما فضل فهو له وان أحصر أو ضل الطريق
أو ضاعت النفقة منه فهو في ضمانة والحج عليه وان مات انفسخت الإجارة لأن المعقود عليه تلف
فانفسخ العقد كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون الحج أيضا من موضع بلغ إليه النائب وما لزمه
من الدماء فعليه لأن الحج عليه
(فصل) فاما النائب غير المستأجر فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن
له في الجناية فكان موجبها عليه كما لو لم يكن نائبا ودم المتعة والقران إن أذن له في ذلك على المستنيب
لأنه أذن في سببهما وان لم يؤذن له فعليه لأنه كجنايته ودم الاحصار على المستنيب لأنه للتخلص
من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع وان أفسد حجه فالقضاء عليه ويرد ما أخذ لأن الحجة لم تجرئ
182

عن المستنيب لتفريطه وجنايته وكذلك أن فاته الحج بتفريطه وان فات بغير تفريط احتسب له النفقة
لأنه لم يفت بفعله فلم يكن مخالفا كما لو مات وان قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في نفسه كما لو دخل
في حج ظن أنه عليه ولم يكن ففاته
(فصل) وإذا سلك النائب طريقا يمكنه سلوك أقرب منه ففاضل النفقة في ماله وان تعجل عجلة
يمكنه تركها فكذلك وان أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد امكان السفر للرجوع أنفق من مال نفسه
لأنه غير مأذون له فيه فاما من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون له فيه وله نفقة الرجوع
وإن أقام بمكة سنين ما لم يتخذها دارا فإن اتخذها دارا ولو ساعة لم يكن له نفقة رجوعه لأنه صار
بنية الإقامة مكيا فسقطت نفقته فلم تعد وان مرض في الطريق فعاد فله نفقة رجوعه لأنه لا بد له منه
حصل بغير تفريطه فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو أحصر وان قال خفت أن أمرض فرجعت فعليه
الضمان لأنه متوهم وعن أحمد فيمن مرض في الكوفة فرجع يرد ما أخذ وفي جميع ذلك إذا أذن له
في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه
على غيره لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يجز شرطه على
غيره كما لو شرطه على أجنبي
(فصل) يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة، والمرأة عن الرجل والمرأة، في الحج في قول
183

عامة أهل العلم لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل، قال ابن المنذر هذه
غفلة عن ظاهر السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أن تحج عن أبيها وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن
غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه
(فصل) ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا باذنه فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة
فلم تجز عن البالغ العاقل إلا باذنه كالزكاة، فأما الميت فتجوز عنه بغير اذن واجبا كان أو تطوعا لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كل ما
يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به مثل أن يؤمر بحج فيعتمر أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه
يصح عنه من غير اذنه ولا يقع عن الحي لعدم اذنه فيه ويقع عمن فعله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي
عنه وقع عن نفسه كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا، وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به
فأشبه ما لو لم يفعل شيئا
(فصول في مخالفة النائب)
إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم
منه بالحج جاز ولا شئ عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وان أحرم بالحج من مكة فعليه دم
184

لترك ميقاته، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من احرام الحج فيما بين الميقات ومكة، وقال القاضي:
لا يقع فعله عن الآمر ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة
ولنا انه إذا أحرم من الميقات فقد أتى بالحج صحيحا من ميقاته وان أحرم به من مكة فما أخل
إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه، وان أمره بالافراد فقرن
لم يضمن شيئا وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يضمن لأنه مخالف
ولنا انه أتى بما أمر به وزيادة فصح ولم يضمن كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى شاتين
تساوي إحداهما دينارا، ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها فلا شئ عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها
(فصل) وان أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالاحرام
بالحج من مكة فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد انه لا يرد شيئا من النفقة وهو مذهب الشافعي
وقال القاضي يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمرة مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك
وفوته عليه، وان أفرد وقع عن المستنيب أيضا ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالاحرام بالعمرة من
الميقات وقد أمره به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئا
(فصل) فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر
185

ما ترك من احرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما
دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره
(فصل) وان استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة وأذنا له في القران ففعل جاز لأنه نسك
مشروع، وان قرن من غير اذنهما صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها لأنه جعل
السفر عنهما بغير إذنهما، وان أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده، وقال
القاضي إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد ولم يأت به فكان مخالفا كما لو أمر بحج فاعتمر
ولنا انه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لا في أصله فأشبه من أمر بالتمتع فقرن، ولو أمر
بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك ودم القران على النائب إذا لم
يؤذن له فيه لعدم الاذن في سببه وعليهما ان أذنا لوجود الاذن في سببه، ولو أذن أحدهما دون الآخر
فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب
(فصل) وان أمر بالحج فحج ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه صح
ولم يرد شيئا من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه، وان أمره بالاحرام من ميقات فأحرم من غيره
جاز لأنهما سواء في الاجزاء، وان أمره بالاحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل،
وان أمره بالاحرام من الميقات فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر، وان أمره بالحج في سنة أو
بالاعتمار في شهر ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة
186

(فصل) فإن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه
عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه، وان أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن
187

نفسه ولم ينوها فمع نيته أولى، وان أحرم عن أحدهما غير معين احتمل أن يقع عن نفسه أيضا لأن
أحدهما ليس أولى من الاخر فأشبه ما لو أحرم عنهما واحتمل أن يصح لأن الاحرام يصح
188

بالمجهول فصح عن المجهول والا صرفه إلى من شاء منهما اختاره أبو الخطاب، فإن لم يفعل حتى
طاف شوطا وقع عن نفسه ولم يكن إلا صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع من غير معين
189

(مسألة) قال (وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل)
ظاهر هذا ان الحج لا يجب على المرأة التي لا محرم لها لأنه جعلها بالمحرم كالرجل في وجوب الحج
فمن لا محرم لها لا تكون كالرجل فلا يجب عليها الحج وقد نص عليه أحمد فقال أبو داود: قلت
لأحمد امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج؟ قال لا، وقال أيضا المحرم من السبيل،
وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن أحمد ان المحرم من شرائط
لزوم السعي دون الوجوب فمتى فاتها الحج بعد كمال الشرائط الخمس بموت أو مرض لا يرجى برؤه
أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة به قد كملت وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان
المسير، وعنه رواية ثالثة ان المحرم ليس بشرط في الحج الواجب، قال الأثرم سمعت أحمد يسأل هل
يكون الرجل محرما لام امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها
مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا، والمذهب الأول وعليه العمل، وقال ابن سيرين
ومالك والأوزاعي والشافعي ليس المحرم شرطا في حجها بحال، قال ابن سيرين تخرج مع رجل من
المسلمين لا بأس به، وقال مالك تخرج مع جماعة النساء. قال الشافعي تخرج مع حرة مسلمة ثقة وقال
الأوزاعي تخرج مع قوم عدول تتخذ سلما تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل إلا أنه يأخذ رأس البعير
190

وتضع رجله على ذراعه. قال ابن المنذر تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطا
لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة. وقال لعدي بن حاتم
يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله. ولأنه سفر واجب فلم
يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار
ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم " وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يخلون
رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم " فقام رجل فقال يا رسول الله
اني كنت في غزوة كذا وانطلقت امرأتي حاجة فقال البني صلى الله عليه وسلم " انطلق فاحجج مع امرأتك "
متفق عليهما. وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوا من حديث أبي هريرة. قال أبو عبد الله أما أبو هريرة
فيقول يوما وليلة. ويروى عن أبي هريرة لا تسافر سفرا أيضا. وأما حديث أبي سعيد يقول ثلاثة
أيام، قلت ما تقول أنت؟ قال لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا الا مع ذي محرم. وروى الدارقطني
باسناده عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تحجن امرأة الا ومعها ذو محرم " وهذا صريح في الحكم
ولأنها أنشأت سفرا في دار الاسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع. وحديثهم محمول على الرجل
بدليل انهم اشترطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا
أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل. ويحتمل انه أراد ان الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال
191

بقية الشروط ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وامكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشترط مالك
امكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم في محل النزاع شرطا
من عند نفسه لا من كتاب ولا من سنة فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض
فحديثنا أخص وأصح وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم
يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها وقد اشترطوا ههنا خروج غيرها معها. وأما
الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك
تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا
(فصل) والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها
من نسب أو رضاع لما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا الا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها "
رواه مسلم قال احمد ويكون زوج أم المرأة محرما لها يحج بها، ويسافر مع أم ولد جده فإذا كان
أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته يكون محرما لها في حج الفرض دون غيره قال
الأثرم كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله (ولا يبدين زينتهن) الآية فاما من تحل له في حال كعبدها
192

وزوج أختها فليسا بمحرم لها نص عليه احمد لأنهما غير مأمونين عليها ولا تحرم عليهما على التأبيد
فهما كالأجنبي وقد روي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سفر المرأة مع عبدها ضيعة "
أخرجه سعيد وقال الشافعي عبدها محرم لها لأنه يباح له النظر إليها فكان محرما لها كذي رحمها
والأول أولى ويفارق ذا الرحم لأنه مأمون عليها وتحرم عليه على التأبيد وينتقض ما ذكروه بالقواعد
من النساء وغير أولي الإربة من الرجال وأما أم الموطوءة بشبهة أو المزني بها أو ابنتهما فليس بمحرم لهما
لأن تحريمهما بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثابت باللعان وليس له الخلوة بهما
ولا النظر إليهما لذلك والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته قال احمد في يهودي أو نصراني
أسلمت ابنته لا يزوجها ولا يسافر معها ليس هو لها بمحرم وقال أبو حنيفة والشافعي هو محرم لها لأنها
محرمة عليه على التأبيد
ولنا أن اثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل
ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل وما ذكروه يبطل بأم المزني بها وابنتها والمحرمة باللعان
وبالمجوسي مع ابنته ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف فإنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها نص عليه
193

احمد في مواضع ويشترط في المحرم أن يكون بالغا عاقلا قيل لأحمد فيكون الصبي محرما قال لا حتى
يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل إلا
من البالغ العاقل فاعتبر ذلك
(فصل) ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه احمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة
فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زادا وراحلة لها ولمحرمها فإن امتنع محرمها من الحج معها مع بذلها
له نفقته فهي كمن لا محرم لها لأنها لا يمكنها الحج بغير محرم وهل يلزمه اجابتها إلى ذلك؟ على روايتين
نص عليهما والصحيح أنه لا يلزمه الحج معها لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة فلا تلزم أحدا
لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة
(فصل) وإذا مات محرم المرأة في الطريق قال احمد إذا تباعدت مضت فقضت الحج قيل له
قدمت من خراسان فمات وليها ببغداد فقال تمضي إلى الحج وإذا كان الفرض خاصة فهو آكد ثم
قال لا بدلها من أن ترجع وهذا لأنها لابد لها من السفر بغير محرم فمضيها إلى قضاء حجها أولى لكن
إن كان حجها تطوعا وأمكنها الإقامة في بلد فهو أولى من سفرها بغير محرم
(فصل) وليس للرجل منع امرأته من حجة الاسلام وبهذا قال النخعي وإسحاق وأبو ثور
وأصحاب الرأي وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر له منعها منه بناء على أن الحج على التراخي
ولنا أنه فرض فلم يكن له منعها منه كصوم رمضان والصلوات الخمس ويستحب أن تستأذنه
في ذلك نص عليه احمد فإن أذن والا خرجت بغير اذنه فأما حج التطوع فله منعها منه قال ابن المنذر
أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج التطوع وذلك لأن حق
الزوج واجب فليس لها تفويته بما ليس بواجب كالسيد مع عبده وليس له منعها من الحج المنذور لأنه
واجب عليها أشبه حجة الاسلام
194

(فصل) ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه احمد قال ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق
المبتوت وذلك لأن لزوم المنزل والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة وقدم على الحج لأنه يفوت والطلاق
المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة وإذا
خرجت للحج فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في منزلها وإن تباعدت مضت في سفرها
ذكره الخرقي في موضع آخر
(مسألة) قال (فمن فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة)
وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجب الحج وجوبا موسعا وله تأخيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر
على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا ولا مشغولا بشئ وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ولأنه إذا
أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له دل على أن وجوبه على التراخي
ولنا قول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقوله (وأتموا الحج
والعمرة لله) والامر على الفور (1) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أراد الحج فليعجل " رواه
الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وفي رواية أحمد وابن ماجة " فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة
وتعرض الحاجة " قال أحمد ورواه الثوري ووكيع عن أبي إسرائيل عن فضيل بن عمرو عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس عن أخيه الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا "
قال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال، وروى سعيد بن منصور باسناده عن
عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يحج حجة الاسلام لم يمنعه مرض
حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا " وعن عمر نحوه
من قوله، وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولأنه أحد أركان الاسلام فكان واجبا
على الفور كالصيام، ولان وجوبه بصفة التوسع بخروجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر إلى غير غاية
ولا يأتم بالموت قبل فعله لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله،
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع فيحتمل انه كان له عذر من عدم الاستطاعة
أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي أن لا يحج بعد العام
مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويحتمل أنه اخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في
السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ويصادف وقفة الجمعة ويكمل
الله دينه ويقال إنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين ولم يجتمع قبله ولا بعده فاما تسمية فعل الحج
195

قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم) وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور
تسمية القضاء فإن الزكاة تجب على الفور ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا
أخره لا يسمى قضاء القضاء ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة أخرى لم يجز له تأخيره
فلو أخره لا يسمى قضاء
إذا ثبت هذا عدنا إلى شرح مسألة الكتاب فنقول متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج
وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال
الحسن وطاوس والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا
قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة
ولنا ما روى ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال " حجي عن
أبيك " وعنه أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال " أرأيت
لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه " قال نعم قال " فاقضوا دين الله فهو أحق بالقضاء " رواهما
النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدين ويخرج عليه الصلاة فإنها
لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج في القضاء فإنها واجبة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يحج عن
أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر فكان من جميع المال كدين الآدمي
(فصل) ويستناب من يحج عنه من حيث عليه اما من بلده أو من الموضع الذي أيسر
فيه وبهذا قال الحسن وإسحاق ومالك في النذر وقال عطاء في الناذر ان لم يكن نوى مكانا فمن
ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الاسلام يستأجر من يحج عنه من الميقات
لأن الاحرام لا يجب من دونه
ولنا أن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على وفق
الأداء كقضاء الصلاة والصيام وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء فإن كان له وطنان استنيب من
أقربهما فإن وجب عليه الحج من بخراسان ومات ببغداد أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان فقال احمد
يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل ان يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حيا
في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه فكذلك نائبه فإن أحج عنه من دون ذلك فقال القاضي
إن كان دون مسافة القصر أجزأه لأنه في حكم القريب وأن كان أبعد لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب
بكماله ويحتمل ان يجزئه فيكون مسيئا كمن وجب عليه الاحرام من الميقات فأحرم من دونه
(فصل) فإن خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب
196

عليه فلم يجب ثانيا وكذلك أن مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك ولو أحرم بالحج ثم مات
صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان احرامه لنفسه أو لغيره نص عليه لأنها عبادة
تدخلها النيابة فإذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة
(فصل) فإن لم يخلف تركة تفي بالحج من بلده حج عنه من حيث تبلغ وإن كان عليه دين
لآدمي تحاصا ويؤخذ للحج حصته فيحج بها من حيث تبلغ وقال احمد في رجل أوصى أن يحج عنه
ولا تبلغ النفقة قال يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم
" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ولأنه قدر على أداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة وعن أحمد
ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة ولم يخلف ما يتم به حجه هل يحج عنه
من المدينة أو من حيث تتم الحجة فقال ما يكون الحج عندي الا من حيث وجب عليه وهذا تنبيه
على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارض بحق
الآدمي المؤكد أولى وأحرى ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجها واحدا لأن حق الآدمي المعين
أولى بالتقديم لتأكده وحقه حق الله تعالى مع أنه لا يمكن أداؤه على الوجه الواجب
(فصل) وأن أوصى بحج تطوع فلم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث بلغ أو يعان
به في الحج نص عليه وقال التطوع ما يبالي من أين كان ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد الا ان
يرضى الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشئ فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث
(فصل) يستحب أن يحج الانسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
أبا رزين فقال " حج عن أبيك واعتمر " وسألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج
قال " حجي عن أبيك " ويستحب البداية بالحج عن الام إن كان تطوعا أو واجبا عليهما نص عليه
احمد في التطوع لأن الام مقدمة في البر، وقال أبو هريرة جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من
أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك "
قال ثم من؟ قال " أبوك " رواه مسلم والبخاري وإن كان الحج واجبا على الأب دونها بدأ به لأنه
واجب فكان أولى من التطوع وروى زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حج الرجل
عن والديه يقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما في السماء وكتب عن الله برا وعن ابن عباس قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما بعث يوم القيمة مع الأبرار " وعن
جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج عن أبيه أو أمه فقد قضي عنه حجته وكان له فضل عشر
حجج " روى ذلك كله الدارقطني
197

(مسألة) قال (ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ وكانت الحجة عن نفسه)
وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الاسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع احرامه عن حجة
الاسلام وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز يقع الحج باطلا ولا يصح
ذلك عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية
فمتى نواه لغيره ولم ينو لنفسه لم يقع عن نفسه وقال الحسن وإبراهيم وأيوب السختياني وجعفر بن
محمد ومالك وأبو حنيفة يجوز ان يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وحكي عن أحمد مثل ذلك وقال
الثوري إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه وان لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره،
واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة
ولنا ما روى ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " من شبرمة؟ " قال قريب لي قال " هل حججت قط؟ " قال لا قال " فاجعل هذه عن
نفسك ثم احجج عن شبرمة " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وهذا لفظه ولأنه حج عن
غيره قبل الحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير
وقد بقي عليه بعضها وههنا لا يجوز ان يحج عن الغير من شرع في الحج قبل اتمامه ولا يطوف عن
198

غيره من لم يطف عن نفسه، إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه
فأشبه ما لو لم يحج
(فصل) وان أحرم بتطوع أو نذر من لم يحج حجة الاسلام وقع عن حجة الاسلام وبهذا
قال ابن عمر وأنس والشافعي وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وابن المنذر يقع ما نواه وهو
رواية أخرى عن أحمد وقول أبي بكر لما تقدم
ولنا أنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوقع فرضه كالمطلق ولو أحرم بتطوع وعليه منذورة
وقعت عن المنذورة لأنها واجبة فهي كحجة الاسلام والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين
فأشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة
الاسلام وقعت عن حجة الاسلام لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه وان استناب رجلين في حجة
الاسلام ومنذور أو تطوع فأيهما سبق بالاحرام وقعت حجته عن حجة الاسلام وتقع الأخرى
تطوعا أو عن نذر لأنه لا يقع الاحرام عن غير حجة الاسلام ممن هي عليه فكذلك من نائبه
(فصل) إذا كان الرجل قد أسقط فرض أحد النسكين عنه دون الآخر جاز أن ينوب عن
غيره فيما أدى فرضه دون الآخر وليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا
فرض الحج عن أنفسهما فهما كالحر والبالغ في ذلك وأولى منه ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون
الفرض لأنهما من أهل التطوع دون الفرض ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما
لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه وعلى هذا لا يلزمهما رد ما اخذ لذلك كالبالغ الحر
الذي قد حج عن نفسه
(فصل) إذا أحرم بالمنذورة من عليه حجة الاسلام فوقعت عن حجة الاسلام فالمنصوص عن أحمد
ان المنذورة لا تسقط عنه وهو قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنها حجة واحدة فلا تجرئ عن
حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة ويحتمل أن تجزئ لأنه قد أتى بالحجة ناويا بها نذره فأجزأته
كما لو كان ممن أسقط فرض الحج عن نفسه وقد نقل أبو طالب عن أحمد فيمن نذر أن يحج وعليه
حجة مفروضة فاحرم عن النذر وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شئ آخر وهذا مثل ما لو نذر صوم
يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره على رواية وهذا قول ابن عباس
199

وعكرمة وروى سعيد باسناده عن ابن عباس وعكرمة انهما قالا في رجل نذر أن يحج ولم يكن حج
الفريضة قال يجزئ لهما جميعا، وسئل عكرمة عن ذلك فقال يقضي حجة عن نذره وعن حجة
الاسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر
ومن النذر قال وذكرت قولي لابن عباس فقال أصبت أو أحسنت (مسألة) قال (ومن حج وهو غير بالغ فبلغ أو عبد فعتق فعليه الحج)
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعد بقوله خلافا على أن الصبي إذا حج
في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد ان عليهما حجة الاسلام إذا وجدا
إليها سبيلا، وكذلك قال ابن عباس وعطاء والحسن والنخعي والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وأصحاب الرأي. قال الترمذي وقد أجمع أهل العلم عليه. وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب
القرظي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا: أيما صبي حج به أهله فمات
أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أعتق فعليه الحج "
رواه سعيد في سننه والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله، ولان الحج عبادة بدنية فعلها قبل وقت
وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت، وكما لو صلى ثم بلغ في الوقت
(فصل) فإن بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة وأتما المناسك
أجزأهما عن حجة الاسلام لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شئ من أركان الحج ولا فعلا شيئا منها قبل
وجوبه، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضا عن حجة الاسلام، كذلك قال ابن عباس
وهو مذهب الشافعي وإسحاق وقاله الحسن في العبد، وقال مالك لا يجزئهما اختاره ابن المنذر.
وقال أصحاب الرأي لا يجزئ العبد، فأما الصبي فإن جدد احراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه
وإلا فلا لأن احرامهما لم ينعقد واجبا فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما
ولنا أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فاجزأه كما لو أحرم تلك الساعة. قال أحمد قال طاوس عن ابن
عباس إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته، فإن أعتق بجمع لم تجرئ عنه، وهؤلاء يقولون
لا تجزئ، ومالك يقول أيضا، وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاما وما أعلم أحدا
200

قال لا يجزئه إلا هؤلاء والحكم فيما إذا أعتق العبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل
طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة،
وإن لم يعودا أو كان ذلك بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الاسلام ويتمان حجهما
تطوعا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليهما لأنهما حجا تطوعا باحرام صحيح من الميقات فأشبها
البالغ الذي يحج تطوعا، فإن قيل فلم لا قلتم إن الوقوف فعلاه يصير فرضا كما قلتم في الاحرام الذي
أحرم به قبل البلوغ يصير بعد بلوغه فرضا؟ قلنا إنما اعتددنا له باحرامه الموجود بعد بلوغه وما قبل بلوغه
تطوع لم ينقلب فرضا ولا اعتد له به فالوقوف مثله، فنظيره أن يبلغ وهو واقف بعرفة فإنه يعتد له بما
أدرك من الوقوف ويصير فرضا دون ما مضى
(فصل) وإذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الاتيان بالحج لزمهما
ذلك لأن الحج واجب على الفور فلا يجوز تأخيره مع امكانه كالبالغ الحر وان فاتهما الحج لزمتهما
العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما سواء
كانا موسرين أو معسرين لأن ذلك وجب عليهما بامكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده.
(فصل) والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق حكم الصبي في جميع ما فصلناه الا أن هذين
لا يصح منهما احرام ولو أحرما لم ينعقد احرامهما لأنهما من غير أهل العبادات ويكون حكمهما حكم من لم يحرم
(فصل) وقد بقي من أحكام حج العبد أربعة فصول (أحدهما) في حكم إحرامه (الثاني) في
حكم نذره للحج (الثالث) في حكم ما يلزمه من الجنايات على احرامه (الرابع) حكم افساده وفواته
(الفصل الأول في احرامه) وليس للعبد ان يحرم بغير اذن سيده لأنه يفوت به حقوق سيده
الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب فإن فعل انعقد احرامه صحيحا لأنها عبادة بدنية فصح من العبد
الدخول فيها بغير اذن سيده كالصلاة والصوم ولسيده تحليله في إحدى الروايتين لأن في بقائه عليه
تفويتا لحقه من منافعه بغير اذنه فلم يلزم ذلك سيده كالصوم المضر ببدنه وهذا اختيار ابن حامد
وإذا حلله منه كان حكمه حكم المحصر (والثانية) ليس له تحليله وهو اختيار أبي بكر لأنه لا يمكنه التحلل
من تطوعه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح لأنه التزم التطوع باختيار نفسه فنظيره أن يحرم عبده
201

باذنه. وفي مسئلتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فاما ان أحرم باذن سيده فليس له تحليله وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه فكان له الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية
ولنا انه عقد لازم عقده باذن سيده فلم يكن لسيده منعه منه كالنكاح ولا يشبه العارية لأنها ليست
لازمة ولو أعاره شيئا ليرهنه فرهنه لم يكن له الرجوع فيه ولو باعه سيده بعد ما أحرم فحكم مشتريه في
تحليله حكم بائعه سواء لأنه اشتراه مسلوب المنفعة أشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك
فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة (1) فأشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وان لم يعلم فله الفسح لأنه يتضرر
بمضي العبد في حجه لفوات منافعه إلا أن يكون احرامه بغير اذن سيده ونقول له تحليله فلا يملك الفسخ
لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الاحرام ثم رجع قبل أن يحرم وعلم العبد برجوعه قبل
الاحرام فهو كمن لم يؤذن له وان لم يعلم حتى أحرم فهل يكون حكمه حكم من أحرم باذن سيده؟ على
وجهين بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم؟ على روايتين
(الفصل الثاني) إذا نذر العبد الحج صح نذره لأنه مكلف فالعقد نذره كالحر ولسيده منعه من
المضي فيه لأن فيه تفويت حق سيده الواجب فمنع منه كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروي
عن أحمد أنه قال لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على
الكراهة لا على التحريم لما ذكرنا، ويحتمل التحريم لأنه واجب فلم يملك منعه منه كسائر الواجبات
والأول أولى فإن أعتق لزمه الوفاء به بعد حجة الاسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة
الاسلام كالحر إذا نذر حجا
(الفصل الثالث) في جناياته وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر
فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن
يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا واذن
له في اهدائه وقلنا انه يملكه فهو كالهدي الواجب لا يتحلل الا به وان قلنا لا يملكه ففرضه الصيام
وان أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي ان على
سيده تحمل ذلك عنه لأنه باذنه فكان على من أذن فيه كما لو فعله النائب باذن المستنيب
202

وليس بجيد لأن الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه كالمرأة إذا حجت باذن زوجها ويفارق
من حج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وان تمتع أو قارن بغير اذن سيده فالصيام عليه
بغير خلاف وان أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال له فهو كالمعسر من الأحرار
(الفصل الرابع) إذا وطئ العبد قبل التحلل الأول فسد ويلزمه المضي في فاسده كالحر لكن إن كان
الاحرام مأذونا فيه فليس لسيده اخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه فلم يكن له منعه من
فاسده وإن كان الاحرام بغير اذنه فله تحليله منه لأنه يملك تحليله من صحيحه فالفاسد أولى وعليه القضاء
سواء كان الاحرام مأذونا فيه أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح منه كالصلاة
والصيام ثم إن كان الاحرام الذي أفسده مأذونا فيه فليس له منعه من قضائه لأن اذنه في الحج الأول
اذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه احتمل أن لا
يملك منعه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل ان له منعه منه لأنه
يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير اذنه فكذلك هذا فإن أعتق قبل القضاء فليس له فعله قبل
حجة الاسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الاسلام وبقي القضاء في ذمته وان
عتق في أثناء الحجة الفاسدة وأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الاسلام لأن
المقضي لو كان صحيحا أجزأه فكذلك قضاؤه وان أعتق بعد ذلك لم يجزئه القضاء عن حجة الاسلام لأن
المقضي لا يجزئه فكذلك قضاؤه والمدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه
(مسألة) قال (وإذا حج بالصغير جنب ما يتجنبه الكبير وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه)
وجملة ذلك أن الصبي يصح حجه فإن كان مميزا أحرم بإذن وليه وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه
فيصير محرما بذلك وبه قال مالك والشافعي وروي عن عطاء والنخعي وقال أبو حنيفة لا ينعقد احرام الصبي
ولا يصير محرما باحرام وليه لأن الاحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر
ولنا ما روى ابن عباس قال رفعت امرأة صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال " نعم ولك
أجر " رواه مسلم وغيره من الأئمة وروى البخاري عن السائب بن يزيد قال حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم
وأنا ابن سبع سنين، ولان أبا حنيفة قال يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه
صحيحا والنذر لا يجب به شئ بخلاف مسئلتنا
203

والكلام في حج الصبي في فصول أربعة، في الاحرام عنه أو منه، وفيما يفعله بنفسه أو بغيره،
وفي حكم جناياته على احرامه، وفيما يلزمه من القضاء والكفارة
(الفصل الأول في الاحرام) إن كان مميزا أحرم بإذن وليه وان أحرم بدون اذنه لم يصح
لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع، وإن كان غير مميز فأحرم عنه
من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح، ومعنى إحرامه عنه انه يعقد له الاحرام فيصح
للصبي دون الولي كما يعقد النكاح له فعلى هذا يصح أن يعقد الاحرام عنه سواء كان محرما أو حلالا ممن عليه
حجة الاسلام أو كان قد حج عن نفسه، فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولك أجر " ولا يضاف
الاجر إليها إلا لكونه تبعا لها في الاحرام، قال الإمام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره
ابن عقيل وقال المال الذي يلزم بالاحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الاحرام في أحد
الوجهين، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد انه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للام على ماله والاحرام
يتعلق إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شئ له، فأما غير الام والولي من الأقارب
كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الام، أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا
(الفصل الثاني) ان كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله ولا ينوب غيره عنه فيه كالوقوف والمبيت
بمزدلفة ونحوهما وما عجز عنه عمله الولي عنه، قال جابر خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا ومعنا
النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان، رواه سعيد في سننه ورواه ابن ماجة في سننه فقال فلبينا عن الصبيان
ورمينا عنهم، ورواه الترمذي قال فكنا نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان، قال ابن المنذر كل
من حفظت عنه من أهل العلم يرى المري عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك، وبه
قال عطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق، وعن ابن عمر انه كان يحج صبيانه وهم صغار فمن استطاع
منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه، وعن أبي إسحاق ان أبا بكر رضي الله عنه طاف
بابن الزبير في خرقة، رواهما الأثرم، قال الإمام أحمد يرمي عن الصبي أبواه أو وليه، قال القاضي ان أمكنه
أن يناول النائب الحصى ناوله وان لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده فيرمى عنه وان وضعها
في يد الصغير ورمى بها فجعل يده كالآلة فحسن، ولا يجوز ان يرمي عنه الا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز
أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه، وأما الطواف فإنه ان أمكنه المشي مشى والا طيف به محمولا
أو راكبا فإن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة، ولان الطواف بالكبير محمولا لعذر يجوز فالصغير
أولى، ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا أو حراما ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه
204

لأن الطواف للمحمول لا للحامل ولذلك صح أن يطوف راكبا على بعير وتعتبر النية في الطائف به فإن لم
ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لأنه لما لم تعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الاحرام، فإن
نوى الطواف عن نفسه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه كالحج إذا نوى به عن نفسه وغيره واحتمل أن يقع
عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد منهما عن نفسه لكون المحمول أولى، واحتمل أن يلغو لعدم
التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين
وأما الاحرام فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تجرد
الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء يفعل بالصغير كما يفعل الكبير ويشهد به المناسك كلها الا أنه لا يصلى عنه
(الفصل الثالث في محظورات الاحرام) وهي قسمان ما يختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب
وما لا يختلف كالصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار (فالأول) لا فدية على الصبي فيه لأن عمده خطأ
(والثاني) عليه فيه الفدية وان وطئ أفسد حجه ويمضي في فاسده وفي القضاء عليه وجهان (أحدهما)
لا يجب لئلا تجب عبادة بدنية على من ليس من أهل التكليف (والثاني) يجب لأنه افساد موجب للفدية
فأوجب القضاء كوطئ البالغ فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الاسلام فإن أحرم بالقضاء قبلها انصرف إلى
حجة الاسلام وهل تجزئه عن القضاء؟ ينظر فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئا من الوقوف بعد
بلوغه أجزأ عنهما جميعا وإلا لم يجزئه كما قلنا في العبد على ما مضى
(الفصل الرابع فيما يلزمه من الفدية) قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن جنايات الصبيان لازمة
لهم في أموالهم وذكر أصحابنا في الفدية التي تجب بفعل الصبي وجهين أحدهما هي في ماله لأنها وجبت
بجنايته اشبهت الجناية على الآدمي والثاني على الولي وهو قول مالك لأنه حصل بعقده أو اذنه فكان
عليه كنفقة حجه فاما النفقة فقال القاضي ما زاد على نفقة الحضر ففي مال الولي لأنه كلفه ذلك ولا
حاجة به إليه وهذ اختيار أبي الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن النفقة كلها على
الصبي لأن الحج له فنفقته عليه كالبالغ ولان فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له ويتمرن عليه فصار
كاجر المعلم والطبيب والأول أولى فإن الحج لا يجب في العمر الا مرة ويحتمل أن لا يجب فلا يجوز
تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه للتمرن عليه والله أعلم
(فصل) إذا أغمي على بالغ لم يصح أن يحرم عنه رفيقه وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يصح
ويصير محرما باحرام رفيقه عنه استحسانا لأن ذلك معلوم من قصده ويلحقه مشقة في تركه فأجزأ عنه احرام غيره
ولنا أنه بالغ فلم يصر محرما باحرام غيره كالنائم ولو أنه أذن في ذلك وأجازه لم يصح فمع
عدم هذا أولى أن لا يصح
205

(مسألة) قال (ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله)
أما إذا طيف به محمولا لعذر فلا يخلو اما ان يقصدا جميعا عن المحمول فيصح عنه دون الحامل
بغير خلاف نعلمه أو يقصدا جميعا عن الحامل فيقع عنه أيضا ولا شئ للمحمول أو يقصد كل واحد
منهما الطواف عن نفسه فإنه يقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي والقول الآخر يقع
للحامل لأنه الفاعل وقال أبو حنيفة يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة فأجزأ الطواف
عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئا ولأنه لو حمله بعرفات لكان الوقوف عنهما كذا ههنا وهذا القول حسن
ووجه الأول انه طواف أجزأه عن المحمول فلم يقع عن الحامل كما لو نويا جميعا المحمول ولأنه
طواف واحد فلا يقع عن شخصين والراكب لا يقع طوافه الا عن واحد، وأما إذا حمله في عرفة فما
حصل الوقوف بالحمل فإن المقصود الكون في عرفات وهما كائنان بها والمقصود ههنا الفعل وهو واحد
فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه الا لنفسه والحامل لم يخلص
قصده بالطواف لنفسه فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من الطواف لا يقف على
حمله فصار المحمول مقصودا لهما ولم يخلص قصد الحامل لنفسه فلم يقع عنه لعدم التعيين وقال أبو
حفص العكبري في شرحه لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع عن اثنين،
وليس أحدهما أولى به من الآخر، وقد ذكرنا أن المحمول به أولى لخلوص نيته لنفسه وقصد
الحامل له ولا يقع عن الحامل لعدم التعيين فإن نوى أحدهما نفسه دون الآخر صح الطواف له وان
عدمت النية منهما أو نوى كل واحد منهما الآخر لم يصح لواحد منهما
باب ذكر المواقيت
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل
الشام ومصر والمغرب من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل الطائف ونجد من قرن،
وأهل المشرق من ذات عرق)
206

وجملة ذلك أن المواقيت المنصوص عليها الخمسة (1) التي ذكرها الخرقي رحمه الله وقد أجمع أهل
العلم على أربعة منها وهي: ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم، واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فمن ذلك ما روى ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة
ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم. قال " فهن لهن ولمن أتى
عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن مهله من أهله وكذلك أهل مكة
يهلون منها " وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام
من الجحفة، وأهل نجد من قرن " قال ابن عمر وذكر لي ولم أسمعه أنه قال وأهل اليمن من يلملم متفق عليهما
فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم وهو مذهب مالك وأبي ثور
وأصحاب الرأي، وقال ابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق احرام من
الميقات، وروي عن أنس انه كان يحرم من العقيق، واستحسنه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البر
وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة وروي ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن، وقد روي
ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق، قال الترمذي وهو حديث حسن، قال ابن
عبد البر: العقيق أولى وأحوط من ذات عرق وذات عرق ميقاتهم باجماع، واختلف أهل العلم فيمن
وقت ذات عرق فروى أبو داود والنسائي وغيرهما باسنادهم عن القاسم عن عائشة ان رسول الله
207

صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق، وعن أبي الزبير انه سمع جابرا سئل عن المهل (1) قال سمعته
وأحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول " مهل أهل المدنية من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة
ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن " رواه مسلم في صحيحه، وقال قوم
آخرون إنما وقتها عمر رضي الله عنه فروى البخاري باسناده عن ابن عمر قال: لما فتح هذان
المصران أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور (1) عن
طريقنا وإنا إن أردنا قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق، ويجوز
أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ووافق قول
النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان كثير الإصابة رضي الله عنه، وإذا ثبت توقيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر
فالاحرام منه أولى إن شاء الله تعالى
(فصل) وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر فموضع الاحرام من الأولى وإن انتقل
الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه، وقد رأى سعيد بن جبير رجلا
208

يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذه بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي فأتى به المقابر فقال:
هذه ذات عرق الأولى
209

(مسألة) قال (وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج فمن مكة)
أهل مكة ومن كان بها سواء كان مقيما بها أو غير مقم لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتا له
وكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج، وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافا،
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم متفق عليه، وكانت بمكة
يومئذ، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى أهل مكة يهلون منها " يعني للحج، وقال أيضا
" ومن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة " وهذا في الحج
فأما في العمرة فميقاتها في حقهم الحل من أي جوانب الحرم شاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باعمار
عائشة من التنعيم وهو أدنى الحل إلى مكة، وقال ابن سيرين بلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة
التنعيم، وقال ابن عباس: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر يعني إذا
أحرم بها من ناحية المزدلفة، وإنما لزم الاحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم، فإنه
لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج
إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أعمر النبي
صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة، وقد روي عن أحمد في المكي كلما تباعد في
210

العمرة فهو أعظم للاجر هي على قدر تعبها، وأما إن أراد المكي الاحرام بالحج فمن مكة للخبر
الذي ذكرنا ولان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما فسخوا الحج أمرهم فأحرموا من مكة، قال جابر أمرنا
النبي صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح رواه مسلم وهذا يدل على أنه لا فرق بين قاطني
مكة وبين غيرهم ممن هو بها كالمتمتع إذا حل ومن فسخ حجه بها، ونقل عن أحمد فيمن اعتمر في
أشهر الحج من أهل مكة انه يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم، والصحيح خلاف هذا
لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ويحتمل ان أحمد إنما أراد أن المتمتع يسقط عنه الدم إذا خرج
إلى الميقات ولا يسقط إذا أحرم من مكة وهذا في غير المكي، أما المكي فلا يجب عليه دم متعة بحال
لقول الله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وذكر القاضي فيمن دخل مكة
يحج عن غيره ثم أراد أن يعتمر بعده لنفسه أو دخل يحج لنفسه ثم أراد أن يعتمر لغيره أو دخل
بعمرة لنفسه ثم أراد ان يحج أو يعتمر لغيره أو دخل بعمرة لغيره ثم أراد أن يحج أو يعتمر لنفسه
انه في جميع ذلك يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن لم يفعل فعليه دم، قال وقد قال أحمد في رواية
عبد الله إذا اعتمر عن غيره ثم أراد الحج لنفسه يخرج إلى الميقات أو اعتمر عن نفسه يخرج إلى الميقات
وان دخل مكة بغير إحرام ثم أراد الحج يخرج إلى الميقات واحتج له القاضي بأنه جاوز الميقات
مريدا للنسك غير محرم لنفسه فلزمه دم إذا أحرم دونه كمن جاوز الميقات غير محرم، وعلى هذا لو
211

حج عن شخص واعتمر عن آخر أو اعتمر عن انسان ثم حج أو اعتمر عن آخر فكذلك وظاهر
كلام الخرقي انه لا يلزمه الخروج إلى الميقات في هذا كله لما ذكرنا من أن كل من كان بمكة كالقاطن
بها وهذا حاصل بمكة على وجه مباح فأشبه المكي وما ذكره القاضي تحكم لا يدل عليه خبر ولا
يشهد له اثر، وما ذكره من المعنى فاسد لوجوه (أحدها) انه لا يلزم أن يكون مريدا للنسك عن نفسه حال
مجاوزة الميقات فإنه قد يبدو له بعد ذلك (والثاني) ان هذا لا يتناول من أحرم عن غيره (الثالث)
انه لو وجب بهذا الخروج إلى الميقات للزم المتمتع والمفرد لأنهما تجاوزا الميقات مريدين لغير النسك
الذي أحرما به (الرابع) ان المعنى في الذي يجاوز الميقات غير محرم انه فعل ما لا يحل له فعله وترك
الاحرام الواجب عليه في موضعه فأحرم من دونه
(فصل) ومن أي الحرم أحرم بالحج جاز لأن المقصود من الاحرام به الجمع في النسك بين الحل
والحرم وهذا يحصل بالاحرام من أي موضع كان فجاز كما يجوز أن يحرم بالعمرة من أي موضع كان
من الحل ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حجة الوداع " إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من
البطحاء " ولان ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها كالنحر
212

(فصل) فإن أحرم من الحل نظرت فإن أحرم من الحل الذي يلي الموقف فعليه دم لأنه أحرم
من دون الميقات، وان أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم فلا شئ عليه نص عليه أحمد في رجل
أحرم للحج من التنعيم فقال ليس عليه شئ وذلك لأنه أحرم قبل ميقاته فكان كالمحرم قبل بقية المواقيت
ولو أحرم من الحل ولم يسلك الحرم فعليه دم لأنه لم يجمع بين الحل والحرم
(فصل) وان أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه بها وعليه دم لتركه الاحرام من الميقات
ثم إن خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم وان لم يخرج حتى
قضى عمرته صح أيضا لأنه قد اتى بأركانها وإنما أخل بالاحرام من ميقاتها وقد جبره فأشبه من أحرم
من دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي.
والقول الثاني لا تصح عمرته لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود
هذا الطواف كعدمه وهو باق على احرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك ويسعى وان حلق
قبل ذلك فعليه دم، وكذلك كل ما فعله من محظورات احرامه فعليه فديته، وان وطئ أفسد عمرته
ويمضي في فاسدها وعليه دم لافسادها ويقضيها بعمرة من الحل، ثم إن كانت العمرة التي أفسدها عمرة
الاسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الاسلام والا فلا
(مسألة) قال (ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه)
يعني إذا كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه هذا قول أكثر أهل العلم
وبه يقول مالك وطاوس والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن مجاهد قال يهل من مكة ولا
يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس " فمن كان دونهن مهله من أهله " وهذا صريح والعمل به أولى
(فصل) إذا كان مسكنه قرية فالأفضل أن يحرم من أبعد جانبيها وان أحرم من أقرب جانبيها
جاز وهكذا القول في المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت قرية والحلة كالقرية فيما ذكرنا
وإن كان مسكنه منفردا فميقاته مسكنه أو حذوه وكل ميقات فحذوه بمنزلته، ثم إن كان مسكنه
في الحل فاحرامه منه للحج والعمرة معا، وإن كان في الحرم فاحرامه للعمرة من الحل ليجمع في النسك
بين الحل والحرم كالمكي وأما الحج فينبغي أن يجوز له الاحرام من أي الحرم شاء كالمكي
213

(مسألة) قال (ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم)
وجملة ذلك أن من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي
هو إلى طريقه أقرب لما روينا ان أهل العراق قالوا لعمر ان قرنا جور عن طريقنا فقال انظروا حذوها
من طريقكم فوقت لهم ذات عرق ولان هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة
(فصل) فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث يتيقن أنه
لم يجاز الميقات إلا محرما لأن احرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه لا يجوز فالاحتياط فعل مالا شك
فيه ولا يلزمه الاحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه لأن الأصل عدم وجوبه فلا يجب بالشك فإن أحرم ثم
علم بعد أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم
في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها وإن كانتا متساويتين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما
(مسألة) (قال وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها ممن
أراد حجا أو عمرة)
وجملة ذلك أن من سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة
فهي ميقاته وإن حج من اليمن فميقاته يلملم وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق وهكذا كل من
مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له سئل احمد عن الشامي يمر بالمدينة يريد الحج من أين
يهل قال من ذي الحليفة قيل فإن بعض الناس يقول يهل من ميقاته من الجحفة فقال سبحان الله
أليس يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " وهذا قول
الشافعي وإسحاق وقال أبو ثور في الشامي يمر بالمدينة له أن يحرم من الجحفة وهو قول أصحاب الرأي
وكانت عائشة إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة
ولعلهم يحتجون بان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل الشام الجحفة
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " ولأنه ميقات فلم يجز تجاوزه
بغير إحرام لمن يريد النسك كسائر المواقيت وخبرهم أريد به من لم يمر على ميقات آخر بدليل ما لو
214

مر بميقات غير ذي الحليفة لم يجز له تجاوزه بغير إحرام بغير خلاف وقد روى سعيد عن سفيان عن
هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة ولا فرق بين
الحج والعمرة في هذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن ممن كان
يريد حجا أو عمرة "
(فصل) فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة سواء كان شاميا أو مدنيا لما روى
أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال سمعته أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول " مهل أهل
المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة " رواه مسلم ولأنه مر على أحد المواقيت دون
غيره فلم يلزمه الاحرام قبله كسائر المواقيت ويحتمل أن أبا قتادة حين أحرم أصحابه دونه في قصة
صيده للحمار الوحشي إنما أدرك الاحرام لكونه لم يمر على ذي الحليفة فأخر إحرامه إلى الجحفة إذ لو
مر عليها لم يجز له تجاوزها من غير إحرام ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة
إلى الجحفة على هذا وانها لا تمر في طريقها على ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولسائر أهل العلم
(مسألة) (قال والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته فإن فعل فهو محرم)
لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرما تثبت في حقه أحكام الاحرام قال ابن المنذر
أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ولكن الأفضل الاحرام من الميقات ويكره
قبله روي نحو ذلك عن عمر وعثمان وبه قال الحسن وعطاء ومالك وإسحاق وقال أبو حنيفة الأفضل
الاحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين وكان علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون
من بيوتهم واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من
أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو
وجبت له الجنة " شك عبد الله أيهما قال رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجة " من أهل بعمرة من
بيت المقدس غفر له " وأحرم ابن عمر من إيليا وروى النسائي وأبو داود باسناديهما عن الضبي بن
معبد قال أهللت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان
وأنا أهل بهما فقال (أحدهما) ما هذا بأفقه من بعيره فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال هديت لسنة
نبيك صلى الله عليه وسلم وهذا أحرم به قبل الميقات وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى (وأتموا
الحج والعمرة لله) إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإن قيل إنما فعل هذا لتبيين
215

الجواز قلنا قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤا على ترك الأفضل واختيار الأدنى وهم أهل التقوى
والفضل وأفضل الخلق ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم وقد روى أبو يعلى الموصلي في
مسنده عن أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري
ما يعرض له في احرامه " وروى الحسن أن عمر بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر فغضب
وقال يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره: وقال إن عبد الله بن عامر
أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد والأثرم قال البخاري كره
عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالاحرام بالحج قبل أشهره ولأنه
تغرير بالاحرام وتعرض لفعل محظوراته وفيه مشقة على النفس فكره كالوصال في الصوم قال عطاء انظروا
هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في احرامه
فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الاحرام أعظم من ذلك فاما حديث الاحرام من بيت المقدس ففيه
ضعف يرويه أبن أبي فديك ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس
دون غيرها ليجمع بين الصلاة في المسجدين في احرام واحد ولذلك أحرم ابن عمر منه ولم يكن
يحرم من غيره الا من الميقات وقول عمر للضبي هديت لسنة نبيك يعني في القران فالجمع بين الحج
والعمرة لا في الاحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الاحرام من الميقات بين ذلك بفعله
وقوله وقد بين أنه لم يرد ذلك إنكاره على عمران بن حصين احرامه من مصره وأما قول عمر وعلي
فإنهما قالا اتمام العمرة أن تنشئها من بلدك ومعناه أن تنشئ لها سفرا من بلدك تقصد له ليس أن تحرم
بها من أهلك قال أحمد كان سفيان يفسره بهذا وكذلك فسره به احمد ولا يصح أن يفسر بنفس
الاحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم وقد أمرهم الله باتمام العمرة فلو حمل قولهم
على ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تاركين لأمر الله ثم إن عمر وعليا ما كانا يحرمان الا من الميقات
أفتراهما يريان أن ذلك ليس باتمام لها ويفعلانه؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران
احرامه من مصره واشتد عليه وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ به افتراه كره اتمام العمرة واشتد
عليه أن يأخذ الناس بالأفضل؟ هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة والله أعلم
(مسألة) قال (ومن أراد الاحرام فجاوز الميقات غير محرم رجع فاحرم من الميقات
فإن أحرم من مكانه فعليه دم وان رجع محرما من الميقات)
وجملة ذلك أن من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه ان
أمكنه سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله فإن رجع إليه فاحرم منه فلا شئ عليه
216

لا نعلم في ذلك خلافا وبه يقول جابر بن يزيد والحسن وسعيد بن جبير والثوري والشافعي وغيرهم
لأنه أحرم من الميقات الذي أمر بالاحرام منه فلم يلزمه شئ كما لو لم يتجاوزه وان أحرم من دون
الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع وبهذا قال مالك وابن المبارك وظاهر مذهب
الشافعي انه ان رجع إلى الميقات فلا شئ عليه إلى أن يكون قد تلبس بشئ من أفعال الحج كالوقوف
وطواف القدوم فيستقر الدم عليه لأنه حصل محرما في الميقات قبل التلبس بأفعال الحج فلم يلزمه
دم كما لو أحرم منه وعن أبي حنيفة إن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم وان لم يلب لم يسقط
وعن عطاء والحسن والنخعي لا شئ على من ترك الميقات وعن سعيد بن جبير لا حج لمن ترك الميقات
ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ترك نسكا فعليه دم " روي موقوفا
ومرفوعا ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم كما لو لم يرجع أو كما لو طاف عند الشافعي أو كما لو لم
يلب عند أبي حنيفة ولأنه ترك الاحرام من ميقاته فلزمه الدم كما ذكرنا ولان الدم وجب لتركه
الاحرام من الميقات ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته وفارق ما إذا رجع قبل احرامه فاحرم منه
فإنه لم يترك الاحرام منه ولم يهتكه
(فصل) ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يسقط عنه الدم وبه قال الشافعي وإسحاق
وأبو ثور وابن المنذر وقال الثوري وأصحاب الرأي يسقط لأن القضاء واجب
ولنا أنه واجب عليه بموجب هذا الاحرام فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك وكجزاء الصيد
(فصل) فاما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين (أحدهما) لا يريد دخول
الحرم بل يريد حاجة فيما سواه فهذا لا يلزمه الاحرام بغير خلاف ولا شئ عليه في ترك الاحرام
وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدرا مرتين وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة فلا
يحرمون ولا يرون بذلك بأسا ثم متى بدا لهذا الاحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا
شئ عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وحكى
217

ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع
إلى ذي الحليفة فيحرم به قال إسحاق ولأنه أحرم من دون الميقات فلزمه الدم كالذي يريد دخول
الحرم والأول أصح، وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الاحرام لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة " ولأنه حصل دون
الميقات على وجه مباح فكان له الاحرام منه كاهل ذلك المكان ولان هذا القول يفضي إلى أن من
كان منزله دون الميقات إذا خرج إلى الميقات ثم عاد إلى منزله وأراد لاحرام لزمه الخروج إلى
الميقات ولا قائل به وهو مخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن كان منزله دون الميقات فمهله من أهله "
(القسم الثاني) من يريد دخول الحرم اما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة اضرب (أحدها)
من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الميرة والفيح
ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا احرام عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم
الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ولم نعلم أحدا منهم أحرم يومئذ ولو أوجبنا
الاحرام على كل من يتكرر دخوله أفضي إلى أن يكون جميع زمانه محرما فسقط للحرج وبهذا
قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز لاحد دخول الحرم بغير احرام إلا من كان دون الميقات لأنه
يجاوز الميقات مريدا للحرم فلم يجز بغير احرام كغيره
218

ولنا ما ذكرناه وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة
سواء وقال هذا حديث حسن صحيح ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه
كالقسم الذي قبله وفيه من الخلاف ما فيه
(النوع الثاني) من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو
عتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الاحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء
ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ وقالوا
في العبد عليه دم وقال الشافعي في جميعهم على كل واحد منهم دم وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله
ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم لأنهم تجاوزوا الميقات بغير احرام وأحرموا
دونه فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل
ولنا أنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الاحرام منه فأشبهوا المكي ومن قريته دون
الميقات إذا أحرم منها وفارق من يجب عليه الاحرام إذا تركه لأنه ترك الواجب عليه
(النوع الثالث) المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات
غير محرم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا يجب الاحرام عليه وعن أحمد
ما يدل على ذلك وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير احرام ولأنه أحد الحرمين فلم يلزم الاحرام
219

لدخوله كحرم المدينة ولان الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع ايجاب ذلك على كل داخل
فبقي على الأصل ووجهه الأولى أنه لو نذر دخولها لزمه الاحرام ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر
الدخول كسائر البلدان إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الاحرام بعد تجاوز الميقات رجع فاحرم منه فإن
أحرم من دونه فعليه دم كالمريد للنسك
(فصل) ومن دخل الحرم بغير احرام ممن يجب عليه الاحرام فلا قضاء عليه وهذا قول الشافعي
وقال أبو حنيفة يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة فإن أتى بحجة الاسلام في سنته أو منذورة أو عمرة
أجزأته عن عمرة الدخول استحسانا لأن مروره على الميقات مريدا للحرم يوجب الاحرام فإذا لم
يأت به وجب قضاؤه كالمنذور
ولنا أنه مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد فإن قيل تحية المسجد غير
واجبة قلنا إلا أن النوافل المرتبات تقضى وإنما سقط القضاء لما ذكرنا فأما إن تجاوز الميقات ورجع
ولم يدخل الحرم فلا قضاء عليه بغير خلاف نعلمه سواء أراد النسك أو لم يرده
(فصل) ومن كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم
حكم المجاوز للميقات في هذه الأحوال الثلاث لأن موضعه ميقاته فهو في حقه كالمواقيت الخمسة حق الآفاقي
220

(مسألة) قال (ومن جاوز الميقات غير محرم فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج
أحرم من مكان وعليه دم)
221

لا خلاف في أن من خشي فوات الحج برجوعه إلى الميقات أنه يحرم من موضعه فيما نعلمه إلا أنه
روي عن سعيد بن جبير من ترك الميقات فلا حج له وما عليه الجمهور أولى فإنه لو كان من أركان الحج
لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف وإذا أحرم من دون الميقات عند خوف
222

الفوات فعليه دم لا نعلم فيه خلافا عند من أوجب الاحرام من الميقات لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك
نسكا فعليه دم " وإنما أبحنا له الاحرام من موضعه مراعاة لادراك الحج فإن مراعاة ذلك أولى من
223

مراعاة واجب فيه مع فواته ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة أو الخوف من عدو أو لص أو مرض
أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع فهو كخائف الفوات في أنه يحرم من موضعه وعليه دم
باب ذكر الاحرام
(مسألة) قال أبو القاسم (ومن أراد الحج وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات
فالاختيار له أن يغتسل)
قوله وقد دخل أشهر الحج يدل على أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهره وهذا هو الأولى
فإن الاحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه احراما به قبل وقته فأشبه الاحرام به قبل ميقاته ولان
في صحته اختلافا فإن أحرم به قبل أشهره صح وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج جاز نص عليه
أحمد وهو قول النخعي ومالك والثوري وأبي حنيفة وإسحاق وقال عطاء وطاوس ومجاهد والشافعي
يجعله عمرة لقول الله تعالى (الحج أشهر معلومات) تقديره وقت الحج أشهر أو أشهر الحج أشهر معلومات
فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات
224

ولنا قول الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فدل على أن جميع
الأشهر ميقات (1) ولأنه أحد نسكي القران فجاز الاحرام به في جميع السنة كالعمرة أو أحد الميقاتين
فصح الاحرام قبله كميقات المكان والآية محمولة على أن الاحرام به أنما يستحب فيها
وعلى كل حال فمن أراد الاحرام استحب له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم منهم طاوس
والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لما روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم تجرد لاهلاله واغتسل رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الاحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الاهلال بالحج وهي حائض
ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة وليس ذلك واجبا في قول عامة أهل
العلم قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الاحرام جائز بغير اغتسال وانه غير واجب وحكي عن
الحسن أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكر وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض
أهل المدينة من ترك الغسل عند الاحرام فعليه دم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لاسماء وهي نفساء اغتسلي فكيف
الطاهر؟ فاظهر التعجب من هذا القول، وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل
أجزأه ولا يجب الاغتسال ولا نقل الامر به الا لحائض أو نفساء ولو كان واجبا لأمر به غيرهما
ولأنه لأمر مستقبل فأشبه غسل الجمعة
(فصل) فإن لم يجد ماء لم يسن له التيمم وقال القاضي يتيمم لأنه غسل مشروع فناب عنه التيمم كالواجب
ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة وما ذكره منتقض بغسل
225

الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة والفرق بين الواجب والمسنون ان الواجب يراد لإباحة الصلاة
والتيمم يقوم مقامه في ذلك والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد
شعثا وتغييرا ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به
(فصل) ويستحب التنظف بإزالة الشعث وقطع الرائحة ونتف الإبط وقص الشارب وقلم
الأظفار وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة، ولان الاحرام يمنع
قطع الشعر وقلم الأظفار فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في احرامه فلا يتمكن منه
(مسألة) قال (ويلبس ثوبين نظيفين)
يعني إزارا ورداء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين) قال ابن
المنذر ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثبت أيضا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا لم إزارا فليلبس
السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين " ولان المحرم ممنوع من لبس المخيط في شئ من بدنه
يعني بذلك ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل، ولو لبس إزارا موصلا أو اتشح
بثوب مخيط جاز. ويستحب أن يكونا نظيفين إما جديدين وإما غسيلين لأننا أحببنا له التنظف في
بدنه فكذلك في ثيابه كشاهد الجمعة والأولى أن يكونا أبيضين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير ثيابكم البياض
فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم " (1)
(مسألة) قال (ويتطيب)
وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الاحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما يبقى عينه
226

كالمسك والغالية أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص
وعائشة وأم حبيبة ومعاوية وروي عن محمد بن الحنفية وأبي سعيد الخدري وعروة والقاسم والشعبي
وابن جريج وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله
عنهم واحتج مالك بما روى يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في
رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم يعنى ساعة ثم قال " اغسل الطيب الذي بك
ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك " متفق عليه ولأنه يمنع من
ابتدائه فمنع استدامته كاللبس
ولنا قول عائشة كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت
قالت وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، متفق عليه وفي لفظ
لمسلم طيبته بأطيب الطيب وقالت بطيب فيه مسك وفي لفظ للنسائي كأني أنظر إلى وبيص طيب
المسلك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثهم في بعض ألفاظه عليه جبة بها أثر خلوق رواه مسلم
وفي بعضهما وهو متضمخ بالخلوق وفي بعضها عليه ردع من زعفران وهذه الألفاظ تدل على أن طيب
الرجل كان من الزعفران وهو منهي عنه للرجال في غير الاحرام ففيه أولى وقد روى البخاري أن
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل ولان حديثهم في سنة ثمان وحديثنا في سنة عشر قال ابن
227

جريج كان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير
والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة في حجة الوداع
سنة عشر فعند ذلك أن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل فقد روى محمد بن المنتشر قال
سمعت ابن عمر ينهى عن الطيب عند الاحرام فقال لأن أطلي بالقطران أحب إلى من ذلك قلنا تمام الحديث
قال فذكرت ذلك لعائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف
في نسائه ثم يصبح ينضح طيبا فإذا صار الخبر حجة على من احتج به فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة على
ابن عمر وغيره وقياسهم يبطل بالنكاح فإنه يمنع ابتداءه دون استدامته
(فصل) وان طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه فإن لبسه
افتدى لأن الاحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذلك إن نقل الطيب من
موضع من بدنه إلى موضع آخر افتدى لأنه تطيب في احرامه وكذا ان تعمد مسه بيده أو نحاه
من موضعه ثم رده إليه فاما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس فسال من موضعه إلى موضع آخر فلا شئ
عليه لأنه ليس من فعله فجرى مجرى الناسي قالت عائشة كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فتضمد
جباهنا بالمسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا
ينهاها رواه أبو داود
228

(مسألة) قال (فإن حضر وقت صلاة مكتوبة والا صلى ركعتين)
المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها والا صلى ركعتين
تطوعا وأحرم عقيبهما استحب ذلك عطاء وطاوس ومالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وإسحاق
وأبو ثور وابن المنذر وروي عن ابن عمر وابن عباس وقد روي عن أحمد أن الاحرام عقيب
الصلاة وإذا استوت به راحلته وإذا بدأ بالسير سواء لأن الجميع قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق
صحيحة قال الأثرم سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك الاحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به راحلته؟
فقال كل ذلك قد جاء: في دبر الصلاة وإذا علا البيداء وإذا استوت به ناقته، فوسع في ذلك كله قال
ابن عباس ركب النبي صلى الله عليه وسلم راحلته حتى استوت على البيداء أهل هو وأصحابه وقال أنس لما ركب
راحلته واستوت به أهل وقال ابن عمر أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة رواهن البخاري
229

والأولى الاحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير قال ذكرت لابن عباس اهلال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب رسول الله
صلى الله عليه وسلم راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا أهل حين استوت به الراحلة وذلك
أنهم لم يدركوا الا ذلك ثم سار حتى علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا أهل حين علا البيداء
رواه أبو داود والأثرم وهذا لفظ الأثرم وهذا فيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الامر عليه ولو لم يقله
230

ابن عباس لتعين حمل الامر عليه جمعا بين الاخبار المختلفة وهذا على سبيل الاستحباب وكيف
ما أحرم جاز لا نعلم أحدا خالف في ذلك
231

(مسألة) (قال فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد الله فيقول اللهم أني أريد العمرة)
وجملة ذلك أن الاحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة تمتع وافراد وقران فالتمتع أن يهل بعمرة
مفردة من الميقات في أشهر الحج فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامة والافراد أن يهل بالحج مفردا
والقران أن يجمع بينهما في الاحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف فأي
ذلك أحرم به جاز قالت عائشة خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج
وعمرة ومنا من أهل بحج متفق عليه فهذا هو التمتع والافراد والقران وأجمع أهل العلم على جواز
الاحرام بأي الانساك الثلاثة شاء واختلفوا في أفضلها فاختار إمامنا التمتع ثم الافراد ثم القران وممن روي عنه
اختيار التمتع ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن
زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وروى المروذي عن أحمد إن ساق الهدي فالقران
232

أفضل وان لم يسقه فالتمتع أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي ومنه كل من ساق الهدي من الحل
حتى ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى أنس قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعا لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا متفق عليه وحديث الضبي بن معبد حين لبابهما
ثم أتى عمر فسأله فقال هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وروي عن مروان بن الحكم قال كنت جالسا
عند عثمان بن عفان فسمع عليا يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه فقال ألم نكن نهينا عن هذا قال بلى
ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا فلم أكن ادع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك رواه
سعيد ولان القران مبادرة إلى فعل العبادة واحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم
فكان أولى وذهب مالك وأبو ثور إلى اختيار الافراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن
عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة لما روت عائشة وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج متفق عليهما
وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليهما ولأنه يأتي بالحج تاما من غير احتياج إلى جبر فكان
أولى قال عثمان: ألا ان الحج التام من أهليكم والعمرة التامة من أهليكم، وقال إبراهيم ان أبا بكر
وعمر وابن مسعود وعائشة كانوا يجردون الحج
ولنا ما روى ابن عباس وجابر وأبو موسى وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت
ان يحلوا ويجعلوها عمرة فنقلهم من الافراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل وهذه
233

الأحاديث متفق عليها ولم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه ان يحلوا الا من ساق
هديا وثبت على إحرامه وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة "
قال جابر حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم " حلوا من احرامكم
بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا
التي قدمتم بها متعة " فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني
سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به " وفي لفظ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قد علمتم اني أتقاكم
لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت "
فحللنا وسمعنا وأطعنا متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك فدل على فضله ولان
التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) دون سائر الانساك ولان
المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة مع زيادة
نسك فكان ذلك أولى فاما القران فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وتدخل أفعال العمرة فيه والمفرد فإنما
يأتي بالحج وحده وان اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الاسلام وكذلك
اختلف في إجزاء عمرة القران ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا فكان أولى فاما
حجتهم فإنما احتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والجواب عنها من أوجه (الأول) انا نمنع أن يكون النبي
234

صلى الله عليه وسلم محرما بغير التمتع ولا يصح الاحتجاج بأحاديثهم لأمور (أحدها) أن رواة أحاديثهم قد رووا
أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج روى ذلك ابن عمر وجابر وعائشة من طرق صحاح فسقط
الاحتجاج بها (الثاني) ان روايتهم اختلفت فرووا مرة أنه أفرد ومرة أنه تمتع ومرة أنه قرن
والقضية واحدة ولا يمكن الجمع بينها فيجب اطراحها كلها وأحاديث القران أصحها حديث انس وقد
أنكره ابن عمر فقال: يرحم الله انسا ذهل انس متفق عليه وفي رواية كان أنس يتولج على النساء
يعني أنه كان صغيرا وحديث علي رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ابن أبي ليلى وهو كثير
الوهم قاله الدارقطني (الثالث) ان أكثر الروايات ان النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا روى ذلك عمر وعلي
وعثمان وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر ومعاوية وأبو موسى وجابر وعائشة وحفصة
بأحاديث صحيحة وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ففي حديث عمر أنه قال: إني لا أنهاكم
عن المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العمرة في الحج وفي حديث علي
أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه
متفق عليه وللنسائي وقال علي لعثمان ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال بلى وعن ابن عمر قال تمتع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وعنه ان حفصة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن
الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر
235

متفق عليهما وقال سعد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه وهذه الأحاديث راجحة لأن رواتها
أكثر واعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمتعة عن نفسه في حديث حفصة فلا تعارض
بظن غيره ولان عائشة كانت متمتعة بغير خلاف وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحرم إلا بأمره ولم يكن
ليأمرها بأمر ثم يخالف إلى غيره ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث بان يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة
ثم لم يحل منها لأجل هديه حتى أحرم بالحج فصار قارنا وسماه من سماه مفردا لأنه اشتغل بأفعال
الحج وحدها بعد فراغه من أفعال العمرة فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض
(الوجه الثاني) في الجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الافراد
والقران ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل فإنه من المحال ان ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى وهو
الداعي إلى الخير الهادي إلى الفضل ثم أكد بتأسفه على فوات ذلك في حقه وانه لا يقدر على
انتقاله وحله لسوقه الهدي وهذا ظاهر الدلالة
(الثالث) ان ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحتجون بفعله وعند التعارض يجب تقديم
القول لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره كنهيه عن الوصال مع فعله له ونكاحه بغير ولي ولا شهود
مع قوله " لا نكاح الا بولي " فإن قيل قال أبو ذر كانت متعة الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة رواه مسلم
قلنا هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والاجماع وقول من هو خير منه واعلم اما الكتاب
236

فقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) وهذا عام واجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار
وإنما اختلفوا في فضله واما السنة فروي سعيد حدثنا هشيم أنبأنا حجاج عن عطاء عن جابر
ان سراقة بن مالك سأل النبي صلى الله عليه وسلم المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ فقال " بل هي للأبد " وفي
لفظ قال ألعامنا أو للأبد؟ قال " لا بل لابد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيمة " وفي
حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ومعناه والله أعلم أن أهل الجاهلية
كان لا يجيزون التمتع ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله
تعالى قد شرع العمرة في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة، وقال طاوس: كان أهل الجاهلية
يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور، ويقولون: إذا انفسخ صفر، وبرأ الدبر، وعفا الأثر، حلت
العمرة لمن اعتمر، فلما كان الاسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج فدخلت العمرة في أشهر الحج
إلى يوم القيامة، رواه سعيد، وقد خالف أبا ذر علي وسعد وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين
وسائر الصحابة وسائر المسلمين، قال عمران: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن ولم ينهنا
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسخها شئ فقال فيها رجل برأيه ما شاء متفق عليه، وقال سعد بن أبي
وقاص فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني المتعة وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني الذي نهى عنها والعرش
بيوت مكة، وقال أحمد حين ذكر له حديث أبي ذر: أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله وقد
أجمع المسلمون على جوازها، فإن قيل فقد روى أبو داود باسناده عن سعيد بن المسيب أن رجلا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن العمرة قبل الحج
237

قلنا هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والاجماع كحال حديث أبي ذر بل هو أدنى حالا فإن
في إسناده مقالا. فإن قيل فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلنا فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم
عنها وخالفوهم في فعلها والحق مع المنكرين عليهم دونهم، قد ذكرنا إنكار علي على عثمان واعتراف عثمان
له وقول عمران بن حصين منكرا لنهي من نهى وقول سعد عائبا على معاوية نهيه عنها وردهم عليهم بحجج
لم يكن لهم جواب عنها بل قد ذكر بعض من نهى عنها في كلامه ما يرد نهيه فقال عمر: والله إني
لأنها كم عنها وانها لفي كتاب الله وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في أن من خالف كتاب
الله وسنة رسوله ونهى عما فيهما حقيق بان لا يقبل نهيه ولا يحتج به مع أنه قد سئل سالم بن عبد الله
ابن عمر أنهى عمر عن المتعة؟ قال لا والله ما نهى عنها عمر ولكن قد نهى عثمان وسئل ابن عمر
عن متعة الحج فامر بها فقيل إنك تخالف أباك قال إن عمر لم يقل الذي يقولون. ولما نهى معاوية عن
المتعة أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها فقال معاوية من هؤلاء؟ فقيل حشم أو موالي عائشة
فأرسل إليها ما حملك على ذلك؟ قالت أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت وقيل لابن عباس
ان فلانا ينهى عن المتعة قال انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله
وان لم تجدوها فقد صدق فأي الفريقين أحق بالاتباع وأولى بالصواب الذين معهم كتاب الله وسنة
رسوله أم الذين خالفوهما؟ ثم قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة على الخلق أجمعين فكيف
238

يعارض بقول غيره؟ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم فقال عروة نهى
أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون نهى عنها
أبو بكر وعمر وسئل ابن عمر عن متعة الحج فامر بها فقال إنك تخالف أباك فقال: عمر لم يقل الذي
يقولون: فلما أكثروا عليه قال أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟ روى الأثرم هذا كله
(فصل) فمن أراد الاحرام بعمرة فالمستحب أن يقول اللهم أني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها
مني ومحلي حيث تحبسني فإنه يستحب للانسان النطق بما أحرم به ليزول الالتباس فإن لم ينطق بشئ
239

واقتصر على مجرد النية كفاه في قول إمامنا ومالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا ينعقد بمجرد النية
حتى تنضاف إليها التلبية أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " جاءني جبريل فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " وراه النسائي
وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل فكان لها نطق واجب
كالصلاة، ولان الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك
240

ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب فلم يكن في أولها كالصيام، والخبر المراد به الاستحباب
فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى ولو وجب النطق لم يلزم
كونه شرطا فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف
الحج والعمرة، وأما الهدي والأضحية فايجاب مال فأشبه النذر بخلاف الحج فإنه عبادة بدنية فعلى هذا
لو نطق بغير ما نواه نحو ان ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس انعقد ما نواه دون
ما لفظ به قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية
241

وعليها الاعتماد واللفظ لا عبرة به فلم يؤثركما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية
(فصل) فإن لبى أو ساق الهدي من غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لم ينعقد
بدونها كالصوم والصلاة والله أعلم
(مسألة) قال (ويشترط فيقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن حبس
حل من الموضع الذي حبس ولا شئ عليه).
242

يستحب لمن أحرم بنسك أن يشترط عند إحرامه فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني
ويفيد هذا الشرط شيئين
(أحدهما) أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل
(والثاني) أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولاصوم وممن روي عنه أنه رأى الاشتراط عند
الاحرام عمر وعلي وابن مسعود وعمار وذهب إليه عبيدة السلماني وعلقمة والأسود وشريح وسعيد
ابن المسيب وعطاء وابن أبي رياح وعطاء بن يسار وعكرمة والشافعي إذ هو بالعراق وأنكره ابن عمر
243

وطاوس وسعيد بن جبير والزهري ومالك وأبو حنيفة. وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط
الدم فاما التحلل ثابت عنده بكل احصار، واحتجوا بان ابن عمر كان ينكر الاشتراط ويقول
حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة
ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت
يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني "
متفق عليه وعن ابن عباس أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أريد الحج فكيف
244

أقول؟ فقال قولي " لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني. فإن لك على ربك ما استثنيت "
رواه مسلم، ولا قول لاحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه
حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة أولى من قول ابن عمر
وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه لأن المقصود المعنى، والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى
قال إبراهيم خرجنا مع علقمة وهو يريد العمرة فقال اللهم إني أريد العمرة ان تيسرت والا فلا حرج
علي وكان شريح يشترط: اللهم قد عرفت نيتي وما أريد فإن كان أمرا تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا
245

حرج علي. ونحوه عن الأسود. وقالت عائشة لعروة قل: اللهم إني أريد الحج وإياه نويت فإن تيسر
والا فعمرة، ونحوه عن عميرة بن زياد
(فصل) فإن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الاحرام والاحرام
ينعقد بالنية فكذلك تابعه واحتمل أن يعتبر فيه القول لأنه اشتراط فاعتبر فيه القول كالاشتراط
في النذر والوقف والاعتكاف، ويدل عليه ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس " قولي محلي
من الأرض حيث تحبسني "
246

(مسألة) قال (وإن أراد الافراد قال اللهم إني أريد الحج ويشترط)
الافراد هو الاحرام بالحج مفردا من الميقات وهو أحد الانساك الثلاثة والحكم في إحرامه
كالحكم في إحرام العمرة سواء فيما يجب ويستحب وحكم الاشتراط
(مسألة) قال (وان أراد القران قال اللهم أني أريد العمرة والحج ويشترط)
معنى القران الاحرام بالعمرة والحج معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وهو أحد
الانساك المشروعة الثابتة بالنص والاجماع وقد روي أن معاوية قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل
247

تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا أما هذا فلا. قال إنها معهن يعنى
مع المنهيات ولكنكم نسيتم. وهذا مما لم يوافق الصحابة معاوية عليه مع ما يتضمنه من مخالفة الأحاديث
الصحيحة والاجماع قال الخطابي: ويشبه أن يكون ذهب إلى تأويل قوله عليه السلام حين أمر
أصحابه في حجته بالاحلال وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي " وكان قارنا
فحمله معاوية على النهي والله أعلم
(فصل) ويستحب أن يعين ما أحرم به وبه قال مالك وقال الشافعي في أحد قوليه: الاطلاق
248

أولى لما روى طاوس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ينتظر القضاء فنزل عليه
القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلوها عمرة
ولان ذلك أحوط، لأنه لا يأمن الاحصار أو تعذر فعل الحج عليه فيجعلها عمرة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالاحرام بنسك معين " فقال " من شاء منكم ان يهل بحج وعمرة
فليهل، ومن أراد ان يهل بحج فليهل، ومن أراد ان يهل بعمرة فليهل " والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما
احرموا بمعين على ما ذكرنا في الأحاديث الصحيحة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه في حجته
249

مطلعون على أحواله، ويتقدون بافعاله، ويقفون على ظاهر امره وباطنه اعلم به من طاوس وحديثه
مرسل والشافعي لا يحتج بالمراسيل المفردة فكيف يصير إلى هذا مع مخالفته للروايات المستفيضة
المتفق عليها، والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة فإن شاء كان متمتعا، وان شاء ادخل الحج عليها، وكان قارنا
(فصل) فإن اطلق الاحرام فنوى الاحرام بنسك ولم يعين حجا ولا عمرة صح وصار محرما
لأن الاحرام يصح مع الابهام فصح مع الاطلاق فإذا أحرم مطلقا فله صرفه إلى اي الانساك شاء
لأن له ان يبتدئ الاحرام بما شاء منها فكان له صرف المطلق إلى ذلك، والأولى صرفه إلى
العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالاحرام بالحج مكروه أو ممتنع، وإن كان في أشهر الحج فالعمرة
أولى لأن لأن التمتع أفضل. وقد قال أحمد رحمه الله: يجعله عمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى حين أحرم
بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجعله عمرة كذا هنا
250

(فصل) ويصح إبهام الاحرام وهو ان يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى قال قدمت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي " بما أهللت؟ " قلت: لبيك باهلال كاهلال رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " أحسنت " فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال " حل " متفق عليه،
وروى جابر وأنس ان عليا قدم من اليمن على رسول الله ص) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " بم أهللت؟ "
قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر في حديثه قال " فاهد وامكث حراما " وقال
أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن معي هديا لحللت " متفق عليهما، ثم لا يخلو من أبهم إحرامه من
أحوال أربعة (أحدها) ان يعلم ما أحرم به فلان فينعقد إحرامه بمثله فإن عليا قال له النبي صلى الله عليه وسلم
" ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن
معي الهدي فلا تحل " (الثاني) ان لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي على ما سنبينه
(الثالث) ان لا يكون فلان أحرم فيكون إحرامه مطلقا حكمه حكم الفصل الذي قبله (الرابع) ان
لا يعلم هل أحرم فلان أولا فحكمه حكم من لم يحرم لأن الأصل عدم إحرامه فيكون إحرامه ههنا
مطلقا يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف فحسن، وان طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه
لأنه طاف لا في حج ولا عمرة
251

(فصل) إذا أحرم بنسك ثم نسيه قبل الطواف فله صرفه إلى أي الانساك شاء فإنه ان صرفه
إلى عمرة وكان المنسي عمرة فقد أصاب، وإن كان حجا مفردا أو قرانا فله فسخهما إلى العمرة على ما
سنذكره، وإن صرفه إلى القران وكان المنسي قرانا فقد أصاب، وإن كان عمرة فادخال الحج على
العمرة جائز قبل الطواف فيصير قارنا، وإن كان مفردا لغا إحرامه بالعمرة وصح بالحج وسقط
فرضه، وان صرفه إلى الافراد وكان مفردا فقد أصاب، وإن كان متمتعا فقد أدخل الحج على العمرة
فصار قارنا في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى وهو يظن أنه مفرد، وإن كان قارنا فكذلك والمنصوص
عن أحمد انه يجعله عمرة، قال القاضي هذا على سبيل الاستحباب لأنه إذا استحب ذلك في حال العلم
فمع عدمه أولى، وقال أبو حنيفة يصرفه إلى القران وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم
يتحرى فيبني على غالب ظنه لأنه من شرائط العبادة فيدخله التحري كالقبلة، ومنشأ الخلاف على فسخ
الحج إلى العمرة فإنه جائز عندنا وغير جائز عندهم فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع عليه دم
المتعة ويجزئه عن الحج والعمرة جميعا، وإن صرفه إلى افراد أو قران لم يجزئه عن العمرة إذ من
252

المحتمل أن يكون المنسي حجا مفردا وليس له ادخال العمرة على الحج فتكون صحة العمرة مشكوكا
فيها فلا تسقط من ذمته بالشك ولا دم عليه لذلك فإنه لم يثبت حكم القران يقينا، ولا يجب الدم مع
الشك في سببه، ويحتمل أن يجب فاما ان شك بعد الطواف لم يجز صرفه إلا إلى العمرة لأن إدخال
الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز فإن صرفه إلى الحج أو قران فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه
عن واحد من النسكين لأنه يحتمل أن يكون المنسي عمرة فلم يصح إدخال الحج عليها بعد طوافها،
ويحتمل أن يكون حجا وادخال العمرة عليه غير جائز فلم يجزئه واحد منهما مع الشك ولا دم عليه
للشك فيما يوجب الدم ولا قضاء عليه للشك فيما يوجبه، وان شك وهو في الوقوف بعد أن طاف
وسعى جعله عمرة فقصر ثم أحرم بالحج فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعا، وإن كان
افرادا أو قرانا لم ينفسخ بتقصيره وعليه دم بكل حال، فإنه لا يخلو من أن يكون متمتعا عليه دم
المتعة أو غير متمتع فيلزمه دم لتقصيره، وان شك ولم يكن طاف وسعى جعله قرانا لأنه إن كان قارنا
فقد أصاب وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارنا، وإن كان مفردا لغا احرامه
بالعمرة وصح احرامه بالحج، وان صرفه إلى الحج جاز أيضا ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع
لاحتمال أن يكون مفردا، وادخال العمرة على الحج غير جائز ولا دم عليه للشك في وجود سببه
253

(فصل) وان أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى، وبه قال مالك
والشافعي وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها ولم يتمها
ولنا انهما عبادتان لا يلزمه فيهما فلم يصح الاحرام بهما كالصلاتين، وعلى هذا لو أفسد حجه
أو عمرته لم يلزمه الا قضاؤها؟ وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة احرامه بهما
(مسألة) قال (فإذا استوى على راحلته لبى)
التلبية في الاحرام مسنونة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر برفع الصوت بها، وأقل أحوال ذلك
الاستحباب، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم اي الحج أفضل؟ قال " العج والثلج " وهذا حديث غريب ومعنى
العج رفع الصوت بالتلبية، والثلج إسالة الدماء بالذبح والنحر، وروى سهل بن سعد قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يلبي الا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا
وههنا " رواه ابن ماجة وليست واجبة وبهذا قال الحسن بن حي والشافعي وعن أصحاب مالك انها
واجبة يجب بتركها دم وعن الثوري وأبي حنيفة انها من شرط الاحرام لا يصح الا بها كالتكبير
للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج) قال ابن عباس: الاهلال. وعن عطاء
وطاوس وعكرمة هو التلبية، ولان النسك عبادة ذات احرام واحلال فكان فيها ذكر واجب كالصلاة
ولنا انها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الأذكار، وفارق الصلاة فإن النطق يجب في آخرها فوجب
في أولها والحج بخلافه ويستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر
254

النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب راحلته واستوت به أهل رواهما البخاري، وقال ابن عباس أوجب رسول الله
صلى الله عليه وسلم الاحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل يعني لبى ومعنى الاهلال
رفع الصوت بالتلبية من قولهم استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه انهم كانوا إذا رؤي الهلال صاحوا
فيقال استهل الهلال، ثم قيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع الصوت بالتلبية
(فصل) ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أتاني جبريل فأمرني أن آمر
أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالاهلال والتلبية " رواه النسائي وأبو داود والترمذي وقال حديث
حسن صحيح، قال أنس سمعتهم يصرخون بهما صراخا، وقال أبو حازم كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا
يأتي الروحاء حتى يصحل صوته ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته
(مسألة) قال (فيقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك)
هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في الصحيحين عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " رواه البخاري عن
عائشة ومسلم عن جابر، والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال إنا مقيم على طاعتك
وأمرك غير خارج عن ذلك، ولا شارد عليك هذا أو ما أشبهه. وثنوها كرروها لأنهم أرادوا إقامة
بعد إقامة كما قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة، أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه، وقال جماعة من أهل
العلم معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج وروي عن ابن عباس قال لما فرغ
إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج فقال: رب ما يبلغ صوتي قال اذن
255

وعلي البلاغ فنادى إبراهيم: أيها الناس كتب عليكم الحج قال فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا
ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون: لبيك إن الحمد (بكسر الألف) نص عليه احمد
والفتح جائز الا ان الكسر أجود قال ثعلب: من قال أن بفتحها فقد خص ومن قال بكسر الألف
فقد عم يعني أن من كسر جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك أي لهذا السبب
(فصل) ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكره ونحو ذلك قال الشافعي
وابن المنذر وذلك لقول جابر: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك
لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وأهل الناس بهذا الذي يهلون، ولزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا لبيك لبيك، لبيك وسعديك
والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل، متفق عليه وزاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا
ومرغوبا إليك لبيك. هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنسا كان يزيد لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا
وهذا يدل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها
وقد روي أن سعدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي: يا ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج وما هكذا
كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
256

(فصل) ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته قال أحمد: ان شئت لبيت بالحج وان شئت لبيت
بالحج والعمرة، وإن شئت بعمرة. وان لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة فقلت لبيك بعمرة وحجة وقال
أبو الخطاب لا يستحب ذلك وهو اختيار ابن عمر وقول الشافعي لأن جابرا قال ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم في
تلبيته حجا ولا عمرة وسمع ابن عمر رجلا يقول لبيك بعمرة فضرب صدره وقال تعلمه ما في نفسك.
ولنا ما روى أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لبيك عمرة وحجا " وقال جابر قدمنا
مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك بالحج وقال ابن عباس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبون
بالحج وقال ابن عمر بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق على هذه الأحاديث
وقال أنس سمعتهم يصرخون بهما صراخا رواه البخاري، وقال أبو سعيد خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
نصرخ بالحج فحللنا فلما كان يوم التروية لبينا بالحج وأطلقنا إلى منى. وهذه الأحاديث أصح وأكثر
من حديثهم وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روى باسناده عن الضبي بن معبد أنه أول
ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا ثم ذكر ذلك لعمر فقال هديت لسنة نبيك وان لم يذكر ذلك في تلبيته
فلا بأس فإن النية محلها القلب والله عالم بها
257

(فصل) وان حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه قال أحمد لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه
وان ذكره في التلبية فحسن قال احمد إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان، ثم لا يبالي أن لا
يقول بعد وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يلبي عن شبرمة " لب عن نفسك ثم لب
عن شبرمة " ومتى أتى بهما جميعا بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد في مواضع وذلك لقول أنس إن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " لبيك بعمرة وحج "
(مسألة) (قال ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا، وأو هبط واديا، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى
رأسه ناسيا، وفي دبر الصلوات المكتوبة)
ويستحب استدامة التلبية والاكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجة عن عبد الله بن عامر
ان ربيعة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يضحى لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه
فعاد كما ولدته أمه " وهي أشد استحبابا في المواضع التي سمى الخرقي لما روى جابر قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا، وفي ادبار الصلوات المكتوبة، ومن آخر
الليل، وقال إبراهيم النخعي كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة، وإذا هبط واديا وإذا علا
258

نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته، وبهذا قال الشافعي، وقد كان قبل يقول
مثل قول مالك لا يلبي عند اصطدام الرفاق، وقول النخعي يدل على أن السلف رحمهم الله كانوا
يستحبون ذلك والحديث يدل عليه أيضا
(فصل) ويجزئ من التلبية في دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ما شئ
يفعله العامة يلبون في دبر الصلاة ثلاث مرات؟ فتبسم وقال ما أدري من أين جاؤوا به؟ قلت أليس
يجزئه مرة واحدة؟ قال بلى، وهذا لأن المروي التلبية مطلقا من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة
وهكذا التكبير في ادبار الصلوات في أيام الأضحى وأيام التشريق. ولا بأس بالزيادة على مرة لأن ذلك
زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فإن الله وتر يحب الوتر
(فصل) ولا يستحب رفع الصوت بالتلبية في الأمصار ولا في مساجدها الا في مكة والمسجد
الحرام لما روي عن ابن عباس انه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت
وهذا قول مالك وقال الشافعي: يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته اخذا من عموم الحديث
ولنا قول ابن عباس: ولان المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما
الا الإمام خاصة فوجب ابقاؤها على عمومها فاما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك وكذلك
المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضا
259

(فصل) ولا يلبي بغير العربية الا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع فلا يشرع بغير العربية كالاذان
والأذكار المشروعة في الصلاة.
(فصل) ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم وبه يقول ابن عباس وعطاء بن السائب وربيعة بن
عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود والشافعي وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال لا يلبى حول البيت
وقال ابن عيينة ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت الا عطاء بن السائب وذكر أبو الخطاب أنه
لا يلبي. وهو قول للشافعي لأنه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى
ولنا أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع
في الطواف ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم وأذكارهم وإذا فرغ من
التلبية صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا بما أحب من خير الدنيا والآخرة لما روى الدارقطني باسناده عن
خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه واستعاذه برحمته
من النار. وقال القاسم بن محمد يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم وجاء في
التفسير في تأويل قوله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) لا أذكر إلا ذكرت معي (1) ولان أكثر المواضع التي
شرع فيها ذكر الله تعالى شرع فيها ذكر نبيه عليه السلام كالاذان والصلاة
260

(فصل) ولا بأس أن يلبي الحلال وبه قال الحسن والنخعي وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور
وابن المنذر وأصحاب الرأي وكرهه مالك.
ولنا أنه ذكر يستحب للمحرم فلم يكره لغيره كسائر الأذكار
(مسألة) (قال والمرأة يستحب لها أن تغتسل عند الاحرام وان كانت حائضا أو نفساء
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل)
وجملة ذلك أن الاغتسال مشروع للنساء عند الاحرام كما يشرع للرجال لأنه نسك وهو في
حق الحائض والنفساء آكد لورود الخبر فيهما قال جابر حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس
محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال " اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي "
رواه مسلم وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " النفساء والحائض إذا أتيا على الوقت يغتسلان ويحرمان
ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت رواه أبو داود وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تغتسل لاهلال
الحج وهي حائض، وان رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء استحب لها تأخير
الاغتسال حتى تطهر ليكون أكمل لها فإن خشيت الرحيل قبله اغتسلت وأحرمت
261

(مسألة) قال (ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه)
هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة وأبي صالح ذكوان أنه يشق
ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه
ولنا ما روى يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل
أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم " أما الطيب الذي بك فاغسله، واما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك "
متفق عليه وهذا لفظ مسلم قال عطاء كنا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول فيمن أحرم وعليه قميص
أو جبة فليخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك، ولان في شق
الثوب إضاعة ماليته وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
(فصل) وإذا نزع في الحال فلا فدية عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بفدية، وإن استدام
اللبس بعد أمكان نزعه فعليه الفدية لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
الرجل بنزع جبته، وإنما لم يأمره بفدية لما مضى فيما نرى لأنه كان جاهلا بالتحريم فجرى مجرى الناسي
262

(مسألة) قال (وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة)
هذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير وعطاء ومجاهد والحسن والشعبي والنخعي
وقتادة والثوري وأصحاب الرأي، وروي عن عمر وابنه وابن عباس أشهر الحج شوال وذو القعدة
وذو الحجة وهو قول مالك لأن أقل الجمع ثلاثة، وقال الشافعي آخر أشهر الحج ليلة النحر وليس يوم
النحر منها لقوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج) ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " يوم الحج الأكبر يوم النحر " رواه أبو داود فيكف يجوز أن يكون يوم
الحج الأكبر ليس من أشهره، وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة، ولان يوم النحر فيه ركن
الحج وهو طواف الزيارة، وفيه كثير من أفعال الحج منها رمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف
والسعي والرجوع إلى منى. وما بعده ليس من أشهره لأنه ليس بوقت لاحرامه ولا لأركانه فهو كالمحرم
ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث، فقد قال بعض أهل العربية عشرون جمع عشر
وإنما هي عشران وبعض الثالث، وقال الله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والقرء الطهر عنده
ولو طلقها في طهر احتسبت ببقيته، وتقول العرب ثلاث خلون من ذي الحجة وهم في الثالثة، وقوله
(فرض فيهن الحج) أي في أكثرهن والله أعلم
263

باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له
(مسألة) قال أبو القاسم (ويتوقى في احرامه ما نهاه الله عنه من الرفث وهو الجماع
والفسوق وهو السباب والجدال وهو المراء)
يعني بقوله ما نهاه الله عنه قوله سبحانه (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج) وهذا صيغته صيغة النفي أريد به النهي كقوله سبحانه (لا تضار والدة
بولدها) والرفث هو الجماع روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء بن أبي رباح وعطاء بن يسار
ومجاهد والحسن والنخعي والزهري وقتادة، وروي عن ابن عباس أنه قال: الرفث غشيان النساء والتقبيل
والغمز، وان يعرض لها بالفحش من الكلام، وقال أبو عبيدة: الرفث لغا الكلام وأنشد قول العجاج
* عن اللغا ورفث التكلم *
وقيل الرفث هو ما يكنى عنه من ذكر الجماع، وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتا فيه التصريح
بما يكنى عنه من الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك، فقال إنما الرفث ما روجع به النساء، وفي لفظ
264

ما قيل من ذلك عند النساء، وكل ما فسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه إلا أنه في الجماع أظهر لما
ذكرنا من تفسير الأئمة له بذلك، ولأنه قد جاء في الكتاب في موضع آخر وأريد به الجماع قال الله
تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) فأما الفسوق فهو السباب لقول النبي (ص) " سباب المسلم
فسوق " متفق عليه، وقيل الفسوق المعاصي، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وإبراهيم
وقالوا أيضا الجدال المراء، وقال ابن عباس هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك
كله قال النبي (ص) " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " متفق
عليه، وقال مجاهد في قوله تعالى (ولا جدال في الحج) أي لا مجادلة ولا شك في الحج أنه في
ذي الحجة وقول الجمهور أولى
(مسألة) قال (ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع، وقد روي عن شريح أنه كان
إذا أحرم كأنه حية صماء)
وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في
الكذب وما لا يحل، فإن من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله
265

صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " قال الترمذي هذا حديث
حسن صحيح متفق عليه، وعن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه "
رواه ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وروي في المسند عن الحسين بن علي عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو داود أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها، وهذا في حال الاحرام أشد
استحبابا لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل فيشبه الاعتكاف، وقد احتج أحمد على ذلك
بأن شريحا رحمه الله كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى
أو قراءة القرآن، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تعليم الجاهل، أو يأمر بحاجته أو يسكت
وإن تكلم بما لا مأثم فيه، أو أنشد شعرا لا يقبح فهو مباح ولا يكثر فقد روى عن عمر (رض) أنه كان
على ناقة له وهو محرم فجعل يقول
كأن راكبها غصن بمروحة * إذا تدلت به أو شارب ثمل
الله أكبر الله أكبر وهذا يدل على الإباحة. والفضيلة الأول
266

(مسألة) قال (ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في إباحة قتل القمل فعنه اباحته لأنه من أكثر الهوام أذى
فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي وقول النبي صلى الله عليه وسلم " خمس فواسق يقتلن في الحل
والحرم " يدل بمعناه على إباحة قتل كل ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم، وعنه أن قتله محرم وهو
ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بإزالته عنه فحرم كقطع الشعر، ولان النبي صلى الله عليه وسلم رأى كعب
ابن عجرة والقمل يتناثر على وجهه فقال له " احلق رأسك " فلو كان قتل القمل أو إزالته مباحا لم يكن
كعب ليتركه حتى يصير كذلك أو لكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإزالته خاصة والصئبان
كالقمل في ذلك، ولا فرق بين قتل القمل أو إزالته بالقائه على الأرض أو قتله بالزئبق، فإن قتله لم
يحرم لحرمته لكن لما فيه من الترفه فعم المنع إزالته كيفما كانت، ولا يتفلى فإن التفلي عبارة عن
إزالة القمل وهو ممنوع منه ويجوز له حك رأسه ويرفق في الحك كيلا يقطع شعرا أو يقتل قملة،
267

فإن حك فرأى في يده شعرا أحببنا أن يفديه احتياطا ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه. قال
بعض أصحابنا: إنما اختلفت الرواية في القمل الذي في شعره، فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه فلا فدية فيه
(فصل) فإن خالف وتفلى أو قتل قملا فلا فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد
أذهب قملا كثيرا ولم يجب عليه لذلك شئ وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر، ولان القمل لا قيمة له
أشبه البعوض والبراغيث، ولأنه ليس بصيد ولا هو مأكول، حكي عن ابن عمر قال: هي أهون
مقتول، وسئل ابن عباس عن محرم ألقى قملة ثم طلبها فلم يجدها فقال تلك ظالة لا تبتغى وهذا قول
طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي ثور وابن المنذر، وعن أحمد فيمن قتل قملة قال يطعم شيئا، فعلى هذا
أي شئ تصدق به أجزأه سواء قتل كثيرا أو قليلا وهذا قول أصحاب الرأي، وقال إسحاق تمرة
فما فوقها، وقال مالك حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر، وقال عطاء قبضة من طعام، وهذه
الأقوال كلها ترجع إلى ما قلناه فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما هو التقريب لأقل ما يتصدق به
268

(فصل) ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وبدنه برفق فعل ذلك عمر وابنه، ورخص فيه علي
وجابر وسعيد بن جبير والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء
ويغيب فيه رأسه، ولعله ذهب إلى أن ذلك ستر له والصحيح أنه لا بأس بذلك وليس ذلك بستر
ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة، وقد روي عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر ونحن محرمون
بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفسا في الماء وقال ربما قامست عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن
محرمون. رواهما سعيد، ولأنه ليس بستر معتاد أشبه صب الماء عليه أو وضع يديه عليه: وقد روي
عبد الله بن جبير قال: أرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل فسلمت عليه
فقال من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول
269

الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطاطاه حتى بدا لي رأسه
ثم قال لانسان يصب عليه الماء صب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم
قال: هكذا رأيت رسول الله (ص) يفعل، متفق عليه، وأجمع أهل العلم على أن
المحرم يغتسل من الجنابة
(فصل) ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع
الشعر وكرهه جابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه، وبهذا قال
الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد عليه الفدية، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه عليه
270

صدقه لأن الخطمي تستلذ رائحته وتزيل الشعث وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصه بعيره " أغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا
تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع اثبات حكم
الاحرام في حقه والخطمي كالسدر ولأنه ليس بطيب فلم تجب باستعماله الفدية كالتراب وقولهم تستلذ
رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب، وإزالة الشعث تحصل بذلك أيضا وقتل الهوام لا يعلم حصوله ولا
يصح قياسه على الورس لأنه طيب ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوب منع منه بخلاف مسئلتنا
271

(مسألة) قال (ولا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس)
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويلات
والخفاف والبرانس.
والأصل في هذا ما روى ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا
أحدا لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه
الزعفران ولا الورس " متفق عليه نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأشياء والحق بها أهل العلم ما في معناها
مثل الجبة والدراعة والثياب وأشباه ذلك فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره ولا ستر عضو من
أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن والقفازين لليدين والخفين للرجلين
ونحو ذلك وليس في هذا كله اختلاف قال ابن عبد البر لا يجوز لباس شئ من المخيط عند الجميع أهل
العلم وأجمعوا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء
(مسألة) (قال فإن لم يجد إزارا لبس السراويل وان لم يجد نعلين لبس الخفين
ولا يقطعهما ولا فداء عليه)
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن للمحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار والخفين إذا لم
يجد نعلين وبهذا قال عطاء وعكرمة والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم
272

والأصل فيه ما روى ابن عباس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات " يقول من لم يجد نعلين
فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم " متفق عليه وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثل ذلك أخرجه مسلم ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك في قول من سمينا إلا مالكا وأبا حنيفة
قالا على من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولان ما وجبت الفدية يلبسه مع
وجود الإزار وجبت مع عدمه كالقميص
ولنا خبر ابن عباس وهو صريح في الإباحة ظاهر في اسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم يذكر
فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص
بحديث ابن عباس وجابر فأما القميص فيمكنه ان يتزر به من غير لبس ويستتر بخلاف السراويل
(فصل) وإذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد ويروى ذلك عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح، وعن أحمد أنه يقطعهما
حتى يكونا أسفل من الكعبين فإن لبسهما من غير قطع افتدى وهذا قول عروة بن الزبير ومالك
والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روى ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال
" فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " متفق عليه وهو
متضمن لزيادة على حديث ابن عباس وجابر الزيادة من الثقة مقبولة قال الخطابي: العجب من احمد
273

في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه. واحتج احمد بحديث ابن عباس وجابر " من
لم يجد نعلين فليلبس خفين " مع قول علي رضي الله عنه قطع الخفين فساد يلبسهما كما هما مع موافقة
القياس فإنه ملبوس أبيح لعدم غيره فأشبه السراويل وقطعه لا يخرجه عن حالة الخطر فإن لبس
المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وفيه اتلاف ماله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
إضاعته فأما حديث ابن عمر فقد قيل إن قوله وليقطعهما من كلام نافع كذلك رويناه في أمالي أبي
القاسم بن بشران باسناد صحيح أن نافعا قال بعد روايته للحديث: وليقطع الخفين أسفل من الكعبين.
وروي ابن أبي موسى عن صفية بنت أبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية
فلما أخبرته بهذا رجع، وروي أبو حفص في شرحه باسناده عن عبد الرحمن بن عوف أنه طاف وعليه
خفان فقال عمر والخفان مع القباء فقال قد لبستهما مع من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويحتمل أن يكون الامر بقطعهما منسوخا فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعا وقال
انظروا أيهما كان قبل، قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري حديث ابن عمر قيل لأنه قد جاء في
بعض رواياته قال نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الاحرام
وفي حديث ابن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد نعلين فليلبس خفين "
274

فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخا له لأنه لو كان القطع واجبا لبينه للناس إذ لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه والمفهوم من اطلاق لبسهما على حالهما من غير قطع والأولى
قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف وأخذا بالاحتياط
(فصل) فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية وليس له لبسه نص عليه أحمد وبهذا
قال مالك وقال أبو حنيفة لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرما وفيه فدية لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بقطعهما لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع
وجودهما ولأنه مخيط لعضو على قدره فوجبت على المحرم الفدية يلبسه كالقفازين
(فصل) فاما اللالكة والجمجم ونحوهما فقياس قول احمد أنه لا يلبس ذلك فإنه قال لا يلبس
النعل التي لها قيد وهذا أشد من النعل التي لها قيد وقد قال في رأس الخف الصغير لا يلبسه وذلك لأنه
يستر القدم وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فإن عدم النعلين كان له لبس ذلك ولا فدية عليه لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى
(فصل) فاما النعل فيباح لبسها كيفما كانت ولا يجب قطع شئ منها لأن إباحتها وردت مطلقا
وروي عن أحمد في القيد في النعل يفتدى لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال إذا أحرمت فاقطع
المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول فيه دم وقال ابن أبي موسى في
275

الارشاد في القيد والعقب الفدية والقيد هو السير المعترض على الزمام قال القاضي: إنما كرههما إذا
كانا عريضين وهذا هو الصحيح فإنه لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل
أولى أن لا يجب، ولان ذلك معتاد في النعل فلم يجب ازالته كسائر سيورها ولان قطع القيد
والعقب ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب كقطع القبال
(فصل) فإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لأن مالا يمكن استعماله
كالمعدوم كما ما لو كانت النعل لغيره أو صغيرة وكالماء في التيمم والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولان العجز
عن لبسها قال مقام العدم في إباحة لبس الخف فكذلك في اسقاط الفدية والمنصوص أن عليه الفدية
لقوله " من لم يجد نعلين فيلبس الخفين " وهذا واجد
(فصل) ليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره الا الإزار والهميان وليس له أن يجعل
لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط لأنه في حكم المخيط، وروى الأثرم عن مسلم بن
جندب عن ابن عمر قال جاء رجل يسأله وأنا معه أخالف بين طرفي ثوبي من ورائي ثم أعقده؟ وهو
محرم فقال ابن عمر لا تعقد عليه شيئا وعن أبي معبد مولى ابن عباس أن ابن عباس قال له يا أبا معبد
زر علي طيلساني وهو محرم فقال له كنت تكره هذا قال إني أريد ان أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص
276

ويرتدي به ويرتدي برداء موصل ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو
(فصل) ويجوز أن يعقد ازاره عليه لأنه يحتاج إليه لستر العورة فيباح كاللباس للمرأة وان شد
وسطه بالمنديل أو بحبل أو سراويل جاز إذا لم يعقده قال احمد في محرم حزم عمامة على وسطه لا تعقدها
ويدخل بعضها في بعض قال طاوس رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه
فأدخلها هكذا ولا يجوز أن يشق أسفل ازاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل
ولا يلبس الران لأنه في معناه ولأنه معمول على قدر العضو الملبوس فيه فأشبه الخف
(مسألة) قال (ويلبس الهميان ويدخل السيور بعضها في بعض ولا يعقدها)
وجملة ذلك أن لبس الهميان مباح للمحرم في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس
وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم والنخعي وإسحاق وأبي ثور
وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى أمكنه
أن يدخل السيور بعضها في بعض ويثبت بذلك لم يعقده لأنه لا حاجة إلى عقده، وان لم يثبت الا
بعقده عقده نص عليه احمد وهو قول إسحاق وقال إبراهيم كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم
ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة أوثق عليك نفقتك وذكر القاضي في الشرح ان ابن عباس
قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحرم في الهميان أن يربطه إذا كانت فيه نفقته وقال ابن عباس أوثقوا
277

عليكم نفقاتكم ورخص في الخاتم والهميان للمحرم وقال مجاهد عن ابن عمر أنه سئل عن المحرم يشد
الهميان عليه فقال لا بأس به إذا كانت فيه نفقته يستوثق من نفقته ولأنه مما تدعو الحاجة إلى شده
فجاز كعقد الإزار فإن لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روي
عن ابن عمر انه كره الهميان والمنطقة للمحرم وكرهه نافع مولاه وهو محمول على ما ليس فيه نفقة لما تقدم
من الرخصة فيما فيه النفقة وسئل احمد عن المحرم يلبس المنطقة من وجع الظهر أو حاجة إليها قال يفتدي
فقيل له أفلا تكون مثل الهميان؟ قال لا وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأنه أباح شد الهميان إذا
كانت فيه النفقة والفرق بينهما أن الهميان تكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها فأبيح شد ما فيه النفقة
للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد ما سوى ذلك فإن كانت فيهما نفقة أو لم يكن فيهما نفقة فهما سواء
وقد قالت عائشة في المنطقة للمحرم أوثق عليك نفقتك فرخصت فيها إذا كانت فيها النفقة ولم يبح
احمد شد المنطقة لوجع الظهر ألا ان يفتدي لأن المنطقة ليست معدة لذلك ولأنه فعل المحظور في
الاحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو حلق رأسه لإزالة أذى
القمل أو تطيب لأجل المرض
(مسألة) (قال وله أن يحتجم ولا يقطع شعرا)
أما الحجامة إذا لم يقطع شعرا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو باخراج دم فأشبه
الفصد وبط الجرح وقال مالك لا يحتجم الا من ضرورة وكان الحسن يرى في الحجامة دما
ولنا أن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم متفق عليه ولم يذكر فدية ولأنه لا
278

يترفه بذلك فأشبه شرب الأدوية، وكذلك الحكم في قطع العضو عند الحاجة والختان كل ذلك مباح
من غير فدية فإن احتاج في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبد الله بن بحينة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم احتجم بلحي جمل في طريق مكة وهو محرم وسط رأسه متفق عليه، ومن ضرورة ذلك قطع
الشعر، ولأنه يباح حلق الشعر لإزالة أذى القمل فكذلك ههنا وعليه الفدية، وبهذا قال مالك والشافعي
وأبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر وقال صاحبا أبي حنيفة يتصدق بشئ
ولنا قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) الآية ولأنه حلق شعر
لإزالة ضرر غيره فلزمته الفدية كما لو حلقه لإزالة قملة فاما ان قطع عضوا عليه شعر أو جلدة عليها شعر
فلا فدية عليه لأنه زال تبعا لما لا فدية فيه
279

(مسألة) قال (ويتقلد بالسيف عند الضرورة)
وجملة ذلك أن المحرم إذا احتاج إلى تقلد السيف فله ذلك وبهذا قال مالك وأباح عطاء والشافعي
وابن المنذر تقلده وكرهه الحسن والأول أولى لما روى أبو داود باسناده عن البراء قال لما صالح رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها الا بجلبان السلاح (القراب بما فيه) وهذا ظاهر
في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا
حمل السلاح في قرابه. فأما من غير خوف فإن أحمد قال لا الا من ضرورة. وإنما منع منه لأن ابن
عمر قال لا يحمل المحرم السلاح في الحرم والقياس إباحته لأن ذلك ليس هو في معنى الملبوس المنصوص
على تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه لا يحرم عليه ذلك ولا فدية عليه فيه. وسئل احمد عن المحرم يلقي
جرابه في رقبته كهيئة القربة قال أرجو أن لا يكون به بأس
280

(مسألة) قال (وان طرح على كتفيه القباء والدواج فلا يدخل يديه في الكمين)
ظاهر هذا اللفظ إباحة لبس القباء ما لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن وعطاء وإبراهيم
وبه قال أبو حنيفة. وقال القاضي وأبو الخطاب إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية وان لم يدخل
يديه في كميه وهو مذهب مالك والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فلزمته الفدية
إذا كان عامدا كالقميص وروي ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الأقبية. ووجه قول الخرقي
ما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة: ان لم يجد إزارا لبس السراويل، وان لم يجد
نعلين لبس الخفين. ولان القباء لا يحيط بالبدن فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه
281

في كميه كالقميص يتشح به. وقياسهم منقوض بالرداء الموصل، والخبر محمول على لبسه مع ادخال يديه في كميه
(مسألة) (قال ولا يظلل على رأسه في المحمل فإن فعل فعليه دم)
كره احمد في الاستظلال في المحمل خاصة، وما كان في معناه كالهودج والعمارية والكبيسة ونحو ذلك
على البعير وكره ذلك ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي وأهل المدينة وكان سفيان بن عيينة
يقول لا يستظل البتة ورخص فيه ربيعة والثوري والشافعي وروي ذلك عن عثمان وعطاء لما روت أم
الحصين قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام
ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة وراه مسلم وغيره، ولأنه يباح
له التظلل في البيت والخباء فجاز في حال الركوب كالحلال، ولان ماحل للحلال حل للمحرم إلا ما قام
282

على تحريمه دليل واحتج احمد بقول ابن عمر روى عطاء قال رأى أبن عمر على رحل عمر بن عبد الله
ابن أبي ربيعة عودا يستره من الشمس فنهاه، وعن نافع عن ابن عمر أنه رأى رجلا محرما على رحل
قد رفع ثوبا على عود يستتر به من الشمس فقال اضح لمن أحرمت له (أي أبرز للشمس) رواهما الأثرم
ولأنه ستر بما يقصد به الترفه أشبه ما لو غطاه والحديث ذهب إليه احمد فلم يكره أن يستتر بثوب ونحوه
فإن ذلك لا يقصد للاستدامة، والهودج بخلافه، والخيمة والبيت يرادان لجمع الرحل وحفظه لا للترفه
وظاهر كلام أحمد أنه إنما كره ذلك كراهة تنزيه لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر، ولم ير ذلك
حراما ولا موجبا لفدية. قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على المحمل؟ قال لا
وذكر حديث ابن عمر: اضح لمن أحرمت له، قيل له فإن فعل يهريق دما؟ قال أما الدم فلا، قيل فإن
أهل المدينة يقولون عليه دم، قال نعم أهل المدينة يغلطون فيه وقد روي ذلك عن أحمد وهو اختيار
283

الخرقي لأنه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالبا فأشبه ما لو ستره بشئ يلاقيه، ويروي عن الرياشي
قال: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم حر شديد وقد ضحي للشمس فقلت له يا أبا الفضل هذا
أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فانشأ يقول:
ضحيت له كي أستظل بظله * إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
فوا أسفا إن كان سعيك باطلا * ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا
284

(فصل) ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء، وإن نزل تحت شجرة فلا
بأس بان يطرح عليها ثوبا ويستظل به عند جميع أهل العلم وقد صح به النقل فإن جابرا قال في حديث
حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فأتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة
فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس. رواه مسلم وابن ماجة وغيرهما، ولا بأس أيضا أن ينصب حياله
ثوبا يقيه الشمس والبرد، إما أن يمسكه انسان أو يرفعه على عود على نحو ما روي في حديث أم الحصين
ان بلالا أو أسامة كان رافعا ثوبا يستر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحر، ولان ذلك لا يقصد به الاستدامة
فلم يكن به بأس كالاستظلال بحائط
285

(مسألة) قال (ولا يقتل الصيد ولا يصيده ولا يشير إليه ولا يدل عليه حلالا ولا حراما)
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد نص الله تعالى عليه في
كتابه فقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقال تعالى (وحرم عليكم صيد
البر ما دمتم حرما) وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه فإن في حديث أبي قتادة لما صاد الحمار
الوحشي وأصحابه محرمون قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ "
وفي لفظ متفق عليه " فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني
أبصرته " وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الدلالة عليه وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم " هل منكم أحد
أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " يدل على تعلق التحريم بذلك لو وجد منهم، ولأنه تسبب إلى
محرم عليه فحرم كنصبه الأحبولة
(فصل) ولا تحل له الإعانة على الصيد بشئ فإن في حديث أبي قتادة المتفق عليه: ثم ركبت
ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح قالوا والله لا نعينك عليه، وفي رواية
فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني. وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الإعانة والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك
ولأنه إعانة على محرم فحرم الإعانة على قتل الآدمي
(فصل) ويضمن الصيد بالدلالة فإذا دل المحرم على الصيد فأتلفه فالجزاء كله على المحرم.
روي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال مالك
286

والشافعي لا شئ على الدال لأنه يضمن بالجناية فلا يضمن بالدلالة كالآدمي
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ "
ولأنه سبب يتوصل به إلى اتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب أحبولة، ولأنه قول علي وابن
عباس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة
(فصل) فإن دل محرما على الصيد فقتله فالجزاء بينهما، وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان،
وقال الشعبي وسعيد بن جبير والحارث والعكلي وأصحاب الرأي على كل واحد جزاء لأن كل واحد
من الفعلين يستقل بجزاء كامل إذا كان منفردا، فكذلك إذا انضم إليه غيره، وقال مالك
والشافعي لا ضمان على الدال
ولنا أن الواجب جزاء التلف وهو واحد فيكون الجزاء واحد، وعلى مالك والشافعي ما سبق
ولا فرق في جميع ذلك بين كون المدلول ظاهرا أو خفيا لا يراه إلا بالدلالة عليه، ولو دل محرم محرما
على صيد ثم دل الآخر آخر، ثم كذلك إلى عشرة فقتله العاشر كان الجزاء على جميعهم، وإن قتله
الأول لم يضمن غيره لأنه لم يدله عليه أحد فلا يشاركه في ضمانه أحد، ولو كان المدلول رأى الصيد
قبل الدلالة والإشارة فلا شئ على الدال والمشير لأن ذلك لم يكن سببا في تلفه، ولأن هذه ليست
دلالة على الحقيقة، وكذلك إن وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد من ضحك أو استشراف
287

إلى الصيد ففطن له غيره فصاده فلا شئ على المحرم بدليل ما جاء في حديث أبي قتادة قال: خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ بصرت
بأصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش، وفي لفظ فبينا أنا مع أصحابي يضحك بعضهم إذ
نظرت فإذا أنا بحمار وحش، وفي لفظ: فلما كنا بالصفاح فإذا هم يراءون، فقلت أي شئ
تنظرون؟ فلم يخبروني. متفق عليه
(فصل) فإن أعار قاتل الصيد سلاحا فقتله به فهو كما لو دله عليه سواء كان المستعار ممالا يتم قتله
إلا به، أو أعاره شيئا هو مستغن عنه مثل أن يعيره رمحا ومعه رمح، وكذلك لو أعانه عليه بمناولته
سوطه أو رمحه، أو أمره باصطياده لما ذكرنا من حديث أبي قتادة وقول أصحابه: والله لا نعينك
عليه بشئ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ "
وكذلك إن أعاره سكينا فذبحه بها، فإن أعاره آلة ليستعملها في غير الصيد فاستعملها في الصيد لم
يضمن لأن ذلك غير محرم عليه فأشبه ما لو ضحك عند رؤية الصيد ففطن له انسان فصاده
(فصل) وإن دل الحلال محرم على الصيد فقتله فلا شئ على الحلال لأنه لا يضمن الصيد
بالاتلاف فبالدلالة أولى إلا أن يكون ذلك في الحرم فيشاركه في الجزاء لأن صيد الحرم حرام على
الحلال والحرام نص عليه أحمد
288

(فصل) وإن صاد المحرم صيدا لم يملكه فإن تلف في يده فعليه جزاؤه، وإن أمسكه حتى حل
لزمه إرساله وليس له ذبحه، فإن فعل أو تلف الصيد ضمنه وحرم أكله لأنه صيد ضمنه بحرمة الاحرام
فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال احرامه، ولأنها ذكاة منع منها بسبب الاحرام فأشبهت ما لو كان الاحرام
باقيا، واختار أبو الخطاب أن له أكله وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده
بعد الحل والفرق ظاهر لأن هذا يلزمه ضمانه والذي صاده بعد الحل لا ضمان عليه فيه
(مسألة) قال (ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله)
لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه وقد قال الله تعالى (وحرم عليكم صيد
البر ما دمتم حرما) وان صاده حلال وذبحه وكان من المحرم إعانة فيه أو دلالة عليه أو إشارة إليه لم
يبح أيضا، وان صيد من أجله لم يبح له أيضا أكله، روي ذلك أن عثمان بن عفان، وهو قول مالك
والشافعي، وقال أبو حنيفة له اكله لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أو أشار
إليه بشئ؟ " قالوا لا قال " فكلوا ما بقي من لحمها " متفق عليه. فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة
والامر والإعانة، ولأنه صيد مذكى لم يحصل فيه ولا في سببه صنع منه فلم يحرم عليه أكله كما لو لم يصد له
289

وحكي عن علي وابن عمر وعائشة وابن عباس أن لحم الصيد يحرم على المحرم بكل حال، وبه قال
طاوس وكرهه الثوري وإسحاق لعموم قوله (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وروي عن ابن
عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالابواء أو بودان
فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه قال " انا لم نرده عليك الا انا
حرم " متفق عليه، وفي لفظ أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل حمار وفي رواية: عجز
حمار وفي رواية شق حمار روي ذلك كله مسلم وروى أبو داود باسناده عن عبد الله بن الحارث عن
أبيه قال كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع له طعاما وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحم الوحش
فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال أطعموه قوما حلالا فانا حرم ثم قال علي أنشد الله من كان
ههنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش فأبى أن يأكله؟ قالوا نعم
ولأنه لحم صيد فحرم على المحرم كما لو دل عليه
ولنا ما روى جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو
يصد لكم " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هو أحسن حديث في الباب، وهذا صريح
في الحكم وفيه جمع بين الأحاديث وبيان المختلف منها فإن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للاكل مما أهدي إليه
290

يحتمل أن يكون لعلمه أنه صيد من أجله أو ظنه، ويتعين حمله على ذلك لما قدمت من حديث أبي قتادة
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأكل الحمار الذي صاده، وعن طلحة أنه أهدي له طير وهو راقد فاكل بعض
أصحابه وهم محرمون وتورع بعض فلما استيقظ طلحة وافق من أكله وقال أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم
وفي الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي
عقير فجاء البهزي وهو صاحبه فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه
بين الرفاق وهو حديث صحيح وأحاديثهم ان لم يكن فيها ذكر أنه صيد من أجلهم فتعين ضم هذا
القيد إليها لحديثنا وجمعا بين الأحاديث، ودفعا للتناقض عنها، ولأنه صيد للمحرم فحرم كما لو أمر أو أعان
(فصل) وما حرم على المحرم لكونه صيد من أجله أو دل عليه أو أعان عليه لم يحرم على الحلال
أكله لقول علي أطعموه حلالا، وقد بينا حمله على أنه صيد من أجلهم، وحديث الصعب بن جثامة حين
رد النبي صلى الله عليه وسلم الصيد عليه ولم ينهه عن أكله ولأنه صيد حلال فأبيح للحلال أكله كما لو صيد لهم وهل
يباح أكله لمحرم آخر ظاهر الحديث اباحته له لقوله " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم "
وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه روي أنه أهدي إليه صيد وهو محرم فقال لأصحابه كلوا
ولم يأكل هو وقال إنما صيد من أجلي ولأنه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه
ويحتمل أن يحرم عليه وهو ظاهر قول علي رضي الله عنه لقوله: أطعموه حلالا فانا حرم ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قتادة " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " قالوا لا، قال
" فكلوه " فمفهومه ان إشارة واحد منهم تحرمه عليهم
291

(فصل) إذا قتل المحرم الصيد ثم أكله ضمنه للقتل دون الاكل. وبه قال مالك والشافعي، وقال
عطاء وأبو حنيفة يضمنه للاكل أيضا لأنه أكل من صيد محرم عليه فيضمنه كما لو أكل مما صيد لأجله
ولنا أنه صيد مضمون بالجزاء فلم يضمن ثانيا كما لو أتلفه بغير الاكل وكصير الحرم إذا قتله الحلال
وأكله، وكذلك أن قتله محرم آخر ثم أكل هذا منه لم يجب عليه الجزاء لما ذكرنا، ولان تحريمه لكونه
ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء، وكذلك أن حرم عليه أكله للدلالة عليه والإعانة عليه فاكل منه لم
يضمن لأنه صيد مضمون بالجزاء مرة فلا يجب به جزاء ثان كما لو أتلفه، وان اكل مما صيد لأجله
ضمنه، وهو قول مالك وقاله الشافعي في القديم وقال في الجديد لا جزاء عليه لأنه أكل للصيد فلم يجب
به الجزاء كما لو قتله ثم أكله
ولنا أنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الاحرام فتعلق به الضمان كالقتل. أما إذا قتله ثم أكله لا يحرم
للاتلاف إنما حرم لكونه ميتة. إذا ثبت هذا فإنه يضمنه بمثله من اللحم لأن أصله مضمون بمثله من
النعم فكذلك أبعاضه تضمن بمثلها بخلاف حيوان الآدمي فإنه يضمن بقيمته فكذلك ابعاضه
(فصل) وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن
والقاسم وسالم ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحكم والثوري وأبو
ثور لا بأس بأكله. قال ابن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني
292

يألكه الحلال، وحكي عن الشافعي قول قديم أنه يحل لغيره الاكل منه لأن من أباحت ذكاته غير
الصيد أباحت الصيد كالحلال
ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي، وبهذا فارق سائر
الحيوانات، وفارق غير الصيد فإنه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال
(فصل) وإذا اضطر المحرم فوجد صيدا وميتة أكل الميتة، وبهذا قال الحسن والثوري ومالك
وقال الشافعي وإسحاق وابن المنذر يأكل الصيد وهذه المسألة مبنية على أنه إذا ذبح الصيد كان ميتة
فيساوي الميتة في التحريم (1) ويمتاز بايجاب الجزاء وما يتعلق به من هتك حرمة الاحرام فلذلك كان
أكل الميتة أولى الا أن تطيب نفسه باكلها فيأكل الصيد كما لو لم يجد غيره
(مسألة) قال (ولا يتطيب المحرم)
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته
راحلته " لا تمسوه بطيب " رواه مسلم، وفي لفظ " لا تحنطوه " متفق عليه فلما منع الميت من الطيب لاحرامه
فالحي أولى، ومتى تطيب فعليه الفدية لأنه استعمل ما حرمه الاحرام فوجبت عليه الفدية كاللباس
ومعنى الطيب ما تطيب رائحته ويتخذ للشم كالمسك والعنبر والكافور والغالية والزعفران وماء الورد والادهان
المطيبة، كدهن البنفسج ونحوه.
(فصل) والنبات الذي تستطاب رائحته على ثلاث أضرب
(أحدها) مالا ينبت للطيب ولا يتخذ منه كنبات الصحراء من الشيح والقيصوم والخزامي
والفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء
293

والعصفر فمباح شمه ولا فدية فيه ولا نعلم فيه خلافا الا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم
أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه
لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب أشبه سائر نبات الأرض، وقد روي أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
كن يحرمن في المعصفرات.
(الثاني) ما ينبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب كالريحان الفارسي والمرزجوش والنرجس
والبرم ففيه وجهان (أحدهما) يباح بغير فدية قاله عثمان بن عفان وابن عباس والحسن ومجاهد وإسحاق
(والآخر) يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية، وهو قول جابر وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه يتخذ
للطيب فأشبه الورد، وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئا وكلام احمد فيه محتمل لهذا
فإنه قال في الريحان ليس من آلة المحرم. ولم يذكر فديته وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر
(الثالث) ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين والخيري (1) فهذا إذا
استعمله وشمه ففيه الفدية لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه فكذلك في أصله وعن أحمد رواية أخرى في
الورد لا فدية عليه في شمه لأنه زهر شمه على جهته أشبه زهر سائر الشجر، وذكر أبو الخطاب في
هذا والذي قبله روايتين والأولى تحريمه لأنه ينبت للطيب ويتخذ منه أشبه الزعفران والعنبر قال
القاضي يقال إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور
(فصل) وان مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق
بأصابعه فعليه الفدية لأنه مستعمل للطيب، وان مس مالا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق وقطع
294

الكافور والعنبر فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب فإن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا وان شم
العود فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا
(مسألة) (قال ولا يلبس ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا طيب)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وهو قول جابر وابن عمر ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب
الرأي قال ابن عبد البر لا خلاف في هذا بين العلماء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا من الثياب شيئا
مسه الزعفران ولا الورس " متفق عليه فكل ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر
بعود فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ولا النوم عليه نص احمد عليه، وذلك لأنه استعمال له فأشبه
لبسه ومتى لبسه أو استعمله فعليه الفدية وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان رطبا يلي بدنه
أو يابسا ينفض فعليه الفدية وإلا فلا لأنه ليس بمتطيب
ولنا أنه منهي عنه لأجل الاحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه، ولأنه محرم استعمل
ثوبا مطيبا فلزمته الفدية به كالرطب فإن غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء
(فصل) وإن انقطعت رائحة الثوب لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث
لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه، وبهذا قال سعيد بن المسيب
والحسن والنخعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء وطاوس وكره ذلك مالك
إلا أن يغسل ويذهب لونه لأن عين الزعفران ونحوه فيه
ولنا أنه إنما نهي عنه من أجل رائحته، وقد ذهبت بالكلية فاما إن لم يكن له رائحة في الحال
لكن كان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحا ففيه الفدية لأنه متطيب بطيب بدليل أن رائحته تظهر عند
رش الماء فيه، والماء لا رائحة له وإنما هي من الصبغ الذي فيه فاما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع
الرائحة والمباشرة فلا فدية عليه بالجلوس والنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية لأنه
يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه
295

(مسألة) قال (ولا بأس بما صبغ بالعصفر)
وجملة ذلك أن العصفر ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه ولا بما صبغ به وهذا قول جابر
وابن عمر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب وهو مذهب الشافعي، وعن عائشة وأسماء
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن يحرمن في المعصفرات وكرهه مالك إذا كان ينتفض في بدنه ولم يوجب
فيه فدية ومنع منه الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ
طيب الرائحة فأشبه ذلك
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن
عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان
الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف. وروى الإمام أحمد في المناسك
باسناده عن عائشة بنت سعد قالت كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم نحرم في المعصفرات ولأنه قول من سمينا
من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا، ولأنه ليس بطيب فلم يكره ما صبغ به كالسواد والمصبوغ بالمغرة
وأما الورس والزعفران فإنه طيب بخلاف مسئلتنا
(فصل) ولا بأس بالممشق وهو المصبوغ بالمغرة لأنه مصبوغ بطين لا بطيب وكذلك المصبوغ
بسائر الاصباغ سوى ما ذكرنا لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه، وما كان في معناه
وليس هذا كذلك وأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني على الرياحين في نفسها فما منع المحرم من استعماله
منع لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته وإلا فلا
296

(مسألة) قال (ولا يقطع شعرا من رأسه ولا جسده)
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ شعره إلا من عذر والأصل فيه قول الله تعالى
(ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) وروى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" لعلك يؤذيك هوام رأسك " قال نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم
ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة " متفق عليه وهذا يدل على أن الحلق كان قبل ذلك
محرما، وشعر الرأس والجسد في ذلك سواء
(فصل) فإن كان له عذر من مرض أو وقع في رأسه قمل أو غير ذلك مما يتضرر بابقاء الشعر
فله إزالته للآية والخبر قال ابن عباس (فمن كان منكم مريضا) أي برأسه قروح (أو به أذى من رأسه)
أي قمل ثم ينظر فإن كان الضرر اللاحق به من نفس الشعر مثل أن ينبت في عينه أو طال حاجباه
فغطيا عينيه فله قلع ما في العين وقطع ما استرسل على عينيه ولا فدية عليه لأن الشعر أذاه فكان له
دفع أذيته بغير فدية كالصيد إذا صال عليه، وإن كان الأذى من غير الشعر لكن لا يتمكن من إزالة
الأذى إلا بإزالة الشعر كالقمل والقروح برأسه أو صداع برأسه أو شدة الحر عليه لكثرة شعره
فعليه الفدية لأنه قطع الشعر لإزالة ضرر غيره فأشبه أكل الصيد للمخمصة فإن قيل فالقمل من ضرر
الشعر والحر سببه كثرة الشعر، قلنا ليس القمل من الشعر وإنما لا يتمكن من المقام في الرأس إلا به
فهو محل له لا سبب فيه وكذلك الحر من الزمان بدليل أن الشعر يوجد في زمن البرد فلا يتأذى به والله أعلم
297

(مسألة) قال (ولا يقطع ظفرا إلا أن ينكسر)
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من قلم أظفاره الا من عذر لأن قطع الأظفار إزالة جزء
يترفه به فحرم كإزالة الشعر فإن انكسر فله إزالته من غير فدية تلزمه قال ابن المنذر أجمع كل من
نحفظ عنه من أهل العلم أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر ولان ما انكسر يؤذيه ويؤلمه
فأشبه الشعر النابت في عينه، والصيد الصائل عليه فإن قص أكثر مما انكسر فعليه الفدية لذلك الزائد
كما لو قطع من الشعر أكثر مما يحتاج إليه وإن احتاج إلى مدواة قرحة فلم يمكنه الا بقص أظفاره فعليه
الفدية لذلك وقال ابن القاسم صاحب مالك لا فدية عليه
ولنا أنه أزال ما منع إزالته لضرر في غيره فأشبه حلق رأسه دفعا لضرر قمله وان وقع في أظفاره
مرض فأزالها لذلك المرض فلا فدية عليه لأنه أزالها لإزالة مرضها فأشبه قصها لكسرها
(مسألة) قال (ولا ينظر في المرآة لاصلاح شئ)
يعني لا ينظر فيها لإزالة شعث أو تسوية شعر أو شئ من الزينة قال احمد لا باس أن ينظر في
المرآة ولا يصلح شعثا ولا ينفض عنه غبارا وقال أيضا إذا كان يريد به زينة فلا قيل فيكف يريد زينة؟
قال يرى شعرة فيسويها وروي نحو ذلك عن عطاء والوجه في ذلك أنه قد روي في حديث " إن
المحرم الأشعث الأغبر " وفي آخر " إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي
قد أتوني شعثا غبرا ضاحين " أو كما جاء لفظ الحديث فإن نظر فيها لحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعر
298

ينبت في عينه ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله فلا بأس ولا فدية عليه بالنظر في المرآة على كل حال
وإنما ذلك أدب لا شئ على تاركه لا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا وقد روي عن ابن عمر وعمر بن
عبد العزيز أنهما كانا ينظران في المرآة وهما محرمان
(مسألة) قال (ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه)
وجملة ذلك أن الزعفران وغيره من الطيب إذا جعل في مأكول أو مشروب فلم تذهب رائحته
لم يبح للمحرم تناوله نيأ كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي لا
يرون بما مست النار من الطعام بأسا سواء ذهب لونه وريحه وطعمه أو بقي ذلك كله لأنه بالطبخ
عن استحال كونه كونه طيبا وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس أنهم لم يكونوا يرون
بأكل الخشكنانج الأصفر بأسا وكرهه القاسم بن محمد وجعفر بن محمد
ولنا أن الاستمتاع به والترفه به حاصل من حيث المباشرة فأشبه ما لو كان نيأ ولان المقصود من
الطيب رائحته وهي باقية وقول من أباح الخشكنانج الأصفر محمول على ما لم يبق فيه رائحة فإن
ما ذهبت رائحته وطعمه ولم يبق فيه الا اللون مما مسته النار لا بأس بأكله لا نعلم فيه خلافا سوى أن
القاسم وجعفر بن محمد كرها الخشكنانج الأصفر ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فإن
لم تمسه النار لكن ذهبت رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي وكره مالك والحميدي وإسحاق
وأصحاب الرأي الملح الأصفر وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه
299

ولنا أن المقصود الرائحة فإن الطيب إنما كان طيبا لرائحته لا للونه فوجب دوران الحكم معها دونه
(فصل) فإن ذهبت رائحته وبقى لونه وطعمه فظاهر كلام الخرقي اباحته لما ذكرنا من أنها
المقصود فيزول المنع بزوالها وظاهر كلام احمد في رواية صالح تحريمه وهو مذهب الشافعي قال القاضي
محال أن تنفك الرائحة عن الطعم فمتى بقي الطعم دل على بقائه فلذلك وجبت الفدية باستعماله
(مسألة) قال (ولا يدهن بما فيه الطيب ومالا طيب فيه)
أما المطيب من الادهان كدهن الورد والبنفسج والزنبق والخيري واللينوفر فليس في تحريم
الادهان به خلاف في المذهب وهو قول الأوزاعي وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي الادهان
بدهن البنفسج وقال الشافعي ليس بطيب
ولنا أنه يتخذ للطيب وتقصد رائحته فكان طيبا كماء الورد فأما مالا طيب فيه كالزيت والشيرج
والسمن والشحم ودهن البان الساذج فنقل الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يدهن
بالزيت والشيرج فقال نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل قال ابن المنذر أجمع
عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل الأثرم جواز ذلك عن
ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد وعطاء والضحاك وغيرهم ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال الزيت
الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشئ من الادهان وهو قول عطاء
ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر فاما دهن سائر البدن
300

فلا نعلم عن أحمد فيه منعا وقد ذكرنا اجماع أهل العلم على إباحته في اليدين وإنما الكراهة في الرأس
خاصة لأنه محل الشعر وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر
كلام احمد سواء دهن رأسه أو غيره إلا أن يكون مطيبا وقد روي عن ابن عمر أنه صدع وهو محرم
فقالوا الا ندهنك بالسمن؟ فقال لا، قالوا أليس تأكله؟ قال ليس أكله كالادهان به وعن مجاهد
قال إن تداوى به فعليه الكفارة وقال الذين منعوا من دهن الرأس فيه الفدية لأنه مزيل للشعث
أشبه ما لو كان مطيبا
ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا اجماع ولا يصح قياسه على
الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وان لم يزل شعثا ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولأنه مائع
لا تجب الفدية باستعماله في اليدين فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء
(مسألة) قال (ولا يتعمد لشم الطيب)
أي لا يقصد شمه من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك أو يدخل الكعبة حال
تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها. قال أحمد سبحان الله كيف يجوز هذا؟
وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة تكون معه يشمها فإن أصحابه اختلفوا فيها لأنه يشم الطيب من غيره
أشبه ما لو لم يقصده
ولنا أنه شم الطيب قاصدا مبتدئا به في الاحرام فحرم كما لو باشره يحققه أن القصد شمه لا مباشرته
301

بدليل ما لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شئ، ولو رفعه بخرقة وشمه لوجبت عليه
الفدية ولم يباشره، فأما شمه من غير قصد كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل
الكعبة للتبرك بها ومن يشترى طيبا لنفسه وللتجارة ولا يمسه فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز
من هذا فعفي عنه بخلاف الأول
(مسألة) قال (ولا يغطي شيئا من رأسه والاذنان من الرأس)
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تخمير رأسه والأصل في ذلك نهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس، وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته " لا تخمروا رأسه فإنه
يبعث يوم القيامة ملبيا " علل منع تخمير رأسه ببقائه على احرامه " فعلم أن المحرم ممنوع من ذلك وكان
ابن عمر يقول: إحرام الرجل في رأسه، وذكر القاضي في الشرح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " احرام الرجل
في رأسه، واحرام المرأة في وجهها " وأنه عليه السلام نهى أن يشد الحرم رأسه بالسير، وقول الخرقي
والاذنان من الرأس فائدته تحريم تغطيتهما، وأباح ذلك الشافعي
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الأذنان من الرأس " وقد ذكرناه في الطهارة، وإذا ثبت
هذا فإنه يمنع من تغطية بعض رأسه كما يمنع تغطية جميعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تخمروا رأسه "
والمنهي عنه يحرم فعل بعضه، وذلك لما قال (ولا تحلقوا رءوسكم) حرم حلق بعضه، وسواء غطاه
بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل إن عصبه بعصابة، أو شده بسير، أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء
302

أو لا دواء فيه، أو خضبه بحناء أو طلاه بطين أو نورة أو جعل عليه دواء فإن جميع ذلك ستر له
وهو ممنوع منه، وسواء كان ذلك لعذر أو غيره فإن العذر لا يسقط الفدية بدليل قوله تعالى (فمن
كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) وقصة كعب بن عجرة، وبهذا كله قال الشافعي:
وكان عطاء يرخص في العصابة من الضرورة، والصحيح أنه لا تسقط الفدية عنه بالعذر كما لو لبس
قلنسوة من أجل البرد
(فصل) فإن حمل على رأسه مكتلا أو طبقا أو نحوه فلا فدية عليه، وبهذا قال عطاء ومالك،
وقال الشافعي عليه الفدية لأنه ستره
ولنا أن هذا لا يقصد به الستر غالبا فلم تجب به الفدية كما لو وضع يده عليه، وسواء قصد به
الستر أو لم يقصد لأن ما تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك مالا تجب به الفدية، واختار
ابن عقيل وجوب الفدية عليه إذا قصد به الستر لأن الحيل لا تحيل الحقوق، وإن ستر رأسه بيديه فلا
شئ عليه لما ذكرنا، ولان الستر بما هو متصل به لا يثبت له حكم الستر، ولذلك لو وضع يديه على فرجه
لم تجزئه في الستر، ولان المحرم مأمور بمسح رأسه وذلك يكون بوضع يديه أو إحداهما عليه، وإن طلا
رأسه بعسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يقع فيه الدبيب
جاز وهو التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا. رواه البخاري
وعن حفصة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " متفق عليهما، وإن كان في رأسه طيب مما جعله فيه
303

قبل الاحرام فلا بأس لما روى عن عائشة قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان على رأس ابن عباس مثل الرب من الغالية وهو محرم
(فصل) وفي تغطية المحرم وجهه روايتان
(إحداهما) يباح روي ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن
الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر والقاسم وطاوس والثوري والشافعي
(والثانية) لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عباس أن رجلا وقع عن
راحلته فأقعصته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا
رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي " ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب
ولنا ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون اجماعا ولقوله عليه السلام
" احرام الرجل في رأسه، واحرام المرأة في وجهها " وحديث ابن عباس المشهور فيه " ولا تخمروا
رأسه " هذا المتفق عليه، وقوله " ولا تخمروا وجهه " فقال شعبة حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه
بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان يحدث إلا أنه قال " ولا تخمروا وجهه ورأسه، وهذا يدل على
أنه ضعف هذه الزيادة، وقد روي في بعض ألفاظه " خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه " فتتعارض
الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين
304

(مسألة) قال (والمرأة احرامها في وجهها فإن احتاجت سدلت على وجهها)
وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في احرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه لا نعلم
في هذا خلافا إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، ويحتمل أنها كانت تغطيه
بالسدل عند الحاجة فلا يكون اختلافا. قال ابن المنذر: وكراهية البرقع ثابتة عن سعد وابن عمر وابن
عباس وعائشة ولا نعلم أحدا خالف فيه، وقد روى البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولا تنتقب
المرأة ولا تلبس القفازين " فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب
من فوق رأسها على وجهها، روي ذلك عن عثمان وعائشة وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي
وإسحاق ومحمد بن الحسن ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان
الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها
على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه. رواه أبو داود والأثرم، ولان بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم
عليها ستره على الاطلاق كالعورة. وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب
البشرة، فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شئ عليها كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي
ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة، فإن لم ترفعه مع القدرة افتدت لأنها استدامت الستر ولم أر هذا الشرط
عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه، فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة،
305

فلو كان هذا شرطا لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه. قال
أحمد: إنما لها أن تستدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل، كأنه يقول إن
النقاب من أسفل على وجهها
(فصل) ويجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تمطية الوجه ولا يمكن تغطية جميع
الرأس إلا بجزء من الوجه ولا كشف جميع الوجه إلا بكشف جزء من الرأس فعند ذلك ستر الرأس
كله أولى لأنه آكد إذ هو عورة لا يختص تحريمه حال الاحرام وكشف الوجه بخلافه وقد أبحنا ستر
جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى
(فصل) ولا بأس أن تطوف المرأة منتقبة إذا كانت غير محرمة وطافت عائشة وهوي منتقبة
وكره ذلك عطاء ثم رجع عنه، وذكر أبو عبد الله حديث ابن جريج أن عطاء كان يكره لغير المحرمة
أن تطوف منتقبة حتى حدثته عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة طافت وهي منتقبة فأخذ به
(مسألة) قال (ولا تكتحل بكحل أسود)
الكحل بالإثمد في الاحرام مكروه للمرأة والرجل وإنما خص المرأة بالذكر لأنها محل الزينة
وهو في حقها أكثر من الرجل، ويروي هذا عن عطاء والحسن ومجاهد، قال مجاهد هو زينة، وروي
عن ابن عمر أنه قال: يكتحل المحرم بكل كحل ليس فيه طيب، قال مالك لا بأس أن يكتحل المحرم
من حر يجده في عينيه بالإثمد وغيره، وروي عن أحمد أنه قال: يكتحل المحرم ما لم يرد به الزينة.
306

قيل له الرجال والنساء؟ قال نعم والدليل على كراهته ما روي عن جابر أن عليا قدم من اليمن فوجد
فاطمة ممن حل فلبست ثوبا صبغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: أبي أمرني بهذا. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم " صدقت صدقت " رواه مسلم وغيره، وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك، وروي
عن عائشة أنها قالت لامرأة: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد أو الأسود، إذا ثبت هذا فإن
الكحل بالإثمد مكروه ولا فدية فيه لا أعلم فيه خلافا، وروت شميسة عن عائشة قالت: اشتكيت عيني
وأنا محرمة فسألت عائشة فقالت اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد، أما إنه ليس بحرام ولكنه
زينة فنحن نكرهه قال الشافعي إن فعلا فلا أعلم عليهما فيه فدية بشئ
(فصل) فاما الكحل بغير الإثمد فلا كراهة فيه ما لم يكن فيه طيب لما ذكرنا من حديث عائشة
وقول ابن عمر، وقد روي مسلم عن نبيه بن وهب قال خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل
اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان ليسأله فأرسل إليه أن أضمدها بالصبر فإن
عثمان حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدها بالصبر ففي هذا
دليل على إباحة ما في معناه مما ليس فيه زينة ولا طيب وكان إبراهيم لا يرى بالذرور الأحمر بأسا
(مسألة) قال (وتجتنب كل ما يجتنبه الرجل الا في اللباس وتظليل المحمل)
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المراة ممنوعة مما منع منه الرجال الا
بعض اللباس وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القمص والدروع والسراويلات والخمر والخفاف
307

وإنما كان كذلك لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرم بأمر وحكمه عليه يدخل فيه الرجال والنساء وإنما
استثني منه اللباس للحاجة إلى ستر المرأة لكونها عورة الا وجهها فتجردها يفضي إلى انكشافها فأبيح
لها اللباس للستر كما أبيح للرجل عقد الإزار كيلا يسقط فتنكشف العورة ولم يبح عقد الرداء، وقد
روي ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في احرامهن عن القفازين والنقاب وما مس
الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي
أو سراويل أو قميص أو خف وهذا صريح والمراد باللباس ههنا المخيط من القمص والدروع والسراويلات
والخفاف وما يستر الرأس ونحوه
(فصل) ويستحب للمرأة ما يستحب للرجل من الغسل عند الاحرام والتطيب والتنظف لما ذكرنا
من حديث عائشة أنها قالت: كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضمد جباهنا بالمسك المطيب
عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره عليها. والشابة
والكبيرة في هذا سواء فإن عائشة كانت تفعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي شابة. فإن قيل أليس قد كره
ذلك في الجمعة قلنا لأنها في الجمعة تقرب من الرجال فيخاف الافتتان بها بخلاف مسألتنا ولهذا
يلزم الحج النساء ولا تلزمهن الجمعة وكذلك يستحب لها قلة الكلام فيما لا ينفع والاكثار من
التلبية وذكر الله تعالى
(مسألة) قال (ولا تلبس القفازين ولا الخلخال وما أشبهه)
القفازان شئ يعمل لليدين تدخلهما فيهما من خرق تسترهما من الحر مثل ما يعمل للبرد فيحرم
على المرأة لبسه في يديها في حال احرامها، وهذا قول ابن عمر وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والنخعي
308

ومالك وإسحاق وكان سعد بن أبي وقاص يلبس بناته القفازين وهن محرمات ورخص فيه علي وعائشة
وعطاء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وللشافعي كالمذهبين واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" إحرام المراة في وجهها " وأنه عضو يجوز ستره بغير المخيط فجاز ستره به كالرجلين
ولنا ما روي ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين " رواه
البخاري وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والخلخال ولان الرجل
لما وجب عليه كشف رأسه تعلق حكم إحرامه بغيره فمنع من لبس المخيط في سائر بدنه كذلك المرأة
لما لزمها كشف وجهها ينبغي أن يتعلق حكم الاحرام بغير ذلك البعض وهو اليدان وحديثهم المراد
به الكشف فأما الستر بغير المخيط فيجوز للرجل ولا يجوز بالمخيط فأما الخلخال وما أشبهه من الحلي
مثل السوار والدملوج فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز لبسه وقد قال احمد المحرمة والمتوفي عنها زوجها
يتركان الطيب والزينة ولهما ما سوى ذلك، وروي عن عطاء أنه كان يكره للمحرمة الحرير والحلي
وكرهه الثوري وأبو ثور وروى عن قتادة أنه كان لا يرى بأسا أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي
محرمة وكره السوارين والدملجين والخلخالين وظاهر مذهب احمد الرخصة فيه وهو قول ابن عمر
وعائشة وأصحاب الرأي قال احمد في رواية حنبل تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال عن نافع كان
نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله وروى احمد في
المناسك عن عائشة أنها قالت تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزها وقزها وحليها، وقد ذكرنا
309

حديث ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر
أو خز أو حلي " قال ابن المنذر لا يجوز المنع منه بغير حجة ويجعل كلام احمد والخرقي على الكراهة
لما فيه من الزينة وشبهه بالكحل بالإثمد ولا فدية فيه كما لا فدية في الكحل وأما لبس القفازين ففيه الفدية
لأنها لبست ما نهيت عن لبسه في الاحرام فلزمتها الفدية كالنقاب
(فصل) قال القاضي يحرم عليها شد يديها بخرقة لأنه ستر لبدنها يما يختص بها أشبه
القفازين وكما لو شد الرجل على جسده شيئا وان لفت يديها من غير شد فلا فدية لأن المحرم هو
اللبس لا تغطيتهما كبدن الرجل.
(مسألة) قال (ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية الا بمقدار ما تسمع رفيقتها)
قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها
وبهذا قال عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن سليمان بن يسار قال السنة
عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالاهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها
اذان ولا إقامة والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح
(فصل) ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء عند الاحرام لما روي عن ابن عمر أنه قال من السنة
أن تدلك المرأة يديها في حناء ولان هذا من زينة النساء فاستحب عند الاحرام كالطيب ولا بأس
يالخضاب في حال احرامها، وقال القاضي يكره لكونه من الزينة فأشبه الكحل بالإثمد فإن فعلته ولم
تشد يدها بالخرق فلا فدية، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وكان مالك ومحمد بن الحسن يكرهان
الخضاب للمحرمة وألزماها الفدية
310

ولنا ما روى عكرمة أنه قال كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم ولان
الأصل الإباحة وليس ههنا دليل يمنع من نص ولا اجماع ولا هي في معنى المنصوص
(فصل) إذا أحرم الخنثى المشكل لم يلزمه اجتناب المخيط لأننا لا نتيقن الذكورية الموجبة لذلك
وقال ابن المبارك يغطي رأسه ويكفر والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأن الأصل عدمها فلا نوجبها
بالشك وان غطى وجهه وحده لم يلزمه فدية لذلك وان جمع بين تغطية وجهه بنقاب أو برقع وبين تغطية
رأسه أو لبس المخيط على بدنه لزمته لأنه لا يخلو أن يكون رجلا أو امرأة
(فصل) ويستحب للمرأة الطواف ليلا لأنه أستر لها وأقل للزحام فيمكنها أن تدنو من البيت
وتستلم الحجر، وقد روى حنبل في المناسك باسناده عن أبي الزبير أن عائشة كانت تطوف بعد العشاء
أسبوعا أو أسبوعين وترسل إلى أهل المجالس في المسجد ارتفعوا إلى أهليكم فإن لهم عليكم حقا، وعن
محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة أنها أرسلت إلى أصحاب المصابيح أن يطفئوها فاطفؤوها
فطفت معها في ستر أو حجاب فكانت كلما فرغت من أسبوع استلمت الركن الأسود وتعوذت بين
الركن والباب حتى إذا فرغت من ثلاثة أسابيع ذهبت إلى دير سقاية زمزم مما يلي الناس فصلت ست
ركعات كلما ركعت ركعتين انحرفت إلى النساء فكلمتهن تفصل بذلك صلاتها حتى فرغت
(مسألة) قال (ولا يتزوج المحرم ولا يزوج فإن فعل فالنكاح باطل)
قوله لا يتزوج أي لا يقبل النكاح لنفسه، ولا يزوج أي لا يكون وليا في النكاح ولا وكيلا فيه،
ولا يجوز تزويج المحرمة أيضا روي ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنه وبه قال سعيد بن
311

المسيب وسليمان بن يسار والزهري والأوزاعي ومالك والشافعي، وأجاز ذلك ابن عباس وهو قول
أبي حنيفة لما روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. متفق عليه. ولأنه عقد يملك
به الاستمتاع فلا يحرمه الاحرام كشراء الإماء
ولنا ما روى أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينكح
المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه مسلم، ولان الاحرام يحرم الطيب فيحرم النكاح كالعدة، فأما
حديث ابن عباس فقد روي يزيد بن الأصم عن ميمونة ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا
وماتت بسرف في الظلة التي بنى بها فيها. رواه أبو داود والأثرم، وعن أبي رافع قال تزوج رسول
الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما. قال الترمذي هذا
حديث حسن. وميمونة أعلم بنفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها فهما أعلم بذلك من ابن عباس
وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا فكيف وقد كان صغيرا لا يعرف حقائق الأمور ولا يقف عليها،
وقد أنكر عليه هذا القول. وقال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس ما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم الا حلالا. فكيف
يعمل بحديث هذا حاله؟ ويمكن حمل قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو في البلد الحرام كما قيل
* قتلوا ابن عفان الخليفة وهو محرما *
وقيل تزوجها حلالا وأظهر أمر تزويجها وهو محرم. ثم لو صح الحديثان كان تقديم حديثنا أولى لأنه
312

قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فعله والقول آكد لأنه يحتمل أن يكون مختصا بما فعله، وعقد النكاح يخالف
شراء الأمة فإنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين وكون المنكوحة أختا له من الرضاع ويعتبر له
شروط غير معتبرة في الشراء
(فصل) ومتى تزوج المحرم أو زوج أو زوجت محرمة فالنكاح باطل سواء كان الكل محرمين
أو بعضهم لأنه منهي عنه فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها أو خالتها. وعن أحمد إن زوج المحرم لم
أفسخ النكاح. قال بعض أصحابنا هذا يدل على أنه إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرما لم يفسد
النكاح والمذهب الأول. وكلام أحمد يحمل على أنه لا يفسخه لكونه مختلفا فيه. قال القاضي ويفرق
بينهما بطلقة وهكذا كل نكاح مختلف فيه. قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا تزوجت بغير ولي لم
يكن للولي أن يزوجها من غيره حتى يطلق ولان تزويجها من غير طلاق يفضي إلى أن يجتمع للمرأة
زوجان كل واحد منهما يعتقد حلها
313

(فصل) وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لأنه قد جاء
في بعض ألفاظ حديث عثمان " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه مسلم ولأنه تسبب إلى
الحرام فأشبه الإشارة إلى الصيد، والاحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لأن
حكمه باق في وجوب ما يجب في الاحرام فكذلك ما يحرم به
(فصل) ويكره أن يشهد في النكاح لأنه معاونة على النكاح فأشبه الخطبة وان شهد أو خطب
لم يفسد النكاح. وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعقد النكاح بشهادة المحرمين لأن في بعض
الروايات " ولا يشهد "
ولنا انه لا مدخل للشاهد في العقد فأشبه الخطبة وهذه اللفظة غير معروفة فلم يثبت بها حكم
ومتى تزوج المحرم أو زوج أو زوجت محرمة لم يجب بذلك فدية لأنه عقد فسد لأجل الاحرام
فلم تجب به فدية كشراء الصيد
314

(مسألة) قال (فإن وطئ المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فقد فسد حجهما وعليه بدنة
إن كان استكرهها وان كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة)
أما فسد الحج بالجماع في الفرج فليس فيه اختلاف قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الحج
لا يفسد باتيان شئ في حال الاحرام إلا الجماع. والأصل في ذلك ما روى عن ابن عمر ان رجلا سأله
فقال إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا
ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا هديا فإن لم تجدا
فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم. وكذلك قال ابن عباس وعبد الله بن عمر ولم نعلم لهم في
عصرهم مخالفا. روى حديثهم الأثرم في سننه، وفي حديث ابن عباس ويتفرقان من حيث يحرمان
حتى يقضيا حجهما. قال ابن المنذر قول ابن عباس أعلى شئ روي فيمن وطئ في حجه. وروي ذلك
عن عمر رضي الله عنه وبه قال ابن المسيب وعطاء والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب
الرأي. ولا فرق بين ما قبل الوقوف وبعده وقال أبو حنيفة ان جامع قبل الوقوف فسد حجه وان جامع
بعده لم يفسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ولأنه معنى يأمن به الفوات فأمن به الفساد كالتحلل
315

ولنا ان قول الصحابة الذين روينا قولهم مطلق فيمن واقع محرما ولأنه جماع صادف إحراما
تاما فأفسده كما قبل الوقوف وقوله عليه السلام " الحج عرفة " يعني معظمه أو انه ركن متأكد فيه
ولا يلزم من امن الفوات امن الفساد بدليل العمرة. إذا ثبت هذا فإنه يجب على المجامع بدنة. روي
ذلك عن ابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي وأبي ثور. وقال الثوري وإسحاق عليه
بدنة فإن لم يجد فشاة. وقال أصحاب الرأي ان جامع قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وإن كان بعده
فعليه بدنة وحجه صحيح لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء فلم يجب به بدنة كالفوات
ولنا انه جماع صادف إحراما تاما فوجبت به البدنة كبعد الوقوف، ولأنه قول من سمينا من
الصحابة ولم يفرقوا بين قبل الوقوف وبعده، وأما الفوات فهو مفارق للجماع بالاجماع ولذلك لا يوجبون
فيه الشاة بخلاف الجماع وإذا كانت المراة مكرهة على الجماع فلا هدي عليها ولا على الرجل أن يهدي
عنها نص عليه احمد لأنه جماع يوجب الكفارة فلم تجب به حال الاكراه أكثر من كفارة واحدة كما
في الصيام وهذا قول إسحاق وأبي ثور وابن المنذر. وعن أحمد رواية أخرى ان عليه ان يهدي عنها
وهو قول عطاء ومالك لأن افساد الحج وجد منه في حقهما فكان عليه لافساده حجها هدي قياسا على
حجه وعنه ما يدل على أن الهدي عليها لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها فكان الهدي عليها كما لو
طاوعت. ويحتمل انه أراد الهدي عليها يتحمله الزوج عنها فلا يكون رواية ثالثة. فأما حال المطاوعة فعلى
كل واحد منهما بدنة هذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب والنخعي والضحاك ومالك والحكم وحماد
لأن ابن عباس قال اهد ناقة ولنهد ناقة لأنها أحد المتجامعين من غير اكراه فلزمتها بدنة كالرجل
وعن أحمد أنه قال أرجو أن يجزئهما هدي واحد وروي ذلك عن عطاء وهو مذهب الشافعي لأنه جماع
واحد فلم يوجب أكثر من بدنة كحالة الاكراه، والنائمة كالمكرهة في هذا، وأما فساد الحج فلا فرق فيه
بين حال الاكراه والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا
(فصل) ولا فرق بين الوطئ في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة وبه قال الشافعي وأبو ثور
ويتخرج في وطئ البهيمة أن الحج لا يفسد به وهو قول مالك وأبي حنيفة لأنه لا يوجب الحد فأشبه
الوطئ دون الفرج وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أن اللواط والوطئ في الدبر لا يفسد الحج لأنه لا يثبت
316

به الاحصان فلم يفسد الحج كالوطئ دون الفرج
ولنا أنه وطئ في فرج يوجب الاغتسال فأفسد الحج كوطئ الآدمية في القبل ويفارق الوطئ
دون الفرج فإنه ليس من الكبائر في الأجنبية ولا يوجب مهرا ولا عدة ولا حدا ولا غسلا الا أن
ينزل فيكون كمسئلتنا في رواية
317

(فصل) إذا تكرر الجماع فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة ثانية كالأول وان لم يكن كفر
عن الأول فكفارة واحدة وعنه أن لكل وطئ كفارة لأنه سبب للكفارة فأوجبها كالأول والمذهب
الأول لأنه جماع موجب للكفارة فإذا تكرر قبل التكفير عن الأول لم يوجب كفارة ثانية كما في
318

الصيام وقال أبو حنيفة عليه للوطئ الثاني شاة سواء كفر عن الأول أولم يكفر ألا أن يتكرر الوطئ في
مجلس واحد على وجه الفرض للاحرام لأنه وطئ صادف احراما ناقص الحرمة فأوجب شاة كالوطئ بعد
319

التحلل الأول وقال مالك لا يجب بالثاني شئ وروي ذلك عن عطاء لأنه لا يفسد الحج فلا يجب به
شئ كما لو كان قبل التكفير وقال الشافعي كقولنا وقريبا من قول أبي حنيفة
320

ولنا على وجوب البدنة إذا كفر أنه وطئ في احرام ولم يتحلل منه ولا أمكن تداخل كفارته
في غيره فأشبه الوطئ الأول ولان الاحرام الفاسد كالصحيح في سائر الكفارات فكذلك في الوطئ
ولأنه إذا لم يكفر عن الأول فتتداخل كفارته كما يتداخل حكم المهر والحد، والتحديد بعدم التكفير
أولى من التحديد بالمجلس الواحد لما ذكرنا من المهر والحد والتكفير في اليمين والظهار وغيرهما
321

(مسألة) قال (وان وطئ دون الفرج فلم ينزل فعليه دم وان أنزل فعليه بدنة
وقد فسد حجه)
أما إذا لم ينزل فإن حجه لا يفسد بذلك لا نعلم أحدا قال بفساد حجه لأنها مباشرة دون الفرح
عريت عن الانزال فلم يفسد بها الحج كاللمس أو مباشرة لا توجب الاغتسال أشبهت اللمس وعليه
شاة وقال الحسن فيمن ضرب بيده على فرج جاريته عليه بدنة وعن سعيد بن جبير إذا نال
منها ما دون الجماع ذبح بقرة
ولنا أنها ملامسة من غير انزال فأشبهت لمس غير الفرج فاما ان أنزل فعليه بدنة وذلك قال
الحسن وسعيد بن جبير والثوري وأبو ثور وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر عليه شاة لأنها
مباشرة دون الفرج فأشبه ما لو لم ينزل
ولنا أنه جماع أوجب الغسل فأوجب بدنة كالوطئ في الفرج وفي فساد حجه بذلك روايتان
(إحداهما) يفسد اختارها الخرقي وأبو بكر وهو قول عطاء والحسن والقاسم بن محمد ومالك
وإسحاق لأنها عبادة يفسدها الوطئ فأفسدها الانزال عن مباشرة كالصيام
(والثانية) لا يفسد الحج وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وهي الصحيحة ان شاء
322

الله لأنه لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل ولأنه لا نص فيه ولا اجماع ولا هو
في معنى المنصوص عليه لأن الوطئ في الفرج يجب بنوعه الحد ويتعلق به اثنا عشر حكما ولا يفترق
فيه الحال بين الانزال وعدمه، والصيام يخالف الحج في المفسدات ولذلك يفسد بتكرار النظر مع
الانزال والذي وسائر محظوراته والحج لا يفسد بشئ من محظوراته غير الجماع فافترقا والمرأة كالرجل
في هذا إذا كانت ذات شهوة والا فلا شئ عليها كالرجل إذا لم يكن له شهوة
323

(مسألة) قال (فإن قبل فلم ينزل فعليه دم وان أنزل فعليه بدنة وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إن أنزل فسد حجه)
وجملة ذلك أن حكم القبلة حكم المباشرة دون الفرج سواء الا أن الخرقي ذكر في هذه المسألة
324

روايتين فني افساد الحج عند الانزال ولم يذكر في افساد الحج في الوطئ دون الرج الا رواية واحدة
وقد ذكرنا أن فيها أيضا روايتين وذكرنا الخلاف فيه لكن نشير إلى الفرق توجيها لقول الخرقي
فنقول: انزال بغير وطئ فلم يفسد به الحج كالنظر ولان اللذة بالوطئ فوق اللذة بالقبلة فكانت فوقها
في الواجب لأن مراتب أحكام الاستمتاع على وفق ما يحصل به من اللذة، فالوطئ في الفرج أبلغ
325

الاستمتاع فأفسد الحج مع الانزال وعدمه، والوطئ دون الفرج دونه فأوجب البدنة وأفسد الحج عند
الانزال والدم عند عدمه والقبلة دونهما فتكون دونهما فيما يجب بها فيجب بها بدنة عند الانزال من
غير افساد، وتكرار النظر دون الجميع فيجب به الدم عند الانزال ولا يجب عند عدمه شئ. ومن جمع
بين الوطئ دون الفرج والقبلة قال كلاهما مباشرة فاستوى حكمهما في الواجب بهما. وقد روي عن ابن
326

عباس أنه قال لرجل قبل زوجته أفسدت حجتك وروي ذلك عن سعيد بن جبير. وقال سعيد بن المسيب
وعطا وابن سيرين والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي عليه دم
وروي ذلك عن الشعبي وسعيد بن جبير وروي الأثرم باسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن
عبد الله قبل عائشة بنت طلحة محرما فسأل فأجمع له على أن يهريق دما. والظاهر أنه لم يكن أنزل
327

لأنه لم يذكر، وسواء أمذى أو لم يمذ وقال سعيد بن جبير ان قبل فمذى أو لم يمذ فعليه دم وسائر اللمس
لشهوة كالقبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به فهو كالقبلة قال احمد فيمن قبض على فرج امرأته وهو
محرم فإنه يهريق دم شاة. وقال عطاء إذا قبل المحرم أو لمس فليهرق دما
328

(مسألة) قال (وان نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم وان كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة)
وجملة ذلك أن الحج لا يفسد بتكرار النظر أنزل أو لم ينزل روي ذلك عن ابن عباس وهو قول
أبي حنيفة والشافعي وروي عن الحسن وعطاء ومالك فيمن ردد النظر حتى أمنى عليه حج قابل لأنه
أنزل بفعل محظور أشبه الانزال بالمباشرة
329

ولنا أنه انزال عن غير مباشرة فأشبه الانزال بالفكر والاحتلام والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع
ثم إن المباشرة أبلغ في اللذة وآكد في استدعاء الشهوة فلا يصح القياس عليه فاما ان نظر ولم يكرر
فامنى فعليه شاة وإن كرره فأنزل ففيه روايتان (إحداهما) عليه بدنة روي ذلك عن ابن عباس (والثانية)
عليه شاة وهو قول سعيد بن جبير وإسحاق ورواية ثانية عن ابن عباس وقال أبو ثور لا شئ عليه وحكي
330

ذلك عن أبي حنيفة والشافعي لأنه ليس بمباشرة أشبه الفكر
ولنا أنه انزال بفعل محظور فأوجب الفدية كاللمس وقد روى الأثرم عن ابن عباس أنه قال
له رجل فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت لي فكلمتني وحدثتني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس
331

أتمم حجك وأهرق دما وروى حنبل في المناسك عن مجاهد أن محرما نظر إلى امرأته حتى أمذى فجعل
يشتمها فقال ابن عباس أهرق دما ولا تشتمها
(فصل) فإن كرر النظر حتى أمذى فقال أبو الخطاب عليه دم وقال القاضي ذكره الخرقي. قال
القاضي لأنه جزء من المني ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس وان لم يقترن بالنظر مني أو مذي فلا
332

شئ عليه سواء كرر النظر أو لم يكرره وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد
أن عليه شاة وهذا محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يعرى عن اللمس ظاهرا أو على أنه أمنى أو أمذى
أما مجرد النظر فلا شئ فيه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه
(فصل) فإن فكر فأنزل فلا شئ عليه فإن الفكر يعرض للانسان من غير إرادة ولا اختيار فلم
333

يتعلق به حكم كما في الصيام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم
تعمل به أو تكلم به " متفق عليه
(فصل) والعمد والنسيان في الوطئ سواء نص عليه احمد فقال إذا جامع أهله بطل حجه لأنه
شئ لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده
334

فهذه الثلاثة العمد والنسيان فيها سواء ولم يذكر الخرقي النسيان ههنا لكن ذكره في الصيام، وبين أن الوطئ
في الفرج أو دون الفرج مع الانزال يستوي عمده وسهوه، وما عداه من القبلة واللمس والذي بتكرار
النظر يختلف حكم عمده وسهوه فههنا ينبغي أن يكون مثله لأن الوطئ لا يكاد يتطرق النسيان إليه
دون غيره، ولان الجماع مفسد للصوم دون غيره فاستوى عمده وسهوه كالفوات بخلاف ما دونه، والجاهل
335

بالتحريم والمكره في حكم الناسي لأنه معذور. وممن قال إن عمد الوطئ ونسيانه سواء أبو حنيفة
ومالك والشافعي في قديم قوليه وقال في الجديد لا يفسد الحج ولا يجب عليه شئ مع النسيان والجهل
لأنها عبادة يجب بافسادها الكفارة فافترق فيها وطئ العامد والناسي كالصوم
ولنا أنه سبب يتعلق به وجوب القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات والصوم ممنوع
336

ثم أن الصوم لا تجب الكفارة فيه بالافساد بدليل أن افساده بكل ما عدا الجماع لا يوجب كفارة
وإنما تجب بخصوص الجماع فافترقا
(مسألة) قال (وللمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع ويرتجع زوجته)
وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل أما التجارة والصناعة فلا نعلم في
337

إباحتهما اختلافا وقد روى ابن عباس قال كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء
الاسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) في مواسم
الحج فاما الرجعة فالمشهور إباحتها وهو قول أكثر أهل العلم وفيه رواية ثانية أنها لا تباح لأنها استباحة
فرج مقصود بعقد فلا تباح للمحرم كالنكاح وجه الرواية الصحيحة أن الرجعية زوجة والرجعة امساك
338

بدليل قوله تعالى (فامسكوهن بمعروف) فأبيح ذلك كالامساك قبل الطلاق ولا نسلم أن الرجعة استباحة
فإن الرجعية مباحة وان سلمنا أنها استباحة فتبطل بشرى الأمة للشراء ولان ما يتعلق به إباحة الزوجة
مباح في النكاح كالتكفير في الظهار وأما شراء الإماء فمباح سواء قصد به الشراء أو لم يقصد لا نعلم
فيه خلافا فإنه ليس بموضوع الاستباحة في البضع فأشبه شراء العبيد والبهائم ولذلك أبيح شراء من
لا يحل وطؤها فلذلك لم يحرم في حالة يحرم فيها الوطئ
339

(مسألة) قال (وله أن يقتل الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور
وكل ما عدا عليه أو آذاه ولا فداء عليه)
هذا قول أكثر أهل العل منهم الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وحكى عن النخعي
340

أنه منع قتل الفأرة والحديث صريح في حل قتلها فلا يعول على ما خالفه والمراد بالغراب الا بقع
وغراب البين وقال قوم لا يباح من الغربان الا الأبقع خاصة لأنه قد روي " خمس فواسق يقتلن في
الحل والحرم الحية والغراب الا بقع والفأرة والكلب العقور والحديا " رواه مسلم وهذا يقيد المطلق
341

في الحديث الآخر ولا يمكن حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربان لا يحل قتله
ولنا ما روت عائشة قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحرم الحدأة والغراب
والفأرة والعقرب والكلب العقور وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب ليس
342

على المحرم جناح في قتلهن " وذكر مثل حديث عائشة متفق عليهما وفي لفظ لمسلم في حديث ابن عمر
" خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والاحرام " وهذا عام في الغراب وهو أصح من الحديث الآخر
ولان غراب البين محرم الاكل يعدو على أموال الناس فلا وجه لاخراجه من العموم وفارق ما أبيح
343

أكله فإنه مباح ليس هو في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه وقول
الخرقي وكل ما عدا عليه وآذاه يحتمل أنه أراد ما يبدأ المحرم فيعدو عليه في نفسه أو ماله فهذا لا جناح
على قاتله سواء كان من جنس طبعه الأذى أو لم يكن قال ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل
344

العلم على أن السبع إذا بدأ المحرم فقتله لا شئ عليه ويحتمل أنه أراد ما كان طبعه الأذى والعدوان
وان لم يوجد منه أذى في الحال قال مالك الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر
والفهد والذئب فعلى هذا يباح كل ما فيه أذى للناس في أنفسهم أو في أموالهم مثل سباع البهائم كلها المحرم
345

أكلها وجوارح الطير كالبازي والعقاب والصقر والشاهين ونحوها والحشرات المؤذية والزنبور
والبق والبعوض والبراغيث والذباب وبهذا قال الشافي وقال أصحاب الرأي يقتل ما جاء في
الخبر والذئب قياسا عليه
346

ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما هو أعلى منها ودلالة على ما كان في معناها
فنصه على الحدأة والغراب تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات وعلى العقرب تنبيه على الحية
وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلى منه ولان مالا يضمن بمثله ولا بقيمته لا يضمن كالحشرات
347

(فصل) ومالا يؤذي بطبعه ولا يؤكل كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للاحرام فيه ولا
جزاء فيه ان قتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك يحرم قتلها وإن قتلها فداها وكذلك كل سبع لا يعدو
348

على الناس وإذا وطئ الذباب والنمل أو الذر أو قتل الزنبور تصدق بشئ من الطعام
ولنا أن الله تعالى إنما أوجب الجزاء في الصيد وليس هذا بصيد قال بعض أهل اللغة الصيد
349

ما جمع ثلاثة أشياء فيكون مباحا وحشيا ممتنعا ولأنه لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكون بأحد هذين
الشيئين وروي عن عمر أنه قرد بعيره بالسقيا وهو محرم ومعناه أنه فرع القراد عنه ورماه وهذا
350

قول جابر بن زيد وعطاء وروي أن ابن عباس قال لعكرمة وهو محرم قرد البعير فكره ذلك
فقال قم فانحره فنحره فقال له ابن عباس لا أم لك كم قتلت فيها من قراد وحلمة وحمنانة؟ يعنى
كبار القراد رواه كله سعيد
351

(فصل) ولا تأثير للاحرام ولا للحرم في تحريم شئ من الحيوان الأهلي كبهيمة الأنعام ونحوها لأنه
ليس بصيد وإنما حرم الله تعالى الصيد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب إلى الله
352

سبحانه بذلك وقال أفضل الحج العج والثج يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وليس في هذا اختلاف
(فصل) ويحل للمحرم صيد البحر لقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم)
353

وللسيارة) قال ابن عباس وابن عمر طعامه ما ألقاه، وعن ابن عباس طعامه ملحه وعن سعيد بن
المسيب وسعيد بن جبير طعامه الملح وصيده ما اصطدنا وأجمع أهل العلم على أن صيد البحر
354

مباح للمحرم اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه وصيد البحر الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض
355

فيه ويفرخ كالسمك والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك وحكي عن عطاء فيما يعيش في البر مثل
السلحفاة والسرطان فأشبه طير الماء
356

ولنا أنه يبيض في الماء ويفرخ فيه فأشبه السمك فاما طير الماء كالبط ونحوه فهو من صيد البر في قول
عامة أهل العلم وفيه الجزاء وحكي عن عطاء أنه قال حيث يكون أكثر فهو صيده وقول عامة أهل
العلم أولى لأنه يبيض في البر ويفرخ فيه فكان من صيد البر كسائر طيره وإنما إقامته في البحر لطلب
357

الرزق والمعيشة منه كالصياد فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البحر ونوع في البر كالسلحفاة فلكل
نوح حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح
(مسألة) قال (وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم)
الأصل في تحريم صيد الحرم النص والاجماع أما النص فما روى ابن عباس قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرمة الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة وانه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم
القيامة لا يختلى خلالها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها الا من عرفها " فقال العباس
يا رسول الله الا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الا الإذخر " متفق عليه وأجمع
المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم
(فصل) وفيه الجزاء على من يقتله ويجزى بمثل ما يجزى به الصيد في الاحرام وحكي عن داود أنه
لا جزاء فيه لأن الأصل براءة الذمة ولم يرد فيه نص فيبقى بحاله
358

ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم بشاة شاة روي ذلك عن عمر وعثمان
وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم فيكون اجماعا ولأنه صيد ممنوع منه لحق الله
تعالى أشبه الصيد في حق الحرم
(فصل) وما يحرم ويضمن في الاحرام يحرم ويضمن في الحرم ومالا فلا الا شيئين
(أحدهما) القمل مختلف في قتله في الاحرام وهو مباح في الحرم بلا اختلاف لأنه حرم في
الاحرام للترفه بقتله وازالته لا لحرمته ولا يحرم الترفه في الحل فأشبه ذلك قص الشعر وتقليم الظفر
(الثاني) صيد البحر مباح في الاحرام بغير خلاف ولا يحل صيده من آبار الحرم وعيونه
وكرهه جابر بن عبد الله لعموم قوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " ولان الحرمة تثبت للصيد كحرمة
المكان وهو شامل لكل صيد ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء وعن أحمد رواية أخرى أنه مباح
لأن الاحرام لا يحرمه فأشبه السباع والحيوان الأهلي
(فصل) ويضمن صيد الحرم في حق المسلم والكافر والكبير والصغير والحر والعبد لأن الحرمة
تعلقت بمحله بالنسبة إلى الجميع فوجب ضمانه كالآدمي
(فصل) ومن ملك صيدا في الحل فادخله الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله فإن تلف في يده
أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم وقال عطاء إن ذبحه فعليه الجزاء وروي ذلك عن ابن
عمر وممن كره إدخال الصيد الحرم ابن عمر وابن عباس وعائشة وعطاء وطاوس وإسحاق وأصحاب الرأي
359

ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت عنه الكراهة له أخرجه سعيد وقال هشام بن عروة كان ابن
الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون به بأسا ورخص فيه سعيد بن
جبير ومجاهد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجا وحل له التصرف فيه فجاز له
ذلك في الحرم كصيد المدينة إذا أدخله حرمها
ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالاحرام ولأنه صيد ذبحه
في الحرم فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم
(فصل) ويضمن صيد الحرم بالدلالة والإشارة كصيد الاحرام والواجب عليهما جزاء واحد
نص على أحمد وظاهر كلامه أنه لافرق بين كون الدال في الحل أو الحرم وقال القاضي لا جزاء على
الدال إذا كان في الحل والجزاء على المدلول وحده إذا دل محرما على صيده
ولنا أن قتل الصيد الحرمي حرام على الدال فيضمنه بالدلالة كما لو كان في الحرم يحققه أن صيد
الحرم محرم على كل أحد لقوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " وفي لفظ " لا يصاد صيدها " وهذا عام في
حق كل واحد ولان صيد الحرم معصوم بمحله فحرم قتله عليهما كالملتجئ إلى الحرم وإذا ثبت تحريمه
عليهما فيضمن بالدلالة ممن يحرم عليه قتله كما يضمن بدلالة المحرم عليه
(فصل) وإذا رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم فقتله أو أرسل كلبه عليه فقتله أو قتل
صيدا على فرع في الحرم أصله في الحرم ضمنه وبهذا قال الثوري والشافعي وأبو ثور وأبن المنذر
360

وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى لاجزاء عليه في جميع ذلك لأن القتل
حلال في الحل وهذا لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ينفر صيدها " ولم يفرق بين من هو في الحل
والحرم وقد أجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم وهذا من صيده ولان صيد الحرم معصوم بمحله
بحرمة الحرم فلا يختص تحريمه بمن في الحرم وكذلك الحكم ان أمسك طائرا في الحل فهلك فراخه
في الحرم ضمن الفراخ لما ذكرنا ولا يضمن الام لأنها من صيد الحل وهو حلال وان انعكست
الحال فرمى من الحرم صيدا في الحل أو أرسل كلبه عليه أو قتل صيدا على غصن في الحل أصله في
الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل فلا ضمان عليه كما في الحل قال احمد فيمن أرسل
كلبه في الحرم فصاد في الحل فلا شئ عليه وحكي عنه رواية أخرى في جميع الصور يضمن وعن
الشافعي ما يدل عليه وذهب الثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر فيمن قتل طائرا على غصن في
الحل أصله في الحرم لا جزاء عليه وهو ظاهر قول أصحاب الرأي وقال ابن الماجشون وإسحاق عليه
الجزاء لأن الغصن تابع للأصل وهو في الحرم
ولنا أن الأصل حل الصيد فحرم صيد الحرم بقوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " وبالاجماع فبقي
ما عداه على الأصل ولأنه صيد حل صاده حلال فلم يحرم كما لو كانا في الحل ولان الجزاء إنما يجب
في صيد الحرم أو صيد المحرم وليس هذا بواحد منهما
361

(فصل) فإن كان الصيد والصائد في الحل فرمى الصيد بسهمه أو أرسل عليه كلبه فدخل الحرم
ثم خرج فقتل الصيد في الحل فلا جزاء فيه وبهذا قال أصحاب الرأي وأبو ثور وابن المنذر وحكي
أبو ثور عن الشافعي أن فعليه الجزاء
ولنا ما ذكرناه قال القاضي لا يزيد سهمه على نفسه ولو عدا بنفسه فسلك الحرم في طريقه ثم
قتل صيدا في الحرم لم يكن عليه شئ فسهمه أولى
(فصل) وان رمى من الحل صيدا في الحل فقتل صيدا في الحرم فعليه جزاؤه وبهذا قال الثوري
وإسحاق وأصحاب الرأي وقال أبو ثور لا جزاء عليه وليس بصحيح لأنه قتل صيدا حرميا فلزمه
جزاؤه كما لو رمى حجرا فقتل صيدا، يحققه أن الخطأ كالعمد في وجوب الجزاء وهذا لا يخرج
عن كونه واحدا منهما، فاما أن أرسل كلبه على صيد في الحل فدخل الكلب الحرم فقتل صيدا آخر
لم يضمنه وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يرسل الكلب
على ذلك الصيد وإنما دخل باختيار نفسه فهو كما لو استرسل بنفسه من غير ارسال وان أرسله على
صيد فدخل الصيد الحرم ودخل الكلب خلفه فقتله في الحرم فكذلك نص عليه احمد وهو قول
الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وقال عطاء وأبو حنيفة وصاحباه عليه الجزاء لأنه قتل صيدا حرميا
بارسال كلبه عليه فضمنه كما لو قتله بسهمه واختاره أبو بكر عبد العزيز وحكى صالح عن أحمد أنه قال
362

إن كان صيدا قريبا من الحرم ضمنه لأنه فرط بارساله في موضع يظهر أنه يدخل الحرم وإن كان بعيدا
لم يضمن لعدم التفريط وهذا قول مالك
ولنا أنه أرسل الكلب على صيد مباح فلم يضمن كما لو قتل صيدا سواه وفارق السهم لأن
الكلب له قصد واختيار ولهذا يسترسل بنفسه ويرسله إلى جهة فيمضي إلى غيرها والسهم بخلافه
إذا ثبت هذا فإنه لا يأكل الصيد في هذه المواضع كلها ضمنه أولم يضمنه لأنه صيد حرمي قتل في
الحرم فحرم كما لو ضمنه ولأننا إذا قطعنا فعل الادمي صار كأن الكلب استرسل بنفسه فقتله
ولكن لو رمى الحلال من الحل صيدا في الحل فجرحه وتحامل الصيد فدخل الحرم فمات فيه
حل أكله ولا جزاء فيه لأن الزكاة حصلت في الحل فأشبه ما لو جرح صيدا ثم أحرم فمات الصيد
بعد احرامه ويكره أكله لموته في الحرم
(فصل) وان وقف صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فقتله قاتل ضمنه تغليبا للحرم
وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وان نفر صيدا من الحرم فأصابه بشئ في حال نفوره ضمنه لأنه
تسبب إلى اتلافه فأشبه ما لو تلف بشركة أو شبكته وان سكن من نفوره ثم أصابه شئ فلا شئ
على من نفره نص عليه احمد وهو قول الثوري لأنه لم يكن سببا لاتلافه وقد روي عن عمر أنه وقعت
على ردائه حمامة فأطارها فوقعت على واقف فانتهزتها حية فاستشار في ذلك عثمان ونافع بن
363

عبد الحارث فحكما عليه بشاة وهذا يدل على أنهم رأوا عليه الضمان بعد سكوته لكن لو انتقل عن
المكان الثاني فأصابه شئ فلا ضمان عليه لأنه خرج عن المكان الذي طرد إليه وقول الثوري
واحمد إنما يدل على هذا لأن سفيان قال إذا طردت في الحرم شيئا فأصاب شيئا قبل أن يقع أو حين
وقع ضمنت وان وقع من ذلك المكان إلى مكان آخر فليس عليك شئ فقال احمد جيد
(مسألة) قال (وكذلك شجره ونباته الا الإذخر وما زرعه الانسان)
أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الإذخر وما أنبته الآدمي من البقول
والزروع والرياحين حكى ذلك ابن المنذر والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس، وروى أبو شريح
وأبو هريرة نحوا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها، وفي حديث أبي هريرة " الا وإنها ساعتي
هذه حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها " وفي حديث أبي شريح أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الفتح قال " ان مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك
بها دما ولا يعضد بها شجرة " وروى الأثرم حديث أبي هريرة في سننه وفيه " ولا يعضد شجرها
ولا يحتش حشيشها ولا يصاد صيدها " فاما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب وابن عقيل له
قلعه من غير ضمان كالزرع وقال القاضي ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم فلا جزاء فيه وما نبت أصله
في الحرم ففيه الجزاء بكل حال، وقال الشافعي في شجر الحرم الجزاء بكل حال أنبته الآدميون أو
364

نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام " لا يعضد شجرها " ولأنها شجرة نابتة في الحرم أشبه ما لم ينبته
الآدميون، وقال أبو حنيفة لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه ولا يجب
فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيا من الصيد
كذلك الشجر وقول الخرقي وما زرعه الانسان يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر فيكون كقول
الشافعي ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع فيدخل فيه الشجر ويحتمل أن يريد ما ينبت الآدميون جنسه
والأولى الاخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله بقوله عليه السلام " لا يعضد شجرها " إلا ما أنبته
الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان فإننا أنما أخرجنا
من الصيد ما كان أصله انسيا دون من ما تأنس من الوحشي كذا ههنا
(فصل) ويحرم قطع الشوك والعوسج وقال القاضي وأبو الخطاب لا يحرم وروي ذلك عن عطاء
ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي لأنه يؤذي بطبعه فأشبه السباع من الحيوان
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يعضد شجرها " وفي حديث أبي هريرة لا يختلى شوكها وهذا
صريح ولان الغالب في شجر الحرم الشوك فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم قطع شجرها والشوك
غالبه كان ظاهرا في تحريمه
(فصل) ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت ولا يقطع ما انكسر ولم
يبن لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر
365

بغير فعل آدمي ولا ما سقط من الورق نص عليه احمد ولا نعلم فيه خلافا لأن الخبر إنما ورد في القطع
وهذا لم يقطع فاما ان قطعه آدمي فقال احمد لم أسمع إذا قطع ينتفع به وقال في الدوحة تقلع
من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها وذلك لأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه
لم ينتفع به كالصيد يذبحه المحرم ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به لأنه انقطع بغير فعله فأبيح
له الانتفاع به كما لو قطعه حيوان بهيمي ويفارق الصيد الذي ذبحه لأن الذكاة تعتبر لها الأهلية
ولهذا لا يحصل بفعل بهيمة بخلاف هذا
(فصل) وليس له أخذ ورق الشجر وقال الشافعي له أخذه لأنه لا يضربه وكان عطاء يرخص
في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله ورخص فيه عمرو بن دينار
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها " رواه مسلم ولان ما حرم أخذه حرم
كل شئ منه كريش الطائر وقولهم لا يضر به لا يصح فإنه يضعفها وربما آل إلى تلفها
(فصل ويحرم قطع حشيش الحرم الا ما استثناه الشرع من الإذخر وما أنبته الآدميون واليابس
لقوله عليه السلام " لا يختلى خلاها " وفي لفظ " ولا يحتش حشيشها " وفي استثناء النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر دليل
على تحريم ما عداه وفي جواز رعيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد
366

(والثاني) يجوز وهو مذهب عطاء والشافعي لأن الهديا كانت تدخل الحرم فتكثر فيه فلم ينقل
أنه كانت تسد أفواهها ولان بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الإذخر
(فصل) ويباح أخذ الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة وروى حنبل
قال يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس
(فصل) ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وروي ذلك
عن ابن عباس وعطاء وقال مالك وأبو ثور وداود وابن المنذر لا يضمن لأن المحرم لا يضمنه في الحل
فلا يضمن في الحرم كالزرع وقال ابن المنذر لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضا من كتاب
ولا سنة ولا اجماع وأقول كما قال مالك نستغفر الله تعالى
ولنا ما روى أبو هشيمة قال رأيت عمر بن الخطاب أمر بشجر كان في المسجد يضر باهل
الطواف فقطع وفدا وذكر البقرة رواه حنبل في المناسك وعن ابن عباس أنه قال في الدوحة بقرة
وفي الجزلة شاة والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة وعن عطاء نحوه ولأنه ممنوع من إتلافه
لحرمة الحرم فكان مضمونا كالصيد ويخالف المحرم فإنه لا يمنع من قطع شجر الحل ولا زرع الحرم
إذا ثبت هذا فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما نقص
367

وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي يضمن الكل بقيمته لأنه لا مقدار فيه فأشبه الحشيش
ولنا قول ابن عباس وعطاء لأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد
فإن قطع غصنا أو حشيشا فاستخلف احتمل سقوط ضمانه كما إذا جرح صيدا فاندمل أو قطع شعر
آدمي فنبت واحتمل أن يضمنه لأن الثاني غير الأول
(فصل) ومن قلع شجرة من الحرم فغرسها في مكان آخر فيبست ضمنها لأنه أتلفها وإن غرسها
في مكان من الحرم فنبتت لم يضمنها لأنه لم يتلفها ولم يزل حرمتها وإن غرسها في الحل فنبتت فعليه
ردها إليه لأنه أزال حرمتها فإن تعذر ردها أو ردها فيبست ضمنها وإن قلعها غيره من الحل فقال
القاضي الضمان على الثاني لأنه المتلف لها فإن قيل لا يجب على المخرج كالصيد إذا نفره من الحرم
فقتله إنسان في الحل فإن الضمان على المنفر
قلنا الشجر لا ينتقل بنفسه ولا تزول حرمته باخراجه ولهذا وجب على قالعه رده والصيد يكون
في الحرم تارة وفي الحل أخرى فمن نفره فقد فوت حرمته فلزمه جزاؤه وهذا لم يفوت حرمته بالاخراج
فكان الجزاء على متلفه لأنه أتلف شجرا حرميا محرما إتلافه
(فصل) وإذا كانت الشجرة في الحرم وغصنها في الحل فعلى قاطعه الضمان لأنه تابع لاصله وإن
كانت في الحل وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان
368

(أحدهما) لا ضمان فيه وهو قول القاضي أبي يعلى لأنه تابع لاصله كالتي قبلها
(والثاني) يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم فإن كان بعض الأصل في الحل وبعضه
في الحرم ضمن الغصن بكل حال سواء كان في الحل أو في الحرم تغليبا لحرمة الحرم كما لو وقف
صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم
(فصل) ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها، وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة
لا يحرم لأنه لو كان محرما لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولوجب فيه الجزاء كصيد الحرم
ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المدينة حرم ما بين ثور إلى عير " متفق عليه
وروى تحريم المدينة أبو هريرة ورافع وعبد الله بن زيد متفق على أحاديثهم ورواه مسلم عن سعد
وجابر وأنس، وهذا يدل على تعميم البيان وليس هو في الدرجة دون اخبار تحريم الحرم، وقد
قبلوه وأثبتوا أحكامه على أنه ليس بممتنع أن يبينه بيانا خاصا أو يبينه بيانا عاما فينقل نقلا خاصا
كصفة الاذان والوتر والإقامة
(فصل) وحرم المدينة ما بين لابتيها لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بين لابتيها
حرام " وكان أبو هريرة يقول لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها متفق عليه واللابة الحرة وهي أرض
369

فيها حجارة سود قال أحمد ما بين لابتيها حرام بريد في بريد كذا فسره مالك بن أنس وروى أبو هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل حول المدينة اثني عشر ميلا حمى رواه مسلم فاما قوله ما بين ثور إلى عير
فقال أهل العلم بالمدينة لا نعرف بها ثورا ولا عيرا وإنما هما جبلان بمكة فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد
قدر ما بين ثور وعير ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة وسماهما ثورا وعيرا تجوزا
(فصل) فمن فعل مما حرم عليه شيئا ففيه روايتان
(إحداهما) لاجزاء فيه وهذا قول أكثر أهل العلم، وهو قول مالك والشافعي في الجديد لأنه موضع
يجوز دخوله بغير إحرام فلم يجب فيه جزاء كصيد و ج
(والثانية) يجب فيه الجزاء روي ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي في القديم وابن المنذر
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إني أحرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة " ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ
طيرها فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذ لم يظهر بينهما فرق وجزاؤه إباحة سلب
القاتل لما أخذه لما روى مسلم باسناده عن عامر بن سعد ان سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد
عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم
فقال معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليهم. وعن سعد أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ أحدا بصيد فيه فليسلبه رواه أبو داود فعلى هذا يباح لمن وجد آخذ الصيد
أو قاتله أو قاطع الشجر سلبه وهو أخذ ثيابه حتى سراويله فإن كان على دابة لم يملك أخذها لأن
الدابة ليست من السلب وإنما أخذها قاتل الكافر في الجهاد لأنه يستعان بها على الحرب بخلاف مسألتنا
وان لم يسلبه أحد فلا شئ عليه سوى الاستغفار والتوبة
(فصل) ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين
(أحدهما) أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن
حشيشها ما تدعوا الحاجة إليه للعلف لما روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة
قالوا يا رسول الله: انا أصحاب عمل وأصحاب نضح وانا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا. فقال
" القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فاما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شئ " قال إسماعيل بن أبي
370

أويس قال خارجة المسند مرود البكرة فاستثنى ذلك وجعله مباحا كاستثناء الإذخر بمكة وعن علي
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن
يقطع منها شجرة الا أن يعلف رجل بعيره " وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يخبط ولا يعضد
حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن يهش هشا رفيقا " رواهما أبو داود ولان المدينة يقرب منها شجر وزرع
فلو منعنا من احتشاشها مع الحاجة أفضى إلى الضرر بخلاف مكة
(الثاني) أن من صاد صيدا خارج المدينة ثم أدخله إليها لم يلزمه إرساله نص عليه أحمد لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا أبا عمير ما فعل النغير " وهو طائر صغير فظاهر هذا أنه أباح امساكه بالمدينة إذا لم ينكر
ذلك وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة بدليل أنه لا يدخلها الا محرم
(فصل) صيدوج وشجره مباح وهو واد بالطائف وقال أصحاب الشافعي هو محرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " صيد و ج وعضاهها محرم " رواه أحمد في المسند
ولنا أن الأصل الإباحة والحديث ضعيف ضعفه احمد ذكره أبو بكر الخلاف في كتاب العلل
(مسألة) فقال (وان حصر بعدو نحر ما معه من الهدي وحل)
أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين أو غيرهم فمنعوه الوصول إلى البيت
ولم يجد طريقا آمنا فله التحلل وقد نص الله تعالى عليه بقوله (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) وثبت
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا وسواء كان الاحرام
بحج أو بعمرة أو بهما في قول إمامنا وأبي حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل لأنه
لا يخاف الفوات وليس بصحيح لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
محرمين بعمرة فحلوا جميعا وعلى من تحلل بالاحصار الهدي في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك
ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه وليس بصحيح لأن الله تعالى
قال (فإن احصر تم فما استيسر من الهدي) قال الشافعي لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية
نزلت في حصر الحديبية ولأنه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه فكان عليه الهدي كالذي فاته الحج
وبهذا فارق من أتم حجه.
(فصل) ولا فرق بين الحصر العام في حق الحاج كله وبين الخاص في حق شخص واحد مثل
371

أن يجلس بغير حق أو أخذته اللصوص وحده لعموم النص ووجود المعنى في الكل فأما من حبس
بحق عليه يمكنه الخروج منه لم يكن له التحلل لأنه لا عذر له في الحبس وإن كان معصرا به عاجزا عن
أدائه فحبسه بغير حق فله التحلل كمن ذكرنا وإن كان عليه دين مؤجل يحل قبل قدوم الحاج فمنعه
صاحبه من الحج فله التحلل أيضا لأنه معذور ولو أحرم العبد بغير اذان سيده أو المرأة للتطوع بغير
إذن زوجها فلهما منعهما وحكمهما حكم المحصر
(فصل) فإن أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل ولزمه سلوكها بعدت أو
قربت خشي الفوات أو لم يخشه فإن كان محرما بعمرة لم يفت وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا
لو لم يتحلل المحصر حتى خلي عنه لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج ليتحلل بعمرة ثم هل يلزمه
القضاء ان فاته الحج؟ فيه روايتان
(إحداهما) يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق
(والثانية) لا تجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقا أخرى بخلاف المخطئ
(فصل) فاما من لم يجد طريقا أخرى فتحلل فلا قضاء عليه الا أن يكون واجبا يفعله بالوجوب
السابق في الصحيح من المذهب، وبه قال مالك والشافعي وعن أحمد ان عليه القضاء روي ذلك عن
مجاهد وعكرمة والشعبي، وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل
وسميت عمرة القضية ولأنه حل من احرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته الحج
ووجه الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم
يعتقد أنه واجب فلم يكن فأما الخبر فإن الذين صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا مع النبي صلى الله عليه وسلم
كانوا نفرا يسيرا ولم ينقل إلينا ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا بالقضاء وأما تسميتها عمرة القضية فإنما يعنى
بها القضية التي اصطلحوا عليها واتفقوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا عمرة القضاء ويفارق الفوات
فإنه مفرط بخلاف مسألتنا.
(فصل) وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه وان
لم يكن معه لزمه شراؤه ان أمكنه ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى (فما استيسر
من الهدي) وله نحره في موضع حصره من حل أو حرم نص عليه احمد وهو قول مالك والشافعي الا
أن يكون قادرا على أطراف الحرم ففيه وجهان
(أحدهما) يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه
372

(والثاني) ينحره في موضعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه وعن أحمد ليس للمحصر نحر
هديه الا في الحرم فيبعثه ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه، وهذا يروى عن ابن مسعود
فيمن لدغ في الطريق وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي وعطاء، وهذا والله أعلم فيمن
كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر
وصول الهدي إلى محله ولان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية وهي من الحل قال
البخاري قال مالك وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شئ قبل الطواف وقبل
أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا أن يقضي شيئا ولا أن يعودوا له
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وهي من الحل باتفاق
أهل السيرة والنقل قال الله تعالى (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) ولأنه موضع حله فكان موضع نحره
كالحرم. وسائر الهدايا يجوز للمحصر نحرها في موضع تحلله فإن قيل فقد قال الله تعالى (ولا تحلقوا
رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) وقال (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولأنه ذبح يتعلق بالاحرام فلم يجز في
غير الحرم كدم الطيب اللباس (قلنا) الآية في حق غير المحصر ولا يمكن قياس المحصر عليه لأن
تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم فكل منهما ينحر في موضع تحلله وقيل في قوله (حتى يبلغ
الهدي محله) أي حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) ومتى كان المحصر محرما بعمرة فله التحلل ونحر هديه وقت حصره لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم بها قبل يوم النحر، وإن كان مفردا أو قارنا فكذلك
في إحدى الروايتين لأن الحج أحد النسكين فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة، ولأن العمرة
لا تفوت وجميع الزمان وقت لها، فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج
الذي يخشى فواته أولى
(والرواية الثانية) لا يحل ولا ينحر هديه إلى يوم النحر. نص عليه في رواية الأثرم وحنبل
لأن للهدي محل زمان ومحل مكان، فإذا عجز عن محل المكان فسقط بقي محل الزمان واجبا
لامكانه، وإذا لم يجز له نحر الهدي قبل يوم النحر لم يجز التحلل لقوله سبحانه (ولا تلحقوا رؤسكم
حتى يبلغ الهدي محله) وإذا قلنا بجواز التحلل قبل يوم النحر فالمستحب له مع ذلك الإقامة مع احرامه
رجاء زوال الحصر، فمتى زال قبل تحلله فعليه المضي لاتمام نسكه بغير خلاف نعلمه. قال ابن المنذر
373

قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل فلم يفعل حتى
خلي سبيله أن عليه أن يقضي مناسكه، وان زال الحصر بعد فوات الحج تحلل بعمل عمرة، فإن فات
الحج قبل زوال الحصر تحلل بهدي، وقيل عليه ههنا هديان: هدي للفوات وهدي للاحصار، ولم
يذكر أحمد في رواية الأثرم هديا ثانيا في حق من لا يتحلل الا يوم النحر
(فصل) فإن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التحليل لأن الحصر يفيده التحلل من
جميعه فأفاد التحلل من بعضه، وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحج كالرمي وطواف الوداع
والمبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لأن صحة الحج لا تقف على ذلك ويكون عليه دم
تركه ذلك وحجه صحيح كما لو تركه من غير حصر، وان أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة
فليس له أن يتحلل أيضا لأن احرامه إنما هو عن النساء والشرع إنما ورد بالتحلل من الاحرام التام الذي
يحرم جميع محظوراته فلا يثبت بما ليس مثله، ومتى زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه
(فصل) فأما من يتمكن من البيت ويصد عن عرفة فله أن يفسخ نية الحج ويجعله عمرة ولا
هدي عليه لأننا أبحنا له ذلك من غير حصر فمع الحصر أولى، فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم
أحصر، أو مرض حتى فاته الحج تحلل بطواف وسعي آخر لأن الأول لم يقصد به طواف العمرة ولا
سعيها وليس عليه أن يجدد احراما، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال الزهري لابد أن يقف بعرفة
وقال محمد بن الحسن لا يكون محصرا بمكة وروي ذلك عن أحمد، فإن فاته الحج فحكمه حكم من
فإنه بغير حصر، وقال مالك يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر، فإن أحب أن يستنيب من يتمم
عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه، ولا يجوز في حج الفرض
الا ان يئس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله
(فصل) وإذا تحلل المحصر من الحج فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة
الاسلام أو قلنا بوجوب القضاء، أو كانت الحجة واجبة في الجملة لأن الحج يجب على الفور وإن لم
تكن الحجة واجبة ولا قلنا بوجوب القضاء فلا شئ عليه كمن لم يحرم
(فصل) وإن أحصر في حج فاسد فله التحلل لأنه إذا أبيح له التحلل في الحج الصحيح فالفاسد
أولى، فإن حل ثم زال الحصر وفي الوقت سعة فله أن يقتضي في ذلك العام وليس يتصور القضاء في
العام الذي أفسد الحج فيه في غير هذه المسألة
374

(مسألة) قال (فإن لم يكن معه هدي ولا يقدر عليه صام عشرة أيام ثم حل)
وجملة ذلك أن المحصر إذا عجز عن الهدي انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حل، وبهذا قال الشافعي
في أحد قوليه، وقال مالك وأبو حنيفة ليس له بدل لأنه لم يذكر في القرآن
ولنا أنه دم واجب للاحرام فكان له بدل كدم التمتع والطيب واللباس وترك النص عليه لا يمنع
قياسه على غيره في ذلك ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام كبدل هدي التمتع، وليس له أن يتحلل
إلا بعد الصيام كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره، وهل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي
أو الصيام؟ ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه لأنه لم يذكره وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى
ذكره الهدي وحده ولم يشرط سواه
(والثانية) عليه الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق يوم الحديبية وفعله في النسك دال على
الوجوب ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو اطلاق من محظور على ما يذكر في موضعه إن شاء الله
(فصل) ولا يتحلل الا بالنية مع ما ذكرنا فيحصل الحل بشيئين النحر أو الصوم والنية ان قلنا
الحلاق ليس بنسك، وان قلنا هو نسك حصل بثلاثة أشياء الحلاق مع ما ذكرنا، فإن قيل فلم اعتبرتم
النية ههنا وهي في غير المحصر غير معتبرة؟ قلنا لأن من أتى بأفعال النسك فقد أتى بما عليه فيحل منها
باكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصور فإنه يريد الخروج من العبادة قبل اكمالها فافتقر إلى قصده،
ولان الذبح قد يكون لغير الحل فلم يتخصص الا بقصده بخلاف الرمي فإنه لا يكون الا للنسك
فلم يحتج إلى قصده
(فصل) فإن نوى التحلل قبل الهدي أو الصيام لم يتحلل وكان على احرامه حتى ينحر الهدي
أو يصوم لأنهما أقيما مقام أفعال الحج فلم يحل قبلهما كما لا يتحلل القادر على أفعال الحج قبلها، وليس
عليه في نية الحل فدية لأنها لم تؤثر في العبادة، فإن فعل شيئا من محظورات الاحرام قبل ذلك فعليه
فديته كما لو فعل القادر ذلك قبل أفعال الحج
(فصل) وإذا كان العدو الذي حصر الحاج مسلمين فأمكن الانصراف كان أولى من قتالهم
لأن في قتالهم مخاطرة بالنفس والمال وقتل مسلم فكان تركه أولى، ويجوز قتالهم لأنهم تعدوا على المسلمين
بمنعهم طريقهم فأشبهوا سائر قطاع الطريق، وإن كانوا مشركين لم يجب قتالهم لأنه إنما يجب بأحد
أمرين (1) إذا بدأوا بالقتال أو وقع النفير فاحتيج إلى مدد وليس ههنا واحد منهما، لكن ان غلب على
375

ظن المسلمين الظفر بهم استحب قتالهم لما فيه من الجهاد وحصول النصر واتمام النسك، وان غلب على
ظنهم ظفر الكفارة فالأولى الانصراف لئلا يغرروا بالمسلمين، ومتى احتاجوا في القتال إلى لبس
ما تجب فيه الفدية كالدرع والمغفر فعلوا وعليهم الفدية لأن لبسهم لأجل أنفسهم فأشبه ما لو لبسوا
لاستدفاء من دفع برد
(فصل) فإن أذن لهم العدو في العبور فلم يثقوا بهم فلهم الانصراف لأنهم خائفون على أنفسهم
فكأنهم لم يأمنوهم، وان وثقوا بأمانهم وكانوا معروفين بالوفاء لزمهم المضي على احرامهم لأنه قد
زال حصرهم، وان طلب العدو خفارة على تخلية الطريق وكان ممن لا يوثق بأمانة لم يلزمهم بذله لأن
الخوف باق مع البذل، وإن كان موثوقا بأمانة والخفارة كثيرة لم يجب بذله، بل يكره إن كان العدو
كافرا لأن فيه صغارا وتقوية للكفار، وان كانت يسيرة فقياس المذهب وجوب بذله كالزيادة في ثمن
الماء للوضوء. وقال بعض أصحابنا: لا يجب بذل خفارة بحال وله التحلل كما أنه في ابتداء الحج
لا يلزمه إذا لم يجد طريقا آمنا من غير خفارة
(مسألة) قال (وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة بعث بهدي
إن كان معه ليذبحه بمكة وكان على احرامه حتى يقدر على البيت)
المشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج
أو ذهاب نفقة ونحوه أنه لا يجوز له التحلل بذلك. روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان
وبه قال مالك والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى له التحلل بذلك. روي نحوه عن ابن
مسعود وهو قول عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي وأبي ثور لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كسر
أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى " رواه النسائي، ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى (فإن
أحصرتم فما استيسر من الهدي) يحققه أن لفظ الاحصار إنما هو للمرض ونحوه يقال أحصره المرض
احصارا فهو محصر وحصره العدو حصرا فهو محصور فيكون اللفظ صريحا في محل النزاع وحصر العدو
مقيس عليه، ولأنه مصدود عن البيت أشبه من صده عدو، ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالاحلال
الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو، ولان النبي صلى الله عليه وسلم دخل
على ضباعة بنت الزبير فقالت اني أريد الحج وأنا شاكية فقال " حجي واشترطي ان محلي حيث
376

حبستني " فلو كان المرض يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر، فإن مجرد
الكسر والعرج لا يصير به حلالا، فإن حملوه على أنه يبيح التحلل حملناه على ما إذا تشرط الحل بذلك
على أن في حديثهم كلاما فإنه يرويه ابن عباس ومذهبه خلافه، فإن قلنا يتحلل فحكمه حكم من أحصر
بعدو على ما مضى، وان قلنا لا يتحلل فإنه يقيم على احرامه ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة
وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل، فإن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض
(فصل) وإن شرط في ابتداء إحرامه ان يحل مرض أو ضاعت نفقته أو نفدت أو نحوه
أو قال إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني فله الحل متى وجد ذلك ولا شئ عليه لا هدي ولا
قضاء ولا غيره فإن للشرط تأثيرا في العبادات بدليل انه لو قال إن شفى الله مربضي صمت شهرا متتابعا
أو متفرقا كان على ما شرطه وإنما لم يلزمه الهدي والقضاء لأنه إذا شرط شرطا كان إحرامه الذي فعله
إلى حين وجود الشرط فصار بمنزلة من أكمل أفعال الحج، ثم ينظر في صيغة الشرط فإن قال إن مرضت
فلي أن أحل وان حبسني حبس فمحلي حيث حبسني فإذا حبس كان بالخيار بين الحل وبين البقاء
على الاحرام وان قال إن مرضت فأنا حلال فمتى وجد الشرط حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط
(مسألة) قال (فإن قال أنا أرفض إحرامي وأحل فلبس الثياب وذبح الصيد وعمل ما يعمله
الحلال كان عليه في كل فعل فعله دم، وإن كان وطئ فعليه للوطئ بدنة مع ما يجب عليه من الدماء
وجملة ذلك أن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: كمال أفعاله أو التحلل عند الحصر
أو بالعذر إذا شرط وما عدا هذا فليس له أن يتحلل به فإن نوى التحلل لم يحل ولا يفسد الاحرام
برفضه لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد فلا يخرج منها برفضها بخلاف سائر العبادات ويكون الاحرام
باقيا في حقه تلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه، وان وطئ أفسد حجه وعليه لذلك
بدنة مع ما وجب عليه من الدماء سواء كان الوطئ قبل الجنايات أو بعدها فإن الجناية على الاحرام الفاسد
توجب الجزاء كالجناية على الصحيح وليس عليه لرفضه الاحرام شئ لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئا
(مسألة) قال (ويمضي في الحج الفاسد ويحج من قابل)
جملة ذلك أن الحج لا يفسد إلا بالجماع فإذا فسد فعليه اتمامه وليس له الخروج منه روي ذلك
عن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال الحسن ومالك
377

يجعل الحجة عمرة ولا يقيم على حجة فاسدة وقال داود يخرج بالافساد من الحج والعمرة لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "
ولنا عموم قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة الله) ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف
لهم مخالفا ولأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج به منه كالفوات والخبر لا يلزمنا لأن المضي فيه بأمر
الله وإنما وجب القضاء لأنه لم يأت به على الوجه الذي يلزمه بالاحرام، ونخص مالكا بأنها حجة لا يمكنه
الخروج منها بالاخراج فلا يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة، إذا ثبت هذا فإنه لا يحل من الفاسد بل
يجب عليه أن يفعل بعد الافساد كل ما يفعله قبله ولا يسقط عنه توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة
والرمي، ويجتنب بعد الفساد كل ما يجتنبه قبله من الوطئ قانيا ثانيا وقتل الصيد والطيب واللباس ونحوه
وعليه الفدية في الجناية على الاحرام الفاسد كالفدية في الجناية على الاحرام الصحيح، فأما الحج من قابل
فيلزمه بكل حال لكن ان كانت الحجة التي أفسدها واجبة بأصل الشرع أو بالنذر أو قضاء كانت
الحجة من قابل مجزئة لأن الفساد إذا انضم إليه القضاء أجزأ عما يجزئ عنه الأول لو لم يفسده،
وان كانت الفاسدة تطوعا وجب قضاؤها لأنه بالدخول في الاحرام صار الحج عله واجبا فإذا أفسده
وجب قضاؤه كالمنذور ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه مخالفا لأن الحج الأصلي واجب على الفور
فهذا أولى لأنه قد تعين بالدخول فيه والواجب بأصل الشرع لم يتعين بذلك
(فصل) ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين الميقات أو موضع احرامه الأول لأنه إن كان
الميقات أبعد فلا يجوز له تجاوز الميقات بغير احرام، وإن كان موضع احرامه أبعد فعليه الاحرام بالقضاء
منه نص عليه أحمد وروي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والشافعي وإسحاق واختاره ابن المنذر،
وقال النخعي يحرم من موضع الجماع لأنه موضع الافساد
ولنا انها عبادة فكان قضاؤها على حسب أدائها كالصلاة
(فصل) وإذا قضيا تفرقا من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس
وروى سعيد والأثرم باسناديهما عن عمر انه سئل عن رجل وقع بامرأته وهما محرمان فقال: أتما حجكما
فإذا كان عام قابل فحجا واهديا حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا حتى تحلا. ورويا
عن ابن عباس مثل ذلك وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وروي عن أحمد انهما يتفرقان من حيث يحرمان حتى يحلا، ورواه مالك في الموطأ عن علي رضي الله عنه
وروي عن ابن عباس وهو قول مالك لأن التفريق بينهما خوفا من معاودة المحظور وهو يوجد في جميع
378

احرامهما، ووجه الأول ان ما قبل موضع الافساد كان إحرامهما فيه صحيحا فلم يجب التفرق فيه كالذي
لم يفسد، وإنما اختص التفريق بموضع الجماع لأنه ربما يذكره برؤية مكانه فيدعوه ذلك إلى فعله، ومعنى
التفرق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال أحمد يتفرقان في النزول وفي المحمل
والفسطاط ولكن يكون بقربها. وهل يجب التفريق أو يستحب؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجب وهو
قول أبي حنيفة لأنه لا يجب التفرق في قضاء رمضان إذا أفسداه كذلك الحج (والثاني) يجب لأنه
روي عمن سمينا من الصحابة الامر به ولم نعرف لهم مخالفا، ولان الاجتماع في ذلك الموضع يذكر الجماع
فيكون من دواعيه والأول أولى لأن حكمة التفريق الصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية
مكانه وهذا وهم بعيد لا يقتضي الايجاب
(فصل) والعمرة فيما ذكرناه كالحج فإن كان المعتمر مكيا - أحرم بها من الحل أحرم للقضاء من
الحل، وإن كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل ولا فرق بين المكي ومن حصل بها من المجاورين
وان أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها فأتمها فقال أحمد يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحج فإن
خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم. فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان
التي أفسدها، وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته، ولو أفسد الحاج حجته وأتمها فله
الاحرام بالعمرة من أدنى الحل كالمكيين
(فصل) وإذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقتضي عن الحج الأول كما لو أفسد قضاء الصلاة
والصيام وجب القضاء للأصل دون القضاء كذا ههنا وذلك لأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى
ما كان واجبا في الذمة على ما كان عليه فيؤديه القضاء
باب ذكر الحج ودخول مكة
يستحب الاغتسال لدخول مكة لأن عبد الله بن عمر كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارا أو يذكر أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله متفق عليه، وللبخاري ان ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية
379

ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل ويحدث ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولان مكة مجمع
أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة، والمرأة كالرجل وان كانت حائضا
أو نفساء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد حاضت " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت
ولان الغسل يراد للتنظيف وهذا يحصل مع الحيض فاستحب لها ذلك وهذا مذهب الشافعي وفعله
عروة والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون والحارث بن سويد
(فصل) ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل
مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة
دخل من أعلاها وخرج من أسفلها، متفق عليهما ولا بأس أن يدخلها ليلا أو نهارا لأن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل مكة ليلا ونهارا رواهما النسائي
(مسألة) قال أبو القاسم رحمه الله (فإذا دخل المسجد فالاستحباب له أن يدخل
من باب بنى شيبة فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر)
إنما استحب دخول المسجد من باب بني شيبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منه، وفي حديث جابر الذي
رواه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد
380

ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت (1) روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال الثوري
وابن المبارك والشافعي وإسحاق وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما روي عن المهاجر المكي قال سئل
جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أيرفع يديه؟ قال ما كنت أظن أحدا يفعل هذا الا اليهود
حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله رواه النسائي
ولنا ما روى أبو بكر ابن المنذر عن النبي صلى الله عله وسلم أنه قال " لا ترفع الأيدي الا في سبع مواطن
افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمورة وعلى الموقفين والجمرتين " وهذا من قول النبي
صلى الله عليه وسلم وذاك من قول جابر وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس، ولان الدعاء مستحب
عند رؤية البيت وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء
(فصل) ويستحب أن يدعو عند رؤية البيت فيقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا
بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه
واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا، الحمد الله رب العالمين كثيرا كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم
وجهه وعز جلاله، الحمد الله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا، والحمد الله على كل حال. اللهم انك دعوت
إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت
قال الشافعي في مسنده أخبرنا سعيد بن سالم عن بن جريج (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى
البيت رفع يديه وقال " اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وبرا وزد من شرفه ممن حجه
381

واعتمرة تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا " وروى باسناده عن سعيد بن المسيب أنه كان حين نظر إلى
البيت يقول " اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام " قال بعض أصحابنا يرفع صوته بذلك
(فصل) وإذا دخل المسجد فذكر فريضة أو فائتة أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف
382

لأن ذلك فرض والطواف تحية، ولأنه لو أقيمت الصلاة في أثناء طوافه قطعه لأجلها فلان يبدأ بها أولى وان
خاف فوت ركعتي الفجر أو الوتر أو حضرت جنازة قدمها لأنها سنة يخاف فوتها والطواف لا يفوت
(مسألة) قال (ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه ان استطاع وقبله)
معنى استلمه أي مسحه بيده أي مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا مسح الحجر قبل استلم
أي مس السلام قال ابن قتيبة والمستحب لمن دخل المسجد أن لا يعرج على شي ء قبل الطواف بالبيت
اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يفعل ذلك قال جابر في حديثه الصحيح حتى أتينا البيت معه استلم
الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا وعن عروة بن الزبير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة
توطأ ثم طاف بالبيت متفق عليه وروى ذلك عروة عن أبي بكر وعمر وعثمان و عبد الله بن عمر
ومعاوية وابن الزبير والمهاجرين وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ولان الطواف تحية المسجد الحرام
فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد أن يصلي ركعتين ويبتدئ الطواف بالحجر
الأسود، فيستلمه وهو أن يمسحه بيده ويقبله قال أسلم رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر
وقال: اني لا علم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك متفق عليه
383

وروى ابن ماجة عن ابن عمر قال استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا
ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال " يا عمر ههنا تسكب العبرات " وقول الخرقي
إن كان يعني إن كان الحجر في موضعه لم يذهب به كما ذهب به القرامطة مرة حين ظهروا على مكة
فإذا كان ذلك والعياذ بالله فإنه يقف مقابلا لمكانه ويستلم الركن وإن كان الحجر موجودا في موضعه
استلمه وقبله فإن لم يمكنه استلامه وتقبيله قام حياله أي بحذائه واستقبله بوجهه فكبر وهلل وهكذا
إن كان راكبا فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتي الحجر
أشار إليه بشئ في يده وكبر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر " إنك لرجل شديد تؤذي
الضعيف (1) إذا طفت بالبيت فإذا رأيت خلوة من الحجر فادن منه والا فكبر ثم امض " فإن أمكنه استلام
الحجر بشئ في يده كالعصا ونحوها فعل فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة
الوداع يستلم الركن بمحجن وهذا كله مستحب. ويقول عند استلام الحجر باسم الله والله أكبر ايمانا
بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم رواه عبد الله بن
السائب عن النبي صلى الله عليه وسلم
(فصل) ويحاذى الحجر بجميع بدنه فإن حاذاه ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن
فأجزأ فيه بعضه كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر واستلمه وظاهر هذا أنه
استقبله بجميع بدونه ولان ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه كالقبلة فإذا قلنا بوجوب ذلك فلم يفعله أو بدأ
بالطواف من دون الركن كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني
384

وما بعده ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه فإذا أكمل سبعة
أشواط غير الأول صح طوافه وإلا لم يصح
(فصل) والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهارا فأمنت الحيض والنفاس استحب لها
تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر لكن تشير
بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه كما روى عطاء قال كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال
لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عند وأبت (1) وان خافت حيضا
أو نفاسا استحب لها تعجيل الطواف كي لا يفوتها
(مسألة) قال (ويضطبع بردائه)
معنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى ويبقي
كتفه اليمنى مكشوفة وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الانسان افتعال منه وكان أصله اضتبع فقلبوا
التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنة قلبت طاء ويستحب الاضطباع في
385

طواف القدوم لما روى أبو داود وابن ماجة عن يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا ورويا أيضا
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت
إباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى وبهذا قال الشافعي وكثير من أهل العلم وقال مالك ليس
الاضطباع بسنة وقال لم أسمع أحدا من أهل العلم ببلدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقال (لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة) وقد روى أسلم عن عمر بن الخطاب أنه اضطبع ورمل وقال: ففيم الرمل ولم نبدي مناكبنا
وقد نفى المشركين؟ بلى لن ندع شيئا فعلناه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وإذا فرغ
من الطواف سوى رداءه لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة وقال الأثرم إذا فرغ من الأشواط
التي برمل فيها سوى رداءه والأول أولى لأن قوله طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعا ينصرف إلى جميعه ولا يضطبع في
غير هذا الطواف ولا يضطبع في السعي وقال الشافعي يضطبع فيه لأنه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطبع فيه والسنة في الاقتداء به قال احمد ما سمعنا فيه شيئا والقياس
لا يصح الا فيما عقل معناه وهذا تعبد محض
(مسألة) قال (ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة كل ذلك من الحجر الأسود
إلى الحجر الأسود)
معنى الرمل اسراع المشي مع مقاربة الخطو من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول
386

من طواف القدوم ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا
ومشى أربعا رواه جابر وابن عباس وابن عمر وأحاديثهم متفق عليها فإن قيل إنما رمل النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لاظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى إذ قد نفى الله المشركين فلم قلتم إن الحكم
يبقى بعد زوال علته قلنا قد رمى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح فثبت أنها
سنة ثابتة وقال ابن عباس رمل النبي صلى الله عليه وسلم في عمره كلها وفي حجه وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء
من بعد رواه أحمد في المسند وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت هذا فإن الرمل سنة في الأشواط
الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه لا يمشي ف شئ منها روي ذلك عن عمر وابن عمر
وابن معسود وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال عروة والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصاحب
الرأي وقال طاوس وعطاء والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله يمشي ما بين
الركنين لما روى ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى فقال المشركون
انه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا فاطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فلما قدموا
قعد المشركون مما يلي الحجر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا ما بين الركعتين
ليرى المشركون جلدهم فلما رأوهم رملوا قال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد
منا قال ابن عباس ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الابقاء عليهم متفق عليه
387

ولنا ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر وفي مسلم عن جابر قال رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه (منها)
أن هذا اثبات ومنها أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية وهذا اخبار عن فعل في حجة الوداع
فيكون متأخرا فيجب العمل به وتقديمه (الثالث) أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا لا يضبط
مثل وجابر وابن عمر كانا رجلين يتبعان أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ويحرصان على حفظها فهما أعلم ولان جلة الصحابة
عملوا بما ذكرنا ولو علموا من النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ويحتمل أن يكون ما رواه
ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والابقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس
(فصل) يستحب الدنو من البيت لأنه هو المقصود فإن كان قرب البيت زحام فظن أنه إذا
وقف لم يؤذ أحدا وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت وان لم يظن ذلك وظن
أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمل فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل
أيضا أو يختلط بالنساء فالدنو أولى ويطوف كيف ما أمكنه وإذا وجد فرجة رمل فيها وان تباعد من
البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد سواء حال بينه وبين البيت حائل من قبة أو غيره
أو لم يحل لأن الحائل في المسجد لا يضر كما لو صلى في المسجد مؤتما بالإمام من وراء حائل وقد روت
أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة "
قالت فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلى إلى جنب البيت متفق عليه
(مسألة) قال (ولا يرمل في جميع طوافه الا هذا)
وجملة ذلك أن الرمل لا يسن في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم أو طواف العمرة
فإن ترك الرمل فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لأنها هيئة فات موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين
الأولتين ولان المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيأة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة الأخيرة كان
388

تاركا للهيأة في جميع طوافه كتارك الجهر في الركعتين الأولتين من العشاء إذا جهر في الآخرتين ولا
يسن الرمل والاضطباع في طواف سوى ما ذكرنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا
في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة
لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى كسنن الصلاة وهذا لا يصح لما ذكرنا فيمن تركه في الثلاثة الأول
لا يقضيه في الأربعة وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضيه في صلاة الظهر ولا يقتضي القياس
أن تقضي هيأة عبادة في عبادة أخرى
قال القاضي ولو طاف فرمل واضطبع ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد ذلك للزيارة
رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده وهو تبع للطواف فلو قلنا لا يرمل في الطواف أفضى إلى أن
يكون التبع أكمل من المتبوع، وهذا قول مجاهد والشافعي وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف
فإن المتبوع لا تتغير هيأته تبعا لتبعه ولو كانا متلازمين لكان ترك الرمل في السعي تبعا لعدمه في
الطاف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي
(فصل) فإن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الأول أتى به في الاثنين الباقيين وان تركه في اثنين
أتى به في الثالث كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وان تركه في الثلاثة سقط لأن تركه للهيأة في بعض
محلها لا يسقطها في بقية محلها كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا يسقطه في الثانية.
(مسألة) قال (وليس على أهل مكة رمل)
وهذا قول ابن عباس وابن عمر رحمة الله عليهما وكان ابن عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل وهذا
لأن الرمل إنما شرع في الأصل لاظهار الجلد والقوة لأهل البلد وهذا المعنى معدوم في أهل البلد
والحكم فيمن أحرم من مكة حكم أهل مكة لما ذكرنا عن ابن عمر ولأنه أحرم من مكة أشبه أهل
البلد، والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد وقلنا يشرع في حقه طواف القدوم لم يرمل فيه قال
أحمد ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة
(مسألة) قال (ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه)
إنما كان كذلك لأن الرمل هيأة فلا يجب بتركه إعادة ولا شئ كهيآت الصلاة وكالاضطباع في
389

الطواف ولو تركه عمدا لم يلزمه شئ أيضا وهذا قول عامة الفقهاء الا ما حكي عن الحسن والثوري
وعبد الملك الماجشون أن عليه دما لأنه نسك وقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " من
ترك نسكا فعليه دم "
ولنا أنه هيئة غير واجبة فلم يجب بتركها شئ كالاضطباع والخبر إنما يصح عن ابن عباس وقد
قال ابن عباس من ترك الرمل فلا شئ عليه ثم هو مخصوص بما ذكرنا ولان طواف القدوم لا يجب بتركه
شئ فترك صفة فيه أولى أن لا يجب بها لأن ذلك لا يزيد على تركه
(مسألة) قال (ويكون طاهرا في ثياب طاهرة)
يعني في الطواف وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في
المشهور عن أحمد وهو قول مالك والشافعي وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطا فمتى طاف للزيارة غير
متطهر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده جبره بدم وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة
وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شئ عليه، وقال أبو حنيفة ليس شئ من ذلك شرطا
واختلف أصحابه فقال بعضهم واجب وقال بعضهم هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم يشترط
له الطهارة كالوقوف.
ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف بالبيت صلاة الا أنكم تتكلمون فيه "
رواه الترمذي والأثرم وعن أبي هريرة ان أبا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر يؤذن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة والستارة فيها شرطا كالصلاة وعكس ذلك الوقوف
390

(فصل) ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف وبذلك قال عطاء ومجاهد والثوري وابن المبارك
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه يكره وروي ذلك عن عروة والحسن وملك
391

ولنا أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في طوافه (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) وكان عمر وعبد الرحمن بن عوف يقولان ذلك في الطواف وهو
قرآن ولان الطواف صلاة ولا تكره القراءة في الصلاة قال ابن المبارك ليس شئ أفضل من قراءة
القرآن ويستحب الدعاء في الطواف والاكثار من ذكر الله تعالى لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال
ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى، ويستحب أن يدع الحديث الا ذكر الله تعالى أو قراءة القرآن
أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو مالا بد منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الطواف بالبيت صلاة فمن تكلم
فلا يتكلم الا بخبر " ولا بأس بالشرب في الطواف لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب في الطواف رواه ابن المنذر
وفقال لا أعلم أحدا منع منه
(فصل) إذا شك في الطهارة وهو في الطواف لم يصح طوافه ذلك لأنه شك في شرط العبادة
قبل الفراغ منها فأشبه ما لو شك في الطهارة في الصلاة وهو فيها وان شك بعد الفراغ منه لم يلزمه
شئ لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر فيها ان شك في عدد الطواف بنى على اليقين
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ولأنها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها
بنى على اليقين كالصلاة وان أخبره ثقة عن عدد طوافه رجع إليه إذا كان عدلا ان شك في ذلك بعد
فراغه من الطواف لم يلتفت إليه كما لو شك في عدد الركعات بعد فراغ الصلاة قال احمد إذا كان
392

رجلان يطوفان فاختلفا في الطواف بنيا على اليقين وهذا محمول على أنهما شكا فاما أن كان أحدهما
تيقن حال نفسه لم يلتفت إلى قول غيره
(فصل) وإذا فرغ المتمتع ثم علم أنه كان على غير طهارة في أحد الطوافين لا بعينه بنى الامر على
الأشد وهو انه كان محدثا في الطواف العمرة فلم يصح ولم يحل منها فيلزمه دم للحلق ويكون قد أدخل
الحج على العمرة فيصير قارنا ويجزئه الطواف للحج عن النسكين ولو قدرناه من الحج لزمه إعادة
الطواف ويلزمه إعادة السعي على التقديرين لأنه وجد بعد طواف غير معتد به، وإن كان وطئ بعد
حله من العمرة حكمنا بأنه أدخل حجا على عمرة فاسدة ولا تصح ويلغو ما فعله من أفعال الحج ويتحلل
بالطواف الذي قصده للحج من عمرته الفاسدة وعليه دم للحلق ودم للوطئ في عمرته ولا يحصل له
حج ولا عمرة، ولو قدرناه من الحج لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي ويحصل له الحج والعمرة
(مسألة) قال (ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني)
الركن اليماني قبلة أهل اليمن ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود وهو آخر ما يمر عليه من الأركان
في طوافه، وذلك أنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان فيستلمه ويقبله،
ثم يأخذ على يمين نفسه ويجعل البيت على يساره، فإذا انتهى إلى الركن الثاني وهو العراقي لم يستلمه،
393

فإذا مر بالثالث وهو الشامي لم يستلمه أيضا، وهذان الركنان يليان الحجر فإذا وصل إلى الرابع وهو
الركن اليماني استلمه، قال الخرقي ويقبله والصحيح عن أحمد أنه لا يقبله وهو قول أكثر أهل العلم، وحكي
عن أبي حنيفة أنه لا يستلمه، قال ابن عبد البر جائز عند أهل العلم أن يستلم الركن اليماني، والركن
الأسود لا يختلفون في شئ من ذلك، وإنما الذي فرقوا به بينهما التقبيل فرأوا تقبيل الأسود، ولم يروا
تقبيل اليماني، وأما استلامهما فأمر مجمع عليه، وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن قبله ووضع خده الأيمن عليه قال وهذا لا يصح، وإنما يعرف التقبيل في الحجر
الأسود وحده، وقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، وقال
ابن عمر ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة
ولا رخاء رواهما مسلم. ولا الركن اليماني مبني على قواعد إبراهيم عليه السلام فسن استلامه كالذي
فيه الحجر، وأما تقبيله فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسن، وأما الركنان اللذان يليان الحجر فلا
يسن استلامهما في قول أكثر أهل العلم، وروي عن معاوية وجابر وابن الزبير والحسن والحسين
وأنس وعروة استلامهما، وقال معاوية ليس شئ من البيت مهجورا
ولنا قول ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني وقال: ما أراه - يعني
النبي صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم ولا طاف
394

الناس من وراء الحجر إلا لذلك، وروي عن ابن عباس أن معاوية طاف فجعل يستلم الأركان كلها،
فقال له ابن عباس لم تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية ليس شئ من
البيت مهجورا، فقال ابن عباس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فقال معاوية صدقت
ولأنهما لم يتما على قواعد إبراهيم فلم يسن استلامهما كالحائط الذي يلي الحجر
(فصل) ويستلم الركنين الأسود واليماني في كل طوافه لأن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يدع أن يستلم الركن اليماني الحجر في كل طوافه. قال نافع وكان ابن عمر يفعله. رواه أبو داود
وإن لم يتمكن من تقبيل الحجر استلمه وقبل يده وممن رأى تقبيل اليد عند استلامه ابن عمر وجابر
وأبو هريرة وأبو سعيد وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وعروة وأيوب والثوري والشافعي وإسحاق
وقال مالك يضع يده على فيه من غير تقبيل، وروى أيضا عن القاسم بن محمد
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده. أخرجه مسلم وفعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتبعهم أهل العلم
على ذلك فلا يعتد بمن خالفهم، وإن كان في يده شئ يمكن أن يستلم الحجر به استلمه وقبله لما روي
عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن
رواه مسلم، فإن لم يمكنه استلامه أشار إليه وكبر لما روى البخاري باسناده عن ابن عباس قال:
طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر
395

(فصل) ويكبر كلما أتى الحجر أو حاذاه لما رويناه ويقول بين الركنين (ربنا آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) لما روى الإمام أحمد في المناسك عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقول بين ركن بنى جمح والركن الأسود (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وكل به - يعني الركن اليماني - سبعون ألف ملك فمن قال
اللهم أني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار) قالوا آمين " وعن ابن عباس أنه كان إذا جاء الركن اليماني قال: اللهم قنعني بما رزقتني،
واخلف لي على كل غائبة بخير
ويستحب أن يقول اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا. رب اغفر وارحم
واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم. وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: رب قنى شح نفسي،
وعن عروة قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لا إله الا أنتا * وان تحيي بعد ما أمتا * ومهما أتى
396

به من الدعاء والذكر فحسن، قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الطواف بالبيت وبين
الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " رواه الأثرم وابن المنذر
(مسألة) قال (ويكون الحجر (1) داخلا في طوافه لأن الحجر من البيت)
إنما كان كذلك لأن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت جميعه بقوله (وليطوفوا بالبيت العتيق) والحجر
منه فمن لم يطف به لم يعتد بطوافه وبهذا قال عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال
أصحاب الرأي إن كان بمكة قضى ما بقي، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم ونحوه قال الحسن
ولنا أنه من البيت بدليل ماروت عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر فقال " وهو
من البيت " وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا
حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منها، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا
منها " فأراها قريبا من سبعة أذرع رواهما مسلم، وعنها رضي الله عنها قالت: قالت يا رسول الله
إني نذرت أن أصلي في البيت، قال " صلي في الحجر فإن الحجر من البيت " وفي لفظ قالت كنت
أحب أن أدخل فأصلي فيه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر وقال " صلي في
الحجر إن أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت " وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح،
فمن ترك الطواف بالحجر لم يطف بجميع البيت فلم يصح كما لو ترك الطواف ببعض البناء، ولان النبي
صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر، وقد قال عليه السلام " لتأخذوا عني مناسككم "
397

(فصل) ولو طاف على جدار الحجر وشاذروان الكعبة وهو ما فضل من حائطها لم يجز لأن ذلك
من البيت فإذا لم يطف به فلم يطف بكل البيت، ولان النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء ذلك
398

ولو نكس الطواف فجعل البيت على يمينه لم يجزئه، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو
حنيفة يعيد ما كان بمكة، فإن رجع جبره بدم لأنه ترك هيئة فلم تمنع الاجزاء كما لو ترك الرمل والاضطباع
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت في الطواف على يساره، وقال عليه السلام " لتأخذوا عني
399

مناسككم " ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكان الترتيب فيها واجبا كالصلاة وما قاسوا عليه مخالف لما
ذكرنا كما اختلف حكم هيأة الصلاة وترتيبها
(مسألة) قال (ويصلي ركعتين خلف المقام)
وجملة ذلك أنه يسن للطائف أن يصلي بعد فراغه ركعتين ويستحب أن يركعهما خلف المقام
لقوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ويستحب أن يقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) في
الأولى و (قل هو الله أحد) في الثانية، فإن جابرا روى في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال حتى أتينا
البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت. قال محمد بن علي ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى الله
400

عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين (قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون) وحيث ركعهما ومهما
قرأ فيهما جاز، فإن عمر ركعهما بذي طوى، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لام سلمة " إذا أقيمت
صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون " ففعلت فلم تصل حتى خرجت، ولا بأس أن
يصليهما إلى غير سترة ويمر بين يديه الطائفون من الرجال والنساء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف
بين يديه ليس بينهما شئ، وكان ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه فتمر المرأة بين يديه فينتظرها
حتى ترفع رجلها ثم يسجد وكذلك سائر الصلوات في مكة لا يعتبر لها سترة وقد ذكرنا ذلك
(فصل) وركعتا الطواف سنة مؤكدة غير واجبة، وبه قال مالك وللشافعي قولان (أحدهما) أنهما واجبتان لأنهما تابعتان للطواف فكانا واجبتين كالسعي
ولنا قوله عليه السلام " خمس صلوات كتبهن الله على العبد من حافظ عليهن كان له عند الله عهد
أن يدخله الجنة " وهذه ليست منها ولما سأل الاعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرائض ذكر الصلوات الخمس
قال فهل علي غيرها؟ قال " لا الا ان تطوع " ولأنها صلاة لم تشرع لها جماعة فلم تكن واجبة كسائر
النوافل والسعي ما وجب لكونه تابعا ولا هو مشروع مع كل طواف، ولو طاف الحاج طوافا كثيرا لم
يجب عليه إلا سعي واحد، فإذا أتى به مع طواف القدوم لم يأت به بعد ذلك بخلاف الركعتين فإنهما
يشرعان عقيب كل طواف
(فصل) وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف، روي نحو ذلك عن أبن
401

عباس وعطاء وجابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير وإسحاق، وعن أحمد أنه يصلي ركعتي الطواف
بعد المكتوبة، قال أبو بكر عبد العزيز وهو أقيس، وبه قال الزهري ومالك وأصحاب الرأي لأنه سنة
فلم تجز عنهما المكتوبة كركعتي الفجر.
ولنا أنهما ركعتان شرعتا للنسك فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الاحرام
(فصل) ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين فعل ذلك
عائشة والمسور بن مخرمة، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وإسحاق وكرهه ابن عمر والحسن
والزهري ومالك وأبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه لم يفعله ولان تأخير الركعتين عن طوافهما يخل بالموالاة بينهما
ولنا ان الطواف يجرى مجرى الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما بينها فيصليها بعدها كذلك ههنا،
وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لا يوجب كراهة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة وذلك غير
مكروه بالاتفاق، والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين بدليل ان عمر صلاهما بذي طوى
وأخرت أم سلمة ركعتي طوافها حين طافت راكبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخر عمر بن عبد العزيز
ركوع الطواف حتى طلعت الشمس، وان ركع لكل أسبوع عقيبه كان أولى وفيه اقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم وخرج من الخلاف
402

(فصل) وإذا فرغ من الركوع وأراد الخروج إلى الصفا استحب أن يعود فيستلم الحجر نص
عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ذكره جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يفعله وبه قال
النخعي ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
(مسألة) قال (ويخرج إلى الصفا من بابه فيقف عليه فيكبر الله عز وجل ويهلله ويحمده
ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم)
وجملة ذلك أنه إذا فرغ من طوافه وصلى ركعتين واستلم الحجر فيستحب أن يخرج إلى الصفا من
بابه فيأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة ثم يستقبلها فيكبر الله عز وجل ويهلله ويدعو بدعاء النبي
صلى الله عليه وسلم وما أحب من خير الدنيا والآخرة، قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ركعتي الطواف
ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (ان الصفا والمروة من
شعائر الله) " نبدأ بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله
وكبر وقال " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا
403

الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، " ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا
ثلاث مرات قال أحمد ويدعو بدعاء ابن عمر ورواه عن إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر انه
كان يخرج إلى الصفا من الباب الأعظم فيقوم عليه فيكبر سبع مرار ثلاثا ثلاثا يكبر ثم يقول: لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله لا نعبد الا إياه
مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ثم يدعو فيقول: اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية
رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك
الصالحين اللهم حببني إليك والى ملائكتك والى رسلك والى عبادك الصالحين، اللهم يسرني
لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة
النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم قلت قولك الحق (ادعوني أستجب لكم) وانك لا تخلف الميعاد،
اللهم إذ هديتني للاسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى توفاني على الاسلام، اللهم لا تدمني إلى
العذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن. قال ويدعو دعاء كثيرا حتى أنه ليملنا وانا لشاب وكان إذا أتى
على المسعى سعى وكبر وكل مادعا به فهو جائز
(فصل) فإن لم يرق على الصفا فلا شئ عليه، قال القاضي لكن يجب عليه أن يستوعب ما بين
الصفا والمروة فيلصق عقبيه بأسفل الصفا ثم يسعى إلى المروة فإن لم يصعد عليها ألصق أصابع رجليه
404

بأسفل المروة والصعود عليها هو الأولى اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ترك مما بينهما شيئا ولو ذراعا
لم يجزئه حتى يأتي به، والمرأة لا يسن لها أن ترقى لئلا تزاحم الرجال وترك ذلك أستر لها ولا ترمل
في طواف، ولا سعي والحكم في وجوب استيعابها ما بينهما بالمشي كحكم الرجل
(مسألة) قال (ثم ينحدر من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي فيرمل
من العلم إلى العلم ثم يمشي حتى يأتي المروة فيقف عليها ويقول كما قال على الصفا وما دعا به
أجزأه ثم ينزل ماشيا إلى العلم ثم يرمل حتى يأتي العلم يفعل ذلك سبع مرات يحتسب بالذهاب
سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختم بالمروة)
هذا وصف السعي وهو أن ينزل من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم ومعناه يحاذي العلم وهو الميل
الأخضر المعلق في ركن المسجد فإذا كان منه نحوا من ستة أذرع سعى سعيا شديدا حتى يحاذي العلم
الآخر وهو الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يترك السعي ويمشي حتى
يأتي المروة فيستقبل القبلة ويدعو بمثل دعائه على الصفا وما دعا به فجائز وليس في الدعاء شئ مؤقت،
ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه ويكثر من الدعاء والذكر فيما بين ذلك، قال
أبو عبد الله كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت
405

الأعز الأكرم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله
تعالى " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب وبالرجوع
سعية. وحكي عن ابن جرير وبعض أصحاب الشافعي أنهم قالوا ذهابه ورجوعه سعية وهذا غلط لأن
جابرا قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي
حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا فلما كان آخر طوافه على المروة
قال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدي وجعلتها عمرة " وهذا يقتضي انه آخر طوافه
ولو كان على ما ذكروه كان آخر طوافه عند الصفا في الموضع الذي بدأ منه ولأنه في كل مرة طائف بهما
فينبغي أن يحتسب بذلك مرة كما أنه إذا طاف بجميع البيت احتسب به مرة
(مسألة) قال (ويفتتح بالصفا ويختتم بالمروة)
وجملة ذلك أن الترتيب شرط في السعي وهو أن يبدأ بالصفا فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط
فإذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال " نبدأ بما بدأ الله
به " وهذ قول الحسن ومالك والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي. وعن أبن عباس قال: قال
الله تعالى (ان الصفا والمروة من شعائر الله) فبدأ بالصفا وقال اتبعوا القرآن فما بدأ الله به فابدؤا به
406

(مسألة) قال (ومن نسي الرمل في بعض سعيه فلا شئ عليه)
وجملة ذلك أن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى وسعى أصحابه فروت صفية
بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة ويقول " لا يقطع
الأبطح الا شدا " وليس ذلك بواجب ولا شئ على تاركه قال ابن عمر قال إن أسع بين الصفا والمروة
فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير، رواهما
ابن ماجة. وروى هذا أبو داود ولان ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شئ فيه فبين الصفا والمروة أولى
(فصل) واختلفت الرواية في السعي فروي عن أحمد انه ركن لا يتم الحج إلا به وهو قول عائشة
وعروة ومالك والشافعي لما روي عن عائشة قالت طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون يعني بين
الصفا والمروة فكانت سنة ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. رواه مسلم. وعن
حبيبة بنت أبي شجراء إحدى نساء بني عبد الدار قالت دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين
ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وان مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه
حتى أني لاقول اني لأرى ركبتيه وسمعته يقول " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " رواه ابن ماجة
ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما كالطواف بالبيت وروي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه
407

دم روي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى (فلا جناح عليه أن
يطوف بهما) ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه فإن هذا رتبة المباح، وإنما تثبت سنيته
بقوله (من شعائر الله) وروي أن في مصحف أبي وابن مسعود (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)
وهذا ان لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر (1) لأنهما يرويانه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه نسك ذو عدد
لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركنا كالرمي. وقال القاضي هو واجب وليس بركن إذا تركه وجب عليه
دم وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة والثوري وهو أولى لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب
لاعلى كونه لا يتم الحج الا به وقول عائشة في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة. وحديث
بنت أبي شجراء قال ابن المنذر يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه ثم هو يدل على أنه
مكتوب وهو الواجب وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الاسلام لما كانوا يطوفون
بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة كذلك قالت عائشة
(فصل) والسعي تبع للطواف لا يصح ألا أن يتقدمه طواف فإن سعى قبله لم يصح وبذلك قال
408

مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال عطاء يجزئه وعن أحمد يجزئه إن كان ناسيا وان عمد لم يجزئه
سعيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال " لا حرج " ووجه الأول
ان النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد طوافه وقد قال " لتأخذوا عني مناسككم " فعلى هذا ان سعى بعد
طوافه ثم علم أنه طاف بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك، ومتى سعى المفرد والقارن بعد طواف القدوم
لم يلزمهما بعد ذلك سعي وان لم يسعيا معه سعيا مع طواف الزيارة ولا تجب الموالاة بين الطواف
والسعي، قال أحمد لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح أو إلى العشي وكان عطاء والحسن لا يريان
بأسا لمن طاف بالبيت أول النهار أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي وفعله القاسم وسعيد بن جبير لأن
الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي ففيما بينه وبين الطواف أولى
(مسألة) قال (فإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا قصد من شعره ثم قد حل)
المتمتع الذي أحرم بالعمرة من الميقات، فإذا فرغ من أفعالها وهي الطواف والسعي قصر أو حلق
وقد حل من عمرته ان لم يكن معه هدي لما روى ابن عمر قال تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة
إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس " من كان معه هدي فإنه لا يحل من شئ حرم منه
حتى يقضي حجه ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل " متفق
عليه ولا نعلم فيه خلافا ولا يستحب تأخير التحلل قال أبو داود سمعت أحمد سئل عمن دخل مكة
409

معتمرا فلم يقصر حتى كان يوم التروية عليه شئ؟ قال هذا لم يحل بعد يقصر ثم يهل بالحج وليس
عليه شئ وبئس ما صنع
(فصل) فأما من معه هدي فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة
ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى انه يحل
له التقصير من شعر رأسه خاصة ولا يمس من أظفاره وشاربه شيئا وروي ذلك عن ابن عمر وهو قول
عطاء لما روي عن معاوية قال قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص عند المروة. متفق عليه،
وقال مالك والشافعي في قول له التحلل ونحر هديه. ويستحب نحره عند المروة وكلام الخرقي يحتمله لاطلاقه
ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عمر. وروت عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من كان معه هدي فليهل بالحج مع
عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " وعن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من
العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال " أني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر " متفق عليه
والأحاديث كثيرة وعن أحمد رواية ثالثة فيمن قدم متمتعا في أشهر الحج وساق الهدي قال إن دخلها
في العشر لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وان قدم قبل العشر نحر الهدي وهذا يدل على أن
المتمتع إذا قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وان قدم في العشر لم يحل وهذا قول عطاء رواه
410

حنبل في المناسك وقال فيمن لبد أو ضفر هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى
لما فيها من الحديث الصحيح الصريح وهو أولى بالاتباع
(فصل) فاما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن وسواء كان في أشهر
الحج أو غيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة
وقيل كلهن في ذي القعدة فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من الحرم جاز
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل فجاج مكة طريق ومنحر " رواه أبو داود وابن ماجة
(فصل) وقول الخرقي قصر من شعره ثم قد حل يدل على أن المستحب في حق المتمتع عند
حله من عمرته التقصير ليكون الحلق للحج قال احمد في رواية أبي داود ويعجبني إذا دخل متمتعا أن
يقصر ليكون الحلق للحج ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلا بالتقصير فقال في حديث جابر " حلوا
من إحرامكم بطواف بين الصفا والمروة وقصروا " وفي صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم فحل الناس كلهم
وقصروا وفي حديث ابن عمر أنه قال: من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة
وليقصر وليحلل " متفق عليه وإن حلق جاز لأنه أحد النسكين فجاز فيه كل واحد منهما ويدل أيضا
على أنه لا يحل إلا بعد التقصير وهذا ينبني على أن التقصير نسك وهو المشهور فلا يحل الا به وفيه
رواية أخرى أنه اطلاق من محظور فيحل بالطواف والسعي حسب، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
411

فإن ترك التقصير أو الحلق وقلنا هو نسك فعليه دم وإن وطئ قبل التقصير فعليه دم وعمرته صحيحة
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وحكي عن الشافعي أن عمرته تفسد لأنه وطئ قبل حله من عمرته
وعن عطاء قال يستغفر الله تعالى
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة معتمرة وقع بها زوجها قبل أن تقصر قال من
ترك من مناسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما قيل إنها موسرة قال فلتنحر فاقة ولان التقصير ليس
بركن فلا يفسد النسك بتركه ولا بالوطئ قبله كالرمي في الحج قال احمد فيمن وقع على امرأته قبل
تقصيرها من عمرتها تذبح شاة قيل عليه أو عليها؟ قال عليها هي. وهذا محمول على أنها طاوعته فإن أكرهها
فالدم عليه وإن أحرم بالحج قبل التقصير فقد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا
(فصل) يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره وكذلك المرأة نص عليه وبه قال مالك وعن أحمد
يجزئه البعض مبنيا على المسح في الطهارة وكذلك قال ابن حامد وقال الشافعي يجزئه التقصير
من ثلاث شعرات واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له
ولنا قول الله تعالى (محلقين رءوسكم) وهذا عام في جميعه ولان النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه
تفسيرا لمطلق الامر به فيجب الرجوع إليه ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح فإن
كان الشعر مضفورا قصر من رؤوس ضفائره كذلك قال مالك تقصر المرأة من جميع قرونها ولا يجب
التقصير من كل شعرة لأن ذلك لا يعلم الا بحلقه
(فصل) وأي قدر قصر منه أجزأه لأن الامر به مطلق فيتناول الأقل وقال احمد يقصر قدر
الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق وأبي ثور وهذا محمول على الاستحباب لقول ابن عمر
وبأي شئ قصر الشعر أجزأه وكذلك لو نتفه أو أزاله لأن القصد إزالته والامر به مطلق
فيتناول ما يقع عليه الاسم ولكن السنة الحلق أو التقصير اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستحب
البداية بالشق الأيمن نص عليه لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " للحلاق خذ " وأشار إلى
جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس رواه مسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في شأنه كله
متفق عليه قال احمد يبدأ بالشق الأيمن حتى يجاوز العظمين وان قصر من شعر رأسه ما نزل عن حد
الرأس أو مما يحاذيه جاز لأن المقصود التقصير وقد حصل بخلاف المسح في الوضوء فإن الواجب
المسح على الرأس وهو ما ترأس وعلا
(مسألة) قال (وطواف النساء وسعيهن مشي كله)
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس
412

عليهن اضطباع وذلك لأن الأصل فيهما اظهار الجلد ولا يقصد ذلك في حق النساء ولأن النساء يقصد
فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف
(مسألة) قال (ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وأجزأه)
أكثر أهل العلم يرون أن لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة وممن قال ذلك عطاء
ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان الحسن يقول إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف
وان ذكر بعد ماحل فلا شئ عليه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت " اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت "
ولان ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف، قال أبو داود سمعت أحمد يقول إذا طافت
المرأة بالبيت ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت روي عن عائشة وأم سلمة أنهما قالتا:
إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة. رواه الأثرم. والمستحب
مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى الا متطهرا وكذلك يستحب أن يكون طاهرا في جميع
مناسكه ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث
وهي آكد فغيرها أولى وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد أن الطهارة في السعي كالطهارة
في الطواف ولا يعول عليه
(مسألة) قال (وان أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى فإذا صلى بنى)
وجملة ذلك أنه إذا تلبس بالطواف أو بالسعي ثم أقيمت المكتوبة فإنه يصلي مع الجماعة في
قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وسالم وعطاء والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي روي ذلك
عنهم في السعي وقال مالك يمضي في طوافه ولا يقطعه ألا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة لأن
الطواف صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة " والطواف صلاة فيدخل تحت
عموم الخبر وإذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده ففي السعي بين الصفا والمروة أولى مع
أنه قول ابن عمر ومن سميناه من أهل العلم ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا. وإذا صلى بنى على طوافه
وسعيه في قول من سمينا من أهل العلم قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا خالف في ذلك الا الحسن فإنه
قال يستأنف وقول الجمهور أولى لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف فلم يقطعه كاليسير وكذلك
الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلي عليها ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها قال أحمد
ويكون ابتداؤه من الحجر يعني أنه يبتدئ الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء
413

(فصل) فإن ترك الموالاة لغير ما ذكرنا وطال الفصل ابتدأ الطواف وان لم يطل بنى ولا فرق
بين ترك الموالاة عمدا أو سهوا مثل من يترك شوطا من الطواف يحسب أنه قد أتمه وقال أصحاب
الرأي فيمن طاف ثلاثة أشواط من طواف الزيارة ثم رجع إلى بلده عليه أن يعود فيطوف ما بقي
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم والى بين طوافه وقال " خذوا عني مناسككم " ولأنه صلاة فيشترط له الموالاة
كسائر الصلوات أو نقول عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة ويرجع في طول الفصل
وقصره إلى العرف من غير تحديد وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إذا كان له عذر
يشغله بنى وان قطعه من غير عذر أو لحاجة استقبل الطواف وقال إذا أعيا في الطواف لا بأس أن
يستريح، وقال: الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله فلما أفاق أتمه قال أبو عبد الله فإن شاء أتمه وان شاء
استأنف وذلك لأنه قطعه لعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه لصلاة
(فصل) فأما السعي بين الصفا والمروة فظاهر كلام أحمد أن الموالاة غير مشترطة فيه فإنه قال في
رجل كان بين الصفا والمروة فلقيه فإذا يعرفه يقف فيسلم عليه ويسائله؟ قال نعم أمر الصفا سهل إنما
كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت فاما بين الصفا والمروة فلا بأس وقال القاضي تشترط الموالاة
فيه قياسا على الطواف وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت
فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق، وقد روى الأثرم أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة
ابن الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة وكان عطاء لا يرى
بأسا أن يستريح بينهما ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت وهو صلاة وتشترط
له الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة بخلاف السعي
(مسألة) قال (وان أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إذا كان فرضا)
أما إذا أحدث عمدا فإنه يبتدئ الطواف لأن الطهارة شرط له فإذا أحدث عمدا أبطله كالصلاة
وان سبقه الحدث ففيه روايتان
(إحداهما) يبتدئ أيضا، وهو قول الحسن ومالك قياسا على الصلاة (والرواية الثانية) يتوضأ
ويبني وبها قال الشافعي وإسحاق قال حنبل عن أحمد فيمن طاف ثلاثة أشواط أو أكثر يتوضأ فإن
شاء بنى وان شاء استأنف قال أبو عبد الله يبني إذا لم يحدث حدثا الا الوضوء فإن عمل عملا غير
ذلك استقبل الطواف وذلك لأن الموالاة تسقط عند العذر في إحدى الروايتين وهذا معذور فجاز له
البناء وان اشتغل بغير الوضوء فقد ترك الموالاة لغير عذر فلزمه الابتداء إذا كان الطواف فرضا فاما
المسنون فلا يجب إعادته كالصلاة المسنونة إذا بطلت
414

(مسألة) قال (ومن طاف وسعى محمولا لعلة أجزأه)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر فإن ابن عباس روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن، وعن أم سلمة قالت شكوت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " متفق عليهما وقال جابر
طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه فإن
الناس غشوه. والمحمول كالراكب فيما ذكرناه
(فصل) فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى
الروايات عن أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف بالبيت صلاة " ولأنها عبادة تتعلق
بالبيت فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة
(والثانية) يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك وبه قال أبو حنيفة الا أنه قال يعيد ما كان بمكة فإن
رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل غروب الشمس
(والثالثة) يجزئه ولا شئ عليه اختارها أبو بكر، وهي مذهب الشافعي وابن المنذر لأن النبي
صلى الله عليه وسلم طاف راكبا قال ابن المنذر لا قول لاحد مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولان الله تعالى أمر بالطواف
مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل ولا خلاف في أن الطواف راجلا
أفضل لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طافوا مشيا والنبي صلى الله عليه وسلم في غير حجة الوداع طاف مشيا وفي قول أم
سلمة شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني اشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " دليل على أن
الطواف إنما يكون مشيا وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لعذر فإن ابن عباس روى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب رواه مسلم، وكذلك في حديث جابر: فإن الناس
غشوه، وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف راكبا لشكاة به وبهذا يعتذر من منع
الطواف راكبا عن طواف النبي صلى الله عليه وسلم والحديث الأول أثبت فعلى هذا يكون كثرة الناس وشدة
الزحام عذرا ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد تعليم الناس مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب والله أعلم
(فصل) إذا طاف راكبا أو محمولا فلا رمل عليه، وقال القاضي يخب به بعيره والأول أصح لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به ولان معنى الرمل لا يتحقق فيه
(فصل) فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف
راكبا غير موجود فيه.
415

(مسألة) قال ومن كان مفردا أو قارنا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها
عمرة إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه
أما إذا كان معه هدي فليس له ان يحل من إحرام الحج ويجعله عمرة بغير خلاف نعلمه، وقد
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قال للناس " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شئ
حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل
ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه
واما من لا هدي معه ممن كان مفردا أو قارنا فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج
وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من احرامه ليصير متمتعا ان لم يكن وقف بعرفة وكان ابن عباس
يرى أن من طاف بالبيت وسعى فقد حل وان لم ينو ذلك وبما ذكرناه قال الحسن ومجاهد وداود.
وأكثر أهل العلم على أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة فروى ابن
ماجة باسناده عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه أنه قال يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن
أتى؟ قال " لنا خاصة " وروي أيضا عن المرقع الأسدي عن أبي ذر قال كان ما اذن لنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرة ونحل من كل شئ أن تلك كانت لنا خاصة رخصة
من رسول صلى الله عليه وسلم دون جميع الناس
ولنا أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين افردوا الحج
وقرنوا أن يحلو كلهم ويجعلوها عمرة الا من كان معه الهدي وثبت ذلك في أحاديث كثيرة متفق
عليهن بحيث يقرب من التواتر والقطع ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من أهل
العلم علمناه، وذكر أبو حفص في شرحه قال سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول سمعت أبا بكر بن أيوب
يقول سمعت إبراهيم الحربي يقول وسئل عن فسخ الحج فقال قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل
يا أبا عبد الله كل شئ منك حسن جميل الا خلة واحدة فقال ما هي؟ قال تقول بفسخ الحج فقال
احمد قد كنت أرى أن لك عقلا، عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج اتركها
لقولك، وقد روى فسخ الحج ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة وأحاديثهم متفق عليها ورواه
غيرهم وأحاديثهم كلها صحاح. قال احمد روي الفسخ عن النبي (ص) من حديث جابر وعائشة
وأسماء والبراء وابن عمر وسبرة الجهني، وفي لفظ حديث جابر قال أهللنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالحج خالصا وحده وليس معه عمرة فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فلما قدمنا
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحل قال " أحلوا وأصيبوا من النساء " قال فبلغه عنا انا نقول لم يكن بيننا وبين
416

عرفة الا خمس ليال أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال " قد علمتم اني اتقاكم الله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا ولو استقبلت
من أمري ما استدبرت ما أهديت " قال فحللنا وسمعنا وأطعنا قال فقال سراقة بن مالك بن جعشم
المدلجي متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟ فظنه محمد بن بكر أنه قال " للأبد " متفق عليه، فأما
حديثهم فقال احمد روى هذا الحديث الحراث بن بلال فمن الحراث بن بلال؟ يعني انه مجهول ولم
يروه الا الدراوردي وحديث أبي ذر رواه مرقع الأسدي فمن مرقع الأسدي؟ شاعر من أهل الكوفة
ولم يلق أبا ذر فقيل له أفليس قد روى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال كانت
متعة الحج لنا خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله وقد أجمع
الناس على أنها جائزة، قال الجوزجاني مرقع الأسدي ليس بمشهور ومثل هذه الأحاديث في ضعفها
وجهالة رواتها لا تقبل إذا انفردت فكيف تقبل في رد حكم ثابت بالتواتر مع أن قول أبي ذر من رأيه
وقد خالفه من هو أعلم منه وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يلتفت إلى هذا، وقد اختلف
لفظه ففي أصح الطريقين عنه قوله مخالف لكتاب الله تعالى وقول رسول الله واجماع المسلمين وسنن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة فلا يحل الاحتجاج به، وأما قياسهم في مقابلة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلا يقبل على أن قياس الحج على العمرة في هذا لا يصح فإنه يجوز قلب الحج إلى العمرة في حق من فاته الحج
ومن حصر من عرفة، والعمرة لا تصير حجا بحال، ولان فسخ الحج إلى العمرة يصير به متمتعا فتحصل الفضيلة
وفسخ العمرة إلى الحج يفوت الفضيلة ولا يلزم من مشروعية ما يحصل الفضيلة مشروعية تفويتها.
(فصل) وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعا حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره قال
القاضي لا يجب الدم لأن من شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة أو في أثنائها أنه متمتع وهذه
دعوى لا دليل عليها تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة، فإن الله تعالى قال (فمن تمتع بالعمرة
إلى الحج فما استيسر من الهدي) وفي حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يكن منكم أهدى
فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهدو من لم يجد هديا فليصم ثلاثة
أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه ولان وجوب الدم في المتعة للترفه بسقوط أحد
السفرين وهذا المعنى لا يختلف بالنية وعدمها فوجب أن لا يختلف وجوب الدم على أنه لو ثبت أن النية
شرط فقد وجدت فإنه ما حل حتى نوى أنه يحل ثم يحرم بالحج
417

(مسألة) قال (ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت)
قال أبو عبد الله يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن وهو معنى قول الخرقي: إذا وصل إلى البيت
وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب
الرأي وقال ابن عمر وعروة والحسن يقطعها إذا دخل الحرم، وقال سعيد بن المسيب يقطعها حين
يرى عرش مكة، وحكي عن مالك أنه ان أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم، وان أحرم
بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت
ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث: كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر. قال
الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم
اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر، ولان التلبية إجابة إلى العبادة واشعار للإقامة عليها
وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها وهو التحلل منها، والتحلل يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في
الطواف فقد أخذ في التحلل فينبغي ان يقطع التلبية كالحاج يقطعها إذا شرع في رمي جمرة العقبة
لحصول التحلل بها، وأما قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها والله تعالى أعلم
418

باب صفة الحج
نذكر في هذا الباب صفة الحج بعد حل المتمتع من عمرته ونبدأ بذكر حديث جابر في صفة حج
النبي صلى الله عليه وسلم ونقتصر منه على ما يختص بهذا الباب، وقد ذكرنا بعضه مفرقا في الأبواب الماضية
وهو حديث جامع صحيح رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر،
وذكر الحديث قال: فحل الناس كلهم وقصروا الا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية
توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب
والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقية من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش الا أنه واقف على المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس
أمر بالقصواء فرحلت له فاتى بطن الوادي فخطب الناس وقال " ان دماءكم وأموالكم حرام كحرمة
يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء
الجاهلية موضوعة، وان أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد
فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله،
419

فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا
يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم
قائلون؟ قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى
الناس " اللهم اشهد اللهم اشهد " ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل
بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل
حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب
القرص واردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب
مورك رحله، ويقول بيده اليمنى " أيها الناس السكينة السكينة " كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا
حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بآذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا
ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح، باذان وإقامة ثم ركب
القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى
أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس واردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما
فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم
420

يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق
الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا (1) ثم سلك
الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة عند الشجرة (2) فرماها بسبع حصيات
يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا
وستين بدنة بيده ثم أعطى عليها فنحر ما غبر (3) وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت
في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة
الظهر فاتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس
على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه (4) قال عطاء كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى بالخيف.
(مسألة) قال (وإذا كان يوم التروية أهل بالحج ومضى إلى منى)
يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء فيه يعدونه ليوم
عرفة وقيل سمي بذلك لأن إبراهيم عليه السلام رأي ليلتئذ في المنام ذبح ابنه فأصبح يروي في نفسه
أهو حلم أم من الله تعالى؟ فسمي يوم التروية فلما كانت ليلة عرفة رأى ذلك أيضا فعرف أنه من الله
تعالى فسمي يوم عرفة والله أعلم
والمستحب لمن كان بعرفة حلالا من المتمتعين الذين حلوا من عمرتهم أو من كان مقيما بمكة من
421

أهلها أو غيرهم أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى وبهذا قال ابن عمر وابن عباس
وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وإسحاق، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل مكة:
مالكم يقدم الناس عليكم شعثا؟ إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج وهذا مذهب ابن الزبير وقال مالك من
كان بمكة فأحب أن يهل من المسجد لهلال ذي الحجة
ولنا قول جابر فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وفي لفظ عن جابر قال أمرنا
النبي صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح حتى إذا كان يوم التروية جعلنا
مكة بظهر أهللنا بالحج رواه مسلم وعن عبيدة بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رأيتك إذا كنت
بمكة أهل الناس ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله بن عمر أما الاهلال فاني لم أر
رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته متفق عليه ولأنه ميقات للاحرام فاستوى فيه أهل مكة
وغيرهم كميقات المكان، وإن أحرم قبل ذلك كان جائزا
(فصل) ومن حيث أحرم من مكة جاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت " حتى أهل مكة يهلون
منها " وإن أحرم خارجا منها من الحرم جاز لقول جابر فأهللنا من الأبطح. ويستحب أن يفعل عند
إحرامه هذا ما يفعله عند الاحرام من الميقات من الغسل والتنظيف ويتجرد عن المخيط ويطوف
422

سبعا ويصلي ركعتين ثم يحرم عقيبهما وممن استحب ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والثوري والشافعي
وإسحاق وابن المنذر، ولا يسن أن يطوف بعد إحرامه قال ابن عباس لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا
بعد أن يحرموا بالحج ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا وهذا مذهب عطاء ومالك وإسحاق
وان طاف بعد احرامه ثم سعى لم يجزئه عن السعي الواجب، وهو قول مالك، وقال الشافعي يجزئه وفعله
ابن الزبير وأجازه القاسم بن محمد وابن المنذر لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه كما لو سعى بعد رجوعه من منى
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى وقالت عائشة خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف الذين أهلوا بعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر
بعد أن رجعوا من منى لحجهم، ولو شرع لهم الطواف قبل الخروج لم يتفقوا على تركه
(مسألة) قال: ومضى إلى منى فصلى بها الظهر ان أمكنه لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه صلى بمنى خمس صلوات)
وجملة ذلك أن المستحب أن يخرج محرما من مكة يوم التروية فيصلي الظهر بمنى ثم يقيم حتى
يصلي بها الصلوات الخمس ويبيت بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كما جاء في حديث جابر وهذا قول
سفيان ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا، وليس ذلك واجبا في قولهم
423

جميعا قال ابن المنذر ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وتخلفت عائشة ليلة التروية حتى ذهب
ثلثا الليل وصلى ابن الزبير بمكة
(فصل) فإن صادف يوم التروية يوم جمعة فمن أقام بمكة حتى تزول الشمس ممن تجب عليه
الجمعة لم يخرج حتى يصليها لأن الجمعة فرض والخروج إلى منى في ذلك الوقت غير فرض فاما قبل
الزوال فإن شاء خرج، وإن شاء أقام حتى يصلي فقد روي أن ذلك وافق أيام عمر بن عبد العزيز
فخرج إلى منى، وقال عطاء كل من أدركت يصنعونه أدركتهم يجمع (1) بمكة إمامهم ويخطب، ومرة لا يجمع
ولا يخطب، فعلى هذا إذا خرج الإمام أمر بعض من تخلف أن يصلي بالناس الجمعة وقال احمد إذا
كان والي مكة بمكة يوم الجمعة يجمع بهم قيل له يركب من منى فيجئ إلى مكة فيجمع بهم؟ قال لا
إذا كان هو بعد بمكة
(مسألة) قال (فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة فأقام بها حتى يصلي الظهر والعصر
بإقامة لكل صلاة وان أذن فلا بأس، وان فاته مع الإمام صلى في رحله)
وجملة ذلك أن المستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس يوم عرفة فيقيم بنمرة
وان شاء بعرفة حتى تزول الشمس ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف
424

ووقته والدفع من عرفات ومبيتهم بمزدلفة وأخذ الحصى لرمي الجمار لما تقدم في حديث جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم يأمر بالاذان فينزل فيصلي الظهر والعصر يجمع بينهما ويقيم لكل صلاة إقامة
وقال أبو ثور يؤذن المؤذن إذا صعد الإمام المنبر فجلس فإذا فرغ المؤذن قام الإمام فخطب وقيل
يؤذن في آخر خطبة الإمام وحديث جابر يدل على أنه أذن بعد فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته وكيفما
فعل فحسن وقوله وان أذن فلا بأس كأنه ذهب إلى أنه مخير بين أن يؤذن للأولى أو لا يؤذن وكذا
قال أحمد لأن كلا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والاذان أولى وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب
الرأي وقال مالك: يؤذن لكل صلاة واتباع ما جاء في السنة أولى وهو مع ذلك موافق للقياس كما في
سائر المجموعات والفوائت وقول الخرقي فإن فإنه مع الإمام صلى في رحله يعني أن المفرد يجمع كما
يجمع مع الإمام فعله ابن عمر وبه قال عطاء ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وصاحبا أبي حنيفة
وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة لا يجمع الا مع الإمام فإذا لم يكن إماما رجعنا إلى الأصل
ولنا أن ابن عمر كان إذا فاته الجمع بين الظهر والعصر مع الإمام بعرفة جمع بينهما منفردا
ولان كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردا كالجمع بين العشائين يجمع (1) وقولهم إنما جاز الجمع في الجماعة
لا يصح لأنهم قد سلموا أن الإمام يجمع وإن كان منفردا
(فصل) والسنة تعجيل الصلاة حين تزول الشمس، وأن يقصر الخطبة ثم يروح إلى الموقف
لما روى سالم أنه قال للحاج يوم عرفة: ان كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة
فقال ابن عمر صدق رواه البخاري، ولان تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال
425

والسنة التعجيل في ذلك فقد روى سالم أن الحجاج أرسل إلى ابن عمر: أية ساعة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يروح في هذا اليوم قال إذا كان ذاك رحنا، فلما أراد ابن عمر أن يروح قال أزاغت الشمس؟ قالوا
لم تزغ، فلما قالوا قد زاغت ارتحل رواه أبو داود وقال ابن عمر غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم
من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة أتى عرفة فنزل بنمرة حتى إذا كان عند صلاة الظهر
راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف
على الموقف من عرفة وقد ذكرنا حديث جابر في هذا القول ابن عبد البر هذا كله لا خلاف
فيه بين علماء المسلمين
(فصل) ويجوز الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن
الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك من صلى مع الإمام وذكر أصحابنا انه لا يجوز الجمع إلا
لمن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخا إلحاقا له بالقصر وليس بصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع فجمع معه
من حضره من المكيين وغيرهم ولم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر حين قال " أتموا فانا سفر "
ولو حرم الجمع لبينه لهم إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يقر النبي صلى الله عليه وسلم على الخطأ، وقد
كان عثمان يتم الصلاة لأنه أتخذ أهلا ولم يترك الجمع وروى نحو ذلك عن ابن الزبير. قال ابن أبي مليكة وكان
ابن الزبير يعلمنا المناسك فذكر أنه قال: إذا أفاض فلا صلاة الا يجمع. رواه الأثرم. وكان عمر بن
عبد العزيز والي مكة فخرج فجمع بين الصلاتين ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة
426

ومزدلفة بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره والحق فيما أجمعوا عليه فلا يعرج على غيره
(فصل) فأما قصر الصلاة فلا يجوز لأهل مكة وبهذا قال عطاء ومجاهد والزهري وابن جريج
والثوري ويحيى القطان والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر. وقال القاسم بن محمد وسالم ومالك
والأوزاعي لهم القصر لأن لهم الجمع فكان لهم القصر كغيرهم
ولنا أنهم في غير سفر بعيد فلم يجز لهم القصر كغير من في عرفة ومزدلفة (1). قيل لأبي عبد الله:
فرجل أقام بمكة ثم خرج إلى الحج قال إن كان لا يريد أن يقيم بمكة إذا رجع صلى ثم ركعتين، وذكر
فعل ابن عمر قال لأن خروجه إلى منى وعرفة ابتداء سفر فإن عزم على أن يرجع فيقيم بمكة أتم بمنى وعرفة
(مسألة) قال (ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل وعرفة كلها موقف ويرفع عن
بطن عرفة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه)
يعني إذا صلى الصلاتين صار إلى الوقوف بعرفة ويستحب أن يغتسل للوقوف. كان ابن مسعود
يفعله وروي عن علي وبه يقول الشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر لأنها مجمع الناس فاستحب
الاغتسال لها كالعيد والجمعة. وعرفة كلها موقف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قد وقفت ههنا وعرفة كلها
موقف " رواه أبو داود وابن ماجة. وعن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة
427

في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول " كونوا على مشاعركم
فإنكم على ارث من ارث أبيكم إبراهيم " وحد عرفة من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة
له إلى ما يلي حوائط بني عامر وليس وادي عرنة من الموقف ولا يجزئه الوقوف فيه. قال ابن عبد البر
أجمع العلماء على أن من وقف به لا يجزئه، وحكي عن مالك انه يهريق دما وحجه تام
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة " رواه بن ماجة ولأنه لم يقف
بعرفة فلم يجزئه، كما لو وقف بمزدلفة. والمستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبل
القبلة لما جاء في حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل
المشاة بين يديه واستقبل القبلة
(فصل) والأفضل ان يقف راكبا على بعيره كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أعون له على الدعاء
قال أحمد حين سئل عن الوقوف راكبا فقال: النبي صلى الله عليه وسلم وقف على راحته، وقيل الراجل أفضل
لأنه أخف على الراحلة ويحتمل التسوية بينهما
(فصل) والوقوف ركن لا يتم الحج الا به اجماعا وقد روى الثوري عن بكير بن عطاء الليثي
عن عبد الرحمن بن نعم الديلي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد فقالوا يا رسول الله
كيف الحج؟ قال " الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه " رواه أبو داود وابن ماجة
قال محمد بن يحيى ما أرى للثوري حديثا أشرف منه
428

(مسألة) قال (فيكبر ويهلل ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس)
يستحب الاكثار من ذكر الله تعالى والدعاء يوم عرفة فإنه يوم ترجى فيه الإجابة ولذلك أحببنا
له الفطر يومئذ ليتقوى على الدعاء مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين وروى ابن ماجة في سننه قال
قالت عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مامن يوم أكثر أن يعتق الله فيها عبدا من النار
من يوم عرفة فإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء " رواه مسلم، ويستحب
أن يدعو بالمأثور من الأدعية مثل ما روى عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثر
دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت
وهو على كل شئ قدير " وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر الله أكبر ولله
الحمد، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، لا الله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، اللهم اهدني
بالهدى وقني بالتقوى واغفر لي في الآخرة والأولى ويرد يديه ويسكت كقدر ما كان انسان قارئا فاتحة
الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك ولم يزل يفعل مثل ذلك حتى أفاض. وسئل سفيان بن
عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل
شئ قدير فقبل له هذا ثناء وليس بدعاء فقال أما سمعت الشاعر
429

أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حباؤك أن شيمتك الحباء
إذا أثني عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء
وروي من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة " اللهم انك ترى مكاني وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي،
ولا يخفى عليك شئ من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف
بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من
خشعت لك رقبته، وذل لك جسده، وفاضت لك عينه، ورغم لك أنفه " وروينا عن سفيان الثوري أنه
قال سمعت أعرابيا وهو مستلق بعرفة يقال: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا،
ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق وأمرك بي محيط، أطعتك باذنك والمنة لك، وعصيتك بعلمك
والحجة لك، فأسئلك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي، وبفقري إليك وغناك عني، أن تغفر لي وترحمني،
إلهي لم أحسن حتى أعطيتني، ولم أسئ حتى قضيت علي، اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك
شهادة أن لا إله إلا الله، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك الشرك بك، فاغفر لي ما بينهما. اللهم أنت
أنس المؤنسين لأوليائك، وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك، تشاهدهم في ضمائرهم، وتطلع على سرائرهم،
وسري اللهم لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا أصمت علي
الهموم لجأت إليك، استجارة بك، علما أن أزمة الأمور بيدك، ومصدرها عن قضائك. وكان إبراهيم بن
430

إسحاق الحربي يقول: اللهم قد آويتني من ضناي، وبصرتني من عماي، وأنقذتني من جهلي وجفائي
أسألك ما يتم به فوزي وما أؤمل في عاجل دنياي وديني، ومأمول أجلي ومعادي، ثم مالا أبلغ أداء شكره
ولا أنال إحصاءه وذكره الا بتوفيقك وإلهامك، ان هيجت قلبي القاسي، على الشخوص إلى حرمك،
وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك، ونقلت بدني لاشهادي مواقف حرمك، اقتداءا بسنة خليلك،
واحتذاء على مثال رسولك، واتباعا لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك صلى الله عليهم، وأدعوك في
مواقف الأنبياء، عليهم السلام ومناسك السعداء، ومساجد الشهداء، دعاء من أتاك لرحمتك راجيا،
وعن وطنه نائيا، ولقضاء نسكه مؤديا، ولفرائضك قاضيا، ولكتابك تاليا، ولربه عز وجل داعيا ملبيا،
ولقلبه شاكيا، ولذنبه خاشيا، ولحظه مخطئا ولرهنه مغلقا، ولنفسه ظالما، وبجرمه عالما، دعاء من عمت عيوبه،
وكثرت ذنوبه، وتصرمت أيامه، واشتدت فاقته، وانقطعت مدته، دعاء من ليس لذنبه سواك غافرا ولا
لعيبه غيرك مصلحا ولا لضعفه غيرك مقويا ولا لكسره غيرك جابرا ولا لمأمول خير غيرك معطيا ولا
لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقا. اللهم وقد أصبحت في بلد حرام في شهر حرام في قيام من خير الأنام
أسألك أن لا تجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك، ولا أخيب الراجين لديك، ولا أحرم الآملين
لرحمتك الزائرين لبيتك، ولا أخسر المنقلبين من بلادك. اللهم وقد كان تقصيري ما قد عرفت ومن
توبيقي نفسي ما قد علمت، ومن مظالمي ما قد أحصيت، فكم من كرب منه نجيت، ومن غم قد جليت،
وهم قد فرجت، ودعاء قد استجبت، وشدة قد أزلت ورخاء قد أنلت، منك النعماء وحسن القضاء
431

ومني الجفاء وطول الاستقصاء والتقصير عن أداء شكرك لك النعماء يا محمود فلا يمنعنك يا محمود من اعطائي
مسئلتي من حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤلي ما تعرف من تقصيري وما تعلم من ذنوبي وعيوبي اللهم
فأدعوك راغبا وأنصب لك وجهي طالبا وأضع لك خدي مذنبا راهبا فتقبل دعائي وارحم ضعفي وأصلح
الفساد من أمري واقطع من الدنيا همي وحاجتي واجعل فيما عندك رغبتي اللهم واقلبني منقلب المدركين
لرجائهم المقبول دعاؤهم المفلوج حجتهم المبرور حجهم المغفور ذنبهم المحطوط خطاياهم الممحو سيئاتهم
المرشود أمرهم منقلب من لا يعصي لك بعده أمرا ولا يأتي من بعده مأثما ولا يركب بعده جهلا ولا يحمل
بعده وزرا، منقلب من عمرت قلبه بذكرك ولسانه بشكرك وطهرت الأدناس من بدنه واستودعت
الهدى قلبه وشرحت بالاسلام صدره وأقررت بعفوك قبل الممات عينه وأغضضت عن المآثم بصره
واستشهدت في سبيلك نفسه يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا كما تحب ربنا
وترضى ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
وقول الخرقي: إلى غروب الشمس. معناه ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين
الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر وفي
حديث علي وأسامة ان النبي صلى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح في قول
جماعة الفقهاء الا مالكا قال لا حج له. قال ابن عبد البر لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول
مالك وحجته ما روى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته
عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل "
432

ولنا ما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله أني جئت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت
نفسي والله ما تركت من جبل الا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد
صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه "
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ولأنه وقف في زمن الوقوف فأجزأه كالليل فأما خبره فإنما
خص الليل لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار فهو آخر وقت الوقوف كما قال عليه السلام
" من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل
أن تطلع الشمس فقد أدركها "
وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي ومن تبعهم، وقال ابن جريج عليه بدنة وقال الحسن البصري عليه هدي من الإبل
ولنا انه واجب لا يفسد الحج بفواته فلم يوجب البدنة كالاحرام من الميقات
(فصل) فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه وبهذا قال مالك
والشافعي، وقال الكوفيون وأبو ثور عليه دم لأنه بالدفع لزمه الدم فلم يسقط برجوعه كما لو عاد بعد غروب الشمس
ولنا أنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز
الميقات غير محرم ثم رجع فأحرم منه فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم لأن عليه الوقوف حال
الغروب وقد فاته بخروجه فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم عاد إليه. ومن لم يدرك
جزءا من النهار ولا جاء عرفة حتى غابت الشمس فوقف ليلا فلا شئ عليه وحجه تام لا نعلم مخالفا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك عرفات بليل " ولأنه لم يدرك جزءا من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه
(فصل) وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. لا نعلم خلافا
بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر. قال جابر لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من
ليلة جمع، قال أبو الزبير فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال نعم. رواه الأثرم. وأما أوله فمن
طلوع الفجر يوم عرفة فمن أدرك عرفة في شئ من هذا الوقت وهو عاقل فقد تم حجه، وقال مالك
433

والشافعي أول وقته زوال الشمس من يوم عرفة واختاره أبو حفص العكبري وحمل عليه كلام الخرقي وحكى
ابن عبد البر ذلك إجماعا وظاهر كلام الخرقي ما قلناه فإنه قال ولو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل الإمام فعليه دم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك
ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " ولأنه من يوم عرفة فكان وقتا للوقوف كبعد الزوال وترك
الوقوف لا يمنع كونه وقتا للوقوف كبعد العشاء وإنما وقفوا في وقت الفضيلة ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف
(فصل) وكيفما حصل بعرفة وهو عاقل أجزأه قائما أو جالسا أو راكبا أو نائما وان مر بها
مجتازا فلم يعلم أنها عرفة أجزأه أيضا، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة، وقال أبو ثور لا يجزئه
لأنه لا يكون واقفا الا بإرادة. (1)
ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم " وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا " ولأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف
وهو عاقل فاجزأه كما لو علم، وان وقف وهو مغمى عليه أو مجنون ولم يفق حتى خرج منها لم يجزئه
وهو قول الحسن والشافعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر وقال عطاء في المغمى عليه يجزئه، وهو
قول مالك وأصحاب الرأي وقد توقف احمد رحمه الله في هذه المسألة وقال: الحسن يقول بطل حجه
وعطاء يرخص فيه وذلك لأنه لا يعتبر له نية (2) ولا طهارة ويصح من النائم فصح من المغمى عليه كالمبيت
بمزدلفة ومن نصر الأول قال ركنا من أركان الحج فلم يصح من المغمى عليه كسائر أركانه قال ابن
434

عقيل والسكران كالمغمى عليه لأنه زائل العقل بغير نوم فأشبه المغمى عليه، وأما النائم فيجزئه
الوقوف لأنه في حكم المستيقظ (1)
(فصل) ولا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال ولا نية ولا نعلم في ذلك خلافا. قال
ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوقوف بعرفة غير طاهر يندرك للحج ولا شئ عليه
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " أفعلي ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت " دليل على أن الوقوف بعرفة على غير
435

طهارة جائز ووقفت عائشة رضي الله عنها بها حائضا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ويستحب أن يكون طاهرا قال
احمد يستحب له أن يشهد المناسك كلها على وضوء كان عطاء يقول لا يقضي شيئا من المناسك إلا على وضوء
(مسألة) قال (فإذا دفع الإمام دفع معه إلى مزدلفة)
الإمام ههنا الوالي الذي إليه أمر الحج من قبل الإمام ولا ينبغي للناس أن يدفعوا حتى يدفع
قال احمد: ما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام وسئل عن رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس فقال
ما وجدت من أحد انه سهل فيه كلهم يشدد فيه. والمستحب ان يقف حتى يدفع الإمام ثم يسير نحو
المزدلفة على سكينة ووقار لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين دفع وقد شنق لناقته القصواء بالزمام حتى أن رأسها
ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى " أيها الناس السكينة السكينة " هذا في حديث جابر، وروي
436

عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ورأي زجرا شديدا وضربا
للإبل فأشار بصوته إليهم وقال " أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بايضاع الإبل " رواه البخاري
وقال عروة سئل أسامة وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع؟ قال كان يسير
العنق فإذا وجد فجوة نص قال هشام بن عروة والنص فوق العنق متفق عليه
(مسألة) قال (ويكبر في الطريق ويذكر الله تعالى)
ذكر الله تعالى يستحب في الأوقات كلها وهو في هذا الوقت أشد تأكيدا لقول الله تعالى (فإذا أفضتم
من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم) ولأنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى
والتلبس بعبادته والسعي إلى شعائره، وتستحب التلبية وذكر قوم أنه لا يلبي
ولنا ما روى الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة متفق عليه وعن
عبد الرحمن بن يزيد قال شهدت ابن مسعود يوم عرفة وهو يلبي فقال له رجل كلمة فسمعته زاد في
تلبيته شيئا لم أسمعه قبل ذلك قالها: لبيك عدد التراب، ويستحب أن يمضي على طريق المأزمين لأنه
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها وان سلك الطريق الأخرى جاز
(مسألة) قال (ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة بإقامة لكل صلاة فإن جمع
بينهما بإقامة واحدة فلا بأس)
وجملة ذلك أن السنة لمن دفع من عرفة ان لا يصلي المغرب حتى يصل مزدلفة فيجمع بين المغرب
437

والعشاء لا خلاف في هذا قال ابن المنذر أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم ان السنة أن يجمع الحاج بين
المغرب والعشاء والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما رواه جابر وابن عمر وأسامة وأبو أيوب
وغيرهم وأحاديثهم صحاح ويقيم لكل صلاة إقامة لما روى أسامة بن زيد قال دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم
من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فقلت له: الصلاة يا رسول الله قال " الصلاة أمامك "
فركب فلما جاء مزدلفة نزل فتوضأ فاسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان
بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما متفق عليه، وروي هذا القول عن ابن عمر
وبه قال سالم والقاسم بن محمد والشافعي وإسحاق، وان جمع بينهما بإقامة الأولى فلا بأس يروى ذلك
عن ابن عمر أيضا، وبه قال الثوري لما روى ابن عمر قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء
بجمع صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة رواه مسلم وان أذن للأولى وأقام ثم أقام للثانية
فحسن فإنه يروى في حديث جابر وهو متضمن للزيادة وهو معتبر بسائر الفوائت والمجموعات وهو
قول ابن المنذر وأبي ثور والذي اختار الخرقي إقامة لكل صلاة من غير آذان قال ابن المنذر: وهو
آخر قولي احمد لأنه رواية أسامة وهو أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان رديفه، وقد اتفق هو وجابر
في حديثيهما على إقامة لكل صلاة واتفق أسامة وابن عمر على الصلاة بغير أذان مع أن حديث ابن
عمر المتفق عليه قال بإقامة. قال وإنما لم يؤذن للأولى ههنا لأنها في غير وقتها بخلاف المجموعتين بعرفة
438

وقال مالك يجمع بينهما بأذان وإقامتين، وروي ذلك عن عمر وابن عمر وابن مسعود، واتباع السنة
أولى قال ابن عبد البر لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا بوجه من الوجوه، وقال قوم إنما أمر عمر
بالتأذين للثانية لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم فاذن لجمعهم، وكذلك ابن مسعود فإنه يجعل
العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين
(مسألة) قال (وان فاته مع الإمام صلى وحده)
معناه أنه يجمع منفردا كما يجمع مع الإمام، ولا خلاف في هذا لأن الثانية منهما تصلى في وقتها
بخلاف العصر مع الظهر وكذلك إن فرق بينهما لم يبطل الجمع كذلك، ولما روى أسامة قال ثم أقيمت
الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها، وروى البخاري
عن عبد الرحمن بن يزيد قال حج عبد الله فأتينا إلى مزدلفة حين الآذان بالعتمة أو قريبا من ذلك
فامر رجلا فاذن وأقام ثم صلى المغرب ثم صلى بعدها ركعتين ثم دعا بعشائه ثم أمر - أرى - فاذن وأقام
439

ثم صلى العشاء ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ولان الجمع متى كان في وقت الثانية
لم يضر التفريق شيئا.
(فصل) والسنة التعجيل بالصلاتين وان يصلي قبل حط الرحال لما ذكرنا من حديث أسامة،
وفي بعض ألفاظه ان النبي صلى الله عليه وسلم أقام للمغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء
الآخرة فصلى ثم حلوا رواه مسلم والسنة ان لا يتطوع بينهما قال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون في ذلك
وقد روى عن ابن مسعود أنه تطوع بينهما ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولنا حديث أسامة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بينهما وحديثهما أصح، وقد
قدم في ترك التفريق بينهما.
(فصل) فإن صلى المغرب قبل أن يأتي مزدلفة ولم يجمع خالف السنة وصحت صلاته وبه قال
عطاء وعروة والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف وابن
المنذر وقال أبو حنيفة والثوري لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين فكان نسكا
وقد قال " خذوا عني مناسككم "
ولنا أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق بينهما كالظهر والعصر بعرفة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم
محمول على الأولى والأفضل ولئلا ينقطع سيره ويبطل ما ذكروه بالجمع بعرفة
(مسألة) قال (فإذا صلى الفجر وقف عند المشعر الحرام فدعا)
يعني أنه يبيت بمزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح والسنة أن يعجلها في أول وقتها ليتسع
وقت الوقوف عند المعشر الحرام، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم الصح حين
تبين له الصبح، وفي حديث ابن مسعود أنه صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول قد طلع الفجر وقائل
يقول لم يطلع ثم قال في آخر الحديث رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله رواه البخاري نحو هذا
ثم إذا صلى الفجر وقف عند المشعر الحرام وهو قزح فيرقى عليه ان أمكنه والا وقف عنده فذكر
الله تعالى ودعا واجتهد قال الله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)
وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام فرقى عليه فدعا الله وهلله وكبره ووحده
ويستحب أن يكون من دعائه. اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا
وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)
440

واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله
غفور رحيم) ويقف حتى يسفر جدا لما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا
(فصل) وللمزدلفة ثلاثة أسماء مزدلفة وجمع والمشعر الحرام. وحدها من مأزمي عرفة إلى قرن محسر
وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ففي أي موضع وقف منها أجزأه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المزدلفة
موقف " رواه أبو داود وابن ماجة وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وقفت ههنا بجمع وجمع
كلها موقف " وليس وادي محسر من مزدلفة لقوله " وارفعوا عن بطن محسر "
(فصل) والمبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم هذا قول عطاء والزهري وقتادة والثوري
والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال علقمة والنخعي والشعبي من فاته جمع فاته الحج
لقول الله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من شهد
صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه "
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه " يعني من جاء عرفة
وما احتجوا به من الآية والخبر فالمنطوق فيهما ليس بركن في الحج اجماعا فإنه لو بات بجمع ولم
يذكر الله تعالى ولم يشهد الصلاة فيها صح حجه فما هو من ضرورة ذلك أولى ولان المبيت ليس من
ضرورة ذكر الله تعالى بها وكذلك شهود صلاة الفجر فإنه لو أفاض من عرفة في آخر ليلة النحر أمكنه
ذلك فيتعين حمل ذلك على مجرد الايجاب أو الفضلية أو الاستحباب
441

(فصل) ومن بات بمزدلفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل فإن دفع بعده فلا شئ عليه وبهذا قال
الشافعي وقال مالك إن مر بها ولم ينزل فعليه دم فإن نزل فلا دم عليه متى ما دفع
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها وقال " خذوا عني مناسككم " وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل
بما ورد من الرخصة فيه فروى ابن عباس قال: كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة
إلى منى. وعن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند دار المزدلفة فقامت تصلي فصلت ثم قالت هل غاب القمر؟
قلت نعم قالت فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها قلت
لها أي هنتاه ما أرانا الا غسلنا قالت كلا يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن متفق عليهما وعن
عائشة قالت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت
رواه أبو داود فمن دفع من جمع قبل نصف الليل ولم يعد في الليل فعليه دم فإن عاد فيه فلا دم عليه
كالذي دفع من عرفة نهارا ومن لم يوافق مزدلفة الا في النصف الأخير من الليل فلا شئ عليه لأنه
لم يدرك جزءا من النصف الأول فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار، والمستحب
الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في المبيت إلى أن يصبح ثم يقف حتى يسفر ولا بأس بتقديم
442

الضعفة والنساء، وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة، وبه قال عطاء والثوري
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا، ولان فيه رفقا بهم ودفعا لمشقة الزحام عنهم
واقتداء بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم
(مسألة) قال (ثم يدفع قبل طلوع الشمس)
لا نعلم خلافا في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. قال
عمر: ان المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير. وإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس. رواه البخاري (1) والسنة أن يقف حتى يسفر جدا،
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وكان مالك يرى الدفع قبل الاسفار
443

ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس. وعن
نافع أن ابن الزبير أخر في الوقت حتى كادت الشمس تطلع فقال ابن عمر إني أراه يريد أن يصنع كما
صنع أهل الجاهلية فدفع ودفع الناس معه، وكان ابن مسعود يدفع كانصراف القوم المسفرين من صلاة
الغداة، وانصرف ابن عمر حين أسفر وأبصرت الإبل موضع اخفافها، ويستحب أن يسير وعليه
السكينة كما ذكرنا في سيره من عرفات. قال ابن عباس ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس وقال
" أيها الناس إن البر ليس بايجاف الخيل والإبل فعليكم بالسكينة " فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى
(مسألة) قال (فإذا بلغ محسرا أسرع ولم يقف حتى يأتي منى وهو مع ذلك ملبيا) (1)
يستحب الاسراع في وادي محسر وهو ما بين جمع ومنى، فإن كان ماشيا أسرع، وإن كان راكبا
حرك دابته لأن جابرا قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتى بطن محسر حرك قليلا، ويروى أن
عمر رضي الله عنه لما أتي محسر أسرع وقال
إليك تعدو قلقا وضينها * مخالفا دين النصارى دينها * معترضا في بطنها جنينها
وذلك قدر رميه بحجر ويكون ملبيا في طريقه فإن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. متفق عليه، وفي لفظ عنه قال:
444

شهدت الإفاضتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وهو كاف بعيره ولبى حتى رمى جمرة العقبة.
وعن الأسود قال: أفاض عمر عشية عرفة وهو يلبي بثلاث " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك
لبيك، إن الحمد والنعمة لك " ولان التلبية من شعار الحج فلا يقطع إلا بالشروع في الاحلال
وأوله رمي جمرة العقبة
(مسألة) قال (ويأخذ حصى الجمار من طريقة أو من مزدلفة)
إنما استحب ذلك لئلا يشتغل عند قدومه بشئ قبل الرمي فإن الرمية تحية له كما أن الطواف
تحية المسجد فلا يبدأ بشئ قبله. وكان ابن عمر يأخذ الحصى من جمع وفعله سعيد بن جبير وقال كانوا
يتزودون الحصى من جمع واستحبه الشافعي. وعن أحمد قال خذ الحصى من حيث شئت وهو قول
عطاء وابن المنذر وهو أصح إن شاء الله تعالى لأن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة
وهو على ناقته " القط لي حصى " فلقطت له سبع حصيات هي حصى الخذف فجعل يقبضهن في كفه ويقول
" أمثال هؤلاء فارموا " ثم قال " أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في
الدين " رواه ابن ماجة وكان ذلك بمنى ولا خلاف في أنه يجزئه أخذه من حيث كان والتقاط الحصى
أولى من تكسيره لهذا الخبر، ولأنه لا يؤمن في التكسير أنى طير إلى وجهه شئ يؤذيه، ويستحب
أن تكون الحصيات كحصى الخذف لهذا الخبر، ولقول جابر في حديثه كل حصاة منها مثل حصى
الخذف، وروى سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس " إذا
رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف " رواه أبو داود. قال الأثرم يكون أكبر من الحمص ودون
البندق، وكان ابن عمر يرمي بمثل بعر الغنم، فإن رمى بحجر كبير فقد روي عن أحمد أنه قال لا يجزئه
حتى يأتي بالحصى على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهذا القدر ونهى عن تجاوزه
445

والامر يقتضى الوجوب، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولان الرمي بالكبير ربما آذي من يصيبه
وقال بعض أصحابنا يجزئه مع تركه للسنة لأنه قد رمى بالحجر وكذلك الحكم في الصغير
(فصل) ويجزئ الرامي بكل ما يسمى حصى وهي الحجارة الصغار سواء كان أسود أو أبيض
أو أحمر من المرمر أو البرام أو المرو وهو الصوان أو الرخام أو الكذان أو حجر المسن وهو قول
مالك والشافعي وقال القاضي: لا يجزئ الرخام ولا البرام والكذان ويقتضي قوله أن لا يجزئ المرو
ولا حجر المسن. وقال أبو حنيفة: يجوز بالطين والمدر وما كان من جنس الأرض، ونحوه قال
الثوري وروي عن سكينة بنت الحسين أنها رمت الجمرة ورجل يناولها الحصى تكبر مع كل حصاة
وسقطت حصاة فرمت بخاتمها
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بالرمي مثل حصى الخذف فلا يتناول غير
الحصى ويتناول جميع أنواعه فلا يجوز تخصيصه بغير دليل ولا إلحاق غيره به لأنه موضع لا يدخل القياس فيه
(فصل) إن رمى بحجر أخذ من المرمى لم يجزه، وقال الشافعي يجزه لأنه حصى فيدخل في العموم
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من غير المرمى وقال " خذوا عني مناسككم " ولأنه لو جاز الرمي بما
رمى به لما احتاج أحد إلى أخذ الحصى من غير مكانه ولا تكسيره. والاجماع على خلافه، ولان ابن عباس
قال: ما يقبل منها يرفع وإن رمى بخاتم فضة حجرا لم يجزه في أحد الوجهين لأنه تبع والرمي بالمتبوع لا التابع
(مسألة) قال (والاستحباب أن يغسله)
اختلف عن أحمد في ذلك فروي عنه أنه مستحب لأنه روي عن ابن عمر أنه غسله وكان طاوس
يفعله، وكان ابن عمر يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أحمد أنه لا يستحب وقال: لم يبلغنا أن النبي
446

صلى الله عليه وسلم فعله وهذا الصحيح وهو قول عطاء ومالك وكثير من أهل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقطت له
الحصيات وهو راكب على بعيره يقبضهن في يده لم يغسلهن ولا أمر بغسلهن ولا فيه معنى يقتضيه،
فإن رمي بحجر نجس أجزأه لأنه حصاة، ويحتمل أن لا يجزئه لأنه يؤدي به العبادة فاعتبرت طهارته
كحجر الاستجمار وتراب التيمم، وان غسله ورمى به أجزأه وجها واحدا
وعدد الحصى سبعون حصاة يرمي منها بسبع يوم النحر وسائرها في أيام منى والله أعلم
(مسألة) فقال (فإذا وصل منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر في أثر كل
حصاة ولا يقف عندها)
حد منى ما بين جمرة العقبة ووادي محسر كذلك قال عطاء والشافعي: وليس محسر والعقبة من منى ويستحب
سلوك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها كذا في حديث جابر، فإذا
وصل منى بدأ بجمرة العقبة وهي آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة، وكذلك سميت
جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ثم ينصرف ولا يقف
وهذا بجملته قول من علمنا قوله من أهل العلم، وإن رماها من فوقها جاز لأن عمر رضي الله عنه جاء
447

والزحام عند الجمرة فرماها من فوقها والأصل أفضل لما روى عبد الرحمن بن يزيد أنه مشى مع عبد الله
وهو يرمي الجمرة، فلما كان في بطن الوادي أعرضها فرماها، فقيل له إن ناسا يرمونها من فوقها فقال
من ههنا والذي لا إله إلا هو رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة رماها. متفق عليه، وفي لفظ لما
أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى
بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة. قال
الترمذي: وهذا حديث صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن
عمر وابن عباس رويا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف. رواه ابن
ماجة. ويكبر مع كل حصاة لأن جابرا قال: فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، وإن قال اللهم
اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وعملا مشكورا، فحسن فإن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو
ذلك، وروى حنبل في المناسك باسناده عن زيد بن أسلم قال: رأيت سالم بن عبد الله استبطن
الوادي ورمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله حجا
مبرورا، وذنبا مغفورا، وعملا مشكورا، فسألته عما صنع فقال: حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه
وسلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى حصاة مثل ما قلت. وقال إبراهيم النخعي كانوا يحبون ذلك
448

(فصل) ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته. رواه جابر
وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم. قال جابر: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول
" لتأخذوا عني مناسككم فاني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " رواه مسلم. وقال نافع كان
ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا. رواه أحمد في المسند، وفي هذا بيان
للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها، ولان رمي هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند
قدومه ولا يسن عندها وقوف، ولو سن له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل
إليها بخلاف سائرها
(فصل) ولرمي هذه الجمرة وقتان: وقت فضيلة ووقت اجزاء، فأما وقت الفضيلة فبعد طلوع
الشمس. قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رماها ضحى ذلك اليوم
وقال جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده، ورمى بعد ذلك
بعد زوال الشمس. أخرجه مسلم، وقال ابن عباس: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني
عبد المطلب على أحمرات لنا من جمع فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول " أبني عبد المطلب لا ترموا الجمرة حتى
تطلع الشمس " رواه ابن ماجة وكان رميها بعد طلوع الشمس يجزئ بالاجماع وكان أولى. واما وقت
الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر، وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد والشافعي
وعن أحمد أنه يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس وهو قول مالك وأصحاب الرأي وإسحاق وابن
المنذر، وقال مجاهد والثوري والنخعي لا يرميها إلا بعد طلوع الشمس لما روينا من الحديث
ولنا ما روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة
النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت! وروي أنه أمرها أن تعجل الإفاضة وتوافي
مكة بعد صلاة الصبح واحتج به أحمد، وقد ذكرنا في حديث أسماء أنها رمت ثم رجعت فصلت الصبح
وذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للطعن، ولأنه وقت الدفع من مزدلفة وكان وقتا للرمي كبعد
طلوع الشمس والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب، وإن أخر الرمي إلى آخر النهار جاز. قال ابن
عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماه يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن
449

ذلك مستحباها، وروى ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسئل يوم النحر بمنى قال
رجل رميت بعد ما أمسيت فقال " لا حرج " رواه البخاري، فإن أخرها إلى الليل لم يومها حتى
نزول الشمس من الغد، وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق، وقال الشافعي ومحمد بن المنذر ويعقوب يرمي
ليل القول النبي صلى الله عليه وسلم " ارم ولا حرج "
ولنا أن ابن عمر قال من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارم ولا حرج " إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا
قبل مغيب الشمس وقال مالك يرمي ليلا وعليه دم ومرة قال لا دم عليه
(فصل) ولا يجزئه الرمي الا أن يقع الحصى في المرمى فإن وقع دونه لم يجزئه في قولهم جميعا
لأنه مأمور بالرمي ولم برم وان طرحها طرحا أجزأه لأنه يسمى رميا وهذا قول أصحاب الرأي وقال ابن
القاسم لا يجزئه، وان رمى حصاة فوقعت في غير المرمى فأطارت حصاة أخرى فوقعت في المرمى لم
يجزه لأن التي رماها لم تقع في المرمى وان رمى حصاة فالتقمها طائر قبل وصولها لم يجزه لأنها لم تقع
في المرمى وان وقعت على موضع صلب في غير المرمى ثم تدحرجت على المرمى أو على ثوب انسان
ثم طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأن حصوله بفعله وان نفضها ذلك الانسان عن ثوبه فوقعت في
المرمى فعن أحمد رحمه الله انها تجزئه لأنه انفرد برميها وقال ابن عقيل لا يجزئه لأن حصولها في المرمى
بفعل الثاني فأشبه ما لو اخذها بيده فرمى بها وان رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمي أولا لم يجزئه
لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك وإن كان الظاهر أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر
450

دليل. وان رمى الحصاة دفعة واحدة لم يجزه الا عن واحدة نص عليه احمد وهو قول مالك والشافعي
وأصحاب الرأي وقال عطاء يجزئه ويكبر لكل حصاة.
ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات وقال " خذوا عني مناسككم " قال بعض أصحابنا
ويستحب ان يرفع يديه في الرمي حتى يرى بياض إبطه
(مسألة) قال (ويقطع التلبية عدن ابتداء الرمي)
وممن قال يلبى حتى يرمي الجمرة ابن مسعود وابن عباس وميمونة وبه قال عطاء وطاوس وسعيد
451

ابن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن سعيد بن أبي وقاص وعائشة يقطع
التلبية إذا راح إلى الموقف وعن علي وأم سلمة انهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة وهذا
قريب من قول سعيد وعائشة وكان الحسن يقول يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة وقال مالك يقطع
التلبية إذا راح إلى المسجد
ولنا ان الفضل بن عباس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وكان رديفه
يومئذ وهو اعلم بحاله من غيره وقول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله مقدم على كل من خالفه واستحب قطع التلبية
452

عند أول حصاة رواه حنبل في المناسك وهذا بيان يتعين الاخذ به وفي رواية من روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل حصاة دليل على أنه لم يكن يلبي، ولأنه يتحلل بالرمي فإذا شرع فيه قطع
التلبية كالمعتمر يقطع التلبية بالشروع في الطوائف
(مسألة) قال (ثم بنحر إن كان معه هدي)
وجملة ذلك أنه إذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر لم يقف وانصرف فأول شئ يبدأ به نحر الهدي
إن كان معه هدي واجبا أو تطوعا فإن لم يكن معه هدي وعليه هدي واجب اشتراه وإن لم يكن عليه
واجب فأحب أن يضحى اشترى ما يضحي به وينحر الإبل ويذبح ما سواها. والمستحب أن يتولى ذلك
بيده وإن استناب غيره جاز هذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وذلك لما روى جابر
في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة ثم
أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه وقال أنس نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدنات قياما رواه البخاري
(فصل) والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيضربها بالحربة في الوهدة التي بين أصل
العنق والصدر، ممن استحب ذلك مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر واستحب عطاء نحرها باركة
وجوز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك
ولنا ما روى دينار بن جبير قال رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته لينحرها فقال ابعثها
قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم متفق عليه وروى أبو داود باسناده عن عبد الرحمن بن سابط أن النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وفي قول الله تعالى
(فإذا وجبت جنوبها) دليل على أنها تنحر قائمة ويروى في تفسير قوله تعالى (فاذكروا اسم الله
عليها صواف) أي قياما وتجزئه كيفما نحر قال احمد ينحر البدن معقولة على ثلاث قوائم وإن خشي
عليها أن تنفر أناخها
(فصل) ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة ويقول: بسم الله والله أكبر وان قال ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم فحسن قال ابن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح يقول " بسم الله والله أكبر "
وكذلك يقول ابن عمر وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين ثم قال حين وجههما
453

" وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين * بسم الله والله أكبر، اللهم هذا
منك ولك عن محمد وأمته " رواه أبو داود وان اقتصر على التسمية ووجه الذبيحة إلى غير القبلة
ترك الأفضل وأجزأه هذا قول القاسم بن محمد والنخعي والثوري والشافعي وابن المنذر وكان ابن
عمر وابن سيرين يكرهان الاكل من الذبيحة توجه لغير القبلة والصحيح أن ذلك غير واجب ولم
يقم على وجوبه دليل
(فصل) وقت نحر الأضحية والهدي ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده نص عليه احمد وقال
هو عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الأثرم عن ابن عمر ابن عباس وبه قال مالك
والثوري ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده. وبه قال
الحسن وعطاء والأوزاعي والشافعي وابن المنذر، وقال ابن سيرين يوم واحد، وعن سعيد بن جبير وجابر
ابن زيد في الأمصار يوم واحد وبمنى ثلاثة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاكل من النسك فوق ثلاث وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا
في وقت يحرم فيه الاكل ثم نسخ تحريم الاكل وبقي وقت الذبح بحاله ولان اليوم الرابع لا يجب فيه
الرمي فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده فاما الليالي المتخللة لأيام النحر فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ
فيها ذبح الهدي والأضحية لأن الله تعالى قال (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من
بهيمة الأنعام) فذكر الأيام دون الليالي وقال غيره من أصحابنا يجوز ليلتي يومي التشريق الأولتين
وهو قول أكثر الفقهاء لأن هاتين الليلتين داخلتان في مدة الذبح فجاز الذبح فيهما كالأيام
(فصل) وإذا نحر الهدي فرقه على المساكين من أهل الحرم وهو من كان في الحرم فإن أطلقها
لهم جاز كما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ثم قال " من شاء فليقتطع " رواه أبو داود
454

وان قسمها فهو أحسن وأفضل ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال
أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وان أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها
؟ شيئا وقال نحن نعطيه من عندنا متفق على معناه ولأنه بقسمها يكون على يقين من إفضائها إلى مسحقها
ويكفي المساكين مؤنة النهب والزحام عليها وإنما لم يعط الجازر بأجرته منا لأنه ذبحها فعوضه عليه
دون المساكين ولان دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعة ولا يجوز بيع شئ منها وإن كان الجزر
فقيرا فأعطاه لفقره سوى ما يعطيه أجره جاز لأنه مستحق الاخذ منها لفقره لا لاجره فجاز كغيره
ويقسم جلودها وجلالها كما جاء في الخبر لأنه ساقها لله على تلك الصفة فلا يأخذ شيئا مما جعل الله
وقال بعض أصحابنا لا يلزمه إعطاء جلالها لأنه إنما أهدى الحيوان دون ما عليه
(فصل) والسنة النحر بمنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بها؟ وحيث نحر من الحرم أجزأه لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم " كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق " رواه أبو داود
(فصل) وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب
ذلك روي هذا عن ابن عباس وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان ابن عمر لا يرى
الهدي الا ما عرف به ونحوه عن سعيد بن جبير وقال مالك أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث
يحرم فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة جاز وقال في هدي المجامع أن لم يكن
ساقه فليشتره من مكة ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه إلى مكة
ولنا أن المراد من الهدي نحره ونفع المساكين بلحمه بهذا لا يقف على شئ مما ذكر وهو لم يرد
بما قالوه دليل يوجبه فبقي على أصله
(مسألة) قال (ويحلق أو يقصر)
وجملة ذلك أنه إذا نحر هديه فإنه يحلق رأسه أو يقصر منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه فروى
أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا فذبح ثم دعا
455

بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه
الأيسر فحلقه ثم قال " ههنا أبو طلحة؟ قد؟ لي أبي طلحة رواه أبو داود والسنة أن يبدأ بشق رأسه
الأيمن ثم الأيسر لهذا الخبر ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في شأنه كله فإن لم يفعل أجزأه
لا نعلم فيه خلافا وهو مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر
أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ يعنى في حق من لم يوجد منه معنى يقتضى وجوب الحلق عليه
إلا أنه يروى عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا لأن الله تعالى
456

قال (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم قال " رحم الله المحلقين والمقصرين " وقد
كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من قصر فلم يعب عليه ولو لم يكن مجزيا لأنكر عليه والحق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال رحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين؟ قال رحم المحلقين قالوا والمقصرين
يا رسول الله؟ قال رحم الله المحلقين والمقصرين رواه مسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم حلق. واختلف أهل
العلم فيمن لبد، أو عقص، أو ضفر. فقال احمد من فعل ذلك فليحلق وهو قل النخعي ومالك
والشافعي وإسحاق وكان ابن عباس يقول: من لبد، أو ضفر، أو عقد، أو فتل، أو عقص فهو على
457

ما نوى، يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه وقال أصحاب الرأي هو مخير على كل حال لأن
ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم ولم يثبت في خلاف ذلك دليل واحتج من نصر القول الأول
بأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من لبد فليحلق " وثبت عن عمر وابنه أنهما أمر من لبد رأسه
أن يحلقه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه وأنه حلقه والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر
عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس وفعل النبي صلى الله عليه وسلم له لا يدل على وجوبه
بعد ما بين لهم جواز الامرين
(فصل) والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب احمد وقول الخرقي وهو
قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما
عليه بالاحرام فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الاحرام فعلى هذه الرواية لا شئ
458

على تاركه ويحصل الحل بدونه، ووجهها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحل من العمرة قبله فروى أبو موسى
قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " بم أهللت؟ " قلت لبيك باهلال كاهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة ثم قال لي " أحل " متفق عليه وعن جابر
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سعي بين الصفا والمروة قال " من كان معه هدي فليحل وليجعلها عمرة " رواه
مسلم. وعن سراقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل
الا من كان معه هدي " رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم ولان ما كان محرما في الاحرام إذا
أبيح كان إطلاقا من محظور كسائر محرماته، والرواية الأولى أصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فروى
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصر
وليحلل " وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أحلوا إحرامكم بطواف البيت والمروة، وقصروا "
وأمره يقتضي الوجوب ولان الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولو لم
يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد ولان النبي صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين مرة ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات ولان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه
في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلوا به ولو لم يكن نسكا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه لأنه لم يكن من
عادتهم فيفعلوه عادة ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله وأما أمره بالحل فإنما معناه - والله أعلم - الحل بفعله لأن
459

ذلك كان مشهورا عندهم فاستغني عن ذكره ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيها كالسلام من الصلاة
(فصل) ويجوز تأخير الحلق والتقصير إلى آخر أيام النحر لأنه إذا جاز تأخير النحر المقدم
عليه فتأخيره أولى فإن أخره عن ذلك ففيه روايتان (إحداهما) لا دم عليه وبه قال عطاء وأبو يوسف
وأبو ثور ويشبه مذهب الشافعي لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ
الهدي محله) ولم يتبين آخره فمتى أتى به أجزأه كطواف الزيارة والسعي ولأنه نسك أجزأه (1) إلى وقت
جواز فعله فأشبه السعي وعن أحمد عليه دم بتأخيره وهو مذهب أبي حنيفة لأنه نسك أخره عن محله
ومن ترك نسكا فعليه دم ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير والعامد والساهي. وقال مالك والثوري
وإسحاق وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: من تركه حتى حل فعليه دم لأنه نسك فيأتي به في احرام الحج
كسائر مناسكه ولنا ما تقدم
(فصل) والأصلع الذي لا شعر على رأسه يستحب أن يمر الموسى على رأسه روي ذلك عن ابن
عمر، وبه قال مسروق وسعيد بن جبير والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن
460

المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الأصلع يمر الموسى على رأسه وليس ذلك واجبا. وقال
أبو حنيفة يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " فهذا لو كان ذا شعر
وجب عليه ازالته وامرار الموسى على رأسه فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر
ولنا أن الحلق محله الشعر فسقط بعدمه كما يسقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده ولأنه
امرار لو فعله في الاحرام لم يجب به دم فلم يجب عند التحلل كامراره على الشعر من غير حلق
(فصل) ويستحب لمن حلق أو قصر تقليم أظافره ولاخذ من شاربه لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. قال
ابن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلم أظفاره وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره
وكان عطاء وطاوس والشافعي؟؟ لو أخذ من لحيته شيئا. ويستحب إذا حلق أن يبلغ العظم الذي
تند منقطع الصدغ من الوجه كان ابن عمر يقول للحالق أبلغ العظمين، افصل الرأس من اللحية وكان
عطاء يقول من السنة إذا حلق رأسه أن يبلغ العظمين
461

(مسألة) قال (ثم قد حل له كل شي ء الا النساء)
وجملة ذلك أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورا بالاحرام الا النساء
هذا الضحيح من مذهب احمد رحمه الله نص عليه في رواية جماعة فيبقى ما كان محرما عليه من النساء من
الوطئ والقبلة واللمس لشهوة وعقد النكاح ويحل له ما سواه. هذا قول ابن الزبير وعائشة وعلقه وسالم
وطاوس والنخعي وعبد الله بن الحسين وخارجة بن زيد والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وروي أيضا عن ابن عباس وعن أحمد أنه يحل له كل شي الا الوطئ في الفرج لأنه أغلظ المحرمات
ويفسد النسك بخلاف غيره وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحل له كل شئ الا النساء والطيب
وروي ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير وعباد بن عبد الله بن الزبير لأنه من دواعي الوطئ فأشبه
القبلة. وعن عروة أنه لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب وروى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا
ولنا ماروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب
وكل شئ الا النساء " رواه سعيد وفي لفظ " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل
شئ الا النساء " رواه سعيد وفي لفظ " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شئ
462

الا النساء " رواه الأثرم وأبو داود الا أن أبا داود قال هو ضعيف رواه الحجاج عن الزهري ولم يلقه
الذي أخرجه سعيد رواه الحجاج عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة قالت عائشة طيبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت متفق عليه وعن سالم عن أبيه قال
قال عمر بن الخطاب: إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ الا الطيب والنساء
فقالت عائشة رضي الله عنها أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع رواه
سعيد. وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر " ان هذا يوم رخص لكم إذا
رميتم أن تحلوا " يعني من كل ما حرمتم منه الا النساء رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عباس أنه قال
إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ الا النساء فقال له رجل والطيب قال: أما أنا فقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيب ذلك أم لا؟ رواه ابن ماجة وقال مالك
لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقول الله تعالى (ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وهذا حرام
وقد ذكرنا ما يرد هذا القول ويمنع أنه محرم وإنما بقي بعض أحكام الاحرام
(فصل) ظاهر كلام الخرقي هاهنا أن الحل إنما يحصل بالرمي والحلق معا وهو إحدى الروايتين
عن أحمد وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل
شئ الا النساء " وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل فكان
حاصلا بهما كالطواف والسعي في العمرة، وعن أحمد إذا رمى الجمرة فقد حل وإذا وطئ بعد جمرة
العقبة فعليه دم ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق. وهذا قول عطاء ومالك وأبي
ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة " إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل
463

شئ إلا النساء " وكذلك قال ابن عباس. قال بعض أصحابنا هذا يبنى على الخلاف في الحلق هل هو
نسك أولا؟ فإن قلنا نسك حصل الحل به وإلا فلا
(مسألة) قال (والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة)
الأنملة رأس الإصبع من المفصل الاعلى والمشروع للمرأة التقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك
قال ابن المنذر أجمع على هذا أهل العلم وذلك لأن الحلق في حقهن مثلة، وقد روى ابن عباس قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير " رواه أبو داود، وعن علي قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها رواه الترمذي وكان أحمد يقول تقصر من كل قرن
قدر الأنملة، وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال أبو داود سمعت أحمد سئل عن
المرأة تقصر من كل رأسها قبل نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة
والرجل الذي يقصر في ذلك كالمرأة، وقد ذكرنا في ذلك خلافا فيما مضى.
(مسألة) قال (ثم يزور البيت فيطوف به سبعا وهو الطواف الواجب الذي به تمام
الحج، ثم يصلي ركعتين إن كان مفردا أو قارنا)
464

وجملة ذلك أنه إذا رمي ونحر وحلق وأفاض إلى مكة طاف طواف الزيارة لأنه يأتي من منى
فيزور البيت ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى ويسمى طواف الإفاضة لأنه يأتي به عند إفاضته من منى
إلى مكة وهو ركن للحج لا يتم الا به لا نعلم فيه خلافا ولان الله عز وجل قال (وليطوفوا بالبيت
العتيق) قال ابن عبد البر هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء، وفيه عند جميعهم قال
الله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) وعن عائشة قالت حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فافضنا يوم النحر
فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يرد الرجل من أهله فقلت يا رسول الله إنها حائض قال
أحابستنا هي؟ قالوا يا رسول الله انها قد أفاضت يوم النحر قال " اخرجوا متفق عليه فدل على أن هذا
الطواف لابد منه وأنه حابس لمن لم يأت به ولان الحج أحد النسكين فكان الطواف ركنا كالعمرة
(فصل) ولهذا الطواف وقتان وقت فضيلة ووقت اجزاء فاما وقت الفضيلة فيوم النحر بعد الرمي
والنحر والحلق لقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، وفي
حديث عائشة الذي ذكرت فيه حيض صفية قالت فأفضنا يوم النحر وقال ابن عمر أفاض النبي صلى الله عليه وسلم
465

يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر متفق عليهما فإن أخره إلى الليل فلا بأس فإن ابن عباس وعائشة رويا
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل رواهما أبو داود والترمذي، وقال في كل واحد منهما
حديث حسن، وأما وقت الجواز فاوله من نصف الليل من ليلة النحر، وبهذا قال الشافعي وقال أبو
حنيفة أوله طلوع الفجر من يوم النحر وآخره آخر أيام النحر، وهذا مبني على أول وقت الرمي وقد
مضى الكلام فيه، وأما آخر وقته فاحتج بأنه نسك يفعل في الحج فكان آخره محدودا كالوقوف
والرمي والصحيح أن آخر وقته غير محدود فإنه متى أتى به صح بغير خلاف وإنما الخلاف في وجوب
الدم فيقول إنه طاف فيما بعد أيام النحر طوافا صحيحا فلم يلزمه دم كما لو طاف أيام النحر فاما الوقوف
والرمي فإنهما لما كان موقتين كان لهما وقت يفوتان بفواته وليس كذلك الطواف فإنه متى أتى به صح
(فصل) وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم سوى أنه ينوي به طواف الزيارة ويعينه بالنية
ولا رمل فيه ولا اضطباع قال ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه والنية
شرط هذا الطواف وهذا قول إسحاق وابن القاسم صاحب مالك وابن المنذر وقال الثوري
والشافعي وأصحاب الرأي يجزئه وان لم ينو الفرض الذي عليه
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ولان النبي صلى الله عليه وسلم
سماه صلاة والصلاة لا تصح الا بالنيات اتفاقا
466

(مسألة) قال (ثم قد حل من كل شئ)
يعني إذا طاف للزيارة بعد الرمي والنحر والحلق حل له كل شئ حرمه الاحرام، وقد ذكرنا
أنه لم يكن بقي عليه من المحظورات سوى النساء فهذا الطواف حلل له النساء قال ابن عمر لم يحل النبي
صلى الله عليه وسلم من شئ حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شئ
حرمه، وعن عائشة مثله متفق عليهما ولا نعلم خلافا في حصول الحل بطواف الزيارة على الترتيب الذي
ذكر الخرقي وأنه كان قد سعى مع طواف القدوم وإن لم يكن سعى لم يحل حتى يسعى ان قلنا إن
السعي ركن وان قلنا هو سنة فهل يحل قبل على وجهين (أحدهما) يحل لأنه لم يبق عليه شئ من واجباته
(والثاني) لا يحل لأنه من أفعال الحج فيأتي به في احرام الحج كالسعي في العمرة فإنما خص الخرقي
المفرد والقارن بهذا لكونهما سعيا مع طواف القدوم والمتمتع لم يسع
(مسألة) قال (وإن كان متمتعا فيطوف بالبيت سبعا وبالصفا والمروة سبعا كما فعل بالعمرة
ثم يعود فيطوف طوافا ينوي به الزيارة وهو قوله عز وجل (وليطوفوا بالبيت العتيق)
فأما الطواف الأول إلي ذكره الخرقي هاهنا فهو طواف القدوم لأن المتمتع لم يأت به قبل
ذلك والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها ونص احمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم
قال قلت لأبي عبد الله رحمه الله فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعي؟ قال يطوف ويسعى لحجه
467

ويطوف طوافا آخر للزيارة - عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا
لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة
نص عليه احمد أيضا واحتج بما روت عائشة قالت فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة
ثم حلوا فطافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما
طافوا طوافا واحدا فحمل احمد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ولأنه قد ثبت
أن طواف القدوم مشروع فلم يكن تعين طوال الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله في التلبس
بصلاة الفرض ولم أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي بل المشروع
طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد ولأنه لم
ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم
أحدا وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وهذا
هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافا آخر ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت
بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج الا به وذكرت ما يستغني عنه وعلى كل حال
فما ذكرت الا طوافا واحدا فمن أين يستدل به على طوافين؟ وأيضا فإنها لما حاضت قرنت الحج
468

إلى العمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن طافت للقدوم لا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الخرقي
في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها
قضاء طواف القدوم، ولان طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف
للقدوم مع طواف العمرة لأنه أول قدومه إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد
رؤيته وطوافه به، وفي الجملة أن هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب وإنما الواجب طواف واحد
وهو طواف الزيارة وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن الحج لا يتم الا به ولا
بد من تعيينه فلو نوى به طواف الوداع أو غيره لم يجزه
(فصل) والأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة وهو ركن الحج لا يتم الا به بغير
خلاف، وطواف القدوم وهو سنة لا شئ على تاركه، وطواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا
تركه وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وقال مالك على تارك طواف القدوم دم ولا شئ على
تارك طواف الوداع، وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع وكقوله في طواف القدوم، وما زاد
على هذه الأطوفة فهو نفل ولا يشرع في حقه أكثر من سعي واحد بغير خلاف علمناه، قال جابر لم
يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول. رواه مسلم. ولا
يكون السعي إلا بعد طواف فإن سعى مع طواف القدوم لم يسع بعده وإن لم يسع معه سعى مع طواف الزيارة
469

(فصل) ويستحب أن يدخل البيت فيكبر في نواحيه ويصلي ركعتين ويدعو الله عز وجل.
قال ابن عمر دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وبلال وأسامة بن زيد فقلت لبلال هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال نعم. قلت أين هو؟ قال بين العمودين تلقاء وجهه ونسيت أن أسأله كم صلى؟ قال ابن عباس أخبرني
أسامة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج. متفق عليهما فقدم
أهل العلم رواية بلال على رواية أسامة لأنه مثبت وأسامة ناف، ولان أسامة كان حديث السن فيجوز
أن يكون اشتغل بالنظر إلى ما في الكعبة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وان لم يدخل البيت فلا بأس فإن إسماعيل
ابن أبي خالد قال قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته؟ قال لا. متفق عليه
وعن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع وهو كئيب فقال " اني دخلت الكعبة
ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما دخلتها اني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي " رواه أبو داود
(فصل) ويستحب أن يأتي زمزم فيشرب من مائه لما أحب ويتضلع منه، قال جابر في صفة حج النبي
صلى الله عليه وسلم: ثم أتى بني عبد المطلب وهو يسقون فناولوه دلوا فشرب منه. وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " " ماء زمزم لما شرب " وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت عند ابن عباس جالسا
فجاءه رجل فقال من أين جئت؟ قال من زمزم قال فشربت منها كم ينبغي؟ قال فكيف؟ قال إذا شربت
470

منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا من زمزم وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله تعالى
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آية ما بيننا وبين المنافقين انهم لا يتضلعون من زمزم " رواهما ابن ماجة.
ويقول عند الشرب بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا، وريا وشبعا، وشفاء من كل داء،
واغسل به قلبي واملأه من حكمتك
(فصل) ويسن أن يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم من النحر
والإفاضة والرمي نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. وذكر بعض أصحابنا انه لا يخطب
يومئذ وهو مذهب مالك لأنها تسن في اليوم الذي قبله فلم تسن فيه
ولنا ما روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر. يعني بمنى. أخرجه البخاري
وعن رافع بن عمر والمزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة
شهباء وعلي بعبر عنه والناس بين قائم وقاعد. وقال أبو أمامة سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر
وقال الهرباس بن زياد الباهلي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى
وقال عبد الرحمن بن معاذ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ونحن
في منازلنا فطفق يعلهم مناسكهم حتى بلغ الجمار. وروي هذه الأحاديث كلها أبو داود الا
حديث ابن عباس. ولأنه يوم تكثر فيه أفعال الحج ويحتاج إلى تعليم الناس أحكام ذلك فاحتيج إلى
الخطبة من أجله كيوم عرفة
(فصل) يوم الحج الأكبر يوم النحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر " هذا يوم الحج
الأكبر " رواه البخاري، وسمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه من الوقوف بالمشعر والدفع منه إلى منى
والرمي والنحر والحلق وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره مثله وهو مع ذلك
يوم عيد ويوم يحل فيه من احرام الحج
(فصل) وفي يوم النحر أربعة أشياء الرمي ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف والسنة ترتيبها هكذا
فإن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك وصفة جابر في حج النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم رمى
ثم نحر ثم حلق. رواه أبو داود. فأن أخل بترتيبها ناسيا أو جاهلا بالسنة فيها فلا شئ عليه في قول
كثير من أهل العلم منهم الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور
وداود ومحمد بن جرير الطبري، وقال أبو حنيفة ان قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم فإن
كان قارنا فعليه دمان، وقال زفر عليه ثلاثة دماء لأنه لم يوجد التحلل الأول فلزمه الدم كما لو حلق
قبل يوم النحر.
ولنا ما روى عبد الله بن عمر قال قال رجل يا رسول الله حلقت قبل أن اذبح قال " اذبح ولا حرج "
471

فقال آخر ذبحت قبل أن أرمي قال " ارم ولا حرج " متفق عليه، وفي لفظ قال فجاء رجل فقال يا رسول
الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، وذكر الحديث قال فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسئ المرء
أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعضها وأشباهها الا قال افعلوا ولا حرج عليكم رواه مسلم، وعن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير
فقال " لا حرج " متفق عليه ورواه عبد الرازق عن معمر عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله
ابن عمر. وفيه فحلقت قبل أن أرمي وتابعه على ذلك محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عيسى عن
عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال يا رسول الله أني حلقت قبل أن أرمي
قال " ارم ولا حرج " قال واتاه آخر فقال إني أفضيت قبل أن أرمي؟ قال " ارم ولاحرج " وعن أن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل يوم النحر عن رجل حلق قبل أن يرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا حرج لا حرج " رواه الدارقطني كله وسنة رسول الله صلى الله عيله وسلم أحق أن تتبع على أنه لا يلزم من
سقوط الدم بفقد الشئ في وقته سقوطه قبل وقته فإنه لو حلق في العمرة بعد السعي لا شئ عليه وإن
كان الحل ما حصل قبله وكذلك في مسألتنا إذا قلنا أن الحل يحصل بالحلق فقد حلق قبل التحلل ولا
دم عليه فاما ان فعله عمدا عالما بمخالفة السنة في ذلك ففيه روايتان (إحداهما) لا دم عليه وهو قول عطاء
وإسحاق لاطلاق حديث ابن عباس وكذلك حديث عبد الله بن عمرو من رواية سفيان بن عيينة
(والثانية) عليه دم روي نحو ذلك عن سعيد بن جبير وجابر بن زيد وقتادة والنخعي لأن الله تعالى
قال (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ولان النبي صلى الله عليه وسلم رتب وقال " خذوا عني
مناسككم " والحديث المطلق قد جاء مقيدا فيحمل المطلق على المقيد قال الأثرم سمعت أبا عبد الله
يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال إن كان جاهلا فليس عليه، فاما التعمد فلا لأن النبي صلى الله
عليه وسلم سأله رجل فقال لم أشعر قيل لأبي عبد الله سفيان بن عيينة لا يقول لم أشعر فقال نعم ولكن
مالكا والناس عن الزهري لم أشعر قيل لأبي عبد الله وهو في الحديث، وقال مالك ان قدم الحلق على
الرمي فعليه دم وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شئ عليه لأنه بالاجماع ممنوع من حلق
شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة فاما النحر قبل الرمي فجائز لأن الهدي قد بلغ محله.
ولنا الحديث فإنه لم يفرق بينهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الحلق والنحر والتقديم
والتأخير فقال " لا حرج " ولا نعلم خلافا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الاجزاء
ولا يمنع وقوعها موقعها وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا والله أعلم
(فصل) فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزأه طوافه، وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا تجزئه
الإفاضة فليرم ثم لينحر ثم ليفض
472

ولنا ما روى عطاء أن النبي صلى الله عليه سلم قال له رجل أفضت قبل أن ارمي قال " ارم ولا
حرج " وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قدم شيئا قبل شئ فلا حرج " رواهما سعيد في سننه
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه آخر فقال أني أفضت إلى
البيت قبل أن أرمي فقال " ارم ولا حرج " فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ قدم أو أخر
الا قال افعل ولا حرج رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ولأنه أتى بالرمي في وقته فاجزأه كما لو
رتب، ومقتضى كلام أصحابنا أنه يحصل له بالإفاضة قبل الرمي التحلل الأول كمن رمى ولم يفض، فعلى
هذا لو واقع أهله قبل الرمي فعليه دم ولم يفسد حجه وكذلك قال الأوزاعي فإن رجع إلى أهله ولم
يرم فعليه دم لترك الرمي وحجه صحيح، قال ابن عباس من نسي أو ترك شيئا من نسكه فليهرق
لذلك دما وقال عطاء من نسي من النسك شيئا حتى رجع إلى أهله فليهرق لذلك دما
(مسألة) (ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى)
السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض
يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى متفق عليه وقالت عائشة رضي الله عنها أفاض رسول الله صلى الله
عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق رواه أبو داود
وظاهر كلام الخرقي أن المبيت بمنى ليالي منى واجب وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقال ابن عباس
لا يبيتن أحد من وراء العقبة من منى ليلا وهو قول عروة وإبراهيم ومجاهد وعطاء، وروي ذلك عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول مالك والشافعي، والثانية ليس بواجب وروي ذلك عن الحسن
وروي عن ابن عباس إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه قد حل من حجه فلم يجب عليه المبيت
بموضع معين كليلة الحصبة والرواية الأولى أن ابن عمر روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص
473

للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته متفق عليه وتخصيص العباس بالرخصة
لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره، وعن ابن عباس قال لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لاحد
يبيت بمكة الا العباس من أجل سقايته رواه ابن ماجة وروي الأثرم عن ابن عمر قال لا يبيتن أحد
من الحاج إلا بمنى وكان يبعث رجالا لا يدعون أحدا يبيت وراء العقبة ولان النبي صلى الله عليه وسلم
فعله نسكا وقد قال " خذوا عني مناسككم "
(فصل) فإن ترك المبيت بمنى فعن أحمد لا شئ عليه وقد أساء وهو قول أصحاب الرأي لأن
الشرع لم يرد فيه بشئ وعنه يطعم شيئا وخففه ثم قال قد قال بعضهم ليس عليه وقال إبراهيم عليه
دم وضحك ثم قال دم بمرة ثم شدد بمرة قلت ليس إلا أن يطعم شيئا قال نعم يطعم شيئا تمرا أو نحوه
فعلى هذا أي شئ تصدق به أجزأه ولا فرق بين ليلة وأكثر ولا تقدير فيه وعنه في الليالي الثلاث
دم لقول ابن عباس من ترك من نسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما، وفيما دون الثلاث ثلاث رويات (1)
وهو قول الشافعي وهذا لا نظير له فإننا لا نعلم في ترك شئ من المناسك درهما ولا نصف درهم
وايجابه بغير نص تحكم لا وجه له والله أعلم
(مسألة) قال (فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات
يكبر مع كل حصاة ويقف عندها ويرمي ويدعو ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضا
ويدعو ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ولا يقف عندها)
قد ذكرنا أن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة سبعة منها يرميها يوم النحر بعد طلوع الشمس
وسائرها في أيام التشريق الثلاثة بعد زوال الشمس كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات
يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويستقبل
474

القبلة ويرميها بسبع حصيات رافعا يديه ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها على يمينه ويستقبل القبلة ويرميها
بسبع حصيات ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات
ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم في جميع ما ذكرنا
خلافا الا أن مالكا قال ليس بموضع لرفع اليدين، وقد ذكرنا الخلاف فيه عند رؤية البيت، وقال
الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى؟ قال أي لعمري شديدا ويطيل
القيام أيضا قيل فإلى أين يتوجه في قيامه؟ قال إلى القبلة ويرميها في بطن الوادي، والأصل في هذا
ماروت عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع
إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر
مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها رواه
أبو داود، وعن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم ويستهل
ويقوم قياما طويلا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ بذات الشمال فيستهل ويقوم مستقبل القبلة
قياما طويلا ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله رواه البخاري، وروي
أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعا به بعرفة ويزيد وأصلح وأتم لنا مناسكنا، وقال
475

ابن المنذر كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وكان
ابن عمر وابن عباس يرفعان أيديهما إذا رميا الجمرة ويطيلان الوقوف، وروي عن عبد الرحمن بن
زيد قال أفضت مع عبد الله فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة واستبطن الوادي حتى إذا فرغ
قال اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ثم قال هكذا رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة
صنع، رواه الأثرم وعن عطاء قال كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة
البقرة رواه الأثرم.
(فصل) ولا يرمي في أيام التشريق الا بعد الزوال فإن رمى قبل الزوال أعاد نص عليه، وروي
ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وروي عن الحسن
وعطاء الا ان إسحاق وأصحاب الرأي رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال ولا ينفر الا بعد الزوال
وعن أحمد مثله ورخص عكرمة في ذلك أيضا وقال طاوس يرمي قبل الزوال وينفر قبله
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بعد الزوال لقول عائشة: يرمي الجمرة إذا زالت الشمس.
وقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة
ضحى يوم النحر ورمي بعد ذلك بعد زوال الشمس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا عني
مناسككم " وقال ابن عمر كنا نتحين إذا زالت الشمس رمينا وأي وقت بعد الزوال أجزأه الا
أن المستحب المبادرة إليها حين الزوال كما قال ابن عمر، وقال ابن عباس ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر رواه ابن ماجة
476

(فصل) والترتيب في هذه الجمرات واجب على ما ذكرنا فإن نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الثانية
ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمى الثلاث لم يجزه الا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى نص عليه أحمد
وان رمى القصوى ثم الأولى ثم الوسطى أعاد القصوى وحدها، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال الحسن
وعطاء لا يجب الترتيب، وهو قول أبي حنيفة فإنه قال إذا رمى منكسا يعيد فإن لم يفعل أجزأه واحتج
بعضهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج ولأنها مناسك متكررة
في أمكنة متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعا لبعض فلم يشترط الترتيب فيها كالرمي والذبح.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في الرمي وقال (خذوا عنى مناسككم) ولأنه نسك متكرر
فاشترط الترتيب فيه كالسعي وحديثهم إنما جاء فيمن يقدم نسكا على نسك لا في تقديم بعض النسك
على بعض وقياسهم يبطل بالطواف والسعي
(فصل) وان ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شئ عليه، وبذلك قال الشافعي وأبو
حنيفة وإسحاق وأبو ثور ولا نعلم فيه مخالفا الا الثوري قال يطعم شيئا وان أراق دما أحب إلي لأن
النبي صلى الله عليه وسلم فعله فيكون نسكا
477

ولنا أنه دعاء وقوف مشروع له فلم يجب بتركه شئ كحالة رؤية البيت وكسائر الأدعية ولأنها
إحدى الجمرات فلم يجب الوقوف عندها والدعاء كالأولى والنبي صلى الله عليه وسلم يفعل الواجبات
والمندوبات وقد ذكرنا الدليل على أن هذا ندب.
(فصل) والأولى أن لا ينقص في الرمي عن سبع حصيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع
حصيات فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه، وهو قول
مجاهد وإسحاق وعنه ان رمى بست ناسيا فلا شئ عليه ولا ينبغي أن يتعمده فإن تعمد ذلك تصدق
بشئ وكان ابن عمر يقول ما أبالي رميت بست أو سبع، وقال ابن عباس ما أدري رماها النبي صلى الله
عليه وسلم بست أو سبع، وعن أحمد ان عدد السبع شرط ونسبه إلى مذهب الشافعي وأصحاب الرأي
لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع وقال أبو حية لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى فقال
عبد الله بن عمرو صدق أبو حية وكان أبو حية بدريا، ووجه الرواية الأولى ما روى أبن أبي نجيح قال
سئل طاوس عن رجل ترك حصاة قال يتصدق بتمرة أو لقمة فذكرت ذلك لمجاهد فقال إن أبا عبد الرحمن
لم يسمع قول سعد قال سعد رجعنا من الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول رميت بست
وبعضنا يقول بسبع فلم يعب ذلك بعضنا على بعض رواه الأثرم وغيره ومتى أخل بحصاة واجبة من
الأولى لم يصح رمى الثانية حتى يكمل الأولى فإن لم يدر من أي الجمار تركها بنى على اليقين وان أخل
بحصاة غير واجبة لم يؤثر تركها
478

(مسألة) قال (ويفعل في اليوم الثاني كما يفعل بالأمس فإن أحب أن يتعجل في
يومين خرج قبل غروب الشمس فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد
بعد الزوال كما رمى بالأمس)
وجملته أن الرمي في اليوم الثاني كالرمي في اليوم الأول في وقته وصفته وهيأته ولا نعلم فيه مخالفا
فإن أحب التعجيل في يومين خرج قبل الغروب، وأجمع أهل العلم على أن من أراد الخروج من منى شاخصا
عن الحرم غير مقيم بمكة ان ينفر بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق فإن أحب الإقامة
بمكة فقال احمد لا يعجبني لمن ينفر النفر الأول أن يقيم بمكة وكان مالك يقول في أهل مكة من كان
له عذر فله ان يتعجل في يومين فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا ويحتج من ذهب إلى
هذا بقول عمر رضي الله عنه: من شاء من الناس كلهم ان ينفر في النفر الأول الا آل خزيمة فلا ينفر
الا في النفر الآخر. جعل احمد وإسحاق معنى قول عمر الا آل خزيمة ألا انهم أهل حرم مكة والمذهب
جواز النفير في النفر الأول لكل أحد وهو قول عامة العلماء لقول الله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا
اثم عليه ومن تأخر فلا أثم عليه لمن اتقى) قال عطاء هي للناس عامة، وروى أبو داود وابن ماجة عن
عبد الرحمن بن يعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا
اثم عليه " قال ابن عيينة هذا أجود حديث رواه سفيان، وقال وكيع هذا الحديث أم المناسك وفيه
زيادة أنا اختصرته ولأنه دفع من مكان فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم كالدفع من عرفة ومن مزدلفة
وكلام احمد في هذا أراد به الاستحباب موافقة لقول عمر لاغير فمن أحب التعجيل في النفر الأول
خرج قبل غروب الشمس فإن غربت قبل خروجه من منى لم ينفر سواء كان ارتحل أو كان مقيما في
منزله لم يجز له الخروج هذا قول عمر وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومجاهد وأبان بن عثمان ومالك
والثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال أبو حنيفة له ان ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث لأنه لم
يدخل اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب
ولنا قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه) واليوم اسم للنهار فمن أدركه الليل فما تعجل
في يومين قال ابن المنذر وثبت عن عمر أنه قال من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى
ينفر مع الناس وما قاسوا عليه لا يشبه ما نحن فيه فإنه تعجل في اليومين
(فصل) إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده أو اخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة ولا
479

شئ عليه إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وبذلك قال الشافعي وأبو ثور وقال
أبو حنيفة إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى الغد رماها وعليه في كل حصاة نصف صاع وإن ترك
أربعا رماها وعليه دم
480

ولنا أن أيام التشريق وقت للرمي فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شئ كما لو أخر
الوقوف بعرفة إلى آخر وقته ولأنه وقت يجوز الرمي فيه فجاز لغيرهم كاليوم الأول قال القاضي ولا يكون
رميه في اليوم الثاني قضاء لأنه وقت واحد وإن كان قضاء فالمراد به الفعل كقوله (ليقضوا تفثهم)
وقولهم قضيت الدين، والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم
481

ترم يوم النحر رميت من الغد وإنما قلنا يلزمه الترتيب بنية لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها
في أيامها فوجب ترتيبها مجموعة كالصلاتين المجموعتين والفوائت.
(مسألة) قال (ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام)
يعني مسجد الخيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمنى قال ابن مسعود صليت مع النبي
صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر وعثمان ركعتين صدرا من إمارته وهذا إذا كان الإمام مرضيا
فإن لم يكن مرضيا صلى المرء برفقته في رحله
(فصل) ويستحب ان يخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلم الناس فيها
حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر، وقال أبو حنيفة لا يستحب
قياسا على اليومين الآخرين
ولنا ما روي عن رجلين من بني بكر قالا رأينا رسول الله صلى اله عليه وسلم يخطب بين أوساط أيام التشريق
ونحن عند راحلته رواه أبو داود، وعن سراء بنت نبهان قالت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس
فقال " أي يوم هذا؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال " أليس أوسط أيام التشريق؟ " روي الدارقطني
باسناده عن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب
أوسط أيام التشريق يعني يوم النفر الأول ولان بالناس حاجة إلى أن يعلمهم كيف يتعجلون وكيف
يودعون بخلاف اليوم الأول
482

(مسألة) قال (ويكبر في دبر كل صلاة من صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق)
إنما خص المحرم بالتكبير من يوم النحر ظهرا لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية فلا يقطعها الا عند
رمي جمرة العقبة كما بيناه فيما قبل وليس بعدهما صلاة قبل الظهر فيكبر حينئذ بعدها كالمحل ويستوي
هو والحلال في آخر مدة التكبير وصفة التكبير ما ذكرنا في صلاة العيد وهو ان يقول (الله أكبر الله أكبر
لا إله الا الله والله أكبر ولله الحمد)
(فصل) قال بعض أصحابنا يستحب لمن نفر أن يأتي المحصب وهو الأبطح وحده ما بين الجبلين
إلى المقبرة فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يضطجع يسيرا ثم يدخل مكة وكان ابن عمر
483

يرى التحصيب سنة قال ابن عمر يصلي بالمحصب الظهر والعصر والمغرب والعشاء وكان كثير الاتباع
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان طاوس يحصب في شعب الجور وكان سعيد بن جبير يفعله ثم تركه وكان
ابن عباس وعائشة لا يريان ذلك سنة، قال ابن عباس التحصيب ليس بشئ إنما هو منزل نزله رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة ان نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليكون اسمح لخروجه إذا خرج متفق عليهما، ومن استحب ذلك فلا تباع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإنه كان ينزله قال نافع كان عمر يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ويذكر ذلك عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وقال ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعثمان ينزلون الأبطح، قال
الترمذي هذا حديث حسن غريب ولا خلاف في أنه ليس بواجب ولا شئ على تاركه.
484

(مسألة) قال (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين
إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت)
وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع
عليه لأن الوداع من المفارق لا من الملازم سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة ان نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف ولا يصح لأنه غير مفارق
فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينفرن أحد حتى يكون
آخر عهده بالبيت " وهذا ليس بنافر فأما الخارج من مكة فليس له ان يخرج حتى يودع البيت
بطواف سبع وهو واجب على من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق
وأبو ثور وقال الشافعي في قول له لا يجب بتركه شئ لأنه يسقط عن الحائض فلم يكن واجبا كطواف
القدوم ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم
ولنا ما روى ابن عباس قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الا أنه خفف عن المرأة
الحائض متفق عليه، ولمسلم قال كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة
تسقط عن الحائض وتجب على غيرها بل تخصيص الحائض باسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها
485

إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير
خلاف ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت
وطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون
آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ولذلك قال النبي صلى الله
عليه وسلم " حتى يكون آخر عهده بالبيت "
(فصل) ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه ومن كان منزله خارج الحرم قريبا
منه فظاهر كلام الخرقي انه لا يخرج حتى يودع البيت وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره
ابن القاسم وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في
طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم
ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " ولأنه خارج
من مكة فلزمه التوديع كالبعيد.
(فصل) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج ففيه روايتان (إحداهما) يجزئه عن طواف
الوداع لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل ولان ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب
من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة وعنه لا يجزئه عن طواف الوداع لأنهما عبادتان
واجبتان فلم تجز إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين
(مسألة) قال (فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع)
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت فإن طاف للوداع
ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وقال
أصحاب الرأي إذا طاف للوداع أو طاف تطوعا بعد ماحل له النفر أجزأه عن طواف الوداع وإن
486

قام شهرا أو أكثر لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه اعادته كما لو نفر عقيبه.
ولنا قوله عليه السلام " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " ولأنه إذا أقام بعده خرج
عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر فاما ان قضى حاجة في طريقه أو
اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر
عهده بالبيت وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما
(مسألة) قال (فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وان بعد بعث بدم)
هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون
مسافة القصر والبعيد من بلغ مسافة القصر نص عليه احمد وهو قول الشافعي وكان عطاء يرى الطائف
قريبا وقال الثوري حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ووجه القول
الأول ان من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ولذلك عددناه من حاضري
487

المسجد الحرام وقد روي أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت رواه سعيد، وإن لم
يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم
ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور
وغيره كسائر واجباته فإن رجع البعيد فطاف للوداع فقال القاضي لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه
الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه وإن رجع
القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أولا لأن الدم لم يستقر عليه لكونه
في حكم الحاضر ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب
(فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه الا محرما لأنه ليس
من أهل الاعذار فيلزمه طواف لاحرامه بالعمرة والسعي وطواف لوداعه وفي سقوط الدم عنه ما
ذكرنا من الخلاف. وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه فاما ان رجع القريب فظاهر قول من
ذكرنا قوله انه لا يلزمه احرام لأنه رجع لاتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة فإن ودع
وخرج ثم دخل مكة لحاجة فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع
البيت بالطواف وهذا لأنه لم يدخل لاتمام النسك إنما دخل لحاجة غير متكررة فأشبه من يدخلها للإقامة بها
488

(مسألة) قال (والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية)
هذا قول عامة فقهاء الأمصار وقد روي عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع
وكان زيد بن ثابت يقول به ثم رجع عنه فروى مسلم أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا
قال طاوس: كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت يفتي: أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر
عهدها بالبيت. فقال له ابن عباس: إما لا تسأل فلانة الأنصارية هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟
قال فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت، وروي عن ابن عمر أنه
رجع إلى قول الجماعة أيضا وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا يا رسول الله أنها
حائض فقال " أحابستنا هي؟ " قالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر. قال " فلتنفر إذا "
ولا أمرها بفدية ولا غيرها، وفي حديث ابن عباس إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، والحكم في
النفساء كالحكم في الحائض لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط
(فصل) وإذا نفرت الحائض بغير وداع فطهرت قبل مفارقة البنيان رجعت فاغتسلت وودعت
لأنها في حكم الإقامة بدليل أنها لا تستبيح الرخص فإن لم يمكنها الإقامة فمضت أو مضت لغير عذر
فعليها دم، وان فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة كالخارج من غير عذر قلنا هناك ترك
489

واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر لأنه يكون انشاء سفر طويل غير الأول وهاهنا
لم يكن واجبا ولا يثبت وجوبه ابتداء الا في حق من كان مقيما
(فصل) ويستحب أن يقف المودع في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيلزمه يلصق به صدره
ووجهه ويدعو الله عز وجل لما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: طفت مع
عبد الله فلما جاء دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ؟ قال نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر فقام
بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطا وقال هكذا رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت
فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة وهو وأصحابه قد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم
ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم رواه أبو داود، وقال منصور سألت مجاهدا
إذا أردت الوداع كيف أصنع؟ قال تطوف بالبيت سبعا وتصلي ركعتين خلف المقام ثم تأتي زمزم
فتشرب من مائها ثم تأتي الملتزم ما بين الحجر والباب فتستلمه ثم تدعو ثم تسأل حاجتك ثم تستلم
الحجر وتنصرف قال بعض أصحابنا ويقول في وداعه اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني
على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء
نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا والا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا
490

أوان انصرافي أن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني
العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك أبدا ما أبقيتني
واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شئ قدير، وعن طاوس قال رأيت أعرابيا أتى
الملتزم فتعلق بأستار الكعبة فقال: بك أعوذ وبك ألوذ اللهم فاجعل لي في اللهف إلى جودك والرضاء
بضمانك مندوحا عن منع الباخلين، وغنى عما في أيدي المستأثرين، اللهم بفرجك القريب ومعروفك
القديم وعادتك الحسنة، ثم أضلني في الناس فلقيته بعرفات قائما وهو يقول: اللهم ان كنت لم تقبل حجتي
وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم أعظم مصيبة ممن ورد حوضك وانصرف
محروما من وجه رغبتك، وقال آخر: يا خير موفود إليه قد ضعفت قوتي، وذهبت منتي وأتيت إليك
بذنوب لا تغسلها البحار أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك عن عقوبتك، رب ارحم من شملته
الخطايا وغمرته الذنوب، وظهرت منه العيوب، ارحم أسير ضر وطريد فقر، أسألك أن تهب لي عظيم
جرمي يا مستزادا من نعمه ومستعاذا من نقمه، أرحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق، اللهم ان كنت
بسطت إليك يدي داعيا فطالما كفيتني ساهيا فبنعمتك التي تظاهرت علي عند الغفلة لا أيأس منها
عند التوبة فلا تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف وهب لي الاصلاح في الولد والامن في البلد
والعافية في الجسد انك سميع مجيب، اللهم ان لك علي حقوقا فتصدق بها علي وللناس قبلي تبعات
491

فتحملها عني وقد أو جبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة، اللهم ان سائلك
عند بابك من ذهبت أيامه وبقيت آثامه وانقطعت شهوته وبقيت تبعته فارض عنه وان لم ترض عنه
فاعف عنه فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راض، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، والمرأة إذا كانت
حائضا لم تدخل المسجد ووقفت على بابه فدعت بذلك
(فصل قال احمد إذا ودع البيت يقوم عند الباب إذا خرج ويدعو فإذا ولى لا يقف ولا
يلتفت وان التفت رجع فودع، وروى حنبل في مناسكه عن المهاجرة قال قلت لجابر بن عبد الله
الرجل يطوف بالبيت ويصلي فإذا انصرف خرج ثم أستقبل القبلة فقام فقال ما كنت أحسب يصنع
هذا اليهود والنصارى (1) قال أبو عبد الله أكره ذلك، وقول أبي عبد الله ان التفت رجع فودع. على سبيل
الاستحباب إذ لا نعلم لايجاب ذلك عليه دليلا، وقد قال مجاهد إذا كدت تخرج من باب المسجد
فالتفت ثم أنظر إلى الكعبة ثم قل اللهم لا تجعله آخر العهد
(مسألة) قال (ومن ترك طواف الزيارة رجع من بلده حراما حتى يطوف بالبيت)
وجملة ذلك أن طواف الزيارة ركن للحج لا يتم الا به ولا يحل من احرامه حتى يفعله فإن رجع
إلى بلده قبله لم ينفك احرامه ورجع متى أمكنه محرما لا يجزئه غير ذلك، وبذلك قال عطاء والثوري
ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال الحسن يحج من العام المقبل
وحكي نحو ذلك عن عطاء قولا ثانيا وقال يأتي عاما قابلا من حج أو عمرة
492

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر له أن صفية حاضت قال " أحابستنا هي؟ " قيل إنها قد
أفاضت يوم النحر قال " فلتنفر إذا " يدل على أن هذا الطواف لابد منه وانه حابس لمن لم يأت به، فإن
نوى التحلل ورفض احرامه لم يحل بذلك لأن الاحرام لا يخرج منه بنية الخروج ومتى رجع إلى
مكة فطاف بالبيت حل بطوافه لأن الطواف لا يفوت وقته على ما أسلفناه
(فصل) فإن ترك بعض الطواف فهو كما لو ترك جميعه فيما ذكرنا وسواء ترك شوطا أو أقل أو
أكثر، وهذا قول عطاء ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال أصحاب الرأي من طاف أربعة
أشواط من طواف الزيارة أو طواف العمرة وسعى بين الصفا والمروة ثم رجع إلى الكوفة ان سعيه
يجزئه وعليه دم لما ترك من الطواف بالبيت
ولنا أن ما أتى به لا يجزئه إذا كان بمكة، فلا يجزئه إذا خرج منها كما لو طاف دون الأربعة أشواط
(فصل) وإذا ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة فلم يبق محرما الا عن النساء خاصة
لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة فلم يبق محرما الا عن النساء خاصة، وان وطئ لم
يفسد حجه ولم تجب عليه بدنة لكن عليه دم، ويجدد احرامه ليطوف في احرام صحيح، قال احمد
من طاف للزيارة أو اخترق الحجر في طوافه ورجع إلى بغداد فإنه يرجع لأنه على بقية إحرامه فإن
وطئ النساء أحرم من التنعيم على حديث ابن عباس وعليه دم وهذا كما قلنا
493

(مسألة) قال (وإن كان طاف للوداع لم يجزئه طواف الزيارة)
وإنما لم يجزه عن طواف الزيارة لأن تعيين النية شرط فيه على ما ذكرنا فمن طاف للوداع فلم يعين
النية له فكذلك لم يصح.
(مسألة) قال (وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد إلا أن عليه دما فإن لم يجد
صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع)
المشهور عن أحمد ان القارن بين الحج والعمرة لا يلزمه من العمل الا ما يلزم المفرد وأنه يجزئه
طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته نص عليه في رواية جماعة من أصحابه، وهذا قول ابن عمر
وجابر بن عبد الله، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي وإسحاق، وأبو ثور وابن المنذر،
وعن أحمد رواية ثانية أن عليه طوافين وسعيين، ويروي ذلك عن الشعبي وجابر بن زيد وعبد الرحمن
ابن الأسود وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأصحاب الرأي، وقد روي عن علي ولم يصح عنه
واحتج بعض من اختار ذلك بقول الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وتمامها أن يأتي بافعالها على
الكمال ولم يفرق بين القارن وغيره، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من جمع بين الحج والعمرة
فعليه طوافان " ولأنهما نسكان فكان لهما طوافان كما لو كانا منفردين
494

ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة فإنهم
طافوا لهما طوافا واحدا متفق عليه، وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة
" يسعك طوافك لحجك وعمرتك " وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحرم
بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما جميعا " وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قرن بين الحج والعمرة فطاف لهما طواف واحد رواهما الترمذي وقال في كل واحد منهما حديث حسن،
وروى ليث بن طاوس وعطاء ومجاهد عن جابر وابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يطف بالبيت هو وأصحابه لعمرتهم وحجهم الا طوافا واحدا رواه الأثرم وابن ماجة. وعن
سلمة قال حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للحج والعمرة الا طوافا
واحدا ولأنه ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد فكفاه طواف واحد وسعي واحد كالمفرد، ولأنهما
عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعا دخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين. وأما الآية فإن
الافعال إذا وقعت لهما فقد تما، واما الحديث الذي احتجوا به فلا نعلم صحته ورواه الدارقطني من
طرق ضعيفة في بعضها الحسن بن عمارة، وفي بعضها عمر بن يزيد، وفي بعضها حفص بن أبي داود
وكلهم ضعفاء وكفى به ضعفا معارضته لما روينا من الأحاديث الصحيحة وان صح فيحتمل أنه أراد
عليه طواف وسعي فسماهما طوافين فإن السعي يسمى طوافا قال الله تعالى (فلا جناح عليهما ان يطوفا بهما)
ويحتمل أنه أراد عليه طوافان طواف الزيارة وطواف الوداع
495

(فصل) وإن قتل القارن صيدا فعليه جزاء واحد نص عليه احمد فقال إذا قتل القارن صيدا فعليه
جزاء واحد، وهؤلاء يقولون في ذلك جزاءان فيلزمهم أن يقولوا في صيد الحرم ثلاثة لأنهم يقولون
في الحل اثنان ففي الحرم ينبغي أن يكون ثلاثة، وهذا قول مالك والشافعي وقال أصحاب الرأي عليه
جزاءان قال القاضي وإذا قلنا عليه طوافان لزمه جزاءان
ولنا قول الله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) ومن أوجب جزاءان
فقد أوجب مثلين ولأنه صيد واحد فلم يجب فيه جزاءان كما لو قتل المحرم في الحرم صيدا ولأنه لا يزيد
على محرمين قتلا صيدا وليس عليهما الا فداء واحد وكذلك محرم وحلال قتلا صيدا حرميا
(فصل) وان أفسد القارن نسكه بالوطئ فعليه فداء واحد، وبذلك قال عطاء وابن جريح ومالك
والشافعي وإسحاق وأبو ثور، ولا يسقط دم القران وقال الحلكم عليه هديان ويتخرج لنا أن يلزمه بدنة
وشاة إذا قلنا يلزمه طوافان، وقال أصحاب الرأي إن وطئ قبل الوقوف فسد نسكه وعليه شاتان
للحج والعمرة ويسقط عنه دم القران
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم الذين سئلوا عن أفسد نسكه لم يأمروه إلا بفداء واحد ولم يفرقوا
ولأنه أحد الانساك الثلاثة فلم يجب في إفساده أكثر من فدية واحدة كالآخرين. وسائر محظورات الاحرام
من اللبس والطيب وغيرهما لا يجب في كل واحد منهما أكثر من فداء واحد كما لو كان مفردا. والله أعلم
496

(مسألة) قال (الا أن عليه دما فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
هذا استثناء منقطع معناه لكن عليه دم فإن وجوب الدم ليس من الافعال المنفية بقوله، وليس
في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافا إلا ما حكي عن داود
انه لا دم عليه وروي ذلك عن طاوس، وحكى ابن المنذر ان ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن
هل يجب عليه دم؟ فقال لا فجر برجله وهذا يدل على شهرة الامر بينهم
ولنا قول الله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) والقارن متمتع بالعمرة
إلى الحج بدليل ان عليا رضي الله عنه لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالحج والعمرة ليعلم الناس
أنه ليس بمنهي عنه، وقال ابن عمر إنما القران لأهل الآفاق وتلا قوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام) وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما "
ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع. وإذا عدم الدم فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجع كالمتمتع سواء
(فصل) ومن شرط وجوب الدم عليه أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام في قول جمهور
العلماء. وقال ابن الماجشون عليه دم لأن الله تعالى إنما أسقط الدم (1) وليس هذا متمتعا، وليس هذا
بصحيح فإننا قد ذكرنا انه متمتع وان لم يكن متمتعا فهو فرع عليه ووجوب الدم على القارن إنما كان
بمعنى النص على المتمتع فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله
497

(مسألة) قال (ومن اعتمر في أشهر الحج فطاف وسمى ثم أحرم بالحج من عامه ولم
يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة فهو متمتع عليه دم)
الكلام في هذه المسألة في فصول (أحدها) وجوب الدم على المتمتع في الجملة وأجمع أهل العلم
عليه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات
وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها وحج من عامه انه متمتع وعليه الهدي ان وجد والا فالصيام وقد نص الله
تعالى عليه بقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية وقال ابن عمر تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس " من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا
والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى
أهله " متفق عليه وقال جابر كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فنذبح البقرة عن سبعة نشترك
فيها " رواه مسلم، وعن أبي جمرة قال سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها
جزور أو بقرة أو شاة أو شرك من دم. متفق عليه. والدم الواجب شاة أو سبع بقرة أو سبع بدنة
فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة فقد زاد خيرا. وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك لا يجزئ
498

الا بدنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تمتع ساق بدنة، وهذا ترك لظاهر قوله تعالى (فما استيسر من الهدي)
وطراح للآثار الثابتة، وما احتجوا به فلا حجة فيه فإن اهداء النبي صلى الله عليه وسلم للبدنة لا يمنع إجزاء ما دونها
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق مائة بدنة ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب ولا يجب أن تكون البدنة
التي يذبحها على صفة بدن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا في حجته وكذلك
ذهبوا إلى تفضيل الافراد فكيف يكون سوقه للبدن دليلا لهم في التمتع ولم يكن متمتعا؟
(الفصل الثاني) في الشروط التي يجب الدم على من اجتمعت فيه وهي خمسة (الأول) أن يحرم
بالعمرة في أشهر الحج فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعا سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو
في غير أشهره نص عليه أحمد. قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل عمن أهل بعمرة في غير أشهر الحج
ثم قدم في شوال أيحل من عمرته في شوال أو يكون متمتعا؟ فقال لا يكون متمتعا واحتج بحديث جابر
وذكر إسناده عن أبي الزبير انه سمع جابر بن عبد الله يسئل عن امرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر
مسمى ثم تحل إلا ليلة واحدة ثم تحيض قال لتخرج ثم لتهل بعمرة ثم لتنتظر حتى تطهر ثم لتطف
بالبيت، قال أبو عبد الله فجعل عمرتها في الشهر الذي أهلت فيه الا في الشهر الذي حلت فيه، ولا نعلم بين
أهل العلم خلافا في أن من اعتمر في غير أشهر الحج عمرة وحل منها قبل أشهر الحج انه لا يكون متمتعا
إلا قولين شاذين (أحدهما) عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى الحج
499

فأنت متمتع (والثاني) عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة. قال ابن المنذر لا نعلم أحدا
قال بواحد من هذين القولين، فأما إن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج ثم حل منها في أشهر الحج
فذهب أحمد انه لا يكون متمتعا. ونقل معنى ذلك عن جابر وأبي عياض وهو قول إسحق وأحد
قولي الشافعي: وقال طاوس عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم، وقال الحسن والحكم وابن شبرمة
والثوري والشافعي في أحد قوليه: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه، وقال عطاء عمرته في الشهر الذي
يحل فيه وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة ان طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس بمتمتع
وان طاف الأربعة في أشهر الحج فهو متمتع لأن العمرة صحت في أشهر الحج بدليل انه لو وطئ أفسدها
أشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج
ولنا ما ذكرنا عن جابر ولأنه أتى بنسك لا تتم العمرة إلا به في غير أشهر الحج فلم يكن متمتعا كما
لو طاف ويخرج عليه ما قاسوا عليه
(الثاني) أن يحج من عامه فإن اعتمر في أشهر الحج ولم يحج ذلك العام بل حج من العام القابل
فليس بمتمتع لا نعلم فيه خلافا إلا قولا شاذا عن الحسن فيمن اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع حج أو لم
يحج والجمهور على خلاف هذا لأن الله تعالى قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)
وهذا يقتضي الموالاة بينهما، ولأنهم إذا أجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه
500

ذلك فليس بمتمتع فهذا أولى فإن التباعد بينهما أكثر
(الثالث) أن لا يسافر بين العمرة والحج سفرا بعيدا تقصر في مثله الصلاة نص عليه، وروي
ذلك عن عطاء والمغيرة المديني وإسحاق، وقال الشافعي ان رجع إلى الميقات فلا دم عليه. وقال أصحاب
الرأي ان رجع إلى مصره بطلت متعته وإلا فلا. وقال مالك ان رجع إلى مصره أو إلى غيره أبعد
من مصره بطلت متعته وإلا فلا. وقال الحسن: هو متمتع وإن رجع إلى بلده واختاره ابن المنذر لعموم
قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع فإن خرج
ورجع فليس بمتمتع. وعن ابن عمر نحو ذلك ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزمه الاحرام منه
فإن كان بعيدا فقد أنشأ سفرا بعيدا لحجه فلم يترفه بأحد السفرين فلم يلزمه دم كموضع الوفاق والآية
تناولت المتمتع وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر
(الرابع) أن يحل من احرام العمرة قبل احرامه بالحج فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله
منها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والذين كان معهم الهدي من أصحابه فهذا يصير قارنا ولا يلزمه دم المتعة،
قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض
لم أطف بالبت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " انقضي رأسك
وامتشطي وأهلي بالحج ودعى العمرة " قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال " هذه مكان عمرتك " قال عروة فقضى الله حجها
وعمرتها ولم يكن في شئ من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة متفق عليه، ولكن عليه دم للقران لأنه
صار قارنا وترفه بسقوط أحد السفرين. وقول عروة لم يكن في ذلك هدي يحتمل انه أراد لم يكن فيه
هدي للمتعة إذ قد ثبت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه بقرة بينهن
(الخامس) أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولا خلاف بين أهل العلم في أن دم المتعة
501

لا يجب على حاضري المسجد الحرام إذ قد نص الله تعالى في كتابه بقوله سبحانه (ذلك لمن لم يكن
أهله حاضري المسجد الحرام) ولان حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة فلم يحصل له الترفه بأحد السفرين (1)
ولأنه أحرم بالحج من ميقاته فأشبه المفرد
(فصل) و (حاضري المسجد الحرام) أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر نص
عليه أحمد وروي ذلك عن عطاء وبه قال الشافعي وقال مالك أهل مكة. وقال مجاهد أهل الحرم، وروي
ذلك عن طاوس وقال مكحول وأصحاب الرأي: من دون الميقات لأنه موضع شرع فيه النسك فأشبه الحرم
ولنا ان حاضر الشئ من دنا منه، ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحضار بدليل انه
إذا قصده لا يترخص رخص السفر فيكون من حاضريه، وتحديده بالميقات لا يصح لأنه قد يكون بعيدا
يثبت له حكم السفر البعيدة إذا فقده ولان ذلك يفضي إلى جعل البعيد من حاضريه والقريب من غير
حاضريه في المواقيت قريبا وبعيدا، واعتبارنا أولى لأن الشارع حد الحاضر بدون المسافة القصر بنفي
أحكام المسافرين عنه فالاعتبار به أولى من الاعتبار بالنسك لوجود لفظ الحضور في الآية
(فصل) إذا كان للمتمتع قريتان قريبة وبعيدة فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه إذا كان
بعض أهله قريبا فلم يوجد فيه الشرط وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، ولان له أن يحرم
من القرية فلم يكن بالتمتع مترفها بترك أحد السفرين. وقال القاضي له حكم القرية التي يقيم بها أكثر فإن
استويا فمن التي ماله بها أكثر فإن استويا فمن التي ينوي الإقامة بها أكثر فإن استويا حكم للقرية
التي أحرم منها. وقد ذكرنا الدليل لما قلناه
(فصل) فإن دخل الآفاقي مكة متمتعا ناويا للإقامة بها بعد تمتعه فعليه دم المتعة قال ابن المنذر
أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، ولو كان الرجل منشؤه ومولده بمكة فخرج عنها منتقلا
مقيما بغيرها ثم عاد إليها متمتعا ناويا للإقامة بها أو غير ناو لذلك فعليه دم المتعة لأنه خرج بالانتقال
عنها عن أن يكون من أهلها. وبذلك قال منالك والشافعي وإسحاق وذلك لأن حضور المسجد الحرام
إنما يحصل بنية الإقامة وفعلها وهذا إنما نوى الإقامة إذا فرغ من أفعال الحج لأنه إذا فرغ من عمرته
فهو ناو للخروج إلى الحج فكأنه إنما نوى أن يقيم بعد أن يجب عليه الدم. فاما أن خرج المكي مسافرا
502

غير منتقل ثم عاد فاعتمر من الميقات أو قصر وحج من عامه فلا دم عليه لأنه لم يخرج بهذا السفر
عن كون أهله من حاضري المسجد الحرام
(فصل) وهذا الشرط لوجوب الدم عليه، وليس بشرط لكونه متمتعا فإن متعة المكي
صحيحة لأن التمتع أحد الانساك الثلاثة فصح من المكي كالنسكين الآخرين ولان حقيقة التمتع هو أن
يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه وهذا موجود في المكي، وقد نقل عن أحمد: ليس على أهل مكة متعة
ومعناه ليس عليهم دم المتعة لأن المتعة له لا عليه فيتعين حمله على ما ذكرناه
(فصل) إذا ترك الآفاقي الاحرام من الميقات أو أحرم من دونه بعمرة ثم حل منها وأحرم بالحج
من مكة من عامه فهو متمتع عليه دمان دم المتعة ودم لاحرامه من دون ميقاته. قال ابن المنذر وابن
عبد البر أجمع العلماء على أن من أحرم في أشهر الحج بعمرة وحل منها ولم يكن من حاضري المسجد
الحرام ثم أقام بمكة حلالا ثم حج من عامه أنه متمتع عليه دم، وقال القاضي إذا تجاوز الميقات حتى صار
بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر فأحرم منه فلا دم عليه للمتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام
وليس هذا بجيد فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به وهذا لم يحصل منه الإقامة
ولا نيتها ولان الله تعال قال (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وهذا يقتضي أن يكون المانع
من الدم السكنى به وهذا ليس بساكن وان أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة فاعتمر
من التنعيم في أشهر الحج، وحج من عامه فهو متمتع عليه دم نص عليه احمد وفي تنصيصه على هذه
الصورة تنبيه على ايجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى وذكر القاضي أن من شرط وجوب
الدم أن ينوي في ابتداء العمرة أو في أثنائها أنه متمتع. وظاهر النص يدل على أن هذا غير مشترط
فإنه لم يذكره، وكذلك الاجماع الذي ذكرناه مخالف لهذا القول. ولأنه قد حصل له الترفه بسقوط
أحد السفرين فلزمه الدم كمن لم ينو
(الفصل الثالث) في وقت وجوب الهدي ووقت ذبحه. أما وقت وجوبه فعن أحمد أنه يجب
إذا أحرم بالحج. وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الله تعالى قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
فما استيسر من الهدي) وهذا قد فعل ذلك. ولان ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى
503

(ثم أتما الصيام إلى الليل) ولأنه متمتع أحرم بالحج من دون الميقات فلزمه الدم كما لو وقف
أو تحلل وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة، وهو قول مالك واختيار القاضي لأن التمتع بالعمرة في
الحج إنما يحصل بعد وجود الحج منه، ولا يحصل ذلك الا بالوقوف. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحج
عرفة " ولأنه قبل ذلك بعرض الفوات، فلا يحصل التمتع، ولأنه لو أحرم بالحج ثم أحصر أو فإنه
الحج لم يلزمه دم المتعة، ولا كان متمتعا. ولو وجب الدم لما سقط. وقال عطاء يجب إذا رمى الجمرة
ونحوه قول أبي الخطاب قال: يجب إذا طلع الفجر يوم النحر لأنه وقت ذبحه، فكان وقت وجوبه
فأما وقت اخراجه فيوم النحر: وبه قال ملك وأبو حنيفة لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح
الأضحية فلا يجوز فيه ذبح هدي المتمتع كمثل التحلل من العمرة، وقال أبو طالب سمعت احمد قال في
الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي قال: ينحر بمكة، وان قد قبل العشر نحره لا يضيع أو يموت
أو يسرق. وكذلك قال عطاء وان قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى. ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على احرامه وكان
قارنا وقال الشافعي يجوز نحره بعد الاحرام بالحج قولان واحدا. وفيما قبل ذلك بعد حله من العمرة
504

احتمالان، ووجه جوازه أنه دم يتعلق بالاحرام، وينوب عنه الصيام فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب
واللباس، ولأنه يجوز ابداله قبل يوم النحر فجاز أداؤه قبله كسائر الفديات
(مسألة) قال (فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع)
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجع تلك عشرة كاملة، وتعتبر القدرة في موضعه، فمتى عدمه في موضعه جاز له الانتقال
إلى الصيام وإن كان قادرا عليه في بلده لأن وجوبه موقت وما كان وجوبه موقفا اعتبرت القدرة عليه
في موضعه كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه انتقل إلى التراب
(فصل) ولكل واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتان وقت جواز ووقت استحباب.
فأما وقت الثلاثة فوقت الاختيار لها أن يصومها ما بين إحرامه بالحج ويوم عرفة ويكون آخر
الثلاثة يوم عرفة. قال طاوس يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، وروي ذلك عن عطاء والشعبي ومجاهد
والحسن والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي. وروى ابن عمر عائشة
أن يصومهن ما بين اهلاله بالحج ويوم عرفة، وظاهر هذا أن يجعل آخرها يوم التروية، وهو قول الشافعي
لأن صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحب، وكذلك ذكر القاضي في المحرر، والمنصوص عن أحمد الذي
وقفنا عليه مثل قول الخرقي أنه يكون آخرها يوم عرفة، وهو قول من سمينا من العلماء، وإنما أحببنا له
صوم يوم عرفة ههنا لموضع الحاجة، هذا القول يستحب له تقديم الاحرام بالحج قبل يوم التروية ليصومها
في الحج، وان صام منها شيئا قبل احرامه بالحج جاز. نص عليه. وأما وقت جواز صومها فإذا أحرم
بالعمرة، وهذا قول أبي حنيفة، وعن أحمد أنه إذا حل من العمرة، وقال مالك والشافعي لا يجوز الا
بعد احرام الحج. ويروي ذلك عن ابن عمر، وهو قول إسحاق، وابن المنذر لقول الله تعالى
(فصيام ثلاثة أيام في الحج) ولأنه صيام واجب فلم يجز تقديمه على وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب
ولان ما قبله وقت لا يجوز فيه المبدل فلم يجز البدل كقبل الاحرام بالعمرة. وقال الثوري والأوزاعي
يصومهن من أول العشر إلى يوم عرفة
505

ولنا أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كاحرام الحج فاما قوله (فصيام ثلاثة
أيام في الحج) فقيل معناه في أشهر الحج فإنه لابد من اضمار إذ كان الحج أفعالا لا يصام فيها إنما يصام
في وقتها أو في أشهرها فهو في قوله تعالى (الحج أشهر) وأما تقديمه على وقت الوجوب فيجوز إذا وجد
السبب كتقديم الكفارة على الحنث وزهوق النفس، وأما كونه بدلا فلا يقدم على المبدل فقد ذكرنا
رواية في جواز تقديم الهدي على احرام الحج فكذلك الصوم، وأما تقديم الصوم على إحرام العمرة فغير
جائز ولا نعلم قائلا بجوازه إلا رواية حكاها بعض أصحابنا عن أحمد وليس بشئ لأنه لا يقدم الصوم
على سببه ووجوبه ويخالف قول أهل العلم وأحمد ينزه عن هذا. وأما السبعة فلها أيضا وقتان وقت اختيار
ووقت جواز فاما وقت الاختيار فإذا رجع إلى أهله لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فمن لم يجد هديا
فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه وأما وقت الجواز فمنذ تمضي أيام
التشريق قال الأثرم سئل أحمد هل يصوم في الطريق أو بمكة؟ قال كيف شاء، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك
وعن عطاء ومجاهد يصومها في الطريق وهو قول إسحاق وقال ابن المنذر يصومها إذا رجع إلى أهله
للخبر ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول الشافعي وقيل عنه كقولنا وكقول إسحاق
ولنا أن كل صوم لزمه وجاز في وطنه جاز قبل ذلك كسائر الفروض وأما الآية فإن الله تعالى
جوز له تأخير الصيام الواجب فلا يمنع ذلك الاجزاء قبله كتأخير صوم رمضان في السفر والمرض بقوله
سبحانه (فعدة من أيام أخر) ولان الصوم وجد من أهله بعد وجود سببه فاجزأه كصوم المسافر والمريض
(فصل) ولا يجب التتابع وذلك لا يقتضي جمعا ولا تفريقا، وهذا قول الثوري وإسحاق وغيرهما
ولا نعلم فيه مخالفا.
(مسألة) قال (فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى في إحدى الروايتين عن أبي
عبد الله والرواية الأخرى لا يصوم أيام منى ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم)
وجملة ذلك أن المتمتع إذا لم يصم الثلاثة أيام في الحج فإنه يصومها بعد ذلك، وبهذا قال علي
وابن عمر وعائشة وعروة بن الزبير وعبيد بن عمير والحسن وعطاء والزهري ومالك والشافعي
506

وأصحاب الرأي ويروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد إذا فاته الصوم في العشر
وبعده استقر الهدي في ذمته لأن الله تعالى قال (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) ولأنه
بدل موقت فيسقط بخروج وقته كالجمعة
ولنا أنه صوم واجب فلا يسقط بخروج وقته كصوم رمضان والآية تدل على وجوبه لا على
سقوطه والقياس منتقض بصوم الظهار إذا قدم المسيس عليه والجمعة ليست بدلا وإنما هي الأصل وإنما
سقطت لأن الوقت جعل شرطا لها كالجماعة، إذا ثبت هذا فإنه يصوم أيام منى وهذا قول
ابن عمر وعائشة وعروة وعبيد بن عمير والزهري ومالك والأوزاعي وإسحاق والشافعي في القديم
لما روى ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريق ان يصمن الا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري
وهذا ينصرف إلى ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم ولان الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج ولم يبق
من أيام الحج الا هذه الأيام فيتعين الصوم فيها، فإذا صام هذه الأيام فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر
وعن أحمد رواية أخرى لا يصوم أيام مني روي ذلك عن علي والحسن وعطاء وهو قول ابن المنذر لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام ذكر منها أيام التشريق وقال عليه السلام " انها أيام أكل
وشرب " ولأنها لا يجوز فيها صوم النفل فلا يصومها عن الهدي كيوم النحر، فعلى هذه الرواية يصوم
بعد ذلك عشرة أيام وكذلك الحكم إذا قلنا يصوم أيام منى فلم يصمها، واختلفت الرواية عن أحمد
في وجوب الدم عليه فعنه عليه دم لأنه أخر الواجب من مناسك الحج عن وقته فلزمه دم كرمي الجمار
ولا فرق بين المؤخر لعذر أو لغيره لما ذكرناه. وقال القاضي: ان أخره لعذر ليس عليه إلا قضاؤه لأن
507

الدم الذي هو المبدل لو أخره لعذر لا دم عليه لتأخيره فالبدل أولى. وروي عن أحمد لا يلزمه مع الصوم
دم بحال وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته كصوم رمضان
فأما الهدي الواجب إذا أخره لعذر مثل ان ضاعت نفقته فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا الواجبة
وان أخره لغير عذر ففيه روايتان (إحداهما) ليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا (والأخرى) عليه
هدي آخر لأنه نسك مؤقت فلزم الدم بتأخيره عن وقته كرمي الجمار. قال أحمد من تمتع فلم يهد إلى قابل
يهدي هديين كذا قال ابن عباس
(فصل) وإذا صام عشرة الأيام لم يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة، وقال أصحاب الشافعي عليه
التفريق لأنه وجب من حيث الفعل وما وجب التفريق فيه من حيث الفعل لم يسقط بفوات وقته كأفعال
الصلاة من الركوع والسجود
ولنا أنه صوم واجب في زمن يصح الصوم فيه فلم يجب تفريقه كسائر الصوم ولا نسلم وجوب التفريق
في الأداء فإنه إذا صام أيام منى وأتبعها السبعة فما حصل التفريق، وإن سلمنا وجوب التفريق في الأداء
فإن كان من حيث الوقت فإذا فات الوقت سقط كالتفريق بين الصلاتين
(فصل) ووقت وجوب الصوم وقت وجوب الهدي لأنه بدل فكان وقت وجوبه وقت وجوب
المبدل كسائر الابدال، فإن قيل فكيف جوزتم الانتقال إلى الصوم قبل زمان وجوب المبدل ولم يتحقق
العجز عن المبدل لأنه إنما يتحقق المجوز للانتقال إلى البدل زمن الوجوب وكيف جوزتم الصوم قبل وجوبه؟
قلنا إنا جوزنا له الانتقال إلى البدل بناء على العجز الظاهر فإن الظاهر من المعسر استمرار إعساره وعجزه
كما جوزنا التكفير بالبدل قبل وجوب المبدل، وأما تجويز الصوم قبل وجوبه فقد ذكرناه
508

(مسألة) قال (ومن دخل في الصيام ثم قدر على الهدي لم يكن عليه الخروج من
الصوم إلى الهدي الا أن يشاء)
وبهذا قال الحسن وقتادة ومالك والشافعي، وقال ابن أبي نجيح وحماد والثوري ان أيسر قبل أن
تكمل الثلاثة فعليه الهدي وان أكمل الثلاثة صام السبعة، وقيل متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل
إليه صام أو لم يصم، وان وجده بعده ان مضت أيام النحر أجزأه الصيام قدر على الهدي أو لم يقدر لأنه
قدر على المبدل في زمن وجوبه فلم يجزئه البدل كما لو لم يصم
ولنا انه صوم دخل فيه لعدم الهدي لم يلزمه الخروج إليه كصوم السبعة وعلى هذا يخرج الأصل الذي
قاسوا عليه وانه ما شرع في الصيام
(فصل) وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع حتى قدر على الهدي ففيه روايتان (إحداهما) لا يلزمه
الانتقال إليه، قال في رواية المروذي إذا لم يصم في الحج فليصم إذا رجع ولا يرجع إلى الدم وقد انتقل
فرضه إلى الصيام وذلك لأن الصيام استقر في ذمته لوجوبه حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم
الهدي (والثانية) يلزمه الانتقال إليه. قال يعقوب سألت أحمد عن المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر؟
قال عليه هديان يبعث بهما إلى مكة أوجب عليه الهدي الأصلي وهديا لتأخيره الصوم عن وقته ولأنه قدر
على المبدل قبل شروعه في البدل فلزمه الانتقال إليه كالمتيمم إذا وجد الماء
(فصل) ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به لعذر منعه عن الصوم فلا شئ عليه، وإن كان
لغير عذر أطعم عنه كما يطعم عن صوم أيام رمضان ولأنه صوم وجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان
509

(مسألة) قال (والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج
وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم)
وجملة ذلك أن المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأن الطواف
بالبيت صلاة ولأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت، فإن خشيت
فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها وتصير قارنة وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي وكثير من أهل
العلم، وقال أبو حنيفة ترفض العمرة وتهل بالحج قال أحمد قال أبو حنيفة قد رفضت العمرة فصار حجا،
وما قال هذا أحد غير أبي حنيفة واحتج بما روى عروة عن عائشة قالت: أهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا
حائض لم أطف بالبيت ولابين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " انقضي رأسك
وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة " قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال " هذه عمرة مكان عمرتك " متفق عليه وهذا يدل
على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة (أحدها) قوله " دعي عمرتك " (والثاني) قوله
" وامتشطي " (والثالث) قوله " هذه عمرة مكان عمرتك "
ولنا ما روى جابر قال أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال " ما شأنك؟ " قالت شاني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحل
ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي
ثم أهلي بالحج " ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال " قد حللت
من حجك وعمرتك " قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي اني لم أطف بالبيت حتى حججت قال
510

" فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى طاوس عن عائشة أنها قالت أهللت بعمرة فقدمت
ولم أطف حتى حضت ونسكت المناسك كلها وقد أهللت بالحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر " يسعك
طوافك لحجك وعمرتك " فأبت فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر فاعمرها من التنعيم رواهما مسلم،
وهما يدلان على من ذكرنا جميعه ولان إدخال الحج على العمرة جائز بالاجماع من غير خشية الفوات
فمع خشية الفوات أولى، قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بعمرة أن
يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي في حجة الوداع
أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة ولا يجوز رفضها لقول الله تعالى (وأتموا
الحج العمرة لله) ولأنها متمكنة من اتمام عمرتها بلا ضرر فلم يجز رفضها كغير الحائض. فأما حديث
عروة فإن قوله " انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة " انفرد به عروة خالف به سائر من روي
عن عائشة حين حاضت، وقد روي عن طاوس والقاسم والأسود وعمرة وعائشة ولم يذكروا ذلك
وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة، وقد روى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه
عن عائشة حديث حيضها فقال فيه حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها " دعي العمرة
وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث وهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من
عائشة وهو مع ما ذكرنا من مخالفته بقية الرواة يدل على الوهم مع مخالفتها الكتاب والأصول إذ ليس لنا
موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان اتمامها ويحتمل أن قوله " دعي العمرة " أي دعيها بحالها
وأهلي بالحج معها أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج، وأما اعمارها من التنعيم فلم يأمرها
511

به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قالت له صلى الله عليه وسلم اني أجد في نفسي اني لم أطف بالبيت حتى حججت قال " فاذهب
بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى الأثرم باسناده عن الأسود عن عائشة قلت:
اعتمرت بعد الحج؟ قالت والله ما كانت عمرة ما كانت إلا زيارة زرت البيت إنما هي مثل نفقتها قال
أحمد إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه فقالت يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك
فقال يا عبد الرحمن أعمرها فنظر إلى أدنى الحرم فاعمرها منه، وقول الخرقي ولم يكن عليها قضاء
طواف القدوم وذلك لأن طواف القدوم سنة لا يجب قضاؤها ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم
عائشة بقضائه ولا فعلته هي.
(فصل) وكل متمتع خشي فوات الحج فإنه يحرم بالحج ويصير قارنا وكذلك المتمتع الذي معه
هدي فإنه لا يحل من عمرته بل يهل بالحج معها فيصير قارنا ولو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف
من غير خوف الفوات جاز وكان قارنا بغير خلاف وقد فعل ذلك ابن عمر ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم
فاما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارنا، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وروي عن عطاء
وقال مالك يصير قارنا، وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأنه أدخل الحج على إحرام العمرة فصح كما قبل الطواف
ولنا أنه شارع في التحلل من العمرة فلم يجز إدخال الحج عليه كما لو سعى بين الصفا والمروة
(فصل) فأما ادخال العمرة على الحج فغير جائز فإن فعل لم يصح ولم يصر قارنا، روي ذلك
عن علي، وبه قال مالك وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة يصح ويصير قارنا لأنه أحد
النسكين فجاز إدخاله على الآخر قياسا على إدخال الحج على العمرة، ولنا ما روى الأثرم باسناده عن
عبد الرحمن بن نصر عن أبيه قال خرجت أريد الحج فقدت المدينة فإذا علي قد خرج حاجا فأهللت
بالحج ثم خرجت فأدركت عليا في الطريق وهو يهل بعمرة وحجة فقلت يا أبا الحسن انا خرجت من
الكوفة لأقتدي بك وقد سبقتني فأهللت بالحج أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه؟ فقال لا إنما
ذلك لو كنت أهللت بعمرة - ولان ادخال العمرة على الحج لا يفيده الا ما افاده العقد الأول فلم يصح
كما لو استأجره على عمل ثم استأجره عليه ثانيا في المدة وعكسه ادخال الحج على العمرة.
512

(مسألة) قال (ومن وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجهما وعليه بدنة إن كان
استكرهها ولا دم عليها)
في هذه المسألة ثلاثة فصول (الفصل الأول) أن الوطئ قبل جمرة العقبة يفسد الحج ولافرق بين ما قبل
الوقوف وبعده، وبهذا قال مالك والشافعي وقال أصحاب الرأي إن وطئ بعد الوقوف لم يفسد حجه
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك عرفة فقد تم حجه " ولأنه أمن الفوات فأمن الفساد كما بعد التحلل الأول
ولنا أن رجلا سأل ابن عباس وعبد الله بن عمرو فقال وقعت باهلي ونحن محرمان فقالا له
أفسدت حجك ولم يستفصلوا السائل رواه الأثرم ولأنه وطئ صادق احراما تاما فأفسده كقبل
الوقوف ويخالف ما بعد التحلل الأول فإن الاحرام غير نام والمراد من الخبر الا من من الفوات ولا
يلزم من أمن الفوات أمن الفساد وبدليل العمرة يأمن فواتها ولا يأمن فسادها. قال أحمد لا أعلم
أحدا قال إن حجه تام غير أبي حنيفة يقول الحج عرفات فمن وقف بها فقد تم حجه وإنما هذا مثل
قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " أي أدرك فضل الصلاة ولم تفته، كذلك
الحج، إذا ثبت هذا فإنه يفسد حجهما جميعا لأن الجماع وجد منهما وسواء في ذلك الناسي والعامد
513

والمستكرهة والمطاوعة والمستيقظة عالما كان الرجل أو جاهلا، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يفسد
حج الناسي لأنه معذور.
ولنا أنه معنى يوجب القضاء فاستوت فيه الا حال كلها كالفوات ولا فرق بينا ما بعد يوم النحر
أو قبله لأنه وطئ قبل التحلل الأول ففسد حجه كما لو وطئ يوم النحر
(الفصل الثاني) أنه يلزمه بدنة، وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة ان وطئ قبل الوقوف
فسد حجه وعليه شاة وان وطئ بعده لم يفسد حجه وعليه بدنة لأن الوطئ قبل الوقوف معنى يتعلق
به وجوب القضاء فلم يوجب بدنة كالفوات.
ولنا أنه قد روي عن عمر وابن عباس مثل قولنا ولأنه وطئ صادف احراما تاما فأوجب
البدنة كما بعد الوقوف، ولان ما يفسد الحج الجناية به أعظم فكفارته يجب أن تكون أغلظ، وأما الفوات
فإنهم يوجبون به بدنة فكيف يصح القياس عليه
(الفصل الثالث) أنه لادم عليها في حال الاكراه، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وإسحاق
وأبي ثور وقال أصحاب الرأي عليها دم آخر لأنه قد فسد حجها فوجبت البدنة كما لو طاوعت
ولنا أنها كفارة تجب بالجماع فلم تجب على المرأة في حال الاكراه كما لو وطئ في الصوم
(فصل) ومن وطئ قبل التحلل من العمرة فسدت عمرته وعليه شاة مع القضاء. وقال الشافعي
عليه القضاء وبدنة لأنها عبادة تشتمل على طواف وسعي فأشبهت الحج. وقال أبو حنيفة ان وطئ
قبل أن يطوف أربعة أشواط كقولنا، وان وطئ بعد ذلك فعليه شاة ولا تفسد عمرته
514

ولنا على الشافعي أنها عبادة لا وقوف فيها فلم يجب فيها بدنة كما لو قرنها بالحج، ولأن العمرة دون
الحج فيجب أن يكون حكمها دون حكمه وبهذا يخرج الحج ولنا على أبي حنيفة أن الجماع من محظورات
الاحرام فاستوى فيه ما قبل الطواف وبعده كسائر المحظورات، ولأنه وطئ صادف احراما تاما فأفسده
كما قبل الطواف
(فصل) إذا أفسد القارن والمتمتع نسكهما لم يسقط الدم عنهما، وبه قال مالك الشافعي، وقال
أبو حنيفة يسقط وعن أحمد مثله لأنه لم يحصل له الترفه بسقوط أحد السفرين. ولنا أن ما وجب في النسك
الصحيح وجب في الفاسد كالافعال، ولأنه دم وجب عليه فلا يسقط بالافساد كالدم الواجب لترك الميقات
(فصل) وإذا أفسد القارن نسكه ثم قضى مفردا لم يلزمه في القضاء دم. وقال الشافعي يلزمه
لأنه يجب في القضاء ما يجب في الأداء، وهذا كان واجبا في الأداء ولنا أن الافراد أفضل من القران مع
الدم. فإذا أتى بهما فقد أتى بما هو أولى فلا يلزمه شئ كمن لزمته الصلاة بتيمم فقضى بالوضوء
(مسألة) قال (وان وطئ بعد رمي جمرة العقبة فعليه دم ويمضي إلى التنعيم فيحرم
ليطوف وهو محرم)
وفي هذه المسألة ثلاثة فصول (أحدها) أن الوطء بعد الجمرة لا يفسد الحج. وهو قول ابن عباس
وعكرمة وعطاء والشعبي وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال النخعي والزهري
وحماد عليه حج من قابل لأن الوطئ صادف احراما من الحج فأفسده كالوطئ قبل الرمي. ولنا قول النبي
صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا
فقد تم حجه وقضى تفثه " ولأنه قول ابن عباس فإنه قال في رجل أصحاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر:
ينحران جزورا بينهما، وليس عليه الحج من قابل، ولا نعرف له مخالفا في الصحابة، ولان الحج عبادة
515

لها تحللان. فوجود المفسد بعد تحلله الأول لا يفسدها كبعد التسليمة الأولى في الصلاة، وبهذا فارق
ما قبل التحلل الأول
(الفصل الثاني) أن الواجب عليه بالوطئ شاة. هذا ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه احمد،
وقول عكرمة وربيعة ومالك وإسحاق وقال القاضي فيه رواية أخرى أن عليه بدنة، وهو قول ابن
عباس وعطاء والشعبي والشافعي وأصحاب الرأي لأنه وطئ في الحج فوجبت عليه بدنة كما قيل رمي
جمرة العقبة ولنا أنه وطئ لم يفسد فلم يوجب كالوطئ دون الفرج إذا لم ينزل، ولان حكم الاحرام
خف بالتحلل الأول فينبغي أن يكون موجبه دون موجب الاحرام التام
(الفصل الثالث) أنه يفسد الاحرام بالوطئ بعد رمي الجمرة ويلزمه أن يحرم من الحل وبذلك
قال عكرمة وربيعة وإسحاق وقال ابن عباس وعطاء والشعبي والشافعي حجه صحيح ولا يلزمه الاحرام
لأنه احرام لا يفسد جميعه، فلم يفسد بعضه كما لو وطئ بعد التحلل الثاني
ولنا أنه وطئ صادف احراما، فأفسده كالاحرام التام، وإذا فسد إحرامه فعليه أن يحرم ليأتي
بالطواف في إحرام صحيح لأن الطواف ركن فيجب أن يأتي به في احرام صحيح كالوقوف ويلزمه
الاحرام من الحل لأن الاحرام ينبغي أن يجمع فيه بين الحل والحرم فلو أبحنا لهذا الاحرام من الحرم
لم يجمع بينهما لأن أفعاله كلها تقع في الحرم، فأشبه المعتمر، وإذا أحرم من الحل طاف للزيارة وسعى
إن كان لم يسع في حجه، وإن كان سعى طاف للزيارة تحلل، هذا ظاهر كلام الخرقي لأن الذي
بقي عليه بقية أفعال الحج، وإنما وجب عليه الاحرام ليأتي بها في احرام صحيح، المنصوص عن أحمد
ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر فيحتمل أنهم أرادوا هذا أيضا وسموه عمرة لأن هذا هو أفعال
العمرة ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقة فيلزمه سعي وتقصير والأول أصبح لما ذكرنا. وقول الخرقي
516

يحرم من التنعيم لم يذكره لتعيين الاحرام منه بل لأنه حل فمن أحل وأحرم جاز كالمعتمر
(فصل) ولا فرق بين من لحق ومن لم يحلق في أنه لا يفسد حجه بالوطئ بعد الرمي وعليه دم
واحرام من الحل هذا ظاهر كلام احمد والخرقي ومن سميناه من الأئمة لترتيبهم هذا الحكم على
الوطئ بعد مجرد الرمي من غير اعتبار أمر زائد
(فصل) فإن طاف للزيارة ولم يرم ثم وطئ لم يفسد حجه بحال لأن الحج قد تم أركانه كلها:
ولا يلزمه احرام من الحل فإن الرمي ليس بركن. وهل يلزمه دم؟ يحتمل أنه لا يلزمه شئ لما ذكرنا ويحتمل
أنه يلزمه لأنه وطئ قبل وجود ما يتم به التحلل فأشبه من وطئ بعد الرمي وقبل الطواف
(فصل) والقارن كالمفرد فإنه إذا وطئ بعد الرمي لم يفسد حجه ولا عمرته لأن الحكم للحج
الا ترى أنه لا يحل من عمرته قبل الطواف، ويفعل ذلك إذا كان قارنا. ولان الترتيب للحج دونها
والحج لا يفسد قبل الطواف. كذلك العمرة، وقال احمد: من وطئ بعد الطواف يوم النحر قبل أن
يركع ما عليه شئ. قال أبو طالب سألت احمد عن الرجل يقبل بعد رمي جمرة العقبة قبل أن يزور
البيت. قال ليس عليه شئ قد قضى المناسك، فعلى هذا ليس عليه فيما دون الوطئ في الفرج شئ
(مسألة) قال (ومباح لأهل السقاية والرعاة أن يرموا بالليل)
تروى هذه اللفظة الرعاة بضم الراء وإثبات الهاء مثل الدعاة القضاة. والرعاة بكسر الراء
والمد من غير هاء، وهما لغتان صحيحتان. قال الله تعالى (حتى يصدر الرعاء) وفي بعض الحديث
أرخص للرعاة أن يرموا يوما، ويدعوا يوما، وإنما أبيح لهؤلاء الرمي بالليل لأنهم يشتغلون بالنهار
برعي المواشي وحفظها، وأهل السقاية هم الذين يسقون من بئر زمزم للحاج فيشتغلون بسقايتهم
نهارا فأبيح لهم الرمي في وقت فراغهم تخفيفا عليهم فيجوز لهم رمي كل يوم في الليلة المستقبلة فيرمون
517

جمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني، ورمي الثاني في
ليلة الثالث، الثالث إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم كسقوطه عن غيرهم. قال عطاء لا يرمي بالليل
إلا رعاء الإبل فاما التجار فلا. وكان مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولون: من نسي
الرمي إلى الليل رمى ولا شئ عليه، من الرعاة ومن غيرهم
(مسألة) (ومباح للرعاء أن يؤخروا الرمي فيقضوه في الوقت الثاني)
وجملة ذلك أنه يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى، ويؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم
النفر الأول عن الرميين جميعا لما عليهم من المشقة في المبيت والإقامة للرمي، وقد روى مالك عن
عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء
الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما قال مالك
ظننت أنه في أول يوم منهما ثم يرمون يوم النفر. رواه ابن ماجة والترمذي، وقال حديث حسن
صحيح رواه ابن عيينة قال: رخص للرعاء أن يرموا يوما، ويدعوا يوما، وكذلك الحكم في أهل
سقاية الحاج، وقد روى ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته
متفق عليه إلا أن الفرق بين الرعاء، وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس فقد
انقضى وقت الرعي، وأهل السقاية يشتغلون ليلا ونهارا فافترقا، وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له
ترك الجمعة لمرضه فإذا حضرها تعينت عليه. والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي فإذا
فات وقته وجب المبيت
518

(فصل) وأهل الاعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء
في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهؤلاء تنبيها على غيرهم أو تقول نص عليه لمعنى
وجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم
(فصل) إذا كان الرجل مريضا أو محبوسا أو له عذر جاز أن يستنيب من يرمي عنه. قال الأثرم
قلت لأبي عبد الله إذا رمى عنه الجمار يشهد هو ذاك أو يكون في رحله؟ قال يعجبني أن يشهد ذاك ان قدر
حين يرمي عنه، قلت فإن ضعف عن ذلك أيكون في رحله ويرمي عنه؟ قال نعم، قال القاضي: المستحب أن
يضع الحصى في يد النائب ليكون له عمل في الرمي وان أغمي على المستنيب لم تنقطع النيابة وللنائب الرمي
عنه كما لو استنابه في الحج ثم أغمي عليه وبما ذكرناه في هذه المسألة قال الشافعي ونحوه قال مالك إلا
أنه قال يتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات
(فصل) ومن ترك الرمي من غير عذر فعليه دم قال أحمد أعجب إلي إذا ترك الأيام كلها كان عليه
دم، وفي ترك جمرة وحدة دم أيضا نص عليه أحمد وبهذا قال عطاء والشافعي وأصحاب الرأي وحكي
عن مالك ان عليه في جمرة أو الجمرات كلها بدنة. قال الحسن من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين
ولنا قول ابن عباس من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم ولأنه ترك من مناسكه مالا يفسد الحج
بتركه فكان الواجب عليه شاة كالمبيت. وإن ترك أقل من جمرة فالظاهر عن أحمد انه لا شئ عليه في
حصاة ولا في حصاتين. وعنه انه يجب الرمي بسبع فإن ترك شيئا من ذلك تصدق بشئ أي شئ كان
وعنه ان في حصاة دما وهو مذهب مالك والليث لأن ابن عباس قال: من ترك شيئا من مناسكه فعليه
دم وعنه في الثلاثة دم وهو مذهب الشافعي، وفيما دون ذلك في كل حصاة مد وعنه درهم وعنه نصف
درهم. وقال أبو حنيفة ان ترك جمرة العقبة أو الجمار كلها فعليه دم وان ترك غير ذلك فعليه في كل حصاة
519

نصف صاع إلى أن يبلغ دما وقد ذكرنا ذلك، وآخر وقت الرمي آخر أيام التشريق فمتى خرجت قبل
رميه فات وقته واستقر عليه الفداء الواجب في ترك الرمي هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن عطاء
فيمن رمى جمرة العقبة ثم خرج إلى إبله في ليلة أربع عشرة ثم رمى قبل طلوع الفجر فإن لم يرم هراق دما
والأول أولى لأن محل الرمي النهار فيخرج وقت الرمي بخروج النهار والله أعلم
باب الفدية وجزاء الصيد
(مسألة) قال (ومن حلق أربع شعرات فصاعدا عامدا أو مخطئا فعليه صيام ثلاثة أيام
أو اطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين أو ذبح شاة أي ذلك فعل أجزأه)
الكلام في هذه المسألة في ستة فصول (الأول) ان على المحرم فدية إذا حلق رأسه ولا خلاف في ذلك
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة والأصل في ذلك قول
الله تعالى (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية
من صيام أو صدقة أو نسك) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة " لعلك أذاك هو أمك؟ " قال نعم يا رسول
الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة " متفق
عليه. وفي لفظ " أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر " ولا فرق في ذلك بين إزالة
الشعر بالحلق أو النورة أو قصبة أو غير ذلك لا نعلم فيه خلافا
(الفصل الثاني) انه لا فرق بين العامد والمخطئ ومن له عذر ومن لا عذر له في ظاهر المذهب وهو قول
الشافعي ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر لا فدية على الناسي وهو قول إسحاق وابن المنذر لقوله عليه
520

السلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان " ولنا انه إتلاف فاستوى عمده وخطأه كقتل الصيد ولان الله
تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير
المعذور ودليلا على وجوبها على المعذور بنوع آخر مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه أو شعرا عن
شجته، وفي معنى الناسي النائم الذي يقلع شعره أو يصوب شعره إلى تنور فيحرق لهب النار شعره ونحو ذلك
(الفصل الثالث) ان الفدية حي إحدى الثلاثة المذكورة في الآية والخبر أيها شاء فعل لأنه أمر
بها بلفظ التخيير ولا فرق في ذلك بين المعذور وغيره والعامد والمخطئ وهو مذهب مالك والشافعي
وعن أحمد انه إذا حلق لغير عذر فعليه الدم من غير تخيير وهو مذهب أبي حنيفة لأن الله تعالى خير
بشرط العذر فإذا عدم الشرط وجب زوال التخيير. ولنا أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه
تبعا له والتبع لا يخالف أصله ولان كل كفارة ثبت التخيير فيها إذا كان سببها مباحا ثبت كذلك إذا كان
محظورا كجزاء الصيد ولا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله أو لغير ذلك وإنما الشرط لجواز الحلق لا التخيير
(الفصل الرابع) القدر الذي يجب به الدم أربع شعرات فصاعدا، وفيه رواية أخرى يجب في
الثلاث ما في حلق الرأس. قال القاضي هو المذهب وهو قول الحسن وعطاء وابن عيينة والشافعي وأبي ثور
لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق (1) فجاز أن يتعلق به الدم كالربع. وقال أبو حنيفة لا يجب الدم
بدون ربع الرأس لأن الربع يقوم مقام الكل، ولهذا إذا رأى رجلا يقول رأيت فلانا وإنما رأى إحدى
جهاته. وقال مالك: إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم. ووجه كلام الخرقي ان
الأربع كثير فوجب به الدم كالربع فصاعدا أما الثلاثة فهي آخر القلة وآخر الشئ منه فأشبه الشعرة
والشعرتين والاستدلال بأن الربع يقع عليه اسم الكل غير صحيح فإن ذلك لا يتقيد بالربع وإنما
هو مجاز يتناول الكثير والقليل
(الفصل الخامس) ان شعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية لأن شعر غير الرأس يحصل
521

بحلقه الترفه والتنظيف فأشبه الرأس فإن حلق من شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة وان كثر،
وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد، هذا ظاهر كلام الخرقي واختيار
أبي الخطاب ومذهب أكثر الفقهاء وذكر أبو الخطاب ان فيها روايتين (إحداهما) كما ذكرناه (والثانية)
إذا قلع من شعر رأسه وبدنه ما يجب الدم بكل أحد منهما منفردا ففيهما دمان وهو الذي ذكره
القاضي وابن عقيل لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل به دون البدن ولنا أن الشعر كله جنس
واحد في البدن فلم تتعد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن وكاللباس، ودعوى الاختلاف
تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس دون غيره، والجزاء في اللبس فيهما واحد
(الفصل السادس) ان الفدية الواجبة بحلق الشعر هي المذكورة في حديث كعب بن عجرة بقول
النبي صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاغ أو انسك
شاة " وفي لفظ " أو أطعم فرقا بين ستة مساكين " متفق عليه وفي لفظ " أو أطعم ستة مساكين بين كل
مسكينين صاع " وفي لفظ " فصم ثلاثة أيام وان شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين "
رواه كله أبو داود. وبهذا قال مجاهد والنخعي وأبو مجاز والشافعي ومالك وأصحاب الرأي. وقال
الحسن وعكرمة ونافع: الصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين. ويروى ذلك عن الثوري وأصحاب
الرأي قالوا: يجزئ من البر نصف صاع لكل مسكين، ومن التمر والعشير صاع صاع واتباع السنة أولى
522

(فصل) ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية لأن كل موضع أجزأ فيه التمر أجزأ فيه ذلك
كالفطرة وكفارة اليمين. وقد روى أبو داود في حديث كعب بن عجرة قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال لي " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو انسك شاة " رواه
أبو داود ولا يجزئ من هذه الأصناف أقل من ثلاثة آصع الا البر ففيه روايتان (إحداهما) مد من
بر لكل مسكين مكان نصف صاع من غيره كما في كفارة اليمين (والثانية) لا يجزئ الا نصف صاع
لأن الحكم ثبت فيه بطريق التنبيه أو القياس، والفرع يماثل أصله ولا يخالفه وبهذا قال مالك والشافعي
(فصل) وإذا حلق ثم حلق فالواجب فدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني فإن كفر
عن الأول ثم حلق ثانيا فعليه للثاني كفارة أيضا. وكذلك الحكم فيما إذا لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب أو كرر من محظورات الاحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها ولا يتقدر بقدرها، فأما
ما يتقدر الواجب بقدره وهو اتلاف الصيد ففي كل واحد منها جزاؤه، وسواء فعله مجتمعا أو متفرقا
ولا تداخل فيه ففعل المحظورات متفرقا كفعلها مجتمعة في الفدية ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني
وعن أحمد انه ان كرره لأسباب مثل ان لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض فكفارات. وإن كان
لسبب واحد فكفارة واحدة. وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك
لعلة واحدة قلت له فإن اعتل فلبس جبة ثم برأ ثم اعتل فلبس جبة فقال هذا الآن عليه كفارتان
وعن الشافعي كقولنا وعنه لا يتداخل، وقال مالك تتداخل كفارة الوطئ دون غيره، وقال أبو حنيفة:
ان كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة، وإن كان في مجالس فكفارات لأن حكم المجلس الواحد
حكم الفعل الواحد بخلاف غيره
ولنا أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقيب بعض يجب أن يتداخل، وان تفرق كالحدود وكفارة
الايمان، ولان الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو في دفعات،
والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن الا شيئا بعد شئ
523

(فصل) فأما جزاء الصيد فلا يتداخل ويجب في كل صيد جزاؤه سواء وقع متفرقا أو في حال واحدة
وعن أحمد أنه يتداخل قياسا على سائر المحظورات ولا يصح لأن الله تعالى قال (فجزاء مثل ما قتل من
النعم) ومثل الصيدين لا يكون أحدهما، ولأنه لو قتل صيدين دفعة واحدة وجب جزؤهما فإذا تفرقا أولى
أن يجب لأن حالة التفريق لا تنقص عن حالة الاجتماع كسائر المحظورات
(فصل) إذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره فلا فدية عليه وبذلك قال عطاء ومجاهد
وعمرو بن دينار والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال يتصدق
بدرهم وقال أبو حنيفة يلزمه صدقة لأنه أتلف شعر آدمي فأشبه شعر المحرم. ولنا أنه شعر مباح الاتلاف
فلم يجب باتلافه شئ كشعر بهيمة الأنعام
(فصل) وان حلق محرم رأس محرم بأذنه فالفدية على من حلق رأسه، وكذلك أن حلقه حلال
باذنه لأن الله تعالى قال (ولا تحلقوا رءوسكم) وقد علم أن غيره هو الذي يحلقه فأضاف الفعل إليه
وجعل الفدية عليه، وان حلقه مكرها أو نائما فلا فدية على المحلوق رأسه وبهذا قال إسحاق وأبو ثور
وابن القاسم صاحب مالك وابن المنذر. وقال أبو حنيفة على المحلوق رأسه الفدية وعن الشافعي كالمذهبين.
ولنا انه يحلق رأسه ولم يحلق باذنه فأشبه ما لو انقطع الشعر بنفسه، إذا ثبت هذا فإن الفدية على
الحالق حراما كان أو حلالا، وقال أصحاب الرأي على الحلال صدقة وقال عطاء عليهما الفدية. ولنا أنه
أزال ما منع من ازالته لأجل الاحرام فكانت عليه فديته كالمحرم يحلق رأس نفسه
(فصل) إذا قلع جلدة عليها شعر فلا فدية عليه لأنه أزال تابعا لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع
أشفار عيني انسان فإنه لا يضمن أهدابهما
(فصل) وإذا خلل شعره فسقطت شعرة، فإن كانت ميتة فلا فدية فيها، وان كانت من شعره
النابت ففيها الفدية وان شك فيها فلا فدية فيها لأن الأصل نفي الضمان إلى أن يحصل يقين
(مسألة) قال (وفي كل شعرة من الثلاث مد من طعام)
524

يعني إذا حلق دون الأربع فعليه في كل شعرة مد من طعام، وهذا قول الحسن وابن عيينة
والشافعي فيما دون الثلاث، وعن أحمد في الشعرة درهم، وفي الشعرتين درهمان، وعنه في كل شعرة
قبضة من طعام، وروي ذلك عن عطاء ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي. قال مالك: عليه فيما قل
من الشعر اطعام طعام، وقال أصحاب الرأي يتصدق بشي، لأنه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل
ما يقع عليه اسم الصدقة. وعن مالك فيمن أزال شعرا لا ضمان عليه لأن النص إنما أوجب الفدية في
حلق الرأس كله فألحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس. ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد.
والأولى أن يجب الاطعام لأن الشارع إنما عدل عن الحيوان إلى الطعام في جزاء الصيد، وههنا أوجب
الاطعام مع الحيوان على وجه التخيير فيجب أن يرجع إليه فيما لا يجب فيه الدم، ويجب مد لأنه أقل
ما وجب بالشرع فدية فكان واجبا في أقل الشعر، والطعام الذي يجزئ فيه اخراجه وهو ما يجزئ
في حلق الرأس ابتداء من البر والشعير والتمر والزبيب كالذي يجب في الأربع
(فصل) ومن أبيح له حلق رأسه لأذى به فهو مخير في الفدية قبل الحلق وبعده نص عليه احمد
لما روي عن الحسين بن علي اشتكى رأسه فأتي علي فقيل له: هذا الحسين يشير إلى رأسه فدعا بجزور
فنحرها ثم حلقه وهو بالسعياء. رواه أبو إسحاق الجوزجاني، ولأنها كفارة فجاز تقديمها على
وجوبها ككفارة الظهار واليمين
(مسألة) (قال وكذلك الأظفار)
قال ابن المنذر، وأجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره وعليه الفدية بأخذها
في قول أكثرهم وهو قول حماد ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء
وعنه لا فدية عليه لأن الشرع لم يرد فيه بفدية
ولنا أنه أزال ما منع ازالته لأجل الترفه فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص فيه
لا يمنع قياسه عليه كشعر البدن من شعر الرأس والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء في أربعة
525

منها دم، وعنه في ثلاثة دم، وفي الظفر الواحد مد من طعام، وفي الظفرين مدان على ما ذكرنا من
التفصيل والاختلاف فيه. وقول الشافعي وأبي ثور كذلك، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم الا بتقليم
أظفار يد كاملة حتى لو قلم من كل يد أربعة لا يجب عليه الدم لأنه لم يستكمل منفعة اليد أشبه الظفر
والظفرين. ولنا أنه قلم ما يقع عليه اسم الجمع أشبه ما لو قلم خمسا من يد واحدة، وما قالوه يبطل بما إذا
حلق ربع رأسه فإنه لم يستوف منفعة العضو ويجب به الدم، وقولهم يؤدي إلى أن يجب به الدم في القليل
دون الكثير. إذا ثبت هذا فإنه يتخير من قلم ما يجب به الدم بين الثلاثة أشياء كما قلنا في الشعر لأن
الايجاب في الأظفار بالالحاق بالشعر فيكون حكم الفرع حكم أصله ولا يجب فيما دون الأربعة أو الثلاثة
بقسطه من الدم لأن العبادة إذا وجب فيها الحيوان لم يجب فيها جزء منه كالزكاة
(فصل) وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وكذلك في قطع بعض الشعرة مثل ما في قطع جميعها
لأن الفدية تجب في الشعرة والظفر سواء أطال أو قصر وليس بمقدر بمساحة فيتقدر الضمان عليه بل
هو كالموضحة يجب في الصغيرة منها مثلما يجب في الكبيرة وخرج ابن عقيل وجها أنه يجب بحساب
المتلف كالإصبع يجب في أنملتها ثلث ديتها والله أعلم
(مسألة) قال (وان تطيب المحرم عامدا غسل الطيب وعليه دم وكذلك أن لبس المخيط
أو الخف عامدا وهو يجد النعل خلع وعليه دم)
لا خلاف في وجوب الفدية على المحرم إذا تطيب أوليس عامدا لأنه ترفه بمحظور في احرامه
فلزمته الفدية كما لو ترفه بحلق شعره أو قلم ظفره والواجب عليه أن يفديه بدم ويستوي في ذلك قليل
الطيب وكثيره. وقليل اللبس وكثيره وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب الدم الا بتطيب
عضو كامل وفي اللباس بلباس يوم وليلة ولا شئ فيما دون ذلك لأنه لم يلبس لبسا معتادا فأشبه ما لو
أئتزر بالقميص. ولنا أنه متى حصل به الاستمتاع بالمحظورات فاعتبر مجرد الفعل كالوطئ محظورا فلا
526

تتقدر فديته بالزمن كسائر المحضورات، وما ذكره غير صحيح فإن الناس يختلفون في اللبس في
العادة، ولان ما ذكره تقدير والتقديرات بابها التوقيف، وتقديرهم بعضو ويوم وليلة تحكم محض
وأما إذا ائتزر بقميص فليس ذلك بلبس مخيط ولهذا لا يحرم عليه والمختلف فيه محرم
(فصل) ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس لأنه فعل محظورا فيلزمه ازالته وقطع استدامته كسائر
المحظورات والمستحب أن يستعين في الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه، ويجوز أن
يليه بنفسه ولا شئ عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا " اغسل عنك الطيب "
ولأنه تارك له فإن لم يجد ما يغسله به مسحه بخرقة أو حكه بتراب أو ورق أو حشيش لأن الذي عليه
إزالته بحسب القدرة وهذا نهاية قدرته
(فصل) إذا احتاج إلى الوضوء وغسل الطيب ومعه ماء لا يكفي الا أحدهما قدم غسل الطيب،
ويتيمم للحدث لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة فإن قدر على قطع رائحة
الطيب بغير الماء فعل وتوضأ لأن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته فلا يتعين الماء والوضوء بخلافه
(فصل) إذا لبس قميصا وعمامة وسراويل وخفين لم يكن عليه إلا فدية واحدة لأنه محظور
من جنس واحد فلم يجب فيه أكثر من فدية واحدة كالطيب في بدنه ورأسه ورجليه
(فصل) وإن فعل محظورا من أجناس فحلق ولبس وتطيب ووطئ فعليه لكل واحد
فدية سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا وهذا مذهب الشافعي، وعن أحمد أن في الطيب واللبس
والحلق فدية واحدة، وان فعل ذلك واحدا بعد واحد فعليه لكل واحد دم، وهو قول إسحاق
وقال عطاء وعمرو بن دينار إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما ففعل ذلك فليس
عليه إلا فدية وقال الحسن إن لبس القميص وتعمم وتطيب فعل ذلك جميعا فليس عليه الا كفارة
واحدة ونحو ذلك عن مالك. ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود
المختلفة والايمان المختلفة وعكسه ما إذا كان من جنس واحد
527

(مسألة) قال (وان لبس أو تطيب ناسيا فلا فدية عليه، ويخلع اللباس ويغسل
الطيب ويفرغ إلى التلبية)
المشهور في المذهب أن المتطيب أو اللابس ناسيا أو جاهلا لا فدية عليه. وهو مذهب عطاء
والثوري وإسحاق وابن المنذر، وقال احمد قال سفيان ثلاثة في الجهل والنسيان سواء إذا أتى أهله
وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه، قال احمد وإذا جامع أهله بطل حجه لأنه شئ لا يقدر على رده
والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده، والشعر إذا حلقه فقد ذهب فهذه الثلاثة العمد والخطأ
والنسيان فيها سواء. وكل شئ من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم
ذكر ألقاه عن رأسه وليس عليه شئ أو لبس خفا نزعه وليس عليه شئ، وعنه رواية أخرى أن عليه
الفدية في كل حال وهو مذهب مالك والليث والثوري وأبي حنيفة لأنه هتك الاحرام فاستوى
عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأظفار
ولنا عموم قوله عليه السلام " عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وروى يعلى
أبن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق أو قال أثر صفرة
فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال " اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر
هذا الخلوق " أو قال " أثر الصفرة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك " متفق عليه. وفي لفظ
قال يا رسول الله أحرمت بالعمرة وعلي هذه الجبة فلم يأمره بالفدية مع مسئلته عما يصنع وتأخير
البيان عن وقت الحاجة غير جائز اجماعا دل على أنه عذره لجهله والجاهل والناسي واحد ولان الحج
عبادة يجب بافسادها الكفارة فكان من محظوراته أنه ما يفرق بين عمده وسهوه كالصوم فأما الحلق
وقتل الصيد فهو اتلاف لا يمكن رد تلافيه بإزالته، إذا ثبت هذا فإن الناسي متى ذكر فعليه غسل الطيب
وخلع اللباس في الحال. فإن أخر ذلك عن زمن الامكان فعليه الفدية فإن قيل فلم لا يجوز له استدامة
528

الطيب ههنا كالذي يتطيب قبل احرامه قلنا لأن ذلك فعل مندوب إليه فكان له استدامته وههنا
هو محرم وإنما سقط حكمه بالنسيان أو الجهل فإذا زال ظهر حكمه، وان تعذر عليه ازالته لاكراه أو علة
ولم يجد من يزيله وما أشبه ذلك فلا فدية عليه، وجرى مجرى المكره على الطيب ابتداء، وحكم الجاهل
إذا علم حكم الناسي إذا ذكر، وحكم المكره حكم الناسي فإذا ما عفي عنه بالنسيان عفي عنه بالاكراه
لأنهما قرينان في الحديث الدال على العفو عنهما وقول الخرقي ينزع إلى التلبية أي يلبي حين ذكر استذكارا
للحج أنه نسيه واستشعارا بإقامته عليه ورجوعه إليه وهذا قول يروي عن إبراهيم النخعي
(مسألة) قال (ولو وقف بعرفة نهارا أو دفع قبل الإمام فعليه دم)
وجملة ذلك أن من وقف بعرفة يوم عرفة نهارا وجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع
بين الليل والنهار في الوقوف فإن دفع قبل الغروب ولم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم، وقال
الشافعي لا يجب ذلك، ولا دم عليه ان دفع قبل الغروب احتجاجا بحديث عروة بن مضرس ولأنه
أدرك من الوقوف ما أجزأه أشبه ما لو أدرك الليل منفردا
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس بغير خلاف وقد قال " خذوا عني مناسككم "
فإذا تركه لزمه دم لقول ابن عباس ولأنه ركن لم يأت به على الوجه المشروع فلزمه دم كما لو أحرم
من دون الميقات، وحديثهم دل على الاجزاء والكلام في وجوب الدم فأما إذا وقف في الليل خاصة
فإنه يجزئه ولا يلزمه دم لأن من أدرك الليل وحده لا يمكنه الوقوف نهارا فلا يتعين عليه ولا يجب
عليه بتركه دم بخلاف من أدرك نهارا. وأما قوله: أو دفع قبل الإمام فظاهر أنه أوجب بذلك دما
وان دفع قبل الغروب. وقد روى الأثرم عن أحمد قال: سمعته يسأل عن رجل دفع قبل الإمام من
عرفة بعد ما غابت الشمس. فقال: ما وجدت أحدا سهل فيه كلهم يشدد فيه. قال: وما يعجبني أن يدفع
الا مع الإمام، وعن عطاء عليه شاة إذا دفع قبل الإمام. قيل فيدفع من مزدلفة قبل الإمام؟ فقال
529

المزدلفة عندي غير عرفة. وذكر حديث ابن عمر أنه دفع قبل ابن الزبير، وغير الخرقي من أصحابنا
لم يوجب بذلك شيئا، ولا عد الدفع مع الإمام من الواجبات، وهو الصحيح فإن اتباع الإمام وأفعال
النسك معه ليس بواجب في سائر مناسك الحج فكذا ههنا، وإنما وقع دفع الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم
بحكم العادة فلا يدل على الوجوب كالدفع معه من مزدلفة والإفاضة من منى، وغير ذلك وليس ذلك
فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم "
(مسألة) قال (ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل من غير الرعاة وأهل سقاية الحاج فعليه دم)
وجملة ذلك أن المبيت بمزدلفة واجب يجب بتركه دم سواء تركه عمدا أو خطأ عالما أو جاهلا
لأنه ترك نسكا وللنسيان أثره في ترك الموجود كالمعدوم لا في جعل المعدوم كالموجود إلا أنه رخص
لأهل السقاية ورعاة الإبل في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك البيتوتة في حديث
عدي، وأرخص للعباس في المبيت لأجل سقايته. ولان عليهم مشقة في المبيت لحاجتهم إلى حفظ
مواشيهم وسقي الحاج فكان لهم ترك المبيت فيها كليالي منى ولأنها ليلة يرمي في غدها فكان لهم ترك
المبيت فيها كليالي منى، وروى عن أحمد ان المبيت بمزدلفة غير واجب ولا شئ على تاركه والأول المذهب
(مسألة) قال (ومن قتل وهو محرم من صيد البر عامدا أو مخطئا فداه بنظيره
من النعم إن كان المقتول دابة)
في هذه المسألة فصول ستة (الأول) في وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الجملة واجمع أهل
العلم على وجوبه ونص الله تعالى عليه بقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم. ومن قتله منكم
متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) ولا نعلم أحدا خالف في الجزاء في قتل الصيد متعمدا إلا الحسن
ومجاهدا قالا: إذا قتله متعمدا ذاكرا لاحرامه لا جزاء عليه وإن كان مخطئا أو ناسيا لاحرامه فعليه
530

الجزاء وهذا خلاف النص فإن الله تعالى قال (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم)
والذاكر لاحرامه متعمد. وقال في سياق الآية (ليذوق وبال أمره) والمخطئ والناسي لا عقوبة عليه،
وقتل الصيد نوعان: مباح ومحرم، فالمحرم قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء. والمباح
ثلاثة أنواع (أحدها) أن يضطر إلى أكله فيباح له ذلك بغير خلاف نعلمه فإن الله تعالى قال (ولا
تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وترك الاكل مع القدرة عند الضرورة إلقاء بيده إلى التهلكة، ومتى
قتله ضمنه سواء وجد غيره أو لم يجد وقال الأوزاعي لا يضمنه لأنه مباح أشبه صيد البحر
ولنا عموم الآية ولأنه قتله من غير معنى يحدث من الصيد يقتضي قتله فضمنه كغيره ولأنه أتلفه
لدفع الأذى عنه لا لمعنى فيه أشبه حلق الشعر لأذى برأسه
(النوع الثاني) إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه وبهذا قال
الشافعي. وقال أبو بكر عليه الجزاء وهو قول أبي حنيفة لأنه قتله لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله
ولنا انه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي الصائل ولأنه التحق بالمؤذيات طبعا فصار
كالكلب العقور ولا فرق بين أن يخشي منه التلف أو يخشى منه مضرة كجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته
(النوع الثالث) إذا خلص صيدا من سبع أو شبكة صياد أو أخذه ليخلص من رجله خيطا
ونحوه فتلف بذلك فلا ضمان عليه وبه قال عطاء وقيل عليه الضمان وهو قول قتادة لعموم الآية ولان
غاية ما فيه انه عدم القصد إلى قتله فأشبه قتل الخطأ
ولنا انه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي الصبي فمات بذلك
وهذا ليس بمتعمد فلا تتناوله الآية
(الفصل الثاني) انه لافرق بين الخطأ والعمد في قتل الصيد في وجوب الجزاء على إحدى الروايتين
وبه قال الحسن وعطاء والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الزهري على المتعمد
بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة. والرواية الثانية لا كفارة في الخطأ وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير
531

وطاوس وابن المنذر وداود لأن الله تعالى قال (ومن قتله منكم متعمدا) فدليل خطابه انه لاجزاء
على الخاطئ لأن الأصل براءة الذمة فلا يشغلها إلا بدليل، ولأنه محظور للاحرام لا يفسده فيجب
التفريق بين خطأه وعمده كاللبس والطيب ووجه الأولى قول جابر جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع
يصيده المحرم كبشا وقال عليه السلام في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه ولم يفرق. رواهما ابن ماجة. ولأنه
ضمان اتلاف استوى عمده وخطؤه كمال الآدمي
(الفصل الثالث) ان الجزاء لا يجب إلا على المحرم ولا فرق بين احرام الحج وإحرام العمرة
لعموم النص فيهما. ولا خلاف في ذلك ولا فرق بين الاحرام بنسك واحد وبين الاحرام بنسكين وهو
القارن لأن الله تعالى لم يفرق بينهما (الفصل الرابع) ان الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد لأنه الذي ورد به النص بقوله تعالى
(لا تقتلوا الصيد) والصيد ما جمع ثلاثة أشياء وهو أن يكون مباحا أكله لا مالك له ممتنعا فيخرج بالوصف
الأول كل ما ليس بمأكول لا جزاء فيه كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر
المحرمات. قال أحمد إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله. وقال كل ما يؤذي إذا أصابه المحرم
يؤكل لحمه وهذا قول أكثر أهل العلم الا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسبع
المتولد من الضبع والذئب تغليبا لتحريم قتله كما علقوا التحريم في أكله، وقال بعض أصحابنا في أم حبين
جدي وأم حبين دابة منتفخة البطن فهذا خلاف القياس فإن أم حبين لا تؤكل لكونها مستخبثة عند العرب
حكي ان رجلا من العرب سئل ما تأكلون؟ قال أدب ودرج الا أم حبين. فقال السائل ليهن أم حبين
العافية. وإنما تبعوا فيها قضية عثمان رضي الله عنه فإنه قضى فيها بحلاق وهو الجدي والصحيح أنه لا شئ
فيها. وفي القمل روايتان ذكرناهما فيما مضى والصحيح أنه لا شئ فيه لأنه غير مأكول وهو من
المؤذيات ولا مثل له ولا قيمة، قال ميمون بن مهران كنت عند عبد الله بن عباس فسأله رجل فقال:
أخذت قملة فألقيتها ثم طلبتها فلم أجدها فقال ابن عباس تلك ضالة لا تبتغى. وقال القاضي إنما الروايتان
532

فيما أزاله من شعره فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه فلا شئ عليه رواية واحدة. ومن أوجب فيه
الجزاء قال أي شئ تصدق به فهو خير. واختلفت الرواية في الثعلب فعنه فيه الجزاء وبه قال طاوس
وقتادة ومالك والشافعي وقال هو صيد يؤكل وفيه الجزاء وعن أحمد لا شئ فيه وهو قول الزهري
وعمرو بن دينار وأبن أبي نجيح وابن المنذر واختلف فيه عن عطاء لأنه سبع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن كل ذي ناب من السباع. وإذا أوجبنا فيه الجزاء ففيه شاة لأنه روي ذلك عن عطاء. واختلفت
الرواية في السنور أهليا كان أو وحشيا والصحيح انه لاجزاء فيه وهو اختيار القاضي لأنه سبع وليس
بمأكول، وقال الثوري وإسحاق في الوحشي حكومة ولا شئ في الأهلي لأن الصيد ما كان وحشيا.
واختلفت الرواية في الهدهد والصرد لاختلاف الروايتين في إباحتهما وكل ما اختلف في إباحته يختلف
في جزائه فأما ما يحرم فالصحيح أنه لا جزاء فيه لأنه مخالف للقياس ولا نص فيه
(الوصف الثاني) أن يكون وحشيا وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله كبهيمة الأنعام
كلها والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال
فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء، وكذلك وجب الجزاء في الحمام أهليه ووحشيه اعتبارا بأصله
ولو توحش الأهلي لم يجب فيه شئ. قال أحمد في بقرة صارت وحشية لا شئ فيها لأن الأصل فيها
الانسي، وان تولد من الوحشي والأهلي ولد ففيه الجزاء تغليبا للتحريم كقولنا في المتولد بين المباح
والمحرم، واختلفت الرواية في الدجاج السندي هل فيه جزاء؟ على روايتين وروى مهنا عن أحمد في
البط يذبحه المحرم إذا لم يكن صيدا والصحيح انه يحرم عليه ذبحه وفيه الجزاء لأن الأصل فيه الوحشي فهو كالحمام
(الفصل الخامس) ان الجزاء إنما يجب في صيد البر دون صيد البحر بغير خلاف لقول الله
تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) قال
ابن عباس طعامه ما لفظه، ولا فرق بين حيوان البحر الملح وبين ما في الأنهار والعيون فإن اسم البحر
533

يتناول الكل قال الله تعالى (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج،
ومن كل تأكلون لحما طريا) ولان الله تعالى قابله بصيد البر بقوله (وحرم عليكم صيد البر) فدل على
أن ما ليس من صيد البر فهو من صيد البحر، وحيوان البحر ما كان يعيش في الماء ويفرخ ويبيض فيه،
فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء كالسمك ونحوه فهذا مما لا خلاف فيه، وإن كان مما يعيش في البر
كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لاجزاء فيه، وقال عطاء فيه الجزاء وفي الضفدع وكل ما يعيش في البر
ولنا أنه يفرخ في الماء ويبيض فيه فكان من حيوانه كالسمك، فأما طير الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل
العلم منهم الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم لا نعلم فيه مخالفا غير ما حكي عن عطاء أنه قال:
حيثما يكون أكثر فهو من صيده، ولنا ان هذا إنما يفرخ في البر ويبيض فيه وإنما يدخل الماء ليعيش فيه
ويكتسب منه فهو كالصياد من الآدميين، واختلفت الرواية في الجراد فعنه هو من صيد البحر لا جزاء
فيه وهو مذهب أبي سعيد، قال ابن المنذر قال ابن عباس وكعب هو من صيد البحر وقال عروة هو
نثرة حوت، وروي عن أبي هريرة قال. أصحابنا ضرب من جراد فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو
محرم فقيل إن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " هذا من صيد البحر " وعنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجراد من صيد البحر " رواهما أبو داود، وروي عن أحمد انه من صيد البر وفيه
الجزاء وهو قول الأكثرين لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لكعب في جرادتين: ما جعلت في
نفسك؟ قال درهمان، قال بخ درهمان خير من مائة جرادة، رواه الشافعي في مسنده ولأنه طير يشاهد
طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه فأشبه العصافير. فأما الحديثان اللذان ذكرناهما للرواية الأولى
فوهم قاله أبو داود. فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه لامثل له وهو قول الشافعي وعن أحمد يتصدق بتمرة
عن الجرادة وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر وقال ابن عباس قبضة من طعام. قال القاضي هذا
محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما أرادوا ان فيه
أقل شئ. وان افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه على وجه لم يمكنه التحرز منه ففيه وجهان
534

(أحدهما) وجوب جزائه لأنه أتلفه لنفع نفسه فضمنه كالمضطر يقتل صيدا يأكله (والثاني) لا يضمنه
لأنه اضطره إلى اتلافه أشبه ما لو صال عليه
(الفصل السادس) ان جزاء ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم. هذا قول أكثر أهل العلم منهم
الشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة ويجوز فيها المثل لأن الصيد ليس بمثلي، ولنا قول الله تعالى
(فجزاء مثل ما قتل من النعم) وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشا وأجمع الصحابة على ايجاب المثل فقال
عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية في النعامة بدنة، وحكم أبو عبيد وابن عباس
في حمار الوحش ببدنة، وحكم عمر فيه ببقرة وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة، وإذا حكموا بذلك في
الأزمنة المختلفة والبلدان المتفرقة دل ذلك على أنه ليس على وجه القيمة، ولأنه كان على وجه القيمة
لاعتبر واصفة المتلف التي تختلف بها القيمة إما برؤية أو اخبار، ولم ينقل عنهم السؤال عن ذلك حال
الحكم، ولأنهم حكموا في الحمام بشاة ولا يبلغ قيمة شاة في الغالب. إذا ثبت هذا فليس المراد حقيقة
المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة، والمتلف من الصيد قسمان (أحدهما)
قضت فيه الصحابة فيجب فيه ما قضت وبهذا قال عطاء والشافعي وإسحاق، وقال مالك: يستأنف
الحكم فيه لأن الله تعالى قال (يحكم به ذوا عدل منكم) ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم " وقال " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ولأنهم أقرب إلى الصواب
وأبصر بالعلم فكان حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي، والذي بلغنا قضاؤهم في الضبع كبش قضى
به عمر وعلي وجابر وابن عباس. وفيه عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشا
رواه أبو داود وابن ماجة، وروي عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " في الضبع كبش إذا أصاب المحرم
وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة " قال أبو الزبير الجفرة التي قد فطمت ورعت
رواه الدارقطني. قال أحمد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش، وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور
وابن المنذر، وقال الأوزاعي إن كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ويكرهون أكلها وهو القياس لا
535

أن اتباع السنة والآثار أولى، وفي حمار الوحش بقرة روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال عروة
ومجاهد والشافعي وعن أحمد فيه بدنة، روي ذلك عن أبي عبيدة وابن عباس وبه قال عطاء والنخعي
وفي بقرة الوحش بقرة روي ذلك عن ابن مسعود وعطاء وعروة وقتادة والشافعي، والإبل فيه بقرة
قاله ابن عباس، قال أصحابنا في الوعل والتيثل بقرة كالإبل، والأروى فيه بقرة قال ذلك بن عمر، وقال
القاضي فيها عصب وهي من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه ولم يبلغ أن يكون جذعا، وحكي
ذلك عن الأزهري، وفي الظبي شاة ثبت ذلك عن عمر، وروي عن علي وبه قال عطاء وعروة والشافعي
وابن المنذر ولا نحفظ عن غيرهم خلافهم، وفي الوبر شاة روي ذلك عن مجاهد وعطاء، وقال القاضي فيه
جفرة لأنه ليس بأكبر منها وكذلك قال الشافعي ان كانت العرب تأكله، والجفرة من أولاد المعز ما أتى
عليها أربعة أشهر وفصلت عن أمها والذكر جفر، وفي اليربوع جفرة قال ذلك عمر رضي الله عنه وروي
ذلك عن ابن مسعود وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور، وقال النخعي فيه ثمنه وقال مالك قيمته طعاما،
وقال عمرو بن دينار ما سمعنا ان الضب واليربوع يوديان، واتباع الآثار أولى، وفي الضب جدي قضى
به عمر وأربد وبه قال الشافعي، وعن أحمد فيه شاة لأن جابر بن عبد الله وعطاء قالا فيه ذلك، وقال مجاهد
حفنة من طعام وقال قتادة صاع وقال مالك قيمته من الطعام والأول أولى فإن قضاء عمر أولى من قضاء غيره
والجدي أقرب إليه من الشاة، وفي الأرنب عناق قضى به عمر وبه قال الشافعي وقال ابن عباس فيه حمل،
وقال عطاء فيه شاة وقضاء عمر أولى، والعناق الأنثى من ولد المعز في أول سنة والذكر جدي
(القسم الثاني) ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى
(يحكم به ذوا عدل منكم) فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من حيث الخلقة لا من حيث القيمة
بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة: وليس من شرط الحكم أن يكون فقيها لأن ذلك
زيادة على أمر الله تعالى به وقد أمر عمر أن يحكم في الضب ولم يسأل أفقيه هو أم لا، لكن تعتبر
العدالة لأنها منصوص عليها، ولأنها شرط في قبول القول على الغير في سائر الأماكن، وتعتبر الخبرة
لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا من له خبرة، ولان الخبرة بما يحكم به شرط في سائر الحكام
ويجوز أن يكون القاتل أحد العدلين وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال النخعي ليس له
536

ذلك لأن الانسان لا يحكم لنفسه. ولنا عموم قوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) والقاتل مع غيره
ذوا عدل منا. وقد روي سعيد في سننه والشافعي في مسنده عن طارق بن شهاب قال: خرجنا حجاجا
فأرطأ رجل منا يقال أربد ضبا ففزر ظهره فقدمنا على عمر رضي الله عنه فسألنا أربد فقال له احكم
يا أربد فيه. قال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين. قال إنما أمرتك أن تحكم، ولم آمرك أن تزكيني
فقال أربد أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر. قال عمر فذلك فيه، فأمره عمر أن يحكم فيه وهو القاتل
وأمر أيضا كعب الأحبار أن يحكم على نفسه في الجرادتين اللتين صادهما وهو محرم، ولأنه مال يخرج
في حق الله تعالى فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة
(فصل) قال أصحابنا في كبير الصيد مثله من النعم، وفي الصغير صغير، وفي الذكر ذكر،
وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب، وبهذا قال الشافعي وقال مالك في
الصغير كبير، وفي المعيب صحيح لأن الله تعالى قال (هديا بالغا الكعبة) ولا يجزئ في الهدي
صغير ولا معيب ولأنها كفارة متعلقة بقتل حيوان فلم تختلف بصغيرة وكبيرة كقتل الآدمي
ولنا قول الله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) ومثل الصغير صغير، ولان ما ضمن باليد
والجناية اختلف ضمانه بالصغر والكبر كالبهيمة، والهدي في الآية معتبر بالمثل، وقد أجمع الصحابة
على الضمان بما لا يصح هديا كالجفرة والعناق والجدي. وكفارة الآدمي ليست بدلا عنه ولا تجري
مجرى الضمان بدليل أنها لا تتبعض في ابعاضه فإن فدا المعيب بصحيح فهو أفضل، وان فداه بمعيب
مثله جاز، وان اختلف العيب مثل أن فدا الأعرج بأعور والأعور بأعرج لم يجز لأنه ليس بمثله،
وان فدا أعور من إحدى العينين بأعور من أخرى أو أعرج من قائمة بأعرج من أخرى جاز لأن
هذا اختلاف يسير ونوع العيب واحد وإنما اختلف محله. وان فدا الذكر بانثى جاز لأن لحمها أطيب
وأرطب. وان فداها بذكر جاز في أحد الوجهين. لأن لحمه أوفر فتساويا، والآخر لا يجوز لأن زيادته
عليها ليس هي من جنس زيادتها فأشبه فداء المعيب من نوع بمعيب من نوع
537

(فصل) فإن قتل ماخضا فقال القاضي يضمنها بقيمة مثلها، وهو مذهب الشافعي لأن قيمته
أكثر من قيمة لحمه، وقال أبو الخطاب يضمنها بما خض مثلها لأن الله تعالى قال (فجزا مثل ما قتل
من النعم) وإيجاب القيمة عدول عن المثل مع إمكانه. فإن فداها بغير ماخض احتمل الجواز لأن هذه
الصفة لا تزيد في لحمها بل ربما نقصها فلا يشترط وجودها في المثل كاللون والعيب، وان جنى على
ماخض فأتلف جنينها وخرج ميتا ففيه ما نقصت أمه كما لو جرحها، وان خرج حيا لوقت يعيش
لمثله ثم مات ضمنه بمثله وإن كان لوقت لا يعيش لمثله فهو كالميت كجنين الآدمية
(فصل) وان أتلف جزءا من الصيد وجب ضمانه. لأن جملته مضمونة، فكان بعضه مضمونا
كالآدمي والأموال، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ينفر صيدها " فالجرح أولى بالنهي، والنهي
يقتضي تحريمه، وما كان محرما من الصيد وجب ضمانه كنفسه، ويضمن بمثله من مثله في أحد الوجهين
لأن ما وجب ضمان جملته بالمثل وجب في بعضه مثله كالمكيلات، والآخر يجب قيمة مقداره من
مثله لأن الجزاء يشق إخراجه فيمنع إيجابه، ولهذا عدل الشارع عن ايجاب جزء من بعير في خمس
من الإبل إلى ايجاب شاة من غير جنس الإبل، والأولى أولى. لأن المشقة ههنا غير ثابتة لوجود
الخيرة له في العدول عن المثل إلى عدله من الطعام أو الصيام فينتفي المانع فيثبت مقتضي الأصل، وهذا
إذا اندمل الصيد ممتنعا، فإن اندمل غير ممتنع ضمنه جميعه لأنه عطله فصار كالتالف، ولأنه مفض إلى
تلفه فصار كالجارح له جرحا يتيقن به موته، وهذا مذهب أبي حنيفة ويتخرج أن يضمنه بما نقص
لأنه لا يضمن ما لم يتلف، ولم يتلف جميعه بدليل ما لو قتله محرم آخر لزمه الجزاء ومن أصلنا أن على
المشتركين جزاء واحد وضمانه بجزاء كامل يفضي إلى ايجاب جزاءين وان غاب غير مندمل ولم يعلم
خبره والجراحة موجبة فعليه ضمان جميعه كما لو قتله وان كانت غير موجبة فعليه ضمان ما نقص ولا
يضمن جميعه لأننا لا نعلم حصول التلف بفعله فلم يضمن كما لو رمى سهما إلى صيد فلم يعلم أوقع به
أم لا، وكذلك أن وجده ميتا ولم يعلم أمات من الجناية أم من غيرها، ويحتمل أن يلزمه ضمانه ههنا
538

لأنه وجد سبب اتلافه منه ولم يعلم له سبب آخر، فوجب احالته على السبب المعلوم كما لو وقع في
الماء نجاسة فوجده متغيرا تغيرا يصلح أن يكون منها فإننا نحكم بنجاسته، وكذلك لو رمى صيدا فغاب
عن عينه ثم وجده ميتا لا أثر به غير سهمه حل أكله، وان صيرته الجناية غير ممتنع فلم يعلم أصار ممتنعا
أم لا فعليه ضمان جميعه لأن الأصل عدم الامتناع
(فصل) وإذا جرح صيدا فتحامل فوقع في شئ تلف به ضمنه لأنه تلف بسببه، وكذلك
ان نفره فتلف في حال نفوره ضمنه فإن سكن في مكان وأمن من نفوره ثم تلف لم يضمنه، وقد ذكرنا
وجها آخر أنه يضمنه في المكان الذي انتقل إليه لما روى الشافعي في مسنده عن عمر رضي الله عنه
أنه دخل دار الندوة فألقى رداه على واقف في البيت فوقع عليه طير من هذه الحمام فأطاره فوقع
على واقف فانتهزته حية فقتلته. فقال لعثمان بن عفان ونافع بن عبد الحارث إني وجدت في نفسي اني
أطرته من منزل كان فيه آمنا إلى موقعه كان فيها حتفه فقال نافع لعثمان كيف ترى في غير تنبيه عقرا يحكم
بها على أمير المؤمنين. فقال عثمان أرى ذلك فأمر بها عمر رضي الله عنه
(فصل) وكما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد من مباشرة أو بسبب، وما جنت عليه دابته
بيدها أو فمها من الصيد فالضمان على راكبها أو قائدها أو سائقها وما جنت برجلها فلا ضمان عليه لأنه
لا يمكن حفظ رجلها، وقال القاضي يضمن السائق جميع جنايتها لأن يده عليها ويشاهد رجلها، وقال
ابن عقيل لا ضمان عليه في الرجل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الرجل جبار " وان انقلبت فأتلفت صيدا لم
يضمنه لأنه لا يدله عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " العجماء جبار " وكذلك لو أتلفت آدميا لم يضمنه
ولو نصب المحرم شبكة أو حفر بئرا فوقع فيها صيد ضمنه لأنه بسببه كما يضمن الآدمي إلا أن
يكون حفر البئر بحق كحفره في داره أو في طريق واسع ينتفع بها المسلمون فينبغي أن لا يضمن ما تلف
539

به كما لا يضمن الآدمي، وان نصب شبكة قبل احرامه فوقع فيها صيد بعد احرامه لم يضمنه لأنه لم
يوجد منه بعد إحرامه تسبب إلى اتلافه أشبه ما لو صاده قبل احرامه وتركه في منزله فتلف بعد احرامه
أو باعه وهو حلال فذبحه المشتري.
(مسألة) قال (وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه)
قوله (بقيمته في موضعه) يعني يجب قيمته في مكانه الذي أتلفه فيه. لا خلاف بين أهل العلم في
وجوب ضمان الصيد من الطير الا ما حكي عن داود انه لا يضمن ما كان أصغر من الحمام لأن الله تعالى قال
(فجزاء مثل ما قتل من النعم) وهذا لا مثل له، ولنا عموم قوله تعالى (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقيل
في قوله تعالى (ليبلوكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم) يعني الفرخ والبيض ومالا يقدر أن يفر من
صغار الصيد (ورماحكم) يعني الكبار، وقد روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما حكما في الجراد
بجزاء ودلالة الآية على وجوب جزاء غيره لا يمنع من وجوب الجزاء في هذا بدليل آخر وضمان غير
الحمام من الطير قيمته لأن الأصل في الضمان أن يضمن بقيمته أو بما يشتمل عليها بدليل سائر المضمونات
لكن تركنا هذا الأصل بدليل ففيما عداه تجب القيمة بقضية الدليل وتعتبر القيمة في موضع اتلافه
كما لو أتلف مال آدمي في موضع قوم في موضع الاتلاف كذا ههنا
(فصل) ويضمن بيض الصيد بقيمته أي صيد كان قال ابن عباس في بيض النعام قيمته، وروي
ذلك عن عمر وابن مسعود، وبه قال النخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يروى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " في بيض النعام قيمته " مع أن النعام من ذوات الأمثال فغيره أولى ولان
البيض لا مثل له فيجب قيمته كصغار الطير فإن لم يكن له قيمة لكونه مذرا أو لأن فرخه ميت فلا
شئ فيه. قال أصحابنا الأبيض النعام فإن لقشره قيمة والصحيح أنه لا شئ فيه لأنه إذا لم يكن فيه
حيوان ولا مآله إلى أن يصير منه حيوان صار كالأحجار والخشب وسائر ماله قيمة من غير الصيد ألا ترى أنه لو
نقب بيضة فاخرج ما فيها لزمه جزاء جميعها ثم لو كسرها هو أو غيره لم يلزمه لذلك شئ ومن كسر
540

بيضة فخرج منها فرخ حي فعاش فلا شئ فيه وان مات ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه ففي فرخ
الحمام صغير أولاد الغنم وفي فرخ النعامة حوار وفيما عداها قيمته، ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا
كسره هو أو محرم سواه وان كسره حلال فهو كلحم الصيد إن كان أخذه لأجل المحرم لم يبح له أكله
ولا أبيح وان كسر بيض صيد لم يحرم على الحلال لأن حله له لا يقف على كسره ولا يعتبر له أهلية
بل لو كسره مجوسي أو وثني أو بغير تسمية لم يحرم فأشبه قطع اللحم وطبخه، وقال القاضي يحرم
على الحلال أكله كما لو ذبح الصيد لأن كسره جرى مجرى الذبح بدليل حله للمحرم بكسر الحلال له
وان نقل بيض صيد فجعله تحت آخر أو ترك مع بيض الصيد بيضا آخر أو شيئا نفره عن بيضه حتى فسد
فعليه ضمان لأنه تلف بسببه وان صح وفرخ فلا ضمان عليه وان باض الصيد على فراشه فنقله برفق
ففسد ففيه وجهان بناء على أن الجراد إذا انفرش في طريقه وحكم بيض الجراد، وان احتلب لبن صيد ففيه
قيمة كما لو حلب لبن حيوان مغصوب.
(فصل) إذا نتف محرم ريش طائر ففيه ما نقص، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأوجب مالك
وأبو حنيفة فيه الجزاء جميعه، ولنا انه نقصه نقصا يمكن زواله فلم يضمنه بكماله كما لو جرحه
فإن حفظه وأطعمه وسقاه حتى عاد ريشه فلا ضمان عليه لأن النقص زال فأشبه ما لو اندمل الجرح،
وقيل عليه قيمة الريش لأن الثاني غير الأول فإن صار غير ممتنع بنتف ريشه واندمل غير ممتنع فعليه
جزاء جميعه كالجرح فإن غاب غير مندمل ففيه ما نقص كالجرح سواء، وقد ذكرنا ثم احتمالا فههنا مثله
(مسألة) قال (إلا أن تكون نعامة فيكون فيها بدنة أو حمامة وما أشبهها فيكون في
كل واحد منها شاة)
هذا متعلق بقوله وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه واستثنى النعامة من الطائر لأنها ذات
541

جناحين وتبيض فهي كالدجاجة والإوز وأوجب فيها بدنة لأن عمر وعليا وعثمان وزيد بن ثابت وابن
عباس ومعاوية رضي الله عنهم حكموا فيها ببدنة، وبه قال عطاء ومجاهد ومالك والشافعي وأكثر أهل
العلم، وحكي عن النخعي أن فيها قيمتها، وبه قال أبو حنيفة وخالفه صاحباه واتباع النص في قوله تعالى
(فجزاء مثل ما قتل من النعم) والآثار أولى ولان النعامة تشبه البعير في خلقته فكان مثلا لها فيدخل
في عموم النص في الحمام شاة حكم به عمر وابن عمر وابن عباس ونافع بن الحارث في حمام الحرم
وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وعروة وقتادة والشافعي وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك فيه قيمته
الا أن مالكا وافق في حمام الحرم لحكم الصحابة ففيما عداه يبقى على الأصل قلنا: روي عن ابن عباس
في الحمام حال الاحرام كمذهبنا ولأنها حمامة مضمونة لحق الله تعالى فضمنت بشاة كحمامة الحرم ولأنها
متى كانت الشاة مثلا لها في الحرم فكذلك في الحل فيجب ضمانها بها لقول الله تعالى (فجزاء مثل ما قتل
من النعم) وقياس الحمام على الحمام أولى من قياسه على غيره، وقول الخرقي " وما أشبهها " يعني ما يشبه
الحمامة في أنه يعب الماء أي يضع منقاره فيه فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخذ قطرة قطرة كالدجاج
والعصافير وأنما أوجبوا فيه شاة لشبهه بها في كرع الماء مثلها ولا يشرب مثل شرب بقية الطيور. قال
أحمد في رواية أبي القاسم وشندي: كل طير يعب الماء يشرب مثل الحمام ففيه شاة فيدخل في هذا
الفواخت والوراشين والسقايين والقمري والدبسي والقطا لأن كل واحد من هذه تسمية العرب حماما
وقد روي عن الكسائي أنه قال كل مطوق حمام وعلى هذا القول الحجل حمام لأنه مطوق
(فصل) وما كان أكبر من الحمام كالحباري والكركي والكروان والحجل والإوز الكبير من
طير الماء ففيه وجهان (أحدهما) فيه شاة لأنه روي عن ابن عباس وجابر وعطاء أنهم قالوا في
الحجلة والقطاة والحباري شاة شاة، وزاد عطاء في الكركي والكروان وابن الماء ودجاج الحبش
والحرب شاة شاة والحرب هي فرخ الحباري لأن إيجاب الشاة في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو
أكبر منه (والوجه الثاني) فيه قيمته وهو مذهب الشافعي لأن القياس يقتضي وجوبها في جميع الطير
تركناه في الحمام لاجماع الصحابة رضي الله عنهم ففي غيره يرجع إلى الأصل
542

(مسألة) قال (وهو مخير ان شاء فداه بالنظر أو قوم النظير بدراهم ونظر كم يجئ
به طعاما فأطعم كل مسكين مدا أو صام عن كل مد يوما معسرا أو موسرا)
في هذه المسألة أربعة فصول. (الأول) ان قاتل الصيد مخير في الجزاء بأحد هذه الثلاثة بأيها
شاء كفر موسرا كان أو معسرا، وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية ثانية
أنها على الترتيب فيجب المثل أولا، فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام، وروي هذا عن ابن عباس
والثوري لأن هدي المتعة على الترتيب، وهذا أوكد منه لأنه بفعل محظور، وعنه في رواية ثالثة أنه
لا اطعام في الكفارة وإنما ذكر في الآية ليعدل الصيام لأن من قدر على الاطعام قدر على الذبح هكذا
قال أبن عباس، وهذا قول الشعبي وأبي عياض
ولنا قول الله تعالى (هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيام) وأو في
الامر للتخيير روي عن ابن عباس أنه قال كل شئ أو أو فهو مخير، وأما ما كان فإن لم يوجد فهو
الأول الأول ولان عطف هذه الخصال بعضها على بعض باو فكان مخيرا بين ثلاثتها كفدية الأداء
وقد سمى الله الطعام كفارة، ولا يكون كفارة ما لم يجب اخراجه وجعله طعاما للمساكين والا يجوز
صرفه إليهم لا يكون طعاما لهم، وعطف الطعام على الهدي ثم عطف الصيام إليه، ولو لم يكن خصلة
من خصالها لم يجز ذلك فيه، ولأنها كفارة ذكر فيها الطعام فكان من خصالها كسائر الكفارات
وقولهم إنها وجبت بفعل محظور يبطل بفدية الأذى على أن لفظ النص صريح في التخيير فليس ترك
مدلوله قياسا على هدي المتعة بأولى من العكس فلا يجوز قياس هدي المتعة في التخيير على هذا
لما يتضمنه من ترك النص كذا هذا
(الفصل الثاني) إذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم لأن الله تعالى قال
(هديا بالغ الكعبة) ولا يجزئه أن يتصدق به حيا على المساكين لأن الله تعالى سماه هديا، والهدي
يجب ذبحه وله ذبحه أي وقت شاء ولا يختص ذلك بأيام النحر
543

(الفصل الثالث) أنه متى اختار الاطعام فإنه يقوم المثل بدراهم، والدراهم بطعام، ويتصدق به
على المساكين، وبهذا قال الشافعي وقال مالك يقوم الصيد لا المثل لأن التقويم إذا وجب لأجل الاتلاف
قوم المتلف كالذي لا مثل له. ولنا أن كل ما تلف وجب فيه المثل إذا قوم لزمت قيمة مثله كالمثلي من
مال الآدمي، ويعتبر قيمة المثل في الحرم لأنه يحل احرامه ولا يجزئ إخراج القيمة لأن الله تعالى
خير بين ثلاثة أشياء ليست القيمة منها، والطعام المخرج هو الذي يخرج في الفطرة وفدية الأذى
وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ويحتمل أن يجزئ كل ما يسمى طعاما لدخوله في إطلاق اللفظ
ويعطي كل مسكين مدا من بر كما يدفع إليه في كفارة اليمين، فأما بقية الأصناف فنصف صاع لكل
مسكين نص عليه احمد فقال في إطعام المساكين في الفدية، وجزاء كفارة اليمين أن أطعم برا فمد
طعام لكل مسكين، وان أطعم تمرا فنصف صاع لكل مسكين، وأطلق الخرقي لكل مسكين
ولم يفرق والأولى أنه لا يجزئ من غير البر أقل من نصف صاع إذ لم يرد الشرع في موضع بأقل من
ذلك في طعمه المساكين ولا توقيف فيه فيرد إلى نضائره ولا يجزئ إخراج لمساكين الحرم لأن قيمة
الهدي الواجب لهم فيكون أيضا لهم كقيمة المثلي من مال الآدمي
(الفصل الرابع في الصيام) فعن أحمد أنه يصوم عن كل مد يوما، وهو ظاهر قول عطاء ومالك
والشافعي لأنها كفارة دخلها الصيام والاطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار، وعن أحمد
أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، وهو قول ابن عقيل والحسن والنخعي والثوري وأصحاب الرأي
وابن المنذر. قال القاضي المسألة رواية واحدة واليوم عن مد بر أو نصف صاع من غيره وكلام احمد
في الروايتين محمول على اختلاف الحالين لأن صوم اليوم مقابل باطعام المسكين واطعام المسكين مد بر
أو نصف صاع من غيره ولان الله تعالى جعل اليوم في كفارة الظهار في مقابلة اطعام المسكين فكذا
ههنا، وروي عن أبي ثور أن جزاء الصيد من الطعام والصيام مثل كفارة الأذى، وروي ذلك عن
ابن عباس. ولنا أنه جزاء عن متلف فاختلف باختلافه كبدل مال الآدمي، وإذا بقي مالا يعدل
544

كدون المد صام يوما كاملا كذلك قال عطاء والنخعي وحماد والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحدا خالفهم
لأن الصوم لا يتبعض فيجب تكميله ولا يجب التتابع في الصيام، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن
الله تعالى أمر به مطلقا فلا يتقيد بالتتابع من غير دليل ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم
عن بعض. نص عليه احمد وبه قال الشافعي والثوري وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وجوره محمد
ابن الحسن إذا عجز عن بعض الاطعام ولا يصح لأنها كفارة واحدة فلا يؤدي بعضها بالاطعام
وبعضها بالصيام كسائر الكفارات
(فصل) وما لامثل له من الصيد يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعاما فيطعمه للمساكين وبين
أن يصوم، وهل يجوز إخراج القيمة؟ فيه احتمالان (أحدهما) لا يجوز وهو ظاهر قول أحمد في رواية
حنبل فإنه قال: إذا أصاب المحرم صيدا ولم يصب له عدلا يحكم به عليه قوم طعاما إن قدر على طعام
وإلا صام لكل نصف صاع يوما هكذا يروى عن ابن عباس ولأنه جزاء صيد فلم يجز إخراج
القيمة فيه كالذي له مثل، ولان الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ليس بها قيمة فإذا عدم أحد الثلاثة
يبقى التخيير بين الشيئين الباقيين فاما إيجاب شئ غير المنصوص فلا (الثاني) يجوز إخراج القيمة لأن
عمر رضي الله عنه قال لكعب: ما جعلت على نفسك قال: درهمين، قال اجعل ما جعلت على نفسك
وقال عطاء في العصفور نصف درهم، وظاهره إخراج الدراهم الواجبة
(مسألة) قال (وكلما قتل صيدا حكم عليه)
معناه أنه يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني كما يجب عليه إذا قتله ابتداء، وفي هذه المسألة عن أحمد
ثلاث روايات (إحداهن) أنه يجب في كل صيد جزاء، وهذا ظاهر المذهب قال أبو بكر هذا أولى
القولين بأبي عبد الله، وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي (والثانية)
لا يجب إلا في المرة الأولى. روي ذلك عن ابن عباس وبه قال شريح والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد
والنخعي وقتادة لأن الله تعالى قال (ومن عاد فينتقم الله منه) ولم يوجب جزاء (والثالثة) ان كفر
545

عن الأول فعليه للثاني كفارة، وإلا فلا شئ للثاني لأنها كفارة تجب بفعل محظور في الاحرام فيدخل
جزاؤها قبل التكفير كاللبس والطيب. ولنا أنها كفارة عن قتل فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل
الآدمي، ولأنها بدل متلف يجب به المثل أو القيمة فأشبه بدل مال الآدمي. قال احمد روي عن عمر
وغيره أنهم حكموا في الخطأ وفيمن قتل ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أولا؟ وإنما هذا يعني
لتخصيص الاحرام ومكانه. والآية اقتضت الجزاء على العائد بعمومها، وذكر العقوبة في الثاني
لا يمنع الوجوب كما قال الله تعالى (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله * ومن
عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى
الله، ولا يصح قياس جزاء الصيد على غيره ولان جزاءه مقدر به، ويختلف بصغره وكبره ولو أتلف
صيدين معا وجب جزاؤهما فكذلك إذا تفرا بخلاف غيره من المحظورات
(فصل) ويجوز إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته نص أحمد لأنها كفارة فجاز تقديمها
على الموت ككفارة قتل الآدمي، ولأنها كفارة فأشبهت كفارة الظهار واليمين
(مسألة) قال (ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد)
يروى عن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات (إحداهن) ان الواجب جزاء واحد وهو الصحيح
ويروي هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وبه قال عطاء والزهري
والنخعي والشعبي والشافعي وإسحاق (والثانية) على كل واحد جزاء رواهما ابن أبي موسى واختارها
أبو بكر وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة ويروى عن الحسن لأنها كفارة قتل يدخلها الصوم أشبهت
كفارة قتل الآدمي (والثالثة) إن كان صوما صام كل واحد صوما تاما وإن كان غير ذلك فجزاء واحد
وإن كان أحدهما هدي والاخر صوم فعلى المهدي بحصته وعلى الآخر صوم تام لأن الجزاء ليس
بكفارة وإنما هو بدل بدليل ان الله تعالى عطف عليه الكفارة فقال تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم)
والصوم كفارة ككفارة قتل الآدمي. ولنا قول الله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) والجماعة قد
546

قتلوا صيدا فيلزمهم مثله والزائد خارج عن المثل فلا يجب. ومتى ثبت اتخاذ الجزاء في الهدي وجب
اتخاذه في الصيام لأن الله تعالى قال (أو عدل ذلك صياما) والاتفاق حاصل على أنه معدول بالقيمة
إما قيمة المتلف واما قيمة مثله فايجاب الزائد على عدل القيمة خلاف النص، وأيضا ما روي عمن سمينا
من الصحابة انهم قالوا كمذهبنا. ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه فكان واحدا كالدية أو كما لو
كان القاتل واحدا أو بدل المحل فاتحدت باتحاده الدية، وكفارة الآدمي لنا فيها منع ولا يتبعض في ابعاضه
ولا يختلف باختلافه فلا يتبعض على الجماعة بخلاف مسئلتنا
(فصل) فإن كان شريك المحرم حلالا أو سبعا فلا شئ على الحلال ويحكم على الحرام. ثم إن
كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحا. وإن كان السابق
المحرم فعليه جزاء جرحه على ما مضى. وإن كان جرحهما في حال واحدة ففيه وجهان (أحدهما) على
المحرم بقسطه كما لو كان شريكه محرما لأنه إنما أتلف البعض (والثاني) عليه جزاء جميعه لأنه تعذر
ايجاب الجزاء على شريكه فأشبه ما لو كان أحدهما دالا والآخر مدلولا أو أحدهما ممسكا والآخر
قاتلا فإن الجزاء على المحرم أيهما كان لتعذر ايجاب الجزاء على الآخر
(فصل) وان اشترك حرام وحلال في صيد حرمي فالجزاء بينهما نصفين لأن الاتلاف ينسب إلى
كل واحد منهما نصفه، ولا يزداد الواجب على المحرم باجتماع حرمة الاحرام والحرم فيكون الواجب
على كل واحد منهما النصف، وهذا الاشتراك الذي هذا حكمه هو الذي يقع به الفعل منهما معا، وان
سبق أحدهما صاحبه فحكمه ما ذكرناه فيما ما مضي
(فصل) إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن يكون في
بلده أو في يد نائب له في غير مكانه ولا شئ عليه إن مات وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما
547

ومن غصبه لزمه رده ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه. ومعناه إذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو
قفص معه أو مربوطا بحبل معه لزمه إرساله، وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الثوري: هو
ضامن لما في بيته أيضا. وحكي نحو ذلك عن الشافعي وقال أبو ثور ليس عليه إرسال ما في يده وهو
أحد قولي الشافعي لأنه في يده أشبه ما لو كان في يده الحكمية. ولأنه لا يلزم من منع ابتداء الصيد
المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم. ولنا على أنه لا يلزمه إزالة يده الحكمية انه لم يفعل في
الصيد فعلا فلم يلزمه شئ كما لو كان في ملك غيره، وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة فإنه فعل
الامساك في الصيد فكان ممنوعا منه كحالة الابتداء فإن استدامة الامساك إمساك بدليل انه لو حلف
لا يمسك شيئا فاستدام امساكه حنث. إذا ثبت هذا فإنه متى أرسله لم يزل ملكه عنه، ومن أخذه
رده إذا حل، ومن قتله ضمنه له لأن ملكه كان على وإزالة الأثر لا يزيل الملك بدليل الغصب والعارية
فإن تلف في يده قبل إرساله بعد إمكانه ضمنه لأنه تلف تحت اليد العادية فلزمه الضمان كمال الآدمي
وإن كان قبل امكان الارسال فلا ضمان لأنه ليس بمفرط ولا متعد، فإن أرسله انسان من يده فلا
ضمان عليه لأنه فعل ما يلزمه فعله، ولان اليد قد زال حكمها وحرمتها فإن أمسكه حتى حل فملكه
باق عليه لأن ملكه لم يزل بالاحرام، وإنما زال حكم المشاهدة فصار كالعصير يتخمر ثم يتخلل قبل اراقته
(فصل) ولا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الأسباب فإن الصعب بن
جثامة أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا فرده عليه وقال " إنا لم نرده عليك إلا أنه حرم "
فإن أخذه بأحد هذه الأسباب ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعا فعليه القيمة أو رده إلى مالكه،
فإن أرسله فعليه ضمانه كما لو أتلفه وليس عليه جزاء وعليه رد المبيع أيضا ويحتمل أن يلزمه ارساله كما
لو كمان مملوكا له لأنه لا يجوز له اثبات يده المشاهدة على الصيد، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي
548

ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال مختار ولا عيب في ثمنه ولا غيرهما لأنه ابتداء ملك
على الصيد وهو ممنوع منه، وان رده المشتري عليه بعيب أو خيار فله ذلك لأن سبب الرد متحقق ثم
لا يدخل في ملك المحرم ويلزمه ارساله
(فصل) وان ورث المحرم صيدا ملكه لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته وإنما يدخل
في ملكه حكما، اختار ذلك أو كرهه ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون ويدخل به المسلم في ملك
الكافر فيجري مجرى الاستدامة، ويحتمل أن لا يملك به لأنه من جهات التملك فأشبه البيع وغيره فعلى
هذا يكون أحق به من غير ثبوت ملكه عليه فإذا حل ملكه
(مسألة) قال (ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر تحلل بعمرة وذبح إن كان
معه هدي وحج من قابل وأتى بدم)
الكلام في هذه المسألة في أربعة فصول (الأول) ان آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر فمن لم
يدرك الوقوف حتى طلع الفجر يومئذ فاته الحج لا نعلم فيه خلافا، قال جابر لا يفوت الحج حتى يطلع
الفجر من ليلة جمع، قال أبو الزبير فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال نعم رواه الأثرم
باسناده وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه " يدل على
فواته بخروج ليلة جمع، وروى ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج
ومن فاته عرفات بليل فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل " رواه الدارقطني وضعفه
549

(الفصل الثاني) أن من فاته الحج يتحلل بطواف وسعي وحلاق هذا الصحيح من المذهب،
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس وابن الزبير ومروان بن الحكم
وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال ابن أبي موسى في المسألة روايتان (إحداهما)
كما ذكرنا (والثانية) يمضي في حج فاسد وهو قول المزني قال يلزمه جميع أفعاله لأن سقوط ما فات
وقته لا يمنع ما لم يفت. ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا فكان اجماعا، وروى
الشافعي في مسنده أن عمر قال لأبي أيوب حين فاته الحج اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإن أدركت
الحج قابلا فحج واهد ما استيسر من الهدي، وروي أيضا عن ابن عمر نحو ذلك، وروى الأثرم
باسناده عن سليمان بن يسار أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر ما حبسك؟
قال حسبت أن اليوم يوم عرفة قال فانطلق إلى البيت فطف به سبعا وإن كان معك هدية فانحرها ثم
إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فاهد، فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت
إن شاء الله تعالى. وروى النجاد باسناده عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من فاته الحج فعليه دم وليجعلها
عمرة وليحج من قابل " ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى. إذا ثبت
هذا فإنه يجعل احرامه بعمرة وهذا ظاهر كلام الخرقي ونص عليه أحمد واختاره أبو بكر وهو قول ابن
عباس وابن الزبير وعطاء وأصحاب الرأي، وقال ابن حامد لا يصير احرامه بعمرة بل يتحلل بطواف
وسعي وحلق وهو مذهب مالك والشافعي لأن احرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر
كما لو أحرم بالعمرة، ويحتمل أن من قال يجعل احرامه عمرة أراد به يفعل ما فعل المعتمر وهو الطواف
والسعي ولا يكون بين القولين خلاف، ويحتمل أن يصير احرام الحج احراما بعمرة بحيث يجزئه
عن عمرة الاسلام إن لم يكن اعتمر ولو أدخل الحج عليها لصار قارنا إلا أنه لا يمكنه الحج بذلك
550

الاحرام إلا أن يصير محرما به في غير أشهره فيصير كمن أحرم بالحج في غير أشهره، ولان قلب الحج
إلى العمرة يجوز من غير سبب على ما قررناه في فسخ الحج فمن الحاجة أولى، ويخرج على هذا قلب
العمرة إلى الحج فإنه لا يجوز ولأن العمرة لا يفوت وقتها فلا حاجة إلى انقلاب احرامها بخلاف الحج
(الفصل الثالث) أنه يلزمه القضاء من قابل سواء كان الفائت واجبا أو تطوعا روي ذلك عن
عمر وابنه وزيد وابن عباس وابن الزبير ومروان وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعن
أحمد لا قضاء عليه، بل إن كانت فرضا فعلها بالوجوب السابق وإن كانت نفلا سقطت، وروي هذا
عن عطاء وهو إحدى الروايتين عن مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة قال بل
مرة واحدة، ولو أوجبنا القضاء كان أكثر من مرة، ولأنه معذور في ترك أتمام حجه يلزمه القضاء
كالمحرم، ولأنها عبادة تطوع فلم يجب قضاؤها كسائر التطوعات، ووجه الرواية الأولى ما ذكرنا من
الحديث واجماع الصحابة. وروى الدارقطني باسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من فاته عرفات فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل " ولان الحج يلزم بالشروع فيه فيصير
كالمنذور بخلاف سائر التطوعات. وأما الحديث فإنه أراد الواجب بأصل الشرع حجة واحدة وهذه
إنما تجب بايجابه لها بالشروع فيها كالمنذورة. وأما المحصر فإنه غير منسوب إلى التفريط بخلاف من
فاته الحج، وإذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم في هذا خلافا لأن الحجة المقضية لو تمت
لأجزأت عن الواجبة عليه فكذلك قضاؤها لأن القضاء يقوم مقام الأداء
(الفصل الرابع) أن الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين وهو قول من سمينا من الصحابة
والفقهاء إلا أصحاب الرأي فإنهم قالوا لا هدي عليه وهي الرواية الثانية عن أحمد لأنه لو كان الفوات
سببا لوجوب الهدي للزم المحرم هديان للفوات والاحصار. ولنا حديث عطاء واجماع الصحابة،
551

ولأنه حل من احرامه قبل اتمامه فلزمه هدي كالمحرم لم يفت حجه فإنه يحل قبل فواته، إذا ثبت
هذا فإنه يخرج الهدي في سنة القضا إن قلنا بوجوب القضاء والا أخرجه في عامه، وإذا كان معه
هدي قد ساقه نحره ولا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء، بل عليه في السنة الثانية هدي أيضا نص
عليه أحمد وذلك لحديث عمر الذي ذكرناه، والهدي ما استيسر مثل هدي المتعة لحديث عمر أيضا
والمتمتع والمفرد والقارن والمكي وغيره سواء فيما ذكرنا لأن الفوات يشمل الجميع
(فصل) فإن اختار من فاته الحج على احرامه ليحج من قابل فله ذلك روي ذلك عن مالك
لأن تطاول المدة بين الاحرام وفعل النسك لا يمنع اتمامه كالعمرة والمحرم بالحج في غير أشهره ويحتمل
أنه ليس له ذلك وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر ورواية عن مالك لظاهر الخبر وقول
الصحابة رضي الله عنهم لأن احرام الحج يصير في غير أشهره فصار كالمحرم بالعبادة قبل وقتها
(فصل) وإذا فات القارن الحج حل وعليه ما أهل به من قابل نص عليه أحمد وهو قول
مالك والشافعي وأبي ثور وإسحاق، ويحتمل أن يجزئه ما فعل عن عمرة الاسلام ولا يلزمه الا قضاء
الحج لأنه لم يفته غيره، وقال أصحاب الرأي والثوري يطوف ويسعى لعمرته، ثم لا يحل حتى يطوف
ويسعى لحجه ألا أن سفيان قال ويهريق دما. والوجه الأول أن يذبح القضاء على حسب الأداء في
صورته ومعناه فيجب أن يكون ههنا كذلك ويلزمه هديان لقرانه وفواته، وبه قال مالك والشافعي
552

وقيل يلزمه هدي ثالث للقضاء وليس بشئ فإن القضاء لا يجب له هدي، وإنما يجب الهدي الذي في
سنة القضاء للفوات وكذلك لم يأمره الصحابة بأكثر من هدي واحد والله أعلم
(فصل) إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة أجزأهم ذلك لما روى الدارقطني بإسناده
عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم عرفة الذي يعرف فيه
الناس " فإن اختلفوا فأصاب بعضهم وأخطأ بعض وقت الوقوف لم يجزئهم لأنهم غير معذورين في هذا، وروي
أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون " رواه الدارقطني وغيره
(مسألة) قال (وإن كان عبدا لم يكن له أن يذبح وكان عليه أن يصوم عن كل مد من
قيمة الشاة يوما ثم يقصر ويحل)
يعني أن العبد لا يلزمه هدي لأنه لا مال له فهو عاجز عن الهدي فلم يلزمه كالمعسر وظاهر كلام
الخرقي أنه لو أذن له سيده في الهدي لم يكن له أن يهدي ولا يجزئه الا الصيام، وهذا قول الثوري
والشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر عنهم في الصيد وعلى قياس هذا كل دم لزمه في الاحرام
لا يجزئه عنه الا الصيام، وقال غير الخرقي إن ملكه السيد هديا واذن له في ذبحه خرج على الروايتين
إن قلنا إن العبد يملك بالتمليك لزمه أن يهدي ويجزئ عنه لأنه قادر على الهدي، مالك له فلزمه كالحر
وان قلنا لا يملك لم يجزئه الا الصيام لأنه ليس بمالك ولا سبيل إلى الملك فصار كالمعسر الذي لا يقدر
على غير الصيام، وإذا صام فإنه يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما وينبغي أن يخرج فيه من الخلاف
ما ذكرناه في الصيد ومتى بقي من قيمتها أقل من مد صام عنه يوما كاملا لأن الصوم لا يتبعض فيجب
553

تكميله كمن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم في بعض النهار لزمه صوم يوم كامل والأولى أن يكون
الواجب من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة كما جاء في حديث عمر أنه قال لهبار بن الأسود فإن وجدت
سعة فاهد فإن لم تجد سعة فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى، وروي الشافعي
في مسنده عن ابن عمر مثل ذلك وأحمد ذهب إلى حديث عمر، واحتج به لأنه صوم وجب لحله من احرامه
قبل اتمامه فكان عشرة أيام كصوم المحرم، والمعسر في الصوم كالعبد، ولذلك قال عمر لهبار بن يسار (1)
ان وجدت سعة فاهد فإن لم تجده فصم ويعتبر اليسار والاعسار في زمن الوجوب وهو في سنة القضاء ان
قلنا بوجوبه أو في سنة الفوات ان قلنا لا يجب القضاء، وقول الخرقي ثم يقصر ويحل يريد أن العبد لا يحلق
ههنا ولا في موضع آخر لأن الحلق إزالة الشعر الذي يزيد في قيمته وماليته وهو مالك لسيده ولم يتعين
إزالته فلم يكن له إزالته كغير حالة الاحرام وان أذن له السيد في الحلق جاز لأنه إنما منع منه لحقه.
(مسألة) قال (وإذا أحرمت المرأة لواجب لم يكن لزوجها منعها)
وجملة ذلك أن المرأة إذا أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة وهي حجة الاسلام وعمرته
أو المنذور منهما فليس لزوجها منعها من المضي فيها ولا تحليلها في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي
وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أصح القولين له، وقال في الآخر له منعها لأن الحج عنده على
التراخي فلم يتعين في هذا العام وليس هذا بصحيح فإن الحج الواجب يتعين بالشروع فيه فيصير
كالصلاة إذا أحرمت بها في أول وقتها، وقضاء رمضان إذا شرعت فيه ولان حق الزوج مستمر
على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام لملكه في كل عام فيفضي إلى اسقاط أحد أركان الاسلام
خلاف العدة فإنه لا تستمر فاما ان أحرمت بتطوع فله تحليلها ومنعها منه في ظاهر قول الخرقي
وقال القاضي ليس له تحليلها لأن الحج يلزم بالشروع فيه فلا يملك الزوج تحليلها كالحج المنذور
554

وحكي عن أحمد في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج ولها زوج لها ان تصوم بغير اذن زوجها ما تصنع؟
قد ابتليت وابتلى زوجها. ولنا انه تطوع يفوت حق غيرها منها أحرمت به بغير إذنه فملك تحليلها منه
كالأمة تحرم بغير اذن سيدها والمدينة تحرم بغير أذن غريمها على وجه يمنع ايفاء دينه الحال عليها
ولأن العدة تمنع المضي في الاحرام لحق الله تعالى فحق الادمي أولى لأن حقه أضيق لشحه وحاجته
وكرم الله تعالى وغناه وكلام احمد لا يتناول محل النزاع وهو مخالف له منه وجهين (أحدهما) انه في
الصوم وتأثير الصوم في منع حق الزوج يسير فإنه في النهار دون الليل. ولو حلفت بالحج فله منعها لأن
الحج لا يتعين في نذر اللحاج والغضب بل هو مخير بين فعله والتكفير فله منعها منه قبل احرامها
بكل حال بخلاف الصوم (والثاني) ان الصوم إذا وجب صار كالمنذور بخلاف ما نحن فيه والشروع هاهنا
على وجه غير مشروع فلم يكن له حرمة بالنسبة إلى صاحب الحق فاما ان كانت الحجة حجة الاسلام
لكن لم تكمل شروطها لعدم الاستطاعة فإن له منعها من الخروج إليها والتلبس بها لأنها غير واجبة عليها
وان أحرمت بغير اذنه لم يملك تحليلها لأن ما أحرمت به يقع عن حجة الاسلام الواجبة بأصل الشرع
كالمريض إذا تكلف حضور الجمعة ويحتمل ان له تحليلها لأنه فقد شرط وجوبها فأشبهت حجة الأمة
والصغيرة فإنه لما فقدت الحرية أو البلوغ ملك منعها ولأنها ليست واجبة عليها فأشبهت سائر التطوع
(فصل) وأما قبل الاحرام فليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها إذا كملت
شروطه وكانت مستطيعة، ولها محرم يخرج معها لأنه واجب، وليس له منعها من الواجبات كما ليس له
منعها من الصلاة والصيام، وإن لم تكمل شروطه فله منعها من المضي إليه والشروع فيه، ولأنها تفوت
حقه بما ليس بواجب عليها فملك منعها كمنعها من صيام التطوع، وله منعها من الخروج إلى الحج التطوع
والاحرام به بغير خلاف. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على أن للرجل منع زوجته
555

من الخروج إلى حج التطوع، ولأنه تطوع يفوت حق زوجها فكان لزوجها منعها منه كالاعتكاف فإن
أذن لها فيه فله الرجوع ما لم تتلبس باحرامه فإن تلبست بالاحرام لم يكن له الرجوع فيه ولا تحليلها منه
لأنه يلزم بالشروع فصار كالواجب الأصلي فإن رجع قبل إحرامها ثم أحرمت به فهو كمن لم يأذن، وإذا
قلنا بتحليلها فحكمها حكم المحصر يلزمها الهدي فإن لم تجد صامت ثم حلت
(فصل) وإن أحرمت بواجب فحلف زوجها بالطلاق الثلاث أن لا تحج العام فليس لها أن تحل
لأن الطلاق مباح، فليس لها ترك فرائض الله خوفا من الوقوع فيه، ونقل مهنا عن أحمد أنه سئل
عن هذه المسألة فقال: قال عطاء الطلاق هلاك هي بمنزلة المحصر، وروى عنه ابن منصور أنه أفتى
السائل أنها بمنزلة المحصر، واحتج بقول عطاء فرواه والله أعلم. ذهب إلى هذا لأن ضرر الطلاق
عظيم لما فيه من خروجها من بيتها، ومفارقة زوجها وولدها، وربما كان ذلك أعظم عندها من ذهاب
آمالها وهلاك سائر أهلها، ولذلك سماه عطاء هلاكا ولو منعها عدو من الحج الا أن تدفع إليه مالها كان
ذلك حصرا فههنا أولى والله أعلم
(فصل) وليس للوالد منع ولده من الحج الواجب، ولا تحليله من إحرامه، وليس للولد طاعته
في تركه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى " وله منعه من الخروج إلى التطوع
فإن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات فالتطوع أولى، فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله
لأنه واجب بالدخول فيه فصار كالواجب ابتداء أو كالمنذور
556

(مسألة) قال (ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء وعليه مكانه)
الواجب من الهدي قسمان. (أحدهما) وحب بالنذر في ذمته (والثاني) وجب بغيره كدم
التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور، وجميع ذلك ضربان (أحدهما) أن يسوقه
ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى
أهله وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك، لأنه يتعلق حق غيره به، وله نماؤه
وان عطب تلف من ماله، وان تعيب لم يجزئه ذبحه وعليه الهدي الذي كان واجبا فإن وجوبه في
الذمة فلا يبرأ منه الا بايصاله إلى مستحقه بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد دفعه إليه
فتلف قبل أن يوصله إليه (الضرب الثاني) أن يعين الواجب عليه بالقول فيقول: هذا الواجب علي
فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه لأنه لو أوجب هديا ولا هدي عليه لتعين فإذا كان
واجبا فعينه فكذلك إلا أنه مضمون عليه فإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد
الوجوب إلى ذمته كما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به منه مكيلا فتلف قبل قبضه انفسخ البيع وعاد
الدين إلى ذمته، ولان ذمته لم تبرأ من الواجب بتعيينه، وإنما تعلق الوجوب بمحل آخر فصار كالدين
يضمنه ضامن أو يرهن به رهنا فإنه يتعلق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة المدين فمتى تعذر
استيفاؤه من الضامن، أو تلف الرهن بقي الحق في الذمة بحاله، وهذه كله لا نعلم فيه مخالفا. وان ذبحه
فسرق أو عطب فلا شئ عليه. قال احمد إذا نحر فلم يطعمه حتى سرق لا شئ عليه فإنه إذا نحر
فقد فرغ، وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك وأصحاب الرأي. وقال الشافعي عليه الإعادة
لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه فأشبه ما لو لم يذبحه
557

ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه. ودليل أنه أدى الواجب انه لم يبق الا التفرقة
وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه، ولذلك لما نحر النبي صلى الله عليه وسلم البدنات قال " من
شاء اقتطع " وإذا عطب هذا المعين أو تعيب عيبا يمنع الاجزاء لم يجز ذبحه عما في الذمة لأن عليه هديا
سليما ولم يوجد وعليه مكانه، ويرجع هذا الهدي إلى ملكه فيصنع به ما شاء من أكل أو بيع وهبة
وصدقة وغيره هذا ظاهر كلام الخرقي، وحكاه ابن المنذر عن أحمد والشافعي وإسحاق وأبي ثور
وأصحاب الرأي، ونحوه عن عطاء، وقال مالك يأكل ويطعم من أحب من الأغنياء والفقراء ولا يبيع
منه شيئا ولنا ما روى سعيد ثناء سفيان عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أهديت
هديا تطوعا فعطب فانحره ثم غمس النعل في دمه ثم أضرب بها صفحته فإن أكلت أو أمرت به عرفت
وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره ثم كله ان شئت واهده ان شئت، وبعد أن شئت وتقو به
في هدي اخر، ولأنه متى كان له أن يأكل ويطعم الأغنياء فله أن يبيع لأنه ملكه وروي عن أحمد
أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعا ولا يرجع المعين إلى ملكه لأنه تعلق بحق الفقراء بتعيينه فلزم
ذبحه كما لو عينه بنذره ابتداء
(فصل) وان ضل المعين فذبح غيره ثم وجده أو عين الضال بدلا عما في الذمة ثم وجد الضال
ذبحهما معا روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وفعلته عائشة، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق
ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فأبدله فإن له أن يصنع به ما شاء أو يرجع إلى ملك أحدهما لأنه
قد ذبح ما في الذمة فلم يلزمه شئ آخر كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي، ووجه الأول ما روي
عن عائشة رضي الله عنها أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ثم عاد
558

الضالان فنحرتهما وقالت هذه سنة الهدي. رواه الدارقطني. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأنه تعلق حق الله بهما بايجابهما أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر
(فصل) وان عين معيبا عما في ذمته لم يجزه ولزمه ذبحه على قياس قوله في الأضحية إذا عينها
معيبة لزمه ذبحها ولم يجزه، وان عين صحيحا فهلك أو تعيب بغير تفريطه لم يلزمه أكثر مما كان
واجبا في الذمة لأن الزائد لم يجب في الذمة وإنما تعلق بالعين فسقط بتلفها لأصل الهدي إذا لم
يجب بغير التعيين، وان أتلفه أو تلف بتفريطه لزمه مثل المعين لأن الزائد تعلق به حق الله تعالى، وإذا
فوته لزمه ضمانه كالهدي المعين ابتداء (فصل) ويحصل الايجاب بقوله هذا هدي أو بتقليده واشعاره ناويا به الهدي وبهذا قال الثوري
وإسحاق ولا يجب بالشراء مع النية ولا بالنية المجردة في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة يجب بالشراء
مع النية، ولنا انه إزالة ملك على وجه القربة فلم يجب بالنية كالعتق والوقف.
(فصل) إذا غصب شاة فذبحها عن الواجب عليه لم يجزه سواء رضي مالكها أو لم يرض أو عوضه
عنها أو لم يعوضه وقال أبو حنيفة يجزئه ان رضي مالكها، ولنا ان هذا لم يكن قربة في ابتدئه فلم يصر قربة
في أثنائه كما لو ذبحه للاكل ثم نوى به التقرب وكما لو أعتق ثم نواه عن كفارته
(مسألة) قال (وإن كان ساقه تطوعا نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين، ولم يأكل
منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه)
وجملة ذلك أن من تطوع بهدي غير واجب لم يحل من حالين (أحدهما) أن ينوبه هديا ولا يوجب
بلسانه ولا باشعاره وتقليده فهذا لا يلزمه امضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه
559

لأنه نوى الصدقة بشئ من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم (الثاني) أن يوجب بلسانه فيقول هذا
هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك اهداءه فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة
صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وايصاله إلى محله فإن تلف بغير تفريط منه أو سوق
أو ضل لم يلزمه شئ لأنه لم يجب في الذمة إنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها كالوديعة. وقد روى
الدارقطني باسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أهدى
تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل الا أن يشاء فإن كان نذرا فعليه البدل " وفي رواية قال " من أهدى
تطوعا ثم عطب فإن شاء أبدل وان شاء أكل وإن كان نذرا فليبدل " فأما أن أتلفه أو تلف بتفريطه
فعليه ضمانه لأنه أتلف واجبا لغيره فضمنه كالوديعة. وان خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبه الرفاق
نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يبح له أكل شئ منه ولا لاحد من صحابته وان كانوا
فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عنقه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا
انه هدي وليس بميتة فيأخذوه وبهذا قال الشافعي وسعيد بن جبير. وروي عن ابن عمر انه أكل من
هديه الذي عطب ولم يقض مكانه. وقال مالك يباح لرفقته ولسائر الناس غير صاحبه أو سائقه، ولا
يأمر أحدا يأكل منه فإن أكل أو أمر من أكل أو حز شيئا من لحمه ضمنه واحتج ابن عبد البر لذلك
بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية بنت كعب صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا رسول
الله كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ قال " انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه
ثم خل بينه وبين الناس " قال وهذا أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء ويدخل في عموم
قوله " وخل بينه وبين الناس " رفقته وغيرهم
560

ولنا ما روى ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه البدن ثم
يقول " إن عطب منها شئ فخشيت عليها فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا
تطعمها أنت لا أحد من أهل رفقتك " رواه مسلم، وفي لفظ رواه الإمام: احمد ويخليها والناس ولا
يأكل منها هو ولا أحد من أصحابه، وقال سعيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي التياح
عن موسى بن سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا بعث بثماني عشرة بدنة مع رجل وقال " ان ازدحف عليك
منها شئ فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اضرب بها في صفحتها ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل
رفقتك " وهذا صحيح متضمن للزيادة ومعنى خاص فيجب تقديمه على عموم ما خالفه ولا تصح
التسوية بين رفقته وبين سائر الناس لأن الانسان يشفق على رفقته ويجب التوسعة عليهم وربما
وسع عليهم من مؤنته، وإنما منع السائق ورفقته من الاكل منها لئلا يقصر في حفظها فيعطيها ليأكل
هو ورفقته منها فتلحقه التهمة في عطبها لنفسه ورفقته فحرموها لذلك، فإن أكل منها أو باع أو أطعم غنيا
أو رفقته، ضمنه بمثله لحما، وان أتلفها أو تلفت بتفريطه أو خاف عطبها فلم ينحرها حتى هلكت فعليه
ضمانها بما يوصله إلى فقراء الحرم لأنه لا يتعذر عليه إيصال الضمان إليهم بخلاف العاطب، وان أطعم منها
فقيرا أو أمره بالاكل منها فلا ضمان عليه لأنه أوصله إلى المستحق فأشبه ما لو أطعم فقيرا بعد بلوغه
561

محله، وان تعيب ذبحه وأجزأه، وقال أبو حنيفة لا يجزئه الا أن يحدث العيب به بعد اضجاعه للذبح،
ولنا أنه لو عطب لم يلزمه شئ فالعيب أولى لأن العطب يذهب بجميعه والعيب ينقصه ولأنه عيب
حدث بعد وجوبه فأشبه ما لو حدث بعد اضجاعه، وان تعيب بفعل آدمي فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق
به، وقال أبو حنيفة يباع جميعه ويشترى هدي وبنى على ذلك على أنه لا يجزئ وقد بينا انه مجزئ
(فصل) وإذ أوجب هديا فله إبداله بخير منه وبيعه ليشتري بثمنه خيرا منه نص عليه احمد
وهو اختيار أكثر الأصحاب ومذهب أبي حنيفة، وقال أبو الخطاب يزول ملكه عنه وليس له بيعه
ولا إبداله، وهو قول مالك والشافعي لأنه حق متعلق بالرقبة ويسري إلى الولد فمنع البيع كالاستيلاد
ولأنه لا يجوز له إبداله بمثله فلم يجز بخير منه كسائر مالا يجوز بيعه، ووجه الأول ان النذور محمولة
على أصولها في الفرض وهو الزكاة يجوز الابدال كذلك هنا ولأنه لو زال ملكه لم يعد إليه بالهلاك
كسائر الاملاك إذا زالت. وقياسهم ينتقض بالمدبرة يجوز بيعها، وقد دل على جواز بيع المدبر أن النبي
صلى الله عليه وسلم باع مدبرا، أما إبدالها بمثلها أو دونها فلم يجز لعدم الفائدة في ذلك.
(فصل) إذا ولدت الهدية فولدها بمنزلتها إن أمكن سوقه والا حمله على ظهرها وسقاه من لبنها، فإن
لم يمكن سوقه ولا حمله صنع به ما يصنع بالهدي إذا عطب ولا فرق في ذلك بين ما عينه ابتداء وبين
ما عينه بدلا عن الواجب في ذمته، وقال القاضي في المعين بدلا عن الواجب يحتمل أن لا يتبعها ولدها
لأن ما في الذمة واحد فلا يلزمه اثنان، والصحيح أنه يتبع أمه في الوجوب لأنه ولد هدي واجب
فكان واجبا كالمعين ابتداء، وقال المغيرة بن حذف أتى رجل عليا ببقرة قد أولدها فقال له لا تشرب
من لبنها الا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم الأضحى ضحيت بها وولدها عن سبعة رواه سعيد
562

والأثرم، وان تعيبت المعينة عن الواجب في الذمة وقلنا بذبحها ذبح ولدها معها لأنه تبع لها،
وان قلنا يبطل تعيينها وتعود إلى مالكها احتمل ان يبطل التعيين في ولدها تبعا كنمائها المتصل
بها واحتمل ان لا يبطل ويكون للفقراء لأنه تبعا في الوجوب حال اتصاله بها ولم يتبعها في زواله لأنه
منفصل عنها كولد المبيع المعيب إذا ولد عند المشتري ثم رده لم يبطل البيع في ولده والمدبرة إذا قتلت
سيدها فبطل تدبيرها لا يبطل في ولدها
(فصل) وللمهدي شرب لبن الهدي لأن بقاءه في الضرع يضر به، فإذا كان ذا ولد لم يشرب
الا ما فضل عن ولده لما ذكرنا من خبر علي رضي الله عنه، فإن شرب ما يضر بالام أو مالا يفضل
عن الولد ضمنه لأنه تعدى بأخذه، وإن كان صوفها يضر بها بقاؤه جزها وتصدق به على الفقراء
والفرق بينه وبين اللبن أن الصوف كان موجودا حال إيجابها فكان واجبا معها واللبن متجدد
فيها شيئا فشيئا فهو كنفعها وركوبها
(فصل) وله ركوبه عند الحاجة على وجه لا يضر به قال أحمد لا يركبه إلا عند الضرورة وهو قول
الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها
حتى تجد ظهرا " رواه أبو داود، ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركونها من غير ضرورة
كملكهم، فأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لما ذكرنا (والثانية) يجوز لما روى
أبو هريرة وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال " اركبها " فقال يا رسول الله انها
بدنة، فقال " اركبها ويلك " في الثانية أو في الثالثة متفق عليه
563

(فصل) ولا يبرأ من الهدي الا بذبحه أو نحره لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه، فإن نحره بنفسه
أو وكل من نحره أو نحره انسان بغير اذنه في وقته أجزأ عنه وإن دفعه إلى الفقراء سليما فنحروه أجزأ
عنه لأنه حصل المقصود بفعلهم فأجزأه كما لو ذبحه غيرهم، وإن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم وينحره،
فإن لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لأنه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليما
(فصل) ويستحب المهدي أن يتولى نحر الهدي بنفسه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بيده، وروي
عن غرفة بن الحارث الكندي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأتي بالبدن فقال " أدع لي أبا
الحسن " فدعي له علي فقال له " خذ أسفل الحربة " وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلاها ثم طعنا بها البدن رواه أبو
داود، وإنما فعلا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشرك عليا في بدنه، وقال جابر نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة
بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ثم قال " من شاء اقتطع " رواه
أبو داود، فإن لم يذبح بيده فالمستحب أن يشهد ذبحها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة " أحضري
أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها " ويستحب أن يتولى تفريق اللحم بنفسه لأنه أحوط وأقل
للضرر على المساكين، وإن خلى بينه وبين المساكين جاز لقوله عليه السلام " من شاء اقتطع "
(فصل) ويباح للفقراء الاخذ من الهدي إذا لم يدفعه إليهم بأحد شيئين (أحدهما) الاذن فيه لفظا كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم " من شاء اقتطع " (والثاني) دلالة على الاذن كالتخلية بينهم وبينه، وقال الشافعي في أحد قوليه
لا يباح الا باللفظ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لسائق البدن " اصبغ نعلها في دمها واضرب به صفحتها "
دليل على أن ذلك وشبهه كاف في غير لفظ، ولولا ذلك لم يكن هذا مفيدا
564

(مسألة) قال (ولا يأكل من كل واجب الا من هدي التمتع)
المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون ما سواهما نص عليه أحمد ولعل الخرقي ترك ذكر
القران لأنه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لأنهما سواء في المعنى فإن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع
وهذا قول أصحاب الرأي، وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما وهو
قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما،
وقال ابن أبي موسى لا يأكل أيضا من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ونحوه مذهب مالك لأن
ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للاطعام فيه فأشبه التطوع، وقال الشافعي لا يأكل من واجب
لأنه هدي وجب بالاحرام فلم يجز الاكل منه كدم الكفارة، ولنا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تمتعن معه
في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ثم ذبح عنهن النبي صلى الله عليه وسلم البقرة فأكلن
من لحومها، قال أحمد: قد أكل من البقر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة خاصة، وقالت عائشة
إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر
فقلت ما هذا؟ فقيل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. وروى أبو داود وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذبح عن آل محمد في حجة الوداع بقرة، وقال ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فساق
الهدي من ذي الحليفة. متفق عليه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة
فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها. رواه مسلم، ولأنهما دما نسك فأشبها التطوع
ولا يؤكل من غيرهما لأنه لا يجب فعل محظور فأشبه جزاء الصيد
565

(فصل) فأما هدي التطوع وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته وما
نحره توطعا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل منه لقول الله تعالى (فكلوا منها) وأقل أحوال الامر
الاستحباب، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بدنه، وقال جابر كنا لا نأكل من بدننا فوق
ثلاث فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال " كلوا وتزودوا " فأكلنا وتزودنا. رواه البخاري، وإن
لم يأكل فلا بأس فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر البدنات الخمس قال " من شاء اقتطع " ولم يأكل
منهن شيئا والمستحب أن يأكل اليسير منها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وله الاكل كثيرا والتزود كما جاء في حديث
جابر، وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية، فإن أكلها ضمن المشروع للصدقة منها كما في الأضحية
(فصل) وان أكل منها ما منع من أكله ضمنه بمثله لحما لأن الجميع مضمون عليه بمثله حيوانا
فكذلك أبعاضه، وكذلك إن اعطى الجازر منها شيئا ضمنه بمثله، وإن أطعم غنيا منها على سبيل الهدية
جاز كما يجوز له ذلك في الأضحية لأن ما ملك أكله ملك هديته، وإن باع شيئا منها أو أتلفه ضمنه
بمثله لأن ممنوع من ذلك فأشبه عطيته للجازر، وإن أتلف أجنبي منه شيئا ضمنه بقيمته لأن المتلف من
غير ذوات الأمثال فلزمته قيمته كما لو أتلف لحما لآدمي معين
(فصل) والهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين منصوص عليه. ومقيس على المنصوص، فأما
المنصوص عليه (فأربعة) اثنان على الترتيب والواجب فيهما ما استيسر من الهدي وأقله شاة أو سبع
بدنة (أحدهما) دم المتعة قال الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) (والثاني) دم الاحصار قال الله تعالى (فما استيسر من الهدي) وهو على الترتيب
566

أيضا ان لم يجده انتقل إلى صيام عشرة أيام وإنما وجب ترتيبه لأن الله تعالى أمر به معينا من غير تخيير
فاقتضى تعيينه الوجوب وان لا ينتقل عنه الا عند العجز كسائر الواجبات المعينة، فإن لم يجده انتقل إلى
صيام عشرة أيام بالقياس على دم المتعة الا أنه لا يحل حتى يصومها وهذا قول الشافعي وقال مالك
وأبو حنيفة لا بدل له لأنه لم يذكر في القرآن وهذا لا يلزم فإن عدم ذكره لا يمنع قياسه على نظيره (واثنان
مخيران) أحدهما فدية الأذى قال الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذي من رأسه ففدية من صيام
أو صدقة أو نسك) (الثاني) جزاء الصيد وهو على التخيير أيضا بقوله تعالى (فمن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل
ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما)
(القسم الثاني) ما ليس بمنصوص عليه فيقاس على أشبه المنصوص عليه به فهدي المتعة وجب
للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد، ويقاس عليه أيضا دم الفوات فيجب
عليه مثل دم المتعة وبدله مثل بدله وهو صيام عشرة أيام الا أنه لا يمكن أن يكون ثلاثة قبل
يوم النحر لأن الفوات إنما يكون بفوات ليلة النحر لأنه ترك بعض ما اقتضاه احرامه فصار كالتارك لاحد
السفرين، فإن قيل فهلا ألحقتموه بهدي الاحصار فإنه أشبه به إذ هو حلال من احرامه قبل اتمامه. قلنا
اما الهدي فهما فيه سواء واما البدل فإن الاحصار ليس بمنصوص على البدل فيه وإنما يثبت قياسا
فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه، على أن الصيام ههنا مثل الصيام
عن دم الاحصار وهو عشرة أيام أيضا إلا أن صيام الاحصار يجب أن يكون قبل حله وهذا يجوز
فعله قبل حله وبعده وهو أيضا مقارن لصوم المتعة لأن الثلاثة في المتعة يستحب أن يكون آخرها
يوم عرفة وهذا يكون بعد فوات عرفة. والخرقي إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم عن
567

جزاء الصيد عن كل مد يوما والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا ويقاس عليه أيضا كل دم وجب
لترك واجب كدم القران وترك الاحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والمبيت
بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها وطواف الوداع فالواجب فيه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد
فصيام عشرة أيام، وأما من أفسد حجه بالجماع فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم
يظهر خلافه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع كصيام المتعة كذلك قال عبد الله
ابن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ولم يظهر في الصحابة خلافهم فيكون
إجماعا فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة، وقال أصحابنا يقوم البدنة بدراهم ثم يشتري بها طعاما
فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد
ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور يترفه به كتقليم الأظافر واللبس والطيب وكل استمتاع
من النساء يوجب شاة كالوطئ في العمرة أو في الحج بعد رمي الجمرة فإنه في معنى فدية الأذى من
الوجه الذي ذكرناه فيقاس عليه ويلحق به فقد قال ابن عباس لامرأة وقع عليها زوجها قبل
أن تقصر عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك رواه الأثرم
مسألة قال (وكل هدي أو اطعام فهو لمساكين الحرم ان قدر على ايصاله إليهم إلا من
أصابه أذي من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه)
أما فدية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه احمد وقال الشافعي لا يجوز إلا في الحرم
لقوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجزة بالفدية بالحديبية ولم يأمر
568

ببعثه إلى الحرم وروى الأثرم وإسحاق والجوزجاني في كتابيهما عن أبي أسماء مولى عبد الله بن
جعفر قال كنت مع عثمان وعلي وحسين بن علي رضي الله عنهم حجاجا فأشتكي حسين بن علي بالسقيا
فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جذورا بالسقيا هذا لفظ رواة الأثرم ولم يعرف لهم مخالف
والآية وردت في الهدي وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر وما عداه من الدما فبمكة
وقال القاضي في الدماء لواجبه بفعل محظور كاللباس والطيب هي كدم الحلق وفي الجميع روايتان (إحداهما)
يفدي حيث وجد سببه (والثانية) محل الجميع الحرم وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه
أحمد فقال أما ما كان بمكة أو كان من الصيد فكل بمكة لأن الله تعالى قال (هدايا بالغ الكعبة) وما كان
من فدية الرأس فحيث حلقه وذكر القاضي في قتل الصيد رواية أخرى أنه يفدي حيث قتله وهذا يخالف
نص الكتاب ونص الإمام أحمد في التفرقة بينه وبين حلق الرأس فلا يعول عليه وما وجب لترك
نسك أو فوات فهو لمساكين الحرم دون غيرهم لأنه هدي وجب لترك نسك فأشبه هدي القرآن
وإن فعل المحظور لغير سبب يبيحه فذكر ابن عقيل أنه يختص ذبحه وتفرقة لحمه بالحرم كسائر الهدي
569

(فصل) وما وجب نحره بالحرم وجب تفرقة لحمه به وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة
إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقة لحمها في الحل ولنا انه أحد مقصودي النسك فلم يجز في الحل كالذبح ولان
المعقول من ذبحه بالحرم التوسعة على مساكينه وهذا لا يحصل باعطاء غيرهم ولأنه نسك يختص بالحرم
فكان جميعه مختصا به كالطواف وسائر المناسك
(فصل) والطعام كالهدي يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي وقال عطاء والنخعي ما كان
من هدي فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء وهذا يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة: ولنا
قول ابن عباس الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين
فاختص بالحرم كالهدي
(فصل) ومساكين أهل الحرم من كان فيه من أهله أو وارد إليه من الحاج وغيرهم وهم الذين
يجوز دفع الزكاة إليهم ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا خرج فيه وجهان كالزكاة وللشافعي فيه
قولان وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة وبهذا قال الشافعي وأبو ثور
وجوزه أصحاب الرأي ولنا أنه كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي
570

(فصل) وإذا نذر هديا وأطلق فأقل ما يجزيه شاة أو سبع بدنة أو بقرة لأن المطلق في النذر يجب
حمله على المعهود شرعا والهدي الواجب في الشرع إنما هو من النعم وأقله ما ذكرناه فحمل عليه
ولهذا لما قال الله تعالى في المتعة (فما استيسر من الهدي) حمل على ما قلنا فإن اختار اخراج بدنة كاملة
فهو أفضل وهل تكون كلها واجبة على وجهين أحدهما تكون واجبة اختاره ابن عقيل لأنه اختار الاعلى
لأداء فرضه فكان كله واجبا كما لو اختار الا على من خصال كفارة اليمين أو كفارة الوطئ في الحيض
الثاني يكون سبعها واجبا والباقي تطوعا له اكله وهديته لأن الزائد على السبع يجوز تركه من غير شرط
ولا يدل فأشبه ما لو ذبح شاتين وان عين الهدى بشئ لزمه ما عنيه وأجزاه سواء كان من بهيمة الأنعام
أو من غيرها وسواء كان حيوانا أو غيره مما ينقل أو مما لا ينقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
راح - يعني إلى الجمعة - في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح إلى الساعة الخامسة فكأنما
قرب حيضة " فذكر الدجاجة والبيضة في الهدى وعليه ايصاله إلى فقراء الحرم لأنه سماه هديا وأطلق
فيحمل على محل الهدى المشروع وقد قال الله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) فإن كان مما لا ينقل
كالعقار باعه وبعث ثمنه إلى الحرم فيتصدق به فيه.
571

(فصل) وان نذر هديا مطلقا أو معينا وأطلق مكانه وجب عليه ايصاله إلى مساكين الحرم
وجوز أبو حنيفة ذبحه حيث شاء كما لو نذر الصدقة بشاة ولنا قوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق)
ولان النذر يحمل على المعهود شرعا والمعهود في الهدي الواجب بالشرع كهدى المتعة والقران
وأشباههما ان ذبحها يكون في الحرم كذا هاهنا وان عين نذره بموضع غير الحرم لزمه ذبحه به وتفرقة
لحمه على مساكين الحرم واطلاقه لهم لما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نذرت أن أنحر
ببوانة قال " أبها صنم؟ " قال لا قال " أوف بنذرك " رواه أبو داود، وان نذر الذبح بموضع به صنم
أو شئ من أمر الكفر أو المعاصي كبيوت النار أو الكنائس والبيع وأشباه ذلك لم يصح نذره بمفهوم
هذا الحديث ولأنه نذر معصية فلا يوفي به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية الله تعالى ولا فيما لا
يملك ابن آدم " وقوله " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه "
(فصل) وقول الخرقي إن قدر على إيصاله إليهم يدل على أن العاجز عن ايصاله لا يلزمه ايصاله
فإن الله لا يكلف نفسا الا وسعها فإن منع الناذر الوصول بنفسه وأمكنه تنفيذه لزمه قال ابن عقيل
إذا حصر عن الخروج خرج في ذبح هذا الهدي المنذور في موضع حصره روايتان كدماء الحج
572

واختار أن الصحيح جواز ذبحه في موضع حصره لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية (والثانية) إن
أمكن إرساله مع غيره فلا يجوز له ذبحه في موضعه لأن أمكنه إيصال المنذور إلى محله فلزمه كغير المحصور
(مسألة) قال (وأما الصيام فيجزئه بكل مكان)
لا نعلم في هذا خلافا كذلك قال ابن عباس وعطاء والنخعي وغيرهم وذلك لأن الصيام لا يتعدى
نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والاطعام فأن نفعه يتعدى إلى من يعطاه
(فصل) ويسن تقليد الهدي وهو أن يجعل في أعناقها النعال وآذان القرب وعراها أو علاقة
إداوة سواء كانت إبلا أو بقرا أو غنما، وقال مالك وأبو حنيفة لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة
لنقل كما نقل في الإبل ولنا أن عائشة قالت كنت أفتل القلائد للنبي صلى الله عليه وسلم فيقلد الغنم ويقيم في
أهله حلالا وفي لفظ كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري ولأنه هدي فيسن تقليده
كالإبل ولأنه إذا سن تقليده الإبل مع إمكان تعريفها بالاشعار فالغنم أولى وليس التساوي في النقل
شرطا لصحة الحديث ولأنه كان يهدي الإبل أكثر فكثر نقله
573

(فصل) ويسن اشعار الإبل والبقر وهو ان يشق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها في قول عامة
أهل العلم، وقال أبو حنيفة هذا مثلة غير جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان ولأنه ايلام
فهو كقطع عضو منه، وقال مالك ان كانت البقرة ذات سنام فلا بأس باشعارها والا فلا، ولنا ما
روت عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم اشعرها وقلدها متفق عليه رواه ابن
عباس وغيره وفعله الصحابة فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به ولأنه ايلام لغرض صحيح فجاز
كالكلي والوسم والفصد والحجامة والغرض ان لا تختلط بغيرها، وأن يتوقاها اللص ولا يحصل ذلك
بالتقليد لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب وقياسهم منتقض بالكلي والوسم وتشعر البقرة لأنها من البدن فتشعر
كذات السنام، واما الغنم فلا يسن اشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع اشعارها. إذا
ثبت هذا فالسنة الاشعار في صفحتها اليمنى، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور. وقال مالك وأبو يوسف
بل تشعر في صحفتها اليسرى. وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله، ولنا ما روى ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها بيده
رواه مسلم، وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري ثم فعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول
574

ابن عمر وفعله بلا خلاف ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في شأنه كله. وإذا ساق الهدي من
قبل الميقات استحب اشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس وان ترك الاشعار والتقليد
فلا بأس لأن ذلك غير واجب.
(فصل) ولا يسن الهدي الا من بهيمة الأنعام لقول الله تعالى (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات
على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) وأفضله الإبل ثم البقر ثم الغنم لما
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب
بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا
575

أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة "
متفق عليه، وقال ابن عباس لامرأة أصابه أزوجها في العمرة عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك
قالت أي النسك أفضل؟ قال إن شئت فناقة وان شئت فبقرة قالت أي ذلك أفضل؟ قال انحري
ناقة " رواه الأثرم، ولان ما كان أكثر لحما كان أنفع للفقراء ولذلك أجزأت البدنة مكان سبع من الغنم
والشاة أفضل من سبع بدنة لأن لحمها أطيب والضأن أفضل من المعز لذلك.
(فصل) والذكر والأنثى في الهدي سواء وممن أجاز ذكران الإبل ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز
ومالك وعطاء والشافعي، وعن ابن عمر أنه قال ما رأيت أحدا فاعلا ذلك، وان أنحر أنثى أحب إلى
والأول أولى لأن الله تعالى قال (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) ولم يذكر ذكرا ولا أنثى، وقد
576

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه يجوز
من سائر أنواع بهيمة الأنعام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " فكأنما قرب كبشا أقرن " فكذلك من
الإبل ولان القصد اللحم ولحم الذكر أوفر ولحم الأنثى أرطب فيتساويان. قال احمد الخصي أحب إلينا
من النعجة وذلك لأن لحمه أوفر وأطيب
" مسألة " قال (ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه)
ظاهر هذا أن سبعا من الغنم يجزئ عن البدنة مع القدرة عليها سواء كانت البدنة واجبة بنذر
أو جزاء صيد أو كفارة وطئ، وقال ابن عقيل إنما يجزئ ذلك عنها عند عدمها في ظاهر كلام أحمد
577

لأن ذلك بدل عنها فلا يصار إليه مع وجودها كسائر الابدال. فأما مع عدمها فيجوز لما روى ابن
عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: ان علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها فاشتريها؟ فأمره
النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن رواه ابن ماجة، ولنا أن الشاة معدولة بسبع بدنة وهي أطيب
لحما فإذا عدل عن الأدنى إلى الاعلى جاز كما لو ذبح بدنة مكان شاة
(فصل) ومن وجب عليه سبع من الغنم في جزاء الصيد لم يجزئه بدنة في الظاهر لأن سبعا من
الغنم أطيب لحما فلا يعدل عن الاعلى إلى الأدنى، وإن كان ذلك في كفارة محظور أجزأه بدنة لأن الدم
الواجب فيه ما استيسر من الهدي وهو شاة أو سبع بدنة، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتمتعون
فيذبحون البقرة عن سبعة قال جابر كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها،
578

وفي لفظ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة سواه مسلم.
(فصل) ومن وجبت عليه بقرة أجزأته بدنة لأنها أكثر لحما وأوفر ويجزئه سبع من الغنم لأنها
تجزئ عن البدنة فعن البقرة أولى ومن لزمه بدنة في غير النذر وجزاء الصيد أجزأته بقرة لما روى
أبو الزبير عن جابر قال: كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة؟ فقال وهل هي الا من البدن، فاما
في النذر فقال ابن عقيل يلزمه ما نواه فإن أطلق فعنه روايتان (إحداهما) تجزئه البقرة لما ذكرنا من
الخبر (والأخرى) لا تجزئه الا ان يعدم البدنة، وهذا قول الشافعي لأنها بدل فاشترط عدم المبدل والأولى
أولى للخبر ولان ما أجزأ عن سبعة في الهدايا ودم المتعة أجزأ في النذر بلفظ البدنة كالجزور
(فصل) ويجوز أن يشترك السبعة في البدنة والبقرة سواء كان واجبا أو تطوعا وسواء أراد جميعهم
579

القربة أو بعضهم وأراد الباقون اللحم. وقال مالك لا يجوز الاشتراك في الهدي، وقال أبو حنيفة
يجوز إذا كانوا متفرقين كلهم، ولا يجوز إذا لم يرد بعضهم القربة، وحديث جابر يرد قول مالك،
ولنا على أبي حنيفة أن الجزء المجزى لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت جهات
القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر القران ويجوز أن يقتسموا اللحم لأن القسمة افراز حق وليست بيعا
" مسألة " قال (وما لزم من الدماء فلا يجزئ الا الجذع والضأن والثني من غيره)
هذا في غير جزاء الصيد. فأما جزاء الصيد فمنه جفرة وعناق وجدي وصحيح ومعيب، وأما
في غيره مثل هدي المتعة وغيره فلا يجزئ الا الجذع من الضأن وهو الذي له ستة أشهر والثني من
580

غيره وثني المعز ماله سنة وثني البقر له سنتان وثني الإبل له خمس سنين، وبهذا قال مالك والليث
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال ابن عمر والزهري لا يجزئ الا الثني من كل
شئ، وقال عطاء والأوزاعي يجزئ الجذع من الكل الا المعز، ولنا على الزهري ما روي عن أم
بلال بنت هلال عن أبيها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز الا الجذع من الضأن أضحية " وعن
عاصم بن كليب قال كنا مع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مجاشع من بني سليم
فعزت الغنم فأمر مناديا فنادى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " إن الجذع يوفي ما توفي منه الثنية "
وعن جابر قال قال رسول الله صل الله عليه وسلم " لا تذبحوا الا مسنة الا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعا من الضأن "
رواهن ابن ماجة، وروى حديث جابر مسلم وأبو داود وهذا حجة على عطاء والأوزاعي وحديث
أبي بردة بن نيار حين قال يا رسول الله ان عندي عناقا جذعا هي خير من شاتي لحم؟ فقال " تجزئك
ولا تجزئ عن أحد بعدك " أخرجه أبو داود والنسائي، وفي لفظ إن عندي داجنا جذعة من المعز. قال
581

أبو عبيد الهروي قال إبراهيم الحربي إنما يجزئ الجذع من الضأن في الأضاحي لأنه ينزو فيلقح
فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يصير ثنيا.
(فصل) ويمنع من العيوب في الهدي ما يمنع في الأضحية. قال البراء بن عازب قام فينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال " أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها، والعرجاء
البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقى " قال قلت: اني أكره أن يكون في السن نقص قال ما كرهت فدعه
ولا تحرمه على أحد رواه أبو داود والنسائي، وبهذا قال عطاء قال أما الذي سمعناه فالأربع وكل
شئ سواهن جائز ومعنى قوله " البين عورها " أي انخسفت عينها وذهبت فإن ذلك ينقصها لأن
شحمة العين عضو مستطاب فلو كان على عينها بياض ولم تذهب العين جازت التضحية بها لأن ذلك
582

لا ينقصها في اللحم، والعرجاء البين عرجها التي عرجها متفاحش يمنعها السير مع الغنم ومشاركتهن في
العلف ويهز لها، والتي لا تقى التي لا مخ فيها لهزالها، والمريضة قيل هي الجرباء لأن الجرب يفسد اللحم
وظاهر الحديث ان كل مريضه مرضا يؤثر في هزالها أو في فساد لحمها يمنع التضحية بها، وهذا أولى
لتناول اللفظ له والمعنى. فهذه الأربع لا نعلم بين أهل العلم خلافا في منعها ويثبت الحكم فيما فيه نقص
أكثر من هذه العيوب بطريق التنبيه فلا تجوز العمياء لأن العمى أكثر من العور ولا يعتبر مع العمى
انخساف العين لأنه يخل بالمشي مع الغنم والمشاركة في العلف أكثر من اخلال العرج ولا يجوز ما قطع
منها عضو مستطاب كالالية لأن ذلك أبلغ في الاخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين. فأما العضباء
وهي ما ذهب نصف اذنها أو قرنها فلا تجزئ، وبه قال أبو يوسف ومحمد في عضباء الاذن، وعن
583

أحمد لا تجزئ ما ذهب ثلث أذنها وبه قال أبو حنيفة، وروي عن علي وعمار وسعيد بن المسيب والحسن
تجزئ المكسورة القرن لأن ذهاب ذلك لا يؤثر في اللحم فأجزأت كالجماء، وقال مالك إن كان يدمي
لم يجز وإلا جاز، ولنا ما روى علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الاذن
والقرن رواه النسائي وابن ماجة. قال قتادة فسألت سعيد بن المسيب فقال: نعم العضب النصف
فأكثر من ذلك ويحمل قول علي رضي الله عنه ومن وافقه على أن كسر ما دون النصف لا يمنع
(فصل) ويجزئ الخصي سواء كان مما قطعت خصيتاه أو مسلولا وهو الذي سلت بيضتاه أو
موجوءا وهو الذي رضت بيضتاه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوءين والمرضوض
كالمقطوع ولان ذلك العضو غير مستطاب وذهابه يؤثر في سمنه وكثرة اللحم وطيبه وهو المقصود ولا
584

نعلم في هذا خلافا وتجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن، وحكي عن ابن حامد أنها لا تجزئ لأن
عدم القرن أكثر من ذهاب نصفه والأولى أنها تجزئ لأن القرن ليس بمقصود ولا ورد النهي عما
عدم فيه وتجزئ الصمعاء وهي التي لم يخلق لها اذن أو خلقت لها أذن صغيرة كذلك وتجزئ البتراء
وهي المقطوعة الذنب كذلك.
(فصل) ويكره أن يضحي بمشقوقة الاذن أو ما قطع منها شئ أو ما فيها عيب من هذه العيوب
التي لا تمنع الاجزاء لقول علي رضي الله عنه أمرنا ان نستشرف العين والاذن ولا يضحي بمقابلة ولا
مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء. قال زهير قلت: لأبي إسحاق ما المقابلة؟ قال يقطع طرف الاذن قلت
فما المدابرة؟ قال يقطع مؤخر الاذن قلت: فما الخرقاء؟ قال يشق الاذن قلت: فما الشرقاء؟
585

قال يشق اذنها السمه رواه أبو داود والنسائي. قال القاضي الخرقا التي انثقبت اذنها والشرقاء التي تشق
اذنها وتبقى كالشاختين وهذا نهي تنزيه ويحصل الاجزاء بها لا نعلم في هذا خلافا
(فصل) يستحب لمن اتى مكة أن يطوف بالبيت لأن الطواف بالبيت صلاة والطواف أفضل من الصلاة
والصلاة بعد ذلك يروى عن ابن عباس قال الطواف لكم يا أهل العراق والصلاة لأهل مكة، وقال عطاء الطواف
للغرباء والصلة لأهل البلد قال ومن الناس من يقول يزور البيت كل يوم من أيام منى ومنهم من يختار الإقامة بمنى
لأنها أيام منى واحتج أبو عبد الله بحديث أبي حسان عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة.
(فصل) ويستحب لمن حج أن يدخل البيت ويصلي في ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدخل
البيت بنعليه ولا خفيه ولا الحجر أيضا لأن الحجر من البيت ولا يدخل الكعبة بسلاح، قال وثياب
586

الكعبة إذا نزعت يتصدق به، وقال إذا أراد ان يستشفي بشئ من طيب الكعبة فليأت بطيب من
عنده فليلزقه على البيت ثم يأخذه ولا يأخذ من طيب البيت شيئا ولا يخرج من تراب الحرم ولا
يدخل فيه من الحل كذلك قال عمر وابن عباس رضي الله عنهما ولا يخرج من حجارة مكة وترابها
إلى الحل والخروج أشد إلا أن ماء زمزم أخرجه كعب
(فصل) قال أحمد كيف لنا بالجوار بمكة قال النبي صلى الله عليه وسلم إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل
ولولا إني أخرجت منك ما خرجت " وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها وجابر بن عبد الله جاور
بمكة وجميع أهل البلاد ومن كان من أهل اليمن ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به وابن عمر
كان يقيم بمكة قال والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه لأنها مهاجر المسلمين وقال
587

النبي صلى الله عليه وسلم لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة
(فصل) ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روى الدارقطني باسناده عن ابن عمر قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي " وفي رواية " من زار قبري
وجبت له شفاعتي " رواه باللفظ الأول سعيد ثنا حفص بن سليمان (1) عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر
وقال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مامن أحد يسلم
علي عند قبري (2) الا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " وإذا حج الذي لم يحج قط يعني من غير
طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد
الطرق ولا يتشاغل بغيره ويروى عن العتبى قال كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال السلام
588

عليك يا رسول الله سمعت الله يقول (ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لو جدوا الله توابا رحيما) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الاعرابي فحملتني عيني فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا عتبي الحق الاعرابي
فبشره أن الله قد غفر له (1) ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى ثم يقول بسم الله والصلاة
على رسول الله اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد واغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال
مثل ذلك وقال وافتح لي أبواب فضلك لما روي عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها
589

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها أن تقول ذلك إذا دخلت المسجد.
ثم تأتى القبر فتولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد
عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لامتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة، وعبد الله حتى أتاك اليقين، فصلى الله عليك كثيرا كما يجب ربنا ويرضى، اللهم أجز عنا
نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون
والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد، وبارك
على حمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد، اللهم انك قلت وقولك الحق
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد
اتيتك مستغفرا من ذنوبي، مستشفعا بك إلى ربي، فأسئلك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن
أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وأنجح السائلين، وأكرم الآخرين والأولين، برحمتك يا أرحم
الراحمين. ثم يدعو لوالديه ولاخوانه والمسلمين أجمعين. ثم يتقدم قليلا ويقول السلام عليك يا أبا بكر
590

الصديق السلام عليك يا عمر الفاروق السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ووزيريه
ورحمة الله وبركاته اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الاسلام خيرا سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك صلى الله عليه وسلم ومن حرم مسجدك يا أرحم الراحمين
(فصل) ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبيله قال أحمد ما أعرف هذا قال
الأثرم رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي صلى الله عليه وسلم يقومون من ناحية فيسلمون، قال
أبو عبد الله وهكذا كان ابن عمر يفعل، قال أما المنبر فقد جاء فيه يعني ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن
ابن عبد القارئ أنه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم يضعها على وجهه
(فصل) ويستحب لمن رجع من الحج ان يقول ما روي البخاري عن عبد الله بن عمر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثم يقول " لا إله إلا
الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون،
صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده
(تم الجزء الثالث..)
591